تذكره الفقهاء المجلد 14

اشارة

سرشناسه : علامه حلي حسن بن يوسف ق 726 - 648

عنوان و نام پديدآور : تذكره الفقهاء/ تاليف العلامه الحلي الحسن بن يوسف بن المطهر؛ تحقيق موسسه آل البيت عليهم السلام لاحياآ التراث مشخصات نشر : قم موسسه آل البيت عليهم السلام لاحياآ التراث 1400ق = 1300.

مشخصات ظاهري : ج 22

فروست : (موسسه آل البيت عليهم السلام لاحياآ التراث 127؛ 129؛ 130134)

شابك : 964-5503-33-7 (دوره ؛ 964-5503-44-2 2900ريال (ج 4) ؛ 964-5503-46-9 (ج 6) ؛ 964-319-007-2 (ج 7) ؛ 964-319-224-5 8000ريال (ج 11)

يادداشت : عربي يادداشت : فهرست نويسي براساس جلد چهارم 1414ق = 1372

يادداشت : ج 1 (چاپ اول 1420ق = 1378)؛ 8000 ريال ج 1) :ISBN 964-319-197-4

يادداشت : ج 8 (چاپ اول 1417ق = 1376)؛ 6500 ريال ج )8ISBN 964-319-051-x

يادداشت : ج 9 (چاپ اول 1419ق = 1377)8000 ريال :(ج )9ISBN 964-319-008-0

يادداشت : ج 13 (چاپ اول 1423ق = 1381)9500 ريال :ISBN 964-319-389-6

يادداشت : كتابنامه مندرجات : (ج )7) ISBN 964-319-007-2 ج 12) 1422ق = 8500 :1380 ريال موضوع : فقه جعفري -- قرن ق 8

شناسه افزوده : موسسه آل البيت عليهم السلام لاحياآ التراث رده بندي كنگره : BP182/3 /ع8ت4 1300ي

رده بندي ديويي : 297/342

شماره كتابشناسي ملي : م 73-2721

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

الجزء الرابع عشر

تتمة كتاب الديون و توابعها

المقصد الثالث: في التفليس

اشارة

و فيه فصول:

الفصل الأوّل: المفلس مَنْ ذهب خيار ماله و بقي دونه، و صار ماله فلوساً زيوفاً.

اشارة

و الإفلاس مأخوذ من الفلوس. و قولهم: أفلس الرجل، كقولهم:

أخبث، أي: صار أصحابه خُبثاء؛ لأنّ ماله صار فلوساً و زيوفاً، و لم يبق له مال خطير، و كقولهم: أذلّ الرجل، أي: صار إلى حالة يذلّ فيها. و كذا أفلس، أي: صار إلى حالة يقال فيها: ليس معه فلس، أو يقال: لم يبق معه إلاّ الفلوس، أو كقولهم: أسهل الرجل و أحزن: إذا وصل إلى السهل و الحزن؛ لأنّه انتهى أمره و ما صرفه إلى الفلوس.

و الأصل أنّ المفلس في العرف هو الذي لا مال له و لا ما يدفع به حاجته، و لهذا لمّا قال النبيّ صلى الله عليه و آله: «أ تدرون مَن المفلس ؟» قالوا:

يا رسول اللّه المفلس فينا مَنْ لا درهم له و لا متاع، قال: «ليس ذلك المفلس، و لكن المفلس مَنْ يأتي يوم القيامة حسناته أمثال الجبال و يأتي

ص: 5

و قد ظلم هذا و أخذ من عرض هذا فيأخذ هذا من حسناته و هذا من حسناته، فإن بقي عليه شيء أخذ من سيّئاتهم فيردّ عليه ثمّ صلّ في النار»(1).

هذا في عرف اللغة، و أمّا في الشرع فقيل: مَنْ عليه الديون بحيث لا يفي بها ماله(2). و شمل مَنْ لا مال له البتّة، و مَنْ له مالٌ قاصر.

و سُمّي مفلساً و إن كان ذا مال؛ لأنّ ماله يستحقّ الصرف في جهة دَيْنه، فكأنّه معدوم، و قد دلّ عليه تفسير النبيّ صلى الله عليه و آله: مفلس الآخرة، فإنّه أخبر أنّ له حسنات كالجبال لكنّها دون ما عليه، فقُسّمت بين الغرماء، فبقي لا حسنة له. و مِثْلُ هذا الرجل يجوز للحاكم الحَجْر عليه بشرائط تأتي.

و هذا التعريف شامل لمن قصر ماله و مَنْ لا مال له، فيحجر عليه في المتجدّد باحتطابٍ و شبهه.

و الفلس سبب في الحجر بشروط خمسة: المديونيّة، و ثبوت الديون عند الحاكم، و حلولها، و قصور ما في يده عنها، و التماس الغرماء أو بعضهم الحجر عليه.

مسألة 258: إذا حجر الحاكم عليه، ثبت حكمان:

[أحدهما](3): تعلّق الدَّيْن بماله و إن تجدّدت الماليّة بعد الحجر حتى لا ينفذ تصرّفه فيه بما يضرّ الغرماء و لا تزاحمها الديون الحادثة.

و الثاني: أنّ مَنْ وجد عند المفلس عينَ ماله كان أحقَّ به من غيره.

و لو مات مفلساً قبل أن يحجر عليه، تعلّقت الديون بالتركة [و](4)لا فرق بين المفلس و غيره.

ص: 6


1- أورده ابنا قدامة في المغني و الشرح الكبير 492:4 بتفاوت يسير في بعض الألفاظ، و بمعناه في صحيح مسلم 2581/1997:4، و سنن الترمذي 2418/613:4.
2- العزيز شرح الوجيز 3:5، روضة الطالبين 362:3.
3- ما بين المعقوفين يقتضيه السياق.
4- ما بين المعقوفين يقتضيه السياق.

و هل يختصّ الغريم بعين ماله ؟ الأقرب: أنّ له الرجوعَ إن كان ما تركه المفلس يفي بالديون، و إن قصر فلا.

و قال أبو حنيفة: ليس للحاكم أن يحجر عليه، فإن أدّى اجتهاده إلى الحجر عليه و فَعَل و أمضاه حاكمٌ، ثبت الحجر، و ليس له التصرّف في ماله، إلاّ أنّ المبيع الذي يكون في يده يكون أُسوةَ الغرماء، و ليس للبائع الرجوعُ فيه(1).

و هو خطأ؛ فإنّ النبيّ صلى الله عليه و آله حجر على معاذ.

قال عبد الرحمن بن كعب(2): كان معاذ بن جبل من أفضل شباب قومه [و](3) لم يكن يمسك شيئاً، فلم يزل يُدان حتى أغرق ماله في الدَّيْن، فكلّم النبيّ صلى الله عليه و آله غرماءه، فلو تُرك أحد من أجل أحدٍ لتُرك معاذ من أجل النبي صلى الله عليه و آله، فباع لهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله مالَه حتى قام معاذ بغير شيء(4).

قيل: إنّما لم يترك [الغرماء](5) لمعاذ حين [كلّمهم](6) النبيّ صلى الله عليه و آله؛ لأنّهم كانوا يهوداً(7).

مسألة 259: إذا مات المفلس و وجد البائع عين ماله،

فقد نقلنا

ص: 7


1- الهداية - للمرغيناني - 285:3 و 287، العزيز شرح الوجيز 4:5، المغني 494:4 و 529، الشرح الكبير 500:4 و 593.
2- في المصادر - ما عدا المغني -: «كعب بن مالك» لا «عبد الرحمن بن كعب».
3- ما بين المعقوفين من المصدر.
4- سنن البيهقي 48:6، المستدرك - للحاكم - 273:3، المصنّف - لعبد الرزّاق - 15177/268:8، المغني 493:4 و 530، الشرح الكبير 495:4.
5- ما بين المعقوفين من المصدر.
6- بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «كلّموا». و ما أثبتناه من المصدر، و هو الموافق لما في بقيّة المصادر المذكورة في الهامش (4).
7- المغني 493:4.

الخلافَ فيه، و قلنا: إنّه لا يختصّ به البائع إلاّ مع الوفاء، و به قال مالك(1) ، خلافاً للشافعي و أحمد(2).

و ذلك لأنّ الميّت قد انقطع تحصيله و لا ذمّة له، فلو خصّصنا البائع بسلعته مع عدم وفاء التركة بالديون، كان إضراراً بباقي الدُّيّان؛ لحصول اليأس من استيفاء الحقّ منه، فوجب اشتراك جميع الدُّيّان في جميع التركة؛ عملاً بالعَدْل.

و لأنّ الأصل عدم الرجوع؛ لانتقال العين إلى المفلس بالشراء، تُرك العمل به في صورة الحيّ؛ للإجماع و النصّ، فيبقى الباقي على حكم الأصل.

و لما رواه العامّة من قول النبيّ صلى الله عليه و آله: «أيّما رجل باع متاعاً فأفلس الذي ابتاعه و لم يقبض البائع من ثمنه شيئاً فوجده بعينه، فهو أحقّ به، و إن مات فهو أُسوة الغرماء»(3).

و من طريق الخاصّة: ما رواه أبو ولاّد - في الصحيح - عن الصادق عليه السلام، قال: سألته عن رجل باع من رجل متاعاً إلى سنة فمات المشتري قبل أن يحلّ ماله و أصاب البائع متاعه بعينه، له أن يأخذه إذا تحقّق له ؟ قال: فقال:2.

ص: 8


1- المدوّنة الكبرى 237:5، بداية المجتهد 288:2، المعونة 1186:2، الكافي في فقه أهل المدينة: 418، المغني 547:4-548، الشرح الكبير 508:4، الحاوي الكبير 273:6، التهذيب - للبغوي - 86:4، العزيز شرح الوجيز 3:5.
2- المهذّب - للشيرازي - 334:1، الحاوي الكبير 273:6، الوسيط 20:4، العزيز شرح الوجيز 3:5، روضة الطالبين 363:3، بداية المجتهد 288:2، المغني 548:4، الشرح الكبير 508:4، و في الأخيرين قول أحمد على العكس، لا ما نُسب إليه في المتن، و أمّا المنسوب إليه فهو في «العزيز شرح الوجيز» فلاحظ.
3- سنن أبي داوُد 286:3-3520/287 و 3522.

«إن كان عليه دَيْنٌ و ترك نحواً ممّا عليه فيأخذ إن تحقّق له، و لو لم يترك نحواً من دَيْنه فإنّ صاحب المتاع كواحدٍ ممّن له عليه شيء، يأخذ بحصّته، و لا سبيل له على المتاع»(1).

إذا عرفت هذا، فاعلم أنّ أكثر الشافعيّة ذهبوا إلى أنّه إذا مات و خلّف وفاءً، لم يكن لصاحب السلعة الرجوعُ فيها(2).

و قال بعضهم: إنّ له أن يرجع فيها إذا مات المشتري و خلّف وفاءً(3)، كما ذهبنا إليه؛ لما قلناه من حديث(4) أبي هريرة، و ما رويناه من طريق الخاصّة عن الصادق عليه السلام.

و لأنّ قبض ثمن السلعة من التركة لا يستقرّ؛ لأنّه ربما ظهر غريمٌ آخَر فيلزمه ردّ بعض ما أخذه أو كلّه.

و احتجّ الشافعي: بأنّ ماله يفي بقضاء ديونه، فلم يكن لصاحب السلعة الرجوعُ فيها، كما لو كان حيّاً(5).

و الفرق ظاهرٌ؛ فإنّ الحيّ يرجع إلى ذمّته لو خرج المقبوض مستحقّاً، بخلاف الميّت.

و اعلم أنّ الشافعي ردّ على مالك - حيث لم يجوّز له الرجوع بعين المال بعد موت المفلس -: قد جعلتم للورثة أكثر ممّا للموروث الذي عنه(6)ر.

ص: 9


1- التهذيب 421/193:6، الاستبصار 20/8:3.
2- العزيز شرح الوجيز 5:5، روضة الطالبين 363:3، المغني 548:4، الشرح الكبير 508:4.
3- العزيز شرح الوجيز 5:5، روضة الطالبين 363:3، المغني 548:4، الشرح الكبير 508:4.
4- تقدم تخريجه في ص 8، الهامش (3).
5- المهذّب - للشيرازي - 334:1، العزيز شرح الوجيز 5:5، روضة الطالبين 363:3.
6- في النسخ الخطّيّة و الحجريّة بدل «عنه»: «عليه». و الصحيح ما أثبتناه كما في المصدر.

ملكوا، و أكثر حال الوارث أن لا يكون له إلاّ ما للميّت(1).

و قد اعترضه المزني بأنّه قال في الحبس: إذا هلك أهله رجع إلى أقرب الناس بالمحبس. فجَعَل لأقرب الناس بالمحبس [في حياته] ما لم يجعل للمحبس(2).

و أُجيب عن كلام المزني: بأنّ الواقف إذا وقف وقفاً منقطعاً هل يصحّ؟ قولان، فإن قلنا: يصحّ، فإنّه يرجع إذا انقرض الموقوف عليهم إلى الفقراء من أقارب الواقف، لا على سبيل الميراث عنه، و إنّما جعله صدقة، و سبيل الصدقة الفقراء و المساكين، فجعل أقارب الواقف أولى من غيرهم، فأمّا الواقف فلا ترجع إليه صدقته؛ لأنّه لا يكون متصدّقاً على نفسه، و في مسألتنا هذه جعل حقّ الورثة آكد من حقّ مورّثهم، فاختلفا(3).

مسألة 260: المنع من التصرّف يفتقر إلى حكم الحاكم بالحجر إجماعاً،

فلو لم يحجر عليه الحاكم، نفذت تصرّفات المفلس بأسرها، و ليس للغرماء منعه من شيء منها إلاّ بعد حجر الحاكم عليه.

أمّا الرجوع إلى عين المبيع أو عين القرض أو غير ذلك من أمواله التي هي معوّضات الديون فهل يفتقر صاحبها إلى سبق الحجر كمنع التصرّف أم لا؟ فيه إشكال ينشأ: من قوله عليه السلام: «أيّما رجل مات أو أفلس فصاحب المتاع أحقّ بمتاعه إذا وجده بعينه»(4) - الذي رواه العامّة - أثبت الأحقّيّة بمجرّد الإفلاس، و من طريق الخاصّة: رواية الكاظم عليه السلام و قد سأله

ص: 10


1- مختصر المزني: 102، و ما بين المعقوفين من المصدر.
2- مختصر المزني: 102، و ما بين المعقوفين من المصدر.
3- راجع: الحاوي الكبير 274:6.
4- المستدرك - للحاكم - 51:2، سنن ابن ماجة 2360/790:2، سنن الدار قطني 107/29:3، العزيز شرح الوجيز 5:5.

عمر بن يزيد عن الرجل يركبه الدَّيْن فيوجد متاع رجل عنده بعينه، قال:

«لا يحاصّه الغرماء»(1) و لم يشرط في ذلك الحجر، و من أنّه مالٌ انتقل إليه بعقدٍ شرعيّ، فلا يخرج عنه إلاّ بوجهٍ شرعيّ، و لا وجه إلاّ الحجر، فإنّه يمنعه من التصرّف فيه، فيتحقّق حينئذٍ أولويّة البائع و المقرض و غيرهما بعين أموالهم.

على أنّ الأحقّيّة في حديث العامّة لا تقتضي الأخذ بدون الحجر، فيجوز أن يكون «أحقّ» على معنى أنّ له التمكّن من الرجوع إلى عينه بسلوك الأسباب المفضية إليه، و من جملتها: طلب الحجر، و الإفلاس يفيد الأحقّيّة.

و كذا في حديث الكاظم عليه السلام في قوله: «لا يحاصّه الغرماء» فإنّه لا يقتضي جواز الأخذ من غير حجر.3.

ص: 11


1- التهذيب 420/193:6، الاستبصار 19/8:3.

ص: 12

الفصل الثاني: في شرائط الحجر عليه

اشارة

قد ذكرنا(1) أنّ الشرائط خمسة: المديونيّة - و لا بُدَّ منه؛ فإنّ مَنْ لا دَيْن عليه لا يجوز الحجر عليه، غنيّاً كان أو فقيراً - مع بلوغه و رشده و عدم سفهه، فلو حجر عليه الحاكم، كان لغواً. و لو استدان بعد ذلك، لم يمنع من الاستدانة، و كذا لا يمنع من سائر التصرّفات، و لا يؤثّر الحجر في منعه من التصرّف فيما اكتسبه من الأموال. و لأنّ سؤال الغرماء شرط(2) في الحجر، فلا يتحقّق من دون الدَّيْن.

مسألة 261: من شرائط الحجر قصور أموال المديون عن الديون،
اشارة

فلو ساوت الديون أو فضلت عنها، لم يجز الحجر عند علمائنا - و هو أحد قولي الشافعي - لأصالة عدم الحجر، و رفع اليد عن العاقل، ثبت خلافه فيما إذا قصرت أمواله عن ديونه حفظاً لأموال الغرماء، فبقي الباقي على الأصل. و لأنّ الغرماء يمكنهم المطالبة بحقوقهم و استيفاؤها في الحال.

و الثاني له: الحجر إذا ظهرت عليه أمارات الفلس(3).

و هو ممنوع؛ لأنّ في ماله وفاء ديونه، فلم يحجر عليه، كما لو لم تظهر أمارات الفلس.

ص: 13


1- في ص 6.
2- هذا هو الشرط الخامس كما يأتي في ص 20، المسألة 267.
3- التهذيب - للبغوي - 85:4، العزيز شرح الوجيز 7:5-8، روضة الطالبين 365:3.

و قال أبو حنيفة: لا يجوز الحجر مطلقاً، بل يُحبس الغريم أبداً إلى أن يقضيه(1).

فروع:
أ - لا فرق عندنا في المنع من الحجر مع وفاء ماله بديونه بين أن تظهر عليه أمارات الفلس

- مثل أن تكون نفقته من رأس ماله، أو يكون ما في يده بإزاء دَيْنه و لا وجه لنفقته إلاّ ما في يده - أو لا تظهر بأن تكون نفقته في كسبه أو ربح رأس ماله، خلافاً للشافعي(2).

ب - إذا كان مالُه يفي بديونه، لم يُحجر عليه إجماعاً،

بل يُطالب بالديون، فإن قضاها، و إلاّ تخيّر الحاكم مع طلب أربابها منه بين حبسه إلى أن يقضي المال، و بين أن يبيع متاعه عليه، و يقضى به الدَّيْن، و به قال الشافعي(3) ، خلافاً لأبي حنيفة حيث أوجب الحبس، و مَنَع من البيع(4).

ج - إذا رفع الغرماء الغريمَ إلى الحاكم و سألوه الحجر عليه، لم يُجِبْهم إلى ذلك حتى تثبت عنده الديون و قصور أمواله،

فينظر في ماله هل يفي بديونه أم لا؟ فينظر مقدار ما عليه من الديون و يقوم ماله بذلك ؟

ص: 14


1- المبسوط - للسرخسي - 163:24، الهداية - للمرغيناني - 285:3، المغني 529:4-530.
2- المهذّب - للشيرازي - 328:1، الحاوي الكبير 265:6، التهذيب - للبغوي - 85:4، حلية العلماء 488:4-489، العزيز شرح الوجيز 7:5-8، روضة الطالبين 365:3.
3- حلية العلماء 484:4، العزيز شرح الوجيز 18:5، روضة الطالبين 372:3.
4- المبسوط - للسرخسي - 164:24 و 165، الهداية - للمرغيناني - 285:3، المغني 529:4-530، حلية العلماء 485:4، العزيز شرح الوجيز 18:5.
د - معوّضات الديون و الأعيان التي أثمانها عليه تقوَّم من جملة أمواله

- و هو أحد قولي الشافعيّة(1) - لأنّ أصحابها بالخيار بين أن يرجعوا و بين أن لا يرجعوا و يطالبوه بالثمن.

و في الثاني: لا تُقوَّم؛ لأنّ لأربابها الرجوع فيها، فلا تُحسب أثمانها عليه و لا يقوّمها مع ماله(2).

و ما قلناه أقوى.

ه - قد قلنا: إنّه إذا كان في أمواله وفاء لديونه، لم يُحجر عليه.

و للشافعي قولٌ آخَر: إنّه يُحجر عليه مع ظهور أمارات الفلس، فحينئذٍ - على قوله - هل يكون لمن وجد متاعه بعينه أن يرجع فيه ؟ له وجهان:

أحدهما: له ذلك؛ لقوله عليه السلام: «فصاحب المتاع أحقّ بمتاعه»(3)الحاوي الكبير 265:6-266، حلية العلماء 488:4-489، العزيز شرح الوجيز 7:5-8، روضة الطالبين 365:3-366.(4) و لم يفصّل. و لأنّ الحجر موجود.

و الثاني: ليس له الرجوع فيها؛ لأنّه يصل إلى ثمنها من مال المشتري من غير تبرّع الغرماء، فلم يكن له الرجوع في العين، كما قبل الحجر(4).

و - لو لم يكن له مالٌ البتّة، ففي جواز الحجر عليه إشكال

ينشأ: من عدم فائدة الحجر، و هي التحفّظ بما في يده عن الإتلاف، و من الاكتفاء بمجرّد الدَّيْن لجواز الحجر منعاً له من التصرّف فيما عساه يتجدّد في ملكه باصطيادٍ و اتّهابٍ و ظفر بركاز و غيرها.

مسألة 262: من شرائط الحجر ثبوتُ الدَّيْن عند الحاكم؛

لأنّ المتولّي

ص: 15


1- العزيز شرح الوجيز 8:5، روضة الطالبين 366:3.
2- العزيز شرح الوجيز 8:5، روضة الطالبين 366:3.
3- تقدّم تخريجه في ص 10، الهامش
4- .

للحجر الحاكم، و ليس له الحجر مجّاناً بقول مَنْ كان، بل ما لم تثبت الديون - إمّا بالبيّنة أو بالإقرار - لم يجز له الحجر.

مسألة 263: و من الشرائط كوْنُ الديون حالّةً،

فلو كانت مؤجَّلةً، لم يجز الحجر بها، سواء كان مالُه يفي بها أو لا؛ لأنّه ليس لهم المطالبة في الحال، و ربما يجد الوفاء عند توجّه المطالبة، فلا تُعجَّل عقوبته بمنعه من التصرّف.

و لو كان البعض حالاًّ و الباقي مؤجَّلاً، فإن وَفَتْ أمواله بالديون الحالّة، فلا حجر؛ لعدم اعتبار الديون المؤجَّلة. و إن قصرت عنها، وجب الحجر.

و إذا حُجر عليه بالديون الحالّة، لم تحلّ عليه الديون المؤجَّلة - و هو أصحّ قولي الشافعيّة، و اختاره المزني و أحمد في إحدى الروايتين(1) - لأنّ المقصود من التأجيل التخفيفُ ليكتسب في مدّة الأجل ما يقضي به الدَّيْن، و هذا المقصود غير ثابت، بخلاف الميّت؛ فإنّ توقّع الاكتساب منه قد بطل.

و لأنّه دَيْنٌ مؤجَّل على حيّ، فلا يحلّ قبل أجله، كغير المفلَّس، بخلاف الميّت؛ فإنّ ذمّته قد بطلت.

و الثاني للشافعي: أنّها تحلّ - و به قال مالك و أحمد في الرواية الأُخرى - لأنّ الإفلاس سبب في تعلّق الدَّيْن بالمال، فأسقط الأجل، كالموت(2)

ص: 16


1- التنبيه: 102، التهذيب - للبغوي - 100:4، حلية العلماء 494:4، الوجيز 170:1، العزيز شرح الوجيز 6:5، روضة الطالبين 364:3، المغني 525:4، الشرح الكبير 543:4.
2- التنبيه: 102، التهذيب - للبغوي - 100:4، حلية العلماء 494:4، العزيز شرح الوجيز 6:5، روضة الطالبين 364:3، المدوّنة الكبرى 235:5، بداية المجتهد 286:2، الذخيرة 172:8، المغني 525:4، الشرح الكبير 543:4.

و قد مرّ الفرق.

و رتَّب بعضُ الشافعيّة هذين القولين على القولين في أنّ مَنْ عليه الدَّيْنُ المؤجَّل لو جُنّ هل يحلّ الأجل ؟ و أنّ الحلول في صورة الجنون أولى؛ لأنّ المجنون لا استقلال له كالميّت، و وليُّه ينوب عنه كما ينوب الوارث عن الميّت(1).

و رأى الجويني الترتيبَ بالعكس أولى؛ لأنّ وليَّ المجنون له أن يبتاع له بثمنٍ مؤجَّل عند ظهور المصلحة، فإذا لم يمنع الجنونُ التأجيلَ ابتداءً فلأن لا يقطع الأجلَ دواماً كان أولى(2).

و عندنا أنّ الجنون لا يوجب الحلول.

مسألة 264: إنّما يقسّم الحاكمُ أموالَه على الديون الحالّة خاصّةً على ما اخترناه من عدم حلول المؤجَّلة،

فيبيع أمواله و يقسّمها على الحالّة بالنسبة، و لا يدّخر شيئاً لأصحاب الديون المؤجَّلة، و لا يدام الحجر بعد القسمة لأصحاب الديون المؤجَّلة، كما لا يُحجر بها ابتداءً، و هو أحد قولي الشافعي.

و في الآخَر: أنّها تحلّ الديون المؤجَّلة، فيقسّم المال بين أصحاب هذه الديون و الديون الحالّة ابتداءً، كما لو مات(3).

و إن كان في الديون المؤجَّلة ما كان ثمن مبيعٍ و هو قائم عند المفلس، فلصاحبه الرجوع إلى عين ماله - عنده(4) - كما لو كان حالاًّ ابتداءً.

ص: 17


1- العزيز شرح الوجيز 6:5.
2- العزيز شرح الوجيز 6:5.
3- العزيز شرح الوجيز 7:5، روضة الطالبين 365:3.
4- العزيز شرح الوجيز 7:5، روضة الطالبين 365:3.

و قال بعض الشافعيّة: فائدة الحلول أن لا يتعلّق بذلك المتاع حقُّ غير بائعه، و يكون محفوظاً إلى مضيّ المدّة، فإن وجد المفلس وفاءً فذلك، و إلاّ فحينئذ يفسخ(1).

و قيل: لا يفسخ حينئذٍ أيضاً، بل لو باع بثمنٍ مؤجَّل و حَلَّ الأجل ثمّ أفلس المشتري و حُجر عليه، فليس للبائع الفسخُ و الرجوعُ إلى المبيع؛ لأنّ البيع بالثمن المؤجَّل يقطع حقّ البائع عن المبيع بالكلّيّة، و لهذا [لا](2) يثبت فيه حقّ الحبس للبائع(3).

و الأصحّ عندهم: الأوّل(4).

و قال أحمد: يكون موقوفاً إلى أن يحلّ الدَّيْن، فيفسخ البائع إن شاء، أو يترك(5).

مسألة 265: لو اشترى بعد الحجر عليه أمتعةً بأثمان مؤجَّلة أو حالّة، دخلت في البيع في قضاء الديون،

كسائر أموال المفلس؛ لأنّه مَلَكها بالبيع، فكانت كغيرها، و ليس لبائعها تعلّقٌ بها؛ لأنّه لا مطالبة له في الحال إن كانت مؤجَّلةً على ما اخترناه من عدم حلول المؤجَّل بالحجر، و هو أصحّ وجهي الشافعيّة على القول بعدم الحلول.

و الثاني: أنّها لا تُباع، فإنّها كالمرهونة بحقوق بائعها، بل تُوقف إلى انقضاء الأجل، فإن انقضى و الحجر باقٍ، يثبت حقّ الفسخ. و إن أطلق، فكذلك و لا حاجة إلى إعادة الحجر، بل عزلها و انتظار الأجل كإبقاء الحجر

ص: 18


1- العزيز شرح الوجيز 7:5، روضة الطالبين 365:3.
2- ما بين المعقوفين أضفناه من «العزيز شرح الوجيز».
3- العزيز شرح الوجيز 7:5، روضة الطالبين 365:3.
4- العزيز شرح الوجيز 7:5، روضة الطالبين 365:3.
5- المغني 523:4، الشرح الكبير 533:4-534.

بالإضافة إلى المبيع(1).

و على ما اخترناه من جواز بيعها لو لم يتّفق بيعها و قسمتها حتى حلّ الأجل، فالأقرب: جواز الفسخ الآن.

و للشافعيّة وجهان(2).

و لو اشتراها بثمنٍ حالّ، كان لصاحبها الاختصاصُ أو الضرب بالثمن مع الجهل، و مع العلم الصبرُ. و يُحتمل الضربُ. و كذا المقرض.

و نقل الجويني وجهاً آخَر فيما إذا كان الثمن مؤجَّلاً: أنّه لا بُدَّ من إعادة الحجر ليثبت حقّ الفسخ(3).

و لو لم يكن عليه إلاّ ديون مؤجَّلة و طلب أصحابُها الحجْرَ، لم يُجابوا - و هو أصحّ وجهي الشافعيّة(4) - لأنّ طلب الحجر فرع طلب الدَّيْن و عسر تخليصه فلا يتقدّم عليه.

و الثاني: نعم؛ لأنّهم يتوسّلون به إلى الحلول أو(5) المطالبة(6).

مسألة 266: قد ذكرنا أنّه يشترط كون الديون زائدةً على قدر ماله،

فلو كانت مساويةً و الرجل كسوبٌ ينفق من كسبه، فلا حجر و إن ظهرت أمارات الإفلاس.

و قد تقدّم(7) أنّ للشافعي وجهين فيما إذا ظهرت أمارات الإفلاس.

و يجري الوجهان فيما إذا كانت الديون أقلَّ و كانت بحيث يغلب على

ص: 19


1- العزيز شرح الوجيز 7:5، روضة الطالبين 365:3.
2- العزيز شرح الوجيز 7:5، روضة الطالبين 365:3.
3- العزيز شرح الوجيز 7:5.
4- العزيز شرح الوجيز 7:5.
5- في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «و» بدل «أو». و ما أثبتناه كما في المصدر.
6- العزيز شرح الوجيز 7:5.
7- في ص 12، ضمن المسألة 261، و ص 14، الفرع «أ».

الظنّ انتهاؤها إلى حدّ المساواة، و منه إلى الزيادة؛ لكثرة النفقة. و هذه الصورة عندهم أولى بالمنع(1).

و إذا حجرنا في صورة المساواة، فهل لمن وجد عين ماله عند المفلس الرجوعُ؟ فيه وجهان:

أحدهما: نعم؛ لإطلاق الحديث(2)العزيز شرح الوجيز 8:5، روضة الطالبين 366:3.(3).

و الثاني: لا؛ لتمكّنه من استيفاء الثمن بتمامه(4).

و هل تدخل هذه الأعيان في حساب أمواله و أثمانها في حساب ديونه ؟ فيه - عندهم - وجهان(4).

و قال بعضهم: إنّ الوجهين مبنيّان على الوجهين في جواز الرجوع في الصورة السابقة إن لم نثبت الرجوع، أُدخلت(5) رجاءَ الوفاء. و إن أثبتناه فلا(6).

و هذا كلّه ساقط عندنا، و قد عرفت مذهبنا فيه، و أنّ الحجر إنّما يثبت مع القصور، لا مع المساواة.

مسألة 267: يشترط في الحجر التماسُ الغرماء من الحاكم ذلك،
اشارة

و ليس للحاكم أن يتولّى ذلك من غير طلبهم؛ لأنّه حقٌّ لهم، و هو لمصلحة الغرماء و المفلس و هُمْ ناظرون لأنفسهم لا يحكم الحاكم عليهم.

نعم، لو كانت الديون لمن للحاكم عليه ولايةٌ، كان له الحجر؛ لأنّه

ص: 20


1- العزيز شرح الوجيز 8:5، روضة الطالبين 365:3-366.
2- تقدّم تخريجه في ص 10، الهامش
3- .
4- حلية العلماء 489:4-490، العزيز شرح الوجيز 8:5، روضة الطالبين 366:3.
5- أي الأعيان في الأموال و الأثمان في الديون.
6- العزيز شرح الوجيز 8:5.

الغريم في الحقيقة، فله التماسُ ذلك من نفسه و فِعْلُه، كما لو كانت الديون لمجانين أو أطفال أو لمحجورٍ عليهم بالسفه و كان وليُّهم الحاكمَ، تولاّه القاضي لمصلحتهم من غير التماسٍ.

فروع:
أ - لو كان الدَّيْن للغُيّاب، لم يحجر عليه الحاكم؛

لأنّ الحاكم لا يستوفي ما للغُيّاب في الذمم، بل يحفظ أعيان أموالهم.

ب - لو التمس بعضُ الغرماء الحجرَ دون بعضٍ، فإن كانت ديون الملتمسين قدراً يجوز الحجر بها، حُجر عليه لذلك القدر،

و أُجيبوا إلى ذلك، ثمّ لا يختصّ الحجر بهم، بل يعمّ أثره الجميع.

و إن لم تكن ديونهم زائدةً على أمواله، فالأقرب: جواز الحجر، و لا ينتظر التماس الباقين؛ لئلاّ يضيع على الملتمس ماله [بتكاسل](1) غيره.

و يُحتمل العدمُ، و هو أظهر الوجهين عند الشافعيّة(2).

ج - لو لم يلتمس أحد من الغرماء الحجرَ فالتمسه المفلس، فالأقرب عندي: جواز الحجر عليه؛

لأنّ في الحجر مصلحةً للمفلس، كما فيه مصلحة للغرماء، و كما أجبنا الغرماء إلى تحصيل ملتمسهم حفظاً لحقوقهم، كذا يجب أن يجاب المفلس تحصيلاً لحقّه، و هو حفظ أموال الغرماء ليسلم من المطالبة و الإثم، و إذا تحقّق ثبوت غرضٍ للمفلس صحيحٍ في الحجر عليه، أُجيب إليه، و قد روي أنّ حَجْر النبيّ صلى الله عليه و آله على معاذ كان بالتماسٍ

ص: 21


1- بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «بتكامل». و ذاك تصحيف.
2- العزيز شرح الوجيز 6:5.

من معاذ دون طلب الغرماء(1) ، و هو أحد وجهي الشافعي. و الثاني:

لا يُجاب المفلس إليه؛ لأنّ الحُرّيّة و الرشد ينافيان الحجر، و إنّما يصار إلى الحجر إذا حقّت طلبة الغرماء(2)3.

ص: 22


1- كما في العزيز شرح الوجيز 6:5.
2- العزيز شرح الوجيز 6:5، روضة الطالبين 364:3.

الفصل الثالث: في أحكام الحجر

اشارة

إذا حجر الحاكم على المديون، ثبتت أحكام أربعة: منعه من التصرّف في ماله، و بيع ماله للقسمة على الديون، و اختصاص صاحب العين بها، و حبسه إلى ثبوت إعساره. فهنا مباحث أربعة:

البحث الأوّل: في منعه من التصرّف.
مسألة 268: يستحبّ للحاكم الإعلامُ بالحجر، و النداء على المفلس،

و يُشهد الحاكم عليه بأنّه قد حجر عليه و الإعلان بذلك بحيث لا يستضرّ معاملوه. فإذا حجر عليه، منعه من التصرّف المبتدأ في المال الموجود عند الحجر بعوضٍ أو غيره، سواء ساوى العوض أو قصر.

و التصرّف قسمان: إمّا أن يصادف المال أو لا، و الأوّل إمّا إنشاء أو إقرار.

و الأوّل ضربان: ما يصادف المال إمّا بتحصيل ما ليس بحاصل، كالاصطياد و الاحتطاب و قبول الوصيّة، و هذا لا يُمنع منه إجماعاً؛ لأنّ الغرض من الحجر منعه ممّا يتضرّر به الغرماء. و إمّا تفويت ما هو حاصل، فإن تعلّق بما بعد الموت - كالتدبير و الوصيّة - صحّ، فإن حصَّل زيادةً على الديون، نفذت الوصيّة، و إلاّ بطلت. و إن كان غير متعلّقٍ بالموت، فإمّا أن يكون مورده عينَ مالٍ أو ما في الذمّة. و إمّا أن لا يكون تصرّفه مصادفاً للمال، فلا بُدَّ من البحث عن هذه الأقسام بعون اللّه تعالى.

ص: 23

مسألة 269: كلّ تصرّفٍ للمفلس غير مصادفٍ للمال فإنّه لا يُمنع منه؛

لكماليّته، و عدم المانع من التصرّف فيما تصرّف فيه حيث لم يكُ مالاً، و ذلك كالنكاح، و لا يُمنع منه. و أمّا مئونة النكاح فسيأتي إن شاء اللّه تعالى.

و كذا الطلاق لا يُمنع منه؛ لأنّ تصرّفه هذا لم يصادف مالاً، بل هو إسقاط ما يجب عليه من المال، فكان أولى بالجواز، و إذا صحّ منه الطلاق مجّاناً، كان صحّة الخلع - الذي هو في الحقيقة طلاقٌ بعوضٍ - أولى بالجواز.

و كذا يصحّ منه استيفاء القصاص؛ لأنّه ليس تصرّفاً في المال، و لا يجب عليه قبول الدية و إن بذل الجاني؛ لأنّ القصاص شُرّع للتشفّي و دفع الفساد، و الدية إنّما تثبت صلحاً، و ليس واجباً عليه تحصيل المال بإسقاط حقّه.

و كذا له العفو عن القصاص مجّاناً بغير عوضٍ. أمّا لو وجبت له الدية بالأصالة - كما في جناية الخطأ - فإنّه ليس له إسقاطها؛ لأنّه بمنزلة الإبراء من الدَّيْن.

و كذا له استلحاق النسب؛ إذ ليس ذلك تصرّفاً في المال و إن وجبت المئونة ضمناً. و كذا له نفيه باللعان.

و كذا لا يُمنع من تحصيل المال بغير عوضٍ، كالاحتطاب و شبهه، و قد سلف(1).

مسألة 270: لو صادف تصرّفه عينَ مالٍ بالإتلاف إمّا بمعاوضةٍ كالبيع و الإجارة، أو بغير معاوضةٍ كالهبة و العتق و الكتابة،

أو بالمنع من الانتفاع

ص: 24


1- في ص 23، ضمن المسألة 268.

كالرهن، قال الشيخ رحمه الله: يبطل تصرّفه(1). و هو أصحّ قولي الشافعي - و به قال مالك و المزني - لأنّه محجور عليه بحكم الحاكم، فوجب أن لا يصحّ تصرّفه، كما لو كان سفيهاً. و لأنّ أمواله قد تعلّق بها حقّ الغرماء، فأشبهت تعلّق [حقّ](2) المرتهن. و لأنّ هذه التصرّفات غير نافذة في الحال إجماعاً، فلا تكون نافذةً فيما بَعْدُ؛ لعدم الموجب.

و القول الثاني للشافعي: إنّ هذه التصرّفات لا تقع باطلةً في نفسها، بل تكون موقوفةً، فإن فضل ما تصرّف به عن الدَّيْن إمّا لارتفاع سعر أو لإبراء بعض المستحقّين، نفذ، و إلاّ بانَ أنّه كان لغواً؛ لأنّه محجور عليه بحقّ الغرماء، فلا يقع تصرّفه باطلاً في أصله، كالمريض(3).

و هذا القول لا بأس به عندي، و الأوّل أقوى.

و الفرق بينه و بين المريض ظاهر؛ فإنّ المريض غير محجور عليه، و لهذا لو صرف المال في ملاذّه و مأكله و مشروبه، لم يُمنع منه، بخلاف صورة النزاع.

مسألة 271: إن قلنا ببطلان التصرّفات، فلا بحث.

و إن قلنا: إنّها تقع موقوفةً، فإن فضل ما تصرّف فيه و انفكّ الحجر، ففي نفوذه للشافعي قولان(4).

و إذا لم يف بديونه، نقضنا الأخفّ فالأخفّ من التصرّفات، و نبدأ

ص: 25


1- الخلاف 269:3، المسألة 11.
2- ما بين المعقوفين أضفناه من «العزيز شرح الوجيز».
3- التهذيب - للبغوي - 100:4، حلية العلماء 490:4-491، العزيز شرح الوجيز 9:5، روضة الطالبين 366:3-367، المغني 530:4، الشرح الكبير 501:4.
4- العزيز شرح الوجيز 9:5.

بالهبة فننقضها؛ لأنّها تمليك من غير بدلٍ، فإن لم يف، نقضنا البيع، بخلاف الوقف و العتق؛ لأنّ البيع يلحقه الفسخ، فإن لم يف، رددنا العتق و الوقف.

قال بعضهم: هذه التصرّفات على الترتيب، فالعتق أولى بالنفوذ؛ لقبوله الوقف و تعلّقه بالإقرار، و تليه الكتابة؛ لما فيها من المعاوضة، ثمّ البيع و الهبة؛ لأنّهما لا يقبلان التعليق(1).

و اختلفوا في محلّ القولين:

فقال بعضهم: إنّهما مقصوران على ما إذا اقتصر الحاكم على الحجر، و لم يجعل ماله لغرمائه حيث وجدوه، فإن فعل ذلك، لم ينفذ تصرّفه قولاً واحداً.

و قال آخَرون: إنّهما مطّردان في الحالين، و هو الأشهر عندهم.

فعلى هذا هل تجب الزكاة عليه ؟ فعلى الأوّل لا تجب، و على الثاني تجب ما دام ملكه باقياً(2).

و قول الشافعي: «لا زكاة عليه» محمول عند هؤلاء على ما إذا باع المفلس ماله من الغرماء(3).

مسألة 272: إذا قلنا بأنّه تنفذ تصرّفاته بعد الحجر، وجب تأخير ما تصرّف فيه،

و قضي الدَّيْن من غيره فربما يفضل، فإن لم يفضل، نقضنا من تصرّفاته الأضعف فالأضعف على ما تقدّم، و يؤخّر العتق كما قلناه.

فإن لم يوجد راغب في أموال المفلس إلاّ في العبد المعتق، و التمس الغرماء من الحاكم بيعه ليقبضوا حقّهم معجّلاً، فالأقرب: إجابتهم إلى ذلك،

ص: 26


1- العزيز شرح الوجيز 9:5.
2- العزيز شرح الوجيز 9:5، روضة الطالبين 367:3.
3- العزيز شرح الوجيز 9:5، روضة الطالبين 367:3.

و إلاّ لزم أحد الضررين: إمّا تضرّر الغرماء بالصبر، و ليس واجباً، و إمّا تضرّر المفلس و الغرماء معاً لو بِيعت أمواله بالرخص.

و قال بعض الشافعيّة: يحتمل أن ينقض من تصرّفاته الأخير فالأخير، كما في تبرّعات المريض إذا زادت على الثلث(1).

و هو حسن لا بأس به عندي.

فلو وقعت دفعةً، احتُمل القرعة.

و لو أجاز الغرماء بعض التصرّفات، نفذ قطعاً، سواء كان سابقاً أو لاحقاً، و سواء كان عتقاً أو غيره.

هذا إذا باع من غير الغرماء، و لو باع منهم، فسيأتي.

مسألة 273: تصرّفاته الواردة على ما في الذمّة صحيحة،

كما لو اشترى بثمن في الذمّة، أو باع طعاماً سلفاً، صحّ، و يثبت في ذمّته، و هو أظهر مذهبي الشافعي.

و الثاني: أنّه لا يصحّ شراؤه، كالسفيه(2).

و الأوّل أقوى؛ لوجود المقتضي، و هو صدور العقد من أهله في محلّه، سالماً عن معارضة منع حقّ الغرماء؛ لأنّه لم يرد إلاّ على أعيان أمواله. و كذا لو اقترض.

و ليس للبائع فسخ البيع، سواء كان عالماً بالحجر أو جاهلاً به؛ لأنّ التفريط من جهته حيث أهمل الاحتياط في السؤال عن حالة مُعامله.

إذا ثبت هذا، فإنّ هذه المتجدّدات و شبهها من الاحتطاب و غيره تدخل تحت الحجر.

ص: 27


1- العزيز شرح الوجيز 9:5-10، روضة الطالبين 367:3.
2- العزيز شرح الوجيز 10:5، روضة الطالبين 368:3.
مسألة 274: لو باعه عبداً بثمن في ذمّته بشرط الإعتاق،

فإن أبطلنا جميع التصرّفات - سواء وردت على عين المال أو في الذمّة - فالأقوى:

بطلان البيع؛ لأنّه تصرّف في المال و إن كان في الذمّة.

و إن قلنا بالصحّة فيما يكون مورده الذمّة على ما اخترناه، صحّ البيع و العتق معاً، و يكون العتق موقوفاً، فإن قصر المال، احتمل صرفه في الدَّيْن، لا رجوعه إلى البائع.

و الأقوى عندي صحّة عتقه في الحال.

و لو وهب بشرط الثواب ثمّ أفلس، لم يكن له إسقاط الثواب.

مسألة 275: لو أقرّ بدَيْنٍ، فإمّا أن يكون قد أقرّ بدَيْنٍ لزمه

و أضافه إلى ما قبل الحجر إمّا من معاملةٍ أو قرضٍ أو إتلاف، أو أقرّ بدَيْنٍ لاحقٍ بعد الحجر.

فالأوّل يلزمه ما أقرّ به؛ لأنّ الحجر ثبت عليه لحقّ غيره، فلا يمنع صحّة إقراره.

و هل يشارك المُقرّ له الغرماء بمجرّد إضافة إقراره إلى سببٍ سابق ؟ الأقرب: ذلك؛ لأنّه عاقل، فينفذ إقراره؛ لعموم قوله عليه السلام: «إقرار العقلاء على أنفسهم جائز»(1) و عموم الخبر(2)الأُم 210:3، مختصر المزني: 104.(3) في قسمة ماله بين غرمائه، و هو أصحّ قولي الشافعي، و به قال ابن المنذر(4).

قال الشافعي: و به أقول(4)

ص: 28


1- لم نعثر عليه في المصادر الحديثيّة.
2- تقدّم تخريجه في ص 7، الهامش
3- .
4- الحاوي الكبير 321:6، التهذيب - للبغوي - 103:4، العزيز شرح الوجيز 10:5، روضة الطالبين 368:3، المغني 531:4، الشرح الكبير 501:4.

و قال: لو كان المفلس قصّاراً أو صائغاً و أفلس و حُجر عليه و عنده ثياب الناس و حُليّهم، أ يقال: لا يُقبل قوله في ردّ أموال الناس ؟(1).

و لأنّ هذا دَيْنٌ ثابت عليه مضاف - بقوله - إلى ما قبل الحجر، فوجب أن يشارك صاحبه الغرماء، كما لو ثبت بالبيّنة، و بالقياس على ما إذا أقرّ المريض بدَيْنٍ يزاحم المُقرّ له غرماء الصحّة.

و القول الثاني للشافعي: إنّه لا يُقبل في حقّ الغرماء - و به قال مالك و أحمد و محمّد بن الحسن - لأنّ حقّ الغرماء تعلّق بما لَه من المال، و في القبول إضرار بهم بمزاحمته إيّاهم. و لأنّه متّهم في هذا الإقرار، فلا يسقط به حقّ الغرماء المتعلّق بماله، كما لو أقرّ بما رهنه، فحينئذٍ لا يشارك المُقرّ له الغرماء، بل يأخذ ما فضل عنهم(2).

و تُمنع التهمة؛ لأنّ ضرر الإقرار في حقّه أكثر منه في حقّ الغرماء، فلا تهمة فيه، فإنّ الظاهر من حال الإنسان أنّه لا يُقرّ بدَيْنٍ عليه و ليس عليه دَيْنٌ.

مسألة 276: لو أقرّ بدَيْنٍ لاحقٍ بعد الحجر و أسنده إلى ما بعد الحجر،

فإن كان قد لزمه باختيار صاحبه - كالبيع و القرض و غيرهما من المعاملات المتجدّدة بعد الحجر - فإنّه يكون في ذمّته، و لا يشارك المُقرّ له الغرماء؛ لأنّ صاحب المال رضي بذلك إن علم أنّه مفلس، و إن لم يعلم، فقد فرّط في ذلك.

و إن كان قد لزمه عن غير رضا صاحبه - كما لو أتلف عليه مالاً أو جنى عليه جناية - فالأقرب: أنّه يُقبل في حقّ الغرماء، كما لو أسند الدَّيْن

ص: 29


1- الأُم 210:3.
2- نفس المصادر في الهامش (3) من ص 28.

إلى [سببٍ](1) سابقٍ على الحجر؛ لأنّ حقّه ثبت بغير اختياره، و هو أصحّ طريقي الشافعيّة(2).

لا يقال: لِمَ لا قُدّم حقّه على حقّ الغرماء كما قُدّم حقّ المجنيّ عليه على حقّ المرتهن ؟

لأنّا نقول: الفرق أنّ الجناية لا محلّ لها سوى الرهن، و الدَّيْن متعلّق بالرهن و الذمّة، فقد اختصّ بالعين، و في مسألتنا الدَّيْنان متعلّقان بالذمّة فاستويا. و لأنّ الجناية قد حصلت من الرهن الذي علّقه به صاحبه، فقُدّمت الجناية كما تُقدَّم على حقّ صاحبه، و هنا الجناية كانت من المفلس دون المال، فافترقا.

و نظيره في حقّ المفلس أن يجني عبده، فيقدّم على حقّ الغرماء.

و الطريق الثاني: أنّه كما لو قال: عن معاملةٍ(3).

و لو أقرّ بدَيْن و لم يُسنده إلى ما قبل الحجر و لا إلى ما بعده، حُمل على الثاني، و جُعل بمنزلة ما لو أسنده إلى ما بعد الحجر؛ لأصالة التأخّر، و عدم التعلّق.

مسألة 277: لو أقرّ المفلس بعين من الأعيان - التي في يده - لرجلٍ

و قال: غصبته منه أو استعرته أو أخذته سَوْماً أو وديعةً، فالأقرب: النفوذ، و مضيّ الإقرار في حق الغرماء، كما لو أقرّ بدَيْنٍ سابقٍ.

و للشافعي قولان، كالقولين في الإقرار بالدَّيْن السابق على الحجر(4)

ص: 30


1- ما بين المعقوفين أضفناه لأجل السياق.
2- العزيز شرح الوجيز 10:5، روضة الطالبين 368:3.
3- العزيز شرح الوجيز 10:5، روضة الطالبين 368:3.
4- التهذيب - للبغوي - 103:4، العزيز شرح الوجيز 11:5، روضة الطالبين 369:3.

لكنّ الإقرار بالدَّيْن السابق على الحجر أثره أن يزاحم المُقرّ له الغرماء، و هنا يُسلّم المُقرّ به على القول بالقبول، و على القول بعدمه إن فضل، سلّم العين إلى المُقرّ له، و إلاّ غرم قيمتها بعد اليسار.

فإن كذّبه المُقرّ له، بطل إقراره، و قُسّمت العين بين الغرماء.

و كذا لو أقرّ بدَيْنٍ فكذّبه المُقرّ له، لم يُسمع إقراره. و مع عدم قبول إقراره بالعين إن فضلت، دُفعت العين إلى المُقرّ له قطعاً، بخلاف البيع؛ فإنّ فيه إشكالاً.

و كذا الإشكال لو ادّعى أجنبيّ شراء عين في يده من(1) قبل الحجر فصدّقه.

و اعلم أنّ الفرق بين الإنشاءات حيث رددناها في الحال قطعاً و قلنا:

الأصحّ أنّه لا يُحكم بنفوذها عند انفكاك الحجر أيضاً، و بين الأقارير حيث قبلناها في حقّ المفلس جزماً و في حقّ الغرماء على الأصحّ: أنّ مقصود الحجر منعُه من التصرّف، فيناسبه إلغاء ما ينشئه، و الإقرار إخبار عمّا مضى، و الحجر لا يسلب العبارة عنه.

مسألة 278: لو أقرّ بما يوجب القصاص عليه أو الحدّ، قُبِل،

و أُجري عليه حكم إقراره، سواء أدّى إلى التلف أو لا؛ لانتفاء التهمة. و لأنّه عاقل أقرّ بما يؤثّر في حقّه حكماً، و لا مانع له؛ إذ المانع التصرّف في الماليّة و ليس ثابتاً، فثبت موجَب إقراره.

و لو كان الإقرار بسرقةٍ توجب القطع، قُبِل في القطع، و أمّا في المسروق فكما لو أقرّ بمالٍ، و القبول هنا أولى؛ لبُعْد الإقرار عن التهمة.

ص: 31


1- في «ث»: «منه» بدل «من».

و لو أقرّ بما يوجب القصاص فعفا المستحقّ على مالٍ، فهو كإقرارٍ بدَيْن جناية.

و قال بعض الشافعيّة: يُقطع هنا بالقبول؛ لانتفاء التهمة(1).

مسألة 279: لو ادّعى رجل على المفلس مالاً لزمه قبل الحجر فأنكر المفلس،

فإن أقام المدّعي بيّنةً، ثبت حقّه، و ساوى الغرماء. و إن لم تكن له بيّنة، كان على المفلس اليمين، فإن حلف، برأ، و سقطت الدعوى. و إن نكل، رُدّت اليمين على المدّعي، فإذا حلف، ثبت الدَّيْن.

و هل يشارك المدّعي الغرماء؟ إن قلنا: إنّ النكول و ردّ اليمين كالبيّنة، زاحَم المدّعي الغرماء، كما لو ثبت دَيْنه بالبيّنة. و إن قلنا: إنّه كالإقرار، فكالقولين.

مسألة 280: لا خلاف في أنّ الحجر يتعلّق بالمال الموجود للمفلس حالة الحجر،

و أمّا المتجدّد بعده باصطيادٍ أو اتّهاب أو قبول وصيّة، الأقرب: أنّ الحجر يتعدّى إليه أيضاً؛ لأنّ مقصود الحجر إيصال حقوق المستحقّين إليهم، و هذا لا يختصّ بالموجود عند الحجر، و هو أصحّ وجهي الشافعيّة.

و الثاني: أنّ الحجر لا يتعدّى إلى المتجدّد؛ لأنّ الحجر على المفلس لقصر يده عن التصرّف فيما عنده، فلا يتعدّى إلى غيره، كما أنّ حجر الراهن على نفسه في العين المرهونة لا يتعدّى إلى غيرها(2).

إذا ثبت هذا، فإذا اشترى شيئاً و قلنا بصحّة شرائه، ففيه مثل هذا

ص: 32


1- العزيز شرح الوجيز 11:5، روضة الطالبين 369:3.
2- الوسيط 10:4، الوجيز 170:1، العزيز شرح الوجيز 12:5، روضة الطالبين 369:3.

الخلاف.

و هل للبائع الخيارُ و التعلّق بعين متاعه ؟ الأقرب: العدم - و هو أحد وجوه الشافعي(1) - لأنّه إن(2) كان عالماً، كان بمنزلة مَن اشترى معيباً يعلم بعيبه. و إن كان جاهلاً، فقد قصّر بترك البحث مع سهولة الوقوف عليه؛ فإنّ الحاكم يشهر أمر المحجور عليه بالنداء و الإشهاد و الإعلان.

و الثاني: أنّ البائع إن كان عالماً، فلا خيار له. و إن كان جاهلاً، فله الخيار، و الرجوع إلى عين ماله.

و الثالث: أنّ للبائع الخيارَ في الرجوع إلى عين ماله و إن كان عالماً؛ لتعذّر الوصول إلى الثمن(3).

و كذا المُقرض.

و يقرب من هذا ما إذا باع من عبدٍ بغير إذن مولاه و قلنا بصحّة البيع، فإنّ الثمن يتعلّق بذمّته يتبع به بعد العتق، فإن كان عالماً، ففي ثبوت الخيار وجهان(4).

و إن كان جاهلاً، يثبت.

مسألة 281: إذا لم يثبت للبائع الرجوعُ في المبيع على المفلس المحجور، فهل يزاحم الغرماء بالثمن ؟ الأقرب: المنع؛

لأنّه دَيْنٌ حادث بعد الحجر برضا صاحبه، و كلّ ما هذا شأنه من الديون لا يزاحم مستحقّها الغرماء، بل إن فضل منهم شيء، أخذه، و إلاّ صبر إلى أن يجد مالاً، و هو أصحّ قولي الشافعي.

ص: 33


1- الوسيط 10:4، العزيز شرح الوجيز 12:5-13، روضة الطالبين 369:3.
2- في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «و إن». و الصحيح ما أثبتناه.
3- الوسيط 10:4، العزيز شرح الوجيز 12:5-13، روضة الطالبين 369:3.
4- الوجهان أيضاً للشافعيّة، راجع: العزيز شرح الوجيز 13:5.

و الثاني: أنّه يزاحم؛ لأنّه و إن كان دَيْناً جديداً فإنّه في مقابلة ملكٍ جديد، فلمّا زاد المال جاز أن يزيد الدَّيْن، بخلاف الصداق الذي [لزمه](1) بنكاح بعد الفلس و دَيْن ضمنه بعد الفلس، فإنّه لا مقابل له هناك(2).

مسألة 282: أقسام ديون المفلس، الثابتة بعد الحجر ثلاثة:
أ: ما لزم باختيار مستحقّه،

فإن كان في مقابلته شيء - كثمن المبيع - فقد ذكرنا الخلاف في أنّه هل له المطالبة به أم لا؟ و إن لم يكن في مقابلته شيء، فلا خلاف في أنّ مستحقّه لا يُضارِب الغرماء، بل يصبر إلى فكاك الحجر.

ب: ما لزم بغير اختيار المستحقّ،

كأرش الجناية و غرامة الإتلاف، و فيه وجهان:

[أحدهما:] أنّه لا يضارب به؛ لتعلّق حقوق الأوّلين بأعيان أمواله، فصار كما لو جنى الراهن و لا مال له غير المرهون، لا يزاحم المجنيّ عليه المرتهن.

و الثاني: أنّه يضارب؛ لأنّه لم يوجد منه تقصير، فيبعد تكليفه الانتظار(3).

ج: ما يتجدّد بسبب مئونات المال،

كأُجرة الوزّان و الناقد و الكيّال و الحمّال و المنادي و الدلاّل و أُجرة البيت الذي يُحفظ فيه المتاع، فهذه المُؤن كلّها مقدَّمة على ديون الغرماء؛ لأنّها لمصلحة الحجر و إيصال أرباب

ص: 34


1- ما بين المعقوفين أثبتناه من المصدر.
2- العزيز شرح الوجيز 13:5.
3- الوجهان أيضاً للشافعيّة، راجع: العزيز شرح الوجيز 13:5، و روضة الطالبين 369:3.

الحقوق حقوقهم، و لو لم تُقدَّم لم يرغب أحد في تلك الأعمال، و حصل الضرر بالمفلس و الغرماء.

و هذا كلّه إذا لم يوجد متطوّعٌ بذلك، و لا في بيت المال سعة له، فإن وُجد متطوّعٌ أو كان في بيت المال سعة، لم يُصرف مال المفلس إليها.

مسألة 283: شرطنا في التصرّف - الذي يُمنع المفلس منه - كونه مبتدأً،

كالابتداء بالبيع و الصدقة و الوقف و الكتابة و الهبة، أمّا ما ليس بمبتدإ فإنّه لا يُمنع منه، فلو اشترى قبل الحجر شيئاً ثمّ اطّلع على عيبه بعد الحجر، فله الردّ بالعيب إن كانت الغبطة في الردّ؛ لأنّه ليس ابتداء تصرّفٍ، بل هو من أحكام البيع السابق و لواحقه، و الحجر لا يمنع من الأحكام السابقة عليه، و ليس ذلك كما لو باع مع الغبطة؛ لأنّ ذلك تصرّف مبتدأ، و الفسخ ليس تصرّفاً مبتدأً، فافترقا.

فإن منع من الردّ بالعيب السابق تصرّفٌ أو عيبٌ حادث، لزم الأرش، و لم يملك المفلس إسقاطه؛ لأنّه تصرّف في مالٍ وجب له بالإتلاف إلى غير عوضٍ، و هو ممنوع من الإتلاف بالعوض فبغيره أولى.

و لو كانت الغبطة في ترك الردّ بأن كان قيمته مع العيب أكثر من ثمن المثل، لم يكن له الردُّ؛ لما فيه من تفويت المال بغير عوضٍ.

و كذا المريض لو اشترى حال صحّته شيئاً ثمّ وجد عيبه في مرضه فأمسكه و الغبطة في الردّ، كان المقدار الذي ينقصه العيب معتبراً من الثلث.

و كذا وليّ الطفل إذا وجد ما اشتراه للطفل معيباً و كانت الغبطة في إبقائه، لم يكن له الردّ.

و يثبت في هذه المواضع كلّها الأرش؛ لأنّا لا نشترط في وجوب الأرش امتناع الردّ.

ص: 35

و قال الشافعي: لا يثبت الأرش في هذه الصور؛ بناءً على أصله من أنّ الأرش لا يثبت مع إمكان الردّ، و الردّ هنا ممكن غير ممتنعٍ في نفسه، بل إنّما امتنع لأنّ المصلحة اقتضت الامتناع منه(1).

مسألة 284: لو تبايعا بخيار ففلّسا أو أحدهما، لم يبطل خيار المفلس،

و كان له إجازة البيع و ردّه، سواء رضي الغرماء أو سخطوا.

و لا يُعتبر هنا الغبطة؛ لأنّ ذلك ليس تصرّفاً مبتدأً، و إنّما مُنع المفلس من التصرّفات المستحدثة.

و فارق الفسخ و الإجازة بالخيار الردَّ بالعيب؛ لأنّ العقد في زمن الخيار متزلزل لا ثبات له، فلا يتعلّق حقّ الغرماء بالمال، و يضعف تعلّقه به، بخلاف ما إذا خرج معيباً، و إذا ضعف التعلّق جاز أن لا يُعتبر شرط الغبطة، و هو أظهر وجوه الشافعي.

و الثاني: أنّ تجويز الفسخ و الإجازة متقيّد بالغبطة، كالردّ بالعيب.

و هو مخرَّج من عقد المريض في صحّته بشرط الخيار ثمّ يفسخ أو يُجيز حالة المرض على خلاف الغبطة، فإنّه تصرّف من الثلث.

و الفرق: أنّ حجر المريض أقوى، فإنّ إمضاء الورثة تصرّفَ المريض قبل الموت لا يفيد شيئاً، و إمضاء الغرماء و إذنهم فيما يفعله المفلس يفيدهم الصحّة و الاعتبار.

و الثالث: أنّ كلّ واحدٍ من الفسخ و الإمضاء إن وقع على وفق الغبطة، فهو صحيح، و إلاّ فالنظر إلى الخلاف في الملك في زمن الخيار و إلى أنّ الذي أفلس أيّهما هو؟

ص: 36


1- العزيز شرح الوجيز 14:5، روضة الطالبين 370:3.

فإن كان المشتري و قلنا: الملك للبائع، فللمشتري الإجازة و الفسخ.

أمّا الإجازة: فلأنّها جلب ملك. و أمّا الفسخ: فلا يمنع دخول شيء في ملكه، إلاّ أنّه أزال ملكاً. و إن قلنا: الملك للمشتري، فله الإجازة؛ لأنّه يستديم الشيء في ملكه، فإن فسخ، لم يجز؛ لما فيه من إزالة الملك.

و إن أفلس البائع، فإن قلنا: الملك له، فله الفسخ؛ لأنّه يستديم الملك، و ليس له الإجازة؛ لأنّه يُزيله. و إن قلنا: الملك للمشتري، فللبائع الفسخ و الإجازة، كما قلنا في طرف المشتري(1).

و ما ذكرناه أولى.

و لو قيل في الردّ بالعيب: إنّه لا يتقيّد بالغبطة كما في الخيار، كان وجهاً.

مسألة 285: لو جُني على المفلس أو على مملوكه أو على مورّثه جناية، فإن كانت خطأً، وجب المال،

و تعلّق به حقوق الغرماء، و لا يصحّ منه العفو عنه. و إن كانت عمداً توجب القصاص، تخيّر بين القصاص و العفو.

و ليس للغرماء مطالبته بالعفو على مالٍ؛ لأنّه اكتساب للمال و تملّك، و هو غير لازمٍ، كما لا يلزمه الكسب و قبول الهبة.

فإن استوفى القصاص، فلا كلام. و إن عفا على مالٍ و رضي الجاني، ثبت المال، و تعلّق به حقوق الغرماء.

و إن عفا مطلقاً، سقط حقّه من القصاص، و لم يثبت له مالٌ - و هو أحد قولي الشافعي(2) - لأنّ موجَب جناية العمد القصاصُ خاصّةً.

ص: 37


1- العزيز شرح الوجيز 14:5-15، روضة الطالبين 370:3.
2- الحاوي الكبير 324:6.

و له قولٌ آخَر: إنّ موجَبها أحد الأمرين: إمّا القصاص، أو الدية(1).

فإن عفا عن القصاص، تثبت له الدية، و تعلّق بها حقوق الغرماء.

و إن عفا على غير مالٍ، فإن قلنا: الواجب القصاصُ خاصّةً، لم يثبت له شيء. و إن قلنا: الواجب أحد الأمرين، ثبتت الدية، و لم يصح إسقاطه لها؛ لحقّ الغرماء؛ لأنّ عفوه عن القصاص يوجب الدية، فلا يصحّ منه إسقاطها.

مسألة 286: للمفلس المحجور عليه الدعوى؛
اشارة

لأنّه ليس تصرّفاً في مالٍ، بل استيجاب مالٍ، و لا نعلم فيه خلافاً.

فإذا ادّعى على غيره بمالٍ، فإن اعترف المدّعى عليه، أو قامت له البيّنة، ثبت له المال، و تعلّق به حقّ الغرماء. و إن أنكر و لا بيّنة فإن حلف، برئ، و سقطت الدعوى.

و لو أقام المفلس شاهداً واحداً بدعواه، فإن حلف مع شاهده، جاز، و استحقّ المال، و تعلّق به حقّ الغرماء. و إن امتنع، لم نجبره على اليمين؛ لأنّا لا نعلم صدق الشاهد، و لو علمناه، يثبت الحقّ بشهادته من غير يمين، فلا نجبره على الحلف على ما لا نعلم صدقه. و لأنّه تكسّب، و ليس واجباً عليه.

و لم يحلف الغرماء مع الشاهد عندنا - و هو الجديد للشافعي، و به قال أحمد(2) - لأنّه لا يجوز للإنسان أن يحلف ليُثبت بيمينه ملكاً لغيره حتى يتعلّق حقّه به، كما لا يجوز للزوجة أن تحلف لإثبات مالٍ لزوجها و إن كان إذا ثبت، تعلّقت نفقتها به.

ص: 38


1- الحاوي الكبير 325:6.
2- الحاوي الكبير 328:6-329، المغني 524:4، الشرح الكبير 551:4.

و قال في القديم: إنّ الغرماء يحلفون؛ لأنّ حقوقهم تتعلّق بما يثبت للمفلس كما يحلف الورثة مع شاهدهم بمالٍ(1) لمورّثهم و للوكيل في العقد إذا حالفه مَن العقد معه، تحالفا و إن ثبت العقد لغيره(2).

و الفرق ظاهر؛ فإنّ الورثة يُثبتون بأيمانهم الملكَ لأنفسهم، و الوكيل في العقدِ اليمينُ متعلّقةٌ به؛ لأنّه هو العاقد، فيُثبت بيمينه فعلَ نفسه، و لهذا لا يحلف موكّله على ذلك.

و كذا مَنْ مات و عليه دَيْنٌ فادّعى وارثه دَيْناً له على رجل و أقام عليه شاهداً و حلف معه، يثبت الحقّ، و جُعل المال في سائر تركاته. و إن امتنع من اليمين أو لم يكن له شاهد و نكل المدّعى عليه عن اليمين و لم يحلف الوارث اليمينَ المردودة، فهل يحلف الغرماء؟

أمّا عندنا فلا؛ لما تقدّم. و أمّا عند الشافعي فقولان له:

الجديد كقولنا؛ لأنّ حقّه فيما يثبت للميّت، أمّا إثباته للميّت فليس إليه، و لهذا لو وصّى لإنسانٍ بشيء فمات قبل القبول و لم يقبله وارثه، لم يكن للغريم القبولُ.

و قال في القديم: يحلف الغريم؛ لأنّه ذو حقّ في التركة، فأشبه الوارث(3).

إذا عرفت هذا، فالقولان أيضاً في اليمين الثابتة بالنكول، و هو ما إذا3.

ص: 39


1- كذا، و الظاهر: «على مال» بدل «بمال».
2- نفس المصادر في الهامش (2) من ص 38.
3- التهذيب - للبغوي - 108:4، العزيز شرح الوجيز 15:5-16، روضة الطالبين 371:3.

لم يكن للمفلس بيّنة و ردَّ المدّعى عليه اليمينَ فلم يحلف المفلس، ففي إحلاف الغرماء للشافعي قولان(1).

و عندنا ليس لهم الحلف.

و اعلم أنّ بعض الشافعيّة ذكر طريقين في إحلاف غرماء المفلس مع شاهده:

أحدهما: طرد القولين.

و الثاني: القطع بالمنع هنا، و الخلاف في الميّت.

و الفرق: أنّ الحقّ للمفلس، فامتناعه عن اليمين يورث ريبةً ظاهرة، و في الصورة الأُولى صاحب الحقّ غير باقٍ، و إنّما يحلف الوارث بناءً على معرفته بحال مُورّثه و هو [قد](2) يخفى عنه و لا يخفى عن الغرماء، و لأنّ غرماء الميّت آيسون عن حلفه، فمُكّنوا من اليمين لئلاّ يضيع الحقّ، و غرماء المفلس غير آيسين عن حلفه(3).

قال الجويني: الطريقة الثانية أصحّ. و حكى عن شيخه طرد الخلاف في ابتداء الدعوى من الغرماء(4).

و قطع أكثرهم بمنع الدعوى ابتداءً، و تخصيص الخلاف باليمين بعد دعوى الوارث و المفلس(5).

و لا فرق بين أن تكون الدعوى بعينٍ أو بدَيْنٍ.3.

ص: 40


1- الحاوي الكبير 329:6.
2- ما بين المعقوفين يقتضيه السياق.
3- العزيز شرح الوجيز 16:5. (4 و 5) العزيز شرح الوجيز 16:5، روضة الطالبين 371:3.
فروع:
أ - لو حلف بعض الغرماء - عند القائلين به - دون بعضٍ، استحقّ الحالفون بالقسط،

كما لو حلف بعض الورثة لدَيْن الميّت.

ب - ليس لمن امتنع من اليمين من الغرماء - إن جوّزنا لهم الحلف - مشاركة الحالف،

كالوارث إذا حلف دون باقي الورثة، لم يكن للباقين مشاركته؛ لأنّ المقبوض باليمين ليس عينَ مال الميّت و لا عوضه بزعم الغريم.

ج - لو حلف الغرماء ثمّ أبرءوا عن ديونهم، فالمحلوف عليه يُحتمل أن يكون للمفلس؛

لخروجه عن ملك المدّعى عليه بحلف الغرماء، و عن ملك الغرماء بإبرائهم عن الدَّيْن، فيبقى للمفلس. و أن يكون للغرماء؛ لأنّه يثبت بحلفهم، و يلغو الإبراء. و هو ضعيف. أو يبقى على المدّعى عليه، و لا يستوفى أصلاً.

و للشافعي ثلاثة أوجُه(1) كهذه.

مسألة 287: الدَّيْن إن كان حالاًّ أو حلّ بعد الأجل و أراد المديون السفر، كان لصاحب الدَّيْن منعه من السفر حتى يقبض حقّه،

و ليس في الحقيقة هذا منعاً من السفر كما يمنع السيّدُ عبدَه و الزوجُ زوجتَه، بل يشغله عن السفر برفعه إلى الحاكم و مطالبته حتى يُوفي الحقّ، و حبسه إن ماطَل.

و إن كان الدَّيْن مؤجَّلاً، فإن لم يكن السفر مخوفاً، لم يُمنع منه؛ إذ ليس له مطالبته في الحال بالحقّ.

ص: 41


1- العزيز شرح الوجيز 16:5، روضة الطالبين 371:3.

و ليس له أيضاً أن يطالبه برهن و لا كفيل؛ لأنّه ليس له مطالبته بالحقّ فكيف يكون له المطالبة بالرهن أو الكفيل و هو المفرط في حظّ نفسه حيث رضي بالتأجيل من غير رهنٍ و لا كفيل!؟

و هل له أن يكلّفه الإشهاد؟ قال الشافعي: ليس له ذلك(1).

