ميقات الحج المجلد5

اشارة

عنوان و نام پديدآور : ميقات الحج[پيايند: مجله]

مشخصات نشر : تهران: منظمة الحج و الزيارة، 1417 ق. - = 1375 -

فاصله انتشار : شش ماه يكبار

يادداشت : عربي

فهرست نويسي براساس سال3 شماره5 سال1417ق.

يادداشت : اين نشريه در بيروت نيز منتشر مي شود

يادداشت : المدير المسؤول: محمد محمدي ري شهري

رئيس التحرير: علي قاضي عسكر

يادداشت : كتابنامه

ترجمه عنوان : Mighat al - haj

موضوع : حج -- نشريات ادواري

شناسه افزوده : محمدي ري شهري، محمد، 1325 - ، مدير مسئول

Muhammadi Reyshahri, Muhammad

قاضي عسكر، سيدعلي، 1325 - ، سردبير

شناسه افزوده : سازمان حج و زيارت

رده بندي كنگره : BP188/8

رده بندي د... : 297/35705

ص:1

كلمة التحرير

ص:2

ص:3

ص:4

ص: 5

العدد الخامس

كلمة التحرير

هاهي ميقات وبعددها هذا الذي بين أيديكم تضي ء شمعتها المباركة الثالثة، فقبل عامين انضمّت «ميقات الحج» وبتواضع وثبات إلى أُسرة الصحافة الكبيرة حيث انصبّ كلُّ اهتمامها وقتئذ لنيل النصيب الأوفر من الأجر والعناية الإلهية، وانشداد الجمهور المثقّف إليها وكسب ودّه وتثمينه.

واليوم وبعد مضي تينك السنتين تحظى ميقات- وللَّه الحمد- بالإقبال من مختلف شرائح القرّاء لماصدر منها إلى الآن، فكانت تلك بحقّ انعطافة لبعث روح الأمل فيها، وكسب رضا الكثيرين تجاهها.

وكنّا قد ذكرنا أن ميقات الحج تسعى لأن تكون ملتقىً لكلِّ الذين يمتلكون الرغبة لخدمة الأهداف العالية التيصدرت من أجلها المجلة، وتوسيع دائرة البحث انسجاماً مع تلك الأهداف والتعميق في مفاهيمها، ويمكننا القول في الوقت الحاضر وبثقة: إنّ العلماء الأفاضل والباحثين الكرام وأصحاب

ص: 6

الأقلام الحرّة قد بذلوا جهوداً مشكورة وأبدوا همماً عالية، ملبّين بذلك دعوة أُسرة «ميقات الحج» على أكمل وجه.

وقد أشرنا من قبل إلى أنّ أبواب المجلة مفتوحة لتلقّي البحوث التي تتناول الأبعاد العرفانية والمعنوية للحجّ وتسبر غور أسراره وعلومه وفلسفته، وتبحث المسائل الفقهية، وتسلّط الضوء على العوامل ذات العلاقة من قريب أو بعيد بالسيرة النبوية العطرة من جهة وحياة أهل البيت عليهم السلام والصحابة الأجلاء والأحداث المهمة التي مرّت بهم في مكة والمدينة ومدن الحجاز الأخرى من جهة أخرى، والتعريف بالحوادث التي جرت في المراكز التأريخية واستكشاف وبيان ما في الأماكن والآثار التي لم يبق من أغلبها- للأسف الشديد- سوى أسماء مجرّدة وحسب لتدونها في ذاكرة التاريخ.

ويمكننا القول من أنَّ البحوث التي نُشرت في الأعداد السابقة، التي تناولت الشؤون التأريخية والفقهية ... نالت إعجاب الكثيرين وجلبت أنظار المثقفين وطلاب العلم على السّواء. وفي الوقت الذي نؤكد فيه ضرورة تعميق البحث والتقصّي في موضوع الفقه، نتمنّى أن تواصل المجلة مسيرتها وخطّها الثقافي خلال الأعداد المقبلة، ونرجو الاخوة والعلماء الأفاضل أن يُديموا بحوثهم ويزيدوا دقتها بتناول المواضيع من مختلف أبعادها مضيفين على ما تحويه عمقاً وجدّية.

ولا شك في أنَّ التنوّع الحاصل في البحوث واختلاف دراساتها، وفي نفس الوقت وضع الهدف الموحّد لتلك البحوث نصب الأعين، والتخصّص الذي اتّسمت به المجلة كانت من جملة العوامل التي جلبت أنظار العلماء والمثقفين نحوها.

ومن خلال حرص الكثيرين من العلماء والباحثين على أن تكون المجلة

ص: 7

قد استوفت هدفها الأصلي، وتناولت أبعاد ذلك الهدف على مختلف الأصعدة، وبالنظر إلى ثقل وحجم المسؤولية التي تكلّفت المجلة بحملها، فقد أبدى العديد منهم آراءه واقتراحاته التي نلخصها فيما يلي:

1- إنّ المستوى العلمي للمجلة، وللَّه الحمد، جيّد، وتحتوي على مقالات في الحج ذات عمق ونفع كبيرين.

2- إنَّ البحوث التأريخية والمعلومات الجديدة والحديثة فيما يخصّ موطن الوحي ومهبط الرسالة ممتعة جدّاً.

3- وفيما يتعلّق بالأُسس الخاصة بالتحقيق والبحث، يُرجى الأخذ بنظر الاعتبار الأُمور التالية:

الف- البحث والتحقيق في الوضع الحالي لأهل الحجاز في النواحي العقائدية والسياسية والاجتماعية.

ب- البُعد الفقهي والعرفاني والسياسي للحجّ.

ج- الاختلافات الموجودة في فتاوى علماء الإسلام فيما يخصّ مناسك الحج.

د- إجراء المقابلات مع المسؤولين واستعلام آرائهم حول تأدية تلك المناسك على أكمل وجه.

إنَّ الحجّ في الواقع راية الإسلام وكمال الدين، حيث إنَّ المسائل المتعلّقة به والأُمور التي تتجلّى في هذا «الاجتماع العظيم» والحقائق والأسرار المكنونة فيه، سواء في الأعمال المؤدّاة أم الأبعاد الملحوظة في الحجّ كثيرة ولا تُحصر بما هو ظاهري.

عن بكير بن أعين، عن أخيه زرارة قال: قلت لأبي عبد اللَّه عليه السلام: جعلني اللَّه فداك، أسألك في الحج منذ أربعين عاماً فتفتيني، فقال: يا زرارة، بيت حُجَ

ص: 8

إليه قبل آدم بألفي عام تريد أن تفنى مسائله في أربعين عاماً.

لقد وصف اللَّه الحجّ بأنّه «قياماً للناس»، وأنَّ هذا التجمّع البهيّ يحوي منافع عظيمة للأُمة جمعاء. فكيف يوجد كلّ ذلك في مراسم وشعائر جليلة كهذه، وما هو سبيل الوصول إليها بالنظر إلى الأبعاد السياسية والثقافية والاجتماعية للحجّ دون الاهتمام الواسع بتلك الأبعاد وبذل قصارى الجهود في بحثها؟ وكيف الحصول على كلّ تلك المنافع وما زالت الأُمّة الإسلاميّة تحترق بنيران الفرقة، بينما تسعى الأيادي الظاهرة والخفيّة منها جاهدة لزرع بذور الحقد والغضب في قلوب أبناء القبلة الواحدة؟ لا ريب في أنّ الحجّ إنّما هو فرصة ثمينة تعطى للمسلمين في المجتمع الإسلامي لكي يأتوا إلى الوطن الحبيب، تاركين وراءهم العصبية والجاهلية والإقليمية والعنصرية، فيجتمعوا ويبتكروا وسائل وطرقاً لرفع الجهل وسوء التفاهم وإزالة الأحقاد وترك الضغائن للاستفادة من هذه الفريضة ومنافعها وثمارها، وأن يأخذوا على عاتقهم الخَطْوَ الصحيح باتجاه استرجاع «العزّة المسلوبة» لهذه الأُمّة. وهذا علي عليه السلام، يقول:

«النّاسُ أعداءُ ما جَهِلُوا»

ولا يوجد موضع ولا مناسبة أفضل من الحج حيث تتمكن الأمة الإسلامية من إزالة الظلمة والجهالة عن المجتمع الإسلامي ومناخه، والتعرّف على حقائق الأحداث التي تجري داخل الأقاليم المسلمة كما هي، والتخلّص من الظنون السيّئة والآراء المنحرفة، وأن يساهموا في معرفة الوجوه الحقيقية لبعضهم البعض في ظِلّ الإدراك الصحيح والفضاء الفكري الحرّ الواضح.

لا جَرَمَ أنَّ المقالات التي ستتضمن في داخلها كلَّ أبعاد الحجّ تلك، وتبيّن للجميع الحلول القويمة للمسائل المطروحة، ستكون بحقّ مقالات مفيدة وفعّالة

ص: 9

ومؤثرة.

وكلّنا أمل في أن تحوز هذه البحوث على فُرص نشر كبيرة، وأن تُساعد في الاطّلاع الصّائب حول الحج وما يخصّه، ومعرفة علومه وأسراره.

وفي الختام نشكر جهود حجة الإسلام الشيخ محمد علي مقدادي والأستاذ محسن الأسدي اللذين بذلا جهوداً كبيرةً في إصدار الأعداد الخمسة من مجلة ميقات الحج، ونتمنّى لهما الموفقيّة لإصدار الأعداد الآتية من هذه المجلة المباركة إن شاء اللَّه.

رئيس التحرير

الحجّ في احاديث الامام الخميني قدس سره

ص: 10

الحجّ في أحاديث الإمام الخميني قدس سره

يا حجاج بيت اللَّه الحرام! انتبهوا إلى أن السفر إلى الحجّ ليس سفراً للتجارة، وليس سفراً لتحصيل أمور الدنيا، إنما هو سفر إلى اللَّه. أنتم ذاهبون إلى بيت اللَّه الحرام، فأتمّوا كلّ الأمور والأعمال المطلوبة منكم بطريقة إلهية. إنّ سفركم الذي يبدأ من حين التهيّؤ هو وفادة إلى اللَّه، سفر إلى اللَّه تعالى وكما أن الأنبياء عليهم السلام والعظماء من ديننا مسافرون إلى اللَّه في جميع أحوالهم وأوقات حياتهم، ولم يتخلّفوا خطوة واحدة عن أي شي ء في برنامج الوصول إلى اللَّه، أنتم- أيضاً- يجب أن يكون سفركم إلى اللَّه تعالى، ففي الميقات الذي تذهبون إليه تلبون فيه نداء اللَّه، وتقولون لبّيك اللهم لبّيك، يعني أنت تدعونا ونحن نجيب الدعوة، معاذ اللَّه أن تقوموا بعمل لا يرضاه اللَّه تبارك وتعالى.

ص: 11

أنا لا أريدكم ولا اقبلكم إذ كنتم غير إسلاميين. معاذ اللَّه أن تجعلوا هذا السفر سفراً للتجارة أو أن يكون ميداناً تبحثوا فيه الأمور والمسائل التجارية فيما بينكم.

أيها السادة أهل العلم، أيتها القوافل، يا رؤساء القوافل، يا سائر الحجاج، هذا السفر سفر إلى اللَّه وليس سفراً إلى الدنيا، فلا تلوّثوه بها.

*** إن أهم الأمور في جميع العبادات هو الإخلاص في العمل. وإذا قام شخص- لا سمح اللَّه- بعمل ما لأجل التظاهر به أمام الآخرين، وعرض عمله الجيّد أمامهم، فإن عمله يصبح باطلًا. ولينتبه الحجّاج المحترمون وليواظبوا على عدم إشراك غير اللَّه في أعمالهم بأن تكون لوجهه الكريم فقط.

إن الجهات المعنوية للحج كثيرة، والمهم فيها أن يعرف الحاج إلى أين يذهب ودعوة من يلبّي؟ وأنه ضيف من؟ وما هي آداب هذه الضيافة؟

وليعلم أن الغرور والنظرة الذاتية لا يجتمعان مع حب اللَّه وطلبه، بل يتناقضان مع حبّ اللَّه والهجرة إليه، وبالتالي تكونان سبباً لنقص معنويات الحج ونقض أجره وثوابه. وإذا ما اكتسب الإنسان الحاج معنويات الحج وأجره وثوابه وقطف ثمار مناسكه، وإذا ما تحققت لبّيكصادقة ومقرونة بنداء الحقّ تعالى، حينها ينتصر الإنسان في جميع الميادين السياسية والاجتماعية والثقافية وحتى العسكرية، ومثل هذا الإنسان لن يعرف الهزيمة.

ص: 12

إلهي اجعل جزءاً من هذا السير والسلوك المعنوي واجعل الهجرة الإلهية من نصيبنا جميعاً.

*** ليلتفت أولئك الذين يذهبون إلى الحج أن لا يخلطوا- لحظة واحدة- حجّهم بالمعاصي. ينبغي أن يكون كلّ شي ء إسلامياً وكل شي ء عبادة، لتكن المظاهرات عبادة، ولتكن الشعارات عبادية، خالية من المعصية، لتكن على النحو الذي أراده اللَّه، وأن لا يفعل كلّ واحد منكم ما يريد، وأن يقول لمن يريد كلاماً سيّئاً. يجب أن يكون كلامنا وفعلنا وكلّ شي ء طبق برنامج إسلاميصحيح وأن لا نغفل عنه أبداً.

الحجّ في احاديث الامام الخامنئي

ص: 13

الحجّ في أحاديث الإمام الخامنئي

(مد ظله العالي)

قال اللَّه الحكيم: «وإذ بوّأنا لإبراهيمَ مكانَ البيتِ أن لا تُشرك بي شيئاً وطهّر بيتي للطائفين والقائمين والرّكّع السجود».

شاءت الإرادة الإلهية النافذة أن تجمع المؤمنين مرّة أُخرى في منبثق التوحيد، ومشهد رحمة ربّ العالمين وفضله، وحول محور كعبة القلوب، وفي ساحة قبلة أرواح المسلمين في العالم ... فتفوّق النداء الملكوتي: «وأذّن في الناس بالحجّ» على كلّ الفواصل الطبيعية منها والمفتعلة المفروضة بين الإخوة المسلمين، ودفع مجاميع القلوب النابضة بالإيمان والآمال المشتركة نحو مركز التوحّد ووحدة الأمة.

منذ سنوات طوال سعت يد الجهل والعناد إلى أن تفصل الأسرة الإسلامية الكبرى عن حضورها العقائدي، وعن روابطها الإيمانية.

ولكن فريضة الحجّ السنوية تؤدّي دورها في تغذية الأسرة العريقة

ص: 14

الأصيلة بدرس التوحيد والوحدة ... وفي كلّ سنة تنفتح أزاهير جديدة، تزيد عمّا مضى، مبشّرةً بعودة ربيع الإيمان، والحياة في ظل الدين، والتآلف والتوادد بين المسلمين ... ومحبطة عمل الأعداء وما كانوا يأفكون.

إنّها لمعجزةُ الحجّ أن نرى الوشائج الفكرية والعاطفية والايمانية بين الشعوب المسلمة لمّا تنقطع أبداً، وأن التفاعل بين هذه الشعوب يزداد باطّراد رغم كلّ النزاعات والصراعات التي تختلقها وتبثها حكوماتها وأعداؤها.

أسرار الحج ورموزه أكثر من أن يحتويها مقال، غير أن بينها ثلاث خصائص بارزة تستطيع كلّ عين مستقصية أن تتعرّفها في أول نظرة:

الأولى: أن الحج هو الفريضة الوحيدة التي دعا ربّ العالمين الى أدائها جميع المسلمين- من استطاع اليه سبيلًا- ومن أرجاء العالم كافة، وصوب نقطة واحدة، وفي أيام معلومات، ليربط بينهم في ألوان من السعي والحركة والسكون والقيام والقعود.

«ثمّ أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا اللَّه إن اللَّه غفور رحيم».

الثانية: أن الهدف الأسمى في هذا العمل الجماعي والعلني والقلبي والنفسي هو ذكر اللَّه:

«ويذكروا اسم اللَّه في أيام معلوماتٍ على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير».

ص: 15

الثالثة: أن الحج يعرض على شاشته المضيئة البيّنة تصويراً كاملًا لحياة الإنسان الموحّد. وبعمل رمزي يلقّن المسلمين درس الحياة المتحركة الهادفة. منذ ورود الميقات وحضور ساحة الإحرام والتلبية والتروك حتى الطواف حول الكعبة والسعي بين الصفا والمروة، والوقوف في محشر عرفات والمشعر وما فيهما من ذكر وتضرّع وتعارف، وحتى وصول منى وأضحيتها ورمي جمارها وحلقها، ثم العودة إلى الطواف والسعي ... يتلقّى المسلم فيها جميعاً دروساً واضحة بيّنة في الحركة الهادفة والجماعية والعارفة في ساحة التوحيد، وعلى درب الحياة وحول محور «اللَّه» سبحانه.

الحياة في منهج الحج سير دائم بلصيرورة مستمرة نحو اللَّه. والحج هو الدرس العملي الحي البنّاء الذي إن وعيناه يرسم لنا طريق حياتنا فيصورة عملية مشرقة.

اسرار الحجّ وأعماله الباطنة من شرح نهج البلاغة

ص: 16

أسرار الحجّ وأعماله الباطنة من شرح نهج البلاغة

لكمال الدين ميثم بن علي بن ميثم البحراني

من أعلام القرن السابع الهجري

اعداد: فارس تبريزيان

بعدما شرعت بكتابة بحث: الحجّ في نهج البلاغة، واعتمدت فيه على أقدم الشروح وأكثرها اعتباراً، عثرت على بحث لطيف لكمال الدين ميثم بن علي بن ميثم البحراني، من أعلام القرن السابع الهجري، حول أسرار الحج وأعماله الباطنة ووجه الحكمة في الحج، ضمّنه كتابه الشريف شرح نهج البلاغة، ذكره بعد شرحه للمقطع المتضمن لذكر الحج في آخر الخطبة الأولى من نهج البلاغة.

ورأيتُ بحثه هذا شاملًا لأدقّ المعاني العرفانية في أسرار الحج وأعماله الباطنة، ذكر فيه الأحاديث المروية عن النبيِّصلى الله عليه و آله و سلم وأهل بيته عليهم السلام، وأشار إلى نكات دقيقة لا توجد في غيره.

فعزمتُ على إفراد هذا البحث ونشره مستقلًا، ليعمّ به النفع، وإنما سمّيته: أسرار الحج وأعماله الباطنة؛ لأنه قال في آخر البحث: فهذه هي الإشارة إلى أسرار الحج وأعماله الباطنة.

موجز عن حياة كمال الدين ميثم البحراني:

ولد ونشأ كمال الدين ميثم بن علي بن ميثم البحراني في البحرين، في بيئة

ص: 17

تحيطه بالعلم والتقوى، وبذل والده في تربيته أقصى الجهد، واستفرغ في تأديبه وتهذيبه وسعه، وبوّأه من علمه وحكمته مبوّأصدقٍ.

درس على أساتذة الفنّ العلوم العربية وأتقنها، ثمّ العلوم الشرعية العقلية والنقلية، وصار من العلماء الأتقياء المعروفين.

غلبت عليه العزلة واختارها وأحبها.

جرت بينه وبين علماء العراق مكاتبات، مما أدّت إلى خروجه عن العزلة والتوجّه إلى العراق وإيران لأجل زيارة العتبات المقدسة والاجتماع بالعلماء.

استغرقت رحلته هذه عدّة سنين، وكان في السفر أيضاً لا يفتر عن المطالعة والبحث، حتّى إنه ألّف شروحه الثلاثة لنهج البلاغة في السفر.

كان رحمه الله كثير العبادة، كثير المطالعة، كثير الإرشاد للناس والموعظة.

وأما مشايخه فلم تذكر لنا المصادر غير ثلاثه منهم، ونقطع بأنهم أكثر من هذا العدد، أهملت ذكرهم مصادر التراجم:

أبو السعادات أسعد بن عبد القاهر بن أسعد الاصفهاني.

جمال الدين علي بن سليمان بن يحيى بن محمد بن قائد بنصباح البحراني.

نصير الدين محمد بن محمد بن الحسن الطوسي.

وروى عن البحراني بعض الفقهاء والمحدّثين، منهم:

غياث الدين السيد عبد الكريم بن أحمد بن موسى الطاوس الحسني.

محمد بن علي بن محمد بن جهيم الأسدي الحلي، وغيرهما.

وأمّا مؤلفاته:

شروح نهج البلاغة: كبير، ومتوسط، وصغير.

ص: 18

شرح المائة كلمة.

استقصاء النظر في إمامة الأئمة الاثني عشر.

البحر الخضيم، في الإلهيات.

رسالة في الوحي والإلهام.

شرح الإشارات.

نجاة القيامة في تحقيق الإمامة، ويحتمل اتحاده مع استقصاء النظر.

القواعد الإلهية في الكلام والحكمة.

وألّف الشيخ سليمان البحراني في أحواله رسالة سماها: السلافة البهية في الترجمة الميثمية.

توفي قدس سره في البحرين في أواخر القرن السابع الهجري، ودفن بها (1).

وأمّا هذا البحث- أسرار الحجّ وأعماله الباطنة- فذكره قدس سره في شرحه على نهج البلاغة الكبير، والذي طبع مرّتين في خمسة مجلدات، الأولى في النجف سنة 1379 ه، والثانية في طهران سنة 1404 ه مطبعة خدمات چاپي، واعتمدنا في نقله على الطبعة الثانية، والذي يقع في الجزء الأول منصفحة 223 إلىصفحة 232، وقوّمنا نصّه وصحّحناه بقدر الإمكان، وأضفنا بعض العناوين ووضعناها بين معقوفين.

[بسم اللَّه الرحمن الرحيم]

واعلم، أنّا لمّا بيّنّا وجوب العبادات، وأشرنا إلى وجه الحكمة فيها، فبالحريّ أن نشير إلى وجه الحكمة في خصوص الحج من جملتها، ونؤخّر تفصيل باقيها إلى مواضعه، إن شاء اللَّه.


1- 1 تجد ترجمته في: أمل الآمل 2/ 332، تنقيح المقال 3/ 262، روضات الجنات 7/ 216، الغدير 4/ 188، بحار الأنوار: المقدمة، أنوار البدرين: 62، خاتمة المستدرك 3/ 461، مجالس المؤمنين 2/ 210، لؤلؤة البحرين: 253، ومصادر أخرى كثيرة.

ص: 19

[مقدّمة]

فأمّا الحجّ، فإنّكَ لمّا عرفت أنّ الغرض الأول من العبادات هو جذب الخلق إلى جناب الحقّ، بالتذكير له ودوام إخطاره بالبال، لتجلّى لكَ الأسرار على طول التذكار، وينتهي في ذلك من أخذَتِ العنايةُ بيده إلى مقام المخلصين.

فمن جملة أسرار اللَّه سبحانه المنزلَة على لسان رسوله، تعيين موضع من البلاد، أنه أصلح المواضع لعبادة اللَّه، وأنّه خاص له.

ولابدّ أن تُبنى مثل هذه الأوضاع على إشارات ورموز إلى مقاصد حقيقية، يتنبّه لها مَن أخذ التوفيق بزمام عقله إليها.

ولابدّ من تعيين أفعال تفعل في ذلك المكان، وأنها إنما تفعل في ذات اللَّه سبحانه.

وأنفع المواضع المعيّنة في هذا الباب ما كان مأوى (1)الشارع ومسكنه، فإنّ ذلك مستلزم لذكره، وذكره مستلزم لذكر اللَّه سبحانه، وذكر ملائكته واليوم الآخر.

ولمّا لم يكن في المأوى الواحد أن يكون مشاهداً لكلّ أحدٍ من الأمة، فالواجب إذن أن يفرض إليه مهاجرة وسفراً، وإن كان فيه نوع مشقّة وكلفة:

من تعب الأسفار، وإنفاق المال، ومفارقة الأهل والولد والوطن والبلد.

ونحن نذكر فضيلته من جهة السمع، ثم نشير إلى ما ينبغي أن يوظّف فيه من الآداب الدقيقة، [ثم نشير إلى الوظائف القلبية] والأعمال الباطنة عند كلّ حركة وركن من أركان الحج، مما يجري من تلك الأركان مجرى الأرواح للأبدان.

فإذن هاهنا أبحاث:


1- 1 المأوى- بفتح الواو- لكلّ حيوان: مسكنه المصباح المنير: 32 أوى.

ص: 20

البحث الأول:

[فضيلة الحج من جهة السمع]

أمّا الفضيلة، فمن وجوه:

الأول: قوله تعالى: «وَأذِّنْ فِي النّاس بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رجالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ» (1)

، قال قتادة: لمّا أمر اللَّه عزّ وجلّ خليله إبراهيم عليه السلام أن يؤذّن في الناس، [ف] نادى: «أنّ للَّه بيتاً فحجّوه».

وقال تعالى: «لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ» (2)

، قيل: التجارة في المواسم والأجر في الآخرة، ولمّا سمع بعض السلف هذا قال: غفر لهم وربّ الكعبة.

الثاني: قال عليه السلام: «مَن حجّ ولم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمّه» (3).

وقد عرفتَ كيفيّة نفع العبادات في الخلاص من الذنوب.

الثالث: قالصلى الله عليه و آله و سلم: «ما رؤي الشيطانُ في يوم هو أصغر ولا أحقر ولا أغيض منه يوم عرفة» (4).

وما ذلك إلّالما يرى من نزول الرحمة، وتجاوز اللَّه عن الذنوب العظام، إذ يقال: «من الذنوب مالا يكفّرها إلّاالوقوف بعرفة»، أسنده الصادق عليه السلام إلى الرسولصلى الله عليه و آله و سلم (5).

وكان سرّ ذلك: ما يحصل من رحمة اللَّه، ويُفاض على أسرار العبادة التي قدصفَتْ بشدّة الاستعداد الحاصل من ذلك الموقف العظيم، الذي يجتمع فيه العالم أشدّ اجتماع، فان الاجتماع سببٌ عظيمٌ في الانفعال والخشية للَّه وقبول أنواره، كما سنبينه إن شاء اللَّه.

الرابع: قالصلى الله عليه و آله و سلم: «حجّةٌ مبرورةٌ خيرٌ من الدنيا وما فيها، وحجّةٌ مبرورةٌ ليس لها أجرٌ إلّاالجنّة» (6).


1- 1 الحج: 27.
2- 2 الحج: 28.
3- 3 عوالي اللئالي 1/ 426 ح 113، مستدرك الوسائل 8/ 41 ح 22.
4- 4 كنز العمال 5/ 72- 73 ح 12105 و 12106، ونقله عن شرح ابن ميثم البحراني هذا، في مستدرك الوسائل 10/ 43 ح 11407.
5- 5 مثله في المستدرك 8/ 37 ح 9010، 10/ 30 ح 11382.
6- 6 مثله في الوسائل 11/ 96 ح 14332، المستدرك 8/ 41 ح 9022 و 9024، البحار 99/ 11 ح 34.

ص: 21

[الخامس] قالصلى الله عليه و آله و سلم: «الحجّاجُ والعمّارُ وَفْدُ اللَّه وزوّاره، إن سألوه أعطاهم، وإن استغفروه غفر لهم، وإن دعوه استجاب لهم، وإن شفعوا إليه شفّعهم» (1).

السادس: روي عنهصلى الله عليه و آله و سلم من طرق أهل بيته عليهم السلام: «أعظم الناس ذنباً مَن وقف بعرفة وظنّ أنّ اللَّه لم يغفر له» (2).

وفي فضل جزئيات الحج أخبار كثيرة تُطلب من مظانّها (3).

البحث الثاني:

في الآداب الدقيقة

وهي عشرة:

الأول: أن تكون النفقة حلالًا، ويخلو القلب عن تجارة تشغله سوى اللَّه تعالى.

وفي الخبر من طريق أهل البيت: «إذا كان آخر الزمان خرج الناس إلى الحج على أربعة أصناف: سلاطينهم للنزهة، وأغنياؤهم للتجارة، وفقراؤهم للمسألة، وقرّاؤهم للسمعة» (4).

وفي الخبر إشارة إلى جملة أغراض الدنيا الّتي يتصور أن تتصل بالحج، فكلّ ذلك مانع لفضيلة الحج ومقصود الشارع منه.

الثاني: أن لا يساعد الصادّين عن سبيل اللَّه والمسجد الحرام بتسليم المكوس (5) إليهم، فإنّ ذلك إعانة على الظلم، وتسهيل لأسبابه، وجرأة على سائر السالكين إلى اللَّه، وَلْيَحْتَلْ في الخلاص، فإن لم يقدر فالرجوع أولى من إعانة الظالمين على البدعة وجعلها سنة.

الثالث: التوسّع في الزاد، وطيب النفس في البذل، والإنفاق بالعدل، دون


1- 1 الكافي 4/ 255 ح 14، التهذيب، 5/ 24 ح 71، الوسائل 11/ 99 ح 14340، وفي جميع هذه المصادر الرواية عن أبي عبد اللَّه عليه السلام.
2- 2 الفقيه 2/ 137 ح 587، الوسائل 13/ 547 ح 18407، مستدرك الوسائل 10/ 29- 30 ح 11379- 11381.
3- 3 راجع: الوسائل 11/ 93 ب 38 وغيره من الأبواب، المستدرك 8/ 24 ب 24 وغيره من الأبواب.
4- 4 موسوعة أطرف الحديث 1/ 374، عن إتحاف السادة المتقين للزبيدي.
5- 5 المكس: الجباية، جمع على مكوس، وقد غلب استعمال المكس فيما يأخذه أعوان السلطان ظلماً. المصباح المنير: 577 مكس.

ص: 22

البُخل والتبذير، فإنّ بذلَ الزادِ في طريق مكة إنفاقٌ في سبيل اللَّه.

قالصلى الله عليه و آله و سلم: «الحجّ المبرور ليس له أجرٌ إلّاالجنة»، فقيل: يا رسول اللَّه ما برّ الحجّ؟ قال: «طيب الكلام، وإطعام الطعام» (1).

الرابع: ترك الرَفَثَ والفُسُوق والجدال، كما قال تعالى: «فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ» (2).

والرفث: كلّ لغوٍ وفحشٍ من الكلام، ويدخل في ذلك محادثة النساء بشأن الجماع المحرّم، فإنّها تهيّج داعيته، وهي مقدّمة له، فتحرم، ومن لطف الشارع إقامة مظنّة الشي ء مقام الشي ء حسماً لمادّته.

والفسوق: الخروج عن طاعة اللَّه.

والجدال: هو المماراة والخصومة الموجبة للضغائن والأحقاد وافتراق كلمة الخلق (3).

وكلّ ذلك ضدّ مقصود الشارع من الحجّ، وشغلٌ عن ذكر اللَّه.

الخامس: 0 ن يحج ماشياً مع القدرة ونشاط النفس، فإنّ ذلك أفضل وأدخل للنفس في الإذعان لعبودية اللَّه.

وقال بعض العلماء: الركوب أفضل، لما فيه من مؤونة الإنفاق، ولأنّه أبعد من الملال، وأقلّ للأذى، وأقرب إلى السلامة وأداء الحجّ.

وهذا التحقيق غير مخالف لما قلناه، والحقّ التفصيل، فيقال: مَن سهل عليه المشي فهو أفضل، فإن أضعف وأدّى إلى سوء خلق وقصور عن العمل فالركوب أفضل، لأنّ المقصود توفّر القوى على ذكر اللَّه تعالى، وعدم المشتغلات عنه.

السادس: أن يركب الزاملة، دون المحمل، لاشتماله على زيّ المترفين والمتكبرين، ولأنه أخفّ على البعير، اللهمّ إلّالعذرٍ.


1- 1 جامع أحاديث الشيعة 10/ 166 ح 484 عن عوالي اللئالي.
2- 2 البقرة: 197.
3- 3 في بعض النسخ: الحق.

ص: 23

حجّ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم على راحلته، وكان تحته رحل رثّ وقطيفة خلقة، قيمته أربعة دراهم، وطاف على الراحلة لينظر الناس إلى هيأته وشمائله، وقال:

«خذوا عنّي مناسككم».

السابع: أن يخرج رثّ الهيأة، أقرب إلى الشعث، غير مستكثر من الزينة وأسباب التفاخر، فيخرج [فإذا استكثر خرج] بذلك عن حزب السالكين وشعار الصالحين.

روي عنهصلى الله عليه و آله و سلم أنه قال: «إنّما الحاجّ الشعث التفث (1)، يقول اللَّه تعالى لملائكته: انظروا إلى زوّار بيتي قد جاؤوني، شعثاً غبراً من كلّ فجّ» (2).

وقال تعالى: «ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ» (3)

، والتفث: الشعث والإغبرار، وقضاؤه: بالحلق وتقليم الأظفار.

الثامن: أن يرفق بالدابة، ولا يحملها ما لا تطيق.

كان أهل الورع لا ينامون على الدابة إلّاغفوة من قعود.

قالصلى الله عليه و آله و سلم: «لا تتخذوا ظهور دوابّكم كرسيّ» (4).

ويستحب أن ينزل عن دابته غدوّة وعشيّة، يروّحها بذلك، فهو سنّة.

وسرّ ذلك: مراعاة الرقّة والرحمة، والتخلّي عن القسوة والظلم، ولأنّه يخرج بالعسف عن قانون العدل ومراعاة عناية اللَّه وشمولها، فإنها كما لحقت الإنسان لحقت سائر الحيوان.

التاسع: أن يتقرب بإراقة دمٍ، ويجتهد أن يكون سميناً ثميناً.

روي: أن عمر أهدى نجيبة، فطُلبت منه بثلاثمائة دينار، فسأل رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم أن يبيعها ويشتري بثمنها بُدُناً، فنهاه رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم وقال: «بل اهدها» (5)، وذلك لأن المقصود ليس تكثير اللحم، وإنما المقصود تزكية النفس وتطهيرها عن رذيلة البُخل وتزيينها بجمال التعظيم للَّه، «لَن ينالَ اللَّهَ لحُومُها وَلا


1- 1 تَفِثَ تَفَثاً فهو تفِثٌ: إذا ترك الإدّهان والاستحداد فعلاه الوسخ. المصباح المنير: 75 تفث.
2- 2 عوالي اللئالي 4/ 36 ح 123، المستدرك 8/ 41 ح 9023.
3- 3 الحج: 29.
4- 4 مسند أحمد 3/ 441، باختلاف، وفي الوسائل 11/ 481 ح 15313: «لا تتخذوا ظهورها مجالس».
5- 5 كنز العمال 5/ 233 ح 12722، باختلاف.

ص: 24

دِمَاؤُها وَلِكنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُم» (1).

قالصلى الله عليه و آله و سلم: «ما عمل آدميّ من عملٍ يوم النحر أحبّ إلى اللَّه عزّ وجلّ من إهراق الدم إنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأشعارها وأظلافها، وإن الدم ليقع من اللَّه بمكانٍ قبل أن يقع على الأرض، فطيبوا بها نفساً» (2).

العاشر: أن يكون طيّب النفس بما أنفقه من هدي وغيره، وبما أصابه من خسران ونقيصة مال، إن أصابه ذلك فإنّه بذلك يكون مكتفياً إلى اللَّه سبحانه عن كلّ ما أنفقه، متعوّضاً عنه ما عند اللَّه، وذلك علامة لقبول حجّه.

البحث الثالث:

في الوظائف القلبية عند كلّ عمل من أعمال الحجّ

اعلم، أنّ أول الحج فهم موقع الحجّ في الدين، ثمّ الشوق إليه، ثمّ العزم عليه، ثمّ قطع العلائق المانعة عنه، ثمّ تهيئة أسباب الوصول إليه من الزاد والراحلة، ثمّ السير، ثمّ الإحرام من الميقات بالتلبية، ثمّ دخول مكة، ثمّ استتمام الأفعال المشهورة.

وفي كلّ حالة من هذه الحالات تذكرةٌ للمتذكّر، وعبرة للمعتبر، ونيّةٌ للمريد الصادق، وإشارةٌ للفطن الحاذق، إلى أسرار يقف عليها بصفاء قلبه وطهارة باطنه إن ساعده التوفيق.

أمّا الفهم:

فاعلم، أنه لا وصول إلى اللَّه إلّابتنحية ما عداه عن القصد من المشتهيات البدنية واللذات الدنيوية، والتجريد في جميع الحالات، والاقتصار على الضروريات، ولهذا انفرد الرهبان في الأعصار السالفة عن الخلق في قلل


1- 1 الحج: 37.
2- 2 كنز العمال 5/ 84 ح 12153.

ص: 25

الجبال، توحّشاً من الخلق، وطلباً للأُنس بالخالق، وأعرضوا عن جميع ما سواه، ولذلك مدحهم بقوله: «ذَلِكَ بِأَنّ مِنْهُمْ قِسّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ» (1).

فلمّا اندرس ذلك، وأقبل الخلق على اتّباع الشهوات، والإقبال على الدنيا، والالتفات عن اللَّه، بعث نبيّهصلى الله عليه و آله و سلم، لإحياء طريق الآخرة، وتجديد سنة المرسلين في سلوكها، فسأله أهل الملل عن الرهبانيّة والسياحة في دينه، فقال:

«أبدلنا بها الجهاد والتكبير على كلّ شرف» يعني: الحج، وسئل عن السائحين، فقال: «هم الصائمون»، فجعل سبحانه الحجّ رهباينة لهذه الأمّة.

فشرّف البيت العتيق بإضافته إلى نفسه، ونصبه مقصداً لعباده، وجعل ما حوله حرماً لبيته، تفخيماً لأمره، وتعظيماً لشأنه، وجعل عرفات كالميدان على باب حرمه، وأكّد حرمة الموضع بتحريمصيده وشجره، ووضعه على مثال حضرة الملوك، يقصده الزوّار من كلّ فجّ عميق، شعثاً غبراً، متواضعين لربّ البيت، مستكينين له خضوعاً بجلاله واستكانةً لعزّته، مع الاعتراف بتنزيهه عن أن يحومه مكان، ليكون ذلك أبلغ في رقّهم وعبوديّتهم.

ولذلك وظّف عليهم فيها أعمالًا لا تأنس بها النفوس، ولا تهتدي إلى معانيها العقول، كرمي الجمار بالأحجار، والتردّد بين الصفا والمروة على سبيل التكرار.

وبمثل هذه الأعمال يظهر كمال الرقّ والعبودية، بخلاف سائر العبادات، كالزكاة التي هي إنفاق في وجه معلوم وللعقل إليه ميل، والصوم الذي هو كسر للشهوة التي هي عدوّ للَّه وتفرغ للعبادة بالكفّ عن الشواغل، وكالركوع والسجود في الصلاة الّذي هو تواضع للَّه سبحانه بأفعال على هيئات التواضع وللنفوس أنسٌ بتعظيم اللَّه تعالى.


1- 1 المائدة: 82.

ص: 26

وأمّا أمثال هذه الأعمال، فإنه لا اهتداء للعقل إلى أسرارها، فلا يكون للإقدام عليها باعث إلّاالأمر المجرد وقصد امتثاله من حيث هو واجب الاتباع فقط، وفيه عزل للعقل عن تصرّفه، وصرف النفس والطبع عن محلّ أنسه المعين على الفعل من حيث هو، فإنّ كلّ ما أدرك العقل وجه الحكمة في فعله مال الطبع إليه ميلًا تاماً، فيكون ذلك الميل معيناً للأمر وباعثاً على الفعل، فلا يكاد يظهر به كمال الرق والانقياد، ولذلك قالصلى الله عليه و آله و سلم في الحج على الخصوص:

«لبّيك بحجّة حقّاً تعبّداً ورقّاً» (1)، ولم يقل ذلك في الصلاة وغيرها.

وإذا اقتضت حكمة اللَّه سبحانه ربط نجاة الخلق بكون أعمالهم على خلاف أهوية طباعهم، وأن تكون أزمتها بيد الشارع، فيتردّدون في أعمالهم على سنن الانقياد ومقتضى الاستعباد، كان ما لا يهتدى إلى معانيه أبلغ أنواع التعبدات، وصرفها عن مقتضى الطبع إلى مقتضى الاسترقاق، ولهذا كان مصدر تعجب النفوس من الأفعال العجيبة هو الذهول عن أسرار التعبدات.

وأما الشوق:

فباعثه الفهم أنّ البيت بيت اللَّه، وأنه وضع على مثال حضرة الملوك، فقاصده قاصدٌ للَّه تعالى، ومَن قصد حضرة اللَّه تعالى بالمثال المحسوس، فجدير أن يترقى منه بحسب سوق شوقه إلى الحضرة العلوية والكعبة الحقيقية التي هي في السماء، وقد بني هذا البيت على قصدها، فيشاهد وجه ربّه الأعلى بحكم وعده الكريم.

وأمّا العزم:

فليستحضر في ذهنه أنه لعزمه مفارقٌ للأهل والولد، هاجر للشهوات


1- 1 كنز العمال 5/ 32 ح 11921، وص 149 ح 12416، مع اختلاف.

ص: 27

واللذات، مهاجرٌ إلى ربّه، متوجّهٌ إلى زيارة بيته.

وليعظّم قدر البيت لقدر ربّ البيت، وليخلص عزمه للَّه، ويبعده عن شوائب الرياء والسمعة، فإن ذلك شركٌ خفيٌّ، وليتحقّق أنه لا يقبل من عمله وقصده إلّاالخالص، وأنّ من أقبح المقابح أن يقصد بيت الملك وحَرَمَهُ مع اطلاع ذلك الملك على خائنة الأعين وما تخفي الصدور ويكون قصده غيره، فإنّ ذلك استبدال للذي هو أدنى بالّذي هو خير.

أمّا قطع العلائق:

فحذف جميع الخواطر عن قلبه، غير قصد عبادة اللَّه، والتوبة الخالصة له عن الظلم وأنواع المعاصي، فكلّ مظلمة علاقةٌ، وكلّ علاقة خصمٌ حاضرٌ متعلّقٌ به ينادي عليه ويقول:

أتقصد بيت الملوك وهو مطّلع على تضييع أمره لك في منزلك هذا، وتستهين به، ولا تلتفت إلى نواهيه وزواجره، ولا تستحي أن تقدم عليه قدوم العبد العاصي فيغلق دونك أبواب رحمته، ويلقيك في مهاوي نقمته، فإن كنت راغباً في قبول زيارتك فأبرز إليه من جميع معاصيك، واقطع علاقة قلبك عن الالتفات إلى ما وراءك، لتتوجّه إليه بوجه قلبك، كما أنتَ متوجّهٌ إلى بيته بوجه ظاهرك.

وليذكر عند قطعه العلائق لسفر الحجّ قطع العلائق لسفر الآخرة، فإنّ كلّ هذه أمثلة قريبة يترقّى منها إلى أسرارها.

وأمّا الزاد:

فليطلبه من موضع حلالٍ، فإذا أحسّ من نفسه بالحرص على استكثاره

ص: 28

وطيبه وطلب ما يبقى منه على طول السفر ولا يتغيّر قبل بلوغ المقصد، فليذكر أنّ سفر الآخرة أطول من هذا السفر، وأنّ زاده التقوى، وأما ما عداه لا يصلح زاداً، ولا يبقى معه إلّاريثما هو في هذا المنزل.

وليحذر أن يفسد أعماله التي هي زاده إلى الآخرة بشوائب الرياء، وكدورات التقصير، فيدخل في قوله تعالى: «هَلْ نُنَبّئكُمْ باْلأَخْسرينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ في اْلَحَيَاةِ الدُّنْيا وهُمْ يَحْسبونَ أَنَّهم يُحْسِنُونَصُنْعاً» (1).

وكذلك فليلاحظ عند ركوب دابّته تسخير الحيوان له، وحمله عنه الأذى، ويتذكّر منّتهِ تعالى لشمول عنايته ورأفته، حيث يقول: «وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيه إِلّا بِشِقِّ الأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ» (2)

، فيشكره سبحانه على جزيل هذه النعمة وعظيم هذه المنّة.

ويستحضر نقلته من مركبه إلى منازل الآخرة، التي لا شك فيه، ولعلّه أقرب من ركوبه الحاضر، فيحتاط في أمره.

وليعلم أنّ هذه أمثلة محسوسة، يترقّى منها إلى مراكب النجاة من الشقّة الكبرى، وهي عذاب اللَّه سبحانه.

وأما ثوب الإحرام وشراؤه ولبسه:

فليتذكّر معه الكفن، ودرجه فيه، ولعلّه أقرب إليه.

وليتذكّر منها التسربل بأنوار اللَّه الّتي لا مخلص من عذابه إلّابها، فيجهد في تحصيلها بقدر إمكانه.

وأمّا الخروج من البلد:

فليستحضر عنده أنّه يفارق الأهل والولد، متوجّهاً إلى اللَّه سبحانه في


1- 1 الكهف: 103- 104.
2- 2 النحل: 7.

ص: 29

سفر غير أسفار الدنيا.

ويستحضر أيضاً غايته من ذلك السفر، وأنه متوجّه إلى ملك الملوك وجبّار الجبابرة، في جملة الزائرين الذين نودوا فأجابوا، وشوّقوا ما اشتاقوا، وقطعوا العلائق، وفارقوا الخلائق، وأقبلوا على بيت اللَّه طلباً لرضى اللَّه وطمعاً في النظر إلى وجهه الكريم.

وليحضر أيضاً في قلبه رجاء الوصول إلى الملك، والقبول له بسعة فضله، وليعتقد أنّه إن مات دون الوصول إلى البيت لقى اللَّه وافداً عليه، لقوله تعالى: «وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيتهِ مهاجراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ اْلمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّه» (1).

وليتذكر في أثناء طريقه من مشاهدة عقبات الطريق عقبات الآخرة، ومن السباع والحيّات حشرات القبر، ومن وحشة البراري وحشة القبر وانفراده عن الأنس، فإنّ كلّ هذه الأمور جاذبة إلى اللَّه سبحانه ومذكّرة له أمر معاده.

وأمّا الإحرام والتلبية من الميقات:

فليستحضر أنه إجابة نداء اللَّه تعالى، وليكن في قبول إجابته بين خوف ورجاء، مفوّضاً أمره إلى اللَّه، متوكّلًا على فضله.

قال سفيان بن عيينة: حجّ زين العابدين علي بن الحسين عليه السلام، فلمّا أحرم واستوت به راحلته، اصفرّ لونه، ووقعت عليه الرعدة، ولم يستطع أن يلبّي، فقيل له: ألا تلبّي، فقال: «أخشى أن يقول: لا لبّيك ولا سعديك!»، فلمّا لبّى غشي عليه وسقط عن راحلته، فلم يزل يعتريه ذلك حتّى قضى حجّه (2).

فانظر رحمك اللَّه إلى هذه النفس الطاهرة، حيث بلغ بها الاستعداد


1- 1 النساء: 100.
2- 2 راجع: نهاية الارب 21: 326، تهذيب التهذيب 7: 306.

ص: 30

لإفاضة أنوار اللَّه، لم تزل الغواشي الإلهية والنفحات الربّانيّة تغشاها، فيغيب عن كلّ شي ء سوى جلال اللَّه وعظمته.

وليتذكّر عند إجابته نداء اللَّه سبحانه، إجابة ندائه بالنفخ في الصور، وحشر الخلق من القبور، وازدحامهم في عرصات القيامة، مجيبين لندائه، منقسمين إلى: مقرّبين، وممقوتين، ومقبولين، ومردودين، ومردّدين في أول الأمر بين الخوف والرجاء، تردّد الحاج في الميقات: حيث لا يدرون أيتيسّر لهم إتمام الحجّ أم لا.

أما دخول مكة:

فليستحضر عنده أنه قد انتهى إلى حرم اللَّه الآمن، وليرج عنده أن يأمن بدخوله من عقاب اللَّه، وليخش أن لا يكون من أهل القرب، وليكن رجاؤه أغلب، فإنّ الكريم عميم، وشرف البيت عظيم، وحقّ الزائر مرعي، وذمام اللائذ المستجير غير مضيّع، خصوصاً عند أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

ويستحضر أنّ هذا الحرم مثال للحرم الحقيقي، لترقى من الشوق إلى دخول هذا الحرم والأمن بدخوله من العقاب، إلى الشوق إلى دخول ذلك الحرم والمقام الأمين.

وإذا وقع بعده على البيت فليستحضر عظمته في قلبه، وليترقّ بفكره إلى مشاهدة حضرة ربّ البيت في جوار الملائكة المقرّبين، وليتشوّق أن يرزقه النظر إلى وجهه الكريم، كما رزقه الوصول إلى بيته العظيم، وليتكثّر من الذكر والشكر على تبليغ اللَّه إيّاه هذه المرتبة.

وبالجملة، فلا يغفل عن تذكير أحوال الآخرة في كلّ ما يراه، فإنّ كلّ

ص: 31

أحوال الحجّ ومنازله دليل يترقّى منه إلى مشاهدة أحوال الآخرة.

وأمّا الطواف بالبيت:

فليستحضر في قلبه التعظيم والخوف والخشية والمحبّة، وليعلم أنّه بذلك متشبّه بالملائكة المقرّبين الحافين حول العرش الطائفين حوله.

ولا تظنّن أنّ المقصود طواف جسمك بالبيت، بل طواف قلبك بذكر ربّ البيت، حتّى لا تبتدئ بالذكر إلّامنه، ولا تختم إلّابه، كما تبدأ بالبيت وتختم به.

واعلم أنّ الطواف المطلوب هو طواف القلب بحضرة الربوبية، وأنّ البيت مثال ظاهر في عالم الشهادة لتلك الحضرة التي هي عالم الغيب، كما أنّ الإنسان الظاهر مثال الظاهر في عالم الشهادة للإنسان الباطن الذي لا يشاهد بالبصر وهو في عالم الغيب، وأن عالم الملك والشهادة مرقاة ومدرج إلى عالم الغيب والملكوت لمن فتح له باب الرحمة، وأخذت العناية الإلهية بيده لسلوك الصراط المستقيم.

وإلى هذه الموازنة وقعت الإشارة الإلهية: بأنّ البيت المعمور في السماء بإزاء الكعبة، وأنّ طواف الملائكة به كطواف الإنس بهذا البيت (1).

ولمّا قصرت مرتبة أكثر الخلق عن مثل ذلك الطواف أُمروا بالتشبّه بهم بحسب الإمكان، ووعدوا بأنّ مَن تشبّه بقومٍ فهو منهم، ثمّ كثيراً ما يزداد ذلك التشبيه إلى أن يصير في قوّة المشبّه به، والّذي يبلغ تلك المرتبة فهو الّذي يقال:

إنّ الكعبة تزوره وتطوف به، على مارواه بعض المكاشفين لبعض أولياء اللَّه.

وأمّا الاستلام:

فليستحضر عنده أنّه مبايع للَّه على طاعته، ومصمّم عزيمته على الوفاء


1- 1 الوسائل 13: 296 ح 17788، وغيره.

ص: 32

ببيعته، «فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنكُثُ عَلَى نَفْسِه وَمَنْ أَوْفَى بِما عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً» (1).

ولذلك قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم: «الحجر الأسود يمين اللَّه في الأرض يصافح بها خلقه كما يصافح الرجل أخاه» (2).

ولمّا قبّله عمر قال: إني لأعلم أنك حجر لاتضر ولا تنفع، ولولا أنّي رأيت رسول اللَّه يقبّلك لَما قبّلتكَ!! فقال له عليّ عليه السلام: «مه يا عمر، بل يضرّ وينفع، فإنّ اللَّه سبحانه لمّا أخذ الميثاق على بني آدم حيث يقول: «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهمْ ذُرِّيتَهُمْ وَأَشْهَدَهُم عَلَى أَنْفُسِهِم» الآية (3)، ألقمه هذا الحجر ليكون شاهداً عليهم بأداء أمانتهم، وذلك معنى قول الإنسان عند استلامه: أمانتي أدّيتها وميثاقي تعاهدته لتشهد لي عند رّبك بالموافاة» (4).

وأمّا التعلّق بأستار الكعبة والالتصاق بالملتزم:

فليستحضر فيه طلب القرب، حّباً للَّه وشوقاً إلى لقائه، تبركاً بالمماسة ورجاءً للتحصن من النار، في كلّ جزءٍ من البيت.

ولتكن النية في التعلّق بالستر الإلحاح في طلب الرحمة (5)، وتوجيه الذهن إلى الواحد الحقّ، وسؤال الأمان من عذابه، كالمذنب المتعلّق بأذيال من عصاه، المتضرع إليه في عفوه عنه، المعترف له بأنه لا ملجأ إلّاإليه، ولا مفزع له إلّاعفوه وكرمه، وأنه لا يفارق ذيله إلّابالعفو وبذل الطاعة في المستقبل.

وأمّا السعي بين الصفا والمروة في فناء البيت:

فمثال لتردّد العبد بفناء دار الملك، جائياً وذاهباً، مرّةً بعد أخرى، إظهاراً للخلوص في الخدمة، ورجاءً لملاحظته بعين الرحمة، كالّذي دخل على الملك


1- 1 الفتح: 10.
2- 2 المحاسن: 65، البحار 99: 225 ح 22، مع أختلاف يسير.
3- 3 الأعراف: 172.
4- 4 الوسائل 13: 313 ب 12 من أبواب الطواف، وغيره.
5- 5 في بعض النسخ: الراحة.

ص: 33

وخرج وهو لا يدري ما الّذي يقضي الملك في حقّه من قبول أو ردّ، فيكون تردّده رجاء أن يرحمه في الثانية إن لم يكن رحمه في الأولى.

وليتذكّر عند تردّده بين الصفا والمروة تردّده بين كفتي الميزان في عرصة القيامة، وليمثل الصفا بكفّة الحسنات والمروة بكفّة السيّئات، وليتذكّر تردّده بين الكفتين، ملاحظاً للرجحان والنقصان، متردّداً بين العذاب والغفران.

وأمّا الوقوف بعرفة:

فليتذكر بما يرى من ازدحام الناس، وارتفاع الأصوات، واختلاف اللغات، واتباع الفرق أئمّتهم في التردّدات على المشاعر- اقتفاءً لهم وسيراً بسيرتهم- عرصات القيامة، واجتماع الأمم مع الأنبياء والأئمة، واقتفاء كلّ أمّة أثر نبيّها، وطمعهم في شفاعتهم، وتجرّدهم في ذلك الصعيد الواحد بين الردّ والقبول.

وإذا تذكّر ذلك فيلزم قلبه الضراعة والابتهال إلى اللَّه أن يحشره في زمرة الفائزين المرحومين، ولكن رجاؤه أغلب، فإنّ الموقف شريف، والرحمة إنّما تصل من حضرة الجلال إلى كافّة الخلائق بواسطة النفوس الكاملة من أوتاد الأرض، ولا يخلو الموقف عن طائفة من الأبدال والأوتاد وطوائف من الصالحين وأرباب القلوب.

فإن اجتمعت هممهم، وتجردت للضراعة نفوسهم، وارتفعت إلى اللَّه أيديهم، وامتدّت إليه أعناقهم، يرمقون بأبصارهم جهة الرحمة، طالبين لها، فلا تظنّن أنه يخيب سعيهم من رحمةٍ تغمرهم.

ويلوح لك من اجتماعهم الأمم بعرفات، والاستظهار بمجاورة الأبدال والأوتاد المجتمعين من أقطار البلاد، وهو السرّ الأعظم من الحج ومقاصده،

ص: 34

فلا طريق إلى استنزال رحمة اللَّه واستدرارها أعظم من اجتماع الهمم وتعاون القلوب في وقت واحد علىصعيد واحد.

وأمّا رمي الجمار:

فليقصد به الانقياد لأمر اللَّه، وإظهار الرقّ والعبودية.

ثمّ ليقصد به التشبّه بإبراهيم عليه السلام، حيث عرض له إبليس في ذلك الموضع، ليدخل على حجّه شبهة، أو يفتنه بمعصية، فأمره اللَّه تعالى أن يرميه بالحجارة، طرداً له وقطعاً لأمله (1).

فإن خطر له أنّ الشيطان عرض لإبراهيم عليه السلام ولم يعرض له، فليعلم أن هذا الخاطر من الشيطان، وهو الذي ألقاه على قلبه، ليخيّل إليه أنه لا فائدة في الرمي، وأنه يشبه اللعب. وليطرده عن نفسه بالجدّ والتشمير في الرمي فيه، يرغم فيه أنف الشيطان، فإنه وإن كان في الظاهر رمياً للعقبة بالحصى، فهو في الحقيقة رمي لوجه إبليس وقصم لظهره، إذ لا يحصل إرغام أنفه إلّابامتثال أمر اللَّه، تعظيماً لمجرّد الأمر.

وأمّا ذبح الهدي:

فليعلم أنّه تقرّب إلى اللَّه تعالى بحكم الامتثال، فليكمل الهدي وأجزاءه، وليرج أن يعتق اللَّه بكلّ جزءٍ منه جزءاً من النار، هكذا ورد الوعد، فكلّما كان الهدي أكثر وأوفر كان الفداء به من النار أتمّ وأعمّ، وهو يشبه التقرب إلى الملك بالذبح له وإتمام الضيافة والقرى، والغاية منه تذكّر المعبود الأول سبحانه عند النية في الذبح، واعتقاد أنه متقرب به بأجزائه إلى اللَّه.

فهذه هي الإشارة إلى أسرار الحج وأعماله الباطنة.


1- 1 الوسائل 14: 263 ح 19153، 19154، 19156، 19157.

ص: 35

الهوامش:

مناسك الحجّ والعمرة

ص:36

ص: 37

مناسك الحجّ والعمرة (1) تأليف: الشهيد الثاني قدس سره

تحقيق: أبو الحسن المطلبي ورضا المختاري

نَحْمَدكَ اللهمّ يا مَنْ شَرَعَ لنا مسالكَ الأحكام، وشَرَحَ لنا مَناسكَ حجِّ بيتهِ الحرام، ونَشْكُركَ على ما فَضَّلتَنا به مِن فضائلِ الإكرام، وغَمَرْتَنا به مِن جلائِل الإنعامَ، ونُصلِّي ونُسَلِّمُ على نبيِّك محمَّدٍ الداعي إلى دار السلام: أشْرَفِ مَنْ طافَ بالبيت الحرام، وسَعى بينَ الرُكنِ والمَقام، وعلى آله المخصوصينَ بالتطهير مِن بينِ الأنام،صلاةً وسلاماً دائمَيْنِ بَدوام اللَيالي والأيّام.

وبعدُ، فهذه جملةٌ كافِلةٌ ببيان واجبات الحجِّ والعمرة، ونَبْذَةٌ مِن سُنَنِهما الفِعلية، وأذكارِهما اللفظيِة، ووظائِفِهما القلبيِة، حاوَلْتُ فيها بَسْطَ اللفظِ وسُهولةَ المعنى، طلباً للتسهيل، ورَجاءً للثواب الجزيل.

وَرَتَّبْتُها على مقدِّمةٍ ومقالتينِ وخاتمةٍ.

أما المقدِّمةُ: فاعْلمْ أنّ الحجَّ ركنٌ عظيم مِن أركان الإسلام، ومفهومه مشتهرٌ بينَ ذَوي الأفهام، وتعريفُه الصِناعي مع عِزِّة سلامتِهِ لا يَليقُ بحثُه بهذا


1- 1 للشهيد الثاني قدس سره ثلاث رسائل في مناسك الحج تمّ نشرها في مجلتنا هذه وهي: نيات الحج والعمرة، العدد الثاني أقل ما يجب معرفته من أحكام الحج والعمرة، العدد الثالث مناسك الحج والعمرة، العدد الخامس، مخطوط غير مطبوع.

ص: 38

المَقام، والحَثٌّ عليه في الكتاب والسُنَّة أوْضَحُ دليلٍ لمَنْ فَكَّرَ في ذلك مِن العالَمين، وناهيك بقوله تعالى: «وَللَّهِ عَلى الناسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إلَيْهِ سَبيلًا وَمَنْ كَفَرَ فإنّ اللَّهَ غَنيٌّ عَنِ العالَمينَ» (1)

. وفي الآية ضُروبٌ من التأكيد عليه جَليةُ المباني تُعْلَمُ مِنصِناعة المَعاني. ونحوها من السُنَّةِ المُطَهَّرةِ قولهصلى الله عليه و آله و سلم:

مَنْ وَجَبَ عليه الحَجُّ ولم يَحُجَّ فَلْيَمُتْ إنْ شاء يهودياً وإنْ شاء نصرانياً (2).

ويَكْفِيكَ في فضله مِن جِهة الاعتبار أنّه جَمَعَ ضُروباً مِن العبادات كالصلاة، وبَذْلِ المال المضاهِئ لِلزَكَواتِ والأخْماسِ والكفّاراتِ، والصَوْمِ- على بعض الوجوه- والتعرُّضِ للجهاد كذلك، مع اشتماله على أنواعِ المَشاقِّ والأهوالِ، والتَغْريرِ بالنفس والمال، ومفارَقَةِ الأهل والولد والوطن والبلد، إلى غير ذلك مِن المزايا، ومِن هنا وَرَدَ فيه مِن الثواب الجَزيلِ ما قد تَضافَرَتْ به الأخبارُ عن النبيِّ وآله الأطهارِصَلَواتُ اللَّه عليهم: فعن النبيّصلى الله عليه و آله و سلم:

مَنْ حَجَّ ولم يَرْفُثْ ولم يَفْسُقْ خَرَجَ مِن ذُنوبه كيومِ وَلَدَتْه أُمُّه (3).

وعنهصلى الله عليه و آله و سلم:

الحُجّاج والعُمّار وَفْدُ اللَّهِ وزُوّارُهُ، إنْ سألوه أعْطاهم وإنِ اسْتَغْفَروه غَفَرَ لهم، وإنْ دَعَوه اسْتَجابَ لهم، وإنْ شَفَعوا إليه شَفَّعَهم (4).

وعنهصلى الله عليه و آله و سلم:

حجّة مبرورة خيرٌ من الدنيا وما فيها، وحجّةٌ مَبرورةٌ ليس لها أجْرٌ إلّا الجَنّة (5).

وعنهصلى الله عليه و آله و سلم:

مارُئيَ الشيطان في يومٍ هو [فيه] أصْغرُ ولا أدْحَرُ ولا أحْقرُ ولا أغْيَظُ منه يومَ عَرَفةَ، وذلك لِما يَرى فيه مِن نُزول الرحمة وتجاوُزِ اللَّهِ


1- 1 آل عمران 3: 97.
2- 2 إحياء علوم الدين 1: 285؛ لبّ اللباب كما رواه في مستدرك الوسائل 8: 18- 19 ح 8956 باب ثبوت الكفر والارتداد بترك الحجِّ وتسويفه استخفافاً أو جحوداً ح 5؛ عوالي اللآلي 1: 87 ح 18 مع اختلافٍ.
3- 3 احياء علوم الدين 1: 286.
4- 4 إحياء علوم الدين 1: 287.
5- 5 إحياء علوم الدين 1: 287 وفيها «جزاء» بدل «أجر».

ص: 39

عن الذنوب العظامِ (1).

وعنهصلى الله عليه و آله و سلم:

إذا تَوَجَّهْتَ إلى سبيل الحجِّ ثُمَّ رَكِبتَ راحِلتَك وقلتَ: بسم اللَّه الرحمن الرحيم، ومَضَتْ بك راحِلتُك لم تَضَعْ راحِلتُك خُفّاً وتَرْفَعْ خُفّاً إلّاكَتَبَ اللَّهُ لك حسنةً، ومَحا عنك سيِّئةً، فإذا أحْرَمْتَ ولبَّيتَ كتب اللَّه لك بكلِّ تلبية عَشْرَ حَسناتٍ، ومحا عنك عَشْرَ سيّئاتٍ.

فإذا طُفْتَ بالبيت أُسبوعاً كان لك بذلك عند اللَّه عَهْدٌ وذِكْرٌ يَسْتَحْيي أنْ يُعذِّبَك بعدَه. فإذاصَلَّيْتَ عند المَقام ركعتينِ كَتَبَ اللَّهُ لك بهما ألفي ركعةٍ مقبولةٍ. فإذا سَعَيتَ بينَ الصفا والمرَوة سبعةَ أشواطٍ، كان لك بذلك عند اللَّه عزَّ وجلَّ مثلُ أجرِ مَنْ حجَّ ماشياً من بلاده، ومثلُ أجرِ مَنْ أعْتَقَ سبعينَ رقبةً مؤمنةً. فإذا وَقَفْتَ بعَرفات إلى غروب الشمس فلو كان عليك مِن الذنوب مثلُ رَمْلِ عالج وزبدِ البحر لَغَفَرها لك. فإذا رَميْتَ الجِمارَ كَتَبَ اللَّه لك بكلِّ حَصاة عَشَرَ حسنات. فإذا ذَبَحَت هَدْيَكَ كَتَبَ اللَّه لك بكلِّ قطرةٍ مِن دمها حَسَنةً. فإذا طُفْتَ بالبيتِ للزيارة أُسبوعاً وصَلَّيْتَ عندَ المقام ركعتينِ ضَرَبَ مَلَكٌ كريمٌ بينَ كَتفَيْك، وقال: «أما وامضِ فقد غَفَرَ اللَّه لك» (2).

وعن مولانا الصادق عليه السلام:

مَنْ حَجَّ هذا البيتَ بنيّةٍصادقةٍ جَعَله اللَّهُ في الرفيق الأعلى مع النبيّين والصدّيقينَ والشهداء والصالحينَ وحَسُنَ أُولئك رفيقاً (3).

وغير ذلك مِن الأحاديثِ (4).

ويُستحبُّ لمنْ أرادَ الحجَّ قَطْعُ العلائقِ بينَه وبينَ مُعامِليه، وإيصالُ كلِّ ذي


1- 1 موطّأ مالك 1: 422 كتاب الحجّ ح 245 باب جامع الحجّ؛ إحياء علوم الدين 1: 286.
2- 2 الفقيه 2: 130- 132 ح 551 وباب فضائل الحجّ ح 1؛ تهذيب الأحكام 5: 20- 21 ح 57 باب ثواب الحج ح 3 مع اختلاف في الألفاظ، والجملة الأخيرة في الفقيه هكذا: «أمّا ما مضى فقد غُفِرَ لك، فاستأنف العملَ فيما بينك وبين عشرين ومائة يوم». وما أثبتناه مطابق للنسخ.
3- 3 الفقيه 2: 152- 153 ح 664 باب نكت في حج الأنبياء والمرسلينصلوات اللَّه عليهم أجمعين، ح 14 والقسم الأخير من الحديث الشريف اقتباس من الآية 69 من النساء 4.
4- 4 انظر وسائل الشيعة 11: 7- 16 أبواب وجوب الحجّ وشرائطه الباب 1؛ بحار الأنوار 99: 2- 26 باب وجوب الحجّ وفضله وعقاب تركه.

ص: 40

حقٍّ حقَّه، واختيارُ يومٍصالحٍ للسفر كالسَّبْتِ والثُّلاثاء ورفيقٍصالحٍ، وتحسينُ الخُلُقِ زيادةً على الحَضَر، والتَوَسُّعُ في الزاد، وطِيبُ النَّفْسِ في البَذل، والإنفاقُ بالعَدلِ دونَ البُخْل والتقتير والتبذيرِ؛ فإنّ بَذْلَ الزادِ في طريق مكَّةَ إنفاقٌ في سبيل اللَّه. قالصلى الله عليه و آله و سلم:

الحجُّ المبرورُ ليس له أجرٌ إلّا الجنّةَ. فقيل: يا رسولَ اللَّه ما بِرُّ الحجِّ؟

قال: طِيبُ الكلام وإطعامُ الطعام (1).

وعن الصادق عليه السلام:

درهمٌ واحدٌ في الحجِّ أفضلُ مِن ألفي ألفِ درهمٍ فيما سِواه في سبيل اللَّه، والهديّةُ مِن نفقة الحج (2).

فإذا عَزَمَ على الخروجصَلّى في منزله ركعتينِ؛ فإنّهما أفضلُ ما اسْتَخْلَفَه

الرجلُ على أهله، ويقول بعدهما: «اللهُمَّ إنّي أسْتَوْدِعُكَ نَفْسي وأهلي ومالي وذُرِّيتي ودنياي وآخرتي وأمانتي وخاتمةَ عملي»، فيُعطيه اللَّهُ ما يَسْألُ، كما ورد في الخبر (3).

ويَفتَتِحُ سفرَه بالصدقة، ثمّ يَقومُ على باب داره ويَقرأ فاتحةَ الكتاب وآيةَ الكرسيِّ أمامَه الذي يتوجَّه نحوَه وعن يمينه وشماله، ويَدْعو بكلمات الفرج مُضِيفاً إليها:

اللهمَّ احْفَظْني واحْفَظْ ما معي، وسَلِّمْني وسلِّمْ ما معي، وبَلِّغْني وبلِّغْ ما معي ببلاغِك الحَسَنِ الجميلِ (4)، الحمد للَّه ربِّ العالمين- ثم يقول:-

اللهمَّ كُنْ لي جاراً مِنْ كُلِّ جبّارٍ عنيدٍ، ومِنْ كُلِّ شيطانٍ مريدٍ- ثم يقول:- بِسم اللَّه دَخَلْتُ، وبسم اللَّه خَرَجْتُ، وفي سبيل اللَّه تَوَجَّهتُ، اللهُمّ إنّي أُقَدِّمُ بين يدي نِسْياني وعَجَلتي، بسم اللَّه وما شاء اللَّه في سفري هذا، ذكرتُه أو نَسِيتُهُ، اللهمَّ أنت المُسْتعان على الأُمور كُلِّها، وأنتَ الصاحب


1- 1 إحياء علوم الدين 1: 311.
2- 2 مجموعة الجباعي الورقة 71 ب؛ بحار الأنوار 99: 15 باب وجوب الحجِّ وفضله وعقاب تركه ح 47 وفيهما: «وروي: درهماً في الحجّ أفضل من ألفي درهم فيما سواه في سبيل اللَّه، والحاجّ على نور الحجّ ما لم يلمّ بذنبٍ، وهدّية الحجّ مِن نفقة الحجّ».
3- 3 الكافي 4: 283 باب القول عند الخروج من بيته وفضل الصدقة ح 1؛ الفقيه 2: 177 ح 789: باب ما يستحبّ للمسافر من الصلاة إذا أراد الخروج؛ تهذيب الأحكام 5: 49 ح 152 باب العمل والقول عند الخروج ح 15.
4- 4 الكافي 4: 284 باب القول إذا خرج الرجل من بيته ح 1؛ الفقيه 2: 177 ح 790 باب ما يستحبّ للمسافرمن الدعاء عند خروجه في السفر؛ تهذيب الأحكام 5: 49- 50 ح 153 باب العمل والقول عند الخروج ح 16.

ص: 41

في السفر والخليفة في الأهل، اللهمَّ هَوِّنْ علينا سَفَرنا، واطوِ لنا الأرضَ، وسَيِّرْنا فيها بطاعتك وطاعةِ رسولك، اللهمَّ أصْلِحْ لنا ظَهْرَنا، وبارِكْ لنا فيما رَزَقْتَنا، وقِنا عذابَ النار، اللهمَّ إنيِّ أعوذُ بك مِنْ وَعْثاءِ السفر وكَآبةِ المنْقَلَب وسوءِ المنْظَر في الأهل والمال والولد، اللهمَّ أنت عَضُدي وناصِري، بك أحُلُّ وبك أسِيرُ، اللهُمّ إنِّي أسألك في سفري هذا السرورَ والعملَ بما يُرْضِيك عنّي، اللهمَّ اقْطَعْ عني بُعدَه ومَشَقَّتَه، واصْحَبْني فيه، واخْلُفنِي في أهلي بخيرٍ، ولا حولَ ولا قوَّةَ إلّاباللَّه، اللهمَّ إنيِّ عبدُك، وهذا حُمْلانُك (1)، والوجهُ وجُهك، والسفرُ إليك، وقد اطَّلَعْتَ على ما لم

يَطَّلِعْ عليه أحدٌ غيرُك، فاجْعَل سَفَري هذا كفّارةً لِما قَبْلهَ مِنْ ذنوبي، وكُنْ عوناً لي عليه، واكفني وَعْثَه ومَشَقَّتَه، ولَقِّني مِنَ القول والعملِ رضاك؛ فإنّما أنا عبدُك وبِك ولَك (2).

ثمّ ينوي: أتوجَّه إلى البيت الحرام والمشاعِرِ العظامِ لأعْتَمِرَ عمرةَ الإسلام عمرةَ التمتُّع وأحُجَّ حجَّ الإسلام حجَّ التمتُّعِ لوجوبه قربةً إلى اللَّه.

وليَخْرُج مُتَحَنِّكاً لِيَرْجِعَ إلى أهله سالِماً، متطهِّراً لِتُقضى حاجتُه، فإذا وَضَعَ رِجلَه في الركاب فليَقُلْ:

«بسم اللَّه الرحمن الرحيم، بسم اللَّه واللَّه أكبرُ».

فإذا اسْتَوى على راحلته فليَقُلْ

: الحمد للَّه الذي هدانا للإسلام، ومَنَّ علينا بمحمَّدٍصلى الله عليه و آله و سلم، سُبْحانَ اللَّه، سُبحانَ الذي سَخَّرَ لنا هذا وما كُنّا له مُقْرِنينَ وإنّا إلى ربِّنا لَمُنقَلِبون (3). والحمدُ للَّه ربِّ العالمين، اللهمَّ أنت الحاملُ على الظَهْر،

والمُسْتعانُ على الأمر، اللهمَّ بَلغِّنا بَلاغاً يُبلِّغ إلى خيرٍ، بلاغاً يُبَلِّغُ به إلى مَغْفِرَتِك ورضوانِك، اللهمَّ لا طيرَ إلّاطيرُكَ ولا خيرَ إلّاخيرُك، ولا حافِظَ غيرُك (4).


1- 1 «الحُمْلان: ما تُحمَل عليه الهدايا من الدواب» المعجم الوسيط 1: 199 حمل.
2- 2 الكافي 4: 284- 285 باب القول إذا خرج الرجل من بيته ح 1؛ تهذيب الأحكام 5: 50- 51 ح 154 باب العمل والقول عند الخروج ح 17 وفيه: «في سبيل اللَّه جاهدت» بدل «في سبيل اللَّه توجَّهتُ». قال الفيض الكاشاني رحمه الله في الوافي 12: 265 في توضيح الدعاء «الجار الذي يؤمن مَن أخافه ... المريد المبالغ في العصيان والعُتوّ. دخلت أي في السفر أو هذه العبارة. خرجت أي مِن بيتي، أو مّما كنت فيه. وفي سبيل اللَّه أي توجَّهت أو دخلت وخرجت وهو عطف على بسم اللَّه. انّي اقدّم أي أقول هاتين الكلمتين في أوّل أمري وابتداء سفري لكلِّ أمرٍ عَرَضَ لي في تمام هذا السفر مّما ينبغي أنْ أقولَهما عنده ... بين يدي نسياني وعجلتي أي قبل أنْ أنساهما أو أعجل عنهما، أو أنسى شيئاً أو أعجل عن شي ء. أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل هاتان الصفتان مّما لا يجتمعان في واحد سِوى اللَّه جَلَّتْ كبرياؤه ... واطوْ: اقطع وقرِّبْ، ظهرنا: ما نركبه من البعير وغيره، والظهر يقال لما غلظ من الأرض أيضاً. وعثاء السفر: مشقَّته. كآبة المنقلب: الرجوع من السفر بالغم والحزن الانكسار، بك أحُلُّ بضم الحاء من الحلول أي أحُلُّ بالمنزل وهو في مقابلة أسير. والحُملان بالضمّ: ما يُحْمَلُ عليه من الدوابّ. والوجه وجهك أي الجهة التي أتوجّه إليها إنّما هي جهتك، وفي معناه: والسفر إليك. والوعث: الطريق العسر ...».
3- 3 اقتباس من الآيتين 13- 14 من الزخرف 43.
4- 4 الكافي 4: 284- 285 باب القول إذا خرج الرجل من بيته ح 2؛ تهذيب الأحكام 5: 50- 51 ح 154 باب العمل والقول عند الخروج ح 17.

ص: 42

وينبغي أنْ يَخْرُج رَثَّ (1) الهيئةِ أقْرَبَ إلى الشَعَث، مُلازِماً ذلك في السفر، فخيرُ الحاجِّ الشَعِثُ التَفِثُ (2). يقُول اللَّهُ لملائكته: «انظُروا إلى زُوّار بيتي قد جاؤوني شُعْثاً غُبْراً مِنْ كُلِّ فّجٍ عَميقٍ (3) أُشْهِدُكم أنّي قد غَفَرتُ لهم» (4).

وأنْ يَرْكبَ الراحِلةَ دونَ الَمحْمِلِ إلّالِعذرٍ، تأسِّياً بالنبيّصلى الله عليه و آله و سلم، فإنّه حَجَ على راحِلته وكان تحتَه رَحْلٌ رَثٌّ وقَطِيفةٌ خَلِقَةٌ قيمته أربعةُ دراهمَ، وطافَ على الراحلةِ لِيَنْظُرَ الناسَ، وقال: «خُذوا عنّي مناسِكَكم» (5).

وأنْ يَمْشِيَ مع القدرة، فإنّ ذلك أفْضَلُ وأدْخَلُ في الإذعانِ لعبودية اللَّه تعالى، اللهُمَّ إلّاأنْ يُنافِيَ ما هو أفضلُ منه.

وأنْ يَرْفُقَ بالدابَّة ولا يُحَمِّلَها ما لا تَطِيقُ، وأنْ يَنْزِلَ عنها غُدْوَةً وعَشِيّةً.

وأنْ يُصَلِّيَ في كلِّ منزلٍ ركعتينِ عند النُزول والارتحالِ.

وأنْ يَقولَ عند مشاهَدة المنازلِ والقُرى:

اللهُمَّ ربَّ السماء وما أظَلَّتْ، وربَّ الأرضِ وما أقَلَّتْ، وربَّ الرِياح وما ذَرَتْ، وربَّ الأنهار وما جَرَتْ، عَرِّفْنا خيرَ هذه القريةِ وخيرَ أهلها، وأعِذْنا مِن شرِّها وشرِّ أهلها، إنّك على كُلِّ شي ءٍ قدير (6).

وأنْ يكونَ طَيِّبَ النفس بما يُنْفِقُه وبما يُصِيبه مُتَعَوِّضاً عنه بما عند اللَّه، فإنّ ذلك مِن علامة قبول الحجّ.

وأنْ يُحْضِرَ قلبَه في حركاته وسكناته؛ فإنّه روح العبادة فيَتَبَيَّنُ له بذلك أنّ هذا السفر مثالٌ لسفر الآخرة؛ فيَتَذَكَّرُ بوصيّته قبلَ السفر وجَمْعِ أهلِهِ اجتماعَهم على وصيّتِه عند إشرافه على لقاء اللَّه تعالى؛ بتهيئته الزادَ والراحلةَ وملاحَظَةِ الاحتياجِ إليهما والتعرُّضِ للهلاك عند التقصيرِ فيهما- مع قِصَرِ هذا السفرِ- شدَّةَ احتيِاجه إلى ذلك في سفر الآخرة، وتَعَرُّضَه- بل وقُوعَه في الهلاك- عند التقصير في زداه مِن الأعمال الصالحة والتوجُّهات الُمخْلِصة الناجِحة؛ وبِذِلَّتهِ وانكساره


1- 1 «فلان رثُّ الهيئة، وفي هيئته رثاثة، أي بَذادة» الصحاح 1: 282- 283، رثت
2- 2 إشارةٌ إلى حديث مرويّ في أحياء علوم الدين 1: 212. و «رجلٌ شَعِث» أي وسخ الجسد. وفي المعجم الوسيط 1: 85 تفث: «تَفِثَ يَتْفَثُ تَفَثاً: تَرَك الادّهانَ والحلقَ فَعَلاه الوَسَخُ والغُبارُ، فهو تَفِث. التَفَث: ما يصيبُ المحرِم بالحجّ من ترك الادّهان والغَسل والحَلْق؛ وإزالته من مناسك الحجّ».
3- 3 كما ذُكر في الآية 27 من سورة الحج.
4- 4 إحياء علوم الدين 1: 212، وليس فيه قوله: «اشهدكم أنّي قد غفرتُ لهم».
5- 5 إحياء علوم الدين 1: 212.
6- 6 المحاسن: 274؛ بحار الأنوار 76: 248- 249 باب حمل العصا وإدارة الحنك و ... ح 42.

ص: 43

- عندَ مشاهَدَةِ ذَوَي الأخطار العظيمة والثَروة الجسيمة مع نُفودِ زاده ونِفاقِ راحِلته- ما يَلْقاه المُقَصِّرُ مِن الذُلِّ والانكسار حين تجتمع الخلائقُ ببضائع (1) الآخرة والمتاجِرِ الفاخرةِ، وهو مُفْلِسٌ مِن الأعمال مُضَيِّعٌ نفسَه بسابق الإهمال، إلى غير ذلك من التنبيهات إلى آخر الأفعال، وسيأتي جملةٌ منها في الخاتمة إنْ شاء اللَّهُ تعالى.

