تذكره الفقهاء المجلد 17

اشارة

سرشناسه : علامه حلي حسن بن يوسف ق 726 - 648

عنوان و نام پديدآور : تذكره الفقهاء/ تاليف العلامه الحلي الحسن بن يوسف بن المطهر؛ تحقيق موسسه آل البيت عليهم السلام لاحياآ التراث مشخصات نشر : قم موسسه آل البيت عليهم السلام لاحياآ التراث 1400ق = 1300.

مشخصات ظاهري : ج 22

فروست : (موسسه آل البيت عليهم السلام لاحياآ التراث 127؛ 129؛ 130134)

شابك : 964-5503-33-7 (دوره ؛ 964-5503-44-2 2900ريال (ج 4) ؛ 964-5503-46-9 (ج 6) ؛ 964-319-007-2 (ج 7) ؛ 964-319-224-5 8000ريال (ج 11)

يادداشت : عربي يادداشت : فهرست نويسي براساس جلد چهارم 1414ق = 1372

يادداشت : ج 1 (چاپ اول 1420ق = 1378)؛ 8000 ريال ج 1) :ISBN 964-319-197-4

يادداشت : ج 8 (چاپ اول 1417ق = 1376)؛ 6500 ريال ج )8ISBN 964-319-051-x

يادداشت : ج 9 (چاپ اول 1419ق = 1377)8000 ريال :(ج )9ISBN 964-319-008-0

يادداشت : ج 13 (چاپ اول 1423ق = 1381)9500 ريال :ISBN 964-319-389-6

يادداشت : كتابنامه مندرجات : (ج )7) ISBN 964-319-007-2 ج 12) 1422ق = 8500 :1380 ريال موضوع : فقه جعفري -- قرن ق 8

شناسه افزوده : موسسه آل البيت عليهم السلام لاحياآ التراث رده بندي كنگره : BP182/3 /ع8ت4 1300ي

رده بندي ديويي : 297/342

شماره كتابشناسي ملي : م 73-2721

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

الجزء السابع عشر

تتمة كتاب الأمانات و توابعها

المقصد الرابع: في القراض

اشارة

و فصوله خمسة:

الفصل الأوّل: الماهيّة

مسألة 191: القراض عقد شُرّع لتجارة الإنسان بمال غيره بحصّةٍ من الربح،

فإذا دفع الإنسان إلى غيره مالاً ليتّجر فيه، فلا يخلو إمّا أن يشرطا قدر الربح بينهما أو لا، فإن لم يشرطا شيئاً فالربح بأجمعه لصاحب المال، و عليه أُجرة المثل للعامل.

و إن شرطا، فإن جعلا جميعَ الربح للعامل كان المال قرضاً و دَيْناً عليه، و الربح له و الخسارة عليه، و إن جعلا الربحَ بأجمعه للمالك كان بضاعةً، و إن جعلا الربحَ بينهما فهو القراض الذي عُقد الباب لأجله، و سُمّي(1) المضاربة أيضاً.

و القراض لغة أهل الحجاز(2) ، و المضاربة لغة أهل العراق(3).

ص: 5


1- في «ج»: «و يُسمّى».
2- كما في طلبة الطلبة: 267، و الزاهر: 305، و الحاوي الكبير 305:7، و المهذّب - للشيرازي - 292:1، و بحر المذهب 186:9، و التهذيب - للبغوي - 377:4، و البيان 157:7، و الاستذكار 30707/119:21، و المغني 135:5، و الشرح الكبير 130:5.
3- كما في الزاهر: 305، و الحاوي الكبير 305:7، و المهذّب - للشيرازي - 292:1، و بحر المذهب 186:9، و التهذيب - للبغوي - 378:4، و الاستذكار 30707/119:21.

أمّا القراض فإنّه لفظ مأخوذ من القرض، و هو القطع، كما يقال:

قرض الفأر الثوبَ، أي قطعه، و منه المقراض؛ لأنّه يُقطع به، فكأنّ صاحب المال اقتطع من ماله قطعةً و سلّمها إلى العامل، أو اقتطع له قطعةً من الربح.

و قيل: اشتقاقه من المقارضة، و هي المساواة و الموازنة، يقال:

تقارض الشاعران إذا وازن كلٌّ منهما الآخَر بشعره(1).

و حكي عن أبي الدرداء أنّه قال: قارض الناس ما قارضوك، فإن تركتهم لم يتركوك(2) ، يريد ساوِهم فيما يقولون.

و هذا المعنى متحقّق هنا؛ لأنّ المال من جهة ربّ المال، و من جهة العامل العمل، فقد تساويا في قوام العقد بهما، فمن هذا المالُ، و من هذا(3) العملُ.

و يحتمل أن يكون ذلك لاشتراكهما في الربح.

و أمّا المضاربة فهي مأخوذة من الضرب، قال اللّه تعالى:«وَ آخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللّهِ» (4) و العامل يضرب في الأرض للتجارة يبتغي الربح.

و قيل: إنّه مأخوذ من ضرب كلٍّ منهما في الربح بسهمه، أو لما فيه0.

ص: 6


1- كما في بحر المذهب 186:9، و البيان 157:7، و العزيز شرح الوجيز 3:6، و المغني 135:5، و الشرح الكبير 130:5.
2- كما في البيان 157:7، و حكاه عنه الأزهري في الزاهر: 304، و الروياني في بحر المذهب 186:9، و ابن منظور في لسان العرب 217:7 «قرض».
3- في الطبعة الحجريّة: «و من الآخَر» بدل «و من هذا».
4- سورة المزّمّل: 20.

من الضرب بالمال و التقليب(1).

و يقال للمالك من اللفظة الأُولى: مقارِض، بكسر الراء، و للعامل:

مقارَض، بفتحها، و من اللفظة الثانية يقال للعامل: مضارِب، بكسر الراء؛ لأنّه الذي يضرب في الأرض بالمال و يقلبه، و لم يشتق أهل اللغة لربّ المال من المضاربة اسماً، بخلاف القراض.

مسألة 192: و هذه المعاملة جائزة بالنصّ و الإجماع؛

لما روى العامّة:

إنّ الصحابة أجمعوا عليها(2).

قال الشافعي: روى أبو حنيفة عن حميد بن عبد اللّه بن عبيد اللّه(3) عن جدّه أنّ عمر بن الخطّاب أعطاه مالَ يتيمٍ مضاربةً، فكان يعمل عليه في العراق(4).

و روى الشافعي عن مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه أنّ عبد اللّه و عبيد اللّه ابني عمر بن الخطّاب خرجا في جيشٍ إلى البصرة، و في منصرفهما من غزوة نهاوند لقيا أبا موسى الأشعري و تسلّفا من أبي موسى الأشعري مالاً و ابتاعا به متاعاً و قدما به إلى المدينة فباعاه و ربحا، فأراد عمر أخذ رأس المال و الربح كلّه، فقالا: لو تلف كان ضمانه علينا فكيف لا يكون ربحه لنا؟ فقال رجل: يا عمر لو جعلتَه قراضاً؟ فقال: قد جعلتُه،

ص: 7


1- العزيز شرح الوجيز 4:6.
2- بحر المذهب 188:9، البيان 158:7، العزيز شرح الوجيز 4:6، روضة الطالبين 197:4، المغني 135:5، الشرح الكبير 131:5.
3- كذا قوله: «عبيد اللّه» في النُّسَخ الخطّيّة و الحجريّة، و في الأُم و العزيز شرح الوجيز: «عبيد الأنصاري». و في بحر المذهب: «عبيد».
4- الأُم 108:7، العزيز شرح الوجيز 4:6، بحر المذهب 187:9-188.

و أخذ منهما نصف الربح(1).

و قال بعض الشافعيّة: إنّ ما جرى كان قرضاً صحيحاً، و كان الربح و رأس المال لهما، لكن عمر استنزلهما عن نصف(2) الربح خيفة أن يكون قد قصد أبو موسى إرفاقهما، لا رعاية مصلحة بيت المال، و لذلك قال في بعض الروايات: أو أسلف كلّ الجيش كما أسلفكما(3)(4).

و عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب عن أبيه(5) أنّ عثمان أعطاه مالاً مقارضةً(6).

و روى قتادة عن الحسن عن عليٍّ عليه السلام أنّه قال: «إذا خالف المضارب فلا ضمان، و هُما على ما شرطا»(7).

و عن ابن مسعود و حكيم بن حزام أنّهما قارضا(8)، و لا مخالف لهما، فصار ذلك إجماعاً.

و من طريق الخاصّة: ما رواه أبو بصير عن الصادق عليه السلام في الرجل يعطي الرجل مالاً مضاربةً و ينهاه أن يخرج به إلى أرض أُخرى، فعصاه، فقال: «هو له ضامن، و الربح بينهما إذا خالف شرطه و عصاه»(7).7.

ص: 8


1- الأُم 33:4-34، سنن البيهقي 110:6، بحر المذهب 187:9، الموطّأ 687:2-1/688، البيان 158:7، العزيز شرح الوجيز 4:6-5.
2- في المصدر و «خ»: «بعض» بدل «نصف».
3- راجع: الهامش (1).
4- العزيز شرح الوجيز 5:6.
5- فيما عدا الأُم و موضع من سنن البيهقي زيادة: «عن جدّه».
6- الأُم 108:7، الموطّأ 2/688:2، سنن البيهقي 111:6، الحاوي الكبير 307:7، بحر المذهب 188:9، المغني 135:5، الشرح الكبير 130:5-131. (7 و 8) بحر المذهب 188:9، المغني 135:5، الشرح الكبير 131:5.
7- التهذيب 827/187:7.

و في الصحيح عن الحلبي عن الصادق عليه السلام قال: «المال [الذي] يعمل به مضاربة له من الربح، و ليس عليه من الوضيعة شيء إلّا أن يخالف أمر صاحب المال»(1).

و عن إسحاق بن عمّار عن الكاظم عليه السلام، قال: سألته عن مال المضاربة، قال: «الربح بينهما، و الوضيعة على ربّ(2) المال»(3).

و الأخبار في ذلك كثيرة.

و لأنّ الحاجة ماسّة و داعية إلى المضاربة، فإنّ الدراهم و الدنانير لا تنمى إلّا بالتقليب، و لا تُؤجر، و ليس كلّ مَنْ يملكها يمكنه التجارة، و لا كلّ مَنْ يتمكّن من التجارة و يعرفها يتمكّن من المال، فاقتضت الحكمة مراعاة طرفي العامل و المالك بتسويغ المضاربة.

و لأنّ السنّة الظاهرة وردت في المساقاة، و إنّما جُوّزت المساقاة؛ للحاجة من حيث إنّ مالك النخيل قد لا يُحسن تعهّدها أو لا يتفرّغ له، و مَنْ يُحسن العمل قد لا يملك ما يعمل فيه، و هذا المعنى موجود في القراض، فوجب مشروعيّته.3.

ص: 9


1- التهذيب 187:7-828/188، الاستبصار 451/126:3، و ما بين المعقوفين أثبتناه من المصدر.
2- كلمة «ربّ» لم ترد في المصدر.
3- التهذيب 829/188:7، الاستبصار 452/126:3.

ص: 10

الفصل الثاني: في أركانه

اشارة

و هي خمسة تنظمها خمسة مباحث:

البحث الأوّل: العقد.
مسألة 193: لا بدّ في هذه المعاملة من لفظٍ دالٍّ على الرضا من المتعاقدين؛

إذ الرضا من الأُمور الباطنة التي لا يطّلع عليها إلّا اللّه تعالى، و هذه المعاملة و غيرها من المعاملات يعتبر فيها الرضا؛ للآية(1).

فاللفظ الدالّ على الإيجاب أن يقول ربّ المال: قارضتك، أو:

ضاربتك، أو: عاملتك على أن يكون الربح بيننا نصفين أو أثلاثاً، أو غير ذلك من الأجزاء، بشرط تعيين الأكثر لمن هو منهما و الأقلّ كذلك.

و القبول أن يقول العامل: قبلت، أو: رضيت، أو غيرهما من الألفاظ الدالّة على الرضا بالإيجاب.

و كذا الإيجاب لا يختصّ لفظاً، فلو قال: خُذْه و اتّجر به على أنّ ما سهّل اللّه تعالى في ذلك من ربحٍ و فائدةٍ يكون بيننا على السويّة أو متفاوتاً، جاز.

مسألة 194: و لا بدّ من القبول على التواصل المعتبر في سائر العقود.
اشارة

و هل يعتبر اللّفظ؟ الأقرب: العدم، فلو قال: خُذْ هذه الدراهم فاتّجر

ص: 11


1- سورة النساء: 29.

بها على أنّ الربح بيننا على كذا، فأخذها و اتّجر، فالأقرب: الاكتفاء به في صحّة العقد، كالوكالة، و يكون قراضاً، و هذا قول بعض الشافعيّة(1).

قال الجويني: و قطع شيخي و الطبقة العظمى من نَقَلة المذهب على أنّه لا بدّ من القبول؛ بخلاف الجعالة و الوكالة، فإنّ القراض عقد معاوضةٍ يختصّ بمعيّنٍ، فلا يشبه الوكالة التي هي إذن مجرّد، و الجعالة التي يبهم فيها العامل(2).

و الوجه: الأوّل.

تذنيب: يجب التنجيز في العقد،

فلا يجوز تعليقه على شرطٍ أو صفةٍ، مثل: إذا دخلت الدار، أو: إذا جاء رأس الشهر فقد قارضتك بكذا [كما] لا يجوز تعليق البيع و نحوه؛ لأنّ الأصل عصمة مال الغير.

مسألة 195: و إنّما يصحّ العقد لو تعيّنت الحصّة في الربح لكلّ واحدٍ منهما،

فلو أبهما الحصّة لهما بأن يقول: على أنّ لي بعض الربح و لك البعض، أو لأحدهما، لم يصح قطعاً.

و لو عيّن حصّة العامل و سكت عن حصّته، فقال: قارضتك بهذا المال على أنّ النصف لك، صحّ؛ لأنّ النماء و الربح يتبع الأصل، فهو بالأصالة للمالك، و إنّما ينتقل إلى العامل بالشرط، فإذا عيّن حصّة العامل بقي الباقي للمالك؛ لأنّه تابع لماله.

و للشافعيّة وجهٌ ضعيف: إنّه لا يصحّ، إلّا أن تجري الإضافة إلى المتعاملين في الجزءين من الجانبين، فيقول: على أنّ الربح نصفه لك

ص: 12


1- الوسيط 114:4، التهذيب 379:4، العزيز شرح الوجيز 17:6، روضة الطالبين 204:4.
2- العزيز شرح الوجيز 17:6، روضة الطالبين 204:4.

و نصفه لي(1).

و المعتمد ما تقدّم.

و لو عيّن حصّة المالك خاصّةً، فقال: قارضتك بهذا على أنّ نصف الربح لي، و سكت عن حصّة العامل، بطل؛ لأنّه لم يعيّن للعامل شيئاً؛ إذ النماء المسكوت عنه يتبع المال، فيكون للمالك، إلّا إذا نُسب شيء منه إلى العامل، و التقدير أنّه لم يُنسب إليه شيء.

و قال بعض الشافعيّة: يصحّ أيضاً، و يكون النصف الآخَر للعامل؛ لأنّه الذي يسبق إلى الفهم منه(2).

و لو قال: على أنّ لك النصف ولي السدس، و سكت عن الباقي، صحّ على ما اخترناه، و كان الربح بينهما بالسويّة، كما لو سكت عن جميع النصف الذي للمالك؛ لأنّ الباقي مسكوت عنه، فيتبع رأس المال.

البحث الثاني: المتعاقدان.
اشارة

و شرط كلّ واحدٍ منهما البلوغُ و العقلُ و جوازُ التصرّف، فلا يصحّ القراض بين الصبي و غيره، و كذا المجنون و السفيه و المحجور عليه للفلس.

و الأصل فيه: إنّ القراض توكيل و توكّل في شيءٍ خاصّ، و هو التجارة، فيعتبر في العامل و المالك ما يعتبر في الوكيل و الموكّل.

ص: 13


1- التنبيه: 119، المهذّب - للشيرازي - 392:1، بحر المذهب 218:9، الوسيط 112:4، الوجيز 222:1، البيان 165:7، العزيز شرح الوجيز 18:6، روضة الطالبين 204:4.
2- الحاوي الكبير 346:7، التنبيه: 119، المهذّب - للشيرازي - 392:1، بحر المذهب 218:9، الوسيط 111:4، الوجيز 222:1، التهذيب - للبغوي - 380:4، البيان 164:7، العزيز شرح الوجيز 17:6، روضة الطالبين 204:4.

و لا نعلم فيه خلافاً.

مسألة 196: لو قارض المريض في مرض موته، صحّ،

و كان للعامل ما شُرط له، سواء زاد عن أُجرة مثل عمله أو ساواه أو قصر عنه، و لا يحسب من الثلث؛ لأنّ المحسوب من الثلث إنّما هو ما يفوّته المريض من ماله، و الربح ليس بحاصلٍ حتى يفوّته، و إنّما هو شيء يتوقّع حصوله، و إذا حصل حصل بتصرّفات العامل و كسبه.

و لو ساقى المريض في مرض الموت و زاد الحاصل عن أُجرة المثل، فالأولى أنّ الزيادة عن أُجرة المثل تُحسب من الثلث؛ لأنّ للنماء وقتاً معلوماً يُنتظر، و هي حاصلة من عين النخل من غير عملٍ، فكانت كالشيء الحاصل، بخلاف أرباح التجارات التي تحصل من عمل العامل، و هذا أظهر وجهي الشافعيّة. و الثاني: إنّه لا تُحتسب من الثلث أيضاً؛ لأنّه وقت العقد لم تكن ثمرة، و حصولها منسوب إلى عمل العامل و تعهّده(1).

مسألة 197: يجوز تعدّد كلٍّ من المالك و العامل،
اشارة

فيضارب الواحد اثنين و بالعكس، فإذا تعدّد العامل بأن قارض الواحد اثنين، اشترط تعيين الحصّة لهما، و لا يجب تفصيلهما، بل يجوز أن يجعل النصف لهما، فيحكم بالنصف لهما معاً بالسويّة؛ لاقتضاء الإطلاق ذلك، و أصالة عدم التفضيل.

و لو شرط التفاوت بينهما بأن جعل لأحدهما ثلث الربح و للآخَر ربعه و أبهم فلم يعيّن المستحقّ للثلث، بطل.

و إن عيّن الثلث لواحدٍ بعينه و الربع للآخَر، جاز؛ لأنّ عقد الواحد مع

ص: 14


1- الوسيط 115:4، العزيز شرح الوجيز 19:6، روضة الطالبين 205:4.

اثنين كعقدين، و يكون كأنّه قد قارض أحدهما في نصف المال بنصف الربح و الآخَر في نصفه بثلث الربح، و به قال الشافعي(1).

و قال مالك: لا يجوز؛ لأنّهما شريكان في العمل بأبدانهما، فلا يجوز تفاضلهما في الربح، كالمفردين(2).

و المعتمد: الأوّل؛ لأنّ ذلك بمنزلة العقدين، و لا شكّ أنّه لو ضارب اثنين في عقدين جاز أن يفاضل بينهما، فكذا إذا جمعهما عقدٌ واحد؛ لأنّه بمنزلتهما.

و لأنّه مع تعدّد العامل و وحدة العقد إمّا أن يُنظر إلى تعدّد العامل فيجوز التفاضل قطعاً، و إمّا أن يُنظر إلى وحدة العقد فكذلك؛ لأنّه في الحقيقة قد شرط للعاملَيْن - اللّذين هُما بمنزلة عاملٍ واحد - نصفاً و ثلثاً، و لا شكّ في أنّه يجوز ذلك في العامل الواحد، فكذا ما هو بمنزلته.

و قياس مالك باطل عندنا؛ فإنّه لا تصحّ شركة الأبدان.

تذنيب: يجوز أن يقارض الاثنين و إن لم يثبت لكلٍّ منهما الاستقلال،

بل شرط على كلّ واحدٍ منهما مراجعة الآخَر؛ عملاً بمقتضى الشرط، و هو قول أكثر الشافعيّة(3).

و قال الجويني: إنّما يجوز أن يقارض اثنين إذا ثبت لكلّ واحدٍ منهما

ص: 15


1- الحاوي الكبير 355:7، حلية العلماء 350:5، العزيز شرح الوجيز 19:6، روضة الطالبين 205:4، المغني 145:5، الشرح الكبير 134:5، الإشراف على نكت مسائل الخلاف 1118/643:2، الذخيرة 40:6.
2- الإشراف على نكت مسائل الخلاف 643:2-1118/644، الذخيرة 40:6، النوادر و الزيادات 272:7-273، حلية العلماء 351:5، العزيز شرح الوجيز 19:6، المغني 145:5، الشرح الكبير 134:5.
3- العزيز شرح الوجيز 19:6، روضة الطالبين 205:4.

الاستقلال، فإن شرط على كلّ واحدٍ منهما مراجعة الآخَر، لم يجز(1).

و لا وجه له.

مسألة 198: يجوز أن يقارض الاثنان واحداً،

و يجب أن يُبيّنا نصيب العامل من الربح، و يكون الباقي بينهما على ما يشترطانه، سواء كان على نسبة المالين أو لا، فلو شرطا له النصف من نصيب أحدهما و الثلث من نصيب الآخَر من الربح، فإن أبهما لم يجز قطعاً؛ للغرر بالجهالة، و إن عيّنا فإن كان عالماً بقدر كلّ واحدٍ منهما جاز، و إلّا بطل.

و لو شرط أحدهما للعامل النصفَ من حصّته من الربح و شرط الآخَر الثلثَ على أن يكون الباقي بينهما نصفين، جاز عندنا - و به قال أبو حنيفة و أبو ثور(2) - عملاً بالشرط، و قد بيّنّا أنّه يجوز اشتراط أحد الشريكين لنفسه أكثر ممّا يحصل له بالنسبة من ماله.

و قال الشافعي: لا يجوز؛ لأنّ أحدهما يستحقّ ممّا بقي بعد شرطه النصفَ، و الآخَر الثلثين، فلا يجوز أن يشترطا التساوي فيكون قد شرط أحدهما على الآخَر من ربح ماله بغير عملٍ عمله و لا مالٍ يملكه، فلم يجز(3).

و هو غلط؛ لأنّ الفاضل من حصّة العامل، لا من حصّة شريكه.

مسألة 199: يجوز لوليّ الطفل و المجنون أن يقارض على مالهما مع المصلحة؛

لأنّه يجوز له أن يوكّل عنهما في أُمورهما، فكذا يجوز أن يعامل على أموالهما قراضاً.

ص: 16


1- العزيز شرح الوجيز 19:6، روضة الطالبين 205:4.
2- بحر المذهب 226:9، حلية العلماء 351:5، العزيز شرح الوجيز 19:6، المغني 146:5، الشرح الكبير 134:5-135.
3- الحاوي الكبير 355:7، بحر المذهب 226:9، حلية العلماء 351:5، العزيز شرح الوجيز 19:6، روضة الطالبين 205:4، المغني 146:5، الشرح الكبير 135:5.

و لا فرق بين الأب و الجدّ له و وصيّهما و الحاكم و أمينه.

و لو لم يكن الدافع وليّاً، كان ضامناً، و الربح لليتيم؛ لأنّه متعدٍّ بدفعه مالَ الغير.

و قد سأل بكرُ بن حبيب الباقرَ عليه السلام عن رجلٍ دفع مال يتيمٍ مضاربةً، فقال: «إن كان ربح فلليتيم، و إن كانت وضيعة فالذي أعطاه(1) ضامن»(2).

إذا عرفت هذا، فإن كان العامل جاهلاً كان الربح لليتيم، و على الدافع إليه أُجرة المثل، و إن كان عالماً فلا أُجرة له، و على التقديرين فالعامل ضامن، لكن في الصورة الأُولى يرجع على الدافع إليه، و في الصورة الثانية لا يرجع.

مسألة 200: يشترط أن يكون الدافع مالك المال أو مَنْ أذن له المالك فيه؛

لأنّ غيرهما ممنوع منه؛ لما فيه من التصرّف في مال الغير بغير إذنه، و هذا العقد قابل للاستنابة، فجاز أن يوقعه المالك بنفسه أو وكيله؛ لأنّه نائبه في الحقيقة.

و يشترط في الوكيل الكماليّة المشترطة في باقي الوكلاء.

مسألة 201: ليس للعامل في القراض أن يضارب غيره إلّا بإذن المالك،

فإن فَعَل كان فاسداً؛ لأنّ المالك لم يأذن فيه و لا ائتمن على المال غيره، و لا يجوز للعامل أن يتصرّف في مال ربّ المال بما لا يتناوله إذنه، و لا يجوز له أن يسلّمه إلى مَنْ لم يأتمنه.

فإن قارض العامل غيرَه بغير إذن المالك، كان ضامناً؛ لأنّه متعدٍّ فيه.

ص: 17


1- في المصدر: «أعطى».
2- التهذيب 842/190:7.

و إن قارض بإذن المالك، صحّ، و كان المالك قد أذن له أن يقارض إن اختار أو عجز عن العمل، فإذا قارض بإذنه كان العامل الأوّل وكيلاً لربّ المال في ذلك.

البحث الثالث: في رأس المال.
و له شروط ثلاثة:
الشرط الأوّل: أن يكون من النقدين:
اشارة

دراهم و دنانير مضروبة منقوشة، عند علمائنا - و به قال الشافعي و مالك و أبو حنيفة(1) - لأنّ القراض معاملة تشتمل على غررٍ عظيم؛ إذ العمل مجهول غير منضبطٍ، و الربح غير متيقّن الحصول.

و إنّما سوّغنا هذه المعاملة مع الغرر الكثير؛ للحاجة و الضرورة، فتختصّ بما تسهل التجارة عليه و تروج في كلّ حالٍ و كلّ وقتٍ؛ لأنّ النقدين أثمان البياعات، و الناس يتداولون بالمعاملة عليها من عهد النبيّ صلى الله عليه و آله

ص: 18


1- مختصر المزني: 122، الإشراف على مذاهب أهل العلم 38:2، الحاوي الكبير 307:7، التنبيه: 119، المهذّب - للشيرازي - 392:1، بحر المذهب 188:9، الوجيز 221:1، الوسيط 106:4، حلية العلماء 329:5، التهذيب - للبغوي - 378:4، البيان 159:7، العزيز شرح الوجيز 6:6، روضة الطالبين 197:4، منهاج الطالبين: 154، الموطّأ 689:2، ذيل الرقم 4، الاستذكار 30791/136:21 و 30793، المدوّنة الكبرى 86:5، الإشراف على نكت مسائل الخلاف 1111/640:2، التلقين: 407، التفريع 194:2، الذخيرة 30:6، المعونة 1120:2، الكافي في فقه أهل المدينة: 384، تحفة الفقهاء 20:3، بدائع الصنائع 82:6، الفقه النافع 1040/1287:3، فتاوى قاضيخان - بهامش الفتاوى الهنديّة - 161:3، المبسوط - للسرخسي - 21:22، مختصر اختلاف العلماء 1702/37:4، النتف 538:1، الهداية - للمرغيناني - 202:3، المغني 124:5، الشرح الكبير 112:5.

و قبله و بعده إلى زماننا هذا، و يرجعون إليهما في قِيَم المُتلفات.

و لأنّ النقدين ثمنان لا يختلفان بالأزمنة و الأصقاع إلّا قليلاً نادراً، و لا يقوَّمان بغيرهما، و أمّا غيرهما من العروض فإنّ قيمتها تختلف دائماً، فلو جُعل شيء منها رأس المال لزم إمّا أخذ المالك جميعَ الربح، أو أخذ العامل بعضَ رأس المال، و التالي بقسميه باطل، فالمقدَّم مثله.

بيان الشرطيّة: إنّهما إذا جعلا رأس المال ثوباً مثلاً، فإمّا أن يشترط(1) ردّ ثوبٍ بتلك الصفات، أو ردّ قيمته.

فإن شرطا الأوّل، فربما كان قيمة الثوب في حال المعاملة يساوي ديناراً و يبيعه به و يتصرّف فيه حتى يبلغ المال عشرة دنانير ثمّ ترتفع قيمة الثياب حتى لا يوجد مثل ذلك الثوب إلّا بعشرة، فيحتاج العامل إلى أن يصرف جميع ما معه إلى تحصيل رأس المال، فيذهب الربح في رأس المال، فيتضرّر العامل.

و بالعكس قد تكون قيمة الثوب عشرةً وقت المعاملة، فيبيعه و لا يربح شيئاً ثمّ تتنازل قيمة الثياب حتى يوجد مثله بنصف دينارٍ فيدفعه إليه و يبقى نصف دينارٍ(2) و يأخذ العامل منه حصّته، فيحصل بعض رأس المال.

و إن شرطا ردّ القيمة، فإمّا أن يشترطا قيمته حال المفاصلة أو قيمته حال الدفع، و القسمان باطلان.

أمّا الأوّل: فلأنّها مجهولة، و لأنّ القيمة قد تزيد بحيث تستوعب الأصل و النماء، فيلزم المحذور السابق.

و الثاني باطل؛ لأنّه قد تكون قيمته في الحال عشرةً و تعود عند».

ص: 19


1- الظاهر: «يشترطا».
2- الظاهر: «تسعة و نصف دينار».

المفاصلة إلى واحدٍ، فيلزم المحذور الثاني.

و أمّا بطلان التالي(1): فلأنّه منافٍ للمضاربة؛ لأنّ مقتضاها أن يرجع إلى ربّ المال رأس ماله ثمّ يشتركان في الربح.

و اعتُرض(2) بأنّ لزوم أحد الأمرين مبنيٌّ على أنّ رأس المال قيمة(3) يوم العقد، و بتقدير جواز القراض على العرض يجوز أن يكون رأس المال ذلك العرض بصفاته من غير نظرٍ إلى القيمة، كما أنّه المستحقّ في السَّلَم، و حينئذٍ فإن ارتفعت القيمة فهو كخسرانٍ حصل في أموال القراض، و إن انخفضت فهو كزيادة قيمةٍ فيها.

و ادّعى بعض الشافعيّة الإجماعَ على اختصاص القراض بالنقدين(4).

و الشيخ رحمه الله استدلّ على الاختصاص: بأنّ ذلك مُجمع على جوازه، بخلاف المتنازع(5).

و قال الأوزاعي و ابن أبي ليلى: يجوز القراض بكلّ مالٍ، فإن كان له مِثْلٌ أُعيد مثله عند المفاصلة، و إن لم يكن له مِثْلٌ أُعيد قيمته - و به قال طاوُس و حمّاد بن أبي [سليمان](6) مسلم، و عن أحمد روايتان - لأنّ ذلك يجوز أن يكون ثمناً، فجاز أن يكون رأس مال المضاربة كالنقود(7).4.

ص: 20


1- في «ث، خ، ر»: «الثاني» بدل «التالي».
2- المعترض هو الرافعي في العزيز شرح الوجيز 7:6.
3- في «ث، ج، ر»: «قيمته».
4- البيان 159:7، العزيز شرح الوجيز 7:6، روضة الطالبين 197:4.
5- الخلاف 459:3، المسألة 1 من كتاب القراض.
6- ما بين المعقوفين أثبتناه من الإشراف على مذاهب أهل العلم 39:2، و المغني 125:5، و الشرح الكبير 113:5، و تهذيب التهذيب 15/14:3.
7- الإشراف على مذاهب أهل العلم 39:2، الحاوي الكبير 307:7، بحر المذهب 188:9، حلية العلماء 330:5، البيان 159:7، الإشراف على نكت مسائل الخلاف 1111/640:2، الاستذكار 30794/136:21، بداية المجتهد 236:2، روضة القُضاة 3422/581:2، المبسوط - للسرخسي - 33:22، مختصر اختلاف العلماء 1702/37:4.

و الفرق ظاهر بما قدّمناه.

إذا ثبت هذا، فلو دفع إليه كُرّاً من طعامٍ مضاربةً، فباعه و اتّجر بثمنه، فإنّ القراض فاسد، و كان البيع و التجارة صحيحين بالإذن، و الربح بأجمعه لصاحب المال، و عليه أُجرة المثل للعامل؛ لأنّه عمل على أن يكون شريكاً في الربح، و لم يثبت له ذلك؛ لفساد العقد، فيكون له أُجرة المثل.

مسألة 202: لا تجوز المضاربة بالنقرة و لا بالتبر؛
اشارة

لأنّهما متقوّمان، كسائر الأعيان، و لهذا يضمن بالقيمة في الإتلاف.

و كذا لا يجوز القراض بالحُليّ و سائر المصوغات من النقدين و كلّ ما ليس بمضروبٍ بسكّة المعاملة حال العقد أو قبله.

و أمّا الفلوس فلا يجوز القراض بها عند علمائنا - و به قال الشافعي و أبو حنيفة و أبو يوسف(1) - لأنّها ليست أثماناً غالباً، فلا تصحّ المضاربة عليها، كسائر الأعيان.

و قال محمّد بن الحسن: تجوز المعاملة على الفلوس؛ استحساناً؛ لأنّها ثمن في بعض البلاد(2).

ص: 21


1- الإشراف على مذاهب أهل العلم 38:2، المهذّب - للشيرازي - 392:1، بحر المذهب 190:9، الوسيط 106:4، حلية العلماء 331:5، التهذيب - للبغوي - 378:4، البيان 161:7، العزيز شرح الوجيز 7:6، روضة الطالبين 197:4-198، بدائع الصنائع 82:6، المبسوط - للسرخسي - 21:22، مختصر اختلاف العلماء 1702/37:4، عيون المسائل: 185، فتاوى قاضيخان - بهامش الفتاوى الهنديّة - 161:3، عيون المجالس 1256/789:4.
2- بدائع الصنائع 82:6، عيون المسائل: 185، فتاوى قاضيخان - بهامش الفتاوى الهنديّة - 161:3، المبسوط - للسرخسي - 21:22، مختصر اختلاف العلماء 1702/37:4، النتف 538:1، الإشراف على مذاهب أهل العلم 38:2، بحر المذهب 190:9، حلية العلماء 331:5، البيان 161:7، الاستذكار 30797/137:21.

و هو ممنوع.

و أمّا الدراهم المغشوشة فلا تصحّ المعاملة عليها إذا لم تكن معلومةَ الصرف بين الناس، سواء كان الغشّ أقلّ أو أكثر - و به قال الشافعي(1) - لأنّها تتقوّم، كالأعواض.

و قال أبو حنيفة: إن كان الغشّ أكثر من النصف لم يجز، و إن كان أقلَّ جاز؛ لأنّ الاعتبار بالغالب، كما اعتُبر ذلك في كثيرٍ من الأُصول(2).

و هو ممنوع؛ لأنّه يقول في الزكاة: إذا كانت الفضّة أقلَّ، لم يسقط حكمها، و اعتبر بلوغها النصاب(3).

و حكى الجويني وجهاً عن الشافعيّة: إنّه يجوز القراض على المغشوش اعتباراً برواجه(4).

و حكى بعضهم أنّ بين الشافعيّة خلافاً في القراض بالفلوس(5).

تذنيب: ظهر من هذا أنّه لا يجوز أن يجعل المنافع - كسكنى الدار

ص: 22


1- الحاوي الكبير 308:7، التنبيه: 119، المهذّب - للشيرازي - 392:1، بحر المذهب 189:9، الوسيط 106:4، حلية العلماء 331:5، التهذيب - للبغوي - 378:4، البيان 161:7، العزيز شرح الوجيز 7:6، روضة الطالبين 197:4، منهاج الطالبين: 154، الذخيرة 33:6.
2- الحاوي الكبير 308:7، بحر المذهب 189:9، حلية العلماء 331:5، البيان 161:7، العزيز شرح الوجيز 7:6، الإشراف على نكت مسائل الخلاف 1112/640:2، الذخيرة 33:6.
3- راجع: ج 5 - من هذا الكتاب - ص 126، الهامش (3). (4 و 5) العزيز شرح الوجيز 7:6.

و خدمة العبد - رأس مال القراض فإنّ العروض إذا لم يجز جَعْلها رأس المال له فالمنافع أولى بالمنع.

الشرط الثاني: أن يكون معلوماً،

فلا يصحّ القراض على الجزاف و إن كان مشاهداً، مثل قبضةٍ من ذهبٍ أو فضّةٍ مجهولة المقدار، أو كيس من الدراهم مجهول المقدار، أو صُبرة مجهولة المقدار، سواء شاهدها العامل و المالك، أو لا - و به قال الشافعي(1) - لعدم إمكان الرجوع إليه عند المفاصلة، و لا بدّ من الرجوع إلى رأس المال عندها، و لأنّ جهالة رأس المال تستلزم جهالة الربح.

و قال أبو حنيفة: يجوز أن يكون رأس المال مجهولاً، و يكون القولُ قولَ العامل مع يمينه، إلّا أن تكون لربّ المال بيّنةٌ، فإن كانت لهما بيّنةٌ فبيّنة ربّ المال أولى؛ لأنّ العامل أمينٌ لربّ المال، و قوله مقبولٌ في ما في يده، فقام ذلك مقام المعرفة(2).

و قد قال أبو حنيفة: يجب أن يكون رأس مال السَّلَم معلوماً(3) ، و هو مذهبنا أيضاً، و هو أحد قولَي الشافعي(4) ؛ لأنّه قد يرجع إليه عند فساد السَّلَم، فما لا بدّ من الرجوع أولى بأن يكون معلوماً.

ص: 23


1- الحاوي الكبير 308:7، المهذّب - للشيرازي - 392:1، التنبيه: 119، بحر المذهب 192:9، الوسيط 106:4، حلية العلماء 323:5، التهذيب - للبغوي - 378:4، البيان 163:7، العزيز شرح الوجيز 7:6، روضة الطالبين 198:4، منهاج الطالبين: 154، المغني 191:5، الشرح الكبير 141:5.
2- فتاوى قاضيخان - بهامش الفتاوى الهنديّة - 161:3، المبسوط - للسرخسي - 27:22، المغني 191:5، الشرح الكبير 141:5، بحر المذهب 192:9، البيان 163:7، العزيز شرح الوجيز 8:6.
3- راجع: ج 11 - من هذا الكتاب - ص 333، الهامش (3).
4- راجع: ج 11 - من هذا الكتاب - ص 333، الهامش (1).

و أجاب الشافعيّة: بأنّ المسلَم إليه القولُ قوله أيضاً في قدر رأس المال، و لا يقوم ذلك مقام معرفته، و فرّقوا بين السَّلَم على القول بجواز الجهالة فيه: بأنّ السَّلَم لا يعقد ليفسخ(1) ، و القراض يعقد ليفسخ(2)، و يميّز بين رأس المال و الربح(3).

الشرط الثالث: أن يكون معيّناً،
اشارة

فلو أحضر المالك ألفين و قال للعامل: قارضتك على إحدى هاتين الألفين، أو على أيّهما شئت، لم يصح؛ لعدم التعيين، و صار كما لو قال: قارضتك على هذه الدراهم، أو على هذه الدنانير، أو قال: بعتك أحد هذين العبدين، و هو أصحّ وجهي الشافعيّة.

و الثاني: إنّه يصحّ؛ لتساويهما(4).

و ينتقض بما تقدّم.

نعم، يصحّ القراض بالمال المشاع، فلو كان له نصف ألفٍ مشاعاً، فقارض غيره على ذلك، صحّ؛ لأنّه معيّن.

و كذا لو كانت غائبةً عنهما وقت العقد، و أشار ربّ المال إليها بما يميّزها عن غيرها حالة العقد، صحّ.

أمّا لو قارضه على ألفٍ و أطلق، ثمّ أحضر إليه ألفاً في المجلس و عيّنها، فإنّه لا يصحّ - و هو أحد قولَي الشافعيّة(5) - لعدم التعيين.

ص: 24


1- فيما عدا «ج» من النُّسَخ الخطّيّة و الحجريّة: «لينفسخ».
2- فيما عدا «ج» من النُّسَخ الخطّيّة و الحجريّة: «لينفسخ».
3- التهذيب - للبغوي - 378:4، العزيز شرح الوجيز 8:6.
4- الحاوي الكبير 308:7، المهذّب - للشيرازي - 392:1، بحر المذهب 193:9، الوسيط 106:4، حلية العلماء 328:5، التهذيب - للبغوي - 378:4-379، البيان 163:7، العزيز شرح الوجيز 9:6، روضة الطالبين 199:4.
5- العزيز شرح الوجيز 8:6، روضة الطالبين 198:4.

و الآخَر: إنّه يصحّ، كما في الصرف و رأس مال السَّلَم(1).

مسألة 203: و لا يجوز القراض على الديون، و لا نعلم فيه خلافاً.

قال ابن المنذر: أجمع كلّ مَنْ نحفظ عنه من أهل العلم أنّه لا يجوز أن يجعل الرجل دَيْناً له مضاربةً، و [ممّن](2) حفظنا عنه ذلك: عطاء و الحكم و حمّاد و مالك و الثوري و إسحاق و أبو ثور و أصحاب الرأي، و به قال الشافعي(3).

فلو كان له في ذمّة غيره ألف فقارضه عليها أو قارض غيره و قال: قد قارضتك على الألف التي في ذمّة فلان فاقبضه و اتّجر فيه، لم يجز؛ لأنّا منعنا من القراض على العروض لعسر التجارة و التصرّف فيها، و معلومٌ أنّ التصرّف في الدَّيْن أعسر، فكان المنع منه فيه أولى؛ لأنّ ما في الذمّة لا بدّ من تحصيله أوّلاً، و سيأتي أنّه لا يجوز في القراض ضمّ عملٍ إلى التجارة، لكن مثل هذا العمل يجوز أن يُعدّ من توابع التجارة، فلا يمتنع ضمّه إلى عمل القراض، كما أنّه لو كان له عند غيره وديعة دراهم أو دنانير فقال لثالثٍ: قارضتك عليها فخُذْها و تصرّف فيها، فإنّه يجوز قطعاً، فإذَنْ التعويل على ما تقدّم و على ما رواه السكوني - في الموثّق - عن الصادق عليه السلام قال: «قال أمير المؤمنين عليه السلام في رجلٍ له على رجلٍ مال فتقاضاه فلا يكون عنده، فيقول: هو عندك مضاربة، قال: لا يصلح حتى يقبضه»(4).

مسألة 204: لو دفع إليه ثوباً فقال له: بِعْه فإذا نضّ ثمنه فقد قارضتك

ص: 25


1- العزيز شرح الوجيز 8:6، روضة الطالبين 198:4.
2- بدل ما بين المعقوفين في النُّسَخ الخطّيّة و الحجريّة: «من». و الظاهر ما أثبتناه كما في المصادر.
3- الإشراف على مذاهب أهل العلم 40:2، المغني 190:5، الشرح الكبير 140:5.
4- الكافي 4/240:5، التهذيب 848/192:7.

عليه، لم يصح عند علمائنا - و به قال الشافعي(1) - لأنّه عقد لا يصحّ على المجهول، فلم يجز تعليقه بالشرط، كالبيع، و لأنّ شرط مال القراض التعيينُ و التشخيصُ، و لا يتحقّق ذلك في الثمن الذي يحصل بعد عقد القراض.

و قال أبو حنيفة: يصحّ، فإذا باعه و قبض الثمن كان قراضاً؛ لأنّ ذلك أمرٌ له بالتصرّف، فجاز تعليقه على شرطٍ، كالإمارة(2).

و الفرق: إنّ الإمارة يجوز أن تكون شورى بين جماعةٍ، و لا يجوز مثل ذلك في القراض.

مسألة 205: لو دفع إليه غزلاً و قال: انسجه ثوباً على أن يكون الفضل بيننا، لم يصح،

و إذا نسجه كان الثوب لصاحب الغزل، و عليه أُجرة الحائك، و كذا إذا دفع إليه حنطةً ليطحنها و يبيعه على أنّ الفاضل بينهما، لم يصح؛ لأنّ القراض إنّما يجوز على النقدين على ما تقدّم(3) ، فيكون الدقيق لصاحب الحنطة، و عليه أُجرته.

و لو دفع إليه شبكةً ليصطاد بها و يكون ما يحصل من الصيد بينهما، أو دفع إليه راويةً ليستقي عليها و يكون الماء أو ثمنه بينهما، لم يصح،

ص: 26


1- الحاوي الكبير 309:7، بحر المذهب 190:9، حلية العلماء 331:5، التهذيب - للبغوي - 379:4، البيان 162:7، العزيز شرح الوجيز 8:6، روضة الطالبين 198:4، عيون المجالس 1247/1783:4، روضة القُضاة 3434/583:2.
2- بدائع الصنائع 82:6، روضة القُضاة 3433/583:2، المبسوط - للسرخسي - 36:22، الهداية - للمرغيناني - 202:3، الإشراف على مذاهب أهل العلم 42:2، بحر المذهب 190:9، حلية العلماء 331:5، التهذيب - للبغوي - 379:4، البيان 162:7، العزيز شرح الوجيز 8:6.
3- في ص 18.

و يكون الصيد للصائد، و عليه أُجرة الشبكة لصاحبها، و كذا الماء الذي استقاه، و ثمنه له أيضاً، و عليه أُجرة الراوية، و قد تقدّم(1).

مسألة 206: لو كان له عند رجلٍ وديعة، فقارضه عليها، صحّ القراض؛

لأنّه متعيّن، و هو في يد العامل أمانة، فهو بمنزلة كونه في يد ربّ المال، و كذا لو كان عنده عارية.

و يجوز أن يعامل غيرَ المستودع و المستعير بالوديعة و العارية.

و لو كان له مال عنده غصب، فقارضه عليه و هو موجود معيّن، صحّ عندنا أيضاً؛ لاستجماع شرائط الصحّة، مع أصالتها، و هو أحد وجهي الشافعيّة.

و الثاني: لا يصحّ؛ لأنّ مال القراض أمانة، و هذا المال في يده مضمون عليه، فلا يوجد فيه معنى القراض(2).

و المذهب عندهم: الوجه الأوّل(3)، و هو الحقّ عندنا.

و اجتماع ما أصله الضمان و ما أصله الأمانة غير منافٍ؛ فإنّ العامل إذا تعدّى في مال المضاربة ضمن، و القراض بحاله، و كذا إذا ارتهن ما هو مغصوب عنده، مع أنّ مقتضى الرهن الأمانة.

إذا ثبت هذا، فإذا اشترى شيئاً للقراض و سلّم المال المغصوب إلى البائع، صحّ، و برئ من الضمان حيث سلّمه بإذن صاحبه، فإنّ المضاربة

ص: 27


1- في ج 16، ص 343، المسألة 162. (2 و 3) الحاوي الكبير 309:7، المهذّب - للشيرازي - 392:1، بحر المذهب 191:9، حلية العلماء 328:5، التهذيب - للبغوي - 379:4، البيان 163:7، العزيز شرح الوجيز 9:6، روضة الطالبين 199:4.

تضمّنت تسليم المال إلى البائع في التجارة.

و هل يزول عن الغاصب ضمان الغصب بعقد المضاربة عليه، أو بدفعه إلى بائع السلعة للقراض ؟ أبو حنيفة و مالك على الأوّل؛ لأنّه ماسك له بإذن صاحبه(1) ، و الشافعي على الثاني؛ لعدم التنافي بين القراض و ضمان الغصب، كما لو تعدّى فيه(2).

و الوجه عندي: الأوّل؛ لأنّ ضمان الغصب يتبع الغصب، و الغصب قد زال بعقد القراض، فيزول تابعه.

مسألة 207: لو كان له في ذمّة غيره مال فقال: اعزل المال الذي لي في ذمّتك و قد قارضتك عليه بالنصف،

مثلاً، فعزل المال، بطل القراض؛ لأنّه قبل العزل دَيْنٌ عليه، و قد قارضه على الدَّيْن و قلنا: إنّه لا يجوز.

و قال الشافعي: لا يصحّ تعيينه بالدَّيْن؛ لأنّه لا يجوز أن يكون قابضاً لغيره من نفسه، و لا تبرأ ذمّته منه، و يكون الدَّيْن باقياً في ذمّته(3).

فإن اشترى شيئاً للقراض، فإن كان بعين المال كان ملكاً له، و لم يكن قراضاً؛ لأنّ المال ملكه، و نيّة القراض لا تؤثّر في الشراء به.

ص: 28


1- بحر المذهب 191:9، العزيز شرح الوجيز 9:6، المغني 192:5، الشرح الكبير 139:5-140.
2- الحاوي الكبير 309:7، بحر المذهب 191:9، حلية العلماء 329:5، البيان 163:7، العزيز شرح الوجيز 9:6، روضة الطالبين 199:4، المغني 192:5، الشرح الكبير 140:5.
3- بحر المذهب 191:9، حلية العلماء 349:5، التهذيب - للبغوي - 379:4، البيان 203:7، العزيز شرح الوجيز 9:6، روضة الطالبين 198:4.

و إن اشترى شيئاً للقراض [بثمنٍ مطلقٍ](1) و دفع المال(2) ، اختلفت الشافعيّة فيه:

فمنهم مَنْ قال: يكون المشترى للقراض، و يكون قراضاً فاسداً؛ لأنّه جعل له شرطاً، و هو عزل المال الذي في ذمّته، كما لو قال له: بِعْ هذا العبد و يكون ثمنه قراضاً، و قد برئ من الدَّيْن بدفع ثمن الذي اشتراه؛ لأنّه دَفَعه بإذن صاحبه، و يكون له أُجرة المثل، و الربح لربّ المال.

و منهم مَنْ قال: لا يكون قراضاً لا صحيحاً و لا فاسداً، و يكون ما اشتراه له، و لا يصحّ أن يشتري بنيّة القراض إلّا إذا كان في يده مال القراض، و هذا المال الذي في يده ملكه، فإذا اشترى وقع الشراء له، و يكون الدَّيْن باقياً في ذمّته(3).

و لو كان لرجلٍ في ذمّة غيره ألف، فقال لثالثٍ: اقبضها منه و قد قارضتك عليها، فقبضها منه، لم يصح القراض، و صحّ القبض؛ لأنّه قبض بإذن صاحب الدَّيْن، و إذا اشترى بها للقراض صحّ الشراء له، إلّا أنّه يكون قراضاً فاسداً؛ لأنّه علّقه بشرطٍ، فيكون الربح و الخسران لربّ المال، و للعامل أُجرة المثل، كما إذا قال: بِع الثوب و قد قارضتك بثمنه.

فأمّا إذا قال: قارضتك على ألف، ثمّ قال له: خُذْها من فلان، أو قال للّذي عليه الدَّيْن: احملها إليه، ففَعَل، صحّ إن وقع ذلك في الحال؛ لأنّه لا فرق بين أن يدفعها بنفسه أو بغيره.

هذا إذا كانت معيّنةً - عندنا - شخصيّة، و لو كانت دَيْناً عليه لم يجز.9.

ص: 29


1- بدل ما بين المعقوفين في النُّسَخ الخطّيّة و الحجريّة: «بطل». و المثبت من «بحر المذهب» يقتضيه السياق.
2- في النُّسَخ الخطّيّة و الحجريّة إضافة «و». و هي زائدة.
3- بحر المذهب 191:9-192، حلية العلماء 350:5، التهذيب - للبغوي - 379:4، البيان 203:7، العزيز شرح الوجيز 9:6، روضة الطالبين 198:4-199.
مسألة 208: لو دفع إليه مائة دينار و ألف درهم و قال: قارضتك على أحدهما بالنصف، لم يصح؛

لعدم التعيين، و الجهالة تمنع العقد، كما لو قال: بعتك أحد هذين العبدين.

و لو دفع إليه ألف درهم و قال له: اعمل على هذه و ربحها لي، و دفع إليه ألفاً أُخرى و قال: اعمل على هذه و يكون ربحها لك، كان القراض فاسداً؛ لأنّه شرط أن يكون جميع الربح في إحداهما للمالك و جميع الربح فيالأُخرى للعامل، و ذلك فاسد؛ لأنّه لا يجوز أن ينفرد أحدهما بالربح؛ لأنّ الربح يحصل بالمال و العمل، فلا يصحّ عقد المضاربة.

أمّا لو دفع الألفين و قال: قارضتك على هذه على أن تكون الألف منهما ربحها لي و الألف الأُخرى ربحها لك، حكى ابن سريج عن أبي حنيفة و أبي ثور أنّهما قالا: يصحّ، و يكون كأنّه قال: نصف الربح لي و نصفه لك؛ لأنّ هذا معناه(1).

قال ابن سريج: و هذا غلط؛ لأنّ موضوع القراض على أن يكون كلّ جزءٍ من المال ربحه بينهما، فإذا شرط ربح ألفٍ فقد شرط لنفسه الانفراد بربح جزءٍ منه، فكان فاسداً، و يفارق ما إذا شرط نصف الربح؛ لأنّ شرطه لم يتضمّن الانفراد بجزءٍ منه(2).

قال الشيخ رحمه الله: إذا أعطاه ألفين و قال: ما رزق اللّه تعالى من الربح كان لي ربح ألفٍ و لك ربح ألفٍ، كان جائزاً؛ لأنّه لا مانع منه، و الأصل جوازه.

و به قال أبو حنيفة و أبو ثور(3).

ص: 30


1- بحر المذهب 198:9، و راجع: البيان 167:7، و حلية العلماء 340:5.
2- الوسيط 112:4، العزيز شرح الوجيز 17:6.
3- الخلاف 462:3، المسألة 7 من كتاب القراض.

و هذا موافقة منه رحمه الله لهما.

و المعتمد أن نقول: إن قصد الإشاعة جاز، و إن قصد المعيّن بطل.

و لو أنّ صاحب الدَّيْن قال: قارضتك عليه لتقبض و تتصرّف، أو اقبضه فإذا قبضته فقد قارضتك عليه، لم يصح أيضاً، و إذا قبض و تصرّف فيه لم يستحق الربح المشروط، بل الجميع لصاحب المال، و عليه أُجرة المثل للعامل عن التصرّف و إن كان قد قال: إذا قبضتَ فقد قارضتُك، و إن قال: قد قارضتك عليه لتقبض و تتصرّف، استحقّ أُجرة مثل التقاضي و القبض أيضاً.

و لو قال: قارضتك على الدَّيْن الذي عليك، لم يصح القراض أيضاً؛ لأنّه إذا لم يصح و الدَّيْن على الغير فلأن لا يصحّ و الدَّيْن عليه كان أولى؛ لأنّ المأمور لو استوفى ما على غيره، مَلَكه الآمر، و صحّ القبض، و ما على المأمور لا يصير للمالك بعزله من ماله و قبضه للآمر، بل لو قال: اعزل قدر حقّي من مالك، فعزله، ثمّ قال: قارضتك عليه، لم يصح؛ لأنّه لم يملكه.

و إذا تصرّف المأمور في ما عزله، فإن اشترى بعينه للقراض، فهو كالفضولي يشتري لغيره بعين ماله.

و إن اشترى في الذمّة و نقد ما عزله، فللشافعيّة وجهان:

أحدهما: إنّه للمالك؛ لأنّه اشترى له بإذنه.

و الثاني: إنّه للعامل؛ لأنّه إنّما أذن في الشراء بمال القراض إمّا بعينه أو في الذمّة لينقده فيه، فإذا لم يملكه فلا قراض(1).

و الأقوى: الأوّل، فحيث كان المال المعزول للمالك فالربح و رأس9.

ص: 31


1- راجع: الهامش (3) من ص 29.

المال له؛ لفساد القراض، و عليه الأُجرة للعامل.

و لو قال: خُذ المال الذي على فلان و اعمل به مضاربةً، فأخذه ثمّ جدّد عقد المضاربة بعد أخذه، صحّ.

و كذا لو قال: بِعْ هذا الثوب فإذا نضّ ثمنه فهو قراض، ثمّ جدّد عقد القراض بعد الإنضاض.

و لو قال: خُذْ هذا المال قرضاً شهراً ثمّ هو قراض بعد ذلك، لم يصر قراضاً بذلك، بل لا بدّ من تجديد عقدٍ بعد الشهر و قبضه من يد المقترض، أمّا لو قال: خُذْه قراضاً شهراً ثمّ هو قرض بعد ذلك، صحّ.

مسألة 209: الأقرب عندي: إنّه لا يشترط في القراض أن يكون رأس المال مسلَّماً إلى العامل

بحيث تستقلّ يده عليه و ينفرد بالتصرّف فيه عن المالك و غيره، فلو شرط المالك أن يكون الكيس في يده يوفي الثمن منه إذا اشترى العامل شيئاً، أو شرط أن يراجعه العامل في التصرّف، أو يراجع مُشْرفاً نصبه، جاز ذلك، و لم يجز للعامل التجاوز، و كان القراض صحيحاً؛ لأنّه شرط سائغ لا يخالف الكتاب و السنّة؛ إذ للإنسان التوثّق على ماله بحفظه في يده أو يد مَنْ يثق به، و قد يستعان بالخائن في المعاملات لحذقه فيها، فلو لم يشرع هذا الشرط لزم تضرّر المالك إمّا بتسليم ماله إلى مَنْ لا يوثق به و إمّا بترك التجارة، و كلاهما باطل.

و قالت الشافعيّة: يشترط في القراض أن يكون رأس المال مسلَّماً إلى العامل، و يستقلّ باليد عليه و التصرّف فيه، فلو شرط أن يكون الكيس في يده و يوفي الثمن منه إذا اشترى العامل شيئاً، أو شرط أن يراجعه العامل في

ص: 32

التصرّف، أو يراجع مُشْرفاً نصبه، فسد القراض؛ لأنّه [قد](1) لا يجده عند الحاجة، أو لا يساعده على رأيه، فيفوت عليه التصرّف الرابح، و القراض موضوع تمهيداً و توسيعاً لطريق التجارة، و لهذا الغرض احتُمل فيه ضروب من الجهالة، فيُصان عمّا يخلّ به.

و لو شرط أن يعمل معه المالك بنفسه، فسد أيضاً؛ لأنّ انقسام التصرّف يفضي إلى انقسام اليد، و يُبطل الاستقلال(2).

و هذا ضعيف؛ لأنّه يجوز أن يشترط المالك عليه نوعاً من التجارة، أو السفر إلى بلدٍ بعينه، أو عدم السفر. و بالجملة، له أن يخصّص تجارته بنوعٍ دون غيره، و ببلدٍ دون غيره، و بزمانٍ دون غيره، و لم يعتبر الشارع هذه التضييقات، فما نحن فيه أولى بعدم الالتفات؛ لما فيه من حفظ رأس المال على صاحبه و الزيادة في الربح، و قد وافقنا بعض الشافعيّة(3) على ما قلناه.

مسألة 210: يجوز أن يشترط المالك على العامل أو العامل على المالك أن يعمل معه عبد المالك

- و هو ظاهر كلام الشافعي، و به قال أكثر الشافعيّة(4) - لأنّ العبد مال يدخل تحت اليد، و لمالكه إعارته و إجارته، فإذا

ص: 33


1- ما بين المعقوفين أضفناه من «العزيز شرح الوجيز».
2- الوجيز 221:1، الوسيط 107:4، التهذيب - للبغوي - 383:4، العزيز شرح الوجيز 10:6، روضة الطالبين 199:4، المغني 138:5، الشرح الكبير 141:5-142.
3- العزيز شرح الوجيز 10:6، روضة الطالبين 199:4.
4- الحاوي الكبير 311:7، المهذّب - للشيرازي - 399:1، الوسيط 108:4، التهذيب - للبغوي - 383:4، العزيز شرح الوجيز 10:6، روضة الطالبين 199:4، المغني 138:5، الشرح الكبير 142:5.

دفعه إلى العامل فقد جعله معيناً و خادماً للعامل، فوقع تصرّفه للعامل تبعاً لتصرّفه، و لأنّ ذلك عقد على أصلٍ يشترك ربّ المال و العامل على فائدته، فجاز أن يشترط فيه على ربّ المال عمل غلامه، كالمساقاة.

و القول الثاني للشافعي: إنّه لا يجوز، كما لو شرط أن يعمل بنفسه؛ لأنّ يد عبده يده في الحقيقة(1).

و الفرق: إنّ تصرّف العبد للعامل يقع تابعاً لتصرّف العامل، بخلاف ما إذا شرط المالك أن يعمل بنفسه، فإنّه لا وجه لجَعْله تابعاً؛ لأنّ عمل ربّ المال لا يجوز أن يكون تابعاً لعمل العامل، و لا يصحّ ضمّه إليه، و عمل غلامه يصحّ أن يقع تابعاً لعمل العامل، و لأنّ عمل غلامه مالٌ له، فصحّ ضمّه إليه، كما يصحّ أن يضمّ إليه بهيمة يعمل عليها، فافترقا.

و موضع الخلاف بين الشافعيّة: ما إذا لم يحجر على العامل، فأمّا إن صرّح بالحجر عليه بأن قال: على أن يعمل معك غلامي و لا تتصرّف دونه، أو يكون بعض المال في يده، فإنّه يفسد عندهم لا محالة(2).

و نحن نقول بالصحّة؛ عملاً بالشرط.

و لو كان الغلام حُرّاً، فإن شرط عليه العمل مع العامل جاز، و كانا جميعاً عاملين.

و إن لم يشترط عليه عملاً، لم يصح القراض؛ لأنّ الربح لا يستحقّ إلّا بالمال أو العمل، فكان الشرط فاسداً.

و لو شرط أن يكون الربح أثلاثاً: ثلث للمالك، و ثلث لعبده، و ثلث للعامل، و لم يشرط عمل الغلام مع العامل، صحّ شرطه له؛ لأنّ ما شرطه للعبد فإنّما يكون مشروطاً لسيّده، فكأنّهما شرطا لربّ المال الثلثين،4.

ص: 34


1- نفس المصادر في الهامش (4) من ص 33، ما عدا المغني و الشرح الكبير.
2- العزيز شرح الوجيز 10:6، روضة الطالبين 200:4.

و للعامل الثلث، و به قال الشافعي(1) أيضاً.

و كذا يجوز عندنا أن يشترط عمل الغلام و أن يكون له نصيب من الربح؛ لأنّه في الحقيقة للسيّد، خلافاً للشافعي في أحد القولين(2).

مسألة 211: لو شرط في المضاربة أن يعطيه بهيمةً يحمل عليها، جاز؛

لأنّه شرط سائغ لا ينافي الكتاب و السنّة، فوجب الوفاء به؛ عملاً بقوله عليه السلام: «المسلمون عند شروطهم»(3) و هو أصحّ قولَي الشافعيّة.

و الثاني: المنع؛ حملاً على المنع لو شرط أن يعمل معه غلام المالك(4) ، و قد سبق(5).

مسألة 212: قد بيّنّا أنّه يجوز القراض بالمال المشاع،

فلو كان بينه و بين غيره دراهم مشتركة فقال لشريكه: قارضتك على نصيبي منها، صحّ؛ إذ ليس فيه إلّا الإشاعة، و أنّها لا تمنع صحّة التصرّفات.

فلو مزج ألفين له بألفٍ لغيره ثمّ قال صاحب الألفين للآخَر:

قارضتك على أحدهما و شاركتك في الآخَر، فإن قصد بالتجزية الإشاعةَ صحّ، و إلّا فلا.

و عند الشافعيّة: يصحّ، و انفرد العامل بالتصرّف في ألف القراض،

ص: 35


1- مختصر المزني: 122، الحاوي الكبير 310:7، بحر المذهب 193:9، البيان 171:7، العزيز شرح الوجيز 10:6، روضة الطالبين 200:4.
2- الحاوي الكبير 310:7، البيان 171:7.
3- صحيح البخاري 120:3، سنن الدار قطني 98/27:3 و 99، سنن البيهقي 249:7، المستدرك - للحاكم - 49:2 و 50، المصنّف - لابن أبي شيبة - 2064/568:6، المعجم الكبير - للطبراني - 4404/275:4.
4- العزيز شرح الوجيز 10:6.
5- في المسألة السابقة.

و يشتركان في التصرّف في [باقي](1) المال، و لا يُخرّج على الخلاف في الصفقة الواحدة تجمع عقدين مختلفين؛ لأنّهما جميعاً يرجعان إلى التوكيل بالتصرّف(2) ، مع أنّ أصحّ القولين عندهم: إنّه لو دفع إليه كيسين في كلّ واحدٍ منهما ألف و قال: قارضتك على أحدهما: البطلان؛ لعدم التعيين(3).

البحث الرابع: العمل.
اشارة

العمل من العامل عوض ربح رأس المال المختصّ بالعامل، و شرطه أن يكون تجارةً، فلا يصحّ على الأعمال، كالطبخ و الخبز و غيرهما من الصنائع؛ لأنّ هذه أعمال مضبوطة يمكن الاستئجار عليها، فاستغني به عن القراض فيها، و إنّما يسوغ القراض فيما لا يجوز الاستئجار عليه، و هو التجارة التي لا يمكن ضبطها و لا معرفة قدر العمل فيها و لا قدر العوض، و الحاجة داعية إليها، و لا يمكن الاستئجار عليها، فللضرورة مع جهالة العوضين شُرّع عقد المضاربة.

و أمّا ما يتبع التجارة - كالنقل و الكيل و الوزن و النقد و نشر القماش و طيّه و غير ذلك - فإنّها لواحق التجارة و تابعة لها، و التجارة إنّما هي الاسترباح بالبيع و الشراء، لا بالحِرَف و الصنائع.

مسألة 213: لو دفع إليه مالاً على أن يقارضه عليه

و شرط أن يشتري - مثلاً - حنطةً يطحنها، أو دقيقاً يخبزه، أو طعاماً يطبخه، أو غزلاً ينسجه،

ص: 36


1- ما بين المعقوفين أضفناه من المصدر.
2- العزيز شرح الوجيز 11:6، روضة الطالبين 200:4.
3- بحر المذهب 193:9، الوسيط 106:4-107، البيان 163:7، العزيز شرح الوجيز 9:6، روضة الطالبين 199:4.

أو ثوباً يقصره أو يصبغه ثمّ يبيع ذلك و يقسّم الربح بينهما، لم يصح؛ لما تقدّم من أنّ الاسترباح بالقراض إنّما هو بالتجارة لا بالصنعة و الحرفة.

أمّا لو اشترى العامل هذه الأعيان و فَعَل فيها هذه الصنائع من غير شرطٍ، فإنّه يصحّ، و لا يخرج الدقيق و لا الخبز و لا المطبوخ و لا الثوب المنسوج أو المقصور أو المصبوغ عن كونه رأس مال القراض - و هو أحد قولَي الشافعيّة(1) - و يكون القراض بحاله، كما لو زاد عبد القراض بِكبَرٍ أو بسمنٍ أو تعلّم صنعةٍ، فإنّه لا يخرج بذلك عن كونه مالَ القراض، كذا هنا.

و القول الثاني للشافعيّة: إنّه تخرج هذه الأعيان عن كونها مالَ القراض، فلو لم يكن في يده غير ذلك انفسخ القراض؛ لأنّ الربح حينئذٍ لا يحال على البيع و الشراء فقط، بل على التغيير الحاصل في مال القراض بفعله، و غير التجارة لا يُقابَل بالربح المجهول(2).

و ما ذكرناه أصحّ، و هذه الصفات لا تُخرج الأعيان عن كونها مالَ قراضٍ، كسمن العبد و كِبَره.

و على قولهم هذا لو أمر المالك العاملَ بأن يطحن حنطة مال القراض، كان فاسخاً للعقد(3).

و الحقّ ما قلناه من عدم الفسخ، لكنّ العامل إذا اشتغل بالطحن صار ضامناً، و عليه غرم ما ينقص من قيمةٍ و عينٍ إن وُجد نقصٌ في الدقيق، فإن باعه لم يكن الثمن مضموناً عليه؛ لأنّه لم يتعدّ فيه، و لا يستحقّ العامل بهذه الصناعات أُجرةً على المالك، و لو استأجر عليه أجيراً فالأُجرة عليه، و الربح بينه و بين المالك كما شرطا.

ص: 37


1- العزيز شرح الوجيز 11:6، روضة الطالبين 200:4.
2- العزيز شرح الوجيز 11:6، روضة الطالبين 200:4.
3- العزيز شرح الوجيز 11:6، روضة الطالبين 200:4.
مسألة 214: لو دفع إليه دراهم قراضاً على أن يشتري بها نخيلاً أو دوابّ أو مزارع و يمسك رقابها لثمارها أو نتاجها أو غلّاتها، و تكون الفوائد بينهما، بطل القراض

- و به قال الشافعي(1) - لأنّه ليس استرباحاً بالتجارة؛ لأنّ التجارة قد بيّنّا أنّها التصرّف بالبيع و الشراء، و هذه الفوائد تحصل من عين المال، لا من تصرّف العامل، و لأنّ عقد المضاربة يقتضي التصرّف في رقبة المال؛ لأنّه مضاربة بالمال، بخلاف المساقاة؛ لأنّ عقدها [لا] يقتضي ذلك، فحينئذٍ يصحّ الشراء بالإذن، و يكون الحاصل بأجمعه للمالك؛ لأنّه نماء عينه، و عليه أُجرة المثل للعامل.

هذا في النخل و الشجر و الدوابّ، أمّا المزارع فإن كان البذر من مال القراض أو من المالك فكذلك، و إن كان من غيره فالنماء لذلك الغير، و على ذلك الغير أُجرة الأرض.

و لو دفع إليه بهيمةً و قال: تكريها و تنقل عليها و الحاصل بيننا، لم يصح، و لم يكن ذلك قراضاً؛ لأنّ القراض يقتضي تصرّف العامل في رقبة المال، فيكون ما حصل من المنفعة لصاحب البهيمة، و عليه أُجرة المثل للعامل.

و لو دفع إلى صيّادٍ شبكةً و أمره بالاصطياد بها، و ما يحصل يكون بينهما، لم تصح هذه المعاملة أيضاً - و به قال الشافعي(2) - لأنّها ليست بشركةٍ و لا قراضٍ و لا إجارةٍ، فإن اصطاد بها شيئاً مَلَكه الصائد، دون صاحب الشبكة، و عليه أُجرة الشبكة لصاحبها.

ص: 38


1- بحر المذهب 198:9، التهذيب - للبغوي - 385:4، البيان 174:7، العزيز شرح الوجيز 12:6، روضة الطالبين 201:4.
2- الحاوي الكبير 310:7، بحر المذهب 190:9، البيان 162:7، العزيز شرح الوجيز 12:6، روضة الطالبين 201:4.

و الفرق بين الشبكة و الدابّة ظاهر؛ لأنّ العمل في الدابّة حاصل من الدابّة؛ لأنّ العمل و الحمل منها، فكانت الأُجرة لصاحبها، و أمّا الاصطياد فالعمل فيه للصائد، و الشبكة تبع لعمله؛ لأنّها آلة له، فكان الحاصل له، دون صاحب الشبكة.

مسألة 215: لو دفع إلى رجلٍ أرضاً و قال له: اغرسها كذا و كذا على أن يكون الغرس بيننا نصفين و الأرض بيننا نصفين، لم تصح هذه المغارسة؛

لأنّها ليست بشركةٍ و لا قراضٍ، و ليست بيعاً لنصف الأرض بنصف الغراس؛ لأنّه إنّما شرط ذلك إذا ثبت غراساً و قراضاً، و ذلك مجهول، و لأنّه يشتمل على تعليق البيع بشرطٍ، و هو باطل.

أمّا لو باعه نصف الغرس قبل أن يغرسه أو بعد ما غرسه بنصف الأرض، جاز، و كانت الأرض و الغراس بينهما.

إذا ثبت هذا، فالغرس في الصورة الأُولى لصاحبه، و يكون عليه أُجرة الأرض للمالك؛ لأنّه بذل له نصف الأرض بعوضٍ، فإذا لم يثبت له العوض وجب له أُجرة المثل.

ثمّ يُنظر فإن لم يكن في قلع الغراس ضرر بأن لا ينقص بالقلع، كان لصاحب الأرض مطالبته بقلعه.

و إن كان ينقص بالقلع، لم يكن له مطالبته بقلعه، إلّا أن يضمن له أرش ما ينقص بالقلع؛ لأنّه غرسه فيه بإذنه، فلم يكن له مطالبته بإزالته مع الإضرار به، بخلاف الزرع إذا كان في أرضه بإذنه حيث قال بعض الشافعيّة:

ليس له مطالبته بقلعه؛ لأنّ الزرع له أمد ينتهي إليه لا يطول بقاؤه فيها، بخلاف الغرس، و لأنّ الزرع إذا قُطع لم يمكن زرعه في موضعٍ آخَر،

ص: 39

بخلاف الغرس(1).

فإن قال صاحب الغرس: لا تقلعه و علَيَّ أُجرة الأرض، لم يُجبر صاحب الأرض عليه؛ لأنّ أحداً لا يملك الانتفاع بملك غيره بأُجرته إلّا برضاه.

و لو انعكس الفرض، فقال صاحب الأرض: أقرّه في الأرض و ادفع إلَيَّ الأُجرة، و قال الغارس: اقلعه و عليك ما نقص، لم تجب إجابته؛ لأنّ صاحب الغرس لا يُجبر على اكتراء الأرض له.

و لو قال صاحب الأرض: خُذْ قيمته، و قال الغارس: بل أقلعه و علَيَّ ما نقص، فالقول قول الغارس؛ لأنّا لا نجبره على بيع ماله.

و لو قال ربّ الأرض: اقلعه و علَيَّ ما نقص، و قال الغارس: ادفع إلَيَّ قيمته، قدّم قول صاحب الأرض؛ لأنّا لا نجبره على ابتياع مال غيره.

و لو قال ربّ الأرض: خُذ القيمة، و قال الغارس: خُذ الأُجرة و أقرّه في الأرض، أو قال الغارس: ادفع إلَيَّ قيمته، و قال ربّ المال: ادفع إلَيَّ الأُجرة و أقرّه، لم يُجبَر واحد منهما على ذلك.

مسألة 216: إذا أذن المالك للعامل في التصرّف و أطلق، اقتضى الإطلاق فعل ما يتولّاه المالك

من عرض القماش على المشترين و الراغبين و نشره و طيّه و إحرازه و بيعه و قبض ثمنه و إيداعه الصندوق و استئجار ما يعتاد للاستئجار له، كالدلّال و الوزّان و الحمّال.

و لو استأجر لما يجب عليه مباشرته، كانت الأُجرة عليه خاصّةً، و لو

ص: 40


1- راجع: التهذيب - للبغوي - 379:3، و العزيز شرح الوجيز 333:4، و روضة الطالبين 199:3.

عمل بنفسه ما يستأجر له عادةً، لم يستحق أُجرةً؛ لأنّه متبرّع في ذلك، و في الأوّل استأجر لما يجب عليه فعله، فتكون الأُجرة عليه.

مسألة 217: لو خصّص المالك الإذنَ، تخصّص، فلا يجوز للعامل التعدّي،
اشارة

فإن خالف ضمن، و لا يبطل القراض بالتخصيص، فلو قال له:

لا تشتر إلّا من رجلٍ بعينه، أو سلعة بعينها، أو لا تبع إلّا على زيد، أو لا تشتر إلّا ثمرة بستانٍ معيّن، أو نخلة بعينها، أو لا تشتر إلّا ثوباً بعينه، جاز، و لزم هذا الشرط، و صحّ القراض، سواء كان وجود ما عيّنه عامّاً في الأصقاع و الأزمان، أو في أحدهما، أو خاصّاً فيهما، و سواء قلّ وجوده و عزّ تحصيله و كان نادراً، أو كثر، عند علمائنا - و به قال أبو حنيفة و أحمد(1) - لأنّه لمّا جاز أن تكون المضاربة خاصّةً في نوعٍ جاز أن تكون خاصّةً في رجلٍ بعينه أو سلعةٍ بعينها، كالوكالة.

و لما رواه الحلبي - في الصحيح - عن الصادق عليه السلام: في الرجل يعطي الرجل مضاربةً فيخالف ما شرط عليه، قال: «هو ضامن، و الربح بينهما»(2).

و في الصحيح عن محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام، قال: سألته عن الرجل يعطي المال مضاربةً و ينهى أن يخرج به، فيخرج به، قال:

«يضمن المال، و الربح بينهما»(3).

و في الصحيح عن رجلٍ(4) عن الصادق عليه السلام: في رجلٍ دفع إلى رجلٍ

ص: 41


1- تحفة الفقهاء 22:3، بدائع الصنائع 98:6، الاختيار لتعليل المختار 31:3، روضة القُضاة 3454/587:2، الهداية - للمرغيناني - 204:3، بداية المجتهد 238:2، الاستذكار 30815/141:21، عيون المجالس 1249/1785:4، بحر المذهب 196:9، العزيز شرح الوجيز 13:6، المغني 184:5، الشرح الكبير 125:5.
2- التهذيب 838/190:7.
3- التهذيب 836/189:7.
4- كذا قوله: «رجل» في النُّسَخ الخطّيّة و الحجريّة، و بدله في المصدر: «جميل».

مالاً يشتري به ضرباً من المتاع مضاربةً، فذهب فاشترى غير الذي أمره، قال: «هو ضامن، و الربح بينهما على ما شرط»(1).

و قال الشافعي و مالك: يشترط في صحّة القراض أن لا يضيّق المالك على العامل بالتعيين، فلو عيّن المالك نوعاً بعينه، فإن كان ممّا يندر وجوده كالياقوت الأحمر و الخَزّ الأدكن و الخيل البُلق و الصيد حيث يوجد نادراً، فسد القراض؛ لأنّ هذا تضييق يُخلّ بمقصوده، و هو التقليب و طلب الربح.

و إن لم يكن نادرَ الوجود فإن كان ممّا يدوم شتاءً و صيفاً - كالحبوب و الحيوان و الخَزّ و البَزّ - صحّ القراض، و إن لم يدم كالثمار الرطبة، فوجهان، أحدهما: إنّه لا يجوز، كما إذا قارضه مدّةً معيّنة، و مَنَعه من التصرّف بعدها.

و لو قال: لا تشتر إلّا من رجلٍ بعينه، أو سلعة بعينها، لم يصح القراض - و به قال مالك - لأنّ ذلك [يمنع](2) مقصود القراض، و هو التقليب و طلب الربح، لأنّه إذا لم يشتر إلّا من رجلٍ بعينه فإنّه قد لا يبيعه، و قد يطلب منه أكثر من ثمنه، و كذا السلعة، و إذا كان كذلك لم يصح، كما لو قال: لا تبع و لا تشتر إلّا من فلان(3).

و الجواب: نمنع كون هذا الشرط مانعاً من مقصود القراض.

نعم، إنّه يكون مخصّصاً للإطلاق، و ذلك جائز بالإجماع، فكذا هنا.6.

ص: 42


1- التهذيب 853/193:7.
2- ما بين المعقوفين يقتضيه السياق.
3- الحاوي الكبير 314:7-316، بحر المذهب 196:9-197، الوسيط 109:4، التهذيب - للبغوي - 384:4، البيان 173:7، العزيز شرح الوجيز 13:6، روضة الطالبين 201:4، روضة القُضاة 3455/587:2، الاستذكار 30813/141:21، و 30818/142، بداية المجتهد 238:2، عيون المجالس 1249/1784:4، المغني 184:5، الشرح الكبير 125:5-126.
فروع:
أ - لو شرط أن لا يشتري إلّا نوعاً بعينه، و ذلك النوع يوجد في بعض السنة و ينقطع، جاز عندنا

و عند أكثر الشافعيّة(1).

و قال بعضهم: لا يجوز(2)؛ لأنّ الشافعي قال بعد هذه المسألة: و إن اشترط أن يشتري صيداً موجوداً كما إذا قارضه مدّةً و شرط أنّها إذا انقضت لا يبيع و لا يشتري، فإنّه لا يصحّ القراض(1).

و الصحيح عندهم: الأوّل(4)؛ لأنّ ذلك لا يمنع مقصود المضاربة، بخلاف ما إذا قدّره بمدّةٍ؛ لأنّه قد تنقضي المدّة و بيده أعيان لا فائدة فيها إلّا ببيعها، فإذا منعه البيع تعذّر المقصود بالمضاربة، و ما ذكرناه لا يوجد فيه ذلك، فافترقا، على أنّا نمنع بطلان القراض مع الاقتران بالمدّة، أقصى ما في الباب أنّ هذا التأقيت لا يفيد إلّا منع العامل من العمل بعدها،

ب - لو قال: اشتر هذا الشيء - و كان ممّا ينقطع - فإذا انقطع فتصرَّف في كذا، جاز.

أمّا عندنا: فظاهر.

و أمّا عند الشافعي: فلدوام القراض(2).

ج - لا فرق عندنا بين أن يقول: لا تشتر إلّا هذه السلعة و إلّا هذا العبد، و بين أن يقول: لا تشتر هذا العبد و لا هذه السلعة في الجواز.

ص: 43


1- لم نهتد إلى مظانّه فيما بين أيدينا من المصادر.
2- راجع: بحر المذهب 197:9، و التهذيب - للبغوي - 384:4-385، و البيان 173:7، و العزيز شرح الوجيز 13:6، و روضة الطالبين 201:4.

و مَنَع الشافعي من الأوّل - كما تقدّم(1) - دون الثاني؛ لأنّ للعامل السعي فيما سواهما، و هو كثير لا ينحصر(2).

د - لا فرق عندنا بين أن يقول المالك: لا تبع إلّا من فلان و لا تشتر إلّا من فلان،

و بين أن يقول: لا تبع من فلان، أو لا تشتر منه في جواز القراض و وجوب الامتثال.

و فرّق أكثر الشافعيّة فجوّزوا الثاني دون الأوّل(3) على ما مرّ(3).

و قال بعضهم: إنّ الثاني لا يجوز أيضاً كالأوّل(5).

ه - لا فرق بين أن يعيّن شخصاً للمعاملة و سلعةً للشراء لا ينقطع عنده المتاع الذي يتّجر على نوعه غالباً،

و بين شخصٍ ينقطع عنده ذلك المتاع الذي يتّجر على نوعه غالباً في جواز القراض معهما.

و أكثر الشافعيّة على عدم الفرق في عدم الجواز معهما(6).

و قال بعض الشافعيّة: يجوز في الأوّل دون الثاني، فقال: إذا كان الشخص - الذي نصّ المالك على تعيين المعاملة معه - بيّاعاً لا ينقطع عنده المتاع الذي يتّجر على نوعه غالباً، جاز تعيينه(7).

مسألة 218: يجوز للمالك أن يطلق المشيئة إلى العامل في شراء أيّ نوعٍ شاء و بيع أيّ نوعٍ أراد،

و لا يشترط في صحّة القراض تعيين نوعٍ يتصرّف فيه العامل؛ لأنّ الغرض تحصيل الفائدة و الاسترباح، فربما رأى العامل المصلحة في نوعٍ يخفى عن المالك، فكان له أن يفوّض الأمر إليه

ص: 44


1- في ص 42.
2- التهذيب - للبغوي - 384:4، العزيز شرح الوجيز 13:6، روضة الطالبين 201:4. (3 و 5) العزيز شرح الوجيز 13:6، روضة الطالبين 201:4.
3- في ص 42. (6 و 7) العزيز شرح الوجيز 13:6، روضة الطالبين 201:4.

تحصيلاً للغاية الذاتيّة.

و للشافعيّة قولان في اشتراط تعيين نوعٍ يتصرّف فيه العامل، كالخلاف في الوكالة.

و الظاهر عندهم: إنّه لا يشترط؛ لأنّ الوكالة نيابة محضة، و الحاجة تمسّ إليها في الأشغال الخاصّة، و القراض معاملة يتعلّق بها غرض كلّ واحدٍ من المتعاقدين، فمهما كان العامل أبسط يداً كان أفضى إلى مقصودها(1).

و نحن نجوّز تعميم المشيئة للوكيل.

مسألة 219: لا خلاف في أنّه إذا جرى تعيين صحيح، لم يكن للعامل مجاوزته،

و لا له العدول عنه، كما في سائر التصرّفات المستفادة من الإذن، فإن تجاوز ضمن، و إن ربح كان الربح بينهما على ما شرطاه؛ لما تقدّم(2) من الروايات.

و لما رواه أبو بصير عن الصادق عليه السلام في الرجل يعطي الرجل مالاً مضاربةً و ينهاه عن أن يخرج به إلى أرض أُخرى، فعصاه، فقال: «هو له ضامن، و الربح بينهما إذا خالف شرطه و عصاه»(3).

إذا عرفت هذا، فالإذن في البزّ يتناول كلّ ما يُلبس من المنسوج من الإبريسم أو القطن أو الكتّان أو الصوف، و لا يتناول البُسُط و الفُرُش.

و في الأكسية احتمال؛ لأنّها ملبوسة، لكن بائعها لا يُسمّى بزّازاً.

و الأقرب: اتّباع الاسم.

ص: 45


1- العزيز شرح الوجيز 13:6-14، روضة الطالبين 202:4.
2- في ص 41-42.
3- تقدّم تخريجه في ص 8، الهامش (9).

و للشافعيّة فيه وجهان(1).

مسألة 220: قد بيّنّا أنّ المضاربة عقد جائز من الطرفين لكلٍّ منهما فسخها متى شاء،

و هي تتضمّن تصرّف العامل في رقبة مال ربّ المال بإذنه، فكان جائزاً كالوكالة، فلا معنى للتأقيت فيها، و لا يعتبر فيها بيان المدّة، بخلاف المساقاة؛ لأنّ العامل في المساقاة لا يتصرّف في رقبة المال، و إنّما يعمل في إصلاح المال، و لهذا افتقرت المساقاة إلى مدّةٍ معلومة، و المقصود من المساقاة الثمرة، و هي تنضبط بالمدّة، فإنّ للثمرة أمداً معيّناً و وقتاً مضبوطاً، أمّا المقصود من القراض فليس له مدّة مضبوطة، فلم يشترط فيه التأقيت.

إذا عرفت هذا، فلو وقّت القراض فقال: قارضتك على هذا المال سنةً، فلا يخلو إمّا أن يُطلق أو يُقيّد.

فإن أطلق و اقتصر، لم يلزم التأقيت، و لكلٍّ من المالك و العامل فسخ القراض قبل السنة.

نعم، إنّه يفيد منع العامل بعد ذلك من التصرّفات إلّا بإذنٍ مستأنف؛ لأنّ الأصل عصمة مال الغير، و منع الغير من التصرّف فيه إلّا بإذن مالكه، و الإذن لم يقع عامّاً، فيتبع ما عيّنه المالك.

و إن قيّد فقال: قارضتك سنةً فإذا انقضت لا تبع و لا تشتر، فالأقوى(2) عندي: الجواز؛ عملاً بالشرط، و لأنّه مقتضى الإطلاق.

ص: 46


1- الحاوي الكبير 316:7، المهذّب - للشيرازي - 393:1، بحر المذهب 197:9، حلية العلماء 337:5، التهذيب - للبغوي - 385:4، البيان 176:7، العزيز شرح الوجيز 14:6، روضة الطالبين 202:4.
2- في «ث، ج، ر»: «فالأقرب» بدل «فالأقوى».

و قال الشافعي: يبطل القراض؛ لأنّه شرط شرطاً فاسداً فأفسده؛ لأنّ عقد القراض يقع مطلقاً، فإذا شرط قطعه لم يصح، كالنكاح، و لأنّ هذا الشرط ليس من مقتضى العقد، و لا له فيه مصلحة، فلم يصح، كما لو قال:

على أن لا تبع، و إنّما لم يكن من مقتضاه؛ لأنّ القراض يقتضي ردّ رأس المال تامّاً، فإذا منعه من التصرّف لم يكن له ذلك، و لأنّ هذا الشرط يؤدّي إلى الإضرار بالعامل و إبطال غرضه؛ لأنّ الربح و الحظّ قد يكون في تبقية المتاع و بيعه بعد سنةٍ، فيمنع ذلك مقتضاه(1).

و نحن نمنع فساد العقد؛ فإنّه المتنازع. نعم، إنّه لا يلزم وقوع العقد مطلقاً، و لا ينافي قطعه بالشرط، كسائر الشروط في العقود، و المقيس عليه ممنوع على ما يأتي، و إنّما يقتضي القراض ردّ رأس المال لو لم يمنعه المالك، و بالشرط قد منعه، و إضرار العامل ينتفي بدفع أُجرته إليه، و مراعاة مصلحة العامل كمراعاة مصلحة المالك، فقد يكون المالك محتاجاً إلى رأس ماله.

مسألة 221: لو قال: قارضتك سنةً على أنّي لا أملك منعك فيها، فسد القراض؛
اشارة

لأنّ القراض من العقود الجائزة لكلٍّ من المتعاقدين فسخه، فلا يجوز أن يشترط فيه لزومه، كالشركة و الوكالة؛ لأنّه شرط ما ينافي مقتضى العقد، و كذا لو قال: قارضتك سنةً على أنّي(2) لا أملك الفسخ قبل

ص: 47


1- الحاوي الكبير 311:7، المهذّب - للشيرازي - 393:1، بحر المذهب 195:9، الوجيز 222:1، حلية العلماء 334:5، التهذيب - للبغوي - 383:4، البيان 170:7، العزيز شرح الوجيز 14:6، روضة الطالبين 202:4، المغني 185:5-186، الشرح الكبير 138:5.
2- في «خ» و الطبعة الحجريّة: «أن» بدل «أنّي».

انقضائها، و به قال الشافعي(1) أيضاً.

و لو قال: قارضتك سنةً فإذا انقضت السنة فلا تشتر بعدها و بِعْ، صحّ القراض، و به قال الشافعي(2) أيضاً، و كذا لو قال: قارضتك سنةً على أن لا تشتر بعد السنة و لك البيع؛ لأنّ لصاحب المال أن يرجع عن القراض أيّ وقتٍ شاء، و يتمكّن من منع العامل من الشراء مهما شاء، فإذا شرط منعه من الشراء، كان قد شرط ما يقتضيه الإطلاق، فلا يمنع ذلك صحّة العقد.

و لو قال: قارضتك سنةً فإذا مضت فلا تبع بعدها، فالأقرب: الصحّة.

و قال الشافعي: إنّه يبطل، و صار كما لو شرط منعه من التصرّف مطلقاً بعد السنة؛ لأنّه يُخلّ بمقصود العقد، و يخالف مقتضاه.

أمّا أنّه يُخلّ بالمقصود: فلأنّه قد لا يجد راغباً في المدّة، فلا تحصل التجارة و الربح.

و أمّا مخالفة مقتضاه: فلأنّه قد يكون عنده عروض عند انقضاء السنة، و قضيّة عقد القراض أن ينضّ العامل ما في يده في آخر الآمر ليتميّز رأس المال عن الربح(3).

و قد بيّنّا أنّ للعامل مع فسخ العقد الأُجرة، و هو يدفع المحاذير.

و لو قال: قارضتك سنةً، و أطلق، فقد بيّنّا الجواز عندنا، و عدم4.

ص: 48


1- الحاوي الكبير 311:7، بحر المذهب 195:9، التهذيب - للبغوي - 384:4، البيان 170:7، العزيز شرح الوجيز 15:6، روضة الطالبين 202:4.
2- الحاوي الكبير 312:7، المهذّب - للشيرازي - 393:1، بحر المذهب 195:9، حلية العلماء 334:5، التهذيب - للبغوي - 384:4، البيان 171:7، العزيز شرح الوجيز 14:6، روضة الطالبين 202:4.
3- الوسيط 109:4، التهذيب - للبغوي - 383:4، العزيز شرح الوجيز 14:6، روضة الطالبين 202:4.

اللزوم.

و للشافعيّة وجهان:

أصحّهما عندهم: المنع؛ لأنّ قضيّة انتفاء القراض امتناع التصرّف بالكلّيّة، و لأنّ ما يجوز فيه الإطلاق من العقود لا يجوز فيه التأقيت، كالبيع و النكاح.

و الثاني: يجوز، و يُحمل على المنع من الشراء دون البيع، استدامةً للعقد(1).

على أنّ لهم وجهاً ضعيفاً فيما إذا قارضه سنةً و شرط أن لا يشتري بعدها، قاضياً بالبطلان؛ لأنّ ما وضعه على الإطلاق من العقود لا يجوز فيه التأقيت(2).

لكن المعتمد عندهم: الجواز(3).

تذنيب: لو قال: قارضتك الآن و لكن لا تتصرّف حتى يجيء رأس الشهر، جاز؛

عملاً بمقتضى الشرط - و هو أحد وجهي الشافعيّة - كما جاز في الوكالة.

و الثاني - و هو الأصحّ عندهم -: المنع، كما لو قال: بعتك بشرط أن لا تملك إلّا بعد شهرٍ(2).

ص: 49


1- الوسيط 110:4، التهذيب - للبغوي - 384:4، البيان 171:7، العزيز شرح الوجيز 15:6، روضة الطالبين 202:4. (2 و 3) الوسيط 110:4، البيان 171:7، العزيز شرح الوجيز 14:6، روضة الطالبين 202:4.
2- التهذيب - للبغوي - 384:4، العزيز شرح الوجيز 15:6، روضة الطالبين 202:4.

و الفرق ظاهر.

البحث الخامس: في الربح.
اشارة

و شروطه أربعة:

الشرط الأوّل: اختصاصه بالمتعاقدين،

فلو شرط بعض الربح لغيرهما، لم يصح، سواء كان قريباً أو بعيداً، كما لو قال: على أن يكون لك ثلث الربح، ولي الثلث، و لزوجتي أو لابني أو لأجنبيٍّ الثلثُ الآخَر، و يبطل القراض؛ لأنّه ليس بعاملٍ و لا مالكٍ للمال.

أمّا لو شرط عمل الثالث فإنّه يصحّ، و يكون في الحقيقة هنا عاملان لا واحد.

و لو كان المشروط له عبدَ المالك أو عبدَ العامل، فقد بيّنّا أنّه يجوز؛ لأنّه يكون ما شرطه للعبد للمالك، فقد ضمّ المالك أو العامل إلى حصّته حصّةً أُخرى.

و لو قال: نصف الربح لك و نصفه لي و من نصيبي نصفه لزوجتي، صحّ القراض، و كان ما عيّنه للزوجة وعداً منه لها إن شاء أعطاها و إن شاء منعها.

و لو قال للعامل: لك الثلثان على أن تعطي امرأتَك نصفَه أو ابنك، لم يلزم الشرط، فإن أوجبه فالأقوى: البطلان.

و قال بعض الشافعيّة: إن أوجب ذلك عليه فسد القراض، و إلّا

ص: 50

لم يفسد(1).

الشرط الثاني: أن يكون الربح مشتركاً بينهما،
اشارة

فلو شرط أن يكون جميع الربح للمالك بأن قال: قارضتك على أن يكون جميع الربح لي، فسد القراض - و به قال الشافعي(2) - لمنافاة الشرط مقتضاه؛ فإنّ مقتضاه الاشتراك في الربح؛ لأنّ إسحاق بن عمّار سأل الكاظمَ عليه السلام: عن مال المضاربة، قال: «الربح بينهما، و الوضيعة على المال»(3).

و قال أبو حنيفة: إنّه يبطل القراض، و يكون بضاعةً(4).

و قال مالك: يصحّ القراض، و يكون الربح للمالك؛ عملاً بشرطه، لأنّهما دخلا في القراض، فإذا شرط الربح لأحدهما جعل كأنّه وهب له الآخَر نصيبه، فلا يمنع ذلك صحّة العقد(5).

و هو غلط؛ لأنّ الهبة لا تصحّ قبل حصول الموهوب.

ص: 51


1- بحر المذهب 195:9، البيان 172:7، العزيز شرح الوجيز 15:6، روضة الطالبين 203:4.
2- الحاوي الكبير 332:7، المهذّب - للشيرازي - 392:1، بحر المذهب 219:9، الوسيط 111:4، حلية العلماء 332:5، التهذيب - للبغوي - 381:4، البيان 168:7، العزيز شرح الوجيز 16:6، روضة الطالبين 203:4، الإشراف على نكت مسائل الخلاف 1116/642:2، روضة القُضاة 3419/581:2، المغني 144:5، الشرح الكبير 132:5.
3- التهذيب 829/188:7، الاستبصار 452/126:3.
4- الاختيار لتعليل المختار 28:3، المبسوط - للسرخسي - 24:22، الهداية - للمرغيناني - 202:3، روضة القُضاة 3418/581:2، بحر المذهب 220:9، حلية العلماء 332:5-333، البيان 168:7، الإشراف على نكت مسائل الخلاف 642:2-1116/643، المغني 144:5-145، الشرح الكبير 132:5.
5- الإشراف على نكت مسائل الخلاف 1116/642:2، المعونة 1123:2، بحر المذهب 220:9، حلية العلماء 333:5، العزيز شرح الوجيز 16:6، المغني 145:5، الشرح الكبير 132:5.

و لو قال: قارضتك على أن يكون جميع الربح لك، فسد القراض أيضاً عندنا - و به قال الشافعي و أبو حنيفة(1) - لما تقدّم(2).

و قال مالك: يصحّ، و يكون الربح بأسره للعامل؛ لأنّهما دخلا في القراض، فإذا شرط الربح للعامل أو المالك، كان لمن جعل له، كأنّ المالك قد وهبه نصيبه من الربح، فلا يمنع ذلك صحّة العقد(3).

و قد تقدّم(4) بطلانه، و أنّ هذا الشرط منافٍ للقراض؛ لاقتضاء القراض كون الربح بينهما؛ لأنّه عبارة عن أن يكون من أحدهما المال و من الآخَر العمل، و ذلك يقتضي الاشتراك، فإذا شرطا ما يخالف ذلك فسد، كشركة العنان إذا شرطا أن يكون الربح لأحدهما.

إذا عرفت هذا، فإذا قال: قارضتك على أن يكون الربح كلّه لك، فالقراض فاسد.

و ما حكمه ؟ للشافعيّة وجهان:

أحدهما: إنّه قراض فاسد؛ رعايةً للّفظ.

و الثاني: إنّه قرض صحيح؛ رعايةً للمعنى(5).4.

ص: 52


1- الحاوي الكبير 333:7، المهذّب - للشيرازي - 392:1، حلية العلماء 332:5-333، التهذيب - للبغوي - 381:4، البيان 168:7، العزيز شرح الوجيز 15:6، روضة الطالبين 203:4، الاختيار لتعليل المختار 28:3، بداية المجتهد 238:2، الإشراف على نكت مسائل الخلاف 1116/642:2، المعونة 1123:2، المغني 144:5، الشرح الكبير 132:5.
2- في ص 51.
3- بداية المجتهد 238:2، الإشراف على نكت مسائل الخلاف 1116/642:2، المعونة 1123:2، بحر المذهب 220:9، حلية العلماء 333:5، العزيز شرح الوجيز 16:6، المغني 145:5، الشرح الكبير 132:5.
4- في ص 51.
5- التهذيب - للبغوي - 381:4، البيان 169:7، العزيز شرح الوجيز 15:6-16، روضة الطالبين 203:4.

و لو قال: قارضتك على أنّ الربح كلّه لي، فهو قراض فاسد أو إبضاع ؟ فيه الوجهان للشافعيّة(1).

أمّا لو قال: خُذْ هذه الدراهم و تصرَّفْ فيها و الربح كلّه لك، فهو قرض صحيح، و به قال ابن سريج(2) ، بخلاف ما لو قال: قارضتك على أنّ الربح كلّه لك؛ لتصريح اللّفظ بعقدٍ آخَر.

و قال بعض الشافعيّة: لا فرق بين الصورتين(3).

و ليس جيّداً.

و عن بعضهم: إنّ الربح و الخسران للمالك، و للعامل أُجرة المثل، و لا يكون قرضاً؛ لأنّه لم يملكه(4).

و لو قال: تصرَّفْ في هذه الدراهم و الربح كلّه لي، فهو إبضاع.

مسألة 222: لو ضمّن المالكُ العاملَ، انقلب القراض قرضاً، و كان الربح بأسره للعامل؛

لأنّ عقد القراض ينافي الضمان.

و لما رواه محمّد بن قيس عن الباقر عليه السلام قال: «مَنْ ضمّن مُضاربه فليس له إلّا رأس المال، و ليس له من الربح شيء»(3).

و عن محمّد بن قيس عن الباقر عليه السلام قال: «مَنْ ضمّن تاجراً فليس له إلّا رأس ماله، و ليس له من الربح شيء»(4).

إذا عرفت هذا، فإن أراد المالك الاستيثاق، أقرضه بعضَ المال،

ص: 53


1- بحر المذهب 220:9، البيان 170:7، العزيز شرح الوجيز 16:6، روضة الطالبين 203:4.
2- البيان 169:7، العزيز شرح الوجيز 16:6، روضة الطالبين 203:4. (3 و 4) العزيز شرح الوجيز 16:6، روضة الطالبين 203:4.
3- التهذيب 830/188:7، الاستبصار 126:3-453/127.
4- الكافي 3/240:5، التهذيب 192:7-852/193.

و ضاربه على الباقي، و يكون ذلك قرضاً صحيحاً و قراضاً جائزاً؛ لأنّ كلّ واحدٍ منهما سائغ، و لم يحدث عند الاجتماع شيء زائد.

و لما رواه عبد الملك بن عتبة قال: سألتُ بعضَ هؤلاء - يعني أبا يوسف و أبا حنيفة - فقلت: إنّي لا أزال أدفع المال مضاربةً إلى الرجل فيقول: قد ضاع، أو قد ذهب، قال: فادفع إليه أكثره قرضاً و الباقي مضاربةً، فسألت أبا عبد اللّه الصادق عليه السلام عن ذلك، فقال: «يجوز»(1).

و سأل عبدُ الملك بن عتبة الكاظمَ عليه السلام: هل يستقيم لصاحب المال إذا أراد الاستيثاق لنفسه أن يجعل بعضه شركةً ليكون أوثق له في ماله ؟ قال:

«لا بأس به»(2).

الشرط الثالث: أن تكون الحصّة لكلٍّ منهما معلومةً،
اشارة

فلو قارضه على أن يكون له في الربح شركة أو نصيب أو حصّة أو شيء أو سهم أو حظّ أو جزء، و لم يبيّن، بطل القراض، و لا(3) يحمل الشيء و لا السهم و لا الجزء على الوصيّة؛ اقتصاراً بالنقل على مورده، و لا خلاف في بطلان القراض مع تجهيل الربح.

و لو قال: خُذْه مضاربةً و لك من الربح مثل ما شرطه فلان لعامله، فإن علما معاً ما شرطه فلانٌ صحّ؛ لأنّهما أشارا إلى معلومٍ عندهما، و لو جهلاه معاً أو أحدهما بطل القراض؛ لأنّه مجهول.

و لو قال: و الربح بيننا، و لم يقل: نصفين، صحّ، و حُكم بالنصف للعامل و النصف للمالك، كما لو أقرّ بالمال، و لو قال: إنّه بيني و بين فلان،

ص: 54


1- التهذيب 188:7-832/189، الاستبصار 455/127:3.
2- التهذيب 833/189:7، الاستبصار 456/127:3.
3- فيما عدا «ج» من النُّسَخ الخطّيّة و الحجريّة: «و لم» بدل «و لا».

فإنّه يكون إقراراً بالنصف، فكذا هنا، و الأصل في ذلك أصالة عدم التفاوت، و قد أضاف الربح إليهما إضافة واحدة، لم يرجّح فيها أحدهما على الآخَر، فاقتضى التسوية، و هو أظهر وجهي الشافعيّة.

و الثاني: الفساد؛ لأنّه لم يبيّن ما لكلّ واحدٍ منهما، فأشبه ما إذا شرطا أن يكون الربح بينهما أثلاثاً، و لم يبيّن صاحب الثلثين مَنْ هو، و لا صاحب الثلث مَنْ هو، و لأنّ التثنية تصدق مع التفاوت كصدقها مع التساوي، و العامّ لا دلالة له على الخاصّ(1).

و نحن نمنع صدقها بالتواطؤ، بل دلالتها على التنصيف أقوى، و عليه يُحمل إطلاقها، و يفتقر التفاوت إلى قرينةٍ.

مسألة 223: لو قال: خُذْ هذا المال مضاربةً، و لم يُسمّ للعامل شيئاً من الربح، فسد القراض،

و كان الربح بأسره لربّ المال، و عليه أُجرة المثل للعامل، و الوضيعة على المالك - و به قال الثوري و الشافعي و إسحاق و أبو ثور و أحمد و أصحاب الرأي(2) - لأنّ المضارب إنّما يستحقّ بالشرط و لم يوجد.

و قال الحسن و ابن سيرين و الأوزاعي: الربح بينهما نصفين؛ لأنّه لو قال: و الربح بيننا، كان بينهما نصفين، و كذا إذا لم يزد شيئاً(3).

ص: 55


1- الحاوي الكبير 347:7، المهذّب - للشيرازي - 392:1، الوسيط 113:4، حلية العلماء 331:5، التهذيب - للبغوي - 380:4، البيان 164:7، العزيز شرح الوجيز 16:6، روضة الطالبين 203:4.
2- الإشراف على مذاهب أهل العلم 39:2، الحاوي الكبير 344:7، بحر المذهب 217:9-218، حلية العلماء 333:5، المغني 142:5، الشرح الكبير 131:5.
3- نفس المصادر ما عدا «الحاوي الكبير» و «بحر المذهب» و «حلية العلماء».

و هو ممنوع؛ لأنّ قوله: «مضاربةً» يقتضي أنّ له جزءاً من الربح مجهولاً، فلا يصحّ.

و لو قال: على أنّ ثلث الربح لك و ما بقي فثلثه لي و ثلثاه لك، صحّ.

و حاصله اشتراط سبعة أتساع الربح للعامل؛ لأنّ الحساب من عدد لثلثه ثلاث، و أقلّه تسعة.

هذا إذا علما عند العقد أنّ المشروط للعامل بهذه اللفظة كم هو، فإن جهلاه أو أحدهما، فوجهان للشافعيّة، أحدهما: الصحّة(1).

و هو حسن؛ لسهولة معرفة ما تضمّنه اللّفظ.

و كذا لو قال: على أنّ لك من الربح سُدس رُبْع عُشْر الثُّمْن، و هُما لا يعرفان قدره عند العقد، أو أحدهما.

و لو قال: لك الرُّبْع و رُبْع الباقي، فله ثلاثة أثمان و نصف ثُمنٍ، سواء عرفا الحساب أو جهلاه؛ لأنّها أجزاء معلومة.

و لو قال: لك ثلث الربح و رُبْع ما بقي، فله النصف.

الشرط الرابع: أن يكون العلم به من حيث الجزئيّة المشاعة،
اشارة

كالنصف أو الثلث أو الربع أو غير ذلك من الأجزاء الشائعة، لا بالتقدير، فلو قال: قارضتك على أنّ لك من الربح مائة و الباقي بيننا بالسويّة، فسد القراض؛ لأنّه ربما لا يربح إلّا ذلك القدر، فيلزم أن يختصّ به أحدهما.

و كذا إذا قال: على أنّ لي من الربح مائة و الباقي بيننا، لم يصح القراض.

و كذا لو قال: لك نصف الربح سوى درهم، أو: لك نصف الربح

ص: 56


1- التهذيب - للبغوي - 380:4، العزيز شرح الوجيز 16:6، روضة الطالبين 203:4.

و درهم.

مسألة 224: لو دفع إليه ألفين و قال: قارضتك على هاتين الألفين على أن يكون لك ربح ألفٍ منهما ولي ربح الألف الأُخرى، فإمّا أن تكونا متميّزتين أو ممتزجتين.

فإن كانتا متميّزتين و شرط تميّزهما، لم يصح القراض؛ لأنّه لا شركة بينهما في الربح؛ إذ كلّ واحدةٍ من الألفين متميّزة عن الأُخرى، و ربح إحداهما بعينها للمالك لا يشاركه العامل فيه، و ربح الأُخرى بعينها للعامل لا يشاركه المالك فيه، مع أنّ كلّ واحدةٍ منهما مال قراضٍ، فلا يوجد فيه مقتضى القراض فيبطل، و لأنّه ربما يختصّ الربح بإحداهما دون الأُخرى، فيحصل كلّ الربح لأحدهما و يمنع الآخَر منه، و ذلك منافٍ لمقتضى القراض.

و إن كانتا ممتزجتين غير متميّزتين، فالأقرب: الصحّة، و يُحمل على الإشاعة و التسوية في الربح؛ إذ لا فرق بين ذلك و بين قوله: الربح بيننا نصفين، و لا بينه و بين أن يقول: نصف ربح الألفين لك و نصفه لي، و هو قول بعض الشافعيّة(1).

و قال ابن سريج: لا يصحّ؛ لأنّه خصّصه بربح بعض المال، فأشبه ما إذا كان الألفان متميّزين، و ما إذا دفع إليه ألفاً على أن يكون له ربحها ليتصرّف له في ألف أُخرى(2).

و الفرق ظاهر.

و لو قال: على أنّ لي ربح أحد الثوبين و لك ربح الآخَر، أو: على أنّ

ص: 57


1- العزيز شرح الوجيز 17:6، روضة الطالبين 204:4.
2- العزيز شرح الوجيز 17:6.

لي ربح إحدى السفرتين و لك ربح الأُخرى، أو: على أنّ لك ربح تجارة شهر كذا ولي ربح تجارة شهر كذا، لم يصح.

إذا عرفت هذا، فإذا دفع إليه مالاً قراضاً و شرط أن يكون له نصف ربحه، جاز، و كذا لو شرط له ربح نصفه.

و لو قال: على أنّ لك من الربح عشرةً ولي عشرة، احتُمل البطلانُ؛ لعدم العلم بحصولهما، و الصحّةُ إن قصد التناسب في مطلق الربح، قلّ عن ذلك أو كثر أو ساواه.

مسألة 225: لو دفع إليه مالاً قراضاً و شرط عليه أن يولّيه سلعة كذا إذا اشتراها برأس المال، احتُمل الصحّةُ؛
اشارة

عملاً بقوله عليه السلام: «المسلمون(1) عند شروطهم»(2)الحاوي الكبير 313:7، بحر المذهب 196:9، التهذيب - للبغوي - 382:4، البيان 168:7، العزيز شرح الوجيز 17:6، روضة الطالبين 204:4.(3) ، و البطلانُ - و به قال الشافعي(3) - لأنّه ربما لا يحصل الربح إلّا منها.

و لو شرط أن يلبس الثوب الذي يشتريه و يركب الدابّة التي يشتريها، قال الشافعي: يبطل القراض أيضاً؛ لأنّ القراض جُوّز على العمل المجهول بالعوض المجهول [للحاجة](4) - و لا حاجة إلى ضمّ ما ليس من الربح إليه، و لأنّه ربما ينتقص بالاستعمال و يتعذّر عليه التصرّف(5).

و الأقوى عندي: الجواز.

تذنيب: لو دفع إليه ألفاً قراضاً على أنّ الربح بينهما،

و شرط المالك

ص: 58


1- في النُّسَخ الخطّيّة: «المؤمنون».
2- تقدّم تخريجه في ص 35، الهامش
3- ، و في التهذيب 1503/371:7، و الاستبصار 835/232:3، و الجامع لأحكام القرآن 33:6: «المؤمنون...».
4- بدل ما بين المعقوفين في النُّسَخ الخطّيّة و الحجريّة: «للراحة». و المثبت من المصدر.
5- نفس المصادر في الهامش (3) ما عدا «التهذيب».

أن يدفع إليه ألفاً يعمل بها بضاعةً بحيث يكون الربح بأسره للمالك فيها، فالوجه: صحّة القراض و الشرط معاً.

و قيل: يصحّ القراض، و يبطل الشرط(1).

و قيل: يبطلان معاً(2).

مسألة 226: لو دفع إلى عاملٍ ألفَ درهمٍ، فقال له: اعمل على هذه و ربحها لي،

و دفع إليه ألفاً أُخرى و قال: اعمل على هذه و يكون ربحها لك، فإن قصد القراض، بطل؛ لأنّه شرط أن يكون جميع الربح في إحداهما للمالك و في الأُخرى للعامل، و هو باطل؛ لأنّه لا يجوز أن ينفرد أحدهما بالربح؛ لأنّ الربح يحصل بالمال و العمل معاً، فلا يصحّ في واحدةٍ من الألفين.

