تذكره الفقهاء المجلد 16

اشارة

سرشناسه : علامه حلي حسن بن يوسف ق 726 - 648

عنوان و نام پديدآور : تذكره الفقهاء/ تاليف العلامه الحلي الحسن بن يوسف بن المطهر؛ تحقيق موسسه آل البيت عليهم السلام لاحياآ التراث مشخصات نشر : قم موسسه آل البيت عليهم السلام لاحياآ التراث 1400ق = 1300.

مشخصات ظاهري : ج 22

فروست : (موسسه آل البيت عليهم السلام لاحياآ التراث 127؛ 129؛ 130134)

شابك : 964-5503-33-7 (دوره ؛ 964-5503-44-2 2900ريال (ج 4) ؛ 964-5503-46-9 (ج 6) ؛ 964-319-007-2 (ج 7) ؛ 964-319-224-5 8000ريال (ج 11)

يادداشت : عربي يادداشت : فهرست نويسي براساس جلد چهارم 1414ق = 1372

يادداشت : ج 1 (چاپ اول 1420ق = 1378)؛ 8000 ريال ج 1) :ISBN 964-319-197-4

يادداشت : ج 8 (چاپ اول 1417ق = 1376)؛ 6500 ريال ج )8ISBN 964-319-051-x

يادداشت : ج 9 (چاپ اول 1419ق = 1377)8000 ريال :(ج )9ISBN 964-319-008-0

يادداشت : ج 13 (چاپ اول 1423ق = 1381)9500 ريال :ISBN 964-319-389-6

يادداشت : كتابنامه مندرجات : (ج )7) ISBN 964-319-007-2 ج 12) 1422ق = 8500 :1380 ريال موضوع : فقه جعفري -- قرن ق 8

شناسه افزوده : موسسه آل البيت عليهم السلام لاحياآ التراث رده بندي كنگره : BP182/3 /ع8ت4 1300ي

رده بندي ديويي : 297/342

شماره كتابشناسي ملي : م 73-2721

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

الجزء السادس عشر

تتمة كتاب الديون و توابعها

المقصد الثامن: في الصلح

اشارة

و فيه فصول:

الفصل الأوّل: في ماهيّته و أركانه

اشارة

و فيه بحثان:

البحث الأوّل: في ماهيّته.
اشارة

الصلح عقد شُرّع لقطع التنازع بين المتخاصمين.

و هو عقد سائغ بالنصّ و الإجماع.

قال اللّه تعالى:«وَ إِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَ الصُّلْحُ خَيْرٌ» (1) و قال تعالى:

«وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما» (2) .

و من طريق العامّة: عن أبي هريرة أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله قال: «الصلح جائز بين المسلمين إلّا صلحاً أحلّ حراماً أو حرّم حلالاً»(3).

و عن عبد اللّه بن كعب بن مالك أنّ كعب بن مالك أخبره أنّه تقاضى ابنَ أبي حَدْرَدٍ دَيْناً كان له - على عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله - في المسجد،

ص: 5


1- النساء: 128.
2- الحجرات: 9.
3- سنن أبي داوُد 3594/304:3، الإحسان بترتيب صحيح ابن حبّان 5069/275:7، موارد الظمآن: 1199/291.

فارتفعت أصواتهما حتى سمعها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و هو في بيته، فخرج رسول اللّه صلى الله عليه و آله إليهما حتى كشف سجف(1) حجرته و نادى: «يا كعب» قال:

لبّيك يا رسول اللّه، فأشار بيده أنْ ضَعِ الشطرَ من دَيْنك، قال كعب: قد فعلتُ يا رسول اللّه، قال: «قُمْ فاقبضه»(2).

و من طريق الخاصّة: ما رواه حفص بن البختري - في الحسن - عن الصادق عليه السلام قال: «الصلح جائز بين الناس»(3).

و في الصحيح عن الباقر و الصادق عليهما السلام أنّهما قالا في رجلين كان لكلّ واحدٍ منهما طعام عند صاحبه لا يدري كلّ واحدٍ منهما كم له عند صاحبه، فقال كلّ واحدٍ منهما لصاحبه: لك ما عندك ولي ما عندي، فقال:

«لا بأس بذلك»(4).

و قد أجمعت الأُمّة على جواز الصلح في الجملة، و لم يقع بين العلماء فيه خلاف.

مسألة 1022: الصلح عند علمائنا أجمع عقدٌ قائم بنفسه ليس فرعاً على غيره،

بل هو أصل في نفسه منفرد بحكمه، و لا يتبع غيره في الأحكام؛ لعدم الدليل على تبعيّته على الغير، و الأصل في العقود الأصالة.

و قال الشافعي: إنّه ليس بأصلٍ ينفرد بحكمه، و إنّما هو فرع على غيره. و قسّمه على خمسة أضرُب:

ضرب هو فرع البيع، و هو أن يكون في يده عينٌ أو في ذمّته دَيْنٌ

ص: 6


1- السجْف: الستر. النهاية - لابن الأثير - 343:2 «سجف».
2- صحيح البخاري 246:3، صحيح مسلم 1558/1192:3، سنن البيهقي 63:6-64، المعجم الكبير - للطبراني - 67:19-128/68.
3- الكافي 5/259:5، التهذيب 479/208:6.
4- التهذيب 470/206:6.

فيدّعيها إنسان فيُقرّ له بها ثمّ يصالحه على ما يتّفقان عليه، و هو جائز فرع على البيع، بل هو بيع عنده تتعلّق به أحكامه.

و ضرب هو فرع الإبراء و الحطيطة، و هو أن يكون له في ذمّته دَيْنٌ فيُقرّ له به ثمّ يصالحه على أن يسقط بعضه و يدفع إليه بعضه، و هو جائز، و هو فرع الإبراء.

و ضرب هو فرع الإجارة، و هو أن يكون له عنده دَيْنٌ أو عينٌ فيصالحه من ذلك على خدمة عبدٍ أو سكنى دارٍ مدّةً، فيجوز ذلك، و يكون فرعَ الإجارة.

و ضرب هو فرع الهبة، و هو أن يدّعي عليه دارين أو عبدين و شبههما في يده، فيُقرّ له بهما، و يصالحه من ذلك على إحداهما، فيكون هبةً للأُخرى.

و ضرب هو فرع العارية، و هو أن تكون في يده دار فيُقرّ له بها، فيصالحه على سكناها شهراً، و هو جائز، و يكون ذلك عاريةً(1).

و قال بعض الشافعيّة: الصلح فرعٌ للبيع و الإبراء و الهبة خاصّةً. ثمّ فسّر الإبراء و الهبة بما ليس بصلحٍ، فقال: إذا كان له في ذمّته ألف درهم فقال: قد أبرأتك من خمسمائة، و يدفع إليه خمسمائة، فإن كان بلفظ الصلح، لم يصح. و كذا إذا قال: أبرأتك من خمسمائة على أن تعطيني خمسمائة، فإنّه لا يجوز(2).

و قال بعضهم: يجوز بلفظ الصلح(3).

ثمّ قال القائل الأوّل: لو ادّعى عليه عينين فأقرّ له بهما فوهب لهه.

ص: 7


1- البيان 221:6-224. (2 و 3) لم نعثر عليه في مظانّه.

إحداهما و أخذ الأُخرى جاز، و لا يجوز بلفظ الصلح أو بالشرط؛ لأنّ لفظ الصلح يقتضي المعاوضة، فأمّا إذا صالحه على بعض الدَّيْن، كان كأنّه قد باع ألفاً بخمسمائة، و هو حرام(1).

و أمّا في الهبة فإذا كان بلفظ الصلح، فكأنّه قد باع ماله بماله، فلهذا لم يجز.

و المشهور عندهم: الجواز(2) ؛ لأنّ لفظ الصلح إذا ذكر فيما كان معاوضةً اقتضى ذلك أن يكون معاوضةً، فأمّا أن يكون لفظه يقتضيه فليس بصحيحٍ؛ لأنّ الصلح إنّما معناه الاتّفاق و الرضا، و الاتّفاق قد يحصل على المعاوضة و على غيرها، كما أنّ لفظ التمليك إذا كان فيما طريقه المعاوضة - مثل: أن يقول: ملّكتك هذا بهذا - فإنّه يكون بيعاً، فإذا قال: ملّكتك هذا، كان هبةً حيث تجرّد عن العوض، كذا هنا أيضاً.

و على القول الثاني يخرج قائله من أن يكون صلحاً، و لا يبقى له ثَمَّ تعلّقٌ؛ لأنّه إذا ادّعى عليه شيئاً، فأقرّ به و أبرأه من بعضه و أخذ بعضه بغير لفظ الصلح، فذلك براءة و قبض دَيْنه، و لو أبرأه من جميعه لم يُسمّ صلحاً، و لو قبض جميعه فكذلك، فأمّا إذا كان بلفظ الصلح سُمّي بذلك؛ لوجود لفظه و إن لم يوجد معناه، كما تُسمّى الهبة المشروطة بالثواب هبةً؛ لوجود لفظها و إن لم يوجد في ذلك معناها، و هذا خلاف ما تقدّم؛ لأنّه معاوضة إجماعاً.

فأمّا إذا قال: أبرأتك من خمسمائة على أن تعطيني خمسمائة فإنّ الشافعيّة منعوا منه؛ لأنّ هذا الاشتراط يجعله بحكم العوض عن المتنازع6.

ص: 8


1- لم نعثر عليه في مظانّه.
2- راجع الحاوي الكبير 368:6، و التهذيب - للبغوي - 143:4، و البيان 224:6.

و ذلك لا يجوز(1).

و إذا ورث رجلان من أبيهما أو أخيهما فصالح أحدهما الآخَر على نصيبه، كان ذلك صحيحاً عندنا مستقلّاً بنفسه.

و عندهم أنّه فرع البيع، فإذا شاهدا التركة و عرفا المعوّض، صحّ الصلح(2).

مسألة 1023: الصلح إمّا أن يجري بين المتداعيين، أو بين المدّعي و بين أجنبيٍّ.
القسم الأول من الصلح ما يجري بين المتداعيين
اشارة

و الأوّل قسمان: أحدهما:

ما يجري على الإقرار عند الشافعيّة
اشارة

ما يجري على الإقرار عند الشافعيّة(3) ، و هو نوعان:

أحدهما: الصلح عن العين.

و الثاني: الصلح عن الدَّيْن.

النوع الأوّل: الصلح عن العين.

و هو قسمان: صلح معاوضةٍ، و صلح حطيطةٍ.

أمّا صلح المعاوضة فهو الذي يجري على العين المدّعاة، كما لو ادّعى داراً فأقرّ له المتشبّث بها، و صالحه منها على عبدٍ أو ثوبٍ. و حكمه حكم البيع عند الشافعي(4) و إن عقد بلفظ الصلح، و تتعلّق به جميع أحكام البيع، كالردّ بالعيب، و الشفعة، و المنع من التصرّف قبل القبض، و اشتراط

ص: 9


1- الحاوي الكبير 367:6، المهذّب - للشيرازي - 340:1، البيان 222:6.
2- البيان 224:6.
3- العزيز شرح الوجيز 85:5، روضة الطالبين 427:3.
4- مختصر المزني: 105، الحاوي الكبير 367:6، المهذّب - للشيرازي - 340:1، التهذيب - للبغوي - 141:4، البيان 221:6، العزيز شرح الوجيز 85:5، روضة الطالبين 428:3، منهاج الطالبين: 125.

القبض إن كان المصالَح عنه و المصالَح عليه متوافقين في علّة الربا، و اشتراط التساوي في الكيل و الوزن إن اتّحد جنسهما من أموال الربا، و جريان التحالف عند الاختلاف، و فساد العقد بالغرر و الجهل.

هذا إذا صالح منها على عينٍ أُخرى، و إن صالح منها على منفعة دارٍ أُخرى أو خدمة عبدٍ سنةً جاز، و كان إجارةً، فتثبت فيه أحكامها.

و أمّا صلح الحطيطة، و هو الجاري على بعض العين المدّعاة، كما لو صالح من الدار المدّعاة على نصفها أو ثلثها، فإنّه هبة بعض المدّعى ممّن هو في يده، فيشترط القبول و مضيّ إمكان القبض، و يصحّ بلفظ الهبة - إجماعاً - و ما في معناها.

و في صحّتها بلفظ الصلح وجهان عندهم:

أحدهما: المنع؛ لأنّ الصلح يتضمّن المعاوضة، و لا يقابل الإنسان ملك نفسه ببعضه.

و أظهرهما عندهم: الصحّة؛ لأنّ الخاصّيّة التي يفتقر إليها لفظ الصلح - و هو سبق الخصومة - قد حصلت(1).

مسألة 1024: لو صالحه من أرش الموضحة - مثلاً - على شيءٍ معلوم، جاز إذا علما قدر أرشها،

و به قال الشافعي(2).

و لو باعه، لم يجز عند بعض الشافعيّة(3).

و خالفه معظم الشافعيّة في افتراق اللفظين.

و قالوا: إن كان الأرش مجهولاً - كالحكومة التي لم تُقدَّر و لم تُضبط - لم يجز الصلح عنه و لا بيعه.

ص: 10


1- العزيز شرح الوجيز 86:5، روضة الطالبين 428:3.
2- العزيز شرح الوجيز 86:5، روضة الطالبين 428:3.
3- العزيز شرح الوجيز 86:5، روضة الطالبين 428:3.

و إن كان معلومَ القدر و الصفة - كالدراهم و الدنانير إذا ضُبطت في الحكومة - جاز الصلح عنها، و جاز بيعها ممّن عليه.

و إن كان معلومَ القدر دون الصفة على الحدّ المعتبر في السَّلَم كالإبل الواجبة في الدية، ففي جواز الاعتياض عنها بلفظ الصلح و بلفظ البيع جميعاً للشافعيّة قولان:

أحدهما: الصحّة، كما لو اشترى عيناً و لا يعرف صفاتها.

و أظهرهما عندهم: المنع، كما لو أسلم في شيءٍ غير موصوفٍ(1).

هذا حكم الجراح الذي لا يوجب القود، و إن أوجبه إمّا في النفس أو فيما دونها، فالصلح عنها مبنيّ عندهم على الخلاف في أنّ مُوجَبَ العمد القصاصُ أو أحدُ الأمرين ؟ و سيأتي إن شاء اللّه تعالى(2).

مسألة 1025: لا يشترط عندنا سبق الخصومة في الصلح؛

لأصالة الصحّة، فلو كان لواحدٍ ملكٌ فقال له غيره: بِعْني ملكك بكذا، فباعه، صحّ البيع إجماعاً.

و لو قال له: صالحني عنه بألف، ففَعَل، صحّ عندنا؛ لأنّ الصلح عقد مستقلّ بنفسه.

و هو أحد وجهي الشافعيّة؛ لأنّ مثل هذا الصلح معاوضة، و لا فرق بين أن يعقده بلفظ الصلح أو بلفظ البيع.

و أظهرهما عندهم: المنع؛ لأنّ لفظ الصلح إنّما يُستعمل و يُطلق إذا سبقت الخصومة(3).3.

ص: 11


1- العزيز شرح الوجيز 86:5، روضة الطالبين 429:3-430.
2- العزيز شرح الوجيز 86:5، روضة الطالبين 430:3.
3- العزيز شرح الوجيز 87:5، روضة الطالبين 429:3.

و هو ممنوع، و لا عبرة باللفظ.

هذا إذا أطلقا لفظ الصلح و لم ينويا شيئاً، أمّا إذا استعملا و نويا البيع، فإنّه يكون كنايةً قطعاً، و يكون عند الشافعيّة مبنيّاً على الخلاف المشهور في انعقاد البيع بالكنايات(1).

و عندنا الأصل عصمة مال الغير، و عدم الانتقال عنه بالكناية.

مسألة 1026: لو صالح الإمام أهلَ الحرب من أموالهم على شيءٍ يأخذه منهم، جاز،

و لا يقوم البيع مقامه، و به قال بعض الشافعيّة(2).

و اعترض بعضهم: بأنّ هذا الصلح ليس عن أموالهم، و إنّما يصالحهم و يأخذه منهم للكفّ عن دمائهم و أموالهم(1).

و هذا الكلام ساقط عندنا؛ لأنّ الصلح عقد مستقلٌّ بنفسه على ما تقدّم(2).

النوع الثاني: الصلح عن الدَّيْن.

و هو قسمان:

[القسم الأول] صلح معاوضةٍ،

و هو الجاري على ما يغاير الدَّيْن المدّعى، كما لو صالحه على الدَّيْن الذي له عليه بعبدٍ أو ثوبٍ أو شبهه.

و هو صحيح عندنا مطلقاً، سواء وقع الصلح على بعض أموال الربا الموافق في العلّة أو المخالف، أو على غيره.

ص: 12


1- العزيز شرح الوجيز 87:5-88، روضة الطالبين 429:3.
2- في ص 6، المسألة 1022.

و لا يشترط التقابض في المجلس. و لا يشترط تعيينه في عقد الصلح على أصحّ الوجهين عندهم(1).

و إن لم يكن العوضان كذلك، فإن كان العوض عيناً صحّ الصلح.

و لا يشترط قبضه في المجلس في أصحّ الوجهين عندهم(2)، لكن يشترط التعيين في المجلس، و لا يشترط القبض بعد التعيين في أصحّ الوجهين(3).

و كلّ ذلك آتٍ في بيع الدَّيْن ممّن عليه الدَّيْن.

القسم الثاني: صلح الحطيطة،

و هو الجاري على بعض الدَّيْن المدّعى، و هو إبراء عن بعض الدَّيْن.

ثمّ لا يخلو إمّا أن يأتي بلفظ الإبراء أو ما يشبهه، مثل أن يقول:

أبرأتك عن خمسمائة من الألف الذي لي عليك و صالحتك على الباقي، فإنّه يصحّ قطعاً، و يكون إبراءً، و تبرأ ذمّة المديون عمّا أبرأه منه.

و هل يشترط القبول ؟ الأقرب عندي: عدم الاشتراط، و هو أظهر وجهي الشافعيّة(4).

و لهم وجهٌ آخَر بعيد مطّرد في كلّ إبراءٍ(5).

و لا يشترط قبض الباقي في المجلس.

و إمّا أن لا يأتي بلفظ الإبراء، و يقتصر على لفظ الصلح، فيقول:

صالحتك عن الألف التي لي في ذمّتك على خمسمائة، صحّ عندنا أيضاً.

و للشافعيّة وجهان كما تقدّم في صلح الحطيطة في العين.

و الأصحّ عندهم: الصحّة(6).

ص: 13


1- العزيز شرح الوجيز 88:5، روضة الطالبين 430:3.
2- العزيز شرح الوجيز 88:5، روضة الطالبين 430:3.
3- العزيز شرح الوجيز 88:5، روضة الطالبين 430:3.
4- العزيز شرح الوجيز 89:5، روضة الطالبين 430:3.
5- العزيز شرح الوجيز 89:5، روضة الطالبين 430:3.
6- العزيز شرح الوجيز 89:5، روضة الطالبين 430:3.

و هل يشترط القبول ؟ إشكال ينشأ: من كونه عقداً مستقلّاً، و من كونه في معنى الإبراء.

و للشافعيّة وجهان كالوجهين فيما إذا قال لمن له عليه الدَّيْن: وهبته منك.

و الأظهر عندهم: الاشتراط؛ لاقتضاء وضع اللفظ ذلك(1).

و لو صالح منه على خمسمائة معيّنة، فللشافعيّة الوجهان(2).

و اختار الجويني هنا الفسادَ؛ لأنّ تعيّن الخمسمائة يقتضي كونها عوضاً و كون العقد معاوضةً، فيصير كأنّه قد باع الألف بنصفها، و هو ربا(3).

و هو ممنوع؛ لأنّ الصلح على البعض المعيّن إبراءٌ للبعض و استيفاءٌ للباقي، و لا يصحّ هذا الضرب بلفظ البيع، كما في نظيره من الصلح على العين؛ لأنّه ربا محقّق.

مسألة 1027: يصحّ الصلح على الأعيان المتماثلة جنساً و وصفاً،
اشارة

سواء كانت ربويّةً أو لا، و سواء تفاوتت في المقدار أو الحلول أو التأجيل، أو لا، عندنا؛ لما تقدّم(2) من كون الصلح عقداً مستقلّاً بنفسه ليس يجب أن تتبعه لواحق البيع.

فلو كان له ألف مؤجَّلة على غيره، فصالحه منها على ألفٍ حالّ، أو بالعكس، صحّ؛ لما مهّدناه من القاعدة.

و قالت الشافعيّة: لو صالح عن ألفٍ حالّ على ألفٍ مؤجَّل، أو من ألفٍ مؤجَّل على ألفٍ حالّ، كان لغواً؛ لأنّ الأوّل وَعْدٌ من صاحب الدَّيْن

ص: 14


1- العزيز شرح الوجيز 89:5، روضة الطالبين 430:3. (2 و 3) العزيز شرح الوجيز 89:5، روضة الطالبين 431:3.
2- في ص 6، المسألة 1022.

بإلحاق الأجل، و الثاني وَعْدٌ من المديون بإسقاط الأجل، و الأجل لا يلحق و لا يسقط(1).

و هو ممنوع؛ لأنّه مبنيّ على عدم استقلال عقد الصلح بنفسه.

أمّا لو عجّل المديون الدَّيْنَ المؤجَّل و دفعه إلى صاحبه، لم يجب على المالك القبولُ، فإن قَبِل و رضي بالدفع سقط الأجل إجماعاً؛ لحصول الإيفاء و الاستيفاء.

و كذا البحث في الصحيحة و المكسّرة.

و لو صالح عن ألفٍ مؤجَّل على خمسمائة حالّة، صحّ عندنا؛ عملاً بالأصل.

و بما رواه أبان بن عثمان عمّن حدّثه عن الصادق عليه السلام، قال: سألته عن الرجل يكون له على الرجل الدَّيْن، فيقول له قبل أن يحلّ الأجل:

عجِّل لي النصفَ من حقّي على أن أضع عنك النصفَ، أ يحلّ ذلك لواحدٍ منهما؟ قال: «نعم»(2).

و في الصحيح عن محمّد بن مسلم عن الباقر عليه السلام، و عن الحلبي عن الصادق عليه السلام أنّهما قالا في الرجل يكون عليه الدَّيْن إلى أجل مسمّى، فيأتيه غريمه فيقول: أنقدني من الذي لي عليك كذا و أضع عنك بقيّته، أو يقول:

أنقدني بعضاً و أمدُّ لك في الأجل فيما بقي، قال: «لا أرى به بأساً ما لم يزد على رأس ماله شيئاً، يقول اللّه [عزّ و جلّ]:«فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَ لا تُظْلَمُونَ» (3)»(4).6.

ص: 15


1- الوسيط 50:4، العزيز شرح الوجيز 89:5، روضة الطالبين 431:3.
2- الكافي 258:5-3/259، التهذيب 474/206:6.
3- البقرة: 279.
4- التهذيب 475/207:6.

و قال الشافعي: لا يصحّ الصلح عن ألفٍ مؤجَّل بخمسمائة حالّة؛ لأنّه نزل عن بعض المقدار لتحصيل الحلول في الباقي، و الصفة بانفرادها لا تُقابَل بالعوض، ثمّ صفة الحلول لا تلتحق بالمال المؤجَّل، فإذا لم يحصل ما نزل عن القدر لتحصيله لم يصح النزول(1).

و نحن نمنع ذلك؛ لعدم اتّحاد المالين بالشخص. و نمنع عدم التحاق صفة الحلول بالمال المؤجَّل في صورة النزاع؛ لأنّ الصلح عقد أثره ذلك.

فروع:

أ - لو صالحه عن ألفٍ حالّ بألفين مؤجَّلة، أو عن ألفٍ مؤجَّلة إلى سنةٍ بألفين مؤجَّلة إلى سنتين، لم يجز؛

عملاً بحديث الباقر و الصادق عليهما السلام، و قد سبق(2).

ب - لو صالح عن ألفٍ حالّ على خمسمائة مؤجَّلة، جاز؛

لأنّه يتضمّن الإبراء، و لزم الصلح و الأجل؛ عملاً بالشرط.

و قالت الشافعيّة: إنّ هذا الصلح ليس فيه [شائبة](3) المعاوضة، و إنّما هو مسامحة من وجهين: حطِّ بعض القدر، و هو سائغ، فيبرأ عن خمسمائة، و وعدٍ بالأجل، و هو غير لازمٍ، فله أن يطالبه بالباقي الحالّ(4).

و قد بيّنّا فساده.

ج - لو صالحه عن الدراهم بالدنانير أو بالدراهم، لم يكن ذلك صَرفاً

ص: 16


1- الوجيز 178:1، الوسيط 51:4، التهذيب - للبغوي - 144:4، العزيز شرح الوجيز 89:5، روضة الطالبين 431:3.
2- في ص 15.
3- بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «سابقة». و الصحيح ما أثبتناه من «العزيز شرح الوجيز».
4- العزيز شرح الوجيز 89:5، روضة الطالبين 431:3.

عندنا، فلا يشترط فيه ما يشترط في الصَّرف، خلافاً للشافعي(1).

البحث الثاني: في الأركان.
مسألة 1028: أركان الصلح أربعة: المتصالحان، و المصالَح عليه، و المصالَح عنه.

أمّا المتصالحان فيشترط فيهما الكماليّة بأن يكون كلّ واحدٍ منهما بالغاً عاقلاً رشيداً جائزَ التصرّف فيما وقع الصلح عليه إجماعاً.

و أمّا المصالَح عليه و المصالَح عنه فيشترط فيهما التملّك، فلو تصالحا على خمر أو خنزير أو استرقاق حُرٍّ أو استباحة بُضْعٍ لم يقع، و لم يفد العقد شيئاً، بل يقع باطلاً بلا خلافٍ.

و كذا يبطل لو صالحه على مال غيره؛ لعدم الملكيّة بالنسبة إليهما.

مسألة 1029: لا يشترط العلم بما يقع الصلح عنه لا قدراً و لا جنساً،

بل يصحّ الصلح، سواء علما قدر ما تنازعا عليه و جنسه أو جهلاه، دَيْناً كان أو عيناً، و سواء كان أرشاً أو غيره، عند علمائنا أجمع - و به قال أبو حنيفة و أحمد(2) - لعموم قوله تعالى:«وَ الصُّلْحُ خَيْرٌ» (3).

و عمومِ قوله عليه السلام: «الصلح جائز بين المسلمين إلّا صلحاً أحلّ حراماً

ص: 17


1- الأُم 227:3، الحاوي الكبير 367:6، التهذيب - للبغوي - 143:4، البيان 224:6.
2- التهذيب - للبغوي - 143:4، البيان 225:6، العزيز شرح الوجيز 88:5، المغني 25:5، الشرح الكبير 9:5.
3- النساء: 128.

أو حرّم حلالاً»(1)تقدّم تخريجه في ص 6، الهامش (3).(2).

و لأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله قال في رجلين اختصما في مواريث درست بينهما:

«و توخّيا، و ليحلّل أحدكما صاحبه» رواه العامّة(3).

و من طريق الخاصّة: ما رواه حفص بن البختري - في الحسن - عن الصادق عليه السلام قال: «الصلح جائز بين الناس»(3).

و قول الباقر و الصادق عليهما السلام في رجلين كان لكلّ واحدٍ منهما طعام عند صاحبه لا يدري كلّ واحدٍ منهما كم له عند صاحبه، فقال كلّ [واحدٍ] منهما لصاحبه: لك ما عندك ولي ما عندي: «لا بأس بذلك إذا تراضيا» و قد تقدّم(4).

و لأنّ مَنْ عليه حقٌّ يجهل قدره هو و مالكه و يريد إبراء ذمّته و الخلاص من ذلك الحقّ الذي هو أمر مطلوب للعقلاء، وجب أن يكون له طريق إلى ذلك، و لا طريق إلّا الصلح، فوجب أن يكون سائغاً، و إلّا لزم الحرج و الضيق في الأحكام، و هو منفيّ شرعاً.

و لأنّ الصلح إسقاطٌ، فيصحّ في المجهول، كالطلاق.

و لأنّه إذا صحّ الصلح مع العلم و إمكان أداء الحقّ بعينه فلأن يصحّ مع الجهل أولى.

و لأنّه إذا كان معلوماً، فلهما طريق إلى التخلّص و براءة ذمّة أحدهما دون صاحبه بدون الصلح، و مع الجهل لا يمكن ذلك، فلو لم يجز الصلح).

ص: 18


1- تقدّم تخريجه في الهامش
2- من ص 5.
3- سنن البيهقي 66:6، المغني 26:5، الشرح الكبير 9:5.
4- في ص 6 مع تخريجه في الهامش (4).

أفضى إلى ضياع المال على تقدير أن يكون بينهما مال لا يعرف كلّ واحدٍ منهما قدر حقّه.

و قال الشافعي: لا يصحّ الصلح عن المجهول، فلو ادّعى مالاً مجهولاً فأقرّ المدّعى عليه به و صالحه عليه، لم يصح الصلح؛ لأنّ ذلك نوع معاوضةٍ، و لهذا تثبت في الشقص الشفعة فيه، فلم يصح في المجهول، كالبيع، و لأنّ المُصالَح عليه يجب أن يكون معلوماً، فكذا المُصالَح عنه قياساً(1).

و هو ممنوع.

مسألة 1030: يشترط في صحّة الصلح الرضا من المتصالحين،

فلا يقع مع الإكراه، عند علمائنا كافّة، كغيره من العقود؛ لقوله تعالى:«لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ» (2).

و من صُور الإكراه ما لو كان على غيره حقٌّ ماليّ، فأنكره المديون ظاهراً، فصالحه على بعضه أو على غيره توصّلاً إلى أخذ بعض حقّه، لم يصح الصلح، و لم يتمّ إبراء ذمّة المديون من الحقّ الذي عليه، سواء عرف المالك قدر حقّه أو لا، و سواء ابتدأ المالك بطلب الصلح عن حقّه المعلوم أو المجهول أو لا.

و لا يفيد مثل هذا الصلح ملكاً للآخَر، إلّا أن يحصل الرضا الباطن.

و كذا لو كان عليه حقٌّ غير معلوم القدر للمالك، فصالح المديون مالكه على شيءٍ، لم يكن إبراءً للمديون، إلّا أن يُعلمه بقدره و يرضى

ص: 19


1- الحاوي الكبير 368:6-369، التنبيه: 103-104، البيان 225:6، المغني 26:5، الشرح الكبير 9:5.
2- النساء: 29.

باطناً، أو يرضى باطناً بالصلح عن أيّ مقدارٍ كان أُوقع عليه عقد الصلح؛ لما رواه عليّ بن أبي حمزة عن أبي الحسن عليه السلام، قلت له: رجل يهوديّ أو نصرانيّ كانت له عندي وديعة أربعة آلاف درهم فمات أ يجوز لي أن أُصالح ورثته و لا أُعلمهم كم كان ؟ قال: «لا يجوز حتى تُخبرهم»(1).

و لأنّ ذلك أكل مال الغير بالباطل، فيدخل تحت النهي، و مع الرضا بأيّ مقدارٍ كان يكون سائغاً.

القسم الثاني من الصلح، و هو الواقع بين المدّعي و الأجنبيّ.
مسألة 1031: الصلح الواقع بين المدّعي و الأجنبيّ إمّا أن يقع مع إقرار المدّعى عليه ظاهراً أو مع إنكاره.

أمّا الأوّل فإمّا أن يكون المدّعى به عيناً أو دَيْناً.

فإن كان عيناً بأن ادّعى داراً أو عبداً أو ثوباً أو غير ذلك من الأعيان في يد غيره، فصدّقه المتشبّث، فجاء الأجنبيّ و قال: إنّ المدّعى عليه قد وكّلني في مصالحتك له على نصف المدّعى أو على هذه العين الأُخرى من مال المدّعى عليه، فصالحه على ذلك، جاز؛ لعموم قوله تعالى:«وَ الصُّلْحُ خَيْرٌ» (2).

و قوله عليه السلام: «الصلح جائز بين المسلمين»(3).

و كذا لو قال الأجنبيّ: إنّه وكّلني على مصالحتك عنه على عشرة دنانير في ذمّته.

ص: 20


1- الكافي 6/259:5، الفقيه 54/21:3، التهذيب 472/206:6 بتفاوت.
2- النساء: 128.
3- سنن ابن ماجة 2353/788:2، سنن أبي داوُد 3594/304:3، سنن الترمذي 634:3-1352/635، سنن الدارقطني 97/27:3، سنن البيهقي 65:6، مسند أحمد 8566/54:3، المستدرك - للحاكم - 101:4.

ثمّ إن كان صادقاً في الوكالة، انتقل المدّعى به إلى المدّعى عليه، و إلّا كان حكمه حكمَ شراء الفضولي.

و إن قال: أمرني بالمصالحة له على هذا العبد من ملكي، فصالحه عليه، فهو بمنزلة ما لو اشترى لغيره بمال نفسه بإذن ذلك الغير، و قد سبق(1) الخلاف فيه، فإن قلنا بالصحّة فالذي يدفعه قرض أو هبة.

أمّا لو صالح الأجنبيّ لنفسه بمالٍ له إمّا عن دَيْنٍ في ذمّته أو عينٍ لنفسه، صحّ، كما لو [اشتراه](2) و هو الأظهر عند الشافعيّة(3).

و عند بعضهم وجهان، كما لو قال ابتداءً لغيره من غير سَبْق دعوى و جواب: صالحني من دارك هذه على ألف؛ لأنّه لم يَجْر مع الأجنبيّ خصومة فيه، و هذه الصورة أولى بالصحّة حيث ترتّب اللفظ على دعوى و جواب، فيكتفى به في استعمال لفظ الصلح(4).

و إن كان المدّعى به دَيْناً و قال: وكّلني المدّعى عليه بمصالحتك على نصفه أو على هذا الثوب و هو ملكه أو ملكي، صحّ عندنا، و يسقط الدَّيْن، كما لو ضمن دَيْناً و أدّى عنه عوضاً، و هو أحد وجهي الشافعيّة. و الثاني:

لا يصحّ؛ لأنّه يبيع شيئاً بدَيْن الغير(5).

و لو صالح لنفسه على عينٍ أو دَيْنٍ في ذمّته، فهو بمنزلة ابتياع دَيْنٍ في ذمّة الغير، و قد سبق.

و أمّا الثاني - و هو أن يقع الصلح مع إنكار المدّعى عليه ظاهراً - فإذا3.

ص: 21


1- في ج 10، ص 218، الفرع «ج» من المسألة 110.
2- بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «أبرأه». و الظاهر ما أثبتناه كما في «العزيز شرح الوجيز» و «روضة الطالبين». (3-5) العزيز شرح الوجيز 93:5، روضة الطالبين 435:3.

جاء الأجنبيّ و قال: أقرّ المدّعى عليه عندي و وكّلني في مصالحتك له إلّا أنّه لا يُظهر إقراره خيفة أن تنتزعه منه، فصالحه، صحّ؛ لأنّ قول الإنسان في دعوى الوكالة مقبول في البيع و الشراء و سائر المعاملات.

و إن قال الأجنبيّ: هو منكر، لكنّه مبطل في الإنكار، فصالحني له على عبدي هذا لتنقطع الخصومة بينكما، صحّ عندنا؛ لأنّ الأصل الصحّة، و الصلح على الإنكار عندنا جائز.

و للشافعيّة وجهان:

أظهرهما على ما قاله الجويني: البطلان؛ لأنّه صلح واقع لمنكر، و الصلح على الإنكار عندهم باطل.

و الثاني: الصحّة؛ لأنّ العقد منوط بالمتعاقدين، و هُما متوافقان، و الاعتبار في شرائط العقد بمَنْ يباشره(1).

هذا إذا كان المدّعى عيناً، فإن كان دَيْناً صحّ عندنا أيضاً.

و للشافعيّة طريقان:

أحدهما: إنّه على الوجهين.

و أصحّهما عندهم: القطع بالصحّة، و الفرق: إنّه لا يمكن تمليك الغير عين مالٍ بغير إذنه، و يمكن قضاء الدَّيْن عن الغير بغير إذنه(2).

و إن قال الأجنبيّ: إنّه منكر و أنا لا أعلم أيضاً صدقك، و صالحه مع ذلك، صحّ عندنا، خلافاً للشافعيّة؛ فإنّهم قالوا: لا يصحّ الصلح، سواء كان المصالَح عليه له أو للمدّعى عليه، كما لو جرى الصلح مع المدّعى عليه و هو منكر(3).

ص: 22


1- العزيز شرح الوجيز 93:5، روضة الطالبين 436:3.
2- العزيز شرح الوجيز 93:5، روضة الطالبين 436:3.
3- العزيز شرح الوجيز 93:5، روضة الطالبين 436:3.

و إن قال: هو منكر و لكنّه مبطل في إنكاره فصالحني لنفسي بعبدي هذا أو بعشرة في ذمّتي لآخذ منه، فإن كان المدّعى دَيْناً صحّ عندنا، و كذا إن كان عيناً.

و قالت الشافعيّة: إن كان المدّعى دَيْناً فهو ابتياع دَيْنٍ في ذمّة الغير، و إن كان عيناً فهو شراء غير الغاصب المغصوبَ، فيُنظر في قدرته على الانتزاع و عجزه، و قد سبق حكمهما في أوّل البيع(1).

فلو صالح و قال: أنا قادر على الانتزاع، فلهم وجهان:

أظهرهما: إنّه يصحّ العقد؛ اكتفاءً بقوله.

و الثاني: لا يصحّ؛ لأنّ الملك في الظاهر للمدّعى عليه، و هو عاجز عن انتزاعه(2).

و قيل بالتفصيل فيقال: إن كان الأجنبيّ كاذباً، فالعقد باطل باطناً، و في مؤاخذته في الظاهر لالتزامه الوجهان. و إن كان صادقاً، حُكم بصحّة العقد باطناً، و قُطع بمؤاخذته، لكن لا تُزال يد المدّعى عليه إلّا بحجّةٍ(3).

ص: 23


1- العزيز شرح الوجيز 94:5، روضة الطالبين 436:3.
2- العزيز شرح الوجيز 94:5، روضة الطالبين 436:3.
3- العزيز شرح الوجيز 94:5، روضة الطالبين 436:3.

ص: 24

الفصل الثاني: في الأحكام

مسألة 1032: يصحّ الصلح على الإقرار و الإنكار معاً،

سواء كان المدّعى به دَيْناً أو عيناً، عند علمائنا أجمع - و به قال أبو حنيفة و مالك و أحمد(1) - لعموم قوله تعالى:«وَ الصُّلْحُ خَيْرٌ» (2) و عمومِ ما رواه العامّة عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال: «الصلح جائز بين المسلمين»(3).

و من طريق الخاصّة: ما رواه حفص بن البختري - في الصحيح - عن الصادق عليه السلام أنّه قال: «الصلح جائز بين الناس»(4).

و لأنّه سبب لإسقاط الخصومة، فجاز مع الإنكار، كالإبراء و الصلح مع الأجنبيّ.

و لأنّ الصلح وُضع لقطع التنازع، و هو إنّما يتحقّق مع المخالفة بين المتداعيين بأن يُنكر أحدهما ما ادّعاه الآخَر، فلو لم يسمع صلح الإنكار

ص: 25


1- المبسوط - للسرخسي - 139:20، تحفة الفقهاء 249:3، بدائع الصنائع 40:6، الهداية - للمرغيناني - 192:3، الاختيار لتعليل المختار 6:3، النتف 504:1، مختصر اختلاف العلماء 1887/195:4، الفقه النافع 1014/1265:3، المدوّنة الكبرى 374:4، الإشراف على نكت مسائل الخلاف 1001/596:2، عيون المجالس 1651:4-1165/1652، بداية المجتهد 293:2-294، التلقين: 430، المعونة 1191:2، الذخيرة 351:5، المغني و الشرح الكبير 10:5، الحاوي الكبير 369:6، حلية العلماء 10:5، التهذيب - للبغوي - 145:4، البيان 226:6، العزيز شرح الوجيز 90:5.
2- النساء: 128.
3- تقدّم تخريجه في ص 20، الهامش (3).
4- تقدّم تخريجه في ص 6، الهامش (3).

انتفت أعظم فوائد الصلح.

و قال الشافعي: لا يصحّ الصلح على الإنكار، و إنّما يصحّ الصلح على الإقرار خاصّةً - و صورة الإنكار أن يدّعي رجل على رجلٍ آخَر دَيْناً أو عيناً، فينكر المدّعى عليه فيصالحه على ثوبٍ أو دَيْنٍ أو بعض المدّعى أو غير ذلك - لأنّه عاوض على ما لم يثبت له، فلم تصحّ المعاوضة، كما لو باع مال غيره، و بالقياس على ما إذا أنكر الخلع أو الكتابة ثمّ تصالحا على شيءٍ(1).

و نمنع بطلان المعاوضة على ما لم يثبت بالصلح؛ فإنّه المتنازع، بخلاف ما لو باع مال غيره؛ لأنّ ذلك تصرّفٌ في مال الغير بغير إذنه، حتى إنّه لو أجاز الغير صحّ البيع، و الرضا بالصلح رضا بالتصرّف. و القياس عندنا باطل، فلا يكون حجّةً علينا، على أنّا نمنع الحكم في الأصل.

مسألة 1033: إذا ادّعى عليه حقّاً دَيْناً أو عيناً، فقال المدّعى عليه:

صالحني على كذا إمّا بعضه أو غيره، لم يكن ذلك إقراراً منه،

و هو ظاهر عندنا؛ لأنّا قد بيّنّا أنّ الصلح يصحّ مع الإنكار، كما يصحّ مع الإقرار.

و أمّا الشافعي فإنّه قال: إذا قال المدّعى عليه: صالحني مطلقاً، أو

ص: 26


1- الأُم 221:3، مختصر المزني: 105-106، الحاوي الكبير 369:6-370، المهذّب - للشيرازي - 340:1، الوجيز 178:1، الوسيط 51:4، حلية العلماء 9:5، التهذيب - للبغوي - 145:4، البيان 225:6 و 226، العزيز شرح الوجيز 90:5-91، روضة الطالبين 432:3-433، المبسوط - للسرخسي - 139:20، تحفة الفقهاء 249:3، بدائع الصنائع 40:6، الهداية - للمرغيناني - 192:3، النتف 504:1، مختصر اختلاف العلماء 1887/195:4، الفقه النافع 1014/1265:3، الإشراف على نكت مسائل الخلاف 1001/596:2، عيون المجالس 1165/1652:4، بداية المجتهد 294:2، المعونة 1191:2، الذخيرة 351:5، المغني و الشرح الكبير 10:5.

صالحني عن دعواك الكاذبة، أو صالحني عن دعواك، فإنّه لا يكون إقراراً؛ لأنّه ربما يريد قطع الخصومة، بل الصلح عن الدعوى لا يصحّ مع الإقرار أيضاً؛ لأنّ مجرّد الدعوى لا يعتاض عنه(1).

و لو قال بعد الإنكار: صالحني عن الدار التي ادّعيتها، فوجهان للشافعيّة:

أحدهما: إنّه إقرار؛ لأنّه طلب منه التمليك، و ذلك يتضمّن الاعتراف بالملك، فصار كما لو قال: ملّكني.

و أصحّهما عندهم: إنّه ليس بإقرارٍ؛ لأنّ الصلح في الوضع هو الرجوع إلى الموافقة و قطع الخصومة، فيجوز أن يكون المراد قطع الخصومة في المدّعى لا غير، فعلى هذا يكون الصلح بعد هذا الالتماس صلحاً على الإنكار(2).

و إن قال: بعنيها، أو هَبْها منّي، فالمشهور: إنّه إقرار؛ لأنّه صريح في التماس التمليك.

و قال بعض الشافعيّة: إنّه كقوله: صالحني(3).

و الوجه: الفرق.

و في معناه إذا كان التنازع في جاريةٍ و قال: زوّجنيها.

و لو قال: أجرني أو أعِرْني، فأولى أن لا يكون إقراراً.

و لو كان التنازع في دَيْنٍ و قال: أبرئني، فهو إقرار.

و لو أبرأ المدّعي المدّعى عليه و هو منكر و قلنا: لا يفتقر الإبراء إلى3.

ص: 27


1- الحاوي الكبير 372:6، المهذّب - للشيرازي - 341:1، التهذيب - للبغوي - 145:4، البيان 230:6، العزيز شرح الوجيز 91:5، روضة الطالبين 433:3. (2 و 3) العزيز شرح الوجيز 91:5، روضة الطالبين 433:3.

القبول، صحّ الإبراء، بخلاف الصلح؛ لأنّه مستقلٌّ بالإبراء(1) ، فلا حاجة فيه إلى تصديق الغير، و لهذا لو أبرأه بعد التحليف صحّ، و لو تصالحا بعد التحليف لم يصح عندهم(2).

مسألة 1034: لو ادّعى العين في يد الغير فأنكر الغير دعواه،

فصالحه على بعض تلك العين المدّعاة - و هو صلح الحطيطة في العين - صحّ عندنا؛ لما بيّنّا من صحّة الصلح على الإنكار.

و للشافعيّة وجهان:

أحدهما: إنّه صحيح - و به قال القفّال - لاتّفاق المتصالحين على أنّ النصف مستحقٌّ للمدّعي، أمّا المدّعي فإنّه يزعم استحقاق الجميع، و أمّا المدّعى عليه فإنّه يسلّم النصف له بحكم هبته منه و تسليمه إليه، فإذَنْ الخلاف بينهما في جهة الاستحقاق.

و الثاني - و به قال أكثر الشافعيّة -: إنّه باطل، كما كان على غير المدّعي، قالوا: و مهما اختلف القابض و الدافع في الجهة، فالقول قول الدافع، كما لو دفع المديون دراهم إلى صاحب الدَّيْن و قال: دفعتُها عن دَيْن الرهن، و قال القابض: بل دفعتَها عن دَيْن غيره، قُدّم قول الدافع مع اليمين(3).

و لو دفع إلى زوجته دراهم ثمّ اختلفا، فادّعى الزوج أنّه دفعها عن الصداق، و قالت: بل دفعتَها عن دَيْنٍ أو هبةٍ، قُدّم قول الدافع، و إذا كان كذلك فالدافع يقول: إنّما بذلتُ النصف لدفع الأذى حتى لا ترفعني إلى القاضي و لا تقيم علَيَّ بيّنةَ زورٍ.

ص: 28


1- في «ج، ر» و الطبعة الحجريّة: «في نفسه» بدل «بالإبراء». (2 و 3) العزيز شرح الوجيز 91:5، روضة الطالبين 434:3.
مسألة 1035: لو ادّعى عليه دَيْناً و تصالحا على بعضه بعد الإنكار، صحّ عندنا،

و لزمه ما وقع الصلح عليه خاصّةً، و سقط عنه الباقي؛ للأصل.

و لما رواه عمر بن يزيد أنّه سأل الصادقَ عليه السلام عن رجلٍ ضمن ضماناً ثمّ صالح على بعض ما صالح عليه، قال: «ليس له إلّا الذي صالح عليه»(1).

و قال الشافعي: يُنظر إن صالحه من ألف على خمسمائة - مثلاً - في الذمّة، لم يصح؛ لأنّ التصحيح بتقدير الهبة، و إيراد الهبة على ما في الذمّة ممتنع، و إن أحضر خمسمائة و تصالحا من المدّعى عليها، فهو مرتّب على صلح الحطيطة في العين، إن لم يصح ذلك فهذا أولى، و إن صحّ ففيه وجهان. و الفرق أنّ ما في الذمّة ليس ذلك المعيّن المُحضَر، ففي الصلح عليه [معنى](2) المعاوضة، و لا يمكن تصحيحه معاوضةً مع الإنكار عندهم(3).

و اتّفق القائلون على أنّ وجه البطلان هنا أرجح(4).

و كلّ هذا عندنا باطل؛ لما بيّنّا من جواز الصلح على الإنكار، و جوازه على الإقرار.

مسألة 1036: لو تصالحا ثمّ اختلفا في أنّهما تصالحا على الإنكار أو على الإقرار، لم يكن لذلك الاختلاف عندنا فائدة؛

لصحّة الصلح في الموضعين.

أمّا الشافعيّة القائلون بصحّته على الإقرار و بطلانه على الإنكار، فقال

ص: 29


1- التهذيب 473/206:6.
2- ما بين المعقوفين أضفناه من المصدر.
3- العزيز شرح الوجيز 92:5، روضة الطالبين 434:3.
4- العزيز شرح الوجيز 92:5.

القاضي ابن كج منهم: إنّ القول قول مَنْ يدّعي الإنكار؛ لأنّ الأصل عدم العقد(1).

و المعتمد بناء ذلك على الخلاف السابق في نزاع المتعاقدين في أنّ العقد الواقع بينهما هل كان صحيحاً أو فاسداً؟

مسألة 1037: لو قال أحد الوارثين لصاحبه: تركتُ نصيبي من التركة إليك، فقال: قبلتُ، لم يصح ذلك؛

لأنّ ذلك ليس من ألفاظ العقود الناقلة، و يبقى حقّه كما كان؛ لأنّها إن كانت أعياناً فلا بدّ فيها من إيجابٍ و قبولٍ مقتضيان للتمليك، و إن كان فيها دَيْنٌ فلا بدّ من إبراءٍ.

و لو قال: صالحتك من نصيبي على هذا الثوب، فقال: قبلتُ، صحّ العقد و لزم.

و قالت الشافعيّة: إن كانت التركة أعياناً فهو صلح عن العين، و إن كانت ديوناً عليه فهو صلح عن الدَّيْن، و إن كانت على سائر الناس فهو بيع الدَّيْن من غير مَنْ عليه الدَّيْن، و قد سبق حكم ذلك. و هو بناء منهم على أنّ الصلح فرع على غيره.

و لو كان في التركة عينٌ و دَيْنٌ، فإن كانت ديوناً عليه فصلحٌ عن الدَّيْن، و إن كانت على سائر الناس فهو بيع الدَّيْن من غير مَنْ عليه الدَّيْن.

و إن كان فيها عينٌ و دَيْنٌ على الغير و لم يجوّزوا بيع الدَّيْن من غير مَنْ عليه الدَّيْن، فالصلح عندهم باطل في الدَّيْن، و أمّا في العين فقولان عندهم مبنيّان على قولَي تفريق الصفقة(2).

و عندنا أنّ ذلك غير جائزٍ، و أنّ الصلح ليس فرع غيره.

ص: 30


1- العزيز شرح الوجيز 92:5، روضة الطالبين 434:3.
2- العزيز شرح الوجيز 89:5-90، روضة الطالبين 431:3.
مسألة 1038: لا يشترط في الصلح عن الأثمان ما يشترط في بيع الأثمان عندنا؛

لأنّ الصلح قد بيّنّا أنّه عقد مستقلٌّ بنفسه، فلو كان في يد غيره ألف درهم و خمسون ديناراً فصالحه منه على ألف درهم، صحّ عندنا.

و قال الشافعي: لا يجوز(1).

و كذا لو مات عن ابنين و التركة ألفا درهم و مائة دينار و هي في يد أحدهما، فصالحه الآخَر من نصيبه على ألفي درهم.

و لو كان المبلغ دَيْناً في ذمّة غيره فصالحه على ألفي درهم، يجوز عنده أيضاً.

و الفرق: إنّه إذا كان الحقّ في الذمّة فلا ضرورة إلى تقدير المعاوضة فيه، فيجعل مستوفياً لأحد الألفين معتاضاً بالآخَر عن الدنانير، و إذا كان معيّناً كان الصلح عنه اعتياضاً، فكأنّه باع ألف درهم و خمسين ديناراً بألفي درهم، و هو من صُور مُدّ عَجْوة(2).

و هذه التفريعات عندنا باطلة؛ لأنّ صورة مُدّ عجوة عندنا جائزة، و الصلح على الإنكار جائز، و ليس الصلح عندنا فرعَ البيع.

مسألة 1039: قد بيّنّا أنّه إذا قال المدّعى عليه المنكر: صالحني على كذا، لم يكن إقراراً منه؛

لأنّ الصلح قد يراد به تارةً المعاوضة، و تارةً قطع الدعوى و الخصومة، و إذا احتملهما لم يُحمل على الإقرار.

و لو قال: ملّكني هذا بكذا، كان إقراراً؛ لأنّ في ذلك اعترافاً بأنّه ملكه.

و لو قال: بِعْني، قال بعض الشافعيّة: لا يكون إقراراً، و يكون بمنزلة

ص: 31


1- العزيز شرح الوجيز 90:5، روضة الطالبين 431:3.
2- روضة الطالبين 431:3-432، و انظر العزيز شرح الوجيز 90:5.

قوله: صالحني؛ لأنّ الصلح و البيع عند الشافعيّة واحد(1).

و قال الباقون: إنّه يكون إقراراً بمنزلة قوله: ملّكني(2). و هو المعتمد عندنا، و به قال أبو حنيفة(1) ؛ لأنّ البيع لا يصحّ إلّا فيما يصحّ تمليكه، فهو بمنزلة قوله: ملّكني.

مسألة 1040: لو ادّعى داراً في يده، فأنكر المتشبّث دعواه، فتصالحا على أن يسكنها المدّعي سنةً، صحّ،

و كان صلحاً قائماً بنفسه، و ليس فرعاً على غيره.

و قال الشافعي: إنّه فرع العارية، بل هو عين العارية للدار منه يرجع فيها متى شاء، و ليس بمعاوضةٍ؛ لأنّ الرقبة و المنافع ملكه، و محالٌ أن يعتاض بملكه عن ملكه(4).

و هذا على تقدير أن يقع الصلح مع الاعتراف.

إذا ثبت هذا، فإن رجع عن العارية لم يستحق أُجرة المدّة التي مضت، كما هو قضيّة العارية عند أكثر الشافعيّة(5).

و نقل بعضهم وجهاً: إنّه يستحقّ؛ لأنّه جعل سكنى الدار في مقابلة رفع اليد عنها، و أنّه عوضٌ فاسدٌ، فيرجع إلى أُجرة المثل(6).

و لو صالحه على أن يسكنها سنةً بمنفعة عبدٍ سنةً، فهو كما لو آجر داره سنةً بمنفعة عبدٍ سنةً.

مسألة 1041: قد بيّنّا أنّ الصلح عقد قائم بنفسه،

فلو صالحه عن الزرع

ص: 32


1- حلية العلماء 10:5، البيان 231:6. (4-6) العزيز شرح الوجيز 90:5، روضة الطالبين 432:3.

الأخضر بشيءٍ صحّ، سواء شرط القطع أم لا.

و قال الشافعي: يصحّ بشرط القطع، و لو لم يشترطه لم يجز(1).

و لو كان الصلح عن الزرع مع الأرض جاز، و لم يحتج إلى شرط القطع عنده في أصحّ الوجهين(2).

و لو وجد المتنازع ثمّ أقرّ المدّعى عليه و تصالحا عنه على شيءٍ، جاز عندنا، سواء شرطا القطع أو لا.

و قال الشافعي: لا يجوز، سواء شرطا القطع أو لا، كما لو باع نصف الزرع مشاعاً، لا يجوز، شرط القطع أو لم يشرطه(3).

و الحكم في الأصل ممنوع.

مسألة 1042: لو ادّعى على ورثة الميّت داراً من تركته و زعم أنّ الميّت غصبها منه، فصالحهم عنها، جاز الصلح،

سواء أقرّوا له أو لا؛ لما تقدّم من جواز الصلح عندنا مع الإقرار و الإنكار.

و شرط الشافعيّة في جواز الصلح اعترافهم له بدعواه، فإذا اعترفوا و دفعوا إلى واحدٍ منهم ثوباً مشتركاً بينهم ليصالح عليه جاز، و كان عاقداً لنفسه، و وكيلاً عن باقي الورثة(4).

و لو قالوا لواحدٍ: صالِحْه عنّا على ثوبك، فصالَح عنهم، فإن لم يُسمّهم في الصلح وقع الصلح عنه، و إن سمّاهم وقع عنهم.

ص: 33


1- بحر المذهب 47:8، البيان 251:6، العزيز شرح الوجيز 90:5، روضة الطالبين 432:3.
2- بحر المذهب 47:8، البيان 251:6-252، العزيز شرح الوجيز 90:5، روضة الطالبين 432:3.
3- العزيز شرح الوجيز 90:5، روضة الطالبين 432:3.
4- العزيز شرح الوجيز 94:5، روضة الطالبين 436:3.

و للشافعيّة وجهان في أنّ التسمية هل تُلغى أم لا؟ فإن لم تَلغ، فالصلح يقع عنهم(1).

و هل يكون الثوب هبةً لهم أو قرضاً عليهم ؟ للشافعيّة وجهان(2).

و الأقرب عندي: التفصيل.

فإن أُلغيت التسمية، فالصلح كلّه للعاقد أو يبطل في نصيب الشركاء و يخرج حصّته على قولَي تفريق الصفقة ؟ للشافعيّة وجهان(1).

و إن صالحه أحدهم على مالٍ له بدون إذن الباقين ليتملّك جميع الدار، جاز. و إن صالح ليكون جميع الدار له و لهم جميعاً، أُلغي ذكرهم، و عاد الوجهان في أنّ الكلّ يقع له أو يبطل في نصيبهم و يخرج في نصيبه على الخلاف في تفريق الصفقة(2).

و المعتمد: إنّهم إن أجازوا ما صالح عنهم شاركوا، و إلّا فلا، و كان الباقي للغريم.

مسألة 1043: إذا أسلم الكافر عن أكثر من أربع نسوة، خيّر أربعاً منهنّ،

فإن مات قبل الاختيار و التعيين، وقف الميراث بينهنّ، فإن اصطلحن على الاقتسام على تفاوتٍ أو تساوٍ، مُكّن منه و أُجبن إليه.

و وافق الشافعيّة(3) على ذلك.

و قال بعضهم: هذه المسألة تدلّ على جواز الصلح على الإنكار؛ لأنّ كلّ واحدةٍ منهنّ تُنكر نكاح مَنْ عداها سوى ثلاثٍ معها، فالصلح الجاري

ص: 34


1- العزيز شرح الوجيز 94:5، روضة الطالبين 436:3-437.
2- العزيز شرح الوجيز 94:5، روضة الطالبين 437:3.
3- العزيز شرح الوجيز 95:5، روضة الطالبين 437:3.

بينهنّ صلح على الإنكار(1).

قال بعض الشافعيّة: إنّهنّ بين أمرين: إن اعترفن بشمول الإشكال، فليست واحدة منهنّ بمنكرةٍ لغيرها و لا مدّعية لنفسها في الحقيقة، و إنّما تصحّ القسمة و الحالة هذه مع الجهل بالاستحقاق للضرورة و تعذّر التوقيف لا إلى نهايةٍ. و إن زعمت كلّ واحدةٍ منهنّ الوقوف على اختيار الزوج إيّاها، فكلّ مَنْ أخذت شيئاً تقول: الذي أخذتُه [بعض](2) حقّي، و سامحت الباقيات بالباقي متبرّعةً، و المالك غير ممنوعٍ ممّا يتبرّع به(3).

و قد سبق الخلاف بينهم في صلح الحطيطة في العين، فمَنْ صحّحه احتجّ بهذه المسألة، و قال: الاقتسام الجاري بينهنّ صلح حطيطةٍ، و مَنْ أبطله فرّق بأنّ المال هناك في يد المدّعى عليه، و فصل الأمر ممكن بتحليفه، و هنا استوت الأقدام، و لا طريق إلى فصل الأمر سوى اصطلاحهنّ(4).

و لو اصطلحن على أن تأخذ ثلاث منهنّ أو أربع المالَ الموقوف و يبذلن للباقيات عوضاً من خالص أموالهنّ، جاز عندنا؛ للعموم.

و قال الشافعي: لا يجوز؛ لأنّ الصلح هكذا بذل عوضٍ مملوك في مقابلة ما لم يثبت ملكه، و مَنْ أخذ عوضاً في معاوضةٍ لا بدّ و أن يكون مستحقّاً للمعوّض، فإذا لم يكن الاستحقاق معلوماً لم يجز أخذ العوض(3).

و كذا مَنْ طلّق إحدى زوجتيه و مات قبل البيان وقفنا لهما الرُّبْع أو3.

ص: 35


1- العزيز شرح الوجيز 95:5.
2- ما بين المعقوفين أضفناه من المصدر. (3 و 4) العزيز شرح الوجيز 95:5.
3- العزيز شرح الوجيز 95:5، روضة الطالبين 437:3.

الثُّمْن، و اصطلحتا.

و كذا لو ادّعى اثنان وديعةً في يد الغير و قال الودعي: لا أعلم لأيّكما هي.

و كذا لو تداعيا داراً في يدهما و أقام كلٌّ منهما بيّنةً ثمّ اصطلحا، أو كانت في يد ثالثٍ و قلنا: لا تتساقط البيّنتان بالتعارض، فاصطلحا.

مسألة 1044: لو كان بين رجلين زرع فادّعاه آخَر فصالحه أحدهما على نصف الزرع بعد أن أقرّ له بنصفه، صحّ،

و كذا لو أنكر، عندنا، خلافاً للشافعي(1).

ثمّ إن كان مطلقاً و كانت الأرض لغير المُقرّ المشتري، فالصلح فاسد عنده(2) ، و إن كانت الأرض له فوجهان(3).

و إن شرط القطع، لم يصح عنده؛ لأنّ قسمته لا تصحّ، و قطع جميعه لا يجوز؛ لتعليق حقّ الشريك به(2).

و لو ادّعى رجل على رجلٍ زرعاً في أرضه فأقرّ له بنصفه ثمّ صالحه عن نصفه على نصف الأرض، جاز عندنا.

و قال الشافعي: لا يجوز؛ لأنّ من شرط بيع الزرع قطعه، و لا يمكن ذلك في المشاع(3).

و الاشتراط عندنا ممنوع، و كذا القياس على البيع.

و إن صالحه منه على جميع الأرض بشرط القطع على أن يسلّم إليه

ص: 36


1- مختصر المزني: 107، الحاوي الكبير 416:6، البيان 252:6. (2 و 3) الحاوي الكبير 416:6، بحر المذهب 48:8، البيان 252:6.
2- البيان 252:6.
3- بحر المذهب 48:8، البيان 252:6.

الأرض فارغةً، صحّ عنده أيضاً؛ لأنّ قطع جميع الزرع واجب، نصفه بحكم الصلح، و الباقي لتفريغ الأرض و أمكن القطع، و جرى ذلك مجرى مَن اشترى أرضاً فيها زرعٌ و شَرَط تفريغَ الأرض، فإنّه يجوز، كذا هنا(1).

و لو كان قد أقرّ له بجميع الزرع فصالحه من نصفه على نصف الأرض لتكون الأرض و الزرع بينهما نصفين و شرط القطع، نُظر فإن كان الزرع في الأرض بغير حقٍّ جاز الشرط؛ لأنّ الزرع يجب قطع جميعه، و إن كان في الأرض بحقٍّ لم يجز عند الشافعي؛ لأنّه لا يمكن قطع الجميع(2).

و قال بعض الشافعيّة: إنّه يجوز إذا شرط على بائع الزرع قطع الباقي(3).

و ضعّفه آخَرون؛ لأنّ باقي الزرع ليس بمبيعٍ، فلا يصحّ شرط قطعه في العقد عنده، بخلاف ما إذا أقرّ بنصف الزرع و صالحه على جميع الأرض؛ لأنّه شرط تفريغ المبيع(2).

مسألة 1045: لو أتلف رجل على آخَر عيناً - حيواناً أو ثوباً أو شبههما

- قيمتها دينار فادّعاه عليه فأقرّ له به ثمّ صالحه منه على أكثر من ذلك، صحّ عندنا، و كذا لو أنكره ثمّ صالحه - و به قال أبو حنيفة(3) - للأصل، و لأنّ الثوب و الحيوان يثبت في الذمّة مثلهما في الإتلاف، فكان الصلح على مثلهما.

ص: 37


1- بحر المذهب 48:8، البيان 252:6. (2 و 3) بحر المذهب 48:8، البيان 253:6.
2- البيان 253:6.
3- الهداية - للمرغيناني - 195:3، بحر المذهب 49:8، حلية العلماء 29:5، البيان 225:6، المغني 28:5، الشرح الكبير 5:5.

و قال الشافعي و أحمد: لا يصحّ الصلح؛ لأنّ الواجب في الذمّة قيمة المتلف، دون مثله، و لهذا لا يطالبه بمثله، و إذا كان الواجب القيمةَ فإذا صالحه عليها بأكثر من قيمتها أو أقلّ فقد عاوض عليه متفاضلاً، و ذلك ربا في النقود(1).

و الكلّ ممنوع.

و لو كانت قيمة العبد ألفاً فصالحه على ألف مؤجَّلة، صحّ، و لزم الأجل عندنا - و به قال أبو حنيفة و أحمد(2) - للأصل، و للعموم، و لأنّهما نقلا الحقّ إلى القيمة، فكان ما سمّياه تقديراً للقيمة، فكان جائزاً، كما لو قدّر الصداق للمفوّضة مؤجَّلاً.

و قال الشافعي: لا يتأجّل و لا يصحّ الصلح؛ لأنّ الواجب هو دَيْنٌ في ذمّته، فإن كان العوض مؤجَّلاً، كان بيعَ الدَّيْن بالدَّيْن، و هو باطل، و نقل الحقّ من العبد إلى قيمته إنّما يكون على سبيل المعاوضة و البدل، و يكون بيعَ الدَّيْن بالدَّيْن، و قد عرفت أنّ الواجب القيمة و هي حالّة، فلا تتأجّل، و الصداق غير واجبٍ، و إنّما يجب بالفرض عند إيجابه، فاختلفا(3).

و نحن نمنع كون الصلح بيعاً.

مسألة 1046: لو اتّجر الشريكان و حصل ربح و كان بعض المال دَيْناً و بعضه عيناً

فاصطلحا و قال أحدهما لصاحبه: أعطني رأس المال، و الربح

ص: 38


1- بحر المذهب 49:8، حلية العلماء 29:5، البيان 224:6-225، روضة الطالبين 438:3، المغني 27:5-28، الشرح الكبير 5:5-6.
2- بحر المذهب 49:8، حلية العلماء 29:5، البيان 225:6، المغني 28:5، الشرح الكبير 6:5.
3- بحر المذهب 49:8، حلية العلماء 29:5، البيان 225:6، روضة الطالبين 438:3، المغني 28:5، الشرح الكبير 6:5.

و الخسران لك، جاز ذلك؛ للعموم.

و لما رواه أبو الصباح - في الصحيح - عن الصادق عليه السلام في رجلين اشتركا في مالٍ فربحا فيه ربحاً و كان من المال دَيْنٌ و عينٌ، فقال أحدهما لصاحبه: أعطني رأس المال و الربح لك و ما تَوى(1) فعليك، فقال: «لا بأس به إذا شرط، و إن كان شرطاً يخالف كتاب اللّه ردّ إلى كتاب اللّه عزّ و جلّ»(2).

مسألة 1047: لا تصحّ قسمة الديون،

فلو اقتسم الشريكان الدَّيْن الذي لهما على الناس و قبض أحدهما و تلف نصيب الآخَر، وجب على القابض دفع نصيب الشريك ممّا قبضه إليه؛ لبطلان القسمة؛ لأنّها تمييز أحد الحقّين من الآخَر، و لا تمييز في الديون؛ لأنّها مطلقة لا تتعيّن إلّا بالقبض.

و لما رواه سليمان بن خالد - في الحسن - أنّه سأل الصادقَ عليه السلام عن رجلين كان لهما مال بأيديهما و منه متفرّق عنهما فاقتسما بالسويّة ما كان في أيديهما و ما كان غائباً عنهما فهلك نصيب أحدهما ممّا كان غائباً و استوفى الآخَر فعليه أن يردّ على صاحبه ؟ قال: «نعم، ما يذهب بماله»(3).

مسألة 1048: لو ماطل المديون صاحبَ الدَّيْن عن دَيْنه حتى مات فصالح ورثته على بعضه، فَعَل حراماً،

و لم يكن للورثة المطالبة في الظاهر، و لا تبرأ ذمّة المصالِح فيما بينه و بين اللّه تعالى؛ لما تقدّم أنّ ذلك من صُور الإكراه.

و لما رواه عمر بن يزيد - في الصحيح - عن الصادق عليه السلام قال: «إذا كان للرجل على الرجل دَيْنٌ فمطله حتى مات ثمّ صالح ورثته على شيءٍ

ص: 39


1- التوى: الهلاك. لسان العرب 106:14 «توا».
2- التهذيب 476/207:6.
3- التهذيب 477/207:6.

فالذي أخذ الورثة لهم، و ما بقي فهو للميّت يستوفيه منه في الآخرة، و إن هو لم يصالحهم على شيءٍ حتى مات و لم يقض عنه، فهو للميّت يأخذه به»(1).

و كذا لو ادّعى كاذباً على غيره فصالحه الغير، لم يستبح الكاذب بذلك الصلح مال الصلح إلّا مع الرضا الباطن.

مسألة 1049: يصحّ الصلح على الأعيان بمثلها و بالمنافع و بأبعاض الأعيان،

و على المنافع بمثلها و أبعاضها، و لا يشترط ما يشترط في البيع، فلو صالحه عن الدنانير بدراهم أو بالعكس صحّ، و لم يكن صَرفاً.

و لو صالَح على عينٍ بأُخرى من الربويّات، ففي إلحاقه بالبيع نظر.

و كذا في الدَّيْن بمثله، فإن ألحقناه فسد لو صالَح من ألفٍ مؤجَّل بخمسمائة حالّة.

و لو صالَح من ألفٍ حالّ بخمسمائة مؤجَّلة، ففي كونه إبراءً إشكال، و يلزم الأجل.

و لو ظهر استحقاق أحد العوضين، بطل الصلح؛ لوقوع التراضي على تلك العين.

و لو صالَح على ثوبٍ أتلفه بدرهمٍ على درهمين، صحّ الصلح، و قد سبق(2).

ص: 40


1- التهذيب 480/208:6.
2- في ص 37، المسألة 1045.

الفصل الثالث: في تزاحم الحقوق

اشارة

و فيه مباحث:

البحث الأوّل: في الطرق.
مسألة 1050: الطرق نوعان: نافذة و غير نافذة.
الأوّل: النافذة،
اشارة

و الناس كلّهم في السلوك فيها شرعٌ سواء مستحقّون للممرّ فيها(1) ، و ليس لأحدٍ أن يتصرّف فيها(2) بما يبطل المرور فيها(3) أو ينقصه أو يضرّ بالمارّة من بناء حائطٍ فيها(4) أو دكّة أو وضع جناح أو ساباط(5) على جداره إذا أضرّ بالمارّة إجماعاً.

و لو لم يضرّ بالمارّة بأن كان عالياً لا يظلم به الدرب، جاز وضع الجناح و الساباط من غير منعٍ عند بعض علمائنا(6) - و به قال مالك و الشافعي و الأوزاعي و أحمد و إسحاق و أبو يوسف و محمّد(7) - لأنّه ارتفق بما لم يتعيّن ملك أحدٍ عليه، فكان جائزاً، و ليس لأحدٍ منعه، كالاستظلال بحائط الغير و الاستطراق في الدرب.

ص: 41


1- بدل كلمة «فيها» في المواضع الأربعة في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «فيه». و المثبت يقتضيه السياق.
2- بدل كلمة «فيها» في المواضع الأربعة في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «فيه». و المثبت يقتضيه السياق.
3- بدل كلمة «فيها» في المواضع الأربعة في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «فيه». و المثبت يقتضيه السياق.
4- بدل كلمة «فيها» في المواضع الأربعة في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «فيه». و المثبت يقتضيه السياق.
5- الساباط: سقيفة بين دارين من تحتها طريق نافذ. العين 218:7 «سبط».
6- كالمحقّق الحلّي في شرائع الإسلام 123:2.
7- المغني 34:5، الشرح الكبير 28:5، الأُم 221:3-222، الحاوي الكبير 375:6، المهذّب - للشيرازي - 341:1، حلية العلماء 11:5-12، التهذيب - للبغوي - 148:4، البيان 231:6، العزيز شرح الوجيز 96:5، روضة الطالبين 439:3، المبسوط - للسرخسي - 144:20.

و لأنّ الناس اتّفقوا على إشراع الأجنحة و الساباطات في الطرق النافذة و الشوارع المسلوكة في جميع الأعصار و في سائر البقاع من غير إنكارٍ، فكان سائغاً.

و لأنّ النبي صلى الله عليه و آله نصب بيده ميزاباً في دار العبّاس(1) ، و الجناح مثله؛ لاشتراكهما في المنفعة الخالية عن الضرر.

و قال الشيخ رحمه الله و أبو حنيفة: لا عبرة بالضرر و عدمه، بل إن عارضه فيه رجل من المسلمين، نزع، و وجب قلعه و إن لم يكن مضرّاً به و لا بغيره، و إلّا تُرك؛ لأنّه بنى في حقّ غيره بغير إذنه، فكان له مطالبته بقلعه، كما لو بنى دكّةً في المسلوك، أو وضع الجناح في سلك غيره(2).

و القياس ممنوع؛ فإنّ الضرر يحصل مع بناء الدكّة، بخلاف الجناح و الساباط و الروشن(3) ؛ لأنّ الأعمى يتعثّر بها، و كذا في الليل المظلم يحصل تعثّر البصير بها، و يضيق الطريق بها، بخلاف الشارع. و ملك الغير لا يجوز الممرّ فيه إلّا بإذنه، بخلاف الطرق، فافترقا.

فروع:
أ - شرط أحمد في جواز إشراع الجناح إذنَ الإمام فيه،

فإن أذن فيه جاز، و إلّا فلا(4).

و هو ممنوع؛ لاتّفاق الناس على عمله.

ص: 42


1- الطبقات الكبرى - لابن سعد - 20:4، تاريخ مدينة دمشق 366:26-367، سنن البيهقي 66:6، المستدرك - للحاكم - 331:3-332.
2- المبسوط - للطوسي - 291:2، الخلاف 294:3، المسألة 2 من كتاب الصلح، المبسوط - للسرخسي - 144:2، المغني 34:5، الشرح الكبير 28:5، الحاوي الكبير 376:6، حلية العلماء 12:5، البيان 231:6، العزيز شرح الوجيز 96:5.
3- الروشن: الرفّ و الكوّة. لسان العرب 181:13 «رشن».
4- العزيز شرح الوجيز 96:5.
ب - الضابط في التضرّر و عدمه العرفُ، و يختلف بحال الطرق.

فإن كان ضيّقاً لا يمرّ فيه الفُرْسان و القوافل، وجب رفعه بحيث يمرّ المارّ تحته منتصباً، و المحمل مع الكنيسة المنصوبة على رأسه على البعير؛ لأنّه يتّفق ذلك و إن كان نادراً، و لا تشترط الزيادة عليه.

و قال بعض الشافعيّة: يجب أن يكون بحيث يمرّ الراكب تحته منصوبَ الرمح(1).

و إن كان متّسعاً تمرّ فيه الجيوش و الأحمال، وجب أن لا يضرّ بالعماريّات و الكنائس، و أن يتمكّن الفارس من الممرّ تحته و رمحه منتصب لا يبلغه؛ لأنّه قد يزدحم الفُرْسان فيحتاج إلى أن ينصب الرماح.

و قال بعض الشافعيّة: لا يقدّر بذلك؛ لأنّه يمكنه وضع الرمح على عنقه بحيث لا ينال رمحه أحداً(2).

و ليس بجيّدٍ؛ لأنّ ذلك قد يعسر.

ج - إذا وضع الجناح أو الروشن أو الساباط في الدرب المسلوك على وجهٍ يضرّ بالمارّة، تجب عليه إزالته،

و على السلطان إلزامه بذلك.

و لو صالحه الإمام على وضعه - أو بعض الرعيّة - على شيءٍ، لم يجز؛ لأنّ ذلك بيع الهواء منفرداً، و هو باطل، و الهواء لا يفرد بالعقد، بل يتبع الدار، كالحمل مع الأُم.

و لأنّه إن كان مضرّاً لم يجز أخذ العوض عنه، كبناء الدكّة في

ص: 43


1- الحاوي الكبير 376:6، المهذّب - للشيرازي - 341:1، الوسيط 54:4، حلية العلماء 13:5، التهذيب - للبغوي - 148:4، البيان 233:6، العزيز شرح الوجيز 97:5، روضة الطالبين 439:3.
2- المهذّب - للشيرازي - 341:1، التهذيب - للبغوي - 148:4، البيان 233:6، العزيز شرح الوجيز 97:5، روضة الطالبين 439:3.

الطريق، و إن لم يكن مضرّاً كان جائزاً، و ما يجوز للإنسان فعله في الطريق لا يجوز أن يؤخذ منه عوض عنه كالسلوك، و أحدٌ من الرعيّة ليس هو المستحقّ و لا نائبَ المستحقّين.

د - لو أظلم الطريق بوضع الجناح أو الروشن أو الساباط، فإن أذهب الضياء بالكلّيّة مُنع إجماعاً؛

لأنّه يمنع السلوك فيه.

و إن لم يُذهب الضياء(1) جملةً بل بعضه، فالوجه: المنع إن تضرّر به المارّة، و إلّا فلا.

و للشافعيّة قولان:

أحدهما: المنع مطلقاً.

و الثاني: الجواز مطلقاً(2).

مسألة 1051: لو أخرج روشناً في شارعٍ أو دربٍ نافذ، لم يكن لمقابله الاعتراضُ عليه،

و لا منعه منه، سواء استوعب عرض الدرب أو لا إذا لم يحصل ضرر لأحدٍ به.

و ليس له وضع أطراف خشبه على حائط جاره و إن لم يتضرّر به الجار.

و لو أخرج روشنه إلى بعض الدرب، كان لمحاذيه إخراج روشنٍ فيما بقي من الهواء، و ليس لصاحب الروشن الأوّل منعه ما لم يضع على خشبه شيئاً.

و إن أراد محاذيه بأن يُخرج روشناً تحت روشن محاذيه، جاز ذلك.

و إن أراد أن يُخرج روشناً فوق روشن محاذيه، جاز إذا لم يتضرّر به

ص: 44


1- في الطبعة الحجريّة: «الضوء».
2- البيان 233:6، و انظر العزيز شرح الوجيز 99:5، و روضة الطالبين 440:3.

بأن يكون عالياً لا يضرّ بالمارّ في الروشن السفلاني.

و لو أظلم الدرب بوضع الروشن الثاني، أُزيل خاصّةً دون الأوّل؛ لأنّ الضرر إنّما حصل بالثاني و إن كان لو لا الأوّل لم يحصل.

مسألة 1052: إذا أخرج جناحاً أو روشناً في الشارع النافذ، فقد بيّنّا أنّه ليس لأحدٍ منعه مع عدم التضرّر به،

فلو تضرّر جاره بالإشراف عليه، فالأقرب: إنّ له المنعَ؛ لأنّه قد حصل به الضرر، بخلاف ما لو كان الوضع في ملكه أو ما له محلّ على جاره، فإنّه لا يُمنع و إن حصل معه الإشراف؛ لأنّ للإنسان التصرّفَ في ملكه كيف شاء، بخلاف الروشن الموضوع على شرط عدم تضرّر الغير به، فإذا فرض تضرّر شخصٍ ما به، لم يجز وضعه، و يُمنع في الملك من الإشراف على الجار، لا من التعلية المقتضية لإمكانه.

و لسْتُ أعرف في هذه المسألة بالخصوصيّة نصّاً من الخاصّة و لا من العامّة، و إنّما صِرتُ إلى ما قلتُ عن اجتهادٍ، و لعلّ غيري يقف عليه أو يجتهد فيؤدّيه اجتهاده إلى خلاف ذلك.

مسألة 1053: لو وضع جناحاً لا ضرر فيه أو روشناً كذلك فانهدم

أو هدمه المالك أو جاره قهراً و تعدّياً ثمّ وضع الجار روشناً أو جناحاً في محاذاته و مدّه إلى مكان روشن الأوّل، جاز، و صار أحقَّ به؛ لأنّ الأوّل كان يستحقّ ذلك بسبقه إليه، فإذا زال و سبقه الثاني إلى مكانه، كان أولى، كرجلٍ جلس في مكانٍ مباح - كمسجدٍ أو دربٍ نافذ - ثمّ قام عنه أو أُقيم، فإنّه يزول حقّه من الجلوس، و يكون لغيره الجلوسُ في مكانه، و ليس للأوّل إزعاجه و إن أُزعج الأوّل، فكذا هنا.

و مَنَع منه بعض الشافعيّة؛ لأنّ الجالس في الطريق المسلوك الواسع إذا ارتفق بالقعود لمعاملة الناس لا يبطل حقّه بمجرّد الزوال عن ذلك

ص: 45

الموضع، و إنّما يبطل بالسفر و الإعراض عن الحرفة على ما يأتي، فقياسه أن لا يبطل بمجرّد الانهدام و الهدم، بل يعتبر إعراضه عن ذلك الجناح و رغبته عن إعادته(1).

و نحن نمنع الحكم في الأصل، و نمنع أولويّته على ما يأتي إن شاء اللّه تعالى.

مسألة 1054: لا يجوز لأحدٍ بناء دكّةٍ و لا غرس شجرةٍ في الطريق المسلوك إن ضيّق الطريق و ضرّ بالمارّة إجماعاً؛

لقوله عليه السلام: «لا ضرر و لا ضرار(2)»(3).

و إن كان متّسعاً لا يضرّ بالمارّة وَضْعُه، فالأولى المنع أيضاً، إلّا فيما زاد على حدّ الطريق النافذ؛ لأنّ ذلك يوجب اختصاصاً له فيما هو مشترك و شرعٌ بين الناس، و لأنّ المكان المشغول بالبناء و الشجر لا يتأتّى فيه السلوك و الاستطراق، و قد يزدحم المارّة و يعسر عليهم السلوك فيه، فيتعثّرون بها، و لأنّه ربما طالت المدّة، فأشبه مكان البناء و الغراس بالأملاك، فانقطع أثر استحقاق السلوك فيه، بخلاف الأجنحة و الرواشن، و هو أحد قولَي الشافعيّة.

و الثاني: إنّه يجوز ذلك، كوضع الجناح أو الروشن اللَّذَيْن لا يضرّان

ص: 46


1- العزيز شرح الوجيز 97:5-98، روضة الطالبين 440:3.
2- في «ج، ر»: «إضرار».
3- الكافي 4/280:5، و 292-2/294 و 8، الفقيه 154/45:3، و 648/147، التهذيب 146:7-651/147، و 727/164، سنن ابن ماجة 2340/784:2 و 2341، سنن الدارقطني 288/77:3، سنن البيهقي 69:6 و 70، المستدرك - للحاكم - 57:2-58، مسند أحمد 22272/447:6.

بالمارّة(1).

و قد عرفت الفرق.

مسألة 1055: حدّ الطريق المتّخذ في الأرض المباحة إذا تشاحّ أهله في وضعه وسعته و ضيقه سبعُ أذرع؛

لأنّ ذلك قدر ما تدعو الحاجة إليه، و لا يزيد عليه؛ لما رواه مسمع بن عبد الملك عن الصادق عليه السلام قال:

«و الطريق إذا تشاحّ عليه أهله فحدّه سبع أذرع»(2) و مثله روى السكوني عن الصادق عليه السلام(3) ، و الخبران موثّقان.

إذا تقرّر هذا، فهذا الحدّ حدٌّ مع تشاحّ أهل ذلك الدرب، المتقابلة دُورهم فيه، و لا عبرة بغيرهم.

و لو اتّفقوا على وضع أضيق منه في الابتداء جاز، و لم يكن لأحدٍ الاعتراضُ و طلبُ التوسعة فيه.

و إذا وضعوه على حدّ السبع، لم يكن لهم بعد ذلك تضييقه.

و لو وضعوه أوسع من السبع، فالأقرب: إنّ لهم و لغيرهم الاختصاصَ ببعضه إلى حيث يبلغ هذا الحدّ، فلا يجوز بعد ذلك النقصُ عنه.

مسألة 1056: الشوارع لا يجري عليها ملك أحدٍ، و لا يختصّ بها شخص من الأشخاص،

بل هي بين الناس كافّةً شرعٌ سواء بلا خلافٍ.

و لا فرق في ذلك بين الجوادّ الممتدّة في الصحاري و البلاد.

و إنّما يصير الموضع شارعاً بأُمور: أن يجعل الإنسان ملكه شارعاً و سبيلاً مسبَّلاً، و يسلك فيه شخصٌ ما، أو يُحيي جماعةٌ أرضَ قريةٍ أو بلدةٍ

ص: 47


1- الوسيط 55:4، العزيز شرح الوجيز 97:5، روضة الطالبين 439:3.
2- الكافي 2/295:5، التهذيب 642/145:7.
3- الكافي 8/296:5، التهذيب 643/145:7.

و يتركوا مسلكاً نافذاً بين الدور و المساكن، و يفتحوا إليه الأبواب، أو يصير موضع من الموات جادّةً يسلكه الناس، فلا يجوز تغييره، و كلّ مواتٍ يجوز استطراقه، لكن لا يُمنع أحد من إحيائه و صرف الممرّ عليه، فليس له حكم الشوارع.

الثاني: الطرق التي لا تنفذ،
اشارة

كالسكّة المسدودة المنتهية إلى ملك الغير، و لا منفذ لها إلى المباح، و تلك مِلْكٌ لأرباب الأبواب فيها.

و هذه الطرق لا يجوز لأحدٍ إشراع جناحٍ فيها و لا روشن و لا ساباط، إلّا بإذن أرباب الدرب بأسرهم، سواء كانوا من أهل الدرب أو من غيرهم، و سواء أضرّ بالباقين أو لا؛ لأنّ أربابه محصورون و مُلّاكه معدودون، فإذا تخصّص به أحد منع الباقين منه، فلم يجز، و هو أحد قولَي الشافعيّة.

و الثاني: إنّه لا يجوز لغير أهل السكّة مطلقاً، و أمّا أهل السكّة فيجوز لكلّ واحدٍ منهم إشراع الجناح و الروشن و غيرهما إذا لم يضرّ بالمارّة؛ لأنّ لكلّ واحدٍ منهم الارتفاقَ بقرارها، فليكن الارتفاق بهوائها كذلك، كالشوارع(1).

و هو ممنوع؛ لأنّ السكّة مخصوصة بهم، فلا يتصرّف فيها أحد دون رضاهم، كما أنّه لا يجوز إشراع الجناح إلى دار الغير بغير رضاه، سواء تضرّر أو لا؛ إذ لا اعتبار بالتضرّر مع إذن المتضرّر.

و بمثل ما قلناه قال أبو حنيفة(2).

ص: 48


1- المهذّب - للشيرازي - 341:1، حلية العلماء 13:5، البيان 234:6، العزيز شرح الوجيز 99:5، روضة الطالبين 441:3-442، المغني 35:5، الشرح الكبير 31:5.
2- العزيز شرح الوجيز 99:5.
مسألة 1057: لو صالَح واضع الروشن أو الجناح أو الساباط أربابَ الدرب و أصحابَ السكّة على وضعه،

جاز على الأظهر عندنا، لكنّ الأولى اشتراط زمانٍ معيّن؛ لأنّه حقٌّ ماليٌّ متعيّن المالك، فجاز الصلح عليه و أخذ العوض عنه، كما في القرار.

و مَنَع منه الشافعيّة؛ بناءً منهم على أنّ الهواء تابع، فلا يُفرد بالمال صلحاً، كما لا يُفرد به بيعاً(1).

و يُمنع مانعيّة التبعيّة من الانفراد بالصلح، بخلاف البيع؛ لأنّه يتناول الأعيان، و الصلح هنا وقع عن الوضع مدّةً.

و كذا الحكم في صلح مالك الدار عن الجناح المشرع إليها من الجواز عندنا، و المنع عندهم(2).

مسألة 1058: نعني بأرباب الدرب المقطوع و أصحاب السكّة كلّ مَنْ له بابٌ نافذ إلى تلك السكّة،

دون مَنْ يلاصق حدّ داره السكّة و يكون حائطه إليها من غير نفوذ بابٍ له فيها.

و هل يشترك جميعهم في جميع السكّة فيكون الاستحقاق في جميعها لجميعهم، أم شركة كلّ واحدٍ تختصّ بما بين رأس السكّة و باب داره، و لا تتخطّى عنه ؟ المشهور عندنا: اختصاص كلّ واحدٍ بما بين رأس السكّة و باب داره؛ لأنّ محلّ تردّده هو ذلك المكان خاصّةً و مروره فيه، دون باقي السكّة، فحكم ما عدا ذلك حكم غير أهل السكّة، و هو أظهر وجهي الشافعيّة.

ص: 49


1- المهذّب - للشيرازي - 341:1، البيان 234:6، العزيز شرح الوجيز 99:5، روضة الطالبين 442:3.
2- العزيز شرح الوجيز 99:5، روضة الطالبين 442:3.

و الثاني لهم: الأوّل، و هو أنّ الاستحقاق في جميعها لجميعهم؛ لأنّهم ربما احتاجوا إلى التردّد و الارتفاق بجميع الصحن لطرح الأثقال و وضع الأحمال عند الإخراج و الإدخال(1).

و تظهر الفائدة - على أصحّ قولَي الشافعي - في منع إشراع الجناح إلّا برضاهم، فعلى القول باشتراك الكلّ في الكلّ يجوز لكلّ واحدٍ من أهل السكّة المنع، و على الثاني إنّما يجوز المنع لمَنْ موضعُ الجناح بين بابه و رأس السكّة، دون مَنْ بابه بين موضع الجناح و رأس السكّة(2).

إذا تقرّر هذا، فعلى المشهور عندنا: إنّ الأدخل ينفرد بما بين البابين، و يتشاركان في الطرفين، و لكلٍّ منهما الخروج ببابه مع سدّ الأوّل و عدمه، فإن سدّه فله العود إليه مع الثاني، و ليس لأحدهما الدخول ببابه.

و يحتمله؛ لأنّه قد كان له ذلك في ابتداء الوضع فيستصحب، و له رفع جميع الحائط فالباب أولى.

مسألة 1059: قد بيّنّا أنّ الدرب المقطوع لأربابه المحصورين، دون الشوارع المسلوكة،

فلهُم التصرّف فيه كيف شاءوا؛ لأنّ للإنسان التصرّفَ في ملكه بسائر أنواع التصرّفات، و لهُم سدّ باب السكّة، و هو قول أكثر الشافعيّة(3).

و مَنَع بعضهم من ذلك؛ لأنّ أهل الشارع يفزعون إليها إذا عرض لهم سبب من زحمةٍ و شبهها(4).

و لو امتنع بعضهم من سدّها، لم يكن للباقين سدّها إجماعاً. و لو اتّفقوا على السدّ، لم ينفرد بعضهم بالفتح. و لو اتّفقوا على قسمة صحن

ص: 50


1- العزيز شرح الوجيز 100:5، روضة الطالبين 442:3.
2- العزيز شرح الوجيز 100:5، روضة الطالبين 442:3.
3- العزيز شرح الوجيز 100:5، روضة الطالبين 442:3.
4- العزيز شرح الوجيز 100:5، روضة الطالبين 442:3.

السكّة بينهم، جاز.

و لو أراد أهل رأس السكّة قسمة رأس السكّة بينهم، مُنعوا؛ لحقّ مَنْ يليهم.

أمّا لو أراد أهل الأسفل قسمة الأسفل، فإن قلنا باختصاصهم به، كان لهم ذلك. و إن قلنا باشتراك الجميع في الأسفل، لم يكن لهم ذلك، إلّا بإذن الباقين.

هذا كلّه - أعني سدّ الباب و قسمة الصحن - إنّما هو إذا لم يكن في السكّة مسجد، فإن كان فيها مسجد قديم أو حديث، فالمسلمون كلّهم يستحقّون الطروق إليه، و لا يُمنعون منه.

و كذا لو جعل بعضهم داره رباطاً أو مسجداً أو مدرسةً أو مستراحاً، لم يكن لأحدٍ منعه، و لا منع مَنْ له الممرّ فيه، و حينئذٍ لا يجوز لأحدٍ أن يشرع جناحاً و لا ساباطاً و لا روشناً عند التضرّر به و إن رضي أهل السكّة؛ لحقّ سائر الناس.

مسألة 1060: قد بيّنّا أنّ الدرب إمّا نافذ و إمّا مقطوع.
اشارة

أمّا النافذ: فلكلّ أحدٍ فتح بابٍ فيه، سواء كان له ذلك بحقٍّ قديم أو لا.

و أمّا المقطوع: فليس لمن لا باب له فيه إحداث بابٍ إلّا برضا أهل السكّة بأسرهم؛ لتضرّرهم إمّا بمرور الفاتح عليهم، أو بمرورهم على الفاتح.

و لو فتح باباً للاستضاءة دون الاستطراق، أو قال: أفتحه و أسمره بمسمارٍ لا ينفتح بابه معه، فالأقرب: منعه من ذلك؛ لأنّ الباب يشعر بثبوت حقّ الاستطراق، فربما استدلّ به على الاستحقاق، و هو أحد قولَي

ص: 51

الشافعيّة(1).

و يمكن أن يُمكَّن منه؛ لأنّه لو رفع جميع الجدار لم يكن لأحدٍ منعه، فلأن يُمكَّن من رفع بعضه [كان] أولى.

و أمّا مَنْ له بابٌ في تلك السكّة لو أراد أن يفتح غيره، نُظر إن كان [ما] يريد به الفتح أقربَ من بابه إلى رأس السكّة، كان له ذلك؛ لأنّ له الاستطراقَ فيه و هو شريك، فإذا فتح باباً كان ذلك بعضَ حقّه.

و إن كان [ما] يريد [به] الفتح أقربَ من بابه إلى صدر السكّة، لم يكن له ذلك، و هو أظهر قولَي الشافعيّة. و الثاني: له ذلك؛ لأنّ له يداً في الدرب، فكأنّ الجميع في أيديهما(2).

إذا عرفت هذا، فإن أراد أن يتقدّم ببابه إلى رأس السكّة، فإن سدّ بابه الأوّل، كان له ذلك قطعاً؛ لأنّه ينقص حقّه.

و إن لم يسدّ بابه، فكذلك عندنا.