وقاعدةُ ذلك كُلِّهِ ومرجِعُه إلى ما روي عن مولانا الصادق عليه السلام أنّه قال:

إذا أردتَ الحجَّ فجرِّد قلبَك للَّه تعالى مِن كلِّ شاغِلٍ وحجابِ كلِّ حاجب؛ وفَوِّضْ أُمورَك كلَّها إلى خالقك؛ وتوكَّلْ عليه في جميع ما يظهر مِن حركاتك وسكناتك؛ وسَلِّمْ لقضائه وحُكْمه وقَدَرِه؛ وودِّع الدنيا والراحةَ والخَلْقَ؛ واخْرُجْ مِن حقوقٍ تَلْزَمُك مِن جِهة المخلوقين؛ ولا تَعْتَمِدْ على زادك وراحلتك وأصحابك وقُوَّتِك وشَبابك ومالك، مخافةَ أنْ يَصيرَ ذلك (2) عَدُوّاً ووَبالًا، فإنّ مَنْ ادَّعى رِضا اللَّهِ واعْتَمَدَ على ما سِواهصَيَّره عليه وَبالًا وعدُوّاً، ليعلَمَ أنّه ليس له قُوّةٌ ولا حيلةٌ ولا لأحدٍ إلّابعصمة اللَّه تعالى وتوفيقه؛ واسْتَعِدَّ استعدادَ مَنْ لا يَرجو الرجوعَ؛ وأحْسِنِ الصُحْبةَ؛ وراعِ أوقاتَ فرائضِ اللَّه وسُنَنِ نبيِّهصلى الله عليه و آله و سلم، وما يجبُ عليك مِن الأدب والاحتمالِ والصبرِ والشكر والشَفَقَةِ والسخاءِ وإيثارِ الزادِ على دوام الأوقاتِ؛ ثمّ اغْسِلْ بماء التوبة الخالصة ذُنوبَك؛ والْبَسْ كُسْوةَ (3) الصدقِ والصفاء والخضوع والخشوع؛ وأحْرِم من كُلِّ شي ءٍ يَمْنَعُك عن ذكر اللَّه تعالى ويَحْجُبُك عن طاعته؛ ولَبِّ بمعنى إجابةصافية خالصة زاكية للَّه عزّ وجلّ في دعوتك مُتَمَسِّكاً بالعروة الوثقى؛ وطُفْ بقلبك مع الملائكة حولَ العرش كطوافك مع المسلمين


1- 1 «البِضاعة: ما يُتَّجَرُ فيه. الجمع: بضائع» المعجم الوسيط 1: 60 بضع.
2- 2 في المصدر: «أنْ يَصيروا لك عدّواً».
3- 3 «الكُسْوَة: الثوب يُسْتَتَرُ به ويُتَحَلّى. الجمع: كُساً» المعجم الوسيط 2: 788 كسو.

ص: 44

بنفسك حولَ البيت؛ وهَرْوِلَ هَرْولةً مِن هَواك وتبرّؤاً مِن حولك وقوّتك، واخْرُجْ مِنْ غَفْلتِك وزَلّاتِك بخروجك إلى مِنىً، ولا تَتَمَنَّ ما لا يَحِلُّ لك ولا تَسْتَحِقُّه؛ واعترِفْ بالخطايا بعَرَفاتٍ؛ وجَدِّدْ عهدَك عند اللَّه تعالى بوحدانيته، وتقرَّبْ إليه واتَّقِه بمُزْدَلَفَةَ؛ واصْعَدْ بروحك إلى الملإ الأعلى بصعودك إلى جبل؛ واذْبَحِ الهوى والطمع عندَ الذبيحة؛ وَارمِ الشهواتِ والخَساسة والدَناءة والذميمة عندَ رَمْي الجَمَراتِ؛ واحْلَقِ العيوبَ الظاهرةَ والباطنةَ بِحَلْقِ شَعْرِك؛ وادخُلْ في أمان اللَّه تعالى وكَنَفهِ وَستْرِه وكَلاءته مِن متابعة مرادك بدخولك الحرمَ؛ ودُرْ حولَ البيت مُتَحقِّقاً لتعظيمصاحبه ومعرفةِ جلاله وسلطانه؛ واسْتَلِمِ الحَجَرَ رضاً بقسمته وخضوعاً لعزَّته؛ ووَدِّعْ ما سِواه بطَواف الوَداع، وأصْفِ روحَك وسِرَّك للقائه يومَ تَلْقاه بوقُوفك على الصفا؛ وكُنْ بِمَرأى من اللَّه عند المَروة؛ واسْتَقِمْ على شرط حجِّك هذا ووفاء عهدك الذي عاهَدتَ مع ربِّك، وأوْجَبْتَه له إلى يومِ القيامة.

واعلم بأنّ اللَّهَ تعالى لم يَفترضِ الحجَّ ولم يَخُصَّه مِن جميع الطاعات بالإضافة إلى نفسه بقوله عَزَّ وجلَّ: «وللَّه على الناسِ حِجُّ البَيتِ مَنِ اسْتَطاع إليه سبيلًا» (1)

إلّاللاستعانة على الموت والقبر والبَعْثِ والقيامة والجنّة والنار بمشاهَدَةَ (2) مناسِكِ الحجِّ مِن أوَّلها إلى آخرها، وفي ذلك عِبرةٌ لأُولي الألباب والنُهى (3) انتهى.

ولْنَشْرَعِ الآنَ في الأحكام الشرعية:

فاعلم أنّ الحجَّ ثلاثةُ أنواعٍ: تمتُّعٍ وقِرانٍ وإفرادٍ، فالَتمتُّعُ فَرْضُ مَنْ نأى عن مكَّةَ بثمانيةٍ وأربعين مِيلًا، والآخرانِ فَرْضُ حاضريها ومَن في حكمهم. والفرقُ


1- 1 آل عمران 3: 97.
2- 2 في بعض النسخ: «بشاهد»، وفي بعضها: «لشاهد»، وفي بعضها «بشهادة».
3- 3 مصباح الشريعة 142- 150؛ بحار الأنوار 99: 124- 125 باب جوامع آداب الحجّ ح 1.

ص: 45

بينَهما أنّ التمتُّعَ تُقَدَّمُ فيه العمرةُ على الحجِّ، وليس في عُمرته طوافُ النساء بخلافهما، ويَخْتَصّانِ عنه أيضاً بجَواز تقديم طواف الحجِّ على الخروج إلى عرفةَ لغير عذرٍ. الفرقُ بينَهما- مع اشتراكهما في تلك الأحكام- انحصارُ عقدِ إحْرام الإفراد في التلبية، والتخييرُ في القِران بينهما وبَيْنَ سياق الهَدْي.

إذا تقرَّرَ ذلك فأفعالُ عُمْرة التمتُّعِ سبعةٌ: الإحرامُ والتلبيةُ ولُبس ثوبي الإحرام والطوافُ ورَكعتاه والسعيُ والتقصيرُ.

وأفعالُ عُمرة الإفراد جميعُ ذلك مع طواف النساء بعد التقصير ورَكْعَتَيْه.

وأفعالُ الحجِّ بأنواعه سِتّةَ عَشَرَ: الإحرامُ والتلبيةُ واللُبْسُ والوقوفُ بعرفةَ والمَبِيتُ بالمشعر والوقوفُ به ورَمْيُ جَمْرة العَقَبَةِ والذَبْحُ والحَلْقُ والتقصيرُ وطَوافُ الحجِّ وركعتاه والسعيُ وطوافُ النساء وركعتاه والمَبيتُ بِمنًى لياليَ التشريق ورَمْيُ الجَمَراتِ الثلاث.

والأركانُ من ذلك أحَدَ عَشَرَ: الإحرامان والتلبيتانِ والطوافانِ والسعيانِ والوقوفانِ والترتيبُ بين الأفعال. والمرادُ بالركن هنا ما يَبْطُلُ الحجُّ بتركه عَمداً لا سَهواً، إلّاأنْ يكونَ الفائتُ الوقوفينِ فيَبْطُل وإنْ كان سهواً، ولا يَبْطُلُ بفَواتِ باقي الأفعال وإنْ كان عمداً.

المقالةُ الأُولى في أفعال عمرة التمتُّع وفيها فصولٌ:

الأوَّلُ: الإحرامُ وتوابعهُ، وهو توطين النفس على تَرْكِ أُمورٍ مخصوصةٍ إلى أنْ يأتيَ بالُمحَلِّلِ، وسَيأتي تفصيلهُ. وتلك التُروك منها ما يَشْتَرِكُ بينَ الذَكَر وغيرِه وهو سِتّةَ عَشَرَ:صَيْدُ البَرِّ الُمحَلَّل المُمُتَنِع بالأصالة وسِتّةٍ من الُمحرَّمِ: الأسدِ والثَعْلَبِ والأرْنَبِ والضَبِّ واليَربوعِ والقُنْفُذِ، اصطياداً وأكْلًا وذَبْحاً ودلالةً وإغْلاقاً، مباشَرَةً وتسبيباً ولو بإعارة الآلة، والاستمتاعُ بالجِماع ومقدِّماته حتّى

ص: 46

العقد، والطِيبُ بأنواعه شمّاً وسُعُوطاً وإطلاءً وكَحْلًا وصَبْغاً وغيرَها، والاكتحالُ بالسَواد، والادِّهانُ مطلقاً، وإخْراجُ الدمِ، وقَلْمُ الأظافِر، وإزالةُ الشَعْرِ وقَطْعُ الحشيشِ والشجرِ النابِتَيْن في الحرمِ إلّاالإذْخِرَ والَمحالةَ وعُودَيْها وشجرَ الفواكِهِ والنابتَ في ملكه، والكَذِبُ مطلقاً، والجِدالُ وهو الحَلْف مطلقاً، ولُبْسُ الخاتَمِ، والحِنّاءُ للزِينة لا للسنَّة- فيهما- والفارقُ القصدُ ولُبْسُ السِلاح اختياراً، وقتلُ هوامِّ الجَسَدِ كالقَمْل، والنظرُ في المرآة.

ومنها ما يَخْتَصُّ بالرجل، وهو لُبْسُ الَمخِيطِ وإنْ قَلَّت [الخياطةُ] عدا المِنْطَقةِ والهِمْيانِ، ويَلْحَقُ به الزَرُّ والخَلالُ وما أحاطَ بالبدن من الِلبد والدِرْع المَنسوجِ وغيرِهما مّما أشْبَهَ المخيطَ، والتظليلُ سائراً اختياراً ولا يَحْرُمُ المشيُ في ظِلِّ الَمحْمِل ولا المرورُ تحتَ الظِلِّ، وتَغْطيةُ الرأس ولو بالارتماسِ. وفي اختصاصه بتحريم سَتْر ظَهْر القَدَمِ بالخُفِّ ونحوِه أو عموم التحريم قولانِ (1)، أقربُهما الأوّلُ.

ومنها ما يَخْتَصُّ بالمرأة، وهو تغطيةُ الوجه إلّاالقدرَ الذي يَتَوقَّفُ عليه تغطيةُ الرأس فيَحْرمُ عليها النِقابُ ونحوهُ، ويجوزُ لها أنْ تَسدُلَ قِناعَها بحيثُ لا يُصيبُ وجَهها، ولُبْسُ ما لم تَعْتَدْه مِن الحَلْي وما اعْتادَتْه بقصد الزِينِة لا بدونها، لكنْ يُحْرُمُ عليها إظهارُه للزوج. والخُنثى المُشكِلُ في ذلك كالرَجُل إلّافي كَشفِ الرأسِ فيَتَخَيَّرُ بينَه وبينَ كشفِ الوجه.

ويُشْتَرَطُ في الإحرام إيقاعُه في أحد المواقيِت التي وَقَّتَها رسولُ اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم وهي: مسجد الشجرة لأهل المدينة ومَن اجتازبها والجُحْفَةُ لأهل المصر والشام إنْ مَرّوا بها، ويَلَمْلَمُ لأهل اليمنِ، وقَرْنُ المنازِلِ لأهل الطائف، والعَقِيقُ لأهل العراق وهو المَسْلَخُ وذاتُ عِرْقٍ وما بينَهما، وأفضلُه أوّلهُ، ومَنْ كان منزلُه دونَ المِيقات فميقاتُه منزلهُ. ولو سَلَكَ طريقاً لا يَمُرُّ بميقاتٍ أحْرَمَ عند مُحاذاة الميقاتِ ولو ظنّاً، ولا فرقَ في ذلك بينَ البَرِّ والبحر.


1- 1 مختلف الشيعة 4: 105- 107 المسألة 67.

ص: 47

وهذه المواقيتُ لحجِّ القِرانِ والإفراد ولعمرة التمتُّع وللمفرَدة إذا مَرَّ عليها.

ولو كان بمكّةَ خرج لها إلى أدنى الحِلِّ. ومِيقاتُ حجِّ التمتُّع اختياراً مكَّةُ، وأفضلها المسجدُ وأفضلُه المَقامُ أو تحتَ المِيزابِ.

ويُشتَرطُ أيضاً في غير عمرة الإفراد وقوعُه في أشْهُرِ الحجِّ وهي شوّالٌ وذو القَعْدةِ وذو الحِجَّةِ.

ويُسْتَحَبُّ قبلَ الإحرام تَوْفيرُ شَعْرِ الرأس من أوَّل ذي القِعْدة، ويَتَأكَّدُ عند هِلال ذي الحِجّةِ واستكمالُ التنظيفِ عندَه بإزالة شَعْرِ الإبطِ (1) والعانةِ بالحَلْق- وأفَضْلُ منه الاطّلاءُ (2) وإنْ كان مُطَّلِياً قبلَ ذلك، ما لم يَقْصُرْ وقتهُ عن خَمْسةَ عَشَرَ يوماً فلا يتأكَّد الاستحباب- وقَصِّ الأظفارِ وإزالة الشَعَثِ. والغُسْلُ على الأقوى، ويُجزِئُ غُسلُ النهارِ ليومه والليلِ لليلته ما لم يَنَمْ أو يُحْدِثْ أو يَأكُلْ أو يَتَطيَّبْ أو يَلْبِسْ ما يَحْرُم على الُمحْرِم فيُعيدُه. ولو تَعَذَّرَ الغُسلُ يَتَيمَّم. ولو خافَ عَوْزَ الماء في الميقات قَدَّمَه في أقربِ أوقات الإمكان إليه، ثمَ يَلْبَسُ ثوبي الإحرام، وسيأتي بيانُهما. ثمّ يُصلِّي سُنّةَ الإحرامِ وهي سِتُّ ركعاتٍ أو أربعُ أو ركعتان، ثمّ يصِّلي الفريضةَ الحاضرةَ إن كانَتْ وأفضلُها الظهرُ، وإلّا قَضى فريضةً. وِنيّةُ الغُسل: «أغْتَسِلُ غُسلَ الإحرامِ لندبه قربةً إلى اللَّه». ونيَّةُ السُنّة: «أُصلِّي ركعتين مِنْ سُنْة الإحرامِ لنَدْبهما قربةً إلى اللَّه».

وينبغي النيَّة عندَ نَزْعِ المخيط ولُبْس الثوبينِ، وليستْ شرطاً في الصحّة وإنْ توقَّفَ عليها الثوابُ، فيَنْوي: «أنْزعُ الَمخيطَ لوجوبه قربةً إلى اللَّه، ألْبَسُ ثَوْبَي الإحرامِ لوجوبه قربةً إلى اللَّه».

ونيُّة الإحرامِ بالعُمرة: «أُحْرِمُ بالعمرة المُتَمَتَّعِ بهما إلى حَجِّ الإسلام حَجِّ التمتُّع، وأُلَبِّي التلبياتِ الأربعَ لعقد هذا الإحرامِ لوجوب الجميعِ قربةً إلى اللَّه».

ويُقارِنُ بهما التلبيةَ وهي «لَبَّيْك اللهُمَّ لَبَّيك، لَبَّيْك، إنّ الحمدَ والنِعمةَ والمُلك لك،


1- 1 «الإبْطُ باطن المَنْكِب» لسان العرب 7: 253، أبط
2- 2 «إطَّلى بكذا: ادَّهَنَ به» المعجم الوسيط 2: 565، طلي

ص: 48

لا شريك لك لَبَّيك». ولَمّا كانتِ النيّة هي القصد إلى الفعل المعيَّن المتَّصِفِ بالأوصاف المذكورة فلا بُدَّ مِنْ معرفة المكلف بمعانيها ليْتَحَقَّقَ القصدُ إليها. فمعنى أُحْرِمُ أي أُوطِّنُ نفسي على ترك الأُمور المذكورة سابقاً. والعُمرة لغةً: الزيارة، وشرعاً: زيارةُ البيت مع أداء مناسِكَ مخصوصةٍ، وتُطْلَقُ على مجموع تلك المناسك. وخَرَجَ ب «العمرة» (1)(2)(3) الحجُّ والمتمتَّعُ بها إلى الحجِّ أي التي يَتَخَلَّلُ بينها وبين الحجِّ راحةٌ وتحلُّلٌ مُسْتَمِرٌّ من الفَراغ منها إلى أنْ يَشْتَغِلَ بالحجِّ، وبهذا القيد تَتَميَّز عن العمرة المفرَدة؛ فإنّها تقع بعدَ الحجِّ أو (4) غيرَ مُرْتَبِطةٍ به، وبقيد «الإسلام» تَخرج العمرةُ المتمتَّعُ بها إلى حجِّ النذر وشبهه، و «لوجوب الجميع» إشارةٌ إلى الوجه الذي يقع عليه الفعلُ وبه يَمْتازُ عن المندوب و «قربةً إلى اللَّه» إشارة إلى غاية الفعلِ المتعبَّدِ به. والمرادُ بالقربة إليه سبحانه موافقهُ إرادته والتقرُّبُ إلى رضاه تعالى لا القربُ المكاني والزماني، لتنزُّهِه تعالى عنهما. وآثَرُ هذه الصيغةَ لورودها كثيراً في الكتاب والسُنَّة، ولو اقْتَصَرَ على جَعْلها للَّه تعالى كفى.

ويُعتبر في التلبية مقارَنَتُها للنيّة كتكبيرة الإحرام بالنسبة إلى نيّة الصلاة، وترتيبُها على الوجه المذكور، وموالاتُها، وإعرابُها.

ومعنى لَبَّيْك: «إجابةً بعدَ إجابةٍ لك يا ربِّ» أو «إخلاصاً بعدَ إخلاصٍ» أو «إقامةً على طاعتك بعدَ إقامةٍ». ومعنى اللهمَّ: «يا اللَّه». ويجوز كسر «إنّ» في قوله:

«إنّ الحمدَ» وفتحها، والأوَّل أجودُ (5). وقد ورد في الخبر أنّ هذه التلبية جوابٌ للنداء المذكور في قوله تعالى: «وأذِّنْ في الناس بالحجِّ» (6)

حيثُصَعِدَ إبراهيمُ عليه السلام أبا قُبَيسٍ ونادى بالحجِّ (7). وفي «لا شريَك لك» إرغامٌ لأُنوف الجاهلية الذين كانوا يُشْرِكون الأصنامَ والأوثانَ بالتلبية، وفي تَكرارها بَعْثٌ للقلب على الإقبال على خالص الأعمال وتلافٍ لِما لعلّه وقع من الإخلال


1- 2 «إطَّلى بكذا: ادَّهَنَ به» المعجم الوسيط 2: 565، طلي
2- 2 «إطَّلى بكذا: ادَّهَنَ به» المعجم الوسيط 2: 565، طلي
3- 1 في نّية الإحرام بالعمرة.
4- 2 في بعض النسخ: «إذ» بدل «أو».
5- 3 انظر حاشية الإرشاد 1: 390؛ الروضة البهية 2: 231؛ مسالك الأفهام 2: 236؛ المنسك الكبير للشهيدالأول، وهو لم يطبع بَعدُ.
6- 4 الحج 22: 27.
7- 5 بحار الأنوار 99: 188 كتاب الحج باب علّة التلبية وآدابها وأحكامها 23 نقلًا عن تفسير العياشي، ولم يوجد فيه؛ وانظر: الفقيه 2: 149- 151 ح 658 باب نكت في حج الأنبياء والمرسلينصلوات اللَّه عليهم أجمعين ح 8.

ص: 49

بوظائف عبودية المَلِك المتعالِ، كتَكرار الركعات والتسبيحاتِ والتكبيراتِ وغيرِها من الأفعال.

ويُسْتَحبُّ الإكثارُ منها ومن باقي التلبياتِ المستحبَّةِ خصوصاً «لَبَّيْك ذا المعارِجِ، لَبَّيْك» فقد كان النبيصلى الله عليه و آله و سلم يُكْثِرُ منها، ومِنَ المستحبّةِ:

لَبَّيك ذا المعارجِ إلى دار السلام، لَبَّيْك لَبَّيْك غفّار الذنوبِ، لَبَّيْك لَبَّيْك أهلَ التلبية، لَبَّيك لَبَّيْك ذا الجلال والإكرام، لَبَّيْك لَبَّيْك تُبْدِئُ والمعادُ إليك، لَبَّيْك لَبَّيْك تَسْتَغْني ويُفْتَقَرُ إليك، لَبَّيْك لَبَّيْك مَرهوباً ومَرغوباً إليك، لَبَّيْك لَبَّيْك إلهَ الحقِّ، لَبَّيْك لَبَّيْك ذا النَعْماء وذا الفَضْلِ الحَسَنِ الجَميل، لَبَّيْك لَبَّيْك كَشّافَ الكُرَبِ العِظامِ، لَبَّيْك لَبَّيْك عبدُك وابنُ عبديْك، لَبَّيْك لَبَّيْك أتَقَرَّبُ إليك بمحمّدٍ وآل محمّدصَلّى اللَّه عليهم، لَبَّيْك لَبَّيْك يا كريمُ لَبَّيْك، لَبَّيْك بالعمرة المتمتَّع بها إلى الحجِّ لَبَيْك (1).

ولو كان لإحرام الحجّ قال بَدَلَ «بالعمرة»: «بالحجّ» إلى آخر ممّيزاته.

ويُشْتَرطُ في الثوبينِصِحّةُ الصلاة فيهما اختياراً، فلا يُجْزِئ النَجِسُ ولا الحريرُ الَمحْضُ ولا جِلدُ غيرِ المأكول، ولا الرقيقُ الذي يَحْكي العورةَ. ولْيَأتَزِرْ بأحدهما ويرتدي بالآخر- بأنْ يُغَطِّيَ به مِنْكَبَيْه- أو يَتَوشَّحُ به بأنْ يُغَطِّيَ [به] أحدَهما (ولو تَأدّتِ الوظيفتان بثوبٍ طويلٍ أجْزأ عنهما) (2) ويَجوزُ عَقدُ الإزارِ دونَ الرِداء، والزيادةُ عليهما للحاجةِ وإبدالَهُما.

ويُسْتَحَبُّ الطوافُ في الأوّليْنِ، وأنْ يكونا مِن القُطن الأبيضِ، ويُكْرَهُ غَسْلُهما- وإنْ تَوَسَّخا- وكونُهما غيرَ أبيضَيْنِ.

تذنيبٌ: الحَيْضُ لا يَمْنَعُ الإحرامَ، فلو اتَّفَقَ حالةَ الإحرام أحْرَمَتْ كذلك مِنْ غير غُسلٍ (3) ولاصَلاةٍ. ولو كان مِيقاتُها مسجدَ الشجرة أحْرَمَتْ مِنْ خارجه مُجْتازةً به مع أمْنِ التلويثِ.


1- 1 الكافي 4: 335 باب التلبية ح 3 باختلاف يسير.
2- 2 ما بين الهلالين ليس في أكثر النسخ.
3- 3 قال السيّد العاملي سبط المصنَّف رحمهما اللَّه في مدارك الأحكام 7: 386 في مبحث إحرام الحائض: «وذكر جدّي قدس سره في مناسك الحجّ أنّها تترك غُسل الإحرام أيضاً. وهو غير جيِّد؛ لورود الأمر به في الأخبار الكثيرة».

ص: 50

ويُسْتَحَبُّ لها أنْ تَلْبِسَ ثياباً طاهرةً حالةَ النيَّة- فإذا أحْرَمَت نَزَعَتْها إنْ شاءت- وأنْ تَسْتَثْفِرَ (1) بَعدَ الحَشْوِ وتَتَنَظّفَ ثمَّ تُحْرِمَ.

ولو تَرَكتِ الإحرامَ لظنّها فَسادَه رَجَعَتْ إلى الميقاتِ مع الإمكان، فإنْ تعذَّر فمِنْ حيثُ أمْكَنَ ولو مِنْ أدنَى الحِلِّ. ثمّ إنْ طَهُرَتْ قبلَ وقتِ الطَوافِ فطاهرةٌ وإلّا أخَّرتْه وما بعدَه مِن الأفعال إلى أنْ تَطْهُرَ أو يَضِيقَ الوقتُ بالتلبُّسِ بالحجِّ، فإنْ ضاقَ ولمّا تَطْهُرَ عَدَلَتْ إلى حجِّ الإفراد، وخَرَجَتْ إلى عَرَفَةَ بإحرامِها الأوّلِ، ثمَ اعْتَمَرتْ بعدَ الحجِّ عمرةً مفردةً وأجْزأها عن فرضها. وكذا لو عَرَضَ الحَيضُ بعدَ الإحرام وقبلَ أنْ تَطوفَ أربعةَ أشواطٍ ولو عَرَضَ بعدَ أنْ طافَتِ الأربعةَ سَعَتْ وأكْمَلَتِ العمرةَ، وأخَّرَتْ بقيّة الطوافِ والصلاة إلى أنْ تَطْهُرَ.

الثاني في الطواف، وهي الحركة الدَوْرية حولَ البيتِ على الوجه المخصوصِ للقربة، وله مقدّماتٌ مَسْنونةٌ وفُروضٌ وسُنَنٌ:

فالمقدّمات: الغسلُ عندَ دخول الحرم، ودخولُه ماشياً حافياً ونعلُه بيده، فمَنَ فَعَلَ ذلك تواضعاً للَّه تعالى مَحا اللَّهُ عنه مائةَ ألفِ سيِّئةٍ، وكَتَبَ له مائةَ ألفِ حسنةٍ، وبَنى له مائةَ ألفِ درجةٍ، وقضى له مائةَ ألفِ حاجةٍ. رواه أبانُ بنُ تَغْلِبَ عن الصادق عليه السلام (2).

والدعاءُ عند دخوله، فإذا أرادَ دخولَ مكَّةَ اغْتَسَلَ أيضاً بالأبْطحِ مِنْ بِئرِ مَيْمونٍ أو غيرِه، ولا يُحْدِثَ بعدَه حتّى يدخُلَها.

ويُسْتَحَبُّ الغُسلُ ثالثاً لدخول المسجد الحرامِ، ثمّ يَدخلُه حافِياً خاضِعاً خاشِعاً مِنْ باب بني شَيْبَةَ، وهو بإزاء باب السلام أدْخَلُ منه نحوَ المسجد، ويَقفُ عندَه ويقول:

السلام عليك أيُّها النبيُّ ورحمة اللَّه وبركاته، بسم اللَّه وباللَّه

[ومن اللَّه] (3)

وما شاء اللَّه، والسلام على أنبياء اللَّه ورُسُله، والسلام على رسول اللَّه،


1- 1 «استَثْفرَ الحائضُ: اتّخَذَتْ خِرْقَةً عريضةً بينَ فَخْذَيْها تشدُّدها في حِزامها. وفي الحديث: أنّه أمَرَ المستحاضةَ أنْ تَسْتَثْفِرَ» المعجم الوسيط 1: 97 ثفر.
2- 2 الكافي 4: 398 باب دخول الحرم ح 1؛ والفقيه 2: 132 ح 553 باب فضائل الحجّ ح 3؛ تهذيب الأحكام 5: 97 ح 317 باب دخول مكَّة ح 1.
3- 3 وما في المعقوفين أضفناه من المصدر.

ص: 51

والسلام على إبراهيمَ خليلِ اللَّه، والحمد للَّه ربِّ العالمينَ (1).

ثمَّ يَرفَعُ يدَيْه ويَسْتَقْبِلُ البيتَ ويقول:

اللهُمَّ إنّي أسألك في مقامي هذا في أوَّلِ مناسكي أنْ تَقْبَلَ تَوْبتي، وأنْ تُجاوِزَ عَنْ خطيئتي وتَضَعَ عنّي وِزْري، الحمد للَّه الذي بَلَّغَني بيتَه الحرامَ.

اللهمُّ إنّي أُشهِدُك أنّ هذا بيتُك الحرامُ الذي جَعَلْتَه مثابةً للناسِ وأمناً (2) ومُبارَكاً وهُدًى للعالمين. اللهُمَّ إنّي عبدُك، والبلدُ بلدُك، والبيتُ بيتُك، جئتُ أطْلُبُ رحمتَك وأؤمُّ طاعتَك، مُطيعاً لأمرك، راضياً بقَدَرك، أسألُك مسألةَ الفقيِر إليك الخائفِ مِنْ عُقوبتك. اللهُمَّ افْتَحْ لي أبوابَ رحمتِك، واسْتَعْمِلْنِي بطاعتك ومَرْضاتِكَ، واحفَظْني بحفظِ الإيمان أبداً ما أبْقَيْتَني، جَلَّ ثناءُ وجهِك. الحمدُ للَّهِ الذي جَعَلَني مِن وَفْدِه وزُوّارِه، وجَعَلَني مِمَّنْ يَعْمُرُ مساجِدَه، وجَعَلَني مِمَّن يُناجيه. اللهُمّ إنّي عبدُك وزائرُك وفي بيتك، وعلى كُلِّ مأتيٍّ حقٌّ لِمَنْ أتاه وزارَه وأنت خيرُ مأتيٍّ وأكرمُ مَزُورٍ، فأسألكُ يا اللَّهُ يا رحمنُ بأنّك أنتَ اللَّهُ لا إلهَ إلّاأنت وحدَك لا شريك لك، وبأنّك واحِدٌ أحَدٌصَمَدٌ لم تلِدْ ولم تُولَدْ ولم يكن لك كُفواً أحدٌ، وأنّ محمَّداً عبدُك ورسولكصلى الله عليه و آله و سلم. يا جوادُ يا ماجِدُ يا حَنّانُ يا مَنَّانُ يا كريمُ أسألُك أنْ تَجْعَلَ تُحْفَتَكَ إيّاي مِن زيارتي إيّاكَ فَكاكَ رَقَبتي مِن النار، اللهُمّ فُك رَقَبتي مِن النار- ثلاثاً- وأوْسِعْ عليَّ مِن رِزقك الحلالِ، وادْرأْ عنِّي شرَّ شياطينِ الجنِّ والإنسِ وشَرَّ فَسَقَةِ العربِ والعجم (3).

ثمّ يمشي نحوَ البيتِ، فإذا دَنا مِن الحَجَر الأسودِ رَفَعَ يَديْه وحَمِدَ اللَّهَ وأثْنى عليه وقال:

«الحمدُ للَّهِ الذي هَدانا لهذا وما كُنّا لِنَهْتديَ لولا أنْ هدانَا اللَّه» (4).

سبحان اللَّه والحمد للَّه ولا إلهَ إلّااللَّهُ واللَّه أكبرُ (5).


1- 1 الكافي 4: 401 باب دخول المسجد الحرام ح 1؛ تهذيب الأحكام 5: 99- 100 ح 327 باب دخول مكَّة ح 11 وكلمة «خَليل اللَّه» ليست في المصدرين.
2- 2 اقتباس من الآية 125 من البقرة 2.
3- 3 الكافي 4: 401- 402 باب دخول المسجد الحرام ح 1- 2؛ تهذيب الأحكام 5: 99- 101 ح 327- 328 باب دخول مكَة ح 11- 12 وفي المصدرين «الخائف لعقوبتك» بدل «الخائف من عقوبتك» وفي تهذيب الأحكام وبعض النُسَخ: «لم يلد ولم يولد» بدل «لم تلد ولم تولد». وفي المصدرين: «لم يكن له» مكان «لم يكن لك».
4- 4 اقتباس من الآية 43 من الأعراف 7.
5- 5 الكافي 4: 403 باب الدعاء عند استقبال الحجر واستلامه ح 2؛ تهذيب الأحكام 5: 102 ح 330 باب الطواف ح 2 ولم ينقل الشهيد رحمه الله تمامَ الدعاء.

ص: 52

وصلّى على النبيِّصلى الله عليه و آله و سلم، ثمّ يَسْتَلِمُ الحَجَرَ الأسود ويُقَبِّلُه، فإنَ لم يَسْتطِعْ أشارَ إليه ويقول:

اللهُمَّ إنِّي أُؤمِن بوعدك، وأُوفِي بعهدك. اللهُمَّ أمانتي أدَّيتُها وميثاقي تعاهَدْتُه لِتَشْهَدَ لي بالموافاة. اللهُمّ تصديقاً بكتابك وعلى سنَّةِ نبيِّكصلى الله عليه و آله و سلم، أشهدُ أنْ لا إلهَ إلّااللَّهُ وحدَه لا شريكَ له، وأنّ محمَّداً عبدُه ورسولُه، آمَنْتُ باللَّه وكَفَرْتُ بالجِبْت والطاغوتِ وباللاتِ والعُزّى وعبادةِ الشَيطانِ وعبادةِ كُلِّ نّدٍ يُدْعى مِن دونِ اللَّه.

فإنْ لم يَقْدِرْ على جميع ذلك قال بعضه: (1)

اللهُمّ إليك بَسطْتُ يدي،

وفيما عندك عَظُمَتْ رَغْبَتي، فَاقْبَل سُبْحَتي (2) واغفِر لي وارْحَمْني.

اللهُمّ إنِّي أعوذُ بك مِن الكُفرِ والفقرِ ومواقِفِ الخِزْي في الدنيا والآخرة (3).

وأمَّا الفروضُ فعلى ضربين: شروطٌ متقدِّمة ومقارِنَةٌ:

فالشروط أربعةٌ: الطهارةُ مِن الحَدَث ولو بالتيمُّم مع تعذُّر المائية، ولا يُشْتَرَطُ ذلك في الطواف المندوبِ على الأقوى وإنْ كان مِنْ كماله، نَعَم هي شرطٌ فيصلاة الطوافِ مطلقاً؛ وإزالةُ النَجاسة عن الثوب والبدن على حدِّ ما يُعتبر في الصلاة؛ وسَتْرُ العورةِ الواجبِ سَتْرُها في الصلاة بحسب حال الطائف؛ والخِتانُ في الرجل مع المُكْنة.

والمقارِنةُ سَبْعَةٌ: النيّةُ مقارِنةً لأوّل جزءٍ مِن الحجر الأسود، بحيث يكونُ أوَّلُ بدنِه مُحاذياً لأوَّلِ جزءٍ مِن الحجر عِلْماً أو ظنَّاً، لِيَمُرَّ عليه بجميع بدنه، ولا يُشْتَرَطُ استقبالُ البيتِ أوّلًا ثمّ الانحرافُ بل يَكفي جَعْلُه على اليَسار ابتداءً، وإنْ كان الأوَّلُ أولى وصفتها: «أطوفُ بالبيتِ سبعةَ أشواطٍ لعمرةِ الإسلامِ عمرةِ التمتُّع لوجوبه قربةً إلى اللَّه» مُسْتَدامةَ الحكم إلى آخره، مقارِنَةً للحركة عقيَبها


1- 1 في المصدرين: «فإنْ لم تستطع أنْ تقولَ هذا كلَّه فبعضه وقل». ومن قوله: «فإنْ لم يقدر» إلى آخر الدعاءلا يوجد في أكثر النسخ.
2- 2 قال الفيض في الوافي 13: 816: «السُبْحَة تقال للذِكر والصلاة النفل، وهي مِن التسبيح كالسخرة مِن التسخير، وفي بعض النسخ: «مسيحتي» أي مسيري».
3- 3 الكافي 4: 402- 403 باب الدعاء عند استقبال الحجر واستلامه ح 1- 2؛ تهذيب الأحكام 5: 101- 102 ح 329- 330 باب الطواف ح 1- 2.

ص: 53

بنفسه أو حامله؛ وجعلُ البيتِ على اليَسار؛ والمَقامِ على اليمين ولو تقديراً، بمعنى مراعاةِ النسبة في جميع الجِهات؛ والخروجُ بجميع البدن عن البيت، فلا يَمَسَّ الحائطَ ماشياً بل يَقِفُ إنْ أرادَه لِئلّا تَدْخُلَ يدُه على الشاذروانِ؛ وموالاةُ أربعة أشواطٍ مِنَ السبعِة، ويجوزُ تفريقُ الباقي منها لضرورةٍ أو قضاءِ حاجةٍ أوصلاةِ فريضةٍ أو نافلةٍ يُخاف فوتُها أو لدخول البيت؛ وإدخالُ الحِجْرِ في الطواف، فلو طافَ فيه أو مَشى على حائطه لم يُجْزِئْ، ولا يجب الخروجُ عن شي ءٍ آخَرَ أو خارِجه إجماعاً؛ والختمُ في الشَوْط السابعِ بما بَدَأ به؛ بمعنى جَعْلِ أوّلِ جزءٍ مِن الحَجَرِ مُحاذياً لأوّلِ بدنه حَذَراً مِن الزيادة والنقيصة المُبْطِلتَينِ ولو بخُطْوةٍ؛ حتّى لو لم يَحْصُلِ العددُ أو شَكَّ- في النقيصة مطلقاً وفي الزيادة قبلَ بُلوغِ الركنِ- بَطَلَ، ولو بَلَغَه قَطَعَ وصَحَّ طَوافُه. ولو شَكَّ بعدَ الفَراغِ لم يَلْتَفِتْ مطلقاً. ولو كان الطوافُ نَفْلًا بَنى على الأقلِّ.

وسُنَنُه: المبادَرَةُ إليه حينَ يَدْخُلُ المسجدَ؛ لأنّه تَحيّتُه إلّاأنْ يَخافَ فَوْتَ الجماعةِ فيُقَدِّمها؛ وتقبيلُ الحجَر واسْتِلامُه ببطنه وما أمْكَنَ مِن بدنه في ابتداء الطواف وفي كُلِّ شوط، فإنْ تَعَذَّرَ فبِيده، فإنْ تَعَذَّرَ أوْمَأ إليه كما مَرَّ؛ واستلامُ الأركانِ كلِّها وتقبيلُها خصوصاً العراقيَ واليمانَي، بل قيل بوجوب استلام اليماني (1)؛ والاقتصادُ في المشي؛ والتَداني مِن البيِت وإنْ قلَّتِ الخِطاءُ؛ والتزامُ المُسْتَجارِ في الشوط السابع، وهو مقابِلُ الباب قريباً مِن الركن اليماني؛ وبَسْطُ اليدينِ على حائطة؛ وإلصاقُ البطنِ والخَدَّيْنِ به؛ وتَعدادُ الذُنوبِ مُفَصَّلةً والاستغفارُ منها؛ والدعاءُ عنده بقوله: «اللهُمّ البيتُ بيتُك والعبدُ عبدُك، وهذا مكانُ العائِذ بك مِن النار» (2).

ومتى الْتَزَمَ أو اسْتَلَمَ حَفِظَ موضعَ قيامه وعادَ إلى طوافه منه حَذَراً مِن التقدُّم والتأخُّر؛ وأنْ يقولَ في حال الطواف:


1- 1 القائل هو سلار في المراسم: 117 وانظر مختلف الشيعة 4: 210 المسألة 164 ومدارك الأحكام 8: 165.
2- 2 الكافي 4: 411 باب الملتزم والدعاء عنده ح 5؛ تهذيب الأحكام 5: 107 ح 347 باب الطواف ح 19.

ص: 54

اللهُمَّ إنَّي أسْألُك بِاسمكَ الذي يُمْشى به على طَلَلِ الماء كما يُمْشى به على جُدَدِ الأرضِ، وأسألُكَ باسمكَ الذي يَهْتَزُّ له عرشُكَ، وأسألُكَ باسمكَ الذي تَهْتَزُّ له أقدامُ ملائكتك، وأسألُكَ باسمكَ الذي دعاكَ به موسى بنُ عِمران، مِن جانب الطورِ فَاسْتَجَبْتَ له وألْقَيْتَ عليه مَحَبَّةً منك، وأسألُكَ باسمك الذي غَفْرتَ به لمحمَّدٍصلى الله عليه و آله و سلم ما تَقَدَّمَ مِنْ ذنبه وما تَأخَّر، وأتْمَمْتَ عليهِ نِعْمتَك (1) أنْ تَفْعَلَ بي كذا وكذا

- ويقول أيضاً:-

اللهُمَّ إنِّي إليك فقير، وإنِّي خائفٌ مُسْتَجِيرٌ، فلا تُبَدِّلْ اسمي ولا تُغَيِّرْ جسمي (2).

فإذا فَرَغَ مِن الطواف أتى مقامَ أبراهيمَ عليه السلام فصلّى ركعتيه خلفَه أو عن أحدِ جانبيه، ونيّتهما: «أُصلِّي ركعتي طوافِ عمرةِ الإسلام عمرةِ التمتُّع أداء لوجوبه (3) قربةً إلى اللَّه» وهي كاليومية في الشرائط والأفعال. ويَتَخَيَّرُ فيها بين الجهر والإخفات. ويُسْتَحَبُّ أنْ يَقْرأ في الركعة الأُولى بعدَ الحمدِ التوحيدَ وفي الثانيةِ الجحدَ أو بالعكس. ويَدْعو بعدَهما بالمأثور أو بما سَنَحَ.

الثالث: السعُي، وهي الحركاتُ المعهودةُ بينَ الصفا والمَروة للقربة، وله مقدِّماتٌ مَسْنونةٌ وفروضٌ وسُنَنٌ مقارِنَةٌ:

فمقدِّماته: التعجيلُ إليه عقيبَصلاة الطواف والطهارة مِن الحَدَثِ والخَبَث على أشهر القولين (4)، واستلامُ الحَجَرِ، والشربُ مِنْ زَمْزَمَ وَصبُّ الماء عليه مِن الدَلْو المقابلِ للحَجَر وإلّا فمِنْ غيره، والأفضلُ استقاؤه بنفسه قائلًا عند الشرب:

«اللهُمَّ اجْعَلْه عِلْماً نافعاً ورِزقاً واسعاً وشفاءً مِن كلِّ داءٍ وسُقْمٍ» (5)

، والخروج إلى الصفا مِن الباب المقابِل للحَجَرِ، وهو الآن في داخل المسجد بإزاء الباب المعروف بباب الصفا مُعَلَّمٌ بأُسْطُوانتين معروفتين، فليَخْرُجْ مِن بينهما إلى الباب، والصعودُ على الصفا بحيث يرى البيتَ مِن بابه، واستقبالُ الرُكْنِ العِراقي، وإطالةُ


1- 1 إشارة إلى الآية 2 من الفتح 48.
2- 2 الكافي 4: 406- 407 باب الطواف واستلام الأركان ح 1؛ تهذيب الأحكام 5: 104 ح 399 باب الطواف ح 11.
3- 3 هكذا في النسخ، والظاهر أنّ الصواب «لوجوبهما» لعود الضمير إلى ركعتي الطواف، وهكذا الكلام في أمثالها من سائر النيّات.
4- 4 ذهب إلى استحباب الطهارة، المشهور من الأصحاب ومنهم المحقق في شرائع الإسلام 1: 247 وذهب إلى وجوبها ابن عقيل كما حكاه عنه العلامة في مختلف الشيعة 4: 225 المسألة 181.
5- 5 الكافي 4: 430 باب استلام الحجر بعد الركعتين وشرب ماء زمزم قبل الخروج إلى الصفا والمروةح 1- 2؛ تهذيب الأحكام 5: 144 ح 476- 477؛ باب الخروج إلى الصفا ح 1- 2.

ص: 55

الوقوفِ عليه، وقِراءةُ سورة البقرة، وحمدُ اللَّه وتكبيرُه وتسبيحُه وتهليلُه والصلاةُ على النبي وآلهصلى الله عليه و آله و سلم مائة مائة، وأقلُّه التكبيرُ والتهليلُ سَبْعاً سَبْعاً، ثمّ يقولُ:

لا إلهَ إلّااللَّهُ وحدَه لا شريكَ له، له المُلكُ وله الحمدُ، يُحْيي ويُمِيتُ وهو حيٌ لا يَموتُ، بيده الخَيرُ وهو على كُلِّ شي ءٍ قدير (1).- ويقول:- لا إلهَ

إلّا اللَّهُ وحدَه وحدَه، أنْجَزَ وعدَه، ونَصَرَ عبدَه، وهَزَمَ الأحزابَ وحدَه، فله الملكُ، وله الحمدُ وحده. اللهُمَّ بارِكْ لي في الموت وفيما بعدَ الموت.

اللهُمَّ إنِّي أعوذُ بك مِنْ ظلمةِ القبر ووحشَتِه. اللهُمَّ أظلَّنِي تحتَ عرشِك يومَ لا ظِلَّ إلّاظِلُّك- ويقول- أسْتَودِعُ اللَّهَ الرحْمنَ الرحيمَ، الذي لا يُضيع وَدائِعَه، وديني ونَفَسي وأهلي (2).

وفروضه: النيَّةُ: «أسْعى سبعةَ أشواطٍ لعُمْرَة الإسلام عمرةِ التمتُّع لوجوبه قربةً إلى اللَّه» مقارِنةً للصفا بأنْ يُلِصقَ عَقِبه به أو يَصْعَدَ عليه، والحركةُ بعدَها في الطريق المعهود بوجهه مستدامةَ الحكم إلى آخره، ويَخْتِمُ بالمروة ولو بأصابع قدميهِ إنْ لم يَدْخُلْ، فإذا عاد ألْصَقَ عَقَبَه بها وأصابِعَه بالصفا آخِراً إنْ لم يَصْعَدْ كذلك، وإتمامُ السبعةِ، مِنَ الصفاإليه شوطانِ، من غير زيادةٍ ولانُقصانٍ، فلو زادَ عمداً بَطَلَ وناسياً يَقْطَعُ. ولو نَقَصَ عادَ للإكمال وجوباً. ويَستَنِيبُ مع التعذُّر، ولا يَتَحَلَّلُ بدونه، وإيقاعُه يومَ الطواف، فإنْ أخَّرَه أثِمَ وأجْزَأ، والأحوطُ موالاتُه كالطوافِ.

وسُنَنُه: السَعْيُ ماشياً مع القدرة والسَكينة والوَقار، وأنْ لا يَقْطَعَه لغير ضرورة، والهَرْوَلَةُ للرجل بينَ المَنارة وزُقاقِ العطّارين، ولو نَسِيَها رَجَعَ القَهْقَرى وتَدارَكَها ما لم يَشْرَعْ في الشوط الثاني، والراكِبُ يُحَرِّكُ دابَّتَه ما لم يُؤذِ أحَداً، وأنْ يقولَ:

بِسم اللَّه واللَّه أكبرُ، وصلّى اللَّه على محمَّدٍ وآله، اللهُمَّ اغْفِرْ وَارْحَمْ، وتجاوَزْ عمّا تَعْلَم، إنّك أنتَ الأعزُّ الأكْرَمُ (3).


1- 1 الكافي 4: 431- 432 باب الوقوف على الصفا والدعاء ح 1؛ تهذيب الأحكام 5: 145- 146 باب الخروج إلى الصفا ح 6. وليست في المصدرين جملة «بيده الخير».
2- 2 الكافي 4: 431- 432 باب الوقوف على الصفا والدعاء ح 1؛ تهذيب الأحكام 5: 145- 146 ح 481 باب الخروج إلى الصفا ح 6. وللدعاء تتمة وهي: «اللهمَّ استعملني على كتابك وسنّة نبيّك، وتَوَفَّنِي على ملّته ثمّ أعِذني من الفتنة».
3- 3 الكافي 4: 434- 435 باب السعي بين الصفا والمروة وما يقال فيه ح 6؛ تهذيب الأحكام 5: 148 ح 487 باب الخروج إلى الصفا ح 12.

ص: 56

الرابع: التقصير، وهو إبانةُ مُسَمَّى الشَعرِ أو الظُفُرِ، وبه يُحِلُّ مِن إحرام العمرة المُتَمتَّعِ بها. أمّا المُفْردَةُ فلا يَتِمُّ الإحلالُ منها إلّابطوافِ النساء بعدَه وصلاةِ ركعتيهِ.

وفروضه: النيَّةُ مقارِنَةً للفعل: «أُقصِّرُ للإحلال مِن إحرام العمرة المتمتَّعِ بها إلى حَجّ الإسلام حجِّ التمتّع لوجوبه قربةً إلى اللَّه» مستدامةَ الحكم إلى آخره، ولا يَتَعَيَّنُ له آلةٌ مخصوصةٌ، فيُجْزِئُ الحديدُ والنُورةُ والنَتْفُ والقَرْضُ بالسِنِّ وغيرُها، ولا فرقَ بينَ شَعْرِ الرأسِ وغيرِه، ولا يُجْزِئُ الحَلْقُ هنا، نَعَمْ يُجْزِئُ في المفرَدة، ومكانُه مكَّةُ.

ويُسْتَحَبُّ كونُه على المروة، والبدأةُ بالناصيةِ، والأخذُ مِن جميعِ جوانبِ شَعْره على المُشْطِ، وتقليمُ الأظافر مع أخْذِ الشَعْر، والتَشَبُّهُ بالُمحْرِمين بعدَه في ترك لُبْسِ الَمخِيط إلى أنْ يَتَلَبَّسَ بالحجّ، وكذا لأهلِ مكَّةَ طُول المُوْسِمِ.

المقالةُ الثانيةُ في أفعال الحجِّ وفيها فصول

الأوّلُ: الإحرامُ، وتحقيقه كما مرَّ في الواجبات والمحرَّمات إلّاأنّه يَنْوِي هنا إحرامَ الحجِّ، وصفة النيّة: أُحْرِمُ بحجِّ الإسلام حجِّ التمتُّع، وأُلَبِّي التلبيات الأربعَ لِعقد هذا الإحرام لوجوب الجميع قربةً إلى اللَّه، لَبَّيْك اللهُمَّ لَبَّيْك إلخ». وقد تَقَدَّمَ أنّ محلَّه مكَّةُ، وأفضلُها المسجدُ وخاصّةً المقامَ أو تحتَ المِيزابِ، وأفضلُ زمانه يومَ الثامنِ بعدَ الزَوال عقيبَ الظُهرينِ المُتَعَقِّبَيْنِ لِسُنّة الإحرامِ المتقدِّمة.

ويُسْتَحَبُّ رفعُ الصوتِ بالتلبية في موضع الإحرام إنْ كان ماشياً، وإنْ كان راكباً إذا نَهَضَ به بَعيُره، مُتَوَجِّهاً إلى عرفاتٍ خصوصاً إذا أشْرَفَ على الأبطحِ، وأنْ يقولَ عند توجّبه: «اللهُمَّ إيّاكَ أرجو وإيّاك أدعو، فبَلِّغْني أمَلي وأصْلِحْ لي عملي» (1). فإذا وَصَلَ إلى منىً قال:


1- 1 الكافي 4: 460 باب الخروج إلى مِنىً ح 4؛ تهذيب الأحكام 5: 177 ح 595 باب نزول مِنىً ح 9.

ص: 57

اللهُمَّ هذه منى وهي مّما مَنَنْتَ به علينا مِن المناسِكِ، فأسْألُكَ أنْ تَمُنَّ عليَّ بما مَنَنْتَ به على أنبيائك، فإنّما أنا عبدُك وفي قَبْضَتِكَ (1).

ويُسْتَحَبُّ المَبِيتُ بها ليلةَ التاسع، وأنْ لا يَجُوزَها حتّى تَطْلُعَ الشمسُ، فإذا تَوَجَّهَ إلى عرفاتٍ قال:

اللهمَّ إليك قَصَدْتُ، وإيّاك اعْتَمَدْتُ، ووَجْهَك أردتُ، أسألُك أنْ تُبارِكَ لي في رِحْلتي، وأنْ تَقْضَي لي حاجتي، وأنْ تَجْعَلَنِي مّمن تُباهي به اليومَ مَنْ هو أفضلُ منّي (2).

ولْيَسْتَمرَّ على التلبية استحباباً إلى أنْ يَصِلَ إلىْ عَرَفَةَ.

الثاني: الوقوفُ بعرفَةَ، وهو الكَوْنُ بها مِن زَوال الشمس إلى غروبها مِن يَوْم التاسعِ مقارِناً أوّلَه بالنيّة- عندَ تحقُّقِ الزَوال مُسْتَدامةَ الحكم إلى آخره-:

«أقِفُ بعَرفَةَ في حجِّ الإسلام حجِّ التمتُّعِ لوجوبه قربةً إلى اللَّه». والركنُ منه مسمّى الكَوْنِ بعدَ النيَّة وإنْ كان عابرَ سبيلٍ، وباقيه موصوفٌ بالوجوب لا غيرُ. وحدُّ عَرَفَةَ ما بين ثَوِيَّةَ وعُرَنَةَ وذي الَمجاز وذي الأراك.

وسُنَنُه: الغسلُ قبلَ الزوال، وجَمْعُ الرَحلِ، وقَطْعُ العلائقِ المانعةِ مِن الإقبال على اللَّه تعالى في ذلك الوقت، والجمعُ بينَ الظهرينِ في أوّل الوقت بأذانٍ وإقامتينِ، والوقوفُ بالسَفْحِ في مَيْسَرَةِ الجبلِ والقُرْبُ منه، والقيامُ بعدَ الصلاة مع الاختيار، واستقبالُ القبلة، وإحضارُ القلب، والإكثارُ مِن التكبير والتحميد والتهليل والتمجيد، والتسبيحُ والثناءُ على اللَّه تعالى بما هو أهلُه، والاستعاذةُ باللَّه مِن الشيطان الرجيمِ- فإنّه حريصٌ على أنْ يُذْهِلَ المؤمنَ في ذلك المَوْطنِ الشريفِ- والاستغفارُ بالقلب واللسانِ، وتَعدادُ الذنوبِ، والبُكاءُ أو التباكي، والدعاءُ للإخوانِ وأقلُّهم أربعونَ، والبروزُ تحتَ السماء إلّالضرورةٍ، وصرفُ الزمانِ كلِّه في الدعاء والاستغفار والذكرِ، بل قيل بوجوبه (3)، والدعاء المأثور (4) وهو


1- 1 الكافي 4: 461 باب نزول مِنىً وحدودها ح 1؛ تهذيب الأحكام 5: 177- 178 ح 596 باب نزول مِنىً ح 10.
2- 2 الكافي 4: 461 باب الغُدُوّ إلى عرفاتٍ وحدودها، ح 3؛ تهذيب الأحكام 5: 179 ح 600 باب الغُدُوّ إلى عرفاتٍ ح 4. قال السلطان في حاشية الوافي 13: 1020: «قوله: «من هو أفضل منّي» لعلّ المراد بالأفضل الملائكة على ما ورد في بعض الروايات ...» وفي المصدرين «صَمَدْت» مكان «قصدت».
3- 3 كلام أبي الصلاح في الكافي في الفقه: 197 يوهم الوجوب حيث قال: «ويلزم افتتاحه بالنية وقطع زمانه بالدعاء، والتوبة والاستغفار»، وانظر: مختلف الشيعة 4: 249 المسألة 202.
4- 4 الكافي 4: 463- 464 باب الوقوف بعرفةَ وحدّ الموقفِ ح 4؛ الفقيه 2: 541 ح 3134؛ تهذيب الأحكام 5: 182- 183 ح 611- 612 باب الغُدُوِّ إلى عرفاتٍ ح 15- 16.

ص: 58

كثيرٌ لا يَقْتَضِي الحالُ ذِكرَه هنا وأعظَمُهُ دعاءُ الحسينِ ووَلَدِه زينِ العابدينِ عليهما السلام، وقِراءةُ عَشْرٍ مِن أوَّل البقرةِ ثمّ التوحيدِ ثلاثاً وآيةِ الكرسيِّ والسُخْرةِ (1) والمُعَوَّذَتَيْنِ ثمّ حمدُ اللَّهِ تعالى على نِعَمِه مُفَصَّلةً، وفِعْلُ الخيرِ ما اسْتَطاعَ، وتَرْكُ الهَذَرِ.

الثالثُ: الوقوفُ بالمشعرِ الحَرام إذا غَربَتِ الشمسُ مِن يومِ عرفَةَ، فَلْيُفِضْ إليه وجوباً بالسكينة والوَقار مُستغفِراً داعياً بالمأثور وهو:

اللهمّ لا تَجْعَلْه آخِرَ العهدِ مِنْ هذا المَوْقِفِ، وارْزُقْنِيه أبَداً ما أبْقَيْتَني، واقْلِبْني اليومَ مُفْلِحاً مُنْجِحاً مُسْتجاباً لي مَرحوماً مَغفوراً لي بأفضلِ ما يَنْقَلبُ به اليومَ أحدٌ مِن وَفدِك عليك، وأعْطِني أفْضَلَ ما أعْطَيْتَ أحداً مِنهم مِن الخيرِ والبَرَكةِ والرِضوان والمغفرةٍ، وبارِكْ لي فيما أرْجِعُ إليه مِنْ أهلٍ أو مالٍ أو قليلٍ أو كثيرٍ، وبارِكْ لَهم فيَّ (2).

ولْيُكْثِرْ مِن قوله: «اللهمّ أعْتِقْ رَقَبَتي مِن النار» (3)فإذابَلَغَ المَشْعَرَ- وحَدُّهُ ما بينَ المأْزِمَيْنِ إلى الحِياض إلى وادي مُحَسِّرٍ- وجب عليه الكَوْنُ به إلى الفجر ناوياً: «أبِيتُ هذه الليلةَ بالمشعرِ في حجِّ الإسلام حجِّ التمتُّعِ لوجوبه قربةً إلى اللَّه».

ويُسْتَحَبُّ إحياءُ تلك الليلةِ بالعبادة فإنّ أبوابَ السماءِ لا تُغْلَقُ تلك الليلة لأصوات المؤمنين (4). فإذا أصْبَحَ وجبَ عليه الكَوْنُ به إلى طُلوع الشمسِ ناوياً- عندَ تحقُّقِ الفجر-: «أقِفُ بالمَشْعَرِ في حجِّ الإسلام حَجِّ التمتُّعِ لوجوبه قربةً إلى اللَّه» مُسْتَدامَةَ الحكمِ إلى آخره.

هذا كُلُّه مع الاختيار، أمّا مع الاضطرار فيُجْزِئُ مُسَمّى الوقوفِ بعرفَةَ ليلةَ العاشر، وبالمشعرِ مُسمّاه أيضاً في تلك الليلةِ وفيما بينَ طلوع الشمسِ وزوالِها مِنْ يَوْم النَحْرِ. ويُدْرَكُ الحَجُّ بإدراكِ الاختياريَّيْنِ وأحدِهما، والاضطراريَّيْن وأحدهما مع اختياريِّ الآخَر لا مُنْفَرِداً، وفي اضطراريِّ المشعرِ وحدَه قولٌ قوىٌ


1- 1 آية السُخْرة هي الآية 54 من الأعراف 7: «إنّ ربّكم اللَّه الذي خَلَقَ ... مُسَخَّراتٍ بأمره ألا له الخلقُ والأمرُ تبارك اللَّه ربُّ العالمين».
2- 2 الفقيه 2: 325 ح 1548 باب الإفاضة من عرفات ح 4؛ تهذيب الأحكام 5: 187 ح 622 باب الإفاضة من عرفات ح 5.
3- 3 الكافي 4: 469 باب ليلة المزدلفة والوقوف بالمشعر والافاضة منه وحدوده ح 4 وفيه: «وليكن من قولك: «اللهم ربَّ المشعر الحرام فكَّ رقبتي من النار ...»؛ الفقيه 2: 187- 188 ح 623 باب الافاضة من عرفات ح 6 «... معاوية بن عمّار: سمعت ابا عبد اللَّه عليه السلام يقول: اللهم أعتقني زمن الذل يكررها حتى أفاض الناس ... الفقيه 2: 191 ح 625 باب نزول المزدلفة ح 16.
4- 4 الكافي 4: 468- 469 باب ليلة المزدلفة والوقوف بالمشعر والافاضة منه وحدوده ح 1؛ الفقيه 2: 544 ح 3137 باب الإفاضة من عرفات ح؛ تهذيب الأحكام 5: 188- 189 ح 626 باب نزول المزدلفة ح 3.

ص: 59

بالإجزاء (1)؛ هذا إذا لم يَكنِ الفَواتُ عمداً كما مَرَّ.

ويُسْتَحَبُّ الدعاءُ في المَشْعَرِ بقوله:

اللهمّ هذه جمعٌ فاجْمَعْ فيها جوامِعَ الخير. اللهمّ لا تُؤْيسْني مِن الخير الذي سألتُك أنْ تجمعَه لي في قلبي، ثمّ أطلبُ إليك أنْ تُعَرِّفني ما عَرَّفْتَ أولياءَك في منزلي هذا، وأنْ تَقِيَني جوامِعَ الشَرِّ (2).

- ويَقول أيضاً:-

اللهمّ ربَّ المشعرِ الحرام فُكَّ رَقَبَتي مِن النار، وأوْسعْ عليَّ مِن رزقك الحلالِ، وادْرأْ عنّي شَرَّ فَسَقَةِ الجنِّ والإنسِ. اللهمّ أنت خيرُ مطلوبٍ إليه وخيرُ مدعوٍّ وخيرُ مسؤولٍ، ولكُلِّ وافِدٍ جائزةٌ، فاجْعَلْ جائزتي في مْوطِني هذا أنْ تُقِيلَني عَثْرَتي وتَقْبَلَ مَعْذِرتي، وأنْ تُجاوِزَ عَنْ خَطيئتي، ثمَّ اجْعَلِ التقوى مِن الدنيا زادي (3).

فإذا طَلَعَتِ الشمسُ أفاضَ إلى مِنى بالسكينة والوَقارِ والذكرِ للَّه تعالى والاستغفارِ والدعاءِ (4).

والهَرْوَلَةُ بوادي مُحَسِّرٍ للماشي والراكِب، ولو نَسِيَها رَجَعَ لِتَداركِها ولو مِن مكَّةَ، كما ورد في الخبر (5). ويقول فيها (6): «اللهمَّ سَلِّمْ عَهْدي، واقْبَلْ تَوْبَتي، وأجِبْ دَعوتي، واخْلُفْنِي فيمَنْ تَرَكْتُ بَعدي» (7).

ويُسْتَحَبُّ التقاطُ الحَصى للرَمْي مِنَ المشعر وهي سبعونَ حَصاةً، ولو احتاط بالزائد فلا بأسَ. ويُسْتَحَبُّ كونُها بُرْشاً كُحْلِيّةً مُلْتَقَطةً مُنَقَّطَةً رخْوَةً بِقَدْرِ الأنمُلَةِ طاهرةً مغسولةً.

الرابع: نزولُ مِنى يومَ النَحْرِ لرَمْي جَمْرة العَقَبةِ والذَبحِ والحَلْقِ مُرَتَّباً كما ذُكِرَ، ولو عَكَسَ أثِمَ وأجْزأ، فإذا وَصَلَ مِنى فليَبْدأ أوّلًا برَمْي جَمْرةِ العَقَبة- وهي على حدِّ مِنى إلى جِهة مكّة كما أنّ حدَّها الآخَرَ وادي مُحَسِّرٍ- بِسَبْعِ حَصَياتٍ حَرَميةٍ غيرِ مسجديةٍ أبكارٍ بما يُسَمّى رَمْياً مُصِيبةً بفعله مباشِرةً بيده. وتجب فيه


1- 1 الإجزاءصريح الصدوق في علل الشرائع: 451 وظاهره في الفقيه 2: 243 وهو ظاهر ابن الجنيد- كما حكاه عنه العلامة في مختلف الشيعة 4: 264- 265 المسألة 218 وولده في إيضاح الفوائد 1: 309- والمرتضى رضي اللَّه عنهم في الانتصار: 90. وانظر غاية المراد 1: 442- 443.
2- 2 الكافي 4: 468- 469 باب ليلة المزدلفة والوقوف بالمشعر والإفاضة منه وحدوده ح 1؛ تهذيب الأحكام 5: 188- 189 ح 626 باب نزول المزدلفة ح 3.
3- 3 الكافي 4: 469 باب ليلة المزدلفة والوقوف بالمشعر والإضافة منه وحدوده ح 4؛ تهذيب الأحكام 5: 191 ح 635 باب نزول المزدلفة ح 12.
4- 4 عطف على «الدعاء» في قوله: «يستحبّ الدعاء».
5- 5 الكافي 4: 470 باب السعي في وادي محسِّر ح 1، 2؛ تهذيب الأحكام 5: 195 ح 649 باب نزول المزدلفة ح 26.
6- 6 يعني في حال الهرولة.
7- 7 الكافي 4: 470- 471 باب السعي في وادي محسِّر ح 3؛ الفقيه 2: 282 ح 1384 باب السعي في وادي محسِّر ح 1؛ تهذيب الأحكام 5: 192 ح 637 باب نزول المزدلفة ح 14 وفي الفقيه: «واخلفني بخيرٍ فيمن ...».

ص: 60

النيَّةُ- مقارِناً بها لأوّله-: «أرْمي هذه الجَمْرةَ بِسَبْعِ حَصَياتٍ في حجِّ الإسلامِ حجِّ التمتُّع أداءً لوجوبه قربةً إلى اللَّه». مُسْتَدامةَ الحكمِ إلى آخره. والظاهر أنّ الأداء والتَعَرُّضَ للعددِ مِنْ كَمال النيَّة لا واجبٌ فيها. ووَقْتُهُ ما بينَ طلوعِ الشمْسِ إلى غروبها، ويُقْضى لو فات مقدَّماً على الحاضر، ويَخْرُجُ وقتهُ بخروج الثالثَ عَشَرَ إلى القابل.

ويُسْتَحَبُّ الطهارةُ، والمَشْي إليه، ورَمْيُ جَمْرةِ العقبةِ مُسْتَدبِراً للقبلة مُقابلًا لها، والتباعدُ عنها بِعَشْرِ أذْرُعٍ إلى خَمْسَ عَشْرَةَ، والرَمْيُ خَذْفاً بأنْ يَضَعَ الحَصاة على إبهامِ يدِه الُيمْنى ويَدْفَعَها بظُفُر السبّابة، ولو تَعارَضَ الخَذْفُ والتباعُدُ قُدِّمَ الخَذْفُ تَخَلُّصاً مِنْ خلافِ مَنْ أوْجَبَه (1). ويَدْعو مع رَمْيِ كُلِّ حَصاةٍ بالمنقول وهو:

اللهمّ ادْحَرْ عنّي الشيطانَ. اللهمّ تصديقاً بكتابِك وعلى سُنَّةِ نبيِّكصلى الله عليه و آله و سلم.

اللهُمّ اجْعَلْه حَجّاً مَبْروراً، وعملًا مقبولًا وسَعْياً مشكوراً وذَنْباً مغفوراً (2).

والهَدْيُ بعدَ الرَميِ واجبٌ على المُتَمَتِّع وإنْ كان مَكيّاً. ويَجِبُ كونُه مِنَ النَعَمِ، وأفضلُه البُدْنُ ثمّ البَقَرُ ثمّ الغَنَمُ، أقلُّه الثَنيُّ وهو مِنَ الإبل ما دَخَلَ في السَنَةِ السادسةِ ومِن الأخِيريْنِ ما دَخَلَ في الثانية. ويَكفي في الضَأْن إكمالُ الشهرِ السابعِ؛ وكونُه تامّاً، فلا يُجْزِئُ الأعْوَرُ والمريضُ والأعرجُ والأجربُ ومَكسورُ القَرْنِ الداخلِ ومقطوعُ الأُذُنِ أو بعضِها والخَصِيُّ، ويُجزِئ فاقدُ القَرْنِ والأذُنِ خِلْقَةً؛ وكونُه سَميناً بأنْ يكونَ على كُلْيَتيْه شَحْمٌ. ويَكْفِي الظَنُّ الْمُسْتَنِدُ إلى التجربة أو إخبار عارفٍ، وإنْ أخْطَأَ بعدَ الذَبْحِ لا قَبلَه.

ولو تَبَيَّنَ النُقْصانُ لم يُجْزِئ مطلقاً، وكذا لو ظَهَرَ السِمَنَ مع عدمِ الظنِّ به ابتداءً.


1- 1 أوجبه السيد المرتضى في الانتصار، 260 وانظر: مختلف الشيعة 4: 271- 272 المسألة 223.
2- 2 الكافي 4: 478- 479 باب يوم النحر ومبتدإ الرمي وفضله ح 1؛ تهذيب الأحكام 5: 198 ح 661 باب نزول المزدلفة ح 38.

ص: 61

ولو لم يُوجَدْ إلّافاقِدُ الشرائط أجْزأ، فإنْ فُقِدَ خَلَّفَ ثَمَنَه عندَ ثقةٍ ليَذْبَحَ عنه في ذي الحجّة، فإنْ تَعَذَّرَ فمِنَ القابِلِ. ولو عَجَزَ عن الَثمَنِصامَ بدلَه ثلاثةَ أيّامٍ في الحجِّ- أي في ذي الحِجّة- متواليةً وسبعةً إذا رَجَعَ إلى أهله، أو مَضى للمجاور مقدارُ وصوله أو شَهْرٌ.

ويُسْتَحَبُّ كونهُ أُنثى مِن الإبل والبقرِ ذكراً مِن غيرهما قد حَضَرَ عَرَفَةَ- ويَكفي قولُ المالك سميناً زيادةً على ما شُرِطَ، والمباشَرَةُ إنْ أحْسَنَ وإلّا جَعَلَ يدَه مع يدِ الفاعل، والدعاءُ عندَ ذَبْحِه أو نَحْرِه، بقوله:

وَجَّهْتُ وَجْهي للِذي فَطَرَ السَمواتِ والأرضَ حَنيفاً (1) وما أنا مِنَ

المُشْركين (2) إنّصَلاتي ونَسُكي ومَحْيايَ ومَماتي للَّه ربِّ العالمين.

لا شريكَ له وبذلك أُمِرتُ وأنا مِن المسلمين (3). اللهمُّ مِنكَ ولَكَ، بسم

اللَّه واللَّهُ أكبرُ، اللهمّ تَقَبَّلْ مِنِّي (4).

وتجب النيَّةُ- مُقارِنَةً للفعل مُسْتدامةَ الحكمِ-: «أذْبَحُ أو أنْحَرُ هذا الهَدْيَ في حجِّ الإسلامِ حجِّ التمتُّعِ لوجوبه قربةً إلى اللَّه»؛ وقسمتُه ثلاثةَ أقسامٍ: ثُلْثاً يأكُلُه أو بعضَه، وثُلْثاً يُهْدِيه لإخوانه مِن المؤمنين، وثُلْثاً يَتَصَدَّقُ به على فُقَرائهم، ولا ترتيبَ بينها؛ والنيَّةُ مقارنة لها: «آكُلُ مِنْ هَدْيِ حَجِّ الإسلام حَجِّ التمتُّع لوجوبه قربةً إلى اللَّه، وأُهْدِي ثُلْثَ هَدْيِ حَجِّ الإسلامِ حجِّ التمتُّع لوجوبه قربةً إلى اللَّه، أتَصَدَّقُ بثُلْثِ هَدْي حجِّ الإسلام حجِّ التمتُّع لوجوبه قربةً إلى اللَّه».

ثمّ يَحْلِقُ رأسه أو يُقصِّرُ مِنْ شَعْره أو ظُفرِه كما مَرَّ. ويتعيَّن على المرأة والخنثى التقصيرُ، والنيَّة- مقارنة مُسْتَدامةَ الحكمِ-: «أحْلِقُ- أو أُقصِّرُ- للإحلال مِن إحرام حجِّ الإسلامِ حجِّ التمتُّع لوجوبه قربةً إلى اللَّه».

ويُسْتَحَبُّ استقبالُ القبلة، والبدأةُ بالقَرْن الأيمنِ مِنْ ناصيته، وتسميةُ الَمحلوقِ والدعاءُ بقوله: «اللهمّ أعْطِني بكُلِّ شَعْرةٍ نوراً يومَ القيامة» (5).


1- 1 في جميع النسخ: «حنيفاً مسلماً». وأسقطنا لفظة «مسلماً» لعدم وجودها في المصحف الشريف والمصادر.
2- 2 اقتباس من الآية 79 من الأنعام 6.
3- 3 اقتباس من الآيتين 162- 163 من الأنعام 6.
4- 4 الكافي 4: 498 باب الذبح ح 6؛ الفقيه 2: 504 ح 3084 باب الذبح والنحر وما يقال عند الذبيحة ح؛ تهذيب الأحكام 5: 221 ح 746 باب الذبح ح 85؛ بحار الأنوار 99: 279- 280 باب الهدي ووجوبه على المتمتع وسائر الدماء وحكمها ح 9.
5- 5 تهذيب الأحكام 5: 244 ح 826 باب الحلق ح 19؛ بحار الأنوار 99: 304 باب الحلق والتقصير وأحكامهما ح 9.

ص: 62

ولا يَخْرُج مِن مِنىً حتّى يأتيَ بالثلاثة في ذي الحِجّة، ويَرْجِعُ للذَبحِ والحَلْقِ لو خَرَجَ بدونه طولَه. فإنْ تَعَذَّرَ خَلَّفَ ثَمَنَ الهَدْي كما مرَّ، وحَلَقَ مكانهَ وجوباً، وبَعَثَ بالشَعْر لِيُدْفَنَ بها ندباً. أمّا الرميُ فيَخْرُجُ وقتهُ بخروج الثالثَ عَشَرَ، فيُقْضى في القابل.

وبالحَلْقِ أو التقصير يَتَحلَّلُ مِنْ جميع المحرَّمات المتقدِّمِة إلّاالطيبَ والنِساء والصَيْدَ، ثمّ يَتَحَلَّلُ مِن الطِيب بالسَعْي بعدَ الطواف، ومِن النساء بطوافِهنَّ بعدَهما، والأولى تَوَقُّفُ حِلِّ الصَيْدِ الإحرامي على طوافِ النساء.

الخامسُ: العَوْدُ إلى مكّةَ للطوافَيْنِ والسعي، ومقدِّماتُها وكيفيتُها وواجباتُها مندوباتها كما مَرَّ.

والنيَّةُ: «أطوفُ بالبيتِ سبعةَ أشواطٍ طوافَ حجِّ الإسلام حجِّ الَتمَتُّعِ لوجوبه قربةً إلى اللَّه، أُصَلِّي ركعتي طوافِ حجِّ الإسلام حَجِّ التمتّع أداءً لوجوبها [كذا، والصواب: «لوجوبهما»] قربةً إلى اللَّهِ، أسْعى سبعةَ أشْواطٍ سَعْيَ حَجِّ الإسلام حَجِّ التمتُّعِ لوجوبه قربةً إلى اللَّه، أطُوفُ طوافَ النساءِ في حجِّ الإسلام حَجِّ الَتمَتُّعِ لوجوبه قربةً إلى اللَّه، أُصَلِّي ركعتي طوافِ النساء في حجِّ الإسلام حجِّ الَتمَتُّعِ أداءً لوجوبه [كذا] قربةً إلى اللَّه».

ويُسْتَحَبُّ كونُ ذلك يومَ النَحْر، فإنْ أخَّرَه فمِنْ غَدِه، وفي جواز تأخيره عن غَدِهِ اختياراً قولانِ أقربُهما الجواز (1). وتَظْهَرُ الفائدةُ في الإثم وعدمه لا في الصحّة والبُطلان.

ويَخْرُجُ وقتُها بخروج ذي الحِجَّة إجماعاً، وهي مرتِّبة كما ذكرناه، وليس طوافُ النساء مخصوصاً بمَنْ يَغْشاهنَّ، بل يجب على الخَصيِّ والِهمِّ والمرأةِ وغيرِهم، ويَسْتَمرُّ بتركه ما كان قد حَرَّمَه الإحرامُ مِنهنَّ.

السادسُ: العَوْدُ إلى مِنىً للمَبِيتِ بها لَيالِيَ التشريق والرَمْيِ أيّامَها.


1- 1 ذهب إلى عدم الجواز المفيد في المقنعة: 420 والمرتضى في جُمَل العلم والعمل: 116 وسلار في المراسم: 114 والمحقِّقُ في شرائع الإسلام 1: 240 وإلى الجواز ابنُ إدريسَ في السرائر 1: 602 والعلامةُ في مختلف الشيعة 4: 309- 311 المسألة 261. وانظر مدارك الأحكام 8: 110.

ص: 63

ويجوزُ لِمَنْ اتَّقَى الصَيْدَ والنساءَ في إحرامه تركُ مَبِيتِ الثالثةِ، إلّاأنْ تَغْرُبَ الشمسُ وهو بمِنىً فَيَتَعَيَّنُ، والأفضلُ مَبِيتُ الثالثةِ لغيرهما، والواجبُ الكَوْنُ بها لَيلًا إلى نِصف الليلِ. ولو باتَ بغيرها فعَنْ كُلِّ ليلةٍ شاةٌ، إلّاأنْ يَبِيتَ بمكَّةَ مُشْتغِلًا بالعبادة الواجبةِ أو المُسْتَحَبّةِ طولَ الليلِ إلّاما يَضْطَرُّ إليه مِنْ غِذاءٍ أو شَرابٍ أو نومٍ يَغْلِبُ عليه.

وتجبُ في المَبِيتِ النيَّةُ- عندَ تحقُّق الغروب مُسْتَدامةَ الحكمِ إلى آخره:- «أبِيتُ هذه الليلةَ بمِنىً في حَجِّ الإسلامِ حَجِّ الَتمَتُّعِ لوجوبه قربةً إلى اللَّه».

ويجبُ أنْ يَرْمي الجَمَراتِ الثلاثَ في كُلِّ يومٍ بَحَسبِ مَبِيِت ليلتِهِ كُلَّ واحدٍ بِسَبْعِ حَصَياتٍ مُرَتِّباً، يَبْدأ بالأُولى ثمّ الُوسْطى ثمّ جَمْرةِ العَقَبةِ، فلو نَكَسَ أعاد على ما يَحْصُلُ معه الترتيبُ، وهو يَحْصُلُ بأربعِ حَصَياتٍ مع النِسيان أو الجَهل لا مع التعمُّدِ، فيُعيدُ الأخيرتينِ ويَبْني على الأربعِ في الأُولى، وكذا لو رَمَى الثانيةَ بأربعٍ ورَمَى الثالثةَ بعدها، ولو نَقَصَ عن الأربعِ بَطَلَ ما بعدَه مطلقاً وهو أيضاً على الأقوى.

وكَيْفِيةُ الرَمْي وواجباتُه وسُنَنُه كما مرَّ، إلّاأنّه يُسْتَحَبُّ استقبالُ القبلة في الأُولَيْينِ؛ ورَمْيُهما عن يَسارِهما ويَمينِه، وقد تَقَدَّمَ أنّه يَسْتَدْبِرُ القبلةَ في جَمْرةِ العَقَبةِ. وأفْضَلُ أوقاتِ الرَمْي عندَ الزَوالِ. ويُسْتَحَبُّ الإقامةُ بمِنىً بقيّةَ أيّام التشريقِ بل قد رُوي: أنّ المُقامَ بها أفْضلُ مِن الطوافِ تَطَوُّعاً (1).

ووقتُ النَفْر الأوّلِ بعدَ الزَوال إلّالضرورةٍ، أمّا النَفْرُ الثاني فيجوز قبلَه إذا رَمَى الجِمارَ، والأفضلُ فيه التأخيرُ إليه لِيوقِعَ الرميَ عندَه.

ويُسْتَحَبُّ للمُقِيمِ أنْ يَجْعَلَصلاتَه فَرْضاً ونفلًا في مسجِد الخَيْفِ، وأفضلُه مَسْجِدُ رسولِ اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم، وهو مِن المَنارة إلى نحوٍ مِن ثلاثين ذِراعاً إلى جِهة القبلةِ وعن يَمينِها ويَسارِها (2) كذلك، فقدصَلّى فيه ألفُ نَبِيٍّ (3)، ورُوي:


1- 1 الكافي 4: 515 باب إتيان مكّة بعدَ الزيارة للطواف ح 1؛ الفقيه 2: 287 ح 1413 باب إتيان مكّة بعد الزيارة للطواف ح 2؛ تهذيب الأحكام 5: 260- 261 ح 887 باب زيارة البيت ح 47،: 490 ح 1755 باب الزيادات في فقه الحجِّ ح 401؛ الاستبصار 2: 295 ح 1053 باب إتيان مكّةَ أيّام التشريق لطواف الفاصلة 488.
2- 2 أضاف المصنِّف في الروضة البهيّة 2: 332: «وخلفّها» وكذلك المروي في الكافي 4: 519 باب الصلاة في مِنىً ح 4. 0 وانظر هذا الكلام 2: 75.
3- 3 الكافي 4: 519 باب الصلاة في مسجد مِنىً و .... ح 4.