و إن لم يقصد القراض، صحّ، و كان ما شرطه المالك له بضاعةً، و ما شرطه العامل لنفسه قرضاً.

و لو دفع الألفين و قال: قارضتك على هذه على أن يكون ربح ألفٍ منها لي و ألف لك، فالأقوى: الصحّة - و به قال أبو حنيفة و أبو ثور(3) - لأنّه بمنزلة أن يقول: نصف الربح لي و نصفه لك؛ لأنّه بمعناه.

قال ابن سريج: و هذا غلط؛ لأنّ وضع القراض على أن يكون كلّ جزءٍ من المال ربحه بينهما، فإذا شرط ربح ألفٍ فقد شرط لنفسه الانفراد بربح جزءٍ منه، فكان فاسداً، بخلاف ما إذا شرط نصف الربح؛ لأنّ شرطه لم يتضمّن الانفراد بجزءٍ منه(4).

ص: 59


1- كما في شرائع الإسلام 145:2.
2- قال به الطوسي في المبسوط 197:3، و القاضي ابن البرّاج في المهذّب 466:1.
3- بحر المذهب 198:9، حلية العلماء 340:5.
4- راجع: العزيز شرح الوجيز 17:6.

ص: 60

الفصل الثالث: في أحكام القراض

اشارة

و فيه مباحث:

البحث الأوّل: في اعتبار الغبطة في التصرّف.
مسألة 227: القراض إمّا صحيح و إمّا فاسد، فالصحيح له أحكام تُذكر في مسائل، و كذا الفاسد.

فمن أحكام الصحيح: إنّه يلزم الحصّة المشترطة للعامل، و لا نعرف فيه مخالفاً، إلّا مَنْ شذّ.

قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أنّ للعامل أن يشترط على ربّ المال ثلثي(1) الربح أو نصفه أو ما يجمعان عليه بعد أن يكون ذلك معلوماً جزءاً من أجزاء(2).

و الأخبار من أهل البيت عليهم السلام متظافرة بذلك(3).

و قال شاذٌّ(4) من الفقهاء: إنّ العامل لا يستحقّ الحصّة، بل أُجرة المثل عن عمله؛ لأنّ هذه المعاملة مجهولة، و فيها غرر عظيم، و قد نهى

ص: 61


1- في المصدر: «ثلث» بدل «ثلثي».
2- الإشراف على مذاهب أهل العلم 39:2، الإجماع - لابن المنذر -: 528/58، المغني 140:5.
3- راجع: الكافي 2/240:5، و التهذيب 187:7-827/189-829 و 836، و الاستبصار 451/126:3 و 452.
4- لم نتحقّقه.

النبيّ صلى الله عليه و آله عن الغرر(1).

و الجهالة لا تمنع الجواز؛ لأنّ العلم ببعض الاعتبارات كافٍ، فإذا شرط جزءاً معلوماً، انتفت الجهالة الكلّيّة، و العامّ مخصوص بالنقل المتواتر عن أهل البيت عليهم السلام، و قد خُصّ من عموم النهي عن الغرر كثير من الأحكام، كالمساقاة و المزارعة و غيرهما، فليكن المتنازع منها.

مسألة 228: لمّا كان الغرض الأقصى من القراض تحصيل الربح و الفائدة، وجب أن يكون تصرّف العامل مقصوراً على ما يُحصّل هذه الغاية الذاتيّة،

و أن يمنع من التصرّف في المؤدّي(2) إلى ما يضادّها، فيتقيّد تصرّفه بما فيه الغبطة و الفائدة، كتصرّف الوكيل للموكّل؛ لأنّها في الحقيقة نوع وكالةٍ و إن كان له أن يتصرّف في نوعٍ ما ممّا ليس للوكيل التصرّف به، تحصيلاً للفائدة، فإنّ له أن يبيع بالعرض، كما أنّ له أن يبيع بالنقد، بخلاف الوكيل؛ فإنّ تصرّفه في البيع إنّما هو بالنقد خاصّةً؛ لأنّ المقصود من القراض الاسترباحُ، و البيع بالعرض قد يكون وصلةً إليه و طريقاً فيه.

و أيضاً له أن يشتري المعيب إذا رأى فيه ربحاً، بخلاف الوكيل.

و لا ينفذ تصرّفه مع الغبن الفاحش، فليس له أن يبيع بدون ثمن المثل، و لا أن يشتري بأكثر من ثمن المثل؛ لأنّه منافٍ للاسترباح، و به قال الشافعي(3).

و قال أبو حنيفة: إنّه يملك العامل البيعَ بالغبن الفاحش، و كذا الشراء،

ص: 62


1- أورده الشيخ الطوسي في الخلاف 319:3 و 330، المسألتان 13 و 5.
2- الظاهر: «التصرّف المؤدّي».
3- الوجيز 223:1، التهذيب - للبغوي - 387:4، العزيز شرح الوجيز 21:6، روضة الطالبين 207:4، المغني 153:5، الشرح الكبير 146:5.

كالوكيل(1).

و الأصل ممنوع.

أمّا ما يتغابن الناس بمثله فإنّه غير ممنوعٍ منه؛ لعدم التمكّن من الاحتراز عنه.

و لو اشترى بأكثر من ثمن المثل ممّا لا يتغابن الناس بمثله، فإن كان بالعين بطل، و إلّا وقع الشراء له إن لم يذكر النسبة إلى القراض.

مسألة 229: إذا دفع إلى العامل مال القراض،

فإن نصّ على التصرّف بأن قال: نقداً، أو: نسيئةً، أو قال: بنقد البلد، أو غيره من النقود، جاز، و لم يكن للعامل مخالفته إجماعاً؛ لأنّ ذلك لا يمنع مقصود المضاربة، و قد يطلب بكلّ ذلك الفائدة في العادة.

فإن أطلق و قال: اتّجر به، اقتضى ذلك أن يبيعه نقداً بنقد البلد بثمن مثله، فإن خالف ضمن، كالوكيل.

إذا عرفت هذا، فلو اشترى بأكثر من ثمن المثل أو باع بدونه، بطل إن لم يُجز المالك؛ لأنّه تصرّفٌ غير مأذونٍ فيه، فأشبه بيع الأجنبيّ، و به قال الشافعي و أحمد في إحدى الروايتين(2).

فإن تعذّر ردّ المبيع، كان العامل ضامناً للمثل إن كان مثليّاً، و إن لم يكن أو تعذّر المثل وجبت القيمة، و للمالك الخيار في الرجوع على مَنْ شاء منهما، فإن أخذ من المشتري القيمة رجع المشتري على العامل بالثمن الذي دفعه إليه، و إن رجع على العامل رجع العامل على المشتري بالقيمة، و ردّ ما أخذه منه ثمناً؛ لأنّ التلف حصل في يد المشتري، فاستقرّ الضمان

ص: 63


1- بدائع الصنائع 87:6، العزيز شرح الوجيز 23:6.
2- المغني 153:5، الشرح الكبير 146:5.

عليه.

و عن أحمد رواية أُخرى: إنّ البيع صحيح، و يضمن العامل النقص؛ لأنّ ضرر المالك ينجبر بضمان النقص(1) ، و هو قول بعض علمائنا(2).

و المعتمد: الأوّل.

مسألة 230: لو باع بغير نقد البلد مع إطلاق التصرّف، لم يصح؛

لأنّه منافٍ لما يقتضيه الإطلاق، و به قال الشافعي و أحمد في إحدى الروايتين، و في الثانية: يجوز إذا رأى العامل أنّ المصلحة فيه، و الربح حاصل به، كما يجوز أن يبيع عرضاً بعرضٍ و يشتريه به(3).

و إن فَعَل و خالف و باع بغير نقد البلد، كان حكمه حكم ما لو اشترى أو باع بغير ثمن المثل.

و ليس بعيداً من الصواب اعتبار المصلحة.

و لو قال له: اعمل برأيك أو بما رأيت أو كيف شئت، كان له ذلك، و ليس له المزارعة؛ لأنّ المضاربة لا يُفهم من إطلاقها المزارعة.

و قال أحمد في روايةٍ أُخرى: إنّ له ذلك، و تصحّ المضاربة، و الربح بينهما(4).

و ليس بجيّدٍ؛ لأنّ المزارعة لا تدخل تحت قوله: اتّجر بما شئت.

فعلى ما قلناه لو تلف المال في المزارعة ضمن.

ص: 64


1- المغني 153:5، الشرح الكبير 146:5.
2- لم نتحقّقه.
3- الحاوي الكبير 322:7، بحر المذهب 202:9، البيان 181:7، المغني 154:5، الشرح الكبير 147:5.
4- المغني 154:5، الشرح الكبير 147:5.

و على الرواية الأُخرى عن أحمد: لا يضمن(1).

مسألة 231: و ليس له أن يبيع نسيئةً بدون إذن المالك؛

لما فيه من التغرير بالمال، فإن خالف ضمن عندنا - و به قال مالك و ابن أبي ليلى و الشافعي و أحمد في إحدى الروايتين(2) - لأنّه نائب في البيع، فلم يجز له البيع نسيئةً بغير إذنٍ صريح فيه، كالوكيل، و القرينة الحاليّة تفيد ما تفيده العبارات اللفظيّة، فيصير كأنّه قال: بِعْه حالاًّ.

و قال في الرواية الأُخرى: يجوز له البيع نسيئةً - و به قال أبو حنيفة - لأنّ إذنه في التجارة و المضاربة ينصرف إلى التجارة المعتادة، و هذا النوع من التصرّف عادة التجّار، و لأنّه يقصد به الربح، بل هو في النسيئة أكثر منه في النقد، بخلاف الوكالة المطلقة، فإنّها لا تختصّ بقصد الربح، و إنّما المقصود تحصيل الثمن، فإذا أمكن تحصيله من غير خطرٍ كان أولى، و لأنّ الوكالة المطلقة في البيع تدلّ على [أنّ](3) حاجة الموكّل إلى الثمن ناجزة، فلا يجوز تأخيره، بخلاف المضاربة(4).

ص: 65


1- المغني 154:5، الشرح الكبير 147:5.
2- المدوّنة الكبرى 116:5، الاستذكار 30937/174:21، الإشراف على نكت مسائل الخلاف 1121/644:2، الإشراف على مذاهب أهل العلم 45:2، الحاوي الكبير 322:7، المهذّب - للشيرازي - 397:1، بحر المذهب 202:9، الوسيط 116:4، التهذيب - للبغوي - 387:4، البيان 181:7، العزيز شرح الوجيز 21:6، روضة الطالبين 207:4، المبسوط - للسرخسي - 38:22، مختصر اختلاف العلماء 1707/41:4، المغني 150:5، الشرح الكبير 144:5.
3- ما بين المعقوفين أضفناه من المغني و الشرح الكبير.
4- تحفة الفقهاء 22:3، بدائع الصنائع 87:6، المبسوط - للسرخسي - 38:22، الاختيار لتعليل المختار 29:3، الفقه النافع 1053/1293:3، مختصر اختلاف العلماء 1707/41:4، الهداية - للمرغيناني - 210:3، الإشراف على مذاهب أهل العلم 45:2، الحاوي الكبير 322:7، بحر المذهب 202:9، التهذيب - للبغوي - 387:4، الاستذكار 30938/174:21، الإشراف على نكت مسائل الخلاف 1121/644:2، الذخيرة 73:6، المغني 150:5، الشرح الكبير 144:5-145.

و لو قال له: اعمل برأيك، فله البيع نسيئةً.

و كذا لو قال له: تصرَّفْ كيف شئت.

و قال الشافعي: ليس له البيع نسيئةً؛ لأنّ فيه غرراً، فلم يجز، كما لو لم يقل له ذلك(1).

و هو ممنوع؛ لأنّه داخل في عموم لفظه، و قرينة حاله تدلّ على رضاه برأيه في صفات البيع و في أنواع التجارة، و هذا منها.

إذا عرفت هذا، فإذا باع نسيئةً في موضعٍ لا يجوز له فقد خالف مطلق الأمر، فيقف على إجازة المالك؛ لأنّه كالفضولي في هذا التصرّف.

و قال جماعة من العامّة منهم: الشافعي: إنّ البيع يبطل، فيجب عليه ردّه، فإن تعذّر فالمثل، فإن تعذّر فالقيمة(2).

و كلّ موضعٍ يصحّ له البيع في النسيئة لا يكون على العامل ضمان إذا لم يفرّط، فمهما فات من الثمن لا يكون عليه ضمانه ما لم يفرّط ببيع مَنْ لا يوثق به أو مَنْ لا يعرفه، فيلزمه ضمان الثمن الذي انكسر على المشتري.

مسألة 232: كلّ موضعٍ قلنا: يلزم العامل الضمان - إمّا لمخالفة الأمر في البيع بالنسيئة من غير إذنٍ، أو بالتفريط

بأن يبيع على غير الموثوق به أو

ص: 66


1- الحاوي الكبير 322:7، بحر المذهب 203:9، المغني 150:5، الشرح الكبير 145:5.
2- المغني 150:5-151، الشرح الكبير 145:5، الحاوي الكبير 322:7، بحر المذهب 203:9.

على مَنْ لا يعرفه - فإنّ الضمان عليه من حيث إنّ ذهاب الثمن حصل بتفريطه.

فإن قلنا بفساد البيع، وجب عليه قيمته إن لم يكن مثليّاً، أو كان و تعذّر إذا لم يتمكّن من استرجاعه إمّا لتلف المبيع، أو لامتناع المشتري من ردّه إليه.

و إن قلنا بصحّة البيع، احتُمل(1) أن يضمنه بقيمته أيضاً؛ لأنّه لم يفت بالبيع أكثر منها، و لا ينحفظ بتركه سواها، و زيادة الثمن حصلت بتفريطه، فلا يضمنها.

و الأقرب: إنّه يضمن الثمن؛ لأنّه ثبت بالبيع الصحيح، و مَلَكه صاحب السلعة و قد فات بتفريط البائع.

و لو نقص الثمن عن القيمة، لم يلزمه أكثر منه؛ لأنّ الوجوب انتقل إليه؛ بدليل أنّه لو حصل الثمن لم يضمن شيئاً.

مسألة 233: و كما ليس للعامل البيع نسيئةً إلّا بإذن المالك، كذا ليس له أن يشتري نسيئةً إلّا بإذنه؛

لأنّه ربما يتلف رأس المال، فتبقى عهدة الثمن متعلّقةً بالمالك، و ذلك يستلزم إثبات مالٍ على المالك، و هكذا قد يتلف ما يدفعه المالك إليه، فيحتاج إلى دفع عوضه، و ذلك من أعظم المحاذير.

و إذا أذن له في البيع نسيئةً فَفَعَل، وجب عليه الإشهاد، كالوكيل إذا دفع الدَّيْن عن موكّله، فإن ترك الإشهاد ضمن.

و إذا أذن له في البيع نسيئةً، فإن منعه من البيع حالاًّ، أو قال له: بِعْه

ص: 67


1- في «ث، خ، ر»: «يحتمل» بدل «احتُمل».

نسيئةً، لم يكن له أن يبيعه حالاًّ؛ لأنّه مخالف لمقتضى أمره، و قد تحصل للبائع فائدة، و هي(1) أنّه لو باعه حالاًّ لم يكن له تسليمه إلى المشتري إلّا بعد قبض الثمن، و قد تتعلّق رغبة البائع بالتسليم قبل استيفاء الثمن خوفاً من الظالم.

و لو لم يمنعه من البيع حالاًّ، كان له ذلك؛ لأنّه أنفع.

و إذا باعه حالاًّ في موضع جوازه، لم يجز له تسليمه إلى المشتري إلّا بعد استيفاء الثمن، فإن سلّمه قبل استيفاء الثمن ضمن، كالوكيل.

و لو كان مأذوناً له في التسليم قبل قبض الثمن، سلّمه.

و الأقرب: وجوب الإشهاد.

و قال الشافعي: لا يلزمه الإشهاد؛ لأنّ العادة ما جرت بالإشهاد في البيع الحالّ(2).

مسألة 234: يجوز للعامل أن يبيع بالعرض إذا ظنّ حصول الفائدة فيه، بخلاف الوكيل؛

لأنّ الغرض من القراض الاسترباح بالبيع و قد يحصل بالبيع بالعرض، فكان مشروعاً، تحصيلاً لفائدة القراض.

و كذا يجوز له أن يشتري المعيب إذا رأى فيه ربحاً و إن لم يكن ذلك للوكيل؛ لأنّ الشراء ليس للوكيل، بل للموكّل، و قد يطلب به القنية، بخلاف العامل الذي يقع الشراء له و للمالك في الحقيقة، و يطلب به إخراجه.

إذا ثبت هذا، فإن اشتراه بقدر قيمته أو بدونها صحّ.

و للشافعيّة فيما إذا اشتراه بالقيمة وجهان، أحدهما: المنع؛ لأنّ

ص: 68


1- في النُّسَخ الخطّيّة و الحجريّة: «هو». و الظاهر ما أثبتناه.
2- التهذيب - للبغوي - 388:4، العزيز شرح الوجيز 22:6، روضة الطالبين 207:4.

الرغبات تقلّ في المعيب(1).

و ليس بشيءٍ.

و لو اشتراه بظنّ السلامة فبانَ العيب، فله أن يفعل ما يرى من المصلحة و ما فيه الربح، فإن كان الحظّ في الردّ بالعيب ردّه، و إن كان الحظّ له في الإمساك بالأرش أمسكه بالأرش.

فإن اختلف المالك و العامل فاختار أحدهما الردَّ و الآخَر الأرشَ، فَعَل ما فيه النظر و الحظّ؛ لأنّ المقصود تحصيل الحظّ و الفائدة.

و لا يمنعه من الردّ رضا المالك بإمساكه، بخلاف الوكيل؛ لأنّ العامل صاحب حقٍّ في المال.

و لو كانت الغبطة في إمساكه، أمسكه.

و للشافعيّة وجهان في تمكّنه من الردّ إذا كانت الغبطة في إمساكه، أظهرهما: المنع؛ لإخلاله بمقصود العقد(2).

و حيث يثبت الردّ للعامل يثبت للمالك بطريق الأولى.

مسألة 235: إذا ثبت الردّ على البائع، فإن ردّ العامل ردّ على البائع، و نقض البيع.

و إن ردّ المالك فإن كان الشراء بعين مال القراض، كان له الردّ على البائع أيضاً.

و إن كان العامل قد اشترى في ذمّته للقراض، فالأقوى: إنّه كذلك؛ لأنّ العامل في الحقيقة وكيل المالك.

ص: 69


1- التهذيب - للبغوي - 388:4، العزيز شرح الوجيز 22:6، روضة الطالبين 207:4.
2- العزيز شرح الوجيز 22:6، روضة الطالبين 207:4.

و للشافعيّة قولان، أحدهما: إنّ للمالك أن يصرفه عن مال القراض، فينصرف إلى العامل على أحد القولين، و لا ينصرف على القول الثاني، كالخلاف في انصراف العقد إلى الوكيل إذا لم يقع للموكّل(1).

مسألة 236: لا يجوز للمالك معاملة العامل في مال القراض بأن يشتري من مال القراض شيئاً؛

لأنّه ملكه، فلا تصحّ المعاملة عليه؛ إذ لا يفيد انتقالاً آخَر إليه، كما أنّ السيّد لا يصحّ أن يشتري من عبده المأذون له في التجارة شيئاً، بخلاف السيّد مع مكاتَبه، فإنّه يجوز أن يشتري منه؛ لأنّ ما في يد المكاتَب قد انقطع تصرّف المولى عنه، و صار ملكاً للمكاتَب، و لهذا لو انعتق لم يملك السيّد منه شيئاً.

و قد خالف بعض الشافعيّة في العبد المأذون، فقال: إذا ركبته الديون جاز للسيّد أن يشتري شيئاً ممّا في يده؛ لأنّه لا حقّ له فيه، و إنّما هو حقّ الغرماء(2). و هو غلط.

نعم، يأخذه السيّد بقيمته، كما يدفع قيمة العبد الجاني، و لا يكون بيعاً.

و كذا ليس للمالك أن يأخذ من العامل من مال القراض بالشفعة؛ لأنّه في الحقيقة يكون آخذاً من نفسه، بل يملكه بعقد البيع.

و كذا ليس له أن يشتري من عبده القِنّ.

و له أن يشتري من المكاتَب المطلق و إن لم ينعتق منه شيء، و من المكاتَب المشروط؛ لانقطاع تصرّفات المولى عن ماله.

مسألة 237: لا يجوز للعامل أن يشتري بمال القراض أكثر من مال القراض؛

ص: 70


1- العزيز شرح الوجيز 22:6، روضة الطالبين 207:4.
2- راجع: المغني 172:5، و الشرح الكبير 161:5.

لأنّ المالك إنّما رضي من العامل أن يشغل ذمّته بما دفعه إليه لا بغيره، فإن فَعَل و اشترى بأكثر من مال القراض، لم يقع ما زاد عن جهة القراض.

فإذا دفع إليه مائة قراضاً فاشترى بها عبداً للقراض ثمّ اشترى عبداً آخَر بمائةٍ للقراض أيضاً، لم يقع الثاني للقراض؛ لأنّه غير مأذونٍ فيه.

ثمّ إن اشترى الأوّل بعين المائة تعيّنت للبائع الأوّل، فإن اشترى الثاني بعينها أيضاً بطل الثاني؛ لأنّه اشترى بعين مال غيره لغيره.

و إن اشترى في الذمّة، فقد اشترى بعد أن صارت المائة مستحقّةَ الدفع إلى البائع الأوّل.

و كذا إن اشترى الأوّل في الذمّة ثمّ اشترى الثاني بعينها، لم يصح؛ لوجوب صَرفها إلى البائع الأوّل.

و إن اشترى الثاني في الذمّة، لم يبطل، لكن ينصرف الشراء إلى العامل، كما ينصرف شراء الوكيل المخالف لموكّله إليه، دون الموكّل.

هذا إذا لم يُسمّ في العقد مع البائع شراءه للقراض، فأمّا إن سمّاه فسد الثاني.

و إذا انصرف العبد الثاني إلى العامل، فلو دفع المائة في ثمنه فقد تعدّى في مال القراض، و دخلت المائة في ضمانه، و أمّا العبد فيبقى أمانةً في يده؛ لأنّه لم يتعدّ فيه.

فإن تلفت المائة، فإن كان الشراء الأوّل بعينها انفسخ العقد بتلف الثمن المعيّن قبل الإقباض، و إن كان في الذمّة لم ينفسخ، و يثبت للمالك على العامل مائة، و العبد الأوّل للمالك، و عليه لبائعه مائة، فإن أدّاها العامل بإذن المالك و شرط الرجوع ثبت له مائة على المالك، و تقاصّا، و إن أدّى

ص: 71

من غير إذنه برئت ذمّة المالك من حقّ بائع العبد، و يبقى حقّه على العامل.

مسألة 238: لا يجوز للعامل أن يشتري بمال القراض مَنْ يعتق على ربّ المال؛
اشارة

لأنّ ذلك منافٍ للاكتساب؛ لأنّه تخسير محض، فكان ممنوعاً منه.

فإن اشترى العامل فإمّا أن يشتريه بإذن صاحب المال، أو بدون إذنه.

فإن اشتراه بإذنه، صحّ الشراء؛ لأنّه يجوز أن يشتريه بنفسه مباشرةً، فإذا أذن لغيره فيه جاز، و انعتق.

ثمّ إن لم يكن في المال ربحٌ عُتق على المالك، و ارتفع القراض بالكلّيّة إن اشتراه بجميع مال القراض؛ لأنّه قد تلف، و إن اشتراه ببعضه صار الباقي رأس المال.

و إن كان في المال ربحٌ، فإن قلنا: إنّ العامل إنّما يملك نصيبه من الربح بالقسمة، عُتق أيضاً، و غرم المالك نصيبه من الربح، فكأنّه استردّ طائفةً من المال بعد ظهور الربح و أتلفه، و الأقوى: أُجرة المثل.

و إن قلنا: إنّه يملك بالظهور، عُتق منه حصّة رأس المال و نصيب المالك من الربح، و يسري إلى الباقي إن كان موسراً و يغرمه، و إن كان معسراً بقي رقيقاً، و به قال أكثر الشافعيّة(1).

و قال بعضهم: إن كان في المال ربحٌ و قد اشتراه ببعض مال القراض، يُنظر إن اشتراه بقدر رأس المال عُتِق، و كأنّ المالك استردّ رأس المال، و الباقي ربح يقتسمانه بحسب الشرط، و إن اشتراه بأقلّ من رأس المال فهو محسوب من رأس المال، و إن اشتراه بأكثر حُسب قدر رأس المال من

ص: 72


1- التهذيب - للبغوي - 389:4، العزيز شرح الوجيز 24:6، روضة الطالبين 208:4-209.

رأس المال، و الزيادة من حصّة المالك ما أمكن(1).

و الظاهر عندهم: الأوّل(2)، و هو وقوعه سائغاً على ما سنذكر فيما إذا استردّ شيئاً من المال بعد الربح.

و الحكم فيما إذا أعتق المالك عبداً من مال القراض كالحكم في شراء العامل مَنْ ينعتق عليه بإذنه.

و إن اشتراه العامل بغير إذن المالك، فإن اشتراه بعين المال بطل الشراء؛ لأنّ العامل اشترى ما ليس له أن يشتريه، فكان بمثابة ما لو اشترى شيئاً بأكثر من ثمنه، و لأنّ الإذن في المضاربة إنّما ينصرف إلى ما يمكن بيعه و تقليبه في التجارة و الاسترباح منه، و لا يتناول غير ذلك، فإنّ في شراء مَنْ ينعتق على المالك تفويتَ رأس المال مع الربح، فكان أولى بالبطلان.

و إن اشتراه في الذمّة، فإن لم يذكر في العقد الشراءَ للقراض و لا لمالك المال وقع الشراء له، و لزمه الثمن من ماله، و ليس له دفع الثمن من مال المضاربة، فإن فَعَل ضمن، و لو اشترى للقراض أو للمالك بطل، و به قال الشافعي(3).

و ظاهر مذهب أحمد: إنّه يصحّ الشراء بعين المال؛ لأنّه مالٌ متقوّم قابل للعقود، فصحّ شراؤه، كما لو اشتراه بإذن ربّ المال، ثمّ يعتق(4) على ربّ المال؛ لأنّه دخل في ملكه فعُتِق عليه، و تنفسخ المضاربة؛ لتلف المال، و يلزم العامل الضمان، سواء علم أو لم يعلم؛ لأنّ تلف مال».

ص: 73


1- العزيز شرح الوجيز 24:6، روضة الطالبين 209:4.
2- العزيز شرح الوجيز 24:6، روضة الطالبين 209:4.
3- العزيز شرح الوجيز 24:6، روضة الطالبين 209:4، المغني 155:5، الشرح الكبير 148:5.
4- في الطبعة الحجريّة: «ينعتق».

المضاربة حصل بسببه، و لا فرق في الإتلاف الموجب للضمان بين العلم و الجهل(1).

و هو غلط؛ لأنّه فعل غير مأذونٍ فيه، و يلحق المالك به ضرر من إتلاف مالٍ، فكان باطلاً.

فعلى قول أحمد له وجهان فيما يضمنه العامل:

أحدهما: قيمة العبد؛ لأنّ الملك ثبت فيه ثمّ تلف بسببه، فأشبه ما لو أتلفه بفعله.

و الثاني: إنّه يضمن الثمن الذي اشتراه به؛ لأنّ التفريط منه حصل، فاشترى و بذل الثمن فيما يتلف بالشراء، فكان ضمانه عليه ضمان ما فرّط فيه، و متى ظهر للمال ربح فللعامل حصّته منه(2).

و قال بعض أصحابه: إن لم يكن العامل عالماً بأنّه يعتق على ربّ المال لم يضمن؛ لأنّ التلف حصل لمعنىً في المبيع لم يعلم به المشتري، فلم يضمن، كما لو اشترى معيباً لم يعلم بعيبه فتلف به. ثمّ قال: و يتوجّه أن لا يضمن و إن علم به(3).

تذنيب: لو اشترى مَنْ نذر المالكُ عتقَه، صحّ الشراء إن لم يعلم العامل بالنذر،

و عُتِق على المالك، و لا ضمان على العامل مع جهله.

مسألة 239: ليس للعامل أن يشتري زوج صاحبة المال لو كان صاحب المال امرأةً؛

لما فيه من تضرّرها؛ إذ لو صحّ البيع لبطل النكاح؛ لأنّها تكون قد مَلَكت زوجها، و ينفسخ النكاح، و يسقط حقّها من النفقة

ص: 74


1- المغني 156:5، الشرح الكبير 148:5-149. (2 و 3) المغني 156:5، الشرح الكبير 149:5.

و الكسوة، فلا يصحّ، كما لو اشترى مَنْ ينعتق عليها، و الإذن إنّما يتناول شراء ما لها فيه حظّ، و لا حظّ لها في شراء زوجها.

إذا عرفت هذا، فإن اشتراه بإذنها صحّ قطعاً؛ لأنّ لها أن تشتريه بنفسها، فجاز أن تشتريه بوكيلها، و العامل في الحقيقة وكيل صاحب المال، و حينئذٍ يصحّ الشراء، و يكون القراض بحاله؛ لأنّه لا ينعتق عليها، و ينفسخ نكاحها.

و إن اشتراه بغير إذنها، فسد الشراء بمعنى أنّه يكون موقوفاً على إجازتها، فإن أجازته كان حكمه حكم المأذون له، و إن فسخته بطل.

و للشافعي قولان:

أحدهما: إنّه يفسد الشراء؛ لما تقدّم من منافاته لغرض القراض الذي يقصد منه الاسترباح.

و الثاني: يصحّ الشراء - و به قال أبو حنيفة - لأنّه اشترى ما يمكنه طلب الربح فيه و لا يتلف رأس المال، فجاز، كما لو اشترى مَنْ ليس بزوجٍ لها(1).

و الفرق ظاهر؛ للتضرّر بالأوّل، دون الثاني.

مسألة 240: و ليس للعامل أن يشتري زوجة المالك؛

لاشتماله على فسخ عقدٍ عَقَده باختياره و قصده، فلا يليق أن يفعل ما ينافيه، و به قال الشافعي(2).

ص: 75


1- الحاوي الكبير 324:7، المهذّب - للشيرازي - 394:1، بحر المذهب 207:9، حلية العلماء 338:5-339، التهذيب - للبغوي - 391:4، البيان 183:7، العزيز شرح الوجيز 24:6، روضة الطالبين 209:4، روضة القُضاة 2468/590:2، المغني 156:5، الشرح الكبير 149:5.
2- الوسيط 117:4، التهذيب - للبغوي - 391:4، العزيز شرح الوجيز 24:6، روضة الطالبين 209:4.

و له قولٌ آخَر: إنّه يصحّ الشراء، و ينفسخ النكاح، و به قال بعض الحنابلة(1).

ثمّ إن كان الشراء قبل الدخول، ففي لزوم نصف الصداق للزوج وجهان، فإن قلنا: يلزم، رجع به على العامل؛ لأنّه سبب تقريره عليه، فيرجع به عليه، كما لو أفسدت امرأة نكاحها بالرضاع.

و لو اشترى زوجَ صاحبة المال، فللشافعيّة وجهان(2).

فعلى الصحّة لا يضمن العامل ما يفوت من المهر و يسقط من النفقة؛ لأنّ ذلك لا يعود إلى المضاربة، و إنّما هو بسببٍ آخَر، و لا فرق بين شرائه في الذمّة أو بعين المال.

مسألة 241: لو وكّل وكيلاً يشتري له عبداً، فاشترى مَنْ ينعتق على الموكّل، فالأقرب: إنّه لا يقع عن الموكّل؛

لأنّ الظاهر أنّه يطلب عبد تجارةٍ أو عبد قُنيةٍ، و شراء مَنْ ينعتق عليه لا يُحصّل واحداً من الغرضين، و هو أحد قولَي الشافعيّة.

و الثاني - و هو الأظهر عندهم -: إنّه يقع للموكّل؛ لأنّ اللفظ شامل، فربما يرضى بشراء عبدٍ إن بقي له انتفع به، و إن عُتِق عليه حصل له ثواب العتق، و هذا بخلاف عامل القراض؛ لأنّ عقد القراض مبنيٌّ على تحصيل الفائدة و الاسترباح بتقليب المتاجر و بيعها و شرائها(3).

و لكنّ الأوّل أقوى.

فإن اشترى بالعين، بطل الشراء؛ لما فيه من تضرّر الموكّل بإخراج

ص: 76


1- نفس المصادر مضافاً إلى: المغني 156:5، و الشرح الكبير 149:5.
2- راجع: الهامش (1) من ص 75.
3- الوسيط 117:4، العزيز شرح الوجيز 24:6-25، روضة الطالبين 209:4.

ماله عن ملكه.

و إن اشترى في الذمّة، فإن سمّى الموكّل وقف على الإجازة، و إن لم يُسمّه وقع للوكيل في الظاهر.

مسألة 242: لو اشترى العامل أو الوكيل عبداً لصاحب المال عليه مالٌ بغير إذنه، احتُمل البطلان؛

لما فيه من تضرّر المالك بإسقاط ماله عن غيره بواسطة الشراء؛ إذ ما يشتريه العامل للقراض أو الوكيل في الحقيقة لصاحب المال، و لا يثبت للمولى على عبده شيء، فيؤدّي هذا الشراء الى إسقاط حقّه عنه.

و يحتمل الصحّة؛ لأنّه مملوك يقبل النقل، و صاحب المال يصحّ الشراء له فصحّ العقد، كغيره.

لكنّ الأوّل أقرب.

فإن قلنا بالصحّة، ففي تضمين العامل إشكال ينشأ من إسقاط الدَّيْن بواسطة فعله، فكان ضامناً؛ لأنّه سبب الإتلاف.

مسألة 243: إذا دفع السيّد إلى عبده المأذون له في التجارة مالاً و قال له: اشتر عبداً، فهو كالوكيل،

و إن قال: اتّجر به، فهو كالعامل.

و تقرير ذلك: إنّ العبد المأذون له في التجارة إذا اشترى مَنْ يعتق على سيّده، فإن كان بإذن السيّد صحّ الشراء، فإن لم يكن عليه دَيْنٌ عتق، و إن كان على العبد دَيْنٌ فكذلك عندنا.

فإذا كان على المأذون دَيْنٌ يستغرق قيمته و ما في يده و قلنا: يتعلّق الدَّيْن برقبته، فعليه دفع قيمته الى الغرماء؛ لأنّه الذي أتلف [عليهم](1)

ص: 77


1- بدل ما بين المعقوفين في النُّسَخ الخطّيّة و الحجريّة: «عليه». و الصحيح ما أثبتناه.

بالعتق.

و للشافعي قولان في نفوذ العتق فيه؛ لأنّ ما في يد العبد كالمرهون بالديون(1).

و إن اشترى بغير إذن سيّده و كان المولى قد نهاه عن شرائه، بطل الشراء، سواء كان عليه دَيْنٌ أو لم يكن؛ لأنّ العبد لا يملك البيع و الشراء إلّا بإذن مولاه، فإذا نهاه لم يملكهما.

و إن كان المالك قد أطلق الإذن و لم يأذن في شراء قريبه و لا نهاه عنه، فالأقرب: البطلان أيضاً؛ لأنّ إذنه يتضمّن ما فيه حظٌّ و يمكنه التجارة فيه، فلا يتناول مَنْ ينعتق(2) عليه، كالعامل إذا اشترى مَنْ ينعتق(3) على ربّ المال، و هو أحد قولَي الشافعي.

و الثاني: إنّه يصحّ الشراء؛ لأنّ الشراء يقع للسيّد لا حقّ للعبد فيه؛ إذ لا يتمكّن العبد من الشراء لنفسه، و إنّما يشتريه لمولاه، فإذا أطلق الإذن انصرف ما يشتريه إليه، مقيّداً كان أو غير مقيّدٍ، بخلاف العامل، فإنّه يمكنه الشراء لنفسه، كما يمكنه الشراء للمالك، فما لا يقع مقصوداً بالإذن ظاهراً ينصرف إلى العامل(2).

و الأوّل عندهم أصحّ - و به قال المزني - كما قلنا في العامل؛ لأنّ السيّد إنّما أذن في التجارة، و هذا ليس منها(3).6.

ص: 78


1- بحر المذهب 206:9، البيان 212:7-213، العزيز شرح الوجيز 25:6، روضة الطالبين 209:4. (2 و 3) في «ج»: «يعتق».
2- الحاوي الكبير 325:7، بحر المذهب 205:9، العزيز شرح الوجيز 25:6، روضة الطالبين 209:4.
3- بحر المذهب 206:9، العزيز شرح الوجيز 25:6.

و قطع الجويني بهذا القول فيما إذا كان الإذن في التجارة، و ردّ الخلاف إلى ما إذا قال: تصرَّفْ في هذا المال و اشتر عبداً(1) ، فلهذا قيل:

إن قال السيّد: اشتر عبداً، فهو كالوكيل، و إن قال: اتّجر، فهو كالعامل(2).

إذا عرفت هذا، فإذا اشترى العبد أبَ مولاه، فإن قلنا: لا يصحّ، فلا بحث.

و إن قلنا: يصحّ، فإن لم يكن عليه دَيْنٌ عتق.

و إن كان على العبد دَيْنٌ، فللشافعيّة ثلاثة أوجُهٍ:

أحدها: إنّه يبطل الشراء؛ لأنّ الدَّيْن يمنع من عتقه، فبطلان العقد أحسن.

و الثاني: إنّه يصحّ و لا يعتق.

و الثالث: يعتق عليه، و تكون ديون الغرماء في ذمة السيّد(3).

و قال أبو حنيفة: إن لم يكن دفع إليه المال و إنّما أذن له في التجارة صحّ الشراء، و عتق على مولاه، و إن كان دفع إليه مالاً لم يصح الشراء، كالمضارب؛ لأنّ العبد إذا لم يدفع إليه المال فإنّما يشتري لنفسه، و لهذا لا يصحّ نهيه عن نوعٍ أو سلعةٍ، و إذا لم يكن يشتري له صحّ شراؤه له، و لم يعتق عليه، كالأجنبيّ(4).5.

ص: 79


1- العزيز شرح الوجيز 25:6، روضة الطالبين 209:4.
2- الوجيز 223:1، العزيز شرح الوجيز 25:6.
3- بحر المذهب 206:9.
4- بحر المذهب 206:9، العزيز شرح الوجيز 25:6، المغني 157:5، الشرح الكبير 150:5.

و ليس بجيّدٍ؛ لأنّه إذن مطلق في الشراء، فلا يتناول مَنْ يعتق على الآذن، كما لو دفع إليه مالاً، و المضارب و المأذون يشتري للمولى، و لهذا يعتق عليه.

مسألة 244: لو اشترى العامل مَنْ يعتق عليه، صحّ الشراء.

ثمّ لا يخلو إمّا أن لا يكون في المال ربح أو يكون، فإن لم يكن لم يعتق على العامل؛ لأنّه لم يملكه و لا شيئاً منه، كالوكيل لشراء قريب نفسه لموكّله.

ثمّ إذا ارتفعت الأسواق و ظهر ربح، فإن قلنا: العامل إنّما يملك بالقسمة، لم يعتق منه شيء أيضاً.

و إن قلنا: يملك بالظهور، عتق عليه قدر حصّته من الربح؛ لأنّه مَلَك بعض أبيه، فيعتق(1) عليه، كما لو اشتراه من ماله، و هو أظهر وجهي الشافعيّة.

و الثاني لهم: إنّه لا يعتق عليه؛ لأنّه مَلَكه ملكاً غير تامٍّ؛ لأنّه وقاية لرأس المال، فليكن هذا مُعدّاً لهذا الغرض إلى انفصال الأمر بينهما بالقسمة؛ لأنّ بها يتمّ الملك، فجرى مجرى ملك المكاتَب لأبيه يكون مُعدّاً إن عتق عتق، و إلّا ملك(2).

فإذا قلنا: لا يعتق، فلا كلام.

و إن قلنا: إنّه يعتق، فإن كان الربح بقدره عتق جميعه.

و إن كان بقدر بعضه، فإن كان له مالٌ آخَر قُوِّم عليه الباقي، كما لو

ص: 80


1- في «ج»: «فعتق».
2- المهذّب - للشيرازي - 394:1، بحر المذهب 206:9، حلية العلماء 341:5، التهذيب - للبغوي - 390:4، البيان 190:7، العزيز شرح الوجيز 25:6، روضة الطالبين 210:4.

اشتراه و فيه ربح، و هو أظهر وجهي الشافعيّة.

و الثاني: إنّه لا يُقوَّم عليه؛ لأنّ العتق - و الحال هذه - يحصل في الدوام بسببٍ قهريّ هو غير مختارٍ فيه، و مثل ذلك لا يتعلّق به السراية، كما لو ورث بعضَ قريبه، عتق عليه، و لم يَسْر(1).

و ليس بجيّدٍ؛ لأنّه في صورة الإرث غير مختارٍ البتّة، و أمّا هنا فإنّ الشراء أوّلاً و الإمساك له إلى حين ارتفاع الأسواق اختياريّان.

و إن لم يكن موسراً، استقرّ الرقّ في الباقي.

و هل يستسعى العبد حينئذٍ؟ مذهبنا ذلك - و به قال أبو حنيفة(2) - لما رواه محمّد بن قيس - في الصحيح - عن الصادق عليه السلام، قال: قلت: رجل دفع إلى رجلٍ ألف درهم مضاربةً، فاشترى أباه و هو لا يعلم، قال: «يقوّم فإن زاد درهماً واحداً أُعتق و استُسعي في مال الرجل»(3).

و قال أحمد: لا يستسعى، بل يبقى الباقي رقيقاً(4).

و إن كان في المال ربح قبل الشراء أو حصل بنفس الشراء بأن كان رأس المال مائةً فاشترى بها أباه و هو يساوي مائتين، فإن قلنا: إنّ العامل يملك بالقسمة دون الظهور، لم يعتق من العبد شيء، و صحّ الشراء.

و إن قلنا: يملك بالظهور، صحّ الشراء أيضاً - و هو أظهر وجهي5.

ص: 81


1- العزيز شرح الوجيز 26:6، روضة الطالبين 210:4.
2- الاختيار لتعليل المختار 32:3، الهداية - للمرغيناني - 205:3، المغني 158:5، الشرح الكبير 150:5.
3- التهذيب 841/190:7.
4- المغني 158:5، الشرح الكبير 150:5.

الشافعيّة(1) - لأنّه مطلق التصرّف في ملكه، و لأنّهما شريكان في المال، و أحد الشريكين إذا اشترى مَنْ يعتق عليه صحّ شراؤه.

و الثاني لهم: المنع؛ لأنّه لو صحّ فإمّا أن يُحكم بعتقه، و هو مخالف لغرض الاسترباح الذي هو مقصود التجارة، و لأنّ صحّة الشراء تؤدّي إلى تنجيز حقّ العامل قبل ربّ المال، فكان تصرّفه يُضرّ بربّ المال، فلم يصح، أو لا يُحكم فيتخلّف العتق عن ملك القريب(2).

فإن قلنا بالمنع، ففي الصحّة في نصيب المالك قولا تفريق الصفقة.

و إن قلنا بالصحّة - كما هو مذهبنا و أظهر وجهي الشافعيّة - ففي عتقه عليه الوجهان السابقان، إن قلنا: يعتق، فإن كان موسراً سرى العتق إلى الباقي، و لزمه الغُرْم؛ لأنّه مَلَكه باختياره، و إلّا بقي رقيقاً، أو استُسعي على ما تقدّم.

هذا كلّه إذا اشترى العامل قريبَ نفسه بعين مال القراض، و أمّا إذا اشتراه في الذمّة للقراض، فكلّ موضعٍ صحّحنا الشراء بعين مال القراض أوقعناه هنا عن القراض، و كلّ موضعٍ أبطلناه هناك أوقعناه هنا عن العامل إن لم يذكر النسبة إلى القراض، و إن ذكر فكالعين.

و قال بعض الشافعيّة: إنّه لو أطلق الشراء و لم ينسبه إلى القراض لفظاً ثمّ قال: كنتُ نويتُه، و قلنا: إنّه إذا وقع عن القراض لم يعتق منه شيء، لا يُقبل قوله؛ لأنّ الذي جرى عقد عتاقة، فلا يمكن رفعها(1).

و لا بأس به.4.

ص: 82


1- العزيز شرح الوجيز 26:6، روضة الطالبين 210:4.
مسألة 245: ليس لعامل القراض أن يكاتب عبد القراض بغير إذن المالك؛

لما فيه من تضرّر المالك بإخراج ملكه عنه بثمنٍ هو ملكه؛ لأنّ الكتابة في الحقيقة بيع ماله بماله، فإن أذن المولى جاز.

فإن كاتباه معاً صحّ، و عتق بالأداء.

ثمّ إن لم يكن في المال ربح و قلنا بثبوت الولاء في الكتابة، كان الولاء بأسره للمالك، و لا ينفسخ القراض بالكتابة في أظهر وجهي الشافعيّة(1) ، بل ينسحب على النجوم.

و إن كان هناك ربح، فالولاء بينهما على النسبة في الحصص فيه، و الزائد من النجوم على القيمة ربح.

البحث الثاني: في قراض العامل.
مسألة 246: قد بيّنّا فيما تقدّم

مسألة 246: قد بيّنّا فيما تقدّم(2) أنّه ليس للعامل في القراض أن يقارض غيره

- و به قال الشافعي و أبو حنيفة(3) - لأنّ المالك لم يأذن فيه، و إنّما ائتمن على المال العاملَ دون غيره، فليس له التغرير بمال صاحبه، فإن أذن له المالك فيه صحّ، و إلّا فلا.

و خرّج بعض الحنابلة وجهاً في الجواز؛ بناءً على توكيل الوكيل من غير إذن الموكّل(4).

ص: 83


1- العزيز شرح الوجيز 26:6، روضة الطالبين 210:4.
2- في ص 17، المسألة 201.
3- الحاوي الكبير 336:7، المهذّب - للشيرازي - 393:1، بحر المذهب 212:9، الوجيز 223:1، حلية العلماء 336:5، التهذيب - للبغوي - 392:4، البيان 177:7، العزيز شرح الوجيز 28:6، روضة الطالبين 210:4.
4- المغني 159:5، الشرح الكبير 152:5.

و هو غلط.

أمّا أوّلاً: فللمنع من حكم الأصل.

و أمّا ثانياً: فللفرق؛ لأنّ المالك إنّما دفع المال إلى العامل ليضارب به، و إذا دفعه إلى غيره خرج عن كونه مضارباً به، بخلاف الوكيل، و لأنّ هذا يوجب في المال حقّاً لغيره، و لا يجوز إيجاب حقٍّ في مال إنسانٍ بغير إذنه.

إذا عرفت هذا، فلا يخلو إمّا أن يكون المالك قد أذن للعامل في أن يقارض غيره، أو لا، فإن أذن صحّ؛ لأنّ العامل الأوّل وكيل، و هذا العقد يقبل الوكالة.

و اعلم أنّ العامل يتصوّر أن يقارض غيره بإذن المالك في موضعين:

أحدهما: أن يخرج نفسه من القراض، و يجعل نفسه وكيلاً في القراض مع الثاني كأنّ المالك سلّم المال إليه و أذن له في أن يقارض غيره إن بدا له.

و هو قراض صحيح، كما لو قارضه المالك بنفسه؛ لأنّ العامل الأوّل في الحقيقة وكيل في عقد القراض مع الثاني، سواء كان العامل الأوّل قد عمل أو لا.

و الثاني: أن يأذن له في أن يعامل غيره ليكون ذلك الغير شريكاً له في العمل و الربح المشروط له على ما يراه.

و هو جائز، كما لو قارض المالك في الابتداء شخصين فكذا الانتهاء، و هو أحد وجهي الشافعيّة.

و الثاني - و هو الأظهر عندهم -: إنّه لا يصحّ؛ لأنّه لو جاز ذلك لكان الثاني فرعاً للأوّل منصوباً من جهته، و القراض معاملة يضيق مجال القياس

ص: 84

فيها، فلا يعدل بها عن موضعها، و هو أن يكون أحد المتعاملين مالكاً لا عمل له، و الثاني عاملاً لا ملك له(1).

و هو ضعيف؛ لأنّ العاملين كالواحد.

مسألة 247: إذا أذن المالك للعامل في أن يقارض غيره، جاز.

ثمّ لا يخلو إمّا أن يجعل الربح الذي جعله المالك بأسره للعامل الثاني، أو يجعل له قسطاً منه و للثاني الباقي، فإن جعل الربح بين العامل الثاني و المالك نصفين أو ما قدّره و لم يشرط لنفسه شيئاً من الربح، صحّ، و كان الربح بين المالك و العامل الثاني على ما شرط.

و إن جعل العامل الأوّل لنفسه شيئاً كأنّه قال: النصف لربّ المال و الباقي بيني و بينك نصفين، لم يصح القراض؛ لأنّه شرط لنفسه نصيباً من الربح، و ليس من جهته مال و لا عمل، فلم يصح، و يكون الربح لربّ المال، و للعامل الثاني أُجرة مثل عمله على المالك.

مسألة 248: لو دفع العامل الأوّل قراضاً إلى الثاني بغير إذن المالك، فسد؛

لأنّ المالك لم يأذن فيه، و لا ائتمن على المال غيره، و لأنّه لا يجوز أن يتصرّف العامل في مال ربّ المال بما لا يتناوله إذنه، فإذا عمل العامل الثاني، فإن حصل ربح فالأقرب: إنّه للمالك.

ثمّ لا يخلو إمّا أن يكون العامل الثاني عالماً بالحال، أو لا.

فإن كان عالماً، لم يكن له شيء؛ لأنّه تصرّف في مال الغير بغير إذنه مع علمه بأنّه ممنوع منه، و لا يستعقب ذلك استحقاق شيءٍ.

و إن لم يكن عالماً، رجع على العامل الأوّل بأُجرة المثل.

ص: 85


1- العزيز شرح الوجيز 27:6، روضة الطالبين 210:4-211.

و نقل المزني من الشافعيّة: [إنّه] إذا عمل العامل الثاني بغير إذن المالك و حصل في المال ربحٌ، كان لربّ المال النصف الذي شرطه لنفسه، و ما بقي بين العامل الأوّل و الثاني.

ثمّ قال المزني: هذا قولٌ للشافعي قديم، و أصله الجديد المعروف:

إنّ كلّ فاسدٍ لا يصحّ حتى يبتدأ بما يصحّ، فإن اشترى بعين المال فالشراء فاسد، و إن اشترى في الذمّة فالشراء صحيح، و الربح للعامل الأوّل، و للعامل الثاني أُجرة مثله(1).

و بنوا هذه المسألة على أصلٍ هي مسألة البضاعة، و هي: إنّه إذا غصب رجل مالاً ثمّ اتّجر به و ربح فيه، ففيه قولان مبنيّان على أنّ تصرّفات الفضولي تنعقد موقوفةً على الإجازة، أم لا؟ فإن قلنا: إنّ تصرّفه باطل، فلو أنّ الثاني تصرّف في المال و ربح، لمَنْ يكون الربح ؟ و هذا يبتني على أنّ الغاصب إذا اتّجر في المال المغصوب ما حكم تصرّفه ؟ و لمن الربح الحاصل ؟

أمّا إذا تصرّف في عين المغصوب فهو تصرّف الفضولي.

و أمّا إذا باع سَلَماً أو اشترى في الذمّة و سلّم المغصوب فيما التزمه و ربح، فعلى الجديد للشافعي: الربح للغاصب؛ لأنّ التصرّف صحيح، و التسليم فاسد، فيضمن المال الذي سلّمه، و يسلم له الربح، و هذا قياس ظاهر.

و على القول القديم: هو للمالك؛ لحديث عروة البارقي؛ فإنّ النبيّ صلى الله عليه و آله أخذ رأس المال و الربح(2) ، و لأنّا لو جعلناه للغاصب لاتّخذه8.

ص: 86


1- مختصر المزني: 122.
2- سنن الترمذي 1258/559:3، سنن الدارقطني 29/10:3 و 30، سنن البيهقي 112:6، مسند أحمد 18873/507:5، و 18877/508.

الناس ذريعةً إلى غصب الأموال، و الخيانة في الودائع و البضاعات، و لأنّ تصرّفات الغاصب قد تكثر فيعسر تتبّع الأمتعة التي تداولتها الأيدي المختلفة، أو يتعذّر(1).

و في هذا القول مباحث:

الأوّل: هل يجزم على هذا القول بأنّ الربح للمالك، أو نوقفه على إجازته و اختياره ؟ قيل بالوقف على الإجازة(2).

و بناء هذا القول على قول الوقف في بيع الفضولي.

و لم يتعرّض الشافعي للفسخ و الإجازة؛ لأنّ الغالب أنّه يجيز إذا رأى الربح، فعلى هذا إذا ردّه يرتدّ، سواء اشترى في الذمّة أو بعين المغصوب.

و قال الأكثرون: إنّه مجزوم به و مبنيٌّ(2) على المصلحة، و كيف يستقيم توقيف شراء الغاصب لنفسه على إجازة غيره! و إنّما يجري قول الوقف إذا تصرّف في عين مال الغير أو له(4).

الثاني: إذا كان في المال ربح و كثرت التصرّفات و عسر تتبّعها، فهو موضع القول القديم(3) ، أمّا إذا قلّت و سهل التتبّع و لا ربح، فلا مجال له.

و حكى الجويني وجهين فيما إذا سهل التتبّع و هناك ربح أو عسر و لا ربح(4).

الثالث: لو اشترى في ذمّته و لم يخطر له أن يؤدّي الثمن من الدراهم المغصوبة ثمّ عنّ له ذلك، قال الجويني: ينبغي أن لا يجيء فيه القول6.

ص: 87


1- العزيز شرح الوجيز 28:6، روضة الطالبين 211:4. (2 و 4) كما في العزيز شرح الوجيز 28:6، و روضة الطالبين 211:4.
2- في «ث، ر» و الطبعة الحجريّة: «يبنى».
3- كما في العزيز شرح الوجيز 28:6.
4- العزيز شرح الوجيز 29:6.

القديم إن صدّقه صاحب الدراهم(1).

و هذه المسألة تُلقّب بمسألة البضاعة.

إذا عرفت هذا، فعلى الجديد - و هو وقوع عقد الفضولي لاغياً - إن اشترى بعين مال القراض، فهو باطل.

و إن اشترى في الذمّة، فأحد الوجهين: إنّ كلّ الربح للعامل الثاني؛ لأنّه المتصرّف، كالغاصب في صورة الغصب.

و أصحّهما عندهم: إنّ كلّه للأوّل؛ لأنّ الثاني تصرّف للأوّل بإذنه، فكان كالوكيل من [جهته](2) ، و عليه للثاني أُجرة عمله، و به قال أبو حنيفة و المزني(3).

و إن قلنا بالقديم - و هو توقّف عقد الفضولي على الإجازة - ففيما يستحقّه المالك من الربح وجهان:

أحدهما: إنّ جميعه للمالك، كما في الغصب، طرداً لقياس(4) هذا القول، و على هذا فللعامل الثاني أُجرة مثله.

و على مَنْ تجب ؟ وجهان:

أحدهما: إنّها على العامل الأوّل؛ لأنّه استعمله و غرَّه.

و الثاني: على المالك؛ لأنّ نفع عمله عاد إليه.ز.

ص: 88


1- العزيز شرح الوجيز 29:6، روضة الطالبين 212:4.
2- ما بين المعقوفين أثبتناه من «العزيز شرح الوجيز» و بدله في النُّسَخ الخطّيّة و الحجريّة: «حصته». و هي تصحيف.
3- العزيز شرح الوجيز 29:6.
4- في النُّسَخ الخطّيّة و الحجريّة: «للقياس». و المثبت هو الصحيح كما في العزيز شرح الوجيز.

و أصحّهما - و به قال المزني(1) -: إنّ له نصفَ الربح؛ لأنّه رضي به، بخلاف الغصب، فإنّه لم يوجد منه رضا، فصرفنا الجميع إلى المالك؛ قطعاً لطمع مَنْ يغصب و يخون، و على هذا ففي النصف الثاني وجوه:

أ: إنّ الجميع للعامل الأوّل؛ لأنّ المالك إنّما شرط له، و عقده مع الثاني فاسد، فلا يتبع شرطه؛ لأنّ المضاربة فاسدة، و الشرط لا يثبت في الفاسدة، و على هذا فللثاني أُجرة مثل عمله على الأوّل؛ لأنّه غرَّه.

ب: إنّ كلّه للثاني؛ لأنّه العامل، أمّا الأوّل فليس له عمل و لا ملك، فلا يُصرف إليه شيء من الربح.

و أصحّها(2) عندهم: إنّه يكون بين العاملين بالسويّة؛ لأنّ تتبّع التصرّفات عسير، و المصلحة اتّباع الشرط إلّا أنّه قد تعذّر الوفاء به في النصف الذي أخذه المالك، فكأنّه تلف و انحصر الربح في الباقي، و على هذا ففي رجوع العامل الثاني بنصف أُجرة المثل وجهان:

أحدهما: نعم؛ لأنّه كان طمعه في نصف الربح بتمامه، و لم يسلم له إلّا نصف النصف.

و أشبههما: لا؛ لأنّ الشرط محمول على ما يحصل لهما من الربح، و الذي حصل هو النصف.

و الوجهان فيما إذا كان العامل الأوّل قد قال للعامل الثاني: على أنّ ربح هذا المال بيننا، أو على أنّ لك نصفه، أمّا إذا كانت الصيغة: على أنّ ما رزقنا اللّه تعالى من الربح بيننا، قطع أكثر الشافعيّة بأنّه لا رجوع؛ لأنّ النصف هو الذي حصل.ح.

ص: 89


1- العزيز شرح الوجيز 29:6.
2- في النُّسَخ الخطّيّة و الحجريّة: «أصحّهما». و المثبت هو الصحيح.

و عن بعضهم إجراء الوجهين؛ لأنّ المفهوم تشطّر جميع الربح.

هذا كلّه إذا جرى القراضان على المناصفة، و إن كانا أو أحدهما على نسبةٍ أُخرى فعلى ما تشارطا(1).

مسألة 249: لو تلف المال في يد الثاني، فإن كان عالماً بالحال فهو غاصب أيضاً؛

حيث تصرّف في مال الغير بغير إذنه مع علمه.

و إن كان جاهلاً و ظنّ أنّ المالك هو العامل الأوّل فترتّب يده على يد الأوّل كترتّب يد المودع على يد الغاصب؛ لأنّه يد أمانةٍ.

و في طريقٍ للشافعيّة: إنّه كالمتّهب من الغاصب؛ لعود النفع إليه(2).

و التحقيق أنّ العامل الثاني بمنزلة الغاصب في الإثم و الضمان و التصرّف إن كان عالماً بأنّ هذا العامل الأوّل قارضه بغير إذن صاحب المال.

و إن كان غيرَ عالمٍ، سقط عنه الإثم، و بقي حكم التصرّف و الضمان.

أمّا التصرّف: فقد تقدّم.

و أمّا الضمان: فإنّ المال مضمون على كلّ واحدٍ منهما.

أمّا على الأوّل: فبتعدّيه بتسليمه إلى الثاني.

و أمّا على الثاني: فلأنّه تسلّم مال غيره بغير إذنه.

فإن كان باقياً، طالَب أيّهما شاء بردّه و أخذه.

و إن كان تالفاً، كان له مطالبة أيّهما شاء ببدله، فإن طالَب العامل الأوّل، لم يرجع على الثاني؛ لأنّه دفعه إليه على وجه الأمانة.

و إن طالَب الثاني، فهل يرجع على الأوّل ؟ للشافعيّة قولان:

ص: 90


1- العزيز شرح الوجيز 29:6-30، روضة الطالبين 212:4.
2- العزيز شرح الوجيز 30:6، روضة الطالبين 212:4.

أحدهما: يرجع؛ لأنّ الأوّل غرَّه، فأشبه ما لو غرّه بحُرّيّة أمته.

و الثاني: لا يرجع؛ لأنّ التلف حصل في يده، فاستقرّ الضمان عليه(1).

إذا تقرّر هذا، فلو شرط العامل الأوّل على العامل الثاني أنّ نصف الربح للمالك و أنّ النصف الآخَر بينهما نصفين، قال بعض الحنابلة: يكون على ما اتّفقا عليه؛ لأنّ ربّ المال رضي بالنصف، فلا يدفع إليه أكثر منه، و العاملان على ما اتّفقا عليه(2).

و ليس بشيءٍ، مع أنّ أحمد قال: لا يطيب الربح للمضارب الأوّل؛ لأنّه ليس له عمل و لا مال، و لا للمضارب الثاني؛ لأنّه عمل في مال غيره بغير إذنه و لا شرطه، فلا يستحقّ ما شرط له غير المالك، كما لو دفعه إليه الغاصب مضاربةً، و لأنّه إذا لم يستحق ما شرطه له ربّ المال في المضاربة الفاسدة فما شرطه له غيره بغير إذنه أولى(3).

مسألة 250: لو أذن ربُّ المال للعامل في دفع المال مضاربةً، جاز ذلك،

و لا نعلم فيه خلافاً، و يكون العامل الأوّل وكيلاً لربّ المال في ذلك.

فإن كان بعد العمل، جاز أيضاً؛ لما بيّنّا من أنّ المضاربة من العقود الجائزة.

فإن كان قد ظهر ربح في عمل العامل و قلنا: يملك بالظهور، استحقّ نصيبه من الربح.

و إن قلنا بالقسمة أو لم يظهر ربح، فله أُجرة المثل.

ص: 91


1- بحر المذهب 214:9، البيان 179:7.
2- المغني 161:5، الشرح الكبير 153:5.
3- المغني 161:5، الشرح الكبير 153:5-154.

و إذا دفعه العامل الأوّل، لم يجز له أن يشترط لنفسه جزءاً من الربح، فإن شرط شيئاً من الربح لم يجز؛ إذ ليس من جهته مال و لا عمل، و الربح إنّما يستحقّ بأحدهما.

و لو قال له المالك: اعمل في هذا المال برأيك، أو بما أراك اللّه تعالى، فالأقرب: إنّه يجوز له دفعه مضاربةً؛ لأنّه قد يرى أنّه يدفعه إلى مَنْ هو أبصر منه في التجارة و أقوى منه جلداً، و به قال أحمد(1).

و يحتمل أن لا يجوز ذلك؛ لأنّ قوله: «اعمل برأيك» يعني في كيفيّة المضاربة و البيع و الشراء و أنواع التجارة، و هذا يخرج [به] عن المضاربة، فلا يتناوله إذنه.

مسألة 251: لا يجوز لعامل القراض أن يمزج مال المضاربة بماله بحيث لا يتميّز، فإن فَعَل أثم و ضمن؛

لأنّه أمانة، فهو كالوديعة.

و لو قال له: اعمل برأيك، جاز ذلك - و به قال الثوري و مالك و أصحاب الرأي(2) - لأنّه قد جعل النظر في المصلحة و فعلها موكولاً إلى نظره، و ربما رأى الحظّ للمضاربة في المزج، فإنّه أصلح له، فيدخل تحت قوله: اعمل برأيك.

و قال الشافعي: ليس له ذلك؛ لأنّ ذلك ليس من التجارة(3).

ص: 92


1- المغني 162:5، الشرح الكبير 154:5.
2- المغني 162:5، الشرح الكبير 154:5، المدوّنة الكبرى 102:5-103، الإشراف على مذاهب أهل العلم 44:2، الاختيار لتعليل المختار 30:3، بدائع الصنائع 95:6، مختصر اختلاف العلماء 1711/42:4، المبسوط - للسرخسي - 39:22-40، الهداية - للمرغيناني - 210:3.
3- الإشراف على مذاهب أهل العلم 44:2، البيان 192:7، العزيز شرح الوجيز 49:6، روضة الطالبين 224:4، مختصر اختلاف العلماء 1711/43:4، المغني 162:5، الشرح الكبير 154:5.

و هو غير مسلَّمٍ؛ لأنّه قد يكون من مصلحتها.

و كذا ليس له المشاركة مع مال القراض، إلّا أن يقول: اعمل برأيك، و تكون المشاركة مصلحةً.

مسألة 252: إذا أخذ العامل من غيره مضاربةً، جاز له أن يأخذ من غيره مضاربةً أُخرى،

سواء أذن له الأوّل أو لا إذا لم يتضرّر الأوّل بمعاملة الثاني.

فإن تضرّر الأوّل بمعاملة الثاني بأن يكون المال الثاني كثيراً يحتاج أن يقطع زمانه في التجارة به و يشغله عن السعي في الأوّل، أو يكون المال الأوّل كثيراً متى اشتغل عنه بغيره انقطع عن بعض تصرّفاته فيه، و فات باشتغاله في الثاني بعض مصالحه، فأكثر الفقهاء على جوازه أيضاً؛ لأنّه عقد لا يملك به منافعه بأسرها، فلم يمنع من المضاربة، كما لو لم يكن فيه ضرر، و كالأجير المشترك(1).

و قالت الحنابلة: لا يجوز له ذلك؛ لأنّ المضاربة مبنيّة على الحظّ و النماء، فإذا فَعَل ما يمنعه لم يكن له، كما لو أراد التصرّف بالغبن.

قالوا: فعلى هذا إذا فَعَل و ربح ردّ الربح في شركة الأوّل و يقتسمانه، فينظر ما ربح في المضاربة الثانية، فيدفع إلى ربّ المال نصيبه، و يأخذ المضارب نصيبه من الربح، فيضمّه إلى ربح المضاربة الأُولى، و يقاسمه ربّ(2) المضاربة الأُولى؛ لأنّه استحقّ حصّته من الربح بالمنفعة التي

ص: 93


1- المغني 163:5، الشرح الكبير 156:5.
2- في المصدر: «لربّ» بدل «ربّ».

استُحقّت بالعقد، فكان بينهما، كربح المنفعة المستحقّة بالعقد الأوّل.

فأمّا حصّة ربّ المال الثاني من الربح فيدفع إليه؛ لأنّ العدوان من المضارب لا يُسقط حقَّ ربّ المال الثاني، و لأنّا لو رددنا ربح الثاني كلّه في الشركة الأُولى، لاختصّ الضرر بربّ المال الثاني، و لم يلحق المضارب شيء من الضرر و العدوان منه، بل ربما انتفع إذا كان قد شرط الأوّل النصفَ و الثاني الثلثَ(1).

و هذا ليس بشيءٍ.

و الحقّ أنّه لا شيء لربّ المضاربة الأُولى من ربح الثانية؛ لأنّه إنّما يستحقّ بمالٍ أو عملٍ، و ليس له في المضاربة الثانية مالٌ و لا عمل، و تعدّي المضارب إنّما كان بترك العمل و اشتغاله عن المال الأوّل، و هذا لا يوجب عوضاً، كما لو اشتغل بالعمل في مال نفسه، أو آجر نفسه، أو ترك التجارة للتعب أو لاشتغالٍ بعلمٍ، أو غير ذلك، و لأنّه لو أوجب عوضاً لأوجب شيئاً مقدّراً لا يختلف و لا ينحصر بقدر ربحه في الثانية.

البحث الثالث: في السفر.
مسألة 253: لمّا كان مبنى القراض على التكسّب المستلزم لحفظ رأس المال و حراسته، و كان في السفر تغريرٌ به و تعريض لإتلافه، وجب في الحكمة مشروعيّة منع العامل من السفر.

و لا خلاف في أنّه لو نهاه المالك عن السفر بالمال فسافر به، ضمن، و كذا لو أمره بالسفر إلى جهةٍ معيّنة أو بلدٍ معيّن فسافر إلى غير ذلك البلد

ص: 94


1- المغني 163:5، الشرح الكبير 155:5-156.

و غير تلك الجهة؛ لأنّ المال لصاحبه له التصرّف فيه كيف شاء، و الاختيار في ذلك إليه، فلا يجوز العدول عنه.

و لما رواه أبو بصير عن الصادق عليه السلام في الرجل يعطي [الرجل] مالاً مضاربةً و ينهاه أن يخرج به إلى أرضٍ أُخرى فعصاه، فقال: «هو له ضامن، و الربح بينهما إذا خالف شرطه و عصاه»(1).

و عن الحلبي عن الصادق عليه السلام: عن الرجل يعطي الرجل المال فيقول له: ائت أرض كذا و كذا و لا تجاوزها، اشتر منها، قال: «إن جاوزها فهلك المال فهو له ضامن، و إن اشترى شيئاً فوضع فهو عليه، و إن ربح فهو بينهما»(2).

و في الصحيح عن محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام، قال: سألته عن الرجل يعطي المال مضاربةً و ينهى أن يخرج به، فيخرج، قال: «يضمن المال، و الربح بينهما»(3).

مسألة 254: و لو لم ينهه عن السفر و لا أذن له فيه، لم يجز له السفر، عند علمائنا إلّا بإذن صاحب المال،

سواء كان الطريق مخوفاً أو آمناً؛ لما تقدّم من التغرير المنافي للاكتساب، و به قال الشافعي؛ لما فيه من الخطر و التغرير بالمال(4) ، قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: «إنّ المسافر و ماله لعلى قَلَتٍ إلّا ما

ص: 95


1- التهذيب 827/187:7، و ما بين المعقوفين أضفناه من المصدر.
2- الكافي 1/240:5، التهذيب 835/189:7.
3- الكافي 2/240:5، التهذيب 836/189:7.
4- الحاوي الكبير 317:7، المهذّب - للشيرازي - 394:1، بحر المذهب 199:9، الوجيز 224:1، الوسيط 120:4، حلية العلماء 339:5، التهذيب - للبغوي - 386:4، البيان 184:7، العزيز شرح الوجيز 31:6، روضة الطالبين 212:4، المغني 151:5، الشرح الكبير 146:5.

وقى اللّه»(1) أي لعلى هلاكٍ، و لا يجوز له التغرير بالمال إلّا بإذن مالكه.

و قال مالك: يجوز له السفر مع الإطلاق أو التنصيص على السفر - و هو محكيٌّ عن أبي حنيفة، و قياس مذهب أحمد يقتضيه - لأنّ الإذن المطلق ينصرف إلى ما جرت العادة به، و العادة جارية بالتجارة سفراً و حضراً، و لأنّها مشتقّة من الضرب في الأرض، فمَلَك ذلك مطلقاً(2).

و هو ممنوع؛ لأنّ العادة إنّما قضت بالسفر مع الإذن صريحاً أو قرينة حاليّة أو مقاليّة تدلّ عليه، لا بدون ذلك.

و أبو حنيفة بناه على أصله من أنّه يجوز للمستودع أن يسافر بالوديعة إذا كان الطريق آمناً؛ لأنّه بمنزلة المصر(3).

و هو ممنوع؛ إذ لا تغرير في المصر كما في السفر.2.

ص: 96


1- غريب الحديث - لابن قتيبة - 564:2.
2- الإشراف على نكت مسائل الخلاف 1122/644:2، التلقين: 408، الكافي في فقه أهل المدينة: 386، المعونة 1124:2، الاختيار لتعليل المختار 29:3، تحفة الفقهاء 22:3، بدائع الصنائع 88:6، روضة القُضاة 3471/591:2، الفقه النافع 1041/1287:3، المبسوط - للسرخسي - 39:22، مختصر اختلاف العلماء 1709/41:4، الهداية - للمرغيناني - 203:3، المغني 151:5، الشرح الكبير 146:5، الحاوي الكبير 317:7، بحر المذهب 199:9، حلية العلماء 339:5، التهذيب - للبغوي - 386:4، البيان 184:7، العزيز شرح الوجيز 31:6.
3- الاختيار لتعليل المختار 39:3، تحفة الفقهاء 172:3، بدائع الصنائع 209:6، روضة القُضاة 3600/617:2، الفقه النافع 666/941:3، المبسوط - للسرخسي - 122:11، و 39:22، المحيط البرهاني 531:5، الهداية - للمرغيناني - 203:3 و 217، الحاوي الكبير 357:8، الوسيط 502:4، حلية العلماء 171:5، البيان 432:6، العزيز شرح الوجيز 295:7-296، المغني 284:7، الشرح الكبير 302:7، الإفصاح عن معاني الصحاح 20:2.

و للشافعي قولٌ في البويطي(1) كقول أبي حنيفة أيضاً.

لكنّ المشهور الأوّل.

و هذا البحث مع الإطلاق، فأمّا إن أذن في السفر أو نهى عنه أو وُجدت قرينة دالّة على أحد الأمرين، تعيّن ذلك، و ثبت ما أمر به و حرم ما نهى عنه.

و لا خلاف في أنّه لا يجوز له السفر في موضعٍ مخوف على القولين معاً، و كذا لو أذن له في السفر مطلقاً، لم يكن له السفر في طريقٍ مخوف، فإن فَعَل فهو ضامن لما يتلف؛ لأنّه متعدٍّ بفعل ما ليس له فعله.

مسألة 255: لو سافر مع انتفاء الإذن أو مع النهي عن السفر أو أمره بالسفر في جهةٍ بعينها فسافر في غيرها،

أو إلى بلدٍ فسافر إلى غيره، فقد ضمن المال؛ لمخالفته.

ثمّ يُنظر فإن كان المتاع بالبلدة التي سافر إليها أكثر قيمةً من الحضر أو من البلدة التي أمره بالسفر إليها أو تساوت القيمتان، صحّ البيع، و استحقّ الربح بالشرط.

و لما(2) رواه الكناني: قال: سألتُ الصادقَ عليه السلام: عن المضاربة يعطى الرجل المال يخرج به إلى الأرض و نهي أن يخرج به إلى أرض غيرها فعصى فخرج به إلى أرض أُخرى فعطب المال، فقال: «هو ضامن، فإن سلم فربح فالربح بينهما»(3).

و إن كان المتاع أقلّ قيمةً، لم يصح البيع بتلك القيمة، إلّا أن يكون

ص: 97


1- العزيز شرح الوجيز 31:6، روضة الطالبين 212:4.
2- الظاهر: «لما» بدون الواو.
3- الفقيه 143:3-631/144، التهذيب 189:7-837/190.

النقصان بقدر ما يتغابن به.

و إذا قلنا بصحّة البيع فإنّ الثمن الذي يقبضه يكون مضموناً عليه أيضاً.

و لو اشترى به متاعاً، ضمن المتاع، بخلاف ما إذا تعدّى الوكيل بالبيع في المال ثمّ باعه و قبض الثمن، لا يكون الثمن مضموناً عليه و إن كان ضامناً للأصل؛ لأنّ العدوان هنا لم يوجد في الثمن، و سبب العدوان في المضاربة موجود في الثمن و المتاع الذي يشتريه به؛ لأنّ سبب العدوان هو السفر، و هو شامل للمال و الثمن، و لا تعود الأمانة بالعود من السفر، و به قال الشافعي(1).

مسألة 256: لو سافر بالإذن، فلا عدوان و لا ضمان،

و له بيع المتاع في البلد المنقول إليه مثل ما كان يبيعه في المنقول عنه و بأكثر منه.

و أمّا بدونه فالأقرب: إنّ له ذلك؛ لأنه غير متعدٍّ بالسفر، و لا حكم له على زيادة الأسواق و نقصانها، بل الواجب عليه الاستظهار في طلب الربح إن حصل.

و قال بعض الشافعيّة: إذا باع بدونه فإن ظهر فيه غرض بأن كانت مئونة الردّ أكثر من قدر النقصان أو أمكن صرف الثمن إلى متاعٍ يتوقّع فيه ربحاً، فله البيع أيضاً، و إلّا لم يجز؛ لأنّه محض تخسيرٍ(2).

مسألة 257: العامل إن اتّجر في الحضر كان عليه أن يلي من التصرّف فيه ما يليه ربّ المال في العادة،

كنشر الثوب و تقليبه على مَنْ يشتريه و طيّه عند البيع و قبض الثمن و حفظه، و ذرع الثوب و إدراجه في السَّفَط

ص: 98


1- العزيز شرح الوجيز 31:6، روضة الطالبين 213:4.
2- العزيز شرح الوجيز 31:6، روضة الطالبين 213:4.

و إخراجه، و وزن ما يخفّ، كالذهب و الفضّة و المسك و العود، و حفظ المتاع على باب الحانوت، و في السفر بالنوم عليه و نحوه في العادة، كالإشراف عليه و جمعه و الاحتياط عليه.

و ليس عليه رفع الأحمال و لا حطّها، و ليس عليه ما لا يليه ربّ المال، فلا يجب عليه وزن الأمتعة الثقيلة و حملها و نقل المتاع من الخان إلى الحانوت و النداء عليه، بل يستأجر العامل له مَنْ يعمله من مال المضاربة، فإن تولّى العامل ذلك بنفسه، لم يستحق له أُجرة؛ لأنّه تبرّع به.

و أمّا ما يجب عليه فعله لو استأجر العامل من مال المضاربة مَنْ يعمل ما عليه أن يعمله بنفسه، ضمن ما دفع إليه؛ لأنّ ذلك العمل يجب عليه، دون ربّ المال.

مسألة 258: ليس للعامل أن يُنفق من مال القراض في الحضر على نفسه، عند علمائنا،

و لا أن يواسي منه بشيءٍ - و به قال الشافعي(1) - لأنّ الأصل حراسة مال الغير و حفظه، و عدم تعلّق وجوب الإنفاق منه.

و قال مالك: له أن يُنفق منه على العادة، كالغذاء و دفع الكسرة إلى السقّاء و أُجرة الكيّال و الوزّان و الحمّال في مال القراض(2).

و ليس بمعتمدٍ.

و أمّا في السفر فالمشهور أنّه يُنفق فيه كمال النفقة من أصل مال القراض إذا شخص عن البلد من المأكول و المشروب و الملبوس - و به قال علماؤنا و الحسن و النخعي و الأوزاعي و مالك و إسحاق و أصحاب الرأي

ص: 99


1- الحاوي الكبير 318:7، بحر المذهب 199:9، التهذيب - للبغوي - 386:4، البيان 184:7، العزيز شرح الوجيز 32:6، روضة الطالبين 214:4.
2- التهذيب - للبغوي - 386:4، العزيز شرح الوجيز 32:6.

و الشافعي في أحد أقواله(1) - لأنّ سفره لأجل المال، فكانت نفقته منه، كأجر الحمّال، و لأنّه في السفر قد سلّم نفسه و جرّدها لهذا الشغل، فأشبه الزوجة تستحقّ النفقة إذا سلّمت نفسها، و لا تستحقّ إذا لم تُسلّمْ.

و لما رواه عليّ بن جعفر عن أخيه موسى الكاظم عليه السلام قال في المضاربة: «ما أنفق في سفره فهو من جميع المال، و إذا قدم بلده فما أنفق فمن نصيبه»(2).

و ظاهر مذهب الشافعي أنّه لا نفقة للعامل بحالٍ - و به قال ابن سيرين و حمّاد بن أبي سليمان و أحمد - كما في الحضر؛ لأنّ نفقته تخصّه، فكانت عليه، كما في الحضر و أجر الطبيب و ثمن الطيب، و لأنّه دخل على أنّه يستحقّ من الربح الجزء المسمّى، فلا يكون له غيره، و لأنّه لو استحقّ النفقة أفضى إلى أن يختصّ بالربح إذا لم يربح سوى ما أنفقه، فيخلّ بمقصود العقد(3).4.

ص: 100


1- الإشراف على مذاهب أهل العلم 47:2، المغني 152:5، الشرح الكبير 164:5، المدوّنة الكبرى 97:5، الاستذكار 30924/170:21، الإشراف على نكت مسائل الخلاف 1126/646:2، بداية المجتهد 240:2، التفريع 194:2، التلقين: 408، الذخيرة 59:6، عيون المجالس 1251/1786:4، المعونة 1123:2، تحفة الفقهاء 23:3، الاختيار لتعليل المختار 34:3، المبسوط - للسرخسي - 62:22-63، مختصر اختلاف العلماء 1712/43:4، الهداية - للمرغيناني - 211:3، الحاوي الكبير 318:7، المهذّب - للشيرازي - 394:1، بحر المذهب 199:9 و 200، الوجيز 224:1، الوسيط 120:4، حلية العلماء 339:5، التهذيب - للبغوي - 386:4، البيان 184:7 و 185، العزيز شرح الوجيز 32:6، روضة الطالبين 214:4، الإفصاح عن معاني الصحاح 6:2.
2- الكافي 5/241:5، التهذيب 847/191:7.
3- الإشراف على مذاهب أهل العلم 47:2، المغني 152:5، الشرح الكبير 164:5، الحاوي الكبير 318:7، المهذّب - للشيرازي - 394:1، بحر المذهب 199:9 و 200، الوسيط 121:4، حلية العلماء 339:5، التهذيب - للبغوي - 386:4، البيان 184:7-185، الإفصاح عن معاني الصحاح 6:2، العزيز شرح الوجيز 32:6، روضة الطالبين 214:4، مختصر اختلاف العلماء 1712/44:4، الاستذكار 30927/170:21 و 30930، بداية المجتهد 240:2، عيون المجالس 1251/1786:4.

و القول الثالث للشافعي: إنّه يُنفق في السفر من ماله قدر نفقة الحضر، و الزائد من مال القراض؛ لأنّ الزيادة إنّما حصلت بواسطته، و هو الأصحّ عندهم، و هو منقول عن مالك أيضاً(1).

مسألة 259: و لو شرط له النفقة في الحضر، لزم الشرط، و وجب له ما يحتاج فيه إليه من المأكول و المشروب و المركوب و الملبوس.

و كذا لو شرطها في السفر على قول مَنْ لا يوجبها على المال إجماعاً؛ عملاً بالشرط.

و ينبغي أن يعيّن قدر النفقة و جنسها، فلا يجوز له التخطّي.

و لو أطلق، رجع إلى العادة، و كان صحيحاً.

و بعض الشافعيّة اشترط تعيين النفقة(2).

و ليس شيئاً؛ لأنّ الأسعار قد تختلف و تقلّ و تكثر.

و قال أحمد: لا كسوة له مع الإطلاق إذا شرط له النفقة(3).

إذا عرفت هذا، فإنّ الكسوة يستحقّها للاستمتاع بها على جهة الملك

ص: 101


1- المهذّب - للشيرازي - 394:1، بحر المذهب 200:9، الوسيط 121:4، حلية العلماء 340:5، البيان 185:7، العزيز شرح الوجيز 32:6، روضة الطالبين 214:4.
2- الحاوي الكبير 319:7، بحر المذهب 200:9، البيان 185:7، العزيز شرح الوجيز 33:6، روضة الطالبين 215:4.
3- المغني 152:5، الشرح الكبير 164:5.

الصريح، فلو رجع إلى البلد من سفره و عليه كسوة أو دابّة ركوبٍ كانت مردودةً إلى القراض.

و إذا قلنا: له النفقة في السفر و لم يعيّن المالك و اختلفا في قدرها، رجع إلى الإطعام في الكفّارة، و في الكسوة إلى أقلّ ملبوسٍ مثله.

و هذا كلّه في السفر المباح، أمّا لو خالف المالك فسافر إلى غير البلد الذي أمره بالسفر إليه، فإنّه لا يستحقّ النفقة، سواء قلّ الربح أو كثر عن البلد المأمور به.

و لو احتاج في السفر إلى خُفٍّ و إداوة و قِرْبة و شبهها، أخرج من أصل المال؛ لأنّه من جملة المئونة، ثمّ يردّه بعد رجوعه إلى مال القراض.

مسألة 260: لو استردّ المالك ماله و قد نضّ إمّا في الطريق أو في البلد الذي سافر إليه،

فأراد العامل أن يرجع إلى بلده، لم يستحق نفقة الرجوع، كما لو مات العامل لم يكن على المالك تكفينه، و هو أظهر وجهي الشافعيّة، كما لو خالع زوجته في السفر، و الثاني: إنّ له ذلك، قاله الشافعي، ثمّ تردّد فقال: قولان(1).

و لا فرق بين الذهاب و العود.

و عن أحمد رواية كالثاني؛ لأنّه بإطلاقه كأنّه قد شرط له نفقة ذهابه و عوده، و غرّه بتنفيذه إلى الموضع الذي أذن له فيه، معتقداً أنّه يستحقّ النفقة ذاهباً و راجعاً، فإذا قطع عنه النفقة تضرّر بذلك(2).

و الصحيح ما قلناه.

ص: 102


1- بحر المذهب 202:9، التهذيب - للبغوي - 387:4، البيان 186:7، العزيز شرح الوجيز 33:6، روضة الطالبين 214:4.
2- المغني 153:5، الشرح الكبير 165:5.

و إذا رجع العامل و بقي معه فضل زاد و آلات أعدّها للسفر كالمطهرة و القِرْبة و غير ذلك، ردّها إلى مال القراض؛ لأنّها من عينه، و إنّما ساغ له التصرّف فيها للحاجة؛ قضاءً للعادة، و قد زالت الحاجة، و هو أحد قولَي الشافعيّة.

و الثاني: إنّها تكون للعامل(1).

و ليس شيئاً.

مسألة 261: لو كان مع العامل مال

مسألة 261: لو كان مع العامل مال(2) لنفسه للتجارة و استصحبه معه في السفر ليعمل فيه و في مال القراض، قُسّطت النفقة على قدر المالين؛

لأنّ السفر إنّما كان لماله و مال القراض، فالنفقة اللازمة بالسفر تكون مقسومةً على قدر المال(3) ، و هو قول بعض الشافعيّة(4).

و يحتمل النظر إلى مقدار العمل على المالين و توزيع النفقة على أُجرة مثلهما، و هو قول بعض الشافعيّة(5).

و قال بعضهم: إنّما تُوزّع إذا كان ماله قدراً يقصد السفر له، فإن كان لا يقصد، فهو كما لو لم يكن معه مال سوى مال القراض(6).

أمّا لو كان معه قراض لغير صاحب الأوّل، فإنّ النفقة تُقسّط عليهما على قدر رأس المالين، أو قدر العمل فيهما، و الأخير أقرب.

ص: 103


1- العزيز شرح الوجيز 33:6، روضة الطالبين 214:4.
2- في النُّسَخ الخطّيّة و الحجريّة: «مالاً». و هو خطأ.
3- الظاهر: «المالين».
4- الحاوي الكبير 320:7، الوسيط 121:4، التهذيب - للبغوي - 387:4، البيان 185:7، العزيز شرح الوجيز 32:6، روضة الطالبين 214:4.
5- العزيز شرح الوجيز 33:6، روضة الطالبين 214:4.
6- البيان 185:7، العزيز شرح الوجيز 33:6، روضة الطالبين 214:4.
مسألة 262: كلّ موضعٍ يثبت له النفقة فإنّ المالك إن عيّن له قدراً، لم يجز له التجاوز

و لو احتاج إلى أزيد منه، و لو نهاه عن الإنفاق من مال القراض في السفر، لم يجز له الإنفاق، سواء احتاج أو لا، بل يُنفق من خاصّ ماله.

و إذا أطلق القراض، كان له الإنفاق في السفر بالمعروف من غير إسرافٍ و لا تقتير، و القدر المأخوذ في النفقة يُحسب من الربح، فإن لم يكن هناك ربح فهو خسران لحق المال.

و لو أقام في طريقه فوق مدّة المسافرين في بلدٍ للحاجة، كجباية المال أو انتظار الرفقة، أو لغير ذلك من المصالح لمال القراض، كانت النفقة على مال القراض أيضاً؛ لأنّه في مصلحة القراض(1) ، أمّا لو أقام للاستراحة أو للتفرّج أو لتحصيل مالٍ له أو لغير مال القراض فإنّه لا يستحقّ عن تلك المدّة شيئاً من مال القراض في النفقة.

مسألة 263: قد بيّنّا أنّ العامل يستحقّ النفقة بالمعروف في السفر و إن لم يشترط،

فلو شرطها في عقد القراض فهو تأكيد و زيادة توثّقٍ، و به قال الشافعي على تقدير الوجوب(2).

أمّا على تقدير عدم استحقاقه للنفقة فله وجهان:

أحدهما: إنّ القراض يفسد، كما لو شرط نفقة الحضر.

و الثاني: لا يفسد؛ لأنّه من مصالح العقد من حيث إنّه يدعوه إلى السفر، و هو مظنّة الربح غالباً(3).

ص: 104


1- في «ج»: «مال القراض».
2- العزيز شرح الوجيز 33:6، روضة الطالبين 214:4.
3- التهذيب - للبغوي - 387:4، العزيز شرح الوجيز 33:6، روضة الطالبين 214:4-215.

و على هذا فهل يشترط تقديره ؟ فيه للشافعيّة وجهان(1).

و هذا القول يشعر بأنّه ليس له أن يشترط النفقة في الحضر.

و ليس بجيّدٍ؛ لأنّه سائغ تدعو الحاجة إليه، فجاز اشتراطه و لزم؛ لقوله عليه السلام: «المسلمون عند شروطهم»(2).

مسألة 264: لو كان معه مال قراضٍ لغير المالك الأوّل، فقد قلنا: إنّ النفقة تُقسّط إمّا على المالين أو على العملين.

فإن شرط صاحب المال الأوّل النفقةَ من مال القراض مع علمه بالقراض الثاني، جاز، و كانت نفقته على الأوّل.

و لو لم يعلم بالقراض الثاني، بُسطت النفقة و إن كان قد شرطها الأوّل؛ لأنّه إنّما أطلق له النفقة بناءً على اختصاص عمله به؛ لأنّه الظاهر.

و لو كان معه مالٌ لنفسه يعمل به أو بضاعة لغيره، فالحكم كما تقدّم.

و لو شرط الأوّل له النفقةَ، و شرطها الثاني أيضاً، لم يحصل له بذلك زيادة الترخّص في الإسراف في النفقة و لا تعدّدها، بل له نفقة واحدة عليهما على قدر المالين أو العملين.

مسألة 265: لو احتاج في السفر إلى زيادة نفقةٍ، فهي من مال القراض أيضاً.

و لو مرض فافتقر إلى الدواء، فإنّه محسوب عليه.

و كذا لو مات كُفّن من ماله خاصّةً؛ لأنّ النفقة وجبت للقراض، و قد بطل بموته، فلا يُكفَّن من مال القراض.

و كذا لو أبطل القراض و فسخه هو أو المالك، فلا نفقة، كما لو أخذ

ص: 105


1- العزيز شرح الوجيز 33:6، روضة الطالبين 215:4.
2- تقدّم تخريجه في ص 35، الهامش (3).

المالك ماله؛ لأنّه إنّما استحقّ النفقة ما داما في القراض، و قد زال فزالت النفقة.

و لو قتّر على نفسه في الإنفاق، لم يكن له أخذ الفاضل ممّا لا يزيد على المعروف؛ لأنّ هذه النفقة مواساة.

و كذا لو أسرف في النفقة، حُسب عليه الزائد على قدر المعروف.

البحث الرابع: في وقت ملك الربح.
مسألة 266: العامل يملك حصّته المشروطة له من الربح بظهور الربح قبل القسمة

- و به قال أبو حنيفة و الشافعي في أحد القولين، و أحمد في إحدى الروايتين(1) - لأنّ الشرط صحيح، فيثبت مقتضاه، و هو أن يكون له جزء من الربح، فإذا حصل وجب أن يملكه بحكم الشرط، كما يملك عامل المساقاة حصّته من الثمرة بظهورها، و قياساً على كلّ شرطٍ صحيحٍ في عقدٍ.

و لأنّ هذا الربح مملوك، فلا بدّ له من مالكٍ، و ربّ المال لا يملكه اتّفاقاً، و لا تثبت أحكام الملك في حقّه، فيلزم أن يكون للعامل؛ إذ لا مالك غيرهما إجماعاً.

و لأنّ العامل يملك المطالبة بالقسمة، فكان مالكاً، كأحد شريكي العنان، و لو لم يكن مالكاً لم يكن له مطالبة ربّ المال بالقسمة.

ص: 106


1- الوسيط 121:4-122، الوجيز 224:1، حلية العلماء 341:5، التهذيب - للبغوي - 389:4، البيان 186:7، العزيز شرح الوجيز 34:6، روضة الطالبين 315:4، المغني 169:5، الشرح الكبير 166:5، الإشراف على نكت مسائل الخلاف 1125/645:2.

و لأنّه لو لم يملك بالظهور، لم يعتق عليه نصيبه من أبيه لو اشتراه، و التالي باطل؛ لحديث محمّد بن قيس عن الصادق عليه السلام، قال: قلت له:

رجل دفع إلى رجلٍ ألف درهم مضاربةً فاشترى أباه و هو لا يعلم، قال:

«يُقوّم فإن زاد درهماً واحداً أُعتق و استسعى في مال الرجل»(1) و الشرطيّة ظاهرة؛ إذ المقتضي للإعتاق دخوله في ملكه.

و قال مالك: إنّما يملك العامل حصّته من الربح بالقسمة - و هو القول الثاني للشافعي، و الرواية الثانية عن أحمد - لأنّه لو مَلَك بالظهور لكان شريكاً في المال، و لو كان شريكاً لكان النقصان الحادث بعد ذلك شائعاً في المال، فلمّا انحصر في الربح دلّ على عدم الملك.

و لأنّه لو مَلَكه لاختصّ بربحه.

و لأنّه لم يسلّم إلى ربّ المال رأس ماله، فلا يملك العامل شيئاً من الربح، كما لو كان رأس المال ألفاً فاشترى به عبدين كلّ عبدٍ يساوي ألفاً، فإنّ أبا حنيفة قال: لا يملك العامل شيئاً منهما(2) ، و إذا أعتقهما ربّ المال، عُتقا، و لا يضمن للعامل شيئاً، قال المزني: لو مَلَك العامل حصّته بالظهور، لكانا شريكين في المال، و إذا تلف منه شيء، كان بينهما كالشريكين شركة العنان، و لأنّ القراض معاملة جائزة، و العمل فيها غير مضبوطٍ، فوجب أن لا يستحقّ العوض فيها إلّا بتمام العمل، كما في الجعالة(3).4.

ص: 107


1- الفقيه 633/144:3، التهذيب 841/190:7.
2- بدائع الصنائع 93:6.
3- الإشراف على نكت مسائل الخلاف 1125/645:2، المغني 169:5، الشرح الكبير 166:5، الوسيط 122:4، الوجيز 224:1، حلية العلماء 341:5، التهذيب - للبغوي - 389:4، البيان 186:7، العزيز شرح الوجيز 34:6، روضة الطالبين 215:4.

و الجواب: لا امتناع في أن يملك العامل، و يكون ما يملكه وقايةً لرأس المال، كما أنّ المالك يملك حصّته من الربح، و مع ذلك فإنّها وقاية لرأس المال أيضاً، و من هنا امتنع اختصاصه بربحه، و لأنّه لو اختصّ بربح نصيبه لاستحقّ من الربح أكثر ممّا شرط له، و لا يثبت بالشرط ما يخالف مقتضاه، و مع ظهور الربح يحصل تمام العمل.

و كذا لو أوصى لرجلٍ بألفٍ من ثلث ماله، و لآخَر بما يبقى من الثلث و مات و له أربعة آلاف، فقد مَلَك كلّ واحدٍ منهما حصّته، و إذا تلف من ذلك شيء كان من نصيب الموصى له بالباقي.

مسألة 267: ليس لأحدٍ من العامل و لا المالك استحقاق شيءٍ من الربح استحقاقاً تامّاً حتى يستوفي المالك جميع رأس ماله.

و إن كان في المال خسران و ربح، جُبرت الوضيعة من الربح، سواء كان الخسران و الربح في مرّةٍ واحدة، أو الخسران في صفقةٍ و الربح في أُخرى، أو الخسران في سفرةٍ و الربح في سفرةٍ أُخرى؛ لأنّ معنى الربح هو الفاضل عن رأس المال، و إذا لم يفضل شيء فلا ربح، و لا نعلم في هذا خلافاً.

مسألة 268: ملكُ كلّ واحدٍ من العامل و المالك حصّتَه من الربح بالظهور غير مستقرٍّ، فليس للعامل أن يتسلّط عليه، و لا يتصرّف فيه؛

لأنّ الربح وقاية لرأس المال عن الخسران ما دامت المعاملة باقية، حتى لو اتّفق خسران كان محسوباً من الربح دون رأس المال ما أمكن، و لهذا نقول: ليس لأحد المتعاملين قسمة الربح قبل فسخ القراض قسمة إجبارٍ، بل يتوقّف على رضاهما معاً، فلا يُجبر أحدهما لو امتنع.

أمّا العامل: فإنّه لا يُجبر لو طلب المالك القسمة؛ لأنّه لا يأمن أن

ص: 108

يخسر المال بعد ذلك، و يكون قد أخرجه، فيحتاج إلى غُرْم ما حصل له بالقسمة، و في ذلك ضرر عليه، فلا تلزمه الإجابة إلى ما فيه ضرر عليه.

و أمّا المالك: فلا يُجبر على القسمة لو طلبها العامل؛ لأنّ الربح وقاية لرأس ماله، فله أن يقول: لا أدفع إليك شيئاً من الربح حتى تسلّم إلَيَّ رأس المال.

أمّا إذا ارتفع القراض و المال ناضّ و اقتسماه، حصل الاستقرار، و مَلَك كلّ واحدٍ منهما ما حصل له بالقسمة ملكاً مستقرّاً عليه.

و كذا لو كان قدر رأس المال ناضّاً فأخذه المالك و اقتسما الباقي.

و هل يحصل الاستقرار بارتفاع العقد و إنضاض المال من غير قسمةٍ؟ الأقرب عندي ذلك؛ لأنّ العقد قد ارتفع، و الوثوق بحصول رأس المال قد حصل، و هو أصحّ وجهي الشافعيّة.

و في الثاني: لا يستقرّ إلّا بالقسمة؛ لأنّ القسمة الباقية من تتمّة عمل العامل(1).

و ليس شيئاً.

و لو كان بالمال عروض، فإن قلنا: إنّ العامل يُجبر على البيع و الإنضاض، فلا استقرار؛ لأنّ العمل لم يتم، و هو أظهر وجهي الشافعيّة.

و إن قلنا بعدم الإجبار، فلهم وجهان، كما لو كان المال ناضّاً(2).

مسألة 269: لو اقتسما الربح بالتراضي قبل فسخ العقد، لم يحصل الاستقرار،

بل لو حصل خسران بعده، كان على العامل جَبْره بما أخذ.

و لو قلنا: إنّه لا يملك إلّا بالقسمة، فإنّ له فيه حقّاً مؤكّداً، حتى لو

ص: 109


1- العزيز شرح الوجيز 34:6، روضة الطالبين 215:4.
2- العزيز شرح الوجيز 34:6-35، روضة الطالبين 215:4.

مات و هناك ربح ظاهر، انتقل إلى ورثته؛ لأنّه و إن لم يثبت له الملك لكن قد ثبت له حقّ التملّك، و يتقدّم على الغرماء؛ لتعلّق حقّه بالعين.

و له أن يمتنع عن العمل بعد ظهور الربح، و يسعى في إنضاض المال ليأخذ حقّه منه.

و لو أتلف المالك المالَ، غرم حصّة العامل، و كان الإتلاف بمنزلة ما لو استردّ جميع المال، فإنّه يغرم حصّة العامل، فكذا إذا أتلفه.

و لو أتلف الأجنبيّ مالَ القراض، ضمن بدله، و بقي القراض في بدله كما كان.

مسألة 270: إذا اشترى العامل جاريةً للقراض، لم يجز له وطؤها؛
اشارة

لأنّها ملكٌ لربّ المال إن لم يكن هناك ربح، و إن كان هناك ربح فهي مشتركة على أحد القولين؛ إذ له حقٌّ فيه.

و ليس لأحد الشريكين وطؤ الجارية المشتركة.

فإن وطئها العامل و لا ربح فيها و كان عالماً، حُدّ، و يؤخذ منه المهر بأسره، و يجعل في مال القراض؛ لأنّه ربما وقع خسران فيحتاج إلى الجبر.

و لو كان هناك ربح (يُحطّ منه بقدر حقّه، و يؤخذ)(1) بقدر نصيب المالك مع يساره، و قُوّمت عليه إن حملت منه، و ثبت لها حكم الاستيلاد، و دفع إلى المالك نصيبه منها و من الولد.

و لو كان جاهلاً، فلا حدّ عليه.

هذا إن قلنا: يملك بالظهور، و إن قلنا: لا يملك إلّا بالقسمة، لم تصر أُمَّ ولدٍ لو استولدها، فإن أذن له المالك في وطئها جاز.

ص: 110


1- بدل ما بين القوسين في النُّسَخ الخطّيّة: «حُدّ».

و لا يجوز للمالك أن يطأها أيضاً، سواء كان هناك ربح أو لا؛ لأنّ حقّ العامل قد تعلّق بها، و الوطء يُنقّصها إن كانت بكراً، أو يُعرّضها للخروج من المضاربة و التلف؛ لأنّه ربما يؤدّي إلى إحبالها.

و لو ظهر فيها ربح، كانت مشتركةً على أحد القولين، فليس لأحدهما الوطء.

و لو لم يكن فيها ربح، لم يكن أيضاً للمالك وطؤها؛ لأنّ انتفاء الربح في المتقوّمات غير معلومٍ، و إنّما يتيقّن الحال بالتنضيض للمال، أمّا لو تيقّن عدم الربح، فالأقرب: إنّه يجوز له الوطء.

قال بعض الشافعيّة: إذا تيقّن عدم الربح، أمكن تخريجه على أنّ العامل لو طلب بيعها و أباه المالك، فهل له ذلك ؟ و فيه خلاف بينهم يأتي، فإن أجبناه فقد ثبت له علقة فيها، فيحرم الوطء بها(1).

و إذا قلنا بالتحريم و وطئ، فالأقرب: إنّه لا يكون فسخاً للقراض، و هو أظهر وجهي الشافعيّة(2).

و على كلّ تقديرٍ لا يلزمه الحدّ، سواء ظهر ربح أو لا.

أمّا مع عدم ظهور الربح: فلأنّها ملك له خاصّةً.

و أمّا مع ظهوره: فلأنّ الشبهة حاصلة؛ إذ جماعة يقولون بأنّه ليس للعامل فيها شيء إلّا بعد البيع و ظهور الربح و القسمة.

و لو وطئها و حملت، صارت أُمَّ ولدٍ؛ لأنّه وطئ جاريةً في ملكه فصارت أُمَّ ولده، و الولد حُرٌّ، و تخرج من المضاربة، و تُحتسب قيمتها، و يضاف إليه بقيّة المال، فإن كان فيه ربح فللعامل أخذ نصيبه منه.4.

ص: 111


1- العزيز شرح الوجيز 35:6.
2- العزيز شرح الوجيز 36:6، روضة الطالبين 215:4.
تذنيب: ليس للمالك و لا للعامل تزويج جارية القراض مستقلّاً عن صاحبه؛

لأنّ القراض لا يرتفع بالتزويج، و هو ينقّص قيمتها، فيتضرّر به كلّ واحدٍ منهما، فإن اتّفقا عليه جاز؛ لأنّ الحقّ لهما لا يعدوهما، و ذلك بخلاف أمة المأذون له في التجارة إذا أراد السيّد تزويجها، فإنّه إن لم يكن عليه دَيْنٌ جاز؛ لأنّ العبد لا حقّ له مع سيّده، فإن كان عليه دَيْنٌ لم يجز و إن وافقه العبد؛ لأنّ حقوق الغرماء تعلّقت بما في يده، و المضاربة لا حقّ فيها لغيرهما.

و لو أراد السيّد أن يكاتب عبده للقراض، لم يكن له إلّا برضا العامل.

البحث الخامس: في الزيادة و النقصان.
مسألة 271: إذا دفع إلى غيره مالَ قراضٍ ثمّ حصل فيه زيادة متّصلة، كما لو سمنت دابّة القراض، فإنّ الزيادة تُعدّ من مال القراض قطعاً.

و أمّا إن كانت منفصلةً، كثمرة الشجرة المشتراة للقراض، و نتاج البهيمة، و كسب العبد و الجارية، و ولد الأمة و مهرها إذا وُطئت للشبهة، فإنّها مال القراض أيضاً؛ لأنّها من فوائده.

و كذا بدل منافع الدوابّ و الأراضي، سواء وجبت بتعدّي المتعدّي باستعمالها، أو وجبت بإجارةٍ تصدر من العامل، فإنّ للعامل الإجارة إذا رأى فيها المصلحة، و هو المشهور عند الشافعيّة(1).

و قال بعضهم بالتفصيل، فإن كان في المال ربح و ملّكنا العامل حصّتَه بالظهور، كان الأمر كما سبق من أنّها من مال القراض، و إن لم يكن فيها

ص: 112


1- الوسيط 123:4، العزيز شرح الوجيز 36:6، روضة الطالبين 216:4.

ربح أو لم نملّكه، فقد اختلفوا.

فقال بعضهم: إنّها تُعدّ من مال القراض، كالزيادات المتّصلة.

و أكثرهم قال: إنّها للمالك خاصّةً؛ لأنّها ليست من فوائد التجارة(1).

و لا بأس به.

ثمّ اختلفوا، فقال بعضهم: إنّها محسوبة من الربح(2).

و قال بعضهم: إنّها لا تُعدّ من الربح خاصّةً و لا من رأس المال، بل هي شائعة(3).

و لو وطئ المالكُ السيّدُ، كان مستردّاً مقدار العُقْر حتى يستقرّ نصيب العامل فيه.

و لهم وجهٌ آخَر: إنّه إن كان في المال ربح و قلنا: إنّ العامل يملك نصيبه بالظهور، وجب نصيب العامل من الربح، و إلّا لم يجب(4).

و استيلاد المالك جارية القراض كإعتاقها.

و إذا أوجبنا المهر بالوطي الخالي عن الإحبال، فالظاهر الجمع بينه و بين القيمة.

مسألة 272: لو حصل في المال نقصٌ بانخفاض السوق، فهو خسران مجبور بالربح.

و كذا إن نقص المال بمرضٍ حادث أو بعيبٍ متجدّد.

و أمّا إن حصل نقصٌ في العين بأن يتلف بعضه، فإن حصل بعد

ص: 113


1- العزيز شرح الوجيز 36:6-37، روضة الطالبين 216:4.
2- الوسيط 123:4، العزيز شرح الوجيز 37:6، روضة الطالبين 216:4.
3- العزيز شرح الوجيز 37:6، روضة الطالبين 216:4.
4- التهذيب - للبغوي - 390:4، العزيز شرح الوجيز 37:6، روضة الطالبين 216:4.

التصرّف في المال بالبيع و الشراء، فالأقرب: إنّه كذلك.

و أكثر الشافعيّة [ذكروا](1) أنّ الاحتراق و غيره من الآفات السماويّة خسران مجبور بالربح أيضاً(2) ، و أمّا التلف بالسرقة و الغصب ففيه لهم وجهان(3).

و فرّقوا بينهما بأنّ في الغصب و السرقة يحصل الضمان على الغاصب و السارق، و هو يجبر النقص، فلا حاجة إلى جبره بمال القراض(4).

و أكثرهم لم يفرّقوا بينهما، و سوّوا بين التلف بالآفة السماويّة و غيرها، فجعلوا الوجهين في النوعين، أحدهما: المنع؛ لأنّه نقصان لا تعلّق له بتصرّف العامل و تجارته، بخلاف النقصان الحاصل بانخفاض السوق، و ليس هو بناشئ من نفس المال الذي اشتراه العامل، بخلاف المرض و العيب، فلا يجب على العامل جَبْره(3).

و كيفما كان فالأصحّ عندهم: إنّه مجبور بالربح(4).

و إن حصل نقص العين بتلف بعضه قبل التصرّف فيه بالبيع و الشراء، كما لو دفع إليه مائةً قراضاً فتلف منها قبل الاشتغال خمسون، فالأقرب: إنّه من الربح أيضاً يُجبر به التالف؛ لأنّه تعيّن للقراض بالدفع و قبض العامل له، فحينئذٍ يكون رأس المال مائةً كما كان، و هو أحد قولَي الشافعي، و به قال المزني(5).4.

ص: 114


1- ما بين المعقوفين أثبتناه من «العزيز شرح الوجيز».
2- العزيز شرح الوجيز 37:6، روضة الطالبين 216:4. (3 و 4) التهذيب - للبغوي - 394:4، العزيز شرح الوجيز 37:6، روضة الطالبين 216:4.
3- العزيز شرح الوجيز 37:6.
4- العزيز شرح الوجيز 37:6، روضة الطالبين 216:4.
5- العزيز شرح الوجيز 37:6، روضة الطالبين 217:4.

و الأظهر عندهم: إنّه يتلف من رأس المال، و يكون رأس المال الخمسين الباقية؛ لأنّ العقد لم يتأكّد بالعمل(1).

و ليس بجيّدٍ؛ إذ العمل فرع كون المال مالَ القراض.

مسألة 273: لو تلف المال بأسره في يد العامل قبل دورانه في التجارة إمّا بآفةٍ سماويّة أو بإتلاف المالك له، انفسخت المضاربة؛

لزوال المال الذي تعلّق العقد به.

فإن اشترى بعد ذلك للمضاربة، كان لازماً له، و الثمن عليه، سواء علم بتلف المال قبل نقد الثمن أو جهل ذلك، إلّا أن يجيز المالك الشراءَ، فإن أجاز احتُمل أن يكون قراضاً، كما لو لم يتلف المال، و عدمه، كما لو لم يأخذ شيئاً من المال.

أمّا لو أتلفه أجنبيٌّ قبل دورانه في التجارة و قبل تصرّف العامل فيه، فإنّ العامل يأخذ بدله، و يكون القراض باقياً فيه؛ لأنّ القراض كما يتناول عين المال الذي دفعه المالك، كذا يتناول بدله، كأثمان السِّلَع التي يبيعها العامل، و المأخوذ من الأجنبيّ عوضاً بدله.

و كذا لو أتلف بعضه.

و لو تعذّر أخذ البدل من الأجنبيّ، فالأقرب: إنّه يُجبر بالربح، و هو أحد قولَي الشافعيّة(2).

إذا عرفت هذا، فإنّ للعامل النزاعَ مع الأجنبيّ و المخاصمة له و المطالبة بالبدل و المحاكمة عليه - و هو أحد وجهي الشافعيّة(3) - لأنّ حفظ

ص: 115


1- العزيز شرح الوجيز 37:6، روضة الطالبين 217:4. (2 و 3) العزيز شرح الوجيز 38:6، روضة الطالبين 217:4.

المال يقتضي ذلك، و لا يتمّ إلّا بالخصومة و المطالبة خصوصاً مع غيبة ربّ المال، فإنّه لو لم يطالبه العامل، ضاع المال، و تلف على المالك.

و في الوجه الثاني: ليس له ذلك؛ لأنّ المضاربة عقد على التجارة، فلا يندرج تحته الحكومة(1).

و ليس بجيّدٍ؛ لأنّه من توابعها.

فعلى هذا لو ترك الخصومة و الطلب مع غيبة المالك ضمن؛ لأنّه فرّط في تحصيله، و إن كان حاضراً و علم الحال لم يلزم العامل طلبه و لا يضمنه إذا تركه؛ لأنّ ربّ المال أولى بذلك من وكيله.

و فصّل بعضهم، فقال: الخصمُ المالكُ إن لم يكن في المال ربح، و هُما جميعاً إن كان فيه ربح(2).

مسألة 274: لو أتلف العاملُ مالَ القراض قبل التصرّف فيه للتجارة، احتُمل ارتفاعُ القراض؛

لأنّه و إن وجب بدله عليه فإنّه لا يدخل في ملك المالك إلّا بقبضٍ منه، فحينئذٍ يحتاج إلى استئناف القراض، و به قال الجويني(3)، و بقاءُ القراض في البدل، كبقائه في أثمان المبيعات، و في بدله لو أتلفه الأجنبيّ، و على هذا التقدير يكون حكم البدل في كونه قراضاً حكم البدل المأخوذ من الأجنبيّ المُتلف.

