ميقات الحج المجلد1

اشارة

عنوان و نام پديدآور : ميقات الحج[پيايند: مجله]

مشخصات نشر : تهران: منظمة الحج و الزيارة، 1417 ق. - = 1375 -

فاصله انتشار : شش ماه يكبار

يادداشت : عربي

فهرست نويسي براساس سال3 شماره5 سال1417ق.

يادداشت : اين نشريه در بيروت نيز منتشر مي شود

يادداشت : المدير المسؤول: محمد محمدي ري شهري

رئيس التحرير: علي قاضي عسكر

يادداشت : كتابنامه

ترجمه عنوان : Mighat al - haj

موضوع : حج -- نشريات ادواري

شناسه افزوده : محمدي ري شهري، محمد، 1325 - ، مدير مسئول

Muhammadi Reyshahri, Muhammad

قاضي عسكر، سيدعلي، 1325 - ، سردبير

شناسه افزوده : سازمان حج و زيارت

رده بندي كنگره : BP188/8

رده بندي د... : 297/35705

ص: 1

الحجّ في احاديث الامام الخميني- قدّس سره-

العدد الاول

الحجّ في أحاديث الإمام الخميني- قدّس سره-

(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

الي حجاج بيت الله الحرام كافه ايّدهم الله تعالي.

بعد السلام ووافر التحيات.

اليوم، حيث نشِبت براثن الاستعمار الخبيثه- بسبب تهاون و تساهل الشعوب الإسلاميه- في أعماق الارض المترامية لأُمّة القرآن، لتنهب جميع الثروات الوطنية والخيرات الطائلة، ولتنشر الثقافة الاستعمارية المسمومة في أعماق قري وقصبات العالم الإسلاميّ، ولتقضي علي ثقافة القرآن، وتجنّد الشباب أفوهجاً في خدمة الأجانب والمستعمرين، وتطلع علينا كلَّ يوم بنغمة جديدة وبأسماء خادعة تظلّل بها شبابنا. في مثل هذه الظروف عليكم، يا أبناء الأُمّة الأعزاء المجتمعين لأداء مناسك الحجّ في أرض الوحي هذه، أن تستثمروا الفرصة وتفكّروا في الحلّ، وأن تتبادلوا وجهات النظر وتتفاهموا لحل مسائل المسلمين المستعصية.

واعلموا أنّ هذا الاجتماع الكبير الذي يعقد سنوّياً، بأمر الله تعالي، في هذه الارض المقدسة، يفرض عليكم- أنتم المسلمين- أن تبذلوا الجهود علي طريق االأهداف الإسلاميّة المقدسة، ومقاصد الشريعة المطهرة السامية، وعليطريق تقدم المسلمين وتعاليهم واتحاد المجتمع الإسلاميّ وتلاحمه.

لتشترك أفكاركم وعزائمكم علي طريق الاستقلال واقتلاع جذور سرطان الاستعمار.

اسمعوا مشاكل الشعوب المسلمة من لسان أهل كل بلد، ولا تؤلوا جهداً في اتخاذ أي اجراء لحل مشاكلهم.

علي اهالي كل بَلدٍ أن يشرحوا في هذا الاجتماع المقدس مشاكل شعبهم للمسلمين ...

فكّروا في أمر الفقراء والمساكين في العالم الإسلاميّ.

ابحثوا عن سبيل لتحرير أرض فلسطين الإسلاميّة من براثن الصهيونية العدو اللدود للإسلام والإنسانيّة.

لا تغفلوا عن مساعدة الرجال المضحّين الذين يناضلون علي طريق تحرير فلسطين وعن التعاون معهم.

علي العلماء المشاركين في هذا الاجتماع، من أي بلد كانوا، أن يصدروا- بعد تبادل وجهات النظر- بياناتصريحة واضحة لا يقاظ المسلمين، وأن يوزعوها في مهبط الوحي بين أبناء الأُمَّة الإسلاميّة، ثم ينشروها في بلدانهم بعد عودتهم.

وعلي العلماء أيضاً أن يطالبوا زعماء البلدان الإسلاميّة بوضع الإسلام نصبَ أعينهم، ويتجنّبوا الاختلافات، ويبحثوا عن علاج للتخلص من مخالب الاستعمار.

ولو أن زعماء البلدان الإسلاميّة كفّوا عن الاختلافات الداخلية وتفهموا أهداف الاسلام السامية، واتّجهوا نحوها، لما أصبحوا بهذه الحالة أسري ذليلين بيد الإستعمار.

ان اختلافاتهم، هي التي خلقت مشكلة فلسطين، وتحول دون حلّها. فلو أنّ سبعمائة مليون مسلم، بأرضهم الغنية المترامية الاطراف، يمتلكون وعياً سياسيّاً، وكانوا متّحدين منتظمين فيصفّ واحد، لما أمكن للدول الاستعمارية الكبري أنْ تنفذ الي بلدانهم، فما بالك بحفنة من اليهود من عملاء الاستعمار ...

أنا أشدُّ علي يد أبناء الأُمَّة الإسلاميّة وأحرار العالم علي طريق قطع جذور الاستعمار والمستعمرين، واستقلال البلدان االإسلاميّة وتحطيم قيود الأسر. وأسأل الله تعالي أن يدفع عنا شرّ الأنظمة المتجبّرة وأذناب الاستعمار القذرين، وأسأله أن يتقبل منكم أعمالكم ومناسككم.

الحج في حديث الامام الخامنئي- حفظه الله-

ص: 2

الحج في حديث الإمام الخامنئي- حفظه الله-

(1)

بسم الله الرحمن االرحيم

الحمد لله ربّ العالمين. والصلاة والسلام علي سيدنا ونبيّنا محمّد وآله الطيبين الطاهرين.

قال الله الحكيم:

وإذ قال إبراهيم ربّ اجعل هذا البلدَ آمناً واجنُبني وبنيّ أن نعبد الأصنام. ربّ إنهنّ أضللن كثيراً منن الناس فمن تبعني فإنّه منّي ومن عصاني فإنّك غفور رحيم.

أطل علينا موسم الحجّ، وملأت نغمة التلبيه المتصاعدة من قلوب المشتاقين؛ حرم الأمن الإلهي، وهرعت الشعوب الإسلاميّة من أرجاء المعمورة الي ميعاد الذكر والاستغفار والقيام والاتحاد، وتلاقي الأُخوة المتباعدون ... اتوجّه الي الله العزيز الحكيم شاكراً خاضعاً، وأحمده حمداً عظيماً عظمَصفاته الحسني، وأثني عليه سبحانه ثناءً واسعاً سعةَ بحار رحمته، أن وفّق المسلمين المشتاقين مرّةً أخري لأداء هذه الفريضة، وأعلا- جلّ شأنه- بذلك رايةَ العزّة والعظمة علي رؤوس المسلمين في بيته الآمن، واستضاف الحجاج الإيرانيين أيضاً علي مائدة الرحمة والعظمة. إنّ الإنسان ليعجز عن وصف هذه النعمة الكبري وقدرها وإن أُوتي فصاحة اللسان وقوة البيان. ولعلّ الله سبحانه ينير قلوبكم المضيئة المشتاقة فتتجلّي فيها تلك الحقيقة المستغنية عن وسائط القول والكلام.

أيّها االأخوة والأخوات من أي بلد كنتم والي أي شعب انتميتم إنّ ما يهمّني أن أقوله لكم هو أنّ الحجَّ نعمة إلهيّة مَنَّ بها الله سبحانه علي الأجيال المسلمة. وشكر هذه النعمة ومعرفة قدرها يزيدها، والكفران بها ونكران قدرها يسلبها من المسلمين وهو العذاب الإلهي الشديد: ولئن كفرتم إنّ عذابي لشديد.

واعلموا أنّ سلب نعمة الحجّ ليس في عدم توجّه المسلمين لأداء هذه الفريضة، بل في حرمان المسلمين من منافعه التي ال تحصي، وزيادة هذه النعمة ليس في زيادة عدد الحجاج كلّ عام، بل في استثمار منافعه: ليشهدوا منافع لهم.

جدير بنا أن نفكّر جيداً، هل العالم الإسلاميّ استطاع أن يستثمر منافع الحج؟ وما هي هذه المنافع أساساً؟

الحج الصحيح يستطيع أن يحدث تغييراً في المحتوي الداخلي لكلِّ فرد من أفراد المسلمين. يستطيع أن يغرس في نفوسهم روح التوحيد والارتباط بالله والاعتماد عليه، وروح الفرض لكلّ الأصنام الداخلية والخارجية في وجود الكائن البشري، هذه االأصنام المتمثلة في الأهواء والشهوات الدنيئة والقوي الطاغية المسيطرة. الحجُّ يستطيع أن يرسّخ الإحساس بالقدرة والاعتمادَ علي النفس والفلاحَ والتضحية. ومثل هذا التحوّل يستطيع أن يصنع من كلّ إنسان موجوداً لا يعرف الفشل ولا ينثني أمام التهديد ولا يضعف أمام التطميع.

والحجّ الصحيح يستطيع أن يصنع من الأشلاء الممزقة لجسد. الأُمة الإسلاميّة كياناً واحداً فاعلًا مقتدراً، وأن يجعل هذه الإجزاء المتفرقة تتعارف وتتبادل الحديث عن الآمال والآلام، والتطورات والاحتياجات المتقابلة، والتجارب المستحصلة.

ولو أنّ الحجّ وضع ضمن إطار برنامج يتوخّي هذه الأهداف والنتائج وتتضافر عليه جهود الحكومات والعلماء، وأصحاب الرأي والكلمة في العالم الإسلاميّ، لعاد علي الأُمّة الإسلاميّة بعطاء ثرّ لا يمكن مقارنته بأي عطاء آخر في دنيا الإسلام. كما يمكن القول بكل ثقة: إن هذا التكليف الإلهي وحده، لو استثمر استثماراًصحيحاً كما أرادته الشريعةُ الإسلاميّة، لاستطاع بعد مدة غير طويلة أن يبلغ بالأُمّة الإسلاميّة ما يليق بها من عزّة ومنعة.

لابُدَّ من أن نذعن بمرارة الي أن الفاصلة كبيرة بين الشكل الحالي لأداء هذه الفريضة الإلهية والشكل المطلوب. الامام الراحل العظيم بذل جهوداً فعّالة في هدا السبيل، ووضع نصب أعين الأُمّة الإسلاميّة تصويراً واضحاً عن الحجّ الإبراهيمي، حجّ العظمة والعزة، حجّ الرفض والتحوّل. وكان طرح هذا التصوّر بحد ذاته مبعث بركات وافرة في العالم الإسلاميّ. غير أنّ نشر هذه الفكرة وهذا المنهج العملي بين جميع الشعوب المسلمة بحاجة الي جهود مخلصة ينهض بها علماء الدين، ووعي وتعاون يبديه حكام كلِّ البلدان الإسلاميّة، وآمل أن تكون هذه المهمّة الحساسة موضع اهتمامهم و عملهم.

الحجُّ عبادة و حركة و سياسة

ص: 3

الحجُّ عبادة و حركة و سياسة

تأليف: محمّد حسين فضل الله

لعلّ من أبرز خصائص الإسلام في تشريعاته العبادية والحياتية، هو هذا الشمول في النظرة الي الإنسان، فيما يريد أن يحققه من غايات في تنمية شخصيته، وفي مسيرة حياته انطلاقاً من الكفرة الواقعية التي لا تنظر إلي الإنسان الكائن علي أنه ذوبُعد واحد، ليمكن لنا أن نعالج أوضاعه من جهة واحدة، بل هو كائن ذو أبعاد تلتقي فيها الشخصية الفردية بالشخصية الاجتماعية من دون أن تسمح احداهما في خصائصها الذاتية بالانفصال عن الاخري، كما يمتزج في داخلها الجانب الروحي بالجانب المادي، فليس هناك عنصر مادي تختنق فيه النفس في داخل الأسوار المادية، وليس هناك عنصر روحي تحلّق فيه النفس بعيداً بعيداً عن المادة، في حالة تجريدية رائعة .. بل هي المادة النابضة بالروح أو الروح المنطلقة في حركة المادة.

وفي ضوء ذلك أكّد الإسلام علي ممارسة الإنسان للحياة بشكل طبيعي واعتبر الانحراف عن ذلك خروجاً عن التوازن والاستقامة في انطلاقة الإنسان المسلم في الحياة، فقد جاء في بعض الكلمات المأثورة ( (ليس منا من ترك دنياه لآخرته ومن ترك آخرته لدنياه))، كما جاء في الحديث الشريف، ( (من لم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم))، وقوله (صلّي الله عليه و آله وسلّم):

( (لا يؤمن أحدكم حتي يحب لأخيه ما يحب لنفسه ويكره له ما يكره لها))

.. مما يعني أن العزلة عن الحياة لا تمثل قيمة كبيرة من قيم الإسلام في الحياة، كما أن الفردية المغرقة في ذاتيتها المختنقة داخل قضاياها الخاصة، تمثل ضدّ القيمة في السلوك الإنساني في نظر الإسلام.

وربما كان من خصائص هذه النظرة الشمولية للإنسان، أنّ الإسلام يريد لأيَّة قضية من قضايا الإنسان، ولأيّة ممارسة من ممارسة، أن تتحرك في خط القضايا والممارسات الأخري، بحيث تكمّل نقصاً فيه، أو تسدّ فراغاً في وجوده .. فإذا تحرّك الإسلام في خط التربية الفردية لحياة الإنسان، فإنه يريد- من خلال ذلك- أن يختار له من الصفات الكريمة ما يرفع مستوي إنسانيته، ويحقق له الشخصية الخيّرة في الحلق الاجتماعي، فلا قيمة للعلم مهما بلغت درجةصاحبه فيه، إذا لم يرتفع بالإنسان إلي مستوي العطاء الذي يفتح فيه الإنسان من نفسه مدرسة للآخرين ويحقّق للحياة من فكره خبرةً واسعة تمنحها فرصة النّمو والتقدم والازدهار، ولا قيمة للقوّة إذا لم تستطع أن تتحول إلي عنصر من عناصر القوّة التي تنقذ الآخرين من عوامل الضعف الإنساني .. وهكذا يجد الإسلام في الكمال الفردي الإنساني مفتاحاً للدخول إلي الكمال الإنساني الاجتماعي .. ويوحي بالفكرة التي تعطي للخصائص الأخلاقية قيمتها الكبيرة، إذا استطاعت أن تحقق للإنسان ذاته في حركته في قلب المجتمع، وترفض منح القيمة للّذين يمارسون عمليّة النمو في العزلة البعيدة عن الحياة.

وقد أراد الإسلام أن يثير هذه النظرة الشمولية في تشريعه للعبادات .. فقد جاء الإسلام إلي الحياة، والتقي بالنظرة الروحية التي تعتبر العبادة شأناً من شؤون السماء ولا علاقة لها باأرض فليس من المفروض للعبادة في قيمتها الروحية أن تحقق هدفاً كبيراً تتحرك- علي أساسه- في شؤونها الاجتماعية واسياسية والاقتصادية، بل كلّ دورها ومهمتها، أنّها ترتفع بالروح الإنسانية إلي الله في غيبوبة روحية خالصة، يعيش فيه الإنسان روحانية الخشوع والخضوع والعبودية لخالقه، فيحس معها بالسعادة والنشوة والامتداد في أجواء المطلق والقرب من الله .. وبذلك كانت الرهبانية مظهر السمّو في الروح والإخلاص في العبادة لأنها تعزل الإنسان عن كل زخارف الحياة وشهواتها ومشاكلها وقضاياها الصغيرة، وتربطه بالله ...

وبدأ الإسلام تغيير هذه النظرة إلي العبادة من خلال تغييره للنظرة إلي دور الإنسان في الحياة .. فإذا كان الإنسان خليفة الله في الأرض، واذا كانت الأرض هي الساحة التي يريد الله لعباده أن يحققوا فيها إنسانيتهم في خطّ السمّو الذي ترسمه لهم رسالاته ويخططوا في جوانبها برامجهم في شؤون النّمو والتقدّم والازدهار علي أساس سنن الله في الأرض .. فإن معني ذلك أن الدور الإنساني في رعاية حركة الحياة وإدارة شؤونها وتخطيط مراحلها وبرمجة أهدافها ليس بعيداً عن ارادة الله ومحبته ورضاه بل ربّما كان في القرب من الله، والتأكيد علي عمق عبوديته له- فيما تمثله العبادة- باعثاً علي تحقيق هذه المعاني في نفس الإنسان وحياته بطريقةٍ أفضل، وبإخلاص أكمل ..

وقد أعطي الإسلام العبادة- في هذا الاتجاه- معناها الجديد، وطابعها المميّز ودورها العملي، فلم تعد مجرد حالة وجدانية روحية ذاتيتة يعيش فيها الإنسان معه ربّه، بل تحولت إلي قاعدة من قواعد التربية التي تتنوع فيها الممارسة لتحقق للإنسان أهدافاً عملية، في حركة شخصيته، وفي مجري حياته العامّة والخاصة .. فأصبح الإنسان يعيش فيها مع ربّه، ليلتقي- من خلاله- بحياته، فيملأها بكل المعاني والأهداف والقيم الكبيرة التي يحبها الله ويرضاها، ويحب الناس الذين يعيشونها في عمق الروح، وفي امتداد الحياة كما يوحي بذلك الحدديث المأثور والشريف ( (الخلق عيال الله، وأحبهم إلي الله أنفعهم لعياله)).

فإذا التقينا بالصلاة في الإسلام فإننا نجدها- في القرآن الكريم- وسيلةً من وسائل تنمية الشخصية في خط الخير والصلاح والسمو الإنساني فيما يمثله خط الابتعاد عن الفحشاء والمنكر فيما ورد من قوله تعالي: وأقم الصلاة إن الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر ... وفيما يوحي به الحديث الشريف ( (من لم تنههصلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بُعداً.. وفيما عبر عنه قوله تعالي: فويلٌ للمصلين الذين هم عنصلاتهم ساهون الذين هم يراؤون ويمنعون الماعون مما يوحي بأن الصلاة تدخل ففي قيمتها الدينية في عمق الحياة الفردية والاجتماعية، بقدر ما يتعلق الأمر بالقيم الإيجابية والسلبية التي تحققها الصلاة في حركة الحياة للإنسان.. سواء في ذلك ما يمارسه الإنسان في حقله الفردي أو الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي، انطلاقاً من شمول كلمة الفحشاء والمنكر لكل الأوضاع السلبية، التي يريد الإسلام للإنسان الابتعاد عنها في جميع هذه الأمور، فلا قيمة لصلاة الطغاة والمتكبرين والظالمين والمتعاونين معهم، والخائنين لأمتهم ولدينهم، كما لا قيمة لصلاة السارقين والكذابين والزناة والمغتابين والنمّامين والآكلين للحرام من مال أو طعام.. لأن الصلاة لم تحقق للإنسان شيئاً عملياً في خط الاستقامة أو البعد عن الانحراف.. الأمر الذي يجعل الناس لا يُخدعون بصلاة المنحرفين عن الإسلام في قيمته وشريعته، فيبتعدون بذلك عن السذاجة والبساطة في تقديرهم للأمور، في مواجهتهم للواقع، فإذا رأوا إنساناً مسؤولًا يؤديصلاته في خشوع، فعليهم أن ينتظروه ليخرج من المسجد وينفصل عن أجواء الصلاة، وينتقل إلي مجالات الحكم والسياسة والإدارة ليعرفوا- من خلال ذلك- كيف تمتّد الصلاة داخلَ حياته في هذه المجالات، أو كيف تبتعد عنها تماماً، ليحدّدوا موقفهم علي أساس ذلك كما ورد في الحديث المأثور عن أئمة اهل البيت، الذي يرفض أن يكون طول الركوع والسجود مقياساً لمعرفة الرجل؛ لأن ذلك ربما يكون جارياً مجري العادة التي يستوحش الإنسان إذا تركها، واعتبر المقياس- بدلًا من ذلك-صدق الحديث وأداء الأمانة؛ لأنهما يدخلان في عمق الشخصية الإسلاميّة.. فإذا التقينا بالصوم نجد أن الله جعله فريضة يحقق للإنسان من خلالها شخصيته التقيّة التي تقف عند أبواب الحرام المفتوحة أمامها فلا تدخلها، كما يؤكد فيها الإنسان حسّه الإنساني ومشاعره الروحية، والاجتماعية.. عندما يجد طعم الجوع والظمإ في إحساسه بالصوم؛ فيتذكر جوع الجائعين وظمأ الظامئين فيفهم معني مشكله الجوع والظمأ من موقع المعاناة الذاتية، لا سيما إذا كان غنيّاً لا يعيش الحاجة إلي الأشياء من خلال حياته العادية؛ لأنه إذا أراد شيئاً حصل عليه، وهكذا كان دور الصوم إنسانيّاً اجتماعيّاً إلي جانب الدور الروحي الذي يحقق فيه الإنسان علاقته الروحية بالله.. ومن الممكن للإنسان أن يتعلم من الصوم: الرفض العلمي لكل الأوضاع المنحرفة في الواقع السياسي والاجتماعي انطلاقاً من إرادته الإسلامية القويّة التي ترفض الحرام في العمل الفردي؛ لترفضه في نهاية المطاف في الواقع الاجتماعي والسياسي العام.

ص: 4

قيمة الحجّ بين العبادات:

والحج من هذه العبادات الإسلامية التي أرادها الله للناس، لتتحقق لهم من خلالها النظرة الشاملة لقضية الإنسان في الحياة.. فقد جعله الله فريضة علي كل من استطاع إليه سبيلًا، واعتبر تركها خروجاً علي عمق الالتزام الإسلامي، حتي جعل التارك لها في حكم الخارج عن الإسلام.. وقد تعبّد الله به عباده منذ النبي إبراهيم (عليه السلام) وجاء الإسلام فأضاف إليه شروطاً وأحكاماً وحدّد له أهدافاً، ورسم له خطوطاً من أجل أن يحقق للإسلام الدور الكبير في الحياة، في فاعلية وامتداد، فلم يقتصر فيه علي جانب واحد من جوانب التربية، بل استوعب المعاني التي تنطلق من العبادات الأخري، فشرّع الإحرام في كل التزاماته وتروكه؛ ليحقق للإنسان أهداف الصوم، ولكن في أسلوب متحرّك متنوع لا يخاطب في الإنسان جوع الجسد وظمأه، ولكنه يخاطب فيه جوانب أخري، تهذب فيه نزعة القوّة فتوحي له بالسلام، ونزعة التعلق باللّذة فتوحي له بالانضباط والتوازن، ونزعة الترف فتقوده إلي الخشونة، ونزعة الكبرياء فتوجهه إلي التواضع، وتعلّمه كيف يحرّك الفكر والثقافة والمعرفة، في اتجاه الحق بدلًا من الباطل لتبقي المعرفة سبيله الوحيد في حركة الكلمة و الفكرة، وشرّع الطواف و جعلهصلاة؛ ليعيش معه الإنسان آفاق الصلاة وروحيتها فيما يمثله من طواف حول البيت، الذي أراده الله رمزاً للوحدة بين الناس، في معناه الروحي المتصل بالله، لا في مدلوله المادي المتمثل بالحجارة، وللإيحاء بأن الحياة لا بد من أن تتحول إلي طوافٍ حول إرادة الله، فيما يتمثل في بيته من مشاعر الطهارة والنقاء والخير والبركة والرحمة والمحبّة. لتكون الحياة حركة في طريق الأهداف الي يحبّها الله ويرضاها، ويريد لعباده أن ينطلقوا معها في رساليّة ومسؤوليّة..

وفرض السعي بين الصفا والمروة؛ ليعيش الإنسان معه االشعور الواعي بأن خطواته لا بد من أن تتجه إلي الجالات الخيّرة؛ ليكون سعيه سعياً في سبيل الخير، وابتعاداً عن طريق الشرّ، فهو يسعي هنا لا لشي ء إلا لأنّ الله أراد منه ذلك ليحصل علي القرب منه.. مما يوحي بأن السعي هنا إذا كان للحصول علي مرضاة الله فيما تعبّدنا به من أمره ونهيه، فينبغي لنا ان نطلق السعي في مجالات الحياة الأخري، في كل آفاقها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، في الاتجاه نفسه لنحصل علي رضاه في كل أمورنا..

أمّا الوقفات التي أرادها الله في عرفات والمشعر ومني، فإنها وقفات تأمل وحساب وتدّبر وانطلاق؛ ليستعيد فيها الإنسان مبادئه التي قد تضيع في غمرات الصراع، التي يخوضها في سبيل لقمة العيش، أو في سبيل تحقيق رغباته ومطامعه المشروعة وغير المشروعة، فإنّ الإنسان قد يفقد الكثير من قيمةِ الكبيرة، تحت تأثير النوازع الذاتية من جهة، والتحديات المضادّة التي قد تخلق لديه ردود فعل متوترة،- من جهة أخري- فينسي في غمرة ذلك كله الكثير الكثير مما يؤمن به أو يدعو إليه.. الأمر الذي يجعله بحاجة إلي مزيد من التأمل والمحاسبة، التي يرجع فيها إلي فكره وعقيدته وخطه المستقيم في الحياة.

وجعل الأضحيّة رمزاً حيّاً للتضحية والعطاء فيما يرممز إليه من تاريخ إبراهيم و إسماعيل، عندما أسلما لله الأمر وانتصرا علي نوازع الأبوّة في عاطفتها تجاه النبوة، وعلي حب الذات في إحساس الإنسان بحياته.. وانتهي الأمر إلي أن فداه الله بذبح عظيم، وفيما يريد أن تثير في حياة الإنسان في كل زمان من السير علي هدي هذه الروح؛ ليكون ذلك خطاً عملياً، تسير عليه الحياة في كل مرحلة تحتاجها للتضحية والعطاء.. وكان رجم الشيطان، إيحاءً بما يريد الله للإنسان أن يعيش في حياته كهمّ يومي يواجه فيه خطوات الشيطان في فكره وعاطفته وقوله وفعله، وانتماءاته وعلاقاته العامة والخاصة. وربما كان في هذا التكرير في الفريضة لرجم الشيطان الرمز إشارة بأن قضية محاربة الإنسان للشيطان ليست قضية حالة واحدة يعيشها الإنسان ويتركها، بل هي قضية متجددة في كل يوم.. وهكذا يمكن أن يساهم الحج في إيحاءاته ورموزه وأجوائه الروحيّة، في تنمية الشخصية الإنسانية من الجانب التأملي والعملي والروحي، فيما إذا عاش الإنسان هذه الفريضة من موقع الوعي المسؤول؛ لذلك لا يبقي مجرّد عبادة يهرب فيها الإنسان من الواقع ليغيب في مشاعره الذاتية في جوّ مشبعٍ بالضباب، كما يحاول البعض أن يصوّر العبادة.. وفي هذه الأجواء الروحية الواعية المتحركة في خط المسؤولية يمكن أن يعود الإنسان الفرد من رحلة الحج إنساناً جديداً في أهدافه ومنطلقاته وخطواته، من خلال ما عاشه من دروس وعبر ومواقف تأمّلات، حيث الطهر والخير والمحبّة والحنان، ولعلّ هذا هو ما يريد الإسلام أن يوحيه للحاجّ فيما ورد في الأحاديث التي توحي بأن الإنسان يخرج من الحج كيوم ولدته أمّه، وأنه يقال له استأنف العمل من جديد.. وذلك في نطاق المضمون الداخلي للحج، لا من خلال الشك الخارجي الذي يؤديه الكثيرون بدون روحٍ وبدون معني ممن يعيشون الحج عادةً وتتقليداً وسياحةً وتجارةً فينطبق عليه ما ورد عن أحد أئمة أهل البيت (عليه السلام) عندما نظر إلي الجموع المحتشدة في الموقف، أو في بيت الله فقال: ( (ما أكثر الضجيج وأقل الحجيج))! إذا لا قيمة للعدد إذا لم يكن متحركاً في عمق القيم الروحية في الحياة، فرب رقمصغير يحقق للإنسانية معني كبيراً هو أفضل من رقم كبير لا يحقق شيئاً للحياة إلا زيادةً في الساحة والحجم عليصعيد الأرض، من هؤلاء الذين يكونون عبئاً علي الحياة بدلًا من أن يكونوا قوّة لها.

ص: 5

.. في الأبعاد الروحية:

واذا كان الحج من حيث هو عبادة ذات مضمون عملي وروحي، يحقق للإنسان هذا الارتفاع الروحي، فإنه يساعد علي تغيير الواقع من خلال تغييره للإنسان إنطلاقاً من الوحي القرآني في الإسلام الذي يعتبر الإنسان أساس التغيير كما جاءت به الآية الكريمة: إن الله لا يُغيّر ما بقوم حتّي يغيّروا ما بأنفسهم.. وبذلك تدخل العبادة في عمق حركة الحياة، ولاتبقي حالةً طارئةً طافيةً علي السطح.. وهكذا يستطيع العاملون للإسلام- في أساليبهم التربوية العملية- أن يشجّعوا الناس علي ممارسة هذه الفريضة؛ لتحقيق هذا المستوي من التغيير الداخلي في حياة الإنسان، كوسيلةٍ متقدمة روحية من وسائل التغيير الخارجي لحركة الحياة.. فإن ما يختزنه الفرد من الطاقات الروحية الجديدة في أجواءالحج، هو أعظم من كثير من الأساليب الخاطبية التي اعتاد الناس ممارستها في عملية التربية..

وقد رأينا الكثيرين الذين كانوا لا يعيشون المشاعر الروحية في منطلقاتهم، في الوقت الذي كانوا يمارسون فيه الالتزام الإسلامي في بعض مبادئ الإسلام وأحكامه.. قد تغيروا كثيراً بعد قيامهم بهذه الفريضة بطريقة واعية بحيث استطاعت أن تغير مجري تفكيرهم وشعورهم فيما يعيشون فيه من فكر وشعور.. وتحوّلوا إلي عناصر فاعلة واعية في حركة الإسلام في الدعوة والعمل.

ولكن هل هذا كله هو ما تعنيه لنا هذه الفريضة؟ وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا هذا التأكيد علي وحدة المكان الذي تمارس فيه، وعلي هذا الحشد العظيم من الناس الذي تتنوع أجناسه وألوانه وقومياته ولغاته.. بطبيعة شمول الإسلام كدين لكل هذه الأنواع من الناس..؟ لماذا لم يكن كالصوم وكالصلاة اللذين يمارسهما الإنسان في نطاق فردي أو جماعي حسب اختياره..؟ هل هناك سرّ يتعدّي الجانب التربوي الفردي إلي الجانب الإجتماعي والسياسي؟ هذا ما نحاول أن نستوحيه فيما نريد أن نثير من حديث.

المنافع العامة:

إنّ أوّل ما نلتقيبه من نصوص الحج هو النداء الأوّل الذي وجّهه الله للنبي إبراهيم (عليه السلام) في دعوة الناس إلي الحج.. وذلك في قوله تعالي: وأذّن في الناس بالحجّ يأتوك رجالًا وعلي كل ضامرٍ يأتين من كلّ فجٍ عميقٍ لِيشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيّامٍ معلوماتٍ علي ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير.

فإننا نجد في هذا النداء دعوةً إلي أن يشهدوا منافع لهم من دون تحديدٍ لطبيعتها وحجمها، للإيحاء بالانطلاق في هذا الاتجاه للبحث عن كل المجالات النافعة التي يمكن لهم أن يحققوها من خلال الحج في حياتهم الفردية والاجتماعية إلي جانب الروح العبادية المتمثلة بذكر الله في ايّام معدوداتٍ، شكراً لنعمه وتعظيماً لآلأئه وتطبيقاً لتعليماته في توجيه هذه النعمة إلي ما أراده من الإنفاق علي الفئات المحرومة البائسة.

وقد يثير القرآن أمام بعض المواضيع حالةً من حالات الإبهام والغموض من أجل أن يدفع الإنسان إلي البحث، في كل اتجاهٍ يتعلق بالموضوع ليحقق الشمول والامتداد في آفاقه فلا يتجمّد أمام فرضيّةٍ واحدةٍ، أو وجهٍ معين، أو اتجاهٍ خاص.. وبهذا يكون التشريع حركةً متجدّدة في خطّ الإبداع والنمو والتقدم..

2- ورد في حديث عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) فيما حدّث به هشام بن الحكم قال: سألت أبا عبدالله ( (جعفر الصادق)) فقلت له: ما العلّة التي من أجلها كلّف الله العباد الحج والطواف بالبيت؟ فقال: إنّ الله خلق الخلق.. (إلي أن قال) وأمرهم بما يكون من أمر الطاعة في الدين، ومصلحتهم من أمر دنياهم، فجعل فيه الاجتماع من االشرق والغرب ليتعارفوا، ولينزع كل قوم من التجارات من بلد إلي بلد، ولينتفع بذلك المكاري والجمال ولتعرف آثار رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) وتعرّف أخباره، ويذكر ولا ينسي. ولو كان كل قوم إنما يتكلون علي بلادهم وما فيها هلكوا وخربت البلاد، وسقطت الجلب والأرباح وعميت الأخبار ولم تقفوا علي ذلك، فذلك علّة الحج..

3- عن الفضل بن شاذان عن الإمام علي الرضا (عليه السلام) قال: إنما أُمروا بالحج لعلّة الوفادة إلي الله- عزوجل- وطلب الزيادة والخروج من كل ما اقترف العبد تائباً ممّا مضي، مستأنفاً لما يستقبل مع ما فيه من إخراج الأموال وتعب الأبدان والاشتغال عن الأهل والولد، وحظر النفس [الانفس] عن اللذات شاخصاً في الحرّ والبرد ثابتاً علي ذلك دائماً، مع الخضوع والاستكانة والتذلّل مع ما في ذلك لجميع الخلق من المنافع، لجميع من في شرق الأرض وغربها، ومن في البرّ والبحر، ممّن يحج وممّن لم يحج، من بين تاجر وجالب وبائع ومشترٍ وكاسب ومسكين ومكار وفقير، وقضاء حوائج أهل الأطراف من المواضع الممكن لهم الاجتماع فيه، مع ما فيه من التفقُّه ونقل أخبار الأئمة إلي كلصقعٍ وناحية كما قال الله عزّوجل: فلو لا نفر من كلّ فرقةٍ منهم طائفةٌ ليتفقّهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلّهم يحذرون. وليشهدوا منافع لهم.....

ص: 6

الحجّ ملتَقي المسلمين:

إننا نستوحي من هذين الحديثين، أن الإسلام أراد للحج أن يكون ملتقيً للمسلمين جميعاً في شرق الأرض وغربها، من أجل تحقيق التعارف والتواصل بينهم، وتحصيل المنافع الاقتصادية والاجتماعية لمن حجّ ولمن لم يحج، وتبادل التجارب والخبرات المتنوّعة، التي يملكها كل فريق من خلال أوضاعه العامة والخاصة.. وتسهيل حركة الدعوة إلي الله بالانطلاق من موسم الحج للاتصال بكل المناطق الإسلاميّة التي تتمثّلُ بأفرادها، الذين يقصدون بيت الله االحرام؛ لأداء الفريضة فيمما يتعلمونه من ثقافة الإسلام وشريعته، وفيما يتعاونون فيه من مشاريع وأعمالٍ وخططٍ علي أساس المصلحة الإسلاميّة العليا.. لينطلق العمل الإسلامي من قاعدة مركزيّةٍ واسعة.. في أجواء الإسلام التاريخية التي شهدت مولد الدعوة وعاشت حركيتها، وحقّقتْ أهدافها الكبيرة في جهادها االمرير الصعب، فيكون التحرك في الخط من موقع الفكرة والجوّ والخبرة المتبادلة والمعاناة الحاضرة.

وهكذا يعيش الناس فيما يقصدونه من مزارات أجواء الإسلام الأولي، التي يعيشون معها الإحساس بالانتماء الروحي والعملي لهذا التاريخ، مما يوحي لهم بأن الإسلام الذي ينتمون إليه يمتدّ إلي تلك الجذور العميقة الطارئة في أعماق الزمن، وبأن عليهم أن يعطوا هذا التاريخ امتداداً من خلال جهادهم ومعاناتهم. كما استطاع المسلمون أن يحققوا لهم هذا الامتداد الذي يتصل بمسيرتنا الحاضرة.. وبذلك لن تكون الزيارات تقليداً يفقد معناه، وعبادة تتجمد أمام المزار؛ لتنفصل عن معني التوحيد العميق؛ الذي يخلص العبادة لله دون غيره، ولا يتحرك نحو جهةٍ أوشخصٍ أو عمل إلا من خلال تعاليم الله التي انزلها علي رسوله.. الأمر الذي يعطي كل تحرّك معناه الروحي، فيما تعطيه حركة التاريخ من مضمون إنسانيّ إسلاميّ، يغني التجربة، ويعمّق الإيمان.

سقوط الفوارق:

وعلي ضوء ذلك، نفهم أنّ: اللقاءات التي يخطّط لها الإسلام من خلال هذه الفريضة العباديّة، لا بدّ من أن تعيش الهدف الكبير في تحقيق لقاء إسلاميّ شامل؛ ليستهدف إلغاء كل الفوارق الطبقية واللونية والعرقية والإقليمية.. من خلال التفاعل الإنساني الروحي الذي تحققه هذه اللقاءات التي تتمّ في أجواء روحية خالصة، يستشعر فيها الجميع بالقيمة الإسلاميّة علي هدي الممارسة في وحدة الموقف واللباس والشعار والتحرّك.. فيلغي المشاعر الطارئة المضادّة، التي يمكن أن يتعامل من خلالها الاستعمار الكافر، لتفتيت طاقاتهم وتدمير وحدتهم.. حتي اذا نجح في بعض خطواته، فيما يستغلّه من بعض الأوضاع السلبية.. كان الحج له بالمرصاد ليبعثر تلك الخطوات الشريرة، ويفوّت عليه عمليّة الاستغلال هذه، بما يثيره من مشاعر طاهرة وأفكارٍ واعية، وخطواتٍ إيمانية متحركة يقظة..

بين الخطّة والواقع:

ذلك هو بعض ما نستوحيه من تشريع الحج في مدلوله الإجتماعي والسياسي، إلي جانب مدلوله الروحي العبادي التربوي، وذلك هو ما مارسه الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) عندما كانوا يعتبرون الحج قاعدة للحوار مع كل الفئات المنحرفة، كما كانوا يحاولون أن يحقّقوا اللقاء بكل العناصر الطيبة التي يريدون لها أن تسير في الخطّ الإسلامي المستقيم، في خطة توجيهية عملية شاملة...

فماذا عن الواقع الذي يعيشه الحج في هذهِ المرحلة من تاريخ الإسلام؟

إننا نلاحظ حشداً كبيراً من البشر، الذين يفدون إلي بيت الله الحرام من مشارق الأرض ومغاربها، من مختلف القوميات والألوان، ونستمع إلي كثير من الأصوات التي تعجّ بمختلف اللّغات، وإلي الإبتهالات التي ترفع إلي الله من شفاه المؤمنين ومن قلوبهم مستغفرة شاكية باكية، ونشاهد كيف تتقايض الدموع الخاشعة من العيون الحائرة

ص: 7

القلقة التي تتطلع إلي غفران ذنوبها، وتكفير اثامها والفوز بالجنة والنجاة من النّار.. ونتابع الحجيج في خطواتهم وأعمالهم، فنلاحظ الإلحاح علي تجميد شعائر الحج في نفوسهم، في محاولةٍ للحفاظ علي الشكل بعيداً عن المضمون.. فإذا دخلت إلي مجتمعاتهم فإنك ستري العلاقات العادية، التي اعتادوها في بلادهم التي جاءُوا منها، بكل ما تشتمل عليه من سلبيّات، وما تفرزه من نتائج سيّئةٍ تعبث بأجواء الحج أيما عبث، وتسي ء إليه إساءة.. وهكذا لا تجد هناك مجتمعاً يترابط أفراده بالهدف الواحد، بل نجد أفراداً يعيشون شكل المجتمع من دون معني أو روح..

هذا في المدلول الذاتي للحج إنصح التعبير..

فإذا تطلّعت من جديد إلي الجوّ الداخلي للمسلمين، فماذا تجد؟ إنك ستجد الاختلافات المذهبية بين المسلمين تتحجّر وتتجمّد فيصيغ جامدة لا يملك أصحابها تحريكها أو توجيهها، أو إفساح المجال لها لنتنفس الهواء النقي الذي يجدّد لها أفكارها، ويبعث فيها المرونة والحيوية، التي تدفعها إلي الحركة والحوار حتي كأن الفكر الإسلامي لدي كل فئةٍ وقف في بعض لحظات التاريخ عند أشخاص معينين، وكفّ عن الحركة في المراحل الزمنية الأخري.. ولعل من المفارقات أن الكثيرين ممن يقلّدون المجتهدين لا يدّعون لهم العصمة في رأي واجتهاد، ولكنهم لا يحاولون أن يناقشوهم في فتاواهم أو آرائهم، بل يثيرون الغبار في وجه كل من يحاول ذلك.. وقد لا يقتصر الأمر علي ذلك بل يتعداه إلي المحاولات المتشنجة التي يقوم بها كل طرف إسلامي ضد الأطراف الأخري في أساليب متنوعة فيما تملكه من عناصر الإثارة التي لا تقوم علي أساس من الفكر الهادئ المتّزن والأسلوب الإيماني المنفتح، الذي أرشدنا الإسلام إليه ودعانا إلي ممارسته فيما نختلف فيه من فكر، وفما نتنازع فيه من أمر.. وبذلك يتحول هذا المجتمع الإسلامي إلي مجتمع تتزايد فيه المشاحنات والأحقاد بدلًا من أن يكون مجتمعاً تذوب فيه كل هذه العوامل السلبيّة..

أمّا الجانب السياسي فقد لا تجد فيه أية حركة إيحابية جادة تتناول قضايا المسلمين بالدرس والمناقشة والمعالجة، سواء فيما يتعلق بالأوضاع السياسية التي يعيش فيها المسلمون مشاكل الحرية والعزة والكرامة، بسبب وقوعهم تحت قبضة الاضطهاد الاستعماري والفكري والعنصري، أو فيما يتعلق بالأوضاع الاقتصادية التي تتصل بثرواتهم المعدنية والزراعية، فيما يواجهه المسلمون من محاولات ظالمة في الضغط المتواصل، من قبل الدول المستعمرة الكافرة، لتعطيل خطط التصنيع والإنتاج في سياسة الاكتفاء الذاتي التي يطلع إليها العالم الإسلاميّ، وذلك لإبقاء هذه الشعوب سوقاً إستهلاكية لمنتجاتها، الأمر الذي يجعلها تحت رحمة الحروب الصغيرة التي تثيرها الدول الكبري المستكبرة فيما بينها من أجل أن تشغلها عن خطط التنمية والتطوير، وذلك بفضل عملائها الذين تضمن إخلاصهم لها من خلال ضمانها لمراكزهم التي يتربعون عليها..

إنك لا تشعر بارتفاع الأصوات الهادرة، التي تحاول أن تثير المشاعر الإسلاميّة ضد هذا الواقع السي ء كوسيلةٍ من وسائل الإثارة نحو التغيير.. وذلك لأن الأجواء المحيطة بالواقع السياسي هناك تمنع من أيّ حركةٍ في هذا الاتجاه. لما يحقّقه ذلك من تفجير للطاقات الشعبية في الخط السليم المضاد لذلك الواقع..

وقد حاولت الثورة الاسلاميّة في إيران في السنة الأولي لانطلاقتها، أن تحرّك الجوّ الإسلاميّ هناك، من خلال طرحها للشعارت الإسلاميّة التي تعالج قضايا المسلمين في العمق والامتداد. وأن تدعوا المسلمين إلي تحويل الحج إلي مؤتمر إسلاميّ عام، تبحث فيه المشاكل الصعبة التي يعانيها العالم الإسلامي وذلك في محاولةٍ إلي أن يقوموا بالحركة الإسلاميّة العالمية في الخط الإسلامي السليم الذي يعالج كل أوضاع العالم الإسلامي بصدقٍ إخلاص.. ولكن هذه المحاولة قوبلت بالضغط والتضييق والقهر والتشويه، وذلك نتيجة الخوف من تغيير الأوضاع.

ص: 8

إننا نواجه الآن الواقع الإسلامي المرتكب المضطرب الضائع بين الاتجاهات غير الإسلاميّة، سواء منها الاتجاهات الماركسية، أو القومية، أو الاشتراكية، أو الإقليمية وبين الاتجاهات الإسلامية المختلفة في تطلعاتها وخططها وأهدافها.. كما نواجه الواقع السياسي الذي يعيش فيه المسلمون بين واقع خاضع للسيطرة الاستعمارية الكافرة بشكل مباشر، كما في فلسطين وإريتريا والفيليبين وغيرها من البلاد الخاضعة للاستعمار القديم والجديد، وبين واقع خاضع للحكم الإستعماري المقنع بقناع وطني أو إسلامي فيما يمارسه من ظلمٍ واضطهاد وطغيان وتفتيت للثروات والطاقات الإسلامية وتضييعها في الفراغ، وإفساد للفكر والعمل والواقع في كل مجالات الحياة.. ويمتد هذا الواقع السي ء فيمتثل في الأوضاع الاقتصادية القلقة التي تضغط علي المسلمين في طريقة الإنتاج والاستهلاك وتوزيع الثروة وإهدار الطاقة وتخطيط الاقتصاد علي أساس المصالح الاستعمارية..

أما الأوضاع الاجتماعية والأخلاقية فإنها تنحدر بشكل عجيب فيما يتنافي مع التخطيط الإسلاميّ للمجتمع وللأخلاق..

... إننا نواجه هذا الواقع الذي يتحدّي وجودنا الإسلامي في الصميم، ونشعر- معه- بغياب الإرادة الإسلاميّة الواحدة في مواجهته وتغييره.. بل ربما نجد أمامنا الإرادة المضادة التي تعمل علي استمراره وزيادة انحرافه بفضل عملاء الكفر والاستعمار من حكام بلاد المسلمين وقادتهم.. وذلك من خلال أساليب الضغط علي الحركات الإسلاميّة الرائدة القائدة، بإعدام قادتها وإغتيالهم، وتفتيت قواعدها، وتخليدهم في السجون التي يلاقون فيها أبشع ألوان العذاب الوحشي مما لا يخطر علي قلب بشر.. والتضييق علي الفكر الإسلامي الواعي بمنع الكتب والمجلات الإسلامية الهادفة الملتزمة، وإفساح المجال للفكر المنحرف والخليع من أجل تمييع الإنسان المسلم.. ومنع اللقاءات الإسلاميّة، والاجتماعات الثقافية والسياسية الهادفة.. في كل بلدٍ يحكمه هؤلاء.. ومحاولة إثارة الخلافات المذهبية وتحويلها إلي عنصر تفجير للواقع الإسلامي في أوضاع طائفية سياسية حاقدة..

إن هذا الواقع يفرض علينا العمل علي تحويل موسم الحج.. إلي موسم إسلاميّ كما أراده الله؛ ليكون مجمعاً للمسلمين يلتقي فيه المفكرون في حوار فكري إسلاميّ سليم؛ ليصلوا إلي القناعات المشتركة، أو المتقاربة، أو ليفهموا وجهة نظر كل منهم؛ ليعرفوا ارتكاز الجميع علي أسس فكرية إسلاميّة، فيما يتوصل إليه المجتهدون والمفكرون... ويعلموا علي أساس الوصول في نهاية المطاف، بالصبر والفكر، إلي الوحدة في الفكر والأسلوب والعمل.

وفي هذا الاتجاه، يعمل المخلصون علي لقاء الحركات الإسلاميّة من سائر أنحاء العالم الإسلامي، من أجل ان يتبادلوا الأفكار والخبرات ويتعارفوا فيما يحملون من تطلعات وأهداف، وفيما يرتكزون عليه من منطلقات ليكتشفوا من خلال ذلك في أنفسهم ما يختلفون فيه، ليبحثوا كيف يحولونه إلي قناعات مشتركة، وما يتفقون عليه ليستزيدوا منه في الجوانب الأخري ويحولوه إلي خطوات عملية للتعاون من أجل تكامل العمل الإسلامي من جهة، وتوحيد الطاقات الفاعلة في سبيل حل مشاكل الإسلام والمسلمين من جهة أخري.. وليبحثوا مشاكل التحرر من الاستعمار والخروج من سيطرة الضغوط السياسية والاقتصادية، ليتحرك الجهاد الإسلامي في حياة المسلمين من موقع الفكر الإسلاميّ الذي يستهدف عزة المسلمين وكرامتهم في دولة إسلامية هادفة مظفّرة، علي أساس الوسائل الإسلاميّة المشروعة والخطط الواقعية المدروسة.

ص: 9

وإننا نؤكد علي مثل هذه اللقاءات، لأن الاعتماد علي المراسلة والقراءة الفكرية لا تستطيع- غالباً- أن تمنح الموقف الإسلامي وضوحاً في الصورة، بحيث تزيل الشبهات العالقة في أذهان القائمين علي الحركات ضد بعضهم البعض، التي خمدت كثيراً من فرص اللقاء علي الأسسس الإسلاميّة المشتركة.

وقد تحتاج إلي توجيه العمل إلي لقاء المسلمين ببعضهم البعض في أجواء إسلاميّة حميمة، يتحادثون فيها فيما بينهم، في كل ما يهمهم من قضايا؛ وذلك بالزيارات الفردية والجماعيّة لجمعيات الحجاج وأماكن تجمعهم، ليتحسسوا الشعور بالوحدة من خلال اكتشاف الهموم المشتركة ولقضايا الواحدة، والأهداف الكبيرة التي يلتقون فيها علي اسم الله.. ليحقّق ذلك رفضا لكل الخطط والمشاعر، التي يعمل الكافرون من خلالها علي عزل المسلمين عن بعضهم، من خلال االشعور القومي أو الإقليمي أو غير ذلك.

.. أما قضايا الجهاد الإسلامي فإنها تستفيد من موسم الحج الكثير مما يحققه ممن اجتماع القيادات الواعية التي لا تستطيع أن تجتمع في مكان آخر يمارس فيه الظالمون الاضطهاد والملاحقة لكل العالمين للإسلام.. فإن مثل هذا الاجتماع يصحح كثيراً من الانحرافات، ويوّحد كثيراً من الجهود وينظم كثيراً من الأعمال المتنوعة المبعثرة، وهناك الكثير الكثير من المنافع والفوائد التي نستطيع أن نحققها في هذا الموسم الإسلامي الكبير.. مما يجب أن نفكر فيه ونعمل له.. ونصل إليه من أهداف.

ولكن.. هل نحن في محاولة للتنظير المترف.. وهل يتحقق ذلك كله؟.. فقد يفرض السؤال نفسه علينا من خلال الواقع السلبي المنحرف.. الذي يعيشه موسم الحج الآن.. كيف يتحقّق ذلك كله؟.

الحجّ في القرآن

ص: 10

الحجّ في القرآن

تأليف: عبداالله جوادي آملي

يقول تعالي: إنّ اوّل بيتٍ وضع للناس للذي ببكّة مباركاً وهدي للعالمين* فيه آيات بينات مقام ابراهيم ومَن دخله كان آمناً ولله علي الناس حجّ البيت من استطاع اليه سبيلًا ومن كفر فانَّ الله غني عن العالمين (1).

صلة الآية بما سبقها:

لقد سُبقت الآية اكريمة الآنفة بقوله تعالي: فاتّبعوا ملّة ابراهيم حنيفاً وما كان من المشركين (2)ثم جاء قوله تعالي: انّ اول بيت وُضع للناس... والذي يدلنا علي هذا الترتيب انّ خطاب الآية ينصرف الي الييهود الذين كانوا يزعمون انهم علي دين إبراهيم الخليل، فجاء القرآن يحاججهم: لو أنكم علي ملة إبراهيم الخليل فعلًا وحقاً، إذاً لعظمتم البناء الإبراهيمي، واتخذتموه قبلةً ومطافاً.

شبهة اهل الكتاب:

نستفيد من ظاهر الآية ايضاً انها جاءت ناظرة لشبهة كان يُلقي بها اهل الكتاب علي المسلمين، ومفاد الشبهة:

أولًا: لا مجال للباطل ان ينفذ الي دين ابراهيم الخليل (عليه السلام). لذلك لا يصح القول بالنسخ الذي يذهب اليه المسلمون واتخذوا بمقتضاه الكعبة قبلة بدلًا من بيت المقدس.

فبيت المقدس لا زال- في زعم اهل االكتاب- هو قبلة المسلمين التي يجب ان يتولّوها كما كانوا يتولونها فعلًا قبل الهجرة الي المدينة، وإنّ تحوّلهم عنه الي الكعبة بذريعة النسخ لا يعدو أن يكون ضرباً من الوهم والخيال، لان النسخ لا يجوز في حكم الله!

ثانياً: لقد اتيتم باطلًا في قولكم: إنَّ هذا السلوك هو من دين ابراهيم؛ وفي زعمكم انَّ ابراهيم (عليه السلام) كان مسلماً وانكم مُتّبِعوُه. فانتم اذاً اجترحتم الباطل مرتين؛ مرَّة حين قلتم بالنسخ؛ ومرَّة حين نسبتم تصرفكم في تحويل القبلة إلي ابراهيم وقلتم انكم تبعٌ له في ذلك!

معالجة شبهة أهل الكتاب:

إنَّ اول ما يمكن ان يقال في جواب الشبهة: انَّ النسخ جائز وليس ثمة ما يدل علي استحالة.

ثم انَّ الحكم الاصلي للقبلة كانَ يختص بالكعبة، يقول تعالي: إنَّ أول بيت وضع للناس للذي ببكة... فابراهيم (عليه السلام) كان قد اضطلع بمهمة بناء الكعبة ورفع قواعدها واتخاذها قبلة ومطافاً قبل أن يقوم سليمان (عليه السلام) ببناء بيت المقدس في فلسطين.

لذا فانَّ رجوع المسلمين الي الكعبة قبلةً وترك بيت المقدس، إنما هو عودٌ الي السيرة الابراهيمية ورجوع الي القبلة الأُلي التي تولّاها ابراهيم ومن اقتفي اثره من انبياء الله.

هذه الحقيقة يحدثنا بها القرآن حين يعرض سبحانه الي سيرة ابراهيم. فابراهيم (عليه السلام) حين ترك ابنه وزوجته في ارض مكة القفرة دعا ربّه: ربنا إني اسكنت من ذرّيتي بوادٍ غير ذي زرع عِندَ بيتك المحرّم... (3) ثم ابان (عليه السلام) مُراده من ذلك بقوله: ربَّنا ليقيموا الصلاة (4)فالقصد اذاً هو اقامة الصلاة في اشرف بقعة من بقاع الارض، أي ان افضل ذرية امرت ان تقيم الصلاة في اعظم ارض.


1- 1 آل عمران: 96- 97.
2- 2 آل عمران: 95
3- 3إبراهيم: 37.
4- 4 إبراهيم: 37.

ص: 11

الموقع الإعرابي لكلمتي ( (مباركاً)) و ( (هدي)):

انَّ مباركاً و هديً إما ان تكون منصوبة علي الحال، وهي متعلقة ببكة فيكون المعني؛ انَّ البيت في حال البركة والهداية. وإمّا ان تكون ( (حالًا)) للضمير ( (وضع)) فيكون المعني: ( (وضع مباركاً وهدي)) أو ( (للناس مباركاً وهديً)) أو للذي ببكة مباركاً وهدي.

وما يعنينا التأكيد عليه انَّ جميع هذه الاحتمالات نافذة قابلة للتطبيق، لانَّ الكعبة منار هداية لجميع الناس، بحيث يستطيع البشر كافة ان ينالوا قسطاً من هداية الكعبة وبركاتها.

مواقع استعمال ( (الاولية)) في القرآن:

لقد استعمل القرآن الكريم مصطلح ( (الاولية)) في مواطن كثيرة تدل علي النسبة بيد انَّ الاستخدام لهذه اللفظة في قوله: تعالي: اول بيت وضع للناس هو استعمال نفسيّ.

أما في قوله تعالي من سورة التوبة لا تقم فيه ابداً (1) حكاية عن نهي النبي من الاقامة في مسجد ضرار وحثه في المقابل للاقامة في مسجد قبا حيث يصفه سبحانه بقوله: لمسجد أُسّس علي التقوي من اوّل يوم احق ان تقوم فيه (2) فانَّ استعمال اول يوم في الآية يكون نسبياً لا نفسياً، والمعني: أنَّ المسجد أُسس يوم بُني، علي التقوي.

ولقد ذكر الشيخ الطوسي (رحمه الله) عند تفسير الآية: ( (أول الشي ء ابتداؤه، ويجوز ان يكون المبتدأ لهُ آخر، ويجوز ان لا يكون له آخر، لانّ الواحد أول العدد، ولا نهاية لآخره، ونعيم اهل الجنة لَهُ اول ولا آخر له، فعلي هذا انما كان اول بيت، لانه لم يكن قبله بيت يحج اليه)) (3).

وقد ذهب مفسرّون آخرون (4) إلي أنَّ الاول لا يستلزم دائماً وبالضرورة ان يكون لَهُ ثانٍ، فقد يقول المرء: هذا سفري الاول الي بيت الله الحرام، دون ان يستلزم كلامه ضرورة ان يوفق لحج البيت مرةً اخري. وعلي هذا يكون معني الأولية هنا، انّه لم يكن قبله شي ء. وعليه؛ حين يقال أول بيت، فلا يستلزم القول ان يكون ثمة بيت ثانٍ وهكذا.

وهذا الكلام لا يتعارض مع وجود بيوت اخري للعبادة، تكون ثانية وثالثة وهكذا؛ من زاوية: في بيوت اذن الله ان ترفع ويذكر فيها اسمه (5) بيد أنَّ وجود هذه البيوت لا يكون في مقابل وجود الكعبة. وكلام الشيخ الطوسي وان كانصحيحاً في نفسه، الّا ان مصداقه غيرصحيح. فما يقوله من ان تنعم اهل الجنة له اول ولا آخر له لا يصح، رغم انَّ لهذا النعيم أولًا. ووجه عدم الصحة ان هذه النعم بنفسها لا أول لها ولا آخر، فالجنة موجودة الآن- لا أنها تخلق بعد الدنيا- ونعمها دائمة ثابتة دون انقطاع، خصوصاً تلك الجنة التي يقول عنها تعالي: عِندَ مليك مقتدر (6).

الأولية بالذات وبالغير:

انَّ الاولية بالذات تختص بالله سبحانه ف- ( (هو الأول والآخر)) (7). وفيوضاته غير محدودة اذ ( (وَكلّ مَنّه قديم)) وهو ( (دائم الفضل)) لا أوّل لها ولا آخر، لكنه أول بالعرض لا بالذات فانَّ بدايته ترتبط ب- ( (هو الاول)) ونهايته ب- ( (هوالآخر)) وذلك خلافاً لذات الله تعالي التي لا أول ولا آخر لها، وانما هو سبحانه بالذات، الاول والآخر.

الكعبة أول معبد:

انَّ الآية الكريمة تدل علي انَّ الكعبة هي اول معبد بني علي سطح الارض. أما ان تكون دلالة الآية علي أنَّ الكعبة كانت اول بيت بني للسكن، فهو امر مستعبد، ومثل هذا الاستنباط محفوف بالمشكلات خصوصاً وانَّ الاولية مقيّده بكون الكعبة بنيت ( (مسجداً)).


1- 5 التوبة: 108.
2- 6التوبة: 108.
3- 7 التبيان 535: 2.
4- 8 مجمع البيان 477: 2.
5- 9 النور: 36.
6- 10 القمر: 55.
7- 11 الحديد: 3.

ص: 12

بيد انَّ ذلك لا يمنع من القول: إنَّ مكة هي اول أرض تكوّنت من سطح اليابست بعد ان انزاح عنها الماء. اما ان تُفيد الآية أن الكعبة كانت اول بيت فالامر ينطوي علي اشكال كما أشرنا.

الّا انَّهُ علينا ان نذكر انَّ الآية مثلما لا تثبت فهي لا تنفي أيضاً، ومَرَدُّ ذلك انَّ الجملة الوصفية أو المقيّدة لا مفهوم لها- بالمعني الاصولي- وما ال مفهوم له لا اطلاق له ايضاً. والذي نقصدهُ بانَّ الجملة لا مفهوم لها، انَّ الجملة الوصفية واللقبية ليسَ بمقدورهما ان يقيِّدا الدليل اذا كانَ مطلقاً، لا انَّه بمقدورنا ان نقتنص الإطلاق منهما. وبه يتضح الفرق بين قولنا: إن الجملة لا مفهوم لها وبين كون الدليل مطلقاً.

فالجملة الوصفية أو اللقبية لا مفهوم لها بمعني لا تثبت ولا تُفيد الاطلاق، وانما يكون لها مفهوم في مقام التحديد وَ حسب لذلك اذا دلَّ دليل من الخارج- من خارج الآية- انَّ الكعبة هي اول بيت بني علي سطح الارض، علي اساس ( (دحو الارض)) فانَّ الآية لا تخالف ما يدل عليه مثل هذا الدليل. وانما يصعب استظهار مثل هذا المعني من الآية نفسها.

بناء الكعبة:

انَّ المقصود من ( (البيت)) هو خصوص الكعبة، حيث يقول تعالي في سورة المائدة: جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس (1).

( (قياماً)) هي مفعول ثان للفعل ( (جعل)). انَّ الله جعل الكعبة أو البيت الحرام يتصف بكونه عنصر قيام لجميع الناس.

وستتضح العلاقة بين هذه الصفة، وبين ما رأيناه في الآية مورد البحث، من انَّ البيت ينطوي علي سرّ البركة والهداية للناس كافة.

وما ينبغي ان نشير اليه انَّ البيت كانَ موجوداً قبل ابراهيم (عليه السلام)، الّا انَّ عوامل كثيرة اثَّرت عليه من قبيل الطوفان، فلم يبق علي هيئته الاولي.

وحين قام ابراهيم (عليه السلام) بتشييد البيت ورفع قواعده، أصبحنا منذ تلك اللحظة أمام معالم واضحة لتاريخ البيت ومساره علي مرَّ العصور.

واحدة من هذه المعالم، يحدثنا عنها ما يحكيه سبحانه علي لسان إبراهيم، في سورة ابراهيم، حيث يقول عليه السلام: ربنا إني اسكنت من ذرّيتي بوادٍ غير ذي زرع عند بيتك المحرَّم (2) فحين ترك الخليل زوجته هاجر وولده اسماعيل (عليهما السلام)، في هذه الارض القفرة وَهمَّ بوادعهما، سألته هاجر: ( (الي من تدعني؟)) فاجاب: الي ربّ هذه البنية.

لذلك يقول ابراهيم (عليه السلام): ربنا اني اسكنت... ثم بيَّن ما يقصده بما يحكيه القرآن علي لسانه: ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل افئدة من الناس تهوي اليهم وارزقهم من الثمرات لعلّهم يشكرون (3)لانك انت ( (مقلب القلوب)). ولقد قالل ابراهيم افئدةً من الناس وإلّا لو كان الخليل (عليه السلام) قد قال- كما يذكر الطبري في تفسير الآية-: افئدة الناس لحج جميع الناس سواء منهم اليهودي والنصراني واصحاب الملل الاخري.

لم تكن مكة أرضاً مواتاً يمكن استصلاحها لتعمر بالنبات والزرع وانما كانت أرضاً جبليةصخرية تفتقر الي الماء. لذلك عبَّرت الآية في دعاء الخليل (عليه السلام) عن وادي مكة بانَّهُ غير ذي زرع وَلم تعبّر عنه بانَّهُ ( (لم يزرع)) اذ لو كانت الارضصالحة للزراعة، بيد انها مهملة بانصراف الجهد الانساني عنها، لقيل عنها ( (لم تزرع)) من باب ( (عدم الملَكة)) أما أنّها غيرصالحة للزراعة والاعمار اصلًا فقد عبر عنها بانهار ( (غير ذي زرع)).


1- 12 المائدة: 97.
2- 13 ابراهيم: 37.
3- 14ابراهيم: 37.

ص: 13

الّا انَّ الخليل (عليه السلام) العارف بقدرات الله غير المتناهية، قال معَ ذلك: ربنا اني اسكنت من ذريتي بوادٍ غير ذي زرع وقد أوكل الامر اليه- سبحانه- في ان يفعل ما يشاء.

لقد تضمن هذا المقطع من الدعاء بيان المقاصد التالية:

1- انَّ القصد الأساس هو ان يقيموا الصلاة ربنا ليقيموا الصلاة وإن كان ثمة مقاصد اخري في السياق.

2- طلب (عليه السلام) ان يعطف قلوب وعقول شطر من الناس إليهم.

3- ثم اراد من ربّه ان يشملهم من الثمرات رزقاً لعلّهم يشكرون 13.

لقد تكرَّرت مضامين هذا الدعاء الابراهيمي في سورة البقرة، حيث قال (عليه السلام) فيما يحكيه القرآن علي لسانه: ربّ اجعل هذا بلداً آمنا (1).

فانبثقت بعد فترة عين زمزم ببركة هذا الدعاء وباستغاثة هاجر (عليها السلام) وبصرخات اسماعيل (عليه السلام) وبكائه. وهو طفلصغير.

ولما انبثق الماء حلت الطيور حوله، واخذت القوافل تحط رحالها عنده، فتحولت مكة الي ( (بلد)) واجيبت الدعوة.

حينما جاء ابراهيم الخليل (عليه السلام) ورأي الوادي قد تحوَّل الي بلد، اعادَ (عليه السلام) دعاءه مع تغيير السياق: واذ قال ابراهيم ربّ اجعل هذا البلد آمناً (2) فقد دخلت هنا (الالف واللام) علي كلمة بلد بينما بقي طلب الأمن ثابتاً لكلا الحالتين.

لقد حقق سبحانه لابراهيم دعوته وحلَّ الامن في مكة، حتي تميَّزت عما حولها من البلاد، اذ يقول تعالي: أو لم يروا انا جعلنا حرماً آمناً ويتخطّف الناس من حولهم افبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون (3).

انَّ استعمال يتخطّف ينطوي علي دلالة عميقة في رسوخ الامن، فالخطفة تعني انقضاض الصقر علي فريسته في حال غفلتها، ومكة في امان من ذلك.

لقد استجيبت دعوة ابراهيم واضحي لحرم آمناً، حتي عليصعيد الحكم الفقهي، ذلك انَّومن دخله كان آمنا (4).

انَّ جملة عند بيتك المحرّم تدل دلالة واضحة علي انَّ للبيت وجوداً قبل ابراهيم (عليه السلام). وانما غاية ما هناك انه تعرض لحوادث طبيعية وغير طبيعية، جعلت البيت عرضة للهدام والخراب. حصل ذلك قبل ابراهيم وبعده أيضاً، حيث تهدمت الكعبة اثر السيول، وفي عصر الاسلام قام الحَجاج برميها بالمنجنيق من علي جبل ابي قبيس.

لذا فانّ الصخور السوداء التي تعلو جدران الكعبة الآن، هي ليست نفس الصخور التي كانت عليها قبل عدة قرون.

والذي يظهر انَّ الكعبة كانت فيصدر البعثة النبوية، لا يتجاوز ارتفاعها ضعف طول الانسان المتوسط. نستفيد ذلك من واقعة ارتقاء الامام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) علي كتفي رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم)، حيث رمي الاصنام وقذف بها نحو الارض اثناء فتح مكة.

اما الجانب المعنوي في هذه الواقعة فله حسابه الآخر، حيث عبَّر الامام علي (عليه السلام): انَّهُ حين كان علي كتف رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) لو رام ان ينال الثُريا لنالها.

ما نستفيده من هذا العرض انَّ الكعبة كانت عرضة للهدام والتخريب اكثر من مرَّة. وفي هذا السياق جاء الخطاب الي ابراهيم الخليل: واذ بوَّأنا لابراهيم مكان البيت حيث تكفل سبحانه بيان المكان ووضع التصميم الهندسي


1- 15 البقرة: 126.
2- 16 ابراهيم: 35.
3- 17 العنكبوت: 67.
4- 18 آل عمران: 97.

ص: 14

والمعماري للكعبة، ثم كان علي ابراهيم ان يضطلع بمهمة التنفيذ والبناء، حيث جاء في تتمة الخطاب الالهي: ألّا تشرك بي شيئاً وطهر بيتي للطائفين واالقائمين والرّكع السجود (1).

بين الكعبة وبيت المقدس:

انَّ لبيت المقدس قدسيته ومكانته، إلّا اننا لا نجد في القرآن انَّ الله- سبحانه- ينسبه الي نفسه في الكيفية، التي نتلمسها في الكعبة والتي تختص بها دون غيرها، كما في قوله تعالي: بيتي وبيت الله.

بعد ان اقام ابراهيم البيت، جاءه الخطاب الالهي: وأذّن في الناس بالحج يأتوك رجالًا (2) انَّ جملة يأتوك هي جواب الامر، بمعني سيأتون في المستقبل. وَ هؤلاء سيأتون باي كيفية ممكنة، فمنهم المشاة، ومنهم من يأتي وعلي كل ضامر أي الهزيل من النوق وغيرها.

وبه يتضح انَّ الملبين للنداء الإبراهيمي، منهم من يأتي مشياً، ومنهم من يأتي راكباً علي كل ضامر. أما اولئك الذين لهم القدرة ان يركبوا علي غير الهزيل الضامر، فان حظّهم في الاستجابة للنداء أقل من غيرهم.

وفي كل الاحوال، فانَّ الملبين للنداء سينطلقون من كل مكان يقصدون البيت. يأتين من كلّ فجٍ عميق (3).

يتضح من سياق الآيات انَّ ابراهيم (عليه السلام) طوي مراحل متعدّدة بامر الله تعالي. فبادئ الامر تعرف علي ارض مكة، ثم ترك فيها زوجته وولده، وطلب من ربه ان تكون لهما بلدة آمنة.

وحين عاد اليها مجدداً رآها وقد آلت الي ان تكون ( (بلدة)) فكرّر دعوته في ان يجعلها أمناً وأماناً. ثم جاءه الخطاب بتشييد قواعد البيت، وفي الاثناء توجه الي ربّه بدعائه: تقبّل منّا انَّك انت السميع العليم (4).

وحين بُنيت الكعبة وصفها تعالي بقوله: جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس (5) ولم يقتصر الامر علي الكعبة وحدها في ان تكون حراماً، وعنصر قيام للناس، وانما اتسع المكان ليشمل الحرام، وامتد الزمان ليستوعب الشهر الذي يتم فيه الحج، فكل ذلك، وما يتخذ الناس من الهدي والقلائد اصبح شعاراً وقياماً للناس. والشهر الحرام والهدي والقلائد (6)لقد ذكر الطبري في تفسيره للآية، أ نّ البيت كان قواماً للناس في الجاهلية، حتي وهم لا يرجون جنة ولا يخافون ناراً، فشدَّد الله ذلك بالاسلام. ثم اضاف: ( (كان الرجل لو جرّ كل جريرة، ثم لجأ الي الحرم لم يتناول ولم يُقرب. وكان الرجل لو لقي قاتل ابيه في الشهر الحرام لم يعرض له ولم يقربه)).

بل زاد الامر علي ذلك بعدم التعرض للحيوان اذا قُلِّد بقلادة، اذ يصبح في امان حتي وهو يأكل من علف غيرصاحبه.

وبشكل عام، كانت معالم الامن ظواهر واضحة، يمكن تلمسها والاحساس بها لزوّار البيت الحرام.

القبلة الي البيت المقدس:

ليس ثمة شك، أن بيت المقدس اضحي قبلة من عصر سليمان (عليه السلام) فما بعد، فسليمان هو الذي وضع تصميم بيت المقدس وقام ببنائه.

لقد كان رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم)، حين كان في مكة، يتوجه علي خطٍ واحد الي الكعبة وبيت المقدس، حيث كان يقف في كيفية تجمع بين القبلتين.

ومثل هذا الجمع كان سهلًا في مكة؛ لأنَّ بيت المقدس يقع في شمال غربي الكعبة، ورسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) يقف في جنوب الكعبة فيكون بممقدوره ان يجمع القبلتين علي خطٍ واحد.

اما في المدينة فقد اختلف الامر تماماً، لذلك كان يقصد بيت المقدس قبلة حين الصلاة بعد ان تعذّر الجمع بينه وبين الكعبة، بل كانت الكعبة تقع الي وراء ظهره.


1- 19 الحج: 26.
2- 20الحج: 27.
3- 21الحج: 27.
4- 22 البقرة: 127.
5- المائدة: 97.
6- المائدة: 97.

ص: 15

بيد انَّ الحال لم يدم، حيث تم تحويل القبلة الي الكعبة ورسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) واقف يصلي في مسجد القبلتين، فاستدار وهو في الصلاة نحو الكعبة.

المسجد الحرام والمسجد الاقصي:

جمعت الآية الكريمة من سورة الاسراء بين المسجد الحرام والمسجد الاقصي، حيث يقول تعالي: سبحان الذي أسري بعبده ليلًا من المسجد الحرام الي المسجد الاقصي الذي باركنا حوله (1).

