ميقات الحج المجلد2

اشارة

عنوان و نام پديدآور : ميقات الحج[پيايند: مجله]

مشخصات نشر : تهران: منظمة الحج و الزيارة، 1417 ق. - = 1375 -

فاصله انتشار : شش ماه يكبار

يادداشت : عربي

فهرست نويسي براساس سال3 شماره5 سال1417ق.

يادداشت : اين نشريه در بيروت نيز منتشر مي شود

يادداشت : المدير المسؤول: محمد محمدي ري شهري

رئيس التحرير: علي قاضي عسكر

يادداشت : كتابنامه

ترجمه عنوان : Mighat al - haj

موضوع : حج -- نشريات ادواري

شناسه افزوده : محمدي ري شهري، محمد، 1325 - ، مدير مسئول

Muhammadi Reyshahri, Muhammad

قاضي عسكر، سيدعلي، 1325 - ، سردبير

شناسه افزوده : سازمان حج و زيارت

رده بندي كنگره : BP188/8

رده بندي د... : 297/35705

ص: 1

الحجُّ في أحاديث الإمام الخميني (1)

العدد الثانى

الحجُّ في أحاديث الإمام الخميني (1).

... والآن، ونحن على أعتاب فريضة الحجِّ المباركة، من اللازم أن يكون لنا توجه للأبعاد العرفانية والروحية والاجتماعية والسياسية والثقافية لهذه الفريضة، عسى أن يكون ذلك باعثاً على اتخاذ خطوات فعّالة أخرى ..

كثير من الاخوة الملتزمين تحدّثوا عن هذه الموضوعات، لهذا فإنّي أكتفي بإشارة عابرة إلى بعض أبعاد (هذه الفريضة) لعلّها تكون تذكرة.

لمّا كانت هذه المناسك العجيبة من أول الإحرام والتلبية حتى آخر المناسك تنطوي على اشارات عرفانية وروحية لا يتيسر الحديث عنها بتفصيل في هذا المقال، أكتفي ببعض إشارات التلبيات:

التلبيات المكرّرة تكون حقيقة من أولئك الذين سمعوا نداءَ اللَّه، فأجابوا دعوته- سبحانه- باسمه الجامع.

المسألة مسألة الحضور في المحضر (الإلهي)، ومشاهدة جمال المحبوب. وكأن الملبي قد ذابت ذاته في هذا المحضر فيكرِّر تلبية (لبيك اللهم لبيك)، ويتبع ذلك سلب الشريك (لبيك لا شريك لك لبيك) .. سلب الشريك بالمعنى المطلق، وأهل اللَّه يعلمون أن هذا السلب للشريك لايقتصر على الإلوهية، وإن كان سلب الشريك في (الإلوهية) يشمل- في نظر أهل المعرفة- جميع المراتب حتى فناء العالم. وتحوي (التلبية) جميع الفقرات الاحتياطية والاستحبابية، ففيها تخصيص الحمد باللَّه والنعمة به وتنفي عنه (مرّة أخرى) الشريك (إنّ الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك لبيك). وهذه عند أهل المعرفة غاية التوحيد، وتعني أنّ كل حمد ونعمة في عالم الوجود إنما هو حمد اللَّه ونعمة اللَّه سبحانه بدون شريك.

ويجري هذا الموضوع والهدف الأعلى في كلّ موقف ومشعر وعمل وحركة وسكون، وخلافه الشرك بالمعنى الأعمّ.

***

الحجُّ في أحاديث الامام الخامنئي «حفظه اللَّه»

ص: 2

الحجُّ في أحاديث الإمام الخامنئي «حفظه اللَّه»

«وَأذِّنْ فِي النَّاسِ بِالحَجِّ يَأتُوكَ رِجَالًا وَعلى كُلِّ ضَامِرٍ يَأتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَميقٍ» (1).

أقبل شهر ذي الحجة الحرام بكلِّ ما يحمله من عطاء أبدي للأمة الإسلاميّة.

حمداً للَّه- سبحانه- على ما أنعم به من هدية خالدة وينبوع دفّاق، يستطيع المسلمون أن يتزوّدوا منهما كلّ سنة بقدر همتهم وبقدر معرفتهم.

المصالح والمنافع التي أودعها العِلم الإلهي والحكمة الإلهية في فريضة الحجِّ تبلغ من السعة والتنوّع بحيث لا يُرى لها شبيه في فريضة إسلاميّة أخرى. الذكر والحضور المعنوي، ووعي الإنسان المسلم لنفسه في خلوته مع اللَّه، وغسل القلب منصدإ الذنب والغفلة، وإحساس الحضور في المجموع، واستشعار وحدة كلّ مسلم مع جميع الأمّة المسلمة، وتحسّس القدرة المنبثقة عن عظمة جماعة المسلمين، وسعي كلّ فرد لأن يَبْرأ من أسقامه وأمراضه المعنوية، أي الذنوب، ثم البحث والسعي لمعرفة ما يعاني منه جسدُ الأمّة المسلمة من آلام وجراحات عميقة، ومعرفة دوائها وعلاجها، ومواساة الشعوب المسلمة التي تشكل أعضاء هذا الجسد العظيم ... كلُّ ذلك قد أودع في الحجّ .. في تركيب أعماله ومناسكه المختلفة.

القرآن يطلق على أعمال الحجّ اسم «الشعائر». وهذا يعني أنها لا تنحصر في أعمال فردية وتكاليف شخصية، بل إنها معالم تثير شعور الإنسان وتفتح معرفته على ما ترمز له تلك المعالم وتدل عليه. ووراء هذه المعالم يقف التوحيد، أي رفض كلّ القوى التي تهيمن بشكل من الأشكال على جسم الإنسان وروحه، وترسيخ الحاكمية الإلهية المطلقة على كلّ الوجود، وبعبارة واضحة ومألوفة: حاكمية النظام الإسلاميِّ والقوانين الإسلاميّة على الحياة الفردية والاجتماعية للمسلمين.


1- 1 الحجّ: 27.

ص: 3

الهوامش:

البعد العرفاني والتربوي والعبادي للحج

ص: 4

البعد العرفاني والتربوي والعبادي للحج

محمد حسين فضل اللَّه

أعتقد أنّ أي بُعد من هذه الأبعاد يحتاج إلى حديث مستقل، ولذلك: سأحاول إثارة بعض الأفكار في هذا الموضوع، من خلال عدة نقاط:

النظرة التجزيئية ... المشكلة:

النقطة الأولى: إن مشكلة الإسلام، في تجارب المفكّرين المسلمين، هي النظرة التجزيئية التي حاولت أن تنظر إلى كل جزءٍ في الإسلام بعيداً عن الأجزاء الأخرى، فنقرأ عن البعد الروحي، وعن البعد الاجتماعي، وعن البعد السياسي، وعن البعد الاقتصادي، كما لو كان كل واحدٍ منها موضوعاً مستقلًا .. في طبيعته، مما أدى إلى بعض الانعكاسات السلبية على واقع التصوّر الإسلامي، والممارسة العملية للإنسان المسلم في التزامه ببعض الجوانب من دون بعض آخر.

وإننا نلاحظ في هذا المجال، أن هذه النظرة تبعدنا عن الفهم الشمولي للإسلام؛ لأنه يختزن في كل جانب من جوانبه، الجوانب الأخرى .. فنحن مثلًا عندما ندرس الناحية الاقتصادية في الإسلام، فإننا لا نجد فيها جوّاً مادياً يتحدّث عن العلاقات الاقتصادية، وطريقة تحركها في علاقات الانتاج والتوزيع، وما إلى ذلك فقط، بل نجد- إلى جانب ذلك- عمقاً روحياً ومنهجاً أخلاقياً، وحركةً اجتماعيةً وسياسةً في نطاق حركة الفرد والمجتمع، يوحي لنا بأن هذه الأبعاد كلها تتكامل لتكوّن البعد الاقتصادي في المنهج، وفي النظرية .. وفي ضوء ذلك فإننا لا نستطيع أن نفصل الجانب الذاتي عن الجانب الموضوعي في المسألة الاقتصادية.

وإذا أردنا أن ندرس البعد الأخلاقي في الإسلام، فإنك لن تستطيع دراسته في نطاق النظرية الأخلاقية من الجانب الفلسفي، بل لابد لك من استحضار المجالات الفردية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية كافة، حتى نقف

ص: 5

على الجانب العبادي، لتجد الخطوط الأخلاقية تمتد إليها من جهة، وتنطلق منها من جهةٍ أخرى.

وهكذا لن تجد الجانب الروحي مفصولًا عن الجانب المادي، بل تجد هنا لوناً من التزاوج الواقعي والعملي، والتفاعل النظري بينهما على مستوى التصور في تركيز النظرية الإسلامية في تفسير الكون والحياة والإنسان.

إننا ندعو إلى دراسة هذه المسألة بعمقٍ؛ لنصل إلى النتيجة الحاسمة التي نخرج منها بالفكرة القائلة: إن الإسلام كيان فكري وتشريعي عملي تتغذى جوانبه تماماً كما هو الجسد الذي يتكامل ويتغذى من كل أجهزته، فلا يستطيع أيّ جهازٍ، أن يعطي الحياة الإنسانية شيئاً إلّا من خلال الطاقة التي تمدها بقية الأجهزة بالحيويّة، فيما تحمل من عناصر القوّة والحياة.

وعلى هذا الأساس، نستطيع أن ندخل إلى الواقع الإسلامي للإنسان المسلم من خلال الحالة التكاملية، لنوجّه السلوك العملي إلى مواجهة المسألة من هذا الموقع، لنتخلص من كثيرٍ من الخطط التي أثارها الكفر في وعي الأمة، وحركها الاستعمار في حياتها عندما فصل الإسلام عن الواقع، من خلال الفصل بين أجزاء الواقع ومفرداته، فجعل القضية المطروحة، هي أن هناك ديناً ودنيا، وأن للدين دائرته، وللدنيا دائرتها، فآفاق الدين هي آفاق الغيب والروح والمثال، التي تنطلق معها العبادة في أجواء الصلاة والصوم والحج والدعاء والابتهال والتصوف وغيبوبة الذات عن الواقع. أمّا آفاق الدنيا فهي آفاق الحياة العامة والخاصة في أجوائها المادية، في اجتماعياتها وذاتياتها، وسياستها واقتصادها، وحربها وسلمها، وشهواتها وملذاتها. فللدين ربّه، وللدنيا ربّها .. واللَّه هو ربّ الدين، وقيصر هو ربّ الدنيا، فليس للَّه أن يتدخل فيصلاحيات القيصر وشؤونه وليس للقيصر أن يدخل إلى ملكوت اللَّه وساحته .. وهكذا دخل الإسلام هذه الدائرة .. وبقيت الدوائر الأخرى تنتظر الفكر الآخر، والقوّة الأخرى التي لا مكان فيها للإسلام.

وقد نلاحظ أن عصور التخلف التقليدية استطاعت أن تهيّي ء الأرضية الصالحة لمثل هذا الاتجاه في الذهنية الإسلامية، وذلك فيما لاحظناه من الأبحاث العبادية التي عاشتها التجارب الإسلامية الفكرية والفقهية التي حاولت أن تعتبر العبادات كياناً مستقلًا مفصولًا عن الجوانب الأخرى .. فنشأت عندنا شخصية الإنسان المسلم العابد الذي يستغرق في عبادته فينسى كل ماحوله، ومَن حوله ..

حتى «العرفان» الذي انطلق في الدائرة الروحية الإسلامية، كفكر وممارسةٍ من أجل أن يكون أسلوباً متقدماً فيصنع الشخصية الإسلامية المتحررة من كل القيود، فتنتقل حركتها في سبيل الأهداف الكبيرة .. ليرتبط الإنسان بالحياة من خلال الحرية الداخلية المنفتحة على اللَّه، المتحركة في الحياة من خلاله؛ ليكون إنسان الحياة، الحرّ في فكره وفي إرادته .. وفي حركة الحياة من حوله. حتى العرفان هذا، دخلت فيه الفلسفة اليونانية والهندية وغيرهما، فجعلت منه- في وعي الكثيرين في الساحة الإسلامية- فكراً منفصلًا عن الحياة بحيث يستغرق فيه الإنسان- في الأجواء الإلهية التي يعيش فيها- الاستغراق في هواجسه وتأملاته وابتهالاته مع اللَّه، من دون أن ينفتح من خلال ذلك على الحياة.

ص: 6

وقد رأينا- في تاريخنا وفي حاضرنا- الكثيرين ممن أخذوا بالعرفان كفلسفةٍ، وكسلوكٍ، وكاتجاهٍ، قد ابتعدوا عن الحياة، وعن قضاياها وهمومها ومشاكلها وحركتها في ساحة الصراع، واستغرقوا في الفكرة الانعزالية التي تعتبر ذلك كله شأناً مادياً لا يتناسب مع الانطلاقة الروحية المجرّدة التي يعيشها العارف؛ لأنها تشغله عن اللَّه ..

وقد لاحظنا في بعض هؤلاء، أنهم لا يدققون في قضايا الشرع فيما يمارسونه من أساليب الرياضة الروحية وفيما يفعلون، وفيما يتركون، ممّا قد يعيش الإنسان فيه الابتعاد عن التكليف الشرعي فيما يحلّ اللَّه وفيما يحرّمه، وربما وصل ذلك بالبعض الى اعتبار الشرع حالة في الظاهر لا ترفع إلى مستوى العرفان، الذي هو عمق الوعي الروحي في الباطن.

ولكننا نعرف أن «العرفان الإسلامي» قد انطلق من خلال مفاهيم القرآن، التي تلحظ في الإنسان ارتباطه باللَّه، الذي يطلّ به على مسؤوليته في الحياة عن الحياة كلّها، وعن الإنسان كله، في المنهج الفكري الذي أقامه الإسلام للحياة، وفي الخط التشريعي الذي أراد للناس أن يسيروا عليه، وفي الأجواء العامة التي وجّههم إلى أن يعيشوا في داخلها وفي ساحاتها .. وبذلك كان يمثل الإعداد الفكري والعملي للدخول إلى ساحة الإسلام في الحياة من خلال اللَّه.

فليست هناك خلفيّة فلسفيّة يمكن للعرفان أن ينتمي اليها، أو ينطلق منها بعيداً عن المفاهيم القرآنية الإسلامية، التي أكدت أن يكون الإنسان المسلم إنساناً يتحرك في الحياة؛ ليكون خليفة اللَّه في الأرض، ليبني الكون في دائرة قدرته، على النهج الذي يحب اللَّه له أن يكون فيه، بعيداً عن كل ما يثقله؛ ليكون الإنسان الحرّ من الداخل، من أجل أن يؤكد حريته في الخارج.

- محل الصورة-

الأبعاد العبادية في انفتاحها على الأبعاد السياسية:

ص: 7

النقطة الثانية: إننا نريد- من خلال شمولية النظرة الإسلامية إلى الحياة- أن نقترب من الأبعاد العبادية التي تنفتح على الأبعاد السياسية والاجتماعية في الحج، كما نفهم ذلك من خلال كل عباداتنا؛ لنصل إلى تأكيد فكرتنا في تكامل الإسلام في كل مفرداته .. فنجد أن العبادة تلتقي بالسياسة في مفهومها الواسع، كما تطلّ على ساحة الحياة الاجتماعية .. وبذلك تدخل قلب الحياة، بدلًا من أن تنفصل عنه.

فإذا دققنا في الصلاة، في كلماتها وفي أفعالها، وفي إيحاءاتها .. وإذا درسنا الصوم فيما يثيره من أجواء نفسية، وفيما يؤكده من قوّةٍ حركية، ولاحظنا ما في الحج من معطيات ومؤثراتٍ وأجواء ونتائج .. فإننا نجد أنها تلتقي في ارتفاعها بالإنسان إلىصفاء إنسانيته، وفي توجيهه إلى ما يحقق توازن حركته الإنسانية في الحياة .. لأن سرّ المشكلة الإنسانية هو هذا الاستغراق فيما حوله من الحياة الدنيا، بعيداً عن كل هدف كبير ينطلق من مواقع القيم الخيّرة في حركة الرسالات .. إنها مسألة القضايا الكبيرة التي تأكلها أو تستنزف طاقاتها القضايا الصغيرة، التي تطوف بالإنسان في دائرة شهواته وملذاته وأطماعه الذاتية.

وكانت الفكرة الإسلامية تتحرك على أساس أن يجعل الإنسان دنياه آخرةً، وأن تكون آخرته منطلقةً من حركة مسؤوليته في بناء الدنيا على النهج الذي يحبه اللَّه .. فلا تمثل الآخرة- في هذه النظرة- منطقة مستقلة عن الدنيا، بل الآخرة تمثل أهدف الدنيا الكبيرة التي تخضع لها حركتها الصاعدة إلى اللَّه ..

فإذا أردت أن تفكر، كمسلم، يريد أن يمارس دوره في الدنيا .. فكِّر ما هو هدفك منها .. لا مانع من أن تنطلق معها، وتتحرك في داخلها .. وتحتوي مواقعها ومصادرها ومواردها، لكن .. فكّر لنفسك بالسؤال التالي .. ما هو هدفك منها؟

إن الآية الكريمة تقول لك:

«وابتغ فيما أتاك اللَّهُ الدارَ الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسِن كما أحسن اللَّه اليك ولا تبغِ الفساد في الأرض انّ اللَّه لا يُحبّ المفسدين» (1) ..

اجعل الدار الآخرة هدفاً لكل ما أعطاك اللَّه من علم أو من مال أو من قوّةٍ .. ولكل ما أعطاك من الحياة ..

وعش حياتك من خلال حاجاتك الجسديّة .. وأحسن إلى الآخرين، فقد أعطاك اللَّه النموذج الأكمل للإحسان فيما أحسن اللَّه إليك .. لتعرف كيف تحسن إلى الآخرين .. ولا تبغ الفساد في الأرض في كل المفردات التي تملكها مما تستطيع أن تستخدمه في طريق الفساد، كما تستطيع أن تستخدمه في طريق الصلاح والإصلاح .. لأن اللَّه لا يحب المفسدين.

وهكذا نجد أن العبادة يمكن أن تكون نافذةً واسعةً تطلّ على كل ما في الدنيا من قضايا ومشاكل للحياة والإنسان، من حيث هي نافذة تتحرك في آفاق الغيب، مع اللَّه، وفي نتائج المسؤولية في الدار الآخرة.

في إيحاءات الحجّ المختلفة:

النقطة الثالثة: إننا نستطيع- من خلال ما أثرناه في النقطة الثانية- أن نقترب من هذه الأجواء، لنفكر فيما


1- 1 القصص: 77.

ص: 8

حشده التشريع الإسلامي في تشريعه، في الحج من عدة جوانب، تتفرّع في شكلها وفي طبيعتها، وفي ايحاءاتها، فإذا وقفنا في أجواء الإحرام، فإننا نشعر بأن هناك نوعاً من أنواع التدريب على أن يتحرر الإنسان من كل ما يعيق حركته من الارتباط بكل الأشياء التي يمارسها في عاداته، أو في أجواء الترف التي يحبها، أو في أجواء الحياة الاجتماعية التي يعيش في داخلها.

ثم بعد ذلك- نجد كلمات التلبية- فيما توحي به في معانٍ واسعةٍ- تعني التزاماً أمام اللَّه سبحانه، بطريقةٍ مؤكّدةٍ مضافةٍ بالاستجابة لكل نداءات اللَّه .. ليس- فقط- ما يقوله بعض المفسرين والمحلّلين، أنّ كلمة «لبيك» يراد بها الاستجابة لنداء إبراهيم عليه السلام فيما أمره اللَّه به، من أن يؤذن للناس بالحج ليدعوهم إلى الإقبال عليه، فيما تحدث به القرآن الكريم في قوله تعالى:

«وأذّن في الناس بالحجّ يأتوك رجالًا وعلى كلّ ضامرٍ يأتين من كلّ فجّ عميق ليشهدوا منافع لهم ...» (1).

فنحن نرى أن المسألة أكثر شمولًا في ذلك؛ لتكون استجابةً لكل نداءات اللَّه في كتابه وفي رسالته فيما وجهه للناس، بعنوان «يا أيها الناس» وفيما وجهه للمؤمنين من خلال الإيمان بعنوان «يا أيها الذين آمنوا ..».

إن كلمة «لبيك» تعني .. إننا يا رب نلتزم في موقفنا هذا، بكل نداءاتك بالإسلام كله، في عباداته، وفي أخلاقه، وفي جهاده، وفي سياسته واقتصاده .. وفي مواجهة كل التحديات التي يواجهها الإنسان من الشيطان الداخلي في عمق نفسه، أو من الشيطان الخارجي في عمق واقعه وفيما يحيط بحياته ..

إنها الحركة الصارخة، في النداء الذي تنطلق به كل حناجر الحجاج؛ لتؤكد موقفهم الذي يريد أن يلتزم بالإسلام من جديد، في مسيرتهم إلى مركز الدعوة الإسلامية الأولى في مكّة ..؛ لتكون مسيرة الحجاج من سائر أقطار العالم هي مسيرة الإسلام التي تقول:- من خلال تلك الكلمات الخاضعة الهادرة- يا رب .. إذا كان الناس قد تركوا الإسلام، فلم يؤمنوا به، ولم يرتبطوا به .. وإذا كان المسلمون قد انحرفوا عن خطه، وتركوا الكثير من تعاليمه، وانتموا إلى الاتجاهات الأخرى التي تختلف عن خطه المستقيم .. إذا كان الواقع هو ذلك .. فها نحن قادمون إلى بيتك المحرّم ..؛ لنقول لك، من كل قلوبنا، ومن كل عقولنا، ومن كل مواقعنا ومواقفنا وتطلعاتنا .. «لبيك اللهم لبيك». فقد جعلت الإسلام لنا- بكل عمقه وامتداده- .. رسالة الحياة، ونحن نريد أن ننطلق إلى الحياة، من خلاله ..

ومن هنا قد نفهم كيف أن التشريع لم يقتصر على كلمة «لبيك» ولكنه أضاف كلمة «وحدك لا شريك لك»؛ ليؤكد الإنسان فيها أن التلبية التي تتوجه إلى اللَّه سبحانه، لا يمكن أن تتوجه لأيّ انسانٍ آخر، فنحن في الحياة عندما نريد أن نستجيب لنداءٍ من أيّ منادٍ، أو لكل مبدإ أو قانونٍ من أيّ مشرّعٍ أو مفكّرٍ، أو لأيّة علاقة بالناس، فلابد من أن يكون ذلك منطلقاً من استجابتنا للَّه، وعلاقتنا به؛ لتكون علاقاتنا بالحياة كلها منطلقةً من ذلك .. فلا شي ء .. ولا حد .. مع اللَّه .. فهو وحده الذي نتوجه إليه بكل ما في قلوبنا من محبة وإخلاص وعبودية .. فلا نتوجه لأي شخص معه .. بل إن علاقتنا بالناس منطلقة من علاقتنا باللَّه، من خلال باب اللَّه الذي يدخل منه الجميع .. حتى علاقتنا برسول اللَّه، وبكل رسل اللَّه لا ترتبط بهم كأشخاص، بل بصفة أنهم رسل اللَّه، والمبلغون عنه .. وهكذا هي علاقتنا بالأئمة والأولياء، من خلال أنهم عباد اللَّه الذين أطاعوه بما يجب، وعبدوه كما يريد ..


1- 1 الحج: 26- 27

ص: 9

«لبيك لا شريك لك ..» لن نجيب غيرك، ولن نستمع إلى أيّ نداءٍ سواءٌ انطلق من حاكم، أو من حكومة، أو من حزب، أو من محور إقليميّ أو دوليّ .. فأنت وحدك، المحور الذي نتحرك في ساحته؛ لأن ذلك هو الذي يجعلنا ننسجم مع عقيدتنا إذا أجبناك ..

«لبيك لا شريك لك» .. وتعود الكلمة من جديد؛ لتتضاعف، ولتعمِّق المشاعر في نفس الإنسان ..، ثم لتطلّ على الحياة كلها، لِتطلّ على كل ما في الحياة من ملوكٍ وجبابرةٍ وطغاةٍ، وما تحتويه من نِعم وثروات، فلا نجد المدّاحين الذين يمدحون هذا، ويحمدون ذاك؛ ليؤكد الإنسان في موقف الحج .. أن الملك للَّه وحده، وأن الحمد له وحده، وأن النعمة له وحده، فكل حمدٍ مستمدٌّ من حمده، وكل نعمةٍ مستمدّةٌ من نعمته، وكل ملك فهو ظلّ لملكه، فليس هناك محمودون ممدوحون، وليس هناك منعِمون في ذاتهم، فهو وحدهصاحب الحمد والملك والنعمة .. وبذلك يحسُّ الإنسان هناك- أمام اللَّه وحده- أنه بعيدٌ عن كل أحدٍ غير اللَّه- سبحانه وتعالى- .. ومن خلال ذلك يتأكد معنى العبودية المطلقة للَّه .. بأن تكون عبداً بكلّك، وبفكرك، وشعورك، وضميرك .. وحركتك .. وكل خطواتك العملية في الحياة .. وفي جميع مشاريعك على كلصعيدٍ .. أن تكون الإنسان الذي يعيش العبودية للَّه ..؛ لتنطلق حريتك أمام العالم .. وأمام الأشياء من خلال ذلك .. وبهذا تلتقي الحرية والعبودية في عمق الإنسان .. فتتعمق حريتك بمقدار ما تتعمق عبوديتك للَّه .. فأنت من موقع عبوديتك للَّه تأخذ حريتك .. أما الآخرون فإنهم يمارسون عبوديتهم للناس وللشهوات وللمطامع من موقع حريتهم المطلقة أمام اللَّه ..

ثمّ ننطلق في بعض ايحاءات الحج؛ لنصل إلى البيت الحرام، لنتساءل .. ماذا يعني البيت، وماذا يعني الطواف حوله .. هل هي الأحجار التي يتألف منها .. نقدّسها ..؟

إنها ليست حتميّة جديدة تتخذ الأحجار الثابتة بدلًا من الأحجار المتحركة بل هي التمرد على الصنمية ..

ولكنها .. الرمز .. الرمز الذي يُراد من خلاله تربية الإنسان على طريقةٍ جديدةٍ في مواجهة حركة الإسلام فيصعيد الواقع .. فكيف نفهم ذلك؟

إننا- كمسلمين- قد نصنع للَّه بيتاً في مدننا وقُرانا .. فهذا مسجد للقبيلة، وهذا مسجدٌ للمحلة، وهذا مسجد البلد .. وتتنوع الصفات المحدودة لتدخل فيها دوائرنا العائلية والقبلية، فهذا مسجد آل فلان وذاك مسجد تلك القبيلة .. ودوائرنا القومية، فهذا مسجد العرب، وهذا مسجد العجم .. وهكذا نحاول في مساجدنا أن نحافظ على كل الحدود التي تفصلنا عن بعضنا البعض، وتبعدنا عن ساحتنا الإنسانية الواسعة؛ لنؤكد فيها عصبياتنا العائلية والإقليمية والقومية .. أو لنبقى في الدائرة الضيّقة المحدودة التي تحجب عنا رؤية الدائرة الواسعة للحياة وللإنسان، فكانت الكعبة- البيت الحرام- التي جعلها اللَّه قياماً للناس .. كل الناس بعيداً عن كلصفاتهم اللونية والعرفية والجغرافية؛ ليكون بيتاً للَّه في حجم العالم .. البيت الإلهيّ العالميّ، ليشعر كل مسلم .. أنه بيته .. ورمزه ومنطلقه .. ولهذا أراد اللَّه لهم أن يتوجهوا إليه أينما كانوا ... «.. فولّ وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولّوا وجوهكم شطره ..» (1) ولا يتوجهون إلى غيره؛ ليكون قاعدة وحدتهم، ومنطلق عالميتهم .. وموقع إنسانيتهم.


1- 1 البقرة: 144.

ص: 10

ثم قد نفهم جانباً آخر من الصورة .. في الطواف حول البيت كعبادة، فنحن نعبد اللَّه بحسب الحالة الطبيعية أفراداً .. في بيوتنا ومواقعنا الفردية .. ثم نمارس العبادة- بعد ذلك- جماعة فيصلاة جماعة محدودةٍ، قد تتسع في أفرادها، وقد تضيق، تبعاً للموقع وللإمام وللمناسبة .. وتبقى العبادة في حدودها الفردية والاجتماعية الضيّقة .. فلا نعيش فيها الانفتاح في عبادتنا للَّه على مستوى حجم الأمة كلها، تبعاً للتنوع الواسع في النطاق العالمي .. الإنساني.

وهنا تأتي عبادة الطواف ..؛ لتكون العبادة حول البيت الإلهي العالمي في حجم الأمة كلّها .. عندما يشترك المسلمون- من سائر أقطار العالم- ليعبدوا اللَّه كأُمّةٍ، يتمثل فيها العربي والفارسي والهندي والامريكي والافريقي والاوروبي، وما إلى ذلك؛ لينطلق الجميع في عبادةٍ إسلامية عامّةٍ كأُمّةٍ؛ ليعيشوا الأفق الواسع في العبادة، وليتفاعلوا بهذه الشخصية الجديدة التي تؤكد في داخلهم معنى الامتداد الإنساني الشعوري في روحية العبادة بين يدي اللَّه ...

ويتخلصوا بذلك عما اعتادوه في حياتهم؛ لأن الناس إذا مارسوا فكرهم وعبادتهم ومسؤولياتهم في النطاق الضيّق، فإن ذلك يتحول إلى حالةٍ نفسيةٍ ضيّقة مخنوقة في الدائرة المحدودة .. فينسونصفتهم كجزء من الأمة الواسعة .. بينما توحي العبادة في داخل التنوع الإنساني للأمة المسلمة بالبعد العالمي للشخصية، وهي بين يدي اللَّه رب العالمين ..؛ ليتمثل من خلال ذلك الهدف التربوي للحج، وهوصنع الإنسان المسلم العالمي، الذي يتحرر من ذاتيته وعائليته وإقليميته وقوميته عندما يطوف بالبيت العالمي للَّه ..

وتلك هي القضية التي قد نحتاج إلى أن نتمثلها ونعيشها في واقعنا الاجتماعي والسياسي ..؛ لندخل في نشاطاتنا في دور جيد، وساحةٍ جديدةٍ؛ لأن من مشاكلنا الإسلامية أن المسلمين قد يغلب عليهم الاهتمام بقضاياهم الخاصة، التي قد تتطور من الحالة الذاتية إلى حالة البلد الذي ينتمي اليه الإنسان المسلم، فيرى أن قضايا بلده الإسلامي هي المحور الذي يجب أن يدور حوله كل النشاط الإسلامي، سواءً كان نشاطه، أو نشاط الناس من حوله .. مما يجعله يصرف كل طاقاته في هذا الموقع، ويعمل على أن يستخدم كل قضايا العالم من أجله .. من دون أن يفكر بأن عليه أن يستفيد من بلده لخدمة قضايا العالم الإسلامي الأخرى .. الأمر الذي قد يتحول إلى شعور داخليّ بالانفصال عن قضايا العالم ..

وهكذا لاحظنا أن الواقع السياسي الذي يعيشه المسلمون في بلدانهم؛ هو أن قضيةً إقليمية إسلامية في هذا البلد، وأن هناك قضيةً قوميةً في هذا المحيط الجغرافي .. وأن المسلمين يتحركون في حجم هذه القضايا تبعاً لمواقعهم المحلية، ولا يحاولون الاهتمام بقضايا الآخرين إلا من خلال علاقتها بهذه القضية، كما لو كانت قضيةً أجنبيةً يلامسونها كما يلامسون أيّة قضية بعيدة عن ساحتهم .. وقد يسجلون على الآخرين نقطة سوداء إذا انشغلوا عن هذه القضية بقضيتهم .. حتى لو كانت قضيةً إسلامية.

وقد يقول البعض، إنني أهتم بهذه القضية الخاصة؛ لأنها قضية إسلامية، ولأنَّ طبيعة الموقع الذي أمثله في هذه الساحة يفرض عليّ الحركة في هذه الدائرة؛ لأني أعرف منها ما لا يعرفه الآخرون، ولأني أملك من مواقعها ما لا يملكه الآخرون، في نوعية الحركة، وفي طبيعة النتائج؛ ولأن قيمتها قد تفوق قيمة كثيرٍ من القضايا الإسلامية الأخرى، بالنظر إلى أهميتها السياسية، وقيمتها الإستراتجيّة فيما هو الواقع الإسلامي في حركة الصراع.

ص: 11

وقد يكون هذا الكلام معقولًا ومقبولًا، ولكنّ هناك نقطةً مهمّة، وهي .. إن العقلية الإسلامية الشاملة تفرض على الإنسان المسلم الذي يتحرك في قضية بلده أو منطقته- كقضيةٍ إسلامية- أن يدرس موقعها من المسألة الإسلامية في العالم من حيث طبيعتها السياسية أوالاقتصادية أو الأمنية؛ لتعرف كيف يكون حجم حركتك وكيف يكون موقفك من هذا الوضع أو ذاك في هذا البلد، أو في ذلك البلد، فهناك فرق بين أن تفكر بأن تنتصر قضية بلدك حتى لو انهزمت كل قضايا الإسلام في العالم، وبين أن تفكر ببلدك كجزءٍ من قضايا الإسلام الكبرى ..

إننا نقول، لا تتحمسوا لقضاياكم الخاصّة ..، لتقولوا بأن المسلمين في هذا البلد يهتمون بقضاياهم، لأنهم لا يجدون أحداً من المسلمين الآخرين قادراً على حمايتها .. كما أن المسلمين في البلد الآخر يقولون نفس القول .. لكنّ هناك نقطةً مهمّةً لا بدّ من ملاحظتها بدقة وهي؛ إننا نهتمّ بقضايانا على أساس أنها جزءٌ من كلٍّ، لا على أساس أنها قضيّةٌ منفصلةٌ عن الجسم الإسلامي.

إننا ندعو- من خلال الحجّ- إلى أن نصوغ شخصية الإنسان المسلم العالمي من جديد، الذي يفكر في الإسلام بحجم العالم من خلال قدراته وإمكاناته، وليطوِّر نفسه بحيث يستطيع أن يكون مفيداً للمسلمين في كل منطقة من مناطق الأرض .. فلا تتجمد طموحاتنا في الزوايا الضيّقة والمواقع المحدودة، ولا تتساقط مواقفنا عند الحواجز الذاتية الخاصة ..

إننا إذا استطعنا الوصول إلى هذا الهدف الكبير فيصنع الشخصية الإسلامية العالمية؛ فإننا نستطيع أن نعتبر أنفسنا في الموقع الصحيح للبداية الحاسمة؛ التي نتحول فيها إلى أمّةٍ بدلًا من أن نبقى أفراداً متناثرين، أو جماعات متفرّقة. وهذا هو ما نستوحيه من معنى الطواف حول البيت.

ثم ننتقل إلى السعي بين الصفا والمروة، الذي يمثل حركة الإنسان من بداية معينة إلى نهاية معينة، في أشواط ..

من أجل أن نتعبد للَّه في ذلك لأنه أمرنا به .. فكان السعي حركةً في معنى الطاعة، وسرّ العبادة ..؛ لتكون انطلاقةً ايجابية تربويةً في بداياتٍ ونهاياتٍ أخرى في حركة الإنسان في طلب العلم، أو في تحصيل القوّة، أو في مواجهةِ التحديات التي يفرضها المستكبرون، أو في إطلاق المواقف المتحدية ضدهم، أو في قضاء حوائج الناس ..؛ لأن اللَّه طلب منك السعي من أجل هذه الأمور، كما طلب منك السعي في هذا المكان ..

إن اللَّه يريد منك أن تجعل الحياة حركةً من أجل اللَّه في خط المسؤولية؛ لتحوّلها إلى ساحةٍ تبتعد عن كل الفئات الطاغية والكافرة والمستكبرة؛ ليكون سعيك بدايةً ونقطة انطلاق إلى كل الساحات في العالم فيما أرادنا اللَّه أن نتحرك فيه من ساحات.

ثم نعيش- في الحج- الوقفات، في عرفة، وفي المزدلفة، وفي منى التي نعيش لياليها في لحظات تأمّلٍ وتفكير ..

إننا نشعر بأن إيحاءاتها، وبأن الإنسان عندما يندمج في أجواء الحركة في الحياة، في أيّ موقعٍ من مواقعها، وفي أيّ اتجاه من اتجاهاتها في العلم والسياسة، والحرب والسلم، لا بدّ له من أن يقف ليفكر، وليتأمل، وليحسب حساب الأرباح والخسائر؛ ليكتشف فيما يمكن أن يكون قد وقع فيه من انحرافٍ في خط السير، لئلا تؤدي بك الغفلة في اندفاع الحركة

ص: 12

إلى الشعور بالغرور، الذي يوحي لك بضخامة معينةٍ في شخصيتك لا وجود لها في الواقع، فيخيّل إليك بأنك لا يمكن أن تخطئ! لأن الحق معك، فيما تملكه من وضوح الرؤية للأشياء، ومستوى المعرفة في عقلك وتجربتك.

إن هذه الوقفات توحي لك- من موقع الرمز- بأن عليك أن تخفف من سرعة اندفاعاتك؛ لتقف وتفكر بما قلته أو فعلته، لتكتشف احتمالات الخطأ والصواب فيه؛ لتنقد نفسك نقداً موضوعياً في كل ذلك .. لتفهم نفسك جيّداً.

إن الموقف في عرفات والمزدلفة ومنى- أمام اللَّه- هو موقفٌ نقديّ تأمليٌّ لتذكر نفسك، وتذكر ربك، وتفكر في موقعك منه وفي موقفه منك .. وفيما يجب أن تتحرك فيه نحو المستقبل من أعمالٍ ومشاريع ونتائج .. ولا سيّما في منى، التي توحي إليك لياليها بأنك في الموقع الأخير من الحج .. فكيف كنت .. وكيف أنت الآن، وماذا تريد أن تفعل غداً ..

وما هي طموحاتك الجديدة؟ .. هل هي قصة الدنيا في الإخلاد إلى الأرض، أو هي قصة الآخرة والدنيا في عملية الاندماج بينهما، فيما هي الفكرة، وفيما هي الروح، وفيما هو الهدف الكبير في ابتغاء رضوان اللَّه .. كما يريد اللَّه لنا أن نعيش المسألة هناك في الابتهال إليه.

«... فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار أولئك لهم نصيب مما كسبوا ...» (1).

وبذلك فإن الحجّ لا يفصلك عن الدنيا، بل يريد أن يربطك بالآخرة إلى جانب الدنيا في عملية تكاملٍ وامتدادٍ.

وأخيراً .. إن الحجّ يُطلّ بنا على فكرة الصراع ضد الشيطان، من خلال الإيحاء الحسي في عملية رجم الشيطان، بطريقة رمزية لا تبتعد عن الواقع، فيما تتحرك به الحياة .. إنك لم تستحضر شيطاناً خفيّاً يعيش في زوايا نفسك من دون أن تعرف طبيعته، بل إنك تستحضر في داخل وعيك الذاتي كل الشياطين، من خلال طبيعة فكر الشيطان، لا من خلال حجمه ..

إنك تتطلع لتجد الشيطان في نفسك وفي واقعك؛ لتبصر وتحدّق جيداً أين هو الشيطان في داخل ذاتك، وأين هو في حياتك الاجتماعية .. وفي حياتك السياسية .. وما هو حجمه فيما يتمثل به من أحجام القوّة في مواقع السلطة ..

بين حجمٍ كبيرٍ وصغير، وأكبر .. أو متوسّطٍ؟

وهذا هو معنى نهاية الحجّ .. في عملية رجم الشيطان .. أيها الإنسان المسلم الحاج .. لقد انتهيت من عملية التدريب فيما هي التجربة على مستوى الحركة الذاتية في العبادة، في المواقع التي لا تمثل التحدي الصارخ في ساحة الصراع .. وها أنت تقف لترجم الشيطان ..؛ لترى أمامك كل شياطين الكفر والظلم والاستكبار في مواقع القوّة في العالم .. وها أنت قد انتهيت من الحج إلى ساحة العمل؛ لتنطلق في الحياة كلها بكل أصنامها ومواقفها ومشاكلها وشياطينها ووسائلها وغاياتها ..

إنها عملية النجاح، في الحج .. بعد ذلك، لا في نهاية الحج، بل في نهاية الحياة عندما يقوم الناس لرب العالمين.

هل انتهى الحجّ .. بانتهاء أعماله؟

إنه لم ينته بل بدأ الآن، ليكون الحجّ إلى الحياة الإسلامية التي تنتظر أكثر من حج، إلى الساحات الملتهبة في الواقع الإسلامي في كل أنحاء العالم ..؛ ليكون الدين كله للَّه .. وتكون الحياة في خدمة اللَّه ..

وتلك هي قصة الإنسان عندما يعبد ربه من موقع إحساسه بالإيمان المسؤول، والهدف المسؤول .. لا من موقع


1- 1 البقرة: 200- 202.

ص: 13

إحساسه بالفراغ. وذلك هو البعد الحقيقي للحج .. إنهصناعة الإنسان المسلم الذي يحب اللَّه ويحب الإنسان والحياة من خلال هذا الحبّ الواعي الخاشع المسؤول.

الهوامش:

ليشهدوا منافع لهم

ص: 14

«ليشهدوا منافع لهم»

وهبة الزحيلي

الإسلام وشرائعه خير كلّه، ورحمة كلّه، ومصلحة كلّه، وفضل ونعمة مسداة كلّه، مَن دان به رشد، ومَن عمل به سعد، ومَن التزمه فاز ونجا، ومَن أعرض عنه أو انحرف زاغ وضلّ، وتاه وشذّ.

وكلّ شي ء في هذا الإسلام العظيم من عقيدة قائمة على التوحيد الخالص، والتنزيه المطلق للَّه. وعبادة تصقل النفوس، وتهذب الطبائع، وتربي القلب، وتصحح الفكر، وتصلح الفرد والمجتمع. ومعاملة قائمة على الحقّ، والعدل والميزان، والاستقرار. وأخلاق وفضائل تقوِّم الاعوجاج، وتلجم الأهواء والشهوات، وتنمي عواطف الحبّ والودّ والخير والسلام، وتحقق الاستقامة والرشد، وراحة النفس والضمير، وسلامة الأمة والجماعة ... كل هذه العقائد والعبادات، والأخلاق والمعاملات، ذات غايات سامية ومقاصد عالية، هدفها تهذيب النفس الإنسانية، وتربية الإنسان تربية قويمةصحيحة، توفّر على العلماء والدولة والمعلمين ثروات كبرى، لا تحتاج إلا إلى شي ءٍ من التذكير والبيان، والتبسيط في تحديد الأهداف والسمات المميزة لها.

وهذا واضح كل الوضوح، ففي جانب العبادات المفروضة في الإسلام- منصلاة وزكاة وصيام وحجّ على سبيل المثال- حصر دقيق لغاياتها في القرآن، يدور حول التقويم والتهذيب والتربية والإصلاح، وأكتفي بإيراد آية كريمة في كلّ منها عدا الحجّ:

ففي قوله تعالى عن الصّلاة: «.. إنّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ..» (1) بيان الغاية التربوية منها.

وفي قوله سبحانه عن الزكاة: «خذ من أموالهمصدقةً تطهرهم وتزكيهم بها» (2) إرشاد لجانب التطهير وتزكية النفوس وتخليصها من آفات البخل والشح، وإنقاذ المستضعفين من الفقراء والمساكين من ذلِّ الحاجة والضعف والعوز.

وفي قوله- عزّ وجلّ- عنصيام شهر رمضان: «يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم، لعلكم تتقون» (3) بيانصريح لثمرة الصوم وفائدته العظمى، وهي إعداد النفس لتقوى اللَّه، بترك الشهوات


1- 1 العنكبوت: 45.
2- 2 التوبة: 103.
3- 3 البقرة: 183.

ص: 15

المباحة والمحظورة، وتقويم النفس وتربيتها وتزكيتها، والالتزام بالمأمورات الإلهية، واجتناب المنهيات.

فهذه كلها غايات تربوية سامية تتحقق بممارسة العبادات، ومنها فريضة الحجّ بدءاً من رحلة المغادرة للوطن ثم العودة إليه، وهذه الرحلة تدريب عملي ميداني على آداب الإسلام وأخلاقه، وتجرد خالص للعبادة، وإظهار شامل للطاعة المطلقة، وتصفية الأعمال من شوائب المادة وآصار الدنيا ومغرياتها، وتعلقات الحياة الرغيدة ومفاتنها، وتجوال الفكر العميق في تقديس اللَّه- تعالى- وجلاله وعظمته، وتحقيق- كغيره من العبادات- لمنافع الدين والدنيا والآخرة.

قال اللَّه تعالى في كتابه الكريم: «وأذّن في الناس بالحجِّ يأتوك رجالًا وعلى كلّ ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم اللَّه في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير» (1)فجاء الأمر الإلهي- في هاتين الآيتين- بفريضة الحجّ، مقروناً ببيان حكمة الحجّ، للفرد والجماعة والأمة، في نطاق العبادة والنفع الذاتي والاجتماعي والسياسي، فكانت منافعه وفوائده خاصة وعامة، لأنه بمثابة مؤتمر عام، يستفيد منه الحجّاج فوائد دينية بأداء الفريضة، وتربوية أخلاقية بالممارسة الفعلية للعلاقات الاجتماعية الحساسة والعادية، وسياسية إسلامية. يتداول فيه المسلمون- بنحو جماعي- أوضاع بلادهم، وشؤون شعوبهم، بإخلاص وصراحة، وجدية وحرارة، ونقد بنّاء، ومذاكرة في هموم وآمال وآلام الأمة الإسلامية، يعودون بعدها لبلادهم، وهم مزوّدون بماينبغي فعله على الصعيدين: المحلي الخاص والدولي العام، واضعين نصب أعينهم وحدة الأمة الإسلامية ومصلحتها العليا، وأخوّة المؤمنين وما تتطلبه من تضحيات جسام وتعاون وتضامن فعّال، ووقوف بصرامة وجرأة أمام مخططات الأعداء ومؤامراتهم الخبيثة أو المشبوهة، ومحاولة التغلب عليها وإحباطها، حفاظاً على العزّة والكرامة الإسلامية، وحماية لوجود المسلمين، ورعاية لمصالحهم في الداخل والخارج، سواء في وقت السلم والاستقرار، أو في وقت المحنة والحرب والصراع المسلح، والمجابهة الاقتصادية والتحديات المختلفة.

والكلام عن الآية: «ليشهدوا منافع لهم» يحتاج لبيان معنى اللام في الفعل، ومعرفة سبب تنكير كلمة «منافع»، وتحديد أنواع المنافع.

أمّا معنى لام «ليشهدوا» فهو- كما جاء في تفسير الميزان- للتعليل أو الغاية، والجار والمجرور في «لهم» متعلق بقوله: «يأتوك» والمعنى: يأتوك لشهادة منافع لهم، أو يأتوك فيشهدوا منافع لهم. وجاء في أحكام القرآن لابن العربي: هذه لام المقصود والفائدة التي ينساق الحديث لها، وتنسَّق عليه،- أي أنها لام الغاية والصيرورة- وأجلّها قوله تعالى: «... لتعلموا أنّ اللَّه على كل شي ء قدير وأنّ اللَّه قد أحاط بكل شي ء علماً» (2). وقد تتصل هذه اللام بالفعل، كما تقدم، وتتصل بالحرف كقوله تعالى: «... لئلا يعلمَ أهلُ الكتاب ...» (3).

وأمّا تنكير كلمة «منافع» فهو كما قال الفخر الرازي: إنما نكّر المنافع؛ لأنه أراد منافع مختصة بهذه العبادة، دينية ودنيوية، لا توجد في غيرها من العبادات. وقال الآلوسي: «منافع» أي عظيمة الخطر، كثيرة العدد، فتنكيرها- وإن


1- 1 الحج: 27- 28.
2- 2 الطلاق: 12.
3- 3 الحديد: 29.

ص: 16

لم يكن فيها تنوين- للتعظيم والتكثير، ويجوز أن يكون للتنويع، أي نوعاً من المنافع الدينية والدنيوية.

وأما المراد بكلمة «منافع» فيروى عن محمد الباقر رضى الله عنه تخصيص المنافع بالأخروية وهي العفو والمغفرة. وفي رواية عن ابن عباس- رضي اللَّه عنهما- تخصيصها بالدنيوية. أي أنه حملها على منافع الدنيا، وهي أن يتجروا في أيام الحجّ، وتكون إذناً بالاتجار، كما جاء في آية أخرى: «ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلًا من ربكم» (1). قال القرطبي: ولا خلاف في أن المراد بالآية: التجارة.

والأولى عند جماهير المفسّرين حمل الكلمة على الأمرين، أي المنافع الدينية والدنيوية معاً، وروي ذلك عن ابن عباس، فقد أخرج ابن أبي حاتم عنه أنه قال في الآية: منافع في الدنيا ومنافع في الآخرة، فأما منافع الآخرة فرضوان اللَّه تعالى، وأما منافع الدنيا فما يصيبون من لحوم البُدْن (الإبل والبقر ونحوهما) في ذلك اليوم، والذبائح والتجارات. وخصّ مجاهد منافع الدنيا بالتجارة، فهي جائزة للحاج من غير كراهة، إذا لم تكن هي المقصودة من السفر. وهذا مستبعد؛ لأن نداءهم ودعوتهم لذلك غير مقصود في العبادة، بحسب العادة التشريعية.

والتعميم يشمل أربعة أمور: هي شهود (أي حضور) المناسك، كعرفات والمشعر الحرام، والمغفرة، والتجارة، والأموال، والمعنى: ليحضروا منافع لهم، أي ما يرضي اللَّه- تعالى- من أمر الدنيا والآخرة، فتتحقق بالحجّ منافع الدنيا والآخرة، وما أكثرها وأجداها لكل مؤمن.

وأُرجح القول بالعموم؛ عملًا بالمعهود من كثرة أفضال اللَّه وعوائده الحسنى على الناس؛ ولأن مقتضى الترغيب والتحريض على أداء الحجّ يناسب ذلك، ولا داعي للتضييق وتحجير الواسع، فإن سعة رحمة اللَّه شملت كلّ شي ء. قال ابن العربي: والدليل عليه عموم قوله: «منافع» فكل ذلك يشتمل عليه هذا القول. وهذا يعضده تفسير قوله- تعالى-: «ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلًا من ربكم» وذلك هو التجارة بإجماع من العلماء. فيكون القصد من المنافع- إذن- منافع الدنيا والآخرة:

المنافع الدنيوية:

هي التي تكون سبباً لتقدم الحياة الإنسانية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأخلاقية والعادات كلها.

فيكون الحجّ والعمرة مدرسة عملية تدريبية على تحقيق المساواة التامة بين الناس في مظهرهم وحقوقهم وواجباتهم، فلا يتميز غني بغناه، ولا يعرف فقير بفقره، ولا حاكم بعزّته وسلطانه، ولا متنفذ ذو جاه بنفوذه وجاهه، ولا متفوق في أي شي ء بتفوقه وتميزه فكراً وعملًا واختراعاً وتطبيقاً. الكل يضرعون إلى اللَّه، ويتجهون إلى عزّته، والطمع بعفوه ومغفرته، والجميع يتساوون في أداء المناسك والشعائر في الوقوف بعرفات، والمشعر الحرام، ورمي الجمار، والطواف حول الكعبة المشرفة، والسعي بين الصفا والمروة، والحلق أو التقصير.

وبعد أداء المناسك يتذاكر الحجاج الآراء في تبادل خيراتهم ومنتجاتهم وثرواتهم، فينتفع الكل فرداً وجماعة، ويعقدون الصفقات أو يصدرون الوعود، وتتم المكاتبات ومعرفة العناوين لإكمال ما تمت المفاوضة حوله.

وفي أثناء ممارسة تلك الشعائر يتعاطف الناس، ويتعلمون كيفية التخلص من داء الشح والبخل، فتسخو الأيدي، ويكثر العطاء والبذل، ويزداد الإنفاق في سبيل اللَّه، وتراق الدماء من الأضاحي والقربات، ويعم الخير


1- 1 البقرة: 198.

ص: 17

الطوعي، ويستفيد الكل من هذا وذاك. وهذا يحقق تضامناً وتكافلًا اجتماعياً وطيد الجذور بين الأسرة الإسلاميّة الكبرى، ويغتني الفقراء، وتظهر ثمرات نداء سيدنا إبراهيم عليه السلام فيما حكاه اللَّه عنه: «ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرّم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم، وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون» (1).

ويقوى الشعور بالانتماء الخالد للأمة الإسلاميّة، والغيرة على مصالحها، والإحساس بواجب المسلم وحقه على أخيه المسلم، وضرورة الإسهام في تفادي المشكلات، وتخطي المحن والأزمات والصعاب، وترسيخ جذور وحدة المسلمين، بالتعارف والتآلف، وتقييم الأحوال والأوضاع، والتخطيط لمستقبل باسم زاهر بعيد عن العثرات والمآسي والآلام. ويشعر الحجّاج بقوة الروابط التي تربطهم بإخوانهم في المشارق والمغارب، والتي أنعم اللَّه بها عليهم، فأنشأها الإيمان، وحققها لهم الإسلام، وأحكم نسيجها بروابط الأخوة السامية المخلصة، والمحبة الصادقة، والودّ في اللَّه ومن أجل اللَّه، والإيثار والتضحية والفداء، والصدق في القول والعمل، والتأثر ببيئة وأحوال الصفا والطهر الذي كان الحجُّ مظلة لها، ومؤثراً في تكوينها، فيسهل اللقاء، وتتجرد النفوس عن الأطماع والمصالح الذاتية، والأهواء والشهوات الصارفة عن جادة الاستقامة.

وتظهر في رحلة الحجّ أخلاق سامية- عدا ما ذكر- من الصبر والتجمل وتحمل الأذى والمشقة، والتخلص من العادات الذميمة والخصال السيئة، والترفع عن المعاصي والذنوب، وتحلي النفوس بعواطف المحبة وتنمية عوامل الخير وصنع المعروف، مما يجعل هذه الرحلة من أقوم السبل المؤدية إلى تهذيب الأنفس وتقويم الطباع، والشعور براحة النفس والأمن والاطمئنان، وغمرة الفرحة والسعادة بأداء الفريضة، وبذكر اللَّه: «... ألا بذكر اللَّه تطمئن القلوب» (2).

وقد حذّر القرآن الكريم من التورط بما يتنافى مع إيجابيات الحجّ وآدابه المتعددة، فقال تعالى: «الحجُّ أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه اللَّه وتزودوا فإنّ خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب» (3). ويبشّر النبيصلى الله عليه و آله و سلم الحجّاجَ المترفعين عن دنايا الأخلاق، المعتصمين بعفة اللسان وطهارة القلب، يبشرهم بالمغفرة الشاملة، فقال فيما يرويه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه والترمذي عن أبي هريرة: «مَن حجّ، فلم يرفُثْ، ولم يفسُق، رجع من ذنوبه كيومَ ولدته أُمّه» والرفث كما قال الأزهري: كلمة جامعة لكل مايريده الرجل من المرأة. والفسق: المعصية، وقد جاء من حديث جابر مرفوعاً: «إن بِرَّ الحجّ: إطعام الطعام، وطيبُ الكلام، وإفشاء السلام».

ويمكن تلخيص منافع الحجّ الدنيوية: بطهر النفس، ونقاء القلب، وعفة اللسان، وسلامة الجوارح (الأعضاء) من كل ما يشينها ويوقع في الأذى.

منافع الحجّ الأخروية:


1- 1 ابراهيم: 37.
2- 2 الرعد: 28.
3- 3 البقرة: 197.

ص: 18

هي وجوه التقرب إلى اللَّه تعالى، بما يمثّل عبودية الإنسان من قول وفعل، وترك لذائذ الحياة وشواغل العيش، كما جاء في تفسير الميزان. وثمرته واضحة وهي محو الذنوب، وغفران السيئات، وتحقيق المساواة بين العباد، فلا تفاضل بينهم إلا بالتقوى والعمل الصالح، كما في قوله تعالى: «إن أكرمكم عند اللَّه أتقاكم إن اللَّه عليم خبير» (1).

إن مناسك الحجّ ترشد إلى معانٍ كثيرة، لا يصح لحاج تخطيها دون تأمل وإدراك، وإمعان النظر فيها؛ لأن فهم الحكمة التشريعية منها تزيد النفس متعة، وتبعث لأداء التكاليف الشرعية والطاعات الإلهية، وتحقق مغزى الحجّ على النهج الرباني المقصود به خير الإنسان وإسعاده.

فالإحرام والتجرّد من لباس الرجال- ما عدا ستر العورات بملابس الإحرام المعروفة- يقمع شهوات النفس والأهواء، ويبعد الناس عن التفكير في الدنيا، ويوجه الإنسان إلى الخالق والتفكير بقدسيته وعظمته وجلاله، ويؤدي إلى سمو الروح، وترقي الوجدانات والضمائر، وإظهار الخضوع والتواضع للَّه تعالى، والبعد عن شوائب الكبرياء والغرور، وعلاج أمراض النفس من حبّ الاستعلاء ومزامنة الحقد والشحناء، وإخلاص العمل للَّه جلّ جلاله، وبغير الإخلاص للَّه الذي هو جوهر الدين لا قيمة لأي عمل، ولا فضل لأي مسلم في عبادة ومعاملة وخلق وغير ذلك. ومن أهم مقومات الإخلاص: التسامح مع المسلمين، وتطهير النفوس من البغضاء والأحقاد والخصومات لهم، سواء المعاصرون أم الغابرون، عملًا بقول اللَّه- تبارك وتعالى-: «والذين جاءُوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلًا للذين آمنوا، ربنا إنك رؤوف رحيم» (2).

ونشيد التلبية الذي يردّده الحجّاج، بدءاً من الإحرام حتىصباح يوم العيد برجم جمرة العقبة الكبرى شاهد حي، وواقع ملموس علىصدق التوجه إلى اللَّه تعالى، والترفع عن أوضار (أوساخ) الدنيا وشهواتها، والتذكير الدائم بطاعة اللَّه وامتثال أوامره واجتناب نواهيه.

والحضور إلى بيت اللَّه الحرام لزيارته يحقّق منافع الدنيا والآخرة؛ لأن شهود الكعبة المشرفة إرواء لتعلق القلوب المتلهفة لها، والإنسان مجبول على حبّ النفع.

والطواف حول البيت الحرام يؤكّد وحدة المسلمين العامة، ودليل على التشبه بملائكة الرحمن الحافين حول العرش، وتصعيد الروح نحو العلو الإلهي، وعروج إلى ملكوت اللَّه بالقلب والفكر، وتذكير دائم بصاحب البيت وهو اللَّه جلّ وعلا، وتجديد العهد مع اللَّه على الإقرار بربوبيته ووحدانيته، بدءاً من نقطة الانطلاق في الطواف بالحجر الأسود أو الأسعد؛ ليكون قرينة أو أمارة على وحدة العمل بين الناس، وطريقاً لإنفاذ عهد اللَّه على الحقّ والعدل والخير والتوحيد والفضيلة. وهذا العهد الإلهي القديم أشار إليه القرآن المجيد في قوله تعالى: «وإذ أخذ ربّك من بني آدم من ظهورهم ذريَتهم وأشهدهم على أنفسهم، ألستُ بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين» (3).

والسعي بين الصفا والمروة تردد في معالم الرحمة الإلهية، والتماس للمغفرة والرضا الرباني، وتلمس لأفضال اللَّه وخيراته، وطلب عونه لتحمل مشاق الحياة، كما فعلت السيدة هاجر زوج إبراهيم الخليل عليه السلام حين أعوزها الماء، فقامت تسعى ضارعة إلى اللَّه- تعالى- لإرواء ظمئها، وسدّ حاجة ابنها إسماعيل عليه السلام، قال اللَّه تعالى: «إن الصفا والمروة من شعائر اللَّه فمن حجّ البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوّف بهما ومَن تطوع خيراً فإن اللَّه شاكر عليم» (4).


1- 1 الحجرات: 13.
2- 2 الحشر: 10.
3- 3 الأعراف: 172.
4- 4 البقرة: 158.

ص: 19

وقال النبيّصلى الله عليه و آله و سلم فيما رواه أحمد في مسنده: «اسعَوا فإن اللَّه كتب عليكم السعي».

والوقوف بعرفة في ساحة الرضوان الإلهي، الساحة الواحدة الشاملة لجميع الحجّاج، إقبال خالص على اللَّه عزّ وجلّ، واتصال روحاني مباشر مع اللَّه، واحتماء بسلطان اللَّه، وطلب فضله ورحمته، موقناً الحاج بإجابة دعائه.

وأما الرمي أو رجم إبليس في يوم العيد وأيام التشريق الثلاثة: فهو رمز مادي لمقاومة وساوس الشيطان وأهوائه، والتخلص من نزعات الشر، ومحاربة الفساد والانحراف، فهو كما يقول المناطقة: «المحسوس يدل على المعقول» فيكون رمي الجمرات، واستلام الحجر الأسود، والطواف حول الكعبة، تمثيلًا للحقائق بصور المحسوسات، ورمزاً لمعانٍ عميقة بصور حركية مادية، تذكّر المؤمن بأهدافها وغاياتها، وتحمله على استدامة المقاومة لشرور النفس ونزعاتها.

هذا هو القصد من هذه الشعائر، وليس كما يتصور سخفاء العقول من المستشرقين، وضعفاء الإيمان، أن مناسك الحجّ دوران حول أحجار، وتعظيم للرموز المادية، وامتداد للوثنية.

وقد تنتهي هذه الشعائر بذبح الأضاحي والنذور وجزاءت المخالفة للمناسك؛ ليكون ذلك الوداع الأخير للرذيلة بإراقة الدم تعبيراً عن التخلص منها، والتزام فضيلة التضحية والفداء، كما قال اللَّه تعالى: «لن ينالَ اللَّهَ لحومُها ولا دماؤها ولكن ينالُه التقوى منكم كذلك سخّرها لكم لِتكبروا اللَّه على ما هداكم، وبشر المحسنين» (1).

وكلّ هذه الشعائر والمناسك ذات المنافع الأخروية، تدل دلالة قوية على الثقة باللَّه، وطلب أفضاله، وتشعر الإنسان في أعماق نفسه بعظمة اللَّه وجلاله؛ وحلاوة مناجاته وعبادته، وطلب رضاه وقربه، فيكثر البكاء، ويشتدّ النحيب، وتصفو النفوس، وتتكاثر حالات التوبة النصوح الخالصة للَّه والندم على الماضي. هذا فضلًا عن تذكر أهل الإيمان بماضي الإسلام، وجهاد نبيّ اللَّه وصحبه الكرام في نشر دعوة اللَّه، وتحطيم معاقل الشرك، وهدم معالم الوثنية، وتهاوي الأصنام، وانتصار دعوة الحقّ والتوحيد. وما أجمل منافع الحجّ في حديث رواه البيهقي: «الحجاج والعمّار وفد اللَّه، إن سألوا أُعطوا، وإن دعوا أُجيبوا، وإن أنفقوا أُخلف لهم»!.

الهوامش:


1- 1 الحجّ: 37.

ص :20

إتمَام الحجج في تفسير مَدلول و لا جدَال في الحَج

ص: 21

إتمَام الحجج في تفسير مَدلول و لا جدَال في الحَج

محمد باقر حجتي

تمهيد:

الحمد للَّه الذي حرّضنا على الجدال والقتال- في جلّ الأحوال- ضد أولياء كل شيطان محتال، ومنافق بطّال، ومشرك مختال، وقال: «... حرّض المؤمنين على القتال ...»، و «... جاهد الكفار والمنافقينَ واغلُظ عليهم ...»، و «... فقاتلوا أولياء الشيطان ...»، وقال: «... وجادلهم بالتي هي أحسن ...».

والصلاة والسلام على محمد وجميع انبياء اللَّه ورسله، الذين جادلوا بالحق ليدحضوا به الباطل، والمشركين فأكثروا جدالهم، وعلى آله الذين أفرغوا جهدهم في دعوة الناس إلى سبيل ربّهم بالحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن، فبذلوا وسعهم في مجادلة الملاحدة والكفرة فأحسنوا جدالهم.

وبعد، فقد قال عزّ من قائل: «الحجُّ أشهر معلومات فمَن فرض فيهن الحجَّ فلا رفث ولا فسوق ولا جِدال في الحجّ وما تفعلوا من خير يعلمه اللَّه وتزوّدوا فإن خير الزاد التقوى واتّقون يا أولي الألباب» (1).

قبل أن نتناول تفسير الآية نلقي الضوء على كلمة «جدال» لغة واصطلاحاً الواردة فيها:

ألف- المدلول اللغوي للجدال:

1- كلمة الجدال، بكسر الجيم من «الجَدْل»، وللجدل ذكرت المعاني التالية: شدّة الفتل التي هي أصل معنى «الجدل» (2)، فالإحكام والفتل هما روح هذه اللغة، ويشكّلان أساسها أيضاً. وسائر المعاني الأخرى التي ذكرت لهذه اللغة في المعاجم وكتب اللغة ترجع إلى هذين المفهومين الذين هما أساسا هذهِ اللغة وتلائمهما. ولهذه المناسبة والملاءمة تطلق كلمة الجديل على «زمام الناقة» الذي يفتل من الأدم أو الشَّعْر، ويعلّق على عنق البعير أو الناقة، كما قال


1- 1 البقرة: 197.
2- 2 معجم متن اللغة، ط دار مكتبة الحياة، بيروت 1337 ه. ق 1: 489.

ص: 22

ابن منظور: «الجديل حبل مفتول من أدم أو شعر يكون في عنق البعير أو الناقة». والذي يصحّح اطلاق الجديل على زمام النّاقة أو البعير هو أن هذا الزّمام مفتول وأُحكم فَتْله. وبهذه المناسبة تستعمل كلمة المجادلة في المخاصمة والمنازعة والمشاجرة،- وهي نظائر- لأن كل واحد من الخصمين يروم أن يفتلصاحبه عن رأيه الحق أو الباطل (1).

ونشير هنا إلى أن الجديل في بعض المعاجم- أيضاً- بمعنى الزّمام، وبمعنى عقدي اللؤلؤ والمجوهرات الملوّنة اللذَيْن تشدّهما المرأة علىصدرها: «الوشاح» (2).

2- اشتدادصغار الغزال والحيوانات الأخرى لتكون قادرة على أن تتبع أمّها. أو اشتداد الحبّة في السّنبلة، وبهذه المناسبة تطلق كلمة الجدل والجديل على العظام الكبيرة والمستحكمة، والعظام المجوّفة في اليد والرّجل، وعلى معان أخرى تفيد جميعها مفهوم القوّة والاستغلاظ. والجدل، باعتبار القدرة على المخاصمة والجدال، قد استعمل انطلاقاً من هذا المفهوم، ولذلك أطلقت على كل فرد لَدُود في المخاصمة (3).

وبمراجعة معاجم اللغة ودراسة النصوص الأصيلة التي وردت فيها مادّة هذه الكلمة، نستنتج أن في مفهوم هذه الكلمة- في الغالب- معنى الفتل أو الاستحكام والقوة، أو المعنيين معاً.

من هنا يجب أن نتلمّس في مفهوم الجدال روح هذه اللفظة: التي هي عبارة عن القدرة والقوة والفتل والشدّ.

أي أن الفرد الذي يعمد إلى الجدال يكون قوياً «ومتصلباً» في الخصومة، ويستهدفصرف الجانب الآخر عن نظرياته، ويدفعه إلى الاستسلام.

ويُرى في المعاجم توسعٌ أكثر في المدلول اللغوي للجدال، لو أردنا استعراضه لطال بنا الحديث؛ لذلك نختم الكلام مكتفين بهذا المقدار، لنبدأ الحديث في المدلول الاصطلاحي لكلمة الجدل والجدال:

ب- المفهوم الاصطلاحي للجدال والجدل: جدل/ ()

() الجدل طريقة في المناقشة والاستدلال، وأخذ معاني متعددة في المدارس الفلسفية المختلفة:

* عند سقراط: مناقشة تقوم على حوار وسؤال وجواب، يعني (التهكم والتوليد).

* عند أفلاطون: منهج في التحليل المنطقي يقوم على قسمة الأشياء إلى أجناس وأنواع، بحيث يصبح علم المبادئ الأولى والحقائق الأزلية.

* عند أرسطو ومناطقة المسلمين: قياس مؤلف من مشهورات ومسلّمات.

* عند هيغل: انتقال الذهن من قضية ونقيضها إلى قضية ناتجة عنهما، ثم متابعة ذلك حتى نصل إلى المطلق.

* عند كانط: منطق ظاهري ينحصر في سفسطة المصادرة على المطلوب وخداع الحواس. قال الجرجاني في «التعريفات»: الجدل هو القياس المؤلف من المشهورات والمسلّمات، والغرض منه إلزام الخصم وإفحام من هو قاصر عن إدراك مقدّمات البرهان (4).

الجدل والمجادلة في القرآن الكريم والأحاديث:


1- 1 القاموس المحيط، 3: 364- وكتاب معجم متن اللغة، 1: 490.
2- 2 القاموس المحيط، 3: 364- وكتاب معجم متن اللغة.
3- 3 انظر المراجع السابقة المذكورة في اللغة، الفيروز آبادي وابن منظور على أن «الجدل» بالتحريك: اللّدَدْ في الخصومة والقدرة عليها. راجع: القاموس المحيط، 3: 347- لسان العرب، 1: 420.
4- 4 راجع لسان العرب: المصطلحات العلمية والفنية، 4: 107.

ص: 23

وردت كلمة «الجدل» في كتاب اللَّه العزيز في موضعين، ووردت مشتقّات من المجادلة في ثلاثة وعشرين موضعاً، ووردت كلمة الجدال في موضعين.

ينبغي قبل دراسة هذه المواضع التذكير بأن مصطلح «الجدل»- إضافة إلى أنه يعني في المنطق القياس المتأتي من المشهورات والمسلّمات- في علوم القرآن والتفسير يعني أيضاً، الاستدلال والقياس البرهاني. وعلى سبيل المثال:

1. بدر الدين الزركشي في النوع الثالث والثلاثين عقد باباً في كتابه «البرهان» تحت عنوان «في معرفة جدله» (1)، أي جدل القرآن.

2. وهذا هو جلال الدين السيوطي في النوع الثامن والستين فتح باباً في كتابه «الإتقان» تحت عنوان «في جدل القرآن» (2).

وهما قصدا من الجدل «مفهوماً واسعاً» يشمل القياس الجدلي والقياس البرهاني عند المنطقيين. وقال بدر الدين الزركشي:

«وقد أفرده بالتصنيف نجم الدين الطوفيّ (ت 716 ه. ق)، قال العلماء: «قد اشتمل القرآن الكريم على جميع أنواع البراهين والأدلة، وما من برهان ودلالة وتقسيم وتحذير يبنى من كليات المعلومات العقلية أو السمعية إلا وكتاب اللَّه قد نطق به ..» (3).

واضح أن المقصود من هذا المصطلح ليس هو مفاهيم الجدل الأخرى كالمغالطة والسفسطة، بل هو استخدام القياس الذي يهدي الخصم إلى الحق والحقيقة وصلاح الحال والمآل، من هنا لا يمكن القول: إن الجدل أو المجادلة تقوم على المخاصمة واللّجاج المذموم، وحتّى في القرآن الكريم- حيث وردت مشتقّات هذه الكلمة في مواضع مختلفة، وفي استعمالات متباينة- لم ترد جميعاً بمعنى الخصومة والجدال المذموم.

الجدل والمجادلة في القرآن أساساً بمفهوم الاستدلال، فوردت في مواضع بمعنى الاستدلال الخاطئ والواهي الممزوج بالمخاصمة، وفي مواضع أخرى بمعنى الاستدلال الصحيح والمنطقي ذي الأساس العقلاني المقرون بالأنس والمحبة والمودّة.

وبشكل عام أن المنهيّ عنه في القرآن من الجدل والمجادلة هو اللّجاج والعناد، والاستدلال المقرون بالسفسطة لإثبات أمر باطل بعيد عن الواقع. نقول في تفسير الآية 197 من سورة البقرة: إن الجدال والاستدلال المتجه إلى إثبات الحق ليس بمنهيّ عنه في القرآن الكريم بل هو أكثر من ذلك، فقد كُلّف المسلمون جميعاً بمثل هذا الجدال والمجادلة، كما سنرى في تفسير هذه الآية:

«الحجُّ أشهر معلومات فمن فرض فيهنّ الحجّ فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ...».

المدة لأداء مناسك الحج هي الأشهر التي عينتها الشريعة المقدسة الإسلامية، ولا يمكن أداء هذه المناسك أكثر من مرة واحدة في السنة، بينما يمكن شرعاً أداء العمرة عدّة مرات خلال أشهر السنة. والأشهر التي يمكن فيها أداء مناسك الحج على رأي الشيعة: شوال وذو القعدة وعشرة أيام من ذي الحجة أو كل ذي الحجة (4)، وأهل السّنة


1- 1 البرهان في علوم القرآن، ط دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، 2: 24. ولأجل الاطلاع على أنواع الاستدلال في القرآن، راجع نفس المصدر، 2: 24- 25.
2- 2 الإتقان في علوم القرآن، تحقيق محمد أبو الفضل ابراهيم، 4: 60. ذكر السيوطي في هذا النوع أصناف الجدل والاستدلال التي وردت في القرآن الكريم، راجع نفس المصدر 4: 60- 66.
3- 3 البرهان في علوم القرآن، 2: 24- وانظر أيضاً: الإتقان، 4: 60. حريّ بالذكر أن السيوطي في كتابه «الإتقان» لم يأت بشي ء زائد على ما في البرهان.
4- 4 انظر مجمع البيان للطبرسي، ط كتابفروشي اسلامية، طهران، 1373 ه. ق، 2: 393- وجواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام للنجفي، ط دار إحياء التراث العربي، 1981 م، 18: 12- 13.

ص: 24

أيضاً ذهبوا إلى أن الفترة هي شوال وذو القعدة وبعض أيام من ذي الحجة وقيل: إنها العشرة الأولى من هذا الشهر (1).

من هنا لا يجوز تقديم المناسك ولا تأخيرها عن هذه الأشهر، كما كان يفعل النسأة الذين كانوا يجيزون تقديم الحج وتأخيره، وقد قال اللَّه تعالى: «إنّما النسي ء زيادة في الكفر يُضلّ به الّذين كفروا يُحلّونه عاماً ويُحرّمونه عاماً ليواطئوا عدّة ما حرّم اللَّه فيُحلّوا ما حرّم اللَّه، زيّن لهم سوء أعمالهم واللَّه لا يهدي القوم الكافرين» (2)(3).

النسأة هم الذين أحلّوا التقديم والتأخير في الحج.

ومن أوجب على نفسه الحجَّ في هذه الأشهر- أي الأشهر المحدّدة لإحرام الحج- وأحرم فيها لعمرة التمتع على رأي الشيعة، فلا يجوز له أن يمارس الأعمال الجنسيّة من جماع وتلذّذ: «فلا رفث». ولا يجوز له الكذب، كما يجب أن يصون لسانه من سبّ المؤمن وشتمه، فقد قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم: «سباب المؤمن فسوق وقتاله كفر» (4).

وقيل: إن المراد بالفسوق كل ألوان المعاصي. وقال بعضهم: «إنه التنابز بالألقاب» أو «الكذب» (5)، ولا جدال في الحجِّ.

وكل ما يقدّمه الإنسان من عملصالح، فاللَّه به عليم، ولعدله يثيب الصّالحين على ما قدّموا من خير. وتأمر الآية بالتزوّد في الحجّ بما يحتاجه المسافر في الطريق، أو بالأعمال الصالحة التي هي زاد الآخرة، «فإنّ خير الزاد التقوى».

وتؤكد الآية الكريمة على التقوى لأجل مطالبة أهل العقول أن يتّقوا اللَّه «واتقون يا أولي الألباب»، هذا هو موجز تفسير الآية المذكورة في سورة البقرة.

* والذي نريد أن ندرسه ونمعن النظر فيه بدقة هنا، هو الجدال المنهي عنه في هذه الآية، ذلك لأن فئة من السطحيين أو المتزمتين الجاهلين، أو الفقهاء المأجورين للمستكبرين، المنفذين لأوامر السلاطين، اتخذوا من هذه الآية ذريعة لتوجيه سياط نقدهم إلى المسلمين، الذين يرفعونصوتهم في موسم الحجِّ بلعن شياطين الإنس والجن، والذين يستهدفون توعية المسلمين واستنهاضهم.

«ولا جدال في الحجِّ»، ما هو الجدال المَنهي عنه في الحجِّ؟

ألف- ما هو المقصود من هذا الجدال؟

1- آراء المفسرين وعلماء الشيعة في هذا المجال:

ذكر المفسرون وفقهاء الشيعة أن الجدال في الحج هو قول: «لا واللَّه» و «بلى واللَّه» جدير بالذكر أن هذا القول هو الحدّ الأدنى من الجدال، حيث يروم الفرد بذلك القسم أن يصرّ على قوله ورأيه، أو ينقض رأي مخاطبه ليرجّح عليه رأيه.

من هذا يتبيّن أن «الجدال في الحجّ»- بهذا المفهوم- مقرون بالقسم، أي مقرون بالتشديد والتأكيد، وهذا المعنى يرتبط بما ذكرناه بشأن الأصل اللغوي لكلمة الجدال.


1- 1 انظر التفسير الكبير للرازي، ط دار احياء التراث العربي، 1981 م، 5: 162- وتفسير القرآن العظيم لابن كثير، ط دار المعرفة، بيروت، 1403 ه. ق، 1: 236.
2- 2 التوبة: 37. معنى النسي ء: تأخير الأشهر الحرم عمّا رتّبها اللَّه تعالى عليه. وكانت العرب تحرّم الشهور الأربعة وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرّم ورجب وذلك مما تمسّكت به من ملّة إبراهيم وإسماعيل. وهم كانوا أصحاب غارات وحروب، فربما يشقّ عليهم أن يمكثوا ثلاثة أشهر متوالية لا يغزون ويقولون: إنّ مهنتنا هي الحرب والغارة، ولو أمسكنا عن الحرب والغارة في مدّة طويلة- يعني ذي القعدة وذي الحجة، والمحرّم- لتعبنا. فكانوا يؤخرون تحريم المحرّم إلىصفر، فيحرّمونه ويستحلّون المحرّم، فيمكثون بذلك زماناً ثم يؤول التحريم إلى المحرّم، ولا يفعلون ذلك إلا في ذي الحجة. ولمّا أحلّوا المحرّم سمّوه أحد الصفرين. قال مجاهد: كان المشركون يحجون في كل شهر عامين، فحجّوا في ذي الحجة عامين، ثمّ حجّوا في المحرّم عامين، ثمّ حجّوا فيصفر عامين، وكذلك في الشّهور حتّى وافقت الحجّة التي قبل حجّة الوداع في ذي القعدة. ثمّ حجّ النّبيصلى الله عليه و آله و سلم في العام القابل حجّة الوداع، فوافقت في ذي الحجة، فذلك حين قال النّبيصلى الله عليه و آله و سلم وذكر في خطبته: «ألا وإن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات: ذو القعدة وذو الحجّة ومحرّم. ورجب الذي بين جمادى وشعبان». أرادصلى الله عليه و آله و سلم: الأشهر الحرم رجعت إلى مواضعها، وعاد الحجّ إلى ذي الحجّة وبطل النسي ء. قال العلّامة الميرزا أبو الحسن الشعراني: قول مجاهد من الأقوال التي ليس فيها إبهام، بل هو أوضح من القول الأوّل، ولكن أوضح ما ذكر في شرح النسي ء هو ما قاله أبو ريحان البيروني في «الآثار الباقية عن القرون الخالية». وحاصله: أن السنة القمريّة تتقدّم على الشّمسية عشرة أيام تقريباً في كل عام، فإذا مضى ثلاثة أعوامصار المتأخر بمقدار شهر. وكانوا يزيدون على السنة الثالثة شهراً، ويجعلون أول السّنة الرّابعة منصفر ويسمونه «محرماً» فكان يقع حجهم في تلك السّنة من محرّم، ثم بعد سنتين فيصفر، وهكذا. وغرضهم من ذلك التشبه باليهود في تطبيق الشهور على الفصول. وفي تفسير الرازي والنيشابوري ما يعين على فهم ذلك. راجع: مجمع البيان، 5: 29 وهامشه- وكشف الأسرار وعدّة الأبرار، ط 2، طهران، 1357 ه. ش، 4: 138- روض الجنان وروح الجنان لأبي الفتوح الرّازي، ط 2، شركت تضامني علمي، طهران، 1361 ه. ق، 5: 178. وهذان التفسيران من التفاسير الّتي كتبت باللّغة الفارسيّة.
3- 2 التوبة: 37. معنى النسي ء: تأخير الأشهر الحرم عمّا رتّبها اللَّه تعالى عليه. وكانت العرب تحرّم الشهور الأربعة وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرّم ورجب وذلك مما تمسّكت به من ملّة إبراهيم وإسماعيل. وهم كانوا أصحاب غارات وحروب، فربما يشقّ عليهم أن يمكثوا ثلاثة أشهر متوالية لا يغزون ويقولون: إنّ مهنتنا هي الحرب والغارة، ولو أمسكنا عن الحرب والغارة في مدّة طويلة- يعني ذي القعدة وذي الحجة، والمحرّم- لتعبنا. فكانوا يؤخرون تحريم المحرّم إلىصفر، فيحرّمونه ويستحلّون المحرّم، فيمكثون بذلك زماناً ثم يؤول التحريم إلى المحرّم، ولا يفعلون ذلك إلا في ذي الحجة. ولمّا أحلّوا المحرّم سمّوه أحد الصفرين. قال مجاهد: كان المشركون يحجون في كل شهر عامين، فحجّوا في ذي الحجة عامين، ثمّ حجّوا في المحرّم عامين، ثمّ حجّوا فيصفر عامين، وكذلك في الشّهور حتّى وافقت الحجّة التي قبل حجّة الوداع في ذي القعدة. ثمّ حجّ النّبيصلى الله عليه و آله و سلم في العام القابل حجّة الوداع، فوافقت في ذي الحجة، فذلك حين قال النّبيصلى الله عليه و آله و سلم وذكر في خطبته: «ألا وإن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات: ذو القعدة وذو الحجّة ومحرّم. ورجب الذي بين جمادى وشعبان». أرادصلى الله عليه و آله و سلم: الأشهر الحرم رجعت إلى مواضعها، وعاد الحجّ إلى ذي الحجّة وبطل النسي ء. قال العلّامة الميرزا أبو الحسن الشعراني: قول مجاهد من الأقوال التي ليس فيها إبهام، بل هو أوضح من القول الأوّل، ولكن أوضح ما ذكر في شرح النسي ء هو ما قاله أبو ريحان البيروني في «الآثار الباقية عن القرون الخالية». وحاصله: أن السنة القمريّة تتقدّم على الشّمسية عشرة أيام تقريباً في كل عام، فإذا مضى ثلاثة أعوامصار المتأخر بمقدار شهر. وكانوا يزيدون على السنة الثالثة شهراً، ويجعلون أول السّنة الرّابعة منصفر ويسمونه «محرماً» فكان يقع حجهم في تلك السّنة من محرّم، ثم بعد سنتين فيصفر، وهكذا. وغرضهم من ذلك التشبه باليهود في تطبيق الشهور على الفصول. وفي تفسير الرازي والنيشابوري ما يعين على فهم ذلك. راجع: مجمع البيان، 5: 29 وهامشه- وكشف الأسرار وعدّة الأبرار، ط 2، طهران، 1357 ه. ش، 4: 138- روض الجنان وروح الجنان لأبي الفتوح الرّازي، ط 2، شركت تضامني علمي، طهران، 1361 ه. ق، 5: 178. وهذان التفسيران من التفاسير الّتي كتبت باللّغة الفارسيّة.
4- 3 مجمع البيان، 2: 294- تفسير القرآن العظيم، 1: 237- والكافي أصول ...، ط كتابفروشي اسلامية، طهران، 4: 64 ترى في المصدر الأخير عبارة أضيفت إلى هذا الحديث، وهي «... وأكل لحمه معصية، وحرمة ماله كحرمة دمه»، وانظر أيضاً جامع البيان للطبري، ط دار المعارف مصر، 4: 150- ومسند أحمد، 3647.
5- 4 مجمع البيان، 2: 294- روض الجنان، 1: 503- كشف الأسرار، 1: 531- المنار، 2: 227- جواهر الكلام، 18: 355.

ص: 25

حسب هذه النّظرية، لو أراد شخص أن يؤكّد أقواله أو ينقض أقوال الآخرين، ولم يمزج ذلك بقسم، ولم يشدّد على قوله بيمين، فليس ذلك من الجدال في الحجّ ولم يصدر بشأنه نهي (1). ولكي نعطيصورة أكمل عن نظرية الشّيعة في هذا الصدد، نذكر خلاصة لما ذكره المرحوم الشيخ محمّد النجفي الإصفهاني حول الجدال في الحج:

«والجدال كتاباً وسنّة وإجماعاً بقسميه (2) هو على ما في أكثر كتب الأصحاب أو جميعها وأكثر النصوص، قول «لا واللَّه» و «بلى واللَّه» (3).

ونحن نذكر بعض النصوص على سبيل المثال:

صحيح معاوية بن عمّار، قال: سألت أبا عبد اللَّه (جعفر بن محمّد الصّادق) عليه السلام عن رجل يقول: «لا لعمري» وهو محرم؟ فقال: ليس بالجدال، وإنما الجدال قول الرّجل «لا واللَّه وبلى واللَّه»، وأما قوله «لا ها» فإنما طلب الاسم، وقوله «يا هناه» فلا بأس به، وأما قوله «لا بل شانيك» فإنه من قول الجاهلية (4).

وفي خبر أبان بن عثمان عن أبي بصير- على ما في التهذيب (5)- قال أبو عبد اللَّه عليه السلام: «إذا حلف الرّجل ثلاث أيمان (6)- وهوصادق، وهو محرم- فعليه دم يهرقه، وإذا حلف يميناً واحدة كاذباً فقد جادل، فعليه دم يهرقه» (7).

لكن روي عن أبي بصير في خبر آخر أنه قال: سألته عن المحرم يريد أن يعمل العمل فيقولصاحبه: «واللَّه لا تعمله»، فيقول: «واللَّه لأعملنّه» فيخالفه مراراً، أيلزمه ما يلزمصاحب الجدال؟ قال: إنما أراد بهذا إكرام أخيه، إنما ذلك ما كان فيه معصية» (8).

الجدال عند الإمامية قول «لا واللَّه وبلى واللَّه» بدليل إجماع الطائفة وطريقة الاحتياط، وأما قول المخالف: «ليس في لغة العرب أنّ الجدال هو اليمين» ليس بشي ء؛ لأنه ليس بممتنع أن يقتضي العرف الشّرعي ما ليس في الوضع اللغوي ...، بل ظاهر الروايات اعتبار الكذب أو كونه معصية مع ذلك، فلو جادلصادقاً لم يكن عليه شي ء، مؤيد ذلك بأصل البراءة، وبنَفْي الضرر والحرج في الدين، وبأنه ربما وجب عقلًا وشرعاً، إلا أن عموم النص والفتوى، وخصوص نص الكفارة على الصّادق بخلافه، ولعل هذا ما دعا الجبعي [العاملي] إلى القول في الدّروس (9):

«الجدال فاحشة إذا كان كاذباً أو في معصية، فاذا قاله مرّتين فعليه شاة» (10).

ويقولصاحب الجواهر:

«ثمّ إن الظاهر عدم اعتبار وقوع الأمرين (يعني «لا واللَّه» و «بلى واللَّه») في تحقق الجدال، فيكفي أحدهما ...

فتلخص مما ذكرنا كون الجدال الحلف باللَّه بالصيغة المخصوصة يعني «لا واللَّه» أو «بلى واللَّه»، لا مطلق الحلف باللَّه وإن لم يكن بالصيغة المزبورة» (11).

2- الجدال في الحجّ في رأي المفسرين وفقهاء أهل السّنة:

ولكبار المفسرين والفقهاء من أهل السنة آراؤهم المتعددة في تفسير «الجدال في الحجّ» ونحن نلقي عليها الضوء باختصار:

* يعقد الطبري وغيره في تفاسيرهم بحثاً مفصلًا بشأن الجدال في الحجّ، ملخصه ما يلي:


1- 1 راجع: تفسير البرهان للسيد هاشم البحراني، ط مؤسسة الرسالة، بيروت 1403 ه. ق: 199- 201- مجمع البيان وهامشه، 2: 294- الميزان في تفسيرالقرآن للعلّامة الطباطبائي، ط 3، مؤسسة الأعلمي، بيروت 1393 ه. ق، 2: 79- جواهر الكلام، 18: 355 و 359- 361.
2- 2 يعني الإجماع المنقول والإجماع المحصل.
3- 3 جواهر الكلام، 18: 359.
4- 4 نفس المصدر.
5- 5 وهو كتاب تهذيب الأحكام للشيخ الطّوسي، ويعدّ من الكتب الأربعة عند الإمامية.
6- 6 بصيغة «لا واللَّه أو بلى واللَّه».
7- 7 جواهر الكلام، 18: 360.
8- 8 نفس المصدر، 18: 360- 361.
9- 9 هو كتاب «الدروس الشرعية في فقه الإمامية» للشهيد الأول.
10- 10 جواهر الكلام، 18: 361.
11- 11 نفس المصدر، 18: 364.

ص: 26

* قال بعضهم: معنى ذلك النهي هو المنع عن أن يجادل الُمحْرم أحداً، وهو أن تماريصاحبك حتى تغضبه، وأورد الطبري أحاديث كثيرة بهذا التعبير في كتابه (1).

* الجدال في الحجّ: السباب والمراء والخصومات (2).

* عن محمد بن كعب القرظي قال: الجدال، كانت قريش إذا اجتمعت بمنى قال هؤلاء: حجّنا أتمّ من حجّكم (3).

* عن القاسم بن محمّد أنه قال: الجدال في الحج أن يقول بعضهم: الحجّ اليوم، ويقول بعضهم: الحجّ غداً.

* قال ابن زيد في قوله: «ولا جدال في الحجّ» قال: كانوا يقفون مواقف مختلفة يتجادلون، كلّهم يدّعي أن موقفه موقف إبراهيم، فقطعه اللَّه حين أعلم نبيّهصلى الله عليه و آله و سلم بمناسكهم (4).

* ولا جدال في الحج، خبر من اللَّه تعالى عن استقامة وقت الحج على ميقات واحد لا يتقدّمه ولا يتأخره، وبطلان فعل النسيى ء (5) (ونحن أسهبنا القول في تفسير معنى النسيى ء كما سبق في هذا المقال).

واختار الطبري هذا القول من بين سائر الأقوال لبيان مدلول «الجدال في الحج». ثم يقول: وإنما اخترنا هذا التأويل في ذلك ورأيناه بالصواب مما خالفه، لما قدّمناه من البيان آنفاً في تأويل قوله: «ولا فسوق»: انه غير جائز أن يكون اللَّه خصّ بالنهي عنه في تلك الحال مطلق مباح في الحال التي يخالفها، وهي حال الإحلال، وذلك أن حكم ما خصّ به من ذلك حال الإحرام، وان كان سواء فيه حال الإحرام وحال الإحلال فلا وجه لخصوصه به حالًا دون حال، وقد عمّ به جميع الأحوال. وإذ كان ذلك كذلك وكان لا معنى لقول القائل في تأويل قوله: «ولا جدال في الحج»، ان تأويله: «لا تمارصاحبك حتى تغضبه» إلا أحد المعنيين:

- إمّا أن يكون أراد: لا تماره بباطل حتى تغضبه، فذلك ما لا وجه له، لأن اللَّه- عزّ وجلّ- قد نهى عن المراء بالباطل في كل حال، محرماً كان المماري أو محلًّا، فلا وجه لخصوص حال الإحرام بالنهي عنه، لاستواء حال الإحرام والإحلال في نهي اللَّه عنه.

- أو يكون أراد: لا تماره بالحق، وذلك- أيضاً- لا وجه له؛ لأن الُمحرم لو رأى رجلًا يروم فاحشة كان الواجب عليه مراءه في دفعه عنها، أو رآه يحاول ظلمه والذهاب منه بحق له قد غصَبَهَ عليه، كان عليه مراءه فيه وجداله حتى يتخلّصه منه (6).

* ويقول محمّد رشيد رضا:

«وقيل: هو المراء بالقول، وهو يكثر عادة بين الرّفقة والخدم في السّفر، لأنّ مشقّته تضيّق الأخلاق، هذا هو المشهور» (7).

كما قال البروسوي: «ولا جدال» أي لا مراء مع الخدم والمُكارين؛ لأنه يُفْضي إلى التّضاغن وزوال التأليف.

فأما الجدال على وجه النظر في أمر من أمور الدين فلا بأس به (8).

يقول محمّد رشيد رضا:

«قال الأستاذ الإمام (محمد عبده): إن تفسير الكلمات الثلاث (أي الرفث والفسوق والجدال) ينبغي أن يكون متناسباً وبحسب حال القوم في زمن التشريع.


1- 1 جامع البيان، ط دار المعرفة، بيروت، 1400 ه. ق، 2: 158 و 159- وانظر أيضاً: تفسير القرآن العظيم، دار المعارف، بيروت، 1402 ه. ق: 238.
2- 2 نفس المصدر، 2: 159- وانظر أيضاً: كشف الأسرار، 1: 531- التفسير الكبير، 5: 165.
3- 3 نفس المصدر، 2: 159. قال مالك في الموطأ: الجدال في الحجّ أن قريشاً كانوا يقفون عند المشعر الحرام في المزدلفة بقزح، وكان غيرهم يقفون بعرفات، وكانوا يتجادلون، ويقول هؤلاء: نحن أصوب، قال اللَّه تعالى: «لكل أمّة جعلنا منسكاً هم ناسكوه فلا ينازِعُنّك في الأمر وادع إلى ربّك إنك لعلى هدى مستقيم وإن جادلوك فقل اللَّه أعلم بما تعملون». قال مالك: هذا هو الجدال فيما يُرْوى واللَّه أعلم. راجع التفسير الكبير، 5: 165- تفسير القرآن العظيم، 1: 238.
4- 4 جامع البيان، 2: 159.
5- 5 نفس المصدر، 2: 159- 160- والتفسير الكبير، 5: 165.
6- 6 جامع البيان، 2: 160.
7- 7 تفسير المنار، 2: 277.
8- 8 روح البيان، 1: 314.

ص: 27

- فأما الرفث: فهو كما قيل: الجماع.

- وأما الفسوق: فهو الخروج عمّا يجب على الُمحْرم إلى الأشياء التي كانت مباحة في الحل، كالصيد والطيب والزينة باللباس الَمخيط.

- والجدال: هو ما كان يجري بين القبائل من التنازع والتفاخر في الموسم.

فبهذا يكون التناسب بين الكلمات، وإلّا حمّلت كلها على مدلولها اللغوي، فجعل الرّفث: قول الفحش، والفسوق: التنابز بالألقاب على حدّ «ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق» والجدال: المراء والخصام. فتكون هذه المناهي كلّها آداباً لسانية (1).