و الأقرب عندي أنّه يجب عليه الإشهاد؛ لما فيه من إبراء الذمّة.

و إن كان السفر مخوفاً - كالجهاد، و ركوب البحر - لم يكن له المنع منه أيضاً و لا المطالبة برهن و لا كفيل؛ إذ لا مطالبة له في الحال، و هو أصحّ وجوه الشافعي.

و الثاني: أنّه يمنعه إلى أن يؤدّي الحقّ أو يُعطي كفيلاً؛ لأنّه في هذا السفر يُعرّض نفسه للهلاك فيضيع حقّه.

و الثالث: إن لم يخلّف وفاءً، مَنَعه. و إن خلّف، لم يكن له منعه اعتماداً على حصول الحقّ منه(2).

مسألة 288: و لا فرق بين أن يكون الأجل قليلاً أو كثيراً،

و لا بين أن يكون السفر طويلاً أو قصيراً، فلو بقي للأجل نصف نهار ثمّ أراد إنشاء سفرٍ طويل في أوّله، لم يكن لصاحب الدَّيْن منعه منه، فإنه لا يجب عليه إقامة كفيل و لا دَفْع رهن، و ليس لصاحب الدَّيْن مطالبته بأحدهما، و به قال الشافعي(1).

و قال مالك: إذا علم حلول الأجل قبل رجوعه، فله أن يطالبه بكفيل

ص: 42


1- الحاوي الكبير 337:6، التهذيب - للبغوي - 117:4، العزيز شرح الوجيز 17:5، روضة الطالبين 372:3.

- و هو قول بعض الشافعيّة - لأنّ عليه ضرراً في تأخّر حقّه(1).

و الضرر لحقه بواسطة التأجيل، و هو من فعله، و رضي به من غير كفيل، فلم يكن له إزالته بعد ذلك، و كما أنّه ليس له مطالبته بالحقّ في الحال، كذا ليس له المطالبة بكفيلٍ، كما لو لم يسافر.

و لو أراد صاحب المال أن يسافر معه ليطالبه عند الحلول، فله ذلك بشرط أن لا يلازمه ملازمة الرقيب.

إذا ثبت هذا، فإنّه إذا حلّ الأجل و هو في السفر و تمكّن من الأداء، وجب عليه إمّا برجوعه أو بإنفاذ وكيله أو ببعث رسالته(2) أو بغيره من الوجوه.

مسألة 289: الهبة من الأدنى للأعلى لا تقتضي الثواب؛

للأصل، و هو أحد قولي الشافعي(3).

فإن شرطه، صحّ عندنا؛ لقوله عليه السلام: «المؤمنون عند شروطهم»(4).

و للشافعي قولان على تقدير عدم اقتضاء الثواب(5)

ص: 43


1- الحاوي الكبير 337:6، التهذيب - للبغوي - 117:4، العزيز شرح الوجيز 17:5.
2- في النسخ الخطّيّة: «رسالة».
3- المهذّب - للشيرازي - 454:1، التنبيه: 139، الحاوي الكبير 549:7، حلية العلماء 57:6، التهذيب - للبغوي - 530:4، العزيز شرح الوجيز 243:4، و 329:6، روضة الطالبين 446:4، منهاج الطالبين: 172، المغني 331:6.
4- التهذيب 1503/371:7، الاستبصار 835/232:3، الجامع لأحكام القرآن 33:6.
5- المهذّب - للشيرازي - 454:1، التنبيه: 139، الحاوي الكبير 550:7، التهذيب - للبغوي - 530:4، حلية العلماء 58:6، العزيز شرح الوجيز 329:6، روضة الطالبين 446:4-447، منهاج الطالبين: 172، المغني 332:6.

فإن قلنا بالاقتضاء، أو شرطه مطلقاً، ففيه ثلاثة أقوال للشافعي:

أحدها: قدر قيمة الموهوب.

و الثاني: ما جرت العادة بأن يُثاب مثله في تلك الهبة.

و الثالث: ما يرضى به الواهب(1).

فإذا وهب المفلس هبة توجب الثواب ثمّ حُجر عليه، لم يكن له إسقاطه؛ لأنّه تصرّفٌ في المال بالإسقاط، فيُمنع منه.

فإن قلنا بوجوب القيمة أو ما جرت العادة بمثله، لم يكن له أن يرضى إلاّ بذلك.

و إن قلنا: له ما يرضيه، كان له أن يرضى بما شاء و إن قلّ جدّاً، و لا يعترض عليه - و به قال الشافعي(2) - لأنّ المال لا يثبت إلاّ برضاه، فلو عيّنّا عليه الرضا، لكان تعييناً للاكتساب.

مسألة 290: قد بيّنّا أنّه لو أقرّ بعين، دُفعت إلى المُقرّ له على إشكال.

و يُحتمل عدم الدفع، و يكون حقّ الغرماء متعلّقاً بها.

فعلى تقدير عدم القبول لو فضلت عن أموال الغرماء دُفعت إلى المُقرّ له قطعاً؛ عملاً بالإقرار.

أمّا البيع فلو باعها حالة الحجر و قلنا بعدم النفوذ ففضلت عن أموال الغرماء، ففي إنفاذ البيع فيها إشكال.

و كذا الإشكال لو ادّعى أجنبيّ شراء عينٍ منه في يده قبل الحجر

ص: 44


1- المهذّب - للشيرازي - 455:1، التنبيه: 139، الحاوي الكبير 550:7-551، حلية العلماء 58:6-59، التهذيب - للبغوي - 530:4-531، الوسيط 276:4، العزيز شرح الوجيز 330:6، روضة الطالبين 446:4.
2- التهذيب - للبغوي - 102:4، العزيز شرح الوجيز 23:5، روضة الطالبين 382:3.

فصدّقه.

و لو قال: هذا المال مضاربة لغائبٍ، قيل: يُقرّ في يده؛ عملاً بمقتضى إقراره، كما لو أقرّ بدَيْنٍ أو بعينٍ.

و لو قال: لحاضرٍ، فإن صدّقه، دُفع إليه على إشكال. و إن كذّبه، قُسّم بين الغرماء.

و يضرب المجنيّ عليه بعد الحجر بالأرش و قيمة المتلف، و يُمنع من قبض بعض حقّه.

و لا يُمنع من وطئ مستولدته.

و الأقرب: منع غير المستولدة من إمائه، فإن فَعَل و أحبل، صارت أُمَّ ولدٍ، و لا يبطل حقّ الغرماء منها مع القصور دونها.

البحث الثاني: في بيع ماله و قسمته.
مسألة 291: كلّ مَن امتنع من قضاء دَيْنٍ عليه مع قدرته و تمكّنه منه و امتنع من بيع ماله فإنّ على الحاكم أن يُلزمه بأدائه

أو يبيع عليه متاعه، سواء كان مفلساً محجوراً عليه أو لا، و يقسّمه بين الغرماء - و به قال الشافعي و مالك و أبو يوسف و محمّد(1) - لما رواه العامّة: أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله حجر على معاذ، و باع ماله في دَيْنه(2).

و خطب عمر فقال في خطبته: ألا إنّ أُسيفع جُهَيْنة قد رضي من دينه

ص: 45


1- المهذّب - للشيرازي - 237:1، التنبيه: 101، حلية العلماء 484:4، التهذيب - للبغوي - 104:4 و 109، العزيز شرح الوجيز 18:5، روضة الطالبين 372:3، بداية المجتهد 284:2، المبسوط - للسرخسي - 164:24، المغني 529:4 و 530، الشرح الكبير 495:4.
2- تقدّم تخريجه في ص 7، الهامش (4).

و أمانته أن يقال: سبق الحاجَّ، فادّان معترضاً(1) فأصبح و قد رين به، فمَنْ كان له عليه مالٌ فليحضر غداً فإنّا بائعو ماله و قاسموه بين غرمائه(2).

و هذا رجل من جُهَيْنة كان يشتري الرواحل و يُسرع السير فيسبق الحاجَّ فأفلس.

و «ادّان» يعني استقرض. و قوله: «معترضاً» أي اعترض الناس فاستدان ممّن أمكنه. و «رين به» أي وقع فيما لا يستطيع الخروج منه.

قال أبو عبيد: كلّ ما غلبك فقد ران بك و رانك(3).

و من طريق الخاصّة: ما رواه عمّار عن الصادق عليه السلام قال: «كان أمير المؤمنين عليه السلام يحبس الرجل إذا التوى على غرمائه ثمّ يأمر فيقسّم ماله بينهم بالحصص، فإن أبى باعه فقسّمه بينهم، يعني ماله»(4).

و قال أبو حنيفة: لا يُباع ماله، بل يحبسه ليبيع بنفسه، إلاّ أن يكون ماله أحدَ النقدين و عليه الآخَر، فيدفع الدراهم عن الدنانير، و الدنانير عن الدراهم؛ لأنّه رشيد لا ولاية لأحدٍ عليه، فلم يجز للحاكم أن يبيع ماله عليه، كما لو لم يكن عليه دَيْنٌ(5)4.

ص: 46


1- في المصادر: «معرضاً».
2- الموطّأ 8/770:2 (الباب 8 من كتاب الوصيّة) المهذّب - للشيرازي - 327:1، الحاوي الكبير 264:6، بداية المجتهد 284:2، المبسوط - للسرخسي - 164:24، العزيز شرح الوجيز 18:5، المغني 530:4، الشرح الكبير 495:4.
3- غريب الحديث - للهروي - 270:3 «رين» و فيه: «... ران بك و ران عليك». و حكاه عنه - كما في المتن - الرافعي في العزيز شرح الوجيز 18:5.
4- الكافي 102:5 (باب إذا التوى الذي عليه الدَّيْن على الغرماء) ح 1، التهذيب 412/191:6، الاستبصار 15/7:3.
5- الهداية - للمرغيناني - 285:3، المبسوط - للسرخسي - 164:24 و 165، النتف 752:2، بدائع الصنائع 174:7، التهذيب - للبغوي - 104:4، حلية العلماء 485:4، العزيز شرح الوجيز 18:5، المغني 529:4-530، الشرح الكبير 495:4.

و قياسهم يُنتقض ببيع الدراهم بالدنانير و بالعكس، فإنّه عنده(1) جائز، فجاز في غير النقدين. و يُمنع عدم الولاية؛ لأنّه بمنعه ظالم، فجاز أن تثبت الولاية عليه، كما أنّ الحاكم يُخرج الزكاة من مال الممتنع من أدائها.

مسألة 292: إذا حجر الحاكم على المفلس، استحبّ له المبادرة إلى بيع ماله و قسمته؛

لئلاّ يتلف منه شيء، و لئلّا تطول مدّة الحجر، و لا يفرط في الاستعجال؛ لئلاّ يطمع المشترون فيه بثمن بخس.

و يستحبّ إحضار المفلس أو وكيله؛ لأنّه يحصي ثمنه و يضبطه.

و لأنّه أخبرُ بمتاعه و أعرفُ من غيره بجيّده من رديئه و ثمنِه، فيتكلّم عليه و يُخبر بقدره، و يعرف المعيب من غيره. و لأنّه يكثر الرغبة فيه، فإنّ شراءه من صاحبه أحبّ إلى المشترين. و لأنّه أبعد من التهمة، و أطيب لنفس المفلس، و أسكن لقلبه، و ليطّلع على عيبٍ إن كان ليباع على وجهٍ لا يُردّ.

و كذا يفعل إذا باع المرهون، و ليس ذلك واجباً فيهما.

و يستحبّ أيضاً إحضار الغرماء؛ لأنّه يُباع لهم، و ربما رغبوا في شراء شيء منه فزادوا في ثمنه فانتفعوا هُم و المفلس. و لأنّه أطيب لقلوبهم و أبعد من التهمة.

مسألة 293: و ينبغي للحاكم أن يبدأ ببيع المرهون و صرف الثمن إلى المرتهن؛

لاختصاص حقّ المرتهن بالعين. و لأنّه ربما زادت قيمة الرهن على الدَّيْن فيضمّ الباقي إلى مال المفلس، و ربما نقصت عن الدَّيْن فيضرب

ص: 47


1- تحفة الفقهاء 35:3، الهداية - للمرغيناني - 83:3، الاختيار لتعليل المختار 61:2.

المرتهن بباقي دَيْنه مع الغرماء.

ثمّ إن كان له عبدٌ جانٍ، قدّم بيعه أيضاً؛ لما قلناه من تعلّق حقّ المجنيّ عليه برقبته و اختصاصه به، و ربما فضل من قيمته شيء فأُضيف إلى مال مولى الجاني. و لا يساوي الرهن، فإنّه إن نقص قيمته عن حقّ الجناية، لم يستحقّ الباقي. و لأنّ حقّه لا يتعلّق بالذمّة بل بالعين خاصّةً، و المرتهن يتعلّق حقّه بالعين و الذمّة معاً.

مسألة 294: و يقدّم بيع ما يخاف عليه الفساد كالفواكه و شبهها؛

لئلاّ يضيع على المفلس و على الغرماء، ثمّ الحيوان؛ لحاجته إلى النفقة و كونه عرضةً للهلاك، ثمّ سائر المنقولات؛ لأنّ التلف إليها أسرع من العقارات، ثمّ سائر العقارات؛ لأنّه لا يخشى عليها التلف و لا السرقة، إلاّ(1) مسكنه فإنّه لا يباع.

و ينبغي أن يشهر حال بيعها بين الناس فيظهر الراغبون.

مسألة 295: ينبغي للحاكم أن يقول للمفلس و الغرماء: ارتضوا مَنْ ينادي على الأمتعة و الأموال؛
اشارة

لأنّ الحاكم لا يكلّف ذلك، بل يردّه إليهم، فإنّه أبعد من التهمة، فإن اتّفقوا على رجل و كان مرضيّاً، أمضاه الحاكم.

و إن لم يكن ثقةً، ردّه.

لا يقال: أ ليس إذا اتّفق الراهن و المرتهن على [أن يبيع] الرهنَ غيرُ ثقة(2) ، لم يكن للحاكم الاعتراضُ عليهما؟

لأنّا نقول: الفرق أنّ الحاكم لا نظر له مع الراهن و المرتهن، و في

ص: 48


1- في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «و لا» بدل «إلاّ». و الظاهر ما أثبتناه.
2- في «ج، ر»: «على بيع الراهن غير ثقة». و في «ث»: «على بيع الرهن لغير ثقة». و في الطبعة الحجريّة: «على بيع الرهن من غير ثقة». و الظاهر أنّ الصحيح ما أثبتناه.

صورة المفلس له نظر و اجتهاد في مال المفلس. و لأنّه قد يظهر غريم فيتعلّق حقّه، فلهذا نظر فيه، بخلاف الرهن.

فإن اختار المفلس رجلاً و اختار الغرماء غيره، نظر الحاكم فإن كان أحدهما غير ثقة دون الآخَر، أقرّ الثقة منهما. و إن كانا ثقتين فإن كان أحدهما متطوّعاً دون الآخَر، أقرّ المتطوّع؛ لأنّه أوفر(1) عليهما. فإن كانا متطوّعين، ضمّ أحدهما إلى الآخَر؛ لأنّه أحوط. و إن كانا غير متطوّعين، اختار أوثقهما و أعرفهما و أقلّهما أُجرةً.

فإن كان المبيع رهناً أو جانياً، أمر بدفع الثمن إلى المرتهن أو وليّ المجنيّ عليه. و إن لم يتعلّق به إلاّ حقّ الغرماء، أمرهم باختيار ثقة يكون المال عنده مجموعاً ليقسّم بينهم على قدر حقوقهم.

تذنيب: ينبغي أن يرزق المنادي من بيت المال،

و كذا مَنْ يلي حفظه؛ لأنّ بيت المال مُعدٌّ للمصالح، و هذا من جملتها. فإن لم يكن في بيت المال سعة أو كان يحتاج إليه لما هو أهمّ من ذلك، فإن وجد متطوّع ثقة، لم يدفع أُجرة. و إن لم يوجد، دفع الأُجرة من مال المفلس؛ لأنّ البيع حقٌّ عليه.

مسألة 296: ينبغي أن يُباع كلّ متاع في موضع سوقه،

فتباع الكتب في سوق الورّاقين، و البزّ في البزّازين، و الحديد في الحدّادين، و ما أشبه ذلك؛ لأنّ بيعه في سوقه أحوط له و أكثر لطُلاّبه و معرفة قيمته.

فإن باع شيئاً منه في غير سوقه بثمن مثله، جاز، كما لو قال لوكيله:

بِعْ هذا المتاع في السوق الفلاني بكذا، فباعه بذلك الثمن في غير ذلك

ص: 49


1- في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «وفر». و الصحيح ما أثبتناه.

السوق و كان غرض الموكّل تحصيل ذلك القدر من الثمن لا غير، فإنّه يصحّ، كذا هنا، بخلاف ما لو قال له: بِعْ من فلان بكذا، فباع من غيره بذلك الثمن، فإنّه يكون قد خالف؛ لأنّه قد يكون له غرض في بيعه من واحدٍ دون واحدٍ.

فإذا باع بثمن المثل ثمّ جاءته الزيادة، فإن كان في زمن الخيار، فسخ البيع احتياطاً للمفلس و الغرماء.

و هل يجب ذلك ؟ إشكال أقربه: الوجوب، كما لو جاءت الزيادة على ثمن المثل قبل البيع.

و إن جاءت بعد لزوم البيع و انقطاع الخيار، سئل المشتري الإقالة، و يستحبّ له الإجابة إلى ذلك؛ لتعلّقه بمصلحة المفلس و الغرماء و قضاء دَيْن المحتاج. فإن لم يفعل، لم يُجبر عليه.

مسألة 297: و يجب أن يبيع المتاع بثمن مثله حالاًّ من نقد البلد،

فإن كان بقُرْب بلدِ ملك المفلس بلدٌ فيه قوم يشترون العقار في بلد المفلس، أنفذ الحاكم إليهم و أعلمهم ليحضروا للشراء ليتوفّر الثمن على المفلس، فإذا بلغ ثمن مثله، باعه، و يبيع بنقد البلد و إن كان من غير جنس حقّ الغرماء؛ لأنّه أوفر.

ثمّ إن كان الثمن من جنس مال الغرماء، دفع إليهم. و إن كان من غير جنسه، فإن لم يرض المستحقّون إلاّ بجنس حقّهم، صرفه إلى جنس حقّهم، و إلاّ جاز صَرفه إليهم.

و لو كان سَلَماً و منعنا من المعاوضة عليه قبل قبضه، اشترى الحاكم لهم من جنس حقّهم، و دَفَعه إليهم.

و لو أراد الغريم الأخذ من المال المجموع، و قال المفلس: لا أُوفيك

ص: 50

إلاّ من جنس مالك، قُدّم قول المفلس؛ لأنّه معاوضة، و لا يجوز إلاّ بتراضيهما عليه.

مسألة 298: لا يدفع السلعة إلى المشتري حتى يقبض الثمن؛ حراسةً لمال المفلس عن التلف.

و قد سبق(1) للشافعيّة أقوال ثلاثة في البداءة بالبائع أو لا؟ فقولٌ: إنّه يبدأ بالبائع، فيسلّم المبيع ثمّ يقبض الثمن. و قولٌ: إنّهما يُجبران على التسليم إلى عَدْلٍ. و الثالث: أنّهما لا يُجبران.

و هذا الأخير لا يتأتّى هنا؛ لتعلّق حقّ الغرماء بالثمن و هو حالّ، فلا سبيل إلى تأخيره، بل إمّا يُجبر المشتري على التسليم أوّلاً، أو يُجبران معاً، و لا يجيء جبر البائع أوّلاً؛ لأنّ مَنْ يتصرّف للغير لا بُدَّ و أن يحتاط.

فإن خالف الواجب و سلّم المبيع قبل قبض الثمن، ضمن.

و ما يقبضه الحاكم من أثمان المبيع من أموال المفلس على التدريج إن كان الغريم واحداً، سلّم إليه من غير تأخير. و كذا إن أمكنت قسمته بسرعة، لم يؤخّر. و إن كان يعسر قسمته؛ لقلّته و كثرة الديون، فله أن يؤخّر ليجتمع. فإن امتنعوا من التأخير، قسّمه عليهم.

و قال بعض الشافعيّة: يُجبرهم الحاكم على التأخير(2).

و ليس بجيّد.

و إذا تأخّرت القسمة فإن وجد الحاكم مَنْ يقترضه من الأُمناء ذوي اليسار أقرضهم إيّاه، فإنّه أولى من الإيداع؛ لأنّ القرض مضمون على

ص: 51


1- في ج 10 ص 108-109 (النظر الثاني في وجوب القبض).
2- العزيز شرح الوجيز 19:5، روضة الطالبين 377:3-378، و فيهما: «فإن أبوا التأخير، ففي النهاية إطلاق القول بأنّه يجيبهم. و الظاهر خلافه».

المقترض، بخلاف الوديعة، فإنّها غير مضمونة على المستودع، و هي أمانة في يده لا يؤمن تلفها، فلا يرجع المفلس و الغرماء إلى شيء. فإن لم يجد مَنْ يُقرضه إيّاه، جَعَله وديعةً عند أمين. و لو أودع مع وجود المقترض الأمين المليّ، كان جائزاً، لكنّه يكون قد ترك الأولى.

إذا ثبت هذا، فإنّه يقرض المال من المليّ الثقة حالاًّ غير مؤجَّل؛ لأنّ الديون حالّة.

و لو أجّله بأن شرط الأجل في بيعٍ و شبهه عندنا و مطلقاً عند مالك(1) ، لم يجز.

قال الشافعي: مال الصبي يودع و لا يقرض(2).

و فرّق بعض أصحابه بأنّ مال الصبي يُعدّ لمصلحة تظهر له من شراء عقار، أو تجارة، و قرضه قد يتعذّر معه المبادرة إلى ذلك، و مال المفلس مُعدٌّ للغرماء خاصّةً، فافترقا(3).

مسألة 299: إذا لم يوجد المقترض، أودعه الحاكم عند الثقة، و لا يشترط فيه اليسار، بل إن حصل كان أولى.

و ينبغي أن يودع ممّن يرتضيه الغرماء، فإن اختلفوا أو عيّنوا مَنْ ليس بعَدْلٍ، لم يلتفت الحاكم، و عيّن هو مَنْ أراد من الثقات، و لا يودع مَنْ ليس بعَدْلٍ.

و لو تلف شيء من الثمن في يد العَدْل، فهو من ضمان المفلس، و به

ص: 52


1- انظر: الحاوي الكبير 318:6.
2- لم نعثر على نصّه، و انظر: المهذّب - للشيرازي - 336:3، و حلية العلماء 529:4، و العزيز شرح الوجيز 83:5، و روضة الطالبين 426:3.
3- لم نعثر عليه فيما بين أيدينا من المصادر المتوفّرة.

قال الشافعي و أحمد(1).

و قال مالك: العروض من ماله، و الدراهم و الدنانير من مال الغرماء(2).

و قال المغيرة: الدنانير من مال أصحاب الدنانير، و الدراهم من مال أصحاب الدراهم(3).

و ليس بشيء؛ لأنّ المال للمفلس، و إنّما يملكه الغرماء بقبضه، لكن تعلُّق حقِّهم به يجري مجرى الرهن حيث تعلّق حقّ المرتهن به، و كما أنّ تلف الرهن من الراهن و إن كان في يد المرتهن، كذا هنا.

و اعلم أنّه لا فرق في ذلك بين أن يكون الضياع في حياة المفلس أو بعد موته، و به قال الشافعي(4).

و قال أبو حنيفة: ما يتلف بعد موته فهو من ضمان الغرماء(5).

مسألة 300: إذا ثبتت الديون عند الحاكم و طلب أربابها القسمةَ عليهم، لم يكلّفهم الحاكمُ إقامةَ البيّنة

على أنّه لا غريم سواهم، و يكتفي الحاكم في ذلك بالإعلان و الإشهاد بالحجر عليه؛ إذ لو كان هناك غريم لظهر و طالَب بحقّه.

ص: 53


1- الحاوي الكبير 317:6 و 330، التهذيب - للبغوي - 105:4، العزيز شرح الوجيز 19:5، روضة الطالبين 378:3، المغني 538:4-539، الشرح الكبير 539:4.
2- الحاوي الكبير 330:6، المغني و الشرح الكبير 539:4.
3- المغني 539:4، الشرح الكبير 540:4.
4- الحاوي الكبير 330:6، التهذيب - للبغوي - 105:4، العزيز شرح الوجيز 19:5، روضة الطالبين 378:3.
5- الحاوي الكبير 141:6 و 330، التهذيب - للبغوي - 105:4، العزيز شرح الوجيز 20:5.

و لا فرق بين القسمة على الغرماء و القسمة على الورثة، إلاّ أنّ الورثة يحتاجون إلى إقامة البيّنة على أنّه لا وارث غيرهم، بخلاف الغرماء.

و الفرق: أنّ الورثة أضبط من الغرماء، و هذه شهادة على النفي يعسر تحصيلها و مدركها، فلا يلزم من اعتبارها حيث كان الضبط أسهل اعتبارُها حيث كان أعسر(1).

مسألة 301: إذا قسّم الحاكمُ مالَ المفلس بين غرمائه ثمّ ظهر غريمٌ آخَر، احتُمل عدم نقض القسمة،

بل يشاركهم الغريم الظاهر بالحصّة؛ لأنّ المقصود يحصل به.

و قال الشافعي: تُنقض القسمة، فيستردّ المال من الغرماء، و تُستأنف القسمة، كالورثة إذا قسّموا التركة ثمّ ظهر دَيْنٌ، فإنّه تُنقض القسمة؛ لأنّ الغريم لو كان حاضراً قاسَمهم، فإذا ظهر بعد ذلك، كان حقّه باقياً. و لا يلزم من ذلك نقض حكم الحاكم بالقسمة؛ لأنّ ذلك ليس حكماً منه، كما لو زوّج الصغيرة، لم يصح نكاحه. و لو حكم بالتزويج حاكمٌ آخَر، نفذ عند الشافعي(2).

و أمّا عندنا فالجواب أن نقول: إنّه قسّم على أنّه لا غريم هناك، فإذا ظهر غريمٌ آخَر، كان ذلك خطأً، فلهذا نُقضت القسمة.

و عن مالك روايتان: إحداهما: تُنقض. و الثانية: لا تُنقض، و لا يخاصمهم الغريم الظاهر؛ لأنّه نقضٌ لحكم الحاكم(3)

ص: 54


1- أي: حيث كان الضبط أعسر.
2- العزيز شرح الوجيز 20:5، و 533:7 و 542، روضة الطالبين 378:3، و 399:5 و 436.
3- حلية العلماء 522:4، المغني 532:4، الشرح الكبير 546:4.

و وافقنا أحمد(1) على أنّه يشارك.

مسألة 302: لو قسّم الغريمان المالَ - و هو خمسة عشر، و لأحدهما عشرون، و للآخَر عشرة - أثلاثاً، فأخذ صاحبُ العشرين عشرةً،

و صاحبُ العشرة خمسةً، ثمّ ظهر غريمٌ ثالث و له ثلاثون، فإن قلنا بالنقض، نقضت القسمة، و بسط المال على نسبة ما لكلّ واحدٍ منهم. و إن قلنا بعدم النقض، استردّ الظاهرُ من كلّ واحدٍ منهما نصفَ ما حصل له.

و لو كان [دين كلّ واحدٍ منهما عشرة و قسّم المال بينهما نصفين و كان](2) الذي ظهر له عشرةٌ، رجع على كلّ واحدٍ منهما بثلث ما أخذ. فإن أتلف أحدهما ما أخذ و هو معسر لا يحصل منه شيء، احتُمل أن يأخذ الغريم الذي ظهر من الآخَر شطر ما أخذ، فكأنّه كلّ المال، ثمّ إن أيسر المتلف، أخذ منه ثلث ما أخذه و قسّماه بينهما. و أن لا يأخذ منه إلاّ ثلث ما أخذه، و ثلث ما أخذه المتلف دَيْنٌ عليه له.

و لو أنّ الغريم الثالث ظهر و قد ظهر للمفلس مالٌ قديم أو حادث بعد الحجر، صُرف منه إلى مَنْ ظهر بقسط ما أخذه الأوّلان، فإن فضل شيء، قُسّم على الثلاثة.

و إنّما يشارك الغريم الظاهر لو كان حقّه سابقاً على الحجر، أمّا لو كان حادثاً بعد الحجر، فلا يشارك الأوّلين في المال القديم.

و إن ظهر مالٌ قديم و حدث مال باتّهابٍ(3) أو احتطابٍ و شبهه، فالقديم للقدماء خاصّةً، و الحادث للجميع.

ص: 55


1- المغني 532:4، الشرح الكبير 546:4.
2- ما بين المعقوفين يقتضيه السياق.
3- في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «اتّهاب». و الصحيح ما أُثبت.
مسألة 303: إذا باع المفلس شيئاً من ماله قبل الحجر و تلف الثمن في يده بإتلافه

أو بغير إتلافه ثمّ حَجَر عليه الحاكمُ، كان ذلك كدَيْنٍ ظهر على المفلس، و الحكم ما تقدّم.

و لو باع الحاكمُ مالَه و ظهر الاستحقاق بعد قبض الثمن و تلفه، رجع المشتري في مال المفلس، و لا يطالب الحاكم به. و لو نصب الحاكم أميناً حتى باعه، ففي كونه طريقاً إشكال، كما في العَدْل الذي نصبه القاضي لبيع الرهن.

ثمّ رجوع المشتري في مال المفلس و رجوع الأمين إن قلنا: إنّه طريقٌ للضمان و غرم، للشافعي فيه قولان:

أحدهما: أنّه يضارب مع الغرماء؛ لأنّه دَيْنٌ في ذمّة المفلس، كسائر الديون.

و الثاني: أنّه يُقدَّم على الغرماء؛ لأنّا لو قلنا بالضمان به، لرغب الناس عن شراء مال المفلس، فكان التقديم من مصالح الحَجْر، كأُجرة الكيّال و نحوها من المُؤن(1).

و الثاني عندي أقوى.

مسألة 304: يجب على الحاكم أن يُنفق على المفلس إلى يوم الفراغ من بيع ماله و قسمته،

فيعطيه نفقة ذلك اليوم له و لعياله الواجبي النفقة من الزوجات و الأقارب؛ لأنّه موسر ما لم يزل ملكه. و كذا يكسوهم بالمعروف. و كلّ هذا إذا لم يكن له كسب يصرف إلى هذه الجهات.

و هل ينفق على الزوجات نفقة المعسرين أو الموسرين ؟ الأقرب عندي: الأوّل.

ص: 56


1- العزيز شرح الوجيز 21:5، روضة الطالبين 379:3.

و يُحتمل الثاني؛ لأنّه لو أنفق نفقة المعسر لما لزمه نفقة الأقارب.

و للشافعي قولان(1).

مسألة 305: لا يُباع على المفلس مسكنه و لا خادمه و لا فرس ركوبه،

و قد تقدّم(2) ذلك في باب الدَّيْن.

و قد وافقنا على عدم بيع المسكن أبو حنيفة و أحمد و إسحاق؛ لأنّه ممّا لا غنى للمفلس عنه، و لا يمكن حياته بدونه، فلم يصرف في دَيْنه، كقوته و كسوته(3).

و قال الشافعي: يُباع جميع ذلك - و به قال شريح و مالك - و يستأجر له بدلها - و اختاره ابن المنذر - لقوله عليه السلام في المفلس: «خُذُوا ما وجدتم»(4) و قد وجد عقاره(5).

و هو قضيّة شخصيّة جاز أن يقع في مَنْ لا عقار له، مع أنّ الشافعي قال: إنّه يُعدل في الكفّارات المرتّبة إلى الصيام و إن كان له مسكن و خادم، و لا يلزمه صرفهما إلى الإعتاق(6)

ص: 57


1- العزيز شرح الوجيز 22:5، روضة الطالبين 380:3.
2- في ج 13، ص 16، المسألة 13.
3- الحاوي الكبير 328:6، المغني 537:4، الشرح الكبير 536:4.
4- صحيح مسلم 1556/1191:3، سنن ابن ماجة 2356/789:2، سنن أبي داوُد 3469/276:3، سنن النسائي 265:7، سنن البيهقي 305:5، و 50:6، المصنّف - لابن أبي شيبة - 3302/319:7، مسند أحمد 11157/461:3، المستدرك - للحاكم - 41:2.
5- الأُمّ 202:3، مختصر المزني: 104، الحاوي الكبير 328:6، المهذّب - للشيرازي - 329:1، التهذيب - للبغوي - 106:4، الوسيط 15:4، الوجيز 171:1، العزيز شرح الوجيز 22:5، روضة الطالبين 380:3، منهاج الطالبين: 121.
6- الأُمّ 283:5، مختصر المزني: 205، الحاوي الكبير 496:10، الوجيز 171:1، و 83:2، العزيز شرح الوجيز 22:5، و 314:9-315، الوسيط 15:4، روضة الطالبين 270:6.

فبعض أصحابه خرّج منه قولين في الديون. و بعضهم قرّر القولين، و فرّقوا من وجهين:

أحدهما: أنّ الكفّارة لها بدل ينتقل إليه، و الدَّيْن بخلافه.

و ثانيهما: أنّ حقوق اللّه تعالى مبنيّة على المساهلة، و حقوق الآدميّين على الشُّحّ و المضايقة.

ثمّ قالوا: المسكن أولى بالإبقاء من الخادم، فينتظم أن يرتّب الخلاف، فيقال: فيهما ثلاثة أوجُه، في الثالث يبقى المسكن دون الخادم.

فإن قلنا بالإبقاء، فذاك إذا كان الإبقاء لائقاً بالحال، دون النفيس الذي لا يليق به، و يشبه أن يكون المراد ذلك: أنّه إن كان ثميناً، بِيع، و إلاّ فلا(1).

مسألة 306: يجب على الحاكم أن يترك له دَسْت ثوبٍ يليق بحاله و قميص و سراويل و منديل و مكعَّب

(2) ، و يزيد في الشتاء جبّة، و يترك له العمامة و الطيلسان و الخُفّ و دراعة يلبسها فوق القميص إن كان لُبْسها يليق بحاله؛ لأنّ حطّها عنه يزري بحاله.

و في الطيلسان و الخُفّ نظر.

و الأولى الاعتبار بما يليق بحاله في إفلاسه، لا في حال ثروته.

و لو كان يلبس قبل الإفلاس أزيد ممّا يليق بحاله، رُدّ إلى اللائق. و إن كان يلبس دون اللائق تقتيراً، لم يزد عليه في الإفلاس. و يترك لعياله من الثياب ما يترك له، و لا تُترك الفُرُش و البُسُط، بل يسامح باللبد و الحصير القليل القيمة.

ص: 58


1- الوسيط 15:4، العزيز شرح الوجيز 22:5، روضة الطالبين 380:3.
2- المكعَّب: البُرْدُ الموشى بوشْيٍ مربّع. و يقال: ثوبٌ مكعَّب: أي مطوي شديد الأدراج. شمس العلوم 5852:9.
مسألة 307: يجوز أن يترك له نفقة يوم القسمة،

و كذا نفقة مَنْ عليه نفقته؛ لأنّه موسر في أوّل ذلك اليوم. و لا يزيد على نفقة ذلك اليوم، فإنّه لا ضبط بعده. و كلّ ما يُترك له إذا لم يوجد في ماله، اشتري له؛ لقوله عليه السلام: «ابدأ بنفسك ثمّ بمَن تعول»(1) و معلومٌ أنّ في مَنْ يعوله مَنْ تجب نفقته عليه، و يكون دَيْناً عليه، و هي الزوجة، فإذا قدّم نفقة نفسه على نفقة الزوجة، فكذا على حقّ الغرماء؛ لأنّ حرمة الحيّ آكد من حرمة الميّت؛ لأنّه مضمون بالإتلاف، و يتقدّم تجهيز الميّت و مئونته على دَيْنه، فكذا نفقة الحيّ.

و تُقدّم أيضاً نفقة أقاربه، كالوالدين و الولد؛ لأنّهم يجرون مجرى نفسه؛ لأنّ النفقة لإحيائهم. و لأنّهم يعتقون عليه إذا ملكهم، كما يعتق إذا ملك نفسه، فكانت نفقتهم كنفقته.

و كذا زوجته تُقدّم نفقتها؛ لأنّ نفقتها آكد من نفقة الأقارب؛ لأنّها تجب على طريق المعاوضة، و يجب قضاؤها، بخلاف نفقة الأقارب، و فيها معنى الإحياء، كما في الأقارب.

و تجب كسوتهم أيضاً؛ لأنّ البقاء لا يتمّ بدونه. فإن كان ممّن عادته الثياب الخشنة، دُفع إليه من الخشن. و إذا كانت عادته الناعم، دُفع إليه أوسط الناعم. و إن كان لباسه من فاخر الثياب الجيّدة، اشتري له من ثمنها أقلّ ما يلبس أقصد مَنْ هو في مثل حاله.

و لو كان ذا كسب، جُعلت نفقته في كسبه، فإن فضل الكسب، فالفاضل للغرماء. و إن أعوز، أُخذ من ماله.

مسألة 308: و لو مات، كُفّن من ماله؛

لأنّ نفقته كانت واجبةً في ماله حالة الحياة فوجب تجهيزه إذا مات، كأقاربه.

ص: 59


1- نوادر الأُصول في أحاديث الرسول 246:1.

[و يلزمه كفن الزوجة](1) و هو أحد قولي الشافعي(2).

و قال في الآخَر: لا يلزمه كفنها - و به قال أحمد - لأنّ النفقة وجبت في مقابلة الاستمتاع و قد فات بالموت، فسقطت النفقة، بخلاف الأقارب، فإنّ قرابتهم باقية(3).

و ينتقض بالعبد؛ فإنّ النفقة وجبت بالملك و قد زال بموته و مع هذا يجب تجهيز العبد.

إذا ثبت هذا، فإنّه يكفّن الكفن الواجب، و هو ثلاثة أثواب: مئزر، و قميص، و إزار عندنا.

و مَن اقتصر في الواجب على الواحد اقتصر عليه(4) هنا.

و لا يجوز أن يكفّن أزيد ممّا تستحبّ زيادته، إلاّ بإذن الغرماء.

مسألة 309: لا يؤمر المفلس بتحصيل ما ليس بحاصلٍ له

و إن لم يُمكَّن من تفويت ما عنده حتى لو جنى على المفلس أو على عبده جانٍ، فله القصاص، و لا يلزمه أن يعفو على المال؛ لأنّه اكتساب.

و لو أوجبت الجناية المالَ، لم يكن له العفو مجّاناً؛ لأنّه تفويت، إلاّ بإذن الغرماء.

و كذا لو قُتل المفلس، لم يكن لوارثه العفوُ مجّاناً إن كان قُتل خطأً.

و لو أسلم في شيء، لم يكن له أن يقبض أدون صفةً أو قدراً، إلاّ بإذن الغرماء.

ص: 60


1- ما بين المعقوفين أضفناه لأجل السياق.
2- الحاوي الكبير 327:6.
3- الحاوي الكبير 327:6، المغني 534:4-535، الشرح الكبير 539:4.
4- في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «عليها». و الصحيح ما أثبتناه.

فإذا قُسّم ماله و قصر عن الديون أو لم يكن له مالٌ البتّة، لم يؤمر بالتكسّب و لا بأن يؤاجر نفسه ليصرف الأُجرة و الكسب في الديون أو في نفقتها - و به قال الشافعي و مالك و أحمد في إحدى الروايتين(1) - لقوله تعالى:«وَ إِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ» (2).

و لما رواه العامّة عن أبي سعيد الخدري: أنّ رجلاً أُصيب في ثمار ابتاعها فكثر دَيْنه، فقال النبيّ صلى الله عليه و آله: «تصدّقوا عليه» فتصدّقوا عليه فلم يبلغ وفاء دينه، فقال النبيّ صلى الله عليه و آله: «خُذُوا ما وجدتم [و](3) ليس لكم إلاّ ذلك»(4).

و لأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله لمّا حجر على معاذ لم يزد على بيع ماله(5).

و من طريق الخاصّة: ما رواه غياث بن إبراهيم عن الصادق عن الباقر عليهما السلام: «أنّ عليّاً عليه السلام كان يحبس في الدَّيْن، فإذا تبيّن له إفلاس و حاجة خلّى سبيله حتى يستفيد مالاً»(6).

و استعدت امرأة على زوجها عند أمير المؤمنين عليه السلام أنّه لا ينفق عليها و كان زوجها معسراً، فأبى أن يحبسه و قال: «إنّ مع العسر يسراً»(7) و لو كان التكسّب واجباً لأمر به.

و لأنّ هذا تكسّب للمال، فلا يُجبر عليه، كما لا يُجبر على قبول الهبة0.

ص: 61


1- الحاوي الكبير 325:6، حلية العلماء 483:4، العزيز شرح الوجيز 23:5، روضة الطالبين 382:3، الكافي في فقه أهل المدينة: 422، المعونة 1183:2، المغني 539:4، الشرح الكبير 547:4.
2- البقرة: 280.
3- ما بين المعقوفين من المصدر.
4- تقدّم تخريجه في ص 57، الهامش (4).
5- راجع: الهامش (4) من ص 7.
6- التهذيب 834/299:6، الاستبصار 156/47:3.
7- التهذيب 299:6-837/300.

و الصدقة و لا تُجبر المرأة على التزويج لتأخذ المهر، كذا هنا.

و عن مالك رواية أُخرى: أنّه إن كان ممّن يعتاد إجارة نفسه، لزمه(1).

و قال أحمد - في الرواية الشهيرة عنه - و إسحاق: يؤاجر، فإن امتنع أجبره القاضي - و به قال عمر بن عبد العزيز و عبيد اللّه بن الحسن العنبري و سوار القاضي - لأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله باع سرقاً في دَيْنه، و كان سرق رجلاً دخل المدينة و ذكر أنّ وراءه مالاً، فداينه الناس، فركبته الديون و لم يكن وراءه مال، فأُتي به النبيّ صلى الله عليه و آله، فسمّاه [سرقاً](2) و باعه بخمسة أبعرة. قالوا:

و الحُرّ لا يجوز بيعه، فثبت أنّه باع منافعه. رواه العامّة(3).

و من طريق الخاصّة: ما رواه السكوني عن الصادق عن الباقر عليهما السلام:

«أنّ عليّاً عليه السلام كان يحبس في الدَّيْن ثمّ ينظر فإن كان له مالٌ أعطى الغرماء، و إن لم يكن له مالٌ دَفَعَه إلى الغرماء، فيقول لهم: اصنعوا به ما شئتم، إن شئتم آجروه، و إن شئتم استعملوه»(4) و ذكر الحديث.

و لأنّ المنافع تجري مجرى الأعيان في صحّة العقد عليها و تحريم أخذ الزكاة، كالأعيان(5).

و الحديث الذي رووه من طريق العامّة منسوخ بالإجماع؛ لأنّ البيع وقع على رقبته، و لهذا روي في الحديث أنّ غرماءه قالوا للّذي يشتريه:2.

ص: 62


1- الوسيط 15:4، العزيز شرح الوجيز 23:5.
2- ما بين المعقوفين من المصدر.
3- المغني 540:4، الشرح الكبير 548:4.
4- التهذيب 838/300:6، الاستبصار 155/47:3.
5- المغني 540:4، الشرح الكبير 548:4، الحاوي الكبير 325:6، التهذيب - للبغوي - 107:4، الوسيط 15:4، حلية العلماء 484:4، العزيز شرح الوجيز 23:5، بداية المجتهد 293:2.

ما تصنع به ؟ فقال: أعتقه، فقالوا: لسنا بأزهد منك في إعتاقه، فأعتقوه(1).

و حديث الخاصّة ضعيف السند؛ لأنّه رواية السكوني، و هو عامّيّ المذهب.

و المنافع لا تجري مجرى المال في جميع الأحكام، فإنّه لا يجب عليه الحجّ لأجل المنافع، و لا الزكاة.

مسألة 310: لو كانت له أُمّ ولدٍ أو ضيعةٌ موقوفة عليه، ففي وجوب مؤاجرتهما نظر:

من حيث إنّ المنافع و إن لم تكن مالاً فإنّها تجري مجراها، فيجعل بدلها للدَّيْن، و من حيث إنّ المنافع لا تُعدّ أموالاً حاضرة حاصلة، و لو كانت تُعدّ من الأموال، لوجب إجارة المفلس نفسه، و لوجب بها الحجّ و الزكاة. و الثاني أقرب.

و للشافعيّة وجهان(2) كهذين.

فعلى الأوّل يؤاجره مرّةً بعد أُخرى إلى أن يفنى الدَّيْن، فإنّ المنافع لا نهاية لها، و قضيّته إدامة الحجر إلى قضاء الدَّيْن. لكنّه كالمستبعد.

و في جواز بيع أُمّ الولد نظرٌ، أقربه ذلك إن كانت قد رُهنت قبل الاستيلاد، فإنّها تُباع في الرهن، أو كان ثمنها دَيْناً على مولاها و لا وجه له سواها.

مسألة 311: إذا قسّم الحاكمُ مالَ المفلس بين الغرماء، انفكّ حجره،

و لا حاجة إلى حكم الحاكم بذلك؛ لأنّ الحجر لحفظ المال على الغرماء و قد حصل الغرض، فيزول الحجر، و هو أحد قولي الشافعي.

ص: 63


1- المغني 540:4، الشرح الكبير 549:4.
2- التهذيب - للبغوي - 107:4، العزيز شرح الوجيز 24:5، روضة الطالبين 282:3، منهاج الطالبين: 121.

و الأظهر عنده: أنّه لا بُدَّ من فكّ القاضي؛ لأنّه حَجْرٌ لا يثبت إلاّ بإثبات القاضي، فلا يرفع إلاّ برفعه، كالسفيه. و لأنّه حجر يحتاج إلى نظر و اجتهاد كحجر السفيه(1).

و نمنع الملازمة الأُولى؛ فإنّ الحجر هنا لمعنىً و قد زال، بخلاف السفيه، فإنّه لا يُعلم زواله إلاّ بعد الاختيار المستند إلى الحاكم. و لأنّ هذا الحجر لتفريق ماله و قد حصل، و ذلك لحفظ ماله، فتركه محجوراً عليه يزيد في الغرض. و لأنّه حجر للغرماء و قد اعترفوا بسقوطه.

هذا إذا اعترف الغرماء بأن لا مال له سواه، و لو ادّعوا مالاً، فسيأتي.

مسألة 312: لو اتّفق الغرماء على رفع الحجر عنه، فالأقوى رفعه؛

لأنّ الحجر لهم، و هو حقّهم، و هُمْ في أموالهم كالمرتهن في حقّ المرهون، و هو أحد قولي الشافعي.

و الآخَر: أنّه لا يرتفع؛ لاحتمال أن يكون هناك غريمٌ آخَر - سواهم - غائب، فلا بُدَّ من نظر الحاكم و اجتهاده(2).

و إدامة العقوبة بالتجويز غير جائز، و لهذا إذا قسّم المال، لم يزل تجويز ورود غريمٍ.

و لو باع المفلس مالَه من غريمٍ بدَيْنه و لا يُعرف له غريمٌ سواه، فالأقرب: صحّة البيع؛ لأنّ الحجر عليه لدَيْن ذلك الغريم، فإذا رضي و برئت ذمّته، وجب أن يصحّ، و هو أحد قولي الشافعي(3)

ص: 64


1- حلية العلماء 519:4، الوسيط 15:4، الوجيز 172:1، العزيز شرح الوجيز 24:5، روضة الطالبين 382:3.
2- الوسيط 15:4، الوجيز 172:1، العزيز شرح الوجيز 24:5-25، روضة الطالبين 383:3.
3- الوجيز 172:1، العزيز شرح الوجيز 25:5، روضة الطالبين 383:3.

و الأظهر عنده(1): أنّه لا يصحّ من غير مراجعة القاضي؛ لأنّ الحجر على المفلس لا يقتصر على الغريم الملتمس، بل يثبت على العموم، و من الجائز أن يكون له غريمٌ آخَر(2).

و الوجهان مفرَّعان على أنّ بيع المفلس من الأجنبيّ لا يصحّ، فإن صحّ، فهذا أولى(3).

و لو حجر لديون جماعة و باع أمواله منهم بديونهم، فعلى الخلاف(4).

و لو باع ماله من غريمه الواحد بعين أو ببعض دَيْنه، فهو كما لو باع من الأجنبيّ؛ لأنّ ذلك لا يتضمّن ارتفاع الحجر، بخلاف ما إذا باع [بكلّ الدَّيْن، فإنّه يسقط الدَّين، فإذا سقط الدَّيْن ارتفع الحجر.

و لو باع](3) من أجنبيّ بإذن الغرماء، لم يصح(6).

و الوجه: الصحّة - و هو أحد قولي الشافعي(7) - كما يصحّ بيع المرهون بإذن المرتهن.

و إذا قلنا: إنّه إذا فُرّقت أمواله و قُضيت الديون ارتفع الحجر عنه، صحّ البيع من الغريم بالدَّيْن؛ لتضمّنه البراءة من الدَّيْن.

و يمكن أن يقال: لا نجزم بصحّة البيع.

و إن قلنا: إنّ سقوط الدَّيْن يُسقط الحجر؛ لأنّ صحّة البيع إمّا أن تفتقر إلى ارتفاع الحجر أو لا، فإن افتقرت، وجب الجزم بعدم الصحّة، و إلاّ لزم3.

ص: 65


1- في «ج، ر»: «عندهم».
2- الوجيز 172:1، العزيز شرح الوجيز 25:5. (3 و 4) العزيز شرح الوجيز 25:5.
3- ما بين المعقوفين أثبتناه من «العزيز شرح الوجيز» و «روضة الطالبين». (6 و 7) العزيز شرح الوجيز 25:5، روضة الطالبين 383:3.

الدور؛ لأنّه لا يصحّ البيع ما لم يرتفع الحجر، و لا يرتفع الحجر ما لم يسقط الدَّيْن، و لا يسقط الدَّيْن ما لم يصحّ البيع.

و إن لم تفتقر، فغاية الممكن اقتران صحّة البيع و ارتفاع الحجر، فلتخرج الصحّة على الخلاف فيما إذا قال: كلّما ولدت ولداً فأنت طالق، فولدت ولداً بعد ولد هل تطلّق بالثاني ؟ و فيما إذا قال العبد لزوجته: إن مات سيّدي فأنتِ طالق طلقتين، و قال السيّد لعبده: إذا متُّ فأنت حُرٌّ، فمات السيّد، هل له نكاحها قبل زوج و إصابة ؟(1).

و هذا عندنا لا يتأتّى.

البحث الثالث: في حبسه.
مسألة 313: مَنْ وجب عليه دَيْنٌ حالّ فطُولب به و لم يؤدّه، نظر الحاكم فإن كان في يده مالٌ ظاهر،

أمره الحاكم بالقضاء، فإن ذكر أنّه لغيره، حكم عليه بإقراره إن صدّقه المُقرّ له أو لم يُعلم منه تصديق و لا تكذيب.

فإن كذّبه، لم يقبل منه إقراره، و ألزمه بالخروج من الديون، فإن امتنع مع قدرته على القضاء، حبسه الحاكم.

و يحلّ لصاحب الدَّيْن الإغلاظ له في القول بأن يقول: يا ظالم، يا معتدي، و نحو ذلك؛ لقوله عليه السلام: «ليّ الواجد يُحلّ عقوبتَه و عِرْضَه»(2).

و الليّ: المطل. و العقوبة: حبسه. و العرض: الإغلاظ له في القول.

و قال عليه السلام: «إنّ لصاحب الحقّ مقالاً»(3).

و لو ظهر عناده بإخفاء ماله و علم يساره و تمكّنه، كان للحاكم ضربه.

ص: 66


1- العزيز شرح الوجيز 25:5.
2- صحيح البخاري 155:3.
3- صحيح البخاري 155:3، صحيح مسلم 1601/1225:3.

و لو لم يكن في يده مالٌ ظاهر، فإن كان أصل الدعوى مالاً أو كان قد عُرف له أصلُ مالٍ ثمّ خفي أمره، طُولب بالبيّنة على الإعسار. و إن كانت الدعوى غرامةً عن إتلافٍ أو جناية و لم يُعرف له قبل ذلك أصلُ مالٍ، حكم بقوله مع اليمين.

مسألة 314: إذا ثبت إعسار المديون عند الحاكم بالبيّنة أو بإقرار الغريم، لم يجز حبسه و لا ملازمته،

و وجب إنظاره؛ لقوله تعالى:«وَ إِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ» (1).

و لما رواه العامّة عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال لغرماء الذي كثر دَيْنه: «خُذُوا ما وجدتم، و ليس لكم إلاّ ذلك»(2)الهداية - للمرغيناني - 286:3، بدائع الصنائع 173:7، الحاوي الكبير 335:6، التهذيب - للبغوي - 116:4، حلية العلماء 483:4، العزيز شرح الوجيز 26:5، بداية المجتهد 293:2، المغني 543:4، الشرح الكبير 500:4.(3).

و من طريق الخاصّة: قول الباقر عليه السلام: «إنّ عليّاً عليه السلام كان يحبس في الدَّيْن، فإذا تبيّن له إفلاس و حاجة خلّى سبيله حتى يستفيد مالاً»(4).

و لأنّ الحبس إمّا لإثبات الإعسار أو لقضاء الدَّيْن، و الأوّل ثابت، و القضاء متعذّر، فلا فائدة في الحبس.

و قال أبو حنيفة: للغريم ملازمته، لكن لا يمنعه من التكسّب(4).

مسألة 315: إذا كان للمديون مالٌ، أمره الحاكم ببيعه و إيفاء الدَّيْن من ثمنه مع مطالبة أربابها،

فإن امتنع، باع الحاكم متاعه عليه، و قضى منه الدَّيْن، و به قال الشافعي و أحمد(5)

ص: 67


1- البقرة: 280.
2- تقدّم تخريجه في ص 57، الهامش
3- .
4- تقدّم تخريجه في ص 61، الهامش (6).
5- تقدّم تخريجه في ص 45، الهامش (1).

و قال أبو حنيفة: لا يبيع الحاكم، بل يحبس الغريم إلى أن يبيع هو بنفسه(1).

و قد تقدّم(2) البحث في ذلك.

و هل للحاكم أن يحجر عليه ؟ الأقرب عندنا: المنع؛ لأنّ التقدير أنّه متمكّن من الإيفاء، فلا معنى للحجر، بل يُحبس أو يُباع عليه، و هو أحد وجهي الشافعي.

و الثاني: أنّه يحجر عليه إذا التمسه الغرماء؛ لئلاّ يتلف ماله(3).

و لو أخفى ماله، حبسه القاضي حتى يُظهره.

روي أنّه عليه السلام قال: [«ليّ الواجد يُحلّ عِرْضَه و عقوبته»(4).

قال المفسّرون: أراد بالعقوبة الحبس و](5) الملازمة، فإن لم ينزجر [بالحبس](6) زاد في تعزيره بما يراه من ضرب و غيره.

و لو كان له مالٌ ظاهر، فهل يحبسه لامتناعه ؟ الأولى ذلك؛ لأنّه صلى الله عليه و آله حبس رجلاً أعتق شقصاً له من عبد في قيمة الباقي(5).

فإن ادّعى أنّه قد تلف ماله و صار معسراً، فعليه البيّنة، فإن شهدوا على التلف، قُبلت شهادتهم و لم يُعتبر فيهم الخِبْرة الباطنة. و إن شهدت على إعساره، قُبلت إن كانوا من أهل الخِبْرة الباطنة.6.

ص: 68


1- تقدّم تخريجه في ص 46، الهامش (5).
2- في ص 45، المسألة 291.
3- العزيز شرح الوجيز 26:5، روضة الطالبين 372:3.
4- صحيح البخاري 155:3. (5 و 6) ما بين المعقوفين أضفناه من العزيز شرح الوجيز 26:5، و روضة الطالبين 372:3.
5- العزيز شرح الوجيز 26:5، و راجع سنن البيهقي 49:6.

و يُحمل قولهم: «إنّه(1) معسر» على أنّهم وقفوا على تلف المال.

فإن ادّعى المديون أنّه معسر لا شيء له، أو قُسّم مال المحجور على الغرماء و بقي بعض الدَّيْن فزعم أنّه لا يملك شيئاً آخَر و أنكر صاحب الدَّيْن أو الغرماء إعسارَه، فإن كان الدَّيْن لزمه في مقابلة مالٍ - كما إذا ابتاع أو استقرض، أو باع سَلَماً - فهو كما لو ادّعى هلاك المال، فعليه البيّنة. و إن لزم لا في مقابلة مالٍ، قُبل قوله مع اليمين؛ لأنّ الأصل العدم، و هو أصحّ وجوه الشافعيّة.

و الثاني: أنّه لا يُقبل، و يحتاج إلى البيّنة؛ لأنّ الظاهر من حال الحُرّ أنّه يملك شيئاً، قلّ أم كثر.

و الثالث: أنّه إن لزمه باختياره - كالصداق و الضمان - لم يُقبل قوله، و عليه البيّنة. و إن لزمه لا باختياره - كأرش الجناية و غرامة المتلف - قُبل قوله مع اليمين؛ لأنّ الظاهر أنّه لا يشغل ذمّته اختياراً، و لا يلتزم بما لا يقدر عليه(2).

مسألة 316: إذا ادّعى المديون الإعسار و كان أصل الدعوى مالاً،

أو كان له مالٌ فادّعى تلفه، افتقر إلى البيّنة؛ لأنّ الأصل بقاء المال في يده، فإذا ادّعى خلاف الأصل، كان عليه البيّنة. فإن لم تكن بيّنة، حلف الغرماء على عدم التلف. فإذا حلفوا، حُبس.

قال ابن المنذر: أكثر مَنْ يُحفظ عنه العلم من علماء الأمصار و قُضاتهم يرون الحبس في الدَّيْن، منهم: مالك و الشافعي و أبو عبيد

ص: 69


1- في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «و يُحمل على قولهم: إنّهم». و الصحيح ما أثبتناه.
2- العزيز شرح الوجيز 27:5، روضة الطالبين 373:3.

و النعمان و سوار و عبيد اللّه بن الحسن و شريح و الشعبي(1).

و قال عمر بن عبد العزيز: يُقسّم ماله بين الغرماء، و لا يُحبس. و به قال [عبيد اللّه بن أبي](2) جعفر و الليث بن سعد(3).

و إن شهدت البيّنة بتلف ماله، سُمعت. فإن طلب الغرماء يمينه على ذلك مع البيّنة، لم يُجابوا؛ لأنّ ذلك تكذيب للشهود.

و إن شهدت البيّنة بالإعسار و قد كان له مالٌ، لم تُسمع إلاّ أن تكون البيّنة من أهل الخِبْرة الباطنة؛ لأنّ الإعسار أمر خفيّ، فافتقرت الشهادة به إلى العِشرة الطويلة و الاختبار في أكثر الأوقات.

فإن شهدت بذلك و كانت من أهل الخِبْرة الباطنة، سُمعت الشهادة، و ثبت الإعسار عندنا - و به قال الشافعي و أحمد(4) - لأنّ النبي صلى الله عليه و آله قال لقبيصة بن المخارق: «يا قبيصة إنّ المسألة لا تحلّ إلاّ لأحد ثلاثة: رجل تحمّل حمالةً فحلّت له المسألة حتى يؤدّيها ثمّ يمسك، و رجل أصابته جائحة فاجتاحت ماله فحلّت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش - أو4.

ص: 70


1- الإشراف على مذاهب أهل العلم 145:1-146، المغني 545:4، الشرح الكبير 497:4، المدوّنة الكبرى 204:5، بداية المجتهد 293:2، التفريع 247:2، التلقين 429:2، الذخيرة 204:8، المعونة 1182:2، النوادر و الزيادات 15:10، التنبيه: 101، المهذّب - للشيرازي - 327:1، الوسيط 17:4، التهذيب - للبغوي - 109:4، العزيز شرح الوجيز 26:5-27، روضة الطالبين 372:3، الهداية - للمرغيناني - 104:3، الاختيار لتعليل المختار 141:2.
2- بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «عبد اللّه بن». و ما أثبتناه كما في الإشراف على مذاهب أهل العلم 146:1، و تاريخ مدينة دمشق 408:37.
3- الإشراف على مذاهب أهل العلم 146:1، المغني 545:4، الشرح الكبير 497:4.
4- المغني 545:4، الشرح الكبير 497:4.

قال: سداداً من عيش - و رجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجى من قومه: لقد أصاب فلاناً فاقة، فحلّت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش - أو قال: سداداً من عيش -»(1).

و قال مالك: لا تُسمع البيّنة على الإعسار؛ لأنّها شهادة على النفي، فلا تُسمع، كما لو شهدت أنّه لا حقّ لزيد على عمرو(2).

و هو غلط؛ لأنّ هذه الشهادة و إن تضمّنت النفي إلاّ أنّها تشهد بثبوت حال تظهر و يوقف عليها، كما لو شهد أن لا وارث غير هذا، فإنّه تُسمع شهادته، بخلاف الشهادة بأنّه لا حقّ عليه؛ لأنّ ذلك ممّا لا يوقف عليه و لا يشهد به حال يتوصّل بها إلى معرفته، بخلاف صورة النزاع.

مسألة 317: تُسمع بيّنة الإعسار في الحال

- و به قال الشافعي و أحمد(3) - لأنّ كلّ بيّنةٍ جاز سماعها بعد مدّة جاز سماعها في الحال، كسائر البيّنات.

و قال أبو حنيفة: لا تُسمع في الحال، و يُحبس المفلس. و اختلف أصحابه في الضابط لمدّة الحبس. فقال بعضهم: يُحبس المفلس شهرين ثمّ تُسمع البيّنة. و قال الطحاوي: يُحبس شهراً. و روي ثلاثة أشهر. و روي أربعة أشهر حتى يغلب على ظنّ الحاكم أنّه لو كان له مال لأظهره(4)

ص: 71


1- صحيح مسلم 1044/722:2، سنن أبي داوُد 1640/120:2، سنن النسائي 89:5، و لا يخفى أنّ الحديث ورد في النسخ الخطّيّة و الحجريّة بتفاوت و تقديمٍ و تأخيرٍ في بعض الكلمات و الجملات. و المثبت قريب لما في المصادر.
2- النوادر و الزيادات 15:10، التهذيب - للبغوي - 116:4، العزيز شرح الوجيز 27:5، المغني 545:4، الشرح الكبير 498:4.
3- حلية العلماء 486:4، الوسيط 17:4، الوجيز 172:1، العزيز شرح الوجيز 27:5، روضة الطالبين 373:3، المغني 546:4، الشرح الكبير 498:4.
4- فتاوى قاضيخان - بهامش الفتاوى الهنديّة - 226:5، حلية العلماء 486:4، العزيز شرح الوجيز 27:5، المغني 546:4، الشرح الكبير 498:4.

و ليس بصحيح، و إلاّ لاستُغني بذلك عن البيّنة.

مسألة 318: إذا أقام مدّعي الإعسار البيّنةَ، شرط فيها أن يكونوا من أهل الخِبْرة الباطنة

و العشرة المتقادمة و كثرة الملابسة سرّاً و جهراً و كثرة المجالسة و طول الجوار، فإنّ الأموال قد تخفى و لا يُعرف تفصيلها إلاّ بأمثال ذلك. فإن عرف القاضي أنّهم من أهل الخِبْرة، فذاك، و إلاّ جاز له أن يعتمد على قولهم إذا كانوا بهذه الصفة.

و يكفي شاهدان على ذلك، كما في سائر الأموال.

و قال بعض الشافعيّة: لا تُقبل هذه الشهادة إلاّ من ثلاثة(1) ؛ لأنّ رجلاً ذكر لرسول اللّه صلى الله عليه و آله أنّ جائحة أصابت مالَه، و سأله أن يُعطيه من الصدقة، فقال صلى الله عليه و آله: «حتى يشهد ثلاثة من ذوي الحجى من قومه»(2).

و هو محمول على الاحتياط و الاستظهار.

و إذا لم يُعرف له أصل مالٍ و لم يكن أصل الدعوى مالاً، قُدّم قوله فيحلف و تسقط عنه المطالبة.

و إن أقام بيّنةً بالإعسار، قُبلت.

فإن طلب غريمه يمينه مع البيّنة، لم يُجب إليه؛ لقوله صلى الله عليه و آله: «البيّنة على المدّعي و اليمين على المنكر»(3).

و قال الشافعي: يحلف(4)

ص: 72


1- العزيز شرح الوجيز 27:5، روضة الطالبين 373:3.
2- كما في العزيز شرح الوجيز 27:5، و راجع المصادر في الهامش (1) من ص 71.
3- سنن البيهقي 252:10، و فيه: «... على مَنْ أنكر».
4- المهذّب - للشيرازي - 327:1، الحاوي الكبير 333:6، التهذيب - للبغوي - 116:4، حلية العلماء 485:4، العزيز شرح الوجيز 28:5، روضة الطالبين 374:3، المغني 546:4، الشرح الكبير 499:4.

و هل الإحلاف واجب أو مستحبّ؟ قال في حرملة: إنّه واجب؛ لجواز أن يكون له مال لم تقف عليه البيّنة، فإذا ادّعى ذلك، حلف له(1).

و قال في الأُمّ: إنّه مستحبّ؛ لأنّ ذلك قدح في الشهادة فلم يُسمع، كما إذا شهد شاهدان على رجل أنّه أقرّ لزيد بكذا، فقال المُقرّ له: احلفوا لي المُقرّ أنّني أقررت له، لم يلزم؛ لأنّه قدح في الشهادة، كذا هنا(2).

مسألة 319: صورة الشهادة بالإعسار يجب أن تكون على الإثبات المتضمّن للنفي،

و لا يجعل الشهادة على النفي صرفة خالصةً عن الإثبات، فيقول الشهود: إنّه معسر لا يملك إلاّ قوت يومه و ثياب بدنه. و إن قالوا مع ذلك: «إنّه ممّن تحلّ له الصدقة» كان جيّداً، و ليس شرطاً.

و لا يقتصرون على قولهم: لا شيء له، لئلاّ تتمحّض شهادتهم نفياً لفظاً و معنى. فإن طلب الغرماء إحلافه مع البيّنة، لم يلزم، خلافاً للشافعي في أحد قوليه. و في الثاني: أنّه مستحبّ(3).

نعم، لو ادّعى أنّ له مالاً لا يعرفه الشاهد، فالأقوى عندي أنّ له إحلافه على ذلك؛ لإمكان صدقه في دعواه، و حينئذٍ تتوقّف اليمين على استدعاء الخصم؛ لأنّها حقّه:

و يجوز أن يعفو عنها، فلا يتبرّع الحاكم بإحلافه.

و الشافعي لمّا أثبت اليمين مطلقاً إمّا على سبيل الوجوب أو على سبيل الاستحباب - على اختلاف قوليه - تردّد في أنّه هل يتوقّف الحلف

ص: 73


1- لاحظ: التهذيب - للبغوي - 116:4، و العزيز شرح الوجيز 28:5، و روضة الطالبين 374:3.
2- لاحظ الأُمّ 212:3، و التهذيب - للبغوي - 116:4، و العزيز شرح الوجيز 28:5، و روضة الطالبين 374:3.
3- العزيز شرح الوجيز 28:5، روضة الطالبين 374:3.

على استدعاء الخصم ؟ على وجهين:

أحدهما: لا، كما لو كانت الدعوى على ميّت أو غائب، و على هذا فهو من آداب القضاء.

و أظهرهما: نعم، كيمين المدّعى عليه(1).

مسألة 320: قد بيّنّا أنّه يُقبل قوله في الإعسار إذا لم يُعرف له سابقة مال،

مع يمينه، فحينئذٍ نقول: إنّه يُقبل في الحال، كما لو أقام البيّنة تُسمع في الحال، و هو قول أكثر الشافعيّة(2).

و قال بعضهم: يتأنّى القاضي و يبحث عن باطن حاله، و لا يقنع بقوله، بخلاف ما إذا أقام البيّنة(3).

و حيث قلنا: إنّه لا يُقبل قوله إلاّ بالبيّنة لو ادّعى أنّ الغرماء يعرفون إعساره، كان له إحلافهم على نفي المعرفة، فإن نكلوا، حلف، و ثبت إعساره. و إن حلفوا، حُبس. و كلّما ادّعى ثانياً و ثالثاً و هلُمّ جرّاً أنّه قد ظهر لهم إعساره، كان له تحليفهم، إلاّ أن يعرف القاضي أنّه يقصد الإيذاء و اللجاج. فإذا حبسه فلا يغفل عنه بالكلّيّة.

و لو كان غريباً لا يتمكّن من إقامة البيّنة، وكّل به القاضي مَنْ يبحث عن منشئه و منتقله و يفحص عن أحواله بقدر الطاقة، فإذا غلب على ظنّه إفلاسه، شهد به عند القاضي؛ لئلاّ تتخلّد عليه عقوبة السجن.

مسألة 321: إذا ادّعى الإعسار و أقام البيّنة عليه، لم يكن للغرماء مطالبته باليمين مع البيّنة على ما تقدّم

(1) ، سواء شهدت البيّنة بالإعسار أو

ص: 74


1- في ص 72، ضمن المسألة 318.

بتلف المال الذي كان في يده، و هو أحد قولي الشافعي، و ظاهر كلام أحمد(1).

و لهما قولٌ آخَر: إنّه يستحلف؛ لاحتمال أن يكون له مالٌ لا يعرفه الشهود(2).

و يُحتمل قويّاً إلزامه باليمين على الإعسار إن شهدت البيّنة بتلف المال، و سقوطها عنه إن شهدت بالإعسار؛ لأنّها إذا شهدت بالتلف، صار كمن ثبت له أصل مالٍ و اعترف الغريم بتلفه و ادّعى مالاً غيره، فإنّه يلزمه اليمين، كذا هنا إذا قامت البيّنة بالتلف، فإنّها لا تزيد على الإقرار.

مسألة 322: لو ثبت الإعسار، خلاّه الحاكم على ما تقدّم

(1) ، فإن عاد الغرماء بعد أوقات و ادّعوا أنّه استفاد مالاً، و أنكر، قُدّم قوله مع اليمين و عدم البيّنة، و عليهم إقامة البيّنة، فإن جاءوا بشاهدَيْن شهدا بأنّهما رأيا في يده مالاً يتصرّف فيه، أخذه الغرماء.

فإن قال: أخذته من فلان وديعةً أو مضاربةً، و صدّقه المُقرّ له، حُكم عليه بذلك، و ليس للغرماء فيه حقٌّ.

و هل للغرماء إحلافه على عدم المواطأة مع المُقرّ له و أنّه أقرّ عن تحقيقٍ؟ الأقرب: المنع؛ لأنّه لو رجع عن إقراره لم يُقبل، فلا معنى لتحليفه.

و يُحتمل إحلافه؛ لجواز المواطأة، فإذا امتنع من اليمين، حُبس حتى يسلّم المال، أو يحلف. و لأنّه لو أقرّ بالمواطأة، حُبس على المال مع تصديق الغير.

ص: 75


1- في ص 67، المسألة 314.

و لو طلب الغرماء يمين المُقرّ له، فالأقرب: أنّ لهم إحلافَه؛ لأنّه لو كذّب المُقرّ ثبت المال لهم، فإذا صدّقه، حلف.

و للشافعي الوجهان(1).

و إن كذّبه المُقرّ له، صرف إليهم، و لم يُفدْ إقراره شيئاً.

و لو أقرّ به ثانياً لغير الأوّل، لم يلتفت إليه.

و لو أقرّ به لغائبٍ، وقف حتى يحضر الغائب، فإن صدّقه، أخذه، و لا حقّ فيه للغرماء. و إن كذّبه، أخذه الغرماء، أو يحلف بأنّه للغائب، و تسقط المطالبة عنه؛ لأصالة العسرة، و إمكان صدقه.

مسألة 323: لو ادّعى الغرماء بعد فكّ الحجر أنّه قد استفاد مالاً، كان القولُ قولَه مع اليمين و عدم البيّنة؛

لأنّ الأصل بقاء العسرة.

و إن أقرّ بالمال أنّه استفاده و طلب الغرماء الحَجْرَ عليه، نظر الحاكم فإن كان ما حصل له يفي بالديون، لم يحجر عليه. و إن كان أقلّ، حجر عليه، و قسّم ماله بين الغرماء.