إن عوامل الارض والمناخ والماء ساهمت جميعاً في إعطاء مزايا لأطراف المسجد الاقصي، كانت سبباً في كثرة النعم والخيرات. ومع ذلك فقد قُدّر لمكة أن تنعم بكل هذه الثمرات والخيرات أو اكثر، رغم أرضها ومائها ومناخها. والسر في وفور الخيرات والثمرات دائماً في مكة هي دعوة الخليل المستجابة وارزقهم من الثمرات.

الفوارق بين الكعبة والمسجد الاقصي:

لقد اضطلع بمسؤولية بناء الكعبة ابراهيم الخليل وهو (عليه السلام) من أولي العزم. بينما اضطلع سليمان (عليه السلام) ببناء بيت المقدس، وهو ليس من اولي العزم، وانما من الحفّاظ الشرائع اولي العزم.

بيد انّ هذا الفارق ليس هو الوحيد بين الكعبة والمسجد الاقصي، وانما ثمة فارق آخر يتمثل بالوعد الإلهي، بحماية الكعبة وحراستها من الأعداء؛ هذا الوعد الإلَهي تحوّل الي سيرة عملية، في حين لا نجد ما يناظر هذا الوعد بالنسبة لبيت المقدس.

فلو أراد أحد ان يتعرض للكعبة لعرّض للاستئصال، كما حماها سبحانه بطيرٍ ابابيل وصانها بمعجزات اخري. أما عملياً فلا نجد مثل هذا الوعد بالنسبة لبيت المقدس، اذ استطاع ( (بخت نصر)) ان يهدم بيت المقدس تماماً، إلّا انَّهُ لم يتعرض لما تعرض اليه ابرهة الحبشي.

بناء الكعبة لمنفعة الناس:

ما نستفيده من ظاهر الآية الشريفة- مدار البحث- انَّ اول بيت وضع لعبادة الناس كان في مكة، وقد وضع لينتفع منه الناس، حيث يقول تعالي: وضع للناس وان كان التعبير في مورد التكليف بالحج جاء قريناً بحرف الجر ( (علي)) حيث يقول تعالي: لله عليالناس الّا اننا سنوضح انَّ العبادة والتكليف لا يمكن أن يكونا ضدَّ الناس ابداً، بل هما لصالحهم دائماً.

لذلك تجد اهل السلوك يعبرون عن التكليف بالتشريف. فالرجل حين يبلغ السادسة عشرة من عمره والمرأة حين تبلغ العاشرة يعبِّرون عنهما انهما قد بلغا سنَّ التشريف (ويعنون به التكليف) واصبحا اهلًا للخطاب الالهي، في حين لم يكونا قبل ذلك اهلًا لتلقي ما ينطوي عليه الخطاب من أحكام نظير قوله تعالي: وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة (2).

وعن الاحكام الإلهية عموماً بما تنطوي عليه من تكليف يقول تعالي: ذلكم خير لكم (3). وانطلاقاً من هذه الزاوية بالذات عُبِّرعن العبادة ب- ( (اللام)).

معبد الانبياء


1- 25 الاسراء: 1.
2- 26 البقرة: 43.
3- 27 البقرة: 54، 184، 271.

ص:16

معبد الانبياء:

ظاهر ما عليه الآية من الاطلاق انَّ البيت الحرام والكعبة المشرّفة كانا اول معبد في تاريخ البشر، بحيث لم يكن لنبي قبلة غير الكعبة.

هذا الاستنتاج نستطيع ان نؤيده من آيات في سورة ( (مريم)). ففي هذه السورة نقرأ عن المسيح: وجعلني مباركاً اينما كُنت واوصاني بالصلوة والزكوة ما دمت حيّاً (1). وذلك علاوة علي ما في سورة من وصايا لانبياء آخرين، حيث يقول- تعالي- بعد ان ذكر عدداً من الأنبياء: أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممّن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تُتلي عليهم آيات الرحمن خرّوا سُجداً وبكيا (2).

فمسار الانبياء (عليهم السلام) من آدم حتي نوح، ومن نوح حتي ابراهيم، وما بين هؤلاء الأنبياء ومن ذراريهم يمدحهم الله بقوله: إذا تتلي عليهم آيات الرحمن خروا سجداً ومن الواضح أنَّ السجود يستلزم وجود الجهة، سواء أكان المعني السجود بنفسه أو السجود في اطار الصلاة، حيث تقام الصلاة لقبلة بعينها.

علي انَّ الراجح هو قيامهم بالصلاة، كما تؤيد ذلك الآية التي تليها، حيث يقول تعالي: فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلوة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيّا (3)

يتضح مما تقدم انَّ الانبياء كانوا من اهل الصلاة، وانَّ الصلاة والسجود يستلزمان جهةً وقبلة.

وفي مسألة القبلة إما أن نستند إلي قوله- تعالي- فنقول: فأينما تُولّوا فثمَّ وجهُ الله (4)وهو قول بعيد. وإمّا ان نقول بجهةٍ خاصة كانت قبلة لهم.

وما نستفيده من ظاهر الآية في اطلاقها، انَّ الكعبة كانت قبلة الصلاة والسجود لجميع انبياء الله من آدم حتي النبي الخاتم (عليهم السلام). أما احتمال غير الكعبة قبلة لهم، فهو مما لا يتسق مع ما عليه الآية من اطلاق.

لماذا سميت مكة ببكة؟

قال تعالي: للذي ببكة وقد قيل: إنَّ المقصود ب- ( (بكة)) هو مكة، اذ تبديل الميم الي الباء يحدث احياناً نظير ( (لازب ولازم)). بيدَ أنَّ تعليل ذلك لا يكون بالتبديل، وانما: ( (لانَّ الناس يَبُكَّ بعضهم بعضاً)) (5)اثر الازدحام والكثرة عند اجتماع الناس فيها.

و ( (بك)) تأتي بمعني التحطيم، فهي بكة لانها تبك اعناق الجبابرة والبغاة اذا بغوا فيها، فتدفعهم.

معني مباركاً:

يقول تعالي في وصف بيته الذي بمكة: مباركاً وهديً للعالمين. والمعني انَّ البيت منشأ الوفير من البركات، وهو وسيلة هداية للناس. وتطلق ( (البركة)) علي المال والشي ء الثابت، فما له ثبات ودوام فهو مبارك.

من هنا اطلق علي تجمعات الماء في الصحراء انها ( (بِركْة)) لما تتسم به من ثبات، ولا نها تحفظ الماء من الهدر فيدوم.

وبتعبير الشيخ الطوسي فانَّ الصدر يسمي ( (برك))؛ لانَّه المكان الذي تحفظ فيه العلوم والاسرار والافكار وتثبت. وكذا يقال ( (بَرَك)) لوَبَر البعير من جهةصدره.

وذات الله مباركة لجهة ثبات خيرها ودوامها.


1- 28 مريم: 31.
2- 29 مريم: 58.
3- 30 مريم: 59.
4- 31 البقرة: 115.
5- 32 نور الثقلين 367: 1.

ص: 17

اما بالنسبة للبيت فلانه ينعم بالخير والثبات اكثر من الاماكن الاخري فهو يكون ( (مباركاً))؛ أي وفير الخيرات دائمها. اماكون الكعبة وسيلة هداية للناس كافة، فمرد ذلك إلي انَّ جميع العباد والسالكين يقصدونها؛ ومنهاصدعت دعوة الحق الي البشرية جمعاء؛ اذ مِنها انطلق نداء نبينا (صلّي الله عليه وآله وسلّم): ( (لا اله الّا الله)) الي ارجاء الدنيا، ومنها سيبلغ نداء خاتم الاوصياء المهدي (عليه السلام) اسماع البشرية في اليوم الموعود.

فهي اذاً محضن الحق، تتوفّر علي وسائل كثيرة اخري لهداية الناس.

وفي مكة آيات لله لا تحصي. في آيات بينات.

مقام ابراهيم:

يقول تعالي: مقام ابراهيم لقد ذهب البعض للقول: انَّ ابراهيم (عليه السلام) كما ( (كان امة واحدة)) فانَّ مقامه ايضاً بمنزلة ( (آيات بينات))؛ أي انَّ المقام في آثار اقدام الخليل (عليه السلام) وفير بالمعجزات، حتي اضحي المقام بمنزلة ( (امة واحدة)) في باب الاعجاز، كما هو شأن الخليل نفسه.

والسؤال: كيف اضحي ( (مقام ابراهيم)) آيات بينات بصيغة الجمع، في حين ان السياق يقتضي التعبير بالمفرد، فيقال: آية بينة؟

ثمة في الجواب عدّة احتمالات، نشير للاول منها من خلال ما يلي:

أوّلًا: لقد تحوَّل الصخر الصلد الي عجين لين، وذلك في حدِّ ذاته آية ومعجزة.

ثانياً: ثمة مكان محدَّد من الصخرة هو الذي لانَ دون البقية.

ثالثاً: انَّ لين الصخرة حصل لعمق وبشكل معين ثم عادت الصخرة- فيما عدا ذاك- لصلادتها.

رابعاً: لقد بذل الاعداء جهوداً محمومة لمحو هذا الاثر، بيدَ انَّه بقي يتطاول علي الزمان محفوظاً من عبث الطغاة.

خامساً: ثمة قوي مولعة بخطف ما يقع بيديها من آثار قديمة في بلاد المسلمين تتسم بطابع فني، أو تحمل خصائص مقدَّسة، ومع ذلك بقي هذا الاثر دون ان تفلح هذه القوي بنقله إلي خارج العالم الاسلامي.

كيف تشكّل الاثر في مقام ابراهيم؟

هل تشكّل الاثر في مقام ابراهيم حين وقف (عليه السلام) علي المكان- الصخرة- اثناء بناء الكعبة؟ أو انَّ الآية حصلت حين عادَ ابراهيم للمرة الثانية فطلبت منه زوجة ولده اسماعيل ان ينزل لتغسل له (رأسه أو رجله) الّا انَّه لم ينزل وانما وضعَ قدمه علي الصخرة فتركت هذا الاثر؟ أو الاثر انطبع علي الصخر حين اعتلاه الخليل ليؤذّن في الحج امتثالًا لامر الله تعالي: واذّن في الناس بالحج يأتوك رجالًا (1)

يمكن ان يكون الاثر قد حصل في جميع هذه الحالات، أو في احداها.

فجميع هذه الوجوه محتمل الوقوع. بيد انَّ ما يهمنا التأكيد عليه هو أنَّ الخليل (عليه السلام) وضع قدميه علي الصخرة فانطبعت آثارهما، وبقيت الآثار حتي اللحظة. أما في أي حالة من الحالات آنفة الذكر تمَّ ذلك، فالامر مُناط للروايات الخاصة التي تتكفل اضاءة المسألة وبيانها.

انَّ هذه الخصيصة التي حصلت لإبراهيم (عليه السلام)، حيث يحدثنا (سبحانه) في سورة سبإ، بقوله تعالي: وَ لقد آتينا داود منّا فَضلًا يا جبال أوّبي معه والطّير وأَلنَّا لَهُ اْلحدِيدَ (2). ليس هذا وحده، وانما عُلِّمَ داودصناعة الدروع، حيث يقول تعالي: وَعلّمناهصنعة لبوس (3) لقد كان الحديد البارد الصلد يلين بين يدي داود (عليه السلام).

وما ينبغي الانتباه اليه انَّ القرآن استعمل ألنَّا في مسألة الحديد، في حين استعمل علمناه فيصناعة الدروع. والسر انَّصناعة الدروع هي جزء من العلوم الحرفية الصناعية التيي يمكن تعلّمها واكتساب المهارة فيها، وبالتالي


1- 33 الحج: 27.
2- 34 سبأ: 10.
3- 35 الانبياء: 80.

ص: 18

يمكن انتقالها الي الآخرين. أما إلانة الحديد فهي ليست مسألة مهنية تدخل في اطار العلم والتعلّم، وَ بالتالي لا يمكن ان تنتقل الي الآخرين، ولذلك لم يعبّر عنها ب- ( (وعلمناه إلانة الحديد)).

قد يقال: إنَّ من الممكن إلانة الحديد عبر تذويبه فيصهاريج الفولاذ، الّا انَّ الآية لا تتحدث عن هذا النمط من الإلانة والتذويب الذي يقع في مجال العلم، وانما تتحدث عن فعل اعجازي، حيث كانَ داود (عليه السلام) يمسك الحديد الصلب بين يديه وَيشكّله كيفما شاء، تماماً كما يمسك الانسان العادي الشمع بين يديه ويعيد تشكيله بما يشاء.

ومقام ابراهيم (عليه السلام) هو من هذا القبيل، مع فارق بين الاثنين حيث لانَ الحديد لداود، والصخر لابراهيم، والتقدير ( (والنا له الحجر)).

لقد اضحي الصخر ليناً ناعماً بين قدمي الخليل، حتي ترك اثرهما عليه، مُضافاً لذلك انَّ الصخر أضحي بمثابة ( (المحفظة)) لقدم الخليل (عليه السلام) كما الحديد بالنسبة لداود (عليه السلام).

والآن عودة الي بدء. فقد انطلقنا من السؤال التالي: كيف يكون مقام ابراهيم لوحده- بصيغة المفرد- دالة علي آيات بينات وهي بصيغة الجمع؟

ذكرنا حتي الآن احد احتمالين- حيث لا حظنا انه هناك عدد من الآيات المعجزة في المقام يشكل مجموعها: آيات بينات- والاحتمال الاول هذا ذهب اليه الزمخشري.

أما الاحتمال الثاني ففحواه انَّ آيات بينات تنطوي علي عددٍ كبير- من الآيات والمعجزات- احداها مقام ابراهيم، وثانيتها: وَ مَن دخله كانَ آمناً.

الأمنان التكويني والتشريعي لبيت الله الحرام:

انَّ للكعبة امناً تكويناً، اذ دأب الكثير من الطغاة علي التعرض للبيت في محاولة للقضاء عليه، ولا لحاق الاذي بأهل مكة، الّا انَّ الله سبحانه حفظ البيت وجعله في أمان. يقول تعالي: الذي اطعمهم من جوع وآمنهم من خَوف (1). ويوم لم يكن ثمة اثر للتشريع والاحكام، كان اهل مكه وهم مشركون يتمتعون بأمن خاص. ثم هناك الامن التشريعي، ومؤدّاه: من دخله كان آمناً بل انَّ الطبري نقل في تفسيره للآية (97) من سورة آل عمران، انَّ المجرم الجاني كان في الجاهلية اذا لجأ الي الكعبة لا يتعرض له احد بسوء.

وهنا لا نحتاج للتكلّف فنحضر آيات بينات في خصوص ( (مقام ابراهيم)) أو خصوص ما للبيت من أمن إلهي مجعول. فبئر ( (زمزم)) و ( (حجر اسماعيل)) و ( (الحجر الاسود)) هي ايضاً آيات بينات.

بل انَّ البيت بنفسه هو معجزة وآية بينة، بدليل ما حلَّ باصحاب الفيل الذين همّوا بهدم الكعبة، فواجههم (سبحانه) بجيووش الهيّة، كما تحكي لنا ذلك سورة الفيل: الم تر كيف فعل ربك باصحاب الفيل...؛ فجعلهم كعصفٍ مأكول. اذاً، ليس ثمة ما يدعونا للقول: انَّ ( (مقام ابراهيم)) هو وحده بيان لآيات بينات، وانما خُص بالذكر من باب ذكر الخاص بعد العام.

يقول تعالي في سورة البقرة: واذ جعلنا البيت مثابة للناس وامناً واتخذوا من مقام إبراهيم مصلّي وعهدنا إلي إبراهيم واسماعيل ان طهّرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود (2). لقد ذُكر في بحث مفصَّل انَّ ( (البيت)) مرجع للناس كافة وَملاذ لهم، وهو محاط بأمن تكويني وامن تشريعي. فاذا أراد احد التعرّض للبيت بهدف الهدم والافناء فانَّ الله (سبحانه) يكون بالمرصاد.


1- 36 قريش 4.
2- 37 البقرة: 125.

ص: 19

أما الامن التشريعي فمن مصاديقه، انَّ الانسان اذا كان عليه حد ولجأ الي الحرم، أمن اقامة الحدود عليه طالما مكث بالحرم؛ الّا أن لا يراعي حرمة البيت، فحينئذٍ يشمله القصاص. يقول تعالي: والحرمات قصاص (1). بمعني انَّ الانسان اذا تعرض لحرمة الكعبة والمسجد الحرام وعموم الحرم والشهر الحرام، فسينزع عن نفسه الامان، ويكون عرضة للقصاص والحد.

فاذا اجترح الانسان جناية في الحرم اقيم عليه الحد حتي وهو داخله. اما اذا ارتكب الجناية خارج الحرم ولجأ اليه أمن الحد وامهل حتي يخرج منه. ولكن يضغط عليه حتي يلجأ إلي خارجه؛ فلا يبتاع منه ولا يُطعم ولا يُحسن اليه.

ثمة غير الآية التي نتحدَّث عنها، آية اخري تشير الي ما يتحلي به الحرم من أمن، حيث يقول- تعالي- في سورة العنكبوت: أو لم يروا انّا جعلنا حرماً آمناً ويتخطّف الناس من حولهم، أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون (2).

والسر انَّ ما من احد يتعرض الي البيت بقصد االإفناء، ولاهله بقصد الاستئصال، الّا وكان الله له بالمرصاد، فيذيقه العقاب بلا امهال: ومن يرد فيه بالحاد بظلم نذقه من عذابٍ أليم (3).

ثمة رواية ينقلها المرحوم ابن بابويه في كتاب ( (من لا يحضره الفقيه)) مؤدّاها: اذا كان البيت يتحلي بحرمة خاصة، واذا كان (سبحانه) قد أرسل طيراً ابابيل علي جيش ابرهة حين قصد الكعبة؛ فلماذا لم تشمل الحماية الالهيّة ابن الزبير حين تحصَّن داخل الكعبة، حيث قام الحجاج بن يوسف برمي الكعبة بالمنجنيق من علي جبل ابي قبيس- بأمر من عبدالملك- فهدّمت الكعبة وأعتقل ثم قتل؟

ذكر ( (الصدوق)) في الجواب: ان حرمة الكعبة انما تكون لحرمة الدين وحفظه وصيانته. وحافظ الدين وحارسه في زمان حضور الامام المعصوم، هو الإمام نفسه، وفي زمن غيبته يضطلع بالمهمة نوابه.

ثم نقل عن الامام (الذي يبدو هو الامام السجاد عليه السلام) انَّ الزبير لم ينصر امام زمانه سيّد الشهداء الحسين (عليه السلام) حتي استشهد مظلوماً، وحينما آلت الامامة الي الامام الذي يليه (الامام السجاد عليه السلام) لم ينصره ولم يدع اليه. لذلك لم ينصره الله ولم يدفع عنه حتي وهو يلوذ بالكعبة ويلجأ الي داخل البيت، كما حصل في جيش ابرهة حيث ارسل (سبحانه) طيراً ابابيل في حين لم يحصل الشي ء نفسه حين رمي الحجاج الكعبة بالمنجنيق.

لذلك انتهي الامر باعتقال الامويين لابن الزبير- وهو رجل فاسد- فقتلوه ثم اعادوا بناء الكعبة دون مشكلة تُذكر. أما بالنسبة لابرهة فالامر يختلف تماماً، اذ كان هدفه افناء الكعبة وتحويل قبلة الناس الي جهة اخري، لذلك لم يمهله سبحانه.

بمعني آخر، ان تصرّف الحجاج بن يوسف لم يشكل نقصاً للآية من يرد فيه بالحاد بظلم نذقه من عذاب أليم ولا يتعارض معها. ولا زال الامر يشكل حالة مطّردة، فلو افترضنا انَّ هذه الديار تتحوّل الي ديار ظلم، فالله (سبحانه) لا يتدخل لقمع الظالم واستئصال الظلم ان لم يكن أهل الديار علي الصراط المستقيم؛ وانما يمكن ان نفسِّر امثال هذه الوقائع علي اساس: نُولّي بعض الظالمين بعضا (4)- أي انَّ الوقائع تتحرك علي مسار قانونٍ آخر-.

انَّ الفكرة المحورية التي ينبغي ان ننتبه اليها، هي انَّ علي المسلمين ان ينهضوا بتكليفهم، ويضطلعوا بواجباتهم، ثم ينتظروا الوعيد الالهي: من يرد فيه بالحاد بظلمٍ نذقه من عذاب اليم.

نسبة ( (البيت)) الي الله والناس.

ثمة في مطلع الآية- مورد البحث- ما يؤكد الفكرة التي نبحثها، ويدل عليها، حيث يقول تعالي: انَّ اوّل بيتٍ وضع للناس....

لقد نسب الله (سبحانه) البيت الي ذاته المقدّسة كما نسبه الي الناس، ولكن مع فارقين احدهما أدبي والآخر معنوي. أما الأدبي فيتجلي في نسبة البيت اليه (سبحانه) من دون ( (لام)) حيث قال: أن طهّرا بيتي أما حين النسبة الي الناس فقد دخلت ( (اللام)) حيث قال سبحانه: .... وضع للناس. والمعني المراد: أنَّ الكعبة هي بيت الله، وليست بيتاً للناس، بيد انها وضعت للناس ومن أجلهم.

أما الفارق المعنوي فهو يتجلي في انَّ اضافة البيت اليالله (سبحانه) هي التي منحته الشرف والرفعة. وذلك علي عكس الحالة الثانية، اذ اكتسب الناس الشرف والرفعة باضافتهم الي البيت.

فشرافة ( (البيت)) من نسبته لله تعالي؛ وشرافة الناس من نسبتهم الي البيت.

قوله تعالي: وضع للناس الوضع هنا تشريعي، والمقصود: انَّ البيت معبد وقبلة ومطاف للناس؛ جميع الناس دون ان يكون من اختصاص فئة دون اخري. والطريف الذي يلاحظ انَّ التعبير جاء بصيغة ( (وضع للناس)) لا بصيغة ( (بني)) للناس.


1- 38 البقرة: 194.
2- 39 العنكبوت: 67.
3- 40 الحج: 25.
4- 41 الانعام: 129

ص: 20

الكعبة هي القبلة لوحدها:

لنفترض انَّ الآية الكريمة أشارت الي الارض التي تحيط الكعبة، فمع هذا الافتراض، تكون الاشارة من باب انَّ هذه المساحة تشكل منطقة الحرم. أما ما هو مهم، فهو البناء الخاص؛ أي الكعبة.

وما يقال- علي سبيل التقرير- من انَّ الكعبة قبلة، فذلك في مقابل مَن ذهب للقول: انَّ الكعبة قبلة للقريب؛ ولا هل مكة يكون المسجد الحرام قبلة، أما البعيد فقبلته الحرم المكي برمته (1).

فهذا الرأي خطأ؛ والصواب انَّ الكعبة هي قبلة الجميع سواء منهم القريب والبعيد. والفارق الذي يقال انما يصدق علي جهة الاستقبال.

لقد حث الاسلام النبي والآخرين، علي ان يقولوا في كلِّ الحالات: ( (والكعبة قبلتي)) (2) حتي اضحت هذه الجملة ذكراً يردّده الجميع.

انَّ لجميع الاموات والاحياء شأناً مع الكعبة، فالمحتضر يستقبلها، والميت يدفن باتجاهها. بيد انَّه ليس لاحدٍ من هؤلاء شأن مع مسجد الحرام أو الحرم بنفسهما. اما قوله تعالي: شطر المسجد الحرام (3) فهو من جهة: فلنولينك قبلة ترضبها (4)فالقبلة المتمثلة بالكعبة هي المقصد.

ثم إنَّ الذي يولي وجهه شطر المسجد الحرام حتي يكون قد اتجه إلي الكعبة؛ فالاختلاف اذاً في جهة الاستقبال لا في القبلة نفسها. فالقريب يتوجه نحو البيت ويستقبل بوجهه ( (جرم الكعبة)). أما البعيد فهو يُولي نحو الحرم، الّا انه يتوجه الي الكعبة.

وبالنسبة لقوله تعالي: وحيث ما كُنتم فولوا وجوهكم شطره (5) فانَّ المقصود هو استقبال المسجد الحرام، لا اتخاذه قبلة. فالمسجد الحرام ليس قبلة بنفسه، ولا الحرم المكي، وانما تقتصر القبلة علي الكعبة نفسها كما اثبت ذلك المضطلعون بالدراسات الاسلامية (الفهية).

ومن طريف ما يمكن ان يشير اليه هنا، ما ذهب اليه بعض الأكابر من العلماء من انَّ الكعبة بنفسها ليست قبلة ايضاً؛ بل القبلة ماثلة في حيّز الفضاء الخاص الذي تشغله. ورحم الله استاذنا المحقق الداماد الذي كان يكرّر هذه الجملة بدأب: ليست الكعبة هي القبلة، اذ يمكن لهذه ( (البُنية)) ان تنهدم أو تنهار في يوم من الايام اثر سيل أو غيره؛ فهل يبقي المسلمون يومئذٍ دون قبلة!

لذلك قالوا: إنَّ القبلة هي ليست هذه البناية والجدران المضلعة، بل هي الفضاء الخاص الممتد ( (من تخوم الأرض الي عنان السماء)) (6). واستدلوا علي ذلك بأن المصلي اذاصلي في مكان منخفض أو مرتفع عن مستوي سطح الكعبة وبنائها، فهو يتوجه في الحالتين الي الفضاء الممتد من تخوم الارض الي عنان السماء، وكون هذا الفضاء قبلة لا يطرأ عليه أي تغيير أو تبديل.

ومن الطريف ان نختم هذه الفقرة بكلمات للفخر الرازي في فضل الكعبة وشرفها انتقلت من بعده الي كتب الآخرين؛ حيث قال: ( (ليس في العالم بناء أشرف من الكعبة، فالآمر هو الملك الجليل؛ والمهندس هو جبريل؛ والباني هو الخليل؛ والتلميذ اسماعيل (عليهم السلام) (7) وكفي بذلك فضلًا وشرفاً)).

بيد انّ مثل هذا الشرف والفضيلة لم يثبتا لبيت المقدس.


1- جواهر الكلام 320: 7
2- شرائع الاحكام: 1
3- البقرة: 144
4- البقرة: 144
5- البقرة: 144
6- الوسائل 247: 3
7- التفسير الكبير 145: 8

ص: 21

مصاديق ( (آيات بينات)):

ثمة آيات بينات في هذه الديار المقدسة، هي بمجموعها دلالة واضحة علي الغيب. انَّ الآية معناها العلامة، وهي بالاصطلاح القرآني علامةصدق الانبياء، فيما يدعون اليه من ربوبية الخالق وعبودية المخلوق.

لقد توفّر الفخر الرازي في تفسيره علي ذكر علامات (آيات) كثيرة تدل علي خصوصية الكعبة وكيفية بنائها (1)، وهي تتحرك اجمالًا في نطاق هذا المحور، وفيما يلي نستعرض بعض هذه الآيات- العلامات-:

1- انبثاق زمزم ودوام فوران مائها:

ثمة الكثير من الآيات البينات في خصوص بئر زمزم، فماؤها شفاء، وهو لا يفسد حتي لو طالت عليه المدة. ثم انَّ بئراً يبقي ماؤها يفور منذ آلاف السنين، في ارض تفتقر الي الأمطار الغزيرة ولا تكاد تسقط فيها الثلوج الّا نُزراً، هو بحدّ ذاته معجزة وآية معجزة وآية من الآيات الالهيّة البينة.

أما لو كانت هذه البئر في ارض تغزر فيها الامطار ويتكاثر سقوط الثلوج، لأمكن تفسير دوام انبثاق مائها علي اساس: فسلكه ينابيع في الأرض (2).

ثم انَّ في مائها بركة خاصة، كان رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) يطلبه هدية من القادمين من مكة.

وبئر هذا منبثقها؛ وهذا دوام فوران مائها، وفي مائها البركة والشفاء، بحيث لا يفسد ماؤها ولا يُصاب بالعَفَن، لهي حقاً محفوفة بالمعجزات، بل إنَّ ماءها وحده هو تجلي ل- ( (آيات بينات)).

2- المشعر الحرام.

في أطراف مكة (المشعر الحرام، عرفات، ومني) علامات تتجلي فيها آيات بينات. فرغم انَّ تلك المنطقة بعيدة عن مدار السيل، إلّا انَّه يكثر فيها الحصي واجزاء الصخر المفَتَّت الي قطعصغيرة، كتلك التي تتركها السيول حين تدهم منطقةصخرية جبلية.

فالحصي هناك كثير، ويكفي ان نتصوّر كثرته بما يحمله كل حاج بمفرده، اذ يحتاج كحدٍ وسط أو أدني الي سبعين حصاة؛ ومع ذلك لا زال الحصي وفيراً لم ينفذ، وفي ذلك وحده معجزة. يقول الفخر الرازي في تفسيره الكبير: ( (وقد يبلغ من يرمي في كل سنة ستمئة ألف إنسان- كل واحد منهم- سبعين حصاة، ثم لا يري هناك الّا ما لو اجتمع في سنة واحدة لكان غير كثير (3). وقد يقال الآن: انَّ المسؤولين في الحجاز هم الذين يتولون عمليه رفع الحصي المجتمع وتسطيح الارض مجدداً، ولكن ماذا بالنسبه لذلك الزمان؟.

3- رعاية الحيوان لحرمة الكعبة:

تسعي الطيور ان لا تحط في أعلي الكعبة كي لا يتلوث المكان بفضلاتها؛ واذا كانت فيي حالة انحدار من الأعلي نحو الارض، فانها تبتعد عن الكعبة بزاوية معينة. وفي ذلك وحده علامة علي آية بينة.

وَ ما ينبغي ان نشير اليه، انَّ عدم تلويث الطيور للمشاهد المشرفة والعتبات المقدسة، هو ظاهرة مشهودة أيضاً، وان كان الأمر يختلف بالنسبة الي الكعبة في تلك الزاوية التي ينحدر بها الطير بعيداً عن الكعبة.

لقد تحدّثوا بمثل هذه الكرامة لحرم الامام امير المؤمنين (عليه السلام) فقالوا: انَّ الطير تراعي هذا الأدب من باب: ( (ينحدر عنّي السيل وَلا يرقي اليّ الطير)) (4)

وقالوا عن الحرم المكي أيضاً: انَّ الوحوش لا تعتدي علي بعضها البعض وهي في الحرم، ولا تلحق الاذي بالحيوانات الأليفة.

وما نخلص إليه: ان ثمة الكثير من الشواهد الظنية التي تُفيد ان هذه المنطقة ليست عادية، فالحيوان فيها آمن، والانسان يتحلي بأمن نسبي ملحوظ الذي اطعمهم من جوع وآمنهم من خوف (5) في حين كان من حولهم ... ويتخطّف الناس من حولهم، أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون (6).


1- التفسير الكبير 145: 8
2- الزمر: 21
3- التفسير الكبير 145: 8
4- نهج البلاغة خطبة: 3
5- قريش: 4
6- العنكبوت: 67

ص: 22

4- مقام ابراهيم:

يحتل مقام ابراهيم (عليه السلام) موقعاً خاصاً فيصلاة الحاج وطوافه، كما ينص علي ذلك القرآن. وللمقام حرمة خاصة كونه مصداقاً للآيات البينات.

يقول تعالي: واذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً واتخذوا من مقام ابراهيم مصلّي، وعهدنا الي ابراهيم واسماعيل ان طهّرا بيتي للطائفين والعاكفين والركّع السجود (1). هل تجب الصلاة خلف المقام مُباشرة أم أنها تكفي عندَ المقام؟ ثمة اقوال انتهي اليها البحث الفقهي وُفق اختلاف المدرك (الرواية)، اذ احتاط بعضهم فذهب الي وجوب الصلاة خلف المقام مُباشرة؛ فيما عدّ البعض الآخر الصلاة عندَ المقام كافية.

لقد تحدثنا في فقرات البحث السابقة، عن كيفية كون مقام ابراهيم معجزة، واشرنا الي ما يتصل بذلك من حديث، فلا نُعيد.

تقابل ( (اللام)) و ( (علي)):

يقول تعالي: ولله علي الناس حجّ البيت من استطاع اليه سبيلًا انَّ علي الناس في الآية هي في حقيقتها للناس أي: لنفع الناس وفائدتهم، لا لضررهم وعليهم. كما انَّ ( (اللام)) في لله لا تفيد معني النفع والاستفادة، وانما معناها: انَّ هذا الامر هو من قبل الله ومن جهته الي الناس.

فالتكليف الإلهي يقترن دائماً بالخير، نظير قوله تعالي: كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسي أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم (2)وإذا كان الشي ء خيراً فلا يكون بضرر أحد.

لذلك نخلص إلي أنَّ ( (اللام)) و ( (علي)) حين يكونان في مقابل بعضهما البعض، فانَّ التقابل علامة علي انَّ الامر أو الشي ء يكون حكماً من أحد الطرفين، وجعلًا وواجباً علي الطرف الثاني، ولا يمكن ان يدل (التقابل) علي الضرر.

فضيلة الحج علي سائر العبادات:

لا يبدو من ظاهر آيات القرآن الكريم، انَّ ثمة عبادة غير الحج جاءت فيصيغة لله علي الناس اذ لم نجد نظير هذا الاسلوب في عبادة مثل الصلاة والزكاة، وبالتالي لا يقال ( (لله علي الناس اقامة الصلاة)) أو ( (لله علي الناس إيتاء الزكاة)).

وهذا التمييز يُعدّ في حدّ ذاته علامة علي خصوصية فريضة الحج وما تنطوي عليه من عظمة من بين سائر العبادات.

فعن الصلاة جاءنا الخطاب القرآني بصيغة وأقيموا الصلوة (3)أما الحج فتميَّز وانفرد بصيغة: لله علي الناس....

( (الحج)) لغة.

الحج مصدر، وقد ذهب البعض الي انّهُ اسم مصدر، ومعناه قصد بيت الله الحرام.

انَّ ( (حج البيت)) هو عبادة مألوفة منذ عصور قديمة؛ وبالذات منذصر الخليل ابراهيم (عليه السلام). وقد اعتادوا أن يعدّوا السنين بالحج، وفي ذلك يقول نبيُّ الله شعيب لموسي الكليم (عليهما السلام): قال إني أريد أن أُنكحك إحدي ابنتيَّ هاتين علي أن تأجرني ثماني حجج (4).

ويقال في لغة الشهور ( (ذو الحجة)) لوقوع ( (حج البيت)) في هذا الشهر، ويعبر أربع حجج بدلًا من أربع سنوات وهكذا.

هناك في الآية: لله علي الناس حج البيت... الكثير مما ينبغي التأكيد عليه؛ من نظير:

1- يتضح من ظاهر آيات القرآن أنَّ الحج هو العبادة الوحيدة، التي عُبّر عنها بصيغة لله علي الناس.

2- لقد قُدّم ( (لله)) علي المبتدإ المؤخّر، لكي يفيد السياق معني الحصر، ويدل علي انَّ العبادة (الحج) لله وحده.

3- لقد بينت الآية الامر بصيغة البدل، والإبدال يفيد التكرار كما يقال، اذ لم يقل سبحانه: ( (لله علي المستطيع...)) وانما قال: لله علي الناس حج البيت من استطاع.


1- البقرة: 125
2- البقرة: 216.
3- البقرة: 43.
4- القصص: 27.

ص: 23

4- انصرفت الآية وهي في معرض بيان من يشمله التكليف من ( (الناس)) للتعبير بصيغة بيان ( (البعض من الكل)) فقالت: من استطاع اليه سبيلًا وهذا الاسلوب بمثابة التفصيل بعد الاجمال والتبيين بعد الإبهام؛ وهو يفيد التكرار والتأكيد.

ولو جاءت الآية بصيغة ( (لله حج البيت علي المستطيع)) أو ( (لله علي المستطيع)) أو ( (علي من استطاع اليه سبيلًا حج البيت)) لما أفهمت المعني آنف الذكر.

المقصود من ( (البيت)) هو أول بيت وُضع للناس والاستطاعة تنقسم الي استطاعة عقلية واستطاعة شرعية، وكلا هما تتصمنهما الآية.

فمن الناحية العقلية يستطيع كل انسان ( (مستطيع)) ان يتشرف بالحج ( (ولو متسكعاً)) وان كان الحج مستحباً بالنسبة اليه، ليس بواجب؛ وان لم يكن مستحباً فيحمل علي معني الزيارة ويدخل في المعني العام لقوله تعالي: مباركاً وهديً للعالمين فهو مصدر هداية وبركة للجميع المستطيع وغير المستطيع، وحاجاً كان أو معتمراً؛ واجباً أدّاه أو ندباً.

إلّا انَّ الحج الواجب لا يجب الّا علي المستطيع. وفي البحث الفقهي ثمة آراء؛ فهل تلزم الاستطاعة ( (اليه)) فقط؛ أم انَّ الاستطاعة ( (اليه)) و ( (عنه)) كلتيهما لازمتان (1)؟.


1- 59جواهر الكلام 273: 17.

ص: 24

ص: 25

روءي الامام الخميني (ره) في الحج الابراهيمي

ص: 26

روءي الإمام الخميني (ره) في الحج الإبراهيمي

تأليف: محمّد محمدي ري شهري

وَ اذْ قالَ إبْراهيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا البلدَ آمناً وَاجْنُبْني وَبَنِيَّ انْ نَعْبُدَ اْلأَصْنامَ (1).

قد جري الحديث مراراً عن الحج الإبراهيمي في الخطب التي تلقي والمقابلات التي تجري بخصوص الحج، ولكن قلما وضع تحديد دقيق لهذا الحج، وأُجيب علي السؤال التالي:

ما هو الحجُّ الإبراهيمي؟

وما اختلافه عن الحجِّ غير الإبراهيمي؟

إذاً، فما أنسب أن يكون هذا الموضوع المهم محور حديثنا في ندوة الحج هذه التي تقعد في جوار مزار إمامنا العزيز، فكل مالدي الشعب وكل ما حققته له الثورة الإسلاميّة هو من بركات هذا الوجود الطاهر.

وبالطبع فانني لا اعتقد بأنّ هذا البحث الواسع سأتممه في هذه الكلمة، لكنني أرجوا أن أتحدّث عنه بشكل مستفيض في مناسبات أُخري.

ما هو الحجُّ الإبراهيمي؟

الحج الإبراهيمي: هو الحج الذي شرّعه الله تبارك وتعالي، وأمر بأن يوءَذن به إبراهيم الخليل (عليه السلام) وَ اذّن في الناسِ بالحجّ....

وقد جدّد رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) في عصره روح الحياة في هذا الحج، غير أنه لم تمر مدة قصيرة علي وفاته (صلّي الله عليه وآله وسلّم) حتي طواه النسيان- وللأسف-، ولم يستطع مسلمو الصدر الأوّل أن يواصلوه في المجتمع الإسلامي، حتي جدّده بعد مضي أربعة عشر قرناً في مجتمعنا الإيراني رجل من السلالة الطيبة لإبراهيم (عليه السلام) ومحمّد (صلّي الله عليه وآله وسلّم)، وإننا نسأل الله تعالي أن يوفقنا لأداء الحج بالشكل الذي رسم لنا معالمه الإمامُ العزيز.

عبّر الامام عن الحجِّ الحقيقي بالحجِّ الإبراهيمي تارة وبالحج الإبراهيمي- المحمدي تارةً أُخري، في قابل الحج غير الإبراهيمي.

وانسب ما يمكن أن نصف به هذا النوع الثاني من الحج في هذه البرهة من تاريخ الإسلام هو الحج الأمريكي، ذلك أنّ أنصار الإسلام الأمريكي هم الذين يحثّون عليه، إذ لا يتضمن إلّا شكلًا ظاهرياً للمناسك، دون أن ينطوي علي محتوي مفيد، بل إنه يضر الإسلام والمجتمع الاسلامي لانه يوجّه في خدمة أهداف أعداء الإسلام وأعداء الحج الإبراهيمي.

يعتقد الإمام الراحل أن الحجَّ الابراهيمي يختلف جذرياً عن الحج الامريكي، من الناحية الفلسفية ومن ناحية المحتوي، ومن ناحية الحجاج والقائمين علي أُمور الحج أيضاً.

فما هي فلسفة الحج عند الإمام؟ وماذا يجب أن يكون عليه محتوي الحج؟ وكيف يجب أن يكون عليه تفكير القائمين علي شؤون الحج وسلوكهم العملي؟ وكيف يجب أن يعمل الحجاج ببيت الله الحرام لو أرادوا أداء الحج بصورته الحقيقية الإبراهيمية؟


1- 1 ابراهيم: 35.

ص: 27

استخلصتُ رؤية الإمام في هذه المواضيع من نداءاته وخطبه وبياناته التي كان يصدرها في هذه المناسبة، سأبينها لحضراتكم، وأوصي جميع الحجاج، ولا سيما الاخوة علماء الدين بمطالعة نداءات الإمام وبياناته بهذا الخصوص والتي طبعت في مجلدين.

فلسفة الحج الامريكي:

تتلخص فلسفة الحج الامريكي في كونه زيارة ترفيهية سياحية ليس الّا، وعلي حدّ تعبير الإمام فان الحج الامريكي لا يخرج عن كونه سفراً ترفيهياً لمشاهدة القبلة والمدينة وتكرار سلسلة من الألفاظ المفرغة من معناها، وأداء سلسلة من الحركات الخالية من المضمون، والحاج لا يعلم لِمَ يطوف حول الكعبة، ولِمَ يسعي بين الصفا والمروة؟

لا يعي لِمَ يُحرمُ؟ وما هي فلسفة رمي الجمرات وتقديم الأُضحية؟

وليست هناك أية علاقة بين الحج الأمريكي وبين البحث عن جواب للأسئلة: ( (كيف تكون الحياة، وما هي طريقة الجهاد، وكيف يمكن الوقوف بوجه العالم الرأسمالي؟)) (1).

ولا علاقة- في منظار الحج الأمريكي- بين الحج وبين كيفية استيفاء مسلمي العالم ومحرومية لحقوقهم وسحبها من الظالمين والقراصنة (2).

ولا علاقة بين الحج وبين وجوب أن يُطرح المسلمون في العالم كقوة عظيمة (3).

ولا علاقة بين الحج وبين طريقة تعامل المسلمين مع الأنظمة العملية (4).

هذا هو تفسير الإمام للحج الأمريكي.

كما انّه لا علاقة بين الحج الامريكي وبين أن يتابع الحاج معاناة المسلمين الفلسطينين علي يد الكيان الغاصب للقدس.

ولا علاقة بين الحج الامريكي وبين أهم قضية يشهدها العالم الإسلامي حاضراً في التحركات المشبوهة لقادة الدول الإسلاميّة الرامية إلي إقامة العلاقات مع الكيان المحتل للقدس وتسويغ ما تسمي بمؤتمرات السلام.

حيث يتعرض المسلمون الفلسطينيون واللبنانيون هذه الأيام لأشدّ الضغوط.

وأيضاً لا علاقة بين الحج وبين ما يعانيه المسلمون والمحرومون في أفريقيا وأفغانستان.. هذا هو الحج الامريكي.

فلسفة الحج الإبراهيمي:

بيّن الإمام العزيز فلسفة الحج الابراهيمي بشكل جميل جذاب، وهذه مقتبسات من عبارات هذا الرجل الجليل في تبيين فلسفة الحج الابراهيمي: فالحج من وجهة نظر الإمام ( (تَجَلّ وتكرار لجميع مشاهد إبداع الحب في حياة الإنسان والجتمع المتكامل في الدنيا)) (5). وهذه أجمع جملة وأفضل تعبير يمكن أن نوضح فيه فلسفة الحج الإبراهيمي، ذلك أن الحج هو تجلّ لكل مشهد من مشاهد هذا الإبداع، تجلّ للجهاد والايثار والتضحية والشجاعة والشهامة والوحدة والذكر والارتباط بالله ولقاءالله و...

والهدف من الحج بنظر الإمام هو اقتراب الانسان منصاحب البيت والاتصال به، وليس الحج مجرد حركات وأعمال وألفاظ... وليس مجرد النظر إلي بعض الاحجار ومشاهدة البيت. دققوا في عبارات الإمام حينما يقول: ( (إنّ فلسفة الحج هي رؤيةصاحب البيت، ولابُدّ من أن توجّه الحركات والأعمال التي تؤدي هناك في هذا السبيل)).


1- 2 بيام استقامت نداء الاستقامة: 7.
2- 3 ما للحج ولأخذ حقوق المسلمين والمحرومين من الظالمين. بيام استقامت: 7.
3- 4 ما للحج واستعراض المسلمين لانفسهم كقوة عظمي تمثل القوة الثالثة في العالم. بيام استقامت: 7.
4- 5 ما للحج وثورة المسلمين ضد الانظمة العميلة. بيام استقامت: 7.
5- 6 بيام استقامت: 8.

ص: 28

( (إنّ مناسك الحج هي مناسك الحياة، وعلي الأُمّة الإسلاميّة بمختلف قومياتها أن تصبح إبراهيمية لتلتحق بركب أُمة محمّد (صلّي الله عليه وآله وسلّم) وتكون واحدة ويداً واحدة)) (1).

فالحجّ تنظيم وتمرين وبلورة للحياة التوحيدية.

يري الإمام أن ( (الحج يمثل مركز المعارف والإلهية الذي ينبغي أن يؤخذ منه محتوي السياسة الإسلاميّة في جميع الأبعاد الحياتية)). لهذا يمكن أن تُستخرج سياسة الإسلام بجميع أبعادها من الحج كما يقول الامام.

ولقائد الثورة العزيز الذي يواصل بحق نهج الإمام قولًا مماثلًا في حُكمه لي إذ يقول: ( (إنّ فريضة حج بيت الله هي من جملة الفرائض النادرة التي ادرجت فيها أبعاد متعددة ومتنوعة ترتبط بالحياة الفردية والسلوك الجمعي بشكل عظيم وذات تأثير عميق في الجسم والنفس الفكر وفي السلوك الآدمي، وتهبه، لو أدّاها بالشكل الصحيح، توفيقات كبيرة في جميع الميادين المادية والمعنوية)).

ومن مهمّات فلسفة الحج أيضاً في روءي الإمام بُعده السياسي، حيث يقول: ( (البعد السياسي للحج لا يقل أهمية عن بعده العبادي، ففي البعد السياسي عبادة فضلًا عن الجانب السياسي)) (2).

إنّ من فلسفة الحج أن يلبيصرخات الظلامة المنطقة من فلسطين وأفريقيا وأفغانستان، بل يستجيب لكل المظلومين والمستضعفين في العالم، لأن الحج ( (قيام)): جَعَلَ اللهُ الكَعبةَ البيتَ الحَرامَ قياماً لِلنّاس... (3).

ف- ( (البيت الذي أُسس للقيام. وهذا القيام للناس لا بُدّ من الاجتماع فيه لهذا الهدف الكبير، وتعيين منافع الناس في تلك المواقف الشريفة)) (4). هذا هو تقييم الإمام ونظرته إلي الحج، وليست منافع الناس أن يذهبوا هناك ويجلبوا البضائع، ويبتاعوا السلع الامريكية التي حرّمها الإمام، وفي توضيحه للآية الكريمة: ليشهدوا منافع لهم التي يبين فيها القرآن فلسفة الحج، يقول الإمام:

( (أي نفع أعلي وأسمي من أن تقطع أيدي جبابرة العالم والجائرين من التسلط علي البلدان المظلومة، وتصبح ثرواتها العظيمة بأيدي أبنائها)) (5).

أجل، هذا هو النفع الأكبر، وعلي حجاج بيت الله أن يأخذوا العبر من هذه الآية في معرفة فلسفة الحج.

ويقول الإمام عن الآية: وَ طَهِّربَيْتي للطّائِفينَ والقائِمينَ (6): ليس المقصود التطهير من النجاسات الظاهرية وحسب، فبيت الله يجب أن يطهر ليس فقط من النجاسات الظاهرية، وإنما من الأرجاس المعنوية أيضاً التي يفوق ضررها وخطرها علي المجتمع ضرر وخطر أي شي ء آخر. الحج الابراهيمي هو ذلك الحج الذي يقام لتطهير بيت الله من النجاسات الظاهرية والباطنية، يقول الامام: ( (المراد التطهير من جميع الأرجاس، وعلي رأسها الشرك، الأمر الذي بيّنهصدر الآية الكريمة)) (7). وَاذْ بَوَّأْنا لإبراهيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بي شَيْئاً وَطَهّر بَيْتيَ....

ويري الإمام أنّ من أهداف الحج ( (إيجاد التفاهم وتعزيز أواصر الوحدة الاسلامية)): ( (من مهمات فلسفة الحج إيجاد التفاهم، وتعزيز الاخوّة بين المسلمين، وعلي العلماء والخطباء طرح المسائل الأساسية والسياسية والاجتماعية مع إخوتهم في الدين وتهيئة مشاريع لحلها، ليطرحوها بدورهم علي العلماء وأصحاب الرأي لدي عودتهم إلي بلدانهم)).


1- 7 نفس المصدر.
2- 8صحيفه نور 67: 18.
3- 9 المائدة: 97.
4- 10صحيفه نور: 43: 19.
5- 11صحيفه نور: 43: 19.
6- 12 الحج: 26.
7- 13صحيفه نور: 87: 18.

ص: 29

وأخيراً فان الحج بنظر الإمام ( (بمستوي القرآن يستفيد منه الجميع، لكنّ المفكرين والخائضين غمراته والمتحسسين لآلام الأُمّة الإسلاميّة لو خاضوا لحج معارفه ولم يخشوا الاقتراب منه والغوص في أحكامه وسياساته الاجتماعية لاصطادوا منصدف هذا البحر كمية أعظم، من جواهر الهداية والرشد والحكمة والانعتاق، ولارتووا وإلي الأبد من زلال حكمته ومعرفته)) (1).صلي الله علي روحك وبدنك يا إمام، فهل هناك أجمل واشمل وأدق من هذه العبارات عن فلسفة الحج؟

يضيف الإمام: ( (ولكن ما العمل؟ وإلامَ تشكو هذا الغم الكبير؟ فقد أصبح الحج كما القرآن مهجوراً)).

( (ليس حجاً هو الحج الخالي من الروح والحركة والقيام والبراءة والوحدة، والحج العاجز عن هدمصروح الكفر والشرك)).

أيها الأعزاء، يمكنكم أن تزيلوا هذا الغم عن روح الإمام الطاهرة،صحيح انّه رحل عنّا، بيد أن رسالته تُثقل كواهلنا فرداً فرداً.

وقد لخّص الإمام الباقر (عليه السلام) جدّ إمامنا هذا الكلام في عبارة واحدة وقال: في تلك الأيام العصيبة التي كلكل فيها ظلّ السلطة الجائرة علي العالم الإسلاميّ: ( (إنما امر الناس أن يأتوا هذه الأحجار فيطوفوا بها، ثم يأتونا فيخبرونا بولايتهم، ويعرضوا علينا نصرهم)) (2).

يُريد الإمام الباقر (عليه السلام) أن يبين لنا من خلال استعماله لتعبير الأحجار أنّ الحج المجرد من الفلسفة الإبراهيمية للحج لا يعدو كونه طوافاً بالأحجار.

يقول الإمام الخميني: ( (التكليف الإلهي للحجاج في هذه البرهة الزمنية أن ينكروا كلّ موضوع يُشم منه رائحة الاختلاف والوقيعة بينصفوف المسلمين. ويعتبروا البراءة من الكفار وقادتهم واجباً من واجباتهم في المواقف الكريمة، ليكون حجّهم حجّاً ابراهيمياً وحجّاً محمدياً، وإلّا سيصدق عليهم القول المعروف: ما اكثر الضجيج، وأقل الحجيج!)) (3).

كان هذا جانباً من رؤي إمام الامة وهو يتناول القضايا التي تخص فلسفة الحج وأُسس الحج الإبراهيمي، وعلي قاعدة هذه الفلسفة والأُسس يختلف محتوي الحج بدوره، كما يختلف الحجاج والقائمون علي شؤون الحج.

وقبل أن أختم هذا الحديث، أتطرق باختصار إلي محتوي الحج الذي يختلف في الحج الابراهيمي عن غير الإبراهيمي في كلّ مناسكه من التلبية إلي الرمي، إذ يري الامام أنّ كلّ أعمال الحج وحركاته وسكناته تنطوي علي محتوي حيوي تربوي محرك خاص، وحينما يقول الحاج: ( (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك...)) لا يكون قولهصادقاً وحقيقياً إلّا حينما يصغي من أعماقه لنداء الحق ويستجيب لدعوة الله تعالي.

فالمسألة هنا مسألة الحضور في المحضر، ولا يستطيع أن يقول لبيك إلّا من يحس بهذا الحضور، فإنكم وأنتم في غرفة مغلقة الأبواب لا يوجد فيها غيركم لا تقولون ( (نعم))، إنّما تتفوّهون بهذه الكلمة حينما يوجد من يناديكم، فتشهدون وتسمعونصوته ودعوته، فالمسألة هي مسألة الحضور في المحضر ومشاهدة جمال المحبوب، وكأن الملبي في هذا المحضر قد خرج عن حالته الطبيعية. وتخلي عن ذاته.

إلهي، هل لنا أن ندرك ولو للحظة واحدة المعني الحقيقي للحج والمعني الحقيقي للإحرام ومفهوم التلبية؟


1- 14 بيام استقامت: 8.
2- 15 بحار الأنوار 374: 99 ط. بيروت.
3- 16صحيفه نور: 46: 19.

ص: 30

يصور الإمام العزيز هذه الحالة بشكل يبدو أن الملبي في محضر الله يخرج عن وضعه الطبيعي ويكرر التلبية ثمّ ينزهه عن الشريك بالمعني المطلق، أي: اللهمّ إني لا أُشرك بك مطلقاً، وأبرأ من كل الطواغيت الكبار والصغار، ولا استجيب الا لك، كما قال الامام الصادق عليه السلام في الحديث المروي عنه:

( (وأحرم عن كلّ شي ء يمنعك من ذكر الله، ويحجبك عن طاعته. كلّ ما اشَغَلَك عَنِ اللهِ هوَصَنَمُك)).

أحرِم عن كل ما يببعدك عن محضر الله، ويجعلك غافلًا عن ذكره، ويحجبك عن طاعته، وحرّمه علي نفسك، وحينما تلبي ( (لبِّ (1)تلبيةًصادقة، خالصة، زاكية لله- عزّ وجلّ- في دعوتك متمسكاً بالعروة الوثقي)). وحينما تتمسك بالعروة الولاية الوثقي- وهي الوجهة السياسية الأساسية للحج. قل ( (لبيك)) بإخلاص وصدق، وقل: اللّهم أتيت لأقول لك ( (لبيك)) ولغيرك ( (لا)).

اللهم أفِدْنا من الحج كما يفهمه أولياؤك وينتفعون منه.

اللهم وفّقنا لأداء الحج كما جسّده لنا الامام العزيز الذي نقف الآن في محضره وتشهدنا وتحيطنا روحه الطاهرة.

اللهمصِلْ ثورتنا بثورة الإمام المهدي (عجل الله تعالي فرجه) العالمية، وسدّد قائد الثورة آية الله الخامنئي واكتب له النصر المبين.

الحج الابراهيمي والحج الجاهلي


1- 17 بمعني أجِبْ.

ص: 31

الحج الإبراهيمي والحج الجاهلي

تأليف:صادق آئينه وند

لآلِ رَسُولِ الله بِالخَيْفِ مِنْ مِني وَبِالرُّكْنِ وَالتَّعْريفِ وَالْجَمَراتِ

دِيارُ عليّ والحُسَيْنِ وَ جَعْفَرٍ وَحَمْزَة وَالسَّجاد ذِي الثّفناتِ

وَسِبْطَيْ رَسُولِ اللهِ وَابْنَي وَصِيّهِ وَوَارِثِ عِلْمِ اللهِ وَالْحَسَناتِ " دعبل بن علي الخزاعي"

المقدمة:

إنّ أُصول الحج الإبراهيمي: هي تلك التي شرّعها الدين المبين، ومن الصعب الوصول عبر النصوص والوثائق الباقية- باستثناء القرآن الكريم- إلي شي ءٍ يمكنه رسم حقيقة تلك الأصول. ولكن في ضوء تعدد التفاسير، التي تقدمها المذاهب الاسلامية حول أداء الحجّ وفق نهج إبراهيم الخليل (عليه السلام)، وكما يدعو إليه الدين المبين، وبالتحديد ما يتعلّق بالنواحي السياسية والاجتماعية والتولّي والتبرّي، نجد من المناسب البحث فيما وصل إلينا عن شعائر الحج الابراهيمي ومناسكه، خصوصاً وان هذه التفاسير لم تكن بمنأي عن التأثر بتقادم الأزمنة وهيمنة الأمويين والعباسيين، والأجواء السياسية والاجتماعية التي ترتبت علي سلطة كلّ منهما، علاوة علي انحياز بعض العلماء والفقهاء الذين عدوّا أنفسهم مرتبطين بجهاز الحكم إبّان العهدين الاموي والعباسي.

إنّ ما يمكنه تفصيل الحجّ الابراهيمي، ونفخ الروح والمحتوي فيه، هو المضامين والمناسك، التي يجب دائماً التمسك بها واللجوء إليها، وبالحضور الديني بالحج تحقيقصدور رؤية إبراهيم الخليل (عليه السلام) ومحمّد الحبيب (صلّي الله عليه وآله وسلّم). وإلّا فانّ التمسك الظاهري في إقامة المراسم والمواسم يذكّر بالحجّ السهل الذي ادّاه أبوسفيان أيضاً. لأنّ الحجّ بالمعني العامّ لا يختصّ به الاسلام، إنّ ما أمر به الاسلام وأصرّ عليه، هو الحجّ الابراهيمي من بين الحجّ الجاهلي والحجّ الحنيفي والحجّ الصابئي.

حجّ إبراهيم (عليه السلام):

" والشائع في الأخبار والروايات والعربية القديمة أن الحجّ، علي زمن إبراهيم عليه السلام، كان يعني قَصْدَ كعبة مكّة والطَّوافَ بالبيت والتلبيةَ وقضاءَ بقية المناسك، ثم جاءت الوثنية بأصنامها وبيوتها وعباداتها فصار الحجُّ يشملها أيضاً (1).

وَإذْ بَوّأْنَا لإبْرَاهيِمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَا تُشْرِكْ بي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتي لِلْطَّآئِفينَ وَالْقَآئِمينَ والرُّكَّعِ السُجُودِ* وَأَذِّنْ في النّاسِ بِالحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَ عَلي كُلّ ضَامِرٍ يأْتيِنَ مِنْ كُلّ فَجّ عَميقٍ (2).

" أنّ إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) هما اللّذان بنيا الكعبة بيت عبادة لله، وأنّ حرمة الكعبة ومنطقة مكّة وتقاليد الحجّ وطقوسه المتنوعة في هذه المنطقة من سنن إبراهيم" (3).

وقد إخذ الإقوام الآخرون- الذين عاشوا بألف سنة قبل ميلاد المسيح (عليه السلام)- بهذه السُّنة؛ فكانوا يراعون حرمة مكة والحرم.

يخمّن خبراء الكتاب المقدّس (العهد القديم والجديد) والمتخصّصون في الأديان، أنّ إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) عاشا نحو ألفي عام قبل الميلاد، وبذلك يكون قد مضي نحو 40 قرناً علي الظهور الحديث للكعبة بالبناء الإبراهيمي.


1- 1 الوثنية في الأدبَ الجاهل، الدكتور عبد الغني زيتوني: 273.
2- 2 الحج: 26- 27.
3- 3 تاريخ العرب قبل العروبة الصّريحة في جزيرة العرب، محمّد عزة دروزة: 115- 116.

ص: 32

وعندما تحدّث ديو دورس سيسيلي yliciS fO surodoiD الذي عاش في القرن الأول قبل الميلاد، عن الأنْبَاط، أشار إلي الكعبة بقوله:" إنّه مكان مقدّس له حرمة وشهرة بين جميع العرب، هو مكّة" (1).

يعتقد بعض الباحثين، أنّ مفردة" مَكُورابا" ( (abarocaM والتي تلفظ في اليونانية" مقوروبا" ئالتي أراد بها اليونانيون اسم مدينة، وتعني مكان التقرّب لله، تعني مكة. معلوم أنّ كلمة" مَكْرُب" هي مفردة دينية قديمة استعملت قبل ألف عام من تأسيس حكومة السبأ.

وقد أشار بَطْلَميوس ( (ymelotp الفلكي والجغرافي الذي عاش في القرن الثاني للميلاد إلي هذه المفردة (2).

علي هذا الأساس يمكن القول: إنّ مفردة" مكة" تمثّلصفةً ونعتاً لبيت الله ولا تعني اسماً خاصاً. لكنّها أثر الاستعمال والشهرة حلّت مكان الاسم، مثل القدس إذ حلّت الصفة محلّ اسم العلم. وكلمة" بكّة" تعادل" مكّة"، فحسب رأي الدكتور جواد علي أنّ الكلمتين تملثان تسميةً واحدةً، ففي لهجات القبائل تأتي الباء بدل الميم بالقلب والابدال، وبخاصّة في لهجات جنوب الجزيرة العربية (3).

يري بعض المحققين أنّ مفردة" بكّة" تعني الوادي.

إنّ أول بيت وضع للناس للذي ببكّة مباركاً وهُدي للعالمين.

جاء في القاموس:" بكّةُ" تقال لمكّة، أو لما بين جبليها؛ نري أنّ مفردة" بَكْ" سامية قديمة، وكلمة" بُقعاه" عبرية وتعني الوادي، وقد أُطلقت علي الوادي الواقع بين لبنان الساحلي ولبنان الشرقي والذي أسماه الروم سورية المنخفضة.

" وإنّ مدينة بعلبك مشهورة، وهي من الكلمات المركبة تركيباً مزجياً من" بعل" [إله قديم] و" بك" [الوادي] ومعني بعلبك إله الوادي" (4): وهو نفس الاسم الذي أُطلق علي هذه المدينة تيمّناً بآلهة الساميين المعروفة ويُطلق اليوم علي هذا الوادي اسم البقاع، والذي يمرّ نهر الليطاني عبره.

أطلق القرآن الكريم علي مكّة اسم" امّ القري" (5)و" قرية" (6)، قارنها بالطائف: وَقَالُوا لَوْلَا نُزّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلي رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظيمٍ (7).

وقد ذكر أغلب المفسرين أنّ المراد من القريتين هما مكّة والطائف (8).

وقال المسعودي في مروج الذهب:" وقد كان إبراهيم قدم إلي مكّة ولإسماعيل ثلاثون سنة حين أمره ببناء البيت" (9).

إنّ ما يسترعي الاهتمام من الناحية التاريخية، هو ما نقله مينغانا ( (anagniM عن راهب سُرياني يدعي نَرْسَيْ ( (iasraN بشأن نزاع أولاد هاجر في (بيت عربايه) في الحدود الشاميه، وهذا الخبر يمثل أوّل نقل عن شخص من أهل الكتاب (تُوفّي في سنة 485 للميلاد) أفاد فيه بوجود قريش في شمال الجزيرة، وهو يتطابق مع ما أورده النّسابون واْلأَخباريون العرب، في إرجاع نسب قريش إلي إسماعيل (عليه السلام) (10).

جاء في الآيات (140- 150) من سورة البقرة المباركة والتي استنكرت دسائس اليهود بين المسلمين بشأن تغيير القبلة من القدس إلي الكعبة، قوله تعالي: وان الذين أُتوا الكتاب ليعلمون أنّه الحقّ من ربّهم وما الله بغافل عمّا يعملون (11).

وفيه إشارة قبل كلّ شي ء إلي علم اليهود بأفضلية الكعبة وأقدميتها، كقبلة. ممّا يعني أنّهم كانوا يقرون قبل ظهور الاسلام بفضائلها وسوابقها واتصالها بابراهيم (عليه السلام) وقد حدّثوا العرب بذلك.

لم يسجّل التاريخ ما يقود إلي اليقين في الحجّ الابراهيمي الصحيح غير ما علّمه القرآن الكريم.

والحجّ الحنيفي الذي يدّعي محاكاة حجّ ابراهيم (عليه السلام) فعلاوة علي أنّه جُعل ليقابل حجّ المشركين وعُمل به في أجواء الشرك الجاهلي، فهو غير واضح، كما أنّ شبهة الشرك تكتنفه في بعض الحالات.


1- 4 105 .P nailicis eht surodoid fo yrarbil lacirotsih eht ,htooB
2- 5 تاريخ العرب في الاسلام: 45- 47.
3- 6 نفس المصدر: 47- 48.
4- 7 تاريخ الجاهلية، الدكتور عمر فرّوخ: 109.
5- 8 الشوري: 7.
6- 9 محمّد: 13.
7- 10 الزخرف: 31.
8- 11 511 .P ,8 .loV gnitsaH yb ,scihte dna noigiler fo aideapolcycnE
9- 12 مروج الذهب 164: 2.
10- 13 تاريخ العرب في الاسلام: 48- 49.
11- 14 القبرة: 144.

ص: 33

في عقيدتنا أنّ الحجّ الابراهيمي هو حجّ الاسلام، إلّا أنّ قيمة هذا الحجّ ومكانته تُدرَك عندما نتتعرّف علي الحجّ الجاهلي وحجّ المشركين، ونجري مقارنة بينهما، كي لا تتحرك- والعياذ بالله- تلك الرواسب الباقية في أذهان المسلمين، وتطرح مقابل الحجّ الابراهيمي الذي أمر به القائد الكبير للثورة ومؤسّس الجمهورية الاسلامية في إيران سماحة الامام الخميني- قدّسنا الله بسره العزيز- وأُقيم للمرة اْلأُلي في هذا العصر.

لم يتّفق المؤرّخون السابقون علي رأي واحد بشأن دخول الشرك وانتشاره في الجزيرة العربية، فبعضهم مثل هشام الكلبي رأي في كتاب" الأصنام":" أنّ إسماعيل بن إبراهيم (صلّي اللهُ عليهما) لما سكن مكة وولد له بها أولاد كثيرٌ حتي ملأوا مكة ونفوا من كان بها من العماليق، ضاقت عليهم مكة ووقعت بينهم الحروب والعداوات وأخرج بعضهُم بعضاً، فتفسَّحوا في البلاد لالتماس المعاش.

وكان الذي سَلَخ بهم إلي عبادة الأوثان والحجارة أنّه كان لا يظعنُ من مكة ظاعنٌ إلّا احتمل معه حَجَراً من حجارة الحرم، تعظيماً للحرم وصبابةً لمكّة" (1).

وقد أدّي هذا العمل علي المدي الطويل إلي نشوءصناعة الأصنام، وعبادتها وبالتالي ساد الشرك الجزيرة.

وكانوا في ديار الغربة يدورون حول هذه الأصنام، ويطوفون حولها كما يطوفون حول الكعبة. إلّا أنّ هشام يضيف قائلًا:" وهم بعدُ يعظمون الكعبة ومكّة، ويحجّون ويعتمرون، علي إرث إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام)" (2).

وفي الأسباب الكامنة وراء الميل نحو الشرك وتغلّبه علي دين إبراهيم، رأي هشام أنّها تتمثّل في توغّلهم واهتمامهم الشديد بالأصنام، موضّحاً أنّه رغم كلّ ذلك كانت ثمّة بقايا مناسك من عهد إبراهيم و إسماعيل (عليهما السلام) قام أهل الجاهلية بأدائها بعد أن مزجوها بتقاليد الشرك، فبدأ الحجّ الجاهلي بمعناه الدقيق من ذلك الحين:

" وفيهم علي ذلك بقايا من عهد إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) يتنسّكون بها: من تعظيم البيت، والطواف به، والحجّ، والعمرة، والوقوف علي عرفة ومزدلفة، وإهداء البُدن، والإهلال بالحجّ والعمرة، مع إدخالهم فيه ما ليس منه" (3).

مناسك الحجّ في الجاهلية:

كان الحجّ في الجاهلية يبدأ من اليوم التاسع من شهر ذي الحجّة، عندما تشارف الشمس علي الغروب، وقبله يجتمع الناس لأغراض التجارة في سوق عكاظ خلال شهر ذي القعده لمدة عشرين يوماً، يتوجّهون بعد انقضائها إلي سوق المَجنّة حيث يمكثون فيه حتي نهاية الشهر وهم يمارسون معاملاتهم التجارية، وإذ هلّ هلال ذي الحجّه انطلقوا إلي ذي المجاز ليواصلوا فيه البيع والشراء علي مدي ثمانية أيام، وفي اليوم التاسع ينادي المنادي فيهم:" تروّوا بالماءِ لأنّه لا ماءَ بعرفة ولا بمزدلفة".

وبهذه المناسبة سُمي هذا اليوم بيوم التروية، وهو اليوم الذي ينتهي فيه موسم أسواق الحجّ الجاهلي (4).

في اليوم التاسع من ذي الحجّة يصل الحجاج إلي عرفة، ويرتدون اللباس الخاصّ بالحج كما أورد الجاحظ:" كانت سيماء أهل الحَرَم إذا خرجوا إلي الحِلَّ في غير الأشهر الحرم، أن يتقلّدوا القلائد ويُعلِّقوا عليهم العلائق، فإذا أَوْ ذَمَ أحدهم الحجّ، تزيّا بزيّ الحاج" (5).


1- 15 كتاب الاصنام، ابو منذر هشام بن محمّد الكلبي: 6.
2- 16 نفس المصدر.
3- 17 نفس المصدر.
4- 18 الوثنية في الادب الجاهلي: 282- 284 واسواق العرب في الجاهلية والاسلام، سعيد الافغاني: 249- 250.
5- 19 البيان والتبيين، الجاحظ 95: 3.

ص: 34

ويقومون بالتلبيد قبل ذهابهم إلي المواقف. والتلبيد عبارة عن وضع الحاجّ مزيجاً من الخطمي والآس والسدر ومادةصمغية علي شعر رأسه وذلك للحيلولة دون تسريحه ودون قتل القمل، وقد وصف امية بن أبي الصلت الحجاج الذين لتبّدوا بقوله:

شاحِينَ آباطَهُم لَمْ يَنْزِعوا تَفَثاً ولَم يَسُلُّوا لَهُم قُمْلًا وصِئْباناً (1) المواقف:

الموقف الأوّل، هو عرفة كما ذكرنا إذ يصلونه في اليوم التاسع من ذي الحجة.

وقد ذكروا وجوهاً مختلفة بشأن اسم" عرفة" منها.

أنّ جبرئيل كان يطوّف إبراهيم في المشاعر، ويعلّمه المواضع وهو يقول: عَرَفتُ، ومنها أنّ آدم وحواء بعد الهبوط عرف أحدهما الآخر في هذا المكان، ومنها أنّ الناس يتعارفون في هذا الموضع (2).

قال ياقوت:" وقيل: بل سمّي بالصّبر علي ما يكابدون في الوصول إليها، لأن العرف الصبر؛ ويقال: إنّ الناس يعترفون بذنوبهم في ذلك الموقف" (3).

" ويقارن هوتسما ( (amsetuoH الوقوف بعرفات بوقوف اليهود علي جبل سيناء، حيث كان يتجلّي معبودهم بالبرق والرَّعد، وان كنّا لا ندري شيئاًعن إله عرفات، ولربّما كان نفسه إله المزدلفة" قُزح" [إله البرق والعواصف والرّعد والغيث] الذي عبده الأدوميون من قبل ولم يبق من ظواهر عبادته بين الجاهلين إلا إشعال نيرانه بمزدلفة." (4).

وكان لكلّ قبيلة موقف خاص بها في عرفة، ولم يبق الآن إلّا أسماء بعضها، لأنّ وحدةصفوف الحجاج في الاسلام دون تمايز، أدّت الي اندثار أسماء تلك المواقف.

من المواقف الخاصّة التي ما زالت باقية موقف نَفْعَة الخاصّ بقبيلة ربيعة والذي ورد في شعر لعمرو بن قَمِيئَةٌ:

و منزلةٍ بالحجّ أُخري عَرَفْتُها لها نَفْعَةٌ لا يُستطاع بروحُها (5) كانت قريش وكذلك أهل مكّة يرون أنفسهم أفضل من غيرهم من العرب، فيختارون موقفهم بالقرب من مكان الأضاحي في مزدلفة في موضع اسمه نَمِرة.

وكانوا يعظمون جبل" إلال" في عرفة ويقسمون به، وقد ذكر في شعر النابغة في عدّة أماكن، كذلك أورده طُفيل الغنوي في شعره بقوله:

يَزُرْنَ إلالًا لا يُنَصِّبْنَ غيره بكلِّ ملَبٍ أشعثِ الرأس مُحرمِ (6) وكانوا يطلقون علي الانتقال السريع من عرفة إلي مزدلفة تسمية الإفاضة أو الإجازة، وكان هناك أشخاص يتقدّمونهم ليهدوهم السبيل.