و للشافعيّة فيه قولٌ بالمنع؛ لأنّ الباب الثاني إذا انضمّ إلى الأوّل أورث زيادة زحمة الناس و وقوف الدوابّ في السكّة فيتضرّرون به(3).

و إن أراد أن يتأخّر ببابه عن رأس السكّة و يقرب من صدرها، فلصاحب الباب المفتوح بين رأس السكّة و داره المنعُ.

و هل لمَنْ دارُه بين الباب و رأس السكّة المنعُ؟ وجهان بناءً على كيفيّة الشركة.

و لهم طريقة أُخرى جازمة بأنّه لا منع للّذين يقع الباب المفتوح بين3.

ص: 52


1- بحر المذهب 51:8، البيان 243:6، العزيز شرح الوجيز 101:5، روضة الطالبين 443:3.
2- العزيز شرح الوجيز 101:5، روضة الطالبين 443:3.
3- العزيز شرح الوجيز 101:5، روضة الطالبين 443:3.

دارهم و رأس السكّة؛ لأنّ الفاتح لا يمرّ عليهم(1).

و تحويل الميزاب من موضعٍ إلى موضعٍ كفتح بابٍ و سدّ بابٍ.

فروع:

أ - لو كان لرجلين بابان في سدّةٍ أحدهما قريب من باب الزقاق، و باب الآخَر في وسطه،

فأراد كلّ واحدٍ منهما أن يقدّم بابه إلى أوّل الزقاق، كان له ذلك، على ما تقدّم؛ لأنّ له استطراقَ ذلك، فقد نقص من استطراقه.

و إن أراد أن يؤخّر بابه إلى صدر الزقاق، لم يكن له ذلك، على ما سبق - و هو أظهر وجهي الشافعيّة(2) - لأنّه يقدّم بابه إلى موضعٍ لا استطراق له فيه.

ب - لو كان لأحدهما بابٌ يلي باب الزقاق و للآخَر بابٌ في الصدر،

فأراد الثاني أن يقدّم بابه إلى حدّ باب الأوّل، فالأقرب: أنّ له ذلك، على ما سبق.

و عند الشافعيّة يُبنى على الوجهين، فإن قلنا: لصاحب الباب الذي يلي باب الزقاق أن يؤخّر بابه، لم يكن له ذلك. و إن قلنا: ليس له ذلك، كان لصاحب باب الصدر أن يقدّمه إلى باب الثاني. و ينبغي أن يكون له أن يقدّمه في فنائه إلى فناء الثاني؛ لأنّه إنّما يفتح الباب في فناء نفسه، و لا حقّ له فيما جاوز ذلك(3).

ج - لو كان له دار في دربٍ مقطوع فجَعَلها حجرتين و جَعَل لها بابين، جاز ذلك إذا وضع البابين في موضع استطراقه.

و إن أخّرهما أو

ص: 53


1- العزيز شرح الوجيز 101:5، روضة الطالبين 443:3. (2 و 3) بحر المذهب 52:8، البيان 244:6.

أحدهما لم يجز.

و للشافعيّة فيه الوجهان(1).

مسألة 1061: لو كان له داران ينفذ باب إحداهما إلى الشارع و بابُ الأُخرى إلى سكّة منسدّة فأراد مالكهما فتْحَ بابٍ

في إحداهما إلى الأُخرى، لم يكن لأهل السكّة منعه؛ لأنّه يستحقّ المرور في السكّة، و رفع الجدار الحائل بين الدارين تصرّفٌ منه مصادف للملك، فلا يُمنع منه، و هو أظهر وجهي الشافعيّة.

و الثاني: إنّ لهم المنعَ؛ لأنّه يُثبت للدار الملاصقة للشارع ممرّاً في السكّة و يزيد فيما استحقّه من الانتفاع(2).

و ليس بشيءٍ.

و لو كان له دار لها باب في زقاقٍ غير نافذٍ و لها حدٌّ في شارعٍ أو زقاقٍ نافذ و أراد أن يفتح في حدّه باباً إلى الشارع، جاز له؛ لأنّه يرتفق بما لم يتعيّن ملك أحدٍ عليه.

لا يقال: إنّ في ذلك إضراراً بأهل الدرب؛ لأنّه كان منقطعاً و بفتح الباب يصير الدرب نافذاً مستطرقاً إليه من الشارع.

لأنّا نقول: إنّه بفتح الباب صيّر داره نافذةً، و أمّا الدرب فإنّه على حاله غير نافذٍ؛ إذ ليس لأحدٍ غيره استطراقُ داره.

و لو انعكس الحال فكانت بابه إلى الشارع و له حائط في المنقطع، فأراد فتح بابٍ للاستطراق، فقد بيّنّا أنّه ليس له ذلك؛ إذ لا حقّ له في دربٍ قد تعيّن عليه ملك أربابه، فلم يكن له الانتفاع به بغير إذنهم.

ص: 54


1- لم نعثر عليه في المصادر التي بأيدينا، و انظر بحر المذهب 52:8.
2- العزيز شرح الوجيز 101:5، روضة الطالبين 444:3.

و لو كان له داران متلاصقتان باب كلّ واحدةٍ منهما في زقاقٍ غير نافذٍ، فأراد صاحبهما رفع الحاجز بينهما بالكلّيّة و جَعْلهما داراً واحدة، جاز قولاً واحداً.

و إن أراد فتح بابٍ من إحداهما إلى الأُخرى، جاز عندنا أيضاً.

و للشافعيّة قولان:

أحدهما: المنع؛ لأنّ ذلك يُثبت له حقَّ الاستطراق من الدرب الذي لا ينفذ إلى دارٍ لم يكن لها طريقٌ منه، و لأنّ ذلك ربما أدّى إلى إثبات الشفعة في قول مَنْ يُثبتها بالطريق لكلّ واحدةٍ من الدارين في زقاق الأُخرى. و هذا قول أكثرهم(1).

و هو غلط؛ لأنّ له رفعَ الحاجز بالكلّيّة، فرفع بعضه أولى، و المحذور لازمٌ فيما لو رفع الحائط، مع أنّه لا يبطل به حقّ الشفعة.

و الثاني: إنّ له ذلك - كما اخترناه - لأنّ له رفعَ الحاجز بالكلّيّة، ففتح الباب أولى(2).

و قال بعضهم: موضع القولين ما إذا سدّ باب إحدى الدارين و فتح الباب بينهما لغرض الاستطراق، أمّا إذا قصد اتّساع ملكه أو نحوه، فلا منع(1).

مسألة 1062: لو صالح الممنوع من فتح الباب في الدرب المقطوع أربابه على مالٍ ليفتح الباب، جاز عندنا،

و به قال الشافعي(2) ، بخلاف

ص: 55


1- العزيز شرح الوجيز 101:5، روضة الطالبين 444:3.
2- العزيز شرح الوجيز 102:5، روضة الطالبين 444:3.

الصلح عن إشراع الأجنحة و الساباطات و الرواشن، فإنّهم خالفوا فيه، و علّلوا بأنّه بَذْل مالٍ في مقابلة الهواء المجرّد(1).

قال بعضهم: إن قدّروا مدّةً معيّنة، كان الصلح إجارةً. و إن أطلقوا أو شرطوا التأبيد، فهو بيع جزءٍ مشاع من السكّة، و تنزيلٌ له منزلة أحدهم، و كان ذلك بمنزلة ما لو صالح غيره عن إجراء نهرٍ في أرضه على مالٍ، فإنّه يكون ذلك تمليكاً للنهر(2).

و لو أراد فتح بابٍ من داره في دار غيره، فصالحه عنه مالك الدار على مالٍ صحّ، و يكون ذلك كالصلح عن إجراء الماء على السطح، و لا يملك شيئاً من الدار و السطح؛ لأنّ السكّة لا تراد إلّا للاستطراق، فإثبات الاستطراق فيها يكون نقلاً للملك، و الدار و السطح ليس القصد منهما الاستطراق و إجراء الماء.

مسألة 1063: يجوز فتح الأبواب و نصب الميازيب في الشوارع النافذة؛

لأنّ الناس بأسرهم اتّفقوا على وضع الميازيب و نصبها على سطوحهم قديماً و حديثاً من غير إنكار أحدٍ منهم، فكان إجماعاً.

هذا إذا لم يتضرّر بوضعها أحدٌ، فإن تضرّر أحد بوضع ميزابٍ في الدرب المسلوك وجب قلعه.

و أمّا الطرق الخاصّة الغير النافذة فليس لأحدٍ من أربابها(1) وضع ميزابٍ يقذف فيها إلّا بإذن كلّ مَنْ له حقٌّ فيها.

و ليس للمتقدّم بابه في رأس الدرب المسدود منعُ المتأخّر بابه إلى صدر الدرب من وضع ميزابٍ إذا لم نقل بشركته أو لم يصل ضرره إليه.

ص: 56


1- في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «أربابه». و المثبت يقتضيه السياق.

و كذا لا يجوز حفر بالوعةٍ فيها إلّا بإذن أربابها و إن كانت أنفع لهم.

أمّا الطرق المسلوكة فكذلك لا يجوز إحداث بالوعةٍ فيها، بل كلّ بالوعةٍ وُضعت في أصل وضع الدرب فإنّها تستمرّ ليس لأحدٍ إزالتها، و كلّ بالوعةٍ استُحدثت فإنّ لكلّ أحدٍ من المسلمين إزالتها.

مسألة 1064: إذا كان له باب في شارعٍ و ظَهْر داره إلى دربٍ غير نافذٍ، فأراد أن يُخرج روشناً فيه، لم يكن له ذلك؛

لأنّ الدرب مملوكٌ لقومٍ بأعيانهم، و ليس له حقٌّ معهم فيه.

و لو كان له فيه باب، فكذلك عندنا لا يجوز له الإحداث إلّا بإذن باقي أربابه.

و للشافعيّة قولان تقدّما(1).

و إذا أذن أرباب الدرب المختصّ بهم في وضع بابٍ أو نصب ميزابٍ أو إشراع جناحٍ أو روشنٍ أو ساباطٍ، كان هذا الإذن عاريةً يجوز له الرجوع فيه متى شاء، لكن مع الأرش؛ لأنّه سبب في إتلاف مال الغير، على إشكالٍ.

مسألة 1065: يجوز فتح الروازن و الشبابيك في الحيطان التي في الدروب المسدودة،

و ليس لأحدٍ منعُ ذلك، سواء كان لصاحب الحائط في ذلك الدرب بابٌ أو لم يكن؛ لأنّ له رفعَ جميع الحائط و أن يضع مكانه شُبّاكاً فبعضه أولى، و إنّما مُنع في الباب لمعنىً غير موجودٍ هنا.

و كذا له فتح روزنةٍ و شُبّاكٍ في حائطه الفاصل بينه و بين جاره و إن حرم عليه الاطّلاع إلى دار الغير، بل ليستفيد الإضاءة في بيته. و للجار أن

ص: 57


1- في ص 48، «الثاني: الطرق غير النافذة».

يبني حائطاً في وجه شُبّاكه و روزنته و أن يمنع الضوء بذلك، لا سدّ الروزنة و الشُّبّاك.

مسألة 1066: يجوز لكلّ أحدٍ الاستطراقُ في الطرق النافذة على أيّ حالٍ شاء

من سرعةٍ و بطءٍ و ركوبٍ و ترجّلٍ، و لا فرق في ذلك بين المسلم و الكافر؛ لأنّها موضوعة لذلك.

و أمّا الطرق المقطوعة: فكذلك مع إذن أربابها.

و لو منع واحد أو منعوا بأسرهم، فالأقرب: عدم المنع؛ لأنّ لكلّ أحدٍ دخولَ هذا الزقاق، كدخول الدرب النافذ.

و فيه إشكال أقربه: إنّ جواز دخولها من قبيل الإباحات المستندة إلى قرائن الأحوال، فإذا عارضه نصّ المنع عُمل به.

و أمّا الجلوس بها و إدخال الدوابّ إليها فالأقوى: المنع، إلّا مع إذن الجميع فيه.

و لو كان بين داريه طريقٌ نافذ فحفر تحته سرداباً من إحداهما إلى الأُخرى و أحكم الأزج، قال بعض الشافعيّة: لم يُمنع(1).

و هو جيّد إن لم يتضرّر به أحد من المارّة.

و ليس له أن يحفر على وجه الأرض ثمّ يعمل الأزج.

و كذا لا يجوز عمل السرداب في الطريق المسدود - إلّا بإذن أربابه - و إن أحكم الأزج و حفر تحت الأرض؛ لأنّ أربابه محصورون، و سواء حصل لهم ضرر بذلك أو لا، خلافاً لبعض الشافعيّة(2).

و لا يجوز وضع ساقيةٍ مبتكرة في دربٍ مسلوك، سواء تضرّر بها

ص: 58


1- العزيز شرح الوجيز 103:5، روضة الطالبين 445:3.
2- العزيز شرح الوجيز 103:5، روضة الطالبين 445:3.

السائرون فيها، أو لا، و لو حفرها كان لكلّ أحدٍ إزالتها.

و لو وضع عليها أزجاً محكماً، فالأقرب: جواز إزالته لكلّ أحدٍ.

و لو سدّ الطريق النافذ، كان لكلّ أحدٍ إنفاذه كما كان، و إزالة السدّ و إعادته كما كان.

و لو جعل الطريق المقطوع مسلوكاً بأن جعل الاستطراق في ملكه و رفع الحاجز، فإن كان سبّله مؤبّداً و سلك فيه أحد لم يكن له بعد ذلك قطعه، و لو لم يرد تسبيله كان كالعارية يجوز له الرجوع فيه.

و لو غصب ملك غيره فجعله طريقاً، كان للمالك الرجوعُ إلى عين ملكه و قطع السلوك منه.

البحث الثاني: الجدران.
اشارة

و النظر في أُمور ثلاثة:

الأمر الأوّل: التصرّف.
اشارة

الجدار بين الملكين إمّا أن يكون مختصّاً بمالكٍ واحد، أو يكون مشتركاً بين صاحبي الملكين.

فإن كان مختصّاً بمالكٍ واحد، كان له التصرّف فيه كيف شاء بهدمٍ و بناءٍ و غير ذلك، و ليس للآخَر وضع خشبةٍ و لا جذعٍ عليه إلّا بإذن مالكه، عند علمائنا أجمع - و به قال أبو حنيفة و الشافعي في الجديد(1) - لقوله عليه السلام:

ص: 59


1- الحاوي الكبير 391:6، المهذّب - للشيرازي - 342:1، الوسيط 56:4، الوجيز 179:1، حلية العلماء 16:5، التهذيب - للبغوي - 151:4، البيان 239:6، العزيز شرح الوجيز 104:5، روضة الطالبين 446:3، المغني 38:5، الشرح الكبير 37:5، عيون المجالس 1653:4-1167/1654.

«لا يحلّ مال امرئ مسلم إلّا بطيب نفسٍ منه»(1) و لأنّ العقل قاضٍ بقبح تصرّف الغير في مال الغير بغير إذنه.

و قال مالك و أحمد: إنّ للجار أن يضع الجذوع على جدار جاره، فإن امتنع المالك أُجبر على ذلك، و هو قول الشافعي في القديم(2) ؛ لما رواه أبو هريرة أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله قال: «لا يمنع أحدكم جارَه أن يضع خُشبه على جداره» قال: فنكّس القوم رءوسهم، فقال أبو هريرة: مالي أراكم عنها معرضين و اللّه لأرمينّها - أي لأضعنّ هذه السنّة - بين أظهركم(3).

و لو سُلّم الحديث لحُمل على الاستحباب؛ لما تقدّم من الحديث الأوّل.

إذا عرفت هذا، فقد شرط الشافعي في قوله القديم أُموراً ثلاثة:

أ: أن لا يحتاج مالك الجدار إلى وضع الجذوع عليه.

ب: أن لا يزيد الجار في ارتفاع الجدار، و لا يبني عليه أزجاً، و لا يضع عليه ما لا يحتمله الجدار، و يضرّ به.

ج: أن لا يملك شيئاً من جدران البقعة التي يريد تسقيفها، أو3.

ص: 60


1- سنن الدارقطني 91/26:3، مسند أحمد 20172/69:6 بتفاوت يسير.
2- المنتقى - للباجي - 43:6، الإشراف على نكت مسائل الخلاف 597:2-1005/598، عيون المجالس 1167/1654:4، الحاوي الكبير 391:6، المهذّب - للشيرازي - 342:1، الوسيط 56:4، حلية العلماء 15:5، التهذيب - للبغوي - 151:4، البيان 238:6-239، العزيز شرح الوجيز 104:5، روضة الطالبين 446:3، المغني 38:5، الشرح الكبير 37:5.
3- صحيح البخاري 173:3، صحيح مسلم 1609/1230:3، سنن ابن ماجة 2335/783:2، سنن أبي داوُد 314:3-3634/315، سنن الترمذي 1353/635:3، سنن البيهقي 68:6، الموطّأ 32/745:2، مسند أحمد 8900/107:3.

لا يملك إلّا جداراً واحداً، فإن مَلَك جدارين فليسقف عليهما، و لا يُجبر - و الحال هذه - صاحب الجدار(1).

و جَعَل بعض الشافعيّة عوض الشرط الثالث أن تكون الجوانب الثلاثة من البيت لصاحب البيت و هو يحتاج إلى جانبٍ رابع، فأمّا إذا كان الكلّ للغير، فإنّه لا يضع الجذوع عليها قولاً واحداً(2).

مسألة 1067: قد بيّنّا أنّه ليس للجار وضع جذعٍ و لا غيره على حائط الغير

و إن كان محتاجاً إلى الوضع و كان الجار مستغنياً عن الحائط، إلّا بإذنه، فإن أذن في الوضع بغير عوضٍ فهو إعارةٌ له الرجوع فيها متى شاء قبل الوضع مجّاناً قطعاً.

و أمّا بعد الوضع للجذوع و البناء عليها: فالأقرب: إنّ له الرجوعَ أيضاً، كما في سائر العواري، لكن ليس له القلع مجّاناً، بل مع الأرش و إن كان القلع يؤدّي إلى خراب ملك الجار، و إن شاء أبقاه بالأُجرة، فيثبت له الخيار بين القلع بالأرش و بين التبقية بالأُجرة، كما لو أعار أرضاً للبناء، و هو أظهر قولَي الشافعيّة(3).

قالوا: إلّا أنّ في إعارة الأرض أمراً ثالثاً يتخيّر فيه، و هو تملّك البناء بالقيمة، و ليس لمالك الجدار ذلك؛ لأنّ الأرض أصلٌ، فجاز أن تستتبع البناء، و الجدار تابع فلا يستتبع(4).

و عندي أن لا ثالث هنا و لا في الأرض.

ص: 61


1- العزيز شرح الوجيز 104:5، روضة الطالبين 446:3.
2- العزيز شرح الوجيز 104:5، روضة الطالبين 446:3.
3- التهذيب - للبغوي - 153:4، العزيز شرح الوجيز 105:5، روضة الطالبين 447:3.
4- التهذيب - للبغوي - 153:4، العزيز شرح الوجيز 105:5، روضة الطالبين 447:3.

و قال بعض الشافعيّة: إنّه ليس له القلع؛ لأنّ ضرر القلع يتداعى إلى ما هو خالص ملك المستعير؛ لأنّ الجذوع إذا رُفعت أطرافها من جدارٍ لم تستمسك على الجدار الثاني، بل تثبت له الأُجرة خاصّةً(1).

و قال بعضهم: إنّه ليس له الرجوعُ أصلاً، و لا يستفيد به القلع و لا طلب الأُجرة للمستقبل(2) ؛ لأنّ مثل هذه الإعارة يراد بها التأبيد، فكان بمنزلة ما لو أعار أرضاً للدفن فدفن، لم يتمكّن المعير من قلعه و لا من طلب الأُجرة(3).

و لعلّ بينهما فرقاً.

مسألة 1068: لو أذن للجار في وضع الجذوع على جداره فوَضَعها، لم يستعقب ذلك المطالبة بالأُجرة

عمّا قبل الرجوع، فإن رفع صاحب الجذوع جذوعه لم يكن له إعادتها إلّا بإذنٍ جديد؛ لأنّ الإذن الأوّل زال بزواله.

و كذا لو أذن في وضع روشنٍ على حائطه أو جناحٍ أو ساباطٍ.

و هو أحد قولَي الشافعيّة. و الثاني: إنّ له الوضعَ؛ عملاً باستصحاب الإذن الأوّل(4).

و كذا لو سقطت الجذوع أو الروشن أو الساباط أو الجناح بنفسه.

و لو سقط الجدار فبناه صاحبه بتلك الآلة فكذلك؛ لأنّ الإذن لا يتناول إلّا مرّةً.

ص: 62


1- العزيز شرح الوجيز 105:5، روضة الطالبين 447:3.
2- في «ث، ر» و الطبعة الحجريّة: «في المستقبل» بدل «للمستقبل».
3- الحاوي الكبير 392:6، التهذيب - للبغوي - 153:4، العزيز شرح الوجيز 105:5، روضة الطالبين 447:3.
4- البيان 240:6، العزيز شرح الوجيز 105:5، روضة الطالبين 447:3.

و للشافعيّة وجهان(1).

و لو بناه بغير تلك الآلة، لم يُعِد الوضعَ إلّا بإذنٍ جديد عندنا و عند الشافعيّة قولاً واحداً(2).

و لو صالحه على وضع الجذوع أو الجناح أو الروشن أو الساباط على حائطه، جاز، و به قال الشافعي(1) ، بخلاف ما لو صالحه عن إشراع الجناح؛ لأنّه صلح عن الهواء المجرّد، فلا يجوز عنده(2).

و قد سبق(3) كلامنا فيه.

و لو رضي مالك الجدار بوضع الجذوع بعوضٍ، فذلك إمّا بيع أو إجارة، و سيأتي.

و على قول الشافعي - بأنّ له الإجبارَ على وضع الخشب(4) - لا تصحّ المعاوضة و لا الصلح عليه بمالٍ؛ لأنّ مَنْ ثبت له حقٌّ لا يؤخذ منه عوضٌ عليه(5).

لكنّا قد بيّنّا بطلان هذا القول من رأسٍ.

مسألة 1069: إذا كان الجدار مشتركاً بين اثنين و أكثر، لم يكن لأحدٍ من الشركاء التصرّفُ فيه بشيءٍ

من وجوه الانتفاعات حتى ضَرْب الوتد فيه و فتح الكُوّة بل و أخذ أقلّ ما يكون من ترابه ليترب به الكتاب بدون إذن

ص: 63


1- التهذيب - للبغوي - 153:4، العزيز شرح الوجيز 105:5، روضة الطالبين 448:3.
2- العزيز شرح الوجيز 105:5-106، روضة الطالبين 448:3.
3- في ص 55-56، المسألة 1062.
4- راجع الهامش (2) من ص 60.
5- التهذيب - للبغوي - 152:4، العزيز شرح الوجيز 105:5، روضة الطالبين 448:3.

جميع الشركاء فيه كغيره من الأموال المشتركة مطلقاً، سواء كان وضع جذوعٍ عليه أو لا.

و للشافعي في الإجبار على وضع الجذوع قولان؛ لأنّ له أن يُجبر جاره على وضع جذوعه على جداره، فشريكه أولى(1).

و الأصل قد بيّنّا بطلانه.

نعم، يجوز الانتفاع منه بل و من جدار الغير بما لا تقع المضايقة فيه، كالاستناد إليه و إسناد المتاع إليه إذا لم يتضرّر الجدار به؛ لأنّه بمنزلة الاستظلال بجدار الغير و الاستضاءة بسراجه.

و لو منع مالك الجدار من الاستناد، فالوجه: التحريم؛ لأنّه نوع تصرّفٍ بإيجاد الاعتماد عليه.

و لو بنى في ملكه جداراً متّصلاً بالجدار المشترك أو المختصّ بالجار بحيث لا يقع ثقله عليه، جاز، و لم يكن للآخَر الاعتراضُ.

الأمر
اشارة

الأمر(2) الثاني: القسمة.

مسألة 1070: لكلّ جسمٍ أبعاد ثلاثة: طولٌ و عرضٌ و عُمْقٌ.

و نعني بطول الحائط امتداده من زاويةٍ من البيت إلى الزاوية الأُخرى أو من حدٍّ من أرض البيت إلى حدٍّ آخَر من أرضه، و لا نريد به ارتفاعه عن الأرض؛ فإنّ ذلك هو العمق و السَّمْك باعتبار أخذ المساحة، أو الاعتبار من تحتٍ و من فوقٍ.

ص: 64


1- العزيز شرح الوجيز 106:5، روضة الطالبين 448:3.
2- بدل ما بين المعقوفين هنا و فيما يأتي في ص 67 في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «النظر». و الظاهر ما أثبتناه.

و أمّا العرض: فهو البُعْد الثالث منه.

فإذا كان طوله عشرةً و عرضه ذراعاً، جاز قسمته في الطول و العرض إن أراداها، فإذا طلب أحدهما قسمته في كلّ الطول و نصف العرض ليصير لكلّ واحدٍ نصف ذراعٍ في طول عشرةٍ، و أجابه الآخَر، جاز.

و كذا يجوز أن يقتسماه في كلّ العرض و نصف الطول، فيصير لكلّ واحدٍ خمسة أذرع في عرض ذراعٍ.

فإن طلبا قسمته على الوجه الثاني، كان للحاكم أن يُعلِّم بينهما بعلامةٍ و يخطّ رسماً للتنصيف، أو يشقّ الجدار و ينشره بالمنشار.

و إن طلبا قسمته على الوجه الأوّل، قسّمه بالعلامة، دون الشقّ و النشر؛ لأنّ شقّ الجدار في الطول إتلافٌ له و تضييعٌ.

و لو باشر الشريكان قسمته بالمنشار، لم يمنعهما أحد، كما لو نقضاه و اقتسما الانقاض.

و لو طلب أحد الشريكين قسمة الجدار و امتنع الآخَر، نُظر إن طلب القسمة على الوجه الأوّل، لم تجب الإجابة؛ لأنّا لو أوجبنا القسمة على هذا النحو لأُقرع في التخصيص، و القرعة ربما تُعيّن الشقّ الذي يلي أحدهما للآخَر، و الذي يلي الآخَر للأوّل، فلا يتمكّن أحدهما من الانتفاع بما وقع له بالقسمة، و لأنّه لا يتمكّن من إفصال أحدهما من الآخَر بفَصْلٍ محقّق؛ لأنّ غايته رسم خطٍّ بين الشقّين، فإذا بنى أحدهما على ما صار إليه، تعدّى الثقل و التحامل إلى الشقّ الآخَر.

نعم، لو تراضيا على هذه القسمة، جاز، و كان رسم الخطّ كافياً في القسمة.

و عن بعض الشافعيّة أنّه يُجبر الممتنع عن القسمة، و لا قرعة، بل

ص: 65

يُخصَّص كلّ واحدٍ منهما بما يليه ليقع النفع لهما معاً(1).

و أمّا إن طلب أحدهما القسمة على الوجه الثاني - و هو قسمة نصف الطول في كلّ العرض - فإن رضي الآخَر و أجابه إليها، جاز.

و إن امتنع فإن انتفى الضرر عنهما أو عن الممتنع، أُجبر عليها، و إن تضرّر الممتنع لم يُجبر عليها.

و للشافعيّة وجهان في الإجبار، فمَن اعتبر في القسمة الشقَّ و القطعَ مَنَع من القسمة؛ لأنّ القطع يوجب إتلاف بعض الجدار، و لا إجبار مع الإضرار(2).

و قال بعض هؤلاء: إنّ التضرّر و النقصان هنا هيّن في هذا النوع، فكان بمنزلة قسمة الثوب الصفيق(1).

و مَن اكتفى في القسمة برسم العلامة و الخطّ اختلفوا أيضاً:

فبعضهم جوّز الإجبار؛ لأنّه يمكن تأتّي الانتفاع بما يصير إليه(4).

و بعضهم مَنَع؛ لتعذّر الفاصلة المحقّقة(5).

مسألة 1071: لو انهدم الجدار أو هدماه أو لم يرسماه في الأوّل

فأرادا قسمة عرصته في كلّ الطول و نصف العرض و لا ضرر مطلقاً أو لا ضرر على الممتنع، فإن قلنا بتخصيص كلّ واحدٍ بالشقّ الذي يليه من غير قرعةٍ، أُجيب طالبها إليها.

و إن منعنا من قسمة الحائط في المسألة الأُولى، فللشافعيّة هنا وجهان مبنيّان على أنّ المنع في الحائط حذراً من القرعة أو من عدم تأتّي الفصل

ص: 66


1- العزيز شرح الوجيز 107:5. (4 و 5) العزيز شرح الوجيز 107:5، روضة الطالبين 449:3.

المحقّق ؟ فإن قالوا بالأوّل استمرّ المنع من القسمة هنا؛ لأنّ المانع هناك موجود هنا، و إن قالوا بالثاني أُجبر الممتنع عليها؛ لزوال المانع، لإمكان الفصل هنا(1).

و لو طلب قسمتها في نصف الطول و كلّ العرض، أُجيب؛ لفقد الموانع المذكورة في الجدار هنا.

و إذا بنى الجدار و أراد أن يكون عريضاً، زاد في عرضه من عرصة بيته.

الأمر الثالث: العمارة.
مسألة 1072: إذا استهدم الحائط، أُجبر صاحبه على نقضه

لئلّا يتأذّى به أحد، سواء كان المالك واحداً أو أكثر.

و لو كان لاثنين فنقضاه لاستهدامه أو لغير استهدامه أو انهدم الجدار بنفسه، لم يُجبرا على بنائه، و لا يُجبر أحدهما لو امتنع، عند علمائنا - و به قال أبو حنيفة و الشافعي في أحد القولين - و هو الجديد له - و مالك و أحمد في إحدى الروايتين عنهما(2) - لأنّه ملكه، فإذا لم يكن له حرمة في نفسه

ص: 67


1- العزيز شرح الوجيز 108:5، روضة الطالبين 449:3.
2- المبسوط - للسرخسي - 92:17-93، الحاوي الكبير 401:6، المهذّب - للشيرازي - 343:1، الوسيط 58:4، حلية العلماء 18:5، التهذيب - للبغوي - 156:4، البيان 245:6، الإفصاح عن معاني الصحاح 318:1-319، العزيز شرح الوجيز 109:5، روضة الطالبين 450:3، الإشراف على نكت مسائل الخلاف 1007/598:2، التفريع 293:2، عيون المجالس 1168/1655:4، المعونة 1201:2، الكافي في فقه أهل المدينة: 493، المغني 46:5، الشرح الكبير 43:5.

لم يُجبر على الإنفاق عليه، كما لو انفرد به، بخلاف الحيوان ذي الحرمة، فإنّه يجب عليه الإنفاق عليه؛ لحرمته، و تعلّق غرض الشارع بالانتفاع به، و لأنّه ملكه، فلا يُجبر على عمارته، كما لا يُجبر على زراعة الأرض المشتركة، و لأنّه بناء حائطٍ، فلا يُجبر عليه، كالابتداء، و لأنّه لو أُجبر على البناء فإمّا لحقّ نفسه، و هو باطل بما لو انفرد به، أو لحقّ غيره، و لا يجوز أن يُجبر الإنسان على عمارة ملك الغير، كما لو انفرد به الغير.

و القول القديم للشافعي: إنّهما يُجبران على عمارته، و يُجبر الممتنع عليها - و هو الرواية الأُخرى عن مالك و عن أحمد - دفعاً للضرر عن الشركاء، و صيانةً للأملاك المشتركة عن التعطيل، و قد قال النبيّ صلى الله عليه و آله:

«لا ضرر و لا إضرار»(1) و في ترك بنائه إضرار، فأُجبر الممتنع عليه، كما يُجبر على القسمة بينهما لو طلب أحدهما، و الملك و إن لم يكن له حرمة يلزمه بسببها الإنفاق عليه فإنّ شريكه له حرمة(2).

و لا نسلّم أنّ في ترك بنائه ضرراً؛ فإنّ الضرر إنّما حصل بانهدامه، و إنّما ترك البناء ترك لما يحصل النفع به، و في ترك بنائه إضرار به، و لا يُزال الضرر بالضرر.5.

ص: 68


1- الفقيه 154/45:3، سنن الدارقطني 84/228:4 و 85، مسند أحمد 2862/515:1.
2- الحاوي الكبير 400:6، المهذّب - للشيرازي - 343:1، الوسيط 58:4، حلية العلماء 18:5، التهذيب - للبغوي - 156:4، البيان 245:6، الإفصاح عن معاني الصحاح 319:1، العزيز شرح الوجيز 109:5، روضة الطالبين 450:3، الإشراف على نكت مسائل الخلاف 1007/598:2، التفريع 293:2، عيون المجالس 1168/1655:4، المعونة 1201:2، الكافي في فقه أهل المدينة: 493، المغني 46:5، الشرح الكبير 43:5.

و الخبر مشترك الدلالة؛ لأنّ في تكليف الشريك العمارةَ إضراراً عظيماً به، فلم يُجبر عليها.

و الفرق بينه و بين القسمة ظاهر؛ فإنّ للإنسان الاختصاصَ بالتصرّف في ملكه، و إنّما يتمّ بالقسمة، و الإجبار على العمارة يقتضي إجبار الغير على عمارة ملكه لينتفع الآخَر به، و القسمة دفع الضرر عنهما بما لا ضرر فيه، و البناء مضرّ؛ لما فيه من الغُرْم، و لا يلزم من إجباره على إزالة الضرر بما لا ضرر فيه إجباره على إزالته بما فيه ضرر.

مسألة 1073: لو هدم أحد الشريكين الجدار المشترك من غير إذن صاحبه،

فإن كان لاستهدامه و في موضع وجوب الهدم، لم يكن عليه شيء.

و إن كان ممّا لا يجب هدمه أو هدمه و هو معمور لا يخشى عليه السقوط، فقد اختلف قول علمائنا:

قال بعضهم: يُجبَر الهادم على عمارته و إعادته إلى ما كان عليه أوّلاً(1).

و الأقوى: لزوم الأرش على الهادم؛ لأنّ الجدار ليس بمِثْليٍّ.

مسألة 1074: قد بيّنّا أنّه لا يجب على الشريك في الجدار بناؤه لو انهدم

و لا مساعدة شريكه فيه لإزالة الضرر عن شريكه؛ لأنّ الممتنع قد لا يكون له نفعٌ في الحائط، بل و قد يكون عليه ضرر فيه أكثر من نفعه به، و قد يكون معسراً لا مال له ينفق على البناء، فحينئذٍ لا يُجبر لو امتنع عن الإنفاق و إن كان موسراً و كان يتضرّر بترك البناء.

و على القديم للشافعي يُجبر(2).

ص: 69


1- شرائع الإسلام 125:2.
2- راجع الهامش (2) من ص 68.

فإن أصرّ على الامتناع، أنفق الحاكم عليه ليرجع على الممتنع إذا وُجد له مالٌ، فإن استقلّ و بذل أن يبنيه و يرجع عليه، ففي الرجوع عليه قولان للشافعي، و لأصحابه طُرق:

أصحّها عند أكثرهم: القطع بعدم الرجوع، و حمل قول الرجوع على ما إذا أنفق بالإذن.

و الثاني: إنّ القول بعدم الرجوع تفريع على الجديد، و القول بالرجوع تفريع على القديم.

و الثالث: إن قلنا بالقديم رجع قطعاً، و إن قلنا بالجديد فقولان.

و الرابع: إن أمكنه عند البناء مراجعة الحاكم فلا يرجع [و إن لم يمكنه](1) فيرجع، أمّا إن أذن له الحاكم في البناء ليرجع أو بذل عن الشريك إقراضه، فإنّ له الرجوعَ إن قلنا به(2).

مسألة 1075: لو كان بين الشريكين نهر مشترك أو قناة أو دولاب أو ناعورة أو بئر فاحتاج شيء من ذلك في الانتفاع به إلى العمارة،

لم يُجبر أحد الشريكين الآخَر على العمارة كما قلنا في الجدار، و هو الجديد للشافعي، كما تقدّم.

و في القديم: إنّه يُجبر، و به قال أبو حنيفة(3) ، و فرّق بين هذه و بين الجدار، فأوجب على الشريك في هذه العمارةَ و الإصلاحَ و تنقيةَ البئر،

ص: 70


1- بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «أو لا يمكنه». و الأنسب بالعبارة ما أثبتناه.
2- العزيز شرح الوجيز 110:5، روضة الطالبين 451:3.
3- حلية العلماء 19:5، التهذيب - للبغوي - 157:4، البيان 245:6، الإفصاح عن معاني الصحاح 318:1-319، العزيز شرح الوجيز 109:5، المغني 50:5، الشرح الكبير 49:5.

و لم يوجب بناء الجدار؛ لأنّ الشريك لا يتمكّن من مقاسمته، فيضرّ به، بخلاف الحائط، فإنّه يمكنه قسمته مع شريكه و قسمة عرصته(1).

و ليس بجيّدٍ؛ لأنّ في قسمة العرصة إضراراً بهما، و في قسمة الحائط أكثر إضراراً و الإنفاق أرفق، فكانا سواءً.

مسألة 1076: لو كان علوّ الجدار لواحدٍ و سُفْلها لغيره فانهدمت،

لم يكن لصاحب السُّفْل إجبار صاحب العلوّ على مساعدته في إعادة السُّفْل؛ لأصالة البراءة.

و كذا ليس لصاحب العلوّ إجبار صاحب السُّفْل على إعادة السُّفْل ليبني عليه علوّه، عند علمائنا - و به قال أبو حنيفة و الشافعي في الجديد، و أحمد في إحدى الروايتين، و أبو الدرداء(2) - لما تقدّم من أنّ الإنسان لا يُجبر على عمارة ملكه و لا عمارة ملك غيره، و الحقّ لا يعدوهما.

و قال الشافعي - في القديم - و مالك و أحمد - في الرواية الأُخرى - و أبو ثور: إنّه يُجبر صاحب السُّفْل على الإعادة، و إذا قلنا بالإجبار وجب عليه وحده الإنفاق عليه؛ لأنّه خاصّ ملكه(3).

ص: 71


1- الحاوي الكبير 404:6، حلية العلماء 19:5، التهذيب - للبغوي - 157:4، البيان 245:6، الإفصاح عن معاني الصحاح 319:1، العزيز شرح الوجيز 109:5، روضة الطالبين 450:3.
2- تحفة الفقهاء 191:3، بدائع الصنائع 264:6، المبسوط - للسرخسي - 92:17، روضة القضاة 5209/773:2، الحاوي الكبير 401:6، التنبيه: 104، المهذّب - للشيرازي - 344:1، الوسيط 58:4، حلية العلماء 19:5، التهذيب - للبغوي - 157:4، البيان 248:6، العزيز شرح الوجيز 109:5، روضة الطالبين 450:3، الإفصاح عن معاني الصحاح 318:1-319، المغني 48:5-49، الشرح الكبير 47:5، عيون المجالس 1170/1657:4.
3- الحاوي الكبير 400:6، التنبيه: 104، المهذّب - للشيرازي - 344:1، الوسيط 58:4، حلية العلماء 19:5، التهذيب - للبغوي - 156:4-157، البيان 248:6، العزيز شرح الوجيز 109:5، روضة الطالبين 450:3، التفريع 294:2، التلقين: 433، عيون المجالس 1170/1656:4، المغني 48:5، الشرح الكبير 47:5، الإفصاح عن معاني الصحاح 319:1، روضة القُضاة 5210/773:2.

و كذا لو كان له ساباط استحقّ وضعه على حائط غيره فانهدم، لم يُجبر أحدهما على العمارة.

و للشافعيّة قولان(1).

و هذا الخلاف فيما إذا انهدم الحائط أو هدمه صاحب السُّفْل و العلوّ معاً من غير شرطٍ، أمّا إذا استهدم فهدمه صاحب السُّفْل بشرط أن يعيده، أُجبر عليه قولاً واحداً.

و يجري الخلاف فيما إذا طلب أحدهما اتّخاذ سترةٍ بين سطحيهما، هل يُجبر الآخَر على مساعدته ؟ و مذهبنا أنّه لا يُجبر؛ لأصالة البراءة.

مسألة 1077: إذا انهدم الحائط المشترك فطلب أحدهما بناءه، لم يُجبر الآخَر على ذلك،

كما تقدّم(2) ، و هو الجديد للشافعي.

و في القديم - و به قال مالك و أحمد في روايةٍ عنهما -: إنّه يُجبر(3).

فإن كان له مالٌ و امتنع، أنفق الحاكم منه، و إن لم يكن له مالٌ فبذل شريكه أن يبنيه و يرجع عليه، أذن له الحاكم.

و كذا إن بذل غيره إقراضه.

فإذا بناه بإذن الحاكم، استحقّ ما أنفقه على شريكه عنده(4) ، و كان

ص: 72


1- لم نعثر عليهما في مظانّه.
2- في ص 67، المسألة 1072.
3- راجع الهامش (2) من ص 68.
4- البيان 246:6، العزيز شرح الوجيز 110:5، روضة الطالبين 451:3.

الحائط بينهما يعيد كلّ واحدٍ منهما رسومه عليه.

و لو بناه بغير إذن شريكه في الإنفاق و لا إذن الحاكم عند امتناع شريكه، كان متطوّعاً، و لا يرجع به على شريكه.

ثمّ يُنظر فإن بناه و أعاد الحائط بالآلة المشتركة القديمة، فالجدار بينهما كما كان؛ لأنّ المُنفق إنّما أنفق على التأليف، و ذلك أثر لا عين يملكها و يختصّ بها.

و لو أراد الباني نقضه، لم يكن له ذلك؛ لأنّه ملكهما، فليس له التصرّف بما فيه ضرر عليهما. و كون التأليف منه لا يقتضي جواز نقضه.

و كذا لو بنى صاحب السُّفْل جدران السُّفْل بإنقاضه القديمة، فهو لصاحب السُّفْل كما كان، و ليس لصاحب العلوّ نقضه و لا منعه من الانتفاع بملكه.

و إن بناه بآلةٍ من عنده مستجدّة، فالحائط له ينفرد بملكه، و له أن يمنع شريكه من وضع خشبه عليه، و يُمكَّن من نقضه؛ لأنّه ملكه خاصّةً، فله التبقية و الإزالة، و به قال الشافعي و أحمد(1).

و يشكل فيما إذا كانت العرصة مشتركةً.

و لو قال الشريك: أنا أدفع إليك نصف النفقة و لا تنقض، فعلى القديم للشافعي: لا يجوز له النقض، و يجب عليه القبول؛ لأنّ لأحد الشريكين إجبارَ الآخَر على البناء، فلأن يُجبره على الاستدامة أولى، فإن لم يبذل دَفْعَ قيمة نصف البناء كان للباني نقضُه(2).3.

ص: 73


1- المهذّب - للشيرازي - 343:1، التهذيب - للبغوي - 157:4، البيان 246:6، العزيز شرح الوجيز 110:5، روضة الطالبين 451:3، المغني 47:5، الشرح الكبير 45:5.
2- العزيز شرح الوجيز 110:5، روضة الطالبين 451:3.

و على الجديد لو أراد الشريك الطالب للعمارة الانفرادَ بها، فإن أراد عمارة الجدران بالنقض المشترك أو أراد صاحب العلوّ إعادة السُّفْل بنقض صاحب السُّفْل أو بآلةٍ مشتركة بينهما، فللآخَر منعه منها.

و إن أراد بناءه بآلةٍ من عنده، فله ذلك، و جاز أن يبني على عرصةٍ مشتركة بينه و بين غيره بغير إذنه ليصل إلى حقّه من الحمل عليه و الرسم، كما لو سقطت جذوعه الموضوعة على الجدار المشترك، ينفرد بإعادتها(1).

ثمّ إن أعاده بآلته، كان لشريكه وضعُ خشبه عليه؛ لأنّه ملكٌ لهما، فكان له ردّ رسومه عليه.

و إن بناه بآلةٍ من عنده مختصّة به، انفرد بملكه، و كان له أن يمنع الذي كان لشريكه من وضع رسومه، و كان المعاد ملكاً للباني يضع عليه ما شاء، و ينقضه إذا شاء.

و لو قال الشريك: لا تنقض لأغرم لك نصف القيمة، أو قال صاحب السُّفْل: لا تنقض لأغرم لك القيمة، لم تلزمه إجابته على هذا القول - و هو عدم الإجبار على البناء - فلا يُجبره على التبقية، كابتداء العمارة.

و لو طالَبه شريكه بنقضه، لم يكن له ذلك، إلّا أن يكون له رسم خشبٍ عليه، فيقول: إمّا أن تأخذ منّي نصف قيمته و تمكّنني من وضع خُشُبي عليه، أو تقلع حائطك لنبنيه جميعاً، كان له ذلك؛ لأنّه لا يجوز للباني إبطال رسومه ببنائه.

و لو قال صاحب السُّفْل: انقض ما أعدتَه لأبنيه بآلة نفسي، فإن كان قد طالَبه بالبناء [فلم يُجب](2) لم يُجب الآن إلى ما يقوله، و إن لم يطالبه3.

ص: 74


1- العزيز شرح الوجيز 110:5، روضة الطالبين 451:3.
2- ما بين المعقوفين أضفناه من العزيز شرح الوجيز 110:5، و كما هو المستفاد من روضة الطالبين 451:3.

و قد بنى علوّه عليه فكذلك لا يُجاب.

و هل له أن يتملّك السُّفْل بالقيمة ؟ قال بعض الشافعيّة: نعم(1).

و ليس بجيّدٍ.

و إن لم يَبْن عليه صاحب العلوّ بَعْدُ، أُجيب صاحب السُّفْل.

و مهما بنى الباني بآلة نفسه، فله منع صاحبه من الانتفاع بالمعاد بفتح كوّةٍ و غرز وَتَدٍ و وضع خشبةٍ و غير ذلك، و ليس له منع صاحب السُّفْل من السكون؛ فإنّ العرصة ملكه.

و قال بعض الشافعيّة: له المنع من السكون أيضاً(2). و هو غلط.

و لو أنفق أحد الشريكين على البئر و النهر، لم يكن له منع الشريك من [سقي](3) الزرع و الانتفاع بالماء، و له منعه من الانتفاع بالدولاب و البكرة المحدثين.

و لو كان للممتنع على الجدار الذي انهدم جذوع فأراد إعادتها بعد ما بناه الطالب بآلة نفسه، كان على الباني تمكينه، أو نقض ما أعاده ليبني معه الممتنع و يعيد جذوعه.

مسألة 1078: لو كان بينهما دولاب أو ناعورة، كان حكمهما حكمَ الحائط على ما ذكرناه.

و لو كان بينهما بئر أو نهر، فإن قلنا: ليس لأحدهما إجبار الآخَر على الإنفاق، كان لكلّ واحدٍ منهما أن يُنفق على ذلك، فإن أنفق أحدهما عليه،

ص: 75


1- العزيز شرح الوجيز 110:5، روضة الطالبين 451:3.
2- العزيز شرح الوجيز 111:5، روضة الطالبين 452:3.
3- ما بين المعقوفين أضفناه من «العزيز شرح الوجيز» و «روضة الطالبين». راجع الهامش السابق.

لم يكن له أن يمنع الآخَر من نصيبه من الماء؛ لأنّ الماء ينبع من ملكهما المشترك بينهما، و إنّما أثر أحدهما نقل الطين عنه، و ليس له فيه عين ملكٍ، بخلاف الحائط إذا بناه بغير آلته.

و إن قلنا: يُجبر الممتنع منهما - كما هو قول الشافعي في القديم(1) - أجبره الحاكم. فإن امتنع و له مالٌ ظاهر، أنفق منه، و إن لم يكن له، أذن لشريكه، و يُنفق عليه، و يرجع بقدر نصيب شريكه عليه. فإن أنفق شريكه بغير إذنه و لا إذن الحاكم، كان متبرّعاً لا يرجع عليه قولاً واحداً، و ليس له منعه من حقّه من الماء على ما تقدّم.

و قد عرفت مذهبنا فيه، و أنّ الشريك ليس له الإجبار على الإنفاق.

مسألة 1079: قد ظهر بما مرّ: إنّ الجدار المشترك بين اثنين لو انفرد أحدهما بإعادته بالنقض المشترك فإنّه يعود مشتركاً كما كان،

فلو عمراه معاً و أعاداه بالنقض المشترك بينهما، كان الاشتراك بينهما أولى.

إذا عرفت هذا، فلو شرطا مع التعاون على الإعادة و الشركة في بنائه زيادةً لأحدهما، قالت الشافعيّة: لا يجوز؛ لأنّه شرط عوضٍ من غير معوّضٍ، فإنّهما متساويان في العمل و في الجدار و العرصة و الأنقاض(2).

و الأقوى عندي: الجواز؛ عملاً بالشرط، و قد قال عليه السلام: «المؤمنون عند شروطهم»(3) و به قال بعض الشافعيّة(4).

و كذا لو باع أحد الشريكين في دارٍ أو متاعٍ نصفَه من المشترك بثلث

ص: 76


1- راجع الهامش (1) من ص 71.
2- البيان 248:6، العزيز شرح الوجيز 111:5، روضة الطالبين 452:3.
3- التهذيب 1503/371:7، الاستبصار 835/232:3، الجامع لأحكام القرآن 33:6.
4- العزيز شرح الوجيز 111:5، روضة الطالبين 452:3.

المشترك من نصف صاحبه، صحّ، و يصير المشترك بينهما أثلاثاً بعد أن كان نصفين، فلو باع أحدهما نصفَه المشاع بنصف صاحبه، فالأقوى:

الجواز.

و لم يقدّر الشافعيّة ذلك بيعاً، و لا تترتّب عليه أحكام البيع عندهم(1).

و الأقرب: ما قدّمناه من صحّة بيع أحدهما نصفَه بالثلث من نصف الآخَر و بنصفه.

و بعض الشافعيّة جوَّز البيعَ هنا، و مَنَع من صحّة الشرط في البناء؛ لأنّ الموجود في البناء هو البناء بشرط الزيادة لأحدهما، و مجرّد الشرط و الرضا بالتفاوت لا يغيّر كيفيّة الشركة القديمة، إلّا أنّ البناء بالإذن و الشرط قائم مقام البيع(2).

أمّا لو انفرد أحد الشريكين بالبناء بالنقض المشترك بإذن صاحبه بشرط أن يكون له الثلثان، جاز، و يكون السدس الزائد له في مقابلة عمله في نصيب الآخَر.

و قال بعض الشافعيّة: هذا إنّما يتصوّر لو شرط سدس النقض له في الحال لتكون الأُجرة عتيدةً(1) ، فأمّا إذا شرط السدس الزائد له بعد البناء، لم يصح؛ فإنّ الأعيان لا تؤجَّل(2).

قيل عليه: التصوير و إن وقع فيما ذكره لكن وجب أن يكون الحكم فيه كالحكم فيما إذا شرط للمُرضع جزءاً من الرقيق المرتضع في الحال و لقاطف الثمار جزءاً من الثمار المقطوفة في الحال؛ لأنّ عمله يقع على ما3.

ص: 77


1- أي: حاضرة: لسان العرب 279:3 «عتد».
2- العزيز شرح الوجيز 111:5، روضة الطالبين 452:3.

هو مشترك بينه و بين غيره. و سيأتي(1).

و لو بناه أحدهما بآلة نفسه بإذن الآخَر بشرط أن يكون ثلثا الجدار له، فقد قابل ثلث الآلة المملوكة و عمله بسدس العرصة المبنيّ عليها.

و في صحّة هذه المعاملة للشافعيّة قولان؛ لأنّه قد جمع فيها بين أمرين مختلفي الحكم، و هُما البيع و الإجارة(2).

و هذا عندنا صحيح، و الجمع بين الأُمور المختلفة الأحكام جائز عندنا.

و يشترط في صحّة ذلك العلمُ بالآلات و بصفات الجدار.

مسألة 1080: لو كان لشخصين مِلْكان متجاوران و لا حائط - يحجز بينهما - قديم،

فطلب أحدهما من الآخَر المساعدة على بناء حائطٍ يحجز بينهما، فامتنع الآخَر، لم يُجبر على مساعدته، و به قال أحمد روايةً واحدة(3).

و لو أراد البناء وحده، لم يكن له البناء إلّا في ملكه خاصّة؛ لأنّه لا يملك التصرّف في ملك جاره المختصّ و لا في الملك المشترك، فإن بناه في ملك جاره أو بعضه في ملكه و بعضه في ملك جاره، كان للجار هدمه؛ لأنّه وضع بغير حقٍّ، و لا نعلم فيه خلافاً.

مسألة 1081: لو كان له حقّ إجراء الماء في ملك الغير أو على سطحه فانهدم ذلك الملك، لم يجب على مستحقّ الإجراء مشاركته في العمارة؛

لأنّ العمارة تتعلّق بتلك الأعيان و هي لمالكها، و ليس لمستحقّ الإجراء فيها

ص: 78


1- العزيز شرح الوجيز 111:5.
2- العزيز شرح الوجيز 112:5، روضة الطالبين 452:3.
3- المغني 48:5، الشرح الكبير 46:5-47.

شركة، و لا يجب أيضاً على صاحب الملك العمارةُ لو طلبها صاحب الإجراء.

و لو كان الانهدام بسبب الماء، فكذلك على الأقوى.

و ليس على صاحب الإجراء عمارةٌ أيضاً؛ لأنّه ليس بملكٍ و الانهدامُ حصل بسببٍ مستحقٍّ، و هو أقوى وجهي الشافعيّة(1).

و لو حصل تفريط من أحد الشريكين أو من أحد المستحقّين في ذلك كلّه، كان عليه الضمان.

البحث الثالث: في السقف.
مسألة 1082: السقف الحائل بين العلوّ و السُّفْل المختلفي المالكين قد يكون مشتركاً بين المالكين،

و تارةً يكون خالصاً لأحدهما، كما تقدّم في الجدار بين الدارين لمالكين، لكن حكم القسمين في الانتفاع يخالف حكمهما في الجدار؛ فإنّه يجوز لصاحب العلوّ الجلوسُ و وضع الأثقال عليه على الاعتياد، و لصاحب السُّفْل الاستظلالُ و الاستكنان به؛ لأنّا لو لم نُجوّز له ذلك لعَظُم الضرر و تعطّلت المنافع.

و الأقرب: إنّه ليس لصاحب السُّفْل تعليقُ الأمتعة فيه، سواء كان لها ثِقْلٌ يتأثّر به السقف أو لا، كالثوب و نحوه.

و للشافعيّة قولان فيما ليس له ثقل:

أحدهما: إنّه غير جائزٍ؛ إذ لا ضرورة فيه، بخلاف الاستظلال.

و الثاني: الجواز؛ بناءً على الاعتياد تسويةً بين صاحب العلوّ و صاحب

ص: 79


1- العزيز شرح الوجيز 112:5، روضة الطالبين 452:3.

السُّفْل في تجويز تثقيل السقف.

فعلى هذا فلهم وجهان:

أحدهما: إنّ التعليق الجائز هو الذي لا يحتاج إلى إثبات وتدٍ في السقف.

و أظهرهما: إنّه لا فرق.

فإن قلنا: ليس له إثبات الوتد و التعليق فيه، فليس لصاحب العلوّ غرز الوتد في الوجه الذي يليه؛ إذ لا ضرورة إليه.

و إن جوّزنا ذلك لصاحب السُّفْل، ففي جوازه لصاحب العلوّ وجهان؛ لندور الحاجة إليه، بخلاف التعليق(1).

و أمّا ما لا ثقل له يتأثّر به السقف فعند الشافعيّة قولاً واحداً أنّه لا منع منه(2).

مسألة 1083: تصوير اشتراك السقف سهل،

و أمّا خلوصه لأحدهما:

فأمّا لصاحب العلوّ فبأن يبيعه صاحب السُّفْل السقفَ و الغرفةَ عندنا، أو يكون لصاحب السُّفْل جداران متقابلان فيأذن لغيره في وضع الجذوع عليهما و البناء على تلك الجذوع بعوضٍ أو بغير عوضٍ عندنا و عند الشافعي(3).

و أمّا لصاحب السُّفْل فبأن يبيعه جدران الغرفة دون سقفها، عندنا، أو يأذن لغيره في البناء على سقف ملكه فيبني عليه، عندنا و عند الشافعي(4).

فإذا أذن المالك لغيره في البناء على ملكه بغير عوضٍ، كان عاريةً.

و إن كان بعوضٍ، فهو إمّا إجارة بأن يُكري أرضه أو رأس جداره أو

ص: 80


1- العزيز شرح الوجيز 113:5، روضة الطالبين 453:3.
2- العزيز شرح الوجيز 113:5، روضة الطالبين 453:3.
3- العزيز شرح الوجيز 114:5، روضة الطالبين 453:3.
4- العزيز شرح الوجيز 114:5، روضة الطالبين 453:3.

سقفه مدّةً معلومة بأُجرةٍ معيّنة، و هو جائز، و به قال الشافعي(1) ، و سبيل ذلك سبيل سائر الإجارات، و إمّا بيعٌ بأن يأذن له فيه بصيغة البيع و يبيّن الثمن، و هو صحيح عندنا و عند الشافعي(2)؛ للأصل، و لعموم قوله تعالى:

«وَ أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ» (3) .

و قال أبو حنيفة: لا يجوز. و به قال المزني(4).

و طريق ذلك أن يبيعه سطحَ البيت للبناء عليه أو علوَّه بثمنٍ معيّن.

و ليس له أن يبيع حقَّ البناء على ملكه - خلافاً لبعض الشافعيّة(5) - لأنّ البيع إنّما يتناول الأعيان، و حقّ البناء ليس منها.

قال بعض الشافعيّة: بيع سطح البيت أو علوّه للبناء بثمنٍ معلوم هو بعينه بيع حقّ البناء على ملكه، فإنّ المراد منهما شيء واحد و إن كان ظاهر اللفظ مشعراً بالمغايرة؛ لأنّ بيع العلوّ للبناء إمّا أن يراد به جملة السقف، أو الطبقة العليا منها، و على التقديرين فهو بيع جزءٍ معيّن من البناء أو السقف.

و أيضاً فإنّهم صوّروا فيما إذا اشتراه ليبني عليه، و مَن اشترى شيئاً انتفع به بحسب الإمكان، و لم يحتج إلى التعرّض للانتفاع به.

و أيضاً ما حقيقة هذا العقد؟ إن كان بيعاً فليفد ملك عينٍ، كسائر البيوع، و إن كان إجارةً فليشترط التأقيت، كسائر الإجارات.

و اختلفت الشافعيّة فيه.

فقال بعضهم: يملك المشتري به مواضع رءوس الجذوع. و هو مشكل عند الباقين.

ص: 81


1- العزيز شرح الوجيز 114:5، روضة الطالبين 453:3.
2- العزيز شرح الوجيز 114:5، روضة الطالبين 453:3.
3- البقرة: 275.
4- العزيز شرح الوجيز 114:5، روضة الطالبين 453:3.
5- العزيز شرح الوجيز 114:5، روضة الطالبين 453:3.

و الأصحّ عندهم: إنّه لا تُملك به عينٌ، و حينئذٍ فوجهان:

أحدهما: إنّه إجارة، و إنّما لم يشترط تقدير المدّة؛ لأنّ العقد الوارد على المنفعة يتبع فيها الحاجة، فإذا اقتضت الحاجة التأبيد، أُبّد على خلاف سائر الإجارات، و أُلحق بالنكاح.

و أظهرهما: إنّه ليس بإجارةٍ محضة، بل فيه شائبة الإجارة، و هي أنّ المستحقّ به منفعة، و شائبةُ البيع، و هي أنّ الاستحقاق فيه على التأبيد، و كأنّ الشرع نظر إلى أنّ الحاجة تمسّ إلى ثبوت الاستحقاق المؤبَّد في مرافق الأملاك و حقوقها، كما تمسّ إلى ثبوت الاستحقاق المؤبَّد في الأعيان، فجوّز هذا العقدَ، و أثبت فيه شبهاً من البيع و شبهاً من الإجارة.

و إذا قلنا: إنّه لا تُملك به عينٌ، فلو عقد بلفظ الإجارة و لم يتعرّض للمدّة، فوجهان عندهم، أشبههما: إنّه ينعقد أيضاً؛ لأنّه يخالف البيع في قضيّةٍ كما يخالف الإجارة في قضيّةٍ أُخرى(1).

و هذا كلّه عندنا ليس بشيءٍ، بل الواجب إن أراد نقل السقف أن يبيعه إيّاه، أو يؤجره و يعيّن المدّة.

مسألة 1084: إذا جرت هذه المعاملة على ما اخترناه نحن، أو على ما اختاره الشافعيّة و بنى المشتري،

لم يكن للبائع أن يكلّفه النقض ليغرم له أرش النقصان.

و لو انهدم الجدار أو السقف بعد بناء المشتري عليه فأعاده مالكه، فللمشتري إعادة البناء بتلك الآلات أو بمثلها.

و لو انهدم قبل البناء، فللمشتري البناء إذا أعاده.

ص: 82


1- العزيز شرح الوجيز 114:5-115، روضة الطالبين 453:3.

و هل يُجبر على إعادته ؟ فيه خلافٌ تقدّم(1).

و لو هدم صاحب السُّفْل أو غيره السُّفْلَ قبل بناء المشتري، فعلى الهادم قيمة حقّ البناء؛ لأنّه حالَ بينه و بين حقّه بالهدم، فإذا أعاد مالك السُّفْلِ السُّفْلَ، استرجع الهادم القيمةَ؛ لارتفاع الحيلولة، و لا يغرم أُجرة البناء لمدّة الحيلولة.

و لو كان الهدم بعد البناء، فعلى قول مَنْ يوجب إعادة المهدوم يكون عليه إعادة السُّفْل و العلوّ، و على قول مَنْ يوجب الأرش يكون عليه أرش نقص الآلات، و قيمة حقّ البناء؛ للحيلولة.

و لا تنفسخ هذه المعاملة بما يعرض من هَدْمٍ و انهدامٍ؛ لأنّها ملتحقة بالبيوع.

مسألة 1085: إذا جرى الإذن في البناء بعوضٍ، وجب معرفة قدر الموضع المبنيّ عليه طولاً و عرضاً.

و كذا إن كان بغير عوضٍ عند الشافعيّة(2).

و عندي فيه إشكال؛ لأنّ ذلك عارية، فلا يجب فيها ما شُرط في البيوع.

و لو كان البناء على الجدار أو السطح، وجب مع ذلك بيان سمْك البناء و طوله و عرضه، و كون الجدران منضّدةً أو خالية الأجواف، و كيفيّة السقف المحمول عليها؛ لاختلاف الأغراض في ذلك كلّه، و اختلاف حمل الجدران، فإنّ الجدار لا يحمل كلّ شيءٍ، و كذا السقف، فوجب البيان.

و قال بعض الشافعيّة: إذا أطلق ذكر البناء كفى، و حُمل الإطلاق على

ص: 83


1- في ص 67، المسألة 1072.
2- العزيز شرح الوجيز 115:5، روضة الطالبين 454:3.

العادة، فما يحتمله المبنيّ عليه في العادة انصرف الإطلاق إليه، و ما لا فلا(1).

و هل يشترط التعرّض لوزن ما يبنيه عليه ؟ إشكال ينشأ من أنّ الإعلام في كلّ شيءٍ على ما يليق به و يعتاد فيه من اختلاف المبنيّ بالثقل و الخفّة اختلافاً يختلف بسببه الأغراض و حمل الجدران و السقوف.

و الأقرب في الخشب ذلك، دون الآجر و اللبن؛ للعادة.

و لو كانت الآلات حاضرةً، استغنى بمشاهدتها عن كلّ وصفٍ و تعريفٍ.

و لو كان الإذن في البناء على أرضه، لم يجب ذكر سمْك البناء و كيفيّته؛ لأنّ الأرض تحتمل كلّ شيءٍ.

و بعضُ الشافعيّة شَرَطه؛ لأنّ الإذن إن كان على وجه الإعارة أو الإجارة فإنّ عند الرجوع عن الإعارة أو انقضاء مدّة الإجارة تطول مدّة التفريغ و تقصر بحسب كثرة النقض و قلّته، و يختلف الغرض بذلك(2).

و ليس بشيءٍ.

مسألة 1086: لو ادّعى بيتاً في يد غيره فصالحه عليه

- إمّا مع إقراره، عند الشافعي(3) ، أو مطلقاً عندنا - على أن يبني المُقرّ أو المنكر على سطحه، جاز، و لم يكن ذلك فرعَ العارية، خلافاً للشافعيّة، و عندهم أنّه يكون قد أعاره المُقرّ له سطح بيته للبناء(4).

ص: 84


1- العزيز شرح الوجيز 115:5، روضة الطالبين 454:3.
2- العزيز شرح الوجيز 115:5-116، روضة الطالبين 454:3.
3- العزيز شرح الوجيز 116:5، روضة الطالبين 454:3، و راجع: الهامش (1) من ص 26.
4- بحر المذهب 44:8، البيان 249:6، العزيز شرح الوجيز 116:5، روضة الطالبين 454:3.

فلو كان التنازع في سفله و العلوّ للمدّعى عليه فأقرّ للمدّعي بما ادّعاه فتصالحا على أن يبني المدّعي على السطح و يكون السُّفْل للمدّعى عليه جاز، و كان عند الشافعي بيعَ السُّفْل بحقّ البناء على العلوّ(1).

مسألة 1087: لا يجب على الجار إجراء ماء المطر من سطح جاره على سطحه

و لا إجراء الماء في أرضه عند علمائنا؛ لأصالة البراءة، و لتخصيص المالك التامّ ملكه بالانتفاع بملكه، و هو قول أكثر الشافعيّة، و الجديد للشافعي.

و في القديم له قول: إنّه يُجبر صاحب السطح و الأرض على إجراء الماء من سطح الجار على سطحه و أرضه(2).

و الحقّ خلافه.

و لو أذن له فيه جاز.

و لو باعه الإجراء لم يصح.

و لو آجره السطح للإجراء أو باعه إيّاه صحّ، لكن إذا باعه السطح مَلَكه ملكاً مطلقاً يتصرّف فيه كيف شاء بما لا يتضرّر به.

و إن أعاره أو آجره، جاز.

و يشترط بيان معرفة الموضع الذي يجري عليه الماء في الإعارة و الإجارة و البيع، و السطوح التي ينحدر منها الماء إليه في الإعارة و الإجارة خاصّةً، و لا يضرّ الجهل بقدر ماء المطر في ذلك كلّه؛ إذ لا يمكن معرفته و ضبطه، و هذا عقدٌ جُوّز للحاجة.

ص: 85


1- بحر المذهب 44:8، البيان 249:6، العزيز شرح الوجيز 116:5، روضة الطالبين 454:3.
2- البيان 236:6، العزيز شرح الوجيز 116:5، روضة الطالبين 454:3.

و لو صالحه على إجراء مائه على سطحه جاز، و لم يكن هذا الصلح فرعَ غيره عندنا، خلافاً للشافعي(1).

و يشترط العلم بالسطح الذي يجري ماؤه؛ لاختلاف الماء قلّةً و كثرةً باختلاف السطوح كبراً و صغراً.

و عند الشافعي أنّ هذا يكون فرعَ الإجارة، و مع ذلك لا يحتاج إلى ذكر المدّة(2).

و إذا أذن له في إجراء الماء على سطحه ثمّ بنى على سطحه بما يمنع الماء من الجريان عليه، فإن كان عاريةً كان ما فَعَله رجوعاً فيها، و إن كان بيعاً أو إجارةً كان للمشتري أو المستأجر نقب البناء و إجراء الماء فيه.

مسألة 1088: لو ادّعى عليه مالاً فصالحه منه على مسيل ماءٍ في أرضه، جاز إذا بيّنا موضعه و عيّناه و عرفا عرضه و طوله.
اشارة

و لا يحتاجان إلى أن يُبيّنا عمقه إن كان قد عقد بلفظ البيع لذلك الموضع؛ لأنّ مَنْ مَلَك الموضع كان له النزول فيه إلى تخومه، و هو أحد وجهي الشافعيّة. و الثاني: يجب بيانه؛ بناءً على أنّ المشتري يملك موضع الجريان، أو لا يملك إلّا حقّ الإجراء(1).

و الحقّ: التفصيل، فإن باعه مسيل الماء أو مكان إجراء الماء مَلَك موضع الجريان، و إن باع حقّ مسيل الماء بطل عندنا إن كان بلفظ البيع، و صحّ إن كان بلفظ الصلح.

و يصحّ عند الشافعيّة على الوجهين؛ لأنّه كبيع حقّ البناء(2).

ص: 86


1- التهذيب - للبغوي - 154:4، العزيز شرح الوجيز 116:5، روضة الطالبين 455:3.
2- التهذيب - للبغوي - 154:4-155، العزيز شرح الوجيز 116:5، روضة الطالبين 455:3.

و كذا إن عقد بلفظ الصلح على تلك الأرض، أمّا لو كان على إجراء الماء فإنّ الأرض باقية لمالكها، و افتقر حينئذٍ إلى تعيين العمق و تقدير المدّة.

و إذا صالحه على أن يجري الماء في ساقيةٍ في أرض المُصالَح، صحّ و لم يكن إجارةً.

و عند الشافعي أنّه يكون إجارةً(1) ، قال في الأُمّ: و يجب تقدير المدّة(2). و هو جيّد على مذهبنا.

و إنّما يصحّ إذا كانت الساقية محفورةً، و إن لم تكن محفورةً لم يجز؛ لأنّ المستأجر لا يتمكّن من إجراء الماء إلّا بالحفر، و المستأجر لا يملك الحفر في ملك غيره، و لأنّه إجارة لساقيةٍ غير موجودةٍ، قاله بعض الشافعيّة(3).

و فيه نظر؛ إذ التصرّف في مال الغير بإذنه جائز، و لمّا صالحه على الإجراء فقد أذن له فيه، فيستلزم الإذن فيما هو من ضروراته، و الإجارة وقعت على إجراء الماء، مع أنّا نمنع كونه إجارةً.

و لو حفر الساقية و صالحه، جاز قطعاً.

و لو كانت الأرض في يد المدّعى عليه بإجارةٍ، جاز أن يصالحه على إجراء الماء في ساقيةٍ فيها محفورةٍ مدّةً معلومةً لا تجاوز مدّة إجارته.

و إن لم تكن الساقية محفورةً، لم يجز أن يصالحه على ذلك؛ لأنّه6.

ص: 87


1- بحر المذهب 49:8، البيان 237:6، المغني 29:5، الشرح الكبير 20:5.
2- الأُمّ 227:3، و عنه أيضاً في بحر المذهب 49:8-50، و البيان 237:6.
3- بحر المذهب 50:8، البيان 237:6.

لا يجوز له إحداث ساقيةٍ في أرضٍ في يده بإجارةٍ.

و لو كانت الأرض وقفاً عليه، جاز أن يصالح على إجراء الماء في ساقيةٍ محفورةٍ مدّةً معلومةً.

و إن أراد أن يحفر ساقيةً، فالأقرب: الجواز.

و مَنَعه بعض الشافعيّة؛ لأنّه لا يملكها، و إنّما له أن يستوفي منفعتها، كالأرض المستأجرة(1).

و الأولى أنّه يجوز له حفر الساقية؛ لأنّ الأرض له، و له التصرّف فيها كيف شاء ما لم ينتقل الملك فيها إلى غيره، بخلاف المستأجر، فإنّه إنّما يتصرّف فيها بالإذن له فيه.

فإن مات الموقوف عليه في أثناء المدّة، فهل لمن انتقل إليه الفسخُ فيما بقي من المدّة ؟ مبنيّ على ما إذا آجره مدّةً فمات في الأثناء.

و لو صالحه على أن يسقي أرضه من نهره أو عينه، جاز مع التعيين.

و مَنَعه الشافعي؛ لأنّ المعقود عليه هو الماء، و هو مجهول(2).

و ليس بجيّدٍ؛ لانضباطه بالوقت.

و لو صالحه على سهمٍ من العين أو النهر - كالثلث أو الربع أو غير ذلك - و بيّنه، جاز، و لا يكون بيعاً و إن أفاد فائدته، خلافاً للشافعي(3).

فروع:
أ - ليس لمستحقّ إجراء الماء بإجارةٍ أو صلحٍ أو بيعٍ الدخولُ إلى أرض الغير الذي تجري فيه الساقية

و إن مَلَك الساقية، إلّا أن يأذن له المالك؛ لأنّه يستلزم التصرّف في مال الغير، و هو قبيح عقلاً، إلّا أن يريد

ص: 88


1- البيان 237:6.
2- الأُمّ 227:3، البيان 238:6.
3- الأُمّ 221:3 و 227، التنبيه: 103، الوسيط 49:4، البيان 238:6.

تنقية النهر أو الساقية، فإنّه يجوز؛ لموضع الضرورة.

ب - إذا نقّى النهرَ أو الساقيةَ،

وجب عليه أن يُخرج ما يخرج من النهر أو الساقية عن أرض المالك.

ج - المأذون له في إجراء ماء المطر على سطح الآذن أو أرضه أو ساقيته ليس له إلقاء الثلج،

و لا أن يترك الثلج حتى يذوب فيسيل إليه، و لا أن يجري فيه ما يغسل به ثيابه و أوانيه، بل لو صالح على ترك الثلوج على السطح أو إجراء الغسالات على مالٍ، فالأقرب عندي: الجواز.

و مَنَع منه بعضُ الشافعيّة؛ لأنّ الحاجة لا تدعو إلى مثله(1).

و هو ممنوع.

د - المأذون له في إلقاء الثلج ليس له إجراء الماء؛

لتغاير المنفعتين، و لا يلزم من المصالحة على إحدى المنفعتين المصالحة على الأُخرى، و لأنّه لا يجوز العكس فكذا هنا.

ه - تجوز المصالحة على قضاء الحاجة

ه - تجوز المصالحة على قضاء الحاجة(2) في حُشّ الغير على مالٍ،

و كذا على جمع الزبل و القمامة في ملكه، و لا يكون ذلك إجارةً - خلافاً للشافعيّة - بل هو عقد مستقلّ برأسه.

و عندهم أنّه إجارة، فيراعى فيه شرائطها(3).

و - تجوز المصالحة على البيتوتة على سطح الجار.

ثمّ لو باع مستحقّ البيتوتة منزله، فليس للمشتري أن يبيت عليه، بخلاف ما لو باع مستحقّ إجراء الماء على سطح الغير مدّةً دارَه، فإنّ المشتري يستحقّ الإجراء بقيّة المدّة؛ لأنّ إجراء الماء من مرافق الدار، دون

ص: 89


1- العزيز شرح الوجيز 116:5، روضة الطالبين 455:3.
2- ما بين المعقوفين أضفناه من العزيز شرح الوجيز 116:5، و روضة الطالبين 455:3.
3- العزيز شرح الوجيز 116:5-117، روضة الطالبين 455:3.

البيتوتة.

ز - لا يجب على مستحقّ إجراء الماء في ملك غيره مشاركة المالك في عمارة سقف المجرى

و إن خرب من الماء، و لا على المالك إصلاح القناة لو خرب بغير سببه.

ح - لو استحقّ وضع خُشُبه على حائط الغير فسقطت أو وقع الحائط، استحقّ بعد عوده الوضع، بخلاف الإعارة.

و لو خِيف على الحائط السقوطُ، فالأقوى: تحريم الإبقاء؛ لما فيه من الضرر العظيم.

ط - لو وجد بناءه أو خُشُبه أو مجرى مائه في ملك غيره أو سطحه و لم يعلم السبب، احتُمل تقديم قول مالك الأرض و الحائط في عدم الاستحقاق.

و قال بعض العامّة: يُقدَّم قول صاحب البناء و الخشبة و المسيل؛ لأنّ الظاهر أنّه حقٌّ له، فجرى مجرى اليد الثابتة. و لو اختلفا في ذلك هل هو بحقٍّ أو عدوان ؟ فالقول قول صاحب البناء و الخشبة و المسيل؛ لأنّ الظاهر معه، و لو زال الحائط أو السطح ثمّ عاد فله إعادته؛ لأنّ الظاهر أنّ هذا الوضع بحقٍّ من صلحٍ أو غيره(1).

و فيه نظر.

ي - لا يجوز بيع حقّ الهواء و لا مسيل الماء و لا الاستطراق،

خلافاً للشافعيّة في الأخيرين(2).

و فرّق بعضهم بين بيع حقّ الهواء و حقّ البناء بأنّ بيع حقّ الهواء اعتياض عن مجرّد الهواء، و حقّ البناء يتعلّق بعين الموضع المبنيّ عليه،

ص: 90


1- المغني 41:5، الشرح الكبير 41:5-42.
2- الوجيز 180:1.

حتى لو صالحه عن وضع الجذوع المشرعة على جداره يصحّ، و لهذا تجوز إجارة الملك للبناء إجماعاً، و لا تجوز إجارة الهواء، و كلّ حقٍّ يتعلّق بعينٍ - كمجرى الماء و الممرّ - فهو كحقّ البناء.

و بالجملة، الحقوق المتعلّقة بالأعيان لمّا كانت عندهم مقصورةً على التأبيد، أُلحقت بالأعيان حتى استغنى العقد الوارد عليها عن التأقيت(1).

و هو عندنا باطل.

مسألة 1089: لو خرجت أغصان شجرة الجار إلى هواء داره المختصّة به أو المشتركة بينهما،
اشارة

أو على هواء جدارٍ له أو بينهما، أو على بناءٍ أو على نفس الجدار، كان له المطالبة بإزالة الأغصان عن هواء الدار.

فإن لم يفعل مالك الشجرة من الإزالة لم يُجبر؛ لأنّه من غير فعله، فلم يُجبر على إزالته، كما إذا لم يكن ملكاً له، و إن تلف بها شيء لم يضمنه؛ لذلك.

و يحتمل إلزامه، كما إذا مالَ حائطه.

و على التقديرين إذا امتنع فله تحويلها عن ملكه، فإن لم يمكن عطفها عنه كان له قطعها.

و لا يحتاج فيه إلى إذن القاضي؛ لأنّه عدوان عليه، فكان له إزالته عنه و إن لم يأذن القاضي، و هو أقوى وجهي الشافعيّة(2).

فإن صالحه مالك الشجرة على الإبقاء على الجدار بعوضٍ، صحّ مع تقدير الزيادة أو انتهائها و تعيين المدّة.

و كذا له أن يصالحه على الإبقاء في الهواء، عندنا.

خلافاً للشافعيّة؛ فإنّهم قالوا: إن صالحه على الإبقاء من غير أن يستند

ص: 91


1- العزيز شرح الوجيز 117:5.
2- العزيز شرح الوجيز 117:5، روضة الطالبين 456:3.

الغصن إلى شيءٍ لم يجز؛ لأنّه اعتياض عن مجرّد الهواء، و إن استند إلى جدارٍ فإن كان بعد الجفاف جاز، و إن كان رطباً لم يجز؛ لأنّه يزيد و لا يعرف قدر ثقله و ضرره(1).

و جوّزه بعضهم؛ لأنّ ما ينمو يكون تابعاً(2).

تذنيبان:
أ: لو سرت عروق الشجرة إلى أرض الجار، كان حكمها حكم سريان الأغصان من جواز عطفها،

فإن تعذّر قَطَعها؛ لأنّه ليس له التصرّف في ملك غيره إلّا بإذنه، و لأنّه عِرْق ظالمٍ فله الإزالة؛ لقوله عليه السلام: «ليس لعِرْق ظالمٍ حقٌّ»(1).

ب: لو مالَ جداره إلى هواء الجار، كان له الإزالة،

كالأغصان و العروق؛ لأنّه شَغَل ملك الغير و مَنَعه من التصرّف فيه بغير حقٍّ.

مسألة 1090: يجوز للرجل التصرّف في ملكه بأيّ أنواع التصرّفات شاء،

سواء حصل به تضرّرٌ للجار أو لا، فله أن يبني ملكه حمّاماً بين الدور، و أن يفتح خبّازاً بين العطّارين، أو يجعله دكّان قصارة بين المساكن و إن أضرّت الحيطان بالدقّ و أخربها، و أن يحفر بئراً إلى جانب بئر جاره يجتذب ماءها، أو يحفر بالوعة أو مرتفقاً يجري ماؤه إلى بئر جاره - و به قال الشافعي و بعض أصحاب أبي حنيفة، و أحمد في إحدى الروايتين(2) - لقوله عليه السلام: «الناس مسلّطون على أموالهم»(3).

ص: 92


1- سنن أبي داوُد 3073/178:3، سنن الترمذي 1378/662:3، سنن الدارقطني 50/217:4، سنن البيهقي 99:6، المعجم الكبير - للطبراني - 13:17-4/14 و 5، الموطّأ 26/743:2.
2- بحر المذهب 50:8، البيان 242:6، المغني 52:5، الشرح الكبير 51:5.
3- أورده الطوسي في الخلاف 176:3-177، المسألة 290 من كتاب البيوع.

و لأنّه تصرّف في ملكه المختصّ و لم يتعلّق به حقّ غيره، فلم يُمنع منه، كما لو طبخ في داره أو خبز فيها، فإنّه لا يُمنع منهما تحرّزاً من وصول دخانه إلى جاره و إن تأذّى به، كذا هنا.

و قال أحمد في الرواية الأُخرى: إنّه يُمنع من ذلك كلّه - و هو قول بعض الحنفيّة - لقوله عليه السلام: «لا ضرر و لا إضرار»(1) و هذا الفعل يضرّ بجيرانه، و لأنّ هذا إضرار بالجيران فمُنع منه، كما يُمنع من إرسال الماء في ملكه بحيث يضرّ بجاره و يتعدّى إلى هدم حيطانه، و من إشعال نارٍ تتعدّى إلى احتراق الجيران(2).

و الجواب: الحديث مشترك؛ لأنّ منع المالك عن عمل مصلحةٍ له في ملكه يعود نفعها إليه إضرار غير مستحقّ، فالضرر مشترك، و ليس مراعاة أحدهما أولى من مراعاة الآخَر، بل مراعاة المالك أولى، و النار التي أضرمها و الماء الذي أرسله تعدّيا فكان مرسلاً لذلك في ملك غيره، فأشبه ما لو أرسلها إليه قصداً، و لأنّ ذلك غير عامٍّ؛ إذ الممنوع منه الإضرام عند هبوب الرياح بحيث يعلم التعدّي، و ليس ذلك دائماً، فلهذا مُنع. و كذا إرسال الماء على وجه الكثرة.6.

ص: 93


1- تقدّم تخريجه في ص 68، الهامش (1).
2- المغني 52:5، الشرح الكبير 51:5، بحر المذهب 50:8، البيان 242:6.

ص: 94

الفصل الرابع: في التنازع

مسألة 1091: إذا تنازعا عيناً في يد أحدهما، حُكم بها لصاحب اليد مع اليمين و عدم البيّنة؛

لأنّه منكر.

فإن صالحه عنها على شيءٍ منها أو من غيرها جاز، سواء كان عقيب إقرارٍ أو إنكارٍ، عند علمائنا، خلافاً للشافعي(1) ، و قد سبق(2).

و لو كانت العين في يد اثنين [فادّعاها ثالث](3) فصدّقه أحدهما و كذّبه الآخَر، ثبت له النصف بإقرار المصدّق، و كان على المكذّب اليمين مع عدم البيّنة؛ لأنّه منكر.

فلو صالح المدّعي [المُقرّ](4) على مالٍ فأراد المكذّب أخذه بالشفعة، لم يكن له ذلك عندنا؛ لأنّ الشفعة تتبع البيع خاصّةً، و الصلح عندنا ليس بيعاً و إن كان على مالٍ، بل هو عقد مستقلّ برأسه.

أمّا مَنْ يعتقده بيعاً كالشافعي(3) فقد اختلف طُرق الناقلين عنه في الجواب.

قال بعضهم: إن مَلَكاها في الظاهر بسببين مختلفين فله ذلك؛ لأنّه لا تعلّق لأحد المِلْكين بالآخَر، و إن مَلَكاها بسببٍ واحد من إرثٍ أو شراءٍ فوجهان:

أحدهما: المنع؛ لأنّ الدار بزعم المكذّب ليست للمدّعي، فإنّ في

ص: 95


1- راجع الهامش (1) من ص 26.
2- في ص 26، ضمن المسألة 1032. (3 و 4) ما بين المعقوفين يقتضيه السياق.
3- راجع الهامش (3) من ص 88.

ضمن إنكاره تكذيبَ المدّعي في نصيب المُقرّ أيضاً، و حينئذٍ يبطل الصلح.

و أظهرهما عندهم: إنّ له الأخذَ؛ لحُكمنا في الظاهر بصحّة الصلح، و انتقال الملك إلى المُقرّ، و لا استبعاد في انتقال نصيب أحدهما إلى المدّعي دون الآخَر و إن مَلَكاها بسببٍ واحد(1).

و أشكل على بعضهم هذه الطريقة: بأنّا لا نحكم بالملك إلّا بظاهر اليد، و لا دلالة لليد على اختلاف السبب و اتّحاده، فأيّ طريقٍ يعرف به الحاكم الاختلاف و الاتّحاد؟ و إلى قول مَنْ يرجع ؟ و مَن الذي يُقيم البيّنة عليه ؟(2).

و قال بعضهم: إن ادّعى عليهما عن جهتين فللمكذّب الأخذ بالشفعة، و إن ادّعى عن جهةٍ واحدة ففيه الوجهان، و لا يخلو من إشكالٍ؛ لأنّه ليس من شرط المدّعي التعرّض لسبب الملك، و بتقدير تعرّضه له فليس من شرط الإنكار نفي السبب، بل يكفي نفي الملك، و بتقدير تعرّضه له فلا يلزم من تكذيبه المدّعي في قوله: «ورثت هذه الدار» زعم أنّه لم يرث نصفها(3).

و قال بعضهم: إن اقتصر المكذّب على أنّه لا شيء لك في يدي، أو:

لا يلزمني تسليم شيءٍ إليك، أخذ بالشفعة، و إن قال مع ذلك: و هذه الدار ورثناها، ففيه الوجهان(4).

و قد عرفتَ أنّ هذا كلّه لا يتأتّى على مذهبنا من الاقتصار في طلب الشفعة على الانتقال بالبيع خاصّةً.

مسألة 1092: لو ادّعى اثنان داراً في يد رجلٍ، فأقرّ لأحدهما بنصفها و كذّب الآخَر،

نُظر فإن كانا قد ادّعياها بسببٍ يوجب الشركة - كالإرث،

ص: 96


1- العزيز شرح الوجيز 118:5، روضة الطالبين 456:3.
2- العزيز شرح الوجيز 118:5.
3- العزيز شرح الوجيز 118:5.
4- العزيز شرح الوجيز 118:5، روضة الطالبين 456:3.

و شراء وكيلهما في عقدٍ واحد - تشاركا في النصف الذي دفعه المدّعى عليه إلى المُقرّ له؛ لأنّ الإرث يقتضي إشاعة التركة بين الورثة، فكلّ ما يخلص يكون بينهما، و ذلك كما لو تلف بعض التركة و حصل البعض، فإنّ التالف يكون منهما، و الحاصل لهما، و كذا لو تلف بعض المال المشترك.

هذا إذا لم يتعرّضا لقبض الدار، أمّا لو قالا: ورثناها و قبضناها ثمّ غصبتَها منّا، فالأقرب: إنّه كذلك أيضاً يشتركان فيما يقبضه المُقرّ له منه؛ لأنّ إيجاب الإرثِ الشيوعَ(1) لا يختلف، و هو أحد قولَي الشافعيّة، و محكيٌّ عن أبي حنيفة و مالك.

و القول الآخَر لهم: إنّه لا يشاركه؛ لأنّ التركة إذا حصلت في يد الورثة صار كلّ واحدٍ منهما قابضاً لحقّه، و انقطع حقّه عمّا في يد الآخَرين، و لهذا يجوز أن يطرأ الغصب على نصيب أحدهما خاصّةً بأن تزال يده، فإنّ المغصوب لا يكون مشتركاً بينهما(2).

و إن ادّعياها بجهةٍ غير الإرث من شراءٍ و غيره، فإن لم يقولا: اشترينا معاً، أو: اتّهبنا و قبضنا معاً، فالأقرب عندي: عدم الشركة في المقبوض حيث لم تثبت الشركة في السبب و لم يدّعياه.

و إن قالا: اشتريناها معاً، أو اتّهبناها و قبضنا معاً، فالأقرب: إنّه كالإرث؛ لاشتراك السبب، و هو أحد قولَي الشافعيّة. و الثاني: إنّهما لا يشتركان فيما أقرّ به؛ لأنّ البيع بين اثنين بمنزلة الصفقتين، فإنّ تعدّد المشتري يقتضي تعدّد العقد، فكان بمنزلة ما لو مَلَكا بعقدين(3).

و لو لم يتعرّضا لسبب الاستحقاق، فلا شركة بحالٍ.3.

ص: 97


1- في النسخ الخطّيّة و الحجريّة زيادة: «و هو». و الظاهر أنّ المناسب للعبارة عدمها.
2- العزيز شرح الوجيز 118:5-119، روضة الطالبين 457:3.
3- العزيز شرح الوجيز 119:5، روضة الطالبين 457:3.
مسألة 1093: كلّ موضعٍ قلنا بالشركة في هذه الصُّور لو صدّق المدّعى عليه أحدهما

و كذّب الآخَر و صالح المصدَّق [المدّعى](1) عليه عن المُقرّ به على مالٍ، فإن كان بإذن الشريك صحّ، و تشارك المدّعيان في مال الصلح، سواء كان بعين النصف أو غيره، و إن كان بغير إذنه بطل الصلح في نصيب الشريك، و صحّ في نصيبه.

و للشافعيّة في صحّته في نصيبه قولا تفريق الصفقة(2).

و قال بعض الشافعيّة: يصحّ الصلح في جميع المُقرّ به؛ لتوافق المتعاقدين و تقاربهما(3).

و ليس بجيّدٍ.

مسألة 1094: لو ادّعيا داراً في يد الغير فأقرّ لأحدهما بجميعها،

فإن كان قد وُجد من المُقرّ له في الدعوى ما يتضمّن إقراراً لصاحبه بأن قال:

هذه الدار بيننا، و ما أشبه ذلك، شاركه صاحبه فيها.

و كذا إن كان المُقرّ له قد تقدّم إقراره بالنصف لصاحبه.

و إن لم يتلفّظ بما يتضمّن الإقرار، بل اقتصر على دعوى النصف، نُظر فإن قال بعد إقرار المدّعى عليه بالكلّ: إنّ الكلّ لي، سلّم الجميع إليه، و كان هو و الآخَر خصمين في النصف الذي ادّعاه الآخَر، و يكون القولُ قولَ مدّعي الكلّ مع اليمين، و على الآخَر البيّنة.

و لا يلزم من ادّعائه النصفَ أن ينتفي ملكه عن الباقي؛ لجواز أن تكون معه بيّنة بالنصف و لا تساعده البيّنة على الجميع في الحال، بل على النصف، و(2) يخاف الجحود الكلّي لو ادّعى الجميع.

ص: 98


1- ما بين المعقوفين يقتضيه السياق. (2 و 3) العزيز شرح الوجيز 119:5، روضة الطالبين 457:3.
2- الظاهر: «أو» بدل «و».

و لو قال: النصف الآخَر لصاحبي، سلّم إليه.

و إن لم يقل شيئاً و لا أثبت النصفَ الآخَر لنفسه و لا لصاحبه و لا نفاه، فالأقرب: إنّه يُترك في يد المدّعى عليه؛ لأنّ الآخَر ادّعى خلافَ الظاهر و لا بيّنة له، و هو أصحّ وجوه الشافعيّة.

و الثاني: إنّه ينتزع من يد المدّعى عليه، و يحفظه الحاكم لمن يثبت له.

و الثالث: إنّه يُسلّم إلى المدّعي؛ لأنّه يدّعي ما لا يدّعيه أحد(1).

و يُضعّف الثاني: بأنّه يؤدّي إلى إسقاط دعوى هذا المدّعي عن المُقرّ بغير حجّةٍ، و الثالث: بأنّه يُثبت حقّاً للمدّعي بغير بيّنةٍ و لا إقرار.

و إذا قلنا: ينتزعه الحاكم، فإنّه يؤجره و يحفظ الأُجرة، كالأصل.

و قال بعض الشافعيّة: يصرفه في مصالح المسلمين(2).

و ليس بصحيحٍ؛ لأنّ الأصل إذا كان موقوفاً فالنماء كذلك.

مسألة 1095: لو تداعى اثنان حائطاً بين ملكيهما،
اشارة

فإن كان متّصلاً ببناء أحدهما خاصّةً دون الآخَر اتّصالاً لا يمكن إحداثه بعد بنائه - بأن يكون لأحدهما عليه أزج أو قبّة لا يتصوّر إحداثهما بعد تمام الجدار، و ذلك بأن أُميل البناء من مبدأ ارتفاعه عن الأرض قليلاً قليلاً، أو كان متّصلاً ببناء أحدهما في تربيعه و علوّه و سَمْكه دون الآخَر، أو دخل رَصْف من لَبِنات فيه في جداره الخاصّ، و رَصْف من جداره الخاصّ في المتنازع فيه، و يظهر ذلك في الزوايا - كان القولُ قولَه مع يمينه؛ لأنّ ذلك ظاهر يشهد له.

و يحتمل أن يكون بناء القبّة و الأزج و رَصْف اللَّبِن برضا الآخَر أو إجازته، فلهذا أوجبنا اليمين، و حُكم له بها، إلّا أن تقوم البيّنة على خلافه.

و لو كان رَصْف اللَّبِن في مواضع معدودة من طرف الجدار،

ص: 99


1- العزيز شرح الوجيز 119:5، روضة الطالبين 457:3.
2- حلية العلماء 27:5.

لم يُحكم له به؛ لإمكان إحداثه بعد بناء الجدار بنزع لَبِنةٍ و إدراج أُخرى.

و لو كان الحائط مبنيّاً على خشبةٍ طويلة طرفها تحت الحائط المتنازع فيه و طرفها الآخَر تحت حائطٍ آخَر ينفرد به أحدهما، كان ذلك ظاهراً أنّه لمَن بعض الخشب في ملكه و الجدار المبنيّ عليها تحت يده، فيحلف، و يُحكم له به.