و لو كان مال القراض مائتين فاشترى بهما عبدين أو ثوبين بكلّ مائةٍ منهما عبداً أو ثوباً فتلف أحدهما، فإنّه يُجبر التالف بالربح، فيحسب المغروم من الربح؛ لأنّ العامل تصرّف في رأس المال، و ليس له أن يأخذ شيئاً من جهة الربح حتى يردّ ما تصرّف فيه إلى المالك، و هو أظهر وجهي الشافعيّة.

ص: 116


1- العزيز شرح الوجيز 38:6، روضة الطالبين 217:4.
2- العزيز شرح الوجيز 38:6، روضة الطالبين 217:4.

و الثاني: البناء على تلف بعض العين قبل التصرّف بأن نقول: لو تلفت إحدى المائتين قبل التصرّف جبرناها بالربح، فهنا أولى، و إن قلنا بتلف رأس المال فهنا كذلك؛ لأنّ العبدين بدل المائتين، و لا عبرة بمجرّد الشراء، فإنّه تهيئة محلّ التصرّف، و الركن الأعظم في التجارة البيع؛ لأنّ ظهور الربح منه يحصل(1).

و المعتمد ما قلناه.

مسألة 275: لو اشترى عبداً للقراض فقتله قاتلٌ، فإن كان هناك ربح فالمالك و العامل غريمان مشتركان في طلب القصاص أو الدية،

و ليس لأحدهما التفرّد بالجميع، بل الحقّ لهما، فإن تراضيا على العفو على مالٍ أو على القصاص جاز، و إن عفا أحدهما على غير شيءٍ سقط حقّه خاصّةً من القصاص و الدية، و كان للآخَر المطالبة بحقّه منهما معاً، فإن أخذ الدية فذاك، و إن طلب القصاص دفع الفاضل من المقتصّ منه و اقتصّ.

و عند الشافعي يسقط حقّ القصاص بعفو البعض دون الدية(2).

و ليس بشيءٍ، و سيأتي.

و هذا بناءً على ما اخترناه من أنّ العامل يملك بالظهور، و إن لم يكن هناك ربح، فللمالك القصاص و العفو على غير مالٍ.

و كذا لو أوجبت الجناية المالَ و لا ربح، كان له العفو عنه مجّاناً، و يرتفع القراض.

و لو أخذ المال أو صالح عن القصاص على مالٍ، بقي القراض فيه؛

ص: 117


1- العزيز شرح الوجيز 37:6-38، روضة الطالبين 217:4.
2- الحاوي الكبير 351:7، بحر المذهب 233:9، البيان 194:7، العزيز شرح الوجيز 38:6، روضة الطالبين 217:4.

لأنّه بدل مال القراض، فإن كان بقدر رأس المال أو دونه كان لربّ المال، و إن كان أكثر كان الفضل بينهما.

و لو كان هناك ربح و قلنا: إنّ العامل لا يملك إلّا بالقسمة، لم يكن للسيّد القصاص بغير رضا العامل؛ لأنّه و إن لم يكن مالكاً للربح فإنّ حقّه قد تعلّق به، فإن اتّفقا على القصاص كان لهما.

مسألة 276: إذا اشترى العامل شيئاً للقراض فتلف الثمن قبل دفعه إلى البائع،

فإن كان بتفريطٍ من العامل إمّا في عدم الحفظ أو في التأخير للدفع، كان ضامناً، و يكون القراض باقياً، و يجب عليه الدفع إلى البائع، فإن تعذّر كان حكمه بالنسبة إلى صاحب المال ما سيأتي في عدم التفريط.

فنقول: إذا تلف المال بغير تفريطٍ من العامل، فلا يخلو إمّا أن يكون الشراء بالعين أو في الذمّة، فإن كان قد اشترى بالعين بطل البيع، و وجب دفع المبيع إلى بائعه، و ارتفع القراض.

و إن كان الشراء في الذمّة للقراض، فإن كان بغير إذن المالك بطل الشراء إن أضاف إلى المالك أو إلى القراض؛ لأنّه تصرّفٌ غير مأذونٍ فيه، و لا يلزم الثمن أحدهما، بل يردّ المبيع إلى بائعه، و إن لم يُضف الشراء إلى المالك و لا إلى القراض، بل أطلق ظاهراً، حُكم بالشراء للعامل، و كان الثمن لازماً له.

و إن كان بإذن المالك، وقع الشراء للقراض، و وجب على المالك دفع عوض الثمن التالف، و يكون العقد باقياً.

و هل يكون رأس المال مجموع التالف و المدفوع ثانياً، أم الثاني خاصّةً؟ الأقوى: إنّ المجموع رأس المال، و به قال أبو حنيفة و محمّد، و هو أحد قولَي الشافعيّة، و الثاني: إنّ رأس المال هو الثاني خاصّةً؛ لأنّ

ص: 118

التالف قد تلف قبل التصرّف فيه، فلم يكن من رأس المال، كما لو تلف قبل الشراء(1).

و قال مالك: إنّ المالك يتخيّر بين أن يدفع ألفاً أُخرى، و يكون هو رأس المال، دون الأوّل، و بين أن لا يدفع، فيكون الشراء للعامل(2).

و يتخرّج هذا القول وجهاً للشافعيّة على ما قالوه في مداينة العبد فيما إذا سلّم إلى عبده ألفاً ليتّجر فيه فاشترى في الذمّة شيئاً ليصرفه إلى الثمن فتلف: إنّه يتخيّر السيّد بين أن يدفع إليه ألفاً أُخرى فيمضي العقد، أو لا يدفع فيفسخ البائع العقد، إلّا أنّ الفرق أنّ هنا يمكن صَرف العقد إلى المباشر إذا لم يخرج المعقود له ألفاً أُخرى، و هناك لا يمكن فيصار إلى الفسخ(3).

و اعلم أنّ الشافعي قال: لو قارض رجلاً، فاشترى ثوباً و قبض الثوب ثمّ جاء ليدفع المال فوجد المال قد سُرق، فليس على صاحب المال شيء، و السلعة للعامل، و عليه ثمنها.

و اختلف أصحابه هنا على طريقين:

منهم مَنْ قال: إنّما أراد الشافعي إذا كانت الألف تلفت قبل الشراء، فأمّا إذا تلفت بعد الشراء، كانت السلعة لربّ المال، و وجب عليه ثمنها.

و الفرق بينهما: إنّها إذا تلفت قبل الشراء فقد انفسخ القراض، فإذا6.

ص: 119


1- بحر المذهب 230:9، الوسيط 124:4-125، حلية العلماء 342:5-343، التهذيب - للبغوي - 394:4، البيان 193:7، العزيز شرح الوجيز 39:6، روضة الطالبين 218:4، تحفة الفقهاء 24:3، الهداية - للمرغيناني - 214:3، مختصر اختلاف العلماء 1736/63:4، المغني 183:5، الشرح الكبير 169:5.
2- بحر المذهب 230:9، حلية العلماء 343:5، العزيز شرح الوجيز 39:6.
3- العزيز شرح الوجيز 39:6.

اشترى للقراض وقع الشراء له، و وجب الثمن عليه، و إذا تلفت بعد الشراء فقد وقع الشراء للقراض، و مَلَكه ربّ المال، و إذا تلف الثمن كان الثمن على مالكه يسلّم إليه ألفاً أُخرى ليدفعها، فإن هلكت أيضاً سلّم إليه أُخرى، و على هذا.

و اختلفوا في رأس مال القراض.

منهم مَنْ قال: إنّ الألفين الأوّلة و الثانية تكونان رأس المال.

و منهم مَنْ قال: الثانية خاصّةً، و الاُولى انفسخ القراض فيها(1).

و قال ابن سريج: إنّ الشراء يقع للعامل، سواء تلفت الألف قبل الشراء أو بعده، و حمل كلام الشافعي على عمومه(2).

و إنّما كان كذلك؛ لأنّها إذا تلفت قبل الشراء فقد انفسخ القراض، فإن اشترى قبل تلفها فقد صحّ الشراء للقراض، إلّا أنّ إذنه تناول الشراء بها أو بعدها في الثمن، فإذا تعذّر ذلك، فقد حصل الشراء على غير الوجه الذي أذن، فيصير الشراء للعامل.

قال: و هذا مثل أن يعقد الحجّ عن غيره، فيصحّ الإحرام عنه، فإذا أفسده الأجير، صار عنه؛ لأنّه خالف في الإذن، كذا هنا.

لا يقال: لو وكّل وكيلاً و دفع إليه ألفاً ليشتري له سلعةً فاشتراها و قبل أن يدفع الثمن هلك في يده، أ ليس يكون الشراء للموكّل و الألف عليه ؟

لأنّا نقول: قال ابن سريج: في ذلك وجهان:4.

ص: 120


1- راجع: بحر المذهب 230:9، و حلية العلماء 342:5، و العزيز شرح الوجيز 39:6.
2- بحر المذهب 230:9، حلية العلماء 342:5، العزيز شرح الوجيز 39:6، روضة الطالبين 218:4.

أحدهما: إنّه يلزم الوكيل، كمسألتنا.

و الثاني: إنّه يلزم الموكّل(1).

و الفرق بينهما: إنّه أذن العاملَ في التصرّف في ألفٍ واحدة على أنّه لا يزيد عليها؛ لأنّ إذنه تناول المال، و لا يلزمه أن يزيد على ذلك، و في الوكالة تعلّق إذنه بشراء العبد و قد اشتراه له، فكان ثمنه عليه.1.

ص: 121


1- بحر المذهب 230:9-231.

ص: 122

الفصل الرابع: في التنازع

مسألة 277: لو ادّعى العامل التلفَ، صُدّق باليمين و عدم البيّنة،

سواء ادّعاه قبل دورانه في التجارة أو بعدها(1) ؛ لأنّه أمين في المال، كالمستودع.

و الأصل فيه: إنّه يتصرّف في مال غيره بإذنه، فكان أميناً، كالوكيل.

و لما رواه الحلبي - في الحسن - عن الصادق عليه السلام قال: «صاحب الوديعة و البضاعة مؤتمنان»(2).

و في الصحيح عن محمّد بن مسلم أنّه سأل الباقرَ عليه السلام عن الرجل يستبضع المال فيهلك أو يسرق أعلى صاحبه ضمان ؟ قال: «ليس عليه غُرْمٌ بعد أن يكون الرجل أميناً»(3).

و به قال الشافعي(4) ، و فرّق بين العامل و بين المستعير حيث ذهب إلى أنّ المستعير ضامن(5): بأنّ المستعير قبضه لمنفعة نفسه خاصّةً بغير استحقاقٍ، و هنا معظم المنفعة لربّ المال.

و فرّق أيضاً بين العامل و بين الأجير المشترك، فإنّه عنده - على أحد القولين - ضامن؛ لأنّ المنفعة تعجّلت له، فكان قبضه للمال لمنفعةٍ حصلت

ص: 123


1- الظاهر: «بعده».
2- الكافي 1/238:5، الفقيه 878/193:3، التهذيب 790/179:7.
3- الكافي 238:5-4/239، التهذيب 812/184:7.
4- مختصر المزني: 122، الحاوي الكبير 323:7، المهذّب - للشيرازي - 396:1، بحر المذهب 204:9، الوسيط 130:4، التهذيب - للبغوي - 401:4، البيان 203:7، العزيز شرح الوجيز 46:6، روضة الطالبين 222:4.
5- راجع: ج 16 - من هذا الكتاب - ص 273، الهامش (4).

له، و هنا لم تحصل له بالقبض منفعة معجّلة، فافترقا(1).

إذا عرفت هذا، فإنّ قوله مقبول في التلف، سواء ادّعى التلف بسببٍ ظاهر أو خفيّ أو لم يذكر سبباً، و سواء أمكنه إقامة البيّنة على السبب أو لا.

و للشافعي تفصيل(2) تقدّم مثله في الوديعة(3).

مسألة 278: لو اختلف المالك و العامل في ردّ المال، فادّعاه العامل و أنكره المالك، فالأقوى: تقديم قول المالك

- و هو قول أحمد، و أحد وجهي الشافعيّة(4) - لأنّه قبض المال لنفع نفسه، فلم يقبل قوله في ردّه إلى المالك، كالمستعير، و لأنّ صاحب المال منكر و العامل مدّعٍ، فيُقدَّم قول المنكر مع اليمين إذا لم تكن هناك بيّنة.

و الوجه الثاني لأصحاب الشافعي: إنّه يُقدَّم قول العامل مع اليمين؛ لأنّه أمين، و لأنّ معظم النفع لربّ المال، و العامل كالمستودع(5).

و نمنع أنّه أمين في المتنازع، و لا ينفع في غيره.

و الفرق بينه و بين المستودع ظاهر؛ فإنّ المستودع لا نفع له في الوديعة البتّة.

و نمنع أنّ معظم النفع لربّ المال. سلّمنا، لكنّ العامل لم يقبضه إلّا لنفع نفسه، و لم يأخذه لنفع ربّ المال.

ص: 124


1- راجع: البيان 204:7.
2- التهذيب - للبغوي - 401:4، العزيز شرح الوجيز 46:6، روضة الطالبين 222:4.
3- راجع: ج 16 - من هذا الكتاب - ص 212، المسألة 62. (4 و 5) الحاوي الكبير 323:7، المهذّب - للشيرازي - 396:1، بحر المذهب 204:9، الوسيط 130:4، حلية العلماء 354:5، البيان 203:7-204، العزيز شرح الوجيز 46:6، روضة الطالبين 222:4.
مسألة 279: لو اختلفا في الربح، فالقول قول العامل مع يمينه و عدم البيّنة

- سواء اختلفا في أصله و حصوله بأن ادّعى المالك الربحَ و أنكر العامل و قال: ما ربحتُ شيئاً، أو في مقداره بأن ادّعى المالك أنّه ربح ألفاً و ادّعى العامل أنّه ربح مائة - لأنّه أمين.

و كذا لو قال: كنتُ ربحتُ كذا ثمّ خسرتُ و ذهب الربح، و ادّعى المالك بقاءه في يده، قُدّم قول العامل مع اليمين؛ لأنّه أمين، كما لو ادّعى المستودع التلفَ، و كما لو ادّعاه العامل في أصل المال فكذا في ربحه، و لأنّه أمين يُقبل قوله في التلف فيُقبل في الخسارة، كالوكيل، و به قال الشافعي و غيره(1).

و أمّا لو قال العامل: ربحتُ ألفاً، ثمّ قال: غلطتُ في الحساب، و إنّما الربح مائة، أو تبيّنتُ أنّه لا ربح هنا، أو قال: كذبتُ في الإخبار بالربح خوفاً من انتزاع المال من يدي فأخبرتُ بذلك، لم يُقبل رجوعه؛ لأنّه أقرّ بحقٍّ عليه ثمّ رجع عنه، فلم يُقبل، كسائر الأقارير، و به قال الشافعي(2).

و قال مالك: إن كان بين يديه موسم يتوقّع فيه ربح، قُبِل قوله: كذبتُ ليترك المال في يدي فأربح في الموسم، بخلاف ما إذا قال: خسرتُ بعد الربح الذي أخبرتُ عنه، فإنّه لا يُقبل، كما لو ادّعى عليه وديعة، فقال له:

ما أودعتَ عندي شيئاً، ثمّ قامت البيّنة بالإيداع، فادّعى التلف، لم يُقبل قوله، أمّا لو قال: ما تستحقّ علَيَّ شيئاً، ثمّ قامت البيّنة بالإيداع، فادّعى

ص: 125


1- الوسيط 131:4، التهذيب - للبغوي - 401:4، العزيز شرح الوجيز 46:6، روضة الطالبين 222:4، المغني 194:5، الشرح الكبير 176:5.
2- مختصر المزني: 123، الحاوي الكبير 353:7، بحر المذهب 224:9، الوسيط 131:4، التهذيب - للبغوي - 400:4، البيان 207:7، العزيز شرح الوجيز 46:6، روضة الطالبين 222:4.

التلف، كان القولُ قولَه مع يمينه؛ لأنّه ليس فيه تكذيب لقوله الأوّل، كذا هنا(1).

هذا إذا كانت دعوى الخسران في موضعٍ يُحتمل بأن عرض في الأسواق كساد، و لو لم يُحتمل لم يُقبل.

مسألة 280: إذا اشترى العامل سلعةً فظهر فيها ربح ثمّ اختلفا،

فقال صاحب المال: اشتريتَه للقراض، و قال العامل: اشتريتُه لنفسي، قُدّم قول العامل مع اليمين، و كذا لو ظهر خسران فاختلفا، فادّعى صاحب المال أنّه اشتراه لنفسه، و ادّعى العامل أنّه اشتراه للقراض، قُدّم قول العامل مع اليمين؛ لأنّ الاختلاف هنا في نيّة العامل، و هو أبصر بما نواه، و لا يطّلع على ذلك من البشر أحد سواه، و إنّما يكون مال القراض بقصده و نيّته - و هو أحد قولَي الشافعي(2) - و لأنّ في المسألة الأُولى المال في يد العامل، فإذا ادّعى ملكه فالقول قوله.

و قد ذكر الشافعي في الوكيل و الموكّل إذا اختلفا في بيع شيءٍ أو شراء شيءٍ، فقال الموكّل: ما بعتَه، أو قال: ما اشتريتَه، و قال الوكيل: بعتُ أو اشتريتُ، قولين(3).

ص: 126


1- بحر المذهب 225:9، التهذيب - للبغوي - 400:4، العزيز شرح الوجيز 46:6.
2- مختصر المزني: 123، الحاوي الكبير 349:7، المهذّب - للشيرازي - 396:1، بحر المذهب 223:9، الوسيط 131:4، حلية العلماء 355:5، التهذيب - للبغوي - 400:4، البيان 205:7، العزيز شرح الوجيز 46:6، روضة الطالبين 222:4.
3- الحاوي الكبير 521:6، المهذّب - للشيرازي - 364:1، بحر المذهب 223:9، الوسيط 310:3، حلية العلماء 157:5، البيان 415:6، و 206:7، العزيز شرح الوجيز 264:5-265، روضة الطالبين 568:3.

و اختلف أصحابه.

فمنهم مَنْ قال هنا أيضاً: قولان، يعني في المسألة الثانية التي ظهر فيها الخسران:

أحدهما: القول قول ربّ المال؛ لأنّ الأصل أنّه ما اشتراه لمال القراض، و الأصل عدم وقوعه للقراض، كأحد القولين فيما إذا قال الوكيل:

بعتُ ما أمرتني ببيعه، أو اشتريتُ ما أمرتني بشرائه، فقال الموكّل:

لم تفعل.

و الثاني: القول قول الوكيل؛ لأنّه أعلم بما نواه.

و منهم مَنْ قال هنا: القول قول العامل قولاً واحداً، بخلاف مسألة الوكالة.

و الفرق بينهما: إنّ الموكّل و الوكيل اختلفا في أصل البيع و الشراء، و هنا اتّفقا على أنّه اشتراه، و إنّما اختلفا في صفة الشراء، فكان القولُ قولَ مَنْ باشر الشراء(1).

و لو أقام المالك بيّنةً في الصورة الثانية، ففي الحكم بها للشافعيّة وجهان، أحدهما: المنع؛ لأنّه قد يشتري لنفسه بمال القراض متعدّياً، فيبطل البيع، و لا يكون للقراض(2).

مسألة 281: لو اختلفا في قدر حصّة العامل من الربح، فقال المالك:

شرطتُ(3) لك الثلث، و قال العامل: بل النصف، فالقول قول المالك

مع

ص: 127


1- بحر المذهب 223:9، البيان 206:7.
2- الحاوي الكبير 349:7، المهذّب - للشيرازي - 396:1، بحر المذهب 223:9، حلية العلماء 356:5، البيان 206:7، العزيز شرح الوجيز 47:6، روضة الطالبين 222:4.
3- في الطبعة الحجريّة: «اشترطتُ».

يمينه و عدم البيّنة، عند علمائنا - و به قال الثوري و إسحاق و أبو ثور و أصحاب الرأي و ابن المنذر و أحمد في إحدى الروايتين(1) - لأنّ المالك منكر لما ادّعاه العامل من زيادة السدس، و القول قول المنكر مع اليمين.

و قال الشافعي: يتحالفان؛ لأنّهما اختلفا في عوض العقد وصفته، فأشبه اختلاف المتبايعين في قدر الثمن، و كالإجارة، فإذا حلفا فسخ العقد، و اختصّ الربح و الخسران بالمالك، و للعامل أُجرة المثل عن عمله، كما لو كان القراض فاسداً - و فيه وجه: إنّها إن كانت أكثر من نصف الربح فليس له إلّا قدر النصف؛ لأنّه لا يدّعي أكثر منه(2) - و لو حلف أحدهما و نكل الآخَر حُكم للحالف بما ادّعاه(3).

و عن أحمد رواية ثانية: إنّ العامل إذا ادّعى أُجرة المثل و زيادة يتغابن الناس بمثلها فالقول قوله، و إن ادّعى أكثر فالقول قوله فيما وافق أُجرة المثل(4).5.

ص: 128


1- الإشراف على مذاهب أهل العلم 43:2، الحاوي الكبير 350:7، بحر المذهب 228:9، حلية العلماء 354:5، المغني 193:5، الشرح الكبير 175:5، مختصر اختلاف العلماء 1738/64:4، المبسوط - للسرخسي - 89:22، بدائع الصنائع 109:6، روضة القُضاة 3483/594:2، فتاوى قاضيخان - بهامش الفتاوى الهنديّة - 165:3، الهداية - للمرغيناني - 214:3.
2- العزيز شرح الوجيز 47:6، روضة الطالبين 222:4-223.
3- الإشراف على مذاهب أهل العلم 44:2، الحاوي الكبير 350:7، المهذّب - للشيرازي - 396:1، بحر المذهب 227:9-228، الوجيز 226:1، الوسيط 130:4، حلية العلماء 354:5، التهذيب - للبغوي - 400:4، البيان 204:7، العزيز شرح الوجيز 47:6، روضة الطالبين 222:4، المغني 193:5، الشرح الكبير 175:5، مختصر اختلاف العلماء 1738/64:4، روضة القُضاة 3485/594:2.
4- المغني 193:5، الشرح الكبير 175:5.

و المعتمد ما قلناه؛ لأنّ المالك منكر، و لأنّه اختلاف في فعله، و هو أبصر به و أعرف، و لأنّ الأصل تبعيّة الربح للمال، فالقول قول مَنْ يدّعيه، و على مَنْ يدّعي خلافَه البيّنةُ.

مسألة 282: لو اختلفا في قدر رأس المال، فقال المالك: دفعتُ إليك ألفين هي رأس المال، و قال العامل: بل دفعتَ إلَيَّ ألفاً واحدة هي رأس المال، قُدّم قول العامل مع اليمين.

قال ابن المنذر: أجمع كلّ مَنْ يُحفظ عنه من أهل العلم أنّ القول قول العامل في قدر رأس المال، كذلك قال الثوري و إسحاق و أصحاب الرأي(1).

لأنّ المالك يدّعي عليه قبضاً و هو ينكره، و القول قول المنكر، و الأصل عدم القبض إلّا فيما يُقرّ به، و لأنّ المال في يد العامل و هو يدّعيه لنفسه ربحاً، و ربّ المال يدّعيه لنفسه، فالقول قول صاحب اليد.

و لا فرق عندنا بين أن يختلفا و هناك ربح أو لم يكن، و هو أصحّ وجهي الشافعيّة(2).

و لهم وجهٌ آخَر: إنّ الأمر كذلك إن لم يكن هناك ربح، و إن كان تحالفا؛ لأنّ قدر الربح يتفاوت به، فأشبه الاختلاف في القدر المشروط من

ص: 129


1- الإشراف على مذاهب أهل العلم 43:2، المغني 192:5، الشرح الكبير 174:5-175، روضة القُضاة 594:2-3486/595، فتاوى قاضيخان - بهامش الفتاوى الهنديّة - 165:3، بدائع الصنائع 109:6، المبسوط - للسرخسي - 91:22، الهداية - للمرغيناني - 214:3.
2- المهذّب - للشيرازي - 396:1، الوسيط 130:4، حلية العلماء 354:5 و 355، البيان 204:7، العزيز شرح الوجيز 47:6، روضة الطالبين 223:4.

الربح(1).

و الحكم في الأصل ممنوع على ما تقدّم، مع أنّ الفرق ظاهر؛ فإنّ الاختلاف في القدر المشروط من الربح اختلاف في كيفيّة العقد، و الاختلاف هنا اختلاف في القبض، فيُصدَّق فيه النافي، كما لو اختلف المتبايعان في قبض الثمن، فإنّ المصدَّق البائع.

مسألة 283: لو كان العامل اثنين و شرط المالك لهما نصفَ الربح بينهما بالسويّة و له النصف،

و تصرّفا و اتّجرا فنضّ المال ثلاثة آلاف، ثمّ اختلفوا فقال ربّ المال: إنّ رأس المال ألفان، فصدّقه أحد العاملين و كذّبه الآخَر و قال: بل دفعتَ إلينا ألفاً واحدة، لزم المُقرّ ما أقرّ به، ثمّ يحلف المنكر؛ لما بيّنّا من تقديم قول العامل في قدر رأس المال، و يُقضى للمنكر بموجب قوله، فالربح بزعم المنكر ألفان و قد استحقّ بيمينه منهما خمسمائة، فتُسلّم إليه، و يأخذ المالك من الباقي ألفين عن رأس المال؛ لاتّفاق المالك و المُقرّ عليه، تبقى خمسمائة تُقسَّم بين المالك و المصدِّق أثلاثاً؛ لاتّفاقهم على أنّ ما يأخذه المالك مِثْلا ما يأخذه كلّ واحدٍ من العاملين، و ما أخذه المنكر كالتالف منهما، فيأخذ المالك ثلثي خمسمائة و المصدِّق ثلثها؛ لأنّ نصيب ربّ المال من الربح نصفه، و نصيب المصدِّق الربع، فيقسّم بينهما على ثلاثة أسهم، و ما أخذه الحالف كالتالف، و التالف في المضاربة يُحسب من الربح.

و لو كان الحاصل ألفين لا غير، فادّعاها المالك رأسَ المال، فصدّقه أحدهما و كذّبه الآخَر و ادّعى أنّ رأس المال ألف و الألف الأُخرى ربح،

ص: 130


1- المهذّب - للشيرازي - 396:1، الوسيط 130:4-131، حلية العلماء 355:5، البيان 204:7، العزيز شرح الوجيز 47:6، روضة الطالبين 223:4.

صُدّق المكذِّب بيمينه، فإذا حلف أخذ ربعها مائتين و خمسين الزائدة على ما أقرّ به، و الباقي يأخذه المالك.

مسألة 284: لو اختلفا في جنس مال القراض، فادّعى المالك أنّ رأس المال كان دنانير،

و قال العامل: بل دراهم، فالقول قول العامل مع يمينه؛ لما تقدّم من أنّه أمين.

و لو اختلفا في أصل القراض، مثل: أن يدفع إلى رجلٍ مالاً يتّجر به، فربح، فقال المالك: إنّ المال الذي في يدك كان قراضاً و الربح بيننا، و قال التاجر: بل كان قرضاً علَيَّ، ربحه كلّه لي، فالقول قول المالك مع يمينه؛ لأنّه ملكه، و الأصل تبعيّة الربح له، فمدّعي خلافه يفتقر الى البيّنة، و لأنّه ملكه فالقول قوله في صفة خروجه عن يده، فإذا حلف قُسّم الربح بينهما.

و قال بعض العامّة: يتحالفان، و يكون للعامل أكثر الأمرين ممّا شُرط له أو أُجرة مثله؛ لأنّه إن كان الأكثر نصيبه من الربح، فربّ المال يعترف له به، و هو يدّعي كلّه، و إن كان أُجرة مثله أكثر، فالقول قوله مع يمينه في عمله، كما أنّ القول قول ربّ المال في ماله، فإذا حلف قُبِل قوله في أنّه ما عمل بهذا الشرط، و إنّما عمل لعوضٍ لم يسلم له، فتكون له أُجرة المثل(1).

و لو أقام كلٌّ منهما بيّنةً بدعواه، فالأقوى: إنّه يُحكم ببيّنة العامل؛ لأنّ القول قول المالك، فتكون البيّنة بيّنة العامل.

و قال أحمد: إنّهما يتعارضان، و يُقسّم الربح بينهما نصفين(2).

و لو قال ربّ المال: كان بضاعةً فالربح كلّه لي، و قال العامل: كان قراضاً، فالأقرب: إنّهما يتحالفان، و يكون للعامل أقلّ الأمرين من نصيبه

ص: 131


1- المغني 195:5، الشرح الكبير 177:5.
2- المغني 195:5، الشرح الكبير 177:5-178.

من الربح أو أُجرة مثله؛ لأنّه لا يدّعي أكثر من نصيبه من الربح، فلا يستحقّ زيادةً عليه و إن كان الأقلّ أُجرة مثله، فلم يثبت كونه قراضاً، فيكون له أُجرة عمله.

و يحتمل أن يكون القول قولَ العامل؛ لأنّ عمله له، فيكون القولُ قولَه فيه.

و لو قال المالك: كان بضاعةً، و قال العامل: كان قرضاً علَيَّ، حلف كلٌّ منهما على إنكار ما ادّعاه خصمه، و كان للعامل أُجرة عمله لا غير.

و لو خسر المال أو تلف، فقال المالك: كان قرضاً، و قال العامل: كان قراضاً أو بضاعةً، فالقول قول المالك.

و كذا لو كان هناك ربح فادّعى العامل القراضَ و المالك الغصبَ، فإنّه يُقدّم قول المالك مع يمينه.

** *

ص: 132

الفصل الخامس: في التفاسخ و اللواحق

مسألة 285: قد بيّنّا أنّ القراض من العقود الجائزة من الطرفين، كالوكالة و الشركة، بل هو عينهما؛

فإنّه وكالة في الابتداء، ثمّ قد يصير شركةً في الأثناء، فلكلّ واحدٍ من المالك و العامل فسخه و الخروج منه متى شاء، و لا يحتاج فيه إلى حضور الآخَر و رضاه؛ لأنّ العامل يشتري و يبيع لربّ المال بإذنه، فكان له فسخه، كالوكالة، و به قال الشافعي(1).

و قال أبو حنيفة: يعتبر الحضور كما ذكر في خيار الشرط(2).

و الحكم في الأصل ممنوع.

إذا ثبت هذا، فإن فسخا العقد أو أحدهما، فإن كان قبل العمل عاد المالك في رأس المال، و لم يكن للعامل أن يشتري بعده.

و إن كان قد عمل، فإن كان المال ناضّاً و لا ربح فيه أخذه المالك أيضاً، و كان للعامل أُجرة عمله إلى ذلك الوقت، و إن كان فيه ربح أخذ رأس ماله و حصّته من الربح، و أخذ العامل حصّته منه.

و إن لم يكن المال ناضّاً، فإن كان دَيْناً بأن باع نسيئةً بإذن المالك، فإن كان في المال ربح كان على العامل جبايته، و به قال الشافعي و أبو حنيفة(3).

ص: 133


1- البيان 170:7، العزيز شرح الوجيز 40:6، روضة الطالبين 218:4.
2- بدائع الصنائع 77:6 و 109، العزيز شرح الوجيز 40:6.
3- العزيز شرح الوجيز 40:6، روضة الطالبين 218:4، الاختيار لتعليل المختار 35:3، الهداية - للمرغيناني - 209:3، المغني 180:5، الشرح الكبير 172:5.

و إن لم يكن هناك ربح، قال الشيخ رحمه الله: يجب على العامل جبايته أيضاً(1) ، و به قال الشافعي؛ لأنّ المضاربة تقتضي ردّ رأس المال على صفته، و الديون لا تجري مجرى المال الناضّ، فيجب(2) عليه أن ينضّه إذا أمكنه، كما لو كانت عروضاً فإنّه يجب عليه بيعها(3).

و الأصل فيه: إنّ الدَّيْن ملك ناقص، و الذي أخذه كان ملكاً تامّاً، فليردّ كما أخذ.

و قال أبو حنيفة: إن كان في المال ربح كان عليه أن يجبيه، و إن لم يكن فيه ربح لم يجب عليه أن يقتضيه؛ لأنّه إذا لم يكن فيه ربح لم يكن له غرض في العمل، فصار(4) كالوكيل(5).

و الفرق: إنّ الوكيل لا يلزمه بيع العروض، و العامل يلزمه.

مسألة 286: لو فسخ المالك القراض و الحاصل دراهم مكسّرة و كان رأس المال صحاحاً،

فإن قدر على إبدالها بالصحاح وزناً أبدلها، و إلّا باعها بغير جنسها من النقد، و اشترى بها الصحاح.

و يجوز أن يبيعها بعرضٍ و يشتري به الصحاح؛ لأنّه سعي في إنضاض المال، و هو أصحّ وجهي الشافعيّة، و الثاني: لا يجوز؛ لأنّه قد

ص: 134


1- الخلاف 463:3-464، المسألة 10 من كتاب القراض.
2- في الطبعة الحجريّة: «فوجب».
3- بحر المذهب 208:9، التهذيب - للبغوي - 399:4، البيان 198:7 و 199، العزيز شرح الوجيز 40:6، روضة الطالبين 218:4، المغني 180:5-181، الشرح الكبير 172:5.
4- في النُّسَخ الخطّيّة: «فكان» بدل «فصار».
5- الاختيار لتعليل المختار 35:3، الهداية - للمرغيناني - 209:3، بحر المذهب 208:9، البيان 198:7، العزيز شرح الوجيز 40:6، المغني 180:5، الشرح الكبير 172:5.

يتعوّق عليه بيع العرض(1).

و لو كان رأس المال دنانير و الحاصل دراهم، أو بالعكس، أو كان رأس المال أحد النقدين و الحاصل متاع، فإن لم يكن هناك ربح فعلى العامل بيعه إن طلبه المالك.

و للعامل أيضاً بيعه و إن كره المالك - و به قال الثوري و الشافعي و أحمد و إسحاق(2) - لأنّ حقّ العامل في الربح لا يظهر إلّا بالبيع.

و لا يجب على المالك الصبر و تأخير البيع إلى موسم رواج المتاع - و به قال الشافعي(3) - لأنّ حقّ المالك معجَّل.

و قال مالك: للعامل أن يؤخّر البيع إلى الموسم(4).

و لو طلب المالك أن يأخذه بقيمته، جاز، و ما يبقى بعد ذلك بينهما يتقاسمانه.

و إن لم يطلب ذلك، و طلب أن يباع بجنس رأس المال، لزم ذلك، و يباع منه بقدر رأس المال، و لا يُجبر العامل على بيع الباقي.

و لو قال العامل: قد تركتُ حقّي منه فخُذْه على صفته و لا تكلّفني البيع، فالأقرب: إنّه لا يُجبر المالك على القبول؛ لأنّ له طلب ردّ المال كما أخذه، و في الإنضاض مشقّة و مئونة، و هو أظهر وجهي الشافعيّة، و الثاني:6.

ص: 135


1- العزيز شرح الوجيز 40:6، روضة الطالبين 218:4.
2- المغني 179:5-180، الشرح الكبير 171:5، التهذيب - للبغوي - 398:4، العزيز شرح الوجيز 40:6، روضة الطالبين 218:4-219.
3- بحر المذهب 208:9، التهذيب - للبغوي - 398:4، العزيز شرح الوجيز 40:6، روضة الطالبين 219:4.
4- بحر المذهب 208:9-209، التهذيب - للبغوي - 398:4، العزيز شرح الوجيز 40:6.

إنّه يجب على المالك القبول(1).

و قد اختلفت الشافعيّة في مأخذ الوجهين هنا و في كيفيّة خروجهما.

فقال بعضهم: إنّ هذا مبنيّ على الخلاف في أنّه متى يملك العامل الربحَ؟ إن قلنا بالظهور، لم يلزم المالك قبول ملكه، و لم يسقط به طلب البيع، و إن قلنا بالقسمة، أُجيب؛ لأنّه لم يبق له توقّع فائدةٍ، فلا معنى لتكليفه تحمّل مشقّةٍ(2).

و قال بعضهم: بل هُما مفرَّعان أوّلاً على أنّ حقّ العامل هل يسقط بالترك و الإسقاط؟ و هو مبنيّ على أنّ الربح متى يملك ؟ إن قلنا بالظهور، لم يسقط كسائر المملوكات، و إن قلنا بالقسمة، سقط على أصحّ الوجهين؛ لأنّه مَلَك أن يملك، فكان له العفو و الإسقاط كالشفعة، فإن قلنا: لا يسقط حقّه بالترك، لم يسقط بتركه المطالبة بالبيع، و إذا قلنا: يسقط، ففيه خلاف - سيأتي - في أنّه هل يُكلّف البيع إذا لم يكن في المال ربح ؟(3).

و لو قال المالك: لا تبع و نقتسم العروض بتقويم عَدْلين، أو قال:

أُعطيك نصيبك من الربح ناضّاً، فالأقوى: إنّ للعامل الامتناع؛ لأنّه قد يجد زبوناً(4)العزيز شرح الوجيز 41:6، روضة الطالبين 219:4.(5) يشتريه بأكثر من قيمته.

و للشافعيّة وجهان بناهما قومٌ منهم على أنّ الربح متى يملك ؟ إن قلنا بالظهور، فله البيع، و إن قلنا بالقسمة، فلا؛ لوصوله إلى حقّه بما يقوله المالك(5).4.

ص: 136


1- العزيز شرح الوجيز 40:6، روضة الطالبين 219:4.
2- العزيز شرح الوجيز 40:6-41.
3- العزيز شرح الوجيز 41:6.
4- راجع: ج 14 - من هذا الكتاب - ص 161، الهامش
5- .

و قطع بعضهم على الثاني، و قال: إذا غرس المستعير في أرض العارية، كان للمعير أن يتملّكه بالقيمة؛ لأنّ الضرر مندفع عنه بأخذ القيمة، فهنا أولى(1).

و الأصل ممنوع.

ثمّ اختلفوا، فالذي قطع به محقّقوهم أنّ الذي يلزمه بيعه و إنضاضه قدر رأس المال خاصّةً، أمّا الزائد فحكمه حكم عرضٍ آخَر يشترك فيه اثنان، لا يكلّف واحد منهما بيعه؛ لأنّه في الحقيقة مشترك بين المالك و العامل، و لا يلزم الشريك أن ينضّ مال شريكه، و لأنّ الواجب عليه أن ينضّ رأس المال ليردّ عليه رأس ماله على صفته، و لا يوجد هذا المعنى في الربح.

و إذا باع بطلب المالك أو بدونه، باع بنقد البلد إن كان من جنس رأس المال، و لو لم يكن من جنسه باعه بما يرى من المصلحة إمّا برأس المال أو بنقد البلد، فإن اقتضت بيعه بنقد البلد باعه به، و حصل به رأس المال(2).

مسألة 287: لو لم يكن في المال ربح، ففي وجوب البيع على العامل و إنضاض المال لو كلّفه المالك إشكال

ينشأ: من أنّ غرض البيع أن يظهر الربح ليصل العامل إلى حقّه منه، فإذا لم يكن ربح و ارتفع العقد لم يحسن تكليفه تعباً بلا فائدة، و من أنّ العامل في عهدة أن يردّ المال كما أخذه؛ لئلّا يلزم المالك في ردّه إلى ما كان مئونة و كلفة.

و للشافعيّة وجهان(3) كهذين.

ص: 137


1- العزيز شرح الوجيز 41:6، روضة الطالبين 219:4.
2- العزيز شرح الوجيز 41:6، روضة الطالبين 219:4.
3- العزيز شرح الوجيز 41:6، روضة الطالبين 219:4.

و هل للعامل البيع لو رضي المالك بإمساك المتاع ؟ إشكال ينشأ: من أنّه قد يجد زبوناً يشتريه بزيادةٍ، فيحصل له ربحٌ ما، و من أنّ المالك قد كفاه مئونة البيع، و هو شغل لا فائدة فيه.

و للشافعيّة وجهان(1).

و الثاني عندي أقوى؛ لأنّ المضارب إنّما يستحقّ الربح إلى حين الفسخ، و حصول راغبٍ يزيد إنّما حصل بعد فسخ العقد، فلا يستحقّها العامل.

و قال بعضهم: إنّ العامل ليس له البيع بما يساويه بعد الفسخ قطعاً، و له أن يبيع بأكثر ممّا يساويه عند الظفر بزبونٍ(2).

و تردّد بعضهم في ذلك؛ لأنّ هذه الزيادة ليست ربحاً في الحقيقة، و إنّما هو رزق يساق إلى مالك العروض(3).

و على القول بأنّه ليس للعامل البيع إذا أراد المالك إمساك العروض أو اتّفقا على أخذ المالك العروض ثمّ ظهر ربح بارتفاع السوق، فهل للعامل نصيبٌ فيه؛ لحصوله بكسبه، أو لا؛ لظهوره بعد الفسخ ؟ الأقوى: الثاني، و هو أظهر وجهي الشافعيّة(4).

مسألة 288: يرتفع القراض بقول المالك: «فسختُ القراض» و «رفعتُه» و «أبطلتُه»

و ما أدّى هذا المعنى، و بقوله للعامل: «لا تتصرّف بعد هذا» أو «قد أزلتُ يدك عنه» أو «أبطلتُ حكمك فيه» و باسترجاع المال من العامل لقصد رفع القراض.

ص: 138


1- العزيز شرح الوجيز 42:6، روضة الطالبين 219:4.
2- العزيز شرح الوجيز 42:6، روضة الطالبين 219:4.
3- العزيز شرح الوجيز 42:6، روضة الطالبين 219:4.
4- العزيز شرح الوجيز 42:6، روضة الطالبين 219:4.

و لو باع المالك ما اشتراه العامل للقراض، فإن قصد بذلك إعانة العامل لم يرتفع، و إن قصد رفع حكم العامل فيه ارتفع، كما أنّ الموكّل لو باع ما وكّل في بيعه، فإنّ الوكيل ينعزل، كذا العامل هنا؛ لأنّه في الحقيقة وكيلٌ خاصّ، و لو لم يقصد شيئاً منهما احتُمل حمله على الأوّل و على الثاني.

و للشافعيّة وجهان(1).

و لو حبس العامل و منعه من التصرّف، أو قال: لا قراض بيننا، فالأقرب: الانعزال.

مسألة 289: القراض من العقود الجائزة يبطل بموت المالك أو العامل أو جنون أحدهما أو إغمائه أو الحجر عليه للسفه؛

لأنّه متصرّف في مال غيره بإذنه، فهو كالوكيل.

و لا فرق بين ما قبل التصرّف و بعده.

فإذا مات المالك، فإن كان المال ناضّاً لا ربح فيه أخذه الوارث، و إن كان فيه ربح اقتسماه.

و تُقدَّم حصّة العامل على جميع الغرماء، و لم يأخذوا شيئاً من نصيبه؛ لأنّه يملك الربح بالظهور، فكان شريكاً للمالك، و ليس لربّ المال شيء من نصيبه، فهو كالشريك، و لأنّ حقّه متعلّق بعين المال دون الذمّة، فكان مقدَّماً، كحقّ الجناية، و لأنّه متعلّق بالمال قبل الموت، فكان أسبق، كحقّ الرهن.

و إن كان المال عرضاً، فالمطالبة بالبيع و التنضيض كما في حالة

ص: 139


1- العزيز شرح الوجيز 42:6، روضة الطالبين 219:4.

ظهور(1) الفسخ في حياتهما، و للعامل البيع هنا حيث كان له البيع هناك، و لا يحتاج إلى إذن الوارث؛ اكتفاءً بإذن مَنْ يتلقّى الوارث الملك منه، بخلاف ما إذا مات العامل حيث لا يتمكّن وارثه من البيع دون إذن المالك؛ لأنّه لم يرض بتصرّفه.

و للشافعيّة وجهٌ آخَر: إنّ العامل أيضاً لا يبيع إلّا بإذن وارث المالك(2).

و المشهور عندهم: الأوّل(3). و لا بأس بالثاني.

و يجري الخلاف في استيفائه الديون بغير إذن الوارث(4).

أمّا لو أراد العامل الشراء، فإنّه ممنوع منه؛ لأنّ القراض قد بطل بموت المالك.

مسألة 290: إذا مات المالك و أراد هو و الوارث الاستمرار على العقد،

فإن كان المال ناضّاً، لم يكن لهما ذلك إلّا بتجديد عقدٍ و استئناف شرطٍ بينهما، سواء وقع العقد قبل القسمة أو بعدها، و سواء كان هناك ربح أو لا؛ لجواز القراض على المشاع، و يكون رأس المال و حصّته من الربح رأس المال، و حصّة العامل من الربح شركة له مشاع، كما لو كان رأس المال مائةً و الربح مائتين و جدّد الوارث العقد على النصف، فرأس مال الوارث مائتان من ثلاثمائة، و المائة الباقية للعامل، فعند القسمة يأخذها و قسطها من الربح، و يأخذ الوارث مائتين، و يقتسمان ما بقي.

و هذه الإشاعة لا تمنع القراض عندنا و عند العامّة(2).

ص: 140


1- الظاهر: «حصول» بدل «ظهور». (2-4) العزيز شرح الوجيز 43:6، روضة الطالبين 220:4.
2- المغني 181:5، الشرح الكبير 172:5.

أمّا عندنا: فلجواز القراض بالمشاع.

و أمّا عندهم: فلأنّ الشريك هو العامل، و ذلك لا يمنع التصرّف(1).

و كذلك يجوز القراض مع الشريك بشرط أن لا يشاركه في اليد عندهم(2) ، و يكون للعامل ربح نصيبه خاصّةً، و يتضاربان في ربح نصيب الآخَر.

إذا ثبت هذا، فإنّه لا بدّ فيه من عقدٍ صالحٍ للقراض بألفاظه المشترطة؛ لأنّه عقد مبتدأ، و ليس هو تقريراً لعقدٍ ماضٍ؛ لأنّ العقد الماضي قد ارتفع، فلا بدّ من لفظٍ صالحٍ للابتداء، و التقرير يشعر بالاستدامة، فلا ينعقد بلفظ الترك و التقرير بأن يقول الوارث أو وليُّه: «تركتُك، أو: أقررتُك على ما كنتَ عليه» - و هو أحد قولَي الشافعيّة(3) - لأنّ هذه العقود لا تنعقد بالكنايات.

و الثاني - و هو الأظهر عند الجويني -: إنّه ينعقد بالترك و التقرير؛ لفهم المعنى، و قد يستعمل التقرير لإنشاء عقدٍ على موجب العقد السابق(4).

و إن كان المال عروضاً، لم يصح تقرير الوارث عليه، و بطل القراض عندنا و ارتفع - و هو أظهر وجهي الشافعيّة و إحدى الروايتين عن أحمد(3) -5.

ص: 141


1- المغني 181:5، الشرح الكبير 172:5.
2- الوسيط 130:4، العزيز شرح الوجيز 43:6، روضة الطالبين 220:4. (3 و 4) الوسيط 129:4، العزيز شرح الوجيز 43:6، روضة الطالبين 220:4.
3- الحاوي الكبير 330:7، المهذّب - للشيرازي - 395:1، بحر المذهب 210:9، الوسيط 129:4، حلية العلماء 348:5، التهذيب - للبغوي - 397:4، البيان 200:7، العزيز شرح الوجيز 43:6، روضة الطالبين 220:4، المغني 181:5 و 182، الشرح الكبير 172:5.

لارتفاع القراض الأوّل بموت المالك، فلو وُجد قراضٌ آخَر لكان عقداً مستأنفاً فيرد على العروض، و هو باطل.

و الثاني: إنّه يجوز تقرير الوارث عليه؛ لأنّه استصحاب قراضٍ، فيظهر فيه جنس المال و قدره، فيجريان على موجبه، و هذا الوجه هو منصوص الشافعي(1).

و الرواية الثانية عن أحمد: إنّ القراض إنّما منع منه في العروض؛ لأنّه يحتاج عند المفاصلة إلى ردّ مثلها أو قيمتها، و يختلف ذلك باختلاف الأوقات، و هذا غير موجودٍ هنا؛ لأنّ رأس المال غير العروض، و حكمه باقٍ، فإنّ للعامل أن يبيعه ليسلّم رأس المال و يقسّم الباقي(2).

و هو غلط؛ لأنّ المظنّة لا يناط الحكم بها، بل بالوصف الضابط لها، و لا ريب في أنّ هذا ابتداء قراضٍ، و لهذا لو كان المال ناضّاً كان ابتداء قراضٍ إجماعاً، و كانت حصّة العامل من الربح شركةً له يختصّ بربحها، و يضارب في الباقي، و ليس لربّ المال في حصّة العامل شركة في ربحها، و لو كان المال ناقصاً بخسارةٍ أو تلفٍ كان رأس المال الموجودَ منه حال ابتداء القراض، فلو جاز ابتداء القراض هنا و بناؤها على القراض الأوّل لصارت حصّة العامل من الربح غير مختصّةٍ [به] و حصّتها من الربح مشتركة بينهما، و حُسب عليه العروض بأكثر من قيمتها فيما إذا كان المال ناقصاً، و هذا لا يجوز في القراض بلا خلافٍ، و يلزم أيضاً أن يصير بعض رأس المال ربحاً، و ذهاب بعض الربح في رأس المال.5.

ص: 142


1- الحاوي الكبير 330:7، المهذّب - للشيرازي - 395:1، بحر المذهب 210:9، الوسيط 129:4، حلية العلماء 348:5، التهذيب - للبغوي - 397:4، البيان 200:7، العزيز شرح الوجيز 43:6، روضة الطالبين 220:4، المغني 181:5 و 182، الشرح الكبير 172:5.
2- المغني 181:5-182، الشرح الكبير 172:5.
مسألة 291: لو مات العامل، فإن كان المال ناضّاً و لا ربح أخذه المالك،

و إن كان فيه ربح أخذ المالك المالَ و حصّته من الربح، و دفع إلى الوارث حصّته.

و لو كان متاعاً و احتيج إلى البيع و التنضيض، فإن أذن المالك لوارث العامل فيه جاز، و إلّا تولّاه شخص ينصبه الحاكم.

و لا يجوز تقرير الوارث على القراض؛ لأنّه لا يصحّ القراض على العروض، و القراض الأوّل قد بطل بموت العامل أو جنونه، و به قال الشافعيّة(1).

و لا يُخرّج على الوجهين المذكورين عندهم في موت المالك حيث قالوا هناك: إنّه يجوز - في أحد الوجهين - تقرير العامل على القراض؛ لأنّ الفرق واقع بين موت المالك و موت العامل؛ لأنّ ركن القراض من جانب العامل عمله و قد فات بوفاته، و من جانب المالك المال، و هو باقٍ بعينه انتقل إلى الوارث، و لأنّ العامل هو الذي اشترى العروض، و الظاهر أنّه لا يشتري إلّا ما يسهل عليه بيعه و ترويجه، و هذا المعنى لا يؤثّر فيه موت المالك، و إذا مات العامل فربما كانت العروض كلّاً على وارثه؛ لأنّه لم يشترها و لم يخترها(2).

و عند أحمد: إنّه يجوز القراض بالعروض، فيجوز هنا في كلّ موضعٍ يجوز ابتداء القراض فيه بالعروض بأن تُقوّم العروض و يجعل رأس المال

ص: 143


1- بحر المذهب 210:9، الوسيط 130:4، التهذيب - للبغوي - 397:4، البيان 201:7، العزيز شرح الوجيز 44:6، روضة الطالبين 220:4.
2- العزيز شرح الوجيز 44:6، و راجع: الحاوي الكبير 331:7، و البيان 201:7.

قيمتها يوم العقد(1).

و لو كان المال ناضّاً وقت موت العامل، جاز أن يبتدئ المالك القراضَ مع وارثه بعقدٍ جديد، و لا يصحّ بلفظ التقرير.

و للشافعيّة الوجهان السابقان(2).

فإن لم يرض، لم يجز للوارث شراء و لا بيع.

إذا عرفت هذا، فالوجهان المذكوران في التقرير للشافعيّة كالوجهين في أنّ الوصيّة بالزائد على الثلث إذا جعلناها ابتداء عطيّةٍ هل تنفذ بلفظ الإجازة ؟ و يجريان أيضاً فيما إذا انفسخ البيع الجاري بينهما ثمّ أرادا إعادته، فقال البائع: قرّرتُك على موجب العقد الأوّل، و قَبِل صاحبه(3).

و في مثله من النكاح لا يعتبر ذلك عندهم(4).

و للجويني احتمال فيه؛ لجريان لفظ النكاح مع التقرير(5).

مسألة 292: إذا مات العامل و عنده مال مضاربةٍ لجماعةٍ متعدّدين، فإن عُلم مال أحدهم بعينه كان أحقَّ به،

و إن جُهل كانوا فيه سواءً، و إن جُهل كونه مضاربةً قضي به ميراثاً.

و لو سمّى الميّت واحداً بعينه قضي له به، و إن لم يذكر كان أُسوة الغرماء؛ لما رواه السكوني عن الصادق عليه السلام عن الباقر عن آبائه عن عليٍّ عليهم السلام أنّه كان يقول: «مَنْ يموت و عنده مال مضاربةٍ - قال - إن سمّاه بعينه قبل موته فقال: هذا لفلانٍ، فهو له، و إن مات و لم يذكر فهو أُسوة الغرماء»(3).

ص: 144


1- المغني 182:5، الشرح الكبير 173:5.
2- الوسيط 129:4، العزيز شرح الوجيز 44:6، روضة الطالبين 220:4. (3-5) العزيز شرح الوجيز 44:6.
3- التهذيب 851/192:7.
مسألة 293: إذا استردّ المالك بعضَ المال من العامل بعد دورانه في التجارة

و لم يكن هناك ربح و لا خسران، رجع رأس المال إلى القدر الباقي، و ارتفع القراض في القدر الذي أخذه المالك.

و إن كان بعد ظهور ربحٍ في المال، فالمستردّ شائع ربحاً على النسبة الحاصلة من جملتي الربح و رأس المال، و يستقرّ ملك العامل على ما يخصّه بحسب الشرط ممّا هو ربح منه، فلا يسقط بالنقصان الحادث بعده.

و إن كان الاسترداد بعد ظهور الخسران، كان الخسران موزَّعاً على المستردّ و الباقي، فلا يلزم جبر حصّة المستردّ من الخسران، كما لو استردّ الكلّ بعد الخسران لم يلزم العامل شيء، و يصير رأس المال الباقي بعد المستردّ و حصّته من الخسران.

مثال الاسترداد بعد الربح: لو كان رأس المال مائةً و ربح عشرين، ثمّ استردّ المالك عشرين، فالربح سدس المال، فالمأخوذ يكون سدسه ربحاً:

ثلاثة و ثلث، و يستقرّ ملك العامل على نصفه إذا كان الشرط المناصفةَ، و هو واحد و ثلثا واحدٍ، و يبقى رأس المال ثلاثة و ثمانين و ثُلثاً؛ لأنّ المأخوذ سدس المال، فينقص سدس رأس المال، و هو ستّة عشر و ثلثان، و حظّهما من الربح ثلاثة و ثلث، فيستقرّ ملك العامل على درهمٍ و ثلثين، حتى لو انخفضت السوق و عاد ما في يده إلى ثمانين لم يكن للمالك أن يأخذ الكلّ و يقول: كان رأس المال مائةً و قد أخذتُ عشرين أضمّ إليها هذه الثمانين لتتمّ لي المائة، بل يأخذ العامل من الثمانين واحداً و ثلثي واحدٍ، و يردّ الباقي، و هو ثمانية و سبعون و ثلث واحدٍ.

و مثال الاسترداد بعد الخسران: كان رأس المال مائةً، و خسر عشرين، ثمّ استردّ المالك عشرين، فالخسران موزَّع على المستردّ و الباقي،

ص: 145

تكون حصّة المستردّ خمسةً لا يلزمه جبرها، حتى لو ربح بعد ذلك فبلغ المال ثمانين، لم يكن للمالك أخذ الكلّ، بل يكون رأس المال خمسةً و سبعين، و الخمسة الزائدة تُقسّم بينهما نصفين، فيحصل للمالك من الثمانين سبعة و سبعون و نصف.

و لو كان رأس المال مائةً فخسر عشرةً ثمّ أخذ المالك عشرةً ثمّ عمل الساعي فربح، فرأس المال ثمانية و ثمانون و ثمانية أتساع؛ لأنّ المأخوذ محسوب من رأس المال، فهو كالموجود، و المال في تقدير تسعين، فإذا بسط الخسران - و هو عشرة - على تسعين أصاب العشرة المأخوذة دينار و تُسْع دينار، فيوضع ذلك من رأس المال، و إن أخذ نصف التسعين الباقية بقي رأس المال خمسين؛ لأنّه أخذ نصف المال، فسقط نصف الخسران، و إن أخذ خمسين بقي أربعة و أربعون و أربعة أتساع.

و لو كان رأس المال مائةً فربح عشرين ثمّ أخذ المالك ستّين، بقي رأس المال خمسين؛ لأنّه أخذ نصف المال، فبقي نصفه، و إن أخذ خمسين بقي رأس المال ثمانية و خمسين و ثلثاً؛ لأنّه أخذ ربع المال و سدسه، فبقي ثلثه و ربعه، فإن أخذ منه ستّين ثمّ خسر فصار معه أربعون فردّها كان له على المالك خمسة؛ لأنّ الذي أخذه المالك قد انفسخت فيه المضاربة، فلا يجبر ربحه خسران الباقي؛ لمفارقته إيّاه، و قد أخذ من الربح عشرة؛ لأنّ سدس ما أخذه ربح، و لو ردّ منها عشرين لا غير بقي رأس المال خمسة و عشرين.

مسألة 294: حكم القراض الفاسد استحقاق المالك جميعَ الربح؛

لأنّ المال له، و نماؤه تابع، و العامل إنّما يستحقّ شيئاً من الربح بالشرط، فإذا بطل الشرط لم يستحق العامل شيئاً.

ص: 146

و يجب للعامل أُجرة المثل، سواء كان في المال ربح أو لم يكن.

و لا يستحقّ العامل قراضَ المثل، بل أُجرة المثل عندنا و عند الشافعي(1) ؛ لأنّ عمل العامل إنّما كان في مقابلة المسمّى، فإذا لم تصح التسمية وجب ردّ عمله عليه، و ذلك يوجب له أُجرة المثل، كما إذا اشترى شيئاً شراءً فاسداً و قبضه و تلف، فإنّه يجب عليه قيمته.

و قال مالك: يجب للعامل قراض المثل، يعني أنّه يجب ما يقارضه به مثله؛ لأنّ شبهة كلّ عقدٍ و فاسده مردود إلى صحيحه، و في صحيحه لا يستحقّ شيئاً من الخسران، و كذلك في الفاسد، و الصحيح يستحقّ فيه المسمّى، سواء كانت أُجرته دونه أو أكثر(2).

و التسمية إنّما هي من الربح، و في مسألتنا بطلت التسمية، و إنّما تجب له الأُجرة، و ذلك لا يختصّ بالربح، فافترقا، فبطل القياس.

إذا عرفت هذا، فإنّ القراض الفاسد له حكمٌ آخَر، و هو صحّة تصرّف العامل و نفوذه؛ لأنّه أذن له فيه، فوقع بمجرّد إذنه، فإن كان العقد فاسداً - كما لو وكّله وكالةً فاسدة - و تصرّف فإنّه يصحّ تصرّفه.

لا يقال: أ ليس إذا باع بيعاً فاسداً و تصرّف المشتري لم ينفذ؟9.

ص: 147


1- بحر المذهب 198:9، حلية العلماء 348:5-349، البيان 174:7، العزيز شرح الوجيز 20:6، روضة الطالبين 205:4، المغني 188:5، مختصر اختلاف العلماء 1740/65:4، الاستذكار 30851/151:21 و 30852، عيون المجالس 1250/1786:4.
2- الاستذكار 30850/151:21، الإشراف على نكت مسائل الخلاف 1114/641:2، التفريع 196:2-197، عيون المجالس 1250/1785:4، المعونة 1128:2، مختصر اختلاف العلماء 1740/65:4، بحر المذهب 199:9، حلية العلماء 349:5، العزيز شرح الوجيز 20:6، المغني 188:5-189.

لأنّا نقول: الفرق ظاهر؛ لأنّ تصرّف المشتري إنّما لم ينفذ لأنّه يتصرّف من جهة الملك و لم يحصل له، و كذلك إذا أذن له البائع أيضاً؛ لأنّ إذنه كان على أنّه ملك المأذون فيه، فإذا لم يملك لم يصح، و هنا أذن له في التصرّف في ملك نفسه، و ما شرطه من الشروط الفاسدة، فلم يكن مشروطاً في مقابلة الإذن؛ لأنّه أذن في تصرّفٍ يقع له، فما شرطه لا يكون في مقابلته.

مسألة 295: لو دفع إليه مالاً قراضاً و قال: اشتر به هرويّاً أو مرويّاً بالنصف، قال الشافعي: يفسد القراض

(1) .

و اختلف أصحابه في تعليله.

فمنهم مَنْ قال: إنّما فسد؛ لأنّه قال بالنصف، و لم يبيّن لمن النصف ؟ فيحتمل أن يكون شرط النصف لربّ المال، و إذا ذكر في القراض نصيب ربّ المال و لم يذكر نصيب العامل، كان القراض فاسداً(2).

و ليس بشيءٍ؛ لأنّ الشرط إذا أُطلق انصرف إلى نصيب العامل؛ لأنّ ربّ المال يستحقّ الربح بالمال، و لا يحتاج إلى شرطٍ، كما لا يحتاج في شركة العنان إلى شرط الربح، فإذا شرط كان الظاهر أنّه شرط ذلك للعامل.

و قال بعضهم: إنّما فسد؛ لأنّه أذن له في الشراء، دون البيع(3).

ص: 148


1- مختصر المزني: 123، الحاوي الكبير 343:7، بحر المذهب 216:9، التهذيب - للبغوي - 382:4، البيان 174:7، العزيز شرح الوجيز 20:6، روضة الطالبين 206:4.
2- الحاوي الكبير 344:7، بحر المذهب 216:9، التهذيب - للبغوي - 383:4، البيان 174:7، العزيز شرح الوجيز 21:6، روضة الطالبين 206:4.
3- الحاوي الكبير 344:7، بحر المذهب 216:9، التهذيب - للبغوي - 382:4، البيان 174:7، العزيز شرح الوجيز 20:6، روضة الطالبين 206:4.

و فيه نظر؛ لأنّ إطلاق المضاربة يقتضي تسويغ التصرّف للعامل بيعاً و شراءً، و التنصيص على الإذن في شراء جنسٍ لا يقتضي عدم الإذن في البيع، فيبقى على الإطلاق.

و قال بعضهم: إنّه يفسد؛ للتعيين(1).

و ليس بشيءٍ.

و قال آخَرون: إنّما يفسد؛ لأنّه لم يعيّن أحد الجنسين(2).

و ليس بشيءٍ؛ لأنّه يجوز أن يخيّره بما يشتريه.

و المعتمد: صحّة القراض.

مسألة 296: لا يجوز للعامل أن يبيع الخمر و لا يشتريه، و كذا الخنزير و أُمّ الولد،

سواء كان العامل مسلماً أو نصرانيّاً إذا كان ربّ المال مسلماً أو كان العامل مسلماً، و لو كانا ذمّيّين جاز - و به قال الشافعي(3) - لأنّه وكيل المالك، و لا يدخل ذلك في ملك المالك، فيكون منهيّاً عنه؛ لما فيه من خروج الملك عن ملكه.

و قال أبو حنيفة: إذا كان العامل نصرانيّاً فباع الخمر أو اشتراها، صحّ ذلك(4).

ص: 149


1- العزيز شرح الوجيز 21:6، روضة الطالبين 206:4.
2- الحاوي الكبير 343:7-344، بحر المذهب 216:9، التهذيب - للبغوي - 383:4، البيان 174:7، العزيز شرح الوجيز 21:6، روضة الطالبين 206:4.
3- الحاوي الكبير 354:7، بحر المذهب 225:9، حلية العلماء 352:5، البيان 175:7، العزيز شرح الوجيز 48:6، روضة الطالبين 223:4، المغني 162:5، الشرح الكبير 155:5.
4- الحاوي الكبير 354:7، بحر المذهب 225:9، حلية العلماء 352:5، البيان 175:7، العزيز شرح الوجيز 48:6، المغني 162:5، الشرح الكبير 155:5.

و قال أبو يوسف و محمّد: يصحّ منه الشراء، و لا يصحّ منه البيع، و فرّقوا بينهما بأنّ الوكيل يدخل ما يشتريه أوّلاً في ملكه، فإذا باع ملك غيره لم يدخل في ملكه، و كان العامل كأنّ في يده عصيراً فصار خمراً، فيكون ذلك لربّ المال، و لا يكون بيعه إلّا من جهته، و لا يصحّ من المسلم بيع الخمر(1).

إذا عرفت هذا، فلو خالف العامل و اشترى خمراً أو خنزيراً أو أُمَّ ولدٍ و دفع المال في ثمنه، فإن كان عالماً كان ضامناً؛ لأنّ ربّ المال لا يملك ذلك، فكأنّه قد دفع ثمنه بغير عوضٍ، فكان ضامناً.

و إن كان جاهلاً، فكذلك - و هو الأشهر للشافعيّة(2) - لأنّ حكم الضمان لا يختلف بالعلم و الجهل.

و قال القفّال من الشافعيّة: يضمن في الخمر، دون أُمّ الولد؛ لأنّه ليس لها أمارة تُعرف بها(3).

و قال بعضهم: لا يضمن فيهما(4).

و قال آخَرون: لا يضمن في العلم أيضاً؛ لأنّه اشترى ما طلب فيه الفضل بحسب رأيه(5).

و هو خطأ؛ لأنّ ربّ المال لا يملك ذلك، فلا يجوز له دفع المال في عوضه.6.

ص: 150


1- بحر المذهب 225:9، حلية العلماء 352:5، المغني 162:5، الشرح الكبير 155:5.
2- البيان 175:7، العزيز شرح الوجيز 48:6، روضة الطالبين 224:4.
3- التهذيب - للبغوي - 389:4، العزيز شرح الوجيز 48:6.
4- التهذيب - للبغوي - 388:4، العزيز شرح الوجيز 48:6.
5- العزيز شرح الوجيز 48:6.
مسألة 297: قد بيّنّا أنّه إذا قال للعامل: قارضتك على أن يكون لك شركة في الربح، أو شركة، فإنّه لا يصحّ؛

لأنّه لم يعيّن مقدار حصّة العامل، و به قال الشافعي(1).

و قال محمّد بن الحسن: إنّه إذا قال: شركة، صحّ، و إذا قال: شرك، لم يصح(2).

و قال أصحاب مالك: يصحّ، و يكون له مضاربة المثل(3).

و قد بيّنّا غلطهم.

و لو قال: خُذْه قراضاً على النصف أو الثلث أو غير ذلك، صحّ، و كان ذلك تقديراً لنصيب العامل؛ قضيّةً للظاهر من أنّ الشرط للعامل؛ لأنّ المالك يستحقّه بماله، و العامل يستحقّه بالعمل، و العمل يكثر و يقلّ، و إنّما تتقدّر حصّته بالشرط فكان الشرط له.

فإن اختلفا فقال العامل: شرطتَه لي، و قال المالك: شرطتُ ذلك لنفسي، قُدّم قول العامل؛ لأنّ الظاهر معه.

مسألة 298: لو دفع إليه ألفين قراضاً فتلف أحدهما قبل التصرّف، فقد قلنا: إنّ الأقرب: احتساب التالف من الربح.

ص: 151


1- بحر المذهب 221:9، حلية العلماء 333:5، البيان 165:7، العزيز شرح الوجيز 16:6، روضة الطالبين 203:4.
2- بدائع الصنائع 85:6، بحر المذهب 221:9، حلية العلماء 333:5، البيان 165:7، الإشراف على نكت مسائل الخلاف 1115/642:2، المنتقى - للباجي - 152:5.
3- الإشراف على نكت مسائل الخلاف 1115/642:2، المنتقى - للباجي - 152:5، بحر المذهب 221:9، حلية العلماء 334:5، البيان 165:7.

و قال الشافعي: يكون من رأس المال(1).

فإن كان التلف بعد أن باع و اشترى، فالتلف من الربح قولاً واحداً.

و لو اشترى بالألفين عبدين فتلف أحدهما، فللشافعيّة وجهان:

أحدهما: إنّه يكون من الربح؛ لأنّه تلف بعد أن ردّ المال في التجارة.

و الثاني: يكون من رأس المال؛ لأنّ العبد التالف بدل أحد الألفين، فكان تلفه كتلفها(2).

قال أبو حامد: هذا خلاف مذهب الشافعي؛ لأنّ المزني نقل عنه أنّه إذا ذهب بعض المال قبل أن يعمل ثمّ عمل فربح و أراد(3) أن يجعل البقيّة رأس المال بعد الذي هلك، فلا يُقبل قوله، و يوفى رأس المال من ربحه حتى إذا وفاه اقتسما الربح على شرطهما؛ لأنّ المال إنّما يصير قراضاً في يد العامل بالقبض، فلا فرق بين أن يهلك قبل التصرّف أو بعده، فيجب أن يحتسب من الربح(4).

و هذا كما اخترناه نحن.

مسألة 299: لو دفع المالك إلى العامل مالاً قراضاً ثمّ دفع إليه مالاً آخَر قراضاً،

فإن كان بعد تصرّف العامل في الأوّل بالبيع و الشراء كانا قراضين، و إلّا كانا واحداً، فلو دفع إليه ألفاً قراضاً فأدارها العامل في التجارة بيعاً

ص: 152


1- الحاوي الكبير 333:7، بحر المذهب 231:9، الوسيط 124:4، البيان 192:7، العزيز شرح الوجيز 37:6، روضة الطالبين 217:4.
2- بحر المذهب 231:9، المهذّب - للشيرازي - 395:1، حلية العلماء 343:5، البيان 192:7، العزيز شرح الوجيز 37:6-38، روضة الطالبين 217:4.
3- في «ث، خ، ر»: «فأراد».
4- راجع: بحر المذهب 231:9.

و شراءً ثمّ دفع إليه ألفاً أُخرى قراضاً، تعدّد القراضان على معنى أنّ ربح كلّ واحدةٍ منهما لا يجبر خسران الأُخرى، بل تختصّ كلٌّ منهما بربحها و خسرانها، و جبر خسرانها من ربحها خاصّةً.

فإن قال المالك: ضمّ الثانية إلى الأُولى، بعد أن اشتغل العامل بالتجارة، لم يصح القراض الثاني؛ لأنّ ربح الأوّل قد استقرّ، فكان ربحه و خسرانه مختصّاً به، فإذا شرط ضمّ الثانية إليه، اقتضى أن يجبر به خسران الأُولى إن كان فيه خسران، و يجبر خسران الثانية بربح الأوّلة، و هو غير جائزٍ؛ لأنّ لكلّ واحدٍ من العقدين حكماً منفرداً، فإذا شرط في الثاني ما لا يصحّ، فسد.

و إن كان قبل أن يتصرّف في الأُولى(1) و قال له: ضمّ الثانية إلى الأُولى، جاز، و كان قراضاً واحداً.

و لو كان المال الأوّل قد نضّ و قال له المالك: ضمّ الثانية إليه، جاز - و به قال الشافعي(2) - لأنّه قد أمن فيه المعنى الذي ذكرناه، و صار كأنّه لم يتصرّف.

و لما رواه محمّد بن عذافر عن أبيه قال: أعطى الصادق عليه السلام أبي ألفاً و سبعمائة دينار فقال له: «اتّجر لي بها» ثمّ قال: «أما إنّه ليس لي رغبة في ربحها و إن كان الربح مرغوباً فيه، و لكن أحببتُ أن يراني اللّه تعالى متعرّضاً لفوائده» قال: فربحتُ فيها مائة دينار ثمّ لقيته فقلت له: قد ربحتُ لك فيها مائة دينار، قال: ففرح الصادق عليه السلام بذلك فرحاً شديداً ثمّ قال لي: «أثبتها9.

ص: 153


1- في «ث»، خ، ر»: «الأوّلة» بدل «الأُولى».
2- بحر المذهب 227:9.

لي في رأس مالي»(1).

إذا عرفت هذا، فإنّه إذا دفع إليه ألفاً قراضاً ثمّ دفع إليه ألفاً أُخرى قراضاً و لم يأمره بضمّ إحداهما إلى الأُخرى، بل جعل الألف الأُولى قراضاً بعقدٍ ثمّ دفع إليه الثانية قراضاً بعقدٍ آخَر، لم يجز له ضمّ الثانية إلى الأُولى و مزجها به؛ لأنّهما قراضان بعقدين على مالين، فلا يجوز مزجهما إلّا بإذن المالك، كما لو قارضه اثنان بمالين منفردين، فإن ضمّ إحداهما إلى الأُخرى و مزجهما ضمن، و به قال الشافعي(2) ، خلافاً لأبي حنيفة(3).

و قال إسحاق: يجوز ضمّ الثانية إلى الأُولى إذا لم يتصرّف في الأُولى(4).

و كذا لو ضمّ مال أحد المالكين إلى مال الآخَر و مزجه به ضمن، إلّا أن يأذن كلّ واحدٍ منهما، و لا يكفي إذن الواحد في عدم ضمان مال الآخَر، بل في مال الآذن خاصّةً.

مسألة 300: إذا دفع إليه ألفاً قراضاً و قال له: أضف إليها ألفاً أُخرى من عندك و يكون الربح لك منه الثلثان ولي الثلث،

أو قال: لك الثلث ولي الثلثان، فالأقرب عندنا: الصحّة؛ للأصل.

و قال الشافعي: لا يصحّ؛ لأنّه إن شرط لنفسه الأكثر فقد فسد؛ لتساويهما في المال، و ذلك يقتضي تساويهما في الربح، فإذا شرط عليه

ص: 154


1- الكافي 12/76:5، التهذيب 326:6-898/327.
2- بحر المذهب 232:9، التهذيب - للبغوي - 395:4، العزيز شرح الوجيز 49:6، روضة الطالبين 224:4.
3- بحر المذهب 232:9، التهذيب - للبغوي - 395:4، العزيز شرح الوجيز 49:6.
4- المغني 175:5، الشرح الكبير 168:5.

العمل و نصيبه من الربح كان باطلاً، و إن شرط للعامل الأكثر فسد أيضاً؛ لأنّ الشركة إذا وقعت على مالٍ كان الربح تابعاً له دون العمل، فتكون الشركة فاسدةً، و يكون هذا قراضاً فاسداً؛ لأنّه عقد بلفظ القراض(1).

و لو كان قد دفع إليه ألفين و قال له: أضف إليهما ألفاً من عندك فتكون الألف بيننا شركةً و الألف الأُخرى قارضتك عليها بالنصف، جاز عنده(2) أيضاً؛ لأنّ أكثر ما فيه أنّ مال القراض مشاع، و الإشاعة إذا لم تمنع التصرّف لم تمنع الصحّة.

و قال أصحاب مالك: لا يجوز أن يضمّ إلى القراض الشركة(3) ؛ لأنّه لا يجوز أن يضمّ إليه عقد إجارةٍ، فلا يجوز أن يضمّ إليه عقد شركةٍ(4).

و الأصل ممنوع، و لأنّ أحد العقدين إذا لم يجعلاه شرطاً في الآخَر لم يمنع من جمعهما، كما لو كان المال متميّزاً، و الإجارة إن كانت متعلّقةً بزمانٍ نافت القراض؛ لأنّه يمنعه من التصرّف، و إن كانت متعلّقةً بالذمّة جاز.

و لو دفع إليه ألفاً قراضاً فخلطها بألف له بحيث لا تتميّز، فقد تعدّى بذلك، فصار ضامناً، كالمودع إذا مزج الوديعة بغيرها من ماله أو غير ماله.

و لأنّه صيّره بمنزلة التالف.5.

ص: 155


1- بحر المذهب 227:9، البيان 166:7-167، العزيز شرح الوجيز 49:6، روضة الطالبين 224:4، المغني 137:5، الشرح الكبير 143:5.
2- بحر المذهب 227:9، العزيز شرح الوجيز 11:6، روضة الطالبين 200:4، الإشراف على نكت مسائل الخلاف 1123/645:2، المغني 136:5-137، الشرح الكبير 142:5-143.
3- في «ث، خ، ر»: «شركة».
4- الإشراف على نكت مسائل الخلاف 1123/645:2، التفريع 195:2، المعونة 1124:2، الكافي في فقه أهل المدينة: 386، بحر المذهب 227:9، المغني 137:5، الشرح الكبير 143:5.
مسألة 301: إذا دفع إليه مالاً قراضاً و شرط عليه أن ينقل المال إلى موضع كذا

و يشتري من أمتعته ثمّ يبيعها هناك أو يردّها إلى موضع القراض، جاز ذلك؛ للأصل، بل لو خالف ضمن؛ لما رواه الكناني عن الصادق عليه السلام، قال: سألته عن المضاربة يعطى الرجل المال يخرج به إلى الأرض و نهي(1) أن يخرج به إلى أرض غيرها فعصى فخرج به إلى أرض أُخرى فعطب المال، فقال: «هو ضامن، فإن سلم فربح فالربح بينهما»(2).

و قال أكثر الشافعيّة: يفسد القراض؛ لأنّ نقل المال من قُطْرٍ إلى قُطْرٍ عمل زائد على التجارة، فأشبه شرط الطحن و الخبز، و يخالف ما إذا أذن له في السفر؛ فإنّ الغرض منه رفع الحرج(3).

و قال جماعة من محقّقيهم: إنّ شرط المسافرة لا يضرّ، فإنّها الركن الأعظم في الأموال و البضائع الخطيرة(4).

و الأصل عندنا ممنوع.

و لو قال: خُذْ هذه الدراهم قراضاً و صارِف بها مع الصيارفة، لم يجز له أن يصارف مع غيرهم؛ لأنّه قد خالف ما عيّنه له، و هو أحد وجهي الشافعيّة، و الثاني: إنّه يصحّ؛ لأنّ الغرض من مثله أن يصرفه صرفاً لا قوام بأعيانهم(5).

مسألة 302: لو دفع إليه زيد مالاً قراضاً و دفع إليه عمرو كذلك،

فاشترى بكلّ واحدٍ من المالين عبداً ثمّ اشتبها عليه، بِيع العبدان، و بسط الثمن بينهما على النسبة - و لو ربح فعلى ما شرطاه له، فإن اتّفق خسران،

ص: 156


1- في الفقيه و «ر»: «و ينهى».
2- الفقيه 143:3-631/144، التهذيب 189:7-837/190. (3-5) العزيز شرح الوجيز 48:6، روضة الطالبين 224:4.

فإن كان لتقصيره ضمن، و إن كان لانخفاض السوق لم يضمن؛ لأنّ غايته أن يكون كالغاصب، و الغاصب لا يضمن نقصان السوق - و هو أحد قولَي الشافعيّة(1) ؛ لأنّ قضيّة المال الممتزج هذا.

و لما رواه إسحاق بن عمّار عن الصادق عليه السلام أنّه قال في الرجل يبضعه الرجل ثلاثين درهماً في ثوبٍ و آخَر عشرين درهماً في ثوبٍ، فبعث الثوبين فلم يعرف هذا ثوبه و لا هذا ثوبه، قال: «يباع الثوبان، فيعطى صاحب الثلاثين ثلاثة أخماس الثمن، و الآخَر خُمسي الثمن» قال: قلت: فإنّ صاحب العشرين قال لصاحب الثلاثين: اختر أيّهما شئت، قال: «قد أنصفه»(2).

و للشافعيّة قولٌ بأنّ شراء العبدين ينقلب إلى العامل، و يغرم لهما؛ للتفريط حيث لم يفردهما حتى تولّد الاشتباه(3).

ثمّ المغروم عند الأكثرين الألفان(4).

و قال بعضهم: يغرم قيمة العبدين و قد تزيد على الألفين(5).

و لهم قولٌ غريب ثالث: إنّه يبقى العبدان على الإشكال إلى أن5.

ص: 157


1- بحر المذهب 232:9، الوسيط 131:4، حلية العلماء 344:5، التهذيب - للبغوي - 395:4، البيان 196:7، العزيز شرح الوجيز 49:6، روضة الطالبين 225:4.
2- الكافي 421:7-2/422، الفقيه 62/23:3، التهذيب 482/208:6 و 303-847/304.
3- بحر المذهب 232:9، الوسيط 131:4، حلية العلماء 344:5، التهذيب - للبغوي - 395:4، البيان 195:7، العزيز شرح الوجيز 49:6، روضة الطالبين 224:4.
4- العزيز شرح الوجيز 49:6، روضة الطالبين 224:4.
5- العزيز شرح الوجيز 49:6، روضة الطالبين 224:4-225.

يصطلحا(1).

مسألة 303: إذا تعدّى المضارب و فَعَل ما ليس له فعله أو اشترى شيئاً نهاه المالك عن شرائه، ضمن المال في قول أكثر أهل العلم

(2) ، و روي ذلك عن أهل البيت عليهم السلام(3) ، و به قال أبو هريرة و حكيم بن حزام و أبو قلابة و نافع و أياس و الشعبي و النخعي و الحكم و مالك و الشافعي و أحمد و إسحاق و أصحاب الرأي(4).

و روى العامّة عن عليٍّ عليه السلام أنّه قال: «لا ضمان على مَنْ شُورك في الربح»(5) و نحوه عن الحسن و الزهري(6).

و المعتمد: الأوّل، و الرواية عن أمير المؤمنين عليه السلام نحن نقول بموجبها؛ فإنّه لا ضمان بدون التفريط.

و الأصل فيه أنّه قد تصرّف في مال غيره بدون إذنه، فلزمه الضمان، كالغاصب. و قد تقدّم أنّه يشارك في الربح.

إذا عرفت هذا، فلو اشترى شيئاً نهاه المالك عن شرائه فربح، فالربح على الشرط، و به قال مالك(4) ؛ لما تقدّم(5) من الرواية عن أهل البيت عليهم السلام، و لأنّه تعدٍّ، فلا يمنع كون الربح لهما على ما شرطاه، كما لو لبس الثوب و ركب دابّةً ليس له ركوبها.

و قال أحمد: الربح بأسره لربّ المال - و عن أحمد رواية أُخرى:

ص: 158


1- العزيز شرح الوجيز 49:6، روضة الطالبين 225:4.
2- كما في المغني 165:5، و الشرح الكبير 158:5.
3- التهذيب 853/193:7. (4-6) المغني 165:5، الشرح الكبير 158:5.
4- المنتقى - للباجي - 170:5، المغني 165:5، الشرح الكبير 158:5.
5- آنفاً.

إنّهما يتصدّقان بالربح على سبيل الورع، و هو لربّ المال في القضاء - لأنّ عروة بن [الجعد](1) البارقي قال: عرض للنبي صلى الله عليه و آله جلب فأعطاني ديناراً فقال: «يا عروة ائت الجلب فاشتر لنا شاةً» فأتيتُ الجلب فساومتُ صاحبه فاشتريتُ شاتين بدينارٍ، فجئتُ أسوقهما - أو أقودهما - فلقيني رجل بالطريق فساومني، فبعتُ منه شاةً بدينار، فجئتُ بالدينار و الشاة فقلت:

يا رسول اللّه هذا ديناركم و هذه شاتكم، فقال: «و كيف صنعتَ؟» فحدّثته الحديث، فقال: «اللّهمّ بارك له في صفقة يمينه»(2).

و لأنّه نماء عينه بغير إذن مالكه، فكان لمالكه، كما لو غصب حنطةً فزرعها(3).

و الخبر لا يدلّ على المتنازع، و الفرق ظاهر بين الغاصب و المضارب المأذون له.

إذا عرفت هذا، فهل يستحقّ العامل الأُجرة، أم لا؟ عن أحمد روايتان:

إحداهما: إنّه لا يستحقّ، كالغاصب.

و الثانية: إنّه يستحقّ؛ لأنّ ربّ المال رضي بالبيع و أخذ الربح، فاستحقّ العامل عوضاً، كما لو عقده بإذنٍ(4).

و في قدر الأُجرة عنه روايتان:

إحداهما: أُجرة مثله ما لم يحط بالربح؛ لأنّه عمل ما يستحقّ به5.

ص: 159


1- بدل ما بين المعقوفين في النُّسَخ الخطّيّة و الحجريّة: «لبيد». و الصحيح ما أثبتناه.
2- تقدّم تخريجه في ص 86، الهامش (2).
3- المغني 165:5-166، الشرح الكبير 158:5-159.
4- المغني 166:5، الشرح الكبير 159:5.

العوض و لم يسلم له، فكان له أُجرة مثله، كالمضاربة الفاسدة.

و الثانية: له الأقلّ من المسمّى أو أُجرة المثل؛ لأنّه إن كان الأقلّ المسمّى فقد رضي به، فلم يستحق أكثر منه، و إن كان الأقلّ أُجرة المثل لم يستحق أكثر منه؛ لأنّه لم يعمل ما رضي به(1).

و لو قصد الشراء لنفسه، فإن كان الشراء بعين المال لم يصح، و لا أُجرة له.

و عن أحمد روايتان(2).

و إن كان اشترى في الذمّة ثمّ نقد المال، فله الربح، و لا أُجرة له.

مسألة 304: إذا اشترى العامل سلعةً للتجارة،

فقال ربّ المال: كنتُ نهيتُك عن ابتياعها و ابتعتَها بعد النهي فليست للقراض، فقال العامل: ما نهيتني قطّ، قُدّم قول العامل؛ لأنّه أمين، و ربّ المال يدّعي عليه الخيانة.

أمّا لو قال العامل: أذنتَ لي في شراء كذا، فقال المالك: لم آذن فيه، أو قال العامل: أذنتَ لي في البيع نسيئةً أو في الشراء بعشرةٍ، فقال المالك:

بل أذنتُ لك في البيع نقداً أو في الشراء بخمسةٍ، قُدّم قول المالك - و به قال الشافعي(1) - لأصالة عدم الإذن، و لأنّ القول قول المالك في أصل الإذن فكذا في صفته.

و قال أبو حنيفة و أحمد: يُقدّم قول العامل؛ لأنّهما اتّفقا على الإذن و اختلفا في صفته، فكان القولُ قولَ العامل، كما لو قال: كنتُ قد نهيتُك

ص: 160


1- المغني 193:5، الشرح الكبير 176:5.

عن شراء عبدٍ، فأنكر النهي(1).

و الفرق ظاهر.

مسألة 305: إذا دفع المالك إلى العامل ألفاً قراضاً فاتّجر فيها و نضّ المال فخسر مائة،

فقال العامل لصديقٍ له: أقرضني مائةً أضمّها إلى المال ليرى ذلك ربّ المال فلا ينتزع المال من يدي، فإذا استبقاه في يدي رددت المائة إليك، ففَعَل، فلمّا حمل المال إلى صاحبه أخذه و فسخ المضاربة، لم يكن للمُقرض الرجوع على ربّ المال؛ لأنّ العامل قد مَلَك المائة بالقرض، و إذا دفعها إلى المالك و قال: هذا مالك، فلا يمكنه أن يرجع بعد ذلك و يُنكره، و المُقرض لا يرجع على ربّ المال؛ لأنّه ليس هو [المقترض](2) منه [و به](3) قال الشافعي(3).

[و](5) قال أبو القاسم: للمُقرض أن يرجع بالمائة على ربّ المال(4).

و غلط فيه؛ لما تقدّم.

و لو دفع إليه ألفاً مضاربةً، فاشترى متاعاً يساوي ألفين فباعه بهما ثمّ اشترى به جاريةً وضاع الثمن قبل دفعه، رجع على المالك بألف و خمسمائة، و دفع من ماله خمسمائة على إشكالٍ، فإذا باعها بخمسة آلاف أخذ العامل ربعها، و أخذ المالك من الباقي رأس ماله ألفين و خمسمائة، و كان الباقي ربحاً بينهما على ما شرطاه.

ص: 161


1- المغني 193:5، الشرح الكبير 176:5.
2- بدل ما بين المعقوفين في النُّسَخ الخطّيّة و الحجريّة: «المُقرض». و المثبت هو الصحيح. (3 و 5) ما بين المعقوفين يقتضيه السياق.
3- بحر المذهب 234:9، البيان 207:7.
4- لم نعثر عليه في مظانّه.
مسألة 306: عقد المضاربة قابل للشروط كغيره من العقود، و الشروط تنقسم إلى صحيحةٍ و فاسدةٍ.

فالصحيح مثل أن يشترط على العامل أن لا يسافر بالمال، أو أن يسافر به، أو لا يتّجر إلّا في بلدٍ بعينه أو نوعٍ بعينه، أو لا يشتري إلّا من رجلٍ بعينه، فهذا بأجمعه صحيح، سواء كان النوع ممّا يعمّ وجوده أو لا يعمّ، أو الرجل ممّا يكثر عنده المتاع أو يقلّ، و به قال أبو حنيفة و أحمد(1).

و قال مالك و الشافعي: إذا شرط أن لا يشتري إلّا من رجلٍ بعينه، أو سلعة بعينها، أو ما لا يعمّ وجوده كالياقوت الأحمر و الخيل البُلْق، لم يصح(2)في ص 42.(3). و قد تقدّم(3).

و الفاسد ينقسم عند العامّة إلى ما ينافي مقتضى العقد، أو يعود إلى جهالة الربح، أو يشترط ما ليس فيه مصلحة العقد و لا مقتضاه.

فالأوّل: مثل أن يشترط لزوم المضاربة، أو لا يعزله مدّة بعينها، أو لا يبيع إلّا برأس المال أو أقلّ، أو لا يبيع إلّا ممّن اشترى [منه](4) أو شرط أن لا يشتري و لا يبيع، فهذه الشروط تنافي مقتضى العقد، و هو الاسترباح.

و الثاني: مثل أن يشترط للمضارب جزءاً ما من الربح من غير تعيينٍ، أو شرط له ربح أحد الكيسين أو أحد العبدين.

و الثالث: مثل أن يشترط على العامل المضاربة له في مالٍ آخَر، أو يأخذ له بضاعةً أو قرضاً، أو يخدمه في شيءٍ بعينه، أو يرتفق بالسِّلَع، مثل

ص: 162


1- راجع: الهامش (1) من ص 41.
2- راجع: الهامش
3- من ص 42.
4- ما بين المعقوفين أثبتناه من المصدر.

أن يلبس الثوب و يستخدم العبد(1).

و عندي لا بأس بذلك.

أمّا لو شرط على المضارب ضمان المال أو سهماً من الوضيعة، أو أنّه متى باع السلعة فهو أحقّ بها بالثمن، فهذه شروط باطلة.

و هل يبطل العقد ببطلان الشرط؟ الأقرب عندي: ذلك.7.

ص: 163


1- المغني 186:5-187.

ص: 164

المقصد الخامس: في اللّقطة

اشارة

و فيه مقصدان:

المقصد الأوّل(1): في لقطة الأموال

اللُّقطة هي المال الضائع عن صاحبه يلتقطه غيره.

قال الخليل بن أحمد: اللُّقَطة بفتح القاف: اسم للملتقط؛ لأنّ ما جاء على «فُعَلة» فهو اسم للفاعل، كقوله: «هُمَزة لُمَزة» و يقال: فلان هزأة.

و بسكون القاف هي المال الملقوط، مثل الضَّحْكة - بسكون الحاء - هو الذي يضحك منه، و الهزأة - بفتح الزاء - هو الذي يهزأ به(2).

و قال الأصمعي و ابن الأعرابي و الفرّاء: اللّقَطة - بفتح القاف -: اسم للمال الملقوط أيضاً(3).

و الأصل في اللّقطة: ما رواه العامّة عن زيد بن خالد الجهني قال:

سئل رسول اللّه صلى الله عليه و آله عن لقطة الذهب و الورق، فقال: «اعرف وكاءها و عفاصها ثمّ عرِّفها سنةً، فإن جاء صاحبها و إلّا فشأنك بها» - و في روايةٍ أُخرى: «ثمّ عرِّفها سنةً، فإن لم تعرف فاستنفع بها، و لتكن وديعةً عندك، فإن جاء طالبها يوماً من الدهر فادفعها إليه» - قال: فضالّة الغنم ؟ قال:

ص: 165


1- كذا قوله: «و فيه مقصدان، المقصد الأوّل» في النُّسَخ الخطّيّة و الحجريّة، و لم يُعنون المصنّف قدس سره «المقصد الثاني» فيما يأتي.
2- الزاهر (مقدّمة الحاوي الكبير): 312، البيان 438:7، المغني و الشرح الكبير 346:6.
3- الزاهر (مقدّمة الحاوي الكبير): 312-313، البيان 438:7، المغني و الشرح الكبير 346:6.

«خُذْها فإنّما هي لك أو لأخيك أو للذئب» قال: يا رسول اللّه فضالّة الإبل ؟ فغضب حتى احمرّت وَجْنتاه و قال: «ما لَك و لها؟ معها حذاؤها و سقاؤها ترد المال و ترعى الشجر حتى يجدها ربّها»(1).

و الوكاء: الخيط الذي يشدّ به المال في الخرقة. و العفاص: الوعاء الذي هي فيه من خرقةٍ أو قرطاسٍ أو غيره، و الأصل في العفاص أنّه الجلد الذي يلبسه رأس القارورة. و حذاؤها يعني به خُفّها؛ لأنّه لقوّته و صلابته يجري مجرى الحذاء. و سقاؤها: بطنها؛ لأنّها تأخذ فيه ماءً كثيراً فيبقى معها يمنعها العطش. و كونها ترد الماء و ترعى الشجر، أي: محفوظة بنفسها.

و من طريق الخاصّة: ما رواه الحلبي - في الصحيح - عن الصادق عليه السلام قال: «جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه و آله فقال: يا رسول اللّه إنّي وجدتُ شاةً، فقال:

هي لك أو لأخيك أو للذئب، فقال: إنّي وجدتُ بعيراً، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: خُفُّه حذاؤه، و كرشه سقاؤه فلا تهجه»(2).

و عن داوُد بن سرحان عن الصادق عليه السلام أنّه قال في اللّقطة: «يُعرفها سنةً ثمّ هي كسائر ماله»(3).

و لا نعلم في ذلك خلافاً.

و اعلم أنّ الملقوط إمّا إنسان أو غيره من الأموال، و الغير إمّا حيوان أو غيره، فالفصول ثلاثة.6.

ص: 166


1- صحيح البخاري 34:1، و 163:3 و 165، صحيح مسلم 1346:3-1722/1348، شرح معاني الآثار 134:4، سنن البيهقي 185:6 و 186 و 189 و 190، العزيز شرح الوجيز 336:6-337، المغني و الشرح الكبير 346:6 بتفاوتٍ في بعض الألفاظ.
2- التهذيب 1184/394:6.
3- الكافي 137:5 (باب اللّقطة و الضالّة) ح 2، التهذيب 1161/389:6.

الفصل الأوّل: في لقطة الأموال غير الحيوان

اشارة

و فيه مطالب:

المطلب الأوّل: في الأركان.
اشارة

و هي ثلاثة:

الركن الأوّل: الالتقاط.
اشارة

و هو معلوم في اللّغة، و أمّا في الشرع: فهو أخصّ، و هو عبارة عن أخذ مالٍ ضائعٍ ليعرّفه الآخذ سنةً ثمّ يتملّكه إن لم يظهر مالكه بشرط الضمان إذا ظهر و لم يكن في الحرم، أو يحتفظه واجباً فيه، و مستحبّاً في غيره.

و اعلم أنّ الالتقاط إن كان في غير الحرم، كان مكروهاً عند علمائنا، سواء وثق الملتقط من نفسه أو لا، و سواء خاف ضياعها أو لا - و به قال ابن عباس و ابن عمر و جابر بن زيد و الربيع بن خثيم، و هو مذهب عطاء و مالك و أحمد(1) - لما رواه العامّة عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال: «لا يُؤوي الضالّةَ إلّا ضالٌّ»(2).

و من طريق الخاصّة: ما رواه الحلبي - في الصحيح - عن الصادق عليه السلام في اللّقطة، إلى أن قال: «و كان عليّ بن الحسين عليه السلام يقول لأهله:

ص: 167


1- الإشراف على مذاهب أهل العلم 151:2، بداية المجتهد 304:2، المغني 346:6، الشرح الكبير 360:6، المحلّى 261:8، الحاوي الكبير 11:8، حلية العلماء 525:5، البيان 444:7، العزيز شرح الوجيز 339:6.
2- سنن ابن ماجة 2503/836:2، سنن أبي داوُد 1720/139:2، سنن البيهقي 190:6، مسند أحمد 18702/481:5، المعجم الكبير - للطبراني - 330:2-2376/331 و 2377، شرح معاني الآثار 133:4.

لا تمسّوها»(1).

و في الصحيح عن الحسين بن أبي العلاء قال: ذكرنا للصادق عليه السلام اللّقطة، فقال: «لا تعرّض لها، فإنّ الناس لو تركوها لجاء صاحبها فأخذها»(2).

و اختلف قول الشافعي.

فقال في موضعٍ: إذا عرف الآخذ من نفسه الأمانة، أخذها(3).

و في موضعٍ آخَر: و لا يحلّ ترك اللّقطة لمَن وجدها إذا كان أميناً عليها(4).

و اختلف أصحابه في ذلك.

فمنهم مَنْ قال: ليست على قولين، و إنّما هي على اختلاف حالين، فالموضع الذي استحبّ أخذها و لم يوجبه إنّما أراد إذا وجدها في قريةٍ أو محلّةٍ يُعرف أهلها بالثقة و الأمانة فالظاهر سلامتها فلا يجب أخذها، و الموضع الذي قال: يجب عليه أخذها إذا وجدها في موضعٍ لا يُعرف أهله بالثقة و الأمانة، أو كانت في مسلك أخلاط الناس و ممرّ الفُسّاق و الخَوَنة فإنّ6.

ص: 168


1- التهذيب 1163/389:6، الاستبصار 227/68:3.
2- التهذيب 1166/390:6.
3- مختصر المزني: 135، الإشراف على مذاهب أهل العلم 151:2، الحاوي الكبير 10:8، المهذّب - للشيرازي - 436:1، الوسيط 281:4، حلية العلماء 524:5، التهذيب - للبغوي - 547:4، البيان 443:7، العزيز شرح الوجيز 338:6، مختصر اختلاف العلماء 336:4، ذيل الرقم 2042، المغني 347:6، الشرح الكبير 360:6.
4- الأُم 66:4، الإشراف على مذاهب أهل العلم 151:2، الحاوي الكبير 11:8، المهذّب - للشيرازي - 436:1، الوسيط 281:4، حلية العلماء 524:5، التهذيب - للبغوي - 547:4، البيان 443:7، العزيز شرح الوجيز 338:6، المغني 347:6، الشرح الكبير 360:6.

الظاهر هلاكها فيجب عليه أخذها(1).

و منهم مَنْ قال: في المسألة قولان:

أحدهما: يستحبّ؛ لأنّ ذلك أخذ أمانةٍ، فلم يلزمه، كقبول الوديعة.

و الثاني: يجب؛ لقوله تعالى:«وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ» (2) و إذا كان وليّه وجب عليه حفظ ماله إذا خاف هلاكه، كوليّ الصغير، بخلاف الوديعة، فإنّه لا يخاف هلاكها، و لأنّ حرمة مال المسلم كحرمة دمه، فيجب صونه عن الضياع(3).

و هو معارَض بقول ابن عباس و ابن عمر، و لم يُعرف لهما مخالف في الصحابة، و لأنّه تعريض لنفسه لأكل الحرام و تضييع الواجب من تعريفها و أداء الأمانة فيها، فكان تركه أولى و أسلم، كولاية مال اليتيم.

و قد احتجّ الشافعي على الاستحباب: بحديث زيد بن خالد الجهني، قال: جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه و آله فسأله عن اللّقطة، فقال: «اعرف عفاصها و وكاءها»(4) الحديث.

و بما رواه أُبيّ بن كعب قال: وجدتُ مائة دينار - و روي: ثمانين ديناراً(5) - فأتيتُ بها النبيّ صلى الله عليه و آله، فقال: «عرِّفها حولاً» فعرّفتُها حولاً فلم تُعرف، فرجعتُ إليه، فقال: «اعرف عدّتها و وعاءها و وكاءها و اخلطها4.

ص: 169


1- الحاوي الكبير 11:8، المهذّب - للشيرازي - 436:1، الوسيط 281:4، حلية العلماء 524:5-525، التهذيب - للبغوي - 547:4، البيان 443:7، العزيز شرح الوجيز 338:6، روضة الطالبين 452:4.
2- سورة التوبة: 71.
3- الحاوي الكبير 11:8، المهذّب - للشيرازي - 436:1، حلية العلماء 524:5، التهذيب - للبغوي - 547:4، البيان 443:7، العزيز شرح الوجيز 338:6، روضة الطالبين 452:4، المغني 347:6، الشرح الكبير 360:6.
4- تقدّم تخريجه في ص 166، الهامش (1).
5- الأُم 67:4.

بمالك، فإن جاء ربّها فأدِّها إليه»(1).

و لأنّه أخذ أمانة، فلم يكره، كالوديعة(2).

و لا دلالة في الحديثين؛ لأنّهما سألا عن اللّقطة إذا أخذها الملتقط ما حكمها؟

و للشافعيّة طريقة أُخرى: إنّ الواجد إن كان لا يثق بنفسه لم يجب الالتقاط قولاً واحداً، و القولان في مَنْ يغلب على ظنّه أنّه لا يخون(3).

و طريقة رابعة قاطعة بنفي الوجوب مطلقاً، و حمل قوله بالوجوب على تأكيد الأمر به(4).

و على القول بنفي الوجوب فإن كان الواجد غير أمينٍ لم يأخذها؛ لأنّه يعرّضها للتلف.

و إن كان أميناً، فإن لم يثق بنفسه و ليس هو في الحال من الفسقة لم يستحب له الالتقاط قولاً واحداً.

و عن بعض الشافعيّة وجهان في الجواز، أصحّهما عندهم:

الثبوت(5).

مسألة 307: الأمين إذا وجد اللّقطة و لم يأخذها لم يضمنها،

و هو على مذهبنا ظاهرٌ؛ لأنّا نقول بكراهة الالتقاط.

أمّا الشافعي فكذلك عنده أيضاً، سواء قال بوجوب الالتقاط أو

ص: 170


1- صحيح البخاري 162:3 و 166، صحيح مسلم 1723/1350:3، سنن البيهقي 186:6 و 192-194، و فيها التعريف لمدّة ثلاثة أحوال.
2- المهذّب - للشيرازي - 436:1، التهذيب - للبغوي - 547:4، البيان 443:7.
3- العزيز شرح الوجيز 338:6، روضة الطالبين 452:4.
4- الوسيط 281:4، العزيز شرح الوجيز 338:6، روضة الطالبين 453:4.
5- الوسيط 282:4، العزيز شرح الوجيز 338:6، روضة الطالبين 453:4.

استحبابه؛ لأنّها لم تحصل في يده، و ما لا يحصل في يده لا يضمنه، كما لو حبس رجلاً عن ماله حتى هلك فإنّه لا يضمنه(1).

و إن وجدها الخائن فأخذها، لم يضمنها إلّا بالتعدّي أو نيّة التصرّف و عدم الردّ على المالك.

و أمّا إذا أخذها على وجه الالتقاط فلا يضمنها، كما أنّ المستودع إذا كان خائناً و قَبِل الوديعة لم يضمنها إلّا بالتعدّي، كذا هنا.

فإن ردّها الملتقط إلى الموضع الذي وجدها فيه، لزمه ضمانها - و به قال الشافعي(2) - لأنّه لمّا أخذها التزم بحفظها، فإذا ردّها إلى الموضع فقد ضيّعها، فلزمه الضمان، كما لو رماها إلى موضعٍ آخَر.

و قال أبو حنيفة: لا يلزمه ضمانها، و يبرأ بردّها إلى موضعها من الأمانة؛ لأنّه مأذون له في أخذها منه، و إذا ردّها إليه زال عنه الضمان، كالمستودع إذا ردّ الوديعة إلى يد صاحبها(3).

و الفرق ظاهر؛ لأنّ الوديعة عادت إلى يد صاحبها، و لهذا لو كان غصبها ثمّ ردّها إلى صاحبها زال الضمان، كذا هنا، و وزان المتنازع أن يردّ المستودع الوديعة إلى الموضع الذي أخذها منه بنيّة التعدّي، و هناك لا يبرأ بالردّ إلى موضعها على ما تقدّم في باب الوديعة(4).

مسألة 308: الملتقط إذا علم الخيانة من نفسه، فالأقرب: إنّه يحرم عليه أخذها

- و به قال بعض الشافعيّة(5) - لأنّ نفسه تدعوه إلى كتمانها

ص: 171


1- البيان 443:7، العزيز شرح الوجيز 338:6، روضة الطالبين 453:4.
2- حلية العلماء 549:5، الإفصاح عن معاني الصحاح 55:2.
3- المبسوط - للسرخي - 13:11، حلية العلماء 549:5، البيان 444:7، الإفصاح عن معاني الصحاح 55:2.
4- راجع: ج 16 - من هذا الكتاب - ص 160، المسألة 14.
5- الوجيز 250:1-251، العزيز شرح الوجيز 339:6.

و ضياعها عن مالكها.

و قال الأكثر منهم: إنّه مكروه(1).

و أمّا الأمين في الحال إذا علم أنّه لو أخذها لخان فيها و فسق، فالأقرب: الكراهة الشديدة فيه، دون التحريم، و به قال أكثر الشافعيّة(2).

إذا عرفت هذا، فإنّه لا فرق بين الغني و الفقير في اللّقطة و أحكامها؛ لما رواه الحلبي - في الصحيح - عن الصادق عليه السلام في اللّقطة يجدها الرجل الفقير أ هو فيها بمنزلة الغني ؟ قال: «نعم»(3).

مسألة 309: اللّقطة إمّا أن توجد في الحرم أو في غير الحرم.

أمّا لقطة غير الحرم فإنّها مكروهة عند علمائنا على ما تقدّم(4).

و أمّا لقطة الحرم فلعلمائنا قولان:

أحدهما: تحريم أخذها؛ لقوله تعالى:«وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً» (5) و ذلك يقتضي وجوب أمنه على نفسه و ماله، و إنّما يحصل الأمن في المال بعدم أخذه.

و لما رواه إبراهيم بن أبي البلاد عن بعض أصحابه عن الكاظم عليه السلام قال: «لقطة الحرم لا تمسّ بيدٍ و لا رِجْل، و لو أنّ الناس تركوها لجاء صاحبها فأخذها»(6).

و الثاني: الكراهة - و هو الأقوى عندي - للأصل، و لما فيه من حفظها على مالكها، فإنّه لا يجوز له تملّكها بوجهٍ من الوجوه، فإذا أخذها بنيّة

ص: 172


1- العزيز شرح الوجيز 338:6، روضة الطالبين 453:4.
2- العزيز شرح الوجيز 339:6.
3- التهذيب 1163/389:6، الاستبصار 227/68:3.
4- في ص 167.
5- سورة آل عمران: 97.
6- التهذيب 1167/390:6.

الحفظ يكون مُحسناً إلى مالكها بحفظ ماله عليه.

و منه يظهر الجواب عن الآية؛ إذ نيّة الحفظ و فعله يقتضي أمن صاحبها عليها.

و الرواية لا تقتضي التحريم؛ فإنّ النهي لفظ يدلّ على معنى مشترك بين التحريم و الكراهة، و لا دلالة للعامّ على الخاصّ، مع أنّ الرواية مرسلة.

إذا ثبت هذا، فإنّه إذا التقط في الحرم لم يجز له أن يملكها لا قبل التعريف و لا بعده، بل إمّا أن يحفظها أو يتصدّق بها بعد التعريف حولاً.

و في الضمان قولان لعلمائنا.

مسألة 310: يستحبّ لواجد اللّقطة الإشهاد عليها حين يجدها، فإن لم يُشهد عليها لم يكن ضامناً.

و ليس الإشهاد واجباً عند علمائنا - و به قال مالك و أحمد و الشافعي في أظهر قوليه(1) - لأصالة عدم الوجوب، و لأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله لم يذكر الإشهاد في خبر زيد بن خالد، و لا خبر أُبيّ بن كعب(2) ، بل أمرهما بالتعريف، و لو كان الإشهاد واجباً لبيّنه؛ إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، و لأنّه أخذ أمانة، فلم يفتقر إلى الإشهاد، كالوديعة.

و قال أبو حنيفة: يجب الإشهاد، فإن أخلّ به ضمن - و بالوجوب قال الشافعي في القول الثاني - لما روي عن عياض بن حمار أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله قال: «مَن التقط لقطةً فليُشهد عليها ذا عَدْلٍ أو ذَوَي عَدْلٍ، و لا يكتم

ص: 173


1- بداية المجتهد 308:2، التمهيد 121:3، المغني 362:6، الشرح الكبير 387:6، الحاوي الكبير 12:8، المهذّب - للشيرازي - 437:1، الوسيط 282:4، الوجيز 251:1، حلية العلماء 525:5، التهذيب - للبغوي - 548:4، البيان 447:7، العزيز شرح الوجيز 339:6، روضة الطالبين 453:4.
2- تقدّم خبراهما في ص 165-166 و 169-170.

و لا يغيِّب»(1) و هذا أمر يقتضي الوجوب، و لأنّه إذا لم يُشهد كان الظاهر أنّه أخذها لنفسه(2).

و الحمل على الوجوب ممنوع، بل الأصل عدمه، فيُحمل على الاستحباب؛ لوروده فيهما، فيكون للقدر المشترك، و إلّا لزم الاشتراك أو المجاز، و كلاهما خلاف الأصل، مع أنّ الظاهر أنّه للاستحباب، و إلّا لما جاز له عليه السلام أن يؤخّر بيانه في الخبرين السابقين.

و الظاهر ممنوع؛ لأنّه إذا أخذها و عرّفها لم يكن قد أخذها لنفسه.

و فائدة الإشهاد صيانة نفسه عن الطمع فيها، و حفظها من ورثته لو مات، و من غرمائه لو أفلس.

إذا ثبت هذا، فإنّه ينبغي له أن يُشهد على جنسها و بعض صفاتها من غير استقصاءٍ لئلّا يذيع خبرها فيدّعيها مَنْ لا يستحقّها فيأخذها إذا ذكر صفاتها إن اكتفينا بالصفة، أو يواطئ الشهود الذين عرفوا صفاتها على التفصيل فيأخذها بشهادتهم، أمّا إذا ذكر بعض صفاتها و أهمل الباقي انتفت هذه المخالفة.

و لا ينبغي الاقتصار في الإشهاد على الإطلاق بأن يقول: عندي لقطة، و لا على ذكر الجنس من غير ذكر وصفٍ ما لئلّا يموت فيتملّكها الوارث، بل ينبغي أن يذكر للشهود ما يذكره في التعريف من ذكر الجنس و النوع.3.

ص: 174


1- سنن أبي داوُد 1709/136:2، سنن البيهقي 187:6 و 193، مسند أحمد 17872/330:5، و 17879/331، مسند أبي داوُد الطيالسي: 1081/146.
2- بدائع الصنائع 201:6، مضافاً إلى المصادر المزبورة في الهامش (1) من ص 173.

و للشافعي قولان:

أحدهما: إنّه يُشهد على أصلها دون صفاتها، و يجوز أن يذكر جنسها خوف الإذاعة فيدّعيها الكاذب.

و الثاني: يُشهد على صفاتها أيضاً لئلّا يأخذها الورثة(1).

و الأوسط ما قلناه.

الركن الثاني: الملتقط.
مقدّمة: اللّقطة تشتمل على نوع أمانةٍ و ولايةٍ و اكتسابٍ.

أمّا الأمانة و الولاية ففي ابتداء أمرها؛ لأنّ الملتقط يجب عليه التعريف حولاً، فهو في مدّة الحول أمين سبيله سبيل سائر الأُمناء، لا يضمن تلفها إلّا مع التعدّي أو التفريط، و قد فوّض الشرع إليه حفظها، كما فوّض إلى الوليّ حفظ مال الصبي.