وروي ابن هشام في سيرته" كان الغوث بن مُرّ بن أدّ بن طابخة بن إلياس بن مُضر يلي الإجازة للنّاس بالحجّ من عرفة، وولده من بعده؛ وكان يقال له ولدهصُوفَة" (7).

وفي وجه التسمية قالوا: إنّ أُمّة عندما ربتطه بالكعبة وضعت عليه قطعة من الصوف.

وممّا رُوي عن ابن عباس في الحجّ الإبراهيمي، أنّ النبي (صلّي الله عليه وآله وسلّم) منع من الحركة السريعة وأمر بالسكينة إذ قال (صلّي الله عليه وآله وسلّم):" أيها الناسُ، عليكم بالسكينة، فإنّ البرّ ليس بالإيضاع" (8).


1- 20 ديوان امية بن أبي الصلت: الدكتور عبد الحفيظ السطلي: 518.
2- 21 في طريق الميثيولوجيا عند العرب، محمّد سليم الحوت: 150.
3- 22 معجم البلدان 117: 4.
4- 23 32. P. 3, lov malsi fo aideapol cycnE
5- 24 الوثنية في الادب العربي: 287.
6- 25 نفس المصدر: 289.
7- 26 السيرة النبوية لابن هشام 119: 1.
8- 27صحيح البخاري 201: 4.

ص: 35

وكما نقل الأزرقي، فان أول من أسعل النار فوق جبل قُزَح كان قصي ابن كلاب، حيث استمر هذا الأمر حتّي ظهور الاسلام، ولعلّ الهدف من اضرام النيران هناك هو إرشاد الحجاج، إذ كان من الممكن أن يحلّ الظلام قبل أن يصلوا إلي المزدلفة (1).

وكان الجميع يجتمعون في المزدلفة الواقعة بين عرفات ومني، حتي قريش والمكّييون كانوا ينضمّون إلي المجتمعين، وكانوا يمضون الليل بالدعاء والتلبية بانتظار طلوع الشمس، وكان البعض لجعلته يخاطب جبل ثبير الذي تشرق الشمس من خلفه بقوله:" أشْرِقْ ثبير، كيما نُغير".

وتكون الافاضة في الحجّ الابراهيمي من عرفة بعد الغروب، ومن مزدلفة قبل طلوع الشمس، خلافاً الحجّ المشركين.

وقد أشار أبو ذُؤيب الهُذلي إلي مبيت المشركين في مزدلفة، وانتقالهم منها إلي مني في شعرٍ له وصف به حاجّاً مشركاً أدّي أعماله متعجّلًا ليشتري العسل، إذ قال:

فَباتَ بجمحٍ ثم تمّ إلي منيً فأصبح رادّاً يبتغي المزج بالسِّحل (2) إنّ التاريخ لا يحدّثنا بشي ء عن سبب الاسراع في العبور من مزدلفة إلي محلّ الهدي بمني، لكنّ بالإمكان الحدس بأنّه كان للحصول علي مكان مناسب، أو للتعجيل في الهدي.

وفي المزدلفة أيضاً كان الصُوفة يقومون بالإضافة، التي كانت تتكفّلها أُسر أُخري من القبائل أيضاً.

موقف مني:

بعد وصولهم مني ينحر المشركون الهدي، ويستمر ذلك من الصباح حتي الغروب. وكانوا يرمون الحجارة في مكانين خاصّين هما المُحصَّب والجمار كي لا يمكن لأهل مكة أن يزرعوا شيئاً فيهما، ومعلوم أنّ هذه الأحجار يجب أن تكون كبيرة لتجعل الأرض غيرصالحة للزراعة تماماً، فهي تتفاوت مع الأحجار الصغيرة التي تستعمل في الحجّ الابراهيمي لرمي الجَمَرات.

يبدو أنّ اهل الجاهلية يخرجون من الإحرام بعد النحر والرمي في مني، وهذا المفهوم يُستفاد من شعر نقله الجاحظ في كتاب الحيوان لعبدالله بن العَجْلان.

بعد النحر يتوجّه المشركون إلي الرمي، إلّا أنّ هذا العمل منوط بإجازة الصوفة الذين يتكفّلون أمر الافاضة من عرفة ومزدلفة، وأُؤلئك لا يرمون حتّي تتقرب الشمس من الغروب (3).

ثمّة بيت في كتاب المفَضّليّات عن الشنفري الشاعر الجاهلي الصعلوك، وردت فيه كلمة الجمار:

قتلنا قتيلًا مُهْدياً بِمُلَبِّدٍ جمار منيً وسط الحجيج المُصَوِّت (4) بعد الفراغ من الرمي، يحبسون الحجاج في العقبة، ولا يسمح لأحد بالحركة حتّي يعبر الصُوفة، الذين بعبورهم يتحرّك الحجاج بعدهم.

وقد بيّن مُرَّة بن خُليف الفهمي، شوق الحجاج للحركة ومنع الصوفة لهم في هذا البيت من الشعر:

إذا ما أجازتصُوفةُ النَّقبَ مِنْ مِني ولاحَ قتارٌ فوقَه سَفَعُ الدَّم (5) تبدأ مراسم الحج، قبل الغروب من اليوم التاسع من ذي الحجة، وبعد عرفة ومزدلفة وإشعال النار فوق جبل قزح، ونحر الهدي ورمي الجمرات، تنتهي عند الغروب، أي إنّهم يكونون قد فرغوا من مراسم الحجّ في ليل العاشر من ذي الحجّة، يبقي دخول مكة والطواف ثم يعود كلّ فرد إلي وطنه بعد أدائهما.


1- 28 اخبار مكة 154: 2.
2- 29 الوثنية في الادب الجاهلي: 293.
3- 30 السيرة النبوية لابن هشام 120: 1.
4- 31 المفضليات، الضّبي: 111.
5- 32 معجم الشعراء، المرزباني: 294.

ص: 36

وكانت مراسم الحلق والتقصير تتمّ بعد التلبيد، وحسبما أوردصاحب تاج العروس، فقد كان اليمنيون يضعون علي شعرهم الملبد الطحين أو مسحوق الحمص والسُّكر، ثمّ يلحقون، فيتساقط الطحين أو مسحوق الحمص فينتفع به الفقراء (1).

ولا بُدّ من معرفة أنّ الحلق والتقصير لا يكونان في مني وحسب، بل وكما قال هشام الكلبي:" كانت الأوس والخزرج ومن يأخذ بأخذهم من عرب أهل يثرب وغيرها يحجّون، فيقفون مع الناس المواقف كلّها، ولا يحلقون رؤوسهم. فإذا نفروا أتوه [مَناة]. فحلقوا رؤوسهم عنده وأقاموا ولا يرون لحجّهم، تماماً إلّا بذلك" (2).

الفوارق والامتيازات:

إذا تمعّنا في مراسم الحجّ الجاهلي من خلال التاريخ والأدب المدوّنين، وجدنا ثمّة فوارق ناشئة عن شعور بعض القبائل بالفضل علي سواها. وتتمثّل هذه الفوارق قبل كلّ شي ء في طريقة أداء حجّ المشركين، الذي فقد طابعه الديني ووحدته، بسبب تأثير النزعة الاستعلائية للقبائل القوية.

وكان الحجاج في الجاهلية علي ثلاثة أقسام: 1- الحُمْس. 2- الحِلِّة. 3- الطُلْس.

1- الحُمْس: كان القرشيون يرون لأنفسهم الأفضلية علي سائر العرب، ولمجاورتهم مكّة كانوا يقولون:" نحن أهل الحرم، فليس ينبغي لنا أن نخرج من الحرمة، ولا نعظّم غيرها كما نعظّمها، نحن الحُمْس" (3).

يتبيّن من هذا المقطع أن امتياز الحُمْس كان مختصّاً بسكّان الحرم من قريش، فقد جاء في كتاب المحَبَّر أنّ الحُمْس يطلق علي" قريش كلّها، وخزاعة لنزولها مكّة، ومجاورتها قريشاً" (4).

وقد ذُكر وجهان في المعني اللغوي لكلمة الحُمْس، إذ ورد أنّ:" الحُمْس جَمع أحْمَس وحَمِسٍ، مِن حَمِسَ: أي، اشتد وصَلُبَ في الدين والقتال، وقيل: إنّهم لقبوا بذلك لالتجائهم بالحَمْسَاء، وهي الكعبة، لأنّ حَجَرَها أبيض إلي السواد" (5).

وما أوجده الحُمْس في الحجّ هو ترك الوقوف في عرفة والإفاضة منها إلي المزدلفة، فهم في الوقت الذي يقرّون فيه بهذه المناسك، يقولون: نحن أهل الحرم لا ينبغي لنا الخروج من الحرم وتعظيم غيره؛ وعندما يقف الحجاج في عرفة، يقفون هم عند أطراف الحرم ثمّ يذهبون ليلًا إلي المزدلفة.

وقد ظلّ هذا الأمر حتّي ظهور الاسلام، إذ ألغته الآية ثم أَفيضُوا من حَيْثُ أفاضَ النّاسُ... (6).

ومن جملة الأعمال التي كان علي قريش القيام بها رعاية للحُمْس هو أنهم:" لم يطبخوا إقطاً، ولم يدّخروا لبناً، ولم يحولوا بين مرضعة ورضاعها حتي يعافه، ولم يحركوا شعرا ولا ظفرا، ولا يبتنون في حجّهم شعراً ولا براً ولاصوفاً ولا قطناً، ولا يأكلون لحماً، ولا يمسّون دُهناً، ولا يلبسون إلا جديداً، ولا يطوفون بالبيت إلّا في حذائهم وثيابهم، ولا يمسّون المسجد بأقدامهم تعظيماً لبقعته، ولا يدخلون البيوت من أبوابها." (7).

وقد أشار القرآن إلي هذا الأمر، ونهي عنه في الآية وليس البر بأن تأتُوا البيوت من ظهورها، ولكن البر من اتقي، واتوا البيوت من أبوابها.. (8).

ومن تقاليد الحُمْس الأُخري قولهم، إنّه لا يليق بغير أهل الحرم أن يتناولوا طعام غير الحرم في الحرم، بل عليهم إذا جاءوا للحج أو العمرة أن يأكلوا من طعام أهل الحرم إمّا من خلال الضيافة أو الشراء (9).


1- 33 تاريخ العروس 486: 3.
2- 34 كتاب الاصنام: 14.
3- 35 السيرة النبوية لابن هشام 199: 1.
4- 36 المحبّر، ابن حبيب: 178.
5- 37 القاموس المحيط، مادة حمس.
6- 38 البقرة: 199.
7- 39 المحبّر: 180 والسيرة النبوية لابن هشام 202: 1.
8- 40 البقرة: 189.
9- 41 الوثنية في الأدب الجاهلي: 304- 305.

ص: 37

كذلك كان من الواجب علي كلّ من أراد الطواف للمرة الأُولي، أن يطوف بلباس أهل الحرم، أي الحُمْس، وإن لم يجد ذلك طاف عريان (1).

كذلك إذا تزوّج رجل من نسائهم فإنّ أولاده يكونون من الحُمْس، ولهذا الأمر بواعث سياسية واقتصادية أيضاً، وقد تفاخر بعض شعراء الجاهلية بذلك.

2- الحلّة: وهم قبائل سكنوا خارج الحرم، أي في الحلّ، وعرفوا بالحلة، وكان الفرق بين أهل الحل وأهل الحرم في أن أهل الحل كانوا في ايام الحج يذيبون السمن، ويأكلون الإقط واللحم، ويضعون الزيت علي أجسامهم، ويلبسون من الصوف والشعر، ويقيمون في الخيام، ويؤدّون المناسك بثيابهم، وبعد الفراغ وعندما يدخلون الكعبة يتصدّقون بنعلهم وثيابهم، ويستأجرون للطواف الثياب من أهل الحُمْس (2).

3- الطُلْس: قيل إنّهم اليمنيون من أهل حضرموت وعكّ وعجيب وإياد بن نزار، والوجه في تسميتهم هو مجيئهم من مناطق بعيدة وبالتالي طوافهم بالبيت وقد غطاهم الغبار (3). وكان هؤلاء يماثلون الحلة في الإحرام، والحُمْس في ارتداء الثياب ودخول البيت (4).

العُمْرة:

يأتي أهل الجاهلية من الحُمْس والحلة والطُلْس إلي الكعبة لغير الحجّ أيضاً وذلك لأداء العمرة، وكانوا يمتنعون عن التلبيد ويحلقون سلفاً خلافاً لما كانوا يفعلونه في الحجّ، ويعدون أداء العمرة في أشهر الحجّ، ذي القعدة وذي الحجة ومحرم، من الذنوب التي لا تغتفر، فهم يقولون:

" إذا برأ الدبُر وعفا الوَبَر، ودَخَلصفر، حلَّت العمرة لمن اعتمر" (5).

ولا فرق بين العمرة والحج من حيث الاحرام والطواف، بيد أنها لا تتضمّن الوقوف في عرفة والمزدلفة ومني، ورمي الجمرات.

السقاية والرفادة:

لوقوع مكة في وادٍ غير ذي زرع، ولشحّة المياه فيها، فإن سعي القرشيين الرئيس في أيام الحج كان منصباً علي توفير الماء للحجيج، وقد سمي هذا العمل بالسقاية. وقيل إنّ أول من سقي الحجيج هو قصي.

والمشكلة الثانية في هذه الايام بعد إيصال الماء هي الإطعام، وقد سمي هذا العمل بالرفادة. وقيل إنّ أول من قام به هو قصي أيضاً (6).

وقد بقي هذا العمل لأولاد قصي، إذ تكفّل به من بعده هاشم بن عبد مناف، ثمّ ابنه عبدالمطلب، ثمّ أبوطالب الذي عصر ظهور الاسلام.

وقد شارك في هذا العمل أشخاص آخرون من غير هذه الاسرة، مثل عدي بن نوفل الذي عاصر عبدالمطلب، وكان يسقي الحجيج في الصفا والمروة لبناً وعسلًا (7).

الطواف والتلبية:

إن ما يسترعي الاهتمام وتتّضح فيه هوية الحجّ الجاهلي الحقيقية، هو محتوي التلبيات وارتباطها بالاصنام، إذ لم يكن من حجهم بكل مظاهره غير حركات عابثة وأفعال لا معني لها.


1- 42 السيرة النبوية لابن هشام 202: 1.
2- 43 المحبّر: 180.
3- 44 الوثنية في الأدب الجاهلي: 308.
4- 45 المحبّر: 181.
5- 46صحيح البخاري 170: 2- 175.
6- 47 الوثنية في الادب الجاهلي: 313، نقلًا عن اخبار مكة.
7- 48 نفس المصدر: 315.

ص: 38

فأعمال الحج في واقعها رموز إلهية بروح توحيدية جاءت من الخليل محطم الأصنام، وأدت الغفلة عنها، والغربة عن أسرارها ورموزها، وعدم فراغ القلب من سوي المطلوب، والدوران دون حضور القلب، إلي الخسران.

والأهم من كل ذلك هو الربط بين تلك الرموز والشعائر، في تلك المواقف والمناسك، وبين العالم الخارجي الذي سيواجهه الحاج في الحج الابراهيمي، العالم الذي يحب أن يحياه ديناً وقلباً ودنياً وفق نهج إبراهيم (عليه السلام) ومحمّد (صلي الله عليه وآله وسلّم) أي وفق الاسلام، وبالجمع بين هذه الثلاثة يكون قد سلك النهج الذي أطلقه الخليل (عليه السلام) والحبيب (صلّي الله عليه وآله وسلّم).

كان حج المشركين حجاً جاهلياً، إذ كانوا يتوجهون بعد وصولهم مكة إلي الأصنام يظهرون لها خضوعهم، وفي عرفة والمزدلفة ومني كانوا دائماً بذكرها أو بجوارها، ففي مني وضعت سبعة أصنام بالقرب من الجمرات الثلاث ليعظمها الحجيج بعدها، وكان مكان الأضاحي (الهدي) في مني مليئاً بالانصاب إذ كان المشركون يمسحونها بدماء الأضاحي.

جاء في سيرة ابن هشام نقلًا عن معاوية بن زهير:

فأُقسم بالذي قد كان رَبِّي وأنصاب لدي الجمرات مُغرِ (1) وبعد انتهاء الحج كانوا ينشرون لباس الاحرام حول الأصنام.

إنّ ما يتحصّل من الأشعار والآثار الجاهلية والباقية، هو أن أداء المناسك كان يترافق مع التلبية بصوت عال، وتجدر الاشارة إلي أنّه لم يكن ثمّة وجود للتلبية المختصة بحج إبراهيم (عليه السلام) والتي مفادها: لبيك اللّهمّ لبيك، لبيك لا شريك لك..، بل إنّهم غيروا التلبية لتتوافق مع عقيدة الشرك لديهم، إذ كانت كالآتي:

لبيك اللهم لبيك! لبيك لا شريك لك! إلّا شريكُ هو لك! تملكُهُ وما مَلَكْ (2)!

ويظهر في هذه التلبية الاعتقاد بالشريك، وقد كشف القرآن الكريم عن عقيدتهم المشركة في قوله تعالي: وَمَا يُؤْمِنُ اكْثَرُهُمْ بِاللهِ إلّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (3).

وقد اعتبر ابن الكلبي أنّ هذه التلبية مختصة بنزار، بينما رأي ابن اسحاق وابن حبيب أنّها مختصة بقريش، وقال الأزرقي: إنّها متعلقة بكلّ المشركين، وممّا لا شكّ فيه أنّ التلبية التي يؤديها أهل الحرم يمكن أداؤها من قبل أهل الحل.

ونقل اليعقوبي والازرقي، أنّ كل قبيلة كانت أثناء الحج تهلل حولصنمها حتي تصل مكّة،" ذلك أنّ عبّاد كلّصنم كانوا إذا أرادوا الحج، انطلقوا إليه، واهّلوا عنده، ورفعوا أصواتهم" (4)، وكذلك:" إذا أرادت حجّ البيت وقفت كلّ قبيلة عندصنمها، وصلّوا عنده" (5).

وكان لعبّاد كلصنم من القبائل المختلفة تلبيات خاصة، ومن بين هذه الأصنام كان لكل من اللات والعُزّي ومناة وهُبَل وذو خَلَصَة وذو كفين وجهار وذُرَيح وذولبّا وسعيدة وشَمُس ومُحرِّق ومَرْحِب ونَسْر ويعوق ووَدّ ويغوث تلبية خاصة به، وهي مذكورة في المصادر التاريخية، وقد أحجمنا عن إيرادها مراعاة للاختصار.

وعدا هذه الأصنام، كان لقبائل كنانة وثقيف وهُذيل وبجيلة وجُذام وعكّ وأشعر وربيعة وقيس وعيلان وبني أسد وتميم ومذحج وهَمْدان وبكر بن وائل وبني معدّ وبني نَمر أصنامهم، ولها تلبيات خاصة أيضاً.

وكانوا يصفقون ويصفّرون لدي ترديدهم التلبية.

يمكن القول: إنّ الحج الجاهلي كان مزيجاً من الشرك والتفاخر القبلي، والأغراض التجارية والأهداف السياسية والقومية، لذلك سعت كلّ قبيلة أثناء الطواف لاستعراض مظاهر هذا المزيج غير المتجانس من خلال رفع الأصوات.

وقد عبر القرآن الكريم عن حركة المشركين هذه لدي الطواف بقوله تعالي:

وَمَا كَانَصَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إلّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً (6).

وبعد مني كان المشركون يتوجّهون إلي مكة إذ يبقون فيها ثلاثة أيام، تسمي بأيام التشريق، وقد ذكروا أقوالًا في وجه تسميتها: منها طبخ لحم الأضاحي بأشعة الشمس، ومنها نحر الأضاحي عند طلوع الشمس، وكانوا يهتمون بهذه الأيام لكنها لم تكن من أركان الحج الاساسية.

كان علي غير أهل الحُمْس، أثناء الطواف إما أن يرتدوا ثياباً استعاروها أو استأجروها، وإما أن يطوفوا عراة، وهذا يتعلق بمن يأتي إلي الحج للمرة الأولي.

وكان أهل الحل يتركون ثيابهم بعد الطواف في محل قرب مكة، ولا يحق لهم ارتداؤها مرة أُخري، وتسمي هذه الثياب لَقّي (7)، إذ لا يمكن الاستفادة منها بسبب تعرضها لأشعة الشمس وتغيرات الجو ورثاثتها.

كان الطواف حول البيت، دون ثياب أمراً دارجاً وكان يطال حتّي النساء.

فقد نقل أن امرأة جميلة لم تجد ثياباً فاضطرت إلي الطواف عارية، ممّا دفع جمعاً كثيراً إلي الاحتشاد لمشاهدتها.

ونقل أيضاً أن بعض المشركين كانوا ينتهزون هذه الأيام، فيتحلقون حول الكعبة لرؤية هكذا مشاهد، وكان خُفاف بن نُدبة يسعي لرؤية عشيقته، وكما قال فانه استطاع ان يراها عارية في هذه الأيام، إذ جاء عنه:

وأبدي شهور الحج منها محاسناً ووجها متي يحلل له الطبيب يُشرق (8) ويجب البحث عن جذور هذا الطواف في مصالح الحُمْس الذين سعوا عبر إيجار الثياب ولمرة واحدة، أن يضمنوا لأنفسهم مصدراً مالياً، وكان أهل الحل في بعض الأحيان لا يستجيبون لهذا الأمر، إذ كانوا فقراء معدمين من جهة، وكانوا يرفضون الخضوع لامتياز قريش وقراراتها الاستعلائية من جهة ثانية، ولمّا كان الغرض من الحج ترسيخ التقاليد القبلية والجاهلية، فقد كانوا مستعدين لأن تطوف حتي نساؤهم عاريات.

وحسبما نقل ابن كثير فان الآية نزلت للحيلولة دون هذا العمل يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجدٍ... (9).

ووضعوا إساف ونائلة قرب الكعبة، الأولي بجوارها، واْلأُخري عند زمزم، وعلي الحاج أن يبدأ طوافه أوّلًا من إساف وبعد أن يستلم الحجر الأسود ويختم طوافه، يستلم الحجر الأسود مرة ثانية، وبعد ذلك ينتهي طوافه باستلام نائلة.

وحسب تقاليد المشركين لم يكن طواف الحج والعمرة تعبدياً دائماً، إنّما كان أحياناً للتعبير عن الغضب والشر وإشهاد البيت علي ظلم الأعداء.

" نقل أنّ أبا جُندب بن مُرّة القِرْديّ كان له جار من خُزاعة اسمه خاطم، فقتله زهير اللحياني وقتلوا امرأته، فلمّا برأ ابو جندب من مرضه خرج من أهله حتّي قدم مكّة، فاستلم الركن وكشف عن إسته وطاف، فعرف النّاس أنّه يريد شرّاً" (10).

كان السعي بين الصفا والمروة جزءاً من الطواف عند الحُمْس وربما عند غيرهم، ولكن لم يؤده جميع المشركين.

وكان السعي بين الصفا والمروة من شعائر الخليل (عليه السلام) إلّا أنّه ترك ومسخ، وبعد ظهور الاسلام وفتح مكة أمر رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) بادائه إذ قال تعالي:

إنّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ، فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَليْهِ أنْ يَطَوَّفَ بهمَا... (11).

المصادر

أخبار مكّة، الأزرقي (مكّة مكرّمة، الماجدية، 1352).

أسواق العرب في الجاهلية والإسلام، سعيد الأفغاني (دمشق، 1927).

البيان والتّبيين، ابو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، تحقيق وشرح عبد السّلام محمد هارون (بيروت، دار الفكر، 1410).

تاج العروس من جواهر القاموس، محمد بن مرتضي الزّبيدي (بيروت، دار مكتبة الحياة، بدون تاريخ).

تاريخ الجاهليّة، الدكتور عمر فرّوخ (بيروت، دار العلم للملايين، 1984).

تاريخ العرب في الإسلام، الدكتور جواد عليّ (بيروت، دار الحداثة، 1984).

تاريخ العرب قبل العروبة الصّريحة في جزيرة العرب، محمّد عَزّة دَرْوَزَة (صيدا، المكتبة العصرية للطّباعة والنّشر، 1376).

تاريخ اليعقوبي، ابن واضح اليعقوبي (بيروت، دار العراق، 1900) ..

خزانة الأدب ولُبّ لُباب لسان العرب، عبد القادر بن عمر البغدادي، تحقيق وشرح، عبدالسّلام محمد هارون (القاهرة، مكتبة الخانجي، 1409).

ديوان أمية بن أبي الصلّت، جمع وتحقيق ودراسة، الدكتور عبد الحفيظ السطلي (دمشق، مكتبة أطلس، 1977).

السّيرة النّبوية، لإبن هشام، تحيق، مصطفي السقا، ابراهيم الأبياري، عبد الحفيظ شلبي (القاهرة، البابي الحلبي، 1955).

صحيح البخاري، محمّد بن إسماعيل (القاهرة، مطابع دار الشعب، 1378).

في طريق الميثولوجيا عند العرب، محمود سليم الحوت (بيروت، دار النّهار للنشر، 1983).

القاموس المحيط، الفيروز آبادي (بيروت، مؤسسة الرسالة، 1406).

كتاب الأصنام، أبو منذر هشام بن محمّد الكلبي، تحقيق، أحمد زكي باشا (القاهرة، دار الكتب المصرية، 1924)

المُحَبَّر، أبو جعفر محمّد بن حبيب، تصحيح، الدكتورة إيلزه ليختن شتيتر (بيروت، دار الآفاق الجديدة، بدون تاريخ)

مُروج الذهب ومعادن الجوهر، المسعودي، تحقيق وتصحيح، شارل پلّا (بيروت، منشورات الجامعة اللبنانية، 1965)

معجم البلدان، ياقوت الحَموي، تحقيق فريد عبد العزيز الجُندي (بيروت دار الكتب العلمية، 1410).

معجم الشّعراء، المرزباني، أبو عبيدالله محمّد بن عمران، تحقيق، عبد الستار أحمد فراج (دمشق، مكتبة النوري، بدون تاريخ).

المفضّليّات، المفضّل الضّبّي، تحقيق وشرح، أحمد محمد شاكر، عبد السلام هارون (القاهرة، دار المعارف، 1976).

الوثنية في الأدب العربي، الدكتور عبد الغني زيتوني (دمشق، وزارة الثقافة 1987).

( 1986 ,llirB .j .E ,nedieL )malsI fo aideapolcycnE

( 1980 ,kraIc .T .T ,hgrubnidE )gnitsaH semaJ yb scihte dna noigilen fo ,aideapolcycnE

.( 1981 ,natsikaP detimiL noitacilbuP cimalsI )iuQiddiS dimaHludbA ,dammahuM fo efil ehT

وقفة فاحصة عند لفظة" فلا جناح عليه"


1- 49 نفس المصدر: 319 و 31. p IHGIDDIS. H. A, dammahum fo efil eht
2- 50 كتاب الاصنام: 7.
3- 51 يوسف: 106.
4- 52 اخبار مكة، الازرقي 75: 1.
5- 53 تاريخ اليعقوبي 296: 1.
6- 54 الانفال: 35.
7- 55 السيرة النبوية لابن هشام 202: 1.
8- 56 الوثنية في الادب العربي 239- 240.
9- 57 الاعراف: 30.
10- 58 خزانة الأدب، البغدادي 292: 1.
11- 59 البقرة: 158.

ص: 39

وقفة فاحصة عند لفظة" فلا جناح عليه"

من آية السعي (البقرة: 158)

تأليف: محمّد هادي معرفة

الحمد لله وسلام علي عباده الذين اصطفي محمّد وآله الطاهرين.

قال تعالي: إنّ الصفا والمروة من شعائر الله. فمن حجّ البيت أو اعتمر فلا جُناح عليه أن يطّوّف بهما. ومن تطوّع خيراً فإنّ الله شاكر عليم.

لا شكّ أن السعي بين الصفا والمروة، فريضة واجبة، وشرطٌ حتمٌ أي ركن في الحج وكذا في العمرة، سواء أكانت مفردةً أم متمتعاً بها الي الحج.

ولفظة فلا جُناح تعني عدم البأس، وهذا يعني الترخيص في الفعل فحسب دون اللزوم، فما وجه هذا التعبير الموهم خلافَ المقصود؟

الجناح: الأثم ومنها لا جناح عليك.

وقد حاول المفسرون ومن ورائهم الفقهاء، محاولاتٍ شتي في حلّ هذا المُشكل وتوجيه هذا المعضل.

قال الامام الرازي: ظاهر قوله تعالي: فلا جناحَ عليه انه لا إثم عليه. والذي يصدق انه لا إثم في فعله، يدخل تحته الواجب والمندوب والمباح، ثم يمتاز كل واحد من هذه الثلاثة عن الأخر بقيد زائد.

فإذاً ظاهر هذه الآية لا يدل علي أن السعي بين الصفا والمروة واجب أو ليس بواجب، لأن اللفظ الدال علي القدر المشترك بين الأقسام لا دلالة فيه ألبتة علي خصوصيّة، فلا بُدّ في فهم الخصوصية من الرجوع الي دليل آخر.. (1).

وأخرج الطبري؛ بإسناده عن عروة بن الزبير، قال: سألت عائشة: أرأيت قول الله: فلا جناح عليه أن يطوّف بهما.. والله ما علي أحد جناح أن لا يطوف بالصفا والمروة! فقالت عائشة: بئس ما قلت يا ابن أختي. إن هذه الآية لو كانت كما أوّلتها، كانت لا جناح عليه أن لا يطوّف بهما... قالت: نزلت الآية في الأنصار، كانوا قبل أن يسلموا يهلّون لمناة... وكان من أهلّ لها يتحرج أن يطوف بين الصفا والمروة.. فسألوا رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) عن ذلك، فنزلت الآية.

قالت: وقد سنّ رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) الطواف بينهما، فليس لأحد ان يترك الطواف بينهما.. (2).

فقد أقرّت ان الآية بذاتها لا تدل علي الوجوب، غير أن عمل الرسول (صلّي الله عليه وآله وسلّم) وسنته في الالتزام كان دليلًا علي وجوب الإِتيان به.

وأخرج الترمذي بإسناده عن سفيان قال: سمعت الزُهْري يحدّث عن عروة، قال: قلت لعائشة: ما أري علي أحد لم يطف بين الصفا والمروة شيئاً، وما أبالي أن لا أطوف بينهما. فقالت: بئس ما قلت يا ابن أختي. طاف رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) وطاف المسلمون- وساق الحديث الي قولها- ولو كانت كما تقول لكانت فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما..


1- 1 التفسير الكبير 159: 4.
2- 2 تفسير الطبري 29: 2.

ص: 40

قال الزُهْري: فذكرت ذلك لأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فأعجبه ذلك، وقال: إنّ هذا لَعِمٌ. ولقد سمعتُ رجالًا من أهل العلم يقولون: إنما كان من لا يطوف بين الصفا والمروة من العرب، يقولون: إن طوافنا بين هذين الحَجَرين من أمر الجاهليّة. وقال آخرون من الأنصار: إنا امرنا بالطواف بالبيت ولم نؤمر به بين الصفا والمروة.. فأنزل الله الآية.. قال أبوبكر بن عبد الرحمن فأراها نزلت في هؤلاء وهؤلاء..

قال الترمذي: هذا حديث حسنصحيح (1).

وأورد القرطبي الحديث في تفسيره، ثم قال: وأخرجه البخاري بمعناه، وفيه: أن أبابكر بن عبد الرحمن قال: إنّ هذا لَعِلْمٌ ما كنتُ سمعته.. (2).

ثم نقل القرطبي تحقيقاً لابن العربي حول تأويل عائشة لهذه الآية، قال: وتحقيق القول فيه ان قول القائل: لا جناح عليك أن تفعل، إباحة الفعل. وقوله: لا جناح عليك أن لا تفعل، إباحة لترك الفعل. فلما سمع عروة الآية: فلا جناح عليه ان يطوّف... زعم ان ترك الطواف جائز. ثم لما رأي الشريعة مطبقة علي أن لا رخصة في ترك الطواف رأي تعارضاً، فطلب الجمع بين هذين المتعارضين. فنبّهته عائشة علي أن الآية لا تدل علي جواز ترك الطوف، وإنما كانت تدل علي ذلك إذا كانت:" لا جناح عليه أن لا يطوف...". فلم يأت هذا اللفظ لا باحة ترك الطواف، ولا فيه دليل عليه. وإنما جاء لا فادة إباحة الطواف لمن كان يتحرّج منه.. (3).

غير أن جماعة من أهل الجمود في النظر،صمدوا علي إرادة جواز الترك، ومن ثم نسبوا الي بعض كبار الصحابة والتابعين أيضاً أنهم قرءؤا:" فلا جناح عليه أن لا يطوّف بهما".

فقد أخرج الطبري بإسناده عن أبي عاصم قال: حدثنا ابن جُرَيج قال: قال عطاء: لو أن حاجّاً أفاض بعد ما رمي جمرة العقبة، فطاف بالبيت ولم يسع، فأصاب امرأته، لم يكن عليه شي ء، لا في حج ولا في عمرة. من أجل قول الله- كما في مصحف ابن مسعود-:" فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن لا يطوّف بهما".

قال: فعاودتُه بعد ذلك، فقلت: إنه قد ترك سنّة النبي (صلّي الله عليه وآله وسلّم): قال: ألا تسمعه يقول:" فمن تطوّع خيراً"، فأبي أن يجعل عليه شيئاً.. فقد أخذ التطوع بمعني التبرّع.

وأيضاً أخرج عن سفيان عن عاصم الأحول قال: سمعت أنساً يقول: الطواف بينهما تطوع.. أي تبرّع ومندوب اليه.

وروي نحوه عن مجاهد، قال: لم يُحرَّج من لم يطف بهما.. أي لم يأت اثماً، لأنه غير واجب.

وروي عن عطاء عن عبدالله بن الزبير، قال: هما تطوع.. (4). أي الطواف بينهما..

وذكر القرطبي أنه في مصحف أبيّ كذلك أي: أن لا يطوف بهما.. كما نسب الي ابن عباس أيضاً أنه قرأ كذلك (5).

قال القرطبي: اختلف العلماء في وجوب السعي بين الصفا والمروة، فقال الشافعي وابن حنبل: هو ركن. وهو المشهور من مذهب مالك... وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والشعبي: ليس بواجب، فان تركه أحد من الحاج حتي يرجع الي بلاده، جبره بالدّم. لأنه سنة من سنن الحج. وهو قول مالك في" العُتبيّة" (كتاب في مذهب الامام مالك- كتبه محمد بن أحمد العتبي القرطبي).. (6).


1- 3 جامع الترمذي 5:، كتاب التفسير 208: 48- 209/ 2965.
2- 4 تفسير القرطبي 178: 2.
3- 5 تفسير القرطبي 182: 2.
4- 6 تفسير القرطبي 30: 2.
5- 7 القرطبي 182: 2.
6- 8 تفسير القرطبي 183: 2.

ص: 41

وذكر البيضاوي- في التفسير- الاجماع علي أنه مشروع في الحج والعمرة، وإنما الخلاف في وجوبه، فعن احمد أنه سنة، وبه قال أنس وابن عباس. لقوله تعالي: فلا جناح عليه... فانه يفهم منه التخيير. قال: وهو ضعيف، لان نفي الجناح يدل علي الجواز، الداخل في معني الوجوب، فلا يدفعه. وعن أبي حنيفة أنه واجب، يجبر بالدّم. وعن مالك والشافعي أنه ركن.. (1).

وذكر ابن قدامة عن أحمد روايتين، احداهما: إنه ركن لا يتمّ الحج إلّا به. والثانية: أنه سنة لا يجب بتركه دم. ثم رجح مذهب أبي حنيفة، أنه يجبر بدم، قال: وقول عائشة في ذلك- بكونه ركناً- معارض بقول من خالفها من الصحابة.. (2).

قال الرازي: احتج أبو حنيفة لعدم الركنيّة بوجهين، أحدهما هذه الآية فلا جناح، قال: وهذا لا يقال في الواجبات. وقد أكدّه تعالي بقوله: ومن تطوّع خيراً... فبيّن أنه تطوّع وليس بواجب. وثانيهما قوله (صلّي الله عليه وآله وسلّم):" الحجُّ عرفة"، ومن أدرك عرفة فقد تم حجّه..".

ثم أخذ في الرّد علي الوجهين، ودعم مذهب غيره (3).

قال الشيخ أبو جعفر الطوسي في كتاب الخلاف:

السعي بين الصفا والمروة ركن لا يتمّ الحج إلّا به. فان تركه أو ترك بعضه ولو خطوةً واحدةً، لم تحلّ له النساء، حتي يأتي به..

قال: وعلي ذلك إجماع فقهاء الاماميّة. وقد فعله النبيُّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) وأَمَرنا بالاقتداء به:" خُذُوا عني مناسككم". وقال:" إن الله كتب عليكم السعي.." ومعناه: فَرَض.. (4)

قلت: لا شك أنّ السعي بين الصفا والمروة، ركن من اركان الحج والعمرة. وعلي ذلك دلّت الآثار، وعليه استمرت سيرة المسلمين المتلقاة من فعل رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) وآله الأطهار وصحابته الأخيار.

أمّا الآية الكريمة-صدراً وذيلًا- فلاصلة لها بمسألة وجوب السعي أو ندبه أو اباحته ونحو ذلك من الأحكام التكليفية أو الوضعية. وإنما هي: دفع لتوهّم الخطر- علي ما اصطلح عليه علم الأصول.

وذلك أن الآية نزلت في عمرة القضاء (5)، كان رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) قد شرط علي المشركين- ضمن شروط عقد عليهاصلحُ الحديبيّة سنة ستّ من الهجرة-: أنه في العام القابل يأتي هو وأصحابه لأداء العمرة، علي أن يرفعوا الأصنام التي كان المشركون وضعوها حول البيت، وعلي جبلي الصفا والمروة، لمدة ثلاثة أيام، ليقوم المسلمون بأداء مناسكهم خلالها.

وكان المشركون قد وضعوا علي جبل الصفاصنماً يقال له: أساف. وعلي المروة: نائلة. كانوا إذا سعوا التمسوا أعتابهما....

ثم لما قدم النبي (صلّي الله عليه وآله وسلّم) وأصحابه لأداء العمرة سنة سبع من الهجرة، ورفع المشركون أصنامهم من البيت والمسعي، أحرم هو وأصحابه وطاف بالبيت وسعي، تخلّف بعض أصحابه بسبب تشاعلهم ببعض شؤونهم الخاصة، فلم يتمكنوا من السعي خلال الأيام الثلاثة، فأعاد المشركون أصنامهم، ومن ثمّ تحرج هؤلاء المختلفون عن أداء السعي، ظناً منهم أنّ وجود الأصنام يتنافي وأداء عبادة السعي لله خالصةً.. فنزلت الآية دفعاً لتوهم الخطر ورفعاً لظنّ المنافاة... كما ورد في الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) فقد روي أبو النضر محمد بن مسعود العيّاشي السمرقندي بإسنادٍ رفعه إلي الإمام أبي عبدالله جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام)، سئل عن السعي بين الصفا والمروة، فريضة هو أو سنة؟ فقال: فريضة! فقيل له: أَليس يقول الله تعالي: فلا جناح عليه أن يطوّف بهما؟


1- 9 تفسير البيضاوي 202: 1. وهكذا قال محمّد رشيد رضا: روي عن أحمد أنه مندوب المنار 45: 2.
2- 10 المغني لابن قدامة 407: 3- 408.
3- 11 التفسير الكبير 160: 4.
4- 12 الخلاف 449: 1، م 140 من كتاب الحج.
5- 13 وسميّت عمرة القضاء، لأنها وقعت شرطاً في عقد الصلح الذي ابتدأ. بلفظ: هذا ما قضي به....

ص: 42

قال: كان ذلك في عمرة القضاء، وذلك أن رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) كان شرط عليهم أن يرفعوا الأصنام، فتشاغل بعض أصحابه حتي أعيدت. فجاءؤا الي النبي (صلّي الله عليه وآله وسلّم) يسألونه الحال... فنزلت الآية.. (1)

أي لا حرج بذلك، لأن السعي إنما يقع لله، والأعمال بالنيّات. فلا منافاة بين وجود الأصنام ووقوع السعي لله عزّ وجلّ.. والصفا والمروة من شعائر الله، لا يتلوّثان بوضع الأصنام عليهما...

وقوله تعالي: ومن تطوّع خيراً فان الله شاكر عليم.

يعني: أنّ الله: ينظر الي قلوبكم ونيّاتكم في ضمائركم، فان كان العمل الذي يقوم به العامل، خيراً وكان قاصداً به الله، فالله يشكره عليه، وهو أعلم بما في الصدور.

إن يعلم الله في قلوبكم خيراً يؤتكم خيراً (2).

والله يعلم ما في قلوبكم وكان الله عليماً حكيماً (3).

فمعني تطوّع خيراً القيام بالطاعة عن نيّةصادقة لله تعالي. وهذا المعني لا يستدعي أن يكون العمل الذي يتطوّع به العامل، مندوباً إليه فقط، بل الواجب أيضاً كذلك، فهو من الخير الذي ينبغي الأداء به عن تطوّع، أي عن رغبة في الخير واستسلام لله عزّ وجلّ...

فقه الحجّ الاستدلالي المقارن وجوب الحج وفوريته في دراسة استدلالية مقارنة


1- 14 تفسير العياشي 70: 1/ 133. وراجع: التبيان، للشيخ أبي جعفر الطوسي 44: 2، ومجمع البيان للطبرسي 240: 1، والميزان، العلامة الطباطبائي 391: 1 والصافي، الفيض الكاشاني 154: 1، وكنز الدقائق، المشهدي 384: 1، وتفسير أبي الفتوح الرازي 391: 1.
2- 15 الأنفال 70: 8.
3- 16 الأحزاب 51: 33.

ص: 43

فقه الحجّ الاستدلالي المقارن وجوب الحج وفوريته في دراسة استدلالية مقارنة

تأليف: محسن الأراكي

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام علي محمّد وآله الطّاهرين

نتناول في بحثنا هذا فقه الحج علي ضوء الاستدلال، مقارناً بين اهم المذاهب الفقهية وخاصة المذاهب الخمسة التي عليها مدار العمل بين الاكثرية الساحقة للمسلمين، وهي المذاهب الجعفري، والحنفي، والحنبلي، والمالكي، والشافعي، وعلي الله نتوكل وبه نستعين.

إن بحثنا عن فقه الحج يقع ضمن فصول:

الفصل الأول:

وجوب الحج وما يتعلق به

وجوب الحج اجملًا مما اتفقت عليه كلمة المسلمين بطوائفهم كافة، ويعتبر من الضروريات التي لا حاجة فيها إلي إقامة الدليل، ومن طلب الدليل يكفيه بعد الاجماع، دليل الكتاب وهو قوله تعالي: ولله علي الناس حجّ البيت من استطاع اليه سبيلًا (1)ومن السنة الاحاديث المتواترة تفصيلًا أو اجمالًا مثل ما رواه الفريقان من ان الاسلام بني علي خمس- منها- الحج (2).

ولا فرق في وجوبه بين الذكر والانثي والخنثي لاطلاق ادلّة الوجوب وعدم ما يدل علي التقييد.

ثم إن هاهنا مسائل:

المسألة الأُولي: لا يجب الحج- بشرائطه- إلّا مرة واحدة في العمر، قام علي ذلك اجماع المسلمين، قال في الجواهر:" ولا يجب باصل الشرع إلّا مرة واحدة اجماعاً بقسميه من المسلمين" (3)وقال ابن قدامة المقدسي:" واجمعت الأُمّة علي وجوب الحج علي المستطيع في العمر مرة واحدة" (4)ولم يخالف في ذلك إلّا الصدوق في العلل فانه قال:" والذي اعتمده وافتي به ان الحج علي اهل الجدة في كل عام فريضة" (5)وقد استدل لذلك بما رواه باسناده عن أبي جرير القمي عن ابي عبدالله (عليه السلام) قال:" الحج فرض علي اهل الجدة في كل عام" (6)بروايتين أخريين ضعيفتي السند قريبتين الي هذه الرواية في المضمون.

ويكفي حجة عليه الاجماع الذي اشرنا إليه وبه يسقط الاستدلال بالرواية لضرورة حملها علي ما لا يخالف المجمع عليه أو رفع اليد عنها، اضف إلي ما ورد في الروايات المستفيضة من التصريح بعدم وجوبه اكثر من مرة واحدة مثل ما رواه البرقي في الصحيح عن علي بن الحكم، عن هشام بن سالم عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال:" ما كلّف الله العباد إلّا ما يطيقون- الي ان قال- وكلّفهم حجّة واحدة وهم يطيقون أكثر من ذلك، الحديث" (7).

وروي الصدوق باسناده عن الفضل بن شاذان عن الرضا (عليه السلام) قال:" انما امروا بحجّة واحدة لا اكثر من ذلك" (8).


1- 1 آل عمران: 97.
2- 2 راجع وسائل الشيعة ابواب مقدمة العبادات باب 1، وصحيح مسلم باب قول النبي بني الاسلام علي خمس 34: 1.
3- 3 جواهر الكلام 220: 17.
4- 4 المغني 217: 3.
5- 5 علل الشرائع: 405.
6- 6 العلل: 405.
7- 7 الوسائل 8: ابواب وجوب الحج، الباب 3، الحديث 1.
8- 8 نفس المصدر، الحديث 2.

ص: 44

وروي ايضاً باسناده عن محمد بن سنان: أن أبا الحسن الرضا (عليه السلام) كتب إليه فيما كتب من جواب مسائله:" علة فرض الحج مرة واحدة لان الله تعالي وضع الفرائض علي أدني القوم قوة، فمن تلك الفرائض الحج المفروض واحداً، ثم رغّب اهل القوة علي قدر طاقتهم" (1).

وهذه الرواياتصريحة في عدم وجوب الاكثر من مرة واحدة بخلاف الروايات التي استند إليها الصدوق في القول بالوجوب في كل عام، فانّ غاية دلالتها الظّهور، وروايات المرّة اظهر منها دلالة بل هيصريحة غير قابلة للحمل علي معني آخر.

ويمكن حمل روايات الوجوب في كل عام علي ارادة الوجوب علي طريق البدل، وأنّ من وجب عليه الحجّ في السنة الأُولي فلم يفعل وجب في الثانية.

وهذا ما قام به الشيخ الطوسي، وان كان الاقوي حملها علي ما حملها عليهصاحب الوسائل من ارادة الوجوب الكفائي، وانّ من الواجب علي المسلمين كفاية ان يحجّوا بيت الله الحرام في كل عام، وأنه لا يجوز لهم ترك الحجّ بما يؤدّي الي تعطيل بيت الله الحرام ولو لسنة واحدة، وقد وردت روايات متعدّدة- فيها رواياتصحيحة السند- تؤكد هذا المضمون:

فقد روي الكليني في الصحيح عن الحسين الأحمسي عن ابي عبدالله (عليه السلام) قال:" لو ترك النّاس الحج لما نوظروا العذاب، أو قال: لنزل عليهم العذاب" (2).

وفي رواية اخري عن حماد عن ابي عبدالله (عليه السلام) قال: كان عليصلوات الله عليه يقول لولده:" يا بني انظروا بيت ربكم فلا يخلّون منكم فلا تناظروا" (3).

وفي الصحيح ايضاً عن عبدالله بن سنان عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال:" لو عطّل النّاس الحجّ لوجب علي الامام ان يجبرهم علي الحجّ ان شاؤوا وان أبوا، فان هذا البيت انما وضع للحج" (4).

وفيصحيحة أُخري عن ابي عبدالله (عليه السلام) قال:" لو ان النّاس تركوا الحج لكان علي الوالي ان يجبرهم علي ذلك، وعلي المقام عنده، ولو تركوا زيارة النبيّصلّي الله عليه وآله لكان علي الوالي ان يجبرهم علي ذلك وعلي المقام عنده، فان لم يكن لهم اموال انفق عليهم من بيت مال المسلمين" (5).

وهذه الروايات كالصريحة في الدلالة علي وجوب الحج كفاية في كل عام، فتكون قرينة عليصرف روايات الوجوب في كل عام- بعد تعارضها مع روايات المرة- إلي ارادة الوجوب الكفائي، وبذلك يتم الجمع بين المتعارضين.

وقد اعترضصاحب الجواهر- قدس سره- علي القول بالوجوب الكفائي المذكور" بانه خلاف الاجماع، وان النصوص الدالة علي ان الامام يجبر المسلمين علي الحج ان تركوه خارجة عما نحن فيه من الوجوب كفاية علي خصوص اهل الجدة المستلزم لكون من يفعله من حج في السنة السابقة منهم مؤدياً لواجب، ولو كان مع من لم يحج منهم، وقدصرحت النصوص بان ما عدا المرة تطوّع" (6).

والجواب عنه: ان مقتضي الجمع بين روايات الوجوب في كل عام، وروايات الوجوب مرة واحدة، بروايات حرمة تعطيل بيت الله الحرام عن الحجيج، حمل روايات الوجوب مرة عليصورة عدم لزوم التعطيل وحمل روايات الوجوب في كل عام عليصورة لزوم التعطيل ويكون حاصل الجمع حينئذٍ: ان الحج لا يجب علي اهل الحدة اكثر من مرة واحدة في العمر لكن بشرط عدم لزوم التعطيل، فان لزم التعطيل وجب عليهم الحج مرة اخري حتي لا يلزم التعطيل، وكلما لزم من عدم حج اهل الجدة تعطيل بيت الله الحرام لزم عليهم ان يحجّوا وان كانوا قد اتوا بحجة الاسلام قبل ذلك.


1- 9 نفس المصدر، الحديث 3.
2- 10 نفس المصدر، الباب 4، الحديث 1.
3- 11 نفس المصدر، والباب 1، الحديث 2.
4- 12 الوسائل، ابواب وجوب الحج، الباب 5، الحديث 1.
5- 13 نفس المصدر، والباب الحديث 2.
6- 14 الجواهر 222: 17- 223.

ص: 45

وليس في هذا شي ء يخالف الاجماع، فليس القول بوجوب الحج في كل عام علي اهل الجدة مطلقاً ليلزم منه في الاحوال العادية ان يكون من حج اولًا من اهل الجدة اذا حج مرةً اخري مؤدياً للواجب الكفائي رغم أن النصوصصرحت بان ما عدا المرة تطوّع، فإنّ هذه النصوص ناظرة الي القضيّة الخارجيّة والاحوال المتعارفة خارجاً، والتي يتقاطر فيها الحجيج الي بيت الله الحرام من كل حد وصوب، وأما نصوص وجوب الحج علي أهل الجدة في كل عام فانما تنظر الي القضيّة الحقيقية إلي أصل وجوب الحج بشكل عام، فهي تنظر إلي الفريضة بطبيعتها وعلي نحو القضيّة الحقيقيّة.

ثم ان مقتضي الروايات الدالة علي حرمة تعطيل بيت الله عن الحجيج الوجوب الكفائي علي المسلمين عامة، وانما قيّد الوجوب الكفائي بخصوص اهل الجدة للادلة الدالة علي التقييد كقوله تعالي: من استطاع اليه سبيلًا... وغير ذلك كالرواية التي دلت علي ان الحج فرض علي اهل الجدة في كل عام. وأما فيصورة عدم وجود المستطيع، فقد دلت الرواية علي أن من واجب الإمام بذل المال للناس ليستطيعوا فيحجّوا. وهذا يدل علي توجه وجوب آخر علي الحاكم الإسلاميّ يلزمه إقامة هذا الشعار الإلهي العظيم، وهذا من واجبات الحاكم الإسلاميّ وهو خارج عن موضوع بحثنا هنا.

هذا ونختم الكلام في هذا الموضوع بما دل علي عدم وجوب الحج اكثر من مرة منصحيح مسلم باسناده عن ابي هريرة قال: خطبنا رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) فقال:" ايها النّاس قد فرض الله عليكم الحج فحجّوا، فقال رجل: أكلّ عام يا رسول الله؟ فسكت حتي قالها ثلاثاً، فقال رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم): لو قلت نعم لوجبت، ولما استطعتم، ثم قال: ذروني ما تركتكم، فانما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم علي انبيائهم، فاذا أمرتكم بشي ءٍ فاتوا منه ما استطعتم، واذا نهيتكم عن شي ء فدعوه" (1).

المسألة الثانية: تجب العمرة علي المستطيع- كالحج- في العمر مرة واحدة، بلا خلاف بين اصحابنا بل ادّعي في التذكرة عليه الاجماع، وقال السيد الخوئي (ره) كما جاء في تقرير بحثه-:" لا خلاف بين الفقهاء في وجوب العمرة علي كل مكلّف بشرائط وجوب الحج وجوباً مستقلًا كالحج في العمر مرة واحدة، وقد ادعيصاحب الجواهر الاجماع بقسميه علي ذلك" (2).

وقال العلامة في التذكرة:" وبه قال علي وعمروابن عباس وزيد بن ثابت وابن عمر وسعيد بن المسيّب، وسعيد بن جبير وعطا وطاوُس ومجاهد والحسن البصري وابن سيرين والشعبي والثوري واسحق والشافعي في الجديد واحمد في احدي الروايتين" (3).

وقاال آخرون: ان العمرة ليست واجبة، وبه قال مالك وابو حنيفة وابو ثور، وحكاه ابن المنذر وغيره عن النخعي (4)، قيل: وروي عن ابن مسعود (5)، وبه قال الشافعي في القديم، واحمد في الرواية الثانية (6).

دليلنا: بعد الاجماع، من الكتاب قوله تعالي: واتموا الحجّ والعمرة لله (7)فان المراد بالاتمام: الأداء أو الإتيان الكامل غير المنقوص والأمر يدل علي الوجوب فتكون الآية دليلًا علي وجوب كل من الحج والعمرة.

وقد روي في الصحيح عن أبي عبدالله الصادق (عليه السلام) في قوله تعالي: واتموا الحج والعمرة لله قال: يعني بتمامهما: اداءَ هما" (8)

وقد ذكر الزمخشري في الكشاف (9)في معني الآية: ايتوا بهما تامين كاملين بمناسكهما وشرائطهما لوجه الله من غير توان ولا نقصان يقع منكم فيهما. ثم قال: فان قلت: هل فيه دليل علي وجوب العمرة؟ قلت: ما هو إلّا أمر باتمامهما ولا دليل في ذلك علي كونهما واجبين او تطوّعين، فقد يؤمر باتمام الواجب والتطوّع جميعاً. الا ان نقول: الامر باتمامهما امر بادائمهما بدليل قراءة من قرأ واقيموا الحج والعمرة، والامر للوجوب في اصله الّا أن يدل دليل علي خلاف الوجوب كما دل في قوله- فاصطادوا، فانتشروا ونحو ذلك- فيقال لك، فقد دل الدليل علي نفي الوجوب وهو ما روي انه قيل" يا رسول الله العمرة واجبة مثل الحج؟ قال: لا، وان تعتمر خير لك" وعنه" الحج جهاد والعمرة تطوّع".

ويرد عليه: ان الامر للوجوب كما ذكر وما استشهد به علي نفي ارادة الوجوب لا يحتج به لقصوره دلالة وسنداً، ولمعارضة باحاديث أُخري رواها اصحاب السنن، والمعارض اقوي سنداً ودلالة، وعلي فرض التكافؤ يتساقط الدليلان المتعارضان وتبقي الآية حجة علي الوجوب.

ام قصور الشاهد- علي نفي الوجوب- دلالة، فلأن النفي في الحديث الأوّل نفي لمثليّة العمرة للحج في الوجوب، فلا تدل علي نفي اصل الوجوب واما الحديث الثاني فليس فيه ما يدل علي نفي الوجوب غير التعبير بالتطوّع، وهو غيرصريح في نفي الوجوب.

بل ولا اقوي ظهوراً في نفي الوجوب من ظهور الامر في الآية في الوجوب. فلو سلّمنا ظهور التطوّع في المندوب لزمنا رفع اليد عن هذا الظهور بظهور الآية في الوجوب، لأنّ الآية ذكرت الحجّ الي جانب العمرة ولا شك في وجوب الحج، ولا يستعمل اللفظ الواحد في معنيين باستعمال واحد، لامتناع ذلك، فذكر الحج بنفسه قرينة قطعيّة علي ارادة الوجوب من الامر بالإتمام، فيكون الامر دالًا علي وجوب العمرة ايضاً.

والحاصل ان القرينة الموجبة لرفع اليد عن ظهور ذي القرينة لا بُدّ ان تكون اقوي دلالة من ذي القرينة، وفيما نحن فيه ليس الامر كذلك، فانّ دلالة ذي القرينة وهي الآية علي وجوب العمرة اقوي من دلالة القرينة وهو الحديث المذكور علي نفي الوجوب.

واما قصور الشاهد سنداً فقد روي البيهقي الحديث الأوّل باسناده عن الحجاج بن ارطأة عن محمّد بن المنكدر عن جابر ان النبي (صلّي الله عليه وآله وسلّم) سئل عن العمرة أواجبة؟ قال:" لا وان تعتمر خير لك" قال البيهقي: كذا رواه الحجاج بن ارطأة مرفوعاً وقد اخبرنا ابو عبدالله الحافظ، ثم ذكر اسناده إلي يحيي بن ايوب قال: اخبرني ابن جريح والحجاج بن ارطأة عن محمّد بن المنكدر عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه انه سئل عن العمرة اواجبة فريضة كفريضة الحج؟ قال: لا وان تعتمر خير لك- ثم قال البيهقي-: هذا وهو المحفوظ عن جابر موقوف غير مرفوع وروي عن جابر مرفوعاً بخلاف ذلك، وكلاهما ضعيف.

وقد ذكر البيهقي طرق الرواية المذكورة كلّها وقد بيّن أنها جميعاً بين منقطع وضعيف وموقوف (10)وقال النووي في شرحه للمذهب: واما قول الترمذي: ان هذا حديث حسنصحيح فغير مقبول، ولا يغتر بكلام الترمذي في هذا فقد اتفق الحفاظ علي انه حديث ضعيف. ثم قال: ودليل ضعفه ان مداره علي الحجاج بن ارطأة لا يعرف إلّا من جهته، والترمذي انما رواه من جهته، والحجاج ضعيف ومدلس باتفاق الحفاظ، وقد قال في حديثه عن محمد بن المنكدر، والمدلس اذا قال في روايته: عن، لا يحتج بها بلا خلاف. ثم قال: ولان جمهور العلماء علي تضعيف الحجاج بسبب آخر غير التدليس (11).

واما الحديث الثاني فقد قال الشوكاني: وفي الباب عن ابي هريرة عند الدار قطني وابن حزم والبيهقي ان رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) قال:" الحج جهاد والعمرة تطوّع" واسناده ضعيف، وعن طلحة عند ابن ماجة باسناد ضعيف، وعن ابن عباس عند البيهقي قال الحافظ" ولا يصحّ من ذلك شي ء" (12).


1- 15صحيح مسلم 102: 4، باب فرض الحج مرة في العمر.
2- 16 المعتمد في شرح المناسك 198: 3.
3- 17 تذكرة الفقهاء للحلي 296: 1، ط حجرية.
4- 18 شرح المذهب للنووي 12: 7.
5- 19 المغني لابن قدامة المقدسي 223: 3.
6- 20 تذكرة الفقهاء للحلي 296: 1، ط حجرية.
7- 21 البقرة: 196.
8- 22 الوسائل 3: 8، ابواب وجوب الحج، الباب 1، الحديث 2.
9- 23 تفسير الكشاف 343: 1.
10- 24 السنن الكبري للبيهقي 4، باب من قال ان العمرة تطوع: 348.
11- 25 المجموع في شرح المذهب 10: 7.
12- 26 نيل الاوطار للشوكاني 281: 4.

ص: 46

وهذا سنشير الي الاحاديث التي وردت من طرق الفريقين والتي تدلّ علي وجوب العمرة وفيها الحجّة الكافية.

ومما يدل من الكتاب- ايضاً- علي وجوب العمرة قوله تعالي: ولله علي النّاس حجّ البيت من استطاع اليه سبيلًا فإنّ الحجّ معناه: قصد التوجّه إلي البيت بالاعمال المشروعية- كما جاء في اللغة (1)- وهو مطلق يشمل العمرة المصطلحة كما يشمل الحجّ المصطلح، ولا دليل علي اختصاصه بالحجّ حسب المصطلح الفقهي المقابل للعمرة، خاصّة وأنّ لفظة الحج في الآية استعملت مضافة إلي البيت ولا شك انّ العمرة مشتملة علي حج البيت كما هو الحال في الحجّ، ولو كانت لفظة الحج في الآية غير مضافة لامكن دعوي انصرافها الي الحج المقابل للعمرة لكنّها ليست كذلك.

اضف إلي هذا ما ورد في تفسير الآية بسندصحيح عن عمر بن أذينة قال: كتبت إلي أبي عبدالله (عليه السلام) بمسائل بعضها مع ابن بكير وبعضها مع أبي العباس فجاء الجواب بإملائه:" سألت عن قول الله عزّ وجلّ: ولله علي النّاس حج البيت من استطاع إليه سبيلًا يعني به الحجّ والعمرة جميعاً لأنهما مفروضان" (2).

واما من السنة فما يدلّ علي وجوب العمرة كالحج احاديث كثيرة من طرق الفريقين، اما من طرقنا فقد سبقت الاشارة اليصحيحة عمر بن اذينة عن الصادق، وروي ايضاً في الصحيح عن الصادق (عليه السلام) انه قال:" العمرة واجبة علي الخلق بمنزلة الحجّ علي من استطاع لانّ الله عزّ وجلّ يقول: واتموا الحج والعمرة لله" (3).

واما من طريق اهل السنة، فقد روي البيهقي باسناده عن يحيي بن يعمر عن ابن عمر قال سمعت عمر بن الخطاب يقول: بينما نحن جلوس عند رسول الله (صلْي الله عليه وآله وسلّم) اذ جاء رجل عليه سحناء سفر وليس من اهل البلد- الي ان قال- فقال يا محمّد ما الاسلام؟ قال:" تشهد ان لا إله الّا الله وأن محمّداً رسول الله وان تقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتحج البيت وتعتمر وتغتسل من الجنابة وتتم الوضوء وتصوم رمضان، قال: فإن قلت هذا فأنا مسلم؟ قال:صدقت"- قال البيهقي ورواه مسلم في الصحيح عن حجاج ابن الشاعر عن يونس بن محمّد الا انه لم يسق متنه- (4).

ودلالته علي وجوب العمرة من جهة ان الظاهر من سؤال السائل أنّه أراد الوقوف علي ما يعتبر ويشترط فيصدق عنوان الاسلام فانّ السؤال ب-" ما" عن الشي ء سؤال عن ماهيّة الشي ء ومقتضي التطابق بين السؤال والجواب أن يتضمن الجواب كلما يعتبر في ماهيّة الشي ء المسؤول عنه، ومعني اعتبار الشي ء في ماهيّة ما سئل عنه انتفاؤه بانتفائه، وحينئذٍ فالجواب يتضمّن أموراً ينتفي الإسلام بانتفائها، ومقتضي ذلك وجوب كل ما ذكر في الجواب لكونه شرطاً معتبراً فيصدق الإسلام علي الفرد المسلم، إلّا ما دلّ الدليل الخارج علي عدم انتفاء الإسلام بانتفائه، أو علي عدم وجوبه.

واما سند الحديث: فقد روي الدارقطني هذا اللفظ الذي رواه البيهقي بحروفه ثم قال: هذا اسنادصحيح ثابت (5).

وروي روي البيهقي ايضاً باسناده عن ابي رزين انه قال: يا رسول الله ان ابي شيخ كبير لا يستطيع الحج والعمرة ولا الظّعن قال:" احجج عن ابيك واعتمر".

ثم قال البيهقي: اخبرنا ابو عبدالله الحافظ، ثنا علي بن حمشاذ، ثنا أحمد ابن سلمة، قال: سألت مسلم بن الحجّاج عن هذا الحديث- يعني حديث ابي رزين هذا- فقال: سمعت احمد بن حنبل يقول:" لا اعلم في ايجاب العمرة حديثاً أجود من هذا ولا اصح منه" (6).

وقال النووي بعد نقله لرواية البيهقي:" وحديث ابي رزين هذاصحيح رواه أبو داوُد والترمذي والنسائي وابن ماجة وغيرهم بأسانيدصحيحة، قال الترمذي: هو حديث حسنصحيح" (7).


1- 27 راجع: لسان العرب، مادة حجج.
2- 28 الوسائل 3: 8، ابواب وجوب الحج، الباب 1، الحديث 2.
3- 29 نفس المصدر، الحديث 5.
4- 30 السنن الكبري- للبيهقي 349: 4.
5- 31 شرح المذهب للنووي 9: 7.
6- 32 السنن الكبري 350: 4.
7- 33 شرح المذهب 9: 7.

ص: 47

ودلالة الحديث علي وجوب العمرة ليست من جهة دلالة الامر بالعمرة علي الوجوب ليقال:" لا دلالة فيه علي وجوب العمرة لانه أمَر الولد إن يحج عن ابيه ويعتمر ولا يجبان علي الولد عن ابيه إجماعاً" (1)بل من جهة ان الرواية تدل علي ان السائل انما يسأل عن وظيفة العاجز عن اداء تكليفه الشرعي، فهو يفترض في سؤاله سلفاً ان هناك واجباً شرعياً قد توجّه الي ابيه وقد عجز عن أدائه، فماذا عليه بعد العجز عن اداء التكليف؟ هل يسقط عنه التكليف نهائياً، او يسقط عنه شرط المباشرة في الاداء فحسب، فعليه إذاً ان يستنيب؟

فيجيبه الرسول الكريم (صلّي الله عليه وآله وسلّم) بأنّ العجز انما يوجب سقوط المباشرة في اداء التكليف ولا يوجب سقوط التكليف رأساً، فلا بُدّ للعاجز من أن يستنيب، ولا يراد من توجيه الأمر إلي الولد بيان تعيّن النيابة فيه، بل انما هو بيان لاقرب مصاديق النيابة امكاناً والصقها بالواقع العملي والتحقق الخارجي، كما اذا دلّ الطبيب المريض علي اقرب الصيدليّات وأسهلها في الحصول علي الدّواء الناجع لبرئه عن علته.

فلو ان الحج والعمرة المفروضين في سؤال السائل لم يكونا واجبين، لم يكن وجه للسؤال عن التكليف فيصورة العجز عنهما لوضوح الحال حينئذٍ فانّ العمل المتطوّع به لا الزام في الاتيان به في حال السلامة والقدرة فكيف بحال العجز وعدم الاستطاعة! وهذا من واضحات الشريعة التي لا تخفي علي المتشرّعة عامّة وليس من المحتمل خفاؤه علي المتشرّع العادي ليحتاج الي السؤال.

ولعل هذا هو الوجه فيما حكي عن احمد بن حنبل:" لا اعلم في ايجاب العمرة حديثاً أجود من هذا"، فإنّ تصريحاً كهذا لا يصدر عن فقيه مثل احمد إلّا فيما لا مجال للتشكيك في دلالة.

هذا ويذكر في الباب احاديث اخري تدل علي وجوب العمرة فقد روي البيهقي باسناده عن ابي هريرة عن النبي (صلّي الله عليه وآله وسلّم) قال:" جهاد الكبير والضعيف والمرأة: الحج والعمرة" (2).

وروي ايضاً باسناده عن جابر ان رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) قال:" الحج والعمرة فريضتان واجبتان" (3).

وروي ايضاً ان الصبي بن معبد قال لعمر بن الخطاب:" اني وجدت الحج والعمرة مكتوبين عليّ فاهللت بهما، فقال: هديت لسنة نبيك" (4)قال ابن حجر: اخرجه ابو داوُد (5).

المسألة الثالثة: وجوب الحج والعمرة علي المستطيع فوري لا يجوز تأخيرهما عن عام الاستطاعة بغير عذر، وقد اتفقت علي ذلك كلمة اصحابنا، قال العلامة في تذكرة الفقهاء:" وجوب الحج والعمرة علي الفور، لا يحل للمكلف بهما تأخيره عند علمائنا أجمع" (6).

وقال المحقق النجفي في جواهر الكلام:" وتجب- أي حجة الإسلام- بعد فرض احراز الشرايط علي الفور، اتفاقاً محكيّاً عن الناصريّات والخلاف وشرح الجمل للقاضي، وفي التذكرة والمنتهي، ان لم يكن محصّلًا" (7).

وقد ذهب الي الفور مالك، واحمد، وابو حنيفة، وبعض اصحاب الشافعي (8)، وابو يوسف. المزني (9).

وذهب الي جواز التأخير الشافعي، والاوزاعي، والثوري، محمّد بن الحسن، ونقله الماوردي عن ابن عباس وانس وجابر وعطاء وطاوُس (10).

ادلة القول بالفور: وقد استدل اصحابنا للفور بنوعين من الدليل:


1- 34 الجوهر النقي، لابن التركاني، ذيل سنن البيهقي 350: 7.
2- 35 السنن الكبري 350: 4.
3- 36 نفس المصدر 350: 4.
4- 37 نفس المصدر 351: 4.
5- 38 فتح الباري 597: 3.
6- 39 تذكرة الفقهاء 296: 1، ط حجرية.
7- 40 جواهر الكلام 223: 17.
8- 41 نيل الاوطار 285: 4.
9- 42 شرح المذهب 86: 7.
10- 43 نفس المصدر 86: 7.

ص: 48

الأوّل: دليل العقل" فان الواجب بعدما تحقق شرطه وكان المكلف واجداً لشرائط التكليف، فلا بُدّ للمكلّف من تفريغ ذمته بالاتيان بما امر به ليأمن العقوبة من مغبّة العصيان، ولا عذر له في التأخير مع احتمال الفوت.

نعم، لو اطمأن بالبقاء وبالتمكّن من اتيان الواجب ولو في آخر الوقت لا تجب المبادرة حينئذٍ، ولذا جاز تأخير بعض الواجبات المؤقته كالصلاة عن اول وقتها، لاجل حصول الاطمئنان والوثوق بالبقاء والتمكن من الاتيان بالمأمور به ولو في آخر الوقت، لكون الوقت قصيراً لا يحتمل التلف والفوت في هذه المدّة غالباً، وهذا الاطمئنان والوثوق غير حاصل في الحج لان الفصل طويل والطوارئ والموانع كثيرة" (1).

هذا تقرير الدليل العقلي حسبما ذكره السيد الخوئي رحمه الله- وفقاً لما جاء في تقرير بحثه- ويرد عليه:

أوّلًا: ان المتنازع فيه هو الفورية شرعاً، ولا تثبت بهذا البيان، واما الفوريّة عقلًا- فعلي تقدير ثبوتها بهذا التقريب- غير مختصة بفريضة الحجّ بل تعم الفرايض كلّها وهذا ما لم يلتزم به فقهاء المذهب.

وثانياً: ان الفوريّة التي يثبتها هذا الدليل العقلي انما هي فوريّة مقيّدة وليست فوريّة مطلقة، أي انها فوريّة مقيدة بعدم الوثوق بالبقاء واستمرار القدرة علي الامتثال في المستقبل، وهذه الفوريّة اخص من المدعي ولا تفي بالمطلوب، فان المطلوب اثبات الفوريّة مطلقاً حتي عند الوثوق بالبقاء واستمرار القدرة علي الامتثال.

وثالثاً: ان ما ذكره في الدليل من عدم الوثوق بالبقاء غالباً انما يصحّ في حق الذين تقدمت بهم السنّ واشرفوا علي الشيخوخة او تلبّسوا بها، اما غيرهم وخاصّة الشباب واهل القوة والغضاضة فالغالب فيهم الوثوق بالبقاء واستمرار القدرة علي الامتثال لسنين عديدة، إذاً فالغالب في النّاس هو الوثوق بالبقاء فيبطل ما فرعه علي عدم الوثوق من الحكم العقلي بلزوم التعجيل في الامتثال.

ورابعاً: ان الفوريّة بالمعني المذكور لا تكون مخالفتها معصية بل تجريّاً علي المعصية فلا يترتب علي مخالفتها اثر خاص بناءً علي عدم العقاب علي التجرّي.

نعم، اذا ادّي التراخي في الامتثال إلي الفوت ثبت استحقاق العقاب لوقوع المخالفة العملية، ولكنه خارج عما نحن فيه.

الثاني: الاحاديث المرويّة عن المعصومين (عليهم السلام) وهي كما يلي:

الاول: ما رواه الشيخ الطوسي بسندصحيح عن ابي عبدالله (عليه السلام) قال:" قال الله تعالي: ولله علي النّاس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلًا قال: هذه لمن كان عنده مال وصحّة،" وان كان سوّفه للتجارة فلا يسعه، وان مات علي ذلك فقد ترك شريعة من شرايع الاسلام اذا هو يجد ما يحجّ به" (2)الحديث.