و إن كان قد تجدّد له غرماء قبل الحجر الثاني، قسّم بينهم و بين الأوائل - و به قال الشافعي(2) - لاستواء حقوقهم في الثبوت في الذمّة حال الحجر، فأشبه غرماء الحجر الأوّل.

و قال مالك: يختصّ به الغرماء المتأخّرون؛ لأنّه استفاده من جهتهم(3).

و هو غلط؛ لأنّا لا نعلم ذلك. و لأنّا نقسّم مال المفلس بين غرمائه

ص: 76


1- العزيز شرح الوجيز 28:5، روضة الطالبين 375:3.
2- الإشراف على مذاهب أهل العلم 152:1.
3- الإشراف على مذاهب أهل العلم 151:1.

و زوجته و إن كان حقّها ثبت لا بمعاوضةٍ.

مسألة 324: لو ثبت للولد على والده مالٌ و كان الأب معسراً، لم تحلّ مطالبته.

و إن كان موسراً، كان له مطالبته إجماعاً.

فإن امتنع من الأداء، فالأقرب عندي: أنّه لا يُحبس لأجل ولده؛ لأنّ الحبس نوع عقوبةٍ، و لا يعاقب الوالد بالولد.

و لأنّ اللّه تعالى قد بالغ في الوصيّة في الأبوين حتى أنّهما لو أمراه بالكفر لم يُطعهما و مع ذلك يقول لهما قولاً حسناً(1).

و لقوله عليه السلام: «أنت و مالك لأبيك»(2) أي في حكم مال الأب، فكما أنّه لا يُحبس في ماله، كذا في مال ولده الذي هو في حكم ماله.

و لما رواه الحسين بن أبي العلاء عن الصادق عليه السلام، قال: قلت له:

ما يحلّ للرجل من مال ولده ؟ قال: «قوته بغير سرف إذا اضطرّ إليه» قال:

فقلت له: فقول رسول اللّه صلى الله عليه و آله للرجل الذي أتاه فقدّم أباه فقال: «أنت و مالك لأبيك» فقال: «إنّما جاء بأبيه إلى النبي صلى الله عليه و آله فقال له: يا رسول اللّه هذا أبي قد ظلمني ميراثي من أُمّي، فأخبره الأب أنّه قد أنفقه عليه و على نفسه، فقال: أنت و مالك لأبيك، و لم يكن عند الرجل شيء، أ فكان رسول اللّه صلى الله عليه و آله يحبس الأب للابن ؟»(3) و هذا استفهام في معرض الإنكار، و هو يدلّ على المراد.

ص: 77


1- العنكبوت: 8.
2- سنن ابن ماجة 2291/769:2 و 2292، سنن سعيد بن منصور 2291/115:2 و 2292، سنن البيهقي 481:7، المصنّف - لابن أبي شيبة - 2736/158:7 و 2742 و 2750.
3- الكافي 6/136:5، الفقيه 456/109:3، التهذيب 966/344:6، الاستبصار 162/49:3.

و هو أحد قولي الشافعي(1).

و له قولٌ آخَر: إنّه يُحبس، و إلاّ لعجز الابن عن الاستيفاء، و يضيع حقّه(2).

و هو ممنوع، بل إذا أثبت الابن الدَّيْنَ عند القاضي، أخذه القاضي منه قهراً من غير حبس، و صرفه إلى دَيْنه. و لأنّه قد يتمكّن من أخذه غيلةً، فلا يكون عاجزاً.

و لا فرق بين دَيْن النفقة و غيرها، و لا بين أن يكون الولد صغيراً أو كبيراً، و به قال الشافعي(1).

و قال أبو حنيفة: إنّه لا يُحبس، إلاّ في نفقة الولد إذا كان صغيراً أو زَمِناً(2).

مسألة 325: لو استؤجر المديون إجارة متعلّقة بعينه و وجب حبسه، ففي منع الإجارة المتعلّقة بعينه نظر

ينشأ: من جواز الحبس مطلقاً؛ عملاً بإطلاق الأمر، و من كون عينه مستحقّةَ المنافع للغير، فلا يجوز حبسه؛ لئلاّ يتعطّل شغل الغير.

و الأقرب: الأوّل.

هذا فيما إذا لم يمكن الجمع بين الحبس و استيفاء المنافع، أمّا لو لم يمتنع الجمع، فإنّه يجوز حبسه قطعاً.

ص: 78


1- التهذيب - للبغوي - 117:4، العزيز شرح الوجيز 29:5، روضة الطالبين 375:3.
2- التهذيب - للبغوي - 117:4، العزيز شرح الوجيز 30:5.
البحث الرابع: في الاختصاص.
مسألة 326: مَنْ أفلس و حجر عليه الحاكم و كان من جملة ماله عينٌ اشتراها من غيره و لم يُقبضه الثمن فوجدها بائعها، كان بالخيار

بين أن يفسخ البيع و يأخذ عينه بالشرائط الآتية، و بين الضرب مع الغرماء بالثمن - و به قال في الصحابة: عليّ عليه السلام و عثمان و أبو هريرة، و في التابعين: عروة ابن الزبير، و من الفقهاء: مالك و الأوزاعي و الشافعي و العنبري و أحمد و إسحاق(1) - لما رواه العامّة عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال: «إذا أفلس الرجل و وجد البائع سلعته بعينها فهو أحقّ بها من الغرماء»(2).

و عن ابن خلدة الزرقي(3) قاضي المدينة قال: أتينا أبا هريرة في صاحبٍ لنا أفلس، فقال أبو هريرة: هذا الذي قضى فيه رسول اللّه صلى الله عليه و آله:

«أيّما رجل مات أو أفلس فصاحب المتاع أحقّ بمتاعه إذا وجده بعينه»(4).

و من طريق الخاصّة: ما رواه عمر بن يزيد - في الصحيح - عن أبي الحسن عليه السلام، قال: سألته عن رجل يركبه الدَّيْن فيوجد متاع رجل عنده

ص: 79


1- المغني 493:4-494، الشرح الكبير 503:4، الحاوي الكبير 266:6، العزيز شرح الوجيز 30:5، روضة الطالبين 383:3.
2- صحيح مسلم 25/1194:3، سنن ابن ماجة 2358/790:2، سنن البيهقي 46:6 بتفاوت.
3- في الطبعة الحجريّة: «أبي حلوة الفروفي». و في «ث، ج»: «... البروقي». و في «ر»: «حلوة البروقي». و كلّها خطأ، و الصحيح ما أثبتناه كما في المصادر. و اسمه: عمر بن خلدة، كما في المستدرك - للحاكم - 50:2، و تهذيب التهذيب 729/388:7.
4- سنن ابن ماجة 2360/790:2، سنن الدار قطني 107/29:3، المستدرك - للحاكم - 50:2-51.

بعينه، قال: «لا يحاصّه الغرماء»(1).

و لأنّ هذا العقد يلحقه الفسخ بتعذّر العوض، فكان له الفسخ، كما لو تعذّر المُسْلَم فيه. و لأنّه لو شرط في البيع رهناً فعجز عن تسليمه، استحقّ البائع الفسخ و هو وثيقة بالثمن، فالعجز عن تسليم الثمن إذا تعذّر أولى.

و قال أبو حنيفة: ليس للحاكم أن يحجر عليه، و ليس للبائع الرجوع في عينه، بل يكون أُسوة الغرماء؛ لتساويهم في سبب الاستحقاق، فيتساوون في الاستحقاق. و لأنّ البائع كان له حقُّ الإمساك لقبض الثمن فلمّا سلّمه قبل قبضه فقد أسقط حقّه من الإمساك، فلم يكن له أن يرجع في ذلك بالإفلاس، كالمرتهن(2).

و البائع و إن ساوى الغرماء في السبب لكن اختلفوا في الشرط، فإنّ بقاء العين شرط لملك(3) الفسخ، و هو موجود في حقّ مَنْ وجد متاعه دون مَنْ لم يجده.

و الفرقُ: أنّ الرهن مجرّد الإمساك على سبيل الوثيقة و ليس ببدلٍ، و هنا(4) هو(5) بدل عنها(6) ، فإذا تعذّر استيفاؤه، رجع إلى المُبدل(7).

قال أحمد: لو أنّ حاكماً حكم أنّه(8) أُسوة الغرماء ثمّ رفع(9) إلىر.

ص: 80


1- التهذيب 420/193:6، الاستبصار 19/8:3.
2- الهداية - للمرغيناني - 285:3 و 287، المغني 494:4، الشرح الكبير 503:4.
3- في «ث، ر» و الطبعة الحجريّة: «تملّك» بدل «لملك».
4- في «ث، ج» و الطبعة الحجريّة: «رهنا». و الصحيح ما أثبتناه.
5- هو، أي الثمن.
6- أي: عن العين.
7- في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «في البدل» بدل «إلى المبدل». و الظاهر ما أثبتناه.
8- في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «له» بدل «أنّه». و الصحيح ما أثبتناه كما في المصدر.
9- في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «رجع» بدل «رفع». و ما أثبتناه كما في المصدر.

حاكمٍ يرى العمل بالحديث(1) ، جاز له نقض حكمه(2).

إذا عرفت هذا، فلو مات المفلس قبل القسمة، فإن كان في التركة وفاء للديون، اختصّ صاحب العين بماله، و إلاّ كان أُسوةَ الغرماء؛ لما رواه العامّة عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال: «أيّما رجل باع متاعاً فأفلس الذي ابتاعه و لم يقبض البائع من ثمنه شيئاً فوجده بعينه فهو أحقّ به، و إن مات فهو أُسوة الغرماء»(3) و غالب الإفلاس إنّما يكون مع قصور المال عن الديون على ما سلف(4).

و من طريق الخاصّة: رواية أبي ولاّد عن الصادق عليه السلام، و قد سلفت(5).

و مالك لم يفصّل، بل أطلق القول بأنّ الغريم لا يختصّ بعين ماله في صورة الميّت، بل يشارك الغرماء؛ لما تقدّم(6) من الرواية.

و قد بيّنّا أنّ الإفلاس إنّما يكون مع القصور.

و لأنّه إذا مات انتقل الملك إلى الورثة فمَنَع ذلك الرجوعَ، كما لو باعه المشتري ثمّ أفلس(7).

و هو ممنوع؛ لأنّ الوارث يقوم مقام المورّث، و لهذا تتعلّق به ديونه،9.

ص: 81


1- في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «بالرجوع» بدل «بالحديث». و ما أثبتناه كما في المصدر. و المراد بالحديث حديث ابن خلدة الزرقي، المتقدّم في ص 79.
2- المغني 494:4، الشرح الكبير 504:4.
3- تقدّم تخريجه في ص 8، الهامش (3).
4- في ص 6.
5- في ص 8.
6- آنفاً.
7- راجع: الهامش (1) من ص 8، المسألة 259.

بخلاف ما لو باعه.

مسألة 327: و هذا الخيار يثبت للبائع و المُقرض و الواهب بشرط الثواب.

و بالجملة، كلّ معاوضة، سواء وجد غير هذه العين، أو لم يوجد سواها؛ للعموم(1)نفس المصادر في الهامش (2).(2).

و الأقرب: أنّ هذا الخيار على الفور - و هو أحد قولي الشافعي، و إحدى الروايتين عن أحمد(3) - لأنّ الأصل عدم الخيار، فيكون الأصل عدم بقائه لو وُجد. و لأنّه خيار يثبت في البيع لنَقْصٍ في العوض، فكان على الفور، كالردّ بالعيب و الخلف(4) و الشفعة. و لأنّ القول بالتراخي يؤدّي إلى الإضرار بالغرماء من حيث إنّه يؤدّي إلى تأخير حقوقهم.

و الثاني: أنّه على التراخي؛ لأنّه حقّ رجوع لا يسقط إلى عوض، فكان على التراخي، كالرجوع في الهبة(4).

و ما قلناه أشبه من خيار الهبة.

فعلى ما اخترناه من الفوريّة لو علم بالحجر و لم يفسخ، بطل حقّه من الرجوع.

و قال بعض الشافعيّة: يتأقّت بثلاثة أيّام، كما هو أحد أقوال الشافعي في خيار المعتقة تحت الرقيق و في الشفعة(5)

ص: 82


1- راجع: الهامش
2- من ص 79.
3- المهذّب - للشيرازي - 329:1، الحاوي الكبير 270:6، حلية العلماء 496:4، الوسيط 20:4، العزيز شرح الوجيز 30:5، روضة الطالبين 383:3، منهاج الطالبين: 122، المغني 495:4، الشرح الكبير 504:4.
4- في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «الحلب» بدل «الخلف». و الصحيح ما أثبتناه.
5- العزيز شرح الوجيز 30:5، روضة الطالبين 383:3.
مسألة 328: لا يفتقر هذا الخيار إلى إذن الحاكم،

بل يستبدّ به الفاسخ من غير الحاجة إلى حكم الحاكم؛ لأنّه ثابت بالسنّة الصحيحة، فصار كخيار المرأة فسخَ النكاح، و العتق.

و لوضوح الحديث ذهب بعض الشافعيّة إلى أنّه لو حكم حاكمٌ بالمنع من الفسخ، نقض حكمه(1).

و هو أحد وجهي الشافعيّة. و الثاني: أنّه يفتقر إلى حكم الحاكم و إذنه؛ لأنّه فسخٌ مختلفٌ فيه، كالفسخ بالإعسار(2).

مسألة 329: الفسخ قد يحصل بالقول، كما ينعقد البيع به.

و صيغة الفسخ: فسخت البيع، و نقضته، و رفعته.

و لو اقتصر على قوله: رددت الثمن، أو: فسخت البيع، فيه إشكال أقربه: الاكتفاء به، و هو أصحّ قولي الشافعي.

و الثاني: لا يكتفى بذلك؛ لأنّ حقّ الفسخ أن يضاف إلى العقد المرسل، ثمّ إذا انفسخ العقد، ثبت مقتضاه(1).

و قد يحصل بالفعل، كما لو باع صاحب السلعة سلعتَه، أو وهبها، أو دفعها.

و بالجملة، إذا تصرّف فيها تصرّفاً يدلّ على الفسخ، كوطئ الجارية المبيعة، على الأقوى؛ صوناً للمسلم عن فاسد التصرّفات، و تكون هذه التصرّفات تدلّ على حكمين: الفسخ، و العقد، و هو أحد قولي الشافعي.

و الأصحّ عنده: أنّه لا يحصل الفسخ بها، و تلغو هذه التصرّفات(2)

ص: 83


1- العزيز شرح الوجيز 31:5، روضة الطالبين 383:3.
2- المهذّب - للشيرازي - 329:1-330، التهذيب - للبغوي - 86:4، الحاوي الكبير 270:6، حلية العلماء 497:4، العزيز شرح الوجيز 30:5، روضة الطالبين 383:3.

و اعلم أنّ حقّ الرجوع للبائع لا يثبت على الإطلاق بالإجماع، بل هو مشروط بأُمور يأتي ذكرها إن شاء اللّه تعالى.

و لا يختصّ الرجوع بالبيع على ما تقدّم(1) ، بل يثبت في غيره من المعاوضات، و إنّما يظهر الغرض بالنظر في أُمور ثلاثة: العوض المتعذّر تحصيله، و العرض(2) المسترجع، و المعاوضة التي بها انتقل الملك إلى المفلس.

النظر الأوّل: في العوض.
اشارة

يشترط في العوض أمران: الحلول، و تعذّر استيفائه بسبب الإفلاس، فلو كان الثمن مؤجَّلاً، لم يكن له الرجوع؛ لأنّه لا مطالبة له في الحال، فكيف يفسخ البيع اللازم بغير موجب!؟ و إلاّ لحلّ الأجل بالفلس على ما تقدّم(3).

و لو حلّ الأجل قبل انفكاك الحجر، فالأقرب: أنّه لا يشارك صاحبه الغرماء؛ لسبق تعلّق حقّهم بالأعيان، بخلاف ما لو ظهر دَيْنٌ حالّ سابق، فإنّه يشارك الغرماء، فعلى هذا ليس لصاحب الدَّيْن الذي قد حلّ الرجوعُ في عين ماله، سواء كان الحاكم قد دفعها في بعض الديون أو لا.

مسألة 330: لو كانت أمواله وافيةً بالديون، لم يجز الحجر عندنا،

ص: 84


1- في ص 82، المسألة 327.
2- أي المعوّض.
3- في ص 16، المسألة 263.

و هو الظاهر من مذهب الشافعي(1).

و له قولٌ آخَر: إنّه يجوز الحجر عليه(2).

فعلى تقدير جواز الحجر لو حجر، فهل لصاحب العين الرجوع في عينه ؟ للشافعي وجهان:

أحدهما: أنّه لا يرجع؛ لأنّه يصل إلى الثمن.

و الثاني: أنّه يرجع؛ لأنّه لو لم يرجع لما أمن أن يظهر غريمٌ آخَر فيزاحمه فيما أخذه(3).

و هذان الوجهان عندنا ساقطان؛ لأنّهما فرع الحجر و قد منعناه.

مسألة 331: لو ترك الغرماء لصاحب السلعة الثمن ليتركها، قال الشيخ رحمه الله: لم يلزمه القبول،

و كان له أخذ عينه(4) - و به قال الشافعي و أحمد(5) - لما فيه من تحمّل المنّة، و لعموم الخبر(6) ، و لأنّه ربما يظهر غريمٌ آخَر فيزاحمه فيما أخذ.

و للشافعيّة فيه وجهٌ آخَر: أنّه لا يبقى له الرجوع في العين، تخريجاً

ص: 85


1- المهذّب - للشيرازي - 328:1، التهذيب - للبغوي - 85:4، الحاوي الكبير 265:6، حلية العلماء 488:4، العزيز شرح الوجيز 7:5-8، روضة الطالبين 365:3.
2- المهذّب - للشيرازي - 328:1، التهذيب - للبغوي - 85:4، الحاوي الكبير 265:6، حلية العلماء 488:4-489، العزيز شرح الوجيز 7:5-8، روضة الطالبين 365:3.
3- الحاوي الكبير 265:6-266، حلية العلماء 489:4-490، العزيز شرح الوجيز 31:5، روضة الطالبين 384:3.
4- الخلاف 265:3، المسألة 4.
5- العزيز شرح الوجيز 31:5، روضة الطالبين 384:3، المغني 496:4، الشرح الكبير 505:4.
6- سنن أبي داوُد 286:3-3520/287 و 3522.

ممّا إذا حجر عليه الحاكم و في ماله وفاء(1).

و قال مالك: ليس له الرجوع في العين؛ لأنّ ذلك إنّما جُعل له لما يلحقه من النقص في الثمن، فإذا بذل له، لم يكن له الرجوع، كما إذا زال العيب من المبيع، لم يكن له ردّه(2).

و يمكن أن نقول: إن كان المدفوع من مال المفلس، لم يجب القبول؛ لإمكان تجدّد غريمٍ آخَر، فلا يأمن من مزاحمته، فكان له الرجوعُ في العين.

و إن كان من مال الغرماء أو تبرّع به أجنبيٌّ، فإنّه لا يجب عليه الإجابة أيضاً؛ لأنّه تبرّع بدفع الحقّ غير مَنْ هو عليه، فلم يُجبر صاحب الحقّ على قبضه، كما لو أعسر الزوج بالنفقة فبذل غيره النفقة، أو عجز المكاتب فبذل عنه متبرّعٌ ما عليه لسيّده.

و الوجه أن نقول: إذا دفع الغرماء من خالص أموالهم ثمن السلعة و كان في السلعة زيادة بأن غلا سعرها أو كثر الراغبون إليها و يرجى لها صعود سعرٍ، كان على صاحب السلعة أخذ ما بذله الغرماء؛ لما فيه من انتفاعهم بالسلعة، بخلاف التبرّع عن الزوج و المكاتب؛ إذ لا حقّ لهم في المعوّض، و الغرماء لهم حقٌّ في المعوّض، فكان لهم ذلك؛ لما في منعهم من الإضرار بالمفلس، و هو منفيّ.

مسألة 332: إذا أوجبنا عليه أخذ ما بذله الغرماء من مالهم

مسألة 332: إذا أوجبنا عليه أخذ ما بذله الغرماء من مالهم(3) ، أو أجابهم إليه تبرّعاً منه ثمّ ظهر غريمٌ آخَر،

لم يشارك صاحب السلعة فيما

ص: 86


1- العزيز شرح الوجيز 31:5.
2- المدوّنة الكبرى 237:5، الذخيرة 172:8، العزيز شرح الوجيز 31:5، المغني 496:4، الشرح الكبير 505:4.
3- في «ج»: «أموالهم».

أخذه منهم، أمّا لو كان المدفوع من مال المفلس و خصّوه ثمّ ظهر غريمٌ آخَر، شاركه فيما أخذه.

و لو دفع الغرماء الثمن إلى المفلس من مالهم فبذله للبائع، لم يكن له الفسخُ؛ لأنّه زال العجز عن تسليم الثمن فزال ملك الفسخ، كما لو أسقط سائر الغرماء حقوقهم عنه، ملك الثمن.

و لو أسقط الغرماء حقّهم عنه فتمكّن من الأداء، أو وُهب له مالٌ فأمكنه الأداء منه، أو غلت أعيان أمواله فصارت قيمتها وافيةً بحقوق الغرماء بحيث يمكن أداء الثمن كلّه، لم يكن للبائع الفسخُ؛ لزوال سببه، و لأنّه أمكنه الوصول إلى ثمن سلعته من المشتري، فلم يكن له الفسخ، كما لو لم يفلس.

و لو دفع الغرماء إلى المفلس من عين ماله قدر الثمن ليدفعه إلى البائع، لم يجب على البائع القبول حذراً من ظهور آخَر.

مسألة 333: لو مات المشتري المفلس، لم يزل الحجر عن المال، بل يتأكّد،

فإنّه لو مات غير محجور عليه، حُجر عليه، فلو قال وارثه للبائع و السلعة باقية: لا ترجع حتى أُقدّمك على الغرماء، لم يلزمه القبول أيضاً؛ لما ذكرناه من محظور ظهور غريمٍ آخَر.

و لو قال: أُؤدّي الثمن من مالي، فالوجه: أنّ عليه القبول، و لم يكن له الفسخ؛ لأنّ الوارث خليفة المورّث، فله تخليص المبيع، و كما أنّ المديون لو دفع الثمن إلى [البائع](1) ، لم يكن له الفسخ، كذا وارثه.

هذا على تقدير أن يكون المديون قد خلّف وفاءً، أمّا إذا لم يخلّف

ص: 87


1- بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «المشتري». و الظاهر أنّ الصحيح ما أثبتناه.

وفاءً، فإنّه لا اختصاص له بالعين على ما بيّنّاه.

مسألة 334: لو امتنع المشتري من تسليم الثمن مع يساره، أو هرب أو مات و هو مليٌّ

فامتنع الوارث من دفع الثمن، فإن كان الثمن حالاًّ و لم تُسلّم السلعة إلى المشتري، فإنّه يتخيّر البائع بعد ثلاثة أيّام في الفسخ و الصبر عندنا خاصّةً.

و لو كان البائع قد سلّم السلعة إلى المشتري، لم يكن له الفسخ و إن تعذّر عليه ثبوته(1) أو مطله أو شبه ذلك - و هو أصحّ وجهي الشافعي(2) - لأنّه لم يوجد عيب الإفلاس، و يمكن التوصّل إلى الاستيفاء بالسلطان، فإن فُرض عجْزٌ، كان نادراً لا عبرة به.

و الثاني: أنّ له الفسخ؛ لتعذّر الوصول إلى الثمن(3).

مسألة 335: لو باع السلعة و ضمن المشتري ضامنٌ بالثمن،
اشارة

فإن كان البائع قد رضي بضمانه، انتقل حقّه عن المشتري إلى الضامن؛ لأنّ الضمان عندنا ناقل و قد رضي بانتقال المال من ذمّة المشتري إلى ذمّة الضامن، فبرئت ذمّة المشتري، و لم يكن للبائع الرجوعُ في العين، سواء تعذّر عليه الاستيفاء من الضامن أو لا.

و لو لم يرض البائع بضمانه، لم يكن بذلك الضمان اعتبارٌ.

إذا عرفت هذا، فإنّه لا اعتبار لإذن المشتري في الضمان عندنا، بل متى ضمن و رضي البائع صحّ الضمان، سواء ضمن بإذن المشتري أو تبرّع بالضمان عنه.

ص: 88


1- أي: ثبوت التسليم. و الظاهر: «إثباته». (2 و 3) التهذيب - للبغوي - 87:4، العزيز شرح الوجيز 31:5-32، روضة الطالبين 384:3.

و قال الشافعي: إن ضمن بإذن المشتري، فلا رجوع للبائع في العين؛ لأنّه ليس بمتبرّعٍ على المشتري، و الوصول من يده كالوصول من يد المشتري. و إن ضمن بغير إذنه، فوجهان:

أحدهما: أنّه يرجع، كما لو تبرّع متبرّعٌ بالثمن.

و الثاني: أنّه لا يرجع؛ لأنّ الحقّ قد تقرّر في ذمّته، و توجّهت المطالبة عليه، بخلاف المتبرّع(1).

تذنيب: لو أُعير من

تذنيب: لو أُعير من(1) المشتري ما يرهنه بالثمن، صحّ،

و لم يكن له الرجوعُ في العين؛ لإمكان إيفائه من الدَّيْن بالرهن.

و للشافعي الخلافُ السابق في الضمان(3).

مسألة 336: لو انقطع جنس الثمن، فإن جوّزنا الاعتياضَ عنه إذا كان في الذمّة و الاستبدالَ، فلا تعذّر في استيفاء عوضٍ عنه، و لم يكن للبائع فسخ البيع.

و إن منعنا من الاعتياض، فهو كانقطاع المُسْلَم فيه، و المُسْلَم فيه إذا انقطع، كان أثره ثبوت حقّ الفسخ - و هو أصحّ قولي الشافعي. و في الثاني:

الانفساخ، و هو أضعف قوليه(4) - فكذا هنا.

النظر الثاني: في المعاوضة.
اشارة

يُعتبر في المعاوضة - التي يملك فيها المفلس - شرطان: سَبْقُ المعاوضة على الحَجْر، و كونها محضَ معاوضةٍ، فلو باع من المفلس شيئاً بعد الحجر عليه، فالأقرب: الصحّة على ما تقدّم(2)

ص: 89


1- ما بين المعقوفين أضفناه لأجل السياق.
2- في ص 27، المسألة 273.

و هل يثبت له حقّ الفسخ و الرجوع في العين ؟ خلافٌ سبق(1). فإن قلنا: لا رجوع، تحقّق شرط سَبْق المعاوضة على الحجر، و إلاّ فلا.

و لو آجر الإنسان دارَه و سلّمها إلى المستأجر و قبض الأُجرة ثمّ أفلس و حُجر عليه، فالإجارة مستمرّة بحالها لا سبيل للغرماء عليها، كالرهن يختصّ به المرتهن.

فإن انهدمت الدار في أثناء المدّة و فُسخت الإجارة فيما بقي منها، ضارَب المستأجر مع الغرماء بحصّة ما بقي منها إن كان الانهدام قبل قسمة المال بينهم.

و إن كان بعد القسمة، فالأقوى: أنّه يضارب أيضاً - و هو أصحّ وجهي الشافعي(2) - لأنّه دَيْنٌ أُسند إلى عقدٍ سابق على الحجر، و هو الإجارة، فصار كما لو انهدمت(2) قبل القسمة.

و في الآخَر: أنّه لا يضارب؛ لأنّه دَيْنٌ حدث بعد القسمة، فصار كما لو استقرض(4).

و يضعَّف بأنّ السبب متقدّم، فيكون مسبَّبه كالمتقدّم.

مسألة 337: لو باعه جاريةً بعبدٍ و تقابضا ثمّ أفلس مشتري الجارية

و حُجر عليه و هلكت الجارية في يده ثمّ وجد بائعها بالعبد عيباً فردّه، فله طلب قيمة الجارية قطعاً.

و الأقرب في الطلب: أنّه يضارب كسائر أرباب الديون، و هو أصحّ

ص: 90


1- في ص 33، ضمن المسألة 280. (2 و 4) الحاوي الكبير 310:6، حلية العلماء 518:4، العزيز شرح الوجيز 39:5، روضة الطالبين 390:3.
2- في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «انهدم». و الظاهر ما أثبتناه.

وجهي الشافعيّة.

و الثاني: أنّه يقدّم على سائر الغرماء بقيمتها؛ لأنّه أدخل في مقابلتها عبداً في مال المفلس(1).

و هذان الوجهان يخالفان الوجهين في رجوع مَنْ باع منه بعد الحجر عليه(2) شيئاً بالثمن إذا قلنا: لا يتعلّق بعين متاعه، فإنّا في وجهٍ نقول:

يضارب. و في وجهٍ نقول: يصبر إلى أن يستوفي الغرماء حقوقهم، و لا نقول بالتقدّم بحال.

و الفرق: أنّ الدَّيْن هناك حادث بعد الحجر، و هنا مستند إلى سببٍ سابق على الحجر، فإذا انضمّ إليه إدخال شيء في ملك المفلس، أثّر في التقديم على أحد القولين(3).

مسألة 338: قد بيّنّا اشتراط التمحّض للمعاوضة فيها،

فلا يثبت الفسخ في النكاح و الخلع و الصلح بتعذّر استيفاء العوض، و هو ظاهر على معنى أنّ المرأة لا تفسخ النكاح بتعذّر استيفاء الصداق، و لا الزوج الخلعَ و لا العافي عن القصاص الصلحَ بتعذّر استيفاء العوض.

و للشافعي قولٌ بتسلّط المرأة على الفسخ بتعذّر استيفاء الصداق(4) و سيأتي إن شاء اللّه تعالى.

و كذا ليس للزوج فسخُ النكاح إذا لم تسلّم المرأة نفسَها، و تعذّر الوصول إليها.

ص: 91


1- العزيز شرح الوجيز 40:5، روضة الطالبين 390:3.
2- كلمة «عليه» من «ث، ج، ر».
3- العزيز شرح الوجيز 40:5.
4- الأُم 91:5، مختصر المزني: 232، الحاوي الكبير 461:11، التهذيب - للبغوي - 359:6، العزيز شرح الوجيز 53:10، روضة الطالبين 483:6.

أمّا إذا انفسخ النكاح من جهتها فسقط صداقها، أو طلّقها قبل الدخول فسقط نصفه و بقي نصفه فاستحقّ الزوج الرجوعَ بما دفعه أو بنصفه فأقلّ و عين الصداق موجودة، فهو أحقّ بعين ماله؛ لقوله عليه السلام: «مَنْ أدرك متاعه بعينه عند رجل قد أفلس فهو أحقّ به»(1).

مسألة 339: إذا أفلس المُسْلَم إليه قبل توفية مال السَّلَم، فأقسامه ثلاثة:
أ: أن يكون رأس المال باقياً بحاله،

فللمُسْلِم فسخُ العقد و الرجوع إلى رأس ماله، كما في البائع. و إن أراد أن يضارب مع الغرماء بالمُسْلَم فيه و لا يفسخ، أُجيب إليه.

ب: أن يكون بعض رأس المال باقياً و بعضه تالفاً،

و حكمه حكم ما لو تلف بعض المبيع دون بعضٍ، و سيأتي.

ج: أن يكون رأس المال تالفاً،

فالأقرب أنّه لا ينفسخ السَّلَم بمجرّد ذلك، كما لو أفلس المشتري بالثمن و المبيع تالف، بخلاف الانقطاع؛ فإنّه هناك إذا فسخ، رجع إلى رأس المال بتمامه، و هنا إذا فسخ، لم يكن له [إلاّ](2) المضاربة برأس المال. و لو لم يفسخ، لضارَب بالمُسْلَم فيه، و هذا [أنفع؛ إذ الغالب](3) زيادة قيمة المُسْلَم فيه على رأس المال، فحينئذٍ

ص: 92


1- ورد نصّه في المغني 497:4، و الشرح الكبير 507:4، و بتفاوت يسير في صحيح البخاري 155:3-156، و صحيح مسلم 1559/1193:3، و سنن البيهقي 45:6.
2- الزيادة يقتضيها السياق، و كما هي مقتضى قول المصنّف قدس سره في قواعد الأحكام 148:2.
3- بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «يقع إذا تعالت». و هي تصحيف، و الصحيح ما أثبتناه.

[يُقوَّم](1) المُسْلَم فيه، و يضارب المُسْلِم بقيمته مع الغرماء، فإذا عُرفت حصّته، نُظر إن كان في المال من جنس المُسْلَم فيه، أخذ منه بقدر نصيبه، و إن لم يكن، اشتري له من جنس حقّه، و يبقى له الباقي في ذمّة المفلس، و ليس له أن يأخذ القيمة إذا لم يكن من جنس الحقّ؛ لأنّه يأخذ بدل المُسْلَم فيه. و هو(2) أصحّ وجهي الشافعيّة.

و الثاني: أنّ للمُسْلِم فسخَ العقد و المضاربة(3) مع الغرماء برأس المال؛ لأنّه تعذّر عليه الوصول إلى تمام حقّه، فليمكَّن من فسخ السَّلَم، كما لو انقطع جنس المُسْلَم فيه(4).

و ليس عندي بعيداً من الصواب.

و على هذا فهل يجيء قول بانفساخ السَّلَم كما لو انقطع جنس المُسْلَم فيه ؟

قال بعض الشافعيّة: نعم، إتماماً للتشبيه(5).

و قال بعضهم: لا؛ لإمكان حصوله باستقراضٍ و غيره، بخلاف الانقطاع(6).

و إذا كان رأس المال تالفاً و انقطع جنس المُسْلَم فيه، فالأقوى أنّه3.

ص: 93


1- بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «يقدم». و هي تصحيف، و المثبت هو الصحيح.
2- في «ر» و الطبعة الحجريّة: «و هذا».
3- في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «المعاوضة» بدل «المضاربة». و ما أثبتناه من المصادر.
4- المهذّب - للشيرازي - 333:1، الحاوي الكبير 308:6، حلية العلماء 516:4، العزيز شرح الوجيز 34:5، روضة الطالبين 386:3. (5 و 6) العزيز شرح الوجيز 34:5، روضة الطالبين 386:3.

يثبت له حقّ الفسخ؛ لأنّ سببه ثابت، و هو الانقطاع، فإنّه سبب للفسخ في حقّ غير المحجور عليه ففي حقّه أولى، و لأنّ ما يثبت في حقّ غير المحجور عليه يثبت في حقّ المحجور عليه كالردّ بالعيب.

و له فائدة هنا؛ فإنّ ما يخصّه لو فسخ، لصُرف إليه في الحال عن جهة رأس المال، و ما يخصّه لو لم يفسخ، لم يُصرف إليه، بل يُوقف إلى أن يعود المُسْلَم فيه فيشتري به.

مسألة 340: لو قُوِّم المُسْلَم فيه فكانت قيمته - مثلاً - عشرين،

فأفرزنا(1) من المال للمُسْلِم(2) عشرةً؛ لكون الديون ضِعْف المال، ثمّ رخص السعر قبل الشراء فكانت العشرة تفي بثمن جميع المُسْلَم فيه، فالأقرب: أنّه يشترى به جميع حقّه و يسلّم إليه؛ لأنّ الاعتبار إنّما هو بيوم(3) القسمة.

و الموقوف و إن لم يملكه المُسْلِم لكنّه صار كالمرهون بحقّه و انقطع حقّه عن غيره من الحصص حتى لو تلف قبل التسليم إليه لم يتعلّق بشيء ممّا عند الغرماء، فكان حقّه في ذمّة المفلس.

و لا خلاف في أنّه لو فضل الموقوف عن جميع حقّ المُسْلِم، كان الفاضل للغرماء، و ليس له أن يقول: الزائد قد زاد لي، و هو أحد وجهي الشافعيّة.

و الثاني: أنّا نردّ الموقوف إلى ما يخصّه باعتبار قيمة الأجزاء فتُصرف إليه خمسة، و الخمسة الباقية تُوزّع عليه و على باقي الغرماء؛ لأنّ الموقوف لم يدخل في ملك المُسْلِم، بل هو باقٍ على ملك المفلس، و حقّ المُسْلِم

ص: 94


1- في النسخ الخطّيّة و الحجريّة إضافة «له» و حذفناها لزيادتها.
2- في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «المسلم». و المثبت هو الصحيح.
3- في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «يوم». و المثبت هو الصحيح.

في الحنطة(1) ، لا في ذلك الموقوف، فإذا صارت القيمة عشرةً، فليس دَيْنه إلاّ ذلك(2).

و لا استبعاد فيه.

و لو غلا السعر و كُنّا قد أوقفنا العشرة و لم يوجد القدر الذي أسلم فيه إلاّ بأربعين، فعلى الأوّل لا يزاحمهم، و ليس له إلاّ ما وقف له، و هو العشرة يشتري له بها ربع حقّه، و يبقى الباقي في ذمّة المفلس. و على الوجه [الثاني](3) ظهر أنّ الدَّيْن أربعون، فيسترجع من سائر الحصص ما تتمّ به حصّة الأربعين.

مسألة 341: إذا ضرب الغرماء على قدر رءوس أموالهم و أخذ المُسْلِم ممّا خصّه قدراً من المُسْلَم فيه

و ارتفع الحَجْر عنه ثمّ حدث له مالٌ و أُعيد الحَجْر و احتاجوا إلى الضرب ثانياً، قوّمنا المُسْلَم فيه، فإن اتّفقت قيمته الآن و القيمة السابقة، فذاك، و إلاّ فالتوزيع الآن يقع باعتبار القيمة الزائدة.

و إن نقصت، فالاعتبار بالقيمة الثانية أو بالأقلّ؟ الأقرب: الأوّل، و هو أصحّ وجهي الشافعيّة(4).

و لو كان المُسْلَم فيه ثوباً أو عبداً، فحصّة المُسْلِم يشترى به شقصٌ منه، للضرورة، فإن لم يوجد، فللمُسْلِم الفسخُ.

مسألة 342: الإجارة نوعان:
القسم الأول في إفلاس المستأجر
النوع الأوّل: ما تتعلّق بالأعيان،

كالأرض المعيّنة للزرع، و الدار للسكنى،

ص: 95


1- ذكر الحنطة من باب المثال، حيث لم يسبق لها ذكر.
2- العزيز شرح الوجيز 35:5، روضة الطالبين 386:3.
3- بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «الأوّل». و الصحيح ما أثبتناه.
4- العزيز شرح الوجيز 35:5، روضة الطالبين 387:3.

و العبد للخدمة، و الدابّة للحمل.

ثمّ في كلّ واحدٍ من القسمين(1) إمّا أن يفلس المستأجر أو المؤجر.

فلو استأجر(2) أرضاً أو دابّةً ثمّ أفلس قبل تسليم الأُجرة و قبل مضيّ شيء من المدّة، كان للمؤجر فسخ الإجارة، تنزيلاً للمنافع في الإجارة منزلة الأعيان في البيع، و هو المشهور عند الشافعيّة(3).

و حكى الجويني قولاً آخَر للشافعي: إنّه لا يثبت الرجوع بالمنافع، و لا تُنزّل منزلة الأعيان القائمة؛ إذ ليس لها وجود مستقرّ(4).

إذا عرفت هذا، فنقول: للمؤجر الخيار في فسخ الإجارة و الرجوع بالعين و المنافع، و في إمضاء الإجارة و الضرب مع الغرماء بالأُجرة.

فإن كانت العين المستأجرة فارغةً، آجرها الحاكم على المفلس، و صرف الأُجرة إلى الغرماء.

و لو كان التفليس بعد مضيّ بعض المدّة، فللمؤجر فسخ الإجارة في المدّة الباقية، و المضاربة مع الغرماء بقسط المدّة الماضية من الأُجرة المسمّاة، بناءً على أنّه إذا باع عبدين فتلف أحدهما ثمّ أفلس، يفسخ البيع في الباقي، و يضارب بثمن التالف، و به قال الشافعي(5) ، خلافاً لأحمد حيث يذهب أنّه إذا تلف بعض المبيع، لم يكن للبائع الرجوعُ في البعض الباقي، كذا هنا إذا مضى بعض المدّة، كان بمنزلة تلف بعض المبيع(6)4.

ص: 96


1- كذا، و الظاهر: «من النوعين».
2- من هنا شرع المصنّف قدس سره فيما يتعلّق بالقسم الأوّل. و يأتي القسم الثاني في ص 101.
3- العزيز شرح الوجيز 36:5، روضة الطالبين 387:3.
4- العزيز شرح الوجيز 36:5.
5- التهذيب - للبغوي - 99:4، العزيز شرح الوجيز 36:5، روضة الطالبين 387:3، المغني 497:4، الشرح الكبير 506:4-507.
6- المغني 497:4، الشرح الكبير 506:4.

و يُحتمل فسخ العقد في الجميع إذا مضى بعض المدّة، و يضرب بقسط ما حمل من أُجرة المثل.

مسألة 343: لو أفلس مستأجر الدابّة و حُجر عليه في خلال الطريق ففسخ المؤجر، لم يكن له طرح متاعه في البادية المهلكة،

و لا في موضعٍ غير محترز، بل يجب عليه نقله إلى مأمن بأُجرة المثل لذلك النقل من ذلك المكان، و يقدّم به على الغرماء؛ لأنّه لصيانة المال و حفظه و إيصاله إلى الغرماء، فأشبه أُجرة الكيّال و الحمّال و أُجرة المكان المحفوظ فيه، فإذا وصل إلى المأمن، وَضَعه عند الحاكم.

و لو وَضَعه على يد عَدْلٍ من غير إذن الحاكم، فوجهان.

و كذا لو استأجر لحمل متاع فحمل بعضه.

فروع:

أ - لو كان المأمن في صوب المقصد، وجب المضيّ إليه.

و هل للمؤجر تعجيل الفسخ في موضع العلم بالحجر، أو يجب عليه الصبر إلى المأمن ؟ الأقرب: الأوّل؛ لأنّ الحجر سبب في تخييره بين الفسخ و الإمضاء، و قد وُجد السبب، فيوجد المسبّب.

و يُحتمل الثاني؛ لأنّه يجب عليه المضيّ إلى المأمن، سواء فسخ أو لا، فلا وجه لفسخه.

ب - تظهر الفائدة فيما لو كان الأجر(1) في نقله من موضع الحجر إلى موضع المأمن مخالفاً لما يقع له بعد التقسيط من المسمّى،

فإن قلنا: له الفسخ، ففسخ، كان له أُجرة المثل إلى المأمن، سواء زادت عن القسط من المسمّى أو نقصت أو ساوته. و إن قلنا: ليس له الفسخ، فله القسط من».

ص: 97


1- في «ث» و الطبعة الحجريّة: «الأُجرة».

المسمّى.

ج - لو قلنا: ليس له الفسخ، أو قلنا: له الفسخ، و لم يفسخ، هل يقدّم بقسط النقل من موضع الحجر إلى المأمن من المسمّى ؟ إشكال

ينشأ:

من أنّه مستمرّ على الإجارة السابقة التي يجب الضرب بمسمّاها مع الغرماء، فلم يقدّم على باقي الغرماء في هذا القسط، كما لم يقدّم في القسط للنقل من مبدأ المسافة إلى موضع الحجر، و من أنّ له النقل من المخافة إلى المأمن بأُجرة مقدّمة، فيجب تقديم هذا القسط من المسمّى.

د - لو كان النقل إلى المأمن إنّما هو في منتهى مسافة الإجارة، وجب النقل إليه.

و يجيء الاحتمالان في أنّ المؤجر هل له الفسخ أم لا؟ لكن احتمال عدم الفسخ هنا أقوى منه في الأوّل.

ه - لو كان النقل إلى المأمن إنّما يحصل بأُجرة مساوية للنقل إلى المقصد أو أكثر، فالأولى وجوب النقل إلى المقصد،

و عدم تخييره في الفسخ، بل يجب عليه إمضاء العقد.

و هل يقدّم بالقسط للنقل من موضع الحجر إلى المقصد من المسمّى أم لا؟ إشكال.

و - لو كان المأمن في صوب المقصد و صوب مبدأ المسافة على حدٍّ واحد

أو تعدّدت مواضع الأمن و تساوت قُرْباً و بُعْداً، فإن كانت أُجرة الجميع واحدةً، نُظر إلى المصلحة، فإن تساوت، كان له سلوك أيّها شاء، لكنّ الأولى سلوك ما يلي المقصد؛ لأنّه مستحقّ عليه في أصل العقد. و إن اختلفت الأُجرة، سلك أقلّها أُجرةً.

و إن تفاوتت المصلحة، فإن اتّفقت مصلحة المفلس و الغرماء في

ص: 98

شيء واحد، تعيّن المصير إليه. و إن اختلفت، فالأولى تقديم مصلحة المفلس.

مسألة 344: لو فسخ المؤجر للأرض إجارتها؛ لإفلاس المستأجر،

فإن كانت فارغةً، أخذها، فإن كان قد مضى من المدّة شيء، كان كما تقدّم(1) ، و ينبغي أن يكون الماضي من الزمان له وَقْعٌ بحيث يقسط المسمّى عليه، فيرجع في الباقي من المدّة بقسطه.

و إن كانت الأرض مشغولةً بالزرع، فإن كان الزرع قد استُحصد، فله المطالبة بالحصاد و تفريغه(2).

و إن لم يكن استُحصد، فإن اتّفق الغرماء و المفلس على قطعه، قُطع.

و إن اتّفقوا على التبقية إلى الإدراك، فلهم ذلك بشرط أن يقدّموا المؤجر بأُجرة المثل لبقيّة المدّة - محافظةً للزرع - على الغرماء.

و إن اختلفوا فأراد بعضُهم القطعَ و بعضُهم التبقيةَ، فالأولى مراعاة ما فيه المصلحة حتى لو كانت الأُجرة تستوعب الحاصل و تزيد عليه، قُطع، و إلاّ فلا، و هو أحد قولي الشافعي.

و في الآخَر يُنظر إن كانت له قيمة لو قُطع، أُجيب مَنْ يريد القطع من المفلس و الغرماء؛ إذ ليس عليه تنمية ماله لهم، و لا عليهم الصبر إلى أن ينمو.

و لا بأس به عندي.

فعلى هذا لو لم يأخذ المؤجر أُجرة المدّة الماضية، فهو أحد الغرماء، فله طلب القطع.ض.

ص: 99


1- في ص 96، ضمن المسألة 342.
2- كذا، و الظاهر: «تفريغها». أي تفريغ الأرض.

و إن لم تكن له قيمة لو قُطع، أُجيب مَنْ يريد التبقية؛ إذ لا فائدة لطالب القطع فيه(1).

و إذا أبقوا الزرع بالاتّفاق أو بطلب بعضهم حيث لم تكن للمقطوع قيمة، فالسقي و سائر المُؤن إن تطوّع بها الغرماء أو بعضهم أو أنفقوا عليها على قدر ديونهم، فذاك.

و إن أنفق عليها بعضُهم ليرجع، فلا بُدَّ من إذن الحاكم أو(2) اتّفاق الغرماء و المفلس، و إذا حصل الإذن، قدّم المنفق بقدر النفقة؛ لأنّه لإصلاح الزرع.

و كذا لو أنفقوا على قدر الديون ثمّ ظهر غريمٌ، قدّم المنفقون في قدر النفقة عليه.

و هل يجوز الإنفاق عليه من مال المفلس ؟ الوجه: الجواز؛ لاشتماله على التنمية، و هو أحد وجهي الشافعي.

و الثاني: المنع؛ لعدم اليقين بحصول الفائدة، و إنّما هو موهوم(3).

النوع الثاني: الإجارة الواردة على الذمّة.

مسألة 345: هذه الإجارة لا يكون حكمها حكم السَّلَم في وجوب قبض مال الإجارة في المجلس

كما يجب قبض رأس مال السَّلَم فيه؛ للأصل الدالّ على عدم الوجوب، السالم عن معارضة النصّ الوارد في السَّلَم؛ لانفراد السَّلَم عن الإجارة و مغايرته لها، فلا يجب اشتراكهما في

ص: 100


1- العزيز شرح الوجيز 36:5، روضة الطالبين 388:3.
2- في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «و» بدل «أو». و ما أثبتناه يقتضيه السياق.
3- العزيز شرح الوجيز 36:5-37، روضة الطالبين 388:3.

الحكم، و هو أحد قولي الشافعي.

و الثاني: أنّهما متساويان في وجوب الإقباض في المجلس(1).

فعلى الأوّل تكون كالإجارة الواردة على العين. و على الثاني لا أثر للإفلاس بعد التفرّق؛ لصيرورة الأُجرة مقبوضةً قبل التفرّق.

تذنيب: لا يثبت خيار المجلس في الإجارة؛

لاختصاص النصّ بالبيع، و عدم مشاركته للإجارة في الاسم، و الأصل عدم الخيار، و هو أحد قولي الشافعي.

و في الآخَر: يثبت الخيار. فإن أثبته، كان فيه غنية عن هذا الخيار، و إلاّ فهي(2) كما في إجارة العين(3).

القسم الثاني: في إفلاس المؤجر.
اشارة

و فيه نوعان:

النوع الأوّل: في إجارة العين.

فإذا آجر دابّةً من إنسان أو داراً ثمّ أفلس و حجر عليه الحاكم، لم تنفسخ الإجارة، و لم يكن للمستأجر و لا للغرماء فسخ الإجارة؛ لأنّ ذلك عقد لازم عقده قبل الحجر، و المنافع المستحقّة للمستأجر متعلّقة بعين ذلك المال، فيقدّم بها كما تقدّم في حقّ المرتهن، و كما لو أفلس بعد بيع شيء معيّن، فإنّ المشتري أحقّ بما اشتراه.

ثمّ الغرماء لهم الخيار بين الصبر حتى تنقضي مدّة الإجارة ثمّ

ص: 101


1- العزيز شرح الوجيز 37:5، روضة الطالبين 388:3.
2- في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «فهو» بدل «فهي». و الظاهر ما أثبتناه.
3- العزيز شرح الوجيز 37:5، روضة الطالبين 388:3.

يبيعونها، و بين البيع في الحال، فإن اختاروا الصبر إلى انقضاء مدّة الإجارة فإن انقضت المدّة و الدار بحالها، فلا بحث. و إن انهدمت الدار في أثناء المدّة، انفسخت الإجارة.

و إن اختار المؤجر الفسخ فيما بقي من المدّة، فإن كانت الأُجرة لم تُقبض منه، سقطت عنه فيما بقي من المدّة، و إن كانت قد قُبضت منه، رجع على المفلس بحصّة ما بقي من المدّة.

و هل يضرب بذلك مع الغرماء؟ يُنظر فإن كان ذلك قبل قسمة ماله، فهل يرجع على الغرماء؟ وجهان مبنيّان على أنّ وجود السبب كوجود المسبّب، أو لا؟

فإن قلنا بالأوّل، رجع عليهم بما يخصّه؛ لأنّ سبب وجوبه وُجد قبل الحجر، و لو كان الاعتبار بحال وجوبه، لكان إذا وجب قبل القسمة أن لا يشارك به.

و إن قلنا بالثاني، لم يرجع؛ لأنّ دَيْنه تجدّد بعد الحجر، فلم يحاصّ به الغرماء.

و الأوّل أقوى.

فإن طلب الغرماء البيعَ في الحال، أُجيبوا إليه؛ لأنّه يجوز عندنا بيع الأعيان المستأجرة - و هو أحد قولي الشافعي - لأنّه عقد على منفعة، فلا يمنع من بيع أصل العين، كالنكاح.

و الثاني: لا يصحّ البيع؛ لأنّ يد المستأجر حائلة دون التسليم، فأشبه المغصوب(1)9.

ص: 102


1- العزيز شرح الوجيز 37:5، روضة الطالبين 388:3-389.

فعلى قولنا تُباع في الحال، و يكون المستأجر أحقَّ بالمنافع و اليد مدّة إجارته.

و لو اختلف الغرماء في البيع و الصبر، أُجيب الذي يطلب البيع؛ لأنّه يتعجّل حقّه به، و لا مبالاة بما ينقص من ثمنه بسبب الإجارة؛ إذ لا يجب على الغرماء الصبر إلى أن يزداد مال المفلس.

النوع الثاني: الإجارة الواردة على الذمّة.

مسألة 346: إذا التزم المفلس نَقْلَ متاع من بلدٍ إلى آخَر أو عملَ شغلٍ ثمّ أفلس،

فإن كان مال الإجارة باقياً في يده، فله فسخ الإجارة و الرجوع إلى عين ماله. و إن كانت تالفةً، فلا فسخ، كما لا فسخ و الحال هذه عند إفلاس المُسْلَم إليه على الأصحّ - و به قال الشافعي(1) - و يضارب المستأجرُ الغرماءَ بقيمة المنفعة المستحقّة، و هي أُجرة المثل، كما يضارب المُسْلِم بقيمة المُسْلَم فيه.

إذا عرفت هذا، فإنّ هذا النوع من الإجارة ليس سَلَماً، و هو أحد قولي الشافعي.

و في الثاني: يكون سَلَماً.

فعلى قوله هذا ما يخصّه بالمضاربة من مال المفلس لا يجوز تسليمه إليه؛ لامتناع الاعتياض عن المُسْلَم فيه، بل يُنظر فإن كانت المنفعة المستحقّة قابلةً للتبعيض - كما لو استأجره لحمل مائة رطل - فينقل بالحصّة بعضها.

ص: 103


1- العزيز شرح الوجيز 37:5، روضة الطالبين 389:3.

و إن لم يقبل التبعيض - كما إذا كان الملتزَم قصارةَ ثوبٍ، أو رياضة دابّة، أو(1) حمل المستأجر إلى بلدٍ، و لو نقل إلى بعض الطريق ضاع - فوجهان للشافعي(2).

قال الجويني: للمستأجر الفسخ بهذا السبب، و المضاربة بالأُجرة المبذولة(3).

و على ما اخترناه نحن يسقط عنّا هذا، و يقبض الحصّة بعينها؛ لجواز الاعتياض.

و يلزم على قوله إبطال مذهبه من منع جواز الاعتياض في السَّلَم فيما صوّرناه.

هذا إذا لم يسلّم المؤجر عيناً إلى المستأجر يستوفي المنفعة الملتزمة منها، أمّا إذا التزم النقل إلى البلد في ذمّته ثمّ سلّمه دابّةً لينقل بها، ثمّ أفلس، فإن قلنا: إنّ الدابّة المسلّمة تتعيّن بالتعيين، فلا فسخ، و يقدّم المستأجر بمنفعتها، كما لو كانت الدابّة معيّنةً في عقد الإجارة. و إن قلنا:

لا تتعيّن، فكما لو لم يسلّم الدابّة، فيفسخ المستأجر، و يضارب بمال الإجارة.

تذنيبان:

أ - لو استقرض مالاً ثمّ أفلس و هو باقٍ في يده، فللمُقرض الرجوعُ إلى عين ماله،

كالبائع في عين السلعة و إن ملكها المفلس بالشراء - و هو قول الشافعي(2) أيضاً - سواء قلنا: إنّ القرض يُملك بالقبض أو بالتصرّف.3.

ص: 104


1- في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «و» بدل «أو». و الظاهر ما أثبتناه. (2 و 3) العزيز شرح الوجيز 37:5، روضة الطالبين 389:3.
2- العزيز شرح الوجيز 38:5، روضة الطالبين 389:3.

أمّا إذا كان لا يُملك بالقبض: فلأنّه يقدر على الرجوع من غير إفلاس و لا حجر، فمعهما أولى.

و أمّا إذا كان(1) يُملك بالقبض: فلأنّه مملوك ببدلٍ تعذّر تحصيله، فأشبه البيع.

ب - لو باع شيئاً و استوفى ثمنه و امتنع من تسليم المبيع أو هرب، لم يكن للمشتري الفسخ؛

لأنّ حقّه تعلّق بالعين، و لا نقصان في نفس المبيع، فإن تعذّر قبضه، تخيّر حينئذٍ.

و للشافعيّة وجهان(2).

النظر الثالث: في المعوّض.
مسألة 347: يُشترط في المعوّض - و هو المبيع مثلاً - ليرجع إليه مع إفلاس المشتري شيئان:

بقاؤه في ملك المفلس، و عدم التغيّر(3).

فلو هلك المبيع، لم يكن للبائع الرجوع؛ لقوله عليه السلام: «فصاحب المتاع أحقّ بالمتاع إذا وجده بعينه»(4) فقد جعل عليه السلام وجدانَ المتاع شرطاً في أحقّيّة الأخذ.

و لا فرق بين أن يكون الهلاك بآفة سماويّة، أو بجناية جانٍ، أو بفعل المشتري، و لا بين أن تكون قيمته مثل الثمن أو أكثر.

و ليس له إلاّ مضاربة الغرماء بالثمن؛ عملاً بالأصل، و اختصاص

ص: 105


1- في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «كانت» بدل «كان». و ما أثبتناه يقتضيه السياق.
2- العزيز شرح الوجيز 38:5، روضة الطالبين 389:3.
3- يأتي الشرط الثاني - و هو عدم التغيّر - في ص 108، المسألة 350.
4- سنن ابن ماجة 2360/790:2، سنن الدارقطني 106/29:3 و 107، المستدرك - للحاكم - 51:2.

المخالف له بالوجدان، و هو أحد قولي الشافعي.

و الثاني: أنّه إذا زادت القيمة، ضارب بها دون الثمن، و استفاد بها زيادة حصّته(1).

مسألة 348: لو خرجت العين عن ملك المشتري ببيعٍ أو هبة أو عتق أو وقف، فهو كما لو هلكت.

و ليس له فسخ هذه التصرّفات، بخلاف الشفيع، فإنّ له ردّ ذلك كلّه؛ لأنّ حقّ الشفعة كان ثابتاً حين تصرّف المشتري، لأنّ الشفعة تثبت بنفس البيع، و هنا حقّ الرجوع لم يكن ثابتاً حين التصرّف؛ لأنّه إنّما يثبت بالإفلاس و الحجر.

و كذا لا رجوع للبائع لو كاتب المشتري العبد المبيع أو استولد الجارية المبيعة. أما لو دبّر، فإنّ له الرجوع.

و لو نذر عتقه مطلقاً أو نذره عند شرطٍ، فكذلك لا يرجع إلاّ أن يبطل ذلك الشرط و يعلم بطلان النذر.

و لو علّق العتق بصفة، لم يصح عندنا. و عند الشافعي يصحّ، و له الرجوع(2).

و لو آجر العين، فلا رجوع له في المنافع، بل في العين عندنا؛ لأنّه يجوز بيع المستأجر، و هو أحد قولي الشافعيّة إن جوّزوا بيع المستأجر، و إن منعوه، لم يكن له الرجوعُ في العين، فإذا جوّزنا له الرجوع، فإن شاء أخذه مسلوب المنفعة لحقّ المستأجر، و إلاّ ضارب بالثمن(1)

ص: 106


1- العزيز شرح الوجيز 40:5-41، روضة الطالبين 390:3.
مسألة 349: لو رهن المشتري العين، لم يكن للبائع الرجوع؛ لتقدّم حقّ المرتهن.
اشارة

و كذا لو جنى العبد المبيع، فالمجنيّ عليه أحقّ ببيعه.

فإن قضي حقّ المرتهن أو المجنيّ عليه ببيع بعضه، فالبائع واجد لباقي المبيع، و سيأتي حكمه إن شاء اللّه تعالى.

و إن انفكّ الرهن أو برئ عن الجناية، فله الرجوع.

و لو زوّج الجاريةَ، لم يمنع البائع من الرجوع فيها. أمّا لو باع صيداً ثمّ أحرم و أفلس المشتري، لم يكن للبائع الرجوعُ في العين؛ لأنّ تملّكه للصيد حرام.

و لو نقل العين ببيعٍ و شبهه ثمّ حُجر عليه بعد ذلك ثمّ عادت العين، فالوجه عندي: أنّه لا يرجع البائع فيها؛ لأنّ ملك المشتري فيها الآن متلقّى من غير البائع، و لأنّه قد تخلّلت حالة لو صادفها الإفلاس و الحَجْر لما رجع، فيُستصحب حكمها، و هو أحد قولي الشافعي.

و الثاني: أنّه إن عاد إليه بغير عوضٍ - كالهبة و الإرث و الوصيّة له - ففي الرجوع وجهان:

أحدهما: أنّه يرجع؛ لأنّه وجد متاعه بعينه.

و الثاني: لا يرجع؛ لأنّ الملك قد تلقّاه من غير البائع(1).

و هذان الوجهان مبنيّان عندهم على ما إذا قال لعبده: إذا جاء رأس الشهر فأنت حُرٌّ، ثمّ باعه و اشتراه و جاء رأس الشهر، هل يُعتق ؟(2)

و إن عاد الملك إليه بعوضٍ كما لو اشتراه [نُظر](3) إن وفّر الثمن على

ص: 107


1- العزيز شرح الوجيز 41:5، روضة الطالبين 391:3.
2- العزيز شرح الوجيز 41:5.
3- ما بين المعقوفين يقتضيه السياق.

البائع الثاني، فكما لو عاد بلا عوض، فإن لم يوفّر و قلنا بثبوت الرجوع للبائع لو عاد بلا عوض، فالأوّل أولى بالرجوع؛ لسبق حقّه، أو الثاني؛ لقرب حقّه، أو يستويان و يضارب كلّ واحدٍ منهما بنصف الثمن ؟ فيه ثلاثة أوجُه.

تذنيب: لو كاتب العبد كتابةً مطلقة، لم يكن للبائع الرجوعُ في العين؛

لأنّه كالعتق في زوال سلطنة السيّد عنه.

و إن كانت مشروطةً، فإن كانت باقيةً، لم يكن له الرجوع أيضاً؛ لأنّها عقد لازم.

و إن عجز المكاتَب عن الأداء، فللمفلس الصبر عليه؛ لأنّه كالخيار.

و يُحتمل عدمه.

فإن ردّه في الرقّ، فهل للبائع الرجوع فيه ؟ الأقرب: ذلك؛ لأنّه ليس بملك يتجدّد، بل هو إزالة مانع.

و للشافعي طريقان:

أحدهما: أنّ رجوعه إلى الرقّ كانفكاك الرهن.

و الثاني: أنّه يعود الملك بعد زواله لمشابهة الكتابة زوالَ الملك، و إفادتها استقلالَ المكاتَب، و التحاقه بالأحرار(1).

مسألة 350: قد بيّنّا أنّه يشترط للرجوع في العين في المعوّض أمران:
اشارة

بقاء الملك، و قد سلف(2) ، و بقي الشرط الثاني، و هو: عدم التغيّر.

فنقول: البائع إن وجد العين بحالها لم تتغيّر لا بالزيادة و لا بالنقصان، فإنّ للبائع الرجوعَ لا محالة. و إن تغيّر(3) ، فإمّا أن يكون بالنقصان أو

ص: 108


1- العزيز شرح الوجيز 41:5، روضة الطالبين 391:3.
2- في ص 105، المسألة 347.
3- تذكير الفعل باعتبار المبيع.

بالزيادة.

القسم الأوّل: أن يكون التغيّر بالنقصان، و هو قسمان:
اشارة

الأوّل: نقصان ما لا يتقسّط عليه الثمن، و لا يُفرد بالعقد، و هو المراد بالعيب و نقصان الصفة، كتلف بعض أطراف العبد.

و الثاني: نقصان بعض المبيع ممّا يتقسّط عليه الثمن، و يصحّ إفراده بالعقد.

و نحن نذكر حكم هذه الأقسام بعون اللّه تعالى، ثمّ نتبع ذلك بقسم الزيادة.

القسم الأوّل: نقصان الصفة.

مسألة 351: إذا نقصت العين بالتعيّب، فإن حصل بآفة سماويّة، تخيّر البائع

بين الرجوع في العين ناقصةً بغير شيء، و بين أن يضارب بالثمن مع الغرماء، كما لو تعيّب المبيع في يد البائع، يتخيّر المشتري بين أخذه معيباً بجميع الثمن - عند بعض(1) أصحابنا - و بين الفسخ و الرجوع بالثمن.

و على ما اخترناه نحن - من أنّ المشتري يرجع بالأرش - لا يتأتّى هذا، و إنّما لم يكن للبائع هنا الرجوع بالأرش، و كان للمشتري في صورة البيع الرجوع به؛ لأنّ المبيع مضمون في يد البائع، و كما يضمن جملته يضمن أجزاءه، سواء كانت صفاتاً أو غيرها؛ لأنّ الثمن في مقابلة الجميع، و أمّا هنا فإنّ البائع لا حقّ له في العين إلاّ بالفسخ المتجدّد بعد العيب، و إنّما حقّه قبل الفسخ في الثمن، فلم تكن العين مضمونةً له، فلم يكن له الرجوع بأرش المتجدّد، بل يقال له: إمّا أن تأخذ العين مجّاناً، أو تضارب

ص: 109


1- الشيخ الطوسي في الخلاف 109:3، المسألة 178.

بالثمن، و هو أحد قولي الشافعي(1).

و له قولٌ آخَر: إنّه يأخذ المعيب و يضارب مع الغرماء بما نقص، كما يأتي(2) في الضرب الثاني(3). و هو غريب عندهم(4).

إذا عرفت هذا، فقد وافقنا مالك و الشافعي على أنّ للبائع الرجوعَ و إن كانت معيبةً(5).

و قال أحمد: إذا تلف جزء من العين - كتغيّر أطراف العبد، أو ذهاب عينه، أو تلف بعض الثوب، أو انهدم بعض الدار، أو اشترى نخلاً مثمراً فتلف الثمرة، و نحو هذا - لم يكن للبائع الرجوعُ؛ لأنّه لم يدرك متاعه بعينه(6).

و هو غلط.

أمّا أوّلاً: فلأنّ العين باقية و إن تلف بعض صفاتها.

و أمّا ثانياً: فلأنّه إذا ثبت له الرجوع في جميع العين بالثمن، فإثبات الرجوع له في بعضها بالثمن أولى، كما لو قال: أنا أرجع في نصف العين بجميع الثمن، فإنّه يجاب إليه قطعاً، كذا هنا.

مسألة 352: إذا تعيّبت العين بجناية جانٍ، فإمّا أن يكون الجاني أجنبيّاً أو البائعَ أو المشتري.

فإن كان أجنبيّاً، فعليه الأرش، و للبائع أن يأخذه معيباً، و يضاربُ2.

ص: 110


1- العزيز شرح الوجيز 42:5، روضة الطالبين 391:3.
2- في ص 112، المسألة 354.
3- و هو نقصان ما يتقسّط عليه الثمن.
4- العزيز شرح الوجيز 42:5، و في روضة الطالبين 391:3؛ «شاذّ ضعيف».
5- المغني 498:4، الشرح الكبير 511:4.
6- المغني 498:4-499، الشرح الكبير 511:4-512.

الغرماءَ بمثل(1) نسبة ما انتقص من القيمة من الثمن؛ لأنّ المشتري أخذ بدلاً للنقصان و كان مستحقّاً للبائع، فلا يجوز تضييعه عليه، بخلاف التعيّب بالآفة السماويّة حيث لم يكن لها عوض.

و إنّما اعتبرنا في حقّه نقصان القيمة دون التقدير الشرعي؛ لأنّ التقدير إنّما أثبته الشرع في الجنايات، و الأعواض يتقسّط بعضها على بعضٍ باعتبار القيمة.

و لو اعتبرنا في حقّه المقدّر، لزمنا أن نقول: إذا قطع الجاني يديه(2) أن يأخذه البائع و قيمته، و هذا محال، بل يُنظر فيما انتقص من قيمته بقطع اليدين، و نقول: يضارب البائعُ الغرماء بمثل نسبته من الثمن. و لو قطع إحدى يديه و غرم نصف القيمة و كان الناقص في السوق ثُلث القيمة، ضارَب البائعُ بثلث الثمن و أخذه، و على هذا القياس.

مسألة 353: لو كان الجاني على العين البائعَ، فهو كجناية الأجنبيّ؛

لأنّ جنايته على ما ليس بمملوك له و لا هو في ضمانه.

و إن كان الجاني المشتري، احتُمل أن تكون جنايته كجناية الأجنبيّ أيضاً؛ لأنّ إتلاف المشتري قبض(3) و استيفاء منه على ما مرّ(4) في موضعه، و كأنّه صرف جزءً من المبيع إلى غرضه. و أن تكون جنايته كجناية البائع على المبيع قبل القبض؛ لأنّ المفلس و المبيع في يده كالبائع في المبيع قبل القبض من حيث إنّه مأخوذ منه غير مقرَّر في يده.ع.

ص: 111


1- في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «مثل». و الظاهر ما أثبتناه.
2- في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «قطع يدي الجاني». و الصحيح ما أثبتناه.
3- في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «نقص» بدل «قبض». و المثبت هو الظاهر.
4- في ج 10، ص 114، المسألة 64 من كتاب البيع.

و للشافعي قولان:

أحدهما: أنّها(1) كجناية الأجنبيّ.

و أصحّهما عنده: أنّها كالآفة السماويّة(2).

و لا يقال: إنّ حقَّ تشبيه جناية المشتري هنا بجناية البائع قبل القبض كتشبيه(3) جناية البائع هناك حتى يقال: كأنّه استرجع بعض المبيع؛ إذ ليس له الفسخ و الاسترجاع إلاّ بعد حَجْر الحاكم عليه، و ليس(4) قبل الحَجْر حقٌّ و لا مِلْكٌ.

تذنيب: لو باع المفلس قبل الحجر بعضَ العين

أو وهبه أو وقفه، فهو بمنزلة تلفه.

القسم الثاني: نقصان العين.

مسألة 354: إذا نقص المبيع نقصاً يتقسّط الثمن عليه، و يصحّ إفراده بالعقد

- كما لو اشترى عبدين صفقةً أو ثوبين كذلك فتلف أحدهما في يد المشتري ثمّ أفلس و حُجر عليه - فللبائع أن يأخذ الباقي بحصّته من الثمن، و يُضارب مع الغرماء بحصّة التالف، و له أن يضارب بجميع الثمن - و به قال الشافعي و أحمد في إحدى الروايتين(5) - لأنّه عين ماله وجدها البائع، فله

ص: 112


1- في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «أنّه». و المثبت هو الصحيح.
2- الوسيط 26:4، العزيز شرح الوجيز 43:5، روضة الطالبين 392:3.
3- في الطبعة الحجريّة: «تشبيه».
4- في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «فليس» بدل «و ليس». و الظاهر ما أثبتناه.
5- التهذيب - للبغوي - 88:4، الوسيط 26:4، العزيز شرح الوجيز 43:5، روضة الطالبين 392:3، المغني 499:4، الشرح الكبير 512:4.

أخذها؛ لقوله عليه السلام: «مَنْ أدرك متاعه بعينه عند إنسان قد أفلس فهو أحقّ به»(1).

و لأنّه مبيع وجده بعينه، فكان للبائع الرجوعُ فيه، كما لو وجد جميع المبيع.

و في الرواية الأُخرى لأحمد: ليس له الرجوع؛ لأنّه لم يجد المبيع بعينه، أشبه ما لو كان عيناً واحدة و قد تعيّبت. و لأنّ بعض المبيع تالف، فلم يملك الرجوع فيه، كما لو قُطعت يد العبد(2).

و الحكم في الأصل ممنوع، و قد سبق، و هذا كما لو بقي جميع المبيع و أراد البائع فسخ البيع في بعضه، مُكّن منه؛ لأنّه أنفع للغرماء من الفسخ في الكلّ، فهو كما لو رجع الواهب في نصف ما وهب.

مسألة 355: إذا اختار فسخ البيع في الباقي و أخذه، ضرب بقسط التالف من الثمن،

و لا يجب عليه فسخ البيع و أخذ الباقي بجميع الثمن؛ لأنّ الثمن يتقسّط على المبيع، فكأنّه في الحقيقة بيعان بثمنين، و هو أصحّ قولي الشافعي.

و الثاني: أنّه يأخذ الباقي بجميع الثمن، و لا يضارب بشيء، و طرّدوا هذا القول في كلّ مسألة تضاهي هذه المسألة حتى لو باع سيفاً و شقصاً بمائة، يأخذ الشقص بجميع المائة على قولٍ(3). و هو بعيد.

هذا إذا تلف أحد العبدين و لم يقبض من الثمن شيئاً.3.