بعد هذه الجولة في آراء الفريقين بشأن «ولا جدال في الحجّ» نطرح هذا السؤال: هل الجدال ضد شياطين الجنّ والإنس ممنوع في حال الإحرام؟

يقول الإمام فخر الدين الرّازي في ثنايا تفسير الآية الّتي نحن بصددها:

«وأما جمهور المتكلمين فإنهم قالوا: الجدال في الدين طاعة عظيمة، واحتجّوا عليه بقوله تعالى: «ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ...» (2)، وبقوله- تعالى- حكاية عن الكفار، إنّهم قالوا لنوح عليه السلام: «قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا ...» (3). ومعلوم أنّ ذلك الجدال ما كان إلّالتقرير أصول الدّين.

إذا ثبت هذا فنقول: «لا بد من التوفيق بين هذه النصوص (يعني النصوص التي ذكرها الرّازي)، فنحمل الجدال المذموم على الجدل في تقرير الباطل وطلب المال والجاه، والجدال الممدوح على الجدل في تقرير الحق، ودعوة الخلق إلى سبيل اللَّه، والذبّ عن دين اللَّه» (4).

إن مناسك الحجِّ بأسرها طافحة بمظاهر الجدال، الجدال في تقرير الحق، ودعوة الخلق إلى سبيل اللَّه، والذبّ عن دين اللَّه، الجدال مع الشيطان ومخاصمته وتحدّيه. هذه المناسك العظيمة تبتدئ بهذا الموقف المتصلّب إزاء الشيطان وتنتهي به: رمي الجمار الذي يتم في المراحل الأخيرة من المناسك هو تجسيد معنى الاستعداد الدّاخلي، وللتأهّب نحو مواجهة العدو الأصلي المتمثّل بالشيطان، ومن ثمّ رميه.

الرّمْي يُبْدأ بدعاء: «اللهمّ ادْحَر عنّي الشّيطان»، وهو تعبير عن إدانة العامل الأساسى في ارتكاب المعاصي، والوقوع في أنواع الشقاوة والتهلكة، والحاج بهذا يعلن عن عزمه على مواجهة ومجابهة ومجادلة خطط الشيطان الماكرة بكل ألوانها.

الحاج في مثل هذه الحالة يُعرب عن ذروة رفضه لكل فساد ولكل عامل فساد، ويستثمر فرصة وجوده مع سائر أبناء أمته الإسلامية ليوطّد عرى تلاحمه، وليوحّد خطاه معهم، ثمّ يرمي أعداءه (من شياطين الإنس) كما رمى رموز الشياطين المتمثّلة بالجمرات.

وهذه الظاهرة توعية للمسلمين وشحذ لهممهم ودفعهم إلى أن لا يُرْهبوا من قوى الشرق والغرب المعادية


1- 1 تفسير المنار، 2: 227.
2- 2 النّحل: 125.
3- 3 هود: 32.
4- 4 التفسير الكبير، 5: 165.

ص: 28

للإسلام، ولا يخافوا شياطين الجنّ والإنس؛ لأنهم قادرون بتلاحمهم أن يهزموا أعداءهم مهما تزايدت قدرة الأعداء.

رمي الجمار يصعّد روح المقاومة والجهاد في نفوس المسلمين ليواجهوا الأعداء ويجادلوهم ويمنعوهم من كل تطاول على مقدسات المسلمين، ويكفوا أيديهم عن نهب ثروات المسلمين الماديّة والمعنويّة.

هل الحجّ الذي ينطوي على هذه المفاهيم الثائرة الملحميّة يجب أن يمرّ بهدوء دون أن يحرّك ساكناً؟

ألا ينبغي أن يكون الحج أبرز مظاهر إلقاء الرّعب في قلوب أعداء اللَّه؟ ألا يجب أن ترتفع فيه أصوات المسلمين مندّدة بالشياطين الكبرى والوسطى والصغرى؟ وهل مثل هذا العمل من الجدال منهيٌّ عنه في الحج؟

لو كانت كل ألوان المقاومة والصمود والمجادلة محظورة في موسم الحجّ لانتفى رمي الجمار؛ لأنه لون من ألوان المقاومة ومقارعة الشيطان، ولانتفى بعد ذلك كل موقف يتّخذه المسلمون في هذا الموسم بوجه من يذلّونهم وينتهكون حرماتهم ويسرقون ما عندهم.

هؤلاء الذين يريدون أن يُبْعدوا الحج عن كل ما يزعج طواغيت الأرض، عليهم أن يمنعوا التكبير والتهليل أيضاً، لأنّ في كلمة «اللَّه أكبر» تصغيراً لشأنهم ولشأن كل ما سوى اللَّه، وكلمة «لا إله إلّااللَّه» تُنزّل هؤلاء الطّغاة من عرش ألوهيّتهم، وتبعد الناس عن عبادتهم؛ لأنها دعوة إلى إخلاص العبوديّة للَّه دون سواه.

أيّ مفسّر وأيّ فقيه من مفسّري وفقهاء المذاهب الإسلاميّة قال: إن مجادلة شياطين الأرض، وإعلان الوقوف بوجه الظالمين والطّغاة هي الجدال المنهيّ عنه في الحجّ؟ كل مظاهر ومناسك الحجّ تنبئ بأنّ هذه المناسك ينبغي أن تتحول إلىصرخة تصمّ آذان الطغاة، وإلى وهج يعمي عيون الظّالمين، وإلى حشد قوي متماسك يلقي الرّعب في قلوب أعداء اللَّه. ولعلّ ذلك هو السبب في ضرورة التلبية الجماعية وضرورة رفع الصوت بالتلبية في موسم الحجّ.

قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم:

«أتاني جبريل فقال لي: إن اللَّه يأمرك أن تأمر أصحابك أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية فإنها من شعار الحجِّ» (1).

وقال أيضاً: «أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي ومن معي أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية» (2).

وليس ذلك منحصراً في التلبية فقط، بل في كل شعارات الحجِّ، قال (عليه أفضل الصلاة والسلام): «أمرني جبريل برفع الصوت في الإهلال، فإنه من شعائر الحجِّ» (3).

لا أدري كيف تبلغ الجرأة بالمدافعين عن مصالح القوى الكبرى لأن يعلنوا أن رفع الصّوت بكل شعار إسلامي مناف لأهداف الحج؟ ولعلّ الجرأة تبلغ بهم إلى منع الهرولة في السعي بين الصّفا والمروة لأنها نوع من التّحرّك الشديد.

كيف يريد هؤلاء سلب الحجّ من مظاهر الحركة، وكلّه حركة تتبلور في طواف وسعي وإفاضة آناءَ الليل وأطراف النّهار؟

إنّ الحجَّ انقطاع عن الانشداد بالأرض والاتجاه نحو بيت اللَّه الحرام «رجالًا» وعلى كل «ضامر» لإعلان الالتفاف حول محور دين اللَّه، ولمقارعة كل أعداء اللَّه من شياطين الإنس والجن.

ألم يصرّح المفسرون عند تفسير قوله تعالى: «ولا جدال في الحجّ» أن الجدال في الدّين طاعة عظيمة (4)؟ ألم


1- 1 كنز العمّال، ط أوفست عن نسخة حيدر آباد، مؤسسة الرّسالة، بيروت، 1399 ه. ق، 5: 31.
2- 2 نفس المصدر.
3- 3 نفس المصدر.
4- 4 التفسير الكبير، 5: 167.

ص: 29

يقل سبحانه وتعالى: «ادع إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالّتي هي أحسن»؟

وهل استثنى موسم الحجّ من مجادلة الكفر المتحكّم في رقاب المسلمين، والفساد المستشري في بلادهم، وشياطين الإنس والجنّ بمقدّراتهم؟

هل الأمر بالدعوة إلى سبيل اللَّه لا يشمل موسم الحجِّ الذي تطفح مناسكه بالحركة والمقاومة والمنافع؟ لم يقل بذلك مفسر وفقيه.

لم يجرؤ عالم حتى اليوم أن يقول: إنّ على المسلمين أن يتّخذوا في موسم الحجِّ موقف السّكوت والسّكينة واللامبالاة تجاه ما يجري على المسلمين من مصائب، وما يحلّ بهم من تقتيل وتشريد ونهب وانتهاك.

الحجُّ أصلًا والاحتجاج من أصل لغوي واحد، «وتَحاجّوا» تعني تجادَلوا، والِمحجاج: الذي يكثر الجدل (1)، فكيف- والحالة هذه- يمرّ الحجّاج- وهم قادمون (من كلّ فجّ عميق) ليتجمّعوا على أرض الطواف حول بيت اللَّه، وأرض رمي الشّيطان عدو اللَّه- مرّ الكرام تجاه ما ينزل بالمسلمين من قبل قوى الشّرق والغرب، ومن دون أن ينبسوا ببنت شفة، ومن دون أن يدينوا- على الأقلّ- الغرب والشرق على جرائمهما في فلسطين المحتلّة ولبنان والبوسنة والهرسك.

كيف بمقدور أمّة- فيها ولو ذرّة من وعي وغيرة- أن تتجمّع في موسم الحجِّ، ثمّ تغمض عيونها عمّا يفعله اليهود والصهاينة في أرض فلسطين المحتلّة، وعمّا ينوون أن يفعلوه؟

كيف يمكنهم أن يسكتوا أمام مخططاتهم الرّامية إلى السيطرة على عالمنا الإسلامي من النّيل إلى الفرات؟

إنّ ما يشهده موسم الحجِّ خلال الأعوام الأخيرة إنّما هو تعبير طبيعي عن الصّحوة الّتي تصاعدت في إيران، وعمّ نورها بقاعاً مختلفة من عالمنا الإسلامي، ولا يمكن أبداً إخماد هذه الصّحوة باسم «... ولا جدال في الحج ...» لأن الحجّ من مناهج الدّين، والدّين قال لنا:

«مَن أصبح ولم يهتمّ بأمور المسلمين فليس بمسلم». نعم لا يمكن للمسلم أن ينسى كل أصول دينه وفروعه لإرضاء فئة تريد أن تحوّل الحجَّ إلى مقبرة والحجيجَ إلى أموات. لا يمكنهم؛ لأنّ مناسك الحجِّ حركة وكفاح، ولأنّ الدّين كلّه حركة توحيديّة ترفض الآلهة المزيّفة، وتقارع شياطين الجنّ والإنس.

الحجُّ نفسه جهاد، والجدال مع الكفر في موسم الحجِّ جهاد مضاعف وطاعة أخرى.

يقول الإمام فخر الدّين الرّازي في تفسير «فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحجِّ»: «ولو كان الجدال في الدّين طاعة وسبيلًا إلى معرفة اللَّه تعالى لما نُهي عنه في الحجِّ، بل على ذلك التّقدير كان الاشتغال بالجدال في الحجّ ضمّ طاعة الى طاعة، فكان أولى بالترغيب فيه ...

فَتُحْمل الجدل المذموم على الجدل في تقرير الباطل وطلب المال والجاه، والجدال الممدوح على الجدل في تقرير الحق ودعوة الخلق إلى سبيل اللَّه والذبّ عن دين اللَّه تعالى» (2).

شرّع اللَّه سبحانه وتعالى الحجَّ لتحقيق منافع سامية للأمة الإسلامية منها:


1- 1 المعجم الوسيط، 1: 156 و 157.
2- 2 التفسير الكبير، 5: 165.

ص: 30

إن المسلمين المتّجهين إلى بيت اللَّه ينقطعون عن بيئتهم، ويهجرون الأهل والأحباب، ويتركون ما كانوا يألفونه كل يوم من سكن وعمل رتيب، ويهاجرون أوطانهم نحو بيت اللَّه الحرام، وقبل أن يدخلوه، عليهم أن يتجرّدوا من ثيابهم وينزعوا من نفوسهم وأبدانهم كل مفاخرهم ورواسبهم وامتيازاتهم، ويتّجهوا بشكل واحد وبخطىً متّحدة نحو مكّة المكرّمة ليكونوا علىصعيد بيت اللَّه الحرام أشبه بالمبعوثين في عالم المحشر.

وفي هذا الجو المتحرّر من الذّات والذّاتية، ومن الأنا والأنانية يعيش الإنسان- بطبيعة الحال- هموم أمّته أكثر من ذي قبل، ويفكّر بشؤون المسلمين وما يحيط بهم من مشاكل، ويزداد اهتمامه بالأمور العامّة بعد أن كانت الهموم الخاصّة تشغله وهو بين أهله ومتاعه.

ثمّ إن أرض مكّة طافحة بالذكريات التي تستحث المسلم أن يراجع أحداثها، ويدرس وضعه ووضع المسلمين على ضوئها، فهي أرض التوحيد وإخلاص العبوديّة للَّه، وأرض تحطيم الأصنام ومقارعة الوثنيّة والشّرك. وكل هذه الظواهر القائمة على أرض مكّة المقدّسة تدفع بالحاج لأن يفكّر في الأصنام البشرية وغير البشريّة المنتصبة على ظهر الأرض، وفي الآلهة المزيّفة التي تحثّ الناس على أن يعبدوها من دون اللَّه. ذكريات هذه الأرض تعيد إلى الأذهان ذلّ الكفر حين ظهر الإسلام وعلّم أبناءه قائلًا:

«... ولن يجعل اللَّه للكافرين على المؤمنين سبيلًا» (1). وحين علّمهم أنّ العبادة- وخاصة عبادة الحجِّ- لا تنفصل عن الجهاد: قالصلى الله عليه و آله و سلم: «الحجّ جهاد، والعمرة تطوّع» (2). وقال أيضاً: «نعم الجهاد الحجّ» (3). أين هذه التعاليم السّامية الحركية من وضعنا الرّاهن اليوم، حيث الجمود والخمود والذّل والاستكانة، وحيث الأعداء يفترسون أشلاء جسد أمتنا الإسلامية من كل حدب وصوب، وحيث أفرغت العبادات من كل محتوى وتحوّلت إلى طقوس خالية من كل روح؟

أين هذه التعاليم من هذه الفتاوى التي يصدرها بعض الفقهاء داعية المسلمين إلى الكفّ عن إدانة أعداء اللَّه في موسم الحجِّ ومعلنة حرمة هذا العمل؟

وعلى هذا لا نجد مبرراً أن تصدر فتاوى لا تنسجم إطلاقاً مع روح الحجّ، ولا يستفيد منها إلا منتهكو أعراض المسلمين ومقدساتهم. وعلى المسلمين اليوم أن ينصاعوا لقوله تعالى: «ولا تَتبعوا أهواء قوم قد ضلّوا من قبل وأضلّوا كثيراً وضلّوا عن سواء السّبيل» (4).

وعليهم أن يصيغوا السّمع لنداء اللَّه سبحانه ويحوّلوا الحج كما كان في عهد رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم منطلق البراءة من المشركين: «وأذان من اللَّه ورسوله إلى النّاس يوم الحجّ الأكبر أنّ اللَّه بري ء من المشركين ورسولُه ...» (5).

عليهم أن يفهموا أن منطلق البراءة من المشركين لا يجوز تحويله إلى خمود وخنوع، ولا يجوز إفراغه من محتواه الحركي النّاهض، بل يجب أن يكون في عصرنا هذا منطلق الصّرخة الّتي ترهب أعداء اللَّه، ومنطلق العزّة التي تعيد الرّفعة لدين اللَّه، ومنطلق الحركة نحو استعادة العزّة التي شاءها اللَّه- تعالى- لنا.

نسأل اللَّه- سبحانه وتعالى- أن يمنّ على أمّتنا الإسلاميّة باليقظة والصحوة، وبالعودة إلى إسلامنا الحقيقي لنعود أمّة واحدة «شاهدة» على ساحة التأريخ و «وسطاً» بين شعوب العالم.

الهوامش:


1- 1 النساء: 141.
2- 2 سنن ابن ماجة المناسك، 44. راجع: المعجم المفهرس لألفاظ الحديث.
3- 3 الجامع الصحيح، البخاري، 62.
4- 4 المائدة: 77.
5- 5 التوبة: 3.

ص: 31

أدنى الحِلِّ «مواقيت العمرة المفردة لمن كان بمكّة»

ص: 32

أدنى الحِلِّ «مواقيت العمرة المفردة لمن كان بمكّة»

حسن الجواهري

إن المقصود بأدنى الحِلِّ: هو أقرب الأماكن الى حدود الحرم من خارج الحدود؛ ولهذا تعرف المنطقة التي تقع داخل حدود الحرم ب (الحرم)، لما لها من أحكام خاصة تقديساً لمكّة.

وتعرف المنطقة التي تقع خارج الحدود ب (الحِل) لأن اللَّه تعالى حلّل فيها ممارسة ما حرم داخل الحدود.

وقد انعكس ذكر (الحل والحرم) في الشعر العربي، كما ورد في قول الفرزدق مادحاً الإمام علي بن الحسين (زين العابدين) عليه السلام فقال:

هذا الذي تعرفُ البطحاء وطأته والبيتُ يعرفه والحلّ والحرمُ وقد جعل الشارع المقدّس أدنى الحِلِّ ميقاتاً للعمرة المفردة على نحو الرخصة بالتفصيل الآتي:

لقد ذكر الفقهاء (رضوان اللَّه عليهم) أن القارن أو المفرِد أو المتمتع بعد إتمام حجّة التمتع، أو مَنْ كان بمكّة ليس بحاجٍ أو مَنْ تعدَّى المواقيت (التي وقَّتَها رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم للإحرام وأراد الدخول الى مكّة) إذا أراد اتيان العمرة المفردة فميقاته أدنى الحِل بلا خلاف في ذلك، ومعنى ذلك هو أن يخرج المعتمر مثلًا الى خارج حدود الحرم المحدّد في الروايات بأنه: «بريد في بريد» فيحرم منه. وقد ذكر الفقهاء استحباب أن يحرم المعتمر من الجعرانة أو الحديبيّة أو التنعيم، للتصريح بها في الروايات، وللتأسي، فمن الروايات:

1- ما عن معاوية بن عمار في الصحيح عن الإمام الصّادق عليه السلام قال:

«اعتمر رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم ثلاث عمر متفرقات: عمرة ذي القعدة، أهلّ من عسفان وهي عمرة الحديبية، وعمرة أهلّ من الجحفة وهي عمرة القضاء، وعمرة من الجعرانة بعدما رجع من الطائف من غزوة حنين» (1).

وقد نقل عن طريق أبناء السنة عن ابن عباس: «أن النبيّصلى الله عليه و آله و سلم اعتمر أربع عمر: عمرة الحديبية وعمرة القضاء من قابل، والثالثة من الجعرانة والرابعة التي مع حجته» (2).

أقول: وظاهر الروايتين جواز الإحرام من عسفان، وهو يبعد عن مكة مرحلتين (48 كيلومتراً) تقريباً، وهو ليس ميقاتاً، وليس من أدنى الحِل.

ولكن الإمام الخوئي رحمه الله ذكر ما يلي: «إن الذي يظهر من الروايات الصحيحة والتواريخ المعتبرة أن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم إنما اعتمر بعد الهجرة عمرتين، وإنما عبّر في الصحيحة


1- 1 وسائل الشيعة، 10: باب 2 من أبواب العمرة ح 2.
2- 2 وسائل الشيعة، 10: باب 2 من أبواب العمرة ح 6.

ص: 33

المتقدمة بثلاث عمر باعتبار شروعه في العمرة والإحرام لها، ولكن المشركين منعوه من الدخول الى مكّة، فرجعصلى الله عليه و آله و سلم بعد ماصالحهم في الحديبية، واعتمر في السنة اللاحقة قضاءً عما فات عنهصلى الله عليه و آله و سلم وعن أصحابه فسُميت بعمرة القضاء، كماصرح بذلك فيصحيحة أبان عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «اعتمر رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم عمرة الحديبية وقضى الحديبية من قابل، ومن الجعرانة حين أقبل من الطائف ثلاث عمر كلهن في ذي القعدة» (1).

وفيصحيحةصفوان أنهصلى الله عليه و آله و سلم أحرم من الجعرانة (2).

فالذي يستفاد منصحيحة معاوية بن عمار: أن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم أحرم من مسجد الشجرة للعمرة، ورفعصوته بالتلبية من عسفان (وهو معنى أهلّ) وهي العمرة التي منعه المشركون من الدخول الى مكة وصالحهم في الحديبيّة، ورجع من دون إتيان مناسك العمرة، ثم في السنة اللاحقة اعتمر وأحرم من مسجد الشجرة، وأهلّ ورفعصوته بالتلبية من الجحفة فسُميت بعمرة القضاء، وأما الجعرانة فالظاهر من الصحيحة أنهصلى الله عليه و آله و سلم أحرم منها لظهور قوله «وعمرة الجعرانة» في أن ابتداء العمرة كان من الجعرانة، لا أنه أحرم قبل ذلك، ورفعصوته بالتلبية من الجعرانة، كماصرح بذلك فيصحيحة أبان المتقدمة. فالمستفاد من الصحيحة جواز الإحرام للعمرة المفردة من الجعرانة اختياراً وإن لم يكن من أهل مكّة كالنبيصلى الله عليه و آله و سلم وأصحابه، كما يجوز الإحرام من أدنى الحِلّ، ولكن يختص ذلك بمن بدى له العمرة في الأثناء (3).

أقول: وعلى هذا الذي تقدم، فستكون هذه الرواية دليلًا على جواز الإحرام من الجعرانة، التي هي أقرب الحلِّ الى الحرم فقط.

2- ما عن جميل بن دراج في الصحيح قال: «سألت الإمام الصادق عليه السلام عن المرأة الحائض إذا قدمت مكّة يوم التروية؟ قال عليه السلام: تمضي كما هي الى عرفات فتجعلها حجة، ثم تقيم حتى تطهر فتخرج الى التنعيم فتحرم فتجعلها عمرة، قال ابن أبي عمير: كماصنعت عائشة» (4).

وكانصنع عائشة كما ذكره ابن ادريس في آخر السرائر نقلًا من كتاب معاوية بن عمار فقال:

«... إن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم نزلها (البطحاء) حين بعث عائشة مع أخيها


1- 1 وسائل الشيعة، 10: باب 2 من أبواب العمرة ح 3.
2- 2 وسائل الشيعة، 8: باب 9 من أقسام الحجّ ح 6.
3- 3 مستند العروة الوثقى، كتاب الحج، 2: تقريرات الإمام الخوئي، بقلم السيد رضا الخلخالي: 391- 392.
4- 4 وسائل الشيعة، 8: باب 21 من أقسام الحجّ، ح 2.

ص: 34

عبد الرحمن إلى التنعيم فاعتمرت لمكان العلّة التي أصابتها؛ لأنها قالت لرسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم ترجع نساؤك بحجّة وعمرة معاً، وأرجع بحجّة؟

فأرسل بها عند ذلك ...» (1).

3- روى ابن بابويه في الصحيح عن عمر بن يزيد عن الإمام الصّادق عليه السلام: «مَنْ أراد أن يخرج من مكّة ليعتمر فليعتمر من الجعرانة أو الحديبية أو ما أشبههما» (2).

وهذه الرواية تشمل جميع مواضع الحرم لقوله عليه السلام: أو ما أشبههما، كما أنها مطلقة من حيث كون العمرة مسبوقة بالحجّ أم لا فحينئذٍ لا ينبغي الريب في هذا الحكم.

أقول: تبين من هذه الروايات:

أن ثلاثة مواقيت قد فضِّلت في إحرام العمرة المفردة على بقية نقاط أدنى الحِل وهي:

1- الحديبية.

2- الجعرانة.

3- التنعيم.

أما الجحفة فهي ميقات أبعد من أدنى الحِلّ بكثير، يمرّ بها- الآن- حجاج البحر القادمون عن طريق ميناء ينبع من مصر وغيرها، وحجاج البرّ القادمون من الأردن عن طريق العقبة. وقد رأينا أن النبيصلى الله عليه و آله و سلم أهلَّ منها، وكذا عسفان التي تبعد عن مكة مرحلتين.

ولا بأس بالإشارة الى أن هذه المواقيت الثلاثة هي رخصة لا عزيمة كما ذكر ذلكصريحاً شيخ الطائفة وصاحب الجواهر 0 (3).

وبهذا يكون من الجائز الخروج الى أحد المواقيت كالجحفة ويلملم والعقيق وغيرها للإحرام منها، وذلك للروايات الدالة على أن هذه المواقيت لأهلها ولمن أتى عليها من غير أهلها، فقد روىصفوان بن يحيى في الصحيح عن الإمام أبي الحسن الرضا عليه السلام فكتب: «... إن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم وقَّت المواقيت لأهلها، ومن أتى عليها من غير أهلها، وفيها رخصة لمن كانت به علة، فلا تجاوز الميقات إلا من علّة» (4).

والذي نريد أن نبحثه الآن هو تفصيل المواقيت الثلاثة:

وهي: (الحديبية، الجعرانة، التنعيم)، وما أشكل على موضع التنعيم من كونه أبعد من موضعه الحالي والجواب عنه، فنقول:

1- الحديبية:

«بضم الحاء المهملة، ففتح الدال المهملة ثم ياء مثناة تحتانية ساكنة، ثم باء موحدة، ثم ياء مثناة تحتانية ثم تاء التأنيث: وهي في الأصل اسم بئر خارج الحرم على طريق جدّة عند مسجد الشجرة، التي كانت عندها


1- 1 نفس المصدر، باب 3 من أقسام الحج، ح 4.
2- 2 نفس المصدر، باب 22 من المواقيت، ح 1.
3- 3 جواهر الكلام، 18: 119.
4- 4 وسائل الشيعة، 8: باب 15 من ابواب المواقيت، ح 1.

ص: 35

بيعة الرضوان» التي نزل فيها القرآن:

«لقد رضي اللَّه عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة ...» (1).

وقال الخطابي في أماليه: سُميت بالحديبية لشجرة حدباء كانت في ذلك الموضع، وبين الحديبية ومكة مرحلة:

«وفي الحديث: إنها بئر» وبعض الحديبية في الحِل وبعضها في الحرم وهو أبعد الحلّ من البيت ... وعند مالك بن أنس انها جميعها من الحرم (2).

ضبط الكلمة:

فقد استعملت الياء المثناة المفتوحة بالتخفيف والتشديد، وفي كشف اللثام، قال السهيلي:

«والتخفيف أعرف عند أهل العربية، وقال أحمد بن يحيى: لا يجوز فيها غيرُه وكذا عن الشافعي». وقال أبو جعفر النحاس: «سألت كل من لقيت ممن أثق بعلميته من أهل العربية عن الحديبية فلم يختلفوا على أنها مخففة.

وقيل: إن التثقيل لم يُسمع من فصيح» (3).

وقال في الحدائق الناضرة:

«قال ابن ادريس في السرائر:

الحديبية اسم بئر خارج الحرم يقال:

الحديبية بالتخفيف والتثقيل، وسألت ابن العطار النوهي، فقال: أهل اللغة يقولونها بالتخفيف وأصحاب الحديث يقولونها بالتشديد، وخطّه عندي بذلك، وكان إمام اللغة ببغداد» (4).

وفي تهذيب الأسماء عن مطالع الأنوار: «ضبطناها بالتخفيف عن المتقنين وأما عامة الفقهاء والمحدثين فيشددونها» (5).

وتعرف منطقة الحديبية- اليوم ب «الشميسي» بالتصغير، وتقع غربي مكة المكرمة في الحِل على طريق مكة- جدة القديم، بينها وبين علمي الحرم المكي مسافة قليلة، وبين العلمين ومكة حوالي اثنين وعشرين كيلو متراً.

2- الجعرانة:

ضبطها «بكسر الجيم وإسكان العين المهملة وتشديد الراء المهملة المفتوحة» كما عن الجمهرة. وعن الأصمعي والشافعي: «بكسر الجيم وإسكان العين وتخفيف الراء. قيل العراقيون يثقلونه والحجازيون يخففونه» وحكي عن ابن ادريس:

بفتح الجيم وكسر العين وتشديد الراء أيضاً، فالراء فيها تخفف وتشدّد لاستعمالين موثقين.

وهي موضع بين مكّة والطائف


1- 1 الفتح: 18.
2- 2 معجم معالم الحجاز لعاتق بن غيث البلادي، 2: 246- 247.
3- 3 كشف اللّثام.
4- 4 الحدائق الناضرة للشيخ يوسف البحراني، 14: 455- 456.
5- 5 عن كتاب الحج، تقريرات آية اللَّه العظمى السيد الشاهرودي، 2: 294.

ص: 36

من الحِلِّ، بينها وبين مكّة ثمانية عشر ميلًا على ما ذكره الباجي، وتقع شمال شرقي مكة المكرمة، وفيها علما الحدّ، ومنها أحرم رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم لعمرته الثالثة على ما نصت عليه الروايات، وفيها مسجده الذيصلّى فيه وأحرم منه، عند مرجعه من الطائف بعد فتح مكة، ويقع هذا المسجد وراء الوادي بالعدوة القصوى ويعرف بالمسجد الأقصى لذلك، ولوجود مسجد آخر بُني من قبل أحد المحسنين يعرف بالمسجد الأدنى. وبالقرب من مسجد الرسولصلى الله عليه و آله و سلم بئر واسعة عذب ماؤها. وهي اليوم قريةصغيرة تبعد عن مكة في الشمال الشرقي لها بحوالي أربعة وعشرين كيلو متراً، وفيها المسجد الذي أقامته الحكومة السعودية محرماً، شرقي أرض المسجد القديم دونما فصل بينهما .. (1) ولكن مؤلف معجم معالم الحجاز ذكر عن الجعرانة: «ومن قال: إنها (الجعرانة) بين مكة والطائف فقد أخطأ، فهي شمال مكة، مع ميل إلى الشرق ولا لزوم في ذكر الطائف في تحديدها أبداً، إذ هي لا تبعد عن مكة بأزيد من (29) كيلو متراً» (2).

الجعرانة وموقعها الجغرافي:

ذكر مؤلف مختصر معجم معالم مكّة التاريخية أن «جبل الستار يقع قُرب الجعرانة من الجنوب، وهو الجبل الذي يُشرف على علمي طريق نجد من الشمال، والذاهب من مكة الى نخلة يجعل الستار على يساره عن قرب، والجعرانة- اليوم- قريةصغيرة فيصدر وادي سَرِف» (3).

3- التنعيم:

بفتح التاء الفوقانية المثناة «بلفظ المصدر، سُمي به موضع على ثلاثة أميال من مكة أو أربعة ... به مسجد الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ومسجد الإمام زين العابدين عليه السلام ومسجد أم المؤمنين عائشة، وسمي بالتنعيم؛ لأن جبلًا اسمه نعيم يقع عن يمينه، وعن شماله يقع جبل آخر اسمه ناعم، واسم الوادي نعمان، وهو أقرب أطراف الحِلّ الى مكة كما هو واضح الآن» (4).

والتنعيم يقع في الشمال الغربي لمكّة المكرّمة، بينها وبين سَرِف (الذي فيه قبر أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث زوجة رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم) على طريق مكة- المدينة المارِّ بوادي فاطمة (المعروف قديماً بمرِّ الظهران).

وقد ذكر مؤلف مختصر معجم معالم مكة التاريخيّة موقع التنعيم فقال:

«وادٍ ينحدر شمالًا بين جبال بشم شرقاً، وجبل الشهيد جنوباً، فيصب في وادي ياج وهو ميقات لمن أراد


1- 1 هداية الناسكين، تحقيق الدكتور عبد الهادي الفضلي: 89.
2- 2 معجم معالم الحجاز عاتق بن غيث البلادي، 2: 148- 149.
3- 3 مختصر معجم معالم مكة التاريخية عاتق بن غيث البلادي: 15.
4- 4 كتاب الحج للسيد آية اللَّه العظمى الشاهرودي، 2: 295 بتصرّف. أقول: سيأتي ان جبل نعيم جنوب شرق التنعيم مسجد العمرة وجبل ناعم يكون من ناحية الشرق.

ص: 37

العمرة من المكيين، وتسمى عمرته:

عمرة التنعيم، أي مكان الاعتمار وذلك تمييزاً لها عن عمرة الجعرانة، وكان يسمى نعمان، قال محمد بن عبد اللَّه النميري:

فلم تر عيني مثل سرب رأيتهُ خرجنَ من التنعيم معتمرات

مررنَ بفخٍّ ثمّ رحْنَ عشية يلبين للرحمن مؤتجرات

تضوَّع مسكاً بطنُ نعمان إذ مشت به زينبٌ في نسوةٍ عطرات (1) وقد ذكر في المختصر المتقدّم «وقد توهم البعض أن نعمان الوارد هنا هو نعمان الأراك وهذا خطأ، إذ إن من يعتمر قاصداً المسجد الحرام ليس قريباً من نعمان الأراك» (2).

أقول: لا ينبغي الريب في أن نعمان الذي يكون بعد الاعتمار من مسجد التنعيم لا ارتباط له بنعمان الأراك الذي يكون جنوب عرفات، وذلك: لأن التنعيم يقع شمال غربي مكّة، فالمعتمر منه الذي يريد مكة لا يمرّ بنعمان الأراك الذي يكون جنوب عرفات (3)، والذي حدده البلادي بأنه «وادٍ فحل من أودية الحجاز التهامية ... ينحدر غرباً، فيمرّ جنوب عرفات عن قرب، ثم يجتمع بعُرنة فيطلق عليه اسم عُرَنة، يمرّ بين جبلي كُساب وحَبَشي جنوب مكة على أحد عشر كيلو متراً، ويكون هناك حدود الحرم الشريف، ويتسع الوادي بين كبكب والقرضة فيسمى خبت نعمان لفياحه وسعته» (4).

ثم إنه يُعرف موضع الإحرام من التنعيم اليوم ب «العمرة»، وفيه مسجد يعرف ب «مسجد عائشة» نسبة الى أمّ المؤمنين عائشة زوجة رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم، لأن أخاها عبد الرحمن أحرم بها للعمرة من التنعيم امتثالًا لأمر رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم عندما أمره بذلك، كما ذكرت ذلك الرواية المتقدّمة، وقد شيدت الحكومة السعودية مسجداً جنوبي علمي الحرم المكّي، الماثلين حالياً وقريباً من موقع المسجد، الذي كان قبله في هذا الموضع، وقد أصبح المكان اليوم حيّاً من أحياء مكّة السكنيّة يُعرف بحيّ العمرة، يبعد عن المسجد الحرام أو مكّة القديمة (6) كيلومترات.

التشكيك في ميقات التنعيم الحالي:

هذا وقد وجدت كلمات لبعض المؤرخين الجغرافيين تلمح الى أن التنعيم الذي هو موضع الإحرام هو في غير الموضع المعروف حاليّاً بالعمرة،


1- 1 مختصر معجم معالم مكة التاريخية عاتق بن غيث البلادي: 9- 10.
2- 2 نفس المصدر.
3- 3 ومعلوم أن عرفات تقع شرقي مكّة.
4- 4 معجم معالم الحجاز، 9: 69.

ص: 38

واليك بعض الكلمات في ذلك:

1- قال أبو إسحاق الحربي الخراساني (ت 285) في كتابه المناسكص 467: «والتنعيم وراء القبر (قبر ميمونة) بثلاثة أميال، قبل مسجد عائشة، وهو موضع الشجرة، وفيه مسجد وأبيات، ومنه يحرم مَنْ أراد أن يحرم».

والشجرة التي أشار اليها هي شجرة هليلجة كانت في المسجد المعروف بمسجد الهليلجة ثمّ سقطت.

وهذا الكلام يتنافى مع ما هو واقع اليوم، من أن التنعيم بين مكة وسَرِف الذي فيه قبر ميمونة، ويتنافى مع كون التنعيم هو مسجد عائشة، التي أحرمت منه بأمر الرسول الكريم حيث يقول المؤرخ: «بأن التنعيم وراء قبر ميمونة بثلاثة أميال، وقبل مسجد عائشة».

ثم قال أبو اسحاق الحربي الخراساني: «عن مالك بن دينار عن القاسم عن عائشة: أن النبيصلى الله عليه و آله و سلم أعمرها من التنعيم، ثم مسجد عائشة بعده بنحو ميلين دون مكة بأربعة أميال».

وهذا الكلام- أيضاً- يغاير ما هو المعروف- اليوم- من أن المسافة الى علمي التنعيم القائمين حالياً لا يزيد على ستة كيلومترات أي أربعة أميال.

2- وجاء في كتاب «وفاء الوفاء» للسمهودي (ت 911 ه):

«قال الأسدي: والتنعيم وراء قبر ميمونة بثلاثة أميال، وهو موضع الشجرة وفيه مسجدٌ لرسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم وفيه آبار، ومن هذا الموضع يحرم من أراد أن يعتمر، ثمّ قال: ميقات أهل مكّة بالإحرام مسجد عائشة، وهو بعد الشجرة بميلين، وهو دون مكة بأربعة أميال، وبينه وبين أنصاب الحرم غلوة».

وهذا النص- أيضاً- يصرِّح بأن التنعيم الذي يحرم منه للعمرة ليس هو ما يكون ماثلًا اليوم، إذ يكون التنعيم بعد قبر ميمونة بثلاثة أميال، وبينه وبين أنصاب الحرم غلوة.

3- وقال أحمد بن عبد الحميد العباسي من مؤرخي القرن العاشر الهجري في كتابه «عمدة الأخبار»ص 144: «والتنعيم وراء قبر ميمونة بثلاثة أميال».

4- وقال المقدم عاتق بن غيث البلادي (مؤرخ الحجاز المعاصر) في كتابه (على طريق الهجرة:ص 10):

«ويقال: إن العمرة كانت في هذا المكان (يعني عند قبر ميمونة) وإن المكيين يعتقدون أنه حدود الحرم، ثمّ غيّرت العمرة عندما اختل الأمن خوفاً على الحجاج والمعتمرين».

أقول: إن هذه النصوص

ص: 39

المتقدمة كلها قد اتفقت على أن التنعيم الذي أجيز للمعتمر أن يحرم منه هو:

إمّا أن يكون عند قبر ميمونة كما في النص الأخير وإمّا أن يكون أبعد منه بثلاثة أميال أو ميلين، وبهذا تكون هذه النصوص قد خالفت موقع مسجد التنعيم اليوم من كونه بين مكة وسَرِف (الذي فيه قبر ميمونة) الذي يبعد عن المسجد أو مكة القديمة ستة كيلومترات تقريباً.

وهناك نصوص اخرىصرحت بأنّ التنعيم هو أبعد من أدنى الحلِّ الى مكة بقليل، منها:

1- ما ذكره المحب الطبري المكي (ت 694 ه) فيما حكاه عنه محقق أخبار مكة للأزرقي رشدي ملحِسي بهامش الكتاب المذكور، 2: 130:

والتنعيم «أبعد من أدنى الحلِّ بقليل وليس بطرف الحلِّ».

2- وقال أبو الطيب الفاسي المكي في شفاء الغرام، 1: 289:

«الثّاني التنعيم المذكور في حدِّ الحرم من جهة المدينة المنوّرة وهو أمام أدنى الحلِّ كما ذكره المحب الطبري، قال:

«وليس بطرف الحلِّ» ومَنْ فسّره بذلك تجوَّز وأطلق اسم الشي ء على ما قرب منه، وأدنى الحلِّ إنما هو من جهته، وليس موضع في الحلِّ أقرب إلى الحرم منه، وهو على ثلاثة أميال من مكّة، والتنعيم أمامه قليلًا».

وهناك نص ثالث يقول: بأنَّ التنعيم يبعد عن مكّة فرسخين فقد قال الفاسي: «وقالصاحب المطالع:

والتنعيم من الحلّ بين مكة وسَرِف على فرسخين من مكّة، وقيل على أربعة أميال».

موقع فخ:

ومما يزيد في التشكيك: «موقع فخ» الذي يقع غربي مكة، على طريق مكة- التنعيم- المدينة وبينه وبين مكة ثلاثة أميال أي حوالي ستة كيلومترات.

وفخ بفتح الفاء الموحدة فتشديد الخاء المعجمة بئر معروف على نحو فرسخ من مكة كما قيل، وفي القاموس: «موضع بمكّة دفن فيه ابن عمر» وفي نهاية ابن الأثير: «موضع عند مكة، وقيل وادٍ دفن فيه عبد اللَّه بن عمر». وفي السرائر لابن إدريس الحلّي: «إنّه موضع على رأس فرسخ من مكّة، قتل فيه الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن الحسن بن علي أمير المؤمنين عليه السلام على ما حكاهصاحب كشف اللثام.

وعلى كلّ حال: فإن الموقع

ص: 40

واضح، وهذه المعرِّفات قد تكون كلهاصحيحة، فهو وادٍ دفن فيه ابن عمر وفيه بئر، وقد وقعت فيه معركة فخ التي ذكروا بأنها من الشدّة بحيث لم تكن مصيبة بعد كربلاء أشد وأفجعَ من فخّ (1).

وفخ قد اختلف فقهاء الإماميّة في كونها ميقاتاً للصبيان على قولين:

الأوّل: ذهب جمع من فقهاء الإماميّة (رضوان اللَّه عليهم) الى كون فخ ميقاتاً للصبيان، بمعنى جواز تأخير إحرامهم الى هذا المكان من دون تعيّن ذلك عليهم، واستدلوا لذلك بصحيح أيوب بن الحر قال: «سُئل الإمام الصادق عليه السلام عن الصبيان: من أين يجرّد الصبيان؟ قال عليه السلام: كان أبي يجرّدهم من فخ» (2) هذا إذا مرّوا من طريق المدينة، أمّا إذا مرّوا من طريق آخر فيحرمون من الميقات الذي مرّوا عليه.

فقد ذكر جماعة: أن في الرواية كناية عن جواز إحرامهم من فخ (بل ربما نسب الى الأكثر، بل في الروضة يظهر من آخر عدم الخلاف فيه).

الثّاني: ذهب آخرون الى أن إحرام الصبيان من الميقات، ولكن رُخص لهم في لبس المخيط الى فخ، فإذا وصلوا الى فخ جرّدوا منه، استناداً الى ظاهر الصحيح المتقدم في حمله على الحقيقة، وظاهر الروايات المقتضية لزوم الإحرام من الميقات.

وإذا كان إحرام الصبيان من الميقات مطلقاً في حجّ أو عمرة، وكان مطلقا حتى لمن كان من أهل مكة وأراد العمرة المفردة، كما هو ظاهر إطلاقهم ذلك، فحينئذٍ على القول الثاني يكون إحرام المعتمر من التنعيم الحالي البالغ بعده ستة كيلومترات، مع أن الصبي يحرم من الميقات، ولكن يجرّد من فخّ الذي يبعد ستة كيلومترات أيضاً، وهذا فيه بعد عرفي واضح؛ يكون الصبي في هذا الحكم أشد حالًا من البالغ، أمّا بالنسبة إلى القول الأول فإنّ الصبي والبالغ في هذا الحكم سيّان، مع أن العرف يرى لابديّة أن يكون إحرام الصبي أسهلَ من البالغ إذا أردنا الإرفاق به (3).

جواب التشكيك:

ولنا في الجواب على هذا التشكيك عدّة مسالك نستعرضها إن شاء اللَّه تعالى:

1- جواب التشكيك من الناحية الفقهية:

نقول: إن الأقوال المتقدمة في تقدير المسافة الى موضع الإحرام في التنعيم وإن كانت مختلفة اختلافاً غير يسير، إلا أن هذا الاختلاف بين المؤرخين والجغرافيين لا يجيز لنا رفع


1- 1 ومنطقة فخ الآن فيها حيّان من أحياء مكة هما: «حيّ الزاهر» و «حيّ الشهداء» نسبة الى شهداء فخ الحسين بن علي بن الحسن المثلث بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب وأنصاره- رضوان اللَّه عليهم-. وفي فخ مقبرة معروفة تُعرف بمقبرة المهاجرين، كان يدفن فيها كلّ مَنْ جاور مكة منهم، ولا تزال موجودة معروفة حتى الآن. أما موضع شهداء فخ فلا أثر له الآن، يقول السباعي في تاريخ مكة: 89: «في هذا المكان يعني فخّاً تقرر مصير العلويين حيث قتل الحسين بن علي وهو محرم، بعد أن أبلى بلاءً شديداً، وقتل معه أكثر من مائة من أصحابه، وكانت قبورهم معروفة هناك، ويُشرف قبر زعيمهم الحسين على ربوة في الوادي. وجاء في معجم معالم الحجاز، 7: 19 للمقدم عاتق بن غيث البلادي ما نصه: «حكى شاهد عيان أنه كان في أواخر الستينات من هذا القرن الرابع عشر الهجري حدث أثناء حفر أساس قصر بالشهداء، أن بدت يدُ إنسانٍ طريّة عارية من تحت الأرض، فحفروا عنها فإذا هي مطبقة علىصدر إنسان فجذبوها، فإذا الدم يندفع من موضعها، فتركوها، فاذا هي ترتدّ بسرعة الى مكان النزيف فتوقفه».
2- 2 وسائل الشيعة، 8: باب 18 من المواقيت، ح 1.
3- 3 قد يقال: إن الرواية في تجريد الصبيان من فخّ ناظرة لمن أحرم من طريق المدينة فقط، فلا اطلاق فيها لما نحن فيه.

ص: 41

اليد عن موضع الإحرام في التنعيم الحالي وذلك لعدم حجيّة هذه الأقوال في أنفسها، إذ هي إما أخبار آحاد غير معتبرة وإمّا متعارضة، وحتى إذا كانت أقوال ذوي الخبرة فهي ساقطة بالتعارض، فتبقى السيرة المتلقاة من المسلمين في الإحرام من مسجد التنعيم الحالي الذي يبعد 6 كيلومترات عن المسجد أو حدود مكة القديمة، وهذا خير دليل على بطلان التشكيك المتقدم، فإن هذه السيرة المتلقاة يداً بيد ممن يلتزم الشريعة الغراء نهجاً في حياته، وفي زمن المعصومين عليهم السلام تفيد العلم في معرفة ميقات التنعيم، الذي وقّته رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم، ولو كان هناك أيّ تغيير في الميقات في أي زمان لنقل الينا بصورة واضحة، إذ إن التغيير في العبادات وأماكنها التي شرعها وسنّها رسولُ اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم، مما يوجب اعتراض المسلمين قاطبة، ونقل ذلك التغيير والاعتراض لغيرهم، مع إننا لم نجد في الروايات التي بين أيدينا أيّ تغيير في ميقات التنعيم، نعم نقل عن بعض المؤرخين المعاصرين «تغير موضع العمرة عندما اختل الأمنُ خوفاً على الحجّاج والمعتمرين» بقوله ويقال، وهذا الكلام لا يعتدّ به لأنه لم يعتقد به حتى هذا المؤرخ المعاصر كما تقدم، فهو عبارة عن كلام غير معتبر تردّه السيرةُ القائمة على تعيين موضع الإحرام للعمرة من مسجد التنعيم الحالي من قبل كلّ المسلمين.

هذا وقد ذكر غيرُ واحد من الأصحاب (1) هنا الاكتفاء في معرفة هذه المواقيت بالشياع المفيد للظن الغالب، ولعلّه لصحيح معاوية بن عمار عن الإمام الصادق عليه السلام: «يجزيك إذا لم تعرف العقيق أن تسأل الناس والأعراب عن ذلك» (2). ومعنى ذلك أن الشياع الموجود عند المسلمين هو المرجع في تحديد الميقات، لا قول المؤرخ أو الجغرافي، خصوصاً مع التعارض والاختلاف.

2- جواب التشكيك من الناحية الرياضية:

إن الأقوال المتقدمة في تقدير المسافة الى موضع الإحرام في التنعيم تتمثل في المسافة التالية: «3 ميل/ 4 ميل/ 6 ميل/ 1 فرسخ/ 2 فرسخ/ 6 كم/ 12 كم» تقريباً. فهل يمكن أن نرجع هذا الاختلاف في المسافة الى اختلاف أسباب العدّ مع كون الموضع الذي يحرم منه هو الموضع الحالي؟

الجواب: نعم يمكننا ذلك؛ لأن تقدير المسافة يختلف لأسباب متعددة


1- 1 راجع جواهر الكلام، 18: 107.
2- 2 وسائل الشيعة، 8: باب 5 من المواقيت، ح 1.

ص: 42

منها:

(أ) الاختلاف في تقدير الذراع المستعمل في العدّ، فإنّه على ثلاثة أوجه:

الأوّل: ذراع اليد الذي هو مختلف بين عدّه (52 سم) أو (50 سم) أو (48 سم) وذلك: لأن الذراع- كما ذكر أهل اللغة (كمجمع البحرين)- «من المرفق الى أطراف الأصابع، والذراع ست قبضات، والقبضة أربع أصابع» وبما أن الأصبع يختلف قدره من شخص الى شخص في الإنسان المتعارف، فبذلك يختلف العدّ بين الأرقام الثلاثة المتقدّمة.

الثّاني: الذراع الحديدي يساوي (58 سم تقريباً).

الثّالث: الذراع المعماري الذي يساوي (75 سم تقريباً).

(ب) الاختلاف في تقدير الميل بالذراع، فقد قُدر الميل بالنسبة لذراع اليد بتقديرات مختلفة.

الأوّل: 2000 ذراع يد.

3500 ذراع يد.

4000 ذراع يد.

6000 ذراع يد (1).

ولهذا الاختلاف في تقدير الميل بالذراع يفهم الاختلاف في تقدير المسافة بالأميال، ومنه يفهم اختلاف تقدير المسافة بالفرسخ أو الكيلومتر.

(ج) أضف الى ذلك الاختلاف في مبدإ العدّ، فإن مبدأ العدِّ قد يكون باب المسجد، كما قد يكون سور مكة.

(د) الاختلاف في تقدير الطريق المعدود الذي يختلف باختلاف الانحناءات في أزمان مختلفة، فقد يكون طريق فيه تعرجات كثيرة يستوجب كثرة المسافة المطوية في زمان، وفي زمان آخر يتبدل الطريق بإزالة هذه التعرجات أو اختصارها بما يستوجب قلة المسافة.

3- جواب التشكيك من ناحية تعيين موضع التنعيم بالوصف:

فان الموضع الحالي للتنعيم هو بين مكة وسَرِف (الذي فيه قبر أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث زوجة رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم، وحينئذٍ يمكن أن تكون العبارات القائلة: بأن التنعيم وراء قبر ميمونة بثلاثة أميال متفقة مع الوصف الأولي، إلا أن الوصف الأولي يكون للموضع لمن كان في مكة وأراد السير إلى الموضع، أمّا الوصف الثاني فهو ناظر إلى الموضع لمن كان خارج مكّة أو بعيداً عنها، فالموضع هو نفسه بين مكة والقبر لمن أراد الإتيان إليه من مكة، وهو بعد القبر لمن أراد الوصول إليه، وهو خارج مكة، واللَّه تعالى هو العالم بحقائق الأمور.

ولعلّ مما يحسم الخلاف والتشكيك ما وجدته في خريطة مكة


1- 1 استندنا في ذكر هذه التقديرات الى كتاب هداية الناسكين للدكتور الفضلي:ص 93.

ص: 43

المكرمة (المرفقة بكتاب مكّة المكرمة في شذرات الذهب للغزاوي، وهو دراسة وتحقيق لبعض المعالم الجغرافية) من وجود ثلاث مناطق للتنعيم:

الأولى: منطقة العمرة التي هي شمال غربي جبل نعيم وغربي جبل ناعم، وهو مكان العمرة الحالي.

الثانية: التنعيم التي تقع شمال منطقة العمرة.

الثالثة: منطقة التنعيم التي تقع شمال جبل الواتد وجنوب منطقة الغزالة وجبل الغبير.

وحينئذٍ فإن الخلاف في بُعد التنعيم عن المسجد الحرام أو مكة قد يكون منشؤه هذه المناطق الثلاث فالذي يصح منه الإحرام هو منطقة العمرة التي هي أقرب مناطق التنعيم للحرم.

هل يشكِّل الجمع بين حدود الحرم الحالية ومواقيت أدنى الحلّ مشكلة؟

إن الشارع المقدّس قد حدّد الحرم المكّي كما في موثق زرارة قال:

سمعتُ الإمام الباقر عليه السلام يقول: حرّم اللَّه حرمه بريداً في بريد ...» (1) «الذي هو عبارة عما يقارب ثلاثة وعشرين كيلومتراً».

فهل بإمكاننا أن نوفق بين هذا التحديد الإجمالي وما هو متلقى من تعيين الحدود ومعرفتها بالعلامات والنصب الموجودة الآن، المأخوذة يداً بيد من زمن المعصومين عليهم السلام بحيث يكون التنعيم الحالي خارج حدود الحرم، والى جنبه النصب الموجودة حاليّاً؟

نقول: إننا إذا نظرنا الى الأدلة القائلة بأن المزدلفة هي من الحرم؛ بقرينة جواز التقاط حصى الجمار منها، وبأن الجعرانة والتنعيم والحديبية هي خارجة عن حدود الحرم؛ لجواز الإحرام للعمرة المفردة منها، للنصوص المتقدمة، بل جواز الإحرام من أشباه الجعرانة والحديبية كما في الصحيح المتقدم الذي يدلّ على جواز الإحرام من كلّ مكان خارج الحرم، فيلزمنا أن نفسر حدود الحرم الواردة في الموثق بما يكون بين هذه المواقيت، بحيث تدخل المزدلفة فيه، وبهذا فسوف يكون الحرم مختلفة أبعاده بالنسبة الى مكة، فمن ناحية التنعيم (الشمال الغربي) يكون الحرم قبل مسجد التنعيم الحالي كما هي علامات الحرم بالنصب الموجودة حاليّاً، وهي لا تبعد إلا ستة كيلومترات وأما من ناحية الجنوب فقد ذكروا أن اضاءة لبين (لبن) هي حدود الحرم من


1- 1 وسائل الشيعة، 9: باب 87 من تروك الإحرام، ح 4.

ص: 44

الناحية الجنوبية، وهي لا تبعد أكثر من (18) كم وبهذا فسوف يكون البريد ما بين علمي التنعيم وعلمي اضاءة لبين (لبن) متحققاً.

أمّا الجعرانة: (التي هي ميقات للإحرام من ناحية الشمال الشرقي).

وعرنة: (وهي حدود الحرم من الناحية الشرقية).

والحديبية: (وهي ميقات من ناحية الغرب).

فهي خارجة عن الحرم وهي تبعد ما بين 20- 23 كم.

وحينئذٍ لا يمكن تطبيق البريد في البريد ما بين هذه الأماكن الثلاثة، ولكن لنا أن نقول: إن الفقهاء قد ذكروا استحباب الإحرام من الجعرانة والحديبية، وجوّزوا الإحرام من أدنى الحلّ، فإذا عرفنا أدنى الحلّ بصورة قطعية كما فيما بعد المزدلفة، جاز لنا الإحرام منه، وإذا شككنا في حدود الحرم من جهة من الجهات، فالاحتياط يقتضي أن نحرم من منطقة تبعد عن الحرم كما في الجعرانة والحديبية وأمثالهما.

وبهذا فسوف تكون حدود الحرم، التي هي بريد في بريد، ليس على نسق واحد في جميع الأطراف، كما توجد اشارة الى ذلك في بعض الأخبار.

وعلى كلّ حال فإن تحديد الحرم بكونه بريداً في بريد غير مثير للإشكال في موضع التنعيم الحالي، فإن ما ذكر من كونه ميقاتاً بفعل الرسولصلى الله عليه و آله و سلم كالحديبية والجعرانة، إنما هو على نحو الاستحباب؛ للتأسي بفعل النبيصلى الله عليه و آله و سلم، ولما فيه من البعد عن مكة، وليست هي أقرب الأماكن إلى الحرم، وحينئذٍ ما قطعنا من كونه من الحرم تطبق عليه أحكام الحرم، وما لم نقطع فيه أنه من الحرم لا نطبق فيه أحكام الحرم، ولكن يلزمنا- أيضاً- الإحرام من المكان الذي نقطع فيه بأنه خارج عن حدود الحرم، واللَّه سبحانه هو الموفق.

نيّات الحجّ والعمرة

ص: 45

الهوامش:

نيّات الحجّ والعمرة

تأليف الشيخ الشهيد السعيد زين الدين العاملي «الشهيد الثاني» تحقيق: فارس حسّون كريم

قال اللَّه- عزّ ذكره-: «وأتمّوا الحجَّ والعمرةَ للَّه ..» (1).

الحجُّ: القصد في اللغة، وخصّ في الشرع بالقصد الى بيت اللَّه الحرام؛ لأداء مناسك مخصوصة عنده، على وجهٍ مخصوصٍ، في وقتٍ مخصوصٍ. وقد أوجبه اللَّهُ في طول العمر مرّة واحدة، ووعد عليها من الثواب الجنّة، والعفو عن الذنوب، وسمّي تاركه كافراً، ووُعِد بالنار- نعوذ باللَّه-.

والعمرة: الزيارة في اللغة، وخصّت في الشريعة بزيارة البيت الحرام؛ لأداء مناسك مخصوصة عنده، على وجهٍ مخصوصٍ. وكلاهما- الحجّ والعمرة- ضربان؛ مقضى لنفسه أو لغيره (2).

وأوجب اللَّه- تعالى- بالآية المذكورة، حجّة الإسلام، وعمرة الإسلام؛ لأنّه تعالى أمر جميعَ من توجّه إليه وجوبُ الحجّ أن يتمّ الحجّ والعمرة- من المكلّفين-. ووجوبُ الإتمام يدلّ على أنّهما واجبان، بل هذا آكد في الإيجاب من «حجّوا» أو «اعتمِروا».

ولمّا قرن- تعالى- العمرةَ بالحجّ، وأمر- بإتمامهما وفعلهما- أمراً واحداً، فهي في الوجوب مرّة واحدة كالحجّ (3).

وأمّا ما روي في علّة تسمية الحجّ حجّاً: ما رواه الصدوق بإسناده عن أبي جعفر عليه السلام، قيل له: لِمَ سمّي الحجّ حجّاً؟ قال: حجّ فلان أي أفلح فلان (4).


1- 1 البقرة: 196.
2- 2 انظر الفقه المنسوب للإمام الرضا عليه السلام: 214- الوسيلة إلى نيل الفضيلة: 155.
3- 3 انظر فقه القرآن، 1: 263.
4- 4 علل الشرائع: 411 ح 1- معاني الأخبار: 170 ح 1- عنهما البحار، 99: 2 ح 1 و 2.

ص: 46

وقد خصّصهما الشارع- عزّ وجلّ- بالفضل والثواب، ووعد الحاجّ- عنهما- عظيم الشفاعة، وحسنات لا تحصى، ولِمَ لا؟

فإنّ المتبادر الى الفهم عند أهل الشرع: أنّ الحجّ عبادة مركّبة من جملة عبادات؛ كالصلاة المؤلّفة من الأفعال، والأذكار المخصوصة. وجاءت الروايات عن أهل بيت العصمة عليهم السلام متواترةً متكاثرة موضحةً فضله وأهميته، وقد أورد جملة منها الشيخ المفيد في مقنعته (1).

وأنواع الحجّ ثلاثة:

1- التمتّع بالعمرة الى الحجّ: وهو فرضُ اللَّه على كل ناءٍ عن المسجد الحرام فلا يجوز منه سواه (2).

2- الإقران في الحجّ: وهو أن يهلّ من الميقات بالحجّ، ويقرن الى إحرامه سياق الهدي، وإنّما سمّي إقراناً لاقتران سياق الهدي بما يأتي به، وعليه طوافان بالبيت، وسعي واحد بين الصفا والمروة، ويجدّد التلبية عند كلّ طواف (3).

3- الإفراد للحجّ: وهو أن يحرم بالحجّ من الميقات مفرداً ذلك من سياق الهدي وليس عليه هدي، ولا تجديد التلبية عند كلّ طوافٍ، ومناسك المفرد والقارن متساوية (4).

وحال الحجّ كحال سائر الفرائض الأُخرى، فقد خالفت الإماميّة غيرها من الفرق الإسلاميّة في أحكامه وأفعاله، وأشار لمعظمها الشريف المرتضى «علم الهدى» في كتابه الموسوم ب «الانتصار» (5).

ترجمة المؤلّف (6) اسمه ونسبه:

ذكر اسم ونسب الشهيد السعيد في الكتب التي تناولت ترجمته، باختلاف من كتابٍ لآخر، فقد أورده ابن العودي (7) في رسالته هكذا: زين الدين بن نور الدين علي بن أحمد بن جمال الدين بن تقيّ الدينصالح بن مشرف العاملي. وكذا ورد في إجازة الشهيد قدس سره للشيخ حسين بن عبد الصمد الجبعي العاملي- والد الشيخ البهائي- على ما ورد في البحار (8)، إلّاأنّ فيها «شرف» بدل «مشرف». وذكر في آخر الإجازة (9): «وكتب هذه الأحرف بيده الفانية زين الدين بن علي بن أحمد شُهر بابن الحاجة ...».

مولده قدس سره:

ولد لثلاث عشرة خلون من شوّال سنة إحدى عشرة وتسعمائة من الهجرة النبويّة.

قبس من خِصاله:

ذكر ابن العودي: أنّه لم يصرف لحظة من عمره إلّافي اكتساب فضيلة، ووزّع أوقاته على ما يعود نفعه في اليوم والليلة. أمّا النهار ففي تدريس ومطالعة وتصنيف ومراجعة، وأمّا الليل فله فيه استعداد كامل لتحصيل ما يبتغيه من الفضائل، هذا مع غاية اجتهاده في التوجّه الى مولاه، وقيامه بأوراد العبادة حتى تكلّ قدماه، وهو مع ذلك قائم بالنظر


1- 1 المقنعة: 386- 389.
2- 2 جمل العلم والعمل: 104.
3- 3 نفس المصدر.
4- 4 نفس المصدر.
5- 5 الانتصار: 89- 106.
6- 6 تجد ترجمته مفصّلة في: الدرّ المنثور، 2: 149- بغية المريد في الكشف عن أحوال الشهيد- أمل الآمل، 1: 85- رياض العلماء، 2: 365- لؤلؤة البحرين: 28- نقد الرجال: 145- منتهى المقال: 141- بهجة الآمال، 4: 254- روضات الجنّات، 3: 352- تنقيح المقال، 1: 472- سفينة البحار، 1: 723- الكنى والألقاب، 2: 344- هديّة الأحباب: 167- الفوائد الرضويّة: 186- أعيان الشيعة، 7: 143- الأعلام للزركلي، 3: 64- معجم رجال الحديث، 7: 372- معجم المؤلّفين، 4: 193.
7- 7 هو الشيخ الفاضل محمد بن علي بن الحسن العودي الجزيني، كان تلميذ الشهيد الثاني، وأقرب الناس إليه، ترجم أستاذه في رسالة مستقلّة سمّاها «بغيةالمريد في الكشف عن أحوال الشهيد»، ولكنها فقدت- ككثير من عيون تراثنا- ولم يبق منها إلّاما وقع في يد الفاضل حفيد شيخنا الشهيد: علي بن محمد بن الحسن بن زين الدين «الشهيد الثاني» فأودعه في كتابه «الدرّ المنثور».
8- 8 بحار الأنوار، 108: 147.
9- 9 بحار الأنوار، 108: 171.

ص: 47

في أحوال معيشته على أحسن نظام، وقضاء حوائج المحتاجين بأتمّ قيام ....

وبالجملة فهو عالم الأوان ومصنّفه، ومقرّظ البيان ومشنّفه بتآليف كأنّها الخرائد، وتصانيف أبهى من القلائد، وضعها في فنون مختلفة وأنواع، وأقطعها ما شاء من الإتقان والإبداع، وسلك فيها مسلك المدقّقين، وهجر طريق المتشدّقين (1).

شهادته:

لم يكن شيخنا بمنأى عن أعين حاسديه مع أنّه كان يخفي حتى آثاره القيّمة، ولعلّ أشدّهم عداوة القاضي معروف. وكان سبب قتل شيخنا أنّه ترافع إليه رجلان فحكم لأحدهما على الآخر، فغضب المحكوم عليه وذهب إلى القاضي معروف، الذي ما إن سمع حتى غضب وأرسل من يطلبه، فسافر الشيخ في محمل مغطّىً، وكتب القاضي إلى سلطان الروم: أنّه وجد ببلاد الشام رجلٌ مبدع خارج عن المذاهب الأربعة، فأرسل السلطان رجلًا في طلب الشيخ وقال له: ائتني به حيّاً، فلحقه في طريق مكّة، فقال له الشيخ: تكون معي حتى نحجّ، ثم افعل ما تريد. فلمّا فرغ سافر معه إلى بلاد الروم، فلمّا وصلها رآه رجل فسأله عن الشيخ، فقال: رجل من علماء الاماميّة أراده السلطان، فقال:

أَوما تخاف أن يخبر السلطان بأنّك قد آذيته؟ بل الرأي أن تقتله وتأخذ برأسه، فقتله في مكانه. ودفن من قبل جماعة من التركمان وبنيت عليه قبّة. وأخذ الرجل رأسه إلى السلطان فأنكر عليه، وقال: أمرتك أن تأتيني به حيّاً فقتلته! ثم قتل ذلك الرجل (2).

استشهد قدس سره سنة 965 ه. ق عن عمرٍ يناهز 55 سنة.

نسخة الكتاب:

لقد وفِّقت لنيلصورة لنسخة مخطوطة من كتاب الرجعة للميرزا محمد مؤمن بن دوست الاسترابادي من خزانة مكتبة آية اللَّه العظمى المرعشي النجفي قدس سره مذكورة في فهرس مخطوطات المكتبة: 4/ 282 رقم 1485، ومن ثمّ وفِّقت لإتمام تحقيقها، غير أنّي وجدت ملحقاً بالنسخة المذكورة، نسخة مكتوبة بخطّ نسخ جيّد تقع في 8صفحات، كلّصفحة احتوت 12 سطراً، والظاهر أنّ كاتبها هو كاتب نسخة الرجعة نفسه، وهو السيّد حسن بن علوان بن علي الشاعر الشاخوري الغريفي في سنة 1224 ه.

ومن خلال متابعتي لمعرفة مؤلّف النسخة، ومراجعتي لكتاب الذريعة، وجدت أنّ الشيخ آقا بزرگ ذكر في المجلّد 24صفحة 441 تحت الرقم 2311 ما هذا نصّه:

نيّة الحجّ والعمرة: أيضاً للشهيد الثاني وهي غير مناسكه، أوّلها: [الحمد للَّه ربّ العالمين، وصلواته على محمّد وآله الطاهرين، إذا عزمت على سبيل الحجّ، وقطعت العلائق (3) فقف على باب بيتك، وانو الحجّ والعمرة ...].

مختصرة تزيد على مائة بيت، رأيتها في مكتبة (سيّدنا الشيرازي)، ونسخة مع مناسكه في مكتبة (الشريعة). انتهى.


1- 1 الدرّ المنثور، 2: 153- 154.
2- 2 أمل الآمل، 1: 90- 91 بتصرّف.
3- 3 العوائق، هكذا وردت كتابتها في الذريعة لآقا بزرگ الطهراني.

ص: 48

وكما يلاحظ فإنّ مطلع النسخة هو عين ما ذكره الشيخ الطهراني رحمه الله.

وكان عملي بعد استنساخ النسخة الخطيّة، وتقويم النصّ، أن عمدتُ إلى مطابقة النيّات المذكورة في هذه الرسالة؛ مع النيّات المذكورة في (الرسالة الفخريّة في معرفة النيّة) تأليف فخر المحقّقين محمد بن الحسن بن المطهّر الحلّي المولود سنة 682 ه. ق، والمتوفّى سنة 771 ه. ق مثبّتاً ذلك في الهامش.

وآخر دعوانا أن الحمد للَّه ربّ العالمين.

-* محل الصورة*-

صورة الصفحة الاولى من النسخة الخطيّة

الحمد للَّه ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على سيّد المرسلين محمّدٍ وآله الطاهرين.

وبعد:

إذا عزمتَ- أيّها الأخ- إلى الحجّ، وقطعتَ العلائق، فقف علىصورة الصفحة الأخيرة من النسخة الخطيّة

باب بيتك، وانو الحجَّ، والعمرة، وقل:

ص: 49

أتوجّه إلى البيت الحرام، والمشاعر العظام؛ لَاعتمر عُمرة الإسلام، عمرةَ التمتّع، وأَحجّ حجّ

الإسلام، حجّ التمتّع، لوجوبه قربةً إلى اللَّه (1).

فإذا وصلت إلى الميقات (2)، يستحبّ أن تغتسل غسل الإحرام، والنيّة:

أغتسلُ غسل الإحرام لندبه قربةً إلى اللَّه.

فإذا فرغت من الغسل، فالبس ثوبي الإحرام (3)، تأتزرُ بأحدهما، وترتدي بالآخر (4)، ثمّ تصلّي سنّة الإحرام استحباباً، وهي ستّ ركعات، وأقلّها ركعتان، والنيّة:

أُصلّي ركعتي سنّة الإحرام لندبه قربة إلى اللَّه.

ثمّ إن كان الإحرام من ميقات المدينة فليدخل مسجد الشجرة، ويحرم بعمرة التمتّع من داخله، ونيّته:

أُحرم بالعمرة المتمتّع بها إلى الحجّ حجّ الإسلام حجّ التمتّع، وأُلبّي التلبيات الأربع لعقد هذا الإحرام؛ لوجوب الجميع قربة إلى اللَّه (5).

ويقارن بالنيّة التلبية، فيقول:

لبّيك اللّهمّ لبّيك لبّيك، إنّ الحمد والنعمة والملك لك، لا شريك لك لبّيك.

ثمّ يتوجّه إلى مكّة ويكرّر التلبية استحباباً، فإذا وصل إلى مكّة بدأ بالطواف حول الكعبة سبعة أشواطٍ، يبدأ بالحجر الأسود ويختم به.

والنيّة مقارنة لأوّل الطواف، عند محاذاة أوّل جزء منه لأوّل جزء من الحجر الأسود، علماً أو ظنّاً، مستقبلًا بوجهه الكعبة، أو جاعلها على اليسار، ونيّته:

أطوف بالبيت سبعة أشواطٍ في عمرة الإسلام، عمرة التمتّع؛ لوجوبه قربة إلى اللَّه (6). ويقارن بالنيّة الحركة، ويختم الشوط السابع كما بدأ أوّلًا بمحاذاة الحجر.

وإذا فرغ من الطواف، مضى إلى مقام إبراهيم عليه السلام فصلّى ركعتي الطواف خلفه، أو إلى أحد جانبيه، ونيّتها:

أُصلّي ركعتي الطواف؛ طواف عمرة الإسلام، عمرة التمتّع أداءً؛ لوجوبه قربة إلى اللَّه (7).

فإذا فرغ منها مضى إلى السعي بين الصفا والمروة سبعة أشواطٍ، يحسب من الصفا حتى يرجع إليه شوطين، حتى يكمل سبعة أشواط خاتماً بالمروة، ونيّته وهو على الصفا:

أسعى سبعة أشواطٍ بين الصفا


1- 1 أورد هذه النيّة فخر المحقّقين في الرسالة الفخريّة: 73 هكذا: «أتوجّه إلى بيت اللَّه الحرام، والمشاعر العظام؛ لأداء الحجّ والعمرة، وأفعالهما؛ لوجوبهما إلى اللَّه، وإن كانا مستحبّين قال ... لندبهما قربة إلى اللَّه».
2- 2 إنّ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم وقّت لكلّ قومٍ ميقاتاً يحرمون منه، لا يجوز لهم التقدّم في الإحرام من قبل بلوغه، ولا التأخّر عنه، فوقّت لأهل المدينة مسجدَ الشجرةوهو ذو الحليفة ...، ووقّت لأهل العراق بطن العقيق، وأوّله المسلح، ووسطه غمرة، وآخره ذات عرق ...، ووقّت لأهل الشام الجحفة ...، ووقّت لأهل اليمن يَلمْلَمْ ...، ووقّت لأهل الطائف قرن المنازل ... «المقنعة: 394- 395».
3- 3 قال في الرسالة الفخريّة: 74: ويلبس ثوبي الإحرام، فيقول: «ألبس ثوبي الإحرام؛ لوجوبه قربة إلى اللَّه».
4- 4 في النسخة: بالأُخرى.
5- 5 ذكر النيّة في الرسالة الفخريّة: 74 هكذا: «أُلبّي التلبيات الأربع؛ لأعقد بها إحرام العمرة المتمتّع بها إلى الحجّ، حجّ الإسلام؛ لوجوبه عليّ قربة إلى اللَّه».
6- 6 أورد هذه النيّة في الرسالة الفخريّة: 74 هكذا: «أطوف سبعة أشواط طواف العمرة المتمتّع بها إلى الحجّ عمرة الإسلام؛ لوجوبه عليَّ قربة الى اللَّه».
7- 7 أورد هذه النيّة في الرسالة الفخريّة: 74 هكذا: «أُصلّي ركعتي طواف العمرة المتمتّع بها عمرة الإسلام؛ لوجوبها عليَّ قربة إلى اللَّه».

ص: 50

والمروة في عمرة الإسلام، عمرة التمتّع؛ لوجوبه قربة الى اللَّه (1).

فإذا فرغ من السعي قصّر من شعره، أو ظفره بالمروة، ونيّته:

أُقصّر للإحلال من إحرام عمرة الإسلام، عمرة التمتّع؛ لوجوبه قربة إلى اللَّه (2).

والتقصيرُ آخر أفعال العمرة، فإذا فعله بقي على الإحلال من كلّ ما حرّمه اللَّهُ إلى أن يحرم بالحجّ يوم الثامن.

ويستحبّ كونه بعد أن يصلّي الظهرين ذلك اليوم، فيحرم له من مكّة، وأفضلها المسجد الحرام، وخلاصته الحجر، والمقام. فينوي بعد الغسل، ولبس ثوبي الإحرام، وصلاة السنّة المتقدّمة، ونيّته:

أُحرم بحجّ الإسلام، حجّ التمتّع، وأُلبّي التلبيات الأربع لعقد هذا الإحرام؛ لوجوب الجميع قربةً إلى اللَّه (3). ثمّ يلبّي مقارناً بها النيّة:

لبّيك اللهمّ لبّيك لبّيك، إنّ الحمد والنعمة والملك لك، لا شريك لك لبّيك.

ثمّ يمضي إلى عرفات، فيقف بها يوم التاسع من الزوال إلى غروب الشمس بمعنى الكون بها، والنيّة عند تحقّق الزوال بلا فصلٍ:

أقِف بعرفات من وقتي هذا إلى غروب الشمس في حجّ الإسلام، حجّ التمتّع؛ لوجوبه قربة إلى اللَّه (4).

فإذا غرَبت الشمس أفاض إلى المشعر، فإذا وصل إليه وجب عليه المبيت ناوياً عند وصوله:

أبيت هذه الليلة بالمشعر في حجّ الإسلام، حجّ التمتّع؛ لوجوبه قربةً إلى اللَّه.

فإذا أصبح وجب عليه الوقوف به إلى طلوع الشمس بمعنى الكون به، وتجب النيّة عند تحقّق الفجر، والنيّة:

أقف بالمشعر إلى طلوع الشمس في حجّ الإسلام، حجّ التمتّع؛ لوجوبه قربة إلى اللَّه (5).

فإذا طلعت الشمس أفاض إلى منى، فإذا وصل إليها وجب عليه فيها ثلاثة أفعال: رمي جمرة العقبة بسبع حصيات، ثمّ ذبح الهدي، ثمّ حلق الرأس، أو التقصير. ونيّة الرمي:

أرمي جمرة هذه العقبة بسبع حصيات في حجّ الإسلام، حجّ التمتّع؛ لوجوبه قربة إلى اللَّه (6)، مقارناً بالرمي لجمرة العقبة. ونيّة الذبح:

أذبحُ هذا الهدي في حجّ الإسلام، حجّ التمتّع؛ لوجوبه قربة إلى اللَّه (7).

ويجب أن يأكل منه شيئاً، وأن يهدي ثلثه لإخوانه المؤمنين، ويتصدّق بثلثه على فقرائهم، والنيّة مقارنة للأكل:

آكل من لحم هديي هذا في حجّ


1- 1 أورد هذه النيّة في الرسالة الفخريّة: 74- 75 هكذا: «أسعى سبعة أشواط سعيَ العمرة المتمتّع بها، عمرة الإسلام؛ لوجوبه عليَّ قربة إلى اللَّه».
2- 2 أورد هذه النيّة في الرسالة الفخريّة: 75 هكذا: «أُقصّر للإحلال من عمرة المتمتّع بها عمرة الإسلام؛ لوجوبه عليَّ قربة إلى اللَّه».
3- 3 في الرسالة الفخريّة: 75 هكذا: ثمّ يحرم بالحجّ من مكّة، وأفضلها تحت الميزاب، فيقول: «أُحرم بالحجّ حجّ الإسلام حجّ التمتّع؛ لوجوبه عليَّ قربة إلى اللَّه».
4- 4 أورد هذه النيّة في الرسالة الفخريّة: 75 هكذا: «أقف بعرفات لحجّ الإسلام، حجّ التمتّع؛ لوجوبه عليَّ قربة الى اللَّه».
5- 5 أورد هذه النيّة في الرسالة الفخريّة: 75 هكذا: «أقف بالمشعر لحجّ الإسلام، حجّ التمتّع؛ لوجوبه قربة إلى اللَّه».
6- 6 أورد هذه النيّة في الرسالة الفخريّة: 75 هكذا: «أرمي جمرة العقبة لحجّ التمتّع، حجّ الإسلام؛ لوجوبه عليَّ قربة إلى اللَّه».
7- 7 أورد هذه النيّة في الرسالة الفخريّة: 75 هكذا: «أذبح هذا الهدي لحجّ التمتّع، حجّ الإسلام؛ لوجوبه عليَّ قربة إلى اللَّه».

ص: 51

الإسلام، حجّ التمتّع؛ لوجوبه قربة إلى اللَّه.

ونيّة الإهداء:

أهديتك يا فلان ثلث هديي هذا في حجّ الإسلام، حجّ التمتّع؛ لوجوبه قربةً إلى اللَّه.

ونيّة التصدّق:

أتصدّق بثلث هديي هذا في حجّ الإسلام، حجّ التمتّع؛ لوجوبه قربة إلى اللَّه.

ثمّ يحلق رأسه، أو يقصّر من شعره، أو ظفره، ونيّته كما مرّ مقارنة للفعل:

أحلق رأسي، أو أُقصّر في حجّ الإسلام، حجّ التمتّع؛ لوجوبه قربة إلى اللَّه (1).

فإذا فرغ من ذلك، مضى إلى مكّة للطواف والسعي. فإذا وصل إليها، بدأ بطواف الحجّ، وصفتُه كما مرّ، ونيّته:

أطوف بالبيت سبعة أشواطٍ في حجّ الإسلام، حجّ التمتّع؛ لوجوبه قربة إلى اللَّه (2).

ثمّ يصلّي ركعتيه خلف المقام، ونيّتها:

أُصلّي ركعتي طواف حجّ الإسلام، حجّ التمتّع؛ لوجوبه قربة إلى اللَّه (3).

ثمّ يسعى كما مرّ، ونيّته:

أسعى بين الصفا والمروة سبعة أشواطٍ في حجّ الإسلام، حجّ التمتّع، لوجوبه قربة إلى اللَّه (4).

ثمّ يطوف طواف النساء سبعة أشواطٍ، ونيّته:

أطوف طواف النساء سبعة أشواطٍ في حجّ الإسلام، حجّ التمتّع؛ لوجوبه قربة إلى اللَّه (5).

ثمّ يصلّي ركعتيه (6)، ونيّتها:

أُصلّي ركعتي طواف النساء في حجّ الإسلام، حجّ التمتّع؛ لوجوبه قربة إلى اللَّه (7).

فإذا فرغ من هذه الأفعال رجع إلى منى للمبيت بها ليالي التشريق الثلاث وهي: ليلة الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر، ويجوز لمن اتّقى الصيد والنساء، ولم تغرب عليه الشمس ليلة الثالث عشر الاقتصار على مبيت الليلتين، وتجب النيّة عند الغروب:

أبيت هذه الليلة بمنى في حجّ الإسلام، حجّ التمتّع؛ لوجوبه قربة إلى اللَّه (8).

ويجب رمي الجمار الثلاث في كلّ يومٍ، بحسب مبيت ليلته، يبدأ بالأُولى، ثمّ الوسطى، ثمّ جمرة العقبة، ونيّة الرمي:


1- 1 أورد هذه النيّة في الرسالة الفخريّة: 75 هكذا: «أحلق رأسي، أو أُقصّر لحجّ التمتّع، حجّ الإسلام؛ للإحلال؛ لوجوبه عليَّ قربة إلى اللَّه».
2- 2 أورد هذه النيّة في الرسالة الفخريّة: 75 هكذا: «أطوف بالبيت سبعة أشواط طواف الحجّ حجّ التمتّع حجّ الإسلام؛ لوجوبه عليَّ قربة إلى اللَّه».
3- 3 أورد هذه النيّة في الرسالة الفخريّة: 76 هكذا: «أُصلّي ركعتي طواف الحجّ حجّ التمتّع حجّ الإسلام؛ لوجوبه عليّ قربة إلى اللَّه».
4- 4 أورد هذه النيّة في الرسالة الفخريّة: 76 هكذا: «أسعى بين الصفا والمروة سبعة أشواطٍ سعي الحجّ حجّ التمتّع حجّ الإسلام؛ لوجوبه عليَّ قربة إلى اللَّه».
5- 5 أورد هذه النيّة في الرسالة الفخريّة: 76 هكذا: «أطوف طواف النساء سبعة أشواط لحجّ التمتّع حجّ الإسلام؛ لوجوبه عليَّ قربة إلى اللَّه».
6- 6 وذلك بالمقام.
7- 7 أورد هذه النيّة في الرسالة الفخريّة: 76 هكذا: «أُصلّي ركعتي طواف النساء لحجّ التمتّع حجّ الإسلام؛ لوجوبهما قربة إلى اللَّه».
8- 8 أورد هذه النيّة في الرسالة الفخريّة: 76 هكذا: «أبيت هذه الليلة في منى لحجّ التمتّع حجّ الإسلام؛ لوجوبه عليَّ قربة إلى اللَّه».

ص: 52

أرمي هذه الجمرة بسبع حصياتٍ في حجّ الإسلام، حجّ التمتّع؛ لوجوبه قربةً إلى اللَّه (1).

فإذا فرغ من أفعاله، ورجع إلى مكّة استحبّ له الإكثارُ من الطواف المندوب، ونيّته:

أطوف بالبيت سبعة أشواطٍ؛ لندبه قربة إلى اللَّه.

ثمّ يصلّي ركعتي الطواف، ونيّتها:

أُصلّي ركعتي الطواف لندبه قربة إلى اللَّه.

فإذا أراد الخروج من مكّة، استحبّ له طواف الوداع، ونيّته:

أطوف بالبيت سبعة أشواطٍ طواف الوداع؛ لندبه قربة إلى اللَّه.

ويصلّي ركعتيه، ونيّتها:

أُصلّي ركعتي طواف الوداع؛ لندبه قربة إلى اللَّه.

وإن كان الحاجّ نائباً عن غيره، فليضف إلى هذه النيّات النيابةَ عن فلان في جميع الأعمال والأفعال عليه بالأصالة، وعليّ بالنيابة؛ لوجوبه قربة إلى اللَّه.

وكفى باللَّه حسيباً، وحسبي اللَّه ونعم الوكيل ونعم النصير، وصلّى اللَّه على سيّدنا محمّدٍ وآله الطاهرين، والحمد للَّه ربّ العالمين.

***- محل الصورة-

مصادر التحقيق:


1- 1 أورد هذه النيّة في الرسالة الفخريّة: 76 هكذا: «أرمي هذه الجمرة لحجّ الإسلام حجّ التمتّع لوجوبه عليَّ قربة إلى اللَّه».

ص: 53

1- القرآن الكريم.

2- الأعلام لخير الدين الزركلي، نشر دار العلم للملايين، بيروت 1984 م.

3- أعيان الشيعة للسيّد محسن الأمين، نشر دار التعارف للمطبوعات، بيروت 1403 ه. ق.

4- أمل الآمل للشيخ الحرّ العاملي، تحقيق السيّد أحمد الحسيني، مطبعة الآداب في النجف الأشرف.

5- الانتصار للشريف المرتضى علم الهدى، نشر منشورات الشريف الرضي، قم.

6- بحار الأنوار للشيخ محمد باقر المجلسي، نشر مؤسّسة الوفاء، بيروت 1403 ه. ق.

7- بهجة الآمال في شرح زبدة المقال للعلّامة ملّا علي العلياري التبريزي، تحقيق جعفر الحائري، نشر مؤسّسة الثقافة الإسلاميّة 1408 ه. ق.

8- تنقيح المقال في أحوال الرجال للشيخ عبد اللَّه المامقاني، نشر مكتبة جهان (الطبعة الحجريّة).

9- جمل العلم والعمل للشريف المرتضى علم الهدى، تحقيق السيّد أحمد الحسيني، مطبعة الآداب في النجف الأشرف 1387 ه. ق.

10- الدرّ المنثور للفقيه علي بن محمد بن الحسن بن زين الدين العاملي، نشر مكتبة آية اللَّه العظمى المرعشي النجفي قدس سره، قم 1398 ه. ق.

11- الذريعة إلى تصانيف الشيعة للعلّامة الشيخ آقا بزرگ الطهراني، نشر دار الأضواء، بيروت 1403 ه.

12- الرسالة الفخريّة في معرفة النيّة لفخر المحقّقين محمد بن الحسن بن المطهّر الحلّي، تحقيقصفاء الدين البصري، نشر مجمع البحوث الإسلاميّة، مشهد 1411 ه. ق.

13- روضات الجنّات في أحوال العلماء والسادات للميرزا محمد باقر الموسوي الخوانساري، نشر مكتبة اسماعيليان 1390 ه. ق.

14- رياض العلماء وحياض الفضلاء للميرزا عبد اللَّه افندي الاصفهاني، تحقيق السيّد أحمد الحسيني، نشر مكتبة آية اللَّه العظمى المرعشي النجفي قدس سره، قم 1401 ه. ق.

15- سفينة البحار ومدينة الحكم والآثار للشيخ عبّاس القمّي، مطبعة المهارة 1363 ه. ش (الطبعة الحجريّة).

16- علل الشرائع للشيخ أبي جعفر الصدوق، نشر مكتبة الداوري، قم.

17- فقه القرآن لقطب الدين أبي الحسين سعيد بن هبة اللَّه الراوندي، تحقيق السيّد أحمد الحسيني، نشر مكتبة آية اللَّه العظمى المرعشي النجفى قدس سره، قم 1397 ه. ق.

18- الفقه المنسوب للإمام الرضا عليه السلام، تحقيق مؤسّسة آل البيت عليهم السلام

ص: 54

لإحياء التراث في قم، نشر المؤتمر العالمي للإمام الرضا عليه السلام، مشهد 1406 ه. ق.

19- الفوائد الرضويّة في أحوال علماء المذهب الجعفريّة للشيخ عبّاس القمّي (الطبعة الفارسيّة).

20- الكنى والألقاب للشيخ عبّاس القمّي، نشر مكتبة بيدار، قم.

21- لؤلؤة البحرين للشيخ يوسف البحراني، تحقيق السيّد محمدصادق بحر العلوم، نشر مؤسّسة آل البيت للطباعة والنشر، قم.

22- معاني الأخبار للشيخ أبي جعفر الصدوق، تحقيق علي أكبر الغفّاري، نشر جماعة المدرّسين، قم 1361 ه. ش.

23- معجم رجال الحديث وتفصيل طبقات الرواة للسيّد أبي القاسم الموسوي الخوئي قدس سره، نشر مدينة العلم في قم 1403 ه. ق.

24- معجم المؤلّفين لعمر رضا كحّالة، نشر دار إحياء التراث العربي، بيروت.

25- المقنعة للشيخ محمد بن محمد المفيد، تحقيق ونشر جماعة المدرّسين، قم 1410 ه. ق.

26- منتهى المقال في أحوال الرجال للشيخ أبي علي محمد بن إسماعيل (الطبعة الحجريّة).

27- نقد الرجال للسيّد مير مصطفى التفريشي، نشر مكتبة الرسول المصطفىصلى الله عليه و آله و سلم، قم.

28- هديّة الأحباب في ذكر المعروفين بالكنى والألقاب والأنساب، للشيخ عبّاس القمّي، نشر مكتبة الصدوق، طهران 1362 ه. ش.

29- الوسيلة إلى نيل الفضيلة للفقيه أبي جعفر الطوسي المعروف بابن حمزة، تحقيق الشيخ محمد الحسّون، نشر مكتبة آية اللَّه العظمى المرعشي النجفي قدس سره، قم 1408 ه. ق.

الهوامش:

المنازل الثلاثة للرحمة في السعي

ص: 55

المنازل الثلاثة للرحمة في السعي

محمد مهدي الآصفي

في حياة الإنسان ثلاثة منازل لرحمة اللَّه تعالى:

1- الفقر والحاجة.

2- الدعاء والسؤال.

3- السعي والعمل.

وفيما يلي شرح موجز لهذه المنازل:

المنزل الأول: الفقر والحاجة:

وهما أولا منازل رحمة اللَّه- تعالى- فالفقر يستنزل رحمة اللَّه حتى من غير أن يعيصاحب الفقر فقره إلى اللَّه.

وبين (الفقر إلى اللَّه) و (رحمة اللَّه) علاقة تكوينية، كلّ منهما يطلب الآخر، فالفقر إلى اللَّه يستنزل رحمة اللَّه، ورحمة اللَّه تطلب مواقعَ الحاجة والفقر. وهي سنة عامة في الكون، في كلّ موضع للفقر والغنى، والضعف والقوة. فإنّ الضعف يطلب القوة، والقوة تطلب الضعف، والفقر يطلب الغنى، والغنى يطلب الفقر، والجهل يطلب العلم، والعلم يطلب الجهل، والمريض يطلب الطب، كما أن الطب يطلب المرض.

وليست حاجة العالِم إلى الجاهل ليعلّمه بأقل من حاجة الجاهل إلى العالم، ولا حاجة الطبيب إلى المريض ليداويه بأقل من حاجة المريض إلى الطبيب، ولا حاجة الأمّ إلى الطفل لتسبغ عليه حنانها وعطفها بأقل من حاجة الطفل إلى الأُمّ لتتولّاه برعايتها وعطفها.

إنّها سنة اللَّه في كل موضع للفقر والغنى، والضعف والقوة، وهي سنة اللَّه- تعالى- في علاقته بفقر عباده

ص: 56

وعجزهم وضعفهم وحاجتهم حتى من غير سؤال وطلب ودعاء، ومن غير وعي منهم لحاجتهم وفقرهم.

إن هذه العلاقة من أسرار هذا الدين، وهي من أسرار هذا الكون وقوانينه، وما لم يفهم الإنسان هذا القانون في الكون، وفي علاقة الإنسان باللَّه- تعالى- لا يستطيع أن يدرك طائفة واسعة من معارف هذا الدين وأسراره.

وكم من مريض تماثل للشفاء برحمة اللَّه من غير سؤال «وإذا مرضت فهو يشفين» (1) وكم من فقير جائع رزقه اللَّه- تعالى-، وأطعمه من جوع من غير سؤال ولا دعاء. وكم من مضطر في لجج البحار، أو تحت الانقاض، أو تحت طائل السيوف أو في وسط الحريق أدركته رحمة اللَّه- تعالى- وانقذته من غير سؤال ولا دعاء. وكم من ظمآن بلغ به الظماء مبلغاً استنفد مقاومته، فأدركته رحمة اللَّه- تعالى- وأروته من غير سؤال ولا طلب. وكم من إنسان واجه الأخطار، وكان قاب قوسين منها وهو يعلم أولا يعلم، فجاءه (ستر اللَّه) فانقذه منها. وكم من إنسان وصل إلى طريق مسدود في حياته ففتح اللَّه- تعالى- عليه ألف طريق وطريق، وكل ذلك من غير سؤال ولا طلب ولا دعاء، بل دون أن يعرفصاحبُه اللَّه كثيراً، فضلًا من أن يعرفه فلا يطلب منه، وكم من رضيع تدركه رحمة اللَّه- تعالى- دون أن يطلب من اللَّه، ودون أن يسأل اللَّه- تعالى- (2).

وقد ورد في دعاء الافتتاح: «فكم يا إلهي من كربة قد فرجتها، وهموم قد كشفتها، وعثرة قد أقلتها، ورحمة قد نشرتها، وحلقة بلاء قد فككتها».

وورد في دعاء أيام رجب: «يا من يعطي من سأله، يا من يعطي من لم يسأله، ومن لم يعرفه تحنّناً منه ورحمة».

وفي المناجاة الرّجبيّة: «ولكن عفوك قبل علمنا».

إذن الفقر والحاجة من منازل رحمة اللَّه- تعالى-، وحيث يكون الفقر وتكون الحاجة، تجد رحمته تعالى.

وللعارف الروميّ الشهير بيتٌ من الشعر في هذا الباب، أذكر ترجمته هذه:

لا تطلب الماء واطلب الظماء حتّى يتفجّر الماء من كلّ أطرافك وجوانبك.

وقد وردت الإشارة إلى هذه العلاقة بين رحمة اللَّه- تعالى- وحاجة عباده وفقرهم في مناجاة بليغة ومؤثرة لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، نورد فيما يلي طرفاً منها:

مولاي يا مولاي أنت المولى، وأنا العبد، وهل يرحم العبد إلا المولى.

مولاي يا مولاي، أنت المالك، وأنا المملوك، وهل يرحم المملوك إلا المالك؟

مولاي يا مولاي، أنت العزيز، وأنا الذليل، وهل يرحم الذليل إلا العزيز؟

مولاي يا مولاي، أنت الخالق، وأنا المخلوق، وهل يرحم المخلوق إلا الخالق؟

مولاي يا مولاي، أنت القوي، وأنا الضعيف، وهل يرحم الضعيف إلا القوي؟

مولاي يا مولاي، أنت الغني، وأنا الفقير، وهل يرحم الفقير إلا الغني؟

مولاي يا مولاي، أنت المعطي، وأنا السائل، وهل يرحم السائل إلا المعطي؟

مولاي يا مولاي، أنت الحي، وأنا الميت، وهل يرحم الميت إلا الحي؟

الفقر الواعي والفقر المضلّل:


1- 1 الشعراء: 80.
2- 2 وهذا لا يعني أن الناس لا يموتون تحت الانقاض في الزلازل، ولا يحترقون في الحرايق، ولا يهلكون في لجج البحار، ولا يموت إنسان من المرض والألم ولا يموت طفل رضيع. فقدصمّم اللَّه تعالى هذا الكون بموجب (الرحمة) و (الحكمة)، فاذا كانت حكمة اللَّه تقتضي وقوع كارثة في إنسان أو حيوان أو نبات، فلا يعني ذلك أن ننفي البعد الآخر من فضل اللَّه- تعالى- وصفاته الحسنى، وهو الرحمة.

ص: 57

ولكن علينا أن نشير هنا: أن هناك نوعين من الفقر؛ أحدهما يستنزل رحمة اللَّه، والآخر يحجبصاحبه عن رحمة اللَّه. أمّا الذي يستنزل رحمة اللَّه فهو «الفقر الواعي» الذي يشعرصاحبه بحاجته وفقره الى اللَّه تعالى، ويربطه بمسبب الأسباب مباشرة عبر الأسباب، دون أن يكون معنى ذلك اسقاط الأسباب عن الحساب.

والفقر المضلّل هو الفقر الذي يحبسصاحبه عند الأسباب، وتحجبه الأسباب عن الإحساس بفقره وحاجته الى مسبب الأسباب.