ودلالة الحديث علي وجوب الفور واضحة فان قوله (عليه السلام):" وان كان سوّفه للتجارة فلا يسعه" يدلّ بوضوح علي حرمة التسويف، ولا خصوصيّة للتجارة قطعاً وانما ذكرت كمثال لما يدعو للتسويف في الغالب مما لا يكون عذراً مانعاً عن اداء فريضة الحج.

الثاني: ما رواه الشيخ ايضاً بسند موثق عن ابي عبدالله (عليه السلام)، قال:" اذا قدر الرجل علي ما يحجّ به، ثم دفع ذلك وليس له شغل يعذره به فقد ترك شريعة من شرايع الإسلام" (3).

وعبارة" ثم دفع ذلك" تشملصورة التأخير بعد الاستطاعة فتدل الرواية علي وجوب الفور في اداء فريضة الحج.


1- 44 المعتمد في شرح المناسك 12: 3.
2- 45 الوسائل 16: 8، ابواب وجوب الحج، الباب 6، الحديث 1.
3- 46 الوسائل 17: 8، ابواب وجوب الحج، الباب 6، الحديث 3.

ص: 49

الثالث: ما رواه الكليني بسند موثق عن الحلبي عن ابي عبدالله (عليه السلام)، قال:" قلت له: أرأيت الرجل التاجر ذا المال حين يسوف الحج كلّ عام وليس يشغله عنه إلّا التجارة أو الدين، فقال: لا عذر له يسوّف الحج، ان مات وقد ترك الحج فقد ترك شريعة من شرايع الإسلام" (1).

فان قوله (عليه السلام):" لا عذر له يسوّف الحج" يدل علي حرمة تسويف الحج وهو تأخيره.

وهناك روايات أخري في هذا المضمار، وفيما ذكرناه الكفاية.

واما ما استدل به ساير الفقهاء علي وجوب الفور في الحج فهو كما يلي:

1- قوله تعالي: واتموا الحج والعمرة لله وهذا أمر، والامر يقتضي الفور.

2- حديث مهران ابيصفوان عن ابن عباس، قال: قال رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم):" من اراد الحج فليتعجل" (2)رواه أبو داوُد باسناده عن مهران، ورواه الدارمي في سننه ايضاً (3).

3- حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس: ان رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) قال:" عجلوا الخروج إلي مكّة، فان احدكم لا يدري ما يعرض له من مرض أو حاجة" (4).

4- حديث ابي أمامة قال: قال رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم)" من لم يمنعه عن الحج حاجة ظاهرة، أو سلطان جائر، أو مرض حابس فمات ولم يحج، فليمت ان شاءَ يهودياً أو نصرانياً" (5).

ورواه البيهقي في سننه ثم قال: وهذا وان كان اسناده غير قوي فله شاهد من قول عمر بن الخطاب، ثم روي عن عمر بن الخطاب انه قال:" ليمت يهودياً أو نصرانياً- يقولها ثلاث مرات- رجل مات ولم يحج وجد لذلك سعة وخليت سبيله، الحديث" (6).

5- روي عن رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) انه قال:" من كسر أو عرج فقد حل وعليه الحج من قابل" (7)وهو يدلّ علي الفور بوضوح والا لم يكن وجه لوجوب الحج عليه من قابل.

6- روي عن الحسن قال: قال عمر بن الخطاب:" لقد هممت أن أبعث رجالًا إلي هذه الامطار فينظروا كل من كان له جدة ولم يحج فيضربوا عليهم الجزية ما هم بمسلمين ما هم بمسلمين" (8). ودلالته علي وجوب الحج بالفور عنده واضحة فلو لا وجوبه فوراً لم يكن وجه في عدّهم غير مسلمين فانصرف عدم الحج لمن كان له جدة لا يعد مخالفة للشرع علي القول بالتراخي فإن هناك سعة لاداء الواجب ما لم يدركه الموت.

7- انه كالصوم عبادة تجب الكفارة بإفسادها فوجبت علي الفور، كما وجب الصوم علي الفور (9).

8- انه كالجهاد عبادة تتعلق بقطع مسافة بعيدة، فتجب علي الفور، كما وجب الجهاد فوراً (10).

9- انه اذا لزمه الحج وأخّره اما ان تقولوا: يموت عاصياً، واما غير عاص، فان قلتم: ليس بعاص خرج الحجّ عن كونه واجباً، وان قلتم: عاص، فاما ان تقولوا عصي بالموت أو بالتأخير، ولا يجوز ان يعصي بالموت اذ لاصنع له فيه، فثبت انه بالتأخير، فدل علي وجوبه علي الفور (11).

وقد اعترض القائلون بالتراخي علي ما استدل به هؤلاء الفقهاء لوجوب الفور باعتراضات أهمّها كالتالي:

اما الأوّل: وهو الاستدلال بالآية الكريمة بناءً علي دلالة الامر علي الفور فقد اعترض عليه أوّلًا: بانّا لا نقبل دلالة الامر علي الفور.


1- 47 نفس المصدر، الحديث 4.
2- 48 السنن الكبري للبيهقي 340: 4.
3- 49 سنن الدارمي 28: 2.
4- 50 السنن الكبري للبيهقي 340: 4.
5- 51 سنن الدارمي 28: 2، والبيهقي في سننه 334: 4.
6- 52 سنن البيهقي 334: 4.
7- 53 نيل الاوطار 284: 4.
8- 54 نفس المصدر.
9- 55 شرح المذهب 87: 7.
10- 56 نفس المصدر.
11- 57 نفس المصدر.

ص: 50

وثانياً: بأنّه علي تقدير دلالته علي الفور فإن هنا قرينة تصرفه الي الترخي وهي" أنّ الحج عبادة لا تنال إلّا بشق الأنفس ولا يتأتّي الاقدام عليها بعينها بل يقتضي التشاغل بأسبابها والنظر في الرفاق والطرق، وهذا مع بعد المسافة يقتضي مهلة فسيحة لا يمكن ضبطها بوقت، وهذا هو الحكمة في اضافة الحج إلي العمر" (1).

والجواب عنه: أن ما ذكر قرينة علي التراخي يفيد عكس المدّعي فإنه علي الفور أدلّ منه علي التراخي، بل إنّه يدلّ علي الفور بالتعيين، فإنّ المراد بالفور أوّل عام الاستطاعة، والاستطاعة تتضمّن كلّ ما ذكر من المقدّمات التي يتوقف عليها الحج، فإذا كانت الاستطاعة وفق ما ذكر لا تحصل إلّا بتهيّئ هذه المقدّمات الكثيرة، فاذا حصلت لزم العجيل في أداء الواجب خوفاً من فوات الفرصة، وعروض ما يمنع أو زوال بعض المقدّمات التي لا تتوفر بسهولة. والحاصل أنّ المقدّمات التي يتوقف عليها أداء فريضة الحج إذا كانت من التعدّد وصعوبة الحصول بحيث لا تتوفر للكثيرين إلّا مرة واحدة في العمر ممّا اقتضي وجوب الحج مرة واحدة في العمر- كما أشار المعترض في كلامه- فإن هذا يقتضي لزوم اغتنام فرصة توفر المقدمات وحصول الأسباب وعدم جواز تفويت الفرصة وهذا يستلزم وجوب الفور، لا جواز التراخي.

ومن هنا يمكن أن يقال: إنه علي فرض التسليم بعدم دلالة الأمر علي الفور لكن القرينة تقتضي دلالته علي الفور هنا، والقرينة ما ذكرناه.

أما الثاني: فقد اعترض عليه اولًا:" بأنّه ضعيف، وثانياً: بأنّه حجّة للقائل بالتراخي، لانّه فوض فعله إلي إرادته واختياره، ولو كان علي الفور لم يفوض تعجيله إلي اختياره، وثالثاً: انه امر ندب جمعاً بين الأدلّة" (2).

والجواب عن الأوّل: أنه علي فرض ضعفه يتأيّد بسائر الاحاديث الواردة في هذا الباب، وبمجموعها تفيد الاطمينان بصدور مضمونها عن النبي (صلّي الله عليه وآله وسلّم).

وعن الثاني: أنّه ليس في الحديث تفويض الفعل إلي ارادة المكلّف ليكون حجّة للقائل بالتراخي، بل الحديث يفترض إرادة الحج مفروغاً عنها ويثبت وجوب التعجيل لمن يحمل هذه الصفة وهي (إرادة الحج)، وبما أنّ الامر بالتعجيل انما يناسب من اراد الحج الواجب، فانّ المتطوع بالحج لا يجب عليه اصل فعله، فكيف بالتعجيل فيه، فيكون معني الحديث، ان من توفرت فيه شرايط الحج الواجب فعزم علي أداء الفريضة فعليه التعجيل في الأداء، وهذا يعني وجوب الفور بالحج.

وعن الثالث: ان الحمل علي الندّب انما يصحّ عند وجود القرينة علي خلاف الوجوب أو المعارض، وكليهما منتفيان، فلا وجه للحمل علي الندب.

أما الثالث والرابع: فيعترض عليهما بضعف السند تارة واخري بأنّ المراد النهي عن تأخير الحج الي حين الموت، ولا نزاع في حرمته.

والجواب عن ضعف السند نفس ما اجبنا به عن الاعتراض بضعف السند علي الحديث السابق، مع زيادة ان حديث أبي امامة مروي بطرق متعدّدة يقوّي بعضها بععضاً، قال الشوكاني في تعليقه علي هذا الحديث: وهذه الطريق يقوي بعضها بعضاً، وبذلك يتبين مجازقة ابن الجوزي في عدّه لهذا الحديث من الموضوعات، فان مجموع تلك الطرق لا يقصر من كون الحديث حسناً لغيره، وهو محتج به عند الجمهور، ولا يقدح في ذلك قول العقيلي والدارقطني:" لا يصحّ في الباب شي ء، لأنّ نفي الصحّة لا يستلزم نفي الحسن" (3).

وامّا عن الدّلالة، فدلالة حديث ابن عبّاس علي الوجوب واضحة، فانّ فيها الامر بالتعجيل والامر يفيد الوجوب، ولم يعلّق التعجيل فيه علي خوف عروض الموت، فيدّل علي وجوب الفور بالحج. واما الحديث أبي


1- 58 نفس المصدر: 90.
2- 59 شرح المذهب 91: 7.
3- 60 نيل الاوطار للشوكاني 285: 4.

ص: 51

امامة فدلالته علي وجوب الفور من جهة الاطلاق فانه باطلاقه شامل لمن أخر الحج بغير عذر- رغم استطاعته- مع عزمه علي الاتيان بالحج في السنين المقبلة، فانه مشمول لقوله: من لم يمنعه عن الحج حاجة ظاهرة- الي قوله- فليمت إن شاء يهودياً أو نصرانياً، فيكون دالًا علي عدم جواز التأخير في اداء فريضة الحج بغير عذر.

واما الخامس والسادس: فقد يعترض عليهما بضعف السند أيضاً وجوابه نفس ما ذكرناه سابقاً، وبالمعارضة مع ما دلّ علي جواز التأخير، وسوف نبيّن فيما يأتي عند البحث عن ادلة القائلين بالتراخي قصور ما ادّعي كونه معارضاً عن المعارضة.

واما السابع: فقد اعترض عليه بأنّ قياس الحج بالصوم قياس مع الفارق، فان الصوم وقته مضيّق فكان فعله مضيّقاً بخلاف الحج (1).

والجواب عنه: انه ان أريد من التضيق في وقت الصوم أنّ له وقتاً معيّناً فالحجّ كذلك أيضاً، فليست الاوقات سواءً بالنسبة إلي فعل الحج بل المتعيّن ايقاعه في ايام خاصّة. وان أريد منه عدم جواز تأخيره فهذا عين المدّعي في الحج، فنفيه عن الحجّ مصادرة للمطلوب.

واما الثامن: فقد فقد اعترض عليه أولًا:" بعدم التسليم بوجوب الجهاد فوراً بل الفور والتراخي فيه موكول إلي ما يراه الامام بحسب المصلحة. وثانياً: ان في تأخير الجهاد ضرراً علي المسلمين بخلاف الحج" (2).

والجواب عن الأوّل من الاعتراضين:

أن الكلام مبني علي القول بالفور في الجهاد، اما علي تقدير انكاره في الجهاد فلا كلام. واما الجواب عن ثاني الاعتراضين، فبأنّ القائل بالفور في فريضة الجهاد لا يري ذلك مختصاً بما اذا لزم الضرر من التأخير، بل يري الفور حتي فيصورة القطع بعدم الضرر في التأخير، فيقاس به التكليف بالحجّ.

واما التاسع:" فقد اعترض عليه بانا نختار انه اذا أخرّ حتي مات يكون عاصياً، ولكن عصيانه من جهة تفريطه بالتأخير إلي الموت، وانما جاز له التأخير بشرط سلامة العاقبة كما اذا ضرب ولده او زوجته أو المعلم الصبي أو عزّر السلطان انساناً فمات، فانه يجب الضمان، لانه مشروط بسلامة العاقبة" (3).

والجواب عنه: أنّ الفور لو لم يكن واجباً لم يكن وجه لعصيانه بالتأخير حتي الموت، وسلامة العاقبة ليس تحت الاختيار ليعتبر شرطاً في التكليف، اما الضمان فإنّه حكم وضعي، ولا بأس بان يناط الحكم الوضعي بما لا يقع تحت الاختيار بخلاف الحكم التكليفي المتنازع فيه.

أدلّة القول بالتراخي:

واحتجّ القائلون بالتراخي بعدّة أدلّة وهي:

أوّلًا: ان فريضة الحج نزلت سنة ست من الهجرة وقد حجّ النبي سنة عشر، وقد كان هو واصحابه موسرين بما غنموه من الغنائم الكثيرة ولا عذر لهم، فلم يكن تأخيره للحج إلّا لبيان جواز التأخير (4).

اما ان فريضة الحج نزلت سنة ست فلحديث كعب بن عجرة قال:" وقف عليّ رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) بالحديبيّة، ورأسي يتهافت قملًا، فقال: يؤذيك هوامّك؟ قلت: نعم، يا رسول الله. قال: فاحلق رأسك. قال: ففيّ نزلت هذه الآية: فمن كان منكم مريضاً أو به أذيً من رأسه ففديه.. الي آخرها وبذلك يثبت ان قوله تعالي: واتموا الحج والعمرة لله الي آخرها نزلت سنة ست من الهجرة" (5).

ثانياً: جاء في حديث انس عن رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) حينما جاءه رجل من اهل البادية فسأله قال:" يا محمّد اتانا رسولك فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك، قال:صدق، الي ان قال: وزعم رسولك ان علينا حج البيت من استطاع إليه سبيلًا، قال:صدق" رواه مسلم فيصحيحه في اوّل كتاب الايمان بهذه الحروف وروي البخاري أصله، وفي رواية البخاري" ان هذا الرجل ضمام بن ثعلبة، وقدوم ضمام بن ثعلبة علي النبي


1- 61 شرح المذهب 91: 7.
2- 62 نفس المصدر.
3- 63 شرح المذهب 92: 7.
4- 64 نفس المصدر: 88.
5- 65 نفس المصدر: 88.

ص: 52

(صلّي الله عليه وآله وسلّم) كان سنة خمس من الهجرة، قاله محمّد بن حبيب وآخرون، وقال غيره: سنة سبع، وقال ابو عبيد: سنة تسع" (1).

وهذا الحديث يدل ايضاً علي وجوب الحج قبل سنة عشر وقد اخر رسول الله الحج الي سنة عشر، فيدل علي جواز التأخير وعدم وجوب الفور بالحج.

ثالثاً: جاء في الاحاديث المستفيضة" ان رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) امر في حجَّة الوداع من لم يكن معه هدي، الاحرام بالحج، ويجعله عمرة" وهذاصريح في جواز تأخير الحج مع التمكّن (2).

رابعاً: أن المكلّف إذا أخّر الحج- بعد الاستطاعة- من سنة الي سنة أو أكثر، ثم فعله، يسمي مؤدياً للحج لا قاضياًبإجماع المسلمين، ولو حرم التأخير لكان قضاءً لا أداءً (3).

خامساً: اذا تمكن المكلّف من الحج وأخره ثم فعله، لا ترد شهادته فيما بين تأخيره وفعله بالاتفاق، ولو حرم لردت لارتكابه المسي ء (4).

وكل هذه الادلّة التي تمسّك بها القائلون بالتراخي عليلة والتوضيح كالتالي:

أمّا الدليل الأوّل، فالجواب عنه بوجهين:

الأول: انه لم يثبت عندنا نزول فريضة الحج سنة ست، وقد روي أنها نزلت سنة عشر فلم يتخلّل بينها وبين حجّ رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) زمان تفوت معه الفوريَّة.

واما حديث كعب بن عجرة فلا دلالة فيه علي زمان النزول، وانّما الذي دل عليه الحديث قول كعب ان الآية نزلت فيه، ويمكن ان يريد بذلك أنّ الآية حينما نزلت- وان كان نزولها متأخراً عن الحديبيّة بسنين- نزلت فيه وفي امثاله ممّن يصابون بالعذر الذي أصيب به. وبعبارة اخري ان الظّرف لا يدلّ علي خصوص الظرفيّة الزمانيّة بل يصحّ ان يراد به الظرفيّة المورديّة، بل لعل الظرف بمعني المورد هو الظاهر في اكثر الروايات التي تحكي شأن النزول، وان كانت الظرفيّة الموردية كثيراً ما تقترن بالظرفيّة الزمانيّة لكن لا ملازمة بينهما.

الثاني: سلّمنا نزوول اصل فريضة الحجّ قبل عام حجّة الوداع بسنة أو سنين، لكن تشريع اصل فريضة الحج لا يعني وجوبها الفعلي علي المسلمين.

بل يتوقف وجوبها الفعلي علي تشريع تفاصيل مناسكه واجزائه وأركانه، ولم يكن يمكن الاكتفاء في بيان تفاصيل مناسك الحجّ بتفسيرها النظري، لكثرة مناسكه ودقّة أحكامه وكثرة فروعه وأهميّة الآثار المترتبة عليه بل كان من الضروري في تشريع تفاصيل مناسك الحج وتعليمها للمسلمين أن يقوم رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم)، بتفسير الحج تفسيراً عملياً تطبيقيّاً، وذلك بأنْ يحجّ بنفسهصلوات الله عليه وآله ومعه المسلمون عامّة ليتعلموا احكام الحج وفروعه الدقيقة الكثيرة من خلال المشاهدة العملية والمعايشة الميدانية.

وهذا ما قام به رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) في حجّة الوداع، ولم يكن من الممكن القيام بهذا الحج التشريعي قبل التطهير البيت والبقاع التي يراد اقامة الحج فيها لله من رجس وجود المشركين، ولم يطهر البيت والبقاع المباركة الا في سنة تسع عندما نزلت آية البراءة.

فقد روي الشعبي عن محرز بن أبي هريرة عن ابي هريرة قال: كنت انادي مع علي (عليه السلام) حين اذن المشركين، فكان اذاصحلصوته فيما ينادي دعوت مكانه قال: فقلت يا أبت أيّ شي ء كنتم تقولون؟ قال: كنا نقول: لايحج بعد عامنا هذا مشرك ولا يطوفن بالبيت عريان، ولا يدخل البيت إلّا مؤمن، ومن كانت بينه وبين


1- 66 شرح المذهب 89: 7.
2- 67 نفس المصدر.
3- 68 نفس المصدر.
4- 69 نفس المصدر.

ص: 53

رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) مدة فان أجله إلي اربعة أشهر، فاذا انقضت الاربعة أشهر فان الله بري ء من المشركين ورسولُه (1).

ورواه مع شي ء من الاختلاف الدارمي في سننه (2).

وقد جاء في الكتاب العزيز قوله تعالي مخاطباً إبراهيم وولده اسماعيل أن طهّرا بيتي للطائفين والعاكفين والرّكع السجود (3). ممّا يؤيد أنّ الحج الكامل متوقف علي طهارة بيت الله من كل ما يدنس طهارته، والمشركون نجس حسبما ورد في الكتاب العزيز فهم ممّا يجب تطهير بيت الله سبحانه منهم، مقدّمة لطواف الطائفين وصلاة المصلّين.

اذاً فقد حجّ رسول الله في أول سنة تمكن فيها من الحج من غير تأخير، وليس في حجّه (صلّي الله عليه وآله وسلّم) ما يقوم حجة للقول بالتراخي.

واما الدليل الثاني:

فالجواب عنه: أولًا: أنه لم يثبت كون قدوم ضمام بن ثعلبة علي النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) سنة خمس أو سبع، بل قيل: إنه كان سنة تسع، وقد حجّ رسول الله سنة عشر فلم يثبت تأخر حجّ رسول الله عن أوّل عام الاستطاعة بعد التشريع.

وثانياً: ما ذكرناه في وجه الثاني من الجواب علي الدليل الأوّل يرد في الجواب علي هذا الوجه ايضاً.

واما الدليل الثالث:

فجوابه واضح، فانّ امر رسول الله من لم يكن معه هدي ان يجعل حجّه عمرة لا دلالة فيه علي جواز تأخير الحج فضلًا عنصراحته في ذلك، بل الوجه في امر رسول الله- كما يبدو من ظاهر الحديث- فقدان من لم يكن معه هدي لشرط الاستطاعة.

واما الدليل الرابع:

فالجواب عنه: ان الوجه في تسمية من اخّر الحج عن عام الاستطاعة ثم حج بعد ذلك مؤدياً للحجّ، أنّ الحج فيما بعد عام الاستطاعة اداء لفريضة الحج في وقتها بعد فوات الوقت الأول فانّ الواجب هو اداء الحجّ في العام الأوّل من الاستطاعة فان عصي وجب عليه اداؤه في العام الثاني وإلّا ففي الثالث وهكذا، وليس ذلك من باب القضاء لان معني فوريّة الوجوب انحلال الواجب إلي عنصرين تعلّق بهما الأمر: الأول: ذات الواجب ووقته مدي العمر، والثاني: ايقاعه في الزمن الأوّل بعد الاستطاعة، وهذا الثاني ينطبق علي كل عام أوّل بعد تعلّق التكليف وقبل الامتثال، فما لم يمتثل يبقي وجوب ايقاع الفريضة في أوّل عام باقياً متوجهاً إليه، فإذا أدّي الفريضة سقط الوجوب بكلا عنصريه لتحقق المطلوب.

وأمّا الدليل الخامس:

انّ الفرض المذكور في الدليل يتضمّن افتراض العزم علي الاداء في المستقبل، وفي هذا الفرض وان كان التأخير اثماً يعاقب عليه لو لم يجبر بالتوبة، ولكن ليس كل اثم يوجب ردّ شهادة مرتكبة، فلا يتوقف قبول الشهادة علي عدم ارتكاب الاثم مطلقاً، وانّما الاثم المانع عن قبول الشهادة هو الاثم المقترن بالاصرار أو ما يعدّ كبيرة موبقة وعد عليها بالنّار أو غير ذلك من القيود المعتبرة في الاثم الموجب لردّ الشهادة.

وقد تحصل من مجموع ما ذكرناه ان الحق كون الحج واجباً فوريّاً يأثم من توفرت فيه شرايط الوجوب بتأخيره عن اول عام الاستطاعة بغير عذر.


1- 70 مجمع البيان للطبرسي 3: 5.
2- 71 سنن الدارمي 68: 2.
3- 72 البقرة: 125.

ص: 54

ص: 55

ص: 56

الحجاز والحَرَمان الشّريفان في القرن الثّالث عشر

ص: 57

الحجاز والحَرَمان الشّريفان في القرن الثّالث عشر

تأليف: جعفر شهيدي

لقد كان للشعب الإيراني- ولا يزال بحمد الله- منذ اعتنق الاسلام؛ اهتمام كبير بالمواظبة علي إقامة شعائر هذا الدين الحنيف وأداء مناسكه، والقيام بفرائضه بشوق بالغ وإيمان راسخ وقلب سليم. وأداءُ فريضة الحجّ أَحد هذه المناسك المحببة إليهم، فقد شدّوا الرحال وتحملوا أعباء السفر، واقتحموا المهالك والمخاطر، وجادوا بأموالهم وجاهدوا بأنفسهم عن طيب خاطر، ولذة مفرحة في سبيل الله، وإقامة أركان الشرع الحنيف، وبلوغهمصورة المسلم الكامل.

وكان من الطبيعي- أن نري علي مدي التاريخ الإسلامي- أن يحمل هذا التيار المتصل، عدّة من العلماء والشعراء والكتاب، الذين نالوا هذا الفوز الكبير، وأنهم سجلوا هذه الرحلات، وقيدوا تلك المذكرات ونظموا القصائد عن أسفارهم وما شاهدوه في الطريق، أو من التقوا به، ودار بينهم وبينه الحوار، حول شتي المسائل: من المباحث الدينية أو الاجتماعية أو الاقتصادية أو الانسانية، أو ما حلّت بهم من المكاره والأخطار في الطريق، أو من أثر رؤية هذه المشاهد الشريفة في نفوسهم وما تحتويه من رموز التوحيد والاخلاص، أو تعارف المسلمين بعضهم علي بعض. ولما كانت هذه الرحلات أو بعبارة أخري هذه الوثائق والمستندات التاريخية، من شأنها أنها تلقي أضواء علي زوايا تاريخنا الاسلامي، فتمدنا بالكثير من المعلومات الهامة في مناحي العلم المختلفة وخاصة عن الحياة الاجتماعية أو الثقافية أو التجارية، التي كان يقضيها هذا القطر الإسلاميّ الشقيق في ذلك الوقت، هذا مضافاً إلي الناحية الفنية، التي تصورها الصورة الرائعة التي يمثلها الشاعر منهم في قصيدته، أو الأديب في رسائله، مما تهيج الطباع وتهز النفوس، وتخفق لها القلوب. ولعل كثيراً من المطلعين خبير بما نظمه الشاعر الايراني" خاقاني الشرواني" في منظومته التي سماها" تحفة العراقين" التي يصف فيها رحلته إلي مكّة المكرمة؛ فيقدم لنا معلومات من حياة العرب الاجتماعية في القرن الخامس من الهجرة، حيث يصف الركب في ترحاله ونزوله، وموارد الماء التي يُستقي منها للانسان والدواب، ويصف الطبائح ووقوف النوق عليها، والمواقيت والحرمين، ومني وعرفات والمشعر، والكعبة- شرّفها الله- وكسوتها، والحجر والأركان، وزمزم وازدحام الحاج عليها، كما أنه يصف مدينة النبيِّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) ومسجد الرسول، وإقامة الجُمعة والخطبة والخطباء، مما يطول بنا ذكره. فيأخذ بيد القارئ ويطوف به في أجواء من عالم القدس، ويريه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، فيتوق قلب كل مسلم إلي زيارة هذه الأماكن، ويكاد المستمع يطير إلي الحرمين الشريفين جرياً وراء فؤاده. أو بما كتبه الرحالة" ناصر خسرو القبادياني" الشاعر الفارسي، الذي زار الحرمين الشريفين في القرن الخامس من الهجرة النبوية، حيث يصف لنا المسجدين بأدقصورة، ويبين مساحتيهما، ويصف الكعبة وكسوتها والحجر ومني وزمزم، وشوارع مكة وحماماتها، وسوق العطارين، وعدد سكان البلد، وسعر القمح، والقحط الذي أصاب البلد في تلك السنة.

هذا ولا يخلو كلُّ قرن من القرون من رحلات، أو مذكرات كتبها الرحالة أو الحجّاج من إيران، لم تزل مخطوطاتٍ تخزن في مكتباتنا بطهران ومشهد وتبريز وغيرها من البلدان، مما نتمني- بإذن الله تعالي- أن تقدم في

ص: 58

صورة جيدة لاخواننا العرب المسلمين. فهذا التراث العظيم- كما قلت- يحتوي علي معلومات هامة مما يتعلق بالحجاز عامة، وبالحرمين الشريفين خاصة.

وحيث إن بحثي المتواضع يتعلق بالقرن الثالث عشر الهجري- التاسع عشر الميلادي- فلا أجد لي الحقَّ أن أتجاوز عما كتبه الرحالة في هذا القرن. فإنّ في أيدينا من رحلات هذا القرن أكثر من عشر رحلات مخطوطة في المكتبة الأهلية ومكتبة مجلس النواب وإليكم أسماء بعضها:

1- الرحلة التي ألّفها ضياء الدين آل كيوان قارئ، كتبها عام 1229 ه-. ق، (مكتبة مجلس النواب).

2- الرحلة لمحمد حسن خان اعتماد السلطنة 1263 ه-. ق، (المكتبة الرضوية، مشهد).

3- الرحلة، لمحمد علي فراهاني عام 1263 ه-. ق (مكتبة مجلس النواب).

4- الرحلة التي كتبها سيف الدولة محمد بن فتح علي شاه القاجار عام 1279 ه-. ق، (المكتبة الأهلية).

5- الرحلة، لأحد أقرباء ناصر الدين شاه القاجار، دونها عام 1288 ه-. ق، (المكتبة الأهلية).

6- الرحلة، لأحد مقربي ناصر الدين شاه القاجار أيضاً، كتبها عام 1296 ه-. ق، (المكتبة الأهلية).

وهناك رحلات منظومة أيضاً كرحلة ميرزا جلاير (المكتبة الأهلية)، ورحلة مشتري الخراساني وغيرها (1).

وهناك رحلتان أُخريان كُتبتا في مستهل القرن الرابع عشر، إحداهما لميرزا علي خان أمين الدولة، والأخري لمخبر السطنة هدايت ولهاتين الرحلتين أهمية خاصة، حيث إن مؤلفيهما من الأدباء الفضلاء ومن رجال الدولة والسياسة. وقد تقلّد كلٌّ منهما منصب الوزارة، كما أن كلًا منهما تولي رئاسة الحكومة أيضاً. وهاتان الرحلتان مطبوعتان، ولكن لم تترجما إلي اللغة العربية بعد.

كلّ هذه الرحلات التي قدمناها في مجموعها،صورة من الحياة الاجتماعية في القرن الثالث عشر لسكان الحجاز، فتصف لنا أول ما تصف مثلًا لقاءات الحجاج بمطالع المروءة، واستقبال أهل الأحياء لهم، كالنساء اللاتي يستقبلن القوافل، ويعرضن عليهم الخبز والليمون، وتصف أزياء هن بأنها شملة زررقاء من الابريسم مطرّزة بالذهب و" جلابتون"، أوالأطفال الذين ينشدون حول القوافل:

سيدي اعط من زادك الله يعطي مرادك أو تصف طائفة تستقبل الحجاج حين دخولهم مكة، فتعطي لكل واحد تمرتين وفنجان من ماء زمزم، كما أنها تصف هجوم الأشرار علي القوافل ونهبهم الأموال وقتلهم الأنفس أحياناً كما أنها تسجل أسعار الأمتعة والأرزاق وأجرة الدور، مما يدل علي الوضع الاقتصادي، ومصدر الداخل لطبقة معينة، ومستوي معيشتهم في داك العصر. أو ما يصفون به مياه" ينبع" أنها من ماء المطر الذي يخزن في سراديب، فينقلب لونه إلي الزرقة، وريحه إلي العفونة، فينصرف الضمآن إلي شرب القازوز بدل الماء. وتذكر وصف الدراويش الذين يتجولون في شوارع مكة ليلًا، وينشدون القصائد بصوت عالٍ فلا يتمكن الانسان أن ينام من أصواتهم التي تشق أجواء الفضاء.

كل هذا لابد من أن يدرس؛ لكي يعلم مدي ما وصل إليه هذا القطر الشقيق المبارك، من السعة في العيش والرغدة في الحياة، وبلوغ الحضارة في ظل الأمن والسلام. ونتعرض الآن إلي بعض ما جاء في رحلة أمين الدولة ورحلة مخبر السلطنة هدايت:

جدة: الغالب في أبنية جدة بنايات ذات ثلاثة طوابق مبنية من الحجارة، وصحن العمارات مفروشة بالرخام وفيها حياض يجري فيها الماء من النافورات. واعتقد أن بعض هذه الدور يقارن الدور التي رأيتها في البلاد الغربية. ومن المعالم الأثرية، التي زرتها في جدة، قبر طوله خمسون خطوة، يقال إنه قبر أُمّنا حواء، وإلي جانبهاصورة، ومن الغريب أن هذه الصورة هيصورة لنصف جسدها من ظهرها إلي رأسها، وإنني كدت أطير فرحاً وشوقاً لما نزلت من البحر إلي هذه الأراضي المقدسة، واغرورقت عيناي بالدموع حينما دخلت جدة، ولكن لما أراني دليلي شكل هذا القبر وتلك الصورة المضحكة زال عن قلبي كل الخضوع وغلبني الضحك من رؤية تلك الخرافة ..

مكة: أرض مكّة مكسوة بالرمال فيصعب علي الدواب السير عليها، ولذلك عبدوا بعض الممرات، التي يصعب العبور منها، بالحجارات المنحوتة.

تقع مكة في الجنوب الشرقي من البحر الأحمر، بينها وبين المدينة 80 فرسخاً، ويبلغ عدد سكانها- من القاطن والمجاور- ستين ألفاً، ولها ثلاثة أسوار كل سور داخل الآخر، وشوارع البلد متسعة، ولكن البيوت لاصحن لها.

ويصف أمين الدولة دور مكة فيقول: الدار التي نزلنا فيها دار جميلة ولها أزر من الرخام المصنوع، وفيه حياض عليها رؤوس الأسود وسائر الحيوانات، يجري منها الماء في الحوض، ولا يوجد في كثير من البلدان الإسلامية دور جميلة كهذه ولا في بعض البلدان الغربية أيضاً.

المسجد: يقع المسجد في وسط البلد، وطوله 400 ذراع وعرضه 304، فتبلغ كل المساحة 121600 ذراع، والكعبة- شرّفها الله- في وسط البيت. والمسجد غير مسقوف، إلا أنه يحاط بالايوانات المسقوفة من كل جانب، والسقف قائم علي 134 أسطوانة. وجدران المسجد مبنية من الحجارة السوداء. وللمسجد 18 باباً، منها باب النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) علي الجانب الشرقي، وعلي الجانب الأيسر منه زمزم ومقام حنبل، ومقام مالك وراء البيت، ومقام الحنفي علي جانب الشمالي، وأما الشافعي فلا مقام له.

كسوه الكعبة: وهي من الحرير الأسود مزركشة، تهدي كلّ سنة من جانب الموكب المصري، ففي يوم عيد الأضحي، يدخل أمير الحج المصري في المسجد وتدق الطبول أمامه وينفخ في الأبواق، فيقف عند الكعبة ويأتي عشرون خادماً سوداً فيخلعون الكسوة القديمة ويعقلون الجديدة عليها، وتهدي الخليعة القديمة للشريف، وهو يهدي قطعاً منها لذوي الشخصيات. يقول هدايت أهدي لي الشريف قطعة منها، وعليهاصورة وردة كتبت من سورة الاخلاص وهي الآن زينة مكتبتي.

الصفا والمروة: وهما نهدان علي طريق باب النبي، بينهما سبعون خظوة (2)، والأرض غير مسطحة، فاالساعي لابد من ان يتحمل مشقة كثيرة لا محالة. ولما كان بعض الحجاج يسعي علي ظهر الدابة فكثيراً ما تري الأرض ملطخة بالأرواث والقذارات، والروائح الكريهة هنا لا يمكن أن تتحمل.

عرفات: والحق أنها عرصات من كثرة الازدحام واللغط والضوضاء والضجيج. وفيها قناة تجري علي وجه الأرض؛ والشجر الطرفاء هناك كثير. وفي جبل عرفات قرود كثيرة، سمعت أن بعض الحجاج يصطادونصغارها ليذهبوا بها إلي أوطانهم وهذا أمر غريب؛ لأن الصيد في مكة محرم وخاصة للمحرم في عرفات.

مني: تقع مني بين الجبلين وفيها ميدان فسيح يضرب الحجاجُ فيه خيامهم. وهناك ماء يجري من قناة تعرف بقناة زبيدة، يقال إنّ زبيدة زوجة هارون الرشيد العباسي أجرته فيها. وفي مني تقام أسواق الهند والمغرب والروم لمدة ثلاثة أيام تعرض فيها أمتعة هذه البلاد.

ونحرنا بمني في يوم العيد، ومسألة النحر هناك مؤسفة جداً، حيث إن هناك يذبح حوالي ألف من غنم وجمل، ثم تدفن جثثها تحت التراب لئلا تفسد. فلماذا لا يقوم فقهاء المسلمين وزعماؤهم باتخاذ تدبير بشأن هذا؟.


1- 1 راجع فهرس المخطوطات فهرست نسخه هاي خطي، أحمد منزوي، 430: 6- 434.
2- * كذا بالأصل، والمعروف أن المسافة بين الصفا والمروة أكثر بكثير من" سبعين" خطوة. المحرر.

ص: 59

والقذارة هنا شي ء لا يوصف. والحقيقة أن المسلم لابد من أن يخجل حينما يري أن معبداً من معابد المسلمين يكون بهذه الصورة، أفٍ للحجاج لقصورهم وأفٍ لزعماء المسلمين لتقصيرهم.

وفي مني يوقدون المصابيح ليلتين؛ لييلة الحادي عشر من ذي الحجة، وهذه الليلة تختص بالشيعة، وليلة الثاني عشر منه وهي تختص بالسنة. ويقف العسكر الشامي في هذه الليلة في مني بجانب، والعسكر المصري بجانب آخر، ويبلغ عددهم أربعمئة خيال. ووراء العسكرين يقف ألفا جندي يطلقون البنادق والمدافع والمسدسات لمدة ساعتين. أعتقد أن البارود الذي يصرف في هاتين الليلتين، لا يصرف في أي ميدان من ميادين الحرب.

المدينة: قطعنا المسافة بين مكة والمدينة في عشرة أيام. وفي اليوم العاشر من محرم، لما عبرنا عقبةصغيرة بدا سواد المدينة. وكان علي جانبنا الأيسر مسجد الشجرة، ويقع في أرض سهلة وهو ميقات أهل المدينة وتستحب فيه ركعتان، ويقول أمين الدولة: ورأيت قبة من بعيد، فسألت دليلي: هل هناك مسجد الشجرة؟ قال: لا. لأنه واقع في الطريق السلطاني، ولكن القبة الخضراء التي تراها هي قبة مسجد النبي (صلّي الله عليه وآله وسلّم). فأمرت أن يوقف العماري فنزلت وأعطيت ليرات للمكاري شكراً، وأخذت أمشي، فقال دليلي الطريق بعد ولعلك تتعب، قلت: كلا. فكأني الآن أمشي علي الحرير والاستبرق. وفي المدينة أجّرنا بيتا بثلاثة ريالات فرنسية لكل يوم، وذهبنا إلي المسجد قبل الغروب بنصف ساعة، فقيل لنا لا يسمح للأعاجم أن يدخلوا المسجد بعد العصر. فذهبنا إلي البقيع فلم يؤذن لنا هناك بالدخول أيضاً.

مسجد النبي (صلّي الله عليه وآله وسلّم) أقصر من المسجد الحرام بكثير، والقسم الأعظم منه مسقوف، والمسجد مبني من الحجارة والآجر. بناه الملك الأشرف" قايتباي" من سلاطين الشركس. وللمسجد تسعة أبواب منها باب الرحمة، وباب التوسل، وباب النساء، وباب جبرئيل، وباب قايتباي. وفي المدينة ذهبنا إلي سفح جبل أحد، فهناك كان مقتل حمزة عمّ النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) والشهداء الذين استشهدوا في الغزوة المعروفة بغزوة أحد. وذهبناإلي مسجد قبا وفيه تحولت القبلة من بيت المقدس إلي الكعبة المشرفة. وفي طول الطريق من المدينة إلي قبا كانت بساتين النخل تتوالي، وهذا الطريق يقطعه الراكب في عشرين دقيقة. والأراضي حول المدينة قريبة إلي الماء، حيث يحفر البئر فيها في أكثر المواقع. ولما أردنا أن نرحل من المدينة حفروا في أحد المنازل الأرض وظهر الماء في عمق لم يكن أكثر من ذراع، حيث تمكنوا من الاستسقاء لثلاثة آلاف بعير وأخذوا الماء لطريقهم أيضاً.

ص: 60

حدود عرفات. مزدلفة. مني

ص: 61

حدود عرفات. مزدلفة. مني

تأليف: حسن الجواهري

الحمدلله ربّ العالمين والصلاة والسلام علي خير خلقه محمّد وآله الطّيبين الطاهرين وصحبه الميامين.

إنّ البحث الذي نريد الكتابة عنه هو بحثٌ تاريخيٌّ جغرافيٌّ يكون موضوعاً لأحكام شرعيّةٍ كثيرة، ألا وهو تحديد (عرفات، مزدلفة، مني) وقد ذكر الفقهاء الأحكام الكثرة الواردة علي هذه الموضوعات الثلاثة، ولإن كان الموضوع قد حدّده الشارع المقدّس في الروايات الواردة عن المعصوم (عليه السلام)، إلّا أنّ المصداق لهذا المفهوم لا بدّ من أخذه من أهل الخبرة في تعيين ما حدّده الشارع، وعلي هذا فنحن بحاجة:

أوّلًا: إلي ما حدّده الشارع المقدّس كمفهوم لهذه الألفاظ الثلاثة.

وثانياً: إلي تعيين هذه المواضع إمّا من شياع أهل الخبرة إذا اختلفوا في تعيين المصداق، أو لم يختلفوا حيث أنّه يفيد علماً أو اطمئناناً.

ولا يخفي أنّ القاعدة عند الشكّ في تعيين المصداق تقتضي الاقتصار علي القدر متيقّن؛ لقاعدة الاشتغال اليقيني الذي يستدعي الفراغ اليقيني، بمعني أنّ مشكوك الموقفيّة أو الموضعيّة يوجب الشك في الامتثال الذي حدّد في هذه الأمكنة، فتجري القاعدة.

ولا بأس بالتنبيه إلي أنّنا لا نبخل ببعض الاشكالات والأبحاث الفقهيّة التي تتعلّق بهذه الدراسة. فنقول وبالله التوفيق.

أوّلًا- حدود عرفات:

إنّ عرفات منطقة تقع شرقيّ مكّة بحوالي 22 كم وهي سهل واسع منبسط مُحاط بقوس من الجبال يكون وتره وادي عَرَفَة، فمن الشمال الشرقي يُشرف عليها جبل أسمر شامخ وهو (جبل سعد) ومن مطلع الشمس يشرف عليها جبل أشهب أقلّ ارتفاعاً من سابقه ويتّصل به من الجنوب وهذا يسمي (مِلْحه)، ومن الجنوب تشرف عليه سلسلة لاطية سوداء تسمّي (امّ الرضوم) أمّا من الشمال إلي الجنوب فيمرّ وادي عَرَفَة (1).

وقد ذكرت الروايات حدود عرفات ممّا يلي الحرم، حيث إنّه هو الذي يحتاج إلي تحديد، أمّا الجهات الثلاث الأُخري فكأنّها لا تحتاج إلي تحديد؛ لوجود سلسلة الجبال التي تقطع بين عرفات


1- 1 معالم مكة التأريخيّة والأثريّة: 182، البلادي عاتق بن غيث، مكّة المكرّمة، دار مكّة، 1400 ه-- 1980 م.

ص: 62

وغيرها. فقالت الروايات وتبعها الفقهاء: بأنّ الحاج لو وقف" بنَمِرَة أو عَرَفَة، أو ثوية أو ذي المجاز أو بجنب الأراك أو غير ذلك ممّا هو خارج عن عَرَفَة لم يجزه"، فمن الروايات:

1-صحيح معاوية بن عمّار عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال:" فإذا أنتهيت إلي عَرَفات فاضرب قباك بنَمِرَة وهي بطن عُرَنَة دون الموقف ودون عُرَنَة... وحدّ عَرَفَة من بطن عُرَنَة وثوية ونَمِرَة إلي ذي المجاز، وخلف الجبل موقف" (1).

2- خبر سماعة عن الإمام الصادق (عليه السلام):" واتّقِ الأراك ونَمِرَة وهي بطن عُرَنَة، وثوية وذي المجاز فإنّه ليس من عَرَفَة ولا تقف فيه" (2).

3- خبر إسحاق بن عمّار عن الإمام الكاظم (عليه السلام). قال: قال رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم):" ارتفعوا عن وادي عُرَنَة بعرفات" (3).

أقول: إنّ هذه الأماكن الخمسة هي حدود عَرَفَة من ناحية الغرب (الحرم) وهي راجعة إلي أربعة كما هو المعروف من الحدود، لأنّ نَمِرَة هي بطن عَرَفَة كما روي في حديث معاوية المتقدّم عن الإمام الصادق (عليه السلام).

شرح الألفاظ:

1- نَمِرَة:

بفتح النون وكسر الميم وفتح الراء المهملة (وهي بطن عُرَنَة) كما ذكرت الروايات المتقدّمة.

وقد ذكر ابن تيمية عن نَمِرَة كانت قرية خارجة عن عرفات من جهة اليمن، فيقيمون فيها إلي الزوال كما فعل النبي (صلّي الله عليه وآله وسلم) ثمّ يسيرون منها إلي بطن الوادي، وهو موضع النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلم) الذيصلّي فيه الظهر والعصر وخطب، وهو في حدود عَرَفَة لبطن عُرَنَة وهناك مسجد يُقال له مسجد إبراهيم، وانّما بُني في أوّل دولة بني العبّاس".

وقال ابن القيّم:" نَمِرَة قرية غربيّ عرفات، وهي خراب اليوم، نزل بها النبي (صلّي الله عليه وآله وسلم) حتّي إذا زالت الشمس أمر بناقته القصواء فرحّلت له، ثمّ سار حتّي أتي بطن الوادي من ارض عَرَفَة فخطب الناس، وموضع خطبته لم يكن من الموقف، فإنّه خطب بعُرَنَة، وليس من الموقف، فهو (صلّي الله عليه وآله وسلم) نزل بنَمِرَة وخطب بعُرَنَة ووقف بعَرَفَة" (4).

والمُراد من المسجد الذي يسمّي مسجد إبراهيم فيما ذكره ابن تيمية، هو المسجد القديم الذي اختلف فيه أنّه من عرفات أو خارجها علي ثلاثة اقوال:

1- فقدذكر إمام الحَرَمين الجويني والقاضي حسين والرافعي وجماعة من الخراسانيّين قالوا: إنّ مقدّم المسجد- القديم- في وادي عُرَنَة ومؤخّره في عَرَفات، ويتميّز ذلك بصخراتٍ كبار فُرِشت هناك.


1- 2 الوسائل: 10، الباب 9 من أبواب إحرام الحاجّ، الحديث 1، وذيل الحديث باب من أبواب إحرام الحاجّ، الحديث 1.
2- 3 نفس المصدر، الباب 10، الحديث 6.
3- 4 نفس المصدر، الباب 10، الحديث 4.
4- 5 هامش كتاب الإرتسامات اللِطاف، أرسلان الأمير شكيب بن حمود 1366 ه-، تعليق عبدالرزّاق محمّد سعيد حسن الطائف: مكتبة المعارف: 58- 65، عن هداية الناسكين، تحقيق الدكتور الفضلي: 175.

ص: 63

2- قال في البحر العميق نقلًا عن الطبرابلسي وغيره:" إنّ جميع المسجد- القديم- من عَرَفَة وإن جداره الغربيّ لو سقط، لسقط علي بطن عُرَنَة".

صرّح كثيرٌ من علماء الإسلام بعدم دخول المسجد القديم في عَرَفَة تبعاً للروايات المشتملة عليصفة حجّ رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلم) فقد روي معاوية بن عمّار حجّ النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلم) فقال: حتي انتهي إلي نَمِرَة وهي بطن عُرَنَة بحيال الأراك، فضرب قبّته وضرب الناس أخبيتهم عندها، فلمّا زالت الشمس خرج رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلم) ومعه قريش وقد اغتسل وقطع التلبية حتّي وقف بالمسجد، فوَعَظ الناس وأمَرَهم ونهاهم، ثمّصلّي الظهر والعصر بأذانٍ واحد وإقامتَين، ثمّ مضي إلي الموقف فوقف به" (1).

وقد قال الشافعي (وهو مكّي قَرَشي) في اْلأُمّ:" وعَرَفَة ما جاوز وادي عُرَنَة الذي فيه المسجد، وليس المسجد ولا وادي عُرَنَة من عَرَفَة".

وقال النووي في الايضاح:" واعلم أنّه ليس من عرفات وادي عُرَنَة ولا نَمِرَة ولا المسجد المسمّي مسجد إبراهيم- يُقال له أيضاً مسجد عُرَنَة- بل هذه المواضع خارجة عن عرفات علي طرفها الغربيّ ممّا يلي مُزْدَلِفَة".

أقول: إنّ القاعدة التي ذكرناها في أوّل البحث في خصوص ما إذا اختلف أهل الخبرة في كون المسجد من عَرَفات أو خارج عنها، فإنّ المدار علي الشياع الذي يفيد الاطمئنان بأنّ المسجد ليس من عَرَفَة، علي أنّ ظاهر الصحيحة المتقدّمة أنّه خارج عن موقف عرفات، كما هو الأحوط لهذه العبادة العظيمة.

ومساحة ضلع هذا المسجد القديم من مبتدئه من الناحية الغربيّة إلي منتهاه من الناحية الشرقيّة (مئة ذراع وثلاث وستّون ذراعاً) كما ذكره الأزرقي في تأريخ مكّة، وأنّ مساحة ضلعه من ركنه الشمالي الشرقي إلي الركن الجنوبي الشرقي (مئتان وثلاث عشرة ذراعاً) (2).

ولكن حصلت زيادات علي القدر القديم للمسجد. فإن كانت هذه الزيادة لجهة المشرق فقد دخلت هذه الزيادة في عَرَفَة كما قال البعض وهو القشيري، فقدقال:" والمسجد- أي القديم- الذي يصلّي فيه الإمام اليوم يوم عَرَفَة هو في بطن عُرَنَة فإذا خرج منه الإنسان يريد الوقوف فقدصار في عَرَفَة".

ولكن إذا أخذنا بهذا القول الشائع والمشهور، وقلنا: إنّ المسجد القديم ليس من عرفات، وقدصلّي النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلم) الظهر والعصر فيه، فسوف تواجهنا مشكلة ينبغي حلّها، وهذه الشكلة عبارة عن القول بعدم وجوب الوقوف في عَرَفَة من أوّل الزوال إلي الغروب اختياراً، بل يكفي الوقوف بعَرَفَة بعد الزوال بمقدار ما يغتسل ويصلّي ويخطب ويذهب إلي الموقف. بينما ذُكر أنّ وقت الاختيار في الوقوف بعَرَفَة هو من زوال الشمس إلي غروبها وأنّ الركن هو المسمّي وكأنّ هذا من البديهيّات، فقد ذكر الشهيد الأوّل والثاني في كتاب اللُمعة الدمشقيّة وشرحها بأنّ من الواجبات" الوقوف بمعني الكون بعَرَفَة من زوال التاسع إلي غروب الشمس مقروناً بالنيّة المشتملة علي قصد الفعل المخصوص متقرّباً بعد تحقّق الزوال بغير فصل، والركن من ذلك أمر كلّي وهو جزءٌ من مجموع الوقت بعد النيّة ولو سائراً، والواجب الكل" (3). وقدصرّح غير واحدٍ من الفقهاء بذلك، بل في المدارك نسبته إلي الأصحاب، فيجب مقارنة النيّة للزوال ليقع الوقوف بأسره بعد النيّة، وإلّا فات جزءٌ منه، ثمّ لو أخّر أثم إلّا أنّه يجزي كماصرّح به في الدروس (4).

وهذه المشكلة وإن لم تُحلّ بناءً علي وجوب الوقوف من الزوال إلي الغروب، إلّا أنّها لا تعيّن القول القائل بوجوب مسمّي الوقوف في عَرَفَات فقط، فإنّ هذا القول يدفعه وجوب البقاء إلي الغروب وحُرمة الخروج من عَرَفات قبله، والكفّارة لِمَن تعمّد ذلك، ووجوب العَود إلي الموقف لو خرج إذا كانت الشمس لم تغرب.

وقد تحلّ هذه المشكلة بأحد حلَّين:

الحلّ الأوّل: (بناءً علي وجوب الوقوف ما بين الحدَّين) بقولنا: إنّ المراد من الوقوف في عَرَفَة هو الوقوف العرفي الذي تكون مقدّماته المشرفة علي الوقوف محسوبة منه، وعلي هذا تكون مقدّمات الوقوف المشتملة علي الغسل والصلاة والخطبة والتهيّؤ للوقوف من الوقوف.

الحلّ الثاني: عدم وجود دليل يثبت وجوب الوقوف ما بين الحدَّين، بل ذكر ذلك بعض الفقهاء، وأمّا الدليل الذي ذكر لنا حجّ النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلم) فهو يدلّ علي أنّ الوقوف يكون بعد الظهر بساعة مثلًا إلي غروب الشمس، وهذا الحلّ الثاني هو الأوفق، إذ إنّ الحلّ الأوّل وإن كان يثبت أنّ مقدّمات الوقوف من الوقوف، إلّا أنّه لم يثبت أنّ الوقوف كان في عَرفات.

قرائن علي أنّ نَمِرَة من عَرَفَات:

وإلي هنا كنّا نؤيّد القول القائل بأنّ نَمِرَة هي خارجة عن حدود عَرَفَات كما ذكرت دلك الروايات، ولكنْ هناك قولٌ آخر يبيّن أنّ نَمِرَة من عَرَفَات لكنّها خارج موقف الدعاء، وسوف نذكر بعض القرائن علي ذلك:

1- ما قاله في القاموس:" إنّها (أي نَمِرَة) موضعٌ بعَرَفات، أو الميل الذي عليه أقطاب الحَرَم" وحينئذ يكون المراد بمضيّه الرواح إلي الموقف، ميسرة الجبل الذي يستحبّ الوقوف فيه.

2- إطلاق عَرَفات في بعض الأخبار علي ما يشمل (نَمِرَة) أيضاً كما ورد فيصحيح معاوية بن عمّار وأبي بصير جميعاً عن الإمام الصادق (عليه السلام)، حيث قال:" وحدّ عَرَفات من المأزمَين إلي أقصي الموقف" (5). وهذا الحديثصريحٌ في أنّ ما بعد المأزمَين إلي أقصي الموقف اسمه عرفات،


1- 6 الوسائل 8، الباب 2 من أبواب أقسام الحجّ، الحديث 3.
2- 7 مجلّة العرب السعوديّة، الجزء 5، السنة السادسة، 1391 ه-- 1972 م، تحت عنوان تحديد عرفات، عن هداية الناسكين: 173.
3- 8 نفس المصدر: 269.
4- 9 جواهر الكلام، الجزء 15: 19.
5- 10 الوسائل الجزء 10، الباب 10 من أبواب الإحرام بالحجّ والوقوف يعرفة، الحديث 8.

ص: 64

ونَمِرَة داخلةٌ في عرفات حيث إنّها واقعةٌ علي يمين مَن خرج مِن المأزمَين وأراد الموقف، وعلي هذا فيكون إطلاق عرفات علي ما بعد نَمِرَة في بعض الأخبار لأجل أفضليّة هذه القطعة، أو لكونه محلًا للاعتراف بالذنوب، لا أنّ عرفات هي هذه القطعة فقط.

3- ما ذُكر من استجاب الجمع بين الصلاتَين بعَرَفَة، قال في التذكرة:" ويجوز الجمع لكلّ مَن بعَرَفَة من مكّيٍ وغيره، وقد اجمع علماء الإسلام علي أنّ الإمام يجمع بين الظهر والعصر بعَرَفَة" (1). وعلي هذا يظهر أنّصلاة النبي (صلّي الله عليه وآله وسلم) كانت بعَرَفَة، ويشهد لهذا ما رُويَ عن دعائم الإسلام عن الإمام الصادق (عليه السلام) عن عليّ (عليه السلام):" أنّ رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلم) غدا يوم عَرَفَة من مني فصلّي الظهر بعَرَفَة، لم يخرج من مني حتّي طلعت الشمس" (2).

كما يظهر من خبر جذاعة الأسدي معروفيّة إيقاع الصلاتَين بعَرَفَة في ذلك الزمان حيث قال:" قلت للإمام الصادق (عليه السلام): رجلٌ وقف بالموقف فأصابته دهشة الناس فبقي ينظر إلي الناس ولا يدعو حتّي أفاض الناس. قال (عليه السلام): يجزيه وقوفه. ثمّ قال: أليس قدصلّي بعرفات الظهر والعصر وقنت ودعا؟ قلت: بلي. قال (عليه السلام): فعرفات كلّها موقف وما قرب من الجبل فهو أفضل" (3).

4- لقد ذكر بعض الفقهاء أنّ نَمِرَة من عَرَفَة، فقد قال الصدوق في المقنع:" ثم تلبّي وانت مارٌ إلي عرفات، فإذا ارتقيت إلي عرفات فضرب خباءَك بنَمِرَة، فإنّ فيها ضَرَب رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلم) خباءه وقبّته، فإذا زالت الشمس يوم عَرَفَة فاقطع التلبية وعليك بالتهليل والتحميد والثناء علي الله... ثمّ قال: إيّاك أن تفيض منها قبل غروب الشمس...".

وقال ابن بابويه في الفقيه:" فإذا أتيت إلي عرفات فاضرب خباءَك بنَمِرَة قريباً من المسجد، فإنّ ثمّ ضرب رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلم) خباءه وقبّته...".

وفي المقنعة:" ثمّ لِيُلَبّ وهو غادٍ إلي عرفات، فإذا أتاها ضرب خباءه بنَمِرَة قريباً من المسجد، فإنّ رسول الله (صلّ الله عليه وآله وسلم) ضرب قبّته هناك..." (4).

وقد ذكر عن بعض الحنفيّة: أنّه قيل حدّ عرفات ما بين الجبل المشرف علي بطن عرنة إلي الجبال المقابلة لعرنة ممّا يلي حوائط بني عامر وطريق الحضّ..

وعن الأزرقي: عن ابن عبّاس أنّ حدّ عرفات من الجبل المشرف علي بطن عرنة بالنون إلي جبال عرفات إلي وصيق إلي ملتقي وصيق ووادي عرنة.

وعن بعضهم أنّ مقدّم مسجد إبراهيم (عليه السلام) أوّله ليس من عُرَنَة ومقتضاه أنّ ما عدا الأوّل من عرفات فيمكن أن تكونصلاة النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلم) فيما كان منه من عرفات، ويشهد لذلك ما يُحكي عنهم من الجواب لأبي يوسف (عن إشكاله بمنافاة الصلاة للوقوف من أوّل الوقت إلي الزوال) بأنّه لا منافاة، فإنّ المصلّي واقف. وهذا كالصريح في كَون المسجد من عرفة. وقد تقدّم منّا عن الرافعي الجزم بذلك مع شدّة تحقيقه واطّلاعة (5).

أقول: إذا أخذنا بهذه القرائن علي أنّ نَمِرَة التي فيها المسجد الذي يُقال عنه أنّه مسجد إبراهيم، وقُلنا إنّ النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلم) قدصلّي فيه الظهر والعصر جمعاً، فيجب أن نفسر الروايات القائلة بذهاب النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلم) إلي الموقف بعد الصلاة، بإرادة موقف الدعاء في ميسرة الجبل الذي يُستحبّ فيه الوقوف أو التشاغل بما يقتضيه من الدعاء والتحميد والتمجيد والتهليل والتكبير والدعاء لنفسه ولغيره ممّا جاءت به النصوص في ذلك الموقف.

والتحقيق: إنّ هذه القرائن كلّها لا تقف في وجه الروايات القائلة بأنّ الوقوف في (نَمِرَة) التي هي بطن عرنة لا يجزي.


1- 11 جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام، للمحقّقصاحب الجواهر 23: 19.
2- 12 مستدرك الوسائل، الباب 7 من أبواب إحرام الحجّ، احديث.
3- 13 نفس المصدر 20: 19.
4- 14 نفس المصدر 20: 19 و 23- 24.
5- 15 نفس المصدر: 26، 27.

ص: 65

ولا بأس بالتنبيه في آخر كلامنا عن نَمِرَة، بأنّ في حدود عرفات يوجد جبل اسمه (جبل نَمِرَة) وهو غير قرية نَمِرَة التي هي بطن عرنة وانّما عرّفه البلادي" بأنّه جبلٌصغير بارز تراه غربك وأنت واقفٌ بعرفة بينك وبينه سيل وادي عرنة، وإذا كنت تؤمّ عرفة عن طريق ضب تمرّ بسفحه الشمالي" (1).

وهذا الجبل خارج عن حدود عرفة كما هو واضح.

2- عُرَنَة:

- بضمّ العين المُهملة وفتح الراء المهملة وفتح النون- هي وادي ما بين عرفات والحرم عرضاً وهو حدّ عرفات من الناحية الغربيّة، حيث يبتدئ من الجهة الشماليّة من مُلتقي وادي وصيق بوادي عُرَنَة وينتهي من الجهة الجنوبيّة عندما يُحاذي أوّل سفح الجبل الواقع بين طريق المأزمين وطريق ضب والذي بطرفه الشمالي قرية نَمِرَة من الجهة الشرقيّة غربيّ الواقف هناك وغربيّ سفح الجبال التي في منتهي عَرَفَة من الجهة الجنوبيّة الشرقيّة بخطٍ مستقيم، وقد قُدِّرت المسافة بين وصيق بوادي عُرَنَة من الجهة الشماليّة إلي مُنتهاه من الجهة الجنوبيّة بخمسة آلاف متر (2).

وبين وادي عُرَنَة المذكور وبين الموقف عَلَمان كبيران يقعان شمالي شرقي مسجد إبراهيم، وهما الحدّ الفاصل بين وادي عُرَنَة وبين عَرَفَة كما ذكر ذلك تقيّ الدين الفاسي في كتابه (شفاء الغرام) حيث قال:" وكان ثمّة ثلاثة أعلام سقط احدها وهو الذي إلي جهة المغمّس وأثره بين ورأيت عنده حجراً مُلقيً مكتوباً فيه: أمر الأمير الأصفهسلار الكبير مظفّر الدينصاحب إربل حسان أمير المؤمنين بإنشاء هذه الأعلام الثلاثة بين منتهي أرض عَرَفَة ووادي عُرَنَة، لا يجوز لحاجّ بيت الله العظيم أن يجاوز هذه الأعلام قبل غروب الشمس، وفيه كان دلك بتاريخ شعبان من شهور سنة (605)، ورأيت مثل ذلك مكتوباً في حجرٍ مُلقيً في أحد العَلَمَين الباقيَين، وفي هذَين العَلَمَين مكتوب: أمَرَ بعمارة عَلَمي عرفات، وأضاف كاتب ذلك: هذا الأمر للمستظهر العبّاسي، ثمّ قال: وذلك في شهر... سنة أربع وثلاثين وستمئة" (3).

وقد تقدّم منّا ذكر الحديث عن النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلم) في خبر إسحاق الذي يقول:" ارتفعوا عن وادي عرنة بعرفات" وهو يدلّ دلالة واضحة علي أنّ عرنة ليس من موقف عرفة، للأمر بالارتفاع عنه الذي لازمه النهي عن الإتيان بالوقوف فيه. وبعبارةٍ اخري أنّ وادي عُرَنَة لمّا كان ملاصقاً لموقف عَرَفَة، بل ومشابهاً له احتاج إلي أن يُنبَّه علي عدم إجزاء الوقوف فيه والأمر بالوقوف حين الارتفاع عنه.


1- 16 معجم معالم الحجاز 92: 9.
2- 17 جاء ذلك في قرار اللجنة الحكوميّة السعوديّة المنشور في مجلّة العرب السعوديّة، الجزء 5، السنة السادسة، 1391 ه-- 1972 م، من الصفحات 375- 384، تحت عنوان: تحديد عرفات عن هداية الناسكين: 172.
3- 18 جاء ذلك في قرار اللجنة الحكوميّة السعوديّة المنشور في مجلّة العرب السعوديّة، الجزء 5، السنة السادسة، 1391 ه-- 1972 م، من الصفحات 375- 384، تحت عنوان: تحديد عرفات عن هداية الناسكين: 172.

ص: 66

أقول: إنّ الأحاديث المتقدّمة التي ذكرت أنّ عُرَنَة ليست من عرفات، قد شخّصت منذ قديم الزمان بأعلام تفصل بين عَرَفَة ووادي عُرَنَة، وبهذا التحديد وبيان المصداق تخلّصنا من مشكلة التعيين التي لابدّ فيها من الرجوع إلي أهل الخبرة التي يضعف الاعتماد عليها كلّما تمادي الزمان.

إشكال في تعيينصُغري عَرَفات:

قلنا فيما تقدّم إنّ الروايات التي ذكرت بأنّ عُرَنَة ليست من عرفات قد شخّصها المتقدّمون علينا بزمنٍ ليس بالقليل، فقد ارتفع إشكال تحديد معني عرفات من ناحية المصداق، ولكن مع هذا بَقيّ إشكالٌ واحد هو: إذا كانت عُرَنَة هي وادي بين عرفات والحرم عرضاً، فينبغي أن يكون بانتهاء الوادي العرضي موقف عرفات، ولكنّنا نري الآن بين العَلَمَين الذين وضَعَهُما ملك إربل في عام (605) وبين مجري وادي عُرَنَة مسافة لا يقلّ عرضها عن مئة متر وهي مرتفعة عن وادي عُرَنَة، فكيف لا تكون داخلة في موقف عرفة؟

الجواب:

أنّه لا بدّ من الرجوع فيه إلي أهل الخبرة، فقد ذكروا أنّ مجري وادي عُرَنَة آنذاك هو بداية وضع الأعلام، ولكن بما أنّ سهول عَرَفَة كلّها رمالٌ تنتقل فقد تراكمت الرمال في هذا الجانب من الوادي، وقد ذكر القاطنون في تلك الأماكن بأنّ سيل الوادي قد يشتد في بعض الأحيان فيعلو علي هذه الأتربة ويُزيلها (1). وعلي هذا فيبقي أنّ حدّ عَرَفَة هو ما أثبت بواسطة الأعلام منذ قديم الزمان وأنّ الأحكام الشرعيّة لا تتبدّل ولا تتغيّر بتراكم الأتربة في أحد جانبيَ الوادي.

3- ثَويَّة:

- بفتح الثاء وتشديد الياء- لقد ذكر الطريحي في مجمع البحرَين قول:" والثويّة: حدٌّ من حدود عَرَفَة، وفي الحديث: ليست منها".

وقد ذكر في كتاب المجاز بين اليمامة والحجاز ما نصّه:" عرفات: إذا ترك الطريق ثنية (الجلُيلة) خلفه ووادي نعمان يساره، دلف إلي منطقة عرفات مارّاً بجنوبيّها غربيّها" (2).

وقاال البلادي في (معجم معالم الحجاز) معرّفاً الجلُيلة- وهي بالتصغير وتشديد الياء المثنّاة- شِعب يسيل من جبل ملحة فيصبّ في عرفة من الجنوب الشرقي مجتمعاً مع الأحموم، في رأسه ريع (يعني ثنية) بهذا الاسم يطلعك من عرفة علي نعمان" (3).

وقد ذكر محقّق كتاب هداية الناسكين هذا الاستنتاج:" وهذا يعني انّ هذه الثنية أو الريع حد من حدود عَرَفَة، وعليه فمن المظنون قويّاً أنّ كلمة (ثنية) دخلها تحريف النسخ فعادت ثَويَّة" (4).

أقول: إذا كانت ثويّة أو تثنية هي حدّ عَرَفَة من ناحية الجنوب الغربي، فإنّ جنوب عَرَفَة جبالٌ ممتدّةٌ من المشرق إلي الجنوب، وقد اخترق فيها قبل فترة طريقٌ للسيّارات الذاهبة إلي الطائف، فما


1- 19 هكذا جاء في قرار اللجنة الحكوميّة السعوديّة المنشور في مجلّة العرب، عن هداية الناسكين.
2- 20 المجاز بين اليمامة والحجاز، ابن خميس: 290
3- 21 معجم معالم الحجاز، البلادي، الجزء الثاني: 166.
4- 22 هداية الناسكين، للدكتور الفضلي: 169.

ص: 67

أدخله هذا الحدّ من حوائط ابن عامر وقرية عَرَفَة داخلٌ في عرفات. وقد نقل الطبري في القري نقلًا عن البلخي في معرفة حائط بني عامر فقال:" حائط بني عامر غير عُرَنَة، وبقربه المسجد الذي يجمع فيه الإمام الظهر والعصر، وهو حائط نخل وفيه عين تُنسب إلي عبدالله ابن عامر بن كريز، قلت: وهي الآن خراب". وقد شوهد أخيراً الآثار لتلك الحوائط من الجهة الجنوبيّة عندما كشفت الرياح من آثار المصانع والبرك الكبار والأساسات القويّة التي تشير إلي أنّه كان في الموضع المذكور قصورٌ وحوائط وجوابي واسعة تليق بمكانة هذا الرجل الشهير والذي قال ابن الأثير عنه:" إنّه أوّل مَن اتّخذ الحياض بَعَرَفَة وأجري فيها العين" (1).

وقال ياقوت في (معجم البلدان) نقلًا عن البشاري:" قرية عرفة: قرية فيها مزارع وخضر ومباطخ وبها دورٌ حسنة لأهل مكّة ينزلونها يوم عَرَفَة والموقف منها عليصيحة" (2). فإذا كانت قرية عَرَفَة داخلة في حدود عرفة. فالمراد من الموقف هنا هو الوقوف في سفح الجبل للدعاء الذي يكون مستحبّاً.

4- ذو المجاز:

قال الأزرقي في أخبار مكّة:" وذو المجاز: سوقٌ لهُذيل عن يمين الموقف مِن عَرَفَة قريب كبكب علي فرسخ من عَرَفَة" (3).

وقال حمد الجاسر:" يسمّي المجاز الآن، وهو وادي عظيم يحفّ كبكب من غربيّه ثمّ يمرّ بعرفات، وفيه مياه ومزارع علي المطر، وسكّانه هذيل" (4).

وقد اختصرهصاحب الجواهر بقوله:" وهو سوق كانت علي فرسخ من عرفة بناحية كبكب" (5).

وفي الوافي:" وفي النهاية: ذو المجاز موضعٌ عند عرفات كان يُقام فيه سوقٌ من أسواق العرب في الجاهليّة، والمجاز موضع الجواز والميم زائدة، سمّي به لأنّ إجازة الحاج كان فيه" (6).

أقول: إذا كان ذو المجاز هو السوق فهو بعيدٌ من عرفات وليس حدّاً لها، وإذا كان هو الوادي العظيم الذي يمرّ بعرفات فتكون إحدي جهاته حدّاً لعرفات وهي الجهة الملاصقة لعرفات منه، ولمّا كان هذا الوادي شبيهٌ بعرفات نهي الشارع المقدّس عن الوقوف فيه.

5- الأراك:

والمقصود به نعمان الأراك.

قال البلادي:" وادٍ فحل من أودية الحجاز التهاميّة... وينحدر غرباً، فيمرّ جنوب عرفات عن قرب ثمّ يجتمع بعُرَنَة فيطلق عليه اسم عُرَنَة، يمرّ بين جبلَي كُساب وحَبَشي جنوب مكّة علي أحد عشر كيلًا، ويكون هناك حدود الحرم الشريف، ويتّسع الوادي بين كبكب والقرضة فيسمّي خبت نعمان لفياحه وسعته" (7).

وقال الجاسر:" ونعمان: وادٍ عظيم يقطعه القادم من الطائف إلي مكّة من طريق كرا إذا أقبل علي عرفات، وهويحفّ جنوب عرفات، فيه مزارع ومياه كثيرة" (8).

وقال في مجمع البحرين:" الأراك كسحاب شجر يُستاك بقضبانه له حمل كعناقيد العنب يملأ العنقود الكفّ، والمراد به هنا موضعٌ بعرفة من ناحية الشام قرب نَمِرَة" (9).

أقول: يبدو كما ذكرنا سابقاً أنّ الأراك ليس من حدود عرفة لعدم ملاصقته للحدود وإنّما نُهي عن الوقوف فيه وصرّح بعدم الإِجزاء لاحتمال الاشتباه في الوقوف فيه.

وقد ذكر الدكتور الفضلي أنّ عين زبيدة الشهيرة تنبع منه (10).

والخلاصة: فعرفة من جهة الشمال الشرقي حدّها جبل سعد (جبل عرفات).

ومن جهة الشرق سلسلة جبال.

وكذا من جهة الجنوب.

ومن الغرب وادي عُرَنَة.

وعلي هذا فسيكون ذو المجاز (إذا لم يكن هو السوق) فهو حدّها من جهة الشمال الغربي.

وأمّا الأراك فهو ليس حدّاً لعَرَفَة كما هو واضح.

وجوه الجبال المحيطة بعَرَفَات داخلة في الموقف:

قد يقال: انّ الجبال المحيطة بعرفات بما أنّها حدّ لعرفات فهي خارجةٌ عن الحدود فلا يجوز الوقوف بها، مثلها مثل الحدود التي ذكرت في الرواية لعرفة فإنّها خارجةٌ عن الحدود.