و إن كان الحائط غيرَ متّصلٍ ببناء أحدهما، بل كان منفصلاً عنهما معاً حائلاً بين ملكيهما لا غير، أو متّصلاً ببنائهما معاً، فهو في أيديهما، فإن أقام أحدهما بيّنةً أنّه له قُضي له به، و إن لم يكن لأحدهما بيّنةٌ حلف كلّ واحدٍ منهما للآخَر على النصف الذي في يده، و حُكم به لهما، و كذا إن نكلا معاً؛ عملاً بظاهر اليد.

و إن حلف أحدهما و نكل الآخَر، أعدنا اليمين على الحالف في النصف الذي في يد صاحبه، فإن حلف قُضي له بالجميع، و إن نكل و نكل الآخَر فهو لهما.

هذا إن حلّفنا كلّ واحدٍ منهما على النصف الذي في يده.

و للشافعي في الحلف وجهان:

أحدهما: إنّ كلّ واحدٍ منهما يحلف على النصف الذي يسلم له، و هو أظهر وجهيه.

و الثاني: إنّه يحلف كلّ واحدٍ منهما على الجميع؛ لأنّه ادّعى الجميع(1).

فإن قلنا بالثاني فإذا حلّف الحاكمُ أحدَهما على الجميع، لم يمنع ذلك حلف الآخَر عليه، بل يحلّفه الحاكم على الجميع أيضاً، فإن حلف الآخَر أيضاً على الجميع قسّم الجدار بينهما؛ لأنّه لا أولويّة في الحكم به لأحدهما دون الآخَر، و إن نكل الآخَر بعد أن حلف الأوّل على الجميع3.

ص: 100


1- العزيز شرح الوجيز 120:5، روضة الطالبين 458:3.

حُكم للحالف به من غير يمينٍ أُخرى.

و لو حلف الثاني على النصف بعد أن حلف الأوّل على الجميع و التماس الحاكم من الثاني الحلف على الجميع أيضاً، احتُمل عدمُ الاعتداد بهذه اليمين؛ حيث إنّه حلف على ما لم يحلّفه الحاكم عليه. و الاعتدادُ؛ حيث إنّ طلب الحلف على الجميع يستلزم طلب الحلف على أبعاضه، فإن قلنا: يُعتدّ بها، كان النصف بينهما، مع احتمال أنّه للثاني خاصّةً.

و إن التمس الحاكم من الثاني الحلفَ على الجميع، فقال: أنا لا أحلف إلّا على النصف، كان في الحقيقة مدّعياً للنصف.

تذنيب:

كلّ مَنْ قُضي له بالحائط إمّا بالبيّنة أو باليمين أو بشاهد الحال فإنّه يُحكم له بالأساس الذي تحته.

مسألة 1096: إذا لم يكن الحائط متّصلاً ببناء أحدهما أو كان متّصلاً بهما معاً و كان لأحدهما عليه بناء

كحائطٍ مبنيّ عليه و يعتمد عليه و تداعياه، حُكم به لصاحب البناء - و به قال الشافعي(1) - لأنّ وضع البناء عليه بمنزلة اليد الثابتة عليه، و هو نوعٌ من التصرّف فيه، فأشبه الحمل على الدابّة و الزرع في الأرض، و لأنّ الظاهر أنّ الإنسان لا يُمكِّن غيرَه من البناء على حائطه، و كذا لو كانت له سترة على الحائط؛ قضاءً للتصرّف الدالّ بالظاهر على الملك.

مسألة 1097: لو كان لأحدهما على هذا الجدار المحلول عنهما أو المتّصل بهما جذوعٌ دون صاحبه،
اشارة

قال الشيخ رحمه الله في الخلاف: لا يُحكم بالحائط لصاحب الجذوع؛ لأنّه لا دلالة عليه(2) ، و به قال الشافعي(3) ، و لأنّ

ص: 101


1- المغني 43:5، الشرح الكبير 168:12.
2- الخلاف 295:3-296، المسألة 4 من كتاب الصلح.
3- الأُمّ 225:3، مختصر المزني: 106، الحاوي الكبير 389:6، المهذّب - للشيرازي - 317:2، الوسيط 64:4، حلية العلماء 26:5، و 210:8، البيان 193:13، العزيز شرح الوجيز 121:5، روضة الطالبين 458:3، مختصر الخلافيّات 215:3، الإشراف على نكت مسائل الخلاف 1004/597:2، الإفصاح عن معاني الصحاح 318:1، عيون المجالس 1166/1653:4، المغني 43:5، الشرح الكبير 168:12.

العادة السماح بذلك للجار، و قد ورد النهي عن المنع منه(1).

و عند مالك(2) و أحمد أنّه حقٌّ على مالك الجدار، و يجب التمكين منه، فلم تترجّح به الدعوى كإسناد متاعه إليه و تجصيصه و تزويقه(3).

و الوجه عندي: الحكم به لصاحب الجذوع - و به قال أبو حنيفة(4) - لما تقدّم من دلالة الاختصاص بالتصرّف على الاختصاص بالملكيّة، و لأنّهما لو تنازعا في العرصة و الجدار لأحدهما، حُكم بها لصاحبه.

و النهي لو ثبت صحّته عن النبيّ صلى الله عليه و آله لكان محمولاً على الكراهة؛8.

ص: 102


1- صحيح البخاري 173:3، صحيح مسلم 136/1230:3، الموطّأ 32/745:2، سنن أبي داوُد 314:3-3634/315، سنن الترمذي 1353/635:3، سنن البيهقي 68:6، المصنّف - لابن أبي شيبة - 18157/222:14، مسند أحمد 8900/107:3.
2- في المصادر التي تأتي الإشارة إليها ذيلاً: إنّ رأي مالك هو أنّه تترجّح الدعوى بوضع الجذوع و يُحكم بالجدار لصاحب الجذوع، راجع: الإشراف على نكت مسائل الخلاف 1004/597:2، و عيون المجالس 1652:4-1166/1653، و العزيز شرح الوجيز 121:5، و الإفصاح عن معاني الصحاح 318:1، و المغني 43:5، و الشرح الكبير 168:12.
3- المغني 43:5، الشرح الكبير 168:12، العزيز شرح الوجيز 121:5، الإفصاح عن معاني الصحاح 318:1.
4- الهداية - للمرغيناني - 174:3، تحفة الفقهاء 190:3، الحاوي الكبير 389:6، الوسيط 64:4، الإفصاح عن معاني الصحاح 318:1، عيون المجالس 1652:4-1166/1653، مختصر الخلافيّات 215:3، الإشراف على نكت مسائل الخلاف 1004/597:2، حلية العلماء 210:8.

لأصالة البراءة، على أنّ النهي عن المنع منه لا يمنع كونه دليلاً على الاستحقاق؛ لأنّا نستدلّ بوضعه على كون الوضع مستحقّاً على الدوام حتى لو زالت جازت إعادتها.

و لأنّ كونه مستحقّاً مشروطٌ له الحاجة إلى وضعه، ففيما لا حاجة إليه له منعه من وضعه، و أكثر الناس لا يتسامحون به، و لهذا لمّا روى أبو هريرة الحديثَ عن النبيّ صلى الله عليه و آله طأطئوا رءوسهم كراهةً لذلك، فقال: مالي أراكم عنها معرضين، و اللّه لأرمينّ بها بين أكتافكم(1) ، و أكثر العلماء منعوا من التمكّن من هذا(2).

و لأنّ الأزج يرجّح به فكذا هذا؛ لجامع الاشتراك في التصرّف.

و لأنّهما لو تنازعا في الحائط و ثبت بالبيّنة لأحدهما، حُكم بالأساس [له](3) ؛ لأنّه صار صاحب يدٍ فيه، فإذا [اقتضى](4) الجدار على الأساس الترجيحَ في الأساس، وجب أن [تقتضي](5) الجذوع على الجدار الترجيحَ في الجدار.

تذنيب: لا فرق بين الجذع الواحد في ذلك و ما زاد عليه

عند عامّة أهل العلم في الدلالة على الاختصاص و المنع منها.

و رجّح مالك بالجذع الواحد(4) ، كقولنا.

و فرّق أبو حنيفة بين الجذع الواحد و الجذعين فما زاد، فرجّح بما زاد على الواحد؛ لأنّ الحائط يبنى لوضع الجذوع عليه، فرجّح به الدعوى،

ص: 103


1- راجع الهامش (1) من ص 102.
2- راجع المغني 44:5، و الشرح الكبير 169:12.
3- ما بين المعقوفين يقتضيه السياق. (4 و 5) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «قضى... يقضي».
4- حلية العلماء 26:5، البيان 193:13، و راجع أيضاً الهامش (2) من ص 102.

كبناء الأزج، بخلاف الجذع الواحد؛ لأنّ الحائط لا يبنى له في العادة(1).

و هو ممنوع؛ لأنّ الوضع يتبع الحاجة، و قد تدعو إلى وضع الواحد، و إنّما استدللنا باختصاص التصرّف، و هو ثابت في الواحد كثبوته في الأزيد.

مسألة 1098: و لا يُحكم بالحائط المحلول عنهما أو المتّصل بهما بالخوارج

(2) و هي الصُّور و الكتابات المتّخذة في ظاهر الجدار بلَبِناتٍ تخرج أو بجصٍّ أو آجرٍ أو خشبٍ، و لا بالدواخل، و هي الطاقات و المحاريب في باطن الجدار، و لا بأنصاف اللَّبِن، و ذلك لأنّ الجدار من لَبِنات مقطعة، فتُجعل الأطراف الصحاح إلى جانبٍ، و مواضع الكسر إلى جانبٍ، أو أنصاف اللَّبِن من أحد الجانبين و من الآخَر الشكيك(3) و المدر - و به قال الشافعي و أبو حنيفة(4) - لأنّه لا بدّ و أن يكون وجه الحائط إلى أحدهما و إن كانا [شريكين](5) فيه، و لا يمكن أن يكون إليهما، فبطلت دلالته، و جرى مجرى تزويق الحائط.

و قال مالك و أبو يوسف: يُحكم به لمن إليه وجه الحائط؛ لأنّ العرف

ص: 104


1- حلية العلماء 26:5، البيان 193:13، العزيز شرح الوجيز 122:5، المغني 44:5، الشرح الكبير 169:12، و راجع أيضاً الهامش (4) من ص 102.
2- بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «بالدواخل». و المثبت هو الصحيح.
3- لم نجده في اللغة.
4- الأُم 225:3، مختصر المزني: 106، الحاوي الكبير 388:6، حلية العلماء 26:5، التهذيب - للبغوي - 156:4، البيان 192:13، العزيز شرح الوجيز 120:5-121، روضة الطالبين 458:3، روضة القضاة 5206/773:2، الإشراف على نكت مسائل الخلاف 1003/597:2، المعونة 1200:2، الإفصاح عن معاني الصحاح 318:1، المغني 44:5، الشرح الكبير 169:12.
5- بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «شركاء».

و العادة قاضيان بأنّ مَنْ بنى حائطاً فإنّه يجعل وجه الحائط إليه(1).

و هو ممنوع؛ فإنّ العادة جارية بأنّ وجه الحائط يُجعل إلى خارج الدار ليشاهده الناس، فلا يكون في كون وجهه إلى أحدهما دليلٌ.

مسألة 1099: لو كان الحاجز بين الدارين أو السطحين خُصّاً فتنازعا فيه،
اشارة

فعند علمائنا أنّه يُحكم به لمن إليه معاقد القِمْط التي تكون في الجدران المتّخذة من القصب و شبهه، و أغلب ما يكون ذلك في السور بين السطوح، فتُشدّ بحبال أو بخيوط، و ربما جعل عليها خشبة معترضة، و يكون العقد من جانبٍ و الوجه المستوي من جانبٍ - قال ابن بابويه رحمه الله:

الخُصّ الطُّنّ(2) الذي يكون في السواد بين الدور، و القِمْط هو شدّ الحبل(3) - و به قال مالك و أبو يوسف(4).

و اختلف النقل عن الشافعي.

فقال بعض أصحابه عنه: إنّ معاقد القِمْط مرجّحة، يُحكم بالخُصّ لمن المعاقد إليه - كما قلناه - لأنّه إذا كانت المعاقد إليه فالظاهر أنّه وقف في ملكه و عقد(5).

و لما رواه العامّة عن جارية التميمي أنّ قوماً اختصموا إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله في خُصٍّ، فبعث حذيفة بن اليمان ليحكم بينهم، فحكم به لمن تليه معاقد

ص: 105


1- الإشراف على نكت مسائل الخلاف 1003/597:2، التلقين: 433، المعونة 1200:2، الحاوي الكبير 388:6، حلية العلماء 26:5-27، التهذيب - للبغوي - 156:4، البيان 193:13، العزيز شرح الوجيز 121:5، روضة القضاة 5206/773:2، الإفصاح عن معاني الصحاح 318:1، المغني 44:5، الشرح الكبير 169:12.
2- الطُّنّ - بالضمّ -: الحزمة من الحطب و القصب. لسان العرب 269:13 «طنن».
3- الفقيه 57:3، ذيل ح 197.
4- البيان 193:13، الحاوي الكبير 388:6، المغني 44:5، الشرح الكبير 169:12.
5- العزيز شرح الوجيز 121:5.

القِمْط، ثمّ رجع إلى النبيّ صلى الله عليه و آله فأخبره، فقال: «أصبتَ و أحسنتَ»(1).

و من طريق الخاصّة: ما رواه جابر عن الباقر عليه السلام عن أبيه عن جدّه عن أمير المؤمنين عليهم السلام أنّه قضى في رجلين اختصما [إليه] في خُصٍّ، فقال: «إنّ الخُصّ للّذي إليه القِمْط»(2).

و سأل منصور بن حازم الصادقَ عليه السلام عن حظيرة بين دارين، فذكر أنّ عليّاً عليه السلام قضى [بها] لصاحب الدار الذي من قِبَله القماط(3).

و القول الثاني للشافعي: إنّه يرجّح من الوجه المستوي مَن المعاقد تليه، لا مَنْ إليه المعاقد(4).

و ليس بمشهورٍ، و القول المشهور عنه - و به قال أبو حنيفة - أنّه لا ترجيح لأحدهما على الآخَر؛ لأنّ كونه حائلاً بين الملكين علامةٌ قويّة في الاشتراك(5).

و هو ممنوع.

تذنيبان:
الأوّل: لو كان الأزج مبنيّاً على رأس الجدار، رُجّح به؛

لأنّه تصرّفٌ من صاحبه في الجدار، فيقضى له بملكيّته.

و قال الشافعي: لا يقضى له بذلك؛ لاحتمال بناء الأزج بعد تمام الجدار(6).

ص: 106


1- سنن ابن ماجة 2343/785:2.
2- الفقيه 197/57:3، و ما بين المعقوفين أضفناه من المصدر.
3- الفقيه 196/56:3، و ما بين المعقوفين أضفناه من المصدر.
4- العزيز شرح الوجيز 121:5.
5- الأُمّ 225:3، مختصر المزني: 106، حلية العلماء 25:5، البيان 192:13، العزيز شرح الوجيز 120:5-121، روضة الطالبين 458:3.
6- الحاوي الكبير 386:6، العزيز شرح الوجيز 122:5.
الثاني: قد بيّنّا أنّه يُرجّح بالجذوع الموضوعة عليه.

و قال الشافعي: لا يُرجّح بذلك، و الجدار في أيديهما معاً، فيحلفان و يكون الجدار بينهما، و لا تُرفع الجذوع عنه، بل تُترك بحالها؛ لاحتمال أنّها وُضعت بحقٍّ(1).

مسألة 1100: لو تنازع صاحب العلوّ و السُّفْل في السقف المتوسّط بين علوّ أحدهما و سُفْل الآخَر،

فإن لم يمكن إحداثه بعد بناء العلوّ - كالأزج الذي لا يمكن عقده على وسط الجدار بعد امتداده في العلوّ - جُعل لصاحب السُّفْل؛ لاتّصاله ببنائه على سبيل الترصيف.

و إن أمكن إحداثه بعد بناء العلوّ بأن يكون السقف عالياً فيثقب وسط الجدار و توضع رءوس الجذوع في الثقب فيصير السقف بينهما، قال الشيخ رحمه الله في الخلاف: يُقرع بين صاحب العلوّ و صاحب السُّفْل فيه إذا لم تكن هناك بيّنة، فمَنْ خرج اسمه حلف لصاحبه، و حُكم له به؛ لإجماع الفرقة على أنّ كلّ مجهولٍ تُستعمل فيه القرعة. ثمّ قال: و إن قلنا: يُقسم بين صاحب البيت و صاحب الغرفة، كان جائزاً(2).

و قال الشافعي: يُحكم به بينهما؛ لأنّه في يدهما معاً، فالقول قول صاحب البيت في نصفه مع يمينه، و قول صاحب الغرفة مع يمينه في نصفه؛ لأنّه حاجز بين ملكيهما غير متّصلٍ ببناء أحدهما اتّصالَ البنيان، فكان بينهما، كالحائط بين الملكين، و كلّ واحدٍ منهما ينتفع به، فإنّه سماء لصاحب السُّفْل يظلّه، و أرض لصاحب الغرفة تُقلّه، فاستويا فيه. و به قال

ص: 107


1- العزيز شرح الوجيز 122:5، روضة الطالبين 459:3، و راجع أيضاً الهامش (3) من ص 101.
2- الخلاف 298:3، المسألة 8 من كتاب الصلح.

أحمد(1).

و قال أبو حنيفة: يُحكم به لصاحب السُّفْل؛ لأنّ السقف على ملك صاحب السُّفْل، فكان القولُ قولَه فيه، كما لو تنازعا سرجاً على دابّة أحدهما، فإنّ القولَ قولُ صاحب الدابّة(2).

و يبطل بحيطان الغرفة، و لا يشبه السرج؛ لأنّه لا ينتفع به غير صاحب الدابّة، فكان في يده، و هنا السقف ينتفع به كلاهما على ما تقدّم.

و هذا القول حكاه أصحاب مالك مذهباً له عنه(3).

و حكى الشافعيّة عن مالك أنّه لصاحب العلوّ(4).

و لا بأس به عندي؛ لأنّه ينتفع به، دون صاحب السُّفْل، و ينفرد بالتصرّف فيه، فإنّه أرض غرفته و يجلس عليه و يضع عليه متاعه، و يمكن2.

ص: 108


1- الأُمّ 226:3، مختصر المزني: 106، الحاوي الكبير 398:6-399، المهذّب - للشيرازي - 317:2، الوسيط 64:4، حلية العلماء 22:5، التهذيب - للبغوي - 158:4، البيان 194:13، العزيز شرح الوجيز 122:5-123، روضة الطالبين 459:3، المغني 45:5، الشرح الكبير 171:12، الإفصاح عن معاني الصحاح 318:1، الإشراف على نكت مسائل الخلاف 1006/598:2، عيون المجالس 1169/1655:4، المعونة 1199:2، روضة القُضاة 5208/773:2.
2- روضة القُضاة 5207/773:2، الحاوي الكبير 398:6، حلية العلماء 22:5، التهذيب - للبغوي - 159:4، البيان 194:13، العزيز شرح الوجيز 123:5، المغني 45:5، الشرح الكبير 171:12، الإفصاح عن معاني الصحاح 318:1.
3- الإشراف على نكت مسائل الخلاف 1006/598:2، التلقين: 433، عيون المجالس 1169/1655:4، المعونة 1199:2، حلية العلماء 22:5، البيان 194:13، الإفصاح عن معاني الصحاح 318:1، العزيز شرح الوجيز 123:5، المغني 45:5، الشرح الكبير 171:12.
4- الحاوي الكبير 398:6، حلية العلماء 22:5، التهذيب - للبغوي - 159:4، البيان 194:13، العزيز شرح الوجيز 123:5، و أيضاً في المغني 45:5، و الشرح الكبير 171:12.

وجود بيتٍ لا سقف له، و لا يمكن وجود ملكٍ لا أرض له.

مسألة 1101: لو تنازع صاحب البيت و الغرفة في جدران البيت، حُكم بها لصاحب البيت مع يمينه؛

لأنّ الحيطان في يده، و هو المنتفع بها.

و إن تنازعا في جدران الغرفة، فهي لمن الغرفة في يده.

و الأوّل لا يخلو من إشكالٍ؛ لمشاركة صاحب الغرفة له في الانتفاع و التصرّف معاً، بل تصرّفه و انتفاعه أكثر.

مسألة 1102: لو تنازع صاحب علوّ الخان و صاحب سُفْله، أو صاحب علوّ الدار و صاحب سُفْلها في العرصة أو الدهليز،

فإن كانت الدرجة و شبهها في صدر الخان أو الدار أو في الدهليز، جُعلت العرصة و الدهليز بينهما؛ لأنّ لكلّ واحدٍ منهما فيهما يداً و تصرّفاً من الممرّ و وضع الأمتعة و غيرهما.

قال الجويني: و لا يبعد أن يقال: ليس لصاحب العلوّ إلّا حقّ الممرّ، و تُجعل الرقبة لصاحب السُّفْل(1).

و لكن لم يصر إليه أحد من الشافعيّة(2).

و إن كانت الدرجة في دهليز الخان أو في الوسط، فمن أوّل الباب إلى المرقى بينهما؛ لأنّه في تصرّفهما.

و فيما وراء ذلك للشافعيّة وجهان:

أصحّهما: إنّه لصاحب السُّفْل؛ لانقطاع الآخَر عنه، و اختصاص صاحب السُّفْل باليد و التصرّف.

و الثاني: إنّه يُجعل بينهما؛ لأنّه قد ينتفع به صاحب العلوّ بإلقاء الأمتعة فيه و طرح القمامات(3).

ص: 109


1- العزيز شرح الوجيز 123:5، روضة الطالبين 459:3.
2- كما في المصدرين في الهامش السابق.
3- الحاوي الكبير 414:6، بحر المذهب 46:8، حلية العلماء 211:8، التهذيب - للبغوي - 159:4، البيان 195:13، العزيز شرح الوجيز 123:5، روضة الطالبين 459:3-460.

و المعتمد عندي: الأوّل.

و إن كانت الدرجة خارجةً عن خطّة الخان و الدار، فالعرصة بأجمعها لصاحب السُّفْل، و لا تعلّق [لصاحب العلوّ](1) بها بحالٍ.

قالت الشافعيّة: و مثال ما إذا كانت الدرجة في وسط الخان لا في صدره و لا خارجة عنه الزقاقُ المنقطع إذا كان فيه بابان لرجلين، أحدهما في وسطه و الآخَر في صدره، فمن أوّله إلى الباب الأوّل بينهما، و ما جاوزه إذا تداعياه فعلى الوجهين(2).

و قد عرفت مذهبنا فيه فيما تقدّم(3).

مسألة 1103: إذا تنازع صاحب العلوّ و صاحب السُّفْل في الدَرَج

(4) فادّعاها كلٌّ منهما، فإن كانت دكّة غير معقودةٍ أو كانت سُلّماً، حُكم بها لصاحب العلوّ؛ لأنّها في انتفاعه خاصّةً.

و إن كانت معقودةً تحتها موضع ينتفع به صاحب السُّفْل، فالأقرب:

إنّها لصاحب العلوّ أيضاً؛ لأنّ الدرجة إنّما تُبنى للارتقاء بها إلى العلوّ، و لا تُبنى لما تحتها بالعادة، بل القصد بها السلوك إلى فوق، و هو أحد وجهي الشافعيّة.

و الثاني: إنّها بينهما؛ لأنّ صاحب السُّفْل ينتفع بها [بظلّها](5) و صاحب العلوّ ينتفع بها و يرتقي عليها، فهي كالسقف يتنازعه صاحب العلوّ

ص: 110


1- بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «للعلوّ». و الظاهر ما أثبتناه.
2- بحر المذهب 46:8، البيان 194:13.
3- راجع ص 51 و ما بعدها.
4- الدَرَج: مصطلح يطلق على الآلة التي يستعان بها للصعود.
5- بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «بظلّه». و الصحيح ما أثبتناه.

و السُّفْل(1).

و قد سبق(2) كلامنا في السقف، و أنّ الأولى الحكم به لصاحب العلوّ، مع قيام الفرق بينهما؛ لأنّ السقف يُبنى للبيت و إن لم يكن له غرفة، بخلاف الدرجة.

و بعضهم فصّل فقال: إن كان تحتها بيت يقصد بنيانها عليه كانت بينهما، و إن كان تحتها عقد صغير يوضع فيه الحُبّ أو شبهه فوجهان(3).

و لو تنازعا في السُّلَّم و هو غير خارجٍ عن الخان، فإن كان منقولاً - كالسلاليم التي تُوضع و تُرفع - فإن كان في بيتٍ لصاحب السُّفْل فهو في يده، و إن كان في غرفةٍ لصاحب العلوّ فهو في يده، فيُحكم به في الحالين لكلّ مَنْ هو في يده.

و إن كان منصوباً في المرقى، فهو لصاحب العلوّ؛ لعود منفعته إليه و ظهور تصرّفه فيه، دون الآخَر، و هو قول أكثر الشافعيّة(4).

و قال بعضهم: إنّه لصاحب السُّفْل، كسائر المنقولات(5).

و هو المعتمد عندي، و لهذا لا يندرج السُّلَّم الذي لم يُسمر تحت بيع الدار.

و لو كان السُّلَّم مسمراً في موضع المرقى، فهو لصاحب العلوّ؛ لعود3.

ص: 111


1- الحاوي الكبير 415:6، بحر المذهب 47:8، البيان 195:13.
2- في ص 107 و ما بعدها، المسألة 1100.
3- الحاوي الكبير 415:6، المهذّب - للشيرازي - 317:2-318، بحر المذهب 47:8، حلية العلماء 211:8، التهذيب - للبغوي - 159:4، البيان 194:13، العزيز شرح الوجيز 124:5، روضة الطالبين 460:3.
4- المهذّب - للشيرازي - 318:2، البيان 194:13، العزيز شرح الوجيز 123:5-124، روضة الطالبين 460:3.
5- العزيز شرح الوجيز 124:5، روضة الطالبين 460:3.

فائدته إليه، و كذا الأخشاب المعقودة في المرقى، و كذا إن كان مبنيّاً من لَبِن أو آجر أو شبههما إذا لم يكن تحته بيت.

و لو تنازعا في البيت الذي تحت الدرجة، احتُمل اختصاص صاحبِ السُّفْل به كسائر البيوت، و صاحبِ العلوّ؛ لأنّ ملك الهواء يستتبع ملك القرار و الشركة فيه.

و لو تنازعا في السقف الأعلى للغرفة، فهو لصاحب الغرفة؛ لاختصاصه بالانتفاع به، دون صاحب السُّفْل.

** *

ص: 112

الفصل الخامس: في اللواحق

مسألة 1104: قد بيّنّا أنّ الصلح يصحّ عن الإنكار كما يصحّ عن الإقرار.

و خالف فيه الشافعي و مَنَع من صحّة الصلح عن الإنكار(1). و قد سلف(2) دليله و ضعفه.

و ربما احتجّ بعضهم: بقوله عليه السلام: «الصلح بين المسلمين جائز إلّا صلحاً أحلّ حراماً أو حرّم حلالاً»(3) و هذا الصلح قد أحلّ الحرام؛ لأنّه لم يكن له أن يأخذ من مال المدّعى عليه و قد حلّ بالصلح(4).

و هو ضعيف؛ لأنّ المعنى الذي ذكروه آتٍ في الصلح بمعنى البيع؛ لأنّه يحلّ لكلّ واحدٍ منهما ما كان محرَّماً عليه، و كذا الصلح بمعنى الهبة، فإنّه يحلّ للموهوب له ما كان محرَّماً عليه، و الإسقاط يحلّ له ترك أداء ما كان واجباً عليه.

و لأنّ الصلح الصحيح هو الذي يحلّل ما كان حراماً لولاه، كغيره من العقود، و الصلح الفاسد لا يحلّ به الحرام، و المراد المنع من صلحٍ يتوصّل به إلى تناول المحرَّم مع بقائه بعد الصلح على تحريمه، كما لو صالحه على استرقاق حُرٍّ أو شرب خمرٍ، أو إذا كان المدّعي كاذباً في دعواه أو المنكر في إنكاره، و يتوصّل الكاذب إلى أخذ المال بالصلح من غير رضا الآخَر باطناً، فإنّه صلحٌ باطل.

ص: 113


1- راجع الهامش (1) من ص 26.
2- في ص 26.
3- تقدّم تخريجه في الهامش (3) من ص 5.
4- راجع المغني و الشرح الكبير 10:5، و البيان 226:6.

و لأنّه يباح لمن له حقٌّ يجحده غريمه أن يأخذ من ماله بقدره أو دونه، و إذا حلّ له ذلك من غير اختياره و لا علمه، فلأن يحلّ برضاه و بذله أولى.

و لأنّه يحلّ مع اعتراف الغريم، فلأن يحلّ به مع جحده و عجزه عن الوصول إلى حقّه إلّا بذلك أولى.

و لأنّ المدّعي هنا يأخذ عوض حقّه الثابت له، و المدّعى عليه يدفعه لدفع الشرّ عنه و قطع الخصومة، و ليس في الشرع ما يدلّ على تحريم ذلك في موضعٍ.

و لأنّ الصلح مع الإنكار يصحّ مع الأجنبيّ، فصحّ مع الغريم، كالصلح مع الإقرار، بل هو أولى؛ لأنّه إذا صحّ مع الأجنبيّ مع غناه، فلأن يصحّ مع الخصم مع حاجته إليه أولى.

و احتجاجهم بأنّه معاوضة(1) ، قلنا: إن أردتم أنّه معاوضة في حقّهما فهو ممنوع، و إن أردتم أنّه معاوضة في حقّ أحدهما فمسلَّم؛ لأنّ المدّعي يأخذ عوض حقّه من المنكر؛ لعلمه بثبوت حقّه عنده، فهو معاوضة في حقّه، و المنكر يعتقد أنّه يدفع المال المدفوع لدفع الخصومة و المنازعة و تخليصه من شرّ المدّعي، فهو إبراء في حقّه، و غير ممتنعٍ ثبوت المعاوضة في حقّ أحد المتعاقدين دون الآخَر، كما لو اشترى عبداً شهد بحُرّيّته، فإنّه يصحّ، و يكون معاوضةً في حقّ البائع، و استنقاذاً في حقّ المشتري.

إذا ثبت هذا، فإنّما يصحّ الصلح لو اعتقد المدّعي حقّيّة دعواه، و المدّعى عليه يعتقد براءة ذمّته، و أنّه لا شيء عليه للمدّعي، فيدفع إلى المدّعي شيئاً ليدفع عنه اليمين و يقطع الخصومة و يصون نفسه عن التبذّل و حضور مجلس الحكم، فإنّ أرباب النفوس الشريفة و المروءات6.

ص: 114


1- راجع المغني و الشرح الكبير 10:5، و البيان 226:6.

و المناصب الجليلة يترفّعون عن ذلك، و يصعب عليهم الحضور للمنازعة، و يرون دفع ذلك عنهم من أعظم مصالحهم، و الشرع لا يمنع من وقاية النفس و صيانتها و دفع الشرّ عنها ببذل الأموال، و المدّعي يأخذ ذلك عوضاً عن حقّه الثابت له في زعمه، و لا يمنعه الشرع من ذلك أيضاً.

و لا فرق بين أن يكون المأخوذ من جنس حقّه أو من غير جنسه، و لا بين أن يكون بقدر حقّه أو أقلّ، فإن أخذ من جنس حقّه بقدره فهو مستوفٍ لحقّه، و إن أخذ دونه فقد استوفى بعض حقّه و ترك البعض.

و إن أخذ من غير جنس حقّه، فقد أخذ عوضه، فيجوز أن يأخذ أزيد حينئذٍ.

و إن أخذ من جنس حقّه أزيد، فالأقرب: الجواز.

و مَنَع منه بعضُ الجمهور؛ بناءً على أنّ الزائد لا عوض له، فيكون ظالماً(1).

و هو غلط إذا رضي الدافع باطناً و ظاهراً، و قد سبق(2).

مسألة 1105: إذا ادّعى على غيره مالَ الأمانة، فأنكر أو اعترف،

ثمّ صالح عنه إمّا بجنسه أو بغير جنسه، جاز، كالمضمون؛ عملاً بعموم قوله تعالى:«وَ الصُّلْحُ خَيْرٌ» (3).

و قوله عليه السلام: «الصلح جائز بين المسلمين»(4).

فلو ادّعى على رجلٍ وديعةً أو قراضاً أو لقطةً أو غيرها من الأمانات، أو ادّعى تفريطاً في وديعةٍ أو في قراضٍ أو غير ذلك فصالح، جاز؛ لما

ص: 115


1- المغني 11:5-12، الشرح الكبير 12:5.
2- في ص 37-38، المسألة 1045.
3- النساء: 128.
4- تقدّم تخريجه في الهامش (3) من ص 20.

تقدّم.

مسألة 1106: قد ذكرنا أنّه يصحّ الصلح من الأجنبيّ عن المنكر أو المعترف،

سواء اعترف الأجنبيّ للمدّعي بصحّة دعواه أو لم يعترف، و سواء كان بإذنه أو بغير إذنه.

و قال أصحاب الشافعي: إنّما يصحّ إذا اعترف للمدّعي بصحّة دعواه(1).

و هو بناءً على أنّ الصلح عن الإنكار باطل، و قد بيّنّا بطلانه.

ثمّ إن كان الصلح عن دَيْنٍ، صحّ، سواء كان بإذن المنكر أو بغير إذنه؛ لأنّ قضاء الدَّيْن عن غيره جائز بإذنه و بغير إذنه؛ فإنّ عليّاً عليه السلام و أبا قتادة قضيا عن الميّت، فأجازه النبيّ صلى الله عليه و آله(2).

و إن كان الصلح عن عينٍ بإذن المنكر فهو كالصلح منه؛ لأنّ الوكيل يقوم مقام الموكّل، و إن كان بغير إذنه فهو افتداء للمنكر من الخصومة و اعتياض للمدّعي(3) ، و هو جائز في الموضعين.

و إذا صالح عنه بغير إذنه، لم يرجع عليه بشيءٍ؛ لأنّه أدّى عنه ما لا يلزمه أداؤه، و لأنّه لم يثبت وجوبه على المنكر و لا يلزمه أداؤه إلى المدّعي، فكيف يلزمه أداؤه إلى غيره!؟ و لأنّه متبرّع بأدائه غير ما يجب عليه.

و قال بعض الحنابلة: يرجع. و يجعله كالمدّعي(4).

ص: 116


1- الحاوي الكبير 373:6، المهذّب - للشيرازي - 340:1، الوجيز 178:1، الوسيط 52:4، التهذيب - للبغوي - 145:4، البيان 228:6، العزيز شرح الوجيز 93:5، روضة الطالبين 435:3-436، المغني و الشرح الكبير 13:5.
2- مرّ تخريجه في ج 14، ص 281، الهامش (5 و 6) و ص 282، الهامش (1).
3- في النسخ الخطّيّة: «من المدّعي» بدل «للمدّعي».
4- المغني و الشرح الكبير 14:5.

و هو غلط؛ لأنّه يجعله كالمدّعي في الدعوى على المنكر، أمّا أنّه يجب له الرجوع بما أدّاه فلا وجه له أصلاً، و أكثر ما يجب لمن قضى دَيْن غيره أن يقوم مقام صاحب الدَّيْن، و صاحب الدَّيْن هنا لم يجب له حقٌّ، و لا يلزم الأداء إليه، و لا يثبت له أكثر من جواز الدعوى، فكذلك هنا.

و يشترط في جواز الدعوى أن يعلم صدق المدّعي، فإن لم يعلم لم يجز له دعوى شيءٍ لا يعلم ثبوته.

و إذا صالح عنه بإذنه، فهو وكيله، و التوكيل في ذلك جائز.

ثمّ إن أدّى عنه بإذنه رجع عليه، و هذا قول الشافعي(1) ، و إن أدّى عنه بغير إذنه متبرّعاً لم يرجع بشيءٍ.

و إن قضاه محتسباً بالرجوع، احتُمل الرجوع؛ لأنّه قد وجب عليه أداؤه بعقد الصلح، بخلاف ما إذا صالح و قضى بغير إذنه، فإنّه قضى ما لا يجب على المنكر قضاؤه.

مسألة 1107: إذا صالحه على سكنى دارٍ أو خدمة عبدٍ و نحوه من المنافع المتعلّقة بالأعيان، صحّ

بشرط ضبط المدّة، و لا يكون ذلك إجارةً، بل عقداً مستقلّاً بنفسه، خلافاً للشافعي(2).

فإن تلفت الدار أو العبد قبل استيفاء شيءٍ من المنفعة، انفسخ الصلح، و رجع بما صالح عنه.

و إن تلف بعد استيفاء بعض المنفعة، انفسخ فيما بقي من المدّة، و رجع بقسط ما بقي.

و لو صالحه على أن يزوّجه جاريته، لم يصح؛ لأنّ البُضْع لا يقع في

ص: 117


1- الحاوي الكبير 373:6، البيان 228:6، المغني 14:5.
2- التهذيب - للبغوي - 143:4، البيان 222:6، العزيز شرح الوجيز 85:5، روضة الطالبين 428:3.

مقابله شيء.

و قال بعض الجمهور: يصحّ، و يكون المصالَح عنه صداقها(1).

و ليس بشيءٍ.

فإن انفسخ النكاح قبل الدخول بأمرٍ يُسقط الصداقَ، رجع الزوج بما صالَح عنه. فإن [طلّقها](2) قبل الدخول، رجع بنصفه.

و إن كان المعترف امرأةً فصالحت المدّعي على أن تزوّجه نفسها على أن يكون بُضْعها عوضاً، لم يصح، خلافاً لبعض الحنابلة(3).

و كذا لو كان الصلح عن عيبٍ في مبيعها فصالحته على نكاحها، قال:

فإن زال العيب رجعت بأرشه؛ لأنّ ذلك صداقها، فرجعت به، لا بمهر مثلها، و إن لم يزل العيب لكن انفسخ نكاحها بما يُسقط صداقَها، رجع عليها بأرشه(4).

و هو مبنيّ على جواز جَعْل البُضْع عوضاً في الصلح.

مسألة 1108: قد بيّنّا أنّه يصحّ الصلح عن الدَّيْن ببعضه مع الرضا الباطن؛

لأنّ كعباً تقاضى ابن أبي حدْرد دَيْناً - كان له عليه - في المسجد، فارتفعت أصواتهما حتى سمعها رسول اللّه صلى الله عليه و آله، فخرج إليهما ثمّ نادى:

«يا كعب» قال: لبّيك، فأشار إليه أن ضَع الشطر من دَيْنك، قال: قد فعلتُ يا رسول اللّه(5).

ص: 118


1- المغني 18:5.
2- بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «طالب». و المثبت هو الصحيح.
3- المغني 18:5، الشرح الكبير 7:5.
4- المغني 18:5، الشرح الكبير 7:5-8.
5- صحيح البخاري 246:3، صحيح مسلم 1558/1192:3، سنن البيهقي 64:6، المعجم الكبير - للطبراني - 67:19-128/68.

و في الذي أُصيب في حديقته فمرّ به النبيّ صلى الله عليه و آله و هو ملزوم، فأشار إلى غرمائه بالنصف، فأخذوا منه(1).

و هذا يدلّ على تسويغه مع الرضا الباطن.

و لو قال: على أن توفيني ما بقي، صحّ أيضاً عندنا.

و مَنَعه الحنابلة؛ لأنّه ما أبرأه عن بعض الحقّ إلّا ليوفيه بقيّته، فكأنّه عاوض بعض حقّه ببعضٍ(2). و هو ممنوع.

و لو كان له في يد غيره عيناً، فقال: قد وهبتك نصفها فأعطني نصفها، صحّ، و اعتُبر في ذلك شروط الهبة.

و لو أخرجه مخرج الشرط، صحّ عندنا.

خلافاً للشافعي و أحمد؛ لأنّه إذا شرط الهبة في الوفاء، جَعَل الهبة عوضاً عن الوفاء، فكأنّه عاوض بعض حقّه ببعضٍ(3).

و هذا ليس بشيءٍ.

و لو قال: صالحني بنصف دَيْنك علَيَّ أو بنصف دارك هذه، فيقول:

صالحتك بذلك، صحّ عندنا، و هو قول أكثر الشافعيّة(4) - و مَنَع منه بعض الشافعيّة و الحنابلة(5) - لأنّه إذا لم يجز بلفظ الصلح خرج عن أن يكون صلحاً، و لا يبقى له تعلّقٌ به، فلا يُسمّى صلحاً، و أمّا إذا كان بلفظ الصلح سُمّي صلحاً؛ لوجود اللفظ و [إن تخلّف](1) المعنى، كالهبة بشرط الثواب، و إنّما يقتضي لفظ الصلح المعاوضةَ إذا كان هناك عوضٌ، أمّا مع عدمه فلا، و إنّما معنى الصلح الرضا و الاتّفاق، و قد يحصل من غير عوضٍ، كالتمليكح.

ص: 119


1- بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «لم يختلف». و المثبت هو الصحيح.

إذا كان بعوضٍ سُمّي بيعاً، و إن خلا عن العوض سُمّي هبةً.

و لو ادّعى على رجلٍ بيتاً، فصالحه على بعضه أو على بناء غرفةٍ فوقَه أو على أن يُسكنه سنةً، صحّ عندنا - خلافاً للحنابلة(1) - للأصل.

احتجّوا بأنّه يصالحه عن ملكه ببعضه أو منفعته(2).

و نمنع عدم جوازه.

و لو صالحه بخدمة عبده سنةً، صحّ عندنا و عندهم(3).

فإن باع العبد في السنة، صحّ البيع، و يكون للمشتري مسلوبَ المنفعة بقيّة السنة، و للمُصالح منفعته إلى انقضاء السنة.

و لو لم يعلم المشتري بذلك، كان له الفسخ؛ لأنّه عيبٌ.

و إن أعتق العبدَ في أثناء المدّة، صحّ العتق؛ لأنّه مملوكه يصحّ بيعه فيصحّ عتقه، و للمُصالح استيفاء منفعته في المدّة؛ لأنّه أعتقه بعد أن مَلَك منفعته، فأشبه ما لو أعتق الأمة المزوّجة بحُرٍّ.

و لا يرجع العبد على سيّده بشيءٍ؛ لأنّه ما زال ملكه بالعتق إلّا عن الرقبة، فالمنافع حينئذٍ مملوكة لغيره فلم تتلف منافعه بالعتق فلا يرجع بشيءٍ.

و لو أعتق مسلوبَ المنفعة - كمقطوع اليدين، أو الأمة المزوّجة - لم يرجع عليه بشيءٍ.

و قال الشافعي: يرجع على سيّده بأُجرة مثله؛ لأنّ العتق اقتضى إزالة ملكه عن الرقبة و المنفعة جميعاً، فلمّا لم تحصل المنفعة للعبد هنا فكأنّه حالَ بينه و بين منفعته(4).

و نمنع اقتضاء العتق زوالَ الملك عن المنفعة؛ لأنّ اقتضاءه إنّما يكون5.

ص: 120


1- المغني 19:5-20، الشرح الكبير 6:5.
2- المغني 20:5، الشرح الكبير 6:5. (3 و 4) المغني 20:5، الشرح الكبير 8:5.

لو كانت المنفعة مملوكةً له، أمّا إذا كانت مملوكةً لغيره فلا يقتضي إعتاقه إزالة ما ليس بموجودٍ.

و لو ظهر أنّ العبد مستحَقٌّ، تبيّن بطلان الصلح؛ لفساد العوض، و يرجع المدّعي فيما أقرّ له به.

و لو ظهر عيب في العبد تنقص به المنفعة، فله ردّه و فسخ الصلح.

مسألة 1109: إذا ادّعى زرعاً في يد رجلٍ، فأقرّ له به، ثمّ صالحه منه

على الوجه الذي يجوز بيع الزرع فيه، صحّ، و كذا لو صالحه على غير الوجه الذي يصحّ بيعه؛ لأنّ الصلح عقدٌ مستقلّ بنفسه غير فرعٍ على البيع.

و لو كان الزرع في يد رجلين فأقرّ له أحدهما ثمّ صالحه عليه قبل اشتداد الحَبّ، صحّ عندنا.

خلافاً للشافعي؛ لأنّه إن صالحه عليه بشرط التبقية أو من غير شرط القطع لم يجز، لأنّه لا يجوز بيعه كذلك - و قد قلنا: إنّ الصلح عقد قائم برأسه، فلا يشترط فيه ما يشترط في البيع و غيره - و لو شرط القطع لم يجز؛ لأنّه لا يمكنه قطع زرع الآخَر، و قسمته لا تصحّ(1).

و لو كان الزرع لواحدٍ فأقرّ به للمدّعي و صالحه عليه، فإن شرط القطع صحّ الصلح عندنا و عند الشافعي(2).

و إن شرط التبقية، صحّ الصلح عندنا، خلافاً له(3).

و لو كانت الأرض للمُصالح، كان له تبقية الزرع في أرضه.

و لو أطلق صحّ عندنا.

و قال الشافعي: إن كان المشتري(2) لا يملك الأرض لم يصح، و إن

ص: 121


1- الأُم 227:3، مختصر المزني: 107، الحاوي الكبير 416:6. (2 و 3) الحاوي الكبير 415:6-416، البيان 251:6.
2- كذا قوله: «المشتري». و الظاهر: «المُصالح».

كان يملك الأرض فوجهان، كما إذا باع الثمرة من صاحب النخل بغير شرط القطع(1).

مسألة 1110: لو ادّعى رجل على غيره زرعاً في أرضه فأقرّ له بنصفه أو أنكر

- عندنا - ثمّ صالحه عن نصفه على نصف الأرض، جاز عندنا؛ عملاً بالأصل.

و قال الشافعي: لا يجوز؛ لأنّ من شرط بيع الزرع قطعه، و لا يمكن ذلك في المشاع(2).

و نحن نمنع من الاشتراط الذي ذكره، و قد سبق(3).

و لو صالحه منه على جميع الأرض بشرط القطع على أن يسلّم إليه الأرض فارغةً، صحّ؛ لأنّ قطع جميع الزرع ثابت نصفه بحكم الصلح و الباقي لتفريغ الأرض، فأمكن القطع، و أشبه مَن اشترى أرضاً و فيها زرع و شَرَط تفريغَ الأرض فإنّه يجوز، كذا هنا.

و إن كان أقرّ له بجميع الزرع و صالحه من نصفه على نصف الأرض ليكون الأرض و الزرع بينهما نصفين، و شَرَط القطع، فإن كان الزرع في الأرض بغير حقٍّ جاز الشرط؛ لأنّ الزرع يجب قطعه بأجمعه، و إن كان في الأرض بحقٍّ جاز أيضاً؛ عملاً بالشرط، و قد قال عليه السلام: «المؤمنون عند شروطهم»(4) و لأنّهما قد شرطا قطع كلّ الزرع و تسليم الأرض فارغةً، و هو أحد قولَي الشافعيّة.

و الثاني: لا يجوز الشرط؛ لأنّه لا يمكن قطع الجميع، بخلاف ما إذا

ص: 122


1- الحاوي الكبير 416:6، البيان 251:6-252، و 237:5.
2- بحر المذهب 48:8، البيان 252:6.
3- في ص 36، ضمن المسألة 1044.
4- تقدّم تخريجه في ص 76، الهامش (3).

شرط على بائع الزرع قطع الباقي؛ لأنّ باقي الزرع ليس بمبيعٍ، فلا يصحّ شرط قطعه في العقد، و يخالف ما إذا أقرّ بنصف الزرع و صالحه على جميع الأرض؛ لأنّه شرط تفريغ المبيع(1).

و الحقّ: الجواز؛ لما تقدّم، و لا يختصّ شرط القطع بالبيع.

مسألة 1111: قد بيّنّا أنّه إذا خرجت أغصان الشجرة إلى ملك الجار، كان للجار عطفها و إزالتها عن ملكه.

فإن أمكن ذلك بغير إتلافٍ و لا قطعٍ من غير مشقّةٍ تلزمه و لا غرامة، لم يجز إتلافها، كما إذا أمكنه إخراج دابّة الغير من ملكه بغير إتلافٍ، فإن أتلفها و الحال هذه ضمنها.

و إن لم يمكن إزالتها إلّا بالإتلاف، كان له ذلك، و لا شيء عليه؛ لأنّه لا يلزمه إقرار مال غيره في ملكه.

فإن صالحه على إقرارها بعوضٍ معلوم، صحّ.

و للشافعيّة و الحنابلة قولان(2).

و لا فرق بين أن يكون الغصن رطباً أو يابساً؛ لأنّ الجهالة في المصالَح عنه لا تمنع الصحّة؛ لكونها لا تمنع التسليم، بخلاف العوض، فإنّه يفتقر إلى العلم لوجوب تسليمه، و لأنّ الحاجة تدعو إلى الصلح عنه لكون ذلك [يكثر](3) في الأملاك المتجاورة، و في القطع إتلاف و ضرر، و الزيادة المتجدّدة يعفى عنها، كالسمن الحادث في المستأجر للركوب، و المستأجر للغرفة يتجدّد له الأولاد.

ص: 123


1- بحر المذهب 48:8، البيان 252:6-253.
2- الحاوي الكبير 406:6، حلية العلماء 15:5، العزيز شرح الوجيز 117:5، روضة الطالبين 456:3، المغني 22:5-23، الشرح الكبير 24:5-25.
3- ما بين المعقوفين أضفناه من المغني 22:5، و الشرح الكبير 25:5.

و عند أحمد يصحّ الصلح في الرطب و إن زاد أو نقص؛ لأنّ الجهالة في المُصالَح عنه لا تمنع الصحّة إذا لم يكن إلى العلم به سبيل؛ لدعاء الحاجة إليه، و كونه لا يحتاج إلى تسليمه(1).

و لو صالحه على إقرارها بجزءٍ معلوم من ثمرها أو كلّه، لم يجز، و به قال الشافعي و أكثر العامّة(1) - و عن أحمد روايتان(3) - لأنّ العوض مجهول، و الثمرة مجهولة، و جزؤها مجهول، و من شرط الصلح العلمُ بالعوض، و المصالَح عليه أيضاً مجهول؛ لتغيّره بالزيادة و النقصان، كما تقدّم.

و احتجّ أحمد: بأنّه قد تدعو الحاجة إليه(2).

و قد عرفت بطلان التعليل بالحاجة.

نعم، لو أباح كلٌّ منهما لصاحبه حقَّه، جاز من غير لزومٍ، بل لكلٍّ منهما الرجوعُ، فيستبيح صاحب الشجرة إباحة الوضع على الجدار أو الهواء، و يستبيح صاحب الدار ثمرة الشجرة، كما لو قال كلٌّ منهما لصاحبه:

أُسكن داري و أسكن دارك، من غير تقدير مدّةٍ و لا ذكر شروط الإجارة.

و كذا حكم العروق إذا سرت إلى أرض الجار، سواء أثّرت ضرراً، كما في المصانع و طيّ الآبار و أساسات الحيطان، أو [منعت](3) من نبات شجرٍ لصاحب الأرض أو الزرع، أو لم تؤثّر ضرراً، فإنّ الحكم في قطعه و الصلح عليه كالحكم في الزرع، إلّا أنّ العروق لا ثمر لها.

و كذا لو زلق من أخشابه إلى ملك غيره، فالحكم كما سبق.

مسألة 1112: قد بيّنّا أنّه يصحّ أن يصالحه عن المؤجَّل ببعضه حالاًّ

ص: 124


1- المغني 23:5، الشرح الكبير 25:5-26.
2- المغني 23:5، الشرح الكبير 26:5.
3- بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «منع». و الظاهر ما أثبتناه.

- و به قال ابن عباس و النخعي و ابن سيرين و الحسن البصري(1) - لأنّ التعجيل جائز، و الإسقاط وحده جائز، فجاز الجمع بينهما، كما لو فعل ذلك من غير مواطأة عليه.

و كرهه زيد بن ثابت و ابن عمر و سعيد بن المسيّب و القاسم و سالم و الشعبي، و مَنَعه أيضاً مالك و أحمد و الشافعي و الثوري و ابن عيينة و هيثم و أبو حنيفة و إسحاق(2) ، و قد تقدّم(3).

مسألة 1113: قد بيّنّا أنّه يصحّ الصلح عن المجهول دَيْناً كان أو عيناً.

خلافاً للشافعي؛ حيث قال: لا يصحّ؛ لأنّه بيع، فلا يصحّ على المجهول(4).

و نمنع كونه بيعاً و كونه فرعَ بيعٍ، و إنّما هو إبراء.

و لو سلّمنا كونه بيعاً، فإنّه يصحّ في المجهول عند الحاجة، كأساسات الحيطان و طيّ الآبار.

و لو أتلف رجل صبرةَ طعامٍ لا يعلم قدرها، فقال صاحب الطعام لمُتلفها: بعتك الطعام الذي في ذمّتك بهذا الدرهم أو بهذا الثوب، لم يصح

ص: 125


1- المغني 24:5-25، الشرح الكبير 5:5.
2- المغني 24:5، الشرح الكبير 5:5، المعونة 1193:2، الكافي في فقه أهل المدينة: 452، الوجيز 178:1، الوسيط 51:4، التهذيب - للبغوي - 144:4، البيان 223:6، العزيز شرح الوجيز 89:5، روضة الطالبين 431:3، منهاج الطالبين: 125، تحفة الفقهاء 252:3، بدائع الصنائع 45:6، المبسوط - للسرخسي - 31:21، الفقه النافع 1019/1268:3، الاختيار لتعليل المختار 12:3، الهداية - للمرغيناني - 197:3.
3- في ص 15-16، ذيل المسألة 1027.
4- الحاوي الكبير 368:6-369، التنبيه: 103-104، البيان 225:6، المغني 26:5، الشرح الكبير 9:5، الإفصاح عن معاني الصحاح 317:1، و قد تقدّم في ص 19، ذيل المسألة 1029.

عندنا؛ لأنّ شرط البيع معلوميّة العوضين.

و قال أحمد: يصحّ(1).

و على قولنا و قوله لو صالحه به عليه صحّ؛ لأنّ الجهل لا ينافي الصلح.

و إذا كان العوض في الصلح ممّا لا يحتاج إلى تسليمه و لا سبيل إلى معرفته، كالمواريث الدارسة، و الحقوق التالفة، و الأراضي و الأموال التي لا يعلمها أحد من المتخاصمين و لا يعرف قدر حقّه منها، فإنّ الصلح فيها جائز عندنا و عند أحمد(2) مع الجهالة من الجانبين، و قد سبق(3).

و أمّا ما يمكنه معرفته - كتركةٍ موجودةٍ يعلمها الذي هي في يده و يجهلها الآخَر - فإنّه لا يصحّ الصلح عليه مع الجهل.

و كذا كلّ مَنْ له نصيب في ميراثٍ أو غيره يظنّ قلّته إذا صُولح عليه، لا يصحّ مع علم الخصم الآخَر؛ لأنّ الصلح إنّما جاز مع جهالتهما؛ للحاجة إليه، فإنّ إبراء الذمّة أمر مطلوب، و لا طريق إليه إلّا الصلح.

مسألة 1114: يجوز الصلح عن كلّ ما يجوز أخذ العوض عنه،

سواء كان ممّا يجوز بيعه أو لا يجوز، فيصحّ عن دم العمد و سكنى الدار و عيب المبيع.

و مَنْ صالَح عمّا يوجب القصاص بأكثر من ديته أو أقلّ، جاز؛ لأنّ الحسن و الحسين عليهما السلام و سعيد بن العاص بذلوا للّذي وجب له القصاص على هدبة بن خشرم سبع ديات فأبى أن يقبلها(4).

ص: 126


1- المغني 26:5-27، الشرح الكبير 9:5.
2- المغني 27:5، الشرح الكبير 9:5.
3- في ص 17، المسألة 1029.
4- المغني 27:5، و 478:9، الشرح الكبير 17:5.

و إن صالح عن قتل الخطأ بأكثر من ديته من جنسها، جاز عندنا، خلافاً لأحمد(1).

و كذا لو أتلف عبداً أو غيره فصالَح على أكثر من قيمته أو أقلّ، سواء كان من جنس القيمة أو من غير جنسها، جاز عندنا، و به قال أبو حنيفة(2) ، خلافاً للشافعي و أحمد(3).

مسألة 1115: قد بيّنّا أنّه إذا ظهر استحقاق أحد العوضين، بطل الصلح،

فلو صالحه على دارٍ أو عبدٍ بعوضٍ فوجد العوض مستحقّاً أو كان العبد حُرّاً، فإنّه يرجع في الدار و ما صالَح عن العبد إن كان موجوداً، و إن كان تالفاً رجع بمثله إن كان مثليّاً، و إلّا رجع بالقيمة.

و لو اشترى شيئاً فوجده معيباً فصالحه عن عيبه بعبدٍ فبانَ مستحقّاً أو حُرّاً، رجع بأرش العيب.

و لو ظهر استحقاق المعيب، رجع بالثمن و العبد معاً.

و لو كان البائع امرأةً فزوّجتْه نفسَها عوضاً عن أرش العيب فزال العيب، لم يصحّ الصلح عندنا.

و يجوز عند أحمد، فيرجع بأرشه، لا بمهر المثل؛ لأنّها رضيت بذلك مهراً لها(4).

و لو صالحه عن القصاص بحُرٍّ يعلمان حُرّيّته أو عبدٍ يعلمان أنّه مستحقّ، أو تصالحا بذلك عن [غير](5) القصاص، رجع بالدية و الأقربِ بالقصاص أو بما تصالح عنه؛ لأنّ الصلح هنا باطل يعلمان بطلانه، فكان

ص: 127


1- المغني 27:5، الشرح الكبير 5:5.
2- روضة القُضاة 5195/771:2، المغني 28:5، الشرح الكبير 5:5.
3- المغني 27:5-28، الشرح الكبير 5:5، روضة القُضاة 5196/771:2 و 5197.
4- المغني 29:5.
5- ما بين المعقوفين أضفناه من المغني 29:5.

وجوده كالعدم.

و لو صالَح عن القصاص بعبدٍ فخرج مستحقّاً، رجع بقيمة العبد، و كذا إن خرج حُرّاً - و يحتمل قويّاً الرجوع إلى القصاص فيهما - و به قال الشافعي و أحمد و أبو يوسف و محمّد(1).

و قال أبو حنيفة: إن خرج مستحقّاً رجع بقيمته، و إن خرج حُرّاً رجع بما صالَح عنه، و هو الدية(2).

مسألة 1116: قد بيّنّا أنّه يجوز أن يصالحه على إجراء ماء المطر على سطحه مع العلم بالمشاهدة للسطح أو بالمساحة؛

لاختلاف الماء بكبر السطح و صغره.

و هل يفتقر إلى ذكر المدّة ؟ مَنَع منه الحنابلة؛ لأنّ الحاجة تدعو إليه(1).

و يجوز العقد على المنفعة في موضع الحاجة من غير تقديرٍ كما في النكاح.

و لا يملك صاحب الماء مجراه؛ لأنّ هذا لا يستوفى به منافع المجرى دائماً و لا في أكثر المدّة، بخلاف الساقية. و فيه نظر.

و لا يحتاج في إجراء الماء في الساقية إلى ما يُقدّر به؛ لأنّ تقدير ذلك حصل بتقدير الساقية، فإنّه لا يملك أن يجري فيها أكثر من مائها، و الماء الذي يجري على السطح يحتاج إلى معرفة مقدار السطح؛ لأنّه يجري فيه القليل و الكثير.

و لو كان السطح الذي يجري عليه الماء مستأجَراً أو عاريةً مع إنسانٍ، لم يجز له أن يصالح على إجراء الماء عليه؛ لأنّه يتضرّر بذلك و لم يؤذن له

ص: 128


1- المغني 30:5، الشرح الكبير 21:5.

فيه، فلم يكن له أن يتصرّف(1) فيه.

و أمّا الساقية المحصورة فإن مَنَع المالك أو لم يعلم بالعرف إباحته، فكذلك، و إلّا جاز؛ لأنّ الأرض لا تتضرّر به.

و لو كان ماء السطح يجري على الأرض، جاز الصلح أيضاً على ذلك، سواء احتاج إلى حفرٍ أو لا؛ لأنّه بمنزلة إجراء الماء إلى ساقيةٍ.

و يشترط المدّة المعيّنة.

و مَنَع أحمد - في إحدى الروايتين - منه(2).

مسألة 1117: لا يجوز للإنسان أن يجري الماء في أرض غيره،

سواء اضطرّ إلى ذلك أو لا، إلّا بإذنه - و هو إحدى الروايتين عن أحمد(3) - لأنّه تصرّف في أرض غيره بغير إذنه فلم يجز، كما لو لم تَدْعُ إليه ضرورة، و لأنّ مثل هذه الحاجة لا تبيح مال غيره، كما أنّه لا يباح له الزرع في أرض الغير و لا البناء و لا الانتفاع بسائر وجوه الانتفاعات و إن احتاج إليها.

و في الرواية الأُخرى عن أحمد: إنّه يجوز له إجراء الماء في أرض الغير عند الحاجة بأن تكون له أرض للزراعة لها ماء لا طريق له إلّا أرض جاره، فإنّه يجوز له إجراء الماء فيها و إن كره المالك؛ لما روي أنّ الضحّاك ابن خليفة ساق خليجاً من العريض، فأراد أن يجريه في أرض محمّد بن مسلمة فأبى، فقال له الضحّاك: لِمَ تمنعني و هو منفعة لك تشربه أوّلاً و آخراً و لا يضرّك ؟ فأبى محمّد، فكلّم فيه الضحّاك عمر، فدعا عمر محمّد بن مسلمة فأمره أن يخلّي سبيله، فقال محمّد: لا و اللّه، فقال له عمر: لِمَ تمنع أخاك ما ينفعه و هو لك نافع تشربه أوّلاً و آخراً؟ فقال محمّد: لا و اللّه، فقال

ص: 129


1- في «ث، خ، ر» و الطبعة الحجريّة: «له التصرّف» بدل «أن يتصرّف».
2- المغني 30:5، الشرح الكبير 22:5.
3- المغني 30:5-31، الشرح الكبير 22:5.

عمر: ليمرّن به و لو على بطنك، فأمره عمر أن يمرّ به، ففعل. رواه مالك في موطّئه، و سعيد في سننه(1).

و هو خطأ؛ لتطابق العقل و النقل على قبح التصرّف في مال الغير بغير إذنه. و قول عمر و فعله ليس حجّةً فيما لا يخالف العقل و النقل، فكيف فيما يخالفهما.

مسألة 1118: يصحّ الصلح عن كلّ ما يجوز أخذ العوض عنه، عيناً كان كالدار و العبد،

أو دَيْناً، أو حقّاً كالشفعة و القصاص، و لا يجوز على ما ليس بمالٍ ممّا لا يصحّ أخذ العوض عنه.

فلو صالحته المرأة على أن تقرّ له بالزوجيّة، لم يصح؛ لأنّها لو أرادت بذل نفسها بعوضٍ لم يجز.

و لو دفعت إليه عوضاً عن دعوى الزوجيّة ليكفّ عنها، فالأقرب:

الجواز - و للحنابلة وجهان(2) - لأنّ المدّعي يأخذ عوضاً عن حقّه من النكاح فجاز، كعوض الخلع، و المرأة تبذله لقطع خصومته و إزالة شرّه فجاز.

فإن صالحته ثمّ ثبتت الزوجيّة بإقرارها أو بالبيّنة، فإن قلنا: الصلح باطل، فالنكاح باقٍ بحاله؛ لأنّه لم يوجد من الزوج سبب الفرقة من طلاقٍ و لا خلع.

و إن قلنا: يصحّ الصلح، فكذلك أيضاً.

و عند الحنابلة أنّها تبين منه بأخذ العوض؛ لأنّه أخذه عمّا يستحقّه من نكاحها، فكان خلعاً، كما لو أقرّت له بالزوجيّة فخالعها(3).

و ليس بشيءٍ.

ص: 130


1- المغني 31:5، الشرح الكبير 22:5، و انظر: الموطّأ 33/746:2.
2- المغني 32:5، الشرح الكبير 6:5-7.
3- المغني 32:5، الشرح الكبير 7:5.

و لو ادّعت أنّ زوجها طلّقها ثلاثاً فصالحها على مالٍ لترك دعواها، لم يجز؛ لأنّه لا يجوز لها بذل نفسها لمطلّقها بعوضٍ و لا بغيره.

و لو دفعت إليه مالاً ليُقرّ بطلاقها، لم يجز.

و للحنابلة وجهان، أحدهما: الجواز، كما لو بذلت له مالاً ليطلّقها(1).

مسألة 1119: لو ادّعى على غيره أنّه عبده فأنكره، فصالحه على مالٍ ليُقرّ له بالعبوديّة، لم يجز؛

لأنّه يحلّ حراماً، فإنّ إرقاق الحُرّ نفسه لا يحلّ بعوضٍ و لا بغيره.

و لو دفع المدّعى عليه مالاً صلحاً عن دعواه جاز؛ لأنّه يجوز أن يعتق عبده بمالٍ، و لأنّه يقصد بالدفع إليه دفع اليمين الواجبة عليه و الخصومة المتوجّهة إليه.

و لو ادّعى على غيره ألفاً فأنكره فدفع إليه شيئاً ليُقرّ له بالألف، لم يصح، فإن أقرّ لزمه ما أقرّ به، و يردّ ما أخذه؛ لأنّا نتبيّن بإقراره كذبه في إنكاره، و أنّ الألف عليه، فيلزمه أداؤه بغير عوضٍ، و لا يحلّ له [أخذ] العوض عن أداء الواجب عليه، فإن دفع إليه المنكر مالاً صلحاً عن دعواه جاز.

مسألة 1120: لو صالَح شاهداً على أن لا يشهد عليه، لم يصح؛

لأنّ المشهود به إن كان حقّاً لآدميٍّ - كالدَّيْن - أو للّه تعالى - كالزكاة - فإن كان الشاهد يعرف ذلك، لم يجز له أخذ العوض على تركه، كما لا يجوز له أخذ العوض على ترك الصلاة، و إن كان كذباً لم يجز له أخذ العوض على تركه، كما لا يجوز أخذ العوض على ترك شرب الخمر.

و إن صالحه على أن لا يشهد عليه بالزور، لم يصح؛ لأنّ ترك ذلك واجب عليه، و يحرم عليه فعله، فلا يجوز أخذ العوض عنه، كما لا يجوز

ص: 131


1- المغني 32:5، الشرح الكبير 7:5.

أن يصالحه على أن لا يقتله و لا يغصب ماله.

و إن صالحه على أن لا يشهد عليه بما يوجب الحدّ كالزنا و السرقة، لم يجز أخذ العوض عنه؛ لأنّ ذلك ليس بحقٍّ له، فلا يجوز له أخذ عوضه، كسائر ما ليس بحقٍّ له.

و لو صالَح السارق و الزاني و الشارب بمالٍ على أن لا يرفعه إلى السلطان، لم يصح كذلك، و لم يجز له أخذ العوض.

و لو صالحه عن حدّ القذف، لم يصح؛ لأنّه إن كان للّه تعالى لم يجز(1) له أن يأخذ عوضه؛ لكونه ليس بحقٍّ له، فأشبه حدّ الزنا، و إن كان حقّاً له لم يصحّ الصلح؛ لأنّه لا يجوز الاعتياض عنه؛ لأنّه ليس من الحقوق الماليّة، و لهذا لا يسقط إلى بدلٍ، بخلاف القصاص، و لأنّه شُرّع لتنزيه العِرْض، فلا يجوز أن يعاوض عن عِرْضه بمالٍ.

و الأقرب: عدم سقوط الحدّ بالصلح.

و للحنابلة وجهان مبنيّان على كونه حقّاً للّه تعالى فلا يصحّ الصلح عنه، كحدّ الزنا، و كونه حقّاً للآدميّ فيسقط، كالقصاص(2).

و لو صالَح عن حقّ الشفعة، جاز عندنا؛ لأنّه حقٌّ تعلّق بالمال، فجاز الاعتياض عنه به، كغيره من الحقوق الماليّة.

و مَنَع منه الحنابلة؛ لأنّ الشفعة حقٌّ شُرّع على خلاف الأصل لدفع ضرر الشركة، فإذا رضي بالتزام الضرر سقط الحقّ من غير بدلٍ(3).

و هو ممنوع.

مسألة 1121: لا يجوز أن يحفر في الطرق النافذة بئراً لنفسه،

سواء

ص: 132


1- في الطبعة الحجريّة: «لم يكن» بدل «لم يجز».
2- المغني 33:5، الشرح الكبير 19:5.
3- المغني 34:5، الشرح الكبير 19:5.

جعلها لماء المطر أو يستخرج منها ماء ينتفع به، و لا غير ذلك.

و لو أراد حفرها للمسلمين و نفعهم أو لينتفع بها الطريق بأن يحفرها ليستقي الناس من مائها و يشرب منه المارّة أو لينزل فيها ماء المطر عن الطريق، فإن تضرّر بها المسلمون أو كان الدرب ضيّقاً أو يحفرها في ممرّ الناس بحيث يخاف سقوط إنسانٍ فيها أو دابّة أو يضيق عليهم ممرّهم، لم يجز ذلك؛ لأنّ ضررها أكثر من نفعها.

و إن حفرها في زاويةٍ من طريقٍ واسع و جعل عليها ما يمنع الوقوع فيها، فالأقرب: الجواز؛ لأنّه نفع لا ضرر فيه، لكن مع الضمان.

و إن كان الدرب غير نافذٍ، لم يجز شيء من ذلك مطلقاً إلّا بإذن أربابه؛ لأنّه ملكٌ لقومٍ معيّنين، فلا يجوز فعله إلّا بإذنهم، كما لو فعله في بستان غيره.

و لو صالَح أهل الدرب على ذلك جاز، سواء حفرها لنفسه أو لينزل فيها ماء المطر عن داره أو ليستقي منها ماءً لنفسه، أو حفرها للسبيل و نفع الطريق.

و كذا إن فَعَل ذلك في ملك إنسانٍ معيّن.

مسألة 1122: قد بيّنّا أنّه يجوز إخراج الميازيب في الطرق النافذة

إذا لم يمنع منه أحد يتضرّر به - و به قال أبو حنيفة و مالك و الشافعي(1) - لأنّ عمر بن الخطّاب اجتاز على دار العبّاس و قد نصب ميزاباً إلى الطريق، فقلعه، فقال العبّاس: تقلعه و قد نصبه رسول اللّه صلى الله عليه و آله بيده(2) ، و ما فَعَله النبيّ صلى الله عليه و آله جاز لغيره فعله؛ عملاً بالتأسّي ما لم يقم دليل على اختصاصه، و لأنّ الحاجة تدعو إلى ذلك، و لا يمكنه ردّ مائه إلى داره.

ص: 133


1- المغني 36:5، الشرح الكبير 29:5.
2- تقدّم تخريجه في ص 42، الهامش (1).

و قال أحمد: لا يجوز؛ لأنّه تصرّف في هواءٍ مشتركٍ بينه و بين غيره بغير إذنه فلم يجز، كغير النافذ(1).

و عدم الإذن ممنوع بوضع عامّة الناس في الأمصار بأسرها على استمرار الدهور.

مسألة 1123: قد بيّنّا أنّه لا يجوز وضع الجذوع على حائط الجار إلّا بإذنه، و بيّنّا الخلافَ.
اشارة

و كذا في جدار المسجد.

و عن أحمد روايتان، إحداهما: الجواز؛ لأنّه إذا جاز في ملك الجار مع أنّ [حقّه](2) مبنيّ على الشحّ و التضييق، ففي حقّ اللّه تعالى المبنيّ على المسامحة و المساهلة أولى(3).

و كلتا المقدّمتين ممنوعة.

فرعٌ: على قول أحمد إذا كان له وضع خشبٍ على جدار غيره، لم يملك إعارته و لا إجارته؛

لأنّه إنّما كان له ذلك لحاجته الماسّة إلى وضع خشبه، و لا حاجة له إلى وضع خشبة غيره، فلم يملكه.

و كذلك لا يملك بيع حقّه من وضع خشبه و لا المصالحة عنه للمالك و لا لغيره؛ لأنّه أُبيح له لحاجته إليه، فلا يجوز [التخطّي](4) كطعام غيره إذا أُبيح له للضرورة لم يملك إباحة غيره(5).

و لو تنازعا مسنّاةً بين نهر أحدهما و أرض الآخَر أو بين أرضيهما أو

ص: 134


1- المغني 36:5-37، الشرح الكبير 30:5.
2- بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «حائطه». و المثبت كما في المصدر.
3- المغني و الشرح الكبير 38:5.
4- بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «التخطئة». و الظاهر ما أثبتناه.
5- المغني 39:5، الشرح الكبير 39:5-40.

نهريهما، تحالفا، و كانت بينهما؛ لأنّها حاجز بين ملكيهما، كالحائط بين الملكين.

مسألة 1124: لو كان السُّفْل لرجلٍ و العلوّ لآخَر، فانهدم السقف الذي بينهما، لم يُجبر أحدهما على عمارته لو امتنع

- و للشافعي قولان، و عن أحمد روايتان(1) - للأصل.

و لو انهدمت حيطان السُّفْل و أراد صاحب العلوّ بناءه، لم يُمنع من ذلك؛ توصّلاً إلى تحصيل ملكه.

فإن بناه بآلته، فهو على ما كان.

و إن بناه بآلةٍ من عنده، لم يكن له منع صاحب السُّفْل من السكنى - و به قال الشافعي(2) - لأنّ ملكه لم يخرج عن السُّفْل، و السكنى إنّما هي إقامته في فناء الحيطان من غير تصرّفٍ فيها، فأشبه الاستظلال بها من خارجٍ.

و مَنَع أبو حنيفة من السكنى؛ لأنّ البيت إنّما يُبنى للسكنى فلم يملكه، كغيره(3).

و ليس بشيءٍ؛ إذ لا يمنع من التصرّف في ملكه المختصّ به.

و عن أحمد روايتان(4).

مسألة 1125: لو كان الحائط بينهما نصفين فاتّفقا على بنائه أثلاثاً أو بالعكس، جاز،

كما لو تبرّع أحدهما ببنائه.

و مَنَع الحنابلة من تساويهما في البناء لو اختلفا في الاستحقاق؛ لأنّه يصالح على بعض ملكه ببعضٍ فلم يصحّ، كما لو أقرّ له بدارٍ فصالحه على

ص: 135


1- المغني 48:5، الشرح الكبير 47:5. (2-4) المغني 49:5، الشرح الكبير 47:5.

سكناها(1).

و الملازمة ممنوعة، و كذا الحكم في الأصل ممنوع.

و لو اتّفقا على أن يحمله كلّ واحدٍ منهما ما شاء، لم يجز؛ لجهالة الحمل، و إنّه يحمله من الأثقال ما لا طاقة له بحمله.

مسألة 1126: لو كان سطح أحدهما أعلى من سطح الآخَر، لم يُمنع صاحب الأعلى من الصعود على سطحه،

و لا يحلّ له الإشراف على سطح جاره.

و قال أحمد: ليس لصاحب العلوّ الصعودُ على سطحه على وجهٍ يشرف على سطح جاره إلّا أن يبني سترةً تستره(2).

و مذهبنا أنّه لا يجب بناء السترة - و به قال الشافعي(3) - لأنّه حاجز بين ملكيهما فلا يُجبر عليه، كالأسفل.

احتجّ أحمد بأنّه يحرم عليه الاطّلاع و الإشراف على جاره؛ لأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله قال: «لو أنّ رجلاً اطّلع عليك فخذفته بحصاة ففقأت عينه لم يكن عليك جناح»(4)(5).

و نحن نقول بموجبه، فإنّ الاطّلاع حرام عندنا، أمّا العلوّ بالسطح فلا.

مسألة 1127: لو تنازع اثنان جملاً، فإن كان لأحدهما عليه حمْلٌ كان صاحب الحمل أولى،

و به قال الشافعي و إن لم يحكم بالجدار لصاحب الجذوع التي عليه، و فرَّق بأنّ الحائط ينتفع به كلّ واحدٍ منهما و إن كان

ص: 136


1- المغني 50:5، الشرح الكبير 49:5.
2- بحر المذهب 41:8، المغني 52:5، الشرح الكبير 52:5-53.
3- بحر المذهب 41:8، المغني 52:5، الشرح الكبير 53:5.
4- صحيح البخاري 8:9-9، صحيح مسلم 44/1699:3.
5- المغني 52:5-53، الشرح الكبير 53:5.

صاحب الجذوع أكثر منفعةً، و أمّا الجمل فالانتفاع لصاحب الحمل، دون الآخَر(1).

و هذا الفرق ليس بشيءٍ، بل انتفاع صاحب الجذوع بالجدار أدوم.

و لو تنازعا عبداً و لأحدهما عليه ثوبٌ لابسه، تساويا فيه، بخلاف الحمل؛ لأنّ صاحب الثوب لا ينتفع بلُبْس العبد له، بخلاف الحمل، و لأنّ الحمل لا يجوز أن يحمله على الجمل إلّا بحقٍّ، و يجوز أن يجبر العبد على لُبْس قميص غير مالكه إذا كان عرياناً و بذله، فافترقا.

مسألة 1128: لو كان في يد شخصين درهمان فادّعاهما أحدهما و ادّعى الآخَر واحداً منهما، أُعطي مدّعيهما معاً درهماً،

و كان الدرهم الآخَر بينهما نصفين؛ لأنّ مدّعي أحدهما غير منازعٍ في الدرهم الآخَر، فنحكم به لمدّعيهما، و قد تساويا في دعوى أحدهما يداً و دعوى، فيُحكم به لهما.

هذا إذا لم توجد بيّنة.

و الأقرب: إنّه لا بدّ من اليمين، فيحلف كلّ واحدٍ منهما على استحقاق نصف الآخَر الذي تصادمت دعواهما فيه، فمَنْ نكل منهما قُضي به للآخَر.

و لو نكلا معاً أو حلفا معاً، قُسّم بينهما نصفين؛ لما رواه عبد اللّه بن المغيرة عن غير واحدٍ من أصحابنا عن الصادق عليه السلام: في رجلين كان معهما درهمان، فقال أحدهما: الدرهمان لي، و قال الآخَر: هُما بيني و بينك، قال: فقال الصادق عليه السلام: «أمّا أحد الدرهمين ليس له فيه شيء، و إنّه لصاحبه، و يُقسم الدرهم الباقي بينهما نصفين»(2).

مسألة 1129: لو أودع رجل عند آخَر دينارين و أودعه آخَر ديناراً و امتزجا ثمّ ضاع دينار منهما،

فإن كان بغير تفريطٍ منه في الحفظ و لا في

ص: 137


1- البيان 196:13، المغني 228:12، و راجع الهامش (3) من ص 583.
2- التهذيب 481/208:6.

المزج بأن أذنا له في المزج أو حصل المزج بغير فعله و لا اختياره، فلا ضمان عليه؛ لأصالة البراءة، و لو فرّط ضمن التالف.

هذا بالنظر إلى المستودع، و أمّا المال الباقي فإنّه يعطى صاحب الدينارين ديناراً؛ لأنّ خصمه يسلّم له أنّه لا يستحقّ منه شيئاً، و يبقى الدينار الآخَر تتصادم دعواهما فيه، فيُقسم بينهما نصفين؛ لما رواه السكوني عن الصادق عن آبائه عليهم السلام: في رجلٍ استودع رجلاً دينارين و استودعه آخَر ديناراً فضاع دينار منهما، فقال: «يعطى صاحب الدينارين ديناراً، و يقتسمان الدينار الباقي بينهما نصفين»(1).

و لو كان ذلك في متساوي الأجزاء الممتزج مزجاً يرفع الامتياز، كما لو استودعه أحدهما قفيزين من حنطةٍ أو شعير أو دخن و شبهه، و استودعه الآخَر قفيزاً مثلهما ثمّ امتزج المالان و تلف قفيز من الممتزج، فإنّ الأقوى هنا أن يقسم المال التالف بينهما على نسبة المالين، فيكون لصاحب القفيزين قفيز و ثلث قفيزٍ، و لصاحب القفيز ثلثا قفيزٍ.

و الفرق ظاهر؛ لأنّ عين أحد الدينارين غير مستحقٍّ لصاحب الدينار.

مسألة 1130: لو اشترى العامل في البضاعة ثوباً بثلاثين درهماً،

و اشترى من مال المباضع الآخَر ثوباً بعشرين درهماً، ثمّ امتزج الثوبان، فإن خيّر أحدهما صاحبه فقد أنصفه، و إن تعاسرا بِيعا معاً، و بسط الثمن على القيمتين، فيأخذ صاحب الثلاثين ثلاثة أخماس الثمن، و يأخذ صاحب العشرين خُمْسي الثمن؛ إذ الظاهر عدم التغابن، و أنّ كلّ واحدٍ منهما اشترى بقيمته و باع بالنسبة.

ص: 138


1- التهذيب 483/208:6.

و لما رواه إسحاق بن عمّار عن الصادق عليه السلام أنّه قال في الرجل يبضعه الرجل ثلاثين درهماً في ثوبٍ و آخَر عشرين درهماً في ثوبٍ، فبعث الثوبين فلم يعرف هذا ثوبه و لا هذا ثوبه، قال: «يُباع الثوبان فيعطى صاحب الثلاثين ثلاثة أخماس الثمن، و الآخَر خُمْسي الثمن» قال: قلت: فإنّ صاحب العشرين قال لصاحب الثلاثين: اختر أيّهما شئت، قال: «قد أنصفه»(1).

و لو بِيعا منفردين، فإن تساويا في الثمن فلكلٍّ مثل صاحبه؛ ليميّز حقّ كلّ واحدٍ منهما عن حقّ الآخَر، و إن تفاوتا كان أقلّ الثمنين لصاحب العشرين و أكثرهما لصاحب الثلاثين؛ قضاءً بالظاهر من عدم الغبن.

مسألة 1131: لو تنازعا في دابّةٍ فادّعاها كلّ واحدٍ منهما و كان أحدهما راكبَها و الآخَر قابض لجامها و لا بيّنة،
اشارة

قال الشيخ رحمه الله: يُحكم بها لهما، و تُجعل بينهما نصفين(2) ، و به قال أبو إسحاق المروزي(3) ؛ لأنّ لكلّ واحدٍ منهما يداً عليها.

و قال باقي العامّة: يُحكم بها للراكب؛ لبُعْد تمكين صاحب الدابّة غيرَه من ركوبها، و إمكان أخذ اللجام من صاحب الدابّة(4). و هو الأقوى عندي.

و لو تنازعا ثوباً في يدهما، قضي لهما معاً به بالسويّة و إن كان في يد أحدهما أكثر؛ لتساويهما في اليد و الدعوى، و كلّ ذلك مع عدم البيّنة

ص: 139


1- الكافي 421:7-2/422، الفقيه 62/23:3، التهذيب 482/208:4.
2- الخلاف 296:3، المسألة 5 من كتاب الصلح.
3- المهذّب - للشيرازي - 318:2، حلية العلماء 212:8، العزيز شرح الوجيز 122:5.
4- المهذّب - للشيرازي - 318:2، الوجيز 180:1-181، الوسيط 64:4، حلية العلماء 211:8، البيان 196:13، العزيز شرح الوجيز 122:5.

و اليمين.

و لو كان باب غرفة البيت مفتوحاً إلى الجار فادّعاها كلٌّ من صاحب الأسفل و الجار، حُكم بالغرفة لصاحب الأسفل؛ لأنّ مَنْ مَلَك القرار مَلَك الهواء، و فتح الباب يحتمل الإعارة.

أمّا لو كانت الغرفة تحت تصرّف الجار، فالأقرب: الحكم له بها؛ قضاءً باليد الدالّة على الملكيّة.

تذنيب: لو بنى مسجداً في أرضٍ اشتراها من غيره، فادّعاها ثالثٌ،

فإن صدّقه المشتري أو البائع كان على المصدّق القيمة، و لو كذّباه فصالحه بعض جيران المسجد صحّ الصلح؛ لأنّه بذْلُ مالٍ على طريق البرّ.

تذنيبٌ آخَر: لو تداعى ذو البابين في المنقطع الدربيّة، حُكم بينهما لهما من رأس الدربيّة إلى الأوّل،

و ما بين البابين للثاني، و الفاصل إلى صدر الدرب يحتمل قويّاً الشركة، و اختصاصُ الأخير.

تمّ الجزء العاشر(1) من كتاب تذكرة الفقهاء بحمد اللّه تعالى و منّه، و يتلوه في الجزء الحادي عشر(2) - بتوفيق اللّه تعالى - كتاب الأمانات و توابعها، و فيه مقاصد.

فرغتُ من تسويده ثامن عشري صفر - خُتم بالخير و الظفر - من سنة خمس عشرة و سبعمائة بالسلطانيّة.

و كتب العبد الفقير إلى اللّه تعالى حسن بن يوسف بن المطهّر، و الحمد للّه وحده، و صلّى اللّه على سيّدنا و مولانا محمّد النبي و آله الطاهرين.

ص: 140


1- حسب تجزئة المصنّف رحمه الله.
2- حسب تجزئة المصنّف رحمه الله.

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

كتاب الأمانات و توابعها

اشارة

و فيه مقاصد:

المقصد الأوّل: الوديعة

اشارة

و فيه فصول:

الفصل الأوّل: الماهيّة

اشارة

الوديعة مشتقّة من «ودع، يدع» إذا استقرّ و سكن، من قولهم: «يدع كذا» أي يتركه، و الوديعة متروكة مستقرّة عند المستودع.

و قيل: إنّها مشتقّة من الدعة، و هي الخفض و الراحة، يقال: ودع الرجل فهو وديع و وادع، لأنّها في دعة عند المُودَع لا تتبدّل و لا تستعمل(1).

و الوديعة تُطلق في العرف على المال الموضوع عند الغير ليحفظه، و الجمع: الودائع. و استودعه الوديعة، أي: استحفظه إيّاها.

و عن الكسائي: يقال: أودعته كذا: إذا دفعت إليه الوديعة. و أودعته كذا: إذا دفع إليك الوديعة فقبلتها، و هو من الأضداد(2).

و المشهور في الاستعمال المعنى الأوّل.

و هي جائزة بالكتاب و السنّة و الإجماع.

قال اللّه تعالى:«إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها»(3)

ص: 141


1- البيان 421:6، العزيز شرح الوجيز 286:7-287.
2- كما في العزيز شرح الوجيز 286:7.
3- النساء: 58.

و قال تعالى:«فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَ لْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ» (1).

و ما رواه العامّة عن أُبي بن كعب أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله قال: «أدِّ الأمانة إلى مَن ائتمنك، و لا تَخُنْ مَنْ خانَك»(2).

و روي أنّه عليه السلام كان عنده ودائع، فلمّا أراد الهجرة أودعها عند أُمّ أيمن، و أمر عليّاً عليه السلام بردّها على أهلها(3).

و من طريق الخاصّة: ما رواه ابن أخي الفضيل بن يسار قال: كنتُ عند الصادق عليه السلام و دخلَتْ امرأة و كنتُ أقربَ القوم إليها، فقالت لي: اسأله، فقلت: عمّا ذا؟ فقالت: إنّ أبي مات و ترك مالاً كان في يد أخي فأتلفه ثمّ أفاد مالاً فأودعنيه، فلي أن آخذ منه بقدر ما أتلف من شيء؟ فأخبرتُه بذلك، فقال: «لا، قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: أدِّ الأمانةَ إلى مَن ائتمنك، و لا تخُنْ مَنْ خانَك»(4).

و عن حسين بن مصعب قال: سمعتُ الصادقَ عليه السلام يقول: «ثلاثة لا عذر فيها لأحدٍ: أداء الأمانة إلى البرّ و الفاجر، و برّ الوالدين برَّيْن كانا أو فاجرَيْن، و الوفاء بالعهد للبرّ و الفاجر»(5).

و عن محمّد بن علي الحلبي قال: استودعني رجل من مواليت.

ص: 142


1- البقرة: 283.
2- سنن أبي داوُد 3534/290:3، سنن الدارقطني 141/35:3، سنن البيهقي 270:10، مسند أحمد 14998/423:4.
3- الحاوي الكبير 355:8-356، البيان 422:6، المغني 280:7، سنن البيهقي 289:6.
4- التهذيب 981/348:6، الاستبصار 52:3-172/53.
5- التهذيب 988/350:6، و في الكافي 1/132:5 بتقديمٍ و تأخير في بعض الجملات.

بني مروان ألف دينار فغاب فلم أدْر ما أصنع بالدنانير، فأتيت أبا عبد اللّه الصادق عليه السلام فذكرت ذلك له و قلت: أنت أحقّ بها، فقال: «لا، لأنّ أبي كان يقول: إنّما نحن فيهم بمنزلة هدنة نؤدّي أمانتهم و نردّ ضالّتهم و نقيم الشهادة لهم و عليهم، فإذا تفرّقت الأهواء لم يسع أحدٌ المقام»(1).

و قال الصادق عليه السلام: «كان أبي يقول: أربع مَنْ كُنّ فيه كمل إيمانه، و لو كان ما بين قرنه إلى قدمه ذنوب لم ينتقصه ذلك» قال: «و هي الصدق و أداء الأمانة و الحياء و حسن الخلق»(2).

و قال الكاظم عليه السلام: «أهل الأرض مرحومون ما يخافون و أدّوا الأمانة و عملوا بالحقّ»(3).

و قال الحسين الشيباني للصادق عليه السلام: إنّ رجلاً من مواليك يستحلّ مال بني أُميّة و دماءهم، و إنّه وقع لهم عنده وديعة، فقال عليه السلام: «أدّوا الأمانات إلى أهلها و إن كانوا مجوساً(4) ، فإنّ ذلك لا يكون حتى يقوم قائمنا فيحلّ و يحرّم»(5).

و قال الصادق عليه السلام: «اتّقوا اللّه و عليكم بأداء الأمانة إلى مَن ائتمنكم، فلو أنّ قاتل عليٍّ ائتمنني على أداء الأمانة لأدّيتُها إليه»(6).

و قد أجمع المسلمون كافّةً على جوازها، و تواترت الأخبار بذلك.

و لأنّ الحكمة تقتضي تسويغها، فإنّ الحاجة قد تدعو إليها لاحتياج6.

ص: 143


1- التهذيب 989/350:6.
2- التهذيب 990/350:6.
3- التهذيب 991/350:6.
4- في «خ» و الكافي: «مجوسيّاً».
5- الكافي 132:5-2/133، التهذيب 993/351:6.
6- الكافي 4/133:5، التهذيب 995/351:6.

الناس إلى حفظ أموالهم، و ربما تعذّر ذلك عليهم بأنفسهم إمّا لخوفٍ أو سفرٍ أو عدم حرزٍ، فلو لم يشرع الاستيداع لزم الحرج المنفيّ بقوله تعالى:

«ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» (1) و لأنّه نفعٌ لا ضرر فيه، فكان مشروعاً.

مسألة 1: إذا عرفتَ الوديعة في عرف اللغة، فهي في عرف الفقهاء عبارة عن عقدٍ يفيد الاستنابة في الحفظ،

لكن قد عرفت أنّ العرف اللغوي يقتضي أن تكون هي المال، و كذا العرف العامّي، و الإيداع هو العقد.

و هي جائزة من الطرفين بالإجماع، لكلٍّ منهما فسخه.

و لا بدّ فيها من إيجابٍ و قبولٍ.

فالإيجاب هو كلّ لفظٍ دالٍّ على الاستنابة بأيّ عبارةٍ كان، و لا ينحصر في لغةٍ دون أُخرى، و لا في عبارةٍ دون عبارةٍ، و لا يفتقر إلى التصريح، بل يكفي التلويح و الإشارة و الاستعطاء.

و القبول قد يكون بالقول، و هو كلّ لفظٍ يدلّ على الرضا بالنيابة في الحفظ بأيّ عبارةٍ كان، و قد يكون بالفعل.

و هل الوديعة عقد برأسه، أو إذن مجرّد؟ الأقرب: الأوّل.

مسألة 2: إذا دفع الإنسان إلى غيره وديعةً و كان المدفوع إليه عاجزاً عن حفظها،

لم يجز له قبولها؛ لما فيه من إضاعة مال الغير، و قد نهى النبيّ صلى الله عليه و آله عنه(2).

و إن كان قادراً لكنّه غير واثقٍ من نفسه بالأمانة، لم يجز له القبول؛

ص: 144


1- الحجّ: 78.
2- صحيح البخاري 139:2، و 118:9، سنن البيهقي 63:6، سنن الدارمي 311:2، مسند أحمد 305:5 و 17727/312 و 17768.

لما فيه من التعريض للتفريط في مال الغير، و هو محرَّم، و هو أحد قولَي الشافعيّة. و الثاني لهم: إنّه يكره(1).

و لو كان قادراً على الحفظ واثقاً بأمانة نفسه، استحبّ له القبول؛ لما فيه من المعاونة على البرّ و قضاء حوائج الإخوان.

و لو لم يكن هناك غيره، فالأقوى: إنّه يجب عليه القبول؛ لأنّه من المصالح العامّة. و بالجملة، فالقبول واجب على الكفاية.

و لو تضمّن القبول ضرراً في نفسه أو ماله أو خاف على بعض المؤمنين أو تضمّن إتلاف منفعة نفسه أو حرزه في الحفظ من غير عوضٍ، لم يجب القبول.

مسألة 3: الألفاظ المتداولة بين الناس من الإيجاب الذي يتضمّنه عقد الوديعة: استودعتك هذا المال،

أو: أودعتك، أو: استحفظتك، أو:

أنبتك في حفظه، أو: استنبتك فيه، أو: احفظه، أو: هو وديعة عندك، و ما في معناه من الصيغ الصادرة من جهة المودِع، الدالّة على الاستحفاظ.

و لا يعتبر القبول لفظاً كما تقدّم(2) ، بل يكفي القبض [بكيفيّته](3) في العقار و المنقول، و هو قول بعض الشافعيّة(4).