وليس معنى وعي الحاجة والفقر إلى اللَّه- تعالى- الغاء الأسباب، والإعراض والانصراف عنها، فهذا ما لا يصح، ولا يجوز، ولا يقول به أحد، حتّى الأشاعرة لا يذهبون هذا المذهب المتطرف من الأسباب.

ومع تثبيت هذه الحقيقة نقول: إنّ الفقر الواعي هو الفقر الذي يشعرصاحبه بفقره إلى اللَّه، ويثبّت ويركّز الإحساس بالفقر إلى اللَّه في نفسه، ولا تعيقه الأسباب عن مسبّب الأسباب.

أما الفقر المضلّل فهو الفقر الذي يحبسصاحبه عند الأسباب، وتحجبه الأسباب عن الإحساس بالحاجة والفقر الى اللَّه تعالى، مبدإ الأسباب، ومسبّب الأسباب.

والفقر الأوّل هو المقصود من الرواية النبويّة الشريفة (الفقر مخزي) والفقر الثاني هو الذي (كاد أن يكون كفراً).

والفقر الأوّل هو الذي يستنزل رحمة اللَّه، والثاني يحجبصاحبه عن رحمة اللَّه.

وهذا الفقر هو الذي نجده في كلمات أبي الأنبياءِ إبراهيم عليه السلام، كما يتلو علينا القرآن نبأه: «واتلُ عليهم نبأَ ابراهيم ... الذي خَلَقني فهو يَهدين والذي هو يُطعمني ويَسقين وإذا مَرِضتُ فهو يَشفين والذي يُميتني ثم يُحيين والذي أَطمعُ أن يغفرَ لي خَطيئتي يومَ الدين» (1).

فلا يريد إبراهيم عليه السلام في هذا الخطاب أن يلغي الأسباب الطبيعية في الإطعام والسقي والشفاء والموت والحياة من الحساب، وقد كان عليه السلام يتعامل مع كل ذلك إلّاأن هذه الأسباب لن تحجبه عن اللَّه- تعالى- مسبّب الأسباب ومبدإ الأسباب، وهذا هو الفرق بين الرؤية التوحيدية إلى الأسباب وبين الرؤية الأخرى المشوبة بالشرك.

المنزل الثاني: الدعاء والسؤال:

يستنزل الدعاء والسؤال من رحمة اللَّه ما لا يستنزله الفقر وذلك أنّ الدعاء فقر وطلب، وكل منهما عامل مستقل في استنزال رحمة اللَّه- تعالى- فإنّ الطلب والسؤال يستنزل رحمة اللَّه، كما أنّ الفقر يستنزل رحمة اللَّه، والدعاء:

«فقر وطلب» ولذلك فهو يستنزل من رحمة اللَّه ما لا يستنزله الفقر وحده.

وكلما يكونصاحب الدعاء أكثر اضطراراً وفقراً يكون دعاؤه أقرب إلى الاستجابة، فإنّ الفقر يركّز الطلب، والطلب يعمق حالة الفقر ويدخله إلى دائرة الوعي.

ولكل (دعوة) (اجابة).

يقول تعالى: «... ادعوني استجب لكم، إنّ الذين يستكبرونَ عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين» (2).

وهذا قانون عام لا يتخلف، والقرآن الكريم يقرّر هذه الحقيقة بكل وضوح (ادعوني أستجب لكم).


1- 1 الشعراء: 69- ...- 81.
2- 2 المؤمن: 60.

ص: 58

وإن (المانع) عن استجابة الدعاء إمّا أن يكون من ناحية المسؤول، أو من ناحية السائل، وليس من ثالث، ولا يمكن أن يكون هناك مانع من ناحية المسؤول فإن اللَّه- تعالى- مقتدر كريم، لا تنقص خزائنه، ولا ينفد ملكه.

«... وإذا قضى أمراً فانما يقول له كن فيكون» (1).

«... والأرضُ جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطوياتٌ بيمينه» (2).

«إنّ اللَّه على كل شي ء قدير» (3).

«وللَّه خزائنُ السموات والأرض» (4).

ولا بخل ولا شحّ في ساحته، ولا حدّ لجوده وكرمه.

«... ربنا وسِعتَ كلّ شي ء رحمة وعلماً ...» (5).

«فإن كذّبوك فقل ربُّكم ذو رحمة واسعة ...» (6).

«... وما كان عطاءُ ربك محظوراً» (7).

«ما يفتحِ اللَّهُ للناس من رحمة فلا ممسك لها، وما يُمسك فلا مرسلَ له من بعده ...» (8).

فلا نفاد لملك اللَّه ورحمته وسلطانه حتى يعيق رحمته، ولا بخل ولا شحّ في ساحته حتى يمنعه من الجود والعطاء.

فليس في المسؤول- سبحانه وتعالى- ما يمنع من الاستجابة لدعاء عباده كلما دعوه وطلبوا منه شيئاً، وهو معنى قوله تعالى (ادعوني أستجب لكم) من دون قيد ولا شرط، هذا من ناحية المسؤول.

وأمّا من ناحية السائل فقد تضرّ الاستجابة بحال السائل، وهو لا يعلم، واللَّه- تعالى- يعلم، فلا يستجيب لدعائه، ولكن يعوضه عن ذلك بغيره من قضاء حاجاته الأخرى وغفران ذنوبه.

وقد يضرّه التعجيل بقضاء حاجته والاستجابة لدعائه، ويعلم اللَّه- تعالى- أن تأجيل الاستجابة أصلح لحاله.

التبديل والتأجيل:

في الحالة الأولى يبدل اللَّه- تعالى- قضاء حاجة عبده بغيرها من حاجاته.

وفي الثانية يؤجل اللَّه- تعالى- الاستجابة لدعاء عبده إلى الوقت الصالح له.

ففي دعاء الافتتاح:

«فصرت أدعوك آمنا، وأسالك مستأنساً، لا خائفاً ولا وجلًا، مدلًا عليك فيما قصدتُ فيه اليك، فإن أبطأ عني عتبت بجهلي عليك، ولعلّ الذي أبطأ عني هو خير لي لعلمك بعاقبة الأمور».

وقد يؤخر اللَّه- تعالى- اجابة دعاء عبده، كي يطول قيامه وتضرعه بين يديه- تعالى- واللَّه يحب أن يطول وقوف عبده وتضرعه بين يديه، ففي الحديث القدسي:

«يا موسى! إني لست بغافل عن خلقي، ولكني أحبّ أن تسمع ملائكتي ضجيج الدعاء من عبادي» (9).

وعن الصادق عليه السلام:

«إن العبد ليدعو فيقول اللَّه- عزّ وجلّ- للملكين قد استجبت له، ولكن احبسوه بحاجته، فإني أُحبّ أن أسمعصوته، وإن العبد ليدعو، فيقول اللَّه- تبارك وتعالى- عجّلوا له حاجته فإني أبغضصوته» (10).


1- 1 البقرة: 117.
2- 2 الزمر: 67.
3- 3 آل عمران: 165.
4- 4 المنافقون: 7.
5- 5 غافر: 7.
6- 6 الأنعام: 147.
7- 7 الإسراء: 20.
8- 8 فاطر: 2.
9- 9 عدة الداعي.
10- 10 وسائل الشيعة، كتاب الصلاة، أبواب الدعاء، باب 21، ح 3.

ص: 59

ولكن حتى لو كانت الإجابة تضرّه فإن اللَّه- تعالى- لا يلغي الإجابة، بشكل مطلق، وإنما (يبدله) إلى كفارة لذنوبه، وغفران لها، أو إلى رزق يرزقه إياه في الدنيا عاجلًا أو درجات رفيعة له في الجنة.

وفي غير هاتين الحالتين (حالة التبديل وحالة التأجيل) لابد من الإجابة.

وهذه الحتمية نابعة من حكم الفطرة القطعي إذا كان السائل محتاجاً وفقيراً ومضطراً إلى المسؤول، والمسؤول قادر على إجابة طلبه، ولا بخل ولا شحّ في خلقه.

والقرآن الكريم يؤكد هذه العلاقة الحتمية (1) يقول تعالى:

1- «أمّن يُجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ...» (2).

فلا يحتاج المضطر في الإجابة لاضطراره، وكشف السوء عنه إلّاإلى الدعاء (إذا دعاه)، فإذا دعاه سبحانه، استجاب لدعائه، وكشف عنه السوء.

2- «وقال ربّكم ادعوني أَستجب لكم إنَّ الذين يَستكبرون عن عبادتي سَيدخُلون جهنمَ داخِرين» (3).

والآية الكريمة واضحة وصريحة في الربط بين الدعاء والاستجابة (ادعوني استجب لكم).

3- «... أُجيبُ دعوةَ الداعِ إذا دَعانِ ...» (4).

والعلاقة القطعية بين الدعاء والإجابة واضحة وصريحة في هذه الطائفة من آيات كتاب اللَّه، وهي تدفع كلّ شك وريب من النفس في قطعية الإجابة من اللَّه لكل دعاء، ما لم تكن الإجابة مضرة بالداعي أو بالنظام العام الذي يعتبر الداعي جزءاً منه، والاستجابة في هذه الآيات غير مشروطة ولا معلّقة بشي ء.

وأمّا الشروط التي سوف نتحدث عنها؛ ففي الحقيقة ترجع الى تحقيق الدعاء وتثبيته لمصلحة الداعي نفسه، ومن دونها يضعف الدعاء أو ينتفي.

إذن فإنّ العلاقة بين الدعاء والاستجابة علاقةٌ حتمية لا يمكن أن تتخلف، وعلاقة مطلقة لا يمكن أن تتعلق بشرط، إلّاأن يكون الشرط مما يؤكد ويثبت حالة الدعاء نحو قوله تعالى: «... إذا دعاه ويكشف السوء ...».

وفي أحاديث رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم وأهل بيته ما يؤكد ويعمق هذه العلاقة بين الدعاء والإجابة.

ففي الحديث القدسي:

«يا عيسى ... إني أسمع السامعين، أستجيب للداعين إذا دعوني» (5).

وعن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم: «ما من عبد يسلك وادياً فيبسط كفّيه، فيذكر اللَّه ويدعو إلّاملأ اللَّه ذلك الوادي حسنات فليعظم ذلك الوادي أو ليصغر» (6).

وعن أبي عبد اللَّه الصادق عليه السلام في حديث: «لو أن عبداً سدّ فاه، ولم يسأل لم يعط شيئاً، فسل تعط» (7).

وعن ميسر بن عبد العزيز عن أبي عبد اللَّه الصادق عليه السلام: «يا ميسر! إنّه ليس من باب يقرع إلّا يوشك أن يفتح لصاحبه» (8)


1- 1 ليس معنى القول بتحتيم هذه العلاقة فرض أمر على اللَّه- تعالى- فهو- سبحانه- قد كتب على نفسه الرحمة «فقل سلامٌ عليكم كَتَبَ ربُّكم على نفسهِ الرحمةَ ...». الأنعام: 54
2- 2 النمل: 62.
3- 3 المؤمن: 60.
4- 4 البقرة: 186.
5- 5 أصول الكافي.
6- 6 ثواب الأعمال: 137.
7- 7 وسائل الشيعة، 4: 1084، ح 8606.
8- 8 وسائل الشيعة، 4: 1085، ح 8611.

ص: 60

وعن أمير المؤمنين عليه السلام: «متى تكثر قرع الباب يفتح لك» (1).

وفي وصايا رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم لعليّ عليه السلام:

«يا عليّ! .. أوصيك بالدعاء فإن معه الإجابة» (2).

وعن الصادق عليه السلام:

«إذا ألهم أحدكم الدعاء عند البلاء فاعلموا أن البلاء قصير» (3).

وعن الصادق عليه السلام:

«لا واللَّه، لا يلح عبد على اللَّه- عزّ وجلّ- إلا استجاب له» (4).

والنصوصُ الإسلاميّة تؤكد هذه الحتمية، والإطلاق في العلاقة بين الدعاء والإجابة، وتبين بشكل واضح وصريح، أنّ اللَّه- تعالى- يستحيي أن يرد دعاء عبده إذا دعاه.

ففي الحديث القدسي:

«ما انصفني عبدي يدعوني فاستحيي أن أرده، ويعصيني ولا يستحيي مني» (5).

وعن الصادق عليه السلام:

«ما أبرز عبد يده إلى اللَّه العزيز الجبار إلّااستحيى اللَّه- عزّ وجلّ- أن يردها» (6).

وفي الحديث القدسي:

«مَن توضأ وصلّى ودعاني فلم أجبه فيما يسأل عن أمر دينه ودنياه فقد جفوته، ولستُ برب جاف» (7).

وعن أمير المؤمنين عليه السلام:

«ما كان اللَّه ليفتح باب الدعاء، ويغلق عليه باب الإجابة» (8).

وعن أمير المؤمنين عليه السلام أيضاً:

«مَن أعطى الدعاء لم يحرم الإجابة» (9).

وفي النصّين الأخيرين التفاتة ذات مغزى ونكهة علوية. فإن اللَّه- تعالى- كريم ووفي، فإذا فتح باب الدعاء، فلا يمكن أن يغلق على العبد باب الإجابة، وإذا رزق العبد توفيق الدعاء، فلا يمكن أن يحرمه الإجابة ..

عن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم:

«ما فتح لأحد باب دعاء إلّا فتح اللَّه له فيه باب اجابة، فإذا فتح لأحدكم باب دعاء فليجهد فإنّ اللَّه لا يمل» (10).

وهذا هو المنزل الثاني من منازل رحمة اللَّه. اللهمّ سمعنا، وشهدنا، وآمنا.


1- 1 وسائل الشيعة، 4: 1085، ح 8613.
2- 2 وسائل الشيعة، كتاب الصلاة، أبواب الدعاء، باب 2، ح 18.
3- 3 اصول الكافي، كتاب الدعاء، باب الإلحاح بالدعاء، ح 5.
4- 4 ارشاد القلوب للديلمي.
5- 5 عدة الداعي، وسائل الشيعة، كتاب الصلاة، أبواب الدعاء، باب 14، ح 1.
6- 6 ارشاد القلوب للديلمي.
7- 7 وسائل الشيعة، كتاب الصلاة، أبواب الدعاء، باب 2، ح 12- وسائل الشيعة، 4: 1086، ح 8621.
8- 8 وسائل الشيعة، 4: 1086، أبواب الدعاء، باب 2، ح 8622.
9- 9 نفس المصدر.
10- 10 وسائل الشيعة، 4: 1087.

ص: 61

المنزل الثالث: السعي والعمل:

قد جعل اللَّه- تعالى- (السعي) و (العمل) من منازل رحمته للدنيا والآخرة.

يقول تعالى: «من عملصالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنُحيينّه حياة طيبة ...» (1).

ويقول تعالى: «فأمّا من تاب وآمن وعملصالحاً فعسى أن يكون من المفلحين» (2).

فمن عملصالحاً آتاه اللَّه حياةً طيبةً، وأفلحه.

فإذا كان الإنسان يبتغي دنيا أو آخرة فعليه أن يسعى اليها ويعمل لها.

وقد كان علي عليه السلام يقول: «لا تكن ممن يرجو الآخرة بغير العمل» (3).

ولا يبلغ الإنسان منازل المؤمنين في الجنة إلّا بالعمل.

«ومَن يعمل مِن الصالحات مِن ذكرٍ أو أنثى وهو مؤمنٌ فأولئك يَدخلون الجنّة ...» (4).

ومهما كان العمل قليلًا فانّ اللَّه- تعالى- يحصيه ويثيبه عليه «فمَن يعمل مثقالَ ذرّةٍ خيراً يره» (5).

«يومَ تجدُ كلُّ نفسٍ ما عمِلت مِن خيرٍ محضراً ...» (6).

فالعمل إذن، أحد أعظم منازل الرحمة، ولا ينال الإنسان كثيراً من الخير والرحمة والتوفيق والرزق إلّا بالعمل.

ولا يبلغ الإنسان ما يطلبه من الخير بالتمني والترجي. وقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام انّه كان يقول: «أبلغ شيعتنا، أنه لا ينال ما عند اللَّه إلّا بالعمل».

وهذه ثالث منازل رحمة اللَّه- تعالى-.

المنازل الثلاثة للرحمة، في قصة إبراهيم وهاجر وإسماعيل عليهم السلام:

وفي قصة أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام نلتقي مشهداً فريداً أو نادراً من نوعه، في اجتماع المنازل الثلاثة للرحمة في


1- 1 النحل: 97.
2- 2 القصص: 67.
3- 3 نهج البلاغة: حكمة 15.
4- 4 النساء: 124.
5- 5 الزلزلة: 7.
6- 6 آل عمران: 30.

ص: 62

موضع واحد، في قصة واحدة، وذلك عندما أودع أبو الأنبياء ابراهيم عليه السلام زوجتَه هاجر في واد غير ذي زرع، وترك معها ابنهما إسماعيل عليه السلام وهو يومئذ طفل رضيع.

وقال: «ربنا إني أَسكنتُ من ذُريتي بواد غير ذي زرعٍ عند بيتكَ الُمحرّمِ، ربنا لِيُقيموا الصلاة. فاجعل أفئدةً من الناس تهوِي إليهم؛ وارزقهم منَ الثمراتِ لعلهم يَشكرون» (1).

وذهب إبراهيم خليل اللَّه بعد ذلك إلى شأنه كما أمره اللَّه- تعالى-. وترك هذه المرأة والطفل الرضيع لوحدهما في هذا الوادي القفر بأمر اللَّه- تعالى- فنفد ما كان لديهما من الماء وعطش الطفل وغلب عليه الظمأ وأخذت المرأة تبحث عن الماء فلم تجد له أثراً، وأخذ الطفل يصرخ ويضرب بيديه ورجليه، والأم تهرول من هنا وهناك فتصعد على الصفا تارةً تنظر إلى الأفق البعيد بحثاً عن الماء ثم تهبط، وتهرول باحثة عن الماء إلى جانب جبل المروة، وتدعو اللَّه تعالى أن يرزقهما الماء في هذا الوادي القفر، والطفل يصرخ ويبكي ويضرب بيديه ورجليه عند البيت الحرام.

ففجر اللَّه- تعالى- الأرض ماءً تحت قدمي الطفل، فأسرعت الأم إلى الماءِ، لتروي طفلها الرضيع، ولتلملم الماء لئلا يذهب هدراً، فتقول للماء وهي تصنع له حوضاً يجمعه زم .. زم ...

الرواية التاريخية لقصة السعي الأول:

تقول الرواية التاريخية: «إنّ اللَّه- تعالى- أمر عبده وخليله إبراهيم أن يخرج بزوجته هاجر (أمّ إسماعيل) من الشام إلىصحراء الجزيرة، حيث يقع الحرم، فلما وافى إبراهيم منطقة الحرم، حيث تقع مكة اليوم نزل فيها فوجد شجراً، فألقت هاجر كساءً كان معها تستظل تحته فلما سرّحهم إبراهيم ووضعهم، وأراد الانصراف عنهم إلى سارة، قالت له هاجر: يا إبراهيم لِمَ تدعنا في موضع ليس فيه أنيس ولا ماء ولا زرع؟ فقال إبراهيم: الّذي أمرني أن أضعكم في هذا المكان هو يكفيكم، ثمّ انصرف عنهم، فلمّا بلغ كدًى وهو جبل بذي طوى، التفت إليهم إبراهيم فقال:

«ربّنا إنّي أسكنتُ من ذريّتي بوادٍ غيرِ ذي زرعٍ عند بيتك المحرّمِ ربّنا لِيقيموا الصلاةَ واجعل أفئدةً منَ النّاس تهوِي إليهم وارزقهم منَ الثّمراتِ لعلّهم يشكرون».

ثمّ مضى وبقيت هاجر، فلمّا ارتفع النهار عطش اسماعيل وطلب الماء، فقامت هاجر في الوادي في موضع المسعى فنادت: هل في الوادي من أنيس؟ فغاب إسماعيل عنها فصعدت على الصفا، ولمع لها السراب في الوادي وظنّت أنّه ماء، فنزلت في بطن الوادي وسعت فلمّا بلغت المسعى غاب عنها إسماعيل، ثمّ لمع لها السراب في ناحية الصفا فهبطت إلى الوادي تطلب الماء، فلمّا غاب عنها إسماعيل عادت حتّى بلغت الصفا فنظرت حتّى فعلت ذلك سبع مرّات، فلمّا كان في الشوط السابع وهي على المروة نظرت إلى اسماعيل وقد ظهر الماء من تحت رجليه، فعدت حتّى جمعت حوله رملًا فإنّه كان سائلًا فزّمته بما جعلته حوله فلذلك سمّيت زمزم».

اسرار الموقف:

إن هذا المشهد العجيب استنزل يومذاك رحمة اللَّه تعالى، ففجر اللَّه لهما زمزم في واد غير ذي زرع، وجعلها مصدراً ومبدأً لكثير من البركات على هذه الأرض المباركة، وجعل هذا المشهد جزءاً من أعمال الحجّ، وثبّته في


1- 1 ابراهيم: 37.

ص: 63

واحد من أشرف فرائضه. فما هو السرّ الكامن في هذا المشهد؟ ولماذا هذا الاهتمام به في أصل الدين، وتثبيته في الحج؟

وما هو السبب المؤثر والقوي الذي استنزل رحمة اللَّه- تعالى- بقوة في هذا المشهد، وجعلها مبدءاً لبركات كثيرة في تاريخ أجيال الموحّدين؟

فلابد من أن يكون هذا المشهد ينطوي على سرّ خاص استدعى نزول رحمته- تعالى- في ذاك الوادي القفر، واستدعى دوام هذه الرحمة وثباتها، وجعل منها مصدراً ومبدأً لكثير من البركات، واستدعى أن يثبتها اللَّه تعالى في حج أجيال الموحدين عند بيته الحرام.

انني اعتقد، واللَّه- تعالى- أعلم بأسرار هذا المشهد- أن هذا المشهد النادر كان يجمع يومئذ بين ثلاثة منازل من منازل رحمة اللَّه- تعالى- كلّ منها يستنزل رحمته تعالى.

وأول هذه المنازل الحاجة التي كان يمثلها الظمأ الذي أضرَّ بالطفل الرضيع، والذي جعله أقرب من غيره إلى رحمة اللَّه تعالى.

ولذلك نرى أن الأطفال الرضّع إذا أضرّ بهم ألم أو جوع أو ظمأ أو برد أو حرّ كانوا أقرب إلى رحمة اللَّه- تعالى- من الكبار الذين يطيقون ذلك كلّه، ولأن الحاجة تضرّ بهم أكثر من الكبار.

وقد ورد في الدعاء (اللهمّ أعطني لفقري)، والفقر إلى اللَّه لوحده يستنزل رحمته- تعالى-، وكلما كان الفقر إلى اللَّه أعظم كان أدعى لنزول رحمة اللَّه، فان الفقر إلى اللَّه يجعل الإنسان عند رحمة اللَّه، ويقرب الإنسان منه، سواء كان الإنسان يعي فقره إلى اللَّه أم لا يعي، وإن كان وعي الفقر إلى اللَّه يضاعف من قيمته وقدرته في استنزال رحمته- تعالى-. ولكن بشرط ألّا يحرّف الإنسان الفقر عن موضعه، فيتصوّره أنّه من الفقر إلى المال أو إلى حطام الدنيا، أو إلى بعض عباد اللَّه بدل أن يعيه على واقعه من الفقر إلى اللَّه. وشتّان بين هذا الفقر وذاك الفقر. والذي يستنزل رحمة اللَّه- تعالى- هو الفقر إلى اللَّه، فإذا حرّف الانسان هذا الفقر من الفقر إلى اللَّه إلى الفقر إلى عباد اللَّه فقد الفقرُ قيمتَه في استنزال رحمته- تعالى-، وأكثر فقر الناس من هذا النوع.

وفي هذا المشهد كانصراخ الطفل وضجيجه وبكاؤه من شدّة العطش مشهداً نافذاً مؤثراً في استنزال رحمة اللَّه تعالى.

كما أنه ليس في مشاهد الحاجة والفاقة إلى اللَّه مشهد مؤثر ورقيق يستنزل رحمته- تعالى- أكثر من مشهد طفل يتلظى من العطش، ولا تجد له أُمّه إلى الماء سبيلًا.

والمنزل الثاني لرحمة اللَّه في هذا المشهد هو (السعي) وهو شرط للرزق، ولا رزق من دون سعي، وقد جعل اللَّه- تعالى- السعي والحركة في حياة الإنسان مفتاحاً للرزق.

وإذا كان عامل الفقر يُكْسِب الإنسان حالة الاضطرار والفاقة والحاجة. فإنّ عامل السعي يُكْسِب الإنسان العزم والقوّة والإرادة، والحركة والنشاط، وعلى قدر حركة الإنسان وسعيه وعزمه يرزقه اللَّه- تعالى- من رحمته.

وقد تحركت أمّ إسماعيل- عندما نفد عندهما الماء، وغلب الظمأ على إسماعيل- للبحث عن الماء، وسعت تطلبه

ص: 64

، تصعد إلى الصفا مرّة، تنظر في الأفق البعيد باحثةً عن الماء، وتنزل من الصفا وتتّجه إلى المروة، تارةً أُخرى، لتصعد عليه وتنظر إلى الأفق البعيد تبحث عن الماء، ورغم أنها استعرضت في هذه الحركة كلّ الأفق من على الصفا والمروة فلم تجد ماءً لم تيأس، وكرّرت هذه الحركة، والصعود والنزول، والهرولة من الصفا إلى المروة وبالعكس سبع مرات، ولولا هذا الأمل والرجاء لانقطع سعيها في الشوط الأوّل، ولكن الأمل والرجاء الذين كانا يعمران قلبها كانا يدعوانها كلّ مرة إلى إعادة السعي مرة أخرى، حتى فرّج اللَّه عنهما وفجّر زمزم تحت قدمي إسماعيل، ولكن الأمل هنا في اللَّه وليس في الماء ولو كان أملها في الماء لانقطع أملها في المرة الأولى أو الثانية.

وقد جعل اللَّه- تعالى- هذا السعي وهذه الحركة شرطاً للرزق، ونزول رحمته على الإنسان، واللَّه تعالى يرزق عباده، وينزل عليهم رحمته، ولكنه- تعالى- شاء أن يكون السعي والحركة مفتاحاً لرزقه ورحمته.

والمنزل الثالث لرحمة اللَّه- تعالى- في هذا المشهد: هو دعاء أمّ اسماعيل، وانقطاعها إلى اللَّه واضطرارها إليه- عزّ شأنه- في طلب الماء في هذا الوادي القفر غير ذي زرع، وكلّما انقطع الإنسان في دعائه إلى اللَّه أكثر كان أقرب إلى رحمة اللَّه.

ولست أدري في أية حالة من حالات الانقطاع إلى اللَّه، كانت هذه المرأة الصالحة في تلك اللحظات في الوادي غير ذي زرع، وليس من انسان أو حيوان حولها، ووحيدها الرضيع يتلظى عطشاً، ويكاد أن يلفظ آخر أنفاسه.

لقد انقطعت المرأة إلى اللَّه في تلك اللحظة انقطاعاً ضجّت له ملائكةُ اللَّه بالدعاء، وضموا أصواتهم إلىصوتها، ودعاءهم الى دعائها.

ولو أن الناس كلهم انقطعوا إلى اللَّه بمثل هذا الانقطاع لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم وعمّتهم رحمة اللَّه تعالى.

عليكِ سلام اللَّه يا أُمنا أمّ اسماعيل! من أبنائك الذين آتاهم اللَّه النور والهدى والإيمان والنبوة، ومن المهتدين بهداهم ونورهم ... ولولا ذلك الانفراد في ذلك الواد القفر غير ذي زرع في هجير الحجاز، ولولا تلك المعاناة والمحنة لم تنقطعي إلى اللَّه- عزّ وجلّ- بمثل هذا الانقطاع، في ذلك الموقف العسير على جبلي الصفا والمروة، ولولا ذلك الانقطاع إلى اللَّه، لم تنزل رحمة اللَّه تعالى عليكما، ولولا تلك الرحمة لم يكن انقطاعك إلى اللَّه وسعيك بين الصفا والمروة من شعائر اللَّه في الحجّ.

«انّ الصفا والمروةَ من شعائر اللَّه فمَن حجّ البيت أوِ اعتمرَ فلا جُناح عليه أن يطوّف بهما، ومَن تطوع خيراً فإن اللَّه شاكر عليم» (1).

لقد ثبّت اللَّه- تعالى- يا أُمّنا؛ انقطاعك إليه في ذلك الهجير، وسعيك إلى الماء، وصراخصغيرك إسماعيل في ذاكرة التاريخ، ليعرف الأجيال من بعدك كيف يستنزلون رحمة اللَّه، وكيف يتعرضون لرحمة اللَّه.

إن رحمة اللَّه- تعالى- واسعة لا شحّ فيها ولا نقص، ولا عجز، ولكن الناس لا يعرفون مواضع هذه الرحمة ومنازلها، ولا يحسنون التعرّض لها والاستفادة منها.

ومنك تعلمنا يا أمّنا! كيف نطلب منازل رحمة اللَّه، وكيف نتعرض لرحمة اللَّه، ومنك يا أمنا أخذنا مفاتيح الرحمة.


1- 1 البقرة: 158.

ص: 65

وعذراً يا أمنا! إذا كنّا- نحن أبناؤك- لم نحفظ هذه المفاتيح التي سلّمتيها إلى إسماعيل من بعدك، وتوارثها أبناء إسماعيل من إسماعيل، وتوارثناها- نحن- من ابنك محمد المصطفى رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم فضيعناها فيما ضيعنا من تراث الأنبياء ومواريثهم.

لقد تعلمنا من أبينا إبراهيم كيف نوحّد اللَّه، وتعلمنا من أمّنا هاجر كيف نسأل اللَّه، وفي متاهات الهوى والطاغوت ضيعنا هذا وذاك.

فأعنّا اللهمّ! على تحصيل ما ضيعناه من تراث أبينا وأمنا (إبراهيم وهاجر) عليهما السلام واجعلنا من أسرتهم، ولا تطردنا ربنا! من هذا البيت من آل إبراهيم وآل عمران.

«إن اللَّهَ اصطفى آدم ونوحاً وآلَ إبراهيم وآلَ عمران على العالمين ذرية بعضها من بعض واللَّهُ سميعٌ عليم» (1).

«ربّنا واجعلنا مسلمين لكَ ومن ذريتنا أُمّةً مسلمة لكَ وأرِنا مناسكنا وتُب علينا إنك أنت التوّاب الرحيم» (2).

لقد أخذت أمُّنا (أمّ إسماعيل)- يومذاك في ذلك الوادي القفر، وفي رمضاء هجيز ذلك الوادي- بأسباب الخير كلّها ... وذلك هو السعي والدعاء والفقر.

لقد كانت أُمّنا تسعى إلى الماء، وتشرف على الوادي تارة من على الصفا وأُخرى من على المروة باحثة عن الماء، واللَّه- تعالى- يحبّ من عباده الحركة والسعي والعمل، وجعل ذلك من أهم شروط الرزق. ولكنها في سعيها كانت منقطعة إلى اللَّه، وتدعوه- تعالى-، وتسأله في حالة من الانقطاع، يقلّ نظيرها في تاريخ الإنسان، فلا السعي والتحرك، كانا يحجبانها، ويقطعانها عنه- تعالى-، ولا الانقطاع إلى اللَّه كان يعطل فيها حالة الحركة، والسعي إلى الماء بأقصى ما تستطيعه امرأة في ذلك الوادي، وفي ذلك الهجير ... في أشواط سبعة من الصفا إلى المروة ومن المروة إلى الصفا.

وإننا اليوم في شعائر حجّنا، نسعى هذه الأشواط بين هذين الجبلين، من غير معاناة، ولا عذاب ولا همّ، ولا قلق، فنكدح ونتعب ويرهقنا هذا السعي.

وقد قامت أمُّنا هاجر بهذا السعي كلّه في ذلك الوادي القفر، وفي رمضاء ذلك الهجير، وهي ظمأى قد استنفذ العطش كلّ حولها وقوتها، ورضيعها الصغير يكاد يلفظ آخر أنفاسه ... ولكنها مع ذلك قامت بهذا السعي إلى الماء بقوّة وهمّة وعزم وإرادة.

ولم يمنعها هذا السعي- ولو للحظة واحدة- عن الانقطاع إلى اللَّه، ولم يحجبها ولو للحظة واحدة عنه تعالى. لقد كانت في هذا السعي المرير كلّه على اتصال باللَّه، وانقطاع إليه لا يشغلها هذا عن ذاك ولا يحجبها ذاك عن هذا، فقرنت السعي إلى الماء بالانقطاع إلى اللَّه، وقرنت الانقطاع إلى اللَّه بالسعي إلى الماء، ومَن منّا يقدر على ذلك؟

والملائكة يومئذ ينظرون إليها، ويتعجبون منها، كيف استطاعت أن تنقطع إلى اللَّه هذا الانقطاع؟ وكيف تمكنت أن تسعى إلى الماء وهي مثقلة بالمتاعب والمحن هذا السعي؟ وكيف استطاعت أن تجمع بين السعي والانقطاع إلى اللَّه


1- 1 آل عمران: 33- 34.
2- 2 البقرة: 128.

ص: 66

بمثل هذا الجمع؟

فيضجون إلى اللَّه- تعالى- أن يستجيب لدعائها وسعيها، وأن يستنزل سعيها ودعاؤها رحمةَ اللَّه- تعالى-، وتقرب رحمة اللَّه حتى تكاد أن تنطبق السماء على الأرض.

لقدصعد يومئذ عمود من الدعاء، والعمل الصالح من الأرض إلى السماء، ونزل عمود من الرحمة من السماء إلى الأرض واتّصلت الأرض بالسماء، والسماء بالأرض، وحشود الملائكة يشهدون هذا المشهد الفريد، ويضجون إلى اللَّه تعالى، ويتضرعون، فيحدث ما ليس بالبال ولا الخيال، وتنفجر الأرض تحت أقدام الرضيع ماءً بارداً زلالًا شفافاً هنياً.

وسبحان اللَّه، والحمد للَّه، لقد استجاب اللَّه لسعيها ودعائها، ولكن لا حيث سعت، وإنّما تحت أقدام الرضيع، الذي كان يضرب بيديه ورجليه ظمأً يومذاك، ليعلمها اللَّه أنه تعالى هو وحده الذي رزقها هذا البارد العذب في هذه الرمضاء وفي هذا الهجير، وليست هي التي حققت ذلك بسعيها وحركتها ... وإن كان لابد لها من أن تسعى وتتحرك ليرزقها اللَّه تعالى زمزم.

ففجر اللَّه (زمزم) تحت أقدام الرضيع، وأقام اللَّه- تعالى- في ذلك الوادي بيته المحرم، وبارك في زمزم، وجعل منها سقاية الحاج مدى الأجيال، وثبت اللَّه هذا السعي والدعاء في ذاكرة التاريخ، وجعل منه شعيرة من شعائر الحج، يحذو فيها حشود الحجاج كلّ عام حذوها، ويحيّون فيها من بُعد أمّهم هاجر وأباهم إبراهيم وإسماعيل.

لقد اجتمعت في هذا الوادي- يومذاك- ثلاثة أسباب من أسباب نزول رحمة اللَّه تعالى: الفقر والسعي والدعاء ...

فقر في أقصى درجات الضعف والفاقة، وسعي في قوة وحزم وعزم، ودعاء في تضرع وانقطاع واضطرار.

وفي الحجّ نحيي نحن كلّ عام هذا المشهد؛ لنتعلم من أمّنا أمّ اسماعيل عليها السلام كيف نطلب رحمة اللَّه- تعالى- وكيف نستنزل فضله ورحمته، وكيف نغرف من رحمته ونتعرض لها.

الهوامش:

ص: 67

تحقيق حول شعب أبي طالب

علي قاضي عسكر

في بداية شارع الحجون شعب يُسمّى في الجاهلية وبعد الاسلام ب «شعب أبي دب» ويسمّيه أهل مكة اليوم ب «مقبرة المعلّاة» أو «جنة المعلّاة» (1) ومعروف بين الايرانيين ب «مقبرة ابي طالب» وكان أهل الجاهلية وفيصدر الاسلام يدفنون موتاهم في شعب أبي دب (2)من الحجون الى شعب الصفى،صفى السباب، وفي الشعب اللاصق بثنية المدنيين الذي هو مقبرة أهل مكة اليوم (3). ويسمّى هذا الشعب ايضاً، ب «شعب العفاريت» ويعرف اليوم بشعبة الجن وهو يتصل بالحجون الجاهلي (4) وهذا مكان، يقصده الكثير من حجاج بيت اللَّه الحرام في كل عام، بعد اتمام العمرة أو الحج لزيارة المدفونين فيه، منهم خديجة بنت خويلد زوجة رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم امّ المؤمنين، وأبو طالب عمّ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم و ....

يسمّي بعض الناس هذا الشعب باسم «شعب أبي طالب» ويريدون بذلك المكان الذي حوصر فيه رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم وخديجة وأبو طالب ومن كان معهم، لمدّة ثلاث سنوات من قبل المشركين، وهي تسمية غيرصحيحة من الوجهة التاريخيّة، لأنّ شعب أبي طالب مكان آخر بقرب المسجد الحرام.

نورد فيما يلي الأدلّة الواضحة، والقطعيّة على هذا الادّعاء:

الشعب في اللّغة:

قال الجوهري (م 393 ه) في الصحاح:

و «الشعب» بالكسر، الطريق في الجبل والجمع «الشعاب» (5).

قال ابن منظور (م 711 ه) في لسان العرب:

والشِّعْبُ: ما انْفَرَج بين جَبَلَين. والشِّعْب: مسيل الماء في بطنٍ من الارض (6)

وقال فخر الدين الطريحي (م 1085) في مجمع البحرين:

... «الشِّعب» بالكسر، هو الطريق في الجبل، والجمع «شِعاب» ككتاب (7).

مكان شعب أبي طالب:

تقع مدينة مكة في ارض جبلية وبين شعابٍ كثيرة، ولهذا فهي في موقع منيع من مخاطر السيول، وتبدو كأنّها تحتضن الدور الّتي فيها، بما يشبه الحصن الطبيعي، وقد كانت موطناً لسُكنى مختلف القبائل.

وفي جوار المسجد الحرام ثلاث شعاب متقاربة وهي:

1- شعب أبي طالب.


1- 1 فقه العبادات الحج:ص 205.
2- 2 ابو دب كنية رجل من بني سواءة بن عامر، سكنه فسمّى به، اخبار مكة للأزرقي، 2: 210- معجم معالم الحجاز:ص 56.
3- 3 اخبار مكة للازرقي، 2: 209.
4- 4 نفس المصدر، 2: 272 في هامشه.
5- 5 الصحاح، 1: 156.
6- 6 لسان العرب، 7: 126.
7- 7 مجمع البحرين، 3: 513.

ص: 68

2- شعب بني هاشم.

3- شعب بني عامر.

وكان اجداد النبيصلى الله عليه و آله و سلم وقومه سكنوا في هذه الشعاب الثلاثة.

- محلّ الخريطة-

(موضع هذه الشعاب الثلاثة موضّح في الخارطة بشكل دقيق)

قال الطريحي بعد تعريفه لمعنى الشعب:

وشِعبُ أبي طالب بمكة، مكان مولد النبيصلى الله عليه و آله و سلم وشعب أبي دب أيضاً بمكة وأنت خارج إلى منى (1).

وجاء في معجم البلدان في ذيل كلمة «شعب أبي يوسف»:

وهو الشعب الذي أَوى إليه رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم، وبنو هاشم لما تحالفت قريش على بني هاشم وكتبوا الصحيفة، وكان لعبد المطلب فقسّمه بين بنيه حين ضعف بصره، وكان النبيصلى الله عليه و آله و سلم أخذ حَظَّ أَبيه، وهو كان منزل بني هاشم ومساكنهم فقال أبو طالب:

جَزى اللَّه عنّا عبد شمس ونَوْفِلًا وتَيْماً ومخزوماً عقوقاً ومأثما


1- 1 مجمع البحرين، 2: 513.

ص: 69

بتفريقهم من بعد وُدّ والْفَةٍ جماعتنا كيما يَنالوا المحارما

كذبتم وبيتِ اللَّه نبزي محمداً ولَمّا تَرَوْا يَوْماً لدى الشِّعب قائماً (1) وقال العلامة المجلسي قدس سره:

والشعب بالكسر: ما انفرج بين جبلين، وشعب أبي طالب معروف بمكّة وهو الموضع الذي كان فيه رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم وأبو طالب وساير بني هاشم عند اخراج قريش اياهم من بينهم. وكتب الكتاب بينهم في مهاجرتهم ومعاندتهم.

ثم يقول في ذيل كلمة الكليني رحمه الله: «في دار محمد بن يوسف»: المشهور في السّير ان هذه الدار كانت للنّبيصلى الله عليه و آله و سلم بالميراث، ووهبها عقيل بن أبي طالب، ثم باعها أولاد عقيل بعد أبيهم محمد بن يوسف أخا الحجاج فاشتهرت بدار محمد بن يوسف فأدخلها محمد في قصره الذي يسمونه بالبيضاء ثم بعد انقضاء دولة بني امية حجّت خيزران امّ الهادي والرّشيد من خلفاء بني العباس فأفرزها عن القصر وجعلها مسجداً.- والقصوى مؤنث أقصى أي الأبعد- والمكان بهذا الوصف موجود الآن يزوره الناس (2).

الدّار التي ولد فيها النبيصلى الله عليه و آله و سلم:

معرفة الموضع الذي ولد فيه النبيصلى الله عليه و آله و سلم والديار التي كان يسكنها بنو هاشم في مكة يساعدنا على أن نعرف شعب أبي طالب.

قال الازرقي:

مولد النبيصلى الله عليه و آله و سلم أي البيت الذي ولد فيه النبيصلى الله عليه و آله و سلم وهو في دار محمد بن يوسف أخي الحجاج بن يوسف، كان عقيل بن أبي طالب أخذه حين هاجر النبيصلى الله عليه و آله و سلم وفيه وفي غيره يقول رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم عام حجة الوداع حين قيل له أين ننزل يا رسول اللَّه؟ وهل ترك لنا عقيل من ظل؟ فلم يزل بيده وبيد ولده حتى باعه ولده من محمد بن يوسف فأدخله في داره التي يقال لها البيضاء وتعرف اليوم بابن يوسف، فلم يزل ذلك البيت في الدار حتّى حجّت الخيزران امّ الخليفتين موسى وهارون فجعلته مسجداً يصلى فيه وأخرجته من الدار وأشرعته في الزقاق الذي في اصل تلك الدّار يقال له: زقاق المولد (3)، وهذا الشعب يُعرف اليوم بشعب بني هاشم وشعب علي ويتّصل بالسّوق المسمّى بسوق الليل (4).

وذكر الفاكهي (م 272، 279 ه. ق):

ودار ابن يوسف لأبي طالب، والحق الذي يليه بعضُ دارِ ابن يوسف من مولد النبيصلى الله عليه و آله و سلم وهو الشعب الذي حاصرت فيه قُرَيشٌ بني هاشم، ورسول اللَّه مَعَهُم في الشِّعب (5).


1- 1 معجم البلدان، 3: 393.
2- 2 مرآة العقول، 5:صص 173 و 174.
3- 3 اخبار مكة للازرقي، 2: 198.
4- 4 نفس المصدر في هامشه.
5- 5 اخبار مكة للفاكهي، 3: 264.

ص: 70

ثم اشار محقق هذا الكتاب في هامشه بانّ هذا الشعب يعرف اليوم ب «شِعْب علي» (1).

ثم قال الفاكهي بشأن دار أبي يوسف ما يلي:

وقال بعضُ الناس: انّ دارَ ابن يوسفَ كانت لعبدِ المطلب، فأمر الحجاجُ أخاه محمد بن يوسف فاشتراها بمائة درهم، فدفعها الحجاجُ إليه، وأمر أخاه محمداً أن يبنيها، فبناها وكلاءُ محمد، فقال الناس: الدار لمحمد بن يوسف، فلما ولى الوليد بن عبد الملك (2) استعملَ خالداً، بن يوسف بن محمد بن يوسف على مكة، فادّعى أنها لأبيه، فخاصمه الحجاج بن عبد الملك بن الحجاج بن يوسف، فنظروا في الدواوين فوجدوا النفقةَ والثمَنَ من الحجاج، وكان الحجاج قد جعل الدارَ الخارجةَ وقفاً على وُلْدِ الحكم بن أبي عقيل، والوُسْطى على ولد محمد بن يوسف، والداخلةَ عَلى وَلَدِ الحجّاج. وذكر بعض أهل مكة أن محمد بن يوسف كان أودع عطاء بن أبي رباح المالَ الذي بناها به ثلاثين ألف دينار، فلمّا أراد وكلاؤه قبضَها، دعا النّاسَ ليشهدوا على قبضها منه، فقال سفيان بن عيينة: قال عمرو بن دينار: فكنت فيمن دُعي ليَشْهد، فكانت رؤيتُها أحبَّ الَىَّ مِنْ دِرْهَمَين. ثمصارت هذه الدّارُ بعد ذلك لولد عبد الملك بنصالح. ثمصارت اليوم لأبي سهل محمد بن أحمد بن سهل.

الشاعر يذكر دار ابن يوسف هذه:

وموعِدُها دارُ ابن يوسفَ غُدْوةً كذا الْخَوخَةُ القُصْوى المُغَلَّقُ بابُها ويقال: انّ النبيصلى الله عليه و آله و سلم وهب حقّه من هذه الدار، والشِّعْبَ لعقيل بن أبي طالب وكان رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم سَخيّاً حَليماً سَمْحاً كريماً (3).

وقال الفاكهي في موضع آخر:

وفي دار ابن يوسف بئرٌ جاهليةٌ، حفرها عقيلُ ابن أبي طالب فلم تزل هذه الدار حتى باعها ولدُه من محمد بن يوسف، وفي هذه الدار (4) البيتُ الذي وُلِد رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم وقد اتُّخِذَ مصلّىً يُصَلّى فيه، والذي يليه حق العباس بن عبد المطلب رضى الله عنه حتى دار خالصة مولاة الخَيْزَران، ثم حق المقوّم بن عبد المطلب، وهي دارُ طلوب مولاة زبيدة، ثم حق أبي لهب بن عبد المطلب وهي دار أبي يزيد اللهبي وفيها كان يسكُن الفضلُ بن العباس (5).

قال الكليني البغدادي (م 329 ه) قدس سره في ذكر مولد النبيصلى الله عليه و آله و سلم:

ولد النبيصلى الله عليه و آله و سلم لاثنتي عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الاوّل في عام الفيل يوم الجمعة مع الزّوال وروى ايضاً عند طلوع الفجر قبل أن يبعث، باربعين سنة وحملت به امّه في ايّام التشريق عند الجمرة الوسطى (6) وكانت في منزل عبد اللَّه بن عبد المطلب وولدته في شعب أبي طالب في دار محمد بن يوسف (7) في الزاوية القصوى عن يسارك وأنت داخل الدار، وقد أخرجت الخيزران ذلك البيت فصيّرته مسجداً، يصلّي الناس فيه (8).

وذكر أيضاً في مكان آخر من انّه: وماتت خديجة عليها السلام حين خرج رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم من الشِّعب.

وجاء في اتحاف الورى باخبار امّ القرى:

وكان الحَمْلُ برسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم في شِعب أبي طالب في ليلة الجمعة من شهر رجب وقيل في ايّام التشريق (9).

وذكر السيد الأمين في اعيان الشيعة:


1- 1 نفس المصدر.
2- 2 كذا في الأصل وهو غريب، لأن الوليد بن عبد الملك توفى سنة 96 والحجاج توفى سنة 95 وقد استعمل الوليد خلال حكمه رجلين على مكة، أولهما خالدالقسرى، والثاني عمر بن عبد العزيز، ولم يستعمل على مكة سواهما. انظر شفاء الغرام، 2: 172.
3- 3 اخبار مكة للفاكهي، 3: 266.
4- 4 وكان الدار تقع على يسار الداخل الى شعب علي، وبها مكتبة مكة المكرمة التابعة لوزارة الحج والأوقاف.
5- 5 نفس المصدر:ص 269.
6- 6 أي في بيت كان قريباً منها وكان البيت لعبد اللَّه أو موضع نزوله إذ كانت لأهل مكة في منى منازل وبيوت ينزلونها في الموسم ويحتمل أن يكون المرادبالمنزل الخيمة المضروبة له هناك- مرآة العقول، 5: 173.
7- 7 كان محمد بن يوسف والياً على اليمن ومعروفاً بعدائه لآل علي عليه السلام توفّى في اليمن في سنة مائة للهجرة أو قبلها بقليل- الوافي بالوفيات، 5: 242.
8- 8 الكافي، 1: 439.
9- 9 اتحاف الورى باخبار ام القرى، 1: 15.

ص: 71

ولدصلى الله عليه و آله و سلم بمكة يوم الجمعة أو يوم الاثنين ... وكانت ولادته في الدار المعروفة بدار ابن يوسف وهو محمد بن يوسف أخو الحجاج وكانصلى الله عليه و آله و سلم وهبها لعقيل بن أبي طالب فلمّا توفى عقيل باعها ولده من محمد بن يوسف أخي الحجاج، فلمّا بنى داره المعروفة بدار ابن يوسف ادخل ذلك البيت في الدار ثم أخذته الخيزران امّ الرشيد فأخرجته وجعلته مسجداً يصلى فيه وهو معروف الى الآن يزار ويصلى فيه ويتبرك به ولما أخذ الوهابيون مكة في عصرنا هذا هدموه ومنعوا من زيارته على عادتهم في المنع من التبرك بآثار الأنبياء والصالحين وجعلوه مربطاً للدواب (1).

وقال تقي الدين الفاسي المكي (م 832 ه):

ولدصلى الله عليه و آله و سلم بمكة في الدار التي كانت لمحمد بن يوسف أخي الحجاج بن يوسف. ويقال: بالشعب. ويقال بالردْم (2). ويقال: بعسفان، قلت: قال السهيلي: ولد بالشعب. وقيل: بالدار التي عند الصفا. وكانت بعد: لمحمد بن يوسف أخي الحجاج. ثم بنتها زبيدة مسجداً حين حجت. انتهى. والدار التي عند الصفا: هي دار الخيزران، ودار ابن يوسف بسوق الليل، وهي الموضع المعروف بمولده عليه الصلوة والسلام. وهذا الذي قاله السهيلي في ولادته بالدار التي عند باب الصفا غريب واللَّه أعلم. انتهى (3).

وجاء في السيرة الحلبية ما يلي:

وكان مولدهصلى الله عليه و آله و سلم بمكة في الدّار التيصارت تدعى لمحمد بن يوسف أخي الحجاج أي وكانت قبل ذلك لعقيل بن أبي طالب ولم تزل بيد أولاده بعد وفاته إلى أن باعوها لمحمد بن يوسف أخي الحجاج بمائة ألف دينار قاله الفاكهي أي فأدخلها في داره وسماها البيضاء أي لأنها بنيت بالجصّ ثم طليت به فكانت كلها بيضاء وصارت تعرف بدار ابن يوسف لكن سيأتي في فتح مكة أنه قيل لهصلى الله عليه و آله و سلم: يا رسول اللَّه تنزل في الدور؟ قال: هل ترك لنا عقيل من رباع أو دور. فان هذا السياق يدل على أن عقيلًا باع تلك الدار فلم يبق بيده ولا بيد أولاده بعده الّا أن يقال المراد باع ما عدا هذه الدار التي هي مولدهصلى الله عليه و آله و سلم ... وأن عقيلًا باع دار رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم التي هي دار خديجة أي التي يقال لها مولد فاطمة وهي الآن مسجد يصلى فيه بناه معاوية أيام خلافته، قيل وهو أفضل موضع بمكة بعد المسجد الحرام أي واشتهر بمولد فاطمة، لشرفها والّا فهو مولد بقية اخواتها من خديجة ولعل معاوية اشترى تلك الدار ممن اشتراها من عقيل ويدل لما قلناه قول بعضهم لم يتعرّضصلى الله عليه و آله و سلم عند فتح مكة لتلك الدار الّتي أبقاها في يد عقيل أي التي هي دار خديجة فانّه لم يزل بهاصلى الله عليه و آله و سلم حتى هاجر فأخذها عقيل. وفي كلام بعضهم لما فتح النبيصلى الله عليه و آله و سلم مكة ضرب مخيمة بالحجون فقيل له: ألا تنزل منزلك من الشعب؟ فقال: وهل ترك لنا عقيل منزلًا ... وهي أي تلك الدار التي ولد بهاصلى الله عليه و آله و سلم عند الصفا قد بنتها زبيدة زوجة الرشيد أم الأمين مسجداً لما حجت. وفي كلام ابن دحية أن الخيزران أم هارون الرشيد لما حجت أخرجت تلك الدار من دار ابن يوسف وجعلتها مسجداً ويجوز أن تكون زبية جددت ذلك المسجد الذي بنته الخيزران فنسب لكل منهما وأن الخيزران بنت دار الأرقم مسجده وهي عند الصفا ايضاً ولعلّ الأمر التبس على بعض الرواة لأن كلا منهما عند الصفا وقيل ولدصلى الله عليه و آله و سلم في شعب بني هاشم.

ثم الحلبي يقول: قد يقال لا مخالفة لأنّه يجوز أن تكون تلك الدار من شعب بني هاشم، ثم رأيت التصريح بذلك،


1- 1 اعيان الشيعة، 1: 219.
2- 2 قال البكري: ردم بني جُمَح بمكة، كانت فيه حرب بينهم وبين بني محارب بن فهر، فقتلت بنو محارب من بني جمح أشدّ القتل. فسُمّى ذلك الموضع بما رُدِم عليه من القتلى- شفاء الغرام، 1: 432.
3- 3 العقد الثمين، 18:صص 219 و 220.

ص: 72

ولا ينافيه ما تقدم في الكلام على الحمل من أن شعب أبي طالب وهو من جملة بني هاشم كان عند الحجون لانه يجوز أن يكون أبو طالب انفرد عنهم بذلك الشعب واللَّه أعلم (1). انتهى.

يتّضح من هذه الرواية التاريخية أن «شعب أبي طالب» لم يكن في منطقة الحجون، بل قرب المسجد الحرام وإلى جانب جبل الصفا وفي مكان فيه دار محمد بن يوسف ... ولا يوجد هنالك دليل يثبت هذا الاحتمال بأن شعب أبي طالب كان في منطقة الحجون، وربما يفهم من كلمة «واللَّه أعلم» التي أوردها الحلبي أنه لم يكن متأكداً منصحة ما نقله.

وذكر المسعودي (م 345 ه):

وكان مولده عليه الصلوة والسلام لثمان خلون من ربيع الأول من هذه السنة بمكة، في دار ابن يوسف، ثم بعد ذلك بنتها الخيزران أم الهادي والرشيد مسجداً (2).

وذكر في موضع آخر:

وفي سنة ست وأربعين كان حصار قريش للنبيصلى الله عليه و آله و سلم وبني هاشم وبني عبد المطلب في الشعب (3).

ونقل ابن الأثير (م 630 ه) عن ابن اسحاق بأن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم وُلد يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة مضت من ربيع الاوّل، وكان مولده بالدار التي تُعرف بدار ابن يوسف، قيل: ان رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم وهبها عَقِيل بن أبي طالب، فلم تزل في يده حتى توفى، فباعها ولده من محمد بن يوسف أخي الحجاج، فبنى داره التي يقال لها: دار ابن يوسف وأدخل ذلك البيت في الدار حتى أخرجته الخيزران فجعلته مسجداً يصلّى فيه (4).

وذكر الطبري (م 310 ه) في تاريخه نحوه (5).

وقال الفاسي المكي في ذكر المواضع المباركة بمكة المشرَّفة المعروفة بالمواليد: فمنها المولد الذي يقال له، مولد النبيصلى الله عليه و آله و سلم بالموضع الذي يقال له سوق الليل، وهو مشهورٌ عند اهل مكة. وذكر الازرقي أنّ عقيل بن أبي طالب أخذها لما هاجر النبيصلى الله عليه و آله و سلم الى المدينة، ولم يزل بيده ويد أولاده حتى باعه بعضهم من محمد بن يوسف أخي الحجاج بن يوسف الثقفي، فأدخله في داره التي يقال لها دار البيضاء، ولم يزل هذا البيت في هذه الدار حتى حجّت الخيزران أم الخليفتين موسى وهارون، فجعلته مسجداً يصلّى فيه، وأخرجته من الدار وشرعته الى الزقاق الذي في أصل تلك الدار، انتهى (6).

وجاء في كتاب التاريخ القويم لمكة وبيت اللَّه الكريم:

كانت ولادة النبيصلى الله عليه و آله و سلم لمكة في دار أبي طالب، بشعب بني هاشم بقرب المسجد الحرام ويسمّى الآن بشعب علي أي علي بن أبي طالب ولا زال محل ولادتهصلى الله عليه و آله و سلم معروفاً الى اليوم (7).

وقد ذكر اكثر المؤرّخين ان ولادة النبيصلى الله عليه و آله و سلم كانت في شعب أبي طالب، أو في دار قرب الصفا، أو في الدار المعروفة بدار ابن يوسف وهي ثلاثة اسماء لمكان واحد (8).

وورد في كتاب سيرة ساكن الحجاز:

وكان مولدهصلى الله عليه و آله و سلم بالشِّعب وهو شعب بني هاشم (مكان معروف عند أهل مكة يخرجون إليه في كل عام يحتفلون بذلك أكثر من احتفالهم يوم العيد إلى يومنا هذا، في الدار التي كانت لمحمد بن يوسف أخي الحجاج) (9).


1- 1 السيرة الحلبية، 1:صص 62 و 63.
2- 2 مروج الذهب، 2: 274.
3- 3 نفس المصدر:ص 287.
4- 4 الكامل في التاريخ، 1: 294.
5- 5 تاريخ الأمم والملوك، 2: 124.
6- 6 شفاء الغرام، 1: 431.
7- 7 التاريخ القويم لمكة وبيت اللَّه الكريم، 1: 67.
8- 8 السيرة النبوية، 1: 167.
9- 9 نهاية الايجاز في سيرة ساكن الحجاز، 1: 6.

ص: 73

وذكر محبّ الدين الطبري المكي في كتابه «القرى لقاصد أم القرى»:

كان عقيل بن أبي طالب قد استولى عليه (بيت النبيصلى الله عليه و آله و سلم) زمن الهجرة، فلم يزل بيده ويد ولده حتى باعوه لمحمد بن يوسف (أخي الحجاج) فأدخله في داره التي يقال لها البيضاء، ثم عُرفت بدار ابن يوسف، ولم يزل ذلك، كذلك حتى حجّت الخيزران (جارية المهدي) فجعلته مسجداً يصلّى فيه، وأخرجته من الدار إلى الزقاق الذي يقال له «زقاق المولد» ... وهو الآن مكتبة عامة (1).

وقالصلاحُ الدّين الصَفَدي بعد بحث موسّع حول مكان ولادة النبيصلى الله عليه و آله و سلم: القول الأرجح هو ان رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم قد وُلد في عام الفيل في دار تقع في الزقاق المعروف بزقاق المولد الذي كان بيد عقيل بن أبي طالب (2).

وذكر عاتق بن غيث البلادي:

مولد رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم من الناحية التاريخية ثابت أنه ولد عام الفيل 53 ق. ه تقريباً، في شعب أبي طالب المعروف اليوم بشعب علي وقد حول إلى مكتبة مكة، إبعاداً له عن زحام الناس وولعهم بالتبرك به (3).

وقد كان موضع ولادة رسول اللَّه، قبل تسلط الوهابيين على الحرمين الشريفين موضعاً يزوره المؤمنون والمسلمون الذين يفدون الى مكة من كل ارجاء العالم (4).

قال محمد بن علوي المالكي في كتابه باسم «في رحاب البيت الحرام»:

مولد النبيصلى الله عليه و آله و سلم وهو مكان معروف الى الآن بمكة في سوق الليل ... ولما هاجر رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم الى المدينة استولى على هذا البيت عقيل بن أبي طالب ولم يزل بيده وبيد أولاده حتى باعه بعضهم من محمد بن يوسف الثقفي، ثم لما حجّت الخيزران أم الخليفتين أخرجته وجعلته مسجداً يصلّى فيه، قال ابن ظهيرة ما معناه: وجرت العادة بمكة في ليلة مولد الرسول أن يتهيأ الكبار والعلماء وأعيان البلاد بالفوانس والشموع فيخرجون الى بيت مولد الرسول لزيارته واحياء ذكر مولده ... قال: والمعروف المشهور في مولده عليه الصلوة والسلام هو الذي بسوق الليل ولا اختلاف فيه عند أهل مكة ثم قال: وكون هذا مولد الرسولصلى الله عليه و آله و سلم مشهور متوارث يأثر الخلف عن السلف (5).

قال الفاسي المكي فيصفة مولد النبيصلى الله عليه و آله و سلم:

أما الصفة التي أدركناه عليها، فإنه بيت مربع وفيه اسطوانة عليها عقدان، وفي ركنه الغربي مما يلي الجنوب زواية كبيرة قبالة بابه الذي يلي الجبل، وله باب آخر في جانبه الشرقي ايضاً، وفيه عشرة شبابيك، أربعة في حائطه الشرقي، وهو الذي فيه باباه المتقدم ذكرهما، وفي حائطه الشمالي ثلاثة، وفي الغربي واحد، وفي الزاوية اثنان، واحد في جانبها الشمالي وواحد في جانبها اليماني، وفيه محراب، وبقرب المحراب حُفرة عليها درابزين من خشب، وذرْع تربيع الحُفْرة من كل ناحية ذراع وسُدس، الجميع بذراع الحديد، وفي وسط الحُفرة رخامة خضراء، وكانت هذه الرخامة مطوَّقة بالفضّة على ما ذكره ابن جبير، وذكر انّ سعتها مع الفضة ثلثا شبر (6). وهذا الموضعُ جُعل علامة للموضع الذي وُلد فيه النبيصلى الله عليه و آله و سلم من هذا المكان (7)، وذرع هذا المكان طولًا أربعة وعشرون ذراعاً وربع ذراع. وذلك من الجدار الشمالي إلى الجدار المقابل له، وهو الجنوبي الذي يلي الجبل، وذرْعه عرضاً أحد عشر ذراعاً وثمن ذراع. وذلك


1- 1 القرى لقاصد امّ القرى:ص 664.
2- 2 الوافي بالوفيات، 5: 242.
3- 3 فضائل مكة:ص 232.
4- 4 السيرة الحلبية، 1: 57.
5- 5 في رحاب البيت الحرام:ص 262.
6- 6 كذا في الأصل، ولكن الذي عند ابن جبير-ص 141-: «فتكون سعتها مع الفضّة المتصلة بها شبراً».
7- 7 شفاء الغرام، 1: 433.

ص: 74

من الشرقي الذي فيه بابه الى جداره الغربي المقابل له، وطولًا الزاوية المشار إليها ثلاثة عشر ذراعاً ونصف ذراع وعرضها ثمانية ونصف، الجميع بذراع الحديد. وكان تحزير ذلك بحضوري، ولم يذكر الازرقيصفة هذا المكان ولا ذرْعه، وقد خفي علينا كثيراً من خبر عمارته. والذي علمته من ذلك أن الناصر العباسي عمّره في سنة ستَّ وسبعين وخمسمائة. ثم الملك المظفرصاحب اليمن في سنة ستّ وستين وستمائة، ثم حفيده المجاهد في سنة أربعين وسبعمائة، وفي سنة ثمانٍ وخمسين وسبعمائة من قِبَل الأمير شيخون أحد كبار الدولة بمصر (1)، وفي دولة الملك الأشرف شعبانصاحب مصر بإشارة مدير دولته «يلبغا الخاصكي» (2) سنة ستّ وستين وسبعمائة، وفي آخر سنة إحدى وثمانمائة، أو في التي بعدها، من المال الذي أنفذه الملك الظاهر برقوقصاحب مصر لعمارة المسجد الحرام وغيره بمكة. وكانت عمارة هذا المولد بعد موته (3).

هذا وقد وصفه ابن جبير في رحلته بوصف غير هذا مما يدلّ على أنه لم يدم علىصفة واحدة بل كان يتغيرصفة وبناء بتغير الزمن.

وأعاد بناء هذا البيت بعد أن تهدم وصار خرباً مهجوراً، الشيخ عباس قطان أمين العاصمة، ووضعت فيه مكتبة عامة عظيمة فَخمة، تسمّى بمكتبة مكة المكرمة مفتوحة للمطالعة والمراجعة.

وفي الأعوام الأخيرة هدم البنايات الّتي حول المكتبة لتوسيع أطراف المسجد الحرام، ويمكن ملاحظته الأبنية التي شيّدت في موضع ولادة النبيصلى الله عليه و آله و سلم من خلال التصاوير.

وجاء في بحار الأنوار:

... ولد النبيصلى الله عليه و آله و سلم لاثنتي عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأوّل في عام الفيل يوم الجمعة مع الزوال وروى ايضاً عند طلوع الفجر قبل أن يبعث بأربعين

سنة وحملت به أمّه في أيام التشريق عند الجمرة الوسطى وكانت في منزل عبد اللَّه بن عبد المطلب وولدته في شعب أبي


1- 1 توفي سنة 758 ه. الدرر الكامنة، 2: 196 و 197، رقم 1950.
2- 2 هو يلبغا بن عبد اللَّه الخاصكي الناصري الأمير الكبير المشهور. قتل سنة 768 ه. قال ابن حجر: كانت ليلبغاصدقات كثيرة على طلبة العلم ومعروف كثيرفي بلاد الحجاز. الدرر الكامنة، 4: 438- 440، رقم 1218.
3- 3 شفاء الغرام، 1: 432.

ص: 75

طالب في دار محمد بن يوسف في الزاوية القصوى عن يسارك وأنت داخل وقد أخرجت الخيزران ذلك البيت فصيرته مسجداً يصلّي الناس فيه (1).

وروى الزهرة عن ابي عبد اللَّه الطرابلسي، البيت الذي ولد فيه رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم في دار محمد بن يوسف (2).

وقال الكليني: [ولد] في شعب أبي طالب في دار محمد بن يوسف في الزاوية القصوى عن يسارك وأنت داخل الدار (3).

يظهر ممّا ذكرناه أوّلًا: انّ النبيصلى الله عليه و آله و سلم قد وُلد في شعب أبي طالب. وثانياً: انّ شعب أبي طالب موضع في مكة، قرب المسجد الحرام، وبعيداً عن المكان الذي في الحجون الذي يعرفه بعضٌ باسم هذا الشعب.

مقاطعة النبيصلى الله عليه و آله و سلم وأصحابه في شعب أبي طالب:

فلما رأت قريشٌ أنّ اصحاب رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم قد نزلوا بلداً أصابوا به أمناً وقراراً، وأنّ النجاشي قد منع مَن لجأ إليه منهم، وأنّ عمر قد أسْلم، فكان هو وحمزة مع رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم وجعل الإسلامُ يَفشو في القبائل، اجتمعوا وائتمروا [بينهم] أن يكتبوا كتاباً يتعاقدون فيه على بني هاشم، وبني المطّلب، على أن لا يُنْكحوا إليهم ولا يُنكحوهم، ولا يبيعوهم شيئاً، ولا يبتاعوا منهم، فلما اجتمعوا لذلك كتبوه فيصحيفة، ثم تعاهدوا وتواثقوا على ذلك، ثم عَلَّقُوا الصحيفةَ في جَوف الكعبة توكيداً على أنفسهم، وكان كاتبَ الصحيفة منصورُ بن عِكرمة بن عامر بن هاشم بن عَبْد مناف بن عبد الدار بن قُصَيّ ....

فلما فعلت ذلك قريش انحازت بنو هاشم وبنو المطّلب الى أبي طالب بن عبد المطلب فدخلوا معه في شِعْبه واجتمعوا إليه، وخرج من بني هاشم أبو لَهب، عبد العُزّى بن عبد المطّلب، إلى قريش فظاهرهم (4).

وقال السيد الأمين في اعيان الشيعة:

... وحصروهم في شعب أبي طالب أول المحرم سنة سبعة من البعثة فدخل بنو هاشم الشعب، مسلمهم وكافرهم عدا أبي لهب وأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب لشدة عداوتهما للرسولصلى الله عليه و آله و سلم ... وانحاز اليهم بنو المطلب بن عبد مناف فكانوا أربعين رجلًا وحصن أبو طالب الشعب وكان يحرسه ليلًا ونهاراً ... وسمع اصواتصبيانهم من وراء الشعب وذلك اشدّ ما لقى رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم وأهل بيته بمكة، وكان هشام بن عمرو احد بني عامر بن لؤي يأتي بالبعير بعد البعير قد أوقره طعاماً أو تمراً إلى فم الشِّعب فينزع عنه خطامه ويضربه على جنبيه فيدخل الشعب فبقوا في الشعب سنتين أو ثلاث سنين ... وخرج بنو هاشم من حصار الشعب في السنة العاشرة أو التاسعة من النبوة الى مساكنهم ... (5).

قال الكازروني في المنتقى وغيره:

... فعمد أبو طالب فأدخل الشعب ابن أخيه وبني أبيه ومن اتبعهم، فدخلوا شعب أبي طالب وآذوا النبي والمؤمنين أذىً شديداً وضربوهم في كل طريق وحصروهم في شعبهم وقطعوا عنهم المارّة من الأسواق ونادى منادي


1- 1 بحار الأنوار، 15: 251، رواية 5 باب 3.
2- 2 بحار الأنوار، 15: 276 رواية 23.
3- 3 نفس المصدر.
4- 4 السيرة النبوية، 1: 375.
5- 5 اعيان الشيعة، 1: 335.

ص: 76

الوليد بن المغيرة في قريش: أيّما رجل منهم وجدتموه عند طعام يشتريه فزيدوا عليه، فبقوا على ذلك ثلاث سنين حتى بلغ القوم الجهد الشديد حتّى سمعوا أصواتصبيانهم يتضاغون- أي يصيحون من الجوع من وراء الشعب- ...

ويصبح قريش وقد سمعوا أصواتصبيان بني هاشم من الليل يتضاغون من الجوع ... (1).

وجاء في اتحاف الورى باخبار امّ القرى:

دعا رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم على كاتب الصحيفة فشُلَّت يده، ثم غدت قريش على مَنْ اسْلَم فأوثقوهم وآذوهم، واشتد البلاءُ عليهم ... ولما فعلت قريش ذلك انحاز رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم وسائر بني هاشم وبني المُطَّلب،- خلا أبا لهب- وبنو المطلب وولده في الشِّعْب، وخرج اللعين ابو لهب وولدُه الى قريش، فظاهرهم على بني هاشم وبني المُطَّلب، وقطعوا عنهم المِيَرة والمادة، فكانوا لا يقدرون على ذلك الّا من الموسم الى الموسم ولا يخرجون الّا من موسم الى موسم، حتى بلغ بهم الجهد، وسمع أصواتصبيانهم من وراء الشِّعب يَتَضاغَوْن من الجوع. فمن قريش من سَرَّهُ ذلك ومنهم من ساءَه، ولم يكن يصل اليهم شي ء الّا سِرّاً، حتى ان المُطْعِمَ بن عَدِىّ أدخل عليهم في بعض الأيام ثلاثة أوقار من الطعام وكان النبيصلى الله عليه و آله و سلم يَشكُرُ له ذلك، وكانت العير تأتي من الشام وعليها الحِنْطَة الى حكيم بن حِزَام بن خُوَيْلد فيوجهها نحو الشِّعب، ثم يَضرب أدبارها فتدخل عليهم، فيأخذون ما عليها من الحنطة، وكان هشام بن عمرو بن ربيعة أوْصَلَ قريش لبني هاشم حين حُصِرُوا في الشِّعْب، أدخل عليهم في ليلة ثلاثة أحمال طعام، فعلمت بذلك قريش، فمشوا إليه فكلَّمُوه في ذلك فقال: اني غير عائد لشي ء تحالفتم عليه. ثم عاد الثانية وادخل حِملًا أو حِمْلين، فغالظته قريش وهمّوا به، فقال ابو سفيان بن حرب: دَعُوه؛ رجلٌ وصَلَ رحمه، أما إني أحلُفُ باللَّه لو فعلنا مثل ما فعل كان أجمل (2).

وقال في موضع آخر: ... فلما رأى أبو طالب عملَ القوم جمع بني عبد المطلب وأمرهم أن يُدخِلوا رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم شِعْبَهم، ويمنعوه ممن أراد قتله، فاجتمعوا على ذلك مسلمهم وكافرهم ... (3).

فلبث بنو هاشم في شعبهم ثلاث سنين، واشتدّ عليهم البلاء والجَهْدُ، وقطعوا عنهم الأسواق، فلا يتركوا طعاماً يَقْدُم مكة ولا بيعاً إلا بادروهم فاشتروه، يريدون بذلك أن يُدْرِكُوا سَفْكَ دم رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم وكان أبو طالب اذا أخذ النّاسُ مضاجعهم أمر رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم فاضطجع على فراشه، حتى يرى ذلك من أراد مكراً به واغتياله، فاذا نَوَّمَ الناس أمر واحداً مِنْ بنيه، أو اخوته، أو بني عمّه فاضطجع على فراش رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم وأمر رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم أن يأتي بعض فرشهم فينام عليه (4).

وقال ابن كثير في السيرة النبوية:

... فلما رأى أبو طالب عملَ القوم جمع بني عبد المطلب، وأمرهم أن يُدْخلوا رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم شِعْبَهم وأمرهم أن يمنعوه ممن أرادوا قتله ... وحَصْرهم إيّاهم في شِعب أبي طالب مدّة طويلة (5).

وجاء في كتاب التاريخ القويم لمكة وبيت اللَّه الكريم:

فانحاز بنو هاشم بسبب ذلك في شعب أبي طالب، وهو المعروف اليوم «بشعب علي» ودخل معهم بنو المطلب سواء في ذلك مسلمهم وكافرهم ما عدا أبي لهب فانه كان مع قريش، فلما انفصلوا عن قريش بالشعب المذكور، جهد القوم، جهداً عظيماً وتعبوا تعباً شديداً حتى أكلوا أوراق الأشجار، لأن قريشاً شددوا الحصار عليهم، وكان ذلك في


1- 1 بحار الأنوار، 19:صص 18 و 19.
2- 2 اتحاف الورى باخبار امّ القرى، الجزء الأول:ص 283.
3- 3 نفس المصدر:ص 284.
4- 4 اتحاف الورى باخبار ام القرى، الجزء الأول:ص 284- دلائل النبوة، 2: 81- 2: 43- 44- شرح المواهب، 1: 278- 279.
5- 5 السيرة النبوية، 2: 43.

ص: 77

السنة السابعة من البعثة، ومكثوا على هذا الحال من الضيق والتعب الشديد ثلاث سنوات (1).

وقال ايضاً في موضع آخر:

قال هذه القصيدة أبو طالب عم النبيصلى الله عليه و آله و سلم في الشِّعب وهو شِعْبُ أبي طالب الّذي آوى إليه بنو المطلب وبنو هاشم مع رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم ثم يذكر ما قاله في الشعب:

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل

يلوذ به الهلاك من آل هاشم فهم عنده في رحمة وفواضل

جزى اللَّه عنّا عبد شمس ونوفلا عقوبة شر عاجلًا غير آجل

بميزان قسط لا يخس شعيرة له شاهد من نفسه غير عائل

ونحن الصميم من ذؤابة هاشم وآل قصيٍّ في الخطوب الأوائل (2) وجاء في بحار الأنوار:

من معجزاتهصلى الله عليه و آله و سلم ان قريشاً كلهم اجتمعوا واخرجوا بني هاشم الى شعب أبي طالب ومكثوا فيه ثلاث سنين الّا شهراً ثم انفق ابو طالب وخديجة جميع مالهما ولا يقدرون على الطعام الّا من موسم الى موسم فلقوا من الجوع والعرى ما اللَّه أعلم به ... (3).

وقال ابن سعد في «الطبقات الكبرى»:

... وحصروا بني هاشم في شعب أبي طالب ليلة هلال المحرم سنة سبع من حين تنبّى رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم وانحاز بنو المطلب بن عبد مناف إلى أبي طالب في شعبه مع بني هاشم ... (4).

وجاء في الكامل لابن اثير:

فلما فعلت قريش ذلك انحازت بنو هاشم وبنو المطّلب الى أبي طالب فدخلوا معه في شعبه واجتمعوا ... وذكروا أن أبا جهل لقى حكيماً بن حِزام بن خُوَيْلد ومعه قمحٌ يريد به عمّته خديجة، وهي عند رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم في الشِّعب متعلّق به وقال: واللَّه لا تبرح حتى أفضحك، فجاء أبو البختري بن هشام فقال: ما لك وله؟

عنده طعام لعمّته أفتمنعه أن يحمله إليها؟ خلّ سبيله، فأبى أبو جهل، فنال منه. فضربه ابو البختري بلَحى جمل فشجّه ووطأه وطأً شديداً، وحمزة ينظر اليهم، وهم يكرهون أن يبلغ النبيصلى الله عليه و آله و سلم ذلك فيشمت بهم هو والمسلمون.

ورسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم يدعو الناس سراً وجهراً، والوحي متتابع إليه، فبقوا كذلك ثلاث سنين (5).


1- 1 التاريخ القويم لمكة وبيت اللَّه الكريم، 1:صص 94- 95.
2- 2 نفس المصدر:ص 96.
3- 3 بحار الانوار، 19: 16.
4- 4 طبقات ابن سعد، 1: 209.
5- 5 الكامل في التاريخ، 1: 504.

ص: 78

وفي السيرة للذهبي:

فلبثت بنو هاشم في شعبهم ثلاث سنين ... وقال محققه في هامشه: قال الحافظ أبو الحسن أحمد بن يحيى البلاذري، عن المدائني، عن أبي زيد الأنصاري، عن أبي عمرو بن العلاء عن مجاهد عن ابن عباس قال: حصرنا في الشعب ثلاث سنين، وقطعوا عنّا الميرة حتى إن الرجل ليخرج بالنفقة فلا يبتاع شيئاً حتى مات منّا قوم» (1).

وجاء في الصحيح من سيرة النبي الأعظمصلى الله عليه و آله و سلم:

ودخل بنو هاشم الشعب- شعب أبي طالب- ومعهم بنو المطلب بن عبد مناف، باستثناء أبي لهب لعنه اللَّه وأخزاه، واستمروا فيه الى السنة العاشرة ... ووضعت قريش عليهم الرقباء حتى لا يأتيهم أحد بالطعام. وكانوا ينفقون من أموال خديجة وأبي طالب حتى نفدت، حتى لقد اضطروا الى أن يقتاتوا بورق الشجر. وكانصبيتهم يتضاغون جوعاً ويسمعهم المشركون من وراء الشعب، ويتذاكرون ذلك فيما بينهم ... ولم يكونوا يجسرون على الخروج من شعب أبي طالب إلّا في موسم العمرة في رجب، وموسم الحج في ذي الحجة، فكانوا يشترون حينئذٍ ويبعيون ضمن ظروفصعبة جداً ... وقد استمرّت هذه المحنة سنتين أو ثلاثاً ... وكان علي امير المؤمنين عليه السلام اثناءها يأتيهم بالطعام سراً من مكة، من حيث يمكن، ولو أنهم ظفروا به لم يبقوا عليه كما يقول الاسكافي وغيره (2).

وجاء في أعلام الورى:

... فلما بلغ ذلك أبا طالب جمع بني هاشم ودخل الشعب وكانوا أربعين رجلًا، فحلف لهم أبو طالب بالكعبة والحرم والركن والمقام لئن شاكت محمّداً شوكة لأثبنَّ عليكم يا بني هاشم وحصّن الشعب وكان يحرسه بالليل والنهار ... وكانت خديجة لها مالٌ كثيرٌ فانفقته على رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم في الشِّعب (3).

وكتب اليعقوبي (م 293 ه) في هذا الصدد:

ثم حصرت قريش رسول اللَّه وأهل بيته من بني هاشم وبني المطلب ابن عبد مناف في الشعب الذي يقال له شعب بني هاشم بعد ستّ سنين من مبعثه فأقام ومعه جميع بني هاشم وبني المطلب في الشعب ثلاث سنين حتى أنفق رسول اللَّه ماله وأنفق أبو طالب ماله وأنفقت خديجة بنت خويلد مالها، ثم نزل جبرئيل على رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم فقال:

انّ اللَّه بعث الأرضة علىصحيفة قريش فأكلت كل ما فيها من قطيعة وظلم الّا المواضع التي فيها ذكر اللَّه (4).

إن الوضع المهلك الذي آل إليه النبيصلى الله عليه و آله و سلم وأصحابه، حرّك نفراً من قريش لنقض الصحيفة التي كتبتها قريش على بني هاشم، فنهض هشام بن عمرو مع زهير بن أبي اميّة، ومطعم بن عدي، وابو البختري، وزمعة بن أسود بن المطلب، فاتعدوا له خَطمَ الحجون الّتي بأعلى مكة فاجتمعوا هنالك وأجمعوا أمرهم وتعاهدوا على القيام في الصحيفة حتى ينقضوها (5).

أقول: يقع شعب الحجون في نفس الموضع الذي فيه الآن مقبرة أبي طالب، وكان قبل الاسلام مقبرة أيضاً، وبالنتيجة فلو كان الشعب هنا، وفيه تعرض النبيصلى الله عليه و آله و سلم وأتباعه للمقاطعة، فلا معنى لأن يجعله الأشخاص المذكورون موضعاً خفيّاً لاجتماعهم أو ليجتمعوا في مكان معرّض للخطر الدائم في أيّة لحظة!! إنّ الاستفادة من هذا المكان كموضع خفي تدل على أن الحجون كان خارج مكة أو الى جوارها على الأقل، بل إن بعض الروايات تصرّح بأن الحجون كان خارج مكة فيصدر الاسلام، ولهذا لا يمكن القول بأن النبيصلى الله عليه و آله و سلم واتباعه وقومه خرجوا كلّهم


1- 1 السيرة للذهبي:ص 221.
2- 2 الصحيح من سيرة النبي الأعظم، 2: 108- شرح النهج للمعتزلي، 13: 256.
3- 3 اعلام الورى:صص 59 و 60.
4- 4 تاريخ اليعقوبي، 1: 389.
5- 5 تاريخ الأمم والملوك، 2: 228.

ص: 79

من مكة واقاموا خارجها!!

وروي في اصول الكافي عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: لمّا توفى أبو طالب نزل جبرئيل على رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم فقال:

يا محمد، أخرج من مكة، فليس لك فيها ناصرٌ وثارت قريش بالنبيصلى الله عليه و آله و سلم فخرج هارباً حتى جاء الى جبل بمكّة يقال له الحجون فصار اليه (1)

نقض الصحيفة:

بعد ثلاث سنين تقريباً: أخبر النبيصلى الله عليه و آله و سلم عمّه أبا طالب بأنّ الأرضة قد أكلت كل ما فيصحيفتهم من ظلم وقطيعة رحم، ولم يبق فيها إلا ما كان اسماً للَّه، فخرج أبو طالب من شعبه ومعه بنو هاشم إلى قريش، فقال المشركون: الجوع أخرجهم ... وقالوا له: يا أبا طالب، قد آن لك أن تصالح قومك. قال: قد جئتكم بخير، ابعثوا ليصحيفتكم، لعله أن يكون بيننا وبينكمصلح فيها. فبعثوا، فأتوا بها، فلما وضعت وعليها أختامهم. قال لهم أبو طالب: هل تنكرون منها شيئاً؟ قالوا: لا. قال: ان ابن أخي حدّثني ولم يكذبني قط: أن اللَّه قد بعث على هذه الصحيفة الأرضة، فأكلت كل قطيعة وإثم، وتركت كل اسم هو للَّه، فإن كانصادقاً اقلعتم عن ظلمنا، وإن يكن كاذباً ندفعه اليكم فقتلتموه. فصاح الناس: أنصفتنا يا أبا طالب ... ففتحت، ثم أخرجت فإذا هي كما قالصلى الله عليه و آله و سلم فكبّر المسلمون، وامتقعت وجوه المشركين ... فقال أبو طالب:

أتبين لكم: أينا أولى بالسحر والكهانة؟ ...

فأسلم يومئذٍ عالم من الناس ... ولكن المشركين لم يقنعوا بذلك بل استمروا على العمل بمضمون الصحيفة، حتى قام جماعة منهم بالعمل على نقضها، وخرج الهاشميون حينئذٍ من شعب أبي طالب (2).

وقال ابن أبي الحديد: ... انهم منعوا ايام الحصار في شعب بني هاشم من الماء العذب (3).

أسماء بعض بني هاشم الذين كانوا مع النبيصلى الله عليه و آله و سلم في الشعب خلال مدّة المقاطعة:

1- أبو طالب بن عبد المطلب.

2- علي بن أبي طالب.

3- حمزة بن عبد المطلب.

4- عبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف.

(ورغم ان عبيدة لم يكن من بني هاشم، الّا ان اتحاد بني المطلب وبني هاشم ومواقفهما المشتركة في الجاهلية والاسلام، يتيح لنا اعتباره من بني هاشم).

5- العباس بن عبد المطلب.

6- عقيل بن أبي طالب.

7- طالب بن أبي طالب.


1- 1 اصول الكافي، 1: 449.
2- 2 الصحيح من سيرة النبي الاعظم، 2:صص 120 و 121.
3- 3 البحار، 33: 114 رواية 408.

ص: 80

8- نوفل بن الحارث بن عبد المطلب.

9- ابو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب.

10- الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب.

وكان شديداً على رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم يبغضه ويهجوه بالأشعار، الّا انه كان لا يرضى بقتله (1).

11- خديجة بنت خويلد (2).

قد ذكر المؤرخون وكتّاب السّيرة انَّ الموضع الّذي حُصر فيه رسول اللَّه وأصحابه على يد قريش، هو شعب أبي طالب، أشرنا الى بعضهم ونُشير الى بعض آخر:

قال الطبرسي: فلما فعلت ذلك قريش انحازت بنو هاشم وبنو المطلب إلى أبي طالب فدخلوا معه في شِعْبه واجتمعوا إليه في شعبه ... (3).

وقال الفاسي المكي (م 832 ه):

فانحاز الهاشميون غير أبي لهب، والمطلبيون الى أبي طالب، فدخلوا معه في شعبه، فأقاموا على ذلك سنتين أو ثلاثاً (4).

وجاء في بحار الانوار: وحاصروا بني هاشم في الشعب، شعب عبد المطلب اربع سنين، فاصبح النبيصلى الله عليه و آله و سلم يوماً وقال لعمه ابي طالب انّ الصحيفة التي كتبتها قريش في قطيعتها قد بعث اللَّه عليها دابة فلحست كل ما فيها غير اسم اللَّه (5).

وروى الواقدي:

دخل بنو هاشم في ليلة الاول من المحرم من السنة السابعة للبعثة في شعب أبي طالب، واجتمع اليهم بنو المطلب في ذلك الشعب (6).

وقال محمد ابراهيم آيتي رحمه الله:

ولما عزمت قريش على فعلها اجتمع بنو هاشم وبنو المطلب بن عبد مناف الى أبي طالب وصاروا كلهم الى الشعب، سوى ابي لهب بن عبد المطلب الذي ناصر قريشاً (7).

وقال رفاعة رافع الطهطاوي:

شعب أبي طالب هو الموضع الذيصارت فيه المقاطعة ثم يقول: فانحاز الهاشميون الى أبي طالب ... فدخلوا معه في شعبه وخرج من بني هاشم أبو لهب ... وأقام بنو هاشم في الشعب ومعهم رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم نحو ثلاث سنين، وكان بنو هاشم محصورين في الشعب لا يخرجون الّا من موسم الى موسم ... واخرجوا بني هاشم وبني المطلب من الشعب وذلك في السنة العاشرة من مبعثه (8).

وكتب ابراهيم رفعت باشا في مرآة الحرمين:

القشاشية، في شرق المسجد الحرام ويطل عليها جبل أبي قبيس، وفي الجهة الشرقية منها شعب علي أو شعب بني هاشم (9).

وقال ياقوت الحموي:


1- 1 شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد، 14: 65.
2- 2 نفس المصدر:ص 59.
3- 3 تاريخ الأمم والملوك، 2: 225.
4- 4 العقد الثمين، 1: 230.
5- 5 بحار الانوار، 18: 120 رواية 16.
6- 6 الطبقات الكبرى، 1: 209.
7- 7 تاريخ پيامبر اسلام تاريخ حياة نبي الاسلام:ص 154.
8- 8 سيرة ساكن الحجاز، الجزء الاول:ص 115.
9- 9 مرآة الحرمين، 1: 180.

ص: 81

شعب أبي يوسف، هو الشعب الذي أوى إليه رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم وبنو هاشم لما تحالفت عليهم قريش على بني هاشم ...، وكان لعبد المطلب فقسمه بين بنيه حين ضعف بصره، وكان النبيصلى الله عليه و آله و سلم أخذ حظّ أبيه وهو كان منزل بني هاشم ومساكنهم (1). قال عاتق بن غيث البلادي بعد نقل هذا الموضوع في كتابه معجم معالم الحجاز:

ثم عرف هذا الشعب فيما بعد بشعب أبيصالب (2)، ثم شعب بني هاشم ويُعرف اليوم بشعب عليّ، وهو الشعب الذي يسيل بطرف أبي قُبَيْس من الشمال بينه وبين الخندمة، فيه مولد رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم وهو اليوم مكتبة مكة أي المولد، يصب سيله على سوق الليل فوق المسجد الحرام بحوالي ثلاثمائة متر. كانت عند مصبّة بَّذر فهدمت سنة 1399 ه في توسعة شارع الغزّة (3).

وجبل أبي قبيس، هو أحد أشهر جبال مكة، ومنه يبدأ شعب علي أو شعب أبي طالب ويمتد الى خندمة وقد استودع فيه الحجر الأسود ايّام الطوفان وموضعه في شعب علي، أي المكان الذي ولد فيه الرسولصلى الله عليه و آله و سلم وذكر عبد الملك بن هشام أنه سمّى بأبي قبيس بن شامخ، وهو رجل من جُرْهُم، كان قد وَشى بين عمرو بن مُضاض وبين ابنة عمّه مَيّة، فنذَرَتْ أن لا تكلّمه، وكان شديد الكَلَف بِها فحَلَف لأقْتُلنَّ أبا قبيس، فهرب منه في الجبل المعروف به، وانقطع خَبَرُه، فإما مات وإما تردّى منه، فسُمّي الجبل أبا قبيس لذلك، في خبر طويل ذكره ابن هشامصاحب السيرة في غير كتاب السيرة، وقال ابو المنذر هشام: أبو قبيس، الجبل الذي بمكة، كَناه آدم عليه السلام بذلك حين اقتبس منه هذه النار التي بأيدي الناس الى اليوم، من مَرْخَتَين نزَلَتا من السّماء على أبي قبيس فاحتَكَّتا، فَاوْرَتا ناراً، فاقتبَسَ منها آدم، فلذلك المَرْخُ إذا حُكَّ احَدُها بالآخر، خرجتْ منه النار (4).

بعض شعاب مكة:

كما ذكرنا سابقاً، يوجد في الشّمال الشرقي للمسجد الحرام ثلاث شعاب، وهي:

1- شعب علي أو شعب أبي طالب ويسمّى اليوم بالقشاشية (5) أيضاً.

2- شعب بني هاشم ويُسَمّى ايضاً ب «غزّة».

3- شعب بني عامر.

كان يسكن في هذه الأماكن الثلاثة، منذ العصر الجاهلي فما تلاه، اجداد النبيصلى الله عليه و آله و سلم وابناء عبد المطلب وأبو طالب وبني هاشم (6).

وكذلك بعض البيوت في شعب علي، وبعض دار ابن يوسف كانت لأبي طالب، وبعض دار ابن يوسف (مولد النبيصلى الله عليه و آله و سلم) وما حوله لأبي النبيصلى الله عليه و آله و سلم عبد اللَّه بن عبد المطلب، وكذلك دار خالصة مولاة الخيزران، لعباس بن عبد المطلب ودار الطلوب مولاة زبيدة، حقّ المقوم بن عبد المطلب. وذكر غير واحد من المكيين انّ الشعب الذي يقال له: شعب ابن يوسف- وهو شعب علي وبجانبه سوق الليل، كان لهاشم بن عبد مناف دون الناس وكان عبد المطلب قد قسم حقه بين ولده ودفع اليهم ذلك في حياته فمن ثمّصار للنبيصلى الله عليه و آله و سلم حق أبيه عبداللَّه بن عبد المطلب، وللعباس


1- 1 معجم البلدان، 3: 393.
2- 2 كذا في المتن ويمكن أن يكون المراد شعب أبي طالب.
3- 3 معجم معالم الحجاز، 5: 56.
4- 4 معجم البلدان، 1: 103.
5- 5 لعل القشاشية منسوبة الى الشيخ القشاشي وقد كان يسكن مكة حوالي القرن الحادي عشر «انظر الجزء الثاني من كتاب تاريخ مكة للسباعي، حوادث الشريف احمد بن عبد المطلب» من عهد الترك العثمانيين.
6- 6 مرآة الحرمين، 1:صص 180 و 181.

ص: 82

بن عبد المطلب أيضاً الدار التي بين الصفا والمروة التي بيد ولد موسى بن عيسى التي الى جنب الدار التي بيد جعفر بن سليمان ودار العباس هي الدار المنقوشة التي عندها العلم الذي يسعى منه من جاء من المروة الى الصفا بأصلها ويزعمون أنها كانت لهاشم بن عبد مناف، ولهم أيضاً دار أم هاني بنت أبي طالب- كان بجانب الباب المعروف باسمها- التي كانت عند الحناطين عند المنارة فدخلت في المسجد الحرام حين وسعه المهدي في الهدم الآخر سنة سبع وسبعين ومائة (1).

وقال احمد السباعي:

... عند سوق الليل تصافحنا الدار التي كانوا يسمونها دار مال اللَّه وكانوا ينفقون فيها على المرضى ويطعمونهم، وبالقرب من الدار يلتوي شعب ابن يوسف وهو ما نسميه شعب علي وفيه دور عبد المطلب بن هاشم ودور أخرى لأبي طالب وأخرى للعباس بن عبد المطلب وإذا عدنا الى استقامتنا في شارعنا العام يصافحنا دار العاص في فوهة شعب بني عامر ثم يلتوي شعب بني عامر في دروب متعددة تقوم عليها دور لبني بكر وأخرى لبني عبد المطلب بن عبد مناف ... ونمضي قليلًا الى المعلاة لنجد الجزارين عن يميننا في شعب أبي دب، ثم مكان المقابر وهي بعد حدود شعب عامر ... (2).

صفوة القول:

بالاضافة الى ما مرّ ذكره، فإن شعب علي وشعب بني هاشم وشعب بني عامر، قرب المسجد الحرام محددة بشكل دقيق على الخرائط الموجودة عن الحجاز- قديماً وحديثاً- ولم يطلق احدٌ اسم شعب أبي طالب على مقبرة أبي طالب الواقعة في شعب أبي دب، ولهذا فإن وجود الشعب في ذلك المكان رغم كل هذه الأدلّة والشواهد، يمكن تبريره بالنقاط التالية:

اوّلًا: إنّ المنطقة كانت موضع سكن تلك العائلة.