ولكن نقول: إنّ الروايات التي ذكرت حدود عَرَفَة مثل (نَمِرَة وعُرَنة وثَويَّة وذي المجاز والأراك) قدصرحّت بخروجها عن عَرَفَة للنهي الذي ورد في الوقوف بها أو الأمر بالاتّقاء.

أمّا الجبال المحيطة بعرَفَة فالمفهوم الارتكازي أن واجهاتها من عَرَفَة. بالإضافة إلي وجود القرائن الكثيرة الدالّة علي دخول واجهات الجبال في عرفة منها:

1- موثّقة إسحاق بن عمّار، قال سألت الإمام موسي بن جعفر (عليه السلام) عن الوقوف بعرفات فوق الجبل أحبّ إليك أم علي الأرض؟ فقال:" علي الأرض" (11). وواضح أنّ علي الجبل يكون محبوباً إليه، إلّا أنّ الأرض أحبّ إليه، وهو معني الجواز.


1- 23 راجع مجلّة العرب السعوديّة، الجزء 5، السنة السادسة، 375- 384.
2- 24 نفس المصدر.
3- 25 أخبار مكّة، الأزرقي 191: 1.
4- 26 راجع المجاز بين اليمامة والحجاز، لابن خميس: 284.
5- 27 جواهر الكلام 18: 19.
6- 28 كتاب الوافي للفيض الكاشاني 1021: 13.
7- 29 معجم معالم الحجاز 69: 9.
8- 30 انظر المجاز، لابن خميس: 287.
9- 31 مجمع البحرين، للطريحي، مادّة أراك.
10- 32 هداية الناسكين: 169.
11- 33 الوسائل 10، الباب 10 من أبواب إحرام الحجّ والوقوف بعرفة، الحديث 5.

ص: 68

2-صحيح معاوية بن عمّار عن الإمام الصادق (عليه السلام) في حديث قال:" وحدّ عَرَفَة من بطن عُرَنَة وثَويَّة ونَمِرَة إلي ذي المجاز، وخلف الجبل موقف" (1) ومراده خلف الجبل الذي يكون وجهه إلي عرفات وهو يشمل كلّ ما يكون خلفه حتّي جهته التي تكون إلي عرفات.

3- استحباب الوقوف في مَيْسرة الجبل: ومعني ذلك علي أكثر تقدير كراهة الوقوف علي واجهة الجبل وهو معني الجواز، فقد روي معاوية بن عمّار في الصحيح عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال:" قف في ميسرة الجبل، فإنّ رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلم) وقف بعرفات في ميسرة الجبل، فلمّا وقف جعل الناس يبتدرون أخفاف ناقته فيقفون إلي جانبه، فنحّاها، ففعلوا مثل ذلك، فقال: أيّها الناس إنّه ليس موضع أخفاف ناقتي الموقف، ولكن هذا كلّه موقف وأشار بيده إلي الموقف" (2).

4- عدم وجود أي رواية ولو ضعيفة في النهي عن الصعود علي واجهة الجبال سواء كانت في عَرَفَة أو المُزْدَلِفَة أو مني، وما ذاك إلّا لأوضحيّة جواز الوقوف عليها ودخولها في الحدّ.

5- ما قاله الماوردي عن الشافعي:" حيث وقف الناس من عرفات في جوانبها ونواحيها وسهولها وبطاحها وأوديتها... إلخ" فإنّ هذا الكلام إذا ثبت تتمّ دليليّة بعدم الردع من قبل الإمام (عليه السلام).

فتبيّن من هذه الأدلّة إجزاء الوقوف علي واجهة الجبل المطلّة علي عرفات أو مني أو مزدلفة علي كراهيّة فيها.

ثانياً- حدود المزدلفة:

ويقال لها جُمَع (كما في بعض مناسك الحجّ).

ويقال لها المشعر الحرام، أو المشعر اختصاراً، أخذاً بقوله تعالي فإذا أفَضْتُمْ مِنْ عَرَفات فاذْكُروا اللهَ عِنْدَ المَشْعَرِالحَرام ولكن يُطلق المشعر علي نفس المسجد القائم في المزدلفة، ويؤيّده العنديّة المذكورة في الآية، كما يطلق علي جبل قُزَح أيضاً، فقد ورد استحباب وطء الصرورة المشعر برجله، فقد حُكي عن الشهيد الأوّل في الدروس:" والظاهر أنّه المسجد الموجود الآن"، وورد استحباب الصعود علي قُزَح (بضمّ القاف وفتح الزاي المعجمة)، قال الشيخ الطوسي رحمه الله:" هو المشعر الحرام، وهو جبلٌ هناك يستحبّ الصعود عليه وذكر الله عليه" (3).

وعلي هذا الذي تقدّم يكون إطلاق المشعر علي المزدلفة كلّها إطلاقاً مجازياً من باب تسمية الشي ء باسم الجزء.

وأمّا جمع: التي ضُبِطَت في بعض مناسك الحجّ- بضمّ الجيم وفتح الميم-، فقد ضُبِطَت عند الجغرافييّن والبلدانييّن وأهل اللغة والمعاجم (بفتح الجيم وسكون الميم) فقد قال الشريف الرضي:


1- 34 نفس المصدر، الحديث 1.
2- 35 نفس المصدر، الحديث 1.
3- 36 شرح اللمعة الدمشقيّة 276: 2.

ص: 69

احِبُّكَ ما أقامَ مني وجَمْع وما أرسي بمكّة أخشباها وقد سميّت بذلك لاجتماع الحجّاج فيها بعد الإفاضة من عرفات.

وأمّا تسميتها بالمزدلفة: وبدون أل عليصيغة اسم الفاعل علي زِنَة (مُفْتَعِل) وقد جاءت هذه التسمية من الازدلاف بمعني التقدّم والإفاضة كما جاء في حديث معاوية بن عمّار عن الإمام الصادق (عليه السلام):" وانّما سُميّت مزدلفة لأنّهم ازدلفوا إليها من عرفات" (1). ومقتضي مفاد هذا الحديث أن يكون لفظها بصيغة اسم المفعول (مزدلَفة) بفتح اللام لأنّها اسم مكان.

حدود المزدلفة: لقد ذكرت الروايات حدود المزدلفة (بما بين المأزمين إلي الحياض إلي وادي محسِّر" (2).

وفي زراة عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال:" حدُّها ما بين المأزمين إلي الجبل إلي حياض محسِّر" (3).

وقال الصادق عليه السلام في خبر أبي بصير:" حدّ المزدلفة من وادي محسِّر إلي المأزمين" (4).

وفي خبر إسحاق بن عمّار عن أبي الحسن (عليه السلام): قال:" سألته عن حدّ جَمْع، قال: ما بين المأزمين إلي وادي محسِّر" (5).

وفيصحيحة الحلبي عن الإمام الصادق (عليه السلام) في حديث قال:" ولا تجاوز الحياض ليلة المزدلفة" (6).

شرح الحدود:

1- المأزمان: بكسر الزاء وبالهمز" ويجوز التخفيف بالقلب ألفاً"، وهما جبلان بينهما مضيق يدلف إلي عرفات، وهو حدّ المزدلفة من الشرق، فقد ذكر الجوهري:" أنّ المأزم: كلّ طريقٍ ضيّقٍ بين جبلَين، ومنه سمّي الموضع الذي بين جمع وعرفة مأزمَين". وفي القاموس:" ألمأزم ويقال له المأزمان مضيق بين جمع وعرفة وآخر بين مكّة ومني". وظاهرهما: أنّ المأزم اسمٌ لموضعٍ مخصوص وإن كان بلفظ التثنية.

حياض مُحَسِّر (وادي محسِّر): محسِّر- بضمّ الميم وفتح الحاء المهملة وكسر السين المهملة وتشديدها- علي زنَة اسم الفاعل.

قال البلادي: محسِّر: وادٍصغير يمّر بين مني ومزدلفة وليس منها، يأخذ من سفوح ثبير إلي الأثبرة الشرقيّة، ويدفع إلي عرفة مارّاً بالحسينيّة، ليس به زراعة ولا عمران والمعروف منه ما يمرّ فيه الحاجّ علي طريق بين مني ومزدلفة، وله علامات هناك منصوبة" (7).


1- 37 الوسائل 10، الباب 4 من أبواب الوقوف بالمشعر، الحديث 5.
2- 38 نفس المصدر، الحديث 1.
3- 39 نفس المصدر، الحديث 2.
4- 40 نفس المصدر، الحديث 4.
5- 41 نفس المصدر، الحديث 5.
6- 42 نفس المصدر، الحديث 3.
7- 43 معجم معالم الحجاز، البلادي 42: 8.

ص: 70

وقال ابن خميس في مجازه:" ومحسِّر: وادٍ يقبل من الشمال إلي الجنوب من فجٍ يفصل بين مني وجبالها وبين مزدلفة وجالها وهو منخفض يسيل عليه ما والاه منهما، وما يسيل من مني أكثر، وعرض وادي محسِّر خمسمئة وأربعون ذراعاً" (1)، أي ما يساوي 270 متراً تقريباً.

وذكر في وجه تسميته بمحسِّر من التحسير أي الإيقاع في الحسرة أو الإعياء، سُمّي به لأنّه قيل إن أبرهة أوقع أصحابه في الحسرة أو الإعياء لمّا جهدوا أن يتوجّه إلي الكعبة فلم يفعل" (2).

ثمّ إن الظاهر أنّ المراد من الحياض هي وادي محسِّر لا أنّه مكانٌ آخرٌ من المزدلفة، وأنّ الحياض جمع حوض وهو الوادي الذي قد يكون فيه مجموعة حياض، وقد تقدّم من الروايات التعبير (بحياض محسِّر) فيكون التعبير بوادي محسِّر بعد كلمة الحياض في بعض الروايات لبيان معني الحياض.

ووادي محسِّر هو حدود مزدلفة من ناحية الغرب، فضفّة وادي محسِّر الشرقيّة هي الحدّ الفاصل بين مزدلفة ومني.

أقول: هذا التحديد الذي ذُكر، هو تحديد للمزدلفة من ناحية طولها.

أمّا تحديد مزدلفة العرضي، فيوجد جبلان كبيران مطلّان علي المزدلفة أحدهما من الجهة الشماليّة يقال له (جبل المزدلفة)، والآخر من الجهة الجنوبيّة، وقد ذكرتهماصحيحة زرارة المتقدّمة عن الإمام الباقر (عليه السلام) بقولها إلي الجبل، والمراد به جنس الجبل هناك فيشمل الشمال والجنوب. إذن تبيّن أنّ ما بين حدَّي مزدلفة طولًا وما بين حدَّيها عرضاً من الشعاب والهضاب والقلاع والروابي ووجوه الجبال كلّها تابعةٌ لمشعر مزدلفة وداخلةٌ في حدودها، فعن الإمام الباقر (عليه السلام) قال:" ووقف النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلم) بجمع، فجعل الناس يبتدرون أخفاف ناقته، فأهوي بيده وهو واقفٌ فقال: إنّي وقفت وكلّ هذا موقف" (3).

وعلي هذا التحديد لمزدلفة، فلا يجوز الوقوف في المأزمَين وقبلها إلي عرفات ولا في وادي محسِّر وبعده إلي مني، فإنّ هذه الحدود ليست من المزدلفة، فلا يجزي الوقوف فيها، وقد ورد فيصحيح هشام بن الحكم عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال في حديث:" ولا تجاوز وادي محسِّر حتّي تطلع الشمس" (4).

وصحيح الحلبي عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال في حديث:" ولا تجاوز الحياض في ليلة المزدلفة" (5).

وقد جوّزت الروايات الارتفاع إلي المأزمَين الذي هو حدّ المزدلفة خارجٌ عن المحدود عند الضرورة لازدحام الناس وضيق مزدلفة عليهم، فقد روي سماعة في الموثّق قال، قلت للإمام الصادق (عليه السلام):" إذا كثر الناس بجمع وضاقت عليهم كيف يصنعون؟ قال: يرتفعون إلي المأزمَين" (6).

ثالثاً- حدود مِني:


1- 44 المجاز، لابن خميس: 301.
2- 45 جواهر الكلام 12: 19.
3- 46 الوسائل 10، الباب 8 من أبواب الوقوف بالمشعر، الحديث 7.
4- 47 نفس المصدر، الباب 15 من أبواب الوقوف بالمشعر، الحديث 2.
5- 48 نفس المصدر، الباب 8 من أبواب الوقوف بالمشعر، الحديث 3.
6- 49 نفس المصدر، الباب 9 من أبواب الوقوف بالمشعر، الحديث 1.

ص: 71

- بكسر الميم والتنوين-، سُمّيت بذلك لما يُمني فيها من الدماء.

وقيل: إنّها سُميت لما يُمني فيها من الدعاء.

وقيل: لِما رُويَ عن ابن عبّاس:" أنّ جبرئيل (عليه السلام) لمّا أراد أن يُفارق آدم (عليه السلام) قال له: تَمَنَّ. قال: أتَمنَّي الجنَّة، فُسُمِّيت بذلك لأمنيته" (1).

وقيل:" سمّيت مني لأنّ جبرئيل أتي إبراهيم (عليه السلام) فقال له تمنَّ علي ربِّك ما شئت". فسُمِّيَت مني، واصطلح عليها الناس، وفي الحديث" أنّ إبراهيم تمنّي هناك أن يجعل الله مكان ابنه كبشاً يأمره بذبحه فديةً له" (2). فأعطاه الله مُناه.

وقد اتّفقت الروايات علي أنّ حدّ مِني من جهة الطول من العقبة إلي وادي محسِّر عليصيغة اسم الفاعل، فقد ذكرصحيح معاوية لأبي بصير عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال:" حدّ مني من العقبة إلي وادي محسِّر" (3). وجمرة العقبة هي حدّ مني من جهة مكّة، ووادي محسِّر حدّها من جهة مزدلفة، وهذا الحدّ قد ذكره المؤرّخون والجغرافيّون أيضاً. فقد قال الأزرقي في أخبار مكّة بسنده عن ابن جريح:" قال: قُلت لعطاء بن أبي رباح، أين مِني؟ قال: من العقبة إلي محسِّر، قال عطاء: فلا أحبّ أن ينزل أحد إلّا فيما بيين العقبة ومحسِّر..." (4).

أقول: هذا الذي تقدّم هو حدّ لمِني من ناحية الطول، أمّا حدّها من ناحية العرض، فهو ما بين الجبَلَين الكبيرَين بامتدادهما من العقبة حتّي وادي محسِّر، وقد ذكر الفاسي في شفاء الغرام:" أنّ ما أقبل علي مِني من الجبال المحيطة بها من كِلا جانبَيها فهو منها وما أدبر من الجبال فليس منها" (5). وقد قال النووي في المجموع:" واعلم أنّ مني شِعبٌ ممدودٌ بين جبَلَين أحدهما ثبير والآخر الصابح. قال الأصحاب: ما أقبل علي مِني من الجبال فهو منها وما أدبر فليس منها" (6).

أقول: كأنّ مِني لا تحتاج إلي أن تحدّد من ناحية العرض لوجود هذَين الجبلَين الكبيرين المفروض أنّهما حدُّ للمنطقة، فكأنّ السؤال في الروايات عن حدخاص من ناحية مكّة ومزدلفة فذكرته الروايات.

العقبة هل هي من مِني؟

الجواب: بقرينة اتّفاقهم علي أنّ (محسِّراً) ليس من مِني، وإنّما هو حدّ لها فكذلك العقبة، لاقترانها هي اْلأُخري بأداة التحديد وهي (من)، ولكن حكي عن بعض الفقهاء: أنّ العقبة من مِني وليست حدّاً لها.

وسُمّيت بالعقبة لأنّها مدخل مِني من الغرب، وسُمّيت الجمرة هنا بجمرة العقبة.


1- 50 جواهر الكلام 100: 19.
2- 51 راجع مجمع البحرين، مادّة مِني.
3- 52 الوسائل 10، الباب 6 من أبواب إحرام الحجّ، الحديث 3.
4- 53 مجلّة العرب، السنة الثامنة 78: 1- 80، عن هداية الناسكين: 164.
5- 54 نفس المصدر، عن هداية الناسكين: 163.
6- 55 نفس المصدر، عن هداية الناسكين: 164.

ص: 72

مشكلة الذبح: وعلي ما تقدّم من حدود مِني، تواجهنا مشكلة حاليّة بناءً علي ما اتّفقت عليه الإماميّة من وجوب الذبح في مِني، حيث إنّ المذبح الذي أوجدته الحكومة السعوديّة يكون خارج مِني حسب العلامات التي نصبت هناك، وتمنع الحكومة الذبح في غير هذه الأماكن التي أعدّتها

للذبح حتّي في الأيّام اْلأُخري بعد يوم النحر وأيّام التشريق، فهل من مخرجٍ لهذه المشكلة العويصة؟

وتشتدّ هذه المشكلة علي الناس فيما إذا علمنا أنّ الذبح خارج مِني لا يجزي، إذ ليس المورد من موارد التقيّة، فإنّ مورد التقيّة فيما إذا كان المكلّف غير معروف المذهب، فلا يعمل بما هو الحقّ عنده خوفاً من الظالم، والواقع القائم الآن بخلافه تماماً، لأنّ المكلّف معروف المذهب، ومعلوم أنّه لا يعتقدصحّة الذبح خارج مِني، وأنّه يريد الذبح في مِني، إلّا أنّ المنع الحكومي الناشئ من أنّ من يخالف ويشقّ عصا طاعة وليّ الأمر لا يجوز إقراره علي مخالفته من أيِّ مذهبٍ كان.

وعلي هذا يكون المورد إذا كان هناك إجبار علي الذبح في المسلخ علي المكلّف، من باب ارتكاب أخفّ المحظورَين وأقلّ الضررَين يُريدُ اللهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلا يُريدُ بِكُمُ العُسْرَ، وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ في الدِّينِ مِنْ حَرَج، فهو من باب قوله (عليه السلام):" لإِن أفطر يوماً ثمّ أقضيه أحبّ إليَّ من أن تضرب عنقي"، وأمّا إذا لم يكن إجبارٌ علي الذبح وذَبَحَ خارج مِني فهو لا يجزي ء أيضاً. وعلي هذا فيجب القضاء علي المكلّف لهذا النسك إذا تمكّن بعد ذلك في بقيّه أيّام ذي الحجّة، أو أن يخلف ثمنه عند عدل ليشتري له هدْياً ويذبحه في شهر ذي الحجّة.

فهل توجد طريقة للتخلّص من هذه الطريقة وتقول بالاكتفاء بالذبح في المذبح الحالي الذي هو خارج مِني؟

الجواب: توجد عندنا روايات معتبرة تقول: إذا ازدحمت مِني بالناس ارتفعت إلي وادي محسِّر، فيكون وادي محسِّر حكمه حكم مني، وحينئذٍ يكون الذبح في المذبح الحالي مجزياً، ففي معتبرة سماعة قال:" قلت للصادق (عليه السلام): إذا كثر الناس بمِني وضاقت عليهم كيف يصنعون؟ فقال: يرتفعون إلي وادي محسِّر..." (1).

فهل يمكن الاكتفاء بهذه الرواية للذبح خارج الحدّ والوقوف كذلك؟!

إذا كان الجواب بالإيجاب فتنحّل مشكلة مهمّة.

والخلاصة لكلّ البحث: تمكن في أنّ نَمِرَة التي هي (بطن عُرَنَة) هل من عرفات أو لا؟ وكذا مسجد إبراهيم القديم الذي يكون في نَمِرَة؟ فإن قلنا: انّها خارجةٌ من عرفات كما هو ظاهر الروايات التي شرحت لنا حجّ النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلم)، وكذا بقيّة الروايات التي أخرجت نَمِرَة عن حدود عرفات، تواجهنا مشكلة أنّ الوقوف في عُرَنَة ليس من الزوال إلي الغروب.


1- 56 الوسائل 10، الباب 11 من أبواب إحرام الحجّ، الحديث 4.

ص: 73

وإن قلنا: أنّ نَمِرَة من عرفات كما هو رأي يقال تخلّصنا من هذه المشكلة، ولكن تبقي مشكلة ثانية وهي مخالفة ظاهر الروايات بلصريح بعضها، وأقوال أهل الخبرة الذين حدّدوا عرفات بإخراج نَمِرَة من عرفات لأنّها بطن وادي عُرَنَة وهذا الوادي كلُّه حدّ عرفات من جهة الغرب، وقدصرّحت الروايات بالارتفاع عنه.

أقول: ألا نحتمل وجود منطقة في داخل عرفات كانت تسمّي نَمِرَة قدصلّي النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلم) فيها ووضع رحله؟ وأمّا قرية نَمِرَة التي هي بطن عُرَنَة فهي خارجةٌ عن حدّ عرفات، فإن ثبت ذلك انحلّت مشكلة عدم وجوب الوقوف من أوّل الزوال إلي الغروب في عُرَنَة.

ويكون حكاية حجّ النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلم) مطابقة لوجوب الوقوف في عرفة من أوّل الزوال إلي الغروب، وأمّا الموقف الذي يُذكر في الروايات فالمراد به الوقوف في سفح الجبل الذي يستحبّ فيه الدعاء والوقوف.

وإن لم يثبت ذلك، فلا بدّ من القول بعدم وجوب الوقوف من الزوال إلي الغروب بل الواجب هو الوقوف بعد الظهر بساعة إلي الغروب.

وأمّا بالنسبة للمزدلفة: فلا يوجد خلاف في حدودها، وقد وقع تعيين هذه الحدود طبقاً لما قرّره الشارع المقدّس بين المأزمين ووادي محسِّر، وأمّا التحديد العرضي فهو الجبلان المطلّان عليها من الجبهة الشماليّة والجنوبيّة.

وأمّا مِني: فأيضاً لا يوجد خلاف في حدّها الذي هو من وادي محسِّر إلي العقبة طولًا وما بين الجبلين المطلّين عليها عرضاً، وقد عرضنا مشكلة الذبح التي هي مشكلة معاصرة لوجود المذابح خارج مِني والحكومة السعوديّة تمنع من الذبح في مِني وأوجدنا حلًا قد يكون مقبولًا من الناحية الفنّيّة.

وأخيراً نبتهل إلي الله سبحانه وتعالي أن يجعلنا من العاملين في سبيل إعلاء دينه، وأن لا يحرمنا من الحضور في هذه الأماكن المقدّسة، وأن يغفر لنا خطايانا وسيّئاتنا ويوفّقنا لما يحبّ ويرضي إنّه سميعٌ مجيب، والحمد لله ربِّ العالمين، وصلّي الله علي محمّد وآله وصحبه الميامين.

ص: 74

ص: 75

يومُ الحجِّ الأكبر

ص: 76

يومُ الحجِّ الأكبر

تأليف: علي قاضي عسكر

يصادف" يوم عرفة" من أيام الحج في بعض السنين" يوم الجُمعة".

وتعرف تلك السنة بين الحجّاج- ولا سيما أهل السّنة- ب-" الحج الأكبر"، وقد دعاني هذا الأمر، للبحث في الآيات والروايات وفي التاريخ- أيضاً- عن ماضيه وحقيقته، وما سأورده هو نتيجة دراسة، وإن كانت مختصرة، غير أني آمل أن تكتمل بما يُبديه الباحثون والعلماءُ من آراء حول ذلك.

يقول- الله تعالي- في القرآن الكريم:

وأذانٌ مِن اللهِ ورَسولِه إلي النّاس يومَ الحجّ الأكبرِ أنَّ الله بري ءٌ مِنَ المشركينَ ورسولُه (1).

وقد اختلف أَهلُ الحديث والتفسير القدماء والجدد حول يوم الحج الأكبر، أَيّ يوم هو؟ واعتقد بعضهم:

1- أَن المراد مَن الحج الأكبر يومُ عرفة، فقد روي عن ابن عباس وطاوس وعمر وعثمان ومجاهد وعطاء، وسعيد بن المسيب وابن الزبير وأبي حنيفة والشافعي: أن يوم عرفة هو يوم الحج الأكبر (2).

ويقول عطاء:" الحج الأكبر الذي فيه الوقوف بعرفة، والأصغر العمرة" (3).

وروي اسماعيل القاضي ي حديث لمخرمة عن رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلم) انه قال:" يوم الحج الأكبر يوم عرفة" (4).

وروي ابن أبي حاتم وابن مردويه عن مسور بن مخرمة أنه قال: خطب رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلم) عشيّة عرفة، فقال: أما بعد فإن هذا يوم الحج الأكبر" (5).

وروي ابن سعد وابن أبي شيبة، وابن جرير وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن عمر بن الخطاب انه قال:" الحج الأكبر يوم عرفة" (6).

وأورد جرير روايةً أُخري عن أبي الصهبا البكري: أن عليَّ بن أبي طالب (عليه السلام) سُئل عن الحج الأكبر فقال: يوم عرفة (7).

وروي أبو الشيخ عن ابن عباس أيضاً قولَه: إنّ يوم عرفة يومُ الحج الأكبر، وهذا اليوم يوم المباهاة. واليوم الذي افتخر فيه الله بأهل الأرض أمامَ ملائكة السماء وقال:

" جاءوني شعثاً غبراً آمنوا بي ولم يروني وعزتي لاغفرن لهم" (8).

ويستدلّ بعض الذين يقبلون هذا القول بالحديث المعروف" الحج عرفة" ويقولون:


1- 1 التوبة: 3.
2- 2 القرطبي 69: 8.
3- 3 نفس المصدر 70: 8.
4- 4 نفس المصدر.
5- 5 تفسير الفخر الرازي 221: 15.
6- 6 الدر المثور 213: 3.
7- 7 نفس المصدر.
8- 8 نفس المصدر.

ص: 77

لما كان الوقوف في عرفة من أكبر أعمال الحج، ومَن أَدركه أدرك الحج، ومَن لم يُدركه فحجّه باطل، فقد سمّي يومُ عرفة يومَ الحج الأكبر (1).

2- وتري فئة أُخري، أن يوم الحجّ الأكبر أيام الحجّ كلّها، وتعتقد بأنه كما يقال ل-" وقعة الجمل" و" حربصفين" و" حرب بعاث" رغم أنّها استمرت أياماً طويلة" يومصفين" و" يوم الجمل" و" يوم بعاث" ومرادهم من" يوم" مدة الحرب كلّها، فالمراد هنا من" يوم الحج الأكبر" أيام الحج كلها أيضاً (2).

ويقول الشيخ التَهانَوي:" الحج نوعان: الحج الأكبر وهو حج الإسلام، والحج الأصغر وهو العمرة" (3).

3- وتري فئة ثالثة: أنّ الحج الأكبر هو الوقوف في عرفات والأعمال، المتعلقة بمني.

يقول عمر بن أُذينة: كتبتُ عدّة مسائل للإمام الصادق (عليه السلام). ووصلني جوابه بعد مدّة بخطه المبارك:

"... وسألته عن قوله- تعالي- (الحجّ الأكبر)، ما يعني بالحج الأكبر؟ فقال: الحج الأكبر الوقوف بعرفة، ورمي الجمار، والحج الأصغر العمرة" (4).

فبناءً علي هذه الرواية اعتبرت أعمال عرفة ومني، الحجّ الأكبر.

وروي زرارة عن الامام الصادق (عليه السلام) الجواب نفسه أيضاً حيث قال:" الحج الأكبر الوقوف بعرفة، وبجَمْع، ورمي الجمار بمني، والحج الأصغر العمرة" (5).

4- ويري سفيان الثوري وابن جُريح و... أن يوم الحج الأكبر كل أيام مني" (6).

5- ويروي مجاهد رواية أُخري فيقول:" الحج الأكبر القِران، والأصغر الإفراد" (7).

ويروي ابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب قوله: الحج الأكبر اليوم الثاني من يوم النحر. أَلا تري أن الإمام يخطب في ذلك اليوم (8)؟

7- ويقول ابن سيرين:

" يتعلّق يوم الحج الأكبر بالسّنة التي أدي فيها الرسولُ (صلّي الله عليه وآله وسلم) حجة الوداع. وحج معه عدد كبير من الناس" (9).

ويمكن لهذا القول أن يعتبر تأييداً لأولئك الذين يعتبرون يوم الحج الأكبر يوم الأضحي؛ ذلك أن الرسول (صلّي الله عليه وآله وسلم) خطب في هذه السنة بالناس في مني، وسألهم أيّ يوم يومكم؟ قالوا: يوم النحر، ثم قال: اليوم يوم الحج الأكبر. ويري ابن عربي أن هذا الحديث حسن وصحيح (10).


1- 9 تفسير الفخر الرازي 221: 15.
2- 10 مجمع البيان 5: 5.
3- 11 كشاف اصطلاحات الفنون 283: 1، وكذا في جامع الرموز.
4- 12 الوسائل 11، الحديث 14108، ط: آل البيت.
5- 13 نفس المصدر 14، الحديث 19238.
6- 14 مجمع البيان 5: 5؛ تفسير القرطبي،ص 70.
7- 15 تفسير القرطبي 70: 8.
8- 16 الدر المنثور 212: 3.
9- 17 القرطبي 70: 8.
10- 18 أحكام القرآن، ابن عربي 453: 2.

ص: 78

8- ويروي الطبراني عن سمرة بن جندب قوله:" يتعلّق يوم الحج الأكبر بالسنة التي أدّي فيها المسلمون والمشركون الحج في ثلاثة أيام، لم يؤد مثل هذا الحجّ قبل ذلك ولن يؤدي بعده" (1).

ويروي فضيل بن عياض عن الإمام الصادق (عليه السلام) أيضاً قوله: ان سبب تسمية الحج الأكبر: أن المسلمين والمشركين أقاموا الحج في تلك السنة معاً. ولم يحج المشركون بعدها أبداً (2).

ويروي ابن ابي شيبة الزايد عن ابن عون أيضاً: أنّ محمّداً سئل عن الحج الأكبر فقال: اليوم الذيصادف فيه حج رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلم) مع حجّ أهل الملل (3).

ويري كثير من المحدّثين والمفسرين- بالاعتماد علي روايات مختلفة- أنّ الحجّ الأكبر يوم الأضحي. فبالاضافة إلي أن رأي هذه الفئة أصح واقوي. فإنّه يتّفق أيضاً مع الآية فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ومع ما ورد في الروايات التاريخية أَن" عليَّ بن أبي طالب (عليه السلام) قرأ آيات البراءة بعد ظهر عيد النحر".

يقول ابن أبي أوفي:" يوم العيد الأضحي يوم الحج الأكبر، ففي ذلك اليوم تسكب الدماء. وتحلق الرؤوس، وتزال الاوساخ والاقذار، ويحلّ الحرام" (4).

وهذا ما يعتقد به مالك فيقول: لا نشك في أنَّ الحج الأكبر يوم عيد الأضحي؛ وذلك لأنّ أكثر أعمال الحج تقام فيه. وفي ليلة العيد يقف الحجّاج في مني، وفي الغد يقام الرمي والتضحية والحلق والطواف" (5).

ويقول أبو بكر محمد بن عبدالله المعروف بابن عربي مؤيداً قول مالك:" وغاص مالك علي الحقيقة" (6).

ويقول معاوية بن عمّار: سألت الإمام الصادق (عليه السلام) عن يوم الحج الأكبر فقال:" هو يوم النحر، والأصغر هو العمرة" (7).

ويرويصفوان بن يحيي في موضع آخر عن ذريح المحاربي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال:" الحج الأكبر يوم النحر" (8).

ويقول فضيل بن عباس: سألت الامام الصادق (عليه السلام) عن الحج الأكبر وقلت: يري ابن عباس أنه يوم عرفة، فقال: يقول علي (عليه السلام) الحج الأكبر يوم عيد الأضحي، ثم يستدلّ بقول الله عزّوجلّ: فسيحوا في الأرض أربعةَ أشهر (9) ويقول: الأشهر الأربعة عبارة عن عشرين يوماً من شهر ذي الحجة، ومحرم وصفر وربيع الأول، وعشرة أيام من ربيع الآخر. وإذا كان الحج الأكبر يوم عرفة سيكون أربعة أشهر ويوما" (10).

ولا بدّ من القول هنا: أن عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، قرأ آيات البراءة علي الناس بمني كما أمره رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلم) في اليوم العاشر من ذي الحجة (يوم عيد الأضحي)، وقد أمهل المشركين كما أمر الله أربعة أشهر ليُسلِموا أو يبقوا علي الكفر والشرك فيقتلوا. وكانت الأشهر الأربعة عبارة عن عشرين يوماً من شهر ذي الحجة، ومحرم وصفر وربيع الأول، وعشرة أيام من ربيع الثاني، حيث تنتهي مهلة الأشهر الأربعة في اليوم الحادي عشر من ربيع الآخر. وبناء علي هذا فإن الذين يعتبرون يوم الحج الأكبر يوم عرفة يضيفون يوماً إلي الأشهر الأربعة. وهذا لا يتفق مع الآية.


1- 19 الدر المنثور 211: 3.
2- 20 الوافي 14318: 14.
3- 21 الدر المنثور 211: 3.
4- 22 تفسير القرطبي 69: 8.
5- 23 نفس المصدر: 80؛ أحكام القرآن، ابن عربي 452: 2؛ نور الثقلين 185: 2.
6- 24 أحكام القرآن 453: 2.
7- 25 الوسائل 269: 14/ 19231؛ الوافي 14: الحديث 14315.
8- 26 الوافي 14: الحديث 14316.
9- 27 التوبة: 2.
10- 28 الوافي 14: الحديث 14317؛ نور الثقلين 185: 2.

ص: 79

ويقولصاحب المنار أيضاً، تبدأ الأشهر الأربعة هذه من اليوم العاشر (عيد الأضحي) من ذي الحجة في السنة التاسعة (حيث قرئت آيات البراءة) وتنتهي في العاشر من ربيع الآخر من السنة العاشرة" (1).

وورد في رواية أخري: بينما كان علي بن أبي طالب (عليه السلام) علي فرس أبيض في يوم عيد الأضحي، وكان يسير نحو الجبانة، جاء رجل وأمسك بلجام فرسه وسأله: أيّ يوم يوم الحج الأكبر؟ فأجاب" هذا اليوم" ثم قال:" اترك اللجام" (2).

وتروي مصادر أهل السنة، عن عدد من الأفراد، كابن عباس وسعيد بن جبير وابن زيد، والنخعي والشعبي والسدي وابن أبي أوفي وابن مردويه.. أن" المراد من يوم الحج الأكبر يوم عيد الأضحي" (3).

وذكرت رواية عن مجاهد أيضاً أن الحج الأكبر يوم النحر (4).

وذكر الترمذي وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) أنّه قال: سُئل الرسول (صلّي الله عليه وآله وسلم)" أيّ يوم يوم الحج الأكبر؟ قال: يوم عيد الأضحي" (5).

وروي أبو الشيخ عن علي أيضاً قوله:" يوم الحج الأكبر يوم عيد الأضحي" (6).

وروي ابن مردويه عن ابن أبي أوفي، وهذا عن رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلم) قوله:" يوم الأضحي هذا يوم الحج الأكبر" (7).

وروي ابن داود وابن ماجة... وابو نعيم في حليته عن ابن عمر أنّه قال: وقف رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلم) يوم عيد الأضحي في حجة الوداع بين الجمار وسأل الناس: ما هذا اليوم؟ قالوا: يوم عيد الأضحي، فقال الرسول (صلّي الله عليه وآله وسلم):" هذا يوم الحج الأكبر" (8).

وروي البخاري وغيره، هذا عن الرسول (صلّي الله عليه وآله وسلم) أيضاً (9).

ويقول أبو هريرة. بعثني أبو بكر في هذه السنة مع الموءَذنين الذين أرسلهم يوم عيد الأضحي. ثم بعث الرسول (صلّي الله عليه وآله وسلم) علياً لقراءة آيات البراءة (10).

وتبين هذه الرواية أيضاً أن اليوم الذي قرأ فيه علي (عليه السلام) آيات البراءة علي الناس هو يوم عيد الأضحي، ولذلك فإن يوم الحج الأكبر هو ذلك اليوم.

ويقول ابن أبي شيبة: يري أبو جحيفة أيضاً أن الحج الأكبر يوم عيد الأضحي، وروي عطا وابن جرير هذا عن ابن عباس أيضاً (11).

ويروي ابن جرير عن المغيرة بن شعبة: أنه خطب في يوم عيد الأضحي وقال: هذا يوم الحج الأكبر (12).


1- 29 تفسير المنار 152: 10.
2- 30 تفسير روح البيان 385: 3.
3- 31 تفسير الفخر الرازي 221: 15.
4- 32 مجمع البيان 5: 5.
5- 33 الدر المنثور 211: 3.
6- 34 نفس المصدر.
7- 35 نفس المصدر.
8- 36 نفس المصدر.
9- 37 أحكام القرآن، ابن عربي 449: 2.
10- 38 نفس المصدر: 450.
11- 39 تفسير الفخر الرازي 221: 15.
12- 40 الدر المنثور 211: 3.

ص: 80

ويروي ابن أبي شيبة عن أبي إسحق أنه قال: سألت عبدالله بن شداد عن الحج الأكبر فأجاب: يوم عيد الأضحي، والحج الأصغر العمرة (1).

ويقول سيّد قطب في تفسيره، في ظلال القرآن:

".... ويوم الحج الأكبر اختلفت الروايات في تحديده: أهو يوم عرفة أم يوم النحر؟ والأصح أنه يوم النحر" (2).

ويقول ابن كثير في تفسيره:" يوم الحج الأكبر يوم عيد الأضحي وهو أفضل أيام إقامة مناسك الحج وأكبرها" (3). وهذه عقيدةصاحب تفسير المراغي أيضاً حيث يقول:

" يوم الحج الأكبر يوم النحر الذي فيه تنهي فرائض الحج، ويجتمع الحجاج لاتمام مناسكهم وسنتهم في مني" (4).

ويقول محمد رشيد رضا في المنار ضمن تفضيله: إنّ الحج الأكبر يوم عيد الأضحي [اليوم الذي] تنهي فيه مناسك الحج (5).

وبعد أن يورد الطبري أقوالًا مختلفة عن الحج الأكبر يقول: أفضلها وأصحها عندنا قول من يقول: يوم الحج الأكبر يوم النحر. وذلك لوجود أخبار كثيرة عن جماعة منصحابة رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلم) تقول: إن علي بن أبي طالب قرأ آيات البراءة في يوم عيد الأضحي. وبالاضافة إليها، ذكرنا روايات عديدة عن رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلم) تقول:" يوم عيد الأضحي يوم الحج الأكبر". ثم يقول تأييداً لهذا الحديث: تكتسب" يوم" معناها في مثل هذه العبارات مما تضاف إليه، فحينما يقول الناس" يوم عرفة" فالمراد هو اليوم الذي يقفون في عرفات. و" يوم الأضحي" اليوم الذي يضحون فيه، و" يوم الفطر" اليوم الذي يفطر الناس فيه. وكذلك" يوم الحج" اليوم الذي يوءَدون فيه الحج. فالناس ينهون مناسكهم في يوم عيد الأضحي وينتهي حجهم وأخيراً فإن انتهاء الحجّ يوم عيد الأضحي (6).

وورد في رواية أخري: أن الرسول (صلّي الله عليه وآله وسلم) كان علي ناقة حمراء فقال:" أتدرون أيّ يوم يومكم؟ قالوا: يوم النحر، فقال:صدقتم، يوم الحج الأكبر" (7).

ويقول أبو بشر: اختصم علي بن عبدالله بن العباس مع رجل من آل شيبة في يوم الحج الأكبر، وكان علي بن عبدالله يقول: إنه يوم عيد الأضحي، والثاني يقول: يوم عرفة، فأَرسل شخصٌ إلي سعيد بن جبير وسأله فقال: يوم عيد الأضحي (8)....

وكانت قراءة علي (عليه السلام) لآيات البراءة في مني، وفي يوم عيد الأضحي.


1- 41 نفس المصدر: 212.
2- 42 في ظلال القرآن 136: 4.
3- 43 تفسير ابن كثير 521: 2.
4- 44 تفسير المراغي 55: 10.
5- 45 تفسير المنار 153: 10.
6- 46 تفسير الطبري 75: 6.
7- 47 نفس المصدر: 53.
8- 48 نفس المصدر: 71.

ص: 81

ويروي أبو الصباح الكناني عن الامام الصادق (عليه السلام) أنه قال:" بعد أن رجع الرسول (صلّي الله عليه وآله وسلم) من غزوة تبوك، عزم علي الحج فقال: إنه يحضر البيت مشركون، يطوفون عراة، فلا أُحب أن أحج حتي لا يكون ذلك (1).

فنزلت إثر ذلك سورة براءة، وبعث الرسول (صلّي الله عليه وآله وسلم) علياً (عليه السلام) إلي مكة لقراءة الآيات علي المشركين، ويشرح الامام الصادق (عليه السلام) هذه المهمة بقوله: لم يمنع الرسول (صلّي الله عليه وآله وسلم) المشركين من إقامة مناسك الحج بعد فتح مكة، وكان المشركون قد امتهنوا هذه المناسك بأعمالهم السيئة وعقائدهم الخرافية، ولم يكن لهذا أن يدوم. ومن أعمالهم هذه:

كانت أحدي سنن عرب الجاهلية في الحج، اعتقادهم بأن من يدخل مكة ويطوف بثيابه، لا يجوز له أن يحتفظ بثوبه هذا بعد الطواف، ويستفيد منه؛ ولذلك كان يتصدق به بعد طوافه. أو أنه كان يكتري ثوباً يطوف به ثم يعيده إليصاحبه، والذين كانوا لا يملكون القدرة علي الاكتراء ولا يملكون سوي ثوب واحد، كانوا يخلعونه ويطوفون عراة. وقد حدث يوماً أن جاءت امرأة جميلة للطواف في المسجد الحرام وكانت لا تملك غير ثوب ولم يُكرها أحد ثوباً، فطافت عارية والناس يتفرجون عليها. وبعد انتهاء الطواف، طلب بعضهم الزواج منها، فردّتهم المرأة وقالت: إن لي زوجاً. ولم يكن لهذا العمل السي ء والمهين أن يدوم ويسي ء إلي حرمة بيت الله.

وحينما نزلت الآيات الأوَل من سورة براءة علي رسول الله، أعطاها إلي أبي بكر، وأمره أن يذهب إلي مكة، وأن يقرأها علي الناس بمني يوم عيد الأضحي، وما إن ذهب أبوبكر حتي نزل جبرائيل علي رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلم) وقال:

" لا يؤدي عنك إلّا رجل منك".

وقد أورد ابن عربي هذه الجملة ضمن رواية بقوله:" إنه لا يؤدي عني إلّا رجل من أهل بيتي..." (2).

ثم إن الرسول (صلّي الله عليه وآله وسلم) اختار علي بن أبي طالب (عليه السلام) لهذه المهمة وبعث به خلف أبي بكر، فلحقه علي (عليه السلام) في منطقة الروحاء (3) (أو كما ورد في بعض الروايات، في ذي الحليفة) (4)، وأخذ منه الآيات، فعاد أبوبكر إلي الرسول خائفاً وجلًا وقال: هل نزل فيّ شي ء؟ فقال الرسول (صلّي الله عليه وآله وسلم): لا إن الله أمرني أنه" لا يؤدي عنك إلّا أنت أو رجل منك".

وقال علي (عليه السلام):

لقد أمرني الرسول (صلّي الله عليه وآله وسلم) أن أبلغ الناس أمر الله بألّا يطوف بالبيت عريان، ولا يحج بعد العام مشرك"

(5).


1- 49 تفسير القمي 281: 1.
2- 50 أحكام القرآن 453: 2.
3- 51 الروحاء: موضع بين مكة ومدينة، يبعد عن المدينة حوالي 30 ميلًا.
4- 52 نور الثقلين 178: 2.
5- 53 نفس المصدر: 181؛ تفسير الصافي 319: 2.

ص: 82

ويتبين من هذه الرواية: أن إبلاغ أمير المؤمنين (عليه السلام) آيات البراءة كان في يوم عيد الأضحي وفي مني، وعلي هذا فإن يوم الحج الأكبر يوم عيد الأضحي أيضاً.

ويروي حريز عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله: قرأ علي بن أبي طالب (عليه السلام) آيات البراءة بعد ظهر يوم عيد الأضحي (1).

ويروي الترمذي عن زيد بن يُثَيْع أنه سئل: ما كانت مهمتك في الحج؟ فقال: أربعة أمور:

1- لا يطوف بالبيت عريان.

2- من كان بينه وبين النبيِّ (صلّي الله عليه وآله وسلم) عهد فعهده إلي مدته.

3- من لا عهد له يمهل أربعة أشهر.

4- لا يدخل الجنة إلّا نفس مؤمنة (2).

ويروي ابن عربي نقلًا عن أبي سعيد محمد بن طاهر، وهذا عن الاستاذ أبي مظفر طاهر بن محمود شاهبور، أنه قال: إنّ أحد الأدلة علي إرسال علي (عليه السلام) في هذه المهمة، أن العرب في الماضي كانوا لا ينقضون عهداً إلا بحضورصاحب العهد أو رجل من أهل بيته، وأراد الرسول (صلّي الله عليه وآله وسلم) ألّا يدع للمشركين حجة، وأن يسكت ألسنتهم في المستقبل. فأرسل ابن عمه الذي كان من بني هاشم، ومن بيت رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلم) إلي مكة لنقض هذا العهد (3).

ويؤيد محمد رشيد رضا في تفسير المنار وجود مثل هذه العادة، دون أن يشير إلي مصدره، ويبدو أنه نقل عن هذه الرواية أيضاً (4).

ويظهر أن مثل هذا الموضوع ليسصحيحاً لأن:

أولّا: كان الرسول (صلّي الله عليه وآله وسلم) مطلعاً علي عادات عرب الجاهلية، ولو وجدت هذه العادة لما كان من الواجب أن يختار أبابكر أولًا. ثم يعهد بالمهمة إلي علي (عليه السلام) بعد نزول الآيات.

ثانياً: يعتقد المفسرون أن اختيار علي (عليه السلام) لهذه المهمة كان من قبل الله، أبلغها جبرائيل الأمين رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلم)، وأن هذا الاختيار الإلهي أهم من العمل بعادة جاهلية.

ثالثاً: تم إبلاغ آيات البراءة والرسول (صلّي الله عليه وآله وسلم) في أوج قدرته، وبعد فتح مكة، وفي الوقت الذي كان المشركون فيه أذلاء، ولم تكن لديهم القدرة علي الاعتراض في المستقبل علي الرسول لنقضه العهد.

وعلي كل حال لا شك في أن الرسول (صلّي الله عليه وآله وسلم) أمر أبابكر في البدء بابلاغ الآيات، ثم ألغي هذه المهمة وعهد بها لعلي بن أبي طالب (عليه السلام).


1- 54 نور الثقلين 179: 2.
2- 55 تفسير القرطبي 68: 8؛ أحكام القرآن، ابن عربي 454: 2.
3- 56 القرطبي 68: 8.
4- 57 تفسير المنار 158: 10.

ص: 83

وقد سعي بعضهم ومنه محمد رشيد رضا إلي إثبات أن الرسول (صلّي الله عليه وآله وسلم) أرسل أبابكر إلي مكّة أميراً للحج، وأمر عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) بابلاغ الحجاج سورة براءة (1).

ولكن لا يمكن لهذا الكلام أن يكونصحيحاً لأن إبلاغ:" لا يحجّ بعد العام مشرك" يتعلق بأمير الحاج مباشرة. كما ورد في الروايات، ثانياً أنه" لا يبلّغها إلّا أنا أو رجل من أهل بيتي" (2).

والأعجب من هذا أن السادة حينما يواجهون هذه المشكلة، ولا يجدون جواباً لها يلجأون إلي القول أن ابابكر أمر علياً (عليه السلام) بقراءة آيات سورة براءة (3).

بينما كان إبلاغ هذه الرسالة بأمر من الرسول (صلّي الله عليه وآله وسلم) ولم تكن هناك حاجة لأمر جديد من أبي بكر. ويسعي أبو هريرة لأثبات إبلاغ آيات البراءة في يوم عيد الأضحي لنفسه ويذكر أن عليا (عليه السلام) كان أحد الذين عُهد اليهم بهذه المهمة أيضاً؟! (4).

وقد طغي التعصب علي عيني وأذني السيد محمد رشيد رضا بشكل جعله يهاجم الشيعة بعد روايته لهذه المسائل بشدة متسائلًا لماذا يستفيدون من هذه القضية لاثبات فضيلة لعلي بن أبي طالب (عليه السلام)؟!

فكيف لانسان يعتبر نفسه مفسراً للقرآن يمنح نفسه مثل هذه الجرأة فيعمل علي تحريف الحقائق، ويتمادي ليطلب الموت والقتل للشيعة أو كما يقول الروافض (5)؟.

ومما يؤسف له أنهم تمادوا لإِنكار هذه الفضيلة، إلي حدّ دعا محمد رشيد رضا- بعد أن تبين كون أبي بكر أميراً للحاج- لنقل رواية عن أهل السنة هي: إن الرسول (صلّي الله عليه وآله وسلم) اختار أبابكر أميراً للحاج، وعلياً (عليه السلام) مبلغاً آيات البراءة، لأن أبابكر مظهر الرحمة والجمال الإِلهي، وعلياً (عليه السلام) أسد الله ومظهر الجلال الإِلهي (فصفة القهر منصفات الجلال)، ولمّا كان الأمر هنا نقض عهد المشركين [أي أن الشدة ضرورية]، فقد عهد بهذه المسؤولية لعلي بن أبي طالب (عليه السلام) (6)!

ويسعي ابن كثير بتعصبه للغضّ من فضيلة علي بن أبي طالب الكبيرة هذه، باضعاف حديث رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلم) الذي قال فيه" لا يبلغها إلّا أنا أو رجل من أهل بيتي" فيصفه بالضعف وأنه غيرصحيح (7)!

ويقول فضلًا عن ذلك: وما جاء في الرواية، أن أبابكر عاد إلي المدينة، بعد أن أبلغ رسالة الرسول الأكرم (صلّي الله عليه وآله وسلم)، فليس معناه أن أبابكر رجع من فوره، بل بعد قضائه للمناسك التي أمره بها رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلم) (8).

والأسوأ من هذا، أن ابن كثير يذكر نقلًا عن مسند أحمد بن حنبل: أنه حين أمر الرسول (صلّي الله عليه وآله وسلم) علياً (عليه السلام) بابلاغ آيات البراءة، أجاب علي (عليه السلام): يا رسول الله لست باللسن ولا بالخطيب!! فقال له الرسول (صلّي الله عليه وآله وسلم): لا بدّ لي أن أذهب بها أنا أو تذهب بها أنت، فقال علي (عليه السلام) فإن كان ولا بدّ فسأذهب أنا! ودعا الرسول (صلّي الله عليه وآله وسلم) لعلي، ووضع يده علي فيه (9).


1- 58 نفس المصدر: 155.
2- 59 نفس المصدر: 157.
3- 60 نفس المصدر: 156.
4- 61 تفسير ابن كثير 521: 2.
5- 62 نفس المصدر: 164.
6- 63 تفسير المنار 162: 10.
7- 64 تفسير ابن كثير 522: 2.
8- 65 نفس المصدر.
9- 66 نفس المصدر، مسند أحمد 150: 1.

ص: 84

فواعجبا ما يفعل التعصب وكيف ينحرف بالانسان ويضلّه! فعلي (عليه السلام) ذلك الخطيب المصقع، والمحدث المبدع، الذي تنجس الأنفاس في الصدور ببدء كلامه، ويكلّ لسان العاشقين أمثال (همّام" بسماع بيانه، يوصف بضعف اللسان، وعدم القدرة علي الكلام.

وبديهي أن مثل هذه التعصبات لا يمكن أن تلقي ستاراً علي الحقائق وأن تخفي الوقائع. فالحق ماقيل: من أن اختيار علي (عليه السلام) لهذا الأمر المهم، ينمّ عن فضيلة كبري، لا يقدر علي القيام بها سوي من كان من أهل بيت رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلم) ونفسه وروحه.

يقول المرحوم العلّامة الطباطبائي- رضوان الله تعالي عليه- في ذيل الآية الشريفة: وأذان من الله ورسوله....:

" المراد بيوم الحج الأكبر منها أنه يوم النحر من السنة التاسعة للهجرة لأنه كان يوماً إجتمع فيه المسلمون والمشركون، ولم يحج بعد ذلك العام مشرك. ثم يضيف: وهو المؤيد بالأحاديث المروية عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، والأنسب بأذان البراءة، والاعتبار يساعد عليه؛ لأنه أكبر يوم اجتمع فيه المسلمون والمشركون من أهل الحج عامة بمني، وقد ورد من طرق أهل السنة روايات في هذا المعني، غير أن مدلول جلّها أن الحج الأكبر اسم يوم النحر، اليوم العاشر من كل سنة وليس العام التاسع للهجرة فقط. ويتكرر علي هذا كل سنة، ولم يثبت عن طريق النقل أن اسم اليوم العاشر هو يوم الحج الأكبر" (1).

ويتابع كلامه في ذيل تلك الآية الكريمة فيقول:

" وكيف كان فالاعتبار لا يساعد علي هذا القول؛ لأن وجود يوم بين أيام الحج يجتمع فيه عامة أهل الحج، يتمكن فيه من أذان براءة كل التمكن كيوم النحر يصرف قوله:" يوم الحج الأكبر" إلي نفسه، ويمنع شموله لسائر أيام الحج التي لا يجتمع فيها الناس ذلك الاجتماع" (2).

وورد في" معجم دهخدا" نقلًا عن مهذب الأسماء أن الحجَّ الأكبر هو عيد الأضحي وعيد النحر (3).

ويستنتج مما مرّ أن:

1- المراد من يوم الحج الأكبر: يوم عيد الأضحي.

2- استعملت عبارة" يوم الحج الأكبر" لأول مرة ليوم عيد الأضحي في السنة التاسعة للهجرة. وكررت هذه العبارة بعد سنة في حجة الوداع؛ لذلك يمكن القول: يوم الأضحي من كل سنة هو يوم الحج الأكبر.

3- حينما يرد" الحج الأكبر" بدون كلمة" يوم" فالمراد الحج مقابل العمرة.


1- 67 تفسير الميزان 149: 9.
2- 68 نفس المصدر.
3- 69 معجم دهخدا. الحج الأكبر: 315.

ص: 85

ويقول الطبري، بعد نقله للآراء المختلفة عن سبب تسمية هذا اليوم بالحج الأكبر: إن أصح هذه الأقوال عندي قول من يقول:

الحج الأكبر بمعني الحج، والحج الأصغر بمعني العمرة، لأن أعمال الحج أكثر من أعمال العمرة (1).

4- وكما ورد في بعض المصادر، فإن يوم عرفةصادف في السنة التي حج فيها رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلم) يوم الجُمعة، وكذلك قولصاحب كتاب الفقه الإسلامي وأدلته" قد ثبت في الصحيحين أن يوم عرفة الذي وقف فيه النبي (صلّي الله عليه وآله وسلم) كان يوم الجمعة" (2).

ولكن ليس من دليل في الروايات والمصادر التاريخية يثبت أن مصادفة عرفة في ذلك الزمن ليوم الجمعة، ما يدل علي أن حج تلك السنة هو الحج الأكبر، ويبدو أن اعتقاد العوام بذلك أصبح مع مرور الزمن حقيقة ثابتة.

ويقولصاحب تفسير المنار: كان يوم عرفة في حجة الوداع يوم الجمعة، وكلماصادف الوقوف في عرفات يوم الجمعة سمي العوام تلك السنة الحج الأكبر (3).

وورد في" معجم دهخدا" أيضاً: يبدو أن العوام يقولون للعام الذي يصادف فيه عيد الأضحي يوم الجمعة، الحج الأكبر، ويظنون أن ثواب هذا الحج أكثر (4).


1- 70 تفسير الطبري 160: 10.
2- 71 الفقه الاسلامي 212: 3.
3- 72 تفسير المنار 229: 9.
4- 73 معجم دهخدا الحج الأكبر: 315.

ص: 86

ص: 87

اسماء مكّة

ص: 88

أسماء مكّة

دراسة تاريخية تحليلية في المعاني والدِلالات

تأليف: محمّد مهدي الفقيهي

موقع مكة وحدودها:

تقع مدينة مكة المكرمة في غرب الجزيرة العربية من ناحية تهامة (1)، علي بُعد حوالي (80) كيلومتراً شرقي البحر الاحمر؛ يحدّها من الشمال المدينة المنوّرة ومن الشرق نجد، ومن الغرب جدّة، فيما تنتهي من الجنوب بعسير واليمن (2).

تقع مكة علي خط طول (40) درجة و (9) دقيقة، وعلي خط عرض (31) درجة و (28) دقيقة من خط الاستواء؛ فيما يتراوح عدد سكانها الدائميين ما يقارب (350000) نسمة، وترتفع عن مستوي سطح البحر (330) متراً (3).

يمتد الجزء الأساس من المدينة حول أطراف المسجد الحرام، في منخفض تحيطه الجبال من كلّ ناحية (4). والي هذا السبب بالذات يعزو ياقوت الحموي أحد أسباب تسميتها بهذا الاسم، حيث يقول ما نصه:" سميت مكة لانّها بين جبلين مرتفعين عليها، وهي في هَبْطة بمنزلة المكّوك" (5).

أما الآن فقد اتسعت المدينة وامتدّ عمرانها الي اطراف الجبال التي تحيط بها، بل سطحت بعض الجبال لتحلّ محلّها الأبنية والعمارات المرتفعة.

وحول أسماء الجبال التي تحيط بمكة فقد ذكر ابراهيم رفعت باشا، أَنَّهُ يحيطها من جهة الشمال والشمال الشرقي جبال: الفلج، قعيقعان، الهندي، لعلع، وَكداء. أما من جهة الجنوب والجنوب الشرقي فتحدّها مرتفعات وجبال: أبو حديدة، كُدَي، كُدَّي، أبو قبيس، وَخندمة (6).

إنَّ رحلة ناصر خسرو تُعدّ من بعد رحلة ابن فضلان (كتبها في القرن الثالث الهجري) من أقدم كُتب الرحلات في التأريخ الاسلامي، وقد توفّر ناصر خسرو علي وصف مكة بالشكل التالي:" تقع مكة بين جبالٍ عالية بحيث لا تستطيع رؤية المدينة حتي تصل اليها. أما جبل أبو قبيس فهو يشرف علي مكة ويظللها كالقبة، لانه اقرب أعلي الجبال اليها. والمدينة تمتد في المساحة الواسعة بين الجبال، حيث يقع المسجد الحرام، تحيط به الاسواق والازقة والمحلات (7).

أما بطليموس فقد ذكر مكة باسم" ماكورابا" (8)ومعناها: المكان المقدّس.

ومما يجدر الاشارة اليه بعد هذه المقدمات العامة، ان لمكة اسماء كثيرة حتي بلغ من كثرتها انصنّف الفيروزآبادي رسالة مفصّلة في ذكرها (9).


1- 1 المسالك والممالك 17: 16.
2- 2 تأريخ مكة، احمد السباعي.
3- 3 موسوعة العتبات المقدسة، قسم مكة: 14 لغت نامه دهخدا: مكة.
4- 4 معجم البلدان 182: 5.
5- 5 نفس المصدر.
6- 6 شفاء الغرام، مرآة الحرمين الشريفين 187: 1.
7- 7 سفر نامه ناصر خسرو 97- 98.
8- 8 موسوعة العتبات العاليات/ نقلًا عن: دائرة المعارف الاسلامية.
9- 9 لم يفلح كاتب هذه السطور في العثور علي هذه الرسالة ورؤيتها، وانما اعتمدنا في ذكرها علي ما قاله قطب الدين النهرواني؛ راجع: الاعلام باعلام بيت الله الحرام: 17 و 18 طبعة ليدن.

ص: 89

وفي اشارة الي كثرة اسماء مكة ذكر النووي: اننا لا نعرف من بين المدن ما يضاهي مكة والمدينة بكثرة الاسماء (1).

اما كاتب هذه السطور فقد انتهي به التقصي- في حدود هذا البحث- للوقوف علي سبعين اسماً من أسماء مكة، هي كما يلي:

1- مكة، 2- بكة، 3- أم القري، 4- القرية، 5- معاد، 6- الوادي، 7- البلدة، 8- البلد، 9- البلد الأمين، 10- حرم امن، 11- حرم، 12- المسجد الحرام، 13- البيت العتيق، 14- مخرجصدق، 15- بساسة، 16- أم رحم، 17-صلاح، 18- الرأس، 19- العرش، 20- النساسة، 21- الباسة، 22- الناسة، 23- العروض، 24- كوثا، 25- ام كوثا، 26- فاران، 27- المقدسة، 28- قرية النمل، 29- الحاطمة، 30- الحرم، 31- برة، 32- طيبة، 33- القادس، 34- المذهب، 35- العرشُ، 36- القادسة، 37- المعطشة، 38- الرتاج، 39- ام زحم، 40- امصح، 41- ام روح، 42- بساق، 43- المكتان، 44- النابية، 45- ام الرحمة، 46- الناشتة، 47- سبوحة، 48- السلام، 49- نادرة، 50- العرويش، 51- الحُرمة، 52- الحِرمة، 53- قرية الحمس، 54- أم راحم، 55- نقرة الغراب، 56- البنية، 57- ناشة، 58- تاج، 59- كبيرة، 60- ام رحمن، 61- السيل، 62- البلد الحرام، 63- حرم الله تعالي، 64- بلد الله تعالي، 65- العذراء، 66- النجز، 67- العُرْش، 68- العُرُش، 69- العروش، 70- القادسية.

إنَّ بين هذه الأسماء السبعين تتميّز الأربعة عشر الأولي انها ذُكرت في القرآن الكريم كما سنشير لذلك باسهاب.

سبب تسمية مكّة بهذه الأسماء:

يقوم منهج البحث علي ذكر كل اسم، أو مجموعة من الأسماء وبيان وجه التسمية ومعناها وما تدل عليه، وفق ما يلي:

1: مكة:

قال تعالي: وهُو الذي كفَّ أيديَهم عنكم وأيديَكم عنهم ببطن مكّةَ من بعد ان اظفرَكم عليهم وكانَ الله بما تعملون بصيراً (2).

قبل ان ندخل في التفاصيل نجد من الضروري ان نوفّر الإجابة علي السؤال التالي: ما هي البقعة التي يُطلق عليها مكّة علي وَجه التحديد؟

ثمة في الإجابة خمسة آراء نستعرضها كما يلي:


1- 10 جامع اللطيف، معجم البلدان.
2- 11 الفتح: 24.

ص: 90

1- أن مكة تُطلق علي تمام منطقة الحرم، وجميع الحرم داخل في العنوان، كما هو عليه نظر الروايات الوصلة عن أهل البيت (ع)، وكما ذهب لذلك غيرهم أيضاً (1).

2- أن مكة تشمل حدود المدينة وحسب، فما يدخل في نطاق المدينة يُطلق عليه مكة كما تطرح ذلك روايات من الفريقين (2).

3- مكة هي أطراف الكعبة وحسب (3).

4- مكة هي اسم يشمل المسجد والمطاف (4).

5- مكة هي منطقة في ذي طُوي (5).

هذه خمس نظريات قيلت فيما يُطلق عليه عنوان مكة، أما سبب التسمية فقد ذكروا لها وجودها عشرة، هي:

أ: أنَّ الباعث علي التسمية هو وقوعها في هضبة يابسة، بحيث حُرمت المدينة من نهر جارٍ، ومن عيون ماء تتدفق المياه منها بصورة طبيعية، بحيث اضطروا الي استخراج المياه من آبار عميقة تغوص في باطن الارض. وبتعبير ياقوت الحموي:" لانهم كانوا يمتكون الماء اي يستخرجونه" (6). في حين ذكر البعض انَّ السبب في هذا الوجه هو انَّ أرضها كانت تمتك الماء؛ أو بتعبير الفخر الرازي:" كأن ارضها امتكت ماءها" (7).

ب: إنّما سميت مكة" لأنها تُمكّ الجبّارين؛ أي تذهب نخوتهم" (8). وتستأصل عرورهم.

ج: سُميَّت كذلك" لإِنها تمكّ الذنوب؛ أي تستخرجها وتذهب بها كُلّها" (9).

د:" لانها تجذب الناس اليها؛ من قول العرب: امتك الفصيل ضرع أُمه" (10) والباعث لهذا الجذب دعوة الخليل ابراهيم (عليه السلام) وتوفّرها علي وجود ضروب من الآيات الإِلهية البينات فيها.

ه-: قيل لها مكة" لازدحام الناس بها؛ من قولهم: امتك الفصيل ضرع امه اذا مصّه مصّاً شديداً" (11). لقد ذكر هذا الوجه ياقوت الحموي، بيدَ انَّهُ ظهر وكأنه لا يرضاه، إذ لم يصح عنده التشبيه بين ازدحام الناس بمكة وبين مصّ الفصيل لضرع أُمّه مصّاً شديداً. أما ابن منظور في لسان العرب، ومؤلف تاج العروس، فقد ذكرا هذا الوجه (12).

و:" سميّت مكة لانها تمكّ مَن ظَلَم؛ أي تنقصه" (13) وفي ذلك ينشد بعضهم:

يا مكةُ الفاجرَ مُكي مكّا ولا تمكّي مَذْحِجاً وعَكّا وربما استطعنا ان نتمثل قصة أصحاب الفيل مصداقاً لهذه التسمية، حيث يقول تعالي: أَلم تَرَ كيفَ فعَلَ رَبُّكَ بأَصحاب الفيل* أَلَم يجعل كيدَهم في تضليل* وأَرسل عليهم طيراً أَبابيلَ* ترميهم بحجارة من سجِّيل* فجعلَهم كعصفٍ مأكول.

ز: وسميت مكة:" لأنّها تمكّ الفاجر عنها؛ أي تخرجه" (14).


1- 12 تفسير العياشي 187: 1، اخبار مكة 281: 1، تهذيب الاسماء 156: 2- 157 ق 2.
2- 13 علل الشرائع 397: 2، اخبار مكة 280: 1.
3- 14 معجم البلدان 182: 5، الجامع اللطيف: 156.
4- 15 التفسير الكبير، الفخر الرازي 157: 8.
5- 16 معجم ما استعجم 269: 1، اخبار مكة 282: 1.
6- 17 معجم البلدان 182: 5.
7- 18 التفسير الكبير 157: 8، مكة، محمد هادي الاميني: 19.
8- 19 معجم البلدان 181: 5.
9- 20 الجامع اللطيف 157، معجم ما استعجم 269: 1.
10- 21 شفاء الغرام: 77.
11- 22 معجم البلدان 181: 5.
12- 23 تاج العروس 179: 7، لسان العرب 491: 1.
13- 24 موسوعة العتبات العاليات، قسم مكة 9: معجم البلدان 182: 5.
14- 25 الجامع اللطيف: 157.

ص: 91

وقد عدَّ العبض كابن ظهيرة الوجهين الاخيرين وجهاً واحداً.

ح: قيل لها ذلك:" لانها تجهد اهلها، مأخوذ من قولهم: تمككت العظم اذا اخرجت مخه" (1).

الّا أنَّ الراغب الاصفهاني علّل التشبيه بقوله:" سميت بذلك لانها وسط الارض، كالمُخّ الذي هو أصل ما في العظم" (2).

ط: ان سبب التسمية يرتبط بموقعها، وفي ذلك قالوا:" لانها بين جبلين مرتفعين عليها، وهي في هَبْطة بمنزلة المكّوك" (3).

ي: يرتبط سبب التسمية بما كان يقوم به عرب الجاهلية أثناء الحج، وفي ذلك قالوا:" لإِنَّ العرب في الجاهلية كانت تقول لا يتمّ حَجّنا حتي نأتي مكان الكعبة، فنمكّ فيه؛ أي نصفرصفير المكّاء" (4).

لقد وردَ شبيه هذا القول في جواب للإِمام علي بن موسي الرضا (عليه السلام) كتبه الي محمد بن سنان:" إنَّ ابا الحسن الرضا- عليه السلام- كتبَ فيما كتب من جواب مسائله:" سميت مكة لأنّ الناس كانوا يمكون فيها، وكانَ يقال لمن قصدها قد مكا، وذلك قول الله- عزّ وجلّ-: وما كانصلاتهم عِندَ البيت إلّا مكاءً وتصدية (5).

ك: انَّ مكة مشتقة من" مكّ" بمعني" بسط"؛ ووجه التسمية انَّ الله- سبحانه- بسط الأرض وبدَأ بها من مكة (6). وثمة ما يؤيد ذلك من روايات" دَحو الأرض" (7).

2: بكة:

يقول تعالي: إنَّ أولَ بيت وضِعَ للناس لَلّذي ببكةَ مباركاً وهديً للعالمين (8).

قبل ان ندخل في بحث علل التسمية يحسن بنا أوّلًا أن نحدِّد المقصود من بكة وعلي ايّ الاماكن يطلق هذا الاسم.

في معرض الإِجابة أمامنا ثمانية آراء، الأَوّلان منها ينقلان عن أهل البيت (عليهم السلام)، والآراء هي:

1- أنّ بكة هي موضع الحجر حيث يبك الناس بعضهم بعضاً؛ أي يتزاحمون (9).

2- أنَّ بكة هي موضع الكعبة (10)، كما نقل ذلك الازرقي عن ابن انيسة (11).

3- ذكر عكرمة انَّ المقصود من بكة هي الكعبة نفسها.

4- بكة هي اسم لتمام الحرم.

5- المقصود منها خصوص الحجر.

6- أنَّ المراد منها خصوص المطاف (12).


1- 26 الاحكام السلطانية، الماوردي: 157.
2- 27 مفردات الراغب: 491.
3- 28 معجم البلدان 182: 5.
4- 29 معجم البلدان 182: 5.
5- 30 علل الشرائع 397: 2 الأنفال: 35.
6- 31 البحار 85: 99.
7- 32 تفسير العياشي 187: 1.
8- 33 آل عمران: 96.
9- 34 العياشي 187: 1.
10- 35 الميزان 386: 3.
11- 36 اخبار مكة 281: 1.
12- 37 الميزان 386: 3، الاحكام السلطانية، الماوردي: 157- 158.

ص: 92

7- أنَّ بكة هي نفسها مكة، وقد قلبت:" الميم" الي" باء" من قول العرب:" ما هذا بضربة لازب ولازم" (1) وهو شائع في لغة العرب (2).

8- ذهب البعض للقول بأن بكة هي المساحة الفاصلة بين جبلي مكة وفيها ساحة المسجد الحرام (3).

9- ورد في روايات الفريقين أنَّ بكة اسم من أسماء مكة (4).

بواعث التسمية وعللها:

في بواعث التسمية ثمة أسباب وعلل نعرض لها كما يلي:

أ: يعود السبب الي انَّ الناس يتباكون فيها من كلّ وجه؛ أي يبك بعضهم البعض ويدفع أحدهم الآخرة بيده. وهذا الرأي ينقل مع فوارق بسيطة عن الامام محمّد الباقر (5)

وهناك آخرون قالوا به، منهم ياقوت الحموي والماوردي (6).

ب: أنَّ الباعث علي التسمية هو ازدحام الناس فيها رجالًا ونساءً، وقد نقل ذلك عن الامام محمّد الباقر (7)، والامام جعفر الصادق (8) (عليهما السلام). وممن ذكر هذا الوجه ايضاً هو الازرقي عن ابن عباس (9).

ج: ذكر البعض انَّ الباعث علي التسمية هو بكاء الناس في مكة وحول الكعبة (10).

د: وقيل: إنّها سمّيت كذلك" لانها تبك أعناق الجبابرة" (11) وتذهب بغرورهم. وقد ذكر الكليني في الكافي رواية يقترب مضمونها من هذا المعني اذ روي ان مكة:" كانت تسمّي بكة لأنّها تبك اعناق الباغين اذا بغوا فيها" (12).

ه-: ان جهة التسمية تعود لاصطدام أرجل الناس بعضها ببعض من شدّة الازدحام (13).

والذي يمكن ان يقال في هذه الآراء، اننا اذا استثنينا الوجهين (ج) و (د) فان بقية الوجوه تردّ الي معني واحد هو: الادحام.

3: امّ القري:

ذكر هذا الاسم لمكة في موردين من كتاب الله، حيث يقول تعالي:

وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدّقَ الذي بين يديه ولتنذر أُمَّ القري ومن حولها (14).

وكذلك أوحينا إليك قرءآناً عربياً لتنذر أمّ القري ومن حولها.... (15).

وثمة في روايات اهل البيت (عليهم السلام) ما يفيد ايضاً انَّ أُمَّ القري أحد أسماء مكة (16).