ص: 64

أنّ مَنْصَلّى في مسجدِ مِنىً مائةَ رَكْعةٍ عَدَلَتْ عِبادةَ سبعينَ عاماً، ومَنْ سَبَّحَ اللَّهَ فيه مائةَ تَسبيحةٍ كَتَبَ اللَّهُ له أجرَ عِتْقِ رَقَبةٍ، ومَنْ هَلَّلَ اللَّهَ فيه مائةً عَدَلَتْ احياءَ نَسَمةٍ، ومَنْ حَمِدَ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ فيه مائةً عَدَلَتْ خَراجَ العِراقيْنِ يُنْفَقُ في سبيلِ اللَّه (1).

ويُسْتَحَبُّصلاةُ ستِّ رَكَعاتٍ به في أصل الصَوْمَعةِ إذا نَفَرَ.

فإذا قَضى مَناسِكَه بمِنىً استُحِبَّ العودُ إلى مكّةَ لطوَافِ الوَداع ودخولِ البيتِ خصوصاً الصَرورةَ بعدَ الغُسْل والتحفّي مُصاحِباً للسَكينة والوَقار آخِذاً بحَلْقَتَي البابِ عندَ الدخول، ثمّ يَقْصِدُ الرُخامةَ الحَمْراءَ بينَ الأُسْطُوانتَيْنِ اللتينِ تَلِيانِ البابَ ويُصَلِّي عليها ركعتينِ، وفي كُلِّ واحدةٍ مِن الزَوايا الأربعِ ركعتينِ، ثمّ يَعودُ إلى الرخامةِ الحمراءِ فيَقِفُ عليها، ويَرْفَعُ رأسَه إلى السماء، ويُطيلُ الدعاءَ مُبالِغاً في حضور القلب والخُشوعِ والخُضوعِ وقَصْرِ النظر عمّا يَشْغَلُ القَلب، فإذا خَرَجَ منهصلّى رَكعتينِ عنْ يَمينِ البابِ، وهو مَوْضِعُ المَقام في عَهْدِ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم وهو الآنَ مُنْخَفِضٌ عن المَطافِ.

ويُسْتَحَبّ إتيانُ المساجِدِ والمواضِعِ المشرَّفَة بمكَّةَ، وزيارةُ النبيِّصلى الله عليه و آله و سلم والأئَّمةِ وفاطمةَ عليهم السلام بالمدينة، وإتيانُ قبورِ الشهداء والصحابةِ والصالحين.

قالصلى الله عليه و آله و سلم:

مَنْ حجَّ ولم يَزُرْني فقد جَفاني، ومَنْ جَفاني جَفَوْتُهُ يومَ القيامة (2). ومَنْ

أتاني زائراً كنتُ شفيعَهُ يومَ القيامة (3) وعن فاطمة عليها السلامُ أنّها قالت:

أخْبَرَني أبي أنّه مَنْ سَلَّمَ عليه وعليَّ ثلاثةَ أيّامٍ أوْجَبَ اللَّهُ له الجنَّةَ، فقيل لها: في حياتكما؟ قالت: نعم وبعدَ موتنا (4).

وَلْتُزَرْ ببيتِها والروضةِ والبقيعِ. وقال الباقر عليه السلام: «ابدؤوا بمكّة واخْتِموا


1- 1 الفقيه 1: 149 ح 690 باب فضل المساجد «حقها وثواب مَنصلّى فيها ح 12.
2- 2 الكافي 4: 548 باب زيارة النبيصلى الله عليه و آله و سلم ح 5؛ الفقيه 2: 338 ح 1571 باب ما جاء فيمن حج ولم يزرالنبيصلى الله عليه و آله و سلم وفيمن مات بمكّة أو المدينة ح 1؛ تهذيب الأحكام 6: 4 ح 5 فضل زيارتهصلى الله عليه و آله و سلم ح 5. باب فضل زيارتهصلى الله عليه و آله و سلم ح 5. وليست في المصادر جملة «فقد جَفاني ومَنْ جفاني».
3- 3 الكافي 4: 548 باب زيارة النبيصلى الله عليه و آله و سلم ح 3؛ تهذيب الأحكام 6: 4 ح 4 باب فضل زيارتهصلى الله عليه و آله و سلم ح 4.
4- 4 تهذيب الأحكام 6: 9 ح 18 باب زيارة سيّدنا رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم ح 11.

ص: 65

بنا» (1).

وعن الصادق عليه السلام: «مَنْ زار إماماً مفترضَ الطاعة له ثوابُ حّجةٍ مبرورةٍ» (2). وعن الرضا عليه السلام:

إنّ لكلِّ إمامٍ عهداً في أعناق أوليائه وشيعته، وإنّ من تمام الوفاء بالعهد وحُسْنِ الأداء زيارةَ قبورهم، فَمنْ زَراهم رغبةً في زيارتهم وتصديقاً بما رَغِبوا فيه كانتْ أئمّتهم شُفَعاءَهم يومَ القيامة (3).

والأخبار في ذلك خارجة عن حدِّ الحصر (4).

وسُنَنُ الزيارة الغسلُ قبلَ دخول المشهدِ، والكونُ حالتها على طهارةٍ، وإتيانُه بالخضوع والخشوع في ثيابٍ طاهرةٍ جُدَدٍ، والوقوفُ على بابه والدعاء والاستيذان بالمأثور. فإنْ وَجَدَ خشوعاً ورِقّةً دخل وإلّا تَحَرّى زمانَ الرقّة، فإذا دخل قَدَّمَ رجلَه اليمنى، ووقف على الضريحِ مُلاصِقاً له أو غيرَ ملاصِقٍ، وقَبَّل الضريحَ الشريفَ، واستقبل وجهَ المَزور واسْتَدْبَرَ القبلةَ، ويَزُوره بالمأثور، وأقلُّها الحضور والسلام. ثمّ يَضَعُ خدَّه الأيمنَ عليه عند الفَراغ، ويَدْعو متضرِّعاً، ثم خدَّه الأيسَر سائلًا مِن اللَّه تعالى بحقِّه وحقِّصاحب القبر أنْ يَجْعَلَه من أهل شفاعته ثمّ يُصلِّي ركعتَي الزيارة عند الفَراغ، فإنْ كان زائراً للنبيّصلى الله عليه و آله و سلم ففي الروضة، وإنْ كان لأحد الأئمّة عليهم السلام فعند رأسه، ورُوِيتْ رخصةٌ فيصلاتهما إلى القبر (5) بمعنى جعل القبر في قبلة المصلِّي، ويجوز استدبارُه وإنْ كان غيرَ مستحسنٍ، ويُهْدي الصلاة للمَزور، ويدعو بعدَها بالمأثور، وإلّا فيما سَنَحَ، وَلْيُعَمِّمِ الدعاءَ؛ فإنّه أقربُ إلى الإجابة، ويَتْلوا بعد ذلك شيئاً من القرآن ويُهْدِيه للمَزورِ تعظيماً له، والمنتفِعُ بذلك كلِّه الزائرُ. ويَخْتِم ذلك كلَّه بالصدقة على السَدَنَةِ (6) والَمحاويجِ بتلك البُقْعة. ولَيَكُنْ بعدَ الحجِّ والزيارة خيراً منه قبلَهما؛ فإنّ ذلك علامةُ القبول وبلوغُ المأمول.


1- 1 الكافي 4: 550 باب فضل الرجوع إلى المدينة ح 1؛ الفقيه 2: 334 ح 1552 باب الابتداء بمكّة والختم بالمدينة ح 1.
2- 2 المقنعة: 474 مع اختلاف.
3- 3 الكافي 4: 567 باب بدون العنوان من كتاب الحجِّ ح 2؛ الفقيه 2: 345 ح 1577 باب زيارة النبي والائمةصلوات اللَّه عليهم ح 2؛ تهذيب الأحكام 6: 78- 79 ح 155 باب فضل زيارة علي بن الحسين و ... ح 3.
4- 4 راجع وسائل الشيعة 14: 320- 332 ابواب المزار وما يناسبه الباب 2 ح 1- 25.
5- 5 تهذيب الأحكام 2: 228 ح 898 باب ما يجوز الصلاة فيه من اللباس والمكان و .... ح 106.
6- 6 السدن: خادم كلّ مرقد أو مشهد وفي المعجم الوسيط 1: 424 سدن. «سَدَنَ يَسْدُنُ سَدْناً و ...: خَدَمَ الكعبة. السادِن: خادم الكعبة ... الجمع سَدَنهَ».

ص: 66

وأما الخاتمة:

فتشتمل على جملةٍ موجزَةٍ في وظائف الحجِّ القلبيَّةِ يَحْسُنُ فَهْمُها وتَذكرُها لمَنْ أرادَ الحجَّ مِن العالَمين قد أخرجها الحقُّ سبحانَه على لسان بعضِ الكاملين (1):

اعلم أنّ أوّل الحجِّ فهمُ موقع الحجِّ في الدين، ثمّ العزمُ عليه، ثمّ قطعُ العلائق المانعة عنه، ثمّ تهيئةُ أسباب الوصول إليه من الزاد والراحلة، ثمّ السيرُ، ثمّ الإحرامُ من الميقات بالتلبية، ثمّ دخولُ مكّةَ، ثمّ استتمامُ الأفعال المشهورة. وفي كلِّ حالةٍ من هذه الحالات تذكرةٌ للمتذكِّر، وعِبرةٌ للمعتبرِ، وتنبيهٌ للمريد الصادق، وإشارةٌ للفَطِن الحاذِقِ إلى أسرارٍ يَقِفُ عليها بصفاء قلبه وطهارة باطنه إنْ ساعَدَه التوفيق.

فاعلم أنّه لا وصولَ إلى اللَّه سبحانه وتعالى إلّابتنحية ما عداه عن القصد مِن المشتَهياتِ البدنيةِ واللَذّات الدنيويةِ، والتجريِد في جميع الحالات والاقتصارِ على الضرورات. ولهذا انْفَرَد الرُهبانُ في الأعصار السالفة عن الخلق في قُلَل الجبال؛ توحُّشاً مِن الخلق وطلباً للانُس بالخالق، وأعرضوا عن جميع ما سِواه، ولذلك مَدَحَهم اللَّه تعالى بقوله: «بأنّ مِنْهُم قِسّيسينَ ورُهباناً وَأنَّهُمْ لا يَسْتَكبِرون» (2)

. فلمّا انْدَرَس ذلك وأقبل الخلقُ على اتّباع الشَهَوات والإقبال على الدنيا والالتفات عن اللَّه تعالى بَعَثَ اللَّه نبيّاً محمداًصلى الله عليه و آله و سلم لإحياء طريق الآخرة وتجديدِ سُنَّةِ المرسلين في سلوكها، فسَألَه أهلُ الملل عن الرُهبانيّة والسِياحة في دينه فقال:

أبْدَلَنا [اللَّه] (3) بها الجهادَ والتكبيرَ على كلِّ شَرَفٍ» يعني الحجَّ.


1- 1 لاحظ إحياء علوم الدين 1: 314- 319. لاحظ أيضاً أسرار الحج وأعماله الباطنة لابن ميثم البحرانيص 18 من هذا العدد التحرير
2- 2 المائدة 5: 82.
3- 3 ما بين المعقوفين أضفناه من المصدر.

ص: 67

وسُئل عليه السلام عن السائحين، فقال: «هم الصائمون» فجعلصلى الله عليه و آله و سلم الحجَّ رهبانيةً لهذه الأُمّة، فشَرَّفَ البيتَ العتيقَ باضافته إلى نفسه، ونَصَبه مَقْصداً لعبادة، وجَعَلَ ما حولَه حرماً لبيته؛ تفخيماً وتعظيماً لشأنه، وجَعَلَ عرفاتٍ كالميدان على باب حَرَمه، وأكَّدَ حرمةَ الموضعِ بتحريمصَيْده وشَجَره، ووَضَعه على مثال حَضرة الملوك يَقْصِدُه الزُوَّار مِن كلِّ فّجٍ عميق (1) شُعْثاً غُبْراً متواضِعينَ لربِّ البيت، مُسْتَكينينَ له؛ لجلاله واسْتِكانةً لعزَّته- مع الاعتراف بتنزيهه سبحانه عن أنْ يَحْوِيه مكانٌ- ليكون ذلك أبلغَ في رَقّهم وعُبوديّتهم.

ولذلك وَظَّفَ عليهم فيها أعمالًا لا تَأنَسُ بها النفوسُ ولا تَهْتَدي لمعانيها العقولُ، كرَمْي الجِمار بالأحجار، والتردُّدِ بينَ الصفا والمروة على سبيل التَكرار، وبمثل هذه الأعمالِ يَظْهر كمالُ الرَقّ والعبوديَّةِ بخلاف سائر العبادات كالزكاة التي هي إرفاقٌ من وجه معلوم، وللعقل إليه ميل، والصَوْمِ الذي هو كَسْرٌ للشهوة- التي هي [آلة] (2) عدوّ اللَّه وتفرّغٌ للعبادة بالكفِّ عن الشواغلِ، وكالركوع والسجود في الصلاة التي هي تواضعٌ للَّه سبحانَه.

وأمّا أمثال هذه الأعمال فإنّه لا اهتداءَ للعقل إلى أسرارها، فلا يكون في الإقدام عليها إلّاالأمرُ المجرَّدُ وقصدُ امتثاله مِن حيث هو واجب الاتّباع فقط، وفيه عَزْلٌ للعقل عن تصرُّفه وصرفُ النفسِ والطبعِ عن مَحلِّ انسه المعينِ على الفعل. وإذا اقْتَضَتْ حكمةُ اللَّه سبحانه وتعالى ربطَ نَجاةِ الخلق بكون أعمالهم على خلاف أهْويةِ طِباعهم، وأنْ تكون أزمّتُها بيد الشارع فيَتَردَّدون في أعمالهم على


1- 1 اقتباس من الآية 27 من الحج 22.
2- 2 أضفناه من المصدر.

ص: 68

سُنَنِ الانقياد ومتقضى الاستعباد، كان مالا يُهْتَدى إلى معانيه أبلغَ أنواع التعبّدات في تزكية النفوس، وصرِفها عنَ ميل الطبع إلى مقتضى الاسترقاق.

وأمّا العَزْمُ: فَلْيَسْتَحْضِرْ في ذهنه أنّه بِعَزْمِه مُفارقٌ للأهل والولد، هاجِرٌ للشهواتِ واللَذّات، مُهاجِرٌ إلى ربِّه، متوجِّهٌ إلى زيارة بيته، ولْيُعْظِمْ قدرَ البيتِ لِقدرِ ربِّ البيت، ولْيُخْلِصْ عَزْمَه للَّه تعالى، ولْيَتَحَقَّقْ أنّه لا يُقْبَل مِن عملِه إلّاالخالصَ.

وأمّا قطعُ العلائقِ: فحذفُ جميعِ الخواطرِ عن قلبه غيرِ قصد عبادة اللَّه، والتوبةُ الخالصةُ عن المعاصي، فكلُّ علاقةٍ مِن المعاصي خصمٌ حاضرٌ متعلِّقٌ به يُنادي عليه ويَقولُ: أتَقْصِدُ بيتَ مَلِكِ الملوك، وهو مطَّلِعٌ منك على تضييع أوامرِه، واسْتِهانتِك به وعدمِ التفاتك إلى نَواهيه وزَواجِره، أما تَسْتَحِي أنْ تَقْدُمَ عليه قدومَ العبد العاصي، فيُغْلِقَ دونك أبوابَ رحمته، ويُلْقِيك في مَهاوي نَقمَتهِ، فإنْ كنت راغباً في قبول زيارتك فَابْرُزْ إليه مِن جميع مَعاصيك، واقْطَعْ علاقةَ قلبك عن الالتفات إلى ما وراءك، لِتَتَوجَّه إليه بوجه قلبِك كما أنت متوجِّهٌ إلى بيته بوجهِ ظاهرك. وليَذْكُرْ عندَ قطعه العلائِقَ لسفر الحجِّ قطعَ العلائِقِ لِسفر الآخرةِ؛ فإنّ كلَّ هذه أمثلةٌ قريبةٌ يَتَرقّى منها إلى أسرارها.

وأمّا الزادُ: فليَطْلُبْه مِن موضعٍ حلال، فإذا أحسَّ منْ نفسه الحِرْص على استكثارِه وطِيبهِ وطَلَبِ ما يَبْقى منه على طولِ السفر، وأنْ لا يَنْفَدَ قبل بلوغِ المَقْصد فليذْكُرْ أنّ سفرَ الآخرة أطولُ مِن هذا السفر، وأنّ زاده التقوى، وما عداه لا يصلُحُ زاداً. ولْيَحْذَرْ أنْ يُفْسِدَ

ص: 69

أعمالَه- التي هي زاد الآخرة- بشوائب الرياء وكدورات التقصير، فيَدْخُلَ في قوله تعالى: «قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بالأخْسَرينَ أعمالًا الذينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ في الحيوة الدُنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أنّهُمْ يُحِسنون،صُنعاً» (1)

. ويلاحظُ عندَ سفره نَقْلَتَه إلى منازِلِ الآخرة التي لا شكَّ فيها، ولعلَّه أقربُ من سفره هذا، فَيْحتاط في أمره، وليَعْلَمْ أنّ هذه أمثلةٌ محسوسةٌ يَتَرقّى منها إلى مراكِب النَجاة مِنْ عذاب اللَّه تعالى.

وأمّا الخروجُ من البلد: فلْيَسْتَحْضِرْ عندَه أنّه يُفارِقُ الأهلَ والولدَ متوجِّهاً إلى اللَّه سبحانه في سفرٍ غيرِ أسفار الدنيا، وأنّه متوجِّه إلى مَلِك الملوك وجبّارِ الجبابرةِ في جملة الزائرين الذين نُودوا فأجابوا، وشُوِّقوا فاشتاقوا، وقَطَعوا العلائقَ، وفارَقوا الخلائقَ، وأقبلوا على بيت اللَّه تعالى طلباً لرضا اللَّه تعالى وطمعاً في النظر إلى وجهه الكريم. ولْيَحْضُرْ أيضاً قلبَه لِلوصولِ إلى المَلِك والقبول له بِسعَةِ فضله، ولْيَعْتَقِدْ أنّه إن مات قبلَ الوصول إليه لَقِي اللَّه تعالى وافِداً عليه لقوله تعالى: «وَمنْ يَخْرُجْ مِن بَيْتِه مهاجِراً إلى اللَّه ورسوله ثُمَّ يُدْرِكُهُ الموتُ فَقَدْ وَقَعَ أجْرُهُ عَلى اللَّه» (2)

. ثمّ لْيَتَذَكَّرْ في أثناء طريقه مِنْ مشاهَدِةِ عَقَبات الطريقِ عقبات طريق الآخرة الآخرة، ومِن السِباع والحيَّاتِ حَشَراتِ القبر، ومِنْ وحشةِ البَراري ووحشةِ القبر وانفرادَه عن الانس؛ فإنّ كُلَّ هذه الامور جاذبةٌ إلى اللَّه سبحانه، ومُذكِّرةٌ له أمرَ مَعاده.

وأمّا ثَوْبُ الإحرامِ: ولُبْسُه فلْيَتَذَكَّرْ معه الكفنَ ودَرْجَه فيه، ولعلَّه أقربُ إليه، ولْيَتَذَكَّرْ معها (3) التَسَرْبُلَ بأنوارِ اللَّه تعالى التي


1- 1 الكهف 18: 103- 104.
2- 2 النساء 4: 100.
3- 3 هكذا في بعض النسخ، وفي بعضها: «منها». ولعلّ الصواب: «معهما» أو «منهما» أي مع من ثوب الإحرام ولُبسه.

ص: 70

لا مَخْلَصَ مِن عقابه إلّابها، فيَجْتَهِد في تحصيلها بقدر إمكانه.

وأمّا الإحرام والتلبيةُ: فليَسْتَحْضِر أنّه إجابةُ نِداء اللَّه سبحانه وتعالى (1). وليَكُنْ في قبول إجابته بينَ خوفٍ ورجاء، مُفَوِّضاً أمرَه إلى اللَّه، مُتَوكِّلًا على فضله.

قال سفيانُ بنُ عُيَينَةَ: حَجَّ زينُ العابدين عليُ بنُ الحسينِ عليهما السلام، فلمّا أحْرَمَ واسْتَوَتْ به راحلتُه اصْفَرَّ لونُه، ووقَعَتْ عليه الرَعْدَةُ ولم يَسْتَطِعْ أنْ يُلَبِّي، فقيل له: لِمَ لا تُلَبِّي؟ فقال: «أخشى أنْ يَقولَ لي:

لا لَبَّيْكَ ولا سَعْدَيْك» فلمّا لَبَّى غُشِيَ عليه وسَقَطَ عن راحتله، فلم يَزَلْ يَعْتَريه ذلك حتى قُضي عليه (2).

ولْيَذْكُرْ عند إجابته نداءَ اللَّه سبحانه إجابةَ ندائهِ بالنفخ في الصور، وحَشْر الخلقِ من القبور، وازدحامهم في عَرَصاتِ القيامةِ مُجيبينَ لندائه، مْنْقَسِمينَ إلى مقرَّبين ومَمْقُوتين، [مقبولين و] (3) ومتردِّدين بينَ الخوفِ والرَجاء.

وأمّا دخولُ مكّةَ: فَلْيَستَحْضِرْ عندَه أنّه قد انتهى إلى حرم اللَّه الأمينِ، ولْيَرْجُ عندَه أنْ يَأمنَ بدخوله مِن عقاب اللَّه، وَلْيَخْشَ أنْ لا يكونَ مِن أهل القُرب، ولْيَكُنْ رجاؤه أغلبَ؛ فإنّ الكرمَ عميمٌ وشرفَ البيت عظيمٌ، وحقَّ الزائر مَرْعيٌّ، وذِمامَ المستجيرِ محفوظٌ خصوصاً عند أكرم الأكرمين. ولْيَسْتَحْضِر أنّ هذا الحرم مِثال للحرمِ الحقيقي، لِيتَرقِّيَ- مِن الشوق إلى دخوِل هذا الحرم والأمنِ بدخوله من العقاب- إلى الشوقِ إلى دخولِ ذلك الحرمِ والمقامِ الأمين.

وإذا وَقَعَ بصرُه على البيت فلْيَسْتحضِرْ عظمتَه في قلبه، ولْيَتَرقَ


1- 1 كما تقدَّم في أوائل هذه الرسالة.
2- 2 هكذا في النسخ، وفي المصدر: «حتى قضى حجّة».
3- 3 أضفناه من المصدر.

ص: 71

بفكره إلى مشاهَدَة حضرةِ ربِّ البيت في جِوار الملائكة المقرَّبينَ، ولْيَتَشَوّقْ أنْ يَرْزُقَه النظرَ إلى وجهه الكريم، كما رَزَقه الوصولَ إلى بيته العظيم.

ولْيُكْثِرْ مِن الذكر والشكرِ على تبليغ اللَّهِ إيّاه هذه المرتبةَ. وبالجملة فلا يَغْفُلْ عن تَذُّكر أحوالِ الآخرة.

وأمّا الطوافُ بالبيت: فَلْيَسْتَحْضِرْ في قلبه التعظيمَ والخوْفَ والخَشْيَةَ والمحبّةَ، ولْيَعْلَمْ أنّه بذلك مُتَشَبِّهٌ بالملائكة المقرَّبينَ، الحافِّينَ حولَ العرش، الطائفينَ حولَه. ولا تَظُنَّنَّ أنّ المقصودَ طوافُ جسمِك بالبَيت بل طوافُ قلبك بذكرِ ربِّ البَيْت، حتّى لا تَبْتَدئ بالذكر إلّامنه، ولا تَخْتِمَ إلّابه. كما تبتدئُ بالبيت، وتَخْتِمُ به. ومن هنا قال أهلُ الحقيقة: «طوافُ أهل العبارة بالقالب، وطواف أهل الإشارة بالقلب»؛ فإنّ الطوافَ المطلوب هو طوافُ القلب بحضرة الربوبيَّة، وأنّ البيتَ مِثالٌ ظاهرٌ في عالم الشهادة لتلك الحضرة التي هي عالَمُ الغيب، كما أنّ الإنسان الظاهرَ مثالٌ ظاهرٌ في عالم الشهادة للإنسان الباطن لا يُشاهَد بالبصر، وهو في عالَم الغيب، وإنّ عالَمَ المُلكِ والشهادة مرْقاةٌ ومْدَرجٌ إلى عالم الغيب والملكوت لمَنْ فُتِحَ له بابُ الرحمة، وأخَذَتِ العنايةُ الإلهيةُ بيده لسلوك الصراط المستقيم.

وأمّا اسْتِلام الحَجَر: فْليَسْتَحْضِرْ عندَه أنّه مُبايعٌ للَّه على طاعته، مُصَمِّمٌ عزيمتَه على الوفاء ببيعته، «فَمَنْ نَكَثَ فَإنّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أوفى بما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتيه أجراً عظيماً» (1)

. ولذلك قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم: «الحَجَرُ الأسودُ يَمين اللَّهِ في الأرض، يُصافِحُ بها خَلْقَه كما يُصافِحُ الرجلَ أخاه» ولمّا قَبَّلَه عُمَرُ: «إنِّي لأعلَمُ أنّك


1- 1 الفتح 48: 10.

ص: 72

حَجَرٌ لا تَضُرُّ ولا تَنْفَعُ، ولولا أنّي رأيتُ رسولَ اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم يُقَبِّلُك لَما قَبَّلْتُك». فقال له عليّ عليه السلام: «مَهْ يا عُمرُ، بَل يَضُرُّ ويَنْفَعُ؛ فإنّ اللَّه سبحانه لَمّا أخَذَ المِيثاق على بني آدم- حيث يقول: «وإذْ أخَذَ ربُّكَ مِنْ بني آدم مِن ظُهورِهم ذُرِّيَّتَهمْ وَأشْهَدُهم على أنفسهم» (1)

الآية. ألقمه هذا الحجَر ليكونَ شاهداً عليهم بأداء أمانتهم. وذلك معنى قول الإنسانِ- في الدعاء المتقدِّم- عند استلامِه:

أمانتي أدَّيْتُها، وميثاقي تعاهْدتُه، لِتَشْهَدَ لي عندَ ربِّك بالموافاة» (2).

وأمّا التعلُّقُ بأسْتار الكعبة: والالتصاق بالملتزَم فَلْيستحضِرْ فيه طلبَ القربِ؛ حُبَّاً للَّه وشوقاً إلى لقائه، تَبَرُّكاً بالمماسّة ورجاءً للتحصُّن من النار. ولتَكُن النيَّةُ في التعلُّقِ بالِستْر الإلحاحَ في طلب الرحمة، وتوجيهَ الذهن إلى الواحد الحقّ، وسؤالَ الأمان من عذابه، كالمُذْنِبِ المتعلِّق بأذيالِ مَن عَصاه، المُتَضَرِّعِ إليه في عفوه عنه، المعترِفِ له بأنّه لا ملجأ منه إلّاإليه، ولا مَفْزَعَ له إلّاعفوه وكرمُه، وأنّه لا يُفارِقُ ذَيلَه إلّابالعفو، وبذل الطاعة (3) في المستقَبلِ.

وأمّا السعيُ: بينَ الصفا والمروة في فِناء الَبيت فمثالٌ لتردُّد العبد بفِناء دار المَلِك جائياً وذاهباً مرّةً بعدَ اخرى؛ إظهاراً للخُلوص في الخدمة، ورجاءً لملاحَظَته بَعينَ الرحمة، كالذي دَخَلَ على المَلِك وهو لا يَدْري ما الذي يَقْضي المَلِكُ في حقِّه مِن قبولٍ أو ردٍّ، فيكون تردُّدُه رجاءَ أنْ يَرْحَمَه في الثانية إنْ لم يكنُ رِحمَه في الأولى.

وليْتَذَكَّرْ عندَ تردُّدِه بينَ الصفا والمروة تردُّدَه بينَ كفّتي الميزانِ في عرصة القيامة، وليُمَتِّلِ الصفا بكفّة الحَسَناتِ والمروةَ بكفّة السيِّئاتِ، وليْتَذَكَّرْ تردُّدَه بينَ الكفّتينِ، ملاحِظاً للرُجحانِ


1- 1 الأعراف 7: 172.
2- 2 علل الشرائع: 624- 626 باب علّة استلام الحجر الأسود و ...، ح 2، 6، 8 مع الاختلاف، وانظر وسائل الشيعة 13: 316- 322 أبواب الطواف الباب 13.
3- 3 هكذا في النسخ، وفي المصدر: «وبذل الأمن».

ص: 73

والنُقصانِ، متردِّداً بينَ العذاب والغُفْران.

وأمّا الوقوف بعرفَةَ: فَلْيَتَذَكَّرْ بما يَرى- مِن ازدحام الناسِ وارتفاع الأصواتِ واختلافِ اللغات واتّباعِ الِفرَقِ أئمّتَهم في التردُّداتِ على المشاعِر؛ اقتفاءًبهم وسَيْراً بسيرتهم- عَرَصاتِ القيامةِ، واجتماعَ الامم مع الأنبياء والأئمّة، واقتفاءَ كلِّ أُمَّةٍ أثرَ نبيِّها وإمامِها، هادياً كان أم مُضِّلًا، وتحيُّرَهم في ذلك الصعيدِ الواحدِ بينَ الردِّ والقبولِ.

وإذا تَذَكَّرَ ذلك فَلْيُلْزِمْ قلبَه الضَراعةَ والابتهالَ إلى اللَّه تعالى في أنْ يَحْشُرَه في زُمْرة الفائزينَ المرحومينَ.

ولْيَكُنْ رجاؤه أغلبَ، فإنّ الموقِفَ شريفٌ، والرحمة إنّما تَصِلُ مِن ذي الجلال إلى كافَّة الخلق بواسطة النفوس الكاملة مِنْ أوتاد الأرض ونحوِهم، ولا يَخْلو الموقِفُ مِنْ طائفةٍ مِن الأبدال والأوتاد وطوائفَ مِن الصالحينَ وأربابِ القلوب، فإذا اجْتَمَعَتْ هِمَمُهُمْ، وتَجَرَّدتْ لِلضَراعة نفوسُهم، وارْتَفَعَتْ إلى اللَّه تعالى أيدِيهِم، وامْتَدَّتْ إليه أعْناقُهم، يرمقون بأبصارهم جِهة الرحمة، طالبين لها، فلا تَظُنَّنَّ أنّه يَخِيبُ سَعْيُهمْ مِن رحمةٍ تَغْمُرُهُمْ. ومِن هنا جاء ما تقدَّم (1)مِن الحديث: «إنّ الشيطانَ مارُئيَ أدْحَرَ ولا أحْقَرَ ولا أصْغَرَ منه يومَ عَرَفةَ، وذلك لِما يَرى نزول الرحمة على الخلق».

وربما كان اجتماعُ الامَم بعرفاتٍ والاستظهارُ بمجاوَرَةِ الأبدال والأوْتادِ المجتمِعينَ مِن أقطار الأرض هو السِرُّ الأعظمُ مِن الحجّ ومقاصِدِه، فلا طريقَ إلى اسْتِنْزالِ رحمة اللَّه أعظمُ مِن اجتماع الهِمَمَ وتعاوُنِ القلوبِ في وقتٍ واحدٍ علىصعيدٍ واحدٍ.

وأمّا الوقوفُ بالمشْعَر: فَلْيَسْتَحْضِرْ أنّه قد أقبَلَ عليه مولاه بعدَ أنْ


1- 1 تقدّم في أوائل الرسالة.

ص: 74

كان مُدْبِراً عنه، طارداً له عن بابه، فأذِنَ له في دخول حرمه؛ فإنّ المَشْعَرَ مِن جملة الحرم وعَرَفَةَ خارجةٌ، فقد أشْرَقَتْ عليه أنوارُ الرحمة، وهَبَّتْ عليه نَسَماتُ الرأفة، وكُسِيَ خِلَعَ القبول بالإذنِ في دخول حرم المَلِك.

وأمّا رميُ الجِمار: فَلْيَقْصِد به الانقياد، لأمره وإظهارَ الرَقِّ والعبوديةِ، ثمّ ليقصِدْ به التَشَبّهَ بإبراهيمَ عليه السلام حيث عَرَضَ له إبليسُ لعنه اللَّه في ذلك الموضِع لِيُدْخِلَ عليه شبهةً أو يَفْتِنَه بمعصيةٍ، فأمَره اللَّهُ تعالى برَمْيه بالحِجارة؛ طَرْداً وقطعاً لأمله. فإنْ خَطَرَ له أنّ الشيطانَ عَرَضَ لإبراهيم عليه السلام ولم يَعْرِضْ له، فَليعْلَمْ أنّ هذا الخاطرَ مِن الشيطانِ، وهو الذي ألْقاه على قلبه لِيُخَيِّل إليه أنّه لا فائدةَ في الرمي، وأنّه يُشْبِهُ اللَعْبَ، فَلْيَطْرُدْه عن نفسه بالجِدِّ والتشمير (1) في الرمي فيه برغْم أنْف الشيطان؛ فإنّه وإنْ كان رَمْياً للجَمْرة بالحَصى فهو في الحقيقة رَمْيٌ لوجهِ إبليسَ وقَصْمٌ لظهره إذ لايَحْصُلُ إرغام أنفه إلّابامتثال أمر اللَّه تعالى؛ تعظيماً لمجرَّد الأمر.

وأمّا ذَبْحُ الهَدْي: فَلْيَعْلَمْ أنّه تَقَرُّبٌ إلى اللَّه تعالى بحكم الامتثال فَلْيُكْمِلِ الهَدْيَ أجزاءه. وهو يُشْبهُ القربَ إلى المَلِك بالذَبْحِ له وإتمامِ الضيافة والقِرى، والغايةُ منه تذكُّر المعبود الأوّل سبحانَه عندَ النيَّة في الذَبْح واعتقادُ أنّه مُتَقَرِّبٌ به إلى اللَّه تعالى (2).

فهذه هي الإشارة إلى أسْرار الحجِّ الباطنةِ فراعِها بفكرٍصحيحٍ تُطْلِعُكَ على ما فوقَها مِن المَدارجِ، وتَعْرُج بك على أشرفِ المَعارج. وفَّقنا اللَّهُ وإيّاك لِتلقّي الأسرار، وجَعَلَنا مِن المخْلَصينَ الأبرار؛ إنّه جوادٌ كريمٌ.

تتميم: يُسْتَحَبُّ لِقاءُ الحاجِّ ومصافَحَتُه وتقبيلُه والِتماسُ بَرَكته وما


1- 1 «التشمير في الأمر: السُرعَةُ فيه ... ومنه قيل: شَمَّر في العبادة إذا اجْتَهَد وبالغ».
2- 2 إحياء علوم الدين 1: 314- 319. اعلم أنّ الشهيد رحمه الله نَقَلَ بعض العبارات بالمعنى، ولا يوجد بعض الجمل والتعبيرات في المطبوع من إحياء علوم الدين، ويحتمل أنّها كانت موجودة في نسخة الشهيد، أو في كتابٍ نَقَلَ عن الغَزّالي ونَقَلَ الشهيدُ عن ذلك الكتاب.

ص: 75

عَلِقَ (1) به مِنْ آثار رحمة اللَّه تعالى. قال الصادق عليه السلام:

كان عليّ بنُ الحسينِ عليهما السلام يقول: «يا مَعْشَرَ مَنْ لم يَحُجّ اسْتَبْشِروا بالحاجّ، وصافِحوهم، وعَظِّموهم؛ فإنّ ذلك عليكم، تُشارِكوهم في الأجر» (2).

وعن الصادق عليه السلام: «مَنْ عانَقَ حاجّاً بغُباره كان كأنّما اسْتَلَمَ الحجَر الأسوَد»، رواه الصدوق في الفقيه (3).

وَلْنَقْتَصِرْ على ما أفْردَناه، سائلينَ مِمّن انْتَفَعَ به أنْ يُشارِكَنا في دعائه وتوجُّهاتِه. جَمَعَنا اللَّهُ وإيّاكم على طاعاته، وتَقَبَّلَ مِنّا ومنكم بفضله وكرمه.

واتَّفقَ الفَراغُ مِنْ تأليفه ضُحى يوم الجمعة (4) سابعَ عَشَر شهرِ رمضانَ المبارك سنةَ خمسينَ وتسعمائة مِن الهجرة النبويّة المصطفوية (5). [وكتب] العبد (6) المذنب المفتقر إلى عفو اللَّه تعالى وكرمه زينُ الدين بن علي بن أحمد الشامي العاملي، عامله اللَّه بفضله، وعفا عنه بمنّه وكرمه.


1- 1 «عَلِقَ الشي ءُ الشي ءَ، وبه: نَشِبَ فيه واستمسك به، يقال: عَلِقَ الشوكُ الثوبَ وبه» المعجم الوسيط 2: 622 علق.
2- 2 الكافي 4: 264 باب فضل الحجّ والعمرة وثوابهما ح 48؛ الفقيه 2: 147 ح 647 باب فضائل الحجِّ ح 97 وفيها: «يجب عليكم» بدل «عليكم».
3- 3 الفقيه 2: 196 ح 892 باب ثواب معانَقَة الحاجِّ ح 1.
4- 4 وفي بعض النسخ: «يوم الخميس».
5- 5 هكذا في أكثر النسخ، وفي النسخه: «واتفق الفراغُ مِن تأليفه في عصر يوم السَبْتِ ثالث عشر شهر ذي القعدة الحرام سنة اثنتين وخمسين وتسعمائة» قال الطهراني رحمه الله في الذريعة 22: 263: «فَرَغَ منه نهار الأربعاء 20 شوّال 953 ... وفي بعض النسخ ذكر فراغ المصِّنف في ضحى الجمعة 17 رمضان 950 وفي بعضها: 14 رمضان».
6- 6 من هنا إلى آخر العبارة إنّما وردتْ في نسخة من النسخ الثمان التي قابلنا بها هذه الرسالة.

ص:76

ص: 77

الهوامش:

قرن المنازل

ص:78

ص:79

ص:80

ص:81

ص:82

ص:83

ص: 84

قرن المنازل

عبد الهادي الفضلي

قرن- بفتح القاف وسكون الراء-، وضبطه الجوهري في (الصحاح) بفتح القاف والراء معاً، وغلطه الفيروزآبادي في (القاموس) في تحريكه الراء، قال ابن حجر في (فتح الباري): «وضبطهصاحب الصحاح بفتح الراء، وغلطوه، وبالغ النووي فحكى الاتفاق على تخطئته في ذلك، لكن حكى عياض تعليقَ القابسي:

أن من قاله بالإسكان أراد الجبل، ومن قاله بالفتح أراد الطريق».

ولأن كلمة (قرن) تطلق في بعض معانيها- على (الجبل الصغير المنفرد) كانت تطلق على جبلصغير منفرد في موضع الميقات المعروف ب (قرن المنازل)، وبه سميت القرية التي هو فيها، وكذلك سمي الوادي الذي هو فيه، من باب تسمية الكل باسم الجزء، فقيل لكل واحد منهما قرن المنازل.

ومن هنا قال الفيروزآبادي في (القاموس): «وهي قرية عند الطائف أو اسم الوادي كلّه».

ص: 85

ولعل إضافة (قرن) إلى (المنازل) لأنه القرن الوحيد الواقع في مراحل ومنازل طريق الطائف إلى مكة المار بنخلة اليمانية.

وكثيراً ما تختصر العبارة فيقال (قرن) من غير إضافة، خاصة في كتب البلدان كما في أمثال (المناسك) للحربي، و (صفة جزيرة العرب) للهمداني وغيرهما، وربما كان هذا لشهرته، أو لأنه لا يوجد قرن- بالمعنى الذي ذكرناه- في مراحل ومنازل الطريق المذكور غيره.

ويقع قرن المنازل مرحلة أو منزلًا من منازل طريق الحاج من الطائف على نخلة اليمانية، قال الحربي في (المناسك): «طريق الطائف: تخرج من عرفة على جبل يقال له (كَرَا) يظهر على حرّة كثيرة المنابت يقال لها (الهَدَة) ومن الهَدَة إلى الطائف.

وله طريق أخرى على موضع يقال له (زَيْمَة) ينفرد من (مُشاش) ثم (قرن المنازل)، وهو الموضع الذي وقته رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم لأهل نجد حين قال: (ويهلّ أهل نجد من قرن)، ثم من قرن المنازل إلى الطائف .. وهذه الطريق ثلاثة أيام، والطريق الأول يومان».

والطريق القديمة التي كانت تمر بقرن المنازل هي:

1- طريق الطائف:

يمرّ بالمليح (ويسمى الآن السيل الصغير) فقرن المنازل (ويسمى الآن السيل الكبير) فالبوباة (وتسمى الآن البهيتاء) فوادي نخلةاليمانية، فقرية الزيمة فوادي سبوحة فوادي يَدَعان (جَدَعان) فالشرائع (حنين) فالجعرانة فمكة المكرمة.

ويعرف هذا الطريق بطريق نخلة اليمانية.

أما الآن فقد اختصر هذا الطريق وكالتالي: الطائف- الحوية- السيل

ص: 86

الصغير- السيل الكبير (قرن المنازل)- الزيمة- الشرائع- الجعرانة- مكة.

2- طريق اليمن:

وطرق اليمن التي تمرّ على قرن المنازل هي:

أ- طريقصنعاء-صعدة:

يمرّ ببيشة فوادي تُرَبَة فقرن المنازل (السيل الكبير).

ب- طريق حضرموت- نجران:

يلتقي مع الطريق السابق بقرن تثليث، فوادي تُرَبَة، فقرن المنازل (السيل الكبير).

3- طريق اليمامة (نجد):

أ- طريق جنوبي اليمامة:

يمرّ بوادي الدواسر، فالافلاج، ثم يجتمع مع طريق اليمامة بقرن المنازل (السيل الكبير).

ب- طريق وسط اليمامة:

يمرّ بالُمويه فعُشيرة، ثم يلتقي مع طريق الطائف ماراً بالحوية، فالسيل الصغير، فالسيل الكبير (قرن المنازل).

والطريقان الرئيسان اللذان ينطلقان من الطائف والرياض (نجد) ويمران بقرن المنازل- في أيامنا هذه- هما:

الطائف

الحوية- السيل الصغير- السيل الكبير (قرن المنازل).

الرياض

ص: 87

وقرن المنازل- الآن- هو قريةصغيرة تعرف باسم (السيل) و (السيل الكبير) تمييزاً لها من قرية (السيل الصغير) التي تقع قبلها للقادم من الطائف أو الرياض.

فيها مسجدان قديمان، ومسجد ثالث حديث أنشأته الحكومة السعودية للإحرام منه.

وتبعد عن مكة بحوالى ثمانين كيلومتراً على طريق الرياض- مكة، المتّجه إلى الطائف بمنعطف على اليمين عند الحوية ماراً بالسيل الصغير فقرية السيل الكبير.

ويمتد وادي السيل أو القرن إلى حدود وادي الغديرين قريباً من مرتفع الهَدَا، حيث يقع (وادي محرم) الذي هو منتهى قرن المنازل على رأي البعض، أو محاذٍ لقرن المنازل كما هو المشهور.

ومن المفيد أن أشير- هنا- إلى مفارقة خلط بين قرن المنازل الميقات الأصلي ومحاذيه وادي محرم، بسبب خطإ لغوي وقع فيه المطرزي وتابعه عليه جملة من الفقهاء، وخلاصتها هي:

إنّ كلمة (قرن) في لغتنا العربية هي من المشترك اللفظي الذي يستعمل في أكثر من معنى.

وقاربت معاني كلمة (قرن) في معجماتنا اللغوية الثلاثين معنى أو جاوزتها.

ومن معانيها التي ذكرت أنها اسم لعدة مواضع، بعضها في منطقة الحج، وبعضها خارجها.

والمفارقة وقعت في الخلط والاشتباه عند تحديد المواضع الواقعة في منطقة الحج.

فلنتعرف المواضع التي هي في منطقة الحج حسبما ذكرت في المعاجم العربية،

ص: 88

ثم نوضح المفارقة بعد ذلك من خلال درسنا لعبارات اللغويين في معاجمهم.

والمواضع التي في منطقة الحج هي:

1- جبل مطل أو مشرف على عرفات.

2- قرية عند الطائف أو اسم الوادي كله.

3- القرن الثعالب.

وإذا حاولنا أن نعين ونحدد موقع الموضع الأول الذي هو الجبل المطل أو المشرف على عرفات علينا أن نتعرف أولًا معنى (مطل) أو (مشرف)، فانهم يقولون (أشرف على المكان): اطّلع عليه من فوق، وكذلك (أطل على المكان) بمعنى أشرف أي اطلع عليه من فوق، ف (مطل) و (مشرف) إذا عُدّيا بحرف الجر (على) يترادفان على معنى واحد، وهو الاطلاع على الشي ء أو المكان من فوق، أو قل: رؤيتهما من على مرتفع.

ومعنى هذا أن من يصعد الجبل المذكور يطل على عرفات ويراه، وهذا يعني أن الجبل المذكور إما هو واقع في جانب من جوانب عرفات، أو في مكان قريب منها يساعد على رؤيتها من فوقه.

وهناك حديث يُحدِّد فيه موقف رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم يوم الموقف في عرفة يستفاد منه أن الجبل المشرف على عرفات هو (جبل الرحمة) في عرفات فإنه قرن (أي جبلصغير منفرد)، وأسود اللون كما وصف في الحديث، فقد جاء في (التاج) للزبيدي: «... (و) قرن (جبل مطل على عرفات) عن الأصمعي، وقال ابن الأثير: هو جبلصغير، وبه فسر الحديث: أنه وقف على طرف القرن الأسود».

وقال البلادي في (معجم معالم الحجاز): «قوله- يعني الأصمعي- (ومقصُ قرنٍ مطل على عرفات): «ذلك ما يعرف اليوم باسم القرين، وجبل الرحمة وجبل

ص: 89

عرفات، وذكر قديماً باسم إلال، وليس هو قرن المنازل ميقات أهل اليمن».

أما القرية عند الطائف أو الوادي فقد جاءت معنى لمعاني قرن في قائمة (القاموس المحيط)، قال مؤلفه- وهو يعدد معاني الكلمة- ما نصه: «وجبل مطل على عرفات، والحجر الأملس النقي، وميقات أهل نجد، وهي قرية عند الطائف أو اسم الوادي كله».

وعيّن الزبيدي المعنى الأخير- وهو يشرح قولصاحب القاموس- بقرن المنازل، قال: «... (و) قرن المنازل (ميقات أهل نجد، وهي قرية عند الطائف».

وبالنسبة إلى قرن الثعالب فقد ذكر أنه اسم لموضعين، هما:

- قرن المنازل.

أي أنه اسم ثان لما يعرف بقرن المنازل، قال ابن الأثير في (النهاية): «وفي حديث المواقيت: أنه وقّت لأهل نجد قَرْناً، وفي رواية: قرن المنازل، هو اسم موضع يحرم منه أهل نجد، وكثير ممن لا يعرف يفتح راءه، وإنما هو بالسكون، ويسمى أيضاً قرن الثعالب».

وقال الطريحي في (المجمع): «والقرن: موضع، وهو ميقات أهل نجد، ويسمى أيضاً قرن المنازل وقرن الثعالب».

- والموضع الثاني المسمى بقرن الثعالب: جبل مشرف على أسفل منى، بينه وبين مسجدها (مسجد الخيف) ألف وخمسمائة ذراع.

ممن ذكر هذا الفاضل الهندي في (كشف اللثام) كما حكاه عنه النجفي في (الجواهر) والحكيم في (المستمسك).

وقال البلادي في (المعجم): «وقرن الثعالب كان بمنى، اكيمةصغيرة، ثم أزيلت».

وبعد أن تعرفنا واستوضحنا تعيين وتحديد المواضع المذكورة ننتقل إلى

ص: 90

نقل بعض عبائر المعجميين التي ترتبط بالاشتباه الذي أشرت إليه، وكالتالي:

قال الجوهري (ت 393 ه) في (الصحاح): «والقرن: موضع، وهو ميقات أهل نجد».

وقال ابن الأثير (ت 606 ه) في (النهاية): «وفي حديث المواقيت: أنه وقّت لأهل نجد قرناً، وفي رواية: قرن المنازل، هو اسم موضع يحرم منه أهل نجد».

وهذان التعريفان- كما تراهما- ليس فيهما تعيين وتحديد للموضع.

ثم قال المطرزي- ت 616 ه)- وهو معاصر لابن الأثير- في (المُغرَّب):

«والقرن: ميقات أهل نجد، جبل مشرف على عرفات، قال:

لم تسأل الربع أن ينطقا قرن المنازل قد أخلقا وفي (الصحاح) بالتحريك، وفيه نظر».

وعبارته المذكورة واضحة في أنه يعيّن قرن المنازل بالجبل المشرف على عرفات.

ثم يأتي من بعده الفيومي (ت 770 ه) فيقول في (المصباح): «وقرن- بالسكون أيضاً- ميقات أهل نجد وهو جبل مشرف على عرفات، ويقال: قرن المنازل وقرن الثعالب».

وعبارته- هي الأخرى- واضحة في تعيين قرن المنازل بالجبل المشرف على عرفات.

وبعد الشيخين المطرزي والفيومي يأتي الفيروزآبادي (ت 816 ه)، فيذكر في (القاموس)- وهو في معرض تعداد معاني كلمة قرن- المعاني الثلاثة التالية حيث يقول: «وجبل مطل على عرفات، والحجر الأملس النقي، وميقات أهل نجد وهي قرية عند الطائف أو اسم الوادي كله».

وعبارته واضحة في أن الجبل المطل على عرفات غير ميقات أهل نجد،

ص: 91

وذلك بقرينة العطف والفصل بينهما بالمعنى الآخر وهو (الحجر الأملس النقي).

كما أنها واضحة في أن الميقات قرية أو واد وليس جبلًا.

وهنا نقول: إن المفارقة جاءت من سقوط الواو العاطفة من عبارة المطرزي، فبدل أن يقول (والقرن ميقات أهل نجد جبل مشرف على عرفات) كان ينبغي أن يقول: (والقرن ميقات أهل نجد وجبل مشرف على عرفات) بإضافة أداة العطف.

وقد يرجع هذا إلى خطإ النسخ، أو خطإ في الطبع أو إلى سهو من المطرزي لأنه لم يكن من اللغويين المحققين.

ويبدو أن الفيومي في (المصباح) أراد أن يصحح عبارة المطرزي في المغرب المذكورة في أعلاه استظهاراً منه بأن الذي أراد ذكره المطرزي هو معنى واحد لا معنيان، فقال: القرن: ميقات أهل نجد وهو جبل مشرف على عرفات فأوهم بإضافته عبارة (وهو) على نصّ المطرزي أن عبارة (جبل مشرف على عرفات) وصف لميقات أهل نجد فأوقع في هذا الوهم بعض من رجع إليهما من مؤلفي وشراح المناسك، أمثال: حسين بن محمد سعيد بن عبدالغني المكي الحنفي في حاشيته الموسومة ب (إرشاد الساري إلى مناسك الملا علي القاري) فقد جاء في الصفحة 55 منها ما نصّه: «قوله: وهي قرية عند الطائف: قال في المغرب: وقرن:

ميقات أهل نجد جبل مشرف على عرفات 1 ه. ومثله في المصباح. وفي شرح المصابيح: قرن: جبل أملس كأنه بيضة في تدوره وهو مطل على عرفات، وعليه جرى في (البحر الرائق)، فقال: هو جبل مطل على عرفة. ومثله في شرح الشيخ عبداللَّه العفيف والشيخ عبد الرحمن المرشدي في شرح مناسك الكنز، وشرح ابنه، وشرح الشيخ حنيف الدين المرشدي».

ونقرأ مثل هذا في (الرياض) للسيد الطباطبائي، ففيه: «يقال له قرن

ص: 92

الثعالب، وقرن بلا إضافة، وهو جبل مشرف على عرفات على مرحلتين من مكة»، وفي (كشف اللثام) للفاضل الهندي، ففي (الجواهر): «وفي كشف اللثام:

فانه جبل مشرف على عرفات، على مرحلتين من مكة»، وفي (المناهج) للمامقاني، قال: «قرن المنازل: وهو جبل مشرف على عرفات، على مرحلتين من مكة، وهو ميقات أهل الطائف»، وفي (الموجز) لأستاذنا الشهيد الصدر، قال:

«الثالث: قرن المنازل، ويقع في جبل مشرف على عرفات».

ويبدو أن تعريف الميقات بالجبل المشرف على عرفات، أوقع البعض في الحيرة حيث لا يوجد قريب من عرفات جبل يصدق عليه معنى الإشراف والإطلال، ففسر هذا ب (جبل كَرَا).

قال القاضي عيد في شرح المناسك: «وهذا الجبل يسمى عند أهل مكة، وأهل تلك النواحي (كَرَا) بفتح الكاف والراء المهملة، ويوافق ما ذكره الشارح رحمه الله ما في القاموس حيث قال في تعداده معنى (قرن): جبل مطل على عرفة والحجر الأملس النقي ميقات أهل نجد وهو قرية عند الطائف واسم الوادي كله ا ه ..

وعبارة الشيخ القطبي في منسكه: وهو جبل فيه بعض القرى بقرب الطائف وبه مزارع وبساتين ويجلب منها الفواكه إلى مكة ا ه ..

أقول: واسم القرية المذكورة (الهدا) ا ه ..

ويلاحظ عليه:

1- أنه توهم من عبارتي المطرزي والفيومي أن قولهما (جبل مشرف على عرفات)صفة للميقات، ثم أراد أن يوفق بين عبارتهما المذكورة وعبارة الفيروزآبادي ليتم له بأن الميقات هو الجبل المشرف أو المطل على عرفات، وذلك لأن الواو لو ذكرت لوقفت عائقاً أمام تمامية الاستدلال، ولأن الواو أيضاً تفيد بأن الميقات معنى آخر من معاني كلمة (قرن) .. وفاته أن كلمة (ميقات) في

ص: 93

عبارة القاموس مسبوقة بمعنيين لكلمة (قرن) هما: الجبل المطلّ على عرفات والحجر الأملس، وهذا يعني أن كلمة (ميقات) لو أخذت مرتبطة بما قبلها تفيد أن الميقات هو الحجر الأملس لا الجبل المشرف، فلا يتم له بها الاحتجاج.

وكان عليه أن يتنبه لما في عبارتي المطرزي والفيومي من خطإ ويصححهما بما ورد في النهاية والقاموس والتاج وغيرها من المعاجم الأخرى.

2- أن القرية (الهدا) الواقعة على جبل (كرا) لم يقل أحد بجواز الإحرام من أي موضع منها، بل أوجبوا الإحرام من الموضع المعروف ب (وادي مَحْرَمٍ)- وهو في طرفها مما يلي الطائف- وذلك إما لأن وادي محرم نهاية قرن المنازل أو لأنه محاذ لقرن المنازل، بينما جوزوا الإحرام في قرية السيل من أي موضع فيها.

3- أن جبل كرا بينه وبين وادي عرفات: وادي كرا الكبير ووادي نعمان فلا يصدق عليه أنه مطل أو مشرف على عرفات، وهو في واقعه، وكما يشاهده الرائي يطلّ على وادي كرا الكبير الذي يتصل بعد مسافة طويلة تعد بعشرات الكيلومترات بوادي نعمان المتصل بوادي عرفات.

4- أن الذي يفهم وبوضوح من عبارة أرباب المعاجم (القرن: جبل مطل أو مشرف على عرفات) هو أن الجبل المطل أو المشرف على عرفات اسمه (قرن)، وهو من دون إضافة إلى (المنازل) أو (الثعالب) أو غيرهما، فتفسيره بقرن المنازل يحتاج إلى دليل، مضافاً إلى ما بيناه من أنه هو جبل الرحمة.

وأخيراً: ينبغي أن نشير هنا أيضاً إلى شيئين هما:

1- أن قرن المنازل قد يسمى قرن الثعالب، كما نصّ على هذا غير واحد من المعاجم.

2- أن هناك موضعاً آخر يقع أسفل منى بالقرب من مسجد الخيف يسمى بقرن الثعالب أيضاً.

الحجر الاسود بين الإمام العابد والسلطان الزائف

ص: 94

الحجر الأسود بين الإمام العابد والسلطان الزائف

عبد المطلب محمد

عندما ينتصر المضمون على الشكل. ويتفوق المعنى على اللفظ وتسود الحقيقة، ويتضاءل الخيال والسراب، عند ذلك ماذا يعني؟

لا شك يعني أن الواقع والمعقولية لا زالا بين أيدينا، يجريان بيننا، نعيشهما، وإن لم يتوافرا بانتظام. فتارة حاضران واضحان، وتارة أخرى غائبان بعيدان، بعيدان هناك بيد الهوى والجهل. لكنهما في كلّ الحالات موجودان. بالفعل أو بالقوة.

وهاهناصورة تاريخية أدبية فريدة من نوعها، عرفها التاريخ الإسلامي على نطاق واسع، عرفها من خلالها رجالها الثلاثة: الإمام العابد الساجد زين العابدين عليه السلام، والشاعر العربي المسلم الفرزدق، و (السلطان) الخليفة الأُموي هشام بن عبد الملك، ولكلّ واحد من هؤلاء الثلاثة دور معين ومحدد ومعروف في هذه الصورة الأدبية التاريخية الفريدة. فالإمام العابد زين العابدين عليه السلام الطرف

ص: 95

الأول (الدور السامي). وهشام بن عبد الملك الطرف الثاني المقابل (الدور الداني). وبينهما (الواسطة) الشاعر العربي المسلم الفرزدق. كاشف الصورة ومجليها أو مظهرها إنصح التعبير.

ولكن أين حدثتْ تلك الصورة الفريدة الرائعة؟ أين تحركت، فرسمت تاريخاً لقضية تاريخية نادرة سجلتها الأجيال جيلًا بعد جيل، وصارت موضع فخر واعتزاز لكلّ المؤمنين الموالين لأهل البيت عليهم السلام وكلّ محبي الحقّ والحقيقة؟

لقد وقعت الحادثة الفريدة في أقدس بقعة على الكرة الأرضية، وقعت في مكّة التي كرمها اللَّه، وفي البيت الحرام بالذات، وكان الشاهد أقدس شاهد، كان الشاهد هو الحجر الأسود أو الحجر الأسعد، ذلك الحجر المقدس الذي وضعَهُ النبي إبراهيم عليه السلام في الركن الشرقي من الكعبة عندما رفع قواعدها، وأعاد وضعه محمد بن عبد اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم، وعمره لا يتجاوز الخامسة والعشرين، حين أعادت قريش بناء الكعبة الشريفة. ذلك الحجر الذي يتجه نحوه كلّ المسلمين في الكرة الأرضية.

عند تلك النقطة المقدسة حدثت الحادثة، وتلونت الصورة، وخلدت في ذاكرة الزمن. ولا زالت حية إلى اليوم لقوتها وحيويتها وصدقها.

موقف تاريخي مثير:

التاريخ الإسلامي المجيد حافل بالمواقف والبطولات، مواقف مختلفة ومتنوعة، مواقف طيبة، مواقف سامية مواقف فريدة، مواقف بالسيف، وأخرى بالقلم وثالثة بالسيف والقلم معاً، ورابعة، بموقف آني أملاه طرف معين وحالة خاصة.

وقد سجل لنا التاريخ عدداً كبيراً من المواقف والبطولات المختلفة. نُسي

ص: 96

بعضها. وبقي البعض الآخر في ذاكرة الكتب والرسائل. بقي على الزمن رغم كلّ ملابسات التاريخ ومنعطفاته وحالاته المتذبذبة. بقي لقوة في الموقف نفسه.

ومن تلك المواقف الطيبة والخالدة. ذلك الموقف الثلاثي المذكور آنفاً.

الموقف الذي دار بين الإمام زين العابدين عليه السلام والشاعر العربي المسلم الفرزدق، والخليفة الأموي هشام بن عبد الملك. في حضرة قصيدة عربية إيمانية رائعة.

خلّدت الموقف. خُلدت لأنها ذكرت حقيقة جريئة لا يقولها إلّاجري ء، يتوقع كلّ شي ء من الحاكم. الحبس والقتل والتعذيب، وما إلى ذلك.

لقد خُلدت تلك القصيدة الرائعة، التي حملت ذلك الموقف الجري ء وانتشرت وامتدت مدة طولها ثلاثة عشر قرناً من الزمان ووصلت إلينا، لنعرف من خلالها أن الحق والمعقولية والقوة الذاتية الحقيقية تعيش في كلّ زمان ومكان، تعيش حتى في ظل السلطان الجائر، بل وتتحدى كلّ السلاطين القساة العتاة في التاريخ الطويل. ولنقرأ ذلك الموقف العظيم. تلك القصيدة الرائعة.

لما حجّ هشام بن عبد الملك في أيام أبيه عبد الملك. طاف بالبيت الحرام.

وجهد أن يصل إلى الحجر الأسود ليستلمه، فلم يقدر على ذلك لكثرة الزحام، فَنُصب له كرسي وجلس عليه ينظر إلى الناس ومعه جماعة من أعيان الشام.

فبينما هو كذلك إذ أقبل الإمام الكريم زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام، فطاف بالبيت. فلما انتهى إلى الحجر الأسود تنحّى له الناس حتى استلم الحجر. فقال رجل من أهل الشام لهشام بن عبد الملك: مَن هذا الذي هابه الناس هذه الهيبة؟ فقال هشام: لا اعرفه، مخافة أن يرغب فيه أهل الشام. وكان الشاعر العربي المسلم المعروف الفرزدق حاضراً في ذلك الموقف، فقال بقوة واعتداد أنا أعرفه، ثم اندفع بقصيدته المشهورة هذا الذي تعرف البطحاء وطأته ... (1) التي سنأتي على ذكرها.


1- 1 ديوان الفرزدق 2: 178.

ص: 97

الشاعر والقصيدة:

وأبو فراس همام بن غالب بنصعصعة من دارم ثم من تميم، لقب بالفرزدق لغلظ وجهه وشبهه بالرغيف (1).

ولد في الكاظمة (وهي اليوم تقع شرق مدينة الكويت). ولد نحو سنة 20 هجرية في خلافة عمر بن الخطاب، ونشأ هناك نشأة بدوية.

نشأ الفرزدق على حبّ آل البيت وعلى الاعتقاد بحقهم في الخلافة، ولكنه كان أحياناً يتظاهر بغير ما يتعقد، يقول المقرم في تشيعه «وهو الشيعي الصميم المتفاني في ولاء آل الرسولصلى الله عليه و آله و سلم» (2).

وبعد استشهاد الإمام الحسين بن علي عليه السلام ومقتل عبد اللَّه بن الزبير سنة 73 هجرية- كان العلويون قد خسروا جاههم السياسي وخسروا معه أموالهم التي كانوا يجيزون فيها الشعراء- انضم الفرزدق إلى الأمويين تكسباً لا اعتقاداً (3). توفي الفرزدق سنة 110 هجرية حسب ما ذكر أحمد حسن الزيات (4).

والفرزدق، بعد ذلك، شاعر مشهور، مقتدر، ألفاظه جزلة كثيرة الغريب، له ديوان مطبوع في جزأين. نشر أكثر من مرّة.

«عدّه ابن سلام في الطبقة الأولى من الإسلاميين. وقدمه في الذكر على جرير والأخطل. وقال: «كان يونس يُقدّم الفرزدق بغير إفراط، وكان المفضّل يقدّمه تقدمة شديدة» وقال جرير: «الفرزدق نَبعة الشعر» وقال أبو عبيدة: «كان الفرزدق يشبّه من شعراء الجاهلية بزهير» وقال أيضاً: «لولا شعر الفرزدق لذهب ثلث لغة العرب» وقال أبو الفرج الأصفهاني: «والفرزدق مقدّم على الشعراء الإسلاميين هو وجرير والأخطل، ومحله في الشعر أكبر من أن ينبّه عليه بقول، أو يدلّ على مكانه بوصف. أما من كان يميل إلى جزالة الشعر وفخامته


1- 1 تاريخ الادب العربي/ عمرو فروخ 1: 649.
2- 2 الامام زين العابدين عليه السلام/ عبد الرزاق المقرمص 383.
3- 3 تاريخ الادب العربي/ فروخ 1: 650.
4- 4 تاريخ الادب العربي/ أحمد حسن الزياتص 158.

ص: 98

وشدة أسره فيقدم الفرزدق، وأما من كان يميل إلى أشعار المطبوعين وإلى الكلام السمح السهل الغزل فيقدم جريراً». وقال الفرزدق نفسه: «قد علم الناس أني أفحل الشعراء، وربما أتت عليّ الساعة وقلع ضرس من أضراسي أهون عليَّ من قول بيت». وقال مالك بن الأخطل:

«جرير يغرف من بحر والفرزدق ينحت فيصخر» ...» (1).

وبعد أن عرفنا شيئاً من حياة الشاعر الفرزدق ومنزلته الأدبية والشعرية لنقرأ قصيدته الشهيرة «هذا الذي تعرف البطحاء ...» القصيدة (الموقف) كما ذكرنا، لنرى كم هي جريئة ومثيرة في حضرة (السلطان) هشام بن عبد الملك.

وكم تتضمن من المعاني القيمة في حقّ الإمام زين العابدين عليه السلام يقول شاعرنا الفرزدق في ديوانه:

هذا الذي تعرف البطحاءُ وطأته والبيتُ يعرفه والحِلُّ والحرم

هذا ابن فاطمة إنْ كنتَ جاهله بجدّه أنبياء اللَّه قد ختموا

وليس قولك مَن هذا بضائره العُرْبُ تعرف من أنكرت والعجم

كلتا يديه غياث عَمّ نفعهما يُسْتَوْكفان لا يعروهما عدم

سهل الخليقة لا تخشى بوادره يزينه اثنان: حسن الخلق والشِيمُ

حمّال أثقال أقوام، إذا افتُدحوا حلو الشمائل تحلو عندِه نَعَمُ

ما قال لا قط إلّافي تشهده لولا التشهدُ كانت لاؤه نَعَمُ

عمّ البرية بالإحسان، فانقشعت عنها الغياهب والاملاق والعدم

إذا رأتهُ قريش قال قائلها: إلى مكارم هذا ينتهي الكرم

يغضي حياءً ويُعضى من مهابته فما يكلم إلّاحين يبْتسمُ

بكفه خيزران ريحه عبق من كف أروع، في عرنينه شَهَمُ

يكاد يمسكه عرفان راحته ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم


1- 1 ادباء العرب في الجاهلية وصدر الاسلام: بطرس البستاني 1: 359.

ص: 99

اللَّه شرفه قدماً وعظّمه جرى بذلك له في لوحة القلم

أيّ الخلائق ليست في رقابهم لأولية هذا أو له نِعَمُ

من يشكر اللَّه يشكر أولية ذا فالدين من بيت هذا ناله الأُممُ

ينمي إلى ذروة الدين التي قصرت عنها الاكف وعن ادراكها القدم

مَنْ جده دانَ فضل الأنبياء له وفضل أمته دانت لها الأُمَمُ

مشتقة من رسول اللَّه نبعته طابت مغارسه والخيم والشيم

ينشق ثوب الدجى عن نور عزته كالشمس تنجاب عن اشراقها الظُلم من معشرٍ حبّهم دين وبغضُهُمُ كفرٌ وقربُهُمُ منجىً ومعتصمُ

مقدم بعد ذكر اللَّه ذِكرُهُمُ في كل بدء ومختوم به الكَلِمُ

إن عُدَّ أهل التقى كانوا أئمتهم أو قيل: «من خيرأهل الأرض» قيل هُمُ

لا يستطيع جواد بعد جودهم ولا يدانيهم قوم، وإن كرموا

هم الغيوث، إذا ما أزمة ازمت والأسدُ اسد الشرى والباس مختدم

لا ينقص العسر بسطاً من اكفهم، سيان ذلك: إنْ أثروْا وان عدِموا

يستدفع الشر والبلوى بحبهم ويُستربّ به الإحسان والنعمُ (1) لقد قالها الفرزدقصراحة في حقّ الإمام، أعلنها علناً على الملإ دون خوف ولا وجل، يقول السيد عبد الرزاق المقرم: «فقد حداه إيمانه الخاص المتغلغل فيصدره، وولاؤه المتوغل في لبة قلبه إلى أداء أجر الرسالة المأخوذ على الأسود والأبيض والحر والعبد، فأقام أكبر برهان على تشيعه الذي لا يختلف فيه اثنان، وشكل أجلى قياس انتج اقتصاص أثر عترة الوحي، فباح بما أوحته إليه سريرته المحمودة وخصاله المستحسنة وطينته الطاهرة ونفسه الزاكية غير مبال بغضب (المرواني) ومما يلمّ به بعد ذلك من سجن وقطعصلة وغيرها، فاستسهل كلّصعب دون الإشادة بذكر الحق والهتاف به خشية أن تتحكم الأغراض


1- 1 ديوان الفرزدق 2: 183- 181.

ص: 100

المستهدفة في النفوس الضعيفة فيروج الضلال» (1).

لقد وقعت هذه القصيدة كالصاعقة على راس الخليفة (السلطان!!!) هشام بن عبد الملك، ابن السلطان، ابن الملك، وابن تلك (الهيبة) التي ظن أن الدنيا كلّها تحت يديه، تحت طوع بنانه.

لقد غضب هشام غضباً شديداً. ومنع جائزته إلى الفرزدق، وقال: الّا قلت فينا مثلها؟ وكان الرد ذكياً خارجاً من قلب الحقيقة، وقال لهشام متحدياً: هات جدّاً كجد الإمام زين العابدين وهات أباً كأبيه وأماً كأمه حتى أقول فيكم مثلها.

فحبسوه بعسفان بين مكة والمدينة. فبلغ ذلك الإمام علي بن الحسين عليه السلام فبعث اليه باثني عشر ألف درهم، وقال: اعذرنا يا أبا فراس. فلو كان عندنا أكثر لوصلناك به، فردّها وقال: يابن رسول اللَّه ما قلت الذي قلته إلّاغضباً للَّه ولرسوله، وما كنت لا رزأ عليه شيئاً، فردها إليه وقال: بحقي عليك لمّا قبلتها فقد رأى اللَّه مكانك وعلم نيتك قبلها، فجعل الفرزدق يهجو هشاماً وهو في الحبس.

فكان مما هجاه به قوله:

أيحبسني بين المدينة والتي إليها قلوب الناس يهوى مُنيبها

يقلب رأساً لم يكن رأس سيد وعيناً له حولاء باد عيوبها (2) والقصيدة الفرزدقية (هذا الذي ...)- كما ترى- رائعة جميلة لفظاً ومضموناً، تقرأها مرة فترغب في قرأتها مرات ومرات ولا تملّ، ترى الشاعر المسلم فيهاصادقاً، مستخدماً عقله وعاطفته معاً، منبثقة من عقله وقلبه، مندفعاً اندفاعاً حقيقياً باتجاه من يحب، وهو الإمام زين العابدين والساجدين، وأهل بيته وآبائه الكرام البررة. فلا تكلّف في القصيدة ولا استجداء، ولا طلب لمنصب ولا لجاه، ولا ولا .... إنه الحبّ لإنسان أهل للحب والتقدير والثناء. يقول بطرس البستاني: «وأنّى يكون التكلّف في قصيدة جاشَ بهاصدر الشاعر فقذفها بيتاً إثر


1- 1 الامام زين العابدين/ عبد الرزاق المقرمص 383- 384.
2- 2 بحار الأنوار: محمد باقر المجلسي 46: 127.

ص: 101

بيت، والتأثر النفسي يملك عليه» (1) ثم يقول البستاني أيضاً: «فهو لا يسأل زين العابدين ولا يستجديه، ولكنه يبثُ عاطفة متقدة بحب آل البيت، عاطفة نفس تؤمن بكرامتهم وترجو بهم الثواب في الآخرة» (2).

ولم يكن الشعر بهذه المتانة والجمال لو لم يكن الممدوح ذلك الإمام التقي الورع زين العابدين عليه السلام. ولم يكن الشعر بهذه القوة لو لم يكن الممدوح أهلًا للمدح والثناء.

ونحن لا نشك- لحظة واحدة- في أن الفرزدق الشاعر المسلم المؤمن كان قد تأثر بشخصية الإمام سيد العابدين علي بن الحسين عليه السلام، ولم لا يتأثر بتلك الشخصية وهو الإمام ابن الإمام الشهيد الحسين بن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، وجدَّته الزهراء سيدة نساء العالمين، وجدّه النبي الأعظم محمد بن عبد اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم لمَ لم يتأثر به وهو (أي الإمام) ابن هذه السلالة الطاهرة المتصلة بالوحي وباللَّه وبالسماء؟

وهو من هو، وألقابه- وحدها- كافية للدلالة عليه وعلى عبادته الربانية وسلوكه الإلهي. فقد لقبَ بزين العابدين وسيد الساجدين، وسيد العابدين، والزكي، والأمين. وذي الثفنات وغيرها. أيّ ألقاب هذه التي اتصف بها الإمام الكريم؟! ومَنْ هو أفضل ممن همّه الأول والأخير، الاتصال باللَّه والوقوف بخضوع بين يديه وتحت رحمته وعدله؟!

لقد كان إماماًصامداًصابراً شهد مأساة كربلاء وواكب مسيرة العائلة الكريمة بعد الفاجعة المؤلمة إلى الكوفة، ومنها إلى الشام، شاهد كلّ ذلك بكلّ تفاصيله وكلّ مفرداته. وكان فوق كلّ ذلك، وكان المثل الأعلى في القيادة بعد استشهاد والده الإمام الحسين عليه السلام، وكان خير من وظّف الفاجعة لمصلحة الإسلام والمسلمين وتاريخ الإسلام.


1- 1 أدباء العرب في الجاهلية وصدر الإسلام: بطرس البستاني 1: 359.
2- 2 المرجع نفسه 1: 352.

ص: 102

لقد كان عالماً زاهداً خلّف آثاراً وإرشادات رائعة وأدعية سامية معروفة جمعت في كتاب باسم الصحيفة السجادية، وكان وكان، ويطول الحديث عن هذا الإمام الصابر (1).

إنه الموقع الطبيعي للمدح والثناء، والمناسبة الرائعة لقول الحقّ، خاصة في حضور سلطان زمني يملك القتل والتعذيب وأنواع الشرور.

وإنه المكان المناسب والمؤثر، في حضرة البيت الحرام، وقرب الحجر الأسود، ذلك الحجر المقدس، وذلك الجو الإلهي.

لقد قال الفرزدق قوله (قصيدته) متحدياً القوة الزمنية، متوقعاً النتائج المترتبة عليها، مهما كانت، وكان الحبس كما ذكرنا.

وبذلك سجل بموقفه هذا، بتحديه الخليفةصاحب السلطة الزمنية المؤقتة، وباهتمامه وثنائه على الإمام الخالي من السلطة الزمنية، سجل نقطة مضيئة في سجل التاريخ الإسلامي.

المراجع والمصادر:

1- ديوان الفرزدق: دار بيروت للطباعة والنشر/ بيروت- لبنان.

2- بحار الأنوار: العلامة محمد باقر المجلسي/ نشر موسسة الوفاء/ بيروت.

3- تاريخ الأدب العربي/ دكتور عمر فروخ/ دار العلم للملايين/ بيروت.

4- الإمام زين العابدين: السيد عبد الرزاق المقرم/ مؤسسة الوفاء/ بيروت.

5- تاريخ الأدب العربي/ أحمد حسن الزبات/ دار الحكمة/ دمشق- بيروت.


1- 1 راجع حول حياة الامام زين العابدين كتاب الامام زين العابدين لمؤلفه المرحوم عبد الرزاق الموسوي المقرم مطبعة مؤسسسة الوفاء- بيروت.

ص: 103

الهوامش:

حِجْر إسماعيل فى مسيرته التأريخية والفقهية

ص: 104

حِجْر إسماعيل فى مسيرته التأريخية والفقهية

محسن الأسدي

«ربّنا إني أسكنتُ من ذريتي بوادٍ غيرِ ذي زرعٍ عندَ بيتكَ المحرم ...» (1).

ظلّ نبيُّ اللَّه إبراهيم الخليل- وقد ركب دابته، وحمل معه زوجته هاجر وطفله إسماعيل، ومتاعه- ظلّ يُغِذُّ السيرَ على هدىً من اللَّه تعالى، ويقطع الصحاري والوديان والفلوات، حتى وصل إلى وادٍ مجدبٍ مقفرٍ تحيطه الجبال، وتحفُّ به التلال. وفي رواية أن جبريل عليه السلام كان معه يُدلّه على موضع البيت الحرام ومعالمه، فكان إبراهيم عليه السلام لا يمرُّ بقرية أو مكان إلّاقال لجبريل: أبهذا أمرتُ يا جبريل؟ فيقول جبريل: امضه. حتى قدم به مكة وهي إذ ذاك عضاه (سلم وسمر) (2) وبها أناس يقال لهم العماليق (3) خارج مكة وما حولها، والبيت يومئذ ربوة حمراء مدرة. فقال إبراهيم لجبريل: أهنا أمرتُ أن أضعهما، قال: نعم. فعمد بهما إلى موضع الحِجر فأنزلهما فيه، وأمر هاجر أمَّ إسماعيل أن تتخذ فيه عريشاً (4)، وبعد أن أمّن لهما المقام، استودعهما اللَّه تعالى، وإذ هو يودعهما، تشبثت


1- 1 سورة إبراهيم/ 37.
2- 2 السلم: شجر من العضاة يدبغ به، ومنه سمي «ذو السلم» السمر: شجر من العضاة، وليس في العضاة أجودخشباً منه، والعضاة: شجر أم غيلان، وكل شجر يعظم وله شوك، انظر البحار 12: 116، الهامش.
3- 3 العماليق: قوم من ولد عمليق، ويقال: عملاق بن لاوز بن ارم بن سام بن نوح. البحار 12: 116. الهامش.
4- 4 البحار 12: 115- 116، أخبار مكة للأزرقي 1: 54.

ص: 105

به زوجته هاجر، وهي تبكي وتشتكي من أن يكون هذا الوادي عقوبة لها من دون أن تقترف جرماً أو ذنباً تستحق عليه مثل هذا العذاب في أرض جرداء، لا ماء فيها ولا طعام .. ثمّ إن كان لها ذنب، فما ذنبصغيرهما إسماعيل أن يعذب ..

فلم يستطع إبراهيم حبس دموعه فشاركها بكاءها، وبادلها دموعها. حتى تأوه أخيراً لحالهما، ثم أخبرها: بأن هذا هو أمر اللَّه تعالى، ابتلاه به، وليس له إلّاأن يلبي دعوة اللَّه، ويذعن لها .. ثم رفع يديه بالدعاء و «.... فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلّهم يشكرون» (1)

فكانت هذهِ آخر كلمات إبراهيم في وداعه لزوجته وابنه .. قصة هاجر وإسماعيل.

«إني أسكنتُ من ذريتي بوادٍ ..».

جعلتُ لهم مأوى يأوون إليه، ومقرّاً يقرون فيه، وسكناً يسكنون إليه ..

والمراد بالذرية هاجر وإسماعيل، وبالوادي وادي مكة وهو الأبطح (2).

«عند بيتك المحرم».

مكان هذا السكن والمأوى أو العريش يتوضح ب عِند التي هي اسم مكان الحضور حقيقة كما تقول جلستُ عند زيد ومجازاً نحو عند زيد علم ... (3).

ففي الآية وردت عند وتعني المكان أو الموضع الذي يكون مجاوراً للبيت أو ملاصقاً له بين ركني البيت (الكعبة) الشاميين من جهته الشمالية. وكان هذا المكان عريشاً بَنتهُ هاجر إلى جانب البيت الذي كان ربوة فسكنته مع ابنها إسماعيل. وهذهِ الملاصقة أو المجاورة للكعبة، كانت سبباً لتعرضه إلى كل ما تعرض له البيت من حوادث طبيعية كالسيول والحرائق، وتجاوزات الظالمين، كما أنه كلما أعيد أو جدّد بناء الكعبة أعيد بناءُ الحجر وجدّد. وبالتاليصار هذا البناء والتجديد سبباً لأقوال وآراء حول نقصان الكعبة أذرعاً ودخولها في الحجر أو


1- 1 سورة إبراهيم/ 37.
2- 2 التبيان للطوسي 6: 300.
3- 3 أقرب الموارد 2: 836 «عند».