ص: 113


1- صحيح البخاري 155:3-156، صحيح مسلم 1559/1193:3، سنن الدارمي 262:2، المغني 499:4، الشرح الكبير 512:4.
2- المغني 499:4، الشرح الكبير 512:4.
3- العزيز شرح الوجيز 43:5، روضة الطالبين 392:3.

و لو باع عبدين متساويي القيمة بمائة و قبض خمسين و تلف أحدهما في يد المشتري ثمّ أفلس، فإنّه يرجع في الباقي من العبدين؛ لأنّ الإفلاس سبب يعود به جميع العين، فجاز أن يعود بعضه(1) ، كالفرقة في النكاح قبل الدخول يردّ(2) بها جميع الصداق إلى الزوج تارة و بعضه أُخرى.

و لاندراج صورة النزاع فيما رواه العامّة عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال: «إذا أفلس الرجل و وجد البائع سلعته بعينها فهو أحقّ بها من الغرماء»(3).

و من طريق الخاصّة: قول أبي الحسن عليه السلام و قد سُئل عن رجل يركبه الدَّيْن فيوجد متاع رجل عنده بعينه، قال: «لا يحاصّه الغرماء»(4).

و هو الجديد للشافعي.

و قال في القديم: ليس له الرجوعُ إلى العين، بل يُضارب بباقي الثمن مع الغرماء؛ لقول النبي صلى الله عليه و آله: «أيّما رجل باع متاعاً فأفلس الذي ابتاعه و لم يقبض البائع من ثمنه شيئاً فوجده بعينه فهو أحقّ به، و إن كان قد اقتضى(5) من ثمنه شيئاً فهو أُسوة الغرماء»(6)(7).

و هذا الحديث مرسل.3.

ص: 114


1- الظاهر: «بعضها».
2- في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «يريد» بدل «يردّ». و المثبت هو الصحيح.
3- سنن الدارقطني 112/30:3، و 90/229:4، سنن البيهقي 46:6، المصنّف - لعبد الرزّاق - 15162/265:8.
4- التهذيب 420/193:6، الاستبصار 19/8:3.
5- في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «اقبض» بدل «اقتضى». و الصحيح ما أثبتناه كما في «العزيز شرح الوجيز».
6- سنن ابن ماجة 2359/790:3، سنن أبي داوُد 286:3-3520/287، 3521، سنن البيهقي 47:6.
7- العزيز شرح الوجيز 44:5، روضة الطالبين 392:3.

و على ما اخترناه يرجع في جميع العبد الباقي بجميع ما بقي من الثمن، و به قال الشافعي على قول الرجوع(1).

و له فيما إذا أصدقها أربعين شاةً، و حالَ عليها الحول فأخرجت شاةً ثمّ طلّقها قبل الدخول قولان:

أحدهما: أنّه يرجع بعشرين(2) شاة.

و الثاني: أنّه يأخذ نصفَ الموجود، و نصفَ قيمة الشاة المُخرَجة(3).

و اختلف أصحابه هنا على طريقين:

[أحدهما: تخريج القول الثاني و طرد القولين هاهنا](4):

أظهرهما: أنّه يأخذ جميع العبد الباقي بما بقي من الثمن، و يجعل ما قبض من الثمن في مقابلة التالف، كما لو رهن عبدين بمائة و أخذ خمسين و تلف أحد العبدين، كان الآخَر مرهوناً بما بقي من الدَّيْن بجامع أنّ له التعلّق بكلّ العين، فيثبت له التعلّق بالباقي من العين للباقي من الحقّ.

و الثاني: أنّه يأخذ نصف العبد الباقي بنصف الباقي من الثمن، و يُضارب الغرماءَ بنصفه؛ لأنّ الثمن يتوزّع على المبيع، فالمقبوض و الباقي يتوزّع كلّ واحدٍ منهما على العبدين.

و لا بأس به عندي.

و الطريق الثاني: القطع بأنّه يرجع في جميع العبد الباقي بما بقي من الثمن، و الفرق بينه و بين الصداق: أنّ الزوج إذا لم يرجع إلى عين الصداق،ق.

ص: 115


1- العزيز شرح الوجيز 44:5، روضة الطالبين 392:3.
2- في المصدر: «بأربعين» بدل «بعشرين».
3- العزيز شرح الوجيز 44:5.
4- ما بين المعقوفين أضفناه من المصدر لأجل السياق.

أخذ القيمة بتمامها، و البائع هنا لا يأخذ الثمن، بل يحتاج إلى المضاربة(1).

مسألة 356: لو قبض بعض الثمن و لم يتلف من المبيع شيء،

احتُمل الرجوع في البعض بنسبة الباقي من الثمن، فلو قبض نصف الثمن، رجع في نصف العبد المبيع، أو العبدين المبيعين، و هو الجديد للشافعي.

و قال في القديم: لا يرجع(2). و قد سلف.

مسألة 357: لو كان المبيع زيتاً فأغلاه المشتري حتى ذهب بعضه ثمّ أفلس، فهو بمثابة تلف بعض المبيع،

كما لو انصبّ بعضه، و هو أحد قولي الشافعي.

و الثاني: أنّه كما لو تعيّب المبيع، و كان الزائلُ صفةَ الثُّفْل(3).

فعلى الأوّل لو ذهب نصفه، أخذه بنصف الثمن، و ضارَب مع الغرماء بالنصف، فإن ذهب ثلثه، أخذ بثلثي الثمن، و ضارَب بالثلث.

و على الثاني يرجع إليه، و [يقنع](4) به.

و إذا ذهب نصفه مثلاً، فالوجه: أن يطّرد ذلك الوجه في إغلاء الغاصب الزيتَ المغصوب.

و لو كان مكان الزيت العصير، فالوجه: المساواة بينه و بين الزيت هنا و في الغاصب، و هو أحد وجهي الشافعيّة.

و الثاني: الفرق بأنّ الذاهب من العصير ما لا ماليّة له، و الذاهب منه.

ص: 116


1- العزيز شرح الوجيز 44:5-45.
2- العزيز شرح الوجيز 45:5، روضة الطالبين 392:3.
3- العزيز شرح الوجيز 45:5، روضة الطالبين 393:3.
4- بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «ينتفع». و الصحيح ما أثبتناه.

الزيت متموّل(1).

و يُمنع عدم الماليّة؛ لأنّه قبل الغليان مالٌ، فقد أتلفه بالغليان.

و على القول بالتسوية بين العصير و الزيت لو كان العصير المبيع أربعة أرطال قيمتها ثلاثة دراهم، فأغلاها حتى عادت إلى ثلاثة أرطال، رجع إلى الباقي، و يُضارب بربع الثمن للذاهب(2) ، و لا عبرة بنقصان قيمة المغليّ، كما إذا عادت قيمته إلى درهمين.

و إن زادت قيمته بأن صارت أربعةً، بني على أنّ الزيادة الحاصلة بالصنعة أثرٌ أو عينٌ؟

إن قلنا: إنّه أثر، فإنّه للبائع بما زاد.

و إن قلنا: عينٌ، قال بعض الشافعيّة: إنّه كالأوّل(3).

و عن بعضهم: أنّ المفلس يكون شريكاً بالدراهم الزائدة(4).

و إن بقيت القيمة ثلاثة كما كانت، فيكون بقاؤها بحالها مع نقصان بعض العين؛ لازدياد الباقي بالطبخ، فإن جعلنا هذه الزيادة أثراً، فاز البائع بها.

و إن جعلناها عيناً، فكذلك عند بعض الشافعيّة(5).

و قال غيره: يكون المفلس شريكاً بثلاثة أرباع درهم، فإنّ هذا القدر هو قسط الرطل الذاهب، و هو الذي زاد بالطبخ في الباقي(6).

مسألة 358: لو كان المبيع داراً فانهدمت و لم يهلك شيء من النقْض، فقد أتلف(3) صفة، كعمى العبد و نحوه.».

ص: 117


1- العزيز شرح الوجيز 45:5، روضة الطالبين 393:3.
2- في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «الذاهب». و الظاهر ما أثبتناه. (3-6) العزيز شرح الوجيز 45:5، روضة الطالبين 393:3.
3- هكذا قوله: «فقد أتلف». و الظاهر أنّ بدلها: «فهو تلف» أو «فقد تلف».

و لو هلك بعضه باحتراقٍ و غيره، فهو تلف عين.

و للشافعيّة خلاف هنا مبنيّ على تلف سقف الدار المبيعة قبل القبض أنّه كالتعيّب أو تلف أحد العبدين ؟(1).

مسألة 359: قد ذكرنا أنّه إذا نقصت ماليّة المبيع بذهاب صفة مع بقاء عينه

- كهزال العبد، أو نسيانه صنعةً، أو كبره، أو مرضه، أو تغيّر عقله، أو كان ثوباً فخَلِق - لم يمنع الرجوع؛ لأنّ فقد الصفة لا يُخرجه عن كونه عين ماله، لكن يأخذ العين بتمام الثمن، أو يترك و يضرب مع الغرماء بالثمن؛ لأنّ الثمن لا يتقسّط على صفة السلعة من سمن أو هزال أو علمٍ فيصير كنقصه؛ لتغيّر السعر.

و لو كان المبيع أمةً ثيّباً فوطئها المشتري و لم تحمل، فله الرجوع؛ لأنّها لم تنقص في ذات و لا صفة.

و إن كانت بكراً، فكذلك عندنا و عند الشافعي و أحمد في إحدى الروايتين(2) ؛ لأنّ الذاهب صفة، لا عين و لا جزء عين.

و في الأُخرى: لا يرجع؛ لأنّه أذهب منها جزءً، فأشبه ما لو فقأ عينها(3). و عنده أنّ فوات الجزء مبطل للرجوع(2).

مسألة 360: لو كان المبيع عبداً فجرح، كان له الرجوعُ فيه عندنا

و عند الشافعي و أحمد في إحدى الروايتين(3) ؛ لأنّه فقد صفة، فأشبه نسيان الصنعة و خلق الثوب.4.

ص: 118


1- العزيز شرح الوجيز 46:5، روضة الطالبين 393:3. (2 و 3) المغني 499:4، الشرح الكبير 518:4.
2- المغني 498:4، الشرح الكبير 511:4.
3- المغني 500:4، الشرح الكبير 519:4.

و في الأُخرى: لا يرجع؛ لأنّه ذهب جزء ينقص به الثمن، فأشبه ما لو فُقئت عين العبد. و لأنّه ذهب من العين جزء له بدل، فمنع الرجوع، كما لو قُطعت يد العبد. و لأنّه لو كان نقص صفةٍ، لم يكن للبائع مع الرجوع بها شيء سواه، كما في هزال العبد و نسيان الصنعة، و هنا بخلافه. و لأنّ الرجوع في المحلّ المنصوص عليه يقطع النزاع، و يزيل المعاملة بينهما، و لا يثبت في محلٍّ لا يحصل منه هذا المقصود(1).

و نمنع ذهاب الجزء. سلّمنا، لكن نمنع صلاحيّته للمنع من الرجوع في العين.

إذا عرفت أنّ له الرجوعَ في العين، فليُنظر إلى الجرح، فإن لم يكن له أرش - كالحاصل من فعله تعالى أو فعل بهيمة أو فعل المشتري أو جناية عبده أو جناية العبد على نفسه - فليس له مع الرجوع أرش.

و إن أوجب أرشاً - كجناية الأجنبيّ - فللبائع إذا رجع أن يضرب مع الغرماء بحصّة ما نقص من الثمن، فينظر كم نقص من قيمته ؟ فيرجع بقسط ذلك من الثمن؛ لأنّه مضمون على المشتري للبائع بالثمن.

لا يقال: هلاّ جعلتم له الأرش الذي وجب على الأجنبيّ؟

لأنّا نقول: لمّا أتلفه الأجنبيّ صار مضموناً بإتلافه للمفلس، و كان الأرش له، و هو مضمون على المفلس للبائع بالثمن، فلا يجوز أن يضمنه بالأرش، و إذا لم يتلفه أجنبيّ، فلم يكن مضموناً، فلم يجب بفواته شيء.

لا يقال: هلاّ كان هذا الأرش للمشتري ككسبه لا يضمنه للبائع ؟

لأنّا نقول: الكسب بدل منافعه، و منافعه مملوكة للمشتري بغير4.

ص: 119


1- المغني 500:4، الشرح الكبير 519:4.

عوضٍ، و هذا بدل جزء من العين، و العين ضمنها جميعاً بالعوض، فلهذا ضمن ذلك للمشتري.

القسم الثاني التغيّر بالزيادة
اشارة

القسم الثاني(1): التغيّر بالزيادة.

اعلم أنّ التغيّر بالزيادة نوعان:

أحدهما: الزيادات الحاصلة لا من خارجٍ، و أقسامه ثلاثة:

أحدها: الزيادة المتّصلة من كلّ وجهٍ،

كالسمن، و تعلّم الحرفة، و كبر الشجر.

و الأقرب عندي: أنّه ليس للغرماء الرجوعُ في العين - و به قال أحمد ابن حنبل(2) - لما فيه من الإضرار بالمفلس؛ لأنّها زيادة قد حصلت في ملكه، فلا وجه لأخذ الغرماء لها.

و لأنّه فسخ بسببٍ حادث، فلم يملك به الرجوع في عين المال الزائد زيادة متّصلة، كالطلاق، فإنّه ليس للزوج الرجوعُ في عين ما دفعه من المهر مع زيادته المتّصلة.

و لأنّها زيادة في ملك المفلس، فلا يستحقّها البائع، كالمنفصلة، و كالحاصلة بفعله.

و لأنّ الزيادة لم تصل إليه من البائع، فلم يكن له أخذها منه، كغيرها من أمواله.

و قال الشافعي و مالك: لا يبطل رجوع البائع في العين بسبب الزيادة المتّصلة، بل يثبت له الرجوعُ فيها إن شاء من غير أن يلتزم للزيادة شيئاً

ص: 120


1- الظاهر: «الثالث».
2- الكافي في فقه الإمام أحمد 102:2، المغني 505:4، الشرح الكبير 516:4.

- إلاّ أنّ مالكاً خيّر الغرماء بين أن يعطوه السلعة أو ثمنها الذي باعها به - للخبر(1).

و لأنّه فسخ لا تمنع منه الزيادة المنفصلة فلا تمنعه المتّصلة، كالردّ بالعيب.

و فارقَ الطلاق؛ فإنّه ليس بفسخ، و لأنّ الزوج يمكنه الرجوع في قيمة العين، فيصل إلى حقّه تامّاً، و هنا لا يمكنه الرجوع في الثمن(2).

و الخبر لا يدلّ على صورة النزاع؛ لأنّه وجد أزيد من عينه التي وقع العقد عليها.

و الفرق واقع بين صورة النزاع و بين الردّ بالعيب؛ لأنّ الفسخ فيه من المشتري، فهو راضٍ بإسقاط حقّه من الزيادة و تركها للبائع، بخلاف المتنازع. و لأنّ الفسخ هناك لمعنى قارَن العقدَ، و هو العيب القديم، و الفسخ هنا لسببٍ حادث، فهو أشبه بفسخ النكاح الذي لا يستحقّ به استرجاع العين الزائدة.

و قولهم: «إنّ الزوج إنّما لم يرجع في العين؛ لكونه يندفع عنه الضرر بالقيمة» لا يصحّ؛ فإنّ اندفاع الضرر عنه بطريقٍ آخَر لا يمنعه من أخذ حقّه من العين، و لو كان مستحقّاً للزيادة، لم يسقط حقّه منها بالقدرة على أخذ القيمة، كمشتري المعيب.

ثمّ كان ينبغي أن يأخذ قيمة العين زائدةً؛ لكون الزيادة مستحقّةً له،4.

ص: 121


1- راجع الهامش (3) من ص 114.
2- المهذّب - للشيرازي - 331:1، التهذيب - للبغوي - 88:4، الحاوي الكبير 279:6، الوجيز 174:1، الوسيط 27:4، العزيز شرح الوجيز 46:5، و 296:8، روضة الطالبين 393:3-394، و 612:5-613، الذخيرة 179:8، الكافي في فقه أهل المدينة: 417، المغني 505:4، الشرح الكبير 516:4.

فلمّا لم يكن كذلك علمنا أنّ المانع من الرجوع كون الزيادة للمرأة. و لأنّه لا يمكن فصلها و كذا(1) هنا بل أولى؛ فإنّ الزيادة يتعلّق بها حقّ المفلس و الغرماء، فمنع المشتري من أخذ زيادةٍ ليست له أولى من تفويتها على الغرماء الذين لم يصلوا إلى تمام ديونهم و المفلسِ المحتاج إلى تبرئة ذمّته عند اشتداد حاجته.

تذنيب: لو زاد الصداق زيادةً متّصلة ثمّ أعسرت الزوجة فطلّقها الزوج، فالأقرب عندي: أنّه يرجع في العين،

و يضرب بالقيمة مع الغرماء.

و قال الشافعي: يرجع في نصف العين زائدةً، و لا يضرب بالقيمة مع الغرماء، كما تقدّم.

القسم الثاني: الزيادة المنفصلة من كلّ وجهٍ،

كالولد و اللبن و ثمر الشجرة.

و هنا يرجع البائع في الأصل خاصّةً دون الزوائد، بل تسلم الزوائد للمفلس، و لا نعلم فيه خلافاً - إلاّ من مالك(2) - لأنّه انفصل في ملك المفلس، فلم يكن للبائع الرجوع فيه، كما لو وجد بالمبيع عيباً، فإنّه يردّه، دون النماء المنفصل، كذا هنا.

نعم، لو كان الولد صغيراً، فللشافعيّة وجهان:

أحدهما: أنّه إن بذل قيمته، فذاك، و إلاّ بِيعا معاً، و صَرف ما يخصّ الأُمّ إلى البائع، و ما يخصّ الولد للمفلس(3).

قال بعض الشافعيّة: قد ذكرنا وجهين فيما إذا وجد الأُمّ معيبة و هناك ولد صغير: أنّه ليس له الردّ، و ينتقل إلى الأرش، أو يُحتمل التفريق

ص: 122


1- كذا، و الظاهر: «فكذا» بدل «و كذا».
2- المغني 507:4، الشرح الكبير 518:4.
3- العزيز شرح الوجيز 46:5، روضة الطالبين 394:3.

للضرورة. و فيما إذا رهن الأُمّ دون الولد: أنّهما يباعان معاً، أو يحتمل التفريق، و لم يذكروا فيما نحن فيه احتمال التفريق، و إنّما احتالوا في دفعه، فيجوز أن يقال بخروجه(1) هنا أيضاً، لكنّهم لم يذكروه اقتصاراً على الأصحّ.

و يجوز أن يفرّق بأنّ مال المفلس مبيع كلّه و مصروف إلى الغرماء، فلا وجه لاحتمال التفريق مع إمكان المحافظة على جانب الراجع بكون ملكه مزالاً(2).

مسألة 361: لو كان المبيع بذراً فزرعه المفلس و نبت، أو كان بيضةً فأحضنها و فرخت في يده ثمّ أفلس، لم يكن للبائع الرجوعُ في العين

عندنا؛ لما تقدّم(3) من أنّ الزيادة المتّصلة تمنع من الردّ، فهنا أولى؛ لاشتمالها على تغيّر العين بالكلّيّة، و هو أحد قولي الشافعيّة - و إن كان يذهب إلى أنّ الزيادة المتّصلة لا تمنع من الردّ(4) - لأنّ المبيع قد هلك، و هذا شيء جديد له اسم جديد(5).

و الثاني: أنّه يرجع؛ لأنّه حدث من عين ماله، أو هو عين ماله اكتسب هيئةً أُخرى، فصار كالوديّ(6) إذا صار نخلاً(7)4.

ص: 123


1- أي: خروج التفريق.
2- العزيز شرح الوجيز 46:5، روضة الطالبين 394:3.
3- في ص 120 و ما بعدها.
4- راجع المصادر في الهامش (2) من ص 121.
5- المهذّب - للشيرازي - 331:1، التهذيب - للبغوي - 94:4، الحاوي الكبير 282:6، حلية العلماء 503:4، الوسيط 27:4، العزيز شرح الوجيز 46:5-47، روضة الطالبين 394:3-395، المغني 502:4، الشرح الكبير 513:4.
6- الوديّ: صغار الفسيل، و هو صغار النخل. الصحاح 1790:5، و 2521:6 «فسل، ودى».
7- المهذّب - للشيرازي - 331:1، التهذيب - للبغوي - 94:4، الحاوي الكبير 283:6، حلية العلماء 503:4، الوسيط 27:4-28، العزيز شرح الوجيز 47:5، روضة الطالبين 394:3، المغني 502:4، الشرح الكبير 513:4.

و سيأتي مزيد بحثٍ في باب الغصب إن شاء اللّه تعالى.

و يجري مثل هذا الخلاف في العصير إذا تخمّر في يد المشتري ثمّ تخلّل(1).

مسألة 362: لا فرق في الرجوع بالعين دون الزيادة المنفصلة بين أن تكون الزيادة قد نقص بها المبيع و أن لا تكون،

و لا فرق أيضاً بين أن تزيد قيمة العين لزيادة السوق أو تنقص في جواز الرجوع فيها، و قد بيّنّا أنّ العلماء أطبقوا على أنّ الزيادة للمفلس.

و نُقل عن مالك و أحمد بن حنبل في روايةٍ: أنّ الزيادة للبائع كالمتّصلة(2).

و هو خطأ؛ لأنّها زيادة انفصلت في ملك المشتري، فكانت له.

و لقوله عليه السلام: «الخراج بالضمان»(3) و هو يدلّ على أنّ النماء للمشتري؛ لكون الضمان عليه.

و الفرق بين المتّصلة و المنفصلة ظاهر؛ فإنّ المتّصلة تتبع في الردّ بالعيب، دون المنفصلة، فيبطل القياس.

و لو اشترى زرعاً أخضر مع الأرض ففلس و قد اشتدّ الحَبّ، لم يرجع في العين - عندنا - للزيادة.

و الشافعيّة طرّدوا الوجهين، و بعضهم قطع بالرجوع(4)3.

ص: 124


1- العزيز شرح الوجيز 47:5، روضة الطالبين 395:3.
2- المغنى 507:4، الشرح الكبير 518:4.
3- سنن ابن ماجة 2243/754:2، سنن أبي داوُد 3508/284:3-3510، سنن الترمذي 581:3-1285/582 و 1286، سنن النسائي 255:7.
4- العزيز شرح الوجيز 47:5، روضة الطالبين 395:3.
القسم الثالث: الزيادات المتّصلة من وجه دون وجه.

و ذلك كالحمل. و وجه اتّصاله ظاهر.

و وجه انفصاله أن نقول: إذا حدث الحمل بعد الشراء و انفصل قبل الرجوع، فحكم الولد ما تقدّم من أنّه للمشتري خاصّةً.

و إن كانت حاملاً عند الشراء و عند الرجوع جميعاً، فهو كالسمن.

و قد بيّنّا أنّ المعتمد عندنا فيه أنّه ليس له الرجوع في العين إن زادت قيمتها بسببه.

و عند الشافعي و مالك يرجع فيها حاملاً؛ لأنّ الزيادة المتّصلة عندهما لا تمنع من الرجوع في العين(1)المهذّب - للشيرازي - 332:1، التهذيب - للبغوي - 90:4، حلية العلماء 508:4، العزيز شرح الوجيز 47:5-48، روضة الطالبين 395:3.(2).

و إن كانت حاملاً عند الشراء و ولدت قبل الرجوع، لم يتعدّ الرجوع إلى الولد عندنا، و هو ظاهر.

و للشافعي قولان مبنيّان على الخلاف في أنّ الولد هل له حكم أم لا؟ فإن قلنا: له حكم، رجع فيهما، كما لو اشترى شيئين. و إن قلنا: لا حكم له، لم يرجع في الولد، و كان الحكم كما لو باعها حاملاً(2).

و ربما يوجّه قولُ التعدّي إلى الولد: بأنّه كان موجوداً عند العقد، ملكه المشتري بالعقد، فوجب أن يرجع إلى البائع بالرجوع، و قولُ المنع:

بأنّه ما لم ينفصل تابع ملحق بالأعضاء، فكذلك تبع في البيع، أمّا عند

ص: 125


1- المهذّب - للشيرازي - 332:1، التهذيب - للبغوي - 90:4، حلية العلماء 508:4، العزيز شرح الوجيز 47:5، روضة الطالبين 395:3، و لاحظ المصادر في الهامش
2- من ص 124، و كذا الهامش (2) من ص 121 أيضاً.

الرجوع فهو مشخّص مستقلّ بنفسه منفرد بالحكم، و كأنّه وُجد حين استقلّ.

و إن كانت حائلاً عند الشراء و حملت(1) عند الرجوع، لم يكن له الرجوعُ عندنا إن زادت قيمتها بالحمل.

و مَنْ جوّز الرجوع مع الزيادة المنفصلة - و هو الشافعي - فعنده قولان موجّهان بطريقين:

أشهرهما: البناء على أنّ الحمل هل يُعرف و له حكم ؟ إن قلنا: لا، أخذها مع الحمل. و إن قلنا: نعم، قال بعضهم: إنّه لا رجوع له، و يُضارب الغرماء بالثمن(2).

و الأصحّ عندهم: أنّ له الرجوع إلى الولد؛ لأنّ الولد تبع الجارية حال البيع، فكذا حال الرجوع(3).

و وجه المنع: أنّ البائع يرجع إلى ما كان عند البيع أو حدث فيه من الزيادة المتّصلة، و لم يكن الحمل موجوداً، و لا يمكن عدّه من الزيادات المتّصلة؛ لاستقلاله و انفراده بكثير من الأحكام.

ثمّ قضيّة المأخذ الأوّل أن يكون الأصحّ اختصاصَ الرجوع بالأُمّ؛ لأنّ الأصحّ أنّ الحمل يُعلم و له حكم، إلاّ أنّ أكثر الشافعيّة مالوا إلى ترجيح القول الآخَر(4)5.

ص: 126


1- في «ج» و الطبعة الحجريّة: «حاملاً... أو حملت». و في «ث، ر»: «حاملاً...» و الصحيح ما أثبتناه.
2- التهذيب - للبغوي - 90:4، العزيز شرح الوجيز 48:5، روضة الطالبين 395:3.
3- راجع: العزيز شرح الوجيز 48:5.
4- العزيز شرح الوجيز 48:5.

و إذا قلنا باختصاص الرجوع بالأُمّ، فقد قال بعض الشافعيّة: يرجع فيها قبل الوضع، فإذا ولدت، فالولد للمفلس(1).

و قال بعضهم: يصبر إلى انفصال الولد، و لا يرجع في الحال، ثمّ الاحتراز عن التفريق [طريقه](1) ما تقدّم(3).

مسألة 363: لو كان المبيع نخلاً، فلا يخلو إمّا أن يكون عليها ثمرة حال البيع، أو لا،

فإن كان فلا يخلو إمّا أن تكون الثمرة مؤبَّرةً حال البيع، أو لا.

فإن كانت مؤبَّرةً حال البيع، فهي للبائع، إلاّ أن يشترطها المشتري، فإن اشترطها، دخلت في البيع.

فإذا أفلس و فسخ، فإمّا أن تكون الثمرة باقيةً أو تلفت.

فإن كانت باقيةً، فإن لم تزد، كان له الرجوع في النخل و الثمرة معاً.

و إن زادت، ففي الرجوع مع الزيادة المتّصلة الخلافُ السابق، فإن قلنا به، رجع فيهما معاً أيضاً. و إن منعناه، رجع في النخل خاصّةً بحصّته من الثمن، دون الثمرة.

و إن تلفت، رجع في النخل، و ضرب بقيمة الثمرة مع الغرماء.

و إن لم تكن مؤبَّرةً حال البيع، فحالة الرجوع إمّا أن تكون مؤبَّرةً أو لا.

فإن كانت مؤبَّرةً، لم تدخل في الرجوع - عندنا - للزيادة التي حصلت بين الشراء و الرجوع.

و مَنْ أثبت الرجوع مع الزيادة المتّصلة - كالشافعي - فله طريقان:

ص: 127


1- ما بين المعقوفين من المصدر.

أحدهما: أنّ أخذ البائع الثمرة على القولين في أخذ الولد إذا كانت حاملاً وقت البيع و وضعت قبل الرجوع.

و قد ذكرنا أنّ في الرجوع في الولد له قولين، فكذا في الثمرة.

و الطريق الثاني: القطع بأنّه يأخذ الثمرة هنا؛ لأنّها و إن كانت مستترةً فهي مشاهَدة موثوق بها قابلة [للإفراد](1) بالبيع، فكانت أحد مقصودي العقد، فيرجع فيها رجوعه في النخل.

و الحاصل: أن نقول: إن قلنا: يأخذ الولد، فالثمرة أولى بالأخذ، و إلاّ فقولان(2).

و إن لم تكن مؤبَّرةً حال الرجوع أيضاً، فإن زادت فيما بين الشراء و الرجوع، لم يكن له الرجوع عندنا. و إن لم تزد أو زادت عند مَنْ يُجوّز الرجوع، كان له الرجوع فيهما معاً.

و إن كانت الثمرة غير موجودة حال البيع ثمّ ظهرت و أفلس بعد ظهورها، فإن رجع و عليها الثمرة، فإمّا أن تكون مؤبَّرةً أو غير مؤبَّرة.

فإن كانت مؤبَّرةً أو مدركةً أو مجذوذةً، لم يكن له الرجوع في الثمرة قطعاً؛ لأنّها نماء حصلت للمشتري على ملكه، فلا يزول عنه، إلاّ بسببٍ، و لم يوجد المزيل.

و لا فرق بين أن يفلس قبل التأبير أو بعده، فإذا أفلس قبل أن تؤبَّر فلم يرجع فيها حتى أُبّرت، لم يكن له الرجوع في الثمرة؛ لأنّ العين لا تنتقل إلى البائع إلاّ بالفلس و الاختيار لها، و هذا لم يخترها إلاّ بعد أن3.

ص: 128


1- بدل ما بين المعقوفين فيما عدا «ث»: «للإقرار». و في «ث»: «للابراز». و كلاهما تصحيف. و الصحيح ما أثبتناه.
2- العزيز شرح الوجيز 49:5، روضة الطالبين 396:3.

حصل التأبير، فلم تتبعها في الفسخ.

و إن كانت الثمرة عند الرجوع غير مؤبَّرة، لم يكن له الرجوع فيها؛ لأنّها نماء حصل على ملكه، و دخول الطلع غير المؤبَّر في البيع لا يقتضي دخوله في الرجوع، و لا يسقط رجوعه في عين النخل.

و للشافعي قولان:

هذا أحدهما؛ لأنّ الطلع يصحّ إفراده بالبيع، فلا يجعل تبعاً، كالثمار المؤبَّرة، بخلاف البيع؛ لأنّه أزال ملكه باختياره، و هنا بغير اختياره.

و الثاني: أنّه يأخذه مع النخل؛ لأنّه تبع في البيع، فكذلك في الفسخ، كالسمن(1).

و فيه طريقة أُخرى للشافعيّة: أنّه لا يأخذ الطلع؛ للوثوق به، و استقلاله في البيع، بخلاف البيع(2) على ما تقدّم.

و بالجملة، كلّ موضعٍ أزال ملكه باختياره على سبيل العوض يتبع الطلع، و كلّ موضعٍ زال بغير اختياره، فهل يتبع ؟ قولان، كالردّ بالعيب، و الأخذ بالشفعة.

و كذا إذا زال بغير عوض باختياره و بغير اختياره على القولين، كالهبة و الرجوع فيها، فإنّ فيها قولين للشافعي(3).

إذا عرفت هذا، فلو باع نخلاً قد [أطلعت](1) و لم تؤبَّر، فإنّها تدخل في البيع، فإن أفلس بعد تلف الثمرة أو تلف بعضها أو بعد بدوّ صلاحها، لم يكن له الرجوعُ في البيع عند أحمد؛ لأنّ تلف بعض المبيع أو زيادتهق.

ص: 129


1- بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «أطلع». و ما أثبتناه يقتضيه السياق.

زيادة متّصلة يمنع من الرجوع، و هنا الثمرة دخلت في البيع، فكأنّ المبيع شيء واحد، فإذا تلفت أو بدا صلاحها، يكون المبيع قد تلف بعضه أو زاد، فلا رجوع(1).

أمّا لو كانت الثمرة مؤبَّرةً وقت البيع فشرطها ثمّ أتلفها بالأكل أو تلفت بجائحة ثمّ أفلس، فإنّه يرجع في الأصل، و يُضارب بالثمرة؛ لأنّهما عينان بِيعا معاً.

قال: و لو باعه نخلاً لا ثمرة عليه فأطلعت و [أفلس](2) قبل تأبيرها، فالطلع زيادة متّصلة تمنع الرجوع - عنده - في النخل(3).

و ليس بصحيح؛ لأنّ للثمرة حكماً منفرداً يمكن بيعها منفردةً، و يمكن فصله، و يصحّ إفراده بالبيع، فهو كالمؤبَّرة، بخلاف الثمن.

و عنه رواية أُخرى: أنّه يرجع البائع في الثمرة أيضاً، كما لو فسخ بعيب(4). و هذا كقول الشافعي(5).

و لو أفلس بعد التأبير، لم يمنع من الرجوع في النخل إجماعاً، و الطلع للمشتري عند أحمد(6).

و لو أفلس و الطلع غير مؤبَّر فلم يرجع حتى أُبّر، لم يكن له الرجوعُ عنده(7)، كما لو أفلس بعد [تأبيرها](3).

فإن ادّعى البائع الرجوعَ قبل التأبير، و أنكره المفلس، قُدّم قوله معق.

ص: 130


1- المغني 509:4، الشرح الكبير 524:4.
2- بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «فلس». و الظاهر ما أثبتناه. (3-5) المغني 509:4، الشرح الكبير 524:4. (6 و 7) المغني 509:4، الشرح الكبير 525:4.
3- بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «ثمرتها». و ما أثبتناه يقتضيه السياق.

اليمين؛ لأصالة بقاء ملكه، و عدم زواله.

و لو قال البائع: بعت بعد التأبير، و قال المفلس: قبله، قُدّم قول البائع؛ لهذه العلّة.

فإن شهد الغرماء للمفلس، لم تُقبل شهادتهم؛ لأنّهم يجرّون إلى أنفسهم نفعاً.

و إن شهدوا للبائع، قُبلت مع عدالتهم؛ لعدم التهمة.

مسألة 364: قد بيّنّا أنّه إذا باع النخل و لا حمل له

ثمّ أطلع عند المشتري ثمّ جاء وقت الرجوع و هي غير مؤبَّرة، فإنّ الثمرة للمفلس، دون البائع، و هو أحد قولي الشافعي(1).

و نقل المزني و حرملة عنه أنّه يأخذ الثمرة مع النخل؛ لأنّه تبع في البيع، فكذا في الفسخ(2).

فعلى قوله لو جرى التأبير و فسخ البائع ثمّ قال البائع: فسخت قبل التأبير فالنماء لي، و قال المفلس: بل بعده، قُدّم قول المفلس مع يمينه؛ لأصالة عدم الفسخ حينئذٍ، و بقاء الثمار له(3).

و للشافعيّة وجهٌ آخَر: أنّ القولَ قولُ البائع؛ لأنّه أعرف بتصرّفه(4).

و خرّج بعضهم قولاً: إنّ المفلس يُقبل قوله من غير يمين، بناءً على أنّ النكول و ردّ اليمين كالإقرار، فإنّه لو أقرّ لما قُبل إقراره(3)

ص: 131


1- الحاوي الكبير 284:6، حلية العلماء 504:4، التهذيب - للبغوي - 91:4، العزيز شرح الوجيز 49:5، روضة الطالبين 396:3.
2- الحاوي الكبير 283:6-284، حلية العلماء 505:4، التهذيب - للبغوي - 91:4، العزيز شرح الوجيز 49:5، روضة الطالبين 396:3. (3 و 4) العزيز شرح الوجيز 49:5، روضة الطالبين 396:3.
3- العزيز شرح الوجيز 49:5-50، روضة الطالبين 396:3.

و إنّما يحلف على نفي العلم بسبق الفسخ على التأبير، لا على نفي السبق، فإذا حلف، بقيت الثمار له.

و إن نكل، فهل للغرماء أن يحلفوا؟ فيه ما تقدّم(1) من الخلاف فيما إذا ادّعى المفلس دَيْناً و أقام شاهداً و لم يحلف معه، هل يحلف الغرماء؟ فإن قلنا: لا يحلفون، أو قلنا: يحلفون فنكلوا، عُرضت اليمين على البائع، فإن نكل، فهو كما لو حلف المفلس.

و إن حلف فإن جعلنا اليمين المردودة بعد النكول كالبيّنة، فالثمار له.

و إن جعلناه كالإقرار، فيخرّج على قولين في قبول إقرار المفلس في مزاحمة المُقرّ له الغرماء، فإن لم نقبله، صُرفت الثمار إلى الغرماء، كسائر الأموال. و إن فضل شيء، أخذه البائع بحلفه.

هذا إذا كذّب الغرماء البائعَ كما كذّبه المفلس، و إن صدّقوه، لم يُقبل إقرارهم على المفلس، بل إذا حلف، بقيت الثمار له.

و ليس [لهم](2) المطالبة بقسمتها؛ لأنّهم يزعمون أنّها ملك البائع لا ملكه.

و ليس له التصرّف فيها؛ للحجر، و احتمالِ أن يكون له غريمٌ آخَر.

نعم، له إجبارهم على أخذها إن كانت من جنس حقوقهم، أو إبراء ذمّته عن ذلك القدر، كما لو جاء المكاتَب بالنجم، فقال السيّد: إنّه حرام، أو مغصوب، لم يُقبل منه في حقّ المكاتَب، و يقال له: خُذْه، أو أبرئه عنه.

و كذا لو دفع المديون دَيْنه إلى صاحبه، فقال: لا أقبضه؛ لأنّه حرام.

و له تخصيص بعض الغرماء به؛ لانقطاع حقّ الباقين عنه، فإمّا أنه.

ص: 132


1- في ص 38، المسألة 286.
2- بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «له». و الصحيح ما أثبتناه.

يقبضه أو يُبرئه.

و للشافعيّة وجهٌ: أنّهم لا يُجبرون على أخذها، بخلاف المكاتَب؛ لأنّه يخاف العود إلى الرقّ لو لم يؤخذ منه، و ليس على المفلس كثير ضرر(1).

فإذا أُجبروا على أخذها فأخذوها، فللبائع أخذها منهم؛ لإقرارهم أنّها له، و يجب عليهم الدفع إليه لو لم يطلبها، كما لو أقرّوا بعتق عبدٍ في ملك غيرهم ثمّ اشتروه منه.

و إن لم يُجبروا و قسّم سائر أمواله، فله طلب فكّ الحجر إن قلنا بتوقّف الرفع على إذن الحاكم.

و لو كانت من غير جنس حقوقهم فدفعها المفلس إليهم، كان لهم الامتناع؛ لأنّه إنّما يلزمهم الاستيفاء من جنس ديونهم، إلاّ أن يكون منهم مَنْ له من جنس الثمرة، كالقرض و السَّلَم، فيلزمه أخذ ما عرض عليه إذا كان بعض حقّه.

و لو لم يكن من جنس حقّ أحدٍ منهم فبِيعت و صُرف ثمنها إليهم تفريعاً على الإجبار، لم يكن للبائع الأخذ منهم؛ لأنّهم لم يُقرّوا له بالثمن، و عليهم ردّه إلى المشتري، فإن لم يأخذه(2) ، فهو مالٌ ضائع.

و لو شهد بعض الغرماء أو أقرّ بعضهم دون بعضٍ، لزم الشاهد أو المُقرّ الحكم الذي ذكرناه.

و لو كان في المُصدّقين عدْلان شهدا للبائع على صفة الشهادة و شرطها أو عدْلٌ واحد و حلف البائع معه، قُبلت الشهادة، و قضي له إن شهد الشهوده.

ص: 133


1- العزيز شرح الوجيز 50:5، روضة الطالبين 397:3.
2- في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «لم يأخذ». و الظاهر ما أثبتناه.

قبل تصديق البائع أو بعده و قلنا: إنّهم لا يُجبرون على أخذ الثمرة، و إلاّ فهُمْ يرفعون(1) الضرر عن أنفسهم بشهادتهم؛ إذ يُجبرون على أخذها و يضيع عليهم بأخذ البائع.

و لو صدّق بعضُ الغرماء البائعَ و كذّبه بعضُهم، فللمفلس تخصيص المكذّبين بالثمار.

و لو أراد قسمتها على الجميع، فالأقرب: أنّه ليس له ذلك؛ لأنّ مَنْ صدّق البائعَ يتضرّر بالأخذ؛ لأنّ للبائع أخذ ما أخذه منه، و المفلس لا يتضرّر بأن لا يصرف إليه، لإمكان الصرف إلى المكذّبين، بخلاف ما إذا صدّقه الكلُّ، و هو أحد قولي الشافعي.

و الثاني: أنّه له ذلك، كما إذا صدّقوه جميعاً(2).

إذا عرفت هذا، فإذا صرف إلى المكذّبين و لم يف بحقوقهم، فيضاربون المصدّقين في سائر الأموال ببقيّة ديونهم مؤاخذةً لهم بزعمهم، أو بجميع ديونهم؛ لأنّ زَعْم المصدّقين أنّ شيئاً من دَيْن المكذّبين لم يتأدّ؟ للشافعيّة وجهان، أظهرهما عندهم: الأوّل(3).

و جميع ما ذكرناه فيما إذا كذّب المفلس للبائع، أمّا لو صدّقه المفلس على سبق الفسخ للتأبير، نُظر فإن صدّقه الغرماء أيضاً، قضي له.

و إن كذّبوه و زعموا أنّه أقرّ عن مواطأة جرت بينهما، فعلى القولين الجاريين فيما لو أقرّ بعين مالٍ أو بدَيْن لغيره، فإن قلنا: لا نفوذ؛ لأنّ حقوق الغرماء تعلّقت بالثمن ظاهراً، فلم يُقبل إقراره، كما لو أقرّ بالنخل، فللبائع تحليف الغرماء على أنّهم لا يعرفون فسخه قبل التأبير.3.

ص: 134


1- الظاهر: «يدفعون». (2 و 3) العزيز شرح الوجيز 51:5، روضة الطالبين 398:3.

و منهم مَنْ قال: هو على القولين السابقين(1) في أنّ الغرماء هل يحلفون إذا ادّعى حقّاً و أقام شاهداً و لم يحلف ؟

و الأوّل أصحّ عندهم؛ لأنّ اليمين هنا وجبت عليهم ابتداءً، و ثَمَّ ينوبون عن المفلس، و اليمين لا تجري فيها النيابة(2).

و في مسألتنا: الأصل أنّ هذا الطلع قد تعلّقت حقوقهم به؛ لكونه في يد غيرهم و متّصل، فعليه التخلية، و البائع يدّعي ما يزيل حقوقهم عنه، فأشبه سائر أعيان ماله.

و ما به النظر في انفصال الجنين و في ظهور الثمار بالتأبير إلى حال الرجوع دون الحجر؛ لأنّ ملك المفلس باقٍ إلى أن يرجع البائع.

مسألة 365: لو كان المبيع أرضاً، فإن كانت بيضاء، كان له الرجوعُ عند الإفلاس بها.

فإن زرع المشتري الأرضَ قبل الحجر، كان له الرجوعُ في الأرض، و الزرع للمفلس؛ لأنّه عين ماله، و ليس الزرع ممّا يتبع الأرض في البيع فأولى أن لا يتبعها في الفسخ.

و كذا لو باعه حائطاً لا ثمر فيه ثمّ أفلس و قد أُبّرت النخلة، لم يكن له الرجوعُ في الثمرة؛ لأنّها لا تتبع الأصل في البيع، فكذا في الفسخ.

إذا ثبت هذا، فإنّه ليس لبائع الأرض و لبائع النخل المطالبةُ بقلع الزرع و لا قطع الثمرة قبل أوان الجذاذ و الحصاد - و به قال الشافعي و أحمد(3) - لأنّ المشتري زرع في أرضه بحقٍّ، و كذا طلعه على النخل بحقٍّ، فلم يكن لأحدٍ

ص: 135


1- في ص 38-39، ضمن المسألة 286.
2- العزيز شرح الوجيز 51:5، روضة الطالبين 398:3.
3- المهذّب - للشيرازي - 333:1، الحاوي الكبير 283:6-284، التهذيب - للبغوي - 91:4، العزيز شرح الوجيز 52:5، روضة الطالبين 398:3، المغني 510:4، الشرح الكبير 525:4.

مطالبته [بقلعه](1) كما لو باع نخلاً فيه ثمرة ظاهرة أو أرضاً فيها زرع، لم يكن للمشتري مطالبة البائع بقطع الثمرة و الزرع، و كذا هنا، و الأُجرة لصاحب الأرض في ذلك، إلاّ أنّ المشتري زرع في أرضه و الزرع تجب تبقيته، فكأنّه استوفى منفعة الأرض، فلم يكن عليه ضمان ذلك.

لا يقال: أنتم قلتم في المؤجر للأرض: إذا زرعها المستأجر و أفلس، رجع المؤجر في الأرض، و له أُجرة التبقية للزرع، فلِمَ لا يكون لبائع الأرض الأُجرةُ؟

لأنّا نقول: الفرق ظاهر؛ فإنّ المعقود عليه في البيع الرقبةُ، و إنّما يحصل له بالفسخ و إن لم يأخذ الأُجرة، و في الإجارة المنفعةُ، فإذا فسخ العقد فيها، لم يجز أن يستوفيها المستأجر بلا عوضٍ، فإذا لم يتمكّن من استيفائها و لم يمكنه من أخذ بدلها، خلا الفسخ عن الفائدة، و لم يعد إليه حقّه، فلا يستفيد بالفسخ شيئاً.

و لأنّ المستأجر دخل في العقد على أن يضمن المنفعة، فلهذا وجب عليه الأُجرة، بخلاف المتنازع، فإنّ المشتري دخل على أنّه لا يضمن المنفعة، فجرى مجرى البائع للأُصول دون ثمرتها.

و حكى بعض الشافعيّة قولاً: إنّ للبائع طلبَ أُجرة المثل لمدّة بقاء الزرع، كما لو بنى المشتري أو غرس، كان للبائع الإبقاء بأُجرة المثل(2).

إذا ثبت هذا، فإن اتّفق المفلس و الغرماء على تبقيته، كان لهم ذلك.

و إن اختلفوا، فطلب المفلس قطعه، أو طلب الغرماء قطعه، أو3.

ص: 136


1- بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «بفعله». و الصحيح ما أثبتناه.
2- العزيز شرح الوجيز 52:5، روضة الطالبين 398:3.

بعضهم طلبه، أُجيب مَنْ طلب القطع على إشكال؛ لما في التبقية من الغرور، و مَنْ طلب قطعه أراد تعجيل حقّه، و كذا المفلس يريد براءة ذمّته، فأُجيب إلى ذلك.

و يُحتمل إجابة مَنْ طلب ما فيه الحظّ، فيُعمل عليه.

و هو حسن - و كلاهما قولان للشافعيّة(1) - لأنّ النفع متوقّع، و لهذا جاز لوليّ الطفل الزرع له.

مسألة 366: لو باعه أرضاً و فيها بذر مودع، فإن باعها مطلقاً، لم يدخل البذر في البيع؛ لأنّه مودع فيها.

و إن باعها مع البذر، فإن قصد التبعيّة، جاز، و إلاّ بطل؛ لأنّ بعض المبيع المقصود مجهول، فلا يصحّ بيعه.

و إن باع الأرض و شرط البذر أو قصد التبعيّة، دخل في البيع.

فإذا أفلس المشتري بعد ما استحصد و اشتدّ حَبُّه أو كان قد حصده و ذرّاه(2) و نقّاه، لم يكن لصاحب الأرض أن يرجع فيه - [و هو أحد الوجهين للشافعيّة](3)(4) - لأنّ هذا الزرع أعيان ابتدأها اللّه تعالى، و لم يكن موجوداً حال البيع.

و الثاني: أنّ [له الرجوعَ؛ لأنّ](5) ذلك(6) من نماء الزرع، فهو كالطلع

ص: 137


1- العزيز شرح الوجيز 36:5، روضة الطالبين 388:3، المغني 510:4، الشرح الكبير 526:4.
2- ذروت الحنطة و ذرّيتها: نقّيتها في الريح. لسان العرب 283:14 «ذرا».
3- ما بين المعقوفين أضفناه لأجل السياق.
4- العزيز شرح الوجيز 47:5، روضة الطالبين 394:3، المغني 502:4، الشرح الكبير 513:4.
5- ما بين المعقوفين أضفناه لأجل السياق.
6- في «ج، ر» و الطبعة الحجريّة زيادة: «ممّا». و الظاهر زيادتها.

يصير تمراً، و لهذا لو غصب رجلاً حَبّاً فبذره في ملكه و استحصد، كان لصاحب البذر دون صاحب الأرض، و كذا البيض لو صار فرخاً(1).

و الفرق بين الغاصب و المتنازع ظاهر.

مسألة 367: لو كانت الثمرة مؤبَّرةً حال البيع و شرطها في البيع، كانت جزءاً من المبيع
اشارة

يتقسّط الثمن عليها و على الأُصول، فإذا أفلس المشتري و تلفت الثمرة بأكله أو بجائحة أو بأكل أجنبيّ، فقد بيّنّا أنّ للبائع أخذَ الشجر بحصّته من الثمن، و يُضارب مع الغرماء بحصّة الثمرة.

و سبيل التوزيع أن تُقوَّم الأشجار و عليها الثمار، فإذا قيل: قيمتها مائة، قُوّمت الأشجار وحدها، فإذا قيل: قيمتها تسعون، علمنا أنّ قيمة الثمرة عشرة، فيضارب بعُشْر الثمن.

فإن اتّفق في قيمتها انخفاض و ارتفاع، فالاعتبار في قيمة الثمار بالأقلّ من قيمتي وقت العقد و يوم القبض؛ لأنّها إن كانت يوم القبض أقلَّ [فما نقص](2) قبله فهو من ضمان البائع، فلا يُحسب على المشتري.

و إن كانت يوم العقد أقلَّ، فالزيادة حصلت في ملك المشتري و تلفت، فلا تعلّق للبائع بها.

نعم، لو كانت العين باقيةً، رجع فيها تابعةً للأصل إن لم تحصل زيادة عندنا، و مطلقاً عند الشافعي(3).

[و قال بعض الشافعيّة](4): الاعتبار في قيمته يومَ القبض، و احتسب

ص: 138


1- نفس المصادر في الهامش (4) من ص 137.
2- بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «ممّا قبض». و الصحيح ما أثبتناه.
3- العزيز شرح الوجيز 52:5.
4- ما بين المعقوفين أضفناه - لاستقامة العبارة - من المصدر.

الزيادة للبائع بعد التلف، كما أنّها لو بقيت العين، لحصلت له(1).

و هذا ظاهر كلام الشافعي(2).

لكن أكثر أصحابه حملوه على ما إذا كانت قيمته يوم القبض أقلّ أو لم تختلف القيمة، فسواء أضفتها(1) إلى هذا اليوم أو ذاك اليوم(2).

و أمّا الأشجار فللشافعيّة وجهان:

أظهرهما: أنّ الاعتبار فيها بأكثر القيمتين؛ لأنّ المبيع بين العقد و القبض من ضمان البائع، فنقصانه عليه، و زيادته للمشتري، ففيما يأخذه البائع [يعتبر](5) الأكثر؛ لكون النقصان محسوباً عليه، كما أنّ فيما يبقى للمشتري و يضارب البائع بثمنه [يعتبر](6) الأقلّ؛ لكون النقصان محسوباً عليه.

و الثاني: أنّ الاعتبار بقيمة يوم العقد، سواء كانت أكثرَ القيمتين أو أقلَّهما.

أمّا إذا كانت أكثرَهما: فلما ذكرنا في الوجه الأوّل.

و أمّا إذا كانت أقلَّهما: فلأنّ ما زاد بعد ذلك من جملة الزيادات المتّصلة، و عين الأشجار باقية، فيفوز بها البائع، و لا تُحسب عليه(3).

قال الجويني: و لصاحب الوجه الأوّل أن يقول: نعم، البائع يفوز بها،3.

ص: 139


1- كذا في النسخ الخطّيّة و الحجريّة. و في المصدر: «فبنوا إضافتها» بدل «فسواء أضفتها».
2- العزيز شرح الوجيز 52:5. (5 و 6) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «تعيّن... بقيمة». و المثبت من المصدر.
3- العزيز شرح الوجيز 52:5-53، روضة الطالبين 399:3.

لكن يبعد أن يفوز بها و هي [حادثة](1) في ملك غيره، ثمّ لا يحتسبها من المبيع، فإذا فاز بها فليقدّر كأنّها وُجدت يوم البيع(2).

و لنذكر مثالاً في اختلاف قيمة الأشجار و الثمار.

فنقول: كانت قيمة الشجرة يوم البيع عشرةً، و قيمة الثمرة خمسةً، فلو لم تختلف القيمة، لأخذ الشجرة بثلثي الثمن(3).

و لو زادت قيمة الثمرة فكانت عشرةً يوم البيع، فكما لو كانت القيمة بحالها على أشهر الوجهين. و على الآخَر: يُضارب بنصف الثمن. و لو نقصت فكانت يوم القبض درهمين و نصفاً، يُضارب بخُمْس الثمن.

و لو زادت قيمة الشجرة أو نقصت، فالحكم على الوجه الثاني كما لو بقيت بحالها. و على الأوّل كذلك إن نقصت. و إن زادت و كانت خمسة عشر، ضارَب بربع الثمن.

تذنيبان:
أ: إذا اعتبرنا في الثمار أقلّ القيمتين، فلو كانتا متساويتين لكن وقع بينهما نقصان،

نُظر إن كان بمجرّد انخفاض السوق، فلا عبرة به. و إن كان لعيبٍ طرأ و زال، فكذلك على الظاهر، كما أنّه يسقط بزواله حقّ الردّ. و إن لم يزل العيب لكن عادت قيمته إلى ما كان بارتفاع السوق، اعتبرت قيمته يوم العيب، دون البيع و القبض؛ لأنّ النقصان الحاصل من ضمان البائع

ص: 140


1- بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «جارية». و المثبت من المصدر.
2- العزيز شرح الوجيز 53:5.
3- في العزيز شرح الوجيز 53:5، و روضة الطالبين 399:3 زيادة: «و ضارب للثمرة بالثلث».

و الارتفاع بعده في ملك المشتري لا يصلح جابراً له.

ب: إن اعتبرنا في الأشجار أكثر القيمتين، فلو كانت قيمة الشجرة يوم العقد مائةً و خمسين،

و يوم الرجوع إلى البائع مائتين، فالوجه القطع باعتبار المائتين. و لو كانت قيمتها مائتين يوم العقد و يوم القبض، و يوم الرجوع مائةً، اعتبر يوم الرجوع، فإنّ ما طرأ من زيادة و زال ليس ثابتاً يوم العقد حتى نقول: إنّه وقت المقابلة، و لا يوم أخذ البائع [حتى](1) يحسب [عليه](2).

و لقائلٍ أن يقول: هذا إن استقام في طرف الزيادة، تخريجاً على ما سبق أنّ ما فاز به البائع من الزيادة الحادثة(3) عند المشتري يُقدَّر كالموجود عند البيع، فلا يستقيم في طرف النقصان؛ لأنّ النقصان الحاصل في يد المشتري كعيبٍ حدث في المبيع.

و إذا رجع البائع على العين المبيعة، لزمه القناعة بها، و لا يطالب المشتري للعيب بشيء.

مسألة 368: قد ذكرنا أوّلاً أنّ الزيادة إمّا أن تكون حاصلةً لا من خارجٍ،

و قد ذكرنا أقسامه و أحكام تلك الأقسام، و إمّا أن تكون من خارجٍ.

و أقسامها ثلاثة:

أ: أن تكون عيناً محضة.

ب: أن تكون صفةً محضة.

ج: ما يتركّب منهما.

ص: 141


1- ما بين المعقوفين يقتضيه السياق.
2- بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «عليك». و الظاهر ما أثبتناه.
3- في «ج»: «الحاصلة» بدل «الحادثة».

أمّا الأوّل فله ضربان:

أ: أن تكون قابلةً للتميّز عن المبيع.

ب: أن لا تكون قابلةً للتميّز.

فالأوّل كما إذا اشترى أرضاً فغرس فيها أو بنى ثمّ أفلس قبل إيفاء الثمن و أراد البائع الرجوعَ في أرضه، فإن اتّفق الغرماء و المفلس على القلع و تفريغ الأرض و تسليمها بيضاء، رجع فيها؛ لأنّ ذلك الحقّ لهم لا يخرج من بينهم، فإذا فعلوا، فللبائع الرجوع في أرضه؛ لأنّه وجد متاعه بعينه.

و هل يرجع قبل القلع أو بعده ؟

قال بعض الحنابلة: لا يستحقّه حتى يوجد القلع؛ لأنّ قبل القلع لم يدرك متاعه إلاّ مشغولاً بملك المشتري(1).

و قال الشافعي: يرجع قبله و هُمْ يشتغلون بالقلع، و هو قول أكثر الحنابلة(2).

و ليس له أن يلزمهم أخذ قيمة الغراس و البناء ليتملّكها مع الأرض.

و إذا قلعوا الغراس و البناء، وجب تسوية الحُفَر من مال المفلس.

و إن حدث في الأرض نقصٌ بالقلع، وجب أرش النقص في ماله.

و يضارب به أو يقدَّم ؟ قال بعض الشافعيّة: يقدَّم على سائر الديون؛ لأنّه لتخليص ماله و إصلاحه، فكان عليه، كما لو دخل فصيلٌ دارَ إنسانٍ فكبر فلم يمكنه إخراجه إلاّ بهدم بابها، فإنّ الباب يُهدم ليخرج، و يضمن صاحبه ما نقص، بخلاف ما لو وجد البائع عين ماله ناقصةً فرجع فيها، فإنّه4.

ص: 142


1- المغني 513:4، الشرح الكبير 529:4.
2- المهذّب - للشيرازي - 332:1، العزيز شرح الوجيز 54:5، روضة الطالبين 400:3، المغني 513:4، الشرح الكبير 529:4.

لا يرجع في النقص؛ لأنّ النقص كان في ملك المفلس، و هنا النقص حدث بعد رجوعه في العين، فلهذا ضمنوه، و يضرب بالنقص مع الغرماء(1).

و إن قلنا: ليس له الرجوع قبل القلع، لم يلزمهم تسوية الحُفَر و لا أرش النقص؛ لأنّهم فعلوا ذلك في أرض المفلس قبل رجوع البائع فيها، فلم يضمنوا النقص، كما لو [قلعه](2) المفلس قبل فلسه.

و لو اختلفوا، فقال المفلس: يقلع، و قال الغرماء: نأخذ القيمة من البائع ليتملّكه، أو بالعكس، أو وقع هذا الاختلاف بين الغرماء، أُجيب مَن المصلحةُ في قوله.

و لو امتنع الغرماء و المفلس معاً من القلع، لم يُجبروا عليه؛ لأنّه حين البناء و الغرس لم يكن متعدّياً بهما، بل فَعَل ذلك بحقٍّ، و مفهوم قوله عليه السلام:

«ليس لعِرْق ظالمٍ حقٌّ»(3) أنّه إذا لم يكن ظالماً، فله حقٌّ.

و حينئذٍ يُنظر إن رجع على أن يتملّك البناء و الغراس مع الأرض بقيمتها، أو يقلع و يغرم أرش النقص، فله ذلك؛ لأنّ الضرر يندفع من الجانبين بكلّ واحدٍ من الطريقين، و الاختيار فيهما إليه.

و ليس للمفلس و لا للغرماء الامتناع من القبول؛ لأنّ مال المفلس معرَّض(4) للبيع، فلا يختلف غرضهم بين أن يتملّكه البائع أو يشتريهه.

ص: 143


1- المهذّب - للشيرازي - 332:1، التهذيب - للبغوي - 93:4، العزيز شرح الوجيز 54:5، روضة الطالبين 400:3، و لاحِظ: المغني 513:4-514، و الشرح الكبير 529:4.
2- بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «قطعه». و الظاهر ما أثبتناه.
3- صحيح البخاري 140:3، سنن أبي داوُد 3073/178:3، سنن الترمذي 1378/662:3، سنن الدار قطني 144/36:3، الموطّأ 26/743:2، مسند أحمد 446:6-22272/447.
4- في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «متعرض». و الظاهر ما أثبتناه.

أجنبيّ، و يخالف هذا ما إذا زرع المشتري الأرض و أفلس(1) و رجع البائع في الأرض حيث لا يتمكّن من تملّك الزرع بالقيمة و لا من القلع و غرامة الأرش؛ لأنّ للزرع أمداً منتظَراً يسهل احتماله، و الغراس و البناء للتأبيد، قال كلَّ ذلك الشافعي(2).

و قال أحمد: إذا بذل البائع قيمة الغرس و البناء ليكون له ذلك، أو قال: أنا أقلع و أغرم الأرش، فإن قلنا: له الرجوع قبل القلع، فله ذلك؛ لأنّ البناء و(3) الغراس حصل في ملكه لغيره بحقٍّ، فكان له أخذه بقيمته، أو قلعه و ضمان نقصه، كالشفيعِ إذا أخذ الأرض و فيها غراس و بناء للمشتري، و المعيرِ إذا رجع في أرضه بعد غرس المستعير. و إن قلنا: ليس له الرجوعُ قبل القلع، لم يكن له ذلك؛ لأنّ المفلس بنى و غرس في ملكه، فلم يُجبر على بيعه لهذا البائع و لا على قلعه، كما لو لم يرجع في الأرض(4).

و ليس عندي بعيداً من الصواب أن يقال: ليس للبائع إجبار المفلس و الغرماء على القلع و دفع الأرش، و لا على دفع قيمة البناء و الغرس، بل إمّا أن يختار العين أو يمضي البيع، فإن اختار العين و فسخ البيع، لم يكن له القلع و لا دفع القيمة، بل يرجع و الأرض مشغولة بهذا البناء و الغراس، فتكون قد تعيّبت بالشغل بهما مؤبّداً، فإن انهدم البناء أو قلع الغرس أو مات، سقط حقّ المفلس، و ليس لصاحب الأرض الرجوعُ بالأُجرة مدّة مقامها(5) فيها؛ لأنّه إنّما يرجع في المعيب ثمّ يباع البناء أو الغراس على».

ص: 144


1- في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «فلس». و الظاهر ما أثبتناه.
2- العزيز شرح الوجيز 54:5-55.
3- الظاهر: «أو» بدل «و».
4- المغني 514:4، الشرح الكبير 530:4.
5- في «ث»: «بقائها». و الظاهر: «مقامهما» أو «بقائهما».

صاحب الأرض أو غيره(1) مستحقَّين للبقاء.

و لأحمد قولٌ آخَر: إنّه يسقط حقّ بائع الأرض من الرجوع فيها؛ لأنّه لم يُدرك البائع متاعَه على وجهٍ يمكنه أخذه منفرداً عن غيره فلم يكن له أخذه، كالحجر و البناء و المسامير في الباب، و كما لو كانت العين مشغولةً بالرهن - و هو قول بعض الشافعيّة - و لأنّ في ذلك ضرراً على المشتري و الغرماء، فإنّه لا يكون له طريق يسلكون منه إلى البناء و الغراس، و لا يزال الضرر بمثله. و لأنّه لا يحصل بالرجوع هنا انقطاع النزاع و الخصومة، بخلاف ما إذا وجدها مفرّغةً(2).

مسألة 369: لو أراد البائع الرجوعَ في الأرض وحدها و إبقاءَ الغراس و البناء للمفلس و الغرماء، أُجيب إلى ذلك،

بل هو الوجه عندنا لو أراد الرجوع في العين على ما تقدّم.

و للشافعي قولان:

أحدهما: أنّه يجاب إلى ذلك، كقولنا.

و الثاني: أنّه ليس له الرجوعُ في الأرض خاصّةً، و إبقاء البناء و الغراس للمفلس.

و لأصحابه طريقان:

أحدهما: أنّ في المسألة قولين:

أحدهما - و هو اختيار المزني -: له [أن](3) يرجع كذلك، كما لو صبغ الثوبَ المشتري ثمّ [أفلس](4) ، رجع(5) البائع في الثوب، و يكون المفلس

ص: 145


1- في «ج، ر»: «أو على غيره».
2- المغني 514:4، الشرح الكبير 530:4-531.
3- ما بين المعقوفين يقتضيه السياق، و كما في «العزيز شرح الوجيز».
4- في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «فلس». و الظاهر ما أثبتناه.
5- في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «و رجع». و المثبت هو الصحيح.

شريكاً معه بالصبغ.

و أصحّهما عنده: المنع؛ لما فيه من الضرر، فإنّ الغراس بلا أرض و البناء بلا مقرّ و لا ممرّ ناقص القيمة، و الرجوع إنّما يثبت لدفع الضرر، فلا يدفع بضرر، بخلاف الصبغ، فإنّ الصبغ كالصفة التابعة للثوب.

و الثاني: تنزيل النصّين على حالين، و له طريقان:

أحدهما: قال بعض الشافعيّة: إنّه حيث قال: «يرجع» أراد ما إذا كانت الأرض كثيرة القيمة، و البناء و الغراس مستحقرين بالإضافة إليها، و حيث قال: «لا يرجع» أراد ما إذا كانت الأرض مستحقرةً بالإضافة إليهما.

و المعنى في الطريقين اتّباع الأقلّ للأكثر.

و منهم مَنْ قال: حيث قال: «يرجع» أراد ما إذا رجع في البياض المتخلّل بين الأبنية و الأشجار، و ضارَب للباقي بقسطه من الثمن، [يُمكّن](1) منه؛ لأنّه ترك بعض حقّه في العين.

فإذا فرّعنا على طريقة القولين، فإن قلنا: ليس له الرجوعُ في الأرض و إبقاء البناء(2) و الغراس للمفلس، فللبائع ترك الرجوع، و يُضارب مع الغرماء بالثمن، أو يعود إلى بذل قيمتهما أو قلعهما و غرامة أرش النقصان، فإن مكّنّاه منه فوافق البائع الغرماء و باع الأرض معهم حين باعوا البناء و الغراس، فذلك.

و إن أبى فهل يُجبر؟ فيه للشافعيّة قولان:».

ص: 146


1- بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «يتمكّن». و الظاهر ما أثبتناه كما في «العزيز شرح الوجيز».
2- فيما عدا «ث» من النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «العين» بدل «البناء».

أحدهما: يُجبر، كما في مسألة الصبغ.

و أصحّهما عندهم: لا يُجبر؛ لأنّ إفراد البناء و الغراس بالبيع ممكن، بخلاف الصبغ.

فإذا لم يوافقهم فباعوا البناء و الغراس، بقي للبائع ولاية التملّك بالقيمة و القلع مع غرامة الأرش، و للمشتري الخيار في المبيع إن كان جاهلاً بحال ما اشتراه(1).

و اعلم أنّ الجويني نقل أربعة أقوال في هذه المسألة.

أ: أن يقال: إنّ البائع فاقد عين ماله، و لا رجوع بحال؛ لأنّ الرجوع في الأرض ينقص قيمة البناء و الغراس.

ب: أنّ الأرض و البناء أو الغراس يُباعان معاً، دفعاً للخُسْران عن المفلس، كما في الثوب المصبوغ.

ج: أنّه يرجع في الأرض، و يتخيّر بين أُمور ثلاثة: إمّا تملّك البناء و الغراس بالقيمة، و إمّا قلعهما مع غرامة أرش النقصان، و إمّا إبقاؤهما بأُجرة المثل تؤخذ من مالكهما(2).

فإذا عيّن واحدةً من هذه الخصال الثلاث فاختار المفلس و الغرماء غيرها أو امتنعوا من الكلّ، فللشافعيّة وجهان في أنّه يرجع إلى الأرض و يقلع مجّاناً، أو يُجبرون على ما عيّنه


1- العزيز شرح الوجيز 55:5، روضة الطالبين 400:3-401.
2- في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «مالكها». و الصحيح ما أثبتناه، كما في المصدر أيضاً.

د: أنّه إن كانت قيمة البناء أكثر، فالبائع فاقد عينٍ. و إن كانت قيمة الأرض أكثر، فواجدٌ(1).

مسألة 370: لو اشترى من رجل أرضاً فارغة و اشترى من آخَر غرساً و غرسه في تلك الأرض ثمّ أفلس، كان لصاحب الأرض الرجوعُ فيها،

و لصاحب الغراس الرجوعُ فيه.

ثمّ يُنظر فإن أراد صاحب الغراس قلعه، كان له ذلك، و عليه تسويةُ الحُفَر؛ لأنّه لتخليص ماله، و أرشُ نقص الأرض إن حصل نقصٌ.

فإن أراد صاحب الأرض أن يعطيه قيمته إن لم يختر صاحبه قلعه، قال الشافعي: يكون له مطلقاً(2).

و الأقوى عندي: أنّه يكون له ذلك إن رضي صاحب الغرس، و إلاّ فلا.

و إن أراد صاحب الأرض قلعه و يضمن ما نقص، كان له.

و إن أراد قلعه بغير ضمانٍ، فالأقرب: أنّه ليس له ذلك؛ لأنّ غرسه ثابت في الأرض بحقٍّ، فلا يكون له قلعه مجّاناً.

و لو كان الغراس من المفلس، لم يُجبر على قلعه من غير ضمانٍ، و هو أحد وجهي الشافعي.

و الثاني: أنّه يجاب إلى ذلك؛ لأنّه إنّما اشترى منه الغراس مقلوعاً، فكان عليه أن يأخذه كذلك، و ليس له تبقيته في ملك غيره، و يفارق المفلس؛ لأنّه غرسه في ملكه فيثبت حقّه في ذلك(3)

ص: 148


1- العزيز شرح الوجيز 55:5-56، روضة الطالبين 401:3.
2- راجع: الحاوي الكبير 293:6.
3- راجع: الحاوي الكبير 293:6، و العزيز شرح الوجيز 56:5، و روضة الطالبين 401:3.

و يُحتمل عندي وجهٌ آخَر، و هو: أن يقال: صاحب الغراس(1) لا يستحقّ الإبقاء في الأرض، و صاحب الأرض لا يستحقّ القلع مجّاناً؛ لأنّه أثبت بحقٍّ، فيُقوَّم الغراس مقلوعاً و ثابتاً، و يأخذ المفلس التفاوت بينهما؛ لأنّه مستحقّ له.

مسألة 371: قد ذكرنا حكم الزيادة من خارجٍ، القابلة للتميّز، و بقي ما لا يقبله،
اشارة

كمزج ذوات الأمثال بعضها ببعضٍ، مثل أن يشتري صاعاً من حنطةٍ أو شعير أو دخن أو غير ذلك من الحبوب و يمزجه بصاعٍ له، أو يشتري مكيلةً من زيتٍ أو سمن أو شيرج أو غير ذلك من الأدهان ثمّ يمزجه بمكيلة، و كذا جميع ذوات الأمثال إذا امتزجت بحيث لا يمكن تخليص بعضها من بعضٍ، فأقسامه ثلاثة:

أ: أن يكون الممتزجان متماثلين ليس أحدهما أجود من الآخَر،

لم يسقط حقّه من العين - و به قال الشافعي و مالك(2) - و يكون له المطالبة بالقسمة؛ لأنّ عين ماله موجودة فيه، و يمكنه التوصّل إلى حقّه بالقسمة؛ لأنّ الزيت كلّه سواء، فيأخذ حقّه بالكيل أو الوزن.

و قال أحمد: يسقط حقّه من العين؛ لأنّه لم يجد عين ماله، فلم يكن له الرجوعُ، كما لو تلفت. و لأنّ ما يأخذه من غير ماله ممتزجاً بعين ماله(3)

ص: 149


1- في الطبعة الحجريّة: «الغرس».
2- الأُم 203:3، مختصر المزني: 103، الحاوي الكبير 300:6، المهذّب - للشيرازي - 333:1، التهذيب - للبغوي - 97:4، حلية العلماء 513:4، الوجيز 175:1، الوسيط 31:4، العزيز شرح الوجيز 56:5، روضة الطالبين 402:3، المغني 501:4، الشرح الكبير 519:4، التفريع 251:2.
3- في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «ما يأخذه من عين ماله ممتزجاً بغير ماله». و المثبت هو الصحيح.