وفي سبب التسمية وبواعثها وجوه، وهي:


1- 38 الزمخشري، الكشاف 386: 1، معجم ما استعجم 269: 1.
2- 39 دراسات في فقه اللغة: 214.
3- 40 اخبار مكة 281: 1.
4- 41 الخصال 278: 1، الفقيه 166: 2، اخبار مكة 281: 1.
5- 42 تفسير الفخر الرازي 156: 8.
6- 45 معجم البلدان 181: 5، الاحكام السلطانية، الماوردي: 157.
7- 46 علل الشرائع 397: 2.
8- 47 فروع الكافي 526: 4.
9- 48 اخبار مكة 280: 1، معجم ما استعجم 269: 1.
10- 49 مجمع البحرين 259: 5.
11- 50 النهاية في غريب الحديث 150: 1، تفسير الفخر الرازي 157: 8، الاعلام باعلام بيت الله الحرام: 17، تفسير ابن كثير: 383.
12- 51 فروع الكافي 211: 4.
13- 52 معجم البلدان 182: 5، فروع الكافي 281: 4.
14- 53 الانعام: 92.
15- 54 الشوري: 7.
16- 55 الفقيه 166: 2، الخصال 287: 1.

ص: 93

أ: لكونها اصل جميع المدن من بعدها، فهي أول مدينة علي سطح الأرض. وفي هذا رايات تؤكد أنَّ مكة اول بقعة من اليابسة، ثم امتدت الأرض منها. ذكر هذا الوجه الفخر الرازي في التفسير الكبير (1)، وقد نسبه مؤلف" جامع اللطيف" إلي ابن عباس وابن قتيبة.

ب: سميت كذلك" لانها اعظم القري شأناً". وقد نسب قطب الدين نهروالي هذا الرأي لابن عباس (2).

ح: سميت ام القري لأنها قبلة جميع الناس يؤمونها.

د: انها اصبحت ام القري لوجود بيت الله الحرام فيها، فالبقعة التي تشرّفت بوجود البيت، يكون لها السبق علي ما سواها من المدن وتقدم عليها، فهي لها أمٌّ (3).

ه-: وذهب البعض للقول؛ إنها سميت كذلك لانها أمان لأهل باقي المدن، والماكث فيها يأمل رحمة الله- سبحانه- (4).

4: القرية:

يقول تعالي: وضرَبَ الله مثلًا قريةً كانت آمنةً مطمئنةً يأتيها رزقُها رغَداً من كلّ مكانٍ (5).

والقرية في لغة العرب، هي المكان الذي يجتمع فيه عدد كثير من الناس؛ لذا يقال للماء حين يجتمع بكثرة في مكانٍ واحد:" قَرِيَ الماء".

وقد ذكر الفاكهي نقلًا عن مجاهد انَّ المراد من القرية في الآية الكريمة، هي مكة (6).

5: معاد:

يقول تعالي: انَّ الذي فَرَضَ عليك القرآن لرادُّكَ إلي معاد (7).

فقد ذهب أكثر المفسرين الي أنَّ معاد هي مكة المكرمة، كما ذكر ذلك الفخر الرازي في تفسير الآية، حيث رجح هذا الرأي علي جملة من الاحتمالات التي ذكرها، واعتبره أقرب للواقع (8).

اما الطوسي في التبيان فقد نسب القول بهذا الرأي لابن عباس (9).

والعلّامة الطباطبائي، ذكره في الميزان الي جوار احتمالات أُخري (10).

اما البخاري والنسائي فقد رفعاه بأكثر من طريق لابن عباس (11).

6: الوادي:

يقول تعالي: حكاية علي لسان خليله إِبراهيم: ربَّنا إني أسكنت من ذريتي بوادٍ غير ذي زرع عِندَ بيتك المحرّم (12).

ليس ثمة شك في أنَّ المراد من الوادي في الآية الكريمة، هو المنخفض من الأرض الذي يعبّر عنه بمكة. وقد أجمع المفسّرون علي هذا الرأي.


1- 56 الفخر الرازي 157: 8.
2- 57 الاعلام باعلام بيت الله الحرام: 17.
3- 58 الجامع اللطيف: 157.
4- 59 لسان العرب 13: 12، معجم البلدان 254: 1.
5- 60 النخل: 112.
6- 61 شفاء الغرام 78: 1.
7- 62 القصص: 85.
8- 63 تفسير الفخر الرازي: 21- 25.
9- 64 التبيان 183: 8.
10- 65 الميزان 88: 16.
11- 66 تفسير ابن كثير 345: 3.
12- 67 ابراهيم: 37.

ص: 94

أما موضع الشك فهو: هل سبق وأن سميّت مكة في عصر من عصورها التاريخية باسم" الوادي"؟

بين يدينا رسالة من الخليفة الثاني الي عامله علي مكة يذكر هذه المدينة باسم" الوادي" (1).

7- 8- 9: البلدة، البلد، البلد الأمين:

البلد في اللغة هو المصدر والأَوّل والأرفع، وبذلك فالبلد هو:صدر القري (2).

عبَّر القرآن عن مكة باسم البلد في أربع آيات (3) وعبر عنها ب- البلدة في آية واحدة (4)، وب- البلد الأمين في آية واحدة أيضاً (5).

وقد اقترن ذلك في المواطن كافة باسم الإِشارة، فقال: هذا البلد، هذه البلدة، وهذا البلد الأمين وبهذه القرينة شخّص تعالي مراده واوضح مقصوده.

ومع اجتماع الكلمة علي أنَّ المقصود بجميع هذه المواطن المشار اليها، هو مدينة مكة المكرَّمة، إلّا أنَّ الله شاء أن لا يذكر اسمها مُباشرة لبواعث تبحث في مضانّها، وإنما اكتفي باالإِشارة إليها دون ذكر الاسم الصريح.

علي أنَّ كلمة البلد لوحدها لم تكن ولن تكون دلالة علي اسم مكة، وانما غاية ما نستطيع أن نركن إليه أنّ الله- سبحانه- أشار إلي مكة بهذه الصيغة التعبيرية بقرينة الأمين في قوله: وهذا البلد الأمين.

نعم، يمكن أن يُحمل البلد علي اسم مكة دائماً، إذا ثبت لنا أنها كانت تسمي في مقطع من المقاطع التأريخية باسم البلد و البلدة كما ذكر ذلك القاضي الفاسي نقلًا عن أبي يحيي (6).

10- 11: حرم آمن، حرم:

يقول تعالي: أَولم نُمكّن لهم حرماً آمناً يُجبي إليه ثمراتُ كلّ شي ء (7).

ويول تعالي: اولم يروا أنّا جعلنا حرماً آمناً ويتخطّفُ الناسُ من حولهم (8).

ليس ثمة خلاف في أنَّ مكة هي جزء من المنطقة الحرام، وقد ذهب البعض للقول انَّ" حرم آمن" هو اسم مكة، وذلك من باب اطلاق الكل والمراد منه الجزء. ثم إنَّ اشتهار مكة بكونها حرماً آمناً يمكن ان يُعدّ دليلًا علي تسمية مكة ب-" حرم آمن".

أما حرماً فلا يمكن أن يفيد لوحده دون قرينة أنَّ المراد به اسم مكة. ومعَ ذلك فقد ذهب بعض اللغوين إلي أنَّ" حرم" هو اسم لمكة (9).

12- 13: المسجد الحرام، البيت العتيق:

من بين الآيات التي تنطوي علي ذكر المسجد الحرام ثمة ما لا يختص بالمسجد الحرام نفسه، وانما يمكن ان يكون مصداقاً للحرم أو لمكة. وبذلك اضحي تفسير المسجد الحرام بالحرم ومكة باعثاً للبعض علي أن يعدّ المسجد الحرام اسماً في عداد اسماء مكة؛ والآيات التي تعنيها:


1- 68 شفاء الغرام 84: 1.
2- 69 نفس المصدر: 78.
3- 70 ابراهيم: 35، البقرة: 126، البلد: 1- 2.
4- 71 النمل: 91.
5- 72 التين: 3.
6- 73 شفاء الغرام 79: 1.
7- 74 القصص: 57.
8- 75 العنكبوت: 67.
9- 76 تاج العروس 239: 8.

ص: 95

أ: لقدصدق الله رسولَه الرؤيا بالحق لَتدخُلُنَّ المسجدَ الحرامَ إن شاء الله آمنين محلّقين رُؤُسكم ومقصّرين... (1).

ب: وَلا تُقاتلوهم عِندَ المسجد الحرام حتي يقاتلوكم فيه (2).

ج: ذلك لمن لم يكن أهلُه حاضري المسجد الحرام (3).

فقد ذهب أبرز المفسّرين الي أنَّ المقصود بالمسجد الحرام في الآيات الثلاث لا يختص ب- المسجد الحرام وإنما جاءتصيغة التعبير من باب إطلاق الجزء وإِرادة الكل- خصوصاً وأنَّ ما يؤيد ذلك أنَّ المسجد الحرام هو أسمي جزء واشرفه- إذ المراد هو مكة أو الحرم.

ولكن مع ذلك لا يعدو أنَّ يكون هذا الاستعمال- علي فرض التسليم بالتقرير الأنف- استعمالًا مجازياً؛ ومعني ذلك أنَّ ذكر المسجد الحرام لا يكشف دائماً علي أنَّ المراد منه اسم مكة بالخصوص، لأنَّ لازم ذلك أن نقول: إِنَّ تمام أسماء الكعبة في القرآن هي اسم لمكة أيضاً وهذا ما لم يذهب إليه أحد.

علي نفس هذا المنوال يتبينُ رأينا بخصوص من يذهب الي أنَّ البيت العتيق هو اسم من أسماء مكة (4)، لذلك لا نجد ضرورة للتكرار والإِعادة.

14: مخرجصدق:

يقول تعالي: وقل ربّ أَدخلني مُدخلَصدقٍ وأخرجني مُخرجَصدقٍ واجعل لي من لدُنكَ سلطاناً نصيراً (5).

ذهب بعض المفسرين الي أنَّ المراد من مخرجصدق في الآية هومكة، كما نقل ذلك الطبرسي في مجمع البيان، عن ابن عباس والحسن، وقتادة وسعيد بن جُبير. وثمة عدد آخر من المفسرين ذكروا هذا الاحتمال الي جوار احتمالات أُخري (6).

15- 21: بساسة، الباسة:

لقد ذكر ابرز من تعرّض الي أسماء مكة انَّ" البساسة" هي أحد أسمائها.

فقد ذكر الازرقي (7)، وابن ظهيرة (8)، وقطب الدين النهروالي (9)، والفيروزآبادي وغيرهم، انَّ احد اسماء مكة هي: البساسة أو الباسة.

وممن ذكر ذلك ايضاً الصدوق (رحمه الله) نقلًا عن الامام جعفر الصادق (10) (عليه السلام).

وفي وجه التسمية لم يعدَّ الجميع القول أنَّ الباعث اليها أنها تخرج الظالم أو تستأصله: ومَن يُرد فيه بإلحاد بظلم نُذقه من عذاب أليم (11).

ومثل هذا التعليل روي ايضاً عن الامام الصادق (12) (عليه السلام).

16- 45- 54: أمّ رحم، أمّ رحمة، أم راحم:

من أسمائها الاخري:" أم رحم". وقد جاء ما يشير الي ذلك في روايات الشيعة وأهل السنة؛ وفيماصنّف حول مكة من كتب (13).


1- 77 الفتح: 27.
2- 78 البقرة: 191.
3- 79 البقرة: 196.
4- 80 اخبار مكة وآثارها 282: 1، معجم البلدان 182: 5، شفاء الغرام: 82.
5- 81 الاسراء: 80.
6- 82 تفسير البيضاوي 580: 1، مجمع البيان 671: 6، الكشاف 688: 2.
7- 83 اخبار مكة وآثارها 282: 1.
8- 84 الجامع اللطيف: 161.
9- 85 الاعلام باعلام بيت الله الحرام: 17.
10- 86 الخصال: 278.
11- 87 الحج: 25.
12- 88 الخصال: 278، الفقيه 166: 2، اخبار مكة 282: 1، تاج العروس 109: 4.
13- 89 نفس المصادر السابقة.

ص: 96

وفي وجه التسمية قد جاء عن ابي عبدالله الصادق (عليه السلام) قوله:" كانوا اذا لزموها رحموا" (1) وفي روايةٍ اخري:" كانوا اذا ظلموا رحموا" (2).

17- 48:صلاح، السلام:

عدَّ بعض اللغويين هذه النعوت الثلاثة اسماءً لمكة (3)."صلاح" في قولهم من"صلح" بمعني الامن والهدوء والسلامة، وسميت مكةصلاحاً لانها مركز الأمن، حيث يقول تعالي: أو لم نمكّن لهم حرماً آمناً....

وفي بعض أشعار العرب ثمة ما يشير لاسمها هذا، كما جاء في قول أبي سفيان بن حرب بن امية في خطابه لابن الحضرمي:

أيا مطر هلم اليصلاح فيكفيك الندامي من قريش وتنزل بلدة عزّت قديما وتأمن أن يزورك رب جيش (4) وللوجوده ذاتها اطلق عليها" سلام" فعدّ من اسمائها (5).

18: الرأس:

من الأسماء الاخري التي أشار اليها اللغويون" الرأس" حيث ذهب لذلكصاحب تاج العروس، وقال: انّ الرأس اسم لمكة ولاحد جبالها أيضاً (6).

وممن ذهب لذلك أيضاً السهيلي في زوض الأنف، ومؤلف" تهذيب الاسماء". والباعث للتسمية بنظر هؤلاء أن مكة أشرف بقاع الارض واكثرها رفعة وسمواً، ولذا فهي بمثابة" الرأس" كما سميّت فعلًا (7).

19- 50- 67- 68- 69: العرش، العرويش، العُرْش، العُرُش، العروش:

جميع هذه النعوت ذكرت اسماءً لمكة في كتب اللغة، الي جوار بقية الاسماء. بيد انَّ البعض اختار القول؛ ان عُرُشُ وعروش هما من منازل مكة، حيث استدلوا:" ان ابن عمر كان يقطع التلبية اذا نظر الي عروش مكة" (8).

وما اغفله أهل اللغة هو عدم ذكرهم لوجه التسمية لهذه الأسماء. ولكنّا اذا أخذنا بنظر الاعتبار معني" العرش" واضفنا الكلمة الي" البلاد" فسنصل الي تعليل معقول، حيث تكون مكة" عرش البلاد" لانها أشرفها واسماها.

20- 22: النساسة، الناسة:

دأبت أكثر كتب اللغة علي ذكر الاسمين لمكة في عدَّة أسمائها الاخري، ومردّ التسمية ينتهي الي وجهين:

الأول: وهو ما ذكره الماوردي من انها" تنسّ مَن أَلحدَ فيها؛ أي تطرده وتنفيه". وقد نسبصاحب شفاء الغرام القول في هذه التسمية اليصاحب المطالع والنووي وابن جماعة.


1- 90 الخصال 278: 1، الفقيه 166: 2.
2- 91 المصدران السابقان.
3- 92 تاج العروس 182: 2، منتهي الارب 696: 2.
4- 93 تهذيب الاسماء ج 2/ ق 2/ 156، شفاء الغرام 80: 1.
5- 94 تاج العروس 339: 8.
6- 95 تاج العروس 322: 4.
7- 96 الجامع اللطيف: 160.
8- 97 تاج العروس 322: 4، الصحاح 1010: 3، الشفاء: 79.

ص: 97

الثاني: عزا البعض باعثَ التسمية إلي قلة مائها (1).

23: العروض:

ذكر بعض علماء اللغة، أنَّ العروض اسم مشترك بين مكة والمدينة، فقالوا:" العروض مكة والمدينة وما حولها".

لقد نسب ابن ظهيرة الي مجد الدين الشيرازي قوله بهذا الاسم، دون ان يذكر علة التسمية. والعروض في اللغة جاء علي معانٍ هي:

العروض؛ ميزان الشعر، لأنه به يظهر المتزن من المختل.

العروض؛ الجزء الاخير من الشطر الاول من البيت.

العروض؛ الطريق في عرض الجبل الكثير من الشي ء (الناحية) (2).

24- 25: كُوثا، أمّ كُوثا:

ذكر الازرقي في اخبار مكة ان" كُوثا" احد أسمائها، وقد نسب القول في ذلك الي مجاهد والسهيلي. الّا انَّ مؤلف شفاء الغرام نقل عن مؤلف المطالع، انها اسم محلة من محلّاتها تقع فيها منازل بني عبدالدار.

اما الفاكهي نفسه فقد ذكر انَّ" كُوثا" منطقة تقع في قيقعان؛ فيما ذهب البعض إلي أنها اسم جبل يقع في مني.

اما" أمّ كُوثا" فقد عدّه ابن ظهيرة في عداد اسماء مكة، ناسباً القول به الي المرجاني (3).

26: فاران:

ذكر ياقوت الحموي" فاران" من بين أسماء مكة، وقد ذكره أيضاً ابن ظهيرة الذي أخذه علي الارجح من الحموي. والاثنان لم يذكرا علّة التسمية. الّا انَّ مؤلف" تاج العروس" ذكر انَّهُ جبل في الحجاز يُبعث منه نبيُّ، آخر الزمان كما جاءَ في التوراة.

وربما استطعنا ان نتلمس من خلال هذا السياق الباعث لهذه التسمية، اذ طالما كانت التوراة قد ذكرت ان فاران الحجاز هي مبعث خاتم النبيين (صلّي الله عليه وآله وسلّم)، فانَّهُ حين بُعث من مكة اطلقوا عليها اسم" فاران" (4).

27- 33- 36- 70: المقدسة، القادس، القادسة، القادسية:

لقد ذكرت كتب اللغة أنَّ الاسماء الاربعة آنفة الذكر هي من أسماء مكة. وهذه الاسماء تشير علي الارجح الي معني واحد. والباعث للتسمية، هو قولهم:" القادس من التقديس، لأنها تقدس من الذنوب؛ أي تطهّر" (5).


1- 98 الصحاح 983: 3، لسان العرب 124: 14، شفاء الغرام: 79.
2- 99 الصحاح 1089: 3، المنجد: 498، الجامع اللطيف: 161.
3- 100 اخبار مكة....، لسان العرب 182: 12، شفاء الغرام: 80.
4- 101 معجم البلدان...، الجامع اللطيف: 161، تاج العروس 300: 9.
5- 102 تاج العروس 214: 4، شفاء الغرام: 80، الجامع: 158.

ص: 98

28- 55: قرية النمل، نقرة الغراب:

ذكر البعض هذين الاسمين لمكة. اما الفاكهي فقد ذكر انهما علامتان تدلان علي مكان بئر زمزم، وقد استهدي بهما عبدالمطلب في معرفة مكان زمزم فاقبل علي تجديد حفرها.

ثمة من ذهب الي أنَّ الاسمين هما من أسماء زمزم المجازية. وفي كل الاحوال، فانَّ الذين قالوا بانهما من اسماء مكة، اهملوا علة التسمية ولم يذكروها؛ وربما استطعنا ان نعزو سبب التسمية إلي ازدحام مكة (1).

29: الحاطمة:

ذكر الازرقي" الحاطمة" في عداد اسماء مكة، والباعث للتسمية، يعود" لحطمها الملحدين".

وقد ذكر الفاكهي وابن ظهيرة هذا الاسم ووجه التسمية (2).

32: طيبة:

ذكرهُ الفاكهي وابن ظهيرة وَعدّاهُ من اسماء مكة. ووجه التسمية والباعث اليها يعود الي حسن مكة ونقائها.

وفي هذا السياق ذهبت بعض كُتب اللغة للقول: انَّ طيبة (بفتح الطاء) اسم للمدينة، وَطيبة (بكسر الطاء) اسم لزمزم (3).

34: المُذْهَب:

ذكرهُ الفاكهي في" شفاء الغرام" دون ان يتوفّر علي ذكر الباعث اليه. اماصاحب تاج العروس فقد قال: انَّ" المُذْهَب" هو اسم للكعبة المشرّفة (4).

37: المعطشة:

ذكره ابن ظهيرة نقلًا عن العلامة ابن خليل، وقد ذكر ابن ظهيرة انَّ ابن خليل اكتفي بذكر الاسم في عداد اسماء مكة دون أن يعرض لكيفية التسمية وبواعثها.

والمعطش في اللغة، يقال للمكان الذي يعطش فيه الانسان؛ وربما كان هذا باعثاً علي تسمية مكة به (5).

38: الرتاج:

ذكره ابن ظهيرة والفاكهي دون ان يتوفّرا علي بيان وجه التسمية ومناسبتها (6).

39: امّ زحم:

نقلهصاحب" شفاء الغرام" عن كتاب" الأنساب" للرشاطي، والباعث للتسمية هو ازدحام الناس في مكة (7).

40: امّصح:


1- 103 شفاء الغرام: 79، اخبار مكة 282: 1.
2- 104 اخبار مكة 282: 1، شفاء الغرام: 79، الجامع اللطيف: 158.
3- 105 شفاء الغرام: 80، الجامع اللطيف: 161، الصحاح 173: 1.
4- 106 شفاء الغرام: 80، تاج العروس 258: 1.
5- 107 الجامع اللطيف: 159، لسان العرب 267: 9.
6- 108 شفاء الغرام: 81، الجامع اللطيف: 159.
7- 109 المصدران السابقان.

ص: 99

نقله إبن ظهيرة عن إبن الاثير في" المرصع" من دون أن يذكر علة التسمية (1).

41: أم رَوح:

ذكره ابن الاثير في" المرصع" وردّه الي كثرة الرحمة ووفرتها في مكة (2).

42: بساق:

ذكر ابن رشيق في" العمدة" وياقوت الحموي في" معجم البلدان" أن" بساق" أحد أسماء مكة، وقد ذكرا شعراً لأمية بن حرثان يؤيد دعواهما، حيث قال:

ساستعدي علي الغاروق رب له عمد الحجيج الي بساق بيد انَّ البعض قال: انَّ" بساق" اسم جبل في عرفات (3).

43: المكتان:

نقل الفاكهي عن استاذه مجد الدين الشيرازي انَّ" المكتان" من اسماء مكة. وقد احتمل ان يكون الباعث للاسم شعر ورقة بن نوفل الاسدي، الذي يقول فيه:

ببطن مكتين علي رجائي حديثك أن أري منه خروجاً ومن جهته نقل ابن ظهيرة عن السهيلي، أنَّ الباعث للتسمية هو توزع مكة إلي منطقتين، عليا وسفلي فبعض محلاتها تقع في القسم المرتفع وبعضها في القسم المخفض. لذلك جاء في اشعار العرب ذكر مكة العليا ومكة السفلي؛ فيقال للقسمين: المكتان (4).

44: النابية:

ذكرهُ الفاكهي وابن ظهيرة ونسباه الي تفسير ابن كثير، بيد انا لم نعثر عليه حين مُراجعة التفسير؛ والله اعلم (5)!

46- 57: الناشتة، ناشة:

ذكر هذين الاسمين الفاكهي وابن ظهيرة عن مجد الدين الشيرازي، وذكرا انّهُ كتب عن الباعث لهذه التسمية في شرحه للبخاري، الّا اننا ام نعثر علي الشرح للوقوف علي العلة (6).

47: سبوحة:

ذهب مصنّف" تاج العروس" الي انَّ هذا الاسم لمكة أو لوادٍ في عرفات. أما الفاكهي فقد نقله عن استاذه الشيرازي (7).

49: نادرة:

نقل ايضاً عن مجد الدين الشيرازي دون ان تذكر علة التسمية؛ التي ربما كانت من قولهم" نادرة البلاد" اذ لا مثيل لمكة ولا نظير لها بين المدن الاخري.


1- 110 الجامع اللطيف: 159، المرصع: 186.
2- 111 المرصع: 186.
3- 112 العمدة 31: 1، معجم البلدان 413: 2.
4- 113 شفاء الغرام: 80، الجامع اللطيف: 160.
5- 114 المصدران السابقان.
6- 115 المصدران السابقان.
7- 116 تاج العروس 158: 2.

ص: 100

51- 52: الحُرمة، الحِرمة:

نقل هذان الاسمان عن مجد الدين الشيرازي أيضاً دون ان تذكر علّة التسمية.

53: قرية الحُمس:

قرية الحُمس؛ تعني: قرية قريش. وَسبب تسمية مكة بذلك يعود الي سكن قريش في هذه المدينة المقدَّسة. وَربما كانَ مبعث اختيار قريش من بين سكنة مكة الآخرين كالجراهمة والعمالقة، يعود لوجود شخصيات منيفة فيها كرسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) والامام علي (عليه السلام).

أما أهل اللغة فقد أوردوا ل-" حُمس" معني الأرض المحكمة والناس الشجعان المتمسكين بدينهم (1).

56: البنية:

ذكره ياقوت الحموي وَعدّه في أسماء مكة دون أن يذكر السبب؛ في حين ذهب بعض اللغويين الي أنَّ" البنية" اسم للكعبة (2).

62- 63- 64: البلد الحرام، حرم الله، بلد الله:

يقال لمكة" بلد الله" كونهُ (سبحانه) اختارها محلًا لبيته. وَيقال لها" حرم الله" و" البلد الحرام" لانَّ الله (سبحانه) أوجب حرمتها، وجعلها في أمن وَاهلها في امان.

31- 58- 59- 61- 65- 66: برّة، تاج، كبيرة، السيل، العذراء، النجز:

ذكرت هذه الاسماء في عداد اسماء مكة، دون أن يذكر شي ءٌ. عن بواعث التسمية (3).


1- 117 الجامع اللطيف: 162، المنجد: 153.
2- 118 معجم البلدان: 5، لسان العرب 511: 1.
3- 119 شفاء الغرام: 80.

ص: 101

ص: 102

ص: 103

ص: 104

هل يحق لغير المسلم ان يسكن جزيرة العرب؟

ص: 105

هل يحق لغير المسلم أن يسكن جزيرة العرب؟

تأليف: يعقوب الجعفري

ثمة أحكام خاصة لجزيرة العرب، مهبط الوحي الإِلهي، ومنطق نور الاسلام بينتها المتون الفقهية، أهمها: انه لا يحق لغير المسلمين من المشركين واليهود والنصاري وأتباع الأديان اْلُاخري السكن في هذه الأرض، وعليهم أن يعتنقوا الاسلام أو يهاجروا عنها.

وقد وردت روايات عديدة في ذلك من طرق الفريقين، نثبت فيما يلي بعضها، لنورد من بعد آراء العلماء الشيعة والسنة وأقوالهم، ثم نبحث في حدود جزيرة العرب التي يخصها هذا الحكم، ونختم البحث برأينا في ذلك:

1- عن أُم سلمة، أنّ رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) أوصي عند وفاته:" أن تخرج اليهود والنصاري من جزيرة العرب" (1).

2- عن علي بن جعفر عن أخيه موسي بن جفعر قال:" سألته عن اليهودي والنصراني والمجوسي، هل يصلح لهم أن يسكنوا في دار الهجرة؟ قال: أمّا أن يلبثوا بها فلا يصلح، وقال: إن نزلوا بها نهاراً وأُخرجوا منها بالليل فلا بأس" (2).

3- عن أبي عبدالله (عليه السلام) أنه قال:" لا يدخل أهل الذمة الحرم، ولا دار الهجرة، ويُخرجون منها" (3).

4- عن ابن عباس، قال: قال رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلم):" أخرجوا المشركين من جزيرة العرب" (4).

5- عن رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلم) قال:" لأُخرجنّ اليهود والنصاري من جزيرة العرب حتي لا أدع إلّا مسلماً" (5).

6- عن أبي هريرة، قال:" بينما نحن في المسجد خرج النبيُّ (صلّي الله عليه وآله وسلم) فقال: انطلقوا إلي يَهُودَ، فخرجنا حتي جئنا بيت المدراس فقال: أسلموا تسلموا، واعلموا أنّ الأرض لله ورسوله، وإنّي أُريد أن اجليكم من هذه الأرض، فمن يجد منكم بماله شيئاً فليبعه، وإلّا فاعلموا أنّ الأرض لله ورسوله" (6).

أ- آراء علماء الشيعة

1- المحقّق الحلي:


1- 1 الوسائل 101: 11.
2- 2 نفس المصدر.
3- 3 مستدرك الوسائل 262: 2.
4- 4صحيح البخاري 212: 4.
5- 5 سنن أبي داود 43: 2؛ المنتقي: 407.
6- 6 التاج الجامع للاصول 403: 4.* المِدراس: العالم الذي يدرس لهم أو البيت الذي يدرسون فيه.

ص: 106

" ولا يجوز لهم استيطان الحجاز علي قولٍ مشهور، وقيل: المراد به مكة ومدينة؛ وفي الاجتياز به والامتياز منه، تردد. ومَنْ أجازه، حدّه بثلاثة أيام؛ ولا جزيرة العرب...." (1).

2- الشيخ الطوسي:

" كلّ مشرك ممنوع من الاستيطان في حرم الحجاز من جزيرة العرب، فانصولح علي أن يقيم بها ويسكنها، كان الصلح باطلًا لما روي ابن عباس قال: أوصي رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلم) بثلاثة أشياء فقال: أَخرجوا المشركين من جزيرة العرب..." (2).

3- الشهيد الأول:

ما معناه:" لا يجوز للذمي السكن في الحجاز وجزيرة العرب، وحدّها من عدن إلي عبادان طولًا، ومن تهامة إلي الشام عرضاً" (3).

4- العلّامة الحلي:

ما معناه:" لا يجوز للمشرك الذمي والحربي السكن في الحجاز، والاجماع عليه قائم، لأن ابن عباس روي عن النبيِّ (صلّي الله عليه وآله وسلم) أنّه أوصي بثلاثة أُمور، منها: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وقال: لا يجتمع دينان في جزيرة العرب (4).

ويقول العلّامة الحلي أيضاً ما معناه: لا يجوز للكافر والحربي أو الذمي السكن في الحجاز إجماعاً" (5).

5- الشهيد الثاني:

" قوله: ولا يجوز لهم استيطان الحجاز نسبه إلي الشهرة؛ لعدم الظفر بنصّ فيه من طرقنا، لكن ادعي في التذكرة عليه الإِجماع، فالعمل به متعين، والقول بتحريم مطلق الحجاز أقوي عملًا بدلالة العرف واللغة فيدخل فيه البلدان مع الطائف وما بينهما.." (6).

6-صاحب الجواهر:

" ولا يجوز لهم استيطان الحجاز علي قول مشهور، بل في المنتهي ومحكي المبسوط والتذكرة الاجماع عليه، وهو الحجة بعد السيرة القطعية، التي يمكن استفادة الاجماع أيضاً منها، مضافاً إلي ما سمعته من خبر الدعائم (7)، وإلي خبر ابن الجراح المروي من طرق العامة" (8).

ب- أقوال علماء السنة

1- ابن قدامة:

" ولا يجوز لأحد منهم سكني الحجاز، وبهذا قال مالك والشافعي، إلا أن مالكاً قال: أري أن يجلوا من أرض العرب كلّها لأن رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلم) قال: لا يجتمع دينان في جزيرة العرب" (9).


1- 7 شرايع الاسلام: 94.
2- 8 المبسوط 47: 2.
3- 9 راجع الدروس: 163.
4- 10 منتهي المطلب: 971.
5- 11 تذكرة الفقهاء 445: 1.
6- 12 مسالك الافهام 124: 1.
7- 13 وهي رواية الامام الصادق التي نقلناها عن المستدرك برقم 3.
8- 14 جواهر الكلام 289: 21.
9- 15 مغني ابن قدامة 603: 10.

ص: 107

2- أبو الحسن الماوردي:

" ان لا يستوطنه- الحجاز- مشرك من ذمي ولا معاهد، وجوّزه أبو حنيفة، وقد روي.....: كان آخر ما عهد به رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلم) أن قال: لا يجتمع في جزيرة العرب دينان. وأجلي عمر بن الخطاب أهل الذمة عن الحجاز، وضرب لمن قدم منهم- تاجراً أوصانعاً- مقام ثلاثة أيام، ويخرجون بعد انقضائها" (1).

3- ابن قيم الجوزية:

ما معناه:" قال مالك: ينبغي اجلاء الكفار من كل جزيرة العرب، وقال الشافعي: أن يمنعوا من الحجاز كلها، وهي عبارة عن مكة والمدينة واليمامة وأطرافها.

أما غير الحرم منه فحكمه أن يمنع الكافر الكتابي وغير الكتابي من السكن فيه والاقامة، ويستطيع أن يدخله بجواز من الامام لمصلحة معينة نحو إيصال رسالة أو حمل سلعة يحتاجها المسلمون" (2).

4- ابن الأثير:

ما معناه:" قال الطبري بان علي الامام أن يخرج غير المسلم من أية مدينة يتغلب عليها المسلمون، لو لم يكن للمسلمين بهم حاجة، كالعمل في الأرض وغير ذلك، وبسبب هذه الحاجة القاهم عمر في العراق والشام.

اعتقد الطبري أن الحكم لا يختص بجزيرة العرب وحسب، بل يلحق بها كل مكان في حكمها" (3).

يتضح من الفقرات المقتبسة أعلاه أن معظم المسلمين يعتقدون بعدم جواز سكن غير المسلمين وإقامتهم في الحجاز أو الجزيرةالعربية، سوي ابي حنيفة الذي جوّز ذلك.

ويبدو أن حكم المسألة واضح بين فقهاء الشيعة بلحاظ الإِجماع الذي أشار إليه العامة الحلي في المنتهي والتذكرة، ولم يُنقل عن الفقهاء شي ء بخلاف ذلك. ولكن ما هي حدود الحجاز والجزيرة العربية؟

وهل يمكن قبول هذا الحكم المخالف للقواعد والعمومات بشكل عام، وفي جميع الحالات التي يُحتمل وجود شمول عام فيها، أم ينبغي الاكتفاء بالقدر المتيقن؟ وما هو القدر المتيقن؟

قيل في تعريف جزيرة العرب والحجاز الكثير، وينقل المحقق عن بعض تلك الأقوال، فيقول: إن المراد من الحجاز مكة والمدينة، والمراد من جزيرة العرب مكة والمدينة واليمن وتوابعها. وينقل عن آخرين القول في أن المراد من جزيرة العرب هي: المنطقة المحصورة بين عدن وعبادان طولًا، وبين تهامة وأطراف الشام عرضاً (4).

ويعتقد العلّامة الحلّي: بأن المراد من جزيرة العرب الحجاز، والحجاز عبارة عن مكة والمدينة واليمامة وخيبر وينبع وفدك وأطرافها، ويقال لها الحجاز لأنها تحجز بين نجد وتهامة، ويضيف العلّامة في سبب تخصيص جزيرة العرب بالحجاز، بأنه لو لم يكن ذلك لوجب إخراج أهل الذمة من اليمن أيضاً (5).

يقول الشوكاني: قال الأصمعي: إنّ جزيرة العرب عبارة عمَّا بين عدن إلي العراق طولًا، ومن جدة إلي اطراف الشام عرضاً، وسبب اطلاق الجزيرة عليها؛ إحاطتها ببحر الهند وبحر فارس والحبشة.

وقالصاحب القاموس: إنّ جزيرة العرب، منطقة أحاط بها بحر الهند وبحر الشام ودجلة والفرات، أو أن نقول من عدن إلي أطراف الشام، ومن جدة إلي ريف العراق (6).


1- 16 الاحكام السلطانية للماوردي: 167.
2- 17 احكام أهل الذمة: 184.
3- 18 فتح الباري 272: 6.
4- 19 شرايع الاسلام: 94.
5- 20 المنتهي: 971.
6- 21 نيل الأوطار 65: 8.

ص: 108

ويقولصاحب الجواهر بعد نقل كلام الاصمعي وآخرين:

ولكن قد يقال: إنّ مرادهم مجرد تفسيرها، وإلّا فالسيرة علي عدم منعهم من جميع ذلك. وعلي كل حال فقد قيل: إنّها سميت جزيرة العرب؛ لأن بحر الهند وهو بحر الحبشة وبحر فارس والفرات أحاطت بها، وإنّما نسبت إلي العرب لأنها منزلهم ومسكنهم... (1).

ونستعرض فيما يلي أقولًا لياقوت الحموي وابن منظور، لنبادر من ثم إلي التحقيق في هذا البحث:

يقول ياقوت عن الحجاز: جبل ممتدّ حالّ بين الغور غور تهامة ونجد..... وقال الأصمعي:.... فمكة تهامية، والمدينة حجازية، والطائف حجازية (2).

ويقول عن الجزيرة العرب:... وإنّما سميت بلاد العرب جزيرة لاحاطة الانهار والبحار بها من جميع أقطارها وأطرافها..... فصارت بلاد العرب من هذه الجزيرة التي نزلوا وتوالدوا فيها علي خمسة أقسام عند العرب:

تهامة والحجاز ونجد والعروض واليمن (3).

ونقل ابن منظور أقولًا في تحديد جزيرة العرب، منها: أنها ما بين حفر أبي موسي إلي أقصي تهامة في الطول، وأما العرض فما بين رمل يبرين إلي منقطع السماوة. ثمّ يضيف: وقال مالك بن أنس: أراد بجزيرة العرب المدينة نفسها (4).

التحقيق في المسألة

يتّضح من الروايات وأقول العلماء: عدم جواز سكن الكفار وإقامتهم في الجزيرة العربية والحجاز حسب الفقه الاسلامي، بل يمكن القول: إنّ ذلك من مسلّمات الفقه، والمهم أن نعرف المناطق التي يشملها هذا الحكم.

نقول: إن هذا الحكم حكم خلاف القاعدة وخلاف الأصل، ولهذا يجب الاكتفاء بالقدر المتيقن وحمل العام علي الخاص، والقدر المتيقن هنا مكة والمدينة. وقد خصّص هذا الحكم لهاتين المدينتين؛ كونهما مهبط الوحي ومركز الحكم الإِسلامي، ويتّسمان بقداسة خاصة، ولا يمكن تعميم هذا الحكم علي غير الحرمين الشريفين لا سيما في الفقه الشيعي؛ لأن الدليل علي هذا الحكم (التعميم) أمران:

1- الإجماع الذي ادعاه العلّامة الحلّي.

2- بعض الأحاديث القاصرة من حيث السند، أو من حيث الدلالة.

الاجماع الذي ادعاه العلّامة الحلّي في كتابيه إجماع منقول، والأهم من ذلك أنّ دليل الإِجماع: هو حديث مروي عن ابن عباس بطرق العامة (ذكرنا نصه سابقاً)، ولا يمكن لمثل هذا الإجماع أن يثبت شيئاً، وبفرض قبول الاجماع وتأييده بالسيرة القطعية- التي يمكن استفادة الإجماع أيضاً منها حسبصاحب الجواهر- نقول: إنّ العلامة ادعي الاجماع حول الحجاز فقط وليس جزيرة العرب، ومن الشائع إطلاق الحجاز علي مكة والمدينة، فيلزم الاكتفاء بذلك لأن الحكم خلاف الأصل.

أمّا الروايات الواردة في المسألة في الكتب الروائية الشيعية، فان رواية امّ سلمة، هي الوحيدة التي جاء فيها ذكر جزيرة العرب، وقد نقلهاصاحب الوسائل عن مجالس ابن الشيخ أبي أمالي الطوسي، والكثير من رواتها مجهولون، وبعضهم لم يرد اسمه في كتب الرجال، ويعتقد أنّها نفسها المروية عن ابن عباس بطرق العامة.

تبقي الروايتان المذكورتان بطرق الخاصة واللتان ثبتناهما سابقا (رواية علي بن جعفر، ورواية دعائم الاسلام)، فرغم انه يمكن القبول بهما من حيث السند وخاصة رواية علي بن جعفر المذكورة في تهذيب الشيخ، لكن دلالتيهما علي إخراج الكفار من كلّ الجزيرة العربية أو حتي الحجاز ممنوعة، لأنّ رواية علي بن جعفر تمنع سكن الكفّار في دار الهجرة فقط وهي المدينة، فيما ذكرت رواية دعائم الاسلام دار الهجرة والحرم، أي المدينة ومكة.

وبالطبع يستفاد من الآية الكريمة: إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام (5) في حرمة دخول المشركين إلي مكة، لا كما احتمل البعض من أن مكة كلها يمكن أن يطلق عليها المسجد الحرام (6)، وإنما لقوله: لا يقربوا، والدخول إلي مكة يعني الاقتراب من المسجد الحرام.

رغم أننا نحتمل بأن هذه الآية لاتتعلق بدخول المشركين إلي مكة أو سكناهم فيها، وإنما نزلت في مقام منعهم من الاشتراك في مناسك الحج التي نُفّذت منذ السنة التاسعة للهجرة وبعد إعلان سورة براءة، بواسطة أمير المؤمنين علي (عليه السلام).


1- 22 جواهر الكلام 291: 21.
2- 23 معجم البلدان 218: 2.
3- 24 معجم البلدان: 137.
4- 25 لسان العرب 134: 4.
5- 26 التوبة: 28.
6- 27 مجمع البيان للطبرسي 32: 5.

ص: 109

الأمر الآخر ما قاله الشهيد الثاني بعدم الظفر بنص فيه من طرقنا (1)، بينما لاحظنا وجود مثل هذه النصوص، إلا أن يكون مراد الشهيد الثاني عدم ذكر لفظ الحجاز وجزيرة العرب، وعندئذ يكون محقّاً في ذلك.

مهما يكن من أمر، إننا نعتقد بلحاظ منطوق الراويتين المذكورتين، وبلحاظ أن حكم المسألة خلاف القاعدة وخلاف الأصل ويجب أن لا نتجاوز القدر المتيقن، فان حكم إخراج الكفار يشمل مكة والمدينة فقط، ويقتضي الاحتياط أن يُخرجوا أيضاً من تهامة والحجاز ونجد وكلّ جزيرة العرب.


1- 28 مسالك الأفهام 124: 1.

ص: 110

اسواق مكّة والمدينة

ص: 111

أسواق مكّة والمدينة

تأليف: عباس المهاجر

المقدمة:

لبلاد العرب موقع جغرافي متوسط بين بلاد أعظم الدول، وأقدم الحضارات، فالي شمالها الشرقي بلاد فارس وإلي شمالها الغربي بلاد الروم ومصر وإلي غربها الجنوبي وراء البحر بلاد الحبشة وفي جنوبها البحر الهندي الذي يفصلها عن بلاد الهند.

ولا نكون مغالين إذا قلنا أن معظم تجارات العالم منذ القديم حتي القرون الوسطي هي بين هذه البلاد التي عددنا. فالدولتان العظيمتان اللتان تنازعتا علي السيادة في العالم، وهما دولتا فارس والروم، كانتا علي علاقات تجارية وسياسية حسنة مع بلاد العرب في الشمال والجنوب. واقل من تلك العلاقات علاقة الحبشة والهند باليمن وعمان والبحرين.

وكان للموصلات التجارية في جزيرة العرب طريقان احدهما شرقي يصل عمان بالعراق وينقل بضائع اليمن والهند وفارس برّاً ثم يجوز غرب العراق إلي البادية حتي ينتهي به المطاف في اسواق الشام. والطريق الثاني وهو الأهم- غربي- يصل اليمن بالشام مجتازاً بلاد الحجاز، ناقلًا أيضاً، بضائع اليمن والحبشة والهند إلي الشام، وبضائع الشام إلي اليمن حيث تصدّر إلي الحبشة وإلي لهند في البحر. فكان من المعقول أن يمارس كثير من العرب التجارة رجالًا ونساءً وخاصة الذين تقع بلادهم قريبة من أحد هذين الطريقين، ومن لم يتاجر منهم أفاد من التجارة بالواسطة، فعمل في هذه القوافل إما سائقاً وإما منتظماً في جملة حماتها الذين يؤجرون أنفسهم وسلاحهم ودوابهم فيها.

قد شغلت دول العرب القديمة كتدمر وسبأ والمعينين، المراكز الممتازة في تجارة الشرق حتي ذكرتهم التوراة ووصفت ثروتهم وتجارتهم. وحمل أهل تدمر في القديم إلي مصر وجنوب أورباصادرات بلاد العرب والعراق والهند، وكانت النفائس التي يحملها التدمريون من بلاد الشرق أثمن ما يتغالي به الملوك القياصرة.

وفوق هذا كله، كان لهؤلاء العرب ذوي الملكة التجارية الراقية اهتمام بما حولهم من الأقطار التي يتاجرون فيها وإليها ومراقبة لما يجري هناك من أحداث وقد دفعتهم إلي ذلك طبيعة التجارة وما تتطلب من درس وإلمام بالأسواق وأمنها واحوال المسيطرين علي شعوبها، وأنت تعرف ذلك من الحرب، التي كانت بين الفرس والروم في مشارف الشام، قبل الهجرة بست سنين وكيف كان مشركو مكة فرحين بانتصار الفرس إذا كانوا مثلهم غير ذوي كتاب، وقد شمتوا بهزيمة الروم اذ كانوا كالمسلمين أتباع كتاب سماوي، وقد سجّل القرآن الكريم هذه الظاهرة، ظاهرة اهتمام المكيين بما يجري حولهم من شؤون الفرس والروم في الآية الكريمة:

ص: 112

آلم* غلبت الروم* في أدني الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون* في بعض سنين...

هذا هو مجمل ما أردت أن أعرض له من بيان إهتمام العرب بالتجارة وإليك- أيها القارئ- أهم الأسواق وسياستها التجارية في مكة والمدينة:-

(أسواق مكة والمدينة)

أولًا:- سوق عُكاظ:

عكاظ هي المعرض العربي العام أيام الجاهلية، معرض بكل ما لهذه الكلمة من مفهوم لدينا نحن أبناء هذا العصر: فهي مجمع أدبي لغوي رسمي، له محكّمون تضرب عليهم القِباب، فيعرض شعراء كل قبيلة عليهم شعرهم وادبهم، فما استجادوه فهو الجيد، وما بهرجوه فهو الزائف.

وحول هذه القِباب الرواة والشعراء من الأقطار العربية عامة، فما ينطق الحكم بحكمه حتي يتناقل أولئك الرواة القصيدة الفائزة، فتسير في أغوار الجزيرة وأنجادها، تلهج بها الألسن في البوادي والحواضر. يحمل إلي هذه السوق التهامي والحجازي والنجدي والعراقي واليمامي واليمني والعماني، كل ألفاظ حيّة ولغة قطرة، فما تزال عكاظ بهذه اللهجات نخلا واصطفاءً حتي يتبقي الأنسب الأرشق ويطرح المجفّو الثقيل.

وعكاظ هي السوق التجارية الكبري عامة، يحمل إليها من كل بلد تجارته وصناعته كما يحمل إليها أدبه، فاليها يجلب الخمر من هجر والعراق وغزة وبصري، والسمن من البوادي ويرد إليها من اليمن البرود الموشاة والأدم، وفيها الغالية وأنواع الطيب وأدوات السلاح، ويباع فيها الحرير والوكاء والحذاء والمسيّر والعدني يحملها إليها التجار من معادنها، وفيها من زيوت الشام وزبيبها وسلاحها ما اعتادت قريش أن تحمله في قفولها إلي مكة. ويعرض فيها كثير من الرقيق الذي ينشأ عن الغزو وسبي الذراري فيباع فيها بيع المتاع التجاري.

ويبيع فيها كلُّ غازٍ ما سلبه وكثيراً ما يكون هذا البيع سبباً في قتلصاحبه إذا أبصر السلاح أحد من ذوي المقتول فعرفه، فإنه يضمرها في نفسه وينتظر أن يظفر بالرجال ليثأر منه.

وتصل من تجارة فارس أشياء إلي عكاظ: فإن النعمان بن المنذر ملك الحيرة كان يبعث إلي سوق عكاظ كل عام لطيحة (وهي في الأصل العير المحملّة مسكاً) في جوار رجل شريف من أشراف العرب، يجيرها له ويحميها من كل معتدٍ حتي تصل سالمة إلي عكاظ؛ فتباع هناك ويشري بثمنها ما يحتاج إليه من أدم (جلود) الطائف وسائر المتاع إلي عكاظ: من حرير وعصب مسيّر، وبيعت فيها حلّة ذي يزن فاشتراها حكيم بن حزام ليهديها رسول الله (1)، بل إن عكاظ نفسها مشهورة بما يعرض فيها من جلود حتي قالوا:" أديم عكاظي" نسبة إليها.

حتي البضائع المجهولة الأصل المعروضة في عكاظ تجد من شرائع القوم واعرافهم التي التزموها ما يجعلها كاسدة لا يرغب فيها أحد، فهذا بعض لصوص العرب" قربّ إبلًا للبيع في سوق عكاظ وكان أغار عليها من كل وجه، فلما عرضها قيل له:" ما نارك؟" (أي ماسمة إبلك؟ وكانوا يعرفون علامة كل قوم التي يسمّون إبلهم بها ويعفون كرمها من لؤمها) فلما كثر ذلك عليه أنشأ يقول:


1- 1 انظر تفصيل هذا الخبر في تهذيب تاريخ ابن عساكر: 414- 415.

ص: 113

يسألني الباعة أين نارها اذ زعزعتها فسمت أبصارها

كل بخار إبل بخارها وكل نار العالمين نارها (1) وهي معرض لكثير في عادات العرب واحوالهم الاجتماعية:

فها هنا (قس بن ساعدة) يخطب الناس، بذكر الخالق ويعظهم بمن كان قبلهم ويأمرهم بالخير (2). وهناك خالد بن أرطاة الكلبي تتعبه قبيلته وقد جاء لينافر جرير بن عبدالله الجبلي ومع هذا حيّه أيضاً وقد ساق كل منهما مالًا عظيماً ينافر عليه، وعرضا الحكومة علي رجالات قريش فأبوا أن يحكموا خوف الفتنة بين الحييّن، فالرجلان في عكاظ ينتظران الأقرع بن حابس ليقوم بهذه الحكومة وقد ساق الرهَن فوضعوها عند عتبة بن ربيعة (3) دون جميع من شهد علي ذلك المشهد، وها هنا عمر بن الخطاب في الجاهلية يصارع (4)، وثمة كاهن وعراف وعائف وقائف، وقرد، وغنم، وصحيفة وكاتب. وهناك أناس من غواة الشهرة: هذا يمد رجله وينشد شعراً ويقول:" من كان أعز العرب فليقطع رجلي" وآخر يأتي عكاظ ببناته ترويجاً لزواجهن، وأناس قدموها ليختاروا من يتزوجون إليه..

قال المرزوقي:

" كان في عكاظ أشياء ليست في أسواق العرب: كان الملك من ملوك اليمن يبعث بالسيف الجيّد، والحلّة الحسنة، والركوب الفاره، فيقف بها وينادي عليه:" ليأخذه أعز العرب" يرد بذلك معرفة الشريف والسيد فيأمره بالوفادة عليه ويحسنصلته وجائزته".

وكان كسري يبعث في ذلك الزمان بالسيف القاطع والفرس الرائع والحلة الفاخرة فتعرض في تلك السوق وينادي مناديه:" إن هذا بعثه الملك إلي سيد العرب" فلا يأخذه إلا من أذعنت له العرب جميعاً بالسؤدد فكان آخر من أخذه بعكاظ حرب بن أمية، وكان كسري يريد بذلك معرفة ساداتهم ليعتمد عليهم في أمور العرب فيكونوا عوناً له علي اعزاز ملكه وحمايته من العرب...." (5).

وهي ندوة سياسية عامة، تقضي فيها أُمور كثيرة بين القبائل: فمن كانت له إتاوة علي قبيلة تزل عكاظ فجاءُوه بها، ومن أراد تخليد نصر لحيه فعل فعل عمرو بن كلثوم فرحل إلي عكاظ وخلده فيها شعراً. ومن أراد إجارة أحد هتف بذلك في عكاظ؛ حتي يسمع الناس عامة ومن أراد اعلان الحرب علي قوم أعلنه في عكاظ، حتي (جميعة الأمم) أو (هيئة الأمم المتحدة) وما قامتا به من مجهود (رسمي) في سبيل السلم الخاص، كان لهاصورة مصغرة تشبهها بحسب الظاهر (لا في الحقيقة، لأن عكاظ لم تكن ترائي فتستغل الدعاية الشريفة لتسيغ للقوي أكل الضعيف)، فقد روي الأصفهاني أنه:" اجتمع ناس من العرب بعكاظ منهم قرة بن هبيرة القشيري والمخيّل وهو في جوار قرة، في سنين تتابعت علي الناس فتواعدوا وتوافقوا ألا يتفاوروا حتي يخصب الناس!". (6) ولا يخفي علينا أنه كانت تكون في عكاظ" وقائع مرة بعد مرة" (7).


1- 2 بلوغ الأرب 163: 2.
2- 3 مجلة المشرق- السنة 84: 35.
3- 4 رسائل الجاحظ: 102- بلوغ الأرب 301: 1- 305.
4- 5 طبقات ابن سعد 235: 1.
5- 6 مثير العزم الساكن في فضائل البقاع والأماكن لأبن الجوزي، كراس الخامس عشر.
6- 7 الأغاني 37: 11.
7- 8 بلوغ الأرب 368: 1.

ص: 114

وكانت هذه السوق تقوم في العرب يومئذ مقام الجريدة الرسمية في أيامنا هذه وقد تقدم آنفاً شي ء من ذلك في أمر الجوار وأخبار الحروب.

وخير ما يعطيناصورة واضحة عن عكاظ أن نعرض لأهم الأحداث التي جرت فيها، فنتمثل بوساطتها أحوال العرب في هذه السوق الكبري، في بيعهم وشرائهم وتخاصمهم وتفاخرهم وحربهم وسلمهم.

واشد ما يثير الاستغراب، هذا الشبه الكبير بين عكاظ ومعارض هذا العصر، بل إن عكاظ لأوسع مدي فيما يعرض، فإنه لا يقتصر علي مواد التجارة والصناعة بل يتعداهما إلي الأدب والشعر والحرب والسلم والعادات..... فإذا أنا أفضت في وصف عكاظ وما فيها، فان ذلك إفاضة في وصف سائر أسواق العرب أيضاً. فليس فيهن سوق تساميها. وما جري في عكاظ جري قريب منه في بقية الأسواق مع مراعاةصغرها واقتصارها احياناً علي اهل ناحية واحدة، فليكن تاريخ عكاظ إذاً تاريخاً لكل اسواق العرب، وتاريخاً لكثير من عاداتهم الاجتماعية أيضاً.

الموقع الجغرافي لعكاظ:

عكاظ نخل في واد بين مكة والطائف علي مرحلتين من مكة ومرحلة من الطائف، وموقعها جنوب مكة إلي الشرق. هذا زبدة ما يستخلص من تعاريفهم المتضاربة في عكاظ (1). وتقوم السوق في مكان منه يعرف بالأثيداء فيه مياه ونخل، وهو مستوٍ لا علم فيه ولا جبل إلا مكان من الأنصاب التي كانت لأهل الجاهلية، وبها من دماء البدن كالأرحاء العظام (2). كانوا يطوفون حولصخور فيها، وربما كان ذلك شعيرة من شعائرهم فقد ذكروا أنهم كانوا يحجّون إليها وبالأثيداء كانت أيام الفِجار.

والظاهر أن ما يطلق عليه (عكاظ) في الأرض متسع فسيح فيه حرار وفيه أرضون مسقية ذات نخيل. ولا شك أن أرضاً اتسعت بعض اجزائها لمعارك عدة أرض فسيحة واسعة، وبذلك نفهم كيف كانت السوق تتنقل في عكاظ فلا تلازم بقعة واحدة لاتحيد عنها يميناً ولا شمالًا علي مدي السنين المتطاولة.

وهي وما جوارها ديار قيس عيلان وهوازن منهم خاصة.

معني عكاظ:

أما اشتقاق عكاظ، ولِمَ سميت بهذا الاسم؟ فقد ذهب اللغويون فيه مذاهب، قلبوا الكلمة علي معانيها المختلفة: فالقهر والحبس وردّ الفخر والتجادل والتحاج..... كل هذه معان للعكظ وكلهاصالحة لأن يعلل بها التسمية فيقول قوم: سميت عكاظ لأن العرب كانت تجتمع فيها فيعكظ بعضهم بعضاً في المفاخرة أي يقهره ويعركه، وقال آخرون إنها من تعكّظ القوم إذا تحبّسوا لينظروا في أمورهم، وذهب غيرهم إلي انها من التعاكظ بمعني التفاخر.


1- 9 من حسن الحظ أن ذهب فتحري موضعها بنفسه باحث عربي فوصفه لنا. وهو السيد خير الدين الزركلي الشاعر في كتابه ما رأيت وما سمعتص 79. قال:" علي مرحلتين من مكة الذاهب إلي الطائف في طريق السيل يميل قاصد عكاظ نحو اليمين، قيسير نحو نصف ساعة فأذا هو أمام نهر في باحة واسعة الجوانب يسمونها القانس- بالكاف المعقودة وهي موضع سوق عكاظ.
2- 10 معجم ما استعجم للكبري: 660- ومراصد الأطلاع وياقوت الحموي.

ص: 115

مواعيد عكاظ:

تقوم هذه السوق في ذي القعدة، وللعلماء بعدُ خلاف في تعيين أيامها من هذا الشهر، فالمرزوقي يجعلها تبدأ من نصفه حتي آخره، وآخرون يجعلون وقتها في شوال (1) إلّا أن الأكثرين علي أنها تبدأ من أول ذي القعدة، وتستمر حتي العشرين منه إذ تبدأ سوق مجنة فيرتحل إليها الناس وهي أقرب من مكة، فإذا أهل ذو الحجة أنقشع الناس إلي مجنة إلي ذي المجاز قرب عرفه وبقوا فيها حتي يوم التروية فيبدأ الحج.

ويمكن جمع الأقوال المتقدمة بأن عكاظ قد تحفل بالناس في شوال ويتم تقاطرهم إليها في ذي القعدة: الزمن الرسمي للسوق وحين تذهب جماعاتهم إلي مجنة في العشرين من ذي القعدة يتخلف كثير ممن لم يكن أنهي بيعه وشراءَه، فلا يخلوا السوق تماماً إلا في غرة ذي الحجة عند اقتراب الحج (2).

وخلال هذه الأيام في عكاظ يتهي ء العرب للحج ويتبايعون ويتناشدون ويتفاخرون ويتقارعون ويتنافرون ويتعاظمون.

ولم يكن هناك مجمع للعرب أحفل من عكاظ، فكانوا يضربون بكثرة اهلها المثل، وبقيت لها هذه الشهرة بعد الإِسلام، فقد جاء في الأمالي: أن عبد الرحمن بن ملجم قاتل علي بن أبي طالب (عليه السلام) لما سئل عن قتله علياً قال:" ضربته ضربة لو كانت بأهل عكاظ لقتلهم" (3). وكان يقوم بأمر الحكومة عامة فيها بنو تميم (4). كانت الحكومة في الشعر للنابغة الذبياني.

ثانياً- سوق مجنة:

مجنّة موضع وقيل بلد قرب مكة علي أميال منها، تقع بمر الظهران، قرب جبل يقال له الأصفر وهو أسفل مكة علي قدر بريد منها، ميمها بالفتح وتكسر (5). والظاهر أنها من المواطن التي لا ينساها أهل مكة لبعض جمال فيها ولأنها ذات مياه، فقد جاء في كتب السيرة: أن بلالًا لما هاجر إلي المدينة واصيب بالحمي، تشوّق إلي مكة ومواطنها وتغنّي بقوله:-

ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلةً بفخٍ [بواد] وحولي إذخر وجليلُ؟

وهل أردن يوماً مياه مجنّة؟ وهل يبدون لي شامةٌ وطفيل (6)؟ هذه السوق لكنانة وأرضها من أرض كنانة، تقوم في الشعر الأواخر من ذي القعدة ويقصدها العرب بقضهم و قضيضهم بعد أن تنقض سوق عكاظ، يتممّون فيها ما قصدوا له من تجارة وفداء وتفاخر..... علي شبه التفصيل المتقدم في عكاظ، ويجلب إليها ما يجلب إلي تلك من متاع وعروض، ولم تكن الخمرة لتقل فيها شأناً عن بقية الأسواق فقد كانت تحمل إليها مِن معادنها من الشام، ومن بصري وغزة حتيصار يشيد بذكرها الشعراء، قال أبو ذؤيب الهذلي:

سلافة راح ضمنتها إداوة مقيّرة رِدف لمؤخرة الرحل


1- 11 ذكره الياقوت.
2- 12 هناك من نقول: أن لعكاظ غير تلك السوق السنوية التي تجتمع بها القبائل، لها أيضاً سوق أسبوعية تقوم كل يوم أحد للبيع والشراء.. أنظر مدينة العرب في الجاهلية والإسلام لرشدي: 59.
3- 13 الأمالي 256: 2.
4- 14 كتاب المحبر: 182.
5- 15 لقد جاء في تاج العروس المجنة كثيرة الجن، وفي الصحاح ذات الجن.
6- 16 اخبار مكة اللازرقي: 131.

ص: 116

تزودها من أهل بُصري وغزةٍ علي جسرةٍ مرفوعة الذيل والكفل

فوافي بها عُسفان ثم أتي بها " مجنة" تصفو في القلال ولاتغلي ومجنة وعكاظ وذو المجاز تستوي في نظر المحرمين من العرب وتتمتع منهم جميعاً باحترام واحد حتي إن بعظهم لا يردها إلا محرماً.

قال الأزرقي:

" كانت قريش وغيرها من العرب تقول:" لا تحضروا سوق عكاظ ومجنة وذي المجاز إلا محرمين بالحج، وكانوا يعظّمون أن يأتوا شيئاً من المحارم أو يعدو بعضهم علي بعض في الأشهر الحرم وفي الحرم" (1).

ومجنة- وإن قرنت في أغلب الأحيان مع عكاظ وذي المجاز- دون هاتين السوقين شأناً حتي إن المرزوقي لم يذكرها مستقلة كما ذكر غيرها بل أكفي بقوله:" وزاد بعضهم في الأسواق المجنة وهو قريب من ذي المجاز".

ثالثاً:- سوق ذي المجاز:

لهم في تحديدها قولان:

الأول: أنها علي فرسخ من عرفة بناحية كبكب، وكبكب جبل بعرفات خلف ظهر الإِمام إذا وقف. ذكره ياقوت وغيره وهو أحد قولين نقلهما الزبيدي.

والثاني: أنها موضع بمني، ومني بين مكة وعرفات في نصف الطريق تقريباً، والذين نقلوا الأول أكثر عدداً وإن كان القول الثاني أدني إلي القبول. وسمّي ذا المجاز لأن إجازة الحاج كانت منه، ولعل السوق أحياناً تمتد، أو ينتقل الناس فيها: يقتربون ويتعدون حتي تشتغل هذه المسافة.

وذو المجاز من ديار هذيل، هم أهلها وجيرانها الأدنون.

يكثر ورود ذي المجاز في شعر العرب ولاسيما شعراء هذيل، لأنها من اسواقهم الكبري، ومن المواسم أيضاً، قال أبو ذؤيب الهذلي:

وراج بها من ذي المجاز عشية يبادر أولي السابقات إلي الحبل وقال الليثي:

للغانيات بذي المجاز رسوم في بطن مكة عهدهن قديم أما التي ذكرها الحارث بن حلّزة في معلقته:

واذكروا حلف ذي المجاز وما قدم فيه العهود والكفلاء

فالغالب أنها التي في شمال الجزيرة، لأن مقام قبيلته والأحداث بينها وبين غيرها كانت هناك.


1- 17 أخبار مكة: 132.

ص: 117

إذا انقشع الناس عن مجنّة حين يهّل ذو الحجة، ساروا بأجمعهم إلي هذه السوق، وأقاموا بها حتي اليوم الثامن من ذي الحجة، وهو يوم التروية، سمي بذلك لأنهم كانوا يرتوون فيه من الماء ويملؤون أوعيتهم لما بعده إذ لاماء بعرفه. وإلي هذه السوق تتقاطر وفود الحجاج من سائر العرب ممن شهد الأسواق قبلها، أو لم يشهدها وأتي للحج خاصة، إذ إنّ ذا المجاز من مواسم الحج عندهم.

تحفل ذو المجاز لوقوعها أيام الحج بجموع العرب وتجارتهم وأشرافهم، وهي تلي عكاظ في الشأن، ويجري فيها ما يجري في هذه من تبايع وتناشد وتفاخر وفداء أسري وطلب ثأر... إلي آخره، يقصدهاصاحب الثأر ليعرف فيها واتره، فيتربص به بعد انقضاء الشهر الحرام إن كان من المحرمين وإلا عاجله فأخذ بثأره وإليك بعض أحداثها:

روي الأصفهاني:" أن قيس بن الخطيم لم يزل يلتمس غرة من قاتل أبيه وجده في المواسم حتي ظفر بقاتل جده بذي المجاز، فلما أصابه وجده في ركب عظيم من قومه، ولم يكن معه إلّا رهط من الأوس، فخرج حتي أتي حذيفة بن بدر الفزاري فاستنجده فلم ينجده، فأتي خداش بن زهير فنهض معه ببني عامر حتي أتوا قاتل عدي (جد القيس) فإذا هو واقف علي راحته في السوق، فطعنه قيس بحربة فقتله ثم استمر. فأراده رهط الرجل فحالت بنو عامر دونه... إلي آخره".

ويروي الجاحظ أن حالف ابو الأزيهر الدوسي وكان عظيم الشأن في الأزد أبا سفيان بن حرب عظيم بني أمية، وكان بين أبي الأزيهر هذا وبني الوليد بن المغيرة محاكمة في مصاهرة. فإن أبا الأزيهر لقاعد في مقعد أبي سفيان بسوق ذي المجاز إذ جاء هشام بن الوليد فضرب عنقه في مقعده ذاك بذي المجاز وانتظر الناس أن يأخذ ابو سفيان بثأر حليفه من هشام فلم يفعل ولم يدرك به عقلًا ولا قوداً من بني المغيرة، وتحدث بذلك أهل السوق من قبائل العرب وراجت في الناس حتي عيروا بها أبا سفيان وحتي قال حسان بن ثابت فيها:

غدا أهل حضني ذي المجاز بسحرة وجار ابن حرب لا يروح ولا يغدوا

كساك هشام بن الوليد ثيابه فأبل وأخلق مثلها جدداً بعدُ (1) هذه الأسواق الثلاث: عكاظ ومجنّة وذو المجاز التي كانت تقوم في أيام الحج ويؤمها العرب قاطبة من كل حدب وصوب، شهدت إلي جانب مناظر البيع والشراء، والمفاخرة والانشاد، مشهداً من أفظع مشاهد الجفاء والتنكر والأذي لصاحب الشريعة الاسلامية محمد (صلّي الله عليه وآله وسلم) وابتلعت تلك الأسواق بضجيجها وما كانت تعجّ به من حوادث،صوت الدعوة الإِسلامية فيما ابتلعت من دعوات، وغابصوتصاحبها في ذلك الرغاء والصخب والزحام، فلقد مكث الرسول (صلّي الله عليه وآله وسلم) بمكة مستخفياً ثلاث سنين ثم اعلن في الرابعة ودعا الناس إلي الإِسلام عشر سنين يوافي فيهن المواسم كل عام، يتبع الحاج في منازلهم بعكاظ ومجنة وذي المجاز يدعوهم أن يمنعوه حتي يبلغ رسالات به، فلا يجد أحداً ينصره أو يجبيه، حتي إنه ليسأل عن القبائل ومنازلها قبيلة قبيلة فيردّون عليه أقبح الرد ويؤذونه ويقولون له،" قومك أعلم بك" (2).


1- 18 رسائل الجاحظ جمع السندوبي: 76 بتصرف يسير.
2- 19 شرح المواهب 309: 1- تهذيب تايخ ابن عساكر ج 415: 4.

ص: 118

كان قاصد هذه الأسواق أيام الحج، موزّع السمع بين داع إلي ثأر وناشد ضالة، ومنشد قصيدة، وخطيب، وعارض بضاعة، وحامل مال لفك أسير، وقاصد شريف لإِجازة أو حمالة، وداع إلي عصيبة، وآمر بمنكر... فيجد شيئاً معروفاً قد ألفه منذ عقل وأبصرالدنيا. لكنه بعد عام الفيل بثلاث واربعين سنة يجد أمراً لم يألفه قط، ولا سمع بمثله: رجلًا كهلًا وضيئاً عليه سمات الوقار والخير، يسأل عن منازل القبائل قبيلة قبيلة: هذه بنو عامر بنصعصعة، وهذه محارب وتلك فزارة، والرابعة غسان، وهناك مرة وحنيفة، وسليم وعبس، وهنا بنو نصر وكندة، وكعب وعذرة، وهؤلاء الحارث بن كعب وأولئك الحضارمة... إلي آخره.

يؤم منازل كل قبيلة، ويقصد إلي شريفها يدعوه بالرفق إلي الله، وفعل الخير، فيتجهم له هذا، ويعبس ذاك، ويجبهه ذلك ويحقره آخر..... فيلقي من الصد ألواناً يضيق ببعضهاصدر الحليم. فلا يؤيسه ما لقي، ولا يكفه ما أوذي، فيمضي متّئداً حزيناً إلي قبيلة أخري وشريف آخر يعرض نفسه عليهم ويقول:" هل من رجل يحملني إلي قومه فإن قريشاً قد منعوني أن أبلّغ كلام ربي" فلا يجد مجيباً، حتي تدارك الله نبيه بوفد الأنصار.

هذا ما حفظته لنا كتب السير والأدب من مشاهد مؤثرة، فرأينا أن تلك الأسواق لم تخل من دعوة إلي الخير، فقد تردد في أجوائها الصوت الضعيف الخافت، يطلب حماية واجابة. ولئنصدف عنه الناس وازوروا في اسواق الجاهلية. لقد ملأ هذا الصوت فيما بعد ما بين المشرق والمغرب، وطبّق الخافقين بآثاره التي بثها في العالمين رحمة وعدلًا وعلماً وانسانية وسعادة ومُثلًا عليا. وما زال يستجيب لهذا الصوت كل يوم، افواج من أمم الحضارة والعرفان، في آسيا وأروبا وأمريكاصدّ عنه قديماً أحلاف البادين، وهرع إليه اليوم زمرُ المتحضرين من كل عالم ومخترع ومصلح وأديب وسياسي، ومفكر يستضي ء بعلمه وفكره الملايين من الخلائق.

فلنأخذ من هذه الأسواق العبرة، ولنحتفظ بهذا الدرس، فإن الحق مهما بدا ضعيفاً وبدا خصيمه الباطل قوياًصائلًا، لا بد من أنه ظافر في النهاية عليه. ولنعلم أن اليأس لا ينبغي أن يجد سبيلًا إلي قلب المؤمن، وأنه:-

إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون.

رابعاً: سوق دومة الجندل:

دوُمة الجندل ويقال (دوماء الجندل) كلاهما بالضم (1)، بلد يقع في نقطة متوسطة بين الشام والخليج الفارسي والمدينة، أقرب إلي المدينة من الشام والخليج الفارسي.


1- 20 ونقل بالفتح فيهاصاحب النهاية، وفي الصحاح أن أصحاب اللغة يضمون وأصحاب الحديث يفتحون.

ص: 119

وهي في غائط من الأرض طوله خمسة فراسخ وفيها حصن" مارد" المشهور وإلي غربها عين تثج فتسقي ما به من النخيل والزرع، وكانت خربة وروي ابن سعد نقلًا عن بعض أهل الحيرة في سبب بنائها:

" أن أكيدرصاحبها واخوته كانوا ينزلون دومة الحيرة، وكانوا يزورون اخوالهم من كلب فيتغربون عندهم، فإنهم لمعهم وقد خرجوا للصيد إذ رفعت لهم مدينة متهدّمة لم يبق إلا بعض حيطانها وكانت مبنية بالجندل، فأعادوا بناءها وغرسوا فيها الزيتون وغيره وسمّوها دومة الجندل تفرقةً بينها وبين دومة الحيرة" (1).

وقال ياقوت" كان فيها قديماً حصن مارد، وسميت دومة الجندل لأن حصنها مبني بالجندل وقريب منها جبلاطي ء وكانت بهذا الحصن بنو كنانة من كلب".

وكان أُكَيدر يبعث بمن يتعرض قوافل التجارة الذاهبة بين المدينة والشام ويظلم من يمرّ بهم من الضافطة (الذين يجلبون الميرة والطعام) ثم قوي شرهم حتي شاع أن في عزمهم الدنو من المدينة وكان ذلك في السنة الخامسة للهجرة، فندب رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلم) الناس، واستخلف علي المدينة، وخرج في ألف من المسلمين يسير الليل ويمكن النهار ومعه دليل من بني عذرة حتي بلغوا الجندل، فتفرقوا وألقي الرعب في قلوبهم، وأخذ من نعمهم وشاتهم ورجع ولم يلق كيداً.

والظاهر أن شرهم لم ينقطع عن تجار المدينة حتي اضطر الرسول (صلّي الله عليه وآله وسلم) أن يرسل إليهم سرية عليها عبد الرحمن بن عوف، وأوصاه حين دفع إليه اللواء بقوله:" خذه (2)، يابن عوف فاغزوا جميعاً في سبيل الله فقاتلوا من كفر بالله، لا تغلّوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليداً، فهذا عهد الله وسيرة نبيه فيكم..." وقال له:" إن استجابوا لك فتزوج بنت ملكهم".