و قال بعضهم: لا يكفي القبض، بل لا بدّ من لفظٍ دالٍّ على القبول(5).

ص: 145


1- العزيز شرح الوجيز 287:7، روضة الطالبين 286:5.
2- في ص 144، ذيل المسألة 1.
3- بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «يكفيه». و المثبت هو الصحيح.
4- العزيز شرح الوجيز 288:7، روضة الطالبين 286:5.
5- التهذيب - للبغوي - 116:5، العزيز شرح الوجيز 288:7، روضة الطالبين 286:5.

و قال بعضهم: إن كان المودِع قد قال: أودعتُك، و شبهه ممّا هو على صيغ العقود، وجب القبول لفظاً، و إن قال: احفظه، أو: هو وديعة عندك، لم يفتقر إلى لفظٍ يدلّ على القبول، كما تقدّم في الوكالة(1).

مسألة 4: لا بدّ من التنجيز،

فلو قال: إذا جاء رأس الشهر فقد أودعتك مالي معه(2) ، لم يصح الإيداع - و هو قول بعض الشافعيّة(3) - لأصالة العدم.

و قال بعضهم: يصحّ(4).

و قال آخَرون منهم: القياس تخريجه على الخلاف في تعليق الوكالة(5).

و قيل: الإيداع عبارة عن الاستنابة في الحفظ، و هو توكيلٌ خاصٌّ، و [الوكيل و الموكّل] يُسمَّيان في هذا التوكيل المُودِع و المُودَع(4).

و لو جاء بماله و وضعه بين يدي غيره و لم يتلفّظ بشيءٍ لم يحصل الإيداع، فإن قبضه الموضوع عنده ضمنه.

و كذا لو كان قد قال من قبلُ: إنّي أُريد أن أُودعك، ثمّ جاء بالمال.

و لو قال: هذه وديعتي عندك فاحفظه، و وضعه بين يديه، فإن أخذه الموضوع عنده تمّت الوديعة؛ لأنّا لا نعتبر القبول اللفظي، و إن لم يأخذه فإن لم يتلفّظ بشيءٍ لم يكن وديعةً، حتى لو ذهب و تركه فلا ضمان عليه، لكن يأثم إن كان ذهابه بعد ما غاب المالك.

ص: 146


1- العزيز شرح الوجيز 288:7، روضة الطالبين 286:5.
2- في النسخ الخطّيّة: «بعدُ» بدل «معه».
3- العزيز شرح الوجيز 288:7، روضة الطالبين 286:5. (4 و 5) العزيز شرح الوجيز 288:7، روضة الطالبين 286:5.
4- العزيز شرح الوجيز 288:7، و ما بين المعقوفين أضفناه من المصدر.

و إن قال: قبلت، أو: ضَعْ، فوضعه، كان إيداعاً، كما لو أخذه بيده، و به قال بعض الشافعيّة(1).

و قال بعضهم: لا يكون إيداعاً ما لم يقبض(2).

و قال آخَرون بالتفصيل، فإن كان الموضع في يده، فقال: ضَعْه، دخل المال في يده؛ لحصوله في الموضع الذي هو في يده. و إن لم يكن كما لو قال: انظر إلى متاعي في دكّاني، فقال: نعم، لم يكن وديعةً(3).

و على ما اخترناه من أنّه وديعة مطلقاً لو ذهب الموضوع عنده و تركه، فإن كان المالك حاضراً بَعْدُ فهو ردٌّ للوديعة، و إن غاب المالك ضمنه.

مسألة 5: قد ذكرنا أنّ الوديعة من العقود الجائزة من الطرفين لكلٍّ منهما فسخها إجماعاً،

و قد تقدّم(2) أنّه توكيلٌ خاصّ، و الوكالة جائزة من الطرفين، فإذا أراد المالك الاستردادَ لم يكن للمُستودِع المنعُ، و وجب عليه الدفع، و لو أراد المستودع الردَّ لم يكن للمودِع أن يمتنع من القبول؛ لأنّه متبرّع بالحفظ.

و لو عزل المستودع نفسه، ارتفعت الوديعة، و بقي المال أمانةً مطلقة شرعيّة في يده، كالثوب الطائر بالهواء إلى داره، و كاللقطة في يد الملتقط بعد ما عرف المالك، و هو أحد قولَي الشافعيّة. و الثاني: إنّ العزل لغو.

و الأصل في هذا الخلاف مبنيّ على أنّ الوديعة مجرّد إذنٍ، أم عقد؟ إن قلنا: إنّها مجرّد إذنٍ، فالعزل لغو، كما لو أذن في تناول طعامه للضيفان،

ص: 147


1- التهذيب - للبغوي - 116:5، العزيز شرح الوجيز 288:7، روضة الطالبين 287:5. (2 و 3) العزيز شرح الوجيز 288:7، روضة الطالبين 287:5.
2- في ص 146، ضمن المسألة 4.

فقال بعضهم: عزلت نفسي، يلغو قوله، و يكون له الأكل بالإذن السابق، فعلى هذا تبقى الوديعة بحالها. و إن قلنا: إنّها عقد، ارتفعت الوديعة، و بقي المال أمانةً مجرّدة، و عليه الردّ عند التمكّن و إن لم يطالب المالك - و هو أظهر وجهي الشافعيّة - و لو لم يفعل ضمن(1).5.

ص: 148


1- العزيز شرح الوجيز 291:7، روضة الطالبين 289:5.

الفصل الثاني: في المتعاقدين

مسألة 6: يشترط في المستودع و المُودِع التكليف،

فلا يصحّ الإيداع إلّا من مكلّفٍ، فلو أودع الصبي أو المجنون غيرَه شيئاً، لم يجز له قبوله منهما، فإن قَبِله و أخذه من أحدهما ضمن.

و لا يزول الضمان إلّا بالردّ إلى الناظر في أمرهما، و لو ردّه إليهما لم يبرأ من الضمان؛ لأنّهما محجور عليهما.

و لو خاف هلاكه فأخذه منهما إرفاقاً لهما و نظراً في مصلحتهما على وجه الحسبة صوناً له، فالأقرب: عدم الضمان؛ لأنّه محسن إليهما، و قد قال تعالى:«ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ» (1) و هو أحد وجهي الشافعيّة، و الثاني: إنّه [ضامن](2) كالوجهين - عندهم - فيما إذا أخذ المُحْرم صيداً من جارحةٍ [ليتعهّده](3). و الظاهر عندهم: عدم الضمان(4).

مسألة 7: كما أنّ التكليف شرط في المودِع كذا هو شرط في المستودع،

فلا يصحّ الإيداع إلّا عند مكلّفٍ؛ لأنّه استحفاظ، و الصبي

ص: 149


1- التوبة: 91.
2- بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «لا ضمان عليه». و المثبت يقتضيه السياق.
3- بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «ليتعهّدها». و المثبت هو الصحيح.
4- الحاوي الكبير 384:8، المهذّب - للشيرازي - 366:1، الوجيز 284:1، حلية العلماء 167:5، التهذيب - للبغوي - 116:5، البيان 423:6، العزيز شرح الوجيز 289:7، روضة الطالبين 287:5.

و المجنون ليسا من أهل الحفظ، فلو أودع مالاً عند صبيٍّ أو مجنونٍ فتلف فلا ضمان عليهما؛ إذ ليس على أحدهما حفظه، فأشبه ما لو تركه عند بالغٍ من غير استحفاظٍ فتلف.

و لو أتلفه الصبي أو المجنون، فالأقرب عندي: إنّ عليهما الضمان؛ لأنّهما أتلفا مال الغير بالأكل أو غيره فضمناه، كغير الوديعة، و به قال أحمد و الشافعي في أظهر القولين.

و الثاني: إنّهما لا يضمنان؛ لأنّ المالك سلّطهما عليه، فصار كما لو أقرضه أو باعه منه و أقبضه فأتلفه، لم يكن عليه ضمان، أ لا ترى أنّه لو دفع إلى صغيرٍ سكّيناً فوقع عليها فتلف، كان ضمانه على عاقلة الدافع، و به قال أبو حنيفة(1).

و هو ممنوع؛ للفرق بين الإيداع، و البيع و الإقراض؛ لأنّ ذلك تمليك و تسليط على التصرّف، و الإيداع تسليط على الحفظ دون الإتلاف و التصرّف، و يخالف دفع السكّين؛ لأنّه سبب في الإتلاف، و دفع الوديعة ليس سبباً في إتلافها.

و لو أودع ماله عند عبدٍ، فإن تلف عنده من غير تفريطٍ فلا ضمان عليه، و إن تلف بتفريطه أو أتلفه ضمن، و كان المال متعلّقاً بذمّته لا برقبته، كما لو أتلف ابتداءً.

و لا فرق بين أن يأذن له سيّده في الاستيداع أو يمنعه، و يتبع ذلك3.

ص: 150


1- المغني 296:7، الشرح الكبير 312:7، المهذّب - للشيرازي - 366:1، الوجيز 284:1، حلية العلماء 167:5-168، التهذيب - للبغوي - 116:5، البيان 424:6، العزيز شرح الوجيز 289:7-290، روضة الطالبين 287:5، المبسوط - للسرخسي - 118:11، طريقة الخلاف بين الأسلاف: 303.

بعد العتق، فإن مات عبداً سقط المال، و لم يتعلّق بالسيّد شيء منه و إن أذن له؛ لأنّه إنّما أذن له في الاحتفاظ لا في الإتلاف.

و للشافعيّة قولان:

أحدهما: إنّ الضمان يتعلّق برقبته، كما لو أتلف ابتداءً(1).

و الأصل عندنا ممنوع.

و الثاني: إنّه يتعلّق بذمّته دون رقبته - كما قلناه - كما لو باع منه، فيه الخلاف المذكور في الصبي(2).

و إيداع السفيه و الإيداع عنده كإيداع الصبي و الإيداع عنده.

مسألة 8: و لا بُدّ في المتعاقدين من جواز التصرّف،

فلا يصحّ من المحجور عليه للسفه و للفلس الإيداع و الاستيداع، على إشكالٍ في استيداع المفلس، و الأقرب عندي: جوازه.

و لو جنّ المودِع أو المستودِع أو مات أحدهما أو أُغمي عليه، ارتفعت الوديعة؛ لأنّها إن كانت مجرّدَ إذنٍ في الحفظ فالمودِع بعرضة التغيّر، و هذه الأحوال تُبطل إذنه، و المستودع يخرج عن أهليّة الحفظ، و إن كانت عقداً فقد سبق(1) أنّها توكيلٌ خاصّ، و الوكالة جائزة فلا تبقى بعد هذه العوارض.

و لو حُجر على المُودِع لسفهٍ، كان على المُودَع ردّ الوديعة إلى وليّه و هو الحاكم؛ لأنّ إذنه في الإيداع بطل بذلك، و الناظر عليه الحاكم، فوجب دفعها إليه.

مسألة 9: إن قلنا: إنّ الوديعة عقدٌ برأسه، لم يضمنه الصبي،

ص: 151


1- في ص 146، ضمن المسألة 4.

و لم يتعلّق برقبة العبد، و هو قول بعض الشافعيّة(1).

و إن قلنا: إنّها إذن مجرّد، ضمنه الصبي، و تعلّق برقبة العبد، و هو قول باقي الشافعيّة(2).

لكنّا بيّنّا أنّ الحقَّ الأوّلُ، و أنّ الصبي لا يضمن إلّا بالإتلاف على إشكالٍ، و أمّا العبد فإنّ الوديعة مع التفريط تتعلّق بذمّته.

إذا عرفت هذا، فولد الجارية المُودَعة و نتاج الدابّة المُودَعة وديعة كالأُمّ.

و قال الشافعيّة: إن جعلنا الوديعة عقداً فالولد كالأُمّ يكون وديعةً، و إلّا لم يكن وديعةً، بل أمانة شرعيّة مردودة في الحال، حتى لو لم يردّ مع التمكّن ضمن على أظهر الوجهين عندهم(3).

و قال بعض الشافعيّة: إن جعلنا الوديعة عقداً، لم يكن الولد وديعةً، بل أمانة؛ اعتباراً بعقد الرهن و الإجارة، و إلّا فيتعدّى حكم الأُمّ إلى الولد كما في الوصيّة(1) ، أو لا يتعدّى كما في العارية ؟ للشافعيّة وجهان(2).

و على الأصل المذكور خرّج بعضُ الشافعيّة اعتبارَ القبول لفظاً، إن جعلناها عقداً اعتبرناها، و إلّا اكتفينا بالفعل(3).

و الموافق لإطلاق العامّة كون الوديعة عقداً، و ذكروها من العقود الجائزة(4).5.

ص: 152


1- في المصدر: «الضحيّة» بدل «الوصيّة».
2- العزيز شرح الوجيز 290:7، روضة الطالبين 288:5.
3- العزيز شرح الوجيز 290:7.
4- العزيز شرح الوجيز 290:7، روضة الطالبين 288:5.

الفصل الثالث: في موجبات الضمان

اشارة

اعلم أنّ الوديعة تستتبع أمرين: الضمان عند التلف، و الردّ عند البقاء، لكنّ الضمان لا يجب على الإطلاق، بل إنّما يجب عند وجود أحد أسبابه، و ينظمها شيء واحد هو: التقصير، و لو انتفى التقصير فلا ضمان؛ لأنّ الأصل في الوديعة أنّها أمانة محضة لا تُضمن بدون التعدّي أو التفريط؛ لما رواه العامّة عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال: «ليس على المستودع ضمان»(1).

و قال عليه السلام: «مَنْ أُودع وديعة فلا ضمان عليه»(2)

و من طريق الخاصّة: ما رواه إسحاق بن عمّار أنّه سأل الكاظمَ عليه السلام عن رجلٍ استودع رجلاً ألف درهم فضاعت، فقال الرجل: كانت عندي وديعة، و قال الآخَر: إنّما كانت عليك قرضاً، قال: «المال لازم له إلّا أن يقيم البيّنة أنّها كانت وديعة»(3) و الاستثناء يقتضي التناقض بين المستثنى و المستثنى منه، و لمّا حكم في الأوّل بالضمان ثبت في الاستثناء عدمه.

و عن زرارة - في الحسن - أنّه سأل الصادقَ عليه السلام عن وديعة الذهب و الفضّة، قال: فقال: «كلّما كان من وديعةٍ و لم تكن مضمونةً فلا تلزم»(4).

و في الحسن عن الحلبي عن الصادق عليه السلام قال: «صاحب الوديعة و البضاعة مؤتمنان»(5).

ص: 153


1- سنن البيهقي 91:6، سنن الدارقطني 168/41:3، المغني 281:7.
2- سنن ابن ماجة 2401/802:2.
3- الكافي 8/239:5، التهذيب 788/179:7.
4- الكافي 7/239:5، التهذيب 789/179:7.
5- الكافي 1/238:5، التهذيب 790/179:7.

و لأنّ اللّه تعالى سمّاها أمانةً(1) ، و الضمان ينافي الأمانة.

و هذا الحكم منقول عن عليٍّ عليه السلام و عن أبي بكر و عمر و ابن مسعود و جابر(2) ، و لم يظهر لهم مخالف، فكان إجماعاً.

لا يقال: قد روي أنّه كان عند أنس وديعة فذهبت فرفع إلى عمر، فقال: هل ذهب معها شيء من مالك ؟ قال: لا، قال: اغرمها(3).

لأنّا نقول: قول عمر ليس حجّةً، و ربما قال ذلك عند تفريط المستودع في حفظها.

و لأنّ المستودع إنّما يحفظها لصاحبها متبرّعاً بذلك، فلو ألزمناه الضمان أدّى إلى الامتناع عن قبولها، و في ذلك ضرر عظيم؛ لما بيّنّاه من الحاجة إليها، و لأنّ يد المستودع يد المالك.

و إذا عرفت أنّ السبب الجامع لموجبات الضمان هو التقصير، فلا بُدّ من الإشارة إلى ما به يصير المستودع مقصّراً، و هي سبعة تنظمها مباحث نذكر لكلّ سببٍ بحثاً.

البحث الأوّل: في الانتفاع.
مسألة 10: من الأسباب الموجبة للضمان الانتفاعُ بالوديعة،

فلو استودع ثوباً فلبسه، أو دابّةً فركبها، أو جاريةً فاستخدمها، أو كتاباً فنظر فيه

ص: 154


1- النساء: 85.
2- المهذّب - للشيرازي - 366:1، البيان 425:6-426، العزيز شرح الوجيز 292:7، المغني 280:7، الشرح الكبير 282:7، الإشراف على مذاهب أهل العلم 251:1-405/252.
3- الحاوي الكبير 356:8، و في المصنّف - لعبد الرزّاق - 14799/182:8، و سنن البيهقي 289:6 و 290 باختصارٍ.

أو نسخ منه، أو خاتماً فوضعه في إصبعه للتزيّن به لا للحفظ، فكلّ ذلك و ما أشبهه خيانة توجب التضمين عند فقهاء الإسلام لا نعلم فيه خلافاً.

هذا إذا انتفى السبب المبيح للاستعمال، أمّا إذا وُجد السبب المبيح للاستعمال لم يجب الضمان، و ذلك بأن يلبس الثوب الصوف - الذي يفسده الدود - للحفظ، فإنّ مثل هذه الثياب يجب على المستودع نشرها و تعريضها للريح، بل يجب لُبْسها إن لم يندفع إلّا بأن يلبسها و تعبق(1) بها رائحة الآدمي.

و لو لم يفعل ففسدت، كان عليه الضمان، سواء أذن المالك أو سكت؛ لأنّ الحفظ واجب عليه، و لا يتمّ الحفظ إلّا بالاستعمال، فيكون الاستعمال واجباً؛ لأنّ ما لا يتمّ الواجب المطلق إلّا به و كان مقدوراً للمكلّف فإنّه يكون واجباً.

أمّا لو نهاه المالك عن الاستعمال للحفظ فامتنع حتى فسدت، لم يكن ضامناً، و هو أظهر قولَي الشافعيّة(2).

و لهم قولٌ آخَر: إنّه يكون ضامناً(3).

و المعتمد: الأوّل.

و هل يكون قد فَعَل حراماً؟ إشكال، أقربه ذلك؛ لأنّ إضاعة المال منهيّ عنها(2).

و عند الشافعيّة يكره(5).

و لو كان الثوب في صندوقٍ مقفلٍ ففتح القفل ليخرجه و ينشره،).

ص: 155


1- أي: تبقى. لسان العرب 234:10 «عبق». (2 و 3 و 5) العزيز شرح الوجيز 303:7، روضة الطالبين 296:5.
2- تقدّم تخريجه في ص 144، الهامش (2).

فالوجه: إنّه لا يضمن؛ لأنّه لم يقصد إلّا الحفظ المأمور به، و ما لا يتمّ الواجب إلّا به فهو واجب، و هو أصحّ وجهي الشافعيّة(1).

و لهم وجهٌ آخَر: إنّه يضمن(2).

هذا إذا علم المستودع، أمّا لو لم يعلم بأن كان في صندوقٍ أو كيسٍ مشدود و لم يُعْلمه المالك به، فلا ضمان على المستودع إجماعاً.

مسألة 11: قد بيّنّا أنّ ركوب الدابّة خيانة لا مطلقاً،

و لكن مع عدم احتياج الحفظ إليه، فلو احتاج حفظ الدابّة المودَعة إلى أن يركبها المستودع إمّا أن يخرج بها إلى السقي أو الرعي و كانت لا تنقاد إلّا بالركوب، فلا ضمان؛ لعدم التعدّي و التفريط حينئذٍ.

و لو كانت الدابّة تنقاد بغير ركوبٍ فركب ضمن، إلّا مع عجزه عن سقيها أو رعيها بدون ركوبها فإنّه يجوز، و لا ضمان.

مسألة 12: لو أخذ المستودع الدراهم المودَعة عنده ليصرفها إلى حاجته،
اشارة

أو أخذ الثوب ليلبسه، أو أخرج الدابّة من مكانها ليركبها ثمّ لم يستعمل، ضمن - و به قال الشافعي(3) - لأنّ الإخراج على هذا القصد خيانة.

و قال أبو حنيفة: لا يضمن حتى يستعمل(4).

و لو نوى الأخذ و لم يأخذ أو نوى الاستعمال و لم يستعمل، ففي

ص: 156


1- التهذيب - للبغوي - 125:5، العزيز شرح الوجيز 303:7، روضة الطالبين 297:5.
2- التهذيب - للبغوي - 125:5، العزيز شرح الوجيز 303:7، روضة الطالبين 297:5.
3- المهذّب - للشيرازي - 368:1، البيان 442:6، العزيز شرح الوجيز 304:7، روضة الطالبين 297:5، المغني 291:7، الشرح الكبير 320:7، بدائع الصنائع 213:6.
4- بدائع الصنائع 213:6، البيان 442:6، العزيز شرح الوجيز 304:7، المغني 291:7، الشرح الكبير 320:7.

الضمان إشكال ينشأ: من أنّه لم يُحدث في الوديعة قولاً و لا فعلاً، فلم يضمن، كما لو لم يَنْو، و هو قول أكثر الشافعيّة(1) ، و من أنّه ممسك لها بحكم نيّته، كما أنّ الملتقط إذا نوى إمساك اللقطة لصاحبها، كانت أمانةً، و إن نوى الإمساك لنفسه، كانت مضمونةً، و هو قول ابن سريج من الشافعيّة(2).

و فرّق المذكورون بين الوديعة و اللقطة بأنّه في الوديعة لم يُحدث فعلاً مع قصد الخيانة، و في اللقطة أحدث الأخذ مع قصد الخيانة، و لأنّ سبب أمانته في اللقطة مجرّد نيّته، فضمن بمجرّد النيّة، بخلاف الوديعة(1).

فروع:
أ - لو أخذ الوديعة على قصد الخيانة، فالأقوى: الضمان؛

لأنّه(2) لم يقبضها على سبيل الأمانة، بل على سبيل الخيانة.

و للشافعيّة وجهان(3).

ب - قياس ابن سريج في الضمان إذا نوى المستودع الأخذَ و التصرّفَ و لم يفعل على ما إذا أخذ الوديعة من مالكها على قصد الخيانة

ب - قياس ابن سريج في الضمان إذا نوى المستودع الأخذَ و التصرّفَ و لم يفعل على ما إذا أخذ الوديعة من مالكها على قصد الخيانة(4)(5) غير تامٍّ.

ص: 157


1- الوجيز 285:1، العزيز شرح الوجيز 304:7.
2- في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «لأنّها».
3- العزيز شرح الوجيز 304:7.
4- في النسخ الخطّيّة و الحجريّة زيادة: «في الضمان». و هي متكرّرة.
5- العزيز شرح الوجيز 304:7.

أمّا أوّلاً: فلأنّ جماعةً من الشافعيّة(1) لم يوافقوه على هذا الأصل.

و أمّا ثانياً: فللفرق، و هو أنّ الأخذ فعلٌ أحدثه مع قصد الخيانة.

ج - لو نوى أن لا يردّ الوديعة بعد طلب المالك، ففي الضمان للشافعيّة الوجهان

(2) .

و عندي فيه التردّد السابق مع أولويّة عدم الضمان هنا إذا لم يطلب المالك، و ثبوته إذا طلب.

و بعض الشافعيّة قال: إذا نوى الأخذ و لم يأخذ لم يضمن، و إذا نوى عدم الردّ ضمن قطعاً؛ لأنّه إذا نوى أن لا يردّ صار ممسكاً لنفسه، و بنيّة الأخذ لا يصير ممسكاً لنفسه(3).

مسألة 13: لو كان الثوب المودَع في صندوق مالك الوديعة فرفع المستودع رأسه ليأخذ الثوب
اشارة

و يتصرّف فيه ثمّ بدا له، فلا يخلو الصندوق إمّا أن يكون مفتوحاً لا قفل عليه و لا ختم له، أو يكون عليه شيء من ذلك، فإن كان لا ختم عليه و لا قفل، فالأقرب: عدم الضمان؛ لأنّه لم يُحدث في الثوب فعلاً، و هو أحد وجهي الشافعيّة، و الثاني لهم: إنّه يضمن(4).

و إن كان الصندوق مقفلاً أو الكيس مختوماً ففتح القفلَ و فضّ الختمَ و لم يأخذ ما فيه، فالأقوى: الضمان لما فيه من الثياب و الدراهم - و هو

ص: 158


1- العزيز شرح الوجيز 304:7.
2- العزيز شرح الوجيز 304:7، روضة الطالبين 297:5.
3- العزيز شرح الوجيز 304:7، روضة الطالبين 297:5.
4- التهذيب - للبغوي - 117:5، العزيز شرح الوجيز 304:7، روضة الطالبين 297:5.

أصحّ وجهي الشافعيّة(1) - لأنّه هتك الحرز.

و الثاني للشافعيّة: إنّه لا يضمن ما في الصندوق و الكيس، بل يضمن الختم الذي تصرّف فيه، و به قال أبو حنيفة(2).

و على الوجه الأوّل فهل يضمن الصندوق و الكيس ؟ الأقرب: العدم؛ لأنّه لم يقصد الخيانة في الظرف.

و للشافعيّة وجهان(3).

و لو خرق الكيس فإن كان الخرق تحت موضع الختم فهو كفضّ الختم، و إن كان فوقه لم يضمن إلّا نقصان الخرق.

فروع:
أ - لو أودعه شيئاً مدفوناً فنبشه، فهو بمنزلة فضّ الختم،

إن قلنا:

يضمن هناك، ضمن هنا، و إلّا فلا.

ب - لو حلّ الخيط الذي شدّ به رأس الكيس أو رِزْمة الثياب

ب - لو حلّ الخيط الذي شدّ به رأس الكيس أو رِزْمة الثياب(4) لم يضمن ما في الكيس و الرِّزْمة

و إن فَعَل ذلك للأخذ، بخلاف فضّ الختم و فتح القفل؛ لأنّ القصد منه المنع من الانتشار، و لم يقصد به الكتمان عنه.

ج - لو كان عنده دراهم وديعة أو ثياب فوزن الدراهم أو عدّها أو عدّ الثياب أو ذرعها ليعرف طولها و عرضها، ففي الضمان إشكال

ينشأ: من أنّه تصرّف في الوديعة، و من أنّه لم يقصد الخيانة.

و للشافعيّة وجهان(5) ، و كذا الوجهان فيما لو حلّ الشدّ(6).

ص: 159


1- العزيز شرح الوجيز 304:7-305، روضة الطالبين 297:5.
2- العزيز شرح الوجيز 304:7، روضة الطالبين 297:5.
3- العزيز شرح الوجيز 305:7، روضة الطالبين 297:5.
4- الرِّزمة من الثياب: ما شدّ في ثوبٍ واحد. لسان العرب 239:12 «رزم».
5- الحاوي الكبير 362:8، العزيز شرح الوجيز 305:7، روضة الطالبين 297:5.
6- العزيز شرح الوجيز 305:7، روضة الطالبين 297:5.
مسألة 14: إذا صارت الوديعة مضمونةً على المستودع
اشارة

إمّا بنقل الوديعة أو إخراجها من الحرز أو باستعمالها كركوب الدابّة و لُبْس الثوب أو بغيرها من أسباب الضمان ثمّ إنّه ترك الخيانة و ردّ الوديعة إلى مكانها و خلع الثوب، لم يبرأ بذلك عند علمائنا أجمع، و لم يزل عنه الضمان، و لم تَعُدْ أمانته - و به قال الشافعي(1) - لأنّه ضمن الوديعة بعدوان، فوجب أن يبطل الاستئمان، كما لو جحد الوديعة ثمّ أقرّ بها.

و قال أبو حنيفة: يزول عنه الضمان؛ لأنّه إذا ردّها فهو ماسك لها بأمر صاحبها، فلم يكن عليه ضمانها، كما لو لم يخرجها(2).

و الفرق ظاهر؛ فإنّه إذا لم يخرجها لم يضمنها بعدوان، بخلاف صورة النزاع.

ثمّ يُنقض على أبي حنيفة بما سلّمه من أنّه إذا جحد الوديعة و ضمنها بالجحود ثمّ أقرّ بها، فإنّه لا يبرأ، و بالقياس على السارق، فإنّه لو ردّ المسروق إلى موضعه، لم يبرأ(3) ، فكذا هنا.

فروع:
أ - لو ردّ الوديعة - بعد أن تعلّق ضمانها به إمّا بالإخراج من الحرز أو بالتصرّف أو بغيرهما من الأسباب

- إلى المالك و أعادها عليه ثمّ إنّ المالك

ص: 160


1- الحاوي الكبير 363:8، التهذيب - للبغوي - 125:5، العزيز شرح الوجيز 305:7، روضة الطالبين 298:5، المغني 296:7، الشرح الكبير 305:7، الهداية - للمرغيناني - 216:3.
2- الهداية - للمرغيناني - 216:3، الحاوي الكبير 363:8، التهذيب - للبغوي - 125:5، العزيز شرح الوجيز 305:7، المغني 296:7، الشرح الكبير 305:7.
3- العزيز شرح الوجيز 305:7.

أودعه إيّاها ثانياً، فإنّه يعود أميناً إجماعاً، و يبرأ من الضمان.

ب - لو لم يسلّمها إلى المالك و لكن أحدث المالك له استئماناً،

فقال: أذنتُ لك في حفظها، أو أودعتُكها، أو استأمنتُك، أو أبرأتُك عن الضمان، فالأقرب: سقوط الضمان عنه، و عوده أميناً؛ لأنّ التضمين لحقّ المالك، و قد رضي بسقوطه، و هو أصحّ قولَي الشافعيّة.

و الثاني: إنّه لا يزول الضمان و لا يعود أميناً - و هو قول ابن سريج - لظاهر قوله عليه السلام: «على اليد ما أخذت حتى تؤدّي»(1)(2).

و كذا الخلاف فيما لو حفر بئراً في ملك غيره عدواناً ثمّ أبرأه المالك عن ضمان الحفر(3).

ج - لو قال المالك: أودعتُك كذا - ابتداءً - فإن خُنتَ ثمّ تركتَ الخيانة عُدْتَ أميناً لي،

فخان و ضمن ثمّ ترك الخيانة، لم تزل الخيانة، و لم يَعُدْ أميناً - و به قال الشافعي(4) - لأنّه لا ضمان حينئذٍ حتى يسقط، و هناك الضمان ثابت فيصحّ إسقاطه، و لأنّ الاستئمان الثاني معلّق.

د: لو قال: خُذْ هذا وديعةً يوماً و غير وديعةٍ يوماً، فهو وديعة أبداً.

و لو قال: خُذْه وديعةً يوماً و عاريةً يوماً، فهو وديعة في اليوم الأوّل، و عارية في اليوم الثاني.

و هل يعود وديعةً؟ مَنَع الشافعيّة منه، و قالوا: لا يعود وديعةً أبداً(5).

ص: 161


1- سنن أبي داوُد 3561/296:3، سنن الترمذي 1266/566:3، مسند أحمد 19620/638:5، المعجم الكبير - للطبراني - 6862/252:7.
2- العزيز شرح الوجيز 305:7، روضة الطالبين 298:5.
3- العزيز شرح الوجيز 305:7.
4- العزيز شرح الوجيز 305:7-306، روضة الطالبين 298:5.
5- العزيز شرح الوجيز 306:7، روضة الطالبين 298:5.
مسألة 15: إذا مزج المستودع الوديعة بماله مزجاً لا يتميّز أحدهما عن صاحبه،

كدراهم مزجها بمثلها، أو دنانير مزجها بمثلها بحيث لا مائز بين الوديعة و بين مال المستودع، أو مزج الحنطة بمثلها، كان ضامناً، سواء كان المخلوط بها دونها أو مثلها أو أزيد منها - و به قال الشافعي(1) - لأنّه قد تصرّف في الوديعة تصرّفاً غير مشروعٍ، و عيّبها بالمزج، فإنّ الشركة عيب، فكان عليه الضمان، و لأنّه خلطها بماله خلطاً لا يتميّزا، فوجب أن يضمنها، كما لو خلطها بدونه.

و قال مالك: إن خلطها بمثلها أو الأجود منها لم يضمن، و إن خلطها بدونها ضمن؛ لأنّه لا يمكنه ردّها إلّا ناقصةً(2).

و هو آتٍ في المساوي و الأزيد؛ فإنّ الشركة عيب، و الوقوف على عين الوديعة غير ممكنٍ، فاشتمل ذلك على المعاوضة، و إنّما تصحّ برضا المالك.

و لو مزجها بمال مالكها بأن كان له عنده كيسان وديعةً، فمزج أحدهما بالآخَر بحيث لا يتميّز، ضمن أيضاً؛ لأنّه تصرّف تصرّفاً غير مشروعٍ في الوديعة، و ربما ميّز بينهما لغرضٍ دعا إليه، فالخلط خيانة.

و كذا لو أودعه كيساً و كان في يده له كيسٌ آخَر أمانة مجرّدة بأن وقع عليه اتّفاقاً فمزج أحدهما بالآخَر، كان ضامناً أيضاً.

و كذا لو كان الكيس الآخَر في يده على سبيل الغصب من مالك

ص: 162


1- البيان 437:6، العزيز شرح الوجيز 306:7، روضة الطالبين 298:5، المغني 281:7، الشرح الكبير 306:7-307.
2- البيان 437:6، العزيز شرح الوجيز 306:7، المغني 281:7، الشرح الكبير 307:7.

الوديعة، و بالجملة على أيّ وجهٍ كان.

مسألة 16: لو أودعه عشرة دراهم - مثلاً - في كيسٍ،

فإن كان مشدوداً مختوماً فكسر الختم و حلّ الشدّ أو فَعَل واحداً منهما، ضمن؛ لأنّه هتك الحرز على ما تقدّم.

و إن لم يكن الكيس مشدوداً و لا مختوماً فأخرج منه درهماً لنفقته، ضمنه خاصّةً؛ لأنّه لم يتعدّ في غيره، فإن ردّه لم يزل عنه الضمان، فإن لم يختلط بالباقي لم يضمن الباقي؛ لأنّه لم يتصرّف فيه.

و كذا إن اختلط و كان متميّزاً لم يلتبس بغيره.

و إن امتزج بالباقي مزجاً ارتفع معه الامتياز، فالوجه: إنّه كذلك لا يضمن الباقي، بل الدرهم خاصّةً؛ لأنّ هذا الاختلاط كان حاصلاً قبل الأخذ، و هو أصحّ قولَي الشافعيّة، و الثاني: إنّ عليه ضمان الباقي؛ لخلطه المضمون بغير المضمون(1).

فعلى ما اخترناه لو تلفت العشرة لم يلزمه إلّا درهم واحد، و لو تلفت منها خمسة لم يلزمه إلّا نصف درهمٍ.

و لو أنفق الدرهم الذي أخذه ثمّ ردّ مثله إلى موضعه، لم يبرأ من الضمان، و لا يملكه صاحب الوديعة إلّا بالقبض و الدفع إليه.

ثمّ إن كان المردود لا يتميّز عن الباقي، صار الكلّ مضموناً عليه؛ لخلطه الوديعةَ بمال نفسه، و إن كان يتميّز فالباقي غير مضمونٍ عليه.

مسألة 17: لو أتلف بعضَ الوديعة، فإن كان ذلك البعض منفصلاً عن الباقي

- كالثوبين إذا أتلف أحدهما - لم يضمن إلّا المُتْلَف؛ لأنّ العدوان

ص: 163


1- البيان 438:6، العزيز شرح الوجيز 306:7، روضة الطالبين 298:5.

إنّما وقع فيه، فلا يتعدّى الضمان إلى غيره و إن كان الإيداع واحداً.

و إن كان متّصلاً، كالثوب الواحد يخرقه، أو يقطع طرف العبد أو البهيمة، فإن كان عامداً في الإتلاف فهو جانٍ على الجميع، فيضمن الكلّ.

و إن كان مخطئاً، ضمن ما أتلفه خاصّةً، و لم يضمن الباقي - و هو أصحّ وجهي الشافعيّة(1) - لأنّه لم يتعدّ في الوديعة، و لا خان فيها، و إنّما ضمن المُتْلَف؛ لفواته و صدور الهلاك منه فيه مخطئاً.

و في الثاني لهم: إنّه يضمنه أيضاً، و يستوي العمد و الخطأ فيه، كما استويا في القدر التالف(2).

البحث الثاني: في الإيداع.
مسألة 18: إذا أودع المستودعُ الوديعةَ غيرَه، فإن كان بإذن المالك فلا ضمان عليه إجماعاً؛ لانتفاء العدوان.

و إن لم يكن بإذن المالك، فلا يخلو إمّا أن يودع من غير عذرٍ أو لعذرٍ، فإن أودع من غير عذرٍ ضمن إجماعاً؛ لأنّ المالك لم يرض بيد غيره و أمانته.

و لا فرق بين أن يكون ذلك الغير عبدَه أو جاريتَه(3) أو زوجتَه أو ولدَه أو أجنبيّاً عند علمائنا أجمع - و به قال الشافعي(4) - و ذلك لعموم الدليل

ص: 164


1- العزيز شرح الوجيز 306:7-307، روضة الطالبين 299:5.
2- العزيز شرح الوجيز 307:7، روضة الطالبين 299:5.
3- «أو جاريته» لم ترد في النسخ الخطّيّة المعتمدة لدينا.
4- المهذّب - للشيرازي - 368:1، الوجيز 284:1، الوسيط 500:4، حلية العلماء 173:5 و 176، التهذيب - للبغوي - 117:5، البيان 435:6، العزيز شرح الوجيز 292:7، روضة الطالبين 289:5، المغني 282:7 و 283، الشرح الكبير 299:7، الإفصاح عن معاني الصحاح 19:2، روضة القُضاة 35604/618:2.

في الجميع.

و قال مالك: إنّ له أن يودع زوجته(1).

و قال أبو العباس ابن سريج من الشافعيّة: إذا استعان بزوجته أو خادمه في خباء الوديعة و لم تغب عن نظره جاز، و لا ضمان عليه(2).

و قال أبو حنيفة و أحمد: له أن يودع مَنْ عليه نفقته من ولدٍ و والدٍ و زوجةٍ و عبدٍ، و لا ضمان عليه بكلّ حال؛ لأنّه حفظ الوديعة بمن يحفظ به ماله، فلم يلزمه الضمان، كما لو حفظها بنفسه(3).

و هو غلط؛ لأنّه سلّم الوديعةَ إلى مَنْ لم يرض به صاحبها مع قدرته على صاحبها، فضمنها، كما لو سلّمها إلى الأجنبيّ.

و القياس عليه باطل؛ لأنّه إذا حفظ ماله بخادمه أو زوجته فقد رضي المالك بذلك، بخلاف صورة النزاع.

مسألة 19: إذا أودع من غير إذن المالك و لا عذر، ضمن،

و كان لصاحبها أن يرجع على مَنْ شاء منهما إذا تلفت، فإن رجع على المستودع

ص: 165


1- بداية المجتهد 312:2، الذخيرة 162:9، البيان 436:6، العزيز شرح الوجيز 292:7، الإفصاح عن معاني الصحاح 19:2.
2- البيان 435:6-436، حلية العلماء 176:5.
3- تحفة الفقهاء 171:3، بدائع الصنائع 207:6-208، روضة القُضاة 35603/618:2، المبسوط - للسرخسي - 109:11، الهداية - للمرغيناني - 218:3، الفقه النافع 661/939:3، المحيط البرهاني 528:5، المغني 283:7، الشرح الكبير 299:7، الإشراف على نكت مسائل الخلاف 1068/625:2، بداية المجتهد 312:2، الذخيرة 162:9، حلية العلماء 176:5، التهذيب - للبغوي - 117:5، البيان 436:6، العزيز شرح الوجيز 292:7، الإفصاح عن معاني الصحاح 19:2.

الأوّل فلا رجوع له على الثاني، و إن رجع على المستودع الثاني كان للمستودع الثاني أن يرجع على المستودع الأوّل؛ لأنّه دخل معه على أن لا يضمن، و به قال الشافعي(1).

و قال أبو حنيفة: ليس للمالك أن يضمن الثاني؛ لأنّ قبض الثاني تعلّق به الضمان على الأوّل، فلا يتعلّق به ضمان على الآخَر(2).

و هو ممنوع؛ لأنّه قبض مال غيره، و لم يكن له قبضه، فإذا كان من أهل الضمان في حقّه ضمنه، كما استودعه إيّاه الغاصب.

و دليله ضعيف؛ لأنّ المستودع الأوّل ضمن بالتسليم، و الثاني بالتسلّم.

مسألة 20: و لا فرق عندنا بين أن يودع المستودع الوديعةَ عند القاضي أو عند غيره.
اشارة

و للشافعيّة وجهان - حكاهما [أبو](3) حامد فيما إذا وجد المالك و قدر على الردّ عليه، و فيما إذا لم يجد - أحدهما: إنّه لا يضمن.

أمّا إذا كان المالك حاضراً: فلأنّ أمانة القاضي أظهر من أمانة المستودع، فكأنّه جعل الوديعة في مكانٍ أحرز.

و أمّا إذا كان غائباً: فلأنّه لو كان حاضراً لألزمه المودع الردّ، فإذا كان غائباً ناب عنه القاضي.

و الأظهر عند أكثر الشافعيّة: إنّه يضمن.

ص: 166


1- المهذّب - للشيرازي - 368:1، حلية العلماء 173:5، البيان 436:6، الإفصاح عن معاني الصحاح 21:2، المغني 282:7، الشرح الكبير 301:7.
2- تحفة الفقهاء 171:3-172، بدائع الصنائع 208:6، الهداية - للمرغيناني - 218:3، المغني 282:7، الشرح الكبير 301:7، الإفصاح عن معاني الصحاح 21:2.
3- بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «ابن». و الصحيح ما أثبتناه.

أمّا إذا كان المالك حاضراً: فلأنّه لا ولاية للقاضي على الحاضر الرشيد، فأشبه سائر الناس.

و أمّا إذا كان غائباً: فلأنّه لا ضرورة بالمودع إلى إخراجها من يده، و لم يرض المالك بيد غيره، فليحفظه إلى أن يجد المالك أو يتجدّد له عذر(1).

و على تقدير تجويز الدفع إلى القاضي هل يجب على القاضي القبول إذا عرضها المستودع عليه ؟

أمّا إذا كان المالك حاضراً و التسليم إليه متيسّراً، فلا وجه لوجوبه عليه.

و أمّا إذا لم يكن كذلك، ففي إيجاب القبول للشافعيّة وجهان:

أحدهما: المنع؛ لأنّه التزم حفظه، فيؤمر بالوفاء به.

و أظهرهما: الإيجاب؛ لأنّه نائب عن الغائب، و لو كان المالك حاضراً لألزم القبول(2).

و لو دفع الغاصبُ الغصبَ إلى القاضي، ففي وجوب القبول عليه الوجهان(3).

لكن هذه الصورة أولى بعدم الوجوب، ليبقى مضموناً للمالك.

و المديون إذا حمل الدَّيْن إلى القاضي، فكلّ موضعٍ لا يجب على ربّ الدَّيْن القبول لو كان حاضراً ففي القاضي أولى، و كلّ موضعٍ يجب على المالك قبوله ففي القاضي الوجهان(4).

و هذه الصورة أولى بعدم الوجوب - و هو الأظهر عندهم(5) - لأنّ الدَّيْن5.

ص: 167


1- العزيز شرح الوجيز 292:7-293، روضة الطالبين 289:5-290.
2- العزيز شرح الوجيز 293:7، روضة الطالبين 290:5.
3- العزيز شرح الوجيز 293:7، روضة الطالبين 290:5.
4- العزيز شرح الوجيز 293:7، روضة الطالبين 290:5.
5- العزيز شرح الوجيز 293:7، روضة الطالبين 290:5.

ثابت في الذمّة لا يتعرّض للتلف، و إذا تعيّن تعرّض له، و لأنّ مَنْ في يده العين يثقل عليه حفظها.

و جميع ما ذكرناه فيما إذا استحفظ الغير و أزال يده و نظره على الوديعة، أمّا إذا استعان به في حملها إلى الحرز فلا بأس، كما لو استعان في سقي البهيمة و علفها.

فروع:
أ - لو كانت له خزانة مشتركة بينه و بين أبيه

فدفع الوديعة إلى أبيه ليضعها في الخزانة المشتركة، فالأقرب: الضمان، إلّا إذا علم المالك بالحال.

ب - لا يجوز أن يضع الوديعة في مكانٍ مشترك بينه و بين غيره،

كدكّانٍ مشترك و دارٍ مشتركة، فلو وضعها فيه ثمّ أراد الخروج لحاجاته فاستحفظ مَنْ يثق به من متّصليه و كان يلاحظ المحرز في عوداته، فلا بأس؛ لأنّه في الحقيقة إيداع مع الحاجة.

و لو فوّض الحفظ إلى بعضهم و لم يلاحظ الوديعة أصلاً، فالأقرب:

الضمان.

ج - لو كان المحرز خارجاً عن داره التي يأوي إليها و كان لا يلاحظه،

فإن كان يشاركه غيره ضمن، و إلّا فلا.

مسألة 21: لو جعل الوديعة في دار جاره، فإن كان الموضع محرزاً لا يدخله المالك و كان عاريةً أو مأذوناً فيه فلا ضمان،

و إن لم يكن كذلك ضمن؛ لأنّه فرّط حيث وضع الوديعة في غير حرزٍ أو في حرزٍ ممنوع منه شرعاً.

و لما رواه محمّد بن الحسن الصفّار قال: كتبت إلى أبي محمّد

ص: 168

العسكري عليه السلام: رجل دفع إلى رجلٍ وديعةً فوضعها في منزل جاره فضاعت هل تجب عليه إذا خالف أمره و أخرجها من ملكه ؟ فوقّع عليه السلام: «هو ضامن لها إن شاء اللّه»(1).

مسألة 22: إذا أراد المستودع ردَّ الوديعة على صاحبها، كان له ردّها عليه أو على وكيله في قبضها؛

لأنّ المستودع لا يلزمه إمساكها.

فإن دفعها إلى الحاكم أو إلى ثقةٍ مع وجود صاحبها أو وكيله، ضمنها على ما قدّمناه؛ لأنّ الحاكم و الأمين لا ولاية له على الحاضر الرشيد.

و إن لم يقدر على صاحبها و لا وكيله فدفعها إلى الحاكم أو أمينٍ، فإن كان لغير عذرٍ ضمن؛ لأنّه لا حاجة به إلى ذلك، و لا ينوب الحاكم في غير حال الحاجة.

و إن كان به حاجة إلى الإيداع - كأن يخاف حريقاً أو نهباً أو غير ذلك - فدفعها إلى الحاكم أو إلى ثقةٍ ليخلصها من ذلك جاز، و إن تلفت لا ضمان عليه؛ لأنّه موضع حاجةٍ، و قد تقدّم.

مسألة 23: لو عزم المستودع على السفر، كان له ذلك،

و لم يلزمه المقام لحفظ الوديعة؛ لأنّه متبرّع بإمساكها، و يلزمه ردّها إلى صاحبها أو وكيله في استردادها أو في عامّة أشغاله، فإن لم يظفر بالمالك؛ لغيبته، أو تواريه، أو حبسه و تعذّر الوصول إليه، و لا ظفر بوكيله، فإنّه يدفعها إلى الحاكم، و يجب عليه قبولها؛ لأنّه موضوع للمصالح، فإن لم يجد دَفَعها إلى أمينٍ، و لا يُكلّف تأخير السفر؛ لأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله كانت عنده ودائع، فلمّا أراد الهجرة سلّمها إلى أُمّ أيمن، و أمر عليّاً عليه السلام بردّها(2).

ص: 169


1- التهذيب 791/180:7.
2- تقدّم تخريجه في ص 142، الهامش (3).

فإن ترك هذا الترتيب فدفعها إلى الحاكم أو إلى الأمين مع إمكان الدفع إلى المالك أو وكيله، ضمن.

و للشافعيّة خلاف في الحاكم(1) سبق(2).

و إن دفع إلى أمينٍ و هو يجد الحاكم، فللشافعي قولان:

أحدهما - و به قال علماؤنا، و أحمد بن حنبل و ابن خيران من الشافعيّة و الاصطخري منهم -: إنّه يضمنه؛ لأنّ أمانة الحاكم ظاهرة متّفق عليها، فلا يُعدل عنها، كما لا يُعدل عن النصّ إلى الاجتهاد، و لأنّ الحاكم نائب الغائبين، فكان كالوكيل، و لأنّ له ولايةً، فهو يمسكها بالولاية و العدالة، بخلاف غيره، فإنّه ليس له الولاية.

و الثاني: إنّه لا يضمن - و به قال مالك - لأنّه أودع بالعذر أميناً، فأشبه الحاكم، و لأنّ مَنْ جاز له دفعها إليه مع عدم الحاكم جاز دفعها إليه مع وجوده، كوكيل صاحبها(3).

و قد نقل أصحاب الشافعي عنه اضطراباً في القول، فقالوا: هذان القولان للشافعي.

قال في باب الرهن فيما إذا أراد العَدْل ردّ الرهن أو الوديعة - يعني إلى عَدْلٍ - بغير أمر الحاكم: ضمن.0.

ص: 170


1- العزيز شرح الوجيز 294:7، روضة الطالبين 290:5.
2- في ص 166، المسألة 20.
3- الحاوي الكبير 359:8، المهذّب - للشيرازي - 367:1، حلية العلماء 173:5، التهذيب - للبغوي - 118:5، البيان 431:6، العزيز شرح الوجيز 294:7، روضة الطالبين 290:5، المغني 283:7، الشرح الكبير 304:7، الإشراف على نكت مسائل الخلاف 1069/625:2، بداية المجتهد 312:2، الإفصاح عن معاني الصحاح 19:2-20.

و قال هنا في ردّ الوديعة: و لو لم يكن حاضراً - يعني ربّ الوديعة - فأودعها أميناً يودعه ماله، لم يضمن. فلم يفرّق بين أن يجد الحاكم أو لا يجد(1).

و نقل عنه طريقة قاطعة بأنّه يضمن(2).

و نقل عنه أيضاً طريقة قاطعة أنّه لا يضمن(3).

و حكى بعض الشافعيّة وجهاً: إنّه يشترط أن يكون الأمين الذي يودعه بحيث يأتمنه و يودع ماله عنده(1).

لكنّ الظاهر عندهم خلافه، و قول الشافعي: «يودعه ماله» على سبيل التأكيد و الإيضاح(2).

مسألة 24: و لا يجوز للمستودع إذا عزم على السفر أن يسافر بالوديعة،

بل يجب عليه دفعها إلى صاحبها أو وكيله الخاصّ في الاسترداد أو العامّ في الجميع، فإن لم يوجد أحدهما دفعها إلى الحاكم، فإن تعذّر الحاكم دفعها إلى أمينٍ، و لا يسافر بها، فإن سافر بها مع القدرة على صاحبها أو وكيله أو الحاكم أو الأمين، ضمن عند علمائنا أجمع، سواء كان السفر مخوفاً أو غير مخوفٍ - و به قال الشافعي(3) - لأنّه سافر بالوديعة من غير ضرورةٍ بغير إذن مالكها فضمن، كما لو كان الطريق مخوفاً، و لأنّ حرز

ص: 171


1- العزيز شرح الوجيز 294:7-295.
2- العزيز شرح الوجيز 295:7.
3- الحاوي الكبير 357:8، المهذّب - للشيرازي - 368:1، الوسيط 501:4، حلية العلماء 171:5، التهذيب - للبغوي - 118:5، البيان 432:6، العزيز شرح الوجيز 295:7، روضة الطالبين 291:5، المغني 284:7، الشرح الكبير 302:7، الإفصاح عن معاني الصحاح 20:2.

السفر دون حرز الحضر، و في الحديث: «إنّ المسافر و متاعه لعلى قَلَتٍ(1) إلّا ما وقى اللّه»(2).

و قال أبو حنيفة: إذا كان السفر آمناً، لم يضمن؛ لأنّه نقل الوديعة إلى موضعٍ مأمون فلم يضمن، كما لو نقلها في البلد من موضعٍ إلى موضعٍ(3).

و هو وجهٌ للشافعيّة، و كذا إذا كان السفر في البحر إذا كان الغالب فيه السلامة(4).

و الفرق ظاهر؛ فإنّ البلد يؤمن أن يطرأ عليه الخوف، و السفر لا يؤمن فيه مثل ذلك، و لأنّ البلد في حكم المنزل الواحد و قد رضي مالك الوديعة به، بخلاف السفر.

مسألة 25: لو اضطرّ المستودع إلى السفر بالوديعة بأن يضطرّ إلى السفر و ليس في البلد حاكم

و لا ثقة و لم يجد المالك و لا وكيله، أو اتّفق جلاءٌ لأهل البلد، أو وقع حريق أو غارة و نهب و لم يجد المالك و لا وكيله و لا الحاكم و لا العَدْل، سافر بها، و لا ضمان عليه إجماعاً؛ لأنّ حفظها حينئذٍ في السفر بها، و الحفظ واجب، و إذا لم يتمّ إلّا بالسفر بها كان السفر بها واجباً، و لا نعلم فيه خلافاً.

ص: 172


1- القلت: الهلاك. راجع الهامش التالي.
2- غريب الحديث - لابن قتيبة - 564:2.
3- المبسوط - للسرخسي - 122:11، الهداية - للمرغيناني - 217:3، المحيط البرهاني 531:5، الحاوي الكبير 357:8، الوسيط 502:4، حلية العلماء 171:5، البيان 432:6، العزيز شرح الوجيز 295:7-296، المغني 284:7، الشرح الكبير 302:7، الإفصاح عن معاني الصحاح 20:2.
4- حلية العلماء 171:5، البيان 432:6، العزيز شرح الوجيز 295:7، روضة الطالبين 291:5.

أمّا لو عزم على السفر من غير ضرورةٍ في وقت السلامة و أمن البلد و عجز عن المالك و وكيله و عن الحاكم و الأمين فسافر بها، فالأقرب:

الضمان؛ لأنّه التزم الحفظ في الحضر، فليؤخّر السفر، أو ليلتزم خطر الضمان، و هو أحد وجهي الشافعيّة.

و الثاني: إنّه لا ضمان عليه، و إلّا لزم أن ينقطع عن السفر، و تتعطّل مصالحه، و فيه تنفير عن قبول الودائع(1).

و شرطوا لجواز السفر بها أمن الطريق، و إلّا فيضمن(2).

أمّا عند وقوع الحريق و نحوه فإنّا نقول: إذا كان احتمال الهلاك في الحضر أقرب منه في السفر، فله أن يسافر بها، و لو كان الطريق آمناً فحدث خوفٌ أقام.

و لو هجم القطّاع فألقى المال في مضيعة إخفاءً له فضاع، فعليه الضمان.

مسألة 26: لو عزم المستودع على السفر فدفن الوديعة ثمّ سافر، ضمنها إن كان قد دفن في غير حرزٍ.
اشارة

و إن دفنها في منزله في حرزٍ و لم يُعلمْ بها أحداً، ضمنها أيضاً؛ لأنّه غرّر بها، لأنّه ربما هلك في سفره فلا يصل صاحبها إليها، و لأنّه ربما يخرب المكان أو يغرق فلا يعلم أحد بمكانها لينقلها فتتلف.

و إن أعلم بها غيره، فإن كان غير أمينٍ ضمن؛ لأنّه قد زادها تضييعاً، لأنّه قد يخون فيها و يطمع.

و إن كان أميناً فإن لم يكن ساكناً في الموضع، ضمنها؛ لأنّه لم يودعها

ص: 173


1- العزيز شرح الوجيز 296:7، روضة الطالبين 292:5.
2- العزيز شرح الوجيز 296:7، روضة الطالبين 292:5.

عنده.

و إن كان ساكناً في الموضع، فإن كان ذلك مع عدم صاحبها و الحاكم جاز؛ لأنّ الموضع و ما فيه في يد الأمين، فالإعلام كالإيداع، و هو أظهر وجهي الشافعيّة، و الثاني: إنّه يضمن؛ لأنّه إعلام لا إيداع(1).

و إن كان مع القدرة على صاحبها أو وكيله ضمن.

و إن كان مع القدرة على الحاكم، فعلى الوجهين السابقين.

و لو جعلها في بيت المال، ضمن، قاله الشافعي في الأُمّ(2).

و اختلف أصحابه في معناه.

فمنهم مَنْ قال: أراد بذلك إذا تركها في بيت المال مع القدرة على صاحبها.

و منهم مَنْ قال: أراد إذا جعلها في بيت المال بنفسه و لم يسلّمها إلى الحاكم(3).

و لو خاف المعاجلة عليها فدفنها فلا ضمان.

فروع:
أ - لو راقبها من الجوانب أو من فوق مراقبة الحارس،

فهو كالسكنى في الموضع الذي دُفنت فيه.

ب - قال بعض الشافعيّة: الإعلام كالإيداع

من غير فرقٍ بين أن يسكن الموضع أو لا يسكنه(4).

ص: 174


1- البيان 433:6، العزيز شرح الوجيز 295:7، روضة الطالبين 291:5.
2- الأُمّ 135:4، و عنه في البيان 434:6.
3- البيان 434:6.
4- العزيز شرح الوجيز 295:7، روضة الطالبين 291:5.

و إذا دفن الوديعة في غير حرزٍ عند إرادة السفر، ضمن على ما تقدّم، إلّا أن يخاف عليها المعاجلة.

و كذا يضمن لو دفنها في حرزٍ و لم يُعلِمْ بها أميناً، أو أعلم أميناً حيث لا يجوز الإيداع عند الأمين.

ج - هل سبيل هذا الإعلام الإشهاد أو الائتمان ؟ إشكال.

و للشافعيّة وجهان(1).

فعلى الأوّل لا بدّ من إعلام رجلين أو رجل و امرأتين. و الظاهر الثاني.

د - كما يجوز إيداع الغير لعذر السفر كذا يجوز لسائر الأعذار،

كما لو وقع في البقعة حريق أو غارة أو خاف الغرق.

و في معناها ما إذا أشرف الحرز على الخراب و لم يجد حرزاً ينقلها إليه.

ه - لو أودعه حالة السفر فسافر بها أو كان المستودع منتجعاً

ه - لو أودعه حالة السفر فسافر بها أو كان المستودع منتجعاً(2) فانتجع بها، فلا ضمان،

لأنّ المالك رضي به حيث أودعه، فكان له إدامة السفر و السير بالوديعة.

مسألة 27: إذا مرض المستودع مرضاً مخوفاً أو حُبس ليُقتل، وجب عليه الإيصاء بالوديعة،
اشارة

و إن تمكّن من صاحبها أو وكيله، وجب عليه ردّها إليه، و إن لم يقدر على صاحبها و لا على وكيله، ردّها إلى الحاكم.

ص: 175


1- الحاوي الكبير 361:8، العزيز شرح الوجيز 295:7، روضة الطالبين 291:5.
2- النجعة: طلب الكلأ في موضعه. الصحاح 1288:3 «نجع».

و لو أودعها عند ثقةٍ مع عدم الحاكم جاز، و إن كان مع القدرة عليه ضمن.

و للشافعيّة وجهان(1).

و لو لم يوص بها لكن سكت عنها و تركها بحالها حتى مات، ضمن؛ لأنّه غرّر بها و عرّضها للفوات، فإنّ الورثة يقتسمونها و يعتمدون على ظاهر اليد و لا يحسبونها وديعةً، و يدّعونها لأنفسهم، فكان ذلك تقصيراً منه يوجب التضمين.

فروع:
أ - التقصير هنا إنّما يتحقّق بترك الوصاية إلى الموت،

فلا يحصل التقصير إلّا إذا مات، لكن نتبيّن عند الموت أنّه كان مقصّراً من أوّل ما مرض، فضمّناه، أو يلحق التلف إذا حصل بعد الموت بالتردّي بعد الموت في بئرٍ حفرها متعدٍّ.

ب - قد توهّم بعض الناس أنّ المراد من الوصيّة بها تسليمها إلى الوصي

ليدفعها إلى المالك، و هو الإيداع بعينه(2).

و ليس كذلك، بل المراد الأمر بالردّ من غير أن يخرجها من يده، فإنّه و الحالة هذه مخيّر بين أن يودع للحاجة، و بين أن يقتصر على الإعلام و الأمر بالردّ؛ لأنّ وقت الموت غير معلومٍ، و يده مستمرّة على الوديعة ما دام حيّاً.

ج - الأقرب: الاكتفاء بالوصيّة و إن أمكنه الردّ إلى المالك؛

لأنّه

ص: 176


1- البيان 434:6.
2- العزيز شرح الوجيز 296:7.

مستودع لا يدري متى يموت، فيستصحب الحكم.

و يحتمل أنّه يجب عليه الردّ إلى المالك أو وكيله عند المرض، فإن تعذّر أودع عند الحاكم أو أوصى إليه، كما إذا عزم على السفر، و هو قول أكثر الشافعيّة(1).

د - يجب الإيصاء إلى الأمين،

فإن أوصى إلى غير ثقةٍ، فهو كما لو لم يوص، و يجب عليه الضمان؛ لأنّه غرّر بالوديعة.

و لا يجب أن يكون أجنبيّاً، بل يجوز أن يوصي بها إلى وارثه، و يُشهد عليه؛ صوناً لها عن الإنكار.

و كذا الإيداع حيث يجوز أن يودع أميناً.

مسألة 28: إذا أوصى بالوديعة، وجب عليه أن يبيّنها و يميّزها عن غيرها

بالإشارة إلى عينها أو بيان جنسها و وصفها، فلو لم يبيّن الجنس و لا أشار إليها بل قال: عندي وديعة، فهو كما لو لم يوص.

و لو ذكر الجنس فقال: عندي ثوب لفلان، و لم يصفه، فإن لم يوجد في تركته جنس الثوب، فأكثر علمائنا على أنّ المالك يضارب، فيضارب ربّ الوديعة الغرماء بقيمة الوديعة؛ لتقصيره بترك البيان، و هو قول بعض الشافعيّة، و هو ظاهر مذهبهم(2) أيضاً.

و قال بعضهم: لا يضمن؛ لأنّها ربما تلفت قبل الموت، و الوديعة أمانة، فلا تُضمن بالشكّ(3).

و إن وُجد في تركته جنس الثوب، فإمّا أن يوجد أثواب أو ثوب واحد، فإن وُجد أثواب ضمن؛ لأنّه إذا لم يميّز كان بمنزلة ما لو خلط الوديعة

ص: 177


1- العزيز شرح الوجيز 297:7، روضة الطالبين 292:5. (2 و 3) العزيز شرح الوجيز 297:7، روضة الطالبين 293:5.

بغيرها، و ذلك سبب موجب للضمان، فكذا ما ساواه، و هو عدم تنصيصه على التخصيص.

و إن وُجد ثوبٌ واحد، ففي تنزيل كلامه عليه إشكال.

قال بعض الشافعيّة: إنّه ينزّل عليه، و يدفع إليه(1).

و منهم مَنْ أطلق القول بأنّه إذا وجد جنس الثوب ضمن، و لا يدفع إليه عين الموجود.

أمّا الضمان: فللتقصير بترك البيان.

و أمّا أنّه لا يدفع إليه عين الموجود: فلاحتمال أن تكون الوديعة قد تلفت، و الموجود غيرها(2). و هو جيّد.

و لهم وجهٌ آخَر: إنّه إنّما يضمن إذا قال: عندي ثوب لفلان، و ذكر معه ما يقتضي الضمان، أمّا إذا اقتصر عليه فلا ضمان(3).

مسألة 29: لو مات و لم يذكر عنده وديعة و لكن وُجد في تركته كيس
اشارة

مختوم أو غير مختومٍ مكتوب عليه: إنّه وديعة فلان، أو وُجد في جريدته:

إنّ لفلان عندي كذا و كذا وديعة، لم يجب على الوارث التسليم بهذا القدر؛ لأنّه ربما كتبه عبثاً و لهواً أو تلقّناً(4) أو ربما اشترى الكيس بعد تلك الكتابة فلم يمحها، أو ردّ الوديعة بعد ما أثبت في الجريدة و لم يمحه.

و بالجملة، إنّما يثبت كونها وديعةً بأن يُقرّ أنّ هذه وديعة، ثمّ يموت، و لا يكون متّهماً في إقراره عندنا و مطلقاً عند جماعةٍ من علمائنا، أو يُقرّ الورثة بأنّها وديعة، أو تقوم البيّنة بذلك، فإذا ثبتت الوديعة بأحد

ص: 178


1- العزيز شرح الوجيز 297:7، روضة الطالبين 293:5.
2- العزيز شرح الوجيز 297:7، روضة الطالبين 293:5.
3- العزيز شرح الوجيز 297:7، روضة الطالبين 293:5.
4- كذا قوله: «تلقّناً»، و بدله في العزيز شرح الوجيز 298:7، و روضة الطالبين 294:5: «تلبيساً».

هذه الوجوه وجب على الورثة دفعها إلى مالكها، فإن أخّروا الدفع مع الإمكان ضمنوا.

و لو لم يعلم صاحبها بموت المستودع، وجب على الورثة إعلامه ذلك، و لم يكن لهم إمساك الوديعة إلى أن يطلبها المالك منهم؛ لأنّ المالك لم يأمنهم عليها، و ذلك كما لو أطارت الريح ثوباً إلى دار إنسانٍ و علم صاحبها فإنّ عليه إعلامه، فإن أخّر ذلك مع إمكانه ضمن.

تذنيب: لو لم يوص المستودع بالوديعة فادّعى ربّ الوديعة أنّه قصّر،

و قال الورثة: لعلّها تلفت قبل أن ينسب إلى التقصير، فالظاهر براءة الذمّة.

و يحتمل الضمان.

تذنيبٌ آخَر: جميع ما قلناه ثابت فيما إذا وجد فرصةً للإيداع أو الوصيّة،

أمّا إذا لم يجد بأن مات فجأةً أو قُتل غيلةً، فلا ضمان؛ لأنّه لم يقصّر.

مسألة 30: قد بيّنّا الخلاف فيما إذا كان عنده وديعة ثمّ مات و لم توجد في تركته، و أنّ الذي يقتضيه النظر عدم الضمان.
اشارة

و الذي عليه فتوى أكثر العلماء منّا و من الشافعيّة(1)الأُم 138:4، الحاوي الكبير 380:8، حلية العلماء 176:5-177.(2) وجوب الضمان.

و قد قال الشافعي: إذا لم توجد بعينها حاصّ المالك الغرماء(2).

و اختلف أصحابه في هذه المسألة على ثلاث طُرق:

منهم مَنْ قال: إنّما يحاصّ الغرماء بها إذا كان الميّت قد أقرّ قبل موته، فقال: عندي أو علَيَّ وديعة لفلان، فإذا لم تُوجد، كان الظاهر أنّه أقرّ

ص: 179


1- راجع الهامش
2- من ص 177.

ببدلها، و أنّها تلفت على وجهٍ مضمون، و أمّا إذا قامت بالوديعة بيّنة أو أقرّ بها الورثة و لم توجد، لم يجب ضمانها؛ لأنّ الوديعة أمانة، و الأصل أنّها تلفت على الأمانة، فلم يجب ضمانها.

و منهم مَنْ قال: صورة المسألة أن يثبت أنّ عنده وديعة فتُطلب فلا توجد بعينها و لكن يكون في تركته من جنسها، فيحتمل أن تكون تلفت، و يحتمل أن تكون قد اختلطت بماله، فلمّا احتمل الأمران أُجري مجرى الغرماء، و حاصّهم، فأمّا إذا لم يكن في تركته من جنسها فلا ضمان؛ لأنّه لا يحتمل إلّا تلفها.

و منهم مَنْ قال بظاهر قوله، و أنّه يحاصّ الغرماء بكلّ حال؛ لأنّ الوديعة يجب عليه ردّها، إلّا أن يثبت سقوط الردّ بالتلف من غير تفريطٍ، و لم يثبت ذلك، و لأنّ الجهل بعينها كالجهل [بها](1) و ذلك لا يُسقط عنه وجوب الردّ، كذا هنا(2).

فروع:
أ - إذا تبرّم

أ - إذا تبرّم(3) المستودع بالوديعة فسلّمها إلى القاضي ضمن،

إلّا مع الحاجة.

ب - لا يلحق بالمرض علوّ السنّ و الشيخوخة؛

لأصالة براءة الذمّة.

ج - لو أقرّ المريض بالوديعة و لا تهمة ثمّ مات في الحال، فالأقرب هنا على قول مَنْ مَنَع من المحاصّة: المحاصّةُ هنا؛

إذ إقراره بأنّ عنده أو عليه وديعة يقتضي حصوله في الحال، فإذا مات عقيبه لم يمكن فرض التلف قبل الإيصاء.

ص: 180


1- ما بين المعقوفين يقتضيه السياق.
2- الحاوي الكبير 380:8، حلية العلماء 177:5.
3- تبرّم: تضجّر. لسان العرب 43:12 «برم».
البحث الثالث: في نقل الوديعة.
مسألة 31: إذا أودعه في قريةٍ فنقلها المستودع إلى قريةٍ أُخرى،

فإن اتّصلت القريتان و كانت المنقول إليها أحرز أو ساوت الأُولى في الأمن و لا خوف بينهما، فالأقرب: عدم الضمان، مع احتماله؛ لأنّ الظاهر من الإيداع في قريةٍ عدم رضا المالك بنقلها عنها.

و إن لم تتّصل القريتان، فالأقرب: الضمان، سواء كان الطريق آمناً أو مخوفاً - و هو أحد وجهي الشافعيّة(1) - لأنّ حدوث الخوف في الصحراء غير بعيدٍ.

و أظهرهما عندهم: عدم الضمان مع الأمن، و ثبوته لا معه، كما لو لم تكن بينهما مسافة، بل اتّصلت العمارتان(2).

و قال أكثر الشافعيّة: إن كان بين القريتين مسافة سُمّي المشي فيها سفراً، ضمن بالسفر بها(3).

و بعضهم لا يقيّد، بل يقول: إن كان بينهما مسافة ضمن. و لم يجعل مطلق المسافة مصحّحاً اسم السفر(4).

و قال آخَرون منهم: إن كانت المسافة بينهما دون مسافة التقصير و كانت آمنةً و القرية المنقول إليها أحرز، لم يضمن(1):

و هو يقتضي أنّ السفر بالوديعة إنّما يوجب الضمان بشرط طول السفر. و هو بعيد عندهم؛ فإنّ خطر السفر لا يتعلّق بالطول و القصر(2).

ص: 181


1- العزيز شرح الوجيز 300:7.
2- العزيز شرح الوجيز 300:7، روضة الطالبين 294:5.

و إن كانت المسافة بحيث لا تصحّح اسم السفر، فإن كان فيها خوفٌ ضمن، و إلّا فوجهان:

أحدهما: إنّ الحكم كذلك؛ لأنّ الخوف في الصحراء متوقّع.

و أظهرهما عندهم: إنّه كما لو لم تكن مسافة(1).

و إن كانت القرية المنقول عنها أحرز من المنقول إليها، ضمن المستودع بالنقل، فإنّ المالك حيث أودعه فيها اعتمد حفظه فيها، و لو كانت المنقول إليها أحرز أو تساويا، فلا ضمان، و به قال الشافعي(2).

و قد بيّنّا احتمال الضمان.

مسألة 32: إذا قلنا بالتفصيل - و هو عدم الضمان مع كون القرية المنقول إليها أحرز - وجب معرفة سبب كونها أحرز، و هو متعدّد:

منها: حصانتها في نفسها أو انضباط أهلها أو امتناع الأيدي الفاسدة عنها.

و منها: كونها عامرةً لكثرة القطّان بها.

و منها: أن يكون مسكنه و مسكن أقاربه و أصدقائه بها، فلا يقدم عليها اللصوص، و لا يقوى طمعهم فيها؛ لأنّ قرية أهله و أقاربه أحرز في حقّه.

و اعلم أنّا حيث منعنا النقل فذلك إذا لم تَدْعُ ضرورة إليه، فإن اضطرّ إلى نقلها جاز، كما جوّزنا له السفر بها مع الحاجة إليه.

مسألة 33: إذا أراد الانتقال و لا ضرورة إليه، فالحكم فيه كما سبق فيما إذا أراد السفر.
اشارة

و النقل من محلّة إلى محلّة أو من دارٍ إلى دارٍ كالنقل من قريةٍ إلى قريةٍ متّصلتي العمارة.

و أمّا إذا نقل من بيتٍ إلى بيتٍ في دارٍ واحدة أو خانٍ واحد،

ص: 182


1- العزيز شرح الوجيز 300:7، روضة الطالبين 294:5.
2- العزيز شرح الوجيز 300:7، روضة الطالبين 294:5.

لم يضمن و إن كان الأوّل أحرز إذا كان الثاني حرزاً أيضاً.

هذا إذا أطلق الإيداع.

و التحقيق أن نقول: إذا أودعه شيئاً، ففيه ثلاثة أقسام.

الأوّل: أن يودعه و لا يعيّن له موضعاً لحفظها،

فإنّ المودَع يحفظ الوديعة في حرز مثلها أيّ موضعٍ شاء، فإن وضعها في حرزٍ ثمّ نقلها إلى حرز مثلها، جاز، سواء كان مثل الأوّل أو دونه - و به قال الشافعي(1) - لأنّ المودَع ردّ ذلك إلى حفظه و اجتهاده، فكلّ موضعٍ هو حرز مثلها و هي محفوظة فيه فكان وضعها فيه داخلاً تحت مطلق الإذن بالوضع فيه حيث جعل ذلك منوطاً باختياره.

الثاني: إذا عيّن له موضعاً، فقال: احفظها في هذا البيت،

أو في هذه الدار، و اقتصر على ذلك و لم ينهه عن غيره، فإن كان الموضع ملكاً لصاحب الوديعة، لم يجز للمستودع نقلها عنه، فإن نقلها ضمن؛ لأنّه ليس بمستودعٍ في الحقيقة، و إنّما هو وكيل في حفظها، و ليس له إخراجها من ملك صاحبها.

و كذا إن كانت في موضعٍ استأجره لها.

و إن كان الموضع ملكاً للمستودع، فإن نقلها إلى ما دونه في الحرز أو وضعها فيه ابتداءً، ضمن؛ لأنّه خالف أمره في شيءٍ مطلوب فيه مرغوب إليه، فكان ضامناً، كما لو وضعها في غير حرزٍ.

و إن كان الثاني مثل الأوّل أو أحرز منه، فلا ضمان عليه؛ لأنّ تعيينه البيت إنّما أفاد تقدير الحرزيّة، و ليس الغرض عينه، كما لو استأجر أرضاً لزراعة الحنطة، فإنّه يجوز أن يزرعها ما يساويها في الضرر أو يقصر ضرره عنها؛ لأنّ الغرض بتعيينها تقدير المنفعة لا عينها، كذا هنا، و حمل التعيين

ص: 183


1- البيان 426:6.

على تقدير الحرزيّة دون التخصيص الذي لا غرض فيه، و به قال الشافعي(1).

نعم، لو كان التلف بسبب النقل، كما إذا انهدم عليه البيت المنقول إليه، فإنّه يضمن؛ لأنّ التلف هنا جاء من المخالفة.

و كذا مكتري الدابّة للركوب إذا ربطها في الاصطبل فماتت، لم يضمن، و إن انهدم عليها ضمن.

و كذا لو سُرقت من البيت المنقول إليه أو غُصبت فيه، على إشكالٍ.

الثالث: إذا عيّن له موضعاً، فقال: احرزها في هذا البيت،

أو هذه الدار و لا تخرجها منه و لا تنقلها عنه، فأخرجها، فإن كان لحاجةٍ بأن يخاف عليها في الموضع الذي عيّنه الحريق أو النهب أو اللّصّ فنقلها عنه إلى أحرزها، لم يضمن؛ لأنّ الضرورة سوّغت له النقل.

و إن نقلها لغير عذرٍ، ضمن مطلقاً عندنا - و هو اختيار أبي إسحاق الشيرازي(2) - سواء نقلها إلى حرزٍ هو دون الأوّل أو كان مساوياً أو أحرز منه؛ لأنّه خالف صريح الإذن لغير حاجةٍ فضمن، كما لو نقلها إلى حرزٍ هو دون الأوّل و هو حرز مثلها.

و قال أبو سعيد الاصطخري: إن كان الحرز الثاني مثل الأوّل أو أحرز منه، لم يضمن بالنقل إليه؛ لأنه نقلها عنه إلى مثله، فأشبه ما إذا عيّن له موضعاً فنقلها عنه إلى مثله من غير نهي(3).

ص: 184


1- المهذّب - للشيرازي - 366:1، التهذيب - للبغوي - 119:5، البيان 427:6، العزيز شرح الوجيز 310:7، روضة الطالبين 301:5.
2- راجع المهذّب - للشيرازي - 366:1-367، و حلية العلماء 169:5، و البيان 427:6.
3- المهذّب - للشيرازي - 367:1، حلية العلماء 169:5، البيان 427:6، العزيز شرح الوجيز 310:7، روضة الطالبين 301:5.

ثمّ تأوّل كلام الشافعي بأنّه أراد بذلك إذا كان الموضع الذي هي فيه ملكاً لصاحب الوديعة(1).

و قال أبو حنيفة: إذا نهاه عن نقلها عن دارٍ فنقلها إلى دارٍ أُخرى ضمن، و إن نهاه عن نقلها عن بيتٍ فنقلها إلى بيتٍ آخَر في الدار لم يضمن؛ لأنّ البيتين في دارٍ واحدة حرزٌ واحد، و الطريق إلى أحدهما طريق إلى الآخَر، فأشبه ما لو نقلها من زاويةٍ إلى زاويةٍ(2).

و هو غلط؛ لأنّه قد يكون بيت في الدار يلي الطريق و الآخَر لا يليه، فالذي لا يليه أحرز.

و الحقّ ما قلناه؛ لأنّه خالف لفظ المودع فيما لا مصلحة له فيه، فوجب أن يضمن، كما لو نقلها إلى موضعٍ هو دونه في الحرز.

مسألة 34: قد بيّنّا أنّه إذا نهاه عن النقل عن الموضع الذي عيّنه، لم يجز له نقلها عنه إلّا لضرورةٍ،

كحريقٍ أو غرقٍ أو نهبٍ أو خوف اللّصّ و شبهه، فإن حصلت إحدى هذه الأعذار نَقَلها، و لا ضمان، سواء نقلها إلى حرزٍ مثل الأوّل أو أدون منه إذا كان حرز مثلها إذا لم يجد أحرز منه.

فإن وجد أحرز منه و اقتصر على الأدون، احتُمل الضمان؛ لأنّا قد بيّنّا أنّ التعيين لا يفيد الاختصاص، بل تقدير الحرز، فإذا تعذّر الشخص وجب الانتقال إلى المساوي أو الأحرز، و عدمُه ضعيفاً؛ لأنّ التعيين قد زال، فساغ النقل للخوف، فيتخيّر المستودع حينئذٍ، و لو لم يعيّن له الحرز ابتداءً جاز له الوضع في الأدون، فكذا إذا عيّنه.

ص: 185


1- لم نعثر عليه في مظانّه.
2- تحفة الفقهاء 173:3، بدائع الصنائع 210:6، الحاوي الكبير 369:8، حلية العلماء 169:5، العزيز شرح الوجيز 311:7، المغني 285:7، الشرح الكبير 287:7.

و الأوّل أقوى.

و لو أمكن النقل عن المعيّن مع عروض إحدى هذه الحالات، ضمن؛ لأنّه مفرّط حينئذٍ في الحفظ، إذ الظاهر أنّه قصد بالنهي عن النقل نوعاً من الاحتياط، فإذا عرضت هذه الأحوال فالاحتياط النقل، و هو أصحّ وجهي الشافعيّة(1).

و لو قال: لا تنقلها و إن حدثت ضرورة، فحدثت ضرورة، فإن لم ينقل لم يضمن، كما لو قال: أتلف مالي، فأتلفه، و هو أظهر وجهي الشافعيّة(2).

و لهم وجهٌ آخَر(3).

و إن نقل، لم يضمن؛ لأنّه قصد الحفظ و الصيانة و الإصلاح، فكان محسناً، فيندرج تحت عموم قوله تعالى:«ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ» (2) و هو أصحّ وجهي الشافعيّة(3).

مسألة 35: لو نقلها المستودع عن الموضع المعيّن المنهيّ عن نقلها عنه،

فادّعى المستودع الخوفَ من الحريق أو الغرق أو اللّصّ أو شبهه من الضرورات، و أنكر المالك، فإن عرف هناك ما يدّعيه المستودع، كان القولُ قولَه مع اليمين؛ لأنّه ادّعى الظاهر، فصُدّق بيمينه، و إلّا طُولب بالبيّنة، فإن لم تكن هناك بيّنة، صُدّق المالك بيمينه؛ لأنّه منكر، و هو قول أكثر الشافعيّة(4).

ص: 186


1- العزيز شرح الوجيز 310:7، روضة الطالبين 301:5. (2 و 3) المهذّب - للشيرازي - 367:1، العزيز شرح الوجيز 310:7، روضة الطالبين 301:5.
2- التوبة: 91.
3- العزيز شرح الوجيز 310:7، روضة الطالبين 301:5.
4- العزيز شرح الوجيز 310:7-311، روضة الطالبين 301:5-302.

و لهم وجهٌ آخَر: إنّ ظاهر الحال يغنيه عن اليمين(1).

و لهم وجهٌ آخَر غريب فيما إذا لم ينهه عن النقل، فنقل إلى ما دونه:

إنّه لا يضمن(2).

و هذا كلّه فيما إذا كان البيت المعيّن أو الدار المعيّنة ملكاً للمستودع، أمّا إذا كان ملكاً للمالك، فليس للمستودع إخراجها عن ملكه بحالٍ، إلّا أن تعرض ضرورة إلى ذلك.

البحث الرابع: في التقصير في دفع المهلكات.
مسألة 36: يجب على المستودع دفع مهلكات الوديعة و ما يوجب نقص ماليّتها؛ إذ الحفظ واجب، و لا يتمّ إلّا بذلك.

فلو استودع ثياب صوفٍ، وجب على المستودع نشرها و تعريضها للريح بمجرى العادة؛ لئلّا يفسدها الدود.

و لو لم يندفع الفساد إلّا بأن يلبس و تعبق(3) بها رائحة الآدمي، وجب على المستودع لُبْسها.

فإن لم يفعل ففسدت بترك اللُّبْس و تعريض الثوب للريح، كان ضامناً، سواء أمره المالك أو سكت عنه.

أمّا لو نهاه عن النشر و فِعْلِ ما يحتاج إليه الحفظ فامتنع من ذلك حتى فسدت، فَعَل مكروهاً، و لا ضمان عليه، و به قال أكثر الشافعيّة(4).

ص: 187


1- العزيز شرح الوجيز 311:7، روضة الطالبين 302:5.
2- العزيز شرح الوجيز 311:7.
3- راجع الهامش (1) من ص 155.
4- التهذيب - للبغوي - 125:5، العزيز شرح الوجيز 303:7، روضة الطالبين 296:5.

و لهم وجهٌ آخَر: إنّ عليه الضمان(1).

هذا إذا علم المستودع ذلك، أمّا لو لم يعلم المستودع ذلك بأن أودعه صندوقاً مقفلاً لا يعلم ما فيه، أو كيساً مشدوداً و لم يُعلمه المالك، لم يضمن؛ لعدم التفريط، و انتفاء التقصير منه.

مسألة 37: إذا كانت الوديعة دابّةً أو آدميّاً، وجب على المستودع القيامُ بحراستها و مراعاتها و علفها و سقيها.

ثمّ لا يخلو إمّا أن يأمره المالك بالعلف و السقي، أو ينهاه عنهما، أو يُطلق الإيداع.

فإن أمره بالعلف و السقي، وجب عليه فعلهما و رعاية المأمور به.

فإن امتنع المستودع من ذلك حتى مضت مدّة تموت مثل الدابّة في مثل تلك المدّة، نُظر إن ماتت ضمنها، و إن لم تمت دخلت في ضمانه، و إن نقصت ضمن النقصان.

و تختلف المدّة باختلاف الحيوان قوّةً و ضعفاً.

فإن ماتت قبل مضيّ تلك المدّة، لم يضمنها إن لم يكن بها جوع و عطش سابق، و إن كان و هو عالمٌ ضمن، و كذا لو كان جاهلاً.

و للشافعيّة في الجاهل وجهان كالوجهين فيما إذا حبس مَنْ به بعض الجوع و هو لا يعلم حتى مات(2).

و أظهرهما عندهم: عدم الضمان(3).

و على تقدير الضمان لهم وجهان: هل يضمن الجميع أو بالقسط؟

ص: 188


1- العزيز شرح الوجيز 303:7، روضة الطالبين 296:5.
2- التهذيب - للبغوي - 123:5-124، العزيز شرح الوجيز 302:7، روضة الطالبين 295:5.
3- العزيز شرح الوجيز 302:7، روضة الطالبين 295:5.

كما لو استأجر دابّةً لحمل قدرٍ فزاد عليه(1).

و إن نهاه المالك عن العلف و السقي فتركهما، كان عاصياً؛ لما فيه من تضييع المال المنهيّ عنه شرعاً و هتكِ حرمة الروح؛ لأنّ للحيوان حرمةً في نفسه يجب إحياؤه لحقّ اللّه تعالى.

و في الضمان إشكال أقربه: العدم - و هو قول أكثر الشافعيّة(2) - كما لو قال: اقتل دابّتي، فقتلها، أو أمره برمي قماشه في البحر، فرماه، أو أمره بقتل عبده، فقتله، فإنّه يأثم، و لا ضمان عليه، كذا هنا.

و قال بعضهم: يجب عليه الضمان؛ لحصول التعدّي في الوديعة، و هو مقتضٍ للضمان، فأشبه ما لو لم ينهه(3).

و لو علفها و سقاها مع نهيه عنهما، كان الحكم كما تقدّم في القسم الأوّل.

و قال بعض الشافعيّة: الخلاف هنا مخرَّجٌ ممّا إذا قال: اقتلني، فقتله هل تجب الدية ؟(4).

و لم يرتضه باقي الشافعيّة؛ لأنّا إذا أوجبنا الدية أوجبناها للوارث، و لم يوجد منه إذن في الإتلاف، و هنا بخلافه(5).

و إن أطلق الإيداع، فلا يأمره بالعلف و السقي و لا ينهاه عنهما، فيجب7.

ص: 189


1- العزيز شرح الوجيز 302:7، روضة الطالبين 295:5.
2- الحاوي الكبير 365:8، المهذّب - للشيرازي - 368:1، حلية العلماء 182:5، التهذيب - للبغوي - 124:5، البيان 441:6، العزيز شرح الوجيز 302:7، روضة الطالبين 295:5، المغني 294:7، الشرح الكبير 293:7.
3- الحاوي الكبير 366:8، المهذّب - للشيرازي - 368:1، حلية العلماء 182:5، البيان 441:6، العزيز شرح الوجيز 302:7، روضة الطالبين 295:5، المغني 294:7، الشرح الكبير 293:7. (4 و 5) العزيز شرح الوجيز 302:7.

على المستودع العلف و السقي؛ لأنّه التزم بحفظها، و لأنّه ممنوع من إتلافها جوعاً، فإذا التزم حفظها تضمّن ذلك علفها و سقيها، و به قال الشافعي(1).

و قال أبو حنيفة: لا يجب عليه العلف و السقي؛ لأنّه استحفظه إيّاها و لم يأمره بعلفها(2).

و قد بيّنّا الأمر الضمني.

مسألة 38: لا خلاف في أنّه لا يجب على المستودع الإنفاق على الدابّة و الآدمي من ماله؛

لأصالة البراءة، و التضرّر المنفي شرعاً، لكن إن دفع إليه المالك النفقةَ فذاك، و إن لم يدفع إليه، فإن كان المالك قد أمره بعلفها و سقيها رجع به عليه؛ لأنّه أمره بإتلاف ماله فيما عاد نفعه إليه، فكان كما لو ضمن عنه مالاً بأمره و أدّاه عنه.

و إن أطلق الإيداع و لم يأمره بالعلف و السقي و لا نهاه عنهما، فإن كان المالك حاضراً أو وكيله طالَبه بالإنفاق عليها أو ردّها عليه، أو أذن له المالك في الإنفاق فينفق، و يرجع به إن لم يتطوّع بذلك.

و إن لم يكن المالك حاضراً و لا وكيله، رفع الأمر إلى الحاكم، فإن وجد الحاكم لصاحبها مالاً أنفق عليها منه، و إن لم يجد مالاً رأى الحاكم المصلحة للمالك إمّا في بيعها، أو بيع بعضها و إنفاقه عليها، أو إجارتها، أو الاستدانة على صاحبها من بيت المال أو من المستودع أو من غيره، فيفعل ما هو الأصلح.

فإن استدان عليه من بيت المال أو من غير المستودع، دَفَعه إلى

ص: 190


1- الحاوي الكبير 366:8، المهذّب - للشيرازي - 368:1، حلية العلماء 181:5، البيان 439:6، العزيز شرح الوجيز 302:7، روضة الطالبين 295:5، المغني 292:7، الشرح الكبير 290:7.
2- الحاوي الكبير 366:8، حلية العلماء 181:5، البيان 439:6، العزيز شرح الوجيز 302:7، المغني 292:7، الشرح الكبير 290:7.

المستودع لينفقه عليها إن رأى ذلك مصلحةً.

و إن استدان من المستودع، فالأقرب: إنّ الحاكم يتخيّر بين أن يأذن للمستودع في الإنفاق عليها، و بين أن يأذن لغيره من الأُمناء يقبض من المستودع و ينفق؛ لأنّ المستودع أمين عليها، فجاز للحاكم الإخلاد [إليه](1) في إنفاق ما يستدينه منه عليها، كما أنّ للمالك أمره بالإنفاق، و هو أحد وجهي الشافعيّة.

و الثاني لهم: إنّه ليس للحاكم أن يأذن للمستودع في الإنفاق ممّا يستدينه منه على المالك، بل يقيم الحاكم أميناً يقبض منه و ينفق؛ لأنّه لا يجوز أن يكون أميناً في حقّ نفسه(2).

و الوجه: ما تقدّم.

و على ما اخترناه من جواز إخلاد الحاكم إلى المستودع فالأقرب: إنّه لا يقدّرها، بل يكل الأمر إلى اجتهاد المستودع، و هو أحد قولَي الشافعيّة، و الثاني لهم: إنّ الحاكم يقدّرها و لا يكلها إلى المستودع(3).

[فإن اختلفا في قدر النفقة](4) فالقول قوله فيما أنفق إذا ادّعى الإنفاق بالمعروف، و لو ادّعى أكثر لم يُقبل قوله إلّا بالبيّنة.

و كذا لو قدّر له الحاكم النفقة، فادّعى أنّه أنفق أكثر.

و لو اختلف المستودع و المالك في قدر المدّة التي أنفق فيها، قُدّم قول صاحبها؛ لأنّ الأصل عدم ذلك، و براءة ذمّته.

و لو اختلفا في قدر النفقة، قُدّم قول المستودع؛ لأنّه أمين فيها.7.

ص: 191


1- إضافة يقتضيها السياق.
2- حلية العلماء 182:5.
3- حلية العلماء 182:5، البيان 440:6.
4- ما بين المعقوفين أضفناه من المغني 293:7، و الشرح الكبير 292:7.

و لو أنفق عليها من غير إذن الحاكم، فإن قدر على إذن الحاكم و لم يُحصّله، لم يكن له الرجوع؛ لأنّه متطوّع.

و إن لم يقدر على الحاكم فأنفق، فليُشهد على الإنفاق و الرجوع، فإن ترك الإشهاد مع قدرته عليه، فالأقرب: إنّه متبرّع، و إن تعذّر عليه الإشهاد، فالأقرب: إنّه يرجع مع قصده الرجوع، و يقدّم قوله في ذلك؛ لأنّه أعرف بقصده.

و إذا قلنا: ينفق و يرجع، صار كالحاكم في بيعها أو بيع بعضها أو إجارتها أو الاقتراض على مالكها.

و لو ترك المستودع الإنفاقَ مع إطلاق الإيداع و لم يرفعه إلى الحاكم و لا أنفق عليها حتى تلفت، ضمن إن كانت تلفت من ترك ذلك؛ لأنّه تعدّى بتركه.

و إن تلفت في زمانٍ لا تتلف في مثله؛ لعدم العلف، لم يضمن؛ لأنّها لم تتلف بذلك.

و لو نهاه عن السقي و العلف، لم يضمن بترك ذلك على ما تقدّم(1) من الخلاف.

و هل يرجع على المالك ؟ إشكال ينشأ: من تبرّعه بالإنفاق، و عدمه.

مسألة 39: إذا احتاج المستودع إلى إخراج الدابّة لعلفها أو سقيها، جاز له ذلك؛ لأنّ الحفظ يتوقّف عليه، و لا ضمان.

و لا فرق بين أن يكون الطريق آمناً أو مخوفاً إذا خاف التلف بترك السقي و اضطرّ إلى إخراجها.

و لو أخرجها من غير ضرورةٍ للعلف و السقي، فإن كان الطريق آمناً لا خوف فيه و أمكنه سقيها في موضعها، فالأقرب: عدم الضمان؛ لاطّراد

ص: 192


1- في ص 189.

العادة بذلك، و هو أظهر قولَي الشافعيّة(1).

و لو علفها و سقاها في داره أو اصطبله حيث يعلف دوابّه و يسقيها، فقد بالغ في الحفظ.

و إن أخرجها من موضعها و كان يفعل ذلك في دوابّ نفسه لضيق الموضع أو لغيره، فلا ضمان عليه.

و إن كان يسقي دوابّه فيه، قال الشافعي: ضمن(2).

و اختلف أصحابه، فأطلق بعضُهم وجوبَ الضمان؛ لأنّه أخرج الوديعة عن الحرز لغير ضرورةٍ(3).

و قيّده بعضهم بما إذا كان ذلك الموضع أحرز، فأمّا إذا كان الموضع المُخْرج إليه أحرز أو مساوياً، فلا ضمان(4).

و قال آخَرون: إنّه محمول على ما إذا كان في الإخراج خوف، فإن لم يكن فلا ضمان(5).