وثانياً: توفّر امكانية الحياة، والاستفادة من مخزون الطعام والاشياء الأخرى الموجودة في الدور، والّا كيف يمكن البقاء على قيد الحياة لمدّة ثلاث سنوات ومقاومة الظروف القاسية في تلك المنطقة القاحلة الخالية من أي ظل يظلهم من الشمس المحرقة، أو يقيهم لهب الرمضاء القاتلة؟!

ثالثاً: انّ المنطقة المسماة اليوم بمقبرة أبي طالب، كانت في العصر الجاهلي مقبرة ايضاً. وليس من المعقول لرسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم ان يترك جميع المناطق الموجودة في مكة ويلتجئ الى مقبرة هو وأبو طالب ومجموعة من النساء والأطفال!

رابعاً: ان الحجون- كما أوضحنا سابقاً- تقع خارج مكّة، وهذا لا يتّسق والروايات القائلة بأنّ بكاء الاطفال كان يُسمع من خارج الشعب.

خامساً: جاء في بعض النصوص التاريخية ان الاوضاع كانت على درجة شديدة من القساوة، اضطر معها المحاصرون الى أكل أوراق الاشجار والخَبَطْ (3) (4) بينما لم تكن هناك أيّة اشجار أو نباتات في المقبرة آنذاك حتى يتناولها المحاصرون.

سادساً: يتضح مما نقله الازرقي ان الحجون لم يسكنها أحد حتى العام العاشر للهجرة، وظلت هذه المنطقة


1- 1 اخبار مكة للازرقى، ج 2:ص 233.
2- 2 اخبار مكة للسباعي:ص 31.
3- 3 الخَبَطْ: اسم الورق السّاقط. لسان العرب، 4: 16.
4- 4 الغدير، 7: 363.

ص: 83

خارج مدينة مكة لعدة قرون.

سابعاً: لم تكن هذه المنطقة من مكة مسكونة أساساً، وما كان فيها زرع أو دور، حتى ان رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم كان يضرب الخيام عند النزول فيها لعدّة أيام.

قال ابو الوليد:

ان النبيصلى الله عليه و آله و سلم بعدما سكن المدينة كان لا يدخل بيوت مكة، وكان اذا طاف بالبيت انطلق الى أعلى مكة فاضطرب به الابنية، قال عطاء: في حجته فعل ذلك أيضاً، ونزل أعلى مكة قبل التعريف وليلة النفر نزل أعلى الوادي (1)، ثم يضيف الازرقي: قيل للنبيصلى الله عليه و آله و سلم يوم الفتح: ألا تنزل منزلك بالشعب؟ قال: وهل ترك لنا عقيل منزلًا؟ فقيل لهصلى الله عليه و آله و سلم: فانزل في بعض بيوت مكة في غير منزلك، فأبى وقال: لا أدخل البيوت، فلم يزل مضطرباً بالحجون لم يدخل بيتاً وكان يأتي المسجد من الحجون.

ونقل سعيد بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده قال: رأيت رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم مضطرباً بالحجون في الفتح يأتي لكلصلوة (2).

يتضح مما سبق ان شعب أبي طالب كان في غير موضع مقبرة أبي طالب ولا يعرف متى حصل هذا الخلط وما سببه!!

والمورخ الوحيد الذي احتمل أن يكون موضع شعب ابي طالب في منطقة الحجون هو الحلبي الذي قال بعد بيانه لموضع ولادة رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم:

أقول: قد يقال لا مخالفة لانه يجوز أن تكون تلك الدار من شعب بني هاشم، ثم رأيت التصريح بذلك، ولا ينافيه ما تقدم في الكلام على الحمل من أن شعب أبي طالب وهو من جملة بني هاشم كان عند الحجون لأنه يجوز أن يكون أبو طالب انفرد عنهم بذلك الشعب واللَّه أعلم (3).

ولكن لا يوجد هنالك دليل يثبتصحة هذا النقل. وربما يفهم من كلمة «واللَّه اعلم» التي أوردها الحلبي أنه لم يكن متأكداً منصحة ما نقله.

وعلى هذا فقد كان المسار الطبيعي للأحداث بالشكل التالي انه حينما تعرّض أبو طالب وبنو هاشم وبنو المطلب للخطر الداهم من العدو التقوا حول أبي طالب لكونه شخصية معروفة ومهاب الجانب، واجتمعوا في موضع يعرف بشعب أبي طالب وتولوا حراسته دفاعاً عن أنفسهم وعن النبيصلى الله عليه و آله و سلم ولما انتهت المقاطعة، خرج بنو هاشم وبنو المطلب من الشعب وعادوا الى منازلهم ولم يرجعوا الى الشعب مرة أخرى، والنصوص التاريخية تثبت هذا المعنى، إلا انّ البعض لم يلتفت إليها.

الهوامش:

عثمان بن مظعون


1- 1 اخبار مكة للازرقي، 2: 161.
2- 2 نفس المصدر.
3- 3 السيرة الحلبية، 1: 63.

ص: 84

رجال من الحرمين الشريفين

(1)

عثمان بن مظعون

فارس تبريزيان الحسّون

إنّ الذي حرّضني على انتخاب هذا الموضوع والكتابة عنه جهات عديدة، أهمّها شُبهةٌ وُجّهت- ولا تزال توجّه- إلى الشيعة: بأنّهم لا يحترمونصحابة رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم، ويقعون فيهم سبّاً وطعناً. وهذه الشبهة لا أساس لها من الصحة، فإنّ الشيعة تضع وافر احترامها فيصحابة رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم وتعظّمهم، وتقتدي بهم، وتجعلهم مناراً تستنير به، أولئك الذين لم يرتدّوا ولم يبدّلوا ولم يبدعوا في الدين وبقوا على منهج النبيّصلى الله عليه و آله و سلم.

فالشيعة تجري قواعد الجرح والتعديل على الجميع حتّى الصحابة، فمن كان منهم على دين محمّدصلى الله عليه و آله و سلم ومات وهو على يقينٍ من أمره، ولم يشك في دينه، فتجعله في أعلى القمم، وتقتدي به، ومن أبدع وشكّ في نبيّه ودينه وبدّل وغيّر، فالشيعة وكلّ حرّ جعل العقل إمامه يرفضه وينبذه ولا يقتدي به، لأنه إذا اقتدى به اقتدى ببدعته وضلاله وشكّه.

وأمّا ما روي من أحاديث عن النبيصلى الله عليه و آله و سلم أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم، واحفظوني في أصحابي، ولا تسبّوا أصحابي. و ...

فهي أحاديث ضعيفة السند، غير قابلة للاعتماد عليها، ومع فرضصحّة سندها، فإنّها محمولة على الأصحاب الذين بقوا على الدين، والتزموا بشرائط الصحبة، لا أولئك الذين بدّلوا وغيّروا وأبدعوا ...، وحاشا لرسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم أن يأمر أمّته باتباع مَن أبدع وغيّر، وشكّ فى دينه، لمجرّد أنهصحابي.

والقرآن والحديث شاهدان

ص: 85

على هذا المطلب، وهو ليس كلّصحابي وكلّ من لهصحبة مع الرسولصلى الله عليه و آله و سلم يجب الاقتداء به واحترامه:

قال تعالى: «إنّ الذين يبايعونك إنّما يُبايعون اللَّه يدُ اللَّه فوق أيديهم فمَن نكث فإنّما ينكث على نفسه ومَن أوفى بما عاهد عليهُ اللَّه فسيؤتيه أجراً عظيماً» (1).

وقال تعالى: «.. ومن أهل المدينة مَردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرّتين ثم يُردون إلى عذاب عظيم» (2).

وقال تعالى: «إذا جاءك المنافقون قالوا نشهدُ إنك لرسول اللَّه واللَّهُ يعلم إنك لرسولهُ واللَّه يشهد إنّ المنافقين لكاذبون* اتخذوا أيمانهم جُنّة فصدوا عن سبيل اللَّه إنهم ساء ما كانوا يعملون* ذلك بأنهم آمنوا ثمّ كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون» (3).

إلى غير ذلك من الآيات الكريمة، الدالة على أنّ في الأصحاب منافقين وغير مؤمنين باللَّه ولا برسوله.

وأما الأحاديث فكثيرة جدّاً، منها:

قولهصلى الله عليه و آله و سلم في خطبة حجّة الوداع: فلا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض (4).

وقولهصلى الله عليه و آله و سلم: أنا فرطكم على الحوض، ليرفعن إليّ رجال منكم، حتّى إذا أهويتُ لأناولهم اختلجوا دوني، فأقول: أي ربي أصحابي! يقول: لا تدري ما أحدثوا بعدك (5).

وقولهصلى الله عليه و آله و سلم: إنّي أيّها الناس فرطكم على الحوض، فإذا جئت قام رجال، فقال هذا: يا رسول اللَّه أنا فلان، وقال هذا: يا رسول اللَّه أنا فلان، وقال هذا: يا رسول اللَّه أنا فلان، فأقول: قد عرفتكم، ولكنّكم أحدثتم بعدي ورجعتم القهقرى (6).

وقولهصلى الله عليه و آله و سلم لشهداء أحد:

هؤلاء أشهد عليهم، فقال أبو بكر:

ألسنا يا رسول اللَّه إخوانهم، أسلمنا كما أسلموا وجاهدنا كما جاهدوا؟! فقال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم: بلى، ولكن لا أدري ما تحدثون بعدي!!! (7)

فالشيعة تقتدي بالصحابة الصلحاء المتّقين، الذين آمنوا باللَّه ورسوله وماتوا وهم على يقين مما هم عليه، كعثمان بن مظعون الذي عقدنا لأجله هذه الرسالة الوجيزة، حتّى نتعرّف على جوانب من حياته، ونجعلها قدوة نقتدي بها.

فإنّ الشيعة مطبقة على عدالته ووثاقته، وجعله في أعلى مرتبة الصالحين والمتقين، ومن الذين أبلوا


1- 1 الفتح 48: 10.
2- 2 التوبة 9: 101.
3- 3 المنافقون 63: 1- 3.
4- 4صحيح البخاري، 9: 91، كتاب الفتن، وذكر أحاديث كثيرة بهذا المعنى.
5- 5صحيح البخاري، 9: 87، كتاب الفتن، وذكر أحاديث كثيرة بهذا المعنى.
6- 6 المستدرك، 4: 74- 75، وقال بعد ذكره للحديث: هذا حديثصحيح الإسناد ولم يخرجاه.
7- 7 الموطّأ، 2: 462، كتاب الجهاد، الحديث 32.

ص: 86

بلاءً حسناً فيصدر الإسلام، وجاهدوا بكلّ ما لديهم من قوّة لأجل إعلاء كلمة الإسلام، حتى قال الشيخ المامقاني: فالرجل فوق مرتبة الوثاقة والعدالة (1).

وحاولت في هذه الرسالة أن أعتمد على مصادر الفريقين، ليخرج البحث متكاملًا.

اسمه ونسبه وصفته:

عثمان بن مظعون- بالظاء المعجمة- بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي بن غالب، الجُمحي القرشي، ويكنّى أبا السائب (2).

وكان شديد الأدمة، ليس بالقصير ولا بالطويل، كبير اللحية، عريضها (3).

وقيل: كان عثمان بن مظعون أخا النبيصلى الله عليه و آله و سلم من الرضاعة (4).

ولادته:

ولد في عصر ملؤه الجهل وانحطاط القيم الإنسانيّة، في عصرٍ كان يسوده الظلم والجور، وعدم مراعاة حقوق الإنسان، لكنه- رضوان اللَّه عليه- لم ينخرط في سلك أهل عصره، بل جعل عقله قائده وراشده، وسلك في حياته مسلك العقلاء والحكماء، حتّى قيل:

إنه كان من حكماء العرب في الجاهلية (5).

تحريمه الخمر في الجاهليّة:

وممّا يدلّ على حكمته قبل الإسلام، وسموّ عقله، ما اتفق عليه أصحاب السير والتاريخ من أنه حرّم الخمر على نفسه في الجاهلية وقال:

لا أشرب شراباً يذهب عقلي، ويضحك بي مَن هو أدنى منّي، ويحملني على أن أنكح كريمتي، أو:

ويحملني على أن أُنكح كريمتي مَن لا أريد.

وقيل: إنه لمّا حرّمت الخمر، أتي وهو بالعوالي، فقيل له: يا عثمان قد حرّمت الخمر، فقال: تبّاً لها، قد كان بصري فيها ثاقباً (6).

وتنظّر البعض في ذيل الكلام، وهو: وقيل إنه لمّا حرّمت الخمر أتي وهو بالعوالي ...، وذكروا وجه النظر بأنّ آية التحريم نزلت بعد وفاة عثمان.

وأقول: عند أكثر أهل السنة أن الآية الثالثة في تحريم الخمر تدلّ على التحريم، والآية الأولى والثانية لا يستفاد منهما التحريم، وعند الشيعة أن الآية الأولى تدل على التحريم، والثانية والثالثة مؤكدتان للحكم، فلعلّ القول بأنه لما حرّمت الخمر قيل لعثمان: يا عثمان قد حرّمت الخمر فقال:

...، ناظر إلى الآية الأولى، واللَّه العالم.


1- 1 تنقيح المقال، 2: 249.
2- 2 أسد الغابة، 3: 598- الإصابة، 2: 464- الاستيعاب، 3: 1053- العقد الثمين، 6: 49- تهذيب الأسماء واللغات، 1: 326- معجم الشعراء: 254- المعرفة والتاريخ، 1: 272- التاريخ الكبير، 6: 210- سير أعلام النبلاء، 1: 153- المنتظم، 3: 190.
3- 3 سير أعلام النبلاء، 1: 160- الطبقات، 3: 400.
4- 4 تنقيح المقال، 2: 249، نقلًا عن المولى الوحيد.
5- 5 الأعلام، 4: 214.
6- 6 أسد الغابة، 3: 599- العقد الثمين، 6: 49- تهذيب الأسماء واللغات، 1: 326- سير أعلام النبلاء، 1: 155- الطبقات، 3: 393- 394- غربال الزمان: 13- شذرات الذهب، 1: 9- الاستيعاب، 3: 1054- المنتظم، 3: 190.

ص: 87

ومع اتفاق كلّ المصادر على أنّ عثمان بن مظعون حرّم على نفسه الخمر في الجاهلية، فقد أخرج ابن المنذر، عن سعيد ابن جبير قال: لمّا نزلت:

«يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس ...» شربها قوم لقوله: «منافع للناس»، وتركها قوم لقوله: «إثم كبير»، منهم: عثمان بن مظعون ... وهذا افتراءصريح على هذا الصحابي الجليل، فإنه متى شربها حتّى تركها (1)؟.

وهذا- أيضاً- يدلّ على أنّ أول آية في الخمر- وهي:

«يسألونك عن الخمر والميسر ...»- نزلت في حياة عثمان، وهي دالّة على التحريم في نظر الشيعة.

التسمية بعثمان:

ولسموّ مرتبة عثمان بن مظعون وقربه من اللَّه- تعالى- ونبيّهصلى الله عليه و آله و سلم، ومكانته العالية في قلوب المؤمنين، سمّى الكثير من الأولياء والصلحاء أولادهم ب (عثمان)؛ لشدّة تعلّقهم بعثمان بن مظعون ومحبتهم له وإحياءً لذكراه.

ذكر الثقفي في تاريخه، عن هبيرة بن مريم، قال: كنّا جلوساً عند علي عليه السلام، فدعا ابنه عثمان، فقال له:

يا عثمان، ثمّ قال: إني لم اسمّه باسم عثمان ...، إنّما سمّيته باسم عثمان بن مظعون (2).

وفي زيارة الناحية المقدسة:

السلام على عثمان ابن أمير المؤمنين سميّ عثمان بن مظعون (3).

وروي- أيضاً- عن عليّ عليه السلام أنّه قال: إنّما سمّيته باسم أخي عثمان بن مظعون (4).

اسرته:

أمّه: سُخيلة بنت العنبس بن وهبان- أهبان- بن وهب بن حذافة بن جمح.

وإخوته: عبد اللَّه بن مظعون، توفي سنة 30 ه، وقدامة بن مظعون، مات سنة 36 ه.

وأولاده: السائب، وعبد الرحمن، أمّهما خولة بنت حكيم.

وزوجته: خولة بنت حكيم بن أمية بن حارثة الأوقص السُّلميّة، ويقال لها: خُوَيلَة.

وهي الّتي قالت لرسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم بعد وفاة خديجة: يا رسول اللَّه، ألا تتزوّج؟ قال: مَن؟ قالت:

إن شئت بكراً، وإن شئت ثيباً، قال:

فمن البكر؟ قالت: بنت أبي بكر، قال:

ومَن الثيّب؟ قالت: سودة بنت زمعة،


1- 1 راجع: الغدير، 6: 253.
2- 2 تقريب المعارف: 52، نقلًا عن تاريخ الثقفي.
3- 3 البحار، 101: 270، نقلًا عن الاقبال ومزار المفيد والسيّد.
4- 4 مقاتل الطالبيين: 58- وعنه في البحار، 45: 38.

ص: 88

قد آمنت بك واتبعتك على ما تقول ...

قال: فاذهبي فاذكريهما عليّ، فذهبت إلى أبويهما وخطبتهما، فقبلا وتزوّجهما (1).

وروت خولة عدّة أحاديث عن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم (2)». وذكر أنها إحدى خالات النبيصلى الله عليه و آله و سلم (3).

إسلامه:

وأسلم عثمان بن مظعون بعد ثلاثة عشر رجلًا، انطلق هو وجماعة حتّى أتوا رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم، فعرض عليهم الإسلام وأنبأهم بشرائعه، فأسلموا جميعاً، وذلك قبل دخول رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم دار الأرقم وقبل أن يدعو فيها (4).

وروي أنّ عثمان بن مظعون قال:

نزلت آية: «إنّ اللَّه يأمر بالعدل والإحسان ...» على النبيّصلى الله عليه و آله و سلم وأنا عنده، وذكر أنّه شاهد رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم على غير حالته الطبيعية، فلمّا سأله: يا رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم ما رأيتك فعلت الّذي فعلت اليوم، ما حالك؟

قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم: ولقد رأيتَه؟

فأجابه عثمان: نعم، قال رسول اللَّه:

ذاك جبرئيل لم يكن لي همّة غيره، ثم تلا عليه رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم ما أنزل عليه.

قال عثمان: فقمت من عند رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم معجباً بالّذي رأيت، فأتيت أبا طالب وقرأتُ ما أوحي إلى النبيّ، فعجب أبو طالب، وقال: يا آل غالب اتبعوه ترشدوا وتفلحوا، فو اللَّه ما يدعو إلّاإلى مكارم الأخلاق ...

وروي أيضاً: أن عثمان قال:

كان أول إسلامي حبّاً من رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم، ثمّ تحقق ذلك اليوم لمّا شاهدت الوحي إليه، واستقرّ الإيمان في قلبي (5).

الآيات النازلة في عثمان:

1- «واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلّاعلى الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقوا ربّهم وأنّهم إليه راجعون» (6).

قوله تعالى: «الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون» نزلت في علي عليه السلام وعثمان بن مظعون وعمار بن ياسر وأصحاب لهم رضي اللَّه عنهم (7).

2- «يا أيّها الذين آمنوا لا تحرّموا طيّبات ما أحل اللَّه لكم ...» (8).

نزلت في عدّة من الصحابة، منهم: عثمان بن مظعون وعمّار بن ياسر وسلمان، حرّموا على أنفسهم الشهوات وهمّوا بالإخصاء (9).

وروي: أنّ علياً عليه السلام وعثمان بن مظعون ونفراً من أصحاب رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم تعاقدوا أن يصوموا النهار،


1- 1 الطبقات، 3: 393 و 400- 402- الاستيعاب، 3: 1053- اسد الغابة، 3: 598- المنتقى في مولود المصطفى للكازروني: 65- وعنه في البحار، 19: 23- مسند أحمد، 6: 210- 211.
2- 2 مسند احمد، 6: 409- 410.
3- 3 مسند أحمد، 6: 409.
4- 4 أسد الغابة، 3: 598- الإصابة، 2: 464- الاستيعاب، 3: 1053- سير أعلام النبلاء، 1: 155- الطبقات، 3: 393- تهذيب الأسماء واللغات، 1: 326- العقد الثمين، 6: 49.
5- 5 مسند أحمد، 1: 318- سعد السعود: 122- 133- وعنه في البحار، 18: 268- 270- ونقله في البحار أيضاً، 22: 112 عن قصص الأنبياء- المنتظم، 3: 190.
6- 6 البقرة، 2: 45- 46.
7- 7 تفسير الحبري: 239- شواهد التنزيل: 115- المناقب لابن شهر آشوب، 2: 9، وقال فيه: رواه الفلكي في إبانة ما في التنزيل عن الكلبي عن أبيصالح عن ابن عباس.
8- 8 المائدة، 5: 87.
9- 9 شواهد التنزيل: 239 و 259- تفسير فرات الكوفي: 131- 132- تفسير الحبري: 264.

ص: 89

ويقوموا الليل، ولا يأتوا النساء، ولا يأكلوا اللحم، فبلغ ذلك رسول اللَّه، فأنزل اللَّه تعالى: ... (1)

وروي عن أبي عبد اللَّه عليه السلام:

نزلت في علي عليه السلام وبلال وعثمان بن مظعون، فأمّا علي عليه السلام فإنّه حلف أن لا ينام بالليل أبداً إلّاما شاء اللَّه، وأمّا بلال فإنه حلف أن لا يفطر بالنهار أبداً، وأمّا عثمان بن مظعون فانه حلف أن لا ينكح أبداً ...

ولمّا أخبر النبيصلى الله عليه و آله و سلم نادى الصلاة جامعة، فاجتمع الناس، فصعد المنبر فحمد اللَّه وأثنى عليه ثمّ قال: ما بال أقوام يحرّمون على أنفسهم الطيبات، ألا أنّي أنام بالليل وأنكح وأفطر بالنهار، فمن رغب عن سنّتي فليس منّي، فقام هؤلاء فقالوا:

يا رسول اللَّه فقد حلفنا على ذلك، فأنزل اللَّه: «لا يؤاخذكم اللَّه باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم» (2). ورويت أحاديث كثيرة بهذا المعنى (3)، نكتفي منها بهذا المقدار.

3- «ليس على الّذين آمنوا وعملوا الصالحات جُناح فيما طَعِموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثمّ اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا واللَّه يحبّ المحسنين» (4).

نزلت في عدّةٍ منهم عثمان بن مظعون، وكان عثمان قد همّ بطلاق زوجته وأن يختصي ويحرم اللحم والطيب، فردّ عليه النبي وانزل في ذلك: ... (5).

4- «وضرَب اللَّه مثلًا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شي ء وهو كلّ على مولاه أينما يوجّهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومَن يأمر بالعدل وهو علىصراط مستقيم» (6).

قال الشيخ الطبرسي: ... وقيل إنّ الأبكم أبي بن خلف، ومن يأمر بالعدل حمزة وعثمان بن مظعون، عن عطاء (7).

وصف أمير المؤمنين لعثمان:

قال أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام: كان لي فيما مضى أخ في اللَّه، وكان يُعظمه في عينيصِغرُ الدنيا في عينه، وكان خارجاً من سلطان بطنه، فلا يشتهي ما لا يجد، ولا يكثر إذا وجد، وكان أكثر دهرهصامتاً، فإن قال بدّ القائلين ونقع غليل السائلين، وكان ضعيفاً مستضعفاً،


1- 1 شواهد التنزيل: 260- كشف الغمة، 1: 319.
2- 2 المائدة، 5: 89- وانظر المناقب لابن شهر آشوب، 2: 100- 101- تفسير علي بن ابراهيم القمي: 166- وعنه في البحار، 70: 116- 117- تفسيرمجمع البيان، 3: 236- وعنه في البحار، 65: 113- وراجع البحار أيضاً، 65: 112 و 113 و 114.
3- 3 راجع: تفسير البرهان، 1: 494- والدرّ المنثور، 2: 301 و 307 و 308 و 309 و 310- وتفسير الطبري، 7: 7 و 8 و 9- ومسند أحمد، 6: 106 و 226.
4- 4 المائدة، 5: 93.
5- 5 الاستيعاب، 3: 1054- العقد الثمين، 6: 49.
6- 6 النحل، 16: 76.
7- 7 مجمع البيان، 6: 578، وعنه في البحار.

ص: 90

فإن جاءَ الجِدّ فهو ليثُ غابٍ وصِلُّ وادٍ، لا يدلي بحجّة حتّى يأتي قاضياً، وكان لا يلومُ أحداً على ما يجد العذر في مثله حتّى يسمع اعتذارَه، وكان لا يشكو وجعاً إلّاعند برئه، وكان يفعل ما يقول ولا يقول ما لا يفعل، وكان اذا غلب على الكلام لم يغلب على السكوت، وكان على ما يسمع أحرص منه على أن يتكلّم، وكان إذا بدهه أمران نظر أيّهما أقرب إلى الهوى فخالفه. فعليكم بهذه الأخلاق فالزموها وتنافسُوا فيها، فإن لم تستطيعوها فاعلموا أنّ أخذ القليل خيرٌ من ترك الكثير (1).

والمشار إليه ب (كان لي فيما مضى أخ في اللَّه) عثمان بن مظعون على أحد الأقوال، وقيل: أبوذر، وقيل:

غيرهما (2).

ويدلّ على أن المراد بالأخ هنا عثمان بن مظعون ما ورد من وصف أمير المؤمنين لعثمان بالأخ، كقوله عليه السلام في وجه تسمية ولده بعثمان: إنّما سمّيته باسم أخي عثمان بن مظعون (3).

وكان عثمان بن مظعون من الملازمين لأمير المؤمنين عليه السلام، حتّى نشاهد أنّ اكثر الآيات النازلة في حقّ عثمان هي في حقّ عليّ عليه السلام وسائر أصحابه.

ولو كان من المقدّر أن يبقى عثمان بعد وفاة رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم لكنت تراه يقف موقف سلمان وأبي ذر وعمار والمقداد في قِبال الأحداث، و لشاهدته من حواري أميرالمؤمنين عليه السلام.

تعذيب قريش لعثمان وهجرته وزهده:

وبعد أن أسلم عثمان (قدّس اللَّه روحه) وأعلن إسلامه، واجهته قريش بالأذى والسطوة، كما هو ديدنها مع رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم وأصحابه. وكانت بنو جُمح تؤذي عثمان وتضربه وهو فيهم ذو سطوة وقَدْر (4).

ولمّا اشتدّ أذى المشركين على الذين أسلموا، وفتن منهم من فتن، أذن اللَّه سبحانه لهم بالهجرة الأولى إلى أرض الحبشة، التي كانت متجراً لقريش يجدون فيها رفقاً من الرزق وأماناً. فخرجوا متسلّلين سرّاً، وأميرهم عثمان بن مظعون، فيسّر اللَّه لهم ساعة وصولهم إلى الساحل سفينتين للتجار، فحملوهم فيها إلى أرض الحبشة، وخرجت قريش في أثرهم، ولمّا وصلوا البحر لم يدركوا منهم أحداً.

ومكث عثمان بن مظعون وأصحابه في الحبشة، حتّى بلغهم أنّ قريشاً قد أسلمت، فأقبلوا نحو مكة، وما إن اقتربوا منها حتّى عرفوا أنّ قريشاً لم تسلم، وأنها ما زالت على عدائها لرسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم فثقل عليهم


1- 1 نهج البلاغة، شرح محمد عبدة، 4: 69- 70.
2- 2 شرح نهج البلاغة لكمال الدين ميثم بن علي بن ميثم البحراني، 5: 390.
3- 3 مقاتل الطالبيين: 58- وعنه في البحار، 45: 38.
4- 4 شرح نهج البلاغة، 13: 268.

ص: 91

أن يرجعوا، وتخوّفوا أن يدخلوا مكة بغير جوار من بعض أهل مكة، فمثكوا مكانهم حتّى دخل كلّ رجل منهم بجوارٍ من بعض أهل مكة، ودخل عثمان بن مظعون مكة بجوار الوليد بن المغيرة.

ولمّا رأى عثمان ما يلقى رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم وأصحابه من الأذى والبلاء، وهو يغدو ويروح بأمان الوليد بن المغيرة، قال: واللَّه، إنّ غدوّي ورواحي آمناً بجوار رجلٍ من أهل الشرك، وأصحابي وأهل ديني يلقون من الأذى والبلاء في اللَّه ما لا يصيبني، لنقصٌ كبير في نفسي.

فمضى إلى الوليد بن المغيرة، فقال له: يا أبا عبد شمس، وفَت ذمّتك، وقد كنتُ في جوارك، وقد أحببت أن أخرج منه الى رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم، فلي به وأصحابه أسوة.

فقال الوليد: فلعلك يا بن أخي أوذيتَ أو انتهكتَ؟

قال عثمان: لا، ولكن أرضى بجوار اللَّه ولا أريد أن استجير بغيره.

قال: فانطلق إلى المسجد فاردد عليّ جواري علانية كما أجرتُك علانية.

فانطلقا، حتّى أتيا المسجد.

فقال لهم الوليد: هذا عثمان قد جاء يرد عليّ جواري، فقال عثمان:

قدصدق، قد وجدته وفياً كريم الجوار، ولكني أحببت أن لا أستجير بغير اللَّه، فقد رددت عليه جواره (1).

ومرّ عثمان بن مظعون بمجلسٍ من قريش، ولبيد بن ربيعة بن مالك بن كلاب القيسي ينشدهم: «ألا كلّ شي ءٍ ما خلا اللَّه باطل».

فقال عثمان:صدقت.

فقال لبيد: «وكلُّ نعيم لا محالة زائلُ».

فقال عثمان: كذبت، نعيم الجنة لا يزول أبداً.

فقال لبيد: يا معشر قريش، واللَّه ما كان يؤذى جليسكم، فمتى حدث هذا فيكم؟

فقال رجل: إنّ هذا سفيه من سفهائنا قد فارق ديننا، فلا تجدن في نفسك من قوله.

فردّ عليه عثمان، فقام إليه ذلك الرجل، فلطم عينه فخضرها.

فقال الوليد بن المغيرة لعثمان:

إن كانت عينك لغنية عمّا أصابها، لِمَ رددت جواري؟

فقال عثمان: بل واللَّه إن عيني الصحيحة لفقيرة لمثل ما أصاب أختها في اللَّه، لا حاجة لي في جوارك.


1- 1 معجم الشعراء: 254- سير أعلام النبلاء، 1: 155- الطبقات، 3: 393- حلية الأولياء، 1: 103- 105- الإصابة، 2: 464- أسد الغابة، 3: 598- زاد المعاد، 3: 23- 26- تفسير مجمع البيان، 3: 233- 234 وعنه في البحار.

ص: 92

وفي بعض المصادر:

فقال الوليد: هل لك في جواري؟

فقال عثمان: لا أرَبَ لي في جوار أحدٍ الّا في جوار اللَّه (1).

ثم قال عثمان بن مظعون فيما أصيب من عينه:

فان تك عيني في رضا الربّ نالها يدا ملحدٍ في الدين ليس بمهتد

فقد عوض الرحمن منها ثوابه ومن يرضه الرحمن يا قوم يسعد

فإنّي وإن قلتم غويّ مضلّل سفيه على دين الرسول محمد

أريد بذاك اللَّه والحقّ ديننا على رغم مَن يبغي علينا ويعتدي (2) وقال أبو طالب رضى الله عنه- وقد غضب لعثمان بن مظعون حين عذّبته قريش ونالت منه-:

أمَّن تذكّر دهرَ غير مأمون أصبحت مكتئباً تبكي كمحزون

أمَّن تذكّر أقوامَ ذوي سفهٍ يغشون بالظلم مَن يدعو إلى الدين

ألا ترون- أذلّ اللَّه جمعكم- أنّا غضبنا لعثمان بن مظعونِ ونمنع الضيمَ مَن يبغي مضامتنا بكلّ مطردٍ في الكفّ مسنونِ

ومرهقات كأنّ الملح خالطها يشفى بها الدّاء من هام المجانين

حتّى تقرّ رجال لا حلوم لها بعد الصعوبة بالإسماح واللين

أو تؤمنوا بكتاب منزل، عجب على نبيّ كموسى أو كذي النونِ (3) وذكر مثل هذه الأبيات أبو نعيم الاصفهاني، منسوبة إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، قالها فيما أصاب من عين عثمان بن مظعون:

أمن تذكر دهر غير مأمون أصبحت مكتئباً تبكي كمحزون

أمن تذكر أقوام ذوي سفهٍ يغشون بالظلم مَن يدعو إلى الدين

لا ينتهون عن الفحشاء ما سلموا والغدر فيهم سبيل غير مأمون

ألا ترون- أقلّ اللَّه خيرهم- أنّا غضبنا لعثمان بن مظعونِ

إذ يلطمون ولا يخشون مقلته طعناً دراكاً وضرباً غير مأفونِ

فسوف يجزيهم إن لم يمت عجلًا كيلًا بكيل جزاءً غير مغبونِ (4) واشتدّ البلاء من قريش على من قدم من مهاجري الحبشة وغيرهم، وسطت بهم عشائرهم، ولقوا منها تعنيفاً شديداً، وصعب عليها ما بلغها عن النجاشي من حسن جواره لهم، فأذن لهم رسول اللَّه بالخروج مرّةً ثانية إلى أرض الحبشة.

وهل خرج معهم عثمان بن مظعون؟

صرّح بهجرته- مرّة ثانية- إلى


1- 1 راجع: خزانة الأدب، 2: 255- 256- الإصابة، 2: 464- غربال الزمان: 13- شذرات الذهب، 1: 10- حلية الأولياء، 1: 103- 104- أسد الغابة، 3: 598.
2- 2 حلية الأولياء، 1: 104.
3- 3 شرح نهج البلاغة، 14: 73.
4- 4 حلية الأولياء، 1: 104. وذكرت الأبيات مع زيادة في الديوان المنسوب لأمير المؤمنين عليه السلامصفحة 256 من المخطوطة.

ص: 93

أرض الحبشة ابن سعد بالاعتماد على رواية محمد بن إسحاق، ومحمد بن عمر، والنووي (1).

وفيه نظر، لأن الذين هاجروا الهجرة الأولى رجعوا إلى مكة قبل الهجرة النبوية، والذين هاجروا الهجرة الثانية رجعوا عام خيبر، أي بعد وفاة عثمان بن مظعون الّذي اشترك في حرب بدر، وهي قبل خيبر. ولعل منشأ الاشتباه تصريح البعض بمهاجرة عثمان الهجرتين (2)، فحملوه على الأولى والثانية للحبشة، والظاهر أن الأولى إلى الحبشة، والثانية إلى المدينة.

وصرّح ابن الأثير الجزري: أنّ عثمان بن مظعون هاجر إلى الحبشة هو وابنه السائب الهجرةَ الأولى مع جماعة من المسلمين، وذكر كيفية رجوعه وما جرى له مع لبيد وقال: ثمّ هاجر عثمان إلى المدينة وشهد بدراً (3).

وقال البعض: قد ذكر في هذه الهجرة الثانية جماعة ممّن شهد بدراً، فإمّا أن يكون هذا وهماً، وإمّا أن يكون لهم قدمة أخرى قبل بدر، فتكون لهم ثلاث قدمات: قدمة قبل الهجرة، وقدمة قبل بدر، وقدمة عام خيبر، ولذلك قال ابن سعد وغيره:

إنهم لمّا سمعوا هجرة رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم إلى المدينة رجع منهم ثلاثة وثلاثون رجلًا ومن النساء ثمان نسوة، فمات منهم رجلان بمكة، وحبس بمكة سبعة، وشهد بدراً منهم أربعة وعشرون رجلًا (4).

وعلى أيّ حال، فهجرة عثمان بن مظعون من مكة إلى المدينة أمرٌ مقطوع به، فقد هاجر هو وأخواه قدامة وعبد اللَّه وابنه السائب إلى المدينة، ونزلوا على عبد اللَّه بن سلمة العجلاني، وقيل: على خذام بن وديعة (5).

قال الواقدي: آل مظعون ممن أوعب في الخروج إلى الهجرة رجالهم ونساؤهم، وغلقت بيوتهم بمكة (6).

وروي عن أمّ العلاء، قالت:

نزل رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم والمهاجرون معه المدينة في الهجرة، فتشاحت الأنصار فيهم أن ينزلوهم في منازلهم، حتّى اقترعوا عليهم، فطار لنا عثمان بن مظعون على القرعة، تعني: وقع في سهمنا (7).

وأما زهده وقناعته بالشي ء القليل وتركه الدنيا فيدل عليه: ما روي من أنّه دخل يوماً المسجد، وعليه نمرة قد تخلّلت فرقّعها بقطعة من فروة، فرقّ له رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم، ورقّ أصحابه لرقته، فقال: كيف أنتم


1- 1 الطبقات، 3: 393- تهذيب الأسماء واللغات، 1: 336.
2- 2 سير أعلام النبلاء، 1: 155.
3- 3 أسد الغابة، 3: 598.
4- 4 زاد المعاد، 3: 25- 26.
5- 5 سير أعلام النبلاء، 1: 158- تهذيب الأسماء واللغات، 1: 326- الطبقات، 3: 395- 396.
6- 6 سير أعلام النبلاء، 1: 158- الطبقات، 3: 395- 396.
7- 7 الطبقات، 3: 396-صحيح البخاري، 2: 71.

ص: 94

يغدو أحدكم في حلّة ويروح في أخرى، وتوضع بين يديه قصعة وترفع أخرى، وسترتم البيوت كما تستر الكعبة؟ قالوا: وددنا أنّ ذلك قد كان يا رسول اللَّه فأصبنا الرخاء والعيش، قال: فإنّ ذلك لكائن، وأنتم اليوم خير من اولئك (1).

مؤاخاته واشتراكه في بدر:

آخى رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم بين عثمان بن مظعون وبين أبي الهيثم بن التّيهان الأنصاري (2).

وشهد عثمان بن مظعون بدراً باتفاق المؤرخين (3). وأُسّر حنظلة بن قبيصة بن حذافة على يد عثمان بن مظعون (4). وقُتل أوس بن المغيرة بن لوذان على يد عليّ عليه السلام وعثمان بن مظعون (5).

عثمان والرواية:

كان عثمان بن مظعون من الأوائل الّذين أسلموا، ومن الأوائل الّذين لبّوا نداء ربّهم، وتوفي في حياة رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم في بادئ الإسلام، ونال درجة عالية بعد وفاته بصلاة رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم عليه، ولم يروِ عن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم إلّاقليلًا، وذلك لعدم دركه من زمان الإسلام إلّا أوائله.

فيروي عثمان بن مظعون عن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم (6)، ورواياته عن رسول اللَّه قليلة جدّاً.

ويروي عن عثمان بن مظعون:

عبد اللَّه بن جابر (7)، وسعد بن مسعود الكناني (الكندي) (8).

عبادته واجتهاده واعتزاله النساء وحياؤه:

كان عثمان- رضوان اللَّه عليه- من أشدّ الناس اجتهاداً في العبادة، يصوم النهار ويقوم الليل. ووصل به الحدّ في العبادة أنه ترك وتجنّب الشهوات بالمرة، واعتزل النساء (9). حتّى روي: أنّ زوجته دخلت على نساء النبيصلى الله عليه و آله و سلم فرأينها سيئة الهيئة، فقلن لها: ما لكِ؟ فما في قريش أغنى من بعلك! قالت: ما لنا منه شي ء، أمّا ليله فقائم، وأمّا نهاره فصائم. فدخل النبيُّصلى الله عليه و آله و سلم، فذكرن ذلك له، فلقيه النبيّصلى الله عليه و آله و سلم، فقال: أما لك بي أسوة؟

قال: بأبي وأمّي وما ذاك؟ قال:

تصوم النهار وتقوم الليل؟ قال: إنّي لأفعل، قال: لا تفعل، إنّ لعينيك عليك حقّاً، وإنّ لجسدك حقّاً، وإنّ لأهلك حقّاً، فصلِّ ونمْ وصم وافطر.

وفي رواية أخرى: يا عثمان لم يرسلني اللَّه بالرهبانية، ولكن بعثني بالحنيفية السهلة السمحة، أصوم وأصلي وألمس أهلي، فمن أحبّ


1- 1 حلية الأولياء، 1: 105.
2- 2 الطبقات، 3: 396- تهذيب الأسماء واللغات، 1: 326.
3- 3 أسد الغابة، 3: 598- تهذيب الأسماء واللغات، 1: 326- الطبقات، 3: 396- التاريخ الصغير، 1: 46- المنتظم، 3: 190- ومصادر أخرى كثيرة جدّاً.
4- 4 شرح نهج البلاغة، 14: 204.
5- 5 شرح نهج البلاغة، 14: 212.
6- 6 ربيع الأبرار، 2: 265- تهذيب الأحكام، 4: 190، الحديث 541.
7- 7 تهذيب الأحكام، 4: 190، الحديث 541.
8- 8 تهذيب الأحكام، 6: 122، الحديث 210.
9- 9 الاستيعاب، 3: 1054- تهذيب الأسماء واللغات، 1: 326- أسد الغابة، 3: 599- العقد الثمين، 6: 49- المنتظم، 3: 190.

ص: 95

فطرتي فليستن بسنّتي، ومن سنّتي النكاح.

وفي رواية أخرى قال النبيّصلى الله عليه و آله و سلم: إنّي آتي النساء وأفطر بالنهار وأنام الليل، فمن رغب عن سنّتي فليس مني، وأنزل اللَّه- تعالى-: «يا أيّها الذين آمنوا لا تحرّموا طيّبات ما أحلّ اللَّه لكم ولا تعتدوا إنّ اللَّه لا يحبّ المعتدين وكلوا مما رزقكم اللَّه حلالًا طيّباً واتقوا اللَّه الذي أنتم به مؤمنون» (1).

فأتتهن زوجة عثمان بعد ذلك عطرةً كأنّها عروس، فقلن لها: مه؟

قالت: أصابنا ما أصاب الناس (2).

وروي: أنّ عثمان قال: يا رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم! لا أحبّ أن ترى امرأتي عورتي، قال: ولِمَ؟ قال:

استحيي من ذلك، قال: إنّ اللَّه قد جعلها لك لباساً، وجعلك لباساً لها ...، فلمّا أدبر قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم: إنّ ابن مظعون لحييّ ستير (3).

الرهبانية والسياحة والتبتّل:

خلق اللَّه- سبحانه وتعالى- الإنسان ليكون نواةصالحة، وكائناً عاملًا في كلّ نواحي الحياة الإنسانية، وليس من حكمة خلق اللَّه للإنسان أن يترهّب ويعتزل المجتمع، ويعيش لوحده يعبد ربّه.

وفي بادئ الإسلام كانت فكرة الرهبانية، وترك المجتمع والملذّات الدنيوية، تدور في خُلد بعض المتديّنين، وذلك لشدّة تديّنهم وحرصهم على العبادة وترك الدنيا.

ومن الأوائل الذين فكّروا بالرهبانية والسياحة عثمان بن مظعون- رضوان اللَّه عليه- فإنّه أول ما أقدم عليه من عمل هو: أنه كان يقوم الليل ويصوم النهار، وترك زوجته بالمرّة، وبعدها استأذن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم في الرهبانية والسياحة والتبتّل وطلاق زوجته والخصاء، فنهاه عن ذلك وردّه عليه (4).

فعن ابن شهاب: أنّ عثمان بن مظعون أراد أن يختصي ويسيح في الأرض، فقال له رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم:

أَليس لك فيّ أسوة حسنة؟ فأنا آتي النساء وآكل اللحم وأصوم وأفطر، إنّ خصاء أمّتي الصيام، وليس من أمّتي من خصى أو اختصى (5).

وروي أيضاً عن عثمان أنه قال:

قلت لرسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم: يا رسول اللَّه! أردت أن أسألك عن أشياء، فقال:

وما هي يا عثمان؟ قال: قلت: إنّي أردتُ أن أترهب، قال: لا تفعل يا عثمان، فانّ ترهّب أمّتي القعود في


1- 1 المائدة: 87- 88.
2- 2 الطبقات، 3: 394- 395- سير أعلام النبلاء، 1: 157- 158- حلية الأولياء، 1: 106- تهذيب الأسماء واللغات، 1: 326- مسند أحمد، 6: 106 و 226- سنن الدارمي، 2: 179، الحديث 2169- تفسير علي بن إبراهيم القمي: 166- وعنه في البحار، 70: 116- 117- الكافي للكليني، 2: 56 و 57- وعنه في البحار، 22: 264- تنقيح المقال، 2: 249.
3- 3 الطبقات، 3: 394- سير أعلام النبلاء، 1: 157- تهذيب الأسماء واللغات، 1: 326- بحار الأنوار، 93: 73.
4- 4 أسد الغابة، 3: 599- الاستيعاب، 3: 154- سير أعلام النبلاء، 1: 155- الاصابة، 2: 464- الطبقات، 3: 394- مسند أحمد، 1: 175 و 176 و 183-صحيح البخاري، 6: 118 و 119- سنن ابن ماجة، 1: 593، الحديث 1848-صحيح مسلم، 9: 176- 177- سنن الترمذي، 3: 394، الحديث 1083- سنن النسائي، 6: 58- سنن الدارمي، 2: 178، الحديث 2167.
5- 5 الطبقات، 3: 394- سير اعلام النبلاء، 1: 157.

ص: 96

المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة.

قال: فإني أردت يا رسول اللَّه! أن أختصي، قالصلى الله عليه و آله و سلم: لا تفعل يا عثمان، فإنّ اختصاء أمّتي الصيام (1).

وروي أيضاً أنه قال لرسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم: إنّ نفسي تحدّثني بالسياحة وأن ألحق الجبال، قال: يا عثمان لا تفعل، فإنّ سياحة أمّتي الغزو والجهاد (2)

وروي: أنّه اتخذ بيتاً يتعبّد فيه، فأتاه النبيصلى الله عليه و آله و سلم، فأخذ بعضادتي البيت وقال: يا عثمان، إنّ اللَّه لم يبعثني بالرهبانية- مرّتين أو ثلاثاً-، وإن خير الدين عند اللَّه الحنيفية السمحة (3).

وروي عنه- أيضاً- أنّه قال:

يا رسول اللَّه! إني رجل تشقّ عليّ العزبة في المغازي، أفتأذن لي في الخصاء؟ قال: لا، ولكن عليك بالصوم، فانه مَجْفَر (محصن) (4).

وروي عنه- أيضاً-: أنه همّ بطلاق زوجته، وأن يختصي ويحرم اللحم والطيب، فردّ عليه النبيصلى الله عليه و آله و سلم، وانزل في ذلك: «ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثمّ اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا واللَّه يحبّ المحسنين» (5).

وروي أيضاً: أنه توفي ابن لعثمان بن مظعون، فاشتدّ حزنه عليه، حتّى اتخذ داره مسجداً يتعبّد فيه، فبلغ ذلك رسول اللَّه، فأتاه، فقال له:

يا عثمان، إنّ اللَّه تبارك وتعالى لم يكتب علينا الرهبانيّة، إنّما رهبانية أمتي الجهاد في سبيل اللَّه، يا عثمان بن مظعون! للجنة ثمانية أبواب، وللنار سبعة أبواب، فما يسرّك أن لا تأتي باباً منها إلّاوجدت ابنك إلى جنبك آخذاً بحجزتك يشفع لك الى ربك، قال: بلى ... (6) شعره:

ولم يكن عثمان من الشعراء المعروفين، لكنه كان قادراً على نظم الشعر، والذي وصل إلينا شي ء منه.

وقد مرّت منه عدّة أبيات في فصل تعذيب قريش لعثمان وهجرته.

فمن شعره حينما هاجر إلى أرض الحبشة، وبلغه أنّ أمية ابن خلف شتمه، فقال:

أتيم بن عمرو الّذي فار ضغنه ومن دونه الشرمان والترك أجمع

أأخرجتني من بطن مكّةَ آمناً وألحقتني منصرح بيضاء تقدع؟

تريش نبالًا لا يؤاتيك ريشُها وتبري نبالًا ريشها لك أجمع

فكيف إذا نابتك يوماً ملمةٌ وأسلمك الأوباش ما كنت تجمع؟ (7)


1- 1 تهذيب الأحكام، 4: 190- 191، الحديث 541، وروى المقطع الأول في مشكاة الأنوار: 262- وعنه في البحار، 83: 382.
2- 2 تهذيب الأحكام، 6: 122، حديث 210.
3- 3 سير أعلام النبلاء، 1: 158- الطبقات، 3: 395.
4- 4 شرح نهج البلاغة، 19: 132- التاريخ الكبير، 6: 210- الاستيعاب، 3: 1055- الطبقات، 3: 395- المعرفة والتاريخ، 1: 272- 273.
5- 5 المائدة: 93- وانظر الاستيعاب، 3: 1054- العقد الثمين، 6: 49.
6- 6 أمالي الصدوق: 40- وعنه في البحار، 8: 170.
7- 7 معجم الشعراء: 254- ربيع الأبرار، 2: 860.

ص: 97

وفاته:

نصّ كثير من المؤرّخين: على أنّ عثمان بن مظعون أول من مات بالمدينة من المهاجرين (1).

وأمّا تاريخ وفاته، فإنّه كان بعد أن شهد بدراً، وفي تحديد تاريخ وفاته عدّة أقوال:

(أ) في شعبان بعد سنتين ونصف من الهجرة (2).

(ب) في السنة الثانية من الهجرة (3).

(ج) بعد اثنين وعشرين شهراً من مقدم رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم إلى المدينة (4)، وهذا يدلّ على أنه توفي في أواخر سنة اثنتين.

(د) بعد مقدم رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم إلى المدينة بستة أشهر (5)، وهذا إنما يكون بعد مقدمه من غزوة بدر، لأنه لم يختلف أحد في أنه شهدها.

وذكرت أم العلاء أنّ عثمان بن مظعون اشتكى عندهم، وقالت:

مرّضناه، فلمّا توفي جعلناه في أثوابه.

فدخل عليه رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم، فأكب عليه يقبّله ويقول: رحمك اللَّه يا عثمان، ما أصبت من الدنيا ولا أصابت منك شيئاً.

وحديث تقبيل رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم لعثمان وهوميّت نقله الكل وبصور مختلفة، فبعض ذكر أنه قبله- بعد الغسل والتكفين- بين عينيه، والآخر ذكر أنه قبّله على خدّه. وبكى رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم على عثمان بن مظعون طويلًا، ودموعه تسيل على خدّ عثمان بن مظعون (6).

وأمّا ما روي من أنه لما مات عثمان دخل عليه النبيّصلى الله عليه و آله و سلم فأكبّ عليه، فرفع رأسه، فرأوا أثر البكاء، ثم جثا الثانية، ثمّ رفع رأسه، فرأوه يبكي، ثمّ جثا الثالثة، فرفع رأسه وله شهيق، فعرفوا أنّه يبكي، فبكى القوم، فقال: مه هذا من الشيطان، ثمّ قال:

أستغفر اللَّه، أبا السائب لقد خرجت منها ولم تلبّس منها بشي ء (7).

فغيرصحيح، لأنه فيه جعل البكاء من الشيطان، مع أنّه ثبت من طريق الفريقين أنّ النبيصلى الله عليه و آله و سلم بكى على ابنه ابراهيم، وفاضت عيناه على بنت بنته، وأنه بكى على عثمان بن مظعون كما ذكرنا قبل قليل وذكرنا مصادره.

ويؤيّده أيضاً ما روي عن ابن عباس: لمّا ماتت ابنة لرسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم، قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم:

ألحقي بسلفنا الخيّر عثمان بن مظعون، فبكت النساء، فجعل عمر بن الخطاب يضربهنَّ بسوطه، فأخذ


1- 1 الإصابة، 2: 264- أسد الغابة، 3: 599- تهذيب الأسماء واللغات، 1: 326- الاستيعاب، 3: 1053- غربال الزمان: 3.
2- 2 تهذيب الأسماء واللغات، 1: 326- الاستيعاب، 3: 1054 وفيه على رأس ثلاثين شهراً من الهجرة- العقد الثمين، 6: 49- الطبقات، 3: 396- سير أعلام النبلاء، 1: 159.
3- 3 الإصابة، 2: 464- أسد الغابة، 3: 599- الاستيعاب، 3: 1054- غربال الزمان: 3- العبر، 1: 14- المنتظم، 3: 191.
4- 4 الاستيعاب، 3: 1054- العقد الثمين، 6: 49.
5- 5 الاستيعاب، 3: 1054.
6- 6 الكافي، 3: 161، الحديث 6- حلية الأولياء، 1: 105- 106- الاستيعاب، 3: 1053- من لا يحضره الفقيه، 1: 98، الحديث 453- زاد المعاد، 1: 183 و 502- غربال الزمان: 3- مجمع الزوائد، 9: 302- ربيع الأبرار، 4: 187- أسد الغابة، 3: 600- مسند أحمد، 6: 43 و 55- 56 و 206- الطبقات، 3: 190- المنتظم، 3: 191- سنن ابن ماجة، 1: 468، الحديث 1456- سنن الترمذي، 3: 314، الحديث 989- سنن ابي داوُد، 3: 201، الحديث 3163- تنقيح المقال، 2: 249.
7- 7 مجمع الزوائد، 9: 302- سير أعلام النبلاء، 1: 156- الاستيعاب، 3: 1055- حلية الأولياء، 1: 105.

ص: 98

رسول اللَّه بيدهصلى الله عليه و آله و سلم وقال: مهلًا يا عمر، ثم قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم:

ابكين، وإيّاكنّ ونعيق الشيطان، ثم قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم: إنّه مهما كان من العين والقلب فمن اللَّه ومن الرحمة، وما كان من اليد واللسان فمن الشيطان (1).

ومع ما كان عليه عثمان بن مظعون من عظيم الدرجة والسبق إلى الإيمان، فقد سمع رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم امرأة تقول:

هنيئاً لك أبا السائب الجنة، أو:

أذهب عنك أبا السائب! شهادتي عليك لقد أكرمك اللَّه، أو طِبْ أبا السائب! نفساً إنّك في الجنة.

فقال لها رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم:

وما يدريك، أو ما علمك بذلك؟

فقالت: يا رسول اللَّه! أبو السائب، أو كان يا رسول اللَّه! يصوم النهار ويصلّي الليل، أو فارسك وصاحبك، أو: لا أدري بأبي أنت وأمي يا رسول اللَّه، فمن.

فقال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم: واللَّه ما نعلم إلّاخيراً ثم قال: حسبك أن تقولي: كان يحب اللَّه- عزّ وجلّ- ورسوله، أو أجل ما رأينا إلّاخيراً أنا رسول اللَّه واللَّه ما أدري ما يصنع بي، أو أمّا هو فقد جاءه اليقين. واللَّه، إني لأرجو الخير، وإني لرسول اللَّه، وما أدري ما يفعل بي (2).

واختلفت المصادر في ذكر اسم المرأة التي قالت هذا القول لرسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم، فبعضها ذكرت أنها زوجته أم السائب، وفي بعضها أنها أم العلاء الأنصارية، وفي بعضها أنها أم خارجة بن زيد، وفي بعضها أنها عجوز.

وكذلك اختلفت المصادر في كيفية وقوعها، ففي بعضها أنها قالت هذا القول وراء جنازته، وفي بعضها أنها قالت هذا القول لمّا وضع في قبره، وفي بعضها لمّا قبر، وفي بعضها غير هذا.

وعلى كلّ حال فإن ما قاله رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم لم يكن نقصاً في درجة عثمان بن مظعون، أو تشكيكاً فيه، لأنه قرنه بنفسه، ووصفه بصفات المتقين، ولكن كان قولهصلى الله عليه و آله و سلم تعليماً لنا، بأنّ الإنسان مهما كثرت عبادته واتقي لابدّ من أن يبقى بين الخوف والرجاء، ولا يجزم بأنه من أهل الجنة ومن عباد اللَّه المقرّبين، ويدلّ على كراهية جزم الإنسان بأنه من أهل الجنة.

وروي عن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم أنه قال: لمّا مُرّ بجنازة عثمان بن مظعون:

ذهبت ولم تلبّس منها بشي ء (3).

وروي أنه لمّا رفع عثمان على السرير قال النبيّصلى الله عليه و آله و سلم: طوباك (طوبى لك) يا عثمان، لم تلبسك الدنيا ولم تلبسها (4).


1- 1 سير أعلام النبلاء، 1: 156- 157- الطبقات، 3: 398- 399- مجمع الزوائد، 3: 17- الاستيعاب، 3: 1055- 1056- مسند أحمد، 1: 237- الطبقات، 3: 190- مسند أبي داود الطيالسي: 351.
2- 2 سير أعلام النبلاء، 1: 156- 157 و 159- 160- الطبقات، 3: 398- 399- مجمع الزوائد، 3: 17 و 9: 302- الاستيعاب، 3: 1055- 1056- التاريخ الصغير، 1: 46- 47- حلية الأولياء، 1: 104 و 106- تهذيب الأسماء واللغات، 1: 326- أسد الغابة، 3: 600- الطبقات، 3: 399- الكافي، 3: 262، حديث 45- مسند أحمد، 1: 237 و 6: 436- الطبقات، 3: 190- مسند أبي داوُد الطيالسي: 351-صحيح البخاري، 2: 71 و 3: 164.
3- 3 الموطّأ، 1: 242- الطبقات، 3: 396.
4- 4 المنتظم، 3: 191- ربيع الأبرار، 4: 187- كنز العمال، 13: 525.

ص: 99

وتحدّث أم العلاء: بأنها رأت في المنام لعثمان عيناً تجري، فأخبرت رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم، فقال: ذلك عمله (1).

وحظي عثمان بن مظعون بصلاة رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم عليه (2)، وبمشاركته في تشييعه ودفنه، فقد كانصلى الله عليه و آله و سلم قائماً على شفير القبر الذي نزل فيه كلّ من عبد اللَّه بن مظعون، والسائب بن عثمان بن مظعون، ومعمر بن الحارث.

ولمّا انتهى الدفن، قال النبيصلى الله عليه و آله و سلم لرجل: هلمّ تلك الصخرة فاجعلها عند قبر أخي أعرفه بها، أدفن إليه مَن دفنت من أهلي (أهله)، فقام الرجل فلم يطقها، فاحتملها رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم حتّى شوهد بياض ساعديه، ووضعها عند قبره، وقال:

هذا قبر فرطنا، وكان الحجر بمثابة العلامة.

وكان رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم يزور قبر عثمان بن مظعون (3).

واتفق أصحاب السير والتاريخ أنّ أول من دفن بالبقيع عثمان بن مظعون، إلّانادراً ممّن ذكر أنّ أسعد بن زرارة أول من دفن بالبقيع.

ولم يكن البقيع قبل دفن عثمان مقبرة، وكان يقال له: بقيع الخبخبة، وكان أكثر نباته الغرقد (4).

وروي أنهصلى الله عليه و آله و سلم أمر أن يبسط على قبر عثمان بن مظعون ثوب، وهو أول قبر بسط عليه ثوب (5).

وروي أيضاً أنهصلى الله عليه و آله و سلم رشّ قبر عثمان بن مظعون بالماء بعد أن سوّى عليه التراب (6).

وقيل: إنّ أول مَن تبعه إبراهيم ابن النبيّصلى الله عليه و آله و سلم، فلمّا توفي قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم: الحق بسلفنا (بسلفك) الصالح عثمان بن مظعون، ودفن ابراهيم إلى جنب عثمان (7).

ولمّا ماتت ابنة لرسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم: الحقي بسلفنا الخيّر (الصالح) عثمان بن مظعون وأصحابه (8).

وكان إذا مات ميّت قال النبيصلى الله عليه و آله و سلم: قدموه على فرطنا، نعم الفرط لأمّتي عثمان بن مظعون، فيدفن عند عثمان بن مظعون (9).

ولمّا توفي عثمان بن مظعون قالت زوجته:

يا عين جودي بدمعٍ غير ممنونِ على رزيّة عثمان بن مظعونِ

على امرى ءٍ بات في رضوان خالقه طوبى له من فقيد الشخص مدفونِ

طاب البقيعُ له سكنى وغرقده وأشرقت أرضُه من بعد تفتينِ


1- 1 أسد الغابة، 3: 601- سير أعلام النبلاء، 1: 159- 160- التاريخ الصغير، 1: 46- 47- حلية الأولياء، 1: 104- تهذيب الأسماء واللغات، 1: 326-صحيح البخاري، 3: 164 و 8: 74.
2- 2 تهذيب الأسماء واللغات، 1: 326- الطبقات، 3: 396- 397 وفيه أنه كبّر عليه أربع تكبيرات- سنن ابن ماجة، 1: 481، حديث 1502 وفيه أيضاً أنه كبّر عليه أربع تكبيرات، ومصادر أخرى كثيرة جدّاً.
3- 3 الطبقات، 3: 399- 400- سير أعلام النبلاء، 1: 154 و 155- العقد الثمين، 6: 49- تهذيب الأسماء واللغات، 1: 326- الاستيعاب، 3: 1054- غربال الزمان: 3- أسد الغابة، 3: 600- الطبقات، 3: 190- دعائم الاسلام، 1: 238- سنن ابن ماجة، 1: 498، الحديث 1561- سنن الدارمي، 3: 212، الحديث 3206.
4- 4 الإصابة، 2: 464- أسد الغابة، 3: 599- سير أعلام النبلاء، 1: 154 و 155- معجم الشعراء: 254- العقد الثمين، 6: 49- تهذيب الأسماء واللغات، 1: 326- الاستيعاب، 3: 1054- 1055- الطبقات، 3: 397- المستدرك، 3: 190- المنتقى في مولود المصطفى، الفصل الخامس- وعنه في البحار، 19: 132- المنتظم، 3: 191.
5- 5 دعائم الاسلام، 1: 238- وعنه في البحار، 82: 21.
6- 6 دعائم الاسلام، 1: 239- وعنه في البحار، 82: 22.
7- 7 الاستيعاب، 3: 1053- أسد الغابة، 3: 600- مجمع الزوائد، 9: 302- الإصابة، 2: 464- شذرات الذهب، 1: 9- الكافي، 3: 263، الحديث 45- مسند أحمد، 1: 237- تنقيح المقال، 2: 249 وفيه: ألحقك اللَّه بخلفك الصالح عثمان بن مظعون.
8- 8 أسد الغابة، 3: 600- الاستيعاب، 3: 1053- مجمع الزوائد، 9: 302- سير أعلام النبلاء، 1: 156- 157 و 160- تهذيب الأسماء واللغات، 1: 326- الكافي، 3: 241، الحديث 18- الطبقات، 3: 190- تنقيح المقال، 2: 249.
9- 9 مجمع الزوائد، 9: 302- الطبقات، 3: 397- المستدرك، 3: 190.

ص: 100

وأورث القلبَ حزناً لا انقطاع له حتّى الممات فما ترقى له شونِي (1) المراجع:

1- القرآن الكريم.

2- الاستيعاب في معرفة الأصحاب، ليوسف بن عبد اللَّه بن محمّد بن عبد البرّ، نشر مكتبة نهضة مصر ومطبعتها.

3- أسد الغابة في معرفة الصحابة، لابن الأثير علي بن محمد الجرزي.

4- الإصابة في تمييز الصحابة، لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني، دارصادر، بيروت.

5- الأعلام، لخير الدين الزركلي، دار العلم للملايين، بيروت 1989 م.

6- أعلام الغدير، مراجعة وتنسيق فاضل الميلاني، دار الكتاب العربي، بيروت.

7- بحار الأنوار، للعلامة المجلسي، دار الكتب الإسلامية، طهران.

8- التاريخ الصغير، لأبي عبد اللَّه محمد بن إسماعيل البخاري، دار المعرفة، بيروت 1406 ه.

9- التاريخ الكبير، لإسماعيل بن إبراهيم البخاري، دار الكتب العلمية، بيروت.

10- تفسير الحبري، للحسين بن الحكم بن مسلم الحبري، مؤسسة آل البيت لإحياء التراث، بيروت.

11- تفسير فرات الكوفي، لأبي القاسم فرات بن إبراهيم بن فرات الكوفي، وزارة الإرشاد، طهران.

12- تقريب المعارف، للشيخ أبي الصلاح الحلبي، نسخة مخطوطة محفوظة في المكتبة العامة لآية اللَّه المرعشي في قم.

13- تنقيح المقال، للشيخ عبد اللَّه المامقاني، نسخة مطبوعة على الحجر.

14- تهذيب الأحكام، للشيخ محمد بن الحسن الطوسي، دار الكتب الإسلامية، طهران.

15- تهذيب الأسماء واللغات، لأبي زكريا محيي الدين بن شرف النووي، دار الكتب العلمية، بيروت.

16- حلية الأولياء، لأحمد بن عبد اللَّه الأصبهاني، دار الكتاب العربي، بيروت.

17- خزانة الأدب، لعبد القادر بن عمر البغدادي، مكتبة الخانجي، مصر.

18- الديوان المنسوب لأمير المؤمنين عليه السلام، نسخة خطية بخط ياقوت المستعصمي.

19- ربيع الأبرار، لمحمد بن عمر الزمخشري، منشورات الشريف الرضي قم 1410 ه.

20- رجال حول الرسول، لخالد محمد خالد، دار الكتاب العربي، بيروت.

21- زاد المعاد في هدي خير العباد، لابن قيّم الجوزية، مكتبة المنار، الكويت 1412 ه.

22- سنن ابن ماجة، للحافظ أبي عبد اللَّه محمد بن يزيد القزويني، دار إحياء التراث العربي، بيروت.

23- سنن أبي داود، للحافظ سليمان بن الأشعث السجستاني، دار الفكر، بيروت.

24- سنن الترمذي، لأبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة، دار إحياء التراث العربي، بيروت.


1- 1 الإصابة، 2: 464 وذكر البيت الأول فقط- أسد الغابة، 3: 600- حلية الأولياء، 1: 106- العقد الثمين، 6: 50- الاستيعاب، 3: 1056.

ص: 101

25- سنن الدارمي، للحافظ عبد اللَّه بن عبد الرحمن السمرقندي، دار الكتاب العربي، بيروت.

26- سنن النسائي بشرح الحافظ جلال الدين السيوطي، دار الفكر، بيروت.

27- سير أعلام النبلاء، لمحمد بن أحمد الذهبي، مؤسسة الرسالة، بيروت.

28- شذرات الذهب، لعبد الحيّ بن العماد الحنبلي، مكتبة القدسي، مصر.

29- شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد المعتزلي، دار إحياء الكتب العربية.

30- شرح نهج البلاغة، لميثم بن علي بن ميثم البحراني، الطبعة الثانية 1404 ه.

31- شواهد التنزيل لقواعد التفضيل، للحافظ عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن أحمد المعروف بالحاكم الحسكاني، وزارة الإرشاد، طهران.

32-صحيح البخاري، لأبي عبد اللَّه محمد بن إسماعيل البخاري، دار الفكر، بيروت.

33-صحيح مسلم بشرح النووي، دار احياء التراث العربي، بيروت.

34- الطبقات الكبرى، لابن سعد، دار بيروت ودارصادر 1377 ه.

35- العِبر في خبر من غبر، للحافظ الذهبي، معهد المخطوطات، الكويت 1960 م.

36- العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين، لمحمد بن أحمد الحسني الفاسي، طبع القاهرة 1386 ه.

37- الغدير في الكتاب والسنة والأدب، للعلامة عبد الحسين الأميني، دار الكتب الإسلامية، طهران.

38- غربال الزمان في وفيات الأعيان، ليحيى بن أبي بكر العامري اليماني، دار الخير 1405 ه.

39- فهارس بحار الأنوار، مؤسسة البلاغ بيروت 1412 ه.

40- فهارس شرح نهج البلاغة، وضعها أسداللَّه اسماعيليان، مكتبة اسماعيليان، قم.

41- الكافي، لأبي جعفر محمد بن يعقوب الكليني، دار الكتب الإسلامية، طهران.

42- كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال، دار الكتاب الإسلامي، حلب.

43- مجمع البيان في تفسير القرآن، للشيخ أبي علي الفضل بن الحسن الطبرسي، دار المعرفة، بيروت.

44- مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، لعلي بن أبي بكر الهيثمي، دار الكتاب، بيروت.

45- المستدرك على الصحيحين، للحافظ أبي عبد اللَّه الحاكم، دار المعرفة، بيروت.

46- مسند أبي داود الطيالسي، للحافظ سليمان بن داود بن الجارود، دار المعرفة، بيروت.

47- مسند أحمد بن حنبل، دارصادر، بيروت.

48- معجم رجال الحديث، للسيد أبو القاسم الموسوي الخوئي، دار الزهراء، بيروت 1409 ه.

49- معجم الشعراء، لمحمد بن عمران المرزباني، دار الكتب العلمية، بيروت.

50- المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي، دار الدعوة، استانبول 1988 م.

51- المعرفة والتاريخ، ليعقوب بن سفيان البسوي، مطبعة الإرشاد، بغداد.

ص: 102

52- المناقب، لمحمد بن علي بن شهر آشوب، انتشارات علّامة، قم.

53- المنتظم، لعبد الرحمن بن علي بن محمد بن الجوزي، دار الكتب العلمية، بيروت.

54- من لايحضره الفقيه، للشيخ محمد بن علي الصدوق، دار الكتب الإسلامية، طهران.

55- الموطّأ، لمالك بن أنس، دار احياء التراث العربي، بيروت.

56- نقد الرجال، للسيد مصطفى الحسيني التفريشي، انتشارات الرسول المصطفى، قم.

57- نهج البلاغة، للشريف الرضي، مع تعليقات محمد عبده، مؤسسة الأعلمي، بيروت.

وراجع أيضاً من مصادر ترجمته ممّا لم ننقل عنها:

1-صفة الصفوة.

2- الشعر والشعراء.

3- المحبر.

4- التحفة اللطيفة.

5- تاريخ الخميس.

6- طبقات خليفة.

7- تاريخ خليفة.

8- سيرة ابن هشام.

9- نسب قريش.

10- الكامل في التاريخ.

11- تاريخ الطبري.

12- تفسير الطبري.

13- تفسير ابن كثير.

14- سنن البيهقي.

15- ديوان أبي طالب.

16- مرآة العقول.

17- التعليقة للوحيد.

وغيرها من مصادر الفريقين.

الهوامش:

ارجوزة في فقه الحجِ

أُرجوزة في فقه الحجِ

محمود البغدادي

المقدّمة:

في فلسفة الحج

في الحجِّ قد بانَتْ لنا الحقائقُ في روضةٍ تفرِشُها الزنابقُ

مزهوة تحفل بالأثمارِ مبهجة الرّوادِ والسّمارِ الطير فيهاصادحٌ يُغنّي يبعث بالفن لأهل الفنِ

من حكمة اللَّه العليم الهادي تقمعُ أهلَ الشرك والإلحادِ

ص: 103

النفسُ فيها ترتقي وتنمو والروحُ للَّه العليّ يسمو

والحبُّ فيها قاطنٌ في القلب لا خير في قلب بغير حبِ

ويلتقي الإنسانُ والملائك فالحجُّ دربٌ للطهور سالك

إن كنت في غاشيةٍ من شكِ فاقصد سريعاً للحريم المكّي

حتى تربّى في سماءِ القلب ليس كمثل القلب من مُربّي

وتبصرُ الدنيا عيونُ الآخره ليس سواها من عيونٍ باصره

وترتوي ظامئة السياسه من منهل الفكرة والكياسه

ونلتقي الأطراف والمراكز كل على سلم الجميع حائز

والفقرُ فيها يخلع الثيابا قد كان شيئاً ماثلًا فقابا

من نعمةٍ للَّه ليست تُنسى فاستشهد النقلَ وقاضي الحسا (1)

وعن عليّ بن الحسين حجّوا تصح أبدانُكُم وتَنجوا

تتسع الأرزاقُ والأموال ويغتني المعيلُ والمعالُ

ومن يحجّ يغفرن منه الزلل مستأنفٌ له من اللَّه العملْ (2)

من ترك الحجَّ بلا غدرٍ نقي فذاك في إيمانه العبد الشقي

يموت كاليهود والنصراني نعوذ باللَّه من الثواني (3)

ومن له مالٌ ولن يَؤْمّا يحشرُ في يوم التنادِ أعمى (4)

يأمن يوم الدين كلّ ميْت إن مات في الطريق نحو البيت (5)

وقد تلقت آدمَ الملائكه في فرحةٍ بحجّهِ مشاركه

إنّا حججنا قبل ألفي عام من نعمةٍ للَّه ذي الإنعامِ (6)

وقد روينا في الحديث المسند روايةً عن ابن عمّ أحمدِ

بنيّ! للبيت العتيق انظروا تقدموا لقصدهِ وأكثروا

إن أنتم- بنيّ!- لم تقاطرو الحجهِ هيهات أن تناظروا (7)

وعن إمامٍ واجب تصديقُه في خبرصحَّ لنا طريقُه

عن آية في الحجِّ لن تضيّعا قال: هما العمرةُ والحجُّ معا (8)

وعن أتموا الحجَّ للعلام يعني بهذا غاية الإتمامِ

أداءُ حجٍّ خالصٍ وعمره ويتقي المحرمُ كلَّ عشره

وعمرة للَّه حجٌّ أصغرُور ميُك الجمارَ حجٌّ أكبرُ

هذا إذا أحسنَ عبدٌ موقفه مؤدياً لحجّه في عرفه (9)


1- 1 مثل النص عن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم: «... وحجوا تستغنوا» الوسائل، كتاب الحج، أبواب وجوب الحجِّ وشرائطه، الباب الأول، الحديث 13. ومثل ما جاء عن علي بن الحسين عليه السلام كما سيأتي قريباً. وفي الخصال 1: 31 بسندصحيح عن الصادق عليه السلام: «من حجّ حجتين لم يزل في خير حتى يموت».
2- 2 عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: قال علي بن الحسين عليه السلام: «حجوا واعتمروا تصح أبدانكم، وتتسع أرزاقكم، وتكفون مؤونات عيالاتكم. وقال: الحاجّ مغفورٌ له، وموجوب له الجنة، ومستأنفٌ له العمل، ومحفوظٌ في أهله وماله». الوسائل، أبواب وجوب الحج وشرائطه الحديث 7.
3- 3 روى محمّد بن يعقوب، عن أبي علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عنصفوان بن يحيى، عن ذريح المحاربي، عن أبي عبد اللَّه عليه السلام، قال: «من مات ولم يحجّ حجة الإسلام- لم تمنعه من ذلك حاجة تجحف به، أو مرض لا يطيق فيه الحجّ، أو سلطان يمنعه- فليمت يهودياً أو نصرانياً». المصدر السابق، ثبوت الكفر والارتداد بترك الحج وتسويفه، الحديث 1.
4- 4 ورد ذلك في عدّة روايات.
5- 5 انظر الفروع من الكافي، 1: 239- والمقنعة للمفيدص 61.
6- 6 انظر الفروع من الكافي، 1: 218.
7- 7 عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: «كان عليّ-صلوات اللَّه عليه- يقول لولده: يا بنيّ انظروا بيت ربكم فلا يخلون منكم فلا تناظروا» الفروع من الكافي، 1: 241. يُطلق الولد على المفرد والجمع وهنا يراد به الثاني.
8- 8 آل عمران: 97 «... وللَّه على النّاس حجُّ البيتِ مَن استطاع إليه سبيلًا ومن كفر فإنَّ اللَّه غنىٌّ عن العالمين».
9- 9 المقصود الإمام أبو عبد اللَّه جعفر بن محمد الصّادق عليه السلام، والخبر هو ما رواه محمّد بن يعقوب، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عمر بن أذينة، قال: كتبتُ الى أبي عبد اللَّه عليه السلام بمسائلَ بعضها مع ابن بكير، وبعضها مع أبي العباس، فجاء الجواب بإملائه: سألتَ عن قول اللَّه عزّ وجلّ «... وللَّه على النّاس حجُّ البيت من استطاع اليه سبيلًا ...» يعني به الحجَّ والعمرةَ جميعاً؛ لأنهما مفروضان. وسألتَ عن قول اللَّه عزّ وجلّ «وأتموا الحجَّ والعمرة للَّه» قال يعني بتمامهما أداءَهما، واتقاء ما يتقي المحرم فيهما، وسألت عن قوله تعالى: «الحجّ الأكبر» ما يعني بالحجّ الأكبر؟ فقال: الحجّ الأكبر: الوقوف بعرفة، ورمي الجمار، والحجُّ الأصغر العمرة. الوسائل كتاب الحجِّ، أبواب وجوب الحجّ وشرائطه، الباب الأول، الحديث 2.

ص: 104

وإن أردتَ الخيرَ في الدارين فالحجُّ قد ضمَّ كلا الأمرينِ (1)

إنّ سبيلَ الحجِّ أن تطيقا سيراً له لا تختشي الطريقا

وكنتَ ذا مالٍ فقد وُفِقتالوا جبٍ في أن تحجَّ البيتا (2)

ومن يكن ممتلكاً للمال لكن به الحاجة للعيالِ

فذالك المعذور عند اللبّ وفي الأحاديث بغير ريب (3)

وقد روى محمّد بن يعقوب في سند ليس به من مكذوب

الحجُّ قد قال الإمام الصّادق فرضٌ على الجميع لا تفارقوا

كبارُهم طرّاً مع الصغارِ يا قدمنا حاشا ذوي الأعذارِ (4)

الفورُ بالحجِّ طريق مالك وبعضهم نحو التراخي سالك

الفورُ في الحجِّ بغير شكِّ فيه عن الشيخ اتفاقٌ محكي (5)

وكم به- يا سيدي!- من نصِّ إن كنت ذا معرفةٍ فاقتصِّ (6)

إن فاتَك الحجُّ ولم تستعجل فبادر الأمرَ بعامٍ مقبلِ

حتى تجيئنَّ بما ضيّعتا بأيِّ عذرٍ قد تركتَ البيتا

الناسُ في الحجِّ على أصنافِ وكلُّصنفٍ بالعطاء وافي

يُطلق بعضٌ من جحيم النار وبعضُهم من الذنوب عاري

وبعضُهم يحفظ في الأهلينا ومالُهُ هيهات أن يشينا (7)

يا ربَّنا فأحينا سنينا للحجِّ والعمرة ما بقينا (8) شرائطُ الحجِ

شرائطُ الحجِّ لنا معلومه مرسومة في الصحف الموسومه

أوّلُها العقلُ وهل ذو عقل يشكُّ في العقل وأهل النقل؟ (9)

والثاني البلوغ لا ترتاب في شرطه الأخبارُ والألبابُ (10) وثالث الشرائط الحريه (11) والرابعُ استطاعةٌ شرعيه (12)

ويستحبُّ للصبي المائز حجٌّ على اذن الولي حائز

وذلك المشهور لكن ما اشتهر أوجبه التحقيق في بعض الصور (13)

وما على البالغ من اذن الولي في حجّه المندوب من أمر جلي

وقد أتى المحكي عن القواعد حكماً على لزوم إذن الوالد

وإنني لابن هلالٍ نابذ هيهات أن تكنفه المآخذ (14)

من واجبات البنت والغلام بعد البلوغ حجة الإسلام

فليس يغني عنهما ما حجّا قبلُ وإن كان الثواب يُرجى (15)


1- 1 شرح المهذب، 7: 38- 39.
2- 2 المغني لابن قدامة، 3: 252.
3- 3 الوسائل، أبواب وجوب الحج، الباب 20، الحديث الأول.
4- 4صحيح البخاري، 1: 319.
5- 5صحيح مسلم، بابصحة حج الصبي وأجر من حج به، 4: 101.
6- 6 سنن ابن ماجة.
7- 7 المغني لابن قدامة، 3: 252.
8- 8 الوسائل، أبواب وجوب الحج، الباب 20، الحديث الأول.
9- 9صحيح البخاري، 1: 319.
10- 10صحيح مسلم، بابصحة حج الصبي وأجر من حج به، 4: 101.
11- 11 سنن ابن ماجة.
12- 12صحيح مسلم، بابصحة حج الصبي وأجر من حج به، 4: 101.
13- 13 سنن ابن ماجة.
14- 14 المغني لابن قدامة، 3: 252.
15- 15 الوسائل، أبواب وجوب الحج، الباب 20، الحديث الأول.

ص: 105

أَقسامُ الحجِ

إن لم تكن من مكّةٍ تمتّعِ بحجّةٍ وللكتابِ فاتبع

وإنما الإفرادُ والقران لأَهلها أوجبه القرآنُ (1)

أربعة شرائط التمتعِ احضر لها القلب الزكي واسمع

فنيّة وكونه في الأشهر اشهر حجّ طيبات الجوهرِ

والحج والعمرة إن تأتيهما في سنةٍ واحدةٍ تنهيهما

واحرم له أحرم له بالحجّ من بطن مكه بخير نهجِ (2) شرائط الإفراد

وإنّما شرائط الإفراد أربعةٌ قامت على السدادِ

فنيّةٌ أوّلها وأن يقعْ في أشهر الحجِّ الكريم المتَّبعْ (3)

وعن أبي حنيفةٍ وأحمدِ جوازها من قبل ذاك الموعدِ

ويعقد الإحرام من ميقاتهِ وكلْ مجاهداً الى زلاته (4)

شرائط القارن والأفعالُ قويمةٌ ليس بها اختلال

شبيهة الإفراد قد تحققا لكنَّ سوق الهدي عنه فرَّقا (5) تكررُ الحجِّ الواجب

وربما في غير مرةٍ وجب تكررُ الحجِّ بتكرار السبب

كالنذر والعهد وكاليمين فاصدق به إن كنتَ ذا يقينِ وإن تكن أفسدّت حجّاً أعدِ كم يُصلحُ العود فساد المفسدِ

وإن تكن نيابةً تُستأجرُ فإنما الوفاء طبعٌ خيِّرُ

وما سوى ذلك فهو مستحب تكررُ الحجّ إلى اللَّهِ سببْ (6)صور لاستحباب الحجِ

ومن تكن شروطه تختلُّ فمستحبُّ حجُّه ونفلُ

يكن له بعد الأداء (7) حجّ تطوعاً فيه الثوابَ يرجو

وفاقد للزاد أو للراحله سفينةً أو جملًا أو ناقله

ومثل مملوك له مولاه أجاز في الحجّ وما نهاهُ


1- 1 الحجُّ على أقسام: حجّ التمتع. حجّ الإفراد. حجّ القران. والحجُّ الأول لمن لم يكن من أهل مكّة وتوابعها، قال تعالى: «ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام» البقرة: 196. وحجّ الإفراد وكذا القران لأهل مكّة وتوابعها .... والروايات التي يستفاد منها في المقام كثيرة، منها: ما رواه الحرّ العاملي في الوسائل، كتاب الحجّ، أبواب أقسام الحجّ، الباب الأول، باب أن الحجّ ثلاثة أقسام.
2- 2 أربعة شروط حجّ التمتع الواجب منه والمستحب؛ أولًا: النيّة، ثانياً: أن يقع في أشهر الحجّ وهي شوال وذو القعدة وذو الحجة، قال تعالى: «الحجُّ اشهرٌ معلومات ...» البقرة: الآية 197. وقال ابن ابي عقيل والمرتضى وسلار: شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة. ثالثاً: أن يكون الحجُّ والعمرة في سنة واحدة. وتدل عليه عدة نصوص. انظر الوسائل، الباب 22 من أبواب أقسام الحجِّ. رابعاً: أن يحرم بالحجّ من بطن مكة مع الاختيار. وفي الجواهر، 18: 17 بلا خلاف أجده فيه نصاً وفتوىً- وفي الحدائق، 14: 360 لا يجزِئ الإحرام بحجّ التمتع من غير مكّةَ ولو دخل مكّةَ بإحرامه، بل لابد من استئنافه منها، كما هو المعروف من مذهب الأصحاب، وبه قطع في المعتبر من غير نقل خلاف، وأسنده العلّامة في التذكرة والمنتهى الى علمائنا مؤذنا بدعوى الإجماع عليه، وربما اشعرت عبارة الشرائع بوقوع الخلاف في ذلك، إلا أن شيخنا الشهيد الثاني قدس سره في المسالك نقل عن شارح ترددات الكتاب أنّه أنكر ذلك. ولا فرق في الإحرام بالحجِّ من بطن مكةَ، بين أن يكون من المسجد وهو أفضل وأفضله المقام وبين أن يكون من مكان آخر. قال عمرو بن حريث: قلت لأبي عبد اللَّه: من أين أهل بالحجِّ قال: إن شئت من رحلك، وإن شئت من الكعبة، وإن شئت من الطريق. الوسائل، باب 21 من المواقيت.
3- 3 شرائط الإفراد: 1- النيّة 2- أن يقع في أشهر الحجِّ، وقد تقدّم توضيحه 3- أن يعقد الإحرام من الميقات إن كان أقرب الى منزله وإلّا أحرم من منزله.
4- 4 لخلافه في ذلك وهو مجاهد بن جبر المكي ت 104 من مشاهير المفسرين في العصر الأموي، وقد رأيت تفسيره ويقع في مجلدين.
5- 5 الفضيل بن يسار عن أبي عبد اللَّه عليه السلام: القارن الذي يسوق الهدي، عليه طوافات بالبيت وسعي بين الصفا والمروة. وينبغي له أن يشترط مع ربه، إن لم تكن حجّة فعمرة. الوسائل، الباب 2 من ابواب اقسام الحجّ، الحديث 2. وفي خبر منصور عن الصادق عليه السلام: لا يكون القارن قارناً الّا بسياق الهدي، وعليه طوافان بالبيت، وسعي بين الصفا والمروة كما يفعل المفرد، وليس بأفضل من المفرد إلّا بسياق الهدي. الوسائل، الباب 2 من أبواب أقسام الحجِّ، وللتفصيل محل.
6- 6 هنا حالات عدّة لوجوب الحجِّ وإن حجَّ حجّةَ الإسلام، كوجوب الحجِّ لنذر أو عهدٍ أو يمين، وعلى من أفسد حجّه أن يعيده. وكذلك الحجّ نيابةً. وما سوى ذلك فإن ثمَّ حالات لاستحباب الحجِّ. إذ إنّ الحجَّ حبلٌ يتصل برضوان اللَّه تعالى وسلّمٌ الى مغفرته ورحمته الواسعة.
7- 7 مَن حجَّ حجّةَ الإسلام يستحب له أن يحجَّ مرة أخرى بل مرّات.

ص: 106

الحجُّ ندباً لظهور العجز عن حجّةِ الإسلام ليس يجزي (1)

والحجُّ عن غيرك ليس يجدي عن حجّةِ الإسلام فاستعدِ

إن أذن المولى بحجّ العبدِ نيابة عمّا سواه تجدي

يكفيك من أدلةٍ اطلاقها كالشمس قد بان لنا اشراقها

ومن يكن في حقه الحجّ وجب ليس له عن غيره أن ينتدب

كلا ولا من حقه التطوع عن نفسه والشيخ لا يُتَّبع (2)

لا تجب الحجةُ غير مرَّه واحدةٍ وهي أقل القدره

وأوجب الصدوق كلّ عام القصد للمشاعر العظامِ

على ذوي المكنةِ واليسار مستنداً لجملة الأخبارِ

ورودها عندي على الاستحباب قال به بالأمس جلُّ الأصحاب

من أجل أن لا يخلو بيت اللَّه من كلّ عبدٍ خاشعٍ أوّاهِ (3) مواقيت الإحرام

إن كنتَ للفقه القويم حائزْ أحرم من الميقات لا تجاوزْ

يلملمٌ ميقات أهل اليمنِ وجحفة للشام عبر الزمنِ

وإنما العقيق للعراقِ نصاً وافتاءً على الوفاقِ

ومثله ميقات أهل نجدِ جاءت به الأخبار دون ردِّ

وحكم أهل العلم والأفاضلْ ميقات أهل الطائف المنازلْ

وذو حليفةٍ لأهل يثربِ جاءت به أخبارنا عن النبي

دويرة الأهل لأهل مكه حكم تغشاهم بغير ركَّه

كذا لكم حكمُ ذوي الأبيات ما بين مكّة إلى الميقات

جعرانةٌ عدت لمن يجاور بمكّةٍ حكم جميلٌ ظاهرْ

وفخُّ ميقات لقوم قول لثلةٍ وفيه جاء النقلُ

وإن تخف عليهم الضر احرم بهم من العرج بغير مأثم

أو إن تشأ يسراً بغير عسرِ من جحفةٍ فاحرم وبطن مرِّ

وكل من مرّ بأرض قوم فإنه مثيلهم في الحكمِ (4) كيفية الإحرام:

لا خير في الإحرام دون نية زاكية طاهرة نقيَّة

وتلبيات أربعٍ فأتِ بها طيبة خالصةً لربِّها ولبسك الثوبين أمرٌ قد وجبْ عن احتياط ويقال مستحبْ الهوامش:

ما هي الاستطاعة، ومن هو المستطيع؟


1- 1 شرح المهذب، 7: 38- 39.
2- 2 المغني لابن قدامة، 3: 252.
3- 3 الوسائل، أبواب وجوب الحج، الباب 20، الحديث الأول.
4- 4صحيح البخاري، 1: 319.

ص: 107

ما هي الاستطاعة، ومن هو المستطيع؟

جعفر شهيدي

يقول تعالى: «وللَّه على الناس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلًا» (1).

يؤم مئات الآلاف من المسلمين مكّة سنوياً، استجابةً لهذه الدعوة الإلهيّة؛ فيقصدون بيت اللَّه لأداء فريضة الحج.

ومن الواضح أنَّ هؤلاء الذين ينزلون جدّة، ومدينة الحاج- بعد أن يقطعوا المسافة بمختلف وسائط النقل، من طائرة وباخرة إلى السيارة- يعدّون أنفسهم من المستطيعين، الذين وجبت عليهم هذه الفريضة الإلهية.

لقد بلغَ من سموّ هذه الفريضة، وأهميّتها، أن لا يقتصر توكيدها في حدود أداء التكليف الواجب وحسب، وإنما امتد ليشمل حالات الاستحباب والندب.

فالحجُّ أمانة إلهية، فهو- في ثقافة المسلمين ووعيهم- الركن الرابع من أركان الدين، بعد الصلاة والزكاة والصوم.

فعن الامام أبي جعفر عليه السلام قال: «بني الإسلام على خمس: على الصلاة والزكاة والصوم والحج ...» (2) لذلك ن قرأ في توكيد الحجّ: «مَن ماتَ ولم يحجّ حجة الإسلام، ولم يمنعه عن ذلك حاجة تجحف به؛ أو مرض لا يطيق الحج من أجله؛ أو سلطان يمنعه، فليمت إن شاء يهودياً، وإن شاء نصرانياً» (3).

وفي «دعائم الإسلام» عن الإمام الصادق، أنّه عليه السلام سُئل عن رجلٍ له مال لم يحج حتى مات، قال: هو ممَّن قال


1- 1 آل عمران: 97.
2- 2 أصول الكافي، 2: 15، باب «دعائم الإسلام»، منشورات المكتبة الإسلامية، طهران سنة 1388 ه.
3- 3 سفينة البحار، 1: 211.

ص: 108

اللَّه «... ونحشره يوم القيامة أعمى» (1) فقال السائل: سبحان اللَّه أعمى؟ قال: أعماه اللَّه عن طريق الجنّة (2).

ما هي الاستطاعة، ومن هو المستطيع؟

لقد أوضح فقهاء المذاهب الإسلاميّة في رسائلهم العملية وكُتب المناسك، الاستطاعة بما مؤدّاه: أن يكون للإنسان مالٌ يزيد على مؤونة عياله، بحيث يكفيه للذهاب الى مكّة والإياب، وأن تكون له ولعياله فضلّة عند رجوعه من الحجّ.

مع مثل هذه الشروط السهلة، رأى الكثير من المسلمين أنفسهم قادرين على القيام بهذه الفريضة، والإتيان بهذا الواجب؛ ولهذا السبب بالذات ربّما يعود سبب كثافة المسلمين الذين يقصدون بيت اللَّه الحرام، حيث كانَ عددهم فيما مضى يبلغ مئات الآلاف سنوياً، أمّا اليوم فهو يزيد على المليون، يتوجهون من أرجاء الدنيا الى أحد مواقيت الحج.

ومن جهةٍ ثانية قد تبدو أعمال الحجّ نفسها أيسر من شروط الاستطاعة؛ إذ هي لا تعدو- في الظاهر- أن يحرم المسلم من أحد المواقيت، ثم يقصد مكّة، وحين يصلها يطوفُ بالبيت سَبعاً، ثم يصلّي ركعتين خلف مقام إبراهيم عليه السلام، فيمضي بعدهما نحو جَبَلَي «الصفا» و «المروة» ليسعى سبعة أشواط، ويقصّ بعدها شيئاً من شعره، أو من أظفاره؛ ليخرج من إحرامه، بعد أن يكون قد أنهى أعمال عمرة التمتع، انتظاراً لأداء مناسك الحج.

وحين يقترب من نهاية العشرة الأولى من ذي الحجّة الحرام، يُحرم من المسجد الحرام، أو من مكّة- عموماً- في اليوم الثامن، أو التاسع من شهر ذي الحجّة؛ ويذهب الى عرفات ليقف فيها من الزوال حتى غروب الشمس من اليوم التاسع، ثم يفيضُ ليلًا نحو المشعر الحرام؛ ليمكث فيه حتى طلوع الشمس من اليوم العاشر، حيث يتحركصبيحة اليوم العاشر نحو منى؛ فيرمي جمرة العقبة سبع حصيات، ثم ينحر ويحلق «أو يأخذ شيئاً من شعر رأسه بحسب الرأي الفقهي»، فيتحرك نحو البيت الحرام ليطوف طواف الزيارة، ويؤديصلاة الطواف، ثم يسعى بين الصفا والمروة، ثم يطوف طواف النساء، ويؤديصلاته، وبعد أن ينتهي من ذلك يعود الى منى؛ ليبيت فيها ليلة الحادي عشر، ويمضي نهارهُ فيها، ثم يبيب ليلة الثاني عشر ويمكث حتى منتصف النهار، على أن يرمي الجمرات الثلاث كلّ واحدة سبع حصيات، فيُتم بذلك فريضة الحج المباركة.

الذي يبدو من هذا الاستعراض الوجيز أنّ شروط الاستطاعة تتسم بالكثير من اليسر والسهولة؛ وأيسر منها وأسهل أداءً نفس مناسك الحج. بيد أنّا نسأل: إذا كانت الاستطاعة، وأعمال الحجّ بهذا المستوى من البساطة واليسر؛ فلماذا عُدّ الحجُّ كما في رواية ابن عباس نوعاً من الجهاد؟ (3)

في الجواب يجب علينا أن ننتبه الى أنَّ ما تتحدَّث عنه كُتب الفقه، ومناسك الحجِّ، يقتصر على بيان الأحكام الظاهرية للمكلّف؛ مما يجب أن يقوم به من خلال الحركات والسكنات والألفاظ. أمّا حقيقة الحجِّ، وأبعاده المتكاملة فهو ما يجدر بنا أن نتقصّاه في الكتب الأخلاقيّة، وفي التعاليم العملية لأئمة أهل البيت عليهم السلام.

ونقطة البداية هي أنّ المكلّف قبل أن يتعلق به تكليف فريضة الحجّ، هو مسلم؛ وأنّ للمسلم في السُنّة تعريفاً محدّداً واضحاً.