سار عبد الرحمن حتي بلغ دومة الجندل فدعا أهلها إلي الإِسلام فأسلم رئيسهم الأصبغ بن عمرو الكلبي وأسلم معه ناس كثير من قومه وتزويج عبد الرحمن ابنته (تماضر) وبقي علي الجزية هو ومن معه.

تنزل قبائل العرب في الجاهلية هذه السوق في أول يوم من ربيع الأول للبيع والشراء وكان بيعهم فيها بيع الحصاة.

ويجاور هذه السوق من قبائل العرب قبيلتا كلب وجديلة طي ء.

وكانت كلب اكثر العرب قناً فكانوا يفتحون في هذه السوق حوانيت من شعر يجعلون فيها عبيدهم وإماءَهم. وكانوا- علي عادة بعض العرب يكرهون فيها فتياتهم علي البغاء ويأخذون لانفسهم كسب أولئك البغايا من إمائهم.

فلما كان الإِسلام وحرّم الله هذه العادة القبيحة بقوله تعالي:


1- 21 طبقات ابن سعد: 61.
2- 22 سيرة ابن هشام 443: 3.

ص: 120

ولا تكرهوا فتياتكم علي البغاء إن أردن تحصناً (1).

تنزه العرب عن هذه التجارة التي كانوا عليها في الجاهلية وتجاوز الله عما كان منهم قبل الإِسلام.

يشرف علي هذا الموسم أمراء من العرب وكان روءَساء السوق غالباً إما من كلب وإما من غسان، أي الحيين غلب خضع له الآخر، وكان مكس هذه السوق لمن يشرف عليها.

ويدور نشاط هذه السوق حتي منتصف ربيع الأول وتغص بمن يؤمها من اطراف الشام والعراق وسائر الجزيرة. وهي من الأسواق الكبري للعرب حتي إنهم ليلقون فيها سيرهم نصباً كبيراً لوعورة الطريق والتعرض للأخطار وفقدان الأمن. ولا يحملهم علي ذلك كله إلا ما تغريهم به هذه السوق من ربح وفائدة. ثم تفتر هذه السوق بحركتها وتأخذ بالاضمحلال حتي آخر الشهر، إذ يفترق أهلها وموعدهم إليها في القابل من شهر ربيع الأول (2).

خامساً: سوق نطاة خيبر

خيبر قرية شمالي المدينة، بينها وبين تبوك. وهي عدة حصون لليهود وفيها مياه ومزارع. ونطاة اسم حصن بها واسم عين أيضاً، وقيل هي خيبر نفسها. وحول القرية نخيل كثير يسقي بعين فيها والبلدة وبئة معروفة في العرب بحمّاها.

أهلها يهود استوطنوا الحجاز منذ القديم واشتغلوا بالزراعة والتجارة (3).

ونظراً لوقوع هذه القرية علي الطرق التجارية الكبري بين اليمن والشام أسهم أهلها بتجارة الجزيرة، وكانت إحدي محطات القوافل التجارية في سفرها إلي الشام. ونجح أهلها في متاجرهم حتي أفادوا منها غنيً واسعاً واستفاضت لهم ثروات طائلة ونشأت فيهم رؤوس الأموال الضخمة. ولا نعبد إذا قلنا: إن خيبر مصرف الجزيرة المالي. ولما فتحها الرسول (صلّي الله عليه وآله وسلم)صالح أهلها علي الشطر من الثمر والحب. ويذكر أصحاب السيرة غنائم خيبر وما وجدوا فيها من كنوز، فيذكرون أموالًا جمة ودنيا عريضة. بني اليهود فيها حصوناً عديدة جعلوا فيها أموالهم ومسيرتهم من طعام وحب وتمر. وهم في الجملة أهل بأس وشكيمة قاوموا كثيراً قبل أن يفتح المسلمون حصونهم، ثم غلبوا علي أمرهم فافتتح المسلمون حصن ناعم ثم القموص ثم حصن الصعب ابن معاذ وهو اعظم حصونها غناء وأكثرها طعاماً وودكاً، ثم الوطيح، ثم السلالم ثم الشق. وكان في الغنائم ذهب كثير وفضة كثيرة، فجعل الصحابة يتبادلونها حتي نهي الرسول (صلّي الله عليه وآله وسلم) أن يبتاع الذهب بالذهب والفضة بالفضة. وبين تلك الحصون حصن الشق وحصن نطاة وحصن الكتيبة. ولكل حصن خازن يخبئ الأموال لأهله، وكان كنانة بن الربيع عنده كنز بني النضير فلما أسر سئل عنه فانكر فاهتدي الفاتحون إليه فوجدوا أموالًا طائلة.


1- 23 النور: 33.
2- 24 الأزمنة والأمكنة 161: 2.
3- 25 اسواق العرب- الأفغاني: 356.

ص: 121

اتسعت تجارات اليهود في خيبر وغيرها حتي استطاع الرجل الواحد منهم كأبي رافع الخيبري أن يسيّر قوافل تجارية لحسابه إلي الشام. وهم الذين نشروا في الجزيرة التعامل بالربا وأثروا ضخماً. وكلما مرت عيرلقريش أو لطيمة من لطائم النعمان قامت لها سوق في خيبر. وقد جعل المرزوقي زمنها بعد زمن سوق ذي المجاز، أي بعد أشهر الحج وقبل أن تبتدئ سوق حجر.

التقييم الاقتصادي لمكة والمدينة:

كان المسلمون يجهزون العير إلي الشام- كما في الجاهلية- فتذهب بأموالهم ومتاعهم فتباع هناك ثم تحمل إلي الحجاز فتأتي المدينة، وكانوا يستقبلونها بالطبل والتصفيق فرحاً بها، فذكر المفسرون أن دحية بن خليفة الكلبي رجع مرة بتجارة زيت وطعام من الشام والنبي (صلّي الله عليه وآله وسلم) يخطب يوم الجمعة علي منبر مسجد المدينة فاستقبلها الناس كعادتهم بالفرح والطبول والتصفيق، وخشي المصلون أن يسبقوا إلي العير فيفوتهم الربح فتركوا الرسول يخطب وبادروا إليها في البقيع ولم يبق مع الرسول إلّا إثنا عشر رجلًا فأنزل الله تعالي في ذلك:

وإذا رأوا تجارةً أو لهواً انفضوا إليها وتركوك قائماً (1).

وفي القرآن الكريم إشارة إلي فاصل تاريخي في حياة مكة التجارية، وذلك حين نزل قول الله تعالي: يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا، وإن خفتم عيلةً فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء إن الله عليم حكيم (2).

فلما حرم دخول مكة علي المشركين سنة تسع للهجرة خشي الناس الفقر بسبب انقطاع تجارة المشركين عنهم في المواسم، فوعدهم الله بغني عن غير طريق التجارة، فكان العوض- علي ما ذكر المفسرون- في المغانم والفتوح العاجلة.

وكان لا بد من أن تدخل أحوال العرب التجارية ولاسيما في مكة والمدينة في طور جديد، فاهتم الاسلام بأمر تجارتها وشرع لهم فيها ما يحتاجون إليه، وطفح الحديث الشريف بأحكام البيع والشراء والاحتكار والديون والربا.... إلي آخره... وعني الخلفاء بعد الرسول عناية خاصة بالتجارة بعد أن هدأت مشاغل الفتوح أيام أبي بكر وعمر وعثمان، ولنلاحظ أن الفتوح نفسها لم تكن لتخلوا من الاتجار حتي عمال الخليفة أنفسهم، وهذا خير ما يفسر لنا حرص القوم علي حرفتهم ومن حسن الاتفاق أن الخلفاء الثلاثة الأولين كانوا تجاراً، فأبوا بكر وعثمان كانا بزازين، وعمر تجر في الجاهلية استغني في غزة، وكان مُبرطشاً (يكتري للناس الإِبل والحمير ويأخذ عليه جُعلًا) (3).


1- 26 الجمعة: 11.
2- 27 التوبة: 28.
3- 28 انظر مادة برطش في تاج العروس.

ص: 122

أما أمير المؤمنين (عليه السلام) فلم نعرف أنه تجر وقد ظهر الإِسلام وهوصبي، ومع هذا فقد كان أمير المؤمنين (عليه السلام) علي علم من التجارة واحوالها لانها مهنة قومه، ولما ولي الخلافة لم يكن يجهل خطر التجارة وقيمتها، ومن الطريف حقاً أن ننقل بهذه المناسبة مرسوماً أصدره إلي عامله الأشتر في التجار والصناع، فإنه يدّل علي احاطته باسرار التجارة وأخلاق التجار ويعلمنا من جهة ثانية منزلة هذه الطبقة من بين بقية الطبقات وما كان يعلق عليها من مهام، قال:

ثم استوص بالتجار وذوي الصناعات وأوصِ بهم خيراً، المقيم منهم والمضطرب بماله والمترفق ببدنه، فإنهم مواد المنافع واسباب المرافق وجلا بها من المباعد والمطارح، في برك وبحرك وسهلك وجبلك، وحيث لا يلتئم الناس لمواضعها ولا يجترؤون عليها فانهم سلم لا تخاف بائقته وصلح لا تُخشي غائلته.... إلي آخر) (1).

ولنا أن نستأنس بشي ء آخر له خطره في الدلالة علي ما شغلت التجارة من حياة العرب وأفكارهم واهتمامهم، وذلك هو اللغة والأشعار والأمثال، فإنها تكشف لنا إلي حد بعيد ما كان عليه القوم من عادات واحوال: وأول ما نلاحظ في هذا الباب غني اللغة بالألفاظ التي تتعلق بالأسفار، وما إليها من حط وترحال ونزول علي الماء، ووصف لدواب السفر وضروب سيرها، ولسنا مبالغين اذا قلنا: إن أكثر القصائد في الجاهلية والإِسلام يفتتحهاصاحبها بذكر رحلته، وما لاقي فيها هو وراحلته من التعب والشقاء، والضيق والعطش والجوع، عدا ما هناك من ألفاظ كثيرة تتعلق بالبيع والشراء والصفقة الرابحة والخاسرة.

وأما الأمثال التي تتعلق بأمورهم التجارية وأحوالهم فيها فكثيرة وإليك طائفة منها تمثل لنا شيئاً من تجارتهم واحوالهم في أسفارهم:

عند الصباح يحمد القوم السُري- لا تدرك الراحة إلّا بالتعب- قتل أرضاً عالمها وقتلت أرض جاهلها- أن ترد الماء بماء أكيس- لا يرحل رحلك من ليس معك- إن يدم أظلُك (2) فقد نقب- وإن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقي... إلي آخره (3).

هذا مجمل ما أردت أن أعرض له، في بيان اهتمام العرب في التجارة، ولم اقصد فيه إلي شي ء من التطويل، وإنما نريد التأكيد علي اسواق العرب في مكة والمدينة ولما لها من أهمية بالغة في حياة العرب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفكرية والسياسية آنذاك.


1- 29 نهج البلاغة.
2- 30 الأظل: ما تحت منسم البعير- والمعني: أشكو من مثل ما تشكو.
3- 31 الذي يجد في سيره حتي ينقطع أخيراً عن أصحابه في السفر.

ص: 123

دعوة إبراهيم و إسماعيل عند رفع القواعد من البيت

ص: 124

دعوة إبراهيم و إسماعيل عند رفع القواعد من البيت

تأليف: سامي البدري

1- من القرآن الكريم:

1. الإمامة الهادية بأمر الله بعد إبراهيم.

2. إمامة إبراهيم في ذرية إسماعيل و إسحاق.

3. إسحاق والهداة من ذريته نافلة.

4. إسماعيل والهداة من ذريته هم الأصل.

5. الامة المسلمة والنبي المبعوث فيها من ذرية إسماعيل.

2- من التوراة

1. إثنا عشر رئيساً من ذرية إسماعيل.

2. هل يخلو النص التوراتي من ذكر محمد (صلّي الله عليه وآله وسلم).

3. خطأ اليهود في تفسير النص.

4. حديث النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلم): الأئمة من بعدي إثنا عشر.

5. نتيجة البحث.

أ- من القرآن:

1: شروط الإمامة الهادية بأمر الله بعد إبراهيم:

قال تعالي: ووهبنا له إسحق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب 27/ 29.

إن أول ذرية إبراهيم هو إسماعيل فقد بُشرّ به قبل أن يُبشّر بإسحق ويعقوب كما في قوله تعالي:

فبشرناه بغلام حليم. فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أري في المنام أني أذبحك فانظر ماذا تري قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين. فلما أسلما وتلَّه للجبين. وناديناه ان يا ابرهيم. قدصدّقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين. إنّ هذا لهو البلاء المبين. وفديناه بذبح عظيم. وتركنا عليه في الآخرين. سلامٌ علي إبراهيم. كذلك نجزي المحسنين. إنّه من عبادنا المؤمنين. وبشّرناه بإسحق نبيا من الصالحين. وباركنا عليه وعلي إسحق ومن ذريتهما محسنٌ وظالم لنفسه مبين 101- 113/ 37.

قوله تعالي: فبشرناه بغلام حليم هو إسماعيل.

الحلم: الاناة والعقل وجمعه أحلام وحلوم، والحليم الصبور، وقد وصف الله تعالي إسماعيل بكونهصابرا بقوله: وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كلٌّ من الصابرين 85/ 21.

ص: 125

والصبر: الحبس وكل من حبس شيئا فقدصبره، والحبس ضد التخلية، والحبس: الوقف وفي الحديث ذلك حبيس في سبيل الله أي موقوف علي الغزاة يركبونه في الجهاد والحبس: الحصر (1).

أقول: وقوله تعالي: وسيدا وحصورا أي حابسا نفسه علي طاعة الله وكذلك قوله تعالي: فبشرناه بغلام حليم أي بغلامصبور أي حبس نفسه علي طاعة الله.

قوله تعالي: فلما بلغ معه السعي أي أدرك معه العمل أي أطاق أن يعينه علي عمله (2) ومن ثمَّ عاونه علي بناء البيت كما في قوله تعالي: وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل 127/ 2.

قوله تعالي: إن هذا لهو البلاء العظيم البلاء: الاختبار، وابتلاه الله: امتحنه (3).

قال تعالي:

وإذ ابتلي إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين 124/ 2.

قوله: فاتمهن أي وفي بهن كما في قوله تعالي: وإبراهيم الذي وفَّي 37/ 53 وفي اللغة وفي: تَمَّ، وأوفي: أتم (4).

قوله تعالي: لا ينال عهدي الظالمين أي أني لا أعهد لظالم من ذريتك بالإِمامة والظالم من ذرية إبراهيم هو الفاسق كما في قوله تعالي: ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون 26/ 57.

الظالم: من قولهم لزموا الطريق فلم يظلموه أي لم يعدلوا عنه، وقولهم أخذ في طريق فما ظلم يمينا ولا شمالا وعدل عن الطريق مال عنه (5) فالظالم المنحرف عن الاستقامة المائل عن العدل والحق.

الفاسق: من الفسق أي العصيان والخروج عن طريق الحق، والعرب تقول قد فسقت الرطبة من قشرها أي خرجت من قشرها وقوله تعالي: الا إبليس كان من الجنّ ففسق عن أمر ربه 50/ 18 أي جار ومال عن طاعته (6).

وفي قبال الظالم والفاسق، المهتد والمحسن.

المهتد: المستقيم، قال تعالي: قل ان هدي الله هو الهدي 120/ 2 أي أن الصراط الذي دعا إليه هو طريق الحق ويقال هَداه هُديً وهَدياً وهداية وهِدْية والمهدي من هداه الله إلي الحق، والهدي: الطاعة ويقال ذهب علي هِديَته أي علي قصده في الكلام، وخذ في هديتك: أي فيما كنت فيه من الحديث والعمل ولا تعدل عنه، والقصد استقامة الطريق وقوله طريق قاصد أي سهل مستقيم (7).

وقوله تعالي: وإني لغفار لمن تاب وآمن وعملصالحا ثم اهتدي 82/ 20 أي استقام.


1- 1. القرآن الكريم.
2- 2. الكتاب المقدس باللغة العربية.
3- 3. الكتاب المقدس باللغة العبرية.
4- 4. الترجمة الأرامية لأسفار التوراة المعروفة بترجوم اونقيلوس.
5- 5. الترجمة اليونانية لأسفار التوراة المعروفة ب- السبتوجنتا.
6- 6. الترجوم الفارسي.
7- 7. التوراة السامرية، أحمد حجازي، السقا.

ص: 126

المحسن: من الإِحسان أي الاستقامة وقوله تعالي: والذين اتبعوهم بإحسان 100/ 9 أي باستقامة وسلوك الطريق الذي درج السابقون عليه (1) وقوله تعالي: ومن يسلم وجهه إلي الله وهو محسن 22/ 31 أي وهو مستقيم.

إن قوله تعالي: لا ينال عهدي الظالمين ليس إشارة إلي كلّ الظالمين الفاسقين في قبال كل المحسنين المهتدين سواء كانوا من ذرية إبراهيم أو لم يكونوا وذلك لان إمامة الهدي والاضطلاع بعب ء الرسالة وحفظها ونشرها جعله الله تعالي في ذرية إبراهيم وعقبه كما في قوله تعالي وجعلها كلمة باقية في عقبه 28/ 43. وقوله تعالي: وجعل في ذريته النبوة والكتاب إنَّ جعل الكتاب في ذرية إبراهيم يراد به توريثهم علومه ومسؤولية حفظه وبيانه وهذه المسؤولية علي نوعين:

الأول: مسؤولية خاصة بأشخاص معينين من قبل الله تعالي وهؤلاء قد يكونون أنبياء وقد لا يكونون، ولكنهم علي كل حال لا بد من أن يكونوا مطهرين وهؤلاء لا يكونون إلا من ذرية إبراهيم.

الثاني: مسؤولية عامة من دون عهد إلهي خاص للشخص. القائم بحفظ الرسالة وبيانها وهذه لا تختص بذرية إبراهيم.

والإِمامة المذكورة في قوله تعالي: إني جاعلك للناس إماما هي الإِمامة المذكورة في قوله تعالي: ولقد آتينا موسي الكتاب فلا تكن في مرية من لقائه وجعلناه هدي لبني إسرائيل وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لماصبروا وكانوا بآياتنا يوقنون 23، 24/ 32 ولم يكن كل هؤلاء الأئمة الهادين بأمر الله تعالي أنبياء ولكنهم كلهم معيّنون من الله تعالي بأسمائهم أورثهم العلم بكتابه واعلن عن طهارتهم وعصمتهم بواسطة من سبقهم من الأنبياء.

لقد وضع القرآن الكريم أساسا واضحا للإِمامة الهادية بأمر الله بعد إبرهيم سواء كانوا أنبياء أو لم يكونوا، وقد تمثل هذا الأساس بكون الامام الهادي بأمر الله لا بدّ من أن يكون إبراهيميا أولا أي من نسل إبراهيم.

ثم لا بدّ فيه من أن يكون متبعاً لملة إبراهيم اتباعا يجعله مع إبراهيم خطّاً واحدا لا اختلاف فيه، وحالة واحدة لا تفاوت فيها، قوامها التسليم التام لأمر الله تعالي: وان هذه امتكم أمة واحدة ذرية بعضها من بعض وهذا هو الأساس الثاني، وإليه يشير قوله تعالي علي لسان إبراهيم واجنبني وبني ان نعبد الأصنام. رب إنهن اضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم 35/ 36/ 14.


1- 8. الترجمة الفارسية الحديثة للكتاب المقدس.

ص: 127

وقوله تعالي: فمن تبعني فإنه منّي لا يريد منه الإِشارة إلي قاعدة عامة تتناول كل اتباع إبراهيم من ذريته وغيرهم وإن كانت هذه القاعدة في نفسهاصحيحة، ولكن عموم الاتباع حين يقال إنهم من إبراهيم فالمراد به أنهم منه من جهة الإِيمان والولاء المترتب عليه المشار إليه في قوله تعالي: المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض بل تشير الآية إلي اتباع إبراهيم من ذريته بقرينةصدر الآية وهو دعاء إبراهيم لبنيه دون عموم اتباعه وليس لعموم بنيه، بل لخصوص ورثة إمامته منهم، فالآية ترسي الشرط الثاني لوارث إمامة إبراهيم وهو كون هذا الوارث متبعا لابراهيم اتباعا يجعل منه مع إبراهيم خطا رساليا واحدا فقوله: فإنه منّي لا يريد النسب إذ كلَّ بنيه منه نسباً. سواء المهتدي منهم أو الضال وإنما يريد جهة التسليم التام لأمر الله تعالي.

وهناك أساس ثالث يشير إليه القرآن الكريم وهو أن يكون هذا الإِمام الابراهيمي الهادي بأمر الله معهودا إليه من الله تعالي بواسطة إبراهيم سواء كان نبياً أو لم يكن قال تعالي: ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين. إذ قال له ربه اسلم قال اسلمت لرب العالمين ووصّي بها إبراهيم بنيه ويعقوبُ يا بَنيّ إن الله اصطفي لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون 130- 132/ 2.

قوله تعالي: ملة إبراهيم أي دين إبراهيم وطريقته وسيرته وسنته (1).

قوله تعالي: الا من سفه نفسه أي حمل نفسه علي السفه.

السَّفَه والسَّفاه والسفاهة: خِفة الحِلم وقيل نقيض الحلم ويقال سَفِه فلانٌ رأيه إذا جهله وكان رأيه مضطربا لا استقامة له، وهومن قولهم تسفهت الرياح أي اضطربت وتسفَّهت الريح الغصون: حركتها واستخفتها ومنه قول خلف بن إسحق البهراني:

بعثنا النواعج تحت الرحال تسافه اشداقها في اللجم فإنه أراد أنها تترامي بلغامها يمنة ويسرة (2).

واللغام زبد أفواه الإِبل (3).

أقول: لما كان السفه نقيض الحلم والحلم كما مر علينا هو الصبر والثبات علي الطاعة وحبس النفس عليها يكون السفيه المشار إليه في قوله تعالي: سفه نفسه معناه الذي حمل نفسه علي المعصية كما في قوله تعاالي: وأنه كان يقول سفيهنا علي الله شططا 4/ 72 وسفيه الجن هو إبليس الذي فسق عن أمر ربه.

فالسفيه من ذرية إبراهيم هو الذي ترك ملة إبراهيم (عليه السلام) وأخذ يمينا وشمالا واتبع هواه: أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضلّه اللهُ علي علم...


1- 9. الكتاب المقدس باللغة السريانية الغربية.
2- 10. الكتاب المقدس باللغة السريانية الشرقية.
3- 11. الكتاب المقدس الترجمة الانجليزية اليهودية.

ص: 128

والحليم من ذرية إبراهيم الذي اتبع إبراهيم وصبر عليها ولو كان بذبح النفس كاسماعيل الذي سلم لإِبراهيم في ذبحه.

قوله تعالي: ووصي بها إبراهيم بنيه ويعقوبُ. أي ووصي بها إبراهيم بنيه وكذلك وصّي بها يعقوب بنيه.

الوصية: العهد (1).

بها أي بالملة.

بنيه هم إسماعيل وإسحق ويعقوب (2) وكانوا أنبياء وأئمة كما في قوله تعالي: ونجيناه ولوطا إلي الأرض التي باركنا فيها للعالمين. ووهبنا له إسحق ويعقوب نافلة وكلّا جعلناصالحين وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين 71- 73/ 21.

بنو يعقوب الذين كانت إليهم وصية يعقوب هم الأسباط المذكورون في قوله تعالي: أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هوداً أو نصاري... 140/ 2 وقوله تعالي: قولوا آمنا بالله وما أُنزل الينا وما أنزل إلي إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط 136/ 2 وهم يوسف والأئمة من ولده، وليسوا كل اخوة يوسف.

إن إسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط أوصياء لابراهيم في حفظ (الملة) والموت علي التسليم لأمر الله في شأنها، وعلي الرغم من شهادة القرآن لهم بأنهم كانوا عابدين لله، فاعلين للخيرات، يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، وأنهم أوحي إليهم، سواء مباشرة أو بواسطة الملائكة، علي الرغم من ذلك كان لا بد من العهد الإِلهي والوصية بواسطة إبراهيم لجميعهم، ومن بعضهم للبعض الآخر ليكونوا أئمة بعد إبراهيم، كما هو الحال في إبراهيم نفسه، فققد كان نبيا رسولا ولم يكن إماما حتي عهد الله إليه بالإِمامة بعد الابتلاء.

وهكذا تتلخص إمامنا ثلاثة شروط في الإِمام الهادي بأمر الله تعالي بعد إبراهيم هي:

أولا: أن يكون من ذرية إبراهيم: وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب وجعلها كلمة باقية في عقبه.

ثانياً: أن يكون مجتنبا لعبادة الأصنام ومنها عبادة الهوي أي أن يكون متبعا لملة إبراهيم اتباعا يجعله مع إبراهيم في حالة واحدة وامتداد واحد يتصف بالإِسلام الذي كان لإِبراهيم نفسه: فمن تبعني فإنه مني وبعبارة أخري أن يكون محسنا مهتديا طاهرا.

ثالثا: الوصية والعهد من الله تعالي لشخصه بواسطة إبراهيم حتي ولو كان ذلك الشخص المصطفي من ذرية إبراهيم نبيا كإسحق ويعقوب.

2: إمامة إبراهيم في ذرية إسماعيل وإسحق:


1- 12. الكتاب المقدس الترجمة الانجليزية النصرانية.
2- 13. لسان العرب، ابن منظور.

ص: 129

قال الله تعالي حاكيا عن إبراهيم (عليه السلام): الحمد لله الذي وهب لي علي الكبر إسماعيل وإسحق إن ربي لسميع الدعاء 39/ 14.

وقال تعاالي: وباركنا عليه وعلي إسحق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين 113/ 37.

والآيتان تفيدان أنَّ عقب إبراهيم من إسماعيل وإسحق.

قوله تعالي: وباركنا عليه وعلي إسحق الضمير في كلمة (عليه) يعود إلي إسماعيل.

والبركة علي إسماعيل وإسحق هي جعل كل منهما نبيا رسولا إماما يهدي بأمر الله تعالي.

قوله تعالي: ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين تفيد وجود متبع لملة إبراهيم في ذرية كل منهما حابس نفسه عليها، اصطفاه الله واستخلصه لنفسه وجعله إماما يهدي بأمره.

3: إسحق والهداة من ذريته نافلة:

ولد لاسحق ولدان هما يعقوب وعيسو ولقب ب- (ادوم) وكانا توأما (1) واصطفي الله تعالي يعقوب دون أخيه وجعله نبيا وإماما وجعل في ذريته النبوة والكتاب.

قال تعالي: ونجيناه ولوطا إلي الأرض التي باركنا فيها للعالمين. ووهبنا له إسحق ويعقوب نافلة وكلّا جعلناصالِحين. وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات واقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين 71- 73/ 21.

قوله تعالي: ووهبنا له إسحق ويعقوب نافلة.

النافلة والنفل: ما كان زيادة علي الأصل (2) وصلاة النافلة في قبالصلاة الفريضة، وكذلك كل عبادة مستحبة منصوم وحج قبال الحج الواجب والصوم الواجب.

ويفهم من قوله تعالي: وامرأته قائمة فضحكت فبشَّرناها بإسحق ومن وراء إسحق يعقوب 71/ 11 أن البشري كانت بهما سوية وعلي هذا فإنهما قد وهبا معا لابراهيم نافلة أي زيادة علي الأصل، وكل الأنبياء وأئمة الهدي من ذرية يعقوب تشملهمصفة النافلة في قبال الأصل.

فما هو الأصل الموهب لإِبراهيم (عليه السلام)؟

4: إسماعيل والهداة من ذريته هم الأصل:

من الثابت قرآنيا وتوراتيا أن الموهوب لابراهيم أوّلا هو إسماعيل، ثم الأمة المسلمة والنبيّ المبعوث فيها كوعد إلهي ولمن يُخلف الله وعده وقد ورد هذا الوعد في القرآن بصيغة الدعاء من إبراهيم وإسماعيل، وفي التوراة بصيغة إجابة الدعاء، وبذلك يكون الأصل هو إسماعيل والهداة من ذريته أي أن الله تعالي جعل إمامة إبراهيم في إسماعيل، ثم في اْلأُمّة المسلمة من ذريته والنبيّ المبعوث فيهم وذلك بموجب قوله تعالي: إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين وقوله تعالي حاكيا دعاء إبراهيم وإسماعيل عند رفع القواعد من البيت:. .. ومن ذريتنا أمة مسلمة لك... ربنا وابعث فيهم رسولا منهم... وفرض علي الناس الأخذ بذلك والاعتقاد به ولا بد أنها قد ذكرت في الصحف النازلة علي إبراهيم شأنها شأن كتب الله في ذكر طرف مهمة من أخبار الأنبياء السابقين والموعود بهم ثم بُيِّنت من قبل إبراهيم نفسه ونحن نذكر أولا النص القرآني ومن بعده النص التوراتي. كما يلي:


1- 14. قاموس قوجمان عبري عربي.
2- 15. قاموس جزينوس عبري انجليزي: HSIGNE DNA WERBH A DLO EHT FO NOCIXEL .TNEMASTET SUINESEG .W

ص: 130

5: الأُمة المسلمة والنبيّ المبعوث من ذرية إسماعيل:

ذكر القرآن الامة المسلمة، والنبيّ المبعوث فيها، من ذرية إبراهيم وإسماعيل في ثلاث آيات: جاءت الآية الأولي بشكل دعاء من إبراهيم وإسماعيل، وجاءت الآية الثانية بشكل خطاب مباشرة لهم في عصر النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلم)، أما الآية الثالثة فقد جاءت في سياق الحديث عن الحاسدين لهم في عصر النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلم) أيضاً.

الآية الأولي:

قال تعالي:

وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك... ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم 127- 129/ 2.

قوله تعالي: وجعلنا مسلمين لك الإِسلام المدعو به هنا هو الاسلام بمعناه اللغوي، أي الانقياد والخضوع التام لا الاصطلاحي. والمعني وادم علينا حالة الانقياد والخضوع التام لك، وتوفنا عليها كما في دعاء يوسف بعد ان مكن الله تعالي له: توفّني مسلماً وألحقني بالصالحين 101/ 12.

قوله تعالي: ومن ذريتنا أمة مسلمة لك أي من ذرية إسماعيل/ إذ لم يكن إسحق مولودا ولا مبشرا به كما هو واضح من سياق الآيات (99- 113) من سورة الصافات (1) وذرية إسماعيل هي ذرية إبراهيم والإِسلام الذي وصفت به هذه الأمة هو من سنخ الاسلام الذي دعا به كل من إبراهيم وإسماعيل لنفسه، كما هو مقتضي الحال والسياق فهو غير الاسلام (2) في قوله تعالي: قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا. لكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإِيمان في قلوبكم 14/ 49 وبغير ذلك لا تكون هذه الذرية المطلوبة قرة عين لإبراهيم ولا تكون منه، إذاً فقد دعا إبراهيم بأن يرزق إسماعيل من ذريته أُمة مسلمة، كإسلام إسماعيل وإبراهيم علي ملّة إبراهيم في البراءة من الشرك، واجتناب عبادة الأصنام، فهي إذاً مشمولة بدعائه في قوله تعالي:

وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام. ربّ إنهن اضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم. ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرّم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل افئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلّهم يشكرون 35- 37/ 14.

قوله تعالي: ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويُعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم 129/ 2.

أصل الزكاة في اللغة الطهارة والنماء والبركة والمدح، وأيضاً الزكاةصفوة الشي ء والزكاء ما أخرجه الله من الثمر وزكاه الله: مدحه، وزكا الرجل نفسه إذا وصفها وأثني عليها (3).


1- 16. معجم جاسترو لألفاظ الترجوم: HSILGEN CIAMARA WERBH YRANOITCID WORTSAJ
2- 17. القاموس الآشوري بابلي واكدي انجليزي: YRANOITCID NAIRYSSA EHT 11 .LOV
3- 18. القاموس اليوناني انجليزي: YRANOITCID KEERG S'TTOCS DNA LLEDDIS

ص: 131

قوله تعالي: رسولا منهم لا يوجد خلاف علي أن الرسول المشار إليه في الآية هو خاتم الأنبياء، وبذلك تكون الآية قرينة، علي أن المراد بالأمة المسلمة، التي طلبها إبراهيم وإسماعيل من الله تعالي، هي أمة ذاتصلة مباشرة بخاتم الأنبياء، حيث يبعث فيهم لتعليمهم الكتاب والحكمة ولإعلان طهارتهم.

قوله تعالي: ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم.

أقول: قدم التعليم علي التزكية لكونهم مسلمين طاهرين طهارة الإِسلام، التي يتوقف عليها تعليم الكتاب والحكمة، أما في قوله تعالي: هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين 2/ 62، وقوله تعالي: لقد من الله علي المؤمنين إذ بعث فيهم رسولًا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين 164/ 3 فإنه قدم التزكية علي التعليم لأن هؤلاء اْلأُميين المذكورين في الآية الأولي مُشركون. وكذلك المؤمنون المذكورون في الآية الثانية كانوا من قبل في ضلال مبين وهو الشرك أيضاً، والمشركون نجس ولا تزول نجاستهم إلا بالإِسلام الاصطلاحي.

قوله تعالي: في الأميين نسبة إلي أم القري وهي مكة.

وقوله تعالي: رسولا منهم أي من أهل مكة.

وأهل مكة هم ذرية إسماعيل وهم قسمان:

الأول: اْلأُمة المسلمة التي اجتنبت عبادة الأصنام، ومن هؤلاء آباء النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلم) الذين أشار إليهم قوله تعالي: الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين 218- 219/ 26 (1)

الثاني: ذرية إبراهيم التي سفهت نفسها وانحرفت.

إنّ العلاقة التي ترسمها الآية بين الأمة المسلمة والنبيّ المبعوث فيها، هي علاقة تلاوة آيات الله عليهم، أي إنذارهم، ثم تعليمهم الكتاب والحكمة ثم إعلان طهارتهم، ومدحهم والثناء عليهم، وإخراجهم للناس ليكونوا شهداءه وقد أثني الله تعالي علي هذه الأمة بقوله: كنتم خير أمة أُخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله... 110/ 3.

الآية الثانية:

قال تعالي:

يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون. وجاهدوا في الله حقّ جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدّين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبلُ وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء علي الناس فأقيموا الصلاة واتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولي ونعم النصير 77- 78/ 22.


1- 19. قاموس السريانية الغربية.

ص: 132

قوله تعالي: هو اجتباكم أي هو اصطفاكم كما في قوله تعالي: وكذلك يجتبيك ربك أي وكذلك يصطفيك ويختارك. وفي الحديث أنه اجتباه لنفسه أي اختاره واصطفاه وهو مشتق من جبيت الشي ء إذا خلصته لنفسك (1).

قوله تعالي: وما جعل عليكم في الدين من حرج أقول: الدين هنا بمعني الطاعة.

والحرج: قال ابن الأثير: الحرج في الأصل الضيق و يقع علي الاثم والحرام (2) أي ما جعل في طاعتكم له ضيقا مهما كان أمره، حتي لو أمركم بذبح أنفسكم، أي شرحصدركم للطاعة التامة، كما في قوله تعالي: فمن يُرد الله أن يهديه يشرحصدره للإسلام ومن يُرد أن يُضله يجعلصدره ضيقا حرجا كأنما يصّعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس علي الذين لا يؤمنون 125/ 6.

قوله تعالي: ملة أبيكم إبراهيم أي دين أبيكم وطاعته حيث لم يكن منه ضيق وحرج حتي عندما أمرناه بذبح ولده اسماعيل اختباراً، والآية تشير إلي تسمية هذه اْلأُمة المسلمة والنبيّ والمبعوث فيها من ذرية إسماعيل ب- (بني إبراهيم) و (آل إبراهيم).

قوله تعالي: هو سماكم المسلمين من قبل.

ذكر المفسرون في مرجع الضمير (هو) إحتمالين: الأول الله تعالي، الثاني إبراهيم.

وقد رجع أغلبهم الاحتمال الأول، وذلك لأنهم حملوا المخاطب في قوله: يا أيها الذين آمنوا فيصدر الآية علي عموم المؤمنين، سواء كانوا من ذرية إبراهيم أو لم يكونوا، ومعه اضطروا إلي أن يقدموا تعليلا لوصف إبراهيم بأنه (أبّ للمسلمين) أي لكل المسلمين بالمعني الاصطلاحي للإسلام.

قال العلّامة الطباطبائي (ره): وإنما سمي إبراهيم أبا للمسلمين لأنه أوّل أسلم (3).

قلت: ويرد علي هذا التعليل، أن نوحاً أمره الله تعالي بالإسلام قبل إبراهيم قال تعالي حاكيا عنه: وأُمرت أن أكون من المسلمين 72/ 10. وأخبر عن إبراهيم أنه من شيعة نوح كما في قوله: وإنّ من شيعته لإبراهيم 83/ الصافات، أي أن إبراهيم كان من ذرية نوح التي سارت علي ملته وطريقته وهي الإِسلام، وقال عن إبراهيم (عليه السلام): ومن يرغب عن ملّة إبراهيم الا من سفه نفسه... إذ قال له ربُّه أسلم قال أسلمت لرب العالمين 130- 131/ 2.

ونحن نرجح الاحتمال الثاني، وهو أن يكون مرجع الضمير إبراهيم فتكون الآية إشارة إلي دعاء إبراهيم المشار إليه في قوله تعالي: وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل... ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أُمّة مسلمة لك... ربَّنا وابعث فيهم رسولًا منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم... 127- 129/ 2. والإِسلام في كلا الموردين هو الإِسلام بمعناه اللغوي دون الاصطلاحي، ويحمل المخاطب في قوله: يا أيها الذين آمنوا علي إرادة خصوص الذين جعلهم الله شهداء علي الناس من ذرية إبراهيم بعد خاتم الأنبياء، دون كلّ المؤمنين به من ذرية إبراهيم، ولا عموم من أسلم بالمعني الاصطلاحي.


1- 20. قاموس السريانية الشرقية.
2- 21. معجم اللغة الفارسية.
3- 22. القاموس الهيروغليفي هيروغليفي انجليزي. CIHPY LGOREIH NAITPYGE EHT EGDUB .YRANOITCID

ص: 133

قوله تعالي: وفي هذا.

قال اغلب المفسرين: المراد به وفي القرآن، وذلك إنسجاماً مع إرجاعهم الضمير (هو) إلي الله تعالي. وقد تبين لنا أن الصحيح هو رجوع الضمير إلي إبراهيم، وحينئذ لا وجه للمعني الذي ذكروه.

ونحن نري أن المراد ب- (هذا) هنا معني (ذلك) أي وفي ذلك الدعاء الإِبراهيمي الذي سماكم به مسلمين.

قال الفراء: [ (هذا) و (ذلك) يصلحان في كل كلام إذا ذكر، ثم اتبعته بأحدهما بالاخبار عنه ألا تري أنك تقول: قد قدم فلان فيقول السامع: قد بلغنا ذلك، وقد بلغنا هذا الخبر، فصلحت فيه (هذا)؛ لأنه قد قرب من جوابه فصار كالحاضر الذي نشير إليه، وصلحت فيه (ذلك) لانقضائه، والمنقضي كالغائب. وقد قال الله عزّ وجلّ: وعندهم قاصرات الطرف أتراب ثم قال: هذا ما توعدون ليوم الحساب 52- 53/ 38 وقال جلّ ذكره: وجاءت سكرة الموت بالحق ثم قال: ذلك ما كنت منه تحيد 19/ 50 فلو قيل في مثله من الكلام: في موضع (ذلك) (هذا) أو في موضع (هذا) (ذلك) لكانصوابا] (1).

قلت والنكتة واضحة في عدول القرآن عن استعمال (ذلك) في هذا المورد ومجيئه ب- (هذا) بدلا عنه وهي الاشارة إلي تحقق دعاء إبراهيم. وإذاً قوله: هو سماكم المسلمين من قبل إشارة إلي دعاء إبراهيم عند رفع القواعد من البيت، لذرية إسماعيل في مكة في المستقبل البعيد جدا، (إذ بين إبراهيم حين دعا وبعثة محمد (صلّي الله عليه وآله وسلّم) ما يقرب من 2500 سنة) وقوله: وفي هذا إشاره إلي تحقق الدعاء وظهور النبيّ وأول الأمة المسلمة. وقوله: لتكونوا شهداءَ علي الناس ويكون الرسولُ عليكم شهيداً... 143/ 2 قرينة علي إرادة هذا المعني من المجي ء بلفظ (هذا) بدلا من لفظ (ذلك). فقد انتقل الحديث من ذكر دعاء إبراهيم- بأن يرزق الله إسماعيل أمة مسلمة، يبعث فيها نبيّاً يتلو عليهم آياته- إلي خطابٍ لهذه الأمة التي أخرجها الله إلي الوجود.

الآية الثالثة:

قال تعالي: ألم تر إلي الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا. أُنظر كيف يفترون علي الله الكذب وكفي به إثما مبينا. ألم تر إلي الذين أُتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجِبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدي من الذين آمنوا سبيلًا. أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيراً. أم لهم نصيب من الملك فإذاً لا يُؤتون الناس نقيراً. أم يحسدون الناس علي ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما. فمنهم مَن آمن به ومنهم مَنصدَّ عنه وكفي بجهنم سعيراً. إنّ الذين كفروا بآياتنا سوف نُصليهم ناراً كلما نضِجت جلودهم بدّلناهم جلوداً غيرها ليذقوا العذاب إنّ الله كان عزيزاً حكيماً. والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً لهم فيها أزواج مطهرة وندخلهم ظلا ظليلا. إنّ الله يأمركم أن تؤدّوا الأمانات إلي أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إنّ الله نعما يعظكم به إنّ الله كان سميعاً بصيراً. يا أَيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شي ء فردوه إلي الله والرسول ان كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلًا. أَلم تر إلي الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أُنزل إليك وما أُنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلي الطاغوت وقد أُمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلّهم ضلالا بعيداً. وإذا قيل لهم تعالوا إلي ما أنزل الله وإلي الرسول رأيت المنافقين يصدّون عنكصدوداً 49- 61/ 4.

قوله تعالي: يزكون أنفسهم أي يثنون عليها ويصفونها بالفضل علي الناس وهم اليهود والنصاري كما في قوله تعالي: وقالت اليهود والنصاري نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء... 18/ 5 وقريش أيضاً وقد كانت تسمي نفسها (آل الله) و (أهل الله) (2).


1- 23. معجم العلامات الآشورية- البابلية: EHCSINILYBAB HCSIRYSSA REGROB ELKYR ,TSILNEHCIEZ
2- 24. دروس في اللغة العبرية، ربحي كمال.

ص: 134

قوله تعالي: بل الله يزكي من يشاء بإجراء آياته الخارقة علي يديه أو بالثناء عليه وتفضيله مباشرة في كتابه أو بواسطة نبيه.

قوله تعالي: أم يحسدون الناس الحسد أن تتمني زوال نعمة المحسود إليك، وحَسَدَه يحسِدَه ويحسُدُه حَسَداً إذا تمني أن تتحول إليه نعمته وفضيلته (1).

قوله تعالي: آل إبراهيم هم الأمة المسلمة والنبيّ المبعوث فيهم.

قوله تعالي: من فضله الفضل في الآية هو إيتاء الله تعالي آل إبراهيم الكتاب والحكمة والملك العظيم، أي بعثة الرسول إليهم وتعليمهم الكتاب والحكمة؛ ليؤدوا عنه ويكونوا شهداء علي الناس، وفرض ولايتهم وطاعتهم علي الناس، أي جعلهم أئمة عليهم.

قوله تعالي: فمنهم من آمن به ومنهم منصدّ عنه أي من الناس المكيين وأهل الكتاب، وغيرهم من آمن بهذا الفضل لآل إبراهيم واتخذهم أئمة هداة، ومنهم من اعرض عنه.

قوله تعالي: يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم أولوا الأمر المقرونة طاعتهم بطاعة الله ورسوله، هم أصحاب الملك العظيم، المذكورون في الآية السابقة، وهم آل إبراهيم الشهداء علي الناس بواسطة الرسول (صلّي الله عليه وآله وسلّم). فآل إبراهيمصنفان:

الأول: النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم).

الثاني: شهداؤه علي الناس، وهم أولوا الأمر الذين قرنت طاعتهم بطاعة الله تعالي ورسوله.

ب: من التوراة:

1. اثنا عشر رئيسا من ذرية إسماعيل:

جاء في سفر التكوين 9: 17- 10 (وقال الله لابراهيم... يختن منكم كل ذكر) وفي 23: 17- 25 (فاخذ إبراهيم إسماعيل ابنه وجميع ولدان بيته وجميع المبتاعين بفضته... وختن لحم غرلتهم في ذلك اليوم عينه كما كلمه الله وكان إبراهيم ابن تسع وتسعين سنة حين ختن وكان إسماعيل ابنه ابن ثلاث عشرة سنة حين ختن).

وفي 1: 22- 2 (وحدث بعد هذه الأمور أن الله امتحن إبراهيم فقال: خذ ابنك وحيدك الذي تحبه (إسحق)، واذهب إلي أرض المريا واصعده هناك محرقة علي أحد الجبال التي أقول لك).

وفي 10: 22- 13 (... ثم مدّ إبراهيم يده وأخذ السكين لذبح ابنه فناداه ملاك الرب من السماء وقال... لا تمد يدك إلي الغلام ولا تفعل شيئاً؛ لاني الان علمت أنك خائف الله فلم تمسك ابنك وحيدك عني، فرفع إبراهيم يمينه ونظر وإذا كبش وراءه ممسكا في الغابة بقرنيه).


1- 25. المورد قاموس انجليزي عربي.

ص: 135

وفي 1: 17- 7 (ولما كان ابرام ابن تسع وتسعين سنة ظهر الرب (ملاك الرب) لابرام وقال له: أنا الله القدير سر امامي وكن كاملا، فاجعل عهدي، بيني وبينك وبين نسلك من بعدك في أجيالهم، عهداً أبدياً لأكون إلهاً لك ولنسلك من بعدك).

وفي 18: 17- 21 (وقال إبراهيم لله: ليت إسماعيل يعيش أمامك فقال الله... وأما إسماعيل فقد سمعت لك فيه (في نسخة الترجوم) سمعت دعاءك له) ها أنا أباركه وأثمره وأكثره جداً جداً (1) اثني عشر رئيساً يلد واجعله أمةً كبيرة ولكن عهدي أقيمة مع إسحق الذي تلده لك سارة في هذا الوقت في السنة الآتية).

قوله: (وجميع المبتاعين بفضته) أي المبتاعين بسكَّته وهم القبائل الذين آمنوا به، ومنهم قبائل جرهم الذين استأذنوا إبراهيم أن يسكنوا بجوار الحرم عندما نبعت زمزم.

قوله: (خذ ابنك وحيدك الذي تحبه إسحق) ابنه الوحيد هو إسماعيل حيث إن ولادة إسحق تمت في السنة الثانية من حادثة الابتلاء كما ذكر في الاصحاح 17 نفسه: الفقرة 21 فذكر اسم إسحق هنا بوصفه الذبيح من التحريفات المفضوحة للتوراة وقد تسربت إلي بعض الروايات الإِسلاميّة التي تذكر أن الذبيح إسحق وليس إسماعيل.

قوله: (ارض المريا) المريا هو جبل المروة.

قوله: (سر أمامي وكن كاملا فاجعل عهدي بيني وبينك وبين نسلك من بعدك) يقابل قوله تعالي: إني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين ولكن النص التوراتي جعل العهد في كل نسل إبراهيم وفي نص آخر جعله في كلِّ ذرية إسحق وكلاهما تحريف.

قوله: (أنا أباركه واثمره جدا جدا اثني عشر رئيسا يلد):

قوله: (جداً جداً) وفي بعض الترجمات (كثيراً جداً) أصله العبري (بماد ماد) وهو تحريف لاسم محمد (صلّي الله عليه وآله وسلّم) وسيأتي الكلام علي ذلك.

(الرئيس): سيد القوم والجمع رؤساء يقال رئيس مثل قيم بمعني رئيس، ورأس القومصار رئيسهم ومقدَّمتهم، ورأس عليهم فضلهم، ورأس كل شي ء أعلاه، ورأس النهر والوادي أعلاه، وسحابة مرائس ورائس متقدمة السحاب، وفي التهذيب سحابة رائسة وهي التي تقدَّم السحاب وهي الروائس (2).

وجملة (اثني عشر رئيسا يلد) ترجمة للأصل العبري ولفظه (شنيم عسر نسئيم يولد) وعبارة (شنيم عسر) تعني (اثني عشر).


1- 26. تاريخ اللغات السامية، أ. ولفنسون.
2- 27. نبوة محمد في الكتاب المقدس، عبد الأحد داود ترجمة فهمي شمّا.

ص: 136

ولفظة (نسئيم) جمع ومفردها (ناسي) وهي بمعني رئيس دولة. ورئيس الجمع الديني، وقائد، وزعيم، وأيضا تأتي بمعني سام، عال، محترم، موقر، عظيم، وأصلها من (ناسي) () بمعني: رفع ومنها (نسّي) بمعني: مرتفع، محترم، موقر.

وفي النسخة الأرامية التي تسمي ب- (ترجوم اونقيلونس) ترجم الأحبار لفظة (نسئيم) إلي (ربربين) وهي جمع ومفردها (ربربا) بمعني رجل عظيم، رئيس، زعيم، من الفعل (ربرب) بمعني رفع، عظم.

ويرادفها أيضاً (ربان) بمعني رئيس، معلم الشريعة (ولقب للعالم) وجمعها (ربانيم) (وتلفظ في العربية ربانيين) والأصل لكليهما معا هو لفظة (راب) ومعناها واحد في العبرية والأرامية وتعني رئيس، عظيم، كبير (1).

وفي النسخة السريانية الغربية (روربنين) بمعني أمراء، اشراف، رؤساء، عظماء (2).

وفي النسخة السريانية الشرقية (ميرا) بمعني أمراء وسادة (3).

وفي الترجوم الفارسي المكتوب بالخط العبري (مهتران) أي رؤساء وقادة (4).

وفي النسخة الفارسية الحديثة بالخط العربي (رئيس) ولكنهم لما ترجموا الفقرة 6: 23 وفيها وصف إبراهيم بأنه (نسئ) جاءوا بلفظة (سرور) أي رئيس، قائد، زعيم، إمام (5).

وفي النسخ العربية التي نقل عنها علماء المسلمين كالشيخ المفيد (ت- 413) وابن كثير (6) (ت- 774) (اثني عشر عظيما) و (العظيم) في العربية الذي له حرمة عند الناس يعظم لها و (عظمات القوم) سادتهم وذو شرفهم (7).

وفي النسخة السبعينية المعروفة ب- (السبتوجنتا) (اثني عشر امة) واللفظ اليوناني (دوديكا اثني) ولفظة اثني جمع ومفردها (ايثنوس) وتعني بالأغريقية (8):

1. جماعة من الناس تعودوا علي الحياة معاً.

2. حشد من الناس، أو الحيوانات، ثم اكتسب اللفظ بعد هو ميروس معني الأمة، الناس، وفي العهد الجديد أراد ب- (الأمم) كل الناس ما عدا اليهود والنصاري.

3.صنف خاص متميز من الناس أو الرجال (طبقة)، (قبيلة، عمارة).

أقول: والترجمة تحريف لمعني النص الأصلي، إذا كان المراد من (الأمة) القبيلة والعمارة حيث أراد المترجمون منه الاحبار والرهبان تفسير الفقرة موضع البحث (17: 20) بما ورد في سفر التكوين الاصحاح 13: 25 من ذكر أسماء أولاد إسماعيل الاثني عشر وإن كل واحد منهمصار قبيلة تمشيا مع أولاد يعقوب الاثني عشر حيثصار كل واحد منهم عشيرة سميت باسمه.


1- 28. المسائل السروية، الشيخ المفيد.
2- 29. البداية والنهاية، ابن كثير.
3- 30. نبوءة محمد في الكتاب المقدس، السقا.
4- 31. أنيس الأعلام في نصرة الاسلام.
5- 32. منقول الرضائي.
6- 33. شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد.
7- 34. الاستيعاب، ابن عبد البر القرطبي.
8- 35. سيرة ابن إسحق تحقيق سهيل زكار.

ص: 137

والذي نحتمله جدا أن لفظة (اثينوس) الإِغريقية أصلها (ادون) العبرية (1) وتعني: السيد، القيم، المولي، الأمر، الزوج والرب (2)، ولذلك تطلق علي الله تعالي وعلي النبيّ والملك وشيخ القبيلة والزوج والأستاذ.

وفي ضوء ذلك يكون معني العبارة (اثني عشر اثينوس) أي اثني عشر سيدا، قيما، آمرا، فتكون الترجمة عندئذصحيحة ودقيقة جدا ومتطابقة مع الاستعمال القرآني للفظة (امة) بمعني الإِمام، القيم، في قوله تعالي: إن إبراهيم كان أُمّةً قانتاً لله... 120/ 16 أي كان اماماً، قيماً، رئيساً، قانتا لله تعالي كما مرّ بحثه في الفصل الأول تحت لفظة إمام.

وفي النسخ الانجليزية المعاصرة ترجمت عبارة (اثني عشر نسئيم) في بعضها إلي ( (SRELUR EVLEWT وتعني (اثني عشر حاكما) ولفظة (رولر) ( (RELUR اسم فاعل وأصلها (رول) ( (ELUR وتعني القانون والدستور، الحكم والسلطة، المسطرة والمقياس، يوجه، يهدي، يحكم، يأمر (3).

وفي بعضها الآخر ترجمت إلي ( (SECNIRP EVLEWT أي (اثني عشر ملكا، أميرا) (4).

ولنعد إلي اللفظ العبري (ناسي) فإنها قد وردت في التوراة العبرية وصفا لإِبراهيم كما في سفر التكوين 5: 23- 6 قال له بنوحث لما أراد أن يشتري مقبرة منهم لدفن سارة زوجته قالوا له (اسمعنا يا سيدي أنت رئيس من الله بيننا) في أفضل قبورنا أدفن ميتك واللفظ العبري لما بين القوسين (شماعينو ادوني نسئ ايلوهيم اتا).

ومن الواضح أن مقام الرئاسة والإِمامة لابراهيم لم يكن له في بداية حياته الرسالية ولا حينما كان في المنفي، بل كان له في أخريات أيامه، والذي يذكره القرآن الكريم لإِبراهيم في أخريات أيامه هو (إمامة الناس) التي جعلها الله له، إذن الفقرة التوراتية (أنت رئيس من الله بيننا) يقابلها في التعبير القرآني إني جاعلك للناس إماما.

وفي ضوء ذلك تكون بركة الله لإِسماعيل ب- (اثني عشر رئيسا) يراد بها (اثني عشر رئيسا من الله) أي (اثني عشر إماما هاديا بأمر الله) وذلك لأنصاحب الوعد بهم هو الله تعالي وصاحب الطلب من الله تعالي هو إبراهيم، وإبراهيم لا يري في ولده قرة عين إلا إذا كان مستحقا للإِمامة الهادية التي تتقوم بصفة الاسلام بمعناه اللغوي أي التسليم التام لله تعالي كما لا يري لاسماعيل قرة عين من ولده إلّا إذا كانوا كذلك: ربّنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما 74/ 25.


1- 36. سيرة ابن هشام تحقيق الابياري والسقا.
2- 37. كشف الحق للشيخ رحمة الله الكيرانوي.
3- 38. الميزان في تفسير القرآن.
4- 39. الدر المنثور للسيوطي.

ص: 138

فالرئاسة لهؤلاء الاثني عشر من ذرية إسماعيل الموعود بهم هي (رئاسة الهية)، أي بعهد منه تعالي لأشخاصهم كما عهد لابراهيم وتعبير (العهد) ورد في القرآن في قوله تعالي: قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين وفي التوراة أيضا في قوله (واجعل عهدي بيني وبينك وبين نسلك من بعدك) ولكن النص القرآني أكثر دقة حيث نصّ علي أن عهد الله تعالي بالإِمامة لا ينال ظالما من ذرية إبراهيم، بينما التعبير التوراتي لم يورد هذا القيد، وجعل العبارة مطلقة، ولكنه في مورد آخر خصصها بذرية إسحق دون إسماعيل حسدا وبغضا للنبي وآله كما أشار قوله تعالي: أم يحسدون الناس علي ما آتاهم اللهُ من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم مُلكاً عظيماً 54/ 4 والملك العظيم هو الإِمامة كما في قوله تعالي: أَلم تر إلي الملإِ من بني إسرائيل من بعد موسي إذ قالوا لنبيّ لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله.... وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا... ان الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء... 246- 247/ 2.

2. هل يخلو النصُّ التوراتي من ذكر محمّد (صلّي الله عليه وآله وسلّم) حقّاً؟

النصّ التوراتي موضوع الدراسة يذكر أنّ الله تعالي بارك إسماعيل وثمّره وكثّره (جدّاً جدّاً اثني عشر رئيساً يلد)، إجابةً لدعاء إبراهيم. ولكنه لم يذكر ما هو دعاء إبراهيم، وقد ذكره القرآن الكريم علي لسان إبراهيم وإسماعيل وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم. ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك.... ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويُزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم وفي ضوء ذلك يكون النص التوراتي محرفا باسقاط ذكر النبي (صلّي الله عليه وآله) منه.

وقد ذكر علماء اليهود الذين أسلموا (1)أن لفظة (جداً جداً) وأصلها العبري (بمادماد) تدل علي اسم النبيّ الآتي من إسماعيل بحساب الجمل، وكلمة (محمد) (صلّي الله عليه وآله وسلّم) بحساب الجمل عددها (92) وكلمة (بمادماد) بحساب الجمل تساوي (92).

وحساب الجمل هو حساب الاعداد للحروف الهجائية في اللغة العبرانية في هذه الكلمات: (ابجد- هوز- حطي- كلمن- سعفص- قرشت)، والألف بواحد والباء باثنين والجيم بثلاثة والدال بأربعة والهاء بخمسة والواو بستة والزاي بسبعة والحاء بثمانية والطاء بتسعة والياء بعشرة والكاف بعشرين واللام بثلاثين والميم بأربعين والنون بخمسين والسين بستين والعين بسبعين والفاء بثمانين والصاد بتسعين والقاف بمائة والراء بمائتين والشين بثلاثمائة والتاء بأربعمائة والحروف تنتهي عند التاء (2).

ونقل علي بن عيسي الأربلي (3) أنه حكي له بعض اليهود أن (بمادماد) معناه ب- (محمد).

أقول وفي العبرية يوجد (ماحماد) و (ماحمود) (4) كصيغتين لاسم الفاعل واسم المفعول للفعل (حمد) ومعناهما (المرغوب فيه جدا، المحبوب، الحبيب،...) (5).

وفي ضوئه تكون الكلمة الأصلية في النص هي (بماحماد) أو (بماحمود) ولا تحتاج لتحريفها إلي (بمادماد) أكثر من إسقاط الجناح الأيسر لحرف الحاء العبري () ليكون حرف الدال العبري ().


1- 40.صحيح البخاري.
2- 41. أعلام الوري بأعلام الهدي للطبرسي.
3- 42.صحيح مسلم.
4- 43. معالم المدرستين للعسكري.
5- 44. معاني القرآن للفراء.

ص: 139

وفي ضوئه أيضاً يكون النص الأصلي هو:

(أما إسماعيل فقد (أجبت دعاءك له) (45) ها أنا أباركه وأثمره وأكثره ب- (محمد واثني عشر إماما سيولدون له).

3. خطأ اليهود في تفسير النص:

فسرّ علماء اليهود (46) وتابعهم علماء النصاري علي ذلك/ الفقرة 17: 20 بالفقرات 12- 25: 16 وهي سفر التكوين وهي (وهذه هي أسماء بني إسماعيل حسب مواليدهم نبايوت بكر إسماعيل وقيدار وأدبيل ومبسام ومشماع أسماؤهم بديارهم وحصونهم، اثنا عشر رئيسا حسب قبائلهم) (47).

ولكن واقع حال القبائل الإِسماعيلية قبل بعثة النبيّ لا يوجد فيه ما يشعر بأنهم كانوا بركة إسماعيل، وهي بركة عظيمة جدا كما ذكرها النصّ (أما إسماعيل... فها أنا أباركه وأثمره وأكثره كثيرا جدا اثني عشر رئيسا يلد واجعله أمة كبيرة) ولم يرد هذا الوصف لاسحق، نعم ورد لإِبراهيم (عليه السلام) وأكثرك كثيراً جداً) 2: 17 (وأكثرك كثيراً جداً واجعلك أمما. وملوكٌ منك يخرجون) 6: 17 ثم حرفوا النص بقولهم: ان هذا العهد والبركة جعلها الله في إسحق، وكانت بركة إسحق أَن جعل الله في ذريته أنبياء وأئمة هدي، فلا بد من أن تكون بركة إسماعيل العظيمة كذلك، مضافاً إلي كونها الأصل المرهوب لإِبراهيم وبركة وإسحق ويعقوب نافلة.

4. حديث النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم): الأئمة من بعدي اثنا عشر:

رأينا فيما مضي أن نسخ التوراة كلها العبرية والسامرية والأرامية، والسريانية الغربية، والسريانية الشرقية واليونانية، والأرامية الفارسية والفارسية الحديثة، والعربية والانجليزية، ذكرت العدد (اثني عشر رئيساً) في بركة الله لإِسماعيل. ولكن القرآن لم يذكر العدد نعم ذكره النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) في حديثه الذي روته كتب الحديث لدي السنة والشيعة.

جاء فيصحيح البخاري (48) عن جابر بن سمرة أن النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) قال لا يزال الدين قائما حتي تقوم الساعة أو يكون عليكم (إثنا عشر أميراً كلهم من قريش) وفي رواية مسلم فيصحيحة (49) (اثنا عشر خليفة).

ص: 140

وفي رواية فتح الباري (لا تضرهم عداوة من عاداهم).

وفي رواية كنز العمال (يكون لهذه الأمة اثنا عشر قيّماً لا يضرهم من خذلهم كلّهم من قريش).

وقد اتّفقت الروايات علي ذكر عبارة (كلهم من قريش) و (قريش) هو لقب لأحد أجداد النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) وهو فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان من ذرية إسماعيل بن إبراهيم، وقد اتفقت علي هذا النسب لفهر كل كتب الانساب ولم يخالف أحد في ذلك (50).

وقد حار علماء السنة في بيان المقصود من الاثني عشر في الروايات التي رووها وسلموا بها، فذكروا الخلفاء الأربعة وعدداً من خلفاء بني أمية وعدداً من خلفاء بني العباس (51).

أما الإِمام علي (عليه السلام) فقد بين أن الائمة من قريش قد غرسوا في (هاشم) وهاشم هو ابن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر وهو قريش قال (عليه السلام):

(إن الائمة من قريش غرسوا في هذا البطن من هاشم) (52).

وسيأتي البحث لاثبات ذلك من القرآن الكريم أيضا إن شاء الله.

5. نتيجة البحث:

والذي نخلص إليه من البحث هو أن قوله تعالي: وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك... ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم يقابله في التوراة الفقرة (1) من الاصحاح (2) من سفر التكوين وهي بعد تصحيح النص (أما إسماعيل فقد أجبت دعاءك له ها أنا أُباركه وأكثره ب- محمد واثني عشر إماما، سيولدون له).

وان هذه الأمة المسلمة من ذرية إسماعيل والنبي المبعوث فيها ومنها قد أورثهم الله إمامة إبرهيم فيصلب أبيهم إسماعيل وذلك قبل أن يولد إسحق. يعقوب ويبشر بهما وبالأئمة والأنبياء من ذرية يعقوب.

وإن هؤلاء الاثني عشر إماما من ذرية إسماعيل هم من قريش (فهر) ثم من هاشم.

وإنهم يكونون بعد النبي (صلّي الله عليه وآله وسلّم) كما ثبتت الرواية عنه (صلّي الله عليه وآله وسلّم) ان الائمة من بعده اثنا عشر لاا تضرهم عداوة من عاداهم.

وان هؤلاء الاثني عشر شهداؤه علي الناس يؤدون عنه ما حملهم إياه من علوم الكتاب والسنة بعهد الهي خاص وسيأتي تفصيل ذلك من القرآن الكريم إن شاء الله.


1- 20. قاموس السريانية الشرقية.
2- 17. القاموس الآشوري بابلي واكدي انجليزي: YRANOITCID NAIRYSSA EHT 11 .LOV

ص: 141

ص: 142

الاهداف الاجتماعيّة للحجّ الابراهيمي

ص: 143

الأهداف الاجتماعيّة للحجّ الإبراهيمي

تأليف: عبدالجبار شرارة

إنّ الحجّ الذي جعله الله فريضةً من أعظم الفرائض بقوله تعالي: ولله علي الناس حِجُّ البيت من استطاع إليه سبيلًا آل عمران/ 97.

وأوجبها في أيامٍ معدودات معلومات. ترمي في حقيقتها وواقعها إلي أهدافٍ كبيرة، تتصل في جانبٍ أساسيٍ منها باْلأُمة المسلمة كياناً وقياماً وحضارةً. وإذا كان الجانب العبادي الصِرف في هذه الفريضة متجليّاً في المناسك المعروفة، فإنّ هذه المناسك التي تُؤدي في الحج تنبي ء أيضاً بالجانب الإِجتماعي وبالأهداف العظيمة المتوخاة منها. ونستطيع أن نتبين هذه الأهداف ونحددها في ضوء ماورد في شأن الحجّ من الآيات المباركة والروايات المتضافرة، وما حُفّ به الحجّ، كما في لسان بعض الروايات، من تأكيدات وصلت إلي الحدّ الذي يقول فيه الإِمام (عليه السلام):" لو عطل الناسُ الحجَّ لوجب علي الإِمام أن يجبرهم علي الحج..." (1).

ولعل من أهم تلك الأهداف والوظائف التي يمكن أن يؤديها الحجُّ بالنسبة إلي المسلمين هي:

أولًا: إدخال الأمة المسلمة في تجربة التوحيد والوحدة، أي بصورة فعلية وليس من خلال مجرد الدعوة والحثّ علي ذلك.

وفلسفة هذا الأمر؛ أنّ الشرك الخفي يمكن أن يتسرب إلي النفوس (2)، وأنّ دواعي الفرقة والاختلاف متوافرة دائماً، ولذا فلا بدّ من زرق الأفراد بالمضاد الحيوي، ولا بدّ من نفيٍ لتلك الدواعي. ومناسك الحج من أقوي عناصر الضد والنفي. فالإِحرام حيث الكلُّ بلباسٍ واحد، والتلبية حيث الكلُّ بنداءٍ سماوي واحدٍ" لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك، إنّ الحمدَ والنعمةَ لك والملك لا شريك لك..." ثم السعي والطواف والأفاضة. كلّ تلك الشعائر والمناسك، تجعل الجميع في حالة عبودية واخلاص، فتلغي بصورة عملية فوارق اللون والجنس والمذهب والانتماء والمنصب، فلا خصوصية ولا شأنية ولا إمتياز إذ الكلُ عليصعيدٍ واحدٍ عبيدٌ للهِ الواحد.

وقد نبّه الإِمام علي (عليه السلام) إلي هذا المعني قائلًا:" ألا ترون أنّ الله سبحانه اختبر الأولين من لدن آدم (ع) إلي الآخرين من هذا العالم بأحجارٍ لا تضرُّ ولا تنفع، ولا تُبصر ولاتَسمع، فجعلها بيته الحرام" الذي جعله للناس قياماً". إلي أن قال (عليه السلام): ثم أمَر آدم (ع) وَولدهَ أن يثنوا أعطافهم نحوه فصار ذُللًا يُهلِّلون للهِ حولَه، ويرملون علي أقدامهم شُعثاً غُبراً له قد نبذوا السرابيل وراء ظهورهم..." (3).


1- 1 الوسائل 24: 11 الفقيه المحدّث الشيخ محمد بن الحسن الحرّ العاملي ت 1104 ه- تحقيق مؤسسة آل البيت عليهم السلام/ قم المشرفة/ 1411 ه-.
2- 2 إشارة إلي قوله تعالي: وما يؤمن أكثرهم بالله إلّا وهم مشركون.. يوسف: 106 وراجع التنبيه علي هذا المعني، خمس رسائل/ الشيخ عبدالله جوادي آملي/ وجيزة في أسرار الحج: 129.
3- 4 نهج البلاغة/ ضبط الدكتورصبحي الصالح: 293، الخطبة رقم 192.

ص: 144

وقال (عليه السلام) في خطبة أخري:" وفرضَ عليكم حجّ بيته الحرام الذي جعله قبلةً للأنام... وجعله سبحانه علامةً لتواضعهم لعظمته، واذعانهم لعزته..." (1).

وفي مقطعٍ من خطبةِ الزهراء (عليها السلام) قالت:" وجعلَ الحجّ تشييداً للدين..." (2).

وقال العلامة الطباطبائي في بيانه المنافع الدنيوية والاخروية للحج:" وعمل الحجّ بماله من المناسك يتضمن أنواع العبادات من التوجه إلي الله وترك لذائذ الحياة وشواغل العيش والسعي إليه بتحمل المشاق والطواف حول بيته والصلاة والتضحية والإِنفاق والصيام وغير ذلك.. ثم قال: إن عمل الحجّ بماله من الأركان والأجزاء يمثل دورة كاملة مما جري علي إبراهيم (عليه السلام) في مسيرة في مراحل التوحيد ونفي الشريك وإخلاص العبودية لله سبحانه" (3).

ولعل من المناسب أن نذكر أيضاً ما استظهره الشيخ جوادي آملي من أسرار الحج قائلًا:" إنّ العبادة، أية عبادة كانت يُعتبر فيها الخلوص، قال تعالي:" ألا لله الدين الخالص"، إلا أنّ تجلي ذلك الخلوص في بعضها أظهر، وطرد الشرك في بعضها أقوي وأجلي، ومن ذلك الحجّ حيث إنّ التوحيد قد تمثّل به، وصارَ هو بأسره من البدوِ إلي الختمِ مثالًا للتوحيد وطرداً للشرك.." (4).

ثم لا ريب بعد ذلك أن تكون كلمة التوحيد، والإِخلاص للحق تعالي يقودهم إلي وحدة الكلمة، ووحدة الموقف، ووحدة الهدف.

ثانياً: التقريب بين المسلمين والتآلف بينهم:

إنّ الشريعة الاسلامية شريعة واقعية، بمعني انها وإن كانت تهدف إلي غايات سامية ومرامي بعيدة، وتضع الوسائل العملية لبلوغها، إلا أنها في عين الوقت تنظر إلي الواقع الحياتي بما هو عليه من تعقيد وبما ينطوي عليه من إشكالات، وبما يموج به من حقائق. ولذلك ونظراً لطبيعة الظروف الموضوعية التي تمرُّ بها الامة. فإنّ هدف الوحدة وإن كان مطلوباً فعلًا، إلا أنه تكتنف تحقيقهصعوبات جدية، وإذا كان موسم الحج (الأيام المعلومة والمعدودة) يمكن أن تخلق شعوراً عالياً بالوحدة والتوحّد إلا أنّ الناس عندما يتحللون من الاحرام، ويعودون إلي أوطانهم تبدأ العوامل الموضوعية تفعل فعلها ومن هنا كان الحجّ ناظراً إلي تحقيق هدف أقرب واقعية، وأيسر منالًا، ثم هو لا يقلُّ أهميةً وخطراً عن هدف الوحدة، وذلك هو هدف (التقريب بين المسلمين) من خلال تحقيق فهم مشترك، وتفهم واطلاع كلّ فريق بما عليه الفريق الآخر من أداءً لنفس المناسك وقيامٍ بنفس الأعمال، وانكشافٍ لما يدين به الجميع من توحيد الربّ تعالي، ونفي الشرك عنه، والشهادة للنبي الأكرم محمد بن عبدالله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) بالنبوة والرسالة وتعظيمه وتبجيله، وحينئذٍ سيري كلّ فريقٍ الفريق الآخر علي حقيقته، وسيجد الجميع أنفسهم أنهم يؤدون مناسك واحدة، ويقومون بتلبيةٍ واحدة، ويتوجهون إلي قبلةٍ واحدةٍ ويفيضون إفاضةً واحدة. وسيجد المسلمون


1- 5 نفس المصدر: 45 الخطبة 1.
2- 6 راجع كتاب بلاغات النساء لأحمد بن طيفور: 28 نشر انتشارات الشريف الرضي/ قم.
3- 7 الميزان/ العلامة الطباطبائي 370: 14، منشورات حوزة علمية/ قم.
4- 8 وجيزة في أسرار الحج، ضمن خمس رسائل: 156- 157، منشورات حوزة علمية/ قم.