إنّما يأخذه عوضاً عن ماله، فلم يختصّ به دون(1) الغرماء، كما لو تلف ماله(2).

و يُمنع عدم وجدانه لعين ماله، بل وجدها ممتزجةً بغيرها.

و الفرق بينه و بين التلف ظاهرٌ؛ لأنّه نقيضه.

و ما يأخذه من غير(3) ماله و إن كان عوضاً عن ماله إلاّ أنّه يُدخل بواسطته في حقّ المفلس مالاً، فكان مقدَّماً به على باقي الغرماء.

و إن لم تجز القسمة و طالب(4) بالبيع، فالأقرب أنّه يجاب إلى ذلك؛ لأنّ بالقسمة لا يصل إلى عين ماله، و ربما كان له غرض في أن لا يأخذ من زيت المشتري شيئاً، و هو أحد قولي الشافعي.

و الثاني: أنّه لا يجاب إليه؛ لأنّه يصل إلى جميع حقّه بالقسمة، فهو كجماعةٍ ورثوا زيتاً لا يكون لبعضهم أن يطالب بعضاً بالبيع(5).

و الفرق أنّ الورّاث ملكوا الزيت ممزوجاً، و المفلس كان قد ملك متميّزاً عن ملك البائع، و كذا البائع ملك متميّزاً عن ملك المفلس، فافترقا.

ب: أن يمزجه المشتري بأردأ منه.

و للبائع هنا أيضاً الخيار بين الفسخ(6) فيرجع في عينه بالكيل أو الوزن - و به قال الشافعي و مالك(7) - لما

ص: 150


1- في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «إذن» بدل «دون». و الصحيح ما أثبتناه من المصدر.
2- المغني 501:4، الشرح الكبير 519:4-520.
3- في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «عين» بدل «غير». و الظاهر ما أثبتناه.
4- في الطبعة الحجريّة: «فطالب».
5- المهذّب - للشيرازي - 333:1، الحاوي الكبير 300:6، حلية العلماء 513:4-514، العزيز شرح الوجيز 56:5-57، روضة الطالبين 402:3.
6- كذا قوله: «بين الفسخ». و لعلّها: «في الفسخ».
7- الأُم 203:3، مختصر المزني: 103، الحاوي الكبير 300:6، المهذّب - للشيرازي - 333:1، التهذيب - للبغوي - 97:4، حلية العلماء 514:4، الوجيز 175:1، الوسيط 31:4، العزيز شرح الوجيز 57:5، روضة الطالبين 402:3، المغني 501:4، الشرح الكبير 519:4.

تقدّم في المساوي، فإذا رضي بالأردإ، كان أولى.

و قال أحمد: يسقط حقّه من العين بمجرّد المزج، سواء بالأجود أو الأردأ أو المساوي(1).

و قد تقدّم بطلانه؛ لأنّ عين ماله موجودة من طريق الحكم، فكان له الرجوعُ، كما لو وجد عين ماله منفردة [و] لأنّه ليس فيها أكثر من اختلاطها، و هو لا يُخرج الحقيقة عن حقيقتها، فأشبهت صبغ الثوب و بلّ السويق بالزيت.

و في كيفيّة أخذ حقّه للشافعي طريقان:

أحدهما - و هو الأصحّ عنده و عندي -: أنّه يقسّم بالمكيال أو الوزن، فإن تساويا قدراً، أخذ النصف. و إن تفاوتا، أخذ المقدار(2) الذي له، و إن شاء ضارَب مع الغرماء.

و الثاني: أنّ المكيلين يباعان معاً و يُقسّم الثمن بينهما على قدر القيمتين؛ لأنّه إن أخذ مكيله من الممتزج، نقص حقّه، و لا يجب عليه المسامحة، و إن أخذ أكثر من مكيله، لزم الربا، فعلى هذا لو كان المبيع يساوي درهمين، و الممتزج به يساوي درهماً، قسّم الثمن بينهما أثلاثاً(3).

و هو خطأ؛ لأنّ هذا نقصان حصل في المبيع، فأشبه تعيّب العبد3.

ص: 151


1- المغني 501:4، الشرح الكبير 519:4.
2- في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «مقدار» بدل «المقدار». و الصحيح ما أثبتناه.
3- المهذّب - للشيرازي - 333:1، الحاوي الكبير 301:6، حلية العلماء 514:4، العزيز شرح الوجيز 57:5، روضة الطالبين 402:3.

و الثوب.

ج: أن يمتزج

ج: أن يمتزج(1) بالأجود،

فالأصحّ أنّه يسقط حقّه من العين، و ليس له إلاّ المضاربة بالثمن - قال الشافعي: بهذا أقول، و هو أصحّ الوجهين(2) - لأنّ عين زيته تالفة من طريق المشاهدة و الحكم.

أمّا من طريق المشاهدة و الحقيقة: فللاختلاط.

و أمّا من طريق الحكم: فلأنّه لا يمكنه الرجوع إلى عينه بالقسمة و أخذ المكيل من الممتزج؛ لما فيه من الإضرار بصاحب الأجود، و لا المطالبة بقيمته، بخلاف المساوي، فإنّه يمكنه المطالبة بقسمته فيه، و بخلاف الثوب المصبوغ، فإن عينه موجودة محسوسة، و كذا السويق، فإنّ عينه لم تفقد و هي مشاهدة.

و قال المزني: له الفسخ، و الرجوع إلى حقّه من المخلوط، كالخلط بالمثل و الأردأ، و كما لو صبغ الثوب و لتَّ السويق(3) ، لا ينقطع(4) حقّ الرجوع، فكذا هنا(5).

و الفرق أنّ الزيت إذا اختلط، لم يمكن الإشارة إلى شيء من

ص: 152


1- فيما عدا «ث» من النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «يمزج».
2- الأُم 203:3، مختصر المزني: 103، الحاوي الكبير 301:6، المهذّب - للشيرازي - 333:1، التهذيب - للبغوي - 98:4، حلية العلماء 515:4، الوجيز 175:1، العزيز شرح الوجيز 57:5، روضة الطالبين 402:3، المغني 501:4، الشرح الكبير 519:4.
3- لتّ السويق: أي بلّه بالماء أو بغيره. لسان العرب 82:2 و 83 «لتت».
4- في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «لا يقطع». و الظاهر ما أثبتناه كما في «العزيز شرح الوجيز».
5- مختصر المزني: 103، الحاوي الكبير 301:6، المهذّب - للشيرازي - 333:1، التهذيب - للبغوي - 98:4، حلية العلماء 515:4، العزيز شرح الوجيز 57:5.

المخلوط بأنّه المبيع، فكأنّه هلك، بخلاف الثوب و السويق.

و من هذا الفرق خرّج بعضهم في المزج بالمثل و الأردأ قولاً آخَر: إنّه ينقطع به حقّ الرجوع، و أيّد ذلك بأنّ الحنطة المبيعة لو انثالت عليها أُخرى قبل القبض، ينفسخ المبيع على قولٍ؛ تنزيلاً له منزلة التلف(1).

و المعتمد عندنا و عندهم(2) أنّ الخلط بالمثل و الأردأ لا يمنع الرجوع، على ما سبق. و يفارق اختلاط المبيع قبل القبض؛ لأنّ الملك غير مستقرّ، فلا يبعد تأثّره بما لا يتأثّر الملك المستقرّ.

و على قول المزني بالرجوع في صورة المزج بالأجود، فيه قولان للشافعي في كيفيّة الرجوع:

أصحّهما عندهم: أنّه يكون شريكاً مع المفلس بقدر قيمة مكيله، فيباع المكيلتان، و يقسّم بينهما على قدر القيمتين، كما في صبغ الثوب.

و الثاني: أنّ نفس المكيلتين يقسّم بينهما باعتبار القيمة، فإذا كانت المكيلة المبيعة تساوي درهماً و المخلوطة درهمين، أخذ من المكيلتين ثلثي مكيلة(3).

و قد خرّج بعضهم هذا الخلافَ على أنّ القسمة بيع أو إفراز حقٍّ؟ إن قلنا: إنّها بيع، لم يقسّم عين الزيت؛ لما في القسمة من مقابلة مكيلة بثلثي مكيلة. و إن قلنا بالثاني، فيجوز، و كأنّه أخذ بعض حقّه و ترك البعض(4)5.

ص: 153


1- التهذيب - للبغوي - 98:4، الوسيط 31:4، العزيز شرح الوجيز 57:5، روضة الطالبين 402:3.
2- العزيز شرح الوجيز 57:5.
3- المهذّب - للشيرازي - 333:1، التهذيب - للبغوي - 98:4، حلية العلماء 515:4، الوسيط 32:4، العزيز شرح الوجيز 57:5-58، روضة الطالبين 402:3.
4- العزيز شرح الوجيز 58:5.

و قال بعضهم: إنّ هذا ليس بصحيح؛ لأنّ ذلك إن كان بيعاً، كان رباً، و إن أخذ ثلثه و أبرأه عمّا بقي من مكيلة زيته، لم تكن البراءة واجبةً عليه، فيكون له أن لا يفعل، و يطالب بالباقي، و لا يجوز ذلك؛ لأنّه يأخذ حينئذٍ أكثر ممّا لَه، فلم يبق إلاّ البيع لهما(1).

تذنيبان:
أ: إذا قلنا: الخلط يُلحق المبيعَ بالمفقود

- كما هو قول بعض الشافعيّة، و قول أحمد(2) - لو كان أحد الخليطين كثيراً و الآخَر قليلاً و لا تظهر به زيادة في الحسّ، و يقع مثله بين المثلين، فإن كان الكثير للبائع، فهو واجد عين ماله. و إن كان الكثير للمشتري، فهو فاقد.

و قال بعض الشافعيّة: الحكم الأوّل قطعيّ، و الثاني ظاهر(3).

ب: لو كان المخلوط من غير جنس المبيع كالزيت و الشيرج، فهو فاقد عين ماله،

و ليس له الفسخ حينئذٍ، و يكون بمثابة ما لو تلف المبيع، فيُضارب بالثمن.

قال الجويني: و فيه احتمال، سيّما على قوله ببيع المخلوط و قسمة الثمن(4).

مسألة 372: قد ذكرنا من أقسام النوع الثاني من الزيادات قسماً واحداً،

و هو أن تكون الزيادة عيناً محضة، و بقي قسمان: ما يكون صفةً محضة، و ما يتركّب منهما، فنبدأ بالصفة المحضة.

ص: 154


1- راجع المهذّب - للشيرازي - 333:1.
2- العزيز شرح الوجيز 58:5، روضة الطالبين 402:3، المغني 501:4، الشرح الكبير 519:4. (3 و 4) العزيز شرح الوجيز 58:5، روضة الطالبين 402:3.

فنقول: إذا اشترى عيناً و عمل فيها ما يزيد في صفتها - مثل أن يشتري حنطة فيطحنها أو يزرعها، أو دقيقاً فيخبزه، أو ثوباً فيقصره، أو يخيطه قميصاً بخيوط من الثوب، أو غزلاً فينسجه، أو خشباً فينشره ألواحاً، أو ألواحاً فينجرها باباً، و بالجملة أن يعمل شيئاً يزيل اسمه - فإنّه لا يسقط حقّ الرجوع بذلك عندنا إذا أفلس - و به قال الشافعي(1) - لأنّ العين لم تخرج عن حقيقتها بتوارد هذه الصفات عليها، فكان واجداً عين ماله، فله الرجوع فيها.

و قال أحمد: يسقط حقّ البائع من الرجوع؛ لأنّه لم يجد عين ماله بعينه، فلم يكن له الرجوعُ، كما لو أتلفه. و لأنّه غيّر اسمه وصفته، فلم يكن له الرجوع، كما لو كان نوىً فنبت شجراً(2).

و ليس بصحيح؛ لأنّا قد بيّنّا أنّ العين لم تخرج عن حقيقتها، و إلاّ لكان الغاصب يملك المغصوب إذا فَعَل به هذه الصفات، و كان ينتقل حقّ المغصوب منه إلى المثل أو القيمة، و ليس كذلك. و تغيير الوصف لا ينافي بقاء العين، و يخالف النوى؛ لأنّ الحقيقة قد زالت و وُجدت أُخرى.

إذا عرفت هذا، فنقول: إن لم تزد قيمة المبيع بهذه الصفات، لم يكن للمفلس شركة فيه، بل يأخذه البائع موصوفاً بهذه الصفة، سواء غرم عليها المفلس شيئاً أو لا.

و إن نقصت قيمته، فلا شيء للبائع معه.3.

ص: 155


1- الأُم 303:3، مختصر المزني: 103، الحاوي الكبير 303:6، المهذّب - للشيرازي - 332:1، التنبيه: 102، التهذيب - للبغوي - 96:4، حلية العلماء 509:4، العزيز شرح الوجيز 59:5، روضة الطالبين 402:3، المغني 502:4، الشرح الكبير 512:4.
2- المغني 502:4، الشرح الكبير 512:4-513.

و إن زادت، صار المفلس شريكاً فيها، كما في زيادات الأعيان.

قال الشافعي: و به أقول - و هو أصحّ القولين - لأنّها زيادة حصلت بفعلٍ متقوّم محترم، فوجب أن لا تضيع عليه، كما لو صبغ الثوب. و لأنّ الطحن و القصارة أُجريت مجرى الأعيان، و لهذا كان للطحّان أن يمسك الدقيق على الأُجرة، و كذا القصّار(1).

و القول الثاني للشافعي - و به قال المزني -: إنّ الزيادة في هذه الأعمال تجري مجرى الآثار، و لا شركة للمفلس فيها؛ لأنّها صفات تابعة، و ليس للمفلس فيها عين مال، بل أثر صنعة، فهي كسمن الدابّة بالعلف و كِبَر الوَديّ بالسقي و التعهّد، و كتعلّم الغلام صنعةً، و كما لو اشترى لوزاً فقشره أو غنماً فرعاها. و لأنّ القصارة تزيل الوسخ و تكشف عمّا فيه من البياض، فلا تقتضي الشركة، كما لو كان المبيع لوزاً فكسره و كشف اللُّبّ و زادت به القيمة. و يدلّ عليه أنّ الغاصب لو قصر الثوب أو طحن الحنطة لم يستحق شيئاً(2).

و الفرق ظاهرٌ بين المتنازع و سمن الدابّة بالعلف و كِبَر الوَديّ بالسقي؛ لأنّ القصّار إذا قصر الثوب، صار الثوب مقصوراً بالضرورة، و أمّا السقي و العلف فقد يوجدان كثيراً من غير سمن و لا كِبَر؛ لأنّ الأثر فيه غير منسوبٍ إلى فعله، بل هو محض صنع اللّه تعالى، و لهذا لا يجوز الاستئجار على4.

ص: 156


1- الحاوي الكبير 303:6، المهذّب - للشيرازي - 332:1، الوجيز 175:1، العزيز شرح الوجيز 59:5، التهذيب - للبغوي - 97:4، حلية العلماء 509:4، روضة الطالبين 403:3، المغني 502:4، الشرح الكبير 512:4.
2- المهذّب - للشيرازي - 332:1، التهذيب - للبغوي - 96:4، الحاوي الكبير 303:6، حلية العلماء 509:4، الوجيز 175:1، العزيز شرح الوجيز 59:5، روضة الطالبين 402:3، المغني 502:4، الشرح الكبير 512:4.

تسمين الدابّة و [تكبير](1) الوَديّ، و يجوز الاستئجار على القصارة.

و يخالف المشتري الغاصب؛ فإنّ الغاصب مُعْتدٍ بفعله، فلم يثبت له فيها حقّ، بخلاف مسألتنا.

لا يقال: أ ليس لو صبغ الغاصب الثوبَ، كان شريكاً فيه مع تعدّيه ؟

لأنّا نقول: الصبغ عين ماله، و له قلعه، فإذا تعذّر ذلك، كان شريكاً، بخلاف المتنازع، إلاّ أنّ هذا الفرق يمنع اعتبار مسألتنا أيضاً بالصبغ.

مسألة 373: لو اشترى دقيقاً فخبزه، أو لحماً فشواه، أو شاةً فذبحها،
اشارة

أو أرضاً فضرب من ترابها لِبْناً، أو عرصةً و آلات البناء فبناها فيها(2) داراً ثمّ أفلس، كان شريكاً بهذه الأفعال.

و للشافعي قولان(3).

أمّا لو علّم العبدَ القرآنَ أو الصنعةَ أو الكتابةَ أو الشعرَ المباح، أو راضَ الدابّةَ، فكذلك عندنا؛ لأنّ هذه الأفعال تصحّ المعاوضة عليها، فكانت زيادةً.

و قد اختلفت الشافعيّة:

فقال أبو إسحاق: إنّ هذه لا تلحق بما تقدّم، و لا تجري مجرى الأعيان قطعاً؛ لأنّه ليس بيد المعلّم و الرائض إلاّ التعليم، و قد يجتهد فيه فلا يحصل الغرض، فكان كالسمن و نحوه(4).

و الأصحّ عندهم - و به قال ابن سريج -: أنّها من صور القولين؛ لأنّها

ص: 157


1- بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «كبر». و ما أثبتناه يقتضيه السياق.
2- كذا، و الظاهر: «فبنى فيها».
3- التهذيب - للبغوي - 96:4 و 97، العزيز شرح الوجيز 59:5، روضة الطالبين 403:3.
4- العزيز شرح الوجيز 59:5، روضة الطالبين 403:3.

أعمال يجوز الاستئجار عليها، و مقابلتها بالعوض(1).

و ضبط صور القولين أن يصنع المفلس بالمبيع ما يجوز الاستئجار عليه، فيظهر به أثر فيه.

و إنّما اعتبرنا ظهور الأثر فيه؛ لأنّ حفظ الدابّة و سياستها عمل يجوز الاستئجار عليه، و لا تثبت به الشركة؛ لأنّه لا يظهر بسببه أثر على الدابّة.

ثمّ الأثر قد يكون صفةً محسوسة كالطحن و القصارة، و قد يكون من قبيل الأخلاق كالتعليم و الرياضة.

فعلى أحد قولي الشافعي يأخذ البائع العينَ زائدةً بهذا الوصف، و يفوز بالزيادة مجّاناً.

و على ما أختاره - و هو القول الثاني له - تُباع العين، و يكون للمفلس من الثمن بنسبة ما زاد في قيمته.

فلو كانت قيمة الثوب خاماً خمسةً، و مقصوراً ستّةً، كان للمفلس سدس الثمن، فلو ارتفعت القيمة بالسوق أو انخفضت، فالزيادة أو النقصان بينهما على النسبة.

و لو ارتفعت قيمة الثوب خاصّةً بأن صار مثل ذلك الثوب خاماً يساوي ستّةً، و يسوي مقصوراً سبعةً، فليس للمفلس إلاّ سُبْع الثمن؛ لأنّه قيمة صنعته، و الزيادة حصلت في الثوب للبائع ليس للمفلس فيها شيء؛ لأنّها زيادة سوقيّة.

و لو انعكس الفرض، فزادت قيمة الصنع خاصّةً بأن كان مثل هذا الثوب يسوي مقصوراً سبعةً، و يساوي خاماً خمسةً، فالزيادة للمفلس خاصّةً، فيكون له سُبْعا الثمن. و على هذا القياس.3.

ص: 158


1- العزيز شرح الوجيز 60:5، روضة الطالبين 403:3.

و هل للبائع إمساك المبيع ببذل قيمة ما فَعَله المفلس و منعه من بيعه ؟ الأقرب: ذلك؛ لوجوب البيع على كلّ تقدير، و اعتبار الأصل بالبقاء أولى؛ إذ لا يجب بذل عينه للبيع، و به قال بعض الشافعيّة؛ قياساً على أنّه يبذل قيمة الغراس و البناء(1).

و مَنَع بعضُهم منه؛ لأنّ الصنعة لا تُقابل بعوض(2).

و نحن لمّا منعنا - فيما تقدّم - وجوبَ بذل البناء و الغراس بدفع القيمة، و أوجبنا هنا دفع الصنعة، قلنا ذلك؛ للفرق بين الأعيان التي تُعدّ أُصولاً، و بين الصفات التابعة.

تذنيبان:
أ: إذا استأجره للقصارة أو الطحن فعمل الأجير عمله، كان له حبس الثوب و الدقيق لاستيفاء الأُجرة

إن جعلنا القصارة و الطحن كالأعيان، كما يحبس البائع المبيع لقبض الثمن. و إن جعلنا القصارة و شبهها من الآثار، فلا.

ب: إذا تمّم القصّار و الطحّان العمل و تلف الثوب و الطحين في يده،

إن قلنا: إنّ فعله آثار لا تجري مجرى الأعيان، استحقّ الأُجرة كأنّه وقع مسلّماً بالفراغ. و إن قلنا: إنّه أعيان، لم يستحق؛ حيث تلف قبل التسليم، كما يسقط الثمن بتلف المبيع قبل تسليمه.

مسألة 374: قد ذكرنا حكم الزيادة إذا كانت صفةً محضة، و بقي ما إذا كانت الزيادة عيناً من وجهٍ و صفةً من وجهٍ.

فنقول: إذا اشترى ثوباً فصبغه، أو سويقاً و لتَّه بزيتٍ و أشباه ذلك ثمّ

********

(1 و 2) العزيز شرح الوجيز 60:5، روضة الطالبين 403:3.

ص: 159

فُلّس، فإن لم تزد القيمة بالصبغ و الزيت أو نقصت، كان للبائع الرجوعُ في عين ماله، و لا شيء للمفلس فيه، و جرى الصبغ هنا مجرى الصفة إذا لم تزد بها قيمة الثوب، فإنّ الثوب مع الصفة يكون للبائع. و كذا الصبغ هنا.

و إن زادت القيمة، فإمّا أن تزيد بقدر قيمة الصبغ أو أقلّ أو أكثر.

فالأوّل كما لو كان الثوب يساوي أربعةً، و كان الصبغ يساوي درهمين و بِيع مصبوغاً بستّة، فللبائع فسخ البيع في الثوب، و يكون شريكاً في الصبغ للمفلس، و يكون الثمن بينهما أثلاثاً.

و قال أحمد: إذا صبغ الثوب أو طحن الحنطة أو نسج الغزل أو قطع الثوب قميصاً، سقط حقّه من الرجوع(1).

و في تقدير تنزيل الشركة للشافعيّة احتمالان:

أحدهما: أن يقال: كلّ الثوب للبائع، و كلّ الصبغ للمفلس، كما لو غرس الأرض.

و الثاني: أن يقال: بل يشتركان فيهما جميعاً بالأثلاث؛ لتعذّر التميّز، كما في خلط الزيت بمثله(2).

و الوجه عندي: الأوّل.

و لو كانت الزيادة أقلّ من قيمة الصبغ، كما لو كانت قيمته مصبوغاً خمسةً، فالنقصان على الصبغ؛ لأنّه تتفرّق أجزاؤه في الثوب و تهلك في الثوب(3) و الثوب قائم بحاله، فإذا بِيع، قُسّم الثمن بينهما أخماساً: أربعة

********

(1) المغني 502:4، الشرح الكبير 512:4.

(2) التهذيب - للبغوي - 94:4، العزيز شرح الوجيز 61:5، روضة الطالبين 404:3.

(3) «في الثوب» لم ترد في «ج».

ص: 160

للبائع، و واحد للمفلس.

و إن كانت الزيادة أكثر من قيمة الصبغ، كما لو بلغ مصبوغاً ثمانيةً، فالزائد على القيمتين إنّما زاد بصنعة الصبغ، فإن قلنا: إنّ الصنعة - كالقصارة و نحوها من الأعمال - أعيان، فالزائد(1) على الصبغ للمفلس، فيكون لصاحب الثوب أربعة، و للمفلس أربعة.

و إن قلنا: إنّها آثار و قلنا: إنّ الآثار تتبع العين للبائع و ليس للمفلس منها(2) شيء، كان للبائع قيمة الثوب و أُجرة الصبغ، و ذلك ستّة دراهم هي ثلاثة أرباع الثمن، و للمفلس قيمة صبغه لا غير، و هو درهمان ربع الثمن، قاله بعض الشافعيّة(3).

و قال بعضهم: نقص الزيادة على الثوب و الصبغ حتى يجعل الثمن بينهما أثلاثاً، فيكون ثلثاه للبائع، و الثلث للمفلس؛ لأنّ الصنعة اتّصلت بالثوب و الصبغ جميعاً(4).

و الوجه عندي: أنّ الزيادة بأجمعها للمفلس؛ لأنّها عوض الصبغ و الصنعة معاً، و هُما له لا شيء للبائع فيها.

و لو ارتفعت القيمة بعد الصبغ فبلغت ستّة عشر، أو وُجد زبون(5) اشتراه بهذا المبلغ، ففي كيفيّة القسمة عند الشافعيّة الوجوهُ الثلاثة(6) ،

********

(1) في النسخ الخطّيّة: «فالزيادة».

(2) في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «عنها». و الظاهر ما أثبتناه.

(3 و 4) العزيز شرح الوجيز 61:5، روضة الطالبين 404:3.

(5) زبنتُ الشيء زَبْناً: إذا دفعتُه، و قيل للمشتري: «زبون» لأنّه يدفع غيره عن أخذ المبيع. و هي كلمة مولّدة ليست من كلام أهل البادية. المصباح المنير: 251 «زبن».

(6) العزيز شرح الوجيز 62:5، روضة الطالبين 404:3.

ص: 161

و الربح على كلّ حال يُقسّم بحسب قيمة الأصل.

فإذا عُرفت قيمة القدر الذي يستحقّه المفلس من الثمن، فإن شاء البائع تسليمه ليخلص له الثوب مصبوغاً، فله ذلك.

و مَنَع منه بعضُ الشافعيّة(1).

و لو فرضنا أنّ المرتفع قيمة الصبغ خاصّةً، كانت الزيادة بأسرها للمفلس؛ لأنّ قيمة الثوب لم تزد، فلا يأخذ البائع منها شيئاً.

مسألة 375: لو اشترى ثوباً من زيد و صبغاً منه أيضاً ثمّ صبغه و فُلّس بعد ذلك، فللبائع فسخ البيع

و الرجوع [فيهما](2) معاً، إلاّ أن تكون قيمة الصبغ و الثوب معاً بعد الصبغ كقيمة الثوب [وحده](3) قبل الصبغ أو دونها، فيكون فاقداً للصبغ.

و يُحتمل عندي أنّه يخيّر بين أخذه مصبوغاً، و لا يرجع بقيمة الصبغ، و بين الضرب بالثمنين معاً مع الغرماء.

و لو زادت القيمة بأن كانت قيمة الثوب أربعةً و قيمة الصبغ درهمين و قيمة الثوب مصبوغاً ثمانيةً، فعلى ما تقدّم من الخلاف في أنّ الصناعات هل هي آثار أو أعيان ؟ إن قلنا: آثار، أخذها، و لا شركة للمفلس. و إن قلنا:

أعيان، فالمفلس شريك بالربع.

و قد بيّنّا أنّه لا يرجع هنا عندنا للزيادة بالصنعة، إلاّ في الثوب خاصّةً، فيكون الصبغ و الزيادة بأجمعهما للمفلس.

********

(1) العزيز شرح الوجيز 62:5، روضة الطالبين 404:3.

(2) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «إليهما». و الظاهر ما أثبتناه.

(3) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «وحدها». و الظاهر ما أثبتناه.

ص: 162

مسألة 376: لو اشترى الثوبَ من واحدٍ بأربعة هي قيمته و الصبغَ من آخَر بدرهمين هُما قيمته،

و صَبَغه به ثمّ أفلس، فأراد البائعان الرجوعَ في العينين، فإن كان الثوب مصبوغاً لا يساوي أكثر من أربعة و كان خاماً يساوي أربعةً أيضاً، فصاحب الصبغ فاقدٌ ماله، و صاحب الثوب واجدٌ ماله بكماله إن لم ينقص عن أربعة، و ناقصاً إن نقص. و إن كان خاماً يساوي ثلاثةً، و مصبوغاً يساوي أربعةً، كان لصاحب الثوب ثلاثةٌ، و لصاحب الصبغ درهمٌ واحد.

و الشافعيّة لم يفصّلوا بين الصورتين، بل حكموا حكماً مطلقاً أنّ الثوب إذا كان مصبوغاً يساوي أربعةً لا غير، فهي لصاحب الثوب، و صاحبُ الصبغ فاقدٌ. و إن كان الثوب مصبوغاً يساوي أكثر من أربعة، فصاحب الصبغ أيضاً واجدٌ لماله بكماله إن بلغت الزيادة درهمين، و ناقصاً إن لم تبلغ(1).

و إن كانت القيمة بعد الصبغ ثمانيةً، فإن قلنا: الأعمال آثار، فالشركة بين البائعين، كما قلنا في البائع و المفلس إذا صبغه بصبغ نفسه، تفريعاً على هذا القول. و إن قلنا: أعيان، فنصف الثمن لبائع الثوب، و ربعه لبائع الصبغ، و الربع للمفلس.

مسألة 377: لو اشترى صبغاً فصبغ به ثوباً له ثمّ أفلس،
اشارة

أو اشترى زيتاً فلتَّ به سويقاً ثمّ أفلس، فالأولى أنّ لبائع الصبغ و الزيت الرجوعَ في عين مالَيْهما - و به قال الشافعي(2) - لأنّهما وجدا عين أموالهما ممتزجين، فكانا واجدَيْن.

********

(1) العزيز شرح الوجيز 62:5، روضة الطالبين 405:3.

(2) العزيز شرح الوجيز 62:5، روضة الطالبين 405:3.

ص: 163

و قال أحمد: إنّ بائع الصبغ و الزيت يضربان بالثمن مع الغرماء؛ لأنّه لم يجد عين ماله، فلم يكن له الرجوعُ، كما لو تلف(1).

إذا عرفت هذا، فإنّ الشافعي قال: بائع الصبغ إنّما يرجع في عين الصبغ لو زادت قيمة الثوب مصبوغاً على ما كانت قبل الصبغ، و إلاّ فهو فاقد - و قد بيّنّا ما عندنا فيه - و إذا رجع، فالشركة بينهما على ما تقدّم(2).

و اعلم أنّ هذه الأحكام المذكورة في القسمين مفروضة فيما إذا باشر المفلس القصارةَ و الصبغَ و ما في معناهما بنفسه، أو استأجر لهما أجيراً و وفّاه الأُجرة قبل التفليس، فأمّا إذا حصّلهما بأُجرة و لم يوفّه، فسيأتي.

تذنيب: لو صبغ المشتري الثوب و فُلّس و رجع البائع في عين الثوب و أراد قلع الصبغ عند الإمكان

و أن يغرم للمفلس أرش النقصان، ففي إجابته إلى ذلك إشكال ينشأ: من أنّه إتلاف مال، فلا يجاب إليه، و من مشابهته للبناء و الغراس، و هو قول الشافعي(3).

مسألة 378: لو اشترى ثوباً و استأجر قصّاراً يقصره و لم يدفع إليه أُجرته و فُلّس، فللأجير المضاربة بالأُجرة مع الغرماء.

و قال الشافعي: إن قلنا: القصارة أثر، فليس للأجير إلاّ المضاربة بالأُجرة، و للبائع الرجوعُ في الثوب المقصور، و لا شيء عليه لما زاد(4).

و ليس بجيّد.

و قال بعض الشافعيّة: إنّ عليه أُجرة القصّار، و كأنّه استأجره(5).

و غلّطه باقي الشافعيّة في ذلك(6).

و إن قلنا: إنّها عين، فإن لم تزد قيمته مقصوراً على ما كان قبل

********

(1) المغني 503:4-504، الشرح الكبير 521:4-522.

(2) العزيز شرح الوجيز 62:5، روضة الطالبين 405:3.

(3-6) العزيز شرح الوجيزة 63:5، روضة الطالبين 405:3.

ص: 164

القصارة، فهو فاقد عين ماله. و إن زادت، فلكلّ واحدٍ من البائع و الأجير الرجوعُ إلى عين ماله، فإن كانت قيمة الثوب عشرةً، و الأُجرة درهماً، و الثوب المقصور يساوي خمسة عشر، بِيع بخمسة عشر، و صُرف منها عشرة إلى البائع، و درهمٌ إلى الأجير، و الباقي للغرماء.

و لو كانت الأُجرة خمسة دراهم، و الثوب بعد القصارة يساوي أحد عشر، فإن فسخ الأجير الإجارة، فعشرةٌ للبائع، و درهمٌ للأجير، و يضارب مع الغرماء بأربعة. و إن لم يفسخ، فعشرةٌ للبائع، و درهمٌ للمفلس، و يضارب مع الغرماء بخمسة(1).

لا يقال: إذا جعلنا القصارة عيناً و زادت بفعله خمسة، وجب أن يكون الكلّ له، كما لو زاد المبيع زيادة متّصلة، فإن كانت أُجرته خمسةً و لم يحصل بفعله إلاّ درهمٌ، وجب أن لا يكون له إلاّ ذلك؛ لأنّ مَنْ وجد عين ماله ناقصةً ليس له إلاّ القناعة بها، و المضاربة مع الغرماء.

لأنّا نقول: معلومٌ أنّ القصارة صفة تابعة للثوب، و لا نعني بقولنا:

«القصارة عين» أنّها في الحقيقة تُفرد بالبيع و الأخذ و الردّ، كما يُفعل بسائر الأعيان، و لو كان كذلك، لجعلنا الغاصب شريكاً للمالك إذا غصب الثوب و قصره، و ليس كذلك إجماعاً، بخلاف ما إذا صبغه الغاصب، فإنّه يكون شريكاً بالصبغ؛ و إنّما المراد أنّها مشبّهة بالأعيان من بعض الوجوه؛ لأنّ الزيادة الحاصلة بها متقوّمة مقابلة بالعوض، فكما لا تضيع الأعيان على المفلس لا تضيع الأعمال عليه.

و أمّا بالإضافة إلى الأجير فليست القصارة موردَ الإجارة حتى يرجع

********

(1) العزيز شرح الوجيز 63:5، روضة الطالبين 405:3-406.

ص: 165

إليها، بل مورد الإجارة فعله المحصّل للقصارة، و ذلك الفعل يستحيل الرجوع إليه، فيجعل الحاصل بفعله - لاختصاصه به - متعلّق حقّه، كالمرهون في حقّ المرتهن.

[أو](1) نقول: هي مملوكة للمفلس مرهونة بحقّ الأجير، و معلومٌ أنّ الرهن إذا زادت قيمته على الدَّيْن لا يأخذ المرتهن منه إلاّ قدر الدَّيْن، و إذا نقصت، لا يتأدّى به جميع الدَّيْن(2).

و لو قال الغرماء للقصّار: خُذْ أُجرتك و دَعْنا نكن شركاء صاحب الثوب، هل يُجبر عليه ؟

قال بعض الشافعيّة: يُجبر(3). و هو موافق أنّ القصارة مرهونة بحقّه؛ إذ ليس للمرتهن التمسّك بعين المرهون إذا أُدّي حقّه.

و قال بعضهم: لا يُجبر؛ قياساً على البائع إذا قدّمه الغرماء بالثمن(4).

و هذا القائل كأنّه يُعطي القصارة حكمَ الأعيان من كلّ وجهٍ.

و لو كانت قيمة الثوب عشرةً فاستأجر صبّاغاً فصبغه بصبغٍ قيمته درهمٌ و صارت قيمته مصبوغاً خمسةَ عشر، فالأربعة الزائدة على القيمتين إن حصلت بصفة الصبغ فهي للمفلس.

و قال الشافعي: هذه الزيادة حصلت بصفة الصبغ، فيعود فيها القولان في أنّها أثر أو عين ؟ فإذا رجع كلّ واحدٍ من الصبّاغ و البائع إلى ماله، بِيع بخمسة عشر، و قُسّمت على أحد عشر، إن جعلناها أثراً، فللبائع(5) عشرة،

********

(1) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «و». و الصحيح ما أثبتناه من المصدر.

(2-4) العزيز شرح الوجيز 64:5.

(5) في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «للبائع». و الظاهر ما أثبتناه.

ص: 166

و للصبّاغ واحد؛ لأنّ الزيادة تابعة لمالَيْهما. و إن جعلناها عيناً، فعشرة منها للبائع و درهمٌ للصبّاغ، و أربعة للمفلس يأخذها الغرماء(1).

و لو بِيع بثلاثين؛ لارتفاع السوق، أو للظفر براغب، قال بعض الشافعيّة: للبائع عشرون، و للصبّاغ درهمان و للمفلس ثمانية(2).

و قال بعضهم: يُقسّم الجميع على أحد عشر، عشرة للبائع، و واحد للصبّاغ، و لا شيء للمشتري(3).

فالأوّل بناء على أنّها عين، و الثاني على أنّها أثر.

و كذا لو اشترى ثوباً قيمته عشرة و استأجر على قصارته بدرهم و صارت قيمته مقصوراً خمسةَ عشر ثمّ بِيع بثلاثين، قال بعض الشافعيّة - بناءً على قول العين -: إنّه يتضاعف حقّ كلٍّ منهم، كما في الصبغ(4).

و قال الجويني: ينبغي أن يكون للبائع عشرون، و للمفلس تسعة، و للقصّار درهم كما كان، و لا يضعف حقّه؛ لأنّ القصارة غير مستحقّة للقصّار، و إنّما هي مرهونة عنده بحقّه(5).

مسألة 379: لو أخفى المديون بعضَ ماله و قصر الظاهر عن الديون فحجر الحاكم عليه

و رجع أصحاب الأعيان إليها و قسّم الحاكم الباقي بين الغرماء ثمّ ظهر فعله لم ينقص شيء من ذلك، فإنّ للقاضي أن يبيع أموال الممتنع المماطل، و صَرْف الثمن في ديونه.

و الرجوع إلى عين المال بامتناع المشتري [من](6) أداء الثمن مختلف

********

(1 و 2) العزيز شرح الوجيز 64:5، روضة الطالبين 406:3.

(3) العزيز شرح الوجيز 64:5-65، روضة الطالبين 406:3.

(4 و 5) العزيز شرح الوجيز 65:5، روضة الطالبين 406:3.

(6) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «و». و الصحيح ما أثبتناه كما في المصدر.

ص: 167

فيه، فإذا اتّصل به حكم الحاكم، نفذ(1) ، قاله بعض الشافعيّة(2).

و توقّف فيه بعضٌ؛ لأنّ القاضي ربما لا يعتقد جواز الرجوع بالامتناع، فكيف يجعل حكمه بناءً على ظنّ آخَر حكماً بالرجوع بالامتناع ؟!(3)

و كلّ مَنْ له الفسخ بالإفلاس لو ترك الفسخ على مال، لم يثبت المال.

و هل يبطل حقّه من الفسخ إن كان جاهلاً بجوازه، الأقرب: عدم البطلان.

و للشافعي فيه قولان كما في الردّ بالعيب(4).

البحث الخامس: في اللواحق.
مسألة 380: الأقرب عندي أنّ العين لو زادت قيمتها لزيادة السعر، لم يكن للبائع الرجوعُ فيها؛

لأنّ الأصل عدم الجواز، تُرك في محلّ النصّ، و هو وجدان العين بعينها مع مساواة القيمة الثمن أو نقصها عنه؛ للإجماع من مجوّزيه، فبقي الباقي على الأصل؛ لما في مخالفته من الضرر الحاصل للمفلس و الغرماء، فيكون منفيّاً.

و كذا لو اشترى سلعة بدون ثمن المثل، لم يكن للبائع الرجوع؛ لما فيه من الإضرار به بترك المسامحة التي فَعَلها البائع معه أوّلاً.

و لو نقصت قيمتها؛ لنقص السوق، لم يُمنع من أخذ عينه.

مسألة 381: لو أقرّ الغرماء بأنّ المفلس أعتق عبداً قبل فلسه،

فأنكر

********

(1) في النسخ الخطيّة و الحجريّة بدل «نفذ»: «فقد». و ذلك تصحيف.

(2-4) العزيز شرح الوجيز 65:5، روضة الطالبين 407:3.

ص: 168

المفلس ذلك، فإن شهد منهم عَدْلان، قُبِل، و إلاّ لم يُقبل قولهم. فإن دفع العبد إليهم، وجب عليهم قبوله، أو إبراء ذمّته من قدر ثمنه، فإذا قبضوه، عُتق عليهم.

و لو أقرّوا بأنّه أعتق عبده بعد فلسه، فإن منعنا من عتق المفلس، فلا أثر لإقرارهم.

و إن جوّزناه، فهو كإقرارهم بعتقه قبل فلسه، فإن حكم الحاكم بصحّته أو فساده، نفذ حكمه على كلّ حال؛ لأنّه فعلٌ مجتهد فيه، فيلزم ما حكم به الحاكم، و لا يجوز نقضه و لا تغييره.

و لو أقرّ المفلس بعتق بعض عبده، فإن سوّغنا عتق المفلس، صحّ إقراره به، و عُتق؛ لأنّ مَنْ ملك شيئاً ملك الإقرار به، لأنّ الإقرار بالعتق يحصل به العتق، فكأنّه أعتقه في الحال.

و إن قلنا: لا يصحّ عتقه، لم يُقبل إقراره، و كان على الغرماء اليمين أنّهم لا يعلمون عتقه.

و كلّ موضعٍ قلنا: على الغرماء اليمين، فإنّها على جميعهم، فإن حلفوا، أخذوا. و إن نكلوا، قضي للمدّعي مع اليمين. و إن حلف بعضٌ دون بعضٍ، أخذ الحالف نصيبه، و حكم الناكل ما تقدّم.

و لو أقرّ المفلس أنّه أعتق عبده منذ شهر، و كان بيد العبد كسبٌ اكتسبه بعد ذلك؛ فأنكر الغرماء، فإن قلنا: لا يُقبل إقراره، حلف الغرماء على نفي العلم، و أخذوا العبد و الكسب.

و إن قلنا: يُقبل إقراره مطلقاً، قُبِل في العتق و الكسب، و لم يكن للغرماء عليه و لا على كسبه سبيل.

و إن قلنا: يُقبل في العتق خاصّةً و أنّه يُقبل عتقه، قُبِل في العتق؛

ص: 169

لصحّته منه، و لبنائه على التغليب و السراية، و لا يُقبل في المال؛ لعدم ذلك فيه، و لأنّا نزّلنا إقراره بالعتق منزلة إعتاقه في الحال، فلا تثبت له الحُرّيّة فيما مضى، فيكون كسبه لسيّده، كما لو أقرّ بعبدٍ ثمّ أقرّ له بعين في يده.

مسألة 382: إذا قبض البائع الثمن و أفلس المشتري ثمّ وجد البائع بالثمن عيباً، كان له الردُّ بالعيب، و الرجوع في العين.

و يُحتمل أن يضرب مع الغرماء بالثمن؛ لأنّ استحقاقه للعين متأخّر عن الحجر؛ لأنّه إنّما يستحقّ العين بالرجوع و الردّ، لا بمجرّد العيب.

و لو قبض البائع بعض الثمن و السلعة قائمة و فلّس المشتري، لم يسقط حقّه من الرجوع، بل يرجع في قدر ما بقي من الثمن؛ لأنّه سبب تُرجع به العينُ كلّها إلى العاقد، فجاز أن يرجع به بعضها، و هو القول الجديد للشافعي.

و قال في القديم: إذا قبض من الثمن شيئاً، سقط حقّه من الرجوع، و ضاربَ بالباقي مع الغرماء - و به قال أحمد و إسحاق - لما رواه أبو هريرة عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال: «أيّما رجل باع سلعته فأدرك سلعته بعينها عند رجل قد أفلس و لم يكن قد قبض من ثمنها شيئاً فهي له، و إن كان قد قبض من ثمنها شيئاً فهو أُسوة الغرماء»(1).

و لأنّ [في](2) الرجوع في قسط ما بقي تبعّض الصفقة على المشتري و إضراراً به(3) ، و ليس ذلك للبائع.

لا يقال: لا ضرر على المفلس في ذلك؛ لأنّ ماله يباع و لا يبقى له،

********

(1) سنن ابن ماجة 2359/790:2، سنن الدارقطني 29:3-109/30.

(2) ما بين المعقوفين أضفناه لأجل السياق.

(3) في النسخ الخطّيّة و الحجرية: «ببعض... إضرار به». و الصحيح ما أثبتناه.

ص: 170

فيزول عنه الضرر.

لأنّا نقول: لا يندفع الضرر بالبيع، فإنّ قيمته تنقص بالتشقيص، و لا يرغب فيه مشقّصاً إلاّ البعضُ، فيتضرّر المفلس و الغرماء بنقص القيمة.

و لأنّه سبب يفسخ به البيع، فلم يجز تشقيصه، كالردّ بالعيب و الخيار.

و لا فرق بين كون المبيع عيناً واحدة أو عينين(1).

و قال مالك: هو مخيّر إن شاء ردّ ما قبضه، و رجع في جميع العين.

و إن شاء حاصّ الغرماء، و لم يرجع(2).

و لا بأس بقول أحمد عندي؛ لما فيه من التضرّر بالتشقيص.

مسألة 383: لو باعه سلعةً فرهنها المشتري قبل إيفاء الثمن ثمّ أفلس المشتري، لم يكن للبائع الرجوعُ في العين؛
اشارة

لسبق حقّ المرتهن إجماعاً، و قد سلف(3).

فإن كان دَيْن المرتهن دون قيمة الرهن فبِيع كلُّه فقضي منه دَيْن المرتهن، كان الباقي للغرماء.

و إن بِيع بعضه، فهل يختصّ البائع بالباقي بقسطه من الثمن ؟ الأقوى عندي ذلك - و به قال الشافعي(4) - لأنّه عين ماله لم يتعلّق به حقّ غيره.

و قال أحمد: لا يختصّ به البائع؛ لأنّه لم يجد متاعه بعينه، فلم يكن له أخذه، كما لو كان(5) الدَّيْن مستغرقاً(6)

********

(1) العزيز شرح الوجيز 44:5، روضة الطالبين 392:3، المغني 518:4، الشرح الكبير 509:4-510.

(2) بداية المجتهد 288:2، المغني 518:4، الشرح الكبير 510:4.

(3) في ص 107، المسألة 349.

(4) المغني 519:4، الشرح الكبير 514:4.

(5) في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «لو لم يكن» بدل «لو كان». و الصحيح ما أثبتناه كما في المغني.

(6) المغني 519:4، الشرح الكبير 514:4.

ص: 171

و هو غلط؛ فإنّ بعض حقّه يكون حقّاً له.

و الأصل فيه أنّ تلف بعض العين لا يُسقط حقّ الرجوع عندنا - خلافاً له(1) - فكذا ذهاب بعضها بالبيع.

و لو رهن بعض العين، كان له الرجوع في الباقي بالقسط.

و مَنَع منه أحمد؛ لما فيه من التشقيص، و هو يقتضي الضرر(2).

و ليس بجيّد؛ لأنّ التشقيص حصل من المفلس برهن البعض، لا من البائع.

أمّا لو باع عينين فرهن إحداهما(3) ، فإنّه يرجع في العين الأُخرى عندنا و عند أحمد في إحدى الروايتين، و لا يرجع في الأُخرى(4).

و لو فكّ الرهن أو أُبرئ المفلس من دَيْنه، فللبائع الرجوعُ؛ لأنّه أدرك متاعه بعينه عند المشتري.

و لا فرق بين أن يفلس المشتري بعد فكّ الرهن أو قبله.

تذنيب: لو رهنه المشتري عند البائع على الثمن ثمّ أفلس المشتري، تخيّر البائع بين فسخ البيع للإفلاس،

فيأخذ العين، و بين إمضاء البيع، فيقدّم(5) حقّه، فإن فضل عن الثمن شيء، كان للغرماء.

و إن كان رهناً عنده على دَين غير الثمن، تخيّر في فسخ البيع و الرهن، فيأخذ عين ماله و يضرب بالدَّيْن مع باقي الغرماء، و بين إمضاء

********

(1) المغني 519:4-520، الشرح الكبير 514:4.

(2) المغني 520:4، الشرح الكبير 514:4.

(3) في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «أحدهما». و الصحيح ما أُثبت.

(4) المغني 520:4، الشرح الكبير 514:4.

(5) في الطبعة الحجريّة: «فقدّم».

ص: 172

البيع و الاختصاص في العين المرهونة بقدر الدَّيْن، ثمّ يشارك الغرماء في الفاضل من العين، و يضارب بالثمن.

و هل له فسخ البيع فيما قابَل الزائد عن الرهن بقدره من الثمن ؟ الأقرب ذلك.

مسألة 384: لو باع عبداً فأفلس المشتري بعد تعلّق أرش الجناية برقبته، فللبائع الرجوع؛

لأنّه حقّ لا يمنع تصرّف المشتري فيه، فلم يمنع الرجوع، كالدَّيْن في ذمّته، و هو إحدى الروايتين عن أحمد.

و الثانية: أنّه ليس للبائع الرجوعُ؛ لأنّ تعلّق الرهن يمنع الرجوع، و أرش الجناية مقدّم على حقّ المرتهن، فهو أولى أن يمنع(1).

و الفرق بينه و بين الرهن ظاهر؛ فإنّ الرهن يمنع تصرّف المشتري فيه.

فعلى قوله بعدم الرجوع فحكمه حكم الرهن. و على قولنا بالرجوع تخيّر إن شاء رجع فيه ناقصاً بأرش الجناية، و إن شاء ضرب بثمنه مع الغرماء.

و إن أُبرئ الغريم من الجناية، فللبائع الرجوعُ فيه عندنا و عنده(2)؛ لأنّه قد وجد عين ماله خالياً من تعلّق حقّ غيره به.

مسألة 385: لو كان المبيع شقصاً مشفوعاً، فالشفيع أحقّ من البائع إذا أفلس المشتري؛

لأنّ حقّه أسبق؛ لأنّ حقّ البائع يثبت بالحجر، و حقّ الشفيع بالبيع، و الثاني أسبق. و لأنّ حقّه آكد؛ لأنّه يأخذ الشقص من المشتري و ممّن نقله إليه، و حقّ البائع إنّما يتعلّق بالعين ما دامت في يد

********

(1 و 2) المغني 520:4، الشرح الكبير 515:4.

ص: 173

المشتري، و هو أحد وجهي الشافعيّة.

و الثاني: أنّ البائع أحقّ؛ للخبر. و لأنّه إذا رجع فيه، عاد الشقص إليه، فزال الضرر عن الشفيع؛ لأنّه عاد كما كان قبل البيع، و لم تتجدّد شركة غيره(1).

و هذان الوجهان للحنابلة(2) أيضاً.

و للشافعيّة وجهٌ ثالث: أنّ الثمن يؤخذ من الشفيع، فيختصّ به البائع؛ جمعاً بين الحقّين، فإنّ غرض الشفيع [في](3) عين الشقص المشفوع، و غرض البائع في ثمنه، و يحصل الغرضان بما قلناه(4).

و يشكل بأنّ حقّ البائع إنّما يثبت في العين، فإذا صار الأمر إلى وجوب الثمن، تعلّق بذمّته، فساوى الغرماء فيه.

و للحنابلة وجهٌ ثالث غير ما ذكروه من الوجهين، و هو أنّ الشفيع إن كان قد طالَب بالشفعة، فهو أحقّ؛ لأنّ حقّه آكد و قد تأكّد بالمطالبة. و إن لم يكن طالَب بها، فالبائع أولى(5).

مسألة 386: لو باع صيداً فأفلس المشتري و كان البائع حلالاً في الحرم و الصيد في الحلّ، فللبائع الرجوعُ فيه؛

لأنّ الحرم إنّما يُحرّم الصيد الذي فيه، و هذا ليس من صيده فلا يُحرّمه.

و لو أفلس المُحْرم و في ملكه صيد و كان البائع حلالاً، كان له أخذه؛

********

(1) الحاوي الكبير 272:6، المهذّب - للشيرازي - 330:1، حلية العلماء 499:4، المغني 522:4، الشرح الكبير 515:4.

(2) المغني 522:4، الشرح الكبير 514:4.

(3) ما بين المعقوفين أضفناه من المغني و الشرح الكبير لأجل السياق.

(4) نفس المصادر في الهامش (1).

(5) المغني 522:4، الشرح الكبير 514:4-515.

ص: 174

لانتفاء المانع عن البائع.

مسألة 387: لو اشترى طعاماً نسيئةً و نظر إليه و قلّبه و قال: أقبضه غداً، فمات البائع و عليه دَيْنٌ، فالطعام للمشتري،

و يتبعه الغرماء بالثمن و إن كان رخيصاً - و به قال الثوري و أحمد و إسحاق(1) - لأنّ الملك يثبت للمشتري فيه بالشراء، و قد زال ملك البائع عنه، فلم يشارك الغرماء المشتري فيه، كما لو قبضه.

مسألة 388: رجوع البائع في المبيع فسخٌ للبيع لا يفتقر إلى شروط البيع،

فيجوز الرجوع مع عدم المعرفة بالمبيع و مع عدم القدرة عليه و مع اشتباهه بغيره، فلو كان المبيع غائباً و أفلس المشتري، كان للبائع فسخ البيع، و يملك المبيع، سواء مضت مدّة يتغيّر فيها المبيع قطعاً أو لا.

ثمّ إن وجده البائع على حاله لم يتلف منه شيء، صحّ رجوعه.

و إن تلف منه شيء، فكذلك عندنا، و عند أحمد يبطل رجوعه؛ لفوات شرط الرجوع عنده(2).

و لو رجع في العبد بعد إباقه و في الجمل بعد شروده، صحّ، و صار ذلك له، فإن قدر عليه، أخذه، و إن تلف، كان من ماله.

و لو ظهر أنّه كان تالفاً حال الاسترجاع، بطل الرجوع، و كان له أن يضرب مع الغرماء في الموجود من ماله.

و لو رجع في المبيع و اشتبه بغيره، فقال البائع: هذا هو المبيع، و قال المفلس: بل هذا، فالقول قول المفلس؛ لأنّه منكر لاستحقاق ما ادّعاه البائع، و الأصل معه، و الغرماء كالمفلس.

********

(1) المغني 523:4، الشرح الكبير 534:4.

(2) المغني 498:4 و 499، الشرح الكبير 511:4 و 512.

ص: 175

مسألة 389: لو كان عليه ديون حالّة و مؤجَّلة، فقد قلنا: إنّ المؤجَّلة لا تحلّ بالحجر عليه،

فإذا كانت أمواله تقصر عن الحالّة فطلبوا القسمة، قُسّم ماله عليها خاصّةً، فإن تأخّرت القسمة حتى حلّت المؤجَّلة، شارك الغرماء، كما لو تجدّد على المفلس دَيْنٌ بجنايةٍ.

و لو حلّ الدَّيْن بعد قسمة بعض المال، شاركهم في الباقي، و ضرب بجميع ماله، و ضرب باقي الغرماء ببقيّة ديونهم. و لو مات و عليه دَيْنٌ مؤجَّل، حلّ أجل الدَّيْن عليه. و سيأتي إن شاء اللّه تعالى.

مسألة 390: قد ذكرنا أنّ المفلس محجور عليه في التصرّفات الماليّة،

فلو أعتق بعض عبده، لم ينفذ عتقه - و به قال مالك و ابن أبي ليلى و الشافعي و أحمد في إحدى الروايتين(1) - لأنّه تبرّع، و هو ممنوع منه بحقّ الغرماء، فلم ينفذ عتقه، كالمريض المستغرق دَيْنُه مالَه. و لأنّه محجور عليه، فلم ينفذ عتقه، كالسفيه.

و قال أبو يوسف و أحمد - في الرواية الأُخرى - و إسحاق: إنّه ينفذ عتقه؛ لأنّه مالك رشيد، فينفذ، كما قبل الحجر، بخلاف سائر التصرّفات؛ لأنّ للعتق تغليباً و سرايةً(2).

و الفرق بين ما بعد الحجر و قبله ظاهر؛ لتعلّق حقّ الغرماء في الثاني، دون الأوّل، و تعلّق حقّ الغير يمنع من نفوذ العتق، كالرهن، و السراية من شرطها الإيسار حتى يؤخذ منه قيمة نصيب شريكه و لا يتضرّر، و لو كان معسراً، لم ينفذ عتقه، إلاّ في ملكه؛ صيانةً لحقّ الغير و حفظاً له عن الضياع، فكذا هنا.

********

(1 و 2) المغني 531:4، الشرح الكبير 502:4.

ص: 176

مسألة 391: لو جنى المفلس بعد الحجر جنايةً أوجبت مالاً، شارك المجنيّ عليه الغرماء؛

لأنّ حقّ المجنيّ عليه ثبت(1) بغير اختياره.

و لو كانت الجناية موجبةً للقصاص فعفا صاحبها عنها إلى مالٍ، أو صالحه المفلس على مالٍ، قال أحمد: شارك الغرماء؛ لأنّ سببه يثبت بغير اختياره، فأشبه ما لو أوجبت المال(2).

و يحتمل عندي أنّه لا يشارك؛ لأنّ الجناية موجَبُها القصاص، و إنّما يثبت المال صلحاً، و هو متأخّر عن الحجر، فلا يشارك الغرماء، كما لو استدان بعد الحجر.

لا يقال: لِمَ لا قُدّم حقّ المجنيّ عليه على سائر الغرماء، كما لو جنى عبد المفلس، فإنّ حقّ المجنيّ عليه مقدّم هنا؟

لأنّا نقول: الفرق ظاهر؛ فإنّ المجنيّ عليه في صورة العبد تعلّق حقّه بعين العبد، و هنا تعلّق حقّه بالذمّة، فكان كغيره من الغرماء.

مسألة 392: قد بيّنّا أنّه لا يجوز أن يباع على المفلس مسكنه و لا خادمه إن كان من أهله،

سواء كان المسكن و الخادم - اللّذان لا يستغنى عنهما - عين مال بعض الغرماء أو كان جميع أمواله أعيان أموالٍ أفلس بأثمانها، و وجدها أصحابها، أو لا.

و قال أحمد: إن كان المسكن و الخادم عين مال بعض الغرماء، كان له أخذهما؛ لقوله عليه السلام: «مَنْ أدرك متاعه عند رجل بعينه قد أفلس فهو أحقّ به»(3)

********

(1) في «ث» و الطبعة الحجريّة: «يثبت».

(2) المغني 532:4، الشرح الكبير 502:4-503.

(3) تقدّم تخريجه في ص 92، الهامش (1).

ص: 177

و لأنّ حقّه تعلّق بالعين، فكان أقوى سبباً من المفلس. و لأنّ منعهم من أخذ أعيان أموالهم يفتح باب الحيل بأن يشتري مَنْ لا مال له في ذمّته ثياباً يلبسها و داراً يسكنها و خادماً يخدمه و فرساً يركبها و طعاماً له و لعياله و يمتنع على أربابها أخذها؛ لتعلّق حاجته بها، فتضيع أموالهم، و يستغني هو [بها](1)(2).

و الحديث ليس على إطلاقه؛ لأنّه مشروط - إجماعاً - بشرائط مذكورة، فخرج عن الاحتجاج به في صورة النزاع؛ لأنّ شرط الأخذ عندنا أن لا يكون ممّا يحتاج إليه المفلس في ضروريّات معاشه، و لعموم الأخبار الدالّة على المنع من بيع المسكن، و قد ذكرنا بعضها في باب الدَّيْن(3) ، و حقّ المفلس تعلّق أيضاً بالعين حيث لا سواها، و التفريط في الحِيَل المذكورة من البائع، لا من المفلس.

و لو كان للمفلس صنعة تكفيه لمئونته و ما يجب عليه لعياله، أو كان يقدر على تكسّب ذلك، لم يُترك له شيء. و إن لم يكن له شيء من ذلك، تُرك له قوت يوم القسمة و ما قبله من يوم الحجر، و لا يُترك له أزيد من ذلك، و هو إحدى الروايتين عن أحمد.

و في الثانية: يُترك له ما يقوم به معاشه(4).

و ليس بجيّد.

إذا عرفت هذا، فينبغي أن يُترك له النفقة إلى يوم القسمة و يوم

********

(1) ما بين المعقوفين من المصدر.

(2) المغني 538:4، الشرح الكبير 537:4.

(3) راجع ج 13، ص 14، المسألة 11، و ص 16، المسألة 13.

(4) المغني 538:4، الشرح الكبير 539:4.

ص: 178

القسمة أيضاً، و يجعل ذلك ممّا لا يتعلّق به حقّ بعضهم؛ لأنّ مَنْ تعلّق حقّه بالعين أقوى سبباً من غيره.

و لو تعلّقت حقوق الجميع بالأعيان، قُسّط بينهم بالنسبة.

مسألة 393: لا يجب على المفلس التكسّب، و قد تقدّم

(1) ، فلا يُجبر على قبول هديّة و لا صدقة و لا وصيّة و لا قرض، و لا تُجبر المرأة على أخذ مهرها من الزوج؛ لما في ذلك من المنّة و التضرّر لو قهرت الزوج على أخذ المهر إن خافت من ذلك، و إلاّ أُخذ منه، و لا تُجبر على النكاح لتأخذ مهرها؛ لما في النكاح من وجوب حقوقٍ عليها.

مسألة 394: لو اشترى حَبّاً فزرعه و اشترى ماءً فسقاه فنبت ثمّ أفلس

فإنّهما(2) يضربان بثمن الحَبّ و الماء مع الغرماء، و لا يرجعان في الزرع؛ لأنّ عين مالهما غير موجودة فيه، كما لو اشترى طعاماً فأطعمه عبده حتى كبر، فإنّه لا حقّ له في العين، و لأنّ نصيب الماء منه غير معلومٍ لأحدٍ من الناس.

و كذا لو اشترى بيضةً و تركها تحت دجاجة حتى صارت فرخاً ثمّ أعسر، لم يرجع بائع البيضة في الفرخ؛ لأنّ عينها غير موجودة.

و للشافعي وجهان(3).

مسألة 395: إذا باع أمين الحاكم عيناً للمفلس، فتلف الثمن في يده

********

(1) في ص 60، المسألة 309.

(2) أي: بائعا الحَبّ و الماء.

(3) الحاوي الكبير 282:6 و 283، الوسيط 27:4-28، حلية العلماء 503:4، التهذيب - للبغوي - 94:4، العزيز شرح الوجيز 46:5-47، روضة الطالبين 394:3.

ص: 179

بغير تفريطٍ ثمّ ظهر أنّ العين مستحقّة، رجع(1) بالدرك على المفلس؛ لأنّها بِيعت عليه.

و نقل المزني عن الشافعي أنّ المشتري يأخذ الثمن من مال المفلس(2).

و روى غيره أنّه يضرب بالثمن مع الغرماء(3).

و اختلف أصحابه على طريقين، منهم مَنْ قال: على قولين، و منهم مَنْ قال: على اختلاف حالين(4).

و الوكيل و الوليّ كالأب و الجدّ و أمين الحاكم إذا باعوا مال غيرهم ثمّ استحقّ المال على المشتري، كانت العهدة على مَنْ بِيع عليه.

و قد تقدّم الكلام على ذلك في الرهن، فإنّ أبا حنيفة يقول: على الوكيل، بخلاف الأب و الجدّ، و قد سبق(5).

و إذا جنى عبد المفلس، تعلّق الأرش برقبته، و كان ذلك مقدَّماً على حقوق الغرماء؛ لأنّ الجناية لا محلّ لها سوى رقبة الجاني، و ديون الغرماء متعلّقة بذمّة المفلس، فيُقدّم الحقّ المختصّ بالعين، كما يُقدّم حقّ الجناية على حقّ الرهن.

إذا ثبت هذا، فإنّه يُباع العبد في الجناية، فإن كان وفق الجناية، فلا بحث. و إن زادت قيمته، رُدّ الباقي إلى الغرماء. و إن كانت أقلّ،

********

(1) في النسخ الخطّيّة: «يرجع».

(2 و 3) الحاوي الكبير 330:6، المهذّب - للشيرازي - 329:1، العزيز شرح الوجيز 21:5.

(4) الحاوي الكبير 330:6-331، المهذّب - للشيرازي - 329:1، العزيز شرح الوجيز 21:5.

(5) في ج 13، ص 277 و 278، المسألة 190.

ص: 180

لم يثبت للمجنيّ عليه سوى ذلك.

مسألة 396: قد بيّنّا أنّه إذا ظهر غريمٌ آخَر، نقض الحاكم القسمة، أو يرجع على كلّ واحدٍ بحصّةٍ يقتضيها الحساب.

و مع نقض القسمة لو كان قد حصل نماء متجدّد بعد القسمة هل يتشارك الغرماء فيه ؟ الأقرب: ذلك؛ لظهور بطلان القسمة.

و كذا لو قُسّم التركة ثمّ ظهر بطلان القسمة و حصل النماء.

أمّا لو ظهر دَيْنٌ على الميّت و أبطلت القسمة، فإن قلنا: النماء للوارث، فلا بحث، و إلاّ تبع التركة.

و لو تلف المال بعد القبض، ففي احتسابه على الغرماء إشكال.

** *

ص: 181

ص: 182

المقصد الرابع: في الحجر

اشارة

الحجر في اللغة: المنع و التضييق. و منه سُمّي الحرام حَجْراً؛ لما فيه من المنع.

قال اللّه تعالى:«يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَ يَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً» (1) أي حراماً محرّماً.

و سُمّي العقل حِجْراً؛ لأنّه يمنع صاحبه من ارتكاب القبائح و ما يضرّ عاقبته، قال اللّه تعالى:«هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ» (2).

و اعلم أنّ المحجور عليه نوعان:

أحدهما: مَنْ حُجر عليه لمصلحة الغير.

و الثاني: مَنْ حُجر عليه لمصلحة نفسه.

و أقسام الأوّل خمسة:

أ: حجر المفلس لحقّ الغرماء.

ب: حجر الراهن لحقّ المرتهن.

ج: حجر المريض لحقّ الورثة.

د: حجر العبد لحقّ السيّد، و المكاتَب لحقّ السيّد و حقّ اللّه تعالى.

ه: حجر المرتدّ لحقّ المسلمين.

و هذه الأقسام خاصّة لا تعمّ جميع التصرّفات، بل يصحّ منهم [الإقرار

ص: 183


1- الفرقان: 22.
2- الفجر: 5.

بالعقوبات](1) و كثير من التصرّفات، و لها أبواب مختصّة بها.

و أقسام الثاني ثلاثة:

أ: حجر المجنون.

ب: حجر الصبي.

ج: حجر السفيه.

و المذكور في هذا المقصد ثلاثة: الصغير، و المجنون، و السفيه.

و الحجر على هؤلاء عامّ؛ لأنّهم يُمنعون من التصرّف في أموالهم و ذممهم، فهنا فصول:ه.

ص: 184


1- بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «العقوبات». و الظاهر ما أثبتناه.

الفصل الأوّل: الصغير

اشارة

و هو محجور عليه بالنصّ و الإجماع - سواء كان مميّزاً أو لا - في جميع التصرّفات، إلاّ ما يستثنى، كعباداته و إسلامه و إحرامه و تدبيره و وصيّته و إيصاله الهديّة و إذنه في دخول الدار على خلافٍ في ذلك.

قال اللّه تعالى:«وَ ابْتَلُوا الْيَتامى حَتّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ» (1) شرط في تصرّفهم الرشدَ و البلوغَ، و عبّر عن البلوغ بالنكاح؛ لأنّه يشتهى بالبلوغ.

و قال اللّه تعالى:«فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ» (2).

قيل: السفيه: المبذّر. و الضعيف: الصبي؛ لأنّ العرب تُسمّي كلّ قليل العقل ضعيفاً. و الذي لا يستطيع أن يملّ: المغلوب على عقله(3).

مسألة 397: الحجر بالصبا يزول بزوال الصبا، و هو البلوغ. و له أسباب:

منها: ما هو مشترك بين الذكور و الإناث.

و منها ما هو مختصّ بالنساء.

ص: 185


1- النساء: 6.
2- البقرة: 282.
3- الحاوي الكبير 340:6-341، التهذيب - للبغوي - 125:4، و كما في العزيز شرح الوجيز 67:5.

أمّا المشترك: فثلاثة: الإنبات للشعر، و الاحتلام، و السنّ.

و المختصّ أمران: الحيض، و الحبل. و هُما للنساء خاصّة.

فهنا مباحث:

البحث الأوّل: الإنبات.
اشارة

و الإنبات مختصّ بشعر العانة الخشن، و لا اعتبار بالزغب(1) و الشعرِ الضعيف الذي قد يوجد في الصغر، بل بالخشن الذي يحتاج في إزالته إلى الحلق حول ذكر الرجل أو فرج المرأة.

و نبات هذا الشعر الخشن يقتضي الحكم بالبلوغ.

و الأقرب: أنّه دلالة على البلوغ؛ فإنّا نعلم سبق البلوغ عليه؛ لحصوله على التدريج.

و للشافعي قولان:

أحدهما: أنّه بلوغ.

و الثاني: أنّه دليل على البلوغ(2).

و قال أبو حنيفة: الإنبات ليس بلوغاً و لا دليلاً عليه؛ لأنّه إنبات شعر، فأشبه شعر الرأس و سائر البدن(3).

و الفرق ظاهرٌ؛ فإنّ التجربة قاضية بأنّ هذا الشعر لا ينبت إلاّ بعد البلوغ، بخلاف غيره من الشعور التي في البدن و الرأس.

ص: 186


1- الزغب: أوّل ما يبدو من شعر الصبي. لسان العرب 450:1 «زغب».
2- الحاوي الكبير 343:6، التنبيه: 103، المهذّب - للشيرازي - 337:1-338، حلية العلماء 533:4، التهذيب - للبغوي - 133:4، العزيز شرح الوجيز 70:5، روضة الطالبين 412:3، المغني 556:4، الشرح الكبير 557:4.
3- الحاوي الكبير 343:6، حلية العلماء 533:4، العزيز شرح الوجيز 69:5، المغني 556:4، الشرح الكبير 557:4.

و لما روى العامّة أنّ سعد بن معاذ حكم على بني قريظة بقتل مقاتلتهم و سبي ذراريهم، فكان يكشف عن مؤتزر المراهقين، فمَنْ أنبت منهم قُتل، و مَنْ لم ينبت جُعل في الذراري(1).

و عن عطية القرظي قال: عُرضنا على رسول اللّه صلى الله عليه و آله يوم قريظة و كان مَنْ أنبت قُتل، و مَنْ لم ينبت خُلّي سبيله، فكنتُ في مَنْ لم ينبت، فخلّى سبيلي(2).

و من طريق الخاصّة: ما رواه حفص بن البختري(3) عن الصادق عن الباقر عليهما السلام، قال: قال: «[إنّ](4) رسول اللّه صلى الله عليه و آله عرضهم يومئذٍ على(5) العانات، فمَنْ وجده أنبت قَتَله، و مَنْ لم يجده أنبت ألحقه بالذراري»(6).

و لأنّه خارج ملازم للبلوغ غالباً، و يستوي فيه الذكر و الأُنثى، فكان عَلَماً على البلوغ. و لأنّ الخارج ضربان: متّصل و منفصل، فلمّا كان من المنفصل ما يثبت به البلوغ، كذا المتّصل.

مسألة 398: نبات هذا الشعر دليلٌ على البلوغ في حقّ المسلمين و الكفّار،

عند علمائنا أجمع - و به قال مالك و أحمد و الشافعي في أحد القولين(7) - لأنّ ما كان عَلَماً على البلوغ في حقّ المشركين كان عَلَماً في

ص: 187


1- العزيز شرح الوجيز 69:5، المغني 556:4، الشرح الكبير 557:4.
2- سنن ابن ماجة 2541/849:2، سنن أبي داوُد 4404/141:4، سنن البيهقي 58:6، مسند أحمد 18928/519:5، العزيز شرح الوجيز 69:5-70.
3- في المصدر: «أبو البختري» بدل «حفص بن البختري».
4- ما بين المعقوفين من المصدر.
5- في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «عن» بدل «على». و الصحيح ما أثبتناه من المصدر.
6- التهذيب 339/173:6.
7- المعونة 1174:2، المغني 556:4، الشرح الكبير 557:4، الحاوي الكبير 344:6، المهذّب - للشيرازي - 338:1، حلية العلماء 533:4، التهذيب - للبغوي - 134:4، العزيز شرح الوجيز 70:5.

حقّ المسلمين، كالحمل.

و في الثاني: أنّه لا يكون عَلَماً على البلوغ في المسلمين، و يكون دليلاً في حقّ الكفّار.