و أمّا الاكتساب ففي انتهاء أمرها؛ لأنّ له أن يتملّك اللّقطة بعد الحول.

و للشافعي(2) قولان:

أحدهما: إنّ المغلَّب فيه معنى الأمانة و الولاية؛ لأنّها معجّلة في ابتداء الالتقاط، و التملّك منتظَرٌ إلى أن ينتهي حول التعريف، فيناط الحكم بالناجز الحاضر، و يبنى الأخير على الأوّل.

ص: 175


1- العزيز شرح الوجيز 339:6، روضة الطالبين 453:4.
2- في الطبعة الحجريّة: «للشافعيّة».

و الثاني: إنّ المغلَّب الاكتساب؛ لأنّه مآل الأمر و القصد باللّقطة و الغرض منها، فالنظر إليه أولى، فكونه مناط الحكم أولى، و لأنّ الملتقط مستقلّ بالالتقاط، و آحاد الناس لا يستقلّون بالأمانات إلّا بائتمان المالك، و يستقلّون بالاكتساب(1).

فإذا اجتمع في الشخص أربع صفات: الإسلام و الحُرّيّة و العدالة و التكليف، كان له أن يلتقط إجماعاً، و يُعرّف و يتملّك؛ لأنّه أهل للولاية و الأمانة و الاكتساب جميعاً.

و إن خلا عن البعض أو عن الجميع، فله مسائل نذكرها الآن إن شاء اللّه تعالى.

مسألة 311: ليس للذمّيّ أن يلتقط في الحرم؛

لأنّه ليس أهلاً للأمانة، و الاكتساب فيها منتفٍ؛ إذ ليس للملتقط في الحرم التملّكُ مطلقاً، و إنّما هو استئمان مجرّد، و الكافر ليس أهلاً له، فلا يصحّ التقاطه فيه، فإن التقط منه نزعه الحاكم من يده، و استأمن عليه ثقةً يُعرّفه حولاً، ثمّ إمّا أن يتصدّق به، أو يستديم الحفظ على ما يأتي.

و أمّا لقطة غير الحرم فإنّه يجوز للكافر أخذها، سواء كانت في دار الإسلام أو في دار الحرب.

و للشافعي قولان:

أحدهما: إنّه ليس للذمّيّ أن يلتقط في دار الإسلام، كما أنّه ليس له أن يحيي شيئاً من أرضها؛ لأنّ الالتقاط أمانة، و هو ليس من أهلها.

ص: 176


1- العزيز شرح الوجيز 340:6-341، روضة الطالبين 454:4.

و الثاني - و هو الأصحّ عندهم -: إنّ له أن يلتقط - كما ذهبنا إليه - لأنّه من أهل الاكتساب، و له ذمّة صحيحة، و يملك القرض، و يصحّ أن يصطاد و يحتطب و يحتش، و يملك ذلك كلّه، فكذا له أن يلتقط؛ ترجيحاً لمعنى الاكتساب(1).

و قطع بعض أصحابه بالجواز(2).

و شرط قوم في الجواز كونه عَدْلاً في دينه(3).

و شبه الالتقاط بالاصطياد و الاحتطاب أقوى من شبهه بالإحياء.

و على قول الشافعي بالمنع من التقاط الذمّيّ في دار الإسلام لو التقط أخذه الإمام، و حفظه إلى ظهور مالكه(4).

مسألة 312: المرتدّ إن كان عن فطرةٍ زالت أمواله عنه،

فليس له أن يلتقط، فإن التقط نُزع من يده، كما لو احتطب يُنزع من يده.

و هل يكون ميراثاً لورثته ؟ الأقرب: إنّه ليس كذلك؛ لأنّه لا يصحّ أن يملك؛ لأنّ وجوب قتله في كلّ آن ينافي جواز تملّكه لشيءٍ من الأشياء في آن من الآنات، فحينئذٍ لا حكم لالتقاطه، بل تكون اللّقطة في يده كهي على الأرض لكلّ أحدٍ أخذها من يده، فيكون هذا الأخذ منه التقاطاً من الآخذ، و إنّما يورّث عنه ما يدخل في ملكه.

و يحتمل ضعيفاً دخوله في ملكه، و لا ينافي خروجه عنه في ثاني

ص: 177


1- الحاوي الكبير 15:8، المهذّب - للشيرازي - 441:1، الوسيط 283:4، الوجيز 251:1، حلية العلماء 548:5، التهذيب - للبغوي - 563:4، البيان 477:7، العزيز شرح الوجيز 341:6، روضة الطالبين 454:4. (2-4) العزيز شرح الوجيز 341:6، روضة الطالبين 454:4.

الحال، كما لو مَلَك الإنسان مَنْ ينعتق عليه، فحينئذٍ يكون لورثته، و يجري مجرى السيّد لو التقط عبده.

و على الوجه الأوّل لو أخذه إنسان من يده، لم يكن للإمام نزعه منه.

و هل يكون لقطةً بالنسبة إلى الآخذ منه على معنى أنّ له أن يملكه بعد التعريف حولاً؟ إشكال من حيث إنّه يصدق عليه أنّه لقطة، أم لا؟ فإن قلنا: يصدق اسم اللّقطة عليه، كان له تملّكه بعد التعريف حولاً، و إلّا دفعه إلى الحاكم.

أمّا الشافعيّة فاختلفوا في المرتدّ هل يزول ملكه أم لا؟ فإن قلنا:

يزول، نُزع من يده، كما لو احتطب يُنزع من يده، و إن قلنا: إنّ ملكه لا يزول، يكون كالفاسق يلتقط(1).

و قال بعضهم: إن قلنا: إنّ ملكه زائل، فإنّ ما يحتطبه يُنزع من يده، و يُحكم بكونه لأهل الفيء، فإن كانت اللّقطة كذلك، فقياسه أن يجوز للإمام ابتداء الالتقاط لأهل الفيء و لبيت المال، و أن يجوز للوليّ الالتقاط للصبي، و إن قلنا: إنّ ملكه غير زائلٍ، فهو بالذمّيّ أشبه منه بالفاسق، فليكن التقاطه كالتقاط الذمّيّ(2).

مسألة 313: يكره للفاسق الالتقاط؛
اشارة

لأنّه لا يؤمن عليها، و يُعرّض نفسه للأمانة و ليس هو من أهلها.

فإن التقط، صحّ التقاطه؛ لأنّ الالتقاط جهة من جهات الكسب، و هو من أهله، و لأنّه إذا صحّ التقاط الكافر فالفاسق أولى، و به قال أحمد

ص: 178


1- العزيز شرح الوجيز 341:6، روضة الطالبين 454:4-455.
2- العزيز شرح الوجيز 341:6، روضة الطالبين 455:4.

و الشافعي في أحد القولين على تقدير ترجيح أصل الاكتساب على أصل الأمانة و الولاية.

و الثاني: ليس للفاسق أخذ اللّقطة؛ ترجيحاً لطرف الأمانة و الولاية؛ لأنّه ليس من أهل ذلك، فإن أخذه كان حكمه حكم الغاصب(1).

و الأوّل أغلب عند أكثر أصحابه(2).

إذا عرفت هذا، فإذا التقط الفاسق، أُقرّت اللّقطة في يده، و ضمّ الحاكم إليه مشرفاً يُشرف عليه؛ لئلّا يتصرّف فيها، و يتولّى تعريفها؛ لئلّا يُخلّ به؛ لأنّه لا أمانة له، و به قال أبو حنيفة و أحمد و الشافعي في أحد القولين.

و الثاني - و هو الأصحّ عندهم -: إنّه لا يُقرّ يده عليها، بل ينتزعها الحاكم من يده، و يضعها عند عَدْلٍ؛ لأنّ مال أولاده لا يُقرّ في يده فكيف مال الأجانب(3).

و المعتمد: الأوّل؛ لأنّه يخلّى بينه و بين الوديعة، فكذا يخلّى بينه و بين اللّقطة، كالعَدْل.6.

ص: 179


1- المهذّب - للشيرازي - 441:1، الوسيط 283:4، الوجيز 251:1، حلية العلماء 547:5، التهذيب - للبغوي - 563:4، البيان 476:7-477، العزيز شرح الوجيز 342:6، روضة الطالبين 455:4.
2- العزيز شرح الوجيز 342:6، روضة الطالبين 455:4.
3- الحاوي الكبير 21:8، المهذّب - للشيرازي - 441:1، حلية العلماء 547:5، التهذيب - للبغوي - 563:4، البيان 477:7، العزيز شرح الوجيز 342:6، روضة الطالبين 455:4، الإفصاح عن معاني الصحاح 57:2، المغني 390:6، الشرح الكبير 398:6.

إذا عرفت هذا، فإنّ ضمّ المشرف إليه على جهة الاستظهار و الاستحباب، دون الإيجاب، و به قال أبو حنيفة(1).

و لو علم الحاكم خيانته فيها، فالأقرب: وجوب ضمّ مشرفٍ إليه، فإذا انتهى التعريف حولاً مَلَكها ملتقطها؛ لأنّ سبب الملك منه وُجد.

أمّا الشافعيّة فسواء قالوا: إنّه تُنتزع اللّقطة من يده أو يُضمّ إليه مشرف ففي التعريف لهم قولان:

أشبههما عندهم: إنّه لا يعتمد في التعريف عليه؛ لأنّه ربما يخون فيه حتى لا يظهر المالك، بل يضمّ إليه نظر العَدْل و مراقبته.

و الثاني: إنّه يكتفى بتعريفه؛ فإنّه الملتقط، فإذا تمّ التعريف فللملتقط التملّك(2).

تذنيب: الأقرب: إنّ الفاسق يُمنع من لقطة الحرم؛

لأنّها مجرّد أمانةٍ، و الفاسق ظالم، فلا يُركن إليه في تركها معه؛ لقوله تعالى:«وَ لا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا» (3) فحينئذٍ لو التقط منه انتزعه الحاكم، كما قلنا في الكافر.

و أكثر العامّة لم يفرّقوا بين اللّقطتين، و سيأتي البحث فيه إن شاء اللّه تعالى.

مسألة 314: التقاط العبد لا يخلو من أقسام ثلاثة:

إمّا أن يكون السيّد

ص: 180


1- العزيز شرح الوجيز 342:6.
2- الحاوي الكبير 21:8، المهذّب - للشيرازي - 441:1، حلية العلماء 547:5-548، التهذيب - للبغوي - 563:4، البيان 477:7، العزيز شرح الوجيز 342:6، روضة الطالبين 455:4.
3- سورة هود: 113.

قد أذن له فيه، أو نهاه عنه، أو لم يأذن فيه و لا نهى عنه.

فإن كان المولى قد أذن له في الالتقاط - مثل أن يقول: مهما وجدتَ ضالّةً فخُذْها و ائتني بها - جاز ذلك عند علمائنا - و به قال أبو حنيفة و أحمد(1) - كما لو أذن له المولى في قبول الوديعة، فإنّه يصحّ منه قبولها، و لعموم الخبر(2) ، و لأنّ الالتقاط سبب يملك به الصبي و يصحّ منه، فصحّ من العبد، كالاحتطاب و الاحتشاش و الاصطياد، و لأنّ مَنْ جاز له قبول الوديعة صحّ منه الالتقاط، كالحُرّ.

و للشافعيّة فيه طريقان:

أحدهما: القطع بالصحّة؛ لما تقدّم.

و الثاني: إنّ فيه قولين، أحدهما: المنع؛ لما في اللّقطة من معنى الولاية، و الإذن لا يفيده أهليّة الولاية.

و في رواية الخاصّة عن أبي خديجة عن الصادق عليه السلام: إنّه سأله ذريح عن المملوك يأخذ اللّقطة، فقال: «ما للمملوك و اللّقطة ؟ و المملوك لا يملك من نفسه شيئاً، فلا يُعرّض لها المملوك، فإنّه ينبغي للحُرّ أن يعرّفها سنةً في مجمعٍ، فإن جاء طالبها دفعها إليه، و إلّا كانت في ماله، فإن مات كانت ميراثاً لولده و لمن ورثه، فإن جاء طالبها بعد ذلك دفعوها إليه»(3).

و لأنّ الالتقاط أمانةٌ و ولايةٌ في السنة الأُولى، و تملّكٌ بعوضٍ في السنةٍ.

ص: 181


1- المغني 387:6، الشرح الكبير 400:6، البيان 470:7.
2- تقدّم تخريجه في ص 174، الهامش (1).
3- الكافي 23/309:5، الفقيه 845/188:3، التهذيب 1197/397:6 بتفاوتٍ.

الأُخرى، و العبد ليس من أهل الولايات، و لا يملك المال، و لا له ذمّة يستوفى منها(1).

و الرواية لا تعطي التحريم، فيحتمل الكراهة، و الولاية قد ثبتت له مع إذن مولاه، و التملّك لمولاه.

و إن كان المولى قد نهاه عن الالتقاط، حرم عليه؛ لأنّه محجور عليه في التصرّف، إلّا بإذن المولى، فإن التقط و الحال هذه كان للمولى انتزاعها من يده.

و للشافعيّة طريقان:

أحدهما: القطع بمنع العبد مع نهي مولاه من الالتقاط.

و الثاني: طرد القولين(2).

و إن كان المولى لم يأمره بالالتقاط و لا نهاه عنه، فإنّه يصحّ التقاطه عندنا - و به قال أبو حنيفة و أحمد و الشافعي في أحد القولين(3) - لأنّ يد العبد يد سيّده، فكأنّ السيّد هو الملتقط، و كما أنّه يعتبر اصطياده و احتطابه، كذا يعتبر التقاطه، و يكون الحاصل للسيّد، و لا عبرة بقصده.

و هذا القول نقله المزني عمّا وضعه بخطّه، قال: و لا أعلمه سُمع منه(4).6.

ص: 182


1- البيان 470:7، العزيز شرح الوجيز 347:6، روضة الطالبين 459:4.
2- العزيز شرح الوجيز 347:6، روضة الطالبين 459:4.
3- المغني 387:6، الشرح الكبير 400:6، حلية العلماء 542:5، البيان 470:7، العزيز شرح الوجيز 343:6، روضة الطالبين 455:4.
4- مختصر المزني: 135، العزيز شرح الوجيز 343:6.

و الثاني - نصّ عليه في الأُم، و اختاره المزني -: إنّه لا يصحّ؛ لأنّ اللّقطة أمانة و ولاية في الابتداء، و تملّكٌ في الانتهاء، و العبد لا يملك، و لا هو من أهل الأمانة و الولاية(1).

قال ابن سريج: القولان مبنيّان على أنّ العبد يملك، فأمّا إذا فرّعنا على الجديد - و هو أنّه لا يملك - فليس له الالتقاط بحالٍ(2).

و قال بعضهم: في هذا التباس من جهة أنّه ليس القولان في أنّ العبد هل يملك مطلقاً؟ و إنّما هُما في أنّه هل يملك بتمليك السيّد؟ و لا تمليك هنا من جهة السيّد(3).

مسألة 315: قد بيّنّا أنّ العبد يصحّ التقاطه، فإذا التقط شيئاً صحّ منه أن يُعرّفه، كما صحّ التقاطه

- و هو أحد قولَي الشافعي(2) - كالحُرّ، فإذا كمل حول التعريف لم يكن للعبد أن يتملّكها لنفسه؛ لأنّه ليس أهلاً للتملّك مطلقاً عندنا - و هو الجديد للشافعي(3) - و بدون تمليك السيّد على قول بعض علمائنا(4) و الشافعي في القديم(5) ، و هنا لم يُملّكه السيّد.

ص: 183


1- الأُم 68:4، مختصر المزني: 135، حلية العلماء 542:5، البيان 470:7، العزيز شرح الوجيز 343:6، روضة الطالبين 455:4. (2 و 3) العزيز شرح الوجيز 343:6.
2- البيان 470:7، العزيز شرح الوجيز 345:6، روضة الطالبين 457:4.
3- الحاوي الكبير 265:5-266، الوجيز 152:1، الوسيط 204:3، حلية العلماء 360:5، التهذيب - للبغوي - 467:3، البيان 470:7، العزيز شرح الوجيز 374:4، روضة الطالبين 230:3.
4- لم نتحقّقه.
5- الحاوي الكبير 265:5-266، الوجيز 152:1، الوسيط 204:3، حلية العلماء 360:5، التهذيب - للبغوي - 467:3، البيان 470:7، العزيز شرح الوجيز 374:4، روضة الطالبين 230:3.

فإن اختار العبد التملّكَ على الوجه الذي لو فَعَله الحُرّ مَلَك به، لم يملك به؛ لأنّ التملّك على وجه الاقتراض، و اقتراضه بغير إذن سيّده لا يصحّ، إلّا أنّها تكون في يده مضمونةً؛ لأنّها في يده بقرضٍ فاسد، فإذا تلفت ضمنها في ذمّته يتبع بها بعد العتق.

و له التملّك للسيّد بإذنه.

و لو لم يأذن السيّد، فالأقوى: إنّه لا يدخل في ملك السيّد بنيّة العبد التملّك له.

و للشافعيّة طريقان:

أحدهما: إنّه على الوجهين في أنّه هل يصحّ اتّهاب العبد بدون إذن السيّد؟ أو على القولين في شرائه بغير إذنٍ.

و الثاني: القطع بالمنع، بخلاف الهبة؛ لأنّ الهبة لا تقتضي عوضاً، و بخلاف الشراء؛ فإنّا إن صحّحناه علّقنا الثمن بذمّة العبد، و هنا يبعد أن لا يطالب مالك اللّقطة السيّدَ المتملّك؛ لأنّه لم يرض بذمّة العبد(1).

و الأصحّ عندهم: المنع، سواء ثبت الخلاف أم لا(2).

و على هذا فقد قال بعض الشافعيّة: إنّه لا يصحّ تعريفه دون إذن السيّد أيضاً(3).

لكنّ الأصحّ عندهم: إلحاق التعريف بالالتقاط(4).

قال الجويني: نعم، إن قلنا: انقضاء مدّة التعريف يوجب الملك، فيجوز أن يقال: لا يصحّ تعريفه، و يجوز أن يقال: يصحّ، و لا يثبت الملك

ص: 184


1- العزيز شرح الوجيز 345:6، روضة الطالبين 457:4.
2- العزيز شرح الوجيز 345:6، روضة الطالبين 457:4.
3- العزيز شرح الوجيز 345:6، روضة الطالبين 457:4.
4- العزيز شرح الوجيز 345:6، روضة الطالبين 457:4.

في هذه الصورة، كما لا يثبت إذا عرف من قصده الحفظ أبداً(1).

و على القول الثاني للشافعي بأنّه لا يصحّ التقاط العبد لا يعتدّ بتعريفه(2).

ثمّ إن لم يعلم السيّد بالتقاطه، فالمال مضمون في يد العبد، و الضمان يتعلّق برقبته، سواء أتلفه أو تلف بتفريطه أو بغير تفريطٍ، كما في المغصوب.

و إن علم السيّد، فأقسامه ثلاثة:

أحدها: أن يأخذه من يده.

و ينبغي أن يُقدَّم عليه مقدّمة هي: إنّ الحاكم لو أخذ المغصوب من الغاصب ليحفظه للمالك هل يبرأ الغاصب من الضمان ؟ فيه للشافعيّة وجهان، ظاهر القياس منهما البراءة؛ لأنّ يد الحاكم نائبة عن يد المالك.

فإن قلنا: لا يبرأ، فللقاضي أخذها منه.

و إن قلنا: يبرأ، فإن كان المال عرضةً للضياع و الغاصب بحيث لا يبعد أن يفلس أو يغيب وجهه، فكذلك، و إلّا فوجهان:

أحدهما: إنّه لا يأخذ، فإنّه أنفع للمالك.

و الثاني: يأخذ؛ نظراً لهما جميعاً(3).

و ليس لآحاد الناس أخذ المغصوب إذا لم يكن في معرض الضياع،6.

ص: 185


1- العزيز شرح الوجيز 345:6-346، روضة الطالبين 457:4.
2- التهذيب - للبغوي - 560:4، البيان 472:7، العزيز شرح الوجيز 343:6، روضة الطالبين 455:4.
3- العزيز شرح الوجيز 343:6-344، روضة الطالبين 455:4-456.

و لا الغاصب بحيث تفوت مطالبته ظاهراً.

و إن كان كذلك، فوجهان:

أظهرهما عندهم: المنع؛ لأنّ القاضي هو النائب عن الناس، و لأنّ فيه ما يؤدّي إلى الفتنة و شهر السلاح.

و الثاني: الجواز احتساباً و نهياً عن المنكر.

فعلى الأوّل لو أخذ ضمن، و كان كالغاصب من الغاصب.

و على الثاني لا يضمن، و براءة الغاصب على الخلاف السابق، و أولى بأن لا يبرأ(1).

و فصّل قومٌ بين أن يكون هناك قاضٍ يمكن رفع الأمر إليه فلا يجوز، و بين أن لا يكون فيجوز(2).

إذا عرفتَ ذلك، فقد قال أكثر الشافعيّة: إذا أخذ السيّد اللّقطة من العبد صار هو الملتقط؛ لأنّ يد العبد إذا لم تكن يدَ التقاطٍ كان الحاصل في يده ضائعاً بَعْدُ، و يسقط الضمان عن العبد؛ لوصوله إلى نائب المالك، فإن كان أهلاً للالتقاط كان نائباً عنه(3).

و بمثله أجابوا فيما لو أخذه أجنبيٌّ، إلّا أنّ بعضهم جعل أخذ الأجنبيّ على الخلاف فيما لو تعلّق صيدٌ بشبكة إنسانٍ فجاء غيره و أخذه(4).

و استبعد الجويني قولَهم: «إنّ أخذ السيّد التقاطٌ» لأنّ العبد ضامن بالأخذ، و لو كان أخذ السيّد التقاطاً لسقط الضمان عنه، فيتضرّر به المالك(5).

و قال بعضهم: إنّ السيّد ينتزعه من يده، و يسلّمه إلى الحاكم ليحفظه

ص: 186


1- العزيز شرح الوجيز 344:6، روضة الطالبين 456:4.
2- العزيز شرح الوجيز 344:6، روضة الطالبين 456:4.
3- العزيز شرح الوجيز 344:6، روضة الطالبين 456:4.
4- العزيز شرح الوجيز 344:6، روضة الطالبين 456:4.
5- العزيز شرح الوجيز 344:6، روضة الطالبين 456:4.

للمالك أبداً(1).

و أمّا الجويني فإنّه قال: إذا قلنا: إنّه ليس بالتقاطٍ فأراد أخْذَه بنفسه و حِفْظه لمالكه، ففيه وجهان مرتَّبان على أخذ الآحاد المغصوبَ للحفظ، و أولى بعدم الجواز؛ لأنّ السيّد ساعٍ لنفسه غير محتسبٍ، ثمّ يترتّب على جواز الأخذ حصول البراءة، كما قدّمناه.

و إن استدعى من الحاكم انتزاعه، فهذه الصورة أولى بأن يزيل الحاكم فيها اليد العادية، و إذا أزال فأولى بأن تحصل البراءة؛ لتعلّق غرض السيّد بالبراءة و كونه غير منسوبٍ إلى العدوان حتى يغلظ عليه(2).

الثاني: أن يُقرّه في يده و يستحفظه عليه ليعرّفه.

فإن كان العبد أميناً جاز، كما لو استعان به في تعريف ما التقطه بنفسه.

و الأقرب عندهم: عدم سقوط الضمان، و قياس كلام جمهورهم سقوطه(1).

و إن لم يكن أميناً فالمولى متعدٍّ بإقراره عليه، و كأنّه أخذه منه و ردّه إليه.

الثالث: أن يُهمله، فلا يأخذه و لا يُقرّه، بل يعرض عنه، فللشافعي قولان:

ففي رواية المزني: إنّ الضمان يتعلّق برقبة العبد كما كان، و لا يُطالَب به السيّد في سائر أمواله؛ لأنّه لا تعدّي منه، و لا أثر لعلمه، كما لو رأى عبده يُتلف مالاً فلم يمنعه منه.7.

ص: 187


1- العزيز شرح الوجيز 344:6-345، روضة الطالبين 456:4-457.

و في رواية الربيع: تعلّقه بالعبد و بجميع أموال السيّد؛ لأنّه متعدٍّ بتركه في يد العبد(1).

ثمّ اختلفوا فيهما على أربعة طُرقٍ:

قال الأكثر: المسألة على قولين، أظهرهما: تعلّقه بالعبد و بسائر أموال السيّد، حتى لو هلك العبد لا يسقط الضمان، و لو أفلس السيّد قُدّم صاحب اللّقطة في العبد على سائر الغرماء. و مَنْ قال به لم يُسلّم عدمَ وجوب الضمان فيما إذا رأى عبده يُتلف مالاً فلم يمنعه.

و بعضهم حَمَل منقولَ المزني على ما إذا كان العبد مميّزاً، و حَمَل منقول الربيع على ما إذا كان غير مميّزٍ.

و قطع بعضهم بما رواه المزني، و بعضهم بما رواه الربيع، و غلّطوا المزني في النقل، و استشهدوا بأنّه روى في الجامع الكبير كما رواه الربيع، فأشعر بغفلته هنا عن آخر الكلام(2).

و هذا كلّه ساقط عندنا حيث قلنا: إنّ للعبد الالتقاط.

مسألة 316: إذا التقط العبد و لم يأمره السيّد به و لا نهاه عنه، صحّ التقاطه.

ثمّ لا يخلو إمّا أن يعلم السيّد بالالتقاط أو لا يعلم.

فإن لم يعلم، فالمال أمانة في يد العبد.

فإن أعرض عن التعريف، ضمن، و هو أحد وجهي الشافعيّة،

ص: 188


1- المهذّب - للشيرازي - 440:1، حلية العلماء 543:5، التهذيب - للبغوي - 560:4، البيان 472:7، العزيز شرح الوجيز 345:6، روضة الطالبين 457:4.
2- المهذّب - للشيرازي - 440:1، حلية العلماء 544:5، البيان 472:7، العزيز شرح الوجيز 345:6، روضة الطالبين 457:4.

كالحُرّ؛ فإنّ فيه وجهين لهم لو أعرض عن التعريف(1).

و لو أتلفه العبد بعد مدّة التعريف أو تملّكه لنفسه فهلك عنده، تعلّق المال بذمّة العبد، كما لو استقرض قرضاً فاسداً و استهلكه، و هو أحد وجهي الشافعيّة.

و الثاني: إنّه يتعلّق برقبته، كما لو غصب شيئاً فتلف عنده، و ليس كالقرض، فإنّ صاحب المال سلّمه إليه(2).

و الحكم في الأصل عندنا ممنوع.

و لو أتلفه في المدّة، تعلّق بذمّته عندنا يُتبع به بعد العتق.

و أكثر الشافعيّة قالوا: يتعلّق برقبته(3).

و كذا لو تلف بتقصيرٍ منه عندنا، و يتعلّق بذمّته.

و عندهم يتعلّق برقبته، و فرّقوا بينه و بين الإتلاف بعد المدّة - حيث كان على الخلاف السابق - بأنّ الإتلاف في السنة خيانة محضة؛ لأنّه لم يدخل وقت التملّك، و أمّا بعدها فالوقت وقت الارتفاق و الإنفاق، فاستهلاك العبد يشابه استقراضاً فاسداً(4).

و حكى بعض الشافعيّة أنّ المسألة على قولين:

أحدهما: التعلّق بالرقبة.

و الثاني: التعلّق بالذمّة؛ لأنّا إذا جوّزنا له الالتقاط فكان المال قد حصل في يده برضا صاحبه، و حينئذٍ فالإتلاف لا يقتضي إلّا التعلّق بالذمّة، كما لو أُودع العبد مالاً فأتلفه، يكون الضمان في ذمّته(5).

و لمانعٍ أن يمنع ذلك؛ لأنّ الضمان في الوديعة أيضاً يتعلّق برقبته عند4.

ص: 189


1- العزيز شرح الوجيز 346:6، روضة الطالبين 457:4. (2-5) العزيز شرح الوجيز 346:6، روضة الطالبين 458:4.

بعض الشافعيّة(1).

و أمّا عندنا فيتعلّق بذمّته أيضاً.

و إن علم به السيّد، فله انتزاعها من يده، كالأموال التي يكتسبها العبد؛ فإنّ اللّقطة نوعٌ منها، ثمّ يصير السيّد كالملتقط بنفسه إن شاء حفظها على مالكها، و إن شاء عرّفها و تملّكها، و لو كان العبد قد عرّف بعضَ الحول احتسب به و أكمل الحول.

و إن أقرّه في يد العبد، فإن كان خائناً ضمن بإبقائه في يده عند الشافعيّة(2).

و الأقوى ذلك إن كان قد قبضه المولى ثمّ دفعه إليه، و إلّا فلا.

و لو كان أميناً، لم يضمن، سواء قبضها ثمّ دفعها إليه، أو أقرّها في يده من غير قبضٍ.

و لو تلف المال في يد العبد في مدّة التعريف، فلا ضمان.

و إن تلف بعدها، فإن أذن السيّد في التملّك و جرى التملّكُ ضمن.

و إن لم يَجْر التملّك بَعْدُ، فالأقوى: تعلّق الضمان بالسيّد؛ لأنّه أذن في سبب الضمان، فأشبه ما لو أذن له في أن يسوم شيئاً فأخذه و تلف في يده، و هو أظهر وجهي الشافعيّة.

و الثاني: إنّه لا يضمن، كما لو أذن له في الغصب فغصب(3).

فإن قلنا بالثاني، تعلّق الضمان برقبة العبد عندهم(4).

و إن قلنا بالأوّل، تعلّق بذمّة العبد يتبع به بعد العتق، كما أنّ السيّد مطالب به.4.

ص: 190


1- العزيز شرح الوجيز 346:6. (2-4) العزيز شرح الوجيز 346:6، روضة الطالبين 458:4.

و إن كان السيّد لم يأذن له في التملّك، تعلّق الضمان بذمّة العبد - و هو أظهر وجهي الشافعيّة(1) - لأنّه دَيْنٌ لزم لا برضا مستحقّه، و لا يتعلّق الضمان بالسيّد بحالٍ؛ لعدم الإذن.

و الثاني للشافعيّة: إنّه يتعلّق برقبته(2).

و لو أتلفه العبد بعد المدّة، تعلّق بذمّته.

و للشافعيّة قولان(3).

و هل يثبت الفرق بين أن يقصد العبد الالتقاط لنفسه أو لسيّده ؟ الأقرب: انتفاء الفرق؛ فإنّ كلّ واحدٍ منهما يقع الالتقاط فيه(1) للسيّد.

و اختلفت الشافعيّة.

فقال بعضهم: إنّ القولين في المسألة مفروضان فيما إذا نوى بالالتقاط نفسَه، فأمّا إذا نوى سيّدَه فيحتمل أن يطّرد القولان، و يحتمل القطع بالصحّة(2).

و عكس بعضهم، فقال: القولان فيما إذا التقط ليدفعها إلى سيّده، فأمّا إذا قصد نفسَه فليس له الالتقاط قولاً واحداً، بل هو متعدٍّ بالأخذ(3).

مسألة 317: قد بيّنّا أنّه يجوز التقاط العبد.

و للشافعي قولٌ آخَر: إنّه لا يجوز، فإذا التقطها ضمنها في رقبته عنده، سواء أتلفها، أو تلفت في يده بتفريطٍ أو بغير تفريطٍ؛ لأنّه أخذ مال غيره على وجه التعدّي، و سواء كان قبل الحول أو بعده؛ لأنّ تعريفه

ص: 191


1- في «ج»: «منه» بدل «فيه».
2- العزيز شرح الوجيز 347:6، روضة الطالبين 458:4-459.
3- العزيز شرح الوجيز 347:6، روضة الطالبين 459:4.

لا يصحّ، لأنّه ليس من أهل الالتقاط عنده(1).

فإن علم به سيّده، فإن انتزعها من يده كان له ذلك، و سقط عن العبد الضمان، و كانت أمانةً في يد السيّد؛ لأنّه يأخذها على سبيل الالتقاط.

و هذا بخلاف ما لو غصب العبد شيئاً فأخذه سيّده منه، فإنّه لا يزول عن العبد الضمان؛ للفرق بينهما، فإنّ السيّد لا ينوب عن المغصوب منه، فلا يزول الضمان بأخذه، و هنا ينوب عن صاحبها، و له حفظها عليه.

و ينبغي أن يكون لو أخذها من العبد غيرُ سيّده من الأحرار جاز، و زال الضمان عنه؛ لأنّ كلّ مَنْ هو مِنْ أهل الالتقاط نائب عن صاحبها.

إذا ثبت هذا، فإن أخذها سيّده كان كما لو ابتدأ التقاطها إن شاء حفظها لصاحبها، و إن شاء تملّكها بعد التعريف، و لا يعتدّ بتعريف العبد عنده(2).

و إن أقرّها في يد العبد، ضمن إن لم يكن أميناً، و إلّا فلا.

فإذا قلنا: لا ضمان على المولى، تعلّق الضمان برقبة العبد خاصّةً، فإن تلف سقط الضمان.

و إن قلنا: يضمن السيّد، تعلّق الضمان بمحلّين: رقبة العبد، و ذمّة السيّد.

فإن أفلس السيّد، كان صاحب اللّقطة أحقَّ باستيفاء عوضها من العبد؛ لأنّ حقّه تعلّق برقبته عنده(3).8.

ص: 192


1- التهذيب - للبغوي - 560:4، البيان 470:7، العزيز شرح الوجيز 343:6، روضة الطالبين 455:4.
2- راجع: الهامش (2) من ص 185.
3- راجع: الهامش (1) من ص 188.

و إن مات العبد، تعلّق بذمّة سيّده يدفعه من سائر أمواله.

مسألة 318: إذا التقط العبد لقطةً ثمّ أعتقه السيّد قبل علمه باللّقطة، أو بعد علمه و قبل أن يأخذها منه، كان السيّد أحقَّ بأخذها من يده؛
اشارة

لأنّ التقاط العبد قد صحّ، و كان كسباً له، و ما كسبه العبد قبل عتقه يكون للسيّد، فيُعرّفها السيّد و يتملّكها، فإن كان العبد قد عرّف، اعتدّ به، و هذا ظاهر مذهب الشافعي(1).

و عن بعض الشافعيّة وجهان في أنّ السيّد أحقّ بها؛ اعتباراً بوقت الالتقاط، أو العبد؛ اعتباراً بوقت الملك ؟ و شبّهه بما إذا أُعتقت الأمة تحت عبدٍ و لم تفسخ حتى تحرّر العبد(2).

و على القول الثاني للشافعي من منع التقاط العبد للشافعيّة قولان، أحدهما: إنّه ليس للسيّد أخذها من يد العبد؛ لأنّه قبل أن يعتق لم يتعلّق بها حقُّ السيّد؛ لكون العبد متعدّياً، و قد زالت ولايته بالعتق، فإذا أُعتق صار كأنّه اكتسبها بعد عتقه، و صار كأنّه التقطها بعد حُرّيّته، فلم يكن للسيّد فيها حقٌّ(3).

و هل للعبد تملّكها؟ الوجه ذلك، و يجعل كأنّه التقطه بعد الحُرّيّة، و هو أظهر وجهي الشافعيّة، و الثاني: المنع؛ لأنّه لم يكن أهلاً للأخذ، فعليه تسليمها إلى الإمام(4).

ص: 193


1- المهذّب - للشيرازي - 440:1، حلية العلماء 544:5، التهذيب - للبغوي - 561:4، البيان 473:7، العزيز شرح الوجيز 348:6، روضة الطالبين 459:4.
2- العزيز شرح الوجيز 348:6، روضة الطالبين 459:4.
3- المهذّب - للشيرازي - 440:1، التهذيب - للبغوي - 561:4، العزيز شرح الوجيز 348:6، روضة الطالبين 459:4.
4- المهذّب - للشيرازي - 440:1، التهذيب - للبغوي - 561:4-562، البيان 473:7، العزيز شرح الوجيز 348:6، روضة الطالبين 459:4.
تذنيب: للعبد أخذ لقطة الحرم،

كما له أخذ لقطة الحِلّ، و لا يجوز له التملّك لا له و لا لسيّده على ما يأتي(1) ، و المدبَّر و أُمّ الولد كالقِنّ، و لا نعلم فيه خلافاً.

مسألة 319: المكاتَب إن كان مشروطاً فكالقِنّ، يجوز له الالتقاط، لكن ليس للمولى انتزاعها من يده؛

لأنّها كسب له إذا لم يكن لقطة الحرم.

نعم، لو عجز فاستُرقّ كان للمولى انتزاعها من يده، كالقِنّ.

و للشافعيّة في المكاتَب طريقان مبنيّان على اختلاف قولَي الشافعي، فإنّه قال في الأُم: المكاتَب كالحُرّ(2) ، و قال في موضعٍ آخَر: إنّه كالعبد(3).

و اختلف أصحابه:

فقال بعضهم: إنّ المكاتَب كالحُرّ قولاً واحداً، و قطع بصحّة التقاطه؛ لأنّه مستقلّ بالتملّك و التصرّف كالحُرّ، و له ذمّة يمكن استيفاء الحقوق منها، ثمّ تأوّلوا قوله: «كالعبد» بأنّه أراد به إذا كانت الكتابة فاسدةً(4).

و قال بعضهم: فيه قولان:

أحدهما: إنّه كالحُرّ؛ لأنّه ماله، كذا قال الشافعي في الأُم(5) ، و نقل المزني أنّ ماله يسلم له(6)، و الأوّل أولى؛ لأنّ المال في الحال له، و قد يسلم له بتمام الكتابة، و قد لا يسلم بفسخها.

و الثاني: إنّه كالعبد، و في التقاطه قولان؛ لتعارض معنى الولاية و الاكتساب، فإنّ الملك موجود في العبد، و هو ينافي الولاية، و لهذا

ص: 194


1- في ص 245، المسألة 354، و ص 251، المسألة 356.
2- الأُم 68:4، مختصر المزني: 136.
3- قاله في الإملاء على ما في الحاوي الكبير 21:8.
4- الحاوي الكبير 21:8، المهذّب - للشيرازي - 440:1، حلية العلماء 544:5 و 545، التهذيب - للبغوي - 562:4، العزيز شرح الوجيز 348:6. (5 و 6) راجع: الهامش (2).

لا تصحّ الوصيّة إليه، فجرى مجرى العبد(1).

و للشافعيّة هنا أُمور غريبة.

أ: عن ابن القطّان رواية قاطعة بالمنع من التقاط المكاتَب، بخلاف القِنّ؛ لأنّ سيّده ينتزعه من يده، و أمّا المكاتَب فقد انقطعت ولاية السيّد عنه على نقصانه(2).

ب: حكى القاضي ابن كج خلافاً في أنّ الخلاف المذكور في المكاتَب سواء صحّت الكتابة أو فسدت، أو في المكاتَب كتابةً صحيحةً؟ و أمّا المكاتَب كتابةً فاسدةً فهو كالقِنّ لا محالة، و الصحيح عندهم: الثاني(3).

ج: نقل الجويني عن تفريع العراقيّين على القطع بالصحّة أنّ في إبقاء اللّقطة في يده قولين على قياس ما مرّ في الفاسق، و كتبهم ساكتة عن ذلك، إلّا ما شاء اللّه(2).

و نحن قد قلنا: إن التقاط المكاتَب صحيح، فحينئذٍ يُعرّف اللّقطة و يتملّكها إن شاء، و بدلها في كسبه، و ليس للمالك(3) انتزاعها من يده، و هو قول الشافعي(6) على تقدير قوله بصحّة التقاطه.

و هل يُقدَّم صاحب اللّقطة بها على الغرماء؟ الأقرب عندي ذلك.

و للشافعيّة وجهان(7).

و على القول للشافعي بأنّ المكاتَب كالحُرّ لا بحث، و بأنّه كالعبد إن قلنا: إنّه لا يصحّ التقاط العبد لا يصحّ التقاط المكاتَب، و يكون متعدّياً4.

ص: 195


1- الحاوي الكبير 21:8، الوسيط 287:4، البيان 473:7، العزيز شرح الوجيز 348:6. (2 و 3) العزيز شرح الوجيز 348:6.
2- العزيز شرح الوجيز 348:6-349، روضة الطالبين 460:4.
3- أي: المولى. (6 و 7) العزيز شرح الوجيز 349:6، روضة الطالبين 460:4.

بأخذها، و عليه ضمانها، و ليس للسيّد انتزاعها من يده؛ لانتفاء ولاية السيّد عن المكاتَب، و إنّما يسلّمها إلى الحاكم ليُعرّفها، فإذا مضى الحول تملّكها المكاتَب؛ لأنّه من أهل التملّك، هكذا قال بعض الشافعيّة(1).

و ليس بجيّدٍ؛ لأنّه إذا فسد الالتقاط لم يجز له الالتقاط، فلا يملكها بالحول و التعريف، و إنّه إذا أخذها من يده مَنْ هو من أهل الالتقاط و إن كان أجنبيّاً يكون ملتقطاً، و لم يعتبروا الولاية، و ليس السيّد في حقّ المكاتَب بأدنى حالاً من الأجنبيّ في القِنّ أن يجوز ذلك، و برئ من ضمانها كما قلنا في العبد إذا أخذها سيّده منه.

لا يقال: للسيّد يدٌ على العبد و على ما في يده، دون المكاتَب.

لأنّا نقول: إنّما له ذلك فيما هو كسب للعبد و يُقرّ يده عليه، و أمّا هذه اللّقطة فلا يُقرّ يد العبد عليها، و لا له فيها كسب.

و قال بعض الشافعيّة: إنّه يسلّمها إلى الحاكم ليحفظها، و لا يعرّفها(2).

و الكلّ عندنا غلط.

مسألة 320: لو التقط المكاتَب، صحّ عندنا، فإذا اشتغل بالتعريف فأُعتق، أتمّ التعريف و تملّك.

و إن عاد إلى الرقّ قبل تمام التعريف، كان حكمه حكمَ القِنّ، للمولى انتزاعها من يده و تقرير يده عليها.

و قال بعض الشافعيّة: يأخذها القاضي و يحفظها للمالك، و إنّه ليس للسيّد أخذها و تملّكها؛ لأنّ التقاط المكاتَب لا يقع للسيّد ابتداءً فلا ينصرف

ص: 196


1- المهذّب - للشيرازي - 440:1، التهذيب - للبغوي - 562:4، البيان 474:7، العزيز شرح الوجيز 349:6، روضة الطالبين 460:4.
2- حلية العلماء 545:5.

إليه انتهاءً(1).

و ليس بجيّدٍ؛ لأنّ الالتقاط اكتسابٌ، و اكتساب المكاتَب عند عجزه للسيّد.

و لو مات المكاتَب أو العبد قبل التعريف، وجب أن يجوز للسيّد التعريف و التملّك، كما أنّ الحُرّ إذا التقط و مات قبل التعريف، يُعرّف الوارث و يتملّك.

مسألة 321: مَنْ نصفه حُرٌّ و نصفه رقيقٌ يصحّ التقاطه؛

لأنّ القِنّ عندنا يجوز التقاطه، فالمعتق بعضه أولى.

و قال الشافعي: إنّه كالمكاتَب(2).

و للشافعيّة طريقان:

منهم مَنْ قال: يصحّ التقاطه قولاً واحداً؛ لاستقلاله بالملك و التصرّف و قوّة ذمّته(3).

و منهم مَنْ قال: فيه قولان، كالعبد(4).

و قال بعضهم بالتفصيل، و هو: إنّه يصحّ التقاطه بقدر الحُرّيّة قولاً واحداً، و الطريقان إنّما هُما في نصيب الرقّيّة(5).

فعلى القول بمنع الالتقاط يكون متعدّياً بالأخذ، ضامناً بقدر الحُرّيّة في ذمّته يؤخذ منه إن كان له مال، و بقدر الرقّ في رقبته، بناءً على أنّ إتلافه متعلّق برقبته(6).

و عندنا أنّه متعلّق بذمّته أيضاً يُتبع به بعد العتق لو تعدّى في اللّقطة،

ص: 197


1- التهذيب - للبغوي - 562:4، العزيز شرح الوجيز 349:6، روضة الطالبين 460:4.
2- العزيز شرح الوجيز 349:6. (3 و 4) المهذّب - للشيرازي - 440:1، حلية العلماء 546:5، البيان 474:7، العزيز شرح الوجيز 349:6، روضة الطالبين 461:4. (5 و 6) العزيز شرح الوجيز 349:6، روضة الطالبين 461:4.

و لا يؤخذ نصيب الرقّيّة من نصيب الحُرّيّة.

و ذكر بعض الشافعيّة وجهين في أنّه ينتزع منه، أو يبقى في يده و يُضمّ إليه مُشرف ؟ و الظاهر عندهم: الانتزاع(1).

ثمّ بعد الانتزاع وجهان في أنّه يُسلّم إلى السيّد، أو يحفظه الحاكم إلى ظهور مالكه ؟ و الأظهر عندهم: الثاني(2).

فإن سلّم إلى السيّد، قال بعضهم: إنّ السيّد يُعرّفه و يتملّكه(3).

و قال بعضهم: يكون بينهما بحسب الرقّ و الحُرّيّة، و يصيران كشخصين التقطا مالاً(4).

و قال بعضهم: بل يختصّ السيّد بها؛ إلحاقاً للقطته بلقطة القِنّ(5).

مسألة 322: مَنْ نصفه حُرٌّ و نصفه عبدٌ يصحّ التقاطه على ما تقدّم،

و هو أحد قولَي الشافعي(2).

ثمّ لا يخلو إمّا أن يكون بينه و بين سيّده مهايأة، أو لا.

فإن لم يكن هناك مهايأة، كان ما يكتسبه بينهما على النسبة، و من جملته الالتقاط.

و إن كان بينهما مهايأة، فاللّقطة من الاكتسابات النادرة، فعندنا أنّها تدخل في المهايأة - و هو أحد قولَي الشافعي - لأنّ هذا كسب، فكان حكمه حكمَ سائر الاكتسابات.

و الثاني: لا تدخل؛ لأنّ الالتقاط نادر غير معلوم الوجود و لا مظنونه،

ص: 198


1- العزيز شرح الوجيز 349:6-350، روضة الطالبين 461:4. (2-5) العزيز شرح الوجيز 350:6، روضة الطالبين 461:4.
2- المهذّب - للشيرازي - 440:1، الوسيط 287:4، حلية العلماء 546:5، البيان 474:7.

فلا تدخل تحت المهايأة(1).

و المعتمد ما قلناه.

فعلى ما اخترناه إن وقعت اللّقطة في نوبة المولى كانت للمولى، و إن وقعت في نوبة العبد كانت له، و أيّهما وقعت له فإنّه يُعرّفها و يتملّكها.

و الاعتبار بيوم الالتقاط؛ لأنّه وقت حصول الكسب، لا بوقت الملك، و هو قول أكثر الشافعيّة(2).

و لهم وجهٌ آخَر، و هو: اعتبار وقت التملّك(3).

و لو وقع الالتقاط في نوبة أحدهما و انقضاء مدّة التعريف في نوبة الآخَر، فعندنا الحكم بنوبة الالتقاط.

و عند مَن اعتبر التملّك ألحقه به، و على القول بعدم دخول النادر في المهايأة يكون الحكم فيه كما لو لم يكن بينهما مهايأة(2).

مسألة 323: قد بيّنّا أنّ المدبَّر و المعتق بصفةٍ

مسألة 323: قد بيّنّا أنّ المدبَّر و المعتق بصفةٍ(3) عند مَنْ جوّزه و أُمّ الولد حكمهم حكم القِنّ يصحّ التقاطهم عندنا

- و للشافعي قولان(4) - كالقِنّ أيضاً، إلّا أنّ أُمّ الولد إذا التقطت فأتلفت اللّقطة أو تلفت في يدها يكون حكمها عندنا حكمَ القِنّ من أنّها تُتبع بعد العتق.

ص: 199


1- الحاوي الكبير 22:8، المهذّب - للشيرازي - 440:1، الوسيط 288:4، حلية العلماء 546:5، التهذيب - للبغوي - 562:4-563، البيان 474:7، العزيز شرح الوجيز 350:6، روضة الطالبين 461:4-462. (2 و 3) الوسيط 288:4، العزيز شرح الوجيز 350:6، روضة الطالبين 462:4.
2- المهذّب - للشيرازي - 440:1، التهذيب - للبغوي - 563:4، العزيز شرح الوجيز 350:6، روضة الطالبين 462:4.
3- في النُّسَخ الخطّيّة و الحجريّة بدل «بصفة»: «نصفه». و هو تصحيف.
4- البيان 475:7، التهذيب - للبغوي - 562:4، العزيز شرح الوجيز 350:6، روضة الطالبين 462:4.

و أمّا عند الشافعي على تقدير صحّة التقاطها يتعلّق الضمان بذمّة سيّدها دون رقبتها؛ لأنّه لا يجوز بيعها، و إنّما منع السيّد بالإحبال من بيعها، فضمن عنها.

و هذا مبنيٌّ على أصله من أنّ الضمان في القِنّ يتعلّق برقبته دون ذمّته، أمّا هنا فلا يمكن بيعها، فلزم الضمان مولاها، سواء علم بالتقاطها أو لم يعلم؛ لأنّ جناية أُمّ الولد على سيّدها(1).

هذا هو المشهور عند الشافعيّة.

و قال الشافعي في الأُم: ليس للعبد أن يلتقط؛ لأنّ أخذه اللّقطة غرر، و كذلك المدبَّر و أُمّ الولد، و إن علم بها سيّدها فالضمان في ذمّته، و إن لم يعلم بها فالضمان في ذمّتها(2).

و هذا مخالف لما ذكره الأصحاب(3) ، فمنهم مَنْ نسب ذلك إلى سهو الكاتب(4) ، و قال بعضهم: يكون هذا على القول الذي يقول: لها أن تلتقط(5).

و هذا لا وجه له؛ لأنّه لا نصّ في هذا الكلام على أنّه ليس للعبد الالتقاط.

و تأوّله بعضهم بأنّه يكون قد التقطت لسيّدها لا لنفسها، قال: و يجوز7.

ص: 200


1- البيان 475:7، التهذيب - للبغوي - 562:4، العزيز شرح الوجيز 350:6، روضة الطالبين 462:4.
2- الأُم 68:4، و راجع: البيان 475:7، و العزيز شرح الوجيز 350:6، و روضة الطالبين 462:4.
3- أي: الأصحاب من الشافعيّة.
4- العزيز شرح الوجيز 350:6، روضة الطالبين 462:4.
5- البيان 475:7.

ذلك، فإذا لم تدفعه إلى سيّدها ضمنته في ذمّتها، كالقرض الفاسد، قال هذا القائل: و كذا العبد القِنّ إذا التقط لسيّده(1).

مسألة 324: لو التقط الصبي أو المجنون أو السفيه، فإن كان من الحرم أخذها الوليُّ منهم؛

لأنّ هذه اللّقطة مجرّد أمانةٍ، و لا يجوز تملّكها، و مَنْ ليس يملك(2) لا يصحّ استئمانه، فيجب على الوليّ انتزاعها من يده و احتفاظها لصاحبها.

و إن كانت لقطة غير الحرم، صحّ التقاطهم؛ لأنّهم من أهل التكسّب، و يصحّ منهم الاحتطاب و الاحتشاش و الاصطياد - و هو أصحّ قولَي الشافعيّة(3) - فإذا أخذ أحدهم اللّقطة، تثبت يده عليها.

فإن لم يعرف الوليُّ بالتقاطه و أتلفه الصبي، ضمن، و إن تلف في يده بغير تفريطٍ منه، لم يضمن؛ لأنّه أخذ ما لَه أخذه، فلا يكون عليه ضمان، كما لو أُودع مالاً فتلف عنده.

و إن علم الوليُّ، لزمه أخذها منه؛ لأنّه ليس من أهل الحفظ و الأمانة، فإن تركها في يد الصبي ضمنها الوليُّ؛ لأنّه يجب عليه حفظ ما يتعلّق بالصبي من أمواله و تعلّقاته و حقوقه، و هذا قد تعلّق به حقّه، فإذا تركها في يده صار مضيّعاً لها فضمنها، و إذا أخذها الوليُّ عرّفها؛ لأنّ الصبي و المجنون ليسا من أهل التعريف، و به قال الشافعي(4).

و عنه قولٌ آخَر: إنّ الوليّ إذا لم يعلم باللّقطة و تلفت في يد الصبي من غير تفريطٍ من الصبي، كان الصبي ضامناً لها أيضاً؛ لأنّه و إن كان أهلاً

ص: 201


1- لم نعثر عليه في مظانّه.
2- في النُّسَخ الخطّيّة: «و مَنْ ليس له تملّك». (3 و 4) العزيز شرح الوجيز 351:6، روضة الطالبين 462:4.

للالتقاط فلا يُقرّ المال في يده، و لا يُجعل أهلاً للأمانة، بخلاف الوديعة؛ لأنّ مالك الوديعة سلّطه عليه(1).

و نحن نقول: تسليط الشرع يُغني عن تسليط المالك.

مسألة 325: إذا انتزع وليّ الطفل أو المجنون اللّقطة منهما و عرّفها حولاً، اعتمد المصلحة.

فإن رأى المصلحة في تمليك الصبي إيّاها و تضمينه لها، فَعَل ذلك، كما يجوز له أن يقترض عليه؛ لأنّ تملّك اللّقطة استقراض.

و حينئذٍ اختلفت الشافعيّة:

فقال بعضهم: إذا اقتضت المصلحة تمليك الصبي ملّكه حيث يجوز له الاستقراض، و لا يجوز حيث لا يجوز له الاستقراض(2).

و قال بعضهم: يجوز أن يتملّك و إن كان ممّن لا يجوز عليه الاستقراض؛ لاستغنائه عنه؛ لأنّ الظاهر عدم صاحبه؛ لأنّا نلحقه على هذا القول بالاكتساب(3).

و هو المعتمد عندي؛ لأنّه لو جرى مجرى الاقتراض في ذلك لم يصح الالتقاط من الصبي و المجنون، فلهذا جعلناه بمنزلة الاكتساب.

و إن رأى أنّ المصلحة للطفل و المجنون في عدم التمليك، احتفظها الوليُّ أمانةً، أو سلّمها إلى القاضي.

و لو احتاج التعريف إلى مئونةٍ، لم يصرف مال الصبي إليه، بل يرفع الأمر إلى الحاكم ليبيع جزءاً من اللّقطة لمئونة التعريف.

ص: 202


1- العزيز شرح الوجيز 351:6، روضة الطالبين 462:4. (2 و 3) البيان 476:7، العزيز شرح الوجيز 351:6، روضة الطالبين 462:4، المغني 386:6، الشرح الكبير 399:6.

و لو تلفت اللّقطة في يد الصبي قبل الانتزاع من غير تقصيرٍ، فلا ضمان على الصبي.

و إن كان الوليُّ قصّر بتركها في يده حتى تلفت أو أتلفها، فعليه الضمان، كما لو احتطب الصبي و تركه الوليُّ في يده حتى تلف أو أتلفه، يجب الضمان على الوليّ؛ لأنّ عليه حفظَ الصبي عن مثله، ثمّ يعرّف التالف، و بعد التعريف يتملّك الصبي إن كان النظر له فيه.

و للشافعي قولٌ آخَر: إنّه لا يصحّ من الصبي و المجنون الالتقاط، فلو التقط و تلفت اللّقطة في يده أو أتلفها، وجب الضمان في ماله، و ليس للوليّ أن يُقرّها في يده، بل يسعى في انتزاعها، فإن أمكنه رَفْعُ الأمر إلى القاضي فَعَل، فإذا انتزع القاضي ففي براءة الصبي عن الضمان للشافعيّة وجهان، كالخلاف في انتزاع القاضي للمغصوب من الغاصب، و أولى بحصول البراءة؛ نظراً للطفل، و إن لم يمكنه رَفْعُ الأمر إلى القاضي، أخذه بنفسه، و في براءة الصبي عن الضمان للشافعيّة قولان، كالخلاف في براءة الغاصب بأخذ الآحاد، فإن لم تحصل البراءة، ففائدة الأخذ صون عين المال عن التضييع و الإتلاف(1).

و إذا أخذه الوليّ، فإن أمكنه التسليم إلى القاضي فلم يفعل حتى تلف، قال الشافعي: يكون عليه الضمان، و إن لم يمكنه فقرار الضمان على الصبي، و في كون الوليّ طريقاً وجهان(2).

هذا إذا أخذ الوليُّ لا على قصد الالتقاط، أمّا إذا قصد ابتداء الالتقاط، ففيه له وجهان(1).4.

ص: 203


1- العزيز شرح الوجيز 352:6، روضة الطالبين 464:4.

و كذا الخلاف في الأخذ من العبد على هذا القصد إذا لم يصح التقاطه(1).

و عندي في ذلك نظر، أقربه - بناءً على بطلان التقاط الصبي -: عدم الضمان على الوليّ، و يكون أخذه التقاطاً مبتدأً، و لا حاجة إلى نيّة الالتقاط، كما لو أخذه من الأرض لا بنيّة الالتقاط.

و لو قصّر الوليُّ و ترك المالَ في يده، قال بعض الشافعيّة: لا ضمان عليه؛ بناءً على أنّه لا يصحّ التقاط الصبي؛ لأنّه لم يحصل في يده، و لا حقّ للصبي فيه حتى يلزمه الحفظ له، بخلاف ما إذا قلنا: إنّه يصحّ التقاطه(2).

و خصّص بعض الشافعيّة هذا بما إذا قلنا: إنّ أخذه لا يُبرئ الصبي، أمّا إذا قلنا: إنّه يُبرئه، فعليه الضمان؛ لإلقائه الطفل في ورطة الضمان، و يجوز أن يضمن و إن قلنا: إنّ أخذه لا يُبرئ الصبي؛ لأنّ المال في يد الصبي في معرض الضياع، فمن حقّه أن يصونه(3).

و المجنون و السفيه المحجور عليه كالصبي في الالتقاط، إلّا أنّه يصحّ تعريف السفيه، دون الصبي و المجنون.

الركن الثالث: في المال الملقوط.
اشارة

اللّقطة كلّ مالٍ ضائعٍ أُخذ و لا يد لأحدٍ عليه.

ص: 204


1- العزيز شرح الوجيز 352:6، روضة الطالبين 464:4.
2- العزيز شرح الوجيز 352:6، روضة الطالبين 464:4.
3- العزيز شرح الوجيز 352:6، روضة الطالبين 464:4.

فإن كان في الحرم، لم يجز تملّكه، عند علمائنا أجمع، بل في جواز التقاطها قولان.

و لا خلاف في الكراهة الشاملة للتحريم و التنزيه.

و على القول بالتحريم أو الكراهة لا يجوز التقاطها للتملّك قطعاً عندنا، بل ليحتفظها لصاحبها دائماً، و يعرّفها حولاً، و يتصدّق بها بعد الحول عن صاحبها.

و في الضمان لعلمائنا قولان مع التصدّق، المشهور: ثبوته؛ لأنّه دفع مال غيره المعصوم إلى غير مالكه، فكان ضامناً له.

و لما رواه عليّ بن أبي حمزة عن العبد الصالح موسى الكاظم عليه السلام، قال: سألته عن رجلٍ وجد ديناراً في الحرم فأخذه، قال: «بئس ما صنع، ما كان ينبغي له أن يأخذه» قال: قلت: ابتلى بذلك، قال: «يُعرّفه» قلت:

فإنّه قد عرّفه فلم يجد له باغياً، فقال: «يرجع إلى بلده فيتصدّق به على أهل بيتٍ من المسلمين، فإن جاء طالبه فهو له ضامن»(1).

و قال بعض علمائنا: لا يضمن إذا تصدّق بها بعد الحول؛ لأنّه امتثل الأمر بالصدقة بها، فلا ضمان عليه(2).

و المشهور: الأوّل.

إذا عرفت هذا، فاعلم أنّ أحمد بن حنبل - في إحدى الروايتين - ذهب إلى ما اخترناه من الفرق بين لقطة الحِلّ و الحرم، فحرّم التقاط لقطة الحرم للتملّك، و إنّما يجوز التقاطها لحفظها لصاحبها، فإن التقطها عرّفها أبداً حتى يأتي صاحبها - و هو أحد قولَي الشافعي - لقول النبيّ صلى الله عليه و آله:

«لا تحلّ ساقطتها إلّا لمُنشدٍ»(3) معناه: لا تحلّ لقطة مكة إلّا لمن يُعرّفها؛2.

ص: 205


1- التهذيب 395:6-1190/396.
2- المفيد في المقنعة: 646، و الطوسي في النهاية: 320، و سلّار في المراسم: 206، و ابن البرّاج في المهذّب 567:2، و ابن حمزة في الوسيلة: 278، و المحقّق الحلّي في شرائع الإسلام 292:3.
3- صحيح البخاري 164:3-165، صحيح مسلم 1355/988:2.

لأنّها خُصّت بهذا من بين سائر البلدان.

و في حديثٍ آخَر: إنّ النبيّ صلى الله عليه و آله نهى عن لقطة الحاج(1).

قال ابن وهب: يعني يتركها حتى يجدها صاحبها(2).

و في روايةٍ أُخرى أنّه قال في مكة: «لا يُنفَّر صيدها، و لا يُعضد شجرها، و لا يُختلى خلاها، و لا تحلّ لقطتها إلّا لمُنشدٍ»(3) يعني لمعرّفٍ(4).

و هذا القول يوافق قول علمائنا من وجهٍ، و يخالفه من وجهٍ آخَر.

أمّا وجه الموافقة: ففي تحريم تملّكها للّاقط.

و أمّا وجه المخالفة: فإنّ أصحابنا جوّزوا الصدقة بها بعد تعريفها حولاً، و في الضمان حينئذٍ خلاف.

و لم يذكر هؤلاء العامّة الصدقةَ.

و القول الثاني للشافعي: إنّه لا فرق بين لقطة الحرم و الحِلّ، بل هُما سواء في الحكم من التعريف حولاً و تملّكها بعده - و رواه العامّة عن ابن عباس و ابن عمر و عائشة و ابن المسيّب، و به قال مالك و أبو حنيفة و أحمد في إحدى الروايتين - لعموم الأحاديث، و لأنّه أحد الحرمين،2.

ص: 206


1- صحيح مسلم 1724/1351:3، سنن أبي داوُد 1719/139:2، سنن البيهقي 199:6، مسند أحمد 15640/558:4، المستدرك - للحاكم - 64:2-65.
2- سنن أبي داوُد 139:2، ذيل ح 1719.
3- صحيح البخاري 164:3، سنن النسائي 211:5.
4- المغني 360:6، الشرح الكبير 385:6، الحاوي الكبير 4:8، المهذّب - للشيرازي - 436:1، حلية العلماء 522:5-523، التهذيب - للبغوي - 552:4، البيان 440:7، العزيز شرح الوجيز 371:6، روضة الطالبين 477:4، الهداية - للمرغيناني - 177:2، بدائع الصنائع 202:6، الإفصاح عن معاني الصحاح 57:2.

فأشبه المدينة، و لأنّها أمانة، فلم يختلف حكمها بالحِلّ و الحرم، كالوديعة(1).

و العمومات قد تُخصّص بالأدلّة، و قد بيّنّاه، و الحرمة في حرم مكة أعظم منه في حرم المدينة، و لهذا حرم فيه أشياء هي مباحة في المدينة، و جاز أن تختلف الأمانة باختلاف المحلّ، فلا يتمّ القياس.

مسألة 326: لقطة غير الحرم إن كانت قليلةً جاز تملّكها في الحال،

و لا يجب تعريفها، و لا نعلم خلافاً بين أهل العلم في إباحة أخذ القليل و الانتفاع به من غير تعريفٍ، و رواه العامّة عن عليٍّ عليه السلام و عن عمر و ابن عمر و عائشة، و به قال عطاء و جابر بن زيد و طاوُوس و النخعي و يحيى بن أبي كثير و مالك و الشافعي و أصحاب الرأي و أحمد بن حنبل(2) و إن اختلفوا في حدّ القليل.

و الأصل فيه: ما روى العامّة عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه لم يُنكر على واجد التمرة حيث أكلها، بل قال له: «لو لم تأتها لأتتك»(3).

و رووا عنه صلى الله عليه و آله أنّه رأى تمرةً فقال: «لو لا إنّي أخشى أن تكوني من

ص: 207


1- الحاوي الكبير 5:8، المهذّب - للشيرازي - 436:1، حلية العلماء 523:5، التهذيب - للبغوي - 553:4، البيان 440:7، العزيز شرح الوجيز 371:6، روضة الطالبين 476:4، المغني 360:6-361، الشرح الكبير 385:6، الهداية - للمرغيناني - 177:2، بدائع الصنائع 202:6، الإفصاح عن معاني الصحاح 57:2.
2- الإشراف على مذاهب أهل العلم 151:2، المغني 351:6، الشرح الكبير 347:6، بداية المجتهد 308:2، البيان 438:7، الاختيار لتعليل المختار 48:3.
3- المغني 351:6، الشرح الكبير 347:6، و في صحيح ابن حبّان - بترتيب ابن بلبان - 3240/33:8، و كتاب السنّة - لابن أبي عاصم -: 265/117 بتفاوتٍ.

تمر الصدقة لأكلتكِ»(1).

و عن جابر قال: رخّص [لنا] رسول اللّه صلى الله عليه و آله في العصا و السوط و الحبل و أشباهه يلتقطه الرجل ينتفع به(2).

و عن عائشة أنّها قالت: لا بأس بما دون الدرهم أن يستنفع به(3).

و عن سويد بن غفلة قال: خرجتُ مع [سلمان بن ربيعة](4) و زيد بن صوحان حتى إذا كُنّا بالعُذَيب التقطتُ سوطاً [فقالا](5) لي: ألقه [فأبيتُ](6) فلمّا قدمنا المدينة أتيتُ أُبيّ بن كعب فذكرتُ ذلك له، فقال: أصبت(7).

و من طريق الخاصّة: ما رواه محمّد بن أبي حمزة عن بعض أصحابنا عن الصادق عليه السلام، قال: سألته عن اللّقطة، قال: «تعرّف سنةً قليلاً كان أو كثيراً» قال: «و ما كان دون الدرهم فلا يُعرّف»(8).

مسألة 327: و قد اختلف في حدّ القليل الذي لا يجب تعريفه، فالذي عليه علماؤنا أنّه ما نقص عن الدرهم،
اشارة

فهذا لا يجب تعريفه، و يجوز تملّكه

ص: 208


1- أورده الطوسي في المبسوط 302:3، و في صحيح البخاري 164:3، و صحيح مسلم 1071/752:2، و سنن البيهقي 195:6 بتفاوتٍ يسير.
2- سنن أبي داوُد 1717/138:2، سنن البيهقي 195:6، المغني 351:6، الشرح الكبير 347:6، و ما بين المعقوفين أثبتناه من المصادر.
3- العزيز شرح الوجيز 366:6.
4- بدل ما بين المعقوفين في النُّسَخ الخطّيّة و الحجريّة: «سعد». و المثبت كما في المصدر.
5- بدل ما بين المعقوفين في النُّسَخ الخطّيّة و الحجريّة: «فقال». و المثبت كما في المصدر.
6- ما بين المعقوفين أثبتناه من المصدر.
7- سنن ابن ماجة 837:2-2506/838، المغني 351:6-352، الشرح الكبير 348:6.
8- الكافي 4/137:5، التهذيب 1162/389:6، الاستبصار 226/68:3.

في الحال عند علمائنا أجمع، و ما زاد على ذلك يجب تعريفه حولاً؛ لحديث محمّد بن أبي حمزة(1).

و في الحسن عن حريز عن الصادق عليه السلام قال: «لا بأس بلقطة العصا و الشظاظ و الوتد و الحبل و العقال و أشباهه» قال: «و قال الباقر عليه السلام: ليس لهذا طالب»(2).

و في الصحيح عن عليّ بن جعفر عن أخيه موسى الكاظم عليه السلام، قال:

سألته عن الرجل يصيب درهماً أو ثوباً أو دابّةً كيف يصنع ؟ قال: «يُعرّفها سنةً، فإن لم يعرف حفظها في عرض ماله حتى يجيء طالبها فيعطيها إيّاه، و إن مات أوصى بها و هو لها ضامن»(3).

و قال الشافعي: حدّ القليل ما لا تتبعه النفس و لا تطلبه، فهذا يجوز الانتفاع به من غير تعريفٍ(4).

و هذا غلط؛ لأنّه غير مضبوطٍ و لا مقدَّر بقدرٍ، و لا يجوز التحديد به، و هو مضطرب مختلف باختلاف النفوس شرفاً و ضعةً و غناءً و فقراً، و مثل ذلك لا يجوز من الشارع أن [يجعله](5) مناطاً للأحكام.

و قال مالك و أبو حنيفة: لا يجب تعريف ما لا يقطع به السارق، و إن اختلفا في القدر الذي يقطع به السارق، فعند مالك ربع دينار، فما نقصه.

ص: 209


1- الكافي 4/137:5، التهذيب 1162/389:6، الاستبصار 226/68:3.
2- الكافي 140:5-15/141، التهذيب 1179/393:6.
3- الفقيه 840/186:3، التهذيب 397:6-1198/398.
4- الحاوي الكبير 16:8، حلية العلماء 528:5، البيان 438:7، العزيز شرح الوجيز 366:6، الإفصاح عن معاني الصحاح 57:2.
5- بدل ما بين المعقوفين في النُّسَخ الخطّيّة و الحجريّة: «يجعلها». و الظاهر ما أثبتناه.

عنه لا يجب تعريفه، و عند أبي حنيفة عشرة دراهم، فما نقص عنه لا يجب تعريفه؛ لأنّ ما دون ذلك تافه، فلا يجب تعريفه، كالتمرة و اللّقمة، و قد قالت عائشة: كانوا لا يقطعون في الشيء التافه(1).

و روى العامّة عن عليٍّ عليه السلام: إنّه وجد ديناراً فتصرّف فيه(2).

و هو عندنا ضعيف، و يُحمل على غير اللّقطة.

و رووا عن سلمى بنت كعب قالت: وجدتُ خاتماً من ذهبٍ في طريق مكة، فسألتُ عائشة عنه، قالت: تمتّعي به(3)(4).

و ليس قول عائشة بحجّةٍ البتّة، و التحديد بما يجب فيه القطع منافٍ للأصل، و هو عصمة مال الغير، و قد ثبت تحريم مال المسلم، و أنّ حرمته كحرمة دمه(5) ، صِرْنا إلى ما نقص عن الدرهم؛ للإجماع، فيبقى الباقي على الأصل.

فروع:
أ - لو تملّك ما دون الدرهم ثمّ وجد صاحبه،

فالأقرب: وجوب

ص: 210


1- المحلّى 338:11، أحكام القرآن - للجصّاص - 426:2، الكامل - لابن عدي - 1509:4، العزيز شرح الوجيز 365:6، المغني 351:6، الشرح الكبير 348:6.
2- المغني 351:6، الشرح الكبير 348:6، و راجع: سنن أبي داوُد 137:2-1714/138 و 1715.
3- كتاب الثقات 351:4، المغنى 351:6، الشرح الكبير 348:6.
4- بداية المجتهد 447:2، التلقين: 508، المعونة 1413:3، الجامع لأحكام القرآن 160:6، المبسوط - للسرخسي - 137:9، و 3:11، المغني 351:6، الشرح الكبير 348:6، حلية العلماء 528:5، و 49:8-50، العزيز شرح الوجيز 365:6، و 175:11، الإفصاح عن معاني الصحاح 57:2-58.
5- سنن البيهقي 100:6، سنن الدارقطني 91/26:3 و 92، مسند أحمد 20172/69:6، مسند الشهاب 137:1-177/138 و 178، حلية الأولياء 334:7.

دفعه إليه؛ لأصالة بقاء ملك صاحبه عليه، و تجويز التصرّف للملتقط لا ينافي وجوب ردّه.

ب - الأقرب: وجوب دفع العين مع وجود صاحبه.

و يحتمل القيمة مطلقاً كالكثير إذا تملّكه بعد التعريف، و القيمة إن نوى التملّك، و إلّا فالعين، و هو أقرب.

ج - لو تلف بتفريطه ثمّ وجد صاحبه،

فالأقرب: وجوب الضمان، مع احتمال عدمه.

د - الأقرب: إنّه فرقٌ بين لقطة الحرم و الحِلّ فيما دون الدرهم،

كما في الزائد عليه؛ لحرمة الحرم، الشاملة للقليل و الكثير.

مسألة 328: إذا بلغت اللّقطة درهماً فما زاد، وجب فيها التعريف،

فلا يجوز تملّكها في الحال، فإن نواه لم يملك و ضمن؛ لأنّ بعض أصحابنا سأل الصادقَ عليه السلام عن اللّقطة، قال: «تعرّف سنةً قليلاً كان أو كثيراً» قال: «و ما كان دون الدرهم فلا يُعرّف»(1) فلزم من هذا وجوب تعريف الدرهم.

و عن محمّد بن قيس عن الباقر عليه السلام قال: «قضى عليٌّ عليه السلام في رجلٍ وجد ورقاً في خربةٍ أن يُعرّفها، فإن وجد مَنْ يعرفها و إلّا تمتّع بها»(2).

و عن داوُد بن سرحان عن الصادق عليه السلام أنّه قال في اللّقطة: «يُعرّفها سنةً ثمّ هي كسائر ماله»(3).

إذا عرفت هذا، فإنّ وجوب التعريف حولاً إنّما هو في الأموال التي

ص: 211


1- تقدّم تخريجه في ص 208، الهامش (8).
2- التهذيب 1199/398:6.
3- تقدّم تخريجه في ص 166، الهامش (3).

يمكن بقاؤها و لا يسرع الفساد إليها إمّا بمعالجةٍ كالرطب المفتقر إلى العلاج بالتشميس و الكبس حتى يصير تمراً، أو بغير معالجةٍ كالذهب و الفضّة و الثياب و غيرها.

و أمّا ما لا بقاء له - كالهريسة و الطبيخ و شبههما - فإنّه يجوز تناوله بعد التقويم على نفسه، و يضمنه للمالك.

مسألة 329: يكره التقاط ما تكثر فائدته و تقلّ قيمته،

كالنعلين و الإداوة(1) و السوط و أشباه ذلك؛ لأنّ عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه سأل الصادقَ عليه السلام عن النعلين، و الإداوة، و السوط يجده الرجل في الطريق أ ينتفع به ؟ قال: «لا يمسّه»(2).

و لأنّ الاكتساب في ذلك منتفٍ، و ربما تضرّر مالكه بضياعه عنه.

و قول الصادق عليه السلام: «لا بأس بلقطة العصا و الشظاظ و الوتد و الحبل و العقال و أشباهه»(3) لا ينافي ما قلناه؛ لحقارة هذه الأشياء، فلا يطلبها المالك، و لهذا روي في تتمّة الخبر عن أبيه الباقر عليه السلام قال: «قال أبو جعفر عليه السلام: ليس لهذا طالب»(4) فدلّ ذلك على البناء على العادة في الإعراض عن هذه الأشياء، فيكون في الحقيقة إباحة من المالك لها، مع أنّ نفي البأس لا يضادّ الكراهة.

إذا عرفت هذا، فلو التقط أحدٌ هذه الأشياء ثمّ ظهر مالكها، كان له أخذها.

و بالجملة، فأخذ اللّقطة مطلقاً عندنا مكروه، و يتأكّد في مثل هذه

ص: 212


1- الإداوة: إناء صغير من جلدٍ يُتّخذ للماء. لسان العرب 25:14 «أدا».
2- التهذيب 1183/394:6. (3 و 4) تقدّم تخريجه في ص 209، الهامش (2).

الأشياء، و تتأكّد الكراهة في مطلق اللّقطة للفاسق، و آكد منه المعسر.

مسألة 330: ما ليس بمالٍ ممّا يجوز اقتناؤه، مثل كلب الصيد إذا منعنا من بيعه،

و كذا غيره من الكلاب المنتفع بأعيانها - مثل كلب الماشية و الزرع و الحائط - فإنّه يجوز التقاطه، و يُعرَّف سنةً، و به قال الشافعي، إلّا أنّ الشافعي شرط في الالتقاط قصد الحفظ أبداً؛ لأنّه لا يجوز له تملّكه بعد السنة بالعوض؛ لأنّه لا قيمة له عنده، و بغير عوضٍ مخالفٌ لوضع اللّقطة(1).

و أمّا المنفعة فعلى وجهين، إن جوّزوا إجارة الكلب كانت مضمونةً، و إلّا فلا(2).

و قال أكثر الشافعيّة يُعرّفه سنةً - كما قلناه - ثمّ يختصّ به و ينتفع به، فإن ظهر صاحبه بعد ذلك و قد تلف لم يضمنه.

و هل عليه أُجرة المثل لمنفعة تلك المدّة ؟ وجهان مبنيّان على جواز إجارة الكلب(3).

و أمّا عندنا فإن كان الكلب له قيمة مقدّرة في الشرع فإذا عرّفه حولاً و لم يجد صاحبه، جاز له أن يتملّكه، فيكون عليه القيمة الشرعيّة.

المطلب الثاني: في الأحكام.
اشارة

و مباحثه أربعة:

البحث الأوّل: الضمان و عدمه.
مسألة 331: اللّقطة أمانة في يد الملتقط ما لم يَنْو التملّك أو يفرّط فيها أو يتعدّى،

فإذا أخذها بقصد الحفظ لصاحبها دائماً فهي أمانة في يده

ص: 213


1- العزيز شرح الوجيز 357:6، روضة الطالبين 468:4.
2- العزيز شرح الوجيز 357:6، روضة الطالبين 468:4.
3- العزيز شرح الوجيز 357:6، روضة الطالبين 468:4.

ما لم يَنْو التملّك أو يفرّط أو يتعدّى و إن بقيت في يده أحوالاً إن قلنا بافتقار التملّك إلى نيّةٍ؛ لأنّه بذلك مُحسنٌ في حقّ المالك بحفظ ماله و حراسته، فلا يتعلّق به ضمان؛ لقوله تعالى:«ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ» (1) و لأنّ حاله لم يختلف قبل الحول و لا بعده، فكذا الحكم بعدم الضمان ينبغي أن لا يختلف.

و أمّا إن قلنا بدخولها في ملكه بعد الحول و إن لم يقصد التملّك، فإنّه يضمنها بدخولها في ملكه.

لكن المعتمد عند علمائنا: الأوّل، و سيأتي.

مسألة 332: إذا نوى الاحتفاظ لها دائماً، فهي أمانة في يده على ما تقدّم.

فإن دفعها إلى الحاكم، وجب عليه القبول؛ لأنّه مُعدٌّ لمصالح المسلمين، و أعظمها حفظ أموالهم، بخلاف الوديعة، فإنّه لا يلزمه قبولها - على أحد وجهي الشافعيّة(2) - لأنّه قادر على الردّ إلى المالك، بل لا يجوز له دفعها إلى الحاكم مع القدرة على صاحبها؛ لقوله تعالى:«إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها» (3).

و لو تعذّر عليه الردّ إلى المالك و افتقر إلى إيداعها، أودعها الحاكم؛ للضرورة.

و لو أخذ للتملّك ثمّ بدا له و دفعها إلى الحاكم، لزمه القبول.

و لو قصد الحفظ أبداً، لزمه التعريف حولاً، و لا يسقط وجوب

ص: 214


1- سورة التوبة: 91.
2- التهذيب - للبغوي - 547:4، العزيز شرح الوجيز 359:6.
3- سورة النساء: 58.

التعريف حولاً بقصد الحفظ دائماً، و هو أحد وجهي الشافعيّة(1) على ما يأتي، فإن لم يجب لم يضمن بتركه عندهم(2).

و إذا بدا له قصد التملّك، عرّفها سنةً من حينئذٍ، و لا يعتدّ بما عُرّف من قبلُ.

و إن أوجبناه، فهو ضامن بالترك، حتى لو ابتدأ بالتعريف بعد ذلك فهلك في سنة التعريف ضمن.

مسألة 333: لو نوى الخيانة و التملّك بغير تعريفٍ حين الالتقاط و أخفاها عن المالك، كان ضامناً غاصباً،

و لا يحلّ له أخذها بهذه النيّة، فإن أخذها لزمه ضمانها، سواء تلفت بتفريطه أو بغير تفريطه.

فإن دفعها إلى الحاكم، فالأقرب: زوال الضمان؛ لأنّه نائب عن المالك، فكأنّه قد دفع إلى المالك، و هو أحد وجهي الشافعيّة، كما في الغاصب(1).

و لو لم يدفعها إلى الحاكم بل عرّفها حولاً، فالأقرب: إنّه يجوز له التملّك؛ لأنّه قد وُجد سبب التملّك(2) ، و هو التعريف و الالتقاط، فيملكها به، كالاصطياد و الاحتشاش، فإنّه لو دخل حائط غيره بغير إذنه فاصطاد منه صيداً مَلَكه و إن كان دخوله محرَّماً، كذا هنا.

و لأنّ عموم النصّ يتناول هذا الملتقط، فيثبت حكمه فيه.

و لأنّا لو اعتبرنا نيّة التعريف وقت الالتقاط، لافترق الحال بين العَدْل

ص: 215


1- العزيز شرح الوجيز 359:6، روضة الطالبين 469:4-470.
2- في النُّسَخ الخطّيّة: «الملك» بدل «التملّك».

و الفاسق و الصبي و السفيه؛ لأنّ الغالب على هؤلاء الالتقاط للتملّك من غير تعريفٍ.

و هو أحد قولَي الشافعيّة.

و الأظهر عندهم و الأشهر بينهم: إنّه لا يُمكَّن من التملّك؛ لأنّه أخذ مال غيره(1).

و على وجهٍ: لا يجوز له أخذه، فأشبه الغاصب(2). و لا بأس به.

مسألة 334: لو أخذ اللّقطة بنيّة التعريف حولاً و التملّك بعده، فإنّها في الحول أمانة غير مضمونةٍ

لو تلفت بغير تفريطٍ منه أو نقصت، فلا ضمان عليه كالوديعة، إلّا بالتعدّي أو التفريط أو نيّة التملّك.

و أمّا بعد السنة فالأقرب: إنّها تصير مضمونةً عليه إذا كان عزم التملّك مطّرداً و إن لم يَجْر حقيقةً؛ لأنّه صار ممسكاً لنفسه، فأشبه المستام.

هذا إن قلنا: إنّ اللّقطة لا تُملك بمضيّ السنة، فإن قلنا: تُملك، فإذا تلفت تلفت منه لا محالة، و هذا قول بعض الشافعيّة(3).

و أكثرهم على أنّها أمانة إذا لم يختر التملّك قصداً أو لفظاً إذا اعتبرنا اللفظ كما كانت قبل الحول. نعم، إذا اختار و قلنا: لا بدّ من التصرّف، فحينئذٍ يكون مضموناً عليه، كالقرض(4).

و قد اعتُرض على ذلك: بأنّه قد يغيّر القصد إلى الحفظ ما لم يتملّك، فلا يكون ممسكاً لنفسه، فلو كان قصد التملّك يجعله ممسكاً لنفسه، لزم أن يكون الذي لا يقصد بالتعريف إلّا تحقيق شرط التملّك ممسكاً لنفسه في

ص: 216


1- التهذيب - للبغوي - 456:4، العزيز شرح الوجيز 359:6، روضة الطالبين 470:4. (2-4) العزيز شرح الوجيز 359:6، روضة الطالبين 470:4.

مدّة السنة أيضاً(1).

مسألة 335: لو أخذ اللّقطة بنيّة الأمانة و التعريف ثمّ قصد الخيانة، ضمن بقصده؛

لأنّ سبب أمانته مجرّد نيّته، و إلّا فأخذ مال الغير بغير رضاه ممّا يقتضي الضمان، و لأنّه استئمان ضعيف؛ لأنّه ثبت من غير جهة المالك، فيكفي في زواله أدنى سبب، و لأنّ نيّة الخيانة لو حصلت حالة الالتقاط لاقتضت الضمان، فكذا بعده؛ لبراءة ذمّته قبل الالتقاط و حالة الأمانة، و هو أحد وجهي الشافعيّة(2).

و الأصحّ عندهم: إنّه لا يصير المال مضموناً عليه بمجرّد القصد، كالمستودع لو جدّد نيّة الخيانة في الوديعة بعد نيّة الحفظ لم يصر ضامناً بذلك، كذا الملتقط(3).

و الفرق ظاهر بين الملتقط و المستودع؛ لأنّ المستودع مسلّط مؤتمن من جهة المالك، على أنّ في المستودع وجهاً للشافعيّة: إنّه يضمن بمجرّد القصد(2).

و على الظاهر من مذهب الشافعيّة - من أنّ الودعيّ لا يضمن بقصد الخيانة بعد نيّة الحفظ - لو أخذ الوديعة على قصد الخيانة في الابتداء وجهان للشافعيّة في أنّه هل يكون ضامناً أم لا؟(3).

ص: 217


1- راجع: العزيز شرح الوجيز 359:6. (2 و 3) العزيز شرح الوجيز 359:6-360، روضة الطالبين 470:4.
2- العزيز شرح الوجيز 360:6.
3- الوسيط 292:4، العزيز شرح الوجيز 304:7، روضة الطالبين 297:5.

و إذا قلنا: صار الملتقط ضامناً في الدوام إمّا بنفس الخيانة أو بقصدها ثمّ رجع عن نيّة الخيانة و قَصَد الأمانة و أراد أن يُعرّف و يتملّك للشافعيّة وجهان:

أحدهما: المنع؛ لأنّه قد تعدّى في أمانته، و صار مضموناً عليه بنيّة الخيانة أوّلاً، فلا يبرأ من الضمان؛ لأنّ الأمانة لا تعود بترك التعدّي.

و الثاني: إنّ التقاطه في الابتداء وقع مفيداً للتملّك، فلا يبطل حكمه بتفريطٍ يطرأ، و لأنّ سبب التملّك هو الالتقاط، و التعريف غير محرَّمٍ، و إنّما المحرَّم ما قصده، و لم يتّصل به تحقيق(1).

مسألة 336: قال الشيخ رحمه الله: اللّقطة تُضمن بمطالبة المالك لا بنيّة التملّك

(2) .

و فيه نظر؛ لأنّ المطالبة تترتّب على الاستحقاق، فلو لم يثبت الاستحقاق أوّلاً لم يكن لصاحبها المطالبة، فلو ترتّب الاستحقاق على المطالبة لزم الدور.

و لو أخذ الملتقط اللّقطة و لم يقصد خيانةً و لا أمانةً، لم تكن مضمونةً عليه، و له أن يتملّك بشرطه، و كذا لو أضمر أحدهما و نسي ما أضمره؛ لأصالة البراءة.

البحث الثاني: في التعريف.
مسألة 337: ينبغي للملتقط أن يقف على اللّقطة ليميّزها عن أمواله،

فلا يختلط أمرها عليه و يشتبه بما يختصّ به، و أيضاً يستدلّ بها على معرفة صدق مدّعيها إذا جاء و طلبها، فحينئذٍ يستحبّ أن يعرف عفاصها - و هو الوعاء من جلدٍ أو خرقٍ أو غيرهما - و وكاءها - و هو الخيط الذي يشدّ به -

ص: 218


1- العزيز شرح الوجيز 360:6، روضة الطالبين 470:4.
2- المبسوط - للطوسي - 330:3-331.

لورود ذلك في الخبر: إنّه عليه السلام قال: «اعرف عفاصها و وكاءها»(1).

و ينبغي أن يعرف أيضاً جنسها هل هي ذهب أو فضّة، أو ثوب هرويّ أو مرويّ، و يعرف قدرها بالوزن أو العدد إن كان ممّا يُعدّ في العادة؛ لما ورد في حديث أُبيّ بن كعب: «اعرف عدّتها»(2) و مهما ازداد عرفاناً ازداد احتياطاً في حفظها و تبيّنها على أنّه لا يفرّط في طرفها.

و ينبغي أن يقيّد ذلك بالكتابة لئلّا ينسى ما عرفه منها.

مسألة 338: و يجب على الملتقط تعريف اللّقطة إذا بلغت درهماً فما زاد،

و الإنشاد بها ليظهر خبرها لصاحبها فيأخذها، سواء قصد الملتقط حفظها دائماً لصاحبها، أو نوى التملّك بعد السنة، عند علمائنا - و به قال أحمد(3) - لما رواه العامّة عن النبيّ صلى الله عليه و آله في حديث زيد بن خالد الجهني، قال: جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه و آله يسأله عن اللّقطة، فقال: «اعرف عفاصها و وكاءها ثمّ عرِّفها سنةً، فإن جاء صاحبها و إلّا فشأنك بها»(4).

و من طريق الخاصّة: ما رواه داوُد بن سرحان عن الصادق عليه السلام أنّه قال في اللّقطة: «يُعرّفها سنةً ثمّ هي كسائر ماله»(5).

و في الصحيح عن الحلبي عن الصادق عليه السلام في اللّقطة في حديثٍ قال: «يُعرّفها سنةً، فإن جاء لها طالب و إلّا فهي كسبيل ماله»(6).

و لأنّه مال للغير حصل في يده فيجب عليه دفعه إلى مالكه، و لا طريق

ص: 219


1- تقدّم تخريجه في ص 166، الهامش (1).
2- تقدّم تخريجه في ص 170، الهامش (1).
3- المغني 347:6، الشرح الكبير 373:6.
4- تقدّم تخريجه في ص 166، الهامش (1).
5- تقدّم تخريجه في ص 166، الهامش (3).
6- تقدّم تخريجه في ص 168، الهامش (1).

إلى العلم به إلّا بالتعريف و الإنشاد، و ما لا يتمّ الواجب إلّا به يكون واجباً، فوجب التعريف، و لأنّ ترك التعريف كتمانٌ مفوّتٌ للحقّ على المستحقّ.

و هو أظهر وجهي الشافعيّة.

و الثاني: إنّه إن قصد الملتقط التملّكَ وجب التعريف حولاً، و إن قصد الحفظَ أبداً لم يجب؛ لأنّ التعريف إنّما يجب لتحقيق شرط التملّك(1).

و هو ممنوع، بل التعريف وجب لإيصال الحقّ إلى مستحقّه.

و لأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و الأئمّة عليهم السلام لم يفرّقوا، بل أطلقوا وجوب التعريف.

و لأنّ حفظها في يد الملتقط من غير إيصالها إلى مستحقّها مساوٍ لعدمها عنه و لهلاكها.

و لأنّ إمساكها من غير تعريفٍ تضييعٌ لها عن صاحبها، فلم يجز، كردّها إلى موضعها أو إلقائها في غيره.

و لأنّه لو لم يجب التعريف لما جاز الالتقاط؛ لأنّ بقاءها في مكانها إذَنْ أقرب إلى وصولها إلى صاحبها إمّا بأن يطلبها في الموضع الذي ضاعت منه فيجدها، و إمّا أن يجدها مَنْ يعرفها، و أخذ هذا لها يُفوّت الأمرين معاً، فكان محرَّماً، لكن الالتقاط جائز، فلزم التعريف كي لا يحصل هذا الضرر.

و لأنّ التعريف واجب على مَنْ أراد تملّكها، فكذا يجب على مَنْ أراد حفظها، فإنّ التملّك غير واجبٍ، فلا تجب الوسيلة إليه، فيلزم أن يكون الوجوب في المحلّ المتّفق عليه، لصيانتها عن الضياع عن صاحبها، و هذا موجود في محلّ النزاع.4.

ص: 220


1- العزيز شرح الوجيز 362:6-363، روضة الطالبين 472:4.
مسألة 339: لا يراد بالتعريف سنةً استيعاب السنة و صَرفها بأسرها في التعريف، بل يسقط التعريف في الليل؛

لأنّ النهار مجمع الناس و ملتقاهم، دون الليل، و لا يستوعب الأيّام أيضاً، بل على المعتاد، فيُعرّف في ابتداء أخذ اللّقطة في كلّ يومٍ مرّتين في طرفي النهار، ثمّ في كلّ يومٍ مرّةً، ثمّ في كلّ أُسبوعٍ مرّةً أو مرّتين، ثمّ في كلّ شهرٍ مرّةً بحيث لا ينسى كونه تكراراً لما مضى.

و بالجملة، فلم يقدّر الشرع في ذلك سوى المدّة التي قلنا: إنّه لا يجب شغلها به، فالمرجع حينئذٍ في ذلك إلى العادة.

و ينبغي المبادرة إلى التعريف من حيث الالتقاط؛ لأنّ العثور على المالك في ابتداء الضياع أقرب، و يكرّر ذلك طول الأُسبوع؛ لأنّ الطلب فيه أكثر.

و للشافعيّة في وجوب المبادرة إلى التعريف من حين الالتقاط قولان:

أحدهما: الوجوب؛ لما تقدّم.

و الثاني: عدمه، بل الواجب تعريفها سنةً مطلقاً، و به ورد الأمر(1).

مسألة 340: قدر مدّة التعريف سنة فيما بلغ درهماً فصاعداً، عند علمائنا أجمع

- و به قال عليٌّ عليه السلام و ابن عباس و عمر و ابن المسيّب و الشعبي و مالك و الشافعي و أحمد بن حنبل و أصحاب الرأي(2) - لحديث زيد بن

ص: 221


1- العزيز شرح الوجيز 361:6، روضة الطالبين 471:4.
2- الإشراف على مذاهب أهل العلم 152:2 و 153، الحاوي الكبير 12:8، حلية العلماء 526:5 و 528، التهذيب - للبغوي - 548:4، البيان 448:7، العزيز شرح الوجيز 361:6، روضة الطالبين 471:4، التمهيد 117:3-118، المغني 348:6، الشرح الكبير 374:6، الإفصاح عن معاني الصحاح 54:2.

خالد، الذي رواه العامّة، و قد تقدّم(1).

و من طريق الخاصّة: ما تقدّم(2).

و ما رواه محمّد بن مسلم - في الصحيح - عن أحدهما عليهما السلام، قال:

سألته عن اللّقطة، قال: «لا ترفعوها، فإن ابتليتَ فعرِّفها سنةً، فإن جاء طالبها، و إلّا فاجعلها في عرض مالك يجري عليها ما يجري على مالك إلى أن يجيء لها طالب»(3).

و لأنّ السنة لا تتأخّر عنها القوافل و تمضي فيها الأزمان التي تقصد فيها البلاد من الحَرّ و البرد و الاعتدال.

و روي عن عمر روايتان أُخريان:

إحداهما: يُعرّفها ثلاثة أشهر.

و الأُخرى: ثلاثة أعوام(4) ؛ لأنّ أُبيّ بن كعب روى أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله أمره بتعريف مائة دينارٍ ثلاثة أعوام؛ لأنّه قد روي في حديث أُبيّ بن كعب أنّه قال له: «عرِّفها حولاً» فعرَّفها، ثمّ عاد إليه، فقال له: «عرِّفها [حولاً]» فعرَّفها، ثمّ عاد إليه، فقال له: «عرِّفها حولاً»(5) فأمره أن يعرِّفها ثلاثة أحوال.ر.

ص: 222


1- في ص 165 و 219.
2- في ص 166 و 219.
3- التهذيب 1165/390:6، الاستبصار 68:3-229/69.
4- الإشراف على مذاهب أهل العلم 153:2، المغني 348:6، الشرح الكبير 374:6.
5- صحيح البخاري 166:3، صحيح مسلم 1723/1350:3، سنن أبي داوُد 1701/134:2، سنن الترمذي 1374/658:3، سنن البيهقي 186:6، و ما بين المعقوفين أثبتناه من المصادر.

قال أبو داوُد: شكّ الراوي في ذلك فقال: قال له: حولاً، أو ثلاثاً(1).

قال ابن المنذر: قد ثبت الإجماع بخلاف هذا الحديث، و على أنّ [في] حديث زيد بن خالد أمره بسنةٍ واحدة، فدلّ على إجزاء ذلك(2).

و قال أبو أيّوب الهاشمي: ما دون الخمسين درهماً يعرّفها ثلاثة أيّام إلى سبعة أيّام(3).

و قد روي عن أبان بن تغلب قال: أصبتُ يوماً ثلاثين ديناراً، فسألتُ الصادقَ عليه السلام عن ذلك، فقال لي: «أين أصبتَه ؟» قال: فقلت: كنتُ منصرفاً إلى منزلي فأصبتُها، قال: فقال: «صِرْ إلى المكان الذي أصبتَ فيه فتعرّفه، فإن جاء طالبه بعد ثلاثة أيّام فأعطه، و إلّا تصدّق به»(4).

و الرواية في سندها قولٌ، فلا تعويل عليها، على أنّه يحتمل تعريفها سنةً ثمّ يتصدّق بها بعد ثلاثة أيّام من تمام الحول استظهاراً في الحفظ لصاحبها.

و قال الثوري: في الدرهم يُعرّفه أربعة أيّام(5).

و قال الحسن بن صالح بن حي: ما دون عشرة دراهم يُعرّفها ثلاثة أيّام(6).3.

ص: 223


1- سنن أبي داوُد 134:2، ذيل ح 1701، و عنه في المغني 349:6، و الشرح الكبير 375:6.
2- البيان 448:7.
3- المغني 348:6، الشرح الكبير 374:6.
4- التهذيب 1195/397:6.
5- الإشراف على مذاهب أهل العلم 152:2، الحاوي الكبير 16:8، حلية العلماء 529:5، المغني 348:6، الشرح الكبير 374:6، مختصر اختلاف العلماء 2042/336:4، التمهيد 117:3.
6- الإشراف على مذاهب أهل العلم 151:2، الحاوي الكبير 16:8، المغني 348:6، الشرح الكبير 374:6، مختصر اختلاف العلماء 2042/336:4، التمهيد 117:3.

و قال إسحاق: ما دون الدينار يُعرّفه جمعةً أو نحوها(1).

و روى أبو إسحاق الجوزجاني بإسناده عن يعلى بن أُميّة قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: «مَن التقط درهماً أو حبلاً أو شبه ذلك فليعرّفه ثلاثة أيّام، و إن كان فوق ذلك فليعرّفه سبعة أيّام»(2).

و هذا الحديث لم يُعلم به قائل على وجهه، فإذَنْ الأحاديث التي أوردناها أولى بالعمل من هذا، فإنّ إطراح الفقهاء من العامّة و الخاصّة له يدلّ على الضعف في الرواية.

مسألة 341: لا يجب التوالي في التعريف،

فلو فرّقه جاز بأن يُعرّف شهرين و يترك شهرين، و هكذا - و هو أحد وجهي الشافعيّة(3) - كما لو نذر صوم سنةٍ، يجوز أن يوالي و أن يُفرّق، كذا هنا.

و في الآخَر: لا يجوز التفريق؛ لأنّه إذا فرّق لم تظهر فائدة التعريف، فعلى هذا لو قطع التعريف مدّةً وجب الاستئناف عندهم(4).

و الأقرب: وجوب المبادرة في التعريف؛ تحصيلاً لغرض وقوف المالك عليها، و هو في الغالب يعجّل الطلب، فإذا أخفاها عن مالكها فات الغرض المطلوب شرعاً، فإن فرّط في المبادرة فَعَل محرَّماً، فإذا عرّف متفرّقاً لم يجب الاستئناف، و كفاه التلفيق.

ص: 224


1- الإشراف على مذاهب أهل العلم 152:2، الحاوي الكبير 16:8، حلية العلماء 529:5، المغني 348:6، الشرح الكبير 374:6.
2- نقله عنه ابنا قدامة في المغني 348:6، و الشرح الكبير 374:6-375. (3 و 4) حلية العلماء 526:5، التهذيب - للبغوي - 549:4، البيان 449:7، العزيز شرح الوجيز 361:6-362، روضة الطالبين 471:4.
مسألة 342: الأحوط في التعريف الإيغال في الإبهام،

فلا يذكر الجنس فضلاً عن النوع و وصفه، بل يقول: مَنْ ضاع له شيء أو مال؛ لأنّه أبعد أن يدخل عليه بالتخمين و أحفظ لها من ادّعاء كاذبٍ.

و لو ذكر الجنس جاز، كأن يقول: مَنْ ضاع له ذهب أو فضّة أو ثوب، و لا يزيد عليه، فإنّه ربما ادّعاها الكاذب.

و لو ذكر بعض صفاتها، لم يستقص على الجميع؛ لئلّا يعلم بصفتها مَنْ يسمع تلك الأوصاف المفصّلة، فلا تبقى صفتها دليلاً على ملكها؛ لمشاركة غير المالكِ [المالكَ](1) في ذلك، و لا يؤمن أن يدّعيها بعض مَنْ سمع صفتها و يذكر صفتها التي تُدفع اللّقطة بها فيأخذها و هو غير مالكٍ لها فتضيع على مالكها.

و قال بعض الشافعيّة: لا بدّ و أن يصف الملتقط بعض أوصاف اللّقطة؛ فإنّه أفضى إلى الظفر بالمالك(2).

و هل ذلك شرطٌ أو مستحبٌّ؟ فيه وجهان، الأظهر منهما عندهم:

الثاني(3).

و على القول بكونه شرطاً فهل يكفي ذكر الجنس بأن يقول: مَنْ ضاع منه دراهم ؟ قال الجويني: ما عندي أنّه يكفي، و لكن يتعرّض للعفاص و الوكاء و مكان الالتقاط و تأريخه، و لا يستوعب الصفات و لا يبالغ لئلّا يدّعيها الكاذب(4).

فإن استوعب جميع الصفات، ففي الضمان عندهم وجهان:

ص: 225


1- ما بين المعقوفين أثبتناه من المغني 350:6.
2- الوجيز 252:1، العزيز شرح الوجيز 362:6، روضة الطالبين 471:4. (3 و 4) العزيز شرح الوجيز 362:6، روضة الطالبين 471:4.

أحدهما: المنع؛ لأنّه لا يلزمه الدفع إلّا بالبيّنة.

و الثاني: الثبوت؛ لأنّ المدّعي قد يرفع الملتقط إلى حاكمٍ يعتقد وجوب الدفع إلى الواصف(1).

مسألة 343: لا يجب على الملتقط مباشرة التعريف؛

إذ الغرض به الإشهار و الإعلان، و لا غرض للشارع متعلّق بمباشرٍ دون آخَر، فيجوز أن يباشر النداء بنفسه، و أن يولّيه غلامه و ولده و مَنْ يستعين به و يستأجره عليه، و لا نعلم فيه خلافاً.

فإن تبرّع الملتقط بالتعريف أو بذل مئونته فذاك، و إلّا فإن أخذها للحفظ أبداً وجب التعريف أيضاً عندنا، و على أحد قولَي الشافعي لا يجب حينئذٍ، فهو متبرّع إذا عرّف(2).

فإن قلنا: يجب - و هو الحقّ عندنا - إذا احتاج التعريف إلى مئونةٍ، فإن أخذها للتملّك و اتّصل الأمر بالتملّك، فمئونة التعريف على الملتقط؛ لأنّه إنّما يفعل التعريف ليتشبّث به إلى إباحة تملّكه لها، فكانت مئونة التعريف عليه؛ لأنّها لمصلحته و نفعه، و إن ظهر المالك فهي على الملتقط أيضاً؛ لقصده التملّك، و هو أظهر وجهي الشافعيّة، و الثاني: إنّها على المالك؛ لعود الفائدة إليه(3).

و لو قصد الحفظ حين الالتقاط أبداً، فالأقرب: إنّه لا يجب على

ص: 226


1- التهذيب - للبغوي - 549:4، العزيز شرح الوجيز 362:6، روضة الطالبين 471:4.
2- العزيز شرح الوجيز 362:6، روضة الطالبين 472:4، المغني 347:6، الشرح الكبير 373:6.
3- التهذيب - للبغوي - 549:4، العزيز شرح الوجيز 362:6، روضة الطالبين 472:4.

الملتقط أُجرة التعريف، بل يرفع الأمر إلى الحاكم ليبذل أُجرته من بيت المال، أو يستقرض على المالك، أو يأمر الملتقط بالاقتراض ليرجع، أو يبيع بعضها إن رآه أصلح أو لم يمكن إلّا به.

و لو قصد الأمانة أوّلاً دائماً ثمّ قصد التملّك، ففيه للشافعيّة وجهان مبنيّان على أنّ النظر هل هو إلى منتهى الأمر و مستقرّه، أو إلى حالة ابتدائه ؟(1).

و يحتمل عندي أنّه إذا قصد التملّك دائماً أن تكون مئونة التعريف عليه أيضاً؛ لأنّه واجب عليه، فإذا لم يتمّ إلّا بالأجر وجب؛ لأنّ ما لا يتمّ الواجب إلّا به يكون - لا شكّ - واجباً.

و كذا البحث في أُجرة لقطة الحرم.

أمّا أُجرة مخزنها و نشرها و طيّها و تجفيفها فإنّه على المالك.

و لو وليه الملتقط بنفسه، لم يكن له أُجرة.

و قال مالك: إذا دفع الملتقط من اللّقطة شيئاً لمن عرّفها، لم يكن عليه غُرم، كما لو دفع منها شيئاً لمن يحفظها(2).

و الأصل ممنوع.

مسألة 344: مكان التعريف في مجتمع الناس، كالأسواق و أبواب المساجد عند خروج الناس من الجماعات،

و في الجوامع في الوقت الذي يجتمعون فيها، و في مجامع الناس؛ لأنّ المقصود إشاعة ذكرها و إظهارها ليظهر عليها مالكها، فيجب تحرّي مجامع الناس.

و لا ينشدها في وسط المسجد؛ لأنّ المسجد لم يُبْنَ لهذا، و قد روي

ص: 227


1- العزيز شرح الوجيز 362:6، روضة الطالبين 472:4.
2- المغني 350:6، الشرح الكبير 377:6.

عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «مَنْ سمع رجلاً ينشد ضالّةً في المسجد فليقل: لا أدّاها اللّه إليك، فإنّ المساجد لم تُبْن لهذا»(1) و كراهة تعريف الضالّة ككراهة طلبها في المساجد.

و قال بعض الشافعيّة: الأصحّ من الوجهين: جواز التعريف في المسجد الحرام، بخلاف سائر المساجد(2).

ثمّ إذا التقط في بلدٍ أو قريةٍ فلا بدّ من التعريف فيها، و ليكن أكثر تعريفه في البقعة بالمحلّة التي وُجد فيها، فإنّ طلب الشيء في موضع فقدانه أكثر، فإن اتّفق له سفر فوّض التعريف إلى غيره، و لا يسافر بها.

و لو التقط في الصحراء، فإن اجتازت به قافلة يتبعهم و عرّفها فيهم، و إلّا فلا فائدة في التعريف في المواضع الخالية، و لكن يعرّف عند الوصول إليها.

و لا يلزمه أن يغيّر قصده و يعدل إلى أقرب البلاد إلى ذلك الموضع، أو يرجع إلى مكانه الذي أنشأ السفر منه.

و قال بعض الشافعيّة: يُعرّفها في أقرب البلدان إليه(3).

نعم، لو التقطها في منزل قومٍ رجع إليه و عرّفهم، فإن عرفوها فهي لهم، و إلّا فلا؛ لما رواه إسحاق بن عمّار أنّه سأل الكاظمَ عليه السلام: عن رجلٍ نزل في بعض بيوت مكة فوجد [فيها] نحواً من سبعين درهماً مدفونة، فلم تزل معه و لم يذكرها حتى قدم الكوفة كيف يصنع ؟ قال: «يسأل عنها4.

ص: 228


1- سنن أبي داوُد 473/128:1، سنن البيهقي 196:6، مسند أحمد 9161/150:3.
2- حلية العلماء 523:5-524، العزيز شرح الوجيز 363:6، روضة الطالبين 473:4.
3- العزيز شرح الوجيز 363:6، روضة الطالبين 473:4.

أهل المنزل لعلّهم يعرفونها» قلت: فإن لم يعرفوها؟ قال: «يتصدّق بها»(1).

إذا عرفت هذا، فإنّه لا يصحب اللّقطة في السفر، كما لا يصحب الوديعة، و لكن يُعرّف في أيّ بلدٍ دَخَله.

مسألة 345: ينبغي أن يتولّى التعريفَ شخصٌ أمين ثقة عاقل غير مشهورٍ بالخلاعة و اللعب؛

ليحصل الوثوق بإخباره، و لا يتولّاه الفاسق؛ لئلّا يفقد فائدة التعريف، و هذا على الكراهة دون التحريم.

و ليس للملتقط تسليم اللّقطة إلى غيره إلّا بإذن الحاكم، فإن فَعَل ضمن، إلّا مع الحاجة بأن يريد السفر و لا يجد حاكماً يستأذنه، فيجوز أن يسلّمها إلى الثقة.

و كذا لو التقط في الصحراء و لم يتمكّن من حفظها و مراعاتها، فإنّه يجوز له الاستعانة بغيره و تسليمها إليه مع عدم القدرة على الاستقلال بحفظها و المشاركة فيه.

مسألة 346: قد بيّنّا أنّ التعريف سنةً يجب في قليل المال و كثيره ما لم يقصر عن درهمٍ فلا يجب
اشارة

- و هو أحد وجوه الشافعيّة(2) - لما رواه العامّة عن عائشة أنّه لا بأس بما دون الدرهم أن يستنفع به(3).

و من طريق الخاصّة: قول الصادق عليه السلام: «و ما [كان] دون الدرهم فلا يعرّف»(4).

الثاني للشافعيّة: إنّ القليل إن انتهت قلّته إلى أن يسقط تموّله كالحبّة

ص: 229


1- التهذيب 1171/391:6، و ما بين المعقوفين أثبتناه من المصدر.
2- حلية العلماء 527:5، التهذيب - للبغوي - 550:4، البيان 442:7، العزيز شرح الوجيز 366:6، روضة الطالبين 474:4، الشرح الكبير 347:6-348.
3- تقدّم تخريجه في ص 208، الهامش (3).
4- تقدّم تخريجه في ص 208، الهامش (8)، و ما بين المعقوفين أثبتناه من المصدر.

من الحنطة و الزبيبة الواحدة، فلا تعريف على واجده، و له الاستبداد به - و بينهم خلاف في أنّ مَنْ أتلف ممّا لا يتموّل ما هو من قبيل المثليّات هل يغرمه ؟ و الظاهر بينهم أنّه لا يغرمه، كما لا يجوز بيعه وهبته - و إن كان متموّلاً مع القلّة فيجب تعريفه؛ لأنّ فاقده يطلبه(1) ، خلافاً لأبي حنيفة و مالك(2).

و اختلفوا في قدر مدّة تعريفه على وجهين:

أحدهما: سنة؛ لإطلاق الأخبار.

و الثاني: المنع؛ لأنّ الشيء الحقير لا يدوم فاقده على طلبه سنةً، بخلاف الخطير.

و على هذا فأوجُه:

أحدها: قال الاصطخري: إنّه يكفي التعريف مرّةً؛ لأنّه يخرج بها عن حدّ الكاتم، و ليس بعدها ضبط يعتمد.

و الثاني: يُعرّف ثلاثة أيّام؛ لأنّه قد روي في بعض الأخبار: «مَن التقط لقطةً يسيرة فليعرّفها ثلاثة أيّام»(3).

و الثالث - و هو الأظهر بينهم -: إنّه يُعرّف مدّةً يُظنّ في مثلها طلب الفاقد له، فإذا غلب على الظنّ إعراضه سقط التعريف(4).

و يختلف ذلك باختلاف قدر المال.

قال بعض الشافعيّة: دانق الفضّة يُعرَّف في الحال، و دانق الذهب4.

ص: 230


1- العزيز شرح الوجيز 364:6، روضة الطالبين 474:4.
2- العزيز شرح الوجيز 364:6.
3- سنن البيهقي 195:6، مسند أحمد 17116/183:5.
4- العزيز شرح الوجيز 364:6-365، روضة الطالبين 474:4.

يُعرَّف يوماً أو يومين أو ثلاثة(1).