ص: 106

عدم نقصانها. وترتبت على ذلك أراء وفتاوى ذكرها الفقهاء عند تعرضهم إلى أحكام الطواف حول الكعبة وشروطه كما سنرى.

الكعبة في مسيرتها التأريخية، من عهد إبراهيم عليه السلام وحتى بناء قريش لها، حافظت على مساحتها مع أنها بنيت مرّات في عهود سابقة لكن بناء قريش لها لتصدعها وطول الزمن، كان سبباً للخلاف عند المؤرخين والعلماء .. فذهب فريق منهم إلى أنها أُنقصت منها أذرعاً (5- 7) من الجهة الشمالية وأدخلت في الحِجر، بينما ذهب فريق من هؤلاء القائلين بالنقص إلى أن الحِجر كلّه من الكعبة، وقال غيرهم: إن الكعبة لم يُنقص منها شي ءٌ، وأن مساحتها- اليوم- كما كانت على عهد إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ...

وبعد أن نبين ما آل إليه هذا السكن المبارك، وبدء تسميته بالحِجر ..

نستعرض تلك الآراء والأقوال وأدلتها، وما توفرنا عليه من روايات حتى نصل إلى الآراء الفقهية وأدلتها على وجوب إدخال حجر إسماعيل في الطواف، للأدلة الخاصة، أو للسيرة الثابتة عن الرسولصلى الله عليه و آله و سلم حيث كان يُدخله في الطواف، أو لأنه جزء من الكعبة وبالتالي يصدق عليه أنه جزء من البيت العتيق «وليطوفوا بالبيت العتيق» (1)

أو لأن إسماعيل حَجّر على قبر أمّه وكره أن يوطأ ...، لهذا كان الطواف خارج الحجر.

لقد آل هذا المأوى المبارك، بعد أن كان عريشاً، إلى مقبرة بعد وفاة هاجر، ودفنَها إسماعيل فيه، وحجّر على قبرها بحائط أو جدار ليمنع الناس من أن يطأوا قبرها. وكانت هذه هي بداية تسميته بالحِجر، لأن الحِجر لغةً بالكسر ثم السكون هو ما حجّرتَ عليه أي منعته من أن يوصل إليه، وكلّ ما منعت عنه فقد حجّرت عليه .. وكذلك سمي ما تركت قريش في بنائها من أساس الكعبة على عهد إبراهيم وحجرته ليعلم أنه من الكعبة سمي حِجراً لذلك، وهو الذي يسمى الشاذروان.


1- 1 سورة الحج/ 29.

ص: 107

وفي الصحاح: الحجر هو ما حواه الحطيم المدار بالكعبة شرّفها اللَّه تعالى من جانب الشمال. وقال الأزهري: هو حطيم مكة، كأنه حجرة ما يلي المثعب من البيت. (1) إذن، فهذهِ التسمية (الحِجر) ظهرت بعد وفاة هاجر ودفنها. وسمّى أيضاً ب (الحطيم) لأنه حُطِّم من الكعبة وفصل منها، وفيه ميزاب الكعبة، كما أن هناك مَن أطلق كلمة الحطيم الآن على الجدار المطيف بالحِجر، وبذلك قال ابن عباس، وقيل: إن الحطيم ما بين الحَجر الأسود ومقام إبراهيم وزمزم وحِجر إسماعيل، أي البقعة المحصورة بين الكعبة والحِجر غرباً والمقام وزمزم شرقاً، وهذا ما حكاه الأزرقي عن ابن جريج، وفي كتب الحنفية أن الحطيم المكان الذي فيه الميزاب، وذلك بالاشتقاق، لأن ذلك المكان حطم من الكعبة، وفصل منها، والأكثرون على القول الثاني (2).

والحِجر ما أطاف به الحطيم- الجدار- وقد ذكر الأزرقي: أن إبراهيم عليه السلام جعل الحِجر إلى جنب البيت عريشاً من أراك يقتحمه العنز وكان زرباً لغنم إسماعيل (3).

فعن الحلبي: عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: سألته عن الحجر؟ فقال: إنكم تسمّونه الحطيم، وإنما كان لغنم إسماعيل، وإنما دفن أمّه وكره أن يوطأ قبرها فحجر عليه (4)، ...

ثم تحولّ بعد ذلك إلى مقبرة، فبعد وفاة إسماعيل وهو ابن ثلاثين ومائة سنة دفن فيه مع أمّه (5)، وقد ذكر المحبُّ الطبري: أن البلاطة الخضراء التي بالحجر قبر إسماعيل (6).

كما دفنت فيه عذارى بنات إسماعيل، ودفن فيه جميع الأنبياء الذين جاءُوا حُجّاجاً فقبروا فيه.


1- 1 انظر تاج العروس للزبيدي 3/ 124، معجم البلدان 2/ 221 لياقوت الحموي وغيره ...
2- 2 مرآة الحرمين 1: 305.
3- 3 مرآة الحرمين 1: 305.
4- 4 وسائل الشيعة 13: 355، 17937/ 10.
5- 5 وسائل الشيعة 13: 355.
6- 6 السيرة الحلبية 1: 154.

ص: 108

فعن أبي عبد اللَّه الصادق عليه السلام قال: الحجر بيت إسماعيل، وفيه قبر هاجر، وقبر إسماعيل. ولما سأله الحلبي قال: ... وفيه قبور أنبياء (1).

وعن معاوية بن عمار قال: قال أبو عبد اللَّه عليه السلام: دفن في الحجر مما يلي الركن الثالث عذارى بنات إسماعيل (2).

وعن ابن عباس: في المسجد الحرام قبران ليس فيه غيرهما [ويبدو أنه يقصد من الأنبياء] ... قبر إسماعيل في الحجر، وقبر شعيب مقابل الحجر الأسود.

بينما روى محمد بن سابط عن النبيصلى الله عليه و آله و سلم أنه قال: كان النبيُّ من الأنبياء إذا هلكت أمته لحق مكة فتعبّد بها هو ومَن آمن معه حتى يموتوا، فمات فيها نوح وهود وصالح وقبورهم بين زمزم والحِجر (3).

وصف حجر إسماعيل وعمارته وذرعه وما كتب عليه:

ما وصفه السيد الطباطبائي (4):

وقبالة الميزاب حائط قوسي يسمى بالحطيم، وهو قوس من البناء طرفاه إلى زاويتي البيت الشمالية والغربية، ويبعدان عنهما مقدار مترين وثلاثة سانتيمترات، ويبلغ ارتفاعه متراً، وسمكه متراً ونصف متر؛ وهو مبطن بالرخام المنقوش، والمسافة بين منتصف هذا القوس من داخله إلى منتصف ضلع الكعبة ثمانية أمتار وأربعة وأربعون سانتيمتراً.

والفضاء الواقع بين الحطيم وحائط البيت هو المسمى بحجر إسماعيل، وقد كان يدخل منه ثلاثة أمتار تقريباً في الكعبة في بناء إبراهيم، والباقي كان زريبة لغنم هاجر وولدها، ويقال: إن هاجر وإسماعيل مدفونان في الحجر.

ومما ذكره الأزرقي في وصف الحجر وذرعه (5):

قال أبو الوليد: الحجر مدور وهو ما بين الركن الشامي والركن الغربي،


1- 1 وسائل الشيعة 13: 154، 17937/ 10، البحار 12: 113- 117.
2- 2 وسائل الشيعة 13: 354، 17931/ 4.
3- 3 أحكام القران 2: 130 للقرطبي.
4- 4 تفسير الميزان 4: 360.
5- 5 أخبار مكة 1: 320- 321.

ص: 109

وأرضه مفروشة برخام، وهو مستو بالشاذروان الذي تحت إزار الكعبة، وعرضه من جدر الكعبة من تحت الميزاب إلى جدر الحجر سبعة عشر ذراعاً وثماني أصابع، وذرع ما بين بابي الحجر عشرون ذراعاً وعرضه اثنان وعشرون ذراعاً، وذرع من داخله في السماء ذراع وأربعة عشر اصبعاً، وذرعه مما يلي الباب الذي يلي المقام ذراع وعشر أصابع، وذرع جدر الحجر الغربي في السماء ذراع وعشرون اصبعاً، وذرع طول جدر الحجر من خارج مما يلي الركن الشامي ذراع وستة عشر اصبعاً، وطوله من وسطه في السماء ذراعان وثلاث أصابع الرخام من ذلك ذراع وأربع عشرة اصبعاً، وعرض الجدار ذراعان إلّااصبعين، والجدر ملبس رخاماً، وفي أعلاه في وسط الجدار رخامة خضراء طولها ذراعان إلّا أصبعين وعرضها ذراع وثلاث أصابع قال أبو محمد الخزاعي: وقد حولت هذه الرخامة فجعلت تحت الميزاب مما يلي الكعبة. قال أبو الوليد: وذرع باب الحجر الذي يلي المشرق مما يلي المقام خمسة أذرع وثلاث أصابع، وفي عتبة هذا الباب حجران ارتفاعهما من بطن الحجر أربع أصابع، وذرع باب الحجر الذي يلي المغرب سبعة أذرع وفي عتبة بابه أربعة أحجار وارتفاعها من بطن الحجر أربع أصابع، ومخرج سيل ماء الحجر من وسطه من تحت الحجارة في ثقب بين حجرين .....

قال أبو الوليد: وذرع تدوير الحجر من خارج أربعون ذراعاً وست أصابع، وذرع ما بين حدات الحجر من الشق الشرقي إلى الركن الذي فيه الحجر الأسود تسعة وعشرون ذراعاً وأربع عشرة اصبعاً، وذرع ما بين حدات الحجر من شقّ المغرب إلى حدّ الركن اليماني اثنان وثلاثون ذراعاً، وذرع طوف واحد حول الكعبة مائة ذراع وثلاثة وعشرون ذراعاً وثنتا عشرة اصبعاً. وذرع طواف سبع حول الكعبة ثمانمائة وست وستون ذراعاً وعشرون اصبعاً.

ص: 110

أما ما ذكرهصاحب كتاب مرآة الحرمين في وصف الحِجر وما كتب عليه (1):

وهو ما حطم من الكعبة وكسر- وهو بناء مستدير على شكل نصف دائرة ارتفاعه 31/ 1 متر، وعرض جداره من الأعلى 52/ 1 متر، ومن أسفل 44/ 1 متر؛ وهذا البناء مغلف بالرخام وأحد طرفيه محاذ للركن الشامي والآخر محاذ للركن الغربي، وسعة الفتحة التي بين طرفه الشرقي وآخر الشاذروان 30/ 2 متر، وسعة الفتحة الأخرى التي بين طرفه الغربي ونهاية الشاذروان 23/ 2 متر، والمسافة التي بين طرفي نصف الدائرة ثمانية أمتار، ووراء الحطيم بمسافة اثنى عشر متراً المطاف. والأرض التي بين جدار الكعبة الشمالي وبين الحطيم هي المعروفة بالحجر، ويدخل اليها من الفتحتين السالفتين وهي مفروشة بالرخام والمسافة من منتصف جدار الكعبة الشمالي ووسط تجويف الحطيم من الداخل 44/ 8 أمتار.

أما عمارته فبعد بناء الحجاج بزمن أجري عليه تجديدٌ وتحسين ....

لما حج المنصور العباسي سنة 140 ه، دعا زياد بن عبيد اللَّه الحارثي أمير مكة وقال له: إني رأيت الحِجر بادية حجارته فلا أصبحن حتى يستر جداره بالرخام فدعا زياد بالعمال فرخموه ليلا على ضوء المصابيح، ثم جدّد المهدي رخامه سنة 161 ه. ولم يزل به حتى رث فقلع وألبس رخاماً جميلًا في عهد المتوكل العباسي سنة 241 ه. وعمر الحِجر المعتضد العباسي سنة 283 ه.

والوزير جمال الدين المعروف بالجواد في العقد الخامس بعد 500 ه. وعمر قبله ايضاً وفي زمن الناصر العباسي سنة 576 ه. وعمره المستنصر العباسي والملك المظفرصاحب اليمن، والملك الناصر محمد بن قلاوون سنة 720 ه. والأشرف شعبان سنة 781 ه. وذلك بأمر الأميرين بركة وبرقوق مدبري دولته، وعمره


1- 1 مرآة الحرمين 1: 266- 306- 307- 308.

ص: 111

أيضا الظاهر برقوق سنة 801 ه- المكتوب على الحجر من الجهة الغربية تاريخ 780- وثبت كثير من رخام الحجر بالجبس في سنة 822 ه. وأصلح قسم كبير من رخام الجدار وأرض الحجر سنة 826 ه وذلك بأمر الأمير زين الدين مقبل القديري، وعمره السلطان چقمق سنة 843 ه. وقايتباي سنة 880 ه.

والسلطان سليمان سنة 940 ه. والسلطان محمد خان سنة 1073 ه.

كما فيه رخامة خضراء تحت الميزاب يقال: إنها موضع قبر إسماعيل عليه السلام والناس يتحرون هذه الرخامة للصلاة عندها، وأكثر المؤرخين على أنه مدفون بالحجر ويؤيد ذلك قول ضِرار بن الخطاب:

لم يحظ بالحجر فيما قد مضى أحد من البرية لا عرب ولا عجم

بعد ابن هاجر إن اللَّه فضله إلّا زهير له التفضيل والكرم يعني زهير بن الحارث بن أسد.

ما كتب على الحجر

ومما رأيته مكتوباً على حائط الحجر من الجهة الغربية تواريخ لمحمد بن قلاوون ولبرقوق ولچقمق ولقايتباي. ومكتوب على الحجر قبالة الميزاب من الأعلى:

نعم المطاف ترابه فى عين أرمد إثمد

ويطوفه بالليل والأ سحار قوم هجد

اللَّه بارك فرشه مع من بناه يخلد

زان المطاف بمرمر ملك الأنام محمد ثم تاريخ للسلطان سليمان سنة 940 ه. وبعده

لا سيما من نسلهم سلطانناالمستمجد

ص: 112

بزلالصارم سيفه للظى الصلال محمد الجلوس في الحِجر والدعاء والصلاة فيه

اتخذت قريش من الحجر مكاناً يجلس فيه زعماؤها وأشرافها دون غيرهم. كما أنه مكان لاستجابة الدعاء واستحبابه، والصلاة فيه. قال عطاء:

سمعتُ ابن عباس يقول: سمعتُ أبي يقول: كان عبد المطلب أطولَ الناس قامة، وأحسنَ الناس وجهاً، ما رآه قط شي ء إلّاأحبه، وكان له مفرش في الحجر لا يجلس عليه غيره ولا يجلس معه عليه أحد، وكان الندي من قريش حرب بن أمية فمن دونه يجلسون حوله دون المفرش، فجاء رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم وهو غلام يدرج؛ ليجلس على المفرش فجذبوه فبكى، فقال عبد المطلب، وذلك بعد ما حجب بصره: ما لابني يبكي؟ قالوا له: إنه أراد أن يجلس على المفرش فمنعوه، فقال عبد المطلب: دعوا ابني فإنه يحسّ بشرف، أرجو أن يبلغ من الشرف ما لم يبلغ عربي قط.

وقد جعل منه رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم مجلساً له في المسجد. وروي أن النبيصلى الله عليه و آله و سلم كان إذا حاذى ميزاب الكعبة وهو في الطواف يقول: «اللهم إني أسألك الراحة عند الموت والعفو عند الحساب».

وعن عطاء بن أبي رباح قال: من قام تحت مثعب (ميزاب) الكعبة فدعا استجيب له، وخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمّه. ومثله عن ابن جريج عن عطاء.

عن ابن عباس قال:صلوا في مصلى الأخيار، واشربوا من شراب الأبرار، فقيل له: ما مصلى الأخيار؟ قال: تحت الميزاب، وقيل ما شراب الأبرار قال: ماء زمزم.

... عن أيمن بن نايل، قال: رقدت في الحجر، فركضني سعيد بن جبير، وقال: مثلك يرقد في هذا المكان (1).


1- 1 أخبار مكة 1: 314- 317.

ص: 113

أما الصلاة فيه فقد ورد عن سعيد بن جبير أن عائشة سألت النبيصلى الله عليه و آله و سلم أن يفتح لها الباب ليلًا [باب الكعبة]، فجاء عثمان بن طلحة بالمفتاح إلى رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم، فقال: يا رسول اللَّه؛ إنها لم تفتح بليل قط، قال: فلا تفتحها، ثم قال لعائشة: ... فادخلي الحجر فصلي فيه (1).

في هذه الروايةصحة الصلاة في الكعبة والحجر فرضاً أو نفلًا إلى أي جهة فيها، وعليه الجمهور سلفاً وخلفاً. وقال مالك: يصح فيها النفل المطلق دون الفرض والوتر وركعتي الفجر وركعتي الطواف؛ لأن النبيصلى الله عليه و آله و سلم حينما دخلهاصلى ركعتين نافلةً، وقال الظاهرية: لا تصح فيها الصلاة مطلقاً. وعند الشافعية والحنفية استحبابصلاة الطواف في الحجر.

وما عليه الإمامية رواية وفتوى أن الحِجر يعدُّ أفضل موضع أو مكان في المسجد الحرام- بعد مقام إبراهيم- تؤدى فيه الصلاة واجبة كانت أو مستحبة (2).

بناء الحجر وما ورد فيه وما قيل:

لما قررت قريش إعادة بناء الكعبة، وقف ابن وهب بن عمرو بن عائذ- وهو خالُ والد النبيّ، وكان شريفاً ممدوحاً- وقال: يا معشر قريش لا تدخلوا في بنيانها من كسبكم إلّاطيباً، لا يدخل فيها مهر بغي، ولا بيع ربا، ولا مظلمة أحد من الناس. وقال غيره مثل قوله .. فلما قصرت عندهم الأموال الطيبة والهدايا والنذور، ولأنهم تجنبوا المال الخبيث، تركوا من جانب الحجر بعض البيت، وخلفوا الركنين الشاميين من قواعد إبراهيم عليه السلام ... فأدخلت في الحِجر أذرعاً من الكعبة المشرّفة، أعادها عبد اللَّه بن الزبير حينما كان أميراً للحجاز بعد أن هدم الكعبة وبناها سنة 64 ه (3)، وكانت أعادته لتلك الأذرع استناداً


1- 1 أخبار مكة 1: 315.
2- 2 انظر الوسائل 5: 273- 276.
3- 3 تاريخ الطبري أحداث سنة 64 ه/ مجلدص 406- 407.

ص: 114

لرواية نقلها عن خالته أم المؤمنين عائشة، قال: أشهد لسمعتُ عائشة تقول: قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم: إن قومك استقصروا في بناء البيت، وعجزت بهم النفقة، فتركوا في الحجر منها أذرعاً، ولولا حداثة قومك بالكفر لهدمتُ الكعبة وأعدتُ ما تركوا منها .. فإن بدا لقومك هدمها، فهلمي لأريك ما تركوا في الحجر منها، فأراها قريباً من سبعة أذرع. وقال ابن الزبير وأنا أجد ما أنفق ولستُ أخاف الناس. فلما هدم الكعبة وسوّاها بالأرض، كشف عن أساس إبراهيم فوجدوه داخلًا في الحجر نحواً من ستة أذرع وشبر ... فدعا ابن الزبير خمسين رجلًا من وجوه الناس وأشرافهم، وفي قول العدول من أهل مكة، وأشهدهم على ذلك الأساس ... فقال لهم ابن الزبير: اشهدوا، ثم وضع البناء على ذلك الأساس ...

وجعل ميزابها يسكب في الحجر .... فلما طاف بالكعبة استلم الأركان الأربعة جميعاً، وقال: إنما كان ترك استلام هذين الركنين الشامي والغربي؛ لأن البيت لم يكن تاماً. فلم يزل البيت على بناء ابن الزبير إذا طاف به الطائف استلم الأركان جميعاً.

ولما قتل الحجاج ابن الزبير ودخل مكة، كتب إلى عبد الملك بن مروان: أن ابن الزبير زاد في البيت ما ليس منه .. ويستأذنه في ردِّ البيت على ما كان عليه في الجاهلية. فكتب إليه عبد الملك بن مروان ... واهدم ما كان زاد فيها من الحِجر أو ما زاد فيه من الحِجر فرده إلى بنائه، واكبسها به على ما كانت عليه.

فهدم الحجاج منها ستة أذرع وشبراً مما يلي الحجر، وبناها على أساس قريش الذي كانت استقصرت عليه، وكبسها بما هدم منها .. فكلّ شي ء فيها اليوم بناء ابن الزبير إلّاالجدر الذي في الحجر فإنه بناء الحجاج.

وبعد أن أتمَّ الحجاج بناء الكعبة، وفد الحارث بن عبد اللَّه بن أبي ربيعة المخزومي على عبد الملك بن مروان، فقال له عبد الملك: ما أظن أبا خبيب- يعني

ص: 115

ابن الزبير- سمع عن عائشة ما كان يزعم أنه سمع منها في أمر الكعبة. فقال الحارث: أنا سمعته من عائشة. قال: سمعتها تقول ماذا؟ قال: سمعتها تقول: قال لي رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم: إن قومك استقصروا في بناء البيت. ولولا حداثة عهد قومك بالكفر، أعدتُ فيه ما تركوا منه، فإن بدا لقومك أن يبنوه فهلمّي لأريك ما تركوا منه، فأرها قريباً من سبعة أذرع ...

قال عبد الملك: أنت سمعتها تقول هذا، قال: نعم يا أمير المؤمنين أنا سمعت هذا منها، قال فجعل ينكث منكساً بقضيب في يده ساعة طويلة، ثم قال: وددت واللَّه أني تركت ابن الزبير وما تحمل من ذلك (1)، فإذن رواية ابن الزبير ورواية الحارث رواية واحد ومتفقة على الأذرع السبعة تقريباً. والحارث هذا كان والياً على البصرة من قبل ابن الزبير، توفي في الكوفة (2) سنة 72 ه.

ولما تولى هارون الرشيد الخلافة سأل مالك بن أنس عن هدمها وردّها إلى بناء ابن الزبير للأحاديث المذكورة في الباب. فقال مالك: ناشدتُك اللَّهَ يا أمير المؤمنين أن تجعل هذا البيت لعبةً للملوك لا يشاء أحد إلا نقضه وبناه، فتذهب هيبته منصدور الناس.

إذن: إن هذا التغيير في بناء الكعبة (بناء قريش، بناء ابن الزبير، بناء الحجاج) كان سبباً لانقسام المؤرخين والفقهاء حول حجر إسماعيل، وأنه دخل فيه شي ءٌ من الكعبة 5- 7 أذرع على اختلاف الروايات في ذلك ونأتي الآن إلى ذكر أدلة القائلين بالنقص في مساحة الكعبة وانضمام قسم منها إلى الحِجر.

1- رواية عائشة تعدُّ أقوى أدلتهم، وقد اختلفت واضطربت ألفاظها، ففي رواية أن النقص كان ستّ أذرع وشيئاً، وفي رواية أخرى أن النقص كان ستّ أذرع، وفي رواية ثالثة أن النقص كان ستّ أذرع وشبراً، وفي رواية رابعة أنه قريب من سبع أذرع، وفي خامسة سبع أذرع، وهناك رواية بأنه خمس أذرع كما


1- 1صحيح مسلم 9: 93- 94، تفسير القرآن العظيم لابن كثير في تفسير الآية 128 من سورة البقرة.
2- 2 مختصر تاريخ دمشق في ترجمة الحارث بن عبد اللَّه بن أبي ربيعة المخزومي. الكامل لابن الاثير، أحداث سنة 72 ه.

ص: 116

أن بعضها مطلق وآخر مقيد، ويمكن علاجه بحمل المطلق على المقيد .. وفي رواية أن ابن الزبير سمع عن الأسود ولم يسمع مباشرة عن عائشة كما هي رواية البخاري (1).

حدثنا عبيدُ اللَّه بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن الأسود قال: قال لي ابن الزبير: كانت عائشة تُسِرُّ إليك كثيراً، فما حدثتك في الكعبة؟

قلتُ: قالت لي: قال النبيُّصلى الله عليه و آله و سلم: (يا عائشةُ لولا قومُكِ حديثٌ عهدهم- قال ابن الزبير- بكفرٍ، لنقضتُ الكعبة، فجعلتُ لها بابين: باب يدخل الناس وبابٌ يخرجون).

رواية مسلم (2):

حدّثنا هنَّادُ بْنُ السَّرِىِّ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي زَائَدَةَ أَخْبَرَني ابْنُ أَبِي سُلَيَمانَ عَنْ عَطَاء قَالَ لَمَّا احْتَرَقَ الْبَيْتُ زَمَنَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ حِينَ غَزَاهَا أَهْلُ الشَّامِ فِكَانَ مِنْ أَمْرَهِ مَا كَانَ تَرَكُه ابْنُ الزُّبَيْرِ حَتَّى قَدِمَ النَّاسُ الْمَوْسِمَ يُرِيدُ أَنْ يُجَرِّئَهُمْ أَوْ يُحَرِّبَهُمْ عَلَى أهْلِ الشَّامِ فَلَمَّاصَدَرَالنَّاسُ قَالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ أَشِيرُوا عَلَيَّ فِى الْكَعْبَةِ أَنْقُضُهَا ثُمَّ أَبْني بِنَاءَهَا أوْ أُصلِحُ مَا وَهَى مِنْهَا قَالَ ابْنُ عَبَّاس فَانِّي قَدْ فُرِقَ لِي رَأْيٌ فِيهَا أَرَى أَنْ تُصْلِحَ مَا وَهَى مِنْهَا وتَدَعَ بَيْتاً أَسْلَمَ النَّاسُ عَلَيْهِ وَأَحْجَاراً أَسْلَمَ النَّاسُ عَلَيْهَا وَبُعِثَ عَلَيْهَا و النَّبِيُّصلى الله عليه و آله و سلم فَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ لَوْ كَانَ أَحَدُكُمُ احْتَرَقَ بَيْتُهُ مَا رَضِيَ حَتَّى يُجِدَّهُ فَكَيْفَ بَيْتُ رَبِّكُمْ إنِّي مُسْتَخيرٌ رَبِّي ثَلَاثاً ثُمَّ عَازِمٌ عَلَى أَمْرِي فَلَّما مَضَى الثَّلَاثُ أَجْمَعَ رَأْيَهُ عَلَى أَنْ يَنْقضَهَا فَتَحَامَاهُ النَّاسُ أَنْ يَنْزِلَ بأَوَّلِ النَّاسِ يَصْعَدُ فِيهِ أَمْرٌ مِنَ السَّمَاءِ حَتَّىصَعِدَهُ رَجُلٌ فَأَلْقَى مِنْهُ حِجَارَةً فَلَمَّا لَمْ يَرَهُ النَّاسُ أَصابَهُ شَىْ ءٌ تَتَابَعُوا فَنَقَضُوهُ حَتَّى بَلَغوُا بِهِ الْأَرْضَ فَجَعَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ أَعْمدَةً فَسَتَّرَ عَلْيْهَاالسُّتُورَ حَتَّى ارْتَفَعَ بِنَاؤُهُ وَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْر إنِّي سَمِعْتُ عَائِشَةَ تَقُولُ إنَّ النَّبِيَّصلى الله عليه و آله و سلم قَالَ

لَوْلَا أَنَّ النَّاسَ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِكُفْرٍ وَلَيْسَ عِنْدِي مِنَ النُفَقَةِ


1- 1 البخاري 2: 573- 574.
2- 2 رواية مسلم 9: 88- 97، ذكرت عدّة روايات بهذا الخصوص.

ص: 117

مَايُقَوِّى عَلَى بِنَائِهِ لَكُنْتُ أَدْخَلْتُ فِيهِ مِنَ الْحِجْرِ خَمْسَ أَذْرُع وَلَجَعَلْتُ لَهَا بَابَاً يَدْخُلُ النَّاسُ مِنْهُ وَبَابَاً يَخْرُجُونَ مِنْهُ قَالَ فَأَنَا الْيَوْمَ أَجِدُ مَا أُنْفِقُ وَلَسْتُ أَخَافُ النَّاسَ قَالَ فَزَادَ فِيهِ خَمْسَ أَذْرُعٍ مِنَ الْحِجْرِ حَتَّى أَبْدَى أُسّاً نَظَرَ النَّاسُ الَيْه فَبَنَى عَلَيْه الْبِنَاءَ وَكَانَ طُولُ الكعبة ثماني عشرةَ ذراعاً فلمّا زاد فيه استقصَره فزادَ في طوله عشرَ أذرُع وجعل له بابين أحدُهما يُدخَلُ منه والآخر يُخرجُ منه، فلما قُتل ابنُ الزبير كتب الحجّاجُ إلى عبد الملك بن مروان يُخبِرهُ بذلك ويُخبِره أنّ ابن الزبير قد وَضع البناءَ على أسٍّ نظر إليه العُدول من أهل مكة، فكتب إليه عبد الملك إنا لسنا من تلطيخ ابن الزبير في شي ء، أما ما زاد في طوله فأقرَه وأما ما زاد فيه من الحِجَر فردّه إلى بنائه وسدّ الباب الذي فتحه. فنقضهُ وأعاده إلى بنائه.

أقوال العلماء في بناء الحِجر:

لقد رأيتُ بعض العلماء قد عبر عن رأيه فيما أستطيع تسميته بقصة الحِجر أو مشكلة الحِجر- حتى إن بعضهم قد أعرب عن أسفه للذي فعله الحجاج بن يوسف الثقفي فهذا ابن كثير يقول (1):

وقد كانت السنة إقراراً لما فعله عبد اللَّه بن الزبير، لأنه هو الذي ودّه رسولُ اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم، ولكن خشي أن تنكره قلوب بعض الناس لحداثة عهدهم بالإسلام، وقرب عهدهم من الكفر، ولكن خفيت هذهِ السنة على عبد الملك بن مروان ولهذا لما تحقّق ذلك عن عائشة أنها روت ذلك عن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم، قال:

وددنا أنا تركناه وما تولى. مستدلًا ابن كثير برواية مسلم التي رواها الحارث بن عبد اللَّه.

وقد روى مسلم روايتين عن الحارث، في الأولى أن الحارث وفد على الملك بن مروان ونقل الرواية عن عائشة، وفي الثانية أنه رواها حينما التقاه في


1- 1 في تفسير الآية 128 من سورة البقرة.

ص: 118

الطواف.

ثم قال ابن كثير: فهذا الحديث كالمقطوع به إلى عائشة؛ لأنه قد روي عنها من طرقصحيحة متعددة عن الأسود بن يزيد، والحارث بن عبد اللَّه بن أبي ربيعة، وعبد اللَّه بن الزبير، وعبد اللَّه بن محمد بن أبي بكر، وعروة بن الزبير. فدلّ هذا علىصواب ما فعله ابن الزبير، فلو ترك لكان جيداً، ولكن بعد ما رجع الأمر إلى هذا الحال فقد كره بعض العلماء أن يغير عن حاله كما ذكر عن أمير المؤمنين هارون الرشيد أو أبيه المهدي، أنه سأل الإمام مالكاً عن هدم الكعبة وردّها إلى ما فعله ابن الزبير، فقال له مالك: يا أمير المؤمنين لا تجعل كعبة اللَّه ملعبة للملوك لا يشاء أحد أن يهدمها إلّاهدمها، فترك ذلك الرشيد، نقله عياض والنووي، ولا تزال- واللَّه أعلم- إلى آخر الزمان. انتهى ما قاله ابن كثير.

ص 187- 188 ج 1 تفسير ابن كثير.

أما ما قاله الشيخ منصور علي ناصفصاحب التاج الجامع للأصول (1):

... وقد تمنى النبيصلى الله عليه و آله و سلم لو تمكن من هدمها لبناها على قواعد إبراهيم، وأدخل فيها الحِجر ...، وفعل ذلك بن الزبير، ولكن بالأسف لم يبقه الحجاج لما وقع بينهما.

وقد استدل أيضاً برواية مسلم: أن النبيَّصلى الله عليه و آله و سلم قال لعائشة: إن بدا لقومك ...

وبما ذكر عن عائشة، قالت سمعت رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم يقول: لولا أن قومك ...

ولأدخلت فيها من الحجر.

انتهى ما قاله ونقله الشيخ ناصف.

والذي يراه الشيخ ناصف أن الحجر كلّه من البيت فقال: الجّدر- كالبدر- هو حجر إسماعيل عليه السلام.

وأما قولهصلى الله عليه و آله و سلم خمس أذرع وهذا تقريبي فإنه لم يكن عليه جدار في زمن


1- 1 التاج الجامع للاصول .. كتاب الحج.

ص: 119

النبيصلى الله عليه و آله و سلم وأبي بكر، ولكن أحاطه عمر، وهو من البيت لتصريح أحاديث الباب ولحديث الشيخين: الحجر من البيت فلابدّ للطائف من المرور حوله، وعليه جميع المحدثين والفقهاء. كما أنه يعبر عن أسفه لأن الحجاج هدّم ما بناه ابن الزبير الذي أدخل الحجر في الكعبة.

وأما قوله: إن الجدار بناه عمر فهذا مردود، لعدم وجود دليل على ذلك، ولأنه يتعارض مع ماصرحت به أكثر المصادر إن لم يكن جميعها على أن الجدار بناه إسماعيل بعد دفن أمّه هاجر، وسمّي من ذلك الوقت بالحجر وعليه العمل والسيرة، حيث أدخله رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم بالطواف، ثم هل غاب عنصاحب التاج ما ذكره في تاجه من رواية عائشة وما جاء فيها حول الحجر؟! اللهم إلّاما قد توهمه مما نقله المهلب عن أبي زيد أن حائط الحجر لم يكن مبنياً في زمن النبيصلى الله عليه و آله و سلم وأبي بكر حتى كان عمر فبناه ووسعه قطعاً للشك وأن الصلاة قبل ذلك كانت حول البيت، وتعقيباً على هذا قال الزرقاني في شرحه على الموطإ بعد ذكره لما نقله المهلب، قال: ففيه نظر. وقد أشار المهلب إلى أن عهدته في ذلك ما في البخاري لم يكن حول البيت حائط، كانوا يصلون حول البيت حتى كان عمر فبنى حوله حائطاً جدره قصير فبناه ابن الزبير انتهى. وهذا إنما هو في حائط المسجد لا في الحجر، فدخل الوهم على قائله من هنا، ولم يزل الحجر موجوداً في زمن النبيصلى الله عليه و آله و سلم كما يصرح به كثير من الأحاديث الصحيحة (1).

أما ما قاله الزرقاني من شرحه على الموطإ، فقد نقل عن ابن أبي حاتم عن ابن عمر يظهر فيها أن إبراهيم أدخل الحجر في البيت وهذا أمر يثير الاستغراب، فالحجر لم يكن على عهدهصلوات اللَّه عليه وإنما أوجده إسماعيل بعده، وكل ما كان كما قلنا عريش لهاجر. فقد قال:

ولابن حاتم عن ابن عمر أن البيت رفع في الطوفان فكان الأنبياء بعد ذلك


1- 1 الزرقاني في شرحه على الموطإ.

ص: 120

يحجونه، ولا يعلمون مكانه حتى بوّأه اللَّه لإبراهيم فبناه على أساس آدم ....

وأدخل الحجر في البيت ثم راح في شرحه يذكر بناء قريش فيقول ..... ونقصوا من طولها ومن عرضها أذرعاً أدخلوها في الحجر لضيق النفقة بهم، ...

وأما عن بناء ابن الزبير ... وبناها على قواعد إبراهيم وأعاد طولها على ما هو عليه الآن، وأدخل من الحجر تلك الأذرع .. حتى كتب عبد الملك إلى الحجاج «أما ما زاده في طولها فأقره وأما ما زاد في الحجر فرّده إلى بنائه. ثم ندم على إذنه للحجاج في هدمها ولعن الحجاج. وبقي بناء الحجاج إلى الآن (1).

وقد ذكر النووي شارحصحيح مسلم (2) شرحاً وافياً مفيداً بدأه بالرواية العامية عن عائشة التي تكاد أن تكون الوحيدة في موضوع نقصان الكعبة، ودخول شي ء من مساحتها يقدره بنحو 5- 7 أذرع في الحِجر .. ورأيت أن أنقل نصّ هذا الشرح أو بعضه الذي يخصّ الموضوع لما فيه من فوائد تأريخية ونكات فقهية ولغوية. ولأنه يبين وجهة نظر هذا الفريق. قولهصلى الله عليه و آله و سلم (لولا حداثة عهد قومك بالكفر لنقضت الكعبة ولجعلتها على أساس إبراهيم فإن قريشاً حين بنت البيت استقصرت ولجعلت لها خلفاً) وفي الرواية الأخرى اقتصروا عن قواعد إبراهيم وفي الأخرى فإن قريشاً اقتصرتها وفي الأخرى استقصروا من بنيان البيت وفي الأخرى قصروا في البناء وفي الأخرى قصرت بهم النفقة. قال العلماء هذه الروايات كلها بمعنى واحد ومعنى استقصرت قصرت عن تمام بنائها، واقتصرت على هذا القدر لقصور النفقة بهم عن تمامها وفي هذا الحديث دليل لقواعد من الأحكام منها إذا تعارضت المصالح أو تعارضت مصلحة ومفسدة وتعذر الجمع بين فعل المصلحة وترك المفسدة بدى ء بالأهم لأن النبيصلى الله عليه و آله و سلم أخبر أن نقض الكعبة وردها إلى ما كانت عليه من قواعد ابراهيم عليه السلام ولكن تعارضه مفسدة أعظم منه وهي خوف فتنة بعض من أسلم قريباً وذلك لما كانوا يعتقدونه


1- 1 الزرقاني في شرحه على الموطإ 2: 297- 301.
2- 2صحيح مسلم 9: 95 ...

ص: 121

من فضل الكعبة فيرون تغييرها عظيماً فتركهاصلى الله عليه و آله و سلم ومنها فكر ولي الأمر في مصالح رعيته واجتنابه ما يخاف منه تولد ضرر عليهم في دين أو دنيا إلّاالأمور الشرعية كأخذ الزكاة وإقامة الحدود ونحو ذلك ومنها تألف قلوب الرعية وحسن حياطتهم وأن لا ينفروا ولا يتعرض لما يخاف تنفيرهم بسببه مالم يكن فيه ترك أمر شرعي كما سبق. قولهصلى الله عليه و آله و سلم (لولا حدثان قومك) هو بكسر الحاء وإسكان الدال أي قرب عهدهم بالكفر واللَّه أعلم. قوله (فقال عبد اللَّه بن عمر لئن كانت عائشة سمعت هذا) قال القاضي ليس هذا اللفظ من ابن عمر على سبيل التضعيف لروايتها والتشكيك فيصدقها وحفظها فقد كانت من الحفظ والضبط بحيث لا يستراب في حديثها ولا فيما تنقله ولكن كثيراً ما يقع في كلام العربصورة التشكيك والتقرير المراد به اليقين كقوله تعالى «وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين» وقوله تعالى «قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت» الآية. قولهصلى الله عليه و آله و سلم (لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية أو قال بكفر لأنفقت كنز الكعبة في سبيل اللَّه) فيه دليل لتقديم أهم المصالح عند تعذر جميعها كما سبق إيضاحه في أول الحديث وفيه دليل لجواز انفاق كنز الكعبة ونذورها الفاضلة عن مصالحها في سبيل اللَّه لكن جاء في رواية لأنفقت كنز الكعبة في بنائها وبناؤها من سبيل اللَّه فلعله المراد بقوله في الرواية الأولى في سبيل اللَّه واللَّه أعلم. ومذهبنا أن الفاضل من وقف مسجد أو غيره لا يصرف في مصالح مسجد آخر ولا غيره بل يحفظ دائماً للمكان الموقوف عليه الذي فضل منه فربما احتاج اليه واللَّه أعلم.

قولهصلى الله عليه و آله و سلم (ولأدخلت فيها من الحجر) وفي رواية وزدت فيها ستة أذرع من الحجر فإن قريشاً اقتصرتها حين بنت الكعبة وفي رواية خمس اذرع وفي رواية قريباً من سبع أذرع وفي رواية قالت عائشة سألت رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم عن الجدار أمن البيت هو قال نعم وفي رواية لولا أن قومك حديث عهدهم في الجاهلية

ص: 122

فأخاف أن تنكره قلوبهم لنظرت أن أدخل الجدر في البيت.

ووقع فى رواية ستة أذرع بالهاء وفي رواية خمس وفي رواية قريباً من سبع بحذف الهاء وكلاهماصحيح ففي الذراع لغتان مشهورتان التذكير والتأنيث أفصح.

أما ما قاله عبد الملك بن مروان بعد سماعه قول الحارث فقد ذكر النووي:

قوله (إنا لسنا من تلطيخ ابن الزبير في شي ء) يريد بذلك سبه وعيب فعله.

يقال لطخته أي رميته بأمر قبيح. قوله (وفد الحرث بن عبد اللَّه على عبد الملك بن مروان في خلافته) هكذا هو في جميع النسخ الحرث بن عبد اللَّه وليس في شي ء منها خلاف ونسخ بلادنا هي رواية عبد الغفار بن الفارسي وادعى القاضي عياض أنه وقع هكذا لجميع الرواة سوى الفارسي فإن في روايته الحرث بن عبد الأعلى قال وهو خطأ بل الصواب الحرث بن عبد اللَّه وهذا الذي نقله عن رواية الفارسي غير مقبول بل الصواب أنها كرواية غيره الحرث بن عبد اللَّه ولعله وقع للقاضي نسخة عن الفارسي فيها هذه اللفظة مصحفة على الفارسي لا من الفارسي واللَّه أعلم. قوله (ما أظن أبا خبيب) هو بضم الخاء المعجمة وسبق بيانه مرات. (فقال الحرث بن عبد اللَّه بن أبي ربيعة لا تقل هذا يا أمير المؤمنين فأنا سمعت أم المؤمنين تحدث) هذا فيه الانتصار للمظلوم ورد الغيبة وتصديق الصادق إذا كذبه إنسان والحرث هذا تابعي وهو الحرث بن عبد اللَّه بن عياش بن أبي ربيعة. قولها (سألت رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم عن الجدر) وفي آخر الحديث (لنظرت أن أدخل الجدر في البيت) هو بفتح الجيم واسكان الدال المهملة وهو الحجر وسبق بيان حكمه. قولهصلى الله عليه و آله و سلم في حديث سعيد بن منصور (ولولا أن قومك حديث عهدهم في الجاهلية) هكذا هو في جميع النسخ في الجاهلية وهو بمعنى الجاهلية كما في سائر الروايات واللَّه أعلم.

ص: 123

ثم راح النووي يواصل حديثه: قولهصلى الله عليه و آله و سلم (لولا حداثة عهدهم) هو بفتح الحاء أي قربه. قولهصلى الله عليه و آله و سلم (فإن بدا لقومك) هو بغير همزة يقال بدا له في الأمر بداء بالمد أي حدث له فيه رأي لم يكن وهو ذو بدوات أي يتغير رأيه والبداء محال على اللَّه تعالى بخلاف النسخ. قوله (فهلمي لأريك) هذا جار على إحدى اللغتين في هلم قال الجوهري تقول هلم يا رجل بفتح الميم بمعنى تعال قال الخليلي أصله لم من قولهم لم اللَّه شعثه أي جمعه كأنه أراد لم نفسك الينا أقرب أقرب وها للتنبيه وحذفت ألفها لكثرة الاستعمال وجعلا اسماً واحداً يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع والمؤنث فيقال في الجماعة هلم هذه لغة أهل الحجاز قال اللَّه تعالى «والقائلين لأخوانهم هلم إلينا» وأهل نجد يصرفونها فيقولون للاثنين هلما» وللجمع هلموا وللمرأة هلمي وللنساء هلممن والأول أفصح هذا كلام الجوهري. قولهصلى الله عليه و آله و سلم (حتى إذا كاد أن يدخل) هكذا هو في النسخ كلها كاد أن يدخل وفيه حجة لجواز دخول أن بعد كاد وقد كثر ذلك وهي لغة فصيحة ولكن الأشهر عدمه قوله (فنكت ساعة بعصاه) أي بحث بطرفها في الأرض وهذه عادة من تفكر في أمرمهم. قوله.

وأما ما ذكرهصاحب التاج الجامع للأصول في أحاديث الرسول، الشيخ ناصف (1) فعن عائشة أيضاً: كنتُ أُحب أن أدخل البيت، وأُصلي فيه، فأخذ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم بيدي فأدخلني في الحجر فقال:صلي في الحجر إن أردت دخول البيت، فإنما هو قطعة من البيت. فإن قومك اقتصروا حين بنوا الكعبة فأخرجوه من البيت. رواه أصحاب السنن وصحّحه الترمذي.

وذكر الشيخ ناصف في هامش هذا الحديث ما نصه «الحِجر الجزء المتصل بالكعبة من الجهة الشمالية المحيط به جدار قصير وهو من الكعبة، وتركته قريش لقلة النفقة التي أعدوها لبنائها من كسبهم الطيب، فإن أبا وهب المخزومي قال


1- 1 التاج الجامع 2: 178.

ص: 124

لقريش: لا تدخلوا فيه من كسبكم إلّاطيباً ولا تدخلوا فيه مهر بغي ولا بيع ربا ولا مظلمة أحد من الناس.

وعنها: قالت: سألت رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم عن الجَدْر أمِنَ البيت هو؟ قال: نعم.

قلت فلم لم يدخلوه في البيت؟ قال: إن قومكِ قصّرت بهم النفقة. قلتُ: فما شأن بابه مرتفعاً؟ قال: فعل ذلك قومُكِ ليُدخلوا من شاءُوا ويمنعوا من شاءُوا، ولولا أنّ قومك حديث عهدُهم في الجاهلية فأخافُ أن تنكر قلوبُهم لنظرتُ أن أُدخل الجَدْرَ في البيت وأن أُلزِقَ بابَه بالأرض .. وفي رواية: لولا أن قومك حديثو عهدٍ بشركٍ لهدَمتُ الكعبة فألزَقتُها بالأرض، وجعلتُ لها بابين باباً شرقياً وباباً غربياً، بابٌ يَدخلون منه وبابٌ يخرجون منه، وزدتُ فيها ستة أذرُع من الحِجر فإن قريشاً اقتصرتها حيث بنت الكعبة.

رواه الشيخان والترمذي.

أما ما ذكره السيد الطباطبائي في تفسير الميزان (1):

ما زالت الكعبة على بناء إبراهيم .... وقبل البعثة بخمس سنين هدم السيل الكعبة فاقتسمت الطوائف العمل لبنائها ... وكانت النفقة قد بهظتهم فقصروا بناءَها على ما هي عليه الآن، وقد بقي بعض ساحته خارج البناء من طرف الحجر حجر إسماعيل لاستصغارهم البناء.

وكان البناء على هذا الحال حتى تسلط عبد اللَّه بن الزبير على الحجاز في عهد يزيد بن معاوية فحاربه الحصين قائد يزيد بمكة، وأصاب الكعبة بالمنجنيق فانهدمت واحترقت كسوتها وبعض أخشابها، ثم انكشف عنها لموت يزيد، فرأى ابن الزبير أن يهدم الكعبة ويعيد بناءَها فأتى لها بالجص النقي من اليمين، وبناها به، وأدخل الحجر في البيت، ... وكان فراغه من بنائها 17 رجب سنة 64 هجرية.


1- 1 تفسير الميزان 4: 359.

ص: 125

ولما تولى عبد الملك بن مروان الخلافة بعث الحجاج بن يوسف قائده فحارب ابن الزبير حتى غلبه فقتله، ودخل البيت فأخبر عبد الملك بما أحدثه ابن الزبير في الكعبة، فأمره بإرجاعها إلى شكلها الأول، فهدم الحجاج من جانبها الشمالي ستة أذرع وشبراً، وبنى ذلك الجدار على أساس قريش، ...

أقول- وبعد ما ذكرت كلّ ما توفرتُ عليه مما قيل عن الحِجر- لابدّ لي من تسجيل بعض الملاحظات حول النقص وبعض مضمون الرواية العامية الرئيسية التي روتها أمُّ المؤمنين عائشة وتفردت بها عن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم دون زوجاته الأخريات ودون أهل بيته وأصحابه. والملاحظات هي:

أن النقص أمر اتفقت عليه أغلب المصادر التأريخية التي تيسرت لي، واتفقت كلمتها- أيضاً- على أنه كان بسبب نفاد النفقة الطيبة لقريش، ولكنها- أي المصادر- اختلفت في قدر هذا النقص بين 5- 7 أذرع. كما أن هذا النقص لم يكن أمراً يعلم به الخاصة من زعماء قريش أَو أفراد منها كما يتّضح من كتب التأريخ، بل كان على مسمع ومرءى من جميع المشاركين في إعادة بناء الكعبة، حيث شارك الجميع ومن كل القبائل العربية في بناء الكعبة والتشرف به، وهو أمر ثابت لا يمكن الاختلاف فيه، وقد تداولت قريش أمر النقص هذا وتدارسته وتشاورت فيه طويلًا فأقرت أخيراً بعجزها أمام نفاد النفقة، وأجمعت أمرها أخيراً على أن يقصروا عن القواعد ويحجروا ما يقدرون عليه من بناء البيت، وهو ما يسمى بالشاذروان، ويتركوا بقية البيت في الحِجر وبنوا في بطن الكعبة أساساً يبنون عليه من شقّ الحجر، وتركوا من ورائه فناء (بناء) البيت في الحجر وبنوا على ذلك. وهنا، بعضهم قال: إن قريشاً اكتفت بالحائط الذي بناه إسماعيل فيطوف الناس من ورائه. وبعضهم قال: إن قريشاً حجرت على هذهِ الأذرع كما حجرت على بقية ما بقي من القواعد حوالي الكعبة (الشاذروان) لتعلم الناس أن

ص: 126

هذا من البيت. وهذا مضمون ما نقلته السيرة الحلبية والأزرقي في أخبار مكة (1) وهو أمر لو كان لما وقع الخلاف لا في عدد الأذرع ولا في كونها من البيت أو لا.

لأن حالها حال الشاذروان الذي بعد أن حجرت قريش عليه لم يقع الخلاف فيه وفي كونه من البيت بل اتفقت كلمة الجميع على أنّه من البيت ولم أجد مخالفاً في ذلك .. إذن فالنفقة الطيبة التي جمعتها قريش نفدت. ولم يكن بإمكان قريش جمع غيرها لكثرة المال الحرام ولأن قريش على لسان زعمائها رفضت أن تدخل المال الحرام في بناء الكعبة، لهذا فضلت اختصار بناء الكعبة حتى لا تدخل في بنائها إلّا الحلال من المال فالنقص أمر كان يعلمه إن لم يكن الجميع فلا أقل القسم الأكبر منهم، وقد بقي أكثرهم على قيد الحياة وآمنوا برسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم وأسلموا. أريد من هذا كلّه أن أصل إلى أن ما ورد في رواية أم المؤمنين من تبرير لعدم تمكن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم من إعادة بناء الكعبة على قواعد إبراهيم (فأخاف أن تُنكر قلوبهم لنظرتُ أن أدخل الجدر في البيت ...) أو (لولا حداثة قومك بالكفر لنقضت الكعبة ولجعلتها على أساس إبراهيم ..) ...

فهذا الخوف والخشية تستدعي الانتباه والوقوف عندها، وإني أراها طارئةً على الرواية أو قد تكون من زيادة الرواة أو لأشياء أخرى ... لأسباب كثيرة، منها.

1- كما قلنا: إن النقص أمر يعلمه الجميع، أي الذين حضروا إعادة بناء الكعبة. لهذا فإعادة بناء الكعبة على قواعد إبراهيم- إن توفرت النفقة الطيبة التي كانت سبباً في نقصها- هذهِ الإعادة لا تثير غضباً من أحد فضلًا عن الردة.

خاصة وقد وجد الصادق الأمين، والنبي الرسولصلى الله عليه و آله و سلم الذي لا يُريد إلّا الإصلاح، وإعادة الكعبة على وضعها السابق قبل بناء قريش، وهو بهذا لم يأت بشي ء جديد غريب عليهم أبداً ... فلا أرى عمله ذاك إلّاأن يكسب رضاهم


1- 1 أخبار مكة للازرقي 1: 163. السيرة الحلبية مجلد 1: 144 في بناء الكعبة.

ص: 127

وموافقتهم وترحيبهم به؛ لأنه لم يحقّق أمنيتهصلى الله عليه و آله و سلم فقط بل أمنيتهم التي حالت النفقة دون تحقيقها، وقد حقّقها الرسولصلى الله عليه و آله و سلم.

ثم لو قلنا، ليست الخشية من هؤلاء، بل ممن دخلوا الإسلام حديثاً ولم يبلغ الإيمان في نفوسهم درجة عالية تمنعهم من التمرد والردّة والعصيان. أقول: إن شوكة الإسلام- بعد فتح مكة بالذات- كانت قوية، وأن الدولة الإسلامية عاشت أعظم مراحلها قدرة وثباتاً. ومهما بلغ عدد هذا الصنف من الناس حتى إذا أضفنا إليه المنافقين الذين لم يتركوا وسيلة إلّاسلكوها للكيد للإسلام والمسلمين ومنذاللحظات الأولى لبزوغ شمس الإسلام، فقدبقيت مسيرة الإسلام تسير بثبات وقوة. أقول فمهما بلغ عدد هؤلاء فهم لا يشكلون خطراً كخطر قبائل هوازن وأعوانهم الذين ذاقوا مرارة الهزيمة في حنين على يد المسلمين.

2- ثم لو أخذنا بما ذكرهصاحب السيرة الحلبية (1) (... ويتركوا بقيته في الحِجر عليه جدار مدار يطوف الناس من ورائه) إذن فهو أمر ظاهر، يراه الجميع، فعلى فرضصحة هذا القول، فلماذا بعد الخشية. أذرع واضحة المعالم أدخلت من البيت في الحجر، ويريد رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم إرجاعها للبيت، فهل في هذا ضرر أو يشكل خطراً على مستقبل الدعوة الإسلامية؟

3- ثم هل ننسى حكمة رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم وقدرته في إقناع قومه- على فرض وجود المعارضة- قبل تهديم الكعبة أو بعضها كما فعل غيره زمن بناء قريش لها؟ وهل حكمته- معاذ اللَّه- بأقل من حكمة الوليد بن المغيرة أو أبي لهب أو غيرهما من زعماء قريش ..؟ كيف يكون هذا. وقد شهد بحكمته الجميع، وبها حقنت دماؤهم في قصة الحجر الأسود .. وفيصلح الحديبية وغيرها الكثير ...

وكل ما كانوا يخشونه هو نزول العذاب بهم إذا ما قاموا بتهديم أحجار الكعبة.

فإذا رأوا أن رسول السماء هو الذي يهدمها ويعيد بناءها بيده المباركة من جديد


1- 1 السيرة الحلبية 1: 144- بناء الكعبة.

ص: 128

فهذا مدعاة للاطمئنان وعدم الخوف.

4- ثم أليس هو الذي أطاح بآلهتهم ولم يخشَ شيئاً، وهو الذي دخل المسجد الحرام وهدم أصنامهم، ولم يترك حتىصور الملائكة والأنبياء وإبراهيم الخليل وهو يستقسم بالأزلام- وكانت محطّ تقديسهم- بعد أن أرسل الفضل بن العباس بن عبد المطلب فجاء بها- على مرءى ومسمع من قريش- وبماء من زمزم وبثوب ووضعها وطمسها في الماء، وهو يقول: قاتلهم اللَّهُ جعلوه يستقسم بالأزلام، ما لإبراهيم والأزلام (1)؟ إلى غير ذلك مما فعله في مقدساتهم ومعبوداتهم ولم يخش أحداً. وكانت تلك الأوثان يعبدونها من دون اللَّه ويدافعون عنها وعن بقائها بالأموال والأنفس وبكلّ ما أوتوا من قوة وسلطان، والقرآن يشهد بدفاعهم من أجل معبوداتهم وآلهتهم التي يزعمون:

«ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون ...» (2). «اجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشي ء عجاب» (3)

. ولم يذكر لنا التأريخ بأنهم عبدوا الكعبة. نعم احترموها قدسوها، تشرفوا بخدمتها، بقيت رمزاً لهم، ينتفعون منها .. لكنها على كل حال لم تصل إلى درجة العبادة أبداً، فلماذا الخشية إذن؟.

إنى أقف مما ورد في الرواية هذهِ من التبرير موقف المتسائِل المستغرب!

هذا وأن هذهِ الخشية المدعاة وأمنيتهصلى الله عليه و آله و سلم تلك في إعادة البناء. واهتمامه بهذا النقص إلى درجة أخذه بيد عائشة ليدلها على موضع النقص مما يدل على اعتنائه به واهتمامه فلماذا لم يرد كلُّ ذلك على لسان واحد من أهل بيته وزوجاته الأخريات أو الصحابة الذين لم يفارق بعضهم رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم إلّافي أوقاته الخاصة؟

وقد يرد على هذا أن أمّ المؤمنين عائشة كثيراً ما تفردت بنقل رويات عن


1- 1 الميزان في تفسير القرآن 4: 362- 363.
2- 2 سورة الصافات 36.
3- 3 سورةص: 5.

ص: 129

رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم وهذهِ واحدة من تلك!.

والغريب الذي لا يخلو هو أيضاً من التساؤل، أن هذا الأمر ظل مسكوتاً عنه طيلة أكثر من 60 سنة حتى وصل الأمر إلى عبد اللَّه بن الزبير فكشف النقاب عن رواية خالته!!

كيف بقي الأمر مسكوتاً عنه طيلة هذه السنين الطوال؟ اللهم إلّاإذا قلنا بأن المسلمين لم يكن له اهتمام بذلك ولم يشكل عندهم مشكلة شرعية بعد طوافهم وراء الحجر، أو لعدم ابتلائهم بإعادة بناء الكعبة وإلّا لاعادوا هذه الأذرع لمكانها ... تبقى هنا ملاحظة أخيرة أيضاً هي محل للتساؤل والاستغراب وهي: لقد تركت قريش جزءاً قليلًا من قواعد إبراهيم فوضعت عليه جداراً أو حجرتها وهو الذي يسمى بالشاذروان وقالت ليعلم أن هذا من البيت .. فلماذا تركت تحجير 5- 7 أذرع تركتها في الحجر دون أن تشير إليها أنها من البيت؟

صحيح أني رأيت في السيرة الحلبية أنها حجرتها .. ولكن لو كان الأمر كذلك لما وقع الخلاف في هذه الأذرع ولما كان أمراً وموضعاً للأخذ والرد. اللهم إلّاأن نقول: إنها اكتفت بتحجير إسماعيل وإن كان أكثر من 5 أو 7 أذرع.

ورواية مرسلة تسند لابن عباس (1)فقد أخرج سفيان بن عيينة والطبراني والحاكم وصححه، والبيهقي في سننة عن ابن عباس قال: الحِجر من البيت؛ لأن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم طاف بالبيت وصلى أي ساعة شاء من ليل أو نهار.

أنه قال: الحجر من البيت. واحتمال أن يكون قصده من المسجد الحرام فظلمة البيت تطلق على المسجد بكامله. وإذا ورد الاحتمال بطل الاستدلال بها ...

والدليل الآخر الذي عندهم أن الرسولصلى الله عليه و آله و سلم لم يقبل الركنين الشامين لأنهما ليسا من البيت وأيضاً وقع فيه الخلاف. وقد أورد هشام بن عروة بن الزبير وهو أحد رواة رواية عائشة في أن أباه كان إذا طافَ بالبيت يستلمُ الأركان كلّها،


1- 1 الميزان 17: 379.

ص: 130

كان لا يدعُ اليماني إلّاأن يُغلب عليه (1). وأخرجه سعيد بن منصور عن الدراوردي عن هشام، قال: كان إذا بدأ استلم الأركان كلها وإذا ختم ...

وكذا أخاه عبد اللَّه كما علقه البخاري ورواه ابن أبي شيبة عن عباد بن عبد اللَّه بن الزبير أنه رأى أباه يستلم الأركان كلّها وقال: إنه ليس منه شي ء مهجوراً.

وقال الإمام القاضي بن رشد القرطبي الأندلسي في بداية المجتهد ونهاية المقتصد:

واختلفوا هل تستلم الأركان كلها أم لا؟ فذهب الجمهور إلى أنه إنما يستلم الركنان فقط لحديث عمر «أن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم لم يكن يسلتم إلّاالركنين فقط» واحتج من رأى استلام جميعها بما روى عن جابر، قال: كنا نرى إذا طفنا أن نستلم الأركان كلّها. وكان بعض السلف لا يحب أن يستلم الركنين إلّافي الوتر من الأشواط، انتهى ما ذكره الأندلسي (2). ومرّ قول ابن عمر، إنما تركصلى الله عليه و آله و سلم استلام الركنين الشاميين؛ لأن البيت لم يتمم على قواعد إبراهيم. ولهذا قال أبو عبد اللَّه الأبي: هذا من فقه عبد اللَّه بن عمر من تعليل العدم بالعدم، علل عدم الاستلام بعدم أنهما من البيت. ولهذا حمل ابن القصار وتبعه ابن التين استلام ابن الزبير لهما، لأنه لما عمر الكعبة أتمه على قواعد إبراهيم، ويؤيده ما ذكره الأزرقي أن ابن الزبير لما فرغ من بنائه وأدخل فيه من الحجر ما أخرج منه وردّ الركنين على قواعد إبراهيم خرج إلى التنعيم واعتمر وطاف بالبيت واستلم الأركان الأربعة، فلم يزل البيت على بنائه إذا طاف بالبيت الطائف استلم الأركان جميعها حتى قتل ابن الزبير. وعنده عن ابن إسحاق بلغني أن آدم لما حجّ استلم الأركان كلّها وإنّ إبراهيم وإسماعيل لما فرغا من بناء البيت طافا به سبعاً يستلمان الأركان كلّها والجمهور على ما دل عليه حديث ابن عمر أنه لا يستلم إلّاالأسود واليماني، وروى استلام الكل عن جابر وأنس والحسن والحسين ومعاوية من الصحابة، وسويد بن غفلة من التابعين، وروى أحمد والترمذي والحاكم عن أبي الطفيل


1- 1 شرح الزرقاني على الموطأ 2: 305.
2- 2 بداية المجتهد .... 1: 249.

ص: 131

قال: كنت مع ابن عباس ومعاوية، فكان معاوية لا يمر بركن إلّااستلمه، فقال ابن عباس: إن رسولصلى الله عليه و آله و سلم لم يستلم إلّاالحجر الأسود واليماني. فقال معاوية: ليس شي ء من البيت مهجوراً.

زاد أحمد من طريق مجاهد. فقال ابن عباس: لقد كان لكم في رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم أسوة حسنة. فقال معاوية:صدقت.

وقد أجاب الإمام الشافعي: بأنا لم ندع استلامهما هجراً للبيت، وكيف يهجره وهو يطوف به؟! ولكنا نتبع السنة فعلًا أو تركاً، ولو كان ترك استلامهما هجراً، لكان ترك استلام ما بين الأركان هجراً لها، ولا قائل به، ويؤخذ منه حفظ المراتب، وإعطاء كل ذي حقّ حقه، وتنزيل كل أحد منزلته. انتهى ما ذكره الزرقاني (1).

يظهر من هذا الاختلاف الواقع في استلام الركنين الشاميين، وأمر عدم استلامهما إذن لا يصلح دليلًا لوجود المعارض كما رأيت عند العامة أنفسهم.

كما ظهر من ذلك كلّه أن المذاهب الإسلامية الأربعة تذهب إلى أن الحجر كلّه أو أكثره أو نصفه من البيت (الكعبة)، ولهذا فيجب إدخالُه في الطواف حتى يتحقق كون الطواف حول البيت، وبالتالي يكون مصداقاً للآية «وليطوفوا بالبيت العتيق» هذا أولًا، ولسيرة رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم وقد أدخل الحجر بكامله في طوافه، ولقوله خذوا عني مناسككم.

إذن فأدلتهم على أن الحجر من البيت فهي الرواية التي أستطيع وصفها بأنها الوحيدة في هذا الباب، وهي تروى عن أم المؤمنين عائشة بألفاظ مضطربة ولم أعثر على مَن ناقش متنها أو سندها، وعندهمصحتها من المسلمات هذا أولًا، ولرواية مرسلة عن ابن عباس ثانياً، وثالثاً لعدم استلام الركنين الشاميين وقد سببت هذهِ الرواية عن عائشة- التي اضطربت في القدر الذي أخرجته قريش


1- 1 شرح الزرقاني 2: 305 الحديث 834.

ص: 132

من الكعبة وضمته في الحجر- اختلاف الفقهاء، فالذين تمسكوا بها قالوا بالنقص واختلفوا في قدره، في قبال الآخرين الذين رفضوا هذه الرواية وبالتالي بنوا على عدم نقص مساحة الكعبة، وكذلك كانت هذهِ الرواية سبباً لاختلاف الفريق الأول وانقسامه إلى فريقين، فريق يقول بصحة الطواف بعد السبعة أذرع من البيت الموجودة في الحجر، وفريق قال لا يصح الطواف إلّامن وراء جدار الحجر وهو ما فعله رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم، وذهب الكثير منهم إلى القول الثاني، بينما قال بالأول القليل منهم، كما نرى عند تعرّضنا لآراء الفقهاء.

آراء فقهاء المذاهب في إدخال الحِجر في الطواف وحكم الإخلال في ذلك

إن إدخال الحِجر في الطواف بمعنى أن يطوف الحاج حول الحِجر من دون أن يدخل فيه هذا أمر متسالم عليه عند المسلمين والنصوص والأدلة فيه مستفيضة، ولهذا فإننا نستعرض آراء المذاهب:

1- المذهب الشافعي: قالوا: للطواف بذاته ثمانية شروط ... الرابع منها جعل البيت عن يساره وقت الطواف مارّاً تلقاء وجهه؛ ولابدّ أن يكون الطائف خارجاً بكل بدنه عن جدار البيت وشاذروانه، وعن الحجر- بكسر الحاء- فلو مشى على الشاذروان أو مسّ الجدار في مروره، أو دخل في إحدى فتحتي الحجر- بالكسر- وخرج من الأخرى لم يصح طوافه الذي حصل فيه ..

وأما الزحيلي في كتابه الفقه الإسلامي وأدلته فقد قال:

وواجبات الطواف عند الشافعية بما يشمل الشروط والأركان ثمان هي ما يأتي: ...

4- أن يجعل الطائف البيت عن يساره، مارّاً تلقاء وجهه إلى جهة الباب، اتباعاً للسنة كما رواه مسلم، مع خبر: «خذوا عني مناسككم». فإن خالف ذلك لم

ص: 133

يصح طوافه لمعارضته الشرع، ولو طاف مستلقياً على ظهره، أو على وجهه، مع مراعاة كون البيت عن يساره،صح.

وراح الزحيلي في نفس الصفحة يقول:

ويشترط أن يكون الطواف خارج البيت وحِجر إسماعيل والشاذروان، فلو مشى على الشاذروان أو مسّ الجدار الكائن في موازاته، أو أدخل جزءاً منه في هواء الشاذروان أو دخل من إحدى فتحتي الحِجر [وهو ما بين الركنين الشاميين من جهة الشمال، المحوط بجدار قصير بينه وبين كل من الركنين فتحة، والآن أغلقت الفتحة الغربية، وهو قدر ستة أذرع] وخرج من الفتحة الأخرى، أو خلف منه قدر الذي من البيت وهو ستة أذرع، واقتحم الجدار، وخرج من الجانب الآخر، لم يصح طوافه، أما كون الطواف في غير الحجر، فلقوله تعالى:

«وليطوفوا بالبيت العتيق» وإنما يكون طائفاً به إذا كان خارجاً عنه، وإلّا فهو طائف فيه.

وأما الحِجر: فلأنهصلى الله عليه و آله و سلم إنما طاف خارجه، وقال: «خذوا عني مناسككم» ولخبر مسلم عن عائشة: «سألت رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم عن الحِجر، أمن البيت هو؟

قال: نعم، قلت: فما بالهم لم يدخلوه في البيت؟ قال: إن قومك قصرت بهم النفقة ...» وظاهر الخبر أن الحِجر جميعه من البيت.

لكن الصحيح أنه ليس كذلك، بل الذي هو من البيت قدر ستة أذرع تتصل بالبيت، ومع ذلك يجب الطواف خارجه؛ لأن الحجّ باب اتباع.

2- المذهب المالكي: قالوا: يشترط لصحة الطواف شروط: ... الخامس:

أن يكون بجميع بدنه خارجاً عن الحِجر بتمامه ...

3- المذهب الحنبلي: قالوا: يشترط لصحة الطواف شروط: ... ومنها جعل البيت عن يساره ولابدّ أن يكون خارجاً عن جميع الحِجر ... وألا يدخل في شي ء

ص: 134

من البيت كالحِجر والشاذروان.

4- المذهب الحنفي: قالوا في واجبات الطواف: .. ومنها أن يطوف وراء الحطيم- الحِجر- لأن بعضه من البيت أو لأن الحطيم من البيت على لسان رسول اللَّه.

وقالت الشافعية في سنن الطواف ... الثامنة: أن يصلي بعده ركعتين ..

والأفضلصلاتهما خلف المقام، ثم بالحِجر ...

وقالت الحنفية .. ومنها أن يصلي ركعتين، ويستحب أداؤهما خلف المقام، ثم في الكعبة، ثم في الحجر تحت الميزاب (1).

أما القاضي الأندلسي في بداية المجتهد .. فقال:

وأما شروطه فإن منها حدّ موضعه، وجمهور العلماء على أن الحِجر من البيت، وأن من طاف البيت لزمه إدخال الحِجر فيه، وأنه شرط فيصحة طواف الإفاضة. وقال أبو حنيفة وأصحابه: هو سنة. وحجة الجمهور ما رواه مالك عن عائشة: أن رسولصلى الله عليه و آله و سلم قال: لولا حِدثانُ قومك بالكفر لهدمتُ الكعبة ولصيّرتُها على قوعد إبراهيم، فإنهم تركوا منها سبعة أذرع في الحجر، ضاقت بهم النفقة والخشب، وهو قول ابن عباس. وكان يحتجّ بقوله تعالى: «وليطوفوا بالبيت العتيق». ثم يقول طاف رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم من رواء الحِجر، وحجة أبي حنيفة ظاهر الآية (2).

وقال العلّامة السيد البكري الدمياطيصاحب كتاب إعانة الطالبين: ...

وقوله (وحجره) بكسر الحاء ما بين الركنين الشاميين عليه جدار قصير، بينه وبين كلّ من الركنين فتحة ويسمى أيضاً حطيماً، لكن الأشهر أنه ما بين الحجر الأسود، ومقام إبراهيم. وقوله (للاتباع) دليل لوجوب جعل البيت عن يساره، ولوجوب خروجه بكل بدنه عنه. والاتباع في الأول خبر جابر المار ....


1- 1 يراجع في هذا كله/ الفقه على المذاهب الأربعة للجزيري 2: 653- 657. الفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي 3: 145.
2- 2 بداية المجتهد 1: 250.

ص: 135

ومع قولهصلى الله عليه و آله و سلم: خذوا عني مناسككم. وفي الثانيصلى الله عليه و آله و سلم طاف خارجه مع قوله خذوا ... ويدل عليه أيضاً قولُه تعالى: «وليطوفوا بالبيت العتيق» وإنما يكون طائفاً به إذا كان خارجاً عنه، وإلّا فهو طائف فيه. فإن خالف شيئاً من ذلك- راجع لجميع ما قبله، فاسم الإشارة يعود على المذكور ...- ولم يخرج بكلّ بدنه عن الشاذروان والحجر لم يصح طوافه (1)- ولو لم يجعل طوافه من وراء الحطيم، بل طاف في وسطه في الطواف الواجب، فإن كان بمكة أعاد الطواف جميعه ليأتي به على ترتيبه، فإن لم يفعل وأعاده على الحطيم أجزأه عندنا كذا في السراج الوهاج (2).

وحدثني عن مالك أنه سمع ابن شهاب يقول: سمعت بعض علمائنا يقول: ما حُجّر الحِجُر فطاف الناسُ من ورائه إلّاإرادة أن يستوعب الناسُ بالبيت كلّه (3).

أما ما قاله شارح الموطإ:

نعم في الحكم بفساد طواف مَن طاف داخل الحجر وخلى بينه وبين البيت سبعة أذرع نظر، وقد قال بصحته جماعة من الشافعية كإمام الحرمين، ومن المالكية كأبي الحسن اللخمي. وذكر الأزرقي أن عرض ما بين الميزاب ومنتهى الحجر سبعة عشر ذراعاً وثلث ذراع منها عرض جدار الحجر ذراعان وثلث وفي بطن الحجر خمسة عشر ذراعاً فعلى هذا فنصف الحجر ليس من البيت فلا يفسد طواف من طاف دونه (4).

أما ما قاله النووي (5):

قال أصحابنا ست أذرع من الحجر مما يلي البيت محسوبة من البيت بلا خلاف وفي الزائد خلاف فإن طاف في الحجر وبينه وبين البيت أكثر من ستة أذرع ففيه وجهان لأصحابنا أحدهما يجوز لظواهر هذه الأحاديث وهذا هو


1- 1 إعانة الطالبين 2: 279 للسيد الكبري الدمياطي.
2- 2 الفتاوي الهندية في مذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان 1: 232.
3- 3 الموطأ 1: 246.
4- 4 شرح الموطإ 2: 301- 302 للزرقاني.
5- 5 هامشصحيح مسلم للنووي 9:

ص: 136

الذي رجحه جماعات من أصحابنا الخراسانيين والثاني لا يصح طوافه في شي ء من الحجر ولا على جداره ولا يصح حتى يطوف خارجاً من جميع الحجر وهذا هو الصحيح وهو الذي نصّ عليه الشافعي وقطع به جماهير أصحابنا العراقيين ورجحه جمهور الأصحاب وبه قال جميع علماء المسلمين سوى أبي حنيفة فإنه قال إن طاف في الحجر وبقي في مكة أعاده وإن رجع من مكة بلا إعادة أراق دماً وأجزأه طوافه واحتج الجمهور بأن النبيصلى الله عليه و آله و سلم طاف من وراء الحجر وقال لتأخذوا مناسككم ثم أطبق المسلمون عليه من زمنهصلى الله عليه و آله و سلم إلى الآن وسواء كان كله من البيت أم بعضه فالطواف يكون من ورائه كما فعل النبيصلى الله عليه و آله و سلم واللَّه أعلم.

وما قالهصاحب التاج الجامع:

فلابد للطائف من المرور حوله وعليه جميع المحدثين والفقهاء رضي اللَّه عنهم (1).

الإمامية:

أما الرأي الثاني وهو أن الحِجر ليس من البيت يمثل واحداً من موقفين عند الإمامية. فبعد اتفاق فقهاؤها على أن الحِجر هو بيت هاجر وإسماعيل، وأنه كان ملاصقاً للبيت من جهته الشمالية، كما أنهصار مقبرة بعد وفاة هاجر ودفنها فيه ثم دفن إسماعيل وغيره، ويجب إدخاله بالكامل في الطواف سواء قلنا بأنه من البيت موضوعاً أو قلنا بأنه من البيت حكماً.

ومن أخلّ بذلك فعليه أن يعيد الشوط أو الطواف على خلاف بينهم، وعلى هذا رواياتهم وآراؤهم التي سنستعرضها، فبعد اتفاقهم على ذلك كلّه، ظهر لهم موقفان:

الأول: أن الحِجر كله أو بعضه من البيت.


1- 1 التاج الجامع للأصول 2: 179.

ص: 137

الثاني: أن الحِجر ليس من البيت.

ذهب كلّ منصاحب الدروس، والعلامة في التذكرة، وفي المنتهى إلى أن جميع الحِجر من البيت: فقد قالصاحب الجواهر عند ذكره لوجوب دخول الحجر في الطواف: (ولا فرق في الحكم المزبور بين القول بخروجه من البيت ودخوله فيه الذي قد تشعر به النصوص المزبورة، بل في الدروس المشهور كونه منه، بل في التذكرة والمنتهى أن جميعه منه.

وربما استظهروا ذلك من الأخبار التالية.

.. قلتُ لأبي عبد اللَّه عليه السلام: رجل طاف بالبيت فاختصر شوطاً واحداً في الحِجر، كيف يصنع؟ قال: يعيد الطواف الواحد.

ورواه الشيخ يعيد ذلك الشوط.

وما رواه الصدوق عن عبد اللَّه بن مسكان عن الحلبي أيضاً في الصحيح عن أبي عبد اللَّه عليه السلام، قال: قلت له: رجل طاف بالبيت فاختصر شوطاً واحداً في الحج، كيف يصنع؟ قال: يعيد الطواف الواحد.

محمد بن يعقوب، عن علي إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حفص بن البختري، عن أبي عبد اللَّه عليه السلام في الرجل يطوف بالبيت (فيختصر في الحجر)، قال: يقضي ما اختصر من طوافه.

وعنه، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن معاوية بن عمّار، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: من اختصر في الحجر (في الطواف) فليعد طوافه من الحجر الأسود إلى الحجر الأسود.

بل في الدروس المشهور كونه منه، بل في التذكرة والمنتهى أن جميعه منه (1)، وأما قولصاحب الدروس (2)فهو: إدخال الحِجر في طوافه ... سواء قلنا بأنه من البيت كما هو المشهور، أو لا كما في رواية زرارة (3) عن الصادق عليه السلام


1- 1 الجواهر 19: 293.
2- 2 من لا يحضره الفقيه. باب ابتداء الكعبة وفضلها ح 2308 2: 243.
3- 3 من لا يحضره الفقيه، باب ابتداء الكعبة وفضلها ح 2308، 2: 243.

ص: 138

وقطع به الصدوق (المقنع ضمن الجوامع الفقهيةص 21) ...

وفي اللمعة قال: ... وإدخال الحجر في الطواف للتأسي، والأمر به، لا لكونه من البيت، بل قد روي أنه ليس منه، أو أن بعضه منه ... (1).

وفي المنتهى: ... لنا أن الحِجر من البيت ...

وأما ما ذكره العلامة في التذكرة. فقد قال عنهصاحب الحدائق (2):

ويمكن أن يكون مستند المشهور ما نقل عن العلامة في التذكرة: .. فإن للبيت أربعة أركان ركنان يمانيان وركنان شاميان وكان لاصقاً بالأرض وله بابان شرقي وغربي فهدمه السيل قبل مبعث رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم بعشر سنين وأعادت قريش عمارته على الهيئة التي هو عليها اليوم وقصرت الأموال الطيبة والهدايا والنذور عن عمارته فتركوا من جانب الحجر بعض البيت روت عائشة أن النبيصلى الله عليه و آله و سلم قال: ستة أذرع من الحجر من البيت فتركوا بعض البيت من جانب الحِجر خارجاً؛ لأن النفقة كانت تضيق عن العمارة وخلفوا الركنين الشامين عن قواعد إبراهيم وضيقوا عرض الجدران من الركن الأسود إلى الشامي الذي يليه فبقى من الأساس شبه الدكان مرتفعاً وهو الذي يسمى الشاذروان. انتهى.

فقالصاحب الحدائق بعد نقله لقول العلّامة:

وما ذكره قدس سره في قصة بناء الكعبة على هذهِ الكيفية لم يرد فيه شي ء من الأخبار الواصلة إلينا في الأصول الأربعة وغيرها.

أما تكملة قول العلّامة كما ورد في التذكرة لم ينقلهصاحب الحدائق.

وهو كالاتي: .... وروي أن النبيصلى الله عليه و آله و سلم قال لعايشة: «لولا حدثان قومك بالشرك لهدمت البيت وبنيته على قواعد إبراهيم عليه السلام فألصقته بالأرض وجعلت له بابين شرقياً وغربياً» ثم هدمه ابن الزبير أيام ولايته وبناه على قواعد إبراهيم عليه السلام كما تمناه رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم ثم لما استولى الحجاج هدمه وأعاده على


1- 1 اللمعة 2: 249.
2- 2 الحدائق الناضرة 16: 106 للشيخ يوسف البحراني رضى الله عنه.

ص: 139

الصورة التي عليه اليوم وهو بناء قريش (1).

ثم أخذصاحب الحدائق يذكر ما روي في كيفية بناء قريش للكعبة فيقول:

وقد رويت في كيفية بناء قريش لها روايات عديدة، إلّاأنها خالية من ذلك [أي مما رواه العلّامة]، ومنها ما رواه في الكافي: عن علي بن إبراهيم، وغيره بأسانيد مختلفة قالوا:

إنما هدمت قريش الكعبة لأن السيل كان يأتيهم من أعلى مكة فيدخلها فانصدعت، ... فأرادت قريش أن يهدموا الكعبة ويبنوها ويزيدوا في عرضها (عرصتها) .... فلما أرادوا أن يزيدوا في عرضه (عرصته) وحركوا القواعد التي وضعها إبراهيم عليه السلام أصابتهم زلزلة شديدة فكفّوا عنه، وكان بنيان إبراهيم (الطول ثلاثون ذراعاً، والعرض اثنان وعشرون ذراعاً، والسمك تسعة أذرع) ...