مسألة 40: إذا تولّى المستودع السقي و العلف بنفسه أو أمر به صاحبه أو غلامه و كان حاضراً لم تزل يده، فذاك.
اشارة

و إن بعثها على يده للسقي أو أمره بعلفها أو أخرج الدابّة من يده، فإن لم يكن صاحبه أو غلامه أميناً ضمن، و إن كان أميناً فالأقرب: عدم الضمان؛ لقضاء العادة بالاستنابة في ذلك، و هو أظهر وجهي الشافعيّة(6).

و الوجهان عند بعضهم مخصوصان بمَنْ يتولّى ذلك بنفسه، فأمّا في

ص: 193


1- العزيز شرح الوجيز 302:7-303، روضة الطالبين 296:5.
2- العزيز شرح الوجيز 302:7، روضة الطالبين 295:5.
3- العزيز شرح الوجيز 302:7، روضة الطالبين 295:5-296.
4- العزيز شرح الوجيز 302:7، روضة الطالبين 296:5.
5- العزيز شرح الوجيز 302:7، روضة الطالبين 296:5.
6- العزيز شرح الوجيز 303:7، روضة الطالبين 296:5.

حقّ غيره فلا ضمان قطعاً(1).

فروع:
أ - لو نهاه عن العلف لعلّةٍ تقتضي النهي

- كالقولنج و شبهه - فعلفها قبل زوال العلّة فماتت، ضمن؛ لأنّه مفرّط.

ب - العبد المودع و الأمة كالدابّة

في جميع ما تقدّم.

ج - لو أودعه نخلاً، فالأقرب: إنّ سقيه واجب

كما قلنا في الدابّة، و هو أحد وجهي الشافعيّة. و في الثاني: إنّه لا يضمن بترك السقي إذا لم يأمره بالسقي(2).

البحث الخامس: في المخالفة في كيفيّة الحفظ.
مسألة 41: يجب على المستودع اعتماد ما أمره المالك في كيفيّة الحفظ،

فإذا أمره بالحفظ على وجهٍ مخصوص فعدل عنه إلى وجهٍ آخَر و تلفت الوديعة، فإن كان التلف بسبب الجهة المعدول إليها ضمن و كانت المخالفة تقصيراً؛ لأنّه لو راعى الوجه المأمور به لم يتحقّق التلف، و لو حصل التلف بسببٍ آخَر فلا ضمان.

هذا إذا لم يتحقّق المستودع التلف لو امتثل الأمر، أمّا إذا تحقّق التلف بالامتثال فخالف للاحتياط في الحفظ فاتّفق التلف فلا ضمان، لأنّه محسن فلا سبيل عليه؛ للآية(3).

مسألة 42: إذا أودعه مالاً في صندوقٍ و قال له: لا ترقد عليه،
اشارة

ص: 194


1- الوسيط 506:4، العزيز شرح الوجيز 303:7، روضة الطالبين 296:5.
2- العزيز شرح الوجيز 303:7، روضة الطالبين 296:5.
3- التوبة: 91.

فخالف و رقد عليه، فإن تلفت الوديعة بالرقود بأن انكسر رأس الصندوق بثقله و تلف ما فيه، ضمن؛ لأنّه خالف، و تلفت الوديعة بالمخالفة، فكان ضامناً.

و إن تلفت بغير الرقود، فإن كان في بيتٍ محرز فأخذه اللّصّ، أو كان في برّيّةٍ فأخذه اللّصّ من رأس الصندوق، فالأقرب: عدم الضمان - و به قال الشافعي(1) - لأنّه زاده احتياطاً و حفظاً، و التلف ما جاء منه.

و للشافعيّة وجهٌ آخَر: إنّه يضمن - و به قال مالك - لأنّ رقوده على الصندوق تنبيه عليه و تعظيم لما فيه، و موهم للسارق نفاسة ما فيه فيقصده(2).

و هو غلط؛ لأنّه زاده احتياطاً و خيراً(3) ، كما لو قال له: ضَع المال في صحن الدار، فوضعه في البيت، لم يضمن، و لا يقال: إنّ هذا يتضمّن التنبيه عليه، كذا هنا.

و كذا الخلاف فيما لو قال: لا تقفل عليها، فقفل، أو قال: لا تقفل عليها إلّا قفلاً واحداً، فقفل قفلين، أو قال: لا تغلق باب البيت، فأغلق(4).

و إن كان في البرّيّة فأخذه اللّصّ من جنب الصندوق، احتُمل عدمُ الضمان؛ لأنّه إذا كان فوق الصندوق اطّلع على الجوانب كلّها، فيكون أبلغ في الحفظ، و ثبوتُه؛ لأنّه إذا رقد عليه أخلى جنب الصندوق، و ربما لا يتمكّن السارق من الأخذ لو كان [بجنبه](5).ه.

ص: 195


1- الحاوي الكبير 377:8، التهذيب - للبغوي - 121:5، العزيز شرح الوجيز 307:7، روضة الطالبين 299:5.
2- الحاوي الكبير 377:8، التهذيب - للبغوي - 121:5، العزيز شرح الوجيز 307:7، روضة الطالبين 299:5.
3- في الطبعة الحجريّة: «حرزاً» بدل «خيراً».
4- الحاوي الكبير 377:8، العزيز شرح الوجيز 307:7، روضة الطالبين 299:5.
5- بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «تحته». و الظاهر ما أثبتناه.

و هذا إنّما يظهر إذا فرض الأخذ من الجانب الذي لو لم يرقد عليه لكان يرقد هناك، و ذلك بأن كان يرقد أمام الصندوق فتركه فانتهز السارق الفرصة، أو قال المالك: ارقد قُدّامه، فرقد فوقه، فأخذ السارق المالَ من قُدّامه.

و للشافعيّة وجهان(1) كالاحتمالين.

و الأوّل أقوى؛ لأنّه زاده خيراً(2).

و كذا لو قال: ضَعْها في هذا البيت و لا تنقلها، فخاف عليها فنَقَلها، فلا ضمان؛ لأنّه زاده خيراً(3).

و لو أمره بدفن الوديعة في بيته و قال: لا تبن عليه، فبنى، فهو كما لو قال: لا ترقد عليه، فرقد.

تذنيب: لو نقل المستودع الوديعةَ عند الخوف إلى مكانٍ

غير ما عيّنه المالك بأُجرةٍ، لم يرجع بها على المالك؛ لأنّه متطوّع متبرّع.

مسألة 43: إذا استودع دراهم أو دنانير أو شبهها و أمره المالك بأن يربطها في كُمّه فأمسكها في يده، ضمن؛
اشارة

لأنّه خالف المالكَ في تعيين الحرز، و لأنّ الكُمّ أحرز؛ لأنّ الإنسان في معرض السهو و الغفلة و النسيان فيرسل يده فتسقط الوديعة ببسط اليد و الإرسال، فإذا خالف المستودع في الإحراز عن الأعلى إلى الأدنى لا لضرورةٍ كان ضامناً.

و اختلفت الرواية عن الشافعي، فروى المزني أنّه لا يضمن(4) ، و نقل

ص: 196


1- العزيز شرح الوجيز 307:7-308، روضة الطالبين 299:5.
2- في الطبعة الحجريّة: «حرزاً» بدل «خيراً».
3- في الطبعة الحجريّة: «حرزاً» بدل «خيراً».
4- مختصر المزني: 147، الحاوي الكبير 378:8، المهذّب - للشيرازي - 367:1، حلية العلماء 170:5، البيان 429:6، العزيز شرح الوجيز 308:7، روضة الطالبين 299:5.

الربيع عنه الضمان(1).

و اختلف أصحابه على طريقين:

منهم مَنْ قال: ليست على قولين، و إنّما هي على اختلاف حالين، و فيها طريقان:

أحدهما: إنّه إن لم يربطها في الكُمّ و اقتصر على الإمساك باليد، ضمن، كما نقله الربيع، و رواية المزني محمولة على ما إذا أمسك باليد بعد الربط في الكُمّ.

و أصحّهما عندهم: إنّ رواية المزني محمولة على ما إذا تلفت بأخذ غاصبٍ، فلا يضمن؛ لأنّ اليد أحرز بالإضافة، و إن سقطت بنومٍ أو نسيانٍ ضمن؛ لأنّها لو كانت مربوطةً في الكُمّ ما ضاعت بهذا السبب، فالتلف حصل بسبب المخالفة(2).

و منهم مَنْ قال: إنّ المسألة على قولين:

أحدهما: الضمان؛ لأنّ ما في اليد يضيع بالنسيان و بسط اليد، و ما في الكُمّ لا يضيع بهما.

و هذا القول يقتضي الضمان بالوضع في اليد مطلقاً؛ لأنّها ليست حرزاً على هذا القول.

و الثاني: عدمه؛ لأنّ اليد أحرز من الكُمّ؛ لأنّ الطرّار يأخذ من الكُمّ، و لا يتمكّن من الأخذ من اليد(3).

فروع:
أ - لو أمره بالربط في كُمّه فامتثل، لم يحتج في ذلك إلى الإمساك

ص: 197


1- الأُمّ 137:4، مضافاً إلى المصادر المزبورة في الهامش السابق ما عدا مختصر المزني.
2- البيان 430:6، العزيز شرح الوجيز 308:7، روضة الطالبين 299:5-300.
3- المهذّب - للشيرازي - 367:1، البيان 429:6-430، العزيز شرح الوجيز 308:7.

باليد؛ لأنّه جعلها في حرزٍ أمره المالك به، فلا يفتقر إلى الزيادة.

ب - لو أمره بربطها في كُمّه فجعلها في جيبه، لم يضمن؛

لأنّ الجيب أحرز، فإنّه ربما نسي فسقط الشيء من كُمّه، إلّا إذا كان واسعاً غير مزرور، و هو أحد قولَي الشافعيّة(1).

و لهم وجهٌ ضعيف: إنّه يضمن(2).

و لو انعكس فقال: ضَعْها في جيبك، فربطها في كُمّه، ضمن لا محالة.

ج - إذا ربطها في كُمّه بأمر المالك، فإن جعل الخيط الرابط خارجَ الكُمّ فأخذها الطرّار ضمن؛

لأنّ فيه إظهارَ الوديعة، و هو يتضمّن تنبيه الطرّار و إغراءه، و لأنّ قطعه و حلّه على الطرّار أسهل، و إن ضاع بالاسترسال و انحلال العقدة لم يضمن إذا احتاط في الربط و قوّة الشدّ؛ لأنّها إذا انحلّت بقيت الدراهم في الكُمّ.

و إن جعل الخيط الرابط داخلَ الكُمّ، انعكس الحكم، فإن أخذه الطرّار لم يضمن، و إن سقط بالاسترسال ضمن؛ لأنّ العقد إذا انحلّ تناثرت الدراهم.

و استشكل بعضُ الشافعيّة هذا التفصيلَ؛ لأنّ المأمور به مطلق الربط، فإذا أتى به وجب أن لا ينظر إلى جهات التلف، بخلاف ما إذا عدل عن المأمور به إلى غيره فأفضى إلى التلف، و قضيّة هذا أن يقال: إذا قال: احفظ الوديعة في هذا البيت، فوضعها في زاويةٍ منه فانهدمت عليها، يضمن؛ لأنّها لو كانت في زاويةٍ أُخرى لسلمت، و معلومٌ أنّه بعيد(3).

مسألة 44: إذا أودعه دراهم في طريقٍ أو سوقٍ و لم يقل له: اربطها

ص: 198


1- المهذّب - للشيرازي - 367:1، البيان 430:6، العزيز شرح الوجيز 309:7، روضة الطالبين 300:5. (2 و 3) العزيز شرح الوجيز 309:7، روضة الطالبين 300:5.

في كُمّك، أو: أمسكها في يدك، فربطها في كُمّه و أمسكها بيده، فقد بالغ في الحفظ.

و كذا لو جعلها في جيبه و هو ضيّق أو واسع مزرور، و لو كان واسعاً غير مزرورٍ ضمن؛ لسهولة أخذها باليد.

و لو أمسكها بيده و لم يربطها في كُمّه، لم يضمن إن قلنا: اليد حرز، و إلّا ضمن.

و قال الشافعي: إن تلفت بأخذ غاصبٍ لم يضمن، و إن تلفت بغفلةٍ أو نومٍ أو بسط يدٍ ضمن(1).

و لو ربطها و لم يمسكها بيده، فالحكم النظر إلى كيفيّة الربط وجهة التلف عندهم(2).

و لو وضعها في الكُمّ و لم يربط فسقطت، ضمن.

و فصّل بعضُ الشافعيّة فقال: إن كانت خفيفةً لا يشعر بها ضمن؛ لتفريطه في الإحراز، و إن كانت ثقيلةً يشعر بها لم يضمن(3).

و قياس هذا يلزم طرده فيما سبق من صُور الاسترسال كلّها.

و لو وضعها في كور عمامته من غير شدٍّ، ضمن.

مسألة 45: إذا أودعه شيئاً و هو في السوق أو الطريق أو غيره، و قال:

احفظ هذه الوديعة في بيتك،

وجب على المستودع المبادرة إلى بيته و الإحراز فيه، فإن أخّر من غير عذرٍ ضمن، و لو كان لعذرٍ فلا ضمان.

و كذا لو بادر إلى المضيّ إلى بيته فتلفت، لم يضمن.

ص: 199


1- التهذيب - للبغوي - 121:5، العزيز شرح الوجيز 309:7، روضة الطالبين 300:5.
2- العزيز شرح الوجيز 309:7، روضة الطالبين 300:5.
3- المهذّب - للشيرازي - 367:1، التهذيب - للبغوي - 121:5، البيان 429:6، العزيز شرح الوجيز 309:7، روضة الطالبين 300:5.

و لو تركها في دكّانه و لم يحملها إلى بيته مع إمكانه، ضمنها؛ لأنّ بيته أحرز لها.

و لو أودعه في بيته و قال له: احفظ هذه الوديعة في بيتك، فجَعَلها في ثيابه و خرج بها، ضمن، سواء ربطها و أحكم شدّها أو لا.

و لو ربطها في كُمّه و لم يخرج بها مع إمكان وضعها في الصندوق و نحوه، ضمن.

و لو كان ذلك لتعذّر فتح قفل الصندوق و شبهه، فلا ضمان؛ لأنّه أحرز من البيت.

و لو أودعه في البيت و لم يقل له شيئاً، فخرج بها مربوطةً في ثيابه، احتُمل عدم الضمان؛ لأنّه أحرز عليها بالشدّ و الربط، و ذلك حرز مثلها، و لم ينصّ المُودِع على حرزٍ بعينه.

مسألة 46: إذا نقل المستودع الوديعةَ من صندوقٍ إلى صندوقٍ غيره

أو من خريطةٍ(1) إلى أُخرى أو من ظرفٍ إلى آخَر، فإن كانت الظروف و الصناديق للمالك ضمن؛ لأنّ المالك بوضعه قد عيّن الحرز، فإذا خالف المستودع ضمن، إلّا مع الخوف و الحاجة إلى النقل، و إن كانت للمستودع لم يضمن؛ لأنّ له تفريغَ ملكه، و لا يتعيّن الحفظ فيما وضعه فيه، فجاز له النقل.

و اضطرب قول الشافعيّة هنا.

فقال بعضهم: إن كانت الخريطة للمالك، ضمن المستودع بذلك؛ لأنّه نقلها عن ملك صاحبها إلى غيره، فأشبه ما لو أخرجها من صندوقه، و إن كانت الخريطة للمستودع و قد عيّنها المالك، فإن نقلها إلى مثلها أو

ص: 200


1- الخريطة: وعاءٌ من أَدَمٍ و غيره. الصحاح 1123:3 «خرط».

أحرز منها فلا ضمان، و إن كان دونها في الحرز ضمن(1).

و أطلق بعضهم: إنّه إذا كانت الظروف للمالك لا يضمن(2).

و أطلق آخَرون منهم و الحالة هذه: إنّه يضمن، كما لو نقلها من بيته(3).

و فصَّل آخَرون: إنّه إن لم يَجْر فتح قفلٍ و لا فضّ ختمٍ و لا خَلْط و لم يعيّن المالك ظرفاً، فلا يضمن بمجرّد النقل، سواء كانت الصناديق للمستودع أو للمالك، و إذا كانت للمالك فحصولها في يد المُودَع قد يكون بجهة كونها وديعةً أيضاً إمّا فارغة أو مشغولة بالوديعة، و قد يكون بجهة العارية، و إن جرى شيء من ذلك فأمّا الفضّ و الفتح و الخَلْط فإنّها مضمنة.

و أمّا إذا عيّن ظرفاً، فإن كانت الظروف للمالك فوجهان:

أحدهما: إنّه يضمن؛ لأنّ التفتيش عن المتاع الموضوع في الصندوق و التصرّف فيه بالنقل لا يليق بحال المستودع.

و أصحّهما: عدم المنع؛ لأنّ الظرف و المظروف كلاهما وديعتان، و ليس فيه إلّا حفظ أحدهما في حرزٍ و الآخَر في غيره، فعلى هذا إن نقل إلى المثل أو الأحرز فلا بأس، و إن نقل إلى الأدون ضمن.

و إن كانت الظروف للمستودع، فهي كالبيوت إجماعاً(4).

مسألة 47: لو أمره بالحفظ في بيتٍ معيّن و نهاه عن أن يُدخل إليها أحداً و عن الاستعانة بالحارسين،

فخالف، فإن حصل التلف بسبب المخالفة بأن سرق الذين أدخلهم أو الحارسون، ضمن قطعاً.

ص: 201


1- راجع: البيان 437:6.
2- الوجيز 286:1، العزيز شرح الوجيز 311:7.
3- العزيز شرح الوجيز 311:7.
4- العزيز شرح الوجيز 311:7، روضة الطالبين 302:5.

و إن حصل بغير ذلك السبب إمّا بحريقٍ أو بسرقة غير الداخلين أو نهب غير الحارسين و أشباه ذلك، ففي الضمان إشكال ينشأ: من حصول التفريط بالمخالفة، و لولاه لم يضمن لو تلف بذلك السبب، و من حصول التلف بغير سبب المخالفة. و الأوّل أقوى.

و عند الشافعيّة أنّه لا يضمن على التقدير الثاني(1).

و لو قال: لا تُخبر بوديعتي أحداً، فخالف و أخبر غيره فسرقها المُخْبَر أو مَنْ أخبره، ضمن؛ لإفضاء الإخبار إلى السرقة.

و إن تلفت بسببٍ آخَر، قال بعض الشافعيّة: لا يضمن(2).

و فيه إشكال أقربه: الضمان؛ لحصول التفريط بالإخبار، و إلّا لم يضمن لو سرقه المُخْبَر.

قال بعض الشافعيّة: لو أنّ رجلاً من عرض الناس سأل المستودعَ:

هل لفلان عندك وديعة ؟ فأخبره بها، ضمن؛ لأنّ كتمانها من حفظها، فإذا أخبره فقد ترك الحفظ(3).

مسألة 48: لو أودعه خاتماً و أمره بجَعْله في خِنْصِره، فجَعَله في البِنْصِر، لم يضمن؛

لأنّه زاده حفظاً و حراسةً، فإنّ البِنْصر أغلظ من الخِنْصِر، و الحفظ فيه أكثر.

و لو انكسر لغلظها، ضمن.

و كذا يضمن لو ضاق عنها فوضعه في أنملته العليا من البِنْصِر؛ لأنّه في أصل الخِنْصِر أحرز.

و لو قال: اجعله في البِنْصِر، فجَعَله في الخِنْصِر، فإن كان ضيّقاً لا ينتهي إلى أصل البِنْصِر لم يضمن؛ لأنّ الذي فَعَله أحرز، و إن كان ينتهي

ص: 202


1- البيان 428:6، العزيز شرح الوجيز 311:7-312، روضة الطالبين 302:5. (2 و 3) العزيز شرح الوجيز 312:7، روضة الطالبين 303:5.

إليه ضمن؛ لأنّ ما يثبت في البِنْصِر إذا جُعل في الخِنْصِر كان في معرض السقوط.

و لو لم يعيّن المالك شيئاً، فإن جَعَله في الخِنْصِر لم يضمن إن قصد الحفظ؛ لأنّ الخِنْصِر حرز في مثل الخاتم، و إن قصد الاستعمال و التزيّن به ضمن، و هو أحد الاحتمالين عند الشافعيّة.

و الثاني: إنّه يضمن - و به قال أبو حنيفة - لأنّه استعمال(1).

و قال بعض الشافعيّة: إن جعل فَصَّه إلى ظهر الكفّ ضمن، و إلّا فلا؛ لأنّه بجَعْله إلى ظهر الكفّ يكون قد قصد الاستعمال(2).

لكن من آداب التختّم جَعْل الفَصّ إلى بطن الكفّ، و هو يقدح في هذا التعليل.

و لو جعله في البِنْصِر أو غيره غير الخِنْصِر، لم يضمن إذا انتهى إلى آخر الإصبع، إلّا أنّ المرأة قد تتختّم في غير الخِنْصِر، فيكون غير الخِنْصِر في حقّها كالخِنْصِر.

مسألة 49: إذا عيّن المالك له موضعاً للحفظ، لم يجز للمستودع التجاوز عنه،

و يضمن لو نقل على ما تقدّم(3).

و لو كان الحرز الذي عيّنه بعيداً عنه، وجبت المبادرة إليه بما جرت العادة، فإن أخّر متمكّناً ضمن.

و لو لم يعيّن موضعاً للحفظ، وجب على المستودع حفظها في حرز مثلها، و لا يضمن بالنقل عنه و إن كان إلى حرزٍ أدون.

ص: 203


1- الوسيط 510:4، التهذيب - للبغوي - 122:5، العزيز شرح الوجيز 312:7، روضة الطالبين 303:5، المبسوط - للسرخسي - 14:11.
2- العزيز شرح الوجيز 312:7، روضة الطالبين 303:5.
3- في ص 183، القسم الثاني من أقسام نقل الوديعة، ضمن المسألة 33.
البحث السادس: في التضييع.
مسألة 50: من الأسباب المقتضية للتقصير التضييعُ،

فإنّ المستودع مأمور بحفظ الوديعة في حرز مثلها بالتحرّز عن أسباب التلف، فلو أخّر إحرازها مع الإمكان ضمن.

و لو جعلها في مضيعةٍ أو في غير حرز مثلها، فكذلك.

و لو جعلها في حرزٍ أكبر من حرز مثلها ثمّ نقلها إلى حرز مثلها، لم يضمن؛ لأنّ الواجب هو الثاني، و الأوّل تبرّعٌ منه.

و لا فرق بين أن يكون التضييع بالنسيان أو غيره، فلو استودع فضيّع الوديعة بالنسيان ضمن؛ لأنّه فرّط في حفظها، و لأنّ التضييع سبب التقصير، فيستوي فيه الناسي و غيره، كالإتلاف، و هو أحد وجهي الشافعيّة.

و الثاني: إنّه لا يضمن؛ لأنّ الناسي غير متعدٍّ، و المستودع إنّما يضمن بالتعدّي(1).

و الصغرى ممنوعة، و حكم الخطأ حكم النسيان، فلو استودع آنيةً فكسرها مخطئاً ضمن، و لأنّ الناسي مفرّط، و لهذا لو نسي الماء في رَحْله فتيمّم فصلّى ثمّ ذكر، وجب عليه القضاء، و لأنّه لو انتفع بالوديعة ثمّ ادّعى الغلط و قال: ظننته ملكي، لم يُصدَّق، مع أنّ هذا الاحتمال قريب، فعُلم أنّ الغلط غير دافعٍ للضمان.

مسألة 51: لو سعى المستودع بالوديعة إلى مَنْ يصادر المالك و يأخذ أمواله، كان ضامناً؛

لأنّه فرّط في الحفظ، بخلاف ما لو كانت السعاية من غير المستودع، فإنّه لا يضمن؛ لأنّه لم يلتزم بالحفظ.

ص: 204


1- الوسيط 511:4، الوجيز 286:1، العزيز شرح الوجيز 313:7، روضة الطالبين 303:5.

و لو أخبر المستودعُ اللّصَّ بالوديعة فسرقها، فإن عيّن له الموضعَ ضمن؛ لأنّه فرّط في حفظها، و لو لم يُعيّن المكانَ لم يضمن.

أمّا لو علم الظالم بالوديعة من غير إعلام المستودع فأخذها منه قهراً، فإنّه لا يضمن، كما لو سُرقت منه.

و إن أكرهه الظالم حتى دفعها بنفسه، فكذلك لا ضمان عليه؛ لانتفاء التفريط منه، بل يُطالِب المالكُ الظالم بالضمان، و لا رجوع له إذا غرم.

و هل للمالك مطالبة المستودع بالعين أو البدل ؟ الأقرب ذلك؛ لأنّه مباشر لتسليم مال الغير إلى غير مالكه، فإذا رجع المالك عليه رجع هو على الظالم، و هو أحد وجهي الشافعيّة، و في الثاني: ليس له ذلك(1).

و هذان الوجهان كالوجهين في أنّ المُكرَه على إتلاف مال الغير هل يطالَب أم لا؟(2).

و على كلّ تقديرٍ فقرار الضمان على الظالم.

و معنى القرار أن لا يرجع الشخص إذا غرم، و يرجع عليه غيره إذا غرم.

مسألة 52: إذا خاف المستودع من الظالم إذا منعه من الوديعة و أمكنه مدافعته بالإنكار و الاختفاء عنه و الامتناع منه، وجب عليه ذلك

على حسب ما يقدر عليه، فإن ترك الدفع مع القدرة ضمن.

و إن أنكر المستودع الوديعةَ فطلب الظالم إحلافه، جاز له أن يحلف لمصلحة حفظ الوديعة، و يورّي إذا كان يُحسنها وجوباً.

و لا كفّارة عليه عندنا، خلافاً للجمهور، فإنّهم أوجبوا الكفّارة؛ لأنّه

ص: 205


1- العزيز شرح الوجيز 313:7-314، روضة الطالبين 304:5.
2- العزيز شرح الوجيز 314:7، روضة الطالبين 304:5.

كاذب(1).

قال بعض الشافعيّة: وجوب الكفّارة مبنيٌّ على أنّ مَنْ أُكره ليطلّق إحدى امرأتيه فطلّقها، هل يقع أم لا؟ إن قلنا: لا يقع، لم تنعقد يمينه(2).

و لو أُكره على أن يحلف بالطلاق أو العتاق، حلف، و لا يقع أحدهما و إن كان كاذباً؛ لبطلان اليمين بأحدهما عندنا، و لا يسلّم الوديعة إلى الظالم.

و قالت العامّة: حاصل هذا الإكراه التخيير بين الحلف و بين الاعتراف و التسليم، فإن اعترف و سلّم ضمن؛ لأنّه قد فدى زوجته بالوديعة، و إن حلف بالطلاق طُلّقت زوجته؛ لأنّه قدر على الخلاص بتسليم الوديعة ففدى الوديعة بالطلاق(3).

و قال بعض الشافعيّة: إن قلنا: إنّ مَنْ أُكره على طلاق إحدى امرأتيه فطلّق لا يقع، فهنا إن حلف بالطلاق لم يقع، و إن اعترف بالوديعة و سلّمها كان كما لو سلّمها مكرهاً(4).

البحث السابع: في الجحود.
مسألة 53: إذا طلب المالك الوديعةَ من المستودع فجحدها، كان ضامناً؛ لخيانته بالإنكار.

و لو كان الجحود لمصلحة الوديعة، لم يضمن؛ لأنّه محسن.

و لو لم يطلبها المالك لكن قال: لي عندك وديعة، فإن سكت لم يضمن؛ إذ لم يوجد منه تفريط و لا خيانة.

ص: 206


1- الوسيط 512:4، العزيز شرح الوجيز 314:7، روضة الطالبين 304:5.
2- العزيز شرح الوجيز 314:7.
3- العزيز شرح الوجيز 314:7، روضة الطالبين 304:5.
4- العزيز شرح الوجيز 314:7.

و ان أنكر فالأقرب: عدم الضمان؛ لأنّه لم يمسكها لنفسه، بخلاف ما لو أنكر بعد الطلب، و قد يعرض له في الإخفاء و الإنكار غرض صحيح.

و يحتمل الضمان، كما لو أنكر بعد الطلب.

و كلاهما للشافعيّة(1).

و لو قال بعد الجحود: كنتُ غلطتُ أو نسيتُ الوديعة، فإن صدّقه المالك لم يضمن، و إلّا فالأقرب: الضمان.

مسألة 54: لو قال المستودع ابتداءً من غير سؤال المالك: لا وديعة عندي،

أو قال ذلك في جواب سؤال غير المالك، لم يضمن بمجرّد الجحود و الإنكار؛ لأنّه لغير المالك، و الوديعة يُسعى في إخفائها، فإنّه أقرب للحفظ، سواء كان المالك حاضراً أو غائباً، و لا نعلم فيه خلافاً.

مسألة 55: لو ادّعي عليه وديعةٌ فأنكر قُدّم قوله مع اليمين،

فإن أقرّ بعد ذلك بها أو قامت عليه بيّنة بها طُولب بها.

فإن ادّعى ردَّها أو تلفها قبل الجحود، فإن كانت صورة جحوده إنكار أصل الإيداع لم يُصدَّق في دعوى الردّ؛ لاشتمال كلاميه على التناقض، و ثبوت خيانته، و أمّا في دعوى التلف فيُصدَّق أيضاً باليمين، لكنّه يكون ضامناً، كالغاصب.

و الأقوى: إنّ له تحليف المالك على عدم دعواه؛ لإمكان أن يكون قد نسي الوديعة فجحدها ثمّ ذكر فادّعى التلف لوقوعه، أو كذب في جحوده، و لأنّه لو صدّقه المالك في التالف بغير تفريطٍ أو في دعوى الردّ سقط حقّه، و كان متمكّناً من إحلافه و من إقامة البيّنة على دعوى الردّ أو التلف، و هذا كما لو ادّعى حقّاً و قال: لا بيّنة لي، ثمّ جاء بالبيّنة فإنّها تُسمع منه، كذا هنا.

ص: 207


1- العزيز شرح الوجيز 315:7، روضة الطالبين 304:5.

و هو أحد وجهي الشافعيّة، و الثاني: المنع؛ لأنّه لمّا أنكر أصل الإيداع كان مكذّباً لدعوى التلف و لبيّنة الردّ؛ لتوقّفهما على الإيداع(1).

إذا تقرّر هذا، فإن قامت البيّنة على الردّ أو على الهلاك قبل الجحود برئ المستودع من الضمان، و إن قامت البيّنة على التلف بعد الجحود ضمن؛ لخيانته بالجحود، و مَنْعِ المالك عنها، إلّا إذا كان له عذر من خوفٍ عليه أو عليها لو اعترف.

هذا كلّه إذا كانت صورة الجحود إنكار أصل الإيداع، و إن كانت صورة جحوده: إنّه لا يلزمني تسليم شيءٍ إليك، أو: ما لك عندي وديعة، أو: ليس لك عندي شيء، فقامت البيّنة بالوديعة، فادّعى الردَّ أو التلف قبل الجحود، سُمعت دعواه؛ لانتفاء التناقض بين كلاميه.

و لو اعترف أنّه كان باقياً يوم الجحود، لم يُصدَّق في دعوى الردّ، إلّا ببيّنةٍ.

و إن ادّعى الهلاك، فهو كالغاصب إذا ادّعاه، و هو مصدَّق بيمينه في دعواه، و ضامن؛ لخيانته، و هو ظاهر مذهب الشافعي(2).

ص: 208


1- العزيز شرح الوجيز 315:7، روضة الطالبين 305:5.
2- العزيز شرح الوجيز 315:7، روضة الطالبين 305:5.

الفصل الرابع: في وجوب الردّ عند البقاء

مسألة 56: إذا كانت الوديعة باقيةً و طلبها مالكها، وجب على المستودع ردّها عليه في أوّل أوقات الإمكان،

و لا تجب عليه مباشرة الردّ و لا تحمّل مئونته، بل ذلك على المالك، و إنّما يجب على المستودع رفع يده عنها و التخلية بين المالك و الوديعة، فإن أخّر المستودع ذلك مع إمكانه و طلب الردّ، كان ضامناً، و كان ذلك من أسباب التقصير، السالفة.

و لو تعذّر الردّ، لم يضمن، و تجب عليه المبادرة في أوّل أوقات زوال العذر، فلو طالبه بالردّ ليلاً و الوديعة في صندوقٍ أو خزانةٍ لا يمكن فتحها في تلك الحال، لم يكن مفرّطاً.

و كذا لو طالبه و هو مشغول بالصلاة أو بقضاء حاجةٍ أو طهارة أو في حمّامٍ أو على طعامٍ فأخّر حتى يفرغ، أو كان ملازماً لغريمٍ يخاف فوته، أو كان يجيء المطر و الوديعة في البيت و أخّر حتى ينقطع و يرجع إلى البيت و ما أشبه ذلك، فهو جائز.

و لا يُعدّ ذلك تقصيراً و لا يؤثّر ضماناً لو تلفت الوديعة في تلك الحال، على إشكالٍ أقربه: التفصيل، و هو: إنّ التأخير إن كان لتعذّر الوصول إلى الوديعة فلا ضمان، و كذا لو كان في صلاة فَرْضٍ.

و إن كان لعُسْرٍ يلحقه و غرض يفوته أو كان في صلاة نَفْلٍ، فالأقرب:

إنّه يضمن؛ لأنّ دفع الوديعة إلى المالك مع المطالبة واجب مضيَّق، و هذه الأشياء ليست أعذاراً فيه.

و بعض الشافعيّة جوّز له التأخيرَ في هذه الأشياء بشرط التزام خطر

ص: 209

الضمان(1).

مسألة 57: لو طلب المالك الوديعةَ، فقال: لا أردّ إليك حتى تُشهد عليك بالقبض،

فالأقرب: إنّ المالك إن كان وقت الدفع أشهد عليه بالإيداع فللمستودع ذلك؛ ليدفع عن نفسه التهمة، و إن لم يكن المالك أشهد عليه عند الإيداع لم يكن له ذلك، و يكون ضامناً، و هو أحد وجوه الشافعيّة.

و الثاني: إنّه ليس للمستودع ذلك مطلقاً؛ لأنّ قوله في الردّ مقبول، فلا حاجة به إلى البيّنة.

و الثالث: إنّ له الامتناعَ مطلقاً؛ لئلّا يحتاج إلى اليمين، فإنّ الأُمناء يحترزون عنها ما أمكنهم.

و الرابع: إنّه إن كان التوقّف إلى الإشهاد يورث تأخيراً و تعويقاً في التسليم، لم يكن له الامتناع، و إلّا فله ذلك(2).

مسألة 58: و إنّما يجب عليه الردّ عند الطلب لو كان المردود عليه أهلاً للقبض،

فلو أودع ثمّ حجر الحاكم عليه للسفه لم يجب الدفع إليه، بل يرفع أمره إلى الحاكم.

و كذا لو كان الحجر للفلس؛ لتعلّق حقّ الغرماء بعين الوديعة.

و لو كان المالك نائماً فوضع المستودع الوديعةَ في يده، كان ضامناً؛ لعدم التكليف على النائم.

و لو كان المُودِع جماعةً و ذكروا أنّ المال مشترك بينهم، ثمّ جاء بعضهم يطلبه، لم يكن للمستودع دفعه إليه و لا قسمته معه، بل يرفع

ص: 210


1- الغزالي في الوسيط 514:4، و الوجيز 287:1.
2- العزيز شرح الوجيز 268:5-269، و 316:7، روضة الطالبين 570:3، و 306:5.

الأمر(1) إلى الحاكم، فيقسمه و يدفع إليه نصيبه، و يجعل الباقي في يد المستودع.

مسألة 59: لو أمره المالك بدفع الوديعة إلى وكيله و ردِّها عليه، فطلبها الوكيلُ، لم يكن للمستودع الامتناع و لا التأخير مع المكنة،

فإن فَعَل أحدهما كان ضامناً، و حكمه حكم ما لو طلب المالك فلم يردّ، إلّا أنّهما يفترقان في أنّ المستودع له التأخير هنا إلى أن يُشهد المدفوع إليه على القبض؛ لأنّ المدفوع إليه - و هو الوكيل - لو أنكر الدفع صُدّق بيمينه، و ذلك يستلزم ضرر المستودع بالغرم.

مسألة 60: لو قال له المالك: ردّ الوديعةَ على فلان وكيلي، فلم يطلب الوكيلُ الردَّ،

فإن لم يتمكّن المستودع من الردّ فلا ضمان عليه قطعاً؛ لعدم تقصيره.

و إن تمكّن من الردّ، احتُمل الضمان؛ لأنّه لمّا أمره بالدفع إلى وكيله فكأنّه عزله، فيصير ما في يده كالأمانات الشرعيّة.

و للشافعيّة فيه وجهان جاريان في كلّ الأمانات الشرعيّة، كالثوب تطيّره الريح إلى داره، و فيه للشافعيّة وجهان:

أحدهما: إنّها تمتدّ إلى المطالبة، كالودائع.

و أظهرهما: إنّها تنتهي بالتمكّن من الردّ(2).

و يجري الوجهان في مَنْ وجد ضالّةً و هو يعرف مالكها(3).

و لو قال المالك للمستودع: ردّ الوديعةَ على مَنْ قدرتَ عليه من

ص: 211


1- في «ث، ج»: «أمره» بدل «الأمر».
2- الوجيز 287:1، العزيز شرح الوجيز 317:7، روضة الطالبين 306:5.
3- العزيز شرح الوجيز 317:7، روضة الطالبين 306:5.

وكلائي و لا تؤخّر، فقدر على الردّ على بعضهم و أخّر ليردّه على غيره، فهو ضامن عاصٍ بالتأخير.

و لو لم يقل: و لا تؤخّر، فأخّر ضمن بالتأخير.

و في العصيان للشافعيّة وجهان(1).

مسألة 61: لو أمره المالك بالدفع إلى وكيله، أو أمره بالإيداع لمّا دفعه إليه ابتداءً،

فالأقرب: إنّه لا يجب على المدفوع إليه الإشهاد على الإيداع، بخلاف قضاء الدَّيْن؛ لأنّ الوديعة أمانة، و قول المستودع مقبول في الردّ و التلف، فلا معنى للإشهاد، و لأنّ الودائع حقّها الإخفاء، بخلاف قضاء الدَّيْن، و هو أظهر وجهي الشافعيّة.

و الثاني لهم: إنّه يلزمه الإشهاد، كقضاء الدَّيْن(2).

و قد بيّنّا الفرق.

و على القول الثاني الحكم فيه كما في الوكالة من أنّه إن دفع في غيبة المالك من غير إشهادٍ ضمن، و إن دفع و هو حاضر لم يضمن.

مسألة 62: إذا طلب المالك من المستودع الردَّ فادّعى التلفَ، فالقول قوله مع اليمين

عند علمائنا، سواء ادّعى التلف بسببٍ ظاهرٍ أو خفيٍّ؛ لأنّه أمين في كلّ حال، فكان القولُ قولَه في كلّ حالٍ، هو أمين فيها.

و قال الشافعي: إمّا أن يذكر المستودع سبب التلف، أو لا، فإن ذكر السبب فإن كان خفيّاً كالسرقة، قُبِل قوله مع اليمين؛ لأنّه قد ائتمنه، فليصدّقه.

و إن كان سبباً ظاهراً - كالحريق و الغارة و السيل - فإن لم يعرف ما يدّعيه بتلك البقعة لم يُقبل قوله، بل يُطالَب بالبيّنة على ما يدّعيه، ثمّ يُقبل قوله مع يمينه في حصول الهلاك به.

ص: 212


1- العزيز شرح الوجيز 317:7، روضة الطالبين 306:5.
2- العزيز شرح الوجيز 317:7، روضة الطالبين 307:5.

و إن عرف ما يدّعيه بالمشاهدة أو الاستفاضة، فإن عرف عمومه صُدّق بغير يمينٍ، و إن لم يعرف عمومه و احتمل أنّه لم يصب الوديعة صُدّق باليمين.

و إن لم يذكر سبب التلف صُدّق بيمينه، و لا يكلَّف بيان سبب التلف، و إن نكل المستودع عن اليمين حلف المالك على نفي العلم بالتلف و استحقّ(1).

و لا بأس بهذا القول عندي.

و هل يلحق موت الحيوان و الغصب بالأسباب الظاهرة أو الخفيّة ؟ إشكال.

مسألة 63: إذا ادّعى المستودع ردَّ الوديعة، فإمّا أن يدّعي ردَّها على مَن ائتمنه أو على غيره.

فإن ادّعى ردَّها على مَن ائتمنه - و هو المالك - قُدّم قوله باليمين على إشكالٍ ينشأ: من أنّه أمين يُقبل قوله مع اليمين كالتلف، و من كونه مدّعياً فافتقر إلى البيّنة، فإن قدّمنا قوله باليمين فإن مات قبل أن يحلف، ناب عنه وارثه، و انقطع الطلب عنه بحلفه.

و قال الشافعي: إنّه يُقدَّم قول المستودع مع اليمين كالتلف، و لأنّه أمين له لا منفعة له في قبضه، و بهذا خالف المرتهن، فإنّه أمين مع أنّه لا يُقبل قوله؛ لأنّه قبضه لمنفعته(2).

ص: 213


1- العزيز شرح الوجيز 318:7، روضة الطالبين 307:5.
2- الأُمّ 136:4، مختصر المزني: 147، الإشراف على مذاهب أهل العلم 411/254:1، الحاوي الكبير 371:8، المهذّب - للشيرازي - 369:1، الوجيز 287:1، الوسيط 515:4، حلية العلماء 175:5، التهذيب - للبغوي - 127:5، البيان 445:6، العزيز شرح الوجيز 318:7، روضة الطالبين 307:5، الإشراف على نكت مسائل الخلاف 1065/624:2، بداية المجتهد 310:2، عيون المجالس 1214/1727:4، المعونة 1204:2.

و قال مالك: إنّه إن لم يُشهد عليه بالإيداع صُدّق في دعوى الردّ، و إن أشهد عليه لم يُصدَّق(1).

و إن ادّعى [الردَّ](2) على غير مَن ائتمنه، طُولب بالبيّنة؛ لأنّ الأصل عدم الردّ، و هو لم يأتمنه، فلا يُكلّف تصديقه.

مسألة 64: لو طلب المالك الوديعةَ، فقال المستودع: أودعتُها عند وكيلك فلان بإذنك،

فإن أنكر المالك الإذنَ و الوكالةَ صُدّق باليمين إذا لم تكن بيّنة؛ لأنّه منكر.

فإذا حلف نُظر إن كان فلان مُقرّاً بالقبض و الوديعة باقية، رُدّت على المالك، فإن غاب المدفوع إليه كان للمالك أن يغرم المستودع، فإذا قدم الغائب أخذها المستودع و ردّها على المالك و استردّ البدل الذي دفعه.

و إن كانت تالفةً، فللمالك أن يغرم مَنْ شاء منهما، و ليس للغارم منهما أن يرجع على صاحبه؛ لزعمه أنّ المالك ظالم بما أخذ.

و إن أنكر فلان القبضَ الذي ادّعاه المستودع، قُدّم قوله مع اليمين و عدم البيّنة، فحينئذٍ يختصّ الغرم بالمستودع.

و إن اعترف المالك بالإذن و أنكر الدفع إلى فلان، احتُمل تصديقُ المستودع، و كان دعوى الردّ على وكيل المالك كدعوى الردّ على المالك

ص: 214


1- الإشراف على نكت مسائل الخلاف 1065/624:2، بداية المجتهد 310:2، التفريع 270:2، التلقين: 434-435، الذخيرة 145:9، عيون المجالس 1214/1727:4، المعونة 1204:2، الإشراف على مذاهب أهل العلم 411/254:1، الحاوي الكبير 371:8، حلية العلماء 175:5، العزيز شرح الوجيز 318:7-319.
2- إضافة يقتضيها السياق.

- و هو وجهٌ للشافعيّة و قول أبي حنيفة(1) - و تصديقُ المالك في عدم الدفع؛ لأنّ المستودع يدّعي [الردَّ](2) على مَنْ لم يأتمنه، و هو أصحّ وجهي الشافعيّة(3).

و لو وافق فلان المدفوع إليه المستودعَ في الدفع و قال: إنّها تلفت في يدي، لم يُقبل قوله على المالك، بل يحلف و يضمن المستودع.

و لو اعترف المالك بالإذن و الدفع معاً، لكنّه قال: إنّك لم تُشهد عليه، و المدفوع إليه ينكر، كان مبنيّاً على الخلاف السابق في وجوب الإشهاد على الإيداع، إن أوجبناه ضمن، و إلّا فلا.

و لو اتّفقوا جميعاً على الدفع إلى الأمين الثاني و ادّعى الأمين الثاني الردَّ على المالك أو التلف في يده، كان حكمه حكم المستودع الأوّل من أنّه يُصدَّق باليمين في دعوى التلف، و أمّا في الردّ فإشكال.

هذا فيما إذا عيّن المالك الثاني، فأمّا إذا أمره بأن يودع أميناً و لم يعيّن، فادّعى الثاني التلفَ، صُدّق باليمين.

و إن ادّعى الردَّ على المالك و أنكر المالك، قُدّم قول المالك باليمين؛ لأنّه يدّعي الردَّ هنا على غير مَن ائتمنه.

و يحتمل مساواته للمعيَّن؛ لأنّ أمينَ أمينِه أمينُه، كما يقال عند بعض الشافعيّة: وكيلُ وكيلِه وكيلُه(4).5.

ص: 215


1- الحاوي الكبير 372:8، التهذيب - للبغوي - 128:5، البيان 446:6، العزيز شرح الوجيز 320:7، روضة الطالبين 309:7.
2- إضافة يقتضيها السياق.
3- الإشراف على مذاهب أهل العلم 412/254:1، الحاوي الكبير 372:8، التهذيب - للبغوي - 128:5، البيان 446:6، العزيز شرح الوجيز 320:7، روضة الطالبين 309:7.
4- العزيز شرح الوجيز 320:7، روضة الطالبين 310:5.
مسألة 65: إذا أراد المستودع سفراً فأودعها أميناً، فادّعى ذلك الأمين التلفَ، قُبِل قوله مع اليمين.

و لو ادّعى الردَّ على المالك، لم يُصدَّق إلّا بالبيّنة؛ لأنّه لم يأتمنه.

و إن ادّعى الردَّ على المستودع، قُبِل قوله مع اليمين؛ لأنّه ادّعى الردَّ على مَن ائتمنه إن قلنا بتقديم قول المستودع في الردّ.

و لو عاد المستودع الأوّل من سفره، فهل له استعادتها من الثاني ؟ فيه إشكال ينشأ: من أنّه المستودع بالأصالة، و من أنّه بريء من الحفظ المأمور به.

و لا ريب في أنّ للمستودع الاستردادَ من الغاصب.

و لو كان المالك قد عيّن أميناً، فقال للمستودع: إذا سافرتَ فاجعل الوديعةَ عند فلان، ففَعَل ثمّ ادّعى فلان الردَّ على المالك، صُدّق باليمين إن قدّمنا قول المستودع فيه؛ لأنّه ادّعى [الردَّ] على مَن ائتمنه.

و إن ادّعى الردَّ على المستودع الأوّل، لم يُقبل إلّا بالبيّنة.

مسألة 66: إذا مات المالك، وجب على المستودع ردّ الوديعة إلى ورثته؛ لانتقال ملكها إليهم، فإن أخَّر مع التمكّن من الردّ إليهم كان ضامناً،

و هو أصحّ وجهي الشافعيّة(1).

و لو لم يجد الوارث، دَفَعها إلى الحاكم؛ لأنّه وليّ الغائب.

و لا فرق بين أن يعلم الورثة بالوديعة أو لا.

و قال بعض الشافعيّة: إنّما يجب عليه الدفع إلى الورثة أو إلى الحاكم لو لم يعلموا بالوديعة، أمّا إذا علموا بها فلا يجب الدفع إلّا بعد الطلب(2).

ص: 216


1- التهذيب - للبغوي - 126:5، العزيز شرح الوجيز 319:7، روضة الطالبين 307:5-308.
2- العزيز شرح الوجيز 319:7، روضة الطالبين 308:5.

و لا بأس به.

و لو طالبه الوارث، فقال: رددت الوديعةَ إلى المالك، أو تلفت في يدي حال حياته، قُدّم قوله مع اليمين.

أمّا لو قال: رددتُها عليك، فأنكر الوارث، قُدّم قول الوارث مع اليمين قطعاً؛ لأنّه ادّعى الردَّ على مَنْ لم يأتمنه.

و للشافعيّة وجهان، هذا أحدهما، و الثاني: إنّ القول قول المستودع؛ لأصالة براءة ذمّته(1).

مسألة 67: لو مات المستودع، وجب على وارثه ردّ الوديعة إلى مالكها،

فلو أخّر الدفع بعد التمكّن من الردّ فتلفت في يده ضمن، و هو أصحّ وجهي الشافعيّة، و الثاني: لا يضمن؛ لأنّه لم يطلب منه(2).

و لو كان المالك غائباً، سلّمها الوارث إلى الحاكم.

فإن اختلفا فادّعى وارث المستودع ردَّ مورّثه على المالك، أو قال:

تلفت في يده، فالأقرب: تقديم قوله مع اليمين؛ لأصالة براءة ذمّته، و عدم حصولها في يده.

و للشافعيّة وجهان، هذا أصحّهما، و الثاني: إنّه يُطالَب بالبيّنة؛ لأنّ المالك لم يأتمنه حتى يصدّقه(3).

و هو غلط؛ لأنّ الضمان يترتّب على الاستيلاء و لم يثبت.

أمّا لو قال: أنا رددت عليك، و أنكر المالك؛ فإنّ القول قول المالك.

ص: 217


1- التهذيب - للبغوي - 127:5، العزيز شرح الوجيز 319:7، روضة الطالبين 308:5، و فيها أنّ الوجهين فيما لو ادّعى المستودع تلف الوديعة في يده قبل تمكّنه من الردّ، لا فيما إذا ادّعى الردّ على الوارث.
2- التهذيب - للبغوي - 126:5، العزيز شرح الوجيز 319:7، روضة الطالبين 308:5.
3- العزيز شرح الوجيز 319:7، روضة الطالبين 308:5.

و لو قال: تلفت في يدي قبل التمكّن، احتُمل تقديمُ قوله؛ لأنّه أمين، و جرى مجرى الثوب تطيّره الريح إلى داره، و تقديمُ قول المالك؛ لقوله عليه السلام: «على اليد ما أخذت حتى تؤدّي»(1).

و لو قال مَنْ طيَّر الريحُ الثوبَ إلى داره: رددت على المالك، أو قال الملتقط: رددت على المالك، لم يُصدَّقا إلّا بالبيّنة.

مسألة 68: لو كان في يد رجلٍ مالٌ، فادّعى رجلان الإيداع،

فقال كلّ واحدٍ منهما: إنّ هذا المال لي وديعة عندك، فإن كذّبهما معاً فالقول قوله مع اليمين، فيحلف لكلّ واحدٍ منهما، و تسقط دعواهما، و يحلف لكلّ واحدٍ منهما أنّها له و ملكه، أو أنّه لا يلزمه تسليمه إليه.

و لو أقرّ به لأحدهما بعينه، حُكم بها للمُقرّ له، و دفع إليه، و يحلف للآخَر، فإذا حلف سقطت دعوى الآخَر، و إن نكل حلف الآخَر، و كان له إلزامه بالمثل إن كان مثليّاً، و إلّا فالقيمة وقت الحلف أو الإقرار؟ إشكال.

و للشافعيّة في إحلاف الآخَر قولان مبنيّان على أنّ مَنْ أقرّ بعينٍ في يده لزيدٍ ثمّ أقرّ بها لعمرو هل يغرم لعمرو أو لا؟ فإن قلنا: يغرم، حلف، و إن قلنا: لا يغرم، فلا وجه لإحلافه؛ لعدم الفائدة(2).

و على القول بالإحلاف للآخَر للشافعيّة قولان في يمين المدّعي مع نكول المدّعى عليه.

أحدهما: إنّ ذلك يجري مجرى البيّنة.

و الثاني: إنّه يجري مجرى الإقرار.

فخرّج أبو العباس ابن سريج من الشافعيّة في هذا الموضع ثلاثةَ أوجُه:

ص: 218


1- تقدّم تخريجه في الهامش (1) من ص 161.
2- البيان 447:6-448، العزيز شرح الوجيز 321:7، روضة الطالبين 310:5.

أحدها: إنّه يوقف المدّعى بينهما إلى أن يصطلحا؛ لأنّ الإقرار للأوّل قد تقدّم، و قد حصل هنا ما هو أقوى من الإقرار، فاستويا.

و الثاني: إنّه يُقسم بينهما، كما لو أقرّ لهما.

و الثالث - و هو المذهب المشهور عندهم -: إنّه يغرم للثاني، كما لو اعترف له بعد الإقرار الأوّل(1)(2).

و قال بعض الشافعيّة بعبارةٍ أُخرى: إذا أقرّ لأحدهما، فهل للآخَر دعوى القيمة ؟ يبنى على الخلاف في الغُرْم لو أقرّ للثاني، إن قلنا: يغرم، فنعم، و إن قلنا: لا، فيبنى على أنّ اليمين بعد النكول كالإقرار أو كالبيّنة ؟ إن قلنا: كالإقرار، لم يدّع القيمة، و إن قلنا: كالبيّنة، فله دعواها، فإن حلف برئ، و إن نكل حلف المدّعي و أخذها، و لا تنزع العين من الأوّل؛ لأنّها و إن كانت كالبيّنة فليست كالبيّنة في حقّ غير المتداعيين(3).

و إن قال: هو لكما، دُفع إليهما معاً، و يكون بمنزلة مالٍ في يد شخصين يتداعيانه، فإن حلف أحدهما قضي له بها، و لا خصومة للآخَر مع المستودع؛ لنكوله، و إن نكلا جُعل بينهما، و كذا لو حلفا، و يكون حكم كلّ واحدٍ منهما في النصف كالحكم في الكلّ في حقّ غير المُقرّ له، و قد تقدّم.

مسألة 69: لو قال: المال لأحدكما و قد نسيتُ عينه، فإن قلنا: إنّ المستودع يضمن بالنسيان، فهو ضامن.

و إن لم نضمّنه بالنسيان نُظر، فإن صدّقاه في النسيان فلا خصومة لهما معه، بل الخصومة بينهما، فإن اصطلحا على شيءٍ فذاك، و إلّا جُعل المال كأنّه في أيديهما يتداعيانه؛ لأنّ صاحب اليد يقول: إنّ اليد لأحدهما، و ليس

ص: 219


1- الظاهر: «للأوّل».
2- البيان 448:6، العزيز شرح الوجيز 321:7، روضة الطالبين 310:5.
3- العزيز شرح الوجيز 321:7.

أحدهما أولى من الآخَر.

و لبعض الشافعيّة وجهٌ آخَر: إنّه كمالٍ في يد ثالثٍ يتداعاه اثنان؛ لأنّه لم يثبت لأحدهما يدٌ عليه(1).

فإن قلنا بالأوّل فإن أقام كلٌّ منهما بيّنةً أو حلفا أو نكلا فهو بينهما، و إن أقام أحدهما البيّنةَ أو حلف و نكل صاحبه قُضي له.

و إن قلنا بالثاني لو أقام كلٌّ منهما بيّنةً، فعلى الخلاف في تعارض البيّنتين، و إن نكلا أو حلفا وُقف المال بينهما.

و سواء قلنا بالوجه الأوّل أو الثاني فإنّ المال يُترك في يد المدّعى عليه إلى أن تنفصل الحكومة بينهما على أحد قولَي الشافعيّة؛ لأنّه لا بدّ من وضعه عند أمينٍ، و هذا أمين لم تظهر منه خيانة، و الثاني: إنّه يُنزع منه؛ لأنّ مطالبتهما بالردّ تتضمّن عزله(2).

و هذان القولان للشافعيّة فيما إذا طلب أحدهما الانتزاعَ و الآخَر التركَ، فأمّا إن اتّفقا على أحد الأمرين فإنّ الحاكم يتبع رأيهما(3).

و يمكن أن يكون هذا مبنيّاً على أنّه يجعل المال كأنّه في يدهما، و إلّا فيتبع الحاكم رأيه.

هذا إذا صدّقاه في النسيان، و إن كذّباه فيه و ادّعى كلّ واحدٍ منهما علمَه بأنّه المالك، و قالا: إنّك تعلم لمَن الوديعة منّا، فالقول قول المستودع مع يمينه، و يحلف؛ لأنّه لو أقرّ بها لأحدهما كانت له، فإذا ادّعي عليه العلم سُمعت دعواه، و يحلف.5.

ص: 220


1- الوسيط 517:4، العزيز شرح الوجيز 322:7، روضة الطالبين 311:5.
2- حلية العلماء 188:5، البيان 448:6-449، العزيز شرح الوجيز 322:7، روضة الطالبين 311:5.
3- العزيز شرح الوجيز 322:7، روضة الطالبين 311:5.

فإن حلف، كفاه يمين واحدة على نفي العلم - و به قال الشافعي(1) - لأنّ المدّعى شيء واحد، و هو علمه بعين المال، فكفاه يمين واحدة.

و قال أبو حنيفة: يحلف يمينين لكلّ واحدٍ منهما يميناً، كما لو أنكر أنّها لهما(2).

و الفرق: إنّه إذا أنكرهما فقد أنكر دعويين؛ لأنّ كلّ واحدٍ منهما يدّعي عليه أنّها له، فهنا دعويان، فإذا حلف كان كأنّهما صدّقاه.

و هل للحاكم تحليفه على نفي العلم إذا لم يدّعه الخصمان ؟ للشافعيّة وجهان(3).

ثمّ إذا حلف المدّعى عليه، فالحكم كما لو صدّقاه في النسيان من أنّه يُقرّ في يده؛ لأنّه لا فائدة في نقله، فإنّه مستودع، و لم تظهر منه خيانة، أو يُنقل عنه؛ لأنّه قد اعترف بأنّه لا حقّ له فيها(4) فيُنقل عنه.

و قال بعضهم: إنّه يُنزع المال منه هنا و إن لم يُنزع هناك؛ لأنّه خائن عندهما بدعوى النسيان(5).

و إن نكل عن اليمين، رُدّت اليمين عليهما، فإن نكلا فإمّا أن نقول:

يُقسم المال بينهما، أو يُوقف حتى يصطلحا على الخلاف، و إن حلف أحدهما و نكل الآخَر قُضي بها للحالف.5.

ص: 221


1- الوسيط 517:4، حلية العلماء 188:5، التهذيب - للبغوي - 129:5، البيان 449:6، العزيز شرح الوجيز 322:7، روضة الطالبين 311:5.
2- مختصر اختلاف العلماء 1884/192:4، الوسيط 517:4، حلية العلماء 188:5، البيان 449:6، العزيز شرح الوجيز 322:7، المغني 294:7، الشرح الكبير 327:7.
3- العزيز شرح الوجيز 322:7، روضة الطالبين 311:5.
4- أي: في الوديعة. و الظاهر بحسب السياق: «فيه».
5- العزيز شرح الوجيز 322:7، روضة الطالبين 311:5.

و إن حلفا، فللشافعيّة قولان:

أحدهما: إنّه يُقسم بينهما؛ لأنّه في أيديهما - و هو الأصحّ عند الشافعيّة - كما لو أقرّ بها لهما.

و الثاني: يُوقف حتى يصطلحا - و به قال ابن أبي ليلى - لأنّه لا يعلم المالك منهما(1).

و على القول بالقسمة فإنّ المستودع يغرم القيمة، و تُقسَم بينهما أيضاً؛ لأنّ كلّ واحدٍ منهما أثبت بيمين الردّ جميعَ العين و لم يحصل له سوى نصفها(2).

هذا أشهر ما قاله الشافعيّة فيما إذا نكل المستودع(3).

و لهم وجهٌ آخَر: إنّه لا يغرم القيمة مع العين إذا حلفا(4).

و لهم وجهٌ آخَر: إنّ المستودع إذا نكل لا تُردّ اليمين عليهما، بل يوقف؛ بناءً على أنّهما لو حلفا يوقف المال بينهما، فلا معنى لعرض اليمين(5).

و إن قلنا بردّ اليمين، فالأقرب: إنّ الحاكم يُقدّم مَنْ رأى تقديمه منهما في الحلف.

و يحتمل القرعة بينهما.

و إذا حلفا و قُسّمت العين بينهما و القيمة، فإن لم ينازع أحدهما الآخَر فلا بحث، و إن نازع و أقام البيّنة على أنّ جميع العين له سُلّمت إليه، و رُدّت5.

ص: 222


1- الحاوي الكبير 383:8، حلية العلماء 188:5، البيان 449:6، العزيز شرح الوجيز 322:7، روضة الطالبين 311:5، المغني 295:7، الشرح الكبير 328:7.
2- العزيز شرح الوجيز 322:7، روضة الطالبين 311:5.
3- العزيز شرح الوجيز 322:7-323، روضة الطالبين 311:5. (4 و 5) العزيز شرح الوجيز 323:7، روضة الطالبين 311:5.

القيمة على المستودع.

و إن لم تكن بيّنة و نكل صاحبه عن اليمين فحلف و استحقّ العين، فيردّ نصفَ القيمة الذي أخذه؛ لأنّه عاد إليه المُبدل، و الناكل لا يردّ ما أخذ؛ لأنّه استحقّه بيمينه على المستودع، و لم يعد إليه المُبدل، و نكوله كان مع صاحبه، لا مع المستودع.

مسألة 70: لو قال المستودع في الجواب: هذا المال وديعة عندي و لا أدري أ هو لكما أو لأحدكما أو لغيركما،

و ادّعيا عليه العلمَ، كان القولُ قولَه مع اليمين، فإذا حلف على نفي العلم تُرك في يده إلى أن تقوم بيّنة، و ليس لأحدهما تحليف الآخَر؛ لأنّه لم يثبت لواحدٍ منهما فيه يدٌ و لا استحقاق، بخلاف الصورة الأُولى.

و لو ادّعى عليه اثنان غصبَ مالٍ في يده، كلّ واحدٍ منهما يقول:

غصبتَه منّي، فقال: غصبتُه من أحدكما و لا أعرف عينه، فالقول قوله مع اليمين أيضاً، فعليه أن يحلف لكلّ واحدٍ منهما على البتّ على أنّه لم يغصب(1) ، فإذا حلف لأحدهما تعيّن المغصوب للثاني، فلا يحلف له.

مسألة 71: تشتمل على فروع متبدّدة:

لو تعدّى في الوديعة ثمّ بقيت في يده مدّة، لزمه أُجرة مثلها عن تلك المدّة؛ لأنّه خرج عن الأمانة، و دخل في الخيانة من حين التعدّي، فكان كالغاصب عليه عوض المنافع و إن لم ينتفع.

و لو دخل خاناً فجعل حماره في صحن الخان، و قال للخاني: احفظه كي لا يخرج، و كان الخاني ينظر إليه، فخرج في بعض غفلاته، فالأقرب:

الضمان؛ لأنّه قصّر في الحفظ بالغفلة.

و قال القفّال من الشافعيّة: لا يضمن؛ لأنّه لم يقصّر في الحفظ

ص: 223


1- الظاهر: «لم يغصب منه» أو «لم يغصبه».

المعتاد(1).

و هو ممنوع.

و لو وقع في خزانة المستودع حريق، فبادر إلى نقل الأمتعة و قدّم أمتعته على الوديعة، فاحترقت الوديعة، لم يضمن، كما لو لم يكن فيها إلّا ودائع فأخذ في نقلها كلّها فاحترق ما تأخّر نقله.

و لو ادّعى ابن مالك الوديعة أنّ أباه قد مات و أنّ المستودع علم بذلك، و طلب الوديعة، فأنكر المستودع، فللولد تحليفه على نفي العلم، فإن نكل حلف المدّعي.

و لو مات المالك و طلب الوارث الوديعةَ، فامتنع المستودع من الدفع إليه ليتفحّص و يبحث هل في التركة وصيّة ؟ ففي كونه متعدّياً ضامناً إشكال أقربه ذلك.

و لو وجد لقطةً و عرف مالكها و لم يُخبره حتى تلفت، ضمن.

و كذا قيّم الصبي و المسجد إذا كان في يده مال فعزل نفسه و لم يُخبر الحاكم حتى تلف المال، كان ضامناً.

و مَنْ كان قيّماً لصبيٍّ أو مجنونٍ أو سفيهٍ و لم يبع أوراق شجره التي تُقصد بالبيع حتى يمضي وقتها، كان ضامناً، أمّا لو أخّر البيع لتوقّع زيادةٍ لم يضمن.

و كذا قيّم المسجد في أشجاره.

و لو دفع إلى رسوله خاتماً علامةً ليمضي إلى وكيله(2) و يقبض منه شيئاً، و قال: إذا قبضتَه تردّ الخاتمَ علَيَّ، فقبض المأمور بقبضه و لم يردّ الخاتم بل وضعه في حرزه، فالأقرب: الضمان؛ لأنّه قبضه على أنّه يردّه،ه.

ص: 224


1- العزيز شرح الوجيز 323:7، روضة الطالبين 312:5.
2- في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «خاتماً ليمضي إلى وكيله علامةً». و الظاهر ما أثبتناه.

فإذا لم يردّه كان ضامناً.

و يحتمل عدمه؛ لأنّه ليس عليه الردّ و لا مئونته، بل عليه التخلية.

و لو دفع قبالةً إلى غيره وديعةً ففرّط فيها، ضمن قيمة الكاغذ مكتوباً، و لا شيء عليه ممّا في القبالة.

و كذا لو أودع إنساناً وثيقةً و قال: لا تردّها إلى زيدٍ حتى يدفع ديناراً، فردّها قبله، فعليه قيمة القبالة مكتوبة الكاغذ و أُجرة الورّاق.

مسألة 72: لو دخل الحمّام فنزع ثيابه و سلّمها إلى الحمّامي، وجب عليه حفظها، فإن فرّط ضمن، و إن لم يفرّط لم يضمن.

و إن لم يسلّم إليه الثياب، لم يضمن، سواء احتفظها أو غفل عنها و لم يراعها و كان مستيقظاً، عند علمائنا؛ لأنّه إنّما أخذ الجُعْل على الحمّام، و لم يأخذه على حفظ الثياب، و لم يستودع شيئاً، و صاحبها لم يودعه ثيابه، و خَلْعُه في المسلخ و الحمّامي جالس في مكانه مستيقظاً ليس استيداعاً.

و قد روى من طريق الخاصّة غياث بن إبراهيم عن الصادق عليه السلام عن أبيه عليه السلام: «إنّ عليّاً عليه السلام أُتي بصاحب حمّامٍ وُضعت عنده الثياب فضاعت، فلم يُضمّنه، و قال: إنّما هو أمين»(1).

و قال بعض الشافعيّة: إذا سُرقت الثياب و الحمّامي جالس في مكانه مستيقظ، فلا ضمان عليه، فإن نام أو قام من مكانه و لا نائب هناك ضمن و إن لم يستحفظه المالك عليها؛ قضاءً للعادة(2).

و هو خطأ؛ لما تقدّم.

و لما رواه إسحاق بن عمّار عن الصادق عليه السلام عن أبيه عليه السلام: «إنّ عليّاً عليه السلام كان يقول: لا ضمان على صاحب الحمّام فيما ذهب من الثياب،

ص: 225


1- التهذيب 218:7-954/219.
2- العزيز شرح الوجيز 324:7، روضة الطالبين 313:5.

لأنّه إنّما أخذ الجُعْل على الحمّام و لم يأخذه على الثياب»(1).

مسألة 73: لو ادّعى صاحب اليد أنّ المال وديعة عنده، و ادّعى المالك الإقراض

مسألة 73: لو ادّعى صاحب اليد أنّ المال وديعة عنده، و ادّعى المالك الإقراض(2) ، قُدّم قول المالك مع اليمين؛

لأنّ المتشبّث يزيل بدعواه ما ثبت عليه من وجوب الضمان بالاستيلاء على مال الغير، فكان القولُ قولَ المالك.

و لما رواه إسحاق بن عمّار عن الكاظم عليه السلام، قال: سألته عن رجلٍ استودع رجلاً ألف درهم فضاعت، فقال الرجل: كانت عندي وديعة، و قال الآخَر: إنّما كانت عليك قرضاً، قال: «المال لازم له، إلّا أن يقيم البيّنة أنّها كانت وديعة»(3).

إذا عرفت هذا، فهذا التنازع إنّما تظهر فائدته لو تلف المال، أو كان غائباً لا يعرفان خبره، أو لا يتمكّن من دفعه إلى مالكه، و لو كان باقياً يتمكّن مَنْ هو في يده من تسليمه فلا فائدة فيه.

و لو انعكس الفرض، فادّعى المالكُ الإيداعَ و القابضُ الإقراضَ، قُدّم قول المالك؛ لأنّ المال إن كان باقياً فالأصل استصحاب ملكيّة المالك، و إن كان تالفاً فالأصل براءة ذمّة القابض، و قد وافق المالك الأصل.

مسألة 74: و لا فرق بين الذهب و الفضّة و بين غيرهما من الأموال في هذا الحكم،

و هو عدم الضمان مع عدم التفريط، و ثبوته معه، بخلاف العارية على ما سيأتي؛ لأنّ الاستئمان لا يستعقب الضمان.

و لما رواه زرارة - في الحسن - عن الصادق عليه السلام، قال: سألته عن وديعة الذهب و الفضّة، قال: فقال: «كلّ ما كان من وديعةٍ و لم تكن

ص: 226


1- التهذيب 869/314:6.
2- في الطبعة الحجريّة: «الاقتراض».
3- الكافي 8/239:5، التهذيب 788/179:7.

مضمونةً فلا تلزم»(1).

إذا عرفت هذا، فالبضاعة أمانة في يد العامل؛ لأصالة البراءة، و حكمها في عدم الضمان مع عدم التفريط حكم الوديعة؛ للأصل.

و لما رواه الحلبي - في الحسن - عن الصادق عليه السلام قال: «صاحب الوديعة و البضاعة مؤتمنان»(2).

مسألة 75: إذا استودع مالاً و اتّجر به بغير إذن صاحبه،

فإن كانت التجارة بعين المال فالربح للمالك إن أجاز المعاوضات، و إلّا بطلت بأسرها، و إن كانت في الذمّة و نقد مال الوديعة عن دَيْنٍ عليه فالربح للعامل، و عليه ردّ المال.

و قد روى أبو سيار مسمع عن الصادق عليه السلام، قال: قلت له: إنّي كنت استودعت رجلاً مالاً فجحدنيه و حلف لي عليه، ثمّ إنّه جاءني بعد ذلك بسنين بالمال الذي كنت استودعته إيّاه، فقال لي: إنّ هذا مالك فخُذْه و هذه أربعة آلاف درهم ربحتُها في مالك، فهي لك مع مالك و اجعلني في حلٍّ، فأخذتُ منه المال و أبيتُ أن آخذ الربح منه و أوقفته المال الذي كنت استودعته و أتيت أستطلع رأيك فما ترى ؟ قال: فقال: «خُذْ نصف الربح، و أعطه النصف، و حلِّه، إنّ هذا رجل تائب، و اللّه يُحِبُّ التَّوّابِينَ »(3).

و هذه الرواية محمولة على الإرشاد على فعل الأولى بقرينة قوله: «فما ترى ؟» و الإمام عليه السلام أرشده إلى المعتاد بين الناس من قسمة ربح التجارة نصفين.

ص: 227


1- الكافي 7/239:5، التهذيب 789/179:7.
2- الكافي 1/238:5، الفقيه 878/193:3، التهذيب 790/179:7.
3- التهذيب 793/180:7.
مسألة 76: مَن استودع من اللّصّ مال السرقة، لم يجز له ردّها عليه،

بل يردّها على مالكها إن عرفه بعينه، فإن كان قد مات ردّها على ورثته، و لو لم يعرف مالكها أبقاها في يده أمانةً إلى أن يظهر المالك، فإن لم يمكن معرفته كان بمنزلة اللقطة يُعرّفها سنةً، فإن تعذّر المالك تصدّق بها عنه، و كان عليه ضمانها، و إن شاء حفظها لمالكها؛ لما رواه حفص بن غياث عن الصادق عليه السلام، قال: سألته عن رجلٍ من المسلمين أودعه رجلٌ من اللّصوص دراهم أو متاعاً و اللّصّ مسلمٌ هل يردّ عليه ؟ قال: «لا يردّه، فإن أمكنه أن يردّه على صاحبه فَعَل، و إلّا كان في يده بمنزلة اللقطة يصيبها فيُعرّفها حولاً، فإن أصاب صاحبها ردّها عليه، و إلّا تصدّق بها، فإن جاء بعد ذلك خيّره بين الأجر و الغرم، فإن اختار الأجر فله، و إن اختار الغرم غرم له، و كان الأجر له»(1).

إذا عرفت هذا، فإن كان الظالم قد مزج الوديعة بماله مزجاً لا يتميّز، لم يجز للمستودع حبسها، و وجب عليه ردّ الجميع إليه.

و يحتمل عندي ردّ قدر ما يملكه اللّصّ، و احتفاظ الباقي لمالكه.

و القسمة هنا ضروريّة.

و لو خاف من الظالم لو منعها عنه، جاز له ردّها عليه.

مسألة 77: يجب ردّ الوديعة إلى مالكها و إن كان كافراً؛

لقوله تعالى:

«إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها» (2) .

و قد روى الفضيل عن الرضا عليه السلام، قال: سألته عن رجلٍ استودع رجلاً من مواليك مالاً له قيمة، و الرجل الذي عليه المال رجل من العرب يقدر على أن لا يعطيه شيئاً، و المستودع رجل خبيث خارجيّ شيطان، فلم أدع شيئاً، فقال: «قل له: يردّ عليه، فإنّه ائتمنه عليه بأمانة اللّه» قلت: فرجل

ص: 228


1- التهذيب 180:7-794/181، الاستبصار 440/124:3.
2- النساء: 58.

اشترى من امرأةٍ من بعض العبّاسيّين بعض قطائعهم و كتب عليها كتاباً: قد قبضت المال، و لم تقبضه، فيعطيها المال أم يمنعها؟ قال: «يمنعها أشدّ المنع، فإنّما باعته ما لم تملكه»(1).7.

ص: 229


1- التهذيب 795/181:7.

ص: 230

المقصد الثاني: في العارية

اشارة

و فيه فصلان:

الفصل الأوّل: الماهيّة و الأركان

اشارة

فهنا بحثان:

البحث الأوّل: الماهيّة.
اشارة

العاريّة - بتشديد الياء - عقد شُرّع لإباحة الانتفاع بعينٍ من أعيان المال على جهة التبرّع. و شُدّدت الياء كأنّها منسوبة إلى العار؛ لأنّ طلبها عار، قاله صاحب الصحاح(1).

و قال غيره: منسوبة إلى العارة، و هي مصدر، يقال: أعار يعير إعارةً و عارةً، كما يقال: أجاب إجابةً و جابةً، و أطاق إطاقةً و طاقةً(2).

و قيل: إنّها مأخوذة من «عار يعير» إذا جاء و ذهب، و منه قيل للبطّال:

العيّار؛ لتردّده في بطالته، فسُمّيت عاريةً؛ لتحوّلها من يدٍ إلى يدٍ(3).

و قيل: إنّها مأخوذة من التعاور و الاعتوار، و هو أن يتداول القوم الشيء بينهم(4).

و قال الخطّابي في غريبه: إنّ اللغة العالية: العاريّة، و قد تُخفّف(5).

ص: 231


1- الصحاح 761:2 «عور».
2- كما في «الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي» المطبوع في مقدّمة «الحاوي الكبير»: 300.
3- قاله الأزهري في الزاهر: 300، و راجع العزيز شرح الوجيز 368:5، و المغني و الشرح الكبير 354:5.
4- كما في العزيز شرح الوجيز 368:5.
5- إصلاح الغلط - للخطّابي -: 46-34/47، و حكاه عن غريبه الرافعي في العزيز شرح الوجيز 368:5، و النووي في روضة الطالبين 70:4.
مسألة 78: العارية سائغة بالنصّ و الإجماع.

أمّا النصّ: فالكتاب و السنّة.

أمّا الكتاب: فقوله تعالى:«وَ تَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَ التَّقْوى» (1) و العارية من جملة البرّ.

و قال تعالى:«وَ يَمْنَعُونَ الْماعُونَ» (2) قال أبو عبيدة(3): الماعون اسم لكلّ منفعةٍ و عطيّةٍ، و أنشد فيه:

بأجود منه بماعونهإذا ما سماؤهم لا تغم(4)

و روي عن ابن عباس و ابن مسعود أنّهما قالا: الماعون العواريّ(5).

و فسَّر ذلك ابن مسعود فقال: ذلك القِدْر و الدلو و الميزان(6).

و روي عن عليٍّ عليه السلام و [ابن](7) عمر أنّهما قالا: الماعون: الزكاة(8).

و أمّا السنّة: فما رواه العامّة عن أبي أُمامة أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله قال في

ص: 232


1- المائدة: 2.
2- الماعون: 7.
3- في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «أبو عبيد». و ما أثبتناه من المصدر.
4- مجاز القرآن 313:2، و البيت للأعشى، راجع ديوانه: 39/89.
5- جامع البيان 204:30-206، الإشراف على مذاهب أهل العلم 437/269:1، المغني و الشرح الكبير 354:5.
6- المحلّى 168:9، الإشراف على مذاهب أهل العلم 437/269:1، البيان 450:6، المغني و الشرح الكبير 354:5.
7- ما بين المعقوفين أضفناه من المصدر.
8- النكت و العيون 352:6، المحرّر الوجيز 371:16، معالم التنزيل 633:5، زاد المسير 246:9، جامع البيان 203:30، التفسير الكبير 115:32، تفسير السمرقندي (بحر العلوم) 518:3، الجامع لأحكام القرآن 213:20، أحكام القرآن - للجصّاص - 475:3، الحاوي الكبير 116:7، الإشراف على مذاهب أهل العلم 437/269:1، البيان 450:6.

خطبته عام حجّة الوداع: «العارية مؤدّاة، و المِنْحة مردودة، و الدَّيْن مقضيّ، و الزعيم غارم»(1).

و عن أُميّة بن صفوان(2) أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله استعار منه يوم خيبر(3) أدراعاً(4) ، فقال: أ غصباً يا محمّد؟ قال: «بل عارية مضمونة مؤدّاة»(5).

و من طريق الخاصّة: ما رواه أبو بصير عن الصادق عليه السلام، قال:

سمعته يقول: «بعث رسول اللّه صلى الله عليه و آله إلى صفوان بن أُميّة، فاستعار منه سبعين درعاً بأطراقها(6) ، قال: فقال: غصباً يا محمّد؟ فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله:

بل عارية مضمونة»(7).

و عن سلمة عن الصادق عن الباقر عليهما السلام قال: «جاء رسول اللّه صلى الله عليه و آله إلى صفوان بن أُميّة فسأله سلاحاً ثمانين درعاً، فقال له صفوان: عارية مضمونة أو غصباً؟ فقال له رسول اللّه صلى الله عليه و آله: بل عارية مضمونة، فقال:

نعم»(8).7.

ص: 233


1- سنن أبي داوُد 296:3-3565/297، سنن الترمذي 2120/433:4، سنن الدارقطني 166/41:3، سنن سعيد بن منصور 125:1-427/126، مسند أحمد 21791/358:6، المصنّف - لعبد الرزّاق - 14796/181:8، و 48:9-16308/49، المعجم الكبير - للطبراني - 159:8-7615/160.
2- في المصادر زيادة: «عن أبيه».
3- فيما عدا مسند أحمد من المصادر: «حنين» بدل «خيبر».
4- في «ث، خ، ر»: «أدرعاً» و كذا في بعض المصادر.
5- البيان 451:6، و في مسند أحمد 14878/400:4، و سنن أبي داوُد 3562/296:3، و سنن البيهقي 89:6، و المستدرك - للحاكم - 47:2 بدون كلمة «مؤدّاة».
6- واحدتها: الطراق، و هي البيضة التي توضع على الرأس. القاموس المحيط 257:3 «طرق».
7- الكافي 10/240:5، التهذيب 803/183:7.
8- التهذيب 802/182:7.

و أمّا الإجماع: فلا خلاف بين علماء الأمصار في جميع الأعصار في جوازها و الترغيب فيها، و لأنّه لمّا جازت هبة الأعيان جازت هبة المنافع، و لذلك صحّت الوصيّة بالأعيان و المنافع جميعاً.

مسألة 79: العارية مستحبّة مندوب إليها مرغّب فيها؛

لأنّ اقتران المانع منها في الآية مع المرائي في صلاته(1) يدلّ على شدّة الحثّ عليها و التزهيد في منعها و الترغيب في فعلها، و لأنّها من البرّ و قد أمر اللّه تعالى بالمعاونة فيه(2).

و ليست واجبةً في قول أكثر أهل العلم(3) ؛ للأصل.

و لقول النبيّ صلى الله عليه و آله: «إذا أدّيتَ زكاة مالك فقد قضيتَ ما عليك»(4).

و قال عليه السلام: «ليس في المال حقٌّ سوى الزكاة»(5).

و سأله الأعرابي فقال له: ما ذا افترض اللّه علَيَّ من الصدقة ؟ قال:

«الزكاة» قال: هل علَيَّ غيرها؟ قال: «لا، إلّا أن تتطوّع»(6).

و قيل: إنّها واجبة؛ للآية(7) ، و لما رواه أبو هريرة عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال: «ما من صاحب إبلٍ لا يؤدّي حقّها» الحديث، قيل: يا رسول اللّه و ما حقّها؟ قال: «إعارة دلوها، و إطراق فحلها، و منحة لبنها يوم وردها»(8)

ص: 234


1- الماعون: 6 و 7.
2- المائدة: 2.
3- المغني و الشرح الكبير 354:5.
4- سنن ابن ماجة 1788/570:1، سنن الترمذي 618/14:3.
5- سنن ابن ماجة 1789/570:1.
6- صحيح البخاري 18:1، و 235:3، صحيح مسلم 11/41:1، سنن أبي داوُد 391/106:1، سنن النسائي 227:1-228، سنن البيهقي 361:1، المغني و الشرح الكبير 355:5.
7- الماعون: 7.
8- المغني و الشرح الكبير 354:5.

فذمّ اللّه تعالى مانعَ العارية، و توعّده رسول اللّه صلى الله عليه و آله بما ذكره في خبره(1).

و الجواب: المراد زيادة الترغيب، على أنّ قول عليٍّ عليه السلام حجّة في تفسيره الماعونَ بالزكاة(2) ، و لا ريب في وجوبها.

و لو حملناها على العارية، فالتوعّد إنّما وقع على الثلاث، قال عكرمة: إذا جمع ثلاثتها فله الويل: إذا سها عن الصلاة، و راءى، و منع الماعون(3).

البحث الثاني: في الأركان.
اشارة

و هي أربعة:

الركن الأوّل: المُعير.
اشارة

و له شرطان: ملكيّة المنفعة، و أهليّة التصرّف التبرّعيّة، فلا تصحّ إعارة الغاصب للعين؛ لأنّه منهيّ عن التصرّف في الغصب، و الإعارة تصرّف.

و لا فرق بين أن يكون غاصباً للعين أو للمنفعة في أنّه يحرم عليه إعارتها، و لا يباح للمُستعير التصرّف، فإن علم و تصرّف كان مأثوماً ضامناً للعين و المنفعة بلا خلاف.

و لا يشترط ملكيّة العين في المُعير، بل ملكيّة المنفعة، فلو استأجر عيناً جاز له أن يعيرها لغيره، إلّا أن يشترط المالك مباشرة الانتفاع بنفسه، فيحرم عليه حينئذٍ الإعارة، و لو لم يشرطه جاز؛ لأنّه مالك للمنفعة، و لهذا يجوز أخذ العوض عنها بعقد الإجارة.

ص: 235


1- كما في المغني و الشرح الكبير 354:5.
2- راجع الهامش (8) من ص 232.
3- الإشراف على مذاهب أهل العلم 437/269:1، الوسيط - للواحدي - 559:4، المغني و الشرح الكبير 355:5.

و كذا الموصى له بخدمة العبد و سكنى الدار يجوز لهما أن يعيراهما.

مسألة 80: و ليس للمُستعير أن يعير

- و به قال أحمد بن حنبل و الشافعيّة في أصحّ الوجهين(1) - لأنّ الأصل عصمة مال الغير و صيانته عن التصرّف، فلا يباح للمُستعير الثاني إلّا بدليلٍ و لم يثبت، و لأنّه غير مالكٍ للمنفعة، و لهذا لا يجوز له أن يؤجّر، و إنّما أُبيح له الانتفاع، و المستبيح لا يملك نقل الإباحة إلى غيره، كالضيف الذي أُبيح له الطعام ليس له أن يُبيحه لغيره.

و قال أبو حنيفة: يجوز للمُستعير أن يعير - و هو الوجه الآخَر للشافعيّة - لأنّه تجوز إجارة المستأجر للعين، فكذا يجوز للمُستعير أن يعير؛ لأنّه تمليك على حسب ما مَلَك(2).

و الفرق: إنّ المستأجر مَلَك بعقد الإجارة الانتفاعَ على كلّ وجهٍ، فلهذا مَلَك أن يملكها، و أمّا في العارية فإنّه مَلَك المنفعة على وجه ما أُذن له، فلا يستوفيه بغيره، فافترقا.

ص: 236


1- الكافي في فقه الإمام أحمد 214:2، المغني 361:5-362، الشرح الكبير 368:5، الحاوي الكبير 127:7، التنبيه: 113، المهذّب - للشيرازي - 371:1، بحر المذهب 12:9، الوجيز 203:1، الوسيط 367:3، حلية العلماء 195:5، التهذيب - للبغوي - 281:4، البيان 461:6، الإفصاح عن معاني الصحاح 18:2، العزيز شرح الوجيز 370:5، روضة الطالبين 71:4، الهداية - للمرغيناني - 221:3.
2- بدائع الصنائع 215:6، الهداية - للمرغيناني - 221:3، الاختيار لتعليل المختار 80:3، الحاوي الكبير 127:7، التنبيه: 113، المهذّب - للشيرازي - 371:1، بحر المذهب 12:9، الوجيز 203:1، الوسيط 367:3، حلية العلماء 195:5، التهذيب - للبغوي - 281:4، البيان 461:6، الإفصاح عن معاني الصحاح 18:2، العزيز شرح الوجيز 370:5، روضة الطالبين 71:4، المغني 362:5، الشرح الكبير 368:5-369.

إذا ثبت هذا، فإنّه يجوز للمُستعير أن يستوفي المنفعة بنفسه و بوكيله، و لا يكون ذلك إعارةً للوكيل إذا لم تعد المنفعة إليه.

مسألة 81: و شرطنا في المُعير جواز التصرّف، فلا بدّ و أن يكون بالغاً عاقلاً جائز التصرّف،

فلا تصحّ عارية الصبي؛ لأنّه ممنوع من التصرّفات التي من جملتها الإعارة، و لا عارية المجنون، و لا المحجور عليه للسفه أو الفلس؛ لأنّ هؤلاء بأسرهم ممنوعون من التبرّعات، و الإعارة تبرّع.

و كذا ليس للمُحْرم إعارة الصيد؛ لأنّه ممنوع من التصرّف فيه، بل و ليس مالكاً له عند الأكثر.

و لو أسلم عبد الكافر تحت يده، وجب بيعه من المسلمين، فيجوز للكافر إعارته للمسلم مدّة المساومة.

و كذا لو ورث أو مَلَك - إن قلنا بصحّة البيع - مصحفاً.

الركن الثاني: المُستعير.
اشارة

و شرطه أن يكون معيّناً أهلاً للتبرّع عليه بعقدٍ يشتمل على إيجابٍ و قبولٍ، فلو أعار أحد هذين، أو أحد هؤلاء، لم يصح؛ لعدم التعيين، و كلّ واحدٍ لا يتعيّن للإعارة؛ لصلاحيّة الآخَر لها، و استباحة منافع الغير لا تكون إلّا بوجهٍ شرعيّ؛ لأنّ الأصل تحريم منافع الغير على غيره إلّا بإذنه، و لم يثبت.

و لو عمّم المُستعير، جاز، سواء كان التعميم في عددٍ محصور، كقوله: أعرتُ هذا الكتاب لهؤلاء العشرة، أو في عددٍ غير محصورٍ، كقوله:

لكلّ الناس، و لأيّ أحدٍ من أشخاص الناس، أو: لمن دخل الدار.

و بالجملة، الكلّيّ معيّن و إن لم يكن عامّاً ك «أيّ رجل» و «أيّ داخل».

و «أحد الشخصين» مجهول.

ص: 237

مسألة 82: شرطنا أن يكون أهلاً للتبرّع عليه؛

لأنّ من الأعيان ما لا يجوز لبعض الأشخاص الانتفاع بها، فلا تجوز إعارتها لهم، و ذلك مثل الكافر يستعير عبداً مسلماً، أو أمةً مسلمةً على إشكالٍ ينشأ: من جواز إعارتهم، و من السلطنة عليهم و التسلّط و إثبات السبيل، و قد نفاه اللّه تعالى بقوله:«وَ لَنْ يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً» (1) بخلاف استئجاره الذي هو في مقابلة عوضٍ.

و الأقرب: الكراهة.

و كذا لا يجوز للكافر استعارة المصحف من المسلم و غيره؛ تكرمةً للكتاب العزيز، و صيانةً عمّن لا يرى له حرمةً.

و أمّا استعارة أحاديث النبيّ صلى الله عليه و آله و أحاديث أهل بيته الأئمّة المعصومين عليهم السلام فإنّها مبنيّة على جواز شرائهم لها، فإن منعناه منعنا من الإعارة، و إلّا فلا.

مسألة 83: لا يحلّ للمُحْرم استعارة الصيد من المُحْرم،

و لا من المُحلّ؛ لأنّه يحرم عليه إمساكه، فلو استعاره وجب عليه إرساله، و ضمن للمالك قيمته. و لو تلف في يده ضمنه أيضاً بالقيمة لصاحبه المُحلّ، و بالجزاء للّه تعالى، بل يضمنه بمجرّد الإمساك و إن لم يشترط صاحبه الضمان عليه، فلو دفعه إلى صاحبه برئ منه، و ضمن للّه تعالى.

و لو استعار المُحْرم صيداً من مُحْرمٍ، وجب على كلّ واحدٍ منهما الفداء لو تلف.

و لو كان الصيد في يد مُحْرمٍ فاستعاره المُحلّ، فإن قلنا: المُحْرم يزول ملكه عن الصيد، فلا قيمة له على المُحلّ؛ لأنّه أعاره ما ليس ملكاً

ص: 238


1- النساء: 141.

له، و على المُحْرم الجزاء لو تلف في يد المُحلّ؛ لتعدّيه بالإعارة، فإنّه كان يجب عليه الإرسال.

و إن قلنا: لا يزول، صحّت الإعارة، و على المُحلّ القيمة لو تلف الصيد عنده.

و لو تلف الصيد عند المُحلّ المُستعير من المُحْرم، لم يضمنه المُحلّ؛ لزوال ملك المُحْرم عنه بالإحرام، و على المُحْرم الضمان؛ لأنّه تعدّى بالإعارة لما يجب إرساله.

مسألة 84: المُستعير هو المنتفع قوّةً أو فعلاً بالعين المستحقّة للغير بإذنٍ منه بغير عوضٍ.

و قال بعض الشافعيّة: المُستعير كلّ طالبٍ أخذ المال لغرض نفسه من غير استحقاقٍ(1).

و زاد بعضهم، فقال: من غير استحقاقٍ و تملّكٍ(2).

و قصد بهذه الزيادة الاحترازَ عن المستقرض، و قصد بنفي الاستحقاق الاحترازَ عن المستأجر.

و اعتُرض عليه بوجهين:

الأوّل: ينتقض بالمستام و الغاصب.

الثاني: التعرّض لكونه طالباً غير جيّدٍ؛ للاستغناء عنه، إذ لا فرق بين أن يلتمس المُستعير العارية، و بين أن يبتدئ المُعير بها، و لا تجوز الزيادة في الحدود(3).

ص: 239


1- الغزالي في الوجيز 204:1، و الوسيط 371:3.
2- كما في العزيز شرح الوجيز 379:5.
3- العزيز شرح الوجيز 379:5.
الركن الثالث: المستعار.
اشارة

و له شرطان: كونه منتفعاً به مع بقاء عينه، و إباحة المنفعة، فكلّ ما ينتفع به انتفاعاً محلّلاً مع بقاء عينه تصحّ إعارته، كالعقارات و الدوابّ و العبيد و الثياب و الأقمشة و الأمتعة و الصُّفْر و الحُليّ و الفحل للضراب و الكلب للصيد و الحفظ و أشباه ذلك بلا خلاف؛ لأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله استعار أدراعاً(1).

أمّا ما لا ينتفع به إلّا بإتلافه كالأطعمة و الأشربة فلا تجوز إعارتها؛ لأنّ المنفعة المطلوبة منها إنّما تحصل في إتلافها، و الإباحة لم تقع على الإتلاف.

و تجوز إعارة جميع أصناف الحيوان المنتفع بها، كالآدمي و البهائم على ما تقدّم؛ لأنّ منفعة الحيوان تجوز إجارتها فجاز إعارتها، و الإعارة أوسع من الإجارة؛ لأنّه تجوز إعارة الفحل للضراب، و مَنَع كثيرٌ من إجارته لذلك(2).

و الكلب تجوز إعارته، و لا تجوز إجارته على أحد وجهي الشافعيّة(3).