1- 1 طه: 124.
2- 2 بحار الأنوار، 99: 9، الرواية 6، مؤسسة الوفاء، بيروت.
3- 3 كنز العمال، كتاب الحج، حديث رقم 11787، 5: 4 الطبعة الجديدة.

ص: 109

أما لماذا توكيد السّنّة بالذات فيما تَرسمهُ من حدودٍ واضحة للمسلم؟

فذاك يعود الى أنَّ تعريف المسلم في كتاب اللَّه، وسنة رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم وأخبار أهل البيت عليهم السلام يكشف عن علاقة تلازم بين الإجمال والتفصيل.

فالمسلم في كتاب اللَّه يحملصفة المسلم لجهة مشاركته في الحقوق السياسية، والاجتماعية الثابتة لمجتمع المسلمين.

أما في السّنّة فهو عنوانٌ يحمِله لجهةِ ما يضطلع به من أهلية، وجدارة للارتقاء الى مستوى هذه الصفة السامية، بحيث يكون إنساناً مؤمناً، تتسق شخصيته مع المواصفات التي يتحدّث بها الإمام الصادق عليه السلام للإنسان المسلم.

فمثل هذا المسلم إذا أراد أن يؤدي فريضة الحج، فإنّ عليه أن يؤديها كما تتحدّث عنها، وعن فلسفتها كُتبُ الأخلاق الإسلاميّة، وهو حينئذٍ يُمارس عملًا جهادياً، يستلزم بذل الجهد وتقديم التضحية والفداء في كلّ لحظة وآن.

وحين يتمخَّض الحجُّ عن بذلٍ وعطاءٍ، وعن ممارسةٍ جهاديةٍ واعيةٍ، يكون حجّاً واقعياً متطابقاً في معالمه مع ما ورد في سنة رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم، وفي أخبار أهل البيت، فعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام: «إذا أردتَ الحجَّ فجرّد قلبك للَّه- عزّ وجلّ- من قَبل عزمك، من كلّ شاغل وحجاب حاجب، وفوّض أمورَك كُلَّها الى خالقك، وتوكّل عليه في جميع ما يظهر من حركاتك وسكناتك، وسلّم لقضائه وحكمه وقدره، ودَعِ الدُنيا والراحة والخلق» (1).

وفي الموسوعة الحديثية (مستدرك الوسائل) (2) حديثٌ على شكل سؤال وجواب بين الإمام علي بن الحسين السّجاد عليه السلام والشبلي، تصب دلالاته في ضرورة احراز الشروط المعنوية للمناسك، ورعايتها الى جوار أداء الظواهر.

وقد يكون هناك كلام حول شخصية الشلبي وفيما إذا كان الشخصية الصوفية المعروفة التي عاشت في الفترة بين 247 ه. ق- 334 ه. ق، وبالتالي لا يمكن أن يكون هذا الشخص هو المعني؛ لتقدّم وفاة الإمام السّجاد عليه، أو أنَّ هناك شخصية أخرى عاشت في المدينة، وعاصرت الإمام زين العابدين عليه السلام دون أن تحفل بها كتب التراجم والتأريخ ...؛ قد يكون ثمة كلام في كلّ ذلك، بيد أنَّ ما يعنينا من الخبر هو مضمونه، الذي يؤكد حقيقة الحجّ من خلال رعاية شروطهِ المعنوية في مُوازاة الالتزام بظواهر المناسك.

مرّةً أخرى: ما معنى الاستطاعة؟

تحدّثنا في مطلع البحث عن الاستطاعة، وذكرنا أنّ معاييرها في البحث الفقهي ترتكز على إحراز القدرة المالية والبدنية اللازمتين، وضمن ما هو محدَّد في الكتب الفقهية. بيد أنَّ ما نحتاج الى تحصيله قبل ذلك هو استطاعة من نوعٍ آخر لا تختصّ بزائري بيت اللَّه، وإنما يتوجب على كلّ مسلم أن يحرزها في شخصيته ووجوده.

هذه الاستطاعة التي نعنيها تتفرع الى:

1- استطاعة علمية: ويمكن تلخيص مؤدّاها بالسؤال التالي: ماذا عليّ أن أعمل؟


1- 1 سفينة البحار، 1: 213.
2- 2 المستدرك، 10: 72- 166، طبعة مؤسسة آل البيت، قم.

ص: 110

2- استطاعة أخلاقية: ويمكن تلخيص محتواها بالقول: ما هو السبيل لتطبيق ما أعرفه؟

إنَّ شريعةً ينطوي تُراثُها المعرفي في الأخلاق العملية على كُتبٍ من قبيل: المحجة البيضاء، وإحياء علوم الدين، ومعراج السعادة، وكيمياء السعادة، والمقامات العلية، وعشرات الكتب الأخلاقية الأخرى؛ وإنَّ ديناً أوجب على المسلمين كافة طلب العلم؛ حريٌّ أن يدفع كلّ مسلم إلى التوافر على الاستطاعة في بُعدَيْها العلمي والأخلاقي، في فترة تسبق مرحلة البلوغ والتكليف الشرعي، أو أن يُحرز على الأقل مقدمات تحصيلهما تدريجياً في فترةٍ زمنية لا تطول كثيراً. بيدَ أنَّ الذي يبعث على الأسف هو أنَّ الكثير من المسلمين لم يهتم بهذين البعدين.

فالإنسان المسلم الاعتيادي يبلغ في العادة مرحلة الاستطاعة المالية حين يتجاوز أكثر من نصف عمره، أي في عمرٍ يتعدى في الأغلب الأربعين. وحينئذٍ يبدأ بالتفكير في تعلّم أحكام الحجّ، ثم لا يقدم لذلك أكثر من ساعات معينة في أيامٍ معدودة!

إننا نعرف جميعاً أنَّ التعلّم في هذه السنّ المتأخرة يتّسم بصعوبة كبيرة، ومهما بذل السادة العلماء الذين يُرافقون قوافل الحجيج من جهد، فانَّ المسألة تبقى أقرب إلى المستحيل خصوصاً إذا أضفنا الى ذلك، أنَّ المهمة لا تقتصر على تعلّم مناسك الحجّ وحدها، وإنّما يتبعها- أيضاً- تعلّم القراءة والأجزاء الأخرى في الصلاة الواجبة، وكأنَّ الصلاة أصبحت- الآن- واجبةً على أمثال هؤلاء، ولم تكن كذلك قبل إحراز الاستطاعة المالية للحج.

يجب أن نعي جيداً؛ أنَّ التجربة العملية، أثبتتصعوبة أن يتعلّم غيرِ العربي النطق بحروف العربية من مخارجها الصحيحة، حين تتصلب بشكل نهائي أوتارُ حنجرته الصوتية في السنة الخامسة عشرة فما بعد؛ لذلك تذهب هباءً جهود العلماء الأفاضل، في أن يتعلّم هذا المسلم- غير العربي- الذي مرَّ من عمره سبعون عاماً، على أداء معيّن للّغة، أداء الحروف بشكلها العربي الصحيح، بحيث ينطق- مثلًا- «أنَّ الحمد والنعمة» بصورة سليمة لا تستبدل الحاء بالهاء ولا تستبدل الضاد في «ولا الضالين» بالزاء مثلًا.

أما لو كانت مهمة تعلّم القراءة الصحيحة، والأحكام الشرعية، قد بدأت مع مرحلة البلوغ الشرعي، وترافقت وإيّاها، فمن المستبعد أن تظهر نظائر هذه المصاعب في المستقبل.

علينا أن نذعن أنَّ مدى اهتمامنا بأحكام وآداب ديننا الحنيف، هو دليل يكشف بوضوح مقدار ارتباطنا بهذا الدين، وصلتنا الحقيقية به. فما نراه من أعمال بعض الحجّاج وسلوكهم في مكّة والمدينة، يكشف بوضوح ضآلة وعيهم الديني، وسطحية ما يعرفونه من معارف دينهم، وأحكامه وآدابه. وهذه الحالة بدورها دالة على عدم اعتناء المجتمع الإسلامي بالإسلام، فيما ينطوي عليه نظامُه التشريعي من فقه وأحكام، بالإضافة إلى الجهل بنظامه الأخلاقي.

إنّ ما يبعث على الأسف أكثر، هو جهل الكثير من الحجاج بوضع البلد (الحجاز) وما تكتنف مجتمعه من تقاليد وآداب، وما تسوده من معايير وضوابط. بالإضافة إلى الجهل بالمواقع التي يجب أن تزار، والآداب الخاصة بهذه الأماكن.

أمّا أن يرتقي الوعي الى مستوى الإحاطة بالوضع الاقتصادي، والموقع الجغرافي للحجاز، والحرمين الشريفين، مقارنة بالبلدان الإسلاميّة الأخرى، فهذه لا تعدو أن تكون- بالنسبة لعامة الحجيج- سوى أمنية بعيدة المنال!

دو فصلنامه «ميقات الحج»،ص: 111

إنَّ ما يفضي اليه الجهل بالآداب السائدة في المجتمع الحجازي؛ لا يقل في آثاره السلبية، عن النتائج المترتبة على الجهل بأحكام الحجّ ومناسكه نفسها.

فلو افترضنا أن تاجراً أراد أن يبيع سلعاً لا يتجاوز ثمنها الكلّي قيمةَ ما يصرفه حاج واحد في الحجاز، لقام أولًا باستطلاع السوق، والتعرف على حاجاته وأحاط بوضع السلعة وبسبيل انتاجها، وكيفية استهلاكها وهكذا! فلماذا لا يكون حال الحجّاج حال هذا التاجر؟

إنَّ سلوك الحجاج في السنوات الأخيرة، الذي ينبغي أن يعكس مستوى وعيهم الديني، ودرجة معرفتهم بأحكام الإسلام، ومدى التزامهم باخلاقياته، كشف للأسف عن اهتمامٍ مميَّز بالسلع والبضائع، وبهذا افترق سلوكهم- الى حدٍ كبير- عن منهج أئمتنا وسلوكهم، وما يتوقعونه منّا خصوصاً في سفر الحجّ!

لقد دأبت الصحف على أن تنشر أحياناً بعض مصاديق السلوكيات الخاطئة للحجاج، وتوجّه اللوم اليهم، بيد أنّي شخصياً لا أميل الى لومِ هؤلاء الحجاج، بقدر ما أميل الى تحميل نفسي وأمثالي مسؤوليّة التقصير عن تعليم هؤلاء.

وبعد، فإنَّ الصورة تبدو واسعة متعدّدة الجوانب والأبعاد، فبعض الحجّاج ذهب إلى الحجّ، وعاد دون أن يدرك شيئاً، بل إنَّ بعضهم يجهل- حقاً- الأماكن التي ذهب اليها، وبعضهم لا يستطيع أن يشير لك على مواقع مكّة والمدينة على الخريطة الجغرافية، فضلًا عن أن يحيط بأوضاع هاتين المدينتين قبل الإسلام، وما أصابهما من تغيرات بظهور الإسلام.

إن مقتضى كون الحجّ ركناً من أركان الإسلام، هو أن نبني ممارستنا للفريضة على قواعد رؤية ثابتة مستقرة ..

وكونه عبادة، علينا في ممارستها أن نحذر الوقوع في المحظور، فمع المحظور يصعب التكليف. وما نلاحظه في واقع الممارسة العملية هو أنّه لا تكاد تخلو سنة من السنين من ظهورصعوبات أمام الحجاج، وقد تتجاوز المسألة حدود الصعوبات الى ما هو أفدح من ذلك، كما حصل بالنسبة لبعض الفجائع المرعبة التي عاصرناها!

الهوامش:

ص: 111

ص: 112

دور عليّ في فتح مكة

الشيخ عفيف النابلسي

مقدمة:

هل بإمكانك كتابة التاريخ الإسلاميّ، أو الفقه الإسلاميّ، أو أي شي ء في الإسلام دون عليّ عليه السلام؟ وهل باستطاعتك أن تسرد وقائع التاريخ دون المرور بعلي؟ وهل غنى السيف إلا في يده، أو طرب القلم إلا من مداده؟

وهل يُحاصَر علىّ في فتح مكة أو هوازن وحنين؟ وهل هناك شاردة أو واردة في هذا الإسلام المديد المالئ الدنيا وشاغل الناس إلا كان علي أصل وجودها أو همزة وصلها؟

فهو في المعارك ضيغمها، وللرايات قائدها، وفي الحملات فارسها المرتجى، وهو في الشجاعة أوحدها، وفي الكلمة مبدعها، وفي الليالي محييها وعابدها؛ فهو راهب الصومعة المتصوف بل المستغرق في الصوفية، وهو في المعركة الضارب بالسيفين الطاعن بالرمحين .. جمعت فيصفاتك الأضداد. وهو في الحلبة لاعبها وأولها، وفي الفصاحة سحبانها، وأمّا في البلاغة فهو ابن بجدتها وقطب رحاها؛ ويكفيك منه نهج بلاغته، وسماء فصاحته، وبعد أن انقطع الوحيُ وحلّق النبيّصلى الله عليه و آله و سلم إلى جنة الخلد، هطلت عليه وحده ديمُ المعرفة، وأصبح مصدرها الوحيد- فقهاً علماً أدباً فضلًا زهداً وورعاً- فهو الاستاذ في المسجد والامام في المحراب، والخطيب على المنبر يتكلم والحقّ في لسانه، ويحارب والحقّ في سنانه- كيفما مال كان الحقُّ معه وفيه- «عليٌّ مع الحقّ والحقُّ مع علي يدور معه كيفما دار».

وهل يمكنني بعدُ أن أتحدث عن عليّ في غزوه أو حربه أو يختصر على قضية أو واقعة أو سانحة أو قصة تاريخية أو قصيدة مديح يضوع منها الأدب أو مآثره يفوح منها طيب ذاك النسب.

وإذا كان علي شامخاً شموخ الجبال، ومجنحاً تجنّح الصقور، وعالياً كالقمر ومشرقاً كالشمس وكريماً كالريح الهبوب، وعطوفاً كالأم ورؤوفاً كالأب وصلباً كالصخر وكبيراً كالجبل، وإذا كان علي محور هذه الأمة وميزانها وصمام أمانيها، ونجمها المضي ء وشمسها المشعة، وإذا كان منهجه التواضع وملبسه الاقتصاد وطعامه الجشب، وطريقته الزهاده، يتفجر العلم بين يديه وتحنو شأبيب البلاغة حواليه.

إذاً ماذا تقول في علي؟ وقد قال الكتّاب في المتنبي: إنه مالئ الدنيا وشاغل الناس، وهل المتنبي إلا نقطة من ذلك البحر الخضم أو حصاة من ذلك الجبل الأشم؟

فيا سيدي عذراً عذراً إذا جفّ القلم، وحوصر الكلم وحَبا البيان وتلعثم اللسان، فعذرنا فيك أنك من لا يُنال

ص: 113

كعب قداسته، ولا يلحق غبار سياسته، يكل فرسي عن الجري فيك، ولساني عن القول بقوافيك، غير أني لا أعدم القارئ ولا أحرمه لمحةً من بهاك ولفتةً من سناك.

هذه من علاه إحدى المعالي وعلى هذه فقس ما سواها البداية:

أحداث الفتوحات مرتبط بعضها بالآخر، كلما اكتشفتَ فتحاً كلما هان عليك كشف الفتوحات الأخرى، حيث لا يمكنك أن تتحدث عن جانب دون التحدث عن جوانب أخرى. ومن هنا لا يمكننا الحديث عن فتح مكة دون الالتفات الى الأسباب والأحداث التي تهيأت وهيأت موسم الفتح، والأحداث التي كانت قبل الفتح بسنة أو سنتين. وقوة قريش وأوضاعها الاقتصادية، ومكانتها بين العرب. ومكة وأثرها أو البيت وأثره في قوة قريش.

والارستقراطية القرشية. وأهمية مكة ومستقبل الدعوة.

إنّ مكة لم تغب لحظة واحدة عن قلب رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم، وكم تمني لو أتيح له الظرف ليفتحها ويجعلها قاعدته الكبرى، ولكن أنى له ذلك وقريش آخذة بالعناد، ويزيدها شرّاً بل ولوغاً في الشرّ أن مكة بعيدة عن طرق المواصلات الدولية. والآخرون من الدول العظمى لا يهمهم ما يحدث ما دام لا تضر بمصالحهم.

ويرى الامتيازيون وبحسب التعبير القرآني المترفون في قريش: أن هذه البلدة واجتهم وتجارتهم ومزرعتهم، وليس منصالحهم أن يتنازلوا عنها لمحمد أو غيره من المصلحين. فمن مصالحهم الدفاع عنها وعن أمجادها ومحاربة أي دعوة تحاول أو تفكر في السيطرة عليها.

والنبيُّصلى الله عليه و آله و سلم لا يريد لقريش أن تنكسر، ولا يريد لمكّة أن تندثر، وإنما يريد مكّةَ ليعيد لها اشراقتها، ويريد لقريش أن تدخل في الإسلام وتعبد ربها؛ لتظهر عزتها بين العرب، ويريد للإنسانية أن تتجه اتجاهاً خالصاً نحو اللَّه.

من هنا كان يقتنص الفرص ليلعب هذا الدور. وصبر ما بوسعه من الصبر، وتجرع المرارة عقيب المرارة حتى تفتح مكة دون حرب، وانتظر اليوم المناسب يوم تقوى دولته، وتضعف شوكة قريش لتنهزم أمامه دون قتال، وتنتهي معركة الإسلام ضد أعدائه، ويدخل الناس في دين اللَّه أفواجاً.

وظلّ رسولُ اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم مستمراً في دعوته، جاداً بمتابعة قضيته، عاملًا غير عاطل، والإسلام يزداد رسوخاً والدين انتشاراً، وتشتد قوة المسلمين، ويبدأ النبيّصلى الله عليه و آله و سلم ببعث الرسائل الى ملك الفرس (كسرى) وملك الروم (قيصر) يدعوهما فيها الى الإسلام- أسلم تسلم- وتواصلت الغزوات المباركة والسرايا التي يقودها رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم بنفسه حتى خضعت لسلطانه واحاتُ الحجاز وصحاريه، والقبائل العربية التي أخذت تترى اليه لتعلن إسلامها بين يديه إلا قريش التي لم ترجع عن عنادها وجبروتها، ولكن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم كان يأمل أن يأتي اليوم الذي تنضم فيه قريش الىصفوف المسلمين وأن الزمن كفيل بمساعدته.

وبدأت رحى الأيام تدور دورتها، وبدأ محمد يملك العقول والقلوب وإذا بالعرب الأعداء قد تركوا عداءهم له

ص: 114

وتحولوا الىصفوف المسلمين، وإذا بهم من أكثر المدافعين عن سلطان الإسلام. وتسقط خيبر ويقوى ركن الإسلام ويخاف القرشيون ولكنهم ظلوا على عنادهم.

فتح مكّة:

إن الدخول الجماعي في الإسلام الذي شهدته قبائل العرب المتاخمة لبلاد الشام بعد غزوة مؤتة لم يهز قريشاً وحلفاءها، ولم تفكر قريش بما قد تصير إليه الأحوال في قاصِ الجزيرة وأدناها، فظلت على وهمها بأن المسلمين قد هزموا في موقعة مؤتة هزيمةً نكراء، وأنهم باتوا في حالةٍ يرثى لها، أقلها الضعف والهوان وهذا ما أعادها الى مراجعة حساباتها وردّها إلى التفكير بحرب محمدصلى الله عليه و آله و سلم، ونبذ مواقفها السابقة معه، وهي المواقف التي أجبرت فيها بعد الحديبية على التخلي عن السيطرة التي كانت لها. وقد أفقدتها تلك المواقف الهيبة التي كانت تتصف بها، وخسرت مكانتها الأولى بعد عمرة القضاء فما عليها إذن والحالة تلك إلا العمل لاستعادة تلك السيطرة كاملة، واسترداد الهيبة والمكانة اللتين كانتا لها غير منقوصتين، وهذا لن يكون إلا بمقاومة محمدصلى الله عليه و آله و سلم مقاومةً ضاريةً، والشروع في قتال من دخلوا معه بحكم عهد الحديبية (1).

صلح الحديبيّة:

كانصلح الحديبية بين رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم وقريش قد قضى أنّه مَن أحبَّ أن يدخلَ في عهد محمد وعقده فليدخل فيه، ومَن أَحب أن يدخل في عهد قريش وعقدهم فليدخل فيه. وكانت خزاعة قد دخلت في عهد محمدصلى الله عليه و آله و سلم، ودخلت بنو بكر في عهد قريش، وكانت بين خزاعة وبني بكر ثاراتٌ قديمةٌ سكنت بعدصلح الحديبية، وانحاز كلٌّ من القبيلتين الى فريق المتصالحين، فلما كانت مؤتة- وصل لقريش أن المسلمين قُضي عليهم- خُيّل الى بني


1- 1 مجمع البيان الحديث، 2: 611.

ص: 115

الدِّيل من بني بكر بن عبد مناة أن الفرصة سنحت لهم، ليصيبوا من خزاعةبثاراتهم القديمة، وحرّضهم على ذلك جماعة من سادات قريش منهم عكرمة بن أبي جهل، وأمدوهم بالسلاح.

وقوع الحرب:

وبينما خزاعة ذات ليلة على ماء لهم يدعى الوتير إذ فاجأتهم بنو بكر فقتلوا منهم جماعة، ففرت خزاعة الى مكّة ولجأوا الى دار بُدَيْل بن ورقاء الخزاعي، وشكوا له نقض قريش، ونقض بني بكر عهدهم مع رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم، وسارع عمرو بن سالم الخزاعي فغدا متوجهاً إلى المدينة حتى وقف بين يدي محمدصلى الله عليه و آله و سلم وهو جالس في المسجد فقال:

لا هُمَّ إنّي ناشدٌ محمدا حلفَ أبينا وأبيك الاتلدا

إن قريشاً أخلفوك الموعدا ونقضوا ميثاقك المؤكّدا

هم بيتونا بالعراء هجّدا فقتلونا ركعاً وسُجّدا فقال له النبيّصلى الله عليه و آله و سلم: نُصرت يا عمرو بن سالم!

ثم خرج بُديل بن ورقاء في نفر من خزاعة حتى قدموا المدينة فأخبروا النبيّصلى الله عليه و آله و سلم بما أصابهم، وبمظاهرة قريش بني بكر عليهم، عند ذلك رأى النبيّصلى الله عليه و آله و سلم أن ما قامت به قريش من نقض عهده لا مقابل له إلا فتح مكّة.

وعاد وفد خزاعة فرحاً بما حظي من التأييد، وظهرت مخاوف قريش، واجتمع حكماؤها وقرروا بعث أبي سفيان لتجديد العهد، وتمديده الى عشر سنوات.

أبو سفيان في المدينة:

تأهب أبو سفيان، وسار من وقته وساعته حتى وصل المدينة على وجل خصوصاً بعدما رأى بُديلًا ورفاقه على بعض المياه، وجعل وجهته ابنته أمَّ حبيبة زوجة النبيّصلى الله عليه و آله و سلم التي تزوجها النبيُّ بعدما تركها زوجُها وتنصر في أرض الحبشة فخطبها إلى النجاشي. وعادت بعد فتح خيبر مع جعفر بن أبي طالب عليه السلام وجماعته الذين كانوا مهاجرين إلى الحبشة.

وأمُّ حبيبة كانت قد عرفت ما حدث، وعرفت ما نوى عليه النبيُّصلى الله عليه و آله و سلم، فلم تهتم بأبيها المشرك. ولما أراد أن يجلس على فراش النبيّصلى الله عليه و آله و سلم طوته عنه فسألها أبوها: أطوته رغبةً بأبيها عن الفراش أم رغبةً بالفراش عن أبيها؟

فكان جوابها: هذا فراش رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم، وأنت رجل مشرك نجس، فلم أحبّ أن تجلس عليه. وفوجئ أبو سفيان بما لم يكن يتوقعه من ابنته التي وجهت إليهصفعةً جعلته ذليلًا مهيناً فقال لها: لقد أصابك بعدي شرٌّ، قالت:

بل هداني اللَّه تعالى للإسلام، وأنت تعبد حجراً لا يسمع ولا يبصر، وا عجباً منك وأنت سيد قريش وكبيرها! قال:

أأترك ما يعبد آبائي وأتبع دين محمد؟

وخرج أبو سفيان بعد هذه الصفعة مكلوم الفؤاد مضعضع الفكر، مهزوز الجانب مهيض الجناح، لا يدري ماذا

ص: 116

يفعل، أيرجع قبل أن يحقق شيئاً، أو يستمر في محاولة يائسة. فذهب إلى المسجد لعلّه يرى محمداًصلى الله عليه و آله و سلم ودخل على الفور يكلمه في توثيق المعاهدة وزيادة المدة، إلا أن الرسولصلى الله عليه و آله و سلم لم يرد عليه بشي ء، وألح أبو سفيان والنبيصلى الله عليه و آله و سلم لا يجيب، وأصابته الحمى من هذه الصفعة الثانية فخرج على بعض مَن كان يعرف من الصحابة، فلم ير من يساعده على مهمته، أو يتكلم مع النبيّصلى الله عليه و آله و سلم حوله.

دور عليّ عليه السلام:

الدور الأول:

وكان لابدّ لأبي سفيان- الذي يعرف مواقع القوة- من أن يلجأ الى بيت عليّ حيث دخل على أمير المؤمنين عليه السلام فوجده مع زوجته وعندهما ولداهما الحسن والحسين عليهم السلام.

فقال: يا علي! أنت أمسُّ القوم بي رحماً، قد جئتُ في حاجة؛ فلا أرجعنّ كما جئتُ خائباً، اشفع لنا عند محمدصلى الله عليه و آله و سلم.

فقال علي عليه السلام: ويحك يا أبا سفيان! واللَّه، لقد عزم رسولُ اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم على أمر فلا نستطيع أن نكلّمه فيه.

وأدرك أبو سفيان حراجة الموقف فالتفت الى فاطمة عليها السلام قائلًا: وأنت يا بنت محمد! هل لكِ أن تأمري ابنك هذا- يعني الحسن- فيجير بين الناس، فيكون سيد العرب الى آخر الدهر؟

قالت فاطمة عليها السلام: واللَّه، ما بلغ ابني هذا أن يجير بين الناس، وما يجير أحد على رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم.

قال: يا أبا الحسن! إني أرى الأمور قد اشتدّت عليّ فانصحني.

فقال: واللَّه، ما أعلم شيئاً يُغني عنك، ولكنك سيد بني كنانة، فقم فأجر بين الناس، ثم الحق بأرضك.

قال: أو ترى مغنياً عني شيئاً؟!

قال أبو الحسن: لا واللَّه، ما أظنّ؛ لكني لا أرى غير ذلك.

وقام أبو سفيان فأتى المسجد، قائلًا: أيها الناس! إني قد أجرتُ بين الناس، ولم يلبث أن خرج بركب بعيره، وينطلق عائداً الى مكة، خالي الوفاض، يجرّ أذيال الخيبة والهزيمة، إذ لم يستطع أن يحقق شيئاً مما جاء اليه.

وقدم أبو سفيان على قومه، فسألوه ما وراءك يا أبا سفيان؟

قال: جئت محمداً فكلمته، فو اللَّه، ما ردَّ علي شيئاً، ثم جئت بعض أصحابه فوجدتهم أعدى الناس إليّ، ثم جئت عليّ بن أبي طالب فوجتُه ألينَ القوم، وقد أشار عليّ بشي ءٍصنعته، فو اللَّه، ما أدري هل يغنيني شيئاً أم لا؟

قالوا: وبما أمرك؟

قال: أمرني أن أُجير بين الناس ففعلت.

قالوا: فهل أجاز محمدٌ ذلك؟

قال: لا.

قالوا: ما زاد الرجل على أن لعب بك، فما يغني عنا ما قلت (1).

أرأيت إلى علي الشاب النابغة الذي يزن الرجال بميزان، ويعرف كيف يضرب ضربته الذكية؟ فهو كمن يطعن


1- 1 خاتم النبيين، 2: 620- الطبري، 2: 163.

ص: 117

خصمه في المعركة فيرديه بكلامه وموقفه ودرايته، ويجعل الخصم المجرب قائد القوم وكبيرهم ولداً وطفلًا لا يدري ماذا يفعل. أرأيت علياً كيف طعن خصمه السياسي دون أن يخرج السيف من غمده؟ أرأيت إلى العقل الموجه، كيف يفعل فعلته فيشوش على خصومه ما يجعلهم حيرى لا يدرون ما يفعلون؟

هكذا تعامل علي العبقري الشاب مع شيخ قريش وسيد كنانة، وأرجعه طفلًا. وهكذا فهم أبو سفيان، وفهم معه قومه أن علياً لعب بأبي سفيان، وضربه ضربةً موجعة بعد الضربتين اللتين تلقاهما من ابنته أمّ حبيبة ومن الرسولصلى الله عليه و آله و سلم هذا هو الدور الأول الذي لعبه علي لتسفيه أبي سفيان واذلاله وجعله كالطفل الصغير.

الدور الثاني:

بدأ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم يخطط لغزو مكة وفتحها، فأمر بشحذ السلاح وجمعه، وبعث إلى القبائل المحيطة بالمدينة أن يتأهبوا ويأتوا إلى المدينة، فكانت الوفود تأتي ولكنها لا تعرف وجهة المسير، ووضع الحرس والعيون على المدينة يراقبون كل خارج منها وداخل إليها، ويفتشون من يمرّ ليلًا ونهاراً. وبينما هو يتهيأ للمسير نحو مكة تسرّب الخبر الى أحد أصحابه وهو حاطب بن بلتعة الذي رأى أن رسول اللَّه إذا ذهب بهذا الجيش الجرّار الى مكة ربما تكون نهاية قريش وعزّ عليه ذلك، وكان له فيها أرحام وأقارب، وقد تكون العاقبة لقريش فيكون له عندها يد. هكذا أصحاب النفوس الضعيفة يفكرون في علاقات ذاتية حتى في أحرج الأوقات، ويتخذ لنفسه حصناً يأوي إليه عند تقلبات الأحوال، وهكذا يقوم حاطب بن بلتعة بعملية خيانية لا عهد للمسلمين بها، وهي ايصال أخبار عسكرية سرية الى الأعداء.

وفكّر حاطب في ايصال الخبر كثيراً؛ لأنّه خاف من تفشي الأسرار، وافتضاح أمره، فعمد الى امرأة قينة مغنية أغراها بالمال، وكان هواها في قريش، ولم تكن أسلمت بعدُ، واتفقا على كيفية وضع الكتاب في ضفائرها لقاء أجر باهض ونسي حاطب أن اللَّه مطلعٌ على كلّ شي ء، وأن الوحي يوصل الأخبار السرية بأقل من لمح البصر. وكان الكتاب يحتوي على أسرار عسكريّة بالغة الخطورة عن أهمية الجيش، وعدد الفرسان والرجالة، وكثرة السلاح والخيل والبغال والجمال. وخوفاً من التفتيش العسكري وضعت الكتاب مطوياً في ضفائرها، بحيث لا يمكن لأحد حتى- لو فتشها- أن يهتدي إلى الكتاب، ثم خرجت تسلك طريقاً بعيداً عن عيون الحراس، توهمهم بالحشمة والحياء، وتتستر بهذه المظاهر، لتخفي جاسوسيتها على الدين وعلى الرسول.

وما إن غادرت المدينة حتى نزل الوحي المبارك يخبر النبيصلى الله عليه و آله و سلم بالكتاب، وأين موضعه، وما فعل حاطب، فدهش النبيّصلى الله عليه و آله و سلم لهذه المفاجأة، وهذه الخيانة من أحد أصحاب بدر، فدعا علياً على الفور، قائلًا له: إن أحدَ أصحابي كتب إلى أهل مكّة يطلعهم على أخبارنا، وقد كنت سألتُ اللَّه عزّ وجلّ أن يعمي أخبارنا عنهم، وقد حملت الكتاب امرأة سوداء فهيا أدركها وانتزع منها الكتاب. ثم استدعى الزبير وقال له: اذهب مع ابن عمتك وأعنه على تخفيف مأربه، وخرج علي ومعه الزبير فأدركاها في (الخُليقة)، وتقدم منها الزبير فسألها عن الكتاب فأنكرت عليه

ص: 118

التعرض لها من جانب، والسؤال عما لا يعنيه من جانب آخر، كما أنكرت عليه هذه التهمة الشنيعة، مما جعل الزبير يتردّد أولًا، ثم يعود الى عليّ يُقنعه بأنه ليس عندها شي ء، بعدما بكت المرأة لهذا التعرض والإهانة، وبدأت دموع التماسيح على خديها، وأوشك قلب الزبير أن يرقّ لها فارتد نحو عليّ يقول: لَم أرَ معها كتاباً يا أبا الحسن، ولم يلتفت الزبير الى لازم قوله هذا، الذي يعني تكذيب الوحي، وتكذيب الرسولصلى الله عليه و آله و سلم وما كاد عليّ يسمع هذا القول من الزبير حتى غضب وصاح: ويحك يا زبير! يخبرني رسولُ اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم بأنها تحمل كتاباً، ويأمرني بأخذه منها، ونأتي لذلك ثم تقول أنت: إنه لا يوجد معها كتاب!

وتظهر قدرة علي عليه السلام وفراسته، وتصديقه المطلق الذي لا شك فيه، ويظهر ضعف الزبير وأنه غيرصالح للقيام بهذا الدور إلا برفقة علي عليه السلام. ولم يلبث عليّ عليه السلام أن اخترط السيف، وتقدم من المرأة قائلًا وعيناه تقدحان شرراً قائلًا لها:

أَما واللَّه، لتخرجن الكتاب، أو لنكشفنك، ثم لاضربن عنقك بسيفي هذا، وحاولت المرأة أن تراوغ كما راوغت مع الزبير، ولكنها رأت عناداً واصراراً، مما جعلها تتأكد بأن الرجل متأكد من وجود الكتاب الذي تحمله، وأنها إن لم ترضخ للطلب سوف تنال عقابها المناسب، وقد يكون هو الموت، وإزاء هذا التخوف على حياتها قالت له: أعرض بوجهك عني، وأشاح علي بوجهه عن المرأة الماكرة فاذا بها تحل ضفائرها، وتخرج منها الكتاب، ثم تدفعه الى عليّ، فيأخذه عليٌّ عليه السلام دون أن يقول لها شيئاً، ثم يأتي الزبير معه الى رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم يسلمانه الكتاب (1).

أرأيت معي- أيها القارئ- موقف الزبير الذي يعني أنه لو اقتنع بكلام المرأة لكذب رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم الذي لا ينطق عن الهوى، ولكان يعني أن تفشى الأسرار العسكرية الى الأعداء فيعرفون خطط الهجوم فيفشل.

ولكن اليقين الثابت فيصدر علي بصدق رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم هو الذي جعله يقف موقفاً مميزاً وحاداً، وأنه غير مستعد لسماع كلامها، وقبول أي موقف آخر منها؛ لأنه على يقين بأن الكتاب معها. أخبره بذلك من لا ينطق إلا عن وحي يوحي به إله السماء والأرض، والمطلع على خفايا الأمور وظواهرها.

وعليّ هو الحريص كلّ الحرص أن يبقى للجيش الفاتح هيبته حينما يباغت الآخرين، ويغزوهم في عقر دارهم لتنهى معركة الفتح دون إراقة دماء. وهيهات هيهات أنى لنا بمثل عليّ وهو النسخة الفريدة والشخصية الوحيدة في عالم اليقين والصدق والاخلاص.

الدور الثالث:

بعدما عثر الإمام علي عليه السلام على الكتاب مع المرأة التي لا تعرف من مضمونه شيئاً، أعمى الأمر على قريش، فلم تعرف شيئاً عن استعداد الرسولصلى الله عليه و آله و سلم لفتح مكة، وكان النبيصلى الله عليه و آله و سلم قد دعا ربّه أن يعمي أخبار جيشه عن قريش حتى يباغتها كي لا تقع معركة طاحنة في مكة. فالنبيصلى الله عليه و آله و سلم يريد الحفاظ على شرف الحرم، وإن كان أهله يستحقون الذبح، لمعاداتهم الشديدة لرسول الهداية، ولكنه محمدٌ رسولُ الإنسانية، المحافظ على القيم. فقد هيأ النبيّصلى الله عليه و آله و سلم كلّ مقدمات المعركة، وأمر الجيوش بالزحف الهادئ، واستمر حتى وصل الى مر الظهران- وقيل إنه بالجحفة- وهناك أمر الجيش بالنزول، وكان الوقت عشياً فطلب من الناس أن يوقدوا النار، كلّ واحد يشعل ناراً، وكان


1- 1 خاتم النبيين، 2: 627- البحار، 21: 94 وكل من ذكرها من المؤرخين.

ص: 119

الغرض من هذا اظهار عظمة الجيش، وقوة العسكر بهذه النار التي ترى من بعيد، حتى تأخذهم الدهشة ولا يفكرون إلا بحماية أنفسهم إما بالإسلام أو بالهروب من المواجهة، ويكون بهذا قد حقّق الفتح الهادئ الذي يحافظ فيه على شرف الكعبة.

وهناك التحق به عمّه العباس، الذي كان بقاؤه بمكة بأمر النبيّ حيث كان يقدم المعلومات عن قريش، ومظاهرها العسكرية وقوتها الاقتصادية، وما كانت تكيد وتدبر لحرب الرسولصلى الله عليه و آله و سلم.

ولما رأى العباس عظمة هذا الجيش الفاتح وقوته تأكّد لديه أن الجيش إذا دخل بهذه القوة والعنجهية ستذهب قريش والى الأبد. فكان يحاول أن يساعد النبيصلى الله عليه و آله و سلم على الفتح الهادئ حتى لا تراق في هذا الفتح محجمة دم.

وبينما هو غارق في التفكير لاح بخاطره أن يجول على أطراف المعسكر، لعلّه يرى آتياً أو ذاهباً، يمكنه أن يوصل خبراً لقيادة قريش حتى تأتي وتستأمن لدمها وأموالها، فتحفظ قريش ويحفظ الحرم.

وبينا هو كذلك إذا بأبي سفيان ومعه نفر جاءوا يستمعون الأخبار، وقد أذهلهم ما رأوا من نيران حتى أن بعضهم قال: هذه نار خزاعة، قال أبو سفيان: خزاعة أقل وأذل. وينادي العباس أبا حنظلة! فيجيبه أبو سفيان فداك أبي وأمي بعدما عرفه، وهو مندهش من هول ما رأى عدةً وعدداً، ثم خاطبه ما ترى في أمرنا؟ قال: الإسلام- التحق بي حتى لا يقتلك الناس، وأردفه خلفه مؤمناً له مانعاً قتله حتى وصل إلى الرسول الأكرمصلى الله عليه و آله و سلم، وعرض عليه الاسلام، ولكنه كانصلب الشكيمة، شديد السخيمة يعزّ عليه فقدان اللّات والعزى والهبل الأعلى، وقد حاول عمر بن الخطاب قتله عن طريق إثارة النبيّصلى الله عليه و آله و سلم، وأن اللَّه قد أمكن منه بلا عهد ولا عقد، ولكن العباس الحريص على الإسلام رأى الحكمة في بقائه، ليرى عزّة الإسلام، وشرف النبي المطرود، وذلة قريش وصغار أبي سفيان، وطلب من أبي سفيان أن يسلم فتمهل، ولكن النبيّصلى الله عليه و آله و سلم قال لعمّه العباس: أبقه عندك الليلةَ، وآتني بهصباحاً.

وفي الصباح أسلم بعد محاورة قصيرة، وقال العباس للنبي: إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئاً، فقال النبيصلى الله عليه و آله و سلم في معرض توصياته لرؤساء الجند وقادة الكتائب: مَن ألقى سلاحه فهو آمن، ومَن دخل بيتَه وأغلق بابه فهو آمن، ومَن دخل الكعبة فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن. وكان الغرض من ذلك أن يذهب أبو سفيان، ويخذل الناس عن الحرب ويجلس في بيته، لأنه رجل له قوة تحريضية هائلة على اثارة البلابل، فاسكته النبيّ بهذه المكانة المتساوية مع رجل أغلق بابه، ولا شي ء غير ذلك.

وفرح أبو سفيان بهذه الرتبة الجديدة والشرف، وذهب مسرعاً إلى مكة يطلب إلى الناس أن يدخلوا داره، وهو لا يعنيه من الشعارات إلا أمان داره، وهو قادر على تجير الجو لصالحه، فصار يدعو الى داره فقط ليوهم الناس أنه وحده قد حظي بهذا الشرف، وهذا ما جعل الآخرين إما يلتزمون بيوتهم، أو يهربون إلى الجبال المحيطة بمكة.

ويزحف الجيش الإسلامي المقدام، ويدخل مكّة من طرق أربعة يطوقها من كلّ مكان حتى لا يفكر أحد في إراقة دم في بيت اللَّه الحرام، وفي البلد الحرام.

وذكروا أن النبيّصلى الله عليه و آله و سلم كان داخلًا وقلبه خاشع للَّه على هذا التوفيق، ولسانه يردّد «إذا جاء نصر اللَّه والفتح

ص: 120

ورأيت الناس يدخلون في دين اللَّه أفواجاً فسبح بحمد ربك واستغفره انه كان تواباً».

ومضت فرق الجيش تدخل مكة دون أدنى مقاومة، وقد أخذت الحميةُ سعد بن عبادة الأنصاري وهو يمرّ أمام أبي سفيان بن حرب فقال له: اليوم يوم الملحمة، اليوم تسبى أو تستحل الحرمة. وتردّد قولُه بين المسلمين فنقلوه إلى النبيصلى الله عليه و آله و سلم وقالوا: يا رسولَ اللَّه! ما نأمن أن يكون لسعد في قريشصولة. وقيل: إن العباس سمع ذلك فقال للنبيّصلى الله عليه و آله و سلم: يا رسول اللَّه! أما تسمع ما يقول سعد؟ فقال النبيصلى الله عليه و آله و سلم لأمير المؤمنين عليه السلام: يا علي! أدرك سعداً، فخذ الراية منه، وكن أنت الذي تدخل بها مكة. فأدركه أمير المؤمنين عليه السلام فأخذها منه، ولم يمتنع عليه سعد بل دفعها إليه.

ولم ير رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم أحداً من المهاجرين والأنصار يصلح لأخذ الراية من سيد الأنصار سوى أمير المؤمنين علي عليه السلام.

قال الشيخ المفيد رضى الله عنه: واعلم أنه لو رام ذلك غيره، لامتنع عليه سعد، وكان في امتناعه فسادُ التدبير، واختلاف الكلمة بين الأنصار والمهاجرين، ولم يكن وجه الرأي تولي رسول اللَّه أخذ الراية بنفسه، وولى ذلك من يقوم مقامه، ولا يتميز عنه، ولا يُعظم أحدٌ من المقرين بالملة عن الطاعة له، ولا يراه دونه في الرتبة، وفي هذا من المفضل الذي تخصص به أمير المؤمنين عليه السلام ما لم يشاركه فيه أحد، ولا ساواه في نظير له مساو، وكان علم اللَّه تعالى ورسوله في تمام المصلحة بانفاذ أمير المؤمنين عليه السلام دون غيره ما كشف به عن اصطفائه لجسيم الأمور كما كان علم اللَّه تعالى فيمن اختاره للنبوة وكمال المصلحة ببعثه كاشفاً عن كونهم أفضل الخلق أجمعين (1).

وهذا الدور لا يحتاج الى تعليق، لأن وضوح أخذ الراية من سعد لا يتم الّا برسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم حيث لا يتنازل سعد زعيم الأنصار إلّاللنبيّصلى الله عليه و آله و سلم، ولما كان سعد يعرف أن علياً هو الرجل الثاني في الإسلام، وأنه سيصبح الرجل الأول سلم الأمر إليه بلا تنازع.

الدور الرابع:

التفاف الجيش الإسلامي على أطراف مكة المكرمة، مكّن النبيصلى الله عليه و آله و سلم من السيطرة العامة على المدينة، حيث لم تحدث أية مشكلة تذكر، وطبقت أوامر النبيّ بعدم سفك الدماء في البلد الحرام.

وأسلم على أثر الفتح سادةُ مكة، منهم حكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء، وجبير بن مطعم، وأقبل أبو سفيان يركض فاستقبلته قريش، وقالوا: ما وراءك وما هذا الغبار؟ قال: محمد في خلق عظيم، ثمصاح وهو مذعور: يا آل غالب! البيوت البيوت! مَن دخل داري فهو آمن، فعرفت هند زوجته فجعلت تطردهم، ثم قالت: اقتلوا الشيخ الخبيث لعنه اللَّه من وافد قوم، وطليعة قوم. قال لها: ويلك إني رأيتُ ذات القرون، ورأيت فارس أبناء الكرام، ورأيت ملوك كندة وفتيان حمير يسلمن آخر النهار، ويلك اسكتي، فقد واللَّه جاء الحقّ ودنت البلية.

وكان رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم قد عهد إلى المسلمين أن لا يقتلوا بمكة إلا من قاتلهم سوى نفر كانوا يؤذون النبيّصلى الله عليه و آله و سلم منهم مقيس بنصبابة، وعبد اللَّه بن أبي سرح، وعبد اللَّه بن خطل، وقينتين كانتا تغنيان بهجاء رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم، وقال: اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة. فأدرك ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة فاستبق


1- 1 الارشاد للشيخ المفيد: 71.

ص: 121

إليه سعيد بن حريث، وعمار بن ياسر، فسبق سعيد عماراً فقتله وقتل مقيس بنصبابة في السوق، وقتل علي عليه السلام إحدى القينتين وأفلتت الأخرى، وقتل أيضاً الحويرت بن نفيل بن كعب.

وبلغ علياً عليه السلام أن أُخته امَّ هاني بنت أبي طالب قد أوت ناساً من بني مخزوم، منهم الحارث بن هاشم، وقيس بن السائب، فقصد نحو دارها مقنعاً بالحديد فنادى: أخرجوا من آويتم، فجعلوا يذرقون كما تذرق الحبارى خوفاً منه، فخرجت إليه أمُّ هاني وهي لا تعرفه فقالت: يا عبد اللَّه أنا أمُّ هاني بنت عمّ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم وأخت عليّ بن أبي طالب، انصرف عن داري، فقال: أخرجوهم. فقالت: اللَّه! لأشكونّك الى رسول اللَّه. فنزع المغفر عن رأسه فعرفته فجاءت تشتد حتى التزمته فقالت: فديتك، حلفت لاشكونك الى رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم، فقال لها: اذهبي فبرى قسمك فإنه بأعلى الوادي. قالت أمّ هاني: فجئت إلى النبيصلى الله عليه و آله و سلم وهو في قبة يغتسل وفاطمة عليها السلام تستره، فلما سمع رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم كلامي، قال: مرحباً بك يا أمّ هاني، قلت: بأبي وأمي ما لقيت من علي اليوم، فقالصلى الله عليه و آله و سلم وقد فهم ما تريد: قد أجرتُ من أجرتِ، فقالت فاطمة عليها السلام تشكين علياً عليه السلام، لأنه أخاف أعداء اللَّه، واعداء رسوله، فقلت:

احتمليني فديتك، فقال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم: قد شكر اللَّه سعيه وأجرتُ من أجارت أم هاني لمكانتها من علي بن أبي طالب (1).

هل قرأت معي كيف نفذ الأوامر، وقتل الأعداء، ولاحقهم ولم يتراجع، ولم يراعِ بذلك بيوت أهله وأقاربه، ولا بيت أخته الوحيدة، التي لم يرها منذ زمن؟ ولكنه عليّ المعروف بفنائه بالحقّ، ومعاداته لأهل الباطل، وهو القائل: ما ترك لي الحقّصاحباً. فبينا ترى بعض الصحابة يخاف على أهله لتصور شيطاني، أو يخاف على مستقبل وضعه لظنه أو احتماله غلبة قريش، فإذا به يفشى الأسرار العسكرية، أو يتراجع حين البأس ويفرّ من المعركة، أما علي هو هو في المسجد والمحراب وفي المعركة والمواقف مع الأهل والأخت والبنت والأولاد على حدّ سواء، لا يقدم على الحقّ أحداً.

الدور الخامس:

بعدما لوت مكة جيدها، وأذعنت لبيرق النبوة، وتحولت الى سلطة الرسولصلى الله عليه و آله و سلم، ودخل الناس في دين اللَّه أفواجاً حيث خرجت الرجال من مخابئها، وأسلمت وخرجت النساء من خدورهن واسلمن، وانضوى الناس في ظل الرسالة الإسلامية، وعادت مكة الى دورتها الأولى يوم خلق اللَّه السماوات والأرض، وعاد البلد الحرام حيث يحرم فيها سفك الدماء، وأصبحت واحة الأمان والراحة والاطمئنان، دخل النبيصلى الله عليه و آله و سلم فاتحاً لا كما يدخل الفاتحون عنوةً بل كما يدخل الرسل المتواضعون ذاكراً ربّه، ناظراً الى قربوس فرسه، لم يدخل مستعلياً ولا مستكبراً وإنما دخل ذاكراً شاكراً مسبحاً مستغفراً.

وبما أن مكةَ المكرمة كانت مجمع عبادة العرب، ومركز التجمع الصنمي أيضاً، وكان الغرض الأساس من الحرب الفكرية والنفسية والمادية إزالة دولة الصنمية، وتأسيس دولة الإله الواحد الحقّ مكانها، كان لابد من تركيز


1- 1 البحار، 21: 132 طبعة بيروت.

ص: 122

الألوهية في أذهان الناس، وتحطيم المظاهر الصنمية وقلعها من الأذهان، وتحطيم كل المظاهر الصنمية الموجودة في الكعبة وفي جوارها. قال الإمام الرضا عليه السلام- كما في البحار- وكانت ثلاثمائة وستينصنماً حول الكعبة عندما فتح النبيّصلى الله عليه و آله و سلم مكة فمر بها وجعل يطعنها بمخصرة في يده ويقول: جاء الحقُّ وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً، فجعلت تكب لوجهها (1). وفي رواية ابن شهر آشوب: إن الإمام علياً عليه السلامصعد على أكتاف النبي وكسر الأصنام الموجودة على ظهر الكعبة.

واذكر بعض الأبيات التي أرويها من حافظتي، وكنت قد حفظتها قبل أكثر من ثلاثين عاماً، والمصدر الآن غير موجود في مكتبتي التي أحرقها الظالمون.

وهذه هي الأبيات:

قيلَ لي قلْ في علي مِدَحاً ذكرها يطفئ ناراً مؤصدهْ

قلت هل أمدح مَن في فضله حار ذو اللب الى أن عبدهْ

والنبيّ المصطفى قال لنا ليلة المعراج لماصعَّدهْ

وضع اللَّه على ظهري يداً فأحس القلب أن قد بَرَدَهْ كان هدف الإسلام محو الصنمية من الوجود الخارجي، بل الوجود الذهني أيضاً، والعقيدة الصنمية حالة مستعصية، مركوزة في الذهن والوجدان، وبعضهم رضع عقيدة الصنم وعبادة الصنم مع الحليب فأنّى له أن يترك هذه العبادة ولو كانت خرافة فوقها خرافة؟ والذي عشق الخرافة ورضع الخرافة، لا يراها خرافةً وإنما يراهاصحيحة، وهذا هو الجهل المركب. ومشكلة الرسالة كانت مع هذا الجهل المركب، مع التعقيد النفسي والذهني. فهل كان الرسول بإمكانه غرس العقيدة الإلهية دون إزالة العقيدة الصنمية من الأذهان؟ وهل يمكن محوها من الذهن قبل محوها من الواقع؟ ومَن الذي يساعده على هذه المهمة الصعبة إلّارجل الصعاب، رجل المواقف، إلا عليّ الذيصعد على كتف النبيّ، وحمل فأس النبوة بيده القوية وزنده المتين، حتى كسرها تكسيراً؟ وبذلك تمّ الانتصار الحقيقي للإسلام بازالة كل آثار الصنمية ومحوها من الوجود.

الدور السادس:

سدانة البيت العتيق في الجاهلية والإسلام مكانة مرموقة، وكان أولاد أبي طلحة قد ثبتوا هذا الشرف، ولا ينافسهم فيه غيرهم من قريش وظلوا على ذلك زماناً، وكان رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم قد قال لعثمان بن أبي طلحة- يوماً من الأيام-: ربما يأتي زمان يكون هذا المفتاح في يدي أضعه حيث أشاء، فهزع عثمان بهذا الكلام.

ومن الطبيعي بعد سقوط مكّة وفتحها بهذا الجيش الجرّار، أن يركز فيها المواقع الأساسية كالسدانة والسقاية والولاية وما إليها، وأحسّ عثمان بأن أيامهم انتهت فأغلق الباب، وصعد بالمفتاح على السطح، وكأنه أراد أن يختبئ وينجو بهذا العلو فوق سطح الكعبة قائلًا: لو أعلم أنه رسولُ اللَّه لم أمنعه- يعني بقي على عناده بعد أن دخل الناس في دين اللَّه أفواجاً- وعندها أمر النبيّصلى الله عليه و آله و سلم عليّاً عليه السلام أن يصعد السطح، ويأخذ المفتاح منه، ولما وصل عليّ عليه السلام الى عثمان حاول التمنع، ولكن علياً أمسكه فحاول الانفلات، ولكن هيهات فقد أمسكه ذو قوة لو اجتمع جيش عرمرم


1- 1 البحار، 21: 116.

ص: 123

على ازالته منه لما أمكنه ذلك، ثم لوى يده وأخذ المفتاح منه، وفتح باب الكعبة ودخل الرسولصلى الله عليه و آله و سلم إلى الكعبة فصلى ركعتين، فلما خرج سأله عمّه العباس أن يعطيه المفتاح فنزل قوله تعالى: «إن اللَّه يأمركم أن تؤدوا الأمانات الى أهلها» فأمر النبيصلى الله عليه و آله و سلم علياً أن يرد المفتاح الى عثمان، فقال: يا علي! أكرهت وأديت ثم جئت برفق. قال لقد أنزل اللَّه عزّ وجلّ بشأنك قرآناً، وقرأ الآية عليه، فأسلم عثمان فأقرّه النبيصلى الله عليه و آله و سلم في يده (1).

كل دعوة تحتاج- مهما كانت محقة- الى قوة تساندها، قوة المال، وقوة الزند والسيف، وقد كان رسول الهداية محمدصلى الله عليه و آله و سلم يحتاج الى الاثنين معاً كغيره من أصحاب الدعوات الصالحة، وقد وفق اللَّه بمال خديجة فانفقته حتى لم يبق منه شي ءٌ، وبقي زند علي عليه السلام الذي رافق الدعوة حتى ثبّت أركانه.

وفروسية علي وقوته وشجاعته كانت لا تخفى على أحد، وكانوا يهابونهصغيراً وكبيراً، وإذا تصدى علي عليه السلام لموقف كانوا يعرفونه لا يرجع حتى يفتح اللَّه على يده.

من هنا لم يكن بإمكان عثمان بن طلحة ولا غيره أن يختبئ، أو يصعد على سطح الكعبة هروباً في وجود هذا الجيش، خصوصاً وجود الذراع التي تطوي الحديد. فهل بإمكانه مقاومة هذا الساعد الذي يحمل الفرس والفارس أو يضرب الفارس المقنع بالحديد فيقده نصفين؟

ظنَّ عثمان أنه بإمكانه أن يمتنع وهو بعد لم يعرف قدرة علي، وشدّة ساعده، كان يسمع في عليّ وقوته، والآن تحقق له عندما أمسك علي بيده ماذا حلّ به. كيف استلم دون مقاومة كأنه كان أمام أمرين إما أن يقع بدون حركة، أو يقدم المفتاح بدون ضجيج، فكان التسليم للصاعقة الإلهية ليسف علي وساعده؛ ليدخل النبي الكعبة وليعلن موقفه واضحاً دون قتال في هذا البيت العتيق.

الدور السابع: لا يكفي أن يفتح النبيّصلى الله عليه و آله و سلم مكة المكرمة ويترك ما حولها من جيوب، يترك المحيط بعيداً عنها عقائدياً وأخلاقياً، بل لابد من الدعوة الشاملة والخير العميم حتى تعود مكة بجوارها وقراها، لتعود أمّ القرى بأولادها وأحفادها كما أراد لها ربّ العزة، تمشي في الطريق السوي ليدخل الناس في دين اللَّه أفواجاً.

ومن هنا عندما هدأت العاصفة، واستتبَّ الأمن في البلد الحرام، وأمن من آمن، وقتل من قتل، وتحقق النصر الإلهي، ونصر اللَّه عبده وأعزّ جنده، وهزم الأحزاب وحده. بث السرايا إلى القرى المجاورة تدعو الناس للإسلام، وكانت القرى- التي سمعت بنصر اللَّه، وخذلان قريش- على شي ء من الاستعداد تنتظر هذه السرايا؛ لتعلن كلمة التوحيد وتنضوي تحت لواء الدين الجديد.

وكان ممن بعث خالد بن الوليد على رأس سرية الى بني جذيمة، وكانت بنو جذيمة قد أصابت في زمن الجاهلية عوف بن عوف أبا عبد الرحمن بن عوف والفاكه بن المغيرة، وكان من أقارب خالد، فلما وصل خالد إلى القبيلة حملوا السلاح في وجهه، فطلب اليهم القاء السلاح فلم يقبلوا لخوف من أخذ الثأر منهم، قال رجل منهم يقال له جحدم:


1- 1 البحار، 21: 116.

ص: 124

ويلكم يا بني جذيمة! إنه خالد واللَّه، ما بعد القاء السلاح إلا الأسر، وما بعد الأسر إلا القتل، فأخذه رجال من قومه، وقالوا يا جحدم تريد أن تسفك دماءنا؛ إن القوم قد أسلموا، ووضعت الحرب وأمن الناس وما زالوا به حتى نزعوا منه سلاحه، ووضع القوم السلاح امتثالًا لطلب خالد، فلما وضعوا السلاح أمر بهم فكتفوا، ثم عرضهم على السيف فقتل من قتل منهم، فلما انتهى الخبر الى رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم رفع يديه إلى السماء، ثم قال: اللهم اني أبرأ إليك مماصنع خالد (1).

ثم دعا علياً عليه السلام فقال: يا علي أخرج الى هؤلاء القوم فانظر في أمرهم، واجعل أمر الجاهلية تحت قدميك، فخرج حتى جاءهم، ومعه مال قد بعثه رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم فودَى لهم الدماء، وما أصيب من الأموال حتى إنه لَيدِي مِيلغَةَ الكلب، حتى إذا لم يبق شي ء من دم ولا مال إلا وداه، بقيت معه بقية من المال. فقال لهم علي عليه السلام حين فرغ منهم: هل بقي لكم دمٌ أو مالٌ لم يود إليكم؟ قالوا: لا، قال: فإني أعطيكم هذا المال الباقي احتياطاً لرسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم مما لا يعلم ولا تعلمون، ففعل ووافقوا شاكرين، ثم رجع الى رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم فأخبره الخبر. فقال: أصبت وأحسنت، ثم قام رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم فاستقبل القبلة قائماً شاهراً يديه حتى إنه ليُرى بياض ما تحت منكبيه وهو يقول:

اللهم اني أبرأ اليك مماصنع خالد بن الوليد، ثلاث مرات (2).

إنَّ تثبيت الدولة يكون بإرخاء رواسي العدل والمساواة بين الناس، والإسلام جاء ليمحو أوضاع الجاهلية وما عليها من شنآن ويمشي في الناس بالحق والعدل ولا تزر وازرة وزر أخرى. وما قام به خالد لا علاقة له بالإسلام، بل هو الراسب الجاهلي المتحكم في عقل هذا الرجل الذي أسلم متأخراً ولا تزال رواسب الجاهلية في كيانه، فهو لم يستطع أن يترفع عنها مع أن النبي قال في خطبته البليغة أمام أهالي مكة: كل دم في الجاهلية فهو تحت قدميَّ هاتين.

وكأن خالد لم يسمع أو لم يعِ ما قاله المصلح الكبير، ولهذا تبرأ منه النبيصلى الله عليه و آله و سلم ومن أفعاله، وتأثر لهذه الحادثة النكراء، وبعث علياً الذي هو نفسه ليمثله في رأب الصدع واستنكار الجريمة ودفع الديات وتعويض الخسائر المادية، حتى ميلغة الكلب- أي الجرن الذي يشرب منه الكلب، وهو وعاء من حجر أو خشب لا قيمة له- حتى يثبت الحق ويرسي دعائم العدل، ومن أولى من علي الأعلم الأقضى بفك الخصومات، وحلّ المشاكل وإرضاء الناس، وإعادة الأمور إلى نصابها. علي الحكيم في القضاء، والحكيم في المواقف ومداراة عواطف الناس حتى رجع والقوم مطمئنون كأنه لم يصبهم شي ء، فبورك علي وبورك هذا اللطف الرسالي الذي يحمله بين حناياه، عالماً وقاضياً ومدافعاً عن الإسلام الحقّ.

وقفة عتاب خفيفة مع محمد حسين هيكل:

بلغ كتاب هيكل مجده، حيث وزع على أكثر الدول العالمية المهتمة بالتراث، خصوصاً أن هيكل كتب كتابه وفق الأنظمة الحديثة للكتابة، حتى يجعله مرجعاً سهلًا للباحثين الغربيين والشرقيين على السواء، ولكل من أراد أن يدرس حياة محمدصلى الله عليه و آله و سلم. والحق أن الكتاب اختصر التاريخ وأجاد كاتبه في كثير من المناسبات، بل حلق في بعض المواقف. والكتاب موفق كماً ونوعاً ومنهجاً واسلوباً.

غير أننا ونحن نعتز بأحد أهم كتاب العصر الحديث، نأسف لكاتب من هذا النوع- وهو يسبر أغوار التاريخ


1- 1 الطبري، 2: 164.
2- 2 نفس المصدر.

ص: 125

ويشهد الحقائق بكل نصاعتها- أن يبقى في ذهنه شي ء من رواسب الماضي العفن حيث الحزبية والطائفية المقيتة ونربأ به أن يكون في ذهنه شي ء على عليّ إمام المتقين وقائد الغر المحجلين، خصوصاً أن له موقفاً مميزاً في كتابة الطبعة الأولى من كتابه المطبوع في مصر عندما يتحدث عن يوم الدار، ويثبت فيه الوصية لأمير المؤمنين عليه السلام ويثور عليه المتعصبون أتباع بني أمية، ويقولون له: هذا عين ما تقوله الشيعة، فيقول لهم: هذا عين ما يقوله التاريخ، ثم يمحو ويحذف هذا الكلام من الكتاب عندما يتفق معه على شراء 500 خمسمائة نسخة في الطبعة الثانية، فيهدم بهذا هيكل كل ما بناه من تحقيق علمي نزيه وبحث موضوعي مجرد.

وهنا في هذا الموضوع عندما يتعرض لموضوع فتح مكة المكرمة يجرد علياً عن أي مكرمة بحذف مقصودٍ واهمال مقصود، وإذا اضطرته حقائق التاريخ التي يكتبها الطبري وابن الأثير واليعقوبي وابن هشام وغيرهم ممن تعرضوا لأكثر تفاصيل الفتوحات المباركة، يختصرها اختصاراً يكاد معه يمحو ذكر الحادثة. فهو مثلًا في مسألة الراية لا يذكر العباس ولا يذكر علياً عليه السلام، وفي مسألة أم هاني لا يذكر علياً وفي مسألة هدور دم الأعداء الألداء في العداوة الذين أمر النبيصلى الله عليه و آله و سلم علياً بقتلهم لا يذكر علياً، وفي مسألة تكسير الأصنام يتجاهل علياً تماماً، وهكذا يبدو هيكل وكأنه في حرب مع علي عليه السلام غير معلنة بل معلنة.

من هنا نوصي القراء الكرام أن يعودوا الى قراءة علي وفق ما أرسله الآخرون على الأقل إرسال المسلمات رغم الظروف الصعبة التي مرّت على المؤرخين وملاحقتهم وتفتيش دفاترهم، وعرض مؤلفاتهم على أجهزة المخابرات، حتى لا يذكر فيها علي بخير. ورغم مراقبة الشاردة والواردة، ورغم المتعصبين الكثيرين ورغم هذا كله كانوا أكثر إنصافاً لعلي عليه السلام الذي وردت فيه الآيات والروايات الكثيرة. «عنوانصحيفة المرء حبّ علي بن أبي طالب» (1).

الهوامش:

حجّ الصبيان


1- 1 كنز العمال.

ص: 126

فقه الحجّ في دراسة استدلاليّة مقارنة

حجّ الصبيان

محسن الأراكي

لا خلاف بين فقهاء الإسلام في عدم وجوب الحجّ على غير البالغ؛ لرفع قلم التكليف عن الصبي على ما رواه أصحاب السنن- كابن داود وابن ماجة والترمذي، ورواه الإمامية- مع اختلاف يسير في اللفظ- عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام قال:

قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم: «رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبيّ حتى يشب، وعن المعتوه حتى يعقل. وفي لفظ الدارمي عن عائشة: وعن الصغير حتى يحتلم، وفي روايات الامامية: عن الصبي حتى يحتلم» (1).

ويدل على ذلك- أيضاً- ما دلّ على عدم إجزاء حجّ الصبي عن حجّة الإسلام. روى البيهقي عن ابن عباس قال: قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم: «أيماصبيّ حجّ ثم بلغ فعليه حجّة أخرى، وأيما عبد حجّ ثم اعتق فعليه حجّة أخرى».

وقد رويت في ذلك عن طرق الإمامية أحاديث متعددة منها ما رواه الصدوق بسندصحيح عن اسحاق بن عمار قال: سألت أبا الحسن عليه السلام عن ابن عشر سنين يحج؟ قال: عليه حجّة الإسلام إذا احتلم، وكذلك الجارية عليها الحجّ إذا طمثت» (2).

فوجوب الحجّ بعد البلوغ مع كون الصبي قد أتى به قبله، وعدم احتساب ما أتى به دليل على اشتراط وجوب الحجّ بالبلوغ؛ لوضوح عدم


1- 1 سنن الدارمي، 2: 171- والوسائل، أبواب مقدمة العبادات، الباب 4، الحديث 11.
2- 2 الوسائل، الباب 12 من أبواب وجوب الحج، الحديث 1.

ص: 127

وجوب الحجّ أكثر من مرة واحدة.

صحّةُ حجِّ الصّبيِّ:

ذهب فقهاء المسلمين عامة- ما عدا أبا حنيفة- إلىصحّة حجّ الصّبي، بل نسب إلى ابن المنذر والقاضي عياض دعوى الإجماع عليها (1)، وذهب أبو حنيفة إلى عدمصحّته وقال: لا ينعقد إحرام الصّبي، ولا يصير محرماً بإحرام وليّه (2).

والدليل علىصحّة حجّ الصّبيّ أُمور:

الأوّل: «ما رواه الشيخ الطوسي بسندصحيح عن عبد اللَّه بن سنان عن الصادق عليه السلام قال: سمعته يقول: مرّ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم برويثة وهو حاجّ إليه امرأة ومعهاصبيّ لها، فقالت: يا رسول اللَّه أيحجّ عن مثل هذا؟ قال: نعم، ولكِ أجره» (3).

الثاني: ما رواه البخاري في باب حجّ الصّبيان عن السائب بن يزيد قال: «حُجّ بي مع رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم وأنا ابن سبع سنين» (4).

فإنّ ظاهر التّعبير أنّ ذلك قد تمّ على مرآى ومسمع من رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم ولم ينكر، فيدلّ على تقريرهصلى الله عليه و آله و سلم لحجّ الصّبي الكاشف عنصحّته.

الثالث: ما رواه مسلم فيصحيحه عن ابن عباس عن النبيّصلى الله عليه و آله و سلم قال: «رفعت امرأةٌصبيّاً لها فقالت:

يا رسول اللَّه ألهذا حجّ؟ قال: نعم، ولكِ أجر» (5).

الرابع: ما رواه ابن ماجة عن جابر قال: «حججنا مع رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم معنا النساء والصبيان فلبينا عن الصبيان ورمينا عنهم» (6).

ودلالته علىصحة حجّ الصّبيّ من حيث ظهوره في أنهم إنما فعلوا ذلك عن أمر رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم.

الخامس: الروايات الّتي دلّت على عدم إجزاء حجّ الصّبي، وأنّ عليه حجّة الإسلام إذا بلغ، فانها ظاهرة فيصحّة أصل الحجّ؛ لأنه لو كان باطلًا من أصله لم يصل الدور إلى بيان حكم عدم إجزائه عن حجّة الإسلام، إذن فالتعرض لبيان عدم اجزائه عن حجة الإسلام يدلّ على كونصحته مفروغاً منها.

والروايات التي دلّت على عدم الإجزاء كثيرة من طرق الإماميّة وغيرها، سوف نشير اليها في البحث الآتي.

وأمّا الذي ذهب اليه أبو حنيفة من عدمصحّة حجّ الصّبي فقد استدلّ عليه بما يلي:

الأوّل: حديث رفع القلم عن


1- 1 شرح المهذب، 7: 38- 39.
2- 2 المغني لابن قدامة، 3: 252.
3- 3 الوسائل، أبواب وجوب الحج، الباب 20، الحديث الأول.
4- 4صحيح البخاري، 1: 319.
5- 5صحيح مسلم، بابصحة حج الصبي وأجر من حج به، 4: 101.
6- 6 سنن ابن ماجة.

ص: 128

الصبي وقد سبق التعرض له.

والجواب عنه: أنّ الظّاهر من الرواية إرادة قلم الوجوب والتكليف؛ لأنّ المراد بالقلم الكتابة، والكتابة تعني الوجوب، فمعنى رفع القلم عن الصبي أنه لم يكتب في حقه شي ء، أي لم يجب عليه، وعدم الوجوب لا يلازم عدم الصحّة.

ويمكن- أيضاً- أن يكون المراد به قلم العقاب، أي: لم يكتب في حقّه المؤاخذة والعقاب، وهو- أيضاً- يفيد بالتالي معنى رفع الوجوب، فلا يدلّ على نفي الصحّة.

الثاني: قياس إحرام الحجّ بالنذر، فكما لا يصحّ نذر الصبيّ؛ لأنّه سبب يلزم به حكم، كذلك إحرام الصبي فإنّه سبب يلزم به حكم فلا يصح كذلك.

والجواب عنه: بناءً علىصحّة العمل بالقياس بوجوه:

الوجه الأول: أنّ السبب ليس فعل الصبي منفرداً بل هو مع إذن الوليّ، فافترق المقيس عن المقيس عليه.

الوجه الثاني: أن هنا قياساً معارضاً وهو قياس إحرام الصبي بمعاملاته، فقد ذهب أبو حنيفة إلى أن الصبي العاقل المأذون له في التجارة إذا باع أو اشترى أو آجر أو استأجر ينفذ تصرفه (1). فنقيس على ذلك أحرامه بالحجّ فيكونصحيحاً بإذن وليّه كما تصحّ معاملاته.

الوجه الثالث: أنّ النذر التزام يلتزمه الصّبي على نفسه، فقد يلتزم ما لا يوافق مصلحته فتنفيذه يوجب الإخلال بمصالحه، أمّا ما يحرم بالإحرام فإنه إلزام مشرّع من قبل اللَّه- سبحانه وتعالى- وتشريع اللَّه- سبحانه وتعالى- لا يكون إلّاوفق ما تقتضيه مصلحة العبد، فبين الموردين فرق لا يصحّ قياس أحدهما بالآخر.

الوجه الرابع: أن الحكم الّذي ينشأ من إحرام الصّبي حكم على الوليّ، فإنّ على الوليّ أنْ يجنّب الصّبي محرمات الإحرام، فلو قصّر فارتكب الصّبي شيئاً من ذلك تحمّل الوليّ تبعات ذلك كما يعود إليه أجر حجّه، بخلاف نذر الصّبي فإنه لا معنى لأن يتحمل الولي تبعات نذر الصّبي، فبين الموردين فرق موضوعاً وحكماً فيبطل قياس أحدهما بالآخر.

الثالث: أن الحجّ عبادة بدنيّة فلا يصحّ أن ينوب الكبير فيها عن الصغير كالصّوم والصّلاة.

والجواب عنه: أن الصحيح في حجّ الصّبي- كما سوف نبيّنه في محلّه- أنّه فعل يتلبّس به الصّبي بسبب الوليّ، فليس الوليّ نائباً عن الصبي في حجّه بل الفعل فعل الصّبي، ولا ينكر أبو حنيفةصحّةصلاة الصّبي ووضوئه وصومه، فكذلك لا مانع من أن تصح


1- 1 طريقة الخلاف بين الأسلاف:ص 489.

ص: 129

منه عبادة الحجّ كغيرها من العبادات.

الرابع: أن الحجّ لوصحّ من الصبيّ لوجب عليه قضاؤه إذا أفسده.

والجواب عنه: نحن نلتزم بأن الصبي إذا أفسد حجّه فيجب عليه القضاء بعد البلوغ.

عدم إجزاء حجّ الصّبيِّ عن حجّة الإسلام:

أجمع الفقهاء على أنّ الصبي إذا حجّ فيصباه لم يجزه ذلك عن حجّة الإسلام، فعليه أن يحجّ إذا بلغ عندما تتوفر فيه سائر شرايط الوجوب.

ويدلّ عليه- بعد الإجماع-:

أولًا آية الحجّ: «... وللَّه على الناس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلًا ...» فإنها لا تشمل الصّبي، فلا يكون فعله قبل البلوغ امتثالًا للفريضة التي شرّعتها هذه الآية، حتى إذا بلغ شملَه التكليف الوارد في الآية، فوجب عليه الخروج عن عهدته بالإتيان بحجّة أخرى، والإكتفاء بما أتى به- سابقاً- في زمنصباه عن التكليف الّذي توجه إليه بعد البلوغ بحاجة إلى دليل خاص، وهو مفقود.

ص: 130

ثانياً: ما رواه الصدوق بإسناده عنصفوان عن اسحاق بن عمار، قال: سألتُ أبا الحسن عليه السلام عن ابن عشر سنين، يحجّ؟ قال: «عليه حجّة الإسلام إذا احتلم، وكذلك الجارية عليها الحجّ إذا طمثت» (1). وروى مثله الكليني بإسناده عن شهاب عن أبي عبد اللَّه عليه السلام.

ثالثاً: ما رواه الكليني بإسناده عن مسمع بن عبد الملك عن أبي عبد اللَّه عليه السلام- في حديث- قال: «لو أنّ غلاماً حجّ عشر حجج ثم احتلم، كانت عليه فريضة الإسلام» (2).

رابعاً: ما رواه البيهقي بإسناد جيد عن ابن عبّاس قال: قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم: «أيّماصبي حجّ ثم بلغ فعليه حجّة أخرى ...» الحديث (3).

خامساً: ما رواه أحمد بن حنبل مرسلًا عن محمد بن كعب القرظي عن النبيّصلى الله عليه و آله و سلم قال: «أيّماصبي حجّ به أهلُه فمات أجزأت عنه فإن أدرك فعليه الحجّ ...» الحديث (4).

استحباب حجّ الصّبيّ، وفيه مسائل:

المسألة الأولى:

في استحباب حجّ الصّبيّ لنفسه

وتدل عليه الأدلّة كافة الدالّة علىصحة حجه ومشروعيته وخاصة ما ورد فيه التعبير ب «أجزأت عنه» كما جاء في رواية أحمد بن حنبل الماضية، أو التعبير ب «قضى حجة الإسلام» الوارد في رواية أبان بن الحكم عن الصادق عليه السلام قال: سمعته يقول:

«الصّبيّ إذا حجّ به فقد قضى حجة الإسلام حتى يكبر» (5).

والحاصل أن لازم القول بصحّة عبادة الصّبي وشرعيتها هو استحبابها في حقّه، بمعنى محبوبيتها شرعاً المستتبع لثبوت استحقاق الثواب على فعله.

ولهذا فالدليل على استحباب عبادة الصبي- ومنها حجّه- هو نفس الدليل الدالّ على شرعيّتها وصحّتها.

ثم إنّ استحقاق الصّبيّ للثواب فرعصدق امتثال الأمر أو الانقياد في حقّه، وصدق الامتثال أو الانقياد فى حقّ الصّبيّ متوقف على تحقق الإرادة والاختيار، وتحقق الإرادة والاختيار لدى الصّبي يتوقف على درجة من الوعي والتمييز، وبها يصحّ استناد الفعل إلى اختيار الصّبي وإرادته، فإن الاختيار والإرادة فرع العلم برجحان الفعل، وهو يتوقف على درجة من الوعي والتمييز.

وعلى هذا فلا نتصوّر في الطفل الصغير الفاقد للوعي والتمييز، والعديم الإرادة التي يتوقف عليهاصدق استناد الفعل الاختياري إليه أن يترتب على فعله الثواب لنفسه، اللهم


1- 1 الوسائل، أبواب وجوب الحج، الباب 12، الحديث الأول.
2- 2 الوسائل، أبواب وجوب الحج، الباب 13، الحديث 2.
3- 3 شرح المهذب، 7: 45 نقلًا عن البيهقي.
4- 4 نيل الأوطار للشوكاني، 4: 293.
5- 5 الوسائل، أبواب وجوب الحج، الباب 13، الحديث الأول.

ص: 131

إلّا في الآثار الوضعيّة، التي لا يدور ترتبها مدار الإرادة والاختيار، فإنها تترتب على فعل الصّبي من غير ترديد. نعم يستحق الولي ثواب الإحجاج به، والثواب هنا على فعل الولي نفسه، وليس الصبي إلا آلة مجرّدة.

إذن فالحقّ أن الصّبي الذي بلغ درجة من الوعي تجعله متمكناً من إرادة الفعل، أي قادراً على معرفة وجه رجحان الفعل، وترجيحه على النقيض، بحيث يصحّح العرف العقلائي في استناد الفعل إلى اختيار الصبي وإرادته- وإن كان بإيجاد الداعي في نفس الطفل من قبل الولي أو غيره- يستحق الثواب على فعله؛ أمّا الصبي الفاقد للوعي والتمييز نهائياً فإنّما يستحق الولي الثواب على فعله؛ لأنّ الفعل حينئذٍ فعل الولي وليس الصّبي إلّامجرّد وسيلة.

المسألة الثّانية:

في استحباب الحجّ بالصبي لوليّه

قال ابن عبد البر في التمهيد:

صحّح حجّ الصّبي مالك والشافعي وسائر فقهاء الحجاز، والثوري وسائر فقهاء الكوفة، والأوزاعي والليث ومَن سلك سبيلهما من أهل الشام ومصر، قال: وكلّ من ذكرناه يقول:

يستحبّ الحجّ بالصبيان. ويأمر به (1)

وقال المحقّق النجفي في جواهر الكلام: «يصح أن يحرم عن غير المميّز وليه ندباً، وكذا المجنون، فيستحق الثواب حينئذٍ عليه، وتلزمه الكفارة والأفعال والتروك على الوجه الّذي ستعرفه بلا خلاف أجده في أصل مشروعيّة ذلك للولي، بل يمكن تحصيل الإجماع عليه» (2).

والظّاهر أنّ استحباب الحجّ بالصبي لوليّه متفق عليه بين القائلين بصحّة حجّ الصبي، وتدل عليه الروايات الكثيرة التي ورد فيها أمر الولي بإعانة الصبي في إتمام عمل الحجّ، وما يلزم الولي فعله بالصبي من مناسك الحجّ وأفعاله وتروكه، ونذكر فيما يلي نبذة من الروايات الدالّة على استحباب الحجّ بالصبي لوليّه، واستحقاقه بذلك الأجر والثواب:

1- روى مسلم فيصحيحه عن ابن عباس عن النبيصلى الله عليه و آله و سلم قال:

رفعت امرأةصبيّاً لها فقالت: يا رسولَ اللَّه ألهذا حجّ؟ قال: «نعم ولكِ أجر» (3).

وروى قريباً من هذا المضمون شيخنا الطوسي بسندصحيح عن عبد اللَّه بن سنان عن الصادق عليه السلام جاء


1- 1 شرح المهذب، 7: 39.
2- 2 جواهر الكلام، 17: 235.
3- 3صحيح مسلم، بابصحة حج الصبي وأجر من حج به، 4: 101.

ص: 132

فيه: قالت: يا رسول اللَّه أيحجّ عن مثل هذا؟ قال: «نعم، ولكِ أجره» (1).

2- روى ابن ماجة عن جابر قال: حججنا مع رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم، ومعنا النساء والصبيان، فلبينا عن الصبيان ورمينا عنهم (2).

وهو يدل على مشروعيّة احجاج الولى بصبيّه، وشرعيّة العمل هنا تكشف عن المحبوبيّة، وهي تلازم الاستحباب واستحقاق الثواب.

3- روى الصدوق بإسناده عن معاوية بن عمّار عن أبي عبد اللَّه عليه السلام، قال: «أُنظروا من كان معكم من الصبيان فقدموه إلى الجحفة، أو إلى بطن مرّ، ويصنع بهم ما يصنع بالمحرم، ويطاف بهم ويرمى عنهم، ومن لا يجد الهدي منهم فليصم وليّه عنه» (3).

فالأمر المتوجّه إلى الولي في الإحجاج بصبيّه في هذه الرواية دليل على استحبابه عليه، بعد وضوح عدم إرادة الوجوب منه للقرائن وللإجماع.

وهناك روايات أخرى دالّة على استحباب الحجّ بالصبي لوليّه نكتفي منها بما ذكرناه.

المسألة الثّالثة:

في عدم الفرق بين الصبي

والصبيّة في الاستحباب

القائلون باستحباب حجّ الصبي، واستحباب الإحجاج به لوليّه لم يفرّقوا بين الصّبيّ والصّبيّة في ذلك، ولم نعهد في ذلك خلافاً إلّاما ذهب اليه النراقي في المستند من عدم استحباب الإحجاج بالصبيّة للولي؛ لعدم الدليل عليه، وإن كان حجّ الصبيّة بنفسها كحج الصّبي مستحبّاً (4).

ولكن الحق اتحاد الصبيّة مع الصّبي في حكم استحباب الحج به، كاتحادها معه في استحباب الحج بنفسه لأمرين:

الأول: عدم احتمال الفرق عرفاً لظهور الأدلّة الدالّة على استحباب الحجّ بالصبي في عموم الاستحباب للصبيّة أيضاً.

الثاني: القرينة الخارجيّة المستفادة من أحكام الشارع في العبادات والمعاملات، الدالّة على اشتراك الذكر والأنثى في أصل مشروعية الأعمال وعدمها، والاختلاف الواقع بين أحكام الذكر والانثى إنما هو في بعض التفاصيل والكيفيّات، لا في أصل الشرعيّة وعدمها، ولعلّ ذلك يستفاد أيضاً من قوله تعالى: «فاستجاب لهم ربّهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أُنثى ...» (5).

اشتراط حجّ الصّبي بإذن وليّه:

أكثر الفقهاء على اختلاف


1- 1 الوسائل، أبواب وجوب الحج، الباب 20، الحديث الأول.
2- 2 سنن ابن ماجة.
3- 3 الوسائل، أبواب اقسام الحج، الباب 17، الحديث 3.
4- 4 المستند، 2: 155.
5- 5 آل عمران: 195.

ص: 133

مذاهبهم، ومشهور فقهاء الإمامية، على اشتراط حج الصّبي المميّز بإذن وليّه، وذهب جمع من فقهاء الإمامية وغيرهم من فقهاء ساير المذاهب كأبي اسحاق المروزي إلى عدم اشتراطه بإذن الولي.

قال الفقيه اليزدي في العروة الوثقى: «يستحب للصّبيّ المميز أن يحجّ، وإن لم يكن مجزياً عن حجّة الإسلام، ولكن هل متوقف ذلك على اذن الولي أو لا؟ المشهور بل قيل:

لاخلاف فيه: أنّه مشروط بإذنه» (1).

وقال النووي في شرح المهذب:

ثم إن كان- أي الصبي- مميزاً أحرم بنفسه بإذن وليّه ويصحّ بلا خلاف، فإن استقل وأحرم بنفسه بغير إذن وليّه فوجهان مشهوران ذكر المصنف دليليهما، أحدهما: يصحّ وبه قال أبو اسحاق المروزي، وأصحهما لا يصح، وبه قال أكثر أصحابنا المتقدمين كما ذكره المصنف، وكذا نقله- أيضاً- ابن الصباغ والبغوي وآخرون (2).

والحقّ أنّ حجّ الصّبيصحيح من غير توقّف على إذن الولي، لإطلاق الأدلّة الدّالّة علىصحّة حجّه.

ثم إن القائلين بالاشتراط استدلوا بدليلين:

الأوّل: أن الحجّ عبادة توقيفية متلقاة من الشرع ومخالف للأصل، فيجب الاقتصار فيه على المتيقن وهو الحجّ بإذن الولي فيما نحن فيه.

الثاني: أنّ الحجّ يستلزم بعض التصرفات الماليّة كالهدي والكفارة في بعض الأحيان وهو متوقف على إذن الولي.

والجواب عن الأوّل: ما أشرنا اليه من إطلاق الأدلّة الدّالّة علىصحّة حج الصّبي، فلا تضر مخالفة الأصل أو الخروج عن القدر المتيقن.

وعن الثاني: أن الحجّ غير متقوم بالتصرفات الماليّة وإن وجبت في بعض الأحيان، ويمكن القول في الصّبي بتوقف خصوص تصرفه المالي في الحجّ على إذن الولي، فإن أذن فهو، وإن لم يأذن ثبت له حكم العاجز، ويصحّ حجّه على كلّ حال.

كيفية حجّ الصّبي:

يحجّ الصّبي إذا كان مميّزاً بنفسه، ولا تختلف كيفيّة حجّه عن حجّ البالغ إلّا في توقّفه على الاستيذان بناءً على القول به، وأمّا الصّبي غير المميّز فلا خلاف بين الفقهاء في أنّ طريقة الحجّ به إجمالًا: هي أن يحمله الولي على الإتيان بأفعال الحجّ الّتي يقدر على مباشرتها بنفسه، وأن ينوب عنه فيما


1- 1 العروة الوثقى، حج الصّبي، المسألة الأولى.
2- 2 شرح المهذب، 7: 25.

ص: 134

لا يقدر عليه، وإنما وقع الكلام في مواضع:

الموضع الأول: في إحرام الصبيّ المميّز، وأنّه هل يصحّ منه استقلاله بالإحرام، أو يشترط ذلك بإذن الولي؟

والكلام هنا نفس الكلام في أصل حجّ الصّبي المميّز، فمن قال بصحّة حجّ الصّبي المميّز استقلالًا وبدون إذن الولي، قال هنا باستقلاله بالإحرام وعدم توقفه على إذن الولي، ومَن قال هناك باشتراط حجّه بإذن الولي قال هنا بتوقف إحرامه على إذنه.

وقد ذكرنا في البحث السابق أن مقتضى الإطلاقات الدّالّة علىصحّة حجّ الصّبيّ عدم توقفه على إذن الولي، ونقول في إحرام الصّبي الكلام نفسه، فلا دليل على توقّف إحرامه على إذن الولي بعد دلالة الإطلاقات علىصحّة أفعال الحجّ منه، ومنها الإحرام.

الموضع الثاني: في إحرام الصبيّ غير المميّز.

يظهر من بعض الفتاوى أنّ معنى إحرام الولي عن الصّبى نيابة الولي عن الصّبي في الإحرام، وبناءً على ذلك فقد اشترط فيمن يُحرم عن الصّبي أن لا يكون مُحرماً بنفسه، وجوّز أن يحرم الوليّ عن الصّبي وهو غائب.

والحقّ أنّ معنى الإحرام عن الصّبي عقد الإحرام للصّبي، فالصّبي هو الّذي يتلبّس بالإحرام، غير أنه باعتبار عدم تمييزه، وعدم تأتّي النيّة وقصد الإحرام منه يتولّى القائم بأمره عقد الإحرام له، بأن ينوي الإحرام به وأن يلبّي عنه إن عجز عن التلفّظ بالتلبية بنفسه.

قال ابن قدامة المقدسي:

«ومعنى إحرامه عنه: أن يعقد له الإحرام، فيصحّ للصّبيّ دون الولي كما يعقد النكاح له» (1).

وقال المحقق النجفي: «ظاهر النّصّ والفتوى كون الإحرام بالصّبي على معنى جعله محرماً بفعله لا أنّه ينوب عنه في الإحرام، ومن هناصرّح غير واحد بأنّه لا فرق في الولي بين كونه محلًا أو محرماً، فما عن الشافعيّة في وجه من كون الإحرام عنه واضح الضعف» (2)

دليلنا على ذلك: أن مقتضى ظهور الأدلة الدّالّة علىصحّة حجّ الصّبي مباشرته لأفعال الحجّ كلّها، خرج من ذلك خصوص ما يعجز عنه الصّبي، وبقي ما سواه داخلًا في ظهور الدّليل المقتضي للمباشرة، والصّبي غير المميّز إنما يعجز عن النيّة وليس عاجزاً عن ساير واجبات الإحرام وتروكه، فلا ينوب الولي عنه غير النيّة، وبما أنّ الإحرام فعل الصّبيّ،


1- 1 المغني، 3: 253.
2- 2 جواهر الكلام، 17: 236.

ص: 135

فعليه أن ينوي الإحرام بالصّبي.

بل الظّاهر عرفاً من أدلّةصحّة الإحجاج بالصّبيّ هو جعله محرماً، لا النيابة عنه في الإحرام، وكذا في غيره من أفعال الحج إلّاما دلّ الدليل الخاص عليه.

ويدل على ذلك- سوى ما قلناه- الروايات الكثيرة الواردة بطرق الإمامية عن المعصومين عليهم السلام.

منها: ما رواه الكليني بسندصحيح عن معاوية بن عمار عن أبي عبد اللَّه عليه السلام، قال: «أُنظروا مَن كان معكم من الصبيان فقدّموه إلى الجحفة، أو إلى بطن مرّ، ويصنع بهم ما يصنع بالمحرم، ويطاف بهم ويرمى عنهم، ومن لا يجد الهدي منهم فليصم عنه وليّه» (1).

ومنها: ما رواه الصدوق بإسناده الصحيح عن زرارة عن أحدهما عليهما السلام، قال: «إذا حجّ الرجل بابنه وهوصغير فإنه يأمره أن يلبّي ويفرض الحجّ، فإن لم يحسن أن يلبّي لبّوا عنه، ويطاف به، ويصلّى عنه ...» الحديث (2).

ومنها: مارواه الصدوق- أيضاً- بسندصحيح عن علي بن مهزيار، عن محمد بن الفضيل، قال: «سألت أبا جعفر الثاني عليه السلام عن الصّبي متى يُحرَم به؟ قال: إذا أثغر» (3).

ودلالة هذه الروايات على أنّ الإحرام فعل يتلبّس به الصّبيّ بدلالة الوليّ أو فعله واضحة.

الموضع الثالث: في سايرأفعاله.

لا بحث في أنّ الصّبيّ المميّز يفعل واجبات الحجّ كما يفعلها البالغ، فيطوف بنفسه ويصلّي ويسعى ويرمي ويقف الموقفين وغير ذلك. أمّا الصّبيّ غير المميّز فلا كلام في أنّه إذا عجز عن الطواف والسعي والرمي بنفسه، فإن الولي يطوف به ويسعى به ويرمي عنه، وأمّا الصلاة فيصلّي عنه الوليّ بالنيابة.

ووقع الكلام في الطهارة الّتي لابدّ منها في الطّواف كما عليه علماء الإماميّة والشافعي ومالك والمشهور عن أحمد- وخالف في الاشتراط أبو حنيفة، وفي نقل غير مشهور عن أحمد-.

فهل يشترط طهارة الولي لطوافه بالصبي؟ وهل يشترط ايقاعصورة الوضوء بالطفل علاوة على طهارة الولي؟

ذهب بعض الفقهاء إلى ذلك.

والّذي نرجّحه عدم اشتراط طهارة الولي ولا طهارة الصّبيّ للأصل، وعدم شمول عمومات اشتراط الطهارة لهذا


1- 1 الوسائل، أبواب أقسام الحجّ، الباب 17، الحديث 3.
2- 2 الوسائل، الباب نفسه، الحديث 5.
3- 3 نفس المصدر، الحديث 8.

ص: 136

المورد، أما الصبي فلعدم قدرته على الطهارة الصحيحة، وعدم الامر بالطهارة الصّوريّة، وأما الولي فلأنّ الطهارة شرط الطائف لا الطواف، وليس الولي طائفاً بنفسه وإنما يطوف بالصبيّ.

أمّا الرّمي فلا خلاف في أنّ الوليّ يرمي عن الصّبيّ غير المميّز، وإنما الكلام في أنّه هل يشترط في الوليّ الّذي يرمي عن الصّبيّ أن يكون قد رمى لنفسه أو لا يشترط؟

ذهب الإمامية إلى أنه لا يشترط وذهب بعض الفقهاء إلى انه يشترط أن يكون قد رمى عن نفسه.

دليلنا: عدم الدليل على الاشتراط، ودلالة إطلاقات الرمي عن الصّبيّ على عدم الاشتراط.

فرع: إذا كان الصّبي غير المميّز راكباً لزم أن يكون الولي هو القائد أو السائق قال المحقق النجفي في جواهر الكلام: «ولو أركبه دابة فيه- أي الطواف- أو في السعي ففي التذكرة والدروس وجب كونه سايقاً أو قائداً، إذ لا قصد لغير المميّز، وهو حسن.

وفي المدارك أنه ينبغي القطع بجواز الاستنابة في الطواف؛ لإطلاق الأمر بالطواف به، ولقول حميدة فيصحيح ابن الحجاج «مري الجارية» إلى آخره ...» (1).

والحقّ كما حكاه عن المدارك جواز الاستنابة في الطواف بأن ينوب عن الولي غيره، فيطوف بالصبي نيابة عن وليّه، ويكفي ما ذكره دليلًا على ذلك.

فرع آخر:

قال المحقّق النجفي: «لا يبعد جواز الاستنابة في غيره- أي الطواف- أيضاً كما عساه يلوح من النّصّ والفتوى، وأمّا الصلاة فقد سمعت ما في خبر زرارة- أي الخبر السابق عن زرارة- والذي جاء فيه: ويصلّى عنه.

لكن في الدروس: «وعلى ما قاله الأصحاب من أمر ابن ست سنين بالصلاة يشترط نقصه عنها، ولو قيل يأتي بصورة الصلاة كما يأتي بصورة الطواف أمكن» وكأنه اجتهاد في مقابلة النص» (2).

أقول: دلت الروايات الصحيحة على جواز الاستنابة في الطواف بالصبي والسعي به والرمي عنه والصلاة، وكذا الهدي.

ففيصحيحة ابن الحجاج: فإذا كان يوم النحر فارموا عنه واحلقوا رأسه، ثمّ زوروا به البيت، ومري الجارية أن تطوف به بين الصفا والمروة» (3).

وفيصحيحة اسحاق بن عمار:

«واذبحوا عنهم كما تذبحون عن أنفسكم» (4).

وفيصحيحة زرارة السابقة:


1- 1 جواهر الكلام، 17: 237.
2- 2 نفس المصدر.
3- 3 الوسائل، 11: أبواب أقسام الحج، الباب 17، الحديث الأول.
4- 4 نفس المصدر، الحديث 2.