فهذهِ الرواية وباقي روايات بناء الكعبة ساكتة عن بيان ما حدث في بناء قريش لها وهل قريش أنقصتها أذرعاً أو لا؟ لم توضح الروايات عند الإجابة ذلك، وإنما تذكر فقط في روايات البناء أن قياسها في زمن إبراهيم كذا لا غير. ثم تنتقل الروايات لتبين بناء عبد اللَّه بن الزبير وأنه رفعها ثمانية عشر ذراعاً، فهدمها الحجاج وبناها سبعة وعشرين ذراعاً أي زادا في ارتفاعها هذا ما تشير إليه الروايات في بناء الكعبة فقط، ولكن رواية علي بن إبراهيم التي يكتفي بنقلهاصاحب الحدائق وعند نقله رواية كيفية بناء الكعبة ودون أن يقول عنها شيئاً، ودون أن يشير إلى ما يترتب عليها، هذهِ الرواية بعد أن ينقلهاصاحب الجواهر وبعد أن ينقل ما قالهصاحب التذكرة: بل الثابت في نصوصنا المشتملة على قصة هدم قريش الكعبة خلافه، نعم ربما كان في مرفوع علي بن إبراهيم وغيره «أنه كان بنيان إبراهيم الطول ....» تأييد لكون نحو ستة أذرع منه من البيت (2).

أما ما ورد في موسوعة العتبات المقدسة (3).


1- 1 تذكرة الفقهاء للعلامة جمال الدين الحلي 1: 361 النسخة الهجرية.
2- 2 الوسائل 13: 215 ابواب الطواف الرواية 14510، جواهر الكلام 19: 294 كتاب الحج.
3- 3 موسوعة العتبات المقدسة 2: 239- 240 تاريخ مكة.

ص: 140

وحينما تسنى للنبيصلى الله عليه و آله و سلم أن يفتح مكة في سنة 8 للهجرة، ترك بناء الكعبة على ما كان عليه، لكن التجديدات التي كان يريد إدخالها فيه قد تحققت في سنة 64 للهجرة (674 م) على يد عبد اللَّه بن الزبير .. وتنفيذاً لما جاء في السنة النبوية أُدخل الحجر بكسر الحاء في ضمن البناء .. وبموافقة عبد الملك بن مروان سنة 74 ه (694 م) عُزِلَ الحِجر عن الكعبة ... وبذلك تطمنت رغبة بني أمية التي كانت تريد إبقاء شكل الكعبة على ما كانت عليه قبل الإسلام تقريباً، وقد حافظت على شكلها ذلك حتى يومنا هذا.

أما أدلة القائلين بأن الحجر ليس من البيت فهي:

المستند الأول: الأخبار:

عن معاوية بن عمارة في الصحيح قال: سألت أبا عبد اللَّه عليه السلام عن الحجر، أمن البيت هو أو فيه شي ء من البيت؟ فقال: لا، ولا قلامة ظفر، ولكن إسماعيل دفن أمه فكره أن توطأ فجعل عليه حجراً، وفيه قبور أنبياء.

عن زرارة في الموثق عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: سألته عن الحجر هل فيه شي ء من البيت؟ فقال: لا، ولا قلامة ظفر.

خبر يونس بن يعقوب (قلت لأبي عبد اللَّه عليه السلام: إني كنت أصلي في الحجر، فقال لي رجل: لا تصل المكتوبة في هذا الموضع، فإن في الحجر من البيت، فقال:

كذبصل فيه حيث شئت) (1).

وفي خبر مفضل بن عمر عنه عليه السلام أيضاً «الحجر بيت إسماعيل، وفيه قبر هاجر وقبر إسماعيل».

وسأله أيضاً الحلبي في المروي عن نوادر البزنطي «عن الحجر فقال: إنكم تسمونه الحطيم، وإنما كان لغنم إسماعيل، وإنما دفن فيه أمه وكره أن يوطأ قبرها فحجر عليه، وفيه قبور أنبياء» ...


1- 1 وسائل الشيعة باب 54 من أبواب أحكام المساجد، الحديث من كتاب الصلاة.

ص: 141

محمد بن يعقوب، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن فضالة بن أيوب، عن معاوية بن عمار قال: سألت أبا عبد اللَّه عليه السلام عن الحِجر أمن البيت هو أو فيه شى ءٌ من البيت؟ فقال: لا، ولا قلامة ظفر. ولكن أسماعيل دفن أمّه فيه فكره أن يوطأ، فجعل عليه حِجراً وفيه قبور أنبياء (1).

محمد بن علي بن علي بن الحسين عن النبيِّ والأئمة عليهم السلام قال:صار الناس يطوفون حول الحِجر ولا يطوفون فيه؛ لأن أمّ إسماعيل دفنت في الحجر ففيه قبرها، فطيف كذلك لئلّا يوطأ قبرها (2).

وعن زرارة عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: سألته عن الحِجر هل فيه شى ء من البيت؟ فقال: لا، ولا قلامة ظفر (3).

ومع قوة هاتين الروايتين (ولا قلامة ظفر ...) سنداً ومتناً، فإني وجدت الفريق القائل بان الحجر من البيت وجدته ساكتاً عن هاتين الروايتين ولم يشر إليهما ولم يبدِ رأياً فيهما، وهو أمر أثار استغرابي- حقّاً- للصراحة التي يتصفان بها في عدم وجود شي ء من البيت في الحِجر. ولأن الأَولى لهذا الفريق أن يبدي رأيه فيهما ليكون موقفه أكثر سلامة وأقوى حجة، يشكّلان أقوى أدلة الرافضين لدخول شي ء من البيت في الحجر. وكذلك الأمر في خبر يونس بن يعقوب (... كذبصل فيه حيث شئت).

كما أن الشيخ يوسف البحرانيصاحب الحدائق الناضرة قال: ويمكن أن يكون مستند المشهور ما نقل عن العلامة في التذكرة كما نقلناه سابقاً وأما رأيُه فهو: ... وبالجملة فالظاهر من أخبارنا خروجه كاملًا عن البيت، وما ذكروه من هذا القول المشهور لا نعرف له مستنداً. والمستند الثاني الذي يمكن أن يكون دليلًا على أنه ليس من البيت وأن البيت لم ينقص منه 5- 7 أذرع وبالتالي فإن ركنيه الشاميين في جهته الشمالية من البيت، هو ما ورد من استحباب تقبيل أو


1- 1 الوسائل ج 13 353- 354 أبواب الطواف.
2- 2 الوسائل 13: 353- 354 أبواب الطواف.
3- 3 وسائل الشيعة 13: 353- 354. تراجع روايات في أبواب الطواف.

ص: 142

استلام الركنين الشاميين لأنهما من البيت وإلّا لم يرد هذا الاستحباب إن لم يكونا قد بناهما إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام.

عن أحمد بن عيسى عن إبراهيم بن أبي محمود قال: قلت للرضا عليه السلام استلم اليماني والشامي والغربي؟ قال: نعم.

فعن محمد بن الحسن بإسناده عن أحمد بن محمد بن عيسى عن أبن أبي عمير، عن جميل بنصالح- أنه رأى أبا عبد اللَّه عليه السلام يستلم الأركان كلّها (1).

ورواه الكليني، عن عدة من أصحابنا، عن أحمدبن محمد مثله، وقال الشيخ الطوسي في النهاية، ويستحب أن يستلم الأركان كلّها وأشدّها تأكيداً الركن الذي فيه الحجر الأسود (236 النهاية) (2). فلو اختصر شي ء من الكعبة وضمّ إلى الحِجر لما كانت هذه الأركان هي أركان البيت الوارد فيها استحباب الاستلام.

أما في مسألة وجوب إدخال الحجر في الطواف بأن يمشي خارجه لا فيه وهي مما لا خلاف فيها بين فقهاء الإمامية وأدلتهم على ذلك اختلفت باختلاف اجتهاداتهم، فإضافة إلى دليل التأسي برسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم للأمر به يمكن حصر أدلتهم ب:

أولًا: الإجماع، وقال في الجواهر: بل الإجماع بقسيمه عليه، بل المحكي منهما مستفيض.

ثانياً: الأخبار التي تشهد على وجوب إدخاله في الطواف، وقد عبرت الأخبار بلفظة الاختصار ومعناها عدم إدخال الحِجر في الطواف.

... عن معاوية بن عمار عن أبي عبد اللَّه عليه السلام: مَن اختصر في الحجر الطواف، فليعد طوافه من الحَجر الأسود إلى الحجر الأسود (3).

... عن إبراهيم بن سفيان قال: كتبت إلى أبي الحسن الرضا عليه السلام أمرأة


1- 1 التهذيب 5: 106 343/ 15 الوسائل 13: 314 17907/ 1.
2- 2 النهاية للطوسيص 236.
3- 3 الوسائل 13: 357 ح/ 17940/ 3.

ص: 143

طافت طواف الحج، فلما كانت في الشوط السابع اختصرت وطافت في الحِجر، وصلت ركعتي الفريضة، وسعت وطافت طواف النساء ثم أتت مني، فكتب عليه السلام (1):

تعيد. ونحوها غيرها.

... عن الحلبي، عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: قلت: رجل طاف بالبيت فاختصر شوطاً واحداً في الحِجر، قال: يعيد ذلك الشوط. وفي رواية الصدوق قال: يعيد الطواف الواحد.

كما ذهب بعض فقهاء الإمامية إلى أن وجوب إدخال الحجر في الطواف ليس ذلك من جهة كون الحِجر من البيت، بل للنصوص الخاصة بذلك. والعجيب أن هناك نصوصاً تصرح بأن إسماعيل إنما وضع الحجر لكراهيته أن يوطأ قبر أمه هاجر، وليتم الطواف من خارج الحجر (2).

... وحجّر عليها لئلا يوطأ قبرها. أوصار الناس يطوفون فيه، لأن أمّ إسماعيل دفنت في الحجر ... (3)وليس في الجمع بين العلل إنصح التعبير ضير (لسيرة رسول اللَّه والقائل خذوا عني مناسككم) وللرويات الخاصة ولمنع إسماعيل وكراهيته من وطء قبر أمه).

هذا وإنصاحب الجواهر قال بعد أن أورد أدلته والأخبار الدالة على وجوب إدخال الحجر في الطواف، قال: ولا فرق في الحكم المزبور بين القول بخروجه من البيت ودخوله فيه الذي قد تشعر به النصوص المزبورة، وقد ذكرناها ولا نعيد (4).

أما ما مقالهصاحب براهين الحج، الفقيه الكاشاني: من واجبات الطواف أن يدخل حجر إسماعيل في الطواف، قال في الجواهر بلا خلاف أجده فيه بل الإجماع بقسميه عليه.


1- 1 الوسائل 13: 357، 17941/ 4.
2- 2 الوسائل 13ص 355 17933/ 6، 17929/ 2.
3- 3 الوسائل 13: 354، 359، 17932/ 5، 17933/ 6.
4- 4 جواهر الكلام 19: 292- 294.

ص: 144

وبعد أن يستعرض الأخبار الدالة على ذلك وقد ذكرناها، يقول الظاهر أنه لا إشكال في عدم دخول حجر إسماعيل في الكعبة بل خارج عنه، وإن كان داخلًا في الطواف، ويدل عليه الأخبار مثلصحيح معاوية بن عمار قال: سألت أبا عبد اللَّه عليه السلام عن الحجر أمن البيت هو أو فيه شي ءٌ من البيت، فقال: لا ولا قلامة ظفر، ولكن إسماعيل دفن فيه أُمّه فكره أن يوطأ فجعل عليه حجراً، وفيه قبور الأنبياء (1).

شروط الطواف

ما قاله السيد الإمام الخميني قدس سره:

ما عد جزءاً لحقيقته، ولكن بعضها من قبيل الشرط .... الرابع: إدخال حجر إسماعيل عليه السلام في الطواف، فيطوف خارجه عند الطواف حول البيت، فلو طاف من داخله أو على جداره بطل طوافه وتجب الإعادة، ولو فعله عمداً فحكمه حكم من أبطل الطواف عمداً كما مرّ، ولو كان سهواً فحكمه حكم إبطال الطواف سهواً، ولو تخلف في بعض الأشواط فالأحوط إعادة الشوط، والظاهر عدم لزوم إعادة الطواف وإن كان أحوط.

وما قاله السيد الخوئي رحمه الله:

إذا دخل الطائف حجر إسماعيل، بطل الشوط الذي وقع ذلك فيه فلابد من إعادته، والأولى إعادة الطواف بعد إتمامه، هذا مع بقاء الموالاة، وأما مع عدمها فالطواف محكوم بالبطلان وإن كان ذلك عن جهل أو نسيان، وفي حكم دخول الحِجر التسلق على حائطه على الأحوط، بل الأحوط أن لا يضع الطائف يده على حائط الحجر أيضاً.

وأخيراً تبقى هنا مسألة القبلة وعلاقتها بتغير جرم الكعبة الذي قد يترتب


1- 1 براهين الحج 4: 39- 40 المدني الكاشاني.

ص: 145

على القولين (إن الحِجر كله أو بعضه من البيت. أن الحِجر ليس من البيت).

خاصة إذا نظرنا للقبلة من حيث كونها عين الكعبة لا جهتها وهذا ما نأمل بحثه- إن شاء اللَّه تعالى- في موضوع القبلة.

المصادر

البحار للشيخ المجلسي

التبيان للطوسي

أقرب الموارد للشرتوني

تاج العروس للزبيدي

وسائل الشيعة

السيرة الحلبية

أحكام القرآن للقرطبي

تفسير الميزان للطباطبائي

أخبار مكة للأزرقي

تاريخ الطبري

صحيح مسلم

صحيح البخاري

مختصر تاريخ دمشق لابن منظور

الكامل لابن الأثير

التاج الجامع للأصول للشيخ منصور علي ناصيف

الزرقاني في شرحه على الموطإ

بداية المجتهد للقاضي الأندلسي

الفقه على المذاهب الأربعة للجزيري

ص: 146

الفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي

إعانة الطالبين للدمياطي

الفتاوى الهندية في مذهب الإمام أبي حنيفة

الموطأ للإمام مالك

الجواهر للشيخ محمد حسن النجفي

من لا يحضره الفقيه

الحدائق الناضرة للشيخ البحراني

تذكرة الفقهاء للعلامة الحلي

موسوعة العتبات المقدسة

التهذيب

النهاية للطوسي

براهين الحج للفقيه الكاشاني

تحرير الوسيلة للسيد الإمام الخميني

المعتمد في شرح المناسك للسيد الخوئي

صحيح سنن المصطفى لأبي داود

مرآة الحرمين

الهوامش:

الاستدارة وصلاة الجماعة في المسجد الحرام

ص:147

ص:148

ص: 149

الاستدارة وصلاة الجماعة في المسجد الحرام

محمد علي مقدادي

قال اللَّه تبارك وتعالى: «... فولِّ وجهَكَ شطرَ المسجدِ الحرامِ وحيثُ ما كنتُم فَولّوا وجوهَكُم شَطرَهُ ...» (1).

الصلوات الخمس اليومية من الواجبات التي أكّد الشارع المقدس أداءَها بشكل جماعي، والأمة المسلمة- ومنذ ذلك اليوم الذي فرضت فيه تلك الصلوات وحتى الآن- تحرص على تأديتها جماعة لفضيلتها العظيمة. نذكر بعض النصوص الواردة في هذا الباب:

قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم: أتاني جبرئيل في سبعين ألف ملك بعدصلاة الظهر ... فقلت: يا جبرئيل! ما لأمتّي في الجماعة؟ قال: يا محمد! ... وإذا كانوا عشرة، كتب اللَّه لكلّ واحد بكلّ ركعة اثنين وسبعين ألفاً وثمانمائةصلاة، فإن زادوا على العشرة فلوصارت بحار السموات والأرض مداداً والأشجار أقلاماً والثقلان مع الملائكة كُتّاباً لم يقدروا أن يكتبوا ثواب ركعة واحدة.

يا محمد: تكبيرة يدركها المؤمن مع الإمام خير له من ستين ألف حجّة


1- 1 البقرة: 150.

ص: 150

وعمرة وخير من الدنيا وما فيها سبعين ألف مرّة؛ وركعة يصلّيها المؤمن مع الإمام خير من مائة ألف دينار يتصدق بها على المساكين؛ وسجدة يسجدها المؤمن مع الإمام خير من عتق مائة رقبة (1).

وقال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم:صلاة الجماعة أفضل منصلاة أحدكم وحده بخمسة وعشرين جزءاً (2).

وقال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم: إن اللَّه يستحي من عبده إذاصلّى في جماعة ثم سأل حاجته أن ينصرف حتى يقضيها (3).

وقال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم: لا تزال أمتي يكفّ عنها البلاء مالم يظهروا خصالًا ....

وقطع الصلاة في جماعة، وترك هذا البيت أن يؤم، فإذا ترك هذا البيت أن يؤم لم يناظروا (4).

وقال الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام: أفضل الأعمال إسباغ الطهور في السبرات (5) ونقل الأقدام إلى الجماعات وانتظار الصلاة بعدالصلاة (6).

وقال الإمام جعفر بن محمد عليه السلام:

منصلّى الغداة والعشاء الآخرة في جماعةٍ فهو في ذمّة اللَّه عزّ وجل، ومن ظلمه فإنمّا يظلم اللَّه، ومن حقّره فإنّما يحقّر اللَّه عزّ وجل (7).

عن زرارة قال: قلت لأبي عبد اللَّه عليه السلام ما يروي الناس أن الصلاة في جماعة أفضل منصلاة الرجل وحده بخمسة وعشرينصلاة؟ فقال عليه السلام:

صدقوا، فقلت: الرجلان يكونان في جماعة؟ فقال: نعم ويقوم الرجل عن يمين الإمام (8).

وقال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم: إن الركعة في الجماعة أربع وعشرون ركعة، كلّ ركعة أحبّ إلى اللَّه من عبادة أربعين سنة (9). والأحاديث الواردة في هذا الباب كثيرة من طرق الفريقين، الشيعة الإمامية وأهل السنة.

ولمّا كان المسجد الحرام من أفضل البقاع والمساجد في العالم كلّه حيث دلّت الأخبار على ذلك فالصلاة


1- 1 كتاب الصلوة، الشيخ مرتضى الأنصاري قدس سره: 317.
2- 2صحيح مسلم بشرح الإمام النووي 5: 151.
3- 3 كنز العمال 7: 558، ح 20243.
4- 4 مسند الإمام زيد: 100.
5- 5 السبرات جمع سبرة بفتح السين المهملة وسكون الباء الموّحدة، وهي الغداة الباردة.
6- 6 مسند الإمام زيد: 102.
7- 7 من لا يحضره الفقيه 1: 377.
8- 8 التهذيب 3: 24.
9- 9 كتاب الصلوة، الشيخ مرتضى الأنصاري: 316.

ص: 151

فيه أيضاً تكون أكثر ثواباً وفضيلةً بالطبع، لما ورد في الخبر:

عن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم، قال:

الصلوة في المسجد الحرام مائة ألفصلاة، والصلاة في مسجدي عشرة آلافصلاة ... (1).

وقال النبيصلى الله عليه و آله و سلم:صلاة في مسجدي هذا خيرٌ من ألفصلاة فيما سواه إلّاالمسجد الحرام (2).

وقال رسول اللَّه أيضاً:صلاة في مسجدي أفضل من ألفصلاة فيما سواه إلّاالمسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألفصلاةٍ فيما سواه (3).

هذا، ولكن يا حبّذا لو تؤدَّى الصلاة جماعة في هذا المسجد المكرّم المطهّر الحرام حتى يحصل الحظّ الوافر للمصلّين، ويتمتعوا من الثواب الجزيل والرحمة الواسعة في ذلك المكان المبارك.

ولا يخفى أن فقهاء الشيعة جوّزوا الصلاة بالجماعة خلف أئمة أهل السنة وأكّدوا على الشيعة الإمامية أن يحضروا مساجدهم وجماعاتهم لما وردت في ذلك أحاديث نذكر بعضها:

إسحاق بن عمار قال: قال لي أبو عبد اللَّه عليه السلام: يا إسحاق! أتصلّي معهم في المسجد؟ قلت: نعم، قال:صلّ معهم فإن المصلّي معهم في الصف الاول كالشاهر سيفه في سبيل اللَّه- عزّ وجلّ- (4).

وقال الصادق عليه السلام: منصلِّى معهم في الصف الأول كان كمنصلّى خلف رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم في الصف الأوّل (5).

وقال عليه السلام أيضاً: خالقوا الناس بأخلاقهم،صلّوا في مساجدهم، وعودوا مرضاهم، واشهدوا جنائزهم، وإن استطعتم أن تكونوا الأئمة المؤذنين فافعلوا، فإنّكم إذا فعلتم ذلك قالوا:

هؤلاء الجعفرية، رحم اللَّه جعفراً ما كان أحسن ما يؤدب أصحابه، وإذا تركتم ذلك قالوا: هؤلاء الجعفرية، فعل اللَّه بجعفر، ما كان أسوء ما يؤدب


1- 1 كنز العمال 12: 195، ح 34633.
2- 2صحيح البخاري 2: 136.
3- 3 سنن ابن ماجة 1: 450- فضائل مكة: 130.
4- 4 التهذيب 3: 277.
5- 5 من لا يحضره الفقيه 1: 382.

ص: 152

أصحابه (1).

وقال الصادق عليه السلام: إذاصلّيت معهم غفر لك بعدد من خالفك (2).

ونقل محمد بن مسعود العياشي في تفسيره عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال:

اتقوا اللَّه، ولا تحملوا الناس على أكتافهم، إن اللَّه يقول في كتابه:

«وقولوا للناس حسناً» (3)

قال عليه السلام:

وعودوا مرضاهم، واشهدوا جنائزهم، وصلّوا في مساجدهم ... (4).

وبما أنصلاة الجماعة في المسجد الحرام تقام في يومنا هذا مستديرة ولا يتيسر لكل شخص أداءصلاة الجماعة خلف الإمام وكما هو المتعارف في المساجد الأخرى، لذلك رأينا أن نبحث هذا الموضوع تأريخياً وفقهياً لما فيه من الأهمية الكبيرة وحتى يطلع القارئ الكريم على ما ورد فيه.

الجماعة بالاستدارة من الناحية التأريخية:

بعد فتح مكة وقدوم المسلمين من المدينة مع رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم وعفو النبيصلى الله عليه و آله و سلم عن أهل مكة بقوله: فإنّي أقول لكم كما قال أخي يوسف، لا تثريب عليكم اليوم يغفر اللَّه لكم وهو أرحم الراحمين ... فاذهبوا فأنتم الطلقاء (5).

خرج أهل مكة كأنما نشروا من القبور ودخلوا في الإسلام. وفي تلك الفترة من الزمان لم تكن ساحة المسجد الحرام واسعةً كما نرى نحن الآن، بل كانت ضيّقة جدّاً. هذا من جهة، ومن جهة أخرى كان عدد من قدم مكّة مع رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم أكثر من عشرة آلاف نسمة، كما كان عدد أهل مكة في سنة الفتح أكثر من ألفين، فصار عدد القادمين والمقيمين أكثر من 12 ألف شخص.

هنا سؤالان:

1- أكان المصلّى في ذلك الزمان لهذا الجمع الغفير، نفس المسجد الحرام أو مكاناً آخر؟

2- ماهي كيفية إقامة الصلاة


1- 1 من لا يحضره الفقيه 1: 383.
2- 2 المصدر نفسه 1: 568.
3- 3 البقرة: 83.
4- 4 تفسير العياشي 1: 48.
5- 5 سفينة البحار 2: 342- 343.

ص: 153

بالجماعة في تلك السنة؟ أكانت بالاستدارة، أم كانت تقام في جهة من الجهات الأربع للكعبة المشرّفة؟.

ولأجل أن يتّضح المطلب للقارئ الكريم لابدّ من أن أشير إلى جانب من تأريخ توسعة المسجد الحرام فيصدر الإسلام والقرون اللاحقة له:

قال باسلامة المكي: كان المسجد الحرام منذ بنى إبراهيم الخليل مع ابنه إسماعيل عليهما السلام الكعبة المعظمة إلى أن آل أمر مكة المكرمة إلى قصي بن كلاب الجدّ الخامس لنبيّنا محمدصلى الله عليه و آله و سلم عبارة عن فسحة واسعة حول الكعبة المعظمة، لم يكن حول الكعبة المعظمة دور مشيدة، أو جدار محاطة بالمسجد الحرام، حيث كانت القبائل التي قطنت مكة من عمالقة، وجرهم، وخزاعة، وقريش، وغيرهم يسكنون شعاب مكة ويتركون ما حول الكعبة المعظمة احتراماً لها وتعظيماً لشأنها ... فلمّا آل الأمر إلى قصي واستولى على مكة ...

جمع قصي قومه بطون قريش وأمرهم أن يبنوا بمكة حول الكعبة المعظمة بيوتاً من جهاتها الأربع ... فبنت قريش دورها حول الكعبة المعظمة وشرعت أبوابها إلى نحو الكعبة المعظمة، وتركوا للطائفين مقدار مدار المطاف، وجعلوا بين كلّ دارين من دورهم مسلكاً شارعاً فيه باب يسلك منه إلى المطاف، وجعلوا بناء الدور مدوّرة ولم تكن مربعة الشكل، حتى لا يكون بينها بين الكعبة المعظمة شبه في البناء من جهة التربيع (1).

وقال إبراهيم رفعت پاشا في كتابه مرآة الحرمين: ذكر الأزرقي والإمام أبو الحسن الماوردي وغيرهما أن المسجد الحرام من عهد النبيّصلى الله عليه و آله و سلم وأبي بكر ليس عليه جدار يحيط به، وكانت الدور محدقة به من كل جانب وبين الدور أزقة يدخل منها الناس، وكانت حدوده حدود المطاف الآن، وهوعلى ذلك من عهد إبراهيم عليه السلام (2).

وأنت أيها القارئ الكريم ترى أن الساحة كانت بمقدار حدّ المطاف


1- 1 تأريخ عمارة المسجد الحرام: 5- 6.
2- 2 مرآة الحرمين 1: 235.

ص: 154

(5/ 26 ذراعاً) ولا يمكن إقامةصلاة الجماعة في أحد الجهات الأربع عند كثرة الناس.

ويأتي ما يؤيّد هذا المطلب إن شاء اللَّه.

وقال باسلامة المكي في موضع آخر من كتابه أيضاً:

إنه لم يكن قبل الإسلام ذكر للمسجد الحرام وإنما كل ما يكون هو مدار الطواف حول الكعبة المعظمة، وذلك لأنه لم يكن في التشريع الجاهليصلاة يؤدونها حول الكعبة المعظمة وإنما كان المعتاد عند العرب في جاهليتها الطواف حول الكعبة المعظمة فقط ... فلمّا جاء الإسلام وانبثق نوره واعتنقه أفراد من أهل مكة كان من أسلم منهم يستخفي بصلاته عن المشركين في داره وفي شعاب مكة لئلا يؤذوه، وذلك قبل الهجرة ولم يصّل أحد منهم حول الكعبة المعظمة إلّاعلى سبيل النادر ... ومكثت مكة على هذا الحال إلى عام الفتح سنة ثمان من الهجرة. فلمّا فتح رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم مكة منع المسلمين من الهجرة بقوله: «لا هجرة بعد الفتح» فصار بعد ذلك يقيم المسلمونصلاتهم حول الكعبة جهاراً، غير أنه كان سكّان مكة قليلين جداً وهم عبارة عن عدد وجيز؛ لأن معظم أهلها قد التحقوا بعد الهجرة بالجيوش الإسلامية لأداء فريضة الجهاد، والذب عن دين الإسلام ... ولذلك لم يكن في العصر النبوي ولا في خلافة أبي بكر احتياج إلى توسعة المسجد الحرام؛ لأن سعة مدار المطاف كان كاف لصلاة المسلمين المقيمين بمكة، ولم يقع فيه ضيق على المصلين يلجئهم إلى توسيعه.

ولهذه الأسباب المتقدم ذكرها لم يقع في المسجد الحرام زيادة ولا سعة ولا تغيير ولا تبديل (1).

وحينما كثر الحجاج والمقيمون بمكة المكرمة، وقعت ولأول مرّة زيادة في المسجد الحرام في سنة 17 هجرية ثم وقعت الزيادة الثانية في سنة 26 هجرية. وأما الزيادة الثالثة كانت في


1- 1 تأريخ عمارة المسجد الحرام: 7- 9.

ص: 155

عهد عبد اللَّه بن الزبير سنة 65 هجرية وهي أكثر ما زيد في ساحة المسجد الحرام. لأن الأزرقي روى أن مساحة المسجد الحرام في زمان ابن الزبير تسعة أجربة وشي ء ....

وعليه فتكون مساحة الجريب الواحد 3600 ذراع مربع وبذلك يكون مساحة المسجد الحرام في زمان ابن الزبير اثنين وثلاثين ألف ذراع، وأربعمائة ذراع مربع وذلك حسب ما ذكره الأزرقي، وبموجب ذلكصار سعة المسجد الحرام في عصر عبد اللَّه بن الزبير نحو ربع مساحة المسجد الحرام التي هو عليها في العصر الحاضر (1) أو تزيد قليلًا (2).

وبما أن المسجد الحرام أفضل بقاع الأرض وقبلة المسلمين في أرجاء العالم كلّه فقد تشرف الخلفاء والملوك والسلاطين بعمارته وتوسعته، حتى أنه قد زيد في المسجد الحرام من سنة 17 هجرية إلى سنة 306 هجرية، ثماني زيادات، ولا تزال هذه الزيادات والتوسيعات إلى الآن.

ونلاحظ في الملحق رقم: 5 من كتاب الأزرقي، أنه كانت مساحة المسجد الحرام قبل التوسعة في عام 1375 هجرية، 29127 متراً مسطحاً وبعد التوسعة التي حدثت في عام 1375 هجريةصار مجموع مساحة المسجد 160168 متراً وهي مساحة تتسع لأكثر من 300 ألف من المصلين في وقت واحد، يؤدونصلاتهم في سعة واطمئنان وفي إمكانهم مشاهدة الكعبة المشرفة مهما بعدت أمكنتهم (3).

فتبيّن من جميع ذلك أن سعة المسجد الحرام كانت فيصدر الإسلام بمقدار حدّ المطاف (5/ 26 ذراع)، ثمصارت واسعةً على مرّ العصور إلى أن وصلت مساحة المسجد 160168 متراً.

وفي التوسعة الأخيرة بلغت المساحة 356000 متراً وهي مساحة تتسع لأكثر من 770 ألف من المصلين في وقت واحد (4).


1- 1 لا يخفى أن المراد من العصر الحاضر هو قبل سنة 1352 هجرية لأن هذا الكتاب ألّف في تلك الفترةوطبعت طبعته الأولى في شهر ذي القعدة سنة 1354 هجرية. ولذلك فالمقايسة كانت قبل التوسعة الكبيرة التي حدثت في سنة 1375 هجرية.
2- 2 انظر إلى الصفحة: 18 من كتاب تأريخ عمارة المسجد الحرام.
3- 3 أخبار مكة لأزرقي 2: 8- 337.
4- 4 انظر: فصلنامه ميقات حج بالفارسية العدد 14، الصفحة 198، نقلًا عن جريدة «المسلمون» الأسبوعية. ط السعودية.

ص: 156

وقوع استدارة المأمومين حول الكعبة المشرفة:

ثم نرجع إلى الكلام فيصلاة الجماعة بالاستدارة في المسجد الحرام وثبوتها فنقول وباللَّه التوفيق:

إن استدارة المأمومين حول الكعبة في المسجد الحرام وقعت من أول زمان ظهر الإسلام ونشر نوره وأعطى البصيرة لأهل مكة بعد فتحها ولذلك أدّعى بعض العلماء والمؤرخين وقوعها في عصر حياة النبيصلى الله عليه و آله و سلم. قال في المبسوط: ... به جرى التوارث من لدن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم إلى يومنا هذا (1).

وقال السيد الحكيم رحمه الله: ... لكن الظاهر ثبوت السيرة عليه في عصر المعصومين عليهم السلام، من دون نكير منهم عليهم السلام (2).

وأما الشيخ الأنصاري رحمه الله بعد عدم قبول حجية تلك السيرة لعدم كشفها عن رضا النبيصلى الله عليه و آله و سلم أو أحد الأوصياء عليهم السلام قال: ... إلّاأن يقال


1- 1 المبسوط، لشمس الدين السرخسي 2: 78.
2- 2 متمسك العروة الوثقي 7: 249.

ص: 157

عدم بلوغ النكير من واحد منهم عليهم السلام ولا من غيرهم من الصحابة والتابعين، يكشف عن رضاهم عليهم السلام (1).

صلاة أهل مكة:

قال الفاكهي في كتابه أخبار مكة: أخذ أهل مكة الصلاة من ابن جُريج، وأخذها ابن جُريج من عطاء، وأخذها عطاء من ابن الزبير، وأخذها الزبير عن أبي بكر، وأخذها أبوبكر من رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم من جبرئيل عليه السلام (2).

وأما أبو الوليد الأزرقي فقد نقل خبراً يهمّنا التعرض له وهو:

حدّثني جدّي عن مسلم بن خالد الزنجي وسعيد بن سالم قالا:

حدّثنا ابنُ جُريج قال: قلت لعطاء: إذا قلّ الناس في المسجد الحرام أحبّ اليك أن يصلّوا خلف المقام أو يكونواصفّاً واحداً حول الكعبة؟ قال: بل يكونواصفّاً واحداً حول الكعبة، قال: وتلا:

«وترى الملائكة حافّين من حول العرش» (3).

ويمكن أن يستظهر من هذا الخبر بعد التأمل والدقة فيه، والاستظهار من بعض الأخبار الأخرى أن أهل مكة حينما اجتمعوا في المسجد الحرام اجتماعاً ضخماً للصلاة بالجماعة، كانوا قد استداروا حول الكعبة المشرفة لضيق المكان؛ لأنه لا محيص منها، إلّاأن يقال بعدم انعقاد الجماعة في تلك الفترة وعدم وقوعها وهذا بعيد جدّاً إن لم نقل ببطلانه.

مَن أدار الصفوف حول الكعبة المعظمة؟

لم أجد نصّاًصريحاً بأن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم كان أول من أدار الصفوف حول الكعبة المعظمة، ولكنا إذا أمعنا النظر في القرائن التأريخية التيّ ذكرنا بعضها، وفي هذه الرواية التي نقلها الفاكهي في كتابه:

... عن أمّ سلمة زوج النبيّصلى الله عليه و آله و سلم أنها قالت: شكوت إلى النبيصلى الله عليه و آله و سلم أني أشتكي، فقالصلى الله عليه و آله و سلم: طوفي من وراء


1- 1 كتاب الصلوة، الشيخ الأنصاري قدس سره: 354.
2- 2 أخبار مكة، للفاكهي 1: 182.
3- 3 أخبار مكة، للأزرقي 2: 66.

ص: 158

الناس، وقال يعقوب: طوفي من وراء المصلين، قالت: فطفت ورسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم حينئذ يصلي إلى البيت، وهو يقرأ ب «والطور وكتاب مسطور» (1).

يمكن أن يقال: إن الاستدارة للصلاة بالجماعة حول الكعبة المشرفة وقعت في الفترات الأولى من نشأة الإسلام، وبما أن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم أمر هُبيرة بن سِبل بن العجلان أن يصلي بالناس في زمن فتح مكة (2)؛ وبما أن الصلاة لا يمكن إقامتها بالجماعة إلّا بالاستدارة، لضيق الساحة المقدسة، فيمكن القول بوقوعها في تلك الفترة، واللَّه العالم.

نعم، ذكر أبو الوليد الأزرقي أن أول من أدار الصفوف حول الكعبة، خالد بن عبد اللَّه القسري (3).

قال رشديصالح ملحس: ذكر السنجاري في بعض أولياته أن الحَجاج أول من أطاف الناس حول الكعبة للصلاة وكانوا يصلونصفّاً. ونقل الزركشي أن أول من فعله عبد اللَّه بن الزبير؛ ويمكن الجمع بين الكلامين بأن ابن الزبير أولًا ثم خالد بعد قتله (4).

وقال الفاكهي: ويقال: إن أول من أدار الصفوف حول الكعبة خالد بن عبد اللَّه القسري.

حدثنا حسين بن حسن، قال:

إن رَوح بن عُبادة، عن ابن جُريح، قال:

أخبرني عطاء، قال: كان ابن الزبير إذاصلّى بالناس جمعهم أجمعين وراء المقام.

قال: فَعِيب ذلك عليه، فقال له إنسان:

أرأيت إن كان وراء المقام من الناس مالو جمعهم حول البيت أطافوا به واحداً، ولكن فيه فرج أي ذلك أحب اليك؟ فقال: «وترى الملائكة حافّين من حول العرش» (5)

يقول:صفوفهم حول البيت أحب إليّ (6).

هذا كلّه بالنسبة للمائة الأولى من الهجرة النبوية، على مهاجرها آلاف التحيّة والسلام.

وعلى ذلك فإن لم نجد نصاًصريحاً يدّل على إقامة الجماعة بالاستدارة في زمن الرسولصلى الله عليه و آله و سلم، فلم


1- 1 أخبار مكة، للفاكهي 1: 245.
2- 2 أخبار مكة للفاكهي 3: 225.
3- 3 أخبار مكة، للأزرقي 2: 65.
4- 4 المصدر نفسه 2: 66.
5- 5 الزمر: 75.
6- 6 اخبار مكة، للفاكهي 2: 107.

ص: 159

نجد نصاً أيضاً على خلاف ذلك، فلذا اكتفينا بالقرائن التي استعرضناها، والمجال لمن يريد التحقيق لأكثر من ذلك، واسع.

بعدما ولدت المذاهب الأربعة السنيّة ووقعت الخلافات بينها انتجت المحاريب الأربعة في المسجد الحرام لأئمتها الأربعة حتى يصلوا فيها.

ولأجل ذلك أقيمت لكل وقت من الأوقات الخمسة للصلوات الواجبة، أربعة جماعات في الجهات الأربعة للمسجد الحرام، وفي بعض الأحيان إمام خامس لفرقة الزيدية؛ كان يصلّي بالزيديين الموجودين في مكة.

ولايخفى أنصلاة الجمعة وقعت في تلك الفترة في المسجد الحرام وكان الإمام لصلاة الجمعة شخصاً واحداً ولم تنعقد الجمعة متعددة وإن وقعت الصلواة اليومية متعددة.

قال الكردي: ... وأما عندنا بمكة المشرفة، فإنه بعد أن فتحها رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم في السنة الثامنة للهجرة. ودخل الناس في دين اللَّه أفواجاً وعبدوا اللَّه تعالى جهاراً ليلًا ونهاراً، أقيمت فيهصلاة الجمعة كبقية الصلوات، فكان الناس منذ العهد الأول يقيمونصلاة الجمعة بالمسجد الحرام إلى عصرنا الحاضر فلا تتعددصلاة الجمعة بمكة المشرفة أبداً. وكان الناس يحضرون إلى المسجد الحرام لصلاة الجمعة من أماكن بعيدة، كالمعلّاة والحجون والمعابدة، وكالمسفلة وجرول، يحضرون إلى المسجد الحرام بحبّ ورغبةصيفاً وشتاء، ولو في شدّة الحّر والقيظ، بواعز نفسي ودافع ديني، مع وجود مساجد كثيرة في مكة المكرمة ... (1).

هذا وقد وصف ابن جبيرصلاة الأئمة في رحلته إلى مكة المكرمة في عام 578 للهجرة فقال: .... وهم أربعة أئمة سنّية وإمام خامس لفرقة تسمّى الزيدية وأشراف هذه البلدة على مذهبهم وهم يزيدون في الأذان «حيّ على خير العمل» (2).


1- 1 التأريخ القويم 2: 268- 269.
2- 2 رحلة ابن جبير: 73.

ص: 160

وقال في رحلته أيضاً:

... ويوضع الشمع بين يدي الأئمة في محاريبهم. ومحاريب الأئمة هي المقامات التي ذكرنا إنشاءَها في العهد الفاطمي ليصلّي فيها الأئمة الأربعة (1).

ولا يخفى أن هذا الشكل من إقامة الجماعة شكل سيي ء ومخالف للوحدة الإسلامية التيّ هي الأساس لتشريع الصلاة بالجماعة ولا يقبله من يعرف القليل من أوليات أحكام الإسلام فضلًا عن كثيرها. ولأجله أنكر بعض العلماء تعدد الجماعات في المسجد الحرام في ذلك العصر.

قال أحمد السباعي: ... وجاء في حاشية ابن عابدين على الدر المختار أن بعض العلماء أنكروا تعدد الجماعات في ذلك العصر، وأفتوا بعدم جواز ذلك على المذاهب الأربعة ويشير ابن ظهيرة أن تعدد الجماعات بقي في المسجد إلى عهد الشراكسة ثم ألغي، ثم العمل به مرّة أخرى؛ أقول: وقد ظلّ العمل به إلى أن ألغي في عهد الحكومة السعودية الحاضرة (2).

فتبين من ذلك كلّه أن تعدد الجماعات في ساحة المسجد الحرام وقع في أحيان مختلفة وفي خلال الفترات أقيمت الصلوة مع إمام واحد كان يصلّي بالناس وكان محرابه على وجه الكعبة.

وحينما وصلت الحكومة بأيدي السعوديين بقي أمر الإمامة للصلوة في المسجد الحرام على حالة واحدة، واستدار المأمومون حول الكعبة المشرفة خلف إمام واحد فقط كما نشاهد الآن.

الجماعة بالاستدارة من الناحية الفقهية:

بما أن استدارة المأمومين حول الكعبة المشرفة في ساحة المسجد الحرام من المسائل الفقهية التي يحتاج المسلمون أن يعلموا الحكم فيها؛ لذلك نرى فقهاء الإسلام، قد تعرضوا لها وبحثوا فيها وأعلنوا آراءَهم الفقيهة


1- 1 المصدر نفسه: 75.
2- 2 تأريخ مكة، أحمد السباعي 1: 250.

ص: 161

حولها، ونذكر أوّلًا آراء فقهاء العامة، ثم نذكر أقوال علماء الإمامية واختلاف آرائهم حول هذه المسألة.

علماء أهل السنة وحكمهم في إدارة الصفوف

لاحظتم قبل قليل ما نقله أحمد السباعي من إفتاء علماء المذاهب الأربعة بعدم جواز تعدد الجماعات في المسجد الحرام. وأما بالنسبة لجواز استدارة المأمومين خلف إمام واحد في المسجد الحرام فلم أر من أنكره بين المذاهب الأربعة السنيّة، ولذلك نذكر بعض الأقوال الواردة حول هذه المسألة كنموذج:

قال الشافعي: ولو أمّ إمام بمكة وهم يصلّون بهاصفوفاً مستديرة يستقبل كلّهم إلى الكعبة من جهة كان عليهم- واللَّه تعالى أعلم- عندي أن يصنعوا كما يصنعون في الإمام وأن يجتهدوا حتّى يتأخروا من كلّ جهة عن البيت تأخراً يكون فيه الإمام أقرب إلى البيت منهم وليس يبين؟؟؟ زال عن حدّ الإمام وقربه من البيت عن الإمام إذا لم يتباين ذلك تباين الذين يصلونصفاً واحداً مستقبلي جهة واحدة فيتحرون ذلك كما وصفت، ولا يكون على واحد منهم إعادةصلاة حتى يعلم الذين يستقبلون وجه القبلة مع الإمام أن قد تقدموا الإمام وكانوا أقرب إلى البيت منه. فإذا علموا أعادوا ... وهكذا لوصلّى الإمام بالناس فوقف في ظهر الكعبة أو أحد جهتها غير وجهها، لم يجز للذين يصلّون من جهته إلّاأن يكونوا خلفه، فإن لم يعلموا أعادوا وأجزأ منصلّى من غير جهته، وإنصلّى وهو أقرب إلى الكعبة منه (1).

هذا القولصريح في جواز الصلاة مستديرة بشرط أن لا يكون المأموم أقرب إلى الكعبة من الإمام، وإذا كان كذلك فعلى المأموم إعادةصلاته. ويستفاد من هذا القول أيضاً إجزاءصلاة المأموم فيما إذا كان أقرب


1- 1 كتاب الأُمّ. للشافعي 1: 170. دار المعرفة، بيروت- لبنان.

ص: 162

إلى الكعبة من الإمام بشرط أن يكون في جهة غير جهته التيصلّى فيها الإمام.

وقال في المبسوط: وإذاصلّى الإمام بالناس في المسجد الحرام وقف في مقام إبراهيم وتحلق الناس حول الكعبة يقتدون به فيجزيهم، به جرى التوارث من لدن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم إلى يومنا هذا.

والأصل فيه قوله تعالى: «فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام» گوالقوم كلّهم قد استقبلوا القبلة، وواحد منهم لم يتقدم الإمام في مقامه فيجزيهم إلّامن كان ظهره إلى وجه الإمام، وكان مستقبلًا الجهة التي استقبلها الإمام، وهو أقرب إلى حائط الكعبة من الإمام، فهذا متقدم على الإمام فلا يصح اقتداؤه به (1).

وأنت كما ترى يصرّح هذان القولان، بصحّة الصلاة بالاستدارة حول الكعبة المشرفة وإجزائها عن المأمومين.

فقهاء الشيعة الإمامية وآراؤهم حول استدارة المأمومين.

إن فقهاء الإمامية اختلفوا في حكم استدارة المأمومين في المسجد الحرام، فمنهم من قال بالجواز مطلقاً، ومنهم من قال به في موارد التقية، ومنهم من قال بعدم الجواز كالعلامة رحمه الله في جملة من كتبه، ومن تبعه، وتوقف بعض آخر في حكمها وأفتى بالاحتياط لعدم وجود نصّ عن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم والأئمة المعصومين عليهم السلام، كصاحب الحدائق الناضرة رحمه الله حيث قال:

الثالث: اختلف الأصحاب (رضوان اللَّه عليهم) في جواز استدارة المأمومين حول الكعبة في المسجد الحرام، فنقل عن ابن الجنيد القول بجواز ذلك، بشرط أن لا يكون المأموم أقرب إلى الكعبة من الإمام، وبه قطع الشهيد في الذكرى محتجاً بالإجماع عليه عملًا في كلّ الأعصار السالفة، ونقل عن العلامة في جملة من كتبه منع ذلك، وأوجب وقوف المأموم في


1- 1 المبسوط، لشمس الدين السرخسي 2: 78، دار المعرفة بيروت- لبنان.

ص: 163

الناحية التي فيها الإمام بحيث يكون خلفه أو إلى جانبه كما في غير المسجد، واحتج عليه في المنتهى بأن موقف المأموم خلف الإمام أو إلى جانبه وهو إنما يحصل في جهة واحدة فصلاة من غايرها باطلة، وبأن المأموم مع الاستدارة إذا لم يكن واقفاً في جهة الإمام يكون واقفاً بين يديه فتبطلصلاته. أقول: لم أقف في هذا المقام على نصّ عنهم عليهم السلام وطريق الاحتياط فيما ذهب إليه العلامة (أجزل اللَّه تعالى إكرامه) واللَّه العالم (1).

فصاحب الحدائق وإن لم يصرّح بالمنع إلّاأنه اختار طريق الاحتياط فيما ذهب إليه العلامة رحمه الله وهو منع جواز استدارة المأمومين حول الكعبة المشرفة وبطلانصلاتهم إذا لم يكونوا واقفين خلف الإمام.

وأما من قال بالمنع كالعلامة رحمه الله فإنه ذكر أن حصول الجماعة منوط بالموقف الذي يقف فيه الإمام ثم إن وقف المأموم خلف الإمام أو إلى جانبه في جهة واحدة فيحصل بذلكصورة الجماعة وإلّا فصلاة من غايرها باطلة.

هذا، وقصارى ما يمكن أن يقال: إن العلامة رحمه الله ومن تبعه في هذا الحكم، لم يفرّقوا بين المسجد الحرام والصلوة حول الكعبة المشرفة وبين ساير الأماكن والمساجد الأخرى، سواء أكانت قريبة أم بعيدةً عن الكعبة المشرّفة والقبلة. مع أنه يمكن أن يقال:

إن الخصوصية التي تكون في المسجد الحرام تقتضي أن تؤدى الصلوة فيه مع الجماعة مستديرة بشرط أن يكون الإمام أقرب من المأمومين إلى الكعبة المعظمة، وبذلك يحصل عنوان الإمامة، في أن المأمومين كانوا متأخرين عنه بالنسبة إلى الكعبة المعظمة وإن لم يكونوا واقفين خلفه أو إلى جانبه، أضف إلى ذلك أنّ العرف يشهد بأن ذلك الشخص الذي يكون أقرب إلى الكعبة المعظمة أمّ وصلّى بالناس، والناسصاروا مأمومين بالنسبة له.

وسترى قول بعض الأعاظم


1- 1 الحدائق الناضرة 11: 118- 119.

ص: 164

القائلين بالجواز: إن الأئمة عليهم السلام رأوا إدارة الصفوف ولم ينكروا تلك الصورة من الجماعة وهذا يدلّ على جوازها أيضاً.

وقال الشيخ الأنصاري رحمه الله:

«... نعم هنا كلام آخر في أصل جواز استدارة المأمومين من جهة كون الجماعة هيأة توقيفية لابد من الاقتصار فيها على المتيقن وهو ما إذا لم يتقدم المأموم على الإمام عرفاً وإن لم يكن تقدم بالنسبة إلى الجهة التي توجّها إليها أعني الكعبة.

بيانه: أن التقدم قد يلاحظ بالنسبة إلى جهة خاصة من الجهات المطلقة المنتهية إلى محدّد الجهات، وبهذا الاعتبار يقال لكلّ من الإمام والمأموم المتقابلين أنه متقدم علىصاحبه بالنسبة إلى الجهة التي توّجه إليها، وقد يلاحظ بالنسبة إلى جهة الكعبة وحينئذٍ لا يصدق على أحد المتقابلين التقدم علىصاحبه؛ لأنهما متوجهان معاً إلى جهة واحدة، وحيث إن معاقد الإجماعات على عدم تقدم المأموم ظاهرة في إرادة التقدم العرفي وهو الملحوظ بالنسبة إلى مطلق الجهة ولا أقل من احتمالها، وحينئذ فمجرد كون المأموم متقدماً على الإمام باعتبار ملاحظة وجهة الإمام يكفي في البطلان، وإن كان الإمام أيضاً متقدماً على المأموم بملاحظة وجهته، فتأمل.

وأما ما ادّعاه في الذكرى من الإجماع عليه في كلّ الأعصار فهو مسلّم إلّاأن حجية تلك السيرة محل تأمل؛ لعدم كشفه عن رضا النبي أو أحد الأوصياءصلوات اللَّه عليه وعليهم، إلّاأن يقال عدم بلوغ النكير من واحد منهم عليهم السلام ولا من غيرهم من الصحابة والتابعين يكشف عن رضاهم عليهم السلام والمسألة لا تخلو من إشكال كمسألةصلوة المأموم في جوف الكعبة مع توجّهه إلى الجهة المقابلة لجهة الإمام. واللَّه العالم ثم رسوله ثم أوصياؤه الكرامصلوات اللَّه عليهم (1).


1- 1 كتاب الصلوة، للشيخ مرتضى الأنصاري قدس سره: 354.

ص: 165

وأنت ترى أن الشيخ الأعظم رحمه الله بعد أن تأمّل في حجية السيرة قال: إلّا أن يقال عدم بلوغ النكير من المعصومين عليهم السلام يكشف عن رضاهم، والمسألة لا تخلو من إشكال. فهو رحمه الله اعترف بعرفية استدارة المأمومين إذا لم يتقدم المأموم على الإمام، مع أنه لم يفت بشي ء في هذه المسألة، بل ركّزها (كما هو دأبه وديدنه) باحتمالات يمكن أن يستفيد منها المحقق على الجواز، واللَّه العالم.

أدلة الجواز والقائلون به:

نقل عن ابن الجنيد (1) والإسكافي (2) والشهيد في الذكرى، جواز استدارة المأمومين حول الكعبة المشرّفة بشرط أن لا يكونوا أقرب إلى الكعبة من الإمام عملًا بالأصل والإطلاقات والإجماع. ووافقهم في ذلك الكثير من الفقهاء، وبما أن لهذه المسألة أهمية بالغة وهي محلّ للابتلاء، فلذلك ننقل ما عثرنا عليه من الأقوال والآراء حول هذه المسألة وباللَّه تعالى التوفيق:

قال المولى أحمد النراقي رحمه الله:

فرعٌ: يجوز استدارة المقتدين بإمام واحد حول الكعبة بشرط أن لا يكونوا أقرب إلى الكعبة من الإمام وفاقاً للمحكي عن الإسكافي والذكرى مدّعياً عليه الأخير للإجماع، للأصل والاطلاقات، وخلافاً للفاضل في جملة من كتبه فأوجب وقوف المأموم في الناحية التي فيها الإمام لوجهٍ غير تام (3).

وقالصاحب الجواهر رحمه الله:

... وكيف كان فالأقوىصحة الجماعة مع الاستدارة، والأحوط عدم أقربية المأموم فيها إلى الكعبة بحسب الدائرة. وأحوط منه ملاحظة الكعبة مع ذلك، وأحوط منه أقربية الإمام إليها دائرة وعيناً، واللَّه أعلم (4).

وقال السيد اليزدي،صاحب العروة الوثقى رحمه الله في بحثصلاة الجماعة: المسألة 24: يجوز- على


1- 1 أنظر الحدائق الناضرة 11: 118.
2- 2 أنظر مستند الشيعة، للنراقي: 533.
3- 3 مستند الشيعة، للمولى أحمد النراقي رحمه الله ت 1245 ه: 533، أحكام الجماعة.
4- 4 جواهر الكلام، للشيخ محمد حسن النجفي رحمه الله ت 1266 ه، 13: 230.

ص: 166

الأقوى- الجماعة بالاستدارة حول الكعبة، والأحوط عدم تقدم المأموم على الإمام- بحسب الدائرة- وأحوط منه عدم أقربيته مع ذلك إلى الكعبة، وأحوط من ذلك تقدم الإمام- بحسب الدائرة- وأقربيّته مع ذلك إلى الكعبة (1).

وقال الإمام الراحل الخميني الكبير- سلام اللَّه عليه- في جواب مسألة: رجلٌصلّى في المسجد الحرام على نحو الاستدارة ووقف في الصلاة مقابل الإمام أو في طرفيه هل هذه الصلاة تحتاج إلى الإعادة أم لا؟

قال رحمه الله: لا تحتاج في الوضع الراهن إلى الإعادة (2).

ولا يخفى أن الإمام الخميني رحمه الله قال سابقاً في حاشيته على العروة الوثقى في ذيل هذه المسألة (الجماعة بالاستدارة): لا يخلو من إشكال (3).

وقال السيد الحكيم رحمه الله:

... وعن الذكرى الإجماع عليه عملًا في الأعصار السابقة، وهو العمدة ... لكن الظاهر ثبوت السيرة عليه في عصر المعصومين عليهم السلام، من دون نكير منهم عليهم السلام- كما أشار إليه في محكي الذكرى- فيكون دليلًا على الصحة في قبال ما ذكر (4).

وقال السيد الميلاني رحمه الله في تعليقته على هذه المسألة:

الظاهر أن الأقربية (إلى الكعبة) هي ملاك التقدم لا أنهما أمران (5).

وقال السيد الگلپايگاني رحمه الله:

يجوزصلاة الجماعة بالاستدارة، والأحوط أن لا يتقدم المأموم بحسب الدائرة على الإمام ... (6).

وقال الشيخ محمد علي الأراكي رحمه الله: يجوز الجماعة الاستدارة حول الكعبة بشرط تأخر المأموم عن موضع سجدة الإمام وعدم أقربيته من الكعبة عنه بحسب الدائرة (7).

وقال الأستاذ الشيخ محمد الفاضل اللنكراني:

إنصلّىصلاة الجماعة بالاستدارة مراعياً التقيّة فصلاته


1- 1 العروة الوثقى 1: 783.
2- 2 مناسك الحج محشى: 432- 433.
3- 3 العروة الوثقى 1: 783.
4- 4 مستمسك العروة الوثقى 7: 248- 249.
5- 5 العروة الوثقى 1: 783.
6- 6 مناسك الحج محشى: 433.
7- 7 المصدر نفسه.

ص: 167

صحيحة وليس عليه الإعادة، ولا يجوز في غير موردها (1).

وقال الإمام الخامنئي في جواب هذه المسألة كما يلي:

س 100: هل تجزيصلاة الجماعة التي تقام بشكل دائري حول الكعبة؟

ج: تجزي.

نتيجة البحث:

1- لا نرتاب في فضل الصلاة بالجماعة لما فيه من الأحاديث الكثيرة حول فضلها وتأكيدها.

2- قد بيّنا فضل الصلاة في المسجد الحرام، خصوصاً إذا كانت مع الجماعة.

3- ذكرنا فضل الاقتداء في الصلاة بأهل السنة.

4- من الناحية التأريخية ذكرنا أن ساحة المسجد الحرام كانت على حدّ المطاف (5/ 26 ذراعاً) فقط ثمصارت واسعة لمرات عديدة على مرّ العصور حتى بلغت 356000 متراً وهي مساحة تتسع لأكثر من 770 ألف من المصلين في وقت واحد.

5- استفدنا من بعض النصوص التأريخية وقوع الصلاة جماعة في المسجد الحرام وبالاستدارة حول الكعبة المشرفة منصدر الإسلام.

واستفدنا من بعض النصوص أيضاً أن مَن الذي أدار الصفوف أوّلًا حول الكعبة المشرفة؟

6- نقلنا عن الفاكهي والأزرقي أن خالد بن عبد اللَّه القسري هو أول من أدار الصفوف حول الكعبة.

7- ذكرنا ما جرى في المسجد الحرام من تعدد الجماعات لكل وقت من أوقات الصلوات المفروضة في فترةٍ وإنكار العلماء له في فترةٍ أخرى.

8- بيّنا أنصلاة الجمعة انعقدت في المسجد الحرام من دون تعدد لكل جمعة حتى في فترة التعدد ووجود المحاريب الأربعة فيه ولم يمكن وقوعها إلّامستديرة.


1- 1 المصدر نفسه.

ص: 168

9- من الناحية الفقهية ذكرنا أقوال علماء العامة والخاصة وقلنا إن أهل السنة أجمعوا على جواز استدارة المأمومين حول الكعبة اقتداءً بإمام واحد.

وذكرنا أيضاً أقوال العلماء والفقهاء الشيعة بين متوقف، ومحتاط، ومنكر، ومجيز وقوّينا قول الُمجيزين لما فيه من المتانة، وأن هيئة الجماعة في المسجد الحرام خاصة به، ويصدق عرفاً أن هذه الهيئة من الجماعة هيئةصحيحة لا بأس بها بشرط أن لا يكون المأموم أقرب من الإمام إلى الكعبة المشرفة.

وبما أنصلاة الجماعة بالاستدارة وقعت قطعاً في عصر الأئمة المعصومين عليهم السلام ولم ينكروا هذا الأمر، سلكنا طريق الجواز.

فعدم الإنكار منهم عليهم السلام أوّلًا وتصديق العرف لتلك الهيئة من الجماعة حول الكعبة ثانياً وإفتاء الأعاظم من الفقهاء على الجواز ثالثاً هي الدلائل التي لا يمكن غض النظر عنها، واللَّه تعالى هو العالم بحقائق الأمور.

وفي الختام أرجو من الأفاضل والعلماء أن يبحثوا ويتفحّصوا في أمثال هذه البحوث التي لم يوجد نص قطعي حولها ولما فيها من الفوائد المهمة وإنصَعب الفحص فيما لا نصّ فيه.

ص: 169

الهوامش:

هل طاف النبيُّ صلى الله عليه و آله و سلم حول الأصنام في عمرة القضاء

ص:170

ص: 171

هل طاف النبيُّصلى الله عليه و آله و سلم حول الأصنام في عمرة القضاء؟

محمد هادي اليوسفي

أفاد الشيخ المفيد في «الإرشاد» في فصل خصّه بصلح الحديبية قال: لما ضرع سهيل بن عمرو إلى النبيّصلى الله عليه و آله و سلم في الصلح، نزل عليه الوحي بالإجابة إلى ذلك، وأن يجعل أمير المؤمنين عليه السلام كاتبه يومئذٍ والمتولي لعقد الصلح بخطّه (1)فقال لعلي عليه السلام: اكتب: بسم اللَّه الرحمن الرحيم.

فقال سهيل: ما أدري ما الرحمن .. إلّاأنّي أظنّه هذا الذي باليمامة، ولكن أُكتب كما نكتب: باسمك اللّهمّ [فكتب: باسمك اللّهمّ].

فقال: واكتب: هذا ما قاضى عليه رسولُ اللَّه سهيلَ بن عمرو.

فقال سُهيل: فعلام نقاتلك يا محمد؟!

فقالصلى الله عليه و آله و سلم: أنا رسول اللَّه وأنا محمد بن عبد اللَّه.

فقال الناس: أنت رسول اللَّه (2).

فقال سهيل بن عمرو: لو علمنا أنك رسول اللَّه ما حاربناك. اكتب: هذا ما


1- 1 الارشاد 1: 119، وأشار اليه الحلبي في مناقب آل أبي طالب 1: 203 ط قم المقدسة.
2- 2 روضة الكافي عن الصادق عليه السلام: 268، 269 ط النجف الأشرف.

ص: 172

تقاضى عليه محمد بن عبد اللَّه. أتأنف من نسبك يا محمد؟!

فقال رسول اللَّه: أنا رسول اللَّه وإن لم تُقرّوا. ثم قال: امحُ يا علي واكتب: محمد بن عبد اللَّه.

فقال أمير المؤمنين عليه السلام: ما أمحو اسمك من النبوة أبداً! فمحاه رسول اللَّه بيده.

ثم كتب [علي عليه السلام]:

«هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد اللَّه والملأ من قريش وسهيل بن عمرو، اصطلحوا على:

1- وضع الحرب بينهم عشر سنين (1)على أن يكفّ بعض عن بعض وعلى أنه لا إسلال ولا إغلال (2) وأن بيننا وبينهم غيبة مكفوفة.

2- وأنه من أحبّ أن يدخل في عهد محمد وعقده فعل، وأنّ من أحبّ أن يدخل في عهد قريش وعقدها، فعل.

3- وأنه من أتى من قريش إلى أصحاب محمد بغير إذن وليّه يردّوه اليه، وأنه من أتى قريشاً من أصحاب محمد لم يردّوه اليه.

4- وأن يكون الإسلام ظاهراً بمكة، لا يُكره أحد على دينه ولا يؤذى ولا يُعيّر.

5- وأن محمداً يرجع عنهم عامه هذا، وأصحابه، ثم يدخل في العام القابل مكة، فيقيم فيها ثلاثة أيام. ولا يدخل عليها بسلاح الا سلاح المسافر: السيوف في القِراب» وشهد على الكتاب المهاجرون والأنصار، وكتب علي بن أبي طالب (3).

كذا ذكر شروط الصلح القمي في تفسيره، وكذا في سائر مصادر السيرة والتاريخ، وزاد في «تفسير العياشي» في خبر عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «كان من شرط رسول اللَّه عليهم: أن يرفعوا الأصنام ..» (4) أي في هذه الأيام الثلاثة


1- 1 وكذلك في رواية الطبرسي في مجمع البيان 9: 179 عن الزهري عن المسور بن مخرمة، وذكر الحلبي في المناقب 1: 203: سبع سنين. واليعقوبي 2: 54: ثلاث سنين. ط بيروت.
2- 2 الاسلال: سل السيف، والإغلال من الغُل أي الأسر.
3- 3 تفسير القمي 2: 113 ط النجف الأشرف.
4- 4 تفسير العياشي 1: 70.

ص: 173

موعد قضاء عمرته والمسلمين معه. وسنعود على دراسة هذا الشرط.

عمرة القضاء:

فلما دخل هِلال ذي القعدة من سنة سبع، أمر رسول اللَّه الذين شهدوا معه الحديبية أن لا يتخلّف أحد منهم عن قضاء عمرتهم معه هذه السنة (السابعة) وسمح لمن لم يكونوا معه.

فروى الواقدي بسنده عن ابن عباس قال: فقال رجل من حاضري المدينة من العرب: يا رسول اللَّه، ما لَنا من يُطعمنا؟

فأمر رسول اللَّه المسلمين أن يتصدّقوا عليهم في سبيل اللَّه.

فقالوا: يا رسول اللَّه، بِمَ نتصدق وأحدنا لا يجد شيئاً؟

فقال رسول اللَّه: بما كان، ولو كان بِشقّ تمرة، ولو بِمِشقص (1) يحمل به أحدكم في سبيل اللَّه (2).

واستقدم رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم ستين بدنة، ثم قام فقلّدها بنفسه بيده، ثم أمر ناجية بن جُندب الأسلمي ومعه أربعة فتيان من بني أسلم، وعُبيد بن أبي رُهْم الغفاري، وأبو هريرة الدوسي- وقد قدم على النبي في خيبر تلك السنة- فساقوا هَدْي رسول اللَّه، يسيرون أمامه يطلبون الرَعي في الشجر والكلاء والمَرعى.

وأمر رسول اللَّه محمد بن مَسلمة الأنصاري فأعدّ مئة فرس.

وأمر بشير بن سعد أن يُعدّ بيضاً ودروعاً ورماحاً وسلاحاً لتلك الكتيبة.

فقيل: يا رسول اللَّه! حملت السلاح! وقد شرطوا علينا أن لا ندخل عليهم إلا بسلاح المسافر: السيوف في القُرُب؟!.

فقال رسول اللَّه: إنا لا نُدخلها عليهم الحرم، ولكن تكون قريباً منّا، فإن هاجَنا هَيْجٌ من القوم كان السلاح قريباً منّا.


1- 1 المِشقص: نصل السهم الطويل غير العريض.
2- 2 تمام الخبر: فأنزل اللَّه في ذلك قوله سبحانه: «وأنفقوا في سبيل اللَّه ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة، وأحسِنوا، إن اللَّه يحبّ المحسنين» البقرة: 195. وقبلها آية الشهر الحرام، وبعدها خمس آيات في الحج، وهذا يتلاءم وفحوى الخبر، ولعل هذا مما يفسّر كون الآيات من سورة البقرة بأنها أُلحقت بالبقرة فيما بعد.

ص: 174

وخرج المسلمون ألْفين (1) وأحرم رسول اللَّه من الجُحفة (2) وسار رسول اللَّه يلبّي ويلبّي المسلمون معه.

وفي مَرّ الظَّهْران التقى نفر من قريش بمحمد بن مَسلمة وبشير بن سعد فرأوا معه سلاحاً كثيراً، فخرجوا سِراعاً فأخبروا قريشاً بالذي رأوا من الخيل والسلاح.

وفي بَطْن يأجَج قُرب أنصاب الحرم تلاحق النبيّ في أصحابه والهَدْي والسلاح.

مبعوث قريش:

وبعثت قريش مِكرز بن حفص بن الأحنف في نفر من قريش، فالتقوا بالنبيّ في بطن يأجَج، فقالوا:

يا محمد! واللَّه ما عُرفْتَ-صغيراً ولا كبيراً- بالغدر، تَدخل بالسلاح الحرم على قومك وقد شرطت أن لا تدخل الا بسلاح المسافر: السيوف في القُرُب؟!

فقال رسول اللَّه: لا ندخلها الا كذلك.

فرجع مِكرز الى مكة مُسرعاً يقول لهم: إنّ محمداً لا يدخل بسلاح، وهو على الشرط الذي شرط لكم.

ثم خلّف على السلاح هناك في بطن يأجَج مئتي رجل، وجعل عليهم أوس بن خَوْليّ.

وأمر رسول اللَّه أن يذهبوا بالهَدْي أمامَه فيحسبوه في ذي طُوى. وخلّف مئتي رجل على السلاح عليهم أوس بن خَوْليّ.

وخرج رسول اللَّه على ناقته القَصْواء (3) وأصحابه محدقون به متوشّحين


1- 1 مغازي الواقدي 2: 731- 733.
2- 2 فروع الكافي 4: 251 و 252 ح 10 و 13؛ وكتاب من لا يحضره الفقيه 2: 275 ح 7؛ وفي مغازي الواقدي: أحرم من باب المسجد 2: 733 و 734.
3- 3 سيأتي عن الصادق عليه السلام أن الناقة كانت العَضباء.

ص: 175

السيوف يلبّون، حتى انتهى إلى ذي طُوى، ولهم يقطع التلبية حتى بلغ عروش مكة (1) ثم دخل من الثنيّة التي تطلع على الحَجون.

وقالت قريش: لا ننظر إليه ولا إلى أصحابه، فخرجوا من مكة إلى رؤوس الجبال (2) وقد رفعوا الأصنام حسب شرط الصلح (3).

وروى ابن اسحاق عن ابن عباس: أن جمعاً اصطفّوا له عند دار الندوة لينظروا اليه والى أصحابه- وتحدّثوا في ما بينهم: أنّ محمداً وأصحابه في عسرة وجَهد وشدة! (4) فدخل مكة حتى طاف بالبيت.

فروى الكليني في «الكافي» بسنده عن الصادق عليه السلام قال: طاف رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم على ناقته العَضباء، وجعل يستلم الاركان (والحجر) بمحجنه ويُقبّل الِمحجَن (5).

وطاف على راحلته حتى ينظر الناس الى هيئته وشمائله وقال: خذوا عنّي مناسككم. وكان تحته رَحْلٌ رثٌّ، وقطيفة قيمتها أربع دراهم (6).

وكان عبد اللَّه بن رَواحة آخذاً بخطام راحلة الرسول وهو يقول:

خلّوا بني الكفّار عن سبيله خلّوا، فكل الخير في رسوله

يا ربّ إني مؤمن بقيله (7) أعرف حقّ اللَّه في قبوله (8) فنهَره عمر بن الخطّاب قال: يابن رواحة! فردّ عليه رسول اللَّه قال: يا عمر؛ إني أسمع!.

فلما أتم الشوط السابع نزل فصلى ركعتي الطواف خلف مقام إبراهيم عليه السلام (9).

ثم ركب راحلته فسعى بين الصفا والمروة على راحلته، فلما أتم المشوار السابع عند المروة نحرَ هدْيَه هناك، أو بين المروة والصفا، وقال: هذا المنحَر، وكل فجاج مكة منحر (10) ثم حلق رأسه خراش بن أمية عند المروة (11).


1- 1 النص: حتى جاء عروش مكة، ذلك أن أكثر بيوت مكة كانت بيوت شَعر قائمة على الأعواد. فَسُمّيت عروشاً- النهاية 3: 81.
2- 2 مغازي الواقدي 2: 734، 735.
3- 3 انظر شروط الصلح، وتفسير العياشي 1: 70.
4- 4 ابن اسحاق في سيرة ابن هشام 4: 12.
5- 5 فروع الكافي 4: 426؛ وعنه في وسائل الشيعة 13: 414 ط آل البيت، والمحجَن: العصا المعقوفة الرأس.
6- 6 عوالي اللئالي 4: 34 ح 118؛ وعنه في مستدرك الوسائل 9: 420 ح 4 ط آل البيت.
7- 7 إعلام الورى: 102.
8- 8 ابن اسحاق في سيرة ابن هشام، وبعده: نحن قتلناكم على تأويله- كما قتلناكم على تنزيله، ضرباً يزيل الهام عن مَقيله- ويذهل الخيل عن خليله: وعلق ابن هشام على هذا يقول: نحن قتلناكم على تنزيله الى آخر الابيات لعمار بن ياسر في غير هذا اليوم ؟صفّين! قال: فإنما يُقتل على التأويل من أقرّ بالتنزيل- 4: 13. والغريب: أن ابن اسحاق روى هذا الغلط على عبد اللَّه بن أبي بكر! والواقدي في المغازي 2: 735 رواه بعينه بسنده عن امّ عُمارة ويتفطّن الى هذا الإشكال، وكذلك الطبرسي في أعلام الورى: 102 والحلبي في مناقب آل ابي طالب 1: 205، بلا التفات الى تنبيه ابن هشام.
9- 9 روى الكليني في فروع الكافي 4: 223 ح 2 والصدوق في كتاب من لا يحضره الفقيه 2: 158 ح 12 بسندهما عن الإمام الباقر عليه السلام قال: «موضع المقام الذي وضعه إبراهيم عليه السلام عند جدار البيت، فلم يزل هناك، حتى حوّله أهل الجاهلية الى المكان الذي هو فيه اليوم وكذلك كان في عمرة القضاء فلما فتح النبيصلى الله عليه و آله و سلم مكة ردّه إلى الموضع الذي وضعه فيه إبراهيم عليه السلام. فلم يزل هناك إلى أن ولي عمر بن الخطاب، فسأل الناس: من منكم يعرف المكان الذي كان فيه المقام؟! فقال رجل: أنا، قد كنت أخذت مقداره بنَشع قيد من جلد فهو عندي! فقال: ائتني به، فأتاه به، فقاسه، ثم ردّه الى ذلك المكان». ولقائل ان يقول: فلماذا لم يردّه أمير المؤمنين علي عليه السلام؟! وفي جوابه روى الكليني ايضاً في روضة الكافي: 51 عنه عليه السلام خطبة قال فيها: «قد عملت الولاة قبلي أعمالًا خالفوا فيها رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم متعمّدين لخلافه، ناقضين لعهده، مغيّرين لسنّته، ولو حملت الناس على تركها وحوّلتُها الى موضعها والى ما كانت عليه على عهد رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم لتفرق عني جُندي حتى أبقى وحدي ... أرأيتم لو أمرت بمقام ابراهيم عليه السلام فرددته إلى الموضع الذي وضعه فيه رسول اللَّه ... اذاً لتفرّقوا عني». ومن اهل السنة روى السجستاني في مسند عائشة: 82 برقم 73 عن هشام بن عروة عن خالته عائشة قال: قالت: «كان رسول اللَّه يصلي بعد فتح مكة الىصِقع البيت ليس بينه وبين البيت شي ء، وأبو بكر، وعمرصدراً من إمارته، ثم إن عمر ردّ الناس الى المقام» بل ردّ المقام إلى ما عمله الناس في الجاهلية، ولم يتركههم على السنة النبوية الشريفة. رواه الفاكهي في أخبار مكة 1: 442، والأزرقي في أخبار مكة 2: 30، وابن حجر في فتح الباري 8: 169، والبيهقي في السنن الكبرى 5: 75.
10- 10 مغازي الواقدي 2: 736؛ وانظر وسائل الشيعة 14: 88؛ ومستدرك الوسائل 10: 83.
11- 11 مغازي الواقدي 2: 737.

ص: 176

ثم أمر رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم مئتين من أصحابه أن يذهبوا الى أصحابهم في بطن يأجَج فيقيموا على السلاح، ليأتي الآخرون فيقضوا نُسكهم، ففعلوا (1).

أذان بلال:

ثم أرسل رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم الى المشركين ليدخل الكعبة، فأبوا وقالوا: لم يكن في شرطك! فدخل في فناء البيت، فلم يزل هناك حتىصار الزوال، فأمر بلالًا أن يصعد على الكعبة فيؤذّن، فصعدَ وأذّن فوق الكعبة ..

فحين سمعه سُهيل بن عمرو ومعه رجال غطّوا وجوههم!

وقال خالد بن أَسيد: الحمد للَّه الذي أمات أبي ولم يشهد هذا اليوم، حين يقوم بلال ابن امّ بلال ينهق فوق الكعبة!

وقال عكرمة بن أبي جَهل: لقد أكرم اللَّه أبا الحكم حيث لم يسمع هذا اليوم العبد يقول ما يقول!

وقالصفوان بن أمية: الحمد للَّه الذي اذهب أبي قبل أن يرى هذا (2).

وكان عقيل بن أبي طالب قد باع منزل رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم ومنزل إخوته من الرجال والنساء بمكة .. فقالصلى الله عليه و آله و سلم: لا أدخل البيوت .. وضرب له مولاه ابو رافع قبةً من الأدم (الجلود) بالحَجون (من الابطح) .. فاقبل رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم حتى انتهى الى القبّة ومعه أم سلمة. وكان يأتي للصلاة الى المسجد من الحَجون في عمرة القضاء (3).

وماذا عن الأصنام؟

بدأت المقال بذكر شروطصلح الحُديبية نقلًا عن «تفسير القمي» وكما في سائر مصادر السيرة والتاريخ، ولم يكن فيها شرط رفع الأصنام، فهل كانت


1- 1 مغازي الواقدي 2: 740.
2- 2 مغازي الواقدي 2: 737، 738.
3- 3 مغازي الواقدي 2: 829.

ص: 177

وطاف حولها رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم والمسلمون؟!.

أما القمي في تفسيره فقد قال هنا: إن قريشاً كانت قد وضعت أصنامها بين الصفا والمروة، وكانوا يتمسّحون بها إذا سعوا. فلما كان من أمر رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم ما كان في الحديبية وصدوه عن البيت، شرطوا له أن يخلّوا له البيت في عام قابل حتى يقضي عمرته ثلاثة أيام ثم يخرج عنها. فلما كان عمرة القضاء في سنة سبع من الهجرة دخل مكة وقال لقريش: ارفعوا أصنامكم من بين الصفا والمروة حتى أسعى. فرفعوها، فسعى رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم بين الصفا والمروة وقد رُفعت الأصنام (1).

هذا وقد مرّ أن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم أرسل اليهم أن يدخل الكعبة فأبوا وقالوا:

لم يكن في شرطك. وهذا هو المنسجم مع أخلاق مشركي قريش، فكيف بما هو فوقه من رفع الأصنام بلا شرط سابق؟!

وتمام كلام القمي: فلما فرغ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم من الطواف ردّت قريش الأصنام بين الصفا والمروة .. وبقي رجل من المسلمين من أصحاب رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم لم يَطُفْ .. فجاء الرجل الذي لم يَسْعَ الى رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم فقال: قد ردّت قريش الأصنام بين الصفا والمروة ولم أسع؟! فأنزل اللَّه عزّ وجل: «إنّ الصفا والمروة من شعائر اللَّه فمن حجّ البيت أو اعتمر فلا جُناح عليه أن يطّوّف بهما ...» (2).

وفي «فروع الكافي» و «تفسير العياشي» عن الصادق عليه السلام قال: إن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم كان (من) شرطه عليهم: أن يرفعوا الأصنام .. فتشاغل رجل من أصحابه حتى أُعيدت الأصنام، فجاؤوا الى رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم فسألوه: إن فلاناً لم يَطُف، وقد أُعيدت الأصنام؟ فأنزل اللَّه: «إنّ الصفا والمروة من شعائر اللَّه فمن حجّ البيت أو اعتمر فلا جُناح عليه أن يطّوّف بهما ...» قال: أي والأصنام عليها (3).


1- 1 تفسير القمي 2: 64.
2- 2 المصدر نفسه.
3- 3 تفسير العياشي 1: 70.

ص: 178

ولعلّ هذا الخبر ومثله هو الذي أشار اليه الشيخ الطوسي في «التبيان» وخصّ الأصنام فقال: هذا جواب لمن توهّم أن في السعي بهما جَناحاً، لصنمين كانا عليهما: إساف ونائلة .. روي ذلك عن أبي جعفر وأبي عبد اللَّه عليهما السلام.

وقال به الشعبي وكثير من أهل العلم.

ولكنّه واصل الكلام قائلًا: «وكان ذلك في عمرة القضاء ولم يكن فتح مكة بعد، وكانت الأصنام على حالها حول الكعبة».

فلو كانت الأصنام حول الكعبة أيضاً في الطواف بها قبل السعي، فما الذي خصّ توهّم الجناح في السعي دون الطواف بالكعبة من قبل؟! فلعلّه لدفع هذا أضاف:

وقال قوم: سبب ذلك: أن أهل الجاهلية كانوا يطوفون بينهما، فظن المسلمون أن ذلك من أفعال الجاهلية، فأنزل اللَّه الآية (1).

وقد أورد هذا الطباطبائي في تفسيره «الميزان» عن «فروع الكافي» في حديث حجّ النبيّصلى الله عليه و آله و سلم عن الصادق عليه السلام قال: إن المسلمين كانوا يظنون أن السعي بين الصفا والمروة شي ءصنعه المشركون، فأنزل اللَّه: «إنّ الصفا والمروة من شعائر اللَّه ..» فبعدما طاف (النبيّ) بالبيت وصلى ركعتيه (قرأ): «إنّ الصفا والمروة من شعائر اللَّه ..» وقال: أبدأ بما بدأ اللَّه عزوجل (2).