هذا إذا قال: إنّه دليل على البلوغ، و إن قال: إنّه بلوغ، كان بلوغاً في حقّ المسلمين و الكفّار(1).

و وجه أنّه بلوغٌ حقيقةً: قياسه على سائر الأسباب.

و وجه أنّه دليلٌ عليه - و هو أظهر القولين عندنا -: أنّ البلوغ غير مكتسب، و الإنبات شيء يُستعجل بالمعالجة.

و إنّما فرّق بين المسلمين و الكفّار إذا قلنا: إنّه دليل على البلوغ بأن جعله دليلاً في حقّ الكفّار خاصّةً؛ لأنّه يمكن الرجوع إلى المسلمين في معرفة البلوغ، و مراجعة الآباء من المسلمين و الاعتماد على إخبارهم عن تواريخ المواليد سهل، بخلاف الكفّار، فإنّه لا اعتماد على قولهم.

و لأنّ التهمة تلحق هذه العلامة في المسلمين، دون الكفّار - لأنّ المسلم يحصل له الكمال في الأحكام بذلك و استفادة الولايات - فربما استعجلوا بالمعالجة، بخلاف الكفّار، فإنّهم لا يتّهمون بمثله؛ لأنّهم حينئذٍ يُقتلون، أو تُضرب عليهم الجزية، و التهمة بالاستعجال قد لا تحصل في المسلمين؛ لما روي أنّ غلاماً من الأنصار شبَّب بامرأة في شعره، فرُفع إلى4.

ص: 188


1- الحاوي الكبير 344:6، المهذّب - للشيرازي - 338:1، حلية العلماء 533:4، التهذيب - للبغوي - 134:4، العزيز شرح الوجيز 70:5، المغني 556:4، الشرح الكبير 557:4.

عمر بن الخطّاب، فلم يجده أنبت، فقال: لو أنبتَّ الشعرَ لجلدتُك(1).

مسألة 399: و لا اعتبار بشعر الإبط عندنا.

و للشافعي وجهان، هذا أصحّهما؛ إذ لو كان معتبراً في البلوغ، لما كشفوا عن المؤتزر؛ لحصول الغرض من غير كشف العورة.

و الثاني: أنّه نبات كنبات شعر العانة؛ لأنّ إنبات العانة يقع في أوّل تحريك الطبيعة في الشهوة، و نبات الإبط يتراخى عن البلوغ في الغالب، فكان أولى بالدلالة على حصول البلوغ(2).

و أمّا نبات اللحية و الشارب فإنّه أيضاً لا أثر لهما في البلوغ، و هو أحد وجهي الشافعيّة.

و الثاني: أنّهما يلحقان بشعر العانة(3).

و بعض الشافعيّة ألحق شعر الإبط بشعر العانة، و لم يلحق اللحية و الشارب بالعانة(2).

و أمّا ثقل الصوت و نهود الثدي و نتوء طرف الحلقوم و انفراق الأرنبة فلا أثر له، كما لا أثر لاخضرار الشارب، و هو أحد قولي الشافعيّة(5).

و الثاني: أنّه ملحق بشعر العانة(6).

و لا بأس به عندي بناءً على العادة القاضية بتأخّر ذلك عن البلوغ.

ص: 189


1- المهذّب - للشيرازي - 338:1، المغني 556:4-557، الشرح الكبير 557:4، العزيز شرح الوجيز 70:5، و فيها: «لحددتك» بدل «لجلدتك». و نحوه في سنن البيهقي 58:6. (2 و 3) العزيز شرح الوجيز 70:5، روضة الطالبين 412:3.
2- التهذيب - للبغوي - 134:4، العزيز شرح الوجيز 70:5-71، روضة الطالبين 412:3. (5 و 6) العزيز شرح الوجيز 71:5، روضة الطالبين 413:3.
البحث الثاني: في الاحتلام.
مسألة 400: الاحتلام - و هو خروج المني، و هو الماء الدافق الذي يخلق منه الولد - بلوغٌ في الرجل و المرأة،

عند علمائنا أجمع، و لا نعلم فيه خلافاً في الذكر.

قال اللّه تعالى:«وَ إِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا» (1) و قال تعالى:«وَ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ» (2).

و قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: «رُفع القلم عن ثلاث: عن الصبي حتى يحتلم - و روي: حتى يبلغ الحلم - و عن المجنون حتى يفيق، و عن النائم حتى ينتبه»(3).

و قال عليه السلام لمعاذ: «خُذْ من كلّ حالمٍ ديناراً»(4).

و قد أجمع العلماء كافّة على أنّ الفرائض و الأحكام تجب على المحتلم العاقل(5).

مسألة 401: و لا فرق في إفادة خروج المني البلوغَ بين الرجال و النساء كما في الشعر، عند عامّة أهل العلم.

و للشافعي قول: إنّ خروج المني من النساء لا يوجب بلوغهنّ؛ لأنّه نادر فيهنّ، ساقط العبرة(6)

ص: 190


1- النور: 59.
2- النور: 58.
3- سنن أبي داوُد 140:4-4399/141-4403 بتفاوت يسير.
4- راجع الهامش (4) من ص 291 في ج 9 من هذا الكتاب.
5- كما في المغني و الشرح الكبير 556:4.
6- الوسيط 40:4، العزيز شرح الوجيز 69:5، روضة الطالبين 412:3.

و على هذا قال الجويني: الذي يتّجه عندي أن لا يلزمها الغسل؛ لأنّه لو لزم لكان حكماً بأنّ الخارج منيّ، و الجمع بين الحكم بأنّه منيّ و بين الحكم بأنّه لا يحصل البلوغ به متناقض(1).

قال بعض الشافعيّة: إن كان التناقض مأخوذاً من تعذّر التكليف بالغسل مع القول بعدم البلوغ، فنحن لا نعني بلزوم الغسل سوى ما نعنيه بلزوم الوضوء على الصبي إذا أحدث، فبالمعنى الذي أطلقنا ذلك و لا تكليف نطلق هذا. و إن كان غير ذلك، فلا بدّ من بيانه(2).

و على هذا القول تصير أسباب البلوغ ثلاثة أقسام: قسم مشترك بين الرجال و النساء، و قسم مختصّ بالنساء، و قسم مختصّ بالرجال، و هو خروج المنيّ، لكن إطباق أكثر العلماء على خلاف هذا(3).

قالت أُمّ سلمة: سألت النبيّ صلى الله عليه و آله عن المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل، فقال النبيّ صلى الله عليه و آله: «إذا رأت ذلك فلتغتسل»(4).

مسألة 402: الحلم هو خروج المني من الذكر أو قُبُل المرأة مطلقاً،

سواء كان بشهوة أو غير شهوة، و سواء كان بجماع أو غير جماع، و سواء كان في نومٍ أو يقظة.

و لا يختصّ بالاحتلام، بل هو منوط بمطلق الخروج مع إمكانه باستكمال تسع سنين مطلقاً عند الشافعي(5) ، و عندنا في المرأة خاصّة،

ص: 191


1- العزيز شرح الوجيز 69:5، روضة الطالبين 412:3.
2- العزيز شرح الوجيز 69:5.
3- لاحظ العزيز شرح الوجيز 69:5، و المغني 556:4، و الشرح الكبير 555:4.
4- نقله الشيخ الطوسي - كما في المتن - في المبسوط 282:2. و في صحيح مسلم 311/250:1، و سنن البيهقي 169:1، و مسند أحمد 13598/197:4 عن أُمّ سليم.
5- العزيز شرح الوجيز 69:5، روضة الطالبين 412:3.

و لا عبرة بما ينفصل قبل ذلك.

و فيه للشافعيّة وجهان آخَران ذكرهما الجويني:

أحدهما: أنّ إمكان الاحتلام يدخل بمضيّ ستّة أشهر من السنة العاشرة.

و الثاني: أنّه يدخل بتمام العاشرة(1).

و هذه الوجوه عندهم كالوجوه في أقلّ سني الحيض، لكنّ العاشرة هنا بمثابة التاسعة هناك؛ لأنّ في النساء حدّةً في الطبيعة و تسارعاً إلى الإدراك(2).

مسألة 403: الخنثى المشكل إذا خرج المني من أحد فرجيه، لم يُحكم ببلوغه؛
اشارة

لجواز أن يكون الذي خرج منه المني خلقةً زائدة.

و إن خرج المني من الفرجين جميعاً، حُكم ببلوغه.

و إن خرج الدم من فرج النساء، و المني من الذكر، حُكم ببلوغه؛ لأنّه إن كان رجلاً، فخروج الماء بلوغه. و إن كان أُنثى، فخروج دم الحيض بلوغه.

هذا هو المشهور عند علمائنا و عند الشافعي(3).

و للشافعي قولٌ: إنّه إذا أمنى و حاض؛ لم يُحكم ببلوغه(4)

ص: 192


1- العزيز شرح الوجيز 69:5، روضة الطالبين 412:3.
2- العزيز شرح الوجيز 69:5.
3- الحاوي الكبير 348:6، المهذّب - للشيرازي - 338:1، الوسيط 41:4-42، التهذيب - للبغوي - 134:4، العزيز شرح الوجيز 71:5، روضة الطالبين 413:3، المغني 559:4، الشرح الكبير 558:4.
4- الحاوي الكبير 348:6، الوسيط 41:4-42، العزيز شرح الوجيز 71:5، روضة الطالبين 413:3.

و تأوّله أصحابه بوجهين:

أحدهما: أنّه يريد بذلك أنّه: أمنى و حاض من فرجٍ واحد.

و الثاني: أنّه أراد إن حاض [أو](1) أمنى، لم أحكم ببلوغه؛ لما ذكرناه(2).

إذا ثبت هذا، فإذا خرج من ذكره ما هو بصفة المني و من فرجه ما هو بصفة الحيض، ففي الحكم ببلوغه عند الشافعيّة وجهان:

أصحّهما عندهم: أنّه يُحكم به؛ لأنّه إمّا ذكر و قد أمنى، و إمّا أُنثى و قد حاضت.

و الثاني: لا؛ لتعارض الخارجين، و إسقاط كلّ واحدٍ منهما حكمَ الآخَر، و لهذا لا يُحكم - و الحال هذه - بالذكورة و لا بالأُنوثة(3). و هو ظاهر قول الشافعي(4).

و إن وُجد أحد الأمرين دون الآخَر أو أمنى و حاض من الفرج، فعامّة الشافعيّة أنّه لا يُحكم ببلوغه؛ لجواز أن يظهر من الفرج الآخَر ما يعارضه(5).

و قال الجويني: ينبغي أن يُحكم بالبلوغ بأحدهما، كما يُحكم بالذكورة و الأُنوثة، ثمّ إن ظهر خلافه، غيّرنا الحكمَ، و كيف ينتظم منّا أن نحكم بأنّه ذكر أمنى(6) و لا نحكم بأنّه قد بلغ!؟(7)3.

ص: 193


1- بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «و». و الصحيح ما أثبتناه كما في المصدر.
2- الحاوي الكبير 348:6.
3- العزيز شرح الوجيز 71:5، روضة الطالبين 413:3.
4- العزيز شرح الوجيز 71:5.
5- العزيز شرح الوجيز 71:5، روضة الطالبين 413:3.
6- في العزيز شرح الوجيز 71:5: «أو أُنثى» بدل «أمنى».
7- العزيز شرح الوجيز 71:5، روضة الطالبين 413:3.

قال أكثر الحنابلة: إن خرج المني من ذكر الخنثى المشكل [فهو] عَلَم [على] بلوغه و أنّه ذكر. و إن خرج من فرج المرأة أو حاض، فهو عَلَمٌ على بلوغه و كونه أُنثى؛ لأنّ خروج البول من [أحد] الفرجين دليل على كونه رجلاً [أو](1) امرأةً، فخروج المني أو الحيض أولى، و إذا ثبت كونه رجلاً خرج المني من ذكره أو امرأةً خرج الحيض من فرجها، لزم وجود البلوغ.

و لأنّ خروج منيّ الرجل من المرأة أو الحيض من الرجل مستحيل، فكان دليلاً على التعيين، فإذا ثبت التعيين، لزم كونه دليلاً على البلوغ، كما لو تعيّن قبل خروجه. و لأنّه منيٌّ خارج من ذكر أو حيض خارج من فرج، فكان عَلَماً على البلوغ، كالمنيّ الخارج من الغلام، و الحيضِ الخارج من الجارية. و لأنّ خروجهما معاً دليل على البلوغ، فخروج أحدهما أولى؛ لأنّ خروجهما معاً يفضي إلى تعارضهما، و إسقاط دلالتهما؛ إذ لا يتصوّر أن يجتمع حيضٌ صحيح و منيّ رجل، فوجب أن يكون أحدهما فضلةً خارجة من غير محلّها، و ليس أحدهما بذلك أولى من الآخَر، فتبطل دلالتهما، كالبيّنتين إذا تعارضتا، و كالبول إذا خرج من المخرجين جميعاً، بخلاف ما إذا وُجد أحدهما منفرداً، فإنّ اللّه تعالى أجرى العادة أنّ الحيض يخرج من فرج المرأة عند بلوغها، و منيّ الرجل يخرج من ذكره عند بلوغه، فإذا وُجد ذلك من غير معارضٍ، وجب أن يثبت حكمه، و يقضى بثبوت حكم دلالته، كالحكم بكونه رجلاً بخروج البول من ذكره، و بكونه امرأةً بخروجه من فرجها، و الحكمِ للغلام ببلوغه مع [خروج] المني من ذكره، و للجارية بخروج الحيض من فرجها، فعلى هذا إن خرجا جميعاً، لم يثبت كونهر.

ص: 194


1- بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «و». و ما أثبتناه من المصدر.

رجلاً و لا امرأةً؛ لأنّ الدليلين تعارضا، فأشبه ما لو خرج البول من الفرجين(1).

و هذا لا بأس به عندي.

تذنيب: إذا خرج المنيّ من الذكر و الحيضُ من الفرج، فقد بيّنّا أنّهما تعارضا في الحكم بالذكورة أو بالأُنوثة،

و سقط اعتبارهما فيهما.

و هل تثبت دلالتهما على البلوغ ؟ الأقرب: ذلك - و به قال الشافعي(2)المغني و الشرح الكبير 559:4.(3) - لأنّه إمّا رجل فقد خرج المني من ذكره، و إمّا امرأة فقد حاضت.

و قال بعض الجمهور: لا يثبت البلوغ؛ لأنّه يجوز أن لا يكون هذا حيضاً و لا منيّاً، و لا يكون فيه دلالة، و قد دلّ تعارضهما على ذلك، فانتفت دلالتهما على البلوغ، كانتفاء دلالتهما على الذكوريّة و الأُنوثيّة(3).

البحث الثالث: في السنّ.
مسألة 404: السنّ عندنا دليل على البلوغ - و به قال جماهير العامّة،

كالشافعي و الأوزاعي و أبي حنيفة و أصحابه و أحمد بن حنبل(4) - لما رواه العامّة عن ابن عمر قال: عُرضت على رسول اللّه صلى الله عليه و آله في جيش يوم بدر و أنا ابن ثلاث عشرة سنة، فردّني، و عُرضت عليه يوم أُحد و أنا ابن أربع

ص: 195


1- المغني 558:4-559، الشرح الكبير 558:4، و ما بين المعقوفين من المصدر.
2- راجع المصادر في الهامش
3- من ص 192.
4- الحاوي الكبير 344:6، المهذّب - للشيرازي - 337:1، التنبيه: 103، الوجيز 176:1، الوسيط 39:4، حلية العلماء 532:4، التهذيب - للبغوي - 131:4 و 132، العزيز شرح الوجيز 68:5، روضة الطالبين 411:3، الهداية - للمرغيناني - 284:3، بدائع الصنائع 172:7، المغني 557:4، الشرح الكبير 556:4.

عشرة سنة، فردّني و لم يرني بلغت، و عُرضت عليه عام الخندق و أنا ابن خمس عشرة سنة فقبلني و أخذني في المقاتلة(1).

و عن أنس عن النبيّ صلى الله عليه و آله قال: «إذا استكمل المولود خمس عشرة سنة كُتب ما لَه و ما عليه، و أُخذت منه الحدود»(2).

و من طريق الخاصّة: رواية أبي حمزة الثمالي عن الباقر عليه السلام، قال:

قلت له: جُعلت فداك في كَمْ تجري الأحكام على الصبيان ؟ قال: «في ثلاث عشرة سنة و أربع عشرة سنة» قلت: فإنّه لم يحتلم(3) ، قال: «و إن لم يحتلم، فإنّ الأحكام تجري عليه»(4).

و قال مالك: ليس السنّ دليلاً على البلوغ و لا بلوغاً في نفسه، و لا حدّ للسنّ في البلوغ، بل يُعلم البلوغ بغلظ الصوت و شقّ الغضروف، و هو رأس الأنف(5).

و قال داوُد: لا حدّ للبلوغ من السنّ؛ لأنّ النبي صلى الله عليه و آله قال: «رُفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يحتلم»(6) فلا يحصل البلوغ بدون الاحتلام و إن طعن في السن(7)4.

ص: 196


1- الطبقات الكبرى - لابن سعد - 143:4، تاريخ دمشق 95:31، سنن البيهقي 55:6، مسند الطيالسي: 1859/254.
2- المغني 557:4-558، العزيز شرح الوجيز 68:5.
3- كذا، و في المصدر: «فإن لم يحتلم فيها».
4- التهذيب 856/310:6.
5- المعونة 1174:2، الحاوي الكبير 344:6، حلية العلماء 532:4، العزيز شرح الوجيز 68:5، المغني 557:4، الشرح الكبير 556:4.
6- سنن أبي داوُد 4403/141:4، سنن الدار قطني 173/139:3، سنن البيهقي 206:6، المستدرك - للحاكم - 59:2، مسند أحمد 145:7-24173/146.
7- حلية العلماء 532:4، المغني 557:4، الشرح الكبير 556:4.

و لا دلالة في الخبر على امتناع إثبات البلوغ بغير الاحتلام إذا ثبت بالدليل.

مسألة 405: الذكر و المرأة مختلفان في السنّ،
اشارة

فالذكر يُعلم بلوغه بمضيّ خمس عشرة سنة، و الأُنثى بمضيّ تسع سنين، عند علمائنا.

و مَنْ خالَف بين الذكر و الأُنثى أبو حنيفة. و سوّى بينهما الشافعي و الأوزاعي و أبو ثور و أحمد بن حنبل و محمّد و أبو يوسف.

إذا عرفت هذا، فإنّ الشافعي و الأوزاعي و أبا ثور و أحمد و أبا يوسف و محمّد قالوا: حدّ بلوغ الذكر و الأُنثى بلوغ خمس عشرة سنة كاملة(1).

و قال أبو حنيفة: حدّ بلوغ المرأة سبع عشرة سنة بكلّ حال.

و له في الذَّكَر روايتان:

إحداهما: سبع عشرة أيضاً.

و الأُخرى: ثماني عشرة سنة كاملة(2).

و قال أصحاب مالك: حدّ البلوغ في الغلام و المرأة سبع عشرة سنة و(3) ثماني عشرة سنة(4)

ص: 197


1- الحاوي الكبير 344:6، التنبيه: 103، المهذّب - للشيرازي - 337:1، الوجيز 176:1، الوسيط 39:4، حلية العلماء 532:4، التهذيب - للبغوي - 131:4 و 132، العزيز شرح الوجيز 68:5، روضة الطالبين 411:3، الهداية - للمرغيناني - 284:3، بدائع الصنائع 172:7، المغني 557:4، الشرح الكبير 556:4.
2- الاختيار لتعليل المختار 149:2، بدائع الصنائع 172:7، الهداية - للمرغيناني - 284:3، الحاوي الكبير 344:6، الوسيط 40:4، حلية العلماء 532:4، التهذيب - للبغوي - 132:4، العزيز شرح الوجيز 68:5.
3- في أغلب المصادر: «أو» بدل «و».
4- التلقين 423:2، الذخيرة 237:8، المعونة 1174:2، حلية العلماء 532:4-533، المغني 557:4، الشرح الكبير 556:4.

و ما قلناه أولى؛ لأنّ الغالب في منيّ الرجل أنّه يحصل ببلوغ خمس عشرة سنة، و المرأة قد تحيض ببلوغ تسع سنين، فإذا توافقت العلامات، دلّ على حصول البلوغ بذلك.

و قول أبي حنيفة و مالك و داوُد(1) يدفعه ما تقدّم(2) في خبر ابن عمر و غيره.

تذنيب: لا يحصل البلوغ بنفس الطعن في السنّ الخامسة عشر إذا لم يستكملها؛

عملاً بالاستصحاب و فتوى الأصحاب، و هو الظاهر من مذهب الشافعي(3).

و له وجهٌ آخَر: أنّ البلوغ يحصل بذلك؛ لأنّه حينئذٍ يُسمّى ابن خمس عشرة سنة(4).

و هو ممنوع.

و رواية(3) أبي حمزة عن الباقر عليه السلام في طريقها قولٌ، على أنّ جريان الأحكام عليه بمعنى التحفّظ، أو على سبيل الاحتياط حتى يكلّف العبادات للتمرين عليها و الاعتقاد لها، فلا يقع منه عند البلوغ الإخلال بشيء منها.

البحث الرابع: في الحيض و الحبل.
مسألة 406: الحيض في وقت الإمكان دليل البلوغ، و لا نعلم فيه خلافاً.

ص: 198


1- تقدّم قول مالك و داوُد في ص 196، المسألة 404.
2- في ص 195-196، المسألة 404. (3 و 4) التهذيب - للبغوي - 132:4، العزيز شرح الوجيز 68:5، روضة الطالبين 411:3.
3- تقدّمت الرواية في ص 196.

و الأصل فيه قول النبيّ صلى الله عليه و آله قال لأسماء بنت أبي بكر: «إنّ المرأة إذا بلغت المحيض لا يصلح أن يرى منها إلاّ هذا» و أشار إلى الوجه و الكفّين(1) ، علّق وجوب الستر بالحيض، و ذلك نوع تكليف، و قال صلى الله عليه و آله:

«لا تُقبل صلاة حائض إلاّ بخمار»(2) أشعر أنّها بالحيض كُلّفت الصلاة.

و لو اشتبه الخارج هل هو حيض أم لا، لم يُحكم بالبلوغ - إلاّ مع تيقّن أنّه حيض - عملاً بالاستصحاب.

مسألة 407: الحبل دليل البلوغ؛

لأنّه مسبوق بالإنزال، لأنّ اللّه تعالى أجرى عادته بأنّ الولد لا يخلق إلاّ من ماء الرجل و ماء المرأة.

قال اللّه تعالى:«أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ» (3) و قال تعالى:«فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَ التَّرائِبِ» (4).

لكنّ الولد لا يتيقّن إلاّ بالوضع، فإذا وضعت حكمنا بالبلوغ قبل الوضع بستّة أشهر و شيء؛ لأنّ أقلّ الحمل ستّة أشهر.

و لا فرق بين أن يكون ما ولدته تامّاً أو غير تامّ إذا علم أنّه آدميّ أو مبدأ صورة آدميّ، كعلقة تصوّرت، فإن كانت مطلّقةً و أتت بولدٍ يلحق الزوجَ، حكمنا ببلوغها لما قبل الطلاق.

ص: 199


1- سنن أبي داوُد 4104/62:4، سنن البيهقي 226:2، و 86:7.
2- سنن الترمذي 377/215:2، سنن البيهقي 233:2، المستدرك - للحاكم - 251:1.
3- الإنسان: 2.
4- الطارق: 5-7.

ص: 200

الفصل الثاني: الجنون

و لا خلاف بين العلماء كافّة في الحجر على المجنون ما دام مجنوناً، و أنّه لا ينفذ شيء من تصرّفاته؛ لسلب أهليّته عن ذلك.

و الحديث يدلّ عليه، و هو قوله عليه السلام: «رُفع القلم عن ثلاث: عن الصبي حتى يبلغ، و عن المجنون حتى يفيق، و عن النائم حتى ينتبه»(1).

و لا خلاف في أنّ زوال الجنون مقتضٍ لزوال الحجر عن المجنون، سواء حكم به حاكمٌ أو لا، و سواء كان الجنون يعتوره دائماً أو يأخذه أدواراً.

نعم، ينفذ تصرّفه حال إفاقته إذا عُرف رشده، و لا ينفذ حالة جنونه بلا خلافٍ.

الفصل الثالث: السفيه

اشارة

و فيه مباحث:

البحث الأوّل: في الحجر عليه.
مسألة 408: قال اللّه تعالى:«وَ لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِياماً»

(2) و قال تعالى:«وَ ابْتَلُوا الْيَتامى حَتّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ» (3).

ص: 201


1- تقدّم تخريجه في ص 190، الهامش (3).
2- النساء: 5.
3- النساء: 6.

و إنّما أضاف اللّه تعالى الأموالَ إلى الأولياء و هي لغيرهم؛ لأنّهم القُوّام عليها و المدبِّرون لها، و قد يضاف الشيء إلى غيره بأدنى ملابسة، كما يقال لأحد حاملي الخشبة: خُذْ طرفك. فقد شرط اللّه في دفع المال إلى اليتيم أمرين: البلوغ، و قد سبق، و الرشد؛ لأنّ الحجر عليه إنّما كان لعجزه عن التصرّف في ماله على وجه المصلحة حفظاً لمالِه عليه، و بالبلوغ و الرشد يقدر على التصرّف، و يحفظ ماله، فيزول الحجر؛ لزوال سببه.

إذا عرفت هذا، فإنّما يزول الحجر عن الصبي بأمرين: البلوغ، و الرشد؛ لقوله تعالى:«فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ» (1).

و البلوغ قد سلف.

و أمّا الرشد: فقال الشيخ رحمه الله: هو أن يكون مصلحاً لمالِه، عَدْلاً في دينه، فإذا كان مصلحاً لمالِه غيرَ عَدْلٍ في دينه، أو كان عَدْلاً في دينه غيرَ مصلحٍ لمالِه، فإنّه لا يُدفع إليه(2). و به قال الشافعي و الحسن البصري و ابن المنذر(3) ؛ لقوله تعالى:«فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ» (4) و الفاسق موصوف بالغيّ لا بالرشد.

و روي عن ابن عباس أنّه قال في قوله تعالى:«فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ6.

ص: 202


1- النساء: 6.
2- الخلاف 283:3-284، المسألة 3.
3- الأُم 215:3، مختصر المزني: 105، الحاوي الكبير 339:6، المهذّب - للشيرازي - 338:1، حلية العلماء 533:4-534، التفسير الكبير - للرازي - 188:9، الوجيز 176:1، العزيز شرح الوجيز 72:5، روضة الطالبين 416:3، بداية المجتهد 281:2، المغني 566:4، الشرح الكبير 559:4.
4- النساء: 6.

رُشْداً» (1) : هو أن يبلغ ذا وقار و حلم و عقل(2). و مثله عن مجاهد(3).

و لأنّ الفاسق غير رشيدٍ، فلو ارتكب شيئاً من المحرَّمات ممّا تسقط به العدالة، كان غير رشيدٍ.

و كذا لو كان مبذّراً لمالِه و تصرّفه في الملاذّ النفسيّة و الثياب الرفيعة و المركوبات الجليلة التي لا يليق بحاله، كان سفيهاً، و لم يكن رشيداً.

و قال أكثر أهل العلم: الرشد الصلاح في المال خاصّةً، سواء كان صالحاً في دينه أو لا، و هو قول مالك و أبي حنيفة و أحمد(4) ، و هو المعتمد عندي؛ لقوله تعالى:«فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ» (5).

روي عن ابن عباس أنّه قال: يعني صلاحاً في أموالهم(6).

و قال مجاهد: إذا كان عاقلاً(7).

و إذا كان حافظاً لمالِه، فقد أُنس منه الرشد.

و لأنّ هذا نكرة مثبتة يصدق في صورة ما، و لا ريب في ثبوت الرشد).

ص: 203


1- النساء: 6.
2- أحكام القرآن - للجصّاص - 63:2، تفسير ابن أبي حاتم 865:3، الخلاف - للطوسي - 284:3، ضمن المسألة 3.
3- تفسير الطبري (جامع البيان) 169:4، تفسير ابن أبي حاتم 865:3، أحكام القرآن - للجصّاص - 63:2، الجامع لأحكام القرآن 37:5، المغني 566:4، الشرح الكبير 559:4، و فيها تفسير الرشد بالعقل فقط.
4- بداية المجتهد 281:2، المعونة 1172:2، التهذيب - للبغوي - 137:4، التفسير الكبير - للرازي - 188:9، العزيز شرح الوجيز 73:5-74، المغني 566:4، الشرح الكبير 559:4.
5- النساء: 6.
6- تفسير الطبري (جامع البيان) 169:4، تفسير ابن أبي حاتم 865:3، المغني 566:4، الشرح الكبير 559:4.
7- راجع المصادر في الهامش (3).

للمصلح لماله و إن كان فاسقاً؛ لأنّه قد وُجد منه رُشْدٌ. و لأنّ العدالة لا تُعتبر في الرشد في الدوام، فلا تُعتبر في الابتداء، كالزهد في الدنيا. و لأنّ هذا مصلح لماله، فأشبه العدل. و لأنّ الحجر عليه إنّما كان لحفظ ماله عليه و حراسته عن التلف بالتبذير، فالمؤثّر فيه ما أثّر في تضييع المال، و الفاسق و إن لم يكن رشيداً في دينه لكنّه رشيد في ماله.

و يُنتقض قولهم بالكافر، فإنّه غير رشيد في دينه، و لا يُحجر عليه، كذا الفاسق. و لأنّه لو طرأ الفسق على المسلم بعد دفع ماله إليه، لم يزل رشده، و لم يُحجر عليه لأجل فسقه، و لو كانت العدالة شرطاً في الرشد، لزال بزوالها، كحفظ المال.

و لا يلزم من منع قبول شهادته منع دفع ماله إليه، فإنّ المعروف بكثرة الغلط و الغفلة و النسيان و مَنْ لا يتحفّظ من الأشياء المفضية إلى قلّة المروءة - كالأكل في السوق، و كشف الرأس بين الناس، و مدّ الرِّجْل عندهم، و أشباه ذلك - لا تُقبل شهادته، و تُدفع إليه أمواله(1) إجماعاً.

إذا عرفت هذا، فإنّ الفاسق إن كان يُنفق مالَه في المعاصي - كشراء الخمور و آلات اللهو و القمار - أو يتوصّل به إلى الفساد، فهو غير رشيد لا تُدفع إليه أمواله إجماعاً؛ لتبذيره لماله و تضييعه إيّاه في غير فائدة.

و إن كان فسقه لغير ذلك - كالكذب و منع الزكاة و إضاعة الصلاة - مع حفظه لماله، دُفع إليه ماله؛ لأنّ الغرض من الحجر حفظ المال، و هو يحصل بدون الحجر، فلا حاجة إليه.

و كذا لو طرأ الفسق الذي لا يتضمّن تضييع المال و لا تبذيره، فإنّهق.

ص: 204


1- في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «إليهم أموالهم». و ما أثبتناه يقتضيه السياق.

لا يُحجر عليه إجماعاً.

و اعلم أنّ الشافعي قال: الصلاح في الدين حين تكون الشهادة جائزةً(1).

و قد بيّنّا أنّ الشهادة قد تُردّ بترك المروءة، و الصنائع الدنيئة، كالزبّال، و السؤال على أبواب الدور و إن كان ذلك لا يُثبت الحجر.

مسألة 409: لو بلغ الصبي غيرَ رشيد، لم يُدفع إليه ماله و إن صار شيخاً و طعن في السنّ،

و هذا قول أكثر علماء الأمصار من أهل الحجاز و العراق و الشام و مصر، فإنّهم يرون الحجر على كلّ مضيّع لماله، صغيراً كان أو كبيراً - و به قال مالك و الشافعي و أحمد بن حنبل و أبو يوسف و محمّد(2) - لقوله تعالى:«وَ ابْتَلُوا الْيَتامى حَتّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ» (3) علّق دفع المال على شرطين: البلوغ، و الرشد، فلا يثبت الحكم بدونهما.

و قال تعالى:«وَ لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ» (4) يعني أموالهم.

و قال تعالى:«فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ» (5) أثبت الولاية على السفيه.

ص: 205


1- الأُمّ 215:3، مختصر المزني: 105، الحاوي الكبير 350:6.
2- بداية المجتهد 379:2-380، الجامع لأحكام القرآن 37:5، حلية العلماء 534:4، التهذيب - للبغوي - 138:4، العزيز شرح الوجيز 73:5، روضة الطالبين 416:3، المغني 554:4، الشرح الكبير 553:4، مختصر اختلاف العلماء 2311/216:5، الهداية - للمرغيناني - 281:3، الاختيار لتعليل المختار 252:2.
3- النساء: 6.
4- النساء: 5.
5- البقرة: 282.

و لأنّه مبذّر لماله، فلا يجوز دفعه إليه، كغير البالغ خمساً و عشرين سنة.

و قال أبو حنيفة: لا يُدفع إليه ماله إذا كان قد بلغ سفيهاً، و إن تصرّف، نفذ تصرّفه، فإذا بلغ خمساً و عشرين سنة، فُكّ عنه الحجر، و دُفع إليه ماله و إن كان سفيهاً؛ لقوله تعالى:«وَ لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» (1) و قد زال اليتم.

و لأنّه قد بلغ أشدّه، و صلح أن يصير جَدّاً. و لأنّه حُرٌّ بالغ عاقل مكلّف، فلا يُحجر عليه، كالرشيد(2).

و الآية لا دلالة فيها، و لو دلّت فإنّما تدلّ بمفهوم الخطاب، و هو ليس حجّةً عنده(3).

ثمّ هي مخصوصة بما قبل خمس و عشرين سنة بالإجماع، فيجب أن تخصّ بما بعدها؛ لأنّ الموجب للتخصيص علّة السفه، و هي موجودة فيما بعدها، فيجب أن يخصّ بها، كما أنّ الآية لمّا خُصّصت في حقّ المجنون لأجل جنونه قبل خمس و عشرين خُصّت أيضاً به بعد خمس و عشرين.

و المنطوق الذي استدللنا به أولى من مفهومه.ة.

ص: 206


1- الأنعام: 152، الإسراء: 34.
2- المبسوط - للسرخسي - 161:24، الهداية - للمرغيناني - 282:3، بدائع الصنائع 170:7، الاختيار لتعليل المختار 152:2، مختصر اختلاف العلماء 2311/216:5، الحاوي الكبير 318:6، حلية العلماء 534:4، العزيز شرح الوجيز 73:5-74، المغني و الشرح الكبير 554:4.
3- كما في المغني 555:4، و الشرح الكبير 554:4، و في ميزان الأُصول 445:1، و شرح اللمع 428:1، و الإشارة في معرفة الأُصول 294 نسبته إلى أصحاب أبي حنيفة.

و كونه جَدّاً ليس تحته معنى يقتضي الحكم، و لا أصل له في الشرع يشهد له بالاعتبار، فيكون إثباتاً للحكم بالتحكّم.

ثمّ هو ثابت في مَنْ له دون هذا السنّ، فإنّ المرأة تكون جَدّةً لإحدى و عشرين.

و قياسهم منتقض بمَنْ له دون خمس و عشرين سنة، و موجب الحجر قبل خمس و عشرين ثابت بعدها، فيثبت حكمه.

مسألة 410: هذا المحجور عليه للسفه قبل بلوغه خمساً و عشرين سنة و بعد بلوغه بالاحتلام لا ينفذ تصرّفه البتّة في شيء،

و لا ينفذ إقراره، و لا يصحّ بيعه، عند علمائنا أجمع - و به قال الشافعي(1) - لأنّه لا يدفع إليه ماله؛ لعدم رشده، فلا يصحّ تصرّفه و إقراره، كالصبي و المجنون. و لأنّه إذا نفذ إقراره و بيعه، تلف ماله بذلك، و لم يُفد منعه من ماله [شيئاً](2).

و قال أبو حنيفة: يصحّ بيعه و إقراره، و إنّما لا يسلّم إليه ماله إلاّ بعد خمس و عشرين سنة.

و بنى ذلك على أصله من أنّ البالغ لا يُحجر عليه، و إنّما يمنع من تسليمه المال؛ للآية(3)(4).

و هو خطأ؛ فإنّ تصرّفه لو كان نافذاً، لسُلّم إليه ماله، كالرشيد. و لأنّه لا فرق بين أن يسلّم إليه أو إلى مَنْ يقبضه بسببه، فإنّه إذا باع، وجب

ص: 207


1- التهذيب - للبغوي - 139:4، العزيز شرح الوجيز 77:5، روضة الطالبين 417:3.
2- ما بين المعقوفين أضفناه لأجل السياق.
3- الأنعام: 152، الإسراء: 34.
4- الاختيار لتعليل المختار 153:2، بدائع الصنائع 171:7، الهداية - للمرغيناني - 281:3، حلية العلماء 536:4، المغني و الشرح الكبير 555:4.

تسليمه إلى المشتري، و إلاّ لم يُفد تصرّفه شيئاً، فكان يتسبّب إلى إتلاف ماله بوسائط المشترين.

مسألة 411: لو بلغ و صرف أمواله في وجوه الخير

كالصدقات و فكّ الرقاب و بناء المساجد و المدارس و أشباه ذلك [فذلك](1) ممّن لا يليق به - كالتاجر و شبهه - تبذير - و به قال بعض الشافعيّة(2) - لأنّه إتلافٌ للمال.

قال اللّه تعالى:«وَ لا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَ لا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً * إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ» (3) و هو صريح في النهي عن هذه الأشياء.

و تضييع المال بإلقائه في البحر أو باحتمال الغبن الفاحش في المعاملات و نحوها تبذير.

و كذا الإنفاق في المحرَّمات.

و كذا صَرفه في الأطعمة النفيسة - و به قال بعض الشافعيّة(4) - للعادة.

و قال أكثرهم: لا يكون تبذيراً؛ لأنّ الغاية في تملّك المال الانتفاعُ به و الالتذاذ(5).

و كذا قالوا: إنّ شراء الثياب الفاخرة و إن لم تكن لائقةً به، و الإكثار من شراء الغانيات و الاستمتاع بهنّ و ما أشبهه ليس تبذيراً(6).

و بالجملة، حصر أكثرهم التبذيرَ في التضييعات، كالرمي في البحر، و احتمالِ الغبن الفاحش و شبهه، و في الإنفاق في المحرّمات(7)

ص: 208


1- ما بين المعقوفين أضفناه لأجل السياق.
2- العزيز شرح الوجيز 72:5، روضة الطالبين 414:3.
3- الإسراء: 29 و 30. (4-7) العزيز شرح الوجيز 72:5، روضة الطالبين 414:3.

و ليس بجيّد على ما سلف.

مسألة 412: المرأة - كالذكر - إذا بلغت و عُلم رشدها، زال الحجر عنها،

و دُفع إليها مالُها، عند علمائنا أجمع - و به قال الشافعي و أبو حنيفة و عطاء و الثوري و أبو ثور و ابن المنذر و أحمد في إحدى الروايتين(1) - لعموم قوله تعالى:«وَ ابْتَلُوا الْيَتامى حَتّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ» (2).

و لأنّها يتيم بلغ و أُنس منه الرشد، فيدفع إليه مالُه، كالرجل. و لأنّها بالغة رشيدة، فدُفع إليها مالُها، و نفذ تصرّفها، كالتي دخل بها الزوج.

و عن أحمد رواية أُخرى: أنّ المرأة لا يُدفع إليها مالُها ما لم تتزوّج أو تلد أو يمضي لها في بيت زوجها سنة، سواء بلغت رشيدةً أو لا - و به قال عمر بن الخطّاب و شريح و الشعبي و إسحاق - لما رواه شريح قال: عهد إليَّ عمر بن الخطّاب: أن لا تحبيّن(3) الجارية عطيّةً حتى تحول في بيت زوجها [حولاً](4) أو تلد ولداً(5).

و هذا الخبر ليس حجّةً؛ لأنّ قول عمر لا يجب المصير إليه، و ليس مشهوراً، و لا ورد به الكتاب و لا عضده خبرٌ عن النبيّ صلى الله عليه و آله، و لا أفتى به أحد من الصحابة، و لا دلّ عليه قياس و لا نظر، مع أنّه لو كان حجّةً، لكان مختصّاً بالعطيّة. و لا يلزم من منع العطيّة منع مالها عنها و لا منعها من قبضه

ص: 209


1- الأُم 216:3، مختصر المزني: 105، الحاوي الكبير 352:6، التهذيب - للبغوي - 135:4، حلية العلماء 536:4، العزيز شرح الوجيز 74:5، روضة الطالبين 416:3، المغني و الشرح الكبير 560:4.
2- النساء: 6.
3- في المصدر: «لا أُجيز» بدل «لا تحبيّن».
4- ما بين المعقوفين من المصدر.
5- المغني و الشرح الكبير 560:4.

و التصرّف فيه بما شاءت.

و قال مالك: لا يُدفع إليها مالُها حتى تتزوّج، و يدخل عليها زوجها، فإذا نكحت، دُفع إليها مالُها بإذن الزوج، و لا ينفذ تبرّعها بما زاد على الثلث، إلاّ بإذن الزوج ما لم تصر عجوزاً؛ لأنّ كلّ حالة جاز للأب تزويجها فيها من غير إذنها لم ينفكّ عنها الحجر، كالصغير، فإذا كان للأب إجبارها على النكاح، كانت ولاية المال لغيرها(1).

و نحن نمنع إجبارها على النكاح، بل متى بلغت رشيدةً كان أمرها في النكاح و غيره إليها على ما سيأتي إن شاء اللّه تعالى.

سلّمنا، لكنّ الفرق ظاهر؛ فإنّ مصلحتها في النكاح لا يُقدر على معرفتها إلاّ بمباشرة الأب أو بمباشرتها بعد وقوعه.

و بالجملة، فإنّ للأب إجبارَها على النكاح؛ لأنّ اختبارها لا يمكن بالنكاح، بخلاف المعاملات من البيع و الشراء و غيرهما، فإنّه يمكن معرفته و مباشرته قبل النكاح و بعده.

و على هذه الرواية إذا لم تتزوّج، دام الحجر عليها عند أحمد و مالك؛ لفقد شرط رفع الحجر(2).

مسألة 413: إذا بلغت المرأة رشيدةً، صحّ تصرّفها في مالها،

سواء أذن زوجها أو منع، و سواء كانت متبرّعةً أو لا، و سواء كان بقدر الثلث أو أزيد، عند علمائنا أجمع - و به قال الشافعي و أبو حنيفة و ابن المنذر و أحمد

ص: 210


1- بداية المجتهد 280:2-281، التلقين 423:2 و 424، الحاوي الكبير 353:6، التهذيب - للبغوي - 135:4، حلية العلماء 537:4، العزيز شرح الوجيز 74:5، المغني 560:4، الشرح الكبير 561:4.
2- المغني و الشرح الكبير 561:4.

في إحدى الروايتين(1) - لعموم قوله تعالى:«فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ» (2) و هو ظاهر في فكّ الحجر عنهم و إطلاقهم في التصرّف.

و قد قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: «يا معشر النساء تصدّقن و لو من حُليّكنّ»(3) و إنّهنّ تصدّقن، فقَبِل صدقتهنّ و لم يسأل و لم يستفصل.

و جاءته امرأة عبد اللّه و امرأة أُخرى يقال لها: زينب، فسألته عن الصدقة هل يجزئهنّ أن يتصدّقن على أزواجهنّ و أيتامٍ لهنّ؟ فقال: «نعم»(4) و لم يذكر لهنّ هذا الشرط.

و لأنّ مَنْ وجب دفع ماله إليه برشده جاز له التصرّف فيه من غير إذنٍ، كالغلام. و لأنّ المرأة من أهل التصرّف، و لا حقّ لزوجها في مالها، فلم(5) يملك الحجر عليها في التصرّف بجميعه، كحُليّها.

و قال مالك و أحمد في الرواية الأُخرى: ليس لها أن تتصرّف في مالها بأزيد من الثلث بغير عوضٍ، إلاّ بإذن زوجها(6).

و حكي عن مالك في امرأة أعتقت جارية لها ليس لها غيرها فخشيت - و لها زوج - من ذلك [أن] يُقليها(7) زوجها، قال: له أن يردّ عليها، و ليس».

ص: 211


1- الحاوي الكبير 352:6 و 353، حلية العلماء 537:4، المغني 561:4، الكافي في فقه الإمام أحمد 113:2، الشرح الكبير 577:4.
2- النساء: 6.
3- سنن الترمذي 635/28:3.
4- المغني 562:4، الشرح الكبير 577:4.
5- في الطبعة الحجريّة: «فلا».
6- الكافي في فقه أهل المدينة: 424، التلقين 424:2، حلية العلماء 537:4، العزيز شرح الوجيز 74:5، المغني 561:4، الشرح الكبير 577:4.
7- القلى: البغض. لسان العرب 198:15 «قلا».

لها عتق؛ لما روي أنّ امرأة كعب بن مالك أتت النبيّ صلى الله عليه و آله بحُليٍّ لها، فقال النبيّ صلى الله عليه و آله: «لا يجوز للمرأة عطيّة حتى يأذن زوجها، فهل استأذنتِ كعباً؟» فقالت: نعم، فبعث رسول اللّه صلى الله عليه و آله إلى كعب، فقال: «هل أذنتَ لها أن تتصدّق بحُليّها؟» فقال: نعم، فقَبِله(1).

و عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال في خطبةٍ خَطَبها: «لا يجوز لامرأة عطيّة في مالها إلاّ بإذن زوجها، إذ هو مالك عصمتها»(2).

و لقوله عليه السلام: «تُنكح المرأة لدينها و جمالها و مالها»(3) و العادة جارية أنّه(4) يتبسّط في مالها، و ينتفع بجهازها.

قالوا: و كذا يجب عليها عنده التجهيز، فلهذا كان له منعها.

و لأنّ العادة تقضي بأنّ الزوج يزيد في مهرها من أجل مالها، و إذا أعسر بالنفقة أُنظر، فجرى ذلك مجرى حقوق الورثة المتعلّقة بمال المريض(5).

و حديثهم مرسل، على أنّه محمول على ما هو الظاهر منه، و هو أنّه لا يجوز عطيّتها بماله بغير إذنه؛ لأنّه وافق على تجويز عطيّتها من مالها دون الثلث(6)1.

ص: 212


1- سنن ابن ماجة 2389/798:2.
2- سنن أبي داوُد 3546/293:3، سنن ابن ماجة 2388/798:2، سنن النسائي 278:6، سنن البيهقي 60:6.
3- صحيح مسلم 54/1087:2، سنن الترمذي 1086/396:3، سنن النسائي 65:6، مسند أحمد 13825/233:4.
4- أي الزوج.
5- المغني 561:4-562، الشرح الكبير 577:4.
6- راجع الهامش (6) من ص 211.

و ليس معهم حديث يدلّ على تحديد المنع بالثلث، فيكون التحديد بالثلث تحكّماً لا دليل فيه و لا قياس يدلّ عليه.

و الفرق بين الزوجة و المريض من وجوه:

أ: المرض سبب يفضي إلى وصول [المال](1) إليهم بالميراث، و الزوجيّة إنّما تجعله من أهل الميراث، فهي(2) أحد وصفي العلّة، فلا يثبت الحكم بمجرّدها، كما لا يثبت للمرأة الحجر على زوجها و لا لسائر الورّاث بدون المرض.

ب: تبرّع المريض موقوف، فإن برئ من مرضه، صحّ تبرّعه، و هنا أبطلوه على كلّ حال، و الفرع لا يزيد على أصله.

ج: يُنتقض ما ذكروه بالمرأة، فإنّها تنتفع بمال زوجها، و تتبسّط فيه عادة، و لها النفقة منه، و انتفاعها بماله أكثر من انتفاعه من مالها، و ليس لها الحجر عليه، على أنّ هذا المعنى ليس موجوداً في الأصل، و من شرط صحّة القياس ثبوت الحكم في الأصل، و المرأة قد ترغب في الرجل لماله، و لا تعترض عليه في تصرّفه، فكذا الرجل، و انتفاعه بمالها لا يستحقّه، و لا يجب عليها التجهيز له، و لو كان كذلك(3) ، لاختصّ بما يستعمل، دون سائر مالها.

مسألة 414: قد بيّنّا أنّ للمرأة الصدقة من مال زوجها بالشيء اليسير من المأكول و المأدوم بشرط عدم الإضرار،

و عدم المنع منه - و هو إحدى

ص: 213


1- بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «النظر». و الظاهر أنّ الصحيح ما أثبتناه.
2- في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «فهو». و الظاهر ما أثبتناه.
3- في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «لذلك» بدل «كذلك». و الظاهر ما أثبتناه.

الروايتين عن أحمد(1) - لأنّ عائشة قالت: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: «ما أنفقت المرأة من بيت زوجها غيرَ مُفسدةٍ كان لها أجرها(2) ، و له مثله بما كسب، و لها بما أنفقت، و للخازن(3) مثل ذلك من غير أن ينتقص من أُجورهم شيء»(4) و لم يذكر إذناً.

و أتت أسماءُ النبيَّ صلى الله عليه و آله فقالت: يا رسول اللّه ليس لي شيء إلاّ ما أدخل الزبير، فهل عليَّ جناح أن أرضخ(5) ممّا يُدخل عليَّ؟ فقال:

«ارضخي بما استطعت، و لا توعي(6) [فيوعى](7) عليك»(8).

و أتت امرأةٌ النبيَّ صلى الله عليه و آله، فقالت: يا رسول اللّه إنّا كَلٌّ على أزواجنا و أبنائنا، فما يحلّ لنا من أموالهم ؟ قال: «الرطب تأكلنه»(9).

و لأنّ العادة قاضية بالسماح به و طيب النفس عنه، فجرى مجرى التصريح بالإذن، كما أنّ تقديم الطعام بين يدي الآكل قائم مقام صريح الإذن في أكله.2.

ص: 214


1- المغني 564:4، الشرح الكبير 582:4.
2- في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «أجره» و المثبت كما في المصادر ما عدا سنن أبي داوُد، ففيه: «أجر ما أنفقت».
3- في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «و للجارية» بدل «و للخازن». و ما أثبتناه من المصادر.
4- صحيح مسلم 81/710:2، سنن ابن ماجة 2294/770:2، سنن أبي داوُد 1685/131:2، مسند أحمد 23651/67:7 بتفاوت يسير في بعضها.
5- الرضخ: العطيّة القليلة. النهاية - لابن الأثير - 328:2 «رضخ».
6- أي لا تجمعي و تشحّي بالنفقة فيشحّ عليك. النهاية - لابن الأثير - 208:5 «وعا».
7- ما بين المعقوفين من المصدر.
8- صحيح مسلم 89/714:2، سنن البيهقي 187:4، و 60:6.
9- المصنّف - لابن أبي شيبة - 2126/585:6، منتخب مسند عبد بن حُميد: 147/79، أُسد الغابة 2056/228:2.

و الرواية الثانية عن أحمد: أنّه لا يجوز؛ لأنّ أبا أُمامة الباهلي(1) قال:

سمعت رسولَ اللّه صلى الله عليه و آله يقول: «لا تنفق المرأة شيئاً من بيتها إلاّ بإذن زوجها» قيل: يا رسول اللّه و [لا](2) الطعام ؟ قال: «ذاك أفضل أموالنا»(3).

و قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: «لا يحلّ مال امرئ مسلم إلاّ عن طيب نفسه»(4).

و قال: «إنّ اللّه حرّم بينكم دماءكم و أموالكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا»(5).

و لأنّه تبرّع بمال غيره بغير إذنه، فلم يجز، كغير الزوجة(6).

و الحقُّ: الأوّل؛ لما تقدّم من الأدلّة، و الأحاديث من طريق العامّة و الخاصّة خاصّةٌ، فتُقدّم على أحاديث أحمد، العامّة، و الحديث الخاصّ بهذه الصورة ضعيف. و قياس المرأة على غيرها باطل؛ لأنّ العادة قاضية بالفرق بينهما، فإنّ المرأة تتبسّط في مال زوجها، و تتصرّف بالمأكول منه بالعادة، و الإذن العرفي قائم مقام الإذن الحقيقي.4.

ص: 215


1- في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «الكاهلي» بدل «الباهلي». و الصحيح ما أثبتناه من المصادر.
2- ما بين المعقوفين من المصادر.
3- سنن ابن ماجة 2295/770:2، سنن أبي داوُد 296:3-3565/297، سنن الترمذي 57:3-670/58، و 2120/433:4، مسند أحمد 357:6-21791/358، المصنّف - لابن أبي شيبة - 2127/585:6.
4- سنن البيهقي 100:6.
5- صحيح مسلم 1218/889:2، سنن ابن ماجة 3074/1025:2، سنن أبي داوُد 1905/185:2، مسند أحمد 20172/69:6، و 22978/570 بتفاوت في أوّله فيما عدا الموضع الثاني من مسند أحمد.
6- المغني 564:4، الشرح الكبير 582:4.

أمّا لو منعها فقال: لا تتصدّقي من مالي لا بقليل و لا بكثير و لا تتبرّعي بشيء منه، فإنّها لا يجوز لها التصرّف في شيء إلاّ بإذنه إجماعاً؛ لأنّ المنع الصريح نفي الإذن العرفي.

و لو كان في بيت الرجل مَنْ يقوم مقام امرأته، كجارية و أُخت و خادمة و بنت ممّن يتصرّف في مأكول الرجل، جرى مجرى الزوجة إن لم يعلم الكراهية.

و لو كانت امرأته ممنوعةً من التصرّف في بيت زوجها كالتي يطعمها بالفرض و لا يُمكّنها من طعامه و لا من التصرّف في شيء من ماله، لم يجز لها الصدقة بشيء من ماله.

مسألة 415: إذا بلغ الصبي لم يدفع إليه مالُه إلاّ بعد العلم برشده،

و يستديم التصرّفَ في ماله مَنْ كان متصرّفاً فيه قبل بلوغه أباً كان أو جدّاً أو وصيّاً أو حاكماً أو أمينَ حاكمٍ، فإن عرف رشده، انفكّ الحجر عنه، و دفع إليه المال.

و هل يكفي العلم بالبلوغ و الرشد في فكّ الحجر عنه، أم يفتقر إلى حكم الحاكم و فكّ القاضي ؟ الأقرب: الأوّل؛ لقوله تعالى:«فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا» (1).

و لزوال المقتضي للحجر، و هو الصبا، و عدم العلم بالرشد، فيزول الحجر. و لأنّه حجر لم يثبت بحكم الحاكم، فلا يتوقّف زواله على إزالة الحاكم، كحجر المجنون، فإنّه يزول بمجرّد الإفاقة. و لأنّه لو توقّف على ذلك، لطلب الناس عند بلوغهم فكّ الحجر عنهم من الحُكّام، و لكان ذلك

ص: 216


1- النساء: 6.

عندهم من أهمّ الأشياء، و هو أصحّ قولي الشافعيّة(1).

و قال بعضهم: يحتاج إلى فكّ القاضي؛ لأنّ الرشد يُعلم بنظرٍ و اجتهاد(2).

قال هؤلاء: فكما ينفكّ الحجر عن الصبي عند البلوغ و الرشد بفكّ القاضي، ينفكّ بفكّ الأب و الجدّ(3).

و في الوصي و القيّم لهم وجهان(4).

و هو يقتضي بطلان قولهم بحاجة إزالة الفكّ إلى النظر و الاجتهاد.

قالوا: و إذا كان الحجر لا يزول حتى يُزيله القاضي أو مَنْ ذكرنا، فتصرّفه قبل إزالة الحجر كتصرّف مَنْ أُنشئ الحجر عليه بالسفه الطارئ بعد البلوغ، و يجري الخلاف فيما إذا بلغ غيرَ رشيدٍ ثمّ صار رشيداً(1).

مسألة 416: إذا بلغ رشيداً و زال الحجر عنه ثمّ صار مبذّراً و عاد إلى السفه، حُجر عليه ثانياً،

عند علمائنا أجمع - و به قال القاسم بن محمّد و مالك و الشافعي و الأوزاعي و أحمد و إسحاق و أبو ثور و أبو عبيد و أبو يوسف و محمّد(2) - لقوله تعالى:«فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا» (3) دلّ بمفهومه على تعليل جواز الدفع بعلم الرشد، فإذا انتفت

ص: 217


1- العزيز شرح الوجيز 74:5.
2- الأُم 218:3-219، مختصر المزني: 105، الحاوي الكبير 363:6، المهذّب - للشيرازي - 339:1، التهذيب - للبغوي - 138:4، العزيز شرح الوجيز 74:5، روضة الطالبين 416:3، التفسير الكبير 190:9، المغني 568:4، الشرح الكبير 570:4.
3- النساء: 6.

العلّة انتفى الحكم.

و استدلّ الشافعي أيضاً بإجماع الصحابة عليه؛ لما رواه عروة بن الزبير أنّ عبد اللّه بن جعفر رحمه الله ابتاع بيعاً، فقال عليّ عليه السلام: «لآتينّ عثمان ليحجر عليك» فأتى عبد اللّه بن جعفر الزبيرَ، فقال: قد ابتعت بيعاً و إنّ عليّاً عليه السلام يريد أن يأتي عثمان فيسأله الحجر عَلَيَّ، فقال الزبير: أنا شريكك في البيع، فأتى عليّ عليه السلام عثمانَ، فقال له: «إنّ عبد اللّه بن جعفر قد ابتاع بيعَ كذا فاحجر عليه» فقال الزبير: أنا شريكه في البيع، فقال عثمان: كيف أحجر على رجل شريكُه الزبير!؟(1).

قال أحمد: لم أسمع هذا إلاّ من أبي يوسف القاضي، و لم يخالف عليّ عليه السلام ذلك، و هذه قضيّة مشهورة يشتهر مثلها، و لم يُنقل خلافٌ، فكانت إجماعاً.

و لأنّ التبذير لو قارن البلوغ، مَنَع من دفع المال، فإذا حدث، أوجب انتزاع المال، كالجنون. و لأنّ المقتضي للحجر عليه أوّلاً حفظ المال؛ لأنّ الصبي و إن لم يتلف المال فإنّه غير مأمون عليه؛ لإمكان صدور الإتلاف عنه، فإذا كان الإتلاف صادراً عنه حقيقةً، كان الحجر عليه أولى(2).

و قال أبو حنيفة و زفر: لا يُحجر عليه، و تصرّفه نافذ في ماله - و هو مرويّ عن ابن سيرين و النخعي - لأنّه حُرٌّ مكلّف، فلا يُحجر عليه، كالرشيد. و لأنّه يصحّ طلاقه، فتصحّ عقوده، كالرشيد(3)4.

ص: 218


1- سنن البيهقي 61:6.
2- المغني 568:4-569، الشرح الكبير 570:4-571.
3- حلية العلماء 539:4، التفسير الكبير 190:9، المغني 568:4، الشرح الكبير 570:4.

و القياس باطل؛ لأنّ الرشيد حافظ لماله، فدُفع إليه، بخلاف السفيه.

و الطلاق ليس إتلافَ مالٍ و لا يتضمّنه، فلم يُمنع منه، و لهذا يملكه العبد، دون التصرّف في المال بغير إذن سيّده.

مسألة 417: إذا عاد مبذّراً مضيّعاً لماله بعد رشده و دفع المال إليه، فإنّه يُحجر عليه، و يؤخذ المال منه، كما تقدّم.

و لا يحجر عليه إلاّ الحاكم، و لا يصير محجوراً عليه إلاّ بحكم القاضي - و به قال الشافعي و أحمد و أبو يوسف(1) - لأنّ التبذير يختلف و يحتاج إلى الاجتهاد، فإذا افتقر السبب إلى الاجتهاد، لم يثبت إلاّ بحكم الحاكم، كما أنّ ابتداء مدّة العنّة لا يثبت إلاّ بحكم الحاكم؛ لموضع الاختلاف فيها و الاجتهاد، فكذا هنا. و لأنّه حجر مختلف فيه، فلا يثبت إلاّ بحكم الحاكم، كالحجر على المفلس.

و قال محمّد: يصير بالتبذير محجوراً عليه و إن لم يحكم به الحاكم؛ لأنّ التبذير سبب يثبت معه الحجر، فلم يفتقر إلى حكم الحاكم، كالجنون(2).

و الفرق: أنّ الجنون لا يفتقر إلى الاجتهاد، و لا خلاف فيه.

و قال بعض الشافعيّة: إنّ الحجر يُعيده الأب و الجدّ(3). و ليس مشهوراً.

ص: 219


1- حلية العلماء 539:4، العزيز شرح الوجيز 74:5، روضة الطالبين 416:3، المغني 569:4، الشرح الكبير 571:4، المبسوط - للسرخسي - 163:24، الهداية - للمرغيناني - 282:3، الاختيار لتعليل المختار 151:2-152.
2- المبسوط - للسرخسي - 163:24، الهداية - للمرغيناني - 282:3، الاختيار لتعليل المختار 152:2، حلية العلماء 539:4، المغني 569:4، الشرح الكبير 571:4.
3- العزيز شرح الوجيز 74:5، روضة الطالبين 416:3.
مسألة 418: إذا قلنا بمذهب الشيخ رحمه الله: أنّ الرشد عبارة عن العدالة و صلاح المال

(1) ، فلو بلغ رشيداً عَدْلاً فأُزيل الحجر عنه ثمّ صار بعد فكّ الحجر عنه فاسقاً في دينه، فهل يعاد عليه الحجر؟.

قال الشيخ رحمه الله: الأحوط أن يحجر عليه.

و استدلّ عليه بقوله تعالى:«وَ لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ» (2).

و ما رواه العامّة أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله قال: «اقبضوا على أيدي سفهائكم»(3) و لا يصحّ القبض إلاّ بالحجر.

و من طريق الخاصّة: ما روي عنهم عليهم السلام أنّهم قالوا: «شارب الخمر سفيه»(4)(5).

و للشافعي وجهان:

أحدهما: يُحجر عليه - و هو قول أبي العبّاس بن سريج - لأنّ ذلك مانع في فكّ الحجر، فأوجب الحجر عليه، و يستدام الحجر به، كالتبذير.

و الثاني: لا يُحجر عليه - و به قال أبو إسحاق - لأنّ الحجر إنّما كان لحفظ المال، و الفسق في الدين يورث تهمةً فيه، فمَنَع ذلك ثبوت الرشد و فكّ الحجر، و إذا طرأ بعد ذلك، أورث تهمةً في المال، فلم يثبت بذلك

ص: 220


1- المبسوط - للطوسي - 284:2، الخلاف 283:3، المسألة 3.
2- النساء: 5.
3- لم نجده في المصادر الحديثيّة المتوفّرة لدينا، و أورده الشيخ الطوسي في الخلاف 288:3، ضمن المسألة 7، و في الحاوي الكبير 356:6، و الجامع لأحكام القرآن 4:6، و كنز العمّال 5525/67:3 نقلاً عن الطبراني في المعجم الكبير، بلفظ: «خذوا على...».
4- تفسير العياشي 22/220:1.
5- المبسوط - للطوسي - 285:2، الخلاف 289:3، المسألة 8.

ابتداء الحجر، بخلاف التبذير؛ لأنّه قد علم منه إفساده للمال، و لم يُنقل عن أحدٍ أنّه حجر حاكمٌ على فاسقٍ.

و لا يجوز القياس على استدامة الحجر؛ لأنّ الحجر هناك كان ثابتاً، و الأصل بقاؤه، و هنا ثبت الإطلاق، و الأصل بقاؤه، فلا يلزم من الاكتفاء بالفسق للاستصحاب الاكتفاء به لترك الأصل، و يخالف التبذير؛ لأنّه تتحقّق به إضاعة المال، و بالفسق لا تتحقّق(1).

و نحن لمّا ذهبنا إلى أنّ الفسق لا يوجب الحجر، و أنّه لا تُشترط في الرشد العدالةُ، لم يثبت الحجر عندنا بطريان الفسق ما لم ينضمّ إليه تضييع المال في المحارم و غيرها.

مسألة 419: السفيه إذا زال تبذيره أو فسقه، فكّ الحاكم الحجْرَ عنه،
اشارة

فإن عاد إلى ذلك، أعاد عليه الحجْرَ؛ لأنّ الحجر كان لعلّةٍ، و إذا زالت العلّة، زال الحكم، فإن عادت العلّة، عاد الحكم؛ قضاءً للعلّيّة، و لا يُحجر عليه إلاّ بحكم الحاكم، و لا يزول الحجر عنه إلاّ بحكمه؛ لاحتياجه إلى الاجتهاد في حَجْره و في فكّه معاً.

و حَجْر المفلس قد بيّنّا أنّه لا يثبت إلاّ بحكم الحاكم.

و الأقرب: زواله بقضاء الديون.

و للشافعي وجهان(2).

و أمّا المرتدّ فإنّه يُحجر عليه بنفس الردّة، و هو أحد قولي الشافعي.

ص: 221


1- المهذّب - للشيرازي - 339:1، حلية العلماء 539:4-540، العزيز شرح الوجيز 75:5.
2- المهذّب - للشيرازي - 334:1، التهذيب - للبغوي - 106:4، حلية العلماء 519:4، العزيز شرح الوجيز 24:5، روضة الطالبين 382:3.

و الثاني: أنّه بحكم الحاكم، كالسفيه(1).

فإذا أسلم و لم يكن عن فطرة، زال حجره - إجماعاً - بنفس الإسلام.

إذا ثبت هذا، فكلّ مَنْ صار محجوراً عليه بحكم الحاكم فأمره في ماله إلى الحاكم، و مَنْ حُجر عليه بغير حكم الحاكم فأمره في ماله إلى الأب أو الجدّ للأب.

إذا عرفت هذا، فإذا حُجر مَنْ طرأ عليه السفه ثمّ عاد رشيداً، فإن قلنا: الحجر عليه لا يثبت إلاّ بحكم الحاكم، فلا يرفع إلاّ برفعه.

و إن قلنا: يثبت بنفسه، ففي زواله خلاف بين الشافعيّة كما فيما إذا بلغ رشيداً(2).

و مَن الذي يلي أمر مَنْ حُجر عليه للسفه الطارئ ؟ إن قلنا: إنّه لا بدّ من ضرب الحاكم، فهو الذي يليه.

و إن قلنا: إنّه يصير محجوراً عليه بنفس السفه، فوجهان عند الشافعيّة مشبَّهان بالوجهين فيما إذا طرأ عليه الجنون بعد البلوغ:

أحدهما: أنّه يلي أمره الأب أو الجدّ، كما في حالة الصغر، و كما إذا بلغ مجنوناً.

و الثاني: يليه الحاكم؛ لأنّ ولاية الأب قد زالت فلا تعود(3).

و الثاني أصحّ عندنا و عندهم، بخلاف المجنون؛ فإنّ حجره بالجنون لا بحكم الحاكم، فكان أمره إلى الأب.7.

ص: 222


1- الحاوي الكبير 342:6، حلية العلماء 541:4.
2- العزيز شرح الوجيز 75:5، روضة الطالبين 416:3.
3- العزيز شرح الوجيز 75:5، روضة الطالبين 416:3-417.
فروع:
أ - ذهب بعض الشافعيّة إلى أنّ عود مجرّد الفسق أو مجرّد التبذير لا أثر له في الحجر،

و إنّما المؤثّر في عود الحجر أو إعادته عودُ الفسق و التبذير جميعاً(1).

و ليس بجيّد، و قد أطبق أكثر الشافعيّة على أنّ عود التبذير وحده كافٍ في عود الحجر أو إعادته(2).

ب - لو كان يُغبن في بعض التصرّفات خاصّةً، فالأولى الحجر عليه في ذلك النوع خاصّةً؛

لعدم مقتضي الحجر في غيره، و وجوده فيه، و لا بُعْد في تجزّي الحجر، كما في العبد حيث يُحجر عليه في المال دون الطلاق، و كما في المفلس.

و للشافعيّة وجهان:

هذا أحدهما.

و الثاني: استبعاد اجتماع الحجر و الإطلاق في الشخص الواحد(3).

و قد بيّنّا وقوعه، فكيف يستبعد!؟

ج - الشحيح على نفسه جدّاً مع اليسار لا يُحجر عليه؛

لأنّ الغرض من الحجر حفظ المال، و التقدير أنّه بالغ في الحفظ الغايةَ.

و للشافعيّة وجهان:

أحدهما: أنّه يُحجر عليه.

و الأصحّ عندهم: المنع(2)

ص: 223


1- الغزالي في الوجيز 176:1، و لاحظ: الوسيط 38:4، و حكاه عنه الرافعي في العزيز شرح الوجيز 76:5، و النووي في روضة الطالبين 417:3. (2 و 3) العزيز شرح الوجيز 76:5، روضة الطالبين 417:3.
2- حلية العلماء 540:4، العزيز شرح الوجيز 76:5، روضة الطالبين 417:3.
البحث الثاني: في الاختبار.
مسألة 420: يجب اختبار الصبي قبل فكّ الحجر عنه،
اشارة

فإن أُونس منه الرشد، دُفع إليه المال، و إلاّ فلا؛ لقوله تعالى:«وَ ابْتَلُوا الْيَتامى» (1) و الابتلاء: الاختبار، كما قال تعالى:«لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً» (2) أي يختبركم.

و كيفيّة الاختبار: أنّ اليتيم إن كان صبيّاً، فإن كان من أولاد التجّار، فُوّض إليه البيع و الشراء، فإذا تكرّر ذلك منه و سلم من الغبن و التضييع و إتلاف شيء من المال و صرفه في غير وجهه، فهو رشيد.

و إن كان من أولاد الدهاقين و الوزراء و الأكابر الذين يصانون عن الأسواق، فإنّ اختباره يكون بأن يُسلّم إليه نفقة مدّة قريبة - كالشهر - لينفقها في مصالحه، فإن كان قيّماً بذلك يصرفها في مواضعها و يستوفي الحساب على وكيله و يستقصي عليه، فهو رشيد.

و إن كان أُنثى لم تُختبر بالبيع و الشراء في الأسواق؛ لأنّ العادة أنّ المرأة لا تباشر ذلك في السوق، و إنّما تُختبر بأن يفوَّض إليها ما يفوَّض إلى ربّة البيت من استئجار الغزّالات، و توكيلها في شراء القطن و الكتّان و الإبريسم و الاعتناء بالاستغزال و الاستنساج، فإذا كانت ضابطةً في ذلك حافظةً للمال الذي في يدها مستوفيةً لما استأجرت له من الأُجراء، فهي رشيدة.

تذنيب: لا تكفي المرّة الواحدة في الاختبار،

بل لا بدّ من التكرار

ص: 224


1- النساء: 6.
2- هود: 7، الملك: 2.

مراراً يحصل معها غلبة الظنّ بالرشد.

مسألة 421: وقت الاختبار قبل البلوغ
اشارة

- و هو قول بعض الشافعيّة و أحمد في إحدى الروايتين(1) - لقوله تعالى:«وَ ابْتَلُوا الْيَتامى حَتّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ» (2).

و ظاهر الآية أنّ الابتلاء قبل البلوغ؛ لأنّه تعالى سمّاهم يتامى، و إنّما يصدق عليهم هذا الاسم قبل البلوغ. و لأنّه تعالى مدّ اختبارهم إلى البلوغ بلفظ «حتى» فدلّ على أنّ الاختبار قبل البلوغ.

و لأنّ تأخير اختباره إلى بعد البلوغ يؤدّي إلى الحجر على البالغ الرشيد، لأنّ الحجر يمتدّ إلى أن يُختبر و يُعلم رشده بمنع ماله، و اختباره قبل البلوغ يمنع ذلك، فكان أولى.

و قال بعض الشافعيّة و أحمد في الرواية الأُخرى: إنّ الاختبار إنّما يكون بعد البلوغ؛ لأنّه قبل البلوغ محجور عليه؛ لبقاء الصغر، و إنّما يزول الحجر عنه بالبلوغ، و تصرّف الصبي قد بيّنّا أنّه غير نافذ(3).