ص: 137

«ويطاف به ويصلّى عنه» (1).

فالإتيان بصيغة المجهول كما في الأخيرة، أو بصيغة خطاب الجمع كما في التي قبلها دليل على جواز أن ينوب عن الولي غيره في الطواف بالصبي والسعي به والصلاة والرمي عنه وكذا الهدي.

بل إن مقتضىصحيحة ابن الحجاج جواز الاستنابة في الإحرام بالصبي- أيضاً- بأن ينوب عن الولي غيره فيُحرم بالصّبي فقد جاء فيها:

فقالت- أي حميدة-: «إذا كان يوم التروية فاحرموا عنه وجرّدوه وغسّلوه كما يجرد المحرم ...» الحديث (2). فإن مقتضى خطاب الجمع في الرواية جواز أن ينوب عن الولي غيره في الإحرام بالصّبي.

وقال ابن قدامة المقدسي: قال الإمام أحمد في رواية حنبل: يحرم عنه أبوه أو وليه، واختاره ابن عقيل- إلى أن قال-: وقال القاضي: ظاهر كلام أحمد أنه لا يحرم عنه إلّاوليّه؛ لأنّه لا ولاية للأمّ على ماله، والإحرام يتعلق به إلزام مال، فلا يصحّ من غير ذي ولاية كشراء شي ءٍ له، فأما غير الأمّ والولي من الأقارب كالأخ والعم وابنه فيخرج فيهم وجهان بناءً على القول في الأمّ، أما الأجانب: فلا يصحّ إحرامهم عنه وجهاً واحداً (3).

أقول: إن كان المانع من جواز إحرام غير الأب بالصبي أنّ الإحرام يتعلق به إلزام مال، فلا يصح من غير ذي ولاية، فالجواب عنه أنّ الفدية لا تلزم الصبي في ماله بل تلزم في مال من يحجّ بالصّبي- أو في مال أبيه خاصة أن كان بأذنه- كما ورد فيصحيحة زرارة في الرجل يحجّ بابنه وهوصغير:

فإنه يأمره أن يلبّي ويفرض الحجّ- إلى أن قال- وإن قتلصيداً فعلى أبيه (4). وإن كان المانع غيره كان عليه أن يدلّ عليه، فيما رواه أحمد والنسائي ومسلم وأبو داود عن ابن عباس دلالة على جواز احرام الأم بالصبّي، فقد روى مسلم وغيره عن ابن عباس: قال: رفعت امرأةصبيّاً لها فقالت: يا رسول اللَّه ألهذا حجّ؟

قال: «نعم، ولكِ أجر» (5).

فإن اثبات الأجر للمرأة ظاهر في أن المرأة هي التي تحجّ بالصّبيّ، فتكون هي الّتي تحرم به، فيدل الحديث علىصحّة إحرام الامّ بالصّبيّ، وبذلك يثبتصحّة إحرام غير الأبوين أيضاً بالصّبي؛ لعدم الخصوصيّة في الامّ، فإذا جاز فيها جاز في غيرها.

أما غير الإحرام من أفعال الحجّ فقد روي عن أحمد في الرمي أنه


1- 1 نفس المصدر، الحديث 5.
2- 2 الوسائل، أبواب أقسام الحج، الباب 17، الحديث الأول.
3- 3 المغني، 3: 253.
4- 4 الوسائل، أبواب أقسام الحج، الباب 17، الحديث 5.
5- 5صحيح مسلم، 14: 101.

ص: 138

قال: يرمي عن الصّبي أبواه أو وليّه.

وقال ابن المنذر: كل من حفظت عنه من أهل العلم يرى الرمي عن الصّبي الّذي لا يقدر على الرّمي، وكان ابن عمر يفعل ذلك، وبه قال عطاء والزهري ومالك والشافعي واسحاق (1).

وأما الطواف فقد ذكر ابن قدامة: «إن أمكنه المشي مشى وإلّا طيف به محمولًا أو راكباً، فإن أبا بكر طاف بابن الزبير في خرقة، ولأنّ الطواف بالكبير محمولًا لعذر يجوز، فالصغير أولى» (2).

أقول: لا وجه لاختصاص جواز النيابة في الرمي عن الصبي بوليه أووالديه؛ لما ذكرنا من الدليل على جواز النيابة عن الصّبي مطلقاً في كل ما لا يقدر على مباشرته، وعدم الدليل على الاختصاص.

حكم مخالفات الصّبي في عمل الحجّ:

في ذلك مسائل ثلاث:

المسألة الأولى:

في ارتكابه لما يوجب إفساد الحجّ

قال الشيخ الطوسي في المبسوط: «أما الوطء في الفرج فإن كان- أي الصبي- ناسياً لا شي ء عليه، ولا يفسد حجه مثل البالغ سواء، وان كان عامداً فعلى ما قلناه: من أنّ عمده وخطأه سواء لا يتعلق به أيضاً فسادُ الحجّ، وإن قلنا: إنّ عمده عمدٌ لعموم الأخبار فيمن وطَأ عامداً في الفرج من أنّه يفسد حجّه، فقد فسد حجّه ويلزمه القضاء، والأقوى الأوّل، لأن ايجاب القضاء يتوجّه إلى المكلّف وهذا ليس بمكلّف» (3).

والصحيح أن يقال: يفسد حجّه ولا يجب عليه القضاء، أما فساد الحج فلعموم ما دلّ على كون الوطء عن عمد مفسداً للحجّ؛ ولا يخصّصه ما جاء من (أنّ عمد الصبي خطأ)؛ لاختصاصه بالجنايات، أو للقطع بعدم شموله للعبادات، كما هو المتفق عليه في مثل الصلاة والوضوء إذا تعمّد ارتكاب المنافي.

وأمّا عدم وجوب القضاء عليه، فلحديث رفع القلم عن الصّبي، وقد تقدّم البحث عنه.

وقال ابن قدامة: «وإن وطئ أفسد حجّه، ويمضي في فاسده، وفي القضاء عليه وجهان: أحدهما: لا يجب لئلا تجب عبادة بدنيّة على من ليس من أهل التكليف. والثاني: يجب لأنه إفساد موجب للفدية، فأوجب القضاء كوطء البالغ» (4).

وقد اتضح مما ذكرناه آنفاً بطلان القول بوجوب القضاء لحديث رفع القلم، وأمّا ما نقله من استدلال


1- 1 المغني لابن قدامة، 3: 254.
2- 2 نفس المصدر.
3- 3 المبسوط، 1: 329.
4- 4 المغني، 3: 255.

ص: 139

القائل بوجوب القضاء؛ لأنه افساد موجب للفدية فيرد عليه: أنّ ايجابه للفدية أوّل الكلام، فنحن لا نقبل كونه موجباً للفدية في الصّبي؛ لحديث رفع القلم ولغيره مما دلّ على عدم جريان قلم التكليف بحق غير البالغ، فلا يمكن قياس ذلك بوطئ البالغ.

المسألة الثانية:

في حكم ارتكابه لما يوجب الكفارة

في حالتي العمد والخطأ وهو

الصيد

اختار مشهور الإمامية عدم وجوب كفارة الصّيد على الصّبي، قال المحقّق النجفي في جواهر الكلام:

«إن قتلَصيداً فعلى أبيه وبه افتى الأكثر في كل ما لا فرق في لزومه للمكلّف في حالتي العمد والخطأ» (1).

وحكي عن ابن إدريس انه ذهب إلى «عدم وجوب كفارةصيد الصبي لا في ماله ولا في مال أبيه» (2).

وحكى عن العلامة في التذكرة:

أنه ذهب إلى «وجوب كفارة الصيد في مال الصبي» (3).

قال ابن قدامة: قال ابن المنذر أجمع أهلُ العلم على أنّ جنايات الصبيان لازمة لهم في أموالهم، وذكر أصحابنا في الفدية التي تجب بفعل الصّبي وجهين، أحدهما: هي في ماله؛ لأنها وجبت بجناية أشبهت الجناية على الآدمي، والثاني: على الولي وهو قول مالك؛ لأنه حصل بعقده أو إذنه فكان عليه كنفقة حجه (4).

والحقّ أنّ كفارة الصيد لا تجب في مال الصبي وتجب في مال وليّه، فهنا دعويان:

الأولى: أنها لا تجب في مال الصبي، والدليل على ذلك ما دلّ على رفع قلم التكليف عن الصبّي، وليست الكفارة حكماً وضعيّاً كالضمان؛ ليقال بثبوته فى عهدة الصّبي، وعدم شمول دليل رفع القلم له. فإنّ هناك فرقاً أساسياً بين باب الجنايات على المال أو النفس وبين ما نحن فيه، وأقل ما يوجد من الفرق بين الموردين، ورود الضرر بفعل الصّبي على مَن له حرمة في نفسه وماله في باب الجنايات، وبما أن حديث رفع القلم وارد مورد الامتنان والإحسان، فلا يشمل المورد الذي يخالف الامتنان والإحسان، وهو المورد الّذي يلزم من رفع القلم فيه نقصان نفس محترمة أو مال محترم، بخلاف ما نحن فيه إذ لا يلزم من رفع وجوب الكفارة نقصان نفس محترمة أو مال محترم.

الثانية: ثبوت كفارةصيد


1- 1 جواهر الكلام، 17: 239.
2- 2 المعتمد في شرح العروة الوثقى، 1: 39.
3- 3 نفس المصدر.
4- 4 المغني، 3: 255.

ص: 140

الصبي في مال وليّه. هذا الحكم خلاف القاعدة الّتي دلّ عليها حديث رفع القلم، ولو لا النصّ الخاص لم يكن وجه للقول به، لكن قد ورد به النصّ الصّريح، فقد روى الصدوق بإسناده عن زرارة عن أحدهما عليهما السلام قال:

«إذا حجّ الرجل بابنه وهوصغير فإنه يأمره أن يلبّي ويفرض الحجّ- إلى أن قال- وإن قتلصيداً فعلى أبيه» (1).

والروايةصحيحة السند تامة الدلالة، ولا يحتمل خصوصيّة الأب بل الظّاهر إرادة مطلق الولي، فيثبت بذلك وجوب الكفارة في مال الولي الّذي قام بأمر حج الصبي مطلقاً وإن لم يكن أباه.

المسألة الثالثة:

في حكم ارتكابه لما يوجب الكفارة

في حال العمد

(وهو ساير موجبات الكفارة)

قال الفقيه اليزدي في العروة الوثقى:

«وأما الكفارات الأخر المختصة بالعمد، فهل هي أيضاً على الولي، أو في مال الصّبي، أو لا تجب الكفارة في غير الصيد لأنّ عمد الصّبي خطأ.

والمفروض أن تلك الكفارات لا تثبت فيصورة الخطأ وجوه، لا يبعد قوة الأخير إما لذلك، وإما لانصراف أدلّتها عن الصّبي، لكن الأحوط تكفّل الولي، بل لا يترك هذا الاحتياط، بل هو الأقوى؛ لأن قوله عليه السلام: «عمد الصّبي خطأ» مختص بالديات، والانصراف ممنوع وإلّا فيلزم الالتزام به في الصيد أيضاً» (2).

وقال النووي في شرح المهذّب:

«قد سبق أنه يجب على الولي منع الصّبي من محظورات الإحرام، فلو تطيّب أو لبس ناسياً فلا فدية قطعاً، وإن تعمد، قال أصحابنا:

فيبنى ذلك على القولين المشهورين في كتاب الجنايات: أنّ عمد الصبي عمد أم خطأ؟ الأصح أنه عمد، فإن قلنا خطأ فلا فدية، وإلّا وجبت. قال إمام الحرمين: وبهذا قطع المحقّقون، لأنّ عمده في العبادات كعمد البالغ، ولهذا لو تعمّد فيصلاته كلاماً أو فيصومه أكلًا بطلا، وحكى الدارمي قولًا غريباً: أنه إن كان الصّبي ممن يلتذ بالطيب واللباس وجبت وإلّا فلا» (3).

والصحيح كما تبين مما ذكرناه في المسألة السابقة عدم وجوب ساير الكفارات على الصّبي مطلقاً؛ لا في ماله ولا في مال وليّه؛ لحديث رفع القلم ولغيره مما دلّ على رفع قلم التكليف عن الصّبي، وأمّا الكلام الّذي ذكره المحقق اليزدي فيرد عليه:

أولًا: لا مانع من دعوى انصراف أدلّة ثبوت الكفارة عن الصّبي على أساس أنّ الطّبع الأوّلي


1- 1 الوسائل، أبواب أقسام الحج، الباب 17، الحديث 5.
2- 2 العروة الوثقى، المسألة السابعة من شرائط وجوب حجّة الإسلام.
3- 3 شرح المهذب، 7: 32.

ص: 141

للكفارات يقتضي كونها للعقوبة والتأديب، ولا عقوبة للصبي على مخالفته، وما ذكره من لزوم الالتزام به في الصيد أيضاً فجوابه: أنّه لو لا النصّ الصحيح الخاص الذي أشرنا اليه، لكنّا نلتزم به في الصيد أيضاً، فالنقض بالصيد غير وارد.

وثانياً: لو غضضنا النظر عن دعوى انصراف أدلّة ثبوت الكفارة عن الصّبي، كفى في الحكم بعدم ثبوت كفارة الصيد عليه أدلّة رفع القلم فإنها حاكمة على مطلق أدلّة التكاليف.

وأمّا ما جاء في كلام النووي فيرد عليه:

أولًا: بأنّ جناية الصبي في حال الإحرام تختلف في حقيقتها عن الجناية على المال أو النفس، بأنّ الأُولى تجاوز على حقّ من حقوق اللَّه وحرمةٍ من حُرماته، أمّا الثانية فإنها تجاوز على حقوق النّاس وحرماتهم، فقد يعفى عن الأُولى ولا يُعفى عن الأخيرة، فلا يصحّ قياس أحدهما على الآخر، ولا تعميم حكم الأخيرة على الأولى.

وثانياً: ما ذكرناه سابقاً من عدم جريان الرفع الامتناني في مثل الجناية على نفس محترمة أو مال محترم، بخلاف غيرها من المحرّمات والتكاليف، التي لا يلزم من رفعها اعتداء على حقوق الآخرين.

وثالثاً: مبنى القول بأنّ عمد الصّبي خطأ في باب الجنايات، ما ورد في الحديث من أنّ عمد الصّبي خطأ، لكن هذا النصّ لا معنى لشموله لمورد المحرّمات الّتي يشترط في ثبوت الكفارة فيهاصدورها عن عمد، ولا حكم لارتكابها خطأ، بل هي مختصة بالموارد الّتي يكون لها حكمان: حكم خاص بحال العمد، وحكم خاص بحال الخطأ كما في الجناية على النفس مثلًا، فيكون معنى (عمد الصبي خطأ) أن حكم عمد الصبي هو الحكم الثابت لحال الخطأ في غيره، قال المحقّق السيد الخوئي حسبما جاء في تقرير بحثه:

«وبالجملة قوله عليه السلام (عمد الصبي خطأ) يشمل المورد الّذي له سنخان من الحكم حكم ثابت لصورة العمد، وحكم ثابت لصورة الخطأ، وهذا النحو من الأحكام إنما هو في باب الجنايات والديات، فإذا جنى الصّبي عمداً يترتب على فعله أحكام الخطأ، وإذا ارتكب القتل عمداً، يعامل معه معاملة القاتل خطأ، وأما المورد الّذي ليس له إلّاحكم واحد مترتب علىصورة العمد خاصّة كأكثر الأحكام، فغير مشمول لهذه

ص: 142

الجملة» (1).

نفقات حجّ الصّبي:

وفيها مسائل ثلاث:

الأولى:

في نفقته التي لا تزيد على

نفقة الحضر

المشهور بين الإماميّة وعليه أكثر فقهاء المذاهب أنّ نفقة الصبي التي لا تزيد على نفقة الحضر تكون من مال الصّبي؛ لأنّها مصلحة ضروريّة له فلابدّ من القيام بها والصرف عليها من ماله، ولا خلاف يعتد به في هذه المسألة.

الثانية:

في نفقته التي تزيد على

نفقة الحضر

المشهور بين الإمامية بل ادعى عليه عدم الخلاف بينهم، وعليه أكثر فقهاء المذاهب أنّ الزائد من نفقة الحجّ على نفقة الحضر تكون من مال الوليّ، لأنّه هو السبب، ويعود نفع حجّ الصّبي إليه لما فيه من الثواب، وعدم ضرورته للصّبي. إلّاإذا توقفت مصلحة الصّبي على اصطحابه في سفر الحجّ، كما إذا توقفت تربيته أو المحافظة عليه على ذلك فيصرف على سفره من ماله لكون السفر حينئذٍ حاجة من حوائج الصّبي ومصلحة من مصالحه.

وذهب بعض فقهاء الشافعيّة إلى أن نفقة حجّ الصّبي مطلقاً من مال الصّبي؛ «لأنّ فيه مصلحة له بتحصيل الثواب له ويتمرّن عليه فصار كأجر المعلم والطبيب» (2).

ويرد عليه: أن هناك فرقاً بين أجر المعلم والطبيب ونفقة سفر الحج، فإن في تعليمه فيصغره وكذا علاجه من المرض مصلحة لازمة له، تفوت بتأجيلها إلى زمان كبره، بخلاف الحجّ فليس فيه مصلحة لازمة له لا يمكن تداركها بعد البلوغ، فالصحيح أن ما يزيد من نفقة حجّ الصّبي على نفقة حضره تثبت في مال الولي، ولا يجوز أخذها من مال الصبي.

الثالثة:

في ثمن الهدي

ذهب فقهاءُ الإماميّة إلى أن ثمن الهدي على الولي، ولا يجوز الصرف عليه من مال الصّبي؛ لعدم مصلحة للصّبيّ في الاحجاج به، حتى إذا كان السفر به ذا مصلحة له، إذ يمكن اصطحابه من دون الإحجاج به، فإذا أحجّ به الولي، وترتب عليه لزومصرف المال لثمن الهدي كان ذلك في مال الولي. ولما ورد فيصحيح زرارة «يذبح عن الصغار ويصوم الكبار» الظّاهر في أن القائم بأمر الصّبي هو المكلّف بالذبح عنه، فيكون في ماله.


1- 1 المعتمد، في شرح العروة الوثقى، 1: 41- 42.
2- 2 المغني لابن قدامة، 3: 255.

ص: 143

قال المحقّق النجفي في جواهر الكلام:

«وأمّا الهدي الّذي يترتّب عليه بسبب الحجّ فكأنّه لا خلاف بينهم في وجوبه على الولي الّذي هو السبب في حجّه، وقدصرح به فيصحيح زرارة» (1).

وذهب بعض فقهاء الشافعيّة إلى أنّ ثمن الهدي في مال الصّبي، ويرد عليه نفس ما أوردناه على قولهم بثبوت نفقة السفر الزائدة على الحضر في ماله، من عدم ضرورة الإحجاج به له، وعدم ثبوت مصلحة لازمة تعود إليه في ذلك، وكون الولي هو السبب في لزوم هذه النفقة فتكون في ماله.

الهوامش:

اليهود في الجزيرة العربية

اليهود في الجزيرة العربية

أحمد الواسطي

كان المسلمون وما زالوا في تعاملهم مع اليهود يبتعدون عن إثارة النزعة العدائية وروح الكراهية، معبّرين بذلك عنصدق نواياهم ومواقفهم السليمة تجاه اليهود. بينما نجد في المقابل أن اليهود كانوا يعبّرون عمّا يختلج فيصدورهم من كيد وبغي وسفك دماء إزاء المسلمين وغيرهم وفي مختلف أدوار حياتهم القديمة والمعاصرة. كما أعلنوا جهاراً عن نظراتهم التوسعية، يقول اليهودي اللندني (د. أوسكار ليفي):

«نحن معشر اليهودصنعنا الحرب العالمية، نحن اليهود لسنا إلّا مضلّلي العالم وحارقيه وقاتليه، وإنّ ثورتنا الأخيرة لم تقُمْ بعد. ونحن وضعنا اسطورة (الشعب المختار)» (2).


1- 1 جواهر الكلام، 17: 239.
2- 2 شيريب سبيريد وفيتش: حكومة العالم الخفية، سلسلة اليهود والعالم: 100.

ص: 144

هذا في الوقت الذي يحاول فيه الإعلام الاستكباري إظهار اليهود في هذه الأيام. يمظهر الحمْل الوديع، وكأنهم المسالمون الذين يوفون بالعهد؛ ليخلط في ذلك الحقائق بالأوهام.

يتضمن البحث المطالب التالية:

1- خصائص النفسية اليهودية.

2- علاقة اليهود بالجزيرة العربية.

3- الأوضاع الاقتصادية لليهود.

4- التجمع اليهودي في عصر البعثة المحمّديّة.

1- خصائص النفسية اليهوديّة:

ظهرت تسمية اليهود بعد السبي، لأنّ كلمة (يهودي) تعني بالأصل أفراد قبيلة أو مملكة (يهودا)، أُطلقت بعد ذلك على أيّ فرد من أفراد اليهود، وشملت أخيراً كل أفراد اليهود في العالم (1).

ولفظة «يهود» مشتقة من (هادوا)، أي: (تابوا، والهود: التوبة، هاد يهود هوداً، أو تهوّد: أي تاب ورجع إلى الحق، وفي القرآن الكريم: «إنّا هُدنا اليكَ» أي: تبنا إليك، وهاد وتهوّد: إذاصار يهودياً) (2).

وعلى أي حال، فإنّ اليهود يدّعون أنّ نسبهم يرقى إلى النبيِّ إبراهيم الخليل عليه السلام، الذي نزح من «أور» في بلاد (الكلدانيين) جنوبي العراق، حوالي سنة 1800 (ق. م)، وعبر نهر الفرات إلى أرض كنعان، حيث قومُه ونسلُه من زوجه (سارة)، وسمّوا فيما بعد ب (العبرانيين)، وهو مشتق- على الرأي الأرجح- من الجذر (عابَر) المعروف في كلّ اللغات الساميّة بمعنى «اجتاز من جهة إلى أخرى»، ومنه اشتقاق العِبْر «بكسر العين وتسكين الباء» أي الضفة الأخرى (3).

ولكنّ الاستعمال الحديث لكلمة «عبري» أصبح يرتبط بالمقدّسات التراثية القديمة، والجوانب الثقافية لليهود. فيقولون مثلًا «اللغة العبريّة» و «الأدب العبريّ» و «الجامعة العبريّة» ... الخ (4).

ومما يجدر ذكره هنا: أن اليهود عرفوا خلال تاريخهم الطويل بأسماء أخرى منها (الإسرائيليون) نسبة إلى (إسرائيل)، وهو لقب للنبيِّ يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليه السلام. وقد اختلفت الروايات في أصل كلمة «إسرائيل»، وهو على الأصح اسم مركب من لفظتين ساميتين قديمتين هما (أسر) بمعنى القوة والغلبة و (ايل) أي اللَّه، فيكون معنى الكلمة «قوة اللَّه» (5).

وقد اقترنت لفظة (اليهود) دائماً بذكر الجوانب السيئة في خُلُق «بني إسرائيل) نحو قوله تعالى: «وقالت اليهود يد اللَّه مغلولة غلّت أيديهم ولُعنوا بما قالوا ...» (6).

ويحمل اليهود في أعماقهم خصائص نفسية بالغة التعقيد، وتنطوي على أخلاق غاية في العوج والالتواء؛ ولذلك تموجصدورهم بحقد طافح على الناس جميعاً، فيسعون في الأرض فساداً، ولا يرون لأنفسهم راحةً أو سعادةً إلّا على أنقاض الآخرين، ولا يستريحون إلا بالدّسِّ والكيد والتآمر والبغي، والتخريب والانتقام.


1- 1 قاموس «الكتاب المقدس»: لفظة يهود.
2- 2 ابن منظور، لسان العرب: مادة هود.
3- 3 دائرة المعارف، المعلم بطريس البستاني، 11: 659، دار المعرفة بيروت- وراجع أيضاً د. حسن ظاظا، الشخصية الإسرائيلية: 25.
4- 4 نفس المصدر: 24.
5- 5 نفس المصدر: 16- المعجم الحديث عبري- عربي: د. ربحي كمال.
6- 6 المائدة: 64.

ص: 145

ويكاد العقل ينكر- للوهلة الأولى- وجود سلسلة واحدة عبر الأزمنة والأمكنة، تتأصّل في أجيالها جميعاً كلّ أخلاق السوء الى هذا الحدّ الرهيب! ولا يصدق استمرار هذا السُّعار النفسي في الجيل بعد الجيل، على امتداد أكثر من ثلاثة آلاف سنة، ولكنّ هذا هو واقع اليهود وديدنهم، بل هو دينهم الذيصنعوه لأنفسهم، وأشربته قلوبهم على تعاقب القرون والأجيال. فالحقد اليهودي موجّه الى الناس جميعاً من قديم، ولم تفلت منه أمّة قط، وهذه حقيقة تأريخية معروفة ومؤكدة.

ويمكن القول: إن تعاليم «التلمود» (1) تُعدّ أوفقصورة لنفسية اليهود، فهي ترجمةصريحة لهذه الشخصية الموغلة في الخبث والأحقاد. بل (التلمود) تجسيد مكتوب لأخبث ما في النفسية اليهودية من ضلال وكيد!

فقد وضعت تعاليم (التلمود) في عصور الشتات، والقومُ سمّاعون للكذب وخاصة إذاصدر من أحبار السوء.

أضف الى ذلك أنّ هذه التعاليم جاءت بعد انقطاع النبوّة من بني اسرائيل وتحويلها عنهم لمّا كفروا بآخر أنبيائهم، وقالوا فيه وفي أُمّه بهتاناً عظيماً.

ومن هنا نفهم كيف امتزجت هذه التعاليم بالكيان اليهودي، وسرت فيه مسرى الدماء في العروق؛ ولذلك آمنت الجمهرة الكبرى من اليهود بهذه التعاليم الفاحشة، وقدّستها وأطاعتها عن رضا، وفضلتها على «التوراة»، والتزمت بها فوق التزامها بسائر ما لديها من وصايا وأسفار (2). ولا تزال كذلك الى يومنا هذا، وهيصاحبة الكلمة والسلطان على اليهود جميعاً، ومن يعارض «التلمود» منهم- على قلته- تعدّه ضالًا، ولا تأثير له.

فالشخصية الصهيونية المتولّدة من تعاليم «التلمود» شخصية شيطانية بكل معنى الكلمة: منشأً، ومنزعاً، وفكراً، وسلوكاً، وإلحاداً، وعناداً، واحترافاً للتضليل والإفساد.

2- علاقة اليهود بالجزيرة العربية:

انتشر اليهود- على إثر خراب «الهيكل»- في البلاد الواقعة بين آسيا الصغرى ومصر، والبعض منهم كان موجوداً في هذه المناطق قبل خراب الهيكل أيضاً (3).

وقد توزعوا أواخر القرن الأوّل الميلادي في أرجاء شبه الجزيرة، وفي اليمن والعراق والشام ومصر وتركيا، ويبدو أنهم لاقوا الاضطهاد في المناطق التي كانت تخضع لحكم المسيحيين في هذه البلدان، مثل: سوريا وتركيا ومصر.

يقول الدكتور (إسرائيل ولفنسون): «بعد حرب اليهود والرومان سنة (70 م)، التي انتهت بخراب فلسطين، وتدمير (هيكل بيت المقدس)، وتشتّت اليهود في أصقاع العالم، قصدت جموعٌ غفيرة من اليهود بلادَ العرب، كما حدّثنا عن ذلك المؤرخ اليهودي (يوسيفوس)، الذي شهد تلك الحروب، وكان قائداً لبعض وحداتها.


1- 1 التلمود: كتاب عقدي يفسّر ويبسّط كل معارف اليهود وتعاليمهم، وينقسم الى جزأين رئيسين: 1- المِشْناه، وهو الأصل المتن، ويعد أول لائحة قانونية وضعها اليهود لأنفسهم بعد التوراة، جمعها يهوذا هاناسي فيما بين 190 و 200 م، أي بعد قرن تقريباً من تدمير تيطس الروماني الهيكل. 2- جِمارا، شرح للمِشناه كتاب التلمود بكامله.
2- 2 الكنز المرصود في قواعد التلمود: 43- 44، د. يوسف نصر اللَّه.
3- 3.- 1972- 1660-.

ص: 146

أما اليهود الذين توجّهوا إلى المناطق التي تسكنها قبائل وثنية، مثل: الحجاز، فقد تمتعوا بحريتهم الكاملة، وإن كانوا قد واجهوا معاناة في بعض الأحيان.

وبشكل عام فإنّ يهود الحجاز تمتعوا بحرية دينية كاملة قبل ظهور الإسلام؛ لأن القبائل العربية التي جاوروها في تلك المنطقة كانت وثنية في معظمها. لذا فإنّ الجزيرة العربية تمثّل المحطة الأولى لهجرة اليهود بعد فتك الرومانيين بهم، حيث انتشروا جماعاتٍ جماعات، استقرت في مواضع المياه والعيون من وادي القرى، وتَيماء، وفدك، وخيبر الى يثرب، وبنوا فيها الآطام لحماية أنفسهم وأرضهم وزرعهم من اعتداء الأعراب عليهم.

كما انتشرت اليهودية في جنوبي الجزيرة العربية حيث اعتنقها كثير من القبائل في اليمن. ومن أشهر المتهودين (ذونواس) ملك اليمن، الذي عرف عنه اضطهاده لنصارى (نجران).

وقد عمل اليهود على نشر تعاليم «التوراة»، وتفسيراتها في مناطق سكناهم في شبه جزيرة العرب (1).

وتجدر الإشارة- هنا- إلى أن هجرة المسلمين من مكّة الى يثرب سنة 620 م تعتبر بداية تحوّل كبير في مسار الدعوة الإسلاميّة، لأنّها كانت- في الوقت نفسه- بدايةصراع من نوع آخر، غير الصراع مع مشركي قريش، أعني بذلكصراعهم مع القبائل اليهودية، التي كانت قد توطّنت يثرب؛ وما حولها منذ زمن بعيد، ومكّنت لنفسها في الأرض.

وكانت (يثرب) في أيدي اليهود قبل هجرة (الأوس والخزرج) إليها (2). ويبدو أن هاتين القبيلتين قدمتا من الجنوب، إذ يرجع نسب (الأوس والخزرج) الى قبيلة (الأزد) اليمنيّة، التي تفرّعت عن (شعب كهلان)، وهو من نسل (قحطان) أبي اليمنيين جميعاً (3).

ولقد وجد اليهود أنفسهم مضطرين للتعايش مع (الأوس والخزرج)؛ فأنشأوا معهم علاقات سياسيّة على قدم المساواة (4)، وجمعت بينهم مصالح الجوار، مع رجحان المصالح الاقتصاديّة اليهوديّة في المنطقة بشكل ملحوظ، ولم يكن ذلك كافياً للهدوء والسلام بين القبيلتين القادمتين من الجنوب، بل كان الصراع سمة دائمة بينهما اصطبغ بلون الدم، وسجّل التاريخ مواقع كثيرة سفكت فيها الدماء من الفريقين، وأدّى بهما هذا النزاع الى فتنة مستمرة قسمت يثرب الى معسكرين متنابذين.

وفيما عاش يهود (بني النضير)، و (بني قريظة) مع الأوس. نرى (بني قينقاع) يحتفظون بمساكنهم المجتمعة المنعزلة (5).

ولم يكن يهود الحجاز بعيدين عن مسببات الصراع بين الأوس والخزرج، ففي وقت من الأوقات خضع (الأوس) للخزرج، وخسروا أرضهم. بَيْد أن (الأوس) ما لبثوا أن تحالفوا مع يهود (بني قريظة) و (بني النضير)، ومن ثمّ تغلبوا على (الخزرج) في معركة كبيرة حاسمة جرت في (بعاث)، ولم يعرف الفريقان السلام بينهما بعد هذه المعركة، بل استمرّ النزاع عنيفاً مميتاً (6).

ويتمثل يهود الحجاز بالقبائل والعشائر والبطون التالية:

بنو النضير، وبنو قريظة، وبنو قينقاع، وبنو عكرمة، وبنو عمر، وبنو زعورا، وبنو زيد، وبنو جشم، وبنو بهدل، وبنو عوف، وبنو العصيص، وبنو ثعلبة وغيرهم (7).


1- 1 أحمد أمين، فجر الإسلام: 24.
2- 2 كارل بروكلمان، تاريخ الشعوب الإسلامية: 42.
3- 3 احمد أمين، فجر الاسلام: 7.
4- 4 كارل بروكلمان، تاريخ الشعوب الاسلامية: 43.
5- 5 نفس المصدر.
6- 6 نفس المصدر.
7- 7 نفس المصدر.

ص: 147

غير أنهم لم يكونوا أعراباً، أي بدواً يتنقلون من مكان الى مكان، بل كانوا حضراً استقروا في الأماكن التي نزلوا فيها.

والمستشرق (أوليري) كغيره من المستشرقين يرجع أصل (بني قريظة)، و (بني النضير) إلى اليهود، ويرى أنهم غادروا ديارهم، وجاءوا الى هذه المنطقة في الفترة الواقعة ما بين خراب الهيكل في عام (70 م) وتنكيل (هدريان) باليهود في عام (132 م).

وتتضح خارطة التوزيع الاستراتيجي لليهود في شبه الجزيرة على النحو التالي:

1- يثرب (المدينة):

سكن اليهود يثرب، وكان يسكن معهم من غير «بني اسرائيل» بطون من العرب، وظل اليهود أصحاب يثرب حتى جاء (الأوس والخزرج)، فنزلوها واستغلوا الخلافات التي كانت قد وقعت بين اليهود فتغلّبوا عليهم، وسيطروا على يثرب، وقسموها فيما بينهم فلم يبق لليهود أيّ سلطان عليها (1).

وتمركز (بنو قينقاع) وعددهم حوالي (1000 شخص) في قلب يثرب، وتمركز (بنو قريظة) وعددهم حوالي (1500 شخص) في ضواحي يثرب، باتجاه الجنوب الشرقي، بمنطقة مهزور على بعد بضعة أميال من يثرب، وتمركز (بنو النضير) وعددهم حوالي (1500 شخص) في ضواحي يثرب، في اتجاه الغرب، بمنطقة بُطحان بالعالية على بُعد ميلين أو ثلاثة من يثرب، وكانت عامرة بالنخيل والزروع (2).

ومن بين اليهود الذين سكنوا يثرب وضواحيها بطونصغيرة أخرى كبني عكرمة وبني ثعلبة، وبني محمر، وبني زعورا، وبني عوف، وغيرهم، إلّاأنّ هذه البطون الصغيرة كانت تابعة في سياستها للبطون الكبيرة! كبني قينقاع والنضير وقريظة.

2- خيبر:

تمركز (بنو خيبر) وعددهم حوالي (3000 شخص) على بعد مئة ميل شمال المدينة، وهم أشد اليهود قوة، وأوسعهم ثراءً لخصوبة أرضهم، وكثرة مزارعهم وبساتينهم، وضخامة حصونهم ومتانتها.

وخيبر موضع غزير المياه، عرف واشتهر بزراعته، وبكثرة ما به من نخيل.

وعند إجلاء اليهود عن خيبر تفرّقوا، فذهب بعض منهم إلى العراق، وبعض آخر إلى الشام، وبعض منهم الى مصر، وقد بقوا- في كلّ هذه المواضع- متعصبين (لخيبر) (3).

3- فدك وتيماء:

تمركزت فيهما تجمعاتصغيرة تقدّر بحوالي (1000) شخص.

وفدك موضع غلب عليه اليهود. وسكانهُ مثل أغلب يهود الحجاز، مزارعون عاشوا على الزراعة، كما اشتغلوا بالتجارة، وببعض الحرف التي تخصص فيها اليهود مثل: الصياغة والحدادة والنجارة.

أما (تيماء): فهي من المواضع القديمة، وتعتبر ملتقى طرق هامة يسلكها التجار. وقد استبدّ بها اليهود، فأقاموا


1- 1 أبو الفرج الاصفهاني، الأغاني، 19: 95- أحمد أمين، فجر الإسلام: 7، 24، 25.
2- 2 نفس المصدر.
3- 3 تاريخ الطبري، 3: 15، 98.

ص: 148

بها، وجعلوها من أهم مستوطناتهم في الحجاز (وقد نعتت تيماء في بعض الأشعار بتيماء اليهود) (1).

4- وادي القرى:

وادي القرى من المواضع التي غصّت باليهود، فكان أكثر أهله منهم، وقد حفروا به الآبار، وتحالفوا وعاشوا مع الأعراب يعملون بالزرع (2).

والتوزيع الاستراتيجي لليهود في شبه الجزيرة العربية حقّق لهم الأهداف التالية:

1- السيطرة على شمال الحجاز من المدينة حتى حدود الشام (تقدر المسافة بحوالي 400 كم)، وينطوي هذا الهدف على السيطرة الاقتصادية، وامتلاك زمام الثروة- بكل مصادرها- في هذه المنطقة الغنية بمواردها الطبيعية، التي عمل اليهود على استغلالها واستثمارها.

2- تأمين التجمعات اليهودية من التهديد، أو الغارات، أو الغزو، فان انتشار التجمعات الفرعية من حول منطقة التجمع الرئيسية في المدينة وخيبر في اتجاه الشمال والشرق والغرب، يتيح الفرصة للحصول على معلومات مبكرة عن أي تهديد، أضف الى ذلك ما يتيحه أسلوبهم- في بناء مستعمراتهم وتحصينها، وتحصين منازلها، وتخزين السلاح والمؤن بها- من أسباب الأمن والوقاية والمقدرة الدفاعية.


1- 1 ابن الأثير، الكامل في التاريخ، 2: 93.
2- 2 نفس المصدر.

ص: 149

3- تجنب الاحتكاك بقريش التي كانت تمثل أكبر قوة اقتصادية وسياسية وتجارية عربية؛ وذلك بالابتعاد عن مكّة، وتجنب التمركز فيها، وخاصة أن بها الكعبة التي يقدّسها العرب، كأثر من آثار أبيهم إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام.

هذا فضلًا عن أن بيئة مكّة الطبيعية لم تكن تناسب اليهود، وكان اقتصادها قائماً على الرحلات والتنقل، واليهود ليسوا من الصنف الذي يجمع الثروة بمثل هذا الطريق الشاق، ولا ممن يستريحون لأولاد إسماعيل، والمقدسات التي يقدسها العرب الأميّيون، والمسلمون فيما بعد.

ويمكن القول: إنه لو لم يكن للعرب القرشيين في جنوب الحجاز من المقام الأدبي، والنفوذ الاقتصادي، والقدرة العسكرية؛ لكان من الممكن للنفوذ اليهودي أن يمتد ويتسع.

4- استغلال ظروف المنطقة، والصراعات للإثراء وتأمين الاستيطان. فقد استغل اليهود ما كان بين الأوس والخزرج منصراعات وحروب وثارات في الجاهلية بما يلي، على سبيل المثال:

أ- إقراض الأموال والتعامل بالربا.

ب- بيع السلاح لكلّ من الطرفين.

ج- العمل على استمرار الصراع بين الأوس والخزرج، فتنشغل القبيلتان به عن مواجهة اليهود، وفي هذا تأمين لاستيطانهم في المنطقة، علاوة على ما فيه من استنزاف لقوى العرب باستمرار، وقد بلغ مخطط اليهود لتحقيق هذا الهدف حدّ التحالف مع طرفي الصراع، فكان بنو قينقاع يحالفون الخزرج، وبنو النضير يحالفون الأوس، وهذا التحالف لم يحقق لهم ما كانوا يحرصون عليه، وهو ألّا يجتمع الأوس والخزرج على اليهود فحسب، بل حقّق لهم جانباً كبيراً من الأمن، إذ إن كل فريق من الأوس والخزرج كان حريصاً على حلفائه من اليهود (1).

3- الأوضاع الاقتصادية لليهود:

من أهم الأعمال التي اشتغل بها اليهود التجارة، حتىصار لبعضهم فيها شهرة كبيرة ك (أبي رافع)، و (سلام بن أبي الحقيق) الذي ينعت بتاجر أهل الحجاز. ويمكن أن يقال: إن تجارة التمر والشعير والقمح والخمر تكاد تكون وقفاً عليهم في شمال الحجاز. كذلك اشتغل اليهود بالزراعة، التي هي المهنة الرئيسية لسكان القرى منهم، وعملوا بتربية الماشية والدواجن، وفي جهات (مقنا) كانت مهنتهمصيد الأسماك، وأما نساؤهم فقد اشتغلن بنسج الأقمشة. ومن الصناعات التي كان يهود الجزيرة العربية يزاولونها،صياغة (الذهب)، وقد اشتهر بها بنو قينقاع (2).

وكان لهم أيضاً باع فيصناعة السلاح، حتى أصبح تقليداً خاصاً بهم، توارثوه منذ أيام داود عليه السلام الذي يعزى إليه الفضل فيصناعة الأسلحة من معدن الحديد (3).

وقد ترتب على سيطرة اليهود على الجوانب الاقتصاديّة في المدينة وضواحيها، أن قوي نفوذهم المالي، وصاروا يتحكّمون في الأسواق تحكّماً فاحشاً، ويحتكرونها لمصلحتهم ومنفعتهم، فكرههم السواد الأعظم من الناس، بسبب أنانيتهم واشتطاطهم في أخذ الربا، ولأنّ معظم معاملاتهم- مع غيرهم- تقوم على المراهنات، وتعاطي الربا.


1- 1 نفس المصدر.
2- 2 غازي محمد فريج، النشاط السري اليهودي: 76، ط 1 1990.
3- 3 نفس المصدر.

ص: 150

وكان لهم من طبيعة منطقة المدينة الزراعية فرصة الى ذلك، لأن الزراع- عادة- يحتاجون الى اقتراض الأموال لحين الحصاد.

وقد وبخهم القرآن الكريم على أخذهم الربا، الذي نهاهم اللَّه عن أخذه، فقال تعالى: «فبظُلمٍ من الذين هادوا حرّمنا عليهم طيبات أحلّت لهم وبصدّهم عن سبيل اللَّه كثيراً وأخذِهم الربا وقد نُهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل وأعتدنا للكافرين منهم عذاباً أليماً» (1).

ويصف الدكتور (جواد علي) ما كان عليه اليهود من ضعف وذلّة، فيقول: «ولكن اليهود- مع ما كان لهم من حصون وآطام وقرى عاشوا فيها متكتلين مستقلين- لم يتمكنوا من بسط نفوذهم وسلطانهم على الأرض التي أنشأوا مستوطناتهم فيها، ولم يتمكنوا من إنشاء ممالك وحكومات يحكمها يهود، بل كانوا مستقلين في حماية سادات القبائل ورؤسائها، يؤدّون لهم إتاوة في كلّ عام مقابل حمايتهم لهم، ودفاعهم عنهم، ومنع الأعراب من التعدّي عليهم، وقد لجأوا الى عقد المحالفات معهم فكان لكل زعيم يهودي حليف من الأعراب ومن رؤساء العرب».

وقد أشار القرآن الكريم الى انضمام بعض اليهود الى الأوس، وبعضهم إلى الخزرج عند القتال: «وإذ أَخذنا ميثاقكم لا تَسفكون دماءكم ولا تُخرجون أنفسَكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون ثم أنتم هؤلاء تَقتلون أنفسَكم وتُخرجون فريقاً منكم من ديارهم تَظاهرون عليهم بالإثم والعُدوان وإن يأتوكم أسارى تُفادوهم وهو محرم عليكم إخراجُهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاءُ من يفعل ذلك منكم إلّا خزيٌ في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردّون الى أشدّ العذاب وما اللَّه بغافل عمّا تعملون» (2).

فاللَّه تعالى أخذ عهداً موثوقاً على (بني اسرائيل) ألّا يقتل بعضهم بعضاً، وألّا يخرج بعضهم بعضاً من داره، وقد أقرّوا بذلك، واعترفوا، ولكنهم بعد أخذ الميثاق عليهم، قتل بعضهم بعضاً، وأخرج بعضهم بعضاً من داره؛ وذلك أنهم كانوا إذا حصل قتل بين (الأوس والخزرج) انضمّت طائفة منهم إلى الأوس وطائفة منهم إلى الخزرج، وقاتلوا معهم. فكان يترتب على ذلك أن يقاتل اليهودُ بعضهم بعضاً، فاذا وضعت الحرب أوزارها، بذل اليهود جميعاً أموالهم، لافتداء أسراهم، الذين وقعوا في أيدي (الأوس والخزرج)، فكان العرب يعيّرونهم ويقولون لهم: كيف تقاتلونهم ثم تفدونهم بأموالكم؟ ..

فكان اليهود يقولون: قد حرم علينا قتالهم ولكنّا نستحي أن نخذل حلفاءنا، وقد أُمرنا أن نفتدي أسرانا، فوبّخهم اللَّه تعالى بقوله: «أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلّا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون الى أشد العذاب وما اللَّه بغافل عمّا تعملون» (3).

لذا يتضح أن علاقة اليهود ب (الأوس والخزرج) كانت خاضعة للمنفعة الشخصية، والمكاسب المادية، فهم يعملون على إثارة الحرب بين الفريقين متى وجدوا في إثارتها فائدة لهم، كما حصل في كثير من الحروب التي انهكت (الأوس والخزرج)، فكان كلّ همّهم أن تكون لهم السيطرة المالية على المدينة، وقد استمرت علاقتهم ب (الأوس والخزرج) تسير على هذا المنوال الى أن هاجر النبيّصلى الله عليه و آله و سلم إلى المدينة.

4- التجمّع اليهودي في عصر البعثة المحمدية:


1- 1 النساء: 160- 161.
2- 2 البقرة: 84- 85.
3- 3 البقرة: 85.

ص: 151

في بدء دعوة الإسلام كانت منطقة الحجاز مقسّمة قسمة عجيبة، بين نفوذ العرب ونفوذ اليهود وسيطرتهم، ففي بدء بعثة النبيّ محمدصلى الله عليه و آله و سلم كانت قوة اليهود الاقتصادية والسياسية كبيرة ومزعجة في شمال الحجاز، حيث بلغت قوتهم فيه قوة قريش في جنوبه، التي امتد نفوذها من منطقة يثرب (المدينة) حتى الطائف، فيما راح نفوذ اليهود يمتدّ في شمال الحجاز الى حدٍّ يمكن معه القول: إنّ هذا النفوذ كان يمتد من المدينة حتى تيماء في أقصى حدود الحجاز الشمالية، ملتقياً بحدود سوريا لمسافة تقدر الآن بحوالي 450 كم.

لذا فإن نفوذ اليهود الاقتصادي إبّان عصر البعثة يشكل أسس حركة السيطرة اليهودية، التي كان يمكن أن تصعد وتتّسع، فقد كانت أوضاع توزيع الوجود اليهودي في شمال الحجاز في منتهى الدقة، والحرص على نيات التوسع والسيطرة.

وذلك أن يهود (بني قينقاع) الذين ورد ذكرهم في رواية ابن خلدون كانوا يقيمون في منطقة يثرب (المدينة)، وكانت معهم قبائل (بني عوف) و (بني النجار) وتقيم حولها قبائل (الأوس والخزرج) وتنزل في المناطق الزراعية التي كانت تهتم بها.

و (بنو قريظة) كانوا ينزلون في ضاحية يثرب (المدينة) من جهة الجنوب الشرقي، وبنو النضير كانوا ينزلون في ضاحية يثرب (المدينة) من جهة الغرب.

أما منطقة (خيبر) ففيها أعظم مركز لتجمع اليهود في شمالِ الحجاز، وتقع ما بين المدينة ومنطقة تيماء الملاصقة لأقصى حدود الشمال عن سوريا (1).

وكان هذا التوزيع لمراكز القوة اليهودية يكفل لليهود- وقتها- القدرة على الانتشار، ووضع أيديهم على مساحة كبيرة من الأرض، يعملون على استغلالها واستثمارها، والقيام بتحصين أماكن تجمعهم، وامدادها بالقوة العسكريّة، وتخزين كميات من السلاح، وإعداد مجموعات منهم للقتال، بغية الحفاظ على ما اكتسبوه، حتى يمكن لهم دوام السيطرة والبقاء.

ولكن ما إن أحسّ اليهود أنّ القرشيّين أخذوا يباشرون أسلوب عمل في النظام الجديد، المرتبط بعقيدة الإسلام وآدابه وتعاليمه، حتى أدركوا تماماً أن هذه البداية الدينية بما تقرره، وتصنعه من إعداد قوة بشرية ودينية، تصطدم مع واقع الوجود اليهودي في الأرض العربية، وآماله ومصالحه. وما لبثوا أن أعلنوها حرباً قاسية ومريرة ضد الرسول الأكرم، والإسلام والمسلمين.

ولم تفتر حدة الردّ إلّابعد أن تمكّن المسلمون من تصفية مراكز القوى وإنهاء مواقع التجمّع اليهودي في أرض الإسلام، وأبقوا عليهم أفراداً وجماعات دون أن يتركوهم يشكّلون خطراً يُعين الجماعات الطامعة المتوسعة.

وكان الأمل كبيراً في قلوب المسلمين أن تسير العلاقة بين اليهود والمسلمين سيرة حسنة، وأن يتعاون الطرفان إلا أنّ العداوة والمضايقة والتربّص من جانب اليهود لم ينته أبداً. فكانت الحرب من جانب اليهود ضد المسلمين، وإعلان هذه الحرب ومداومة القيام عليها حتى مرحلة التآمر على النبيِّصلى الله عليه و آله و سلم، ومحاولات التخلص منه نهائياً


1- 1 أمين سعيد، تاريخ الإسلام السياسي: 98.

ص: 152

باعتباره رمزاً لسيادة المسلمين في المدينة، الموطن الجديد لهم، الموطن الذي ضايق اليهود بوجود المسلمين فيه، ومواصلتهم نشر الإسلام منه.

وأخذت الحرب الصامتة تَقْوى وتشتد من جانب اليهود ضد المسلمين وعلى مراحل، وفي كل مرحلة كان موقف اليهود فيها يكشف عن طبيعة وجودهم وعقائدهم في أيّ موقع يسيطرون فيه، ويبرز نوع تعاملهم مع أي أمّة يعيشون معها أو بينها (1). فلقد كان اليهود يعبّرون عمّا تنطوي عليه نفوسُهم وقلوبُهم من غِلٍّ وحقد وحسد للمسلمين، ويفصحون عن إحساسهم بالخطر مما يمكن أن يطرأ على حال المسلمين من اطّراد القوة والمنعة والسيادة.

ومع كل هذا كان المسلمون يتجنّبون تصعيد حالات العداء، إلا أنّ اليهود كانوا يدركون أن الوقت ليس فيصالحهم، فإذا لم يكسروا شوكة المسلمين من الآن- خاصة بعد بدر- فإن خطر المسلمين سيتضاعف، ومع أنّ المسلمين كانوا يعيشون انتصار بدر وصداه العظيم في كلّ أرض الحجاز، فإنّهم كانوا يدركون أن خطر قريش لا يزال قائماً، وأنّه ربما تكون الجولة القادمة من جانب قريش طلباً للثأر من المسلمين.

ثم إنّ بداية المضايقات وتصاعدها، وبلوغها حالات الصِّدام في الموطن الجديد، كانت تتمثل في قطاع هائل من اليهود وهم «بنو قينقاع» الذين توجّه إليهم رسولُ اللَّه بنفسه في سوقهم، فرفضوا دعوته، ثم هدّدوه إن قامت الحرب بينه وبينهم (2).

ثم ساروا على طريق الهُزء بالمسلمين والاستخفاف بهم وبحرماتهم، إلا أن المسلمين لم يبالوا بكل الظروف المحيطة بهم، وقاموا بمحاصرة يهود «بني قينقاع» في بطولة فدائية عظيمة، فقد كان عدد اليهود من (بني قينقاع) أكثر من عدد المسلمين بكثير، فهم عند بعض المؤرخين (700) مقاتل و (300) دارع و (400) حاسر؛ لذا أدرك اليهود الذين ينتشرون في شمال الحجاز أنه لابدّ لهم من العمل ضد الإسلام والمسلمين، وهذا هو ما ساروا عليه، وخططوا له على المدى البعيد.

ومن هنا يتضح أن اليهود (ومن ورائهم الصهيونية) يدركون أن الإسلام هو العدو والخصم اللدود لهم، فعلى المسلمين والعرب أن يستبعدوا أي تفكير بقبول (الكيان الغاصب) والاعتراف به مهما كان المقابل؛ ذلك أن الصهيونية منذ البداية الأولى لها كانت قائمة على أساس التفسير التوراتي للتاريخ الإنساني، وللميثاق الإلهي مع الإنسان ولمستقبل الإنسان فوق الأرض. كما أن نزعة العنصرية الحاقدة، ونزعة احتقار الأمم الأخرى في العقلية الصهيونية إنما هي مستوحاة من الرؤية التوراتية المزوّرة التي تقول حكاية عن الرب: «أنا قلت: إنكم آلهة وكلكم بنو العلي» (3).

لذا يرتكز الكيان الغاصب في سياساته العدوانية والتوسعية والعنصرية على رؤية (دينية توراتية تلمودية)، بل إن قيام هذا الكيان على أرض شعب فلسطين مدين في وجوده لتلك (الرؤية التوراتية) المحرّفة، التي كتبتها وأملتها أحقاد أحبار اليهود على الأمم.

ومن هنا تعتبر الصهيونية التطبيق العملي لليهودية، واليهود أنفسهم يعتبرون تاريخ اليهودية والصهيونية شيئاً واحداً، كما أن تاريخ الصهونية يؤكد تفنن اليهود في ابتداع وابتكار الأساليب والطرق التي تخدم أهدافهم بطرق غير مباشرة (4). نعم يصح التفريق بين اليهودية والصهيونية إذا كان المقصود باليهودية الرسالة السماوية الصحيحة التي


1- 1 نفس المصدر.
2- 2 نفس المصدر.
3- 3 سفر المزامير، 82: 6- الأصل العبري: 1010.
4- 4 فتحي يگن، العالم الإسلامي والمكائد الدولية: 72- سهيل ديب، التوراة تاريخها وغاياتها: 5.

ص: 153

جاء بها موسى عليه السلام.

وينبغي على الأمّة الإسلاميّة أن تسلك طريق الجهاد في سبيل اللَّه، حتى تستعيد حقوقها وأرضها وعزتها وكرامتها، وتضع حدّاً للعدوان الصهيوني الذي يهدّد السلام والأمن في العالم، ويهدّد المكتسبات المادية والأخلاقية للحضارة المعاصرة. فالصراع الذي تخوضه الشعوب الإسلامية والشعب الفلسطيني بشكل خاص ضدّ الاستكبار العالمي يشهد اليوم اختراقاً خطيراً له ولعالمنا الإسلامي من قبل الصهيونية العالمية واليهودية المنحرفة لم يسبق له مثيل. فقد مهدت قوى الاستكبار لهذا الاختراق منذ وقت ليس ببعيد تحت مظلة ما يسمى بالحكم الذاتي، والذي أطلق عليه اتفاق (غزة- أريحا)، حيث يشكل طوقاً يحاصر التحرك الإسلامي والفلسطيني، وقد أريد له أن يكون أداةً ناجحةً لتحجيم (ثورة الحجارة الفلسطينية) وتدميرها، بعد أن أربكت القوة العسكرية والأمنية والاقتصادية للكيان الغاصب.

ومن هنا فالمشروع الصهيوني يمثّل أخطر تحدٍّ حضاري تتعرض له الأمة الإسلامية جمعاء عبر تاريخها الطويل؛ لأن الصهيونية تخشى الإسلام الذي استوعب الدرس التاريخي المتمثل بسر انتصار المسلمين ووحدتهم، فلابدّ من إنهاء الوجود الصهيوني الشرير الذي يسعى للسيطرة على العالم واستعباد البشر ونهب ثروات الشعوب وإذلال العباد.

الهوامش:

النواحي العمرانية لمكة المكرّمة على مرّ العصور

النواحي العمرانية لمكة المكرّمة على مرّ العصور

عباس المهاجر

أولًا: الناحية العمرانية في عهد قريش:

إن العمران في مكّة لم يزد عن مضارب من الشعر، كانت تتلاصق أو تتباعد في حواشي الوادي، وبين ليات جباله، وما إن أَطلّ العهد الذي ندرسه- عهد حكومة قريش- حتى كانت المضارب من الشعر قد حلّت محلّها البيوت المرصوصة بالحجر، أو المبنيّة بالطين والحجر فيما يحاذي المسجد، أو بالطين التي ء وحده على حوافي الأباطح في أعلى مكة، أو على شواطئ المسيل في أسفلها.

ص: 154

وكان سعيد بن عمرو السهمي أوّل مَن بنى بيتاً بمكّة، وقد قيل فيه:

وأوّل من بوّا بمكّة بيتَه وسوّر فيها مسكناً بأثافي (1) وكانوا يبنونها بحيث لا تستوي على سقوف مربعة كما نفعل اليوم.

وأول من بنى بيتاً مربعاً حميد بن زهير، وأستهولت قريش عاقبة التربع في هندسة البيت، فقالت:

«ربع حميد بيتاً- اما حياة أو موتاً» (2).

وأول مَن بوّب في مكّة «حاطب بن أبي بلتعة» (3).

وكانوا يجعلون بين يديها العرصات ينزل الحجاج فيها والمعتمرون. ولما شرعوا يصنعون لبعض الدور أبواباً كانوا يقصرون ذلك على بعض غرفها، ويتركون مداخلها شارعة على عرصاتها دون أبواب، وقد قيل إن هند بنت سهيل عندما استأذنت عمر بن الخطاب في أن تجعل على دارها بابين أبى وقال لها:

إنما تريدون أن تغلقوا دوركم دون الحجاج والمعتمرين، قالت: تاللَّه ما أريد إلا أن أحفظ على الحجاج متاعهم؛ فأغلقها عليهم من اللصوص فأذن لها فبوبتها.

ويستطيع الباحث أن يستنتج: أن العمران في مكّة- في عهدنا الذي ندرسه- نشط نشاطاً كبيراً، بعد أن تركنا المضارب تتباعد على حوافي وادي إبراهيم من أعلى مكّة إلى أسفلها، ثم تعرج في ناحية منها إلى مداخل الشامية اليوم نحو قعيقعان؛ نجدها الآن وقد اتصلت وتكاثفت واتخذت كلُّ قبيلة منزلها من الوادي وشعابه، ولم يزحف عمرانهم إلى مرتفعات الجبال وأكتافها كما نفعل اليوم ... بل ظل مستوياً باستواء سطح الوادي.

وقد ذكروا أن قصياً خطّ للكعبة ساحة توازىٍصحن المسجد اليوم، وأباح للناس أن يبنوا دون ذلك حول مدارها من الجهات الأربع، وكانوا لا يبيحون لأنفسهم قبل «قُصيّ» السكنى، أو المبيت بجوار الكعبة. ثم أمرهم أن يجعلوا بين بيوتهم مسالك يفضون منها إلى ساحة الكعبة، وأهم هذه المسالك مسلك شيبة وهو في مكان بني شيبة اليوم، ولم يبوّب ساحة الكعبة أو يسورها، كما أمر بأن لا يرفعوا بيوتهم عن الكعبة لتظل مشرفة عليها؛ وكانوا يتخذون مجالسهم العامة في أفيائها، كما بنى دار الندوة لاجتماعاتهم الخاصة (4).

وفي استطاعتنا أن نرسم خطوطاً تقريبية لخريطة مكّة، نبين فيها باختصار مواقع البطون في مكّة يومها، وسير العمران بين شعابها، اعتماداً على ما ذكره الأزرقي في تخطيطه مواقع القبائل في كتابه أخبار مكّة (5).

ولتوضيح ذلك في الأذهان؛ نستطيع أن نجعل من باب بني شيبة نقطة ابتداء لتخطيطاتهم، فقد كان موضع ارتكاز الحركة العمرانية في أمّ القرى، كما كان أهم مداخل المسجد الحرام، وكانت البيوت تتكاثف حوله متجهة في الشرق إلى «حصوة» باب عليّ، وفي الشمال قليلًا إلى «حصوة» باب السلام، تنزلها بطون غساسنة الشام وبعض السفيانيين، وتتخللها متاجر للعطارين، فإذا مضى بنا الخطّ مستقيماً إلى جهة باب النبيِّ واجهنا بيت العباس، ودار جبير بن مطعم، ودور لبني عامر بن لؤي، واستقام أمامنا زقاق أصحاب الشيرق، وهو إلى جانب زقاق الحجر حيث تقوم دار لابن علقمة، ودور أخرى لآل عدي من ثقيف. فإذا نفذنا من ذلك إلى شارعنا العام في القشاشية (6)، متوجهين إلى أعلى مكة استقام أمامنا سوق كانوا يُسمونه سوق الفاكهة، ثم سوق الرطب، ثم رباع كانت لبعض بني عامر، وعند سوق الليل تصافحنا الدار التي كانوا يسمونها دار مال اللَّه، وكانوا ينفقون فيها على المرضى ويطعمونهم.


1- 1 شفاء الغرام للفاسي، 1: 36 ط الأولى 1985.
2- 2 الجامع اللطيف لابن ظهيرة: 26.
3- 3 تاريخ القطبي: 23.
4- 4 تاريخ مكة، 1: 30 ط السادسة 1984.
5- 5 الأزرقي، 2: 131 بتصرف.
6- 6 لعل القشاشية منسوبة إلى الشيخ القشاشي، وقد كان يسكن مكّة حوالي القرن الحادي عشر «أُنظر في الجزء الثاني من كتاب تاريخ مكّة للسباعي في حوادث الشريف أحمد بن عبد المطلب في عهد الترك العثمانيين».

ص: 155

وبالقرب من الدار يلتوي شعب ابن يوسف، وهو ما نسمّيه اليوم شعب عليّ، وفيه دور عبد المطلب بن هاشم، ودور أخرى لأبي طالب، وأخرى للعباس بن عبد المطلب، وإذا عدنا إلى استقامتنا في شارعنا العام يصافحنا دار العاص في فوهة شعب بني عامر، ثم يلتوي شعب بني عامر في دروب متعددة تقوم عليها دور لبني بكر، وأخرى لبني عبد المطلب بن عبد المناف، ونستقيم مرة أخرى في شارعنا العام فيواجهنا ردم آل عبد اللَّه، وكانوا يعارضون به مجرى السيل ويسمونه الردم، وعنده يقف الحمارون، ونمضي قليلًا إلى المعلاة لنجد الجزّارين عن يميننا في شعب أبي دب، ثم مكان المقابر وهي بعد حدود شعب عامر، ثم بعض بساتين تنتهي منها إلى شعبة الجن، ثم ثنية الحجون، ثم بساتين أخرى نصل بعدها إلى شعب الصفي وهو ما نسميه اليوم المعابدة، وفيه دور لبني كنانة وآل عتبة بن أبي معيط، ودور لربيعة من بني عبد شمس.

وإذا بدأنا خطّاً آخر من باب بني شيبة، متوجّهين إلى الشمال الشرقي في المسعىصادفتنا دورٌ لبني عدي، قائمة بين باب بني شيبة ورواق باب السلام، وفي المسعى يتوجّه درب إلى يميننا كانوا يسمونه الخرامية، وكان فيه مكان للبانين، وفيه سقيفة، ودار الحكم بن حزام، ودور تتخللها عرصات لبني سهم، ويمضي بنا الدرب إلى بيت خديجة، حتى يخرج إلى مكان المدعى اليوم.

وإلى يسارنا- ونحن في المسعى- طريق الساعين إلى المروة، وفي المروة دور لآل عتبة بن فرقد، ودار كبيرة لآل ياسر، في واجهتها الحجامون والحلاقون، وإذا مضينا في المسعى مصعدين في طريق المدعى انتهينا إلى رحبة واسعة، كانت تحط فيها عير الحنطة والسمن والعسل والحبوب؛ لتباع فيها، وهي ما نسميها اليوم المحناطة، وفيها دور لبني عبد الشمس، ودار أبي سفيان وهي في مكان «القبان» اليوم، وقد أشار النبيُّصلى الله عليه و آله و سلم إليها عندما قال يوم الفتح: «مَن دخل دار أبي سفيان كان آمناً» ثم دور لأولاد العباس تصل إلى قريب من المدعى، ثم دور لأولاد الحارث، ثم طريق إلى يسارنا يمضي إلى جبل الديلم، وهو يشرف على القرارة اليوم. ثم نمضي في استقامتنا إلى طريق المعلاة لنمرّ على دور لبني غزوان، وأخرى لأولاد الحارث بن عبد المطلب.

ونبدأ خطاً ثالثاً من باب بني شيبة متوجهين غرباً إلى دار الندوة؛ لنجد البيوت تتكاثف قبل الرواق، إلى جانبها دار لشيبة بن عثمان، ودار لخزانة الكعبة، ودار لصاحب البريد، ودار لبيت المال، ودار للخطاب بن نفيل، ثم نصعد شمالًا إلى جهة الرواق، الذي فيه باب الزيادة، إلى باب الدريبة، فتصادفنا دور لبني خزاعة، بينها زقاق الحذائين، نسلك منه إلى سويقة، ثم ننعطف منه إلى المروة، ومن جهة أخرى دور لآل زرارة من تميم، ثم يمضي بنا الشعب إلى قعيقعان في مداخل ما نسميه الشامية- اليوم- فإذا توجهت إلى يمينك توجه بك درب إلى ناحية الديلم، بالقرب من القرارة- اليوم-، ثم تصعد إذا شئت على تلال في مكان الفلق كانوا يصعدونها؛ لينزلوا منها إلى مكان سوق المعلاة- اليوم- ولم يفلق هذا الطريق إلا ابن الزبير في عصره.

وإذا أردنا أن ننتقل من شقّ مكة الأعلى إلى شقها الأسفل، تعيّن علينا أن نجعل نقطة ابتداء تخطيطنا ما بعدصحن المسجد أمام باب أجياد، متوجهين إلى الشرق ثم إلى الجنوب الشرقي.

ص: 156

كانت منازل بني عائذ تبتدئ منصحن المسجد فيما يوازي ركن الكعبة اليماني، ممتدة غرباً إلى ما يحاذي بئر زمزم، ثم تصعد في الشرق نحو باب عليّ. وكانت دور بعض كبارهم شارعة على مكان المسعى، على يسار القادم من الصفا يريد المروة، أي فيما يحاذي باب علي اليوم تقريباً. وكانت منازل عدي بن كعب تبتدئ منصحن المسجد متوجهة إلى الصفا من ناحية، وإلى أجياد من ناحية أخرى قبل أن ينقلوا إلى أسفل مكّة.

وفي الطريق الذي يبدأ من باب الصفا متوجهاً جنوباً إلى باب أجياد كانت سقيفة لبني عائذة، وسوق للبزازين «القماشين» وبالقرب من ذلك كان البيت الذي اتخذه النبيّصلى الله عليه و آله و سلم لتجارته قبل البعثة مع شريكه السايب بن السايب.

وإذا انتهيت إلى باب أجياد، ووقفت حيث تكون القبلة في ظهرك، ومداخل أجياد في وجهك امتد أمامك شعبان:

أحدهما عن يمينك إلى ما نسميه- اليوم- بئر بليلة، وكانوا يسمونه أجياد الكبير، وامتد الشعب الثاني على يسارك إلى ما نسميه- اليوم- السد، وكانوا يسمونه أجياد الصغير، ولست أعني بالامتداد ما يتبادر إلى ذهنك من نفاد الجادة واستقامتها بامتداد الشعوب، فقد كان العمران يتخلل الجادة ويعرقل استقامتها ... وكان بنو تميم ينزلون حوالي باب أجياد، وتمتد بيوتهم من جهة الغرب إلى قبيل حدود المسجد يومها، وهي حدودصحن الكعبة اليوم، وكان بنو مخزوم ينزلون في فوهة أجياد الكبير مكان الرواق الجديد اليوم .... وكان جماعة من الأزد ينزلون خلف ذلك مما يتصل بمكان الصحة العامة، وخلفها كان منزل أبي جهل بن هشام لا يبعد عن ذلك كثيراً، وفي أجياد الصغير إلى الجادة المتصلة بالسد كانت منازل لآل عدي بن عبد شمس، وفي أجياد مكان للحواتين، ودار لعبد اللَّه بن جدعان التي كان فيها حلف الفضول الذي تعاقدت فيه القبائل متفقة بأن لا يقرّ في مكة ظالم. وفيها دور لآل سلمة ابن هشام، وفيها بئر يجمع بين أجيادين احتفرها آل سلمة مع جماعة من جيرانهم، وكان يردها السكان في فوهة الشعب باجيادين، وأكاد اعتقد أنها البئر الموجودة اليوم قبيل عمارة المستشفى؛ لأنها تجمع بين طرفي أجيادين.

واذا تركت أجيادين، ماضياً في الشارع العام إلى الجنوب نحو المسفلة، بدأت بسوق الحزورة بجوار باب الوداع، ورأيت الدروب تمضي على يمينك إلى قرب المسجد عند حدود المطاف ومن أشهرها درب الحناطين، واعتقد أنه كان سوقاً للحنطة، فالحائط في اللغة هو كثير الحنطة، وموقع هذا الدربصالح لبيع منتجات الجنوب من الحنطة في مكة، وفي هذه الجهة كانت تنزل بطن من آلصيفي، وفيها دور لآل عبد الدار، وأخرى لجماعة لبني اسد بن عبد العزى.

ولعلنا إلى هذا الحد استطعنا أن نرسم خطوطاً تقريبية لمكة في الجاهلية، ولا يفوتنا- في أذيال هذا البحث- أن نشير الى الضواحي التي كان يحلو للمكيين أن ينتجعوها في الأصائل من شهور القيظ، وهي عادة ترى آثراها إلى اليوم في المتنزهين من أبناء مكة في أطراف الضواحي، وكأنما هم يمثلون بذلك عادة عرفها أجدادهم من نحو (1500) سنة تقريباً. ومن أشهر متنزهات مكة في الجاهلية (1) الليط ... والليط في رأي بعض المؤرخين (2) هو أسفل مكة فيما يقرب من بركة ماجل متنزهاً في مكة اليوم، ويقول الأستاذ رشدي الصالح ملحس في حاشيته على تاريخ الأزرقي: إنه يرجح أن يكون خلف القشلاق العسكري، أي فيما يلي جرول الخلفية، ولست بالذي يستبعدصحة القولين، وكأن الوادي بعد بركة ماجل يتصل بالجادة التي تنتهي خلف القشلاق، فلِمَ لا يكون الليط عبارة عن امتداد من جرول الخلفية إلى أطراف المسفلة؟ وكانت في الليط أُقحوانة (3) يجلس أهل مكة حولها في العشي، يلبسون الثياب المحمرة


1- 1 يرى بعضهم أن الجاهلية كلمة يراد بها نقيض العلم، كما يرى بعضهم أنها تعني الأخلاق السفيهة- أُنظر فجر الإسلام:ص 69.
2- 2 أخبار مكة للأزرقي، 2: 279 أُنظر حاشية رشدي الصالح ملحى- ط الرابعة 1983.
3- 3 أي عباد الشمس.

ص: 157

والموردة والمطيبة وفي هذا يقول الحارث بن خالد:

مَن ذا يسايل عنّا أين منزلنا فالأقحوانة منا منزل قمن

إذ نلبس العيشصفواً ما يكدره طعن الوشاة ولا ينبو بنا الزمن (1) ومن متنزهاتهم شعب خم، وهو يتصل بالمسفلة اليوم، وكان مزروعاً فيه عدة بساتين تتصل بالليط ثم تتصل بجرول.

وكانوا يخرجون إلى حائط الحمام بجوار المعلاة، فقد كان لهم هناك نخيل وزروع، وكانت بساتين تمتد إلى الخرمانية بقرب ما نسميه المعابدة، ثم تمضي إلى المحصب في الطريق المؤدي إلى منى.

وكان لهم في المحصب دكة يجتمع المتنزهون فيها أصيل كل يوم، وكانت تشرف على نخيل باسق وبساتين تحتضنها شعاب الوادي الممتدة إلى منى.

كما كانت لهم بساتين في وادي فخ ونسميه الشهداء (2)- اليوم- وأخرى بوادي طوى في امتداده من الحجون إلى ريع الكحل وبساتين غير هذه في ضواحي مكة العليا إلى مزدلفة فعرفة، وكانت المنازل في المناطق التي ذكرناها لا تتكاثف على قاعدة المدن الحاضرة بل تتفرق، وتفصل بينها مساحات خالية على عادة العرب في بناء قراهم ومدنهم، أما الناحية المتصلة بالمسجد فكانت تضيق بنزلائها؛ لتنافسهم في مجاورة الكعبة. وقد بنى القرشيون في أواخر عهدهم ما يشبه السور في أعلى المدعى وبوّبوه، ولم يثبت أنهم بنوا مثله من ناحية أخرى منها (3).

ثانياً: الناحية العمرانية في عهد الراشدين:

تتزاحم البيوت في هذا العهد حول المسجد؛ لأن الأغلبية من مهاجري الآفاق كانوا يفضلون قربه، فأخذ وسط أمّ القرى شكل المدينة المكتظة، وتركت الأطراف للقبائل التي تنزلها تؤدي معاني الضواحي للبلدة.

ولم يزد الاكتظاظ في طول البلدة عن «المدعى» من الناحية الشمالية، وعن أوائل الهجلة، وقبل الشبيكة من الناحية الجنوبية. أما شرقها إلى غربها فقد كان تكاثف السكان فيها من أوائل مدخل أجيادين إلى القشاشية، إلى النواحي القريبة من سوق الليل وشعب الهواشم، ومن سويقة إلى قرارة المدحا إلى الجزء القريب مما نسميه الشامية.

وبدأت الثروات في عهد عثمان تزيد أرقامها في مكة عما عهدناها في عهد الشيخين؛ لأنه أضيف إلى نشاط مكة التجاري مصدر جديد من مصادر الثراء ذلك هو عطاء عثمان، وليس غريباً أن يكون عطاء عثمان مصدراً للثراء، فقد كان قبل خلافته من أجواد العرب الممتازين، ونوادره في هذا معروفة ومشهورة (4)، فلما انقادت إليه الخلافة، وكانت الفتوحات قد اتسعت، وغنائم الأمصار قد انهمرت على المدينة كان لابدّ لجود عثمان من أن يتسع مداه، ولابد لجلة قريش وكبار أهليها من ذويه وأقاربه من أن ينالهم جوده الواسع. فقد ذكر أنه أعطى الزبير ستمائة ألف، وأعطى طلحة مائتي ألف، وأعطى غيرهم مثل ذلك، فتدفقت الأموال على مكة إلى جانب ما تدفق إليها من غنائم الحروب، وجلب الرقيق إليها من أطراف الأرض المفتوحة شراءً أو اهداءً، فأينعت الحضارة، وكثرت الأيدي العاملة في


1- 1 أخبار مكة للأزرقي، 2: 279 وما بعدها- ط الرابعة 1983.
2- 2 راجع أخبار مكة للأزرقي، 2: 230 حاشية رشديصالح؟؟؟.
3- 3 تاريخ مكة، السباعي، 1: 82.
4- 4 نفس المصدر: 74.

ص: 158

المزارع المحيطة بمكة، وأنشئت الجنات في بعض ضواحيها، وحفرت الآبار، واتخذت السدود من مياه الأمطار، ووجدت الأقطاعات الفخمة في أراضي الطائف، وأكثرها ملك للقريشيين، وانتقل إلى هذه الأقطاعات كثير من قريش، يسهرون على غلاتها، وقد ظل كثير من بطونهم يعيش إلى اليوم في بعض ضواحي الطائف.

وماجت مكة على أثر هذه الحركة بسكانها من القبائل النازحة إليها، والموالي المجلوبين من الفرس والروم، وبدأت تستقبل في عهد عثمان كثيراً من الذين نزحوا عنها في عهد الشيخين؛ للالتحاق بالجيوش الفاتحة ... عاد إليها البعض بما كسبه من غنائم، كما عاد البعض الآخر بما فيصدورهم من العلوم، فحفلت مكة بحلقات المعلمين، كما حفلت أسواقها بمتاجر أهل الثراء، ولم تشترك مكة في فتنة عثمان، التي اشتركت فيها أهم أمصار الإسلام. وإذا كان بعض المهاجرين من أهلها في المدينة اتصلوا بالفتنة من بعض أطرافها. فذلك بحكم بقائهم فيها واشتغالهم بالسياسة العليا في حكومتها. ولعلنا لسنا بحاجة الى استقصاء الأسباب التي عصمت مكة من مزالق الفتنة، وعندما نادت عائشة بثورتها لم يتبعها من مكة إلا الأقلون، واكثرهم من أشياع بني أمية واتباعهم، وبعض المشتغلين بالسياسة العليا، وهؤلاء لا يكونون الرأي العام في البلاد (1).

وكما تعاونت مكة مع ولاة عثمان مدة خلافته، وساعدت في تنشيط الحركة العمرانية لعهده رضيت بولاة علي عليه السلام وأخلصت الود لهم. ولما أراد قثم بن العباس أن يحارب الترف الذي بدرت بوادره كنتيجة لتضخم الثروات التي أشرنا إليها، كادت أن تسلس له القياد وتستجيب إلى دعوته.

ثالثاً: الناحية العمرانية في العهد الأموي:

ينقل القطبي في الأعلام عن الفاكهي أن من آثار النبيّ مسجداً بأعلى مكة عند بئر جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل، ثم يقول: وكان الناس لا يتجاوزون في منازلهم- في قديم الزمان- هذا البئر، وما فوق ذلك خال من الناس، وفي ذلك يقول عمر بن أبي ربيعة:

نزلت بمكةَ من قبائل نوفل ونزلت خلف البئر أبعد منزل

حذراً عليها من مقالة كاشح ذرب اللسان يقول ما لم يفعل ونستطيع أن نفهم من هذا أن قديم الزمان الذي يشير إليه الفاكهي، هو عهد بني أمية، وفي شعر ابن أبي ربيعة وهو من معاصري الأمويين ما يؤيد ذلك، فقد نزل خلف البئر أبعد منزل. إذاً فقد كان العمران في هذا العهد لا يتجاوز البئر والمسجد المذكورين، وقد أدركت العامة وهم يسمون المسجد الموجود الآن أمام الحلقة مسجد الراية، وكنت لا أستبعد أن يكون البئر المذكور هو بئر الكمالية الموجود اليوم على بعض أمتار منه، ولكني علمت أن الأستاذ عبد القدوس الأنصاري حقّق مكان البئر والمسجد، وانتهى في ذلك إلى أن مسجد الراية هو المسجد الموجود في الجودرية، وتقع عمارة شركة الكهرباء الآن خلفه، وبجواره مباشرة بئر جبير بن مطعم. وأجدني اليوم أميل إلى متابعة رأيه لأسباب أذكرها، وقد يكون ذكر غيرها:

1- بعد أن ذكر القطبي في كتابه الأعلام أن العمران كان لا يتجاوز البئر، قال: أما في زماننا «وزمانه أوائل العهد العثماني» فقد تجاوز العمران كثيراًصوب المعلاة، فإشارته إلى تجاوز العمران كثيراًصوب المعلاة فيه ما يدل


1- 1 تاريخ مكة، السباعي، 1: 83.

ص: 159

على أن مسجد الراية كان بعيداً عن المعلاة، فإذا أفترضنا أن مسجد الراية الموجود أمام الحلقة كان المدى بينه وبين المعلاة مدًى يسير، وأن أقل العمران يصله بالمعلاة مباشرة.

أما إذا جعلنا مسجد الراية في «الجودرية» (1) فإن جملة العلامة القطبي تستقيم تماماً؛ لأن المدى بينه وبين المعلاة يحتمل قول أن العمران تجاوز كثيراًصوب المعلاة.

2- يذكر مؤرخو مكّة أن ابن الزبير عندما فلق الطريق الذي نسميه اليوم «الفلق»، وكان غرضه أن تتصل بيوته في نواحي سويقة ببساتينه من ذلك الطريق؛ فتعين لدينا أن بساتينه لا تبعد عن الفلق كثيراً، وأن المتوقع أن يكون موقعها في الحلقة، أو بالقرب من ذلك؛ لأن الحلقة كانت موقع بساتين ولا يزال آثار ذلك بجانبها إلى اليوم، فإذاصحّ أن بساتينه في الحلقة، أو ما يقرب منها فإننا نستبعد أن يكون عمران مكة ينتهي إلى ما يسامت البساتين؛ لأن المعروف في تخطيط المدن العربية في العادة أن تقع بساتينها في ضواحيها، ولما كان عهد ابن الزبير متصلًا بعهد الأمويين، وكان المظنون أن بساتينه كانت تقع في ضاحية مكة، وأن العمران ينتهي بعيداً عن بساتينه بنحو مائة متر، وهو ما يتفق مع موقع المسجد الموجود خلف عمارة شركة الكهرباء اليوم، لهذا فالأوفق أن يكون مسجد الراية وبئر مطعم هما الموجودان اليوم أمام شركة الكهرباء في الجودرية، حيث كان ينتهي عمران مكة في عهد الأمويين.

ولا نعتقد أن العمران تجاوز من الجهة الأخرى الشبيكة، لأن حدود حارة الباب لم تعمر إلا بعد هذا العهد، ولم يكن لمكّة في هذا العهد سور؛ لأن المفهوم من سياق ما ذكره التقي الفاسي: أن العمران في هذا العهد تجاوز السور الذي عرفناه في العهد الجاهلي بالقرب من المدعاة، فهدم السور وظلت مكة على ذلك إلى أن سورت في المعلاة في عهد قتادة كما سيأتي.

على أننا لا نعني بتحديد العمران- في مكّة في هذا العهد- التحديد المتبادر إلى الذهن؛ لأن المعروف أن كثيراً من السكان كانوا يسكنون إلى مسافات تتجاوز هذه الحدود؛ فشعب عامر كان مسكوناً في العهد الجاهلي، وكذلك كانت الحجون والمعابدة، وإذن فالمراد بالتحديد هو العمران المتصل، وهو لا يمنع وجود الساكن في الضواحي القريبة أو البعيدة.

رابعاً: النواحي العمرانية في العهد العباسي:

لا يستنتج الباحث مما كتب عن مكة، أن عمرانها اتسع في هذا العهد عما عرفناه في عهد الأمويين، أو أن مساحة المأهول فيها توسعت عما كانت، بل يجد أن الأمر على عكسه، وأن السكان قل تعدادهم جداً، فقد تفرق أبناء مكة في الآفاق، واستوطنوا الأراضي الخصبة، واتخذوا لهم أملاكاً في مصر والمغرب والشام والعراق حتى لم يبق في مكة من أهلها إلا أقل من القليل، مع من جاورهم من مسلمي الآفاق؛ للتشرف بالجوار، وكان من عادة حكام مكّة أن ينادي مناديهم بعد أداء الحجّ «يا غريب بلادك» تقليداً لابن الخطاب، لئلا يستأثر المجاورون بثروات البلاد.

عنى الرشيد بالعيون التي طمرت بعد عهد معاوية فأحياها، وصرف مياهها في عين واحدة، يقال لها


1- 1 الجدر بفتح الجيم وكسرها هو نبات رملي، ولعله كان ينبت بجوار ما نسميه مسجد الراية؛ لقلة البيوت فيه فسميت الجودرية بالتصغير.

ص: 160

(الرشا) (1)، واتخذ البرك لها في أعلى مكة وأسفلها، تصب فيها المياه فيسقي منها الناس، وتلك كانت عادتهم قبل إنشاء موارد الماء في القرون المتأخّرة. ولما لم يف ذلك بالغرض نشطت زبيدة زوجته للأمر فاشترت أرض حنين، وكان فيها نخيل وزرع فألغته، وبنت للماء قنوات يصب فيها إلى أطراف مكة، ثم اشترت أرضاً أخرى في وادي نعمان فوق عرفات، وبنت قنواته؛ ليصب في عرفة، ثم أصلحت البرك الموجودة في مكة، وبنت بركة غيرها، ليصب الماء فيها ويستقي الناس، وقدّرت نفقات ذلك بنحو ألف وسبعمائة ألف مثقال من الذهب وهو يعادل مليون وسبعمائة ألف دينار ذهبي (2).

وأمر المأمون بانشاء خمس برك في مكة، تتسلط عليه عين زبيدة فجعل احداها عند شعب ابن يوسف (شعب عليّ)، والثانية عند الصفا والثالثة عند الخياطين بجوار ما نسميه «باب إبراهيم» عند فوهة سكة الثنية (3) والرابعة عند سوق الحطب في «الهجلة»، والخامسة في ماجل أبيصلاية (4)، وجعل المسارب بين البرك يجري فيها الماء من بركة زبيدة.

وبنى الرشيد له داراً بين الصفا والمروة شارعة على المسعى كان يقال لها دار القوارير (5)، وفيها بئر هاشم وكانوا يسمونها «سحلة»، أو بئر جبير بن مطعم؛ لأنه استوهبها من هاشم وهي موجودة إلى اليوم في باب قايتباي، وقيل: إن عبد المطلب وهبها لمطعم عندما استغنى عنها بحفر زمزم.

وأنشأ ياسر- خادم زبيدة- بأمرها ميضات على باب أجياد الكبير، وأدخل فيها بئر الحفر وقد دخل كل هذا في رواق باب أجياد في التوسعة الجديدة.

واشترت زبيدة دوراً أوقفتها في مكة، ومنها دار الأرقم، وهي الدار التي كان يختبئ النبيُّصلى الله عليه و آله و سلم فيها قبل البعثة، وتقع في زقاق على يسار الصاعد إلى الصفا، ويسميها بعضهم دار الخيزران، وهي غير دار الأرقم التي بجوارها.

وأنشأ الرشيد على رؤوس الجبال منائر تشرف على فجاج مكة، ورتب المؤذنين لها؛ لأن بعضهم كان لا يبلغهصوت المسجد، فبنى على أبي قبيس أربع منائر، وعلى رأس الأحمر المقابل منارة، وعلى الجبل المشرف على شعب عامر منارة أخرى تشرف على المجزرة، ومنارة على جبل كري وغيرها. وبنى مولاه (بغا) غير ذلك على جبال أخرى في الفلق والمعلّاة والشبيكة وأجياد وبئر ميمون في أعلى الأبطح ومسجد الكبش بمنى.

وكان بعض المؤذنين يسهرون فوق المآذن التي بناها الرشيد في الجبال؛ ليؤذنوا فيها، ولعله أذان السحر الذي كان مستعملًا، وقد أهملت هذه المنائر بتقادم الأجيال وخربت ولم يبق منها أثر (6).

وفكّر الرشيد في أن يعنى بموصلات مكّة البحرية فينشئ قناة ما بين البحر الأحمر والأبيض، فأشير عليه بترك ذلك مخافة أن تتصل سفن الروم بأرض العرب، وتهدد الحرمين بأخطارها فعدل عن ذلك، وما عدل عنه الرشيد نفذه الخذيوي سعيد في مصر بفتح قناة السويس عام 1286 ه.

خامساً: النواحي العمرانية في عهد الفاطميين:


1- 1 راجع أخبار مكة للأزرقي، 2: 230.
2- 2 نفس المصدر.
3- 3 ذكر الأزرقي أن درب الثنية هو درب الشبيكة.
4- 4 الماجل في اللغة كل ماء في أصل جبل أو واد، وبركة المسفلة كانت ماجلًا لأبيصلاية، ثم سميت بركة الماجل وحرفها الناس وقالوا: بركة ماجن أو ماجد.
5- 5 نفس المصدر، 2: 202.
6- 6 شفاء الغرام للفاسي، 1: 388.

ص: 161

وعنى الفاطميون بإصلاح كثير من الخراب الذي كان يطرأ على المسجد الحرام، وجددوا بعض الاسطوانات، وأصلحوا بعض المواضع من سقفه، إلا أن عناية العباسيين كانت أكثر وضوحاً، فقد قاموا بإصلاحات كثيرة في الكعبة فعمروا سقفها سنة 542 وأصلحوا رخامها عام 550 وشدّوا ركنها اليماني عندما تضعضع عام 559. وأهدى المطيع العباسي للكعبة قنديلًا من الذهب زنته 600 مثقال، وعدة قناديل من الفضة في العام نفسه (1).

وأهدى الخليفة العباسي المكتفي في عام 551 باباً للكعبة بديع الصنع منقوشاً عليه اسمه، كما أهداها ميزاباً جميل النقش في عام 541، كما أمر وزيرصاحب الموصل محمد الجواد الإصفهاني بعمل إصلاحات كثيرة في المسجد، أهمها تعمير منارة الباب وقبة العباس بجوار زمزم. وأنشأ مزولة فيصحن المسجد لمعرفة أوقات النهار، وكان مكانها على بعد 43 ذراعاً من ركن الكعبة العراقي بذراع الحديد عمّا يلي المنبر، وقد أزيلت بعد ذلك ولم يبق لها أثر (2).

وممن عنى بالمسجد في هذا العهد أحد أعيان المسلمين المعروف بالشيخ رامشت واسمه أبو القاسم إبراهيم بن الحسين الفارسي، فقد بنى رباطاً بجوار باب إبراهيم لسكنى فقراء الصوفية من أصحاب المرقعات، وأهدى للكعبة ميزاباً في سنة 541 وكساها بالحبرات في عام 532 كسوة كلفته 18 ألف دينار مغربية، وكذلك كساها أبو النصر الأسترآبادي كسوة بيضاء من عمل الهند في عام 446.

وكان الفاطميون يكسونها بالديباج الأبيض كما كان بعض العباسيون يكسونها بالسواد شعار العباسيين، واستمرت تكسى بالسواد إلى الآن (3).

ويذكر الشيخ باسلامة في كتابه عمارة المسجد (4): أنه يظن أن المقامات الأربعة الموجودة بالمسجد أنشئت بين القرن الرابع والخامس، أي في هذا العهد الذي ندرسه الآن، وذلك لأن المؤرخين والرحالين الذين وصفوا المسجد قبل هذا العهد، وآخرهمصاحب العقد الفريد لم يذكروا عنها شيئاً، بينما يذكرها ابن جبير في رحلته عام 578 فدل ذلك على أنها حدثت قبيل ذلك العهد.

والذي نحسبه أن ما ذكره الشيخ باسلامة لا يعدو الحقيقة لأننا نعتقد أنها أحدثت في العهد الفاطمي مع ما أحدثت من مزايا جديدة.

وكان في جوانب حجرة زمزم أحواض يصبّ فيها الماء، ويتوضأ الناس به، وأمام بئر زمزم من ناحية الشرق بناء آخر عليه قبة يسمى سقاية الحاج وضع به أزيار يشرب منها الحجاج، وبعد هذا البناء في ناحية الشرق، بناء آخر مستطيل عليه ثلاث قباب يسمى خزانة الزيت به الشمع والزيت والقناديل، وحول الكعبة أعمدة قامت بينها عوارض من الخشب عليها زخارف ونقوش من الفضة، وقد أنيطت بها المصابيح معلقة في الحلق والطلّابات ويفصلها عن الكعبة 150 ذراعاً وهي مسافة المطاف (5).

سادساً: النواحي العمرانية في عهد المماليك الأتراك والشراكسة:


1- 1 تاج تواريخ البشر للشيخ سعيد الحضراوي.
2- 2 نفس المصدر.
3- 3 نفس المصدر.
4- 4 عمارة المسجد: 125.
5- 5 إفادة الأنام للشيخ عبد اللَّه غازي.

ص: 162

لم يبذل المماليك الأتراك الجهود التي بذلها مماليك الشراكسة بعدهم في سبيل الإصلاح، ومع هذا فقد كانت لهم اصلاحات منها: أنهم في عام 736 ه عمروا الأساطين التي حول المطاف وقد جعل بعضها من الحجارة المنحوتة الدقيقة، والباقي كان آجراً مجصصاً، وجعل بين كل اسطوانتين خشبة تعلق فيها القناديل عوض الأخشاب التي كانت تعلق فيها (1). وفي عام 749 عنى الأمير فارس الدين من مماليك الأتراك بإصلاح المسجد، وجدد الأعمدة حول المطاف (2) وفي سنة 720 عمّر الناصر محمد بن قلاوون رخام الحجر ثم عمّره من بعده المنصور علي بن الأشرف سنة 781 وصنع باباً للكعبة، وصنع ولده الناصر حسن باباً للكعبة سنة 871 (3) ووقف الصالح إسماعيل الناصر في عام 743 قرية من نواحي القاهرة يقال لها «بيسوس» (4) بجوار القليوبية، وظل ينفق من غلتها على الكسوة. وقد ذكر ابن بطوطة في رحلته إلى الحجّ سنة 728: أن الملك الناصر كان يتول كسوتها وكانت سوداء مبطنة بالكتان، وأنشأ الناصر بن قلاوون متوضَّأً مقابل باب علي.

وعنى الشراكسة بالإصلاحات في مكة والمسجد الحرام، فجدّد (برقوق) في عام 801 عقد المروة وأصلح درجاتها، وعمر في عام 842 ناظر الجيش الشركسي ومدير الحرم (سودون) كثيراً من المواضع المأثورة في منى والمزدلفة وعرفات، وأزال أشجار الشوك والصخور الكبيرة في طريق عرفات؛ لأن اللصوص كانوا يختفون وراءها (5).

وكانت العين من نعمان إلى عرفات خربة، انقطع ماؤها من عهد المماليك الأتراك فأصلحوا مجراها في عام 874 إلى أن عاد ماؤها يروى الحجيج (6).

وأمر السلطان قايتباي بهدم المتوضأ الذي ذكرنا أن المماليك الأتراك أنشؤه أمام باب علي، ثم بنى مكانها رباطاً للفقراء، وأدخل في مساحة الرباط نحو ثلاثة أذرع من المسعى، وعندما عارض قاضي مكة في إضافة الأذرع من أرض المسعى إلى الرباط ومنع البناء، أصدر قايتباي أمره إلى أمير الحجّ بتنفيذ البناء بقوة العسكر فتم ذلك، وأنشأ إلى جانب الرباط متوضأًصغيراً وجعل له باباً يشرف على سوق الليل- القشاشية- كما أُنشئ بجواره مطبخ تطبخ فيه الدشيشة وتوزع على الفقراء، كما عمّر قايتباي مسجد الخيف في منى ومسجد نمرة في عرفات (7).

وفي عهد الشراكسة شبت النار في رباط رامشت بين باب ابراهيم وباب الوداع في شوال سنة 802 فاتصل لهيبها بسقف المسجد ثم التهمت النار جميع الأروقة إلى باب الباسطية فندب الشراكسة أمير الحج المصري عام 803 لإصلاح ما تهدم، وقد احتاج العمل إلى تغيير بعض الأسطوانات الرخامية فنحتوا من الجبل المعروف بجبل مكة حجارة بشكل نصف دائرة أقاموا منها الأسطوانات الثخينة، ثم زخرف المسجد بالألوان ونيطت السلاسل بالسقف لتعليق القناديل كما كانت في العهد العباسي، وعمرت المقامات الأربعة على هيآتها القديمة، وتمت أعمال البناء في سنة 807 ه وفي عهد أبي السعادات بن الطاهر برقوق ثاني ملوك الشراكسة (8).

وفي هذا العهد عام 807 سد باب الخلوة إلى جانب زمزم، التي كان فيها مجلس ابن عباس وجعل في موضع الخلوة بركة مقبوبة، وفي جدارها الذي يلي باب الصفا «بزابيز» من نحاس يتوضأ الناس منها على أحجار نصبت للجلوس، وفوق البركة المقبوة خلوة فيها شباك إلى الكعبة، وشباك إلى الصفا وطابقصغير إلى البركة.