ص: 240


1- راجع الهوامش (5 و 7 و 8) من ص 233.
2- الحاوي الكبير 117:7، المهذّب - للشيرازي - 401:1، بحر المذهب 12:9، الوجيز 231:1، الوسيط 158:4، حلية العلماء 385:5، البيان 250:7، العزيز شرح الوجيز 101:4، و 92:6، روضة الطالبين 62:3، و 254:4، مختصر اختلاف العلماء 1782/102:4، بدائع الصنائع 175:4، المغني 148:6، الشرح الكبير 44:6.
3- الحاوي الكبير 117:7 و 411، المهذّب - للشيرازي - 401:1، بحر المذهب 12:9، الوجيز 230:1، الوسيط 157:4، حلية العلماء 384:5، التهذيب - للبغوي - 425:4، البيان 249:7، العزيز شرح الوجيز 90:6، روضة الطالبين 253:4، المغني 325:4.
مسألة 85: تجوز إعارة الغنم للانتفاع بلبنها و صوفها، و هي المِنْحة،

و ذلك لاقتضاء الحكمة إباحته؛ لأنّ الحاجة قد تدعو إلى ذلك، و الضرورة تبيح مثل هذه الأعيان، كما في استئجار الظئر.

و قد روى العامّة عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال: «المِنْحة مردودة»(1) و المِنْحة هي: الشاة.

و من طريق الخاصّة: ما رواه الحلبي - في الحسن - عن الصادق عليه السلام في الرجل يكون له الغنم يعطيها بضريبة سمناً شيئاً معلوماً أو دراهم معلومة من كلّ شاة كذا و كذا، قال: «لا بأس بالدراهم، و لستُ أُحبّ أن يكون بالسمن»(2).

و في الصحيح عن عبد اللّه بن سنان أنّه سأل الصادقَ عليه السلام عن رجلٍ دفع إلى رجلٍ غنمه للسمن و دراهم معلومة لكلّ شاة كذا و كذا في كلّ شهرٍ، قال: «لا بأس بالدراهم، فأمّا السمن فلا أُحبّ ذلك، إلّا أن تكون حوالب فلا بأس»(3) و إذا جاز ذلك مع العوض فبدونه أولى.

و اختلفت الشافعيّة على قولين:

أحدهما كما قلناه.

و الثاني: المنع، كما لا تجوز إجارتها(4).

و الفرق: إنّ الإجارة لا تستباح بها الأعيان.

ص: 241


1- تقدّم تخريجه في ص 233، الهامش (1).
2- الكافي 1/223:5، التهذيب 554/127:7، الاستبصار 359/103:3.
3- الكافي 4/224:5، التهذيب 556/127:7، الاستبصار 362/103:3.
4- حلية العلماء 207:5، البيان 452:6.

و كذا في الشجر.

قال بعض الشافعيّة: إذا دفع شاةً إلى رجلٍ و قال: ملّكتُك دَرَّها و نسلها، فهي هبة فاسدة، و ما حصل في يده من الدّرّ و النسل كالمقبوض بالهبة الفاسدة، و الشاة مضمونة عليه بالعارية الفاسدة.

و لو قال: أبحتُ لك دَرَّها و نسلها، فهو كما لو قال: ملّكتُك، على أحد الوجهين. و الثاني: إنّه(1) إباحة صحيحة، و الشاة عارية صحيحة. و على هذا فقد تكون العارية لاستفادة عينٍ، و ليس من شرطها أن يكون المقصود مجرّد المنفعة، بخلاف الإجارة.

و لو قال: ملّكتُك درَّها، أو: أبحتُك على أن تعلفها، فقد جعل العلف أُجرة الشاة و ثمن الدّرّ و النسل، فالشاة غير مضمونةٍ؛ لأنّها مقبوضة بإجارةٍ فاسدة، و الدَّرّ و النسل مضمون عليه بالشراء الفاسد.

و كذا لو دفع فلساً إلى سقّاء و أخذ الكوز ليشرب فسقط من يده و انكسر، ضمن الماء؛ لأنّه مأخوذ بالشراء الفاسد، و لا يضمن الكوز؛ لأنّه في يده بإجارةٍ فاسدة، و إن أخذه مجّاناً فالكوز عارية، و الماء كالمقبوض بالهبة الفاسدة(2).

مسألة 86: تجوز إعارة الدراهم و الدنانير

- و هو أحد وجهي الشافعيّة(3) - لأنّ لها منفعةً حكميّةً تُفرض مطلوبةً للعقلاء، فجاز التوصّل إليها بالإعارة و الاستعارة، من التزيّن بها، و جذب قلوب الراغبين إلى معاملته و إقراضه، و ذلك فائدة عظيمة.

ص: 242


1- الظاهر: «إنّها».
2- التهذيب - للبغوي - 286:4-287، العزيز شرح الوجيز 373:5، روضة الطالبين 74:4-75.
3- الوجيز 203:1، التهذيب - للبغوي - 280:4، البيان 451:6، العزيز شرح الوجيز 371:5، روضة الطالبين 72:4.

و أيضاً فقد يرغب إلى أن يطبع مثلها، و يجوز رهنها، و الإجارة للارتهان سائغة، فوجب أن تشرع إعارتها.

و أصحّ الوجهين عند الشافعيّة: المنع؛ لأنّ هذه منفعة ضعيفة قلّما تُقصد، و معظم منفعتها في الإنفاق و الإخراج(1).

قال الجويني: و ما ذكر من المنفعة في الدراهم و الدنانير يجري في استعارة الحنطة و الشعير و ما في معناهما(2).

و يبطل ما ذكروه بما إذا صرّح في الإعارة بالمنفعة الضعيفة بأن استعارها للتزيّن بها، فقد جعل هذه المنفعة مقصداً و إن ضعفت.

مسألة 87: إذا استعار الدراهم و الدنانير، كانت مضمونةً عليه،

سواء شرط المالك ضمانها عليه أو لا، و إن كانت العارية في غيرهما غير مضمونةٍ على ما سيأتي.

و العامّة أوجبوا الضمان في جميع العواريّ(3).

و للشافعيّة وجهٌ في أنّ عارية الدراهم و الدنانير خاصّةً غير مضمونةٍ و إن قالوا بالضمان في البواقي(4).

لما رواه ابن مسكان - في الصحيح - عن الصادق عليه السلام قال:

ص: 243


1- الوجيز 203:1، التهذيب - للبغوي - 280:4، البيان 451:6، العزيز شرح الوجيز 371:5، روضة الطالبين 72:4.
2- العزيز شرح الوجيز 371:5، روضة الطالبين 72:4.
3- الأُم 244:3، الإشراف على مذاهب أهل العلم 441/271:1، الحاوي الكبير 118:7، المهذّب - للشيرازي - 370:1، بحر المذهب 6:9، الوجيز 204:1، الوسيط 369:3-370، حلية العلماء 189:5، التهذيب - للبغوي - 280:4، البيان 454:6، العزيز شرح الوجيز 376:5، روضة الطالبين 76:4، بداية المجتهد 313:2، مختصر اختلاف العلماء 1876/185:4، المغني 355:5.
4- العزيز شرح الوجيز 372:5، روضة الطالبين 72:4.

«لا تُضمن العارية إلّا أن يكون اشترط فيها ضماناً، إلّا الدنانير فإنّها مضمونة و إن لم يشترط فيها ضمان»(1).

و في الحسن عن زرارة عن الصادق عليه السلام، قال: قلت له: العارية مضمونة ؟ قال: فقال: «جميع ما استعرته فتَوى(2) فلا يلزمك تَواه إلّا الذهب و الفضّة فإنّهما يلزمان، إلّا أن يشترط أنّه متى تَوى لم يلزمك تَواه، و كذلك جميع ما استعرت و اشترط عليك لزمك، و الذهب و الفضّة لازمان لك و إن لم يشترط عليك»(3).

و لأنّ المنفعة فيهما ضعيفة لا يعتد بها في نظر الشرع، و النفع المقصود بالذات فيهما الإنفاق، فكانت مضمونةً؛ عملاً بالغاية الذاتيّة.

احتجّ القائل بعدم ضمانها: بأنّ العارية - سواء صحّت أو فسدت - تعتمد منفعة معتبرة، فإذا لم توجد فما جرى بينهما ليس بعاريةٍ، لا أنّه عارية فاسدة، و مَنْ قبض مال الغير بإذنه لا لمنفعةٍ كان أمانةً(4).

احتجّ الآخَرون: بأنّ العارية الصحيحة مضمونة، فكذا الفاسدة؛ لأنّ كلّ عقدٍ يُضمن صحيحه يُضمن فاسده، و عارية الدراهم و الدنانير فاسدة(5).

مسألة 88: و لا بدّ و أن تكون المنفعة مباحةً؛

لتحريم الإعانة على المحرَّم، فلو استعار آنية الذهب و الفضّة للأكل و الشرب، لم يجز.

و لو استعار كلباً للصيد لهواً و بطراً لم يجز، و إن كان للقوت أو التجارة جاز.

و كذا تجوز إعارة كلب الماشية و الحائط و الزرع؛ لإباحة هذه المنافع

ص: 244


1- التهذيب 804/183:7.
2- راجع الهامش (1) من ص 39.
3- الكافي 238:5 (باب ضمان العارية و الوديعة) ح 3، التهذيب 806/183:7.
4- العزيز شرح الوجيز 372:5، روضة الطالبين 72:4.
5- العزيز شرح الوجيز 371:5، روضة الطالبين 72:4.

منها.

و كلّ عينٍ يُفرض لها منفعة مباحة و محرَّمة فإنّه تجوز إعارتها لاستيفاء المنفعة المباحة دون المحرَّمة، فإن استعارها لاستيفاء المحرَّمة، لم تصح الإعارة، و لا يستباح بها المنفعة المحلَّلة، و الإطلاق ينصرف إلى المباح منها.

و لو لم يُفرض لها منفعة مباحة محلَّلة البتّة، حرم استعارتها.

مسألة 89: لا تجوز استعارة الجواري للاستمتاع على الأشهر؛

لعموم قوله تعالى:«وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ * إِلاّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ» (1) و البُضْع لا يستباح إلّا بأحد الأسباب الآتية: الزوجيّة، و الملك، و الإباحة بلفظها أو بلفظ التحليل، دون العارية و التمليك و شبهه.

و تجوز استعارتها للخدمة، سواء كان المُستعير رجلاً أو امرأةً، و سواء كانت الجارية شابّةً أو عجوزاً، و سواء كانت قبيحةَ المنظر أو حسنته، لكن تشتدّ كراهيّة إعارة الشابّة لمَن لا يوثق به.

و مَنَعه الشافعيّة؛ خوفَ الفتنة(2).

و لو أعارها من المَحْرم أو كانت صغيرةً لا تُشتهى أو قبيحةَ المنظر كذلك أو كبيرةً كذلك، فلا كراهيّة.

و للشافعية وجهان: أحدهما: التحريم، و الثاني: الكراهيّة(3).

و تكره استعارة أحد الأبوين للخدمة؛ لأنّ استخدامهما مكروه؛ لمنافاة التعظيم لهما و التوقير.

و تستحبّ استعارتهما للترفّه.

ص: 245


1- المعارج: 29 و 30.
2- المهذّب - للشيرازي - 370:1، الوسيط 368:3، التهذيب - للبغوي - 280:4، البيان 452:6، العزيز شرح الوجيز 372:5، روضة الطالبين 73:4.
3- التهذيب - للبغوي - 280:4، العزيز شرح الوجيز 372:5، روضة الطالبين 73:4.
مسألة 90: لا يشترط تعيين العين المُستعارة عند الإعارة،

فلو قال:

أعرني دابّتك أو دابّةً، فقال: ادخل الاصطبل فخُذْ ما شئت، صحّت العارية، بخلاف الإجارة؛ لأنّ فيها عوضاً، فلا يدخلها الغرر الذي لا يحتمل في المعاوضة.

الركن الرابع: الصيغة.
مسألة 91: لمّا كان الأصل في الأموال العصمة، لم يُبَحْ شيء منها على غير مالكها،

إلّا بالرضا منه، و لمّا كان الرضا من الأُمور الباطنة الخفيّة تعذّر التوصّل إليه قطعاً، فاكتفي فيه بالظنّ المستفاد من العبارات و الألفاظ و ما يقوم مقامها.

و لا يختصّ لفظٌ بعينه، بل المعتد به في هذا الباب كلّ لفظٍ يدلّ على الإذن في الانتفاع بالعين مع بقائها مطلقاً أو مدّة معيّنة، كقوله: أعرتُك، أو أذنتُ لك في الانتفاع به، أو انتفع به، أو خُذْه لتنتفع به، و ما أشبه ذلك.

و لا يشترط القبول نطقاً، فلو قال: أعرتُك، جاز له الانتفاع به و إن لم يتلفّظ بالقبول؛ لأنّه عقد ضعيف، لأنّه يثمر إباحة الانتفاع، و هي قد تحصل بغير عقدٍ، كما لو حسن ظنّه بصديقه، كفى في الانتفاع عن العقد، و كما في الضيف، بخلاف العقود اللازمة، فإنّها موقوفة على ألفاظٍ خاصّة اعتبرها الشرع.

مسألة 92: و الأقرب عندي: إنّه لا تفتقر العارية إلى لفظٍ،

بل تكفي قرينة الإذن بالانتفاع من غير لفظٍ دالٍّ على الإعارة أو الاستعارة، لا من طرف المُعير و لا من طرف المُستعير، كما لو رآه عارياً فدفع إليه قميصاً فلبسه، تمّت العارية.

ص: 246

و كذا لو فرش لضيفه فراشاً أو بساطاً أو مصلّىً أو حصيراً أو ألقى إليه وسادة فجلس عليها أو مخدّةً فاتّكأ عليها، كان ذلك إعارةً، بخلاف ما لو دخل فجلس على الفرش المبسوطة؛ لأنّه لم يقصد بها انتفاع شخصٍ بعينه - و هو قول بعض الشافعيّة(1) - قضاءً بالظاهر، و قد قال عليه السلام: «نحن نقضي بالظاهر»(2).

و قال بعضهم: يعتبر اللفظ من جهة المُعير، و لا يعتبر من جهة المُستعير، و إنّما يعتبر منه القبول إمّا باللفظ أو بالفعل(3).

و قال بعضهم: لا بدّ من اللفظ من أحد الطرفين، و لا يشترط أحدهما عيناً، بل إمّا لفظ المُعير أو المُستعير، و فعل الآخَر، فلو قال المالك:

أعرتُك، أو: انتفع به، إلى غير ذلك من الألفاظ، فأخذه المُستعير، تمّت العارية. و لو قال المُستعير: أعرني، فسلّمه المالك إليه، صحّت العارية، و كان كما لو قال: خُذْه لتنتفع به، و أخذه؛ تشبيهاً للإعارة بإباحة الطعام(4).

و الأقرب: ما تقدّم.

و قد جرت العادة بالانتفاع بظرف الهديّة المبعوثة إليه و استعماله، كأكل الطعام من القصعة المبعوث فيها، فإنّه يكون عاريةً؛ لأنّه منتفع بملك الغير بإذنه و إن لم يوجد لفظٌ يدلّ عليها، بل شاهد الحال.

مسألة 93: لو قال: أعرتُك حماري لتعيرني فرسك، فهي إجارة فاسدة،

و على كلّ واحدٍ منهما أُجرة مثل دابّة الآخَر، و كذا لو أعاره شيئاً

ص: 247


1- العزيز شرح الوجيز 374:5، روضة الطالبين 75:4.
2- المحصول 447:2، الإحكام في أُصول الأحكام 306:2.
3- الوسيط 369:3، العزيز شرح الوجيز 374:5، روضة الطالبين 75:4.
4- المهذّب - للشيرازي - 370:1، التهذيب - للبغوي - 280:4، البيان 454:6، العزيز شرح الوجيز 374:5، روضة الطالبين 75:4.

بعوضٍ مجهول، كما لو أعاره دابّته ليعلفها، أو داره ليطيّن سطحها، و كذا لو كان العوض معلوماً و لكن مدّة [الإعارة](1) مجهولة، كما لو قال: أعرتُك داري بعشرة دراهم، أو لتعيرني ثوبك شهراً، هكذا قاله بعض الشافعيّة(2).

و ليس بجيّدٍ، بل هي عارية مشروط فيها استعارة أو نفع مجهول، فتكون الأُولى صحيحةً له الانتفاع إذا فعل الشرط، و الثانية له الانتفاع بالإذن، و لا تضرّ الجهالة في العوض و لا في المدّة؛ لكونها من العقود الجائزة.

و قال بعض الشافعيّة: إنّها عارية فاسدة، فتكون مضمونةً عليه؛ بناءً منهم على أنّ العارية الصحيحة مضمونة؛ نظراً إلى اللفظ، و على القول بأنّها إجارة فاسدة لا تكون مضمونةً(3).

و لو بيّن مدّة الإعارة و ذكر عوضاً معلوماً، فقال: أعرتُك هذه الدار شهراً من اليوم بعشرة دراهم، أو لتعيرني ثوبك شهراً من اليوم، ففي كونه إجارةً صحيحةً أو إعارةً فاسدةً للشافعيّة وجهان مبنيّان على أنّ النظر إلى اللفظ أو المعنى ؟(4).

و لو دفع دراهم إلى رجلٍ و قال: اجلس على هذا الحانوت و اتّجر عليها لنفسك، أو دفع إليه بذراً و قال: ازرع به هذه الأرض، فهو مُعير للحانوت و الأرض.

و أمّا الدراهم و البذر فإن كان قد قَبِلهما على سبيل الهبة حُكم بها، و إلّا فهو قرض.4.

ص: 248


1- بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «الإجارة». و المثبت يقتضيه السياق و كما في المصدر.
2- العزيز شرح الوجيز 374:5-375، روضة الطالبين 76:4. (3 و 4) العزيز شرح الوجيز 375:5، روضة الطالبين 76:4.

و للشافعيّة قولان، أحدهما: إنّه قرض، و الثاني: إنّه هبة(1).

مسألة 94: إذا قال: أعرتُك فرسي لتعيرني حمارك، فقد بيّنّا أنّها عارية للفرس

بشرط أن يعيره المُستعير، لكن لا يجب على المُستعير للفرس إعارة حماره؛ لأصالة عدم الوجوب، فإن أعاره إيّاه استباح منفعة الفرس، و إن لم يُعِرْه لم يُبَحْ له الانتفاع، فإن انتفع به كان عليه الأُجرة؛ إذ الإذن في الانتفاع لم يقع مطلقاً، بل مع سلامة نفع الحمار، فإذا لم يسلم كان له المطالبة بالعوض.

ص: 249


1- العزيز شرح الوجيز 375:5، روضة الطالبين 76:4.

ص: 250

الفصل الثاني: في الأحكام

اشارة

و مباحثه ثلاثة:

المبحث الأوّل: في التسلّط و الرجوع.
مسألة 95: العارية عقد جائز من الطرفين بالإجماع

لكلٍّ منهما فسخه، فللمالك الرجوعُ فيه متى شاء، و كذا للمُستعير الردُّ متى أراد؛ لأنّ العارية تبرّع و تفضّل بالمنفعة، فلا يناسب الإلزام فيما يتعلّق بالمستقبل.

و ليس للمالك المطالبةُ بعوضٍ عن المنفعة التي استوفاها المُستعير قبل علم الرجوع.

و لو رجع قبل أن يعلم المُستعير، فالأقرب: إنّه كذلك لا عوض له.

و لو رجع و علم المُستعير برجوعه ثمّ استعمل، فهو غاصب عليه الأُجرة، إلّا إذا أعار لدفن ميّتٍ مسلمٍ ثمّ رجع بعد الدفن، لم يصح رجوعه، و لا قلع الميّت و لا نبش القبر، إلّا أن يندرس أثر الميّت؛ لما فيه من هتك حرمة الميّت، و لا نعلم فيه خلافاً.

أمّا لو رجع قبل الحفر أو بعده قبل وضع الميّت، فإنّه يصحّ رجوعه، و يحرم دفنه فيه.

و لو رجع بعد وضع الميّت في القبر و قبل أن يواريه في التراب، فالأقرب: إنّ له الرجوعَ أيضاً، و مئونة الحفر إذا رجع بعد الحفر و قبل الدفن لازمة لوليّ الميّت، و لا يلزم وليّ الميّت الطمّ؛ لأنّ الحفر مأذون فيه.

مسألة 96: لو نبتت في القبر شجرة، كان لمالك الأرض سقيها،

إلّا أن يفضي السقي إلى ظهور شيءٍ من الميّت فيحرم؛ لأنّه نبشٌ في الحقيقة.

و اعلم أنّ الدفن من جملة منافع الأرض، كالبناء و الغراس، فإذا أطلق

ص: 251

إعارة الأرض لم يكن له الدفن فيها؛ لأنّ مثل هذه المنفعة لا يكفي فيها إطلاق الإعارة، بل يجب ذكرها بالنصوصيّة، بخلاف سائر المنافع؛ لأنّ هذه المنفعة تقتضي تسلّط المُستعير على المُعير بما فيه ضرر لازم، و لو قدّر تسليطه عليه كان ذلك ذريعةً إلى إلزام إعارة الأرضين.

مسألة 97: لا تخلو العين التي تعلّقت بها العارية إمّا أن تكون جهة الانتفاع فيها واحدةً أو أكثر.

فإن كانت واحدةً لا ينتفع بالمُستعار به إلّا بجهةٍ واحدة، كالدراهم و الدنانير التي لا ينتفع بها إلّا بالتزيّن، و البساط الذي لا ينتفع به إلّا في فرشه، و الخيمة التي لا منفعة لها إلّا الاكتنان، و الدار التي لا منفعة فيها إلّا السكنى، و مثل هذا لا يجب التعرّض للمنفعة، و لا ذكر وجه الانتفاع بها؛ لعدم الاحتياج إليه؛ إذ المقتضي للتعيين في اللفظ حصر أسباب الانتفاع، و هو في نفسه محصور، فلا حاجة له إلى مائزٍ لفظيّ.

و إن تعدّدت الجهات التي يحصل بها الانتفاع - كالأرض التي تصلح للزراعة و الغرس و البناء، و الدابّة التي تصلح للحمل و الركوب - فلا يخلو إمّا أن يعمّم الإذن، أو يخصّصه بوجهٍ واحد أو أزيد، أو يطلق.

فإن عمّم، جاز له الانتفاع بسائر وجوه الانتفاعات المباحة المتعلّقة بتلك العين - كما لو أعاره الأرض لينتفع بها في الزرع و الغرس و البناء و غير ذلك - بلا خلاف.

و إن خصّص الوجه كأن يعيره الأرض للزرع أو البناء أو الغرس، اختصّ التحليل بما خصّصه المُعير، و بما ساواه أو قصر عنه في الضرر ما لم ينصّ على التخصيص، و يُمنع من التخطّي إلى غيره، فلا يجوز له التجاوز قطعاً.

ص: 252

و إن أطلق، فالأقوى: إنّ حكمه حكم التعميم؛ لأنّ إطلاق الإذن في الانتفاع يُشعر بعمومه و الرضا بجميع وجوهه؛ إذ لا وجه من الوجوه أولى بجواز التصرّف من الآخَر، و هو أحد وجهي الشافعيّة.

و الثاني: إنّه تبطل العارية؛ لأنّهم اختلفوا في أنّه هل يشترط في العارية التعرّض لجهة الانتفاع ؟ فشرطه بعضهم؛ لأنّ الإعارة معونة شرعيّة جُوّزت للحاجة، فلتكن على حسب الحاجة، و لا حاجة إلى الإعارة المرسلة.

و بعضهم لم يشترط، بخلاف الإجارة؛ لأنّ الجهالة في الإعارة غير مُضرّةٍ، بخلاف الإجارة؛ لأنّه يحتمل في العارية ما لا يحتمل في الإجارة، و لأنّ الجهالة إنّما تؤثّر في العقود اللازمة، و الإعارة إباحة، فجاز فيها الإطلاق، كإباحة الطعام(1).

فإذا أعاره أرضاً مطلقاً، كان له أن ينتفع بها بسائر وجوه الانتفاعات، و جميع ما العين معدّة له في الانتفاع مع بقاء العين، كالزرع و الغرس و البناء، و يفعل فيها كلّ ما هي مستعدّة له من الانتفاع.

و ليس للمُستعير أن يُعير و لا أن يؤجّر؛ لأنّها رخصة وُضعت للحاجة، و هي منفيّة هنا.

و كذا ليس له أن يبيع؛ لأنّه غير داخلٍ في مفهوم الإعارة.

و الأقرب: إنّ له أن يرهن مع التعميم، دون الإطلاق.

مسألة 98: و حكم جزئيّات المأذون فيه بالخصوصيّة حكم جزئيّات مطلق الانتفاع،

فلو أذن له في الزرع و أطلق، استباح المُستعير زرع ما شاء

ص: 253


1- المهذّب - للشيرازي - 371:1، الوجيز 204:1، الوسيط 372:3، التهذيب - للبغوي - 282:4، العزيز شرح الوجيز 381:5-382، روضة الطالبين 81:4.

من أصناف الزرع، كالحنطة و الشعير و الدخن و الذرّة و القطن و الفوّه(1) و ما يبقى زمناً طويلاً و قصيراً و سائر أصناف الخضر و جميع ما يطلق عليه اسم الزرع.

و ليس له البناء و لا الغراس؛ لأنّ ضررهما أكثر من ضرر الزرع، و القصد منهما الدوام، و الإذن في القليل لا يستلزم الإذن في الكثير، بخلاف العكس، إلّا مع التنصيص، فلو استعارها للبناء أو الغراس كان له أن يزرع؛ لقصور ضرره عنهما، فكأنّه استوفى بعض المنفعة التي أذن فيها، و لو مَنَعه لم يَسُغْ له الزرع.

و لو أعارها للغراس، لم يكن له البناء، و بالعكس؛ لأنّ ضررهما مختلف؛ فإنّ ضرر الغراس في باطن الأرض؛ لانتشار العروق فيها، و ضرر البناء في ظاهرها، و لأنّ البناء يكون على موضعٍ واحد، و الغرس تنتشر عروقه في الأرض، فلم يكن الإذن في أحدهما إذناً في الآخَر، و هو أصحّ وجهي الشافعيّة.

و الثاني: إنّه إذا أذن له في أحدهما، استباح به الآخَر؛ لتقارب ضررهما، فإنّ كلّاً منهما للدوام، و الأرض تُتّخذ للبناء و للغراس(2).

و ليس بجيّدٍ؛ للاختلاف، كما قلناه.

مسألة 99: إذا أذن له في الزرع، فإمّا أن يطلق أو يعمّم أو يخصّص،
اشارة

و لا بحث في الأخيرين، و أمّا الأوّل فإنّه يصحّ عندنا، و يستبيح المُستعير جميعَ أصناف الزرع، اختلف ضررها أو اتّفق - و هو أصحّ وجهي الشافعيّة -

ص: 254


1- الفوّه: عروق يُصبغ بها. لسان العرب 530:13 «فوه».
2- المهذّب - للشيرازي - 371:1، الوسيط 373:3، حلية العلماء 196:5، البيان 462:6، العزيز شرح الوجيز 381:5، روضة الطالبين 81:4.

عملاً بإطلاق اللفظ.

و الثاني: إنّه لا يستبيح شيئاً بهذه العارية، و تكون عاريةً باطلة(1).

و قال بعضهم: تصحّ الإعارة، و لا يزرع إلّا أقلّ الأنواع ضرراً؛ لأصالة عصمة مال الغير(2). و لا بأس به.

و لو قال: أعرتُك كذا لتفعل به ما بدا لك، أو لتنتفع به كيف شئت، صحّ عندنا، و كان له أن ينتفع به كيف شاء؛ لإطلاق الإذن، و هو أحد وجهي الشافعيّة، و الثاني: البطلان(3).

و قال بعضهم: ينتفع به بما هو العادة(4).

و هو حسن، فلو أعاره الأرض، كان له البناء و الغرس و الزرع، دون الرهن و الوقف و الإجارة و البيع.

و لو قال: أعرتُكها لزرع الحنطة، و لم ينه عن غيرها، كان له زرع ما هو أقلّ ضرراً من الحنطة؛ عملاً بشاهد الحال، كالشعير و الباقلّاء. و كذا له زرع ما ساوى ضرره ضرر الحنطة، و ليس له زرع ما ضرره أكثر من ضرر الحنطة، كالذرّة و القطن.

و لو نهاه عن زرع غير الحنطة، لم يكن له زراعة غيرها؛ اقتصاراً على المأذون فيه.

تذنيب: إذا عيّن المزروع فزرع غيره، كان لصاحب الأرض قلعه

ص: 255


1- الوسيط 372:3، التهذيب - للبغوي - 282:4، العزيز شرح الوجيز 381:5، روضة الطالبين 81:4.
2- العزيز شرح الوجيز 381:5، روضة الطالبين 81:4.
3- العزيز شرح الوجيز 382:5، روضة الطالبين 82:4.
4- الحاوي الكبير 127:7، العزيز شرح الوجيز 382:5، روضة الطالبين 82:4.

مجّاناً؛ لأنّه ظالم، و قال عليه السلام: «ليس لعِرْق ظالمٍ حقٌّ»(1).

مسألة 100: تنقسم العارية باعتبار الزمان إلى ثلاثة،

كما انقسمت باعتبار المنافع إليها؛ لأنّ المُعير قد يُطلق العارية من غير تقييدٍ بزمانٍ، و قد يوقّت بمدّةٍ، و قد يُعمّم الزمانَ، كقوله: أعرتُك هذه الأرض، و لا يقرن لفظه بوقتٍ و زمانٍ، أو: أعرتُك هذه الأرض سنةً أو شهراً، أو: أعرتُك هذه الأرض دائماً.

و إنّما جاز الإطلاق فيها بخلاف الإجارة؛ لأنّ العارية جائزة، و له الرجوع فيها متى شاء، فتقديرها لا يفيد شيئاً، و إنّما جاز تقييدها؛ لأنّ إطلاقها جائز، فتقييدها أولى.

مسألة 101: إذا أطلق العارية، كان له الرجوع فيها متى شاء،

و لا يجوز للمُستعير التصرّف بعد الرجوع، فإن تصرّف ضمن العين و الأُجرة، إلّا في إعارة الدفن، فلا يجوز الرجوع بعده، و لا مع دفع شيءٍ، و لا في إعارة الحائط للتسقيف و شبهه، فلا يجوز الرجوع قبل الخراب إلّا مع دفع(2) الأرش، و ما عداهما يجوز الرجوع قبل التصرّف و بعده، سواء كانت العارية موقّتةً أو لا - و فائدة الرجوع بعد التصرّف المطالبةُ بالأُجرة فيما يستقبل، لا فيما مضى - عند علمائنا - و به قال أبو حنيفة و الشافعي و أحمد(3) - لأنّ

ص: 256


1- تقدّم تخريجه في ص 92، الهامش (3).
2- في الطبعة الحجريّة: «بدفع» بدل «مع الدفع».
3- تحفة الفقهاء 179:3، بدائع الصنائع 216:6، مختصر اختلاف العلماء 187:4-1877/188، روضة القُضاة 3169/535:2، الفقه النافع 671/947:3، الإشراف على مذاهب أهل العلم 446/274:1، الحاوي الكبير 128:7، المهذّب - للشيرازي - 370:1، بحر المهذب 6:9، الوجيز 204:1، الوسيط 373:3، حلية العلماء 194:5، البيان 459:6، العزيز شرح الوجيز 382:5، روضة الطالبين 83:4، المغني 364:5، الشرح الكبير 357:5، الإشراف على نكت مسائل الخلاف 1062/623:2.

المُستعير استباح المنافع بالإذن، فإذا رجع عن الإذن لم يجز له فعله؛ لأنّه تصرّف في مال الغير بغير إذنه، فكان غصباً، و لأنّ المنافع المستقبلة لم تحصل في يد المُستعير فلا يملكها بالإعارة، كما لو لم تحصل العين في يده.

و قال مالك: إذا كانت العارية موقّتةً لم يكن للمُعير الرجوع فيها، و إن لم يكن موقّتةً لزمه تركه مدّة ينتفع [بها](1) في مثلها؛ لأنّ المُعير قد ملّكه المنفعة مدّةً معلومة، و صارت العين في يده بعقدٍ مباح، فلم يكن له الرجوع فيها بغير اختيار المالك، كالعبد الموصى بخدمته(2).

و الفرق: إنّ العبد الموصى بخدمته ليس للورثة الرجوع فيه؛ لأنّ المتبرّع غيرهم، و أمّا الموصي المتبرّع فله أن يرجع متى شاء.

مسألة 102: إذا أعاره أرضاً للبناء أو الغراس

مسألة 102: إذا أعاره أرضاً للبناء أو الغراس(3) أو الزرع، أو أطلق له الانتفاع، كان للمُستعير الانتفاع فيما أذن له فيه ما لم يمنعه.

فإن قدّر له المدّة، كان له أن يبني و يغرس و ينتفع بهما حسبما أذن ما لم يرجع عن إذنه أو تنقضي المدّة، فإن رجع عن إذنه قبل انقضاء المدّة أو لم يرجع و لكن انقضت المدّة المأذون فيها، لم يكن له استحداث شيءٍ

ص: 257


1- بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «به». و الظاهر ما أثبتناه.
2- الإشراف على نكت مسائل الخلاف 1062/623:2، بداية المجتهد 313:2، الإشراف على مذاهب أهل العلم 446/274:1. بحر المذهب 6:9، حلية العلماء 195:5، البيان 459:6، العزيز شرح الوجيز 382:5، مختصر اختلاف العلماء 1877/188:4، المغني 364:5، الشرح الكبير 357:5.
3- في الطبعة الحجريّة: «الغرس».

من ذلك، فإن استحدث شيئاً من ذلك بعد علمه بالرجوع، وجب عليه قلعه مجّاناً؛ لقوله عليه السلام: «ليس لعِرْق ظالمٍ حقٌّ»(1)في «ث، ر»: «المؤمنون».(2) و تجب عليه أُجرة ما استوفاه من منفعة الأرض على وجه التعدّي و طمّ الحُفَر التي حدثت لقلع ما غرسه، كالغاصب.

و إن كان جاهلاً بالرجوع، فالأقوى: إنّ له القلعَ مع الأرش، كما لو لم يرجع؛ لأنّه غير مفرّطٍ و لا غاصبٍ.

و للشافعيّة وجهان، كالوجهين فيما لو حمل السيل نواةً إلى أرضه فنبتت، و قد يشبه بالخلاف في تصرّف الوكيل جاهلاً بالعزل(3).

و أمّا ما بناه و غرسه قبل الرجوع: إن أمكن رفعه من غير نقصٍ يدخله، رفع.

و إن لم يمكن إلّا مع نقصٍ و عيبٍ يدخل على المُستعير، نُظر إن كان قد شرط عليه القلع مجّاناً عند رجوعه و تسوية الحُفَر، أُلزم ذلك؛ عملاً بمقتضى الشرط و قد قال عليه السلام: «المسلمون(3) عند شروطهم»(4) فإن امتنع، قَلَعه المُعير مجّاناً.

و إن كان قد شرط القلع دون التسوية، لم يكن على المُستعير».

ص: 258


1- تقدّم تخريجه في الهامش
2- من ص 92.
3- العزيز شرح الوجيز 385:5، روضة الطالبين 83:4.
4- صحيح البخاري 120:3، سنن الدارقطني 98/27:3 و 99، سنن البيهقي 249:7، المستدرك - للحاكم - 49:2 و 50، المصنّف - لابن أبي شيبة - 2064/568:6، المعجم الكبير - للطبراني - 4404/275:4، و في التهذيب 1503/371:7، و الاستبصار 835/232:3، و الجامع لأحكام القرآن 33:6: «المؤمنون...».

التسوية؛ لأنّ شرط القلع رضا بالحفر.

و إن لم يشرط القلع أصلاً، نُظر إن أراد المُستعير القلع مُكّن منه؛ لأنّه ملكه، فله نقله عنه.

و إذا قلع فهل عليه التسوية ؟ الأقوى: ذلك؛ لأنّه قلع باختياره لتخليص ماله، فكان عليه أرش ما نقصه الحفر، كما لو أراد إخراج دابّته من دار الغير و لا يمكن إلّا بحفر الباب(1) ، و هو أظهر وجهي الشافعيّة، و الثاني:

إنّه ليس عليه التسوية؛ لأنّ الإعارة مع العلم بأنّ للمُستعير أن يقلع رضا بما يحدث من القلع(2).

و إن لم يختر المُستعير القلع، لم يكن للمُعير قلعه مجّاناً؛ لأنّه بناء محترم صدر بالإذن، و لكنّه يتخيّر بين أن يقلعه و يضمن الأرش - و هو قدر التفاوت بين قيمته مثبتاً و مقلوعاً - و بين إبقائه بأُجرة المثل يأخذها، و بين أن يتملّكه بقيمته.

فإن اختار القلع و بذل أرش النقص، فله ذلك، و يُجبر المُستعير عليه، و ليس له الامتناع عنه.

و إن اختار أحد الأمرين الآخَرين، افتقر إلى رضا المُستعير فيه؛ لأنّ أحدهما بيع، و الآخَر إجارة، و كلاهما يتوقّفان(3) على رضا المتعاقدين معاً،».

ص: 259


1- كذا قوله: «بحفر الباب» في النسخ الخطّيّة و الحجريّة، و الظاهر: «بهدم الباب» أو «بنقض الباب».
2- الحاوي الكبير 128:7، المهذّب - للشيرازي - 371:1، الوسيط 375:3، الوجيز 205:1، حلية العلماء 197:5، التهذيب - للبغوي - 282:4-283، البيان 463:6، العزيز شرح الوجيز 385:5، روضة الطالبين 84:4، المغني 366:5-367.
3- في «ث، ج، ر»: «موقوفان».

و هو أحد قولَي الشافعي، و الثاني: إنّه لا يعتبر رضا المُستعير فيه، بل يُجبر على ما يختاره المُعير منهما(1).

و له قولان آخَران:

أحدهما: إنّ المُعير إن طلب التملّك بالقيمة أُجبر المُستعير عليه، كتملّك الشفيع الشقصَ قهراً، و إن طلب الإبقاء بالأُجرة اعتبر رضا المُستعير فيه.

و الثاني: إنّ المُعير يتخيّر بين أمرين خاصّة، أحدهما: القلع مع ضمان الأرش، و الثاني: التملّك بالقيمة(2).

و الأصل فيه: إنّ العارية مكرمة و مبرّة، فلا يليق بها منع المُعير من الرجوع و لا تضييع مال المُستعير، فأثبتنا الرجوع على وجهٍ لا يتضرّر به المُستعير، و جعلنا الأمر منوطاً باختيار المُعير؛ لأنّه الذي صدرت منه هذه المكرمة، و لأنّ ملكه الأرض و هي أصل، و أمّا البناء و الغراس فإنّهما تابعان لها، و لذلك(3) يتبعانها في البيع(4).

و لو طلب المُستعير تملّك الأرض و قال: أنا أدفع قيمة الأرض إلى المُعير ليبقى البناء و الغراس، لم يُجبر المُعير على ذلك، و الفرق بينه و بين المُستعير ما تقدّم من كون البناء و الغرس تابعين(5) ، و كون الأرض متبوعةً، فلهذا أُجيب المالك إلى ما طلبه من تملّك البناء و الغرس بالقيمة و ما طلبهح.

ص: 260


1- العزيز شرح الوجيز 385:5-386، روضة الطالبين 84:4.
2- العزيز شرح الوجيز 386:5.
3- في الطبعة الحجريّة و «العزيز شرح الوجيز»: «كذلك».
4- راجع: العزيز شرح الوجيز 386:5.
5- في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «تابعان». و المثبت هو الصحيح.

المُستعير من تملّك الأرض بالقيمة.

مسألة 103: لو لم يختر المُستعير قلع غرسه و لا قلع بنائه مع الإذن المطلق فيهما، لم يُجبر على القلع،

إلّا أن يضمن المُعير أرش النقص، فحينئذٍ يلزمه تفريغ الأرض من بنائه و غرسه و ردّها إلى ما كانت عليه.

و اعلم أنّ مَنْ جعل الأمر موكولاً إلى اختيار المُعير في القلع بالأرش و الإبقاء بالأُجرة و التملّك بالقيمة قال: منه الاختيار و من المُستعير الرضا و اتّباع مراده، فإن لم يفعل و امتنع من إبلاغه مراده ألزمناه بتفريغ أرضه.

و مَن اعتبر رضا المُستعير في التملّك بالقيمة و الإبقاء بالأُجرة فلا يكلّف التفريغ، بل يكون الحكم عنده كالحكم فيما إذا لم يختر المُعير شيئاً ممّا خيّرناه فيه.

و مَنْ قصر خيرة المُعير على أمرين: القلع بشرط الضمان؛ لنقص الأرض، و التملّك بالقيمة قال: لو امتنع من بَذْل الأرش و القيمة و بَذَل المُستعير الأُجرة لم يكن للمُعير القلع مجّاناً، و إن لم يبذلها فوجهان، أظهرهما عندهم: إنّه ليس له ذلك أيضاً(1).

و به أجاب مَنْ خيَّره بين الخصال الثلاث إذا امتنع منها جميعاً(1).

و ما الذي يفعل ؟ اختلفت الشافعيّة على قولين:

أحدهما: إنّ الحاكم يبيع الأرض مع البناء و الغراس لتفاصل الأمر.

و الثاني - و هو قول الأكثر -: إنّه يعرض الحاكم عنهما إلى أن يختارا شيئاً(3).

و التحقيق عندي هنا أن نقول: إذا أعاره للبناء أو الغرس أو لهما ففَعَل ثمّ رجع عن الإذن بعد وقوع الفعل، فإمّا أن يطلب المُعير القلع أو

ص: 261


1- كما في العزيز شرح الوجيز 387:5.

المُستعير، فإن طلبه المُستعير لم يكن للمُعير ردّه عن ذلك، و إن طلبه المُعير لم يكن للمُستعير ردّه عن ذلك، و يضمن كلٌّ منهما نقص ما دخل على الآخَر.

مسألة 104: يجوز للمُعير دخول الأرض و الانتفاع بها و الاستظلال بالبناء و الشجر؛

لأنّه جالس على ملكه، و ليس له الانتفاع بشيءٍ من الشجر بثمر و لا غصن و لا ورق و لا غير ذلك، و لا بضرب وتدٍ في الحائط، و لا التسقيف عليه.

و ليس للمُستعير دخول الأرض للتفرّج، إلّا بإذن المُعير؛ لأنّه تصرّف غير مأذونٍ فيه.

نعم، يجوز له الدخول لسقي الشجر و مرمّة الجدار؛ حراسةً لملكه عن التلف و الضياع، و هو أصحّ وجهي الشافعيّة. و الثاني: المنع؛ لأنّه يشغل ملك الغير إلى أن ينتهي إلى ملكه(1).

و على ما اخترناه من الجواز لو تعطّلت المنفعة على صاحب الأرض بدخوله، لم يُمكَّن منه إلّا بالأُجرة؛ جمعاً بين حفظ المالين.

مسألة 105: إذا بنى أو غرس في أرض المُعير بإذنه أو بغير إذنه، جاز لكلٍّ منهما أن يبيع ملكه من الآخَر،

و يجوز للمُعير أن يبيع الأرض من ثالثٍ، ثمّ يتخيّر المشتري كالمُعير.

و كذا للمُستعير أن يبيع من ثالثٍ أيضاً - و هو أصحّ وجهي

ص: 262


1- الحاوي الكبير 129:7، المهذّب - للشيرازي - 372:1، حلية العلماء 199:5، التهذيب - للبغوي - 284:4، البيان 464:6-465، العزيز شرح الوجيز 387:5، روضة الطالبين 85:4.

الشافعيّة(1) - لأنّه مملوك له في حال بيعه غير ممنوعٍ من التصرّف فيه.

و الثاني: المنع؛ لأنّه في معرض النقض و الهدم، و لأنّ ملكه عليه غير مستقرٍّ؛ لأنّ المُعير بسبيلٍ من تملّكه(1)(3).

و ليس بجيّدٍ؛ لأنّ كونه متزلزلاً لا يمنع من جواز بيعه؛ فإنّ الحيوان المشرف على التلف في معرض الهلاك، و يجوز بيعه، و مستحقّ القتل قصاصاً يجوز بيعه على الأقوى، و تمكّن المُعير من تملّكه لا يوجب منع بيعه، كالشفيع المتمكّن من تملّك الشقص.

إذا ثبت هذا، فإنّ المشتري إن كان جاهلاً بالحال كان له خيار الفسخ؛ لأنّ ذلك عيب، و إن كان عالماً فلا خيار له، ثمّ يُنزّل المشتري منزلة المُستعير، و للمُعير الخيار على ما تقدّم.

و لو اتّفق المُعير و المُستعير على بيع الأرض مع البناء أو الغراس بثمنٍ واحد، صحّ - و هو أظهر وجهي الشافعيّة(4) - للحاجة.

و الثاني: المنع، كما لو كان لكلّ واحدٍ منهما عبد فباعاهما معاً صفقةً واحدة(5).

و نحن نقول بالجواز هنا أيضاً.

إذا تقرّر هذا، فإنّ الثمن يوزّع عليهما، فيوزّع على أرضٍ مشغولة بالغراس أو البناء على وجه الإعارة مستحقّ القلع مع الأرش، أو الإبقاء مع4.

ص: 263


1- في «ث، ر، خ»: «لأنّ للمُعير تسبيل ملكه». و في «ج» و الطبعة الحجريّة: «لأنّ المُعير بسبيلٍ من ملكه». و المثبت كما في «العزيز شرح الوجيز». (4 و 5) العزيز شرح الوجيز 387:5، روضة الطالبين 85:4.

الأُجرة، أو التملّك بالقيمة إن كان بالإذن، و على ما فيها من بناءٍ أو غرسٍ مستحقٍّ للقلع على أحد الأنحاء، فحصّة الأرض للمُعير، و حصّة ما فيها للمُستعير.

مسألة 106: إذا أعاره أرضاً للبناء أو الغرس عاريةً موقّتة،

أو أطلق الإعارة مقيّدةً بالمدّة، كان للمُستعير البناء و الغرس في المدّة، إلّا أن يرجع المُعير، و له أن يجدّد كلّ يومٍ غرساً، فإذا انقضت المدّة لم يجز له إحداث البناء و لا الغرس إلّا بإذنٍ مستأنف.

ثمّ للمالك الرجوع في العارية قبل انقضاء المدّة بالأرش، و بعدها مجّاناً إن شرط المُعير القلع أو نقض البناء بعد المدّة، أو شرط عليه القلع متى طالبه بالقلع؛ عملاً بالشرط، فإنّ فائدته سقوط الغُرْم، فلا يجب على صاحب الأرض ضمان ما نقص الغرس بالقلع، و لا يجب على المُستعير طمّ الحُفَر؛ لأنّه أذن له في القلع بالشرط.

فإن لم يكن قد شرط عليه القلع فإن اختار المُستعير قلعه(1) ، كان له ذلك؛ لأنّه ملكه(2).

و هل عليه تسوية الأرض ؟ الأقوى ذلك؛ لأنّه يقلعه باختياره من غير إذن المُعير، و هو أحد وجهي الشافعيّة، و الثاني: ليس عليه؛ لأنّ إذنه في الإعارة رضا بقلع ذلك؛ لأنّه ملك لغيره، فقلعه إلى اختياره(3).

و إن لم يختر صاحب الغرس القلعَ و طالَبه المُعير بقلعه، لم يكن له ذلك، إلّا بأن يضمن ما ينقص بالقلع.

ص: 264


1- في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «قلعها». و الظاهر ما أثبتناه.
2- في النسخ الخطيّة و الحجريّة: «ملكها». و الصحيح ما أثبتناه.
3- راجع الهامش (2) من ص 259.

و ليس للمُستعير دفع قيمة الأرض إلّا باختيار المالك، و للمالك دفع قيمة الغرس على إشكالٍ أقربه ذلك مع رضا المُستعير لا مع سخطه، و بهذا قال الشافعي، إلّا أنّه قال: للمالك دفع قيمة الغرس و إن لم يرض المُستعير.

و روي مثل ذلك عن أحمد(1).

و قال أبو حنيفة و مالك: له مطالبته بقلعه من غير ضمانٍ عند انقضاء المدّة، و به قال المزني - قال أبو حنيفة: إلّا أن يكون أعاره مدّةً معلومة و رجع [قبل](2) انقضائها - لأنّ المُعير لم يغرّه، فإذا طالبه بالقلع كان له، كما لو شرط عليه القلع(3).

و قالت الشافعيّة: ليس له ذلك إلّا بأرش نقص الغرس؛ لأنّه بنى و غرس في ملك غيره، فلم يكن له المطالبة من غير ضمانٍ، كما لو طالبه قبل انقضاء المدّة.

ثمّ منعوا من قول أبي حنيفة: «إنّ المالك لم يغرّه» لأنّ الغراس و البناء يراد للتبقية، و تقدير المدّة ينصرف إلى ابتدائه، كأنّه قال: لا تغرس فيما جاوز هذه المدّة، أو لطلب الأُجرة(4).

و الأوّل عندي أقرب.5.

ص: 265


1- التهذيب - للبغوي - 283:4، العزيز شرح الوجيز 385:5 و 388، روضة الطالبين 84:4 و 86، المغني 366:5-367، الشرح الكبير 360:5.
2- بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «مع». و المثبت من المصدر.
3- الهداية - للمرغيناني - 222:3، بدائع الصنائع 217:6، حلية العلماء 198:5، التهذيب - للبغوي - 283:4، البيان 464:6، العزيز شرح الوجيز 388:5، المغني 367:5، الشرح الكبير 360:5.
4- العزيز شرح الوجيز 385:5 و 388، روضة الطالبين 84:4 و 86، المغني 367:5، الشرح الكبير 360:5.
مسألة 107: لو كانت الأرض مشتركةً فبنى أحدهما بإذن الآخَر أو غرس كذلك، ثمّ رجع صاحبه،

فالأقرب عندي: أن يكون حكمه حكم الأجنبي من جواز القلع بالأرش.

و قالت الشافعيّة: ليس له ذلك و لا أن يتملّك بالقيمة.

أمّا الأوّل: فلأنّ قلعه يتضمّن قلع غرس المالك في(1) ملكه و نقض بنائه عن ملكه؛ إذ له في الملك نصيب كما للمُعير.

و أمّا الثاني: فلأنّ المُستعير يستحقّ في الأرض مثل حقّ المُعير، فلا يمكننا أن نقول: الأصل للمُعير، و البناء تابع، بل له التقرير بالأُجرة خاصّةً، فإن امتنع من بذلها فإمّا أن يباع أو يعرض عنهما الحاكم(2).

و ليس بشيءٍ؛ لأنّ للمُعير تخليصَ ملكه و تفريغه، و إنّما يحصل بنقض مال الغير، فوجب أن يكون جائزاً له، كما في الفصيل(3) لو لم يمكن إخراجه إلّا بهدم الباب.

مسألة 108: يجوز أن يعير الأرض للزراعة؛

لأنّها منفعة مباحة مطلوبة للعقلاء، فصحّ في مقابلتها العوض بالإجارة فجازت الإعارة.

فإذا استعار للزرع فزرع ثمّ رجع المُعير في العارية قبل أن يدرك الزرع، فإن كان ممّا يعتاد قطعه كالقصيل قطع، فإن امتنع المُستعير من قطعه أُجبر عليه إن لم ينقص بالقصل، و لا شيء؛ إذ لا نقص، و إن نقص فله القطع أيضاً لكن مع دفع الأرش.

و إن كان ممّا لا يعتاد قطعه، فالأقرب: إنّ حكمه حكم الرجوع في

ص: 266


1- في «ث، خ، ر»: «من» بدل «في».
2- العزيز شرح الوجيز 388:5-389، روضة الطالبين 86:4.
3- الفصيل: ولد الناقة إذا فصل عن أُمّه. القاموس المحيط 30:4 «فصل».

الغرس في القلع و التبقية.

و اختلفت الشافعيّة:

فقال بعضهم: إنّ له أن يقطع، و يغرم أرش القطع؛ تخريجاً ممّا إذا رجع في العارية الموقّتة للبناء قبل مضيّ المدّة(1).

و قال بعضهم: إنّه يملكه بالقيمة(2).

و قال الباقون - و هو الظاهر من مذهبهم -: إنّه ليس كالبناء في هاتين الخصلتين؛ لأنّ للزرع أمداً يُنتظر، و البناء و الغرس للتأبيد، فعلى المُعير إبقاؤه للمُستعير إلى أوان الحصاد(3).

ثمّ فيه وجهان:

أحدهما: إنّه يُبقيه بلا أُجرة؛ لأنّ منفعة الأرض إلى الحصاد كالمستوفاة بالزرع.

و أصحّهما عندهم: التبقية بالأُجرة؛ لأنّه إنّما أباح المنفعة إلى وقت الرجوع، و صار كما إذا أعاره دابّةً إلى بلدٍ ثمّ رجع في الطريق، عليه نقل متاعه إلى مأمنٍ بأُجرة المثل(1).

و لو قيّد المُعير للزرع مدّةً فانقضت و لمّا يدرك، فإن كان ذلك لتقصير المُستعير، كالتأخير في الزرع، قلع مجّاناً، و إن كان لهبوب الرياح و قصور الماء و غير ذلك ممّا لا يُعدّ تقصيراً للمُستعير، كان بمنزلة ما لو أعاره مطلقاً.

و لو أعار لزرع الفسيل(2) ، فإن كان ممّا يُنقل عادةً فهو كالزرع، و إلّا».

ص: 267


1- العزيز شرح الوجيز 389:5، روضة الطالبين 86:4-87.
2- الفسيل جمع فسيلة، و هي النخلة الصغيرة. القاموس المحيط 29:4، لسان العرب 519:11 «فسل».

فكالبناء.

مسألة 109: إذا أعار للزراعة مطلقاً، انصرف الإطلاق إلى الواحدة،

فإذا زرع ثمّ أخذ زرعه لم يكن له أن يزرع ثانياً إلّا بإذنٍ مستأنف؛ لأصالة عصمة مال الغير. و كذا لو أعار للغرس فغرس ثمّ ماتت الشجرة أو انقلعت، لم يكن له غرس أُخرى غيرها إلّا بإذنٍ جديد. و كذا في البناء لو أذن له فيه فبنى ثمّ انهدم، أو أذن له في وضع جذعٍ على حائطه فانكسر - و هو أحد وجهي الشافعيّة(1) - لأنّ الإذن اختصّ بالأوّلة.

و الثاني: إنّ له ذلك؛ لأنّ الإذن قائم ما لم يرجع فيه(2).

أمّا لو انقلع الفسيل المأذون له في زرعه في غير وقته المعتاد، أو سقط الجذع كذلك و قصر الزمان جدّاً، فالأولى أنّ له أن يعيده بغير تجديد الإذن.

مسألة 110: لو حمل السيل حَبّ الغير أو نواه أو جوزه أو لوزه إلى أرض آخَر، كان على صاحب الأرض ردّه إلى مالكه إن عرفه، و إلّا كان لقطةً.
اشارة

فإن نبت في أرضه و صار زرعاً أو شجراً، فإنّه يكون لصاحب الحَبّ و النوى و الجوز و اللوز؛ لأنّه نماء أصله، كما أنّ الفرخ لصاحب البيض، و لا نعلم فيه خلافاً.

ثمّ إن طلب صاحب الحَبّ و النوى و الجوز و اللوز قلعه عن أرض غيره، كان له ذلك؛ لأنّه ملكه، و عليه تسوية الحُفَر؛ لأنّها حدثت بفعله

ص: 268


1- التهذيب - للبغوي - 284:4، العزيز شرح الوجيز 389:5، روضة الطالبين 87:4.
2- العزيز شرح الوجيز 389:5، روضة الطالبين 87:4.

لتخليص ملكه منها، فأشبه فصيلاً دخل دار إنسانٍ ثمّ كبر فاحتاج صاحبه إلى نقض باب الدار لإخراجه، فإنّ عليه ردّه، و إصلاحه؛ لأنّه فعله لتخليص ملكه.

و إن طلب صاحب الأرض القلعَ، كان له ذلك؛ لأنّ العِرْق نبت في أرضه بغير إذنه، فأشبه الغاصب.

فإن امتنع صاحب الزرع، أُجبر عليه، كما لو سرت أغصان شجرته في دار جاره، فإنّها تُقطع، و هو أحد وجهي الشافعيّة.

و الثاني: لا يُجبر إن كان زرعاً؛ لأنّ قلعه إتلاف المال على مالكه، و لم يوجد منه تفريط و لا عدوان، و لا يدوم ضرره، فلم يُجبر على ذلك، كما لو حصلت دابّته في دار غيره على وجهٍ لا يمكن خروجها إلّا بقلع الباب أو قتلها، فإنّنا لا نجبره على قتلها، بخلاف أغصان الشجر، فإنّه يدوم ضرره، و لا يعرف قدر ما يشغل من الهواء حتى يؤدّي أجره، فحينئذٍ يُقرّ في الأرض إلى حين حصاده بأُجرة المثل(1).

و قال بعض العامّة: ليس عليه أجر؛ لأنّه حصل في أرض غيره بغير تفريطه، فأشبه ما لو ماتت(2) دابّته في أرض إنسانٍ بغير تفريطه(3).

و ليس بجيّدٍ؛ لأنّ منع المالك من أرضه و إبقاء ما لم يأذن فيه لمصلحة الغير إضرار به، و ليس اعتبار مصلحة صاحب الزرع أولى من5.

ص: 269


1- الحاوي الكبير 129:7، المهذّب - للشيرازي - 372:1، بحر المذهب 9:9، الوسيط 376:3، حلية العلماء 199:5-200، التهذيب - للبغوي - 284:4، البيان 465:6-466، العزيز شرح الوجيز 390:5، روضة الطالبين 87:4، المغني 369:5-370، الشرح الكبير 363:5.
2- في المصدر: «باتت».
3- المغني 370:5، الشرح الكبير 363:5.

اعتبار مصلحة صاحب الملك.

ثمّ لو سلّمنا وجوب التبقية، لكن حرمان صاحب الأرض من الأُجرة إضرار به و شغل لملكه بغير اختياره من غير عوضٍ، فلم يجز، كما لو أراد بقاء(1) بهيمته في دار غيره عاماً.

و أمّا إن كان النابت شجراً، كالنخل و الزيتون و الجوز و اللوز و غير ذلك، فإنّه لمالك النوى؛ لأنه نماء ملكه، فهو كالزرع، و يُجبر على قلعه هنا؛ لأنّ ضرره يدوم، فأُجبر على إزالته، كأغصان الشجرة السارية في هواء أرض غيره.

و لو حمل السيل أرضاً بشجرها فنبتت في أرض غيره كما كانت، فهي لمالكها، و يُجبر على إزالتها كما تقدّم.

و في كلّ ذلك إذا ترك صاحب البذر و النوى ذلك لصاحب الأرض التي انتقل إليها، لم يلزمه نقله و لا أُجرة و لا غير ذلك؛ لأنّه حصل بغير تفريطه و لا عدوانه، و كان الخيار لصاحب الأرض المشغولة به، إن شاء أخذه لنفسه، و إن شاء قلعه.

تذنيب: لو كان المحمول بالسيل ما لا قيمة له كنواةٍ واحدة و حَبّةٍ واحدة فنبتت،

احتُمل أن يكون لمالك الأرض إن قلنا: لا يجب عليه ردّها إلى مالكها لو لم تنبت؛ لانتفاء حقيقة الماليّة فيها، و التقويم إنّما حصل في أرضه، و هو أحد وجهي الشافعيّة(2) ، و أن يكون لمالكها إن قلنا بتحريم

ص: 270


1- الظاهر: «إبقاء».
2- التهذيب - للبغوي - 285:4، العزيز شرح الوجيز 390:5، روضة الطالبين 87:4.

أخذها و وجوب ردّها قبل نباتها، فعلى هذا في قلع النابت وجهان(1).

و لو قلع صاحب الشجرة الشجرةَ، فعليه تسوية الحُفَر؛ لأنّه قصد تخليص ملكه.

المبحث الثاني: في الضمان.
اشارة

و أقسامه ثلاثة: ضمانُ الردّ، و هو واجب على المُستعير، فمئونته عليه؛ لقوله عليه السلام: «على اليد ما أخذت حتى تؤدّيه»(2) ، و لأنّ الإعارة نوع من معروف، فلو كُلّف المالك مئونة الردّ امتنع الناس من الإعارة، و في ذلك ضرر عظيم. و ضمانُ العين، و ضمانُ الأجزاء.

مسألة 111: العارية أمانة مأذون في الانتفاع بها بغير عوضٍ،

لا تستعقب الضمان - إلّا في مواضع تأتي إن شاء اللّه تعالى - عند علمائنا أجمع، فإذا تلفت في يد المُستعير بغير تفريطٍ منه و لا عدوان، لم يكن عليه ضمان، سواء تلفت بآفةٍ سماويّة أو أرضيّة - و به قال النخعي و الشعبي و الحسن البصري و عمر بن عبد العزيز و الثوري و أبو حنيفة و مالك و الأوزاعي و ابن شبرمة، و هو قول الشافعي في الأمالي(3) - لما رواه العامّة

ص: 271


1- نفس المصادر.
2- سنن ابن ماجة 2400/802:2، سنن البيهقي 90:6، سنن الدارمي 264:2، المصنّف - لابن أبي شيبة - 604/146:6، المستدرك - للحاكم - 47:2، مسند أحمد 19582/632:5، و 19643/641.
3- المغني 355:5، الشرح الكبير 365:5، الإشراف على مذاهب أهل العلم 270:1-441/271، الحاوي الكبير 118:7، بحر المذهب 6:9-7، الوسيط 369:3-370، حلية العلماء 192:5، التهذيب - للبغوي - 280:4، البيان 454:6-455، تحفة الفقهاء 177:3، بدائع الصنائع 217:6، الاختيار لتعليل المختار 79:3، المبسوط - للسرخسي - 134:11، النتف 583:2، الهداية - للمرغيناني - 220:3، مختصر اختلاف العلماء 1876/185:4، عيون المجالس 1720:4 و 1211/1721، المعونة 1209:2، الإفصاح عن معاني الصحاح 17:2، الإشراف على نكت مسائل الخلاف 1061/622:2، العزيز شرح الوجيز 376:5، روضة الطالبين 77:4.

عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله قال: «ليس على المُستعير غير المُغلّ(1) ضمان»(2).

و من طريق الخاصّة: ما رواه الحلبي - في الصحيح - عن الصادق عليه السلام قال: «ليس على مُستعير عاريةٍ ضمان، و صاحب العارية و الوديعة مؤتمن»(3).

و عن محمّد بن مسلم - في الصحيح - أنّه سأل الباقرَ عليه السلام: عن العارية يستعيرها [الإنسان] فتهلك أو تُسرق، فقال: «إذا كان أميناً فلا غُرْم عليه»(4).

و لأنّه قبضها بإذن مالكها، فكانت أمانةً، كالوديعة.

و لأنّ قول النبيّ صلى الله عليه و آله: «العارية مؤدّاة»(5) يدلّ على أنّها أمانة؛ لقوله تعالى:«إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها» (6).8.

ص: 272


1- أي: غير خائنٍ في العارية، و الإغلال: الخيانة. النهاية - لابن الأثير - 381:3 «غلل».
2- سنن الدارقطني 168/41:3، سنن البيهقي 91:6، المغني 355:5، الشرح الكبير 365:5.
3- التهذيب 798/182:7، الاستبصار 441/124:3.
4- الفقيه 192:3-875/193، التهذيب 799/182:7، الاستبصار 442/124:3، و ما بين المعقوفين أضفناه من المصادر.
5- تقدّم تخريجه في الهامش (1) من ص 233.
6- النساء: 58.

و قال الشافعي: العارية مضمونة بكلّ حال - و إليه ذهب عطاء و أحمد و إسحاق، و رواه العامّة عن ابن عباس و أبي هريرة - لما روي في حديث صفوان بن أُميّة: أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله استعار منه يوم خيبر(1)تقدّم تخريجه في ص 271، الهامش (2).(2) أدرعاً، فقال: أ غصباً يا محمّد؟ قال: «بل عارية مضمونة مؤدّاة»(3).

و عن سمرة عن النبي صلى الله عليه و آله أنّه قال: «على اليد ما أخذت حتى تؤدّيه»(3).

و لأنّه أخذ ملك غيره لنفع نفسه منفرداً بنفعه من غير استحقاقٍ و لا إذنٍ في الإتلاف، فكان مضموناً، كالغاصب، و المأخوذ على وجه السوم(4).

و الجواب: إنّا نقول بموجب الحديث، فإنّ المُعير إذا شرط على المُستعير الضمانَ لزمه.

و كذا نقول بموجب الثاني، فإنّه يجب على المُستعير أداء العين إلى2.

ص: 273


1- راجع التعليقة
2- من ص 233.
3- تقدّم تخريجه في ص 233، الهامش (5).
4- الأُم 244:3، مختصر المزني: 116، الإشراف على مذاهب أهل العلم 441/271:1، الحاوي الكبير 118:7، المهذّب - للشيرازي - 370:1، بحر المذهب 6:9، الوسيط 369:3-370، حلية العلماء 189:5، التهذيب - للبغوي - 280:4، البيان 454:6، الإفصاح عن معاني الصحاح 18:2، العزيز شرح الوجيز 376:5، روضة الطالبين 76:4-77، المغني 355:5-356، الشرح الكبير 365:5، الكافي في فقه الإمام أحمد 213:2-214، المصنّف - لعبد الرزّاق - 14792/180:8، مختصر اختلاف العلماء 185:4 و 1876/186، الإشراف على نكت مسائل الخلاف 1061/622:2، عيون المجالس 1211/1722:4، المعونة 1209:2، تحفة الفقهاء 177:3، بدائع الصنائع 217:6، الهداية - للمرغيناني - 220:3، النتف 583:2.

مالكها، و الضمير عائد إلى المأخوذ، لا إلى القيمة مع التلف.

و القياس على الغاصب غلط؛ لأنّه ظالم، فلا يناسب الاستئمان.

و المأخوذ بالسوم إنّما دفعه المالك طالباً للعوض، بخلاف العارية.

مسألة 112: لو شرط المُعير الضمانَ على المُستعير، لزمه الضمان مع التلف بغير تفريطٍ.

و إن لم يشترط ضمانها، كانت أمانةً، عند علمائنا، و به قال قتادة و عبيد اللّه بن الحسن العنبري(1) - و هذا أحد المواضع المستثناة - لما رواه العامّة عن النبي صلى الله عليه و آله أنّه شرط لصفوان بن أُميّة الضمانَ(2)التهذيب 805/183:7.(3).

و من طريق الخاصّة: رواية صفوان، و قد سلفت(4).

و في الصحيح عن ابن مسكان عن الصادق عليه السلام، قال: قال:

«لا تُضمن العارية إلّا أن يكون اشترط فيها ضماناً، إلّا الدنانير فإنّها مضمونة و إن لم يشترط فيها ضمان»(5).

و في الحسن عن الحلبي عن الصادق عليه السلام قال: «إذا هلكت العارية عند المُستعير لم يضمنه إلّا أن يكون قد اشترط عليه»(5).

و لأنّ الحاجة تدعو إلى العارية و إلى الاحتياط في الأموال، فلو

ص: 274


1- الإشراف على مذاهب أهل العلم 441/271:1، الحاوي الكبير 118:7، بحر المذهب 7:9، حلية العلماء 192:5، المحلّى 170:9، المصنّف - لعبد الرزّاق - 14790/180:8، عيون المجالس 1211/1722:4، المغني 356:5، الشرح الكبير 366:5.
2- راجع الهامش
3- من ص 233.
4- في ص 233.
5- تقدّم تخريجه في ص 244، الهامش (1).

لم يشرع الشرط لزم امتناع ذوي الأموال من إعارتها، و ذلك فساد و ضرر و حرج و ضيق.

و لقوله عليه السلام: «المسلمون عند شروطهم»(1) و مَنْ أوجب الضمانَ من غير شرطٍ كان إيجابه معه أولى.

و قال أبو حنيفة: لا يضمن بالشرط كالوديعة(2).

و الفرق: إنّ الوديعة أمانة لا تستعقب انتفاع الأمين بها، فلا يليق فيها الضمان و إن شرطه، بخلاف العارية.

و قال ربيعة: كلّ العواريّ مضمونة إلّا موت الحيوان، و هو منقول، عن مالك(3).

مسألة 113: لو شرطا في العارية سقوط الضمان سقط؛ لأنّ العارية لا تستعقب الضمان عندنا، فوجود الشرط كالعدم.
اشارة

و روي عن أحمد - مع قوله بأنّ العارية مضمونة(4) - سقوطه هنا، و به قال قتادة و العنبري؛ لأنّه لو أذن له في إتلافها لم يجب ضمانها، فكذا إذا أسقط عنه ضمانها(5).

و قال الشافعي و أحمد: لا يصحّ هذا الشرط، و لا يسقط الضمان؛ لأنّ

ص: 275


1- تقدّم تخريجه في ص 258، الهامش (4).
2- فتاوى قاضيخان - بهامش الفتاوى الهنديّة - 384:3-385.
3- الإشراف على مذاهب أهل العلم 441/271:1، الحاوي الكبير 118:7، بحر المذهب 7:9، البيان 454:6، العزيز شرح الوجيز 377:5، الإشراف على نكت مسائل الخلاف 1061/622:2، عيون المجالس 1211/1720:4.
4- راجع الهامش (4) من ص 273.
5- المغني 356:5، الشرح الكبير 366:5، الإشراف على مذاهب أهل العلم 441/271:1، الحاوي الكبير 118:7، بحر المذهب 7:9، البيان 454:6، عيون المجالس 1211/1722:4.

كلّ عقدٍ اقتضى الضمانَ لم يغيّره الشرط، كالمقبوض بالبيع الفاسد أو الصحيح، و ما اقتضى الأمانةَ فكذلك، كالوديعة و الشركة و المضاربة، و فارق إذن الإتلاف؛ فإنّ الإتلاف فعل يصحّ الإذن فيه، و يسقط حكمه؛ إذ لا ينعقد موجباً للضمان مع الإذن فيه، و إسقاط الضمان هنا نفي الحكم مع وجود سببه، و ليس ذلك للمالك، و لا يملك الإذن فيه(1).

و الجواب: المنع من قولهم: «كلّ عقدٍ اقتضى الضمانَ لم يغيّره الشرط» لأنّها قضيّة كلّيّة يكذّبها قول النبيّ صلى الله عليه و آله: «المسلمون عند شروطهم»(2) و إسقاط الحكم بعد وجود سببه ممكن؛ لأنّه لو أسقطه بعد وجوده أمكن، كإسقاط الدَّيْن الثابت في الذمّة، فإسقاطه بعد سببه أولى.

تذنيب: لو شرط سقوط الضمان في العارية المضمونة، كالذهب و الفضّة و غيرهما

ممّا يجب فيه الضمان على مذهبنا، فالأولى السقوط؛ عملاً بالشرط، و قد سبق.

و كذا لو شرط الضمان في العارية صحّ، فإذا أسقطه بعد ذلك سقط.

مسألة 114: إذا استعار العين من غير مالكها، ضمن بالقبض،

سواء فرّط فيها و تعدّى أو لا، و سواء شرط المُعير الضمانَ أو لا، و سواء كانت يد المُعير يدَ أمانةٍ أو يد ضمانٍ؛ لأنّه استولى باليد على مال الغير بغير إذنه، فكان عليه الضمان.

و لما رواه إسحاق بن عمّار عن الصادق و الكاظم عليهما السلام أنّهما قالا: «إذا

ص: 276


1- العزيز شرح الوجيز 377:5، روضة الطالبين 77:4، المغني 356:5، الشرح الكبير 366:5.
2- راجع الهامش (4) من ص 258.

استُعيرت عارية بغير إذن صاحبها فهلكت فالمُستعير ضامن»(1).

مسألة 115: العارية تُضمن في مواضع:
أ: إذا كانت العارية الدراهم و الدنانير و إن لم يشترط الضمان، و قد سلف

أ: إذا كانت العارية الدراهم و الدنانير و إن لم يشترط الضمان، و قد سلف(2).

و هل يدخل المصوغ منهما؟ فيه إشكال ينشأ: من التنصيص على الدراهم و الدنانير في بعض الروايات(3) ، و من ورود الذهب و الفضّة في بعض الروايات، ففي رواية زرارة عن الصادق عليه السلام قال: «جميع ما استعرته فتَوى فلا يلزمك تَواه إلّا الذهب و الفضّة فإنّهما يلزمان»(4).

ب: العارية من غير المالك.
ج: عارية المُحْرم الصيدَ مضمونةٌ عليه؛

لأنّ إمساكه عليه حرام، فيكون متعدّياً فيكون ضامناً.

و لا فرق بين أن يكون المُستعير المُحْرم في الحلّ أو في الحرم.

و كذا لو استعار المُحلّ صيداً في الحرم ضمنه؛ لأنّه ممنوع منه، فكان متعدّياً باستيلاء يده عليه.

د: إذا تعدّى المُستعير أو فرّط في العارية ضمن،
اشارة

و هو ظاهرٌ، و من جملته ما لو منعها عن المالك بعد طلبه لها متمكّناً من ردّها إليه.

و أمّا ولد العارية - التي اشترط فيها الضمان عندنا، و مطلقاً عند

ص: 277


1- التهذيب 183:7-707/184، الاستبصار 446/125:3.
2- في ص 243، المسألة 87.
3- الكافي 2/238:5، التهذيب 183:7 و 804/184 و 808، الاستبصار 448/126:3.
4- تقدّم تخريجها في ص 244، الهامش (3).

القائلين بالتضمين - إذا تجدّد بعد الإعارة، فإنّه أمانة لا يجب ضمانه على المُستعير؛ لأنّه لم يدخل في الإعارة، فلم يدخل في الضمان، و لا فائدة للمُستعير فيه، فأشبه الوديعة، و أمّا إن كان عند المالك فكذلك عندنا، و هو إحدى الروايتين عن أحمد.

و الرواية الأُخرى: إنّها تكون مضمونةً؛ لأنّه ولد عينٍ مضمونة، فيضمن، كولد المغصوبة(1).

و الحكم في الأصل ممنوع؛ فإنّ ولد المغصوبة لا يُضمن إذا لم يكن مغصوباً، فكذا ولد العارية إذا لم يوجد مع أُمّه، و إنّما يُضمن ولد المغصوبة إذا كان مغصوباً، و لا أثر لكونه ولداً لها.

تذنيب: لو استعار من غير المالك عالماً كان أو جاهلاً بالملكيّة، ضمن،

و استقرّ الضمان عليه؛ لأنّ التلف حصل في يده، و لا يرجع على المُعير، و لو رجع المالك على المُعير كان للمُعير الرجوعُ على المُستعير.

مسألة 116: إذا تلفت العين و وجب الضمان، فإن كانت مثليّةً كانت مضمونةً بالمثل، و إن لم تكن مثليّةً وجبت القيمة.

ثمّ لا يخلو إمّا أن يكون قد استعملها المُستعير، أو لا، فإن كان قد استعملها و تلف بالاستعمال بعض أجزائها، وجب عليه قيمة العين الناقصة؛ لأنّ تلك الأجزاء مأذون في إتلافها، فلا تكون مضمونةً، إلّا أن يتعدّى فيتلف بعض الأجزاء بالتعدّي فيضمن، بخلاف ما إذا لم يتعدّ؛ لأنّ الإذن في الاستعمال تضمّنه، و لو تلفت قبل الاستعمال و هي مضمونة أو أتلفها وجب عليه قيمة العين تامّةً.

لا يقال: إنّه مأذون له في إتلاف الأجزاء، و إلّا سقط عنه ضمانها.

ص: 278


1- المغني 357:5 و 358، الشرح الكبير 368:5.

لأنّا نقول: الأجزاء إنّما يسقط ضمانها إذا أتلفها مفردةً عن العين على وجه الاستعمال، فأمّا إذا أتلفها بتلف العين فإنّه يضمنها؛ لأنّه لا يمكن تميّزها من العين في الضمان.

مسألة 117: إذا استعمل العارية المضمونة فنقص بعض أجزائها

ثمّ تلفت و هي من ذوات القِيَم، وجبت القيمة يوم التلف؛ لأنّها لو كانت باقيةً في تلك الحال و ردّها لم يجب عليه شيء، فإذا تلفت وجب مساويها في تلك الحال، و لأنّ الأجزاء التي تلفت بالاستعمال تلفت غير مضمونةٍ؛ لأنّه أذن في إتلافها بالاستعمال، فلا يجوز تقويمها عليه، و هو أحد أقوال الشافعي.

و الثاني: إنّ عليه أقصى القِيَم من يوم القبض إلى حين التلف؛ لأنّه لو تلف في حال زيادة القيمة لوجبت القيمة الزائدة، فأشبه المغصوب.

و ليس بجيّدٍ؛ لأنّه يقتضي إيجاب ضمان الأجزاء التالفة بالاستعمال، و هي غير مضمونةٍ.

و الثالث: إنّه يجب عليه قيمتها يوم القبض؛ تشبيهاً بالقرض(1).

و القائل بالثاني يمنع من كون الأجزاء غير مضمونةٍ على الإطلاق، و يقول: إنّما لا يضمن إذا ردّ العين(2).

و اعلم أنّه فرقٌ بين المغصوب و المستعار؛ لأنّ المغصوب يجب ردّه في كلّ حالٍ، منهيّ عن الإمساك في كلّ وقتٍ، فلهذا ضمن بأعلى القِيَم، و أمّا المُستعير فإنّ الردّ لا يجب عليه حالة الزيادة، فافترقا.

و يُبنى على هذا الخلاف أنّ الجارية المستعارة مع الضمان إذا ولدت

ص: 279


1- الوسيط 370:3، العزيز شرح الوجيز 377:5، روضة الطالبين 77:4.
2- العزيز شرح الوجيز 377:5.

في يد المُستعير هل يكون الولد مضموناً في يده ؟ إن قلنا: إنّ العارية مضمونة ضمانَ الغاصب(1) ، كان مضموناً عليه، و إلّا فلا. و ليس له استعماله إجماعاً.

و هذا الخلاف الجاري في العارية أنّها كيف تُضمن آتٍ في المأخوذ على وجه السوم.

لكنّ الأصحّ عند بعض الشافعيّة: إنّ الاعتبار في المستام بقيمته يوم القبض؛ لأنّ تضمين أجزائه غير ممتنعٍ(2).

و قال غيره: الأصحّ كهو في العارية(3).

و هذا كلّه فيما إذا تلفت العين بغير الاستعمال.

مسألة 118: لو تلفت العين المستعارة المضمونة بالاستعمال،

مثل أن ينمحق الثوب باللُّبْس، فالوجه: ضمان العين وقت التلف؛ لأنّ حقّ العارية أن تُردّ، و الإذن في الانتفاع إنّما ينصرف غالباً إلى استعمالٍ غير مُتلفٍ، فإذا تعذّر الردّ لزم الضمان، و هو أحد قولَي الشافعيّة.

و الأصحّ عندهم: إنّ العين لا تُضمن كالأجزاء؛ لأنّه إتلاف استند إلى فعلٍ مأذونٍ فيه(2).

و على الأوّل لهم وجهان:

أحدهما: كما قلناه من أنّه تُضمن العين وقت التلف، و هو آخر حالات التقويم.

ص: 280


1- الظاهر: «ضمانَ الغصب». (2 و 3) العزيز شرح الوجيز 377:5، روضة الطالبين 77:4.
2- التهذيب - للبغوي - 280:4، البيان 456:6، العزيز شرح الوجيز 377:5، روضة الطالبين 77:4.

و الثاني: إنّه تُضمن العين بجميع أجزائها(1).

مسألة 119: قد مضى البحث في ضمان العين،

و أمّا ضمان الأجزاء فإن تلف منها شيء بسبب الاستعمال المأذون فيه كانمحاق الثوب باللُّبْس المأذون فيه، لم يلزم المُستعير ضمانه؛ لحدوثه عن سببٍ مأذونٍ فيه، و هو قول الشافعيّة(2).

و لهم وجهٌ آخَر ضعيف: إنّه يلزمه الضمان؛ لأنّ العارية مؤدّاة، فإذا تلف بعضها فقد فات ردّه، فيضمن بدله(3).

و المعتمد: الأوّل.

و أمّا إن تلف من الأجزاء شيء بغير الاستعمال، فإن كانت العين مضمونةً كان المُستعير ضامناً للأجزاء، و إلّا كانت أمانةً كالعين، كما لو تلفت العين بأسرها، و هو أصحّ قولَي الشافعي.

و الثاني: إنّه لا يجب ضمانها على المُستعير، كما لو تلفت بالاستعمال، و يكتفى بردّ الباقي(2).

و اعلم أنّ تلف الدابّة بسبب الركوب و الحمل المعتاد كانمحاق الثوب، و تعيّبها بالركوب أو الحمل و شبهه كالانسحاق.

و لو قرّح ظهرها بالحمل و تلفت منه، قال بعض الشافعيّة: يضمن، سواء كان متعدّياً بما حمل أو لا؛ لأنّه إنّما أذن له في الحمل، لا في الجراحة، و ردُّها إلى المالك لا يُخرجه عن الضمان؛ لأنّ السراية تولّدت من مضمونٍ، فصار كما لو قرّح دابّة الغير في يده(3).

ص: 281


1- العزيز شرح الوجيز 377:5، روضة الطالبين 78:4. (2 و 3) العزيز شرح الوجيز 378:5، روضة الطالبين 78:4.
2- التهذيب - للبغوي - 280:4-281، العزيز شرح الوجيز 378:5، روضة الطالبين 78:4.
3- العزيز شرح الوجيز 378:5، روضة الطالبين 78:4.

و فيه نظر.

مسألة 120: المستأجر يملك المنفعة ملكاً تامّاً،

و لهذا جاز له أن يؤجر العين مدّة إجارته، و المنفعة قابلة للنقل، فجاز أن يعيرها، فإذا استعار من المستأجر أو الموصى له بالمنفعة، كان حكمها حكم العارية من المالك في الضمان و عدمه.

و الشافعي القائل بالضمان في مطلق العارية له هنا قولان:

أحدهما: إنّه يضمن المُستعير هنا، كما لو استعار من المالك.

و الثاني - و هو الأصح عنده -: إنّه لا يضمن؛ لأنّ المستأجر لا يضمن، و هو نائب المستأجر، أ لا ترى أنّه إذا انقضت مدّة الإجارة ارتفعت العارية و استقرّت الإجارة على المستأجر بانتفاع المُستعير.

و مئونة الردّ في هذه الاستعارة على المُستعير إن ردّ على المستأجر، و على المالك إن ردّ عليه، كما لو ردّ عليه المستأجر(1).

مسألة 121: إذا استعار من الغاصب العينَ المغصوبة و كان عالماً أو جاهلاً ثمّ قامت البيّنة بالغصب، لم يجز له ردّها على المُعير؛

لأنّه ظالم، و وجب عليه ردّها إلى مالكها، فإن كان قد استعملها المُستعير مدّةً لمثلها أُجرة كان للمغصوب منه الرجوعُ بأُجرة مثلها على أيّهما شاء.

و كذا إن نقص شيء من أجزائها، فله الرجوع بقيمة ذلك؛ لأنّ الغاصب ضمنها باليد المتعدّية، و المُستعير أتلف منافع الغير بغير إذنه، و أتلف أجزاء عينه.

فإن رجع على المُستعير، فالأقرب: إنّه لا يرجع على المُعير؛ لأنّ

ص: 282


1- التهذيب - للبغوي - 281:4-282، العزيز شرح الوجيز 378:5، روضة الطالبين 78:4.

التلف وقع في يده، و لأنّه ضمن ما أتلفه، و لا يرجع به على غيره، و هو القول الجديد للشافعي.

و قال في القديم: يرجع عليه - و به قال أحمد - لأنّه غرّه بأنّه دخل في العارية على أنّه لا يضمن المنفعة و الأجزاء(1).

و إن رجع على المُعير، فهل يرجع المُعير على المُستعير؟ يبنى على القولين، إن قلنا: لو رجع على المُستعير رجع به على المُعير، فإنّ المُعير لا يرجع به، و إن قلنا: لو رجع على المُستعير لم يرجع به، فإنّ المُعير يرجع به.

فأمّا إن تلفت العين في يد المُستعير، فإنّ لصاحبها أن يرجع على مَنْ شاء منهما بقيمتها، و [قرار](2) الضمان على المُستعير؛ لأنّ المال حصل في يده بجهةٍ مضمونة.

ثمّ إن تساوت القيمة في يده و يد الغاصب فلا بحث، و إن تفاوتت فإن كانت قيمتها في يد المُستعير يوم التلف أكثر، فإن رجع المالك بها على المُستعير لم يرجع المُستعير بها على المُعير قولاً واحداً؛ لأنّ العارية مضمونة على المُستعير.

و إن كانت قيمتها في يد المُعير أكثر، لم يطالب المالكُ المُستعيرَ بالزيادة؛ لأنّها تلفت في يد المُعير و لم يحصل في يده، و إنّما يطالب بالزيادة المُعير؛ لأنّها تلفت في يده.4.

ص: 283


1- حلية العلماء 194:5، البيان 457:6-458، و انظر: المغني 414:5-415، و الشرح الكبير 423:5.
2- بدل ما بين المعقوفين في «ث»: «من». و في «ج» و الطبعة الحجريّة: «من أنّ». و كلاهما ساقط في «خ، ر». و المثبت من العزيز شرح الوجيز 378:5، و روضة الطالبين 78:4.

و إذا طالَب المالك بغرامة المنافع، فإن طالَب المُستعير غُرْمها، فالمنفعة التي تلفت تحت يده قرار ضمانها على المُعير؛ لأنّ يد المُستعير الجاهل في المنافع ليست يدَ ضمانٍ، و التي استوفاها بنفسه الأقوى: إنّ الضمان يستقرّ عليه؛ لأنّه مباشر للإتلاف، و هو أظهر قولَي الشافعي.

و الثاني: إنّ الضمان على المُعير؛ لأنّه غرّه(1).

و المُستعير من المستأجر من الغاصب حكمه حكم المُستعير من الغاصب إن قلنا بأنّ المُستعير من المستأجر ضامن، و إلّا فيرجع بالقيمة التي غرمها على المستأجر، و يرجع المستأجر على الغاصب.

مسألة 122: لو أنفذ وكيله إلى موضعٍ و سلّم إليه دابّةً ليركبها إليه في شغله

فتلفت الدابّة في يد الوكيل من غير تعدٍّ، لم يكن عليه ضمان، و هو ظاهرٌ عندنا؛ فإنّا لا نوجب الضمان على المُستعير.

و أمّا الشافعي القائل بالضمان فإنّه نفاه هنا أيضاً؛ لأنّ الوكيل لم يأخذ الدابّة لغرض نفسه، بل لنفع الموكّل، فالمُستعير في الحقيقة المالك(2).

و كذا لو سلّم الدابّة إلى الرائض ليروضها(3) فتلفت، لم يضمن؛ لأنّه في مصلحة المالك.

و كذا لو كان له عليها متاع فأركب إنساناً غيره فوق ذلك المتاع ليحفظه و يحترز عليه، فتلفت الدابّة، لم يكن على الراكب ضمان؛ لأنّه في شغل المالك.

ص: 284


1- العزيز شرح الوجيز 379:5، روضة الطالبين 79:4.
2- الوسيط 371:3، الوجيز 204:1، التهذيب - للبغوي - 287:4، العزيز شرح الوجيز 379:5، روضة الطالبين 79:4.
3- راض الدابّة يروضها: وطّأها و ذلّلها أو علّمها السير. لسان العرب 164:7 «روض».

و لو وجد ماشياً في الطريق قد تعب من المشي فأركبه دابّته، فعندنا لا ضمان إذا لم يتعدّ؛ بناءً على أصلنا من عدم تضمين العارية.

و أمّا عند الشافعي فالمشهور أنّ الراكب يضمن، سواء التمس الراكب الركوبَ للاستراحة، أو ابتدأ المالك بإركابه؛ لأنّها عارية محضة، و العارية على أصله مضمونة(1).

و قال الجويني من الشافعيّة: إنّه لا يضمن الراكب؛ لأنّ القصد من هذه العارية التصدّق و القربة، و الصدقات في الأعيان تفارق الهبات، أ لا ترى أنّه يرجع في الهبة و لا يرجع في الصدقة، فلذلك يجوز أن تفارق العارية التي هي صدقة سائر العواريّ في الضمان(2).

و لو أركبه مع نفسه، فلا ضمان عندنا على الرديف. و على قول الشافعي إنّه يضمن النصف(3).

و قال الجويني: لا يلزمه شيء؛ تشبيهاً له بالضيف(4).

و على الأوّل لو وضع متاعه على دابّة غيره و أمره أن يسيّر بالدابّة ففعل، كان صاحب المتاع مستعيراً من الدابّة بقسط متاعه ممّا عليها، حتى لو كان عليها مثل متاعه و تلفت ضمن نصف الدابّة(5).

و لو لم يقل صاحب المتاع: سيِّرها، و لكن سيَّرها المالك، لم يكن صاحب المتاع مستعيراً، و ضمن صاحب الدابّة المتاعَ؛ لأنّه كان من حقّه أن4.

ص: 285


1- الوسيط 371:3، الوجيز 204:1، التهذيب - للبغوي - 287:4، العزيز شرح الوجيز 379:5-380، روضة الطالبين 79:4.
2- العزيز شرح الوجيز 380:5، روضة الطالبين 79:4.
3- الوسيط 372:3، التهذيب - للبغوي - 287:4، العزيز شرح الوجيز 380:5، روضة الطالبين 79:4. (4 و 5) العزيز شرح الوجيز 380:5، روضة الطالبين 79:4.

يطرح المتاع.

و لو كان لأحد الرفيقين في السفر متاع و للآخَر دابّة، فقال صاحب المتاع للآخَر: احمل متاعي على دابّتك، ففَعَل، فصاحب المتاع مستعير لها.

و لو قال صاحب الدابّة: أعطني متاعك لأضعه على الدابّة، فهو مستودع للمتاع.

و لا تدخل الدابّة في ضمان صاحب المتاع في الصورتين عندنا، و في الثانية عند الشافعي(1).

مسألة 123: تجوز استعارة الدابّة للركوب و الحمل،

سواء أطلق أو قيّد بالزمان أو المنفعة، و أن يستعيرها ليركبها؛ لأنّه تجوز إجارتها لذلك، و الإعارة أوسع؛ لجوازها فيما لا تجوز إجارته، فإن استعارها إلى موضعٍ فتجاوزه فقد تعدّى في العارية من وقت المجاوزة، و كان ضامناً من حين العدوان، و مطلقاً عند الشافعي(2) ، فإذا استعارها من بغداد إلى الحلّة فتجاوزها إلى الكوفة، فعليه أُجرة ما بين الحلّة و الكوفة ذهاباً و عوداً.

و هل تلزمه الأُجرة من ذلك الموضع الذي وقع فيه العدوان - و هو الحلّة - إلى أن يرجع إلى البلد الذي استعار منه، و هو بغداد؟ الأقرب:

العدم؛ لأنّه مأذون فيه من جهة المالك، و هو أحد وجهي الشافعيّة، و الثاني: اللزوم؛ لأنّ ذلك الإذن قد انقطع بالمجاوزة(3). و هو ممنوع.

ص: 286


1- التهذيب - للبغوي - 287:4، العزيز شرح الوجيز 380:5، روضة الطالبين 80:4.
2- راجع الهامش (4) من ص 273.
3- العزيز شرح الوجيز 380:5، روضة الطالبين 80:4.

إذا عرفت هذا، فلو شرط الضمان في العارية أو أطلق و قلنا بضمان العواري، فإنّ الدابّة تكون مضمونةً عليه إلى الحلّة ضمانَ العارية، و لا أُجرة عليه؛ لأنّه مأذون له في ركوبها، فإذا جاوز ضمنها ضمانَ الغصب، و وجب عليه أُجرة منافعها، فإذا ردّها إلى الحلّة لم يزل عنه الضمان، و به قال الشافعي(1).

و أبو حنيفة يقول: إنّها أمانة إلى الحلّة، فإذا جاوزها كانت مغصوبةً، فإذا ردّها إلى الحلّة لم يزل ضمان الغصب، بخلاف قوله في الوديعة إذا أخرجها من حرزها ثمّ ردّها إليه(2).

إذا ثبت هذا، فعلى قول الشافعي بانقطاع الإذن من حين التعدّي ليس له الركوب من الحلّة إلى بغداد، بل يسلّم الدابّة إلى حاكم الحلّة الذي استعار إليه(3).

مسألة 124: إذا دفع إليه ثوباً و قال: إن شئت أن تلبسه فالبسه،

فهو قبل اللُّبْس وديعة، و بعده عارية، و هو المشهور عند الشافعيّة(4).

و لهم وجهٌ آخَر مخرَّج من السوم؛ لأنّه مقبوض على توقّع الانتفاع، فكما أنّ المأخوذ على سبيل السوم مقبوض على توقّع عقد ضمانٍ، كذا هنا.

ص: 287


1- الإشراف على مذاهب أهل العلم 444/273:1، البيان 460:6.
2- بدائع الصنائع 216:6، فتاوى قاضيخان - بهامش الفتاوى الهنديّة - 384:3، المبسوط - للسرخسي - 145:11، الهداية - للمرغيناني - 237:3، الإشراف على مذاهب أهل العلم 444/273:1، بحر المذهب 14:9، و راجع أيضاً الهامش (2) من ص 160.
3- التهذيب - للبغوي - 288:4، العزيز شرح الوجيز 380:5، روضة الطالبين 80:4.
4- العزيز شرح الوجيز 380:5، روضة الطالبين 80:4.

قال هذا القائل: لو قيل: لا ضمان في السوم أيضاً تخريجاً ممّا نحن فيه، لم يبعد(1).

و لو استعار صندوقاً فوجد فيه شيئاً، فهو أمانة عنده، كما لو طيّر الريح الثوبَ في داره، فلا ضمان فيه و إن كانت العارية مضمونةً، إلّا مع التفريط أو التعدّي.

مسألة 125: قد بيّنّا أنّه لا يجوز للمُحْرم أن يستعير الصيد،

فإن استعاره من المُحلّ لم يجز، فإن قبضه ضمنه للّه تعالى بالجزاء، و لصاحبه ضمان العارية.

فإن استعار مُحلٌّ من مُحْرمٍ صيداً كان يملكه قبل أن يُحرم، كان ذلك مبنيّاً على القولين في زوال ملكه عنه بالإحرام.