و اختلفوا في الفرق بين القليل المتموّل و بين الكثير على أوجُه:

أحدها: إنّه لا يتقدّر بمقدارٍ، و لكن ما يغلب على الظنّ أنّ فاقده لا يكثر أسفه عليه و لا يطول طلبه له في الغالب فهو قليل.

و الثاني: إنّ القليل ما دون نصاب السرقة، فإنّه تافه في الشرع، و قد قالت عائشة: ما كانت الأيدي تُقطع على عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله في الشيء التافه(2) ، و به قال أبو حنيفة و مالك(3).

و الثالث: إنّ القليل دينار فما دون؛ لما رواه العامّة أنّ عليّاً عليه السلام وجد ديناراً فسأل النبيّ صلى الله عليه و آله، فقال: «هذا رزق اللّه» فاشترى به دقيقاً و لحماً، فأكل منه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و عليٌّ و فاطمة عليهما السلام، ثمّ جاء صاحب الدينار ينشد الدينار، فقال النبيّ صلى الله عليه و آله: «يا علي أدِّ الدينار»(4)(5).

و من طريق الخاصّة: ما رواه الفضيل بن غزوان عن الصادق عليه السلام، قال: كنتُ عنده فقال له الطيّار: إنّ حمزة ابني وجد ديناراً في الطواف قد انسحق كتابته، قال: «هو له»(6).

و يحتمل أن يكون الدينار التي طمست كتابته قصرت عن الدرهم،5.

ص: 231


1- العزيز شرح الوجيز 365:6، روضة الطالبين 474:4.
2- تقدّم تخريجه في ص 210، الهامش (1).
3- العزيز شرح الوجيز 365:6، المغني 351:6.
4- سنن أبي داوُد 1714/137:2، سنن البيهقي 194:6.
5- الوسيط 292:4، التهذيب - للبغوي - 550:4، البيان 442:7، العزيز شرح الوجيز 365:6-366، روضة الطالبين 474:4، المغني 351:6-352، الشرح الكبير 347:6-348.
6- التهذيب 394:6-1187/395.

و عليه تُحمل رواية العامّة.

تذنيب: قال بعض الشافعيّة: يحلّ التقاط السنابل وقت الحصاد

إن أذن فيه المالك أو كان قدر ما لا يشقّ عليه أن يلتقط و إن كان يلتقط بنفسه لو اطّلع عليه، و إلّا لم يحل(1).

مسألة 347: لو التقط ما لا بقاء له ممّا يفسد بسرعةٍ، كالطبائخ و الرطب الذي لا يتتمّر و البقول،
اشارة

فإن كان في برّيّةٍ تخيّر بين أن يبيعه و يأخذ ثمنه فيعرّفه، و بين أن يتملّكه في الحال فيأكله و يغرم قيمته لصاحبه إن وجده؛ لما رواه العامّة أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال: «فمَنْ وجد طعاماً أكله و لم يُعرّفه»(2).

و إن وجده في قريةٍ أو بلدةٍ، فكذلك عندنا يتخيّر بين البيع و تعريف الثمن، و بين التقويم و التملّك و التعريف حولاً.

و قال المزني: إن وجده في الصحراء فكذلك، و إن وجده في القرية أو البلد فقولان:

أحدهما: ليس له الأكل، بل يبيعه و يأخذ ثمنه لمالكه؛ لأنّ البيع يتيسّر في العمران.

و الثاني: إنّه كما لو وجده في الصحراء؛ لإطلاق الخبر.

و هو أشهر عند الشافعيّة، و منهم مَنْ قطع به(3).

إذا عرفت هذا، فإنّه إذا أراد بيعه إمّا في الصحراء أو في العمران فإنّه يدفعه إلى الحاكم ليتولّى ذلك أو يأذن له فيه؛ لأنّه منصوب للمصالح، و هذا منها، فإن تعذّر الحاكم تولّاه الملتقط، و إذا دفعه إلى الحاكم فلا ضمان.

ص: 232


1- العزيز شرح الوجيز 366:6، روضة الطالبين 474:4.
2- العزيز شرح الوجيز 367:6.
3- العزيز شرح الوجيز 367:6، روضة الطالبين 475:4.

و على أحد قولَي الشافعيّة من عدم جواز الأكل في العمران لو أكل كان غاصباً عندهم(1).

و على القول الثاني بجواز الأكل فلهم في وجوب التعريف بعده وجهان، أصحّهما عندهم: الوجوب إذا كان في البلد، كما أنّه لو باع يُعرّف(2).

و إذا كان في الصحراء، قال الجويني: لا يجب؛ لأنّه لا فائدة فيه في الصحراء(3).

و عندنا أنّ تعريف ما بلغ قدر الدرهم واجب، سواء كان المأكول في الصحراء أو العمران، و إذا أكله وجب عليه القيمة؛ لأنّه أتلف مال غيره بغير إذنه.

ثمّ بعد الوقوف على المستحقّ هل يجب إفراز القيمة المغرومة ؟ للشافعيّة قولان:

أظهرهما: إنّه لا يجب؛ لأنّ ما في الذمّة لا يخاف هلاكه، و إذا أفرز كان المفروز أمانةً في يده، فربما تلف، فما في الذمّة أحفظ، و لأنّ كلّ موضعٍ جاز له التصرّف في اللّقطة لا يجب عليه عزل قيمتها، كما بعد الحول.

و الثاني: إنّه يجب؛ احتياطاً لصاحب المال؛ لتقدّم صاحب المال بتلك القيمة لو أفلس الملتقط، و لأنّه لو باعها كان الثمن عنده معزولاً، فكذا إذا أكلها، فحينئذٍ يجب أن يرفع الأمر إلى الحاكم ليقبض عن صاحب4.

ص: 233


1- العزيز شرح الوجيز 367:6، روضة الطالبين 475:4.
2- العزيز شرح الوجيز 367:6-368، روضة الطالبين 475:4.
3- العزيز شرح الوجيز 368:6، روضة الطالبين 475:4.

المال(1).

فإن لم يجد حاكماً، فهل للملتقط بسلطنة الالتقاط أن ينيب عنه ؟ فيه عند الجويني احتمال، و ذكر أنّه إذا أفرزها لم تصر ملكاً لصاحب المال، لكنّه أولى بتملّكها، لكنّه لو كان كذلك لما سقط حقّه بهلاك القيمة المفروزة، و قد نصّ الشافعي على السقوط، و أيضاً نصّ على أنّه إذا مضت مدّة التعريف فله أن يتملّك تلك القيمة، كما يتملّك نفس اللّقطة، و كما يتملّك الثمن إذا باع الطعام، و هو يقتضي صيرورتها ملكاً لصاحب اللّقطة(2).

و لو اختلفت القيمة يوم الأخذ و يوم الأكل، قال بعض الشافعيّة: إنّه إن أخذ للأكل اعتُبرت قيمته يوم الأخذ، و إن أخذ للتعريف اعتُبرت قيمته يوم الأكل(1).

و لا بأس به عندي.

و لو افتقر ما يمكن إبقاؤه إلى المعالجة، كتجفيف الرطب بحيث يصير تمراً، فإن كان الحظّ لصاحبه في بيعه رطباً، بِيع إمّا بأمر الحاكم إن وُجد، أو يتولّاه الملتقط إن لم يمكن الوصول إليه.

و إن لم يكن الحظّ في بيعه، فإن تبرّع أحد بتجفيفه فذاك، و إلّا باع الحاكم أو الملتقط مع تعذّره بعضَه، و أنفق على تجفيف الباقي، بخلاف الحيوان حيث يُباع بأجمعه؛ لأنّ النفقة قد تُكرّر فيؤدّي إلى أن يأكل نفسه.

تذنيب: إذا باع الطعام عرّف المبيعَ دون الثمن،

كما أنّه إذا أكل يعرّف المأكولَ دون القيمة.

مسألة 348: ما لا يبقى عاماً كالطبيخ و البطّيخ و الفاكهة التي لا تُجفّف

ص: 234


1- العزيز شرح الوجيز 368:6، روضة الطالبين 476:4.

و الخضروات يتخيّر ملتقطها بين أكلها و حفظ ثمنها، و بين دفعها إلى الحاكم ليبيعها إن تمكّن منه على ما قدّمناه.

و لا يجوز له إبقاؤه؛ لأنّه يتلف، فإن تركه حتى تلف ضمن؛ لأنّه فرّط في حفظه، فلزمه ضمانه، كالوديعة.

و ليس له بيعه بنفسه مع وجود الحاكم.

خلافاً لأحمد في الشيء القليل(1).

و هو يبطل بالكثير، و لأنّه مال الغير، و لا ولاية له عليه و لا على مالكه، فلم يجز بيعه إلّا بالحاكم، كغير اللّقطة.

احتجّ: بأنّه أُبيح له أكله فأُبيح له بيعه، كماله، و لأنّه أُبيح له بيعه عند العجز عن الحاكم، فجاز عند القدرة عليه(2).

و هو غلط؛ لأنّ في البيع ولايةً على مال الغير، بخلاف الأكل؛ لأنّ القصد به مع الانتفاع أداء القيمة إلى المالك، و حالة العجز لا قدرة على الحاكم، فأُبيح له البيع؛ تخلّصاً من ضررها، بخلاف حال القدرة.

إذا تقرّر هذا، فإن أراد الأكل أو البيع، عرف صفاته و حفظها، ثمّ عرّفه عاماً، فإن جاء صاحبه فإن كان قد باعه دفع ثمنه إليه، و إن كان قد أكله غرمه له بقيمته.

و لو تلف الثمن منه بغير تفريطه قبل تملّكه أو نقص أو تلفت العين أو نقصت بغير تفريطٍ، فلا ضمان على الملتقط، و إن تلفت أو نقصت أو نقص الثمن أو تلف بتفريطه، لزمه ضمانه.

و كذا لو تلف الثمن بعد أن تملّكه أو نقص أو تلفت العين أو نقصت

ص: 235


1- المغني 395:6.
2- المغني 395:6.

بعد أن تملّكها.

مسألة 349: ما يفتقر إلى العلاج يُنظر الحظّ لصاحبه فيفعل كما قلناه أوّلاً،
اشارة

فإن كان في التجفيف جفّفه أو رفعه إلى الحاكم ليس له إلّا ذلك؛ لأنّه مال غيره، فلزمه الحظّ فيه لصاحبه، كالوليّ عن اليتيم.

و لو افتقر إلى غرامةٍ، باع بعضه في ذلك.

و لو كان الحظّ في بيعه، باعه و حفظ ثمنه، و لو تعذّر بيعه و لم يمكن تجفيفه، تعيّن أكله، كالبطّيخ.

و عن أحمد رواية أُخرى: إنّه لا يؤكل، بل إمّا أن يبيعه أو يتصدّق به، و كذا كلّ طعامٍ يتغيّر لو بقي لا يجوز أكله، بل يتخيّر بين الصدقة به و البيع، و به قال مالك و أصحاب الرأي(1).

و قال الثوري: يبيعه و يتصدّق بثمنه(2).

و الكلّ باطل بما روي من طُرق العامّة و الخاصّة من قول النبيّ صلى الله عليه و آله في ضالّة الغنم: «خُذْها فإنّما هي لك أو لأخيك أو للذئب»(1) و هذا تجويز للأكل، فإذا جاز فيما هو محفوظ بنفسه ففيما يفسد ببقائه أولى.

تذنيب: إذا باع الطعام الذي يخشى فساده أو الذي يحتاج إلى العلاج، تولّاه الحاكم،

فإن تعذّر تولّاه بنفسه؛ لأنّه موضع ضرورةٍ، و إذا باع و عرف صاحبه، لم يكن له الاعتراض في البيع؛ لأنّه وقع جائزاً.

أمّا لو باعه بدون إذن الحاكم و في البلد حاكم، كان البيع باطلاً، فإذا جاء صاحبه، كان له مطالبة المشتري به، فإن كان تالفاً رجع بالقيمة على مَنْ شاء؛ لأنّ الملتقط ضمنه بالبيع و التسليم، و المشتري بالتسلّم، فإن رجع

ص: 236


1- راجع: الهامش (1 و 2) من ص 166.

على الملتقط رجع الملتقط على المشتري؛ لأنّ التلف حصل في يده، و يده ضامنة، و إن رجع على المشتري لم يرجع على الملتقط.

مسألة 350: قد بيّنّا أنّه تجب المبادرة إلى التعريف، فلو أخّره عن الحول الأوّل مع الإمكان أثم؛

لأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله أمر به(1) ، و قال: «لا يكتم و لا يغيّب»(2).

و لأنّ ذلك وسيلة إلى أن لا يعرفها صاحبها، فإنّ الظاهر أنّ صاحبها بعد الحول ييأس منها و يسلو(3) عنها و يترك طلبها.

و لا يسقط التعريف بتأخيره عن الحول الأوّل؛ لأنّه واجب، فلا يسقط بتأخّره عن وقته، كالعبادات و سائر الواجبات، و لأنّ المقصود يحصل بالتعريف في الحول الثاني على نعت من القصور، فيجب الإتيان به؛ لقوله عليه السلام: «إذا أمرتكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم»(4).

و قال أحمد: يسقط التعريف بتأخّره عن ذلك الحول الأوّل؛ لأنّ حكمة التعريف لا تحصل بعد الحول الأوّل(5).

و هو ممنوع.

فعلى هذا لو ترك التعريف في بعض الحول الأوّل، عرّف بقيّته و أكمله من الحول الثاني.

و عن أحمد: يكتفي بالتعريف باقي الحول خاصّةً(6).

ص: 237


1- راجع: الهامش (1) من ص 166.
2- تقدّم تخريجه في ص 174، الهامش (1).
3- أي: ينسى. لسان العرب 394:14 «سلا».
4- صحيح البخاري 117:9، مسند أحمد 9239/162:3، و 10229/307.
5- المغني 352:6-353، الشرح الكبير 377:6.
6- المغني 353:6، الشرح الكبير 377:6.

و إذا عرّفها حولاً بعد الحول الأوّل، جاز له أن يتملّكها بعده.

و كذا لو أخّر بعض الحول عرّف باقيه و أتمّه من الثاني، و تملّكها بعد الإتمام عندنا.

و قال أحمد: ليس له أن يتملّكها بعد إهماله، سواء قلنا بسقوط التعريف في الحول الثاني، أو قلنا بوجوبه، و سواء عرّفها الحول الثاني أو بعض الأوّل و أكمل من الثاني؛ لأنّ شرط الملك التعريفُ في الحول الأوّل و قد فات، فيسقط؛ لفوات شرطه(1).

و هو ممنوع؛ لأنّ العبادات لا تسقط بفوات أوقاتها، فكيف إذا تعلّق بها حقّ الغير!

إذا عرفت هذا، فقال أحمد: إنّه يجب عليه إمّا حفظها أبداً أو الصدقة بها على روايتين(2).

و قال بعض أصحابه: يجوز أن يدفعها إلى الحاكم، كما إذا التقط ما لا يجوز التقاطه(3).

و لو ترك التعريف في بعض الحول الأوّل، لم يملكها أيضاً بالتعريف فيما بعده عنده؛ لأنّ الشرط لم يكمل، و عدم بعض الشرط كعدم جميعه، كما لو أخلّ ببعض الطهارة(2).

و لو ترك التعريف في الحول الأوّل؛ لعجزه عنه بأن يتركه لمرضٍ أو حبسٍ أو نسيانٍ و نحوه، لم يسقط التعريف عندنا، و جاز و مَلَك بعد6.

ص: 238


1- المغني 353:6، الشرح الكبير 378:6. (2 و 3) المغني 353:6.
2- المغني 353:6، الشرح الكبير 378:6.

التعريف في الحول الثاني.

و للحنابلة وجهان:

أحدهما: إنّ حكمه حكم ما لو تركه مع إمكانه، ليس له التملّك بعد التعريف في الحول الثاني؛ لأنّ تعريفه في الحول الأوّل سبب الملك، و الحكم ينتفي لانتفاء سببه، سواء كان انتفاؤه لعذرٍ أو لغير عذرٍ.

و الثاني: إنّه يُعرّفه في الحول الثاني و يملكه؛ لأنّه لم يؤخّر التعريف عن وقت إمكانه، فأشبه ما لو عرّفه في الحول الأوّل(1).

البحث الثالث: في التملّك.
مسألة 351: إذا عرّف الملتقط حولاً و لم يكن من لقطة الحرم، تخيّر بين أُمور ثلاثة:

إمّا أن يستديم حفظها لمالكها أبداً إلى أن يظهر فيسلّمها إليه، و لا ضمان عليه إلّا مع التفريط أو التعدّي، أو نيّة التملّك بعده(2) ، أو يتصدّق بها، و يضمن إذا جاء صاحبها خيّره بين الأجر و القيمة، أو يتملّكها و يتصرّف فيها كيف شاء، و يضمنها، و تكون في ذمّته، سواء كان الملتقط غنيّاً أو فقيراً أو مَنْ تحلّ له الصدقة أو تحرم عند علمائنا - و به قال عليٌّ عليه السلام و ابن عباس و الشعبي و النخعي و عمر و ابن مسعود و عائشة و طاوُوس و عكرمة و الشافعي(3) - لما رواه العامّة في حديث زيد بن خالد: «فإن لم تعرف فاستنفقها»(4).

ص: 239


1- المغني 353:6، الشرح الكبير 378:6.
2- أي: بعد الحول.
3- المغني 354:6، الشرح الكبير 380:6، الإفصاح عن معاني الصحاح 55:2، المهذّب - للشيرازي - 437:1، التهذيب - للبغوي - 550:4، البيان 453:7، العزيز شرح الوجيز 369:6، روضة الطالبين 476:4.
4- صحيح مسلم 5/1349:3، سنن البيهقي 190:6، المغني 354:6، الشرح الكبير 380:6.

و في لفظٍ: «و إلّا فهي كسبيل مالك»(1).

و في لفظٍ: «ثمّ كُلْها»(2).

و في لفظٍ: «فانتفع بها»(3).

و في لفظٍ: «فشأنك بها»(4).

و في حديث أُبيّ بن كعب: «فاستنفقها»(5).

و في لفظٍ: «فاستمتع بها»(6).

قال الشافعي: و كان أُبيّ من أيسر أهل المدينة أو كأيسرهم(7).

و من طريق الخاصّة: ما رواه الحلبي - في الصحيح - عن الصادق عليه السلام في اللّقطة يجدها الرجل الفقير أ هو فيها بمنزلة الغني ؟ قال: «نعم» [و] اللّقطة يجدها الرجل و يأخذها، قال: «يُعرّفها سنةً، فإن جاء لها طالب، و إلّا فهي كسبيل ماله»(8).

و لأنّه مَنْ مَلَك بالعوض القرضَ مَلَك بالعوض اللّقطةَ، كالفقير، و لأنّ اللّقطة سببٌ في التملّك، فاستوى فيه الغني و الفقير، كالاحتطاب، و لأنّر.

ص: 240


1- كما في المغني 354:6، و الشرح الكبير 380:6-381.
2- صحيح مسلم 7/1349:3، المغني 354:6، الشرح الكبير 381:6.
3- المغني 354:6، الشرح الكبير 381:6.
4- صحيح البخاري 163:3، صحيح مسلم 1722/1347:3، سنن البيهقي 185:6، المغني 354:6، الشرح الكبير 381:6.
5- كما في المغني 354:6-355.
6- صحيح البخاري 162:3 و 166، صحيح مسلم 1723/1350:3، سنن أبي داوُد 1701/134:2، سنن البيهقي 193:6 و 197.
7- الأُم 67:4، مختصر المزني: 135، الحاوي الكبير 9:8، العزيز شرح الوجيز 370:6.
8- تقدّم تخريجه في ص 168، الهامش (1)، و ما بين المعقوفين أثبتناه من المصدر.

تملّك الغني لها أولى من تملّك الفقير و أنفع لمالكها حيث يجد لها عوضاً، بخلاف الفقير؛ فإنّه إذا تملّكها لم يجد عوضاً لها غالباً فيتلف منه.

و قال أبو حنيفة: إن كان الملتقط فقيراً تخيّر بين الثلاثة المذكورة:

الحفظ لصاحبها دائماً، و الصدقة بها و تكون موقوفةً على إجازة صاحبها، و التملّك لها، إلّا أن يكون من ذوي القربى، و إن كان غنيّاً لم يكن له التملّك، بل يتخيّر بين الإمساك و الصدقة، فإذا جاء صاحبها فإن رضي بالأجر، و إلّا كان له الرجوعُ على الملتقط بها - و به قال الحسن بن صالح و الثوري - لما رواه عياض بن حمار المجاشعي: إنّ النبيّ صلى الله عليه و آله قال: «مَنْ وجد لقطةً فليُشهد عليها ذا عدلٍ أو ذوي عدلٍ، و لا يكتم و لا يغيِّب، فإن وجد صاحبها فليردّها عليه، و إلّا فهو مال اللّه يؤتيه مَنْ يشاء»(1).

قالوا: و ما يضاف إلى اللّه تعالى فإنّما يملكه مَنْ يستحقّ الصدقة.

و لما روى العامّة عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه سئل عن اللّقطة، فقال: «عرّفها حولاً، فإن جاء ربّها و إلّا تصدّق بها، فإذا جاء ربّها فرضي بالأجر و إلّا غرمها»(2).

و من طريق الخاصّة: ما رواه الحسين بن كثير عن أبيه قال: سأل رجلٌ أميرَ المؤمنين عليه السلام: عن اللّقطة، فقال: «يُعرّفها فإن جاء صاحبها دفعها إليه، و إلّا حبسها حولاً، فإن لم يجئ صاحبها أو مَنْ يطلبها تصدّق بها، فإن جاء صاحبها بعد ما تصدّق بها إن شاء أغرمها الذي كانت عنده و كان الأجر2.

ص: 241


1- تقدّم تخريجه في ص 174، الهامش (1).
2- تحفة الفقهاء 355:3، المغني 354:6، الشرح الكبير 380:6، الحاوي الكبير 15:8، حلية العلماء 530:5، التهذيب - للبغوي - 550:4، البيان 453:7، العزيز شرح الوجيز 369:6-370، الإفصاح عن معاني الصحاح 56:2.

له، و إن كره ذلك احتسبها و الأجر له»(1).

و رواياتنا أظهر من حديث عياض؛ لأنّ الأشياء كلّها تضاف إلى اللّه تعالى؛ فإنّه خالقها و مالكها، كما قال اللّه تعالى:«وَ آتُوهُمْ مِنْ مالِ اللّهِ الَّذِي آتاكُمْ» (2) فدعوى أنّ ما يضاف إلى اللّه تعالى لا يتملّكه إلّا مَنْ يستحقّ الصدقة دعوى باطلة بغير دليلٍ.

و حديث أبي هريرة لم يثبت عند نَقَلة الأخبار، و لا نُقل في كتابٍ يوثق به عندهم(3) ، فلا حجّة فيه، و مع ذلك فإنّ الأمر بالصدقة إمّا لأنّه أحد الأشياء المخيّر فيها فيتناوله الأمر، أو على وجه الاستحباب؛ جمعاً بين الأدلّة.

و كذا الحديث من طريق الخاصّة؛ جمعاً بين الأدلّة.

و قد روى محمّد بن مسلم - في الصحيح - عن أحدهما عليهما السلام، قال:

سألته عن اللّقطة، قال: «لا ترفعوها، فإن ابتليتَ فعرِّفها سنةً، فإن جاء طالبها، و إلّا فاجعلها في عرض مالك يجري عليها ما يجري على مالك إلى أن يجيء [لها] طالب»(4).

و الأخبار في ذلك كثيرة.

و حكى الشافعيّة عن مالك عكسَ قول أبي حنيفة، و هو: إنّه قال:

يتملّكها الغني، و لا يتملّكها الفقير(5) ، و لم يحكه أصحابه عنه.6.

ص: 242


1- التهذيب 1164/389:6، الاستبصار 228/68:3.
2- سورة النور: 33.
3- المغني 355:6، الشرح الكبير 381:6.
4- تقدّم تخريجه في ص 222، الهامش (3)، و ما بين المعقوفين أثبتناه من المصدر.
5- الحاوي الكبير 15:8، حلية العلماء 530:5، العزيز شرح الوجيز 370:6.
مسألة 352: لا يملك الملتقط اللّقطةَ بمضيّ الحول من غير أن يختار الملتقط تملّكها،

و لا تدخل في ملكه بعد الحول قهراً على أشهر القولين لعلمائنا - و هو أحد قولَي الشافعي و إحدى الروايتين عن أحمد(1) - لأنّه تملّكٌ بعوضٍ، فلم يحصل إلّا باختيار التملّك، كالبيع.

و لما رواه العامّة من قوله صلى الله عليه و آله: «فشأنك بها»(2)تقدّم تخريجه في ص 209، الهامش (3).(3) فوّض الأمر إلى خيرته، و لم يحكم بقهره على تملّكها.

و من طريق الخاصّة: ما روي عن الباقر عليه السلام، قال في حديث أبي بصير: «مَنْ وجد شيئاً فهو له فليتمتّع به حتى يأتيه طالبه، فإذا جاء طالبه ردّه إليه»(4) أمره بردّه، و إنّما يثبت له ردّ العين، و لو مَلَك لم يجب ردّ العين.

و في الصحيح عن عليّ بن جعفر عن أخيه الكاظم عليه السلام، قال: سألته عن الرجل يصيب درهماً أو ثوباً أو دابّةً كيف يصنع ؟ قال: «يُعرّفها سنةً، فإن لم يعرف حفظها في عرض ماله حتى يجيء طالبها فيعطيها إيّاه، و إن مات أوصى بها و هو لها ضامن»(4) و لو كان مالكاً لها بغير اختياره كان له التصرّف فيها كيف شاء، و لم يأمره بحفظها.

ص: 243


1- الحاوي الكبير 15:8، المهذّب - للشيرازي - 437:1، حلية العلماء 529:5، التهذيب - للبغوي - 551:4، البيان 453:7، العزيز شرح الوجيز 370:6، المغني 355:6، الشرح الكبير 378:6.
2- راجع: الهامش
3- من ص 240.
4- الكافي 10/139:5، التهذيب 1175/392:6.

و القول الثاني للشافعي: إنّه يملكها بمضيّ حول التعريف، و تدخل في ملكه بغير اختياره، كالإرث؛ لأن مضيّ حول التعريف هو السبب في التملّك، فإذا حصل، حصل الملك كالإحياء و الاحتطاب - و هو الرواية الشهيرة(1) عن أحمد(2) ، و قولٌ لبعض علمائنا(3) - لما رواه العامّة عن قول النبيّ صلى الله عليه و آله: «فإذا جاء صاحبها [و إلّا] فهي كسائر مالك»(4).

و من طريق الخاصّة: قول الصادق عليه السلام في اللّقطة: «يُعرّفها سنةً ثمّ هي كسائر ماله»(5).

و نمنع كون التعريف حولاً سبباً للملك القهري.

نعم، هو سبب للملك الاختياري.

و الحاصل: إنّه بعد الحول يملك إن تملّك، و كونها كسائر ماله يصدق على الملك الاختياري.

مسألة 353: يثبت الملك بعد التعريف حولاً

و اختيار المُلتقط التملّكَ بأن يقول: اخترتُ تملّكها - و هو أحد أقوال الشافعي(6) - لأنّ الملك هنا حصل بالعوض - و هو المثل أو القيمة - فافتقر إلى الاختيار و اللفظ الدالّ عليه، كالبيع، و كالشفيع و الغانمين في تملّك الغنيمة.

و الثاني للشافعي: إنّه لا بدّ مع الاختيار و اللفظ من التصرّف، فلو

ص: 244


1- في «ث، ر»: «المشهورة».
2- الحاوي الكبير 15:8، المهذّب - للشيرازي - 437:1، الوسيط 297:4، حلية العلماء 529:5، التهذيب - للبغوي - 551:4، البيان 452:7، العزيز شرح الوجيز 370:6، المغني 355:6، الشرح الكبير 378:6.
3- ابن إدريس في السرائر 102:2 و 103.
4- الشرح الكبير 379:6، و ما بين المعقوفين أثبتناه من المصدر.
5- تقدّم تخريجه في ص 166، الهامش (3).
6- الحاوي الكبير 15:8، الوسيط 297:4، حلية العلماء 529:5، التهذيب - للبغوي - 551:4، البيان 452:7، العزيز شرح الوجيز 370:6، روضة الطالبين 476:4.

لم يتصرّف المُلتقط لم يملك اللّقطة و إن قال: اخترتُ التملّك؛ لأنّ صاحبها لو حضر قبل التصرّف كان أحقَّ بها، فلم تكن مملوكةً لغيره، و لأنّ التملّك باللّقطة كالاستقراض لا يملكه المستقرض إلّا بالتصرّف و العقد و القبض، و على هذا فيشبه أن يجيء الخلاف المذكور في القرض في أنّ الملك بأيّ نوعٍ من التصرّف يحصل ؟(1).

و الثالث: إنّه يملك بمجرّد النيّة و القصد من غير تلفّظٍ و لا تصرّفٍ؛ لأنّ التصرّف يتوقّف على الملك؛ لأنّ الأصل تحريم التصرّف في مال الغير إلّا بإذنه، فلو توقّف الملك عليه لزم الدور، و لمّا خلا هذا التملّك عن الإيجاب لم يفتقر إلى القبول، و إنّما يراعى فيه الاختيار، و ذلك يحصل بالقصد و النيّة(2).

فحصل له أقوال أربعة فيما به يملك: الثلاثة المذكورة، و الرابع: إنّه يدخل في ملكه بغير اختياره(3).

مسألة 354: قد بيّنّا أنّه لا يلتقط من حرم مكة،

و ذكرنا الخلاف في التحريم و الكراهة، و على القولين معاً لا يجوز تملّكها بحالٍ، بل إن التقطها نوى الحفظ لمالكها و عرّفها دائماً - و هو أحد قولَي الشافعي(4) - لما رواه

ص: 245


1- الحاوي الكبير 15:8، الوسيط 297:4، حلية العلماء 529:5، التهذيب - للبغوي - 551:4، البيان 452:7، العزيز شرح الوجيز 371:6، روضة الطالبين 476:4.
2- الوسيط 297:4، حلية العلماء 529:5، التهذيب - للبغوي - 551:4، البيان 452:7، العزيز شرح الوجيز 370:6، روضة الطالبين 476:4.
3- راجع: الهامش (2) من ص 244.
4- الحاوي الكبير 4:8، المهذّب - للشيرازي - 436:1، و الوسيط 298:4، حلية العلماء 522:5-523، التهذيب - للبغوي - 552:4، البيان 440:7، العزيز شرح الوجيز 371:6، روضة الطالبين 476:4، الإفصاح عن معاني الصحاح 57:2، المغني 360:6، الشرح الكبير 385:6.

العامّة أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله قال: «إنّ هذا البلد حرّمه اللّه يوم خلق السماوات و الأرض، لا يُعضد شوكه، و لا يُنفَّر صيده، و لا يلتقط لقطته إلّا مَنْ عرّفها»(1) و روي: «لا تحلّ لقطتها إلّا لمنشدٍ»(2)في التهذيب: «الخثعمي» بدل «الجعفي».(3) أي: لمعرّفٍ، و المعنى على الدوام، و إلّا فالحكم في سائر البلاد كذلك، و لا تظهر فائدة التخصيص.

و من طريق الخاصّة: ما رواه سعيد بن عمرو الجعفي(3) قال: خرجتُ إلى مكة و أنا من أسوأ الناس حالاً فشكوتُ إلى أبي عبد اللّه الصادق عليه السلام، فلمّا خرجتُ وجدتُ على بابه كيساً فيه سبعمائة دينار، فرجعتُ إليه من فوري ذلك فأخبرتُه، فقال: «يا سعيد اتّق اللّه عزّ و جلّ، و عرِّفه في المشاهد» و كنتُ رجوتُ أن يرخّص لي فيه، فخرجتُ و أنا مغتمّ فأتيتُ منى فتنحّيتُ عن الناس حتى أتيتُ الماقوفة(4) فنزلتُ في بيتٍ متنحّياً عن الناس ثمّ قلت: مَنْ يعرف الكيس ؟ فأوّل صوتٍ صوّت إذا رجل على رأسي يقول: أنا صاحب الكيس، فقلت في نفسي: أنت فلا كنت، قلت: ما علامة الكيس ؟ فأخبرني بعلامته، فدفعته إليه، فتنحّى ناحيةً فعدّها فإذا الدنانير على حالها ثمّ عدَّ منها سبعين ديناراً فقال: خُذْها حلالاً خير لك من سبعمائة حراماً، فأخذتُها ثمّ دخلتُ على الصادق عليه السلام فأخبرتُه كيف تنحّيتُ0.

ص: 246


1- صحيح مسلم 986:2-1353/987، سنن البيهقي 195:5.
2- تقدّم تخريجه في ص 206، الهامش
3- .
4- في الكافي: «الموقوفة». و الماقوفة لعلّها اسم موضعٍ، أو محلّ الوقوف بمنى، كما في ملاذ الأخيار 426:10.

و صنعتُ، فقال: «أما إنّك حين شكوتَ إلَيَّ أمرنا لك بثلاثين ديناراً، يا جارية هاتيها» فأخذتُها و أنا أحسن قومي حالاً(1).

و لأنّ مكة مثابة للناس يعودون إليها مرّةً بعد أُخرى، فربما يعود مَنْ أضلّها، أو يبعث في طلبها.

و القول الثاني للشافعي: إنّ مكة كغيرها من البقاع في حكم اللّقطة يُعرّفها الملتقط سنةً ثمّ إن شاء حفظها لمالكها و إن شاء تملّكها، و به قال أبو حنيفة و مالك، و هو أظهر الروايتين عن أحمد(2).

و قد بيّنّا بطلانه.

مسألة 355: كلّ ما جاز التقاطه ملك بالتعريف عند تمامه حولاً،

سواء كانت اللّقطة أثماناً أو عروضاً عند علمائنا أجمع - و هو قول جمهور العلماء؛ فإنّهم لم يختلفوا فيه، و لم يفرّقوا بين العروض و الأثمان في التعريف حولاً و جواز التصرّف فيها بعد الحول(3) - لأنّ الأخبار الواردة في ذلك عامّة تشمل القسمين.

روى العامّة: إنّ النبيّ صلى الله عليه و آله سئل عن اللّقطة، فقال: «عرِّفها سنةً» ثمّ قال في آخره: «فانتفع بها»(4) أو: «فشأنك بها»(5).

ص: 247


1- الكافي 6/138:5، التهذيب 390:6-1170/391.
2- الحاوي الكبير 5:8، المهذّب - للشيرازي - 436:1، الوسيط 298:4، حلية العلماء 523:5، التهذيب - للبغوي - 553:4، البيان 440:7، العزيز شرح الوجيز 371:6، روضة الطالبين 476:4، الإشراف على نكت مسائل الخلاف 1214/680:2، بدائع الصنائع 202:6، المغني 360:6، الشرح الكبير 385:6، الإفصاح عن معاني الصحاح 57:2.
3- المغني 357:6، الشرح الكبير 381:6-382.
4- راجع: الهامش (1) من ص 166، و الهامش (3) من ص 240.
5- راجع: الهامش (1) من ص 166.

و جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه و آله فقال: يا رسول اللّه كيف ترى في متاعٍ يوجد في الطريق المنتاب أو في قريةٍ مسكونة ؟ قال: «عرِّفه سنةً، فإن جاء صاحبه و إلّا فشأنك به(1)»(2).

و روى الحرّ(3) بن الصباح قال: كنتُ عند ابن عمر بمكة إذ جاءه رجل فقال: إنّي وجدتُ هذا البرد و قد نشدته و عرّفته فلم يعرفه أحد و هذا يوم التروية و يوم يتفرّق الناس، فقال: إن شئت فقوِّمه قيمة عدلٍ و لبسته و كنتَ ضامناً له متى جاءك صاحبه دفعته إليه(4) ، و إن لم يجئ له طالب فهو لك إن شئت(5).

و من طريق الخاصّة: ما رواه هشام بن سالم - في الحسن - عن الصادق عليه السلام قال: «جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه و آله فقال: يا رسول اللّه، إنّي وجدتُ شاةً، فقال رسول صلى الله عليه و آله: هي لك أو لأخيك أو للذئب»(6).

و في الحسن عن حريز عن الصادق عليه السلام قال: «لا بأس بلقطة العصا و الشظاظ و الوتد و الحبل و العقال و أشباهه» قال: «و قال الباقر عليه السلام: ليس لهذا طالب»(7).).

ص: 248


1- في النُّسَخ الخطّيّة و الحجريّة: «صاحبها... بها»، و المثبت يقتضيه السياق و كما في المصدر.
2- أورده ابنا قدامة في المغني 358:6، و الشرح الكبير 383:6.
3- في النُّسَخ الخطّيّة و الحجريّة: «الحارث» بدل «الحر». و المثبت كما في المصدر.
4- في المصدر: «دفعت ثمنه إليه».
5- أورده ابنا قدامة في المغني 358:6-359، و الشرح الكبير 383:6.
6- الكافي 12/140:5، التهذيب 1176/392:6.
7- تقدّم تخريجه في ص 209، الهامش (2).

و في الصحيح عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر، قال: سألتُ أبا الحسن الرضا عليه السلام: عن الرجل يصيد الطير الذي يسوي دراهم كثيرة و هو مستوي الجناحين، و هو يعرف صاحبه أ يحلّ إمساكه ؟ فقال: «إذا عرف صاحبه ردّه عليه، و إن لم يكن يعرفه و مَلَك جناحه(1) فهو له، و إن جاءك طالب لا تتّهمه ردّه عليه»(2).

و عن أبي بصير عن الباقر عليه السلام قال: «مَنْ وجد شيئاً فهو له فليتمتّع به حتى يأتيه طالبه، فإذا جاء طالبه ردّه إليه»(3) و هو عامّ في النقد و غيره.

و لأنّ ما جاز التقاطه جاز ملكه بالتعريف، كالأثمان.

و عن أحمد روايتان، هذا أظهرهما عنده.

و الثانية - و عليها أكثر أصحابه -: إنّ العروض لا تُملك بالتعريف - و فرّقوا بينها و بين الأثمان، و اختلفوا فيما يُصنع بها، فقال بعضهم: يُعرّفها أبداً. و قال بعضهم: هو بالخيار بين أن يقيم على تعريفها حتى يجيء صاحبها، و بين دفعها إلى الحاكم حتى يرى فيها رأيه. و هل له بيعها و الصدقة بثمنها؟ روايتان - لأنّ ابن عمر و ابن عباس و ابن مسعود قالوا بذلك، و لأنّها لقطة لا تُملك في الحرم فلا تُملك في غيره، كالإبل، و لأنّ الخبر [ورد](4) في الأثمان، و غيرها لا يساويها؛ لعدم الغرض المتعلّق بعينها، فمثلها يقوم مقامها من كلّ وجهٍ، بخلاف غيرها(5).

و نقلُهم عن ابن عمر و غيره ممنوع؛ لما تقدّم من نقل ضدّه، على أنّ2.

ص: 249


1- في المصدر: «جناحيه».
2- التهذيب 1186/394:6.
3- تقدّم تخريجه في ص 243، الهامش (3).
4- ما بين المعقوفين أثبتناه من المصدر.
5- المغني 357:6-358، الشرح الكبير 381:6-382.

قول هؤلاء ليس حجّةً.

و نمنع أنّها لا تُملك في الحرم، و هو منقوض بالأثمان.

و لا يصحّ قياسها على الإبل؛ لأنّ معها حذاءها و سقاءها، ترد الماء و تأكل الشجر حتى يأتيها مالكها، و لا يوجد ذلك في غيرها، و لأنّ الإبل لا يجوز التقاطها فلا تُملك به، و هنا يجوز التقاطها فتُملك، كالأثمان.

و لا يصحّ قياسها على لقطة الحرم؛ لأنّ الحرم متميّز بأنّ لقطته لا يضمنها إلّا منشد، و لهذا لم تُضمن الأثمان بالتقاطها فيه، فلا يلزم أن لا تُملك في موضعٍ آخَر لم يوجد المانع فيه.

و نمنع خصوصيّة النصّ في الأثمان، بل هو عامّ في كلّ لقطةٍ.

و أيضاً لو تخصّص اللّقطة بالأثمان، لجاز القياس عليها عندكم إذا وُجدت المشاركة بينهما في المعنى، كسائر النصوص التي عقل معناها و وجد في غيرها، و هنا قد وُجد المعنى، بل هو آكد؛ لأنّ الأثمان لا تتلف بمضيّ الأزمنة عليها و انتظار صاحبها أبداً، و العروض تتلف بذلك، ففي النداء عليها دائماً هلاكُها و ضياع ماليّتها على مالكها و ملتقطها و سائر الناس، و في إباحة الانتفاع بها و ملكها بعد التعريف حفظٌ لماليّتها على صاحبها بدفع قيمتها إليه و نفع غيره، فيجب المصير إليه؛ لأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله نهى عن إضاعة المال(1) ، و لاشتماله على المصلحة و الحفظ للمال على صاحبه وجب مشروعيّة التقاطه و تملّكه، و لأنّ في [إثبات](2) الملك فيها حثّاً على التقاطهاق.

ص: 250


1- معاني الأخبار: 279 (باب معنى المحاقلة و المزابنة...)، صحيح البخاري 139:2، صحيح مسلم 14/1341:3، سنن البيهقي 63:6، سنن الدارمي 311:2، مسند أحمد 17768/312:5.
2- ما بين المعقوفين يقتضيه السياق.

و حفظها و تعريفها؛ لكونه وسيلةً إلى الملك المقصود للآدمي، و في نفي ملكها تضييع لها.

البحث الرابع: في وجوب الردّ.
مسألة 356: يجب ردّ لقطة الحرم على مالكها بعينها مع ظهوره، و لا يجوز تملّكها بحالٍ،

بل إمّا أن يحتفظها دائماً و لا ضمان، و إمّا أن يتصدّق بها بعد الحول.

و في الضمان قولان.

و أمّا لقطة غير الحرم: فإن كانت أقلَّ من درهمٍ لم يجب تعريفها، و للملتقط التصرّف فيها كيف شاء، فإن جاء صاحبها فإن كانت العين باقيةً، فالأقرب: وجوب ردّها إليه؛ لأصالة عصمة مال الغير، سواء نوى الملتقط التملّك أو لا، و إن كانت تالفةً فالأقرب: ردّ القيمة على إشكالٍ.

و أمّا ما زاد على ذلك فإن كانت العين باقيةً و لم يخرج حول التعريف، وجب ردّها بجميع زوائدها المتّصلة و المنفصلة؛ لأنّ النماء تابع للأصل، و الأصل هنا باقٍ على ملك المالك لم يخرج عنه، فيكون النماء له.

و كذا الحكم لو عرّفها حولاً و لم يَنْو التملّك؛ لبقاء ملك صاحبها عليها حيث اعتبرنا في تملّك الملتقط النيّة و اللفظ و لو بقيت في يده أحوالاً كذلك إذا لم يَنْو التملّك.

و لو عرّفها حولاً ثمّ نوى التملّك و تملّك باللفظ، و بالجملة أتى بشرائط التملّك، أو كمل حول التعريف و قلنا: يملك به، ثمّ ظهر المالك، فإن ردّها الملتقط عليه وجب عليه قبولها، و ليس له المطالبة ببدلها و إن كان

ص: 251

الملتقط قد نوى تملّكها؛ لأنّها لا تنحطّ عن مرتبة المثل، و لا شكّ في أنّه لو دفع إليه المثل لم يكن له المطالبة بغيره فكذا العين.

و لو لم يدفعها الملتقط، فالأقرب: إنّه ليس للمالك انتزاعها؛ لأنّها قد صارت ملكاً للملتقط، فلا تُنتقل عنه إلّا بوجهٍ شرعيّ، كالقرض ليس للمُقرض بعد تملّك المقترض الرجوعُ في العين، و هو أحد وجهي الشافعيّة.

و الثاني - و هو الأظهر عندهم -: إنّه ليس للملتقط إلزام المالك بأخذ البدل، بل للمالك انتزاع العين؛ لأنّ الملتقط إنّما يملكها ملكاً مراعىً(1) ، و لهذا قال عليه السلام: «عرِّفها سنةً، فإن جاء صاحبها و إلّا فشأنك بها»(2) و من طريق الخاصّة: قول الصادق عليه السلام - في الصحيح - قال: «يُعرّفها سنةً، فإن جاء لها طالب و إلّا فهي كسبيل ماله»(3).

و لا حجّة فيهما؛ لاحتمال «فإن جاء في السنة» و نمنع كون الملتقط يملكها ملكاً مراعىً؛ فإنّه نفس المتنازع.

مسألة 357: إذا زادت اللّقطة بعد تملّك الملتقط لها ثمّ جاء المالك، فإن كانت الزيادة متّصلةً تبعت العين، و أخذها المالك و زيادتها؛

لأنّ الزيادة المتّصلة تتبع العين في الردّ بالعيب و في الإقالة، فكذا هنا؛ لأنّها إنّما تبعت هناك؛ لكونها بمنزلة الجزء من العين، و هذا المقتضي موجود هنا.

و إن كانت الزيادة منفصلةً، فهي للملتقط خاصّةً، و يأخذ المالك العينَ مسلوبةَ الزيادة، كالولد و الثمرة؛ لأنّ الزيادة نمت على ملك الملتقط، و هي متميّزة غير تابعةٍ للعين في المفسوخ، فكان له، كنماء المبيع إذا رُدّ بعيبٍ.

ص: 252


1- العزيز شرح الوجيز 373:6، روضة الطالبين 478:4.
2- راجع: الهامش (1) من ص 166.
3- تقدّم تخريجه في ص 168، الهامش (1).

و للحنابلة وجه آخَر ضعيف: إنّ الزيادة تتبع الأصل أيضاً و إن كانت منفصلةً؛ بناءً على المفلس إذا استُرجعت منه العين بعد أن زادت زيادةً متميّزة، و الولد إذا استرجع أبوه ما وهبه له بعد زيادته(1).

و الحكم في المثالين ممنوع، بل الزيادة هنا لمن وقعت في ملكه، و هو المفلس و الولد، على أنّا نمنع الرجوع في هبة الولد بعد التصرّف، لكن يُفرض ذلك في الأجنبيّ عندنا، على أنّ الفرق قائم بين المتنازع و بين الصورتين المذكورتين؛ لأنّ الملتقط ضمن الأصل و مَلَكه مضموناً بالمثل أو القيمة، فكان النماء له ليكون الخراج بالضمان، و في الصورتين لا ضمان على المفلس و لا على الولد، فلم تكن لهما الزيادة، على أنّ الحقّ ما قلناه من كون الزيادة لهما أيضاً.

مسألة 358: لو التقط و عرّف حولاً ثمّ مَلَك ثمّ باع أو وهب أو فَعَل ما يوجب خروجها عن ملكه ثمّ جاء المالك، لم يكن له أخذ العين؛

لأنّ الملتقط قد تصرّف تصرّفاً صحيحاً، و كان له أخذ بدلها.

فإن رجعت إلى الملتقط بفسخٍ أو عقدٍ ناقل - كبيعٍ أو هبةٍ أو غير ذلك - قبل أخذ البدل، فإن قلنا: للمالك إذا وجد العين بعد التملّك المطالبةُ بها، كان له هنا ذلك؛ لأنّه وجد عين ماله في يد ملتقطه، فكان له أخذه، كالزوج إذا طلّق قبل الدخول فوجد الصداق قد رجع إلى المرأة. و إن قلنا:

ليس له الرجوعُ هناك إلى العين بل الواجب له المثل أو القيمة، فعدم الرجوع في العين هنا أولى.

و لو كان الملتقط قد باعها بخيارٍ ثمّ جاء مالكها في مدّة الخيار،

ص: 253


1- المغني 368:6، الشرح الكبير 390:6.

لم يكن له فسخ العقد - و هو أحد وجهي الشافعيّة(1) - لأنّ فسخ العقد حقّ العاقد، فلا يتمكّن غيره منه بغير إذنه.

و الثاني: إنّ له الفسخَ(2).

و ردّ بعض الشافعيّة الوجهين إلى أنّه هل يُجبر الملتقط على الفسخ ؟(3).

و يجوز عندهم فرض الوجهين في الانفساخ كالوجهين فيما إذا باع العَدْل الرهنَ بثمن المثل فظهر طالب في مجلس العقد بزيادةٍ(4).

مسألة 359: لو باع الملتقط اللّقطةَ أو اشترى بها شيئاً بعد أن تملّكها، لم يكن للمالك الرجوعُ في الثمن الذي باع به الملتقط

و لا في العين التي اشتراها بها، بل يرجع إلى مثل اللّقطة أو قيمتها؛ لأنّه الواجب له، إلّا أن يشتري لصاحبها لا له.

فإن اشترى بالعين بعد التملّك، لم يصح؛ لأنّه لا يجوز أن يشتري الإنسان لغيره بمالٍ ليس للغير.

و إن اشترى في الذمّة و نسب، فإن جاء صاحبها و أجاز الشراء كان له، و إن لم يُجز الشراء كان له المطالبة بالمثل أو القيمة.

و إن كان الملتقط قد أضاف الشراء إليه في العقد و سمّاه، كان له الفسخ و أخذ عين ماله؛ لأنّ الملتقط لم يشتر لنفسه، بل على حدّ الوكالة التي لم يأذن الموكّل في الشراء فيها.

و لو كان الملتقط قد اشترى بالعين جاريةً لنفسه ثمّ ظهر أنّها بنت

ص: 254


1- المهذّب - للشيرازي - 438:1، حلية العلماء 532:5، البيان 457:7، العزيز شرح الوجيز 373:6، روضة الطالبين 478:4.
2- المهذّب - للشيرازي - 438:1، حلية العلماء 532:5، البيان 457:7، العزيز شرح الوجيز 373:6، روضة الطالبين 478:4.
3- العزيز شرح الوجيز 373:6، روضة الطالبين 479:4.
4- العزيز شرح الوجيز 373:6، روضة الطالبين 479:4.

صاحب اللّقطة، لم تُعتق عليه، و لم يجز له أخذها من الملتقط؛ لأنّ الشراء وقع له.

و لما رواه أبو العلاء عن الصادق عليه السلام، قال: قلت له: رجل وجد مالاً فعرّفه حتى إذا مضت السنة اشترى منه خادماً فجاء طالب المال فوجد الجارية التي اشتُريت بالدراهم هي ابنته، قال: «ليس له أن يأخذ إلّا دراهمه، و ليس له البنت، إنّما له رأس ماله، و إنّما كانت ابنته مملوكة قومٍ»(1).

مسألة 360: اللّقطة في مدّة حول التعريف أمانة في يد الملتقط إذا لم يتملّكها قبل التعريف و لا فرّط و لا تعدّى فيها،

فلو تلفت لم يكن عليه شيء، و كذا لو نقصت.

و إن أتلفها الملتقط أو تلفت بتفريطه، ضمنها بمثلها إن كانت من ذوات الأمثال، و بقيمتها إن لم يكن لها مثلٌ بغير خلافٍ.

و إن تلفت بعد الحول قبل نيّة التملّك، فكذلك إن لم نقض بالتملّك بمجرّد حئول الحول.

و إن قلنا: إنّه يملك بمضيّ الحول بغير اختياره، أو حال الحول و تملّك باختياره ثمّ تلفت أو أتلفها، ثبت في الذمّة مثلها إن كانت من ذوات الأمثال، و إن كانت من ذوات القِيَم ضمن القيمة؛ لأنّه تصرّف في مال الغير بالتملّك أو الإتلاف بغير إذنه و رضاه، فكان ضامناً.

و لما رواه حنان قال: سأل رجل أبا عبد اللّه الصادقَ عليه السلام: عن اللّقطة

ص: 255


1- الكافي 8/139:5، التهذيب 391:6-1173/392.

و أنا أسمع، قال: «تعرّفها سنةً، فإن وجدتَ صاحبها و إلّا فأنت أحقّ بها» و قال: «هي كسبيل مالك» و قال: «خيِّره إذا جاءك بعد سنةٍ بين أجرها و بين أن تغرمها له إذا كنت أكلتها»(1).

إذا عرفت هذا، فإنّه إن كانت العين من ذوات الأمثال، وجب ردّ المثل مع تلفها إن أمكن، و إن تعذّر ردّ المثل كان عليه قيمته يوم الغرم، و إن كانت من ذوات القِيَم وجب عليه ردّ قيمتها يوم التملّك.

مسألة 361: إذا تملّكها الغني أو الفقير بعد التعريف حولاً ثمّ أتلفها أو تلفت، كان عليه بدلها لصاحبها

في قول عامّة أهل العلم(2) ، و إن كانت باقيةً ردّها بعينها أو بقيمتها أو مثلها على الخلاف الذي تقدّم؛ لما رواه العامّة في حديث أُبيّ بن كعب أنّه قال: «فإن جاء صاحبها فأدِّها إليه»(3) و أمر النبيّ صلى الله عليه و آله عليّاً عليه السلام بغرم الدينار الذي وجده لمّا جاء صاحبه(4) ، فوجب أن يكون ضامناً في ذمّته من يوم التلف، و لو لا تقوّمه(5) لما تمكّن المالك من طلبه إذا جاء.

و من طريق الخاصّة: قول الباقر عليه السلام: «مَنْ وجد شيئاً فهو له فليتمتّع به حتى يأتيه طالبه، فإذا جاء طالبه ردّه إليه»(6).

ص: 256


1- التهذيب 396:6-1194/397.
2- المهذّب - للشيرازي - 438:1، حلية العلماء 531:5، البيان 455:7، العزيز شرح الوجيز 374:6، روضة الطالبين 479:4، المغني 366:6-367، الشرح الكبير 391:6.
3- تقدّم تخريجه في ص 170، الهامش (1).
4- تقدّم تخريجه في ص 231، الهامش (4).
5- كذا قوله: «ضامناً... تقوّمه». و الظاهر: «ثابتاً... ثبوته».
6- تقدّم تخريجه في ص 243، الهامش (3).

و لأنّ هذا مال مَنْ له حرمة، فإذا أتلفه بغير إذنه و كان من أهل الضمان في حقّه، لزمه بدله، كما لو اضطرّ إلى طعام غيره فأكله.

و قال بعض الشافعيّة: إذا تملّكها الملتقط بعد الحول، لم يطالب بقيمةٍ و لا بعينٍ، سواء كانت باقيةً أو تالفةً - و به قال داوُد الظاهري - لأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله قال للسائل: «عرِّفها حولاً، فإن جاء صاحبها و إلّا فشأنك بها»(1) و روي «فهي لك»(2) و لم يأمره بردّ بدلها(3).

و هو غلط؛ لأنّ الأمر بردّ البدل قد ثبت بغير هذا الحديث، و لا معارضة له في هذا الحديث.

مسألة 362: قال أبو إسحاق من الشافعيّة: إذا تملّك اللّقطة بعد الحول فإن جاء صاحبها و إلّا فهي مال اللّه يؤتيه مَنْ يشاء،

فجَعَلها من المباحات، و لأنّه لو مات لم يعزل بدلها من تركته(4).

و هو غلط؛ لأنّه يستحقّ صاحبه المطالبة ببدله، فدلّ على أنّه يملكه بعوضٍ، كالقرض، و الحديث(5) لو ثبت حُمل على جواز التملّك و استباحته.

و لا نسلّم أنّه لا يعزل بدله؛ فإنّ جماعةً من الشافعيّة قالوا: لا نعرف

ص: 257


1- تقدّم تخريجه في ص 166، الهامش (1).
2- المصنّف - لابن أبي شيبة - 1672/450:6، مسند أحمد 420:2-6897/421.
3- المهذّب - للشيرازي - 438:1، حلية العلماء 531:5، البيان 455:7، العزيز شرح الوجيز 374:6، روضة الطالبين 479:4، المغني 367:6، الشرح الكبير 391:6.
4- البيان 455:7، العزيز شرح الوجيز 374:6، روضة الطالبين 479:4، المغني 356:6.
5- أي: حديث عياض بن حمار، المتقدّم في ص 241.

هذه المسألة(1) ، و لئن(2) سلّمناها فإنّما كان كذلك؛ لأنّه لا يعرف المستحقّ، فالظاهر أنّه لا يعرف فلم توقف التركة.

إذا عرفت هذا، فإنّ اللّقطة عندنا تُملك بالتعريف و الاختيار على ما تقدّم(3).

و قال الحسن و النخعي و أبو مجلز و الحارث العكلي و مالك و أبو يوسف: لا يجوز للملتقط تملّك اللّقطة بحالٍ، فإذا تلفت بعد الحول أو قبله من غير تعدٍّ و لا تفريطٍ، لم يضمنها الملتقط(4).

و قد بيّنّا جواز تملّكها، فيضمن حينئذٍ.

و قد بيّنّا أنّ داوُد و بعض الشافعيّة ذهب إلى أنّ الملتقط يملك العين بعد الحول، فإذا أتلفها لم يضمنها(5).

و عن أحمد رواية بمثل ذلك(6).

و قد تقدّم بطلانه، و لأنّها عين يجب ردّها لو كانت باقيةً، فيلزمه ضمانها إذا أتلفها، كما قبل الحول.

مسألة 363: لو وجد المالك العينَ ناقصةً، فإن كان قبل التملّك من غير تفريطٍ من الملتقط أخذها المالك بحالها، و لا ضمان على الملتقط؛

لأنّها لو تلفت بأسرها لم يكن عليه ضمان، فالأجزاء أولى؛ لأنّها تابعة للأصل.

ص: 258


1- لم نهتد إلى مظانّه.
2- في «ج، خ»: «و إن» بدل «و لئن».
3- في ص 244، المسألة 353.
4- المغني 367:6، الشرح الكبير 391:6.
5- راجع: ص 257، الهامش (3).
6- المغني 367:6، الشرح الكبير 391:6.

و إن نقصت قبل تملّكه من غير تفريطٍ ثمّ تملّكها ثمّ جاء المالك، لم يكن له المطالبة بالأرش أيضاً؛ لأنّ النقص وقع و هي في ملكه بَعْدُ لم تنتقل إلى الملتقط(1) ، و إنّما مَلَكها ناقصةً، فلم يكن عليه ضمان النقص، كما لو تلفت قبله.

و كذا لو تلفت بعد أن تملّكها ناقصةً، لم يكن عليه ضمان النقص، بل يضمن العين ناقصةً بالمثل أو القيمة ناقصةً.

و لو نقصت بعد التملّك أو بتفريطٍ منه ثمّ جاء مالكها، فإن قلنا: إنّ المالك لا يرجع في العين، بل ينتقل حقّه إلى المثل أو القيمة، لم يكن له أخذها، و يرجع إلى بدلها سليمةً.

و لو دفعها الملتقط مع الأرش، فإن قلنا بوجوب قبولها لو كانت سليمةً، وجب هنا أيضاً، و إن قلنا: للمالك أن يأخذ عين ماله، كان له الأخذ هنا مع الأرش؛ لأنّ الكلّ مضمون على الملتقط لو تلف فكذا البعض.

و قال بعض الشافعيّة: إنّه يقنع بها، و ليس له أرش(2).

و ليس بجيّدٍ.

و لو أراد الرجوع إلى بدلها و قال الملتقط: أنا أدفع العين مع الأرش، فالأقوى: إنّه يجب على المالك القبول - و هو أحد وجهي الشافعيّة(3) - لأنّ العين الناقصة مع الأرش كغير الناقصة، و صار كالغاصب.

و لهم وجهٌ آخَر: إنّ للمالك الرجوعَ إلى البدل و إن أوجبنا عليه أخذ4.

ص: 259


1- في «ج»: «ملتقطها».
2- العزيز شرح الوجيز 373:6، روضة الطالبين 479:4.
3- العزيز شرح الوجيز 373:6-374، روضة الطالبين 479:4.

العين السليمة إذا دفعها الملتقط؛ لأنّ ما خرج عن ملكه تغيّر عمّا كان(1).

و حينئذٍ هو بالخيار بين البدل و العين الناقصة إمّا مع الأرش - كما ذهبنا إليه و إمّا بدونه، كما قاله بعض الشافعيّة(2).

مسألة 364: إذا كانت اللّقطة موجودةً و كتمها الملتقط و لم يُعرّفها ثمّ ظهر المالك، كان له أخذها لا غير؛

لأصالة براءة الذمّة، و الملتقط لم تشتغل ذمّته إلّا بعين اللّقطة، فلا يجب عليه ردّ ما عداها.

و قد روى صفوان الجمّال عن الصادق عليه السلام أنّه سمعه يقول: «مَنْ وجد ضالّةً فلم يُعرّفها ثمّ وجدت عنده فإنّها لربّها و مثلها من مال الذي كتمها»(1).

و هو مناسب لقول أحمد في الغنيمة: إنّ مَنْ غلّ منها شيئاً وجب عليه ردّها و مثله(2).

و الرواية محمولة على الاستحباب، أو على أنّه قد مضى من الزمان الذي بقيت في يده ما تكون أُجرته مساويةً لها، فيجب عليه أداء ذلك إذا كان مالكها قد طلبها و كَتَمها عنه.

مسألة 365: لو وجد اللّقطةَ اثنان فالتقطاها معاً دفعةً، وجب عليهما معاً تعريفها حولاً.

و الأقرب: الاكتفاء بتعريف أحدهما إذا فَعَل ما يجب في التعريف؛ لأنّا قد بيّنّا أنّه لا يجب على الملتقط مباشرة التعريف، بل له أن يُعرّفها بنفسه و بغيره.

ص: 260


1- الكافي 17/141:5، الفقيه 843/187:3، التهذيب 1180/393:6.
2- المغني 526:10، الشرح الكبير 527:10.

إذا عرفت هذا، فإن عرّفاها حولاً و قلنا: إنّ الملتقط يملك ملكاً قهريّاً، مَلَكاها معاً بحئول الحول، و ليس لأحدهما نقل حقّه إلى صاحبه، إلّا بسببٍ ناقلٍ من هبةٍ أو غيرها، كما لو ورثا معاً مالاً، و كما أنّه ليس للملتقط نقل حقّه إلى غيره.

و إن قلنا: لا يملك الملتقط إلّا باختياره لو اختارا معاً تملّكها، مَلَكاها. و لو اختارا حفظها و عدم تملّكها، لم يملكها أحدهما، و كانت أمانةً في أيديهما. و لو اختلفا فاختار أحدهما التملّك دون الآخَر، مَلَك المختار نصفها دون الآخَر.

و لو رأياها معاً فبادر أحدهما فأخذها أو رآها أحدهما فأعلم بها الآخَر فأخذها، فهي للآخذ خاصّةً؛ لأنّ استحقاق اللّقطة بالأخذ؛ لا بالرؤية، كالاصطياد و الاحتطاب.

و لو رآها أحدهما فأعلم بها صاحبه و قال له: هاتها، أو أعطني إيّاها، أو ارفعها إلَيَّ، فإن أخذها المأمور لنفسه، فهي له دون الآمر؛ لوجود سبب الملك في حقّه، دون صاحبه، و إن أخذها للآمر أو لنفسه و للآمر، بُني على جواز التوكيل في الاصطياد و نحوه، إن سوّغنا التوكيل عُمل بمقتضى نيّة الآخذ، و إلّا كانت للآخذ خاصّةً.

و لو تنازعا في لقطةٍ(1) ، فادّعى كلٌّ منهما أنّه الذي التقطها دون صاحبه و أقام كلٌّ منهما بيّنةً، فإن شهدت إحداهما بالسبق حُكم له، و إلّا حُكم بها للخارج عندنا، و للداخل عند الشافعي(2).

مسألة 366: لو ضاعت اللّقطة عن ملتقطها بغير تفريطٍ منه، فلا ضمان
اشارة

ص: 261


1- في النُّسَخ الخطّيّة: «اللّقطة».
2- راجع: العزيز شرح الوجيز 374:6، و روضة الطالبين 479:4.

عليه؛ لأنّها أمانة في يده، و كما لو تلفت في يده، فأشبهت الوديعة.

فإن التقطها آخَر فعرف أنّها ضاعت من الأوّل، فعليه ردّها إليه؛ لأنّه قد ثبت له حقّ التموّل و ولاية التعريف و الحفظ، فلا يزول ذلك بالضياع، و هو أحد وجهي الشافعيّة.

و الثاني: إنّ الثاني أحقّ بها(1).

و ليس بجيّدٍ.

و لو لم يعلم الثاني بالحال حتى عرّفها حولاً، مَلَكها الثاني؛ لأنّ سبب الملك وُجد منه من غير عدوانٍ، فيثبت الملك فيه، كالأوّل، و لا يملك الأوّل انتزاعها؛ لأنّ الملك مقدَّم على حقّ التملّك، و إذا جاء صاحبها فله أخذها من الثاني، و ليس له مطالبة الأوّل؛ لأنّه لم يفرّط.

و لو علم الثاني بالأوّل فردّها إليه فامتنع من أخذها و قال: عرِّفها أنت، فعرَّفها، مَلَكها أيضاً؛ لأنّ الأوّل ترك حقّ اليد و ولاية التعريف، فسقط.

و إن قال: عرِّفها و يكون ملكها لي، ففَعَل، فهو مستنيب له في التعريف، و يملكها الأوّل؛ لأنّه وكّله في التعريف، فصحّ، كما لو كانت في يد الأوّل.

و إن قال: عرِّفها و تكون بيننا، صحّ أيضاً، و كانت بينهما؛ لأنّه أسقط حقّه من نصفها، و وكّله في الباقي.

و لو قصد الثاني بالتعريف تملّكها لنفسه دون الأوّل، احتُمل أن يملكها الثاني؛ لأنّ سبب الملك وُجد منه، فمَلَكها، كما لو أذن له الأوّل و عرَّفها لنفسه، و أن لا يملكها الثاني؛ لأنّ ولاية التعريف للأوّل، فأشبه ما4.

ص: 262


1- العزيز شرح الوجيز 374:6-375، روضة الطالبين 480:4.

لو غصبها من الملتقط غاصب فعرّفها.

و كذا الحكم إذا علم الثاني بالأوّل فعرّفها و لم يُعلِمْه بها، و هذا يشبه المحجّر في الموات إذا سبقه غيره إلى ما حجره فأحياه بغير إذنه.

فأمّا إن غصبها غاصب من الملتقط فعرّفها لم يملكها؛ لأنّه متعدٍّ بأخذها، و لم يوجد منه سبب تملّكها، فإنّ الالتقاط من جملة السبب و لم يوجد منه، بخلاف ما لو التقطها اثنان، فإنّه وُجد منه الالتقاط و التعريف.

و لو دفعها الثاني إلى الأوّل فامتنع الأوّل من أخذها فمَلَكها الثاني و أتلفها أو تلفت بعد تملّكه مطلقاً أو قبله بالتفريط فجاء المالك فطلبها، تخيّر في الرجوع على مَنْ شاء منهما.

أمّا الأوّل: فلتمكّنه من أخذ مال الغير الذي استولى عليه، فكان كالدافع لها إلى الغير، لكن يستقرّ الضمان على الثاني.

و أمّا الثاني: فلأنّ التلف في يده.

و لو تملّكها الأوّل بعد التعريف حولاً ثمّ ضاعت منه فالتقطها الثاني فعرّفها حولاً و مَلَكها ثمّ جاء المالك، فإن قلنا: له الرجوع في العين، كان له مطالبة مَنْ شاء منهما، و يستقرّ الضمان على الثاني، و إن قلنا: لا حقّ له في العين، فالأقوى: إنّه ليس له مطالبة الثاني، بل الأوّل خاصّةً، و للأوّل الرجوع على الثاني.

فروع:
أ - لو رأى شيئاً مطروحاً على الأرض فدفعه برِجْله ليعرف جنسه أو قدره ثمّ لم يأخذه حتى ضاع،

قال بعض الشافعيّة: لا يضمنه؛ لأنّه

ص: 263

لم يحصل في يده(1).

و فيه نظر.

ب - لو دفع اللّقطة إلى الحاكم و ترك التعريف و التملّك ثمّ ندم و أراد أن يُعرّف و يتملّك، كان له ذلك،

و يُمكّنه الحاكم منه.

و للشافعيّة وجهان(2).

ج - لو وجد خمراً أراقها صاحبها، لم يلزمه تعريفها؛

لأنّ إراقتها مستحقّة.

فإن صارت عنده خَلّاً، مَلَكها؛ لأنّ الأوّل أسقط حقّه منها، و هو أحد وجهي الشافعيّة.

و الثاني: إنّه لمَنْ أراقها، كما لو غصبها فصارت خَلّاً عنده(1).

و الفرق: إنّها في الغصب مأخوذة بغير رضا صاحبها، و في المتنازع قد أسقط صاحبها حقّه منها.

و هذا البحث يستمرّ في الخمر المحترمة خاصّةً، فالقول حينئذٍ بأنّ إراقتها مستحقّة ممنوع.

أمّا في الابتداء فظاهر.

و أمّا عند الوجدان فكذلك ينبغي أن يجوز إمساكها إذا خلا عن قصدٍ فاسد.

ص: 264


1- المهذّب - للشيرازي - 439:1، العزيز شرح الوجيز 375:6، روضة الطالبين 480:4.

ثمّ هذا الحكم مخصوص بما إذا أراقها؛ لأنّه بالإراقة مُعرض عنها، فيكون كما لو أعرض عن جلد ميتةٍ فدبغه غيره.

و فيه للشافعيّة وجهان(1).

و أمّا إذا ضاعت الخمر المحترمة من صاحبها، فلتُعَّرف، كالكلب.

مسألة 367: و إنّما يجب الدفع إلى المالك، فإذا جاء مَنْ يدّعيها، فإن لم يُقِمْ بيّنةً بها و لا وَصَفها، لم تُدفع إليه،

إلّا أن يعلم الملتقط أنّها له، فيجب عليه دفعها إليه.

و إن أقام البيّنة، رُدّت عليه.

و إن لم تكن هناك بيّنة و لكن وَصَفها بصفاتها الخاصّة التي تخفى عن غير المالك، فإن لم يغلب على ظنّ الملتقط صدقه و أنّها له، لم تُدفع إليه - و هو المشهور للشافعيّة(2) - لأصالة عصمة مال الغير.

و لقوله عليه السلام: «البيّنة على المدّعي»(3).

و حكى الجويني وجهاً آخَر في جواز الدفع(4).

و قال مالك و أبو عبيد و داوُد و أحمد و ابن المنذر: إذا عرف عفاصها و وكاءها و عددها، وجب دفعها إليه، سواء غلب على ظنّه صدقه أو لم يغلب(5).

ص: 265


1- العزيز شرح الوجيز 375:6.
2- العزيز شرح الوجيز 372:6، روضة الطالبين 477:4.
3- جامع المسانيد - للخوارزمي - 270:2، سنن الترمذي 1341/626:3، سنن الدارقطني 8/157:4، سنن البيهقي 279:8، و 252:10.
4- العزيز شرح الوجيز 372:6، روضة الطالبين 477:4.
5- الاستذكار 33107/339:22، التمهيد 120:3، بداية المجتهد 306:2، الذخيرة 117:9، المعونة 1263:2، المغني 363:6، الشرح الكبير 388:6، الإفصاح عن معاني الصحاح 58:2، الحاوي الكبير 23:8، حلية العلماء 540:5، البيان 458:7، العزيز شرح الوجيز 372:6.

و أمّا الشافعي و أبو حنيفة فإنّهما قالا: لا يُجبر على دفعها إلّا ببيّنةٍ(1) ، كما ذهبنا إليه.

و يجوز له دفعها إليه إذا غلب على ظنّه صدقه، و به قالا(2).

و قال أصحاب الرأي: إن شاء دفعها إليه، و أخذ كفيلاً(3).

و احتجّ مالك و أحمد: بما روي عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال: «فإن جاء أحد يُخبرك بعددها و وعائها و وكائها فادفعها إليه»(4).

قال ابن المنذر: هذا الثابت عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله، و به أقول(5).

و لأنّ إقامة البيّنة بذلك تتعذّر(6) في اللّقطة، فاكتفي فيها بالوصف،ه.

ص: 266


1- الأُم 66:4، مختصر المزني: 136، الحاوي الكبير 23:8، المهذّب - للشيرازي - 438:1، الوجيز 253:1، حلية العلماء 540:5، التهذيب - للبغوي - 554:4، البيان 458:7، العزيز شرح الوجيز 372:6، روضة الطالبين 477:4، مختصر القدوري: 135-136، تحفة الفقهاء 355:3، بدائع الصنائع 202:6، الاختيار لتعليل المختار 50:3، المغني 363:6، الشرح الكبير 388:6، الاستذكار 339:22-33114/340 و 33115، التمهيد 120:3، بداية المجتهد 306:2، الذخيرة 117:9، المعونة 1263:2، الإفصاح عن معاني الصحاح 58:2.
2- الأُم 66:4، مختصر المزني: 136، الحاوي الكبير 23:8، المهذّب - للشيرازي - 438:1، الوجيز 253:1، حلية العلماء 540:5، التهذيب - للبغوي - 554:4، البيان 458:7، العزيز شرح الوجيز 372:6، روضة الطالبين 477:4، مختصر القدوري: 136، بدائع الصنائع 202:6، الاختيار لتعليل المختار 50:3، الإفصاح عن معاني الصحاح 58:2، المغني 363:6، الشرح الكبير 388:6، الاستذكار 339:22-33114/340 و 33115.
3- الهداية - للمرغيناني - 177:2، بدائع الصنائع 202:6، الاستذكار 33118/340:22، المغني 363:6، الشرح الكبير 388:6.
4- سنن البيهقي 192:6 و 197.
5- المغني 363:6.
6- في النُّسَخ الخطّيّة و الحجريّة: «متعذّر». و الصحيح ما أثبتناه.

و لهذا أمر النبيّ صلى الله عليه و آله الملتقط بمعرفة العفاص و الوكاء(1)(2).

و المعتمد ما قلناه؛ لأنّ وصف الوعاء لا يستحقّ به(3) ، كالمغصوب، و تعذّر إقامة البيّنة قائم في المغصوب و المسروق، و ذِكْرُ النبيّ صلى الله عليه و آله الصفاتِ؛ لما قدّمناه من الفوائد، لا للتسليم إلى مدّعيه بمجرّد ذكرها.

و إن غلب على ظنّ الملتقط صدق المدّعي الواصف لها، جاز دفعها إليه و لا يجب - و به قال أبو حنيفة و الشافعي في أصحّ القولين(4) - لما تقدّم من أنّه مُدّعٍ، فيفتقر إلى البيّنة.

و الوجه الثاني للشافعي: إنّه يجب دفعها، و به قال مالك و أحمد؛ لأنّهم أوجبوا الدفع مع وصف العفاص و الوعاء و العدد و إن لم يغلب على الظنّ الصدقُ، فمعه أولى(5).

مسألة 368: و لا يكفي في وجوب الدفع الشاهدُ الواحد و إن كان عَدْلاً؛

لأنّ البيّنة لا تثبت به، و الأمر بالإشهاد وقع باثنين، فلا يكفي الواحد، و الأصل عصمة مال الغير.

و للشافعيّة وجهٌ آخَر: الاكتفاء بالعَدْل الواحد؛ لحصول الثقة بقوله(6).

و يحتمل عندي جواز الدفع إن حصل الظنّ، كما لو حصل الظنّ بالوصف.

ص: 267


1- تقدّم تخريجه في ص 166، الهامش (1).
2- المغني 363:6-364، الشرح الكبير 388:6-389.
3- في النُّسَخ الخطّيّة و الحجريّة: «بها». و المثبت هو الصحيح.
4- راجع: الهامش (1 و 2) من ص 266.
5- راجع: الهامش (5) من ص 265.
6- الوسيط 299:4، الوجيز 253:1، العزيز شرح الوجيز 372:6.

و لو قال الواصف: يلزمك تسليمها إلَيَّ، فله أن يحلف أنّه لا يلزمه.

و لو قال: تعلم أنّها ملكي، حلف على نفي العلم، فإن نكل حلف المدّعي، و حُكم له به.

مسألة 369: إذا حضر طالب اللّقطة و وَصَفَها و لم يُقِم بيّنةً فدفعها الملتقط إليه ثمّ جاء آخَر و أقام البيّنة على أنّها له،

فإن كانت باقيةً انتُزعت منه و دُفعت إلى الثاني.

و إن تلفت عنده، تخيّر المالك بين أن يُضمّن الملتقطَ؛ لأنّه حالَ بين المالك و ملكه بدفعه إلى غيره، أو الواصفَ؛ لفساد القبض، و به قال الشافعي و أبو حنيفة(1).

فإن ضمّن الواصفَ، لم يرجع على الملتقط؛ لأنّ التلف وقع في يده، و لأنّ الثاني ظالم بزعمه، فلا يرجع على غير ظالمه، و إن ضمّن الملتقطَ رجع إن لم يُقرّ للواصف بالملك، و إن أقرّ لم يرجع؛ مؤاخذةً له بقوله.

و قال بعض أصحاب مالك، و أبو عبيد: إنّه لا يضمن الملتقط؛ لأنّه فَعَل ما أُمر به، و هو أمين غير مفرّطٍ و لا مقصّرٍ، فلم يضمن، كما لو دفعها بأمر الحاكم [و](2) لأنّ الدفع واجب عليه، فصار الدفع بغير اختياره، فلم يضمنه، كما لو أُكره(3).

هذا إذا دفع بنفسه، و أمّا إذا ألزمه الحاكم الدفع إلى الواصف، لم يكن لمقيم البيّنة تضمينه؛ لأنّها مأخوذة منه على سبيل القهر، فلم يضمنها، كما

ص: 268


1- المهذّب - للشيرازي - 438:1، البيان 458:7، العزيز شرح الوجيز 372:6، روضة الطالبين 477:4، الاختيار لتعليل المختار 50:3، المغني 365:6، الشرح الكبير 393:6.
2- ما بين المعقوفين أثبتناه من المغني.
3- الذخيرة 119:9: المغني 365:6.

لو غصبها غاصب.

و إذا ضمّن الواصفَ، لم يرجع على أحدٍ؛ لأنّ العدوان منه، و التلف عنده.

ثمّ إن كان رأي الحاكم الدفعَ بالوصف، كان لمقيم البيّنة تضمين المدفوع إليه خاصّةً.

و إن لم يكن رأيه ذلك، كان مخيّراً بين أن يرجع على الحاكم؛ لبطلان الدفع عنده، و بين أن يرجع على القابض، و يستقرّ الضمان على القابض.

و لو جاء الواصف بعد ما تملّك الملتقط اللّقطةَ و أتلفها فغرمها الملتقط له لظنّه صدقه ثمّ جاء آخَر و أقام البيّنة بملكيّتها، كان له مطالبة الملتقط دون الواصف؛ لأنّ الذي قبضه الواصف ليس عين ماله، و إنّما هو مال الملتقط.

ثمّ إنّ الملتقط يرجع على الواصف إن لم يكن قد أقرّ له بالملك عند الغرامة، و إن كان قد أقرّ لم يكن له الرجوعُ؛ لاعترافه بأنّه المستحقّ، و أنّ الثاني ظالم.

و لو تعذّر الرجوع على الملتقط، فالأقوى: إنّ له الرجوعَ على القابض اقتصاصاً للملتقط إن لم يُقم القابض البيّنةَ على الملتقط باعترافه له بالملكيّة.

مسألة 370: لو أقام واحد بيّنةً بها فدُفعت إليه ثمّ أقام آخَر بيّنةً أُخرى بأنّها له أيضاً،
اشارة

فإن لم يكن هناك ترجيح لإحدى البيّنتين على الأُخرى، أُقرع بينهما؛ لأنّه مشكل؛ لانتفاء الأولويّة و الحكم بهما و دفعهما معاً.

فإن خرجت للأوّل فلا بحث، و إن خرجت القرعة للثاني انتُزعت من

ص: 269

الأوّل و سُلّمت إليه.

و لو تلفت، فإن كان الملتقط قد دفع بإذن الحاكم، لم يضمن، و كان الضمان على الأوّل، و إن كان قد دفعها باجتهاده ضمن؛ لأنّه ليس له الحكم لنفسه.

أمّا لو قامت البيّنة بعد الحول و تملّك الملتقط و دفع العوض إلى الأوّل، ضمن الملتقط للثاني على كلّ حالٍ؛ لأنّ الحقّ ثابت في ذمّته لم يتعيّن بالدفع إلى الأوّل، و رجع الملتقط على الأوّل؛ لتحقّق بطلان الحكم.

و عند الشافعي إذا أقام كلّ واحدٍ بيّنةً على أنّها له، ففيه أقوال التعارض(1).

تذنيب: لو أقام مدّعي اللّقطة شاهدَيْن عَدْلين عنده و عند الملتقط و فاسقين عند القاضي،

لم يجز للقابض الدفع بشهادة هذين الشاهدين و إن اعترف الغريم بعدالتهما؛ لأنّه يعرف منهما ما يخفى عن الغريم.

و للشافعيّة وجهان:

أصحّهما عندهم: هذا.

و الثاني: إنّ له الدفعَ؛ لاعترافه بعدالتهما(2).

و ليس بشيءٍ.

آخَر: لو وصفها اثنان و تداعياها، فإن قلنا بالدفع بالوصف وجوباً، أُقرع بينهما،

كما لو أقاما بيّنةً، و إن قلنا به جوازاً، جازت القرعة، و الحكم كما تقدّم.

و قال بعض الحنابلة: تقسم بينهما؛ لتساويهما فيما يستحقّ به الدفع،

ص: 270


1- حلية العلماء 557:5، العزيز شرح الوجيز 373:6، روضة الطالبين 478:4.
2- العزيز شرح الوجيز 372:6، روضة الطالبين 478:4.

فتساويا فيها، كما لو كانت في أيديهما(1).

و ليس بشيءٍ؛ لأنّهما لو تداعيا عيناً في يد غيرهما و تساويا في البيّنة أو عدمها، تكون لمن وقعت له القرعة، كما لو تداعيا وديعةً في يد إنسانٍ و اعترف لأحدهما من غير تعيينٍ، بخلاف ما لو كانت في يديهما؛ لأنّ يد كلّ واحدٍ منهما على نصفها، فيُرجّح قوله فيه.

آخَر: لا تُدفع إلى مَنْ خرجت له القرعة إلّا باليمين،

فإن امتنع منها أُحلف الآخَر، فإن امتنعا احتُمل إيقافها إمّا عليهما حتى يصطلحا، أو على غيرهما.

و لا فرق في ذلك بين وجوب القرعة بالوصف أو بالبيّنة.

آخَر: لو وصفها واحد فدُفعت إليه ثمّ جاء آخَر فوصفها و ادّعاها، لم يستحق شيئاً؛

لأنّ الأوّل استحقّها لوصفه إيّاها، و عدم المنازع فيها، و تثبت يده عليها، و لم يوجد ما يقتضي انتزاعها منه، فيجب بقاؤها له، كسائر أمواله.

مسألة 371: لو جاء مدّعي اللّقطة فادّعاها و لم يُقم بيّنةً و لا وَصَفَها، لم يجز دفع اللّقطة إليه،

سواء غلب على ظنّه صدقه أو كذبه - و به قال جمهور العامّة(2) - لأنّها أمانة، فلم يجز(3) دفعها إلى مَنْ لم يثبت أنّه صاحبها، كالوديعة.

ص: 271


1- المغني 364:6-365، الشرح الكبير 392:6.
2- المغني 366:6، الشرح الكبير 394:6.
3- في النُّسَخ الخطّيّة و الحجريّة: «لم يجب» بدل «لم يجز». و المثبت يقتضيه السياق.

فإن دفعها إليه فجاء آخَر فوَصَفَها أو أقام بيّنةً، لزم الدافع غرامتها؛ لأنّه فوّتها على مالكها، و حالَ بينه و بينها بدفعه، و له الرجوع على مدّعيها؛ لأنّه أخذ مال غيره، و لصاحبها تضمين آخذها، فإذا ضمّنه لم يرجع على أحدٍ.

و إن لم يأت أحد، فللملتقط مطالبة آخذها بها؛ لأنّه لا يأمن مجيء صاحبها، فيغرمه إيّاها، و لأنّها أمانة في يده، فمَلَك أخذها من غاصبها، كالوديعة.

** *

ص: 272

المطلب الثالث: في اللواحق.
مسألة 372: قد بيّنّا الخلاف في أنّ الملتقط هل يملك اللّقطة ملكاً مراعىً يزول بمجيء صاحبها

و يضمن له بدلها إن تعذّر ردّها، أو يملكها ملكاً مستقرّاً و يجب عليه دفع العوض إلى صاحبها و إن كانت موجودةً؟

إذا تقرّر هذا، فهل يملكها الملتقط مجّاناً بغير عوضٍ يثبت في ذمّته، و إنّما يتجدّد وجوب العوض بمجيء صاحبها، كما يتجدّد زوال الملك عنها بمجيئه، و كما يتجدّد وجوب نصف الصداق للزوج أو بدله إن تعذّر ثبوت الملك فيه بالطلاق، أو لا يملكها إلّا بعوضٍ يثبت في ذمّته لصاحبها؟ إشكال ينشأ: من قوله عليه السلام: «فإن جاء صاحبها و إلّا فهي مال اللّه تعالى يؤتيه مَنْ يشاء»(1) فجَعَلها من المباحات، رواه العامّة، و من أنّه يملك المطالبة، فأشبه القرض.

و الثاني أولى، و الفائدة: وجوب عزلها، أو عزل بدلها من تركته، و استحقاق الزكاة بسبب الغرم، و وجوب الوصيّة بها، و منع وجوب الخمس بسبب الدَّيْن على التقدير الثاني.

مسألة 373: ما يوجد في المفاوز أو في خربةٍ قد باد أهلها، فهو لواجده من غير تعريفٍ إن لم يكن عليه أثر الإسلام،

و إلّا فهو لقطة.

و كذا المدفون في أرضٍ لا مالك لها، و لو كان لها مالك فهو له؛ قضاءً لليد.

ص: 273


1- تقدّم تخريجه في ص 174، الهامش (1).

و لو انتقلت عنه بالبيع إليه عرّفه، فإن عرّفه فهو أحقّ به، و إلّا عرّفه البائع السابق على بائعه، و هكذا، فإن لم يعرفه أحد منهم فهو لواجده؛ لما رواه محمّد بن مسلم - في الصحيح - عن أحدهما عليهما السلام، قال: و سألته عن الورق يوجد في دارٍ، فقال: «إن كانت الدار معمورةً فهي لأهلها، و إن كانت خربةً فأنت أحقّ بما وجدتَ»(1).

و في الصحيح عن محمّد بن مسلم عن الباقر عليه السلام، قال: سألته عن الدار يوجد فيها الورق، فقال: «إن كانت معمورةً فيها أهلها فهو لهم، و إن كانت خربةً قد جلا عنها أهلها فالذي وجد المال أحقّ به»(2).

و لا ينافي هذا ما رواه محمّد بن قيس عن الباقر عليه السلام قال: «قضى عليٌّ عليه السلام في رجلٍ وجد ورقاً في خربةٍ أن يُعرّفها، فإن وجد مَنْ يعرفها، و إلّا تمتّع بها»(3) لأنّه محمول على ما إذا كان لها مالك معروف، أو كان على الورق أثر الإسلام.

و لو وجد في داره شيئاً و لم يعرفه، فإن كان يدخل منزله غيره فهو لقطة يُعرّفه سنةً، كما يُعرّف اللّقطة، و يكون حكمه حكم اللّقطة، و إن كان لا يدخله غيره كان له؛ بناءً على الظاهر، و قد يعرض له النسيان عمّا مَلَكه.

و لما رواه جميل بن صالح - في الصحيح - عن الصادق عليه السلام، قال:

قلت له: رجل وجد في بيته ديناراً، قال: «يدخل منزله غيره ؟» قال: نعم كثير، قال: «هذه لقطة»(4).

و لو وجد في صندوقه شيئاً و لم يعرف أنّه له، فالحكم كالدار إن كان6.

ص: 274


1- التهذيب 1165/390:6.
2- الكافي 5/138:5، التهذيب 1169/390:6.
3- التهذيب 1199/398:6.
4- الكافي 3/137:5، الفقيه 841/187:3، التهذيب 1168/390:6.

غيره يشاركه في فتحه، كان لقطةً، و إلّا كان لصاحبه؛ لما رواه جميل بن صالح - في الصحيح - عن الصادق عليه السلام: قلت: فرجل قد وجد في صندوقه ديناراً، قال: «يدخل أحد يده في صندوقه غيره أو يضع فيه شيئاً؟» قلت:

لا، قال: «فهو له»(1).

مسألة 374: لو وجد شيئاً في جوف دابّةٍ، فإن كانت الدابّة قد انتقلت إليه من غيره، عرّفه المالك،

فإن عرفه فهو أحقّ به، و إلّا كان(2) ملكاً له.

و يحتمل أن يكون لقطةً يُعرّف البائع و غيره، و يبدأ بالبائع، لكن علماؤنا على الأوّل.

و كذا لو لم تنتقل إليه من غيره، بل تولّدت عنده.

لما رواه عبد اللّه بن جعفر - في الصحيح - قال: كتبتُ إلى الرجل أسأله عن رجلٍ اشترى جزوراً أو بقرةً للأضاحي فلمّا ذبحها وجد في جوفها صُرّةً فيها دراهم أو دنانير أو جوهر لمن تكون ؟ قال: فوقّع عليه السلام:

«عرّفها البائع، فإن لم يكن يعرفها فالشيء لك رزقك اللّه إيّاه»(3).

و لو وجد شيئاً في جوف سمكةٍ كالدرّة يجدها في جوف السمكة، فإن كان قد مَلَكها بالصيد فهو له، قال اللّه تعالى:«وَ تَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها» (4) فيكون لواجدها.

و إن كانت قد انتقلت إليه بالبيع من الصيّاد فوجدها المشتري و لم يعلم الصيّاد بها، قال أحمد: تكون للصيّاد؛ لأنّه إذا لم يعلم ما في بطنها لم يبعه و لم يرض بزوال ملكه عنه، فلم يدخل في المبيع، كمن باع

ص: 275


1- نفس المصادر.
2- في النُّسَخ الخطّيّة و الحجريّة: «كانت» بدل «كان». و الصحيح ما أثبتناه.
3- الكافي 9/139:5، التهذيب 1174/392:6.
4- سورة النحل: 14.

داراً له مال مدفون فيها(1).

و لو وجد شيئاً غير الدرّة ممّا يكون في البحر، فهو للصيّاد، و كان حكمه حكم الجوهرة.

و إن وجد دراهم أو دنانير، فهي لقطة؛ لأن ذلك لا يخلق في البحر، و لا يكون إلّا لآدميٍّ، فيكون لقطةً، كما لو وجده في البحر.

و كذا الدرّة إذا كان فيها أثر آدميّ، كما لو كانت مثقوبةً أو متّصلةً بذهبٍ أو فضّةٍ أو غيرها، فإنّها تكون لقطةً لا يملكها الصيّاد؛ لأنّها لم تقع في البحر حتى تثبت اليد عليها، فهي كالدينار.

و أمّا علماؤنا فقد أطلقوا القول بأنّ ما يجده في جوف السمكة يكون له، و لم يفصّلوا إلى ما ذكرناه، و هو يدلّ على أنّ تملّك اللّقطة يشترط فيه النيّة.

و بالجملة، قول أحمد لا بأس به عندي.

و لم يفرّق علماؤنا بين أن يصطاد السمكة من البحر و غيره.

و أحمد فرَّق بينهما، فجعل ما يصطاد من السمك في النهر و العين كالشاة في أنّ ما يوجد في بطنها من ذلك يكون لقطةً، درّةً كانت أو غيرها(2).

مسألة 375: لو وجد عنبرةً على ساحل البحر، فهي له؛

لإمكان أن يكون البحر قد ألقاها، و الأصل عدم الملك فيها، فكانت مباحةً لآخذها، كالصيد.

و قد روي أنّ بحر عدن ألقى عنبرةً مثل البعير فأخذها ناس بعدن، فكُتب إلى عمر بن عبد العزيز، فكتب عمر: خُذوا منها الخُمْس و ادفعوا إليهم سائرها، و إن باعوكموها فاشتروها، فأردنا أن نزنها فلم نجد ميزاناً

ص: 276


1- المغني 370:6.
2- المغني 370:6-371.

يخرجها، فقطعناها باثنتين(1) و وزناها فوجدناها ستّمائة رطل، فأخذنا خُمْسها و دفعنا سائرها إليهم ثمّ اشتريناها بخمسة آلاف دينار و بعثنا بها إلى عمر بن عبد العزيز فلم يلبث إلّا قليلاً حتى باعها بثلاثة و ثلاثين ألف دينار(2).

و علماؤنا قالوا: إنّ العنبر إن أُخرج من البحر بالغوص، أُخرج منه الخُمْس إن بلغ قيمته ديناراً فصاعداً، و كان الباقي للمُخْرج، و إن قلّت قيمته عن دينارٍ، فهو له بأجمعه، و إن جُبي من وجه الماء أو من الساحل، كان للواجد يخرج منه خُمْسه إن بلغت قيمته عشرين ديناراً، و الباقي له.

و قيل: لا يشترط النصاب(3).

و قد روى الشعيري عن الصادق عليه السلام أنّه سئل عن سفينةٍ انكسرت في البحر فأُخرج بعضه بالغوص و أخرج البحر بعضَ ما غرق فيها، فقال: «أمّا ما أخرجه البحر فهو لأهله، اللّه أخرجه، و أمّا ما أُخرج بالغوص فهو لهم و هُمْ أحقّ به»(4).

مسألة 376: لو اصطاد غزالاً فوجده مخضوباً أو وجد في عنقه خرزاً أو في أُذنه خيطاً أو نحو ذلك ممّا يدلّ على ثبوت اليد عليه، فهو لقطة؛

لأنّ ذلك دليل على أنّه كان مملوكاً لغيره.

و لو ألقى شبكةً في البحر فوقع فيها سمكة فجذبت السمكةُ الشبكةَ فمرّت بها في البحر فصادها رجل، فالسمكة للّذي صادها، و أمّا الشبكة

ص: 277


1- في النُّسَخ الخطّيّة و المغني: «باثنين».
2- المغني 371:6، الشرح الكبير 363:6.
3- لم نتحقّق القائل بذلك.
4- التهذيب 822/295:6.

فيُعرفها، فإن وجد صاحبها دفعها إليه، و لا يملك صاحب الشبكة السمكةَ و إن حصلت في شبكته؛ لأنّ شبكته لم تثبتها، فبقيت على الإباحة.

و كذا لو نصب فخّاً(1) أو شَرَكاً(2) فوقع فيه صيد من صيود البَرّ فأخذه و ذهب به و صاده آخَر، فهو للصائد، و يردّ الآلة إلى صاحبها، فإن لم يعرف صاحبها فهي لقطة.

أمّا لو وجد غزالاً أو حمارَ وحشٍ أو غيرهما من الصيود في شَرَكٍ و قد شارف الموت فخلّصه و ذبحه، فهو لصاحب الحبالة، و ما كان من الصيد في الحبالة فهو لناصبها و إن كان صقراً أو عقاباً.

مسألة 377: لو أُخذت ثيابه في الحمّام و وجد بدلها، أو أُخذ مداسه

مسألة 377: لو أُخذت ثيابه في الحمّام و وجد بدلها، أو أُخذ مداسه(3) و تُرك له بدله، لم يملكه بذلك،

و لا بأس باستعماله إن علم أنّ صاحبه تركه له عوضاً، و يعرّفه سنةً، ثمّ إمّا أن يتملّكه مع الضمان، أو يحتفظه دائماً، أو يتصدّق به و يضمن؛ لأنّ سارق الثياب لم تَجْر بينه و بين مالكها معاوضة توجب زوال ملكه عن ثيابه، فإذا أخذها فقد أخذ مال غيره، فلا يعرف مالكه، فيعرّفه كاللّقطة، إلّا أن يعلم أنّ السارق قصد المعاوضة بأن يكون الذي له أردأ من الذي سرقه، و كانت ممّا لا يشتبه على الآخذ بالذي له، فلا يحتاج حينئذٍ إلى التعريف؛ لأنّ مالكها تركها قصداً، و التعريف إنّما جُعل للضائع عن صاحبه ليعلم به و يأخذه، و تارك هذا عالم به و راضٍ ببدله عوضاً عمّا أخذه، فلا تحصل من تعريفه فائدة، و حينئذٍ يباح للواجد

ص: 278


1- الفخّ: المصيدة التي يصاد بها. لسان العرب 41:3 «فخخ».
2- الشَّرَك: حبائل الصائد و ما يُنصب للطير. لسان العرب 450:10 «شرك».
3- المداس: الذي ينتعله الإنسان أو ما يُلبَس في الرِّجْل. المصباح المنير: 203، القاموس المحيط 217:2 «دوس».

استعمالها؛ لأنّ الظاهر أنّ صاحبها تركها له باذلاً له إيّاها عوضاً عمّا أخذه، فصار كالمبيح له أخذها بلسانه، و هو أحد وجوه الحنابلة.

و لهم آخَران:

أحدهما: الصدقة بها.

و الثاني: الرفع إلى الحاكم ليبيعها و يدفع ثمنها إليه عوضاً عن ماله(1).

و ما قلناه أولى؛ لأنّه أرفق بالناس؛ لأنّ فيه نفعاً لمن سُرقت ثيابه؛ لحصول عوضها له، و للسارق بالتخفيف عنه من الإثم و حفظ هذه الثياب المتروكة من الضياع، و قد أُبيح لمن له على إنسانٍ حقٌّ من دَيْنٍ أو غصبٍ أو غير ذلك أن يأخذ من مال مَنْ عليه الحقّ بقدر ما عليه إذا عجز عن استيفائه بغير ذلك، فهنا مع رضا مَنْ عليه الحقّ بأخذه أولى.

فإن وجد هناك قرينة تدلّ على اشتباه الحال على الآخذ، و أنّه إنّما أخذها ظنّاً أنّها ثيابه بأن تكون المتروكة خيراً من المأخوذة أو مساويةً لها و هي ممّا تشتبه، فينبغي أن يُعرّفها؛ لأنّ صاحبها لم يتركها عمداً، فهي بمنزلة الضائعة منه، و الظاهر: إنّه إذا علم بها أخذها، و ردّ ما كان أخذه.

إذا عرفت هذا، فالظاهر أنّه يتملّكها باختياره بعد التعريف حولاً، فإن ظهر المالك قاصّه بماله و ترادّ الفضل.

و لو دفعها إلى الحاكم بعد التعريف حولاً ليبيعها و يأخذ ثمنها، جاز.

مسألة 378: لو كان عنده وديعة قد أتى عليها زمان لا يعرف صاحبها، يبيعها و يتصدّق بثمنها،

فإذا جاء مالكها بعد ذلك خيّره المستودع بين الغرم و يكون الأجر له، و بين إجازة ما فَعَله و يكون الأجر للمالك.

ص: 279


1- المغني 373:6، الشرح الكبير 365:6.

و لو كان عنده رهون لا يعرف أربابها لطول مكثها، باعها الحاكم و دفع إليه دَيْنه الذي له، و تصدّق بالباقي، و لا يكون ذلك لقطةً.

و لو كان المُلّاك قد أذنوا له في البيع، جاز أن يتولّاه بنفسه.

و لو تعذّر الحاكم و لم يكن أربابها أذنوا له في البيع، جاز له التقويم و البيع للضرورة.

و لو وجد كنزاً في فلاةٍ أو خربةٍ و ليس عليه أثر الإسلام، أخرج منه الخُمْس، و الباقي له، و لو كان عليه أثر الإسلام فهو لقطة.

و لو وجد لقطةً في دار الحرب، فإن لم يكن فيها مسلم مَلَكها، و إن كان فيها مسلم عرَّفها حولاً ثمّ يملكها إن شاء، و لا يجب عليه المقام في دار الحرب للتعريف، بل يتمّ التعريف في دار الإسلام.

و كذا لو وجد لقطةً في بلدٍ، عرّفه فيه ثمّ جاز له أن يسافر، و يكمل التعريف في غيره.

و لو دخل دار الحرب بأمانٍ فالتقط منها لقطةً، عرّفها حولاً؛ لأنّ أموالهم محرّمة عليه، فإن لم يعرفها أحد مَلَكها بعد التعريف.

و لو دخل إليهم متلصّصاً فوجد لقطةً، مَلَكها إن لم يكن فيها مسلم، و إلّا عرّفها حولاً.

مسألة 379: لو مات الملتقط قبل التعريف، قام وارثه مقامه في التعريف حولاً ثمّ يتملّكها بعده، و يضمن كالمورّث.

و لو كان الملتقط قد عرّف بعض الحول، أكمله الوارث، و لا يحتاج إلى استئناف التعريف، بخلاف الملتقط من الملتقط؛ لأنّه يطلب المالك أو الملتقط، فافتقر إلى استئناف التعريف حولاً، و أمّا الوارث فإنّه يطلب المالك لا غير.

ص: 280

و لو كان المورّث قد عرّفها حولاً و لم يتملّك، كان للوارث أن يتملّك بغير تعريفٍ.

و لو مات بعد أن عرّفها حولاً و تملّكها، صارت موروثةً عنه، كغيرها من أمواله، فإن جاء صاحبها أخذها من الوارث، كما يأخذها من المورّث، و إن كانت معدومة العين فصاحبها غريم للميّت يطالبه بمثلها إن كانت من ذوات الأمثال، و إلّا فبالقيمة، فيأخذ [ذلك](1) من تركته إن اتّسعت لذلك، فإن ضاقت زاحم الغرماء ببدلها، سواء تلفت بعد التملّك بفعله أو بغير فعله، و كذا لو تلفت بَعْدُ بتعدّيه بفعله أو بغير فعله؛ لأنّها في الأوّل دخلت في ملكه بنيّة التملّك، و في الثاني في ضمانه بتعدّيه.

و لو علم أنّها تلفت قبل الحول بغير تفريطه، فلا ضمان عليه، و لا شيء لصاحبها؛ لأنّها أمانة في يده تلفت بغير تفريطه، فلم يضمنها، كالوديعة.

و كذا لو تلفت بعد الحول قبل التملّك بغير تفريطٍ على رأي مَنْ يعتقد أنّها لا تدخل في ملكه إلّا بنيّة التملّك.

و لو لم يعلم تلفها و لم توجد في تركته، احتُمل أن يكون لصاحبها المطالبة من تركته، سواء كان قبل الحول أو بعده؛ لأنّ الأصل بقاؤها.

و يحتمل أن لا يلزم الملتقط شيء، و يسقط حقّ صاحبها؛ لأصالة براءة ذمّة الملتقط منها.

و يحتمل أن تكون قد تلفت بغير تفريطٍ، فلا تشتغل ذمّته بالشكّ.ق.

ص: 281


1- ما بين المعقوفين يقتضيه السياق.

ص: 282

الفصل الثاني: في لقطة الحيوان

اشارة

و مطالبه ثلاثة:

المطلب الأوّل: المأخوذ.
مسألة 380: كلّ حيوانٍ مملوكٍ ضائعٍ و لا يد عليه يجوز التقاطه، إلّا ما يستثنى، و يُسمّى ضالّةً.

و أخذه في صُور الجواز مكروه؛ لما رواه العامّة عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال: «لا يؤوي الضالّةَ إلّا ضالٌّ»(1)التهذيب 1182/394:6.(2).

و من طريق الخاصّة: ما رواه جرّاح المدائني عن الصادق عليه السلام قال:

«الضوالّ لا يأكلها إلّا الضالّون إذا لم يُعرّفوها»(2).

و عن وهب عن الصادق عليه السلام عن أبيه الباقر عليه السلام قال: «لا يأكل الضالّة إلّا الضالّون»(3).

أمّا إذا تحقّق التلف، فإنّه تزول الكراهة، و يبقى طلقاً.

إذا عرفت هذا، فإنّه يستحبّ الإشهاد - كما قلنا في لقطة الأموال - لما لا يؤمن تجدّده على الملتقط، و لتنتفي التهمة عنه.

مسألة 381: الحيوان إن كان ممّا يمتنع من صغار السباع إمّا لفضل قوّته

- كالإبل و الخيل و البغال و الحمير - أو لشدّة عَدْوه - كالظباء المملوكة و الأرانب - أو بطيرانه - كالحمام - و بالجملة، كلّ ما يمتنع من صغار السباع

ص: 283


1- تقدّم تخريجه في ص 167، الهامش
2- .
3- التهذيب 1193/396:6.

و صغار الثعالب و ابن آوى و ولد الذئب و السبع لا يجوز التقاطه و لا التعرّض له، سواء كان لكِبَر جثّته - كالإبل و الخيل و البغال و الحمير - أو لطيرانه، أو لسرعة عَدْوه، أو لنابه، كالكلاب و الفهود - و به قال الشافعي و الأوزاعي و أبو عبيد و أحمد(1) - لما رواه العامّة عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه سئل عن ضالّة الإبل، فغضب حتى احمرّت وَجْنتاه و قال: «ما لك و لها؟ معها حذاؤها و سقاؤها، ترد الماء و ترعى الشجر»(2).

و سئل عليه السلام، فقيل: يا رسول اللّه، إنّا نُصيب [هوامي](3) الإبل، فقال:

«ضالّة المسلم حرَق النار(4)»(5).

و من طريق الخاصّة: ما رواه هشام بن سالم - في الحسن - عن الصادق عليه السلام قال: «جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه و آله فقال: يا رسول اللّه، إنّي وجدتُ شاةً، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: هي لك أو لأخيك أو للذئب، فقال: يا رسول اللّه، إنّي وجدتُ بعيراً، فقال: معه حذاؤه و سقاؤه، حذاؤه خُفّه، و كرشه سقاؤه، فلا تهجه»(6).).

ص: 284


1- الحاوي الكبير 5:8-6، المهذّب - للشيرازي - 438:1، حلية العلماء 532:5، العزيز شرح الوجيز 353:6-354، المغني 396:6، الشرح الكبير 349:6-350.
2- تقدّم تخريجه في ص 166، الهامش (1).
3- بدل ما بين المعقوفين في النُّسَخ الخطّيّة و الحجريّة: «هؤلاء». و ذلك تصحيف، و المثبت كما في المصدر، و الهوامي: المهملة التي لا راعي لها و لا حافظ. غريب الحديث - لابن سلّام - 23:1 «همي».
4- «حرَق النار» بالتحريك: لهبُها. النهاية - لابن الأثير - 371:1 «حرق».
5- غريب الحديث - لابن سلّام - 22:1، سنن البيهقي 191:6، مسند أحمد 15879/604:4، صحيح ابن حبّان - بترتيب ابن بلبان - 4888/249:11.
6- تقدم تخريجه في ص 248، الهامش (6).

و لأنّ مثل هذا الحيوان مصون عن أكثر السباع بامتناعه، مستغنٍ بالرعي، فمصلحة المالك ترك التعرّض له حتى يجده، و الغالب أنّ مَنْ أضلّ شيئاً طلبه حيث ضيّعه، فلو أخذه غيره ضاع عنه.

و قال مالك و الليث في ضالّة الإبل: مَنْ وجدها في القرى عرّفها، و مَنْ وجدها في الصحراء لا يقربها(1). و رواه المزني عن الشافعي(2).

و كان الزهري يقول: مَنْ وجد بدنةً فليُعرّفها، فإن لم يجد صاحبها فلينحرها قبل أن تنقضي الأيّام الثلاثة(3).

و قال أبو حنيفة: هي لقطة يباح التقاطها؛ لأنّها لقطة أشبهت الغنم و ما لا يمتنع بنفسه(4).

و هو غلط؛ لأنّه قياس في معرض النصّ، مع قيام الفرق، و قد نبّه صلى الله عليه و آله عليه؛ لأنّ الغنم ضعيفة لا تصبر على الماء، و هي في معرض التلف غالباً.

مسألة 382: و هذا الحكم في البعير إنّما هو إذا كان صحيحاً ضلّ عن صاحبه أو تركه من غير جهدٍ و لا تعبٍ،

أمّا إذا كان مريضاً أو ضعيفاً أو لا يتبع صاحبه، فإن كان صاحبه قد تركه من جهدٍ في كلأ و ماء فكذلك لا يجوز أخذه، و إن كان قد تركه في غير كلأ و لا ماء فهو لواجده؛ لأنّه كالتالف، و يملكه الآخذ، و لا ضمان عليه لصاحبه؛ لأنّه يكون كالمبيح له.

ص: 285


1- المغني 396:6، الشرح الكبير 350:6.
2- مختصر المزني: 136، البيان 464:7، المغني 396:6، الشرح الكبير 350:6.
3- المغني 396:6، الشرح الكبير 350:6.
4- الهداية - للمرغيناني - 176:2، المغني 396:6، الشرح الكبير 350:6.

و كذا حكم الدابّة و البقرة و الحمار إذا ترك من جهدٍ في غير كلأ و لا ماء.

لما رواه السكوني عن الصادق عليه السلام: «إنّ أمير المؤمنين عليه السلام قضى في رجلٍ ترك دابّته من جهدٍ، قال: إن تركها في كلأ و ماء و أمن فهي له يأخذها حيث أصابها، و إن كان تركها في خوفٍ و على غير ماءٍ و لا كلأ فهي لمن أصابها»(1).

و في الصحيح عن عبد اللّه بن سنان عن الصادق عليه السلام قال: «مَنْ أصاب مالاً أو بعيراً في فلاةٍ من الأرض قد كلّت(2) و قامت و سيّبها(3) صاحبها لمّا لم تتبعه فأخذها غيره فأقام عليها و أنفق نفقةً حتى أحياها من الكلال و من الموت فهي له، و لا سبيل له عليها، و إنّما هي مثل الشيء المباح»(4).

و عن مسمع عن الصادق عليه السلام قال: «إنّ أمير المؤمنين عليه السلام كان يقول في الدابّة: إذا سرحها أهلها أو عجزوا عن علفها أو نفقتها فهي للّذي أحياها» قال: «و قضى أمير المؤمنين عليه السلام في رجلٍ ترك دابّته، فقال: إن كان تركها في كلأ و ماء و أمن فهي له يأخذها متى شاء، و إن تركها في غير كلأ و ماء فهي للّذي أحياها»(5).

مسألة 383: لو أخذ البعير و شبهه في موضع المنع من أخذه بأن كان في كلأ و ماء أو كان صحيحاً، كان ضامناً؛

لأنّه متعدٍّ بالأخذ، لأنّه أخذ ملك

ص: 286


1- الكافي 14/140:5، التهذيب 1178/393:6.
2- كللت من المشي: أعييت، و كذا البعير إذا أعيا. لسان العرب 591:11 «كلل».
3- سيّب الدابّة أو الشيء: تركه. لسان العرب 478:1 «سيب».
4- الكافي 13/140:5، التهذيب 392:6-1177/393.
5- الكافي 16/141:5، التهذيب 1181/393:6.

غيره بغير إذنه و لا إذن الشارع، فهو كالغاصب، و لا يبرأ لو تركه في مكانه أو ردّه إليه، بل إنّما يبرأ بالردّ إلى صاحبه مع القدرة، فإن فقده سلّمه إلى الحاكم؛ لأنّه منصوب للمصالح - و به قال الشافعي و أحمد(1) - لأنّ ما لزمه ضمانه لا يزول عنه إلّا برّده إلى صاحبه أو نائبه، كالمسروق و المغصوب.

و قال أبو حنيفة و مالك: يبرأ؛ لأنّ عمر قال: أرسِلْه في الموضع الذي أصبتَه فيه، و جرير طرد البقرة التي لحقت ببقره(2).

و قول عمر لا حجّة فيه، و لا جرير أيضاً، مع أنّه لم يأخذ البقرة و لا أخذها راعيه، إنّما لحقت بالبقر فطردها عنها، فأشبه ما لو دخلت داره فأخرجها، و على هذا متى لم تثبت يده عليها و يأخذها لم يلزمه ضمانها و إن طردها على إشكالٍ.