وعمرّ الشراكسة حجر إسماعيل بالرخام، وأرسلوا له كسوة من الحرير الأسود كسوا به دائرة من الداخل


1- 1 إتحاف الورى لابن فهد.
2- 2 نفس المصدر.
3- 3 تاريخ الكعبة للشيخ حسين باسلامة: 199.
4- 4 الأعلام للقطبي على هامش خلاصة الكلام: 144.
5- 5 نفس المصدر: 146.
6- 6 نفس المصدر: 151.
7- 7 نفس المصدر.
8- 8 شفاء الغرام لتقي الدين الفاسي، 2: 386.

ص: 163

والخارج، وكانت أول كسوة من نوعها لحجر إسماعيل وآخرها أيضاً (1).

وأمر (قانصوه) في عام 917 بنقض جدار الحجر مرة أخرى، وأرسل لاصلاحه رخاماً جديداً من مصر.

وأنشأ الشراكسة فوق مصلى إبراهيم قبة عام 881، كما أرسلوا منبراً من الخشب في عام 815، وأرسلوا غيره في عام 866 ثم غيره في عام 877.

وعنوا بكسوة الكعبة طوال مدة حكمهم في مصر، وفي عام 810 احدثوا في جانبها الشرقي جامات منقوشة بالحرير. وفي سنة 819 جعلوا لبابها ستارة أجمل مما كانت، وكانوا يكتبون في طرازها اسمصاحب مصر الشركسي (2).

وكسى (جقمق) الجانب الشرقي والشمالي من الكعبة ديباجاً أبيض بخامات سود في عام 865، وكساها قايتباي من الداخل في عام 883 (3)، ولا تكسى الكعبة من الداخل إلا إذا بليت كسوتها، أو أراد أحد الخلفاء تجديدها.

وفي عام 817 عمّر (الفوري) في زيادة باب إبراهيم، وبنى فوقه قصراً مرتفعاً مع مرافقه، وجعل حول القصر- من خارج المسجد- معازل ومساكن وبنى خارج ذلك متوضَّأً تشتمل على مراحيض وبركة ماء، ووقف القصر والمساكن على بعض أعمال الخير، وبنى على يمين الداخل إلى باب إبراهيم من الداخل حاصلًا في أرض المسجد، وعلى اليسار مثله، وقرر فيهما بعض المستحقين، وجعل في الجانب اليماني حاصلًا يشتمل على سبيل ماء وصهريج.

وخربت المظلة القائمة فوق بئر زمزم في عام 818 فنقضت وبنيت مرة أخرى، ثم عمّر الشراكسة كثيراً من الخرائب في أماكن متعددة من المسجد، وعمّروا باب النبيّ كما عمّروا ثمانية عقود من جهة باب الزيادة، ونقضوا منارة باب السلام، ثم أعادوها في عام 816 كما نقضوا بعد ذلك منارة باب الزيادة ثم أعادوها في عام 823، وأصلحوا في سطح الكعبة. وتراكمت في هذا العهد طبقات من التراب في المسجد فاستعان المسؤولون بالثيران لجرفه ثم نقلوه إلى المسفلة، ثم بطح مكانه بطحاً مغربلًا نقلوه من ذي طوى ووادي الطندباوي (4).

سابعاً: النواحي العمرانية في العهد العثماني الأول:

لم يتسع عمران مكة في أوائل العهد العثماني كثيراً عمّا كان في عهد الشراكسة، فإن القطبي الذي عاش ردحاً منصدر العهد العثماني الأول ومات في عام 988، قد ذكر في كتابه الأعلام: «أن مكة كان مبدؤها المعلّاة ومنتهاها من جهة المسفلة قرب مولد سيدنا حمزة عند مجرى العين حيث تنزل اليه من درج ويقال له «بازان» (5). ونهايتها الشبيكة من جهة جدة وعرضها من وجه جبل يقال له الآن «في عهده» جبل جزل بكسر الجيم وفتح الزاي وتشديد اللام وقد سماه الأزرقي جبل الأحمر، وهو يشرف على قعيقعان (6) وقد سُمي جزلًا نسبة لطائفة من الجند كانت تلعب فيه بالطبل، ويظهر أن السور الذي بناه (قتادة) حوالي القرن السادس لم يعد له وجود في هذا العهد؛ لأن القطبي يذكر أن مكة في عهده لم تكن مسورة، ثم يشير إلى أنها في عهده أصبحت عامرةً بالسكان بعد أن كان فيصباه يرى الحرم


1- 1 الأعلام للقطبي على هامش خلاصة الكلام: 147.
2- 2 الأرج المسكي لعلي الطبري، مخطوط.
3- 3 منائع الكرم.
4- 4 اتحاف الورى لابن فهد القرشي.
5- 5 لعل مورد العين سمي «بازان» نسبةً إلى مهندس الموارد أو منشئها واسمه بازان.
6- 6 يقول ياقوت: إنّ جبل الأحمر هو جبل قعيقعان يعني الجبل الذي بنيت عليه قلعة الهندي.

ص: 164

الشريف والمطاف خالياً من الناس، ولابدّ من أنصباه كان في عهد سليم الفاتح، ثم يقول: إن شيخاً معمراً من أهل مكةصدوقاً عنده أخبره بأنه «شهد الظباء تنزل من جبل أبي قبيس إلى الصفا وتدخل إلى المسجد، ثم تعود لخلو المسجد من الناس، وأنه كان يرى سوق المسعى وقت الضحى خالياً من الباعة، ويرى أهل القوافل يأتون باجمالهم من بجيلة فلا يجدون من يشتري منهم جميع ما جلبوه، وأن الأسعار كانت رخيصة جداً لقلة الناس وعزة الدراهم» انتهى ما يقوله القطبي عن شيخه المعمر، ولا أستبعد أن يكون المعمر عاش في أواخر عهد الشراكسة، ثم يقول القطبي:

أما الآن فالناس كثيرون والرزق واسع.

ثامناً: النواحي العمرانية في العهد العثماني الثاني:

واتسع العمران في مكة في هذا العهد، وتأسس أول مجلس للبلدية في عام 1326؛ ليقوم مقام المحتسب الذي كان يحكم السوق ويشرف على تنظيم العمران.

واطرد بازدياد عدد السكان كنتيجة لمجاورة موظفي الأتراك وعائلاتهم، ومجاورة موظفي المصريين الذين تخلفوا في مكة بعد ترحيل جيش محمد علي منها، والذي نحسبه أن أطماع أوربا التي ترتبت على ضعف العثمانيين في هذا العهد كان له أثر في مضاعفة السكان، كذلك فقد شنّ الروس حروبهم في أجزاء من آسيا، وكذلك فعل الإنكليز وفعلت فرنسا، فاشتدّ الضغط على كثير من بلاد الإسلام، وزادت الفتن والحروب ففرّ كثيرٌ من بلاد الإسلام بدينهم، والقليل بدنياهم إلى مكّة والمدينة وجدة لبعد هذه البلاد من ضغط الأوربيين واستقلالها بأحكام الدين. وقد بدأ أثر ذلك في أكثر العائلات التي تسكن الحجاز اليوم، فإن أبرز من فيها ينحدر من أصل مصري أو تركي أو مغربي أو شامي أوصيني، ولما اشتدت الكروب في الهند والأفغان وجاوى اشتد تدفقهم على البلاد، واتخذ الجميع من أجزائها في مكة والمدينة وجدة مناطق خاصة سميت بأسمائهم، ففي مكة اليوم من آثار ذلك جبل الترك وجبل الهندي وحارة السليمانية (1)، وزقاق المغاربة وزقاق البخارية، وفي المدينة وجدة كثير من هذه المسميات.

وشوهدت مكة في هذا العهد تنقسم باعتبار الاجناس إلى أقسام تشبه المستعمرات، فمنطقة تحتلها جاليات الترك، وثانية يحتلها أهل بنغالة والهند، وثالثة يحتلها أهالي غرب أفريقيا «التكارنة» وغيرها يحتلها الجاويون وأهل بخارى وأهل السند والشام واليمن وحضر موت، ونقلت هذه الجاليات معها إلى مكة عاداتها كاملة وتقاليدها وأخلاقها، وكثيراً منصناعاتها، وبذلك انتفعت مكة بهذا الخليط.

وعنى العثمانيون في هذا العهد ببعض الإصلاحات فأسس الوالي التركي (عثمان نوري) في مطلع القرن الرابع عشر الهجري داراً للحكومة والبوليس أمام المسجد، وفي أجياد التي سمّاها (الحميدية) أسس نقطة للبوليس بجوار الصفا وقد بقي الى أن هدم في توسعة الشوارع في عام 1370، وأنشأ داراً للصحة في أجياد كان مكانها نقطة عسكرية للمدفعية، وهي اليوم إدارة للصحة العامة ومستشفى كما أنشأ مطبعة للحكومة، وهي باقية إلى اليوم بعد أن نقلت إلى داخل أجياد بجوار مقر المالية، وأهداه الشريف الحسين بن علي داراً له بجوار باب الوداع ليتخذه إدارة للبريد، وقد ظل على ذلك إلى عهد طويل من الحكم السعودي الثاني، ثم نقل البريد منه وجعل مقراً لإدارة الأسعاف ثم أزيل في توسعة المسجد.


1- 1 تطلق كلمة السليمانية في مكة على أهالي الأفغان وحارة السليمانية، وتنسب إلى رجل من العلماء كان اسمه الشيخ سلمان المغربي وهو الذي بنى قبور السليمانية وبابها.

ص: 165

وأنشأ عثمان نوري داراً لضيافة الحجاج في جرول ثم أحيل إلى قشلاق عسكري، وهو كذلك إلى اليوم كما أنشأ قشلاقاً في أجياد وهو اليوم داراً لبعض الدوائر الرسمية.

واصلح العثمانيون كثيراً من مجاري عين زبيدة، وبنوا لها خزانات وموارد في كثير من أنحاء مكة، كما أصلحوا بعض الميضآت القديمة بجوار المسجد ورتبوا لها البوابين.

الهوامش:

غزوة بدر الكبرى

غزوة بدر الكبرى

حسن أبو أمجد

المقدمة:

هذه الدراسة لا ترتدي الطابع الأكاديمي، إذ إنها لا تهدف إلى كشف جوانب خفية من هذه الغزوة لمّا يتمكن علماء التاريخ من كشفها.

ولكنها دراسة هادفة لاستخلاص بعض الدروس التي تعين العاملين في حقل الدعوة إلى اللَّه، وكذلك لمعرفة السنن الإلهية علىصعيد المجتمع، التي تمكن الدعاة إلى سبيل اللَّه من العمل

ص: 166

باتجاه تغيير المجتمع في المنحنى الصحيح الذي يحقّق العدل لجميع أبنائه. وذلك إذعاناً لأمر اللَّه تبارك وتعالى ونبيه المصطفىصلى الله عليه و آله و سلم بإقامة دار الإسلام.

ودراسة تاريخ الأمم والشعوب أمر هام لاستخلاص الدروس والعبر حتى لا نقع في الزلل. كما أن هذه الدراسة أمر حثّ عليه القرآن الكريم في العديد من آياته الكريمة: يقول اللَّه تبارك وتعالى: «أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبةُ الذين من قبلهم كانوا أَكثَر منهم وأشدَّ قوةً وآثاراً في الأرض فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون فلمّا جاءتهم رسلُهم بالبيّنات فرحوا بما عندَهم من العِلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون فلمّا رأوا بأسَنا قالوا آمنّا باللَّه وحدَهُ وكفرنا بما كُنّا به مشركين فلم يكُ ينفعُهم إيمانُهم لمّا رَأوا بأسنا سنةَ اللَّه التي قد خلت في عباده وخَسِر هنالِك الكافرون» (1).

كما أنّ دراسة التاريخ أمر يشترك فيه جميع الناس، ولا يختص به المسلمون. أما ما اختص به المسلمون- من حيث إنهم إذا تركوه أو تجاوزوا عنه، أصبحوا آثمين- هو موضوع التأسي برسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم.

يقول تبارك وتعالى: «لقد كان لكم في رسول اللَّه أسوة حسنة».

من هنا كانت دراستنا لغزوة بدر أمر لابدّ منه إذعاناً لأمره تعالى؛ ذلك لمعرفة كيفية طاعة الرسول المصطفى علىصعيد بناء المجتمع ومجابهة الأعداء، وتحديد الأولويّات في العمل السياسي من جميع جوانبه.

بدايات بدر:

1- المستوى الفكري والنظري:

أمضى الرسول الكريم أكثر من عشر سنوات في مكّة بعد بعثته يربي أصحابه على الإسلام، وكان القرآن الكريم ينزل عليه. والمسلمون يدرسونه ويتدبرونه. وهذه الفترة وما تلاها في المدينة المنورة يمكننا تسميتها البدايات النظرية للمعركة مع المشركين. يقول تبارك وتعالى: «كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن اللَّه واللَّهُ مع الصابرين» (2)، فالنصر ليس حكراً على الكثرة، ويمكن للقلة إذن أن تكسب النصر في شروط معينة، وهذا واضح تاريخياً. والقرآن الكريم زاخر بالأمثلة. فتجارب الأنبياء مع أقوامهم كانت الغذاء الروحي للمسلمين في مكة. وكان النصر من نصيب المؤمنين مع أنهم كانوا قلة.

ما نقدم لا يعني بالضرورة أن شروط النصر للقلة على الكثرة هي قيادة أحد الأنبياء لها أو إيمانها بالتوحيد، لأنّ اعتماد هذين الشرطين


1- 1 غافر: 81- 85.
2- 2 البقرة: 249.

ص: 167

يجعلنا قاصرين عن تفسير إمكانية انتصار فئات كافرة على فئات كافرة مثلها. إذن هناك سنن إلهية للنصر، من يلتزم بها يحرز الانتصار ومن يتجاوز عنها أو يهملها يكون نصيبه الهزيمة.

فالنصر والهزيمة حدثان سياسيان أو عسكريان. حدثان تاريخيان تنطبق عليهما قوانين التاريخ والقوانين العسكرية وجميع السنن الإلهية لتطور المجتمعات، ومن ضمنها العلاقات السياسية والاقتصادية والعسكرية. والمؤمن عليه اكتشاف هذه القوانين والسنن، يقول تبارك وتعالى: «... وتلك الأيام نداولها بين النّاس ...» (1).

أيام تتداول بين الناس يعيش الناس في مذاهب مختلفة على أرض واحدة. منهم المؤمن ومنهم الكافر والمنافق والفاجر. ولكل مجتمع لابدّ من مهيمن. ولكن الهيمنة ليست مطلقة، وكذلك التداول، ولكنهما محدودان وموقوفان على: «وليعلمَ اللَّهُ الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء ...» (2). إذن التداول سيظل حتى يتسلم المؤمنون قيادة هذه المجتمعات، المؤمنون الذين يستوعبون الدروس الإلهية الموجودة في كتاب اللَّه:

يقول تعالى: «أَولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبةُ الذين من قبلهم وكانوا أشدَّ منهم قوّة وما كان اللَّه ليعجزَهُ من شي ء في السماوات ولا في الأرض، إنّه كان عليماً قديراً» (3).

ويقول تعالى: «أوَلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبةُ الذين من قبلهم كانوا أشدَّ منهم قوةً وأثاروا الأرضَ وعمروها أكثر مما عمروها وجاءتهم رسلُهم بالبيّنات فما كان اللَّهُ ليظلمَهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون» (4).

ويقول تعالى: «ظهر الفسادُ في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس لِيُذيقَهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبةُ الذين من قبلُ، كان أكثرهم مشركين» (5).

ويقول تعالى: «وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءَهم الهُدى ويستغفروا ربَّهم إلا أن تأتيهم سنّةُ الأوّلين أو يأتيهم العذابُ قُبُلًا» (6).

ويقول تعالى: «قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبةُ المكذبين هذا بيانٌ للناس وهدًى وموعظةٌ للمتقين» (7).


1- 1 آل عمران: 140.
2- 2 نفس المصدر.
3- 3 فاطر: 44.
4- 4 الروم: 8- 9.
5- 5 الروم: 41- 42.
6- 6 الكهف: 55.
7- 7 آل عمران: 137- 138.

ص: 168

لا بيان أوضح مما رأينا. إن اللَّه- عزّ وجلّ- يحث قارئي القرآن على دراسة تاريخ الأمم الخالية حتى يتمكنوا من استيعاب الدروس والعبر والقوانين التي تمكنهم من النصر. إن معرفة الأخطاء التي وقع فيها الأولون تمكن المؤمنين من تجنبها لأن المؤمن لا يلدغ من جحر واحد مرّتين. كما أن استيعاب هذه الأخطاء في أسبابها لا يعفو المؤمن عن تفتيش السنن التي تمكنه من تسخير ما منَّ اللَّه عليه. ذلك أن السنن التي خلت من قبل هي هدًى وموعظةٌ للمتقين، كما أنها بيان للناس أيضاً. وهذا يعني أن للكافر حظاً في الاستفادة من هذه السنن إن أراد ذلك.

فإن سنن النصر نجدها في كتاب اللَّه وسنة نبيّه المصطفى وفي تاريخ الأمم السالفة، وما تقدم يجعلنا نقول بأن المسلمين عندما مضوا إلى يوم الفرقان، يوم بدر، كانوا مفعمين بالإيمان وبالوعي النظري بإمكانيّة النصر، أو على الأصح بأرجحية النصر. إذ إنهم كانوا قد استوعبوا دروس الأمم التي خلت من خلال القرآن الكريم ومن خلال قيادة الرسولصلى الله عليه و آله و سلم.

2- المستوى العملي:

بدايات بدر على المستوى العملي تبدأ حسب رأينا منذ مدّة بعيدة، منذ بيعة العقبة الثانية، بيعة القتال.

أ- بيعة العقبة الثانية: كانت بيعة العقبة الأولى لا تتضمن أيّ كلام عن القتال. بينما بايع الأوس والخزرج النبيَّ في العقبة الثانية على القتال. قال النبيُّصلى الله عليه و آله و سلم: «أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون نساءكم وأبناءكم».

فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال:

«نعم، والذي بعثك بالحق نبياً لنمنعنّك مما نمنع منه أُزُرَنا، فبايعْنا يا رسولَ اللَّه، فنحن واللَّه أبناء الحروب وأهل الحلقة ورثناها كابراً عن كابر». ثم قال رسول اللَّه بعد كلام للأنصار: «بل الدّم الدم والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم منّي، أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم» (1).

هذه البيعة بحقيقتها تجميع لقوى الإيمان ضد قوى الشرك. ويوم بدر هو يوم الفرقان.

ب- الهجرة: الهجرة في حقيقتها هي الخطوة الأولى على طريق إقامة دار الإسلام في المدينة: القاعدة الآمنة التي ينطلق منها المؤمنون لقتال المشركين. وقد أحسّ مشركو قريش إحساساً حاداً خطورة الهجرة. يقول تعالى: «وإذ يمكر بك الذين كفروا ليُثبتوك أو يقتلوك أو يُخرجوك ويمكرون ويمكر اللَّهُ، واللَّهُ خير الماكرين» (2). أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أن نفراً من قريش ومن أشراف كل قبيلة اجتمعوا


1- 1 البوطي: 120.
2- 2 الأنفال: 30.

ص: 169

ليدخلوا دار الندوة فاعترضهم ابليس فيصورة شيخ جليل فلمّا رأوه قالوا:

من أنت؟ قال: شيخ من أهل نجد سمعت بما اجتمعتم له فأردت أن احضركم ولن يعدمكم منّي رأي أو نصح، قالوا: أجل فادخل. فدخل معهم فقال: انظروا في شأن هذا الرجل (محمد)، فقال قائل احبسوه في وثائق ثم تربصوا به المنون حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء زهير ونابغة، فإنما هو كأحدهم، فقال عدو اللَّه الشيخ النجدي: لا واللَّه، ما هذا لكم برأي، واللَّه، ليخرجنّ رائد من محبسه إلى أصحابه فليوشكنّ أن يثبوا عليه حتى يأخذوه من أيديكم، ثم يمنعوه منكم، فما آمن عليكم أن يخرجوكم من بلادكم، فانظروا في غير هذا الرأي. فقال قائل: أخرجوه من بين أظهركم واستريحوا منه فإنه إذا خرج لن يضركم ماصنع، فقال الشيخ النجدي: واللَّه، ما هذا لكم برأي، ألم تروا حلاوة قوله وطلاقة لسانه وأخذه للقلوب بما يستمع من حديثه؟ واللَّه، لئن فعلتم، ثم استعرض العرب ليجتمعن عليه ثم ليسيرن إليكم حتى يخرجكم من بلادكم ويقتل أشرافكم. قالوا:صدق واللَّه، فانظروا رأياً غير هذا. فقال أبو جهل: واللَّه، لأشيرنّ عليكم برأي ما أراكم أبصرتموه بعد، ما أرى غيره قالوا: وما هذا؟ قال: تأخذون من كل قبيلة وسيطاً شاباً جلداً ثم نعطي كل غلام منهم سيفاًصارماً يضربونه ضربة رجل واحد ... (تفسير الجلالين أسباب نزول الآية 20 من الأنفال).

نقلنا هذا الكلام الطويل لأهميته وخاصة ما كان يقوله الشيخ النجدي- لعنه اللَّه- بأن محمداً سوف يخرجهم من بلادهم إذا سمحوا له بالهجرة. لقد أحسَّ المشركون بخطورة هذه الخطوة (الهجرة) فكيف بصاحبها؟

ج- الوثيقة بين المسلمين وغيرهم في المدينة: ومن بنودها:

- المسلمون من قريش ويثرب ومَن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم، أمة واحدة من دون الناس.

- لا يقتل مؤمن مؤمناً في كافر، ولا ينصر كافراً على مؤمن. (هدم العصبية القبلية).

- يهود (بنو عوف) أُمّة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ (يهلك) إلا نفسه وأهل بيته.

- إن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم. وإن بينهم النصر على مَن حارب أهل هذه الصحيفة.

ص: 170

- كل ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده، فإن مردّه إلى اللَّه- عزّ وجلّ- وإلى محمد رسول اللَّه.

وهناك بند يمنع أي تعامل مع قريش.

إن أهمية هذه الوثيقة هي في جعل المدينة قاعدة آمنة للمسلمين في انطلاقهم لقتال المشركين، هذا من جهة، ومن جهة ثانية جعلت الوثيقة من رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم المسؤول الحاكم وباعتراف الجميع، وعلى اليهود نصرته في حال اعتدي على المدينة.

د- السرايا والغزوات: أهميتها تأتي من أنها حققت ما يلي:

1- جعلت المسلمين متأهبين دائماً لجهاد الكفار.

2- جعلت الكفار في وضع غير آمن وباستمرار وذلك لكثافتها.

3- تأثيرها السلبي على حركة التجارة المكية علماً أن طريق الشام من مكة تمر في المدينة أو في محيطها.

4- أتاحت للمسلمين عقد اتفاقات عدم اعتداء مع قبائل لم تكن على الإسلام مما أعطى المسلمين حرية أكثر في التحرك ضدّ المشركين، خاصة مشركي قريش.

وإليكم هذه السرايا والغزوات:

1- سرية حمزة بعد سبعة أشهر من الهجرة: «وخرج حمزة يعترض عير قريش ... وفيها أبو جهل بن هشام، في ثلاثمائة رجل ... فالتقوا حتى اصطفوا للقتال ... ولكن لم يتم قتال. وكان المسلمون ثلاثين رجلًا».

2- سرية عبيدة بن الحارث:

«بعثه رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم، في ستين رجلًا من المهاجرين ... فلقي أبا سفيان بن حرب وهو في مائتين من أصحابه ... فإنما كان بينهم الرمي ولم يسلوا السيوف ولم يصطفوا لقتال». وكانت بعد ثمانية أشهر من الهجرة.

3- سرية سعد بن أبي وقاص:

بعد تسعة أشهر من الهجرة، لم يلتق قريشاً.

4- غزوة الأبواء بعد سنة من الهجرة: وتسمى غزوة ودان. وهي أول غزوة غزاها النبيُّ نفسه، «وفي هذه الغزوة وادع مخشي بن عمرو الضمري، وكان سيدهم في زمانه على أن لا يغزو بني ضمرة ولا يغزوه، ولا يكثروا عليه جمعاً، ولا يعينوا عدواً، وكتب بينه وبينهم كتاباً». وكانت غيبته خمس عشرةَ ليلة.

5- غزوة بواط: بعد ثلاثة عشر شهراً من مهاجره. خرج لاعتراض عير قريش ولكنه لم يلق كيداً.

6- غزوة طلب كرز بن جابر الفهري: راح في طلبه لأن كرزاً هذا أغار على أنعام المدينة وسرقها. وفي

ص: 171

هذه الغزوة دلالة على أن المسلمين هم حكّام المدينة والمسؤولون عن أمنها.

7- غزوة ذي العشيرة: بعد ستة عشر شهراً، لم يلتق قريشاً.

«وفي هذه الغزوة وادع بني مدلج وحلفاءهم من بني ضمرة».

8- سرية عبد اللَّه بن جحش الأسدي: بعد سبعة عشر شهراً من الهجرة. بعثه النبيُّ في اثني عشر رجلًا إلى بطن نخلة وهي قرب مكّة.

فاستولى على العير وقتل واحداً هو ابن الحضرمي واسر اثنين. ولهذه السرية أهمية خاصة، لقربها من مكّة، وللقتل والأسر والمغانم التي حصلت فيها. وكذلك للأثر الذي تركته في نفسية مشركي قريش، وقد كانت هذه الموقعة موضوعاً للتحريض في معسكر المشركين لمعركة بدر ضد المسلمين.

نضيف ملاحظة على هذه السرايا والغزوات أنها مكثفة جداً فهي تتم شهرياً. هذا إذا أخذنا بعين الاعتبارصعوبة المواصلات. فهذا يعني أن كثافتها تشكل إرباكاً فعلياً للعدو، مما جعل الأمن العسكري لقريش مهدداً وكذا أمنها الاقتصادي، فقد باتت تجارة مكة غير آمنة وهذا ما يستتبع شللًا اقتصادياً مما أثر على جميع عوائل مكّة.

غزوة بدر:

أ- عشية الغزوة: يقول أصحاب السير بأن النبيَّصلى الله عليه و آله و سلم خرج في أربعة عشر وثلاثمائة رجل فيهم من المهاجرين والأنصار، وهي الغزوة الأولى التي يخرج فيها الأنصار مع رسول اللَّه. أما الغاية من خروجه فكانت الاستيلاء على قافلة لقريش آتية من الشام بقيادة أبي سفيان بن حرب. ومن الملاحظ أن النبيَّصلى الله عليه و آله و سلم لم يبعث الأنصار قط لاعتراض عير قريش، فلماذا أخذهم معه في هذه المرّة؟ المهم أن قافلة أبي سفيان تمكنت من الإفلات. وعلم النبيُّ في هذه الأثناء أن قريشاً جمعت وهي آتية لقتاله. فعرض الأمر على أصحابه. يقول تبارك وتعالى: «كما أخرجك ربُّك من بيتك بالحقِّ، وانّ فريقاً من المؤمنين لكارهون يجادلونك في الحقِّ بعدما تبيّن كأنما يساقون إلى الموت وهم يَنظرون» (1). أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي أيوب الأنصاري قال: قال لنا رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم ونحن بالمدينة وقد بلغه أن عير أبي سفيان قد أقبلت: «ما ترون فيها لعل اللَّه


1- 1 الأنفال: 5- 6.

ص: 172

يغنمناها ويسلمنا؟» فخرجنا فسرنا يوماً أو يومين. فقال: ما ترون فيهم؟

فقلنا: يا رسول اللَّه ما لنا طاقة بقتال القوم إنما خرجنا للعير. فقال المقداد:

لا تقولوا كما قال قوم موسى: «اذهب أنت وربّك فقاتلا إنا ههنا قاعدون» فأنزل اللَّه الآيتين (تفسير الجلالين في أسباب نزول الآية 5- 6 من الأنفال).

من سياق هاتين الآيتين يتبين وكأن اللَّه- تبارك وتعالى- ما أراد من خروج رسول اللَّه إلا قتال المشركين.

ويبدو هذا واضحاً في سياق الآية:

«إذ أنتم بالعُدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى والركبُ أسفلَ منكم، ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ولكن ليقضيَ اللَّه أمراً كان مفعولًا ليهلكَ مَن هلك عن بينة ويحيى من حيّ عن بينة وإن اللَّه لسميعٌ عليمٌ» (1). فالتقاء الجمعين تدبير من ربِّ العالمين. ولا غرابة في أن يكون الرسول- عليه الصلاة والسلام- على علم من ربّه بهذا التدبير وإن لم يخبر أصحابه.

وهذا بين في الآية التي يعاتب اللَّه فيها المؤمنين: «وإذ يعدُكم اللَّهُ إحدى الطائفتين أنها لكم وتودُّون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريدُ اللَّهُ أن يحقَّ الحقَّ بكلماته ويقطعَ دابر الكافرين ليحقَّ الحقَّ ويُبطل الباطل ولو كره المجرمون» (2).

مما تقدم يظهر بأن المعركة لابد من وقوعها بين المسلمين والمشركين وعن وعي من النبيِّصلى الله عليه و آله و سلم. والظاهر أيضاً بل الجلي هو أن اللَّه- تبارك وتعالى- قد تعهد هذه المعركة بالنصر.

يقول تبارك وتعالى: «إذ يريكهم اللَّه


1- 1 الأنفال: 42.
2- 2 الأنفال: 7- 8.

ص: 173

في منامك قليلًا، ولو أراكهم كثيراً لفشلتم ولتنازعتم في الأمر ولكن اللَّه سلم إنه عليم بذات الصدور» (1).

ما رآه النبي من قلة عددهم يشدّ من عزيمته ويشدّ من عزيمة أصحابه، ولكن تدبير من ربِّ العالمين.

ب- معسكر المسلمين عشية المعركة: جاء في طبقات ابن سعد (ص 14): «ومضى رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم حتى إذا كان دون بدر أتاه الخبر بمسير قريش. فأخبر به رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم أصحابه واستشارهم».

جاء في الطبري (ص 424): «أن أبا بكر قال: فأحسن. ثم قام عمر بن الخطاب فقال: فأحسن». نعود إلى ابن سعد: «فقال المقداد بن عمرو البهراني: والذي بعثك بالحق، لو سرت بنا إلى بَرك الغِماد لسرنا معك حتى ننتهي إليه». ويضيف ابن سعد:

«أنه بعد أن انتهى المقداد قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم: أشيروا عليّ، وإنما يريد الأنصار. فقام سعد بن معاذ فقال: أنا أُجيب عن الأنصار، كأنك يا رسول اللَّه تريدنا؟ قال: أجل. قال: فامض يا نبي اللَّه لما أردت، فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت هذا البحر فخضته لخضناه معك ما بقي منّا رجل واحد. فقال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم سيروا على بركة اللَّه، فإن اللَّه قد وعدني إحدى الطائفتين، فو اللَّه لكأني أنظر إلى مصارع القوم».

«ثم إن النبيصلى الله عليه و آله و سلم أخذ يتحسّس أخبار قريش وعددهم عن طريق العيون التي بثّها» (2).

«ونزل المسلمون عند ماء بدر واقترح سعد بن معاذ أن يبنى عريش للنبيّصلى الله عليه و آله و سلم حتى يكون بمأمن فيه رجاء أن يعود سالماً إلى مَن تخلف من المسلمين في المدينة وأن لا ينكبوا بفقده» (3) وقام على حراسته سعد بن معاذ ومعه رهط من الأنصار.

وكان النبيصلى الله عليه و آله و سلم قد خلف على أهل العالية، لشي ء سمعه عنهم أحدصحابته، والعالية هي قباء وخطمة ووائل وواقف وبنو أمية بن زيد وقريظة والنضير، هذا حق لا يترك مجالًا للمفاجآت تأتيه من خلف ظهره.

وليلة الموقعة غشي المسلمين نعاس فناموا. وأمطرت السماء مطراً خفيفاً ساعدهم على النشاط وطهرهم، وثبت الأرض تحت أقدامهم. «فلما أصبح النبيُّصلى الله عليه و آله و سلمصفّ أصحابه قبل أن تنزل قريش، وطلعت قريش ورسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم، يصفف أصحابه ويعدلهم كأنما يقوم


1- 1 الأنفال: 43.
2- 2 البوطي: 157.
3- 3 البوطي: 158.

ص: 174

بهم القدح، ومعه يومئذ قدح يشير إلى هذا تقدم، وإلى هذا تأخر، حتى استووا» (ابن سعدص 15). ثم دخل العريش يجأر بالدعاء متوجهاً بكليته إلى اللَّه تبارك وتعالى: «اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها، تُحادُّك وتكذّب رسولَك، اللهم فنصرك الذي وعدتني، اللهم أحِنْهم الغداة» (1).

ج- المعركة: وبدأ القتال، قتال التوحيد ضد الشرك، والايمان ضد الكفر، وإليكم هذه الصورة من علي بن أبي طالب عليه السلام: «لما أن كان يوم بدر وحضر البأس التقينا برسول اللَّه وكان أشدَّ الناس بأساً، وما كان منّا أحد أقرب إلى العدو منه» (2). وهذهصورة أخرى من عمر بن الخطاب:

«فلما كان يوم بدر نظرتُ إلى رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم، يثب في الدرع وثباً وهو يقول: سيهزم الجمع ويولون الدبر، فعلمت أن اللَّه تبارك وتعالى، سيهزمهم» (3).

ولكن النبي عليه الصلاة والسلام مع محاربته للعدو كان يعود إلى العريش ويدعو ربه وباستمرار، حتى أيده بالملائكة، وكان اللَّه- تبارك وتعالى- يبعث إليه بالوحي حتى تطمئن قلوب المؤمنين: «إذ تستغيثون ربّكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألفٍ من الملائكة مُردِفين وما جعله اللَّه إلا بشرى ولِتطمئنَّ به قلوبُكم وما النصرُ إلا من عند اللَّه إن اللَّه عزيز حكيم» (4).

«روى الترمذي عن عمر بن الخطاب قال: نظر النبيّصلى الله عليه و آله و سلم إلى المشركين وهم ألف وأصحابه ثلاثمائة وبضعة عشر رجلًا فاستقبل القبلة ثم مدّ يديه وجعل يهتف بربه: اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض. فما زال يهتف بربه ماداً يديه مستقبلًا القبلة حتى سقط رداؤه فأتاه أبو بكر فأخذ رداءَه وألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه وقال: يا نبيَّ اللَّه كفاك مناشدتك ربّك فإنّه سينجز لك ما وعدك فأنزل اللَّه الآية (الجلالين أسباب نزول الآية 9 من الأنفال).

وقد وعد اللَّه- تعالى- المسلمين بمساعدته من قبل، يوم أن كانوا في مكة وهو يقصّ عليهم القصص للأمم السالفة حتى تكون لهم درساً وعبرة. يقول تبارك وتعالى:

«وأورثنا القوم الذين كانوا يُستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها» (5).

ويقول تبارك وتعالى: «ونُريدُ أن نمنَّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلَهم أئمةً ونجعلَهم الوارثين ونُمكّن لهم في


1- 1 ابن هشام، 2: 272.
2- 2 خليل: 182.
3- 3 ابن سعد: 25.
4- 4 الأنفال: 9- 10.
5- 5 الأعراف: 137.

ص: 175

الأرض» (1).

وكان الوحي يواكب المعركة والنبيُّصلى الله عليه و آله و سلم يطمئن أصحابه ويحضهم على القتال: «يا أيها النبيُّ حرّض المؤمنين على القتال، إن يكن منكم عشرونصابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائةٌ يغلبوا ألفاً من الذين كفروا بأنَّهم قومٌ لا يفقهون» (2). وبما أن الخبر من المولى- عزّ وجلّ- معناه الأمر؛ لذلك خفّف اللَّه عن المؤمنين رحمة بهم:

«الآن خفّف اللَّهُ عنكم وعلِم أنَّ فيكم ضعفاً، فإن يكن منكم مائةٌصابرةٌ يغلبوا مائتين، وإن يكن منكم ألفٌ يغلبوا ألفين بإذن اللَّه واللَّه مع الصابرين» (3).

وكان النصر المبين للمسلمين في بدر.

د- جهاز المشركين: بعد أن نجا أبو سفيان من المسلمين وقد كان بعث إلى قريش لنجدته، تَهيَأت قريش جميعها لنجدته، من دون استثناء.

علماً أن هناك مصدراً يقول بأن بني عدي بن كعب لم يخرج منهم أحد (4).

وتجمع جميع المصادر على أن أبا لهب، عمَّ النبيّ، لم يخرج وبعث مكانه.

جاء في سمط النجوم (ص 15):

«فتجهز الناس سراعاً وقالوا: أيظن محمد وأصحابه أن تكون كعير ابن الحضرمي؟ كلا واللَّه ليعلمن غير ذلك». وكانوا يشيرون إلى سرية عبد اللَّه بن جحش رضي اللَّه تعالى عنه.

وجاء في الطبري: «فلمّا أتى قريشاً الخبر (خبر العير وتعرض محمد لها) نفر لها أهل مكة (ص 422).

وجاء في البوطي: «فبلغ الخبر قريشاً، فتجهزوا سراعاً، وخرج كلهم قاصدين الغزو، حتى إنه لم يتخلف من أشراف قريش أحد، وكانوا قريباً من ألف مقاتل (ص 57).

«ولما فرغوا من جهازهم وأجمعوا على المسير ذكروا ما بينهم وبين بني بكر بن عبد مناة بن كنانة من الحرب والعداوة وقالوا: نخشى أن يأتونا من خلفنا. وكاد ذلك أن يثبطهم ويثنيهم» (5). وفي هذا دلالة على التردد.

وسارت قريش تريد رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم وفي طريقهم عرفوا أن العير قد أفلتت من أيدي المسلمين، عندها سرت بلبلة فيصفوفهم.

وكانوا قد نزلوا في الجحفة. ورأى أحد المشركين من قرابة رسول اللَّه رؤية وكأن أئمة الكفر يقتلون. فبلغت هذه الرؤية أبا جهل فقال: «وهذا أيضاً نبيّ آخر من بني المطلب» (6).


1- 1 القصص: 5- 6.
2- 2 الأنفال: 65.
3- 3 الأنفال: 66.
4- 4 سمط النجوم: 22.
5- 5 سمط النجوم: 16.
6- 6 ابن هشام: 270.

ص: 176

يقول ابن سعد (ص 14):

رجعت بنو زهرة من الجحفة، أشار عليهم بذلك الأخنس بن شريف الثقفي. وكان بنو زهرة يومئذ مائة رجل وقال بعضهم: بل كانوا ثلاثمائة رجل. وكانت بنو عدي بن كعب مع النفير. فلما بلغوا ثنية لفت عدلوا في السحر إلى الساحل منصرفين إلى مكة، فصادفهم أبو سفيان بن حرب فقال: يا بني عدي كيف رجعتم لا في العير ولا في النفير، ويضيف ابن سعد:

فلم يشهد بدراً من المشركين أحد من بني زهرة ولا من بني عدي».

وجاء في سيرة ابن هشام (ص 271) قال الأخنس لبني زهرة:

«يا بني زهرة، قد نجّى اللَّه لكم أموالكم، وخلّص لكمصاحبكم مخرمة بن نوفل، وإنما نفرتم لتمنعوه وماله، فاجعلوا لي جُبنها وارجعوا، فإنه لا حاجة لكم بأن تخرجوا في غير ضيعة (منفعة)، لا ما يقول هذا، يعني أبا جهل، فرجعوا».

وقيل أن سبب رجوع الأخنس ببني زهرة: «أنه خلا بأبي جهل حين تراءى الجمعان فقال: يا أبا الحكم أترى أن محمداً يكذب؟ فقال أبو جهل: كيف يكذب على اللَّه وقد كنّا نسميه الأمين لأنه ما كذب قط، ولكن إذا اجتمعت في بني عبد مناف السقاية والرفادة والحجابة والمشورة ثم تكون فيهم النبوة فأي شي ء بقي لنا؟» (1).

ولهذه القصة أثر سيّئ على نفسية المشركين قيادة وعامة وذلك ليقينهم إنما يحاربون اللَّه ورسوله، وفي هذا دلالة على الإحباط الشديد.

«ومضى القوم، وكانت بين طالب بن أبي طالب- وكان في القوم- وبين بعض قريش محاورة فقالوا: واللَّه لقد عرفنا يا بني هاشم- وان خرجتم معنا- أن هواكم مع محمد، فرجع طالب إلى مكة مع من رجع» (2).

ه- معسكر المشركين في بدر:

وعسكر المشركون بالقرب من بدر الذي كان قد وصلها رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم وهم في هذا الوضع المتفكّك نفسياً، فما كان وضعهم بعد أن عسكروا؟

«فلما اطمأن القوم بعث المشركون عمير بن وهب الجمحي، وكانصاحب قداح، فقالوا: احزر لنا محمداً وأصحابه، فصوب في الوادي وصعد ثم رجع فقال: لا مدد لهم ولا كمين، القوم ثلاثمائة إن زادوا زادوا قليلًا، ومعهم سبعون بعيراً وفرسان.

يا معشر قريش، البلايا (جمع بلية وهي الناقة أو الدابة تربط على قبر الميت فلا تعلف ولا تسقى حتى تموت) تحمل المنايا، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع. قوم ليست لهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم أما ترونهم خرساً لا


1- 1 سمط النجوم: 22.
2- 2 الطبري: 429- وكذا في ابن هشام وسمط النجوم.

ص: 177

يتكلمون، يتلمظون تلمظ الأفاعي؟

واللَّه ما أرى أن نقتل منهم رجلًا حتى يُقتل منّا رجل، فإذا أصابوا منكم عددهم فما خير في العيش بعد ذلك.

فروا رأيكم. فتكلم حكيم بن حزام ومشى في الناس، وأتى شيبة وعتبة وكانا ذوي نقبة في قومهما فأشاروا على الناس بالانصراف، وقال عتبة:

لا تردوا نصيحتي ولا تسفهوا رأيي، فحسده أبو جهل حين سمع كلامه، فأفسد الرأي وحرش بين الناس ...

وجاء عمير بن وهب فناوش المسلمين» (1). وبدأت الحرب بعد مبارزة أبلى فيها علي عليه السلام بلاءً حسناً وقتل فيها أحد أئمة الكفر. بدأت الحرب التي جرّ أبو جهل قريشاً اليها كرهاً وخوفاً من الوهن والانقسام والتردد.

أما الغاية من الحرب كما حدّدها أبو جهل فهي: «واللَّه لا نرجع حتى نرد بدراً فنقيم عليه ثلاثاً، فننحر الجُزُرَ ونطعم الطعام ونُسقى الخمر وتَعزف علينا القيان، وتسمع بنا العربُ وبمسيرنا وجمعنا فلا يزالون يهابوننا» (2). وفيهم أنزل اللَّه تبارك وتعالى: «ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاءَ الناس ويصدُّون عن سبيل اللَّه، واللَّهُ بما يعملون محيط» (3).

لدينا الآنصورة واضحة لوضع المشركين المتفكّك قيادة وقاعدة. والذين يعيشون الخوف الحقيقي من المسلمين. أرسل النبيصلى الله عليه و آله و سلم عماراً وابن مسعود ليروا وضع المشركين ليلة المعركة، فقالا: «القوم مذعورون فزعون إن الفَرس ليريد أن يصهل فيضرب وجهه مع أن السماء تسح عليهم» (4).

و- نتائج المعركة: إذا افترضنا أن الوضع هو كما عرضناه وطرحنا السؤال: أيّ من الفريقين له الحظُّ الأوفر في الانتصار؟ سيكون الجواب ومن دون تردّد أن الفوز سيكون من نصيب المسلمين. وفي هذا دلالة على أن المسلمين بقيادة النبيِّ قد أخذوا بالأسباب المادية للنصر. ولكن، من وجهة نظرنا كمؤمنين، الأخذ بالأسباب لا يعني حتمية النصر، ولكنه يعني أن احتمال النصر هو الاحتمال الأوفر. والأخذ بالأسباب يسمى العزم، يقول تبارك وتعالى:

«فإذا عزمت فتوكل على اللَّه».

بقي أن نستعرض العامل الحاسم في النصر وهو التوكل على اللَّه.

وما النصر إلا من عند اللَّه.

يقول تبارك وتعالى: «قد كان


1- 1 ابن سعد: 16- ونحوه عن ابن هشام: 274.
2- 2 البوطي: 158.
3- 3 الانفال: 47.
4- 4 خليل: 181.

ص: 178

لكم آية في فئتين التقتا، فئة تقاتل في سبيل اللَّه وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين، واللَّهُ يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرةً لأولي الأبصار» (1).

ويقول تعالى: «وإذ يُريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلًا ويقللكم في أعينهم ليقضي اللَّه أمراً كان مفعولًا، وإلى اللَّه ترجع الأمور» (2).

ويقول تعالى: «إذ يُغشّيكم النعاس أمنةً منه ويُنزل عليكم من السماء ماءً ليطهركم به ويُذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويُثبت به الأقدام» (3).

ويقول تعالى: «إذ تستغيثون ربّكم فاستجاب لكم أني ممدّكم بألف من الملائكة مردفين» (4).

هذا السيل من الآيات يبين لنا وبوضوح كيف أن اللَّه تبارك وتعالى قد تولى المعركة. وهذا ناتج من أن المسلمين قد حددوا هدفهم بنصرة دين اللَّه. يقول تعالى: «إن تنصروا اللَّه ينصركم ويثبت أقدامكم» وهذه سنة ثابتة أزلية من سنن النصر، لا تتغير ولا تتبدل.

كما أن الدعاء هو من السنن الثانية لتأييد اللَّه عزّ وجلّ، يقول تعالى: «قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم» (5). لذا رأينا رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم يجأر في الدعاء قبل وأثناء المعركة: «اللهم إنّي أسألك عهدك ووعدك؛ اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم» (6).

إذن الغاية من القتال هي التأكيد على العبودية للَّه تبارك وتعالى.

الشأن الذي خلق اللَّه الخلق من أجله:

«وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون».

المشركون موعودون بجهنم والمؤمنون موعودون بالجنة أو النصر.

لمن الغلبة إذن؟

والقرآن، القرآن الذي وعاه المسلمون، مسلمو بدر. كان يعدهم بالنصر لأنهم مستضعفون. قال النبيُّ في دعائه: «اللهم إنهم حفاة فاجملهم، اللهم إنهم عراة فاكسهم، اللهم إنهم جياع فأشبعهم».

انهم مؤمنون: «وكان حقاً علينا نصر المؤمنين» (7)، «إن اللَّه يدافع عن الذين آمنوا» (8).

وانتصر المسلمون في بدر لالتزامهم بالسنن الإلهية للنصر: العزم والتوكل. الأخذ بالأسباب والدعاء.

ز- الأنفال: بعد هذا الانتصار الباهر غنم المسلمون الكثير من الغنائم. واختلفوا فيما بينهم لمن تكون.

كل يريدها له. فكيف السبيل إلى حلّ هذا الإشكال؟ نعود إلى نقطة البدء.

لقد قاتل المسلمون لإعلاء كلمة اللَّه


1- 1 آل عمران: 13.
2- 2 الانفال: 44.
3- 3 الانفال: 11.
4- 4 الأنفال: 9.
5- 5 الفرقان: 77.
6- 6 الطبري: 447.
7- 7 الروم: 47.
8- 8 الحج: 29.

ص: 179

وليس للغنائم. لذلك جاء حلّ هذه المعضلة من عند اللَّه: «يسألونك عن الأنفال قل الأنفال للَّه والرسول فاتقوا اللَّه وأصلحوا ذاتَ بينكم وأطيعوا اللَّهَ ورسولَه إن كنتم مؤمنين» (1) وهكذا حلّ الإشكال برضى جميع الناس. «سأل عبادة ابن الصامت عن الأنفال؛ فقال: فينا أصحاب بدر نزلت، حين اختلفنا في النَّفَل، وساءت فيه أخلاقنا، فنزعه اللَّه من أيدينا، فجعله إلى رسوله، فقسمه رسول اللَّه بين المسلمين عن بواء.

يقول: على السواء» (2).

قاتل المسلمون لإعلاء كلمة اللَّه. والأنفال هي أيضاً للَّه الذي لولا رحمته لم يكن النصر. يقول تبارك وتعالى: «واذكروا إذ أنتم قليلٌ مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون» (3).

لا خلاف إذن، إيمان واحتساب وأخوة والرزق من عند اللَّه.

إنها التربية التوحيدية التي ترفع الإنسان إلى مستوى العبودية للَّه وحده، أرفع مستوى يمكن أن يصل إليه الإنسان.

وكانت بدر يوم الفرقان كما أراد ربُّ العزّة، وأصبح المسلمون كتلة مهابة الجانب في شبه الجزيرة العربية، يمكنها نشر التوحيد في شتى أنحاء البلاد دون خوف أو وجل.

دروس وعبر:

إن الإحاطة بجميع الدروس والعبر والقوانين من هذه المعركة هي مهمة مستحيلة، لأن السنة ثابتة لا تتغير، ولكن ما هو خاضع للتغير والتبدل هو الإنسان والعصر. وبالتالي فإن تغير الإنسان والعصر يستتبع تغير الفهم لهذه القوانين تبعاً لتطور العلوم الطبيعية والإنسانية، وتطور العلوم يعني تقدم إمكانية الإنسان على فهم أكثر اكتمالًا للسنن والقوانين الإلهية في الكون، وفي الطبيعة والمجتمع.

وانطلاقاً من هذا الفهم سنحاول استخلاص بعض الدروس:

1- المسلمون كانوا قلة وانتصروا في بدر. هل انتصار القلة على الكثرة قانون اختصّ به المسلمون دون غيرهم؟ إذا كان الجواب بالايجاب. فكيف يمكننا تفسير انتصار الشعب الفيتنامي على أمريكا؟ وكيف يمكن تفسير إنتصار إسرائيل على العرب؟

التفسير الممكن هو أن اللَّه-


1- 1 الأنفال: 1.
2- 2 ابن هشام: 296.
3- 3 الأنفال: 26.

ص: 180

تبارك وتعالى- قد جعل قوانين لتطور المجتمعات. وأن الفئة التي تتمكن من اكتشاف هذه القوانين وفهمها وتسخيرها يمكنها النصر. وهكذا يمكننا تفسير هزيمة المسلمين في أحد مع أنهم كانوا بقيادة النبيصلى الله عليه و آله و سلم، وكذلك يمكننا تفسير هزيمة الهنود الحمر أمام جلاديهم ومغتصبي بلادهم.

2- تحديد الشيطان: المؤمنون يحاربون الشيطان. ونحن كمؤمنين نستعيذ اللَّه من الشيطان الرجيم يومياً.

مَن هو الشيطان؟ هل هو وهم أم واقع؟ علماً أن اللَّه قد أعلمنا أن الشيطان يمكن أن يكون إنساناً أو مجموعة من الناس أو نظاماً إنسانياً، كما أن الشيطان يمكن أن يكون من الجان. فإذا كان الشيطان من الجن فما علينا إلا أن نستعيذ باللَّه منه لأنه من الغيب، الذي لا يمكننا رؤيته. وإن كان من الإنس فما علينا إلا تحديده ومحاربته. ومحاربته بالنسبة للمؤمنين أمر واجب ومستمر. لذلك رأينا الرسول الأعظم قد حدّد الشيطان للمسلمين عندما أعلن أن المعركة مع قريش: رأس الكفر. علماً أن الكثير من القبائل العربية كانت لا تزال على الشرك. ولكن معرفة الرسول بالعلاقات القائمة في الجزيرة العربية دفعته لمحاربة قريش إذ إن الانتصار عليها يعني تفكيك أو بالأخرى تدمير جميع أو معظم العلاقات الشركية القائمة في الجزيرة العربية. وتحديد الرسول كان موفقاً لأنه بعد الانتصار على قريش (فتح مكة) رأينا جميع القبائل تأتي إلى الرسول تُعلن إسلامها من دون قتال.

ولا بأس هنا من الإشارة إلى أن تحديد الإمام الخميني للشيطان الأكبر كان تأسياً برسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم.

وهذا لم يحصل في التاريخ الحديث إلا على يدي الإمام رحمه الله. ولا ضرورة للإشارة إلى أننا لا نزال خاضعين لهذا التحديد. لأن عقدة العلاقات الشركية على الصعيد العالمي هي بيد أمريكا، وعقدة هذه العلاقات الشيطانية في منطقتنا هي بيد إسرائيل. فشياطيننا هي أمريكا وإسرائيل كما سبق تحديدهما من قبل الإمام الخميني رحمه الله.

3- تحديد الأولويات في العمل: يقول رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم:

«أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لاإله إلا اللَّه وأن محمداً رسول اللَّه».

ومع هذا رأينا أن رسول اللَّه لم يقاتل اليهود في المدينة بل كتب عهداً معهم ولم يقاتل بني وائل وغيرهم مع أنهم كانوا على الشرك، بل آثر قتال قريش، لأن تحديد الأولويات في

ص: 181

العمل ضروري للانتصار. لذلك كان الشكل الشركي الذي يجب تحطيمه، حسب تحديد رسول اللَّه هو قريش.

4- معرفة قواك الذاتية وقوى العدو: سحب جمال عبد الناصر القوات الدولية المرابطة بينه وبين العدو الإسرائيلي. وكان يعتقد أنه سينتصر على إسرائيل خلال ساعات فكانت النتيجة أن هزمت جميع الأنظمة العربية خلال ستة أيام. وإسرائيل نفسها بعد أن تطورت آلتها العسكرية بما لا يقاس بالنسبة لعام 1967 لم تتمكن خلال سبعة أيام من الحرب الضروس من إزاحة مقاتل واحد من المقاومة الإسلامية من جنوبِ لبنان؟!.

بينما راح رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم- قبل التوجه إلى المعركة- يستشير أصحابه بما سيقدم عليه، واطمأن إلى جيشه. وراح يتحسس قوى عدوه، وبعد أن عرف قواه وقوى عدوه أقدم على الحرب المنتصرة.

5- روحية النصر: إذا توجهنا إلى جميع أجهزة الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية، مع بعض الاستثناءات الضئيلة، نرى أن عدونا هو من الصنف الذي لا يمكن هزيمته.

فإذا كنّا مهزومين نفسياً قبل التوجه إلى المعركة، هل يمكننا الانتصار؟

بالطبع لا. أما جيش المسلمين بقيادة النبيصلى الله عليه و آله و سلم كسب النصر قبل البدء بالمعركة. ماذا قال الرسول لأصحابه؟

قال: إني أرى مصارع القوم. في نفس الوقت كان قادة قريش يقنعون أصحابهم بالعودة وعدم دخول المعركة. وهذا ما يجعلنا نفهم كيف أن الحجر المؤمن في فلسطين يجابه الدبابة الإسرائيلية.

6- معرفة مكامن الضعف ومكامن القوة: قوة قريش كانت تقوم على تجارتها، لذلك رأينا أكثر السرايا والغزوات تتوجه لتهديد ومنع هذه التجارة.

7- الإمداد: كان اعتصام المسلمين بحبل اللَّه. أما المشركون فليس لهم إمداد روحي. المسلم موعود بالجنة والمشرك موعود بالنار.

وكان المسلمون قد أنذروا المشركين مدّة ثلاث عشرة سنة في مكة بالمصير الذي ينتظرهم في الدنيا والآخرة إن هم استمروا على كفرهم وعنادهم.

8- الغاية من القتال: كانت

ص: 182

غاية المسلمين من القتال إعلاء كلمة اللَّه وتدمير العلاقات الشركية، وكانت غاية قريش المجون والفسوق والطغيان.

هذه بعض الدروس والعبر التي أمكننا استخلاصها مع تأكيدنا أنها قاصرة عن الإحاطة.

وأخيراً لابدّ من تأكيد ضرورة بذل الكثير من الجهد الجماعي لدراسة سيرة المصطفىصلى الله عليه و آله و سلم. وذلك بغية معرفة التأسي به. لأن مجتمعنا اليوم وأعني المجتمع الإسلامي، بأمسّ الحاجة لهذا، فما نراه من الهجمة الاستكبارية على جميع الصعد العسكرية والاقتصادية والعلمية والتربوية يحتّم علينا العودة إلى المعين الصافي.

الهوامش:

الحجُّ في مبناه ومعناه

الحجُّ في مبناه ومعناه

لبيب بيضون

الأغراض الفردية والاجتماعية للعبادات:

يُعدُّ الإسلامُ الفردَ الصالح نواة للمجتمع الصالح. وهذا يعني أن الهدف النهائي هو المجتمع وليس الفرد. ولذا إذا

ص: 183

تعارضت مصلحة الفرد مع مصلحة الجماعة قدّمت مصلحة الجماعة على الفرد.

من هذا المنطلق نجد أن العبادات التي هي في أصلها تكليف فردي، أن هدفها العميق ليس إصلاح الفرد فقط، وإنما قيام المجتمع الصالح.

فالصلاة التي تهدف إلى تطهير الفرد من الدنس بردعه عن فعل الفحشاء والمنكر، هدفها أيضاً تخليص الغير من شرور الفرد، لأن الفواحش لا يمارسها الفرد إلا مع الغير.

والزكاة التي تهدف إلى تطهير النفس من عبودية المادة، لا يكون مجال إنفاقها وفاعليتها إلا في المجتمع، فتكون التأمين الضروري لكل فرد عاجز في المجتمع لكي يعيش عيشة إنسانية مرضية.

أما الصوم الذي هو دورة تدريبية سنوية للفرد على التقوى، والالتزام بالواجبات والمحاسبة الدقيقة للنفس على كل عمل، فهو في نفس الوقت شعور بحرمان الفقير من كل حاجاته، حتى الحاجات الضرورية كالطعام والشراب والكساء، فيكون هدفه الاجتماعي مساعدة العاجز والبائس ومشاركة المساكين في آلامهم ومآسيهم.

أما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهما من العبادات ذات الغرض الجماعي الظاهر، فكل انحراف يراه المسلم في المجتمع عليه إصلاحه ليحافظ على المجتمع السليم. وبما أنه لا انفصال بين مصلحة الفرد ومصلحة المجتمع، فإن إصلاح المجتمع تعود عليه ثماره بشكل غير مباشر.

من هذا تظهر وحدة المجتمع في الصلاح والفساد. فكل ما يحدث في جزء من المجتمع يعود تأثيره على كل فرد في المجتمع، وهو فحوى قول النبي الأعظمصلى الله عليه و آله و سلم:

«مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى».

فليس لأحد أن يعيش في معزل عن غيره، ويزعم أنه حر فيما يعمل، طالما أنه خاضع للتأثير المتبادل بينه وبين مجتمعه.

وقدصوّر لنا النبيصلى الله عليه و آله و سلم هذه الحقيقة الواقعة خير تصوير في حديثه عن قوم ركبوا فبدأ أحدهم يحفر في الجزء الذي اختص به. يقولصلى الله عليه و آله و سلم:

«مثل القائم على حدود اللَّه والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضُهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنّا خرقنا في نصيبنا خَرْقاً ولم نؤذ من فوقنا. فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإذا أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً».

من هذا المنطلق وقياساً على ما سبق، نجد أن فريضة الحجّ ذات مقاصد فردية واجتماعية على حد سواء، شأنها في ذلك شأن كل العبادات.

وبما أن فريضة الحج مبتناة على اجتماع الناس بأعداد كبيرة، ومن شتى أصقاع الأرض ودول الإسلام، فإن الأهداف الاجتماعية فيها لابُدّ من أنها هي الغالبة.

ص: 184

ونحن إذا نظرنا إلى الحجّ في معناه ومبتغاه نجد أن هدفه تصفية النفوس وتزكيتها من أدران الخطيئة والذنوب، وذلك بوفادتها إلى بيت اللَّه الذي يغفر الذنوب، واستضافتها في داره، وطوافها حول كعبته، كدلالة على خلوصها من قيود الشيطان وسلطته، وارتباطها الوحيد بعمود الإسلام وقبلته.

لكن طواف المسلمين في جموعهم المحتشدة حول الكعبة يعطي- إضافةً لذلك- المعنى التوحيدي للمجتمع الإسلامي، فهم في طوافهم حول مركز واحد مع اختلاف ألوانهم وأجناسهم، يشبهون نجوم السماء التي انتظمت في مجرة واحدة هي مجرة الإسلام. أو إنهم كالإلكترونات في الذرة يتشابهون في تكوينهم وطبيعتهم ولا يختلفون إلّا بمقدار قربهم وبعدهم عن النواة. وتتجسم معاني الإسلام الحقيقية في هذا اللقاء الفريد، وقد خلع الجميع زينة الدنيا ليتحلوا بزينة الدين.

ولا فرق بينهم في موقفهم هذا بين أبيضهم وأسودهم ولا بين فقيرهم وغنيهم ولا بين رئيسهم ومرؤوسهم ولا بين عربيهم وأعجميهم.

يقول النبيصلى الله عليه و آله و سلم: «لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأبيض على أسود، ولا لحر على عبد، إلّابالتقوى».

وإذا كان الإسلام حريصاً كل هذا الحرص على تنقية نفس الفرد المسلم في فريضة الحج مما علق بها من أرجاس وأدران، فما أحراه أن يهدف في هذه الفريضة إلى تنقية المجتمع الإسلامي مما يعانيه من أمراض وأسقام وتخليصه مما يعتوره من محن وأخطار.

لذلك كان الحجُّ أنجح فرصة لاجتماع المسلمين على طاولة واحدة، ومدارستهم لمشاكل المسلمين ووضعهم الخطط القويمة لدفع الأخطار المحيقة بهم.

فيكون الحج عبارة عن لقاء أخوي في كنف اللَّه وعلى مائدة اللَّه لدراسة شؤون أمة اللَّه.

يقول سبحانه في سورة الحج:

«وأذّن في الناس بالحج يأتوك رجالًا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ...» (1).

وهل أعظم منفعة للمسلمين من أن يتدارسوا ما ينفعهم وما يضرهم، فيعملون على ما ينفعهم ويدرَءُون عنهم ما يضرهم.

ونحن لسنا مبتدعين في هذا المعنى بل متمثلين بأعمال النبيصلى الله عليه و آله و سلم وسيرته. فلقد كانصلى الله عليه و آله و سلم يتخذ من الحج منبراً لتوجيه المسلمين وإرشادهم بما يحفظ كيانهم وسلامتهم. ومن أبرز ذلك خطبته المشهورة في حجة الوداع التي حذّر فيها المسلمين من بعض الأُمور التي تضعفهم وتزعزع كيانهم، ومنها أن لا يقتتلوا فيما بينهم، وأن لا يثيروا النعرات القبلية التي كانت بينهم كالمطالبة بالثأر، يقولصلى الله عليه و آله و سلم:

«أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلغت اللّهم اشهد .. من كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها وإن ربا الجاهلية موضوع ..

وإن دماء الجاهلية موضوعة .. وإن مآثر الجاهلية موضوعة .. أيها الناس، إنما المؤمنون إخوة، ولا يحل لامرئ مال أخيه إلا عن طيب نفس، ألا هل بلغت اللّهم اشهد .. ألا لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض، فإني


1- 1 الحج: 27- 28.

ص: 185

تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا، كتاب اللَّه ربكم».

الحجُّ هو العبودية الخالصة للَّه:

والآن لننظر في حقيقة ما يفيدنا به الحج. فهل نحن نفهم الحج على حقيقته؟! إن الحج هو العبودية الخالصة للَّه وحده. إننا نرجم إبليس ثم نرزح أمام نير إبليس ونقع في قبضته.

هل الحجُّ مجرد طقوس بلا معنى ولا هدف؟

لقد أراد بعض المسلمين أن يجمدوا معنى الحج ويحجروا عليه ليجعلوه جسداً بلا روح، وطقوساً بلا معنى.

وكذلك الصلاة، فمتى كانت الصلاة مجرد حركات وسكنات، إذن لم تكن في حقيقتها تحمل معنى التجرد من كل عبودية لغير اللَّه ..

كيف يرتع بعض المسلمين في أكناف المستعمرين الكافرين، ويأتمرون بأمرهم ويستمدون القوة منهم، ثم يدّعون الإسلام، والعبادة للواحد الديان ..

يقول تعالى: «أرأيت الذي ينهى عبداً إذاصلى» (1) فكيف بمن ينهى أحداً عن أية عبادة للَّه. كيف يجوز لأحد من المسلمين أن ينهى مسلماً عن ممارسة أية عبادة للَّه في بيته الحرام، الذي جعله مثابةً للناس وأمناً؟ «وما نقموا مِنهم إلّاأن يؤمنوا باللَّه العزيز الحميد» (2).

إن الحج أعظم فرصة وأكبر سوق لتجارة التقوى والتقرب من اللَّه، وكل من يمنع أحداً من المسلمين من ممارسة هذا الحق فهو مخالف لحقيقة الإسلام.

يجب أن ينتبه كل مسلم مهما كان نوعه ولونه أن الحج دورة تدريبية يتحرر فيها المسلم من أنواع الخضوع والعبودية لغير اللَّه، على مستوى الفرد والجماعة، وأنه مطالب إذا رجع إلى وطنه أن يعمل على جعل مجتمعه متحرراً من كل أنواع الاستعباد والاستعمار للقوى غير الإسلامية، وخاصة تلك التي تحارب الإسلام وتريد محوه ومحقه.

إن الحج هو امتحان لنا واختبار لمدى إيماننا ويقيننا بخالق الوجود، الذي هو خالق كل نور وكل طاقة وكل قوة وكل شي ء، والذي هو فوق كل فرد عظيم أو دولة عظمى. يقول سبحانه في سورة النور:

«اللَّه نور السموات والأرض، مثل نوره كمشكاة فيها مصباح، المصباحُ في زُجاجة الزجاجةُ كأنها كوكب درّي، يوقد من شجرة مباركة زيتونة، لا شرقية ولا غربية ...» (3).


1- 1 العلق: 9- 10.
2- 2 البروج: 8.
3- 3 النور: 35.

ص: 186

لنستمد من ربنا وحده عزيمتنا وعزتنا، ولنقتبس من ديننا قوتنا وهدينا .. ولنتذكر أن قوة إسلامنا من قوة اتحادنا وتضامننا، حتى نكون يداً واحدة على كل أعداء الإسلام .. عند ذلك نفرض لنفسنا السلام، سلام العزة والإسلام، وليس سلام الخضوع والإستسلام.

النبيصلى الله عليه و آله و سلم لم ترهبه قوة الشرق ولا قوة الغرب، حين بدأ دعوته الحقة بحفنة من المؤمنين الصادقين، فلما رأى اللَّه منهمصدق النية أنزل عليهم النصر، وقد تألبت عليهم كل قوى الشر من أحزاب العرب واليهود، فلم يزدهم ذلك إلا إيماناً وتسليماً.

هذه هيصفة المؤمن الحق، الذي لا يتوجّه إلّاالى اللَّه، ولا يتوكل إلّاعلى اللَّه، ولا يستمد القوة إلّامن اللَّه.

بهذا الإيمان الصحيح فتح أجدادنا الدنيا وأصبحوا أعزّة، وبدون هذا الإيمان الصحيح استعمر الكفار بلادنا وأصبحنا أذلة ..

يقول الفيلسوف الكبير الدكتور محمد إقبال رحمه الله في شعره المترجم:

كنا نقدم للسيوفصدورنا لم نخشَ يوماً غاشماً جبارا

وكأن ظل السيف ظِل حديقة خضراء تنبت حولنا الأزهارا

كنا جبالا في الجبال وربما سرنا على مرج البحار بحارا

بمعابد الإفرنج كان أذاننا قبل الكتائب يفتح الأمصارا

لم نخشَ طاغوتاً يحاربنا ولو نصب المنايا حولنا أسوارا

ندعو جهاراً لا إله سوى الذيصنع الوجود وقدّر الأقدارا الهوامش:

تعريفٌ بكتاب «اخبار مكّة» للفاكهي

تعريفٌ بكتاب «أخبار مكّة» للفاكهي

محمد على مهدوى راد

ص: 187

خلال تدوين التاريخ الإسلامي، كان لطريقة تدوين تاريخ المدن والأمصار قدمٌ عريقٌ فيه. وقد احتلّ تاريخ مكّةَ وما جرى فيها من الوقائع والأحداث أهميّةً بارزةً تتناسب ومكانتها ضمن هذا السياق.

فمكّةُ مدينةٌ عريقة ذات شأن عظيم وصيت شائع في الآفاق. وكانت منذ القدم محطَّ أنظار الشعوب والأمم، وهي من منظار القدم التاريخي تُعدُّ من أقدم الأمصار التي شيّدت على وجه المعمورة، وضمّت بين ربوعها شعوباً وقبائلَ شتّى. وفي العصر الإسلامي كانت أخبار مكّة، والنصوص التي تُعنى بأحداثها ووقائعها المختلفة تحظى بأهمية بالغة لدى المسلمين، فقد كانت فضائل مكّة وأخبارها ومكانتها الرفيعة وامتدادها التاريخي تلقى اهتماماً واسعاً لدى المسلمين ولأسباب كثيرة.

فقد كانت- ولا زالت- المعرفة الدقيقة لما دوّن عن مكّة تحتلُّ أهمية قصوى نابعة من ضرورتها في تفسير القرآن، وفهم الآيات الرّبانيّة، وسيرة النبيِّ، وكيفية إنبثاق الرسالة الإسلاميّة وانتشار شعاعها في كلّ الأرجاء. وعلى هذا الأساس فإنّ أقدم النُصوص المدوّنة في الحضارة الإسلاميّة هي تلك التي كتبت عن تاريخ مكّة والمدينة.

قِدَم هذه النصوص:

يظهر أن أقدم مُصَنَّفٍ ورد في كتب التاريخ والسيرة حول هذا الموضوع، هو كتاب محمد بن عمر الواقدي، الذي ولد عام 130 وتوفي عام 207 للهجرة (1)، وكان محدّثاً كبيراً ومؤرخاً حاذقاً. وكان كتابه الموسوم ب «أخبار مكّة» مصدراً لمن تلاه من المحقّقين الذين استقوا منه فيما كتبوه عن مكّة من أخبار ونصوص. وجاء من بعده علي بن محمد المدائني (135- 225 ه) وهو من المؤرخين الذين أغنوا التاريخ بغزارة مؤلّفاتهم وتنوع كتاباتهم. وذكر ابن النديم- الذي نقل آثاره تفصيلياً وبشكل موضوعي- أن له كتاباً عن مكّة اسمه «تاريخ مكّة»، ولا يوجد لهذا الكتاب أيُّ أثر اليوم شأنه في ذلك شأن الكثير من مؤلّفاته الأخرى. وينبغي لي التذكير هنا بأن الكثير من المصادر الأخرى التي تحدّثت عن سيرته ومؤلّفاته لم تذكر عن هذا الكتاب شيئاً (2).

بعد كتاب المدائني لابدّ من الاشارة إلى الكتاب القيم الذي ألّفه أبو الوليد محمد بن عبد اللَّه بن أحمد الأزرقي (...

إلى ما يقارب 250 ه)، وعنوانه «أخبار مكّة»، ونقل فيه أخباراً كثيرة عنها. ومن حسن الحظّ أن الكتاب موجود اليوم، ولا يزال المحقّقون يرجعون إليه وينهلون من فيضهِ (3).


1- 1 يلاحظ وجود اختلاف طفيف في سنة ولادته بين المصادر المختلفة، انظر كتاب: الوافي بالوفيات، لصلاح الدين خليل بن أبيك الصفدي، 2: 238- النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، لجمال الدين ابي المحاسن يوسف بن تغري، 2: 184- كتاب المغازي للواقدي، 1: 5.
2- 2 انظر: تاريخ بغداد، 12: 54- معجم الأدباء لياقوت الحموي، 14: 124- والنجوم الزاهرة، 2: 259- سير أعلام النبلاء، 10: 400- وتاريخ التراث العربي، 1: الجزء 2: 139- أخبار مكّة للأزرقي المقدّمة. تجدر الإشارة إلى اختلاف المؤرخين في سنة وفاته أيضاً.
3- 3 سنتحدّث عن هذا الكتاب بالتفصيل في أحد أعداد «الميقات» المقبلة.

ص: 188

ألّف أيضاً الزبير بن بكّار الذي ولد عام 172 وتوفي عام 256 للهجرة كتاباً في هذا الموضوع. وكتابه هذا أشار إليه السخاوي (1)، وذكرتْه أيضاً مصادرُ أُخرى (2). إلّاأن النصوص الواردة في الكتب التاريخية والمصادر التي تحدثّت عن سيرته، والفهارس التي أحصت مؤلفاته لم تذكر شيئاً عن هذا الكتاب (3).

يُعَدُّ عمر بن شَبّة أيضاً من المؤرّخين الذين كتبوا عن مكّة وأخبارها، وله كتاب يُدعى ب «تاريخ مكّة» ذكره البخاري ونقل عنه (4)، وقال: إنّ له كتاباً آخر في هذا الصدد واسمه «أُمراء مكّة»، لكن البعض احتمل أن يكون كلا الاسمين عنواناً لكتاب واحد (5).

نسبت بعض المصادر إلى الحسن البصري (م 110) كتاباً اسمه «تاريخ مكّة»، ويبدو أن نسخة منه موجودة الآن في أحد مكتبات مصر (6).

ثم يأتي بعد كل هذا كتاب أبي عبد اللَّه محمد بن إسحاق الفاكهي، وهو كتاب قيّم وفريد وقد سمّاه ب «أخبار مكّة في قديم الدهر وحديثه» وهو محور اهتمامنا الآن:

يوصف كتاب الفاكهي بأنّه كتابٌ تاريخي واجتماعي وجغرافي، يُتاح للمرء- بالاستناد إليه- التعرف على الكثير من الحقائق المتعلقة بمكّة، والكيفية التي كانت عليها الأطراف المحيطة بها. والموجود حالياً هو الجزء الثاني من الكتاب وهو يحمل بين دفّتيه ما يناهز الثلاثة آلاف حديث وخبر.

أما الجزء الأول منه فقد كان في متناول أيدي المحقّقين والمحدّثين حتّى سنوات من بعد تأليفه، فكانوا يستفيدون من مضامينه ومحتوياته. وقد أعاد محقّق هذا الكتاب- وبالاستناد إلى نقلهم وروايتهم-صياغة قسمٍ من جزئه الأوّل، وهذا ما سنشير اليه لاحقاً.

أهمية الكتاب:

لقد ظل كتاب الفاكهي وعلى مَرّ الزمن موضعَ اهتمام العلماء والمحدّثين والمؤرّخين، فانتفع منه الكثيرون واكّدوا أهميته الكبيرة في تاريخ الإسلام. أثنى عليه ابن حجر العسقلاني الذي استفاد منه كثيراً فيما ألّفه عن أخبار مكّة قائلًا:

«كتاب قيّم في خمسة كتب» (7).

وكتب تقي الدين محمد بن أحمد الفاسي المكّي الذي نقل في كتابه الكثير مما جاء في كتاب الفاكهي: «امور مفيدة جداً ليست من معنى تأليف الأزرقي ولا من المعنى الذي ألّفناه» (8).

لقد حوى كتاب الفاسي علماً غزيراً ونافعاً. وقوله هذا- وهو قول رجل عارف- يحمل منتهى الدلالة على المكانة الرفيعة لكتاب الفاكهي وسعة مادّته ووفرة المعلومات المدوّنة فيه.

النقطة الأخرى التي تتضح من خلالها أهمية كتاب الفاكهي هي المعلومات والبيانات المسطورة علىصفحاته، ولا أثر اليوم لمصادرها الأصلية.

لقد ضبط محقّق الكتاب- وهو لا شك محقّق جاد وبارع- النصوص والأخبار التي نقلها الفاكهي عن الآخرين بالشكل التالي:

«نقل عن كتاب عثمان بن عمرو بن الساج في تاريخ مكّة (47) مورداً (9).


1- 1 الإعلان بالتوبيخ لمن ذَمَّ أهل التاريخ، السخاوي: 648 مطبوع ضمن علم التاريخ عند المسلمين، 2: 319.
2- 2 أخبار مكّة، للازرقي المقدّمة: 10- أخبار مكّة، للفاكهي المقدّمة، 1: 34. نقل الفاكهي قسماً من آثاره في كتابه.
3- 3 انظر: معجم الأُدباء، 11: 164- الفهرست: 123- تاريخ التراث العربي، 1: الجزء 2: 147.
4- 4 تاريخ المدينة المنوّرة، 1: المقدمة، ي.
5- 5 نفس المصدر.
6- 6 نفس المصدر.
7- 7 تعليق التعليق، 5: 471، هذا الكتاب من المؤلفات المهمة لابن حجر: انظر الحافظ بن حجر العسقلاني، عبد الستار الشيخ 391- 402- اتحاف القارئ بمعرفة جهود العلماء علىصحيح البخاري: 76.
8- 8 شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام، 1: 4.
9- 9 لمعرفة المزيد عن حياته راجع كتاب: تاريخ التراث العربي، 1: الجزء 2: 201.

ص: 189

وعن الواقدي 26 مورداً، وعن مؤلّفات الزبير بن بكار 143 مورداً لا يوجد منها إلا جزء يسير في مؤلفاته المطبوعة.

نقل عن كتاب لأبي عُبيدة معمر بن المثنّى 11 نصاً عن آبار وأخبار مكّة، وأخذ عن كتاب «فضائل مكّة» لأبي بكر الحميدي (صاحب السند) 29 نصاً.

استقى الفاكهي أيضاً من بعض مصنّفات الحديث القديمة التي لا وجود لها اليوم ككتابَي «الجامع» و «المناسك» لابن حُريح ونقل عنهما 248 حديثاً بطرق مُختلفة.

نقل أيضاً عن كتاب «الجامع» لسفيان الثوري 108 أحاديث، وعن «الجامع» لسفيان بن عينية 737 حديثاً ونصّاً، ونقل عن مصنّف وكيع بن الجرّاح 24 حديثاً ونصاً، وكذا نقل عن «سُنن موسى بن طارق أبي قُرّةَ 16 نصّاً».

وضَمّن الفاكهي كتابه هذا أسماء عدد من مشايخه في الحديث، ونقل من كتبهم عدداً من الأحاديث والنصوص، ومن جملة ذلك كتاب «السُنن» لسيد بن منصور إذ نقل عنه 11 نصّاً. وأخذ عن أحد كتب الحسين بن حسن المروزي 115 حديثاً ونصاً، وعن الحسن بن على الحلواني 32 نصاً، وعن مسند محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني المكّي 526 خبراً، وعن مسند يعقوب بن حميد بن الكاسب 188 حديثاً ونصّاً.

راجع الفاكهي كتب السيرة لغرض تدوين كتابه، ومن جملة كتب السيرة التي أفاد منها وهي مفتقدة اليوم ما يلي: كتاب عروة بن الزبير الأسدي وأخذ عنه 5 أخبار، و «المغازي» لموسى بن عقبة وقد أخذ عنه 13 نصاً.

إضافة إلى ما ذكر، كان الفاكهي ينقل الأحاديث والنصوص أيضاً عن أشخاصٍ لا أثر اليوم لمؤلّفاتهم، وبهذا فإنّه يكون قد أودع بين دفّتي كتابه قسماً عظيماً من التراث التاريخي والحديثي مدّخراً إيّاه للأجيال والعصور (1).

كتاب الفاكهي في مؤلفات الآخرين:

غدا كتاب «أخبار مكّة» موضع اهتمام العلماء بعد تدوينه ونشره. فقد اقتبس الكثير من المحدّثين والمؤلفين مقاطع منه وضمنوها مؤلّفاتهم، ومن جملتهم: أبو إسحاق إبراهيم بن إسحاق الحربي في كتابه «المناسك»، وأبو عمر بن عبد البر، في «الاستيعاب»، وأبو عبيد البكري في «معجم ما استُعجم»، وياقوت الحموي في «معجم البلدان»، وكتاب «المشترك وضعاً المفترقصقعاً»، ومحمد بن أحمد الفاسي في «العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين»، وكتاب «شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام»، وابن حجر العسقلاني في «فتح الباري» و «الإصابة» و «تهذيب التهذيب» و «تعليق التعليق»، وعمر بن فهد المكّي في «إتحاف الورى بأخبار أمّ القُرى»، ومحمد بن عبد الرحمن السخاوي في «المقاصد الحسنة»، وجلال الدين السيوطي في «الدر المنثور»، و «تاريخ الخلفاء» و «الجامع الكبير»، ومتّقي الهندي في «كنز العمّال»، وجمال الدين بن ظهيرة المخزومي في «الجامع اللطيف في فضل مكّة وأهلها وبناء البيت الشريف»، وقطب الدين النهرواني في «الأعلام بأعلام بيت اللَّه الحرام» و ... الخ.

لقد ذكر المحقّق هذه المجموعة وسواها وأتى أيضاً على ذكر موارد النقل في هذه المؤلّفات بالدّقة (2).


1- 1 انظر: أخبار مكّة، 1 المقدمة: 33- 35.
2- 2 نفس المصدر.

ص: 190

لمحة سريعة لفصول الكتاب:

لم يبوّب الفاكهي كتابه بشكل منظم، فكان يأتي بالعنوان ويدرج تحته ما لديه من معلومات. أمّا المتبقّي من الكتاب- اليوم- فهو يبدأ من النصوص التي تتحدث عن الحجر الأسود وفضيلته وأحكامه، وقد وردت هذه ضمن 15 عنواناً و 214 حديثاً وخبراً.

تناول هذا الفصل «الحجر الأسود» وكيفيّته وقدمه، وآداب استلامه وزيارته، وكيفية استلام النساء إيّاه، ومدى ارتفاعه عن الأرض، والأركان الأُخرى وكيفيّتها، والمسح عليه بالأيدي، والتقبيل وغيرها من آداب الأركان. تمتاز النصوص الواردة في هذا الفصل بالدقة، وجاءت إلى جانبها أيضاً أخبار ومواضيع تاريخية واجتماعية مهمّة.

تحدّث في الفصل الثاني عن مقام «الملتزم». قال ياقوت الحموي: «الملتزم»؛ ويقال له أيضاً: «المَدْعَى» و «المتعوّذ»: هو ما بين الحجر الأسود والباب ... (1).

استعرض في هذا الفصل مقام «الملتزم» مستعيناً بالأخبار والروايات، وتحدّث عن أهميّته وفضائله، وعظمة الدعاء في هذا المكان والصورة التي يتم فيها، وذكر من وقفوا فيه موقف التضرع. ونقل أيضاً مواضيع أخرى مفيدة في هذا الباب وقد تضمّن هذا البحث 76 حديثاً وخبراً.

اشتمل الفصل الثالث (ج 1، 186- 368)، وهو فصل طويل نسبياً، على 60 بحثاً و 479 حديثاً وخبراً عن الطواف حول الكعبة وكيفيّته. فالكعبة بناء قديم حضيَ على مرّ العصور بتقديس واحترام الشعوب والأقوام. وكان الطواف حولها سُنّةً متّبعةً، إلا أن بعض التغييرات قد طرأت عليه عبر التاريخ فبدّلت من كيفيّته وأسلوب إقامته.

يتحدّث هذا الفصل عن طواف الكعبة وفضيلته وآدابه، وكيفية القيام بهذه العبادة المهمّة. الأحاديث والأخبار الواردة في هذا البحث نفيسة جداً فهي تكشف لنا عن الكثير من السنن والآداب الدينية والاجتماعية التي كانت سائدة عند الأقوام والشعوب آنذاك.

يصف هذا الفصل كيفية الطواف، وكيفية طواف النساء في الظروف والأزمنة المتباينة. وكيفية طواف أصحاب النذور؛ فالأشخاص الذين في رقبتهم نذر يطوفون على حالة وهيئة خاصّة، ويشير كذلك إلى كيفية إنهاء الطواف.

والطواف نيابة عن الأحياء أو الأموات، وطواف الأحرار وطواف العبيد في زمن الجاهلية، والحوادث التي وقعت خلال الطواف في الكعبة، وانهدام الكعبة ... الخ. وقد ورد كلُّ ذلك بشكل مفصّل ويضم بين ثناياه الكثير من الأخبار والروايات. ونقل وفسّر في ختامه الحديث الشريف: «لا تُغزى مكة بعد الفتح».

وفي الفصل الرابع (ج 1، 368- 438) تناول وجوب الحج من خلال استعراضه ل 17 بحثاً، ونقله ل 187 حديثاً وخبراً دُرجت تحت عنوان «فريضة الحجّ»، وأوضح أهمية هذه الشَعيرة الإلهية الكبرى من خلال تفسيره للآية: «ومَن كفر فإن اللَّه غنيّ عن العالمين». واستعرض مواضيع شتّى ضمن عناوين متعددة: كاستطاعة الحجّ، والزاد والراحلة في الحجّ، وحجّصغار السن، وفضيلة السير إلى الحجّ، والنتائج السيئة المترتّبة على ترك الحجّ، ومكانة الزائر لبيت اللَّه، والمغفرة لذنوب الحجّاج، وفضل الحاج يوم القيامة الذي زار بيت اللَّه وهو عارف بأهمية تلك الزيارة وما لها من حرمة.


1- 1 معجم البلدان، 5: 190- وانظر أيضاً إلى معجم دهخدا، حرف «م»: 1062.

ص: 191

يمتاز هذا الفصل على غيره بما فيه من جوانب فقهية وأبعادٍ أخلاقية. وفيه نصوص تلفت النظر للتعرّف على فتاوى الفقهاء فيصدر الإسلام. ويشتمل أيضاً على أحاديث تستوجب الاهتمام في آداب الزيارة وما ينبغي أن يتحلّى به الزائر منصفات. وتمثل خاتمة الفصل عرضاً لضرورة المسارعة في أداء فريضة الحجِّ واجتناب التهاون فيها.

تحدّث مؤلّف الكتاب في الفصل الخامس، وهو الفصل الأخير في المجلّد الأوّل (440- 481) عن مقام إبراهيم وفضيلته، وأشار أثناء ذلك إلى قيام إبراهيم في المقام، والأثر الذي يمكن مشاهدته عليه، والجلوس خلف مَقام إبراهيم والصلاة فيه، والبيعة بين الركن والمقام وسوى ذلك من الأمور الأخرى المتعلّقة فيه. ويضم هذا الفصل بين ثناياه نُصوصاً تاريخية على قدر كبير من الأهمية. ويلاحظ في هذا الفصل وجود أحاديث تتحدث عن الإمام المهدي (عج) من جملتها الرواية التالية:

«يبايع المهدي بين الحجر والمقام على عدّة أهل بدر، ثلاثمائة وثلاثة عشر» (1).

يتناول الفصل السادس (ج 2، 5- 86) بئر زمزم وكيفيته وتاريخه والفصول التاريخية التي تناوبته على مرّ الزمن. يركّز هذا الفصل على النمط الذي يتمّ به حفر بئر زمزم للمرّة الأولى، وطريقة الاستفادة منه في الأدوار التاريخية المتعاقبة. وفيه أيضاً نصوص وأخبار عن قدسيّة ماء زمزم عند الشعوب، وسقيه وحمله للمرضى للاستشفاء به. وفي هذا الفصل أيضاً وردت أسماء زمزم والعيون المتكونة منه وكيفية البناء عليه. ومن الأخبار التي يمكن العثور عليها في هذا الفصل هي الأخبار المتعلّقة ببئر زمزم ومكانته، ومن الذي كان يتولى أمره والحفاظ عليه على مرّ الدهر وتعاقب الدول. تندرج المواضيع والأخبار المختصّة بزمزم خلال الأدوار التاريخية تحت 19 عنواناً يضم 129 حديثاً وخبراً. فقد كان لزمزم وكيفية الاستسقاء منه على مرّ التاريخ دورٌ لا يُستهان به في بناء التركيب السياسي والاجتماعي لنظام القبيلة في تلك الربوع آنذاك. وتشتمل تلك الأخبار على مواضيع مهمّة عن أهمية ودور ذلك المقام في المسائل المذكورة.

ويُعدّ الفصل السابع (ج 2، 86- 209) من الفصول المهمّة في الكتاب. يشرح هذا الفصل ما يتعلق بالمسجد الحرام وفضله وأحكامه. وفيه أيضاً ذكر للحدود الدقيقة لأبعاده والصورة التي كان عليها بناؤه الأول، وما أُضيف عليه إلى عهد الفاكهي، ومن المواضيع المهمّة التي وردت في هذا الفصل هي الصلاة في المسجد الحرام وأحكامها والنوم فيه، والآراء التي طرحها علماء وفقهاء ذلك العصر، وكذلك كيفية استفادة المسلمين من المسجد الحرام في ذلك اليوم.

وفضيلة الأذان، والمؤذن الذي عُيّن فيه. وتحدّث كذلك عن حكم الاعتكاف، وما يجوز وما لا يجوز فيه من أنواع التصرّفات والأعمال. ثمّ ذكر الإضافات التي ألحقت به وفقاً لترتيبها التاريخي، مع وصف دقيق لبناء المسجد والمسافات والفواصل التي كانت موجودة في ذلك الحين، مضيفاً إليها ما كان موجوداً من قناديل وزينة ومنائر وبيوت متّصلة به.

وهذا الفصل هو من الفصول التي ينبغي الاهتمام بها؛ نظراً لما يحتويه من مواضيع فقهية وتاريخية واجتماعية مهمّة، كان لها دورها في تاريخ الإسلام وفي معرفة دور المسجد الحرام في التحوّلات السياسية التي حصلت فيصدر


1- 1 أخبار مكّة، للفاكهي، 1: 470.

ص: 192

الإسلام.

وتطرق الفصل الثامن من الكتاب إلى موضوع السعي بين الصفا والمروة، وما ورد في التاريخ بشأن هذين الجبلين، والبداية والنهاية المفروضة للسعي بينهما والأحكام والحدود الخاصة بهما.

ورد في هذا الفصل 16 بحثاً و 17 حديثاً كلها مخصصة لوصف البناء الذي كان قد أُقيم فوق الفسحة الفاصلة بين الصفا والمروة، والدور التي كانت متّصلة به، وطواف أهل الجاهلية والأشعار والأقوال التي كانوا يردّدونها أثناء السعي، والأصنام التي كانت موضوعة على الصفا والمروة، والمسافة الفاصلة بينهما، إن لنصوص هذا الفصل أهمية خاصّة من الوجهة التاريخية؛ لأنها تعين على معرفة بعض آداب ومعتقدات العصر الجاهلي وأحد مظاهره العبادية المتمثّلة بالسعي بين الصفا والمروة.

ويُعَدّ الفصل التاسع (ج 2، 246- 385 و ج 3، 1- 149) من الفصول الطويلة في الكتاب ويحوز أهمية قصوى بسبب ما يتضمنه من ترسيم لحدود الحرم، وكيفية تحريم الحرم ونصب العلائم الدّالة على تلك الحدود وتغييرها على مرّ التاريخ، ومن ثم ذكره لأسماء مكّة، والخلفاء الذين سكنوها والصحابة الذين توفّوا فيها. وقد ورد في هذا الفصل ذكر مجاورة مكّة وفضل الصبر على البلايا والمكاره التي تحفّ بمن يختار سكناها.

يحتل هذا الفصل مكانة هامّة بين فصول الكتاب، فهو يتحدث عن قيام عبد اللَّه بن الزبير ومعاركه، وما جرى فيها على أهل مكّة؛ ولهذا فهو مفيد من الناحية السياسية والاجتماعية والثقافية.

واختصّت الصفحات الأُخرى في هذا الفصل لتبيان الحوادث الطبيعية والوقائع السياسيّة التي شهدتها مكّة، والآداب والسُنن التي تطبع ساكنيها. وفيه أيضاً أخبار مثيرة وجذّابة عن الحفلات ومجالس الأنس والشراب والطرب التي دأب الناس على إقامتها فيها.

ويضمّ هذا الفصل بين طيّاته أيضاً أخباراً عن مكّة وأهلها في نظر الآخرين، والأهمية والقداسة التي كانت توليها بقية المدن والأمصار والقبائل لأهل مكّة، والأشعار التي وصفوهم بها، وأخباراً أخرى عن الزهاد والقُضاة والعلماء والعباد والأمراء الذين عاشوا فيها، والكيفية التي كان أهل مكّة يقرأون بها القرآن وآداب ختمه عندهم، والطريقة التي كانوا يلبّون بها حين وصولهم إلى «والضحى» عند قراءة القرآن.

وجاء فيصفحات الكتاب الأخرى ذكر جدّة وأحوالها وأخبارها، وفضيلة الموت فيها، وكذلك أشار إلى «البطحاء» و «الأبطح» وموقعها الدقيق في مكّة، وذكر من كانت أسماؤهم وكناهم على اسم الرسولصلى الله عليه و آله و سلم وكنيته من أهل مكة.

ينتهي هذا الفصل بذكر الخطب التي ألقيت في اجتماعات مكّة، كخطبة أبي ذر، وعتبة بن سفيان، والحجّاج بن يوسف، وداود بن علي بن عبد اللَّه و ... الخ وهي خطب تفضي بنا إلى معرفة الكثير من الأحوال السياسية والأوضاع الاجتماعية التي كانت سائدة آنذاك.

أما الفصل العاشر (ج 2، 157- 208) فهو تحت عنوان «باب جامع من أخبار مكّة في الإسلام» ويختص بذكر الأخبار والمواضيع حول إدارة مكّة في الجاهلية والإسلام، وفيه عناوين فرعية نذكر فيما يلي بعضها على سبيل المثال وهي: ولاة مكّة من الذين ماتوا فيها، ولاة مكّة من قريش وسواها وبعض أعمالهم وسيرتهم، قضاة مكّة من قُرشيّ الطائف، وسكن قبيلة ثقيف فيها ... الخ.

الفصل الحادي عشر (208- 243) وهو فصل قصير إلّاأنه طريف وحريّ بأن يُقرأ، وقد جرى فيه الحديث عن الأوائل في مكّة من أمثال: إنَّ أوّل من ضرب الدينار والدرهم هو آدم (3: 208)، وإنَّ أوّل من اتّخذ للخطابة منبراً هو إبراهيم (3: 209) و ... الخ. وقد كتب محقّق الكتاب عن هذا الفصل ما يلي:

يُعَدُّ هذا الفصل من الفصول الطريفة والمهمّة في كتاب الفاكهي، فقد بذل جُهداً واسعاً في جمعه وترتيبه، وهو ما يؤشر على سعة اطّلاعه ومراجعته لمختلف المصادر. فالفاكهي هو الوحيد من بين مؤرّخي مكّة الذي عالج هذا الموضوع، وقد نقل في هذا الفصل 62 حديثاً وخبراً (1).

الفصل الثاني عشر (243- 259) وهو أيضاً فصل قصير تطرق فيه للأحكام الشرعية للبيع والإجارة وامتلاك البيوت في مكّة وبناء البيوت فيها. وتحدّث فيه أيضاً عمَّن يتمكّن من بناء دار هناك والسكن فيها، وعَمَّن لا يتمكن من الإقامة فيها، وجاء كل ذلك في 41 حديثاً ونصّاً.

الفصل الثالث عشر (ج 3، 283- 353) وهو من الفصول الطويلة والمهمة في هذا الكتاب، فهو يزوّدنا بمعلومات مهمّة ودقيقة عن القبائل والبطون التي سكنت مكّة، وعن الجوانب المتعلّقة بالحياة الاجتماعية والقبلية التي كانت سائدة في تلك الربوع آنذاك.