و الأوّل أصحّ الوجهين عند الشافعيّة، و هو الذي اخترناه، فعليه كيف يُختبر؟

الأولى أنّ الوليّ يأمره بالمساومة في السِّلَع و يمتحنه في الممارسة و المماكسة و المساومة و تقرير الثمن، فإذا آلَ الأمر إلى العقد، عَقَده الوليّ - فإذا رآه قد اشترى بثمن مثله و لم يغبن و استوفى مقاصد البيع، علم رشده

ص: 225


1- الحاوي الكبير 350:6، المهذّب - للشيرازي - 338:1، حلية العلماء 535:4، العزيز شرح الوجيز 73:5، روضة الطالبين 415:3، منهاج الطالبين: 124، المغني 568:4، الشرح الكبير 562:4.
2- النساء: 6.
3- الحاوي الكبير 350:6، المهذّب - للشيرازي - 338:1، حلية العلماء 535:4، العزيز شرح الوجيز 73:5، روضة الطالبين 415:3، منهاج الطالبين: 124، المغني 568:4، الشرح الكبير 562:4.

- لأنّ تصرّف الصبي لا ينفذ فكيف يمكن أن يتولّى العقد!؟ و هو أصحّ وجهي الشافعيّة.

و الثاني: أنّه يسلّم الوليّ إليه شيئاً من المال ليشتري به، و يصحّ بيعه و شراؤه؛ لموضع الحاجة إلى ذلك(1).

و قال بعضهم: يشتري الوليّ سلعةً و يتركها في يد البائع و يواطئه على بيعها من الصبي، فإن اشتراها منه و فَعَل ما يكون صلاحاً و رشداً، علم منه الرشد(2).

و الأوّل عندي أقوى؛ جمعاً بين المصالح.

تذنيب: إن قلنا: إنّه يدفع إليه المال للاختبار فتلف في يده،

لم يكن على الوليّ الضمان؛ لأصالة براءة الذمّة.

البحث الثالث: في فائدة الحجر على السفيه.
مسألة 422: السفيه إذا حجر عليه الحاكم، مُنع من التصرّف في ماله،

و لا يصحّ منه العقود المتعلّقة بالمال، سواء صادف التصرّف في العين - كبيع السلعة التي له و شراء غيرها من السِّلَع، و العتق و الكتابة و الهبة - أو صادف ما في الذمّة، كالشراء بعين مالٍ في الذمّة، أو صادف غير المال، كالنكاح؛ لأنّ فائدة الحجر حفظ ماله، و إنّما يحصل بمنعه من ذلك كلّه.

و للشافعيّة وجهٌ ضعيف في الشراء بمالٍ في ذمّته، تخريجاً من شراء

ص: 226


1- الحاوي الكبير 350:6-351، المهذّب - للشيرازي - 338:1، حلية العلماء 535:4، العزيز شرح الوجيز 73:5، روضة الطالبين 415:3.
2- لم نعثر عليه فيما بين أيدينا من المصادر المتوفّرة سواء كانت قبل زمن العلاّمة أو بعده. نعم، نقله في المجموع (التكملة الثانية) 369:13.

العبد بغير إذن مولاه(1).

و المذهب المشهور لهم(2) كما ذهبنا إليه من المنع من ذلك أيضاً؛ لأنّ الحجر تبرّع في حقّه نظراً له، و ذلك يقتضي الردّ حالاًّ و مآلاً، و الحجر على العبد لحقّ المولى، فلا يمتنع الحكم بصحّته بحيث لا يضرّ بالمولى.

مسألة 423: إذا باع السفيه بعد الحجر عليه و أقبض، استردّ المتاع من المشتري،

و لو تلف في يده، ضمن؛ لعدوانه بالقبض من غير مَنْ له أهليّة الإقباض.

و لو اشترى و قبض أو استقرض فتلف المال في يده أو أتلفه، فلا ضمان عليه، و الذي أقبضه ذلك هو المضيّع لماله، و لوليّه استرداد الثمن إن كان قد أقبضه.

و لا فرق بين أن يكون مَنْ عامله عالماً بحاله أو جاهلاً؛ إذ كان من حقّه أن يبحث عنه و لا يعامل أحداً إلاّ عن بصيرة.

و كما لا يجب الضمان في الحال على السفيه، لا يجب بعد رشده و رفع الحجر عنه؛ لأنّه حجرٌ ضُرب لمصلحته، فأشبه الصبي، إلاّ أنّ الصبي لا يأثم، و السفيه يأثم؛ لأنّه مكلّف.

و قال بعض الشافعيّة: إذا أتلف بنفسه، ضمن بعد رفع الحجر عنه(3) و لا بأس به.

ص: 227


1- العزيز شرح الوجيز 77:5، روضة الطالبين 418:3.
2- التهذيب - للبغوي - 139:4، العزيز شرح الوجيز 77:5، روضة الطالبين 417:3.
3- العزيز شرح الوجيز 77:5، روضة الطالبين 418:3.
مسألة 424: يستحبّ للحاكم إذا حجر على السفيه أن يشهر حاله،

و يشيع حجره عند الناس ليمتنعوا من معاملته و تسلم أموالهم عليهم.

و إن احتاج في ذلك إلى النداء عليه، نادى بذلك ليعرفه الناس، و لا يشترط الإشهاد عليه؛ لأنّه قد يشتهر أمره و يعرفه الناس.

فإذا حجر عليه و اشترى، كان الشراء باطلاً، و استرجع الحاكم منه العينَ، و دَفَعها إلى البائع.

و كذا ما يأخذه من أموال الناس بقرضٍ أو شبهه ممّا يرضى به أرباب الأموال، فإنّ الحاكم يستردّه من السفيه، و يدفعه إلى أربابه إن كان باقياً، و إن كان تالفاً، فهو من ضمان صاحبه، كما تقدّم.

هذا إن كان صاحبه قد سلّطه عليه، و أمّا إن حصل في يده باختيار صاحبه من غير تسليطٍ عليه كالوديعة و العارية، فالأقرب عندي: أنّه يلزمه الضمان إن أتلفه أو تلف بتفريطه؛ لأنّ المالك لم يسلّطه عليه، و قد أتلفه بغير اختيار صاحبه، فكان ضامناً له، كما لو غصبه و أتلفه، و هو قول بعض العامّة(1).

و قال قوم منهم: لا يضمن؛ لأنّ التفريط من المالك حيث سلّطه عليه بإقباضه إيّاه و عرَّضه لإتلافه(2).

و إن كان المالك لم يدفع إليه و لم يسلّطه، بل أتلفه بغير اختياره، كالغصب و الجناية، فعليه ضمانه؛ لأنّه لا تفريط من المالك هنا. و لأنّ الصبي و المجنون لو فَعَلا ذلك، لزمهما الضمان، فالسفيه أولى.

ص: 228


1- المغني 570:4.
2- المغني 570:4.

و مذهب الشافعي(1) في ذلك كما قلناه.

مسألة 425: و حكم الصبي و المجنون كما قلنا في السفيه في وجوب الضمان عليهما

إذا أتلفا مال غيرهما بغير إذنه، أو غصباه فتلف في يدهما، و انتفاء الضمان عنهما فيما حصل في أيديهما باختيار صاحبه كالمبيع و القرض.

و أمّا الوديعة و العارية إذا دفعهما صاحبهما إليهما فتلفتا، فلا ضمان عليهما، فإن أتلفاهما، فالأقرب: أنّه كذلك.

و لبعض(2) العامّة وجهان:

أحدهما: لا ضمان؛ لأنّه عرّضها للإتلاف و سلّطه عليها، فأشبه المبيع.

و الثاني: عليه الضمان؛ لأنّه أتلفها بغير اختيار صاحبها، فأشبه الغصب.

مسألة 426: لو أذن الوليّ للسفيه في التصرّف، فإن أطلق، كان لغواً.

و إن عيّن له نوعاً من التصرّف و قدر العوض، فالأقرب: الجواز، كما لو أذن له في النكاح؛ لأنّ المقصود عدم التضرّر و أن لا يضرّ بنفسه و لا يتلف ماله، فإذا أذن له الوليّ، أمن المحذور، و انتفى المانع، و هو أحد قولي الشافعيّة.

و الثاني: المنع؛ لأنّه محجور عليه لمصلحة نفسه، فلا يصحّ الإذن له في شيء من التصرّفات، كالصبي. و لأنّ الحجر عليه لتبذيره و سوء(3)

ص: 229


1- التهذيب - للبغوي - 139:4، المغني 570:4.
2- المغني 570:4.
3- في الطبعة الحجريّة: «لسوء» بدل «و سوء».

تصرّفه، فإذا أذن له فقد أذن فيما لا مصلحة فيه، فلم يصحّ، كما لو أذن في بيع ما يساوي عشرة بخمسة(1).

و الفرق ظاهرٌ بين الصبي و السفيه مع الإذن؛ لأنّه مكلّف عاقل، و التبذير مانع إلاّ مع الإذن؛ لأنّا نشترط فيه الاقتصار على ما يعيّنه له من جنس المبيع و الثمن.

و بعض الشافعيّة مَنَع من الإذن في النكاح(2)، و هذا يقتضي سلب عبارته بالكلّيّة.

و على ما قلناه إنّما سلبنا عنه الاستقلال بالنكاح.

و على هذين الوجهين لو وكّله غيره في شيء من التصرّفات، فعندنا يصحّ؛ لأنّ عبارته معتبرة لم يسلب الشارع حكمها عنه، فصحّ عقده للموكّل حيث لم يصادف تصرّفه مالاً و لا ما يتضرّر به.

و للشافعيّة وجهان(3).

و كذا عندنا يصحّ أن يقبل الهبة و الوصيّة؛ لحصول النفع الذي هو ضدّ المحذور.

و للشافعيّة وجهان(4).

مسألة 427: لو أقرّ السفيه بما يوجب قصاصاً أو حدّاً أو تعزيراً

- كالزنا و السرقة و الشرب و القذف و الشتم و القتل العمد و قطع الجارحة - قُبِل منه؛ لأنّه مكلّف عاقل، و يُحكم عليه به في الحال، و لا نعلم فيه خلافاً بين أهل العلم؛ لأنّه لا تعلّق لهذا الإقرار بالمال حتى يتأثّر بالحجر.

ص: 230


1- العزيز شرح الوجيز 77:5، روضة الطالبين 418:3.
2- العزيز شرح الوجيز 77:5، روضة الطالبين 418:3.
3- العزيز شرح الوجيز 78:5، روضة الطالبين 418:3.
4- العزيز شرح الوجيز 78:5، روضة الطالبين 418:3.

و يُقبل في السرقة إقراره بها، و يُقطع.

و الأقوى أنّه لا يُقبل في المال - و هو أحد قولي الشافعي(1) - لأنّه متّهم فيه، بخلاف القطع؛ لتعلّقه بالبدن، و هو ليس محجوراً عليه فيه.

و الثاني: أنّه يُقبل، و بناه على اختلاف قولَيْه في العبد إذا أقرّ بالسرقة(2).

هذا إن قلنا: لا يُقبل إقراره بدَيْن الإتلاف، فإن قبلناه، فأولى أن يُقبل هنا.

مسألة 428: إذا أقرّ السفيه بما يوجب القصاص فعفا المقرّ له على مالٍ، لم يثبت عندنا؛

لأنّ موجَب العمد القصاص لا غير، و الدية إنّما تثبت بالصلح.

أمّا مَنْ يقول: إنّ موجَب العمد أحد الأمرين: إمّا الدية أو القصاص، فيُحتمل ثبوت الدية - و به قال الشافعي(3) - لأنّ المال تعلّق ثبوته باختيار الغير، لا بإقرار السفيه. و لأنّه عفو على مال عن قصاصٍ ثابت فصحّ، كما لو ثبت بالبيّنة.

و الأقوى ما قلناه؛ و لأنّه لو صحّ لاتّخد ذلك وسيلةً إلى الإقرار بالمال بأن يتواطأ المحجور عليه و المُقرّ له على الإقرار و العفو عنه إلى مالٍ. و لأنّ وجوب المال مستند إلى إقراره، فلم يثبت، كالإقرار به ابتداءً.

فعلى هذا القول - الذي اخترناه - لا يسقط القصاص، و لا يجب المال في الحال.

مسألة 429: لو أقرّ السفيه بنسبٍ صحيح، صحّ، و ثبت النسب؛

لانتفاء المانع، و هو مصادفة الإقرار المال.

و لو وجب الإنفاق على المُقرّ به، أُنفق عليه من بيت المال.

ص: 231


1- العزيز شرح الوجيز 78:5، روضة الطالبين 419:3.
2- العزيز شرح الوجيز 78:5، روضة الطالبين 419:3.
3- العزيز شرح الوجيز 78:5، روضة الطالبين 419:3.

و قال بعض العامّة: تثبت أحكام النسب - كما يثبت النسب - من وجوب النفقة و غيرها؛ لكون ذلك حصل ضمناً، فأشبه نفقة الزوجة(1).

و الوجه: ما قلناه.

مسألة 430: إذا أقرّ السفيه بدَيْنٍ أو بما يوجب المال - كجناية الخطأ و شبه العمد و إتلاف المال و غصبه - لم يُقبل إقراره به؛

لأنّه محجور عليه لحظّه، فلم يصح إقراره، كالصبي و المجنون. و لأنّا لو قبلنا إقراره في ماله، لزال معنى الحجر؛ لأنّه يقرّ به فيأخذه المُقرّ له. و لأنّه أقرّ بما هو ممنوع من التصرّف فيه، فلم ينفذ، كإقرار الراهن بالرهن.

و لا فرق بين أن يسنده إلى ما قبل الحجر أو إلى ما بعده، و هو قول أكثر الشافعيّة و أحمد في إحدى الروايتين(2).

و للشافعيّة قولٌ آخَر: إنّه إذا أسند إقراره إلى ما قبل الحجر، قُبل، تخريجاً من الخلاف في أنّ المفلس إذا أقرّ بدَيْنٍ سابق على الحجر هل يزاحم المُقرّ له الغرماء؟(3).

و للشافعيّة فيما إذا أقرّ بإتلافٍ أو جنايةٍ توجب المال قولان:

أصحّهما: الردّ، كما لو أقرّ بدَيْنٍ معامليّ.

و الثاني: القبول؛ لأنّه لو أثبتنا(4) الغصب و الإتلاف، يضمن، فإذا أقرّ به، يُقبل(5)

ص: 232


1- المغني و الشرح الكبير 575:4.
2- العزيز شرح الوجيز 78:5، روضة الطالبين 418:3، المغني و الشرح الكبير 575:4.
3- العزيز شرح الوجيز 78:5، روضة الطالبين 419:3.
4- في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «أنشأ» بدل «أثبتنا». و المثبت هو الصحيح.
5- العزيز شرح الوجيز 78:5، روضة الطالبين 419:3.
مسألة 431: إذا أقرّ السفيه بالمال و قد كان حجر عليه الحاكم،

فقد قلنا: إنّه لا يُقبل. و إن لم يكن قد حجر عليه، قُبل؛ لعدم المانع، كما أنّه لا يمنع من البيع و الشراء و غيرهما إلاّ بالحجر.

و إذا أقرّ بالمال بعد الحجر، لم ينفذ في الحال.

و هل يلزمه حكم إقراره بعد فكّ الحجر عنه ؟ الوجه: أنّه لا يلزمه، بل يردّ، كما رددناه حالة السفه؛ لأنّه محجور عليه؛ لعدم رشده، فلم يلزمه حكم إقراره بعد فكّ الحجر عنه، كالصبي و المجنون. و لأنّ المنع من نفوذ إقراره في الحال إنّما ثبت لحفظ ماله عليه، و دفع الضرر عنه، فلو نفذ بعد فكّ الحجر، لم يفد إلاّ تأخّر الضرر عليه إلى أكمل حالتيه، بخلاف المحجور عليه للفلس، فإنّ المانع تعلُّق حقّ الغرماء بماله، فيزول المانع بزوال الحقّ عن ماله، فيثبت مقتضى إقراره، و في مسألتنا انتفى الحكم لانتفاء سببه، فلم يثبت كونه سبباً، و بزوال الحجر لم يكمل السبب، و لا يثبت الحكم باختلال السبب، كما لم يثبت قبل فكّ الحجر. و لأنّ الحجر لحقّ الغرماء لا يمنع تصرّفهم، فأمكن تصحيح إقرارهم على وجهٍ لا يضرّ بذلك الغير بأن يلزمهم بعد زوال حقّ الغير، و الحجر هنا ثبت لحفظ نفسه من أجل ضعف عقله و سوء تصرّفه، و لا يندفع الضرر إلاّ بإبطال إقراره بالكلّيّة، كالصبي و المجنون، و هو قول الشافعي(1).

و قال أبو ثور: إنّه يلزمه ما أقرّ به بعد فكّ الحجر عنه؛ لأنّه مكلَّف أقرّ بمالٍ، فيلزمه؛ لقوله عليه السلام: «إقرار العقلاء على أنفسهم جائز»(2) مَنَع من

ص: 233


1- العزيز شرح الوجيز 78:5، روضة الطالبين 419:3، المغني و الشرح الكبير 575:4.
2- لم نجده في المصادر الحديثيّة.

إمضائه في الحال بسبب الحجر، فيمضى بعد فكّ الحجر عنه، كالعبد يُقرّ بدَيْنٍ، و الراهن يُقرّ على الرهن، و المفلس [على المال](1)(2).

و قد سبق الفرق.

مسألة 432: هذا حكم تكليفنا في الظاهر، أمّا حكمه فيما بينه و بين اللّه تعالى
اشارة

فإن علم بصحّة ما أقرّ به - كدَيْنٍ لزمه، و جنايةٍ لزمته، و مالٍ لزمه قبل الحجر عليه - فيجب عليه أداؤه بعد فكّ الحجر عنه؛ لأنّه حقٌّ ثابت عليه، فلزمه أداؤه، كما لو لم يُقرّ به. و إن علم فساد إقراره - مثل أن يُقرّ بدَيْنٍ و لا شيء عليه، أو أقرّ بجنايةٍ و لم توجد منه - لم يلزمه أداؤه؛ لأنّه يعلم أنّه لا دَيْن عليه، فلم يلزمه شيء، كما لو لم يُقرّ به.

و كذا لا يجب عليه الأداء فيما أتلفه بدفع صاحب المال إليه و تسليطه عليه بالبيع و شبهه.

تذنيب: لو ادّعى عليه شخص بدَيْنِ معاملةٍ لزمه قبل الحجر، فأقام عليه البيّنة، سُمعت، و حُكم عليه بمقتضى الشهادة.

و إن لم تكن بيّنة، فإن قلنا: إنّ النكول و ردّ اليمين كالبيّنة، سُمعت دعواه. و إن قلنا: كالإقرار، لم تُسمع؛ لأنّ غايته أن يُقرّ و إقراره غير مقبول.

مسألة 433: إذا طلّق السفيه، نفذ طلاقه، سواء طلّق قبل الحجر عليه أو بعده

في قول عامّة أهل العلم(3) ؛ لأنّه لا يدخل تحت حَجْر الوليّ

ص: 234


1- ما بين المعقوفين من المصدر.
2- المغني و الشرح الكبير 575:4.
3- المغني 571:4، الشرح الكبير 574:4، الحاوي الكبير 363:6، التنبيه: 103، التهذيب - للبغوي 140:4، العزيز شرح الوجيز 78:5، روضة الطالبين 419:3، الهداية - للمرغيناني - 282:3، بداية المجتهد 282:2.

و تصرّفه، و لهذا لا يطلّق الوليّ أصلاً، بل المحجور عليه يطلّق بنفسه إذا كان مكلّفاً، كالعبد. و لأنّ الحجر إنّما يثبت عليه لإبقاء ماله عليه، و البُضْع ليس بمالٍ و لا هو جارٍ مجرى الأموال، و لهذا لا ينتقل إلى الورثة، و لا يمنع المريض من إزالة الملك عنه. و لأنّه ليس بتصرّفٍ في المال، فصحّ وقوعه منه، كالإقرار بالحدّ و القصاص. و لأنّه يصحّ من العبد بغير إذن سيّده مع منعه من التصرّف في المال، و هذا يقتضي أنّ البُضْع لا يجري مجرى المال. و لأنّه مكلّف طلّق مختاراً، فوجب أن ينفذ، كالعبد و المكاتب.

و قال ابن أبي ليلى: لا يقع طلاقه؛ لأنّ البُضْع يجري مجرى المال؛ بدليل أنّه يملكه بمالٍ، و يصحّ أن يزول ملكه عنه بمالٍ، فلم يملك التصرّف فيه، كالمال(1).

و قد سلف بطلانه.

مسألة 434: يصحّ الخلع من السفيه؛

لأنّه إذا صحّ منه الطلاق مجّاناً من غير مقابلةٍ بشيء، فصحّة الخلع الذي هو طلاق بعوضٍ أولى.

إذا ثبت هذا، فإنّ مال الخلع لا يُدفع إليه، و إن دُفع إليه، لم يصحّ قبضه، و إن أتلفه، لم يضمنه، و لم تبرأ المرأة بدفعه إليه، و هو من ضمانها إن أتلفه أو تلف في يده؛ لأنّها سلّطته على إتلافه.

و هل يشترط في خلعه أن يخالع بمهر المثل أو أزيد؟ إشكال ينشأ:

من أنّه يصحّ الطلاق بغير شيء البتّة، فمهما كان من العوض يكون أولى، و من أنّه يجري مجرى المعاوضة، فلا يجوز بدون مهر المثل، كالبيع بدون

ص: 235


1- الحاوي الكبير 363:6، حلية العلماء 541:4، بداية المجتهد 283:2، المغني 571:4، الشرح الكبير 574:4.

ثمن المثل.

و كذا يصحّ منه الظهار، و يكفّر بالصوم، و يصحّ منه الرجعة؛ لأنّها ليست ابتداء نكاحٍ، بل تمسّكٌ بالعقد السابق، و يصحّ منه نفي النسب باللعان و ما أشبه ذلك؛ لأنّ هذه لا تعلّق لها بالمال.

و لو كان السفيه مطلاقاً مع حاجته إلى النكاح فتسرّى بجاريةٍ، فإن تبرَّم(1) بها، أُبدلت له.

مسألة 435: قد بيّنّا أنّ عتق السفيه غير نافذ؛

لأنّه إتلافٌ للمال و تصرّفٌ فيه بغير عوضٍ، فلا يصحّ. و لأنّه إذا مُنع من البيع الذي هو إخراج ملكه عن العين بعوضٍ يساويها أو يزيد عليها، فمَنْعُه عن العتق أولى، فإن أعتق، لم يصحّ، و لا يلزمه حكمه بعد رفع الحجر عنه، و به قال الشافعي و الحَكَم(2) و أحمد في إحدى الروايتين(3).

و في الاُخرى: أنّه يصحّ عتقه معجّلاً؛ لأنّه عتقٌ من مكلّفٍ مالكٍ تامّ الملك، فصحّ، كعتق الراهن و المفلس(4).

و الفرق ظاهر؛ لأنّ المفلس و الراهن حُجر عليهما لحقّ غيرهما، مع أنّا نمنع الحكم في الأصل. و لأنّه تبرّع فلم ينفذ، كهبته و وقفه. و لأنّه محجور عليه لحفظه(5) ، فلم يصح عتقه، كالصبي و المجنون.

ص: 236


1- تبرّم: تضجّر. لسان العرب 43:12 «برم».
2- قوله: «و الحَكَم» كذا ورد في النسخ الخطّيّة و الحجريّة، و ليس في المصادر - في الهامش التالي - منه ذكر. و في المغني و الشرح: «القاسم بن محمّد» بدل «الحَكَم».
3- الحاوي الكبير 360:6، التهذيب - للبغوي - 139:4، العزيز شرح الوجيز 77:5، روضة الطالبين 417:3، المغني 572:4، الشرح الكبير 573:4.
4- المغني 572:4، الشرح الكبير 573:4.
5- أي: لحفظ ماله عليه.
مسألة 436: الأقوى أنّه لا يصحّ منه عقد النكاح مستقلاًّ،

بل يشترط إذن الوليّ في النكاح - و به قال الشافعي و أبو ثور(1) - لأنّه تصرّفٌ يتضمّن المال، و هو الالتزام بالصداق، فكان ممنوعاً منه؛ لتعلّقه بالمال. و لأنّه يجري مجرى المعاوضة الماليّة، فمُنع منه، كالبيع.

و قال أبو حنيفة و أحمد: يصحّ منه الاستقلال بالنكاح و إن منعه الوليّ؛ لحاجته إليه. و لأنّه عقدٌ غير ماليّ، فصحّ منه، كخلعه و طلاقه، و إن لزم منه المال فحصوله بطريق الضمن، و لا يمنع من العقد، كما لو لزم ذلك من الطلاق(2).

و يُمنع من كونه غير ماليّ؛ لأنّ التصرّف في المال ممنوع منه، سواء كان بطريق الأصالة أو الضمن، و لهذا أوجبنا نفقة الولد - الذي أقرّ به - في بيت المال، و أثبتنا النسب.

مسألة 437: لا يصحّ تدبير السفيه و لا وصيّته بالتبرّعات؛

لأنّه تصرّفٌ في المال، فلم ينفذ منه، كغيرهما من التصرّفات الماليّة.

و قال أحمد: يصحّان؛ لأنّ ذلك محض مصلحة؛ لأنّه تقرّب إلى اللّه تعالى(3).

و يُمنع صلاحيّة التقرّب للنفوذ؛ فإنّ صدقته و وقفه لا ينفذان و إن تقرّب بهما إلى اللّه تعالى.

ص: 237


1- التنبيه: 103، التهذيب - للبغوي - 140:4، العزيز شرح الوجيز 77:5، روضة الطالبين 417:3-418، المغني و الشرح الكبير 572:4.
2- المغني و الشرح الكبير 572:4.
3- المغني 572:4، الشرح الكبير 573:4.

و يصحّ منه الاستيلاد، و تُعتق الأمة المستولدة بموته؛ لأنّه إذا صحّ ذلك من المجنون فصحّته من السفيه العاقل أولى.

و له المطالبة بالقصاص؛ لأنّه موضوع للتشفّي و الانتقام. و له العفو على مالٍ؛ لأنّه تحصيل للمال، و ليس تضييعاً له. و إذا ثبت المال، لم يكن له التصرّف فيه، بل يقبضه الوليّ.

و إن عفا على غير مالٍ، صحّ عندنا؛ لأنّ الواجب في العمد القصاص، و الدية إنّما تثبت بالصلح و التراضي، و القصاص ليس مالاً، فلا يمنع من التصرّف فيه بالإسقاط؛ لأنّ ذلك ليس تضييعاً للمال.

و مَنْ قال: الواجب أحد الشيئين، لم يصح عفوه عن المال، و وجب المال، كما لو سقط القصاص بعفو أحد الشريكين عندهم(1).

مسألة 438: حكم السفيه في العبادات حكم الرشيد،

إلاّ أنّه لا يفرّق الحقوق الماليّة بنفسه، كالزكاة و الخمس؛ لأنّه تصرّف في المال، و هو ممنوع منه على الاستقلال.

و لو أحرم بالحجّ أو بالعمرة، صحّ إحرامه بغير إذن الوليّ.

ثمّ إن كان قد أحرم بحجّة الإسلام أو بعمرته، لم يكن للوليّ عليه الاعتراضُ، سواء زادت نفقة السفر أو لا، و ينفق عليه الوليّ.

و كذا لو أحرم بحجٍّ أو عمرة واجبتين بنذرٍ أو شبهه كان قد أوجبه قبل الحجر عليه.

و إن كان الحجّ أو العمرة مندوبين، فإن تساوت نفقته سفراً و حضراً،

ص: 238


1- المغني و الشرح الكبير 573:4.

انعقد إحرامه، و صحّ نسكه، و كان على الوليّ الإنفاق عليه، أو يدفع النفقة إلى ثقة؛ لأنّه لا ضرر على المال في هذا الإحرام.

و إن كان نفقة السفر أكثر، فإن قال: أنا أكتسب الزيادة، فكالأوّل يدفع إليه نفقته الأصليّة في الحضر، و يتكسّب هو في الطريق الزيادة؛ لانتفاء الضرر عن ماله.

و إن لم يكن له كسب أو كان و لا يفي بتلك الزيادة، فللوليّ منعه، و تحلّله بالصوم، كالمحصور إذا جعلنا لدم الإحصار بدلاً؛ لأنّه محجور عليه في المال، و هو أصحّ وجهي الشافعيّة.

و الثاني: أنّ عجزه عن النفقة لا يلحقه بالمُحْصَر، بل هو كالمفلس الفاقد للزاد و الراحلة لا يتحلّل إلاّ بلقاء البيت(1).

و هو مشتمل على الضرر، فالأوّل أولى.

و لو نذر الحجّ بعد الحجر عليه، فالأقوى انعقاده، لكن لا يُمكَّن منه إن زادت نفقته في السفر و لم يكن له كسب يفي بها، بل إذا رُفع الحجر عنه حجّ.

و قال بعض الشافعيّة: الحجّة المنذورة بعد الحجر كالمنذورة قبله إن سلكنا بالمنذور مسلك واجب الشرع، و إلاّ فهي كحجّة التطوّع(2).

و لو نذر التصدّق بعين ماله، لم ينعقد، و لو نذر في الذمّة، انعقد.

و لو حلف، انعقدت يمينه، فإن حنث، كفّر بالصوم، كالعبد.5.

ص: 239


1- العزيز شرح الوجيز 79:5، روضة الطالبين 420:3.
2- العزيز شرح الوجيز 79:5.

و لو فكّ الحجر عنه قبل تكفيره بالصوم في اليمين، و حلف النذر، و الظهار و الإفطار و غير ذلك، لزمه العتق إن قدر عليه؛ لأنّه الآن متمكّن.

و لو فكّ بعد صومه للكفّارة، لم يلزمه شيء.

** *

ص: 240

الفصل الرابع: في المتولّي لمال الطفل و المجنون و السفيه

مسألة 439: قد بيّنّا أنّه ليس للصغير التصرّف في شيء ما من الأشياء قبل بلوغه خمس عشرة سنة في الذكر و تسع سنين في الأُنثى،
اشارة

سواء كان مميّزاً أو لا، مُدركاً لما يضرّه و ينفعه أو لا، حافظاً لماله أو لا.

و قد روي أنّه «إذا بلغ الطفل عشر سنين بصيراً جازت وصيّته بالمعروف و صدقته و أُقيمت عليه الحدود التامّة»(1) و في روايةٍ أُخرى: «إذا بلغ خمسة أشبار»(2).

و المعتمد ما تقدّم.

و لو أذن له الوليّ، لم يصح، إلاّ في صورة الاختبار إن قلنا بأنّه قبل البلوغ على ما تقدّم(3).

و لو قلنا بالرواية، نفذ تصرّفه في الوصيّة بالمعروف و الصدقة، و قُبِل إقراره بهما؛ لأنّ مَنْ ملك شيئاً ملك الإقرار به.

و هل يصحّ بيع المميّز و شراؤه بإذن الوليّ؟ الوجه عندي: أنّه لا يصحّ و لا ينفذ - و هو إحدى الروايتين عن أحمد، و به قال الشافعي(4) - لقوله تعالى:«وَ لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ» (5) و إنّما يُعرف زوال السفه بالبلوغ

ص: 241


1- الكافي 28:7 (باب وصيّة الغلام و الجارية...) ح 1، الفقيه 502/145:4، التهذيب 898/248:8.
2- التهذيب 922/233:10، الاستبصار 1085/287:4.
3- في ص 225، المسألة 421.
4- المغني 4 321، الشرح الكبير 578:4، الوجيز 133:1، العزيز شرح الوجيز 15:4، روضة الطالبين 9:3، المجموع 155:9-156 و 158.
5- النساء: 5.

و الرشد. و لأنّه غير مكلّف فأشبه غير المميّز. و لأنّ العقل لا يمكن الوقوف عليه على الحدّ الذي يصلح به التصرّف و الذي لا يصلح؛ لخفائه و تزايده إلى وقت البلوغ على التدريج، و المراتب خفيّة في الغاية، فجَعَل الشارع له ضابطاً، و هو البلوغ، فلا تثبت له أحكام العقلاء قبل وجود المظنّة.

و قال أبو حنيفة و أحمد في الرواية الأُخرى: يجوز بيع المميّز و شراؤه و تصرّفه بإذن الوليّ؛ لقوله تعالى:«وَ ابْتَلُوا الْيَتامى» (1) أي اختبروهم ليُعلم رشدهم، و إنّما يتحقّق اختبارهم بتفويض التصرّف إليهم من البيع و الشراء و غيرهما ليُعلم هل بلغ حدّ الرشد أم لا؟ و لأنّه عاقل مميّز محجور عليه، فصحّ تصرّفه بإذن الوليّ، بخلاف غير المميّز، فإنّه لا يصلح تحصيل المصلحة بتصرّفه؛ لعدم تميزه و عدم معرفته، و لا حاجة إلى اختباره؛ لأنّه قد عُلم حاله(2).

و قد بيّنّا الخلاف في أنّ الاختبار هل هو قبل البلوغ أو بعده ؟ فإن قلنا: إنّه بعد البلوغ، فلا بحث. و إن قلنا: إنّه قبله، قلنا: المراد المساومة و المماكسة، فإذا وقف الحال على شيء، باع الوليّ و باشر العقد بيعاً و شراءً دون الصبي، و بهذا يحصل الاختبار، و العقل غير معلوم السمة له، و إنّما يُعلم بما ضبطه الشارع علامةً عليه، و هو البلوغ، كالمشقّة المنوطة بالمسافة.

تذنيب: قال أبو حنيفة: لو تصرّف الصبي المميّز بالبيع و الشراء و شبههما، صحّ تصرّفه،

و يكون موقوفاً على إجازة الوليّ، و أمّا غير المميّز فلا يصحّ تصرّفه، سواء أذن الوليّ أو لا؛ لسلب أهليّته عن مباشرة

ص: 242


1- النساء: 6.
2- بدائع الصنائع 135:5، المغني 321:4، الشرح الكبير 578:4، حلية العلماء 12:4، العزيز شرح الوجيز 15:4، المجموع 158:9.

التصرّفات(1).

و لا فرق بين الشيء اليسير و الكثير في المنع من تصرّف غير المميّز.

و قال أحمد: يصحّ تصرّف غير المميّز في الشيء اليسير؛ لأنّ أبا الدرداء اشترى عصفوراً من صبي و أرسله(2).

و فعله ليس حجّةً، و جاز أن يكون قد عرف أنّه ليس ملكاً للصبي فاستنقذه منه.

مسألة 440: يثبت الرشد عند الحاكم بشهادة رجلين عَدْلين في الرجال، و في النساء أيضاً؛

لأنّ شهادة الاثنين مناط الأحكام.

و يثبت في النساء بشهادة أربع أيضاً؛ لأنّه ممّا تطّلع عليه النساء و لا يطّلع عليه الرجال غالباً، فلو اقتصرنا في ثبوت رشدهنّ على شهادة الرجال، لزم الحرج و الضيق، و هو منفيّ بالإجماع.

و كذا يثبت بشهادة رجل و امرأتين و بشهادة أربع خناثى؛ لجواز أن يكون نساءً.

و لا يثبت بتصديق الغريم، سواء كان ممّن يؤخذ منه الحقّ أو يدفع إليه؛ لما فيه من التهمة.

مسألة 441: الولاية في مال المجنون و الطفل للأب و الجدّ له و إن علا،

و لا ولاية للأُمّ إجماعاً، إلاّ من بعض الشافعيّة(3) ، بل إذا فُقد الأب و الجدّ و إن علا، كانت الولاية لوصيّ أحدهما إن وُجد، فإن لم يوجد، كانت الولاية للحاكم يتولاّها بنفسه أو يولّيها أميناً.

ص: 243


1- بدائع الصنائع 135:5، العزيز شرح الوجيز 15:4، المجموع 158:9.
2- المغني 321:4، الشرح الكبير 8:4، المجموع 158:9.
3- المهذّب - للشيرازي - 335:1، حلية العلماء 525:4، الوجيز 177:1، العزيز شرح الوجيز 80:5، روضة الطالبين 422:3.

و لا ولاية لجدّ الأُمّ، كما لا ولاية للأُمّ، و لا لغير الأب و الجدّ له من الأعمام و الأخوال و(1) غيرهما من الأنساب، قربوا أم بعدوا.

و قد روي أنّ للأُمّ ولايةَ الإحرام بالصبي(2).

و المعتمد ما قلناه.

و قال أبو سعيد الاصطخري من الشافعيّة: إنّ للأُمّ ولايةَ المال بعد الأب و الجدّ، و تُقدّم على وصيّهما؛ لزيادة شفقتها(3).

و هو خارق للإجماع.

مسألة 442: الولاية في مال السفيه للحاكم،

سواء تجدّد السفه عليه بعد بلوغه أو بلغ سفيهاً؛ لأنّ الحجر يفتقر إلى حكم الحاكم، و زواله أيضاً يفتقر إليه، فكان النظر في ماله إليه، و لا ولاية للأب و لا للجدّ و لا لوصيّهما على السفيه.

و قال أحمد: إن بلغ الصبي سفيهاً، كانت الولاية للأب أو الجدّ له أو الوصيّ لهما مع عدمهما، و إلاّ فالحاكم(4).

و لا بأس به.

إذا عرفت هذا، فإن كان الأبُ للصبي و الجدُّ موجودين، اشتركا في الولاية، و كان حكم الجدّ أولى لو عارضه حكم الأب.

ص: 244


1- في الطبعة الحجريّة: «أو» بدل «و».
2- راجع التهذيب 6:5-16/7، و الاستبصار 146:2-478/147، و صحيح مسلم 1336/974:2، و سنن أبي داوُد 142:2-1736/143، و سنن النسائي 120:5، و سنن البيهقي 155:5.
3- راجع المصادر في الهامش (3) من ص 243.
4- المغني 570:4-571، الشرح الكبير 562:4-563.

الفصل الخامس: في كيفيّة التصرّف

مسألة 443: الضابط في تصرّف المتولّي لأموال اليتامى و المجانين اعتبار الغبطة،

و كون التصرّف على وجه النظر و المصلحة، فللوليّ أن يتّجر بمال اليتيم، و يضارب به و يدفعه إلى مَنْ يضارب له به، و يجعل له نصيباً من الربح، و يستحبّ له ذلك، سواء كان الوليّ أباً أو جدّاً له أو وصيّاً أو حاكماً أو أمينَ حاكمٍ، و به قال عليّ عليه السلام و عمر و عائشة و الضحّاك(1).

و لا نعلم فيه خلافاً إلاّ ما روي عن الحسن البصري كراهة ذلك؛ لأنّ خزنه أحفظ و أبعد له من التلف(2).

و الأصحّ ما ذكرناه؛ لما رواه العامّة عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله قال: «مَنْ ولي يتيماً له مالٌ فليتّجر له، و لا يتركه حتى تأكله الصدقة»(1).

و من طريق الخاصّة: ما رواه أسباط بن سالم أنّه قال للصادق عليه السلام:

كان لي أخ هلك فأوصى إلى أخ أكبر منّي و أدخلني معه في الوصيّة و ترك ابناً صغيراً و له مال أ فيضرب به للابن فما كان من فضل سلّمه لليتيم و ضمن له ماله ؟ فقال: «إن كان لأخيك مال يحيط بمال اليتيم إن تلف فلا بأس به، و إن لم يكن له مال فلا يعرّض لمال اليتيم»(2)

ص: 245


1- سنن الدارقطني 109:2-1/110، المغني 317:4، الشرح الكبير 564:4-565.
2- التهذيب 957/342:6.

و لأنّ ذلك أنفع لليتيم و أكثر حظّاً له، لأنّه ينفق من ربحه، و يستدرك من فائدته ما [يقلّه](1) الإنفاق، كما يفعله البالغون في أموالهم و أموال مَنْ يعزّ عليهم من أولادهم.

مسألة 444: و إذا اتّجر لهم ينبغي أن يتّجر في المواضع الآمنة، و لا يدفعه إلاّ لأمين، و لا يغرّر بماله.

و قد روي أنّ عائشة أبضعت مال محمّد بن أبي بكر في البحر(2).

و يُحتمل أن يكون في موضعٍ مأمون قريب من الساحل، أو أنّها ضمنته إن هلك غرمته هي، أو أنّها أخطأت في ذلك فليس فعلها حجّةً.

إذا عرفت هذا، فإنّ للوصيّ أن يتّجر بنفسه، و يجعل الربح بينه و بين اليتيم على جاري العادة؛ لأنّه جاز أن يدفعه كذلك إلى غيره فجاز أن يأخذ ذلك لنفسه.

و قال بعض العامّة: لا يجوز أن يعمل به بنفسه؛ لأنّ الربح نماء مال اليتيم، فلا يستحقّه غيره إلاّ بعقدٍ، فلا يجوز أن يعقد الوليّ المضاربة مع نفسه(3).

و هو ممنوع؛ لجواز أن يتولّى طرفي العقد.

و إذا دفعه إلى غيره، كان للعامل ما جَعَله له الوليّ و وافقه عليه؛ لأنّ الوصي نائب عن اليتيم فيما فيه مصلحته، و هذا فيه مصلحته، فصار تصرّفه فيه كتصرّف المالك في ماله.

مسألة 445: و يشترط في التاجر بمال اليتيم أن يكون وليّاً

و أن يكون

ص: 246


1- بدل ما بين المعقوفين في «ج، ر» و الطبعة الحجريّة: «يعلمه» و في «ث»: «يعد». و الصحيح ما أثبتناه. (2 و 3) المغني 317:4، الشرح الكبير 565:4.

مليّاً، فإن انتفى أحد الوصفين، لم يجز له التجارة في ماله، فإن اتّجر، كان الضمان عليه، و الربح لليتيم؛ لما رواه ربعي بن عبد اللّه عن الصادق عليه السلام في رجل عنده مال اليتيم، فقال: «إن كان محتاجاً ليس له مال، فلا يمسّ ماله، و إن هو اتّجر به فالربح لليتيم و هو ضامن»(1).

و في الحسن عن محمّد بن مسلم عن الصادق عليه السلام في مال اليتيم قال: «العامل به ضامن، و لليتيم الربح إذا لم يكن للعامل به مال» و قال: «إن أعطب أدّاه»(2).

مسألة 446: و يجوز لوليّ اليتيم إبضاع ماله، و هو دفعه إلى مَنْ يتّجر به، و الربح كلّه لليتيم؛

لأنّ ذلك أنفع من المضاربة، لأنّه إذا جاز دفعه بجزء من ربحه فدفعه إلى مَنْ يدفع جميع ربحه إلى اليتيم أولى.

و يستحبّ أن يشتري له العقار؛ لأنّه مصلحة له، لأنّه يحصل منه الفضل، و لا يفتقر إلى كثير مئونة، و سلامته متيقّنة، و الأصل باقٍ مع الاستنماء، و الغرر فيه أقلّ من التجارة، بل هو أولى منها؛ لما في التجارة من الأخطار و انحطاط الأسعار، فإن لم يكن في شرائه مصلحة إمّا لفضل الخراج و جور السلطان أو إشراف الموضع على البوار، لم يجز.

و يجوز أن يبني عقاره و يستجدّه إذا استهدم من الدور و المساكن؛ لأنّه في معنى الشراء، إلاّ أن يكون الشراء أنفع، فيصرف المال إليه، و يقدّمه على البناء، فإن فضل شيء، صرفه في البناء.

و إذا أراد البناء، بنى بما فيه الحظّ لليتيم، و يبنيه بالآجر و الطين، و إن اقتضت المصلحة البناء باللِّبن، فَعَل، و إلاّ فلا؛ لأنّه إذا هدم لا مرجوع له.

ص: 247


1- الكافي 3/131:5، التهذيب 341:6-955/342.
2- الكافي 2/131:5، التهذيب 956/342:6.

و بالجملة، يفعل الأصلح.

و قال الشافعي: يبني بالآجر و الطين لا غير؛ لأنّه إذا بنى باللِّبن خاصّةً، لم يكن له مرجوع، و إذا بناه بالآجر و الجصّ، لم يتخلّص منه إلاّ بكسره(1).

و ما قلناه أولى؛ لأنّه إذا كان الحظّ في البناء بغير الآجر، فتركه تضييع حظّه و ماله، و لا يجوز تضييع الحظّ العاجل و تحمّل الضرر المتيقّن لتوهّم مصلحة بقاء الآجر عند هدم البناء، و ربما لا يقع ذلك في حياته و لا يحتاج إليه، مع أنّ كثيراً من البلاد لا يوجد فيها الآجر، و كثيراً من البلدان لم تجر عادتهم بالبناء بالآجر، فلو كُلّفوا البناء به لاحتاجوا إلى غرامة كثيرة لا يحصل منها طائل، فالأولى البناء في كلّ بلدٍ على عادته.

مسألة 447: لا يجوز بيع عقار الصبي لغير حاجة؛

لأنّا نأمر الوليّ بالشراء له لما فيه من الحظّ و المصلحة، فيكون بيعه تفويتاً للحظّ، فإن احتيج إلى بيعه، جاز، و به قال الثوري و الشافعي و أصحاب الرأي و إسحاق و أحمد(2).

و قال بعض العامّة: لا يجوز إلاّ في موضعين:

أ: أن يكون به ضرورة إلى كسوة أو نفقة أو قضاء دَيْن أو ما لا بدّ له منه، و لا تندفع حاجته إلاّ بالبيع، أو قصرت غلّته عن الوفاء بنفقته و ما يحتاج إليه.

ب: أن يكون في بيعه غبطة بأن يدفع فيه زيادة كثيرة على ثمن مثله

ص: 248


1- المهذّب - للشيرازي - 335:1، العزيز شرح الوجيز 80:5، روضة الطالبين 422:3، المغني 317:4، الشرح الكبير 567:4.
2- المهذب - للشيرازي - 335:1، العزيز شرح الوجيز 80:5، روضة الطالبين 422:3، المغني 318:4، الشرح الكبير 569:4.

و يرغب إليه شريك أو جار بأكثر من ثمن مثله و هو يجد مثله ببعض ذلك الثمن، أو يخاف عليه الخراب و الهلاك بغرقٍ أو حرقٍ أو نحوه، أو يكون ثقيل الخراج و منزل الوُلاة و نحوه، و به قال الشافعي(1).

و قال أحمد: كلّ موضعٍ يكون البيع أنفع و يكون نظراً لهم، جاز، و لا يختصّ بما تقدّم، و كذا لو كانت الدار سيّئة الجيران و يتضرّر الصبي بالمقام فيها، جاز بيعها و شراء عوضها، و الجزئيّات غير محصورة، فالضابط اعتبار الغبطة، و قد يكون الغبطة له في ترك البيع و إن أعطاه الباذل ضِعْفَي ثمنه إذا لم يكن به حاجة إلى الثمن أو لا يمكن صَرف ثمنه في مثله و يخاف ضياعه، فقد روي عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال: «مَنْ باع داراً أو عقاراً و لم يصرف ثمنه في مثله لم يبارك له فيه»(2)(3).

مسألة 448: يجوز للوليّ عن الطفل أو

مسألة 448: يجوز للوليّ عن الطفل أو(4) المجنون بيع عقاره و غيره في موضع الجواز بالنقد و النسيئة

و بالعرض بحسب ما تقتضيه المصلحة.

و إذا باع نسيئةً زاد على ثمنه نقداً، و أشهد عليه، و ارتهن به رهناً وافياً، فإن لم يفعل، ضمن، و هو قول أكثر الشافعيّة(5).

و نقل الجويني وجهين في صحّة البيع إذا لم يرتهن و كان المشتري مليّاً، و قال: الأصحّ: الصحّة، و لا يكون ضامناً؛ اعتماداً على ذمّة المليّ(6).

و ليس بمعتمد؛ لأنّه في معرض الإتلاف، بخلاف الإقراض؛ لأنّه

ص: 249


1- المغني 318:4، الشرح الكبير 569:4، المهذّب - للشيرازي - 336:1، العزيز شرح الوجيز 80:5-81، روضة الطالبين 422:3-423.
2- سنن ابن ماجة 2490/832:2، سنن البيهقي 34:6، مسند أحمد 18264/397:5 بتفاوت يسير.
3- المغني 318:4، الشرح الكبير 569:4.
4- في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «و» بدل «أو». و الظاهر ما أثبتناه. (5 و 6) العزيز شرح الوجيز 81:5، روضة الطالبين 423:3.

يجوز عند خوف الإتلاف.

و لا يحتاج الأب إذا باع مال ولده من نفسه نسيئةً أن يرتهن له من نفسه، بل يؤتمن في حقّ ولده.

و كذا البحث لو اشترى له سَلَماً مع الغبطة بذلك.

مسألة 449: إذا باع الأب أو الجدّ عقار الصبي أو المجنون و ذكر أنّه للحاجة، و رفع الأمر إلى الحاكم، جاز له أن يسجّل على البيع،

و لم يكلّفهما إثبات الحاجة أو الغبطة؛ لأنّهما غير متّهمين في حقّ ولدهما.

و لو باع الوصيّ أو أمين الحاكم، لم يسجّل الحاكم، إلاّ إذا قامت البيّنة على الحاجة أو الغبطة، فإذا بلغ الصبي و ادّعى على الأب أو الجدّ بيع ماله من غير مصلحةٍ، كان القولُ قولَ الأب أو الجدّ مع اليمين، و عليه البيّنة؛ لأنّه يدّعي عليهما خلافَ الظاهر؛ إذ الظاهر من حالهما الشفقة و عدم البيع إلاّ للحاجة.

و لو ادّعاه على الوصيّ أو الأمين، فالقول قوله في العقار، و عليهما البيّنة؛ لأنّهما مدّعيان، فكان عليهما البيّنة.

و في غير العقار الأولى ذلك أيضاً؛ لهذا الدليل، و هو أحد وجهي الشافعيّة.

و في الآخَر: أنّه يُقبل قولهما مع اليمين، و الفرق عسر الإشهاد في كلّ قليل و كثير يبيعه(1).

و من الشافعيّة مَنْ أطلق وجهين من غير فرقٍ بين الأولياء، سواء كانوا آباءً أو أجداداً أو غرباء، و لا بين العقار و غيره(2).

و دعوى الصبي و المجنون على المشتري من الوليّ كدعواهما على

ص: 250


1- العزيز شرح الوجيز 81:5، روضة الطالبين 423:3.
2- العزيز شرح الوجيز 81:5، روضة الطالبين 423:3.

الوليّ.

مسألة 450: و هل للوصيّ و الأمين بيع مال الطفل و المجنون من نفسه و بيع مال نفسه منه ؟

مَنَع منه جماعة من علمائنا(1) و الشافعي(2) أيضاً؛ لقوله صلى الله عليه و آله: «لا يشتري الوصيّ من مال اليتيم»(3).

و الأقرب عندي: الجواز، و التهمة منتفية مع الوثوق بالعدالة. و لأنّ التقدير أنّه بالغ في النصيحة، و لا استبعاد في كونه موجباً قابلاً، كما في الأب و الجدّ.

إذا عرفت هذا، فهل للأب و الجدّ للأب ذلك ؟ الأولى ذلك - و به قال الشافعي(4) - لأنّ شفقتهما عليه توجب المناصحة له.

و كذا يبيع الأب أو الجدّ عن أحد الصغيرين و يشتري للآخَر.

و هل يشترط العقد، فيقول: «بعت كذا عن فلان، اشتريت كذا من فلان»؟ الأقرب: ذلك، كما لو باع من غيره، و هو أحد وجهي الشافعيّة.

و الثاني: أنّه يكتفي بأحدهما، و يقام مقامهما، كما أُقيم الشخص الواحد مقام اثنين، سواء كان بائعاً عن أحد الصغيرين و مشترياً عن الآخَر، أو كان مشترياً لنفسه و بائعاً عن الصغير، أو بالعكس(5).

و إذا اشترى الوليّ للطفل فليشتر من ثقة أمين يؤمن من جحوده في الثاني و حيلته في إفساد البيع بأن يكون قد أقرّ لغيره قبل البيع و ما أشبه

ص: 251


1- منهم: الشيخ الطوسي في الخلاف 346:3، المسألة 9، و المبسوط 381:2.
2- العزيز شرح الوجيز 81:5، روضة الطالبين 424:3.
3- أورده الرافعي في العزيز شرح الوجيز 81:5.
4- العزيز شرح الوجيز 81:5، روضة الطالبين 424:3، المغني 242:5، الشرح الكبير 563:4.
5- العزيز شرح الوجيز 81:5، روضة الطالبين 424:3.

ذلك، و حذراً من خروج الملك مستحقّاً.

و لا يجوز لوليّ الطفل أن يبيع إلاّ بثمن المثل. و قد تفرض المصلحة في البيع بدون ثمن المثل في بعض جزئيّات الصور، فليجز حينئذٍ.

مسألة 451: و أمّا قرض مال الطفل و المجنون فإنّه غير جائز

إلاّ مع الضرورة؛ لما فيه من التغرير و التعريض للإتلاف، بل إن أمكن الوليّ التجارة به أو شراء عقارٍ له فيه الحظّ، لم يقرضه؛ لما فيه من تفويت الحظّ على اليتيم.

و إن لم يمكن ذلك - بأن خاف من إبقائه في يده [من تلفٍ](1) أو نهب أو سرقةٍ أو حرقٍ أو غير ذلك من الأسباب المتلفة أو المُنقصة للماليّة، و كذا إذا أراد الوليّ السفر و خاف من استصحابه معه أو إبقائه في البلد - جاز له إقراضه من ثقة مليء. و إن تمكّن من الارتهان عليه، وجب، فإن لم يتّفق الرهن و وجد كفيلاً، طالَب بالكفيل.

و لو تمكّن من الارتهان عليه فطلب الكفيل و ترك الارتهان، فقد فرّط.

و لو استقرض الوليّ مع الولاية و الملاءة، جاز؛ نظراً لمصلحة الطفل، فقد روى العامّة أنّ عمر استقرض مال اليتيم(2).

و من طريق الخاصّة: ما رواه أبو الربيع عن الصادق عليه السلام أنّه سئل عن رجل ولي [مال] يتيم فاستقرض منه شيئاً، فقال: «إنّ عليّ بن الحسين عليهما السلام قد كان يستقرض من مال أيتام كانوا في حجره، فلا بأس بذلك»(3)

ص: 252


1- زيادة يقتضيها السياق.
2- المغني 319:4.
3- التهذيب 953/341:6، و ما بين المعقوفين من المصدر.

و لأنّه وليّ له التصرّف في ماله بما يتعلّق به مصلحة اليتيم، فجاز له إقراضه للمصلحة.

و إذا كان للصبي مالٌ في بلدٍ فأراد الوليّ نَقْلَه عن ذلك البلد إلى آخَر، كان له إقراضه من ثقة مليء، و يقصد بذلك حفظه من السارق و قاطع الطريق، أو الغرق، أو غير ذلك.

و كذا لو خاف على مال اليتيم التلف، كما إذا كان له غلّة من حنطة و شبهها و خاف عليها تطرّق الفساد إليها، أقرضها من الثقة المليء خوفاً من تسويسها و تغيّرها؛ لأنّه يشتمل على نفع اليتيم، فجاز، كالتجارة.

و لو لم يكن لليتيم فيه حظّ، و إنّما قصد إرفاق المقترض و قضاء حاجته، لم يجز إقراضه، كما لم يجز هبته.

و لو أراد الوليّ السفر، لم يسافر به، و أقرضه من مليء مأمون، و هو أولى من الإيداع؛ لأنّ الوديعة لا تُضمن.

و لو لم يوجد المقترض بهذه الصفة، أودعه من ثقة أمين، فهو أولى من السفر به؛ لأنّه موضع الحاجة و الضرورة.

و لو أودعه من الثقة مع وجود المقترض المليء المأمون، لم يكن مفرّطاً، و لا ضمان عليه، فإنّه قد يكون الإيداع أنفع له من القرض، و هو أضعف وجهي الشافعيّة.

و أصحّهما عندهم: أنّه لا يجوز إيداعه مع إمكان الإقراض، فإن فَعَل ضمن(1).

و كلّ موضعٍ جاز له أن يقرضه فيه فإنّه يشترط أن يكون المقترض3.

ص: 253


1- المهذّب - للشيرازي - 336:1، العزيز شرح الوجيز 83:5، روضة الطالبين 426:3.

مليّاً أميناً، ليأمن جحوده و تعذّر الإيفاء.

فإن تمكّن من الارتهان، ارتهن، و إن تعذّر، جاز من غير رهن؛ لأنّ الظاهر ممّن يستقرض من أجل حظّ اليتيم أنّه لا يبذل رهناً، فاشتراط الرهن تفويت لهذا الحظّ.

و يشترط فيمن يُودع عنده الأمانة و في المقترض الأمانةُ و اليسار معاً، فإن أودع أو أقرض من غير الثقة، ضمن.

مسألة 452: لو أخذ إنسان من وليّ اليتيم مالاً و تصرّف في بعضه بغير إذنه ثمّ أيسر بعد ذلك، كان عليه ردّ المال إلى الوليّ

أو إلى الطفل إن كان قد بلغ رشيداً.

و يجوز إذا دفعه إلى الطفل أن لا يشعر بالحال و أن يدفعه إليه موهماً له أنّه على وجه الصلة؛ لأنّ الغرض و المقصود بالذات إيصال الحقّ إلى مستحقّه؛ لما رواه عبد الرحمن بن الحجّاج - في الصحيح - عن الكاظم عليه السلام في الرجل يكون عند بعض أهل بيته المال لأيتامٍ فيدفعه إليه فيأخذ منه دراهم يحتاج إليها و لا يُعلم الذي كان عنده المال للأيتام أنّه أخذ من أموالهم شيئاً ثمّ تيسّر بعد ذلك، أيّ ذلك خير له ؟ أ يعطيه الذي كان في يده، أم يدفعه إلى اليتيم و قد بلغ ؟ و هل يجزئه أن يدفعه إلى صاحبه على وجه الصلة و لا يُعلمه أنّه أخذ له مالاً؟ فقال: «يجزئه أيّ ذلك فَعَل إذا أوصله إلى صاحبه، فإنّ هذا من السرائر إذا كان من نيّته إن شاء ردّه إلى اليتيم إن كان قد بلغ على أيّ وجه شاء و إن لم يُعلمه أنّه كان قبض له شيئاً، و إن شاء ردّه إلى الذي كان في يده» و قال: «إذا كان صاحب المال غائباً

ص: 254

فليدفعه إلى الذي كان المال في يده»(1).

مسألة 453: و مَنْ كان عنده مالٌ لأيتامٍ فهلك الأيتام قبل دفع المال إليهم فيصالحه وارثهم على البعض، حلّ له ذلك،

و برئت ذمّته من جميع المال مع إعلام الوارث؛ لما رواه عبد الرحمن بن الحجّاج و داوُد بن فرقد جميعاً عن الصادق عليه السلام، قالا: سألناه عن الرجل يكون عنده المال لأيتامٍ فلا يعطيهم حتى يهلكوا فيأتيه وارثهم و وكيلهم فيصالحه على أن يأخذ بعضاً و يدع بعضاً و يبرئه ممّا كان له أ يبرأ منه ؟ قال: «نعم»(2).

مسألة 454: يجب على الوليّ الإنفاقُ على مَنْ يليه بالمعروف،

و لا يجوز له التقتير عليه في الغاية و لا الإسراف في النفقة، بل يكون في ذلك مقتصداً.

و يجرى الطفل على عادته و قواعد أمثاله من نظرائه، فإن كان من أهل الاحتشام، أطعمه و كساه ما يليق بأمثاله من المطعوم و الملبوس، و كذا إن كان من أهل الفاقة و الضرورة، أنفق عليه نفقة أمثاله.

فإذا ادّعى الوليّ الإنفاقَ بالمعروف على الصبي أو على عقاره أو ماله أو دوابّه إن كان ذا دوابّ، فإن كان أباً أو جدّاً، كان القول قولَهما فيه، إلاّ أن يقيم الصبي البيّنةَ بخلافه.

فإنّ ادّعى الصبي بعد بلوغه خلافَ ذلك، كان القول قولَ الأب أو الجدّ للأب مع يمينه، إلاّ أن يكون مع الابن بيّنةٌ.

و إن كان وصيّاً أو أميناً، قُبل قوله فيه مع اليمين، و لا يُكلَّفان البيّنة

ص: 255


1- الكافي 7/132:5، التهذيب 958/342:6.
2- التهذيب 959/343:6.

أيضاً - و هو أصحّ قولي الشافعيّة(1) - لتعذّر إقامة البيّنة على ذلك.

و في الآخَر: لا يُقبل إلاّ بالبيّنة، كالبيع، لا يُقبل قولهما إلاّ ببيّنة(2).

و الفرق: عدم تعذّر إقامة البيّنة على البيع؛ لأنّ الظاهر من حال العَدْل الصدقُ، و هو أمين عليه، فكان القول قولَه مع اليمين.

و لو ادّعى خلاف ما تقتضيه العادة، فهو زيادة على المعروف، و يكون ضامناً.

و كذا لو ادّعى تلف شيء من ماله في يده بغير تفريطٍ، أو أنّ ظالماً قهره عليه و أخذه منه، قُدّم قوله باليمين؛ لأنّه أمين.

أمّا لو ادّعى الإنفاق عليه منذ ثلاث سنين، فقال الصبي: ما مات أبي إلاّ منذ سنتين، قُدّم قول الصبي مع اليمين؛ لأنّ الأصل حياة أبيه، و اختلافهما في أمرٍ ليس الوصيّ أميناً فيه، فكان القولُ قولَ مَنْ يوافق قوله الأصل مع اليمين.

مسألة 455: لمّا نزل قوله تعالى:«إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً»

(3) تجنّب أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله أموالَ اليتامى و أفردوها عنهم، فنزل قوله تعالى:«وَ إِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَ اللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَ لَوْ شاءَ اللّهُ لَأَعْنَتَكُمْ» (4) أي: ضيّق عليكم و شدّد، فخالطوهم في مأكولهم و مشروبهم(5)

ص: 256


1- المهذّب - للشيرازي - 337:1، حلية العلماء 527:4-528.
2- المهذّب - للشيرازي - 337:1، حلية العلماء 527:4.
3- النساء: 10.
4- البقرة: 220.
5- تفسير الطبري (جامع البيان) 217:2، تفسير السمرقندي (بحر العلوم) 204:1، زاد المسير: 243:1-244، سنن أبي داوُد 114:3-2871/115، سنن النسائي 256:6، سنن البيهقي 5:6، المستدرك - للحاكم - 278:2-279.

و ينبغي للوليّ النظرُ في حال اليتيم، فإن كانت الخلطة له أصلح - مثل أن يكون إذا خلط دقيقه بدقيقه و خَبَزه دفعة واحدة، كان أرفق باليتيم في المئونة(1) و ألين في الخبز و ما أشبه ذلك - جاز له، بل كان أولى نظراً لليتيم، كما قال تعالى:«يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَ إِنْ تُخالِطُوهُمْ» (2) الآية. و إن كان الإفراد أرفق له و أصلح، أفرده.

و سأل [سماعة](3) الصادقَ عليه السلام عن قول اللّه عزّ و جلّ:«وَ إِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ» قال: «يعني اليتامى إذا كان الرجل يلي الأيتام في حجره فليخرج من ماله قدر ما يخرج لكلّ إنسان منهم فيخالطهم و يأكلون جميعاً، و لا يرزأ من أموالهم شيئاً، إنّما هي النار»(4).

إذا عرفت هذا، فينبغي أن يتغابن مع الأيتام، فيحسب لكلّ واحدٍ من عياله و أتباعه أكثر من أكل اليتيم و إن ساوى الواحد منهم؛ تحفّظاً لمال اليتيم، و تحرّزاً من تلف بعضه.

و لو تعدّد اليتامى و اختلفوا كِبَراً و صِغَراً، حسب على الكبير بقسطه و على الصغير بقسطه لئلاّ يضيع مال الصغير بقسطه على نفقة الكبير؛ لما رواه أبو الصباح الكناني عن الصادق عليه السلام في قوله عزّ و جلّ:«وَ مَنْ كانَت.

ص: 257


1- في الطبعة الحجريّة: «المؤن».
2- البقرة: 220.
3- بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «عثمان بن عيسى». و هو - في المصدر - مذكور قبل «سماعة».
4- الكافي 129:5-2/130، التهذيب 949/340:6 بتفاوت.

فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ» (1) قال: «ذلك رجل يحبس نفسه عن المعيشة، فلا بأس أن يأكل بالمعروف إذا كان يصلح لهم أموالهم، فإن كان المال قليلاً فلا يأكل منه شيئاً» قال: قلت: أ رأيت قول اللّه عزّ و جلّ:«وَ إِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ» (2) ؟ قال: «تخرج من أموالهم قدر ما يكفيهم، و تخرج من مالك قدر ما يكفيك ثمّ تنفقه» قلت: أ رأيت إن كانوا يتامى صغاراً و كباراً و بعضهم أعلى [كسوةً](3) من بعض و بعضهم آكل من بعض و مالهم جميعاً؟ فقال:

«أمّا الكسوة فعلى كلّ إنسان ثمن كسوته، و أمّا الطعام فاجعله(4) جميعاً، فإنّ الصغير يوشك أن يأكل مثل الكبير»(5).

مسألة 456: إذا بلغ الصبي رشيداً، زالت ولاية الوصيّ و غيره عنه،

سواء كان حاضراً أو غائباً، فلا يجوز له بيع مال الغائب بعد بلوغه و رشده، فإن باع كان باطلاً، و به قال الشافعي(6).

و لا فرق بين أن يكون مال الغائب مشتركاً مع صبيٍّ آخَر له عليه ولاية أو لا، و لا بين أن يكون الصغار محتاجين(7) إلى بيع المشترك مع الغائب أو لا، و لا بين أن يكون المتاع ممّا يقبل القسمة أو لا؛ لأنّ البلوغ و الرشد أزالا عنه الولاية، فلا ينفذ تصرّف غيره في ماله إلاّ بإذنه، و بيع الوصي مال

ص: 258


1- النساء: 6.
2- البقرة: 220.
3- ما بين المعقوفين من المصدر.
4- في المصدر: «فاجعلوه».
5- الكافي 5/130:5، التهذيب 952/341:6.
6- المغني 321:4.
7- في «ث، ر»: «يحتاجون». و في «ج» و الطبعة الحجريّة: «محتاجون». و الصحيح ما أثبتناه.

الغائب الرشيد تصرّفٌ في مال غيره بغير وكالة و لا ولاية، فلم يصح، كبيع ماله المنفرد أو ما لا تضرّ قسمته.

و قال أحمد: يجوز للوصي البيع على الغائب البالغ إذا كان من طريق النظر(1).

و قال أصحابه: يجوز للوصي البيع على الصغار و الكبار إذا كانت حقوقهم مشتركةً في عقار في قسمته إضرار و بالصغار حاجة إلى البيع إمّا لقضاء دَيْنٍ أو لمئونةٍ لهم(2).

و قال أبو حنيفة و ابن أبي ليلى: يجوز البيع على الصغار و الكبار فيما لا بدّ منه(1).

و كأنّهما أرادا هذه الصورة؛ لأنّ في ترك القسمة نظراً للصغار و احتياطاً للميّت في قضاء دَيْنه.

و الحقّ ما قلناه؛ فإنّ ما ذكروه لا أصل له يقاس عليه، و لا له شهادة شرعٍ بالاعتبار. و لأنّ مصلحة الصغار يعارضها أنّ فيه ضرراً على الكبار ببيع مالهم بغير إذنهم. و لأنّه لا يجوز بيع غير العقار فلم يجز له بيع العقار، كالأجنبيّ.

مسألة 457: قال بعض

مسألة 457: قال بعض(2) علمائنا: ليس لوليّ الصبي استيفاء القصاص المستحقّ له؛

لأنّه ربما يرغب في العفو، و ليس له العفو؛ لأنّه ربما يختار الاستيفاء تشفّياً.

و الوجه عندي: أنّ له الاستيفاء مع المصلحة؛ لأنّ ولايته عامّة،

ص: 259


1- المغني 320:4، الشرح الكبير 634:6.
2- الشيخ الطوسي في المبسوط 54:7.

فمهما فرض له مصلحة كان للوليّ السعيُ فيها تحصيلاً و إيفاءً، و لدلالة العفو على مال إن كان ذلك أصلح لليتيم.

و إن عفا مطلقاً، فالأقرب اعتبار المصلحة أيضاً، فإن كانت المصلحة في العفو مجّاناً، اعتمدها، كما أنّ له الصلح ببعض ماله مع المصلحة.

مسألة 458: ليس للوليّ أن يعتق عبد الطفل و المجنون مجّاناً؛

لأنّ فيه إتلافَ ماله.

و هل له إعتاقه على مالٍ إذا اقتضت المصلحة ذلك و كان الحظّ للطفل فيه، أو كتابته كذلك ؟ الأقرب عندي: الجواز، و ذلك مثل أن تكون قيمة العبد ألفاً فيكاتبه على ألفين أو يعتقه على ألفين. و إن لم يكن للطفل فيه حظٌّ، لم يصح قطعاً، و به قال أحمد(1).

و قال أبو حنيفة و مالك: لا يجوز إعتاقه بمالٍ؛ لأنّ الإعتاق بمالٍ تعليق له على شرطٍ فلم يملكه وليّ اليتيم، كالتعليق على دخول الدار(2).

و قال الشافعي: لا تجوز كتابته و لا إعتاقه على مالٍ؛ لأنّ المقصود منهما العتق دون المعاوضة، فلم يجز، كالإعتاق بغير عوضٍ(3).

و هو غلط؛ للفرق بين التعليق على أداء المال و دخول الدار؛ فإنّ في الأوّل نفعاً لليتيم، بخلاف الثاني، فجاز الأوّل دون الثاني، كالبيع مع زيادة على ثمن المثل و بدونه.

و كذا الفرق واقع بين الإعتاق على عوضٍ و بدونه، كالفرق بين البيع

ص: 260


1- المغني 318:4، الشرح الكبير 563:4.
2- الهداية - للمرغيناني - 258:3، بدائع الصنائع 153:5، المغني 318:4، الشرح الكبير 563:4-564.
3- المهذّب - للشيرازي - 335:1 و 336، العزيز شرح الوجيز 81:5، روضة الطالبين 424:3، المغني 318:4، الشرح الكبير 564:4.

بثمن المثل و بدونه.

و الأصل فيه أنّ ذلك يشتمل على معاوضة مطلوبة عند العقلاء، فجاز للوليّ فعلها مع الطفل للمصلحة، و لا فرق بينها(1) و بين البيع بثمنٍ مؤجَّل، و لا عبرة بنفع العبد، و لا يضرّه كونه معلّقاً، فإنّه إذا حصل الحظّ للطفل لم يتضرّر بنفع غيره.

و ما ذكروه إنّما امتنع الحكم فيه لانتفاء المقتضي؛ إذ المقتضي لتسويغ التصرّف حصول المصلحة، و لا مصلحة في تعليق العتق بدخول الدار و لا في الإعتاق بغير عوضٍ.

و لو فرض أنّ المصلحة في العتق مجّاناً، فالأقرب: جوازه، كما لو كان له عبد كبير لا ينتفع به في الاستخدام و غيره و لا يرغب في شرائه راغبٌ فيعتقه ليخلص من مئونته و نفقته.

و كذا لو كان له جارية و أُمّها و هُما تساويان مجتمعتين مائةً، و لو انفردت البنت ساوت مائتين، و لا يمكن إفرادهما بالبيع فأُعتقت الأُمّ ليكثر ثمن البنت، كان جائزاً.

مسألة 459: و للوليّ أن يهب مال الطفل بشرط الثواب مع المصلحة

إمّا مع زيادة الثواب على العين أو مع تحصيل أمر من المتّهب ينتفع به الطفل نفعاً يزيد على بقاء العين له.

و قال الشافعي: لا تجوز الهبة لا مطلقاً و لا بشرط الثواب؛ إذ لا يقصد بالهبة العوض(2)

ص: 261


1- في «ج، ر»: «بينهما».
2- المهذّب - للشيرازي - 335:1، العزيز شرح الوجيز 81:5، روضة الطالبين 424:3.

و هو ممنوع؛ إذ التقدير أنّه قصد الثواب.

و كذا للوليّ بذل مال الطفل في مصالحه، كاستكفاف الظالم بالرشوة و تخليص ماله من تعويقه و إطلاق زرعه و ماء شربه و أشباه ذلك.

و لو طمع السلطان في مال اليتيم فأعطاه الوصيّ شيئاً منه، فإن كان يقدر على دفعه بدون المدفوع، ضمن، و إلاّ فلا.