فإن قلنا: لمّا أحرم زال ملكه عنه بالإحرام، فقد وجب عليه إرساله، فإذا دفعه إلى المُحلّ لم يجز له، إلّا أنّ المُحلّ لا يضمنه له؛ لأنّه ليس يملكه، و لا يضمنه للّه تعالى؛ لأنّه مأذون له في إتلاف الصيد، إلّا أنّه إذا تلف ضمنه المُحْرم؛ لأنّه تلف بسببٍ من جهته، و هو تسليمه إلى المُحلّ.

و إن قلنا ببقاء ملك المُحْرم فيه، جاز له إعارته، و يكون مضموناً على المُحلّ ضمانَ العارية لصاحبه.

و لو كان المُحْرم في الحرم و الصيد فيه، لم يجز له إعارته، و لا للمُحلّ استعارته.

مسألة 126: إذا ردّ المُستعير العاريةَ إلى مالكها أو إلى وكيله، برئ من ضمانها.

ص: 288


1- العزيز شرح الوجيز 380:5، روضة الطالبين 80:4.

و إن ردّها إلى ملك مالكها بأن حمل الدابّةَ إلى اصطبل المالك و أرسلها فيه، أو ردّ آلةَ الدار إليها، لم يزل عنه الضمان، و به قال الشافعي(1) ، بل عندنا إن لم تكن العارية مضمونةً فإنّها تصير بهذا الردّ مضمونةً؛ لأنّه لم يدفعها إلى مالكها، بل فرّط بوضعها في موضعٍ لم يأذن له المالك بالردّ إليه، كما لو ترك الوديعة في دار صاحبها فتلفت قبل أن يتسلّمها المالك؛ لأنّه لم يردّها إلى صاحبها و لا إلى مَنْ ينوب عنه، فلم يحصل به الردّ، كما لو ردّها إلى أجنبيٍّ.

و قال أبو حنيفة: إذا ردّها إلى ملك المالك، صارت كأنّها مقبوضة؛ لأنّ ردّ العواري في العادة يكون إلى أملاك أصحابها، فيكون ذلك مأذوناً فيه من طريق العادة(2).

و هو غلط؛ لأنّه يبطل بالسارق إذا ردّ المسروق إلى الحرز، و لا نعرف العادة التي ذكرها، فبطل ما قاله.

المبحث الثالث: في التنازع.
مسألة 127: إذا اختلف المالك و المُستعير، فقال المالك: آجرتك هذه العين مدّة كذا بكذا،

و قال المُستعير: بل أعرتنيها، و العين باقية بعد انقضاء المدّة بأسرها أو بعضها ممّا له أُجرة في العادة، قال الشيخ رحمه الله في الخلاف:

ص: 289


1- الإشراف على مذاهب أهل العلم 272:1-443/273، الحاوي الكبير 131:7، المهذّب - للشيرازي - 371:1، حلية العلماء 193:5، البيان 460:6، روضة الطالبين 91:4، روضة القُضاة 3173/535:2.
2- الاختيار لتعليل المختار 83:3، روضة القُضاة 3172/535:2، الفقه النافع 675/949:3، المبسوط - للسرخسي - 144:11، الهداية - للمرغيناني - 223:3، الحاوي الكبير 131:7، البيان 460:6.

القول قول المُستعير - و به قال أبو حنيفة(1) - لأنّهما اتّفقا على أنّ تلف المنافع كان على ملك المُستعير؛ لأنّ المالك يزعم أنّه ملَّكها بالإجارة، و المُستعير يزعم أنّه مَلَكها بالاستيفاء؛ لأنّ المُستعير يملك بذلك، و قد ادّعي عليه عوض ما تلف على ملكه، و الأصل عدم وجوبه، فكان القولُ قولَه، و لأنّ الأصل براءة الذمّة، و المالك يدّعي شغلها، فيحتاج إلى البيّنة(2).

و قال مالك: القول قول المالك مع اليمين؛ لأنّ المنافع جارية مجرى الأعيان، و قد ثبت أنّه لو كان أتلف عليه عيناً كما لو أكل طعامه و قال: كنتَ أبحتَه لي، و أنكر المالك، فإنّ القول قول المالك، أو كانت في يده و ادّعى أنّه وهبها منه و أنكر صاحبها ذلك و ادّعى أنّه باعها منه: إنّ القول قول صاحبها، كذا هنا، و لأنّ المنافع تابعة للأعيان في الملك، فهي بالأصالة لمالك العين، فادّعاء المُستعير التفرّدَ بالملكيّة لها على خلاف الأصل، فيحتاج إلى البيّنة(3).

و أمّا الشافعي فقد قال في كتاب العارية: إنّه إذا اختلف مالك الدابّة و راكبها، فقال صاحبها: آجرتكها بكذا، و قال الراكب: أعرتنيها و لا أُجرة لك علَيَّ، فالقول قول الراكب(4).2.

ص: 290


1- روضة القُضاة 3198/539:2، المبسوط - للسرخسي - 149:11، فتاوى قاضيخان - بهامش الفتاوى الهنديّة - 385:3، بحر المذهب 16:9، البيان 474:6، العزيز شرح الوجيز 391:5، المغني و الشرح الكبير 371:5، الإشراف على مذاهب أهل العلم 454/276:1.
2- الخلاف 388:3، المسألة 3 من كتاب العارية.
3- النوادر و الزيادات 462:10، بحر المذهب 15:9، حلية العلماء 204:5، البيان 473:6، العزيز شرح الوجيز 391:5، المغني و الشرح الكبير 371:5.
4- الأُم 245:3، مختصر المزني: 116 و 130، الحاوي الكبير 121:7 و 472، الإشراف على مذاهب أهل العلم 454/276:1، المهذّب - للشيرازي - 373:1، بحر المذهب 15:9، الوسيط 377:3، الوجيز 205:1، حلية العلماء 204:5، التهذيب - للبغوي - 288:4، البيان 473:6، العزيز شرح الوجيز 390:5، روضة الطالبين 88:4، المغني و الشرح الكبير 371:5، روضة القُضاة 3199/539:2.

و قال في كتاب المزارعة: و لو اختلف الزارع و صاحب الأرض، و ادّعى صاحب الأرض أنّه آجره إيّاها، و ادّعى الزارع أنّه أعاره إيّاها: إنّ القولَ قولُ صاحب الأرض(1).

و اختلف أصحابه في ذلك:

فقال أبو إسحاق و جماعة: إنّه لا فرق بين المسألتين، و إنّ فيها قولين، و نقلوا جوابه من كلّ واحدةٍ منهما إلى أُخرى(2).

و منهم مَنْ قال: إنّ المسألتين مختلفتان، و فرّق بينهما بأنّ العادة جارية بأنّ الدوابّ تُعار، فكان الظاهر مع الراكب، و لم تَجْر العادة بإعارة الأرضين، فكان الظاهر مع صاحبها(3).

قال الأوّلون: هذا ليس بصحيحٍ؛ لأنّ مثل هذه العادة لا اعتبار بها في التداعي، و لهذا لو اختلف العطّار و الدبّاغ في آلة العطر لا يُرجّح قول العطّار5.

ص: 291


1- مختصر المزني: 130، الحاوي الكبير 121:7 و 472، المهذّب - للشيرازي - 373:1، بحر المذهب 15:9، الوجيز 205:1، الوسيط 377:3، حلية العلماء 204:5، التهذيب - للبغوي - 288:4، البيان 473:6، العزيز شرح الوجيز 390:5، روضة الطالبين 88:4، روضة القُضاة 3200/539:2.
2- الحاوي الكبير 121:7 و 472-473، المهذّب - للشيرازي - 373:1، بحر المذهب 15:9، حلية العلماء 204:5، البيان 473:6، العزيز شرح الوجيز 391:5.
3- الحاوي الكبير 122:7 و 473، المهذّب - للشيرازي - 373:1، بحر المذهب 15:9، حلية العلماء 204:5، البيان 473:6، العزيز شرح الوجيز 390:5.

و إن كانت العادة جاريةً بأنّ آلة العطّار لا تكون للدبّاغ.

و فرّقوا بين هذه المسألة و بين ما إذا غسل ثوبه غسّال أو خاطه خيّاط ثمّ قال: فعلتُه بالأُجرة، و قال المالك: بل فعلتَ ذلك مجّاناً، فإنّ القول قول المالك مع يمينه قولاً واحداً؛ لأنّ الغسّال فوّت منفعة نفسه ثمّ ادّعى لها عوضاً على الغير، و هناك المتصرّف فوّت منفعة مال الغير و أراد إسقاط الضمان عن نفسه، فلم يُقبل(1).

إذا عرفت هذا، فإن قلنا: القول قول المُستعير، فحلف على نفي الإجارة، كفاه، و سقط عنه المطالبة، و ردّ العين، و إن نكل حلف المالك، و استحقّ بيمينه المسمّى؛ لأنّ اليمين مع النكول إمّا أن تكون بمنزلة البيّنة أو الإقرار، و أيّهما كان يثبت به المسمّى، و هو قول أكثر الشافعيّة(2).

و لهم وجهٌ آخَر ضعيف: إنّه يستحقّ أُجرة المثل؛ لأنّ الناكل ينفي أصل الإجارة، فتقع يمين المدّعي على إثباته(3).

و ليس هذا الوجه عندي بعيداً من الصواب.

و إن قلنا: القول قول المالك مع يمينه، فإنّه يحلف على نفي الإعارة التي تدّعى عليه، و لا يتعرّض لإثبات الإجارة؛ لأنّه مدّعٍ فيها، و هو قول بعض الشافعيّة(4).

فحينئذٍ إذا حلف على نفي الإعارة، فالأقوى عندي: إنّ المُستعير يحلف على نفي الإجارة، فإذا حلف ثبت للمالك أقلّ الأمرين من أُجرة4.

ص: 292


1- التهذيب - للبغوي - 289:4، العزيز شرح الوجيز 391:5.
2- الحاوي الكبير 122:7، بحر المذهب 16:9، التهذيب - للبغوي - 289:4، البيان 475:6، العزيز شرح الوجيز 392:5.
3- البيان 475:6، العزيز شرح الوجيز 392:5، روضة الطالبين 88:4.
4- الوسيط 377:3، العزيز شرح الوجيز 391:5، روضة الطالبين 88:4.

المثل و المسمّى؛ لأنّه إن كانت أُجرة المثل أقلَّ فهو لم يُقم حجّةً على الزيادة، و إن كان المسمّى أقلَّ فقد أقرّ بأنّه لا يستحقّ الزيادة.

و قال بعض الشافعيّة: إذا حلف المالك على نفي الإعارة، استحقّ أقلَّ الأمرين من أُجرة المثل و المسمّى إن لم يحلف المُستعير.

قال: و إن قلنا: إنّ المالك يحلف على إثبات الإجارة و نفي الإعارة و يجمع بينهما في يمينه، ففيما يستحقّه وجهان:

أحدهما: المسمّى إتماماً لتصديقه.

و أظهرهما - و هو مقتضى منصوص الشافعي في الأُم(1) - أُجرة المثل؛ لأنّهما لو اتّفقا على الإجارة و اختلفا في الأُجرة كان الواجب أُجرة المثل، فإذا اختلفا في أصل الإجارة كان أولى(2).

و الجويني حكى الوجه الثاني على غير ما ذكر، بل حكى بدله: إنّه يستحقّ أقلَّ الأمرين؛ لما(3) تقدّم.

قال: و التعرّض للإجارة على هذا ليس لإثبات المال الذي يدّعيه، لكن لينتظم كلامه من حيث إنّه اعترف بأصل الإذن، فحصل فيما يستحقّه ثلاثة أوجُه(4).

و لو نكل المالك عن اليمين المعروضة عليه، لم تُردّ اليمين على الراكب و الزارع؛ لأنّهما لا يدّعيان حقّاً على المالك حتى يُثبتاه باليمين، و إنّما يدّعيان الإعارة، و ليست حقّاً لازماً على المُعير.5.

ص: 293


1- الأُم 245:3.
2- العزيز شرح الوجيز 391:5، روضة الطالبين 88:4.
3- الظاهر: «كما» بدل «لما».
4- العزيز شرح الوجيز 391:5.

و قال بعض الشافعيّة: إنّها تُردّ؛ ليتخلّص من الغرم(1).

مسألة 128: لو وقع هذا الاختلاف عقيب العقد قبل انقضاء مدّةٍ لمثلها أجر،

فالقول هنا قول المُستعير مع اليمين، فإذا حلف على نفي الإجارة سقط عنه دعوى الأُجرة، و استردّ المالك العين، و إن نكل حلف المالك اليمينَ المردودة، و استحقّ الأُجرة.

و هذا قول الشافعي أيضاً، و لا قول له سواه؛ لأنّ الراكب هنا لا يدّعي لنفسه حقّاً و لا أتلف المنافع على المالك، و المدّعي في الحقيقة هنا هو المالك، و إذا تمحّضت الدعوى له لم يتعدّد قوله كما يتعدّد في الصورة الأُولى؛ لأنّ المنافع هناك تلفت تحت يد الراكب، و كان القول بسقوطها مجّاناً بعيداً، فلهذا كان له في الصورة الأُولى قولان(2).

مسألة 129: لو حصل هذا الاختلاف بعد تلف العين،

فإن تلفت عقيب الأخذ قبل أن يثبت لمثلها أُجرة و شرط في العارية الضمان أو قلنا به على مذهب القائلين بضمان العارية، فلا معنى للاختلاف؛ لأنّ صاحبها يدّعي الإجارة و قد انفسخت بتلفها، و المُستعير يُقرّ بالقيمة و يعترف باستحقاقها في ذمّته، و المالك ينكرها، فليس للمالك حينئذٍ المطالبة بها.

و لو لم نقل بالضمان في العارية و لا شرطه المالك، فلا بحث هنا؛ لأنّ كلّ واحدٍ منهما يعترف ببراءة ذمّة المُستعير.

و إن تلفت بعد مضيّ مدّةٍ لمثلها أُجرة مع شرط الضمان أو القول به، فالمُستعير يُقرّ بالقيمة، و المالك ينكرها و يدّعي الأُجرة، فيبنى على الخلاف بين العامّة في أنّ اختلاف الجهة هل يمنع الأخذ؟

ص: 294


1- العزيز شرح الوجيز 391:5، روضة الطالبين 88:4.
2- البيان 473:6، العزيز شرح الوجيز 392:5، روضة الطالبين 88:4.

إن قلنا: نعم، سقطت القيمة بردّه، و القول في الأُجرة قول المالك أو المُستعير على الخلاف الذي تقدّم في الحالة الأُولى.

و إن قلنا: إنّ اختلاف الجهة لا يمنع الأخذ، فإن كانت الأُجرة مثلَ القيمة أو أقلَّ أخذها بغير يمينٍ، و إن كانت أكثر أخذ قدر القيمة، و في المصدّق في الزيادة الخلافُ المتقدّم(1).

مسألة 130: لو انعكس هذا الاختلاف، فادّعى المالكُ الإعارةَ، و المتصرّفُ الإجارةَ،

فإن كانت العين باقيةً و كان الاختلاف عقيب التسليم قبل مضيّ مدّةٍ لمثلها أُجرة، كان القولُ قولَ المالك؛ لأنّ المتصرّف يدّعي عليه عقداً و استحقاق منفعةٍ، و المالك ينكره، و إذا لم تكن بيّنة كان القولُ قولَ المنكر مع اليمين، ثمّ تُستردّ العين.

و إن نكل حلف المتصرّف، و استحقّ المنفعة المدّة و الإمساك طولها.

و إن كان بعد مضيّ مدّة الإجارة، فلا معنى للاختلاف؛ لأنّهما اتّفقا على وجوب ردّها، و المتصرّف يُقرّ للمالك بالأُجرة، و المالك ينكرها.

و إن كان بعد مضيّ بعض المدّة، فالقول قول المالك؛ لأنّ الأصل عدم استحقاق الغير منفعة مال الغير، فإذا حلف على نفي الإجارة أخذ العين، و ليس له مطالبته بالأُجرة عمّا مضى من المدّة؛ لأنّه ينكرها و المتصرّف معترف له بها.

هذا إذا كان الاختلاف و العين باقية، و أمّا إن اختلفا و العين تالفة، فإن كان الاختلاف عقيب القبض قبل انقضاء مدّةٍ لمثلها أُجرة، فالمالك هنا يدّعي قيمتها على المتصرّف مع شرط الضمان عندنا، و مطلقاً عند

ص: 295


1- التهذيب - للبغوي - 289:4، العزيز شرح الوجيز 392:5، روضة الطالبين 89:4.

الشافعي(1) ، و المتصرّف ينكرها، فيُقدَّم هنا قول المالك مع اليمين؛ لأنّهما اختلفا في صفة القبض، و الأصل فيما يقبضه الإنسان من مال غيره الضمانُ؛ لقوله عليه السلام: «على اليد ما أخذت حتى تؤدّيه»(2).

و إن كان الاختلاف بعد مضيّ المدّة، فالمتصرّف يُقرّ بالأُجرة، و المالك يدّعي عليه القيمة في المضمونة، فإن كانت القيمة بقدر الأُجرة دفع إليه من غير(3) يمينٍ؛ لاتّفاقهما على استحقاق ذلك المقدار، و هو قول بعض الشافعيّة(4).

و قال بعضهم: لا تثبت الأُجرة؛ لأنّه لا يدّعيها، و يكون القولُ قولَه في وجوب القيمة(5).

و إن كانت أقلَّ، كان في قدرها الوجهان.

و إن كانت أكثر، كان قدر الأُجرة منهما على الوجهين، و الباقي يستحقّه بيمينه.

و إن كان التلف في أثناء المدّة، فقد أقرّ له ببعض الأُجرة، و هو يدّعي القيمة، و الحكم في ذلك على ما ذكر.

مسألة 131: لو ادّعى المالكُ الغصبَ، و المتصرّفُ الإعارةَ و العين باقية قائمة، و لم تمض مدّة لمثلها أُجرة، فلا معنى لهذا الاختلاف؛

إذ لم تفت العين و لا المنفعة، و يردّ المتصرّفُ العينَ إلى المالك.

و إن مضت مدّة لمثلها أُجرة، فالأقوى: إنّ القولَ قولُ المالك مع

ص: 296


1- راجع الهامش (4) من ص 273.
2- تقدّم تخريجه في ص 271، الهامش (2).
3- في «ج»: «بغير» بدل «من غير». (4 و 5) البيان 476:6.

يمينه؛ لما تقدّم(1) من أصالة تبعيّة المنافع للأعيان في التملّك، فالقول قول مَنْ يدّعيها مع اليمين و عدم البيّنة؛ لأنّ المتصرّف يدّعي انتقال المنفعة إليه بالإعارة و براءة ذمّته من التصرّف في مال الغير، فعليه البيّنة.

و قال الشيخ رحمه الله في الخلاف: القول قول المتصرّف - و هو أحد أقوال الشافعي نقله المزني عنه(2) - لأنّ المالك يدّعي عليه عوضاً، و الأصل براءة ذمّته منه، و لأنّ الظاهر من اليد أنّها بحقٍّ، فكان القولُ قولَ صاحبها(3).

و ليس بجيّدٍ؛ لما بيّنّا من أصالة تبعيّة المنافع للأعيان، و لأصالة عدم الإذن، و كما أنّ الظاهر أنّ اليد بحقٍّ، كذا الظاهر التبعيّة.

و لأصحاب الشافعي هنا ثلاثة طُرق:

أظهرها: إنّ الحكم هنا على ما تقدّم في المسألة السالفة، فيُفرّق بين الدابّة و الأرض على طريقٍ، و يُجعلان على قولين في طريقٍ؛ لأنّ المالك ادّعى أُجرة المثل هنا، كما ادّعى المسمّى في الإجارة هناك، و الأصل براءة الذمّة.

و الثاني: القطع بأنّ القول قول المالك، بخلاف تلك المسألة؛ لأنّهما متّفقان على الإذن هناك، و هنا المالك منكر له، و الأصل عدمه. و مَنْ قال بهذا خطّأ المزني في النقل.

قال أبو حامد: لكنّه ضعيف؛ لأنّ الشافعي نصّ في الأُمّ على ما رواهة.

ص: 297


1- في ص 290.
2- مختصر المزني: 116، الحاوي الكبير 123:7، المهذّب - للشيرازي - 373:1، التهذيب - للبغوي - 290:4، البيان 477:6، العزيز شرح الوجيز 392:5، روضة الطالبين 89:4، المغني 373:5، الشرح الكبير 374:5.
3- الخلاف 389:3، المسألة 5 من كتاب العارية.

المزني(1).

و الثالث: القطع بأنّ القول قول المتصرّف؛ لأنّ الظاهر من حال المسلم أنّه لا يتصرّف إلّا على وجهٍ جائز(2).

هذا إذا تنازعا و العين باقية.

مسألة 132: لو وقع هذا الاختلاف و قد تلفت العين،

فإن هلكت بعد انقضاء مدّةٍ لمثلها أُجرة، فالمالك يدّعي أُجرة المثل و القيمة بجهة الغصب، و المتصرّف يُنكر الأُجرة و يُقرّ بالقيمة بجهة العارية إن كانت مضمونةً، فالحكم في الأُجرة على ما تقدّم عند بقاء العين.

و أمّا القيمة فإنّه يُحكم فيها بقول المتصرّف؛ لأصالة براءة ذمّته من الزائد عن القيمة وقت التلف إن أوجبنا على الغاصب أعلى القِيَم.

و قال بعض الشافعيّة: إن قلنا: إنّ اختلاف الجهة يمنع الأخذ، فلا يأخذ المالك إلّا باليمين. و إن قلنا: لا يمنع فإن قلنا: العارية تُضمن ضمانَ الغصب، أو لم نقل به لكن كانت قيمته يوم التلف أكثر، أخذها باليمين، و إن كانت قيمته يوم التلف أقلَّ، أخذها بغير يمينٍ، و في الزيادة يحتاج إلى اليمين(3).

و إن هلكت عقيب القبض قبل مضيّ وقتٍ يثبت لمثله أُجرة، لزمه القيمة.

ص: 298


1- البيان 477:6، العزيز شرح الوجيز 392:5، روضة الطالبين 89:4، و راجع الأُم 245:3، و مختصر المزني: 116.
2- البيان 477:6، العزيز شرح الوجيز 392:5، روضة الطالبين 89:4.
3- العزيز شرح الوجيز 393:5، روضة الطالبين 89:4.

ثمّ قياس القول الأوّل أن يقال: إن جعلنا اختلاف الجهة مانعاً من الأخذ، حلف، و إلّا أخذ بغير يمينٍ.

و قضيّة ما قاله الجويني في مسألة التنازع بين الإجارة و العارية: إنّه لا يُخرّج على ذلك الخلاف لا هذه الصورة و لا ما إذا كان الاختلاف بعد مضيّ مدّةٍ يثبت لمثلها أُجرة.

قال: لأنّ العين متّحدة، و لا وَقْع للاختلاف في الجهة مع اتّحاد العين(1).

و الظاهر: الأوّل عندهم(2).

و إن كانت العارية غيرَ مضمونةٍ، فإنّ القولَ قولُ المالك في عدم الإعارة، و قولُ المتصرّف في عدم الغصب لئلّا يضمن ضمانَ الغصب، ثمّ يثبت على المتصرّف بعد حلف المالك على نفي الإعارة قيمتُها وقت التلف.

مسألة 133: لو انعكس الفرض، فقال المالك: أعرتُكها، و قال المتصرّف: بل غصبتُها، فلا فائدة في هذا الخلاف؛

لأنّ المتصرّف يُقرّ بالضمان، و المالك يُنكره إن كانت العارية غير مضمونةٍ، و إن كانت مضمونةً فإنّه يُنكر ضمان الغصب.

و إن مضت مدّة لمثلها أُجرة، فالمالك ينفي استحقاق العوض عنها، و المتصرّف يعترف له بها.

و لو قال المالك: غصبتَها، و قال المتصرّف: بل آجرتني، فإن كانت العين باقيةً و لم تمض مدّة لمثلها أُجرة، فالأقوى: التحالف.

أمّا حلف المتصرّف على نفي الغصب: فلنفي زيادة الضمان إن

ص: 299


1- العزيز شرح الوجيز 393:5، روضة الطالبين 89:4.
2- العزيز شرح الوجيز 393:5، روضة الطالبين 89:4.

أوجبنا أعلى القِيَم.

و أمّا حلف المالك: فلنفي استحقاق المتصرّف المنافع المدّة التي ادّعاها المتصرّف.

و قالت الشافعيّة - تفريعاً على أصحّ الأقوال عندهم -: إنّه إن كانت العين باقيةً و لم تمض مدّة لمثلها أُجرة، قُدّم قول المالك، فإذا حلف استردّ المال، فإن مضت مدّة لمثلها أُجرة فالمالك يدّعي أُجرة المثل، و المتصرّف يُقرّ له بالمسمّى، فإن استويا أو كانت أُجرة المثل أقلَّ أخذه بغير يمينٍ، و إن كانت أُجرة المثل أكثر أخذ قدر المسمّى بغير يمينٍ، و الزيادة باليمين(1).

قال بعض الشافعيّة: و لا يجيء هنا خلاف اختلاف الجهة، كما لو ادّعى المالك فسادَ الإجارة و المتصرّف صحّتَها، يحلف المالك، و يأخذ أُجرة المثل(2).

و إن كان الاختلاف بعد بقاء العين مدّةً في يد المتصرّف و تلفها، فالمالك يدّعي أُجرة المثل و القيمة، و المتصرّف يُقرّ بالمسمّى و يُنكر القيمة، فللمالك أخذُ ما يُقرّ به بغير يمينٍ و أخذُ ما ينكره باليمين.

و لو قال المالك: غصبتني، و قال المتصرّف: بل أودعتني، فالقول قول المالك مع اليمين إن لم نوجب أعلى القِيَم، و إن أوجبناه حلف كلٌّ منهما على نفي ما ادّعاه الآخَر، و يثبت الضمان على المتصرّف، فإن تلفت4.

ص: 300


1- الحاوي الكبير 124:7، المهذّب - للشيرازي - 374:1، التهذيب - للبغوي - 290:4، العزيز شرح الوجيز 393:5، روضة الطالبين 89:4-90.
2- التهذيب - للبغوي - 290:4، العزيز شرح الوجيز 393:5، روضة الطالبين 90:4.

العين أخذ المالك المثلَ إن كان مثليّاً، و القيمةَ إن كانت من ذوات القِيَم، و أُجرة المثل إن مضت مدّة لمثلها أُجرة.

مسألة 134: لو ادّعى المُستعير تلفَ العين و أنكر المالك، قُدّم قول المُستعير مع اليمين؛
اشارة

لأنّه مؤتمن، و ربما تعذّرت البيّنة عليه.

و لو ادّعى المُستعير الردَّ و أنكر المالك، قُدّم قول المالك مع اليمين؛ لأصالة عدم الردّ، و عدم براءة الذمّة بعد شغلها، فإنّ المُستعير يدّعي إسقاط ما ثبت في ذمّته.

و لو تنازعا في القيمة بعد وجوب الضمان بالتفريط أو التضمين، قُدّم قول المُستعير مع اليمين؛ لأنّه منكر لما يدّعيه المالك من الزيادة.

و لو تنازعا في التفريط و عدمه، قُدّم قول المُستعير؛ لأصالة براءة ذمّته و عدم الضمان.

فروع:
أ - قد بيّنّا أنّه ليس للمُستعير أن يعير، فإن فَعَل فللمالك الرجوعُ بأُجرة المثل على مَنْ شاء منهما،

فإن رجع على المُستعير لم يرجع المُستعير على المُعير و إن كان جاهلاً على إشكالٍ، و إن رجع على المُعير كان له الرجوعُ على المُستعير العالم، و في الجاهل إشكال، و كذا العين.

ب - لو انتفع المُستعير باستعمال العين بعد رجوع المالك في العارية، فإن كان عالماً برجوعه كان ضامناً للعين و المنفعة معاً.

و لو كان جاهلاً، احتُمل ذلك أيضاً؛ لأنّ الاستعمال منوط بالإذن و قد زال، و عدمُ الضمان.

ج - لو مات المُستعير، وجب على ورثته ردّ العين و إن لم يطالب المُعير؛

لأنّه مالٌ حصل في يدهم لغيرهم، فيجب عليهم دفعه إليه.

ص: 301

مسألة 135: تجوز الإعارة للإرهان؛

لأنّها منفعة مباحة مطلوبة للعقلاء، فوجب تسويغها توسعةً على المحاويج بالمباح.

قال ابن المنذر: أجمعوا على أنّ الرجل إذا استعار من الرجل شيئاً ليرهنه عند الرجل على شيءٍ معلومٍ إلى وقتٍ معلومٍ فرهن ذلك على ما أذن له فيه أنّ ذلك جائز؛ لأنّه استعاره ليقضي به حاجته، فصحّ كغيره من العواري(1).

و لا يعتبر العلم بقدر الدَّيْن و جنسه؛ لأنّ العارية لا يعتبر فيها العلم، و به قال أبو ثور و أحمد و أصحاب الرأي؛ لأنّها عامّة لجنسٍ من النفع، فلم يعتبر معرفة قدره، كعارية الأرض للزرع(2).

و قال الشافعي: يعتبر ذلك؛ لاختلاف الضرر به(3).

و هو ممنوع؛ فإنّ الزرع كذلك.

إذا ثبت هذا، فإنّ المُعير لا يصير ضامناً للدَّيْن - و به قال أحمد و الشافعي في أحد القولين(4) - لأنّه [أعاره] ليقضي [منها](2) حاجته، فلم يكن ضامناً كسائر العواري.

و قال في الآخَر: إنّه يصير ضامناً له في رقبة عبده؛ لأنّ العارية ما يستحقّ به منفعة العين، و المنفعة هنا للمالك، فدلّ على أنّه ضامن به(6).

إذا عرفت هذا، فإنّ المُعير إذا عيّن قدر الدَّيْن الذي يرهنه به و جنسه، أو عيّن محلّاً، تعيّن؛ لأنّ العارية تتعيّن بالتعيين، فإن خالفه في

ص: 302


1- المغني 362:5-363. (2 و 3) المغني 363:5. (4 و 6) المغني 363:5، حلية العلماء 201:5-202، العزيز شرح الوجيز 453:4، روضة الطالبين 393:3.
2- في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «لأنّه استعاره ليقضي منه». و الظاهر ما أثبتناه.

الجنس لم يصح؛ لأنّه عقد لم يأذن المالك له فيه، فلم يصح، كما لو لم يأذن له في رهنه.

و أمّا إن أذن له في أجلٍ فرهنه إلى أقلّ من ذلك الأجل، فقد خالفه أيضاً؛ لأنّه قد لا يجد ما يفكّه به في ذلك الأمد القليل، فيتضرّر المالك بالبيع.

و كذا لو أذن له في المؤجَّل فرهنه حالاًّ؛ لأنّه قد لا يجد ما يفكّه به في الحال، فيتسلّط المرتهن على العين بالبيع.

و لو أذن له في رهنه حالاًّ فرهنه مؤجَّلاً، لم يصح؛ لأنّه قد خالف أيضاً، لأنّه لم يرض أن يحال بينه و بين عينه إلى أجلٍ، فلم يصح.

و لو خالفه في القدر بأن أذن له في رهنه على مائة، فرهنه على مائتين، لم يصح؛ لأنّ مَنْ رضي بقدرٍ من الدَّيْن لم يلزم أن يرضى بأكثر منه.

و هل يبطل من الرأس، أو يصحّ في القدر المأذون فيه و يبطل في الزائد بحيث لو رضي المرتهن على رهنه بالمعيّن لزمه ؟ إشكال، أقربه ذلك.

أمّا لو رهنه على خمسين، فإنّه يجوز قطعاً؛ لأنّ مَنْ رضي بمائة رضي بخمسين التي هي أقلّ عرفاً، فأشبه ما إذا أمره بالشراء بعشرة فاشترى بخمسة.

مسألة 136: إذا أعاره للرهن فرهنه، كان للمالك مطالبة المُستعير بفكّ الرهن في الحال،

سواء كان بدَيْنٍ حالٍّ أو مؤجَّلٍ؛ لأنّ العارية عقد جائز من الطرفين، للمالك الرجوعُ فيها متى شاء.

و إذا حلّ الدَّيْن أو كان حالاًّ فلم يفكّه الراهن، جاز بيعه في الدَّيْن؛

ص: 303

لأنّ ذلك مقتضى الرهن، فإنّه وثيقة على الدَّيْن.

و إنّما يتحقّق هذا المعنى بإمكان حصول الدَّيْن من العين عند الامتناع من الأداء، و إنّما يثبت ذلك ببيعه، فكان البيع سائغاً.

فإذا بِيع في الدَّيْن، رجع المالك بأكثر الأمرين من القيمة و من الثمن الذي بِيعت به؛ لأنّ القيمة إن كانت أكثر فهو المستحقّ للمالك؛ لأنّها عوض عينه، و إن كان الثمن أكثر فهو عوض العين أيضاً.

و لو تلفت العين في يد المرتهن بغير تفريطٍ، فلا ضمان عليه؛ لأنّ الرهن لا يُضمن من غير تعدٍّ.

و الأقرب عندي: إنّ المُستعير يضمن؛ لأنّه استعار عاريةً هي في معرض الإتلاف.

و لو استعار عبداً من اثنين للرهن فرهنه بمائة ثمّ قضى خمسين على أن تخرج حصّة أحدهما من الرهن، لم تخرج؛ لأنّه رهنه بجميع الدَّيْن في صفقةٍ، فلا ينفكّ بعضه بقضاء بعض الدَّيْن، كما لو كان العبد لواحدٍ.

هذا إذا كان الرهن على جميع الدَّيْن و على كلّ جزءٍ منه.

مسألة 137: لو استعار الدراهم للإنفاق بلفظ العارية، فالأقرب: إنّها عارية فاسدة؛

لأنّ مقتضى العارية الانتفاع بالعين مع بقائها لمالكها، فحينئذٍ ليس له أن يشتري بها شيئاً؛ لأنّ العارية قد فسدت، و لم يحصل هناك قرض.

و يحتمل استباحة التصرّف؛ عملاً بالإذن.

و قال أصحاب الرأي: إنّه يكون قرضاً(1).

ص: 304


1- تحفة الفقهاء 177:3-178، بدائع الصنائع 215:6، الاختيار لتعليل المختار 79:3، المبسوط - للسرخسي - 144:11-145، روضة القُضاة 3154/533:2، الفقه النافع 673/948:3، الهداية - للمرغيناني - 222:3.

فعلى ما قلناه يكون أمانةً محضة، كالعارية الصحيحة.

و عند القائلين بضمان العارية الصحيحة تكون الفاسدة مضمونةً أيضاً.

و لو استعار شيئاً و أذن المالك له في إجارته مدّةً معلومة، أو في عاريته، جاز مطلقاً و مدّةً معيّنة؛ لأنّ الحقّ لمالكه، فاستباح ما أذن له فيه.

و ليس للمُعير الرجوعُ في العارية بعد عقد الإجارة حتى تنقضي المدّة؛ لتعلّق حقّ المستأجر بها، و عقد الإجارة لازم.

و تكون العين غير مضمونةٍ على المُستأجر و لا على المُستعير عندنا، و عند العامّة تكون مضمونةً؛ بناءً على ضمان العواري(1).

و لو آجر المُستعير بغير إذنٍ، بطلت الإجارة، و كان للمالك الرجوعُ بالأُجرة على مَنْ شاء منهما، فإن أجاز الإجارة كان له المسمّى، و إن لم يُجِز كان له أُجرة المثل.

مسألة 138: لا يجوز للمُعير الرجوعُ في العارية إذا حصل بالرجوع ضرر بالمُستعير لا يُستدرك،

كما لو أعاره لوحاً يرقع به السفينة، فرقعها به ثمّ لجّج في البحر، لم يجز للمُعير هنا الرجوع ما دامت السفينة في البحر؛ لما فيه من خوف الغرق الموجب لذهاب المال أو تلف النفس.

و يحتمل أنّ له الرجوعَ، و يثبت له المثل أو القيمة مع تعذّر المثل؛ لما فيه من الجمع بين المصالح.

و له الرجوع لو لم تدخل السفينة في البحر أو خرجت منه؛ لعدم التضرّر فيه.

ص: 305


1- راجع الهامش (4) من ص 273.

و لو أعاره حائطاً ليضع عليه أطراف خشبه، جاز له الرجوع قبل الوضع - إجماعاً - مجّاناً، و بعده مع الأرش ما لم تكن الأطراف الأُخَر مثبتةً في ملك المُستعير و يؤدّي إلى خراب ما بناه المُستعير عليه، ففيه خلاف.

و لو قال المُعير: أنا أدفع إليه أرش ما نقص بالقلع، لم يجب على المُستعير إجابته إن منعنا الرجوع هنا؛ لأنّه إذا قلعه انقلع ما في ملك المُستعير منه، و لا يجب على المُستعير قلع شيءٍ من ملكه بضمان القيمة، و قد سبق.

مسألة 139: لو أنفذ رسولاً إلى شخصٍ ليستعير منه دابّةً يمضي عليها إلى قريةٍ معيّنةٍ،

فمضى الرسول و كذب في تعيين القرية و أخبر المالك بأنّ المُستعير يطلب الدابّة إلى قريةٍ أُخرى، فدفع المالك دابّته إليه، فإن خرج بها المُستعير إلى ما عيّنه الرسول و كذب فيه فتلفت، لم يكن على أحدٍ ضمانٌ؛ لأنّ صاحبها أعار الدابّة إلى ذلك الموضع.

و لو خرج بها المُستعير إلى ما طلبه المُستعير و قاله لرسوله فتلفت، ضمن المُستعير؛ لأنّ المالك إنّما أذن فيما أخبره الرسول، لا فيما طلبه المُستعير، فيكون المُستعير قد تجاوز الإذن، فكان ضامناً، سواء عرف المُستعير بالحال أو لا.

و أمّا الرسول فلا ضمان عليه؛ لأنّ التلف حصل في يد المُستعير، فاستقرّ الضمان عليه.

ص: 306

المقصد الثالث: في الشركة

اشارة

و فيه فصول:

الفصل الأوّل: الماهيّة

اشارة

الشركة هي اجتماع حقوق المُلّاك في الشيء الواحد على سبيل الشياع، أو استحقاق شخصين فصاعداً على سبيل الشياع أمراً من الأُمور.

و سبب الشركة قد يكون إرثاً أو عقداً أو مزجاً أو حيازةً بأن يقتلعا شجرةً أو يغترفا ماءً دفعةً بآنيةٍ، فكلّ ما هو ثابت بين اثنين فصاعداً مشاع بينهما يقال: إنّه مشترك بينهما(1).

و هو ينقسم إلى عينٍ و منفعةٍ و حقٍّ.

و بالجملة، فهو ينقسم إلى ما لا يتعلّق بالمال، كالقصاص و حدّ القذف و منفعة كلب الصيد الباقي من مورّثهم، و إلى ما يتعلّق بالمال، و هو إمّا أن يكون عيناً و منفعةً، كما لو ورث اثنان أو جماعة مالاً أو غنموه أو اشتروه في عقدٍ واحد أو متعدّد، أو اتّهبوه أو قَبِلوا الوصيّة به أو الصدقة، و إمّا أن يكون مجرّد منفعةٍ، كما لو استأجروا عبداً أو أُوصي لهم بسكنى دارٍ، و إمّا أن يكون مجرّد عينٍ خاليةٍ عن المنفعة، كما لو ورثوا عبداً موصى بخدمته و جميع منافعه على التأبيد، و إمّا حقٌّ يتوصّل به إلى مالٍ، كالشفعة التي تثبت لجماعةٍ، و خيار الشرط، و خيار الردّ بالعيب، و الرهن، و مرافق الطرق.

و على كلّ تقديرٍ فالشركة قد تحدث بغير اختيار الشريك، كما لو

ص: 307


1- في النسخ الخطّيّة: «بينهم».

ورثوا مالاً أو امتزج مالاهما بغير اختيارهما، أو باختيارهما، كما لو مزجا المالين أو اشتركا في الشراء.

و المقصود في هذا المقصد البحثُ عن الشركة الاختياريّة المتعلّقة بالتجارة و تحصيل الربح و الفائدة.

مسألة 140: الشركة جائزة بالنصّ و الإجماع.

أمّا النصّ: فمن الكتاب و السنّة.

أمّا الكتاب: فقوله تعالى:«وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ» (1) أضاف الغنيمة إليهم، و جعل الخُمس مشتركاً بين الأصناف المذكورين.

و قوله تعالى:«فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ» (2).

و قال تعالى:«وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ» (3) و الخلطاء هُم الشركاء في أمثال ذلك.

و أمّا السنّة: فما رواه العامّة عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله قال: «مَنْ كان له شريك في رَبْعٍ أو حائطٍ فلا يبعه حتى يؤذِن شريكه»(4).

ص: 308


1- الأنفال: 41.
2- النساء: 12.
3- «ص»: 24.
4- ورد نصّه في البيان 224:6، و نحوه في صحيح مسلم 1608/1229:3، و سنن النسائي 301:7، و سنن الدارمي 274:2، و سنن البيهقي 104:6، و مسند أحمد 13929/250:4.

و عن أبي هريرة: أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله قال: «[يقول اللّه عزّ و جلّ:](1) أنا ثالث الشريكين ما لم يَخُنْ أحدهما صاحبَه، فإذا خانه خرجتُ من بينهما»(2) يعني أنّ البركة تُنزع من مالهما.

و كان ابن [أبي](3) السائب شريكاً للنبيّ صلى الله عليه و آله قبل المبعث، و افتخر بشركته بعد المبعث، فلم ينكر عليه(4).

و كان البراء بن عازب و زيد بن أرقم شريكين، فاشتريا فضّةً بنقدٍ و نسيئةٍ، فبلغ رسول اللّه صلى الله عليه و آله ذلك، فأمرهما أنّ ما كان بنقدٍ فأجيزوه، و ما كان نسيئةً فردّوه(5).

و من طريق الخاصّة: ما رواه هشام بن سالم - في الصحيح - عن الصادق عليه السلام، قال: سألته عن رجلٍ يشاركه الرجل في السلعة، قال: «إن ربح فله، و إن وضع فعليه»(6).

و عن الحسين بن المختار أنّه سأل الصادقَ عليه السلام: عن الرجل يكون له الشريك فيظهر عليه قد اختان منه شيئاً، أله أن يأخذ منه مثل الذي أخذ من7.

ص: 309


1- ما بين المعقوفين أضفناه من المصادر.
2- سنن أبي داوُد 3383/256:3، سنن الدارقطني 139/35:3، سنن البيهقي 78:6، المستدرك - للحاكم - 52:2، المغني و الشرح الكبير 109:5.
3- ما بين المعقوفين أضفناه من بعض المصادر.
4- المصنّف - لابن أبي شيبة - 18794/505:14، المعجم الكبير - للطبراني - 6618/165:7 و 6619، سنن ابن ماجة 2287/786:2، سنن البيهقي 78:6، المستدرك - للحاكم - 61:2، مسند أحمد 15079/441:4، العزيز شرح الوجيز 185:5.
5- صحيح البخاري 184:3، المغني و الشرح الكبير 109:5.
6- التهذيب 817/185:7.

غير أن يبيّن ذلك ؟ فقال: «شَوَه(1) لهما اشتركا بأمانة اللّه، و إنّي لأُحبّ له إن رأى [منه](2) شيئاً من ذلك أن يستر عليه، و ما أُحبّ له أن يأخذ منه شيئاً بغير علمه»(3).

و الأخبار في ذلك كثيرة من طُرق العامّة و طُرق الخاصّة.

و أمّا الإجماع: فإنّه لا خلاف بين المسلمين في جوازها على الجملة و إن اختلفوا في أنواع منها.

مسألة 141: الشركة على أربعة أنواع: شركة العنان، و شركة الأبدان، و شركة المفاوضة، و شركة الوجوه.
فأمّا شركة العنان:

فإن يُخرج كلٌّ مالاً و يمزجاه و يشترطا العمل فيه بأبدانهما.

و اختلفوا في أخذها من أيّ شيءٍ؟

فقيل: أُخذت من عنان الدابّة إمّا لاستواء الشريكين في ولاية الفسخ و التصرّف و استحقاق الربح على قدر رأس المال، كاستواء طرفي العنان، أو تساوي الفارسين إذا سوّيا بين فرسيهما و تساويا في السير(4) يكونان سواءً، و إمّا لأنّ كلّ واحدٍ منهما يمنع الآخَر من التصرّف كما يشتهي و يريد، كما يمنع العنان الدابّة، و إمّا لأنّ الآخذ بعنان الدابّة حبس إحدى يديه على

ص: 310


1- الشَّوَه: قبح الوجه و الخلقة. لسان العرب 508:13 «شوه».
2- ما بين المعقوفين أضفناه من المصدر.
3- التهذيب 849/192:7.
4- في المغني 124:5، و الشرح الكبير 111:5 إضافة: «فإنّ عنانيهما».

العنان، و يده الأُخرى مطلقة يستعملها كيف شاء، كذلك الشريك بالشركة مَنَع نفسَه عن التصرّف في المشترك كما يشتهي و هو مطلق اليد و التصرّف في سائر أمواله(1).

و قيل: هي مأخوذة من الظهور، يقال: عنَّ الشيء إذا ظهر، إمّا لأنّه ظهر لكلّ واحدٍ منهما مال صاحبه، و إمّا لأنّه أظهر وجوه الشركة، و لذلك وقع الإجماع من العلماء على صحّتها و اختلفوا في غيرها(2).

و قيل: إنّها مأخوذة من المعانّة، و هي المعارضة؛ لأنّ كلّ واحدٍ منهما يُخرج ماله في معارضة إخراج الآخَر، فكلّ واحدٍ من الشريكين معارض لصاحبه بماله و فعاله(1).

و قال الفرّاء: إنّها مأخوذة من عَنَّ الشيء إذا عرض، يقال: عنّت لي حاجة إذا عرضت، فسُمّيت بذلك؛ لأنّ كلّ واحدٍ منهما عَنَّ له أن يشارك صاحبه(2).

و أمّا شركة الأبدان:

فإن يشترك اثنان أو أكثر فيما يكتسبون بأيديهم كالصُّنّاع يشتركون على أن يعملوا في صناعتهم، فما رزق اللّه تعالى فهو بينهم على التساوي أو التفاوت.

و أمّا شركة المفاوضة:

فهو أن يشتركا ليكون بينهما ما يكتسبان و يربحان و يلتزمان من غُرْمٍ و يحصل لهما من غُنْمٍ، فيلزم كلّ واحدٍ منهما ما يلزم الآخَر من أرش جنايةٍ و ضمان غصبٍ و قيمة متلفٍ و غرامةٍ لضمانٍ أو كفالةٍ، و يقاسمه فيما يحصل له من ميراثٍ أو يجده من ركازٍ أو لقطةٍ أو يكتسبه في تجارته بماله المختصّ به.

ص: 311


1- العزيز شرح الوجيز 186:5، المغني 124:5، الشرح الكبير 111:5.
2- حكاه عنه ابن هبيرة في الإفصاح عن معاني الصحاح 3:2، و ابنا قدامة في المغني 124:5، و الشرح الكبير 111:5.

قال صاحب إصلاح المنطق: شركة المفاوضة أن يكون مالهما من كلّ شيءٍ يملكانه بينهما(1).

و أمّا شركة الوجوه:

فقد فُسِّرت بمعانٍ أشهرها: إنّ صورتها أن يشترك اثنان وجيهان عند الناس لا مال لهما ليبتاعا في الذمّة إلى أجلٍ على أنّ ما يبتاعه كلّ واحدٍ منهما يكون بينهما، فيبيعاه و يؤدّيا الأثمان، فما فضل فهو بينهما(2).

و قيل: أن يبتاع وجيه في الذمّة و يفوّض بيعه إلى خاملٍ، و يشترطا أن يكون الربح بينهما(3).

و قيل: أن يشترك وجيهٌ لا مال له و خاملٌ ذو مالٍ ليكون العمل من الوجيه و المال من الخامل، و يكون المال في يده لا يسلّمه إلى الوجيه، و الربح بينهما(2).

و قيل: أن يبيع الوجيهُ مالَ الخامل بزيادة ربحٍ ليكون بعض الربح له(3).

مسألة 142: لا يصحّ شيءٌ من أنواع الشركة،

سوى شركة العنان، و قد بيّنّا أنّ شركة العنان جائزة، و عليه إجماع العلماء في جميع الأعصار.

و أمّا شركة الأبدان: فعندنا أنّها باطلة، سواء اتّفق عملهما أو اختلف

ص: 312


1- تهذيب إصلاح المنطق 352:2، و حكاه عنه الطوسي في الخلاف 329:3، المسألة 5 من كتاب الشركة. (2 و 3) كما في العزيز شرح الوجيز 192:5، و روضة الطالبين 513:3.
2- هذا التفسير من القاضي ابن كج و الجويني كما في العزيز شرح الوجيز 192:5، و روضة الطالبين 513:3.
3- قاله الغزالي في الوجيز 187:1، و الوسيط 262:3، و عنه في العزيز شرح الوجيز 192:5، و روضة الطالبين 513:3.

بأن يكون كلّ واحدٍ منهما خيّاطاً و يشتركان في فعل الخياطة، أو يكون أحدهما خيّاطاً و الآخَر نجّاراً، و يعمل كلّ واحدٍ منهما في صنعته، و يكون الحاصل بينهما، و سواء كانت الصنعة البدنيّة في مالٍ مملوكٍ أو في تحصيل مالٍ مباحٍ، كالاصطياد و الاحتطاب و الاحتشاش - و به قال الشافعي(1) - لأنّ كلّ واحدٍ منهما متميّز ببدنه و منافعه، فيختصّ بفوائده، و هذا كما لو اشتركا في ماشيتهما و هي متميّزة ليكون الدرّ و النسل بينهما، فإنّه لا يصحّ.

و لأنّها شركة على غير مالٍ، فلا يصحّ، كما لو اشتركا في الاحتطاب و الاحتشاش، فإنّه لا يصحّ عند أبي حنيفة(2) ، و كما لو اختلفت الصنعتان،5.

ص: 313


1- الإشراف على مذاهب أهل العلم 45/64:1، الإقناع: 128، الحاوي الكبير 479:6، المهذّب - للشيرازي - 353:1، بحر المذهب 127:8، الوجيز 187:1، الوسيط 262:3، حلية العلماء 97:5، التهذيب - للبغوي - 195:4-196 و 199، البيان 229:6 و 335، الإفصاح عن معاني الصحاح 4:2، العزيز شرح الوجيز 191:5، روضة الطالبين 509:3 و 512، منهاج الطالبين: 132، بداية المجتهد 255:2، الإشراف على نكت مسائل الخلاف 1022/604:2، عيون المجالس 1184/1681:4، تحفة الفقهاء 11:3، بدائع الصنائع 57:6، الهداية - للمرغيناني - 10:3، روضة القُضاة 3374/571:2، النتف 537:1، المغني 111:5، الشرح الكبير 186:5.
2- الاختيار لتعليل المختار 23:3، تحفة الفقهاء 15:3، بدائع الصنائع 63:6، روضة القُضاة 3384/573:2، الفقه النافع 720/995:3، فتاوى قاضيخان - بهامش الفتاوى الهنديّة - 624:3، مختصر اختلاف العلماء 1672/10:4، المبسوط - للسرخسي - 216:11، النتف 536:1، الهداية - للمرغيناني - 11:3، الإفصاح عن معاني الصحاح 5:2-6، الإشراف على نكت مسائل الخلاف 604:2-1023/605، الحاوي الكبير 479:6، بحر المذهب 127:8، حلية العلماء 98:5، البيان 335:6، العزيز شرح الوجيز 191:5، المغني 111:5، الشرح الكبير 185:5.

فإنّه لا يصحّ عند مالك(1).

و لأنّ الأصل استحقاق كلّ واحدٍ منهما أُجرة عمله و اختصاصه بها، و نقله عنه يحتاج إلى دليلٍ و لم يقم.

و قال أبو حنيفة: شركة الأبدان صحيحة، إلّا في الاحتطاب و الاحتشاش و الاغتنام و الاصطياد. و بالجملة، فإنّه سوّغ الشركة في الصناعة، و مَنَعَها في اكتساب المباح؛ لأنّ مقتضى الشركة: الوكالة، و لا تصحّ الوكالة في هذه الأشياء؛ لأنّ مَنْ أخذها مَلَكها، و لأنّ أكثر ما في هذه الشركة أنّ كلّ واحدٍ منهما يتقبّل العمل لصاحبه ثمّ يشارك كلّ واحدٍ منهما صاحبَه في المال الذي اكتسبه و إن لم يكن شاركه في نفس العمل، و مثل ذلك جائز، أ لا ترى أنّ الرجل إذا استأجر قصّاراً ليقصر له فسلّم الثوب إليه، كان له أن يقصره بنفسه و بغيره، و يستحقّ هو الأُجرة(2).6.

ص: 314


1- المدوّنة الكبرى 42:5، الإشراف على نكت مسائل الخلاف 1024/605:2، بداية المجتهد 255:2، التفريع 206:2، التلقين: 414، عيون المجالس 1184/1680:4، الكافي في فقه أهل المدينة: 393، المعونة 1144:2، الحاوي الكبير 479:6، بحر المذهب 127:8، حلية العلماء 99:5، البيان 335:6، العزيز شرح الوجيز 191:5، مختصر اختلاف العلماء 1672/10:4، الإفصاح عن معاني الصحاح 4:2 و 5، المغني 113:5، الشرح الكبير 187:5.
2- تحفة الفقهاء 11:3 و 15، بدائع الصنائع 57:6 و 63، الاختيار لتعليل المختار 17:3 و 23 و 25، روضة القُضاة 571:2 و 3371/573 و 3372 و 3384، فتاوى قاضيخان - بهامش الفتاوى الهنديّة - 623:3-624، الفقه النافع 994:3 و 718/995 و 720، المبسوط - للسرخسي - 154:11-155 و 216، المحيط البرهاني 9:6-11، مختصر اختلاف العلماء 1672/10:4، الهداية - للمرغيناني - 10:3 و 11، النتف 535:1 و 536، الحاوي الكبير 479:6، بحر المذهب 127:8، حلية العلماء 98:5، البيان 335:6، العزيز شرح الوجيز 191:5، الإفصاح عن معاني الصحاح 4:2 و 5-6، المغني 111:5، الشرح الكبير 185:5-186.

و الأوّل ممنوع، إلّا أنّا لا نمنع(1) الشركة في هذه الأشياء و في غيرها، و نمنع مساواتها للوكالة.

و قال مالك: تصحّ شركة الأبدان بشرط اتّفاق الصنعتين؛ لأنّه قال: إذا اتّفقت الصنعتان تقارب الكسبان، و تدعو الحاجة إلى ذلك في الصنعة الواحدة دون الصنعتين؛ لأنّ التعاون في الصنعة أمر واقع غالباً(2).

و هو ممنوع؛ فإنّ الصانعَيْن قد تختلف صنعتهما و تتفاوت و تتقارب في الجنسين، و أمّا الحاجة فالإجارة تكفي للاستعانة، فلا حاجة إلى الشركة.

و قال أحمد بن حنبل: تجوز شركة الأبدان في جميع الأشياء، سواء اختلفت الصنعتان أو اتّفقت، و سواء كان في مالٍ أو في تحصيل مباحٍ، كالاحتطاب و شبهه؛ لأنّ سعد بن أبي وقّاص و عبد اللّه بن مسعود و عمّار بن ياسر اشتركوا فيما يغتنمونه، فأتى سعد بأسيرين و لم يأتيا بشيءٍ، فأقرّهم النبيّ صلى الله عليه و آله(3). قال أحمد: أشرك النبيّ صلى الله عليه و آله بينهم(4).4.

ص: 315


1- في «ج» و الطبعة الحجريّة: «و الأوّل مسلّم إلّا أنّا نمنع». و الظاهر ما أثبتناه من «ث، خ، ر».
2- المدوّنة الكبرى 42:5، الإشراف على نكت مسائل الخلاف 604:2 و 1022/605 و 1024، بداية المجتهد 255:2، التفريع 206:2، التلقين: 414، المعونة 1144:2، عيون المجالس 1184/168:4، الكافي في فقه أهل المدينة: 392، الحاوي الكبير 479:6، بحر المذهب 127:8، حلية العلماء 99:5، البيان 335:6، العزيز شرح الوجيز 191:5، مختصر اختلاف العلماء 1672/10:4، الإفصاح عن معاني الصحاح 4:2 و 5.
3- سنن ابن ماجة 2288/768:2، سنن أبي داوُد 3388/257:3، سنن النسائي 57:7 و 319، سنن الدارقطني 138/34:3.
4- المغني 111:5-112، الشرح الكبير 185:5-187، الإشراف على مذاهب أهل العلم 64:1-45/65، الحاوي الكبير 479:6، بحر المذهب 127:8، حلية العلماء 99:5، البيان 335:6، العزيز شرح الوجيز 191:5، الإفصاح عن معاني الصحاح 4:2-6، عيون المجالس 1184/1680:4.

و هو غلط؛ لأنّ غنائم بدر كانت لرسول اللّه صلى الله عليه و آله، فكان له أن يدفعها إلى مَنْ شاء، فيحتمل أن يكون فَعَل ذلك لهذا.

و أيضاً فالغنائم مشتركة بين الغانمين بحكم اللّه تعالى، فكيف يصحّ اختصاص هؤلاء بالشركة فيها!؟

و أيضاً فلا نسلّم أنّ سعداً أعطاهم على سبيل الوجوب، بل أراد التبرّع و الوفاء بالوعد الذي لا يجب إنجازه، أمّا على سبيل اللزوم فلا.

و اعلم أنّ المذهب المشهور للشافعي ما نقلناه عنه أوّلاً من موافقة مذهبنا في بطلان شركة الأبدان(1).

و قال بعض الشافعيّة: إنّ للشافعي في هذه المسألة قولاً آخَر: إنّها جائزة؛ لأنّ الشافعي قال في كتاب الإقرار: و لو أقرّ أحد الشريكين على صاحبه بمالٍ قُبِل إقراره، سواء كانا شريكين في المال أو العمل(2).

و قال غيره: هذا ليس بقولٍ آخَر؛ لأنّه لا يتضمّن صحّة الشركة(3).

و عن أحمد رواية أُخرى كمذهب مالك من صحّة شركة الأبدان مع اتّفاق الصنعة، و بطلانها مع الاختلاف؛ لأنّ مقتضى الشركة هنا أنّ ما تقبّل كلّ واحدٍ منهما من العمل لزمه و لزم صاحبه، و يطالَب به كلُّ واحدٍ منهما، فإذا تقبّل أحدهما شيئاً مع اختلاف صنائعهما، لم [يمكن](4) للآخَر أن يقومر.

ص: 316


1- راجع ص 313، و كذا الهامش (1) منها.
2- بحر المذهب 127:8، حلية العلماء 98:5، البيان 335:6.
3- بحر المذهب 128:8، البيان 335:6.
4- بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «يكن». و المثبت من المصدر.

به، و كيف يلزمه عمله أم كيف يطالَب بما لا قدرة له عليه!؟(1).

مسألة 143: و شركة المفاوضة عندنا باطلة،

و ليس لها أصل في الشرع - و به قال الشافعي و مالك(2) و إسحاق و أبو ثور(3) - لأنّه عقد قد اشتمل على غررٍ عظيم؛ لأنّ ما يلزم أحدهما من غرامةٍ يلزم الآخَر، و العقد يفسد بأقلّ من هذا غرراً، كبيع الثمرة قبل خروجها أو قبل بدوّ صلاحها عند جماعةٍ(4) ، و استئجار الأرض ببعض ما يخرج منها، و لهذا لا يصحّ بين المسلم و الكافر عندهم(5) ، و لا بين الحُرّ و المكاتَب.

و قال أبو حنيفة و الثوري و الأوزاعي: إنّها صحيحة(6). و رواه أصحاب

ص: 317


1- المغني 113:5، الشرح الكبير 187:5.
2- لم نقف على قول مالك فيما بين أيدينا من المصادر للعامّة. نعم، حكاه عنه الطوسي في الخلاف 329:3، المسألة 5 من كتاب الشركة.
3- الأُم 231:3، الإشراف على مذاهب أهل العلم 44/64:1، الحاوي الكبير 475:6، المهذّب - للشيرازي - 353:1، بحر المذهب 126:8، الوجيز 187:1، الوسيط 262:3، حلية العلماء 99:5، التهذيب - للبغوي - 195:4-196، البيان 335:6، العزيز شرح الوجيز 191:5-192، روضة الطالبين 512:3، الإفصاح عن معاني الصحاح 4:2، المغني 139:5، الشرح الكبير 198:5، بداية المجتهد 254:2، المبسوط - للسرخسي - 153:11، مختصر اختلاف العلماء 1678/16:4، الهداية - للمرغيناني - 4:3.
4- بحر المذهب 191:6، البيان 237:5، و راجع أيضاً ج 10، ص 350، الهامش (1 و 2).
5- المغني 139:5، الشرح الكبير 199:5، بحر المذهب 127:8.
6- تحفة الفقهاء 9:3، بدائع الصنائع 57:6، الاختيار لتعليل المختار 18:3، فتاوى قاضيخان - بهامش الفتاوى الهنديّة - 618:3، الفقه النافع 180/989:3، المبسوط - للسرخسي - 153:11، المحيط البرهاني 5:6، مختصر اختلاف العلماء 1678/15:4، الهداية - للمرغيناني - 4:3، الإشراف على مذاهب أهل العلم 44/64:1، الحاوي الكبير 475:6، بحر المذهب 126:8، الوجيز 187:1، الوسيط 262:3، حلية العلماء 100:5، التهذيب - للبغوي - 199:4، البيان 336:6، العزيز شرح الوجيز 192:5، بداية المجتهد 254:2، عيون المجالس 1181/1673:4، الإفصاح عن معاني الصحاح 4:2، المغني 139:5، الشرح الكبير 198:5.

مالك عن مالك(1) أيضاً.

و شرط أبو حنيفة أُموراً:

الأوّل: أن يكون الشريكان مسلمين حُرّين، فلا تصحّ شركة المفاوضة بين المسلم و الكافر، و لا بين الكافرين، و لا بين الحُرّ و العبد.

الثاني: أن يكون مالهما في الشركة سواءً.

الثالث: أن يستعملا لفظ المفاوضة، فيقولا: تفاوضنا، أو: اشتركنا شركة المفاوضة.

الرابع: أن يستويا في قدر رأس المال.

الخامس: أن لا يملك واحد منهما من جنس رأس المال إلّا ثلاثة أشياء: قوت يومه، و ثياب بدنه، و جارية يتسرّى بها.

السادس: أن يُخرجا جميع ما يملكانه من جنس مال الشركة، و هو الدراهم و الدنانير؛ لأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله قال: «إذا تفاوضتم فأحسنوا المفاوضة»(2) و لأنّ هذه نوع شركةٍ يختصّ باسمٍ، فكان فيها صحيح، كشركة العنان(3).2.

ص: 318


1- كما في بحر المذهب 126:8، و حلية العلماء 101:5، و راجع: المدوّنة الكبرى 68:5، و الإشراف على نكت مسائل الخلاف 1025/605:2، و بداية المجتهد 254:2، و التلقين: 414، و عيون المجالس 1181/1673:4، و المعونة 1143:2، و الحاوي الكبير 475:6، و الوجيز 187:1، و الإفصاح عن معاني الصحاح 4:2 و 5، و المغني 139:5، و الشرح الكبير 198:5.
2- بحر المذهب 127:8، المغني 139:5، الشرح الكبير 199:5.
3- تحفة الفقهاء 9:3، بدائع الصنائع 60:6-62، الاختيار لتعليل المختار 18:3-19، روضة القُضاة 562:2-3323/563، فتاوى قاضيخان - بهامش الفتاوى الهنديّة - 618:3-619، الفقه النافع 989:3-710/990-712، المبسوط - للسرخسي - 153:11 و ما بعدها، المحيط البرهاني 7:6-8، النتف 531:1، الهداية - للمرغيناني - 3:3-5، بحر المذهب 126:8، حلية العلماء 100:5، التهذيب - للبغوي - 200:4، البيان 336:6، العزيز شرح الوجيز 192:5، المغني 139:5، الشرح الكبير 198:5، الإفصاح عن معاني الصحاح 5:2.

و الحديث ممنوع؛ لأنّه لم يروه [أصحاب](1) السنن، ثمّ ليس فيه ما يدلّ على أنّه أراد هذا العقد، فيحتمل أنّه أراد المفاوضة في الحديث، و لهذا روي فيه: «و لا تجادلوا فإنّ المجادلة من الشيطان»(2).

و القياس منقوض ببيع الحصاة، فإنّه لا يصحّ، و كذا بيع المنابذة، و غيرهما من البيوع الباطلة، فإنّها تختصّ باسمٍ، و هي فاسدة، و لا يقتضي اختصاصها بالاسم الصحّة، مع قيام الفرق بين الأصل و الفرع، فإنّ شركة العنان تصحّ بين الكافرين، و الكافر و المسلم، بخلاف هذه الشركة.

و اعلم أنّ عند أبي حنيفة لشركة المفاوضة موجَباتٍ، فمنها: أن يشارك أحدهما صاحبَه في جميع ما يكتسبه، و يشاركه فيما يلزمه من الغرامة، كالغصب و الكفالة، و إذا ثبت لأحدهما شفعةٌ شاركه صاحبه، و ما مَلَكه أحدهما بإرثٍ أو هبةٍ لا يشاركه الآخَر فيه، فإن كان فيه من جنس رأس المال شيءٌ فسدت شركة المفاوضة، و انقلبت إلى شركة العنان، و ما لزم أحدهما بغصبٍ أو بيعٍ فاسدٍ أو إتلافٍ كان مشتركاً، إلّا الجناية على الحُرّ، و بدل الخلع، و الصداق إذا لزم أحدهما لم يؤاخذ به الآخَر(3).2.

ص: 319


1- بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «صاحب». و المثبت هو الصحيح.
2- بحر المذهب 127:8، المغني 139:5، الشرح الكبير 200:5.
3- تحفة الفقهاء 9:3، الاختيار لتعليل المختار 19:3-20، روضة القُضاة 3327/564:2 و 3328 و 3331، الفقه النافع 712/990:3، النتف 532:1-533، الهداية - للمرغيناني - 5:3، بحر المذهب 126:8، حلية العلماء 100:5، التهذيب - للبغوي - 200:4، البيان 336:6، العزيز شرح الوجيز 192:5، الإفصاح عن معاني الصحاح 5:2.

قال الشافعي في اختلاف أبي حنيفة و ابن أبي ليلى: لا أعلم شيئاً في الدنيا يكون باطلاً إن لم تكن شركة المفاوضة باطلةً(1) ، يعني لما فيها من أنواع الغرر و الجهالات الكثيرة.

مسألة 144: شركة الوجوه عندنا باطلة

- و به قال الشافعي و مالك(2) - لما تقدّم في شركة الأبدان.

و قال أبو حنيفة: إنّها صحيحة؛ لما تقدّم من أنّها نوع شركةٍ اختصّت باسمٍ(3) ، و قد سبق(4).

ص: 320


1- الأُم 134:7، الحاوي الكبير 475:6، التهذيب - للبغوي - 200:4، البيان 336:6.
2- الإشراف على مذاهب أهل العلم 46/66:1، الحاوي الكبير 477:6، المهذّب - للشيرازي - 353:1، بحر المذهب 128:8، الوسيط 262:3، حلية العلماء 102:5، التهذيب - للبغوي - 199:4، البيان 337:6، العزيز شرح الوجيز 192:5، روضة الطالبين 513:3، الإفصاح عن معاني الصحاح 4:2 و 6، الإشراف على نكت مسائل الخلاف 1027/605:2، بداية المجتهد 255:2، الذخيرة 48:8، عيون المجالس 1185/1681:4، المعونة 1144:2، تحفة الفقهاء 10:3، بدائع الصنائع 57:6، روضة القُضاة 3379/572:2، الهداية - للمرغيناني - 11:3، المبسوط - للسرخسي - 154:11.
3- تحفة الفقهاء 10:3، بدائع الصنائع 57:6، الاختيار لتعليل المختار 25:3، روضة القُضاة 571:2-3378/572، فتاوى قاضيخان - بهامش الفتاوى الهنديّة - 623:3، الفقه النافع 719/994:3، مختصر اختلاف العلماء 1671/9:4، المبسوط - للسرخسي - 154:11، المحيط البرهاني 9:6، الهداية - للمرغيناني - 11:3، الحاوي الكبير 477:6، بحر المذهب 128:8، حلية العلماء 102:5، التهذيب - للبغوي - 199:4، البيان 337:6، الإشراف على نكت مسائل الخلاف 1027/606:2، بداية المجتهد 255:2، الذخيرة 48:8، عيون المجالس 1185/1681:4، الإفصاح عن معاني الصحاح 4:2 و 6.
4- في ص 318.

إذا عرفت هذا، فإن أذن أحدهما للآخَر في الشراء، فاشترى لهما، وقع الشراء عنهما، و كانا شريكين؛ لأنّه وكيل له اشترى له بإذنه، و يشترط فيه اعتبار شرائط الوكالة؛ لما رواه داوُد الأبزاري عن الصادق عليه السلام، قال:

سألته عن رجلٍ اشترى بيعاً و لم يكن عنده نقد فأتى صاحباً له، فقال: انقد عنّي و الربح بيني و بينك، فقال: «إن كان ربح فهو بينهما، و إن كان نقصان فعليهما»(1).

و عن إسحاق بن عمّار عن العبد الصالح الكاظم عليه السلام، أنّه قال:

الرجل يدلّ(2) الرجل على السلعة فيقول: اشترها ولي نصفها، فيشتريها الرجل و ينقد من ماله، قال: «له نصف الربح» قلت: فإن وضع يلحقه من الوضيعة شيء؟ قال: «عليه من الوضيعة كما أخذ من الربح»(3).7.

ص: 321


1- التهذيب 822/186:7.
2- في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «يدخل» بدل «يدلّ». و المثبت كما في المصدر.
3- الفقيه 139:3-612/140، التهذيب 824/187:7.

ص: 322

الفصل الثاني: في أركان الشركة

اشارة

و هي ثلاثة:

الركن الأوّل: المتعاقدان.
اشارة

و يشترط في كلٍّ منهما البلوغ و العقل و الاختيار و القصد و جواز التصرّف. و الضابط: أهليّة التوكّل و التوكيل؛ لأنّ كلّ واحدٍ من الشريكين متصرّف في جميع المال، أمّا فيما يخصّه: فبحقّ الملك، و أمّا في مال غيره: فبحقّ الإذن من ذلك الغير، فهو وكيل عن صاحبه و موكّل لصاحبه بالتصرّف في ماله، فلا تصحّ وكالة الصبي؛ لعدم اعتبار عبارته في نظر الشرع، و لا المجنون؛ لذلك، و لا السفيه و لا المكره و لا الساهي و الغافل و النائم، و لا المفلس المحجور عليه؛ لأنّه ممنوع من جهة الشرع من التصرّف في أمواله.

و لا فرق بين أن يأذن مَنْ له الولاية عليهم في ذلك أو لا، إلّا المفلس، فإنّه إذا أذن له الحاكم في التوكيل أو التوكّل جاز، و كذا السفيه.

مسألة 145: يكره مشاركة المسلم لأهل الذمّة من اليهود و النصارى و المجوس و غير أهل الذمّة من سائر أصناف الكفّار

عند علمائنا - و به قال الشافعي(1) - لما رواه العامّة عن عبد اللّه بن عباس أنّه قال: أكره أن يشارك المسلم اليهودي(2) ، و لم يُعرف له مخالف في الصحابة.

و من طريق الخاصّة: ما رواه ابن رئاب - في الصحيح - عن

ص: 323


1- الإشراف على مذاهب أهل العلم 49/67:1، بحر المذهب 120:8، المهذّب - للشيرازي - 352:1،، الوسيط 265:3، حلية العلماء 92:5، البيان 327:6، العزيز شرح الوجيز 186:5، روضة الطالبين 510:3، المغني و الشرح الكبير 110:5.
2- بحر المذهب 120:8، البيان 327:6، المغني و الشرح الكبير 110:5.

الصادق عليه السلام قال: «لا ينبغي للرجل المسلم أن يشارك الذمّي و لا يبضعه بضاعة و لا يودعه وديعة و لا يصافيه المودّة»(1).

و لأنّ أموال اليهود و النصارى ليست بطيبةٍ؛ فإنّهم يبيعون الخمور و يتعاملون بالربا، فكرهت معاملتهم.

و قال الحسن البصري و الثوري و أحمد بن حنبل: لا بأس بمشاركة اليهودي و النصراني، و لكن لا يخلو اليهودي و النصراني بالمال دونه [و] يكون هو الذي يليه؛ لما رواه العامّة عن عطاء قال: نهى رسول اللّه صلى الله عليه و آله عن مشاركة اليهودي و النصراني، إلّا أن يكون الشراء و البيع بيد المسلم(2).

و من طريق الخاصّة: ما رواه السكوني عن الصادق عليه السلام: إنّ أمير المؤمنين عليه السلام كره مشاركة اليهودي و النصراني و المجوسي إلّا أن تكون تجارة حاضرة لا يغيب عنها(3).

و لأنّ العلّة في كراهة ما خلوا به معاملتهم بالربا و بيع الخمر و الخنزير، و هذا منتفٍ فيما حضره المسلمون أو تولّوه بأنفسهم(4).

و الخبران ممنوعان بضعف السند، مع أنّا نقول بموجبهما، و هو أن يكون المال أصله من المسلم بأن يبيعه في ذمّته و يعامل به بالوكالة من غير أن يباشر الكافر التصرّفَ، أمّا إذا كان للكافر مال، فإنّ المعنى الذي استخرجوه في المنع ثابت فيه؛ لأنّ أصل أموالهم من التصرّفات المحرَّمة.

و الذي احتجّوا به - من كون النبيّ صلى الله عليه و آله قد عاملهم، و رهن درعه عند5.

ص: 324


1- الكافي 286:5 (باب مشاركة الذمّي) ح 1، الفقيه 638/145:3، التهذيب 7: 815/185.
2- المغني و الشرح الكبير 110:5.
3- الكافي 286:5 (باب مشاركة الذمّي) ح 2، التهذيب 816/185:7.
4- بحر المذهب 120:8، حلية العلماء 93:5، البيان 327:6، المغني 109:5-110، الشرح الكبير 110:5.

يهوديٍّ على شعيرٍ أخذه لأهله(1) ، و أرسل إلى آخَر يطلب منه قرضاً إلى الميسرة(2) ، و أضافه يهوديٌّ(3) ، و النبيّ صلى الله عليه و آله لا يأكل ما ليس بطيبٍ(4) - لا حجّة فيه؛ لجواز أن يكون عليه السلام علم الطيب في ذلك خاصّةً، و هذا المعنى غير ثابتٍ في حقّ غيره.

مسألة 146: لو شاركه المسلم فَعَل مكروهاً، فإذا اشترى شيئاً بمال الشركة كان على أصل الإباحة مع جهالة المسلم بالحال أو علمه بالحلال،

أمّا لو علم أنّه اشترى به أو عامل في الحرام كالربا و بيع المحرَّمات، فإنّه يقع فاسداً، و على الذمّي الضمان؛ لأنّ عقد الوكيل يقع عندنا للموكّل، و المسلم لا يثبت ملكه على الخمر و الخنزير، فأشبه ما لو اشتراه المسلم نفسه، و أمّا ما خفي أمره و لم يعلم حاله فالأصل إباحته و حلّه.

و أمّا المجوس فحكمهم حكم أهل الذمّة في كراهة مشاركتهم.

و قال أحمد: يكره معاملة المجوس و مشاركتهم - و إن نفى كراهة مشاركة أهل الذمّة - لأن المجوس يستحلّون ما لا يستحلّه الذمّي(5).

و لا خلاف في أنّه لو عامل المسلم أحد هؤلاء أو شاركهم فإنّه يكون تصرّفاً صحيحاً؛ للأصل.

إذا عرفت هذا، فليس بعيداً من الصواب كراهة مشاركة مَنْ لا يتوقّى المحرَّمات - كالربا و شراء الخمور - من المسلمين أيضاً؛ لوجود المقتضي

ص: 325


1- صحيح البخاري 186:3، سنن ابن ماجة 2437/815:2، سنن البيهقي 36:6، مسند أحمد 3399/596:1، و 11952/591:3.
2- سنن الترمذي 1213/518:3، سنن النسائي 294:7، سنن البيهقي 25:6، مسند أحمد 13147/130:4.
3- مسند أحمد 12789/75:4.
4- المغني و الشرح الكبير 110:5.
5- المغني 109:5 و 110-111، الشرح الكبير 110:5 و 111.

في أهل الذمّة فيهم.

الركن الثاني: الصيغة.
اشارة

قد بيّنّا أنّ الأصل عصمة الأموال على أربابها و حفظها لهم، فلا يصحّ التصرّف فيها إلّا بإذنهم، و إنّما يُعلم الرضا و الإذن باللفظ الدالّ عليه، فاشتُرط اللفظ الدالّ على الإذن في التصرّف و التجارة، فإن أذن كلّ واحدٍ منهما لصاحبه صريحاً فلا خلاف في صحّته.

و لو قال كلٌّ منهما: اشتركنا، و اقتصرا عليه مع قصدهما الشركة بذلك، فالأقرب: الاكتفاء به في تسلّطهما على التصرّف به من الجانبين؛ لفهم المقصود عرفاً، و هو أظهر وجهي الشافعيّة، و به قال أبو حنيفة.

و الثاني: إنّه لا يكفي؛ لقصور اللفظ عن الإذن، و احتمال قصد الإخبار عن حصول الشركة في المال عن غير الاختيار بأن يمتزج المالان بغير رضاهما، و لا يلزم من حصول الشركة جواز التصرّف، فإنّهما لو ورثا مالاً أو اشترياه صفقةً واحدة فإنّهما يملكانه بالشركة، و ليس لأحدهما أن يتصرّف فيه إلّا بإذن صاحبه، و به قال أكثر الشافعيّة(1).

و لو أذن أحدهما لصاحبه في التصرّف في جميع المال و لم يأذن الآخَر، تصرّف المأذون في الجميع، و ليس للآخَر أن يتصرّف إلّا في نصيبه مشاعاً.

و كذا لو أذن لصاحبه في التصرّف في الجميع و قال: أنا لا أتصرّف إلّا في نصيبي.

مسألة 147: الشركة قد تقع بالاختيار، و قد تقع بالإجبار،
اشارة

كما تقدّم، و كلامنا في الشركة المستندة إلى الاختيار، و هي قد تحصل بمزج المالين

ص: 326


1- الوسيط 265:3، العزيز شرح الوجيز 187:5، روضة الطالبين 510:3.

بالاختيار من غير لفظٍ، فلو امتزج المالان برضاهما حصلت الشركة الاختياريّة و إن لم يكن هناك لفظ، و أمّا التصرّف و الإذن فيه و المنع منه فذاك حكم زائد على مفهوم الشركة.

و لو شرط أحدهما على الآخَر أن لا يتصرّف إلّا في نصيبه، لم يصح العقد؛ لما فيه من الحجر على المالك في ملكه.

ثمّ الإذن قد يكون عامّاً بينهما بأن يأذن كلٌّ منهما لصاحبه في التصرّف في جميع المال و التجارة به في جميع الأجناس أو فيما شاء منهما.

و قد يكون خاصّاً، كما لو أذن كلٌّ منهما لصاحبه في التجارة في جنسٍ واحد أو في بلدٍ واحد بعينه، فلا يجوز لأحدهما التخطّي إلى غيره، إلّا إذا استلزمه عرفاً.

و قد يكون عامّاً لأحدهما و خاصّاً للآخَر، فلمن عمّم الإذن له التصرّفُ فيما شاء، و أمّا الآخَر فلا يجوز له أن يتعدّى المأذون.

و لا خلاف في ذلك كلّه، إلّا في صورة التعميم منهما أو من أحدهما، فإنّ للشافعيّة وجهاً ضعيفاً فيه: إنّه لا يجوز الإطلاق، بل لا بدّ من التعيين(1).

تذنيب: لو استعملا لفظ المفاوضة و قصدا شركة العنان، جاز

- و به قال الشافعي(2) - لأنّ الكناية هنا معتبرة كالصريح.

الركن الثالث: المال.
مسألة 148: يشترط في المال المعقود عليه الشركة أن يكون متساويي الجنس

بحيث لو مزجا ارتفع الامتياز بينهما و حصل الاشتباه بينهما، سواء

ص: 327


1- العزيز شرح الوجيز 187:5، روضة الطالبين 510:3.
2- العزيز شرح الوجيز 192:5، روضة الطالبين 512:3-513.

كان المال من الأثمان أو العروض، كما لو مزجا ذهباً بذهبٍ مثله أو فضّةً بمثلها أو حنطةً بمثلها أو دخناً بمثله، إلى غير ذلك ممّا يرتفع فيه المائز بينهما.

و لا خلاف في أنّه يجوز جَعْل رأس المال الدراهم و الدنانير؛ لأنّهما أثمان الأموال و البياعات، و لم يزل الناس يشتركون فيهما من زمن النبيّ صلى الله عليه و آله إلى وقتنا هذا من غير أن يُنكره أحد في صُقْعٍ من الأصقاع أو عصرٍ من الأعصار، فكان إجماعاً.

و أمّا العروض فعندنا تجوز الشركة فيها مع الشرط المذكور، سواء كانت من ذوات الأمثال أو من ذوات القِيَم - و به قال مالك(1) - لأنّ الغرض من الشركة أن يملك أحدهما نصفَ مال الآخَر، و تكون أيديهما عليه، و هذا موجود في العروض، فصحّت الشركة فيها.

و كره ابن سيرين و يحيى بن أبي كثير و الثوري و الشافعي و إسحاق و أبو ثور و أصحاب الرأي الشركةَ في العروض، و مَنَع الشافعي و أبو حنيفة من الشركة في العروض التي ليست من ذوات الأمثال؛ لأنّ الشركة لا تخلو إمّا أن تكون واقعةً على الأعيان أو أثمانها أو قيمتها.

و الأوّل باطل؛ لأنّ الشركة توجب أن لا يتميّز مال أحدهما عن الآخَر، و أن يرجع عند المفاصلة(2) إلى رأس المال و لا [مثل](3) لهما فيرجعر.

ص: 328


1- المدوّنة الكبرى 54:5، الإشراف على نكت مسائل الخلاف 1019/603:2، بداية المجتهد 252:2، التفريع 205:2، الذخيرة 43:8، عيون المجالس 1181/1675:4، المعونة 1144:2، بحر المذهب 122:8، حلية العلماء 93:5، البيان 328:6، المغني 125:5، الشرح الكبير 112:5، تحفة الفقهاء 6:3، بدائع الصنائع 59:6، مختصر اختلاف العلماء 1664/5:4، المبسوط - للسرخسي - 160:11، الهداية - للمرغيناني - 6:3.
2- أي: عند فصل الشركة.
3- بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «مال». و ما أثبتناه من بعض المصادر.

إليه، و قد تزيد قيمة جنس أحدهما دون الآخَر فيستوعب بذلك جميع الربح، أو تنقص قيمته فيؤدّي ذلك إلى أن [يشاركه](1) الآخَر في ثمن ملكه الذي ليس بربحٍ [و أنّ ما يتلف](2) من مال الشركة يختصّ به أحدهما، و هو مالك العين، فيبطل الرجوع إلى أعيانهما.

و الثاني - و هو أن تكون الشركة واقعةً على أثمانها - فهو باطل أيضاً؛ لأنّ الأثمان معدومة حال العقد و لا يملكانها، و لأنّه إن أراد ثمنها الذي اشتراها به فقد خرج عن ملكه، و إن أراد ثمنها الذي يبيعها به فهو باطل أيضاً؛ لأنّ ذلك يكون مضاربةً معلّقةً بشرطٍ، و هو بيع الأعيان، و يكون أيضاً عقد الشركة على ما لا يملكانه حال العقد، و يكون أيضاً عقد الشركة قد وقع على مالٍ مجهول.

و الثالث - و هو أن تكون الشركة واقعةً على القيمة - فإنّه باطل أيضاً؛ لأنّ القيمة ليست ملكهما، و هي مجهولة أيضاً، و لأنّ القيمة قد تزيد في أحدهما قبل بيعه، فيشاركه الآخَر في ثمن العين التي هي ملكه(3).

و هو غلط؛ فإنّا نقول: الشركة تقع في الأعيان، و الرجوع في1.

ص: 329


1- بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «يشارك». و الظاهر ما أثبتناه كما في بعض المصادر.
2- بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطيّة و الحجريّة: «و إن تلف». و الظاهر ما أثبتناه من بحر المذهب.
3- الإشراف على مذاهب أهل العلم 43/63:1، الحاوي الكبير 473:6-474، المهذّب - للشيرازي - 352:1، بحر المذهب 122:8، حلية العلماء 93:5، التهذيب - للبغوي - 197:4، البيان 327:6-328، العزيز شرح الوجيز 88:5 و 190، روضة الطالبين 511:3، الإشراف على نكت مسائل الخلاف 1019/603:2، المغني 124:5-125، الشرح الكبير 112:5 و 113، روضة القُضاة 3350/567:2، المبسوط - للسرخسي - 160:11.

المفاصلة كالرجوع عند الامتزاج بغير الاختيار.

مسألة 149: و تجوز الشركة في العروض التي هي من ذوات الأمثال،
اشارة

عند علمائنا، و به قال مالك(1).

و للشافعي قولان - و عن أحمد روايتان(2) -:

أحدهما مثل ما قلناه؛ لما تقدّم(3).

و الثاني: المنع؛ فإنّه لا تصحّ الشركة إلّا على أحد النقدين، كالمضاربة(4).

و هو غلط؛ لأنّ هذا مالٌ له مثلٌ، فصحّ عقد الشركة عليه إذا لم يتميّز، كالنقود، و لأنّ هذا يؤمن فيه المعاني السابقة المانعة من الشركة فيما لا مثل له؛ لأنّه متى تغيّرت قيمة أحدهما تغيّرت قيمة الآخَر، بخلاف المضاربة؛ لأنّه ربما زادت قيمة جنس رأس المال، فانفرد ربّ المال بجميع الربح، و لأنّ حقّ العامل محصور في الربح، فلا بدّ من تحصيل رأس المال ليوزّع الربح، و في الشركة لا حاجة إليه، بل كلّ المال يُوزّع عليهما على قدر ماليهما.

تذنيب: إذا اشتركا فيما لا مثل له كالثياب، و حصل المزج الرافع للامتياز، تحقّقت الشركة،

و كان المال بينهما، فإن عُلمت قيمة كلّ واحدٍ منهما، كان الرجوع إلى نسبة تلك القيمة، و إلّا تساويا؛ عملاً بأصالة التساوي.

ص: 330


1- راجع الهامش (1) من ص 328.
2- المغني 124:5 و 125، الشرح الكبير 112:5.
3- في المسألة السابقة.
4- المهذّب - للشيرازي - 352:1، بحر المذهب 124:8-125، حلية العلماء 93:5-94، التهذيب - للبغوي - 197:4-198، البيان 328:6، العزيز شرح الوجيز 188:5، روضة الطالبين 511:3، روضة القُضاة 3349/566:2.

و قال مالك: يكون رأس المال ثمنهما(1).

و ليس بمعتمدٍ.

مسألة 150: لا تصحّ الشركة إلّا بمزج المالين و عدم الامتياز بينهما،

عند علمائنا، و به قال زفر(2) ، فالخلطة شرط في صحّة الشركة، و متى لم يخلطاه لم تصحّ، و به قال الشافعي(3) ، حتى لو تلف مال أحدهما لم يكن له نصيب في ربح مال الآخَر؛ لأنّ مال كلّ واحدٍ منهما يتلف منه دون صاحبه، فلم تنعقد الشركة عليه، كما لو كان من المكيل.

و قال أبو حنيفة: ليس من شرط الشركة خلطُ المالين، بل متى أخرجا المالين و إن لم يمزجاه و قالا: قد اشتركنا، انعقدت الشركة؛ لأنّ الشركة إنّما هي عقد على التصرّف، فلا يكون من شرطها الخلطة، كالوكالة(4).

ص: 331


1- الإشراف على نكت مسائل الخلاف 1019/603:2، بحر المذهب 122:8، حلية العلماء 93:5، البيان 328:6.
2- تحفة الفقهاء 6:3، بدائع الصنائع 60:6، الاختيار لتعليل المختار 21:3، المبسوط - للسرخسي - 152:11، المحيط البرهاني 7:6، مختصر اختلاف العلماء 1665/6:4، الهداية - للمرغيناني - 9:3.
3- الإشراف على مذاهب أهل العلم 37/61:1، الحاوي الكبير 473:6 و 481-482، المهذّب - للشيرازي - 352:1، بحر المذهب 130:8، الوسيط 261:3، حلية العلماء 94:5، التهذيب - للبغوي - 196:4، البيان 331:6، العزيز شرح الوجيز 188:5، روضة الطالبين 511:3، الإشراف على نكت مسائل الخلاف 1020/604:2، بداية المجتهد 253:2، عيون المجالس 1182/1678:4، بدائع الصنائع 60:6، روضة القُضاة 3352/567:2، المبسوط - للسرخسي - 152:11، مختصر اختلاف العلماء 1665/7:4، الهداية - للمرغيناني - 9:3، المغني 128:5، الشرح الكبير 117:5.
4- تحفة الفقهاء 6:3، بدائع الصنائع 60:6، الاختيار لتعليل المختار 20:3-21، روضة القُضاة 3351/567:2، فتاوى قاضيخان - بهامش الفتاوى الهنديّة - 613:3، الفقه النافع 716/993:3، المبسوط - للسرخسي - 152:11، المحيط البرهاني 7:6، مختصر اختلاف العلماء 1665/6:4، الهداية - للمرغيناني - 9:3، الحاوي الكبير 482:6، بحر المذهب 130:8، حلية العلماء 94:5، التهذيب - للبغوي - 197:4، البيان 331:6، الإشراف على نكت مسائل الخلاف 1020/603:2، بداية المجتهد 253:2، عيون المجالس 1182/1678:4، المغني 128:5، الشرح الكبير 117:5.

و الفرق ظاهر؛ فإنّ الوكالة ليس من شرطها أن يكون من جهة الوكيل مالٌ، بخلاف الشركة.

و قال مالك: ليس من شرط الشركة الخلطةُ و المزجُ، بل من شرطها أن تكون يدهما على المالين أو يد وكيلهما بأن يجعل في حانوتٍ لهما أو في يد وكيلهما دون الخلط؛ لأنّ أيديهما على المال، فصحّت الشركة، كما لو خلطاه(1).

و الفرق: إنّ المال بالخلط يصير مشتركاً، فيوجد فيه الاشتراك، بخلاف ما إذا لم يمتزجا.

مسألة 151: قد بيّنّا أنّه لا تصحّ الشركة إلّا مع المزج الرافع للامتياز،

فلو أخرج أحد الشريكين دنانير و الآخَر دراهم لم تنعقد الشركة و إن خلطاهما؛ للامتياز بينهما حالة المزج، و لو تلف أحدهما قبل التصرّف تلف من صاحبه، و تعذّر إثبات الشركة في الباقي، و به قال الشافعي(2) ، و قد سبق

ص: 332


1- الإشراف على نكت مسائل الخلاف 1020/603:2، بداية المجتهد 253:2، عيون المجالس 1182/1678:4، مختصر اختلاف العلماء 1665/6:4، بحر المذهب 130:8، حلية العلماء 95:5، البيان 331:6، المغني 128:5، الشرح الكبير 117:5.
2- الإشراف على مذاهب أهل العلم 42/63:1، الحاوي الكبير 481:6، المهذّب - للشيرازي - 352:1، بحر المذهب 123:8 و 130، التهذيب - للبغوي - 196:4-197، البيان 330:6، العزيز شرح الوجيز 188:5-189، روضة الطالبين 511:3، روضة القُضاة 3353/567:2، المبسوط - للسرخسي - 152:11-153، المحيط البرهاني 7:6، المغني 127:5، الشرح الكبير 118:5، الإفصاح عن معاني الصحاح 3:2-4.

دليله.

و قال أبو حنيفة: تنعقد الشركة؛ لأنّهما يجريان مجرى الجنس الواحد؛ لأنّهما قِيَم المتلفات و أُروش الجنايات، و لأنّه لا يوجب المزج، بل نقول: تنعقد الشركة بالقول و إن لم يخلطا المالين بأن يُعيّنا المال و يُحضراه و يقولا: قد تشاركنا في ذلك(1).

و هو غلط؛ لأنّهما مالان لا يختلطان، و هُما متميّزان، فلا يصحّ عقد الشركة عليهما كالعروض.

و ما ذكروه فليس بصحيحٍ؛ لأنّهما يجريان في حكم الربا مجرى الجنسين عند جماعةٍ، و لأنّ الاعتبار بما ذكرناه، دون الجنس الواحد.

و أحمد وافق أبا حنيفة في عدم اشتراط اتّفاق الجنسين، بل يجوز أن يُخرج أحدهما دنانير و الآخَر دراهم، و هو منقول عن الحسن و ابن سيرين(2).

مسألة 152: و لا بدّ مع اتّفاق الجنس من اتّفاق الأوصاف

بحيث لا يتميّز أحدهما عن الآخَر، فلو تميّز مال أحدهما من مال الآخَر و أمكن تخليصه منه بعينه بعد المزج، لم تصح الشركة، بأن تختلف السكّة أو يُخرج أحدهما صحاحاً و الآخَر مكسَّرةً، أو أحدهما مستويةً و الآخَر معوجةً، أو أخرج أحدهما دراهم عتيقة أو سُوداً و الآخَر حديثةً أو بيضاء؛

ص: 333


1- الفقه النافع 715/993:3، الحاوي الكبير 481:6، بحر المذهب 123:8، البيان 330:6، الإفصاح عن معاني الصحاح 3:2، و راجع الهامش (4) من ص 331.
2- المغني 127:5، الشرح الكبير 118:5، الإشراف على مذاهب أهل العلم 62:1-42/63.