وقد اعتمد الطبرسي في «مجمع البيان» على هذا الخبر ثم قال: ورويت رواية أخرى عن أبي عبد اللَّه عليه السلام، فروى الخبر السابق عن «فروع الكافي» و «تفسير العياشي» (3).

وفي «تفسير العياشي» عن الصادق عليه السلام أيضاً قال: كان على الصفا والمروة أصنام، فلماأن حجّ الناس لم يدروا كيف يصنعون؟ فأنزل اللَّه هذه الآية: «إنّ الصفا والمروة من شعائر اللَّه ..» فكان المسلمون يسعون والأصنام على حالها (4).


1- 1 التبيان 2: 44.
2- 2 تفسير الميزان 1: 387.
3- 3 مجمع البيان 1: 440.
4- 4 تفسير العياشي 1: 71.

ص: 179

والتنافي فيما بين الروايتين في شأن نزول الآية ظاهر (1) بل بين الروايات.

وعليه فلابدّ من ترجيح.

فما هو المظنون الراجح؟

مرّ أن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم أمر بلالًا فأذّن فوق ظهر الكعبة، فهل أذّن بين ظُهرانيّ الأصنام؟! ولو كان لذكر لغرابته. ولو كانت الأصنام منصوبة على المروة وقد قدّموا هَدْيهم عندها، أو كانت الأصنام بينها والصفا وقد قدّموا هدْيهم هناك، لكان غريباً يُذكر وضَبْط الألفين من المسلمين وانضباطهم عن أن يمدّ أحدهم يده أو لسانه بالإهانة الى الأوثان والأصنام في المسعى وحول البيت الحرام بعيد أيضاً، ولا أقلّ من خوف المشركين من ذلك وقد شرطوا للنبيّ أن يخلّوا له البيت والمسجد والمسعى ومكة، وهذا مما يقرّب تقبّلهم لاشتراط النبيّ عليهم رفع الأصنام، أقرب من أن يبقوا في خوف وقلق وحذر من أن تُمسّ أصنامهم بسوء بيد أو لسان.

ولعلهم كانوا قد جمعوها في داخل البيت ولذلك لم يسمحوا للنبيصلى الله عليه و آله و سلم بدخول البيت. ومهما كان فلا أقل من محاولة النبيّ والمسلمين اشتراط رفعها عليهم، في حين لم يذكر ذلك فيما سوى هذا الخبر عن الصادق عليه السلام. فأظن أن كل هذه مرجّحات الى جانبه دون سائر الأخبار.

الهوامش:

حوار مع ممثّل الولي الفقيه في شؤون الحج والزيارة حول موسم الحجّ لهذا العام


1- 1 انظر الميزان 1: 387؛ وأسباب النزول للواحدي: 47، 48 ط بيروت، فيه أخبار عن أنس بن مالك وعائشة وابن عباس كلها في الأصنام على الصفا والمروة، والأخير يفيد أن ذلك كان بعد فتح مكة وكسر الأصنام!.

ص:180

ص: 181

ص: 182

حوار مع ممثّل الولي الفقيه في شؤون الحج والزيارة حول موسم الحجّ لهذا العام 1416

سؤال 1: ما هي خصوصيات حجّ هذا العام؟ وما التحوُّل أو الحدث المهم الذي شهدتموه في حجّ هذه السنة قياساً مع حج العام الفائت؟

جواب: لقد كانت بفضل اللَّه ورعايته هناك خصوصيات اتَّسمَ بها حجّ هذا العام ميزته عن حجّ العام الماضي. ومن أولى تلك الخصوصيات:

النشاطات والتحرّكات الاعلامية والثقافية المتميزة. لقد شهدنا حقاً حجّاً نَشِطاً واستثنائياً وفعّالًا للغاية كانت له آثاره الواضحة على الاعلام الخارجي.

أما الخصوصية الثانية، فهي تزامن الصلابة والعزّة مع حفظ روح رباطة الجأش في حجّ هذا العام.

والواقع أنّ حجّ زوّار بيت اللَّه الحرام الايرانيين اتّصف دوماً بالعزّة والصلابة وذلك بعد انتصار الثورة الإسلامية. إلا أنهما أكثر وضوحاً في هذا العام، كما أن كل ذلك ترافق معصفتي الهدوء والسكينة، وقد شعر بهذا كلّه الحجاج

ص: 183

الآخرون ومن كان متواجداً في الديار المقدسة. لقد شعر زوّار بيت اللَّه الحرام من الايرانيين وغير الايرانيين، وأحسّوا بذلك ولمسوه عن قرب وأدركوا معنى ومفهوم هذه العزّة والصلابة ..

والخصوصية الثالثة هي أنّنا لم نواجه أيّة مشكلة حقيقية في هذه السنة، لا في المجال التنفيذي ولا في المجال الثقافي والاعلامي، ولا أُريد أن أجزم بعدم وجود أيّة مشكلة على الاطلاق، إلّاأنّه ومقارنة بالسنين الماضية فقد كانت هذه السنة أقلَّ مشاكل وأقل عقبات وصعوبات.

وفيما يتعلق بالخصوصية الرابعة، يمكن القول: إن المحور الذي دارت حوله بعثة القيادة كان له بُعْدٌ سياسي إضافة الى البعدين الفقهي والديني وقد أُدرِك ذلك بالقياس الى السنوات الماضية، فقد ازدادت مراجعات زوّار بيت اللَّه الحرام من الايرانيين وكذلك الشيعة والمسلمين عموماً من أنحاء وأقطار مختلفة وتوالت على البعثة أكثر من السنين الخوالي.

ويمكن الجزم هنا أنَّ هذه السنة كانت في الواقع سنة ترسيخ سياسة الجمهورية الاسلامية فيما يتعلق بأُمور الحجّ، تلك السياسة التي رسم سماحة الإمام الخميني قدس سره خطوطها العريضة واكَّدَ سماحة القائد المعظّم الامتثال لها دوماً.

نتمنى من العلي القدير أن يوفّقنا في السنوات القادمة لأداء خدمات أكثر فعاليةً في الحج وتحقيق الأهداف والأماني التي سعى الإمام الراحل قدس سره وسماحة القائد المعظّم إلى تحقيقها.

سؤال 2: إنَّ الضغط والاصرار اللذين اتّبعهما سماحتكم في سبيل إقامة مراسيم البراءة من المشركين أدى الى إقامتها فعلًا في عرفات. ما هو تحليل معاليكم لهذه المسألة؟

جواب: انّي اعتبر إقامة مراسيم البراءة بكلّ عظمتها فضلًا إلهياً كبيراً، وأمّا اصراري فإنّما كان من أجل

ص: 184

تحقيق أوامر سماحة الإمام الخميني قدس سره وسماحة القائد المعظّم السيد الخامنئي- مدّ ظله- وكذلك من أجل أداء واحد من الواجبات والتكاليف الشرعية الإلهية، ولقد كان أعلنَ وزير الحج السعودي في العام الماضي بعد لقائه بسيادة رئيس هيئة الحج المحترم والوفد المرافق له، أنّه تمَّ اغلاق ملفّ البراءة الى الأبد ولن يُسمَح بفتحه ثانيةً، وانّه لو تمَّ الاصرار على ممارسة البراءة فإنَّه- أي الوزير المذكور- لا يستبعد وقوع حوادث مشابهة لتلك التي وقعت في مجزرة يوم الجمعة في عام 1407 ه وقد أقدمتُ شخصياً على إقامة تلك المراسيم في عرفات مستلهماً عملي هذا من توصيات سماحة القائد المعظم الذي تفضَّل قائلًا: إنَّ علينا العمل وفقاً للتكليف الشرعي المُناط بنا ما استطعنا الى ذلك سبيلًا، ومستمدّاً الإعانة من الباري عزّوجل، وتوسُّلًا بحضرةصاحب الأمر عجل اللَّه تعالى فرجه الشريف.

ولقد أدركت حكومة السعودية بعد إقامة هذه الشعيرة من قِبَلِنا في العام الماضي أنّنا مُصمّمون وجادّون في إقامة تلك الشعيرة مهما كانت الظروف الى الحدّ الذي نؤدّي فيه واجبنا الشرعي على أكمل وجه. من هذه المنطلقات كان أداؤنا لمراسيم البراءة في عرصة عرفات موفقاً وعلى هذا فلا يمكنهم منعنا من ممارسة واجبنا الشرعي بالرّغم من تواجد الآلات الحربية وقوات الأمن، ولذا فقد شهدنا في العام الحالي تهديدات أقلَّ ممّا شهدناه في العام الماضي من قِبَل الحكومة السعودية. ومع أنَّ وزير الحج السعودي كان قد أرسل مُذكّرةً تحثُّ على الامتناع عن ممارسة شعيرة البراءة وشدَّدَ على احتمال وقوع حوادث غير متوقَّعة، إلّاأنّه، وبفضل اللَّه سبحانه ودعاء الصالحين، تمَّ اقامة هذه الشعيرة في عرفات أفضل من ذي قبل. وأظُنُّ أنَّ المسؤولين السعوديين أدركوا أنَّ أيّ أذىً أو ضَرر نتيجة

ص: 185

مقابلة مُؤدّي مراسيم البراءة بخشونة لن يكون فيصالحهم، خصوصاً أثناء الحالة التي تواجد فيها الحجاج في عرفات وتجمّعهم هناك وانشغالهم بالدّعاء والتَّضرّع.

سؤال 3: ما هو هدفكم من الإصرار على إقامة مراسيم البراءة؟

جواب: إنَّ لإصرار الجمهورية الإسلامية على أداء مراسيم البراءة له أساسٌ وجذور عميقة في ثقافتنا الدينية، وكذا في المبادئ الأساسية للإسلام في مجال إقامة الحج الإبراهيمي. وإزاء ذلك فإنَّ الحجَّ ليس مجرد إقامة سلسلة من الأعمال والعبادات الجافة أو عديمة الرّوح، ذلك أنّ مثل هذه الاعمال كانت تُمارَسُ في الجاهلية أيضاً حيث كان الناس يجتمعون حول الكعبة للطواف ومن ثَمَّ يشرعون بالذهاب الى المشعر ومنىً، وقد قال الإمام الباقر عليه السلام: «هكذا كانوا يطوفون في الجاهلية».

إنَّ الكعبة بيت ومحطّ التوحيد، وكلمة التوحيد تتضمّن كلمة «لا إله» و «إلّا اللَّه»، وعلى من يُوحِّد اللَّه أن يسعى في نفي الآلهة المزيّفة، ثم يسعى بعدها في تثبيت كلمة «اللَّه».

إنَّ إظهار مسألة التوحيد على أنّها مسألة ذات بعد واحد، هي السياسة عينها التي اتّبعها بنو أمية كافة. وقد ذكر الامام الصادق عليه السلام ذلك بقوله: «إنّ بني أُمية أطلقوا للناس تعليم الإيمان ولم يطلقوا تعليم الشرك لكي إذا حملوهم عليه لم يعرفوه (1).

إنَّ البراءة من المشركين هي الهدف الأصولي من معرفة الشّرك ومحاربة المشركين.

إنَّ الحج هو أفضل محلٍّ لتنوير عقول الشعوب المسلمة وتنبيههم في هذا المجال، وعلى المسلمين هنا أن يواجهوا مشاكلهم واحتياجاتهم، وبحث القيادة الإلهية للعالم الاسلامي، واتحاد ووحدة المجتمع الإسلامي والسُّبل الكفيلة لتحقيقها، والوقوف بوجه عالَم الشرك والقوى الاستعمارية.


1- 1 أصول الكافي 4: 143.

ص: 186

ولهذافإنَ دفع الناس نحو ممارسة سلسلة من الأعمال الجافّة والجامدة إنما هو في الواقع تحريفٌ لمفهوم الحجّ وتحريف للاسلام الحقيقي كذلك.

ولذا فإصرار سماحة الإمام الخميني قدس سره وسماحة القائد المعظّم- مد ظلّه- وبصفتي المُنَفِّذ لأوامرهما، يُعتبر محاربةً ضد تحريف الحجّ، واعتباره حلّاً لمشاكل العالَم الاسلامي، إنَّ مشكلة المجتمعات الاسلامية الرئيسية في عصرنا الحاضر هي القوى الاستعمارية والرأسمالية، وفي حال زوال هذه السلطة واسترداد المسلمين لاستقلالهم وعزّتهم فإنَّ الكثير من مشاكل المجتمعات الإسلامية ستزول أيضاً. وتعقيباً على الآية القائلة:

«ليشهدوا منافِعَ لهم» فقدصرَّح سماحة الإمام الخميني قدس سره: أيّة منفعة أعظم وأهمُّ من تلك التي يتمّ من خلالها قطع يد القوى الاستكبارية عن المصادر المادية والثروات الموجودة تحت الارض وعموم الثروات في الأقطار الإسلامية؟!

سؤال 4: لقد شهدنا في هذا العام بعض المسلمين من أقطار مختلفة وخصوصاً اللبنانيين اتّخذوا من شعب البراءة الايراني مثالًا ونموذجاً احتذوه فردّدوا شعارات مدوّية، مثل: «الموت لأمريكا والموت لإسرائيل» في الطواف ورمي الجمرات، فما هو تقييمكم لهذا الحَدَث؟

جواب: إنَّ العمل الشجاع والمقدام لمسلمي لبنان والأقطار الإسلامية الأخرى في العام الماضي وهذه السنة، يدلُّ على الوعي التدريجي الحاصل لمسلمي العالَم، وتأثير المقاومة والإصرار اللذين تبديهما الجمهورية الاسلامية فيما يتعلّق بإقامة مراسيم البراءة، وعلى الرّغم من التبليغ المضاد الذي وضعه وعّاظ السلاطين على عاتقهم فإنّ هذا الوعي في تزايدٍ مستمر. أتمنى من اللَّه العلي العظيم أن نرى ذلك اليوم الذي يَعُمُّ فيه هذا الوعي كلّ المسلمين، وأن يؤدي

ص: 187

المسلمون واجباتهم الدينية والإلهية وهي مواجهة السلطات الاستكبارية والاستعمارية بشكل فعّال دون اضطرابات أو حالة من اللا أمن في مكة المكرمة.

سؤال 5: نتلَمَّسُ من خلال الخُطب التي يُلقيها بعض الخطباء فيصلاة الجمعة في موسم الحج بعض الأُمور التي تُشاع ضد التشيّع ومراسيم البراءة من المشركين، فما هو ردّكم في مقابل هذه الحركة التي تسعى الى تفرقة المسلمين؟

جواب: إنَّ هدف علماء الوهّابية إنما هو الفصل بين الدين والسياسة وإحداث الخلاف فيما بين الأُمة الاسلامية، ولا شك في أنَّ ذلك ممّا يُفرِح أعداء الإسلام وأعداء الرسولصلى الله عليه و آله و سلم والقرآن الكريم. إن جميع القوانين والقرارات الاسلامية والمبادئ ممزوجة بعضها مع بعض، وكما قال الإمام الراحل قدس سره: «حتى انَّ الأخلاق في الإسلام هي سياسة». والواقع أنَّ تصريحات وعّاظ السلاطين إنّما هو بمثابة تجويف الإسلام وتجريده من مفاهيمه الأساسية. وللأسف الشديد فإن هذا العمل الخطير يتمّ تنفيذه اليوم على يد العناصر الوهابية العميلة.

وجواباً على تلك التصريحات المغلوطة، فقد قدّمنا اعتراضاتنا في السنة الماضية والسنة الحالية أيضاً.

وباعتقادي فإنَّ مثل هذه التصريحات قد تُسبّب- لا سمح اللَّه- فُقدان السيطرة على النفس من قِبَل شعبنا والمسلمين من غير الوهابيين وبالتالي تتمّ مواجهة بعضهم للبعض الآخر وبأساليب ينأى عنها الخلق الإسلامي والمبادئ الرسالية، ممّا لن يكون فيصالح المسلمين عموماً والمسؤولين عن تنظيم الحج خصوصاً.

إن المسلمين في الحج يتبعون مذاهب متعددة وعلى المسؤولين أن يحترموا هذه المذاهب وليس من حقّهم فرض العقيدة الوهابية على الجميع، واجبار الآخرين على الالتزام بما جاء

ص: 188

بها. وفي حال عدم تمكننا من السيطرة على الناس واحترام مذاهبهم وآرائهم سيتولّون الإجابة على هذه التصريحات والإثارات بأنفسهم.

وستعمّ الفوضى ويُفقد الأمان.

سؤال 6: ذه السنة جميع المصاحف وكُتب الادعية الأُخرى من الحجّاج الايرانيين في المطارات، وقد أدّى هذا الأمر الى ازعاج الحجّاج. ما هو تحليلكم لهذا العمل؟ وهل تمّت هناك خطوات لاسترجاع تلك الكتب؟

جواب: قد لا يكون سبب هذه الاعمال سياسياً، بل إنَّ منشأه التَّحجُّر العقائدي وفرض العقائد الوهابية على الآخرين. لقد كان هدفنا من اصطحاب المصاحف هو أولًا: أن يتمكن الزوّار من تلاوة القرآن في أوقات مختلفة، واستلهام البركات المعنوية من تلك التلاوة. ثانياً: دحض الشايعات والافتراءات المنسوبة الى الشيعة والتي مفادها أنَّ قرآن الشيعة يختلف عن قرآن سائر المسلمين، فإن الجميع ستُتاح لهم فرصة مشاهدة قرآن الشيعة وبذلك فإنَّ هذه الشبهة ستزول عنهم، وكذلك لإهداء أعداد كثيرة من تلك المصاحف الى أكبر عدد ممكن من مسلمي الأقطار الأخرى.

وطبيعي أن يؤدي هذا العمل الى إسقاط التُّهم الوهابية، وربما كان هذا السبب هو ما دعى السلطات السعودية الى منع دخول تلك المصاحف والكتب الى الديار المقدسة.

وعلى أيّة حال فإن هذا العمل قد وَجَّه ضربة الى الوهابية وسياستها العاجزة والجهولة قبل أن يُوجهها الينا.

واعتقد أن مجلة ميقات الحج وكذلك سائر الصحف والمجلات الأخرى تستطيع قطع شوط مؤثر وفعّال في سبيل إفشاء وفضح هذه الحركة الحمقاء.

وفيما يتعلّق باسترجاع المصاحف والكتب الأخرى، فقد تمَّ الاتصال بالمسؤولين في الأماكن

ص: 189

المقدسة ووعدوا بدورهم بإرجاعها لنا، إلّاأنّه ولحدّ تسجيل هذا الحوار لم يتمّ العمل بذلك الوعد. مع أننا نأمل بإعادتها الى أصحابها وان لا يتكرر مثل هذا العمل في السنين القادمة.

سؤال 7: يتمّ في كل عام إصدار ونشر الكثير من الكتب في السعودية والتي تحمل فيصفحاتها أفكاراً معادية للتشيّع، فما هو تقييمكم لانتشار مثل تلك الكتب؟ وما هي الخطوات المُتَّخَذَة من قِبَلِ ممثلية الوليّ الفقيه لمواجهة تلك الحملة؟

جواب: لا شك في أن اصدار ونشر مثل تلك الكتب يمثلان سياسة استعمارية وذلك للحيلولة دون توحيد كلمة المسلمين واتحادهم، ولإشعال نار الحرب الطائفية والمذهبية، فمعظم المواضيع المطروحة في تلك الكتب إنّما هي محض افتراءات وأكاذيب منسوبة الى الشيعة وهي ليست فقط مرفوظة من قِبَلِ الشيعة، بل إنَّ الشيعة تعمل على محاربتها وبشدة أيضاً، وأعتقد أنَّ الجواب على هذه الشبهات وتلك الافتراءات ليس من واجب بعثة الوليّ الفقيه وحسب، مع أننا وبدورنا قمنا بواجبنا تجاه تلك الاباطيل وسنظلُّ نقوم بذلك، ولكن اقترح أن تطلب معاونية التربية والتحقيقات من جميع المؤسسات والمنظمات ذات العلاقة، وكذلك من الشخصيات الدينية والعلمية الذين يمكنهم فعل الكثير من الاعمال المفيدة والمؤثرة في هذا المجال، وذلك بوضع الكتب التي تحوي مثل تلك الشبهات والافتراءات المطروحة في متناول المحققين وأن تتمّ عملية الإجابة عليها بتقسيم العمل فيما بينهم كلٌّ حسب اختصاصه. وعلى الاخوة أن يوفّروا الوقت والمال اللّازمين لتأليف الكتب المفصّلة والمختصة في مختلف المستويات ونشرها حتى يتمّ الوقوف بوجه هذه الحركات العنصرية والمنحرفة. وعلى الجميع أن ينظر الى هذا الموضوع بشكل اصولي وبجدّية اكبر وعندها سنجد ونلمس آثاره

ص: 190

وثماره.

والامر المهم الآخر هو أن تُقام علاقات شخصية مع مؤلفي مثل تلك الكُتب، ومراسلتهم، وسوف يكون ذلك المؤلف مستعداً لمناقشة الامر، إن لم يكن عميلًا بالطبع، ولطالما كان لمثل هذه العلاقات والروابط وَقْعُها المؤثر والمطلوب، مِمّا سَيضطر الكثير من أولئك المؤلفين الى التحوّل من طريق إدامة هذا السلوك الى جادة الصواب.

على كلٍّ فإنّي اعتقد أن مثل هذه العلاقات سيكون لها تأثيرٌ إيجابي حتماً.

من جهة أخرى فإننا نعلن عن طريق هذه المجلة، أنَّ من يُريد البحث معنا حول مفاهيمنا العقائدية والفقهية، فإننا مستعدون لعمل ذلك عن طريق المحاورات والمناظرات الاذاعية والتلفازية الحيّة، أو عن طريق اللقاءات والمراسلات، ولا شك في أنَّ مثل هذا العمل سيُعطي النتيجة المطلوبة والمتوقعة.

ويجب التنويه هاهنا الى أنَّ معاونية التربية والتحقيقات في بعثة ممثلية القيادة المعظمة قامت ولحد الآن بمحاولات جيدة في هذا المجال، وقامت بنشر حوالي ثلاثين كتاباً وملزمة، ونتمنى أن تحوز على رضى الحقّ تعالى.

سؤال 8: لقد قامت بعثة القيادة المعظمة في حجّ هذا العام بعقد تجمّعات ولقاءات متعددة في مكة المكرمة، ما مدى أهمية مثل تلك التجمعات بنظركم، وما هو تقييمكم لأثر تلك اللقاءات؟

جواب: إن التجمعات التي تُقام بهِمَّة بعثة القيادة المعظمة كلّ سنة في مكة المكرمة والمدينة المنورة، كان لها أثرٌ ونفع بالغين خصوصاً في هذا العام، وأقلّ تأثير أبرزته هذه التجمعات هو مدى اهتمام الجمهورية الإسلامية بالمسائل الإسلامية الدولية وسعيها المتواصل في سبيل تقريب وجهات النظر بين المذاهب الإسلامية المختلفة.

إنَّ التجمعات الموسومة ب: أهل

ص: 191

البيت، البوسنة، افغانستان، العراق، الهند وما شابه، كلّها اشارت الى هذا الاهتمام، وأوضحت أنَّ مشاكل العالم الإسلامي يجب أن تُبحثَ في مثل هذه الأماكن المقدسة تزامناً مع أداء أعمال ومناسك الحجّ، وعلى عاتق الشعوب الإسلامية يقع حلّ تلك المشاكل، وتَحُثُّ المسلمين على الوقوف بوجه اعداء الدين في نفس الوقت الذي يتمّ فيه اتصالهم مع خالقهم وتقوية البنية المعنوية لهم، وأنَّ عليهم وضع خلافاتهم جانباً في سبيل تحقّق أهداف الإسلام، والتمسُّك بحبل اللَّه تعالى والقرآن وآل البيت عليهم السلام، والسّعي من اجل إنشاء حكومة الإسلام العالمية.

إضافة إلى ذلك فإنَّ اللقاءات التي تتمُّ بين العلماء والمفكرين والمسلمين من شتى الاقطار لها أثرٌ مهمّ وطيّب، وهو ما حقّقته تلك اللقاءات لحدّ الآن.

ولو أنَّ مثل هذه اللقاءات تمّتْ على شكل إرسال هيئات تبليغية إلى الأقطار المختلفة، لكلَّفت الكثير من المبالغ والمشاقّ الجمة، ولكن وببركة بيت اللَّه الحرام والحجّ تمت هذه اللقاءات في جوٍّ من المحبّة والصّدق وفي محيط بعيد عن كلّ ما هو رسميّ، وتمّ ذلك بسهولة ويسر ودون بذل الكثير من المبالغ.

إلّا انّه يمكن لمثل هذه الاعمال أن تُقام بصورة أوسع وباطلاع ما يُقارب من مليوني حاجّ على الامور والمسائل المهمة، ولكن وبسبب العقبات والصعوبات التي يضعها البعض في طريق إقامة مثل هذه اللقاءات وترتيب مثل تلك التجمعات، فقد اضطُرِرْنا الى تشكيل تلك اللقاءات والتجمعات في مقرّ بعثة القيادة المعظمة وبشكل محدود.

سؤال 9: كانت الفعّاليات التربوية والتحقيقية التي قامت بها حوزة ممثلية الولي الفقيه في أُمور الحج والزيارة في السنوات الاخيرة، تنمو وتزداد بسرعة مذهلة، ما هو تقييم

ص: 192

سماحتكم لما مضى من ذلك؟ وما هي مجالات التحقيق التي اقترحتموها للمستقبل؟

جواب: لحسن الحظ قامت ممثلية الولي الفقيه بأعمال جديرة بالثناء لحد الآن وذلك فيما يتعلّق بنشر الكتب والملازم المطلوبة في موسم الحجّ، وقد تمَّ تأليف تلك الأعداد من الكتب ذات العلاقة بالحجّ والتي يحتاج اليها الحجّاج الكرام ونشرها، والحقّ يُقال إنَّ ايجاد مثل هذه الكمية من الكتب المتعلقة بمسائل الحجّ وخلال زمن محدود وقياسي لم يسبق له مثيل لا خلال الثورة ولا في تأريخ ايران قاطبة. وفي الواقع، تمَّ إنجاز كل تلك الاعمال بلطف الباري عزّوجل وجهود معاونية التربية والتحقيقات على أكمل وجه ممّا يستحقّ منّا كل تقدير واحترام.

لكن وبالرغم من ذلك فإني أعتقد أنَّه ما زال يمكن إنجاز الكثير من تلك الأعمال، على سبيل المثال لا الحصر: تأليف كتاب يتناول الأبعاد السياسية للحجّ وفلسفة البراءة من المشركين، لذا فإني أطلب من الأخوة تحضير وتهيئة عناوين رئيسية لموضوعات تخصّ هذا الهدف ووضعها في متناول يد المحققين والمثقفين داخل وخارج البلاد ليتمكنوا من كتابة وتأليف ما يلزم في هذا الخصوص.

والموضوع الآخر الذي لا يقلّ أهمية عن سابقه، هو تبيين وتوضيح الأبعاد الفقهية للحجّ ووضع الحلول للمشاكل الفقهية التي تواجه الحجّاج، وذلك نظراً لوجود بعض التفاوت فيما يتعلق بفتاوى مراجع التقليد. وكذلك يجب بحث المواضيع المهمة الأخرى مثل مسألة تقديم القرابين، والاستظلال وحدود الطواف وما شابه ممّا يتطلَّبُ اهتمام المحققين الواسع في هذا المجال.

فعندما يتمّ ذبح الآلاف من الخراف وغيرها في منىً وذلك يوم عيد الاضحى، تبقى هذه الكمّيات الهائلة من اللّحوم دون نفع أو فائدة، وعندئذٍ

ص: 193

تقوم السلطات بإحراق تلك اللّحوم في حين يوجد ملايين المسلمين في العالَم في حالةٍ يُرثى لها من الجوع والفقر. فما هو الحلّ الذي يمكن بواسطته أن يقوم الحاج بأداء وظيفته الشرعية وفي نفس الوقت الحيلولة دون هدر تلك الكميات الكبيرة من اللحوم وذهابها سدىً؟ إنَّ مثل هذه الأمور تتطلَّبُ توظيف امكانات تحقيقية جبّارة حتى يتمَّ وضع الحلول المناسبة لها وتقديم المشاريع والبرامج التحقيقية ووضعها أمام المحققين، مِمّا سيضمن لنا الوصول الى حلٍّ أُصولي ومنطقي بعد دراسة الموضوع من كلّ جوانبه.

وامّا الاقتراح الآخر الذي أُقدّمه هو تنظيم وترتيب الكراريس الاعلامية بشكل فنّي دقيق ومحسوب بما يتناسبُ والمواضيع المتنوعة والمفيدة ذات العلاقة بالحج ووضعها في متناول يد الافراد في داخل وخارج القطر؛ لكي يتمكن أولئك الافراد من التعرّف على ثقافة الحج إذا كانوا لا يرغبون كثيراً في مطالعة الكتب المفصّلة.

وكذلك تأليف ونشر الكتب الخاصة بالحجّ بما يتناسب والمستوى العلمي والثقافي للافراد سواء كانوا ذوي تحصيلات علمية بسيطة أو جيدة ولمختلف الأعمار والمستويات. اتمنى أن تستطيع معاونية التربية والتحقيقات من الخَطْوِ بثقة في هذا المجال ايضاً في المستقبل القريب.

سؤال 10: علمنا أنّ مئات من حجّاج بيت اللَّه الحرام كانوا يتردّدون يومياً على بعثتكم للّقاء بكم. كيف تقيّمون تأثير تلك اللّقاءات؟

جواب: لقد كانت تلك اللقاءات مع البعثة ابتكاراً جيداً قُمنا بتشكيلها بعد استشارة سماحة القائد المعظم في السنة الاولى لتشرُّفي بهذا المنصب وهو ممثّل الولي الفقيه، وقد كانت لتلك اللقاءات آثارٌ محمودة بحمد اللَّه وبركاته.

فأولى تلك الآثار: هي اقامة رابطة وثيقة بين الناس والبعثة، وثانياً

ص: 194

بإمكان الكثير من الخطباء والوعّاظ عن طريق تلك اللقاءات القاء الخُطَب التي يمكنها التأثير على الحجّاج روحيّاً وأخلاقياً ويقومون بتذكيرهم بالتّوصيات المهمة اللازمة، مِمّا سيترك أثره البالغ في نفسية الحجّاج. إنَّ تقييمي لإقامة مثل هذه اللقاءات والجلسات ايجابي الى حدّ كبير.

سؤال 11: لقد انخفض عدد المخالفات التي ارتكبها الحجاج الى حدّ جدير بالملاحظة، فما هي برأيكم أهم الاسباب والعوامل التي أدّت الى مثل ذلك الانخفاض في المخالفات؟

جواب: إن الدور الذي قام به الرّوحانيون الأفاضل المرافقون لقوافل الحجاج كان له الأثر الكبير في انخفاض نسبة المخالفات، وذلك بإرشاد الحجاج عن طريق المواعظ وتذكيرهم بواجباتهم وتجنُّبِ مثل تلك التصرفات التي لا تليق بهم.

والعمل المهم الآخر الذي قُمنا به هو إنشاء مراكز خاصة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر داخل قوافل الحجّ والتي اقيمت من قِبَلِ معاونية التربية والتحقيقات، وقد تمَّ انتخاب عدد من الحجّاج للقيام بمهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بصورة فخرية داخل قوافلهم وأثناء تنقُّلاتهم المختلفة وقد قدَّم هؤلاء المنتخبون نصائحهم وارشاداتهم للزوّار الكرام. وقد كان لهذا العمل أثره الواضح أيضاً في التقليل من المخالفات وإن لم يتمّ اختفاء تلك الظاهرة بالكامل، إلّاأننا نأمل أن تكون المخالفات في هذه السنة قليلة قدر الامكان وذلك عن طريق اجراء البرامج الخاصة والمؤثرة للاستفادة القصوى من تلك المراكز.

سؤال 12: هل تمّ اجراء الخطوات اللازمة في مجال تعليم اللغة العربية إجباراً؟

جواب: إنَّ تعلُّمَ اللغة العربية من قِبَلِ مُنظّمي الحجّ هو أحد الاعمال المهمة التي نتمنى أن تأخذ طريقها سريعاً نحو التنفيذ إن شاء اللَّه تعالى ...

ص: 195

فالذين لا يُجيدون اللغة العربية ستكون انجازاتهم وفاعليتهم أقلَّ من غيرهم بالطبع، ولذا فإننا سنعتبرُ تعلُّم اللغة العربية ميزةً واقعية وتفاضلية، ولهذا فانني اوصي الروحانيين والمساعدين والمدراء المحترمين في القوافل البدء بتعلُّم اللغة العربية من الآن. وفي هذا المضمار تمَّ اصدار ونشر كتاب في اللغة العربية بعنوان «العربية المعاصرة» من قِبَلِ معاونية التربية والتحقيقات لتسهيل تعلّم العربية.

سؤال 13: لقد كانت هناك دعوات كثيرة في السنين القليلة الماضية تدعو الى توحيد زيّ الحجّاج الايرانيين، فهل تمَّ اتّخاذ تدابير خاصة في هذا المجال؟

جواب: الواقع أنَّ سبب عدم تنفيذ مثل تلك التوصيات والدعوات، هو المشاكل التيصادفت بعض حجّاجنا الكرام، إلّاانّنا وبفضل اللَّه تعالى وجهود منظمة الحج والزيارةصمّمنا على تنفيذ تلك التوصيات وهي توحيد زيّ الحجّاج الايرانيين، وذلك في السنة القادمة، وسيكون لكلّ من الرجال والنساء زيّ مُوحَّد خاصّ به يلتزمون به في تنقلّاتهم فيما بين الحرمين الشريفين. وممّا يؤسف له أنَّ بعض الرجال والنساء من الحجّاج الايرانيين يرتدون ملابس لا تناسب ذوق الزائر الايراني، بل لا تليق بمقام الجمهورية الإسلامية في ايران. أتمنى أن نستطيع تنفيذ هذا المشروع وذلك عن طريق وضع البرامج الصحيحة، واستخدام الدقّة المتناهية في تنفيذ تلك البرامج.

سؤال 14: إذا كان لدى سماحتكم توصيات أو آراء تخصّ مُنظّمي الحجّ بما فيهم المسؤولون والموظفون في البعثة والمنظمة وكذلك الرّوحانيون ومدراء القوافل، فتفضلوا بها مشكورين.

جواب: التوصية الأولى التي أُقدمها الى منظّمي الحجّ هو أن يتّصفوا بالإخلاص في العمل وفَهْمِ واجباتهم وانعكاس ذلك في كلّ أعمالهم

ص: 196

وسلوكهم؛ لأنهم يعملون للَّه تعالى وخصوصاً الاعمال الخاصة بالحجّ والتي تُعتبرُ أحد أهم المسائل العِبادية والسياسية في الإسلام.

وتوصيتي الثانية هي أن يقوم الاخوة المسؤولون بأعمالهم بجديّة اكبر.

لقد كان سماحة الإمام الخميني قدس سره وسماحة القائد المعظم- مدّ ظله- يعيران أهمية كبيرة للحجّ وما زال الامر كذلك الى الآن، وهو ما نَسْتَشِفُّهُ من الأحاديث والخُطَبِ الكثيرة لهذين العزيزين بدقّة.

وكان الاهتمام بالحج في نظرهما يقع في مَصافّ أهم الانجازات المقدسة للجمهورية الإسلامية، ومن هنا يتحتَّمُ علينا جميعاً اتّباع كلّ البرامج والسّياسات وفي كلّ أبعادها التنفيذية والثقافية الخ. بجدّيةٍ وسعي كبيرين.

وامّا توصيتي الثالثة هي الاهتمام الخاص بالبرامج المطروحة سواء أكانت تلك البرامج تتعلّق بالأُسس التنفيذية أو بقدر تعلّقها بالأُمور التربوية.

إنَّ الظروف التي يعيشها معظم زائرينا تتطلَّبُ إجراء وتنفيذ البرامج التربوية بأسرع ما يمكن، وهذا يعتمد بالدرجة الاولى على تعيين الرّوحانيين ومساعدي القوافل في أقصر وقت حتى يتمّ تشكيل القوافل بسرعة والبدء بتنفيذ البرامج التربوية للزوّار بعد ذلك مباشرة.

الواقع أنَّ في ذهني الآن أمراً وهو أنّنا نعطي الأولوية لأُولئك الذين لديهم اطلاع واسع وقدرة على التنفيذ الصحيح لأعمال الحجّ، ومعنى هذا أنَّ الذين يجدون في أنفسهم نقصاً أو ضعفاً في هذا المجال عليهم الاشتراك في البرامج التربوية لوقت أكثر، والحضور في الجلسات الخاصة المُعدَّة لذلك الغرض حتى يتمّ رفع وزوال ذلك النقص أو الضعف، وإلّا فإنّه سيتمّ استبدالهم بآخرين ممّن يفوقونهم في هذا المجال وإرسالهم مع القوافل.

سؤال 15: ما هي توصيات سماحتكم للزوّار الذين سيتمّ تشرّفهم

ص: 197

بالحجّ في العام المُقبل؟

جواب: إنَّ أهمّ التوصيات التي أريد تقديمها لزوّار بيت اللَّه الحرام هي الاهتمام بتعلُّم المسائل والمناسك الخاصة بالحجّ. فالّذين هم في مستويات ثقافية لا بأس بها عليهم القيام بقراءة ومطالعة الكتب ذات العلاقة، والتي قامت بإصدارها معاونية التربية والتحقيقات بعد جهود جبّارة، والتعرّف عليها من الآن وتسجيل ملاحظاتهم عليها. فكلّما كانت اطّلاعاتهم كثيرة، ازدادت قدراتهم للاستفادة والتمتّع بهذه الفرصة الإلهية.

وامّا التوصية الأخرى فهي أنَّ على الذين لا يستطيعون القراءة ولا الكتابة الاعتماد على أفراد عائلتهم أو أقاربهم أو أصدقائهم وطلب المعونة منهم؛ لكي يتمكّنوا من تعلّم المناسك والأحكام والأسرار والعلوم الخاصة بالحجّ، والتعرّف على أهم الأماكن المقدسة هناك، وأن يُخصّص أولئك الذين تشرّفوا بحجّ هذه السنة أو الذين ستُتاح لهم الفرصة للحجّ في السنين التالية ساعات معينة منذ الآن وفي كلّ اسبوع؛ ليتمكّنوا من تعلّم مسائل الحجّ ويستفيدوا بصورة اكبر من محتويات هذا السَّفَر المعنوي والربّاني الذي يُتيح لصاحبه القيام به مرة واحدة في حياته على الأغلب.

سؤال 16: ولغرض حُسن الختام لهذا الحوار نرجو من سماحتكم أن تذكروا لقرّاء مجلة ميقات إحدى الخواطر الطريفة التي مرّت بكم في حجّ هذا العام.

جواب: من الخواطر الجميلة التي لا تُنسى والتي مرّت بي هذا العام، هو المنظر الذي شهدْتُه بعد الانتهاء من مراسيم البراءة في عرفات. فقد جاء الأخوة بشخص إليَّ حائز على ثلاث شهادات دكتوراه، وقد اختار مذهب أهل البيت عليهم السلام بعد مطالعاته ودراساته التي استغرقت عشرين سنة.

وقد كان القصد من مجيئه اليّ كذلك هو تقديم الولاء والبيعة لقائد الثورة المعظم

ص: 198

عن طريقي بصفتي ممثّل الولي الفقيه.

وعندما وضع يده في يدي اعترته حالة عجيبة ثم شرع بالبكاء طويلًا، وقال بعد ذلك بالعربية: إنني وبالنيابة عن زوجتي وأطفالي أبايع آية اللَّه الخامنئي وسأظَلّ مخلصاً لهذه البيعة ولو بروحي.

وللأسف فإنَّ البعض غافلٌ عن مثل هذه الأرضية الثقافية المناسبة، ولا يُعيرُها أهمية تذكر. إنَّ هذه الحالة هي واحدة من مئات مشابهة لها، وأعتقد أنَّ هذا المنظر وكثيراً غيره، يُهِمّ المسؤولين في المراكز الثقافية في الجمهورية الإسلامية في ايران بل ويؤثِّر فيهم باعتباره خير درس وعبرة.

الهوامش:

رجال من الحرمين الشريفين (4)

ص: 199

رجال من الحرمين الشريفين (4)

حمزة بن عبد المطلب رضى الله عنه

حمزة بن عبد المطلب، أسد اللَّه، وأسد رسوله، وأحد نجباء العرب في الحسب والنسب، وأحد سادات قريش وكبار أشرافهم في الجاهلية والإسلام، ومن المسلمين الأوائل، الصحابي، الصنديد، البطل الشجاع، الشاعر، الفصيح، عمّ النبيصلى الله عليه و آله و سلم وأخوه في الرضاعة، اتصف بالكرم والنخوة والشجاعة، ولد ونشأ في مكة، وعند إعلان إسلامه، أعز اللَّه الإسلام به، لأنه كان من أقوى رجال قريش وأشدّها شكيمة، وقام يمنع الأذى عن الرسولصلى الله عليه و آله و سلم وصحبه الكرام، وكان من كثرة ميله للإسلام وحبّه للرسولصلى الله عليه و آله و سلم أنه ضرب أبا جهل زعيم المشركين.

شارك الرسولصلى الله عليه و آله و سلم والمسلمين في محنة الحصار الذي فرضه مشركو قريش عليهم، وهاجر إلى المدينة، وقاد أول سريه في سبيل اللَّه، كما شارك في بقية الغزوات، وقاتل بين يدي الرسولصلى الله عليه و آله و سلم ببسالة نادرة، ضارباً في ذلك أروع أمثلة التضحية والفداء والإخلاص، استشهد في معركة أحد بعد أن أبلى بلاء

ص: 200

عظيماً، وقتل عدداً من زعماء ورؤوس الشرك فأثبت بذلك أنه جندي شديد البأس يُقاتل بكفاءة وبسيفين، وبحماس منقطع النظير.

وببركة استشهاد حمزة، ورهطه الكرام في معركة أُحد، عمّ الإسلام واتسع انتشاره فيما بعد، إذ غرست شهادتهم في نفوس الصحابة فضيلة حبّ الجهاد والتضحية والإخلاص المتزايد، فالشهيد هو الذي يصنع النصر المستمر، ويصنع الحياة الجديدة، ويضع اللبنة الأساسية والقوية للتاريخ المشرق، الذي تفتخر به الأجيال إلى الأبد.

وماأحوجنا إلى احياء شخصياتنا التأريخية أمثال حمزةبن عبدالمطلب رضى الله عنه وغيرهم من القادة الأفذاذ الذين سطرواصفحات التاريخ بالآثار والأفعال العظيمة والأخلاق الحميدة.

اسمه ونسبه وكنيته:

هو حمزة بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد المناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك، وينتهي نسبه بعد ذلك بعدنان (1). وأُمه هالة بنت وهيب بن عبد مناف بن زهرة وهي أمصفية (2) ويلتقي نسب أبيه من نسب أُمه في كلاب بن مُرّة ويصعد النسبان معاً إلى عدنان ثم إلى إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام.

وقد ورد عن نسب أُمه في كلّ من الكتابين «نسب قريش» للمصعب الزبيري (3) وكتاب «الطبقات الكبرى» لابن سعد (4) بأنها هالة بنت أُهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرّة، حيث يلتقي عمود النسب كما أسلفنا بعدنان فإسماعيل بن إبراهيم. ومما يجدر ذكره في هذا الصدد، أن عبد مناف بن زهرة ولد «وهباً»، وهو جدّ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم، لأمّه، آمنة بنت وهب (5).


1- 1 راجع كتاب «نسب قريش» 1: 5 وبعدها في مادة «ولد عدنان».
2- 2 تاريخ اليعقوبي 2: 11، ذخائر العقبيص 172.
3- 3 نسب قريش 1: 17.
4- 4 الطبقات الكبرى ق 1 3: 3.
5- 5 نسب قريش 8: 261.

ص: 201

وأما كنيته، فهي كما وردت في تاريخ العيقوبي:

«وحمزة، وهو أبو يُعِلى، أسد اللَّه، وأسد رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم» (1).

وذكر ابن سعد في الطبقات الكبرى:

«وكان يكنى أبا عمارة، وكان له ولد من الولد، يُعلى، وكان يكنى به حمزة، أبا يُعلى ...» (2).

وكتب عنه «شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي» في كتابه سير أعلام النبلاء، وهو يكمل على ما سبق، في ذكر كناياته وألقابه التي كان يلّقب بها، فقال عن حمزة بأنه «الإمام، البطل، الضرغام، أسد اللَّه، أبو عمارة، وأبو يُعلى، القريشي، الهاشمي، المكي، المدني، ثم البدري، الشهيد، عم رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم، وأخوه في الرضاعة» (3).

وتحت عنوان (ذكر اسمه وكنيته رضى الله عنه يقول العلّامة الحافظ محب الدين الطبري:

«ولم يزل اسمه في الجاهلية والإسلام حمزة، ويكنى أبا عمارة، وأبا يعلى ...

كنيتان له، بابنيه عمارة ويُعلى، وكان يدعى أسد اللَّه وأسد رسولهصلى الله عليه و آله و سلم».

عن يحيى بن عبد الرحمن بن أبي لبية عن أبيه عن جده أن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم قال: «والذي نفسي بيده إنه لمكتوب عند اللَّه عزّ وجلّ في السماء السابعة، حمزة أسد اللَّه وأسد رسولهصلى الله عليه و آله و سلم» أخرجه البغوي في معجمه (4).

معنى حمزة في اللغة:

أما معنى حمزة في اللغة العربية، فهو كما ورد في كتاب «مختار الصحاح» لمحمد بن أبي بكر الرازي في مادة- ح م ز- (حمز الرجل، من باب، ظُرُفَ أي اشتد، فهو حَميز الفؤاد، و (حامزه). وفي الحديث عن ابن عباس رضى الله عنه:- «أفضل


1- 1 تاريخ العيقوبي 8: 261.
2- 2 الطبقات الكبرى لابن سعد 3 ق 1: 3- 4 طبقة ليدن.
3- 3 سير أعلام النبلاء/ الذهبي 1: 127.
4- 4 ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربىص 173.

ص: 202

الأعمال (أخمرها) أي أمتنُها وأقواها» (1).

ولادته ووفاته:

ولد سيدنا حمزة بن عبد المطلب في مكة المكرمة سنة (54 قبل الهجرة/ 568 ميلاديه). وتوفي شهيداً في معركة أُحد، سنة (3 للهجرة/ 625 ميلادية) (2)، ودفن جنوبي جبل أُحد، حيث وقعت المعركة في المدينة المنورة في السنة المذكورة آنفاً، فقد ورد في مجلة آخر ساعة المصريه، العدد 19742046- 16 ذي الحجة سنة 1393، تحقيق عن المدينة المنوره بقلم:

عدنان العبد جاء فيه .. «وجنوبي الجبل- جبل أُحد- وفي وادي قناة وعلى جانبه توجد قبور الشهداء من أبطال المسلمين وعلى رأسهم حمزة بن عبد المطلب رضى الله عنه عمّ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم وسيد الشهداء» (3) ... وقد «قتل على رأس اثنين وثلاثين شهراً من الهجرة، وكان يوم قتل، له سبع وخمسون سنه ودفن هو وابن أخيه عبد اللَّه بن جحش في قبر واحد» (4).

نشأة سيدنا حمزة بن عبد المطلب الأولى:

يلاحظ من تتبع ودراسة حلقات حياة حمزة بن عبد المطلب الأولى أنه نشأ نشأةً مستقيمة، خالية من عيوب وسلبيات المجتمع القريشي، وكبر وسط هذا المجتمع، وهو يجتمع على كلّ الخصال السليمة، والمواقف الرشيدة، فكان يحمل عقلًا نافذاً، وضميراً حيّاً، ينبض بالشجاعة وحب الخير، وكان يعتد بذاته، ولا يحب التجبر والتهور، والعدوان على الغير، ويأنف من الظلم، كما كان في نفس الوقت لا يحب أن يعتدي عليه أحد، أو على أقربائه .. وكان الناس يعرفون له قدره ومكانته. وكان يحمل معه كلّ الصفات الهاشمية الأصيلة كالصدق والوفاء


1- 1 مختار الصحاح، محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازيص 154.
2- 2 المدائح النبويه المتضمنه لسور القرآن الكريم للسيد هاشم الخطيب- هامش الصفحة 85.
3- 3 المدائح النبوية- هاشم الخطيبص 87.
4- 4 ذخائر العقبىص 85، في موضوع ذكر تاريخ مقتله.

ص: 203

والكرم والفتوه والشجاعة بكل معناهاه.

ومع قلة ورود الأخبار المتناثرة في بطون التاريخ في الفترة ما قبل الإسلام، إلّا أنها جميعاً تؤكد تجسيم الشخصية الكاملة فيه، وتؤشر الملامح الصحيحة للإنسان الفاضل الذي سيدخل التاريخ من أوسع وأشرف أبوابه، ويسجل له فيه مجداً خالداً إلى الأبد، وفعلًا دخل التأريخ وسطر له حروفاً نورانيه مشحونة بالمجد والخلود وبقاء الذكر (1).

وكان حمزةصاحب إرادة قوية، عزيز النفس، كريم الطباع، نشأ وقد تأثر بمركز والده عبد المطلب القائم على الشرف والسيادة والرئاسة وحب الناس له، وكان معدن حمزة نقياً، ومعروفاً باستقامة الضمير ونفاذ البصيرة وحب الخير، والتمثل بالشمائل الطيبة، المبنية على الإرادة والتصميم وسلامة اتخاذ المواقف، ومن هنا دخل حمزة التاريخ ومن أحسن أبوابه، وسجل له التأريخ بدوره جميع مواقفه البطولية (2).

العلاقة بن حمزة ومحمّدصلى الله عليه و آله و سلم.

تكشف لنا أخبار حمزة بن عبد المطلب أنه كان شديد التعلق بابن أخيه محمد بن عبد اللَّه، والرعاية له، والدفاع عنه إذا مسّه سوء من أحد، والاستجابة لمطالبه وتلبية رغباته على أتم الاستعداد وعلى جناح السرعة بالإرادة والتصميم، ودون تردد أو إحجام.

فهو عمّ محمدصلى الله عليه و آله و سلم، وأخوه في الرضاعة، فقد كتب اليعقوبي عن مولد الرسولصلى الله عليه و آله و سلم: «فكان أول لبن شربه بعد أمه لبن ثويبة مولاة أبي لهب. وقد أرضعت ثويبة هذه حمزة وجعفر بن أبي طالب، وأبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي ...» (3)، وكان أكبر من رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم بأربع سنين وقيل سنتين (4).


1- 1 حمزة أسد اللَّه ورسوله- جميل إبراهيمص 25- 26.
2- 2 حمزة أسد اللَّه ورسوله- جميل إبراهيمص 26.
3- 3 تاريخ اليعقوبي 2: 9.
4- 4 ذخائر العقبىص 172.

ص: 204

وكان حمزة كما بينّا سابقاً، يعرف ويشعر بعظمة مكانة ابن أخيه محمدصلى الله عليه و آله و سلم وكماله، وكان على بينةٍ من حقيقة أمره، ومعرفة جوهره، وصفاته الجيدة، وكانت رابطة حمزة بمحمدصلى الله عليه و آله و سلم رابطة عمومة وأخوة وصداقة متفاعلة ببعض، ذلك أن الرسول وحمزة كانا من جيل اجتماعي واحد، وسن متقاربة، نشأ كل واحد منهم مع الآخر. وكانت تخيم عليهما عائلة عبد المطلب المعروفة، وقد تآخياً في ظل هذه العائلة الطيبة، منذ المراحل المبكرة من حياتهما وسارا معاً على الدرب، من الخطوات الأولى.

اشترك محمدصلى الله عليه و آله و سلم وحمزة بنشأتهما الأولى في أرفع بيوتات العرب في قريش في السيادة والكرم والحلم والشجاعة والمنزلة الرفيعة، فمحمد بن عبد اللَّه بن عبد المطلب، وحمزة بن عبد المطلب، كلاههما يشتركان بالاعتزاز بهاذ الفضل الذي رسمه عبد المطلب وحاز به في المجتمع، فهو سيد بطحاء مكة وزعيم قريش بلا منافس.

وقد اكسب الزمن تاريخ هذه العائلة الذي ينتمي إليه كل من محمدصلى الله عليه و آله و سلم وحمزة بالتجارب الواسعة في الحياة والتبصر في فهم شؤون المجتمع. وقد استمرت العلاقات القائمة بين الرسولصلى الله عليه و آله و سلم وحمزة على مدى الأيام وهي تزداد قوة على قوة، وتوثقت أكثر فأكثر بعد انضمام حمزة للمسلمين وإعلان إسلامه. فكانت علاقتهما على هذا الأساس قائمة على المصير المشترك والمسؤولية الواعية، وعلى التضحية من أجل المبادئ العليا، وهكذا سجّل التاريخ في لوحاته المجيدة لكل منهما المواقف المشرفة والأدوار البطولية الخالدة بأحرف من نور.

إسلام حمزة في الميزان

إن إعلان إسلام حمزة بن عبد المطلب يعدُّ نصراً عظيماً للإسلام

ص: 205

والمسلمين فهو ممن أعزّ اللَّه به الإسلام، وكان موقفه مع الرسولصلى الله عليه و آله و سلم والمسلمين قبل إسلامه موقفاً سليماً وطبيعياً ... حيث لم يسجل عليه التاريخ أية بادرة سلبية، أو تشنجاً يشم منه رائحه العناد والمعارضة ضد الدعوة الإسلامية الأولى ... بل بالعكس كان يحب الرسولصلى الله عليه و آله و سلم، ولم يتغير عليه، ولقد دافع عنه وعن المسلمين ضد أبي جهل بل ضرب أبا جهل أمام الملأ وكان ذلك قبل أن يسلم حمزة.

وقد دُرس الوضع الجديد المتمثل بإسلام حمزة رضى الله عنه، ووجدوا بأن إسلام حمزة رضى الله عنه فتحصفحة جديدة رائعة في تاريخ الدعوة، وفسح المجال الرحب لرغبة جماعات للانضمام إلى هذا الدين الجديد، لذلك قام المشركون بوضع استراتيجية جديدة، وهي إعلان الحرب الأهلية والنفسية والاقتصادية، لإلحاق الأذى بالمسلمين، وتعذيبهم، وفرض المضايقات المختلفة عليهم، وإثارة الأراجيف الكاذبة ضدهم، وسبيهم ومحاربة مصالحهم وإثارة النزاعات في وجوههم، وقد عرف حمزة ما تحملة الأوضاع الجديدة من نتائج حاسمة، وكان مثال المجاهد الصبور.

ملازمة حمزة للرسول وعدم هجرته إلى الحبشة:

لما أصرت قريش على مناصبة النبيصلى الله عليه و آله و سلم ومن معه العداء، أذن الرسولصلى الله عليه و آله و سلم لبعض المسلمين بالهجرة إلى الحبشة، فقد جاء في كتاب تاريخ العيقوبي: «ولما رأى رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم ما فيه أصحابه من الجهد والعذاب، وما هو فيه من الأمن، بمنع أبي طالب عمّه إياه، قال لهم: ارحلوا مهاجرين إلى الحبشة، إلى النجاشي، فإنه يحسن الجوار، فخرج في المرة الأولى اثنا عشر رجلًا وفي الثانية سبعون رجلًا، سوى أبنائهم ونسائهم، وهم المهاجرون الأوائل، فكان لهم

ص: 206

عند النجاشي منزلة، وكان يرسل إلى جعفر فيسأله عما يريد ... الخ» (1) .. «وأقام المسلمون بأرض الحبشة، حتى ولد لهم أولاد، وجميع أولاد جعفر ولدوا بأرض الحبشة، ولم يزالوا بها بأمن وسلام، واسم النجاشي» (2).

وقد بقي حمزة بن عبد المطلب رضى الله عنه في مكّة ملازماً للرسولصلى الله عليه و آله و سلم يتحمل القسط الأكبر من العذاب والقسوة التي وجهتها قريش للرسولصلى الله عليه و آله و سلم ولم يهاجر إلى الحبشة، وكان سلاحه الإيمان باللَّه والصبر والثبات.

حمزة والهجرة إلى المدينة:

بعدما نال المسلمون أنواع العذاب والمقاومة وصنوف الضغوط المليئة بالقسوة والعنف والإحجاف والعناد من المشركين، أمر الرسولصلى الله عليه و آله و سلم المسلمين بالهجرة من مكة إلى المدينة، وكان حمزة ممن استجاب لأمر النبيصلى الله عليه و آله و سلم، وهاجر إلى المدينة تاركاً مسقط رأسه مكة، ما دامت المسألة تتعلق بالمبدإ والعقيدة.

وقد اختلفت الرويات التاريخية في منزل حمزة بن عبد المطلب في المدينة بعد هجرته من مكة، فبعض الرويات تقول إنه نزل على كلثوم بن الهدم والأخرى تقول على سعد بن خثيمة، وغيرها تقول على غير هؤلاء المذكورين.

وقد ورد حول هنا الموضوع في الطبقات الكبرى لابن سعد قال «أخبرنا محمد بن عمر قال أخبرنا محمد بنصالح عن عمران بن مناح، قال: لما هاجر حمزة بن عبد المطلب إلى المدينة نزل على كلثوم بن الهدم، قال محمد بنصالح:

وقال عاصم بن عمر بن قتادة: نزل على سعد بن خثيمة» (3).

وورد عن الموضوع نفسه في السيرة النبوية لابن هشام عن ابن إسحاق قال: «قال ابن إسحاق: ونزل حمزة بن عبد المطلب وزيد بن حارثة وأبو مرشد كناز بن حِصن. قال ابن هشام: ويقال: هو ابن حُصين. قال ابن إسحاق: وابنه


1- 1 تاريخ اليعقوبي 2: 29.
2- 2 تاريخ اليعقوبي 2: 30.
3- 3 الطبقات الكبرى لابن سعد 3 ق 1: 4.

ص: 207

مرشد الفُنويان، حليف حمزة بن عبد المطلب، وأنَسةُ، وبكشة، موليا رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم على كلثوم بن الهدم أخي بني عمرو بن عوف بقباء، ويقال: بل نزل حمزة بن عبد المطلب على أسعد بن زرارة أخي بني النجار، كل ذلك، يقال» (1).

شخصية حمزة العسكرية:

يعود سبب شجاعته إلى عاملين رئيسيين، أولهماصفاته البدنية اللآئقة، والثاني الصفات المعنوية العالية التي كانت تتوفر في جوهر شخصيته ... فعن العامل الأول ورد في طبقات ابن سعد عنصفاته البدنية: بأنه ... «كان رجلًا ليس بالطويل ولا بالقصير» (2). وتعتبر هذه الصفة البدنية من الصفات التي يمتاز بها أكثر رجال العرب والعسكريون الشجعان المقاتلون الأشداء.

وأما بالنسبة للصفات المعنوية وهي العامل الثاني، فقد كان حمزة بن عبد المطلب قوياً جلداً في الحروب، لا يعرف التراجع. واثق في نفسه أثناء القتال، وعرف عنه في الحروب أنه ذلك المجاهد الصبور وكان يقاتل بسيفين كما فعل ذلك في معركة أحد وبشهادة الصحابة عنه. فقد ورد في كتاب سير أعلام النبلاء للذهبي قال: عن ابن عون، عن عمير بن إسحاق، عن سعد بن أبي وقاص: «كان حمزة يقاتل يوم أحد بسيفين ويقول: أنا اسد اللَّه» (رواه يونس بن بكير عن ابن عون عن عمير مسترسلًا) (3). وخلاصة القول كانت شخصية حمزة العسكرية متكاملة ومبنية على الثقة بالنفس والإقدام في تنفيذ الواجب بإتقان تام، وإلقاء الرعب في قلوب الأعداء.

مشاركة حمزة في الغزوات الأولى:

كان حمزة عسكرياً فذاً وجندياً ماهراً في القتال، يحارب ويجاهد تحت


1- 1 السيرة النبوية لابن هشام 2.
2- 2 الطبقات الكبرى لابن سعد 3 ق 1: 4- 5.
3- 3 سير اعلام النبلاء- الذهبي 1: 131.

ص: 208

قيادة الرسولصلى الله عليه و آله و سلم، وقد شارك في الغزوات الأولى بعد هجرته من مكة إلى المدينة، ابتداءً من رئاسته لأول سريه غزاها، إلى مشاركته في معركة أحد والتي نال فيها شرف الاستشهاد، وقد أجمع المؤرخون وكتّاب السير على مشاركته الفعّالة ومساهمته البارعة في المشاهد الأولى تحت زعامة الرسولصلى الله عليه و آله و سلم، ولم يورد المؤرخون اسم حمزةصراحة في هذه الغزوات، وإنما ذكروه في بعضها بشكلصريح وتارة أخرى يلمّحون إلى اسمه بصورة غير مباشرة. وكان لحمزة البطل الدور البارز والفعال في هذه الغزوات، فقد أبدىصنوف الشجاعة والإقدام والإخلاص للَّه ولرسوله ولعقيدته (1).

سرية حمزة بن عبد المطلب:

أجمع المؤرخون وكتّاب السير والمغازي الأولى على أن أول سرية عقدها رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم كانت لحمزة بن عبد المطلب، ووصل حمزة بهذه السرية إلى سيف البحر في ثلاثين راكباً «يعترض عير قريش» وهي منحدرة إلى مكة، وقد جاءت من الشام، وفيها أبو جهل بن هشام في ثلاثمائة راكب، فانصرف ولم يكن بينهم قتال ... قال محمد بن عمر: هو الخبر المجمع عليه عندنا أن أول لواء عقده رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم لحمزة بن عبد المطلب» (2). وقد جاء في تاريخ اليعقوبي عن هذه الغزوة فقال: «وأقام رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم، يتلوّم ويتهيأ للقتال حتى أنزل عزّ وجل:

«أُذن للذين يقاتلونَ بأنهم ظُلموا وإن اللَّهَ على نصرهم لقدير» (3)

والآية الأخرى. قال: «فقاتِل في سبيل اللَّه لا تُكلّفُ إلّانفسَكَ» (4)

إلى آخر الآية. فكان الرجل من المؤمنين يُعدُّ بعشرة من المشركين، حتى أنزل عزّ وجل «الآن خفَّف اللَّهُ عنكم وعَلِمَ أن فيكم ضعفاً فإن يكن منكم مائةصابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين ...» (5)

وأنزل عزّ وجل سيفاً من السماء له غمد، فقال له


1- 1 المدائح النبوية- هاشم الخطيبص 84- 85.
2- 2 الطبقات الكبرى لابن سعد 3 ق 1: 4.
3- 3 الحج: 39.
4- 4 النساء: 84.
5- 5 الأنفال: 66.

ص: 209

جبرئيل: ربك يأمرك أن تقاتل بهذا السيف قومك حتى يقولوا: لا إله إلّااللَّه، وأنك رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم، فإذا فعلوا ذلك حرمت دماؤهم وأموالهم، فكانت أول سريه سارت هي لحمزة بن عبد المطلب (1). ويقول المدايني: «إن أول سرية بعثها رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم. لحمزة بن عبد المطلب في ربيع الأول من سنة اثنين إلى سيف البحر من أرض جهينة [وسيف البحر يعني ساحله] أخرجه أبو عمر وصاحب الصفوة ولفظة أول لواء عقده رسول اللَّه لحمزة حيث قدم المدينة» (2).

مقتل حمزة بن عبد المطلب:

كان حمزة بن عبد المطلب يقاتل بشدة، وكان يحارب بيقين، وقد قُتل بعد أن قتل رجالًا من قريش، حيث «رماه وحشي، عبد لجبير بن مطعم فسقط ومثلت به هند بنت عتبة بن ربيعة وشقت عن كبده فأخذت منه قطعة فلاكتها، وجدعت أنفه، فجزع عليه الرسولصلى الله عليه و آله و سلم جزعاً شديداً وقال: لن أصاب بمثلك، وكبّر عليه خمس وسبعين تكبيرة» (3).

جاء في السيرة النبوية لابن هشام عن وحشي فقال: «ودعا جبير بن مطعم غلاماً له حبشياً يقال له: وحشي، يقذف بحربة له قذف الحبشة، قلّما يخطئ بها، فقال له: أخرج مع الناس، فإن أنت قتلت حمزة عمّ محمدصلى الله عليه و آله و سلم بعمّي وطعيمة بن عدي، فأنت عتيق» (4).

وهكذا خرج وحشي مع رجال قريش ومعهم بعض النسوة وكانت «هند بنت عتبة كلما مرت بوحشي أو مرّ بها، قالت: ويها أبا دسمة اشف واستشف، وكان وحشي يكنى بأبي دسمة، فأقبلوا حتى نزلوا بعينين، بجبل بيطن السّبخة من قناة على شفير الوداي، مقابل المدينة» (5).

وقد تكلم وحشي عن قتل حمزة، كما جاء في السيرة النبوية لابن هشام


1- 1 تاريخ اليعقوبي 2:ص 44.
2- 2 ذخائر العقبىص 176.
3- 3 تاريخ العقبى 2: 47.
4- 4 السيرة النبوية لابن هشام ق 2ص 61.
5- 5 السيرة لابن هشام ق 2ص 62.

ص: 210

«قال وحشي، غلام جبير بن مطعم: واللَّه أني لأنظر إلى حمزة يهدّ الناس بسيفه ما يُليق به شيئاً، مثل الجمل الأورق، إذ تقدمني إليه سباع بن عبد العزى، فقال له حمزة: هلم إليّ يا ابن مقطعة البظور، فضربه ضربة، فكأن ما أخطاً رأسه وهززت حربتي حتى إذا رضيت منها دفعتها عليه، فوقعت في ثنته حتى خرجت من بين رجليه، فأقبل نحوي، فغُلِب فوقع، وأمهلتُه حتى إذا مات جئت فأخذت حَربتي، ثم تنميت إلى العسكر، ولم تكن لي بشي ء حاجة غيره» (1).

مدفن حمزة سيد الشهداء رضى الله عنه بأُحد

تاريخ قتل حمزة بن عبد المطلب:

قتل على رأس اثنين وثلاثين شهراً من الهجرة وكان يوم قتل له سبع


1- 1 السيرة لأبن هشام ق 2ص 69- 70.

ص: 211

وخمسون سنة، ودفن هو وابن اخته عبد اللَّه بن جحش في قبر واحد، وفي رواية كان سنّه يوم قتل ابن تسع وخمسين سنة، وكان أصغر من رسول اللَّه بأربع سنين (1).

بكاء النبيصلى الله عليه و آله و سلم على حمزة بن عبد المطلب:

قال ابن هشام: لما وقف رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم على حمزة قال: لن أصاب بمثلك أبداً وما وقفت موقفاً قط أغيظ لي من هذا.

وعن ابن عباس قال: لما انصرف المشركون عن قتلى أُحد، انصرف رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم فرأى منظراً ساءه ورأى حمزة قد شقّ بطنه واصطلم [أي قطع] أنفه، وجدعت أذناه، فقال: لولا أن تجزع النساء ويكون سنّة من بعدي لتركته حتى يبعثه اللَّه من بطون السباع والطير ...، ولأمثلنّ مكانه بسبعين قتيلًا منهم. ثم كفن ببردة غطى بها وجهه وجعل على رجليه شيئاً من الأذخر [الأذخر وهو حشيشة طيبة الرائحة] ثم قدم وصلى عليه عشراً ثم جعل يجاء بالرجل وحمزة مكانه حتىصلى عليه سبعينصلاة، وكان عدد القتلى سبعين، فلما فرغ منهم نزل قوله تعالى: «ادع إلى سبيل ربك بالحكمة» (2)

إلى قوله «واصبر وماصبرك إلّا باللَّه» (3).

لقد عرفنا من خلال هذه الروايات، مدى حزن الرسولصلى الله عليه و آله و سلم على مقتل حمزة رضى الله عنه وإحاطة الرسولصلى الله عليه و آله و سلم وأصحابه بالجثمان الطاهر لحمزة وهو مسجى على الأرض، يبكون عليه.

ذكر غسل الملائكة حمزة رضى الله عنه:

عن الحسن عليه السلام: قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم: رأيت حمزة تغسله الملائكة (4).


1- 1 الطبقات لابن سعد 3: 4- 5.
2- 2 النحل: 125.
3- 3 النحل: 127.
4- 4 ذخائر العقبىص 185.

ص: 212

ذكر وصيته رضى الله عنه:

قال ابن اسحاق: أوصى حمزة بن عبد المطلب رضى الله عنه فيما بلغنا إلى زيد بن حارثة، وكان رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم آخى بينهُ وبينه، أوصى إليه يوم أحد لما حضر القتال إن حدث به حادث الموت (1).

حمزة يطلب من الرسولصلى الله عليه و آله و سلم أن يشرّفه اللَّه برؤية جبريل:

كانصلى الله عليه و آله و سلم لا يرفض لحمزة أي طلب، مهما كان نوعه، وقد طلب من الرسول ذات مرة أن يشرفه اللَّه برؤية جبريل عليه السلام علىصورته، وقد ورد الخبر في الطبقات الكبرى لابن سعد حيث نقل:-

«قال: أخبرنا موسى بن إسماعيل، قال أخبرنا حماد بن سلمة عن عمار بن أبي عمار: أن حمزة بن عبد المطلب، سأل النبيصلى الله عليه و آله و سلم أن يُريه جبريل فيصورته، فقال: «إنك لا تستطيع أن تراه» قال: «بلى». قال: «سأقعد مكانك». قال: فنزل جبريل على خشبة في الكعبة كان المشركون يضعون ثيابهم عليا، إذا طافوا بالبيت، فقال: «أرفع طرفك فانظر» فإذا قدماه مثل الزبرجد الأخضر، فخر مغشياً عليه» (2).

ذكر أنه أسد اللَّه ورسوله:

عن يحيى بن عبد الرحمن بن أبي لبيبة عن أبيه عن جده قال: قالصلى الله عليه و آله و سلم «والذي نفسي بيده إنه مكتوب عن اللَّه عزّ وجلّ في السماء السابعة حمزة بن عبد المطلب أسد اللَّه وأسد رسوله» وقال ابن هشام: قالصلى الله عليه و آله و سلم «جاءني جبريل فأخبرني أن حمزة بن عبد المطلب مكتوب في أهل السماوات السبع أسد اللَّه ورسوله» (3).


1- 1 ذخائر العقبىص 185.
2- 2 الطبقات لأبن سعد 3 ق 1: 6.
3- 3 ذخائر العقبىص 176.

ص: 213

ذكر أنه خير أعمام النبيصلى الله عليه و آله و سلم:

عن عبد الرحمن بن عابس عن أبيه قال قالصلى الله عليه و آله و سلم «خير أعمامي حمزة» (1).

ذكر أنه سيد الشهداء:

عن جابر بن عبد اللَّه: قالصلى الله عليه و آله و سلم: «سيد الشهداء يوم القيامة حمزة بن عبد المطلب ورجل قام إلى إمام جائر قام ونهاه». وفي رواية «حمزة خير الشهداء».

وعن أبن مسعود قال: قالصلى الله عليه و آله و سلم «ألا أنبئكم بأفضل الشهداء عند اللَّه بعد حمزة بن عبد المطلب، قيل: بلى يا رسول اللَّه. قال: رجل أتى أميراً جائراً فأمره بالمعروف ونهاه عن المنكر، فإن هو لم يقتله لم يجر عليه ذنب ما دام حياً، وإن قتله كان أفضل الشهداء عند اللَّه بعد حمزة بن عبد المطلب (2).

شهادة النبيصلى الله عليه و آله و سلم له بالجنة:

قالصلى الله عليه و آله و سلم: «دخلت البارحة الجنة فإذا حمزة مع أصحابه» (3).

حمزة أحد نجباء الرسولصلى الله عليه و آله و سلم:

في رواية عن قطر بن خليفة عن كثير النواء، سمعت عبد اللَّه بن مالك، سمعت علياً عليه السلام يقول: قالصلى الله عليه و آله و سلم: «لم يكن نبيّ قط إلّاوقد أعطى سبعة نجباء ووزراء، وإني أعطيت أربعة عشر أحدهم حمزة» (4).

اعتزاز علي بن أبي طالب عليه السلام بعمّه حمزة:

كان علي بن أبي طالب عليه السلام يعتزّ جداً بعمه حمزة بن عبد المطلب، وقد سمى


1- 1 ذخائر العقبىص 176.
2- 2 ذخائر العقبىص 176.
3- 3 ذخائر العقبىص 176- 177.
4- 4 سير أعلام النبلاء الذهبي 1: 295.

ص: 214

ابنه الحسن أول الأمر بحمزة من كثرة محبته له، فقد جاء في باب ذكر تسميتهما الحسن والحسين كانتا بأمر اللَّه تعالى». في كتاب ذخائر العقبى ذلك: «عن علي عليه السلام قال: لما ولد الحسن سماه حمزة، فلما ولد الحسين سماه باسم عمه جعفر، قال: فدعاني رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم وقال: إني أُمرت أن أغير اسم هذين، فقلت: اللَّه ورسوله أعلم، فسماهما حسناً وحسيناً» (1).

علي لا يفارق ذكر حمزة:

كان علي عليه السلام لا يفارق ذكر اسم عمه حمزة إجلالًا لقدره واعتزازاً به، وقد ورد ذلك في كتاب ذخائر العقبى في موضوع: «ذكر برّ علي عليه السلام به- يعني عمه العباس- ودعائه له». وذلك «عن ابن عباس قال: اعتلّ أبي العباس، فعاده علي عليه السلام، فوجدني أضبط رجليه، فأخذهما من يدي، وجلس موضعي، وقال:

أنا أحقّ بعمي منك، أن كان اللَّه عز وجل قد توفى رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم، وعمي حمزة وأخي جعفراً، فقد أبقى لي العباس، عمّ الرجلصنو أبيه وبره به كبره بأبيه، اللهم هب لعمي عاقبتك وارفع له درجة، واجعله عندك في عليين» (2).

حديث الرسولصلى الله عليه و آله و سلم على قبر حمزة رضى الله عنه:

ورد في الطبقات الكبرى لابن سعد قال: أخبرنا عبد اللَّه بن سلمة بن قعتب، قال: أخبرنا محمد بنصالح بن يزيد بن زيد عن أبي أسيد الساعدي، قال:

أنا مع رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم على قبر حمزة، فجعلوا يجرون النمرة، فتنكشف قدماه وبجرونها على قدميه فينكشف وجهه فقال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم: «اجعلوها على وجهه وجلعوا على قدميه من هذا الشجر». قال: فرفع رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم رأسه فإذا أصحابه يبكون، فقال: ما يبكيكم؟ قيل يا رسول اللَّه لا نجد لعمك اليوم ثوباً


1- 1 ذخائر العقبىص 120.
2- 2 ذخائر العقبىص 202.

ص: 215

واحداً يسعه: فقالصلى الله عليه و آله و سلم: «إنه يأتي على الناس زمان يخرجون إلى الأرياف، فيصيبون رفها مطعماً وملبساً ومركباً أو قال: مراكب، فيكتبون إلى أهلهم هلموا إلينا فإنكم بأرضٍ جرديه، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون لا يصبر لأوانها وشدتها أحد إلّاكنتُ له شفيعاً، وشهيداً يوم القيامة» (1).

حمزة في عالم الشعراء:

يحفل الأدب العربي بكثير من القصائد الشعرية عن سيدنا حمزة بن عبد المطلب، أما بشكلصريح أو بالكناية، والأبيات التي قيلت في حقه موزعه بين رثاءٍ له، أو مفاخره لشجاعته أو ورود اسمه في المدح النبوي.

في ذكر أوصافه:

بنوه سراة كهلُهم وشبابُهم تفلّق عنهم بيضة الطائر الصقر قُصيُّ الذي عادى كنانة كلَّها ورابط بيتَ اللَّه في العُسر واليُسر

وأبقى رجالًا سادةً غير عُزّل مصاليت أمثال الردينية السُمر

أبو عُتبة المُلقى إليّ حِباؤه أغرُّ هِجان اللون من نفر غر

وحمزة مثل البدر يهتزّ للندى نقي الثياب والذمام من الغدر (2) قال ابن اسحاق: وقال حسان بن ثابت يبكي حمزة بن عبد المطلب (3):

أتعرفُ الدارَ عفا رسُمها بعدكَصوبُ المسُبِل الهاطلِ

بين السرّاديح فأُدمانةٍ فمدفع الرّوحاء في حائلِ

ساءلتُها عن ذاك فاستعجمت لم تدرِ ما مرجوعةُ السائل

دع عنك داراً قد عفا رسمُها وابكِ على حمزة ذي النائل

الماليِ الشّيزي إذا أعصفت غبراءُ في ذي الشّيِم الماحل


1- 1 الطبقات لابن سعد 3 ق 1:ص 8.
2- 2 السيرة النبوية لأبن هشام ق 1ص 174- قصدية حذيفة.
3- 3 السيرة النبوية ق 2ص 155- 156.

ص: 216

أظلمت الأرضُ لفقدانه واسودّ نور القمر الناصل

صلى عليه اللَّه في جنّةٍ عاليةٍ مُكرمة الداخل

كنا نرى حمزة حِرزاً لنا في كل أمر نابنا نازل

وكان في الإسلام ذا تُدْرَأ يكفيك فقدَ القاعد الخاذل

غداة جبريل وزيرٌ له نعم وزيرُ الفارس الحامل الهوامش:

مختصر معجم معالم مكة التأريخية

ص:217

ص: 218

مختصر معجم معالم مكة التأريخية

(3)

عاتق بن غيث البلادي

الرَّدْم:

يسمى ردم بني جُمح، ويسمى ردم بني قُرَاد، قالوا في سبب تسميته: إنّ بني جُمح وبني مُحارِب- وكلاهما من قريش- قد اقتتلوا بمكة، فردمت بنو جُمح على قتلاها هناك فسمي بذلك، فقال أحدهم:

سأحبس عَبْرة وأفيض أخرى إذا جاوزت رَدْم بني قُراد ومساكن بني جُمح كانت في الجانب الجنوبي الغربي من المسجد الحرام، أي يسار من يستقبل الركن اليماني، وكنت كتبت في (معجم معالم مكة) هكذا: قلت:

(موضع هذا الردم أول شارع الجودرية مما يلي المعلاه، إذا افترق شارع الجودرية الذي في نهايته المدعى عن شارع الغَزّة فذلك هو الرَّدْم) غير أنه اتضح الآن أن النصوص لا تنطبق على هذا.

والردوم في مكة كثيرة، منها: ردم آل عبد اللَّه بن أسيد، قرب أذاخر، كانوا

ص: 219

يدفنون موتاهم فيه، وفيه دفن عبد اللَّه بن عمر، زمن تولى الحجاج على مكة.

وردم الحذائين: كان قرب المروة.

ولم تعد هذه الردوم بالأهمية التي تستحق الاستقصاء والتمحيص، ولكن لمجرد الذكرى، والذي لا يسر في النصوص الجغرافية في تواريخ مكة المكرمة أنها مشوشة، وقد يرد المعلم الواحد في مكانين مختلفين، وقد يحددون بيت فلان، وبالأراكة والمأجل، ونحو ذلك، وهم معذورون، فهم يكتبون في مدينة تتغير المسميات فيها من جيل إلى جيل.

وردوم أخرى، منها: ردم الحزامية، وردم عمر، وردم الزبير، وردم السويقة، وغيرها. وقد أفاض فيها الأزرقي في أخبار مكة.

ريع الرسام: انظر كُدَىً.

ريع الحجون: انظر: الحجون، وكَدَاء.

ريع الكحل: هو الريع الذي يوصل بين وسط العتيبية والزاهر، طريقه من الزاهر فحي العتيبية.

فريع الحجون، ندباً لا عوج فيه.

سَرِف:

بفتح السين وكسر الراء وآخره فاء: وادٍ كبير من روافد مر الظهران، يسيل من جبل أظلم وما حوله، وفيه هناك الجعرانة، ثم ينحدر فيسمى وادي الزاوية، نسبة إلى زاوية أقامها السنوسي هناك وعليها مزرعة، ثم ينحدر فيسمى وادي الوسيعة، وفيه زراعة على آلات الضخ، ثم يقطعه طريق مكة إلى المدينة شمال مكة على اثني عشر كيلًا، ثم يصب في مرّ الظَّهْران عند دف خُزَاعة، فيه منهل النوارية على الطريق، وفيه قريتان لقبيلة بني لحيان التي تسمى ديارها اللحيانية،

ص: 220

وهي الأرض الممتدة بين مكة ومر الظهران، وهذا المكان من سرف- حيث يقطعه الطريق- قد تسور أخيراً، وقامت فيه عمارات بعضها يرتفع عدة طوابق، فصارت مدينة حديثة تسمى النوارية.