مسألة 384: لو وجد شاةً في الفلاة أو في مهلكةٍ، كان له أخذها عند علمائنا،

و هو قول أكثر أهل العلم(3).

قال ابن عبد البرّ: أجمعوا على أنّ [آخذ](4) ضالّة الغنم في الموضع المخوف عليها له أكلها(5).

و الأصل فيه ما رواه العامّة و الخاصّة حين سئل عليه السلام عن ضالّة الغنم،

ص: 287


1- الحاوي الكبير 6:8، الوسيط 290:4، العزيز شرح الوجيز 354:6، روضة الطالبين 465:4، المغني 398:6، الشرح الكبير 352:6.
2- الاختيار لتعليل المختار 46:3، المغني 398:6، الشرح الكبير 352:6، الحاوي الكبير 6:8، العزيز شرح الوجيز 354:6.
3- المغني 390:6، الشرح الكبير 368:6.
4- ما بين المعقوفين أثبتناه من «الاستذكار» و «التمهيد».
5- الاستذكار 33040/330:22، التمهيد 108:3، المغني 390:6، الشرح الكبير 368:6.

فقال: «خُذْها فإنّما هي لك أو لأخيك أو للذئب»(1).

و كذا الحيوان الذي لا يمتنع عن صغار السباع، مثل الثعلب و ابن آوى و الذئب و ولد الأسد و نحوها، فإنّ صغار النَّعَم كفُصْلان الإبل و عجول البقر و صغار الخيل و الدجاج و الإوَزّ و نحوها فإنّ ذلك كلّه يجوز التقاطه في الفلوات و المواضع المهلكة.

و عن أحمد رواية أُخرى: إنّه لا يجوز لغير الإمام التقاط الشاة و صغار النَّعَم(2).

و قال الليث بن سعد: لا أُحبّ أن يقربها إلّا أن يحرزها لصاحبها؛ لقول النبيّ صلى الله عليه و آله: «لا يؤوي الضالّةَ إلّا ضالٌّ»(3).

و لأنّه حيوان، فأشبه الإبل في المنع(4).

و حديثهم عامّ، فيُحمل على ما يمتنع من الحيوان لكِبَره أو لسرعة عَدْوه أو طيرانه؛ جمعاً بين العامّ و الخاصّ.

و القياس على الإبل لا يصحّ؛ لأنّه عليه السلام مَنَع و ذَكَر علّة المنع من التقاطها بأنّ معها حذاءها و سقاءها(5) ، و هذا المعنى مفقود في الغنم، فلا يتمّ القياس.

و أيضاً إنّ النبيّ صلى الله عليه و آله فرّق بينهما في خبرٍ واحد(6) ، فلا يجوز الجمع بين ما فرّق الشارع، و لا قياس ما أمر بالتقاطه على ما منع ذلك فيه.6.

ص: 288


1- راجع: الهامش (1 و 2) من ص 166.
2- المغني 390:6-391، الشرح الكبير 358:6.
3- راجع: الهامش (2) من ص 167.
4- المغني 391:6، الشرح الكبير 358:6.
5- راجع: الهامش (1) من ص 166.
6- راجع: خبر زيد بن خالد الجهني في ص 165-166.
مسألة 385: و هذا الحكم في الشاة و غيرها من صغار الأنعام التي لا تمتنع من صغار السباع إنّما يثبت لو وجدها في الصحراء

أو في موضع مهلكة، أمّا لو وجدها في العمران فإنّه لا يجوز له التقاطها بحالٍ.

و لا فرق بين ما يمتنع بكِبَره أو سرعة عَدْوه أو طيرانه، و بين ما لا يمتنع كالشاة و شبهها في تحريم الأخذ من العمران - و به قال مالك و أبو عبيد و ابن المنذر(1) - لأنّه المفهوم من قوله عليه السلام: «هي لك أو لأخيك أو للذئب»(2) و الذئب لا يكون في المصر.

و لعموم قوله عليه السلام: «الضوالّ لا يأكلها إلّا الضالّون»(3).

و من طريق الخاصّة: ما رواه معاوية بن عمّار - في الصحيح - عن الصادق عليه السلام قال: «سأل رجلٌ رسولَ اللّه صلى الله عليه و آله عن الشاة الضالّة بالفلاة، فقال للسائل: هي لك أو لأخيك أو للذئب» قال: «و ما أُحبّ أن أمسّها»(4) و إذا كان في موضع المخافة و الهلاك و تعرّضها للذئب كره أخذها، ناسب التحريم وجدانها في العمران.

و قال أحمد بن حنبل: لا فرق بين أن يجدها في الفلاة أو في العمران؛ لأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله قال: «خُذْها»(5) و لم يفرّق و لم يستفصل بين وجدانها في العمران و الصحاري، و لو افترق الحال لسأل و استفصل، و لأنّها لقطة، فيستوي فيها المصر و الصحراء، كغيرها من اللّقطات(6).

ص: 289


1- المغني 391:6، الشرح الكبير 358:6.
2- راجع: الهامش (1) من ص 166.
3- تقدّم تخريجه في ص 283، الهامش (2) من طريق الخاصّة.
4- التهذيب 1185/394:6.
5- راجع: الهامش (1) من ص 166.
6- المغني 391:6، الشرح الكبير 358:6.

و نمنع عدم الاستفصال؛ لأنّه مفهوم من قوله عليه السلام: «أو للذئب»(1) و القياس باطل خصوصاً مع قيام الفارق.

مسألة 386: إذا أخذ الشاة و شبهها من صغار النَّعَم من الفلاة، تخيّر إن شاء تملّكها و ضمن على إشكالٍ،

و إن شاء دفعها إلى الحاكم ليحفظها، أو يبيعها و يوصل ثمنها إلى المالك، و إن شاء حبسها أمانةً في يده لصاحبها و يُنفق عليها من ماله، و إن شاء تصدّق بها و ضمن إن لم يرض المالك بالصدقة.

و قال الشافعي: هو بالخيار بين أن يأكلها في الحال و يغرم قيمتها إذا جاء صاحبها، و بين أن يُعرّفها سنةً و يُنفق عليها من ماله، و بين أن يُمسكها على صاحبها و يُنفق عليها من ماله و لا يعرّفها و لا يتملّكها، و بين أن يبيعها بإذن الإمام في الحال و يحفظ ثمنها على صاحبها(2).

قال ابن عبد البرّ: أجمعوا على أنّ [آخذ](3) ضالّة الغنم في الموضع المخوف عليها له أكلها؛ لقوله عليه السلام: «هي لك أو لأخيك أو للذئب»(4) أضافها إليه بلفظة «له»(5) المقتضية للتمليك في الحال، و سوّى فيها بينه و بين الذئب الذي لا يستأني بأكلها، و لأنّ في أكلها في الحال دفعاً لنقلها بالمئونة عليها و الإنفاق، و حفظاً لماليّتها على صاحبها إذا جاء أخذ قيمتها

ص: 290


1- راجع: الهامش (1) من ص 166.
2- الحاوي الكبير 7:8-8، المهذّب - للشيرازي - 439:1، البيان 462:7، العزيز شرح الوجيز 355:6، روضة الطالبين 465:4.
3- ما بين المعقوفين أثبتناه من «الاستذكار» و «التمهيد».
4- راجع: الهامش (1) من ص 166.
5- الظاهر: «لك».

بكمالها من غير نقصٍ [فيها](1) و في إبقائها تضييع للمال بالإنفاق عليها و الغرامة في نقلها، فكان أكلها أولى(2).

إذا ثبت هذا، فإذا أراد أكلها، حفظ صفتها حتى إذا جاء صاحبها غرمها له؛ فإنّ الغرامة تجب عليه في قول عامّة أهل العلم(3) ، إلّا مالكاً؛ فإنّه قال: يأكلها و لا يغرم قيمتها لصاحبها و لا يعرّفها؛ لقول النبيّ صلى الله عليه و آله: «هي لك»(4) و لم يوجب تعريفاً و لا غرماً، و سوّى بينه و بين الذئب، و الذئب لا يعرّف و لا يغرم(5).

قال ابن عبد البرّ: لم يوافق مالكاً أحدٌ من العلماء على قوله، و قول النبيّ صلى الله عليه و آله: «ردّ على أخيك ضالّته» دليل على أنّ الشاة على ملك صاحبها، و لأنّها لقطة لها قيمة و تتبعها النفس، فتجب غرامة قيمتها لصاحبها إذا جاء، كغيرها، و لأنّها ملك لصاحبها، فلم يجز تملّكها عليه بغير عوضٍ من غير رضاه، كما لو كانت في البنيان، و لأنّها عين يجب ردّها مع بقائها، فوجب غرمها إذا أتلفها، كلقطة الذهب، و قوله عليه السلام: «هي لك» لا يمنع وجوب غرامتها، فإنّه قد أذن في لقطة الذهب و الورق بعد تعريفها في أكلها و إنفاقها، و قال: «هي كسائر مالك» ثمّ قد أجمعوا على وجوب غرامتها و لم يذكره في الحديث، فكذا الشاة، و لا فرق بينهما في الماليّة، فلا فرق بينهما في الغرم(6).9.

ص: 291


1- بدل ما بين المعقوفين في النُّسَخ الخطّيّة و الحجريّة: «فيه». و الظاهر ما أثبتناه.
2- الاستذكار 33040/330:22، التمهيد 108:3، المغني 392:6، الشرح الكبير 368:6.
3- المغني 392:6، الشرح الكبير 368:6.
4- راجع: الهامش (1) من ص 166.
5- الاستذكار 33141/343:22، التمهيد 123:3 و 126، الحاوي الكبير 6:8، حلية العلماء 536:5، البيان 462:7، العزيز شرح الوجيز 355:6، المغني 392:6، الشرح الكبير 368:6.
6- الاستذكار 344:22-33148/345-33155، التمهيد 125:3-126، و حكاه عنه ابنا قدامة في المغني 392:6-393، و الشرح الكبير 368:6-369.
مسألة 387: إذا اختار الملتقط للشاة في الفلاة حِفْظَها على صاحبها، كان عليه الإنفاق عليها؛

لأنّ بقاءها لا يتمّ بدونه، و لأنّه قد التزم حفظها فقد ألزم نفسه بما يتوقّف حفظها عليه.

إذا ثبت هذا، فإنّه يتخيّر بين أن يتبرّع بالإنفاق عليها و لا يرجع به على مالكها، و بين أن يرفع أمرها إلى الحاكم لينفق عليها الحاكم أو يأمره بالإنفاق عليها ليرجع به على مالكها، و لو لم يرفع أمرها إلى الحاكم و أنفق فهو متبرّع، كما لو أنفق على حيوان غيره مع تمكّنه من استئذانه، فإنّ الحاكم وليّ المالك و نائب عنه مع غيبته.

و لو لم يجد حاكماً، أشهد شاهدين بالرجوع بما يُنفقه و يرجع به؛ لأنّه أنفق على اللّقطة لحفظها، فكان من مال صاحبها، كمئونة تجفيف الرطب و العنب، و هو إحدى الروايتين عن أحمد، و الرواية الثانية عنه: إنّه لا يرجع بشيءٍ، و به قال الشعبي و الشافعي(1).

و لم يعجب الشعبي قضاء عمر بن عبد العزيز - في مَنْ وجد ضالّةً فلينفق عليها فإذا جاء ربّها طالبه بما أنفق - لأنّه أنفق على مال غيره بغير إذنه، فلم يرجع به(2).

و هو غلط؛ لأنّه محسن بالإنفاق، فلا سبيل عليه، و في عدم تمكّنه من الرجوع سبيل عليه بإسقاط ماله بغير عوضٍ.

و لو لم يتمكّن من شاهدين، فإن نوى الرجوع بما يُنفق رجع، و إلّا فلا، لكن لا يقضى له بقوله و ادّعائه النيّة، على إشكالٍ ينشأ: من أنّ الرجوع في النيّة إليه، و من أصالة براءة الذمّة.

ص: 292


1- المغني 393:6، الشرح الكبير 369:6.
2- المغني 393:6، الشرح الكبير 369:6.
مسألة 388: قد ذكرنا أنّ للملتقط الخيار بين تملّكها و حفظها و بيعها، فإذا اختار البيع جاز له، و حفظ ثمنها.

و هل له أن يتولّى ذلك بنفسه، أو يجب رفعها إلى الحاكم ؟ الأقرب:

الأوّل، و الأحوط: الثاني، و ليس شرطاً - خلافاً لبعض الشافعيّة(1) - لأنّه يجوز له أكلها بغير إذنٍ، فبيعها أولى.

و هل يجب تعريفها؟ الأقرب: العدم، لكن لو اختار ذلك عرّفها حولاً، كما يعرّف اللّقطة، و يغرم عليها النفقة إمّا من ماله أو من مال صاحبها على ما تقدّم.

و قال بعض العامّة: يجب تعريفها حولاً؛ لأنّها لقطة لها خطر، فوجب تعريفها، كالمطعوم الكثير، و لا يلزم من جواز التصرّف فيها في الحول سقوط التعريف، كالمطعوم(2).

و قال آخَرون: لا يجب التعريف؛ لقوله عليه السلام: «هي لك أو لأخيك أو للذئب»(3) و لم يأمر بتعريفها كما أمر عليه السلام في لقطة الذهب و الورق(4)(3).

و الأقوى: الأوّل.

و إن أكلها، ثبت في ذمّته قيمتها، و لا يلزم عزلها؛ لعدم الفائدة في ذلك؛ لأنّها لا تنتقل عن الذمّة إلى المال المعزول.

و لو عزل شيئاً ثمّ أفلس، كان صاحب اللّقطة أُسوة الغرماء في المال

ص: 293


1- المهذّب - للشيرازي - 439:1، حلية العلماء 535:5، التهذيب - للبغوي - 557:4، البيان 462:7، العزيز شرح الوجيز 356:6، روضة الطالبين 466:4، المغني 394:6، الشرح الكبير 370:6.
2- المغني 394:6، الشرح الكبير 370:6. (3 و 4) راجع: الهامش (1) من ص 166.
3- المغني 394:6، الشرح الكبير 370:6.

المعزول، و لا يختصّ بصاحب اللّقطة.

و لو باعها و حفظ ثمنها ثمّ جاء صاحبها، أخذه، و لم يشاركه فيه أحد من الغرماء؛ لأنّه ماله لا شيء للمفلس فيه، بخلاف ما لو تملّكها أو تملّك الثمن.

و يحتمل التخصيص؛ لأنّ مَنْ وجد عين ماله كان أحقَّ به مع وجود سبب الانتقال منه، فهنا أولى.

مسألة 389: قد بيّنّا أنّه لا يجوز أخذ الشاة و شبهها في العمران،

خلافاً لأحمد(1) ، فإن أخذها لم يجز له تملّكها بحالٍ، بل يتخيّر آخذها بين إمساكها لصاحبها أمانةً، و عليه نفقتها من غير رجوعٍ بها؛ لتبرّعه حيث أخذ في موضع المنع، و بين دفعها إلى الحاكم؛ لأنّه من المصالح.

و لو تعذّر الحاكم، أنفق و رجع بالقيمة.

و لا فرق في ذلك بين الحيوان الممتنع و غيره.

و لو وجد شاةً في العمران، حبسها ثلاثة أيّام ثمّ تصدّق بها عن صاحبها إن لم يأت، أو باعها و تصدّق بثمنها.

و الأقرب: إنّه يضمن.

و قد روى ابن أبي يعفور عن الصادق عليه السلام أنّه قال: «جاءني رجل من أهل المدينة فسألني عن رجلٍ أصاب شاةً» قال: «فأمرتُه أن يحبسها عنده ثلاثة أيّام، و يسأل عن صاحبها، فإن جاء صاحبها، و إلّا باعها و تصدّق بثمنها»(2).

و نقل المزني عن الشافعي فيما وضعه بخطّه و لا أعلم أنّه سُمع منه:

ص: 294


1- المغني 390:6، الشرح الكبير 358:6.
2- التهذيب 1196/397:6.

إذا وجد الشاة أو البقرة أو الدابّة ما [كانت](1) بمصر أو في قريةٍ فهي لقطة، فسوّى في البلد و القرية بين الصغير و الكبير(2).

و اختلف أصحابه.

فقال أبو إسحاق: الذي نقله المزني هو الصحيح، و يستوي الصغير و الكبير في كونها لقطةً بالمصر؛ لأنّ الكبير لا يهتدي فيه للرعي و ورود الماء، فيكون ضائعاً، كالصغير(3).

و قال الباقون: لا فرق بين المصر و الصحاري، و الكبير لا يكون لقطةً؛ لأنّ الكبير لا يضيع في البلد و لا يخفى أمره، بخلاف الصغير(4).

فعلى هذا الوجه لا فرق بين الصحاري و الأمصار إلّا في حكمٍ واحد، و هو أنّ في الصحاري له أكل الصغار؛ لأنّه يتعذّر عليه بيعها، و لا يتعذّر ذلك في الأمصار، فليس له أكلها.

و على ما نقله المزني الصغار و الكبار لقطة، و هي كالصغار في الصحاري في جواز الأكل.

و قد بيّنّا مذهبنا في ذلك.

مسألة 390: لا يجوز أخذ الغِزْلان و اليحامير و حُمُر الوحش في الصحاري إذا مُلكت هذه الأشياء ثمّ خرجت إلى الصحراء،

و كذا باقي

ص: 295


1- في «ج» و الطبعة الحجريّة: «ما قامت». و بدلها في «ث، ر، خ»: «ما لم يثبت». و المثبت كما في مختصر المزني.
2- مختصر المزني: 136، و راجع: الحاوي الكبير 26:8، و المهذّب - للشيرازي - 439:1، و حلية العلماء 536:5، و البيان 464:7. (3 و 4) البيان 464:7، و راجع: الحاوي الكبير 26:8، و المهذّب - للشيرازي - 439:1، و حلية العلماء 536:5، و العزيز شرح الوجيز 354:6، و روضة الطالبين 465:4.

الصيود المستوحشة التي إذا تُركت رجعت إلى الصحراء؛ لأنّها تمتنع بسرعة عَدْوها عن صغار السباع، و هي مملوكة للغير، فلا تخرج عن ملكه بالامتناع، كما لو توحّش الأهلي.

أمّا لو خاف الواجد لها ضياعَها عن مالكها أو عجز مالكها عن استرجاعها، فالأقوى: جواز التقاطها؛ لأنّ تركها أضيع لها من سائر الأموال، و المقصود حفظها لصاحبها، لا حفظها في نفسها، و لو كان الغرض حفظها في نفسها لما جاز التقاط الأثمان، فإنّ الدينار محفوظ حيثما كان.

مسألة 391: حكم البقر حكم الإبل - و به قال الشافعي و أبو عبيد و أحمد

(1) - لأنّها تمتنع عن صغار السباع، و تجزئ في الأُضحية و الهدي عن سبعةٍ، فأشبهت الإبل.

و قال مالك: إنّ البقر كالشاة(2). و ليس بشيءٍ.

أمّا الخيل و البغال فإنّها كالإبل؛ لأنّها تمتنع عن صغار السباع، و به قال الشافعي و أحمد(3).

ص: 296


1- مختصر المزني: 135، الإشراف على مذاهب أهل العلم 159:2، الحاوي الكبير 6:8، المهذّب - للشيرازي - 438:1، حلية العلماء 532:5، التهذيب - للبغوي - 555:4، البيان 459:7، الاستذكار 33175/350:22، المغني 397:6، الشرح الكبير 351:6.
2- الاستذكار 33142/343:22، الذخيرة 96:9، الكافي في فقه أهل المدينة: 426-427، الإشراف على مذاهب أهل العلم 159:2-160، مختصر اختلاف العلماء 345:4-2045/346، المغني 397:6، الشرح الكبير 351:6.
3- مختصر المزني: 135، الإشراف على مذاهب أهل العلم 159:2، الحاوي الكبير 6:8، المهذّب - للشيرازي - 438:1، حلية العلماء 532:5، التهذيب - للبغوي - 555:4، البيان 459:7، العزيز شرح الوجيز 353:6، روضة الطالبين 465:4، مختصر اختلاف العلماء 2045/346:4، الاستذكار 33176/350:22، المغني 397:6، الشرح الكبير 351:6.

و أمّا الحُمُر فإنّها كذلك أيضاً؛ لامتناعها(1) عن صغار السباع، و لها أجسام عظيمة، فأشبهت البغال و الخيل، و لأنّها من الدوابّ فأشبهت البغال، و هو أحد قولَي الحنابلة.

و الثاني: إنّها كالشاة؛ لأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله علّل الإبلَ: بأنّ معها حذاءها و سقاءها(2) ، يريد شدّة صبرها عن الماء؛ لكثرة ما توعي في بطونها منه و قوّتها على وروده، و إباحةَ ضالّة الغنم: بأنّها معرّضة لأخذ الذئب إيّاها؛ لقوله: «هي لك أو لأخيك أو للذئب»(3) و الحُمُر مساوية للشاة في علّتها، فإنّها لا تمتنع من الذئب، و مفارقة للإبل في علّتها، فإنّها لا صبر لها عن الماء، و إلحاق الشيء بما ساواه في علّة الحكم و فارقه في الصورة أولى من إلحاقه بما فارقه في الصورة و العلّة(2).

مسألة 392: الأحجار الكبار كأحجار الطواحين،

و الحباب الكبيرة و قدور النحاس العظيمة و شبهها ممّا يتحفّظ بنفسه ملحقة بالإبل في تحريم أخذه، بل هو أولى منه؛ لأنّ الإبل في معرض التلف إمّا بالأسد أو بالجوع أو بالعطش أو غير ذلك، و هذه بخلاف تلك، و لأنّ هذه الأشياء لا تكاد تضيع عن صاحبها و لا تخرج من مكانها، بخلاف الحيوان، فإذا حرم أخذ الحيوان فهذه أولى.

ص: 297


1- في النُّسَخ الخطّيّة و الحجريّة: «و أمّا الحمار فإنّه كذلك أيضاً؛ لامتناعه» و ما أثبتناه يقتضيه السياق. (2 و 3) راجع: الهامش (1) من ص 166.
2- المغني 397:6-398، الشرح الكبير 351:6.

و كذا السفن المربوطة في الشرائع المعهودة لا يجوز أخذها، و الأخشاب الموضوعة على الأرض.

أمّا السفن المحلولة الرباط السارية في الفرات و شبهها بغير ملّاحٍ فإنّها لقطة إذا لم يعرف مالكها.

مسألة 393: ما يوجد من الحيوان قريباً من العمران حكمه حكم الموجود في العمران؛

للعادة القاضية بأنّ الناس يشمّرون(1) دوابّهم قريباً من عمارة البلد.

و قد تقدّم أنّ للشافعي في جواز التقاط الممتنع في المفازة قولين(2).

و كذا له قولان في جواز التقاطها في العمران، أصحّهما: جواز التقاطها للتملّك؛ لأنّها في العمران تضيع بامتداد اليد الخائنة، بخلاف المفازة، فإنّ طروق الناس بها لا يعمّ، و لأنّها لا تجد ما يكفيها، و لأنّ البهائم في العمران لا تُهمل، و في الصحراء قد تسرح و تُهمل، فيحتمل أنّ صاحبها يظفر بها و لا يضلّ عنها(3).

و حكى بعض الشافعيّة طريقين، أحدهما: القطع بالمنع، و الثاني:

القطع بالجواز(4).

هذا إذا كان الزمان زمانَ أمنٍ، أمّا في زمان النهب و الفساد فيجوز

ص: 298


1- أي: يرسلون. العين 262:6 «شمر».
2- العزيز شرح الوجيز 354:6، روضة الطالبين 465:4، و لم نعثر فيما تقدّم على القولين للشافعي.
3- الحاوي الكبير 26:8، المهذّب - للشيرازي - 439:1، حلية العلماء 536:5، التهذيب - للبغوي - 556:4، البيان 464:7، العزيز شرح الوجيز 354:6، روضة الطالبين 465:4.
4- العزيز شرح الوجيز 354:6، روضة الطالبين 465:4.

التقاطها، سواء وُجدت في الصحاري أو العمران.

و المشهور عند الشافعيّة: إنّ ما لا يمتنع من الغنم و العجاجيل و الفُصْلان يجوز أخذها للتملّك، سواء كانت في العمران أو المفاوز(1).

و قال بعضهم: إنّها لا تؤخذ(2) ، كما ذهبنا نحن إليه.

فإذا وجدها في المفازة تخيّر بين أن يُمسكها و يُعرّفها و يتملّكها، و بين أن يبيعها و يحفظ ثمنها و يُعرّفها ثمّ يتملّك الثمن، و بين أن يأكلها إن كانت مأكولةً و يغرم قيمتها، و الأوّل أرجح من الثاني، و الثاني من الثالث.

قالوا: و لو وجدها في العمران، فله الإمساك و التعريف و تملّك الثمن، و في الأكل قولان:

أحدهما: الجواز، كما في الصحراء.

و أرجحهما عند أكثر الشافعيّة: المنع؛ لسهولة البيع في العمران(3).

و هل يجوز تملّك الصغار ممّا لا يؤكل في الحال ؟ لهم وجهان:

أحدهما: نعم، كما يجوز أكل المأكول.

و أصحّهما عندهم: إنّه لا يجوز تملّكها حتى تُعرَّف سنةً، كغيرها من اللّقطة(2).

فإذا أمسكها و أراد الرجوع بالإنفاق، استأذن الحاكم، فإن تعذّر أشهد، و قد سبق(3).7.

ص: 299


1- التهذيب - للبغوي - 557:4، العزيز شرح الوجيز 355:6، روضة الطالبين 465:4. (2 و 3) العزيز شرح الوجيز 355:6، روضة الطالبين 465:4.
2- العزيز شرح الوجيز 355:6، روضة الطالبين 465:4-466.
3- في ص 292، المسألة 387.

و إن أراد البيع و لا حاكم هناك، استقلّ به، فإن كان فوجهان لهم، أحدهما: جواز الاستقلال؛ لأنّه نائب عن المالك في الحفظ، فكذا في البيع(1).

مسألة 394: لو وجد بعيراً في أيّام منى في الصحراء مقلَّداً كما يُقلَّد الهدي، لم يجز أخذه؛

لأنّه لا يجوز مع عدم التقليد فمعه أولى.

و قال الشافعي: يأخذه و يُعرّفه أيّام منى، فإن خاف أن يفوته وقت النحر نحره، و الأولى عنده أن يرفع إلى الحاكم حتى يأمره بنحره(2).

و نقل بعضهم قولاً آخَر: إنّه لا يجوز أخذه(3) ، كما ذهبنا إليه.

ثمّ بنوا القولين على القولين فيما إذا وجد بدنة منحورة غمس ما قُلّدت به في دمها و ضرب صفحة سنامها، هل يجوز الأكل منها؟ فإن منعنا الأكل، منعنا الأخذ هنا، و إن جوّزنا الأكل اعتماداً على العلامة، فكذا التقليد علامة كون البعير هدياً، و الظاهر أنّ تخلّفه كان لضعفه عن المسير، و الأُضحية المعيّنة إذا ذُبحت في وقت النحر وقع في موقعه و إن لم يأذن صاحبها(4).

قال الجويني: لكن ذبح الضحيّة و إن وقع في موقعه لا يجوز الإقدام عليه من غير إذنٍ(5).

و جوّز بعض الشافعيّة الأخذ و النحر(3).

ص: 300


1- العزيز شرح الوجيز 356:6، روضة الطالبين 466:4.
2- البيان 465:7، العزيز شرح الوجيز 376:6، روضة الطالبين 481:4. (3-5) العزيز شرح الوجيز 376:6، روضة الطالبين 481:4.
3- العزيز شرح الوجيز 376:6.

و لهذا الإشكال ذهب القفّال تفريعاً على هذا القول أنّه يجب رفع الأمر إلى الحاكم لينحره(1).

و هذا ليس بشيءٍ؛ لأنّ الأخذ الممنوع منه إنّما هو الأخذ للتملّك، و لا شكّ أنّ هذا البعير لا يؤخذ للتملّك.

المطلب الثاني: في الملتقط.
مسألة 395: يصحّ أخذ الضالّة في موضع الجواز لكلّ بالغٍ عاقلٍ.

و لو أخذه في موضع المنع، لم يجز، و ضمنه، إماماً كان أو غيره؛ لأنّه أخذ ملك غيره بغير إذنه، و لا أذن الشارع له، فهو كالغاصب.

و هذا الفرض في الإمام عندنا باطل؛ لأنّه معصوم.

أمّا عند العامّة الذين لم يوجبوا عصمة إمامهم فإنّه قد يُفرض.

و كذا يُفرض عندنا في نائب الإمام.

و كذا يجوز للصبي و المجنون أخذ الضوالّ؛ لأنّه اكتساب، و ينتزع الوليّ ذلك من يدهما، و يتولّى التعريف عنهما سنةً، فإن لم يأت له مالك تملّكاه و ضمناه بتمليك الوليّ لهما و تضمينهما إيّاه إن رأى الغبطة في ذلك، و إن لم يكن في تمليكهما غبطة، أبقاها أمانةً.

مسألة 396: الأقرب: عدم اشتراط الحُرّيّة،

فيجوز للعبد القِنّ و المدبَّر و المكاتَب و أُمّ الولد و المعتق بعضه التقاطُ الضوالّ في موضع الجواز؛ لأنّه اكتساب و هؤلاء من أهله و هُمْ أهلٌ للحفظ.

و الأقرب: إنّه لا يشترط الإسلام و لا العدالة، فيجوز للكافر أخذ الضالّة، و كذا للفاسق؛ لأنّه اكتساب و هُما من أهله.

ص: 301


1- العزيز شرح الوجيز 376:6، روضة الطالبين 481:4.

و قال الشافعي: لا يجوز لغير الإمام و غير نائبه أخذ الضوالّ للحفظ لصاحبها، فإن أخذها غير الامام أو نائبه ليحفظها لصاحبها لزمه الضمان؛ لأنّه لا ولاية له على صاحبها(1).

و لأصحابه وجهٌ آخَر: إنّه يجوز أخذها لحفظها قياساً على الإمام(2).

و احتجّ بأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله مَنَع من أخذها من غير أن يفرّق بين قاصد الحفظ و قاصد الالتقاط، و القياس على الإمام باطل؛ لأنّ له ولايةً، و هذا لا ولاية له(3).

و نحن نقول بموجبه في موضع المنع من أخذها.

أمّا لو وجدها في موضعٍ يخاف عليها فيه، مثل أن يجدها في أرض مسبعة يغلب على الظنّ افتراس الأسد لها إن تركها فيه، أو وجدها قريبةً من دار الحرب يخاف عليها من أهلها، أو في موضعٍ يستحلّ أهله أخذ أموال المسلمين، أو في برّيّة لا ماء بها و لا مرعى، فالأولى جواز الأخذ للحفظ، و لا ضمان على آخذها؛ لما فيه من إنقاذها من الهلاك، فأشبه تخليصها من غرقٍ أو حرقٍ، و إذا حصلت في يده سلّمها إلى بيت المال، و برئ من ضمانها، و له التملّك مع الضمان؛ لأنّ الشارع نبّه على علّة عدم التملّك لها بأنّها محفوظة، فإذا كانت في المهلكة انتفت6.

ص: 302


1- الحاوي الكبير 6:8، المهذّب - للشيرازي - 438:1، التهذيب - للبغوي - 555:4-556، البيان 460:7-461، العزيز شرح الوجيز 353:6 و 354، روضة الطالبين 465:4، المغني 399:6، الشرح الكبير 353:6.
2- الحاوي الكبير 6:8، المهذّب - للشيرازي - 438:1، حلية العلماء 532:5-533، التهذيب - للبغوي - 556:4، البيان 461:7، العزيز شرح الوجيز 354:6، روضة الطالبين 465:4، المغني 399:6، الشرح الكبير 353:6.
3- راجع: المغني 399:6، و الشرح الكبير 353:6.

العلّة.

مسألة 397: لو ترك دابّة بمهلكةٍ فأخذها إنسان فأطعمها و سقاها و خلّصها، تملّكها

- و به قال الليث و الحسن بن صالح و أحمد و إسحاق(1) - إلّا أن يكون تركها بنيّة العود إليها فأخذها، أو كانت قد ضلّت منه؛ لما رواه العامّة عن الشعبي أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال: «مَنْ وجد دابّةً قد عجز عنها أهلها فسيّبوها فأخذها فأحياها فهي له»(2).

و في لفظٍ آخَر عن الشعبي عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال: «مَنْ ترك دابّةً بمهلكةٍ فأحياها رجل فهي لمَنْ أحياها»(3).

و من طريق الخاصّة: ما رواه عبد اللّه بن سنان - في الصحيح - عن الصادق عليه السلام قال: «مَنْ أصاب مالاً أو بعيراً في فلاةٍ من الأرض قد كلّت و قامت و سيّبها صاحبها لمّا لم تتبعه فأخذها غيره فأقام عليها و أنفق نفقةً حتى أحياها من الكلال و من الموت فهي له، و لا سبيل له عليها، و إنّما هي مثل الشيء المباح»(4).

و لأنّ القول بملكها يتضمّن إحياءها و إنقاذها من الهلاك، و حفظاً للمال عن الضياع، و محافظةً على حرمة الحيوان، و في القول بعدم الملك

ص: 303


1- الإشراف على مذاهب أهل العلم 160:2-161، الحاوي الكبير 27:8، حلية العلماء 539:5، المغني 400:6، الشرح الكبير 354:6.
2- سنن أبي داوُد 3524/287:3، سنن الدارقطني 259/68:3، سنن البيهقي 198:6، المغني 400:6، الشرح الكبير 354:6-355.
3- سنن أبي داوُد 3525/288:3، سنن البيهقي 198:6، المغني 400:6، الشرح الكبير 355:6.
4- تقدّم تخريجه في ص 286، الهامش (4).

تضييع ذلك كلّه من غير مصلحةٍ تحصل، و لأنّ مالكه نبذه رغبةً عنه و عجزاً عن أخذه، فمَلَكه آخذه، كالمتساقط من السنبل و سائر ما ينبذه الناس رغبةً عنه و زهداً فيه.

المطلب الثالث: في الأحكام.
مسألة 398: يجوز للإمام و نائبه أخذ الضالّة على وجه الحفظ لصاحبه،

ثمّ يرسله في الحمى الذي حماه الإمام لخيل المجاهدين و الضوالّ؛ لأنّ للإمام نظراً في حفظ مال الغائب، و في أخذ هذه حفظ لها عن الهلاك، ثمّ يُعرّفها حولاً، فإن جاء صاحبها، و إلّا بقيت في الحمى.

و قال أحمد: لا يلزمه تعريفها؛ لأنّ عمر لم يكن يُعرّف الضوالّ(1).

و فعل عمر ليس حجّةً.

و إذا عرف إنسان دابّته، أقام البيّنة عليها و أخذها، و لا يكفي وصفها؛ لأنّها ظاهرة بين الناس يعرف صفاتها غير أهلها، فلا تكون الصفة(2) لها دليلاً على ملكه لها، و لأنّ الضالّة قد كانت ظاهرةً للناس حين كانت في يد مالكها، فلا يختصّ هو بمعرفة صفاتها دون غيره، و يمكنه إقامة البيّنة عليها؛ لظهورها للناس و معرفة خلطائه و جيرانه بملكه إيّاها.

مسألة 399: الأقرب عندي: إنّه يجوز لكلّ أحدٍ أخذ الضالّة،

صغيرةً كانت أو كبيرةً، ممتنعةً عن السباع أو غير ممتنعةٍ، بقصد الحفظ لمالكها، و الأحاديث(3) الواردة في النهي عن ذلك محمولة على ما إذا نوى بالالتقاط

ص: 304


1- المغني 398:6، الشرح الكبير 353:6.
2- في «ث، خ، ر»: «الصفات».
3- منها: ما تقدّم تخريجه في الهامش (1) من ص 166.

التملّك إمّا قبل التعريف أو بعده، أمّا مع نيّة الاحتفاظ فالأولى الجواز، كما أنّه لا يجوز للإمام و لا لنائبه أخذ ما لا يجوز أخذه على وجه التملّك.

مسألة 400: ما يحصل عند الإمام من الضوالّ فإنّه يُشهد عليها و يَسِمها بوَسْم أنّها ضالّة.

ثمّ إن كان له حمى، تركها فيه إن رأى المصلحة في ذلك، و إن رأى المصلحة في بيعها أو لم يكن له حمى، باعها بعد أن يصفها و يحفظ صفاتها، و يحفظ ثمنها لصاحبها، فإنّ ذلك أحفظ لها؛ لأنّ في تركها ضرراً على مالكها؛ لإفضائه إلى أن تأكل جميع ثمنها.

و أمّا غير الإمام و نائبه إذا التقط الضالّة و لم يجد سلطاناً يُنفق عليها، أنفق من نفسه، و يرجع مع نيّة الرجوع.

و قيل: لا يرجع؛ لأنّ عليه الحفظَ، و لا يتمّ إلّا بالإنفاق(1).

و الأوّل أقرب؛ دفعاً لتوجّه الضرر بالالتقاط.

و لا يبعد من الصواب التفصيلُ، فإن كان قد نوى التملّك قبل التعريف أو بعده، أنفق من ماله، و لا رجوع؛ لأنّه فَعَل ذلك لنفعه، و إن نوى الحفظ دائماً، رجع مع الإشهاد إن تمكّن، و إلّا فمع نيّته.

و لو كان للّقطة نفعٌ كالظهر للركوب، أو الحمل أو اللبن أو الخدمة، قال الشيخ رحمه الله: يكون ذلك بإزاء ما أنفق(2).

و الأقرب: أن ينظر في قدر النفقة و قيمة المنفعة، و يتقاصّان.

مسألة 401: لا يضمن الضالّة بعد الحول إلّا مع قصد التملّك.

و لو قصد حفظها دائماً، لم يضمن، كما في لقطة الأموال، إلّا مع

ص: 305


1- كما في شرائع الإسلام 290:3.
2- النهاية: 324.

التفريط أو التعدّي.

و لو قصد التملّك، ضمن، فإن نوى الحفظ بعد ذلك، لم يبرأ من الضمان؛ لأنّه قد تعلّق الضمان بذمّته، كما لو تعدّى في الوديعة ثمّ نوى الحفظ.

و لو قصد الحفظ ثمّ نوى التملّك، لزمه الضمان من حين نيّة التملّك.

مسألة 402: لو وجد مملوكاً بالغاً أو مراهقاً، لم يجز له أخذه؛

لأنّه كالضالّة الممتنعة يتمكّن من دفع المؤذيات عنه.

و لو كان صغيراً، كان له أخذه؛ لأنّه في معرض التلف، و المال إذا كان بهذه الحال جاز أخذه، و هو نوع منه.

و إذا أخذ عبداً صغيراً للحفظ، لم يدفع إلى مدّعيه إلّا بالبيّنة، و لا تكفي الشهادة على شهود الأصل بالوصف؛ لاحتمال الشركة في الأوصاف، بل يجب إحضار شهود الأصل ليشهدوا بالعين، فإن تعذّر إحضارهم لم يجب نقل العبد إلى بلدهم و لا بيعه على مَنْ يحمله، و لو رأى الحاكم ذلك صلاحاً جاز، و لو تلف قبل الوصول أو بعده و لم يثبت دعواه، ضمن المدّعي قيمة العبد و أجره.

مسألة 403: لو ترك متاعاً في مهلكةٍ فخلّصه إنسان، لم يملكه؛

لأنّه لا حرمة له في نفسه و لا يخشى عليه التلف كالخشية على الحيوان، فإنّ الحيوان يموت إذا لم يطعم و يسقى و تأكله السباع، و المتاع يبقى إلى أن يعود مالكه إليه.

و لو كان المتروك عبداً، لم يملكه آخذه؛ لأنّ العبد في العادة يمكنه التخلّص إلى الأماكن التي يعيش فيها، بخلاف البهيمة.

و له أخذ العبد و المتاع ليخلّصه لصاحبه.

ص: 306

و هل يستحقّ الأُجرة عن تخليص العبد أو المتاع ؟ الوجه: إنّه لا يستحقّ إلّا مع الجُعْل؛ لأنّه عمل في مال غيره بغير جُعْلٍ، فلم يستحق شيئاً، كالملتقط.

و قال أحمد: يستحقّ الجُعْل(1). و ليس بجيّدٍ.

مسألة 404: ما يلقيه رُكْبان البحر فيه من السفينة خوفاً من الغرق إذا أخرجه غير مالكه، فالأقرب: إنّه للمُخرج،

و به قال الليث بن سعد و الحسن البصري [قال:](2) و ما نضب عنه الماء فهو لأهله(3).

و قال ابن المنذر: يردّه على أربابه، و لا جُعْل له(4)، و هو مقتضى قول الشافعي(3).

و يتخرّج على قول أحمد: إنّ لمن أنقذه أُجرة مثله(4).

و الأقرب: ما قدّمناه؛ لأنّه مال ألقاه أربابه فيما يتلف بتركه فيه اختياراً منهم، فمَلَكه مَنْ أخرجه، كالمنبوذ بنيّة الإعراض عن تملّكه.

و لو انكسرت السفينة في البحر فأُخرج بعض المتاع الذي فيها بالغوص و أخرج البحر بعض ما غرق فيها، روى الشعيري فيه أنّ الصادق عليه السلام سئل عن ذلك، فقال: «أمّا ما أخرجه البحر فهو لأهله، اللّه أخرجه، و أمّا ما أُخرج بالغوص فهو لهم و هُمْ أحقّ به»(5).

ص: 307


1- المغني 400:6، الشرح الكبير 355:6.
2- ما بين المعقوفين أثبتناه من المغني و الشرح الكبير، و هو مقتضى ما في الإشراف على مذاهب أهل العلم. (3 و 4) الإشراف على مذاهب أهل العلم 161:2، المغني 401:6، الشرح الكبير 356:6.
3- كما في المغني 401:6، و الشرح الكبير 356:6.
4- المغني 401:6، الشرح الكبير 356:6.
5- تقدّم تخريجه في ص 277، الهامش (3).

و قال الشافعي و ابن المنذر: إذا انكسرت السفينة فأخرجه قوم، يأخذ أصحاب المتاع متاعهم، و لا شيء للّذين أصابوه(1).

و على قياس قول أحمد يكون لمستخرجه أُجرة المثل؛ لأنّ ذلك وسيلة إلى تحصيله(2) و حفظه لصاحبه و صيانته عن الغرق، فإنّ الغوّاص إذا علم أنّه يُدفع إليه الأجر بادر إلى التخليص، و إن علم أنّه يؤخذ منه بغير شيءٍ لم يخاطر بنفسه في استخراجه(3).

مسألة 405: قد بيّنّا أنّه يجوز للإنسان أن يلتقط العبد الصغير و كذا الجارية الصغيرة، و يُملك كلٌّ منهما بعد التعريف.

و قياس مذهب أحمد: إنّه لا يُملكان بالتعريف(4).

و قال الشافعي: يملك العبد دون الجارية؛ لأنّ التملّك بالتعريف - عنده - كالقرض، و الجارية - عنده - لا تُملك بالقرض(5).

و استشكل بعض العامّة ذلك؛ فإنّ الملقوط محكوم بحُرّيّته، و إن كان ممّن يعبّر عن نفسه فأقرّ بأنّه مملوك لم يُقبل إقراره؛ لأنّ الطفل لا قول له، و لو اعتبر قوله في ذلك لاعتبر في تعريف سيّده(6).

ص: 308


1- المغني 401:6، الشرح الكبير 356:6-357.
2- الظاهر: «تخليصه».
3- كما في المغني 401:6، و الشرح الكبير 357:6.
4- كما في المغني 402:6، و الشرح الكبير 357:6.
5- المهذّب - للشيرازي - 439:1، حلية العلماء 539:5، البيان 466:7، العزيز شرح الوجيز 356:6، روضة الطالبين 467:4، المغني 402:6، الشرح الكبير 357:6.
6- المغني 402:6، الشرح الكبير 357:6.

الفصل الثالث: في اللقيط

اشارة

و فيه مطالب:

المطلب الأوّل: الأركان.
اشارة

اللقيط كلّ صبي ضائع لا كافل له، و يُسمّى منبوذاً باعتبار أنّه يُنبذ، أي يرمى، و يُسمّى لقيطاً، أي ملقوطاً، و اللقيط فعيل بمعنى مفعول، كما يقال: دهين و خضيب و جريح و طريح، و إنّما هو مدهون و مخضوب و مجروح و مطروح، و يُسمّى ملقوطاً باعتبار أنّه يُلقط.

إذا عرفت هذا، فالأركان ثلاثة:

الركن الأوّل: الالتقاط.
اشارة

و هو واجب على الكفاية؛ لاشتماله على صيانة النفس عن الهلاك، و في تركه إتلاف النفس المحترمة، و قد قال اللّه تعالى:«وَ تَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَ التَّقْوى وَ لا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ» (1).

و لأنّ فيه إحياء النفس فكان واجباً، كإطعام المضطرّ و إنجائه من الغرق، و قد قال اللّه تعالى:«وَ مَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النّاسَ جَمِيعاً» (2) و قال تعالى:«وَ افْعَلُوا الْخَيْرَ» (3).

و وجد سُنَين أبو جميلة منبوذاً فجاء به إلى عمر بن الخطّاب، فقال:

ص: 309


1- سورة المائدة: 2.
2- سورة المائدة: 32.
3- سورة الحجّ: 77.

ما حملك على أخذ هذه النسمة ؟ فقال: وجدتُها ضائعةً فأخذتُها، فقال عريفه: إنّه رجل صالح، فقال: كذلك ؟ قال: نعم، قال: اذهب فهو حُرٌّ، و لك ولاؤه، و علينا نفقته(1).

و هذا الخبر عندنا لا يُعوّل عليه، و الولاء عندنا لمن يتولّاه الملتقط، فإن لم يتوال أحداً، كان ميراثه للإمام.

و ليس أخذ اللقيط واجباً على الأعيان بالإجماع و أصالة البراءة، و لئلّا تتضادّ الأحكام، و لأنّ الغرض الحفظ و التربية، و ذلك يحصل بأيّ واحدٍ اتّفق، بل هو من فروض الكفايات إذا قام به البعض سقط عن الباقين، و لو تركه الجماعة بأسرهم أثموا بأجمعهم إذا علموا به و تركوه مع إمكان أخذه.

مسألة 406: و يستحبّ الإشهاد على أخذه؛

لأنّه أصون و أحفظ، لأنّه يحتاج إلى حفظ الحُرّيّة و النسب، و لأنّ اللّقطة يشيع أمرها بالتعريف، و لا تعريف في اللقيط.

و للشافعيّة طريقان، أحدهما: إنّه على وجهين أو قولين كما قدّمنا في اللّقطة، و الأصح: القطع بالوجوب، بخلاف اللّقطة، فإنّ الأصحّ فيها الاستحباب؛ لأنّ اللقيط يحتاج إلى حفظ الحُرّيّة و النسب، فجاز أن يجب الإشهاد عليه كما في النكاح(2).

و الأصل عندنا ممنوع.

و حكى الجويني وجهاً ثالثاً هو: الفرق، فإن كان الملتقط على ظاهر العدالة لم يكلّف الإشهاد، و إن كان مستور العدالة كُلّف ليصير الإشهاد قرينةً

ص: 310


1- الموطّأ 19/738:2، العزيز شرح الوجيز 377:6.
2- الحاوي الكبير 37:8، الوجيز 254:1، البيان 9:8، العزيز شرح الوجيز 378:6، روضة الطالبين 483:4.

تغلب على الظنّ الثقة(1).

و إذا أوجبنا الإشهاد فلو تركه لم تسقط ولاية الحضانة.

و قال الشافعي: تسقط ولاية الحضانة، و يجوز الانتزاع(2).

و إذا أشهد فليشهد على الملتقط و ما معه من ثيابٍ و غيرها إن كان معه شيء.

الركن الثاني: اللقيط.

و قد ذكرنا أنّه كلّ صبي ضائع لا كافل له، و التقاطه من فروض الكفايات، فيخرج بقيد الصبي البالغ، فإنّه مستغنٍ عن الحضانة و التعهّد، فلا معنى لالتقاطه.

نعم، لو وقع في معرض هلاكٍ، أُعين ليتخلّص.

أمّا الصبي الذي بلغ سنّ التمييز فالأقرب: جواز التقاطه؛ لحاجته إلى التعهّد و التربية، و هو أحد قولَي الشافعيّة، و الثاني: إنّه لا يلتقط؛ لأنّه مستقلٌّ ممتنع، كضالّة الإبل، فلا يتولّى أمره إلّا الحاكم(3).

و قولنا: «ضائع» نريد به المنبوذ؛ لأنّ غير المنبوذ يحفظه أبوه أو جدّه لأبيه أو الوصي لأحدهما، فإن لم يكن أحد هؤلاء، نصب القاضي له مَنْ يراعيه و يحفظه و يتسلّمه؛ لأنّه كان له كافل معلوم، و هو أبوه أو جدّه أو وصيّهما، فإذا فقد قام القاضي مقامه، كما أنّه يقوم لحفظ مال الغائبين و المفقودين، أمّا المنبوذ فإنّه يشبه اللّقطة و لهذا يُسمّى لقيطاً فلم يختصّ

ص: 311


1- العزيز شرح الوجيز 379:6.
2- الوسيط 303:4، العزيز شرح الوجيز 379:6، روضة الطالبين 483:4.
3- العزيز شرح الوجيز 379:6، روضة الطالبين 484:4.

حفظه بالقاضي.

و قولنا: «لا كافل له» نريد به مَنْ لا أب له و لا جدّ للأب و مَنْ يقوم مقامهما، و الملتَقَط ممّن هو في حضانة أحد هؤلاء لا معنى لالتقاطه.

نعم، لو وُجد في مضيعةٍ أُخذ ليُردّ إلى حاضنه.

الركن الثالث: الملتقِط.
مسألة 407: يعتبر في الملتقِط التكليف و الحُرّيّة و الإسلام و العدالة،

فلا يصحّ التقاط الصبي و لا المجنون.

و لو كان الجنون يعتوره أدواراً، أخذه الحاكم من عنده، كما يأخذه لو التقطه المجنون المطبق أو الصبي.

و أمّا العبد فليس له الالتقاط؛ لأنّ منافعه ملك سيّده، فليس له صَرفها إلى غيره إلّا بإذنه، و لأنّ الالتقاط تبرّعٌ و العبد ليس من أهله؛ إذ أوقاته مشغولة بخدمة مولاه.

و لو أذن له السيّد أو علم به فأقرّه في يده، جاز، و كان السيّد في الحقيقة هو الملتقِط، و العبد نائبه قد استعان به عليه في الأخذ و التربية و الحضانة، فصار كما لو التقطه سيّده و سلّمه إليه.

و إذا أذن له السيّد، لم يكن له الرجوع في ذلك.

أمّا لو كان الطفل في موضعٍ لا ملتِقط له سوى العبد، فإنّه يجوز له التقاطه؛ لأنّه تخليصٌ له من الهلاك، فجاز، كما لو أراد التخليص من الغرق.

و لو التقط العبد مع وجود ملتقطٍ غيره، لم يُقر في يده، و ينتزعه الحاكم؛ لأنّه المنصوب للمصالح، إلّا أن يرضى مولاه و يأذن بتقريره في

ص: 312

يده، فيقدَّم على الحاكم.

و لا فرق بين القِنّ و المدبَّر و أُمّ الولد و المكاتَب و المحرَّر بعضه في ذلك كلّه؛ لأنّه ليس لأحد هؤلاء التبرّعُ بماله و لا بمنافعه إلّا بإذن السيّد.

و قال الشافعي: المكاتَب إذا التقط بغير إذن السيّد انتُزع من يده، كالقِنّ، و إن التقط بإذن السيّد جاء فيه الخلاف في تبرّعاته بالإذن، لكنّ الظاهر عندهم المنع؛ لأنّ حقّ الحضانة ولاية، و ليس المكاتَب أهلاً لها(1).

و ليس بجيّدٍ؛ لأنّ الحقّ لا يعدوهما.

و للشافعيّة وجهان في المُعتَق نصفه إذا التقط في يوم نفسه هل يستحقّ الكفالة ؟(2).

مسألة 408: لا يجوز للكافر أن يلتقط الصبي المسلم،

سواء كان الكافر ذمّيّاً أو معاهداً أو حربيّاً؛ لأنّه لا ولاية للكافر على المسلم، قال اللّه تعالى:«وَ لَنْ يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً» (3) و لأنّه لا يؤمن أن يفتنه عن دينه و يُعلّمه الكفر، بل الظاهر أنّه يُربّيه على دينه و ينشأ على ذلك كولده، فإن التقطه لم يُقرّ في يده.

أمّا لو كان الطفل محكوماً بكفره، فإنّه يجوز للكافر التقاطه؛ لقوله تعالى:«وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ» (4).

و للمسلم التقاط الطفل الكافر.

مسألة 409: الأقرب: اعتبار العدالة في الملتقِط،

فلو التقطه الفاسق

ص: 313


1- العزيز شرح الوجيز 381:6، روضة الطالبين 485:4.
2- حلية العلماء 555:5، العزيز شرح الوجيز 381:6، روضة الطالبين 485:4.
3- سورة النساء: 141.
4- سورة الأنفال: 73.

لم يُقر في يده، و ينتزعه الحاكم؛ لأنّ الفاسق غير مؤتمنٍ شرعاً، و هو ظالم، فلا يجوز الركون إليه؛ لقوله تعالى:«وَ لا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النّارُ» (1) و لا يؤمن أن يبيع الطفل أو يسترقّه و يدّعيه مملوكاً له بعد مدّةٍ، و لا يؤمن سوء تربيته له و لا يوثق عليه و يخشى الفساد به، و هو قول الشافعي(2) أيضاً.

و يفارق اللّقطة - حيث أُقرّت في يد الفاسق عندنا و في أحد قولَي الشافعي(3) - من ثلاثة أوجُه:

الأوّل: إنّ في اللّقطة معنى التكسّب، و الفاسق من أهل التكسّب، و هاهنا لا كسب، بل هو مجرّد الولاية.

الثاني: إنّ في اللّقطة وجوب ردّها إليه لو انتزعناها منه بعد التعريف حولاً و نيّة التملّك ليتملّكها، فلم ننتزعها منه و استظهرنا عليه في حفظها و إن كان الانتزاع أحوط، و هنا لا يردّ اللقيط إليه، فكان الانتزاع أحوط و أسهل.

الثالث: المقصود في اللّقطة حفظ المال، و يمكن الاحتياط عليه بالاستظهار في التعريف، أو بنصب الحاكم مَنْ يُعرّفها، فيزول خوف الخيانة، و لا يحتاج إلى أن ينتزعها الحاكم، و هنا المقصود حفظ الحُرّيّة و النسب، و لا سبيل إلى الاستظهار عليه؛ لأنّه قد يدّعي رقّه في بعض البلدان و بعض الأحوال.4.

ص: 314


1- سورة هود: 113.
2- الحاوي الكبير 36:8، المهذّب - للشيرازي - 442:1، الوجيز 254:1، الوسيط 304:4، التهذيب - للبغوي - 570:4، البيان 14:8، العزيز شرح الوجيز 381:6، روضة الطالبين 485:4، المغني 413:6، الشرح الكبير 409:6.
3- التهذيب - للبغوي - 563:4، البيان 477:7، العزيز شرح الوجيز 342:6 و 381، روضة الطالبين 455:4.

و قيل: لا يشترط العدالة، و لا ينتزع اللقيط من يد الفاسق؛ لإمكان حفظه في يده بالإشهاد عليه، و يأمر الحاكم أميناً يشارفه عليه كلّ وقتٍ و يتعهّده في كلّ زمانٍ، و يشيع أمره فيعرف أنّه [لقيط](1) فينحفظ بذلك من غير زوال ولايته؛ جمعاً بين الحقّين، كما في اللّقطة(2).

مسألة 410: مَنْ ظاهر حاله الأمانة إلّا أنّه لم يختبر حاله، لا ينتزع من يده؛

لأنّ ظاهر المسلم العدالة، و لم يوجد ما يعارض هذا الظاهر، و لأنّ حكمه حكم العَدْل في لقطة المال و الولاية في النكاح و أكثر الأحكام، لكن يوكل الإمام مَنْ يراقبه من حيث لا يدري لئلّا يتأذّى، فإذا حصلت للحاكم الثقة به صار كمعلوم العدالة.

و قبل ذلك لو أراد السفر به، مُنع و انتُزع منه؛ لأنّه لا يؤمن أن يسترقّه و أن يكون إظهاره العدالة لمثل هذا الغرض الفاسد، و هو أحد قولَي الشافعي، و الثاني له: إنّه يُقرّ في يده و يسافر به؛ لأنّه يُقرّ في يده في الحضر من غير مشرفٍ يُضمّ إليه، فكذا في السفر، كالعَدْل، و لأنّ الظاهر الستر و الصيانة(3).

فأمّا مَنْ عُرفت عدالته و ظهرت أمانته فيُقرّ اللقيط في يده في سفرٍ و حضرٍ؛ لأنّه مأمون عليه إذا كان سفره لغير النقلة، و لها وجهان.

مسألة 411: يعتبر في الملتقِط الرشد،

فلا يصحّ التقاط المبذِّر

ص: 315


1- بدل ما بين المعقوفين في النُّسَخ الخطّيّة و الحجريّة: «لقطة». و المثبت كما في المصدر.
2- المغني 413:6-414، الشرح الكبير 409:6-410.
3- الوسيط 304:4، التهذيب - للبغوي - 570:4، العزيز شرح الوجيز 381:6، روضة الطالبين 486:4، المغني 414:6، الشرح الكبير 411:6، و فيها القول الأوّل فقط.

المحجور عليه، فلو التقط لم يُقر في يده و انتُزع منه؛ لأنّه ليس مؤتمناً عليه شرعاً و إن كان عَدْلاً.

و لا يشترط في الملتقِط الذكورة، فإنّ الحضانة أليق بالإناث.

و لا يشترط كونه غنيّاً؛ إذ ليست النفقة على الملتقط.

و الفقير يساوي الغني في الحضانة.

و للشافعيّة وجهٌ آخَر، و هو: إنّه لا يُقرّ في يد الفقير؛ لأنّه لا يتفرّغ للحضانة؛ لاشتغاله بطلب القوت(1).

مسألة 412: لو ازدحم على لقيطٍ اثنان، فإن كان ازدحامهما عليه قبل أخذه

و قال كلّ واحدٍ منهما: أنا آخذه و أحضنه، جعله الحاكم في يد مَنْ رآه منهما أو من غيرهما؛ لأنّه لا حقّ لهما قبل الأخذ.

و إن ازدحما بعد الأخذ بأن تناولاه تناولاً واحداً دفعةً واحدة، فإن لم يكن أحدهما أهلاً للالتقاط مُنع منه، و سلّم اللقيط إلى الآخَر، كما لو كان أحدهما مسلماً حُرّاً عَدْلاً و الآخَر يكون كافراً أو فاسقاً أو عبداً لم يأذن له مولاه، أو مكاتَباً كذلك، فإنّ المسلم العَدْل الحُرّ يُقرّ في يده، و لا يشاركه الآخَر، و لا اعتبار بمشاركته إيّاه في الالتقاط؛ لأنّه لو التقطه وحده لم يُقرّ في يده، فإذا شاركه مَنْ هو من أهل الالتقاط كان أولى.

و أمّا إن كان كلّ واحدٍ منهما أهلاً للالتقاط، فإن سبق أحدهما إلى الالتقاط، مُنع الآخَر من مزاحمته.

و لا يثبت السبق بالوقوف على رأسه من غير أخذٍ، و هو أظهر وجهي

ص: 316


1- المهذّب - للشيرازي - 443:1، الوسيط 304:4، البيان 14:8، العزيز شرح الوجيز 382:6، روضة الطالبين 486:4.

الشافعيّة، و الثاني: إنّه يثبت(1).

و إن لم يسبق أحدهما، فإن اختصّ أحدهما بوصفٍ يوجب تقدّمه قُدّم، و كان أولى من الآخَر.

و إن تساويا من كلّ وجهٍ، فإن سلّم أحدهما لصاحبه و رضي بإسقاط حقّه جاز؛ لأنّ الحقّ له، فلا يُمنع من الإيثار به، و إن تشاحّا أُقرع بينهما - و به قال الشافعي(2) - لقوله تعالى:«وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ» (3).

و لأنّه أمر مشكل؛ لعدم إمكان الجمع بينهما، و عدم أولويّة أحدهما، و كلّ مشكلٍ ففيه القرعة بالنصّ عن أهل البيت عليهم السلام(4).

و لأنّه لا يمكن أن يُخرج عن أيديهما؛ لاشتماله على إبطال حقّهما الثابت لهما بالالتقاط، أو يُترك في أيديهما إمّا جمعاً، و الاجتماع على الحضانة مشقٌّ أو متعذّر، و لا يمكن أن يكون عندهما في حالةٍ واحدة، و إمّا بالمهايأة، و هو يشتمل على الإضرار باللقيط؛ لما في تبدّل الأيدي من قطع الأُلفة و اختلاف الأغذية و الأخلاق، أو يختصّ به أحدهما لا بالقرعة، و لا سبيل إليه؛ لتساويهما، فلم يبق مخلص إلّا القرعة، كالزوج يسافر بإحدى زوجاته بالقرعة.6.

ص: 317


1- الوسيط 305:4، العزيز شرح الوجيز 382:6-383، روضة الطالبين 486:4.
2- الحاوي الكبير 39:8، المهذّب - للشيرازي - 443:1، الوجيز 254:1، الوسيط 305:4، حلية العلماء 555:5، البيان 16:8، العزيز شرح الوجيز 384:6، روضة الطالبين 487:4.
3- سورة آل عمران: 44.
4- الفقيه 174/52:3، التهذيب 593/240:6.

و قال بعض الشافعيّة: يرجّح أحدهما باجتهاد القاضي، فمَن رآه خيراً للّقيط أقرّه في يده(1).

و هو غلط؛ لأنّه قد يستوي الشخصان في اجتهاد القاضي و لا سبيل إلى التوقّف، فلا بدّ من مرجوعٍ إليه، و ليس سوى القرعة.

و قال بعض الشافعيّة: يخيّر الصبي في الانضمام إلى مَنْ شاء منهما(2).

و هو غلط؛ لأنّه قد لا يكون مميّزاً بحيث يفوّض إليه التخيير، و لو كان مميّزاً فإنّه لا يخيّر، كما يخيّر الصبي بين الأبوين عند بلوغه سنّ التمييز - عندهم(3) - لأنّه هناك يعوّل على الميل الناشئ من الولادة، و هذا المعنى معدوم في اللقيط.

مسألة 413: هذا إذا تساويا في الصفات،

فإن ترجّح أحد الملتقطين بوصفٍ يوجب تخصيصه به دون الآخَر و كانا معاً ممّن يثبت لهما جواز الالتقاط، أُقرّ في يده، و انتُزع من يد الآخَر.

و الصفات المرجّحة أربعة:

أ: الغنى، فلو كان أحدهما غنيّاً و الآخَر فقيراً، فللشافعيّة وجهان:

أحدهما: إنّهما يتساويان - و هو قول بعض علمائنا(4) - لأنّ الفقير أهل للالتقاط، كالغني.

و أظهرهما عند الشافعيّة: أولويّة الغني؛ لأنّه ربما يواسيه بمالٍ و ينفعه في كثيرٍ من الأوقات و يؤاكله أحياناً، و لأنّ الفقير قد يشتغل بطلب القوت

ص: 318


1- الحاوي الكبير 40:8، المهذّب - للشيرازي - 443:1، حلية العلماء 556:5، البيان 16:8، العزيز شرح الوجيز 384:6، روضة الطالبين 487:4.
2- العزيز شرح الوجيز 384:6، روضة الطالبين 487:4.
3- التهذيب - للبغوي - 572:4، العزيز شرح الوجيز 384:6.
4- لم نتحقّقه.

عن الحضانة(1).

فإن رجّحنا الغني على الفقير و كانا معاً غنيّين إلّا أنّ أحدهما أكثر غنىً من الآخَر، فللشافعيّة وجهان في تقديم أكثرهما مالاً(2).

ب: أن يكون أحدهما بلديّاً و الآخَر قرويّاً، أو كان أحدهما بلديّاً أو قرويّاً و الآخَر بدويّاً، تساويا عند بعض علمائنا(3) ، و رجّح البلديّ على القرويّ، و القرويّ على البدويّ؛ لما فيه من حفظ نسبه و إمكان وصول قريبه إليه.

و للشافعيّة وجهان(4).

ج: مَنْ ظهرت عدالته بالاختبار يُقدّم على المستور على خلافٍ بين علمائنا.

و للشافعيّة وجهان:

أحسنهما: إنّه يقدّم احتياطاً للصبي.

و الثاني: يستويان؛ لأنّ المستور لا يسلّم ثبوت المزيّة للآخَر و يقول:

لا أترك حقّي بجهلكم بحالي(5).

د: الحُرّ أولى من العبد و المكاتَب و إن كان التقاطه بإذن السيّد؛ لأنّه في نفسه ناقص، و ليست يدُ المكاتَب يدَ السيّد.4.

ص: 319


1- التهذيب - للبغوي - 572:4، العزيز شرح الوجيز 383:6، روضة الطالبين 486:4.
2- العزيز شرح الوجيز 383:6، روضة الطالبين 486:4.
3- لم نتحقّقه.
4- التهذيب - للبغوي - 572:4، العزيز شرح الوجيز 387:6-388، روضة الطالبين 487:4-488.
5- الوسيط 305:4، العزيز شرح الوجيز 383:6، روضة الطالبين 486:4.
مسألة 414: لا تُقدّم المرأة على الرجل؛

لأنّ المرأة و إن كانت بالحضانة أولى لشفقتها و ملامستها إلّا أنّ الرجل أقوى، و لا فرق بين أن يكون المنبوذ ذكراً أو أُنثى، بخلاف الأُم، فإنّها تُقدّم على الأب في الحضانة؛ لأنّ المراعى هناك شفقة الأُمومة في الحضانة.

و كذا لا يتقدّم المسلم على الكافر في اللقيط المحكوم بكفره.

و قال بعض الشافعيّة: يُقدّم المسلم ليُعلّمه دينه(1) ، فتحصل له سعادة الدنيا و الآخرة، ينجو من الجزية أو الصغار، و يتخلّص من النار، و هذا أولى من الترجيح باليسار الذي إنّما يتعلّق بتوسعته عليه في الإنفاق، و لا بأس به عندي.

و قال بعض الشافعيّة: يُقدّم الكافر؛ لأنّه على دينه(2).

و هو ينافي المعقول؛ إذ الغرض اجتذاب الكافر إلى الإسلام.

مسألة 415: إذا تساويا و أُقرع بينهما فخرجت القرعة لأحدهما فترك حقّه للآخَر، لم يجز؛

لأنّه ليس للمنفرد نقل حقّه و تسليم اللقيط إلى الآخَر، و بتخصيصه بالقرعة صار منفرداً.

و لو قال قبل القرعة: تركتُ حقّي، فالأصحّ عند الشافعيّة - و هو المعتمد - انفراد الآخَر به؛ لأنّ الحقّ لهما، فإذا أسقط أحدهما حقّه استقلّ الآخَر، كالشفيعين.

و الثاني: المنع، كما لو ترك حقّه بعد خروج القرعة، بل يرفع الأمر إلى الحاكم حتى يقرّه في يد الآخَر إن رأى ذلك، و له أن يختار أميناً آخَر فيقرع بينه و بين الذي لم يترك حقّه(1).

و قال بعض الشافعيّة: إنّ التارك لا يتركه الحاكم، و يقرع بينه و بين

ص: 320


1- الحاوي الكبير 40:8، المهذّب - للشيرازي - 443:1، حلية العلماء 556:5، البيان 17:8، العزيز شرح الوجيز 385:6، روضة الطالبين 487:4.

صاحبه، فإن خرجت القرعة عليه أُلزم القيام بحضانته، بناءً على أنّ المنفرد إذا شرع في الالتقاط لا يجوز له الترك(1).

المطلب الثاني: في أحكام الالتقاط.
اشارة

و فيه بحثان:

البحث الأوّل: في نقله.
اشارة

يجب على الملتقِط حفظ اللقيط و رعايته، و لا يجب عليه نفقته، سواء كان موسراً أو معسراً، فإن عجز عن حفظه سلّمه إلى القاضي.

و لو تبرّم به مع القدرة على حضانته و تربيته، فالأقرب: إنّه يسلّمه إلى القاضي أيضاً.

و للشافعيّة وجهان مبنيّان على أنّ الشروع في فروض الكفاية هل يوجب إتمامها؟ و هل يصير الشارع فيها متعيّناً لها، أم لا؟(2).

و الكلام فيه مضى في كتاب السير(2).

و قطع بعض الشافعيّة(4) بما ذهبنا إليه.

و لا شكّ في أنّ الملتقط يحرم عليه نبذه و ردّه إلى المكان الذي التقطه فيه؛ لما فيه من تعريضه للإتلاف.

إذا عرفت هذا، فإنّ الواجب على الملتقط حفظه و تربيته، دون نفقته و حضانته.

مسألة 416: الملتقط للصبي إن كان بلديّاً و قد التقطه في بلدته،

أُقرّ

ص: 321


1- العزيز شرح الوجيز 385:6، روضة الطالبين 487:4. (2 و 4) العزيز شرح الوجيز 385:6، روضة الطالبين 488:4.
2- راجع: ج 9 - من هذا الكتاب - ص 35.

في يده، و ليس له أن ينقله إلى البادية لو أراد الانتقال إلى البادية، بل ينتزع منه؛ لما في عيش أهل البوادي من الخشونة و قصورهم عن معرفة علوم الأديان و الصناعات التي تُكتسب بها، فلو انتقل باللقيط لزم تضرّره، و لأنّ ظهور نسبه إنّما يكون في موضع التقاطه غالباً، فلو سافر به لضاع نسبه؛ لأنّ مَنْ ضيّعه يطلبه حيث ضيّعه.

و لو كان الموضع المنقول إليه من البادية قريباً من البلدة و يسهل تحصيل ما يراد منها، فإن راعينا خشونة المعيشة لم يُمنع، و إن راعينا حفظ النسب، فإن كان أهل البلد يختلطون بأهل تلك البادية لم يُمنع أيضاً، و إلّا مُنع.

و كما أنّه ليس له نقله إلى البادية، فكذا ليس له نقله إلى القرى؛ لأنّ مقامه في الحضر أصلح له في دينه و دنياه و أرفق له، و لأنّ بقاءه في البلد أقرب إلى كشف نسبه و ظهور أهله و اعترافهم به.

و لو أراد النقلة به إلى بلدٍ آخَر، فإن نظرنا إلى اعتبار المعيشة فالبلاد متقاربة، و إن راعينا أمر النسب منعناه؛ لأنّ طلبه في موضع ضياعه أظهر، فيكون كشف نسبه فيه أرجى، فلا يُقرّ في يد المنتقل عنه، كما لا يُقرّ في يد المنتقل به إلى البادية.

و للشافعيّة وجهان(1).

و لا فرق في ذلك بين سفر النقلة و التجارة و الزيارة.

و لو غلب على ظنّ الملتقط قصد رمي أهله له و تضييعه، فالأقوى عندي: جواز نقله إلى أين شاء.

و لو وجده القرويّ في قريته أو في قريةٍ أُخرى أو في بلدةٍ، فالحكم كما قلنا في البلديّ و البدويّ إذا التقطه في بلدٍ أو قريةٍ لم يُقرّ يده عليه9.

ص: 322


1- الوجيز 255:1، العزيز شرح الوجيز 386:6، روضة الطالبين 488:4-489.

لو أراد الخروج به إلى البادية؛ لما فيه من خشونة العيش و ضياع النسب، و لو أراد المقام بها أُقرّ في يده.

مسألة 417: لو التقطه الحضري في البادية، فإن كان في مهلكةٍ فلا بدّ من نقله؛ حراسةً له عن التلف.

و للملتقط أن يتوجّه به إلى مقصده و يذهب إليه به.

و مَنْ أوجب من العامّة تعريف اللّقطة في أقرب الأماكن يقول:

لا يذهب به إلى مقصده؛ رعايةً لأمر النسب(1).

و لو التقطه في حِلّةٍ أو قبيلةٍ، فله نقله إلى البلدة و القرية.

و للشافعيّة وجهان(2).

و لو أقام هناك، أُقرّ في يده قطعاً.

و لو التقطه البدويّ في حِلّةٍ أو قبيلةٍ في البادية، فإن كان من أهل حِلّةٍ مقيمين في موضعٍ راتب أُقرّ في يده؛ لأنّه كبلدةٍ أو قريةٍ.

و إن كانوا ممّن ينتقلون من موضعٍ إلى موضعٍ، فوجهان للشافعيّة:

أحدهما: المنع؛ لما فيه من التعب.

و الثاني: يُقرّ؛ لأنّ أطراف البادية كمحالّ البلدة(3).

مسألة 418: لو ازدحم على لقيطٍ في البلدة أو القرية اثنان، أحدهما مقيم في ذلك الموضع، و الآخَر ظاعن عنه، فالأولى أنّه يُقرّ في يد المقيم؛

لأنّه أرفق له و أرجى لظهور نسبه، و هو أحد قولَي الشافعيّة، و الثاني: إن كان الظاعن يظعن إلى البادية فالمقيم أولى، و إن كان إلى بلدٍ آخَر، فإن منعنا المنفرد من الخروج باللقيط إلى بلدٍ آخَر، فكذلك يكون المقيم أولى، و إن جوّزنا له ذلك تساويا(4).

و لو اجتمع على لقيطٍ في القرية قرويٌّ مقيم بها و بلديٌّ، فالأولى

ص: 323


1- العزيز شرح الوجيز 387:6، روضة الطالبين 489:4.
2- العزيز شرح الوجيز 387:6، روضة الطالبين 489:4.
3- العزيز شرح الوجيز 387:6، روضة الطالبين 489:4.
4- العزيز شرح الوجيز 387:6، روضة الطالبين 489:4.

تقديم القرويّ؛ لأنّه يُطلب في موضع ضياعه، و هو أحد قولَي الشافعيّة، و الثاني: إنّا إذا جوّزنا النقل من بلدٍ إلى بلدٍ تساويا، و إن منعناه فالقرويّ أولى(1).

و لو اجتمع حضريٌّ و بدويٌّ على لقيطٍ في البادية، فإن وُجد في حِلّةٍ أو قبيلةٍ و البدويّ في موضعٍ راتب تساويا.

و قال بعض الشافعيّة: البدويّ أولى إن كان مقيماً فيهم؛ رعايةً لنسبه(2).

و إن كان البدويّ من المنتجعين، فإن قلنا: يُقرّ في يده لو كان منفرداً، فهُما سواء، و إلّا فالحضريّ أولى.

و إن وُجد في مهلكةٍ، للشافعيّة قولان، أحدهما: تقديم الحضري، و الثاني: تقديم البدويّ(3).

و الأقرب: تقديم مَنْ مكانه أقرب إلى موضع الالتقاط.

البحث الثاني: في النفقة على اللقيط.
اشارة

لا يجب على الملتقط النفقة على اللقيط إجماعاً؛ لأصالة براءة الذمّة.

قال ابن المنذر: أجمع كلّ مَنْ يُحفظ عنه من أهل العلم على أنّ نفقة اللقيط غير واجبةٍ على الملتقط كوجوب نفقة الولد(4).

و ذلك لأنّ أسباب وجوب النفقة من القرابة و الزوجيّة و الملك منتفية عن الالتقاط، لأنّه عبارة عن تخليص نفس اللقيط من الهلاك، و تبرّع بحفظه، فلا يوجب ذلك النفقةَ، كما لو فَعَله بغير اللقيط.

ص: 324


1- العزيز شرح الوجيز 387:6، روضة الطالبين 489:4.
2- العزيز شرح الوجيز 388:6، روضة الطالبين 490:4.
3- العزيز شرح الوجيز 388:6، روضة الطالبين 490:4.
4- الإشراف على مذاهب أهل العلم 163:2، المغني 408:6، الشرح الكبير 404:6.

و لأنّ محمّد بن علي الحلبي سأل الصادقَ عليه السلام، قال: قلت له: مَن الذي أُجبر على نفقته ؟ قال: «الوالدان و الولد و الزوجة و الوارث الصغير» يعني الأخ و ابن الأخ و غيره، رواه الصدوق ابن بابويه(1) رحمه الله، و لم يذكر اللقيط.

و لأنّ إيجاب الإنفاق عليه يؤدّي إلى ترك التقاطه و إهماله، فيلزم الإفضاء إلى تلفه.

مسألة 419: اللقيط إن كان له مال، أُنفق عليه منه.

و ماله ينقسم إلى ما يستحقّه بعموم كونه لقيطاً و إلى ما يستحقّه بخصوصه.

فالأوّل: مثل الحاصل من الوقوف على اللقطاء أو أُوصي لهم.

قال بعض الشافعيّة: أو وُهب لهم(2).

و اعترض عليه بأنّ الهبة لا تصحّ لغير معيّنٍ(3).

قال آخَرون: و يجوز أن تُنزّل الجهة العامّة منزلة المسجد حتى يجوز تمليكها بالهبة كما يجوز الوقف عليها، و حينئذٍ يقبله القاضي(4).

و ليس بشيءٍ.

نعم، تصحّ الوصيّة لهم.

و الثاني: ما يوجد تحت يده و اختصاصه؛ لأنّ للطفل يداً و اختصاصاً كالبالغ، و الأصل الحُريّة ما لم يعرف غيرها، و ذلك كثيابه التي عليه ملبوسة له و الملفوفة عليه و المفروشة تحته و الذي غطّى به من لحافٍ و شبهه و ما شدّ عليه و على ثوبه، أو جعل في جيبه من حُليٍّ أو دراهم و غيرها،

ص: 325


1- الفقيه 209/59:3.
2- الغزالي في الوجيز 255:1، و عنه في العزيز شرح الوجيز 389:6. (3 و 4) العزيز شرح الوجيز 389:6.

و كذا ما يكون الطفل مجعولاً فيه، كالسرير و المهد و السفط، و ما فيه من فرش أو دراهم أو ثياب - و بهذا قال الشافعي و أحمد و أصحاب الرأي(1) - لأنّ الطفل يملك و له يد صحيحة، و لهذا يرث و يورّث، و يصحّ أن يشتري له وليُّه و يبيع.

مسألة 420: الدابّة المشدودة في وسطه أو ثيابه أو التي عنانها بيده يُحكم له بملكيّتها.

و كذا الدنانير المنثورة فوقه و المصبوبة تحته و تحت فراشه.

و للشافعيّة فيما يوجد تحته قولان(2).

و لو كان في خيمةٍ أو دارٍ ليس فيهما غيره، فهُما له.

و في البستان لو وُجد فيه للشافعيّة وجهان(3).

و لو كان بالقرب منه ثياب أو أمتعة موضوعة أو دابّة، فالأقرب: [إنّها ليست](4) له، كما لو كانت بعيدةً عنه، و هو أصحّ وجهي الشافعيّة، و الثاني:

تجعل له؛ لأنّ مثل هذا يُثبت اليد و الاختصاص في حقّ البالغ، فإنّ الأمتعة في السوق بقرب الشخص تجعل له(5).

ص: 326


1- الحاوي الكبير 35:8، المهذّب - للشيرازي - 441:1، الوجيز 255:1، الوسيط 307:4، حلية العلماء 551:5، التهذيب - للبغوي - 568:4، البيان 5:8، العزيز شرح الوجيز 389:6، روضة الطالبين 490:4، المغني 409:6، الشرح الكبير 406:6، الاختيار لتعليل المختار 45:3.
2- الحاوي الكبير 35:8، حلية العلماء 551:5، العزيز شرح الوجيز 389:6، روضة الطالبين 490:4.
3- الحاوي الكبير 36:8، حلية العلماء 551:5-552، العزيز شرح الوجيز 389:6، روضة الطالبين 490:4.
4- بدل ما بين المعقوفين في النُّسَخ الخطّيّة و الحجريّة: «إنّه ليس». و المثبت يقتضيه السياق.
5- الحاوي الكبير 35:8، المهذّب - للشيرازي - 441:1، الوجيز 255:1، الوسيط 307:4، حلية العلماء 551:5، التهذيب - للبغوي - 568:4، البيان 5:8، العزيز شرح الوجيز 389:6-390، روضة الطالبين 490:4.

و الأصحّ من الوجهين عند الحنابلة: الثاني؛ لأنّ الظاهر أنّه ترك له، فهو(1) بمنزلة ما هو تحته، و كالحمّال إذا جلس للاستراحة و ترك حمله قريباً منه(2).

مسألة 421: لو وُجد تحت الطفل مال مدفون، لم يُحكم له به إذا كان في أرضٍ لا تختصّ به،

أمّا الذي يختصّ به - كالخيمة و الدار - فإنّه يُحكم له به؛ لأنّه لا يقصد بالدفن الضمّ إلى الطفل، و لأنّ الظاهر أنّه لو كان للطفل، لشدّه واضعه في ثيابه ليعلم به، و لم يتركه في مكانٍ لا يطّلع عليه.

و للحنابلة وجهان:

أحدهما: إنّه إن كان الحفر طريّاً فهو له، و إلّا فلا؛ لأنّ الظاهر أنّه إذا كان طريّاً فواضع اللقيط حفره، و إذا لم يكن طريّاً كان مدفوناً قبل وضعه.

و الثاني: كما قلناه - و هو قول الشافعيّة(3) - لأنّه بموضعٍ لا يستحقّه إذا لم يكن الحفر طريّاً، فلم يكن له إذا كان طريّاً كالبعيد منه(4).

و لو وُجد معه أو في ثيابه رقعة مكتوب فيها: إنّ تحته دفيناً و إنّه له، فللشافعيّة وجهان حكاهما الجويني.

أظهرهما: إنّه له بقرينة الرقعة، و قد [يتّفق](5) في العرف مثله.

ص: 327


1- الظاهر بحسب السياق: «أنّها تركت له فهي».
2- المغني 409:6، الشرح الكبير 407:6.
3- الحاوي الكبير 35:8، المهذّب - للشيرازي - 441:1، الوجيز 255:1، الوسيط 307:4، التهذيب - للبغوي - 568:4، البيان 5:8، العزيز شرح الوجيز 390:6، روضة الطالبين 490:4-491.
4- المغني 409:6-410، الشرح الكبير 407:6.
5- بدل ما بين المعقوفين في النُّسَخ الخطّيّة و الحجريّة: «سبق». و الصحيح ما أثبتناه كما في العزيز شرح الوجيز.

و الثاني: الجري على القياس من غير مبالاةٍ بالرقعة(1).

و الأقرب: الأوّل؛ لأنّه في الأمارة و الدلالة على تخصيص اللقيط به أقوى من الموضوع تحته.

و لو أرشدت الرقعة إلى دفينٍ بالبُعْد منه أو دابّة مربوطة بالبُعْد، فالأقوى: عدم الالتفات إلى الاستدلال بها.

و لو كانت الدابّة مشدودةً باللقيط و عليها راكب، قال بعض الشافعيّة:

تكون بينهما(2).

و على ما اخترناه من أنّ راكب الدابّة أولى من قابض لجامها يكون الراكب هنا أولى.

و كلّ ما لا يُحكم للّقيط به من هذه الأموال سوى الدفن يكون لقطةً، و الدفن قد يكون ركازاً و قد يكون لقطةً على ما تقدّم.

مسألة 422: كلّ ما حُكم للّقيط به فإن كان فيه كفايته، لم تجب على أحدٍ نفقته؛

لأنّه ذو مال مستغنٍ عن غيره، فأشبه سائر الناس.

و لو لم يُعرف له مال البتّة، وجب أن يُنفق عليه الإمام من بيت المال من سهم المصالح؛ لأنّ عمر استشار الصحابة في نفقة اللقيط، فقالوا: من بيت المال(3) ، و قال لأبي جميلة لمّا التقط الصبي: اذهب فهو حُرٌّ، لك ولاؤه، و علينا نفقته(4) ، و لأنّ بيت المال وارث له و ماله مصروف إليه،

ص: 328


1- الوجيز 255:1، الوسيط 307:4، العزيز شرح الوجيز 390:6، روضة الطالبين 491:4.
2- العزيز شرح الوجيز 390:6، روضة الطالبين 491:4.
3- الحاوي الكبير 34:8، المهذّب - للشيرازي - 442:1، العزيز شرح الوجيز 390:6.
4- تقدّم تخريجه في ص 310، الهامش (1).

فتكون نفقته عليه، كقرابته و مولاه، و هو أصحّ قولَي الشافعي؛ لأنّ البالغ المعسر يُنفق عليه من بيت المال، فاللقيط العاجز أولى، و لأنّه للمصالح و هذا منها.

و الثاني: إنّه لا تكون من بيت المال؛ لأنّ بيت المال مُعدٌّ للصرف إلى ما لا وجه له سواه، و اللقيط يجوز أن يكون رقيقاً فنفقته على سيّده، أو حُرّاً له مال أو قريب فنفقته في ماله أو على قريبه، فعلى هذا يستقرض عليه الإمام لنفقته من بيت المال أو من آحاد الناس، فإن لم يكن في بيت المال شيء و لم يُقرضه أحد من الناس استعان الإمام بالمؤمنين في الإنفاق عليه إمّا على سبيل الصدقة أو القرض.

ثمّ إن ظهر أنّه مملوك رجع على سيّده بما اقترضه الإمام له، و إن ظهر أنّه حُرٌّ و له مَنْ تجب عليه نفقته رجع عليه، و إن بانَ حُرّاً لا مال له و لا قريب و لا كسب قضى الإمام من سهم الفقراء و المساكين أو الغارمين(1).

و الأوّل أثبت.

مسألة 423: قد بيّنّا أنّ نفقة اللقيط إذا لم يكن له مالٌ على بيت المال،

فإن لم يكن في بيت المال شيء أو كان لكن هناك ما هو أهمّ، كسدّ ثغرٍ يعظم أمره، و حاجة إلى رعاية عمارةٍ عامّة، كسدّ بثقٍ يخشى الغرق منه، أو غير ذلك من المصالح العظيمة، وجب على المسلمين القيام بكفايته، و لم يجز لهم تضييعه.

ثمّ طريقه طريق النفقة؛ لأنّه محتاج عاجز، فأشبه الفقير المزمن و المجنون و الميّت إذا لم يكن له كفن، فعلى هذا إذا قام به البعض سقط

ص: 329


1- الحاوي الكبير 38:8، المهذّب - للشيرازي - 442:1، حلية العلماء 553:5، العزيز شرح الوجيز 390:6-391، روضة الطالبين 491:4.

عن الباقين؛ لحصول الغرض به، و إن امتنعوا بأسرهم استحقّوا العقاب، و طالَبهم الإمام، فإن امتنعوا قاتلهم، فإن تعذّر استقرض الإمام على بيت المال و أنفق عليه، و هو أحد قولَي الشافعيّة.

و الثاني: إنّ طريقه طريق القرض حتى يثبت الرجوع؛ لأنّ هذا يجب دفعه لإحيائه، فأشبه المضطرّ يدفع إليه بالعوض، كما يبذل الطعام للمضطرّ بالعوض؛ لما تقدّم من أنّه يجوز أن يكون رقيقاً أو يكون له مال أو قريب كما تقدّم، فعلى هذا إن تيسّر الاقتراض استقرض، و إلّا قسّط الإمام نفقته على الموسرين من أهل البلد، ثمّ إن ظهر عبداً فالرجوع على سيّده، و إن ظهر له مالٌ أو اكتسبه فالرجوع عليه، و إن لم يكن شيء قضى من سهم الفقراء أو الغارمين، و إن حصل في بيت المال مالٌ فنفقته منه(1).

و لو حصل في بيت المال مالٌ و حصل للّقيط مالٌ دفعةً، قضى من مال اللقيط، كما أنّه إذا كان له مال و في بيت المال مال تكون نفقته في ماله، و لا يؤخذ من بيت المال شيء؛ لاستغنائه عنه.

و لو احتاج الإمام إلى التقسيط على الأغنياء، قسّط مع إمكان الاستيعاب، و لو كثروا و تعذّر التوزيع يضربها السلطان على مَنْ يراه بحسب اجتهاده، فإن استووا في نظره تخيّر.

و المراد أغنياء تلك البلدة أو القرية.

و لو احتاج إلى الاستعانة بغيرهم، استعان، و لو رأى المصلحة في التناوب عليه في الإنفاق منهم فَعَله.4.

ص: 330


1- الحاوي الكبير 38:8-39، المهذّب - للشيرازي - 442:1، الوسيط 308:4، حلية العلماء 553:5-554، التهذيب - للبغوي - 569:4-570، البيان 12:8، العزيز شرح الوجيز 391:6، روضة الطالبين 492:4.
مسألة 424: إذا كان للّقيط مال، فالأقرب عندي: إنّ الملتقط لا يستقلّ بحفظه،

بل يحتاج إلى إذن الحاكم؛ لأنّ إثبات اليد على المال إنّما يكون بولايةٍ إمّا عامّة أو خاصّة، و لا ولاية للملتقط، و لهذا أوجبنا الرجوع إلى الحاكم في الإنفاق عليه من ماله، و هو أحد وجهي الشافعيّة.

و أرجحهما عندهم: إنّ الملتقط يستقلّ بحفظ ماله، و لا يحتاج إلى إذن الحاكم؛ لأنّه مستقلّ بحفظ المالك، بل هو أولى به من القاضي، فكان أولى بحفظ ماله(1).

ثمّ اختلفوا - بناءً على هذا القول - في أنّه هل له أن يخاصم عن اللقيط مَنْ يدّعي ما يختصّ اللقيط به من الأموال ؟ و الأصحّ عندهم: إنّه لا يخاصم(2).

مسألة 425: إذا كان للّقيط مال، أُنفق عليه منه إجماعاً،

و لا يجب على غيره الإنفاق عليه، كما أنّ الصغير الموسر تجب نفقته من ماله دون مال أبيه.

و لا يتولّى الملتقط الإنفاق عليه من ماله بالاستقلال ما لم يأذن الحاكم إذا أمكن مراجعته - و به قال الشافعي(3) - لأنّه لا ولاية له على ماله، و إنّما له حقّ الحضانة؛ لأنّ الولاية للأب و الجدّ له و الحاكم على مال الصغير دون بقيّة الأقارب و إن كان لأقارب الصغار ولاية الحضانة، كذلك الملتقط يلي

ص: 331


1- الوسيط 308:4، التهذيب - للبغوي - 568:4، العزيز شرح الوجيز 392:6، روضة الطالبين 493:4.
2- حلية العلماء 554:5، العزيز شرح الوجيز 393:6، روضة الطالبين 493:4.
3- الحاوي الكبير 37:8، المهذّب - للشيرازي - 442:1، الوسيط 308:4، التهذيب - للبغوي - 568:4، البيان 10:8، العزيز شرح الوجيز 393:6، روضة الطالبين 493:4.

الحضانة، و لا يلي المال.

و قال أحمد: إنّ الولاية للملتقط ينفق عليه بغير إذن الحاكم؛ لأنّه وليٌّ له، فلم يعتبر في الإنفاق عليه في حقّه إذن الحاكم، كوصيّ اليتيم، و لأنّ هذا من الأمر بالمعروف، فاستوى فيه الإمام و غيره، كإراقة الخمر(1).

و قد روي عنه في رجلٍ أودع رجلاً مالاً و غاب و طالت غيبته و له ولد و لا نفقة لهم هل ينفق عليهم هذا المستودع من مال الغائب ؟ فقال: تقوم امرأته إلى الحاكم حتى يأمره بالإنفاق عليهم، فلم يجعل له الإنفاق من غير إذن الحاكم، فقال بعض أصحابه: هذا مثله، و مَنَع الباقون، و فرّقوا بوجهين:

أحدهما: إنّ الملتقط له ولاية على اللقيط و على ماله، فإنّ له ولاية أخذه و حفظه.

و الثاني: إنّه إنّما ينفق على الصبي من مال أبيه بشرط أن يكون الصبي محتاجاً إلى ذلك لعدم ماله و عدم نفقةٍ تركها أبوه برسمه، و ذلك لا يقبل [فيه] قول المستودع فاحتيج إلى إثبات ذلك عند الحاكم، و لا كذلك في مسألتنا(2).

و نمنع ثبوت الولاية على الملتقط في غير الحضانة.

مسألة 426: إذا ثبت ما قلناه من أنّه لا يتولّى الملتقط الإنفاق عليه إلّا بإذن الحاكم، فإنّه يرفع أمره إلى الحاكم،

فإن أذن له في الإنفاق عليه جاز له، كما يجعل أميناً للصغير إذا مات أبوه بغير وصيّةٍ، فإن أنفق عليه بغير

ص: 332


1- المغني 410:6، الشرح الكبير 408:6.
2- المغني 410:6، الشرح الكبير 408:6-409، و ما بين المعقوفين أثبتناه من المصدر.

إذن الحاكم مع إمكانه ضمن ما أنفقه، و لم يكن له الرجوع على اللقيط، كمَنْ في يده وديعة ليتيمٍ فأنفقها عليه.

و لبعض الشافعيّة وجه غريب: إنّه لا يصير ضامناً(1).

إذا تقرّر هذا، فإذا رفع الأمر إلى الحاكم كان للحاكم أن يأخذ المال منه و يسلّمه إلى أمينٍ لينفق منه على اللقيط بالمعروف، أو يصرفه إلى الملتقط يوماً بيومٍ، أو يتركه بحاله في يد الملتقط إذا رأى الإمام الصلاح في ذلك.

ثمّ الأمين إن قتر عليه مُنع منه، و إن أسرف ضمن الأمين و الملتقط الزيادةَ، و يستقرّ الضمان على الملتقط إذا كان الأمين قد سلّمه إليه؛ لحصول الهلاك في يده، و قد قلنا: إنّ للحاكم أن يأذن للملتقط في الإنفاق و يترك المال في يده إذا كان أميناً عنده.

و أمّا الشافعيّة فقدّموا على الحكم مقدّمةً، و هي: إنّه إذا لم يكن للّقيط مال و احتيج إلى الاستقراض له، هل يجوز للقاضي أن يأذن للملتقط في الإنفاق عليه من مال نفسه ليرجع ؟ نصّ الشافعي على الجواز، و نصّ في الضالّة أنّه لا يأذن لواجدها في الإنفاق عليها من مال نفسه ليرجع على صاحبها، بل يأخذ المال منه و يدفعه إلى أمينٍ، ثمّ الأمين يدفع إليه كلّ يومٍ بقدر الحاجة.

فاختلف أصحابه، فقال أكثرهم: المسألة على قولين:

أحدهما: المنع في الصورتين، و به قال المزني، و إلّا كان قابضاً للغير من نفسه و مقبضاً.4.

ص: 333


1- العزيز شرح الوجيز 393:6، روضة الطالبين 493:4.

و أشبههما عندهم: الجواز؛ لما في الأخذ و الردّ شيئاً فشيئاً من العسر و المشقّة، و لا يبعد أن يجوز للحاجة تولّي الطرفين، و يلحق الأمين بالأب في ذلك.

و مثل هذا الخلاف آتٍ فيما إذا أنفق المالك عند هرب العامل في المساقاة، و المكتري عند هرب الجمّال(1).

و قال آخَرون بظاهر النصّين، و فرّقوا بأنّ اللقيط لا وليّ له ظاهراً، فجاز أن يجعل القاضي الملتقط وليّاً، و صاحب اللّقطة قد يكون رشيداً لا يولّى عليه(2).

إذا تقرّر هذا، فأكثر الشافعيّة طردوا الطريقين في جواز ترك المال في يد الملتقط و الإذن في الإنفاق منه.

و الأحسن عندهم ما ذهبنا نحن إليه، و هو القطع بالجواز؛ لأنّ ما ذكرنا من اتّحاد القابض و المقبض لا يتحقّق هنا، بل هو كقيّم اليتيم يأذن له القاضي في الإنفاق عليه من ماله(3).

و على ما قلناه من جواز الإذن له في الإنفاق فإذا أذن ثمّ بلغ اللقيط و اختلفا فيما أنفق، قُدّم قول الملتقط في قدره إذا لم يتجاوز المعروف و ما يليق بحال الملتقط.

و يجيء للشافعيّة وجهٌ آخَر: إنّ القول قول اللقيط(4).

و لو ادّعى الملتقط الزائدَ على قدر المعروف، فهو مُقرٌّ على نفسه بالتفريط، فيضمن، و لا معنى للتحليف إلّا أن يدّعي الملتقط الحاجة

ص: 334


1- العزيز شرح الوجيز 393:6، روضة الطالبين 494:4.
2- العزيز شرح الوجيز 393:6، روضة الطالبين 494:4.
3- العزيز شرح الوجيز 394:6، روضة الطالبين 494:4.
4- العزيز شرح الوجيز 394:6، روضة الطالبين 494:4.

و ينكرها اللقيط.

نعم، لو وقع النزاع في عين مالٍ فزعم الملتقط أنّه أنفقها، صُدّق مع اليمين، لتنقطع المطالبة بالعين، ثمّ يضمن، كالغاصب إذا ادّعى التلف.

مسألة 427: و لو لم يتمكّن من مراجعة الحاكم أو لم يكن هناك حاكم، فإنّه يُنفق الملتقط من مال الطفل عليه بنفسه

- و هو أحد قولَي الشافعيّة(1)- لأنّه موضع ضرورةٍ، فأُبيح له ذلك، و إلّا لزم تضرّر الصبي.

و الثاني: إنّ الملتقط يدفع المال إلى أمينٍ لينفق عليه.

و الأصحّ عندهم: الأوّل؛ إذ لا فرق بين دفعه إلى الأمين و إلى اللقيط(2).

إذا ثبت هذا، فهل يجب الإشهاد؟ الأقرب: ذلك؛ لأنّ الإشهاد مع عدم الحاكم قائم مقام إذن الحاكم مع وجوده، كما في الضالّة.

و إذا أشهد على الإنفاق، لم يضمن - و هو أحد قولَي الشافعيّة - لأنّه موضع ضرورة.

و الثاني: إنّه يضمن(3).

و لو لم يُشهد مع القدرة على الإشهاد، ضمن، و لا معها فلا ضمان.

و للشافعيّة فيهما وجهان:

أحدهما: إنّه يضمن مع القدرة على الإشهاد و عدمها.

و الثاني: إنّه يضمن مع القدرة، لا مع عدمها(4).

ص: 335


1- التهذيب - للبغوي - 569:4، العزيز شرح الوجيز 394:6، روضة الطالبين 494:4.
2- التهذيب - للبغوي - 569:4، العزيز شرح الوجيز 394:6، روضة الطالبين 494:4.
3- العزيز شرح الوجيز 394:6، روضة الطالبين 494:4.
4- العزيز شرح الوجيز 394:6، روضة الطالبين 494:4.
المطلب الثالث: في أحكام اللقيط.
اشارة

و فيه مباحث:

البحث الأوّل: في إسلامه و كفره.
مسألة 428: إسلام الشخص قد يكون بالاستقلال من نفسه، و قد يكون بالتبعيّة لغيره.

أمّا الأوّل فإنّما يتحقّق في طرف البالغ العاقل بأن يباشر الإسلام إمّا بالعبارة إن كان ذا نطقٍ، أو بالإشارة المفهمة إن كان أخرس.

و أمّا الصبي فلا يصحّ إسلامه؛ لأنّه غير مكلّفٍ، و لا اعتبار بعبارته في العقود و غيرها، سواء كان مميّزاً أو لا.

و للشافعيّة في المميّز قولان:

أظهرهما: ما قلناه.

و الثاني: إنّه يعتبر إسلامه في الظاهر دون الباطن. فإذا بلغ و وصف الإسلام، كان مسلماً من حين وصفه قبل بلوغه(1).

و على القول الأوّل إذا بلغ و وصف الإسلام، كان مسلماً من [حين] وصفه بعد البلوغ.

قال الشيخ رحمه الله: المراهق إذا أسلم حُكم بإسلامه، فإن ارتدّ بعد ذلك يُحكم بارتداده، و إن لم يتب قُتل، و لا يعتبر إسلامه بإسلام أبويه، و به قال أبو حنيفة و أبو يوسف و محمّد، غير أنّه قال: لا يُقتل إن ارتدّ؛ لأنّ هذا الوقت ليس وقت التعذيب حتى يبلغ.

ص: 336


1- العزيز شرح الوجيز 395:6، روضة الطالبين 495:4.

و قال الشافعي: لا يُحكم بإسلامه و لا بارتداده، و يكون تبعاً لوالديه، غير أنّه يُفرّق بينه و بينهما؛ لئلّا يفتناه، و به قال زفر.

ثمّ استدلّ رحمه الله بروايات أصحابنا: إنّ الصبي إذا بلغ عشر سنين أُقيمت عليه الحدود التامّة و اقتُصّ منه، و نفذت وصيّته و عتقه، و ذلك عامٌّ في جميع الحدود، و بقوله عليه السلام: «كلّ مولودٍ يولد على الفطرة، و أبواه يهوّدانه و ينصّرانه و يمجّسانه حتى يعرب عنه لسانه ف إِمّا شاكِراً وَ إِمّا كَفُوراً » و هذا عامٌّ إلّا مَنْ أخرجه الدليل.

و قال أبو حنيفة: يصحّ إسلامه، و هو مكلّف بالإسلام، و إليه ذهب بعض أصحابنا؛ لأنّه يمكنه معرفة التوحيد بالنظر و الاستدلال، فصحّ منه، كالبالغ.

و نقل الشيخ عن أصحابه(1) بإسلام عليٍّ عليه السلام و هو غير بالغٍ، و حكم بإسلامه بالإجماع.

و أجاب الشافعيّة عن الأوّل: بأنّه غير مكلّفٍ بالشرع، فلم يصح إسلامه، كالصغير، و يفارق البالغ بأنّه يُقبل تزويجه، و يصحّ طلاقه و إقراره، بخلاف الصغير، و عن الثاني: بأنّهم حكموا بإسلام عليٍّ عليه السلام؛ لأنّه كان بالغاً، لأنّ أقلّ البلوغ عند الشافعي تسع سنين، و عند أبي حنيفة إحدى عشرة سنة، و اختلف الناس في وقت إسلام عليٍّ عليه السلام، فمنهم مَنْ قال:

أسلم و له عشر سنين، و منهم مَنْ قال: تسع سنين، و منهم مَنْ قال: إحدى عشرة سنة.

قال الواقدي: و أصحّ ما قيل: إنّه ابن إحدى عشرة سنة.

و روي عن محمّد بن الحنفيّة أنّه قُتل عليٌّ عليه السلام السابع و العشرين منة.

ص: 337


1- أي أصحاب أبي حنيفة.

شهر رمضان و له ثلاث و ستّون سنة.

و لا خلاف في أنّه قُتل سنة أربعين من الهجرة، فيكون لعليٍّ عليه السلام ثلاث و عشرون سنة حين هاجر النبيّ صلى الله عليه و آله إلى المدينة، و أقام النبيّ صلى الله عليه و آله بمكة دون ثلاث عشرة سنة ثمّ هاجر إلى المدينة، فظهر بهذا أنّه كان لعليٍّ عليه السلام إحدى عشرة سنة.

قال أبو الطيّب الطبري: وجدتُ في فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل: إنّ قتادة روى عن الحسن أنّ عليّاً عليه السلام أسلم و له خمس عشرة سنة، قال: و أمّا البيت الذي ينسب إليه:

...................... غلاماً ما بلغت أوان حلمي

فيحتمل أن يكون قال:

«غلاماً قد بلغت أوان حلمي»

(1).

و قال ابن أبي هريرة من الشافعيّة: إذا أسلم المميّز يُتوقّف، فإن بلغ و استمرّ على كلمة الإسلام تبيّنّا كونه مسلماً من يومئذٍ، و إن وصف الكفر تبيّنّا أنّه كان لغواً(2).

و هو الذي تقدّم، فإنّه يُعبَّر عنه بصحّة إسلامه ظاهراً لا باطناً، و معناه إنّا نخرجه من أيدى الكفّار و نلحقه بزمرة المسلمين في الظاهر، و لا ندري استمرار هذا الإلحاق و تحقّقه.

و لهم وجهٌ آخَر: إنّه يصحّ إسلامه حتى يُفرّق بينه و بين زوجته الكافرة، و يورث من قريبه المسلم(3) ؛ لأنّ عليّاً عليه السلام دعاه رسول اللّه صلى الله عليه و آله4.

ص: 338


1- الخلاف 591:3-594، المسألة 21.
2- البيان 132:12، العزيز شرح الوجيز 395:6، روضة الطالبين 495:4.
3- الحاوي الكبير 46:8، البيان 131:12، العزيز شرح الوجيز 395:6، روضة الطالبين 495:4.

إلى الإسلام قبل بلوغه، فأجابه(1) ، و به قال أبو حنيفة و أحمد(2).

و اختلفت الرواية عن مالك(3).

و على قول الشافعي بصحّة إسلامه و قول أبي حنيفة و أحمد لو ارتدّ صحّت ردّته أيضاً، لكن لا يُقتل حتى يبلغ، فإن تاب و إلّا قُتل(4).

و على ما اخترناه نحن يجب أن يُفرّق بينه و بين أبويه و أهله الكفّار لئلّا يستدرجوه، فإن وصف الكفر بعد البلوغ هُدّد و طُولب بالإسلام، فإن أصرّ رُدّ إليهم.

إذا عرفت هذا، فالأقرب: وجوب الحيلولة بينه و بين أبويه احتياطاً لأمر الإسلام، و هو أحد وجهي الشافعيّة، و الثاني: إنّها مستحبّة، فيستعطف بأبويه ليؤخذ منهما، فإن أبيا فلا حيلولة(5).

هذا ما يتعلّق بأُمور الدنيا، و أمّا ما يتعلّق بأمر الآخرة فالوجه: إنّه ناجٍ، و إن أُدخل الجنّة فعلى جهة التفضّل.

قال بعض الشافعيّة: إذا أضمر الإسلام كما أظهره، كان من الفائزين بالجنّة و إن لم يتعلّق بإسلامه أحكام الدنيا، و يعبّر عن هذا بأنّ إسلامه4.

ص: 339


1- الطبقات الكبرى 21:3، العزيز شرح الوجيز 395:6.
2- الاختيار لتعليل المختار 234:4، بدائع الصنائع 134:7، المبسوط - للسرخسي - 120:10، الهداية - للمرغيناني - 169:2، الحاوي الكبير 46:8، و 171:13، العزيز شرح الوجيز 395:6، المغني 85:10، الشرح الكبير 81:10.
3- العزيز شرح الوجيز 396:6.
4- العزيز شرح الوجيز 396:6، روضة الطالبين 495:4، بدائع الصنائع 135:7، المغني 89:10، الشرح الكبير 81:10 و 85.
5- العزيز شرح الوجيز 396:6، روضة الطالبين 495:4.

صحيح باطناً لا ظاهراً(1).

و استشكله الجويني؛ لأنّ مَنْ يُحكم له بالفوز [لإسلامه كيف لا يُحكم بإسلامه!؟(2).

و قد يجاب عنه: بأنّه قد يُحكم بالفوز] في الآخرة و إن لم يُحكم بأحكام الإسلام في الدنيا، كمن لم تبلغه الدعوة(1).

و غير المميّز، و المجنون لا يصحّ إسلامهما مباشرةً إجماعاً، و لا يُحكم بإسلامهما إلّا بالتبعيّة لغيرهما.

مسألة 429: جهة التبعيّة في الإسلام عندنا أُمور ثلاثة،
اشارة

فالنظر هنا في أُمور ثلاثة:

النظر الأوّل: إسلام الأبوين أو أحدهما
و ذلك يقع على وجهين:

أحدهما: أن يكون الأبوان أو أحدهما مسلماً حال علوق الولد،

فيُحكم بإسلام الولد؛ لأنّه جزء من مسلمٍ، فإن بلغ و وصف الإسلام فلا بحث، و إن أعرب عن نفسه بالكفر و اعتقده، حُكم بارتداده عن فطرةٍ يُقتل من غير توبةٍ، و لو تاب لم تُقبل توبته.

و الثاني: أن يكون أبواه كافرين حالة العلوق ثمّ يُسلما أو أحدهما قبل الولادة أو بعدها إلى قبل البلوغ بلحظةٍ،

فيُحكم بإسلام الولد من حين إسلام أحد الأبوين، و يجري عليه أحكام المسلمين، فيقتصّ له من المسلم لو قتله، و يُحكم له بدية المسلم بقتله، و يرث قريبه المسلم، و يجزئ عتقه عن الظهار لو كان مملوكاً.

هذا إذا قلنا: إنّ إسلام الصبي غير صحيحٍ، أمّا إذا قلنا بصحّة إسلام

ص: 340


1- كما في المصدر السابق، و ما بين المعقوفين أثبتناه منه.

المراهق، فقد تردّد أصحاب أبي حنيفة في تبعيّته لمن أسلم من أبويه؛ لأنّ الجمع بين إمكان الاستقلال و بين إثبات التبعيّة بعيد(1).

إذا عرفت هذا، فإنّه لا فرق عندنا بين أن يُسلم الأب أو الأُمّ في أنّ الولد يتبعه في إسلامه، فأيّهما أسلم تبعه الولد، و كان مسلماً بإسلامه في الحال إذا لم يكن بالغاً - و به قال الشافعي(2) - لأنّه إذا كان أحد الأبوين مسلماً، وجب تغليب الإسلام على طرف الكفر؛ لقوله صلى الله عليه و آله: «الإسلام يعلو و لا يعلى»(3).

و قال مالك: لا يكون الصغير مسلماً بإسلام الأُمّ، بل بإسلام الأب؛ لقوله تعالى:«وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ اتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ» (4) و لأنّه لا يدخل في أمان الأُمّ، فلا يتبعها في الإسلام، كالأجنبيّ(5).

و لا دلالة في الآية؛ لدخول الأُمّ تحت لفظة:«اَلَّذِينَ» و لأنّ الحكم باتّباع الذرّيّة للأب إذا آمن لا ينافي اتّباعهم للأُمّ إذا آمنت، و نعارضه بأنّ الولد يتبع الأُمّ في الملك عنده، و ولادتها متحقّقة، فكان أولى بالتبعيّة، و قد سلّم أنّ الولد إذا كان حملاً في بطنها فأسلمت يتبعها الولد في إسلامها،6.

ص: 341


1- العزيز شرح الوجيز 397:6.
2- الإشراف على مذاهب أهل العلم 158:3، الحاوي الكبير 44:8، المهذّب - للشيرازي - 240:2، الوجيز 256:1، حلية العلماء 663:7، البيان 7:8، العزيز شرح الوجيز 397:6، روضة الطالبين 496:4، المغني 91:10، الشرح الكبير 105:10.
3- الفقيه 778/243:4، سنن البيهقي 205:6، سنن الدارقطني 3/252:3.
4- سورة الطور: 21.
5- الذخيرة 134:9، المعونة 1292:2، المغني 91:10، الشرح الكبير 105:10، الإشراف على مذاهب أهل العلم 158:3، الحاوي الكبير 44:8، حلية العلماء 663:7، البيان 7:8، العزيز شرح الوجيز 397:6.

فيقيس المتنازع عليه و على ما إذا كانت مسلمةً يوم العلوق.

و اعلم أنّه متى تأخّر إسلام أحدهما عن العلوق فلا فرق بين أن يتّفق في حالة اجتنان الولد أو بعد انفصاله.

و قال بعض الشافعيّة: يجوز أن يجعل إسلام أحدهما في حالة الاجتنان كما لو كان مسلماً يوم العلوق جواباً على أنّ الحمل لا يُعرف حتى يلتحق ذلك بالوجه الأوّل(1).

مسألة 430: في معنى الأبوين الأجداد و الجدّات،

سواء كانوا وارثين أو لا، فلو أسلم الجدّ أو الجدّة لأبٍ كان أو لأُمٍّ تبعه الطفل، فيُحكم عليه بالإسلام من حين إسلام الجدّ إن لم يكن الأب حيّاً؛ لصدق الأب عليه، و لأنّ الأب يتبعه و يكون أصلاً له، فيكون أصالته للطفل أولى، و به قال الشافعي(2).