لعدم حصول شرط الصحّة، و هو الاشتباه بعد المزج.

و قد وافقنا الشافعي في الصحاح و المكسَّرة(1).

و لأصحابه في السوداء و البيضاء قول بالجواز مع اختلافهما بالأمرين(2).

و قد بيّنّا جواز الشركة في العروض.

و للشافعي في ذوات الأمثال قولان(3)الوسيط 261:3، العزيز شرح الوجيز 189:5، روضة الطالبين 508:3.(4).

فعلى الجواز يشترط اتّفاق المالين في الجنس و الوصف، فلو مزج الحنطة الحمراء بالبيضاء، لم تصح الشركة؛ لإمكان التمييز و إن شقّ و عسر التخليص.

و قال بعض الشافعيّة: تصحّ الشركة هنا؛ لأنّ الناس يعدّون ذلك خلطاً(4).

و هو ممنوع إن أراد المزج الرافع للتمييز و عدم اعتبار غيره.

مسألة 153: لا يشترط تقدّم

مسألة 153: لا يشترط تقدّم(5) العقد على الخلط،

بل لو مزجا المالين ثمّ أذن كلٌّ منهما في التصرّف و عقدا الشركةَ صحّت المشاركة بينهما، سواء وقع الإذن في مجلس المزج أو في غيره - و هو أحد وجوه الشافعي - لأنّ الشركة في الحقيقة توكيل و توكّل، و لو حصل ذلك بعد المزج صحّ فكذا هنا.

ص: 334


1- الحاوي الكبير 481:6، المهذّب - للشيرازي - 352:1، بحر المذهب 130:8، التهذيب - للبغوي - 196:4-197، البيان 330:6، العزيز شرح الوجيز 189:5، روضة الطالبين 511:3، منهاج الطالبين: 132، روضة القُضاة 3353/567:2.
2- العزيز شرح الوجيز 189:5.
3- راجع الهامش
4- من ص 330.
5- في «ث، ر، خ»: «تقديم».

و لو وجد التوكيل و المِلْكان متميَّزان ثمّ فُرض الاختلاط، لم تنقطع الوكالة.

نعم، لو قيّد الإذن بالتصرّف في المال الفرد(1) ، فلا بدّ من تجديد الإذن.

و الوجه الثاني له: المنع - و هو الأظهر عندهم - إذ لا اشتراك عند العقد.

و الثالث: إنّه يجوز إن وقع المزج في مجلس العقد؛ لأنّ المجلس كنفس العقد، فإن تأخّر لم يجز(2).

و لو ورثا عروضاً أو اشترياها، فقد مَلَكاها شائعةً، و ذلك أبلغ من الخلط، بل الخلط إنّما اكتفي به لإفادته الشيوع، فإذا انضمّ إليه الإذن في التصرّف صحّ و تمّ العقد.

مسألة 154: إذا أراد الشريكان الشركةَ في الأعيان المختلفة الجنس، باع كلٌّ منهما نصفَ العين التي له بنصف العين التي لصاحبه،

أو نقلها إليه بوجهٍ آخَر شرعيّ، ثمّ يأذن كلٌّ منهما لصاحبه في التصرّف، فيصيرا شريكين.

و إنّما احتاج إلى الإذن؛ لأنّ عقد البيع الذي حصل بينهما لا يفيد الإذنَ في التصرّف.

و كذا تتحقّق الشركة بينهما لو اشتريا معاً سلعةً من ثالثٍ بثمنٍ عليهما، فيدفع كلّ واحدٍ منهما العينَ التي في يده عوضاً عمّا يخصّه من الثمن، فيكون كلّ واحدٍ منهما شريكاً في العين، ثمّ يأذن كلّ واحدٍ منهما لصاحبه في التصرّف.

ص: 335


1- الظاهر: «المفرد».
2- العزيز شرح الوجيز 189:5، روضة الطالبين 508:3.

و قال بعض الشافعيّة: إنّه يصير العرضان مشتركين و يملكان التصرّف بحكم الإذن، إلّا أنّه لا تثبت أحكام الشركة في الثمن حتى يستأنفا عقداً و هو ناضٌّ(1).

و جمهور الشافعيّة قائلون بثبوت الشركة و أحكامها على الإطلاق(2).

و لو لم يتبايعا العرضين و لكن باعاهما بعرضٍ أو نقدٍ، ففي صحّة البيع للشافعيّة قولان(3).

و نحن اخترنا الصحّة على ما تقدّم، فيكون الثمن مشتركاً بينهما إمّا على التساوي أو التفاوت بحسب قيمة العرضين، فيأذن كلّ واحدٍ منهما للآخَر في التصرّف.

مسألة 155: لا يشترط في الشركة تساوي المالين في القدر،

بل يجوز أن يكون مال أحدهما أكثر من مال الآخَر - و به قال الحسن و الشعبي و أحمد و إسحاق و أصحاب الرأي، و هو أحد قولَي الشافعيّة(1) - لأنّهما مالان إذا خلطا اختلطا، فجاز عقد الشركة عليهما، كما لو كانا سواءً.

و قال بعض الشافعيّة: لا تجوز الشركة حتى يستوي المالان في القدر؛ لأنّ الشافعي شرط أن يُخرج أحدهما مثل ما يُخرج الآخَر، و لأنّ الربح يحصل بالمال و العمل، و لا يجوز أن يختلف الربح بينهما مع استوائهما في المال، فكذا أيضاً لا يجوز أن يختلفا في الربح مع استوائهما

ص: 336


1- المغني 127:5، الشرح الكبير 118:5، الاختيار لتعليل المختار 22:3، بدائع الصنائع 62:6، فتاوى قاضيخان - بهامش الفتاوى الهنديّة - 613:3، الفقه النافع 714/992:3، المبسوط - للسرخسي - 151:11-152، المحيط البرهاني 32:6، الهداية - للمرغيناني - 7:3، الإفصاح عن معاني الصحاح 3:2 و 4، الحاوي الكبير 477:6، المهذّب - للشيرازي - 353:1، بحر المذهب 130:8، الوسيط 264:3، حلية العلماء 95:5، التهذيب - للبغوي - 197:4، البيان 331:6، العزيز شرح الوجيز 189:5-190، روضة الطالبين 508:3-509.

في العمل، فإذا اختلف المالان اختلف الربحان مع التساوي في العمل(1).

و نمنع وجوب تساوي الربح مع تساويهما في المال إذا شرطا الاختلافَ على ما يأتي، و لأنّ العمل لا يشبه المال، و الأصل في هذه الشركة المال، و العمل يتبع فيه، فلهذا جاز أن يختلف معه الربح، يدلّ على صحّة هذا أنّه يجوز أن يعمل أحدهما أكثر من الآخَر و يقتسما الربح، و كذلك إذا شرط أحدهما عمل الآخَر و الربح بينهما، فاختلفا.

مسألة 156: لا يشترط العلم حالة العقد بمقدار النصيبين

بأن يعرف هل مال كلّ واحدٍ منهما مساوٍ لمال الآخَر أو أقلّ أو أكثر؟ و هل هو ثُلثه أو ربعه أو غير ذلك من النِّسَب ؟ و لا مقدار ماله كم هو؟ - و هو أظهر وجهي الشافعيّة(2) - إذا أمكن معرفته من بَعْدُ؛ لأنّ الحقّ لا يعدوهما، فيأذن كلّ واحدٍ منهما لصاحبه في التصرّف و إن جهل مقدار ما أذن له فيه.

و في الوجه الثاني: لا يجوز حتى يعلم كلٌّ منهما نسبة ماله من مال الآخَر، فلا يصحّ في المجهول و لا الجزاف؛ لأنّه لا يدري في أيّ شيءٍ أذن، و المأذون لا يدري ما ذا يستفيد بالإذن(3).

و الوجه: ما قلناه، فحينئذٍ تكون الأثمان بينهما مشتركةً مجهولةً على الإبهام، كالمثمنات.

مسألة 157: لو أخرج أحد الشريكين دراهم و أخرج الآخَر دنانير، لم تصح الشركة

على ما قدّمناه من وجوب التساوي في المالين في الجنس.

فإن اشتريا بعين الدراهم و الدنانير عبداً أو ثوباً و ربحا فيه، كان الثوب

ص: 337


1- الحاوي الكبير 477:6، المهذّب - للشيرازي - 352:1، بحر المذهب 130:8، الوسيط 264:3، حلية العلماء 95:5، البيان 331:6، العزيز شرح الوجيز 190:5، روضة الطالبين 509:3، الإفصاح عن معاني الصحاح 4:2، المغني 127:5، الشرح الكبير 118:5. (2 و 3) الوسيط 264:3، العزيز شرح الوجيز 190:5، روضة الطالبين 509:3.

بينهما و الربح بينهما، فإذا أرادا القسمة، نظرا إلى نقد البلد، فقوّما الثوبَ به ثمّ قوّما مالَ الآخَر به، و يكون التقويم حين صرف الثمن فيه، فإن كان مالهما متساوياً تساويا في الثمن و الربح، و إن تفاضلا كان بينهما على النسبة.

و للشافعيّة في صحّة هذا الشراء قولان، كما لو باعا عبديهما صفقةً واحدة؛ لأنّ الثمن إذا كان معيّناً كان بمنزلة المبيع(1).

مسألة 158: يجوز أن يكون المال سبائك و تِبْراً و حُليّاً و غير ذلك من المصوغات من النقدين،
اشارة

و هو ظاهرٌ على مذهبنا حيث جوّزنا الشركةَ في جميع الأموال.

و أمّا المانعون من الشركة في غير النقدين اختلفوا، فأكثر الشافعيّة على المنع من الشركة فيها؛ لأنّ قيمتها تزيد و تنقص، فهي كالعروض(2).

و الأصل فيه: إنّ التِّبْر هل هو متقوّمٌ أو مثليٌّ؟ فإن جُعل متقوّماً لم تجز الشركة عليه كغيره من الأعيان، و إلّا ففيه قولان، كالقولين في المثليّات من الأعواض(3).

و أمّا الدراهم المغشوشة: فعندنا تجوز الشركة فيها، قلّ الغشّ أو كثر.

و للشافعيّة قولان مبنيّان على جواز التعامل بها، إن جوّزنا التعامل فقد ألحقنا المغشوشَ بالخالص(4).

و قال بعضهم: إذا استمرّ رواجها في البلد، جازت الشركة فيها(5).

و قال أبو حنيفة: إن كان الغشّ أقلَّ من النصف جازت الشركة فيها،

ص: 338


1- حلية العلماء 109:5.
2- التهذيب - للبغوي - 196:4، العزيز شرح الوجيز 188:5، روضة الطالبين 511:3.
3- العزيز شرح الوجيز 188:5، روضة الطالبين 511:3.
4- العزيز شرح الوجيز 188:5، روضة الطالبين 511:3.
5- العزيز شرح الوجيز 188:5، روضة الطالبين 511:3.

و إن كان أكثر لم تجز؛ لأنّ الاعتبار بالغالب في كثيرٍ من الأُصول(1).

و أمّا الفلوس: فإنّها إذا حصل فيها الاشتباه و ارتفاع الامتياز مع المزج صحّت الشركة بها - و به قال مالك و محمّد بن الحسن و أبو ثور و أحمد في إحدى الروايتين(2) - لأنّها قد تقع أثماناً في العادة، فجازت الشركة فيها، كالدراهم.

و قال أبو حنيفة و الشافعي و أحمد في الرواية الأُخرى: لا تجوز؛ لأنّها تنقص مرّةً و تكثر أُخرى، فأشبهت العروض(3).

إذا ثبت هذا، فإذا صحّت الشركة فيها، فإن كانت باقيةً كان رأس المال مثلها، و إن سقطت كانت قيمتها كالعروض.

و إن(2) كان لهما ثوبان و اشتبها عليهما، لم يكن ذلك كافياً في عقد الشركة؛ لأنّ المالين متميَّزان، و إنّما التبس الأمر بينهما.

تذنيب: المثليّات قد تتفاوت قيمتها، فيقسّط الثمن و الربح على القيمتين،

كما لو كان لأحدهما كُرّ حنطةٍ قيمته عشرون، و للآخَر كُرّ حنطةٍ قيمته عشرة، فهُما شريكان بالثلث و الثلثين.

مسألة 159: قد بيّنّا أنّ شركة الوجوه عندنا باطلة

حيث لا مال هناك تتحقّق فيه الشركة، و يرجعان إليه عند المفاصلة. ثمّ ما يشتريه أحدهما يختصّ بربحه و خسرانه لا يشاركه الآخَر فيه، إلّا أن يكون قد أذن له في الشراء عنه و يقصد المشتري موكّله، و به قال الشافعي(3).

ص: 339


1- المغني 126:5، الشرح الكبير 113:5. (2 و 3) المغني 126:5، الشرح الكبير 114:5، المبسوط - للسرخسي - 160:11، المحيط البرهاني 6:6، فتاوى قاضيخان - بهامش الفتاوى الهنديّة - 612:3.
2- في النسخ الخطّيّة: «و لو» بدل «و إن».
3- الحاوي الكبير 478:6، المهذّب - للشيرازي - 353:1، بحر المذهب 128:8-129، التهذيب - للبغوي - 199:4، البيان 337:6، العزيز شرح الوجيز 192:5، روضة الطالبين 513:3.

و قال أبو حنيفة: يقع المشترى مشتركاً بمجرّد الشركة و إن لم يوجد قصدٌ من المشتري و لا إذنٌ من صاحبه(1). و قد سلف(2) بطلانه.

مسألة 160: قد بيّنّا توقّف تحقّق الشركة على مزج المالين،

فلو لم يحصل لم تتحقّق الشركة، فلا تصحّ في المال الغائب؛ لانتفاء المزج فيه، لتوقّفه على الحضور عند المالكين أو وكيلهما.

و لا تصحّ الشركة في الدَّيْن أيضاً؛ لعدم تحقّق هذا المعنى فيه.

و لا يكفي في المزج الاختلاطُ مع إمكان التخليص، كحبّاتٍ من الحنطة مع حبّات الشعير، و الدخن مع السمسم و إن شقّ التمييز بينهما، و كما لو مزج الصحيح من الدراهم بالقراضة أو السمسم ببذر الكتّان، أو اختلفت السكّة في بعض النقدين. و بالجملة، متى حصل المائز بين المالين انتفت الشركة.

و لو اشتركا بالأبدان، لم تصح على ما تقدّم(3) ، فإن تميّز عمل كلٍّ منهما من عمل صاحبه اختصّ كلّ واحدٍ منهما بأُجرة عمله.

و إن اشتبه، احتُمل تساويهما؛ لأصالته، و الصلحُ؛ إذ لكلّ واحدٍ منهما في المال حقٌّ لا يعلم قدره، و لا مخلص إلّا عقد الصلح.

مسألة 161: قد بيّنّا أنّ الشركة لا تصحّ إلّا بالمال الممتزج من الشريكين، و لا تصحّ بالأعمال.

إذا تقرّر هذا، فلو دفع واحد إلى رجلٍ دابّةً ليعمل عليها فما رزق اللّه تعالى كان بينهما بالسويّة أو أثلاثاً أو على ما يتّفقان عليه، لم يصح عند

ص: 340


1- العزيز شرح الوجيز 193:5.
2- في ص 332، ضمن المسألة 150.
3- في ص 312، المسألة 142.

علمائنا أجمع - و به قال الشافعي و أبو ثور و ابن المنذر و أصحاب الرأي(1) - لأنّ الحمل الذي يستحقّ به العوض حصل من الدابّة، فالأُجرة لصاحبها، و عليه للعامل أُجرة المثل؛ لأنّ هذا ليس من أقسام الشركة، و المضاربة بالأعواض غير صحيحةٍ.

فعلى هذا إن كان الأجر المدفوع للدابّة بعينها، فالأُجرة لمالكها.

و أمّا إن كان قد تقبّل حمل شيءٍ، فحمله عليها، أو حمل عليها شيئاً مباحاً فباعه، فالأُجرة له و الثمن له، و عليه أُجرة المثل للدابّة في الموضعين.

و نُقل عن الأوزاعي صحّة ذلك، و به قال أحمد - و كرهه الحسن و الشعبي(2)(3) - لأنّها عين تنمي بالعمل عليها، فصحّ العقد عليها، كالشجرة في المساقاة و الأرض في المزارعة و الدراهم و الدنانير، و هذه المعاملة و إن لم تكن شركةً و لا مضاربةً إلّا أنّها تشبه المساقاة و المزارعة؛ لأنّه دفع العين إلى مَنْ يعمل عليها ببعض نمائها مع بقاء عينها(4).

و هو غلط؛ لأنّ المساقاة و المزارعة خرجا عن الأصل بالنصّ، فلا يقاس عليهما غيرهما إلّا بدليلٍ.

مسألة 162: و لو استأجر دابّةً ليحمل عليها بنصف ما يرزقه اللّه تعالى، لم يصح

عند علمائنا و عند أكثر العامّة(5).

ص: 341


1- المغني 116:5، الشرح الكبير 191:5، الإشراف على مذاهب أهل العلم 125/103:1، المبسوط - للسرخسي - 219:11، فتاوى قاضيخان - بهامش الفتاوى الهنديّة - 625:3.
2- في المصادر: «النخعي» بدل «الشعبي».
3- الإشراف على مذاهب أهل العلم 125/103:1، المغني 116:5، الشرح الكبير 191:5.
4- المغني 116:5 و 117، الشرح الكبير 191:5 و 192.
5- المغني 117:5، الشرح الكبير 192:5.

و قال أحمد في روايةٍ: إنّه يصحّ(1).

و هو غلط؛ لأنّ من شرط الإجارة و صحّتها العلمَ بالعوض و تقدير المدّة أو العمل، و لو يوجد، و لأنّه عقد غير منصوصٍ عليه و لا هو في معنى المنصوص، فيكون كغيره من العقود الفاسدة.

و لو أعطى شخص فرسَه على النصف من الغنيمة، قال أحمد: أرجو أن لا يكون به بأس. و به قال الأوزاعي(2).

و الحقّ: إنّ السهم من الغنيمة له أو الأُجرة.

و كذا لو دفع عبده إلى غيره ليكتسب عليه و يكون له ثلث ذلك أو ربعه، فإنّه لا يصحّ عندنا، خلافاً له(3).

و كذا لا يصحّ لو دفع إلى رجلٍ ثوباً ليفصله و يخيطه قميصاً و يبيعه و له نصف الربح، و كذا لو دفع غزلاً إلى حائكٍ لينسجه بثلث ثمنه أو ربعه، فإنّ ذلك كلّه عندنا باطل، و به قال مالك و أبو حنيفة و الشافعى(4).

و قال أحمد: يصحّ ذلك كلّه(5).

و هو خطأ؛ لأنّه عوضٌ مجهول عن عملٍ مجهول.

و لو دفع إليه الثوب لينسجه و جعل له [مع](2) ذلك(3) دراهم معلومة،ه.

ص: 342


1- المغني 117:5، الشرح الكبير 192:5. (2-5) المغني 118:5، الشرح الكبير 193:5.
2- بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «ربع». و الصحيح ما أثبتناه من المغني و الشرح الكبير.
3- أي: ثلث الثمن أو ربعه.

قال أحمد: لا يجوز. [و عنه الجواز](1)(2).

و لو أعطاه الثوب بالثلث و درهم أو درهمين، فروايتان(3).

و جوّز ذلك ابن سيرين و النخعي و الزهري و أيّوب(4).

و قال ابن المنذر: كره هذا كلَّه الحسنُ(5).

و قال أبو ثور و أصحاب الرأي: هذا كلّه فاسد(6) - كما قلناه - و اختاره ابن المنذر(7).

و لو دفع شبكةً إلى الصيّاد ليصطاد بها على النصف أو غيره من الأجزاء المعلومة، لم يصح، و عليه أُجرة الشبكة، و الحاصل للصيّاد.

قال أصحاب أحمد: و قياس مذهب أحمد صحّة الشركة، فيكون الحاصل بينهما على ما شرطاه؛ لأنّها عين تنمي بالعمل فيها، فجاز دفعها ببعض نمائها، كالأرض(8).

مسألة 163: لو كان لواحدٍ دابّة و لآخَر راوية فتشاركا مع ثالثٍ ليستقي الماء و يكون الحاصل بينهم، فلا شركة هنا عندنا؛

لأنّها منافع أبدانٍ متميّزة، و شركة الأبدان باطلة، و لا يصحّ أن يكون مضاربةً؛ لأنّ رأس مالها العروض و العمل، و لأنّ من شرطها عود رأس المال سليماً على معنى أنّه لا يستحقّ شيئاً من الربح حتى يستوفي رأس المال بكماله، و الراوية هنا تخلق

ص: 343


1- ما بين المعقوفين أضفناه من المصادر.
2- الكافي في فقه الإمام أحمد 150:2، المغني 118:5، الشرح الكبير 193:5.
3- راجع المغني 118:5، و الشرح الكبير 193:5-194.
4- الإشراف على مذاهب أهل العلم 366/233:1، المغني 118:5-119، الشرح الكبير 194:5.
5- الإشراف على مذاهب أهل العلم 366/232:1، المغني 119:5، الشرح الكبير 194:5.
6- الإشراف على مذاهب أهل العلم 232:1-366/233، المغني 119:5، الشرح الكبير 194:5.
7- الإشراف على مذاهب أهل العلم 366/233:1، المغني 119:5.
8- المغني 119:5، الشرح الكبير 194:5.

و تنقص، و ليس ذلك أيضاً إجارةً؛ لافتقار الإجارة إلى مدّةٍ معيّنة و أُجرةٍ معلومة، فتكون فاسدةً.

إذا تقرّر هذا، فلو آجروا عليه و استقى الثالث، فنقول: إن كان الماء مملوكاً للسقّاء، فالثمن له، و عليه أُجرة المثل للدابّة و الراوية.

و إن كان مباحاً، فإن أخذه بنيّة أنّه له فكالأوّل.

و إن أخذه بنيّة الشركة، فإن قلنا: إنّه لا تجوز النيابة في تملّك المباحات، فكالأوّل أيضاً؛ لأنّ السقّاء يكون قد مَلَكه بمجرّد الحيازة و الأخذ، و إن قلنا: إنّه تجوز النيابة في مثل ذلك، فالماء بينهم.

و كيف يُقسّم ؟ يحتمل أن يُقسّم على نسبة أُجور أمثالهم؛ لأنّه حصل بالمنافع المختلفة، و أن يُقسّم بينهم بالسويّة اتّباعاً لقصده، فحينئذٍ يكون للسقّاء أن يطالب كلّ واحدٍ من صاحبيه بثلث أُجرة منفعته؛ لأنّ منفعته لم ينصرف إليه منها سوى الثلث.

و كذا يرجع كلّ واحدٍ من صاحب الدابّة و الراوية على كلّ واحدٍ من الآخَر و السقّاء بثلث أُجرة منفعة ملكه.

و على الوجه الأوّل لا تراجع بينهم في الأُجرة؛ لأنّ كلّ واحدٍ منهم قد أخذ حقّه - و هو أُجرة مثل عمله - لا أزيد.

مسألة 164: لو استأجر رجلٌ الدابّةَ من صاحبها و الراويةَ من صاحبها و السقّاءَ لحمل الماء و هو مباح، فإن أفرد كلّ واحدٍ منهم بعقدٍ صحّ،

و الماء للمستأجر، و عليه لكلّ واحدٍ من الثلاثة ما عيّنه من الأُجرة.

و إن جمع بين الجميع في عقدٍ واحد، صحّ عندنا، و حينئذٍ تُوزَّع الأُجرة المسمّاة على أُجور الأمثال، و هو أحد قولَي الشافعي.

و الثاني: بطلان الإجارة، فلكلّ واحدٍ من الثلاثة أُجرة المثل عليه،

ص: 344

و الماء للمستأجر، سواء قلنا: إنّ الإجارة صحيحة، أو لا.

أمّا على تقدير الصحّة: فظاهر.

و أمّا على تقدير الفساد: فلأنّ منافعهم مضمونة عليه بأُجرة المثل(1).

فإن نوى السقّاء نفسه و قلنا بفساد الإجارة، قال بعض الشافعيّة:

يكون للمستأجر أيضاً(2).

و توقّف الجويني فيه؛ لأنّ منفعته غير مستحقّةٍ للمستأجر، فليكن الحاصل له(3).

و موضع القولين للشافعي: ما إذا وردت الإجارة على عين السقّاء و الدابّة و الراوية، فأمّا إذا ألزم ذمّتهم نقلَ الماء صحّت الإجارة لا محالة؛ إذ ليست هنا أعيان مختلفة تُفرض جهالة في أُجورها، و إنّما على كلّ واحدٍ منهم ثلث العمل(4).

مسألة 165: لو اشترك أربعة لأحدهم بيت الرحى،

و لآخَر حجر الرحى، و لآخَر دابّة تديره، و الرابع يعمل الصِّماد للدوابّ في الحجر(2) على أنّ الحاصل من أُجرة الطحن بينهم، فهي شركة فاسدة على ما عُرف.

ثمّ إن استأجر مالك الحنطة العاملَ و الآلات من أربابها و أفراد كلّ واحدٍ منهم بعقدٍ، لزمه ما سمّى لكلّ واحدٍ منهم، و لا شركة.

و إن جمع بين الجميع في عقدٍ واحد، فإن ألزم ذمّتهم الطحن صحّ العقد، و كانت الأُجرة المسمّاة بينهم أرباعاً، و يتراجعون أُجرة المثل؛ لأنّ

ص: 345


1- العزيز شرح الوجيز 193:5-194، روضة الطالبين 514:3. (2-4) العزيز شرح الوجيز 194:5، روضة الطالبين 514:3.
2- كذا قوله: «يعمل الصّماد للدوابّ في الحجر» في النسخ الخطّيّة و الحجريّة، و في العزيز شرح الوجيز 194:5، و روضة الطالبين 514:3: «يعمل في الرحى».

المنفعة المملوكة لكلّ واحدٍ منهم قد استوفى ربعها حيث أخذ ربع المسمّى، و انصرف ثلاثة أرباعها إلى أصحابه، فيأخذ منهم ثلاثة أرباع أُجرة المثل.

و إن استأجر عين العامل و عين الآلات، صحّ عندنا.

و للشافعي قولان:

أحدهما: فساد الإجارة، فلكلّ واحدٍ أُجرة مثله.

و الثاني: الصحّة: فيُوزّع المسمّى عليهم، و يكون التراجع بينهم على ما سبق(1).

و لو ألزم صاحب الحنطة ذمّةَ العامل الطحن، لزمه، و عليه إذا استعمل ما لأصحابه أُجرة المثل لهم، إلّا أن يستأجرها بعقدٍ صحيح، فيكون عليه المسمّى.

و قد روى العامّة: أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله نهى عن قفيز الطحّان(2) ، و هو أن يعطى الطحّان أقفزة معلومة ليطحنها بقفيز دقيق منها.

و علّة المنع: أنّه جعل له بعض معموله أجراً لعمله، فيصير الطحن مستحقّاً عليه.

و قد أنكر جماعةٌ منهم(3) هذا الحديثَ.

و قياس قول أحمد جوازه(4).5.

ص: 346


1- بحر المذهب 133:8-134، البيان 338:6-339، العزيز شرح الوجيز 194:5، روضة الطالبين 514:3.
2- سنن الدارقطني 195/47:3، سنن البيهقي 339:5، المغني 119:5، الشرح الكبير 194:5.
3- منهم: ابنا قدامة في المغني 119:5، و الشرح الكبير 194:5.
4- كما في المغني 119:5، و الشرح الكبير 194:5.
مسألة 166: لو دفع إلى شخصٍ عيناً على أن يؤجرها المدفوع إليه و تكون الأُجرة بينهما، لم يصح،

و تكون الإجارة لصاحب العين إن استؤجرت العين، أو تكون للمدفوع إليه، فالأجر له، و لصاحب العين أُجرة المثل.

و لو كان لرجلٍ دابّة، و لآخَر أُكاف و جوالقات، فاشتركا على أن يؤاجراهما، و الأُجرة بينهما نصفان، فهو فاسد؛ لأنّ هذه أعيان لا يصحّ الاشتراك فيها و كذلك في منافعها؛ إذ تقديره: آجِر دابّتك ليكون أجرها بيننا، و أؤجر جوالقاتي لتكون أُجرتها بيننا، و ذلك باطل، فتكون الأُجرة بأسرها لصاحب الدابّة؛ لأنّه مالك الأصل، و للآخَر أُجرة المثل على صاحب البهيمة؛ لأنّه استوفى منافع ملكه بعقدٍ فاسد.

هذا إذا آجرا الدابّة بما عليها من الأُكاف و الجوالقات في عقدٍ واحد، فأمّا إن آجر كلّ واحدٍ منهما ملكه منفرداً، فلكلّ واحدٍ منهما أُجرة ملكه.

و التحقيق أن نقول: لا اعتبار بهذه الشركة، فوجودها كالعدم.

ثمّ المستعمل للدابّة و الجوالقات إن كان قد عقد معهما أو مع أحدهما بإذن الآخَر عَقْد إجارةٍ شرعيّة، كان عليه المسمّى يقسّط على أُجرة مثل الدابّة و أُجرة المثل للجوالقات و الأُكاف، و إن لم يعقد معهما عَقْد إجارةٍ، كان عليه أُجرة مثل الدابّة لصاحبها، و أُجرة مثل الأُكاف و الجوالقات لصاحبها.

مسألة 167: لو كان لواحدٍ البذرُ و لآخَر دوابُّ الحرث و لثالثٍ الأرضُ، فاشتركوا مع رابعٍ ليعمل و يكون الحاصل بينهم، فالشركة باطلة،

و النماء لصاحب البذر، و عليه أُجرة المثل لصاحب الأرض عن أرضه، و لصاحب الدوابّ عن عملها، و لصاحب العمل عن عمله.

ص: 347

فإن أصاب الزرع آفة و لم يحصل شيء من الغلّة، لم يسقط حقّهم من أُجرة المثل.

و قال بعض الشافعيّة: لا شيء لهم؛ لأنّهم لم يحصّلوا له شيئاً(1).

و هو غلط ظاهر؛ لأنّه قد تصرّف في مال الغير بعملٍ له أُجرة؛ فكان عليه الأُجرة.3.

ص: 348


1- العزيز شرح الوجيز 194:5، روضة الطالبين 515:3.

الفصل الثالث: في الأحكام

مسألة 168: الشركة عقد جائز من الطرفين،

و ليست من العقود اللازمة بالإجماع، فإذا اشتركا بمزج المالين و أذن كلٌّ منهما لصاحبه في التصرّف فلكلٍّ من الشريكين فسخها؛ لأنّ الشركة في الحقيقة توكيل و توكّل.

فلو قال أحدهما للآخَر: عزلتك عن التصرّف، أو: لا تتصرّف في نصيبي، انعزل المخاطب عن التصرّف في نصيب العازل، و يبقى له التصرّف في نصيبه، و لا ينعزل العازل عن التصرّف في نصيب المعزول إلّا بعزلٍ متجدّد منه.

و لو فسخاها معاً، فإنّ الاشتراك باقٍ و إن لم يكن لأحدهما التصرّف في نصيب الآخَر.

و لو قال أحدهما: فسختُ الشركة، ارتفع العقد، و انفسخ من تلك الحال، و انعزلا جميعاً عن التصرّف؛ لارتفاع العقد.

و قال بعض الشافعيّة: انعزالهما مبنيٌّ على أنّه يجوز التصرّف بمجرّد عقد الشركة، أم لا بدّ من التصريح بالإذن ؟ إن قلنا بالأوّل، فإذا ارتفع العقد انعزلا، و إن قلنا بالثاني و كانا قد صرّحا بالإذن، فلكلٍّ منهما التصرّف إلى أن يعزل(1).

و كيفما كان فالشافعيّة على ترجيح القول بانعزالهما(2).

مسألة 169: إذا عقدا الشركةَ و مزجا المالين،

فإن وُجد من كلٍّ منهما

ص: 349


1- العزيز شرح الوجيز 195:5، روضة الطالبين 515:3-516.
2- العزيز شرح الوجيز 195:5، روضة الطالبين 515:3.

الإذنُ لصاحبه في التصرّف في جميع المال، تسلّط كلٌّ منهما على ذلك، و كان حكمُ تصرّفه حكمَ تصرّف الوكيل مع الإطلاق، فلا يبيع بالنسيئة و لا بغير نقد البلد، و لا يبيع و لا يشتري بالغبن الفاحش إلّا مع إذن الشريك.

فإن خالف و باع بالغبن الفاحش، لم يصح في نصيب الشريك، و يصحّ في نصيبه عندنا، و يتخيّر المشتري مع فسخ الشريك للبيع.

و عند الشافعي قولان مبنيّان على تفريق الصفقة، فإن قالوا ببطلان البيع، بقي المبيع على ملكهما و الشركة بحالها، و إن قالوا بالصحّة على ما هو مذهبنا، انفسخت الشركة في المبيع، و صار مشتركاً بين المشتري و الشريك الذي بطل في نصيبه(1).

و لو اشترى بالغبن، فإن كان الشراء بعين مال الشركة، كان حكمُه حكمَ ما لو باع بالغبن، و قد سلف(2) ، و إن اشترى في الذمّة لم يقع للشريك، و كان عليه دفع الثمن من خالص ماله.

مسألة 170: ليس لواحدٍ من الشريكين التصرّفُ في المال الممتزج إلّا بإذن صاحبه،

فإن اختصّ أحدهما بالإذن اختصّ بالتصرّف؛ لأصالة عصمة مال الشخص على غيره، و لو اشترك الإذن اشترك جواز التصرّف.

و إذا حصل الإذن عامّاً من كلّ واحدٍ منهما، تصرّف بحسبه في مال شريكه، كما يتصرّف الوكيل في مال موكّله.

و إن كان عامّاً من أحدهما و خاصّاً من الآخَر، استفاد مَنْ عمّم له الإذن

ص: 350


1- الحاوي الكبير 488:6، بحر المذهب 138:8، التهذيب - للبغوي - 202:4، البيان 344:6، العزيز شرح الوجيز 195:5، روضة الطالبين 515:3.
2- آنفاً.

جواز التصرّف عامّاً، و الآخَر ما عُيّن له.

و كذا لو كان الإذن من كلٍّ منهما خاصّاً، لم يجز له التخطّي إلى غير المأذون.

و إذا عيّن له جهة السفر أو البيع على وجهٍ أو شراء جنسٍ بعينه، لم يجز التجاوز.

و لو شرطا الاجتماع، لم يجز لأحدهما الانفراد.

و لو أطلق الإذن، تصرّف كيف شاء.

فإن عيّن جهةً فتجاوزها، كان ضامناً.

و يجوز الرجوع في الإذن، فيحرم التصرّف؛ لأنّه إنّما تصرّف بالإذن و قد زال.

و ليس لأحدهما السفر بمال الشركة، و لا أن يبيعه إلّا بإذن صاحبه، فإن فَعَل بغير الإذن ضمن.

مسألة 171: قد بيّنّا أنّ الشركة من العقود الجائزة لكلٍّ منهما فسخها، فتنفسخ حينئذٍ.

و كذا تنفسخ بموت أحدهما و جنونه و إغمائه و الحجر عليه للسفه، كالوكالة.

ثمّ في صورة الموت إن لم يكن على الميّت دَيْنٌ و لا هناك وصيّة، تخيّر الوارث بين القسمة مع الشريك و فسخها، و بين تقرير الشركة إن كان بالغاً رشيداً، و إن كان صغيراً أو مجنوناً فعلى الوليّ ما فيه الحظّ من فسخ الشركة أو إبقائها.

و لا بدّ في تقرير الشركة من عقدٍ مستأنف.

و إن كان على الميّت دَيْنٌ، لم يكن للوارث التقرير على الشركة، إلّا

ص: 351

أن يقضي الدَّيْن من غير مال الشركة.

و لو كان هناك وصيّة، فإن كانت لمعيّنٍ فهو كأحد الورثة يتخيّر بين التقرير و الفسخ إن تعلّقت الوصيّة بذلك المال.

و إن كانت لغير معيّنٍ كالفقراء، لم يجز تقرير الشركة إلّا بعد خروج الوصيّة، فإذا خرجت الوصيّة بقي المال كما لو لم تكن وصيّةٌ يتخيّر فيه الوارث بين التقرير و الفسخ.

مسألة 172: إطلاق الشركة يقتضي بسط الربح و الخسران على قدر رءوس الأموال؛

لأنّه نماء مالهما، فكان بينهما على نسبة المالين، و كذا إذا خسرا، كالتلف.

و لو شرطا التفاوت في الربح مع تساوي المالين، أو تساويهما فيه مع تفاوت المالين، قال الشيخ رحمه الله: تبطل الشركة، و جَعَل من شرط الشركة كونَ الربح و الخسران على قدر رأس المالين، فلا يجوز أن يتفاضلا مع التساوي في المال، و لا أن يتساويا مع التفاضل فيه(1) ، و به قال مالك و الشافعي؛ لأنّ هذا الربح في هذه الشركة تبع للمال؛ بدليل أنّه يصحّ عقد الشركة و إطلاق الربح، فلا يجوز تغييره بالشرط، كالخسران، فإنّهما لو شرطا التفاوت في الخسران مع تساوي المالين أو التساوي فيه مع تفاوتهما، لغا الشرط، و يتوزّع الخسران على المال(2).

ص: 352


1- الخلاف 332:3، المسألة 9 من كتاب الشركة.
2- المدوّنة الكبرى 62:5، بداية المجتهد 253:2، الإشراف على نكت مسائل الخلاف 1028/606:2، الذخيرة 52:8، عيون المجالس 1183/1679:4، الإشراف على مذاهب أهل العلم 61:1-40/62، المهذّب - للشيرازي - 353:1، بحر المذهب 131:8، الوجيز 187:1، الوسيط 266:3، حلية العلماء 96:5، البيان 333:6، العزيز شرح الوجيز 195:5-196، روضة الطالبين 516:3، المغني 140:5، الشرح الكبير 115:5، الإفصاح عن معاني الصحاح 4:2، روضة القُضاة 3358/568:2، المبسوط - للسرخسي - 157:11، مختصر اختلاف العلماء 1666/7:4.

و المعتمد: جواز الشرط و لزومه؛ لعموم قوله عليه السلام: «المسلمون عند شروطهم»(1).

و لأنّه شرط لا ينافي الكتاب و السنّة، فكان لازماً كغيره من الشروط السائغة - و به قال أبو حنيفة و أحمد(2) - لأنّه قد يكون أبصر بالتجارة من الآخَر، أو أجلد منه و أقوى في العمل، فيشترط له زيادة الربح في مقابلة عمله ذلك، و هو أمر سائغ، كما لو شرط الربح في مقابلة عمل المضارب، يحقّقه أنّ هذه الشركة معقودة على المال و العمل معاً، و لكلّ واحدٍ منهما حصّة من الربح إذا كان مفرداً، فكذا إذا اجتمعا، و أمّا حالة الإطلاق فإنّه لمّا لم يكن بينهما شرط يقسّم الربح عليه و بقدره، قدّرناه بالمال؛ لعدم الشرط، فإذا وجد الشرط فهو الأصل، فيصار إليه، كالمضاربة يصار فيه إلى الشرط، فإذا عدم و قالا: الربح بيننا، كان بينهما نصفين.

و الحكم في الأصل ممنوع، مع الفرق؛ فإنّ الوضيعة لا تتعلّق إلّا بالمال؛ بدليل المضاربة.5.

ص: 353


1- تقدّم تخريجه في ص 258، الهامش (4).
2- الاختيار لتعليل المختار 22:3، روضة القُضاة 3357/568:2، المبسوط - للسرخسي - 156:11، المحيط البرهاني 32:6-33، مختصر اختلاف العلماء 1666/7:4، النتف 533:1، المغني 140:5، الشرح الكبير 114:5-115، الإفصاح عن معاني الصحاح 4:2، الإشراف على نكت مسائل الخلاف 1028/606:2، عيون المجالس 1183/1679:4، الإشراف على مذاهب أهل العلم 61:1-42/62، بحر المذهب 131:8، الوسيط 266:3، حلية العلماء 96:5، البيان 333:6، العزيز شرح الوجيز 197:5.
مسألة 173: لو اختصّ أحدهما بمزيد عملٍ، و شرط مزيد ربحٍ له، صحّ عندنا،

و هو ظاهرٌ على أصلنا و أصل أبي حنيفة.

و للشافعي قولان:

أحدهما: صحّة الشرط، و يكون القدر الذي يناسب ملكه له بحقّ الملك، و الزائد يقع في مقابلة العمل، و يتركّب العقد من الشركة و القراض.

و أصحّهما عندهم: البطلان، كما لو شرطا التفاوت في الخسران، فإنّه يلغو، و يتوزّع الخسران على المال، و لا يمكن جَعْله شركةً و قراضاً؛ فإنّ العمل في القراض مختصٌّ بمال المالك، و هنا يتعلّق بملكه و ملك صاحبه(1). و قد تقدّم.

إذا عرفت هذا، فلو شرطا زيادة الربح لقاصر العمل، جاز عندنا؛ عملاً بالشرط - و يجيء على قول الشافعي البطلان؛ لأنّه لا يجوز مع التساوي في العمل فمع القصور أولى - و لأنّه يجوز التساوي في الربح مع التفاوت في العمل.

مسألة 174: قد بيّنّا أنّه يجوز التساوي في الربح مع تفاوت المالين،

و التفاوتُ في الربح مع تساوي المالين بالشرط.

و الشيخ رحمه الله قال: إذا شرطا ذلك بطلت الشركة(2). و هو قول الشافعي(3).

و إذا فسد الشرط عند الشافعي، لم يؤثّر ذلك في فساد التصرّفات؛ لوجود الإذن، و يكون الربح على نسبة المالين، ثمّ يرجع كلٌّ منهما على

ص: 354


1- العزيز شرح الوجيز 196:5، روضة الطالبين 516:3.
2- راجع الهامش (1) من ص 352.
3- راجع الهامش (2) من ص 352.

صاحبه بأُجرة مثل عمله في ماله.

فإن تساوى المالان و العملان، كان نصف عمل كلّ واحدٍ منهما يقع في ماله، فلا يستحقّ به أُجرةً، و النصف الواقع في مال صاحبه يستحقّ صاحبه مثل بدله عليه، فيتقاصّان.

و إن تفاوتا في العمل خاصّةً، فكان عمل أحدهما يساوي مائةً، و عمل الآخَر يساوي مائتين، فإن كان عمل المشروط له الزيادة أكثر، فنصف عمله مائة، و نصف عمل الآخَر خمسون، فيبقى له خمسون بعد المقاصّة.

و إن كان عمل صاحبه أكثر، ففي رجوعه بالخمسين على المشروط له الزيادة وجهان للشافعيّة:

أحدهما: الرجوع، كما لو فسد القراض يستحقّ العامل أُجرة المثل.

و أصحّهما عندهم: المنع - و هو محكيٌّ عن أبي حنيفة(1) - لأنّه عمل وُجد من أحد الشريكين لم يشترط عليه عوض، و العمل في الشركة لا يقابله عوض؛ بدليل ما إذا كانت الشركة صحيحةً و زاد عمل أحدهما، فإنّه لا يستحقّ على الآخَر شيئاً.

و يجري الوجهان فيما إذا فسدت الشركة و اختصّ أحدهما بأصل التصرّف و العمل، هل يرجع بنصف أُجرة عمله على الآخَر؟

و إن تفاوتا في المال خاصّةً، فكان لأحدهما - مثلاً - ألف و للآخَر ألفان، فلصاحب الأقلّ ثلثا المائة على صاحب الأكثر، و لصاحب الأكثر ثلث المائة عليه، فيكون الثلث بالثلث قصاصاً، يبقى لصاحب الأقلّ ثلث المائة:5.

ص: 355


1- العزيز شرح الوجيز 196:5.

ثلاثة و ثلاثون و ثلث.

و إن تفاوتا فيهما بأن كان لأحدهما ألف و للآخَر ألفان، فإن كان عمل صاحب الأكثر أكثر بأن كان عمله يساوي مائتين و عمل الآخَر مائة، فثلثا عمله في ماله، و ثلثه في مال صاحبه، و عمل صاحبه على العكس، فيكون لصاحب الأكثر ثلث المائتين على صاحب الأقلّ، و لصاحب الأقلّ ثلثا المائة على صاحب الأكثر، و قدرهما واحد، فيقع في التقاصّ.

و إن كان عمل صاحب الأقلّ أكثر و التفاوت كما صوّرناه، فثلث عمل صاحب الأقلّ في ماله، و ثلثاه في مال شريكه، و ثلثا عمل صاحب الأكثر في ماله، و ثلثه في مال شريكه، فلصاحب الأقلّ ثلثا المائتين على صاحب الأكثر، و هُما: مائة و ثلاثة و ثلاثون و ثلث، و لصاحب الأكثر ثلث المائة على صاحب الأقلّ، و هو: ثلاثة و ثلاثون و ثلث، فيبقى بعد التقاصّ لصاحب الأقلّ مائة على الآخَر(1).

و للشافعيّة قولٌ آخَر: إنّ الشركة تفسد بهذا الشرط، فتبطل التصرّفات(2).

و الأكثر جزموا بنفوذ التصرّفات، و يوزّع الربح على المالين، و تجب الأُجرة في الجملة.

و معنى الفساد أنّ كلّ واحدٍ منهما يرجع على صاحبه بأُجرة عمله في ماله، و لو صحّ عقد الشركة لم يرجع؛ لأنّه لا يثبت استحقاق الأُجرة(3).

و هذا لا يتأتّى على مذهبنا حيث اخترنا صحّة هذا الشرط. و معنى هذا الفساد المذكور عند تغيّر نسبة الربح جارٍ في سائر أسباب فساد الشركة.5.

ص: 356


1- العزيز شرح الوجيز 196:5-197، روضة الطالبين 516:3-517. (2 و 3) العزيز شرح الوجيز 197:5.

و لو لم يكن بين المالين شيوع و لا خلط، فلا شركة على التحقيق، و ثمن كلّ واحدٍ من المالين يختصّ بمالكه، و لا يقع مشتركاً.

مسألة 175: لو تفاوتا في المال و لم يشترطا التساوي و لا التفاوت و التوزيع على قدر المالين،

بل أطلقا، فإنّ الربح يكون على نسبة المالين، و تكون زيادة العمل تبرّعاً من صاحبه.

و يحتمل أن تثبت للزيادة أُجرة المثل، كما لو استعمل صانعاً و لم يذكر له أُجرةً.

و لو شُرط(1) زيادة الربح لمن ازداد عمله، ففي اشتراط استبداده باليد للشافعيّة وجهان(2).

و كذا لو شرطا انفراد أحدهما بالعمل في وجهٍ لهم، كشرطه في القراض(3).

و في وجهٍ: لا [جرياً](4) على قضيّة الشركة(2).

و الخلاف في جواز اشتراط زيادة الربح لمن زاد عمله [جارٍ](6) فيما إذا اشترطا انفراد أحدهما بالتصرّف و جعلا له زيادة ربحٍ(3).

و في وجهٍ لهم: يجوز هنا، و لا يجوز فيما إذا اشتركا في أصل العمل؛ لأنّه لا يدري أنّ الربح بأيّ عملٍ حصل فيحال به على المال ؟(4).

ص: 357


1- الظاهر: «شرطا». (2 و 3) العزيز شرح الوجيز 197:5، روضة الطالبين 518:3. (4 و 6) ما بين المعقوفين أضفناه من المصدر.
2- العزيز شرح الوجيز 197:5.
3- العزيز شرح الوجيز 197:5-198، روضة الطالبين 518:3.
4- الوسيط 267:3، العزيز شرح الوجيز 198:5، روضة الطالبين 518:3.
مسألة 176: كلّ واحدٍ من الشريكين أمين يده يد أمانةٍ على ما تحت يده

- كالمستودع و الوكيل - يُقبل قوله في الخسران و التلف مع اليمين، كالمستودع إذا ادّعى التلف، سواء أسند التلف إلى سببٍ ظاهرٍ أو خفيّ.

و قال الشافعي: إذا أسند التلف هو أو المستودع إلى سببٍ ظاهر، طُولب بالبيّنة عليه، فإذا أقامها صُدّق في الهلاك(1).

و إذا ادّعى أحد الشريكين خيانةً على الآخَر، لم تُسمع الدعوى حتى يحرّرها بأن يعيّن القدر الذي ادّعاه من الخيانة على إشكالٍ، فإذا بيّن القدر سُمعت، و كان عليه البيّنة، فإن فُقدت كان له إحلاف الشريك.

و لو ادّعى ردَّ المال إلى الشريك، قُبِل قوله مع اليمين، كالمستودع و الوكيل بغير جُعْلٍ، و به قال الشافعي(2).

و عندي فيه نظر.

مسألة 177: لو كان في يد أحد الشريكين مالٌ و اختلفا فيه،

فقال المكتسب: إنّه لي خاصّةً، و قال الآخَر: بل هو من مال الشركة، فالقول قول المتشبّث مع اليمين؛ قضاءً لليد.

و كذا لو انعكس الفرض، فقال المتشبّث: إنّه من مال الشركة، و قال الآخَر: بل هو لي خاصّةً، قُدّم قول المتشبّث مع اليمين.

و لو قال الآخَر: بل هو لك، كان في النصف حكمه حكم مَنْ أقرّ لغيره بعينٍ في يده و أنكر المُقرّ له.

ص: 358


1- المهذّب - للشيرازي - 354:1، الوسيط 269:3، البيان 343:6، العزيز شرح الوجيز 198:5، روضة الطالبين 518:3.
2- التهذيب - للبغوي - 202:4، العزيز شرح الوجيز 198:5، روضة الطالبين 518:3.

و لو اشترى أحد الشريكين شيئاً ثمّ اختلفا، فقال المشتري: إنّما اشتريتُه لنفسي، و قال الآخَر: بل للشركة، قُدّم قول المباشر للعقد؛ لأنّه أبصر بنيّته، و هذا الاختلاف يقع عند ظهور الربح.

و لو قال المباشر: إنّما اشتريتُه للشركة، و قال الآخَر: بل اشتريتَه لنفسك، فالقول قول مباشر العقد؛ لأنّه أبصر بنيّته، و هذا الاختلاف يقع عند ظهور الخسران.

و لو قال صاحب اليد: اقتسمنا مالَ الشركة و هذا قد خلص لي، و قال الآخَر: لم نقتسم بَعْدُ و هو مشترك، فالقول قول الثاني؛ لأصالة بقاء الشركة و عدم القسمة، فعلى مدّعيها البيّنة.

و لو كان في أيديهما أو في يد أحدهما مالٌ و قال كلّ واحدٍ منهما:

هذا نصيبي من مال الشركة و أنت أخذتَ نصيبك، حلف كلٌّ منهما لصاحبه، و جُعل المال بينهما، فإن حلف أحدهما و نكل الآخَر، قضي للحالف.

مسألة 178: لو كان بينهما عبد مشترك فباعه أحدهما بإذن الثاني و أذن له في قبض الثمن،

ثمّ اختلف الشريكان في قبض الثمن، فادّعى الآذن على البائع قبض الثمن بأسره و طالَبه بدفع نصيبه إليه، و صدّقه المشتري على أنّ البائع قبض، و أنكر البائع القبضَ، برئ المشتري من نصيب الآذن في البيع؛ لاعترافه بأنّ البائع - الذي هو وكيله بالقبض - قد قبض.

ثمّ هنا خصومتان، إحداهما: بين البائع و المشتري، و الثانية: بين الشريكين.

فإن تقدّمت الأُولى على الثانية، فطالَب البائع المشتري بنصيبه من الثمن، و ادّعى المشتري أنّه أدّاه، نُظر فإن قامت للمشتري بيّنة على الأداء،

ص: 359

اندفعت المطالبة عنه، و برئ المشتري من الحقّين؛ لأنّ البائع قد ثبت بالبيّنة أنّه قبض، و الآذن قد ثبت أنّ وكيله - و هو البائع - قد قبض.

و لو شهد له الشريك الآذن، لم تُقبل شهادته في نصيبه؛ لأنّه لو ثبت ذلك لطالَب المشهود عليه بحقّه، و ذلك جرّ نفعٍ ظاهر، فلا تُقبل؛ للتهمة.

و هل تُقبل شهادته في نصيب البائع ؟ قال بعض علمائنا: نعم(1).

و للشافعيّة قولان مبنيّان على أنّ الشهادة إذا رُدّت في بعض ما شهدت به؛ للتهمة، فهل تردّ في الباقي ؟(2).

و لو لم يكن للمشتري بيّنة بالقبض، كان القولُ قولَ البائع مع يمينه؛ لأنّه منكر، و الأصل عدم القبض، فيحلف البائع أنّه لم يقبض، فإذا حلف أخذ نصيبه من المشتري، و لا يشاركه الآذن؛ لإقراره أنّ البائع قبض أوّلاً ما هو الحقّ، و يزعم أنّ الذي قبضه ثانياً بيمينه ظلم، فلا يستحقّ مشاركته فيه، فإن نكل البائع عن اليمين رُدّت اليمين على المشتري، فإذا حلف أنّه أقبض البائع جميع الثمن انقطعت المطالبة عنه، و لو نكل المشتري أيضاً أُلزم بنصيب البائع.

و قال بعض الشافعيّة: لا يُلزم بنصيب البائع أيضاً؛ لأنّا لا نحكم بالنكول(3).

و هو غلط؛ لأنّ هذا ليس حكماً بالنكول، و إنّما هو مؤاخذة له بإقراره بلزوم المال بالشراء ابتداءً.3.

ص: 360


1- لم نهتد إلى القائل به، و راجع المبسوط - للطوسي - 353:2.
2- الحاوي الكبير 490:6، المهذّب - للشيرازي - 354:1، بحر المذهب 141:8، الوسيط 270:3، حلية العلماء 106:5، التهذيب - للبغوي - 204:4، البيان 346:6، العزيز شرح الوجيز 199:5، روضة الطالبين 519:3.
3- العزيز شرح الوجيز 199:5، روضة الطالبين 519:3.

فإذا انفصلت(1) [خصومة](2) البائع و(3) المشتري فلو جاء الشريك الآذن و طالَب البائعَ بحقّه؛ لزعمه أنّه قبض جميع الثمن، فعليه البيّنة، و يُقدَّم قول البائع مع اليمين أنّه لم يقبض إلّا نصيبه بعد الخصومة الجارية بينهما، فإن نكل البائع حلف الآذن و أخذ منه نصيبه، و لا يرجع البائع به على المشتري؛ لأنّه يزعم أنّ شريكه ظَلَمه بما فَعَل، و لا يمنع البائعَ من الحلف نكولُه عن اليمين في الخصومة مع المشتري؛ لأنّها خصومة أُخرى مع خصمٍ آخَر.

هذا إذا تقدّمت خصومة البائع و المشتري و تبعتها خصومة الشريكين، و أمّا إن تقدّمت خصومة الشريكين فادّعى الذي لم يبع قبضَ الثمن على البائع و طالَبه بحقّه و أنكر البائع، قُدّم قوله مع اليمين، و كان على الشريك الآذن البيّنة بأنّ البائع قبض الثمن، و لا تُقبل شهادة المشتري له بحالٍ البتّة؛ لأنّه يدفع عن نفسه، فإن فُقدت البيّنة حلف البائع على أنّه ما قبض، فإن نكل حلف الآذن على أنّه قبض، و أخذ نصيبه من البائع.

ثمّ إذا انفصلت الخصومة بين الشريكين، فلو طالَب البائع المشتري بحقّه، و ادّعى المشتري الأداءَ، فعليه البيّنة، فإن لم تكن بيّنة حلف البائع، و قبض حقّه، فإن نكل حلف المشتري و برئ، و لا يمنع البائعَ من أن يحلف و يطلب من المشتري حقَّه نكولُه في الخصومة الأُولى مع شريكه.

و للشافعيّة وجهٌ: إنّه يمنع؛ بناءً على أنّ يمين الردّ كالبيّنة أو كإقرار المدّعى عليه ؟ إن كانت كالبيّنة فكأنّه قامت البيّنة على قبضه جميعَ الثمن،».

ص: 361


1- في «خ»: «انقضت» بدل «انفصلت».
2- في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «حكومة». و الظاهر ما أثبتناه.
3- في «ث، خ، ر»: «مع» بدل «و».

و إن كانت كالإقرار فكأنّه أقرّ بقبض جميع الثمن، و على التقديرين يمنع عليه مطالبة المشتري(1).

و ضعّفه باقي الشافعيّة؛ لأنّ اليمين إنّما تجعل كالبيّنة أو كالإقرار في حقّ المتخاصمين و فيما فيه تخاصمهما لا غير، و معلومٌ أنّ الشريك إنّما يحلف على أنّه قبض نصيبه، فإنّه الذي يطالب به، فكيف تؤثّر يمينه في غيره!؟(2).

و على ضعفه فقد قال الجويني: [القياس](1) طرده فيما إذا تقدّمت خصومة البائع و المشتري و نكل البائع و حلف المشتري اليمينَ المردودة حتى يقال: تثبت للّذي لم يبع مطالبة البائع بنصيبه من غير تجديد خصومةٍ؛ لكون يمين الردّ بمنزلة البيّنة أو الإقرار(2).

مسألة 179: لو باع الشريك - المأذون له في البيع - العبدَ، ثمّ اختلف الشريكان،

فادّعى البائع على الآذن بأنّه قبض الثمن بأسره من المشتري، فأنكر الآذن القبضَ، و صدّق المشتري المدّعي، فإن كان الآذن في البيع مأذوناً له في القبض للثمن من جهة البائع، برئ المشتري من حصّة البائع؛ لأنّه قد اعترف بأنّ وكيله قد قبض.

ثمّ تُفرض حكومتان كما تقدّم.

فإن تخاصم الذي لم يبع و المشتري، فالقول قول الذي لم يبع في عدم القبض، فيحلف و يأخذ نصيبه و يسلّم إليه المأخوذ.

و إن تخاصم البائع و الذي لم يبع، حلف الذي لم يبع، فإن نكل

ص: 362


1- ما بين المعقوفين أثبتناه من المصدر.
2- العزيز شرح الوجيز 200:5، روضة الطالبين 519:3.

حلف البائع، و أخذ منه نصيبه، و لا رجوع له على المشتري.

و لو شهد البائع للمشتري على القبض، لم تُقبل؛ لأنّه يشهد لنفسه على الذي لم يبع.

و إن لم يكن الآذن في البيع مأذوناً له في القبض من جهة البائع، لم تبرأ ذمّة المشتري عن شيءٍ من الثمن.

أمّا عن حقّ الذي لم يبع: فلأنّه منكر للقبض، و القول قوله في إنكاره مع اليمين.

و أمّا عن حقّ المباشر للبيع: فلأنّه لم يعترف بقبضٍ صحيح.

ثمّ لا يخلو إمّا أن يكون البائع مأذوناً من جهة الذي لم يبع في القبض، أو لا يكون هو مأذوناً أيضاً.

فإن كان مأذوناً، فله مطالبة المشتري بنصيبه من الثمن، و لا يتمكّن من مطالبته بنصيب الذي لم يبع؛ لأنّه لمّا أقرّ بقبض الذي لم يبع نصيب نفسه فقد صار معزولاً عن وكالته.

ثمّ إذا تخاصم الذي لم يبع و المشتري، فعلى المشتري البيّنة على القبض، فإن لم تكن بيّنة فالقول قول الذي لم يبع.

فإذا حلف، ففي مَنْ يأخذ حقّه منه للشافعيّة وجهان:

قال المزني منهم: إن شاء أخذ تمام حقّه من المشتري، و إن شاء شارك البائع في المأخوذ، و أخذ الباقي من المشتري؛ لأنّ الصفقة واحدة، و كلّ جزءٍ من الثمن شائع بينهما، فإن أخذ بالخصلة الثانية لم يبق مع البائع إلّا ربع الثمن(1).3.

ص: 363


1- بحر المذهب 143:8، الوسيط 270:3، حلية العلماء 106:5، التهذيب - للبغوي - 205:4، البيان 348:6، العزيز شرح الوجيز 200:5-201، روضة الطالبين 520:3.

و [يفارق](1) هذا ما إذا كان الذي لم يبع مأذوناً في القبض حيث لا يشاركه البائع فيما أخذه من المشتري؛ لأنّ زعمه أنّ الذي لم يبع ظالمٌ فيما أخذه، فلا يشاركه فيما ظلم به(2).

و قال آخَرون منهم ابن سريج: ليس له إلّا أخذ حقّه من المشتري، و لا يشارك البائع فيما أخذه؛ لأنّ البائع قد انعزل عن الوكالة بإقراره: إنّ الذي لم يبع قَبَض حقَّه، فما يأخذه بعد الانعزال يأخذه لنفسه خاصّةً(3).

و قال آخَرون: إنّه و إن انعزل فالمسألة تحتمل وجهين بناءً على أنّ مالكَي السلعة إذا باعاها صفقةً واحدة هل ينفرد أحدهما بقبض حصّته من الثمن ؟ فيه وجهان:

أحدهما: لا، بل إذا انفرد بأخذ شيءٍ شاركه الآخَر فيه، كما أنّ الحقّ الثابت للورثة لا ينفرد بعضهم باستيفاء حصّته منه، و لو فَعَل شاركه الآخَرون فيه، و كذا لو كاتبا عبداً صفقةً واحدةً، لم ينفرد أحدهما بأخذ حقّه من النجوم.

و الثاني: نعم، كما لو باع كلّ واحدٍ منهما نصيبَه بعقدٍ مفرد، بخلاف الميراث و الكتابة، فإنّهما لا يثبتان في الأصل بصفة التجزّي؛ إذ لا ينفرد3.

ص: 364


1- بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «يقارب». و الصحيح ما أثبتناه من «العزيز شرح الوجيز».
2- العزيز شرح الوجيز 201:5.
3- بحر المذهب 144:8، الوسيط 271:3، حلية العلماء 106:5، التهذيب - للبغوي - 205:4-206، البيان 348:6، العزيز شرح الوجيز 201:5، روضة الطالبين 520:3.

بعض الورثة ببعض أعيان التركة، و لا تجوز كتابة البعض من العبد، فلذلك لم يجز التجزّي في القبض(1).

و لو شهد البائع للمشتري على أنّ الذي لم يبع قد قبض الثمن، فعلى قول المزني لا تُقبل شهادته؛ لأنّه يدفع بها شركة صاحبه فيما أخذه(2) ، و على قول ابن سريج تُقبل(3).

و إن لم يكن البائع مأذوناً في القبض، قال بعض الشافعيّة: للبائع مطالبة المشتري بحقّه هنا، و ما يأخذه يسلم له، و تُقبل هنا شهادة البائع للمشتري على الذي لم يبع(4).

و قال آخَرون: ينبغي ثبوت الخلاف في مشاركة صاحبه فيما أخذه، و يُخرَّج قبول الشهادة على الخلاف(5).

مسألة 180: لو غصب واحد نصيبَ أحد الشريكين بأن نزّل نفسه منزلته،

فأزال يده و لم يُزل يدَ صاحبه الآخَر، بل استولى على العبد و مَنَع أحدَهما الانتفاع به دون الآخَر، فإنّه يصحّ من الذي لم يغصب نصيبه بيع نصيبه، و لا يصحّ من الآخَر بيع نصيبه، إلّا من الغاصب، أو ممّن يتمكّن من انتزاعه من يد الغاصب.

و لو باع الغاصب و الذي لم يغصب نصيبه جميعَ العين في عقدٍ واحد، صحّ في نصيب المالك، و وقف نصيب الآخَر إن أمضاه المغصوب منه صحّ، و إلّا فلا.

ص: 365


1- العزيز شرح الوجيز 201:5.
2- الوسيط 271:3، حلية العلماء 107:5، التهذيب - للبغوي - 206:4، البيان 349:6، العزيز شرح الوجيز 201:5، روضة الطالبين 520:3.
3- الوسيط 271:3، حلية العلماء 107:5، التهذيب - للبغوي - 206:4، البيان 349:6، العزيز شرح الوجيز 201:5، روضة الطالبين 520:3.
4- العزيز شرح الوجيز 201:5، روضة الطالبين 520:3.
5- العزيز شرح الوجيز 201:5، روضة الطالبين 520:3.

و قالت الشافعيّة: يصحّ في نصيب مَنْ لم يغصب منه، و يبطل في الآخَر، و لا يُخرَّج على الخلاف في تفريق الصفقة عندهم؛ لأنّ الصفقة تتعدّد بتعدّد البائع(1).

و منهم مَنْ قال: يبنى القول في نصيب المالك على أنّ أحد الشريكين إذا باع نصفَ العبد مطلقاً ينصرف إلى نصيبه أو يشيع ؟ وجهان، فإن قلنا:

ينصرف إلى نصيبه، صحّ بيع المالك في نصيبه، و إن قلنا بالشيوع، بطل البيع في ثلاثة أرباع العبد، و في ربعه قولان.

و لا يُنظر إلى هذا البناء فيما إذا باع المالكان معاً و أطلقا، و لا يُجعل كما إذا أطلق كلّ واحدٍ منهما بيعَ نصف العبد؛ لأنّ هناك تناول العقد الصحيح جميعَ العبد(2).

مسألة 181: قد بيّنّا

مسألة 181: قد بيّنّا(3) أنّ شركة الأبدان باطلة، سواء اشترك العمل أو اختصّ بأحدهما و تقبّل الآخَر.

فلو قال واحد لآخَر: أنا أتقبّل العمل و أنت تعمل و الأُجرة بيننا بالسويّة أو على نسبة أُخرى، لم يصح عند علمائنا - و به قال زفر(4) - و لا يستحقّ العامل المسمّى، بل له أُجرة المثل.

و قال أحمد: تصحّ الشركة؛ لأنّ الضمان يستحقّ به الربح بدليل شركة الأبدان، و تقبّل العمل يوجب الضمان على المتقبّل، و يستحقّ به الربح،

ص: 366


1- بحر المذهب 145:8، حلية العلماء 108:5، التهذيب - للبغوي - 207:4، البيان 345:6، العزيز شرح الوجيز 202:5-203، روضة الطالبين 521:3.
2- التهذيب - للبغوي - 207:4، العزيز شرح الوجيز 203:5، روضة الطالبين 521:3.
3- في ص 312، المسألة 142.
4- المغني 113:5، الشرح الكبير 187:5.

فصار كتقبّله المالَ في المضاربة، و العمل يستحقّ به العامل الربح كعمل المضاربة، فينزَّل منزلة المضاربة(1).

و الحكم في الأصل ممنوع.

مسألة 182: الربح في شركة الأبدان على نسبة العملين، لا على الشرط الذي شرطاه،

عند علمائنا؛ لأنّ الشركة باطلة على ما تقدّم(2) بيانه.

و قال أحمد: إنّها صحيحة، و الشركة على ما اتّفقوا عليه من مساواةٍ أو تفاضلٍ، و لكلٍّ منهما المطالبة بالأُجرة، و للمستأجر دفعها إلى كلّ واحدٍ منهما، و إلى أيّهما دفع برئ منها، و إن تلفت في يد أحدهما من غير تفريطٍ فهي من ضمانهما معاً؛ لأنّهما كالوكيلين في المطالبة، و ما يتقبّله كلّ واحدٍ منهما من عملٍ فهو من ضمانهما يطالب به كلّ واحدٍ منهما، و يلزمه عمله؛ لأنّ هذه الشركة لا تنعقد إلّا على الضمان، و لا شيء منها تنعقد عليه الشركة حال الضمان، فكأنّ الشركة تتضمّن ضمان كلّ واحدٍ منهما عن الآخَر ما يلزمه.

و لو أقرّ أحدهما بما في يده، قُبِل عليه و على شريكه؛ لأنّ اليد له، فيُقبل إقراره بما فيها، و لا يُقبل إقراره بما في يد شريكه و لا بدَيْنٍ عليه(3).

و هذا كلّه عندنا باطل.

و لو عمل أحدهما دون صاحبه، فالكسب للعامل خاصّةً عندنا، و إن حصل من الآخَر سفارة فله أُجرته عليها.

و قال أحمد: إذا عمل أحدهما خاصّةً، كان الكسب بينهما على

ص: 367


1- المغني 113:5 و 114، الشرح الكبير 187:5 و 188.
2- في ص 312-313، المسألة 142.
3- المغني 114:5، الشرح الكبير 188:5.

ما شرطاه، سواء ترك العمل لمرضٍ أو غيره، و لو طالَب أحدهما الآخَر أن يعمل معه، أو يقيم مقامه مَنْ يعمل، فله ذلك، فإن امتنع فللآخَر الفسخ(1).

و هو باطل عندنا على ما سلف(2).

و لو كان لقصّارٍ أداةٌ و لآخَر بيتٌ، فاشتركا على أن يعملا بأداة هذا في بيت هذا و الكسب بينهما، جاز، و الأجر بينهما على ما شرطاه، عند أحمد؛ لأنّ الشركة وقعت على عملهما، و العمل يستحقّ به الربح في الشركة، و الآلة و البيت لا يستحقّ بهما شيء(3).

و عندنا أنّ هذه الشركة باطلة، و قد سلف(4).

مسألة 183: إذا كانت الشركة باطلةً، قسّما الربح على قدر رءوس أموالهما،

و يرجع كلٌّ منهما على الآخَر بأجر عمله - و به قال أبو حنيفة و الشافعي و أحمد في إحدى الروايتين(5) - لأنّ المسمّى يسقط في العقد الفاسد، كالبيع الفاسد إذا تلف المبيع في يد المشتري، و النماء فائدة مالهما، فيكون تابعاً للأصل، كالثمرة.

و الرواية الأُخرى لأحمد: إنّهما يقتسمان الربح على ما شرطاه، و لا يستحقّ أحدهما على الآخَر أجر عمله، و أجراها مجرى الصحيحة؛ لأنّه عقد يصحّ مع الجهالة، فيثبت المسمّى في فاسده، كالنكاح(6).

ص: 368


1- المغني 114:5 و 115، الشرح الكبير 189:5.
2- في ص 340-341، المسألة 161.
3- المغني 116:5، الشرح الكبير 191:5.
4- في ص 345، المسألة 165.
5- الاختيار لتعليل المختار 26:3، الفقه النافع 721/996:3، البيان 333:6، المغني و الشرح الكبير 128:5.
6- المغني 129:5، الشرح الكبير 128:5.

إذا عرفتَ هذا، فلو كان مال كلّ واحدٍ منهما متميّزاً، و كان ربحه معلوماً، كان لكلٍّ ربحُ ماله، و لا يشاركه الآخَر فيه.

و لو ربح في جزءٍ منه ربحاً متميّزاً و باقيه مختلطاً، كان له تمام ما تميّز(1) من ربح ماله، و له بحصّة باقي ماله من الربح.

مسألة 184: ليس لأحد الشريكين أن يكاتب الرقيق، و لا يعتق على مالٍ و لا غيره، و لا يزوّج الرقيق؛

لأنّ الشركة منعقدة على التجارة، و ليست هذه الأنواع تجارةً، لا سيّما تزويج العبد؛ فإنّه محض ضررٍ.

و ليس له أن يُقرض و لا يحابي؛ لأنّه تبرّع.

و ليس له أن يشارك بمال الشركة و لا يدفعه مضاربةً؛ لأنّ ذلك يُثبت في المال حقوقاً، و يستحقّ غير المالك ربحه، و ليس له ذلك إلّا بإذن ربّ المال.

و ليس له أن يمزج مال الشركة بماله، و لا مال غيره؛ لأنّه تعيّب في المال.

و ليس له أن يستدين على مال الشركة، فإن فَعَل فربحه له، و عليه خسرانه.

و قال بعض العامّة: إذا استدان شيئاً، لزم الشريكين معاً، و ربحه لهما و خسرانه عليهما؛ لأنّ ذلك تملّك مالٍ بمالٍ، فأشبه الصرف(2).

و هو غلط؛ لأنّه أدخل في الشركة أكثر ممّا رضي الشريك أن يشاركه فيه، فلم يجز، كما لو ضمّ إلى مال الشركة شيئاً من ماله، و يفارق الصرف؛ لأنّه بيع و إبدال عينٍ بعينٍ، فهو كبيع الثياب بالدراهم.

ص: 369


1- في «ج» و الطبعة الحجريّة: «يتميّز».
2- المغني 130:5، الشرح الكبير 123:5.

و ليس له أن يُقرّ على مال الشركة، فإن فَعَل لزم في حقّه دون صاحبه، سواء أقرّ بدَيْنٍ أو عينٍ؛ لأنّ شريكه إنّما أذن له في التجارة، و الإقرار ليس منها.

و لو أقرّ بعيبٍ في عينٍ باعها أو أقرّ الوكيل على موكّله بالعيب، لم يُقبَل، خلافاً لأحمد(1).

و لو أقرّ بقبض ثمن المبيع أو أجر المكاري و الحمّال و أشباه ذلك، فالأقرب: القبول؛ لأنّه من توابع التجارة، فكان له ذلك كتسليم المبيع و أداء ثمنه.

و لو رُدّت السلعة عليه بعيبٍ، قَبِلها، أو أعطى أرشها.

و لو حطّ من الثمن شيئاً أو أسقط دَيْناً لهما عن [غريمهما](2) لزم في حقّه، و بطل في حقّ شريكه؛ لأنّ ذلك تبرّع، و التبرّع يمضى في حصّته دون شريكه.

و لو كان لهما دَيْنٌ حالّ فأخّر أحدهما حصّته من الدَّيْن، جاز - و به قال أبو يوسف و محمّد(3) - لأنّه أسقط حقّه من التعجيل، فصحّ أن ينفرد به أحدهما، كالإبراء.

و قال أبو حنيفة: لا يجوز(4).

مسألة 185: قد بيّنّا أنّ الشركة تتضمّن نوع وكالةٍ، و لا يتعدّى الشريك حدّ الوكالة، فليس له أن يبيع نَسْأً.

ص: 370


1- المغني 131:5، الشرح الكبير 120:5.
2- بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «غيرهما». و المثبت كما في المغني 131:5.
3- المغني 131:5، الشرح الكبير 124:5.
4- المغني 131:5، الشرح الكبير 124:5.

و إذا اشترى بجنس ما عنده دَفَعه، و إن اشترى بغير جنسه لم يكن له أن يستدين الجنس و يصرفه في الثمن؛ لأنّا منعناه من الاستدانة، لكن له أن يبيع بثمنٍ من النقد الذي عيّنه و يدفع.

و ليس له أن يودع إلّا مع الحاجة؛ لأنّه ليس من الشركة، و فيه غرور، أمّا مع الحاجة فإنّه من ضرورة الشركة، فأشبه دفع المتاع إلى الحمّال، و هو إحدى الروايتين عن أحمد.

و الثانية: يجوز؛ لأنّه عادة التجّار، و قد تدعو الحاجة إلى الإيداع(1).

و العادة لا تقضي على الشرع، و الحاجة مسوّغة كما قلنا.

و ليس له أن يوكّل فيما يتولّاه بنفسه، كالوكيل.

و في إحدى الروايتين عن أحمد: الجواز(2).

فإن وكّل أحدهما بإذن صاحبه جاز، و كان لكلٍّ منهما عزله.

و ليس لأحدهما أن يرهن بالدَّيْن الذي عليهما إلّا بإذن صاحبه أو مع الحاجة.

و عن أحمد روايتان(3).

و ليس لأحدهما السفر بالمال المشترك إلّا بإذن صاحبه. و الأقرب: إنّ له الإقالة؛ لأنّها إمّا بيعٌ عند جماعةٍ من العامّة(4) ، و هو يملك البيع، أو فسخٌ عندنا، و هو يملك الفسخ، و يردّ بالعيب، كلّ ذلك مع المصلحة.

و لو قال له: اعمل برأيك، جاز أن يعمل كلّ ما يصلح في التجارة من الإبضاع و المضاربة بالمال و المشاركة و خلطه بماله و السفر و الإيداع و البيع نسيئةً و الرهن و الارتهان و الإقالة و نحو ذلك؛ لأنّه فوّض إليه الرأي في).

ص: 371


1- المغني 132:5، الشرح الكبير 122:5.
2- المغني 132:5، الشرح الكبير 122:5.
3- المغني 132:5، الشرح الكبير 122:5.
4- راجع ج 12 - من هذا الكتاب - ص 117، الهامش (3).

التصرّف الذي تقتضيه الشركة، فجاز له كلّ ما هو من التجارة، فأمّا ما يكون تمليكاً بغير عوضٍ - كالهبة و الحطيطة لغير فائدةٍ و القرض و العتق و مكاتبة الرقيق و تزويجه - فلا يفعله إلّا بإذنه؛ لأنّه إنّما فوّض إليه العمل برأيه في التجارة، و ليس ذلك منها.

و لو أخذ أحد الشريكين مالاً مضاربةً، فربحه له دون صاحبه؛ لأنّه يستحقّ ذلك في مقابلة عمله، و ليس ذلك من المال الذي اشتركا فيه.

مسألة 186: قد بيّنّا أنّ الشركة من العقود الجائزة لكلٍّ منهما فسخها و الرجوع في الإذن و المطالبة بالقسمة؛

لأنّ الإنسان مسلّط على ماله، فكان له المطالبة بإفرازه من مال غيره و تمييزه عنه، و ليس لأحدهما مطالبة الآخَر بإقامة رأس المال، بل يقتسمان الأعواض إذا لم يتّفقا على البيع، و لا يصحّ التأجيل في الشركة.

و لو كان بعض المال في أيديهما و الآخَر غائب عنهما فاقتسما الذي في أيديهما و الغائب عنهما، صحّت في المقبوض، دون الغائب [عن](1) الناس؛ لأنّ الباقر عليه السلام سُئل عن رجلين بينهما مال منه بأيديهما و منه غائب عنهما، فاقتسما الذي بأيديهما و أحال كلّ واحدٍ منهما بنصيبه من الغائب، فاقتضى أحدهما و لم يقتض الآخَر، قال: «ما اقتضى أحدهما فهو بينهما، و ما يذهب بماله!؟»(2).

و سأل [عبد اللّه بن سنان](3) الصادقَ عليه السلام: عن رجلين بينهما مال منه

ص: 372


1- بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «على». و الصحيح ما أثبتناه.
2- التهذيب 185:7-818/186.
3- بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة و الطبعة الحجريّة: «معاوية بن عمّار» و هو في سند الحديث 820 من التهذيب 186:7، و المثبت من المصدر.

دَيْنٌ و منه عينٌ، فاقتسما العين و الدَّيْن فتوى(1) الذي كان لأحدهما من الدَّيْن أو بعضه و خرج الذي للآخَر [أ يردّ](2) على صاحبه ؟ قال: «نعم، ما يذهب بماله!؟»(3).

مسألة 187: لو كان لرجلين دَيْنٌ بسببٍ واحد إمّا عقد أو ميراث أو استهلاك أو غيره، فقبض أحدهما منه شيئاً، فللآخَر مشاركته فيه

- و هو ظاهر مذهب أحمد بن حنبل(4) - لما تقدّم(5) في المسألة السابقة في رواية [عبد اللّه بن سنان](6) عن الصادق عليه السلام.

و لأنّ تمليك القابض ما قبضه يقتضي قسمة الدَّيْن في الذمّة من غير رضا الشريك، و هو باطل، فوجب أن يكون المأخوذ لهما و الباقي بينهما.

و لغير القابض الرجوعُ على القابض بنصفه، سواء كان باقياً في يده أو أخرجه عنها، و له أن يرجع على الغريم؛ لأنّ الحقّ ثبت في ذمّته لهما على وجهٍ سواء، فليس له تسليم حقّ أحدهما إلى الآخَر، فإن أخذ من الغريم لم يرجع على الشريك بشيءٍ؛ لأنّ حقّه ثابت في أحد المحلّين، فإذا اختار أحدهما سقط حقّه من الآخَر.

و ليس للقابض منعه من [الرجوع على](7) الغريم بأن يقول: أنا

ص: 373


1- راجع الهامش (1) من ص 39.
2- بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «يراد». و المثبت من المصدر.
3- التهذيب 821/186:7.
4- المغني 197:5، الشرح الكبير 181:5.
5- آنفاً.
6- بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «معاوية بن عمّار». و الصحيح ما أثبتناه من المصدر.
7- ما بين المعقوفين يقتضيه السياق.

أُعطيك نصف ما قبضت، بل الخيرة إليه من أيّهما شاء قبض، فإن قبض من شريكه شيئاً رجع الشريك على الغريم بمثله.

و إن هلك المقبوض في يد القابض، تعيّن حقّه فيه، و لم يضمنه للشريك؛ لأنّه قدر حقّه فيما تعدّى بالقبض، و إنّما كان لشريكه مشاركته؛ لثبوته في الأصل مشتركاً.

و لو أبرأ أحد الشريكين الغريمَ من حقّه، برئ منه؛ لأنّه بمنزلة قبضه منه، و ليس لشريكه الرجوعُ عليه بشيءٍ؛ لأنّه لم يقبض شيئاً من حقّ الشريك.

و لو أبرأ أحدهما من جزءٍ مشاع، سقط من حقّه، و بسط ما يقبضانه من الغريم على النسبة، فلو أبرأ أحدهما الغريمَ من عُشْر الدَّيْن ثمّ قبضا من الدَّيْن شيئاً، قسّماه على قدر حقّهما في الباقي، للمُبرئ أربعة أتساعه، و لشريكه خمسة أتساعه.

و إن قبض(1) نصف الدَّيْن ثمّ أبرأ أحدهما من عُشْر الدين كلّه، نفذت البراءة في خُمس الباقي، و ما بقي بينهما على ثمانية، للمُبرئ ثلاثة أثمانه، و للآخَر خمسة أثمانه، فما قبضاه بعد ذلك اقتسماه على هذا.

و لو اشترى أحدهما بنصيبه من الدَّيْن ثوباً، قال بعض العامّة: كان للآخَر إبطال الشراء، فإن بذل له المشتري نصف الثوب و لا يبطل البيع، لم يلزمه(2) ذلك(3).5.

ص: 374


1- الظاهر: «قبضا».
2- في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «لم يلزم». و المثبت من المصدر.
3- المغني 198:5، الشرح الكبير 182:5.

و إن أجاز البيع ليملك [نصف] الثوب جاز، و يبنى على بيع الفضولي هل يقف على الإجازة أو لا؟ فعندنا نعم، و بين العامّة خلاف(1).

و لو أجّل أحدهما نصيبه من الدَّيْن جاز، فإنّه لو أسقط حقّه جاز فتأخيره أولى، فإن قبض الشريك بعد ذلك [شيئاً] لم يكن لشريكه الرجوعُ عليه بشيءٍ.

هذا إذا أجّله في عقدٍ لازم، و إن لم يكن في عقدٍ لازم كان له الرجوعُ؛ لأنّ الحالّ لا يتأجّل بالتأجيل، فوجوده كعدمه.

و عن أحمد رواية أُخرى: إنّ ما يقبضه أحدهما له، دون صاحبه؛ لأنّ ما في الذمّة لا ينتقل إلى العين إلّا بتسليمه إلى غريمه أو وكيله، و ما قبضه أحدهما فليس لشريكه فيه قبض و لا لوكيله، فلا يثبت له فيه حقٌّ، و كان لقابضه(2) ؛ لثبوت يده عليه بحقٍّ، فأشبه ما لو كان الدَّيْن بسببين، و لأنّ هذا يشبه الدَّيْن في الذمّة، و إنّما يتعيّن حقّه بقبضه، فأشبه تعيينه بالإبراء، و لأنّه لو كان لغير القابض حقٌّ في المقبوض لسقط بتلفه كسائر الحقوق، و لأنّ هذا القبض إن كان بحقٍّ لم يشاركه غيره فيه، كما لو كان الدَّيْن بسببين، و إن كان بغير حقٍّ لم يكن له مطالبته؛ لأنّ(3) حقّه في الذمّة لا في العين، فأشبه ما لو أخذ غاصب منه مالاً، فعلى هذا ما قبضه القابض يختصّ به، دون شريكه، و ليس لشريكه الرجوعُ عليه، فإن اشترى بنصيبه ثوباً أو غيره صحّ، و لم يكن لشريكه إبطال الشراء، و إن قبض أكثرر.

ص: 375


1- المغني 198:5، الشرح الكبير 182:5.
2- في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «له قبضه» بدل «لقابضه». و الصواب ما أثبتناه من المصدر.
3- في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «و لأنّ». و الصحيح ما أثبتناه بدون الواو، كما في المصدر.

من حقّه بغير إذن شريكه لم يبرأ الغريم ممّا زاد على حقّه(1).

و المشهور ما قلناه أوّلاً.

و لا تصحّ قسمة ما في الذمم؛ لأنّ الذمم لا تتكافأ و لا تتعادل، و القسمة تقتضي التعديل، و القسمة من غير تعديلٍ بيعٌ، و لا يجوز بيع الدَّيْن بالدَّيْن، فلو تقاسما ثمّ تَوى(2) بعض المال، رجع مَنْ تَوى ماله على مَنْ لم يَتْو، و به قال ابن سيرين و النخعي و أحمد في إحدى الروايتين، و في الأُخرى: يجوز ذلك؛ لأنّ الاختلاف لا يمنع القسمة، كما لو اختلفت الأعيان، و به قال الحسن و إسحاق(3).

و هذا إذا كان في ذممٍ متعدّدة، فأمّا في ذمّةٍ واحدة فلا يمكن القسمة؛ لأنّ معنى القسمة إفراز الحقّ، و لا يتصوّر ذلك في ذمّةٍ واحدة.

مسألة 188: قد بيّنّا أنّه إذا تساوى المالان تساوى الشريكان في الربح،

و إن تفاوت المالان تفاوتا في الربح على النسبة، فإن شرطا خلاف ذلك جاز عندنا، و صحّت الشركة، و به قال أبو حنيفة(4) ، خلافاً للشافعي(5).

فلو كان لأحدهما ألف و للآخَر ألفان فأذن صاحب الألفين لصاحب الألف أن يتصرّف فيهما على أن يكون الربح بينهما نصفين فإن كان صاحب الألفين شرط على نفسه العمل فيهما أيضاً، صحّ عندنا.

ص: 376


1- المغني 198:5-199، الشرح الكبير 182:5-183.
2- راجع الهامش (1) من ص 39.
3- الإشراف على مذاهب أهل العلم 50/68:1، المغني 199:5، الشرح الكبير 124:5.
4- راجع الهامش (2) من ص 353.
5- راجع الهامش (2) من ص 352.

و قال الشافعي: تفسد الشركة، و يكون الربح على قدر المالين، و يجب لكلّ واحدٍ منهما على الآخَر أُجرة عمله في نصيبه(1).

و قال أبو حنيفة: إذا كانت الشركة فاسدةً لم يجب لواحدٍ منهما أُجرة؛ لأنّ العمل لا يقابله عوض في الشركة الصحيحة فكذلك الفاسدة(2).

و المعتمد عندنا: إنّ الشركة إذا فسدت كان لكلٍّ منهما أُجرة مثل عمله - كما هو قول الشافعي - لأنّ المتشاركين إذا شرطا في مقابلة عملهما ما لم يثبت، يجب أن يثبت عوض المثل، كما لو شرطا في الإجارة شرطاً فاسداً.

و ما ذكره في الصحيحة فإنّما لم يستحق في مقابلة العمل عوضاً؛ لأنّه لم يشترط في مقابلته شيئاً، و في مسألتنا بخلافه.

و لو شرط صاحب الألفين العمل على صاحب الألف خاصّةً، صحّت الشركة، و كانت شركةً و قراضاً عند الشافعي، و يكون لصاحب الألف ثلث الربح بحقّ ماله، و الباقي - و هو ثلثا الربح - بينهما، لصاحب المال ثلاثة أرباعه، و للعامل ربعه، و ذلك لأنّه جعل النصف له، فجعلنا الربح ستّة أسهم منها ثلاثة شرط حصّة ماله منها سهمان، و سهم هو ما يستحقّه بعمله على مال شريكه [و](3) حصّة مال شريكه أربعة أسهم، للعامل سهم، و هو الربع(4).

و عندنا أنّه يكون شركةً صحيحة؛ عملاً بالشرط.

و لو كان لرجلين ألفا درهم فأذن أحدهما لصاحبه أن يعمل في ذلك7.

ص: 377


1- حلية العلماء 96:5، البيان 333:6.
2- حلية العلماء 96:5 و 97، البيان 333:6.
3- بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «من». و الظاهر ما أثبتناه.
4- بحر المذهب 132:8-133، البيان 334:6، المغني 136:5-137.

و يكون الربح بينهما نصفين، فإنّ هذا ليس بشركةٍ و لا قراض؛ لأنّ شركة العنان تقتضي أن يشتركا في المال و العمل، و القراض يقتضي أن يكون للعامل نصيب من الربح في مقابلة عمله، و هنا لم يشرط له، فإذا عمل كان الربح بينهما نصفين على قدر المالين، و كان عمله في نصيب شريكه معونةً له منه و تبرّعاً؛ لأنّه لم يشترط لنفسه في مقابلته عوضاً.

مسألة 189: لو اشتريا عبداً و قبضاه فأصابا به عيباً فأراد أحدهما الإمساكَ و الآخَر الردَّ، لم يجز،

و به قال أبو حنيفة(1)في ج 11، ص 172، المسألة 340.(2).

و قال الشافعي: يجوز(3)في النسخ الخطّيّة: «البيع».(4).

و قد سلف(3) ذلك في كتاب البيوع(4).

إذا تقرّر هذا، فإذا اشترى أحد الشريكين عبداً فوجد به عيباً، فإن أرادا الردَّ كان لهما.

و إن أراد أحدهما الردَّ و الآخَر الإمساك، فإن كان قد أطلق الشراء و لم يذكر أنّه يشتريه له و لشريكه لم يكن له الردّ؛ لأنّ الظاهر أنّه يشتريه لنفسه، فلم يلزم البائع حكماً بخلاف الظاهر.

و إن كان قد أعلمه أنّه يشتريه بمال الشركة أو له و لشريكه، لم يكن لأحدهما الردّ و للآخَر الأرش على ما تقدّم.

و للشافعيّة وجهان:

أحدهما: ليس له الردّ؛ لأنّه إنّما أوجب إيجاباً واحداً، فلا يبعّض

ص: 378


1- البيان 342:6، و راجع ج 11 - من هذا الكتاب - ص 172، الهامش
2- .
3- البيان 342:6، و راجع ج 11 - من هذا الكتاب - ص 172، الهامش
4- .

عليه.

و الثاني: له الردّ؛ لأنّه إذا كان يقع الشراء لاثنين، كان بمنزلة أن يوجب لهما، و لو أوجب لهما كان في حكم العقدين، كذا هنا(1).

و إذا باع أحد الشريكين عيناً من أعيان الشركة و أطلق البيع ثمّ ادّعى بعد ذلك أنّه باع ماله و مال شريكه بغير إذنه، لم تُسمع دعواه؛ لأنّه يخالف ظاهر قوله، فإن ادّعى ذلك شريكه، كان عليه إقامة البيّنة أنّه شريكه فيه، فإذا قامت البيّنة به و ادّعى المشتري أنّه أذن للبائع في البيع، كان القولُ قولَه: إنّه لم يأذن، مع يمينه، فإذا حلف فسخ البيع في نصيبه إن لم يجز البيع، و لا ينفسخ في الباقي إلّا برضا المشتري.

و للشافعي قولان مبنيّان على تفريق الصفقة(2).

مسألة 190: إذا كان لكلٍّ من الرجلين عبد بانفراده، صحّ بيعهما معاً صفقةً واحدة و متعدّدة،

اتّفقت قيمتهما أو اختلفت، عندنا.

و للشافعي قولان:

أحدهما: يصحّ مطلقاً؛ لأنّ جملة الثمن معلومة في العقد.

و الثاني - و هو الأصحّ عندهم -: إنّ البيع فاسد؛ لأنّ العقد إذا كان في أحد طرفيه عاقدان كان بمنزلة العقدين، فتكون حصّة كلّ واحدٍ منهما مجهولةً؛ لأنّ ما يخصّ كلّ واحدٍ من العبدين من الثمن غير معلومٍ في العقد، بخلاف ما لو كان العبدان لواحدٍ؛ لوحدة العقد(3).

و هو غلط؛ إذ مجموع الثمن في مقابلة مجموع الأجزاء، و هُما

ص: 379


1- الحاوي الكبير 486:6، بحر المذهب 137:8، البيان 342:6.
2- راجع بحر المذهب 138:8.
3- التهذيب - للبغوي - 499:3، العزيز شرح الوجيز 145:4، روضة الطالبين 92:3.

معلومان، و لا يجب العلم بالمقابلة بين الأجزاء و الأجزاء لا حالة العقد و لا قبله.

إذا عرفتَ هذا، فلو كان العبدان لرجلين لكلّ واحدٍ منهما أحدهما، فوكّل واحدٌ منهما الآخَر في بيع عبده مع عبده، فباعه معه، صحّ عندنا - و هو أحد قولَي الشافعي(1) - فيقوّم كلّ واحدٍ منهما، و يقسّم الثمن على قدر القيمتين.

و على القول الآخَر للشافعي - و هو فساد البيع(2) - إن صدّق المشتري البائعَ أنّه باع عبده و عبد غيره كان البيع فاسداً، و إن كذّبه فالقول قول المشتري مع يمينه؛ لأنّ الظاهر أنّه باع ملكه، و يحلف المشتري أنّه لا يعلم أنّ أحد العبدين لم يكن له، فإذا حلف سقطت عنه الدعوى.

و أمّا الثمن الذي في يد البائع فإنّه مُقرٌّ أنّه لا يستحقّه إلّا أنّ المشتري قد حال بينه و بين العبدين و قد استحقّ بذلك القيمةَ، فيُنظر فإن كان الثمن قدر القيمة أو دونه كان لهما أخذه، و إن كان أكثر منهما لا يستحقّان إلّا قدر القيمة، و الباقي لا يدّعيانه، فيردّانه إلى يد الحاكم ليحفظه لصاحبه، فإذا ادّعاه ردّ إليه.6.

ص: 380


1- الحاوي الكبير 487:6.
2- الحاوي الكبير 487:6.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.