وفيه- أي حيث يقطعه الطريق- قبر السيدة ميمونة بنت الحارث أُمّ المؤمنين، وفي هذا المكان بنى بها رسول اللَّه (صلى الله عليه و آله و سلم) سنة سبع للهجرة، ثم ماتت بنفس المكان. ويبلغ وادي سرف «36» كيلًا طولًا، كلّه لقبيلة لحيان.

وفي سرف يقول عبيد اللَّه بن قيس الرُّقَيَّات (1):

لم تكلِّمْ بالجَلْهتَين الرسومُ! حادث عهد أهلها أم قديمُ؟

سرف منزل لسَلْمةَ، فالظَّهْ - رانُ منازل فالقصيمُ وقال قيس بن ذَرِيح الكناني (2):

الحمد للَّه قد أمست مجاورةً أهل العقيق وأمسينا على سَرِفِ

حي يمانون والبطحاءُ منزلنا هذا لعمرك شكل غير مؤتلفِ

قد كنت آليتُ جهداً لا أفارقها أفٌّ لأكثر ذاك القيلِ والحلفِ حتى تكنفني الواشون فافتلتت لا تأمَننْ أبداً إفلاتَ مُكْتَنفِ وقوله: فالقصيم. هكذا نص الأصل، ولا أعلم معناه.

سَلْع مكَّة:

بفتح السين المهملة وسكون اللام، ثم عين مهملة: جبل غير عظيم الارتفاع، يقع شرق مكة يظله العشي جبل الطارقي، ويصفق فيه من الشرق سيل وادي عُرَنة، إذا كنت عند علمي طريق نخلة اليمانية، رأيت سلعاً جنوباً رأي العين، وقبل مدة عثر أحدهم على نقش في هذا الجبل يعود تاريخه إلىصدر الإسلام، نشرت ذلك مجلة المنهل، ولكن ذلك الباحث سماه «السلوع» وهذا ليس


1- 1 معجم البلدان سرف
2- 2 معجم ما استعجم سرف

ص: 221

غريباً فعادة العرب من زمن بعيد تثنية المفرد وجمعه مع ما حوله، إلا أن هذا غالباً في الشعر. وكثير من الناس لا يعرف سوى سلع المدينة، فسلع المدينة شهرته كشهرة المدينة إياها غير أن سَلْعاً هذا غير مجهول ولا خامل الذكر في شهر هذيل.

وهذا البريق الهذلي يقول:

سقى الرحمن حزم ينابعات من الجوزاءِ أنواءً غزارا

بمرتجزٍ كأنَّ على ذُرَاه ركاب الشام يحملن البهارا

يحط العُصْم من أكناف شِعرٍ ولم يترك بذي سَلْع جمارا وتجدر الملاحظة أن في فصل الجوزاء التي ذكرها البريق تكثر الأمطار في الحجاز وليس هذا إلا بمشيئة مكون الكون. وسَلْع اليوم من ديار قُرَيش، وحدود الحرم على جانبه الغربي، فهو كلّه أو جلّه في الحل.

شعْب علي:

الشعاب في مكة كثيرة، ذلك أنها منطقة جبلية، ولذا ضرب بشعابها المثل، فقيل (أهل مكة أدرى بشعابها)- والحقيقة أنه ليس كلّ أهل مكة أدرى بشعابها-، ولذا فبإمكانك إضافة هذا المثل أيضاً، وقد ذكرنا الكثير منها في المعجم (1). هذا الشعب هو الذي لجأ إليه بنو هاشم عندما تحالفت قريش ضدهم، فعرف بشعب بني هاشم، ثم بشعب أبي طالب عندماصار عميد البيت الهاشمي.

ثم اشترى فيه أبو يوسف أخو الحجاج الثقفي بيوتاً فعرف الشعب باسم (شعب أبي يوسف). ثم سمى بعد ذلك شعب علي، وهو اسمه اليوم، وهو منازل بني هاشم قبل النبوة، وقد ولد فيه الرسول الأعظمصلوات اللَّه عليه، وفيه اليوم في موضع المولد الشريف (مكتبة مكة المكرمة)، وإذاً فقد أصبح من أوليات


1- 1 معجم معالم الحجاز.

ص: 222

المواضع التاريخية، وذا اسم بارز في السيرة. يأتي هذا الشعب من بين أبي قبيس عن يساره والخنادم عن يمينه فيصب في بطحاء مكة فيما يعرف اليوم بسوق الليل، فوق المسجد الحرام بما يقرب من ثلاثمائة متر، وكانت بئر بَذَّر- بتشديد الذال المعجمة- عند مصبه، فدخلت اليوم في توسعة شارع الغزَّة، فدم فمها ولم يبق له رسم.

وكان شعب علي مأهولًا، ومن أشدّ أحياء مكة ازدحاماً، غير أن كلّ بنيانه أزيل سنة 1410 ه ليكون من المرافق العامة ومواقف للسيارات بعد التوسعة الجديدة، وبقي مبني مكتبة مكة ماثلًا منفرداً بعد أن نفلت إلى الزاهر تمهيداً لهدم المحل.

إلّا أن مفاهمات أهل الخير حالت دون هدمه، ويقال: إنه مقترح اليوم أن يكون متحفاً لمكة، وسلامات يا سيد الموالد!

ويقول أبو طالب في هذا الشعب معاتباً قريشاً: (1)

جزى اللَّه عنا عبد شمس ونوفلا وتَيماً ومَخْزوماً عُقوقاً ومأثما

بتفريقهم من بعد ودٍّ وأُلفةٍ جماعتنا كيما ينالوا المحارما

كذبتم وربّ البيت نُبْزِي محمداً ولما تروا يوماً لدى الشعب قائما شِعْب الصُّفَيّ:

كذا ذكره الأزرقي، منسوباً إلىصفي السباب، وسيأتيصفي السباب، وقرنه في مواضع أوجبت إيراد شاهد هو:

إذا ما نزلتم حذو نزاعة الشوى بيوت ابن قطر فاحذروا أيها الركبُ وهذا الشعب مكانه، واللَّه أعلم، بين البياضية وخطم الحجون مقابل ريع أذاخر من الجنوب الشرقي (2).


1- 1 من قصيدة طويلة في السيرة النبوية.
2- 2 وهذا خلاف لما كتبته في مؤلفاتي السابقة إذ تبين لي خطل ذلك القول.

ص: 223

شِعْب ابن عامر:

ذكره الأزرقي حين قال: ولهم- بنو أسيد- دار الحارث، ودار الحصين اللتان بالمعلاة في سوق ساعة، عند فوهة شعب ابن عامر، والحصين ابن عبد اللَّه بن خالد بن أَسيد.

أقول: و هذا الشعب يطلق عليه اليوم شعب عامر، يصب على الغَزَّة مقابل مسجد الراية، يأتي من الخنادم. وسوق ساعة الذي ذكر فيه، يعرف اليوم بسوق الزِّلّ، لأن أكثر تجارته في الزل والبسط. وهو منسوب إلى عبد اللَّه بن عامر بن كريز.

شعْب آل قُنْفد (شعبة النور):

قال الأزرقي: شعب آل قنفد: هو الشعب بالذي فيه آل خلف ابن عبد ربه بن السايب مستقبل قصر محمد بن سليمان، وكان يسمى شعب اللئام، وهو قنفد بن زُهَير من بني أسد بن خُزَيمة، وهو الشعب الذي على يسارك وأنت ذاهب إلى مِنَى من مكة فوق حائط خُرْمان، وفي هذا الشعب مسجد مبني يقال: إن النبيّ (صلى الله عليه و آله و سلم)صلى فيه، وينزله اليوم في الموسم الحضارمة (1). قلت: هذا الشعب اليوم يسمى الشعبة، وهي تأخذ بسفح جبل المعابدة من الغرب فتمر بينه وبين قرن الغراب (2) فتصب في الأبطح مقابلة لتلعة الملاوي من الشمال، ولا يزال المسجد المنسوب إلى رسول اللَّه قائماً في ذلك الشعب داخلًا بعيداً عن الطريق العام يصلّى فيه، ونحن اليوم نسميها أيضاً شعبة الحرث: لأن الأشراف بني الحارث ينزلون هذه الشعبة.

الصِّفَاح:

كجمعصفحة، والصفحة تطلق في الحجاز على الأرض البيضاء الملساء،


1- 1 أخبار مكة 2: 286.
2- 2 كان في النصصفي السباب وهذا أصح.

ص: 224

وهذا الاسم يشهد أنها لغة لهم قديمة أصيلة: أرض خارج حدود الحرم على محجة العراق، إذا خرجت من أنصاب الحرم متجاوزاً ثنية خَلّ سرت فيها، وهي جَرَد أبيض سيله جنوباً إلى المُغَمّس ثم عُرَنة، ويشرف عليها من الشمال جبل السِّتَار ويغذيها بقسم كبير من مياهه. خرج الحُسَين بن عليّ رضي اللَّه عنهما يريد العراق، في خرجته التي قتل فيها، فلقيه الفرزدق الشاعر فعذله ونصحه قائلًا: إن قلوب الناس معك ولكن سيوفهم مع بني أُميّة، ولكن الحُسين رضى الله عنه لم يقبل، فقال الفرزدق: (1)

لقيتُ الحسينَ بأرضِ الصِّفَاحِ عليه اليَلَامقُ والدُّرقُ وقال ابن مقبل يرثي عثمان بن عفان:

عفا بطحان من سُليمى فيثربُ فملقى الرحال من مِنىً فالُمحصَّبُ

فعسفان سرّ السرّ، كلّ ثنية بعسفان يأويها مع الليل مِقْنَبُ

فنعف وداعٍ فالصِّفَاح فمكة فليس بها إلّادماءٌ ومَحْربُ وقال عمر بن أبي ربيعة: (2)

قامت تراءى بالصِّفَاحِ كأنّما عمداً تريد لنا بذاك ضرار وتركنا شواهد غير ما ذكرنا للاختصار وقد أفضنا القول عن الصفاح في (معجم معالم الحجاز).

كتب هذا النص سنة 1400 ه ثم ما لبث هذا البياض أن خطط فقامت فيه مدينة حديثة ذات فلل جميلة، ولها بلدية وأسواق، وهي متسعة بحيث دخل بعض المغمس فيها، وسميت (الشرائع الجديدة) وليست من الشرائع في شي ء، ولكن المخططين أرادوا اسم الشرائع بشهرته وموسيقاه. فصار لدينا من ضواحي مكة بلد ثلاث تسمى الشرائع: الشرائع القديمة (حنين) (3)، وشرائع المجاهدين، والشرائع الجديدة.


1- 1 معجم البلدان الصفاح
2- 2 ديوانه: 117.
3- 3 انظر: معجم معالم الحجاز.

ص: 225

عُرَنَة: «1» بضم العين المهملة والراء ثم نون فهاء ..

وادٍ من كبار أودية مكة يتكون رأسه من شعبتين يمانية وتسمى البجيدي:

وادٍ يلي جبل كبكب من الشمال، فيه نزل وزارعه على الضَّخّ الآلي، وأهله ذوو جازان الأشراف، وبه مركز إمارة يتبع قائمقام العاصمة، وشمالية وهي وادي حُنَين ويعرف اليوم بوادي الشرائع يشترك فيه الأشراف وهُذَيل، وأسفله واقع في حدود قريش، فإذا التقت الشعبتان على مرءى من عَلَمي طريق نجد شرقاً، سمي الوادي عُرَنة، وكلّه واقع في ديار قريش، وجلّ الأرض التي يسير فيها إلى عرفة تسمى المُغَمّس، ومن روافده: ذو مجاز يأتيه من كبكب، تنظر إليه وأنت عند العلمين المتقدم ذكرهما ولا زالت آثار سوقه ترى بصعوبة.

وقد افضت في تفاصيله في كتابي (أودية مكة) وفيه بحث في مجلة المنهل، ويتجه عُرَنة إلى الجنوب بين كبكب على يساره وجبال مكة على يمينه، فيمر بطرف عرفة من الغرب حيث يكون نَمِرة بعضه في عُرَنَة (بالنون) وتوهم بعض الباحثين وأهل المناسك أن عُرَنة- بالنون- هو فقط المكان الذي فيه المسجد ..

وهذا خطأ، من أجله توسعنا في وصف عرفة. فإذا تجاوز عرفة- بالفاء- أخذ جنوباً غربياً فيأتيه من اليسار وادي نَعْمان وفي التقائهما تقع عين العابدية وبعض العامة يطلق اسم وادي العابدية على وادي نعمان هناك، وقد توقفت عين العابدية الآن، لأن ارتوازات ضربت قريباً منها، فنضب ماؤها. فإذا اجتمع الواديان أطلق اسم عُرَنة- بالنون- على الوادي كلّه فيمر جنوب مكة على أحد عشر كيلًا، ويعتبر منذ تجاوزه عرفة حتى جبال لبينات جنوب غربي مكة، حداً للحرم في هذه الناحية الواسعة: ثم يصب في البحر، قال أحدهم:

أبكاكَ دون الشِّعْب من عَرَفَات بمدفع آياتٍ إلى عُرَنَاتٍ وقيل في أبي الكِنّات المكي المغني:

أحسن الناس فأعلموه غناءً رجلٌ من بني أبي الكنّات

حين غَنّى لنا ما شاءَ غناء يهيج لي اللذات

عفت الدار فالهضاب اللواتي بين (توز) فملتقى عُرنَات ولعل «توز» هناصوابها «ثور» بالمثلثة وآخره راء.

العَيْرة:

بلفظ أنثى العير: جبل بمكة ينحني عليه المنحنى، بين الحُجُون ومِنىً، يدعه المتجه إلى منى يمينه ويقابله من الشمال جبل شاهق يسمى اليوم جبل العابدة، وكان يعرف بسقر وسمي أبا دُلامة، وقيل كان يسمى العَيْر فيجمع من العيرة السابقة، فيقال: العَيْرتان، ولا يقال العيران، أما العيرة فتعرف اليوم بجبل الشَّيْبي، لبئر حفرها أحد بني شيبة بسفح الجبل من مطلع الشمس، قال الحارث بن خالد المخزومي:

أقوَى من فُطيمة الحَزمُ فالعَيْرتان فأوْحشَ الخَطْمُ الحزم: مكان غشاه اليوم العمران بظل جبل المعابدة السابق ذكره من مطلع الشمس (1). والخطم: خطم الحجون عندما يكنع في الأبطح (2). والأبطح يسمى اليوم- هناك-: الخريق، بين الخرمانية إلى مقبرة الحُجُون.

وورد اسم عير في لامية أبي طالب:

وَعَيرٍ ومن أرسى ثَبيراً مكانه وراقٍ ليَرْقَى في حِراءٍ ونازل وخاض المتقدّمون في عير هذا وعير المدينة.

انظرهما في الجزء السادس من معجم معالم الحجاز. وقال أحدهم:

إلى بئر مَيْمون إلى العَيْرة التي بها ازدحم الحُجَّاج بين المشاعر وبئر ميمون كانت قرب الخرمانية، التي أقيم فيها اليوم مبنى أمانة العاصمة، وقد تقدم بحثها بإسهاب.

الهوامش:

المساجد والأماكن الأثرية المجهولة لزائر المدينة المنوّرة الميمونة


1- 1 دخل اليوم في حي الخنساء.
2- 2 هذا الخطم فيما يبدو هو النعف من جبال الخنادم الذي بطرفه راس جسر الحجون، مقابل المقبرة القديمة من الجنوب، وهذا خلاف ما قررته سابقاً، وهذا أصح.

ص:226

ص:227

ص: 228

المساجد والأماكن الأثرية المجهولة لزائر المدينة المنوّرة الميمونة

(3)

عبد الرحمن خويلد

13- الزبية (الحفرة)

التي سقطت فيها دابة النبيّصلى الله عليه و آله و سلم في غزوة أُحد.

دو فصلنامه «ميقات الحج»،ص: 229

تقع هذه الحفرة خلف قبور شهداء أُحد، وتبعد عنها بمائة متر بالاتّجاه إلى الشمال، وهي البقعة الوحيدة التي لم تُسفّل من بين المساحة الواسعة المسفّلة، والتي يمرّ منها المتّجه إلى جبل أُحد.

والزُبية هي المَصْيَدة التي حفرها المشركون في طريق دابّة النبيّصلى الله عليه و آله و سلم، وغطّوها بالقَش حتى وقعت فيها دابّتهصلى الله عليه و آله و سلم، ثمّ أصابه عُتبة فجرح شفته السفلى، وكسر رباعيته، ثمّ شجّه ابن قمئة وابن شهاب، فسارع بعض الصحابة ورفعوه منها (1).

وقد كان في مكان هذه الحفرة مسجدٌصغيرٌ يُسمّى مسجد الثنايا أو قبة الثنايا، وسُمّي بذلك لأنّه كُسرت فيه ثنايا النبيصلى الله عليه و آله و سلم في غزوة أُحد. وقد تهدّمت القبة وأُزيل المسجد، وبقيت- كما هي عليه الآن- (2) أرضاً خالية.

14- مسجد الفسح (المسجد المسوّر)


1- 1 سيرة ابن هشام 2: 21؛ والدرّ الثمين: 177- 178.
2- 2 تاريخ معالم المدينة المنوّرة: 127.

ص: 229

ص: 230

مكان هذا المسجد إلى الشمال من قبور شهداء أُحد ومن الزبية، ويقع على سفح جبل أُحد، وكان ملاصقاً له، وهو على يمين الذاهب إلى الشِعب الذي فيه المهراس (1)، ويبعد عنه بمسافة تقدّر بمائة وخمسين متراً.

وهو مسجدصغير بُني بالحجارة منذ زمن الأتراك، وسوِّر بأسلاك حديدية، حتى عُرف عند أغلب الساكنين هناك بالمسجد المسوّر.

وقد توهّم الأُستاذ غالي الشنقيطيصاحب كتاب الدرّ الثمين (2)بقوله:

«وقد بُني في عهد المملكة العربية السعودية بناءً حديثاً وجميلًا». فقد زرته في شهر رجب عام 1412 ه، ووجدته على حالته السابقة، ولا زال السور الحديدي محيطاً به.

ويظهر أنّه لم يره رأي العين المجرّدة، لأنّ المتبقي منه جدار واحد فقط، وهو الذي فيه المحراب، وأنّه رأى مسجداً حديثاً وظنّه هو، والواقع أنّ المسجد الذي بُني بناءً حديثاً هو مسجد عبد اللَّه المفوز، وسألتُ أحد ساكني المحلة قديماً بقولي:

هل كان مكان هذا المسجد (مسجد عبد اللَّه المفوز) بناءً قديماً من الحجر؟ فكان جوابه: بعدم وجود أيّ حجر في مكانه، وأنّ أصله أرض بيضاء.

وسبب تسميته بمسجد الفسح قيل: (3) إنّ النبيّصلى الله عليه و آله و سلمصلّى فيه بعد انتهاء معركة أُحدصلاتي الظهر والعصر جلوساً، وصلّى الصحابة معه جلوساً، وذلك لما أُجهدوا من الجراح، ونظراً لضيق مساحته لم يجد بعضهم محلًا للصلاة فيه فنزل قوله تعالى: «يا أيّها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسَّحوا في المجالس فافسحوا يفسحِ اللَّه لكم» (4).

وقيل: (5) إنّ هذه الآية نزلت بسبب ضيق المكان في المسجد النبوي، وكان يوم جمعة. واللَّه أعلم.

ويغلب على هذا المسجد اسم مسجد الفسح منذ القِدم، وهو مشهور


1- 1 وهو شقّ في جبل أُحد، والذي سيأتي بيانه لاحقاً إن شاء اللَّه تعالى.
2- 2 الدر الثمين: 178.
3- 3 الدرّ المنثور: 178.
4- 4 المجادلة 58: 11.
5- 5 أسباب النزول: 276.

ص: 231

بذلك (1).

15- المهراس

هو نَقْر في جبل أُحد، كان يرشح ماءً، وبعدصعود النبيّصلى الله عليه و آله و سلم إليه غُسل عن وجهه الدم والجراح التي لحقت به بسبب إسقاط دابته في الزبية التي حفرها الكفار- كما مرّ سابقاً- ثمّ نزفت جراحه مرّة أُخرى، فجاءت ابنته فاطمة الزهراء رضي اللَّه عنها وأحرقت قطعة من حصير ثمّ أخذت رمادها وكمّدت بها جراح أبيهاصلى الله عليه و آله و سلم فتوقف الدم (2).

ويبعد المهراس عن قبور شهداء أُحد بمسافة تقدّر بثمانمائة متر، ومكانه شمال مسجد الفسح وأعلى منه قليلًا.


1- 1 وفاء الوفاء 3: 848؛ والدرّ المنثور: 178.
2- 2 الدرّ الثمين: 178؛ وجاء في سيرة ابن هشام 3: 26 وغُسل عن وجهه الدم وصب على رأسه وهو يقول: غضب اللَّه على مَن دمى وجه نبيه.

ص: 232

ويرتاد المهراس بعض الزوّار للصلاة في داخله.

16- قبر النبيّ هارون عليه السلام

يقع هذا القبر على جبل أُحد في الجهة الشمالية الغربية منه، وقد أُحيط ببناء شبيه بالقلعة، له باب رئيسي، ومنفذانصغيران لتسرب ماء المطر منهما، وتوجد فوق القبر كتابات قديمة، وإلى جانبه غرف، وفي الوسط ساحةصغيرة، ويبعد عن قبور شهداء أُحد بحوالي خمسة كيلومترات ومائتي متر، ويسهل الوصول إليه بالسير بمحاذاة جبل أُحد، وهو قبل محطة المهندس للبنزين- والتي تقع على طريق الخواجات (غير المسلمين)، وتقابل نهاية جبل أُحد- بمسافة تقدّر بأربعمائة متر.

وفي ذلك المكان شِعب يُعرف بشعب هارون (1).


1- 1 وفاء الوفاء 3: 920.

ص: 233

وروى ابن شبه (1) عن جابر بن عبد اللَّه الأنصاري عن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم، قال: (خرج موسى وهارون حاجَّيْن أو معتمرين، حتى إذا قدما المدينة خافا اليهود، فنزلا أُحداً وهارون مريض، فحفر له موسى قبراً بأُحد وقال:

يا أخي أدخل فيه فإنّك ميّت، فدخل فيه، فلمّا دخل قبضه اللَّه، فحثا موسى عليه التراب).

17- مسجد الكاتبية

يقع هذا المسجد في بداية طريق قباء الطالع في أول شارع من الجهة اليمنى بعد جسر الصافية، وخلف الإشارة الضوئية الأولى، وهو قريب من مجمّع جوازات المدينة من جهته الشرقية.

وبناء هذا المسجد عثماني، ويوجد في جهته الجنوبية قبرصحابي جليل من


1- 1 تاريخ المدينة المنورة 1: 85- 86.

ص: 234

ويظهر مكان القبر واضحاً، وهو الربوة المرتفعة تحت الشجرة

شهداء أُحد اسمه (رافع بن مالك الزراقي) (1)، وإنّ موقع القبر الآن على يسار المحراب من الخارج، وهو ملاصق للمسجد، ومكانه بارز ومرتفع، ومبنيّ من الحجارة السوداء، ومطليٌّ بالاسمنت الأبيض.

18- مسجد المغيسلة

مكان هذا المسجد إلى الجنوب الغربي من مسجد الكاتبية، وفي الجهة الغربية من متوسطة سعد بن الربيع للبنين، ويغلب على المحلة التي يقع فيها هذا المسجد اسم المالحة.

وهو على ربوة مرتفعة محاصرة بالمنازل، وقد جُدّد بناؤه حديثاً.

ويسمى هذا المسجد قديماً بمسجد بني دينار بن النجار من الخزرج، روى


1- 1 هو رافع بن مالك بن عامر بن زريق، من بني الخزرج، ويُكنّى بأبي مالك، وله من الأولاد رفاعة وخلّاد، وقد شهد غزوة بدر، وكان من الكَمَلَة، والكامل في الجاهلية هو الذي يُحسن الكتابة والرمي والعوم، ينظر: عنوان النجابة في معرفة مَن مات من الصحابة: 106؛ وتاريخ معالم المدينة: 142.

ص: 235

-صورتين-

ص: 236

ابن شبه (1) عن عبد اللَّه بن عتبة بن عبد الملك «أنّ النبيّ (صلى الله عليه و آله و سلم) كان كثيراً ما يصلّي في مسجد بني دينار عند الغسّالين»

وقد رأى السمهودي (2) حَجَراً في هذا المسجد مكتوباً عليه كتابة كوفية ما لفظه: (مسجد رسول اللَّهصلى الله عليه و سلم).

الهوامش:

ابو الوليد الازرقي وكتابه أخبار مكة


1- 1 تاريخ المدينة المنورة 1: 70؛ وينظر: تحقيق النصرة: 149؛ وتاريخ معالم المدينة: 114- 115.
2- 2 وفاء الوفاء 3: 867.

ص: 237

أبو الوليد الأزرقي وكتابه «أخبار مكة»

محمد علي مهدوي راد

مكّة مدينة عريقة وذات مكانة رفيعة، استقطيت إليها اهتمام الأمم والشعوب على مرّ الأجيال، ولها بُعد تاريخي موغل في القِدَم. كانت لهذه الربوع المقدّسة أهمية أقدم وأكبر من أي موضع آخر في تاريخ الإسلام، وفي حقبة تدوين الآثار التاريخية والجغرافية. سبق لنا وأن عرضنا مقالة عن قِدَم الكتابات المدوّنة بشأن مكَّة (1)ووعدنا خلالها بتقديم عرض مسهب عن كتاب آخر قيّم وقديم حول تاريخ مكّة، واسم هذا الكتاب «أخبار مكّة ...» لمحمد بن عبد اللَّه الأزرقي. ويبدو أن كتاب الأزرقي هذا يمكن عدُّه أقدم كتاب موجود عن تاريخ مكّة (2).

مؤلفه:

مؤلف الكتاب محمد بن عبد اللَّه بن أحمد بن محمّد بن الوليد بن عقبة الغساني المعروف ب «أبي الوليد الأزرقي المكّي»، وهو من المحدّثين والمؤرخين،


1- 1 مجلة ميقات الحج، العدد 3: 22.
2- 2 كما ذكرنا سابقاً هنالك كتاب اسمه «تاريخ مكّة» وينسب إلى الحسن البصري ويبدو أنَّ نُسخة منه موجودة في مكتبة تيمور في دار الكتب المصرية تاريخ المدينة المنوّرة، ج 1، المقدّمة إلّاأنه لا توجد معلومات دقيقة عن محتوياتها وصحّة نسبتها.

ص: 238

بيد أنه لاتوجد بين أيدينا- وللأسف- معلومات دقيقة عن سنة ولادته.

قال عنه ابن النديم:

«هو محمّد بن عبد اللَّه ... عقبة بن الأزرق ... وله من الكتب كتاب مكة وأخبارها وجبالها وأوديتها «كتاب كبير» (1).

قال محقق الكتاب:

«ولد الأزرقي في مكّة المكرّمة في القرن الثاني للهجرة، ولم يعرف بالضبط تاريخ ولادته، ولا أشار إليه أحد من المؤرخين؛ لأن الأقدمين أهملوا ذكره بتاتاً. وترجمته التي وصلت إلينا من رواية المتأخّرين» (2). وسنة وفاته لم تُعرف أيضاً.

قال الحاج خليفة لما أتى على ذكر كتابه:

«الإمام أبو الوليد محمّد بن عبد الكريم الأزرقي، المتوفى سنة 223» (3).

فيما أشار البعض الآخر إلى أن وفاته كانت في عام 212 (4)، إلا أنَّ الفاسي يعتقد أنه كان على قيد الحياة حتى سنة 248 (5).

أما وستنفيلد الألماني الذي نشر الكتاب لأوّل مرّة فقد استند إلى الحوادث المنقولة في الكتاب، وعارض كلام الفاسي مؤكداً أن وفاته كانت في عام 244. إلّاأن محقّق الكتاب خالف آراءه وصرّح بأن رواية الفاسي ليست خاطئة. ويبدو أن الأزرقي كان على قيد الحياة حتّى سنة 248 (6).

قال خير الدين الزرگلي: إن وفاته كانت حوالي سنة 250 للهجرة، وأورد في الهامش أسماء المصادر التي ترجمت حياته، وتعرّض إلى اختلاف الأقوال فيه (7).

وعلى كلّ حال ليست ثمّة معلومات عن حياة الأزرقي وأحداثها.

والأثر الوحيد المتبقّي عنه هو هذا الكتاب الذي يعدُّ كتاباً نفيساً وثميناً ومفيداً.

اسم الكتاب:

سبق وأن أشرنا إلى أن ابن


1- 1 الفهرست: 124- 125.
2- 2 أخبار مكّة المقدمة: 13.
3- 3 كشف الظنون 1: 306.
4- 4 أخبار مكّة المقدّمة: 13.
5- 5 العقد الثمين.
6- 6 أخبار مكّة، المقدمة.
7- 7 الأعلام 6: 22، وأيضاً راجع كتاب معجم المؤمنين 3: 429، طبع مؤسسة الرسالة.

ص: 239

النديم أورد اسمه على الصورة التالية:

«كتاب مكّة وأخبارها وجبالها وأوديتها» (1).

وذكره السمعاني باسم «أخبار مكّة» (2). فيما أشار فؤاد سزگين إلى كتاب الأزرقي تحت عنوان «أخبار مكّة المشرّفة أو كتاب فضائل الكعبة» (3).

وأخيراً وسمه السيد رشديصالح ملحس باسم. «أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار». والاسم الذي جاء ذكره في كتاب «الفهرست» هو أكثر الأسماء تناسباً مع مضمون الكتاب، ولا يُعرف السبب الذي جعل المحقّق الفقيد يعرض عنه.

أهمية الكتاب:

كان هذا الكتاب النفيس على الدوام موضع اهتمام العلماء والمحدّثين والمؤرّخين، فقد استفاد منه الكثيرُ من الباحثين واستندوا إليه في تنظيم بحوثهم. قرأه عبد الكريم بن محمّد السمعاني، وهو مؤرخ وكاتب سيرة واسع الاطلاع، على بعض المحدثين، وكان يقول عنه:

«محمّد بن عبد اللَّه الأزرقي حفيد أحمد بن محمّد الأزرقي،صاحب كتاب «أخبار مكّة» كتبه بمنتهى الروعة والدقّة» (4).

يقول محقّق الكتاب:

وقد درسنا كتاب (أخبار مكّة وما جاء فيها من الآثار) درساً وافياً واستقصينا بحوثه استقصاءً تاماً فألفيناه كتاباً مهماً، غزير المادّة، كثير الفائدة رغم خلوّه من الأبحاث السياسية والاجتماعية.

إن رأي المحقّق بشأن أهمية الكتاب وفائدته رأيصائب، أما قوله بخلّوه من الأبحاث الاجتماعية فلا يمكن قبوله؛ لأن نظرة عابرة على فصول الكتاب تثبت لنا أنه يضم بين دفّتيه مواضع مهمّة من نمط الحياة الاجتماعية في مكّة آنذاك ومعتقدات الناس وميولهم وطبائعهم.


1- 1 الفهرست: 125.
2- 2 تاريخ التراث العربي: 1، الجزء الثاني: 203.
3- 3 الأنساب 1: 122، طبعة بيروت.
4- 4 الأنساب 1: 122، طبعة بيروت.

ص: 240

وعلى أيّة حال فكتاب الأزرقي يعدُّ أقدم كتاب عن تاريخ مكة وتتسم أخباره ومواضيعه بالدقة، ويضم بين طياته نصوصاً لا يمكن العثور عليها في موضع آخر، ولها أهمية كبيرة ومكانة معتبرة، ولا يستغني عنها الباحثون في تاريخ مكّة وتاريخ الإسلام وأوضاع ذلك الزمان.

نظرة خاطفة على أبواب وفصول الكتاب:

انتهج الأزرقي في تدوين الكتاب أسلوباً حاذقاً ويتميّز بالسلاسة والبساطة. إذ قسّم مواضيع الكتاب إلى أبواب وفصول وزيّن نصوصه بذكر سلسلة الإسناد.

تبدأ مواضيع الكتاب بالحديث عن الكيفية التي نشأت فيها الكعبة.

ويشير ضمن النصوص إلى السبب في تسمية مكّة بأم القرى. ثم يأتي برواية منقولة عن الإمام الرابع عليه السلام فيها أيضاً إشارة إلى البيت المعمور» (ص 32- 33).

يتناول الفصل اللاحق كيفية زيارة الملائكة لبيت اللَّه الحرام، وهبوط آدم عليه السلام إلى الأرض وبناء الكعبة، وأغلب هذه المواضيع منقولة عن وهب بن منبّه وكعب الأحبار. وقول «قرأته في كتاب من الكتب الأول» المنقول كذا قول كعب «وجدت في التوارة ...» لهي أقوال تستوجب التأمل حقاً. ومما يلفت الانتباه هنا رجوع عمر بن الخطّاب إلى كعب وسؤاله عن الحرم والكعبة وما يتعلّق بهما (ج 1،ص 40).

وهب بن منبه وكعب الأحبار من العلماء المطلعين على الديانة اليهودية- الإسرائيلية-، ولهما دور عميق في بث الإسرائيليات والأفكار اليهودية في الديانة الإسلامية. وهذه الأفكار التي يشير إليها العلماء ب «إلاسرائيليات» كان لها تأثير كبير في تغيير أفكار المسلمين. وهذا الموضوع يجب بحثه والتعمّق فيه في موضعه المناسب.

ص: 241

يقول وهب بن منبّه: إنني وجدت في التوراة كيفية طواف آدم عليه السلام ودعائه، وهو ما تقوم عليه سُنّة الطواف، وفضيلة الكعبة، وأن البيت المعمور كائن بحيال الكعبة. ووردت في الصفحات التالية وتحت عدّة عناوين مواضيع تتحدّث عن المكانة الأساسية للبيت المعمور (ص 40- 50).

ومما يستلزم الدقّة في هذا المجال هي مجموعة النصوص المتعلّقة بالبيت المعمور، وما تنطوي عليه من تهافت واختلاف بشأنه. فبناء أو إعمار الكعبة كان بهمّة إبراهيم عليه السلام وهجرته إلى هذه البقعة وإسكان إسماعيل وهاجر فيها، وموضوع الصفا والمروة هي من جملة المسائل التي يستعرضها في فصل آخر من فصول الكتاب (ص 53- 66).

أمّا الموضوع الذي يلي ذلك فهو كيفية حجّ إبراهيم، الذي نادى بالتوحيد وهو أول معلّم للحج، والصورة التي طرح فيها الحج، نوع الطواف الذي كان يؤدّية الأنبياء من بعده مع وصف لشعائر السعي بين الصفا والمروة، وحكم الصلاة فوق سطح المقام وماإلى ذلك (ص 66- 74).

ثم يتحدّث من بعد ذلك عن مكانة الكعبة ضمن تفسير الآية الشريفة «إن أول بيت وضع للناس ...» وشأن نزولها. ويشير إلى حالة تلك الربوع، وشرف أرض الحرم وساكنيها والولاية على تلك المواطن، وعلى مكّة والكعبة، ووصف كذلك زواج إسماعيل من إحدى قبائل العرب آنذاك، وولاية أبنائه على تلك المناطق.

والسبب في تسمية البيت ب «العتيق» ومكّة ب «بكّة» (ص 74- 80).

يذكر في فصل آخر من الكتاب أن الولاية على الكعبة ومكّة كانت بيد «جرهم» (1)، ولكن العار والفساد قد لحق بهم لانتهاكهم حرمة تلك الديار (ص 80- 90). ويصف من بعد ذاك ورود «خزاعة» (2) وسكناهم أطراف مكّة وسيطرتهم على تلك الاصقاع واتّساع نفوذهم فيها (ص 90- 103).


1- 1 «جُرهم»، فرع من قحطان، وللاطلاع على مزيد من المعلومات عن تاريخ هجرتهم من اليمن إلى مكّة، وتفّرعهم واتساع نفوذهم في تلك البقاع، انظر كتاب: معجم قبائل العرب 1: 183، والمصادر الواردة فيه.
2- 2 خزاعة، من قبائل العرب الكبيرة في العصر الجاهلي و ... راجع كتاب: معجم قبائل العرب 1: 338، والمصادر الواردة ذكرها فيه.

ص: 242

ينتقل الكتاب بعدَ ذلك للحديث عن حياة ونشأة قصي بن كلاب، وحصوله على ولاية البيت الحرام وما يتعلق بذلك من الحوادث (103- 116).

ثم يستعرض الكتاب قضية انتشار ولد إسماعيل، وظهور بوادر الانحرافات الفكرية والعقائدية، وظهور عبادة الأصنام، وهي قضّية تحظى بأهمية بالغة من الوجهة التاريخية والاجتماعية. ويضم هذا الموضوع بين ثناياه نقاطاً مفيدة عن المعتقدات والأفكار والآراء الاجتماعية لحياة الناس في ذلك العصر.

يبدأ بعدها بالحديث عن تبدّل المعتقدات الأساسية للناس، وبداية عبادة الأصنام والاتجاه نحو نحتها في ربوع مكّة. ويذكر في هذا الفصل أوّل من ألقى بين الناس عبادة الأصنام، وآتى على ذكر حديث جاء عن النبيصلى الله عليه و آله و سلم يقول فيه:

إن أول من نصب الأوثان حول الكعبة، وغيّر الحنيفية دين إبراهيم هو عمرو بن لحي (ج 1.ص 117).

وذكر أول من وضع الأصنام في الكعبة، ومن وضع الصنمين على الصفا والمروة ليعتبر بهما الناس إلّاأنهما تحوّلا إلى سنّة منبوذة وعادة مستهجنة في شعائر الحج حتّى كان يوم الفتح فكسرا مع ما كسر من الأصنام (ص 116- 125).

تضمن هذا الفصل شرحاً لمكانة الكعبة في أذهان الناس، واحترامهم لها، والأصنام المختلفة التي كانت تُعبد في تلك البقاع، والقبائل والطوائف وما تقدسه من الأوثان، وبعض المعتقدات والمراسيم التي كانت تقام عند تلك الأوثان، وبعض ما كان يعتقده الناس بشأن الكعبة والأصنام وما شأنه ذلك.

وينقل كذلك في موضع آخر من الكتاب وصفاً لبعض معتقداتهم وتقاليدهم، التي تبدو وكأنها ذات طابع أسطوري، بيد أنها على كل الأحوال تعكس وجهاً من أوجه الثقافة التي

ص: 243

كانت سائدة في ذلك العصر. أضف إلى أن بعض المعلومات الواردة في كتاب «أخبار مكّة» تعد أخباراً نادرة وفريدة من نوعها وذات أهمية قصوى.

يستعرض الكتاب من بعد ذلك حادثتين تاريخيّتين مهمّتين وهما هدم الكعبة والسعي للتقليل من شأن ذلك البيت العتيق. وتحدّث أيضاً عن مآرب أصحاب تينك الحادثتين المعروفتين تاريخياً باسمي «تبع» و «الفيل»، وكان السرد التاريخي لهما دقيقاً ومفيداً، ويعكس المنزلة العظمية للكعبة قبل الإسلام، ومدى الأهمية التي كانت تحظى بها بين العرب وغيرهم من الأمم والأقوام (ص 132- 154).

كما تناول الأزرقي أيضاً تأثير قصّة أصحاب الفيل في الأدب العربي، وذكر بعض الأشعار التي أنشدها شعراء ذلك العصر حول هذه الحادثة.

أما الفصل الذي يليه فيتّسم بالإطناب وله فائدة كبيرة، ويتحدث فيه عن إعلاء جدران الكعبة وإعادة بنائها ووضع «الحجر الأسود» وهذا السرد التاريخي منقول بطرق مختلفة، وحافل بالمسائل الاجتماعية والاعتقادية وآراء الجاهلية بشأن الكعبة ومكّة والحرم ... الخ.

وصف أيضاً وبدقّة متناهية الصور والنقوش التي تزيّن جدران الكعبة، وتكلّم بهذه المناسبة عن دخول رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم مكّة منتصراً وإزالته لمظاهر الشرك من بيت التوحيد، وعن دور علي عليه السلام في تحطيم الأصنام وتلاوة سورة براءة على الناس (1) (ص 157- 179). وجاء في سياق هذا الفصل ذكر طواف أهل الجاهلية، وطواف العريان ودور (الحُمس) (2) في ذلك.

كان لعرب الجاهلية في الحج وغيره تقاليد وسنن اجتماعية وسلوكية، وكانوا في بعض الأحيان يؤدّونها بكل إخلاص ومثابرة. وفي هذا الفصل تحدّث عن بعض التقاليد التي كانت شائعة آنذاك في شعائر الحج، وعرض


1- 1 نقل الأزرقي عن هذه الحادثة، أي إبلاغ سورة براءة على يد علي عليه السلام، إلّاأن نقل الوقائع السابقةواللاحقة لها غير تام وغير شامل. ويمكن في هذا الصدد مراجعة كتاب. إحقاق الحق 14: 499، والتبيان 5: 169، ومجمع البيان 5: 3، و ... الخ.
2- 2 راجع كتاب معجم القبائل العربية 1: 130.

ص: 244

شرحاً مفصّلًا للتيار الفكري- الثقافي الذي كان ينتهجه «الحمس» و «أهل الحل» وكيفية حجّهم.

نقل في الفصل الذي يليهصورة عن طوافهم وإحرامهم واحترامهم للكعبة وموضوع «النسي ء» (1) وأول من قال به، والآيات النازلة فيه. وتميّز هذا الفصل بالأهمية بسبب ما يتضمنه من أبعاد اجتماعية وثقافية (ص 179- 194).

تابع الأزرقي في هذا الفصل اللاحق بيان موضوع آخر ألا وهو إطعام الحّجاج وضيافتهم، وهو ما اتخذ في نهاية فترة العصر الجاهلي شكلًا خاصّاً (2). وهذا من الأمور التي تلفت الأنظار في تلك الحقبة التاريخية، إذ تناول الكتاب أيضاً الحديث عن إطعام الزوّار وكيفية إسكانهم وغير ذلك من الشؤون المتعلّقة بالحج (ص 194- 200).

ينتقل الكاتب من بعد ذلك إلى وصف النفائس والتحف المعلّقة على الكعبة، ويحصي بعض الآثار المتبقية من العهود الغابرة، ثم يواصل متابعة هذا الموضوع فيتحدث عمّا وُضِع في الكعبة في العصر الإسلامي، ويأتي على ذكر حج هارون وأولاده، ويأتي بنص العهد المعقود بين محمد الأمين وعبد اللَّه المأمون، وهذا الموضوع له أهمية من الوجهة التاريخية.

ثم يعود إلىصلب الموضوع فيتكلم عن البئر الذي حفر في بطن مكّة على العهد الجاهلي وكانوا يُلقون فيه الهدايا (ص 223- 253).

كسوة الكعبة:

يتناول الأزرقي في هذا الفصل طرح مواضيع كثيرة ومختلفة، فيشير إلى أول من كسا الكعبة (ص 249) ونوع تلك الكسوة، وتطييب الكعبة، وأنهم كانوا يكسونها كسوة فوق أخرى إلى أن تراكمت عليها. واسم أول من جرّدها وكشفها.

تتّسم أقوال الأزرقي عن كسوة الكعبة بالتضارب. وقد بادر محقّق


1- 1 للاطلاع على مزيد من المعلومات حول «النسي ء»، راجع كتاب: التفهيم لأوائلصناعة التنجيم: 223، وذيل الآية 36 من سورة التوبة في التفاسير.
2- 2 مكة والمدينة في الجاهلية وعهد الرسول، أحمد بن إبراهيم شريف،ص 188- 189، ونظام الحكم والإدارة، محمد مهدي شمس الدين: 517.

ص: 245

الكتاب إلى درج الأقوال المتضاربة في الهامش، وأضاف إليها أقوال الفاكهي في هذا المجال، وضم إليها روايات أخرى، واستنتج في نهاية المطاف أن معاوية لم يكن في عداد من كسا الكعبة، وواصل الحديث عن كسوتها إلى يومنا هذا. (ص 252- 286).

يستعرض الأزرقي في مطلع هذا الفصل بعض الأخبار التي تشير إلى أنهم كانوا يكسون الكعبة في يوم عاشوراء و ... إلّاأن الباحثين يؤكدون عدمصحّة مثل هذه النصوص التاريخية، ويذهبون إلى أنّها من وضع جلاوزة معاوية لاضفاء طابع قدسي على يوم عاشوراء.

ينتهج الأزرقي في كتابه هذا نمطاً من النقل التاريخي لا يأخذ بالحسبان التسلسل التاريخي للوقائع والأحداث، بل ينقلها حسب مناسبات ذكرها.

فيستعرض في هذا الفصل حادثة حريق الكعبة، ومن ثم يعرّج على ذكر رمي الكعبة بالمنجنيق على يد الحصين بن نمير في أيام يزيد وكيفية تخريبها وإعادة بنائها في عهد سلطة ابن الزبير، مع ذكر التغييرات الأخرى التي أجريت على بناء الكعبة. والمواقف التي يذكرها الكتاب في هذا الصدد رائعة وجديرة بالمطالعة، حيث اعتبر البعض تلك الأحداث خارج نطاق قدرة الإنسان ولا بد من وجود يد للقدر فيها.

يقول الأزرقي:

أول ما تكلم في القدر حين احترقت الكعبة ...

ونقل في هذا الفصل من الكتاب خبراً أورده محمد بن كعب القرظي، وهو خبر يستحق التأمل فيه إذ يقول في مطلعه: «لما حجَّ سليمان بن عبد الملك وهو خليفة طاف بالبيت وأنا إلى جنبه ...» (ص 220).

ومحمد بن كعب القرظي هذا من مفسّري التابعين وأصله يهودي، ومن الذين ساهموا في إشاعة الإسرائيليات يومذاك. وهو [أول من أو] من أوائل

ص: 246

الذين اختلفوا ونشروا قصّة الغرانيق.

وكما أشرنا فيما سلف فقد كان للعلماء والمفسّرين من ذوي الأصول اليهودية دور في تشويه العقائد الإسلامية، ولا بد من إجراء دارسة موسّعة حولصلاتهم الوثيقة بالسلطات الحاكمة آنذاك ولا سيما السلطة الأموية. ونشير في هذا الصدد إلى كلام أحَدِ الباحثين المطلعين قال فيه:

«والطريف في الأمر أنه كلما كان الرواة أقرب إلى معاوية وسلطانه، كان دورهم في وضع وإشاعة الإسرائيليات أوسع» (1). وما نقلناه يمثّل واحداً من تلك الأمثلة والشواهد.

وليكون ذلك بالنتيجة تبريراً لسياستهم الدموية الظالمة. ويرى علماء اللغة أن كلمة عاشوراء لم تطلق على يوم العاشر من المحرم الحرام إلّامن بعد استشهاد أبي عبد اللَّه الحسين عليه السلام؛ فهذا المصطلح مصطلح إسلامي ولم يكن له وجود في العصر الجاهلي قط (2).

وفي الصفحات التالية من الكتاب وصف لدخول النبيصلى الله عليه و آله و سلم مكة منتصراً في عام الفتح، وصلاته في الكعبة، وأذان بلال وموقف قريش إزاء كلّ ذلك، وإخبار النبي عمّا اضمروه له ولبلال. وهذا يدل على حيرة المشركين من جهة ويعكس من جهةأُخرى عظمة بلال، وعلى معجزة رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم ومعرفته بما يضمرون. دخل النبي المسجد في عام الفتح وأرسل إلى سادن الكعبة عثمان بن طلحة يدعوه، ولما حضر أخذ منه المفاتيح ودخل الكعبة وصلى فيها، ثم أَعادها إليه.

يصف الأزرقي في هذا الفصل كيفية دخول النبي وأصحابه بدقّة متناهية.

أشارت التفاسير والنصوص التاريخية إلى أن الآية الشريفة: «إن اللَّه يأمركم أن تؤدّوا الأمانات إلى أهلها ...» (3)

. قد نزلت في الحادثة التي سبق الحديث عنها وهذا التصور غيرصحيح، إلّاأن المقام هنا لايناسب لطرح المزيد من التفاصيل عن هذا


1- 1 بحوث مع أهل السنّة والسلفية، سيد مهدي روحاني: 84، وأيضاً راجع كتاب: ربيع الأبرار 2: 842- 844.
2- 2 النهاية 3: 240، والجمهرة 4: 212، وأيضاً انظر: مجلة الهادي، السنة السابعة، العدد الثاني: 36، والصحيح من سيرة النبيِّ الأعظم 3: 104.
3- 3 النساء: الآية 58. راجع كتاب الميزان 4: 378، والتمهيد 1: 147.

ص: 247

الموضوع.

إن للكعبةصيتاً ملأ الآفاق منذ عهود سحيقة. وتقف اليوم كالطود الشامخ على معبر التاريخ، ولها أسماء رائعة جذّابة لكل منها معانيه وأبعاده التي يذكرها الأزرقي في هذا الموضع من الكتاب إضافة إلى أنه يذكر تلك الأسماء، ويشير إلى الظروف التي ساهمت في وضعها ومن جملتها: الكعبة ومكة والبيت العتيق والقرية القديمة وما إلى ذلك. وتناول ضمن هذا السياق أسماء مكّة وأول من أذّن فيها، ومكانتها في النفوس، وعدم جواز إقامة بناء فيها على الكعبة.

(ص 279- 283).

في الصفحات 283- 286 جاء بتفسير الآيات التي تتحدث عن الكعبة، وذكر بعض النصوص التاريخية عن أول من طاف حولها وأول من سعى بين الصفا والمروة، واضاءة الطريق للطائفين حول الكعبة وقاصديها هي والصفا والمروة. وفي هذا الفصل أيضاً وصف دقيق وشامل للكعبة وطراز بنائها، ومساحة المسجد الحرام آنذاك، والأعمدة والنوافذ الموجودة في داخلها، وسقفها، والتطوّرات التي حصلت في بنائها، والشاذروان، وتركيب أرضية البناء، وبابها والنقوش والخطوط المرسومة عليه، وبابها الآخر الذي أحدث في فترة زمنية لاحقة. ويعرّج أيضاً على ذكر ماء زمزم وما فيه من الفضيلة، ويتميّز هذا الفصل بكثرة المعلومات الواردة فيه و روعتها. (ص 286- 319).

لحجر إسماعيل (الذي يجعل الكعبة ومكّة والحجّ مقرونة بذكرى ذلك النبي العظيم) منزلة مرموقة في المسجد الحرام حتّىصار يُحسب جزءاً منه، ولا بد من أن يكون أثناء الطواف داخلًا في المطاف. والكتاب يشتمل على نصوص كثيرة عن عظمة ذلك الحجر وهيئته وأهميته.

(ص 311- 321).

والأزرقي في كتابه هذا يكثر من

ص: 248

ذكر الحوادث والمواقف عن قريش وعبد المطلّب وطفولة النبيصلى الله عليه و آله و سلم وصدر الإسلام. وينقل حادثة نزول سورة «تبّت» وتأثيرها العميق في كسر الهيبة الزائفة لأبي لهب وزوجته، ويذكر كيف أن وقع هذه السورة الشريفة أَغاظَ أمّ جميل وجعلها تصرخ وتولول. (ص 316).

الحجر الأسود ظاهرة بارزة في بناء الكعبة، وهنالك نصوص تاريخية كثيرة تتحدث عن كيفّيته وأهميته.

يتناول الأزرقي وصف الأركان الأربعة للكعبة مبتدئاً بالحجر الأسود، وينقل الكثير من النصوص والروايات بشأنه، ومن جملة ما أورده بهذا الخصوص أن عمر وقف يوماً أثناء الطواف مقابل الحجر الأسود قال:

«واللَّه إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم يقبّلك ما قبّلتك» فقال له علي عليه السلام:

«هو يضر وينفع» فقال له: وبِمَ ذاك؟ قال «بكتاب اللَّه». وجاءه بالدليل من القرآن الكريم، عندها قال عمر:

«أعوذ باللَّه أن أعيش في قوم لست فيهم يا أبا الحسن». (ص 324).

وبانتهاء وصف الأركان الأربعة، والروايات الواردة بشأن «الملتزم» وحدوده، ينتهي الجزء الأول من الكتاب وفقاً للتقسيم الذي وضعه المحقّق. وبعد ختامه ترد ملحقات كثيرة ومفيدة وضعها المحقق سنتحدث عنها لاحقاً.

يتحدّث الجزء الأول غالباً عن الجوانب التاريخية لمكّة في العصر الجاهلي وفترة ما قبل الإسلام. وفي الجزء الثاني يتناول- إضافة إلى الجوانب التاريخية في العصر الإسلامي والفترة التي سبقت ظهور الإسلام- طرحَ المواضيع الفقهية المتعلقة بأعمال الحج وكيفية أدائه، وأهمية وفضيلة المشاهد المشرّفة. ويبدأ هذا الفصل بالمواضيع المتعلّقة بالطواف، وينقل في مطلعه الرواية التالية المنقولة عن

ص: 249

النبيصلى الله عليه و آله و سلم أنه قال:

«من طاف بالبيت كتب اللَّه عزّ وجل له بكلّ خطوة حسنة ومحا عنه سيّئة» (ص 3) جاءت في هذا الفصل روايات وأحاديث كثيرة عن النبيصلى الله عليه و آله و سلم وأصحابه في أهمّية وعظمة الطواف حول بيت اللَّه، ومن جملة ذلك الفضل الكبير للطواف وآدابه، والنظر إلى الكعبة وكيفية التكلّم أثناء الطواف وإنشاد الشعر وقراءة القرآن. ويواصل الأزرقي هذا الفصل مشيراً إلى طواف أحد الجن، ويتبع ذلك بمجموعة من النصوص التاريخية، التي تبدو وكأنّها ذات طابع أسطوري إلّاأنّها تعكس بشكل واضح وجهاً من أوجه التقاليد والثقافة الجاهلية.

ومما ورد في هذا الفصل أيضاً فضيلة الطواف تحت المطر (1) أثناء شروق الشمس وغروبها وفي شهر رمضان، وتحدّث أيضاً عن أحد المواضع المقدّسة والعزيزة على النفوس ألا وهو «الحطيم» حيث يستغيث المسلمون عندها باللَّه تعالى ويناجونه.

أما بشأن الحيّز الذي يشغله الحطيم من جانب الحجر الأسود وباب الكعبة فهنالك اختلاف فيه، وكلام الأزرقي يدل على أن الحطيم واقع بين الركن والمقام وزمزم والحجر. (ج 2،ص 23).

بعد تعيين حدوده، ينتقل إلى مركز الأخبار الدالة على المكانة الرفيعة التي كانت للكعبة في نفوس الناس في العهد الجاهلي، حيث كان الناس يجتمعون آنذاك في هذا الموضع للدعاء ومقارعة الظلم. (ص 23- 28).

ثم يتّجه من بعد ذلك إلى وصف مقام إبراهيم، والحوادث التي اكتنفته على مرّ الزمان كاستبدال مكانه، والذهب المستخدم فيه، وارتفاعه وأبعاده الأخرى (ص 29- 39). وبعد استعراضه لكيفية ايجاد بئر زمزم وهدمه ثم إعادة حفره بهمّة عبد المطّلب، يذكر قصّة نذره من أجل إنجاب الأولاد والتضحية بعبد اللَّه (ص 39- 49). إلّاأن قصّة نذر عبد


1- 1 وُفّقتُ في عام 1372 للهجرة الشمسية لأداء العمرة، وفي مكّة كنت مُستصحباً معي كتاب الأزرقي وكنت أطالع فيه وادّون بعض المعلومات المفيدة في إعداد هذه المقالة، إلى أن وصلت إلى الروايات التي تؤكد فضيلةَ الطواف تحت المطر، فتمنّيت أن يحالفني الحظ لأداء مثل هذا الطواف. وفي أحد الأيام هطلت الأمطار شديدة وقتصلاة الظهر، وكان الحجاج يطوفون حول بيت اللَّه بشوقصادق وعميق، وكانت الأفئدة مغمورة باستشعار الرحمة الإلهية. وأنا أيضاً كنت أطوف مع الناس في ذلك «الميعاد» مسلماً قلبي للَّه. واتجه الكثير من الحجاج بعد الطواف إلى حجر إسماعيل ليغسلوا الأبدان والأرواح بالماء الذي تسكبه ميزاب الكعبة من سطحها.

ص: 250

المطلب، وقصد ذبح عبد اللَّه الواردة أيضاً في المصادر التاريخية والكتب المدوّنة عن سيرة النبيصلى الله عليه و آله و سلم (1) لا تمتاز بالدقّة اللازمة (2).

ضم الفصل التالي من الكتاب بئر زمزم وفضيلته وطيب مائه وبعض الأحداث المتعلّقة به، والآراء والمعتقدات بشأنه. (ص 49- 62).

يبدأ الأزرقي بدرج المعلومات الدقيقة المتعلّقة بالمسجد الحرام اعتباراً من هذا الفصل، ويستهل حديثه بذكر فضيلة المسجد الحرام وأهمية الصلاة فيه، ويورد من طرق مختلفة الرواية المنقولة عن النبيصلى الله عليه و آله و سلم أنه قال:

«لا تُشد الرحال إلّاإلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجد النبيِّ والمسجد الأقصى».

وأنه استهدف من وراء ذلك تأكيد المكانة الرفيعة للمسجد الحرام.

ونشير هنا إلى وجود جدل واسع حول هذا الحديث وأنهصار أداة بيد ابن تيمية وأتباعه لدعم معتقداتهم. كما ويعتقد بعض محدّثي وعلماء العامّة أن هذا الحديث موضوع (3).

من جملة ما جاء في هذا الفصل أيضاً، ذكر أول مَن أتى بصلاة الجماعة حول الكعبة بشكل دائري، وموضع قبور بنات إسماعيل وبعض آداب الحضور في المسجد الحرام كالوضوء والنوم والإعلان عن المفقودين. ومن المثير هنا أن الأزرقي ينقل عن أحد الشهود قوله:

«رأيت النبيصلى الله عليه و آله و سلم يصلّي مما يلي باب بني سهم والناس يمرّون بين يديه ليس بينهم وبينه شبر» (ص 67).

يهتم الفصل اللاحق ببيان الكيفية التي كان عليها المسجد الحرام، وما طرأ عليه من تطوّرات نظير ما حصل في خلافة عثمان (ص 68) وفي عهد عبد اللَّه بن الزبير (ص 69- 71)، والوليد بن عبد الملك وأبي جعفر المنصور الدوانيقي والمهدي العباسي وغيرهم.

كما وتناول هذا الفصل أيضاً


1- 1 وراجع أيضاً كتاب: الكافي 4: 217؛ ومَن لا يحضره الفقيه 2: 147.
2- 2 انظر كتاب: من لا يحضره الفقيه 3: 89؛ وكتاب علي الدواني، تاريخ إسلام از اغاز تا هجرت تاريخ الإسلام من البداية وحتّى الهجرة: 54؛ والصحيح من سيرة النبي الأعظم 1: 69.
3- 3 نقل هذا المضمون بشكل آخر. لغرض التعرّف على الحديث والرواة، راجع كتاب: نقد الحديث في علم الرواية وعلم الدراية، للدكتور حسين الحاج حسن 2: 40، والوهابية في الميزان: 148 وما بعدها، والسنة قبل التدوين: 502.

ص: 251

مساحة المسجد الحرام وعدد أعمدته وشرفاته والفواصل بينها، وخصائص أبوابه وعددها ومقدار المسافات الفاصلة بينها، وارتفاع جدران المسجد، وسقفه، ومنائره ومسنّناتها.

والقناديل، والمظّلات التي يقف تحتها المؤذّنون، والمنبر وأوصافه وحجرته، والتغييرات التي أجريت عليه في عهد المعتصم عام 220 للهجرة. كما أشار أيضاً إلى موضع دار الندوة (منتدى اجتماع ومناقشات قريش)، والشؤون المتعلقة بها وواجباتها، وهي ذات أهمية بالغة لكونها تساعد على معرفة التركيبة السياسية للمجتمع في فترة العصر الجاهلي، إضافةً إلى الكثير من المواضع التاريخية والجغرافية، والتعرف على المعتقدات والأفكار وهي مواضيع مفيدة للمحققين. (ص 81- 114).

تتضمن الصفحات من 114- 126 وصفاً لموضع الصفا والمروة وحدوده وكيفية السعي بين الصفا والمروة، وسعي الرسولصلى الله عليه و آله و سلم، وسعي الراكب والمسافة الفاصلة بين الصفا والحجر الأسود، وبين الصفا والمروة والدرجات الموجودة في الصفا والمروة وكيفية بنائها.

ويعرض بعد ذلك وصفاً تفصيلياً لحدود الحرم ويستهلّه بقول لرسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم عند الفتح (ص 121- 125) ويواصل الموضوع بطرح الأحاديث الواردة بشأن البيت المعمور، ثم يتحدث عن تعيين حدود الحرم وأول من عيّنها.

(ص 126- 132).

وفي الصفحات اللاحقة من الكتاب يشير إلى منزلة الحرم ومكانته المرموقة، ومدى حرمة ارتكاب الذنوب في تلك البقعة، ولهذا الفصل أهمّية تسترعي الاهتمام من حيث الجوانب التاريخية والاجتماعية والثقافية. كما ويتضمن أيضاً الكثير من الروايات التي تتحدث عن حكم البيع والشراء في الحرم، وعدم جواز الظلم والاحتكار في مكّة والحرم وعدم

ص: 252

مراعاة الجوانب الإنسانية. ويؤكد أمن تلك المناطق وحرّية الناس فيها من أي سيطرة أو سلطان ووجوب الانصياع للأحكام الإلهية، وأسلوب مجازاة المجرمين والقتلة والسارقين اذا لجأوا إلى الحرم، أو ارتكبوا الجرم فيه.

(ص 131- 138).

تتناول الصفحات 151- 159 وصفاً لمكانة مكّة عند أهل الجاهلية والإسلام. واحترام الرسولصلى الله عليه و آله و سلم لمكّة وأرضها، والأشعار التي تعكس منزلتها في الأدب العربي وما شابه من الأمور التي أوردها تحت عنوان:

«ما ذكر من أهل مكّة أنهم أهل اللَّه عزّ وجل».

لما استقر النبيصلى الله عليه و آله و سلم وأصحابه في المدينة لم ينسوا سحر مكّة وتألقّها، لأن ذكرى مكّة بالنسبة لهم تعني ذكرى المواقف المبدئية، وإحياء ذكريات الصلابة والصمود على طريق الحق. ولهذا فإنهم كانوا يتذكرونها على مرِّ الزمن وتراودهم أمنية الوصول إليها، وقد دوّن الأزرقي تلك الذكريات بشكل يفوح رقةً وعاطفة نابعة من أعماق القلب. (ص 153- 157).

يبيّن في فصل آخر من الكتاب حدود المحصّب (وهو مسيل بين مكّة ومنى) ومنزل نزله رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم بعد فتح مكّة وفي الأيام التي بقي فيها، وقد ورد في النصوص التاريخية بأنه حينما كان يأتي مكّة بعد فتحها كان يذهب من بعد الطواف إلى أعاليها، ويضرب له خيمة في الحجون ويقيم فيها.

(ص 159- 164).

وفي عهد رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم وما أعقبه من السنين لم يكونوا يبيعون البيوت في مكّة ولا يضعون عليها الأبواب ولا يكرونها. وإذا استغنى أحدهم عن داره يعطيها لمن يحتاجها.

ولكن إلى متى استمر هذا الوضع، وكيف تحول على مرِّ التاريخ؟ فهذا ما يمكن العثور عليه في الصفحات التالية من الكتاب. (ص 162- 165).

أطراف مكّة تحيطها جبال

ص: 253

شاهقة. والأمطار الغزيرة تؤدي إلى حصول سيول جارفة مع وجود الجبال حتى أن بعض السيول قد حفرت لها أثراً في ذاكرة التاريخ. أورد الأزرقي تحت عناوين «سيول وادي مكّة في الجاهلية» و «سيول وادي مكّة في الإسلام» الكثير من السيول التي وقعت في تلك الأيّام، وأسماء ما كان له اسم منها والسبب في اطلاق تلك التسمية عليه. وهذه النصوص التاريخية تعكس وجهاً من وجوه الجغرافيه الطبيعية لمدينة مكّة ودور السيول في حياة الناس وفي الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية لسكنة تلك البقاع آنذاك. (ص 166- 177).

تطرق أيضاً إلى ذكر حدود «منى» وموضع إقامة النبيِّصلى الله عليه و آله و سلم فيها، ومنازل أصحابه أيضاً، ومسجد خيف وطراز بنائه، والمساجد الأخرى في منى، وأول من رمى الجمرات، وكيفية نصب الأوثان على أرضها، والأعمال الواجب أداؤها هناك، والصورة التي كانت عليها فيصدر الإسلام.

(ص 172- 189).

أشير هنا إلى أن الأزرقي أورد في ختام حديثه عن «مسجد كبش» خبرين متناقضين بشأنه؛ يظهر في الأول أن الذبيح كان إسحق فيما يدل الثاني على أنه كان إسماعيل. ومن الواضح أن الروايات الدالة على إسحاق في هذا المجال قد وُضِعت ونشرت على يد المفسّرين اليهود. وقد تنبّه المفسرون المسلمون الكبار (1) إلى هذه المسألة، ولكن يبدو أن بعضهم كالطبري لم يستطيعوا التخلّص من قبضة تلك الروايات الموضوعة (2).

أَمّا الفصل الذي يليه فيتناول حدود مزدلفة (المشعر الحرام)، والمسجد القائم في تلك البقعة وتاريخ بنائه، والوقوف في المشعر الحرام. كما ويشير في هذا الفصل إلى السنن الجاهلية التي كانت متعارفة في الحج في ذلك الموضع. وقد وصف الأزرقي بدقّة متناهية كلّ ما يتعّلق بتلك البقعة من


1- 1 راجع كتاب: تفسير القرآن العظيم 4: 17؛ والتبيان في تفسير القرآن 8: 474؛ والميزان 17: 155؛ ومحاسن التأويل 14: 121 و ... الخ.
2- 2 جامع البيان في تأويل آي القرآن 23: 85.

ص: 254

الأرضصغيراً كان أم كبيراً، وحتّى المرتفعات والمنخفضات الموجودة فيها.

(ص 190- 194).

يتّسم وصف الأزرقي لعرفات بنفس الدقّة أيضاً ويشير فيه إلى حدودها وكيفية الوقوف فيها، مع الحديث عن مختلف نقاطها وأماكنها وغير ذلك من الأمور المتعلّقة بها، ثم يعّرج من بعد كلّ هذا على تعريف مساجد مكّة، والمواضع التي كان يسكنها الصحابة وبعض القبائل.

ويرسم تصويراً دقيقاً لآثار النبيصلى الله عليه و آله و سلم، ودار خديجة، والكثير من الدور والأماكن التي كان كل واحد منها مسرحاً في ذلك العصر لحوادث مصيرية في تاريخ الإسلام، إلّاأن حراب جهل السلاطين اليوم قد ضيّعتها وافقدتها معناها. ومن جملة الأماكن التي يقدّمها لنا مفصّلة في هذا الموضع من الكتاب جبل ثور، وغار حراء، وطريق النبيِّ من غار حراء إلى جبل ثور، ومسجد البيعة (الذي بني في موضع بيعة النبيصلى الله عليه و آله و سلم من أهل يثرب)، ومسجد الجعرانة، والتنعيم و ...

الخ. (ص 198- 209).

يتناول الأزرقي في فصل آخر من الكتاب مقابر مكّة والمدفونين فيها، ويحدّد أماكنها ومواقعها بدّقة ويذكر مَن هم الأشخاص الدين دفنوا فيها، ويصف أيضاً كيفية دفن الأموات في الجاهلية في المقبرة المعروفة بمقبرة مكّة قرب الحجون، وينتقل منها إلى وصف مقبرة المهاجرين، ويذكر السبب في تسميتها بهذا الاسم. ويشير الأزرقي في هذاالفصل أيضاً إلى وقوف النبيصلى الله عليه و آله و سلم على قبر أُمّه آمنة بنت وهب وبكائه عليها والتحدّث من بعد ذلك مع الناس. إلّاأن مثل هذه الأخبار مطعون بها من الوجهة التاريخية.

فالنصوص التاريخية الصحيحة تشير إلى أن آمنة بنت وهب توفيت في «الأبواء» وهي أحد المنازل بين مكّة والمدينة (1) ودفنت هناك.

الخبر الآخر الذي ينقله الأزرقي


1- 1 سيرة ابن هشام 1: 177؛ وامتاع الأسماع 1: 7، وسيرة الحلبي 1: 105.

ص: 255

يحكي أن آمنة ماتت على الشرك، وأن النبيصلى الله عليه و آله و سلم لما جاء إلى هذه المقبرة استغفر لها، فأنزل اللَّه تعالى الآية: «ما كان للنبيّ والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركينَ ولو كانوا أولي قربى ...» (1)

فنهاه عن الاستغفار لها.

ويأتي مفسرو أهل السنّة على ذكر مثل هذه الأخبار في هذا الخصوص، وربّما تكون مصحوبة أيضاً بالكثير من التفاصيل والتفريعات والإضافات بشأن أبي طالب عليه السلام وهي في الحقيقة لا أساس لها من الصحّة (2) فسورة التوبة مدنية ومن آخر السور التي نزلت على رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم، بينما توفّيت تلك الشخصيات الكبيرة في مكّة، فكيف نزلت هذه الآية عند موتهم أو حين الاستغفار لهم؟ وقد ذكرنا أن أمّه قد توفّيت في الأبواء، فكيف وقف النبيصلى الله عليه و آله و سلم على قبرها في مكّة واستغفر لها، فنزلت هذه الآية؟! هذا فضلًا عن الأدّلة الكثيرة التي تثبت إيمانهم.

يتحدّث الفصل التالي عن الآبار والعيون ومزارع النخيل وما يتعّلق بها من شؤون تاريخية؛ ومثل هذا الموضوع ينطوي على فائدة كبيرة من حيث اتاحة الفرصة للتعرف على الجغرافيا الطبيعة، والاطلاع على الاوضاع المعاشية وغيرها من الظروف الزراعية والحالة الاقتصادية التي كانت سائدة آنذاك. (ص 214- 232).

وآخر موضوع جدير بالقراءة ويتّسم بالدقّة يورده الأزرقي عن الدور والمحلّات والجبال المحيطة بمكّة، ويردفه بوصف دقيق ممزوج بالمعلومات الجانبية الكثيرة والمفيدة، على سبيل المثال: دار الأسود بن خلف الخزاعي ..

التي اشتريت بمئة ألف دينار وهي نفس دار الإمارة أو «دار السلامة» عند سوق الحذّائين، (ص 234)، ودار آل حرب بن أمّية التي تسمى أيضاً دار ريطة بنت أبي العباس، وهي نفس الدار التي قال عنها رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم يوم فتح مكّة: «مَن دخل دار أبي


1- 1 التوبة: 113.
2- 2 تفسير القرآن العظيم 2: 344؛ وفي ظلال القرآن 3: 1564؛ تفسير الحديث 12: 64.

ص: 256

سفيان فهو آمن (ص 236) و ... الخ».

كان هذا استعراضاً خاطفاً لفصول كتاب الأزرقي، وهذا الاستعراض السريع يعكس للقارئ أهمية هذا الكتاب في الأبحاث التاريخية والإسلامية على أصعدتها المختلفة. إن كتاب الأزرقي هذا يمثل مصدراً هاماً ومورداً زاخراً بالمعلومات المتنوّعة.

ومما لا شك فيه أن أي باحث في التاريخ الإسلامي لا يمكنه الاستغناء عن مطالعته والاستفادة منه.

أخبار مكّة من هو مؤلفه؟

ولكن كتاب أخبار مكّة هذا وبالخصائص التي لاحظناها، تأليف مَن؟ أهو لأبي الوليد محمد بن عبد اللَّه بن أحمد الأزرقي؟ أم لأحمد بن محمد بن الوليد أي جدّه؟

يقول وستنفيلد: (1)«إن هذا الكتاب يشبه في بعض الوجوه كتاب ابن هشام في السيرة النبوية، وذلك باشتراك أشخاص عديدين في تأليفه. بيد أنه لا يشبهه من جهة كونه مختصراً من مجموعات كبيرة، بل بالعكس فقد كانصغير الحجم ثم زيد عليه علاوات كثيرة وضم إليه مواد عديدة أدّت إلى اتّساعه» (2).

ويقول محقق الكتاب:

«والحقيقة التي لا ريب فيها أن واضع كتاب أخبار مكّة أو بعبارةصريحة جامعه ومرتبه ومؤلّفه هو محمد بن عبد اللَّه الأزرقي رواية عن جدّه أحمد بن محمد الأزرقي وغيره من الرجال المعروفين. وكانت روايته عن جدّه أكثر من روايته عن غيره مما يدعونا للقول: بأنَّ المؤلف الأصلي للكتاب هو جدّه أحمد» (3).

ثم يثبت محقّق الكتاب فيما بعد أن رواة آخرين أضافوا إلى نسخة الأزرقي مواضيع وأخباراً أخرى أيضاً.

اختصار الكتاب:

لقد كان كتاب أخبار مكّة في


1- 1 مستشرق ألماني كبير، يتصف بالمثابرة وسعة الاطلاع. وقام بتحقيق وتصحيح الكثير من المتون القديمة، طبع كتاب «أخبار مكّة» لأوّل مرّة في عام 1857. راجع كتاب: الاعلام للزركلي 8: 99؛ وموسوعة المستشرقين، لعبد الرحمن بدوي: 399، حيث تجد سيرته ومؤلفاته مدوّنه بشكل وافٍ ودقيق؛ المستشرقون، نجيب العقيقي 2: 367؛ وفرهنگ خاورشناسان معجم المستشرقين، أبو القاسم حالت: 354.
2- 2 أخبار مكّة، المقدمة: 16.
3- 3 أخبار مكّة، المقدمة: 16.

ص: 257

مستهل أمره مجموعةصغيرة كما قلنا، ثم أضيفت إليه مواد وزيادات جمّة بحيثصار كتاباً ضخماً في التاريخ، ومن ثم اختصره بعض المحقّقين، ونظمه أحدهم في أرجوزة.

1- سعد الدين بن عمر الاسفرائني المكّي

وهو من علماء القرن الثامن للهجرة اختصر كتاب الأزرقي في كتاب سمّاه «زبدة الأعمال وخلاصة الأفعال» وكان كتاب الاسفرائني هذا في بابين:

أولهما في ذكر فضيلة الكعبة وقد لخّصه بعد أن قرأه عليه محمّد بن أحمد القرشي المكّي الشافعي في مكّة.

وثانيهما: في ذكر فضيلة المدينة وهو من زيادة المختصر. ثم يعرض محقّق الكتاب السيد رشدي ملحس نسخاً منه.

2- يحيى بن محمّد الكرماني

وهو من علماء القرن التاسع للهجرة، اختصر كتاب الأزرقي في عام 821 للهجرة، وقد حذف أسانيده وأضاف إليه بعض الزوائد، وسماه «مختصر تاريخ مكّة المشرّفة» (1).

ويوجد من هذا الكتاب نسخة أيضاً (2).

3- عبد الملك بن أحمد ...

الأنصاري الأرمانتي

وهو من فقهاء الشافعية في القرن الثامن للهجرة، نظم أخبار مكّة للأزرقي في أرجوزة. ذكره ابن حجر العسقلاني، ويبدو أن الكتاب لم يبق له من أثر اليوم (3).

تحقيق الكتاب:

سبقت الإشارة إلى أن كتاب أخبار مكّة قد تمّ تصحيحه وتحقيقه ونشره لأوّل مرّة على يد المستشرق الألماني وستنفيلد.

يقول عنه عبد الرحمن بدوي:

«نشر مجموعة تحت عنوان «أخبار مكّة: نصوص عربية وكان المجلّد الأول فيها كتاب أخبار مكّة للأزرقي ...» (4).

وقد قابلَ وحقق وصحّح


1- 1 أخبار مكّة، المقدمة: 18، وأيضاً راجع كتاب: معجم المؤلفين 3: 566، طبعة مؤسسة الرسالة.
2- 2 المصدر نفسه: 19؛ وأيضاً راجع كتاب: الأعلام 8: 166.
3- 3 الدرر الكامنة 2: 414؛ أخبار مكّة، المقدّمة: 19.
4- 4 موسوعة المستشرقين: 401.

ص: 258

الكتاب على أساس ثلاث نسخ، ثم باشر طبع الكتاب في ليبسيك بألمانيا.

وجاءت تصحيحاته في 14صفحة، وأفرد له مقدّمة تاريخية عن المؤلّف وكتابه، ووصف النسخ الخطية التي اطّلع عليها.

الطبعة المعنية:

يؤكد المرحوم رشديصالح ملحس في مقدّمة الكتاب على أهمية الطبعة السابقة ويشيد بجهود محققها. إلا أن ما تنطوي عليه من نواقص وتحريف وتشويه قد حمله على إصدار طبعة جديدة ومصححة لكتاب الأزرقي. وتتسم هذه الطبعة بالدقة وفيها الكثير من الإضافات التي تزيد من أهميتها وفائدتها.

نتحدث فيما يلي عن طريقته في التحقيق (1).

1- نسخة الكتاب:

اعتمد المحقّق على ثلاث نسخ خطّية إضافةً إلى الطبعة الأوربية في مقابلة وتصحيح وتحقيق الكتاب. قابل في بداية الأمر النسخ الخطية الثلاث وقارنها بالنهاية مع الطبعة الأوربية.

وفي المسائل التي لا يطمئن إلىصحتها يرجع إلى المصادر التاريخية ليقدّم نسخة منقّحة وصحيحة.

2- الهوامش:

يذكر في الهوامش النسخة البديلة، ويشرح بعض الأعلام والأماكن ومبهمات المتن. وينبّه إلى بعض أخطاء المتن من خلال المقابلة والتطبيق مع المصادر الأخرى، ويعطي في بعض الأحيان معاني الكلمات العويصة. إضافةً إلى ما ذكر في الهوامش فإنه قد أورد في تصحيح أو تكميل الأخبار والنصوص إضافات مهمّة من قبيل تقديم الإيضاحات عن كيفية التصاوير الموجودة في داخل الكعبة. (ج 1،ص 165)، وبعض الأماكن (ص 191)، كسوة الكعبة


1- 1 الطبعة التي عوّلنا عليها، مستنسخة بالأوفسيت على الطبعة الثالثة للكتاب، والمنشورة في عام 1403 من قبل دار الأندلس في بيروت. ومميّزات الكتاب الذي استفدنا منه درجة بالشكل التالي: «أخبار مكّة» انتْشارات الشريف الرضي، قم، 1411.

ص: 259

(ص 252)، أسماء الكعبة (ص 279)، الحجر الأسود (ص 346)، تطوّرات البناء في الصفا (ج 2،ص 120)، المدفونين في مقبرة المهاجرين (ص 213). والهوامش التوضيحية التي أوردها المحقق مفيدة ووافية.

3- الملحقات:

ذكرنا أن المحقّق قد طبع ونشر الكتاب في جزأين ولكل منهما ملحقات ضرورية ومفيدة. وملحقات الجزء الأول عبارة عمّا يلي:

أ- إكمال أخبار بناء الكعبة وما حصل فيها من تجديد. فهو وبناءً على أخبار الأزرقي يشير إلى أنَّ الكعبة قد بُنيت عشر مّرات حتّى زمن الحجاج بن يوسف. ثم يذكر بالتفصيل بناءها للمرة الحادية عشرة في عهد السلطان مراد بن السلطان أحمد من السلاطين العثمانيين. وهذا الخبر حديث ودقيق (ص 355- 373).

ب- ينقل الأزرقي أن عمرو بن لحي قد وضعصنم «الخلصة» في أسفل مكّة (ص 124) وأقوال المؤرخين حول «ذي الخلصة» متهافتة. فهل كان ذو الخلصةصنماً أم دار أصنام؟ ومن الذي أوجدها وكان يعبدها؟ والمحقق يستعرض بالتفصيل أقوال المؤرخين ويقارنها مع بعضها ويعرض النتيجة بشكل عملي ومُحقق. (ص 374- 389).

ج- ينقل الأزرقي الكتب التي أرسلها المأمون إلى الكعبة مع اللوح.

وقد تحدثنا عنها فيما سبق. فهذه الكتب مغلوطة ومشوّهة فأرسل المحقق متونها إلى العلّامة والأديب المصري أحمد زكي باشا ليصحّحها جهد المستطاع.

وقد أورد في هذا الملحق نص حديثه في هذا المجال.

أما ملحقات الجزء الثاني فهي كما يلي:

أ- ينقل الأزرقيصورة عن توسيع المسجد الحرام وصفة بنائه إلى عهد خلافة المهدي العباسي، وقد تابع

ص: 260

المحقّق ذكر ما طرأ عليه من إضافات إلى العهد العثماني، (ص 305- 309).