و لو كان الأب حيّاً، فإشكال ينشأ: من أنّ سبب التبعيّة القرابة و أنّها لا تختلف بحياة الأب و موته، كسقوط القصاص و حدّ القذف، و من انتفاء ولاية الحضانة للجدّين مع الأبوين.

و للشافعيّة قولان(3) كهذين.

و لا فرق بين أن يكون المسلم من الجدّين طرف أحد الأبوين أو مقابله، فلو أسلم جدّ الأُمّ و الأب حيٌّ أو أسلم جدّ الأب و الأُمّ حيّة، جاء الإشكال.

و كذا البحث لو كان الأبوان و الجدّان القريبان موتى و أسلم الجدّ البعيد أو الجدّة البعيدة إمّا من قِبَل الأب أو من الأُمّ أو من قِبَلهما معاً، فإنّ الولد

ص: 342


1- العزيز شرح الوجيز 398:6. (2 و 3) الوجيز 256:1، العزيز شرح الوجيز 398:6، روضة الطالبين 496:4.

يتبعه.

و الإشكال الثالث في طرف الأب و الأُمّ مع الجدّ القريب و الجدّة القريبة آتٍ في طرف الأبوين و الجدّين البعيدين.

و كذا الإشكال لو كان الأبوان معدومين و وُجد أحد الأجداد الأربعة الأدنين و أحد الأجداد الثمانية الأباعد و أسلم أحد الثمانية.

مسألة 431: لا شكّ في أنّ الولد يُحكم له بالإسلام إذا كان أبواه أو أحدهما مسلماً بالأصالة أو تجدّد إسلامه حال علوق الولد،

فإذا بلغ الولد و وصف الإسلام تأكّد ما حُكم به، و انقطع الكلام، و إن أعرب الكفر فهو مرتدّ عن فطرةٍ يُقتل في الحال.

و إن كان الأبوان كافرين و علقت الأُم به قبل إسلام أحدهما ثمّ أسلم أحدهما بعد العلوق و قبل بلوغ الصبي، فإنّه يُحكم على الصبي بالإسلام من حين إسلام أحد أبويه، فإذا بلغ فإن أعرب عن نفسه بالإسلام فقد تأكّد ما حكمنا به أيضاً من إسلامه، و إن أعرب بالكفر فهو مرتدّ.

و هل تُقبل توبته، و يكون ارتداده كارتداد مَنْ أسلم عقيب كفره وقت بلوغه، أو يكون مرتدّاً عن فطرةٍ لا تُقبل توبته، و يكون ارتداده كارتداد مَنْ هو مسلم بالأصالة لا عقيب كفره حالة بلوغه ؟ الأقوى: الأوّل؛ لأنّه كافرٌ أصليٌّ حكمنا بكفره أوّلاً ثمّ أُزيل كفره بالتبعيّة، فإذا استقلّ انقطعت التبعيّة، فوجب أن يعتبر بنفسه.

و للشافعيّة فيما إذا بلغ هذا الصبي الذي تجدّد تكوّنه قبل إسلام أحد أبويه ثمّ أسلم أحد أبويه قبل بلوغه إذا أعرب بالكفر وجهان:

أصحّهما: إنّه مرتدّ؛ لأنّه سبق الحكم بإسلامه جزماً، فأشبه ما إذا باشر الإسلام ثمّ ارتدّ، و ما إذا حصل العلوق حالة الإسلام.

ص: 343

و الثاني: إنّه كافرٌ أصليٌّ؛ لأنّه كافر محكوم بكفره أوّلاً و أُزيل بالتبعيّة(1).

مسألة 432: إذا حكمنا بارتداد هذا الصبي إذا أسلم أحد أبويه ثمّ بلغ و أعرب الكفر بعد بلوغه، لم ينقض شيئاً

ممّا أمضيناه من أحكام الإسلام، و إن قلنا: إنّه كافرٌ أصليٌّ، فللشافعيّة وجهان:

أحدهما: إنّها ممضاة بحالها؛ لجريانها في حالة التبعيّة.

و أظهرهما عندهم: إنّا نتبيّن الانتقاض، و نستدرك ما يمكن استدراكه حتى يردّ ما أخذه من تركة قريبه المسلم، و يأخذ من تركة قريبه الكافر ما حرم بمنعه، و يُحكم بأنّ إعتاقه عن الكفّارة لم يقع مجزئاً.

هذا فيما يجري في الصغر، فأمّا إذا بلغ و مات له قريب مسلم قبل أن يعرب عن نفسه بشيءٍ أو أُعتق عن الكفّارة في هذه الحالة، فإن قلنا: لو أعرب عن نفسه بالكفر لكان مرتدّاً، أمضينا أحكام الإسلام، و لا نقض، و إن جعلناه كافراً أصليّاً، فإن أعرب بالكفر تبيّنّا أنّه ما أجزأ عن الكفّارة.

فإن فات الإعراب بموتٍ أو قتلٍ، فوجهان:

أحدهما: إمضاء أحكام الإسلام، كما لو مات في الصغر.

و أظهرهما: إنّا نتبيّن الانتقاض؛ لأنّ سبب التبعيّة الصغر و قد زال، و لم يظهر في الحال حكمه في نفسه، و يُردّ الأمر إلى الكفر الأصلي(2).

و للشافعيّة قولٌ: إنّه لو مات قبل الإعراب و بعد البلوغ يرثه قريبه

ص: 344


1- المهذّب - للشيرازي - 445:1، الوجيز 256:1، الوسيط 310:4، حلية العلماء 568:5، البيان 36:8، العزيز شرح الوجيز 398:6، روضة الطالبين 496:4.
2- العزيز شرح الوجيز 399:6، روضة الطالبين 497:4.

المسلم. و لو مات له قريب مسلم فإرثه عنه موقوف، بناءً منهم على أنّ المسلم لا يرث الكافر(1).

قال الجويني: أمّا التوريث منه فيخرج على أنّه إذا مات قبل الإعراب هل ينقض الحكم ؟ و أمّا توريثه فإن عني بالتوقّف أنّه يقال: أعرب عن نفسك بالإسلام، فهو قريب، و يستفاد به الخروج من الخلاف، و أمّا إذا مات القريب ثمّ مات هو و فات الإعراب بموته، فلا سبيل إلى الفرق بين توريثه و التوريث عنه(2).

و لو قُتل بعد البلوغ و قبل الإعراب، ففي تعلّق القصاص بقتله قولان:

أحدهما: التعلّق، كما لو قُتل قبل البلوغ.

و الثاني: المنع؛ لأنّ سكوته يحتمل الكفر و الجحود، و القصاص يدرأ بالشبهة، و يخالف ما قبل البلوغ، فإنّه حينئذٍ محكوم بإسلامه تبعاً، و قد انقطعت التبعيّة بالبلوغ.

و القولان مبنيّان على أنّه لو أعرب بالكفر كان مرتدّاً أو كافراً أصليّاً؟ إن قلنا بالأوّل، وجب القصاص، و إن قلنا بالثاني، فلا، لكنّ الأظهر: منع القصاص و إن كان الأظهر كونه مرتدّاً، تعليلاً بالشبهة.

و أمّا الدية فالذي أطلقه الشافعيّة و حكوه عن قول الشافعي: تعلّق الدية الكاملة بقتله.

و على القول بأنّه لو أعرب بالكفر كان كافراً أصليّاً لا يوجب الدية4.

ص: 345


1- العزيز شرح الوجيز 399:6 و 504، روضة الطالبين 497:4، و 30:5.
2- العزيز شرح الوجيز 399:6، روضة الطالبين 497:4.

الكاملة على رأي(1).

و روى الجويني عن القاضي الحسين من الشافعيّة: إجراء القول بمنع القصاص مع الحكم بأنّه لو أعرب بالكفر لكان مرتدّاً. و عدّه من هفواته(2).

تذنيب: الصبي المحكوم بكفره إذا بلغ مجنوناً كان حكمه حكم الصغير

حتى أنّه لو أسلم أحد أبويه تبعه، أمّا لو بلغ عاقلاً ثمّ جُنّ ففي التبعيّة إشكال.

و للشافعيّة وجهان:

أحدهما: إنّه لا يتبعهما؛ لأنّه قد ثبت له حكم الإسلام بنفسه، فلا يكون تبعاً، كالعاقل.

و الثاني: إنّه يكون تبعاً؛ لأنّه غير مكلّفٍ، فأشبه الذي بلغ مجنوناً، و إسلامه بنفسه قد بطل بجنونه، فعاد تبعاً، كما يعود مولّياً عليه(3).

ثمّ أصحّهما عندهم: إنّهم قالوا: إنّه إذا طرأ جنونه عادت ولاية المال إلى الأب، فإذا أسلم استتبعه، و إلّا فلا(4).

النظر الثاني: في الجهة الثانية في تبعيّة الإسلام.
مسألة 433: قال بعض علمائنا: إنّ الصبي يتبع السابي في الإسلام

(5) ، فإذا سبى المسلم طفلاً منفرداً عن أبويه حُكم بإسلامه؛ لأنّه صار تحت ولايته، و ليس معه مَنْ هو أقرب إليه، فيتبعه، كما يتبع الأبوين؛ لأنّ السبي

ص: 346


1- العزيز شرح الوجيز 399:6، روضة الطالبين 497:4.
2- العزيز شرح الوجيز 400:6.
3- الوسيط 312:4، العزيز شرح الوجيز 400:6، روضة الطالبين 497:4.
4- العزيز شرح الوجيز 400:6.
5- المبسوط - للطوسي - 23:2، و 342:3.

لمّا أبطل حُرّيّته قلبه قلباً كلّيّاً فعدم عمّا كان و تجدّد له وجود تحت يد السابي و ولايته، فأشبه تولّده من الأبوين، و هو أحد وجهي الشافعيّة(1).

و الثاني: إنّه لا يُحكم بإسلامه(2).

و هو جيّد؛ لأنّ يد السابي يد ملكٍ، فأشبهت يد المشتري.

لكن المشهور عندهم: الأوّل.

مسألة 434: لو كان السابي ذمّيّاً، لم يُحكم بإسلامه

- و هو أصحّ وجهي الشافعيّة(3) - إذ لا سبب له من إسلام أحد أبويه أو إسلام سابيه، فيبقى على حالة الكفر.

و الثاني: إنّه يُحكم بإسلامه؛ لأنّه إذا سباه صار من أهل دار الإسلام؛ لأنّ الذمّي من أهلها، فيجعل مسلماً تبعاً للدار(4).

و ليس بجيّدٍ؛ لأنّ كون الذمّي من أهل دار الإسلام لا يؤثّر فيه و لا في حقّ أولاده فكيف يؤثّر في حقّ مسبيّه!؟ و تبعيّة الدار له إنّما تؤثّر في حقّ المجهول حاله و نسبه.

و لو باعه الذمّي السابي من مسلمٍ، لم يُحكم بإسلامه أيضاً؛ لأنّ ملك المسلم طرأ عليه و هو رقيق، و إنّما تحصل التبعيّة في ابتداء الملك، فإنّ عنده يتحقّق تحوّل الحال، و كذا سبي الزوجين يقطع النكاح، و تجدّد

ص: 347


1- الحاوي الكبير 45:8، و 246:14، المهذّب - للشيرازي - 240:2، الوجيز 256:1، حلية العلماء 663:7، البيان 7:8، العزيز شرح الوجيز 400:6، روضة الطالبين 497:4-498.
2- الحاوي الكبير 45:8، المهذّب - للشيرازي - 240:2، الوجيز 256:1، حلية العلماء 663:7، البيان 7:8، روضة الطالبين 498:4. (3 و 4) العزيز شرح الوجيز 401:6، روضة الطالبين 498:4.

الملك على الرقيقين لا يقطعه عند الشافعي(1).

مسألة 435: لو سبي الطفل و معه أبواه الكافران أو أحدهما، لم يُحكم بإسلامه،

و لا يتبع السابي هنا في الإسلام - و به قال الشافعي(2) - لأنّ والديه أقرب إليه من سابيه، فكانا أولى بالاستتباع.

و قال أحمد: إنّه يتبع السابي أيضاً في إحدى الروايتين(3).

و لو كانا معه ثمّ ماتا، لم يُحكم بإسلامه أيضاً؛ لما تقدّم من أنّ التبعيّة إنّما تثبت في ابتداء السبي.

و حكم الصبي المحكوم بإسلامه تبعاً [للسابي إذا بلغ حكم الذي حُكم بإسلامه تبعاً](4) لأبويه إذا بلغ.

و اعلم أنّ الصبي المسبي و الذي أسلم أحد أبويه إذا أعربا الكفر و جعلناهما كافرين أصليّين ألحقناهما بدار الحرب، فإن كان كفرهما ممّا يجوز التقرير عليه بالجزية قرّرناهما.

و لو أعربا بنوعٍ من الكفر غير ما كانا موصوفين به، فهُما منتقلان من ملّةٍ إلى ملّةٍ.

و هل يُقبل ؟ قولان سبقا.

و لو ماتا، فالقول في تجهيزهما و الصلاة عليهما و دفنهما في مقابر

ص: 348


1- العزيز شرح الوجيز 401:6.
2- الحاوي الكبير 45:8، المهذّب - للشيرازي - 240:2، الوسيط 312:4، البيان 7:8، العزيز شرح الوجيز 401:6، روضة الطالبين 499:4، المغني 464:10، الشرح الكبير 404:10-405.
3- المغني 464:10، الشرح الكبير 404:10، العزيز شرح الوجيز 401:6.
4- ما بين المعقوفين أثبتناه من العزيز شرح الوجيز 402:6، و روضة الطالبين 499:4.

المسلمين إذا ماتا بعد البلوغ و قبل الإعراب يتفرّع على القولين في أنّهما إذا أعربا بالكفر كانا مرتدّين أو كافرين أصليّين ؟

النظر الثالث: في الجهة الثالثة في التبعيّة في الإسلام.
اشارة

و هي تبعيّة الدار، و هي المقصودة هنا؛ لأنّ الغرض من عقد الباب بيان أحكام اللقيط في الإسلام و غيره، و الجهتان السابقتان لا تُفرضان في حقّ اللقيط حتى يُعرف بهما إسلامه، و إنّما يُحكم بإسلامه بهذه الجهة خاصّةً.

مسألة 436: الدار قسمان: دار إسلامٍ و دار كفرٍ.

أمّا دار الإسلام فقسّمها الشافعيّة أقساماً ثلاثة(1).

أ: دار خطّها المسلمون، كالبصرة و الكوفة و بغداد، فإذا وُجد فيها لقيط حُكم بإسلامه تبعاً للدار و إن كان فيها أهل ذمّةٍ؛ لظاهر الدار، و لأنّ الإسلام يعلو و لا يعلى، و لأنّه إن كان المسلمون أكثر فالظاهر أنّه من أولادهم، و إن كان أهل الذمّة أكثر فيُحتمل أن يكون من أولاد المسلمين، فيُغلّب حكم الإسلام، حتى لو لم يكن فيها سوى مسلمٍ واحد حُكم بإسلام اللقيط، تغليباً للإسلام.

ب: دار فتحها المسلمون فملكوها و أقرّوهم فيها ببذل الجزية، أو لم يملكوها و صالحوهم على بذل الجزية، فإنّها تكون دار الإسلام أيضاً؛ لأنّ حكم الإسلام جارٍ فيها، فإذا كان في هذه و لو مسلم واحد حُكم بإسلام اللقيط، و إن لم يكن فيها مسلم البتّة حُكم بكفره؛ لأنّا نغلّب حكم الإسلام

ص: 349


1- الحاوي الكبير 43:8، العزيز شرح الوجيز 403:6، روضة الطالبين 500:4.

مع الاحتمال.

ج: دار غلب عليها المشركون كطرسوس، فإنّها كانت للإسلام فغلب عليها المشركون، فإن كان فيها و لو مسلم واحد حكمنا بإسلام اللقيط. و أمّا إذا لم يكن فيها مسلم البتّة لم يُحكم بإسلامه، و هو قول أكثر الشافعيّة(1).

و قال أبو إسحاق منهم: يُحكم بإسلامه؛ لأنّه لا يخلو أن يكون فيها مسلم و إن لم يظهر إسلامه، و لأنّ الدار دار الإسلام و ربما بقي فيها مَنْ يكتم إيمانه، و لو كان فيها مسلم واحد حُكم باسلامه(2).

و الأقوى: إنّ دار الإسلام قسمان:

أ: دار خطّها المسلمون، كبغداد و البصرة و الكوفة، فلقيط هذه محكوم بإسلامه و إن كان فيها أهل الذمّة.

ب: دار فتحها المسلمون، كمدائن و الشام، فهذه إن كان فيها مسلم واحد حُكم بإسلام لقيطها، و إلّا فهو كافر.

و قال الجويني: القسم الثالث السابق مجراه مجرى دار الكفر؛ لغلبة الكفّار عليها(3).

و عدُّ القسم الثاني من بلاد الإسلام يدلّ على أنّه لا يشترط في بلاد الإسلام أن يكون فيها مسلمون، بل يكفي كونها في يد الإمام و استيلائه.

و أمّا القسم الثالث: فقال بعض الشافعيّة: إنّ الاستيلاء القديم يكفي4.

ص: 350


1- الحاوي الكبير 43:8، الوسيط 312:4-313، البيان 8:8-9، العزيز شرح الوجيز 403:6، روضة الطالبين 500:4.
2- الوسيط 313:4، البيان 9:8، العزيز شرح الوجيز 404:6، روضة الطالبين 500:4.
3- العزيز شرح الوجيز 404:6، روضة الطالبين 500:4.

لاستمرار الحكم(1).

و نزّل بعضهم ما ذكروه على ما إذا كانوا لا يمنعون المسلمين عنها، فإن منعوهم فهي دار الكفر(2).

و أمّا دار الكفر فعلى ما اخترناه قسمان:

أ: بلد كان للمسلمين فغلب الكفّار عليه، كالساحل، فهذا إن كان فيه و لو مسلم واحد حُكم بإسلام لقيطه، و إن لم يكن فيها مسلم فهو كافر.

و يحتمل أن يكون مسلماً؛ لاحتمال أن يكون فيه مؤمن يكتم إيمانه، و قد سبق.

ب: أن لم يكن للمسلمين أصلاً، كبلاد الهند و الروم، فإن لم يكن فيها مسلم فلقيطها كافر؛ لأنّ الدار لهم و أهلها منهم.

و إن كان فيها مسلمون - كالتجّار و غيرهم - ساكنون، فهو مسلم؛ لقيام الاحتمال، تغليباً للإسلام، و هو أحد وجهي الشافعيّة، و الثاني: إنّه يُحكم بكفره، تبعاً للدار(3).

و يجري الوجهان فيما إذا كان فيها أُسارى مسلمون.

و قال الجويني: الخلاف في الأُسارى مرتَّب على الخلاف في التجّار؛ لأنّهم تحت الضبط.

قال: و يشبه أن يكون الخلاف في قومٍ منتشرين إلّا أنّهم ممنوعون من الخروج من البلدة، فأمّا المحبوسون في المطامير فيتّجه أن لا يكون لهم أثر، كما لا أثر لطروق العابرين من المسلمين(4).

قال ابن المنذر: أجمع عوام أهل العلم على أنّ الطفل إذا وُجد في4.

ص: 351


1- العزيز شرح الوجيز 404:6، روضة الطالبين 500:4.
2- العزيز شرح الوجيز 404:6، روضة الطالبين 500:4-501. (3 و 4) العزيز شرح الوجيز 404:6، روضة الطالبين 501:4.

بلاد المسلمين ميّتاً في أيّ مكانٍ وُجد أنّ غسله و دفنه في مقابر المسلمين يجب، و قد منعوا أن يُدفن الطفل من أولاد المشركين في مقابر المسلمين.

قال: و إذا وُجد لقيط في قريةٍ ليس فيها إلّا مشرك، فهو على ظاهر ما حكموا به أنّه كافر، و هكذا قول الشافعي و أصحاب الرأي(1).

تذنيب: كلّ موضعٍ حكمنا بكفر اللقيط فيه لو كان أهل البقعة أصحاب مللٍ مختلفة،

فالأقرب: أن يجعل من خيرهم ديناً.

آخَر: إنّما نحكم بإسلام مَنْ يوجد في بلاد الكفر إذا كان فيها مسلم ساكن،

فلا اعتبار بالطروق و الاجتياز في ذلك.

مسألة 437: كلّ صبيٍّ حكمنا بإسلامه بأحد الأسباب الثلاثة فحكمه قبل بلوغه أحكام المسلمين،

فيرث من المسلم، و لا يرثه الكافر، و يُقتل قاتله، و يصلّى عليه.

فإذا بلغ و وصف الإسلام، فقد استقرّ إسلامه، و حكمه حكم ما كان قبل بلوغه.

و إن وصف الكفر فإن كان ممّن حكمنا بإسلامه تبعاً لأحد أبويه، فإنّه مرتدّ.

و قال الشافعي: إنّه يطالَب بالإسلام، و لا يُقرّ على الكفر. فأجراه مجرى المرتدّ عن غير فطرةٍ(2).

و قال بعض أصحابه: إنّه يُقرّ على الكفر؛ لأنّا حكمنا بإسلامه تبعاً لغيره، فإذا بلغ صار حكمه حكم نفسه، فرُوعي قوله، و زال حكم التبع

ص: 352


1- الإشراف على مذاهب أهل العلم 163:2 و 166، و عنه في المغني 404:6-405، و الشرح الكبير 406:6.
2- البيان 36:8.

عنه(1).

و حكى بعض الشافعيّة هذا قولاً آخَر للشافعي(2).

و ليس بجيّدٍ؛ لأنّا حكمنا بإسلامه باطناً و ظاهراً، فلم يُقرّ على الكفر، كما لو أسلم بعد بلوغه ثمّ ارتدّ.

و إن كان ممّن حكمنا عليه بإسلامه تبعاً للسابي، قال الشافعي: إنّه كالأوّل الذي حكمنا عليه بإسلامه تبعاً لأحد أبويه(3).

و ليس بجيّدٍ؛ لضعف العلاقة هناك و قوّتها في النسب.

و إن كان ممّن حكمنا عليه بإسلامه تبعاً للدار، فالأقرب: إنّه لا يُحكم بارتداده، بل بكفره؛ لأنّ الحكم بإسلامه وقع ظاهراً، لا باطناً؛ بدليل أنّه لو ادّعى ذمّيٌّ بنوّته و أقام بيّنةً على دعواه، سُلّم إليه، و حُكم بكفره، و نُقض الحكم بإسلامه، فإذا بلغ و وصف الكفر كان قوله أقوى من ظاهر اليد فأقررناه، و لهذا لو حكمنا بحُرّيّته بظاهر الدار ثمّ بلغ و أقرّ بالرقّ فإنّه يُحكم عليه بالرقّ، و هذا بخلاف مَنْ تبع أباه؛ لأنّ الحكم هناك كان على علمٍ منّا بحقيقة الحال، و هنا مبنيٌّ على ظاهر الدار، فإذا أعرب عن نفسه بالكفر ظهر كذب ما ظننّاه.

و قال الشافعي: لا يتبيّن لي أن أقتله و لا أُجبره على الإسلام(1).

و لأصحابه فيه طريقان، أحدهما: إنّ هذا ترديد قولٍ منه، و في كونه مرتدّاً أو كافراً أصليّاً قولان، كما في المحكوم بإسلامه تبعاً لأبويه(2).

و لهم وجهٌ آخَر: إنّه لا يُقرّ عليه - و به قال أبو حنيفة و أحمد - لأنّه4.

ص: 353


1- العزيز شرح الوجيز 405:6.
2- العزيز شرح الوجيز 405:6، روضة الطالبين 501:4.

حُكم بإسلامه قبل بلوغه، فأشبه مَنْ تبع أبويه(1).

مسألة 438: إذا بلغ المحكوم بإسلامه تبعاً للدار فأعرب بالكفر، فإن جعلناه كافراً أصليّاً، ففي التوقّف في الأحكام الموقوفة على الإسلام إشكال،

أقربه: إنّا لا نتوقّف، بل نمضيها، كما في المحكوم بإسلامه تبعاً لأبويه.

و يحتمل التوقّف إلى أن يبلغ فيعرب عن نفسه.

فإن مات في صباه، لم يُحكم بشيءٍ من أحكام الإسلام.

و للشافعي قولان(1) كالاحتمالين.

و قال أبو حنيفة و أحمد: إنّه مرتدّ(3).

و بالجملة، فالحكم بإسلام الصبي تبعاً للدار إنّما يثبت ظاهراً، لا يقيناً؛ لاحتمال أن يكون أبوه كافراً.

فإن ادّعى كافر بنوّته و أقام عليه بيّنةً، لحقه و تبعه في الكفر، و ارتفع ما ظننّاه أوّلاً؛ لضعف تبعيّة الدار.

و لو تجرّدت دعواه عن البيّنة، فالأقرب: عدم الالتفات إليه، و يُحكم بإسلامه؛ لأنّا حكمنا له بالإسلام أوّلاً، فلا نغيّره بمجرّد دعوى الكافر، و جاز أن يكون ولده لكن من مسلمةٍ، فلا يتبع الدين النسب، و هذا أظهر قولَي الشافعي.

و الثاني: إنّه يُحكم بكفره؛ لأنّه يلحقه بالاستلحاق، و إذا ثبت نسبه تبعه في الدين، كما لو قامت البيّنة على النسب(2).

ص: 354


1- العزيز شرح الوجيز 405:6، روضة الطالبين 501:4.
2- العزيز شرح الوجيز 406:6، روضة الطالبين 502:4.

و نمنع لحوقه و تبعيّة الدين النسب على ما تقدّم.

و على كلا القولين سواء قلنا بإسلامه - كما اخترناه نحن - أو قلنا بكفره - كما قال الشافعي - يحال بينه و بين مدّعيه الكافر لئلّا يرغبه عن الإسلام و يزهده فيه، و يُقرّب إليه الكفر و يزيّنه عليه.

إذا ثبت هذا، فإن بلغ و وصف الكفر، فإن قلنا بتبعيّته في الكفر، قُرّر عليه، لكن يُهدَّد و يُخوَّف أوّلاً لعلّه يُسلم.

و إن قلنا: لا يتبعه، ففي تقريره إشكال.

و للشافعيّة قولان(1).

فإن قلنا: يُقرّ على كفره، فإن وصف كفراً يُقرّ أهله عليه، خيّرناه بين التزام الجزية و الرجوع إلى دار الحرب، و إن وصف كفراً لا يُقرّ أهله عليه، قلنا له: إمّا أن تسلم أو تخرج إلى دار الحرب أو تصف كفراً يُقرّ أهله عليه على الخلاف، قاله بعض الشافعيّة(2).

و ليس بجيّدٍ؛ لأنّ هذا إمّا ابن حربيٍّ و قد حصل في يد المسلمين بغير عهدٍ فيكون لواجده، و يصير مسلماً بإسلام سابيه، أو يكون أحد أبويه ذمّيّاً، فلا يُقرّ على الانتقال إلى غير دين أهل الكتاب، أو يكون ابن مسلمٍ، فيكون مسلماً، فلا وجه لردّه إلى دار الحرب.

تذنيب: اللقيط المحكوم بإسلامه يُنفَق عليه من بيت المال

إذا لم يكن له مال و لم يوجد متبرّع عليه على ما تقدّم، أمّا المحكوم بكفره فإشكال ينشأ: من أنّه كافر فلا يعان من بيت مال المسلمين، و من احتمال الإنفاق عليه؛ إذ لا وجه لتضييعه و فيه مصلحة للمسلمين، فإنّه إذا بلغ إمّا أن8.

ص: 355


1- البيان 36:8، العزيز شرح الوجيز 406:6، روضة الطالبين 502:4.
2- البيان 37:8.

يُسلم و يصير من المسلمين، أو يعطي الجزية إن بقي على كفره، و كلاهما مصلحة للمسلمين.

البحث الثاني: في حكم جناية اللقيط و الجناية عليه.
مسألة 439: إذا جنى هذا اللقيط، فإن كان بالغاً و كانت الجناية عمداً، وجب عليه القصاص عيناً عندنا،

و لا يجب المال إلّا صلحاً.

و عند الشافعي يتخيّر وليّ الجناية بين أن يقتصّ أو يعفو على مالٍ(1).

فإن عفي على مالٍ، كان الأرش في ذمّته - إمّا مع رضا الغريم عندنا، أو مطلقاً عند الشافعي(2) - مغلّظاً يتبع إذا أيسر.

و إن كانت الجناية خطأً، تعلّقت بعاقلته، و هو الإمام عندنا؛ لأنّ ميراثه له، فإنّه وارث مَنْ لا وارث له.

و عند العامّة في بيت مال المسلمين؛ لأنّه ليس له عاقلة خاصّة، و مالُه إذا مات مصروف إلى بيت المال إرثاً، فلمّا كان بيت المال وارثاً له عقل عنه(1).

و إن كانت الجناية صدرت منه قبل البلوغ، فعندنا أنّها خطأٌ محض تكون على عاقلته مخفّفةً.

و العاقلة عندنا هو الإمام.

و للشافعي قولان في أنّ عمده عمد أو خطأ؟ فإن قلنا بأنّها عمد،

ص: 356


1- الوجيز 256:1-257، التهذيب - للبغوي - 573:4، البيان 38:8، العزيز شرح الوجيز 407:6، روضة الطالبين 502:4، المغني 406:6، الشرح الكبير 419:6.

وجبت الدية مغلّظةً في ماله، و إن لم يكن له مال فهي في ذمّته إلى أن يجد، و إن قلنا: إنّ عمد الصبي خطأ، وجبت الدية مخفّفةً في بيت المال(1).

و لو أتلف مالاً، كان الضمان عليه لا غير، سواء أتلفه عمداً أو خطأً.

و لو كان اللقيط محكوماً بكفره، لم يضرب موجَب جنايته على بيت المال على ما تقدّم، و تركته له.

مسألة 440: لو جُني على اللقيط، فإن كانت خطأً و كانت على النفس أُخذت الدية

و وُضعت في بيت المال عند العامّة(2) و عندنا للإمام، بناءً على القولين في أنّ وارثه الإمام أو بيت المال.

و إن كانت على الطرف، فالدية على عاقلة الجاني إن تحمّلها العاقلة، أو على الجاني إن قصرت عن الموضحة يستوفيه الحاكم له؛ لأنّه وليّه.

و إن كانت الجناية عمداً، فإن كانت نفساً كان للإمام أن يقتصّ إن رأى ذلك حظّاً للملاقيط، و كان له العفو على مالٍ إذا رأى ذلك صلاحاً و رضي به الجاني عندنا، و مطلقاً عند الشافعي، و به قال الشافعي و أبو حنيفة و أحمد و ابن المنذر، إلّا أنّ أبا حنيفة يخيّره بين القصاص و المصالحة(3) ، كما ذهبنا

ص: 357


1- الحاوي الكبير 48:8، التهذيب - للبغوي - 573:4، البيان 38:8، العزيز شرح الوجيز 407:6، روضة الطالبين 502:4.
2- المغني 406:6، الشرح الكبير 417:6-418، الإشراف على مذاهب أهل العلم 166:2، التهذيب - للبغوي - 573:4، البيان 38:8، العزيز شرح الوجيز 408:6، روضة الطالبين 503:4.
3- الإشراف على مذاهب أهل العلم 166:2، البيان 39:8، العزيز شرح الوجيز 409:6، روضة الطالبين 503:4، فتاوى قاضيخان - بهامش الفتاوى الهنديّة - 399:3، المبسوط - للسرخسي - 218:10، المغني 406:6، الشرح الكبير 6 418.

نحن إليه.

و اختلفت الشافعيّة على قولين:

قال بعضهم بالقطع على ما قلناه و لم يُثبتوا فيه خلافاً.

و أثبت الأكثر منهم قولاً آخَر: إنّه لا يجب القصاص(1).

و هو خطأ؛ لأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله قال: «السلطان وليّ مَنْ لا وليّ له»(2).

ثمّ اختلف هؤلاء في شيئين:

أحدهما: في مأخذ القولين.

قال قوم: وجه الوجوب: إنّه مسلم معصوم الدم، فوجب القصاص كغير اللقيط، و وجه المنع: إنّه لو وجب القصاص لوجب لعامّة المسلمين، كما يصرف ماله إليهم، و في المسلمين أطفال و مجانين، و مهما كان في الورثة أطفال و مجانين لا يمكن استيفاء القصاص قبل البلوغ و الإفاقة، و أيضاً لا بدّ من اجتماع الورثة على الاستيفاء، و اجتماع جميع المسلمين متعذّر(3).

و قال بعضهم: بناؤهما على أنّ المحكوم بإسلامه تجري عليه أحكام الإسلام، أو يتوقّف فيه إلى أن يعرب بالإسلام ؟ فإن قلنا بالأوّل، أوجبنا القصاص، و إن قلنا بالثاني، فقد فات الإعراب بقتله، فلا يجري عليه حكم المسلمين.

قال: و المأخذ الأوّل فاسد؛ لأنّ الاستحقاق ينسب إلى جهة الإسلام،6.

ص: 358


1- العزيز شرح الوجيز 408:6، روضة الطالبين 503:4.
2- سنن ابن ماجة 1879/605:1، سنن أبي داوُد 2083/229:2، سنن الترمذي 1102/408:3، سنن الدارمي 137:2، مسند أحمد 2260/415:1.
3- العزيز شرح الوجيز 408:6.

لا إلى آحاد المسلمين، و لهذا لو أوصى مَنْ ليس له وارثٌ خاصّ لجماعةٍ من المسلمين لا يُجعل ذلك وصيّةً للورثة(1).

فهذان مأخذان للمسألة عند الشافعيّة.

و فرّع بعضهم عليهما ما إذا ثبت لرجلٍ حقُّ قصاصٍ و لم يستوفه حتى مات و ورثه المسلمون، فعلى المأخذ الأوّل في بقاء القصاص القولان، و على الثاني يبقى لا محالة(2).

و هذا لا يتأتّى على مذهبنا؛ لأنّ المستحقّ لقصاصه وديته هو الإمام خاصّةً.

و لو قُتل اللقيط بعد البلوغ و الإعراب بالإسلام، اقتصّ له مع العمد، و أُخذت الدية للإمام مع الخطأ.

و يجري هنا الخلاف للشافعيّة على المأخذ الأوّل، دون الثاني(3).

و لو قُتل بعد البلوغ و قبل الإعراب، جرى الخلاف على المأخذين، و لكن الترتيب على ما قبل البلوغ، إن منعنا القصاص ثَمَّ فهنا أولى، و إن أوجبناه فهنا وجهان؛ لقدرته على إظهار ما هو عليه(4).

و الاختلاف الثاني في كيفيّة قول المنع.

فعن جماعةٍ منهم: البويطي و الربيع: إنّه غير منصوصٍ عليه في المسألة بخصوصها، لكن قال قائلون: إنّ اللقيط لا وارث له(5).

و روى البويطي: أن لا قصاص بقتل مَنْ لا وارث له، فيتناول اللقيطَ تناولَ العموم للخصوص(6).6.

ص: 359


1- العزيز شرح الوجيز 408:6.
2- العزيز شرح الوجيز 408:6-409. (3-6) العزيز شرح الوجيز 409:6.

و عن القفّال تخريجه من أحد القولين في أنّ مَنْ قذف اللقيط بعد بلوغه لا يُحدّ، و يُخرَّج من هذا مأخذٌ ثالث، و هو دَرْء القصاص بشبهة الرقّ و الكفر(1).

ثمّ الأصحّ من القولين عندهم: وجوب القصاص بالاتّفاق(2).

فإن كانت الجناية على طرف اللقيط، فعلى المأخذ الأوّل يُقطع وجوب القصاص؛ لأنّ الاستحقاق فيه للّقيط و هو متعيّن، لا للعامّة.

و على المأخذ الثاني إذا فرّعنا على قول المنع هناك يُتوقّف في قصاص الطرف، فإن بلغ و أعرب بالإسلام تبيّنّا وجوبه، و إلّا تبيّنّا عدمه.

و على المأخذ الثالث يجري القولان بلا فرق.

و إذا كان الجاني على النفس أو الطرف كافراً رقيقاً، جرى القولان على المأخذ الأوّل، دون الثاني و الثالث.

هذا ما يتعلّق بوجوب القصاص.

مسألة 441: أمّا استيفاء القصاص إذا قلنا بالوجوب فقصاص النفس يستوفيه الإمام لنفسه عندنا

و للمسلمين عند العامّة(1) إن رأى المصلحة فيه، و إن رأى في أخذ المال عدل عنه إلى الدية مع رضا الجاني عندنا، و مطلقاً عند الشافعي(4) ، و لو لم نجوّز ذلك لالتحق هذا القصاص بالحدود المتحتّمة، و ليس له العفو مجّاناً عندهم(5)؛ لأنّه خلاف مصلحة المسلمين، و الحقّ لهم عند العامّة.

ص: 360


1- المغني 406:6، الشرح الكبير 418:6، العزيز شرح الوجيز 409:6، روضة الطالبين 503:4. (4 و 5) العزيز شرح الوجيز 409:6، روضة الطالبين 503:4.

و أمّا قصاص الطرف فإن كان اللقيط بالغاً عاقلاً فالاستيفاء إليه، و إن لم يكن بالغاً عاقلاً بل انتفى عنه الوصفان أو أحدهما، لم يكن للإمام استيفاؤه؛ لأنّه قد يريد التشفّي، و قد يريد العفو، فلا يُفوّت عليه، قاله بعض الشافعيّة(1).

و الأقوى عندي: إنّ له الاستيفاء؛ لأنّه حقٌّ للمولّى عليه فكان للولي استيفاؤه، كحقّ المال، و به قال أبو حنيفة و أحمد في إحدى الروايتين؛ لأنّه أحد نوعي القصاص، فكان للإمام استيفاؤه عن اللقيط، كالقصاص في النفس(2).

و قال القفّال: له الاستيفاء في المجنون؛ لأنّه لا وقت معيّن ينتظر لإفاقته، و التأخير لا إلى غايةٍ قريبٌ من التفويت(3).

و هو بعيد عند الشافعيّة(4).

و أبعد منه عند الشافعيّة قول بعضهم بجواز الاقتصاص حيث يجوز له [أخذ](5) الأرش؛ لأنّه أحد البدلين، فله استيفاؤه كالثاني(6).

و المشهور عندهم: الأوّل(7).

و على قول الشافعيّة بالمنع من استيفاء القصاص هل له أخذ أرش الجناية ؟ يُنظر إن كان المجنيّ عليه مجنوناً فقيراً فله الأخذ؛ لأنّه محتاج، و ليس لزوال علّته غاية تُنتظر.

و إن كان صبيّاً غنيّاً، لم يأخذه؛ لأنّه لا حاجة في الحال، و لأنّ زوال4.

ص: 361


1- العزيز شرح الوجيز 409:6، روضة الطالبين 503:4.
2- المغني 406:6، الشرح الكبير 418:6-419.
3- العزيز شرح الوجيز 409:6، روضة الطالبين 503:4.
4- العزيز شرح الوجيز 409:6، روضة الطالبين 503:4.
5- ما بين المعقوفين أثبتناه من المصدر.
6- العزيز شرح الوجيز 409:6-410، روضة الطالبين 503:4-504.
7- العزيز شرح الوجيز 410:6، روضة الطالبين 504:4.

الصبوة له غاية منتظرة.

و إن كان مجنوناً غنيّاً أو صبيّاً فقيراً، فوجهان:

أحدهما: جواز الأخذ؛ لبُعْد الإفاقة في الصورة الأُولى، و قيام الحاجة في الثانية.

و الثاني: المنع؛ لعدم الحاجة في الأُولى، و قرب الانتظار في الثانية(1).

و الظاهر في الصورتين: المنع، و اعتبار الجنون و الفقر معاً لجواز الأخذ.

و حيث قلنا: لا يجوز أخذ الأرش أو لم نر المصلحة فيه فيُحبس الجاني إلى أوان البلوغ و الإفاقة.

و إذا جوّزناه فأخذه ثمّ بلغ الصبي أو أفاق المجنون و أراد أن يردّه أو يقتصّ، فالوجه: إنّه لا يُمكَّن من ذلك - و هو أحد وجهي الشافعيّة(2) - لأنّ فعل الولي حال الصغر و الجنون كفعل البالغ العاقل.

و الثاني: إنّه يُمكَّن من ذلك(3).

و الوجهان شبيهان بالخلاف فيما لو عفا الوليّ عن حقّ شفعة الصبي للمصلحة ثمّ بلغ و أراد أخذه.

و الوجهان مبنيّان على أنّ أخذ المال عفو كلّيّ و إسقاط للقصاص، أم شبيه الحيلولة لتعذّر استيفاء القصاص الواجب ؟

و قد يرجّح التقدير الأوّل بأنّ التضمين للحيلولة إنّما ينقدح إذا جاءت الحيلولة من قِبَل الجاني، كما لو غيّب الغاصب المغصوبَ، أو أبق العبد من

ص: 362


1- العزيز شرح الوجيز 410:6، روضة الطالبين 504:4.
2- العزيز شرح الوجيز 410:6، روضة الطالبين 504:4.
3- العزيز شرح الوجيز 410:6، روضة الطالبين 504:4.

يده، و هنا لم يأت التعذّر من قِبَله، و أيضاً لو كان الأخذ للحيلولة لجاز الأخذ فيما إذا كان المجنيّ عليه صبيّاً غنيّاً.

و هذا الذي ذكرناه في أخذ الأرش للّقيط آتٍ في كلّ طفلٍ يليه أبوه أو جدّه.

و قال بعض الشافعيّة: ليس للوصي أخذه(1).

و استحسنه بعضهم على تقدير كونه إسقاطاً، فلا يجوز الإسقاط إلّا لوالٍ أو وليٍّ(2).

أمّا إذا جوّزناه للحيلولة، جاز للوصي أيضاً.

إذا عرفت هذا، فكلّ موضعٍ قلنا: ينتظر البلوغ، فإنّ الجاني يُحبس حتى يبلغ اللقيط فيستوفي لنفسه.

البحث الثالث: في نسب اللقيط.
اشارة

و النظر في أمرين:

النظر الأوّل: أن يكون المدّعي واحداً.
مسألة 442: كلّ صبيٍّ مجهول النسب - سواء كان لقيطاً أو لا - إذا ادّعى بنوّته حُرٌّ مسلم، أُلحق به؛

لأنّه أقرّ بنسب مجهول النسب يمكن أن يكون منه، و ليس في إقراره إضرار بغيره، فيثبت إقراره.

و إنّما شرطنا الإمكان؛ لأنّه إذا أقرّ بنسب مجهول مَنْ هو أكبر منه أو مثله أو أصغر منه بما لم تَجْر العادة بتولّده عنه، عُلم كذبه، و أبطلنا إقراره.

و إنّما شرطنا أن لا يعود بالضرر على غيره؛ لأنّه إذا أقرّ بنسب عبد

ص: 363


1- العزيز شرح الوجيز 410:6، روضة الطالبين 504:4.
2- العزيز شرح الوجيز 410:6، روضة الطالبين 504:4.

غيره لم يُقبل إقراره؛ لأنّه يضرّ به، لأنّه يقدّم في الإرث على المولى.

و قد عرفت فيما سبق شرائط الإلحاق، فإذا حصلت هنا ألحقناه بالمدّعي، و إلّا فلا.

قال الشافعي: و يستحبّ للحاكم أن يسأله عن سبب نسبه؛ لئلّا يكون ممّن يعتقد أنّ الالتقاط و التربية يفيد النسب، فإن لم يسأله فلا بأس(1).

و قال مالك: إنّه إن استلحقه الملتقط لم يلحق به؛ لأنّ الإنسان لا ينبذ ولده ثمّ يلتقطه إلّا أن يكون ممّن لا يعيش له ولد فيُلحق به؛ لأنّه قد يفعل مثل ذلك تفاؤلاً ليعيش الولد(2).

و لا خلاف بين أهل العلم أنّ المدّعي الحُرّ المسلم يلحق نسب الولد به إذا أمكن منه، فكذا في اللقيط؛ لأنّه أقرّ له بحقٍّ، فأشبه ما لو أقرّ له بالمال، و لأنّ الإقرار محض نفعٍ للطفل؛ لاتّصال نسبه، و التزامه بتربيته و حضانته، و لأنّ إقامة البيّنة على النسب ممّا يعسر، و لو لم نثبته بالاستلحاق لضاع كثير من الأنساب.

مسألة 443: لو ادّعى أجنبيٌّ بنوّته و وُجدت شرائط الإلحاق، أُلحق به؛

لما تقدّم، و ينتزع اللقيط من يد الملتقط، و يُسلَّم إلى الأب؛ لأنّه لو ثبت أنّه أبوه فيكون أحقَّ بولده في التربية و الكفالة من الأجنبيّ، كما لو قامت به بيّنةٌ.

و لا فرق بين أن يكون المدّعي لبنوّته مسلماً أو كافراً؛ لأنّ الكافر أقرّ بنسب مجهول النسب يمكن أن يكون منه، و ليس في إقراره إضرار بغيره،

ص: 364


1- الحاوي الكبير 53:8، المهذّب - للشيرازي - 443:1، البيان 19:8، العزيز شرح الوجيز 412:6، روضة الطالبين 504:4.
2- الوسيط 317:4، العزيز شرح الوجيز 412:6.

فيثبت إقراره، كالمسلم؛ لاستوائهما في الجهات المثبتة للنسب، و به قال الشافعي و أحمد(1).

و قال أبو ثور: لا يلحق بالكافر؛ لأنّه محكوم بإسلامه(2).

و لا نزاع فيه، فإنّا نقول بموجبه، و نلحقه به في النسب، لا في الدين، و لا حقّ له في حضانته، و لأنّ الذمّي أقوى من العبد في ثبوت الفراش، فإنّه يثبت له بالنكاح و الوطء في الملك، و سيأتي الإلحاق بالعبد.

إذا عرفت هذا، فإنّ اللقيط يلتحق بالكافر في النسب، لا في الدين عندنا و عند أحمد(3).

و للشافعي قولان:

أحدهما: قال في باب اللقيط: يلحق به فيه(4).

و الثاني: قال في الدعوى و البيّنات: لا يلحق به فيه(5).

و اختلف أصحابه في ذلك على طريقين.

قال أبو إسحاق: ليست المسألة على قولين، و إنّما هي على اختلاف6.

ص: 365


1- الإشراف على مذاهب أهل العلم 165:2، المهذّب - للشيرازي - 443:1، الوجيز 257:1، حلية العلماء 557:5، التهذيب - للبغوي - 576:4، البيان 20:8، العزيز شرح الوجيز 412:6، روضة الطالبين 504:4-505، المغني 421:6، الشرح الكبير 428:6.
2- الإشراف على مذاهب أهل العلم 165:2، المغني 421:6، الشرح الكبير 428:6.
3- المغني 421:6، الشرح الكبير 428:6.
4- مختصر المزني: 137، المهذّب - للشيرازي - 443:1، حلية العلماء 557:5، التهذيب - للبغوي - 576:4، البيان 21:8، العزيز شرح الوجيز 406:6، روضة الطالبين 502:4، المغني 421:6، الشرح الكبير 428:6.
5- نفس المصادر، مضافاً إلى: الأُم 249:6.

حالين، فالموضع الذي قال: «يلحق به في الدين» أراد به إذا ثبت نسبه بالبيّنة، و الموضع الذي قال: «لا يلحق به في الدين» أراد به إذا ثبت بدعواه(1).

و قال أبو علي من أصحابه: إنّه يلحقه في الدين إذا أقام البيّنة بنسبه قولاً واحداً، و إذا ثبت نسبه بدعواه فقولان، أحدهما: لا يلحق به في الدين؛ لأنّه يجوز أن يكون ولده و هو مسلم بإسلام أُمّه، و إذا احتمل ذلك لم يبطل ظاهر الإسلام بالاحتمال، و إنّما قبلنا إقراره فيما يضرّه في النسب، دون ما يضرّ غيره(2).

فعلى قولنا: «إنّه لا يلحقه في الدين» يفرّق بينه و بينه إذا بلغ، فإن وصف الكفر لم يقر عليه.

و للشافعي قولان(3).

فإن قلنا: يلحق به في الدين - كما هو مذهب الشافعي(4) - فإنّه يحال أيضاً بينه و بينه لئلّا يعوده الكفر و التردّد إلى البِيَع و الكنائس، إلّا أنّه إذا بلغ و وصف الكفر أُقرّ عليه عنده على هذا القول وجهاً واحداً(5).4.

ص: 366


1- المهذّب - للشيرازي - 444:1، التهذيب - للبغوي - 576:4، البيان 21:8، العزيز شرح الوجيز 406:6، روضة الطالبين 502:4.
2- المهذّب - للشيرازي - 444:1، حلية العلماء 557:5-558، التهذيب - للبغوي - 576:4، البيان 21:8.
3- حلية العلماء 568:5، البيان 22:8 و 36، العزيز شرح الوجيز 406:6، روضة الطالبين 502:4.
4- راجع: الهامش (4) من ص 365.
5- الحاوي الكبير 56:8، المهذّب - للشيرازي - 444:1، العزيز شرح الوجيز 406:6، روضة الطالبين 502:4.
مسألة 444: لو ادّعى بنوّةَ اللقيط

مسألة 444: لو ادّعى بنوّةَ اللقيط(1) عبدٌ، صحّ دِعوته، بكسر الدال،

و هي ادّعاء النسب، و بضمّها: الطعام الذي يدعى إليه الناس، و بفتحها:

مصدر «دعا».

و إنّما حكمنا بصحّتها؛ لأنّ لمائه حرمةً، فلحقه(2) نسب ولده، كالحُرّ، فصحّت دعوته إذا ادّعى نسب لقيطٍ، فيلحقه(3) نسبه، سواء صدّقه السيّد أو كذّبه، غير أنّه لا تثبت له حضانته(4) ؛ لأنّه مشغول بخدمة سيّده.

و لا تجب عليه نفقته؛ لأنّ العبد فقير لا مال له، و لا تجب على سيّده؛ لأنّ اللقيط محكوم بحُرّيّته بظاهر الدار، فتكون نفقته في بيت المال، و يكون حكمه حكم مَنْ لم يثبت نسبه إلّا في ثبوت النسب خاصّةً.

و به قال الشافعي إن صدّقه السيّد، و أمّا إن كذّبه، فله قولان:

أحدهما: قال في باب اللقيط: إنّه يلحق به، كما قلناه.

و الثاني: قال في الدعاوي: إنّ العبد ليس أهلاً للاستلحاق، فحصل قولان:

أحدهما: المنع؛ لما فيه من الإضرار بالسيّد بسبب انقطاع الميراث عنه لو أعتقه.

و أصحّهما: اللحوق؛ لأنّ العبد كالحُرّ في أمر النسب؛ لإمكان العلوق منه بالنكاح و بوطئ الشبهة، و لا اعتبار بما ذكر من الإضرار، فإنّ مَن استلحق ابناً و له أخ يُقبل استلحاقه و إن أضرّ بالأخ(5).

ص: 367


1- ما بين المعقوفين يقتضيه السياق.
2- في «ث، ر»: «فيلحقه».
3- في «ث، ر»: «لحقه».
4- في «ث، ر»: «حضانة».
5- الحاوي الكبير 56:8-57، العزيز شرح الوجيز 412:6، روضة الطالبين 505:4.

و عن الشريف ناصر العمري طريقتان للشافعيّة أُخريان:

إحداهما: القطع بالقول الأوّل.

و الثانية: القطع باللحوق إذا كان مأذوناً في النكاح و مضى من الزمان ما يحتمل حصول الولد، و تخصيص القولين بما إذا لم يكن مأذوناً(1).

و يجري الخلاف فيما إذا أقرّ العبد بأخٍ أو عمٍّ(2).

و لهم طريقة أُخرى قاطعة بالمنع هاهنا؛ لأنّ لظهور نسبه طريقاً آخَر، و هو إقرار الأب و الجدّ(3).

و يجري الخلاف فيما إذا استلحق حُرٌّ عبدَ غيره؛ لما فيه من قطع الإرث المتوهّم بالولاء(4).

و قال بعضهم بالقطع بثبوت النسب هنا، و قال: الحُرّ من أهل الاستلحاق على الإطلاق(5).

و يجري الخلاف فيما إذا استلحق المعتق غيره(6).

و القول بالمنع هنا أبعد؛ لاستقلاله بالنكاح و التسرّي.

و إذا جعلنا العبد من أهل الاستلحاق، فلا يُسلّم اللقيط إليه كما تقدّم؛ لأنّه لا يتفرّغ لحضانته و تربيته.

مسألة 445: لو ادّعت المرأة مولوداً، فإن أقامت بيّنةً لحقها و لحق زوجها إن كانت ذات زوجٍ و كان العلوق منه ممكناً،

و لا ينتفى عنه إلّا باللعان.

هذا إن قيّدت البيّنة بأنّها ولدته على فراشه، و لو لم تتعرّض للفراش

ص: 368


1- العزيز شرح الوجيز 413:6. (2-6) العزيز شرح الوجيز 413:6، روضة الطالبين 505:4.

ففي ثبوت نسبه من الزوج وجهان للشافعيّة(1).

و عندنا لا يثبت نسبه من الزوج، إلّا إذا شهدت بأنّها ولدته على فراشه.

و لو لم تُقم المرأة بيّنةً و اقتصرت على مجرّد الدعوى، قال بعض علمائنا: يثبت نسبه، و يلتحق بها، كالأب(2) ، و هو أحد أقوال الشافعي، و هو رواية عن أحمد؛ لأنّها أحد الأبوين، فصارت كالرجل بل أولى؛ لأنّ جهة اللحوق بالرجل النكاح و الوطء بالشبهة، و المرأة تشارك الرجل [فيهما](3) و تختصّ بجهةٍ أُخرى، و هي الزنا(4).

و الأظهر عندهم: المنع - و به قال أبو حنيفة - لأنّها يمكنها إقامة البيّنة على الولادة، فلا يُقبل قولها فيه، و لهذا لو علّق الزوج طلاقها بولادتها، فقالت: قد ولدتُ، لم يقع الطلاق حتى تُقيم البيّنة، و تفارق الرجل من حيث إنّه يمكنها إقامة البيّنة على الولادة من طريق المشاهدة، و الرجل لا يمكنه، فمست الحاجة إلى إثبات النسب من جهته بمجرّد الدعوى، و لأنّها إذا أقرّت بالنسب فكأنّها تقرّ بحقٍّ عليها و على غيرها؛ لأنّها فراش6.

ص: 369


1- العزيز شرح الوجيز 413:6، روضة الطالبين 505:4.
2- الشيخ الطوسي في الخلاف 597:3، المسألة 26، و المبسوط 350:3.
3- بدل ما بين المعقوفين في النُّسَخ الخطّيّة و الحجريّة: «فيه». و الصحيح ما أثبتناه من العزيز شرح الوجيز.
4- الحاوي الكبير 57:8، المهذّب - للشيرازي - 444:1، الوسيط 317:4-318، حلية العلماء 559:5، التهذيب - للبغوي - 576:4-577، البيان 22:8، العزيز شرح الوجيز 413:6 و 414، روضة الطالبين 505:4، المغني 421:6 و 422، الشرح الكبير 429:6.

الزوج، و قد بطل إقرارها في حقّ الزوج، فيبطل الجميع؛ لأنّ الإقرار الواحد إذا بطل بعضه بطل كلّه(1).

و فيه نظر؛ لأنّ مَنْ أقرّ على نفسه و غيره بمالٍ يلزمه في حقّ نفسه و إن لم يُقبل في حقّ الغير.

و القول الثالث: إنّها إن كانت ذات زوجٍ لم يُقبل إقرارها؛ لتعذّر الإلحاق بها دون الزوج، و تعذّر قبول قولها على الزوج(2).

و عن أحمد روايتان كالوجه الأوّل و الثالث(3).

و إذا قبلنا استلحاقها و لها زوج، ففي اللحوق به عند الشافعيّة وجهان:

أحدهما: اللحوق، كما إذا قامت البيّنة.

و أصحّهما عندهم: المنع؛ لاحتمال أنّها ولدته من وطئ شبهةٍ أو زوجٍ آخَر، فصار كما لو استلحق الرجل ولداً و له زوجة، فإنّه لا يلحقها(4).

و استلحاق الأمة كاستلحاق الحُرّة عند مَنْ يجوّز استلحاق العبد، فإن4.

ص: 370


1- الحاوي الكبير 57:8، المهذّب - للشيرازي - 444:1، الوسيط 318:4، حلية العلماء 559:5، التهذيب - للبغوي - 577:4، البيان 22:8، العزيز شرح الوجيز 413:6، روضة الطالبين 505:4، تحفة الفقهاء 353:3، بدائع الصنائع 200:6، الاختيار لتعليل المختار 220:2-221، النتف 900:2، الهداية - للمرغيناني - 178:3.
2- الحاوي الكبير 57:8، المهذّب - للشيرازي - 444:1، الوسيط 318:4، حلية العلماء 559:5، التهذيب - للبغوي - 577:4، البيان 23:8، العزيز شرح الوجيز 414:6، روضة الطالبين 505:4، المغني 422:6-423، الشرح الكبير 429:6-430.
3- المغني 421:6-422، الشرح الكبير 429:6-430، العزيز شرح الوجيز 414:6.
4- التهذيب - للبغوي - 577:4، العزيز شرح الوجيز 414:6، روضة الطالبين 505:4.

قبلناه فهل يُحكم برقّ الولد لمولاها؟ للشافعيّة وجهان(1).

النظر الثاني: فيما إذا تعدّد المدّعي.
مسألة 446: لو ادّعى بنوّته اثنان، فإن كان أحدهما الملتقطَ

فإن لم يكن قد حُكم بنسب اللقيط للملتقط، فقد استويا في الدعوى، فالحكم فيه كما لو كانا أجنبيّين، و سيأتي.

و إن كان قد حُكم بنسب اللقيط للملتقط بدعواه ثمّ ادّعاه أجنبيٌّ، فإن أقام البيّنة كان أولى؛ لأنّ البيّنة أقوى من الدعوى، و لو أقام كلٌّ منهما بيّنةً تعارضت البيّنتان.

و الشافعي و إن حكم في الملك لذي اليد عند تعارض البيّنتين(2) ، و نحن و أبو حنيفة(3) و إن حكمنا للخارج، فهنا لا ترجيح باليد و لا تُقدّم بيّنة الملتقط باليد و لا بيّنة الأجنبيّ بخروجه؛ لأنّ اليد لا تثبت على الإنسان، و إنّما تثبت على الأملاك، و لهذا يحصل الملك باليد، كما في الاصطياد و الاغتنام، و النسب لا يحصل باليد، بل يُحكم بالقرعة.

و إن لم يكن هناك بيّنة لأحدهما و استلحقاه معاً، فعندنا يُحكم

ص: 371


1- العزيز شرح الوجيز 414:6، روضة الطالبين 505:4.
2- الحاوي الكبير 302:17، المهذّب - للشيرازي - 312:2، الوسيط 433:7، حلية العلماء 187:8، التهذيب - للبغوي - 320:8، البيان 145:13، العزيز شرح الوجيز 233:13، روضة الطالبين 335:8، المغني 168:12، الشرح الكبير 183:12، الهداية - للمرغيناني - 157:3، بدائع الصنائع 232:6.
3- الهداية - للمرغيناني - 157:3، بدائع الصنائع 232:6، المبسوط - للسرخسي - 32:17، الحاوي الكبير 303:17، الوسيط 433:4، حلية العلماء 188:8، التهذيب - للبغوي - 320:8، البيان 145:13، العزيز شرح الوجيز 233:13، المغني 168:12، الشرح الكبير 182:12-183.

بالقرعة؛ إذ لا مرجّح هنا، لأنّ اليد قد قلنا: إنّها لا تدلّ على النسب، فعندنا أيضاً يقرع بينهما.

و عند الشافعي و أحمد أنّه يُعرض على القافة - و هو قول أنس و عطاء و زيد بن عبد الملك و الأوزاعي و الليث بن سعد - لأنّ عائشة روت أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله دخل عليها مسروراً تبرق أسارير وجهه، فقال: «أ لم تري أنّ مجزّزاً نظر آنفاً إلى زيد و أُسامة و قد غطّيا رءوسهما و بدت أقدامهما فقال:

إنّ هذه الأقدام بعضها من بعضٍ»(1) فلولا جواز الاعتماد على القافة لما سرّ به النبيّ صلى الله عليه و آله و لا اعتمد عليه، و لأنّ عمر بن الخطّاب قضى به(2).

و الطريق عندنا ضعيف لا يُعتمد عليه، مع أنّهم قد رووا عن النبيّ صلى الله عليه و آله قوله في ولد الملاعنة: «انظروها فإن جاءت به حَمْش الساقين(3) كأنّه وَحَرة(4) فلا أراه إلّا قد كذب عليها، و إن جاءت به أكحل جَعْداً جُماليّاً(5) سابغ الأليتين(6) خدلج الساقين(7) فهو للّذي رميت به» فأتت به».

ص: 372


1- صحيح البخاري 195:8، صحيح مسلم 39/1082:2، سنن أبي داوُد 2267/280:2، سنن ابن ماجة 2349/787:2، سنن الترمذي 2129/440:4 بتفاوتٍ.
2- المهذّب - للشيرازي - 444:1، حلية العلماء 559:5، التهذيب - للبغوي - 575:4، البيان 23:8، العزيز شرح الوجيز 415:6، روضة الطالبين 505:4-506، المغني 425:6، الشرح الكبير 432:6.
3- أي: دقيقهما. النهاية - لابن الأثير - 440:1 «حمش».
4- أي: الأسود الدميم القصير. العين 290:3 «وحر».
5- الجماليّ - بالتشديد -: الضخم الأعضاء التامّ الأوصال. النهاية - لابن الأثير - 298:1 «جمل».
6- أي: تامّهما و عظيمهما. النهاية - لابن الأثير - 338:2 «سبغ».
7- أي: عظيمهما. النهاية - لابن الأثير - 15:2. «خدلج».

على النعت المكروه، فقال النبيّ صلى الله عليه و آله: «لو لا الإيمان لكان لي و لها شأن»(1) و هو يدلّ على أنّه لم يمنعه من العمل بالشبه إلّا الإيمان، فكان العمل بالشبه منافياً للإيمان، فكان مردوداً.

و السرور الذي وجده النبي صلى الله عليه و آله إن ثبت فلأنّه طابق قوله و حكمه عليه السلام في أنّ زيداً ولد أُسامة، لا ما يستدلّون به من العرض على القافة.

إذا عرفت هذا، فالقافة قوم يعرفون الأنساب بالشبه، و لا يختصّ ذلك بقبيلةٍ معيّنةٍ، بل مَنْ عرف منه المعرفة بذلك و تكرّرت منه الإصابة فهو قائف.

و قيل: أكثر ما يكون هذا في بني مدلج رهط مجزّز المدلجي الذي رأى أُسامة و أباه زيداً قد غطّيا رءوسهما و بدت أقدامهما، فقال: إنّ هذه الأقدام بعضها من بعضٍ(2).

و كان إياس بن معاوية قائفاً(3)، و كذلك قيل في شريح(2).

[و] لا يُقبل قول القائف إلّا أن يكون ذكراً عَدْلاً مجرّباً في الإصابة حُرّاً؛ لأنّ قوله حكم، و الحكم تُعتبر فيه هذه الشروط.

قال بعض العامّة: و تُعتبر معرفة القائف بالتجربة، و هو أن يترك الصبي مع عشرة من الرجال غير مَنْ يدّعيه و يرى إيّاهم، فإن ألحقه بواحدٍ منهم سقط قوله؛ لأنّا نتبيّن خطأه، و إن لم يلحقه بواحدٍ منهم أريناه إيّاه مع

عشرين فيهم مدّعيه، فإن ألحقه لحق عند العامّة(3).6.

ص: 373


1- المغني 426:6، الشرح الكبير 433:6، و في سنن أبي داوُد 276:2-2256/278 بتفاوتٍ. (2 و 3) كما في المغني 428:6، و الشرح الكبير 435:6 و 442.
2- كما في المغني 428:6، و الشرح الكبير 435:6.
3- المغني 428:6، الشرح الكبير 442:6.

و لو اعتبر بأن يرى صبيّاً معروف النسب مع قومٍ فيهم أبوه أو أخوه، فإذا ألحقه بقريبه عُلمت إصابته، و إن ألحقه بغيره سقط قوله، جاز.

و هذه التجربة عند عرضه على القائف للاحتياط في معرفة إصابته، و إن لم نجرّبه في الحال بعد أن يكون مشهور الإصابة في مرّاتٍ كثيرة جاز.

و قد روت العامّة: إنّ رجلاً شريفاً شكّ في ولدٍ له من جاريته و أبى أن يستلحقه، فمرّ به إياس بن معاوية في المكتب و هو لا يعرفه، فقال له:

ادع لي أباك، فقال المعلّم: و مَنْ أبو هذا؟ قال: فلان، قال: من أين قلت:

إنّه أبوه ؟ فقال: إنّه أشبه به من الغراب بالغراب، فقام المعلّم مسرعاً إلى أبيه فأعلمه بقول إياس، فخرج الرجل و سأل إياساً من أين علمتَ أنّ هذا ولدي ؟ فقال: سبحان اللّه و هل يخفى هذا على أحدٍ؟ إنّه لأشبه بك من الغراب بالغراب، فسر الرجل و استلحق ولده(1).

و هذا كلّه عندنا باطل؛ لأنّ تعلّم القيافة حرام، و لا يجوز إلحاق الإنسان بها، و سيأتي.

و ظاهر كلام أحمد أنّه لا بدّ من قول اثنين؛ لأنّهما شاهدان، فإن شهد اثنان من القافة أنّه لهذا، فهو لهذا؛ لأنّه قول يثبت به النسب، فأشبه الشهادة(2).

و عنه رواية أُخرى: إنّه يُقبل قول الواحد؛ لأنّه حكم، و يكفي في الحكم قول الواحد، و هو قول أكثر أصحابه(3).

و حملوا الأوّل على ما إذا تعارض أقوال القائفين، فإذا تعارض اثنان6.

ص: 374


1- المغني 428-429:6، الشرح الكبير 442-443:6.
2- المغني 429:6، الشرح الكبير 443:6.
3- المغني 429:6، الشرح الكبير 443:6.

تساووا، و إن عارض واحد اثنين حُكم بقولهما، و سقط قول الواحد؛ لأنّهما شاهدان، فقولهما أقوى من قول الواحد، و لو عارض قول الاثنين قول اثنين تساقطا، و لو عارض قول الاثنين قول الثلاثة و أكثر سقط الجميع عنده، كالبيّنات لا يعتبر فيها زيادة العدد عنده(1).

و لو ألحقته القافة بواحدٍ ثمّ جاءت قافة أُخرى فألحقته بآخَر، كان لاحقاً بالأوّل عندهم؛ لأنّ القائف جرى مجرى الحاكم، و متى حكم الحاكم بحكمٍ لم ينتقض بمخالفة غيره له(2).

و كذا لو ألحقته بواحدٍ ثمّ عادت فألحقته بغيره لذلك.

و لو أقام الآخَر بيّنةً أنّه ولده، حُكم له به، و سقط قول القائف؛ لأنّه بدل، فسقط مع وجود الأصل، كالتيمّم مع الماء.

و لو ألحقته القافة بكافرٍ أو رقيقٍ، لم يُحكم بكفره و لا برقّه؛ لأنّ الحُرّيّة و الإسلام ثبتا له بحكم الدار، فلا يزول ذلك بمجرّد الشبه أو الظنّ، كما لم يزل ذلك بمجرّد الدعوى من المنفرد بها، و قبول قول القافة في النسب للحاجة إلى إثباته، و لأنّه غير مخالفٍ للظاهر، و لهذا اكتفي فيه بمجرّد الدعوى في المنفرد، و لا حاجة إلى إثبات رقّه و كفره، و إثباتهما يخالف الظاهر(3).

و هذا كلّه عندنا و عند أبي حنيفة باطل؛ لأنّا لا نثبت النسب بقول القافة، و لا حكم لها عندنا و لا عنده، إلّا أنّ أبا حنيفة يقول: إذا تعارضت البيّنتان أُلحق بالمدّعيين جميعاً(4) ، و نحن نقول بالقرعة؛ لأنّه موضع6.

ص: 375


1- المغني 429:6، الشرح الكبير 443:6.
2- المغني 429:6، الشرح الكبير 443:6.
3- المغني 429:6-430، الشرح الكبير 443:6.
4- الاختيار لتعليل المختار 44:3، تحفة الفقهاء 353:3، بدائع الصنائع 200:6، المحيط البرهاني 428:5، الهداية - للمرغيناني - 173:2، حلية العلماء 560:5، العزيز شرح الوجيز 417:6، المغني 425:6، الشرح الكبير 432:6.

الإشكال و الاشتباه، و قد روى علماؤنا عن أهل البيت عليهم السلام: «كلّ أمرٍ مشكلٍ ففيه القرعة»(1).

و قول أبي حنيفة باطل؛ لأنّه لا يمكن تولّده منهما، و اتّفقنا نحن و إيّاه على عدم اعتبار القافة؛ لأنّ الحكم بها حكمٌ بمجرّد الشبه و الظنّ و التخمين، و قد نهى اللّه تعالى عن اتّباع الظنّ(2) ، و الشبه يوجد بين الأجانب كما يوجد بين الأقارب، فلا يبقى دليلاً على النسب، بل قد يثبت الشبه بين الأجانب و ينتفى عن الأقارب، و لهذا روي عن النبيّ صلى الله عليه و آله: إنّ رجلاً أتاه فقال: يا رسول اللّه إنّ امرأتي ولدت غلاماً أسود، فقال عليه السلام:

«هل لك من إبل ؟» قال: نعم، قال: «فما ألوانها؟» قال: حمر، قال: «هل فيها من أورق ؟» قال: نعم، قال: «أنّى أتاها ذلك ؟» قال: لعلّ عرقاً ينزع، قال: «و هذا لعلّ عرقاً ينزع»(3).

و أيضاً لو كان الشبه كافياً، لاكتفى به في ولد الملاعنة و فيما إذا أقرّ أحد الورثة بأخٍ و أنكره الباقون.

مسألة 447: لو ادّعاه اثنان و لا بيّنة أو وُجدت بيّنتان متعارضتان، فالحكم القرعة عندنا،

و عند الشافعي و أحمد يُعرض على القائف على ما تقدّم(4).

فإن ألحقته القافة بهما، سقط اعتبار القائف عند الشافعي، و لم يعتبر

ص: 376


1- الفقيه 174/52:3، التهذيب 593/240:6، الاستبصار 83:3، ذيل ح 279.
2- سورة الإسراء: 36.
3- المغني 425:6، الشرح الكبير 432:6، و نحوه في صحيح البخاري 215:8، و سنن ابن ماجة 645:1-2002/646 و 2003، و سنن أبي داوُد 2260/279:2، و سنن النسائي 178:6.
4- في ص 372.

بقولها و لم يُحكم به، و يُترك اللقيط حتى يبلغ، فإذا بلغ أُمر بالانتساب إلى أحدهما، و لا ينتسب بمجرّد التشهّي، بل يعوّل فيه على ميل الطبع الذي يجده الولد إلى الوالد، و القريب إلى القريب بحكم الجبلّة(1).

و عنه وجهٌ آخَر: إنّه لا يشترط البلوغ، بل يرجع إلى اختياره إذا بلغ سنّ التميز، كما يخيّر حينئذٍ بين الأبوين في الحضانة(2).

لكن المشهور عندهم: الأوّل.

و فرّقوا بأنّ اختياره في الحضانة لا يلزم، بل له الرجوع عن الاختيار الأوّل، و هنا إذا انتسب إلى أحدهما لزمه، و لم يقبل رجوعه، و الصبي ليس يتحقّق في طرفه قول ملزم(3).

و قال أحمد: إذا ألحقته القافة بهما لحق بهما، و كان ابنهما يرثهما ميراث ابن و زيادة، و يرثانه ميراث أبٍ واحد(4) ، و نقله عن عليٍّ عليه السلام(5) ، و هو افتراء عليه، و نقله أيضاً عن عمرَ، و هو قول أبي ثور(6).

و قال أصحاب الرأي: يلحق بهما بمجرّد الدعوى(7).

و الكلّ باطل؛ لعدم إمكان تولّد الطفل من اثنين، و الحوالة على الأمر المستحيل باطلة؛ لأنّه لا يتصوّر كونه متولّداً من رجلين، فإذا ألحقته القافة6.

ص: 377


1- المهذّب - للشيرازي - 444:1، التهذيب - للبغوي - 575:4، البيان 25:8، العزيز شرح الوجيز 415:6، روضة الطالبين 506:4، المغني 430:6، الشرح الكبير 435:6.
2- المهذّب - للشيرازي - 444:1، البيان 25:8، العزيز شرح الوجيز 415:6 و 418، روضة الطالبين 506:4.
3- العزيز شرح الوجيز 415:6، روضة الطالبين 506:4.
4- المغني 430:6، الشرح الكبير 435:6، البيان 25:8. (5-7) المغني 430:6، الشرح الكبير 435:6.

بهما تبيّنّا كذبهما، فيسقط قولهما، كما لو ألحقته [بأُمّين لو اتّفقتا](1) على ذلك لم يثبت.

و لو ادّعاه [كلّ](2) واحدٍ منهما و أقام بيّنةً، سقطتا، و لو جاز أن يلحق بهما لثبت لهما باتّفاقهما، و أُلحق بهما عند تعارض بيّنتهما، بل جاز أن يلحق بهما بمجرّد دعواهما؛ لعدم التنافي بين الدعويين حينئذٍ، و لما قدّم في الحكم البيّنة على الدعوى و لا على القافة، و لا قُدّمت القافة على الدعوى.

و احتجّ أحمد: بما روي عن عمر في امرأةٍ وطئها رجلان في طهرٍ، فقال القائف: قد اشتركا فيه جميعاً، فجعله بينهما.

و بما رواه الشعبي عن عليٍّ عليه السلام أنّه كان يقول: «هو ابنهما و هُما أبواه يرثهما و يرثانه».

و عن سعيد بن المسيّب في رجلين اشتركا في وطئ امرأةٍ فولدت غلاماً يشبههما، فرفع ذلك إلى عمر بن الخطّاب، فدعا القافة فنظروا فقالوا: نراه يشبههما، فألحقه بهما، و جعله يرثهما و يرثانه(3).

و قول عمر لا حجّة فيه، و النقل عن عليٍّ عليه السلام لم يثبت؛ لأنّ أهل البيت أعرف بمذهبه و مقالته عليه السلام من غيرهم، مع أنّهم اتّفقوا على إبطال هذا القول، و العقل أيضاً دلّ عليه.

مسألة 448: لو ادّعاه أكثر من اثنين أو من ثلاث، حُكم بالقرعة

مع

ص: 378


1- بدل ما بين المعقوفين في النُّسَخ الخطّيّة و الحجريّة: «باثنين لو اتّفقا». و المثبت هو الصحيح.
2- بدل ما بين المعقوفين في النُّسَخ الخطّيّة و الحجريّة: «رجل». و الصحيح ما أثبتناه.
3- المغني 431:6، الشرح الكبير 435:6.

عدم البيّنة و مع تعارضهما عندنا.

و القائلون بالقافة اختلفوا، فعن أحمد روايتان:

إحداهما: إنّه يلحق بالثلاثة فما زاد؛ لوجود المقتضي للإلحاق عندهم.

و الثانية: إنّه لا يلحق بأكثر من اثنين، و هو قول أبي يوسف؛ اقتصاراً على ما ورد به [الأثر](1) عن عمر(2).

و قال بعض أصحابه: لا يلحق بأكثر من ثلاثة، و هو قول محمّد بن الحسن، و روي ذلك عن أبي يوسف أيضاً(3).

و الكلّ باطل عندنا.

ثمّ لو جوّزنا الأكثر، فأيّ دليلٍ دلّ على الحصر في الثلاثة ؟ و هل هو إلّا تحكّمٌ محض ؟ فإنّ القائل به لم يقتصر على المنصوص عن عمر و لا قال بتعدية الحكم إلى كلّ ما وُجد فيه المعنى، و ليس في الثلاثة معنىً [خاصٌّ](4) يقتضي إلحاق النسب بهم، فلا يجوز الاقتصار عليه بالتحكّم.

مسألة 449: إذا تداعياه اثنان أو ما زاد، وجب عليهما النفقة في مدّة الانتظار

إمّا إلى أن يثبت بالبيّنة أو بالقرعة التحاقه بأحدهما، أو بالقافة عند القائلين بها، أو بإقراره عند بلوغه، كما هو قول الشافعي في الجديد، أو

ص: 379


1- بدل ما بين المعقوفين في النُّسَخ الخطّيّة و الحجريّة: «الأمر». و المثبت كما في المغني و الشرح الكبير.
2- المغني 432:6، الشرح الكبير 438:6، فتاوى قاضيخان - بهامش الفتاوى الهنديّة - 399:3، بدائع الصنائع 200:6.
3- المغني 432:6، الشرح الكبير 438:6، بدائع الصنائع 200:6.
4- بدل ما بين المعقوفين في النُّسَخ الخطّيّة: «خاصّاً». و الصحيح ما أثبتناه.

بلوغه حدّ التمييز عند الشافعي في القديم(1) ، فإذا بلغ و انتسب إلى أحدهما رجع الآخَر عليه بما أنفق، قاله الشافعي(2).

و يحتمل عدم الرجوع؛ لأنّه مُقرٌّ باستحقاق الإنفاق عليه.

و لو انتفت البيّنة عنهما، فقد قلنا بالقرعة، و عند الشافعي و أحمد الرجوع إلى القافة، فإن لم توجد قافة أو أشكل الأمر عليها أو تعارضت أقوالها أو وُجد مَنْ لا يوثق بقوله، لم يرجّح أحدهما بذكر علامةٍ في جسده؛ لأنّ ذلك لا يرجّح به في سائر الدعاوي سوى الالتقاط في المال، و يضيع نسبه(3).

و لهم قولٌ آخَر: إنّه يُترك حتى يبلغ و ينتسب إلى مَنْ شاء(4).

و قال أصحاب الرأي: يلحق بالمدّعيين بمجرّد الدعوى؛ لأنّ كلّ واحدٍ منهما لو انفرد سُمعت دعواه، فإذا اجتمعا و أمكن العمل بهما وجب، كما لو أقرّا له بمالٍ(5).

و ليس بجيّدٍ؛ لأنّ دعواهما تعارضت، و لا حجّة لواحدٍ منهما، فلم يثبت، كما لو ادّعيا رقّه.

و قول الشافعي: «إنّه يُحكم به لمن يميل قلبه إليه»(6) ليس بشيءٍ؛7.

ص: 380


1- المغني 433:6، الشرح الكبير 440:6.
2- التهذيب - للبغوي - 575:4، العزيز شرح الوجيز 416:6، روضة الطالبين 506:4.
3- العزيز شرح الوجيز 415:6 و 418، روضة الطالبين 505:4-506 و 508، المغني 432:6-433، الشرح الكبير 439:6.
4- المغني 433:6، الشرح الكبير 439:6، و راجع: الهامش (1) من ص 377.
5- المغني 433:6، الشرح الكبير 440:6، و راجع: الهامش (4) من ص 375.
6- راجع: الهامش (1) من ص 377.

لأنّ الميل القلبي لا ينحصر في القرابة، فإنّ المحسن يميل الطبع إليه، فإنّ القلوب جُبلت على حُبّ مَنْ أحسن إليها و بُغض مَنْ أساء إليها، و قد يميل إليه لإساءة الآخَر إليه، و قد يميل إلى أحسنهما خلقاً و أعظمهما قدراً أو جاهاً أو مالاً، فلا يبقى للميل أثر في الدلالة على النسب.

و قول عمر: والِ أيّهما شئت(1) ، ليس بحجّةٍ؛ لأنّه إنّما أمره بالموالاة، لا بالانتساب.

و على قول الشافعي: «إنّه يلحق بمن ينتسب إليه» لو انتسب إلى أحدهما ثمّ عاد و انتسب إلى الآخَر، أو نفى نسبه من الأوّل و لم ينتسب إلى أحدٍ، لم يُقبل منه؛ لأنّه قد ثبت نسبه، فلا يُقبل رجوعه(2).

و التصديق عندنا معتبر في حقّ البالغ العاقل، فيجيء هذا الحكم عليه.

مسألة 450: و لو لم ينتسب اللقيط إلى أحد المدّعيين، بقي الأمر موقوفاً على القرعة عندنا

و إلى أن يظهر نسبه بالقافة عند الشافعيّة(3) أو بالبيّنة.

و لو انتسب إلى غير المدّعيين و ادّعاه ذلك الغير، ثبت نسبه منه، و به قال الشافعيّة(4).

و لهم وجهٌ آخَر: إنّه إن كان الرجوع إلى انتسابه بسبب إلحاق القائف بهما جميعاً لم يُقبل انتسابه إلى غيرهما(5).

و لو انتسب إلى أحدهما لفقد القائف ثمّ وجد القائف، قال الشافعي:

ص: 381


1- الموطّأ 740:2-22/741، سنن البيهقي 263:10، شرح معاني الآثار 162:4، المغني 433:6، الشرح الكبير 440:6.
2- الحاوي الكبير 54:8، البيان 25:8.
3- راجع: الهامش (2) من ص 372. (4 و 5) العزيز شرح الوجيز 416:6، روضة الطالبين 506:4.

يُعرض عليه، فإن ألحقه بالثاني، قدّمنا قوله على الانتساب؛ لأنّه حجّة أو حكم(1).

و قال بعضهم: يُقدّم الانتساب على قول القائف، و على هذا فمهما ألحقه القائف بأحدهما فللآخَر أن ينازعه و يقول: ننتظر حتى يبلغ فينتسب(2).

و هذا كلّه عندنا باطل؛ إذ لا عبرة بقول القائف في مذهبنا لو خلا عن المعارض فكيف إذا عارضه التصديق.

و على قول الشافعي لو ألحقه القائف بأحدهما ثمّ أقام الآخَر بيّنةً، قُدّمت البيّنة على قول القائف؛ لأنّ البيّنة حجّة يعتمد عليها في كلّ خصومةٍ، و قول القائف مستنده حدس و تخمين(1).

و قال بعض الشافعيّة: لا ننقض ما حكمنا به و لا نعمل بالبيّنة(2).

مسألة 451: لو ادّعت المرأة بنوّته، ففي إلحاقها بالرجل في ثبوت النسب بمجرّد الدعوى من غير تصديقٍ و لا بيّنةٍ إذا لم يكن معارض قولان

لعلمائنا سبقا(3).

فإن قلنا بمساواتها للرجل لو ادّعت امرأتان بنوّته و أقامتا بيّنتين أو لم تكن هناك بيّنة، فالقرعة عندنا، كالرجلين.

و للشافعيّة في عرضه على القافة وجهان:

أحدهما: المنع؛ لأنّ معرفة الأُمومة يقيناً بمشاهدة الولادة ممكنة.

ص: 382


1- العزيز شرح الوجيز 416:6، روضة الطالبين 506:4-507.
2- العزيز شرح الوجيز 416:6، روضة الطالبين 507:4.
3- في ص 369.

و أصحّهما: إنّه يُعرض؛ لأنّ قول القائف حجّة أو حكم، فكان كالبيّنة، و على هذا تبتنى تجربة القائف و امتحانه(1).

و إذا ألحقه القائف بإحداهما و هي ذات زوجٍ، لحق زوجها أيضاً عند الشافعيّة، كما لو قامت البيّنة(2).

و لهم وجهٌ آخَر: إنّه لا يلحقه(3).

و هو المعتمد؛ لأنّ قول القائف لا يصلح للإلحاق بالمنكر، فإنّ القائف لا يلحق المنبوذ بمن لا يدّعيه.

و لا فرق بين أن تكون إحدى الامرأتين مسلمةً و الأُخرى كافرةً أو كانتا كافرتين.

و روي عن أحمد في يهوديّةٍ و مسلمةٍ ولدتا فادّعت اليهوديّة ولد المسلمة، فتوقّف، فقيل: يرى القافة، فقال: ما أحسنه، و لأنّ الشبه يوجد بينها و بين ابنها كما يوجد بين الرجل و ابنه بل أكثر؛ لاختصاصها بحمله و تغذيته، و الكافرة و المسلمة و الحُرّة و الأمة في التشابه سواء(4).

و قد عرفت بطلان القول بالقافة عندنا.

و لو ألحقته القافة بأُمّين، لم يلحق بهما إجماعاً عندنا و عند القائلين بالقافة(5) ؛ لأنّه يُعلم خطؤه يقيناً.6.

ص: 383


1- الحاوي الكبير 58:8، المهذّب - للشيرازي - 445:1، حلية العلماء 564:5، التهذيب - للبغوي - 577:4، البيان 28:8، العزيز شرح الوجيز 416:6، روضة الطالبين 507:4.
2- التهذيب - للبغوي - 577:4، البيان 28:8، العزيز شرح الوجيز 416:6، روضة الطالبين 507:4.
3- العزيز شرح الوجيز 416:6، روضة الطالبين 507:4.
4- المغني 434:6-435، الشرح الكبير 436:6-437.
5- المغني 435:6، الشرح الكبير 437:6.

و قال أصحاب الرأي: يلحق بهما بمجرّد الدعوى؛ لأنّ الأُم أحد الأبوين، فجاز أن يلحق بأُمّين كالآباء(1).

و هذا غلط؛ لأنّا نعلم يقيناً استحالة كونه منهما، فلم يجز إلحاقه بهما، كما لو كان أكبر منهما أو مثلهما.

و فرّق الشافعيّة بين الأُمّين و الأبوين؛ لأنّه يجوز اجتماع نطفتي رجلين في رحم امرأةٍ و يمكن أن يخلق منهما ولد، كما يخلق من نطفة الرجل و امرأةٍ، و لذلك قال القائف لعمر: قد اشتركا فيه(2) ، و لا يلزم من إلحاقه بمَنْ يتصوّر كونه منه إلحاقه بمَنْ يستحيل تكوّنه منه، كما لم يلزم من إلحاقه بمَنْ يولد مثله لمثله إلحاقه بأصغر منه(3).

مسألة 452: و لو ادّعى نسبه رجل و امرأة، أُلحق بهما؛

لأنّه لا تنافي بينهما؛ لإمكان أن يكون بينهما نكاح أو وطؤ شبهة، فيلحق بهما جميعاً، فيكون ابنهما بمجرّد دعواهما، كما لو انفرد كلّ واحدٍ منهما بالدعوى.

و لو قال الرجل: هذا ابني من زوجتي و ادّعت زوجته ذلك و ادّعت امرأة أُخرى أنّه ابنها، فهو ابن الرجل.

و هل ترجّح زوجته على الأُخرى ؟ الأقرب: ذلك؛ لأنّ زوجها أبوه فالظاهر أنّها أُمّه، و لأنّها ادّعت و حصل لدعواها قرينة تصديق الرجل إيّاها، بخلاف الأُخرى، فإنّه حصل لدعواها معارضة تكذيب الأب لها.

و يحتمل تساويهما؛ لأنّ كلّ واحدةٍ منهما لو انفردت لالتحق بها، فإذا اجتمعتا تساوتا.

ص: 384


1- المغني 435:6، الشرح الكبير 437:6.
2- سنن البيهقي 263:10 و 264.
3- الحاوي الكبير 59:8، و راجع: المغني 435:6، و الشرح الكبير 437:6.

و لو ادّعت المرأة الأُخرى أنّه ابنها من زوجها و ادّعى الرجل غير الزوج أنّه ابنه من زوجته غير المدّعية أوّلاً و صدّق الزوجُ المرأةَ المدّعية و الزوجةُ الرجل المدّعي، تعارضت الدعاوي و تساوى المتنازعان.

مسألة 453: إذا ادّعى بنوّته اثنان و أحدهما عبد، تساويا في الدعوى،

و يكون الحكم القرعة كالحُرّين - و به قال أحمد و الشافعي على تقدير قبول استلحاق العبد، إلّا أنّهما يعرضانه على القافة(1) - لأنّ كلّ واحدٍ منهما لو انفرد صحّت دعواه، فإذا تنازعوا تساووا في الدعوى، كالأحرار المسلمين.

و إن قلنا: لا يقبل استلحاق العبد - كما ذهب إليه الشافعي في القول الآخَر(2) - فإنّ الحُرّ يكون أولى من العبد.

و قال أبو حنيفة: الحُرّ أولى من العبد؛ لأنّ على اللقيط ضرراً في إلحاقه بالعبد، فكان إلحاقه بالحُرّ أولى، كما لو تنازعا في الحضانة(3).

و نمنع الضرر؛ لأنّا لم نحكم برقّه، و النسب لا يشبه الحضانة؛ لأنّا نقدّم في الحضانة الموسر و الحضريّ، و لا نقدّمهما في دعوى النسب.

مسألة 454: و لو كان أحد المدّعيين مسلماً و الآخَر كافراً، تساويا أيضاً، و حُكم بالقرعة عندنا،

و بالعرض على القافة عند الشافعي و أحمد(4) ؛

ص: 385


1- المغني 423:6، الشرح الكبير 431:6، الحاوي الكبير 55:8، الوجيز 257:1، حلية العلماء 558:5، التهذيب - للبغوي - 576:4، البيان 27:8، العزيز شرح الوجيز 414:6، روضة الطالبين 505:4.
2- التهذيب - للبغوي - 576:4، العزيز شرح الوجيز 414:6، روضة الطالبين 505:4.
3- الاختيار لتعليل المختار 44:3، بدائع الصنائع 199:6، الهداية - للمرغيناني - 174:2، المغني 423:6-424، الشرح الكبير 431:6، الحاوي الكبير 55:8، حلية العلماء 558:5، البيان 27:8، العزيز شرح الوجيز 414:6.
4- العزيز شرح الوجيز 414:6 و 415، روضة الطالبين 505:4 و 506، المغني 423:6 و 425، الشرح الكبير 431:6 و 432.

لاستوائهما في الاستلحاق و جهات النسب.

و قال أبو حنيفة: المسلم أولى من الذمّي؛ لما تقدّم من لحوق الضرر باللقيط لو ألحقناه بالذمّي(1).

و هو ممنوع؛ لما تقدّم من أنّا لا نحكم بكفر اللقيط و إن ألحقناه به في النسب.

و كذا لو كان أحدهما حُرّاً مسلماً و الآخَر عبداً كافراً، فإنّهما يتساويان عندنا و عند الشافعي و أحمد(2) ، و يُقدّم المسلم الحُرّ عند أبي حنيفة(3).

و لو كان أحدهما مسلماً عبداً و الآخَر حُرّاً كافراً، تساويا عندنا.

و يتأتّى على قول أبي حنيفة ذلك أيضاً؛ لما في كلّ واحدٍ منهما من صفات الأرجحيّة و المرجوحيّة.

مسألة 455: لو اختصّ أحد المتداعيين باليد، فإن كان صاحب اليد هو الملتقطَ لم يُقدَّم؛

لأنّ اليد لا تدلّ على النسب.

نعم، لو استلحقه الملتقط أوّلاً و حكمنا بالنسب ثمّ ادّعاه آخَر فالأقوى: تقديم الملتقط؛ لأنّا أثبتنا نسبه قبل معارضة المدّعي.

و قال الشافعي: يُعرض مع الثاني على القائف، [فإن نفاه بقي لاحقاً بالملتقط باستلحاقه، و إن ألحقه بالثاني عُرض مع الملتقط عليه](2) فإن نفاه عنه فهو للثاني، و إن ألحقه به أيضاً فقد تعذّر العمل بقول القائف

ص: 386


1- تحفة الفقهاء 353:3، بدائع الصنائع 199:6، الاختيار لتعليل المختار 44:3، الهداية - للمرغيناني - 174:2، المحيط البرهاني 429:5، الحاوي الكبير 55:8، حلية العلماء 558:5، العزيز شرح الوجيز 415:6، المغني 423:6-424، الشرح الكبير 431:6. (2 و 3) لم نعثر عليه فيما بين أيدينا من المصادر.
2- ما بين المعقوفين أثبتناه من «العزيز شرح الوجيز» و «روضة الطالبين» و ورد مؤدّاه في «الحاوي الكبير» و «التهذيب».

فيُوقَف(1).

و إن كان صاحب اليد غيرَ الملتقط، فقد حكى الجويني عنه أنّه إن كان قد استلحقه حُكم بالنسب له، ثمّ إن جاء آخَر و ادّعى نسبه لم يُلتفت إليه؛ لثبوت النسب من الأوّل معتضداً باليد و تصرّفِ الآباء في الأولاد، و إن لم يُسمع استلحاقه إلّا بعد ما جاء الثاني و استلحقه، ففيه وجهان:

أحدهما: تقديم صاحب اليد كما يُقدّم استلحاقه.

و أشبههما عندهم: التساوي؛ لأنّ الغالب من حال الأب أن يذكر نسب ولده و يشهره، فإذا لم يفعل صارت يده كيد الملتقط في أنّها لا تدلّ على النسب(2).

مسألة 456: لو تداعياه اثنان فأقام كلّ واحدٍ منهما بيّنةً و تعارضتا، أُقرِع بينهما عندنا،
اشارة

و قد تقدّم(3) دليله.

و للشافعي في تعارض البيّنتين في الأملاك قولان:

أحدهما: التساقط، فعلى تقديره تتساقطان هنا أيضاً، و يرجع إلى قول القائف، أو لا تتساقطان و تُرجَّح إحداهما بقول القائف.

و الثاني: إنّهما تُستعملان إمّا بالتوقّف أو بالقسمة أو بالقرعة على ثلاثة أقوال معروفة بينهم(4).

و التوقّف لا يمكن هنا؛ لما فيه من الإضرار بالطفل، و لا القسمة؛ إذ لا مجال لها في النسب. و أمّا القرعة ففيه وجهان:

أحدهما: إنّها تجري هنا، فيُقرع و يُقدَّم مَنْ خرجت قرعته.

ص: 387


1- الحاوي الكبير 53:8، التهذيب - للبغوي - 575:4، العزيز شرح الوجيز 415:6، روضة الطالبين 506:4.
2- العزيز شرح الوجيز 415:6، روضة الطالبين 506:4.
3- في ص 371.
4- العزيز شرح الوجيز 417:6، روضة الطالبين 507:4.

و الثاني: المنع؛ لأنّ القرعة لا تثبت في النسب و لا تعمل به(1).

و لو اختصّ أحدهما باليد لم ترجّح بيّنته باليد، بخلاف الأملاك، حيث تُقدّم فيها بيّنة ذي اليد؛ لأنّ اليد تدلّ على الملك.

و قال بعض الشافعيّة: لو أقام أحدهما البيّنة على أنّه في يده منذ سنةٍ و الثاني على أنّه في يده منذ شهرٍ و تنازعا في نسبه، فالتي هي أسبق تاريخاً أولى، و صاحبها مقدَّم(2).

و هو باطل؛ لأنّ ثبوت اليد لا يقتضي ثبوت النسب.

و لو فرض تعرّض البيّنتين لنفس النسب، فلا مجال فيه للتقدّم و التأخّر.

و إن شهدتا على الاستلحاق، فيبنى على أنّ الاستلحاق من شخصٍ هل يمنع غيره من الاستلحاق بعده ؟

فروع:

أ - و ألحقه القائف بأحدهما ثمّ ألحقه بالثاني، لم ينتقل إليه،

فإنّ الاجتهاد لا ينتقض بمثله.

ب - لو وصف أحد المتداعيين خالاً

(1) أو أثر جراحةٍ في ظَهْرٍ أو بعض أعضائه الباطنة و أصاب، لا يُقدّم جانبه - و به قال الشافعي(2) - كما لو وصف أحدهما في الملك المتنازع بينهما وصفاً خفيّاً، لم يقدّم باعتبار ذلك، كذا هنا.

ص: 388


1- الخال: نكتة في الجسد. لسان العرب 232:11 «خيل».
2- حلية العلماء 566:5، البيان 27:8، العزيز شرح الوجيز 418:6، روضة الطالبين 508:4، المغني 419:6، الشرح الكبير 416:6.

و قال أبو حنيفة: يقدّم و يثبت النسب للواصف(1). و ليس بشيءٍ.

ج - لو تداعياه ثمّ رجع أحدهما، أُلحق بالآخَر؛

عملاً بالمقتضي، و هي الدعوى السالمة عن معارضة الدعوى الأُخرى؛ لبطلانها بالرجوع.

و لو رجع مَنْ وقعت عليه القرعة، فكذلك، و لو رجع الآخَر قبل القرعة أو بعدها، فإشكال، أمّا لو قامت لأحدهما بيّنة بدعواه ثمّ رجع، فإنّه لا يُقبل رجوعه و إن بقي الآخَر على دعواه.

مسألة 457: لو تنازع اثنان في التقاط الصبي و ولاية الحضانة و التعهّد، فإن كان قبل أخذهما له أو حال أخذه،

فقد سبق(2).

و إن قال كلّ واحدٍ منهما: أنا الذي التقطتُه(3) و إلَيَّ حفظه، فإن اختصّ أحدهما باليد و قال الآخَر: إنّه أخذه منّي، فالقول قول صاحب اليد مع يمينه، فإنّها تشهد بقوله.

و إن أقام كلٌّ منهما بيّنةً، فبيّنة الخارج مقدَّمة عندنا، كما في دعوى الملك، فتُقدّم بيّنة الخارج.

و عند الشافعي تُقدَّم بيّنة ذي اليد، فتُقدّم هنا أيضاً(4).

و إن لم يختص أحدهما باليد، فإن لم يكن في يد واحدٍ منهما، فهو كما لو أخذاه معاً و تشاحّا في حفظه، فيجعله الحاكم عند مَنْ يراه منهما أو

ص: 389


1- مختصر القدوري: 134، تحفة الفقهاء 353:3، بدائع الصنائع 199:6، المحيط البرهاني 429:5، الاختيار لتعليل المختار 44:3، الهداية - للمرغيناني - 173:2، حلية العلماء 566:5، البيان 27:7، العزيز شرح الوجيز 418:6، المغني 419:6، الشرح الكبير 416:6.
2- في ص 316، المسألة 412.
3- في الطبعة الحجريّة: «التقطه».
4- العزيز شرح الوجيز 419:6، روضة الطالبين 508:4.

من غيرهما.

و إن كان في أيديهما معاً، فإن حلفا معاً أو نكلا معاً، فالحكم كما لو ازدحما على الأخذ و هُما متساويان و متساويا الحال.

فإن حلف أحدهما دون الآخَر، خُصّ به، سواء كان في يدهما أو لم يكن في يد واحدٍ منهما.

فلو أقام كلّ واحدٍ منهما البيّنةَ على ما يدّعيه، نُظر فإن كانت البيّنتان مطلقتين أو مقيّدتين بتأريخٍ واحد، أو إحداهما مطلقة و الأُخرى مقيّدة، تعارضتا، فإن قلنا بالتساقط - كما هو أحد قولَي الشافعي(1) - فكأنّه لا بيّنة، و إن قلنا بالاستعمال، لم يجئ قول الوقف للشافعيّة و لا قول القسمة، بل قول القرعة(2)، كما نذهب نحن إليه، فيقرع و يُسلّم إلى مَنْ خرجت قرعته بعد اليمين.

و للشافعي في اليمين قولان(1).

و إن قيّدتا بتأريخين مختلفين، حُكم لمن سبق تأريخه؛ لأنّ الثاني إنّما أخذ مَنْ قد ثبت الحقّ فيه لغيره، بخلاف المال - عند الشافعي في أصحّ قولَيه(2) - حيث لا يُحكم بسبق التأريخ فيه؛ لأنه قد ينتقل ذلك عن الأسبق إلى الأحدث، و ليس كذلك الالتقاط؛ فإنّه لا يُنقل اللقيط عن الملتقط ما دامت الأهليّة باقية، فإذا ثبت السبق لزم استمراره.

قال بعض الشافعيّة: هذا إذا قلنا: إنّ مَن التقط لقيطاً ثمّ نبذه لم يسقط حقّه، فإن أسقطناه فهو على القولين في الأموال؛ لأنّه ربما نبذه الأوّل4.

ص: 390


1- البيان 18:8.
2- البيان 19:8، العزيز شرح الوجيز 419:6، روضة الطالبين 508:4.

فالتقطه غيره(1).

و يتفرّع على تقديم البيّنة المتعرّضة للسبق فيما إذا كان اللقيط في يد أحدهما و أقام مَنْ في يده البيّنة و أقام الآخَر البيّنة على أنّه كان في يده انتزعه منه صاحب اليد: تقديم بيّنة مدّعي الانتزاع؛ لإثباتها السبق.

و لو كان أحد المتداعيين مَنْ لا يُقرّ يده على اللقيط، أُقرّ في يد الآخَر، و لم يُلتفت إلى دعوى مَنْ لا يُقرّ اللقيط في يده بحالٍ، و لا إلى بيّنته مطلقاً.

مسألة 458: لو ولدت امرأتان ابناً و بنتاً فادّعت كلّ واحدةٍ منهما أنّ الابن ولدها دون البنت، فحكمه حكم التنازع في الولد

لو لم تكن هناك بيّنة، و ذلك بأن يُقرع بينهما إن ألحقنا الولد بالأُم بمجرّد الدعوى، و إن اعتبرنا التصديق انتظر بلوغه، فإن صدّق إحداهما لحق بها، و إلّا لم يلحق بواحدةٍ منهما.

و للحنابلة وجهان:

أحدهما: أن تُرى المرأتان القافة مع الولدين فيلحق كلّ واحدٍ منهما بمن ألحقته به، كما لو لم يكن لهما ولد.

و الثاني: أن يعرض لبنهما على أهل الطبّ و المعرفة، فإنّ لبن الذكر يخالف لبن الأُنثى في الطبع و الوزن، فقد قيل: إنّ لبن الذكر ثقيل و لبن الأُنثى خفيف، فيعتبران بطباعهما و وزنهما و ما يختلفان به عند أهل المعرفة، فمَن كان لبنها لبن الابن فهو لها و البنت للأُخرى(2).

و لو كان الولدان ذكرين أو أُنثيين، أُقرع عندنا، و عُرضا على القافة

ص: 391


1- العزيز شرح الوجيز 419:6، روضة الطالبين 508:4.
2- المغني 436:6، الشرح الكبير 438:6.

عند العامّة(1).

و قد روي عن أمير المؤمنين عليه السلام في قضاياه أنّ امرأتين تداعيا ولداً و أنّ كلّ واحدةٍ منهما ادّعت أنّها أُمّه، فوعظهما عليه السلام فلم ترجعا فأمر قنبراً بإحضار منشارٍ، فقالتا له عليه السلام: ما تصنع بالمنشار يا أمير المؤمنين ؟ فقال عليه السلام:

«أنشره بنصفين فأُعطي كلّ واحدةٍ منكما نصفَه» فرضيت إحداهما و بكت الأُخرى و قالت: يا أمير المؤمنين إذا كان الحال كذلك سلّمه إليها، فحكم لها به(2).

مسألة 459: لو ادّعى اللقيطَ رجلان، فقال أحدهما: هذا ابني، و قال الآخَر: إنّه بنتي، نُظر فإن كان ابناً فهو لمدّعيه، و إن كانت بنتاً فهي لمدّعيها؛

لأنّ كلّ واحدٍ لا يستحقّ غير ما ادّعاه.

و لو ظهر خنثى مشكلاً، أُقرع بينهما إن لم تكن بيّنة.

و لو أقام كلٌّ منهما بيّنةً بما ادّعاه، فالحكم فيه كالحكم فيما لو انفرد كلّ واحدٍ منهما بالدعوى.

و عند أحمد يُرى القافة مع عدم البيّنة - و هو قول الشافعي - لعدم أولويّة تقديم قول أحدهما على الآخَر؛ لتساويهما في الدعوى(3).

مسألة 460: لو وطئ رجلان امرأةً واحدة في طهرٍ واحد، فإن كانا زانيين، فلا حرمة لمائهما، و لا يلتحق الولد بأحدهما.

و إن كان أحدهما زانياً، فالولد للآخَر؛ لقوله عليه السلام: «الولد للفراش،

ص: 392


1- المغني 436:6، الشرح الكبير 438:6.
2- راجع: الإرشاد - للمفيد - 204:1-205، و مناقب آل أبي طالب - لابن شهرآشوب - 367:2.
3- المغني 436:6، الشرح الكبير 438:6، و راجع: الهامش (2) من ص 372.

و للعاهر الحجر»(1).

و لو لم يكونا زانيين بأن يطئا جاريةً مشتركة بينهما في طهرٍ واحد أو يطأ رجل امرأةً أُخرى لشبهةٍ في طهرٍ وطئها زوجها فيه، أو وطئ جارية الآخَر بشبهة أنّها زوجته أو أمته في طهرٍ وطئها سيّدها فيه بأن يجدها على فراشه فيظنّها زوجته أو أمته، أو يدعو زوجته أو أمته في ظلمةٍ فتجيبه زوجة الآخَر أو جاريته، أو يتزوّجها كلٌّ منهما تزويجاً فاسداً و لا يعرفان فساده، أو يكون نكاح أحدهما صحيحاً و نكاح الآخَر فاسداً بأن يقع في العدّة و لم يعلم، فإنّ الحكم فيه عندنا بالقرعة؛ لأنّه أمر مشكل.

و عند الشافعيّة و أحمد يُعرض على القافة(2).

البحث الرابع: في رقّ اللّقيط و حُرّيّته.
اشارة

اللّقيط إمّا أن يُقرّ على نفسه بالرقّ في وقت اعتبار الإقرار، أو لا يُقرّ، و على التقدير الثاني فإمّا أن يدّعي رقّه مُدّعٍ، أو لا يدّعيه أحد، فإن ادّعاه فإمّا أن يقيم عليه بيّنةً، أو لا يقيم، فالأقسام أربعة.

ص: 393


1- صحيح البخاري 205:8، صحيح مسلم 1080:2 و 1457/1081 و 1458، سنن ابن ماجة 2006/647:1 و 2007، سنن أبي داوُد 282:2 و 2273/283 و 2274، سنن الترمذي 1157/463:3، سنن النسائي 180:6 و 181، سنن الدارمي 389:2، سنن الدارقطني 40:3-166/41، سنن البيهقي 157:7 و 402 و 412.
2- الحاوي الكبير 380:17، المهذّب - للشيرازي - 121:2، الوسيط 456:7-457، الوجيز 273:2، حلية العلماء 216:7، التهذيب - للبغوي - 347:8، البيان 382:10، العزيز شرح الوجيز 298:13، روضة الطالبين 376:8، المغني 436:6-437، الشرح الكبير 441:6.
القسم الأوّل: أن لا يُقرّ و لا يدّعي رقّه أحد، فهو على أصالة الحُرّيّة؛
اشارة

لأنّ الآدمي خُلق لتسخير غيره، لا ليُسخّره غيره، و لأنّ الأغلب على الناس الحُرّيّة، فإلحاقه بالأغلب أولى، و أيضاً الأحرار هُمْ أهل الدار، و الأرقّاء مجلوبون إليها ليسوا من أهلها، فكما نحكم بالإسلام بظاهر الدار نحكم بالحُرّيّة.

و بعض الشافعيّة لا يجزم بالإسلام، و يذهب إلى التوقّف، و ذلك التردّد يجري في الحُرّيّة عنده، بل هي أولى بالتردّد من الإسلام؛ لقوّة الإسلام و اقتضائه الاستتباع، و لذلك يتبع الولد أيَّ الأبوين كان في الإسلام، دون الحُرّيّة، و يتبع السابي في الإسلام - عند جماعةٍ - دون الحُرّيّة.

ثمّ فصّل فقال: نجزم بالحُرّيّة ما لم ينته الأمر إلى إلزام الغير شيئاً، فإذا انتهى إليه تردّدنا ما لم يعترف الملتزم بحُرّيّته، فيخرج من ذلك أنّا نحكم له بالملك فيما يصادفه معه جزماً، و إذا أتلفه عليه متلف، أخذنا العوض منه و صرفناه إليه؛ لأنّ المال المعصوم مضمون على المتلف، فليس أخذ الضمان و العوض بسبب الحُرّيّة حتى يقع التردّد فيه، فإن أخذناه فلا غرض للمتلف في أن يصرفه إلى اللقيط أو لا يصرفه، و يكون ميراثه لبيت المال، و أرش جنايته فيه(1) ، و عندنا للإمام.

و إذا قُتل اللّقيط، ففي القصاص للشافعيّة وجهان تقدّما(2) ، فمَنْ لا يجزم بحُرّيّته و إسلامه لا يوجب القصاص على الحُرّ المسلم بقتله، و يوجبه على الرقيق الكافر؛ و مَنْ يجزم بالحُرّيّة و الإسلام من الشافعيّة يُخرِّج وجوبَ القصاص بكلّ حالٍ على قولين، بناءً على أنّه ليس له وارث

ص: 394


1- العزيز شرح الوجيز 420:6-421، روضة الطالبين 509:4.
2- في ص 358، المسألة 440.

معيّن(1).

و إذا قُتل خطأً، فالواجب الدية في أظهر الوجهين؛ أخذاً بظاهر الحُرّيّة، و أقلّ الأمرين من الدية أو القيمة في الثاني؛ بناءً على أنّ الحُرّيّة غير متيقّنةٍ، فلا يؤخذ الجاني بما لا يتيقّن شغل ذمّته به(2).

و قال الجويني: قياس هذا أن نوجب له الأقلّ من قيمة عبدٍ أو دية مجوسيٍّ؛ لإمكان الحمل على التمجّس(3).

مسألة 461: قد بيّنّا أنّ اللقيط إن التُقط في دار الإسلام كان حُرّاً،

بناءً على الدار، فإنّها دار الإسلام، و الأصل فيه الحُرّيّة، و هو قول عامّة أهل العلم، إلّا النخعي(1).

قال ابن المنذر: أجمع عوام أهل العلم على أنّ اللقيط حُرٌّ، روينا ذلك عن عليٍّ عليه السلام و عمر بن الخطّاب، و به قال عمر بن عبد العزيز و الشعبي و الحكم و حمّاد و مالك و الثوري و الشافعي و أحمد و إسحاق و أصحاب الرأي و مَنْ تبعهم(2).

للأصل، فإنّ اللّه تعالى خلق آدم عليه السلام و ذرّيّته أحراراً، و إنّما الرقّ لعارضٍ، فإذا لم يُعلم ذلك العارض فله حكم الأصل.

و قال النخعي: إن التقطه الملتقط للحسبة، فهو حُرٌّ، و إن كان يعزم أنّه يسترقّه، فذلك له(3).

و هو قولٌ شاذّ لم يصر إليه أحد من العلماء، و لا يصحّ في النظر؛

ص: 395


1- المغني و الشرح الكبير 403:6.
2- الإشراف على مذاهب أهل العلم 163:2، و عنه في المغني و الشرح الكبير 403:6.
3- المغني 403:6، الشرح الكبير 403:6-404.

لأصالة الحُرّيّة.

فإن التقط في دار الحرب و لا مسلم فيها، قال علماؤنا: إنّه يكون رقّاً.

و الأقرب عندي: الحكم بحُرّيّته؛ عملاً بالأصل، لكن تتجدّد الرقّيّة عليه بالاستيلاء عليه؛ لأنّه كافر تبعاً للدار الخالية من مسلمٍ واحد.

مسألة 462: لو قذف أحدٌ اللقيطَ، فإن كان اللقيط صغيراً عُزّر.

و إن كان بالغاً، فإن اعترف القاذف بحُرّيّته حُدّ قطعاً.

و إن ادّعى رقّه، فإن صدّقه اللقيط سقط الحدّ، و وجب التعزير؛ لأنّه الواجب في قذف العبيد، لأنّ المستحقّ أقرّ بسقوط الحدّ.