ص: 145

أنفسهم أيضاً فيصلواتهم وقيامهم وسعيهم وطوافهم أنهم ينطقون بالشهادتين ويهتفون بنداء واحدٍ. وسيكتشف الجميع أنهم أبناء ملة واحدةٍ، وأنهم أمة من دون الناس. وأنّ دماءهم عليهم حرام وأموالهم عليهم حرام وأعراضهم عليهم حرام، كحرمة يومهم وكعبتهم (1)" كل المسلم علي المسلم حرام دمه وماله وعرضه" (2) كماصرّح بذلك أمين الله علي وحيه خاتم المرسلين نبينا محمد (صلّي الله عليه وآله وسلّم).

وعند ذاك سينكشف أمامهم زيفُ دعاوي الخصوم ودعاة التفرقة، والمروجين للأراجيف التي يطلقها الأعداء ضدَ مذاهبهم ومدارسهم الكلامية أو الفقهية.

وليس هناك أعظم من الحج مؤتمراً تُعلن فيه الحقائق، وتتبين فيه العقائد، وتتضح فيه أسباب التآلف والتقارب.

وقد أشارَ العلامة الطباطبائي إلي هذا المعني قائلًا:" فإذا اجتمعت أقوامُ وأممٌ من مختلف مناطق الأرض وأصقاعها، علي مالهم من اختلاف الأنساب والألوان والسنن والآداب، ثم تعارفوا بينهم وكلمتهم واحدة هي كلمة الحق، وإلههم واحد وهو الله عزّ اسمهُ، ووجهتهم واحدة هي الكعبة- البيت الحرام- حملهم اتحاد الأرواح علي تقارب الأشباح، ووحدة القول علي تشابه الفعل..." (3).

ثالثاً: التبادل التجاري والتعاون الاقتصادي:

لا ريب أنّ التبادل في التجارات مدعاة لنمو الثروات وزيادة الدخل ورفاه المجتمع، وأنّ تبادل الخبرات والتعاون الاقتصادي له أثره الكبير علي تقوية الأواصر، والإِسهام في سدّ احتياجات الأمة المعاشية، وربما يقود استمرار التبادل التجاري والعاون الاقتصادي إلي تحقيق التكامل الاقتصادي في الأمة والاكتفاء الذاتي، وبذلك يتحقق ما يهدف إليه الشرع الشريف من أن تكون الأمة المسلمة (أمة من دون الناس)، يسود بينها التعاضد والتعاون، وتنفتح علي الأمم وفق عهود والتزامات متقابلة.

ولقد وردت في كتب التفسير وفي الروايات ما ينبي ء بكون الحجّ يؤدي مثل هذه الوظيفة المهمة، ويحقق تلك الأهداف الكبرة.

فقد ذكر الزمخشري في الكشاف لمناسبة تفسير قوله تعالي: وأذّن في الناس بالحجّ يأتوك رِجالًا وعلي كلّ ضامرٍ يأتين من كل فجّ عميق ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسمَ الله في أيامٍ معلومات.." الحج 27- 28.

قال: نكّر المنافع- أي في الآية- لأنه أراد منافع مختصة بهذه العبادة، دينية ودنيوية لا توجد في غيرها من العبادات..." (4). وإليه ذهب أبو السعود (5). ونقل ابن كثير روايةً عن ابن عباس فسرّ فيها منافع الدنيا بما يصيبون من التجارات (6) ونقل الطبرسي (7)) عن ابن عباس وسعيد بن جبير أنّ المنافع في الآية التجارات. وأورد هذا المعني الرازي في تفسيره قال في المسألة الأولي:" أنه تعالي لما أمرَ بالحج في قوله: وأذّن في الناس بالحج ذكر. حكمة ذلك الأمر في قوله تعالي: ليشهدوا منافع لهم قال: واختلفوا فيها فبعضهم حملها علي منافع الدنيا، وهي أن يتّجروا في أيام الحج..." (8).


1- 9 إشارة إلي ما ورد عن النبيصلّي الله عليه وآله وسلّم في حجة الوداع الشهيرة، راجع نيل الأوطار/ الشوكاني 355: 5، وعقب علي قولهصلّي الله عليه وآله وسلّم:" ألا إنّ دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا" قال: مجمع عليه. وراجع مستدرك الوسائل/ النوري 149: 3.
2- 10 سنن البيهقي 92: 6، ووفي مجمع الزوائد/ الهيثمي 172: 4.
3- 11 الميزان 369: 14.
4- 12 الكشاف/ جار الله الزمخشري 152: 3- 153، طبعة دار الكتاب العربي.
5- 13 تفسير أبي السعود 104: 6، نشر دار أحياء التراث العربي.
6- 14 تفسير ابن كثير 216: 3/ نشر المكتبة التجارية بمصر.
7- 15 مجمع البيان/ الطبرسي 81: 14 نشر المكتبة العلمية- طهران.
8- 16 مفاتيح الغيب/ الفخر الرازي 26: 12، طبعة دار الكتب العلمية/ بيروت 1411 ه-.

ص: 146

وأوضحُ منهم ماصرّح به العلامة الطباطبائي في الميزان قائلًا:" وقد اطلقت المنافع ولم تتقيد بالدنيوية أو الاخروية، والمنافع نوعان: منافع دنيوية، وهي التي تتقدم بها حياة الأنسان الاجتماعية ويصفو بها العيش، وترفع بها الحوائج المتنوعة وتكمل بها النواقص المختلفة من أنواع التجارة والسياسة والولاية والتدبير وأقسام الرسوم والآداب والسنن والعادات ومختلف التعاونات والتعاضدات الاجتماعية وغيرها" (1).

وقد جاءت بعض الروايات عن أئمة اهل البيت (عليهم السلام) ولسانها يصرّح بذلك. فعن هشام بن الحكم قال:" سألت أبا عبدالله (عليه السلام) فقلت له: ما العلة التي من أجلها كلّف الله العباد الحجّ والطواف بالبيت؟ فقال: إنّ الله خلق الخلقَ... إلي أن قال: وأمرهم بما يكون من أمر الطاعة في الدين ومصلحتهم من أمر دنياهم، فجعل فيه الاجتماع من الشرق والغرب ليتعارفوا ولينزع كل قومٍ من التجارات من بلدٍ إلي بلدٍ..." (2).

ونقل في الوسائل عن العلل وعيون الأخبار بأسانيد عن الفضل بن شاذان، عن الرضا (عليه السلام)، في حديث طويل قال:" إنما امروا بالحج لعلة الوفادة إلي الله عزّوجل وطلب الزيادة والخروج من كل ما اقترب العبد تائباً مما مضي، مستأنفاً لما يستقبل مع ما فيه من إخراج الأموال وتعب الأبدان والاشتغال عن الأهل والولد، وحظر النفس عن اللذات، شاخصاً في الحر والبرد، ثابتاً علي ذلك دائماً، مع الخضوع والاستكانة والتذلل. ثم قال (عليه السلام): مع ما في ذلك لجميع الخلق من المنافع لجميع من في شرق الأرض وغربها، ومن في البرّ والبحر، ممن يحجّ، من بين تاجرٍ وجالبٍ وبائعٍ ومشترٍ..." (3).

رابعاً: جعل حركة الفرد المسلم لا تنفصل عن الأمة:

إنّ الفرد المسلم في الحج يشعر شعوراً قويّاً، ويدرك إدراكاً واضحاً أنه (فردٌ في أمة)، عليه أن يتصرف ويتخذ المواقف انطلاقاً من هذه الصفة.

وإذا كان الاسلام قد ربّي الفرد المسلم علي مثل هذا الشعور كما هو الأمر فيصلاة الجماعة، أو في الجمعة أو في العيدين، وغيرها من العبادات ذات الصفة الجماعية، فلأنه ربما لا بتأتي له مثل هذا الأمر بلحاظ أنّ بعض هذه العبادات ليست إلزامية، وبالتالي فهو يستطيع التحلل منها. ولكنّ الأمر في الحج مختلف تماماً فهو يجب أن يؤدي المناسك ضمن (الأمة) كفردٍ فيها يتحرك بحركتها، ويقف المواقف معها، ويشهد المشاعر معها، يطوف بطوافها، ويسعي معها، ويفيض معها وينحر معها، ويفعل كل أفعال الحج مع الأمة مجتمعةً.

وبذلك سيدرك الفرد المسلم أنه لا كيانَ له إلا بكيان الأمة ولا هوية لا إلا هوية الأمة المسلمة، وأنّ المسلمين ذمتهم واحدة يسعي بها أدناهم.


1- 17 الميزان/ السابق.
2- 18 الوسائل 14: 11، كتاب الحج [18 [14 124.
3- 19 الوسائل 12: 11- 13، الحديث رقم [15 [14121.

ص: 147

ومن هنا أيضاً يتحرك المسلمون- بعد وعي تلك الحقيقة- ليعلنوا الموقف الموحد إزاء الشرك والكفر (1) وهذا ما كان يهدف إليه الحج الأكبر كما نطقت به الآية المباركة: وأذانٌ من الله ورسوله إلي الناس يوم الحجّ الأكبر أنّ اللهَ بري ءٌ من المشركين ورسولُهُ.... التوبة/ 3.

وفي روايةٍ عن الامام (عليه السلام) قال:" عليكم بحج البيت فأدمنوه، فإنّ في إدمانكم الحج دفع مكاره الدنيا عنكم وأهوال يوم القيامة" (2).

ولعل من المناسب أخيراً أن نذكَر فذلكةً في المقام تقوي ما استظهرناه وبيّناه من أهداف الحجّ ووظائفه، بعد أن استندنا في ذلك إلي ظاهر الآيات والروايات وما ذهب إليه العلماء والمفسرون العظام، فنقول:

1- لقد فرض- الله تعالي- الحج في أيامٍ معدودات معلومات، وفيها يلزم أن يكون جميع الحجيج حاضري المسجد الحرام، بدءاً من عرفة بلحاظ أن (الحج عرفة) كما ورد، إلي أيام التشريق وهي يوم الأضحي، عاشر ذي الحجة وثلاثة أيام بعده كما ورد عن أهل البيت (عليهم السلام) (3) وهذا ينبئ بأنّ هذه الفريضة المباركة تؤدي مناسكها بحضور الجميع. ولو كانت هذه الفريضة ليس فيها غايات اجتماعية عظيمة لترك تأديتها إلي كلّ فردٍ في أي وقتٍ يشاء. ولكن لما كان الأمرُ في (الأيام المعلومة) (4) فلذلك ليكون الحضور عاماً، ويشهدوا المنافع المطلوبة.

2- أنّ المناسك جميعاً يجب أن تؤدي بطريقةٍ واحدةٍ، وبأسلوب واحدٍ وبأوقات واحدة، وهي كلها تصبُّ في هدفصهر الفرد واخضاعه لحركة الأجتماع البشري المتوجه إلي الله تعالي، طوافاً وسعيّاً، وهتافاً (التبية)، وحركةً ومواقف في المشاعر الحرام وهي بهذه المثابة والصورة تتحقق بها المرامي والغايات المقصودة.

عن محمد بن يعقوب عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن عمر بن اذينة قال: كتبت إلي أبي عبدالله (عليه السلام) بمسائل بعضها مع ابن بكير وبعضها مع أبي العباس فجاء الجواب بإملائه: سألت عن قول الله عزّوجلّ: ولله علي الناس حجُّ البيت من استطاع إليه سبيلًا... آل عمران/ 97. يعني: به الحجّ والعمرة جميعاً لأنهما مفروضان..، وسألته عن قول الله عزّوجلّ: وأتموا الحجَّ والعمرة لله البقرة/ 196، قال يعني بتمامهما أداءهما،، وإتقاء ما يتقي المحرم فيهما، وسألته عن قوله تعالي: الحجّ الأكبر التوبة/ 3 ما يعني بالحج الأكبر؟ قال: الحج الأكبر الوقوف بعرفة ورمي الجمار، والحج الأصغر العُمرة (5).

وجاء في الوسائل باب أنه يجب الحج علي الناس في كل عام وجوباً كفائياً: أورد محمد ين يعقوب أيضاً رواية ينتهي سندها إلي الامام موسي بن جعفر (عليه السلام) أنه قال:" إن الله عزّوجلّ فرضَ الحج علي أهل الجدة في كل عام..." (6).


1- 20 وجيزة في أسرار الحج/ الشيخ جوادي آملي 173- 174، ضمن خمس رسائل.
2- 21 ميزان الحكمة/ الري شهري/ نقله عن البحار 167: 74.
3- 22 الميزان/ الطباطبائي 371: 14.
4- 23 اختلف المفسرون في الأيام المعلومة علي أقوال، ولكنها لا تخرج عمّا ذكرهصاحب الميزان في الراجح منها، راجع: التفسير الكبير/ الرازي 26: 12 طبعة دار الكتب العلمية، بيروت. وراجع تفسير ابن كثير 216: 3. وراجع الكشاف/ الزمخشري 152: 3- 153.
5- 24 وسائل الشيعة 7: 11- 8.
6- 25 نفس المصدر 16: 11.

ص: 148

وقد وردت عدّة روايات في الوسائل، تحت باب عدم جواز تعطيل الكعبة عن الحج وفي وجوب إجبار الناس عليه (1) ومن ذلك يظهر أن الحجّ فريضة مستمرة دائمة تهدف إلي تلك الأهداف العظيمة وتحقيق المنافع الدنيوية والأخروية جميعاً.

اللهم ارزقنا حجّ بيتك الحرام في عامنا هذا وفي كلّ عام.

والحمد لله ربّ العالمين


1- 26 نفس المصدر 20: 11.

ص: 149

دور الحجّ في ترسيخ السّلام في العلاقات الاجتماعيّة

ص: 150

دور الحجّ في ترسيخ السّلام في العلاقات الاجتماعيّة

تأليف: محمّد مهدي الآصفي

أو لَم يَروا أنا جعلنا حرماً آمناً (1)

من مهام الحج تحقيق السلام في العلاقات الاجتماعية، وتوفير فرصة نموذجية للسلام في العلاقات فيما بين الناس، في فترة الإِحرام في الحج، وتوفير رقعة نموذجية من الأرض؛ لتمكين السلام في العلاقات الاجتماعية هي رقعة الحرم.

ولكي نعرف موقع السلام في هذه الرحلة، لا بد من أن نستعرض المراحل الأساسية فيها بإيجاز شديد، بالقدر الذي نستطيع أن نتعرف فيه علي مواقع السلام في هذه الرحلة الإِلهية.

الحج رحلة الأنا والذات إلي الله علي الطريقة الإِبراهيمية أو اختزال لهذه الرحلة الشاقة التي قطعها من قبل أبونا إبراهيم (عليه السلام)، علي الطريقة الرمزية التي تعتمدها فريضة الحج بصورة واضحة.

هذه الرحلة تبدأ مهمتها من الميقات، وتنتهي بطواف النساء وطواف الوداع والآن نشير بإجمال إلي الأشواط الرئيسة التي يقطعها الحاج في هذه المرحلة من الأنا إلي الله تعالي.

1- التحرر من الأنا:

تبدأ هذه الرحلة في الميقات بتجاوز الذات والأنا، ومحاولةصهر الذات والأنا في المسيرة الإِيمانية إلي الله تعالي، وهذه هي المرحلة الأولي في هذه الرحلة الإِلهية.

وتصبّ هذه الذوات- بعد انسلاخها عن الأنا، ومختصات هذا الأنا- في الحشد البشري الكبير، في الطواف حول البيت، كما تصب السواقي والأنهر الصغيرة في البحر الكبير، فلا تستطيع أن تميز- بعد ذلك- أين هي مياه هذه السواقي من البحر الكبير، وهي رحلة شاقة وذات معاني كبيرة في حياة الإِنسان، تستحق منا الكثير من التأمل والتفكير.

تبدأ هذه الرحلة من الميقات، حيث يتجرّد الإِنسان فيه من ذاته وأهوائه، وخصائصه التي تفرزه عن الآخرين وتفرده.. وتحجزه عن الانصهار في المسيرة الإلهية الحاشدة، التي لا يتمايز فيها الأفراد، ولا يحجز بعضهم عن البعض شي ءٌ من هذه النوازع، والفوارز التي تفصل الناس بعضهم عن بعض..

إنّ الميقات حدّ فاصل، بين الأنا وبين الجماعة المؤمنة. فقبل أن يدخل الحاج الميقات يعيش كما يعيش سائرُ الناس الأنا تمييزاً وتشخيصاً. وللأنا تظاهر وبروز في حياتهم، وللأنا سماته معالمه الواضحة. فإذا دخل الميقات تضاءل الأنا وخفصراخه وصوته وفقد معالمه ومميزاته، وفقد لونه وصبغته الصارخة، وهذا الانقلاب في الشخصية والموقع يتمّ في الميقات. ويرمز إلي هذا الانقلاب (لباس الإِحرام).


1- 1 العنكبوت: 67.

ص: 151

وقد قلنا: إن الحج يعبّر عن المعاني والمفاهيم التي تنطوي عليها بلغة الرمز. فعند الميقات يتجرد الحاج عن كل ملابسه وما تحمله من سمات شخصية وطبقية وقومية وإقليمية. إن لباس الإِنسان يحمل هويته ويحمل الإِشارة إلي شخصية الانسان وانتمائه القومي والاقليمي والعقدي وطبقته مهنته ودرجته في الثراء والفقر والمستوي الاجتماعي. فإذا بلغ الميقات تجرد عن ملابسه، ولبس ثياب الإِحرام إزاراً ورداءً... وكانا قطعتين من القماش، لم يستعمل فيهما الخيط، كالآخرين علي نحو سواء في غير بذبح ولا شرف ولا تمييز، وخلع عن نفسه ملابسه التي كانت تحمل هويته وتعبر عن شخصيته. إن هذه الخطوة الأولي في الميقات تعبّر عن انسلاخ الانسان عن هويته وشخصيته وأنانيته وتعبر أيضاً عن العبور علي الذات وتجاوز الأنا. وكما يجرد الميت عن ملابسه، لأن دور الأنا في حياته قد انتهي، ولم يعد للأنا حجم ولا دور ولا شكل في المرحلة الجديدة من حياته، كذلك الميقات مرحلة أخري من الحيات ضمن هذه الحياة الدنيا، يتجرد فيها الحاج عن هويته وأنانيته، وينسلخ عن ذاته ليدخل الميقات، وكان الميقات مصفاة، وأول شي ء تأخذه هذه المرحلة من الإِنسان هو ذاته، فإذا تجرد عن الأنا وانسلخ عن ذاته حق له أن يتجاوز الميقات إلي الحج، وما لم يتخلص الإِنسان عن ذاته فلا يحق له أن يتجاوز الميقات إلي لقاء الله. فإذا خلص في هذه المصفاة من ذاته اجتاز الميقات وتوجه إلي الحج.

وإن أكثر ما يثير المتاعب في حياة الناس ويعكّر العلاقة فيما بينهم هو التصادم الذي يحدث بين الذوات والأنانيات، وعندما تذوب الذات عند الانسان وتنصهر، ويخلص الانسان من طغيان الأنا، ينتهي شطر كبير من مشاكل الإِنسان، ولقاءاته السبيلة مع الآخرين، وما يستتبعه منصدام وتردي العلاقة، وحالة الأثرة والأنانية، وحب الذات، فإذا خلصت حياته من الذاتية والأنانية تمكن أن يسلم من هذه المشاكل والمتاعب التي تعجّ بها حياة الناس في المجتمع، واستطاع أن يضع حياته وعلاقاته الاجتماعية علي أسس سليمة وأن يحكم السلام في علاقاته مع الآخرين.

التجمل والترف:

وفي الميقات يختص الإنسان مع خصلة أخري من خصال الأنا، وهي خصلة ممدوحة لو كانت في الحدود المعقولة، التي لا تستأثر باهتمام الانسان كله ولا تملك إرادته ولا تحكمها، فإذا تحولت هذه الخصلة إلي خصلة حاكمة علي إرادته كانتصفة ذميمة منصفات الإِنسان، وتلك هي خصلة التجمل، فهي خصلة ممدوحة في الحدود التي تظهر علي الانسان نعم الله تعالي وفضله، فإذا تحولت إلي خاصية من خواص الذات، مهمتها إبراز الذات وإظهارها، لا إبراز نعم الله تعالي وفضله، تحولت إليصفة ذميمة منصفات الذات، وسلبته القدرة علي تحمل الشظف والسير علي طريق ذات الشوكة.

ص: 152

وفي الميقات يدخل الأنا في هذه التصفية الإِلهية، ويلزم الإِحرام التخلي- في فترة الإِحرام- عن هذه الخصلة، ويحرم عليه الطيب والتجمل، حتي بالنسبة للنساء، فيما يتجاوز الحد المألوف للمرأة في التجمل، وذلك لتمكين الإِنسان من هذه الخصلة التي تشكل حالة تظاهر للأنا، وحالة ترف تؤثر تأثيراً سلبياً علي إرادة الإِنسان، وقدرته في مواجهة متاعب الطريق، إذا لم يعمل علي تعديل وتهذيب هذه الخصلة، وإرجاعها إلي نصابها الممدوح، الذي يقره الإِسلام ويأمر به.

سلطان الهوي والشهوات:

وفي الميقات يمر الأنا بتصفية ثالثة، وهي تخليص الإِنسان من سلطان الهوي والشهوات والغرائز، وهي مسألة في غاية الدقة في الإِسلام فقد قلنا إنّ تخليص الإِنسان من سلطان الهوي والشهوات، ولم نقل من الهوي والشهوات ذلك لأن الإِسلام لا يكافح الأهواء والشهوات في نفس الإنسان، وإنما يعتبرها ضرورة من ضرورات الحياة ومن دونها تختل الحياة، وإنما الذي يكافحه الإسلام هو سلطان الهوي، والشهوات علي الإنسان وإرادته، وليست الأهواء والشهوات في حدّ ذاتها مصدراً للانحراف والسقوط في حياة الانسان، وإنما الانحراف والسقوط يأتي من ناحية سلطان الهوي علي إرادته، فإذا تمكنت الأهواء منه، وتحكمت الشهوات عليه وخضع واستسلم لها، عند ذلك فقط يتمكن الشيطان منه، ويتعرض الانسان للسقوط والانحراف. ولذلك فإن النهج الإِسلاميّ في التربية يعمل علي ترويض الأهواء والشهوات وتطويعها لارادة الإِنسان، وتمكين الإرادة منها، دون أن يكافحها ويحاربها ويستأصلها ويصادرها.

والصوم نموذج واضح لهذا المنهج التربوي. والميقات هو الآخر يقع في هذا الخط التربوي. ففي الميقات يتعرض الانسان لتصفية واسعة في (الأنا) و (الهوي)، ويمتص الميقات من نفس الانسان سلطان هاتين الخصلتين، ويسمح له بالدخول في رحاب ضيافة الله- تعالي- بعد أن يجرده من هذه النزعة الحيوانية التي تطغي علي تصرفاته وتحكم إرادته وفعله.

والهوي عندما يحكم الإِنسان يتحول إلي مصدر للشرّ في علاقاته وحياته الاجتماعية، ويسلب الأمن والسلام في حياة الناس، فليس ما بين الناس من خلاف وصراع وصدام مصدره الاختلاف في الرأي غالباً وإنما يعود السبب في نسبة كبيرة وواسعة في هذه الخلافات إلي عامل الهوي في العلاقات الاجتماعية وللإِمام الخميني (قدس سره) كلمة ذات دلالة عميقة فيما يقول قدس سره: (لو أن مئة وأربعة وعشرين ألف نبيّ عاشورا في مكان واحد لما اختلفوا فيما بينهم، لأنه لا سلطان للهوي في نفوسهم).

ص: 153

فالميقات نقطة تحول وانقلاب في حياة الإِنسان، وأهم ما في هذا الانقلاب هو إضعاف الأنا والذات، وخصال وخصائص في حياة الإِنسان. فإذا تجرد عن ذلك كان موءَهلًا للدخول في رحاب ضيافة الله في الحج.

ومن عجب أن المذاهب الفكرية المادية تؤكد عكس ذلك تعزيز الأنا وتثبيت واعتماد عنصر الاعتداد بالنفس، وتنمية حالة الغرور والعجب. بخلاف الإِسلام الذي يبني منهجه التربوي علي أصل مكافحة الأنا وإضعافها وتحجيمها، وتحويل الإِنسان من محور الأنا، إلي محور حاكمية الله تعالي وسلطانه في حياته، ويدعو الإِنسان إلي التحلل من هذا المحور والارتباط بالمحور الرباني والانصهار فيه قل إنصلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين (1).

2- الانصهار في الجماعة:

فإذا تجرد الإِنسان عن الأنا وانسلخ عن ذاته وجد نفسه فجأة في وسط حشد بشري كبير، لا يمتاز بعضهم عن بعض، ولا يكاد يفرق بينهم شي ء، يتحرك ضمن موج بشري كبير هادر، ينطلق من الميقات إلي الكعبة، كما تصب الأنهر في البحر من كل ميقات من هذه المواقيت المعروفة، التي وقّتها رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم)، تجري أنهر كثيرة من الناس تصب في الحرم حول الكعبة، فتتجمع هذه الأنهر حول البيت الذي رفع قواعده إبراهيم ومعه ابنه اسماعيل (عليهما السلام) وفي هذا التيار البشري العظيم يتضاءل عنده الإِحساس بالأنا، حتي لا تكاد تشعر به حواسه ومشاعره، فلا تري في المطاف أفراداً يتحركون، وإنما تري كتلة بشرية واحدة من الناس تطوف حول البيت العتيق.

ولو أن الحاج الذي تجرد في الميقات عن الأنا، لم يكن يصب في المطاف في الجماعة المؤمنة، لكان يضيع ويفقد مقومات وجوده وشخصيته، ولكنه لا يكاد يتجرد عن الأنا ومعالمه وحدوده حتي يصب في الجماعة الكبيرة، كما تصب قطرات الماء في النهر الكبير، ويعود في المطاف إلي لون جديد من الحياة، وإلي حياة جديدة لم يألفها من قبل بهذه القوة والفاعلية، ولم ينذوقها بهذه الصورة تموت فيه الأنا، ويبعث الله في نفسه الإحساس بالجماعة، وينتقل إلي طور جديد من الحياة أهم خصائصه غياب الفردية، وحضور الجماعة؛ ويتكرس هذا الإحساس لدي الانسان في المطاف وفي السعي، وفي الموقف في عرفات، وفي الافاضة إلي المزدلفة، وفي المزدلفة، وفي مني، وفي العودة إلي الطواف والسعي يتضاءل لدي الانسان المسلم الإحساس بالأنا، ويتأكد لديه الاحساس بالجماعة المسلمة، وبأنه عضو من جسم واحد، وليس فرداً من مجموعة انسانية، وبأن هذه الأمة كيان واحد ومصير واحد وما يصيبها من خير وشر يصيب الجميع، وبأنه وحده لا يستطيع أن يتحرك إلي الله علي خطي إبراهيم (عليه السلام)، إلا أن يذوب في هذا الحشد البشري الكبير المتجه إلي الله.


1- 2 الانعام: 162.

ص: 154

إن الناس قبل أن يتجاوزوا الميقات إلي الحرم مجموعة من الأفراد، يتمايزون فيما بينهم، ويتزايدون، ويتفاخرون، ويتجادلون، ويضر بعضهم بعضا، ويعتدي بعضهم علي بعض، وتجمعهم المجامع من المدن والضواحي والقري فتتجمع في هذه المجامع النزعات المتضاربة والأهواء المتخالفة والرغبات المتضادة، فتكون الجامع البشرية ساحة للصراع والخلاف. أمّا عندما يتجاوزون الميقات إلي الحرم، ويصبون- من خلال قنوات المواقيت التي وقّتها رسول اللهصلّي الله عليه وآله وسلّم- إلي الحرم، فإنهم يتحولون إلي أمة واحدة، ويتحركون باتجاه واحد ويلبّون دعوة واحدة ويلبسون زيّاً واحداً، ويطوفون حول كعبة واحدة، ويسعون في مسار واحد ويوءدون مناسك واحدة، لا يختلفون ولا يتجادلون، ولا يتفاخرون، ولا يتضاربون، ولا يؤذي بعضهم بعضاً، وكأنّ الحرم يصهرهم في بوتقة واحدة، ويجعل منهم كياناً جديداً يختلف عما كانوا عليه.

الحرم الآمن:

وأبرز خصائص هذا التركيب الجديد للمجتمع البشري الذي يستحدثه الحرم في حياة الناس هو الأمن، والاحساس بالأمن. إن هذا الأمن من خصائص ونتائج هذا التركيب البشري الجديد الذي يجده الناس في الحرم، وهو في نفس الوقت من أسبابه وموجباته. فإن الناس إذا شعروا بالأمن بعضهم من بعض، التقي بعضهم بعضاً دون حذر، وتعامل بعضهم من بعض، وتلاقوا، وتآلفوا، وتعاونوا. فالأمن يعد الناس ليكونوا أمة واحدة، والأمن يعطي للناس هذه الفرصة، التي تتطلبها عملية الانتقال من الحياة الفردية، التي يعيشها الناس عامة إلي هذا النمط الجديد، الذي يريده الله تعالي لعباده، والذي يرسم الحرم نموذجاً له، كما يصح العكس أيضاً، فان الأمن والإحساس بالأمن هو النتيجة الطبيعية لهذا اللون الجديد من الحياة الاجتماعية. فإن الناس عندما يحشرون في الحرم لا يختلفون ولا يتشاجرون ولا يتفاخرون ولا يتزايدون ولا يتضاربون.

الحرم رقعة نموذجية لساحة الحياة:

والله تعالي يريد أن يكون وجه الأرض كله آمنا للناس، يعيش الناس بعضهم مع بعض في أمن ودعة وسلام لا يحنق بعضهم علي بعض، ولا ينوي أحد لأحد شرا، يُؤثِر بعضهم بعضاً علي نفسه، ويحب بعضهم بعضا.

يقول تعالي فيصفة المهاجرين والأنصار في الصدر الأول من هذا الدين... والذين تبوّءُوا الدار والايمان من قبلهم يُحبون مَن هاجر إليهم، ولا يجدون فيصدورهم حاجة مما أوتوا، ويؤثرون علي أنفسهم، ولو كان بهم خصاصة، ومن يوق شحَّ نفسه، فأولئك هم المفلحون. والذين جاءُوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولاخواننا الذين سبقونا بالايمان، ولا تجعل في قلوبنا غلّا للذين آمنوا، ربنا إنك رؤوف رحيم (1). ولكن الناس يرفضون أن يعيشوا كما يريد الله تعالي لهم.


1- 3 الحشر: 9- 10.

ص: 155

فجعل الله لهم من الحرم (رقعة نموذجية) للحياة الآمنة التي يريدها للناس. بدعاء عبده وخليله إبراهيم (عليه السلام): وإذ قال إبراهيم ربّ اجعل هذا بلداً آمناً وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر (1).

هذا هو دعاء العبد الصالح إبراهيم (عليه السلام): وقد استجاب الله تعالي لدعاء عبده وخليله إبراهيم (عليه السلام) فقال: وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وامنا (2).

والمثابة: المحل الذي يرجع إليه الناس. وقد جعل الله- تعالي- البيت مثابة للناس يجمع الناس ويرجعون إليه، ويقصدونه من كل فج عميق، ثم جعله آمنا يأمن فيه الناس بعضهم من بعض، ولا يحذر فيه أحد الآخرين علي نفسه؛ يقول تعالي: أو لم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً (3)، وجعل رقعة الحرم رقعة نموذجية لساحة الحياة كلها، كما جعل الشهر الذي يتم فيه الحج (ذوالحجة) من الأشهر الحرم. يقول الله تعالي: ومن دخله كان آمن ا (4).

وحتي الجدال الذي ينطوي علي نوع من العدوان علي الآخرين يحرمه الله تعالي علي الحجاج. فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج (5).

فإن الجدال منفذ للعدوان بين الناس. وكثير من العدوان يبدأ بين الناس من الجدال الذي يسعي فيه كل من الطرفين المتجادلين إلي إثبات الذات وتجاوز الطرف الآخر.

والأمن في الحرم أمن شامل، يشمل حتي الحيوان والنبات، فلا يجوز الصيد في الحرم، ولا يجوز قطع النباتات والأشجار في منطقة الحرم إلا في حالات خاصة يذكرها الفقهاء.. وحرمة الصيد وقطع النباتات لا تخص حالة الاحرام، فإنهما تحرمان علي المحرم والمحل معاً في منطقة الاحرام. والحرم في الاسلام عينةصغيرة لساحة الحياة كلها، والذي يجب أن يعرف رأي الاسلام في الحياة؛ فإن هذه العينة الصغيرة والرقعة المحدودة من الأرض تجسد تخطيط الاسلام لساحة الحياة الواسعة، فإن العلاقة فيما بين الناس والارتباط والتلاقي هو الافراز الطبيعي للحياة الاجتماعية. فمن أجل هذه العلاقة واللقاء والتلاقي خلق الله- تعالي- الانسان اجتماعياً وأعدّه للحياة الاجتماعية. ولا يبلغ الانسان الكمال والنضج الذي أعده الله تعالي له إلا في وسط هذه العلاقات واللقاءات والتلاقي في الحياة الاجتماعية. فلو أن انساناً اعتزل الحياة وعاش وحده في جزيرة قاصية لم يبلغ بالتأكيد النضج والكمال الذي أعدّه الله- تعالي- له. وهذه اللقاءات والعلاقات إنما تثمر وتعطي وتنتج في حياة الانسان، فيما إذا توفر له الجو السليم، الأمن والسلام. أما عندما تكون هذه العلاقة في جو من الريبة والحذر، والخوف والقلق والعدوان والكيد والمكر، فإن هذه العلاقة والارتباط فيما بين الناس لا تكاد تثمر هذه الثمرة، ولا تكاد تبلغ بالانسان النضج والكمال، الذي يطلبه الانسان في الحياة الاجتماعية، من خلال هذه العلاقات واللقاءات والارتباطات، بل قد تعود العلاقة في مثل هذا الجو إلي نتائج سلبية في حياة الانسان.

فالاسلام يخطط بناءً علي هذا الفهم لضرورة العلاقة وحدودها في حياة الانسان، ليجعل العلاقة فيما بين الناس في الحياة الاجتماعية في جو آمن وسليم، فيأمن الانسان الآخرين علي نفسه في حضوره وغيبته، وفي نفسه، وعرضه، وماله، ويأمن علي نفسه من ألسنة الآخرين وأيديهم، ومن مكرهم وكيدهم وعدوانهم، فيعيش في جو من الأمن الشامل، ويبني علاقاته كلها مع الآخرين في هذا الجو الآمن، في السراء والضراء، وفي التجارة والبيع، وفي الزواج والعلاقات الاجتماعية، وفي علاقاته مع أصدقائه وزملائه، وفي علاقاته مع أعضاء أسرته، وفي ارتباطه بمن هو فوقه ومن هو دونه، وحينما يأخذ وحينما يعطي، وحينما يحتاج إلي الآخرين وحينما يحتاج إليه الآخرون...


1- 4 البقرة: 126.
2- 5 البقرة: 125.
3- 6 العنكبوت: 67.
4- 7 آل عمران: 97.
5- 8 البقرة: 197.

ص: 156

الاسلام يخطّط ويعمل؛ ليجعل العلاقة فيما بين الناس في الحياة الاجتماعية علي كل الأصعدة في جو من الأمن والسلام، لتعطي هذه العلاقة الثمرات المطلوبة منها في الحياة الاجتماعية، ويخطط الاسلام ويعمل ليجعل الحياة الاجتماعية حياة آمنة مطمئنة ليتعايش الناس فيها بسلام.

والحرم عينةصغيرة نموذجية في الحياة الآمنة والمطمئنة التي يطلبها الاسلام.. والاحرام عينة أخري نموذجية للحالة التي يطلبها الاسلام للناس في الحياة الاجتماعية، في علاقة الناس بعضهم ببعض. ويعود الحجاج من الاحرام والحرم إلي واقع حياتهم ليأخذوا معهم النموذج الإلهي للحياة وللعلاقات الاجتماعية، ويعيشوا حياتهم بها.

3- الانتقال إلي المحور الإِلهي:

وهذه هي المرحلة الثالثة، من رحلة الحج الابراهيمي.

في المرحلة الأولي يتخلص الانسان من فرديته وأنانيته وأعراض هذه الأنانية.

وفي المرحلة الثانية يصب في الحرم في الجماعة المسلمة، وينصهر في هذه الجماعة (الأمة).

وفي المرحلة الثالثة وهي الغاية الأخيرة في هذه الرحلة تصب هذه الجماعة في المطاف حول الكعبة.

والكعبة في لغة الحج الرمزية رمز للمحورية الالهية في حياة الانسان. وإذا استطاع الانسان في المرحلة الأولي من هذه الرحلة، أن يتخلص من جاذبية محور الأنانية في حياته، فإن المحور الالهي يجذبه جذباً قوياً بطبيعة الحال.

وانجذاب الانسان إلي هذا المحور، أمر طبيعي كامن في عمق فطرة الإِنسان، والأنا هو الذي يحجز الإِنسان عن هذه الجاذبية، فإذا تحرر عن حاجز الانا فان الجاذبية الإِلهية تجذبه. والطواف بعد الإِحرام رمز لذلك. فإن الاحرام من الميقات يرمز للتحرر من الأنا. والطواف حول البيت يرمز إلي الانجذاب إلي الله تعالي، والحركة حول المحور الالهي في الحياة.

وعليه فإن حركة الطواف نقلة في حياة الانسان من الأنا إلي الله تعالي. إنه تعبير رمزي عن التوحيد في حياة الانسان المسلم، إلا أن هذا التوحيد ليس هو التوحيد النظري، الذي يعرفه الناس، وإنما هو توحيد العبودية لله، وتوحيد الحب والولاء والاهتمام، كما ترسمه الآية المباركة من سورة الأنعام: قل إنصلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين. لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين (1).

إن الطواف يرمز إلي الحركة الانسانية الدائمة والمستمرة حول هذا المحور الالهي في التاريخ، وإننا لننظر من بعيد إلي حركة التاريخ، فنري أن حركة التاريخ تجسد (التوحيد) في حياة الانسان، وأن الأنبياء (عليهم السلام) وأممهم- إلا في فترات قصيرة جدّاً- يجسدون هذه الحركة البشرية الدائمة حول محور الألوهية. ولكن عندما ندخل نحن ضمن هذه الحركة فسوف نواجه ألواناً من المضايقات والأذي والمشاكسات من الهوي في داخل أنفسنا، ومن الطاغوت في المجتمع، ومن شياطين الجن والإِنس الذين يضايقون الناس في حركتهم إلي الله.


1- 9 الأنعام: 162- 163.

ص: 157

وحركة الطواف حول الكعبة تجسد هذا الواقع بالدقة؛ فإذا نظرت من الأعلي إلي المطاف تري حركة دائرة الجماهير الطائفين بصورة مستمرة، وكأنّ أرض المسجد الحرام تطوف بهم حول البيت في حركة منظمة وهادئة، أما إذا دخلت بنفسك في المطاف التقيت بالوجه الآخر لهذه الحركة الانسانية حول المحور الالهي، من المعاناة ومواجهة العقبات والمضايقات، وهو يختلف اختلافاً كبيراً عن الوجه الأول الهادئ والمريح.

لماذا عبر الانصهار في الجماعة؟

في هذه المرحلة نحن نفهم المنطلق والغاية في حركة الانسان بصورة دقيقة، فالمنطلق الذي ينطلق منه الانسان هو تجاوز الأنا والذات ويعبر الاحرام في الميقات عن هذا المنطلق. والغاية هي الحركة إلي الله وتوحيده- تعالي-، ويرمز الطواف إلي هذه الغاية. ولكن الانسان في الحج يصل إلي هذه الغاية عبر الانصهار في الجماعة المسلمة، ومن دون الانصار في الأمة المسلمة لا يمكن الوصول إلي هذه الغاية..

إن التخطيط الاسلامي للحج يؤكد علي حضور الأمة المسلمة وتواجدها في موسم الحج من كل فج عميق. وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالًا وعلي كل ضامر يأتين من كل فج عميق (1).

إن هذا الأذان والإعلان والدعوة الإِلهية العامة للحج، من قبل الله ورسوله، والاستجابة من قبل الناس من كل فج عميق، يشكل بالتأكيد بعداً هاماً من أبعاد الحج.

وعندما نستعرض آيات الحج، والكعبة والبيت، في القرآن منذ أن رفع إبراهيم وإسماعيل القواعد من البيت، نجد اهتماماً كبيراً بحضور الناس في هذا البيت، وفي هذا الموسم، وابلغ ما في ذلك تعبير القرآن عن بيت الله بأنه بيت الناس إن أولَ بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدي للعالمين. فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمناً ولله علي الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلًا... (2).

ومن عجب أن الله تعالي يخص الناس- عباده- بأول بيت وأشرف بيت ويعلن عن أنه بيت للناس ثم يدعو الناس إليه ولله علي الناس حج البيت.

وفي دعاء إبراهيم (عليه السلام) نجد أن إبراهيم خليل الرحمن، عندما أودع أهله وذريته بهذا الوادي القاحل غير ذي زرع، دعا الله تعالي أن يجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون (3).

وأيضاً نجد في سورة البقرة وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا (4).

فالبيت مثابة للناس يجتمع الناس حوله، ويثوب إليه الناس، ويجتمع الناس من كل حدب وصوب، ثم إننا في سورة المائدة نقرأ جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس (5).


1- 10 الحج: 27.
2- 11 آل عمران: 96- 97.
3- 12 إبراهيم: 37.
4- 13 البقرة: 125.
5- 14 المائدة: 97.

ص: 158

فالكعبة تقوم حياة الناس، وتقوم حياة الناس بها، وعند الإفاضة يأمر الله- تعالي- عباده أن لا ينفرد بعضهم عن بعض في الإِفاضة، وإنما يفيض كلُّ منهم حيث أفاض الناس ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله (1).

إذاً حضور الناس حول البيت وتواجدهم في الموسم، وانصهار الفرد داخل البيت والحرم في الناس شيي ء أساس في الحج، في طريق حركة الانسان إلي الله تعالي.

ونتساءل بعد ذلك، لماذا؟

وهوسؤال مهم يرتبط بسر من أسرار هذا الدين، فإن هذا الدين يحرك الانسان إلي الله- تعالي- ولكن من خلال الحضور في وسط الناس. فالحج حركة إلي الله، ولكن من خلال الانصهار في الناس، والصلاة معراج كل مؤمن، ولكن من خلال الجماعة، وحتي الاعتكاف الذي هو نحو من الاعتزال عن الناس يتم في المسجد الحرام ومسجد النبي (صلّي الله عليه وآله وسلّم) والمسجد الجامع في الكوفة، والمسجد الجامع في أي بلد، وليس في أي مسجد معزول متروك، فنتساءل مرة أخري لماذا لا تتم حركة الانسان إلي الله في الحج إلا من خلال الانصهار في الناس ومن خلال الحضور في وسط الناس؟.

والجواب:

إن من غير الممكن أن يتجاوز الإِنسان الأنا في عزلة من الناس، وهو شرط أساس في الحركة إلي الله تعالي.

والانسان قد يتصور إذا اعتزل الناس، وابتعد عن الحياة الاجتماعية، يتحرر من الأنا والهوي والشهوات والرغبات، ولكنه يخطي ء كثيراً، فإن نزعات الأنانية تبقي مطوية في خبايا نفسه، وهو غير شاعر بها، فإذا دخل الحياة الاجتماعية واحتكَّ بالناس، برزت هذه النزعات المخبوءة، علي السطح الظاهر من شخصيته، ولكن يمكن اجتثاث هذه النزعات والقضاء عليها إلا في وسط الحياة الاجتماعية.

إن هذه النزعات لا يمكن استئصالها إلا من خلالصراع مرير مع النفس في وسط الحياة الاجتماعية، ولا شك أن هذه النزعات، تختفي في حياة العزلة والرهبانية، إلا أنها تبقي كامنة ومختفية في النفس، فإذاصادفت فرصة مناسبة وجواً مناسباً تبرز مرة واحدة.

ولذلك لا بدّ من هذا الوسط الاجتماعي و الحياة الاجتماعية، والحضور في وسط المغريات والمثيرات ليستطيع الإِنسان أن يتجاوز الأنا بصورة كاملة.

وحقيقة أخري لا تقل أهمية عن الأولي: أنّ حركة الانسان إلي الله- تعالي- حركة شاقة عسيرة وصبعة، ولا يستطيع الإِنسان أن يطوي هذا الطريق وحده، فإذا حضر نفسه في الجماعة المؤمنة، وانصهر في وسط الأمة هان عليه السير، واستطاع أن يطوي معهم هذا الطريق بكفاءة وجدارة ويسر.


1- 15 البقرة: 199.

ص: 159

لذلك نقول في الصلاة، ونكرر في كل يوم عشر مرات إياك نعبد وإياك نستعين بصيغة الجمع، وليس بصيغة المتكلم الوحده، فإن الطريق إلي الله طريقصعب. وليس من شك أن سلوك هذا الطريق، وطي هذه المسافة مع الجماعة المؤمنة آمن وأسلم وأيسر.

ولذلك نجد أن الطريق إلي الله- تعالي- يتمّ في الاسلام، عبر الحضور في الجماعة المسلمة والانصهار فيها، وليس بمعزل عنها.

الأبعاد الثلاثة للحج:

تلك هي المراحل الثلاث التي يرسمها الحج بلغته الرمزية الخاصة:

1- مرحلة تجاوز الذات.

2- مرحلة الانصهار في الجماعة.

3- مرحلة الحركة إلي الله.

وهذه المراحل الثلاث هي الأطراف الثلاثة في علاقات الانسان؛ فإن للانسان علاقة بالله تعالي، وعلاقة بالمجتمع والكون، وعلاقة بنفسه.

وهذه العلاقات منظورة جميعا في الحج. ومن عجب أن تكون علاقة الانسان بالجماعة وانصهاره فيها، هو الجسر الذي يربط الانسان بالله تعالي، وليس هو الحاجز والحاجب والعقبة كما في التصورات الرهبانية.

نبذة تاريخيّة عن القبلة في المسجد النّبويّ الشّريف

ص: 160

نبذة تاريخيّة عن القبلة في المسجد النّبويّ الشّريف

تأليف: محمّد هادي اليوسفي

من وظائف المسلمين معرفة القبلة، وهي الكعبة المعظمة في مكة المكرمة، في الحجاز، من شبه الجزيرة العربية.. فالتوجه إليها شرط فيصحةصلواتهم، والتوجيه إليها شرط في حلّية ذبائحهم.

وحسب اختلاف المناطق طولًا وعرضاً وشمالًا وجنوباً تختلف القبلة اختلافاً كبيراً، وتتوقف معرفته علي علم الهيئة والفلك والجغرافية.

قبلة المسجد النبوي الشريف:

ومن المعلوم في تاريخ الاسلام أن رسول الله (صلّي الله عليه وآله) إذ هاجر من مكة المكرمة إلي المدينة الطيبة كان يصلي إلي المسجد الأقصي في مدينة ايليا/ القدس الشريف في فلسطين من أراضي الشام، واستمر علي ذلك حتي منتصف السنة الثانية بعد هجرته، حيث نزل أمين الوحي جبرئيل (عليه السلام) فحوّل الرسول في منتصف الصلاة الوسطي (الزوال) من المسجد الأقصي إلي الكعبة المعظمة في المسجد الحرام، فحوّل الرسول قبلة مسجده كذلك إلي نقطة الجنوب تماماً، من دون أي انحراف عنها.

فساد الهيئة البطلميوسية:

وفي أوائل عهد الخلافة العباسية، حيث تُرجمت كتب العلوم اليونانية إلي العربية ومنها كتب الهيئة البطلميوسية، فسادت هذه الهيئة بين الأمة الاسلامية. وكانت نقطة البدء في تعيين خطوط طول البلاد في تلك الهيئة" جزيرة فرو" من" الجُزر الخالدات".

وعليها كانوا يرون طول مكة المكرمة 77 درجة و 10 دقائق، وعرضها 21 درجة و 40 دقيقة. وطول المدينة 75 درجة و 20 دقيقة وعرضها 25 درجة فقط. وعليه فطول المدينة أقل من طول مكة المكرمة بدرجتين و 10 دقائق، بينما يزيد عرض المدينة علي عرض مكة المكرمة بثلاث درجات و 40 دقيقة. وحيث أن قانون الهيئة يقتضي أن أي مدينة كان طولها أقل من مكة وعرضها أكثر منها مثل المدينة المنورة، فلا تحصل مواجهة القبلة من تلك المدينة إلّا إذا انحرفنا فيها عن نقطة الجنوب إلي جهة المشرق بازاء كل درجة من الطول 10 إلي 12 درجة بحسب اختلاف الأفق في المناطق، لهذا كانوا يحكمون بأن قبلة المدينة المنورة تنحرف عن نقطة الجنوب إلي جهة المشرق 27 درجة. هذا في حين أن المحراب المبارك في المسجد النبويّ الشريف كان ولا يزال مواجهاً لنقطة الجنوب تماماً من دون أي انحراف.

ص: 161

فالمحراب الذي عينه الرسول المعصوم وشيد تحت اشرافه، كان أمارة شرعية، وعلامة معتبرة لتعيين القبلة، دون أن يتصور فيها أي شبهة أو إشكال.

وعلي هذا فكيف يمكن لأصحاب الهيئة (البطلميوسية) من المسلمين أن يذعنوا بانحراف قبلة المسجد النبوي؟ اللهم إلّا أن يتخلوا عن عقيدتهم بعصمة الرسول الكريم!

تحقيق المحدث المجلسي في ذلك:

كانت هذه المشكلة عويصة كبري في العصور السالفة بين علماء المسلمين، حتي إن المحدث المحقق المجلسي" رحمه الله" كان مما فرض علي نفسه التحقيق في هذه المسألة: أي انحراف قبلة المدينة المنورة ومسجدها؟ وبعد تشرّفه بها عمل كل ما بوسعه من التحقيق والدراسة حول الموضوع، ولكنه لم يصل إلي أي نتيجة، فلم يتمكن من أن يوفق أو يلائم فيما بين قبلة المسجد النبوي الشريف وبين قواعد الهيئة القديمة، التي كانوا يظنونها طِلّسماً لا ينكسر! وبالتالي فإنه احتمل قوياً- ومضطراً- أن تكون يد متعمدة أو مخطئة قد عملت في العمارات المتعاقبة علي المسجد في زمن الخلفاء العباسيين، فحرفت القبلة عن الموضع الأصلي علي عهد النبي إلي ما هي عليه اليوم ويومئذٍ. من دون أن يتصور أو يحتمل الخطأ في قواعد الهيئة والجغرافية القديمة!.

الخطأ المكتشف:

في حين أن هذا- أي خطأ الهيئة القديمة- هو الواقع والحقيقة، وقد نشأ خطأ القدماء في هذا الحكم من حيث إنهم زعموا أن طول المدينة أقل من طول مكة المكرمة، وقد أخطأوا في زعمهم هذا لأنهم لم تكن لديهم مقاييس وأدوات دقيقة لتعيين طول البلدان وعرضها، بينما علماء الهيئة والجغرافيا اليوم قد حددوا أطوال البلدان وعرضها بمقايس دقيقة حتي المتر ونصفه بل السانتيم والملّيم، فعشروا ضمن ذلك علي حقيقة تساوي البلدين مكة والمدينة تقريباً في خط الطول، وكان مبدأ الطول لدي القدماء" جزيرة فرو" من" الجزر الخالدات" كما مرّ؛ بينما هو لدي المتأخرين مرصد" غرينويش" في لندن، وقد حاسبوا ذلك علي التقديرين، فكان طول البلدين متساوياً تقريباً كما يلي:

طولهما علي مبدإ جزيرة فرو: 57 درجة و 57 دقيقة و 5 ثواني.

وطولهما علي مرصد غرينويش: 39 درجة و 50 دقيقة فقط.

فعلي أيّ تقدير يكون طول البلدين متساوياً تقريباً، وحسب قواعد الهيئة تكون القبلة كما هي عليه في المسجد النبوي الشريف ومحرابه (صلّي الله عليه وآله) فيه.

وبهذا عُلم أن رأي القدماء بانحراف قبلة المسجد ومحرابه كان خطأً ووهماً! بل إن وجود هذا المسجد والمحراب أثر قيّم وشاهد كبير لاثبات علم المعصوم بالهيئة والفلك والجغرافيا والنجوم (1).

خواطر من الحجِّ عند بيت المولي


1- * أفدنا في هذه النبذة التاريخية من كتاب: حاجة الأنام إلي النبي والامام بقلم المرحوم آية الله الموسوي اللاري، وتعريب كاتب البحث.

ص: 162

خواطر من الحجِّ عند بيت المولي

تأليف: علي الكوراني

... كانت ليلة في السيارة إلي مكّة أين منها النهار...

فيها نقاط التفتيش. وفيها طعام المحرمين. وفيها بعض الأحاديث والأسئلة عن أحكام الإِحرام، ولكنها جميعا اكتست بجلال الخشوع ونور السكينة.. حتي ذكرهم للحسين عليه السلامصار من جو التلبية والإِحرام. فقد عاشوا معه محرما في طريقه إلي مكة. ثم محرما في كربلاء يلبي فيقول:

تركت الخلق طراً في هواكا وأيتمت العيال لكي أراكا

فلو قطعتني في الحب إربا لما مال الفؤاد إلي سواكا وحتي إغفاءات الحجاج في آخر الليل كانت هادئة ناعمة، تقول الروح للجسد فيها:

خذ راحتك، نم في هذه الطمأنينة الإِلهية فأنا وملائكتك يقظي.. فيغفو الجسد مطمئنا حتي إذا سمع التلبية أفاق، ولبي مع روحه ورفقائه والملائكة..

هنا أول مكة.. ونظر الحجاج فرأوا شارعا ممتدّاً وأمامه جبال ينبعث من ورائها بهاء نور.. فرفعوا أصواتهم بالصلاة علي النبيِّ وآله...

هدَأتِ الأصوات حتي عن التلبية. فقد وصلوا إلي حرم المولي. وتطّلعت إليه الأنظار والقلوب.. تريد أن تري كلَّ شي ء في مكة وتتحسسه. حتي المباني والشوارع والجبال والهواء...

بسم الله وبالله. ومن الله وإلي الله.. ما شاء الله، وعلي ملّة رسول الله،صلّي الله عليه وآله. وخير الأسماء لله. والحمدلله..

السلام علي رسول الله محمد بن عبد الله..

السلام عليك أَيها النبيُّ ورحمة الله وبركاته..

السلام علي أنبياء الله ورسله..

السلام علي إبراهيم خليل الرحمان..

السلام علينا وعلي عباد الله الصالحين..

اللهم افتح لي أبواب رحمتك. واستعملني في طاعتك ومرضاتك. واحفظني بحفظ الايمان أبداً ما أبقيتني، جل ثناء وجهك..

الحمدُ لله الذي جعلني من وفده وزواره، وجعلني ممن يعمر مساجده، وجعلني ممن يناجيه.

اللهم إني عبدك وزائرك في بيتك، وعلي كلّ مأتي حقّ لمن أتاه وزاره، وأنت خير مأتي وأكرم مزور. فأسألك يا الله يا رحمان بأنك أنت الله لا إله إلّا أنت وحدك لا شريك لك وبأنك واحد أحد

ص: 163

صمد لم تلد ولم تولد ولم يكن له كفؤا أحد.. وأن محمداً عبدك ورسولكصلواتك عليه وعلي أهل بيته..

يا جواد يا كريم أسألك أن تجعل تحفتك إياي بزيارتي إياك أول شي ء تعطيني فكاك رقبتي من النار..

وتقدم الحجاج في القسم المسقوف من الحرم، فنظر أكثرهم لأول مرة إلي الكعبة الشريفة تقوم في وسط ساحة المسجد، ويموج من حولها نهر الطائفين المقدس.. فقرأ لهم القارئ دعاء النظر إلي الكعبة وترجمه لهم.

" الحمدُ لله الذي عظمك وشرفك وكرمك وجعلك مثابةً للناس وأمناً مباركاً وهديً للعالمين".

وقال لهم اجلسوا، فجلسوا.. ثم قال ارفعوا أيديكم، وقرأ لهم:

اللهم إني أسألك في مقامي هذا في أول مناسكي أن تقبل توبتي، وأن تتجاوز عن خطيئتي وأن تضع عني وزري. الحمدلله الذي بلَّغني بيته الحرام..

اللهم إني أشهد أن هذا بيتك الحرام الذي جعلته مثابة للناس وأمنا مباركا وهدي للعالمين..

اللهم العبد عبدك، والبلد بلدك، والبيت بيتك.. جئت أطلب رحمتك وأؤم طاعتك، مطيعا لامرك، راضيا بقدرك.. أسألك مسألة الفقير إليك الخائف من عقوبتك..

اللهم افتح لي أبواب رحمتك، واستعملني بطاعتك ومرضاتك..

بكي الحجاج لهذا الدعاء بنسب من البكاء، ثم قاموا الصلاة ركعتي تحية المسجد..

أما الدكتور فقد اتصل بكاؤه وهو جاث علي ركبتيه وقد نكس رأسه. وبقي أحمد إلي جانبه ينتظره فطال بكاؤه.. قام أحمد يصلي، وبقي الدكتور جالساً مطرقا، ينظر حينا إلي الكعبة والطائفين والمسجد، ثم يأوي إليصمته الطويل.. ودموعه..

أكمل أحمدصلاته ودعاءه. والدكتور ما زال علي حاله.. فذهب وجاء بأربعة أكواب ماء قدم إلي الدكتور واحدا منها وقال:

هذا من ماء زمزم يادكتور.

شكراً لك يا أحمد، وهل يصح أن نشرب هنا؟

نعم، يا دكتور يستحب، ولكن اسمح لي قبل أن تشرب أن أقرأ لك الدعاء المستحب. وقرأ له:" اللهم اجعله علماً نافعاً، ورزقاً واسعاً، وشفاءً من كلّ داءٍ وسُقْم".

فقرأ الدكتور الدعاء وشرب وحمد الله، فقال له أحمد.

ونحن في بيت الله، أحبّ أن أهدي لك هدية يا دكتور.

شكراً، يا أحمد ما هي؟

ص: 164

وأخرج أحمد من محفظته ورقة وقال:

خطبة أمير المؤمنين عليه السلام حول الكعبة التي استشهد عالم القافلة بجزء منها.. رأيت الكعبة الشريفة فهل تحبّ أن أقرأ لك بعضها ريثما يأتي الرفقاء...؟.

شكراً، تفضل إقرأ.

وقرأ أحمد:

" ألا ترون أن الله سبحانه اختبر الأولين من لدن أدمصلوات الله عليه إلي الآخرين من هذا العالم، بأحجار لا تضر ولا تنفع، ولا تبصر ولا تسمع، فجعلها بيته الحرام الذي جعله للناس قياماً، ثم وضعه بأوعر بقاع الأرض حجرا وأقل نتائق الدنيا مدراً، وأضيق بطون الأودية قُطراً. بين جبال خشنة، ورمال دمثة، وعيون شلة، وقريً منقطعة، لا يزكو بها خفّ ولا حافر ولا ظلف.

ثمّ أمر آدم عليه السلام وولَدَه أن يثنوا أعطافهم نحوه، فصار مثابة لمنتجعِ أسفارهِم، وغايةً لملقي رحالهم. تهوي إليه ثمار الأفئدة، من مفاوز قفار سحيقة، ومهاوي فجاج عميقة، وجزائر بحار منقطعة، حتي يهزوا مناكبهم ذللًا يُهلَّلُون لله حوله، ويرمُلون علي أقدامهم شعثاً غبراً له، قد نبذوا السرابيل وراء ظهورهم وشوّهوا بإعفاء الشعور محاسن خلقهم.. ابتلاء عظيما، وامتحانا شديداً، واختباراً مبيناً، وتمحيصاً بليغاً، جعله الله سبباً لرحمته ووصلةً إلي جنته.

ولو أراد سبحانه أن يضع بيته الحرام، ومشاعره العظام، بين جنات وأنهارٍ، وسهل وقرارٍ، جمّ الأشجار، داني الثمار، ملتفّ البُني، متصل القري. بين بُرة سمراء وروضة خضراء، وأريافٍ محدقةٍ، وعِراصٍ مغدقة، ورياض ناضرة، وطرق عامرة، لكان قدصغُر قدرُ الجزاءِ علي حسب ضعف البلاء.

ولو كان الاساسُ المحمولُ عليها، والأحجارُ المرفوعُ بها، بين زمرّدةٍ خضراءَ، وياقوته حمراء، ونورٍ وضياء، لخفَّف ذلك مصارعة الشكّ في الصدور، ولَوضعَ، مجاهدةَ إبليس عن القلوب، ولنفي معتلج الريب من الناس..

ولكنَّ الله يختبر عباده بأنواع الشدائد، ويتعبدهم بأنواع المجاهد، ويبتليهم بضروب المكاره، إخراجاً للتكبر من قلوبهم، وإسكاناً للتذلل في نفوسهم.. وليجعل ذلك أبواباً فُتُحاً إلي فضله، وأسباباً ذلُلًا لعفوه".

أكمل أحمد قراءة النص والدكتور يستمع بإصغاء، فقال بصوت منخفض وهو يهز رأسه:

- أين كنا عن هذا الفكر، حقاً إن الثقافة الإِسلاميّة مظلومة، كما يقول الشيخ الطبري.. يا أحمد لقد تأكّد لي أن أحدنا لا يكون إنساناً حتي يكون عبداً ذليلًا لله تعالي، متواضعاً للطيبين من عباده، وأن أكبر الأدوات التي يستعملها إبليس لمنعه من ذلك هي ثقافة الغربيين المادية.. ساعدني يا أحمد لكي أخرج التكبر من قلبي وأكون عبداً لله ذليلا، نعم ذليلًا.. برغم إبليس، فقد حاول

ص: 165

بوساوسه عندما دخلنا إلي مكة والحرم أن يشغلني عن ربي سبحانه بجغرافية مكة وشوارعها وبنائها، وجدران الحرم وبنائه.. فقلت له: هذه الغرفة المربعة هي بيت الله في الأرض، وسواء كانت في أقصي الشرق أوالغرب أو في مضيق جبلي يتسع لنفر واحد، أو جعلوها في سرداب تحت الأرض.. فالأمر لا يتغير منه شي ء.. إنها بيت الله ومركز هذه الأرض، وأريد أن أطوف حولها وأتبرك بها، وأصنع كل ما أمرني به رسول اللهصلّي الله عليه وآله. أشكرك يا أحمد، فكأنك عرفت أني بحاجة إلي هذه الكلمات العظيمة.. لقد قررت أن لا أشغل نفسي بشي ء إلا بالأعمال المحددة الواجبة علي.. أريد يا أحمد أن أكون واحداً منكم أتوجه إلي الله تعالي وأطوف حول بيته وأصلي، كما تفعلون..

- نعم القرار يا عم، وأسأل الله أن يتقبل منك، فالوقت الآن لاداء المناسك، وعندنا عدة أيام لزيارة المسجد ومعالم مكة والتفكير والأحاديث..

والتزم الدكتور بقراره، ودخل مع الموكب الخراساني في سيل الطائفين من شعوب العالم، ولم يسمح للأفكار الطارئة أن تشغله. كان يقول في نفسه أنا الآن أطوف حول بيت الله.. إنها حقيقة عظيمة، يجب أن أعيشها.. كل شي ء هنا غني بالمعاني والافكار، ولكني أنا فقير لأن أطوف حول بيت ربي وأناجيه..

هل يمكن لانسان أن يمشي في سوق مزدحم بالناس وهو يرتجل قصيدة وجدانية..؟

أما إذا كان عاشقاً فنعم..

دخلوا في خضم الطائفين حول البيت، وكانوا قسموهم إلي مجموعات مع كل واحدة منها مطوف.. ولكن الفراشة العاشقة تعرف كيف تحوم حول السراج، والخراساني يعرف متي يتابع دعاء المطوف، ومتي يدعو من ظهر قلبه بل من قلب قلبه، بكلمات بالعربية الفصحي، ودموع فوق اللغات..

المسلم في بلدنا يزور قبر الشهيد فيلقي له القصيدة.. وللإِمام المعصوم يرتجل الشعر وينثر الدموع وللنبي يحمل المعلقة في يد والقلب في يد..

أما وقد وصل إلي بيت المولي العظيم وبدأ طوافه، فهنا وقت كل القصائد ونثار الروح.. حتي لو قصروا في واجبهم فلم ينظموا المطاف، وحتي لو ازدحم الناس بمئات الالوف.. أو ليسوا يسمحون له بأن يضع خطواته معهم، فشكراً لهم.. وإذا دفعه الافريقي واليماني والبدوي، فغفر الله لهم.. كلهم ضيوف المولي يطوفون حول بيته..

كل الامور الأخري ثانوية أمام قضية هذا المسلم القادم من بلاد نائية عند الكعبة..

القضية أنه الآن حيث كلّ شي ء..

حيث أدم وحواء يطوفان ويتوبان..

ص: 166

وحيث نوح يطوف بسفينته..

وحيث إبراهيم وإسماعيل يجدّدان البناء..

وحيث موسي وعيسي يحجّان..

وحيث محمدصلّي الله عليه وآله يولد وينشأ، ويبعث، ويُظلم، ويهاجر، ثم يعود فاتحاً.. وحيث خديجة والزهراء.. وعلي يكسر الأصنام.. والحسين يشد الرحال إلي كربلاء.. وكلّ الأئمة والصحابة والعلماء.

وحيث المهدي يحجُّ كلَّ عام، وينتظر ذلك العام ليطلق ثورته من هنا، من عند هذا الركن، من عند باب الكعبة..

هنا يوجد الجميع، لأنه بيت رب الجميع..

وهنا كل شي ءٍ من الماضي والحاضر والآتي.. لانه بيت رب الكل..

الخطوة هنا بوزنها ذهبا.. والهواء بالمثاقيل، لأنه أصلًا للروح قبل الرئتين.. والكلمة لا تقدر بثمن، لأنها تولد في الضوء ويتلقاها ملائكة الكعبة حارة طازجة، فيصعدون بها إلي أعلي..

ألا تري عروجهم ونزولهم من عند أركان الكعبة الأربعة، بمحاذاة أعمدة النور الصاعدة إلي السماء السابعة، تصعد أفواجهم بكلماتنا وطلباتنا، وتعود محملة بالهدايا والبشائر..

أما تراهم يجمعون دموع الطائفين في قوارير ليسقوا بها ورودا في حدائق عند العرش... وعلي نَعَم وحبيب قلوبنا ينظمون هيمنتهم.. وعلي نمط خفق أرواحنا يخفقون أجنحتهم..

وانتظمت قافلتنا في نهر الطائفين.. تغتسل بالنور، وتستمطر النور، وتفجر قلوبها بالنور والدموع.. كل منهم قرأ مع المطوف، وقرأ من قصائده هو..

وماذا أجمل في أدب الشعوب من شعر المحرمين الطائفين حول بيت ربهم، ومن إلقائهم.. وحدهم ملائكة الله جمعوا ديوانهم في مجلدات، ولم توزع نسخه علي أهل الأرض، ولم يصلنا منه إلا القليل من كلمات آدم، ودعاء إبراهيم، وتلبية موسي وعيسي، ومناجاة النبيّ وأهل بيتهصلّي الله عليه وآله وكبار الصحابة والفقهاء والعارفين..

في كل يوم للمسلمين مناجاة وأدعية هند الكعبة، ولكن موسم الحج هو موسم القصائد الحارة، تحمل ذوب الروح وعبيرها..

بدأ أحدهم بمناجاة زين العابدين عليه السلام.

إلهي عبيدك ببابك، سائلك ببابك فقيرك ببابك، مسكينك ببابك.. اللهم البيت بيتك، والحرم حرمك، والعبد عبدك.." فلم يستطع أن يواصل قراءتها لأن لغة البكاء منعته من الاسترسال في التحدث بلغة الدعاء، لجلال الموقف وهيبة المشهد.

وتتابعت الأشواط السبعة وانتهت، وتواصلت فيها من الحجاج المناجاة والدعوات..

ولكنّ أحداً منهم لم يشعر بريِّ ظمئه، فالقضية مع الله عند الكعبة لا يفي لها طواف يذهب نصفه في الزحام، وبعضه في الإِنبهار بجلال المشهد لأول مرة.. فلابد من العودة، ولابد من ساعات طوال للطواف والدعاء والصلاة.

انغام الرحيل

ص: 167

أنغام الرحيل

تأليف: الشهيدة بنت الهدي

فرصة العمر واغلي مطلب تهب الانسان احلي اكتوبر

**

ايها الراحل عن اوطانه لاهيا عنها وعن اخوانه

لا يبالي بجوي تحنانه قاده الشوق الي ايمانه

سائرا نحو النعيم المرتجي في رحاب الله او قبر النبي ***

فرصة العمر واغلي مطلب تهب الانسان احلي الارب ***

ايها الراحل سر نحو النعيم نحو وادي زمزم نحو الحطيم

نحو بيت الله والركن العظيم في رحاب الله ذي العفو الكريم

نحو سعي الحلق أو نحو الصفا واذكر الله بقلب وجب ***

فرصة العمر واغلي مطلب تهب الانسان احلي الارب ***

ايها الراحل قف جنب المقام حيث ابراهيم قدصلي وصام

ثمصل في خشوع واحترام واتجه فيها الي رب الانام

واطلب العفو من الرب الذي جعل التوبة عتق المذنب ***

فرصة العمر واغلي مطلب تهب الانسان احلي الارب ***

ايها الراحل ان جئت الصفا فاسع للمروة تبغي شرفا

وابتهل فيها بقلب قد هفا نحو عفو الله اسمي من عفا

ثم قصر بعد سبع وانثني شاكراً لله نيل الطلب ***

فرصة العمر واغلي مطلب تهب الانسان احلي الارب ***

ايها الراحل يهنيك المسير نحو وادي خيبر نحو الغدير

نحو بدر احد نحو البشير نحو غار في حراء مستنير

بضياء المرسل الهادي الذي شع نوراً في بلاد العرب

ص: 168

***

رصة العمر واغلي مطلب تهب الانسان احلي الارب ***

ايها الراحل خذها فرصة لك واغنم في ذراها عبرة

ودع الروح لتمضي حرة في سماء الحق تبغي جنة

عرضها طولًا كأرض وسما وهي تحيا بشعور عذب ***

فرصة العمر واغلي مطلب تهب الانسان أحلي الارب ***

ايها الراحل هذي عرفات فاغتنمها فرصة قبل الفوات

واشغلن ساعتها بالدعوات واغسل الذنب بسيل العبرات

جبل الرحمة فيها فأته رحمة الله بقلب وجب ***

فرصة العمر واغلي مطلب تهب الانسان احلي الارب ***

ثم عند الظهر قفها وقفة تائباً لله فيها توبة

واسكب الروح عليها عبرة تغسل الذنب وتعطي جنة

لا يلقاها سوي قلب نقي واستقم فيها لوقت المغرب ***

فرصة العمر واغلي مطلب تهب الانسان احلي الارب ***

ايها الراحل ذي مزدلفه نحوها فاطر الدجي في عرفه

يذكر الله بها من عرفه تائباً عن كل ما اقترفه

ليس فيها غير ارض وسما وظلام وخشوع مرهب ***

فرصة العمر واغلي مطلب تهب الانسان احلي الارب ***

انها ليلة سعد وخشوع وابتهال ودعاء ودموع

ومناجاة الي وقت الطلوع ما احيلاها اراض وربوع

يستميل القلب فيها راحة تزدهي من كل زهر طيب ***

فرصة العمر واغلي مطلب تهب الانسان احلي الارب ***

ص: 169

ايها الراحل قد نلت المني اذ توجهت الي ارض مني

مسجد للخيف يعطيك الهنا فيه تنسي كل جهد وعنا

ايها الراحل وارم الجمرات في حصيً معدودة للطلب ***

فرصة العمر واغلي مطلب تهب الانسان احلي الارب ***

وتوجه بعدها للكعبة طف وصل ابتهل للتوبة

ثم فأت للصفا والمروة واشكر الله لهذي النعمة

ثم طف فيها طوافاً ثانياً ليس من جهد بها أو نصب ***

فرصة العمر واغلي مطلب تهب الانسان احلي الارب ***

ايها الراحل يهنيك الوصول في رحاب القدس في قبر الرسول

فيه تسمو نحو باريها العقول تنمحي الآلام والهم يزول

يهب الارواح امناً ورضا وهو يروي كل قلب مجدب ***

فرصة العمر واغلي مطلب تهب الانسان احلي الارب ***

ايها الراحل زر تلك الرحاب وبقيعاً ما به غير التراب

فغدت جدرانه تحكي الخراب وانمحت آثاره فهي يباب

وبه اربعة يرجي بهم نيل عفو الله يوم التعب ***

فرصة العمر واغلي مطلب تهب الانسان احلي الارب

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.