ب- أورد الأزرقي بعض المواقيت، ووصف بعض حدود الحرم.

وقد أضاف المحقّق إلى هذا الفصل أيضاً إضافات، وأشار إلى سائر المواقيت الأخرى. (ص 309- 310).

ج- ذكر الأزرقي الكثير من السيول التي جرت في مكّة. والمحقّق أضاف إلى ذلك السيول التي دوّنت في التاريخ، ولم يُشر إليها الأزرقي. ويُحصي ما مجموعه 85 سيلًا، آخرها الذي وقع عام 1350 للهجرة.

د- يشير الأزرقي إلى القناة التي اشترتها زبيدة وأوصلتها إلى مكّة:

ومحقّق الكتاب يشير إلى قناة أخرى أيضاً أوصلتها زبيدة إلى مكّة، وأغفلها الأزرقي.

ه- يؤرخ المحقق للتوسع الذي حصل في المسجد الحرام في الأعوام 1375- 1385 في العهد السعودي. إن ملحقات المحقّق علمية ودقيقة ومكملة لفوائد كتاب الأزرقي.

4- الفهارس:

الفهارس الفنيّة للكتاب متنوعة ووافية ومفيدة، وهي:

1- فهرس الآيات؛ وغالباً ما يرافق هذه الآيات تفسيرها أو شأن نزولها، وهذا مما يستفيد منه المفسّرون والمحقّقون.

2- فهرس الأحاديث، وكلها مسندة ولبعضها أهمية من حيث الوجهة التاريخية والاعتقادية.

3- فهرس الأنبياء، ويتضمن الحديث عن إبراهيم، وآدم، وإسحق، وإسماعيل، وداود، وشيت، وصالح، وعيسى، ومحمّد، وموسى، ونوح، وهود، ويعقوب، ويوسف، ويونس عليهم السلام. وأكثر ما ورد عنهم في هذا الكتاب لهصلة بالكعبة.

4- سدانة الكعبة، ويتحدث في هذا الفهرس عن الحجابة والسقاية والرفادة والإفاضة وغير ذلك. وكما

ص: 261

ذكرنا سابقاً فإن هذه البحوث تحظى بأهمّية بالغة؛ لأنها تعكس طبيعة الأوضاع الاجتماعية والسياسية لتاريخ مكّة.

5- الأيام التاريخية، وهي الأيام التي لها شأن في تاريخ مكّة لسبب أو آخر؛ كيوم واقعة الفيل، ويوم بناء الكعبة، ويوم الهجرة، ويوم أحد، ويوم عكاظ، ويوم الأحزاب، وما إلى ذلك.

6- أسواق العرب، ويأتي في هذا الفهرس على ذكر الأسواق الأربعة المذكورة هي: الحباشة، وذو المجاز، وذو المجنة، وعكاظ.

7- الأصنام، ومعرفتها مهمّة لكونها تعكس الاتجاهات والميول العقائدية الشائعة في العصر الجاهلي.

وقد أشرت فيما مضى إلى أن الأخبار التي أوردها الأزرقي في هذا الكتاب هي الوحيدة من نوعها أحيانا.

8- فهرس الأعلام.

9- فهرس الأقوام والقبائل ويضم أسماءً من أمثال الأزارقة، وآل جحش، والدوس، والأوس، والخزرج، وثقيف، وثمود، وكنانة، وقريش، وهاشم، وهذيل، وما إلى ذلك.

10- فهرس الأماكن، ويشمل أسماء الأماكن والبقاع والآبار، وأبواب المسجدِ الحرام، والقرى، والشُعَب، والمحلّات، وغير ذلك.

11- فهرس قوافي الأشعار.

12- فهرس مصادر التحقيق والتصحيح وقد عرضها بدقّة متناهية.

5- مقدّمة الكتاب:

أفرد محقّق الكتاب له مقدمةً مفيدةً تحدّث فيها عن بداية التدوين في الإسلام، وقد قدم ما كتبه المحقّقون والمؤلفون بشأن مكّة، وعن المؤلف وعائلته. ثم بحث في «أخبار مكّة» والجهود المبذولة في تأليفه. وتناول من بعد ذاك المختصرات والتلخيصات وغيرهما من الأعمال التي جرت على الكتاب، وما تتصف به النسخة

ص: 262

الأوربية من نواقص وأخطاء. وتحدّث في الختام عن أسلوبه في التحقيق، والنسخ التي عوّل عليها.

ترجمة الكتاب إلى اللغة الفارسية:

يعد السيد الدكتور محمود المهدوي الدامغاني من الأساتذة الأفاضل في الجامعة وأحد المترجمين الجادّين في ترجمة النصوص التاريخية، والقراء الكرام على معرفة تامّة بترجماته الكثيرة. وقد بادر هذا الأستاذ إلى ترجمة هذا الأثر النفيس وإخراجه على هيئة نثر يتّسم بالسلاسة والجودة، والدقّة. وبسبب ما يحظى به الكتاب من أهمّية فقد أورد ضمن الترجمة جميع الأسانيد المذكورة فيه.

وكما ذكرنا سابقاً فإن المحقّق الكريم قد دون في الهوامش اختلافَ النسخ، وأعطى معاني الكلمات العويصة أحياناً. والمترجم المحترم أيضاً قد تمعّن في ترجمته ولم يأتِ إلّابما هو ضروري في فهم المتن. كما تُرجمت جميع الملحقات والتوضيحات التي أوردها المحقّق في نهاية الكتاب، وكذا الحال بالنسبة للهوامش أيضاً. وأضاف المترجم أيضاً الكثير من الايضاحات بشأن الأعلام الواردة أسماؤهم في المتن، وعن الأماكن والمواضيع الأخرى.

وأينما واجه أفكاراً تتنافى عقيدة التشيّع قدّم الإيضاح الدقيق لها وأشار إلى المصادر الأخرى.

*** لقد طال الحديث عن الأزرقي وكتابه الثمين؛ وكان هدفي مقارنة كتابه بكتاب الفاكهي وعرض أوجه التشابه الموجودة بينهما. فهل أن الفاكهي قد أخذ عن الأزرقي، أم كلاهما قد استقيا من مصدر آخر ومن مواضيع أخرى؟

إلّا أنني أتجاوز هذا الموضوع بسبب ضيق المجال.

ص: 263

الهوامش:

رسالة الاستاذ واعظ زاده الى الاستاذ بن باز

ص:264

ص: 265

رسالة الأستاذ واعظ زاده إلى الأستاذ بن باز

المفتى العام بالمملكة العربية السعودية

بسم اللَّه الرحمن الرحيم

الحمد للَّه ربّ العالمين. والصلاة والسلام على نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه ومَن اهتدى بهداه.

سماحة الأستاذ الجليل الشيخ عبد العزيز بن عبد اللَّه بن باز، الرئيس العام لإدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد المحترم.

السلام عليكم ورحمة اللَّه، وبعد:

لاحَظت تركيزكم على مسألة التوحيد في عدد من أعداد مجلة البحوث الإسلامية، كما سمعتكم في جلستين حينما وفقت لزيارتكم، وتؤكدون تأكيداً متواصلًا إرشاد الناس إلى التوحيد الخالص للَّه ربّ العالمين، لا شك في أنه الأساس القويم، والركن الركين لهذا الدين الحنيف، بل هو محور كلّ أحكامه وشرايعه، وهذه ميزة لمستُها في سماحتكم.

ص: 266

ومع احترامي وتقديري لجهودكم في هذا السبيل، خطر ببالي بعض الملاحظات، أحببت أن أبديها لكم راجياً أن يكون فيها خير الإسلام والمسلمين، والاعتصام بحبل اللَّه المتين في سبيل تقارب المسلمين، ووحدةصفوفهم في مجال العقيدة والشريعة.

أولًا: لاحظت سماحتكم تعدّون دائماً بعضَ ما شاع بين المسلمين- من التبرك بآثار النبيصلى الله عليه و آله و سلم وبعض الأولياء، كمسح الجدران والأبواب في الحرم النبوي الشريف وغيره- شركاً وعبادة لغير اللَّه، وكذلك طلب الحاجات منه ومنهم، ودعاءهم، وما إلى ذلك.

إني أقول: هناك فرق بين ذلك، فطلب الحاجات من النبيّ ومن الأولياء، باعتبارهم يقضون الحاجات من دون اللَّه أو مع اللَّه، فهذا شرك جلي لا شك فيه.

لكن الأعمال الشائعة بين المسلمين، التي لا ينهاهم عنها العلماء في شتى أنحاء العالم الإسلامي من غير فرق بين مذهب وآخر، ليس هي في جوهرها طلباً للحاجات من النبيّ والأولياء، ولا اتخاذهم أرباباً من دون اللَّه، بل مردّ ذلك كلّه (لو استثنينا عمل بعض الجهال من العوام) إلى أحد أمرين:

التبرك والتوسل بالنبيّ وآثاره، أو بغيره من المقربين إلى اللَّه عزّ وجلّ.

أما التبرك بآثار النبيّ من غير طلب الحاجة منه ولا دعائه، فمنشؤه الحبّ والشوق الأكيدين رجاءَ أن يعطيهم اللَّه الخير بتقربهم إلى نبيّه وإظهار المحبة له، وكذلك بآثار غيره من المقرَّبين عند اللَّه.

وإني لا أجد مسلماً يعتقد أن الباب والجدار يقضيان الحاجات، ولا أن النبيّ (أو الولي) يقضيها، بل لا يرجو بذلك إلّااللَّه إكراماً لنبيه أو لأوليائه أن يفيض اللَّه عليه من بركاته.

والتبرك بآثارالنبيّ كما تعلمون، ويعلمه كلّ مَن اطّلع على سيرة النبيّصلى الله عليه و آله و سلم،

ص: 267

كان معمولًا به في عهد النبيّ، فكانوا يتبركون بماء وضوئه وثوبه وطعامه وشرابه وشعره وكلّ شي ء منه، ولم ينههم النبيُّ عنه. ولعلَّكم تقولون: أجل، كان هذا، وهو معمول به الآن بالنسبة إلى الأحياء من الأولياء والأتقياء (كما شاهدت أصحابكم يتبركون بطعامكم) لكنه خاص بالأحياء، دون الأموات، لعدم وجود دليل على جوازه إلّافي حال الحياة بالذات. فأقول: هناك بعض الآثار تدل على أن الصحابة قد تبركوا بآثار النبيّ بعد مماته، فعن عبد اللَّه بن عمر، أنه كان يمسح مِنبراً للنبي تبركاً به. وهناك شواهد، على أنهم كانوا يحتفظون بشَعر النبيّ، كما كان الخلفاء العباسيون، ومَن بعدهم العثمانيون، يحتفظون بثوب النبيّ تبركاً به، ولا سيما في الحروب، ولم يمنعهم أحد من العلماء الكبار والفقهاء المعترف بفقههم ودينهم.

وهنا يعجبني أن ألخِّص لسماحتكم كلام الأستاذ الدكتور سعيد رمضان العالم السوري- حفظه اللَّه- في هذا المجال نقلًا عن كتابه (فقه السنة) فإنه بعدما أشار إلى شطر مما يدل على جواز التوسل بالنبيصلى الله عليه و آله و سلم وبآثاره، قال: «وليس ثمة فرق بين أن يكون ذلك في حياته أو بعد وفاته. فآثار النبي لا تتصف بالحياة مطلقاً»، سواء تعلق التبرك والتوسل بها في حياته أو بعد وفاته، كما ثبت فيصحيح البخاري في باب شيب رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم.

ومع ذلك، فقد ضلَّ أقوام لم تشعر أفئدتهم بمحبة رسول اللَّه، وراحوا يستنكرون التوسل بذاته بعد وفاته، بحجة أن تأثير النبيّ قد انقطع بوفاته، فالتوسل به إنما هو توسل بشي ء لا تأثير له البتة.

وهذه حجة تدل- كما ترى- على جهل عجيب جداً ... فهل ثبت لرسول اللَّه تأثير ذاتي في الأشياء حال حياته، حتى نبحث عن مصير هذا التأثير من بعد وفاته؟

إن أحداً من المسلمين لا يستطيع أن ينسب أيّ تأثير ذاتي في الأشياء لغير

ص: 268

الواحد الأحد- جلّ جلاله- ومَن اعتقد خلاف هذا يكفر بإجماع المسلمين كلّهم.

فمناط التبرك والتوسل به أو بآثاره ليس هو إسناد أي تأثير إليه- والعياذ باللَّه- وإنما المناط كونه أفضل الخلائق عند اللَّه على الإطلاق وكونه رحمة من اللَّه للعباد، فهو التوسل بقربه إلى ربّه وبرحمته الكبرى للخلق.

وبهذا المعنى كان الصحابة يتوسلون بآثاره و ... من دون أن يجدوا فيه أي إنكار. وقد مرّ في هذا الكتاب (أي فقه السنة) بيان استحباب الاستشفاع بأهل الصلاح والتقوى وأهل بيت النبوة في الاستسقاء وغيره، وإن ذلك مما أجمع عليه جمهور الأئمة والفقهاء بما فيهم الشوكاني وابن قدامة الحنبلي والصنعاني وغيرهم.

والفرق بعد هذا بين حياته وموته خلط عجيب وغريب في البحث لا مسوِّغ له، انتهى موضع الحاجة (1).

هذا كله بالنسبة إلى التبرك بآثار النبيّ حيّاً وميّتاً، وأما التوسل بذاته أو بأحد من أهل بيته فهو كذلك، كما رأينا في مطاوي كلام الدكتور، وكان معمولًا به حتى بعد وفاته كما استسقى عمر بن الخطاب متوسلًا بعمّ النبي العباس من دون نكير من أحد من أصحابه، ومن دون أن يكون لحياة النبيّ وموته تأثير عنده في جواز التوسل به.

ومردّ ذلك أنّ التبرك بآثار النبيّ والتوسل به وبآثاره وبذريته والأتقياء من أتباعه ليس معناه طلب الحاجة منه أو منها ولا منهم، ولا أن في شي ء منها- بما في ذلك ذات النبيّ- تأثيراً في رفع الحاجات ودفع الملمات أو أنه يضرّ وينفع، كما ورد في مطاوي كلامكم فيصدد النهي عنه (أنه لا يضر ولا ينفع)، فهذا تحويل للمسألة عن جوهرها، بل كلّ ذلك يَعدّ إظهار الحبّ للنبيّ وغيره من المقرّبين استجلاباً لرحمة اللَّه- تبارك وتعالى- لما نعلم من منزلتهم عند اللَّه، استناداً إلى سيرته وسيرة المسلمين، فلا يقاس هذا بعمل المشركين في شأن آلهتهم، حيث


1- 1 فقه السنة ط 10ص 355.

ص: 269

كانوا يعتقدون فيها التأثير في دفع الملمات ورفع الحاجات، إما مباشرة أو بالاشتراك مع اللَّه.

كما لا ينبغي الاستشهاد على حرمة التبرّك والتوسّل (بالمعنى المذكور) وكونهما شركاً بما ورد من الآيات إدانة للمشركين، فإن ذلك ليس منه في شي ء، والفرق بينهما واضح جليّ، فهذا مظهر من مظاهر الشرك، وذاك مظهر من مظاهر التوحيد وحبّ اللَّه وأوليائه.

بقي هنا أمران:

الأول أن يقول قائل: نحن نسلِّم بجواز التبرك والتوسل للعلماء الذين فهموا جوهر الدين، إلّاأن ذلك ممنوع على العوام لأنهم سوف يحولونهما إلى الشرك، حيث يعتقدون للنبيّ وآثاره وللأولياء تأثيراً ذاتياً في رفع الحاجات أو دفع المضرّات، فيجب المنع عنهما سدّاً للذرائع.

وهذا ما سمعنا به من الأستاذ الدكتور محمد بن سعد سُوَيْعِر- حفظه اللَّه- يوم حضرنا عندكم وجلسنا على مائدتكم.

والإجابة على هذا الكلام سهل، فإنه إذا ثبت جواز عمل بل استحبابه بدليل قطعي فلا يجوز المنع عنه بقول مطلق، خوفاً من الجُهّال أن يُحلِّوه إلى ما فيه لون من الشرك، وإلّا كان ينبغي للرسولصلى الله عليه و آله و سلم نهي الناس عن التبرك بآثاره سدّاً للذريعة، كما كان ينبغي له أن يمنع الناس عن زيارة القبور حذراً من أن الجُهّال يتّخذونهاصنماً يعبد، أو يمنع من استلام الحجر للسبب نفسه، هذا ليس هو الطريق الوحيد والقول السديد لسدّ الذرائع، بل الطريق هو مراقبة العلماء الذين هم ورثة الأنبياء والذين هم أمناء اللَّه على حلاله وحرامه، فإنهم أمروا بحفظ الناس عن تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين- كما جاء في الحديث (معالم الدينص 33 ط 1413 ه. ق) من غير أن يحرِّموا حلالًا أو

ص: 270

يحلِّلوا حراماً، أو يفرِّقوا في حكم واحد بين العوام والخواص.

الثاني: أن من يجوّز التبرك والتوسل هم جمهور العلماء في قبال جماعة أقل منهم بكثير لا يجوِّزونهما، ولا ريب أن المجوّزين اختاروا الجواز بعد الوقوف على الآراء، وبعد البحث والفحص عن الأدلّة، والاطلاع على ما أبداه الشيخان السلفيّان الشيخ ابن تيمية، والشيخ محمد بن عبد الوهّاب وأتباعهما، فهؤلاء لم يقتنعوا طوال هذه القرون السبعة إلى يومنا هذا بحجج مخالفيهم، فهم مجتهدون، ولكل مجتهد مصيب أجران، وللمخطئ أجر واحد، كما هو ثابت عند الفقهاء، فالمسألة بعد أن عادت خلافية اجتهادية، فهل تسمحون في مثل هذه المسألة، التي جُلُّ العلماء على جوازها وقليل منهم على حرمتها، بنسبة الكفر والشرك بل الفسق والضلال إلى هؤلاء الجمّ الغفير المعترف بفقههم وتقواهم؟ فما هو الفارق إذاً بين القطعيات والظنيات سواء في حقل العقيدة أو في حقل الشريعة؟ إنما الحكم بالكفر ثابت فيمن أنكر ضرورياً من ضروريات الدين ليس إلّا، دون مسألة خلافية هي معترك الآراء بين الفقهاء.

فأقلّ ما يقال في مثل هذه المسألة الخلافيّة هو الاحتياط بالإمساك عن التقوُّل فيها، حتى ترجع المسألة قطعيّة، والاكتفاء ممن لا يُجوِّزه بالوعظ والإرشاد، إذا رآه شركاً أو بدعة وضلالًا، فهذا منتهى المطاف في أداء الواجب من مثله. وقد مرّ بنا أن استهللنا كلامنا بالتقدير لجهودكم في سبيل إرساء أمر التوحيد، وهذا بنفسه سعي مشكور أغتبطكم عليه، لولا أن ينضمَّ إليه إطلاق القول بالشرك أو الكفر فيمن جوَّز هذا العمل عن اجتهاد ونظر، من دون تقليد أعمى، ولا جهل بالكتاب والسنّة وبآراء الفقهاء الموافق منهم والمخالف، هذا أولًا.

وثانياً: أحببت الإشارة إلى مسألة أخرى لها أهميتها، وهي ما أفتيتم به

ص: 271

حول مسألة فلسطين، حيث تقولون: «إنه يجب على المسلمين وعلى الدول الإسلاميّة والأغنياء والمسؤولين أن يبذلوا جهودهم ووسعهم في جهاد أعداء اللَّه اليهود، أو فيما تيسّر من الصلح إن لم يتيسَّر الجهاد،صُلحاً عادلًا يحصل به للفلسطينيين إقامة دولتهم على أرضهم، وسلامتهم من الأذى من أعداء اللَّه اليهود، مثلماصالح النبيّ أهل مكة، وأهل مكة في ذلك الوقت أكثر من اليهود الآن، وإن المشركين والوثنيين أكفر من أهل الكتاب، فقد أباح اللَّه طعام أهل الكتاب والمحصنات من نسائهم، ولم يبح طعام الكفار من المشركين، ولا نسائهم.

وصالحهم النبيّصلى الله عليه و آله و سلم على وضع الحرب عشر سنين، يأمن فيها الناس ويكفّ بعضهم عن بعض، وكان في هذا الصلح خير عظيم للمسلمين، وإن كان فيه غضاضة عليهم بعض الشي ء، لكن رضيه النبيّصلى الله عليه و آله و سلم للمصلحة العامة.

فإذا لم يتيسّر الاستيلاء على الكفرة، والقضاء عليهم، فالصلح جائز لمصلحة المسلمين، وأمنهم وإعطائهم بعض الحقوق ...» (1).

وهذه الفتيا منكم إنماصدرت ولا شك فيها إخلاصاً للإسلام والمسلمين، وحرصاً على إرشاد الأُمّة إلى ما فيه خيرهم وصلاحهم، إلّاأنّ فيها بعض الملاحظات، فهي تحتوي شطرين:

الشطر الأول، وجوب حرب اليهود أعداء اللَّه، وبذل الجهود في جهادهم.

وهذا ما يوافقكم عليه علماء الإسلام جميعاً شيعة وسنة، ولعلكم لمستم موقف الشيعة في مكّة المكرّمة عبر شعاراتهم، أو سمعتم به عن طريق المذياع أو قرأتم عنه في الجرائد، أنهم أشدّ الناس على الكفّار ولا سيما على اليهود. فهذا حقصريح، ورأيكم حجة على جميع المسلمين حكومات وشعوباً، جزاكم اللَّه عنهم خير الجزاء، وشكر مساعيكم، فقد أدّيتم واجبكم أمام اللَّه- تبارك وتعالى- وأمام المسلمين قاطبة. وأما الشطر الثاني وهو ما تيسّر من الصلح إن لم يتيسّر


1- 1 مجلة البحوث الإسلامية رقم 35ص 34.

ص: 272

الجهادصلحاً عادلًا إلى آخر ما أبديتم من الرأي بإخلاص، فيجب الوقوف عنده طويلًا:

لا ريب أن المسألة لو كانت كما اقترحتم وكانت القيود والشروط محقّقة بالشكل الذي قيّدتم، فالحكم هو ماصرّحتم به، إلّاأنّ المسألة مع الأسف الشديد ليست بهذه السهولة، ومغزى كلامي أنّ البحث ليس في الكبرى من الدليل، وإنما هو في الصغرى، وتوضيحها كما يأتي:

أولًا: أنّ الجهاد مع اليهود ميسور وبابه مفتوح بمصراعيه أمام المسلمين، إلّا أنّ حكّام المسلمين لم يقفوا يوماً، ولا يريدون أن يقفوا أمام العدو بكلّ جهودهم وإمكانيّاتهم، فإنّ العرب طرحوا القضية منذ أربعين سنة ولحد الآن قضية عربية، وليست إسلاميّة، وهذه أول ضربة وجَّهوها إلى القضية، حيث أبعدوا بهذا المشروع العنصري معظم المسلمين عن ساحة المعركة، ولا أقل من أن ذلك أصبح عذراً لأولئك الحكّام الذين لا علاقة لهم بشؤون المسلمين، فكانوا يقولون كما سمعت مراراً من أعوان الشاه في إيران: «هذه مشكلة العرب مع اليهود لا شأن لنا فيها». فلم يكونوا يسمعونصرخات المسلمين والعلماء من أنّها إسلاميّة، بحجَّة أن العرب يعدّونها مسألة عربية.

وأمثال هؤلاء الحكام من العرب وغيرهم لا يزالون لا يطيقون استماعصرخات هؤلاء الشباب والأطفال المحاربين بالحجارة داخل الأرض المحتلة وهتافاتهم: (اللَّه أكبر) (نحن مسلمون) ولا أن يروا في التلفزةصَلاتهم حول المسجد الأقصى؛ لأن ذلك يمثِّل إسلاميةَ القضية فتأخذ العذر من أيديهم.

ثانياً: حتى العرب أنفسهم الذين احتكروا المسألة بحجِّة أنها عربية، وأنها مسألتهم من دون سائر المسلمين لا يتّفقون على كلمة واحدة، ولم يجهّزوا إمكانياتهم أمام العدو، ولم يقفواصفّاً واحداً، فبدلًا من ذلك كلّه، افترقوا أحزاباً

ص: 273

وشعوباً يهاجم بعضهم بعضاً، عسكرياً وإعلامياً، لا لشي ء إلّالمصالحهم ولمصالح العدو، فلم يجهّزوا أنفسهم للمعركة لا هم ولا سائر المسلمين ولم يمتثلوا أمر ربّهم:

«وأعدّوا لهم ما استطعتُم من قوّة ومن رِباطِ الخيل تُرهِبون به عدوّ اللَّه وعدوَّكم» (1)

عندهم البترول الذي هو شريان حياة الأعداء، فلم يستفيدوا من هذه القوة الهائلة التي هي أقوى بكثير من رباط الخيل ومن أيّ قوة تُوجد في العالم.

كما أنّهم لم يهتمّوا بقول ربّهم: «يا أيّها الذين آمنوا لا تتّخذوا اليهود والنصارى أولياء» (2)

وما بمعناه في الكتاب والسنة.

فمن الذي منهم لا يتَّخذ أعداء اللَّه أولياء، ولا يميل إلى اليمين والشمال (وقد سقط بحمد اللَّه) ولا يعتمد ولا يستنصر بالأعداء (سوى النزر اليسير) ولا يركع لصنم منهم ولا يسجد، وبعضهم لا يأكل ولا يشرب إلّابإذنه؟

ومن خفي عليه هذا فليس له الدخول في المعارك السياسية وإظهار الرأي فيها.

والعجب كلَّ العجبصَمْتُ بعض العلماء عن هؤلاء الحُكَّام الرُّكع السجود أمام الأصنام والطواغيت، ثم ينادي ويحكم بكفر وشرك أولئك المسلمين المساكين، الذين بذلوا كلّ ما عندهم، وتحمّلوا المشاقَّ، وجاءُوا من كلّ فجّ عميق، حتى نالوا بزيارةَ النبيّ، وقلوبهم ملئت بحبِّه، فقبّلوا الباب والشبّاك حبّاً له، ورجاء التقرّب إلى اللَّه بحبّه، ويرون هذا منتهى أملهم من الحياة، فإذا بعالم أو مسؤول سكت عن ذلك الشرك الكبير وعن هؤلاء الأبالسة الكبار، يضربه بالسياط ويشتمه بقوله: (هذا شرك، هذا كفر) ولم يعتقد هذا القائل إلّاأنه كلّ واجبه، أَليس هذا إبعاداً للمسلمين المخلصين عن الدين، وعن ساحة القتال ضدّ اليهود وضدّ سائر أعداء الدين؟ فإنه إذا كان كافراً ومشركاً، فلماذا يُضحِّي بنفسه


1- 1 الأنفال: 60.
2- 2 المائدة: 51.

ص: 274

في المعركة في سبيل الإسلام؟

وأنا أقول بصراحة: لو أن العلماء ومن ورائهم (بل ومن فوقهم!) الحكّام لم يخطِئوا الطريق، واستقرُّوا على الصراط القويم، لأمكن لهم تجهيز ملايين من الشبّان المسلمين الغيارى على الإسلام الذائبين في حبّ النبيّ محمدصلى الله عليه و آله و سلم، ليقفوا سداً منيعاً ضدّ اليهود ومطامعهم، ولو تحقّق هذا الحُلُم يوماً ما لرأينا كلمة اللَّه هي العليا، وأن اللَّه يحقّق وعده: «إن تنصروا اللَّه ينصركم ويثبّت أقدامكم» (1).

ثالثاً: الاستشهاد للصلح مع اليهود بمثل ماصالح النبيُّ أهل مكة والمشركين عجيب وقياس مع الفارق، وفيه وجوه من الخلط والتمويه:

1- إنّ النبيَّصالح أهل مكة من موقف القوّة دون الضعف كما قال تعالى:

«وهو الذي كفَّ أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكّة من بعد أن أظفركم عليهم وكان اللَّه بما تعملون بصيراً» (2)

مع أنّ حكّام العرب حينما يريدون أن يساوموا على الصلح مع العدوّ، إنما هم في منتهى الضعف (ولا سيما بعد حرب الخليج) سياسيّاً وعسكريّاً. والشيطان الأكبر الحامي لإسرائيل رَسَتْ أقدامه على أرضهم بكلّ ما له من العُدَّة والعَدَد، وله حقُّ الحياة والبقاء على جملة من الحُكّام، فهم عبيد في قبضته، وليس لهم إلّاأن يركعوا ويسجدوا أمامه آناء الليل والنهار، وأنهم ليبذلون أموال المسلمين وشعوبهم المساكين إلى الكفار بالمجان، لا لشي ء سوى للحفاظ على مناصبهم، فهم راكبون أعناق الشعوب، راكعون أمام الأعداء. «أسدٌ عليّ وفي الحروب نُعامة». وفي مثل هذه الحالة يريدون أن يجلسوا مع العدوّ حول طاولة المفاوضة للسلام العادل!

ومن الدليل على ضعف المشركين وقوّة المسلمين في الحُديبية قول النبيّصلى الله عليه و آله و سلم لرسول المشركين عنده (بُديْل بن وَرقاء الخُزاعي): «إنّ قريشاً قد أنهكتهم الحرب، وأخذت بهم فإن شاءُوا ماددتُهم مدَّة ويخلّوا بيني وبين الناس


1- 1 محمد: 7.
2- 2 الفتح: 24.

ص: 275

... إلى أن قال: فإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده لأُقاتلنَّهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي وليُنفذ اللَّه أمره».

ثم إن مبايعة المسلمين له على الحرب والتضحية بالنفس والمال كان استعداداً كاملًا للحرب.

ثم إن عروة بن مسعود رسول المشركين الآخر لديه حينما رجع إلى المشركين قال لهم: «فواللَّه ما تنخَّم رسول اللَّه نُخامةً إلّاوقعت في كفّ رجل منهم فدلك بها وجهه وجِلده، وإذا أمرهم بأمر ابتدروا أمره، وإذا توضّأ كادو يقتتلون على وضوئه وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدّون النظر إليه تعظيماً له، إلى أن قال: أي قوم، لقد وَفدتُ على الملوك ووَفَدتُ على قيصر وكسرى والنّجاشي، واللَّه ما رأيتُ ملكاً «يُعظِّمه أصحابه ما يُعظِّم أصحاب محمدٍ محمداً! وأنه قد عرض عليكم خِطّة رشد فاقبلوها ...» رواه البخاري ومسلم بتفاوت.

2- إنّ اليهود ليسوا وحدهم الذين يحاربون شعب فلسطين، بل وقف إلى جنبهم الطواغيت الدولية، الذين غرسوا هذه الشجرة الخبيثة في أرض الإسلام، وهم الذين يحاربون الإسلام والمسلمين من أول يوم، فكيف نغفل عنهم ونعدُّ الحرب حرباً بين اليهود والعرب أو المسلمين، فندخل في الصلح معهم؛ لأنهم أقل من المشركين؟

وهؤلاء الطواغيت، ولا حتى اليهود الذين استولوا على أرض فلسطين ليسوا بأهل كتاب، وإنما هم ملاحدة، دينهم الدولار، وأمنيتهم الاستيلاء على ثروات الأرض، فإنّ اليهود في فلسطين معظمهمصهاينة ليسوا بأهل كتاب ولا أهل دين، بل هم حزب سياسي عنصري.

على أن اليهود في العالم يعدّون بعشرات الملايين، وكلّهم مع يهود فلسطين، وبيدهم ثروات هائلة، وفي قبضتهم السُّوق العالمي والمصانع والسُّفن والأسلحة،

ص: 276

ووسائل الإعلام العالمي، فكيف يجوز أن يقال: إنّ اليهود اليوم أقل من أهل مكة في ذلك اليوم؟

فيجب علينا إذاً أن نضع هذه الأشياء في الميزان ثُمّ نحكم بالصلح، وبدونها لن يتحقَّقصلح عادل.

3- إنّ الصلح كان مع أهل مكّة بأمر من اللَّه من دون مشورة المؤمنين، بل كان أكثرهم قاوموا النبيَّصلى الله عليه و آله و سلم أمام عقد الصلح وعند بعض بنوده، حتى أنزل اللَّه سورة الفتح وكشف النقاب عن وجه الصلح، وعدَّه فتحاً مبيناً، ومع ذلك لم يعترف كثير منهم فيصميم قلوبهم، وباقتناع نفسي منهم، بأنه كان خيراً، حتى رأوا النتيجة ماثلة أمامهم بعد مدَّة.

4- كانت هناك حِكم وأسباب جاءت في سورة الفتح تصريحاً أو إيماءً، كالحفاظ على المؤمنين والمؤمنات القاطنين بمكّة يومئذٍ، الذين لم يعرف أشخاصهم، وكالحصول على الأرضية المناسبة لاختلاط المسلمين بالمشركين، وتبيين الإسلام لهم وتحويل قلوبهمصوب المسلمين، وغير ذلك ممّاصرّحتم به في مقالكم، ويعلم بالتدبر في سورة الفتح، وفي الحوادث التي حدثت عقيب الصلح، ولا يوجد شي ء من هذه الحِكم والأسباب في الصلح مع اليهود الآن، بل الأمر بالعكس كما سنوضِّح.

5- اليهود بما أعدُّوا واستعدّوا للمعركة الصارمة، كانوا معتمدين على تلك القوى العالميّة الشيطانية، وهم قادرون بما عندهم على أن يقضوا على الشعب الفلسطيني، وعلى مَن جاورهم من الشعوب، ولا سيما القاطنين في أرض الجزيرة العربية التي لليهود فيها مطامع تاريخية: كأراضي بني النضير وبني قريظة وأراضي خيبر وغيرها، في طرفة عين، ولعلّهم يفعلونها يوماً من الأيام (لا قدّر اللَّه هذا اليوم) فهم حينما يفاوضون العرب من أجل السلام، لم يقصدوا السلام، ولم

ص: 277

يكن خوفاً من العرب، إنما يريدون أن يسيطروا على أراضيهم وثرواتهم برفق وبرضاً منهم أو من حكّامهم؛ ليتدخلوا في شؤونهم ثقافياً واقتصادياً وسياسياً، وليكونوا أحراراً فيما يعملون في تلك البقاع، ويتَّخذوا من تلك الشعوب أداة لبسط سلطانهم عليهم وعلى العالم الإسلامي كلّه، ويتعاملوا معهم معاملة السيّد مع عبيده، والملك مع رعيته طوال الدهر. وبالتالي يكون الصلح المنشود هو الطريق الوحيد للوصول إلى مطامعهم، حتى إنهم يُمهِّلون أمر الصلح عمداً، ويسوِّفونه قصداً، لإرضاء النفوس شيئاً فشيئاً، حتى يقتنعوا بأنه لا طريق للاخلاص سوى الصلح والسلام.

مع أن مثل هذا الصلح هو الرصاصة الأخيرة لسقوط هذهِ الشعوب، ثم لسقوط العالم الإسلامي والمسلمين في أيدي اليهود. فأين الصلح العادل؟ ليس هذا سوى الاستسلام المطلق دون السلام العادل.

ثمّ إنّ اليهود، متى التزموا بعهودهم طوال دهرهم خاصة في فلسطين لكي نثق بهم؟ وأخيراً لو فرضنا حصول كلّ هذه الشروط والقيود، فإنّ الحُكّام لانثق بهم، وسوف يتَّخذون من هذه الفتيا ذريعةً لإلباس الأمر على الشعوب، وسيفاوضون العدوَّ فيصالحهم أكثر منصالح الشعوب، وسيكون هذا الحكم من سماحتكم مبدأ شرعيَّة اليهود، وشرعيَّة عمل الحكّام الذين أجروا عقد الصلح ومفاوضة السلام معهم.

فإيّاكم أن تجعلوا رقبتكم قنطرةً لهؤلاء، والصواب هو الاكتفاء منكم بالشطر الأوّل من الفتيا، والانصراف عن الشطر الثاني فوراً، والمرجوُّ منكم أخذ هذه السطور بعين الاعتبار، ثمّ الإجابة عليها، فإنّي ما أردتُ إلّاالإصلاح ما استطعتُ، واللَّه من وراء القصد، والسلام عليكم ورحمة اللَّه.

ص: 278

الهوامش:

ص: 279

معجم ما كتب في الحجّ والزيارة والمعالم المشرّفة في الحجاز (2)

عبد الجبار الرفاعي

تعريف بمصادر دراسة الحج ومكة المكرّمة، والمدينة المنوّرة، والمعالم المشرّفة في الحجاز، وما يرتبط بذلك. يشتمل على ما كُتِبَ من مؤلفات، ورسائل جامعية، وبحوث، ومقالات، باللغتين العربية والفارسية.

إشارات:

1- بلغ عدد العناوين ما يقارب (2000) عنوان.

2- شملت التغطية الزمانية ما كُتِب منذ بداية التدوين عند المسلمين الى اليوم.

3- ينشر هذا العمل خلال حلقات في مجلة «ميقات الحج» بناءً على طلب رئيس تحرير المجلة. وبعد الفراغ من نشره هنا ستقوم معاونية شؤون التعليم والبحوث الإسلاميّة في الحجّ، التابعة لممثليّة الوليّ الفقيه لشؤون الحجّ والزيارة

ص: 280

بنشره مستقلًا إن شاء اللَّه تعالى.

4- لا تمثل هذه القائمة استقراءً تاماً لجميع ما كُتِب في هذه الموضوعات، لذا يرجو المؤلف من السادة الكُتّاب إعلامه بأعمالهم التي لم تُرصد في القائمة على عنوان المجلة، كيما يجري استدراكها حيثما ينشر هذا العمل في كتاب.

5- اعتمدت المداخل على عناوين الكتب والبحوث والمقالات.

6- رُتبت المداخل تبعاً للترتيب الهجائي التام، واعتبار الوحدة في الترتيب هي الكلمة، أي على أساس كلمة كلمة، ثمّ حرف حرف.

المختصرات:

ت: تاريخ الوفاة

ج: الجزء

ح: الحلقة

خ: نسخة مخطوطة

د. ت: بدون تاريخ

د. م: بدون ذكرمكان النشر في المطبوع

د. ن: بدون ذكر الناشر

س: السنة

سم: سنتيمتر

ش: السنة الهجرية الشمسية

ص: الصفحة

ط: الطبعة

ظ: انظر

ع: العدد

ق 7 ه: القرن السابع الهجري

م: السنة الميلادية

مج: مجلد

مط: المطبعة

ه: السنة الهجرية القمرية

*** 210- تاريخ آطام المدينة المنوّرة

عبيد مدني (ت 1396 ه)

ظ:

موسوعة الأدباء والكتّاب السعوديين 3/ 171.

211- تاريخ أغوات الحرم وتراجمهم

أحمد إبراهيم

خ: المحمودية في المدينة المنوّرة برقم 3127، 140 ورقة.

212- تاريخ بناء البيت الحرام

عبد اللَّه سمك

المجاهد (القاهرة) س: ع 128 (6/ 1991)ص 48- 49.

ص: 281

213- تاريخ التعليم في مكة المكرّمة

عبد الرحمنصالح عبد اللَّه

جدة: دار الشروق، 1403 ه، 290ص، 24 سم.

214- تاريخ الجزيرة العربية في عصر الشيخ محمد بن عبد الوهاب

حسين خلف خزعل

بيروت: دار ومكتبة الهلال ومطابع دار الكتب، 454ص، 24 سم.

215- تاريخ جستنية

(دونّ فيه حوادث تاريخ مكة وامرائها)

عبد الرحمن بن محمد سعيد (المعروف بجستنية)

[ت نحو 1215 ه/ 1800 م]

ظ:

المنهل (جدة) س 56: 4754 (3- 4/ 1410 ه/ 10- 11/ 1989)ص 203.

216- تاريخ الحجِّ من وادي نهر السند

(پاكستان)

عفاف السلجوقي

جدّة: جامعة الملك عبد العزيز، 1403 ه، 50ص.

217- تاريخ الحجاز

حافظ وهبة (ت 1387 ه)

مطبوع في 434ص.

218- تاريخ الحجاز في القرنين الأول والثاني للهجرة؛ دور الحجاز في الحياة السياسية بزعامة قريش حتى عصر المهدي العباسي (1- 170 ه)

أحمد إبراهيم الشريف

القاهرة: جامعة عين شمس: كلية الآداب، 1968 م، 443ص (اطروحة دكتوراه).

219- تاريخ حرم أئمه بقيع

(بالفارسية)

محمدصادق نجمى

ميقات حج س 2: ع 4 (تابستان 1372 ش)ص 175- 192، س 2: ع 5 (بائيز 1372 ش)ص 59- 70، س 2:

ع 6 (زمستان 1372 ش)ص 111- 129، س 2: ع 7 (بهار 1373 ش)ص 92- 113.

220- تاريخ الحرم المدني

درويش أحمد شكاري زاده

خ: المكتبة المحمودية في المدينة المنورة برقم 3125، 140 ورقة

221- تاريخ الحرمين الشريفين

عباس كرّاره

مكة المكرمة: مكتبة الوصي، ط 1، 1390 ه.

222- تاريخ الحياة العلمية في المدينة المنورة خلال القرن الثاني الهجري

ص: 282

سعد موسى حمد الموسى

جامعة امّ القرى، كلية الشريعة، 1409 ه.

223- التاريخ السياسي لمكة قبل الإسلام

محمود زايد

العربي ع 42 (1962 م)ص 20- 25.

224- التاريخ الشامل للمدينة المنوّرة

عبد الباسط بدر

طبع في 1414 ه، 3 مج.

225- تاريخ العرب قبل الإسلام وعصر الجاهلية

نشأة جغتاي.

مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق ع 47،ص 446- 449 (عزة حسن).

226- تاريخ عمارة الحرم المكي الشريف

فوزية حسين مطر

جدة: تهامة، 1401 ه/ 1981 م، 196ص (رسائل جامعية: 6).

227- تاريخ عمارة المسجد الحرام بما احتوى من مقام إبراهيم وبئر زمزم والمنبر وغير ذلك

حسين عبد اللَّه باسلامة

جدة: الكتاب العربي السعودي، ط 3، 1400 ه- 1980 م، 320ص، 21 سم.

228- تاريخ عمارة المسجد الحرام

محمد بن عبد اللَّه الأزرقي (مطبوع)

ظ:

المنهل (جدة) س 56: ع 475 (3- 4/ 1410 ه/ 10- 11/ 1989 م)ص 203.

229- تاريخ عمارة المسجد الحرام من العصر العباسي الثاني حتى العصر العثماني

[تتمّة للكتاب الأوّل تاريخ عمارة الحرم ...]

فوزية حسين إبراهيم مطر

جامعة امّ القرى، كلية الشريعة، 1406 ه، 547ص (رسالة دكتوراه).

ظ:

موسوعة الادباء والكتاب السعوديين 209.

230- تاريخ في أشراف وأمراء مكة المعظمة

مجهول المؤلف

خ:

الحرم المكي/ 2

ظ:

المنهل (جدة) س 56: ع 475 (3- 4/ 1410 ه/ 10- 11/ 1989 م)ص 203.

231- تاريخ قرباني وحقيقت وأهميّت آن

(بالفارسية)

ص: 283

محمد شفيع

ترجمة: محمد أمين حسن بر

سراوان (ايران): حوزة علميه اشاعة التوحيد، (د. ت)، 47ص.

232- تاريخ قريش: دراسة في تاريخ أصغر قبيلة عربية جعلها الإسلام أعظم قبيلة في تاريخ البشر

حسين مؤنس

جدة: الدار السعودية للنشر ط 1، 1408 ه/ 1988 م، 911ص، 25 سم.

233- التاريخ القويم لمكّة وبيت اللَّه الكريم

محمد طاهر الكردي المكي

مكة المكرمة: مكتبة النهضة الحديثة، ط 1، 1385 ه، 4 ج.

234- تاريخ كسوة الكعبة المشرفة منذ العهد القديم الى العهد الحديث

مجدي السيد البحراوي

المجاهد (القاهرة) س 9: ع 92 (8/ 1988 م)ص 40- 42.

235- تأريخ الكعبة

علي حسين الخربوطلي

بيروت: دار الجيل، 1396 ه، 192ص، 24 سم.

بيروت: دار الجيل، ط 3، 1411 ه، 192ص، 24 سم.

236- تاريخ الكعبة المعظمة: عمارتها وكسوتها وسدانتها

حسين بن عبد اللَّه باسلامة (ت 1359 ه)

جدة: تُهامة، ط 2، 1401 ه/ 1981 م، 410ص، (الكتاب السعودي 47).

ظ:

موسوعة الأدباء والكتّاب السعوديين 64.

237- تاريخ كعبه ومسجد الحرام

(بالفارسية)

محمد معصوم بن محمدصالح دماوندي

اعداد: رسول جعفريان

ميراث اسلامى ايران (قم) ع 1 (1373 ش)ص 225- 249.

ميقات حج س 4: ع 12 (1374 ش)ص 111- 134.

238- تاريخ المدينة

جعفر هاشم المدني (1342 ه)

ظ:

العرب س 31 ج 1، 2 (7- 8/ 1416 ه/ 12/ 95- 1/ 1996 م)ص 71.

239- تاريخ المدينة

(مستخلص من كتاب السمهودي)

المستشرق الألماني فستنفلد

غوتنغن: 186 م، 162ص.

ظ:

ص: 284

موسوعة المستشرقين 279.

240- تاريخ المدينة

محمد بن عبد الرحمن بنصالح (ت 856 ه)

ظ:

العرب س 31: ج 1، 2 (7- 8/ 1416 ه/ 12/ 95- 1/ 1996 م)ص 71.

241- تاريخ المدينة

يحيى بن الحسن الحسيني المدني (ت 277 ه)

ظ:

معجم ما ألّف عن رسول اللَّه (ص) 94،

معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت 1/ 339.

242- تاريخ المدينة قديماً وحديثاً

أحمد بن ياسين بن أحمد الخياري (1380 ه)

باعتناء: عبيد اللَّه محمد أمين كردي

المدينة المنورة: نادي المدينة الأدبي، 1410 ه.

243- تاريخ المدينة لمؤلّفه عمر بن شبة النميري

مارتن هايندز

في:

الندوة العالمية الأولى لدراسات تاريخ الجزيرة العربية (الرياض: 5/ 1397 ه/ 4/ 1977 م).

244- تاريخ المدينة المنوّرة

عبيد مدني (ت 1396 ه)

في خمسة مجلّدات.

ظ:

موسوعة الادباء والكتاب السعوديين 170.

245- تاريخ المدينة المنوّرة

قطب الدين الحنفي من علماء القرن الثامن

خ: مصورة على ميكروفلم في معهد إحياء المخطوطات العربية برقم 965 تاريخ.

246- تاريخ المدينة المنوّرة

مصطفى عمر زكي عشقي

(1194- 1276 ه)

ظ:

العرب. س 31: ج 1، 2 (7- 8/ 1416 ه/ 12/ 95- 1/ 1996 م)ص 72.

247- تاريخ المدينة المنوّرة في الشعر العربي قديماً وحديثاً

أحمد ياسين الخياري (ت 1380 ه)

طبع في عام 1414 ه

248- تاريخ المدينتين

محمد عبد الرحمن المصري السخاوي (831- 902 ه)

ظ: المنهل (جدة) س 56: ع 475 (3- 4/ 1410 ه/ 10- 11/ 1989 م)ص 203.

ص: 285

249- تاريخ مساجد المدينة المنورة

عبيد مدني (ت 1396 ه)

ظ: موسوعة الأدباء والكتاب السعوديين 171.

250- تاريخ المستبصر فيصفة بلاد اليمن ومكة وبعض الحجاز

ابن المجاور الشيباني الدمشقي

مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق ع 32:ص 383- 385 (جعفر الحسني).

251- تاريخ المسجد النبوي

عبيد مدني (ت 1396 ه)

ظ:

موسوعة الأدباء والكتاب السعوديين 170.

252- تاريخ معالم المدينة المنوّرة

أحمد ياسين الخياري (ت 1380 ه)

المدينة: النادي الأدبي بالمدينة، ط 2، 1410 ه.

253- التاريخ المفصل للكعبة المشرفة قبل الإسلام

عبد القدوس الأنصاري (ت 1403 ه)

مكة المكرمة: نادي مكة الثقافي، ط 1، 1403 ه، 109ص، 21 سم.

254- تاريخ مكة

ابن فهد المكي (850- 921 ه)

ظ:

المنهل (جدة) س 56: ع 475 (3- 4/ 1410 ه/ 10- 11/ 1989 م)ص 203.

255- تاريخ مكة

أحمد السباعي (ت 1404 ه)

مكة المكرمة: مطابع قريش، ط 2، 1380 ه، 312ص.

مكة المكرمة: نادي مكة الثقافي، ط 4، 1399 ه، 2 ج، 704ص (باشراف:

عاتق بن غيث البلادي).

مكة المكرمة: دار مكة، ط 6، 1404 ه.

المجلة العربية س 5: ع 6 (9/ 1981 م)ص 157 عبد اللَّه الشبتي.

مجلة الفكر العربي ع 30 (كانون الاول 1982 م)ص 194- 198.

256- تاريخ مكة

عثمان بن ساج (ت 180 ه)

ظ:

المنهل (جدة) س 56: ع 475 (3- 4/ 1410 ه/ 10- 11/ 1989 م)ص 203.

257- تاريخ مكة

محمد بن علي الشيبي

(779- 838 ه)

ظ:

المنهل (جدة) س 56: ع 475 (3- 4/ 1410 ه/ 10- 11/ 1989 م)ص 203.

258- تاريخ مكة

(بالفارسية)

محمد هادي الأميني

ص: 286

ترجمة: محسن الآخوندي

طهران: دفتر نشر فرهنگ اسلامي، 1372 ش، 420ص، 24 سم.

259- تاريخ مكة المشرّفة والمسجد الحرام والمدينة المشرفة والقبر الشريف

ابن ضياء المكي

(789- 854 ه)

ظ:

المنهل (جدة) س 56: ع 475 (3- 4/ 1410 ه/ 10- 11/ 1989 م)ص 203.

260- تاريخ مكة المكرمة

عبد الغني حمادة

حلب: 1964 م.

261- تاريخ مكة المكرمة والمسجد الحرام والمدينة والقبر الشريف

محمد بن أحمد بن الضياء الصاغاني أبو البقاء

خ: مصورة، مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي في جامعة امّ القرى، برقم 17 تاريخ.

262- تاريخ مكة وتراجم شرفاء مكة

عبد اللَّه بن محمد (ق 13 ه)

خ: طوپ قيوسراى، برقم 0511 m 6087، 301 ورقة، تاريخها 1269 ه.

263- تاريخ مكة والمدينة والطائف

حسن بن علي المكي العجيمي الحنفي (ق 13 ه)

خ: جامعة الملك سعود، برقم 43 تاريخ، 1267 ه.

264- تاريخ مكة والمدينة والقدس

شهاب الدين أحمد القليوبي

خ: مصورة ميكرو فلمية، معهد احياء المخطوطات العربية بالقاهرة برقم 111 تاريخ.

265- تاريخ مكة والمسجد الحرام المعروف بتحفة الكرام

محمد مهدي بن مرتضى بن محمد بن عبد الكريم الحسني الحسيني الطباطبائي المعروف ب بحر العلوم ت 1212 ه.

خ:

مكتبة الشيخ علي كاشف الغطاء في النجف الأشرف بخط المؤلف.

مكتبة الشيخ هادي الشيخ عباس، الفيضية بقم، برقم 973.

ظ:

المنهل (جدة) س 56: ع 475 (3- 4/ 1410 ه/ 10- 11/ 1989 م)ص 203.

فهرست نسخه هاى خطى كتابخانه مدرسه فيضيه قم، 41.

ص: 287

266- تاريخ الملوك .. دولة مكة الشرفاء

تقي الدين الفاسي

(المؤرخ المكي المغربي).

ظ:

المنهل (جدة) س 56: ع 475 (3- 4/ 1410 ه/ 10- 11/ 1989 م)ص 203.

267- تاريخ المملكة العربية السعودية

سيد محمد إبراهيم

الرياض: مكتبة الرياض الحديثة، 1406 ه، 320ص، 24 سم.

268- تاريخ المملكة العربية السعودية في ماضيها وحاضرها

صلاح الدين المختار

بيروت: دار مكتبة الحياة، 2 ج: 400+ 544ص، 24 سم.

269- تاريخ وآثار اسلامي مكه مكرمه ومدينه منوره (بالفارسية)

أصغر قائدان

طهران: نشر مشعر، ط 1، 1372 ش، 377ص.

270- تاريخچه پوشش كعبه

(بالفارسية)

يعقوب جعفري

ميقات حج. س 4: ع 12 (تابستان 1374 ش)ص 84- 103.

271- تبرك الصحابة بآثار رسول اللَّهصلى الله عليه و آله وبيان فضله

محمد طاهر عبد القادر الكردي (ت 1365 ه)

القاهرة: 1385 ه، 60ص.

القاهرة: ط 2، 1394 ه، 103ص.

طهران: 1977 م، 217ص، (ترجمهُ الى الفارسية: حيدر انصاري نجف آبادي)

272- تبرك الصحابة والتابعين بآثار النبي والصالحين، هل هو شرك في الدين أو دليل إيمان ويقين؟

علي الأحمدي الميانجي

بيروت: الدار الاسلامية، ط 1، 1403 ه/ 1983 م، 438ص.

طهران: مؤسسة البعثة، ط 2، 1985 م، 460ص، 24 سم.

273- تبصرة الزائر في الزيارات

محمد عباس بن علي اكبر الشوشتري (ت 1306 ه)

ظ:

كشف الحجب والأستار 95، مرآة الكتب 2/ 117، الذريعة 3/ 317، معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت 9/ 390.

274- تبصرة الزائر وكشف السرائر

(وهو ترجمة جملة من الأدعية والزيارات التي أوردها العلّامة المجلسي

ص: 288

في «زاد المعاد» و «تحفة الزائر»)

ظ:

الذريعة 3/ 317، معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت 9/ 390.

275- تبصرة الناسكين بسنن الحجاج والمعتمرين

حسين آل عصفور

اعداد: محسن آل عصفور

قم: دار الاعتصام، 1415 ه، 827ص.

276- تبيان الزيارة (في شرح إحدى الزيارات الجامعة، بالفارسية)

المولى باقر

ظ: الذريعة 26/ 150، معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت 9/ 391.

277- التبيين في أنساب القرشيين

موفق الدين عبد اللَّه بن أحمد بن قدامة (ت 621 ه)

اعداد: حمد الجاسر

العرب س 18: ج 5، 6 (9- 10/ 1983 م)ص 431- 432، ج 11، 12 (2- 3/ 1984 م)ص 1104- 1113، س 19 ج 1، 2 (3- 4/ 1984 م)ص 107- 110، ج 4 (6- 7/ 1984 م)ص 188- 243، ج 5، 6 (8- 9/ 1984 م)ص 388- 406، ج 7، 8 (10- 11/ 1984 م)ص 521- 560، ج 9، 10 (12/ 1984 م- 1/ 1985 م)ص 691- 697.

كما طبع في:

بغداد: المجمع العلمي العراقي، ط 1، 1982 م، 592ص (تحقيق: محمد نايف الدليمي).

بيروت: عالم الكتب، ط 2، 1988 م، 671ص (تحقيق: محمد نايف الدليمي).

278- التبيين في تراجم الطبريين

ابن فهد القرشي،صاحب اتحاف الورى

ظ:

المنهل (جدة) مج 51: ع 475 (3- 4/ 1410 ه)ص 199.

279- تجارة المسلمين في المدينة

إبراهيم بيضون

المنطلق: ع 33 (11/ 1407 ه/ 6/ 1987 م)،ص 34- 49،

ع 34 (12/ 1407 ه/ 7/ 1987 م)،ص 66- 75.

280- تجاوز آل سعود به حرم امن الهى

(بالفارسية)

يوسف حكمت كامران

طهران: سازمان تبليغات اسلامي، ط 1، 1367 ش، 76ص.

281- تحديد موقع يلملم الميقات المكاني للحجاج القادمين من جنوب مكة

ص: 289

العرب (الرياض) س 18: ج 1- 2 (4- 5/ 1983 م)ص 57- 61.

282- تحذير أئمة الإسلام عن تغيير بناء البيت الحرام

ابن زياد عبد الرحمن اليمني

ظ:

المنهل (جدة) س 56: ع 475 (3- 4/ 1410 ه/ 10- 11/ 1989 م)ص 204.

283- تحذير الناسك من بدع المناسك

محمد فريد

الهدي النبوي (القاهرة) س 54: ع 12 (6/ 1989)ص 37- 40.

284- تحريض الأغبياء على الاستغاثة بالأنبياء والأولياء

عبد اللَّه بن ابراهيم مير غني

ظ:

التوسل بالنبي لابن مرزوق 250، تراثنا: ع 17 (9- 12/ 1409 ه)ص 156.

285- تحصيل المرام في أخبار البلد الحرام

أو

(تحصيل المرام في أخبار البيت الحرام والمشاعر العظام)

محمد بن أحمد الصباغ المكي

(1243- 1321 ه)

خ:

الدهلوي بخزانة الحرم المكي/ 11.

ظ:

المنهل (جدة) س 56: ع 475 (3- 4/ 1410 ه/ 10- 11/ 1989 م)ص 204.

286- تحصيل المرام في تاريخ البلد الحرام

[وهو مختصر كتابه العقد الثمين]

محمد بن أحمد تقي الدين الفاسي المغربي الأصل (775- 832 ه)

خ:

الدهلوي بالحرم المكي/ 10.

ظ:

المنهل (جدة) س 56: ع 475 (3- 4/ 1410 ه/ 10- 11/ 1989 م)ص 204.

287- تحفة الأكياس في تفسير قوله تعالى: (انّ أوّل بيت وضع للناس)

شهاب الدين أحمد بن سيد شمس الدين محمد الحسني الحموي

خ: الظاهرية، برقم 5713

288- التحفة الايقاضية في الرحلة الحجازية

سليمان فيضي

البصرة: 1331 ه/ 1912 م.

289- تحفة الحرمين

(مثنوي بالفارسية)

ص: 290

خ: مسجد اعظم بقم، برقم 2277، 255 ورقة، تاريخها 1285- 1287 ه.

ظ:

فهرست نسخه هاى خطى كتابخانه مسجد اعظم قم، 65.

290- تحفة الحرمين: سفرنامه نايب الصدر شيرازي در زيارت مكّه وسياحت ايران وهند

(بالفارسية)

زين العابدين محمد معصوم بن عليشاه نايب الصدر

طهران: انتشارات بابك، ط 1، 1362 ش، 312ص، 24 سم.

291- تحفة الحرمين وسعادة الدارين

(بالفارسية)

ميرزا آقا بن زين العابدين بن نائب الصدر بن محمد حسن بن معصوم القزويني الشيرازي (1270- 1344 ه)

292- تحفة الخيرة في أحكام الحجّ والعمرة

عبد اللَّه بن محمد حسن المامقاني النجفي

(1287- 1351 ه)

293- تحفة الدهر ونفحة الزهر في شعراء المدينة من أهل العصر

عمر بن عبد السلام الداغستاني

(1173- 1206 ه)

فرغ من تأليفه سنة 1201 ه.

يقوم بتحقيقه عاصم حمدان وبكري شيخ أمين.

294- تحفة الزائر

(المعرب، وهو غير تحفة الزائر المعرب الآتي)

عبد اللَّه بن محمد رضا آل شبر الحسيني الكاظمي (1242 ه).

ظ:

كشف الحجب والأستار 105، مرآة الكتب 2/ 135، الذريعة 3/ 438، معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيتصلوات اللَّه عليهم 9/ 395.

295- تحفة الزائر

عبد المطلب الحسيني

ظ:

الذريعة 3/ 439، معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيتصلوات اللَّه عليهم 9/ 395.

296- تحفة الزائر

(في الزيارات المروية بطرق معتبرة، بالفارسية)

محمد باقر المجلسي

طهران: 1261 ه، و 1274 ه، و 1313 ه.

طهران: 1314 ه، 587ص، حجرية (باهتمام: فضل اللَّه النوري)

تبريز: 1362 ه، و 1300 ه.

ص: 291

297- تحفة الزائرين (بالفارسية)

محمد حسينصديقي

مشهد: كاروانصداقت، ط 5، 1390 ه، 105ص.

298- تحفة الزائرين (بالفارسية)

ناصر الدين حنفي حسن بخاري

بخاري: ملا محمد مهدي مخدوم، 1328 ه، 144ص، حجرية، رحلي.

299- تحفة الزائرين

(مجموعة من الزيارات والمناجاة والقصايد في مديح ثامن الأئمة عليه السلام وأخته المدفونة بقم).

علي خانصفاء السلطنة النائني.

خ: الرضوية، تاريخها 1300 ه.

ظ:

الذريعة 3/ 439، معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيتصلوات اللَّه عليهم 9/ 396.

300- التحفة الزاكية في دخول المدينة المنوّرة وآداب الزيارة الشرعية

عبد الرحمن محمد المدني

القاهرة: مطبعة مدكور، 1953 م، 8، 30ص.

301- تحفة الزوّار

عبد الرزاق المؤمن

ظ: ايضاح المكنون 1/ 249، معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيتصلوات اللَّه عليهم 9/ 396.

302- تحفة الزوار الى قبر النبي المختار

أحمد بن حجر الهيثمي (ت 974 ه)

خ:

الحرم المكي برقم 133.

ظ:

ايضاح المكنون 1/ 249،

هدية العارفين 1/ 146،

معجم ما ألّف عن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله 354.

303- التحفة الشمّاء في تاريخ العين الزرقاء

أحمد ياسين الخياري

تعليق واخراج: عبيد اللَّه محمد أمين كردي

طبع عام 1412 ه.

304- تحفة القرى في فضل القاطنين بامّ القرى

علي بن أبي بكر ابن الجمال المكي

ظ:

المنهل (جدة) س 56: ع 475 (3- 4/ 1410 ه/ 10- 11/ 1989 م)ص 204.

305- تحفة الكرام بأخبار البلد الحرام (وهو مختصر شفاء الغرام)

محمد بن أحمد الفاسي (ت 832 ه)

ظ:

كشف الظنون 1/ 372،

معجم ما ألّف عن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله 18.

ص: 292

306- تحفة الكرام بأخبار عمارة السقف والباب من البيت الحرام

عليّ بن عبد القادر الطبري (ت 1070 ه)

ظ:

المنهل (جدة) س 56: ع 475 (3- 4/ 1410 ه/ 10- 11/ 1989 م)ص 204.

307- تحفة اللّطائف في فضائل ابن عباس ووج والطائف

عبد الحفيظ بن عثمان القاري (ت 1326 ه)

خ:

الحرم المكي برقم 15

308- التحفة اللطيفة في أنباء المسجد والكعبة الشريفة

جار اللَّه بن عبد العزيز ابن فهد (ت 954 ه)

ظ:

كشف الظنون 1/ 273،

معجم ما ألّف عن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله 18،

فهرس الفهارس والاثبات 912.

309- التحفة اللطيفة في تاريخ المدينة الشريفة

شمس الدين أبي الخير محمد بن عبد الرحمن السخاوي المصري الشافعي

(831- 902 ه)

خ:

طوپ قپو سراى M 725 في 412 ورقة، سنة 952 ه.

مكتبة المرعشي بقم مصوّرة عن نسخة طوپ قپو سراى برقم 198.

المدينة برقم 527، سنة 952 ه.

طبع في:

القاهرة: ط 1، 1957 م (بعناية: أسعد در ابزوني).

القاهرة: دار الثقافة للطباعة، 1399 ه (نشر: أحمد طرابزوني وبعناية محمد حامد الفقي)

ظ:

بروكلمان الذيل 2/ 33، فهرس المخطوطات المصورة في مكتبة المرعشي 1/ 181، معجم ما ألّف عن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله 94.

310- التحفة اللطيفة في عمارة المسجد النبوي وسور المدينة الشريفة

محمد بن خضر الرومي الحنفي (ت 948 ه)

مجلة المعهد المصري للدراسات الاسلامية (مدريد)، المجلد الأول، الجزء الثالث (1955 م)ص 149- 157 (بعناية: عبد العزيز الاهواني)

وأعاد نشرها: حمد الجاسر في (رسائل في تاريخ المدينةص 85- 292).

ص: 293

311- تحفة المجاور

(في فضل زيارة الأئمة الطاهرين عليهم السلام وبالأخص الامام الحسين عليه السلام، بالفارسية)

محمد كاظم بن محمد شفيع الهزار جريبي، ألّفه سنة 1222 ه.

خ:

المرعشي بقم، مجموعة 4370، من 58 پ- 75 ر.

ظ:

فهرس المرعشي 11/ 371- 372، معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت عليهم السلام 9/ 400.

312- تحفة المحب للمحبوب في تنزيه مسجد الرسول عن كل خصي ومجبوب

(رسالة كتبها الى السلطان سليمان)

محمد بن زين الدين الخطيب بالحرم النبوي

ظ:

كشف الظنون 373،

معجم ما ألّف عن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله 173.

313- تحفة المحبّين لزيارة مسجد سيد المرسلين

جعفر بن حسين هاشم الحسيني المدني

دمشق: مطبعة المقتبس، 14ص.

ظ:

معجم المطبوعات العربية لسركيس 777.

314- تحفة المحبّين والأصحاب في معرفة ما للمدنيّين من أنساب

عبد الرحمن بن عبد الكريم الأنصاري

(1124- 1197 ه)

تحقيق: محمد العروسي المطوي

طبع في عام 1390 ه.

315- تحفة المحبّين للمحبوب في تنزيه مسجد رسول اللَّه من كلّ خصيّ ومجبوب (رسالة)

جمال الدين القطان (من علماء القرن الثاني عشر)

ظ:

العرب. س 31، ج 1، 2 (7- 8/ 1416 ه/ 12/ 95- 1/ 1996 م)ص 76.

316- التحفة المختارة في ثواب الزيارة

محمد بن أحمد الموسوم

(1237- 1300 ه)

ظ:

معجم أعلام الجزائر 323،

معجم المؤلّفين 9/ 23.

317- التحفة المختارة في الرد على منكر الزيارة

تاج الدين عمر بن علي اللخمي المالكي الفاكهاني (ت 831 ه)

ظ:

الغدير 5/ 86.

ص: 294

318- تحفة الناسك في بيان المناسك

أحمد الاسلامبولي

علّق عليه: عبد اللطيفصالح فرفور

دمشق: مكتبة دار الفتح، 1970 م، 191ص.

319- تحفة النسّاك

(ارجوزة في مناسك الحج)

طاهر بن عبد علي بن عبد الرسول الحجّامي المالكي (ت 1279 ه)

ظ: الذريعة 3/ 477.

320- التحفة اليمنية في الأخبار الحجازية

محمد اليمني بن علي بن عرعار محار العنابي الجزائري

القاهرة: 1311 ه، 39ص.

321- تحقيق حول الجدال المحظور في الحج

عباس علي عميد الزنجاني

(طهران): مؤسسة الحج، ط 1، 1364 ش، 40ص، 21 سم.

322- تحقيق حول شعب أبي طالب

علي قاضي عسكر

ميقات الحج ع 3 (1416 ه)ص 168- 199.

323- تحقيق النصرة بتلخيص معالم دار الهجرة

(جمعه من كتابي: الدرّة الثمينة في تاريخ المدينة، لمحبّ الدين ابن النجار، والذيل الذي كتبه الشيخ جمال الدين محمد بن أحمد المطري)

زين العابدين أبي بكر بن الحسين بن عمر العثماني المراغي (ت 816 ه)

خ:

طوپ قبو سراى برقم 894 K 1066

المرعشي بقم برقم 4837 في 94 ورقة.

مغنيسيا 1336/ 1، كتب في حياة المؤلف سنة 777 ه

دار الكتب، تاريخ 59.

دار الكتب المصرية برقم 59 تاريخ، واخرى برقم 1641 تاريخ.

طبع في:

القاهرة: 1955 م.

المدينة المنورة: المكتبة العلمية، ط 2، 1401 ه (تحقيق محمد عبد الجواد الأصمعي)

ظ:

صلة الخلف بموصول السلف 179،

كشف الظنون 1/ 378،

فهرس المرعشي 13/ 33- 37،

الغدير 5/ 115،

معجم ما ألّف عن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله 95،

معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت 1/ 360.

ص: 295

324- التحقيق والايضاح لكثير من مسائل الحج والعمرة والزيارة على ضوء الكتاب والسنّة

عبد العزيز بن عبد اللَّه بن باز

المدينة المنورة، ادارة البحوث العلمية والافتاء، ط 20، 1397 ه، 94ص، 21 سم.

325- تحقيق وتتبّع حجّ از نظر قرآن

(بالفارسية)

ناصر كمره اى

جامعة طهران: كلية الالهيات، 1348 ش، 108ص (رسالة جامعية)

326- تحقيقي درباره أخبار حجة الوداع

(بالفارسية)

ابوالقاسم اجتهادي

مقالات وبررسيها (طهران) ع 25، 26 (1355 ش)ص 123- 138.

327- تحليل زماني ومكاني لزيارة الحجاج المسلمين الى المدينة المنورة

عيسى موسى الشاعر

المجلة العربية للعلوم الانسانية (الكويت) مج 2: ع 8 (خريف 1982 م)ص 150.

328- تحليلي از مناسك حجّ

(بالفارسية)

علي شريعتي

طهران: انتشارات الهام، ط 5، 1373 ش، 304ص، 24 سم.

329- تحويل القبلة من بيت المقدس الى الكعبة

ابراهيم العدوي

منبر الاسلام س 49: ع 8 (2/ 1991 م) شعبان 1411 هص 67- 70.

330- تحية الزائر

اسماعيل بن علي نقي التبريزي

(1295 ه)

ظ:

الذريعة 3/ 488، معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيتصلوات اللَّه عليهم 9/ 402.

331- تحية الزائر

(بالفارسية)

حسين النوري

طهران: 1320 ه، 355ص، حجرية.

تبريز: 1322 ه، حجرية.

طهران: 1327 ه، 431ص، 21 سم، حجرية.

332- تحية الزائر

عبد اللَّه بن محمد رضا آل شبر الحسيني الكاظمي (ت 1242 ه)

ظ:

الذريعة 3/ 489، 24/ 94، معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيتصلوات اللَّه عليهم 9/ 402.

ص: 296

333- تدويل الحرمين بدعة لا يقرها الإسلام

جاد الحق علي جاد الحق

رسالة الإسلام (القاهرة) ع 27 (5/ 1988 م)ص 22- 23.

334- تذكار الحجاز

عبد العزيزصبري

القاهرة: المطبعة السلفية، 1342 ه، 228ص.

335- تذكرات وتوصيه هاى ضرورى به زائران بيت اللَّه الحرام (بالفارسية)

طهران: منظمة الحج والأوقاف والامور الخيرية، ط 1، 1365 ش، 48ص، 17 سم.

336- تذكرة الطريق في مصائب حجاج بيت العتيق

خ: برلين برقم 454.

337- تذييل شفاء الغرام

الصديقي

مخطوط

ظ:

المنهل (جدة) مج 51: ع 475 (3- 4/ 1410 ه)ص 199.

338- التراتيب الإدارية والعمالات والصناعات والمتاجر والحالة العلميّة التي كانت على عهد تأسيس المدينة الإسلامية في المدينة المنوّرة العلية

عبد الحي بن عبد الكبير بن محمد الإدريسي الكتاني (ت بعد سنة 1378 ه)

الرباط: 1346 ه.

بيروت: دار الكتاب العربي (أفسيت)

بيروت: دار الكتاب الدولي، 1984 م، 2 مج، 25 سم.

مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق مج 9:

ص 126 (مسعود الكواكبي) ومج 11:

ص 445- 447 (عبد القادر المغربي)

339- تراجم أعيان الحجاز واليمن في القرن الحادي عشر

محمد أمين بن فضل اللَّه بن محبّ اللَّه بن محمد (ت 1111 ه)

خ: جامعة برنستون، برقم 710.

340- تراجم أعيان المدينة المنورة في القرن الثاني عشر الهجري

أبو محمد المقدسي

حققه: محمد التونجي.

د. م: دار الشروق، 1404 ه.

341- تراجم الفضلاء من المدينة

محمد بن عبد اللَّه المعروف بمحمد كبريت (1070 ه)

ظ:

العرب. س 31: ج 1، 2 (7- 8/ 1416 ه/ 12/ 95- 1/ 1996 م)ص 78.

ص: 297

342- تراجم مشايخ الكتاتيب في بلد الحبيب

دخيل اللَّه عبد اللَّه حميد الحيدري

ظ:

موسوعة الادباء والكتّاب السعوديين 1/ 288.

343- التراويح: أكثر من ألف عام في مسجد النبي عليه الصلاة والسلام

عطية محمد سالم

المدينة المنورة: مكتبة دار التراث، 1987 م، 196ص.

344- ترجمة الأعلام في أخبار بلد اللَّه الحرام

محمود عبد الباقي الرومي

(933- 1008 ه)

ظ:

المنهل (جدة) س 56: ع 475 (3- 4/ 1410 ه/ 10- 11/ 1989 م)ص 204.

345- ترجمه باب حجّ از كتاب «المختصر النافع» وتطبيق آن با حجّ در فقه عامّه (بالفارسية)

حسين كفّاش

جامعة طهران: كلية الالهيات، 1356 ش، د+ 130ص (رسالةجامعية)

346- ترجمة الحج (بالفارسية)

محسن الفيض الكاشاني (ت 1091 ه)

خ: سپهسالار، برقم 6398.

347- ترجمة كتاب «اخبار مكه شرّفها اللَّه تعالى وما جاء فيها من الآثار»

(بالفارسية)

محمد بن عبد اللَّه بن أحمد الأزرقي

ترجمة: محمود مهدوي الدامغاني

طهران: بنياد، 623ص، 2 ج في 1 مج.

348- ترجمة منتخب كامل الزيارات

ابن قولويه

طهران: ميقات، 1365 ش/ 1986 م، 378ص، 24 سم.

349- ترجمه منتخب مناسك حج

صاحب الجواهر

خ: مسجد اعظم بقم، برقم 2927، تاريخها 1268 ه.

ظ:

فهرست نسخه هاى خطى كتابخانه مسجد اعظم قم،ص 385.

350- ترجمة وشرح زيارت شريفه جامعه كبيره (بالفارسية)

محمد محدّث خراساني

مشهد: 1348 ش، 180ص.

351- التردد على الآثار النبوية والمشاهد الدينية والتبرك بزيارتها

محمد علوي المالكي

الاسلام وطن (القاهرة) س 4: ع 38 (5/ 1990)ص 14- 15.

ص: 298

352- ترغيب أهل المودّة والوفاء في سكن دار الحبيب المصطفى

اسماعيل عبد اللَّه النقشبندي

خ:

عارف حكمت بالمدينة المنورة برقم 67/ 900.

احدى المكتبات في المدينة المنورة تاريخها 1269 ه.

353- ترغيب في الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام

عبد النبي غالب أحمد عيسى

الخرطوم: دار الفكر، ط 3، 1987، 56ص.

354- ترك الصلاة على محمد وآله في الركوع والسجود

أحمد بنصالح بن طوق

ظ:

الموسم مج 3: ع 9، 10 (1411 ه)،ص 429.

355- تسهيل أمور الزوّار

(وهو في زيارات قبور الأئمة الأطهار عليهم السلام الواقعة في العتبات)

محمود بن علي بن محمد الحسيني التبريزي (ت 1338 ه)

ظ:

الذريعة 4/ 181، معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت 9/ 409.

356- التشويق الى البيت العتيق

جمال الدين محمد بن أحمد الطبري المكي الشافعي

ظ:

المنهل (جدة) س 56: ع 475 (3- 4/ 1410 ه/ 10- 11/ 1989 م)ص 204.

357- تشويق الأنام الى الحج الى البيت الحرام

مرعي بن يوسف الكرمي المقدسي

ظ:

المنهل (جدة) س 56: ع 475 (3- 4/ 1410 ه/ 10- 11/ 1989 م)ص 204.

358- تشويق الحرمين

فضل اللَّه بن القاضي نصير الكسائي

ظ:

المنهل (جدة) س 56: ع 475 (3- 4/ 1410 ه/ 10- 11/ 1989 م)ص 204.

359- تصاوير الحرمين المكي والنبوي في الفن الإسلامي

ربيع حامد خليفة

الأزهر س 55: ج 4 (4/ 1403 ه 1/ 1983 م)ص 497- 503.

360- التصوير القرآني لفريضة الحج

علي مصطفىصبيح

الفيصل س 7: ع 78 (9- 1/ 1983 م)ص 35- 37.

ص: 299

361- التضحية أنواعها ومجالاتها

نبيه عبد ربه

منار الإسلام (أبو ظبي) س 14: ع 2ص 95- 101.

362- تطوّر الكتابات والنقوش في الحجاز منذ فجر الإسلام حتى منتصف القرن السابع الهجري

محمد فهد عبد اللَّه العفر

مكة المكرمة: جامعة امّ القرى، كلية الشريعة، 1400 ه، 476ص (رسالة جامعية)

363- تطوير العمليات الادارية في الأجهزة الأمنية لمواجهة مشكلات الحجاج: دراسة تطبيقية على إمارة مكة المكرمة

عويض سويلم القثامي

الرياض: المعهد العالي للعلوم الأمنية، 1415 ه (رسالة ماجستير).

364- تعريف بكتاب «أخبار مكة» للفاكهي

محمد علي مهدوي راد

ميقات الحج ع 2 (1415 ه)ص 293- 317.

365- التعريف بما أنست الهجرة من معالم دار الهجرة

(في تاريخ المدينة المنورة)

جمال الدين أبي عبد اللَّه محمد بن أبي جعفر أحمد بن خلف الخزرجي السعدي العبادي المدني المعروف:

بالمطري (ت 741 ه)

خ:

مكتبة لاله لي اسماعيل 62.

دار الكتب، تاريخ 56.

جامعة كمبردج برقم 790 أدد مشترك، 66 ورقة.

عارف حكمت برقم 69/ 900.

دار الكتب المصرية برقم 638 تاريخ تيمور.

جامعة الملك عبد العزيز، كلية الآداب، 1405 ه.

(حقّقه: عبد اللَّه بن سليمان بن محمد اللهيب) (رسالة ماجستير)

ظ:

ايضاح المكنون 1/ 296،

معجم ما ألّف عن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله 95،

المورد مج 3: ع 4 (1974 م)ص 269،

معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت 1/ 398.

366- تعريف الحرمين

(بالفارسية)

محمود بن محمد

ظ:

فهرست مشترك باكستان 10/ 15.

ص: 300

367- تعلم كيف تحج وتعتمر على المذاهب الأربعة

نور الدين عتر

دمشق: الشركة المتحدة للتوزيع، ط 1، 1984 م، 159ص.

368- التعليم الأهلي للبنين في مكّة المكرّمة: تنظيمه والاشراف عليه

فيصل عبد اللَّه المقادي

مكة المكرمة: نادي مكة الثقافي، 1404- 1405 ه، 298ص، 24 سم.

369- التعليم في المدينة المنورة في عهد النبيصلى الله عليه و آله و سلم.

سندلافي الشاماني الحربي

المدينة المنورة: جامعة الملك عبد العزيز، كلية التربية، 1411 ه (رسالة ماجستير)

370- التعليم في المدينة المنورة من العام الهجري الأول الى عام 1412 ه.

(دراسة تاريخية وصفية تحليلية)

ناجي محمد حسن عبد القادر الأنصاري

المدينة المنوّرة: المؤلف، 1414 ه، 796ص، 21 سم.

371- التعليم في مكة في مطلع هذا القرن

العرب س 13:ص 531.

372- التعليم في مكّة والمدينة آخر العهد العثماني

محمد عبد الرحمان الشامخ

الرياض: دار العلوم، ط 2، 1402 ه، 183ص، 24 سم.

373- تعليمات الحج للعام الحالي 1411 ه

الرابطة (مكة المكرمة) س 29: ع 315 (5/ 1991)،ص 17- 27.

374- تعيين سمت قبله مدينه توسط پيامبر اسلامصلى الله عليه و آله و سلم

(بالفارسية)

حسن حسن زاده آملى

ميقات حج س 1: ع 2 (زمستان 1371 ش)،ص 43- 52.

375- تفضيل مكة على المدينة

ابن القيم الجوزية (691- 751 ه)

ظ:

المنهل (جدة) س 56: ع 475 (3- 4/ 1410 ه/ 10- 11/ 1989 م)ص 204.

376- تقريب بين شيعه وسنت در مناسك حج

(بالفارسية)

عبد اللَّه بى آزار شيرازى

ميقات حج س 1: ع 1 (پاييز 1371 ش)ص 116- 109.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.