و إن كذّبه اللقيط و قال: إنّي حُرٌّ، فالقول قوله؛ لأنّه محكوم بحُرّيّته، فقوله موافق للظاهر، و أوجبنا له القصاص على الحُرّ، بناءً على الظاهر، و الأُمور الشرعيّة منوطة بالظاهر، فيثبت الحدّ، كثبوت القصاص، و هو أحد قولَي الشيخ رحمه الله.

و قال في الآخَر: لا يُحدّ، بل يُعزَّر؛ لأنّ الحكم بالحُرّيّة غير معلومٍ، بل هو بالبناء على الظاهر، و هو محتمل للنقيض، فيحصل الاشتباه الموجب لسقوط الحدّ، فإنّ الحدّ يُدرأ بالشبهات، بخلاف القصاص لو ادّعى الجاني أنّه عبد؛ لأنّ القصاص ليس بحدٍّ، و إنّما وجب حقناً للآدميّ(1).

و أصحّ قولَي الشافعيّة عندهم: الأوّل؛ لأنّ الأصل الحُرّيّة، فيُحدّ القاذف، إلّا أن يقيم بيّنةً على الرقّ، و هو قول المزني.

و الثاني: أصالة البراءة، و تصديق قول القاذف؛ لاحتمال أن يكون

ص: 396


1- راجع: المبسوط - للطوسي - 347:3.

رقيقاً، فلا يقطع بثبوت حقٍّ في الذمّة بأمرٍ محتمل(1).

و قطع بعض الشافعيّة بالقول الأوّل؛ لأنّه محكوم بحُرّيّته بظاهر الدار، و حمل القول الثاني على مجهولٍ لم تُعلم حُرّيّته بالدار(2).

مسألة 463: لو قطع حُرٌّ طرفه و ادّعى رقّه، و ادّعى اللقيط الحُرّيّة، اقتصّ من الجاني، و صُدِّق اللقيط؛ للأصل.

و للشافعيّة طريقان:

أحدهما: إجراء القولين تخريجاً لقول المنع من القصاص ممّا ذكر في اللعان، فإنّ الشافعي قال فيه: إنّه يُحكم بقول القاذف: إنّه رقٌّ، لا بدعواه الحُرّيّة، و الآخَر منصوص.

و الثاني: القطع بالوجوب(3).

و قد فرّق القائلون بأمرين:

أ: بتصديق القاذف بأنّ المقصود من الحدّ الزجر، و في التعزير الذي يُعدل إليه من الحدّ ما يحصّل بعض هذا الغرض، و المقصود من القصاص التشفّي و المقابلة، و ليس في المال المعدول إليه من الحدّ ما يحصّل هذا الغرض.

و هو ممنوع؛ لأنّ بعض غرض التشفّي يحصل بالإضرار له في أخذ ماله.

ص: 397


1- مختصر المزني: 137، الحاوي الكبير 51:8، المهذّب - للشيرازي - 445:1، الوجيز 259:1، حلية العلماء 569:5-570، التهذيب - للبغوي - 573:4-574، البيان 40:8، العزيز شرح الوجيز 436:6، روضة الطالبين 518:4.
2- العزيز شرح الوجيز 436:6، روضة الطالبين 518:4.
3- المهذّب - للشيرازي - 445:1، حلية العلماء 570:5، البيان 40:8، العزيز شرح الوجيز 436:6، روضة الطالبين 518:4.

ب: إنّ التعزير الذي يُعدل إليه متيقّن؛ لأنّه بعض الحدّ، فالعدول إليه عدولٌ من ظاهرٍ أو مشكوكٍ إلى متيقّنٍ، و إذا أسقطنا القصاص عدلنا إلى نصف الدية أو القيمة، و ذلك مشكوك فيه؛ لأنّ الحُرّيّة شرط وجوب الدية، و الرقّ شرط [وجوب] القيمة، فكان ذلك عدولاً من ظاهرٍ أو مشكوكٍ فيه إلى غير مشكوكٍ فيه، و لأنّ حدّ القذف أقرب سقوطاً بالشبهة من القصاص، فلذلك افترقا(1).

مسألة 464: لو قذف اللقيط محصناً و اعترف بأنّه حُرٌّ، حُدَّ حَدّ الأحرار؛

عملاً بمقتضى إقراره، و إن ادّعى أنّه رقيق و صدّقه المقذوف، حُدّ حَدّ العبيد، و إن كذّبه فالأقرب: وجوب الثمانين عليه؛ عملاً بأصالة الحُرّيّة.

و للشافعي قولان في أنّه يُحدّ حدّ العبيد أو حدّ الأحرار؟

و بنى أصحابه الأوّلَ على قبول إقراره مطلقاً، و الثاني على أنّه إنّما يُقبل فيما يضرّه، لا فيما ينفعه، و هُما على القولين فيما إذا ادّعى قاذف على اللقيط رقّه، إن صدّقناه صدّقنا اللقيط هنا، و إلّا فلا(2).

و لبعضهم وجهٌ آخَر: إنّه إن أقرّ لمعيّنٍ قُبِل إقراره، وحُدّ حدّ العبيد، و إن لم يعيّن حُدّ حدّ الأحرار(3).

إذا عرفت هذا، فقد حصل للشافعيّة ثلاثة أوجُه، فيقال: إن لم نوجب الدية في قتله فالقصاص أولى. و إن أوجبناها ففي القصاص وجهان؛ لسقوطه بالشبهة، فثالث الوجوه: وجوب الدية دون القصاص(2).

ص: 398


1- المهذّب - للشيرازي - 445:1، البيان 40:8-41، العزيز شرح الوجيز 436:6، و ما بين المعقوفين أثبتناه من العزيز شرح الوجيز. (2 و 3) العزيز شرح الوجيز 437:6، روضة الطالبين 518:4.
2- العزيز شرح الوجيز 421:6.
القسم الثاني: أن يدّعي رقَّ اللقيط و لا بيّنة.
اشارة

و لنقدّم عليه مقدّمةً، و هي: إنّ كلّ مَن ادّعى رقّيّة صغيرٍ في يده و لا تُعلم حُرّيّته، فإنّه تُسمع دعواه؛ لإمكانها إذا كانت غير اليد التي عرفنا استنادها إلى التقاط المنبوذ.

فإن كانت اليد هي يد اللقطة، لم يُحكم برقّه، و كان الحكم الأصل فيه الحُرّيّة - و هو أصحّ قولَي الشافعي(1) - و يحتاج الملتقط في دعوى الرقّيّة إلى البيّنة؛ لأصالة الحُرّيّة، فلا يخالف بمجرّد الدعوى.

و الثاني للشافعي: إنّه يُقبل قول الملتقط، و يُحكم له بالرقّ، كما في يد غير الالتقاط، و كما لو التقط مالاً و ادّعى أنّه لا منازع له فيه، فإنّه يُقبل قوله، و يصحّ شراؤه منه(2).

و الفرق ظاهر؛ فإنّ اليد إذا كانت عن الالتقاط، يُعرف حدوثها لا بسبب الملك؛ لما بيّنّا من أصالة الحُرّيّة، و لم تظهر يد تدلّ على خلافها، و أمّا يد غير اللقطة فإنّها تقضي بالملكيّة؛ لأنّ الظاهر أنّ مَنْ في يده شيء و هو متصرّف فيه تصرّفَ السادات في العبيد فإنّه ملكه، و لم يُعرف حدوثها بسببٍ لا يقتضي الملك، و أمّا المال الملقوط فإنّه يُحكم للملتقط به إذا ادّعى ملكيّته؛ لأنّ المال في نفسه مملوك، و ليس في دعوى ملكيّته إخراج له عن صفة المال، و أمّا اللقيط فإنّه حُرٌّ ظاهراً، و في دعواه تغيير هذه الصفة، فافترقا، فلا يجوز القياس.

و إن كانت اليد غير يد اللقطة، حُكم لصاحبها بالرقّ إذا ادّعاه، بناءً على الظاهر الذي سبق.

ص: 399


1- العزيز شرح الوجيز 422:6، روضة الطالبين 510:4.
2- العزيز شرح الوجيز 422:6، روضة الطالبين 510:4.

و لا فرق بين أن يكون الصبي مميّزاً أو غير مميّزٍ، و لا بين أن يكون مُقرّاً أو منكراً؛ إذ لا عبرة بكلام الصبي و لا بإقراره و لا بإنكاره، و هو أصحّ وجهي الشافعيّة.

و الثاني: إنّه إن كان مميّزاً منكراً، افتقر مدّعي رقّيّته إلى بيّنةٍ؛ لأنّ لكلامه حكماً و اعتباراً في الجملة(1).

قال بعض الشافعيّة: الوجهان مبنيّان على الوجهين في المولود إذا ادّعاه اثنان و لا قائف هل يؤمر بالانتساب لسنّ التمييز، أم ينتظر إلى أن يبلغ ؟ و في أنّ الخنثى المشكل هل يراجع لسنّ التمييز، أم ينتظر إلى أن يبلغ ؟(1).

ثمّ يحلف المدّعي و الحالة هذه؛ لخطر شأن الحُرّيّة.

و هل التحليف واجب أو مستحبّ؟ للشافعيّة قولان، و يُحكى الوجوب عن نصّ الشافعي(3).

مسألة 465: لو بلغ الصغير

مسألة 465: لو بلغ الصغير(2) و قال: أنا حُرٌّ، فإن كان المدّعي الملتقطَ، فالقول قوله مع اليمين؛

لأصالة الحُرّيّة فيه، و إن كان مدّعي رقّه غيرَ الملتقط و هو صاحب يدٍ و حكمنا له بالرقّيّة أوّلاً، كان القول قولَ المدّعي، و لا يُقبل قول الصغير، إلّا أن يقيم بيّنةً على الحُرّيّة؛ لأنّا قد حكمنا برقّه في حال الصغر، فلا يرفع ذلك الحكم إلّا بحجّةٍ، لكن له تحليف المدّعي، و هو أحد قولَي الشافعيّة.

و الثاني: إنّه يُقبل قوله، إلّا أن يقيم مدّعي الرقّ بيّنةً على رقّه؛ لأنّ

ص: 400


1- العزيز شرح الوجيز 422:6.
2- في الطبعة الحجريّة: «الصبي» بدل «الصغير».

الحكم بالرقّ إنّما جرى حين لا قول له و لا منازعة، فإذا صار معتبر القول فلا بدّ من إقراره أو البيّنة عليه، كما لو ادّعى مُدّعٍ رقَّ بالغٍ.

و هُما كالوجهين فيما إذا التحق صغيراً فبلغ و أنكر.

و الوجهان في المسألتين مبنيّان على القولين في مَنْ حُكم بإسلامه بأحد أبويه أو بالسابي ثمّ بلغ و أعرب بالكفر يُجعل مرتدّاً أو كافراً أصليّاً و يقال: إنّه الآن صار من أهل القول فيُرجع إلى قوله و لا يُنظر إلى ما حكمنا به من قبلُ؟(1).

مسألة 466: لو ادّعى رقَّ اللقيط أو غيره من الصغار المجهولي النسب مدّعٍ و لا يد له عليه، لم تُقبل دعواه، إلّا بالبيّنة؛

لأنّ الظاهر الحُرّيّة، فلا يُترك إلّا بحجّةٍ.

أمّا لو ادّعى نسبه، فإنّه يُقبل و إن لم يكن له عليه يد إذا لم يدّعه أحد.

و الفرق: إنّ في دعوى النسب و قبولها مصلحةً للطفل و إثباتَ حقٍّ له، و هنا في القبول إضرار به و إثبات رقّه عليه؛ لأنّه لا نسب له في الظاهر، فليس في قبول قول المدّعي ترك أمرٍ ظاهر، و الحُرّيّة محكوم بها ظاهراً.

و لو كان له عليه يد فادّعى رقّيّته، فقد بيّنّا أنّه يُحكم له بها إذا لم يكن ملتقطاً على الخلاف، فإن بلغ الصغير و أقرّ بالرقّ لغير صاحب اليد، لم يُقبل.

و إن رأى صغيراً في يد إنسانٍ يأمره و ينهاه و يستخدمه هل له أن يشهد بالملك ؟ للشافعيّة وجهان(2).

ص: 401


1- العزيز شرح الوجيز 422:6-423.
2- العزيز شرح الوجيز 423:6، روضة الطالبين 510:4.

و قال بعضهم: إن سمعه يقول: هو عبدي، أو سمع الناس يقولون:

إنّه عبد، شهد بالملك، و إلّا فلا(1).

و لو كانت صغيرة في يد إنسانٍ فادّعى نكاحها، فبلغت و أنكرت، قُبل قولها، و احتاج المدّعي إلى البيّنة.

و لا يُحكم في الصغر بالنكاح، و هو أصحّ وجهي الشافعيّة(2).

و الفرق بينه و بين الملك أنّ اليد في الجملة دالّة على الملك، و يجوز أن يولد المولود و هو مملوك، و لا يجوز أن تُولد و هي منكوحة، فالنكاح طارئ بكلّ حالٍ، فافتقر إلى البيّنة.

و الثاني لهم: إنّه يُحكم بالزوجيّة قبل البلوغ(3).

القسم الثالث: أن يقيم مدّعي رقّه بيّنةً.
اشارة

إذا ادّعى مدّعٍ رقَّ الصغير الملقوط أو المجهول نسبه و أقام بيّنةً، فلا يخلو إمّا أن تشهد البيّنة باليد أو بالملك أو بالولادة، فإن شهدت بالملك أو اليد، لم يُقبل فيه إلّا شهادة رجلين أو رجل و امرأتين، و إن شهدت بالولادة، قُبلت شهادة المرأة الواحدة أو الرجل الواحد؛ لأنّه ممّا لا يطّلع عليه الرجال.

و حيث يحتاج مدّعي الرقّ إلى البيّنة فالأقرب: سماع الشهادة بالملك مطلقاً أو الرقّ مطلقاً و الاكتفاء بهذه الشهادة في ثبوت الملك المطلق و الرقّيّة المطلقة، كما لو شهدت البيّنة على الملك في دارٍ أو دابّةٍ و شبههما، فإنّه يكفي الإطلاق، كذا هنا.

و هو أحد قولَي الشافعي، و اختاره المزني، و ذكره الشافعي في

ص: 402


1- العزيز شرح الوجيز 423:6، روضة الطالبين 510:4.
2- العزيز شرح الوجيز 423:6، روضة الطالبين 511:4.
3- العزيز شرح الوجيز 423:6، روضة الطالبين 511:4.

الدعاوي و البيّنات و في القديم.

و الثاني - و هو الذي ذكره في كتاب اللقيط -: إنّه لا يكتفى بها؛ لأنّا لا نأمن أن يكون قد اعتمد الشاهد على ظاهر اليد و تكون اليد يدَ التقاطٍ، و إذا احتُمل ذلك و اللقيط محكوم بحُرّيّته بظاهر الدار، فلا يزال ذلك الظاهر إلّا عن تحقيقٍ، و يخالف سائر الأموال؛ لأنّ أمر الرقّ خطير(1).

و ليس بجيّدٍ؛ لأنّ قيام البيّنة على مطلق الملك ليس بأقلّ من دعوى غير الملتقط رقّيّة الصغير في يده، فإذا اكتفينا به جاز أن يكتفى بالبيّنة على الملك المطلق.

و للشافعيّة قولٌ ثالث: إنّه لا تُقبل من الملتقط البيّنة على الملك المطلق أو الرقّيّة المطلقة، و تُقبل من غيره؛ لسقوط الخيال الذي قيل في الملتقط من جواز استناد البيّنة إلى يد اللقطة(2).

مسألة 467: و لو شهدت البيّنة باليد عقيب ادّعائه الرقّيّة، فإن كانت يدَ الملتقط، لم يثبت بها ملكه؛

لأنّا عرفنا سبب يده، و لأنّا لو شاهدناه تحت يده و هو ملتقط و ادّعى رقّيّته لم يثبت فكيف إذا شهد له بيد الالتقاط.

أمّا لو كانت يدَ أجنبيٍّ، فإنّه يُحكم له باليد، و القول قوله مع يمينه في الملك.

و إن شهدت له البيّنة بالولادة، فإن شهدت له أنّ مملوكته ولدته، أو أنّه ابن مملوكته، فإن ضمّت إلى ذلك أنّها ولدته مملوكاً له أو أنّها ولدته في ملكه، حُكم له بالملك قطعاً.

و إن اقتصرت البيّنة على أنّ مملوكته ولدته، أو أنّه ابن مملوكته و لم تضمّ إليه شيئاً، فالأقرب: الاكتفاء بذلك؛ إذ الغرض بذلك العلمُ بأنّ

ص: 403


1- الوجيز 258:1، العزيز شرح الوجيز 424:6، روضة الطالبين 511:4.
2- الوجيز 258:1، العزيز شرح الوجيز 426:6، روضة الطالبين 511:4.

شهادتهم لم تستند إلى ظاهر اليد، و قد حصل هذا الغرض، و لأنّ الغالب أنّ ولد أمته ملكه، و هو أظهر قولَي الشافعي.

و الثاني: عدم الاكتفاء؛ لأنّه قد يكون ابن مملوكته و لا يكون مملوكاً له، كما لو اشترى جاريةً كانت قد ولدت في ملك غيره أولاداً له أو ولدت في ملكه ولداً يكون ملكاً لغيره إمّا بأن يشترطه مولى الأب، أو لم يكن مولاه قد أذن له في النكاح، و قد تلد حُرّاً بالشبهة و الغرور، و قد يكون الولد مملوكاً لغيره بالوصيّة بأن يوصي لزيدٍ بما تلد أمته ثمّ مات، فالمملوكة للورثة، و الولد للموصى له، و هو كثير النظائر(1).

مسألة 468: إذا لم يُكتف بالبيّنة المطلقة، فلا بدّ للشهود من تعرّضهم لسبب الملك من الإرث أو الشراء أو الاتّهاب و نحوه،

فلو شهدت البيّنة بأنّ أمته ولدته في ملكه، فالأقرب على هذا القول: عدم الاكتفاء؛ لأنّه قد تلد أمته في ملكه حُرّاً أو مملوكاً للغير على ما تقدّم، و هو أظهر قولَي الشافعي، و الثاني: الاكتفاء بهذا(2).

هذا على تقدير عود قوله: «في ملكه» إلى المولود، لا إلى الولادة، و لا إلى الوالدة، و حينئذٍ فلا فرق بينه و بين قوله: «ولدته مملوكاً له» و يكون قوله: «في ملكه» بمثابة قول القائل: «ولدته في مشيمته».

و على القولين تُقبل هذه الشهادة من رجلٍ و امرأتين؛ لأنّ الغرض إثبات الملك.

و لو اكتفينا بالشهادة على أنّه ولدته أمته، فيُقبل فيه أربع نساء أيضاً؛ لأنّها شهادة على الولادة، ثمّ يثبت الملك في ضمنها، كما يثبت النسب في

ص: 404


1- العزيز شرح الوجيز 425:6، روضة الطالبين 511:4.
2- العزيز شرح الوجيز 425:6، روضة الطالبين 511:4.

ضمن الشهادة على الولادة، و ذكر الملك لا يمنع من ثبوت الولادة، ثمّ يثبت الملك ضمناً، لا بتصريحهنّ.

مسألة 469: قد بيّنّا أنّه لو شهدت البيّنة لمدّعي الرقّ باليد، فإن كان المدّعي الملتقطَ لم يُحكم له، و إن كان غيره حُكم.

و للشافعي في الحكم للغير قولان(1).

و لو أقام الغير المدّعي البيّنةَ على أنّه كان في يده قبل أن التقطه الملتقط، قُبلت بيّنته، و ثبتت يده، ثمّ يُصدّق في دعوى الرقّ؛ لأنّ صاحب اليد على الصغير إذا لم يُعرف أنّ يده عن التقاطٍ يُصدَّق في دعوى الرقّ.

و لو أقام الملتقط بيّنةً على أنّه كان في يده قبل التقاطه، فالأقوى:

الحكم له بدعوى الرقّيّة له؛ لما تقدّم، و انضمام الالتقاط لا ينافي دعواه و لا ينافي يده أوّلاً.

و للشافعي قولان، هذا أحدهما، و الثاني: إنّه لا تُسمع دعوى الملتقط في رقّه و لا بيّنته حتى يقيم البيّنة على سبب الملك؛ لأنّه إذا اعترف بأنّه التقطه فكأنّه أقرّ بالحُرّيّة ظاهراً، فلا تُزال إلّا عن تحقيقٍ(2).

و ليس بشيءٍ.

القسم الرابع: أن يُقرّ اللقيط على نفسه بالرقّ، و إنّما نحكم عليه بإقراره لو كان بالغاً عاقلاً،
اشارة

فإذا أقرّ اللقيط أو غيره من البالغين العقلاء الذين لا تُعرف حُرّيّتهم و لا ادّعاها أحدهم أوّلاً أنّه مملوك، حُكم عليه بمقتضى إقراره؛ لقوله عليه السلام: «إقرار العقلاء على أنفسهم جائز».

ص: 405


1- العزيز شرح الوجيز 425:6، روضة الطالبين 512:4.
2- العزيز شرح الوجيز 425:6-426، روضة الطالبين 513:4.

فإن كذّبه المُقرّ له، لم يثبت الرقّ عند الشيخ(1) ، و به قال الشافعي(2).

و يحتمل ثبوت الرقّيّة المجهولة المالك.

فإن عاد المُقرّ له فصدّقه، لم يلتفت إليه عند الشيخ(3) و الشافعي(4)؛ لأنّه لمّا كذّبه ثبتت حُرّيّته بالأصل، فلا يعود رقيقاً.

و الملازمة الأُولى ممنوعة؛ لما بيّنّاه من ثبوت الرقّيّة المطلقة، فمَن ادّعاها حُكم له بها؛ إذ لا فرق بين العبد و المال في ذلك.

هذا إذا لم يسبق من اللقيط ما ينافي إقراره.

و للشافعي قولٌ آخَر: إنّه لا يُقبل إقراره و إن صدّقه المُقرّ له؛ لأنّه محكوم بحُرّيّته بالدار فلا يُنقض، كما أنّ المحكوم بإسلامه بظاهر الدار إذا أعرب بالكفر لا ينقض ما حُكم به في قولٍ، بل يجعل مرتدّاً(5).

و ليس بشيءٍ؛ لأنّ الحكم بحُرّيّته إنّما هو ظاهر، و ظاهر إقراره أقوى من ظاهريّة الدار؛ لأنّه كالبيّنة بل أقوى، و إنّما لم نحكم بالكفر إذا أعرب به احتفاظاً بالدين.

مسألة 470: لو أقرّ اللقيط بعد بلوغه و رشده بأنّه حُرٌّ ثمّ أقرّ بالعبوديّة، لم يُقبل؛

لأنّه بالإقرار الأوّل التزم أحكام الأحرار في العبادات و غيرها، فلم يملك إسقاطها، و لأنّ الحكم بالحُرّيّة بظاهر الدار قد تأكّد بإعرابه عن نفسه، فلا يُقبل منه ما يناقضه، كما لو بلغ و أعرب عن نفسه بالإسلام ثمّ وصف الكفر لا يُقبل، و يُجعل مرتدّاً، و لأنّه اعترف بالحُرّيّة، و هي حقٌّ للّه تعالى، فلا يُقبل رجوعه في إبطالها، و به قال الشافعي

ص: 406


1- راجع: المبسوط - للطوسي - 352:3.
2- العزيز شرح الوجيز 427:6، روضة الطالبين 513:4.
3- راجع: المبسوط - للطوسي - 352:3.
4- العزيز شرح الوجيز 427:6، روضة الطالبين 513:4.
5- العزيز شرح الوجيز 427:6، روضة الطالبين 513:4.

و أحمد(1).

و قطع بعض الشافعيّة بالقبول؛ تشبيهاً بما إذا أنكرت المرأة الرجعةَ ثمّ أقرّت، و لأنّه لو قال: هذا ملكي، ثمّ أقرّ به لغيره يُقبل(2).

مسألة 471: إذا ادّعى رجل رقّيّة اللقيط بعد بلوغه، كُلّف إجابته،

فإن أنكر و لا بيّنة للمدّعي، لم تُقبل دعواه، و كان القولُ قولَ اللقيط مع يمينه، و إن كان له بيّنة حُكم بها، فإن لم يكذّبه بل صدّق اللقيط المدّعي لرقّه، حُكم عليه بمقتضى إقراره على ما تقدّم - و به قال أصحاب الرأي(3) - لأنّه مجهول الحال أقرّ بالرقّ، فيُقبل، كما لو قدم رجلان من دار الحرب فأقرّ أحدهما للآخَر بالرقّ، و كما لو أقرّ بقصاصٍ أو حدٍّ، فإنّه يُقبل و إن تضمّن ذلك فوات نفسه.

و قال ابن المنذر و أبو القاسم و الشافعي في أحد الوجهين، و أحمد:

لا يُقبل إقراره؛ لأنّه مبطلٌ به حقَّ اللّه تعالى في الحُرّيّة المحكوم بها، فلم يصح، كما لو كان قد أقرّ قبل ذلك بالحُرّيّة، و لا نّه حال الطفوليّة لا يُعلم رقّه و لم يتجدّد له رقٌّ بعد التقاطه، فكان إقراره بالرقّيّة باطلاً(4).

و قد سبق(5) الجواب.

مسألة 472: لو أقرّ بعد بلوغه و رشده بالرقّ لزيدٍ فكذّبه زيد

فأقرّ

ص: 407


1- العزيز شرح الوجيز 427:6-428، روضة الطالبين 513:4، المغني 438:6، الشرح الكبير 421:6.
2- العزيز شرح الوجيز 428:6، روضة الطالبين 513:4.
3- المغني 438:6، الشرح الكبير 421:6.
4- المغني 438:6-439، الشرح الكبير 422:6.
5- في ص 406، ذيل القسم الرابع.

لعمرو، حُكم عليه بالرقّيّة لعمرو، كما لو أقرّ بمالٍ لزيدٍ فكذّبه زيد فأقرّ لعمرو به، و لأنّ احتمال الصدق في الثاني قائم، فوجب قبوله، و هو قول بعض الشافعيّة(1).

و المنصوص لهم عن الشافعي: المنع؛ لأنّ إقراره الأوّل تضمّن نفي الملك لغيره، فإذا ردّ المُقرّ له خرج عن كونه مملوكاً أيضاً، فصار حُرّاً بالأصل، و الحُرّيّة مظنّة حقوق اللّه تعالى و العباد، فلا سبيل إلى إبطالها بالإقرار الثاني(2).

و ليس بجيّدٍ؛ لأنّ إقراره الأوّل تضمّن الشيئين: الرقّيّة المطلقة، و إسنادها إلى زيدٍ، و لا يلزم من إبطال الثاني إبطال الأوّل، و إذا حُكم عليه بالرقّيّة المطلقة قبل إضافتها إلى عمرو، كما نقول في المال، فإنّ ما ذكره بعينه آتٍ فيه، و لا مخلص إلّا ما قلناه.

مسألة 473: إذا بلغ اللقيط رشيداً و وُجد منه بعد ذلك تصرّفات يستدعي نفوذها الحُرّيّة،

كالبيع و النكاح و غيرهما، ثمّ أقرّ على نفسه بأنّه رقٌّ، فإن قامت البيّنة برقّه نقضت تصرّفاته؛ لأنّه قد ظهر فسادها حيث تصرّف بغير إذن سيّده، و إن لم تكن بيّنة لكن أقرّ، فإن كان قد اعترف قبل الإقرار بالرقّيّة بأنّه حُرٌّ لم يُقبل إقراره بالرقّيّة.

ص: 408


1- الحاوي الكبير 66:8، المهذّب - للشيرازي - 446:1، الوسيط 324:4، التهذيب - للبغوي - 583:4، البيان 46:8، العزيز شرح الوجيز 428:6، روضة الطالبين 513:4.
2- الحاوي الكبير 66:8، المهذّب - للشيرازي - 446:1-447، الوسيط 323:4، التهذيب - للبغوي - 583:4، البيان 46:8، العزيز شرح الوجيز 428:6، روضة الطالبين 513:4.

و قالت الشافعيّة: إن قلنا: إنّه لا يُقبل إقراره بالرقّيّة لو لم يدّع الحُرّيّة أوّلاً، فإقراره بالرقّ هنا لاغٍ مطَّرَح، بل هو أولى بالإبطال. نعم، لو نكح ثمّ أقرّ بالرقّ، فإقراره اعتراف بأنّها محرَّمة عليه، فلا يمكن القول بحلّها، و إن قلنا بالقبول هناك و لا إقرار قبله و لا تصرّف، فقولان، إلّا أنّه لو ثبت الرقّ بالبيّنة و الحالة هذه، نقضت التصرّفات المبنيّة على الحُرّيّة، و تُجعل صادرةً من عبدٍ لم يأذن له السيّد، و يستردّ ما دُفع إليه من الزكاة و الميراث و ما أُنفق عليه من بيت المال، و تُباع رقبته فيها، و إن لم تكن بيّنة، بل إقرار لا غير، أُلزم بما لزمه قبل إقراره.

و في إلزامه بالرقّ للشافعي قولان.

و لأصحابه فيما ذكره طريقان:

أحدهما: إنّ في قبول أصل الإقرار قولين: عدم القبول؛ لأنّه محكوم بحُرّيّته بظاهر الدار، و ثبوته؛ لأنّ ذلك الحكم كان بناءً على الظاهر، فيجوز أن يُغيَّر بالإقرار، كما أنّ مَنْ حُكم بإسلامه بظاهر الدار فبلغ و اعترف بالكفر يُجعل كافراً أصليّاً على الأصحّ.

و أصحّهما عندهم: قبول أصل الإقرار و ثبوت أحكام [الأرقّاء](1) مطلقاً، و تخصيص القولين بأحكام التصرّفات السابقة.

و أحد القولين: القبول في أحكامها أيضاً، سواء كان ممّا يتضرّر به أو ينتفع و يضرّ غيره؛ لأنّه لا تهمة فيه؛ إذ الإنسان لا يرقّ نفسه لإلحاق ضررٍ جرى بالغير، و لأنّ تلك الأحكام فروع الرقّ، فإذا قبلنا إقراره في الرقّ الذيح.

ص: 409


1- بدل ما بين المعقوفين في النُّسَخ الخطّيّة و الحجريّة: «الارقاق». و المثبت هو الصحيح.

هو الأصل، وجب القبول في أحكامه التي هي فروع له.

و أصحّهما: المنع في الأحكام التي تضرّ بغيره، و تخصيص القبول بالأحكام التي تضرّ به، كما لو أقرّ بمالٍ على نفسه و على غيره، فإنّه يُقبل عليه، و لا يُقبل على غيره، و بهذا قال أبو حنيفة(1).

و عن أحمد روايتان(2) كالقولين.

قال بعض الشافعيّة: و هذان القولان مع القبول في أصل الرقّ، كما نقول فيما إذا أقرّ العبد بسرقةٍ توجب القطع و المال في يده، يُقبل إقراره في القطع، و في المال خلاف(3).

و أصحاب هذه الطريقة قالوا: قول الشافعي: «في إلزامه الرقّ قولان» معناه في إلزامه أحكام الرقّ، ففي قولٍ يلزمه الكلّ، و في قولٍ تفصيلٌ على ما يأتي.

قالوا: و أمّا قوله: «ما لزمه قبل الإقرار» ففي بعض الشروح تفسيره بالأحكام التي تلزم الأحرار و العبيد جميعاً(4).

و قال بعض الشافعيّة: لا أُسقط بهذا الإقرار ما لزمه قبله من حقوق الآدميّين(5).

و طرد بعض الشافعيّة قولَ التفصيل بين ما يضرّه و بين ما يضرّ بغيره6.

ص: 410


1- حلية العلماء 572:5-573، التهذيب - للبغوي - 579:4-580، البيان 41:8-42، العزيز شرح الوجيز 428:6-429، روضة الطالبين 513:4، المغني 439:6، الشرح الكبير 422:6.
2- المغني 439:6، الشرح الكبير 422:6، العزيز شرح الوجيز 429:6. (3-5) العزيز شرح الوجيز 429:6.

في المستقبل أيضاً(1).

فخرج من ذلك ثلاثة أقوال:

أحدها: القبول في أحكام الرقّ كلّها ماضياً و مستقبلاً.

و الثاني: تخصيص القبول بما يضرّ به، و المنع فيما عداه ماضياً و مستقبلاً.

و الثالث: تخصيص المنع بما يضرّ بغيره فيما مضى، و القبول فيما عداه.

و الأقوال الثلاثة متّفقة على القبول فيما عليه(2).

و يتفرّع على الخلاف مسائل نذكرها الآن بعون اللّه تعالى.

مسألة 474: إذا بلغ اللقيط و كان أُنثى ثمّ عقدت على نفسها عقد النكاح ثمّ أقرّت بالرقّ،

فعلى ما اخترناه من القبول مطلقاً فهذه جارية نكحت بغير إذن سيّدها، فالنكاح صحيح في حقّ الزوج؛ لأنّه لا يبطل حقّه بمجرّد إقرارها، و يكون فاسداً بالنسبة إليها.

فإن كان قبل الدخول، فلا شيء على الزوج؛ لإقرارها بفساد نكاحها و أنّها أمة تزوّجت بغير إذن سيّدها، و النكاح الفاسد لا يجب المهر فيه إلّا بالدخول.

و إن كان إقرارها بعد الدخول بها، لم يسقط مهرها، و كان عليه الأقلّ من المسمّى أو مهر المثل - و به قال بعض الشافعيّة(1) - لأنّ المسمّى إن كان

ص: 411


1- المهذّب - للشيرازي - 446:1، البيان 43:8.

أقلّ فالزوج ينكر وجوب الزيادة، و قولها غير مقبولٍ في حقّه، و إن كان الأقلّ مهر المثل فهي و سيّدها يُقرّان بفساد النكاح، و أنّ الواجب مهر المثل، فلا يجب أكثر منه.

و قال بعض الشافعيّة: إن قلنا: يُقبل إقرارها فيما يضرّ بالغير، يجب مهر المثل للمُقرّ له، فإن كان قد سلّم إليها المهر استردّه إن كان باقياً، و إلّا رجع عليها بعد العتق(1).

و عن أحمد روايتان:

إحداهما: كما قلنا أوّلاً.

و الثانية: وجوب المسمّى؛ لأنّ النكاح الفاسد يجب فيه المسمّى قلّ أو كثر؛ لاعتراف الزوج بوجوبه(2).

و أمّا الأولاد فإنّهم أحرار؛ لأنّ الزوج ظنّ الحُرّيّة، و لا يثبت الرقّ في حقّ أولادها بإقرارها.

و هل تجب قيمتهم على الزوج ؟ الأقرب: العدم - و به قال أحمد و بعض الشافعيّة(3) - لأنّه لو وجب لوجب بقولها، و لا يجب بقولها حقٌّ على غيرها.

و قال بعض الشافعيّة: بناءً على قبول قولها فيما يضرّ بالغير يجب على الزوج قيمتهم للمُقرّ له، و يرجع عليها بالقيمة إن كانت هي التي غرّته(4).4.

ص: 412


1- المهذّب - للشيرازي - 446:1، التهذيب - للبغوي - 581:4، البيان 43:8، العزيز شرح الوجيز 430:6، روضة الطالبين 513:4-514.
2- المغني 440:6-441، الشرح الكبير 423:6-424.
3- المغني 441:6، الشرح الكبير 424:6، المهذّب - للشيرازي - 446:1، البيان 43:8.
4- المهذّب - للشيرازي - 446:1، التهذيب - للبغوي - 581:4، البيان 43:8، العزيز شرح الوجيز 430:6، روضة الطالبين 514:4.

و في الرجوع بالمهر للشافعيّة قولان(1).

و هل تعتدّ عدّة الإماء بناءً على هذا القول ؟ الأظهر عندهم: ذلك؛ لأنّ عدّة الأمة بعقد النكاح الصحيح قُرءان، و نكاح الشبهة في المحرّمات كالنكاح الصحيح.

و الثاني: إنّه لا عدّة عليها؛ إذ لا نكاح، و لكن تستبرئ بقرءٍ واحد؛ لمكان الوطء(2).

قال الجويني: و يجب طرد هذا التردّد في كلّ نكاحِ شبهةٍ على أمةٍ(3).

مسألة 475: إذا قلنا: لا يُقبل إقرارها فيما يضرّ بالغير، لم يُحكم بانفساخ النكاح، بل يطّرد كما كان.

قال الجويني: و لا فرق بين الماضي و المستقبل هنا، سواء فرّقنا بين الماضي و المستقبل، أو لم نفرّق، فكأنّا نجعل النكاح في حكم المستوفى المقبوض فيما تقدّم، و على هذه القاعدة تبيّنّا أنّ الحُرّ إذا وجد الطول بعد نكاح الأمة لم نقض بارتفاع النكاح بينهما(4).

و استدرك بعض الشافعيّة، فقال: إن كان الزوج ممّن لا يجوز له نكاح الإماء، فيُحكم بانفساخ النكاح؛ لأنّ الأولاد الذين تلدهم في المستقبل أرقّاء، فليس له الثبات عليه(5).

و منع بعضهم من انفساخ النكاح؛ لأنّ شروط نكاح الأمة لا تُعتبر في استدامة العقد، و إنّما تُعتبر في ابتدائه(6).

ص: 413


1- التهذيب - للبغوي - 581:4، العزيز شرح الوجيز 430:6، روضة الطالبين 514:4. (2 و 3) العزيز شرح الوجيز 430:6، روضة الطالبين 514:4. (4-6) العزيز شرح الوجيز 431:6، روضة الطالبين 514:4.

و أطلق أصحاب الشافعي أنّ للزوج خيارَ فسخ النكاح؛ لأنّ حقّه ناقص؛ لحكمنا بالرقّ في الحال و المستقبل(1).

و قال بعضهم: هذا مفروض فيما إذا نكحها في الابتداء على أنّها حُرّة، فإن توهّم الحُرّيّة و لم يَجْر شرطها، فخلاف بينهم يُذكر في موضعه(2).

مسألة 476: إذا قلنا: لا يُقبل الإقرار فيما يضرّ بالغير، فحكم المهر لو أقرّت بالرقّ و أثبتنا للزوج الخيارَ ففسخ النكاح قبل الدخول أنّه لا شيء عليه؛

لظهور فساد العقد، و إن كان بعده فعليه أقلّ الأمرين من المسمّى و مهر المثل؛ لأنّ المسمّى إن كان أقلّ لم يُقبل إقرارها في الزيادة عليه، و إن كان مهر المثل أقلَّ فالمُقرّ له لا يدّعي أكثر منه.

و إن أجاز، قال بعض الشافعيّة: عليه المسمّى، فإن طلّقها بعد الإجازة و قبل الدخول فعليه نصف المسمّى(1).

و يشكل بأنّ المُقرّ له يزعم فساد العقد، فإذا لم يكن دخولٌ وجب أن لا يطالبه بشيءٍ، فإن كان الزوج قد دفع الصداق إليها لم يطالب به مرّةً ثانية.

و أمّا الأولاد منها فالذين حصلوا قبل الإقرار أحرار، و لا يجب على الزوج قيمتهم؛ لأنّ قولها غير مقبولٍ في إلزامه، و أمّا الحادثون بعده فهُمْ أرقّاء؛ لأنّه وطئها على علمٍ بأنّها أمة.

قال الجويني: هذا ظاهرٌ فيما إذا قبلنا الإقرار فيما يضرّ بالغير في المستقبل، أمّا إذا لم نقبل فيه ماضياً و مستقبلاً، فيحتمل أن يقال بحُرّيّتهم؛

ص: 414


1- التهذيب - للبغوي - 582:4، العزيز شرح الوجيز 431:6، روضة الطالبين 514:4-515.

صيانةً لحقّ الزوج، فإنّ الأولاد من مقاصد النكاح، كما أنّا أدمنا النكاح صيانةً لحقّه في الوطء و سائر المقاصد(1).

و يحتمل عند الشافعيّة القول برقّهم؛ لأنّ العلوق أمر موهوم، فلا يجعل مستحقّاً بالنكاح، بخلاف الوطء.

و تردّدوا أيضاً في أنّا إذا أدمنا النكاح نسلّمها إلى الزوج تسليمَ الإماء أو تسليمَ الحرائر؟ و لا نبالي بتعطيل المنافع على المُقرّ له، و الظاهر: الثاني، و إلّا لعَظُم الضرر على الزوج، و اختلّت مقاصد النكاح، و يخالف أمر الولد؛ لما ذكرنا أنّه موهوم(2).

و أمّا العدّة فإن كانت عدّة الطلاق الرجعي نُظر إن طلّقها ثمّ أقرّت، فعليها ثلاثة أقراء، و له الرجعة فيها جميعاً؛ لأنّه قد ثبت ذلك بالطلاق، فليس له إسقاطه بالإقرار.

و إن أقرّت ثمّ طلّقها، فوجهان للشافعيّة:

أصحّهما - و هو الذي عوّل عليه أكثرهم -: إنّ الجواب كذلك؛ لأنّ النكاح أثبت له حقَّ المراجعة في ثلاثة أقراء.

و الثاني: إنّها تعتدّ بقُرءين عدّة الإماء؛ لأنّه أمر متعلّق بالمستقبل، فأشبه إرقاق الأولاد(3).

و إن كان الطلاق بائناً، فأصحّ الوجهين عندهم: [إنّ الحكم](1) فيه كالحكم في الطلاق الرجعي؛ لأنّ العدّة فيهما لا تختلف.

و الثاني: إنّها تعتدّ عدّة الإماء على الإطلاق؛ لأنّها محكوم برقّها،».

ص: 415


1- ما بين المعقوفين أثبتناه من «العزيز شرح الوجيز».

و ليس للزوج غرض المراجعة(1).

و أمّا عدّة الوفاة فإنّها تعتدّ بشهرين و خمسة أيّام عدّة الإماء، نصّ عليه الشافعي(2).

و لا فرق بين أن تقرّ قبل موت الزوج أو بعده في العدّة.

و الفرق بين عدّة الوفاة و عدّة الطلاق: إنّ عدّة الطلاق حقّ الزوج، و إنّما وجبت صيانةً لمائه، أ لا ترى أنّها لا تجب قبل الدخول، و عدّة الوفاة حقّ اللّه تعالى، أ لا ترى أنّها تجب قبل الدخول، فقبول قولها في انتقاض عدّة الوفاة لا يُلحق ضرراً بالغير.

و للشافعيّة وجهٌ آخَر: إنّه لا تجب عليها عدّة الوفاة أيضاً؛ لأنّها تزعم بطلان النكاح من أصله و قد مات الزوج، فلا معنى لمراعاة جانبه، بخلاف عدّة الطلاق(3).

و على هذا إن جرى دخولٌ فعليها الاستبراء.

و هل هو بقُرءٍ واحد، أو بقُرءين ؟ على ما سبق في التفريع على القول الأوّل.

و إن لم يَجْر دخولٌ، احتُمل أنّها تستبرئ بقُرءٍ واحد، كما إذا اشتُريت من امرأةٍ أو مجبوبٍ.

و الثاني(4): إنّه لا استبراء أصلاً؛ لأنّا كُنّا نحكم بالنكاح لحقّ الزوجي.

ص: 416


1- الحاوي الكبير 65:8، العزيز شرح الوجيز 432:6، روضة الطالبين 515:4-516.
2- الحاوي الكبير 65:8، المهذّب - للشيرازي - 446:1، الوسيط 325:4، التهذيب - للبغوي - 582:4، البيان 44:8، العزيز شرح الوجيز 432:6، روضة الطالبين 516:4.
3- العزيز شرح الوجيز 433:6، روضة الطالبين 516:4.
4- أي: الاحتمال الثاني.

و قد انقطع كلّ حقوقه، و هي و المُقرّ له يقولان: لا نكاح و لا دخول، فمِمَّ الاستبراء؟

مسألة 477: لو كان اللقيط ذكراً فبلغ و نكح ثمّ أقرّ بالرقّ، فإن قبلنا إقراره مطلقاً، قلنا: هذا نكاح فاسد؛

لأنّه عبد نكح بغير إذن سيّده، فيفرَّق بينهما، و لا مهر عليه إن لم يكن قد دخل، و إن كان قد دخل بها فعليه مهر المثل.

و الأقرب: الأقلّ من مهر المثل أو المسمّى؛ لأنّه إن كان المسمّى أقلّ، فهي لا تدّعي الزيادة.

و هل يتعلّق الواجب بذمّته أو برقبته ؟ الوجه: الأوّل، و هو أصحّ قولَي الشافعي في الجديد.

و الثاني: إنّه يتعلّق برقبته، و هو قول الشافعي في القديم(1).

و الولد حُرٌّ يتبع أشرف طرفيه، و هو الأُمّ مع جهلها.

و إن لم نقبل إقراره فيما يتضرّر به الغير، بل قبلناه فيما يضرّه خاصّةً، فالنكاح صحيح في حقّها، و نحكم بانفساخ النكاح بإقراره؛ لأنّه لا نكاح بينهما، و لم يُقبل قوله في المهر، فإن لم يكن دخل وجب عليه نصف المسمّى، و إن دخل وجب جميع المسمّى، و يؤدّي ذلك ممّا في يده أو من كسبه في الحال أو المستقبل، فإن لم يوجد فهو في ذمّته إلى أن يعتق.

مسألة 478: لو كانت عليه ديون وقت الإقرار بالرقّ و في يده أموال، فإن قبلنا إقراره مطلقاً، فالأموال تُسلّم للمُقرّ له، و الديون في ذمّته؛

لأنّا حكمنا عليه بالرقّ، و جميع ما في يد العبد لمولاه، و لا يُقبل إقراره على ما

ص: 417


1- التهذيب - للبغوي - 581:4، البيان 45:8، العزيز شرح الوجيز 433:6، روضة الطالبين 516:4.

في يده.

و إن قبلناه فيما يضرّ به دون ما يضرّ بغيره، قضينا الديون ممّا في يده؛ لأنّ الإقرار يضرّ بصاحب الدَّيْن، فلا ينفذ فيه، فيثبت له حقّ المطالبة بدَيْنه ممّا في يده.

ثمّ إن فضل من المال شيء حُكم به للمُقرّ له؛ لأنّه يضرّ به دون غيره، فينفذ إقراره فيه، و إن بقي من الديون شيء كان ثابتاً في ذمّته إلى أن يعتق، كما لو أقرّ العبد بدَيْنٍ لغيره كان ثابتاً في ذمّته يُتبع به بعد العتق.

مسألة 479: إذا باع اللقيط أو اشترى بعد البلوغ ثمّ أقرّ بالرقّ، فإن قبلنا الإقرار منه في كلّ شيءٍ بطل البيع و الشراء؛

لأنّه قد صادف العبوديّة، فلا يصحّ إلّا بإذن مولاه، فإن كان ما باعه [باقياً] في يد المشتري أخذه المُقرّ له، و إلّا طالبه بقيمته.

ثمّ الثمن إن كان قد أخذه المُقرّ و استهلكه، فهو في ذمّته يُتبع به بعد العتق، و إن كان باقياً ردّه، و ما اشتراه إن كان باقياً في يده ردّه إلى بائعه، و إلّا استردّ الثمن من البائع، و يتعلّق حقّ البائع بذمّته.

و إن قبلنا إقراره فيما يضرّه خاصّةً دون ما يضرّ بغيره، لم يُحكم ببطلان البيع و لا الشراء؛ لتعلّق حقّ العاقد بائعاً و مشترياً بالثمن و المثمن.

ثمّ ما باعه إن لم يستوف ثمنه استوفاه المُقرّ له، و إن كان قد استوفاه لم يطالب المشتري ثانياً.

و أمّا ما اشتراه، فإن كان قد سلّم ثمنه تمّ العقد، و المبيع مسلَّم للمُقرّ له.

و إن لم يكن قد سلّمه، فإن كان في يده مال حين أقرّ بالرقّ قضى الثمن منه؛ لأنّا لا نقبل إقراره فيما يضرّ بالبائع، و إن لم يكن في يده مال

ص: 418

فهو كإفلاس المشتري، فيرجع البائع إلى عين ماله إن كان باقياً، و إن لم يكن فهو في ذمّة المُقرّ حتى يعتق، كما أنّه إذا أفلس المشتري و المبيع هالك يكون الثمن في ذمّته يطالَب به بعد يساره.

مسألة 480: لو جنى اللقيط بعد بلوغه ثمّ أقرّ بالرقّ، فإن كانت الجناية عمداً فعليه القصاص،

سواء كان المجنيّ عليه حُرّاً أو عبداً على القولين عند الشافعي.

أمّا إذا قبلنا إقراره مطلقاً، فظاهرٌ.

و أمّا إذا قبلناه فيما يضرّ به دون ما يضرّ بغيره، فإن كان المجنيّ عليه حُرّاً فلا فضيلة للجاني، و إن كان عبداً ألزمناه القصاص؛ لأنّه يضرّه(1).

و عندنا أنّ إقرار العبد بما يوجب القصاص لا ينفذ في حقّ المولى، بل يتعلّق بذمّته يُتبع به بعد العتق.

و إن كانت الجناية خطأً، فإن كان في يده مالٌ أُخذ الأرش منه، قاله بعض الشافعيّة - خلاف قياس القولين؛ لأنّ أرش الخطأ لا يتعلّق بما في يد الجاني، حُرّاً كان أو عبداً - و إن لم يكن في يده مالٌ، تعلّق الأرش برقبته على القولين(2).

و قال بعض الشافعيّة: إن قلنا بالقول الثاني، يكون الأرش في بيت المال(3).

و أُجيب عنه: بأنّا على القول الثاني إنّما لا نقبل إقراره فيما يضرّ

ص: 419


1- المهذّب - للشيرازي - 446:1، التهذيب - للبغوي - 582:4، البيان 45:8، العزيز شرح الوجيز 434:6، روضة الطالبين 517:4.
2- التهذيب - للبغوي - 582:4، العزيز شرح الوجيز 434:6، روضة الطالبين 517:4.
3- البيان 46:8، العزيز شرح الوجيز 434:6، روضة الطالبين 517:4.

بالغير، و ما يتعلّق برقبته لا يضرّ المجنيّ عليه، بل ينفعه، فامّا أن يتبع ذلك تعلّقه ببيت المال فلا ضرر به، فإنّ(1) قطع التعلّق عن بيت المال إضرار(2).

و لو زاد الأرش على قيمة الرقبة، فالزيادة في بيت المال على القول الثاني(3).

مسألة 481: لو جُني على اللقيط بأن قُطع طرفه، ثمّ أقرّ بالرقّ، فإن كانت الجناية عمداً، فإن كان الجاني عبداً اقتُصّ منه،

و إن كان حُرّاً لم يُقتَصّ منه؛ لأنّ قوله مقبول فيما يضرّ به، و يكون الحكم كما لو كانت الجناية خطأً [و إن كانت خطأً](4) فإن قبلنا إقراره في كلّ شيءٍ فعلى الجاني كمال قيمته إن صادفت قتلاً، و إلّا فما تقتضيه جراحة العبد.

و إن قبلنا إقراره فيما يضرّه خاصّةً دون ما يضرّ بغيره و كانت الجناية قَطْعَ يدٍ، فإن كان نصف القيمة مثلَ نصف الدية، أو كان نصف القيمة أقلَّ، فهو الواجب.

و إن كان نصف الدية أقلَّ، فللشافعيّة وجهان:

أحدهما: إنّا نوجب نصف القيمة، و نغلّظ على الجاني؛ لأنّ أرش الجناية يتبيّن مقداره بالأخرة، و قد بانَ رقّه، فلو نقصنا عن نصف القيمة لتضرّر السيّد.

و أصحّهما عنده(5): إنّه لا يجب إلّا نصف الدية؛ لأنّ قبول قوله في الزيادة إضرار بالحال، و نحن نفرع على أنّ قوله لا يُقبل فيما يضرّ بالغير،

ص: 420


1- كذا قوله: «فامّا أن يتبع ذلك... فلا ضرر به، فإنّ». و بدله في المصدر: «و له أن يمنع ذلك بأنّ».
2- العزيز شرح الوجيز 434:6.
3- البيان 46:8، العزيز شرح الوجيز 434:6، روضة الطالبين 517:4.
4- ما بين المعقوفين يقتضيه السياق.
5- الظاهر: «عندهم».

و على هذا فالواجب أقلّ الأمرين من نصف الدية أو نصف القيمة(1).

و هذا كلّه تفريع على تعلّق الدية بقتل اللقيط.

و فيه وجهٌ آخَر للشافعيّة، و هو: إنّ الواجب الأقلّ من الدية أو القيمة(2).

و هذا الوجه مطّرد في الطرف من غير أن يُقرّ بالرقّيّة.

مسألة 482: لو ادّعى مدّعٍ رقَّه فأنكره و لا بيّنة للمدّعي، كان عليه اليمين لإنكاره.

و قالت الشافعيّة: إن قلنا بقبول أصل الإقرار منه، فله أن يحلّفه لرجاء أن يُقرّ، و إن منعنا أصل الإقرار لم يكن له تحليفه؛ لأنّ التحليف لطلب الإقرار، و إقراره غير مقبولٍ(3).

هذا إن جعلنا اليمين مع النكول كإقرار المدّعى عليه، فإن جعلناها كالبيّنة فله التحليف فلعلّه ينكل فيحلف المدّعي و يستحقّ، كما لو أقام البيّنة.

و اعلم أنّه لا فرق فيما تقدّم بأسره بين أن يُقرّ اللقيط بالرقّ ابتداءً و بين أن يدّعي رقَّه فيُصدَّق المدّعي.

و لو ادّعى إنسان رقَّه فأنكره ثمّ أقرّ، ففي قبول قوله وجهان؛ لأنّه بالإنكار لزمه أحكام الأحرار.

مسألة 483: ولاء اللقيط لمن يتولّى إليه، فإن لم يتوال أحداً كان ميراثه للإمام عندنا؛

لأنّه وارث مَنْ لا وارث له.

و عند أكثر العامّة ولاؤه لسائر المسلمين؛ لأنّ ميراثه لهم(4).

ص: 421


1- العزيز شرح الوجيز 434:6-435، روضة الطالبين 517:4.
2- العزيز شرح الوجيز 435:6، روضة الطالبين 517:4.
3- العزيز شرح الوجيز 435:6.
4- المغني 411:6، الشرح الكبير 417:6.

و لا ولاء للملتقط عليه عند علمائنا أجمع - و به قال عليٌّ عليه السلام و أهل بيته عليهم السلام، و أكثر الصحابة، و هو قول مالك و الشافعي و أحمد و أكثر أهل العلم(1) - لما رواه العامّة عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال: «إنّما الولاء لمن أعتق»(2) و «إنّما» للحصر.

و من طريق الخاصّة: قول الصادق عليه السلام: «المنبوذ إن شاء جعل ولاءه للّذين ربّوه و إن شاء لغيرهم»(3).

و لأنّه حُرٌّ في الأصل لم يثبت عليه رقٌّ و لا على آبائه، فلم يثبت عليه الولاء، كالمعروف نسبه.

و قال شريح و إسحاق: عليه الولاء لملتقطه(4).

لما رواه واثلة بن الأسقع عن النبيّ صلى الله عليه و آله: «المرأة تحوز ثلاث مواريث: عتيقها و لقيطها و ولدها الذي لاعنت عليه»(5).

و لقول عمر لأبي جميلة في لقيطه: هو حُرٌّ، لك ولاؤه و علينا نفقته(6).

و هُما ممنوعان، قال ابن المنذر: حديث واثلة لم يثبت، و أبو جميلة مجهول(7).6.

ص: 422


1- المغني 411:6، الشرح الكبير 417:6، حلية العلماء 573:5.
2- صحيح البخاري 94:3 و 200، صحيح مسلم 1144:2-14/1145، سنن أبي داوُد 21:4-3930/22، سنن الترمذي 2124/436:4، سنن الدارقطني 77/22:3، سنن البيهقي 338:5.
3- الفقيه 318/86:3، التهذيب 820/227:8.
4- المغني 411:6، الشرح الكبير 417:6.
5- سنن أبي داوُد 2906/125:3، سنن الترمذي 2115/429:4، سنن البيهقي 259:6، مسند أحمد 15574/544:4.
6- تقدّم تخريجه في ص 310، الهامش (1).
7- المغني 412:6، الشرح الكبير 417:6.

المقصد السادس: في الجعالة

اشارة

و فيه فصول:

الفصل الأوّل: الماهيّة

لمّا كانت الحاجة غالباً إنّما تقع في ردّ الضوالّ و الأموال المنبوذة، وجب ذكر الجعالة بعقب اللّقطة و الضوالّ.

و الجعالة في اللّغة ما يجعل للإنسان على شيءٍ يفعله، و كذلك الجُعْل و الجعيلة.

و أمّا في الشرع فصورة عقد الجعالة أن يقول: مَنْ ردّ عبدي الآبق، أو: دابّتي الضالّة، أو: مَنْ خاط لي ثوباً، أو: مَنْ قضى لي الحاجة المعيّنة، و بالجملة، كلّ عملٍ محلَّلٍ مقصودٍ، فله كذا.

و هي جائزة، و لا نعلم فيه خلافاً؛ لقوله تعالى:«وَ لِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَ أَنَا بِهِ زَعِيمٌ» (1).

و روى العامّة عن أبي عمرو الشيباني قال: قلت لعبد اللّه بن مسعود:

إنّي أصبتُ عبيداً أُبّاقاً(2) ، فقال: لك أجر و غنيمة، فقلت: هذا الأجر فما الغنيمة ؟ فقال: من كلّ رأسٍ أربعين درهماً(3) ، و هذا لا يقوله إلّا توقيفاً.

و من طريق الخاصّة: ما رواه وهب بن وهب عن الصادق عن

ص: 423


1- سورة يوسف: 72.
2- في النُّسَخ الخطّيّة و الحجريّة: «عبداً آبقاً». و المثبت كما في المصدر و يقتضيه السياق.
3- المغني 382:6.

الباقر عليهما السلام، قال: سألته عن جُعْل الآبق و الضالّة، فقال: «لا بأس»(1).

و عن مسمع بن عبد الملك عن الصادق عليه السلام قال: «إنّ النبيّ صلى الله عليه و آله جعل في جُعْل الآبق ديناراً إذا أُخذ في مصره، و إن أُخذ في غير مصره فأربعة دنانير»(2).

و لأنّ الحاجة تدعو إلى ذلك، فإنّ العمل قد يكون مجهولاً، كردّ الآبق و الضالّة و نحو ذلك، فلا يمكن عقد الإجارة فيه، و الحاجة داعية إلى ردّهم، و قلّ أن يوجد متبرّع به، فدعت الضرورة إلى إباحة بذل الجُعْل فيه مع جهالة العمل؛ لأنّها غير لازمةٍ، بخلاف الإجارة، فإنّ الإجارة لمّا كانت لازمةً افتقرت إلى تقدير مدّةٍ معيّنةٍ مضبوطةٍ لا يتطرّق إليها الزيادة و النقصان، و أمّا العقود الجائزة - كالشركة و الوكالة - فلا يجب لها ضرب المدّة، و لأنّ كلّ عقدٍ جائزٍ يتمكّن كلٌّ من المتعاقدين فيه من فسخه و تركه.9.

ص: 424


1- الفقيه 851/189:3، التهذيب 1193/396:6.
2- التهذيب 398:6-1203/399.

الفصل الثاني: في الأركان

اشارة

و هي أربعة:

الركن الأوّل: الصيغة.
اشارة

و هي كلّ لفظٍ دالٍّ على الإذن في العمل و استدعائه بعوضٍ يلتزمه، كقوله: مَنْ ردّ عبدي أو ضالّتي، أو: خاط لي ثوباً، أو: بنى لي حائطاً، أو ما أشبه ذلك من الأعمال المحلّلة المقصودة في نظر العقلاء، سواء كان العمل مجهولاً أو معلوماً؛ لأنّه عقد جائز كالمضاربة.

و لا بدّ من الإيجاب الصادر من الجاعل، فلو عمل لغيره عملاً أو ضاع لغيره مالٌ غير الآبق و الضالّة فردّه غيره تبرّعاً، لم يكن له شيء، سواء كان معروفاً بردّ اللّقطة، أو لم يكن، و لا نعلم فيه خلافاً؛ لأنّه عمل يستحقّ العوض مع المعاوضة، فلا يستحقّ مع عدمها، كالعمل في الإجارة.

مسألة 484: و أمّا الآبق و الضالّة من الحيوانات فإن تبرّع الرادّ بالردّ أو حصل في يده قبل الجُعْل، فلا شيء له عند أكثر علمائنا

(1) ، كما في غيرهما من الأموال - و به قال الشافعي و النخعي و أحمد في إحدى الروايتين، و ابن المنذر(2) - لأنّه عمل لغيره عملاً من غير أن يشترط له عوضاً،

ص: 425


1- منهم: ابن البرّاج في المهذّب 570:2، و ابن إدريس في السرائر 109:2، و يحيى بن سعيد في الجامع للشرائع: 326.
2- الأُم 71:4، مختصر المزني: 136، الإشراف على مذاهب أهل العلم 169:2، الحاوي الكبير 29:8، المهذّب - للشيرازي - 418:1، الوسيط 210:4، حلية العلماء 458:5-459، التهذيب - للبغوي - 564:4، البيان 359:7، العزيز شرح الوجيز 196:6، روضة الطالبين 335:4، المغني 381:6، تحفة الفقهاء 356:3، بدائع الصنائع 203:6، الهداية - للمرغيناني - 178:2، مختصر اختلاف العلماء 2049/352:4، الإفصاح عن معاني الصحاح 59:2، الإشراف على نكت مسائل الخلاف 1216/681:2، الذخيرة 6:6 و 7.

فلم يستحق شيئاً، كما لو ردّ لقطته من الأموال.

و قال الشيخ رحمه الله: لم ينص أصحابنا على شيءٍ من جُعْل اللّقط و الضوالّ إلّا على إباق العبد، فإنّهم رووا أنّه إن ردّه من خارج البلد استحقّ الأُجرة أربعين درهماً قيمتها أربعة دنانير، و إن كان من البلد فعشرة دراهم قيمتها دينار، و فيما عدا ذلك يستحقّ الأُجرة بحسب العادة.

ثمّ نقل عن الشافعي أنّه لا يستحقّ الأُجرة على شيءٍ من ذلك إلّا أن يجعل له الجاعل(1) ، و عن مالك: إن كان معروفاً بردّ الضوالّ و ممّن يستأجر لذلك فإنّه يستحقّ الجُعْل، و إن لم يكن معروفاً به لم يستحق(2) ، و عن أبي حنيفة: إن كان ضالّةً أو لقطةً فإنّه لا يستحقّ شيئاً، و إن كان آبقاً فردّه من مسيرة ثلاثة أيّام فأكثر - و هو ثمانية و أربعون ميلاً و زيادة - استحقّ أربعين درهماً، و إن نقص أحد الشرطين بأن جاء به من مسيرة أقلّ من ثلاثة أيّام فبحسابه، و إن كان من مسيرة يومٍ فثلث الأربعين، و إن كان من مسيرة يومين فثلثا الأربعين(3).6.

ص: 426


1- راجع: الهامش السابق.
2- الإشراف على نكت مسائل الخلاف 1216/681:2، الذخيرة 6:6 و 7، عيون المجالس 1304/1844:4، المحلّى 206:8، الإفصاح عن معاني الصحاح 59:2، المغني 383:6، مختصر اختلاف العلماء 2049/352:4، الإشراف على مذاهب أهل العلم 170:2، الحاوي الكبير 29:8، حلية العلماء 460:5، التهذيب - للبغوي - 564:4، البيان 359:7، العزيز شرح الوجيز 196:6.
3- الاختيار لتعليل المختار 51:3، تحفة الفقهاء 356:3، بدائع الصنائع 203:6-205، المبسوط - للسرخسي - 21:11-22، المحيط البرهاني 446:5، مختصر اختلاف العلماء 2049/351:4، الهداية - للمرغيناني - 178:2، المغني 382:6، الإفصاح عن معاني الصحاح 59:2، المحلّى 206:8، عيون المجالس 1304/1844:4، الإشراف على نكت مسائل الخلاف 1217/682:2، الإشراف على مذاهب أهل العلم 170:2، الحاوي الكبير 29:8، حلية العلماء 459:5، التهذيب - للبغوي - 564:4، البيان 359:7، العزيز شرح الوجيز 196:6.

و إن كان قيمته أقلّ من أربعين، قال أبو حنيفة و محمّد: ينقص عن قيمته درهم، و يستحقّ الباقي إن كان قيمته أربعين، فيستحقّ تسعة و ثلاثين، و إن كان قيمته ثلاثين يستحقّ تسعة و عشرين(1).

و قال أبو يوسف: يستحقّ أربعين و إن كان يسوى عشرة دراهم، و القياس أنّه لا يستحقّ شيئاً، لكن أعطيناه استحساناً(2) ، هكذا حكاه الشيخ رحمه الله عن الساجي(3).

إذا عرفت هذا، فإنّ قول الشيخ يحتمل استحقاق الرادّ للآبق و إن لم يشترط المالك له جُعْلاً، و رواه العامّة عن عليٍّ عليه السلام و ابن مسعود و عمر و شريح و عمر بن عبد العزيز و مالك و أصحاب الرأي و أحمد في إحدى7.

ص: 427


1- تحفة الفقهاء 356:3، بدائع الصنائع 205:6، المبسوط - للسرخسي - 32:11، المحيط البرهاني 446:5، الاختيار لتعليل المختار 51:3، الهداية - للمرغيناني - 179:2، مختصر اختلاف العلماء 2049/351:4، المحلّى 206:8، المغني 383:6، حلية العلماء 460:5، التهذيب - للبغوي - 564:4، البيان 359:7، العزيز شرح الوجيز 196:6.
2- تحفة الفقهاء 356:3، بدائع الصنائع 205:6، المبسوط - للسرخسي - 32:11، المحيط البرهاني 446:5، الاختيار لتعليل المختار 51:3، الهداية - للمرغيناني - 179:2، مختصر اختلاف العلماء 2049/352:4، المحلّى 206:8، المغني 383:6، حلية العلماء 460:5، البيان 359:7.
3- الخلاف 589:3-590، المسألة 17.

الروايتين(1) ؛ لما رواه العامّة عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه جعل في جُعْل الآبق إذا جاء به خارجاً من الحرم ديناراً(2).

و لأنّه قول مَنْ سمّيناه من الصحابة، و لم نعرف لهم في زمنهم مخالفاً، فكان إجماعاً، و لأنّ في شرط الجُعْل في ردّهم حثّاً على ردّ الأُبّاق و صيانةً لهم عن الرجوع إلى دار الحرب و ردّتهم عن دينهم(3) و تقوية أهل الحرب بهم، فيكون مشروعاً لهذه المصلحة، بخلاف ردّ اللقط من الأموال فإنّه لا يفضي إلى ذلك.

و القول الأوّل أقوى؛ لأنّ الأصل عدم الوجوب.

مسألة 485: لو استدعى الردّ فقال لغيره: رُدّ آبقي، استحقّ الجُعْل؛
اشارة

لأنّه عمل يستحقّ في مثله الأُجرة، فكان عليه الجُعْل، كما لو استدعى ردّ اللّقطة، كان عليه أُجرة المثل و إن لم ينص له على الأُجرة.

و كذا إذا أذن لرجلٍ في ردّ عبده الآبق و لم يشترط له عوضاً بردّه، فالأقوى: استحقاق الجُعْل.

و للشافعيّة قولان:

منهم مَنْ قال: إن كان معروفاً بردّ الأُبّاق بالأُجرة، استحقّ.

و منهم مَنْ قال: لا يستحقّ، و هو ظاهر كلام الشافعي؛ لأنّه قال: إلّا أن يجعل له جُعْلاً(4).

ص: 428


1- المغني 381:6.
2- المغني 381:6-382.
3- في النُّسَخ الخطّيّة و الحجريّة: «و ردّهم دينهم» بدل «و ردّتهم عن دينهم». و الظاهر ما أثبتناه.
4- الحاوي الكبير 30:8، المهذّب - للشيرازي - 418:1، حلية العلماء 459:5، التهذيب - للبغوي - 565:4، البيان 359:7، العزيز شرح الوجيز 196:6-197، روضة الطالبين 336:4، و راجع: الأُم 71:4، و مختصر المزني: 136.

و فيه الخلاف المذكور لهم فيما لو دفع ثوباً إلى غسّالٍ فغسله، و لم يَجْر للأُجرة ذكر(1).

و لو حصلت الضالّة في يد إنسانٍ قبل الجعل، وجب دفعها إلى مالكها، و لا شيء عليه، و كذا المتبرّع، سواء عُرف بردّ الأُبّاق أو لا، و سواء جعل المالك و قصد العامل التبرّع، أو لم يجعل و إن لم يقصد التبرّع.

تذنيب: لا فرق في صيغة المالك بين أن يقول: مَنْ ردّ عبدي، و بين أن يقول: إن ردّه إنسان،

أو: إن رددتَه، أو: رُدّه و لك كذا.

و يصحّ التقييد بالزمان و المكان و أحدهما، و الإطلاق، فيقول: مَنْ ردّ عبدي من بغداد في شهر كذا، أو: خاط ثوبي في بغداد، أو في يومٍ فله كذا.

الركن الثاني: العاقد.
اشارة

و يشترط فيه أن يكون من أهل الاستئجار مطلق التصرّف، فلا ينفذ جعل الصبي و المجنون و السفيه و المحجور عليه لفلسٍ و المكره و غير القاصد، و لا نعلم فيه خلافاً.

و لا يشترط أن يكون الملتزم هو المالك، و لا أن يقع العمل في ملكه، فلو قال شخص: مَنْ ردّ عبد فلانٍ فله كذا، استحقّه الرادّ عليه؛ لأنّه التزمه، فلزمه، بخلاف ما إذا التزم الثمن في بيع غيره و الثواب على هبة غيره؛ لأنّه عوض تمليكٍ، فلا يتصوّر وجوبه على غير مَنْ حصل له

ص: 429


1- العزيز شرح الوجيز 197:6، روضة الطالبين 336:4.

الملك، و الجُعْل ليس عوض تمليكٍ.

مسألة 486: لو قال فضوليٌّ: قال فلانٌ: مَنْ ردّ عبدي فله كذا، لم يستحقّ الرادّ على الفضوليّ شيئاً؛

لأنّه لم يلتزم، أقصى ما في الباب أنّه كذب، و هو لا يوجب الضمان.

و أمّا المالك فإن كان الفضوليّ قد كذب عليه، لم يكن [عليه] شيء أيضاً، و كان من حقّ الرادّ أن يتثبّت و يتفحّص و يسأل، فالتفريط وقع منه.

و إن كان قد صدق، فالأقوى: وجوب المال عليه، خلافاً لبعض الشافعيّة حيث قال بذلك إن كان المُخبر ممّن يُعتمد على قوله، و إلّا فهو كما لو ردّ غير عالمٍ بإذنه و التزامه(1).

مسألة 487: لا يشترط تعيين العامل، فيجوز أن يكون شخصاً معيّناً أو جماعةً معيّنين،

مثل أن يقول: إن ردّ زيدٌ عبدي فله كذا، و إن ردّ زيد و عمرو و خالد فلهم كذا، و يجوز أن يكون مجهولاً، كقوله: مَنْ ردّ عبدي من هؤلاء العشرة فله كذا، أو: مَنْ ردّ عبدي مطلقاً فله كذا؛ لأنّ الغرض ردّ الآبق، و لا تعلّق للمالك بخصوصيّة الرادّ، فلم يكن شرطاً، و لأنّ ردّ الآبق و ما في معناه قد لا يتمكّن منه معيّن، و مَنْ يتمكّن منه [ربما] لا يكون حاضراً، و ربما لا يعرفه المالك، فإذا أطلق الاشتراط و شاع ذلك سارع مَنْ تمكّن منه إلى تحصيله فيحصل الغرض، فاقتضت مصلحة العقد احتمال التجهيل فيه.

مسألة 488: لو عيّن واحداً فردّ غيره، لم يستحق شيئاً،

كما لو قال لزيدٍ: رُدّ عبدي و لك كذا، أو قال: إن ردّه زيد فله كذا، فردّه عمرو؛ لأنّه

ص: 430


1- التهذيب - للبغوي - 565:4، العزيز شرح الوجيز 197:6، روضة الطالبين 336:4.

لم يشترط لغير ذلك المعيّن، فكان متبرّعاً.

و لو ردّه عبد ذلك المعيّن، استحقّ المولى الجُعْل؛ لأنّ ردّ عبده كردّه، و يده كيده.

و لو قال: مَنْ ردّه فله كذا، استحقّ الرادّ، سواء سمع نداءه أو لا؛ لأنّه قد حصل المقصود، و شمله اللفظ بعمومه، و لم يقصد بقوله شخصاً معيّناً و لا جماعةً معيّنين، بل أطلق، فيُعمل بمقتضى إطلاقه، كما لو قال:

مَنْ صلّى فأعطه ديناراً، و هو أحد قولَي الشافعيّة.

و الثاني - و هو الأظهر عندهم -: إنّه لا يستحقّ شيئاً؛ لأنّه قصد التبرّع، فإن قصد العوض؛ لاعتقاده أنّ مثل هذا العمل لا يحبط و يستحقّ به الأُجرة، فكذلك(1).

و ليس بجيّدٍ؛ لأنّا نمنع قصد التبرّع، و لو قصد التبرّع لم يستحق شيئاً، كما لو عيّنه و قال: إن رددتَ عبدي فلك كذا، أو: إن ردّ زيد عبدي فله كذا، فردّه زيد متبرّعاً بعد سماعه بالجعالة، لم يستحق شيئاً؛ لتبرّعه.

و كذا لو عيّنه و كان غائباً فقال: إن ردّه فلان فله كذا، فردّه غير عالمٍ بإذنه و التزامه، فإن نوى التبرّع لم يستحق شيئاً، و إن لم يَنْوه استحقّ على ما تقدّم.

مسألة 489: لا يشترط القبول لفظاً،

فلو قال: مَنْ ردّ عبدي فله كذا، فاشتغل واحد بالردّ من غير أن يقول: قبلت، أو: أنا أردّ، صحّ العقد و تمّ، سواء كان العامل معيّناً أو غير معيّنٍ.

و قالت الشافعيّة: إذا لم يكن العامل معيّناً فلا يتصوّر للعقد قبول، و إن كان معيّناً فلا يشترط قبوله أيضاً على المشهور، و يكفي الإتيان

ص: 431


1- العزيز شرح الوجيز 196:6، روضة الطالبين 336:4.

بالعمل(1) ، كما ذهبنا إليه.

و قال الجويني: لا يمتنع أن يكون كالوكيل في اشتراط القبول(2).

و نحن نمنع اشتراط القبول لفظاً في الوكيل.

نعم، يشترط في العامل المعيّن أن يكون له أهليّة العمل، فلو قال المسلم: مَنْ طالَب بدَيْني الذي على فلان المسلم فله كذا، لم يدخل الذمّي تحته؛ لما بيّنّا من أنّ الذمّي ليس أهلاً للتوكيل على المسلم.

مسألة 490: لو قال: مَنْ ردّ عبدي فله كذا، و كان العبد مسلماً، فهل للكافر ردّه ؟ الأقرب ذلك؛

لأنّه ليس بتوكيل عليه، فلا يندرج تحت النهي، مع احتمال اندراجه؛ لاستلزامه إثبات السبيل للكافر على المسلم، و هو منفيٌّ بالآية(1).

و يدخل تحته الرجل و المرأة و الحُرّ و العبد و الصبي و المسلم و الكافر قطعاً في غير ردّ العبد المسلم، و على إشكالٍ فيه(2).

و يدخل تحته الصبي و المجنون على إشكالٍ ينشأ: من عدم اشتراط التبرّع المشروط بالقصد المشروط بالعقل، و من اشتراط عدم التبرّع.

و يدخل تحته أيضاً الواحد و المتعدّد.

مسألة 491: لو كان العوض شيئاً لا يصلح للكافر تملّكه،

كما لو قال:

مَنْ ردّ عبدي، أو: ضالّتي، أو: فَعَل كذا فله عبدي فلان، و كان عبده مسلماً، أو: فله المصحف الفلاني، ففي دخول الكافر إشكال ينشأ: من العموم الشامل للكافر، و من عدم صحّة تملّكه للجُعْل، فيكون قرينة تصرف

ص: 432


1- سورة النساء: 141.
2- أي: في ردّ العبد المسلم.

اللفظ عن عمومه.

فإن قلنا بالدخول، ففي ملكه إشكال أقربه: العدم، فحينئذٍ هل يثبت له القيمة أو لا؟ إشكال.

الركن الثالث: العمل.
اشارة

و يشترط فيه أن يكون محلّلاً، فلا تصحّ الجعالة على المُحرَّم، فلو قال: مَنْ زنى، أو: قتل، أو: سرق، أو: ظلم، أو: شرب خمراً، أو: أكل محرَّماً، أو: غصب، أو غير ذلك من الأفعال المُحرَّمة فله كذا، لم يصح، و لو فَعَل المجعول له ذلك لم يستحق العوض، سواء كان المجعول له معيّناً أو مجهولاً، و لا نعلم فيه خلافاً.

و يشترط أيضاً أن يكون مقصوداً للعقلاء، فلو قال: مَن استقى من دجلةٍ و رماه في الفرات، أو: حفر نهراً و طمّه، أو: بئراً و طمّها، أو غير ذلك ممّا لا يعدّه العقلاء مقصوداً، لم يصح.

و يشترط أن لا يكون واجباً، فلو قال: مَنْ صلّى الفريضة، أو: صام شهر رمضان فله كذا، لم يصح؛ لأنّ الواجب لا يصحّ أخذ العوض عليه.

مسألة 492: لا يشترط في العمل العلمُ إجماعاً؛

لأنّ الغرض الكلّي في الجعالة بذل العوض على ما لا يمكن التوصّل بعقد الإجارة إليه؛ لجهالته، فما لا تجوز الإجارة عليه من الأعمال لكونه مجهولاً يجوز عقد الجعالة عليه؛ لأنّ مسافة ردّ الآبق قد لا تُعرف، فتدعو الحاجة إلى احتمال الجهالة فيه، كما تدعو إلى احتمالها في العامل، فإذا احتُملت الجهالة في القراض لتحصيل زيادةٍ فلأن تُحتمل في الجعالة أولى.

و هل يشترط الجهل في العمل ؟ الأصحّ: العدم، فلو قال: مَنْ خاط

ص: 433

ثوبي فله درهم، أو قال: مَنْ حجَّ عنّي، أو: مَنْ ردّ عبدي من بغداد فله مائة، صحّ، و استحقّ العامل الجُعْل؛ لأنّه إذا جاز مع الجهل فمع العلم أولى؛ لانتفاء الغرر فيه، و هو أصحّ وجهي الشافعيّة(1).

و لهم وجهٌ آخَر: إنّه لا تجوز الجعالة على العمل المعلوم، و إنّما تصحّ على المجهول؛ لإمكان التوصّل في المعلوم بالإجارة(2).

و هو غير جيّدٍ؛ لعدم المنافاة، و لا استبعاد في التوصّل بأمرين أو أُمور.

و لو قيّد المعلوم بالمدّة المعلومة، فقال: مَنْ ردّ عبدي الآبق من البصرة في الشهر فله كذا، فالأقرب: الجواز.

و مَنَع منه بعض الشافعيّة؛ لأنّه يكثر بذلك الغررُ(1).

مسألة 493: لو قال: مَنْ ردّ علَيَّ مالي فله كذا، فردّه مَنْ كان المال في يده، نُظر فإن كان في ردّه من يده كلفة و مئونة كالعبد الآبق،

استحقّ الجُعْل، و إن لم يكن كالدراهم و الدنانير، فلا؛ لأنّ ما لا كلفة فيه لا يُقابَل بالعوض.

و لو قال: مَنْ دلّني على مالي فله كذا، فدلّه مَن المالُ في يده، لم يستحق الجُعْل؛ لأنّ ذلك واجب عليه بالشرع، فلا يجوز أخذ العوض عليه، أمّا لو كان في يد غيره فدلّه عليه، استحقّ؛ لأنّ الغالب أنّه يلحقه مشقّة في البحث عنه.

و اعلم أنّ كلّ ما يجوز الاستئجار عليه تجوز الجعالة فيه، و يعتبر فيما

ص: 434


1- العزيز شرح الوجيز 203:6-204، روضة الطالبين 342:4.

تجوز الجعالة فيه ما يعتبر في جواز الإجارة، سوى كونه معلوماً، فلو قال:

مَنْ ردّ عبدي، أو: جاريتي فله دينار، صحّ جعالةً؛ لأنّ الجهالة غير ضائرةٍ في الجعالة، و لا يجوز عقد الإجارة على ذلك؛ لجهالة العمل، المبطلة للإجارة.

الركن الرابع: في الجُعْل.
مسألة 494: يشترط في الجُعْل أن يكون مملوكاً مباحاً للعامل معلوماً،

فلو شرط جُعْلاً لا يصحّ تملّكه - كالكلب و الخنزير و الخمر و العذرة و سائر ما لا يتملّك - لم يصح العقد، و لم يستحقّ العامل شيئاً لا المسمّى و لا غيره.

نعم، لو توهّم التملّك بذلك أو الاستحقاق، فالأقرب: أُجرة المثل؛ لأنّه غير متبرّعٍ بالعمل، و المسمّى لا يصحّ أن يكون عوضاً و هو مغرور، فاستحقّ أُجرة مثل عمله.

و لو كان المجعول محرَّماً و لم يُعلم، مثل أن يقول: مَنْ ردّ عبدي فله ما في هذا الدَّن، أو الزِّق، أو ما في يدي، و كان ذلك خمراً أو ما لا يتملّك، وجب أُجرة المثل قطعاً.

و لو كان ممّا لا تقع المعاوضة عليه كحبّةٍ من حنطةٍ أو زبيبةٍ واحدة، احتُمل استحقاق ذلك خاصّةً، و عدم استحقاق شيءٍ البتّة.

و شرطنا كونه مباحاً بالنسبة إلى العامل؛ لأنّ الملك يقع له، فإذا لم يصح له تملّكه لم يصح العقد، و قد سبق ذكره.

مسألة 495: لا يجوز أن يكون العوض مجهولاً،

بل يجب أن يكون معلوماً بالكيل أو الوزن أو العدد إن كانت العادة جاريةً بعدّه، كالأُجرة، فلو

ص: 435

كان مجهولاً فسد العقد، و وجب بالعمل أُجرة المثل؛ لانتفاء الحاجة إلى احتمال الجهالة فيه.

و الفرق بينه و بين العمل حيث جاز أن يكون هنا مجهولاً دعوى الحاجة إلى كون العمل هنا مجهولاً، فإنّ الغالب أنّه لا يُعلم موضع الآبق و الضالّ، فلو شرطنا العلم لزم الحرج و عدم دعوى الحاجة إلى كون العوض مجهولاً.

و أيضاً العمل في الجعالة لا يصير لازماً، فلهذا لم يجب كونه معلوماً، و ليس كذلك العوض، فإنّه يصير بوجود العمل لازماً، فوجب كونه معلوماً.

و أيضاً فإنّه لا يكاد يرغب أحد في العمل إذا لم يعلم الجُعْل، فلا يحصل مقصود العقد، فإن شرط جُعْلاً مجهولاً بأن قال: مَنْ ردّ عبدي الآبق فله ثوب، أو: دابّة، أو قال لغيره: إن رددتَ عبدي فعلَيَّ أن أُرضيك أو أُعطيك شيئاً، فسد العقد، و وجب بالعمل أُجرة المثل.

و كذا لو جعل العوض خمراً أو خنزيراً و كانا أو أحدهما مسلمين.

و لو جعل العوض شيئاً مغصوباً، فسد العقد، و وجب أُجرة المثل أيضاً.

و للشافعيّة هنا احتمالان:

أحدهما: تخريجه على القولين فيما إذا جعل المغصوب صداقاً حتى يرجع في قولٍ إلى قيمة ما يقابل الجُعْل و هو أُجرة المثل، و في قولٍ إلى قيمة المسمّى.

و الثاني: القطع بأُجرة المثل؛ لأنّ العوض ركن في هذه المعاملة، بخلاف الصداق(1).4.

ص: 436


1- العزيز شرح الوجيز 199:6، روضة الطالبين 338:4.

و لو قال: مَنْ ردّ عبدي فله ثيابه أو سَلَبه، فإن كانت معلومةً، أو وصفها بما يفيد العلم، فللرادّ المشروط، و إلّا فله أُجرة المثل.

و لو قال: مَنْ ردّ عبدي فله نصفه أو ربعه، فالأقوى: الجواز؛ للأصل، و هو أحد وجهي الشافعية، و الثاني: المنع(1).

و هو قريب من استئجار المرضعة بجزءٍ من المرتضع الرقيق بعد الفطام.

مسألة 496: لو قال: مَنْ ردّ عبدي من بغداد - مثلاً - فله دينار، صحّ عندنا

و هو أصحّ وجهي الشافعيّة(2).

فإن ردّه من نصف الطريق، استحقّ نصف الجُعْل، و إن ردّه من ثلثه فله الثلث؛ لأنّه عمل نصف العمل أو ثلثه، فكان له من الجُعْل مقابل عمله.

و إن ردّه من مكانٍ أبعد، لم يستحق زيادةً؛ لأنّ المالك لم يلتزم ذلك، فيكون العامل فيه متبرّعاً بالزيادة، فلا عوض له عنها.

و لو ردّه من غير ذلك البلد، لم يستحق شيئاً؛ لأنّه لم يجعل في ردّه منه شيئاً، فأشبه ما لو جعل في ردّ عبدٍ شيئاً، فردّ جاريةً.

و لو قال: مَنْ ردّ عبدَيَّ فله كذا، فردّ أحدهما، استحقّ نصف الجُعْل، قاله بعض الشافعيّة(1).

و عندي فيه نظر.

أمّا لو كان الجُعْل على شيءٍ تتساوى أجزاؤه و يقسّط عليها بالسويّة؛ لتساوي العمل فيها، كان الحكم ذلك.

ص: 437


1- المهذّب - للشيرازي - 419:1، روضة الطالبين 338:4.

و لو قال لاثنين: إن رددتما عبدي الآبق فلكما كذا، فردّه أحدهما، استحقّ النصف؛ لأنّه لم يلتزم له أكثر من ذلك، لأنّه جعل الجُعْل لاثنين، فقد جعل لكلّ واحدٍ منهما النصف على نصف العمل، فيكون كلّ واحدٍ منهما في النصف الآخَر لو باشره متبرّعاً.

و لو قال لهما: إن رددتما عبدَيَّ الآبقين فلكما كذا، فردّ أحدُهما أحدَهما، لم يستحق إلّا الربع.

و يشكل بأنّ الالتزام متعلّق بالردّ من ذلك البلد و بردّ العبدين، و لو توزّع الجُعْل في الجعالة على العمل لاستحقّ النصف إذا ردّ من ذلك البلد إلى نصف الطريق، و لما وقع النظر إلى كون المأتيّ به نافعاً أو غير نافعٍ، كما في الإجارة.

مسألة 497: لو قال: مَنْ ردّ عبدي فله كذا، فإن ردّه واحد كان الجُعْل بأسره له،

و إن ردّه اثنان كان بينهما بالسويّة، و إن ردّه جماعة اشترك الجُعْل بينهم كذلك؛ لصدق لفظة «مَنْ» على كلّ واحدةٍ من هذه المراتب.

و لو قال لجماعةٍ: إن رددتم عبدي فلكم كذا، فردّوه، فالجُعْل بينهم بالسويّة على عدد الرءوس و إن تعاونوا في العمل؛ لأنّ العمل في أصله مجهول، فلا يُنظر إلى مقداره في التوزيع، قاله بعض الشافعيّة(1).

و المعتمد خلافه، بل يُوزّع الجُعْل على قدر العمل كالإجارة؛ لأنّا إنّما ندفع الجُعْل إليهم عند تمام العمل، و حينئذٍ فقد انضبط العمل، فيُوزّع على أُجور أمثالهم.

مسألة 498: يجوز أن يخصّص الجُعْل لواحدٍ بعينه،

كما يجوز تعميمه، فلو قال لزيدٍ: إن رددتَ عبدي فلك دينار، فردّه غيره، لم يستحق الرادّ شيئاً؛ لأنّه متبرّع به، و لا زيد؛ لأنّه لم يعمل.

ص: 438


1- العزيز شرح الوجيز 200:6، روضة الطالبين 338:4.

نعم، يجوز الاستعانة، فإن استعان زيد المجعول له بغيره إمّا من عبدٍ أو غيره، استحقّ زيد.

و لو قال لزيدٍ: إن رددته فلك دينار، فردّه زيد و عمرو، لم يكن لعمرو شيء؛ لتبرّعه، و لم يلتزم المالك بشيءٍ.

و إن قصد عمرو معاونة زيدٍ إمّا بعوضٍ أو مجّاناً، فلزيدٍ تمام الجُعْل؛ لأنّه قد يحتاج إلى الاستعانة بالغير، و مقصود المالك ردّ العبد بأيّ وجهٍ أمكن، فلا يُحمل لفظه على قصر العمل على المخاطب بالمباشرة.

ثمّ ذلك الغير إن تبرّع على زيدٍ بالإعانة، لم يكن له شيء.

و إن قصد العمل بالأُجرة فاستعمله زيد عليها، فإن عيّن قدر الأُجرة استحقّ ما عيّنه له، سواء زاد على مال الجعالة أو نقص، و إن لم يعيّن له شيئاً كان له أُجرة المثل على زيدٍ و إن زادت على ما حصل له بالجعالة.

و لو قال عمرو: عملتُ للمالك، لم يكن لزيدٍ تمام الجُعْل، بل ما قابَل عمله.

ثمّ هل يُوزَّع مال الجعالة على الرءوس أو على قدر العمل ؟ الأقرب:

الثاني، و هو قول بعض الشافعيّة. و المشهور عندهم: الأوّل(1).

و كذا البحث لو عمل المالك مع زيدٍ فإنّه لا يستحقّ زيد كمالَ الجعالة، إلّا أن يقصد المالك إعانته، على إشكالٍ.

و لو قصد عمرو العمل للمالك، لم يكن له شيء، سواء قصد التبرّع أو الشركة في الجُعْل؛ لأنّ المالك لم يلتزم له شيئاً.

مسألة 499: لو قال لزيدٍ: إن رددتَ عبدي فلك كذا، اختصّ بمال الجعالة مع كمال العمل،

فإن شاركه في العمل اثنان، فإن قصدا معاً إعانةَ

ص: 439


1- العزيز شرح الوجيز 200:6، روضة الطالبين 339:4.

زيدٍ فله تمام الجُعْل، و لو قصدا معاً العمل للمالك فلزيدٍ ثلث الجُعْل؛ لأنّه عمل ثلث العمل، و إن قصد أحدهما إعانةَ زيدٍ و قصد الآخَر العمل للمالك فلزيدٍ الثلثان.

و هل لزيدٍ أن يوكّل الغير لينفرد بالردّ كما يستعين به ؟ إشكال ينشأ:

من أنّ الغرض تحصيل الردّ من غير التعرّض إلى مباشرٍ معيّن، و من أنّه كالوكيل ليس له أن يوكّل إلّا بالإذن.

و لو عمّم الجعالة فقال: مَنْ ردّ عبدي فله كذا، فقد بيّنّا أنّ كلّ مَنْ باشر الردّ و انفرد به استحقّ كمالَ الجُعْل، سواء كان واحداً أو أكثر.

و هل يصحّ لواحدٍ أن يوكّل غيره ليردّ له ؟ الأقرب: إنّه كالتوكيل في الاحتطاب و الاحتشاش.

مسألة 500: لو قال لواحدٍ: إن رددتَ عبدي فلك دينار، و قال لآخَر:

إن رددته فلك ديناران،

و قال لثالثٍ: إن رددته فلك ثلاثة دنانير، فكلّ مَنْ ردّه منهم كان له ما جعله له خاصّةً، و لو ردّه اثنان كان لكلّ واحدٍ منهما نصف ما جعله له، و لو ردّه الثلاثة كان لكلّ واحدٍ منهم ثلث ما جعله له.

هذا إذا عمل كلّ واحدٍ من الثلاثة لنفسه، أمّا لو قال أحدهم: أعنتُ صاحبَيّ و عملتُ لهما، فلا شيء له، و لكلّ واحدٍ منهما نصف ما شُرط له، و لو قال اثنان منهم: عملنا لإعانة صاحبنا، فلا شيء لهما، و له جميع ما شُرط له.

و لو أعانهم رابع في الردّ، فلا شيء له.

ثمّ إن قال: قصدتُ العمل للمالك، فلكلّ واحدٍ من الثلاثة رُبْع ما جُعل له، و إن قال: أعنتُهم جميعاً، فلكلّ واحدٍ منهم ثلث المشروط له، كما لو لم يكن معهم غيرهم، و لو قال: أعنتُ فلاناً، فله نصف المشروط

ص: 440

له، و لكلّ واحدٍ من الآخَرين رُبْع المشروط له، و على هذا القياس.

و لو قال: أعنتُ فلاناً و فلاناً، فلكلّ واحدٍ رُبْع المشروط و ثُمْنه، و لثالثٍ رُبْع المشروط له.

و لو عيّن لأحد الاثنين و جهَّل للآخَر، فقال لزيدٍ: إن رددته فلك دينار، و قال لعمرو: إن رددته أرضيتك، أو: فلك شيء، أو: ثوب، فردّاه معاً، فلزيدٍ نصف دينارٍ، و لعمرو نصف أُجرة المثل.

لا يقال: إنّه لو قال: مَنْ دخل داري فله دينار، فدخلها جماعة، استحقّ كلّ واحدٍ منهم ديناراً كاملاً، فليكن هنا كذلك.

لأنّا نقول: الفرق: إنّ كلّ واحدٍ من الداخلين قد صدر عنه دخولٌ كامل كدخول المنفرد، فاستحقّ كلّ واحدٍ منهم العوض كاملاً، و هنا لم يحصل من كلّ واحدٍ منهم ردٌّ كامل، بل اشتركوا جميعاً في الردّ الكامل، و صدر عنهم بأسرهم ردٌّ واحد، فاشتركوا في عوضه.

و نظير الدخول ما لو قال: مَنْ ردّ عبداً من عبيدي فله دينار، فردّ كلّ واحدٍ منهم عبداً، فإنّ كلّ واحدٍ منهم يستحقّ الدينار الكامل.

و نظير الردّ ما لو قال: مَنْ نقب السور فله دينار، فنقب ثلاثة نقباً واحداً، كان الدينار للثلاثة بالسويّة.

مسألة 501: لو قال: مَنْ ردّ عبدي من بغداد فله دينار، فردّه إنسان إلى نصف الطريق فهرب منه، لم يستحق شيئاً؛

لأنّه شرط الجُعْل بردّه و لم يردّه.

و كذا لو مات العبد بعد وصوله و لم يسلّمه إلى المالك؛ لأنّه لم يرد إليه، كما لو استأجره لخياطة ثوبٍ فخاطه و لم يسلّمه حتى تلف، لم يستحق أُجرةً.

ص: 441

و لو قال: مَنْ وجد عبدي فله دينار، فوجده واجد ثمّ هرب، فالأقرب: إنّه لا يستحقّ؛ لأنّ قرينة الحال تدلّ على اشتراط الردّ، إذ المقصود الردّ، لا الوجدان؛ لأنّ الوجدان بمجرّده غير مقصودٍ للمالك، و إنّما اكتفى بالوجدان؛ لأنّه سبب الردّ، فصار كأنّه قال: مَنْ وجد لقطتي فردّها علَيَّ.

** *

ص: 442

الفصل الثالث: في الأحكام

مسألة 502: الجعالة عقد جائز من الطرفين إجماعاً
اشارة

لكلٍّ منهما فسخها قبل التلبّس بالعمل و بعده قبل تمامه؛ لأنّ الجعالة تشبه الوصيّة من حيث إنّها تعليق استحقاقٍ بشرطٍ، و الرجوع عن الوصيّة جائز، و كذا ما يشبهها.

و أمّا بعد تمام العمل فلا معنى للفسخ و لا [أثر له](1) لأنّ الجُعْل قد لزم بالعمل.

إذا عرفت هذا، فإن رجع المالك قبل شروع العامل في العمل أو فسخ العامل فلم يعمل، فلا شيء للعامل.

و إن كان بعد التلبّس بالعمل فعمل البعض أو قطع بعض المسافة، فإن فسخ العامل لم يستحق لما عَمِل شيئاً؛ لأنّه امتنع باختياره، و لم يحصل غرض المالك بما عَمِل، و قد أسقط العامل حقّ نفسه حيث لم يأت بما شُرط عليه العوض، كعامل المضاربة إذا فسخ قبل ظهور الربح.

و إن فسخ المالك، فعليه للعامل أُجرة مثله؛ لأنّه إنّما عَمِل بعوضٍ فلم يسلم له، و لا يليق أن يحبط عمله بفسخ غيره، و هو أصح وجهي الشافعيّة.

و الثاني: إنّ العامل لا يستحقّ أيضاً شيئاً، كما لو كان الفسخ من العامل(2).

ص: 443


1- بدل ما بين المعقوفين في النُّسَخ الخطّيّة و الحجريّة: «أجر». و المثبت كما في العزيز شرح الوجيز 201:6.
2- العزيز شرح الوجيز 202:6، روضة الطالبين 340:4.

و ليس بشيءٍ؛ فإنّ الفرق ظاهر.

و لو عَمِل العامل بعد الفسخ من المالك مع علمه بالفسخ، فإنّه لا يستحقّ في العمل بعد الفسخ شيئاً؛ لأنّه متبرّع فيه، و يستحقّ فيما عَمِل قبل الفسخ.

و لو لم يعلم العامل بالفسخ، فالأقرب: إنّه يستحقّ كمالَ الجعالة.

و للشافعيّة خلافٌ بنوه على فسخ الموكّل الوكالة في غيبة الوكيل، و هل تُنفذ تصرّفاته قبل علمه بالعزل أم لا؟(1).

تذنيب: و كما تنفسخ الجعالة بالفسخ تنفسخ بالموت،

فلو مات المالك قبل العمل بطلت، و كذا لو مات بعد التلبّس قبل إكمال العمل، و لا شيء للعامل فيما يعمل بعد الموت؛ لأنّه متبرّع بالنسبة إلى الوارث.

و لو قطع بعض المسافة فمات المالك فردّه إلى وارثه، استحقّ من المسمّى بقدر ما عَمِل في حياته.

مسألة 503: كما يجوز الفسخ في أصل الجعالة يجوز في صفات الجُعْل

بالزيادة و النقصان و تغيير الجنس قبل التلبّس بالعمل و بعده قبل إكماله، فيعمل بالجعالة الأخيرة إن وقعت قبل التلبّس بالعمل، فلو قال: مَنْ ردّ عبدي فله عشرة، ثمّ قال: مَنْ ردّه فله خمسة، فالعمل على الأخيرة، و كذا بالعكس يعمل بالأخير فيه، و المذكور فيه هو الذي يستحقّه الرادّ.

و لو قال: مَنْ ردّ عبدي فله دينار، ثمّ قال بعده قبل التلبّس: مَنْ ردّ عبدي فله ثوب، عمل على الأخيرة من الجعالتين.

و لو لم يسمع العامل الجعالة الأخيرة، قال بعض الشافعيّة: يحتمل

ص: 444


1- العزيز شرح الوجيز 202:6، روضة الطالبين 340:4.

الرجوع إلى أُجرة المثل(1). و لا بأس به.

أمّا لو كان التغيير بالزيادة و النقصان أو بالجنس بعد التلبّس بالعمل، فالأقرب: الرجوع إلى أُجرة المثل؛ لأنّ الجعالة الثانية فسخ للأُولى، و الفسخ في أثناء العمل يقتضي الرجوع إلى أُجرة المثل.

مسألة 504: استحقاق العامل للجُعْل موقوف على تمام العمل،

فلو سعى في طلب الآبق فردّه فمات في الطريق أو على باب دار المالك أو هرب أو غصبه غاصبٌ أو تركه العامل و رجع بنفسه، فلا شيء للعامل؛ لتعلّق الاستحقاق بالردّ، و هو المقصود و لم يحصل، و هذا بخلاف الإجارة؛ فإنّه لو استأجره ليحجّ عنه فتلبّس بالعمل ثمّ مات، فإنّه يستحقّ من الأُجرة بقدر ما عَمِل؛ لأنّ المقصود من الحجّ الثواب و قد حصل ببعض العمل بعضُ الثواب، و هنا لم يحصل شيء من المقصود.

و الثاني(2) أنّ الإجارة لازمة تجب الأُجرة فيها بالعقد، و تستقرّ شيئاً فشيئاً، و الجعالة جائزة لا يثبت فيها شيء إلّا بالشرط و لم يوجد، و ظاهرٌ أنّ الجعالة على العمل ليس كالإجارة أيضاً، فلو قال: مَنْ خاط ثوبي فله درهم، فخاط واحد بعضَه ثمّ أهمل، لم يستحق شيئاً، مع احتمال استحقاقه، و لو مات فاحتمال الاستحقاق أقوى.

و إذا ردّ الآبق، لم يكن له حبسه إلى استيفاء الجُعْل؛ لأنّ الاستحقاق بالتسليم، و لا حبس قبل الاستحقاق.

و لو قال: إن علّمتَ ولدي القرآن، أو: علّمتني فلك كذا، فعلَّمه

ص: 445


1- الوسيط 213:4، العزيز شرح الوجيز 202:6، روضة الطالبين 341:4.
2- كذا قوله: «و الثاني» إلى آخره، في النُّسَخ الخطّيّة و الحجريّة، و هو الفرق الثاني للشافعيّة بين الجعالة و الإجارة، راجع: العزيز شرح الوجيز 302:6.

البعض و امتنع من تعليم الباقي، فلا شيء له، على إشكالٍ.

و كذا لو كان الصبي بليداً لا يتعلّم، على إشكالٍ، كما لو طلب العبد فلم يجده.

أمّا لو مات الصبي في أثناء التعليم فإنّه يستحقّ أجر ما علّمه؛ لوقوعه مسلَّماً بالتعليم، بخلاف ردّ الآبق، فإنّ تسليم العمل بتسليم الآبق، و هنا ليس عليه تسليم الصبي، و لا هو في يده.

و لو منعه أبوه من التعليم، فللمعلّم أُجرة المثل لما علَّم.

و لو قال: إن خطتَ لي هذا القميص فلك درهم، فخاط بعضه، فإن تلف في يد الخيّاط لم يستحق شيئاً، و إن تلف في يد ربّ الثوب بعد ما سلّمه إليه استحقّ من الأُجرة بنسبة ما عَمِل.

مسألة 505: لو جاء بعبده أو ضالّته أو لقطته أو ثوبه مخيطاً و طالَبه بالعوض، فأنكر المالك شرط الجعالة و قال: لم أجعل لك شيئاً، فالقول قول المالك؛

لأصالة عدم الشرط.

و لو اتّفقا على الجُعْل و اختلفا في قدر العوض، فالقول قول المالك أيضاً؛ لأنّه منكر للزيادة.

و قال الشافعي: يتحالفان، و تثبت أُجرة المثل، كما لو اختلفا في الإجارة و ثمن المبيع(1).

و الأصل عندنا ممنوع.

و لو اختلفا في عين العبد الذي شرط في ردّه العوض، فقال العامل:

ص: 446


1- المهذّب - للشيرازي - 419:1، الوسيط 213:4، الوجيز 241:1، التهذيب - للبغوي - 566:4-567، البيان 362:7، العزيز شرح الوجيز 203:6، روضة الطالبين 342:4.

شرطتَ لي العوض في العبد الذي رددتُه، و قال [المالك]: بل شرطتُ لك في العبد الذي لم تردّه، فالقول قول المالك مع اليمين؛ لأنّه ادّعي عليه شرط العوض في هذا العبد فأنكره، و الأصل عدم الشرط.

و كذا لو قال المالك: شرطتُ لك العوض على ردّ العبدين، فقال العامل: بل على ردّ أحدهما.

و لو اختلفا في جنس العوض، فقال المالك: جعلتُ لك عشرة دراهم، و قال العامل: بل عشرة دنانير، فالقول قول المالك أيضاً، كما قلنا في القدر: إنّ القول قول المالك مع يمينه.

فإذا حلف المالك في الصورتين، كان له أقلّ الأمرين من أُجرة المثل و القدر المدّعى.

و قال الشيخ رحمه الله: يحلف المالك، و يثبت عليه أُجرة المثل(1).

و لو اختلفا في السعي بأن قال: حصل في يدك قبل الجُعْل فلا جُعْل لك، و قال العامل: بل حصل بعد الجُعْل، فالقول قول المالك أيضاً؛ لأصالة براءة الذمّة.

مسألة 506: لو قال: مَنْ ردّ عبدي إلى شهرٍ فله كذا، صحّ،

فإن جاء به إلى شهرٍ استحقّ الجُعْل، و إن خرج الشهر و لم يأت به لم يكن له شيء؛ لأنّه لم يأت بما شرطه.

و قال بعض الشافعيّة: لا يجوز؛ لأنّ تقدير هذه المدّة مخلٌّ بمقصود العقد، فإنّه ربما لا يظفر به في تلك المدّة، فيضيع سعيه، و لا يحصل غرض المالك، و هذا كما أنّه لا يجوز تقدير مدّة القراض(2).

ص: 447


1- المبسوط - للطوسي - 333:3، الخلاف 590:3، المسألة 18.
2- البيان 357:7، العزيز شرح الوجيز 203:6-204، روضة الطالبين 342:4.

و لو قال: بِعْ عبدي هذا، أو اعمل كذا و لك عشرة دراهم، فإن كان العمل مضبوطاً مقدَّراً، قال بعض الشافعيّة: إنّه يكون إجارةً(1) ، و إن احتاج إلى تردّداتٍ غير مضبوطةٍ فهو جعالة.

مسألة 507: الأقوى: إنّ يد العامل على ما يحصل في يده إلى أن يردّه يد أمانةٍ.

و لم أقف فيه على شيءٍ، لكنّ النظر يقتضي ذلك؛ لأصالة البراءة.

ثمّ إذا رفع اليد عن الدابّة و خلّاها في مضيعةٍ، فهو تقصير مضمّن.

و نفقة العبد و علف الدابّة في مدّة الردّ على المالك؛ لأنّه ملكه، و يد العامل كيَد الوكيل.

و قال بعض الشافعيّة: إنّه محمول على مكتري الجمال إذا هرب مالكها و خلّاها عنده(2).

و قال بعضهم: يجوز أن يقال: ذلك أمر أفضت إليه الضرورة، و هنا أثبت العامل اليد عليه باختياره فليتكلّف مئونته، و يؤيّده العادة(3).

و ليس بشيءٍ.

و لو قال لغيره: إن أخبرتني بخروج فلان من البلد فلك كذا، فأخبره، فإن كان له في الإخبار غرض صحيح، استحقّ، و إلّا فلا.

و قال بعض الشافعيّة: إن كان له غرض صحيح في خروجه استحقّ، و إلّا فلا، و هذا يقتضي أن يكون صادقاً، فإنّ الغرض يحصل به، بخلاف ما

ص: 448


1- العزيز شرح الوجيز 204:6، روضة الطالبين 342:4.
2- العزيز شرح الوجيز 204:6، روضة الطالبين 342:4.
3- العزيز شرح الوجيز 204:6، روضة الطالبين 342:4.

إذا قال: إن أخبرتني بكذا فأنتِ طالق، فأخبرته كاذبةً.

قال: و ينبغي أن يُنظر في أنّه هل يناله تعب أو لا؟(1).

مسألة 508: العامل إن ردّ الآبق أو الضالّة أو غيرهما متبرّعاً بذلك، فلا أُجرة له.

و إن بذل المالك له جُعْلاً فإن عيّنه فعليه تسليمه مع الردّ، و إن لم يعيّنه وجب عليه أُجرة المثل، إلّا في ردّ الآبق، فإنّ فيه أربعة دنانير قيمتها أربعون درهماً إن ردّه من خارج البلد، و إن ردّه من البلد ففيه دينار قيمته عشرة دراهم؛ لما تقدّم(2) في رواية كردين عن الصادق عليه السلام.

قال الشيخ رحمه الله: هذا على الأفضل، لا الوجوب، و العمل على الرواية أولى(3).

و لو نقصت قيمة العبد عن ذلك، ففي وجوب ذلك إشكال.

و قال بعض علمائنا: الحكم في البعير الشارد كذلك، إن ردّه من المصر كان عليه دينار قيمته عشرة دراهم، و إن ردّه من غير مصره كان عليه أربعة دنانير(4).

و فيه نظر؛ لعدم الظفر بدليلٍ عليه.

و لو استدعى الردّ و لم يبذل أُجرة، لم يكن للرادّ شيء؛ لأنّه متبرّع بالعمل.

مسألة 509: يجوز أخذ الآبق لمن وجده

- و به قال الشافعي و مالك و أحمد و أصحاب الرأي(5) - و لا نعلم فيه خلافاً؛ لأنّ العبد لا يؤمن لحاقه بدار الحرب و ارتداده و اشتغاله بالفساد في سائر البلاد.

ص: 449


1- العزيز شرح الوجيز 204:6، روضة الطالبين 342:4-343.
2- في ص 424.
3- المبسوط 333:3.
4- الشيخ المفيد في المقنعة: 648-649، و الشيخ الطوسي في النهاية: 323-324، و ابن البرّاج في المهذّب 570:2، و ابن إدريس في السرائر 109:2.
5- المغني 383:6.

و يكون أمانةً في يده، و إن تلف بغير تفريطٍ، فلا ضمان عليه؛ لأنّه محسن، فينتفى السبيل عليه، فإن وجد صاحبه دفعه إليه إذا أقام به البيّنة أو اعترف العبد أنّه سيّده، و ان لم يجد مولاه دفعه إلى الإمام أو نائبه، فيحفظه لصاحبه أو يبيعه إن رآه مصلحةً، و نحوه قال مالك و أحمد و أصحاب الرأي(1) ، و لا نعرف لهم مخالفاً.

و ليس لملتقطه بيعه و لا تملّكه بعد تعريفه؛ لأنّه ينحفظ بنفسه، فهو كضوالّ الإبل، فإن باعه فسد في قول عامّة أهل العلم(2).

و إن باعه الإمام لمصلحةٍ رآها في بيعه، فجاء سيّده و اعترف بأنّه قد كان أعتقه، فالأقرب: عدم القبول إلّا بالبيّنة؛ لأنّه الآن ملكٌ لغيره، فلا يُقبل إقراره في ملك غيره، كما لو باعه السيّد ثمّ أقرّ بعتقه.

و قال بعض العامّة: يُقبل قوله؛ لأنّه لا يجرّ إلى نفسه نفعاً، و لا يدفع عنه ضرراً(3).

و على ما اخترناه من عدم قبول قوله ليس له المطالبة بثمنه؛ لإقراره بحُرّيّته، لكن يؤخذ لبيت المال؛ لأنّه لا مستحقّ له ظاهراً.

فإن عاد السيّد فأنكر العتق و طلب المال، كان له أخذه؛ لأنّه مالٌ لا منازع له فيه، فيُحكم له به.

تمّ الجزء الحادي عشر من كتاب تذكرة الفقهاء بعون اللّه تعالى، و يتلوه في الجزء الثاني عشر - بتوفيق اللّه تعالى - المقصد السابع في الإجارة، و ذلك على يد مصنّفه العبد الفقير إلى اللّه تعالى حسن بن يوسف ابن المطهّر.6.

ص: 450


1- المغني 383:6.
2- المغني 384:6.
3- المغني 384:6.

و قد فرغت من تصنيفه و تسويده في ثالث جمادى الأُولى من سنة خمس عشرة و سبعمائة بالسلطانيّة، و الحمد للّه وحده، و صلّى اللّه على سيّدنا و مولانا محمّد النبيّ و آله الطاهرين.

ص: 451

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.