وجاء في هذا الفصل على ذكر حارات مكّة وأحيائها وأجواء الحياة القبلية فيها، وأسماء الدور والأحداث التاريخية التي شهدتها مكّة في ذلك الزمن، وكلّها مواضيع جذّابة وتستحق القراءة، وذكر فيه أوّل من قسّم الأراضي على القبائل وجعل لكلّ بطن محلّة خاصة بها، وفَصل بيوت كلّ قبيلة وحدودها، فهو قد ذكر على سبيل المثال بيوت أبناء عبد المطلب بشكل دقيق (ج 3، 263- 303). وقد وردت في طيات الكتاب نصوص ومعلومات تاريخية جمّة منها الحوادث التي وقعت في هذه الأحياء والبيوت، وعقود البيع والشراء التي حصلت فيما بينهم، ومن تحالف مع هذه الأحياء والدور، والأمور التي تصدّى لها وجوه القوم والشخصيات البارزة لتلك القبائل والبطون.

يُختتم الجزء الثالث بالفصل الرابع عشر (353- 392)، ويضمّ معلومات دقيقة عن حدود مكّة وتهامة، وحكم طرد المسلم من مكّة، وحكم القاتل الذي التجأ إلى الحرم، والأشجار التي يجوز قطعها في الحرم والاستفادة منها، وحكم الصيد في الحرم ومقدار كفّارته، والحيوانات التي يجوز قتلها في الحرم و ... الخ.

وجاء في الفصل الخامس عشر (ج 4، 5- 96) ذكر الأماكن التي تُستحب فيها الصلاة، وهي بعض المساجد من أمثال: المسجد الموجود في «دار الأرقم»، ومسجد في «عرفة»، و «مسجد الكبش»، و «مسجد البيعة»، و «مسجد ذي طُوى»، ومسجد في «جبل النور» «جبل حراء»، ومسجد قرب شعب أبي طالب و ... الخ. وذكر فيه أيضاً مقبرة مكّة في زمن الجاهلية، ومقبرة المهاجرين، وآثار النبي والصحابة، واستعرض أيضاً جبال وبقاع مكّة.

وبمناسبة ذكر القبور، أورد روايات مهمّة بشأن زيارتها، من جملتها:

قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم: «زوروا القبور فإنّها تذكركم الموت» (2).

وأشار في هذا الفصل أيضاً إلى وادي «محصّب» (3) وحدوده والنصوص الواردة بشأنه، وأورد الإشارة هنا إلى أنّ «محصّب» أرض واقعة على مسير مكّة باتجاه منى وهنالك اختلاف في تحديد حدودها، ويَعدُّ أهلُ السُنّة قيامَ الليل فيها بعد العودة من منى، مستحباً.

يتولى الفصل السادس عشر (ج 4، 96- 128) الحديث عمّا كان في مكّة من آبار وعيون وبُرَك وأحواض في زمن الجاهلية والإسلام، وهو فصل يسترعي الاهتمام بسبب ما يحتويه من لمحات اقتصادية واجتماعية، وفيه إجابات مفصّلة عن الأسئلة المطروحة بشأن الأشخاص الذين فطروا تلك الآبار والعيون، وكيفية استثمار الناس لتلك الينابيع؛ وما هي الدوافع والمقاصد التي كانت وراء حفر تلك الآبار؟ وما هي مكانة القبائل أو الأشخاص الذين كانوا يبادرون لمثل هذه الأعمال؟ وما هي أهميّة بئر زمزم بين كل تلك الآبار؟ وما هي الآبار التي تمّ حفرها، والينابيع التي استُثمرت، والعيون التي تدفقت بعد انبثاق الإسلام؟ وتجدر الإشارة إلى أن كل ذلك جاء منظوماً على هيئة الأشعار والقصص التي تحكي كيفية الاستفادة من تلك المصادر المائية، وهي مفيدة لمن أراد التعرّف على الآداب والرسوم والسنن التي كانت سائدة في العصر الجاهلي في محيط مكّة.

ركّز الفصل السابع عشر (ج 4، 129- 246) على ذكر الطرق والشوارع والوديان ومجاري السيل والأماكن التاريخية التي كانت قائمة في مكّة، والمداخل والمخارج والجبال المتصلة بالحرم، والأماكن التاريخية التي دارت فوقها الأحداث والوقائع المهمة.

وكما ذكرنا مراراً بأنّ الفاكهي لم يكتف بذكر الأماكن والأحداث، بل كان يبين كل ما يمت إلى ذلك الموضوع بصلة. فهو قد ذكر على سبيل المثال قمّة أحد الجبال بمناسبة حديثه عن الجبال، وقال: إنها تُنسب إلى أحد المكيين، وأشار أيضاً إلى ذهاب النبيّصلى الله عليه و آله و سلم إلى ذلك المكان وما حصل فيه من مبايعة الرجال والنساء له، ووصف ذلك الموقف بالتفصيل ذاكراً ما جرى فيه بالشكل التالي:

أخبرني عبد اللَّه بن عثمان بن خُثَيم، أن محمد بن الأسود بن خلف أخبره، أنّ أباه الأسود حضر النبيّصلى الله عليه و آله و سلم يبايع الناس يوم الفتح، قال: جلس عند قرن مصقلة.

قال: وقرن مصقلة الذي إليه بيوت ابن أبي ثُمامة، وهي دار ابن سُمرة، وما حولها.

قال الأسود: فرأيتُ النبيصلى الله عليه و آله و سلم جلس إليه، فجاءه الناسُ الصغار والكبار، والرجال والنساء، يبايعونه على الإسلام والشهادة. قال: قلتُ: وما الشهادة؟ قال: أخبرني محمد بن الأسود أنّهصلى الله عليه و آله و سلم بايعهم على الإيمان باللَّه، والشهادة: لا إله إلّااللَّه (4).

كتب في هذا الفصل أيضاً- وبمناسبة الحديث عن «شعب البيعة» عن بيعة العقبة، وأسهب في وصف من شهدها وكيفية حصول تلك الواقعة وما جرى خلالها، ولا يخلو هذا الموضوع من الأهمية بسبب ما يحتويه من جوانب تاريخية مهمّة تساعد على معرفة الظروف التي سهّلت هجرة الرسولصلى الله عليه و آله و سلم إلى المدينة المنوّرة.

خصص الفصل الثامن عشر (246- 311) للحديث عن منى وما يتعلق بها، وما لها من فضيلة ومكانة، وحدودها وأحكامها، وكيفية رمي الجمرات، والطرق المؤديّة إليها. ومنازل النبيّ والخلفاء فيها، ومسجد خيف وما يمتاز به من فضائل، والمواضيع المتعلّقة به كالعبادة وقيام الليل فيه، وكذلك أحكام رمي الجمرات، وما جاء في أدب العرب عن منى وما يرتبط بها.

ومن المواضيع الأخرى التي تطرّق إليها هذا الفصل هو مسجد «الكبش» وفضيلته والأخبار التي وردت فيه، وأوّل من رمى الجمرات، ورمي جمار إبراهيم عليه السلام باعتبارها سُنّة قديمة، والدعاء والذكر أثناء الرمي، واسم مقبرة منى، وأوّل من نصبصنماً في هذه البقعة، ومساحة مُنى ومدى طولها وعرضها، ومساحة مسجدها.

ينتهي المجلد الرابع بالفصل التاسع عشر (311- 329) وفيه جرى التركيز على المزدلفة، ووجه تسميتها، وفضيلتها، وأحكامها، والطرق المؤديّة إليها. وتحدّث هذا الفصل أيضاً عن قُزَح (وهو جبل قليل الإرتفاع في جنوب شرقي مزدلفة ويشرف على مسجد المشعر الحرام) والمشعر الحرام ومسجد المشعر الحرام، والمسافة الفاصلة بينه وبين عرفات. تتسم النُصوص والمعلومات الواردة في هذا الفصل بالدقّة والطرافة والأهمية.

أما الفصل العشرون من الكتاب (ج 5، 5- 54) فهو مكرّس للحديث عن عرفة وحدودها وفضيلتها وأحكامها، ووصف مسجدها، وفضيلة الدعاء في عرفة والصوم فيها، ووقوف النبيّ فيها قبل وبعد الهجرة. وتولى هذا الفصل أيضاً بيان سبب تسمية تلك الأرض باسم عرفة، ووصف منبرها والبعد الفاصل بينه وبين المسجد الحرام، وذكر بالمناسبة قبر «ميمونة» زوجة رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم ومحلّه في أطراف مكّة.

الفصل الحادي والعشرون (57- 106) وهو الفصل الأخير من الكتاب، ويبيّن بعض الأماكن المعروفة الواقعة على مقربة من مكّة من أمثال مسجد التنعيم وما له من فضائل وما ورد فيه من أخبار، ومسجد الجعرانة، ومسجد الحديبية، وأخبار عن عدد العمرات التي أدّاها النبيُّصلى الله عليه و آله و سلم. والمدن والقرى الواقعة في أطراف مكّة التي كانت تتبع سلطة والي مكّة، والمناطق التي وطأتها أقدام النبيِّ وأصحابه في الغزوات و ... الخ.

إنّ نظرة سريعة على الفصول الذهبية لكتاب الفاكهي تظهر لنا وبكلّ وضوح مدى الأهمية والمنزلة السامية التي يحتلّها هذا الكتاب في تاريخ الإسلام ومكّة، ودوره في التعرّف على الحوادث التي وقعت فيصدر الإسلام. ولا يقتصر كتاب الفاكهي على سرد تاريخ مكّة فحسب، بل ويتعدّاه أيضاً إلى تدوين تاريخ السياسة والثقافة والأدب والاعتقادات والسُنَن التي كانت سائدة في مكّة أثناء العصر الجاهلي، وبداية ظهور الإسلام. إن استقراء الجوانب المختلفة لذلك الكتاب تظهر لنا وبكلّ وضوح بأنّه كتاب لا يستغني عنه أيُّ محقّق أو مؤرّخ أو فقيه أو مفسّر أو محدّث أو باحث راغب في إدراك حقائق الإسلام عن طريق البحث والدراسة.

وكما ذكرنا سابقاً فإن الفاكهي لم يبوّب الكتاب، والفصول الآنفة على أساس التقسين الذي أوجده المحقّق الجاد والبارع للكتاب.

ملحقات الكتاب:

سبقت منّا الإشارة إلى أنّ ما استعرضناه من كتاب الفاكهي يمثل الجزء الثاني منه. وقد تولّى محقّق الكتاب عملية استخراج الجزء الأوّل منه، من المصادر المختلفة وأعادصياغتها بالشكل والترتيب الذي نستعرضه فيما يلي على شكل ملحقات:

يتركز الحديث في الملحق الأوّل على كيفية مجي ء إبراهيم عليه السلام إلى مكّة، وقصّة بئر زمزم، وذبح إسماعيل. ومما يلفت الانتباه أن الفاكهي في بحثه هنا يريد أن يثبت أن الذبيح هو إسماعيل وليس إسحاق وينبه إلى نفوذ النصوص المحرّفة لأهل الكتاب وتسلل الإسرائيليات إلى المصادر والمؤلفات الإسلامية.

تتحدّث النصوص الواردة في هذا الملحق أيضاً عن زواج إسماعيل بامرأة من العمالقة وكيفية مجي ء بعض القبائل إلى مكّة، والسبب في تسمية أُولئك القوم بالعمالقة. والأخبار التي تبيّن تاريخهم العريق، وتذكر بعض القبائل التي سكنت تلك البقاع وبعض العادات والتقاليد التي كانت تطبع حياتهم الاجتماعية.

إضافة إلى ذلك ورد فيه ذكر الحروب والأيام التاريخية الهامّة التي مرّت بهم، و «النسي ء» ومن كان مسؤولًا عنه، وأوّل من بَنى الكعبة والكيفية التي كان عليها البناء ووضع الحجر الأسود، وتطوّر بناء الكعبة بعد الإسلام حتّى زمن الفاكهي وغير ذلك من المواضيع.

إشتمل الملحق الثاني على بعض الرسومات التي أوردها المحقّق نقلًا عمّا كان الفاكهي قد عرضه في كتابه، وهي رسومات تصوّر بعض المناطق والأماكن المشهورة مع ايضاحات لأوضاعها، وبهذه الصورة يبيّن الترابط بين الماضي التاريخي لها وحاضرها المشرق.

يضمّ الملحق الثالث خرائط توضيحية عن مكّة والأطراف المحيطة بها، وهي تعكس وضع مكّة وما كانت عليه في ذلك الزمن، ومن جملة ما تضمّنته تلك الخرائط ما يلي:

1- مكّة في القرن الثالث للهجرة.

2- أشهر الدور والأماكن والجبال فيها.

3- الآبار التي كانت فيها آنذاك.

4- الينابيع والأحواض والبرك والصهاريج.

5- الجدران والأسوار والقلاع.

6- الطرق الرئيسة في مكّة، والمضائق والمنعطفات والطرق الجبلية والمقابر.

7- الأماكن التاريخية والمساجد.

8- رسوم دقيقة لبناء الكعبة، والمسجد الحرام وما يحيط به في العام 272 للهجرة في عهد خلافة المهدي العبّاسيّ.

بهذه اللمحة الوجيزة تنتهي مضامين هذا الكتاب القيم الذي تولّى المحقّق دراسته وتحقيقة بأسلوب منهجي شامل ومتين.

أُسلوب الفاكهي في تدوين الكتاب ونقل النصوص:

اتّضح لنا- من خلال الخلاصة التي استعرضناها لموضوع الكتاب- الأُسلوب الذي اتبعه الفاكهي في تحريره.

ونحاول فيما يلي التوسع في شرح هذا الموضوع. فهذا الكتاب يحتوي على ما يقارب الثلاثة آلاف حديث ونصّ ورواية، وقد وردت جميعها مؤيّدة بأسانيدها: وقد راعى المؤلف في نقله لتلك الأحاديث جميعَ الأصول المتّبعة في النقل والرواية وبشكل دقيق. فهو يصرّح أحياناً بأنه سمع الحديث (ج 3، 222)، ويشير في أماكن أُخرى بأنّه قد استقاه من مصدر آخر وعرضه على «شيخه في الحديث»، ويظهر في أحيان أُخرى بأنه نقل النص «إجازةً» (ج 3، 174). ويضيف في بعض المواضع قرائن أخرى لعملية النقل ليثبت أن سَماعهُ كان قطعياً (ج 5، 14 الرقم 2733)، ويذكر أحياناً المكان الذي سمع فيه الحديث (ج 3، 134- ج 2، 135) وإذا شكّ بكلمة في الحديث فإنّه يشير إليها (ج 2، 111). ويصرّح كذلك بذكر المحدثين الذين رآهم وكانوا واسطة له في نقل جميع هذه الروايات (ج 2، 303).

وإذا ورد أيُّ تصحيف في نصّ الحديث فهو يصرّح به، ويشير إليه مذكّراً به بعد نقل الحديث (ج 3، 34- ج 4، 30).

وهو مع كل هذا يعطي رأيه في بعض الأوقات في كيفية الحديث وصحّته أو سقمه (ج 3، 160).

ومن بعد هذا يَحسُن بنا القول بأنَّ الفاكهي قد ولد بمدينة مكّة، ونما وترعرع بين ربوعها، وعلى هذا فإن القسم الأعظم من الكتاب يتألّف من أوصاف وتصاوير تمّت مشاهدتُها عياناً ومن غير واسطة، وقائمة على الدقّة والأمانة.

ولم يكتف المؤلف بنقل الآثار والأخبار بل إنّه نقدها وأعطى رأيه فيها بعد دراسته وتمحيصه لها. وتتجلّى هذه المسألة على أشدّها في البحوث الفقهية، ولا سيما تلك المتعلّقة منها بالطواف والسعي والإحرام والوقوف في عرفة وتحديد مواقع وحدود الأماكن المقدّسة والتاريخية.

وللأدب العربي في هذا الكتاب أيضاً مكانته الرفيعة والمرموقة. فهو يستعرض الأشعار العربية في المناسبات المختلفة، ويكون بهذا قد مزج بحوث الكتاب بصبغة الأدب العربي وخلّف وراءه أثراً أدبياً طريفاً. ومن الأوجه الأخرى التي تستوجب الثناء في كتاب الفاكهي هو تنوّع المآخذ وتعدد مصادر النقل. وإلى جانب كل هذا ينبغي القول: إنّه قد بذل جهداً مضنياً في جمع وتبويب الأخبار، ونقل الأسانيد بدقّة متناهية لكي يبقي الأبواب مُشرعة أمام المحقّقين اللاحقين لنقد وتقييم الأُسلوب الذي اتّبعه في نقله.

مؤلف الكتاب:

هو محمّد بن اسحاق بن العباس الفاكهي من العلماء والمؤرخين والمحدّثين في القرن الثالث الهجري. لا توجد معلومات دقيقة عن سَنَة ولادته، ويحتمل محقّق الكتاب أن تكون سنة ولادته ما بين عام 215- 220 في مدينة مكّة، ونشأ وترعرع فيها وبدأ دراسته فيها أيضاً؛ فأخذ العلم عن مشايخ مكّة، ولم يقف عند هذا الحد بل سافر إلى البلدان الأخرى لكسب المعرفة وتعميق ما ناله من العلوم. ومن جملة البلدان التي سافر إليها بغداد والكوفة وصنعاء، وحضر في حلقات العلم التي كان يعقدها مشايخها وعلماؤها وأخذ عنهم العلم والمعرفة.

كانت له في مكّة مكانة اجتماعية مرموقة، وهذه الحقيقة يمكن استنتاجها من بين ثنايا النصوص التي أوردها في كتابه، فهو يدوّن في بعض الأحيان أحداثاً، ويصف مواضع ومواقف لا يتيسّر للمحدّث العادي الوصول إليها. ومن القرائن الأخرى الدالّة على سموّ مكانته هي الأخبار التي أوردها، وتحدّثَ فيها عن المراسلات التي كانت تجري بين الأمراء ووصفه الدقيق لها.

أحصى محقّق الكتاب 231 شيخاً من مشايخ الفاكهي وذلك استناداً إلى ما ورد من أخبار ونصوص في «أخبار مكّة» (ج 1، 19- 29)، وهذا يدلّ على سعيه الحثيث ونشاطه الدؤوب من أجل تحصيل العلم وتوسيع دائرة معارفه.

تاريخ وفاة الفاكهي مجهول أيضاً. يقول محمد بن أحمد بن علي الفاسي: «لا أعلم سنة وفاته، إلا أنه كان في العام 272 حيّاً قطعاً (5). وقد نقل قول الفاسي هذا الكثير من كُتّاب السيرة واعتمدوا عليه (6). ويرى البغدادي أنه توفي عام 285 من غير ذكر أيّ مصدر موثوق لهذا القول (7).

أما محقّق الكتاب فيرجّح- ومن خلال دراسته وتدقيقه في الأخبار والنصوص التي أوردها الفاكهي في كتابه- أنّ سنة وفاته كانت بين عام (272) وعام (279).

تحقيق الكتاب:

تولى تحقيق الكتاب وتنقيحه عبد الملك بن عبد اللَّه بن دهيش وهو من الكُتاب والفضلاء السعوديين. ونشره في 6 أجزاء مزوّدة بالهوامش التفصيلية. الأجزاء من (1- 5) هي نصّ الكتاب وملحقاته، أما الجزء السادس فهو مختص بالفهارس. ويُعَدّ تحقيق هذا الكتاب واحداً من الأمثلة الرائعة التي يُحتذى بها في التحقيق العلمي للنصوص القديمة.

ونحاول إنهاء هذه المقالة بإلقاء نظرة سريعة على النمط الذي اقتفاه في تحقيقه لهذا الكتاب:

1- نصُّ الكتاب:

لقد قام المحقّق بتنقيح الكتاب على أساس النسخة الوحيدة الموجودة منه، وقابل هذه النسخة مع مصادر الكتاب، ومع الكتب الأخرى التي ألّفها معاصروه أو اللّاحقون من العلماء، وتضمنت كتبهم شيئاً مما نقلوه عنه، أو كان فيها مواضيع مشابهة لمواضيع كتابه؛ وذلك لغرض الحصول على نصّ سليم ودقيق. وقد ثبّت في النصِّ كلَّ ما رآهصواباً بعدَ أن بذل جهداً حثيثاً وتحقيقاً مناسباً ودقيقاً في مقارنة النسخة الموجودة مع ما ذكرنا من مصادر، وذكر في الهامش موارد التحريف والتصحيف والأخطاء التي وقعت في النسخة الخطيّة. وصحّح أسانيد الكتاب بمراجعة لكتب الرجال، وهذّبها من كل ما لحق بها من تحريف وسقطات وتصحيف، فشخص الحديث بدقّة وذكره كما هو، إن كانصحيحاً أو ضعيفاً أو ما شابه ذلك. وخرّج كل ما حواه الكتاب من أشعار وأخبار وأحاديث وآثار وحدّد أماكنها بالدقّة في مصادرها.

2- الهوامش:

ذكر المحقّق في الهوامش مصادر النقل بدقّة، وأشار فيما إذا كانت هذه الروايات والأخبار لها نظائر في المصادر، وكان أحياناً يشير بإيجاز إلى شخصية الراوي، ويشير إلى موقعه بين رجال الحديث. وإن كانت الوقائع والحوادث والأماكن غير واضحة الدلالة في النصِّ ومذكورة فيه باختصار، فإنّه يوضّحها ويُبيّن دلالتها بدقّة ويُصحّح أخطاء المحقّقين في هذا المجال إن وُجدت، إضافةً إلى أنّه كان يوضّح غامض الكلمات.

3- الفهارس:

خصّص المحقّق المجلد السادس للفهارس الفنيّة للكتاب، وأورد فيه فهارس للآيات والأحاديث، والأعلام، والأشعار، والأماكن، والمصادر، والمواضيع. فقد رتّب الأحاديث في فهرسها الخاص على أساس الحروف الأبجدية ومن ثم ذكر الراوي وموضعه في الكتاب.

وقسّم أيضاً فهرس الأعلام إلى الأقسام التالية:

1- فهرس الرواة؛ وحدّد في هذا الفهرس مشايخ الفاكهي بالحرف (ش).

2- فهرس الرجال والأعلام الذين وردت أسماؤهم في الكتاب من غير الرواة.

3- فهرس أصحاب الحرف.

4- فهرس القبائل والأقوام.

ورتّب أيضاً فهرس مواضيع الكتاب متسلسلة وفقاً لحروفها الأبجدية. ونظم في الفهرس كلَّ المواضيع والأماكن والحوادث التي ورد لها ذكر في الكتاب. وأتى في فهرس الأشعار على ذكر الأشعار أوّلًا ثم ذكر من بعدها القافية واسم الشاعر.

أما فهرس المراجع فقد حدّد فيه بدقّة المصادر والمراجع التي اعتمد عليها. وأورد في خاتمة الكتاب فهرساً عاماً لمواضيع المجلّدات الخمسة.

4- مقدّمة الكتاب:

افتتح المحقّق الكتاب بمقدّمة تحقيقية مطوّلة ومفيدة ضمّنها شرحاً لسيرة المؤلف وشيوخه وتلاميذه.

وقد سبق لنا أن قُلنا: بعدم توفّر معلومات وافية عن سيرة المؤلف في كتب السيرة. وقد تحدّث المحقّق- بشكل مفصّل ومن خلال التمعّن في نصوص الكتاب- عن سيرته والتاريخ التقريبي لولادته ووفاته، وما قام به من رحلات في طلب العلم، وعن مكانته العلمية والاجتماعية في القرن الثالث للهجرة، ومشايخه وتلاميذه. ثم انتقل إلى الكلام عن كتاب الفاكهي، فأبرز أهميته، وذكر المصادر والمراجع التي عوّل عليها الفاكهي، وأوضح مدى التأثير الذي خلّفه في آثار مَن جاء بعده.

وبيّن في ختام مقدّمته الأسلوب الذي اقتفاه في دراسة الكتاب وتحقيقه وتنقيحه. إنّ تحقيق هذا الكتاب يمثّل نموذجاً ملموساً للتحقيق العلمي والمتعمّق والواسع والدقيق.

الهوامش:

الإخلاص في الحج

«الإخلاص في الحج»

عادل العلوي

قال اللَّه تعالى في كتابه الكريم:

«وما أُمروا إلّاليعبدوا اللَّه مخلصين له الدين ...» (8).

لقد خلق اللَّه الإنسان في أحسن تقويم، وتمدّح بخلقه في قوله تعالى: «فتبارك اللَّه أَحسن الخالقين» (9) وركّبه من سرّ وعلن، وروح وبدن. وبدنه من تراب وروحه من أمر ربه «ونفختُ فيه من روحي» (10) فأودعه أسرار خلقه.

جرمهصغير ولكن انطوى فيه العالم الأكبر. فدنا فتدلّى فكان قاب قوسين أو أدنى، فعلّمه الأسماء الحسنى وفهّمه البيان الأتم، وأناله اللَّه تعالى بخضوعه وعبوديته له المقام الشامخ، فإن العبوديّة جوهرة كنهها الربوبيّة، وأنطقه بأقواله سبحانه ومَن أصدق من اللَّه قيلًا، وأصبغه بصبغته ومَن أحسن من اللَّهصِبغة، وهداه النجدين:

نجد الخير ونجد الشر، وجعله مختاراً في سلوك الطريقين إمّا شاكراً وإمّا كفوراً.

وخلق لروحه وبدنه منافيات وملائمات، وآلام ولذّات، ومنجيات ومهلكات، فمنافيات البدن الأمراض والأسقام الجسمانية، وملائماته الصحة واللّذات الجسمانية، والمتكفّل ببيان تفاصيل هذه الأمراض، وكيفية علاجها هو علم الطب، ومنافيات الروح وآلامه هي رذائل الأخلاق وذمائمها التي تهلكه وتشقيه، وترديه وتهويه إلى أسفل السافلين، فيكون كالأنعام بل أضل سبيلًا، وقلبه كالحجارة بل أشدّ قسوة. والمتكفّل ببيان هذه الرذائل الأخلاقية ومعالجاتها هو (علم الأخلاق).

أماصحة الروح فتتمّ برجوعها إلى فضائل الأخلاق ومحامدها التي تُنجيه وتُسعده في الدارين، وتأخذ بيديه إلى مجاورة أهل الحقّ عند مليك مقتدر في مقعدصدق.

وإنما بعث اللَّه رسوله خاتم النبيين محمدصلى الله عليه و آله و سلم ليتمّم مكارم الأخلاق، فقالصلى الله عليه و آله و سلم: «إنّما بعثتُ لأُتمم مكارم الأخلاق» وقد مدحه ربّه في قوله تعالى: «وإنك لعلى خلق عظيم» (11). وقد أقسم في سورة الشمس بأحد عشر قسماً أنه «قد أفلح من زكّاها وقد خاب من دسّاها» حتى قيل أوجب الواجبات الأخلاق الحسنة والمحمودة.

ثم البدن ماديّ فانٍ، وكل من على الأرض فان. والروح مجرد باق، وإذا اتّصفت بشرائف الأخلاق كانت منعّمة في السعادة الأبدية، وإن اتّصفت برذائلها كانت في الشقوة والعذاب مخلّدةً.

فعلى المرء الواعي أن يهذّب نفسه، ويزكّي أخلاقه، ويعالج أمراضه، قبل فوات الأوان. كما أن المريض ينبغي له أن يعالج بدنه وصحته. وكلُّ شي ءٍ إنما يعالج بضدّه، فإن علاج اليابس بالرطب، والرطب باليابس، والحار بالبارد والبارد بالحار، وهكذا أمراض الأخلاق، فإن الجهل يُعالج بالعلم، والبخل بالسخاء، والكبر بالتواضع، والشّره بالكفّ عن الشهوات، ومرض الرياء بالإخلاص. وإن كان ذلك كلّه يستلزم التكلّف والمرارة، فإنّ مَن أراد أن يعالج مرض بدنه عليه أن يتحمّل مرارة الدواء، وأن يصبر عن المشتهيات، وكذلك الروح حيث يُريد الإنسان علاجها فلابد له من احتمال مرارة المجاهدة وشدّة الصبر الذي هو سيّد الأخلاق. فيصبر على فعل الطاعات والعبادات، وترك المعاصي والآثام، ليداوي بالصبر أمراض القلوب. وإن علاجها أولى من علاج الأبدان، فمرض البدن يخلص الإنسان منه بالموت، ولكن مرض الروح- والعياذ باللَّه- يدوم حتى بعد الموت.

فالحريّ بمن يخاف على نفسه وقلبه وروحه أن يباشر المعالجة قبل الموت، فإنه سيندم يوم لا ينفعه الندم.

ثم أصل تهذيب النفس وتزكيتها أن يقف الإنسان على حقيقة نفسه، ويرى عيوبها ومهلكاتها. فمن كملت بصيرته وتمّت حذاقته، لم تخف عليه عيوبه. ومن عرف الأمراض والعيوب يسهل عليه التداوي والتخلّص منها. ولكنّ أكثرَ الناس جهلوا عيوب أنفسهم، فيرون القذى في أعين الآخرين، ولا يرون الجذع في عيونهم.

ولابدّ من الاعتدال والحكمة في الأخلاق فهما الصحة للقلب والنفس والروح. أما الميل والانحراف عن حدّ الاعتدال فهما المرض والسقم الذي يخاف منه.

وعلاج النفس لمحو الرذائل والأخلاق الذميمة عنها، يكسبها الفضائل والأخلاق الحميدة، كما أن تخلية القلب من الأهواء والأمراض النفسيّة، وتحلّيه هو الآخر بالأخلاق الفاضلة، يجعل الروح أكثر جلاءً، ويصقلها حتى تكون كالمرآة تنطبع فيها أسرار اللَّه وكونه.

ثم الغالب على أصل المزاج البدني هو الاعتدال، وإنما تعتريه العلل المغيرة بعوارض الأغذية والأهوية والأحوال. وكذلك الروح، فكل مولود يولد على الفطرة المعتدلة الصحيحة، وإنما أبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه، فالمحيط والتربية والتعلّم والتعوّد لها الأثر البالغ في اكتساب الإنسان الرذائل والآثام.

ولما كان البدن في ابتداء خلقه لم يخلق كاملًا، وإنما ينمو ويكمل وتقوى القوى فيه بالنشوء والتربية بالغذاء والماء، فكذلك النفس تخلق ناقصة، إلا أنها قابلة للتكامل المنشود في جبلته، والذي خُلق الإنسان من أجله، يصل الإنسان بجهده وجهاده إلى كماله، وأن يكون مظهراً لأسماء اللَّه وصفاته. وتكمل هذه النفس بالتزكية وتهذيب الأخلاق، وتغذيتها بالعلم النافع والعمل الصالح والإيمان الراسخ.

وإذا كان البدنصحيحاً، فشأن الطبيب حينئذٍ تمهيد القانون وبيانه للصحة والمحافظة عليها، وإن كان البدن مريضاً فشأن الطبيب أيضاً جلب الصحة إليه، فكذلك النفس، فإن كانت سليمة وزكيّة ومهذّبة الأخلاق، فينبغي السعي من أجل حفظها وسلامةصحتها وبقائها، واكتساب زيادةصفائها وجلائها، وإن كانت عديمة الكمال، فاقدة للصفاء الروحي، فينبغي الجهد المتواصل لجلب الصحة النفسيّة إليها.

هذا ومن أمراض القلب الخطرة جداً هو الرياء في النوايا والعمل، فإنّه كدبيب نملة سوداء في ليلة ظلماء علىصخرةصلداء، فمَن يحسّ بدبيبها؟

وان الرياء من عمل الشيطان الرجيم ليضل الناس ويغويهم «قال فبعزّتك لأغوينهم أجمعين الا عبادك منهم المخلصين» (12).

ويقابل الرياء الإخلاص، «والأعمال بالنيات»- كما ورد في الخبر- «ولكل امرئ ما نوى»، والنيّة من عمل الجوانح وهو القصد القلبي نحو العمل المقصود اتيانه والمنشود فعله. ولو كانت النية خالصة للَّه سبحانه فإنها توجب قبول الأعمال، فإنّ الكلم الطيّب- وهو الذي فيه الإخلاص كما ورد في الأثر- يصعد إلى اللَّه سبحانه، وإنما يتقبّل اللَّه من المتقين، والإخلاص أساس التقوى.

قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم: طوبى للمخلصين أولئك مصابيح الهدى، تنجلي عنهم كلّ فتنة ظلماء (13).

وقالصلى الله عليه و آله و سلم: العلماء كلّهم هلكى إلّا العاملون، والعاملون كلّهم هلكى إلّاالمخلصون والمخلصون على خطر.

وقالصلى الله عليه و آله و سلم: إذا عملت عملًا فاعمل للَّه خالصاً لأنّه لا يقبل من عباده الأعمال إلا ما كان خالصاً.

وقالصلى الله عليه و آله و سلم: ليست الصلاة قيامك وقعودك إنما الصلاة إخلاصك، وأن تريد بها وجه اللَّه.

وقال أمير المؤمنين علي عليه السلام:

العمل كلّه هباء إلا ما أُخلص فيه.

وقال عليه السلام: ضاع مَن كان له مقصدٌ غير اللَّه.

وقال الإمام الصادق عليه السلام:

ولابدّ للعبد من خالص النيّة في كلّ حركة وسكون؛ لأنه إذا لم يكن ذلك منه يكن غافلًا، والغافلون قد وصفهم اللَّه تعالى فقال: «أولئك كالأنعام بل هم أضل سبيلًا» وقال: «أولئك هم الغافلون».

قال اللَّه تعالى عن لسان نبيّه:

«قل إنّي أمرت أن أعبد اللَّه مخلصاً له الدين وأمرت لأن أكون أوّل المسلمين» (14).

قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم: إنّ لكل حقّ حقيقة، وما بلغ عبد حقيقة الإخلاص حتى لا يحبّ أن يحمد على شي ء من عمل للَّه.

وقالصلى الله عليه و آله و سلم في حديث آخر:

«أما علامة [علامات] الُمخلص فأربع: يسلم قلبه وتسلم جوارحه وبذل خيره وكفّ شرّه.

وعن أمير المؤمنين علي عليه السلام قال: مَن لم يختلف سرّه وعلانيته، وفعله ومقالته فقد أدّ الأمانة وأخلص العبادة.

قال أبو حامد الغزالي في إحياء علوم الدين في بيان حقيقة الإخلاص- بعد أن ذكر أقوال الشيوخ فيها-:

الأقاويل في هذا كثيرة ولا فائدة في تكثير النقل بعد انكشاف الحقيقة، وإنما البيان الشافي بيان سيد الأولين والآخرين، إذ سُئل عن الإخلاص فقال: «هو أن تقول ربّي اللَّه ثم تستقيم كما أُمرت» أي لا تعبد هواك ونفسك ولا تعبد إلا ربّك، وتستقيم في عبادته كما أمرك- إياك نعبد وإياك نستعين- وهذه إشارة إلى قطع كلّ ما سوى اللَّه عزّ وجلّ من مجرى النظر وهو الإخلاص حقّاً.

ثم من آثار الإخلاص في حياتنا الفردية والاجتماعيّة، وفي العلميّة والعمليّة، هو تفجّر ينابيع الحكمة وجريانها من قلب المخلص على لسانه.

وقال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم: قال اللَّه عزّ وجلّ: لا أطلّع على قلب عبد فأعلم منه حبّ الإخلاص لطاعتي لوجهي وابتغاء مرضاتي إلا توليت تقويمه وسياسته.

وقال أمير المؤمنين علي عليه السلام:

غاية الإخلاص الخلاص. والمخلص حريّ بالإجابة، وعند تحقق الإخلاص تستنير البصائر، وبالإخلاص ترفع الأعمال، وفي إخلاص النيّات نجاح الأمور، ومَن أخلص بلغ الآمال، أخلص تنل.

حريّ أن تكتب هذه الكلمات بأقلام من نور على وجنات الحور، فما أروع قوله عليه السلام: أخلص تنل.

كلمتان فقط ولكن فيها ما فيها من الأسرار والحِكم والحقائق، فإن الإنسان إنما ينال ما ينال بالإخلاص.

وقال الإمام الصادق عليه السلام: إن المؤمن ليخشع له كلّ شي ء ويهابه كلّ شي ء، ثم قال: إذا كان مخلصاً للَّه أخاف اللَّه منه كلّ شي ء حتى هوام الأرض وسباعها وطير السماء.

ثم يا هذا هل بعد الإخلاص من مقصود ومنشود؟

وقد قال الإمام الباقر عليه السلام: ما بين الحق والباطل إلا قلّة العقل- أي من يختار الباطل فهذا من قلّة عقله- قيل: وكيف ذلك يا بن رسول اللَّه؟

قال: إن العبد يعمل الذي هو للَّه رضىً فيريد به غير اللَّه، فلو أنه أخلص للَّه، لجاءَه الذي يريد في أسرع من ذلك (15).

هذا في الإخلاص الذي هو من جنود العقل، ويقابله الرياء الذي هو من جنود الجهل، وقد قال اللَّه تعالى في محكم كتابه: «ولا تكونوا كالّذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس ويصدّون عن سبيل اللَّه» (16).

قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم لابن مسعود: يا بن مسعود إياك أن تظهر من نفسك الخشوع والتواضع للآدميين، وأنت فيما بينك وبين ربّك مصر على المعاصي والذنوب. يقول اللَّه تعالى:

«يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور».

وقال: أشد الناس عذاباً يوم القيامة من يرى الناس أن فيه خيراً ولا خير فيه (17).

قال أمير المؤمنين علي عليه السلام:

المرائي ظاهره جميل وباطنه عليل.

وقال الإمام الصادق عليه السلام:

إياك والرياء فإنه من عمل لغير اللَّه وكله اللَّه إلى من عمل له.

وعن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم: ان الملك ليصعد بعمل العبد مبتهجاً به فإذاصعد بحسناته يقول اللَّه- عزّ وجلّ- اجعلوها في سجّين إنه ليس إيّاي أراد به.

وفي حديث آخر: تصعد الحفظة بعمل العبد مبتهجاً به فيطأُون الحجب كلّها حتى يقوموا بين يدي اللَّه فيشهدوا له بعملصالح ودعاء، فيقول اللَّه تعالى: أنتم حفظة عمل عبدي وأنا رقيب على ما في نفسه، إنه لم يردني بهذا العمل عليه لعنتي.

وقالصلى الله عليه و آله و سلم: إن المرائي يُنادى يوم القيامة: يا فاجر! يا غادر! يا مرائي! ضلّ عملك وبطل أجرك، اذهب فخذ أجرك ممّن كنتَ تعمل له.

وقال الصادق عليه السلام: ما على العبد إذا عرفه اللَّه ألّا يعرفه الناس؟

إنّه من عمل للناس كان ثوابه على النّاس، ومن عمل للَّه كان ثوابه على اللَّه، وإن كلّ رياء شرك.

قال اللَّه عزّ وجلّ: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملًا أشرك فيه غيري فأنا منه بري ءٌ فهو للذي أشرك.

وقال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم: إنّ اللَّه تعالى لا يقبل عملًا فيه مثقال ذرّة من رئاء.

وقالصلى الله عليه و آله و سلم: يا بن مسعود إذا عملت عملًا من البرّ وأنت تريد بذلك غير اللَّه فلا ترج بذلك منه ثواباً فإنّه يقول: «فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً» (18).

وعن شدّاد بن أوس قال:

رأيت النبيّصلى الله عليه و آله و سلم يبكي، فقلتُ: يا رسول اللَّه! ما يبكيك؟ فقال: إني تخوّفت على أُمتي الشرك أما إنّهم لا يعبدونصنماً ولا شمساً ولا قمراً، ولكنهم يراؤون بأعمالهم.

وعن الإمام الصادق عليه السلام:

يُجاء بعبد يوم القيامة قدصلّى فيقول:

يا ربّصلّيت ابتغاء وجهك فيقال له:

بلصليت ليقال ما أحسنَصلاة فلان اذهبوا به إلى النار.

ولكلّ شي ءٍ علامة، وقد جاء في علامة المرائي عن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم: «اما علامة [علامات] المرائي فأربع؛ يحرص في العمل للَّه إذا كان عنده أحد، ويكسل إذا كان وحده، ويحرص في كل أمره على المحمدة، ويحسن سمته بجهده».

وقال الإمام الباقر عليه السلام:

الإبقاء على العمل أشدُّ من العمل. قال الراوي وما الإبقاء على العمل؟ قال:

يَصلُ الرجل بصلة، وينفق نفقة للَّه وحده لا شريك له فتكتب له سراً، ثم يذكرها فتمحى فتكتب له علانيةً، ثمّ يذكرها فتمحى وتكتب له رياءً.

قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم في وصف المؤمن: لا يعمل شيئاً من الخير رياءً، ولا يتركه حياءً. وفي غرر الحكم عن أمير المؤمنين عليه السلام:

كلّ حسنة لا يراد بها وجه اللَّه تعالى فعليها قبح الرياء وثمرها قبح الجزاء.

وقال الإمام الصادق عليه السلام: ما كان من الصدقة والصلاة والصوم وأعمال البرّ كلّها تطوّعاً فأفضلها ما كان سرّاً، وما كان من ذلك واجباً مفروضاً فأفضله أن يعلن به (19)، فالرياء حرام والمرائي عند اللَّه سبحانه ممقوت ومغضوب عليه، وقد شهدت لذلك الآيات والأخبار والآثار كما ذكرنا.

هذا غيض من فيض في أخبار الإخلاص والرياء وبيان حدودهما وما يترتب عليهما من الآثار في الدنيا والآخرة.

وبعد هذه الوقفة العاجلة عند عظمة الأخلاق الإسلاميّة، ودورها البالغ في حياة المسلم الرسالي، وبعد عرض موجز عن الإخلاص والرياء، وإنّ القلبَ منشؤهما ومحطهما، فإنه العالم باللَّه وهو العامل للَّه، والساعي والمخلص والمتقرب إليه، وهو الكاشف بما عند اللَّه ولديه، وإنما الجوارح أتباع له، وخَدَم وآلات يستخدمها القلب كاستخدام الراعي للرعيّة، وهو المقبول عند اللَّه إذا سلم من غير اللَّه، وهو المحجوب عنه إذاصار مستغرقاً بغير اللَّه، وهو المخاطب وهو المطالب، وهو المثاب والمعاقب، فيفلح الإنسان إذا زكّاه، ويشقى ويخيب إذا دَنّسَهُ ودسّاه، وهو المطيع للَّه بالحقيقة، وإنما التي تظهر على الجوارح الظاهرية من العبادات أنواره، فهو سلطان البدن، وهو العاصي المتمرد على اللَّه، وإنما الساري على الأعضاء من الفواحش آثاره. وبظلمانيته ونورانيته تتجلّى المحاسن الظاهرية ومساويها، فإن كلّ إناء بما فيه ينضح، وهو الذي إذا عرفه الإنسان فقد عرف نفسه، ومن عرف نفسه عرف ربّه، فتارة يهوي إلى أسفل السافلين ويكون كالأنعام بل هو أضلّ سبيلًا، وأخرى يصعد إلى أعلى عليين، ويرتقي إلى عالم الملائكة المقرّبين.

ومن لم يعرف قلبه ليراقبه ويراعيه ويترصّد ما يلوح من خزائن الملكوت عليه وفيه ومنه، فهو ممّن قال اللَّه تعالى فيه: «ولا تكونوا كالذين نسوا اللَّه فأنساهم أنفسهم اولئك هم الفاسقون» (20). فمعرفة القلب وحقيقة أوصافه أصل الدين، وأساس السالكين، فلا تغفل.

فلابدّ للمؤمن من أن يخلص في نواياه وأعماله، وحركاته وسكناته، حتى يلقى اللَّه وليس في قلبه سواه وذلك هو القلب السليم، الذي ينفع في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون.

والمؤمن الحاج، والمؤمنة الحاجة لابدّ لهما من الإخلاص في مناسكهما، وفي حجّهما وعمرتهما، فإنّ الحجَّ من فروع الدين ومن العبادات، وشرطها الأوّل النيّة الخالصة متقرّباً بها إلى اللَّه سبحانه وتعالى.

والحجُّ من العبادات الدينية والسياسيّة والاجتماعية ذات المفاهيم القيّمة، روحياً وبدنياً، فرديّاً واجتماعيّاً، في جميع جوانب الحياة من العبادة، والإقتصاد والسياسة، والثقافة والحضارة، والأخوة الإسلاميّة وغير ذلك.

ويكفي في شرافة الحج، ومقامه الشامخ في الدين الإسلاميّ الحنيف، أنه أحد الأركان التي بني عليها الإسلام، فهو من الأسس الأولى التي يعلو عليها الإسلام العظيم. وتتجلّى في الحجِّ روح المحبّة والأخوة والصفاء، وحكومة الروحانيّات على الماديّات.

وكل مسلم متحمّس لدينه يرى في حجّه وعمرته، أن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه، وأن هذا الدين القيم لو تمسّك به أهلُه حقَّ التمسك، وطبقوه في كل زوايا حياتهم لحكم العالم ولرفرفت راياته على ربوع الأرض ولو كره المشركون.

فإن الإنسان الضائع، والبشرية التائهة تجد انشودتها وسعادتها في هذا الدين، فهو يتكفل سعادة الإنسان في داري الدنيا والآخرة.

فالحجُّ يمثّل بوضوح عزّ الإسلام وبقاءه وسلطانه، وكرامة المسلمين وشرفهم، فليس لأُمّة وملّة من الأمم والملل مثل هذا المؤتمر العالمي العظيم، والمشهد السنوي الكبير، الحافل بالخيرات والبركات؛ ليشهدوا منافع لهم؛ ليجتمع فيه المسلمون من شرق الأرض وغربها على اختلاف جنسيّاتهم، وطوائفهم، واشكالهم وألوانهم ولغاتهم، ولا يتميز غنيّهم عن فقيرهم ورئيسهم عن مرؤوسهم، وكلّ واحد منهم وقد اتزر بأحد ثوبي الإحرام وارتدى بالآخر؛ ليلبي دعوة اللَّه، التي يدويصداها عبر الأحقاب والأجيال من شيخ الأنبياء إبراهيم الخليل عليه السلام في قوله تعالى: «وأذن في الناس بالحجّ يأتوك رجالًا وعلى كل ضامر يأتين من كل فجّ عميق» (21).

فالحجّ فلاح وصلاح وقد أفلح من اقامه، ورفع بنيانه كما أمر الشارع به، وإنما ركّز القرآن الكريم، ورسولُ اللَّه الأعظمصلى الله عليه و آله و سلم، وأهل بيته الأطهار عليهم السلام على الحجِّ لما فيه من المغزى والمعنى الملكوتي، ولأنّه يحتوي على كثير من العبادات، والفضائل الأخلاقية، والخير والإحسان الاجتماعي، والثواب الأخروي فإنه من بين أركان الإسلام ومبانيه، عبادة العمر وختام الأمر، وتمام الإسلام وكمال الدين فيه، قال النبيصلى الله عليه و آله و سلم:

«من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهودياً وإن شاء نصرانياً» (22).

فهو نقلة اجتماعية، ورحلة جماهيريّة يتّجه فيها الناس من كلصوب ومكان؛ لأداء فريضة إلهيّة واجبة، في مكان مقدس واحد هو أشرف بقاع الأرض: مكّة المكرّمة.

وفي زمان واحد من الأشهر الحرم، ذي الحجة المبارك؛ ليمارسوا شعائر موحدة، ومناسك دينيّة، وطقوساً خاصة، تجرّد الإنسان عن عالم الماديّات، وتحلّق بروحه إلى عالم ملكوتي وروحاني بلا نهاية، إلى الرفيق الأعلى فيكون قاب قوسين أو أدنى.

ولكن نوايا الناس مختلفة، والإنسان على نفسه بصيرة، ولو ألقى معاذيره وأستاره، فقد روي في خبر من طريق أهل البيت عليهم السلام: «إذا كان آخر الزمان خرج الناس للحجِّ أربعة أصناف: سلاطينهم للنزهة، وأغنياؤهم للتجارة، وفقراؤهم للمسألة، وقرّاؤهم للسُّمعة» (23).

فليس كلّ من أدى فريضة الحجِّ نال الكمال وبلغ العُلى، بل بشرطها وشروطها والإخلاص أوّل شروطها.

قال الإمام الصادق عليه السلام: الحجُّ حجّان: حجٌّ للَّه وحجٌّ للناس، فمن حجّ للَّه كان ثوابه على اللَّه الجنّة، ومن حجّ للناس كان ثوابه على الناس يوم القيامة (24).

ولا يخفى أنّ من يدخل الجنة فهو من السعداء لقوله تعالى: «وأمّا الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ...» (25) فمن كان سعيداً في حجّه، إنما يخلص للَّه في مناسكه ويبتغي وجه اللَّه في أعماله، ومن عمل للناس فقد خسر الدنيا والآخرة، فإن الدنيا الدنيّة دار ممرّ، وأهل الدنيا لا وفاء لهم، وفي الآخرة كلّ ينادي وانفساه، وكلّ يفرّ من أخيه وصاحبته وبنيه وعشيرته التي كانت في الدنيا تؤويه. فمن الحماقة وقلّة العقل أن يعمل الإنسان لغير اللَّه سبحانه، كما ورد في الخبر.

قال الإمام الصادق عليه السلام: مَن حجّ يريد به اللَّه ولا يريد به رياءً وسمعة غفر اللَّه له البتّة (26)- أي قطعاً-.

فمن حجّ ليُنادى في المجتمعات والنوادي: يا حاج فلان، يا حاجّة فلانة، وليفخر على الآخرين ويتطاول عليهم، لم يصيبه من حجّه إلا التّعب والنّصب. والأعمال العبادية تبطل بالرياء فيجب إعادتها وقضاؤها حينئذٍ. فهل بعد هذا إلا الإخلاص في النوايا والعمل؟!

وعن الإمام الصادق عليه السلام في حديث يذكر علامات ظهور المهدي عليه السلام: ... ورأيت طلب الحجّ والجهاد لغير اللَّه ... فكن على حذر واطلب من اللَّه النجاة (27).

ختامه مسك:

ولنختم الموضوع بما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام في أسرار الحجّ ودقائقه، وعلوّ معانيه وسموّ مفاهيمه:

روي في مصباح الشريعة عنه-صلوات اللَّه وسلامه عليه وعلى آبائه وأولاده الطاهرين- أنّه قال: «إذا أردت الحجَّ فجرّد قلبك للَّه تعالى من كلّ شاغل وحجاب كلِّ حاجب، وفوِّض أمورك كلَّها إلى خالقك، وتوكّل عليه في جميع ما تظهر من حركاتك وسكناتك، وسلّم لقضائه وحكمه وقدره، ودع الدنيا والراحة والخلق، واخرج من حقوقٍ تلزمك من جهة المخلوقين، ولا تعتمد على زادك وراحلتك وأصحابك، وقوّتك وشبابك ومالك، مخافة أن يصير ذلك عدوّاً ووبالًا، فإنّ من ادعى [ابتغى] رضا اللَّه، واعتمد على ما سواه،صيّره عليه وبالًا وعدوّاً؛ ليعلم أنّه ليس له قوّة وحيلة، ولا لأحد إلّا بعصمة اللَّه وتوفيقه.

فاستعد استعداد من لا يرجو الرجوع، وأحسن الصحبة، وراع أوقات فرائض اللَّه وسنن نبيّهصلى الله عليه و آله و سلم، وما يجب عليك من الأدب، والاحتمال والصبر، والشكر والشفقة، والسخاوة وإيثار الزاد على دوام الأوقات، ثم اغسل بماء التوبة الخالصة ذنوبك، والبس كسوة الصدق والصفا، والخضوع والخشوع، وأحرم من كلِّ شي ءٍ يمنعك عن ذكر اللَّه، ويحجبك عن طاعته، ولبِّ تلبيةصادقةصافية، خالصة زاكية للَّه تعالى في دعوتك، متمسّكاً بالعروة الوثقى، وطف بقلبك مع الملائكة حول العرش، كطوافك مع المسلمين بنفسك حول البيت، وهرول هرولة من هواك، وتبرّأ من حولك وقوّتك، واخرج من غفلتك وزلّاتك بخروجك الى منى، ولا تتمنّ ما لا يحلّ لك ولا تستحقّه، واعترف بالخطايا بعرفات، وجدّد عهدك عند اللَّه تعالى بوحدانيّته وتقرب إليه، واتّقه بمزدلفة، واصعد بروحك إلى الملإ الأعلى بصعودك على الجبل، واذبح حنجرة الهوى والطمع عند الذبيحة، وارم الشهوات والخساسة والدناءة والذميمة عند رمي الجمرات، واحلق العيوب الظاهرة والباطنة بحلق شعرك، وادخل في أمان اللَّه، وكنفه، وستره وكلاءته، من متابعة مرادك بدخولك الحرم، ودُر حول البيت محقّقاً لتعظيمصاحبه، ومعرفة جلاله وسلطانه، واستلم الحجر رضا بقسمته وخضوعاً لعزّته، وودّع [ودع] ما سواه بطواف الوداع، واصف [وصفِ] روحك وسرّك للقائه يوم تلقاه بوقوفك على الصفا، وكن بمرأىً من اللَّه، نقيّاً [ونقِ] أوصافك عند المَروة، واستقم على شرط حجّتك هذه، ووفاء عهدك الذي عاهدتَ به مع ربّك، وأوجبته له الى يوم القيامة.

واعلم بأنّ اللَّه- تعالى- لم يفرض الحجّ، ولم يخصّه من جميع الطاعات بالإضافة إلى نفسه بقوله تعالى: «وللَّه على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلًا» ولا شرع نبيّه سُنّةً من خلال المناسك على ترتيب ما شرّعه، إلّا للإستعانة والإشارة إلى الموت والقبر والبعث والقيامة، وفضل بيان السبق من الدخول في الجنّة أهلها، ودخول النار أهلها بمشاهدة مناسك الحجّ من أولها إلى آخرها لأولي الألباب وأولي النهى (28)، انتهى كلامهصلوات اللَّه عليه وسلامه، واغتنموا الفرص يا ضيوف الرحمن، ويا حجّاج بيت اللَّه الحرام، وإنما يتقبّل اللَّه من المتّقين المخلصين.

وآخر دعوانا أن الحمد للَّه ربّ العالمين.

الهوامش:

حِوارٌ مع ممثّل الولي الفقيه في شؤون الحجِّ والزيارة

حِوارٌ مع ممثّل الولي الفقيه في شؤون الحجِّ والزيارة

مجلّةُ الميقات: في البداية نشكركم على إتاحة هذهِ الفرصة للاطلاع على آرائكم القيّمة بشأن الحجِّ وما يتعلق به من مسائل:

كم مرّة تشرفتم بالحجِّ، وفي أي الأعوام؟

ج: بسم اللَّه الرحمن الرحيم، بما أن هذا هو أول لقاء لي مع مجلة «ميقات الحجِّ» الغرّاء، لذا أودُّ الإشارة إلى أنّ مكان هذه المجلة كان خالياً- حقاً- في مكتباتنا، وبين الكتب والمجلّات التي تصدر في الجمهورية الإسلامية والعالم الإسلامي، ومن حسن الحظ، مُلِئ هذا المكان الآن بحول اللَّه- تعالى- وهمم الإخوة الأعزاء في معاونية التعليم والتحقيق لبعثة سماحة القائد الإمام الخامنئي (دام ظلّه). وآمل أن تجد هذه المجلة طريقها نحو التكامل من خلال تعاون الكتاب الملتزمين كافة معها، لتحتل موقعها اللائق في العالم الإسلامي.

وفيما يخصّ الإجابة على سؤالكم لابد لي من القول: إنني لم أكن قبل انتصار الثورة الإسلامية قد تشرّفتُ بالحجِّ، إلّاأنني- بعد انتصار الثورة الإسلامية- تشرفتُ بالحجّ مرتين وقبل أن أتولى مسؤولية شؤون الحجّاج؛ المرّة الأولى في العام 1358 ه. ش حيث كنت مرشداً دينياً لإحدى قوافل الحجاج، وفي المرة الثانية ذهبتُ- أيضاً- كزائر وكان ذلك على ما أظن في العام 1362 ه. ش. وفي عام 1370 ه. ش حمّلني سماحة القائد (دام ظله) مسؤولية شؤون الحجاج الإيرانيين إلى بيت اللَّه، وما زلتُ أتحمل هذهِ المسؤولية.

الميقات: الحجّ سفرٌ إلهي ومعنوي، والمعروف أنّ الذينَ يوفقون لهذا السفر- خصوصاً السفرة الأولى- يحتفظون في ذاكرتهم بذكريات جميلة عن ذلك. فما هي أحاسيسكم ومشاعركم وأنتم تدخلون الحرمين الشريفين أول مرّة؟

ج: لا يمكن وصف الأحاسيس التي تتملك الإنسان في تلك اللحظات وايصالها إلى الآخرين. إنَّ الحالة التي تتملك الإنسان في السفرة الأولى لا تتكرر في السفرات التالية لها، حيث الإحساس بعظمة هذين المكانين المقدسين لهو من الذكريات التي لا يمكن نسيانها. فهناك الأماكن المقدسة التي كان يتواجد فيها الأنبياء العظام وأولياء اللَّه الذين طافوا حول البيت الحرام. وهناك الأرض التي شهدت أهم الأحداث في تاريخ الإسلام، حيث انطلاقة الإسلام الأولى.

فعندما عرف الإنسان هذه الأجواء للمرّة الأولى، وراحت هذه المعاني تدخل ذهنه بنحو وآخر، تملكته حالة خاصة، وكم هو جميل وعظيم أن ينتفع بها في تزكية نفسه والتقرُّب أكثر فأكثر إلى البارئ تعالى.

الميقات: منذ أعوام وأنتم تتعاطون الأحاديث والروايات. وتحفظون القرآن الكريم، لهذا فإنكم على معرفة واسعة بمعارف الثقلين حول الحجِّ. فما هي مكانة الحجّ في تعاليم القرآن والحديث؟

ج: يوجد في هذا المجال كلام كثير، كما أنه لا يمكن حتى حصر القليل منه في مقال، والأمر بحاجة إلى تأليف الكتب من أجل توضيحه من جميع أبعاده، وبالطبع يوجد هناك بعض ما كُتب في هذا المجال، إلّاأن ما يمكن طرحه بإيجاز في لقاء واحد هو: أن الحجَّ واحد من المرتكزات الثقافية، والسياسية، والاجتماعية في الإسلام. والحجّ يُعد- إلى جانب الصلاة والصيام والخمس والزكاة وسائر فروع الدين- واحداً من أهم فروع الإسلام، ويمتاز عن بقية فروع الدين بجامعيته وشموليته. ففي الحجِّ تكون السياسة إلى جانب العبادة. والمسائل الثقافية إلى جانب العبادة.

وبقصارى الكلام يمكن القول: إنَّ الحجَّ هو المظهر الحقيقي لأبعاد الإسلام ومعارفه، وبعبارة واحدة، يجب استعمال التعبير القرآني الجميل في وصف الحجّ «قياماً للناس» وأنه مبدأ النهوض الشامل في العالم الإسلامي. ومن هنا فقد كان الإمام الخميني قدس سره يُعير أهميّة كبيرة للانتفاع بأجواء الحجّ الملكوتية في مختلف المجالات التي يحتاجها المجتمع الإسلامي.

فللقرآن الكريم تعبيران يدعوان إلى التأمل فيما يخصّ مكانة الحجِّ من وجهة نظر القرآن والإسلام.

الأول «قياماً للناس» الذي يعني أن الحجَّ هو مبدأ النهوض الشامل.

والثاني «ليشهدوا منافع لهُم» ويُستفاد من هذه الآية أن الشعوب الإسلامية عندما تحضر هي أو ممثِلون عنها في تلك الديار المقدسة، يجب أن تشهد منافع كثيرة. وكما بيّن ذلك الإمام الراحل قدس سره في بياناته القيّمة؛ المنافع مطلقة ولا تختص بمنفعة معيّنة. كما وجاء في الروايات- أيضاً- أنه عندما سُئل الإمام عليه السلام ما هو المراد من المنافع؟ المنافع الدنيوية أم الأخروية أم الاثنان معاً؟ أجاب الإمام عليه السلام: كل المنافع الدنيوية والأخروية.

فالإمام الراحل قدس سره يفهم من «ليشهدوا منافع لهم» شيئاً ملفتاً للنظر، فهو يقول: إنَّ أكبر المنافع الضرورية للمجتمع الإسلامي- اليوم- في العالم هو حقه الذي يجب أن ينتزعه من المستكبرين، فهذه الثروة العظيمة للمسلمين أي النفط الذي يأخذه الاستكبار العالمي من المجتمع الإسلامي مجاناً، يجب الحؤول دونه، يجب على الأمة الإسلامية أن تضع يداً بيد وتنتزع هذه المادة الحيويّة الماديّة من حلقوم الاستكبار العالمي، وتأخذ حقّها من الغزاة، وهذه المسألة يمكن للحجّ أن يضمنها. فبإمكان المسلمين في ذلك المؤتمر العظيم أن يتفاهموا ويتفقوا ويتحدوا ويقفوا بوجه المستكبرين، من أجل ضمان منافعهم الماديّة على الأقل.

الميقات: لقد أشرتم إلى نكتة مهمة جداً، فإن مسألة «قياماً للناس» و «ليشهدوا منافع لهم» يمكن للعالم الإسلامي أن ينتفع بها في الحجّ في المجالات المختلفة؛ السياسية، والاقتصادية و ... والآن من المناسب طرح هذا السؤال وهو: ما هو الاختلاف بين الوضع الحالي للحجّ وبين المكانة التي وضع الإسلام فيها الحجّ، وما الذي يجب عمله من أجل الوصول إلى الحج المنشود؟

ج: يوجد بين الحج الحقيقي- أو بتعبير إمام الأمة، رضوان اللَّه تعالى عليه، الحج الإبراهيمي- وبين الحجّ الحالي الفاقد للمحتوى اللازم اختلاف كبير. وفي الواقع لا يمكن مقايستهما مع بعض وهما يقعان في نقطتين متقابلتين.

فالحج الذي يُريده الإسلام الأصيل من المسلمين، هو الحجُّ الذي يكون مبدأً للنهوض والثورة. وهو الحجّ الذي يستطيع تأمين منافع المجتمع الإسلامي، لا أن يكون فيصالح منافع أعداء الإسلام. إن المستكبرين يريدون من الحجّ أن يكون وسيلة لتهدئة المجتمع الإسلامي لهم، وتبرير تسلطهم على أراضي الإسلام.

ويجب القول: إنَّ الحج اختلف اختلافاً جذرياً بعد انتصار الثورة الإسلامية عن حجِّ ما قبل الثورة. ولقد أحيا الإمام الراحل قدس سره البُعدَ السياسي للحجِّ في سبيل إحياء الحجّ الحقيقي الأصيل. وقد سعى بنظرته الثقافية إلى إحياء هذا البُعد المهم للحج في حياته وليتركه اليوم كأمانة ثمينة وقيّمة بأيدي الأمة الإسلامية. والآن فإن مسؤولي الجمهورية الإسلامية هم المؤتمنون على هذه الأمانة، ونأمل أن نتمكن من حراسة هذه الأمانة الإلهية العظيمة بشكل لائق. إن إحياء البعد السياسي للحج هو الذي وضع الحجَّ في اتجاهه الصحيح. وإن كان يجب أن نعترف أنه لا تزال هناك مسافة كبيرة حتى نصل إلى الحجّ الحقيقي، إلّاأنه على أية حال، فقد ابتدأت هذه الحركة من قبل الإمام الراحل قدس سره ونظام الجمهورية الإسلامية المقدس في إيران على أمل أن تستمر وتتواصل حتى تحقيق كامل أهدافها.

الميقات:صحيحٌ أن الوضع الحالي للحج هو أفضل بكثير بالقياس إلى ما قبل الثورة، ولكن يبدو أنه لا زال هناك الكثير مما لم يُعمل. فما هي مقترحات سماحتكم من أجل إقامة مراسيم الحجِّ بشكل أفضل وأكمل؟

ج: إنّ أول ما يجب الانتفاع به من الحج هو «تربية النفس» حيث إنّ واحدة من المشاكل المهمة والأساسية للعالم الإسلامي هو تجاهل هذه المسألة. ولو زاد عدد القوى المخلصة والواعية والمسؤولة والأشخاص الذين يفكرون بحاجات العالم الإسلامي في المجتمعات الإسلامية فسوف يؤدي ذلك بشكل طبيعي إلى أن تقع السلطة في أيديهم، وتحلُّ مشاكل المسلمين بالنتيجة. وفي الظروف الراهنة، قد انطلقت شرارة الوعي والشعور بالمسؤولية في العالم الإسلامي ببركة الثورة الإسلامية، واكتسب الشباب المسلم في أكثر البلدان الإسلامية الوعي واليقظة، وبدأوا بإعداد أنفسهم. بأمل أن تستمر هذه الحركة- إن شاء اللَّه- إلى أن تأخذ البلدان الإسلامية زمام أمورها بنفسها. فمالم يكن الإنسان قد ربَّ نفسه، لا يمكنه أن يخطو خطوات مؤثرة في سبيل تربية المجتمع الإسلامي، كما لا يمكنه أن يُفكر بحلول لمشكلات العالم الإسلامي، فإذا تمكن المسلمون أن يخطوا في الحجِّ هذه الخطة، إذا هم مستعدون لمواجهة مختلف المشاكل التي تأخذ- اليوم- بتلابيب العالم الإسلامي.

والشي ء الثاني الذي يمكن للإنسان أن ينتفع به ويستفيد منه في الحجّ، ويُعد ضرورياً لمواجهة مشاكل العالم الإسلامي، هو «وحدة العالم الإسلامى». فلو وضع أكثر من مليار مسلم يداً بيد، واستغلوا الإمكانيات والأماكن الحساسة والستراتيجية التي يمتلكونها كما ينبغي، فلن تتمكن أية قوة من مقاومتهم، ولأصبح القول الفصل لهم ليس في العالم الإسلامي وحسب بل في العالم كله. وأن أفضل مركزٍ يمكن أن يضمن الوحدة للمسلمين هو الحج.

إن موسم الحجّ لهو مجمع حقيقي للتقريب في العالم الإسلامي. فهناك يمكن لزعماء البلدان الإسلامية- علماءً كانوا أو سياسيين- أن يجتمعوا ويمدوا يد الوحدة بعضهم إلى بعض، ويفكروا بإيجاد حلولٍ لمعضلات العالم الإسلامي، بدلًا من الخلافات التي منشؤها- بالأساس- الأهواء النفسانية ووساوس الإنس والجن الشيطانية.

فإذا امتلك حَجُّنا هذين الشيئين أو البعدين (تربية النفس والوحدة) فسيكون حلّ مشاكل العالم بالنسبة للمسلمين بسيطاً، ولا تجد، والحال هذه، مشكلة تستعصي على الحل. وإذا كنّا اليوم نشهد مشاكل وقمع المسلمين في بلدان إسلامية؛ كالبوسنة والهرسك، وفلسطين المحتلة، وبعض المناطق الأخرى الذين يتألم قلب كلّ إنسان لمظلوميّتهم، فإنَّ سبب ذلك يعود إلى انعدام الوحدة بين المسلمين، وعلى أي حال، يمكن الانتفاع بالحج لصالح المجتمعات الإسلامية الكثيرة فيما يتعلق بمختلف القضايا؛ الفردية، والاجتماعية، وكذلك القضايا الثقافية والعقائدية، والسياسية، والاقتصادية، وحتى العسكرية.

لقد كان إمام الأمة- رضوان اللَّه تعالى عليه- يصدر أهم بياناته في أيام الحج، وهذا الأمر يدلُّ على مدى اهتمامه وأمله بهذه القاعدة العظيمة! فقد كان الإمام قدس سره يعتقد وجوبَ أن يشع النور من هذا المركز ويُتحرك منه لحل مشاكل العالم الإسلامي.

لميقات: إن أعمال العمرة والحجّ والتمتع، من الإحرام حتى آخر المراحل، لكل واحد منها ميزة خاصة، ففي رأيكم أي هذه الأعمال، يمكن للإنسان أن يشعر فيها بذروة المعنوية؟

ج: إنّ مناسك الحج، من الإحرام حتى آخر عمل، هي مظاهر للجلال والعظمة. فعندما يحضر المسلمون من أقصى نقاط العالم إلى تلك الديار المقدسة ويتركون جانباً كل المميزات؛ يؤدي الجميع، الفقير والغني، الأبيض والأسود، الرئيس والمرؤوس، الرجال والنساء، يؤدون جميعاً سلسلة أعمال واحدة جنباً إلى جنب، ويقفون لدعاء البارئ تعالى و ... ولعله لم يكن يوجد مشهد عبادي واجتماعي أعظم واجلُّ من هذا المشهد. ولكن من بين جميع الأعمال، توجد بعض الأعمال التي تتمتع بميزات بارزة مثل الوقوف في عرفات، والوقوف في المَشعر، فهناك حيث يجتمع الحجاج في مكان واحد، بين جبال عرفات أو فيصحراء المشعر، يُسلمون القلوب إلى البارئ تعالى، في تلك اللحظة الخاصة بين الطلوعين. ومن ثم يحضرون بعد ذلك جميعاً بمهابة لا يمكن وصفها إلى منى حيث تصل العظمة والمهابة المعنوية غاية ذروتها.

الميقات: منذ السنة التي تشرفتم فيها إلى الحج وإلى الآن، تم تخريب الكثير من الآثار الإسلامية في مشروع توسيع الحرمين- وحتى خارج المشروع- فما هو التحول والتغيير الذي شاهدتموه في هذه الأماكن منذ ذلك الوقت وإلى الآن؟

ج: مقدارٌ من هذه التغييرات، التي أُجريت في الأبنية التأريخية الإسلامية، يعود إلى ما قبل انتصار الثورة، وإنني لم أكن قد وفقتُ للذهاب إلى هناك قبل انتصار الثورة الإسلامية كي أتمكن من المقايسة بهذا الشأن. وبالطبع هناك كتب مؤلفة ومطبوعة بهذا الخصوص يمكن الرجوع إليها.

إلّاأنه منذ عام 58، الذي سافرت فيه إلى الحج لأول مرّة، وإلى الآن حصلت تغييرات كثيرة في مسجد النبي بالمدينة المنوّرة. ولم يكن موجوداً في عام 1358 كل هذا الموجود الآن في مشروع توسيع مسجد النبيِّ من أسواق، ودور، وفنادق، وكل هذه التغييرات قد حصلت خلال هذه الفترة التي تمتد إلى ما يقارب الخمسة عشر عاماً. كما قد أُجريت خلال هذه الفترة بعض التغييرات في البقيع. فمسجد قبا لم يكن بهذا الشكل الذي هو عليه الآن، وإنما كان عبارة عن مسجدصغير. ولم يكن زقاق بني هاشم ودار الإمام الصادق عليه السلام قد تمّ تخريبه في ذلك الوقت. ولم يكن مسجد القبلتين بهذا الشكل الذي هو عليه الآن. وكذلك مسجد الشجرة لم يكن بشكله الفعلي الآن وإنما كان عبارة عن مسجدصغير. هذه هي التغييرات الحاصلة في المدينة المنوّرة.

وفي طريق مكة، لم يكن وضع المواقيت على ما هو عليه الآن. فلقد كان مسجد الجحفة، مسجداًصغيراً جداً حتى إنّه لم يكن له باب وهيكل مقبول. وكذلك ممرّه كان فيه مصاعب كثيرة، ومبنى قرن المنازل هو الآخر جديدٌ أيضاً.

وإن أعمال التوسعة الحاصلة الآن في المسجد الحرام كلها حديثة، سواء في ذلك المسجد الكبير المضاف إليه أو الأقسام التي تمّ ايجادها في الجهة اليمنى من المسعى.

وقد تمّ ايجاد تغييرات جذرية في عرفات، حيث لم تكن قبل ذلك الكثير من هذه الأشياء، وكان الناس يواجهونصعوبات كثيرة. وكذلك في منى، وبالطبع أن التشجير هنا ليس مثل عرفات. وهناك تحول في الجمرات.

فجمرة العقبة كانت جبلًا خالصاً؛ لم يكن مفتوحاً منه أكثر من قسم واحد حيث كانوا يدخلون من باب واحد ويخرجون من الباب الآخر. إنّ هذه هي مجموعة التغييرات التي كانت ملموسة بالنسبة لنا، وهناك أماكن كثيرة أخرى أعدمت ولم يبقى منها أثر.

الميقات: من الطبيعي أنَّ كلَّ الذين يتشرّفون بالحجِّ لديهم طموحات وحاجات يطلبونها من اللَّه تعالى، والكثير منها يحظى بالاستجابة، هل لكم أن تحدثونا عما طلبتموه من اللَّه تعالى أثناء سفركم إلى مكة أو المدينة، وهل حظيت هذه الطلبات بالاستجابة أم لا؟

ج: أنَّ أهم ما يطلبه الحاجّ في هذا السفر المعنوي، بل يجب أن يكون مأربه الوحيد هو «اللَّه» فقط. فلا ينبغي للإنسان أن يحجَّ بيت اللَّه ويطلبَ شيئاً غير اللَّه، وإذا ما توجه الحاجّ للَّه فقط سيكسبُ كلَّ شي ء (ماذا فقدَ مَنْ وجدكَ وماذا وَجَدَ مَنْ فقدك).

لقد سعيتُ على الدوام أنْ لا أطلب من اللَّه نعماً ماديّةً، ولا أتذكر أنني قد طلبتُ من اللَّه أموراً تتعلق بحياتي الشخصية إلى الآن، وبالطبع فقد دعوتُ للأصدقاء والأقارب.

فما طلبته من اللَّه أثناء هذه الأسفار الأربعة الأخيرة كان بخصوص الأمور الاجتماعية، وبخصوص الأمور المتعلقة بالحجِّ.

الميقات: إنَّ حجاجنا يمثّلون طبقاتٍ مختلفةٍ وبعضهم بما يمتلكونه من قناعاتٍ سابقةٍ أو بسبب عدم امتلاكهم للتعليم الصحيح في مجالات التعامل فهم يخلقون المصاعب، فما هي توصياتكم إلى حجاج بيت اللَّه الحرام في هذا المجال باعتباركم أميراً للحاجّ؟

ج: المسألة الأولى التي يجب على كلِّ حاجٍ الاهتمام بها، هي أنَّ الحجّ فرصةٌ استثنائية ووجيزةٌ جداً ولعلّها لا تحصل لأغلب النّاس إلا مرّة واحدةً مدى عمرهم، لهذا فمن أجل أن ينتفع الحاجُّ بهذه الفرصة القصيرة والاستثنائية والثمينة غاية الانتفاع؛ يجب عليه أن يخطّط لنفسه قبل شهورٍ من الحجِّ في كيفية الاستفادة من الأيام واللّيالي واللحظات التي تمرّ خلال هذا السفر الإلهي.

وللأسف فإنَّ قسماً من حجاجنا وبسبب الإهمال وعدم التخطيط يصطدمون بأجواءٍ خاصةٍ بحيث لا يعرفون ماذا يفعلون ولا يلبثون حتى يجدوا أنَّ هذه الأسابيع المعدودة قد انصرمت! ولم ينتفعوا بها الانتفاع اللازم. فلو كانوا قد سَعَوْا كثيراً لتمكنوا مثلًا من أداء أعمال الحجّ بصورةٍصحيحة، وطبعاً هذا مهمّ جداً، لكن لابدّ للحاج من أن يُحدِثَ تغييراً في وضعهِ خلال هذه الأيام، وأن تظهر في روحهِ وباطنهِ ثورةٌ. فقد ورد في الروايات أنَّ الحجَّ يُطهّر الإنسان من الأدران. فالإنسان يتطهر طهارةً واقعيةً عندما تحصل في ذاتهِ الثورةُ، وأنْ يشعر بالاستنارةِ والمعنوية.

إنَّ الكثير من حجّاج بيت اللَّه يهدرون وقتهم في التجوّل بالمتاجر أو الأعمال التافهة وأحياناً في الأعمال الضّارة، بسبب عدم الانتباه إلى هذا المعنى أو بسبب التخبط.

يقول القرآن الكريم:

«قل هل نُنَبّئُكم بالأخسرين أعمالًا الذين ضلَّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يُحسنونصُنعاً» (29).

يتصورُ البعض أنه يقوم بأعمالٍ حسنةٍ، بينما هي مضرةٌ للغايةِ بالنسبة للنظام الإسلامي وللإسلام أيضاً وبالتالي فهي مضرةٌ لهم جداً.

ففي المكان الذي يسوده مذهبٌ غير المذهب الشيعي يجب أنْ نتصرّف بنحو لا يؤذي الآخرين، فنحن هناك نمثل الإسلام الأصيل فإذا لم يؤدِ حجاجنا الصلاة في أوّل وقتها، واذا تواجدوا خارج المسجد الحرام أثناء وقت الصلاة، أو خارج مسجد النبيصلى الله عليه و آله و سلم أو المساجد القريبة من البيوت، أو تواجدوا في السوق وارتكبوا عملًا مخالفاً يلحقُ ضرراً جسيماً بالإسلام والجمهورية الإسلامية فإن ذلك كله يعتبر من الذنوب كما أنه يُعطي فرصة للآخرين لذمنا، فكلُّ ذلك ناجمٌ عن الإهمال وعدم التخطيط.

على حجاج بيت اللَّه المشاركة في المجالس التي تُعقد لتعليم مراسيم الحجّ قبل أشهرٍ من سفرهم، والعلماء مكلَّفون كذلك بإقامة هذه المجالس بصورةٍ منتظمةٍ.

لقد سمعتُ أنَّ دروس الحجّ تقام في ماليزيا قبل ستة أشهر من الحجِّ ويشترك فيها الحجّاج، وعندهم مجالس منتظمةٌ للغاية، إضافةً إلى مشاريعهم لتمكين الأفراد على أداء مناسك الحجِّ ولديهم مشاريع جيدة جداً بهذا الخصوص. وباختصار فإننا مكلّفون بإقامة دروس الحجّ قبل أربعة أو خمسة أشهر من الحج، وعلى الحاجّ أن يعتبر نفسه مكلّفاً بحضور هذه المجالس. والنقطة الأخيرة هي أن على الحاجّ أن يغتنم وقته ويخطّط له. فإنَّ أيام الحج أيام مراقبةٍ ومحاسبةٍ دقيقةٍ للنفس فيجب عليه أن يباشر تربية نفسهصباح كلّ يوم بما أعدَّ لنفسهِ من برامج، وأن يسيطر على اللحظات والساعات كي لا يقوم بما لم يخطط له، وإذا قصَّرَ- لا سمح اللَّه- يستغفر اللَّه ويصمّم على أن لا يتكرر منه ذلك التقصير كي يستطيع الانتفاع بذلك الجو الملكوتي معنوياً على أفضل وجه.

الميقات سنواتٌ عديدةٌ وأنتم تتحمّلون مسؤولية إمارة الحجيج من قبل ولي أمر المسلمين، وقد أُنجزت أعمالٌ جيدة جداً في المجالات المختلفة للحج علىصعيد اختيار العلماء الصالحين الكفوئين والإداريين المتميّزين والمجرّبين، وتأليف الكتب، والنشاطات التعليمية، وتوضيح المسائل المتعلقة بالحجِّ عن طريق الإذاعة والتلفاز. وكذلك على الأصعدة التنفيذية، فقد حقّقت بعثة الحجِّ ومنظمة الحجِّ والزيارة نجاحات باهرةً، فما هو تقييم سماحتكم للوضع الراهن، وما مقدار نجاحكم، وكيف تفكرون بالنسبة للمستقبل؟

ج: على هذا الصعيد من الأفضل أن يحكم الآخرون، ولكن ما استطيع أن أُقدّمه إجمالًا هو: بفضل اللَّه، ومن خلال الجهود التي بذلها الأصدقاء والزملاء في بعثة قائد الثورة على مدى السنوات الأربعة المنصرمة، يمكننا القول إنَّ التغيير الأساس الذي طرأ في البرمجة والتخطيط والتنفيذ، وما يلاحظ الآن فيما يختصّ بالحجِّ هو نتيجة للمبادرات التي قام بها الإخوة الأعزاء خلال هذه الفترة، وطبعاً فإنّ الإخوة الأعزاء الذين عملوا سابقاً تحمّلوا مصاعب كثيرةً (شكر اللَّهُ سعيهم) وعملوا ما في وسعهم، وكلُّ ما لدينا هو استمرارٌ لما بُذلَ من جهودٍ سابقاً، ولكن ما كان موجوداً في السابق هو أنَّ الحجَّ كان ذا طابعٍ موسميٍّ حيث توضع الخطط من قبل مجموعةٍ ما في موسم الحجّ ولعلَّه قبل موسم الحج بشهر أو شهرين- ثم يُعطّل، فلم تكن هناك تشكيلات ثابتةٌ- تتابع- المسائل المتعلّقة بالحج على مدار أيام السّنة، أما الآن فقد وفقنا اللَّه- تعالى- فاستحدثت التشكيلات الثابتة التي تمارس نشاطاتها فيما يتعلق بمسائل الحجِّ على مدى أيام السنة، وفي جميع المجالات أيضاً، سيما مجال البحوث والأمور الثقافية التي يحتاجها الحجّاج أكثر من أيّ شي ء آخر، فخلال هذه الفترة تمَّ تأليف ما يقرب من 70 أثراً، واصدار مجلّتين قيّمتين، إحداهما هذه المجلّة «ميقات الحجِّ» باللغة العربية، والأخرى مجلة «ميقات الحجّ الفصلية» التي تصدر باللغة الفارسية، وهذا من الأعمال القيّمة التي انجزت. إنّ استمرارصدور هاتين المجلّتين سيؤدي الى حصول تغييرٍ فيما يرتبط بجميع مسائل الحجِّ علىصعيد البحوث، إضافةً إلى التأثير الثقافي والمعنوي الذي تتركانه في أبناء شعبنا، وكذلك يمكن أن يكون لهما التأثير نفسه على شعوب بقيّة الأقطار.

على أية حالٍ، يمكن القول وبعبارةٍ واحدة: إنّ بعثة القائد المعظم استطاعت أن توفّر الأرضية اللازمة لبلوغ الأهداف النهائية للحجِّ في جميع الأبعاد، مع وجود أمدٍ بعيدٍ أو فاصلة بيننا وبين الحالة المرجوّة، إلّاأنّ أعزتنا في بعثة القائد المعظم استطاعوا إعداد الأرضية لبلوغ تلك الأهداف، آملين أن تحظى بقبول اللَّه تعالى.

الميقات بسبب اهتمام سماحتكم بالتنظيم في جميع المجالات ولحسن الحظ فقد أوجدتم هذا التنظيم في أمر الحجِّ وتوصلتم إلى نتائج ايجابية، فاليوم يذهبُ الحاجُّ إلى الحجِّ معزّراً وهناك يشعر بالعزَّةِ أيضاً، ويؤدي مراسم الحجِّ بالنحو الذي يحظى بقبول البارئ- عزّ وجلّ- وبتلك الأهداف التي أشرتم إليها، ولكن في السنوات الأخيرة تهامست الألسن حول إحالة منظمة الحجّ إلى القطاع الخاص، ونظراً إلى أنَّ القطاع الخاص يسعى إلى الكسب المادّي وقليلًا ما يهتم بالأمور الثقافية. فماذا تقولون بهذا الخصوص، هل توافقون على إحالة الحجِّ إلى القطاع الخاص، وما هو مقدار جديّة هذا الأمر؟

ج: هناك عدّة أمور جديرةٌ بالاهتمام في هذا المجال، الأمر الأول هو أنَّ مسألة إحالة الحجِّ على القطاع الخاص منتفيةٌ على الإطلاق في الظروف الراهنة، لأنَّ لدينا ما يقارب 450 ألف حاج مسجلة أسماؤهم ولا تستطيع منظمة الحجِّ والزيارة اتخاذ أيّ قرارٍ بهذا الخصوص ما لم ترسلهم إلى الحجّ. وهذه المجموعة مسجلةٌ منذما يقارب 10 سنوات ولعل هذا الوضع السائد الآن يستمر خمس سنوات أخرى.

بناءً على ذلك، فإنّ هذه المسألة منتفيةٌ بشكلٍ عامٍ في الظروف الراهنة، وأما ما يحدث في المستقبل فيجب ملاحظة الوضع السياسي، والاجتماعي، والاقتصادي للبلاد، وما هو رأي المسؤولين في ذلك الوقت؟ وبالطبع لابدّ من أن أقول: إنَّ التجربة التي لدينا بخصوص سوريا ليست بالتجربة الناجحة، أي لم تكن لإحالة زيارة العتبات المقدسة في سوريا للقطاع الخاص ذات نتيجة جيدة، وأما الفائدة الوحيدة التي تركتها، هي أنّها نفعت الحكومة إلى حدٍ ما من الناحية الاقتصادية، وأما في الجانب الثقافي في الوقت الراهن فضررها كبير جدّاً، ونحن بصدد التقليل من هذه المشكلات والأخطاء والأضرار قدر الإمكان.

على أيةِ حالٍ، فاذا ما أصبحت هناك خصوصية أو ضرورة لإحالة الحجِّ على القطاع الخاصّ فيجب أنْ يكون أصل العمل بيد الدولة بنحوٍ لا يحصل أيُّ تغييرٍ في البرامج والتنظيم الفعلي، لئلا يكون الوضع كما كان عليه قبل الثورة، فلا يمكن القبول بتلك الحالة بأيِّ شكل لأنه لن يوصلنا الى أهدافنا الثقافية.

الميقات: من خلال اهتمام سماحتكم فإنَّصفاءً ومحبَّةً خالصةً تسود بين بعثة القائد المعظم ومنظمة الحجّ والزيارة، وكل الأعزاء الذين يعملون في هذين المركزين يعملون بإخلاص وجديّةٍ ومن جانب آخر فإنَّ خصائص خدمة حجاج بيت اللَّه الحرام تُنمي الحوافز لدى الجميع على الخدمة، وكسؤالٍ أخيرٍ، وددتُ أنْ أرى ما هو طموحكم وتوقعكم من العاملين في مجال الحجِّ؟ وما هي توصياتكم إلى هؤلاء الأعزاء؟

ج: إنَّ طموحي من الزملاء في بعثة القائد المعظم ومنظمة الحجّ والزيارة هو أنْ يلتفتوا إلى أنَّ هذه المؤسسات مؤسساتٌ خاصةٌ لذلك تتعلّق بها آمالٌ خاصة.

فهذه مؤسسات تصبو إلى توجيه مجاميع من المتلهفين لحجّ بيت اللَّه، إلى مركز الوحي، لتخدم الحجاج إلى جانب بيت اللَّه ومرقد رسولهصلى الله عليه و آله و سلم والأئمة الطاهرين عليهم السلام لذا يجب أن تنجز واجبها بنحوٍ مجردٍ عن كلِّ ضعف.

يجب أن تتعطر هذه المؤسسات أكثر من غيرها بعطر الإخلاص للَّه فلابد من أن يتمتع العاملون في هذه التشكيلات بإخلاصٍ مضاعفٍ، وإذا ارتكبنا تقصيراً- لا سمح اللَّه- فمن الممكن أن نتعرض لغضبه. يجب أن نبذل كلَّ ما في وسعنا وأن نخدم حجاج بيت اللَّه الحرام بكلِّ وجودنا. فالحاج الذي يُريد السفر الى الحجِّ يجب أن يكون مرتاح البال. فمع أنَّ الحجّ فيه مشاكل طبيعية إلّاأنَّ ذلك لا يعتبر معذّراً لنا ولا مبرّراً لتقصيرنا. إنَّ المحافظة على بيت المال الذي تضعه الحكومة تحت تصرّفنا لتوفير الراحة للحجاج، هي مسألة حساسةٌ للغاية، حيث يجب مضاعفة الاهتمام بذلك في الجانب التنفيذي، فإنَّ العبثَ ببيتِ المال حتى بقدر ريالٍ واحدٍ أو 1100 من الريال هو ذنبٌ عظيمٌ سيما في الظروف الاقتصادية التي يمرّ بها بلدنا في الوقت الحاضر، فيجب التدقيق في استئجار البيوت ومختلف المشتريات. بل يجب الاحتياط حتى لا تُهدَر ذرةٌ من بيت المال. والحمد للَّه فقد كان للمسؤولين والعاملين في الحجّ والزيارة جهود حثيثة بهذا المجال على أمل أنْ يتحسَّنَ الوضع يوماً بعد يوم.

أسأل اللَّه- تعالى- المزيد من التوفيق والتقدم لجميع القائمين على الخدمة في بعثة القائد المعظم ومنظمة الحجّ والزيارة.

الهوامش:

لبّيك قد لبّيتُ لك

لبّيك قد لبّيتُ لك

أبو نواس

إلهنا ما أعدلكْ مليكَ كلِّ مَنْ مَلَكْ

لبيكَ قد لبيتُ لك لبيكَ إنّ الحمدَ لك

والملك لا شريك لك ما خاب عبدٌ أمّلك

أنت له حيث سلك لولاكَ يا ربّ هلك

يا مخطئاً ما أغفلك عجل وبادر أجلك

واختم بخير عملك لبيك إنّ الملك لك

والحمد والنعمة لك والعزّ لا شريك لك

مفتاح القلوب

مفتاح القلوب

رياض عبيد- لبنان

دمعةُ العشقِ راحةٌ لِمُغالي ما لأحداقي، في غرامي، ومالي؟!

لا تغرُّ الدّموعُ منّي فأهدا أو تداوي الضلوعَ عندَ اعتلالي

ليس في الكونِ عازفٌ وسعيدُ ليس في سِفْرِهِ قلوب خَوالي

فغنائي مُسربَلٌ بشقائي أين منّي عُذوبةُ الموّال؟

ومراري مكبّلٌ لِصوابي وصَبائي مُعلَّقٌ بالوصالِ

واشتياقي إليه أَلغى زماني ودعاني إلى ربوع الشَّمالِ

فنوى البعد عن بلادِ حبيبي حملتْني على جناح الخيالِ

هانَ عمري هناكَ دون اعتماري ولقائي أُمَّ القُرى، واكتحالي

وَتَفادَيتُ دونَ نظرةِ عينٍ في شهوبِ الحبيبِ، أو في التِّلالِ

حيث سارتْ خُطاهُ تمشي الهُوَينا واجتهادُ النّفوسِ خَطْوُ الرّجالِ

حيثُ عطرُ الذُّرى روى مجدَ طه واختصارُ الزّمانِ سَحرُ الكمالِ ... ***

يا دياراً، يفوقُ عندي هواها لَهَفاتي لوثبةِ الآمالِ

لي بأعطافك الحنائنِ وَعدٌ طيّب ذكرهُ كشهدٍ مُسالٍ واعتراني إزاءَ قُدسِكِ لَأيٌ نافذُ السَّهْمِ، رائقُ الإشتمالِ

ذاكَ سعيُ الحجيج يتلو هتافاً سَطَّرتْهُ الدّموعُ عندَ القِبالِ

تزحفُ الأبوابُ احتضاناً فضاقتْ لِسُراةِ العيونِ رحبُ الُمجالِ

وأنا الوعدُ طافَ بي فبراني حُبُّكمْ، رامَ في لُمَى العُذّالِ

وصلاتي عندَ المقامِ نداءٌ أَرَّقَ العالمينَ في الإبتهالِ

طوّف الطيرُ بالقلوب وغنّى ساعياً أو مهرولًا منْ أَثالِ

يضحكُ الليل في نهارٍ مديدٍ لا يُقاسُ الرّضى هُنا باللّيالي

تتركُ الشمسُ في القلوبِ نفوساً تُطْلعُ النّورَ من خلالِ الخِلالِ

وكزحفِ السَّديم يعبُر جندٌ هلّلوا بالمنى بظلّ الهِلالِ

عرفاتٌ، ووقفةُ الخَلْقِ فيهِصورةُ الحشرِ، خُصَّ بالإبتهالِ

ما الجمارُ الدّماءُ ما الحَلْقُ عِتقٌ أوثقَ الإحرام اتّجاهَ الرّحالِ

ما هُناكَ المكانُ يطوي زماناً .. ما هناكَ الزّمانُ رَهْنُ المَكانِ ..

ما هُناكَ الأنا .. وأنتَ .. وكُنّا .. ما هناكَ النشيدُ بينَ النّصالِ

أَوَ بعدَ الفتونِ ذا من فتونٍ؟ أَوَ بَعْدَ الجمالِ ذا منْ جمالِ؟!

وبدا البابُ، يالَقُرَّةِ عيني! مدخلّ الحقِّ، وثبةُ الْأَجيالِ

سُلَّمُ المجدِ، والزّمانُ ضنينُ موطنُ الوحي، مقصدُ الترحالِ

يا رياضَ الحبيبِ، جئْتُكِ سَعياً تعتليني لُهاثَةُ المِعجالِ ...

يحملُ القلبُ ثقلَ عمري ويُلقي في كياني حَبَّ النَّقا المِهيالِ

وغَزَتْ لحظةُ اللّقاء تمادتْ وأضاءتْ بصيرتي وقنالي

واعتلى همَّتي خشوع رطيبُ والحنايا تضجُّ بالإنفعالِ


1- 1 أخبار مكّة، 1: 41.
2- 2 أخبار مكّة، 3: 56.
3- 3 انظر: معجم البلدان، 5: 62- أخبار مكّة، 4: 72- 73 في الهامش- ومعجم دهخدا، الحرف «م»: 938.
4- 4 أخبار مكّة، 4: 137.
5- 5 العقد الثمين، 1: 310.
6- 6 انظر كشف الظنون، 1: 306- معجم المؤلفين، 4: 40- هدية العارفين، 2: 310- الأعلام، 6: 28.
7- 7 أخبار مكّة، 1: 32. أخبار مكّة في قديم الدهر وحديثه، تصنيف الإمام أبي عبد اللَّه محمد بن إسحاق الفاكهي، دراسة وتحقيق عبد الملك بن عبد اللَّه بن دهيش الطبعة الأولى، مكتبة ومطبعة النهضة الحديثة، مكّة المكرّمة، 1407 2273صفحة وزيري تصوير.
8- 8 البينة: 5.
9- 9 المؤمنون: 14.
10- 10 الحجر: 29.
11- 11 القلم: 4.
12- 12ص: 82- 83.
13- 13 كنز العمال ح 5268- الدرّ المنثور، 2: 237.
14- 14 الزمر: 11- 12.
15- 15 الروايات نقلناها من «ميزان الحكمة» المجلد الثالث فراجع.
16- 16 الأنفال: 47.
17- 17 كنز العمال: ح 7485.
18- 18 الكهف: 105.
19- 19 نقلنا الروايات من ميزان الحكمة، 4: 22 فراجع.
20- 20 الحشر: 19.
21- 21 الحج: 27.
22- 22 تفسير ابن كثير، 1: 386.
23- 23 المحجة البيضاء، 2: 189 أخرجه الخطيب البغدادي في تاريخه، ورواه ابو عثمان الصابوني في كتاب المائتين بلفظ آخر كما في المغني.
24- 24 كتاب ميزان الحكمة، 2: 276.
25- 25 هود: 108.
26- 26 ميزان الحكمة، 2: 276.
27- 27 نفس المصدر.
28- 28 المحجة البيضاء، 2: 207.
29- 29 الكهف: 103- 104.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.