مسألة 460: ليس للوليّ أن يطلّق زوجة الصبي لا مجّاناً و لا بعوضٍ؛

لأنّ المصلحة بقاء الزوجيّة، لأنّه لا نفقة لها عليه قبل الدخول.

و لو باع شريكه شقصاً مشفوعاً، كان له الأخذ أو الترك بحسب المصلحة، فإن ترك بحكم المصلحة ثمّ بلغ الصبي و أراد الأخذ، لم يُمكَّن منه؛ لأنّ ترك وليّه مع اقتضاء المصلحة كان ماضياً، و الشفعة على الفور، فكما لا تثبت له لو كان بالغاً و ترك، كذا لا تثبت مع ترك الوليّ - و هذا أصحّ وجهي الشافعيّة - كما لو أخذ بحكم المصلحة ثمّ بلغ و أراد ردّه، لم يكن له ذلك.

و الثاني: يجاب إلى ذلك؛ لأنّه لو كان بالغاً لكان له الأخذُ، سواء وافق المصلحة أو خالفها، و الأخذ المخالف للمصلحة لم يدخل تحت ولاية الوليّ، فلا يفوت عليه بتصرّف الوليّ(1).

مسألة 461: لا يجوز أن يشتري الوصيّ أُضحية و يضحّي بها عن اليتيم،

و كذا الأب لا يضحّي عن ولده الصغير من مال الصغير، و إن ضحّى من مال نفسه، كان متبرّعاً - و به قال أبو حنيفة(2) - إذ لا مصلحة لليتيم فيه.

ص: 262


1- المهذّب - للشيرازي - 336:1، حلية العلماء 528:4، العزيز شرح الوجيز 81:5-82، روضة الطالبين 424:3.
2- نسب عكسه إليه ابنا قدامة في المغني 109:11، و الشرح الكبير 567:4.

و قال أحمد: يجوز للوليّ أن يشتري للصبي أُضحيةً إن كان من أهل ذلك و كان له مالٌ وافر لا يتضرّر بشراء الأُضحية، و يكون ذلك على وجه التوسعة في النفقة في هذا [اليوم الذي هو](1) يوم الفرح و السرور، الذي هو عيد، و فيه جبر قلب الطفل و أهله و تطييبه و إلحاقه بمن له أب، فينزّل منزلة شراء اللحم خصوصاً مع استحباب التوسعة في هذا اليوم و جري العادة عليه، قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: «إنّها أيّام أكل و شرب و بعال»(2)(3).

و لا بأس به.

و يجوز للوليّ أن يجعل الصبي في المكتب و عند معلّم القرآن العزيز و الأدب و الفقه و غيرها من العلوم إن كان من أهل ذلك و له ذكاء و فطنة، كما يفعل الإنسان بولده ذلك؛ لأنّ ذلك كلّه من مصالحه، فجرى مجرى نفقته كمأكوله و مشروبه و ملبوسه، و به قال أحمد(4).

و قال سفيان: ليس للوصيّ أن يسلّم الصبي إلى معلّم الكتابة إلاّ بقول الحاكم(5).

و أنكر أحمد ذلك غاية الإنكار(6).

و كذا يجوز للوصيّ تسليم الصبي إلى معلّم الصناعة إذا كانت مصلحته في ذلك.4.

ص: 263


1- ما بين المعقوفين من المصدر.
2- صحيح مسلم 1142/800:2 بتفاوت.
3- المغني 318:4-319، الشرح الكبير 567:4. (4-6) المغني 319:4، الشرح الكبير 568:4.

و الأقرب عندي: أنّه لا يسلّمه(1) إلاّ في صناعة تليق به و لا تثلم من مجده إن كان(2) من أرباب البيوت.

و ليس له أن يسلّمه إلى معلّم السباحة؛ لما فيه من التغرير، إلاّ أن يكون تعليمه في ماء لا يغمره و لا يخاف عليه الغرق فيه.

مسألة 462: و يجب على الوليّ أن يخرج من ماله الحقوق الواجبة في ماله،

كأُروش الجنايات و الديون التي ركبته بسبب استدانة الوليّ عنه أو بسبب ديون مورّثه. و كذا يخرج عنه الزكاة المستحبّة مع ثبوت استحبابها و إن لم تُطلب، و نفقة الأقارب إن طُلبت.

و إذا دعت الضرورة في حريق أو نهب إلى المسافرة بماله، سافرَ به و إن لم يكن هناك ضرورة، فإن كان الطريق مخوفاً، لم يجز له السفر به، فإن سافر، ضمن.

و إن كان أميناً، فالأقرب أنّه لا يجوز إلاّ مع تيقّن الأمن.

و للشافعيّة وجهان:

المنع مطلقاً، كالمسافرة بالوديعة.

و الجواز مطلقاً؛ لأنّ المصلحة قد تقتضي ذلك، و الوليّ مأمور بالمصلحة، بخلاف المودع(3).

و إذا كان له أن يسافر به، كان له أن يبعثه على يد أمينٍ.

مسألة 463: لا يجوز لغير الوليّ و الحاكم إقراض مال الصغير؛

لانتفاء ولايته عليه، فإن أقرض، ضمن، إلاّ أن تحصل ضرورة إلى الإقراض،

ص: 264


1- فيما عدا «ث» من النسخ: «لا يسلّم».
2- في الطبعة الحجريّة: «و كان» بدل «إن كان».
3- العزيز شرح الوجيز 82:5-83، روضة الطالبين 425:3-426.

فيجوز للعَدْل إقراضه من ثقة ملي، كما إذا حصل نهب أو حريق، و لا ضمان حينئذٍ؛ لأنّه بفعله محسن، فلا يستعقب فعله الضمان، لأنّه سبيل و قد قال تعالى:«ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ» (1).

و كذا لا يجوز للوليّ إقراض مال اليتيم لغير ضرورة من نهب أو غرق أو حرق أو إذا سافر.

أمّا الحاكم فإنّه يجوز له الإقراض و إن لم تحصل هذه الموانع، لكثرة أشغاله، قاله بعض الشافعية(2).

و سوّى آخَرون بين الحاكم و غيره في جواز الإقراض مع الضرورة، و عدمه مع عدمها(3)، و هو الوجه عندي.

مسألة 464: قال اللّه تعالى:«وَ ابْتَلُوا الْيَتامى»

أي اختبروهم «... فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً» (2) أي أبصرتم، كما قال اللّه تعالى حكايةً عن موسى عليه السلام:«إِنِّي آنَسْتُ ناراً» (3) أي أبصرت.

و قوله تعالى:«وَ لا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَ بِداراً أَنْ يَكْبَرُوا» معناه لا تأكلوا أموال اليتامى مبادرة لئلاّ يكبروا فيأخذوها «وَ مَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَ مَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ» (6).

إذا عرفت هذا، فالوليّ إمّا أن يكون غنيّاً أو فقيراً.

فإن كان غنيّاً، استحبّ له أن يستعفف عنه، فلا يأكل منه شيئاً، عملاً بالآية(7).

ص: 265


1- التوبة: 91. (2 و 3) العزيز شرح الوجيز 83:5، روضة الطالبين 426:3.
2- النساء: 6.
3- القصص: 29. (6 و 7) النساء: 6.

و هل يسوغ له مع الاستغناء أخذ شيء من ماله ؟ الأقرب ذلك على سبيل أُجرة المثل، و لا يأخذ زيادةً عليه؛ لما رواه عبد اللّه بن سنان - في الصحيح - عن الصادق عليه السلام في قول اللّه عزّ و جلّ:«فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ» قال: «المعروف هو القوت، و إنّما عنى الوصيّ و القيّم في أموالهم ما يصلحهم»(1).

و عن حنان بن سدير عن الصادق عليه السلام، قال: قال الصادق: «سألني عيسى بن موسى عن القيّم للأيتام في الإبل ما يحلّ له منها، فقلت: إذا لاط حوضها(2) و طلب ضالّتها و هَنَأ(3) جرباها فله أن يصيب من لبنها من غير نهك(4) بضرع و لا فساد نسل»(5).

و عن هشام بن الحكم عن الصادق عليه السلام، قال: سألته في مَنْ تولّى مال اليتيم ما لَه أن يأكل منه ؟ قال: «ينظر إلى ما كان غيره يقوم به من الأجر فليأكل بقدر ذلك»(6).

فهذا يدلّ على الرجوع إلى أُجرة المثل.

قال الشيخ في النهاية: [فمَنْ](7) كان وليّاً يقوم بأمرهم و بجمع أموالهم و سدّ خلاّتهم و جمع غلاّتهم و مراعاة مواشيهم جاز له أن يأخذ من أموالهم قدر كفايته و حاجته من غير إسراف و لا تفريط.ر.

ص: 266


1- الكافي 3/130:5، التهذيب 950/340:6.
2- لاط حوضها: طيّنه و أصلحه. النهاية - لابن الأثير - 277:4 «لوط».
3- هنأ الإبل: طلاها بالهِناء، و هو ضرب من القطران. لسان العرب 186:1 «هنأ».
4- النهك: المبالغة في الحلب. لسان العرب 500:10 «نهك».
5- الكافي 4/130:5، التهذيب 951/340:6.
6- التهذيب 960/343:6.
7- بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «فمتى». و ما أثبتناه من المصدر.

ثمّ قال: و المتولّي لأموال اليتامى و القيّم بأُمورهم يستحقّ أُجرة مثله فيما يقوم به من مالهم من غير زيادة و لا نقصان، فإن نقص نفسَه، كان له في ذلك فضل و ثواب، و إن لم يفعل، كان له المطالبة باستيفاء حقّه من أُجرة المثل، فأمّا الزيادة فلا يجوز له أخذها على حال(1).

و لأنّه عمل يستحقّ عليه الأُجرة، فكان لعامله المطالبة بالأُجرة، كغيرها من الأعمال.

و قال الشافعي: إذا كان غنيّاً، لم يجز له أخذ شيء من مال اليتيم - و به قال أحمد - للآية(2)(3).

و قال أحمد: إن كان أباً، كان له أن يأخذ الأُجرة(4)

و الآية محمولة على الاستحباب؛ لقوله:«فَلْيَسْتَعْفِفْ» (5) فإنّ المفهوم منه الاستحباب.

و قد روى سماعة عن الصادق عليه السلام في قول اللّه عزّ و جلّ:«وَ مَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ» (6) قال: «مَنْ كان يلي شيئاً لليتامى و هو محتاج ليس له ما يقيمه فهو يتقاضى أموالهم و يقوم في ضيعتهم فليأكل بقدر و لا يسرف، و إن كانت ضيعتهم لا تشغله عمّا يعالج لنفسه فلا يرزأ من أموالهم شيئاً»(5)6.

ص: 267


1- النهاية: 361-363.
2- النساء: 6.
3- الحاوي الكبير 352:6، المهذّب - للشيرازي - 337:1، حلية العلماء 531:4، العزيز شرح الوجيز 82:5، روضة الطالبين 424:3، المغني 319:4، الشرح الكبير 576:4.
4- المغني 319:4، الشرح الكبير 576:4. (5 و 6) النساء: 6.
5- الكافي 1/129:5، التهذيب 948/340:6.

و إن كان فقيراً، جاز أن يأخذ إجماعاً.

و في قدره خلاف، الأقرب: أن نقول: يستحقّ أُجرة المثل؛ لما تقدّم، لكن يستحبّ له أن يأخذ أقلّ الأمرين من أُجرة المثل و قدر الكفاية؛ لقوله تعالى:«وَ مَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ» (1) و بحصول الكفاية يحصل الاستغناء.

و قال الشافعي: إن كان فقيراً و انقطع بسببه من الاكتساب، فله أخذ قدر النفقة(2).

و قال بعض أصحابنا(3): يأخذ أقلّ الأمرين من قدر النفقة و أُجرة المثل - و به قال أحمد(4) - لأنّه يستحقّه بالعمل و الحاجة جميعاً، فلم يجز له أن يأخذ إلاّ إذا وجدا فيه.

فإذا أكل منه ذلك القدر ثمّ أيسر، فإن كان أباً، لم يلزمه عوضه عنده روايةً واحدة؛ لأنّ للأب أن يأخذ من مال ولده ما شاء مع الحاجة و عدمها(5).

و إن كان غير الأب، فهل يلزمه عوض ذلك ؟ له روايتان:

إحداهما: لا يلزمه - و به قال الحسن البصري و النخعي و الشافعي في أحد القولين - لأنّ اللّه تعالى أمر بالأكل من غير ذكر عوض، فأشبه سائر ما أمر بأكله. و لأنّه عوض عن عملٍ فلم يلزمه بدله، كالأجير و المضارب.4.

ص: 268


1- النساء: 6.
2- المهذّب - للشيرازي - 337:1، حلية العلماء 530:4-531، العزيز شرح الوجيز 82:5، روضة الطالبين 425:3.
3- الشيخ الطوسي في الخلاف 179:3، المسألة 295، و المبسوط 163:2. (4 و 5) المغني 319:4، الشرح الكبير 576:4.

و الثانية: يلزمه عوضه - و هو قول عبيدة السلماني و عطاء و مجاهد و سعيد بن جبير و أبي العالية و الشافعي في أحد القولين - لأنّه استباحه للحاجة من مال غيره، فلزمه قضاؤه، كالمضطرّ إلى طعام غيره(1).

و به رواية عندنا عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر عن أبي الحسن عليه السلام، قال: سألته عن رجل يكون في يده مال لأيتام فيحتاج إليه فيمدّ يده فيأخذه و ينوي أن يردّه، قال: «لا ينبغي له أن يأكل إلاّ القصد و لا يسرف، فإن كان من نيّته أن لا يردّه إليهم فهو بالمنزل الذي قال اللّه عزّ و جلّ:«إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً» (2)»(3).

و المعتمد: الأوّل؛ لما قلناه. و هذه الرواية في طريقها قول. و لأنّه لو وجب أداؤه مع اليسار لكان واجباً في الذمّة قبل اليسار، فإنّ اليسار ليس بسببٍ للوجوب، فإذا لم يجب بالسبب الذي هو الأكل لم يجب بعده، بخلاف المضطرّ، فإنّ العوض واجب عليه في ذمّته؛ لأنّه لم يأكله عوضاً عن شيء، و هنا بخلافه.

مسألة 465: للوصي الاستنابة فيما لا يقدر على مباشرته إجماعاً،

دفعاً للضرر، و كذا ما يقدر عليه لكن لا يصلح مثله لمباشرته، قضاءً للعادة، و تنزيلاً للإطلاق على المتعارف من المباشرة و المعهود بينهم.

و أمّا ما يصلح لمثله أن يليه: الأولى المنع؛ لأنّه يتصرّف في مال غيره بالإذن، فلم يكن له الاستنابة، كالوكيل. و لأنّه غير مأذون له فيه، و هو إحدى الروايتين عن أحمد. و في الأُخرى: يجوز للوصي ذلك(4)

ص: 269


1- المغني 319:4، الشرح الكبير 576:4، المهذّب - للشيرازي - 337:1، حلية العلماء 530:4-531، العزيز شرح الوجيز 82:5، روضة الطالبين 425:3.
2- النساء: 10.
3- الكافي 3/128:5، التهذيب 946/339:6.
4- المغني 216:5-217، الشرح الكبير 210:5.

و في الوكيل روايتان أيضاً عنده(1).

و عندنا ليس للوكيل أن يوكّل غيره.

هذا كلّه مع الإطلاق، أمّا مع التنصيص على الاستنابة فإنّه جائز إجماعاً في الوكيل و الوصي، و مع التنصيص على المنع لا يجوز إجماعاً.

مسألة 466: يجوز لأمين الحاكم أن يبيع على الحاكم مال اليتيم في موضع جواز البيع،

و كذا للوصي و إن كان الحاكم هو الذي جعله أميناً أو وصيّاً.

و هل للقاضي أن يبيع ماله من اليتيم ؟ أو يشتري لنفسه منه ؟ مَنَع منه أبو حنيفة؛ لأنّ ذلك قضاء منه، و قضاؤه لنفسه باطل(2). و لا بأس به.

و لو و كلّ رجلٌ الوصيَّ بأن يشتري له شيئاً من مال اليتيم، فاشترى الوصي لموكّله، فالأقرب: الجواز عندنا، خلافاً لأبي حنيفة، مع أنّه جوّز أن يشتري الوصي مال اليتيم لنفسه إذا كان خيراً لليتيم(3).

و اعتبر أصحابه الخيريّة في غير العقار بأن يبيع مال نفسه من اليتيم ما يساوي خمسة عشر بعشرة، و أن يشتري لنفسه ما يساوي عشرة بخمسة عشر، و في العقار يعتبر الخيريّة عند بعضهم بأن يشتري لنفسه بضِعْف القيمة، و أن يبيع من اليتيم بنصف القيمة(4).

مسألة 467: إذا اتّجر الولي بمال الطفل نظراً له و شفقةً عليه فربح، كان الربح للطفل و الخسران على الطفل أيضاً؛

لأنّه تصرّفٌ سائغ، فلا يستعقب ضمان التصرّف فيه.

و يستحبّ للولي أن يخرج زكاة التجارة حينئذٍ.

و إن اتّجر لنفسه و كان مليّاً في الحال، جاز له ذلك، و كان المال قرضاً

ص: 270


1- المغني 216:5، الشرح الكبير 210:5.
2- فتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهنديّة 288:2. (3 و 4) فتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهنديّة 286:2.

عليه، فإن ربح كان له، [و إن](1) خسر كان عليه، و كان عليه الزكاة في ماله استحباباً.

و إن اتّجر لنفسه من غير ولاية أو من غير ملاءة بمال الطفل، كان ضامناً للمال، و الربح للطفل؛ لأنّه تصرّفٌ فاسد، و الربح نماء ملك الطفل، فيكون له، و إن خسر كان ضامناً؛ لما رواه ربعي بن عبد اللّه - في الصحيح - عن الصادق عليه السلام في رجل عنده مالٌ لليتيم، فقال: «إن كان محتاجاً ليس له مال فلا يمسّ ماله، و إن هو اتّجر به فالربح لليتيم، و هو ضامن»(2).

و في الحسن عن محمّد بن مسلم عن الصادق عليه السلام في مال اليتيم قال: «العامل به ضامن، و لليتيم الربح إذا لم يكن للعامل به مال» و قال: «إن عطب أدّاه»(3).

و بالجملة، التنزّه عن الدخول في أموال اليتامى أحوط.

و قد روى عبد اللّه بن يحيى الكاهلي عن الصادق عليه السلام، قال: قيل له:

إنّا ندخل على أخ لنا في بيت أيتام و معهم خادم لهم فنقعد على بساطهم و نشرب من مائهم و يخدمنا خادمهم و ربما طعمنا فيه الطعام من عند صاحبنا(4) و فيه من طعامهم، فما ترى في ذلك ؟ قال: «إن كان دخولكم عليهم منفعةً لهم فلا بأس، و إن كان فيه ضرر فلا» و قال: «بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ و أنتم لا يخفى عليكم و قد قال اللّه عزّ و جلّ:«وَ إِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَ اللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ» (5)»(6)0.

ص: 271


1- بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «فإن». و الظاهر ما أثبتناه.
2- الكافي 3/131:5، التهذيب 341:6-955/342.
3- الكافي 2/131:5، التهذيب 956/342:6.
4- في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «صاحبها» بدل «صاحبنا». و المثبت من المصدر.
5- البقرة: 220.
6- الكافي 4/129:5، التهذيب 339:6-947/340.
مسألة 468: لو كانت مصلحة اليتيم في بيع عقاره، جاز للوصي بيعه

على ما تقدّم، فإن باعه على أنّه ينفق على نفسه، صحّ البيع، و ضمن الثمن لليتيم إذا أنفقه على نفسه.

و لو كان الورثة كباراً لا حجر عليهم و للميّت وصي و لا دَيْن عليه و لا وصيّة، لم يكن للوصيّ التصرّف في شيء من التركة.

و إن كان عليه دَيْنٌ مستغرق للتركة أو أوصى بوصيّة مرسلة، كأن يؤخذ من التركة ألف مثلاً، كان للوصي أن يبيع من التركة ما يقضي به الدَّيْن، أو ينفذه في الوصيّة من الثلث، و يقدّم بيع العروض و يؤخّر العقار، فإن دعت الحاجة إلى بيعه، بِيع.

و لو طلب الوارث قضاء الدَّيْن أو إنفاذ الوصيّة من ماله و إبقاء عين التركة له، أُجيب إلى ذلك، و لم يكن للوصيّ الاعتراض؛ لأنّ الحقّ عندنا أنّ التركة تنتقل إلى الوارث بالموت، و يكون الدَّيْن متعلّقاً بالتركة تعلّقَ الدَّيْن بالرهن، أو أرشَ الجناية بالمال، و قد بيّنّا أنّ الورثة إذا كانوا كباراً، لم يكن للوصي عليهم ولاية، سواء كانوا حضوراً أو غُيّاباً.

و ليس للوصيّ أن يبيع أيضاً شيئاً من مالهم.

و قال أبو حنيفة: يبيع ما ليس بعقار؛ استحساناً، لأنّه يخشى تلفه، فكان البيع حفظاً لماله و تحصّناً(1).

و لا يملك الوصي إجارة شيء من مال الكبار.

و قال أبو حنيفة: يملك إذا كانوا غُيّاباً إجارة الجميع(2).

و لو كان بعض الورثة حاضراً و بعضهم غائباً أو واحد منهم غائباً، لم يملك الوصي بيع نصيب الغائب.

و قال أبو حنيفة: يملك بيعه إذا كان عروضاً و رقيقاً و منقولاً لأجل

ص: 272


1- فتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهنديّة 287:2.
2- فتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهنديّة 287:2.

الحفظ. ثمّ قال: و إذا ملك بيع نصيب الغائب ملك بيع نصيب الحاضر أيضاً(1).

و قال أبو يوسف و محمّد: لا يملك(2).

و هذه إحدى المسائل الأربع.

و الثانية: لو كان على الميّت دَيْنٌ لا يحيط بالتركة، فإنّ الوصي يملك البيع بقدر الدَّيْن عندنا و عند الحنفيّة(3).

و هل يملك بيع الباقي ؟

أمّا عندنا و عند أبي يوسف و محمّد(4) فإنّه لا يملك.

و قال أبو حنيفة: يملك بيع الباقي(5).

[و] الثالثة: لو كان في التركة وصيّة بمال مرسل، فإنّ الوصي يملك البيع بقدر ما تنفذ به الوصيّة عندنا و عندهم(6).

و هل يملك بيع ما زاد عليه ؟

أمّا عندنا و عند أبي يوسف و محمّد(7) لا يملك.

و قال أبو حنيفة: يملك(8).

[و] الرابعة: إذا كان الورثة كباراً و فيهم صغير، فإنّ الوصيّ يملك بيع نصيب الصغير عند الكلّ(9).

و هل يملك بيع نصيب الكبار؟

أمّا عندنا و عند أبي يوسف و محمّد(10) فلا.

و أمّا عند أبي حنيفة فنعم(11).

مسألة 469: حكم وصيّ وصيّ الأب حكم وصيّ الأب،

و كذا حكم وصيّ الجدّ للأب و وصيّ وصيّه و وصيّ القاضي و وصيّ وصيّه عندنا.

و قال أبو حنيفة: إنّ وصيّ القاضي بمنزلة وصيّ الأب إلاّ في شيء

ص: 273


1- فتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهنديّة 287:2.
2- فتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهنديّة 287:2.
3- فتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهنديّة 287:2.
4- فتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهنديّة 287:2.
5- فتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهنديّة 287:2.
6- فتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهنديّة 287:2.
7- فتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهنديّة 287:2.
8- فتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهنديّة 287:2.
9- فتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهنديّة 287:2.
10- فتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهنديّة 287:2.
11- فتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهنديّة 287:2.

واحد، و هو أنّ القاضي إذا جعل [أحداً](1) وصيّاً في نوعٍ كان وصيّاً في ذلك النوع خاصّةً، و الأب إذا جعل [أحداً](2) وصيّاً في نوعٍ كان وصيّاً في الأنواع كلّها(3).

و إذا مات الرجل و لم يوص إلى أحدٍ، كان لأبيه - و هو الجدّ - بيع العروض و الشراء، إلاّ أنّ وصي الأب لو باع العروض أو العقار لقضاء الدَّيْن أو تنفيذ الوصيّة، جاز.

و الجدّ إذا باع التركة لقضاء الدَّيْن و تنفيذ الوصيّة، لم يجز عنده(4).

و عندنا يجوز إذا لم يكن للميّت وصيٌّ.

و إذا كان الوصيّ ثقةً كافياً، لم يجز للقاضي عزله. و لو عزله، لم ينعزل، و به قال بعض الحنفيّة(5).

و قال بعضهم: لو عزله، انعزل(6).

و ليس بجيّد؛ لأنّه مخالف لقوله تعالى:«فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ» (1).

أمّا لو فسق فإنّه يعزله الحاكم، و يستبدل به قطعاً.

و لو كان عَدْلاً عاجزاً، لم يكن للحاكم الاستبدال به، و كان عليه أن يضمّ إليه ثقة يعينه على التصرّف.

و قال بعض الحنفيّة: إنّ للقاضي عزله؛ لعجزه(2). و ليس بجيّد.

مسألة 470: للوصي أن يستقرض مال اليتيم مع ملاءته، كالأب؛

لأنّه وُلّي عليه، و له أن يقضي دَيْن نفسه من مال اليتيم.

ص: 274


1- البقرة: 181.
2- فتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهنديّة 287:2.

و مَنَع منه الحنفيّة، و جوّزوه في الأب؛ لأنّ الأب لو باع مال اليتيم من نفسه بثمن المثل، جاز(1).

و الوصي لا يملك البيع من نفسه إلاّ أن يكون خيراً لليتيم.

و قال بعضهم: لا فرق بين الأب و الوصي في أنّه ليس له أن يقضي دَيْنه(2).

و روي عن محمّد أنّه ليس للوصي أن يستقرض مال اليتيم في قول أبي حنيفة(3).

و للأب و الوصي أن يرهن مال اليتيم بدَيْن نفسه مع ملاءة الوصي.

و من قياس مذهب أبي حنيفة أنّه لا يجوز، و به قال أبو يوسف(4).

و قال بعضهم: يجوز للأب أن يرهن مال ولده بدَيْنٍ عن نفسه استحساناً(5).

و لو رهن الأب أو الوصي مال اليتيم بدَيْنهما و قيمته أكثر من الدَّيْن فهلك الرهن عند المرتهن، ضمناه بقيمته عندنا.

و فرّق الحنفيّة ممّا وراء النهر بين الأب و الوصي، فقالوا: يضمن الأب مقدار الدَّيْن خاصّةً، و الوصيّ يضمن جميع القيمة(6).

و قال بعض الحنفيّة(7) بما قلناه أوّلاً.

و هل لأحد الوصيّين أن يبيع على الآخَر مال اليتيم ؟ الأقوى عندنا ذلك؛ لأنّ الولاية لهما.

و قال أبو حنيفة: لا يجوز؛ لأنّ أحد الوصيّين إذا باع من الأجنبيّ لم يجز عنده فكذا إذا باع من الوصيّ الآخَر(8).

مسألة 471: إذا كانت التركة في يد الوارث و ظهر دَيْنٌ، طُولب الوارث.

ص: 275


1- فتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهنديّة 288:2.
2- فتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهنديّة 288:2.
3- فتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهنديّة 288:2.
4- فتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهنديّة 288:2.
5- فتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهنديّة 288:2.
6- فتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهنديّة 288:2.
7- فتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهنديّة 288:2.
8- فتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهنديّة 288:2.

و لو قضى الوارث الدَّيْن من مال نفسه بنيّة الرجوع إذا كان هناك وارثٌ آخَر، كان له الرجوعُ في التركة، فتصير التركة مشغولةً بدَيْنه.

و إن لم يقل وقت القضاء: إنّي أقضي لأرجع في التركة، و كان متبرّعاً، لم يكن له الرجوع.

و قال أبو حنيفة: له الرجوع(1).

و يجوز للوصي أن يبيع مال الطفل نسيئةً مع خوف التلف، و بدونه مع الغبطة.

و لو باع بتأجيل فاحش بأن لا يباع هذا المال بهذا الأجل، لم يجز.

و كذا إن خاف جحود المشتري عند حلول الأجل أو هلاك الثمن عليه، لم يجز؛ لانتفاء مصلحة اليتيم في ذلك.

و لو طلب المليّ و الأملى البيع و دفع الأملى أقلّ ممّا دفع المليّ و كان بثمن المثل، استحبّ له أن يبيع الأملى.

و كذا المتآجران لو تفاوتا في الأُجرة و صاحب الأقلّ أملى من الآخَر.

مسألة 472: قال الشيخ: إن كان لليتيم على إنسان مالٌ، جاز لوليّه أن يصالحه على شيء يراه صلاحاً في الحال،

و يأخذ الباقي، و تبرأ بذلك ذمّة مَنْ كان عليه المال(2).

و الوجه: أن نقول: إن كان ما في ذمّة الغريم أكثر و علم بذلك، لم تبرأ ذمّته؛ إذ لا مصلحة لليتيم في إسقاط ما لَه، و لا تبرأ ذمّة الوصيّ أيضاً. أمّا إذا كان المدّعى عليه منكراً للمال و لا بيّنة عليه فصالح الوصيّ، برئت ذمّته دون ذمّة مَنْ عليه المال.

ص: 276


1- فتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهنديّة 288:2.
2- النهاية: 362.

و لو كان مَنْ عليه المال لا يعلم قدره فصالح على قدرٍ لا يعلم ثبوته في ذمّته أو ثبوت ما هو أزيد أو أقلّ، صحّ الصلح، و برئت ذمّته. و ينبغي له الاحتياط و تغليب الأكثر في ظنّه.

و للوصيّ أن يصالح مَنْ يدّعي على الميّت إن كان للمدّعي بيّنة أو علم القاضي بدعواه، و إلاّ لم يجز.

و لو احتال الوصي بمال اليتيم، فإن كان المحال عليه أملى من الأوّل أو مساوياً له في المال و العدالة، جاز.

و قال أبو حنيفة: إذا كان مثله، لم يجز(1). و ليس بجيّد.

و لو كان أدون منه مالاً و عدالةً، لم يجز قطعاً.

تمّ الجزء التاسع(2) من كتاب تذكرة الفقهاء بحمد اللّه تعالى و حسن توفيقه، و صلّى اللّه على محمّدٍ و آله أجمعين.ه.

ص: 277


1- فتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهنديّة 289:2.
2- حسب تجزئة المصنّف قدس سره.

ص: 278

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

و به ثقتي

المقصد الخامس: في الضمان

اشارة

و فصوله ثلاثة:

الفصل الأوّل: في ضمان المال

اشارة

و فيه مباحث:

البحث الأوّل: في ماهيّة الضمان و مشروعيّته و أركانه.
اشارة

الضمان عقد شُرّع للتعهّد بمال أو نفس. و يُسمّى الأوّل ضماناً بقولٍ مطلق، و يُخصّ(1) الثاني باسم الكفالة.

و قد تُطلق الكفالة على ضمان المال لكن بقيدٍ، فيقال: كفالة بالمال.

و الضمان عندنا مشتقّ من التضمّن؛ لأنّ ذمّة الضامن تتضمّن الحقّ.

و قال بعضهم: إنّه مشتقّ من الضمّ، فإنّ الضامن قد ضمّ ذمّته إلى ذمّة المضمون عنه في التزام الحقّ، فيثبت في ذمّتهما جميعاً، فلصاحب الحقّ مطالبة مَنْ شاء منهما(2).

و نحن نخالف في ذلك على ما سيأتي إن شاء اللّه تعالى.

و يقال: ضامن و ضمين و كفيل و زعيم و حميل و صبير و قبيل بمعنى

ص: 279


1- في «ر»: «يختصّ».
2- المغني و الشرح الكبير 70:5.

واحد.

مسألة 473: و الضمان ثابت بالكتاب و السنّة و الإجماع.

قال اللّه تعالى:«وَ لِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَ أَنَا بِهِ زَعِيمٌ» (1) قال ابن عباس: الزعيم الكفيل(2).

لا يقال: هذه الآية لا يصحّ لكم الاستدلال بها؛ لأنّ حمل البعير مجهول. و لأنّها جعالة. و لأنّه حكاية عن منادي يوسف عليه السلام، و لا يلزمنا شرعه.

لأنّا نقول: حمل البعير معروف عندهم، و لهذا سمّوه وسقاً، و علّق عليه النبيّ صلى الله عليه و آله نصاب الغلاّت، فقال: «ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة»(3).

و أمّا الجعالة فنمنع بطلان الكفالة بها؛ لأنّها تؤول إلى اللزوم.

سلّمنا عدم جواز الضمان فيها، لكن اللفظ اقتضى جواز الكفالة و جوازها بالجعالة ثمّ قام دليل على أنّ الجعالة لا يتكفّل بها، و هذا الدليل لا ينفي مقتضى اللفظ عن ظاهره.

و أمّا شرع مَنْ قبلنا فقد قيل(4): إنّه يلزمنا إذا لم يدلّ دليلٌ على إنكاره، و ليس هنا ما يدلّ على إنكار الكفالة، فيكون ثابتاً في حقّنا.

ص: 280


1- يوسف: 72.
2- صحيفة علي بن أبي طلحة: 661/294، جامع البيان (تفسير الطبري) 14:13، المغني و الشرح الكبير 70:5.
3- صحيح البخاري 144:2، سنن أبي داوُد 1558/94:2، سنن النسائي 17:5، سنن البيهقي 121:4، المصنّف - لابن أبي شيبة - 137:3، مسند أحمد 8968/118:3، و 11181/465.
4- لم نتحقّق القائل.

و أيضاً قوله تعالى:«سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ» (1).

و أمّا السنّة: فقد روى العامّة أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله خطب يوم فتح مكة(2) و قال(3) في خطبته: «العارية مؤدّاة، و المنحة مردودة، و الدَّيْن مقضيّ، و الزعيم غارم»(4).

و عن أبي سعيد قال: كُنّا مع النبيّ صلى الله عليه و آله في جنازة فلمّا وُضعت قال:

«هل على صاحبكم من دَيْن ؟» قالوا: نعم، درهمان، قال: «صلّوا على صاحبكم» فقال عليّ عليه السلام: «هُما علَيَّ يا رسول اللّه و أنا لهما ضامن» فقام رسول اللّه صلى الله عليه و آله فصلّى عليه ثمّ أقبل على عليّ عليه السلام فقال: «جزاك اللّه عن الإسلام خيراً، فكّ اللّه رهانك كما فككت رهان أخيك»(5).

و عن جابر بن عبد اللّه أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله كان لا يصلّي على رجل عليه دَيْن، فأُتي بجنازة فقال: «هل على صاحبكم دَيْنٌ؟» فقالوا: نعم، ديناران، فقال: «صلّوا على صاحبكم» فقال أبو قتادة: هُما علَيَّ يا رسول اللّه، قال:

فصلّى عليه، قال: فلمّا فتح اللّه على رسوله صلى الله عليه و آله قال: «أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، مَنْ ترك مالاً فلورثته، و مَنْ ترك دَيْناً فعلَيَّ»(6).

و عن سلمة بن الأكوع أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله أُتي برجل ليصلّي عليه، فقال:6.

ص: 281


1- القلم: 40.
2- في المصادر: «حجّة الوداع» بدل «يوم فتح مكة». و ما في المتن كما في المبسوط - للطوسي - 322:2.
3- في «ث» و الطبعة الحجريّة: «فقال» بدل «و قال».
4- سنن الترمذي 2120/433:4، سنن الدار قطني 40:3-166/41، مسند أحمد 21791/358:6، المعجم الكبير - للطبراني - 7615/160:8.
5- المغني 82:5، العزيز شرح الوجيز 143:5، و نحوه عن عاصم بن ضمرة عن عليّ عليه السلام في سنن الدار قطني 46:3-194/47، و سنن البيهقي 73:6.
6- سنن النسائي 65:4-66، سنن البيهقي 73:6.

«هل عليه دَيْنٌ؟» قالوا: نعم، ديناران، فقال: «هل ترك لهما وفاءً؟» قالوا:

لا، فتأخّر فقيل: لِمَ لا تصلّي عليه ؟ فقال: «ما تنفعه صلاتي و ذمّته مرهونة إلاّ قام أحدكم فضمنه» فقال أبو قتادة: هُما علَيَّ يا رسول اللّه، فصلّى النبيّ صلى الله عليه و آله عليه(1).

و من طريق الخاصّة: ما رواه عيسى بن عبد اللّه قال: احتضر عبد اللّه ابن الحسن، فاجتمع عليه غرماؤه فطالَبوه بدَيْنٍ لهم، فقال: ما عندي ما أُعطيكم و لكن ارضوا بمن شئتم من بني عمّي: عليّ بن الحسين عليهما السلام، أو عبد اللّه بن جعفر، فقال الغرماء: أمّا عبد اللّه بن جعفر فمليّ مطول، و عليّ ابن الحسين رجل لا مال له صدوق، و هو أحبّهما إلينا، فأرسل إليه فأخبره الخبر، فقال: «أضمن لكم المال ولي غلّة» و لم تكن له غلّة كملاً(2) ، فقال القوم: قد رضينا و ضمّنوه، فلمّا أتت الغلّة أتاح اللّه له بالمال فأدّاه(3).

و عن عطاء عن الباقر عليه السلام قال: قلت له: جعلت فداك، إنّ علَيَّ دَيْناً إذا ذكرته فسد علَيَّ ما أنا فيه، فقال: «سبحان اللّه أَ وَ ما بلغك أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله كان يقول في خطبته: مَنْ ترك ضياعاً فعلَيَّ ضياعه، و مَنْ ترك دَيْناً فعلَيَّ دَيْنه، و مَنْ ترك مالاً فللّه(4) ، و كفالة رسول اللّه صلى الله عليه و آله ميّتاً ككفالته حيّاً، و كفالته حيّاً ككفالته ميّتاً؟» فقال الرجل: نفّست عنّي جعلني اللّه فداك(5).

و قد أجمع المسلمون كافّة على جوازه و إن اختلفوا في فروعه.6.

ص: 282


1- المغني 70:5-71، و فيه: «... إلاّ أن قام...» و في صحيح البخاري 126:3، و سنن النسائي 65:4، و سنن البيهقي 72:6 مختصراً.
2- في الكافي: «تجمّلاً» بدل «كملاً». و كلتاهما لم ترد في التهذيب.
3- الكافي 7/97:5، التهذيب 495/211:6، بتفاوت يسير في بعض الألفاظ.
4- في المصدر: «فآكله» بدل «فللّه».
5- التهذيب 494/211:6.

إذا عرفت هذا، فقد نقل العلماء(1) أنّ امتناع النبيّ صلى الله عليه و آله من الصلاة على المديونين [كان](2) في ابتداء الإسلام، و لم يكن صلى الله عليه و آله يصلّي على مَنْ لا يخلّف وفاءً عن ديونه؛ لأنّ صلاته عليه شفاعة موجبة للمغفرة، و لم يكن حينئذٍ في الأموال سعة، فلمّا فتح اللّه تعالى الفتوح قال صلى الله عليه و آله: «أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم»(3) و قال صلى الله عليه و آله في خطبته: «مَنْ خلّف مالاً أو حقّاً فلورثته، و مَنْ خلّف كَلاًّ أو دَيْناً فكلّه إلَيَّ و دَيْنه علَيَّ» قيل:

يا رسول اللّه و على كلّ إمام بعدك ؟ قال: «و على كلّ إمام بعدي»(4).

إذا عرفت هذا، فأركان الضمان خمسة.

البحث الثاني: في أركان الضمان.
اشارة

أركان الضمان خمسة:

أ: المضمون عنه.

ب: المضمون له.

ج: الضامن.

د: المال المضمون.

ه: الصيغة.

فالنظر هنا يتعلّق بأُمور خمسة:

النظر الأوّل: في صيغة الضمان.
مسألة 474: لا بدّ في الضمان من صيغةٍ تدلّ على الالتزام،

مثل:

ص: 283


1- كما في العزيز شرح الوجيز 144:5.
2- إضافة يقتضيها السياق. (3 و 4) كما في العزيز شرح الوجيز 144:5.

ضمنت لك ما لك على فلان، أو: تكفّلت به، أو: تحمّلته، أو: تقلّدته، أو: التزمته، أو: أنا بهذا المال ضمين، أو كفيل، أو ضامن، أو زعيم، أو حميل، أو قبيل.

و قال بعض الشافعيّة: لفظ القبيل ليس بصريح في الضمان(1).

و قال أبو حنيفة(2) كما قلناه من أنّه صريح فيه.

و لو قال: دَيْن فلان علَيَّ، فهو ضامن.

و لو قال: دَيْن فلان إلَيَّ، ففيه للشافعيّة وجهان(3).

و لو قال: أُؤدّي المال أو أُحضره(4) ، فهذا ليس بالتزامٍ، و إنّما هو وَعْدٌ.

مسألة 475: لا يكفي في الضمان الكتابة مع القدرة،

و لا بدّ من النطق صريحاً، فإن عجز و كتب [أو](5) فَعَل من الإشارة ما يدلّ على الرضا بالضمان، ثبت، و إلاّ فلا؛ لإمكان العبث.

و لا فرق بين أن يكون الكاتب غائباً أو حاضراً.

و لو عجز عن النطق و الكتابة و أشار بما يدلّ عليه، صحّ، كالأخرس.

و لو قيل له: ضمنتَ عن فلان أو تحمّلتَ عنه دَيْنه، فقال: نعم، كفى في الإيجاب؛ لأنّ «نعم» في تقدير إعادة المسئول عنه.

مسألة 476: يشترط في الضمان التنجيز،

فلو علّقه بمجيء الشهر أو

ص: 284


1- العزيز شرح الوجيز 167:5، روضة الطالبين 492:3.
2- تحفة الفقهاء 237:3، المبسوط - للسرخسي - 168:19، الهداية - للمرغيناني - 87:3، الاختيار لتعليل المختار 271:2.
3- العزيز شرح الوجيز 167:5، روضة الطالبين 492:3.
4- أي: أُحضر الشخص.
5- بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «و». و الظاهر ما أثبتناه.

قدوم زيد، لم يصح.

و كذا لو شرط الضامن الخيار لنفسه، كان باطلاً؛ لأنّه ينافي مقصود(1) الضمان، فإنّ(2) الضامن على يقين من الغرر(3).

و لو شرط الخيار للمضمون له، لم يضر؛ لأنّ للمضمون له الخيار في الإبراء و المطالبة أبداً، سواء شرط له أو لا، و كذا الكفالة، و به قال الشافعي(4).

و قال أبو حنيفة: إنّ شرط الخيار لا يُبطلهما، لكنّه يلغو(5).

و لو قال: إن لم يؤدّ إليك غداً فأنا ضامن، لم يصح عندنا - و به قال الشافعي(6) - لأنّه عقد من العقود، فلا يقبل التعليق، كالبيع و نحوه - و قال أبو حنيفة: لو قال رجلٌ لآخَر: إن لم يعطك فلان مالك فهو علَيَّ، فتقاضاه صاحب المال فلم يعطه المديون شيئاً ساعة تقاضاه، لزم الكفيل؛ استحساناً(7) - و كما أنّ عقد الضمان لا يقبل التأقيت [بأن يقول:](8) أنا ضامن إلى شهر فإذا مضى و لم أغرم فأنا بريء.

و قال ابن سريج: إذا جاز على القديم للشافعي ضمان المجهول أو ما لم يجب، جاز التعليق؛ لأنّ من ضرورة الضمان قبل الوجوب تعليقه.

ص: 285


1- في «ث، ر» و الطبعة الحجريّة: «مقتضى» بدل «مقصود».
2- في النسخ الخطّيّة: «لأنّ» بدل «فإنّ».
3- كذا، و الظاهر: «الغُرْم».
4- العزيز شرح الوجيز 167:5، روضة الطالبين 493:3.
5- العزيز شرح الوجيز 167:5.
6- العزيز شرح الوجيز 167:5، روضة الطالبين 493:3.
7- فتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهنديّة 60:3.
8- بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «فلو قال». و الصحيح ما أثبتناه.

مقصوده بالوجوب. و به قال أبو حنيفة(1).

و قال الجويني: و يجيء في تعليق الإبراء القولان بطريق الأولى، فإنّ الإبراء إسقاط. قال: و كان لا يمتنع(2) من جهة القياس المسامحة به في الجديد أيضاً؛ لأنّ سبب امتناع التعليق في العقود(3) المشتملة على الإيجاب و القبول خروج الخطاب و الجواب بسببه عن النظم اللائق بهما، فإذا لم يشترط القبول فيه، كان بمثابة الطلاق و العتاق(4).

و كلّ هذا عندنا باطل، فإن التعليق في الضمان و الإبراء مبطل لهما؛ عملاً بالاستصحاب.

مسألة 477: إذا قال له: إذا بعت عبدك من فلان بألف فأنا ضامن للثمن، فباعه بألف، لم يصح الضمان عندنا؛

لأنّه ضمان ما لم يجب، و سيأتي بطلانه.

و لو باعه بألفين، فكذلك.

و مَنْ جوَّز التعليق جوَّز في الأوّل.

و قال أبو يوسف في الثاني: إنّه يصير ضامناً لألف؛ لأنّ مقصود الضامن أنّ الزيادة على الألف غير ملتزم، و لا غرض له في قدر الثمن(5).

و قال بعض الشافعيّة: إنّه وجهٌ لهم(6)

ص: 286


1- العزيز شرح الوجيز 168:5، روضة الطالبين 493:3.
2- في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «إسقاط مال، و كان لا يمنع». و ما أثبتناه من «العزيز شرح الوجيز».
3- في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «الصور» بدل «العقود». و ما أثبتناه من «العزيز شرح الوجيز».
4- العزيز شرح الوجيز 168:5، روضة الطالبين 493:3.
5- العزيز شرح الوجيز 168:5.
6- العزيز شرح الوجيز 168:5، روضة الطالبين 493:3.

و قال ابن سريج من الشافعيّة: لا يكون ضامناً لشيء؛ لأنّ الشرط - و هو البيع بالألف - لم يتحقّق(1).

و لو باعه بخمسمائة، ففي كونه ضامناً لها للشافعيّة الوجهان(2).

و لو قال: إذا أقرضه عشرة فأنا ضامن لها، فأقرضه خمسة عشر، لم يصح الضمان عندنا؛ لتعليقه على الشرط، و هو أحد قولي الشافعي، و على الآخَر: يصحّ(3).

و يضمن عشرة على الوجهين سواء قلنا: إنّه إذا قال: إذا بعته بألف فأنا ضامن للثمن فباعه بألفين، يبطل الضمان؛ لفقدان الشرط، أو قلنا: إنّه يصحّ ضمان الألف خاصّةً.

و الفرق: أنّ مَن اقترض خمسة عشر فقد اقترض عشرة، و أمّا البيع بخمسة عشر فليس بيعاً بعشرة.

و لو أقرضه خمسة، فعن ابن سريج: تسليم كونه ضامناً لها(4).

قال الجويني: و هو خلاف قياسه؛ لأنّ الشرط لم يتحقّق(5).

مسألة 478: لو ضمن الدَّيْن الحالّ حالاًّ أو أطلق، لزمه الدَّيْن حالاًّ.
اشارة

و إن ضمن الدَّيْن المؤجَّل مؤجَّلاً بذلك الأجل أو أطلق، لزمه كذلك.

و إن ضمن الحالّ مؤجَّلاً إلى أجل معلوم، صحّ الضمان و الأجل عندنا؛ لأنّ الضمان تبرّع، فيحتمل فيه اختلاف الدَّيْنين في الكيفيّة للحاجة.

و لأنّ فيه الجمع بين المصالح، فإنّ صاحب الحقّ قد انتقل حقّه إلى ذمّة أوفى، و الضامن ارتفق بتأخير الحقّ عليه، و كذا المضمون عنه، و هو أصحّ وجهي الشافعيّة.

ص: 287


1- العزيز شرح الوجيز 168:5، روضة الطالبين 493:3.
2- العزيز شرح الوجيز 168:5، روضة الطالبين 493:3.
3- العزيز شرح الوجيز 168:5، روضة الطالبين 493:3.
4- العزيز شرح الوجيز 168:5، روضة الطالبين 493:3.
5- العزيز شرح الوجيز 168:5، روضة الطالبين 493:3.

و في الثاني: أنّه لا يصحّ الضمان؛ لأنّ الملتزم مخالف لما على الأصيل(1).

فعلى الأوّل يثبت الأجل، و لا يطالب الضامن إلاّ بعد حلول الأجل، و لا نقول: التحق الأجل بالدَّيْن الحالّ، و إنّما ثبت عليه مؤجَّلاً ابتداءً.

و لا استبعاد عند الشافعيّة في الحلول في حقّ الأصيل دون الكفيل، كما لو مات الأصيل و عليه الدَّيْن المؤجَّل(2).

هذا قول بعضهم(3).

و ادّعى الجويني إجماع الشافعيّة على أنّ الأجل لا يثبت(4).

و هل يفسد الضمان بفساد هذا الشرط؟ عندهم وجهان، أظهرهما:

الفساد(5).

و قد بيّنّا أنّ الحقّ عندنا صحّة الضمان و الأجل؛ لقوله عليه السلام:

«المؤمنون عند شروطهم»(3) و قوله تعالى:«أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» (4) و الضامن عَقَد مؤجَّلاً، فلا يثبت عليه إلاّ كذلك.

تذنيب: لو كان الدَّيْن مؤجَّلاً إلى شهر فضمنه مؤجَّلاً إلى شهرين، فهو كما لو ضمن الحالّ مؤجَّلاً.

و على قولنا بصحّة الضمان و الشرط ليس لصاحب المال مطالبة الضامن قبل الأجل، و لا مطالبة المضمون عنه؛ لأنّ الدَّيْن عندنا قد سقط

ص: 288


1- العزيز شرح الوجيز 169:5، روضة الطالبين 494:3.
2- العزيز شرح الوجيز 169:5. (3-5) العزيز شرح الوجيز 169:5، روضة الطالبين 494:3.
3- التهذيب 1503/371:7، الاستبصار 835/232:3، الجامع لأحكام القرآن 33:6.
4- المائدة: 1.

عن ذمّته و تحوّل إلى ذمّة الضامن على ما يأتي.

و أمّا الشافعي فإنّه جوَّز على تقدير صحّة الضمان المؤجَّل مطالبةَ المضمون عنه معجَّلاً - بناءً على أصله من أنّ الضمان غير ناقلٍ، بل هو مقتضٍ لتشريك الذمّتين بالدَّيْن(1) - و ليس له مطالبة الضامن معجَّلاً(2).

مسألة 479: لو كان الدَّيْن مؤجَّلاً فضمنه الضامن حالاًّ و التزم التبرّع بالتعجيل، صحّ الضمان عندنا،
اشارة

كما يصحّ ضمان الحالّ مؤجَّلاً، و كان عليه أداء المال في الحال كأصل الضمان، و هو أحد وجوه الشافعيّة.

و الثاني لهم: أنّه لا يصحّ الضمان؛ لأنّ الضامن فرع المضمون عنه، فلا يستحقّ مطالبته دون أصيله.

و الثالث لهم: أنّه يصحّ الضمان، و يكون مؤجَّلاً كأصله، و لا يلزم الضامن تبرّعه بالتعجيل، كما لو التزم الأصيل التعجيل لم يلزمه، فكذا الضامن. و لأنّ الضامن فرع الأصيل، فينبغي أن يكون ما لزمه مضاهياً لما على الأصيل(3).

فعلى هذا القول هل يثبت الأجل في حقّه مقصوداً أم تبعاً لقضاء حقّ المشابهة ؟ للشافعيّة وجهان(4).

و تظهر فائدتهما فيما لو مات الأصيل و الحال هذه.

ص: 289


1- مختصر المزني: 108، الحاوي الكبير 436:6، المهذّب - للشيرازي - 348:1، حلية العلماء 58:5، التهذيب - للبغوي - 171:4، العزيز شرح الوجيز 171:5، روضة الطالبين 496:3.
2- الحاوي الكبير 455:6، المغني 80:5، الشرح الكبير 95:5.
3- حلية العلماء 57:5-58، العزيز شرح الوجيز 169:5، روضة الطالبين 494:3.
4- العزيز شرح الوجيز 169:5، روضة الطالبين 494:3.

و عَكَس بعض الشافعيّة الترتيبَ، فقال: في صحّة شرط التعجيل وجهان، فإن فسد ففي إفساده الضمانَ وجهان(1)

تذنيب: لو ضمن المؤجَّل إلى شهرين مؤجَّلاً إلى شهر، فهو كما لو ضمن المؤجَّل حالاّ.

و على قولنا يصحّ، و يكون لصاحب المال مطالبة الضامن بالمال بعد شهر، و ليس له مطالبة المضمون عنه بشيء.

آخَر

آخَر(2): على قولنا: إنّه يصحّ ضمان المؤجَّل حالاًّ إذا أدّى الضامن المال إلى صاحبه،

لم يكن له مطالبة المضمون عنه إلاّ عند الأجل إن أذن له في مطلق الضمان.

و لو أذن له في الضمان عنه معجَّلاً، ففي حلوله عليه إشكال، أقربه:

عدم الحلول أيضاً.

مسألة 480: لو ضمن رجل عن غيره ألفاً و شرط المضمون له أن يدفع إليه الضامن أو المضمون عنه كلّ شهر درهماً لا يحسبه من مال الضمان، بطل الشرط إجماعاً.

و هل يبطل الضمان ؟ الأقوى عندي: بطلانه؛ بناءً على أنّ كلّ شرطٍ فاسد تضمّنه عقدٌ فإنّ العقد يبطل ببطلانه، و هو أحد وجهي الشافعيّة.

و الثاني: لا يبطل الضمان ببطلان هذا الشرط(3).

مسألة 481: لو ضمن دَيْناً أو كفل بدن إنسان ثمّ ادّعى أنّه كفل و ضمن و لا حقّ على المضمون عنه أو المكفول به، فالقول قول المضمون له

و المكفول له؛ لأنّ الضمان و الكفالة إنّما يصحّان بعد ثبوت الحقّ على

ص: 290


1- العزيز شرح الوجيز 169:5.
2- في «ث، ج» و الطبعة الحجريّة: «تذنيب» بدل «آخَر».
3- العزيز شرح الوجيز 170:5، روضة الطالبين 495:3.

المضمون و المكفول.

و هل يحلف المضمون له و المكفول له ؟ الأقرب عندي: اليمين؛ لأنّه منكر لدعوى لو صدق فيها لبطلت دعواه.

و للشافعيّة(1) وجهان(2).

فإن قلنا باليمين فنكل، حلف الضامن و الكفيل، و سقطت المطالبة عنهما.

و لو أقرّ الضامن بأنّه قد ضمن على شرط أو كفل عليه، فأنكر صاحب الحقّ الشرطَ، فالقول قول صاحب الحقّ مع اليمين؛ لصحّة الضمان في نفس الأمر، و أصالة عدم الشرط.

و قالت الشافعيّة: إنّ هذا مبنيّ على أنّ الإقرار هل يتبعّض أم لا؟ فإن قيل بالتبعيض، فالقول قول المضمون له. و إن قلنا: لا يتبعّض، فالقول قول الضامن(3).

و لو ادّعى الكفيل أنّ المكفول برئ من الحقّ و ارتفعت الكفالة، و أنكر المكفول له، فالقول قول المكفول له مع يمينه، فإن نكل و حلف الكفيل، برئ من الكفالة، و لم يبرأ المكفول بيمين الكفيل.

النظر الثاني: الضامن.
مسألة 482: يشترط في الضامن أن يكون صحيحَ العبارة أهلاً للتبرّع،

فلا يصحّ ضمان الصبي و المجنون؛ لقوله صلى الله عليه و آله: «رُفع القلم عن ثلاث: عن

ص: 291


1- في «ث، ر» و الطبعة الحجريّة: «للشافعي».
2- العزيز شرح الوجيز 170:5، روضة الطالبين 495:3.
3- العزيز شرح الوجيز 170:5-171، روضة الطالبين 496:3.

الصبي حتى يبلغ، و عن المجنون حتى يفيق، و عن النائم حتى ينتبه»(1).

و لأنّهما غير مكلّفين، فلم يكن [لكلامهما](2) حكمٌ.

و كذا لا يصحّ ضمان الساهي و الغافل و الهازل، كلّ ذلك لسقوط التكليف في حقّ أكثرهم، و عدم الوثوق بعبارتهم.

و المغمى عليه(3) و المُبَرْسَم - الذي يهذي و يخلط في كلامه - و النائم؛ لأنّه لا عبرة بصيغتهم الصادرة عنهم، كغيره من العقود.

و لو ضمن السكران، لم يصح عندنا؛ لعدم الوثوق بعبارته.

و للشافعي قولان، كما في سائر تصرّفاته(4).

و الأخرسِ(5) الذي ليس له إشارة مفهومة(6) و لا كتابة و لا يُعلم أنّه ضمن حتى يصحَّح أو يبطل.

و إن كانت له إشارة مفهومة و عُلم ضمانه بها، صحّ، كما في بيعه و سائر تصرّفاته، و به قال أكثر العامّة(7).

و قال بعض الشافعيّة: لا يصحّ ضمانه؛ لأنّه لا ضرورة إلى الضمان، بخلاف سائر التصرّفات(8).

و هو خطأ؛ فإنّ الضرورة لا تصحّح الدلالة الباطلة في نفسها.

و لو ضمن بالكتابة، فإن حصل معها إشارة مفهومة أنّه قصد3.

ص: 292


1- المغني 94:3، و بتفاوت في سنن أبي داوُد 4403/141:4.
2- بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «لكلامهم». و الصحيح ما أثبتناه.
3- عطف على قوله: «لا يصحّ ضمان...».
4- العزيز شرح الوجيز 146:5، روضة الطالبين 475:3.
5- عطف على قوله: «لا يصحّ ضمان...».
6- كذا قوله: «مفهومة» هنا و فيما يأتي، و الظاهر: «مفهمة».
7- المغني 80:5، الشرح الكبير 78:5، الحاوي الكبير 461:6، التهذيب - للبغوي - 185:4، العزيز شرح الوجيز 146:5، روضة الطالبين 475:3.
8- العزيز شرح الوجيز 146:5، روضة الطالبين 475:3.

الضمان، صحّ.

و إن انفردت(1) إشارته المفهومة بالضمان، صحّ أيضاً.

و لو(2) انفردت كتابته عن الإشارة [المفهمة](3) للضمان، لم يصح الضمان، سواء كان يُحسن الإشارة أو لا؛ لأنّ الكتابة قد تكون عبثاً أو تجربةً للقلم(4) أو حكايةَ خطٍّ، فلم يثبت بها(5) الضمان.

و للشافعيّة في الكتابة المنفردة عن إشارة مُفهمة(6) أنّه قصد الضمان وجهان، أصحّهما عندهم: الصحّة عند وجود القرينة المشعرة بالمقصود(7).

و نحن أيضاً نقول بذلك، و ليس النزاع فيه، بل في مجرّد الكتابة.

و هذا الشرط يقتضي نفي الخلاف، و أنّ الكتابة المجرّدة غير كافية.

أمّا الناطق فلا يكفي في حقّه الكتابة ما لم يتلفّظ بالعقد.

و للشافعيّة فيه الوجهان(8) ، كما في الأخرس.

مسألة 483: يشترط في الضامن الملاءة بالمال الذي ضمنه وقت الضمان،

أو علم المضمون له بالإعسار، فلو ضمن المعسر و لم يعلم المضمون له بإعساره ثمّ ظهر الإعسار، كان بالخيار [بين](9) فسخ الضمان

ص: 293


1- في «ر»: «تفرّدت».
2- في «ر»: «و إن» بدل «و لو».
3- بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «المفهومة». و الصحيح ما أثبتناه.
4- في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «و تجربة القلم». و الظاهر ما أثبتناه.
5- في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «به» بدل «بها». و الظاهر ما أثبتناه.
6- في «ج» و الطبعة الحجريّة: «مفهومة» بدل «مُفهمة». و ما في المتن من «ث، ر».
7- الحاوي الكبير 461:6، العزيز شرح الوجيز 146:5، روضة الطالبين 475:3.
8- العزيز شرح الوجيز 146:5، روضة الطالبين 475:3.
9- بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «في». و الظاهر ما أثبتناه.

و الرجوع على المضمون عنه، و بين إجازته و الصبر على الضامن إلى زمان قدرته.

و لو علم بإعساره وقت الضمان و رضي به، لم يكن له بعد ذلك خيار، و لزمه الضمان.

و كذا يلزمه الضمان لو كان الضامن مليّاً وقت الضمان و تجدّد إعساره قبل الأداء، و ليس للمضمون له حينئذٍ الرجوع على المضمون عنه بشيء.

مسألة 484: لو ادّعى المضمون له أنّ الضامن ضمن بعد البلوغ،

و قال الضامن: بل ضمنت لك قبله، فإن عيّنا للضمان وقتاً و كان البلوغ غير محتمل فيه، قُدّم قول الصبي؛ لحصول العلم بعدم البلوغ، و لا يمين على الصبي؛ لأنّها إنّما تثبت في المحتمل.

و إن كان الصغر غير محتمل، قُدّم قول المضمون له من غير يمينٍ؛ للعلم بصدقه، فلا يزال باليمين شكٌّ حاصل.

و إن احتمل الأمران أو لم يعيّنا وقتاً، فالقول قول الضامن مع يمينه - و به قال الشافعي(1) - لأصالة عدم البلوغ وقت الضمان، و عدم ثبوت الحقّ عليه.

و قال أحمد: القول قول المضمون له؛ لأنّ الأصل صحّة العقد و سلامته، كما لو اختلفا في شرطٍ مبطل(2).

و الفرق: أنّ المختلفين في الشرط المفسد يُقدّم فيه قول مدّعي الصحّة؛ لاتّفاقهما على أهليّة التصرّف، و الظاهر أنّ مَنْ له أهليّة التصرّف

ص: 294


1- التهذيب - للبغوي - 185:4، العزيز شرح الوجيز 146:5، روضة الطالبين 475:3، المغني 78:5، الشرح الكبير 75:5-76.
2- المغني 78:5، الشرح الكبير 75:5.

لا يتصرّف إلاّ تصرّفاً صحيحاً، فكان القول قولَ مدّعي الصحّة؛ لأنّه يدّعي الظاهر، و هنا اختلفا في أهليّة التصرّف، و ليس مع مَنْ يدّعي الأهليّة ظاهرٌ يستند إليه، و لا أصل يرجع إليه، فلا مرجّح لدعواه.

و كذا لو ادّعى أنّه ضمن بعد البلوغ و قبل الرشد، و ادّعى المضمون له أنّه بعد الرشد. و كذا لو ادّعى مَنْ يعتوره الجنون أنّه ضمن حال جنونه، و ادّعى المضمون له أنّ ضمانه في حال إفاقته؛ فإنّ القول قول الضامن؛ لما تقدّم.

أمّا لو لم يعهد منه جنونٌ سابق فادّعى أنّه حالة الضمان كان مجنوناً، فإنّه لا تُسمع دعواه، و له إحلاف المضمون له إن ادّعى علمه بالجنون.

و أمّا مَنْ يعتاد الشرب فادّعى أنّه حالة الضمان كان سكران، و ادّعى صاحب الحقّ أنّه كان حالة الضمان صاحياً، فالوجه: تقديم قول الضامن مع اليمين.

و لو لم يعهد منه الشرب، قُدّم قول المضمون له مع اليمين بانتفاء سكره.

مسألة 485: و لا فرق بين أن يكون الصبي مميّزاً أو غير مميّزٍ في بطلان ضمانه،

و لا بين أن يأذن له الوليّ في الضمان أو لا، و هو قول الشافعي(1).

و عن أحمد روايتان، إحداهما: أنّه يصحّ ضمان المميّز بإذن الولي، كما يصحّ إقراره و تصرّفاته بإذن وليّه(2)

ص: 295


1- مختصر المزني: 109، الحاوي الكبير 461:6، التنبيه: 105، المهذّب - للشيرازي - 346:1، التهذيب - للبغوي - 185:4، العزيز شرح الوجيز 146:5، روضة الطالبين 474:3-475، المغني 78:5، الشرح الكبير 75:5.
2- المغني 78:5، الشرح الكبير 75:5.

و الأصل عندنا ممنوع، على أنّ الفرق واقع بين الضمان و البيع؛ فإنّ الضمان التزام مال لا فائدة له فيه، فلم يصح منه، كالنذر، بخلاف البيع.

و لو قلنا بالرواية(1) الدالّة على نفاذ تصرّفه في المعروف إذا بلغ عشراً و كان مميّزاً، احتُمل جواز الضمان إذا كان في معروفٍ.

مسألة 486: شرطنا في صحّة الضمان كون الضامن أهلاً للتبرّع،

فلا يصحّ ضمان العبد و المحجور عليه لسفهٍ، فإنّه لو ضمن لم ينفذ؛ لأنّ الضمان إمّا إقراض إن تعقّبه الرجوع، و إمّا تبرّع إن لم يثبت الرجوع، و كلاهما يتبع المحجور عليه لتبذيرٍ منه. و لأنّه إثبات مالٍ في ذمّته، فلم يصح منه، كالبيع و غيره، و به قال الشافعي(2).

و قال بعض العامّة: يصحّ ضمانه، و يتبع به بعد فكّ الحجر عنه؛ لأنّه مكلّف يصحّ إقراره و يتبع به بعد فكّ الحجر عنه، فكذا ضمانه(3).

و الفرق: أنّ الإقرار إخبار بحقٍّ سابق، و جاز أن يكون في ذمّته حقٌّ، فوجب عليه الاعتراف به بحيث يؤدّي بعد فكّ الحجر عنه، بخلاف الضمان، فإنّه تبرّعٌ محض، فكان ممنوعاً منه، كسائر التبرّعات.

و قال بعض أصحاب الشافعي: إنّه يصحّ الضمان من المحجور عليه للتبذير؛ لأنّه إقراض لا محض تبرّع؛ لأنّ الشافعي قال: إذا ضمن في مرض موته بغير إذن مَنْ عليه الحقّ، فهو محسوب من ثلثه، و إن ضمن بإذنه، فهو محسوب من رأس المال؛ لأنّ للورثة أن يرجعوا على الأصيل(4)

ص: 296


1- تقدّم تخريجها في ص 241، الهامش (1).
2- الحاوي الكبير 461:6، التنبيه: 105، المهذّب - للشيرازي - 346:1، العزيز شرح الوجيز 146:5، روضة الطالبين 475:3، المغني 78:5، الشرح الكبير 75:5.
3- المغني 78:5، الشرح الكبير 75:5.
4- العزيز شرح الوجيز 147:5، روضة الطالبين 475:3.

و الحقّ ما قلناه؛ لأنّه و إن لم يكن تبرّعاً(1) فإنّه ممنوع منه؛ كما مُنع(2) من البيع و سائر التصرّفات الماليّة.

و لو أذن له الولي في الضمان، فهو كما لو أذن له في البيع.

و أمّا المحجور عليه للفلس فإنّه يصحّ ضمانه مع رضا المضمون له، و يتبع به بعد فكّ الحجر؛ لأنّه من أهل التصرّف، و الحجر عليه في ماله لا في ذمّته، فأشبه الراهن إذا تصرّف في غير الرهن، و كما لو اقترض أو اشترى في ذمّته، فإنّه لا يزاحم الغرماء.

مسألة 487: العبد إن أذن له مولاه في الضمان فضمن، صحّ،

و لا نعلم فيه خلافاً؛ لأنّ الحجر لحقّ السيّد، فإذا أذن له فيه، زال الحجر، و كان كما لو أذن له في الاستدانة فاستدان.

و إن ضمن بغير إذنه، فإن لم يكن مأذوناً له في التجارة، فالأقرب عندي: صحّة الضمان، كما لو استدان بغير إذن سيّده، و يتبع به بعد العتق، إلاّ أنّ الفرق بين الدَّيْن و الضمان: أنّ صاحب المال لو وجد عين ماله، كان له انتزاعها منه، و المضمون له ليس له انتزاع المال الذي ضمنه ما دام عبداً؛ لأنّه مكلّف له قول صحيح، و إنّما مُنع من التصرّف فيما يتعلّق بسيّده؛ لاشتماله على ضرر سيّده، و الضمان لا ضرر فيه على السيّد؛ لأنّه إنّما يطالب به بعد العتق، فلا يُمنع منه، و لهذا لو أقرّ بدَيْنٍ في ذمّته، لزمه الإقرار، و كان للمُقرّ له أن يتبعه به بعد العتق. و لو أقرّ بالجناية، لم يُقبل.

لا يقال: في ذلك إضرار بالسيّد؛ لأنّ السيّد يستحقّ إرث ماله بالولاء إذا أُعتق، و ثبوت الدَّيْن يمنع الإرث.

ص: 297


1- في النسخ الخطّيّة: «متبرّعاً».
2- في النسخ الخطّيّة: «يُمنع».

لأنّا نقول: حكم الإرث لا يمنع الضمان، بخلاف حكم الملك، و لهذا لا يمنع الإقرار، و الملك يمنع الإقرار فيه. و كذا الحُرّ لا يمنع من الضمان لحقّ ورثته.

و هو أحد قولي الشافعيّة.

و الثاني لهم: أنّه لا يصحّ ضمانه؛ لأنّه إثبات مال لآدميّ بعقدٍ، فلم يصح من العبد بغير إذن سيّده، كالمهر(1).

و الفرق: أنّ المهر يتعلّق بكسبه، و النفقة بالسيّد، فيضرّ به على التقديرين.

و الشيخ رحمه الله مالَ إلى بطلان الضمان؛ لقوله تعالى:«عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ» (2)(3) و هو الأصحّ عند الشافعيّة، و به قال ابن أبي ليلى و الثوري و أبو حنيفة(4).

و إن كان مأذوناً له في التجارة، فحكمه حكم غير المأذون في التجارة في الضمان، إن ضمن بإذن سيّده، صحّ إجماعاً. و إن ضمن بغير إذن سيّده، فالقولان.

و قال أبو ثور: إن كان من جهة التجارة، جاز. و إن كان من غير ذلك، لم يجز(5)7.

ص: 298


1- الحاوي الكبير 457:6، التنبيه: 105-106، المهذّب - للشيرازي - 346:1-347، حلية العلماء 48:5-49، التهذيب - للبغوي - 185:4-186، الوجيز 183:1، الوسيط 235:3، العزيز شرح الوجيز 147:5، روضة الطالبين 476:3، المغني 79:5، الشرح الكبير 76:5.
2- النحل: 75.
3- الخلاف 321:3، المسألة 15.
4- العزيز شرح الوجيز 147:5، روضة الطالبين 476:3، المغني 79:5، الشرح الكبير 76:5.
5- المغني 79:5، الشرح الكبير 76:5-77.
مسألة 488: إذا ضمن بإذن سيّده، صحّ قولاً واحداً.

و هل يتعلّق المال بالذمّة أو الكسب ؟ الأقرب: الأوّل؛ لأنّ ذمّة العبد محلّ الضمان، فعلى هذا يتبع به بعد العتق، و لا يجب على السيّد شيء، و لا يستكسب العبد فيه، كما لو لم يأذن، و هو أحد قولي الشافعيّة؛ لأنّه إنّما أذن له في الالتزام دون الأداء.

و أظهرهما عندهم: أنّه يتعلّق بما يكسبه العبد بعد الإذن؛ لأنّه ثبت بإذن السيّد، كما لو أذن لعبده في النكاح، تتعلّق النفقة و المهر باكتسابه(1).

و حكى بعض الشافعيّة وجهاً غريباً للشافعيّة: أنّه يتعلّق برقبته، فيباع فيه(2).

و عن أحمد روايتان:

إحداهما: أنّه يتعلّق برقبة العبد.

و الثانية - و هي الأظهر عنده -: أنّه يتعلّق بذمّة السيّد(3).

هذا إذا لم يكن مأذوناً له في التجارة، و لو كان مأذوناً له فيها فأذن له في الضمان، فكالأوّل عندنا، و يتعلّق بذمّته؛ لما تقدّم من أنّه أذن له في التزام المال خاصّةً، دون الأداء.

و للشافعيّة وجهان مرتَّبان على الوجهين في غير المأذون، و أولى بأن [لا](4) يحال على الذمّة؛ لإشعار ظاهر الحال بخلافه(5)

ص: 299


1- المهذّب - للشيرازي - 347:1، حلية العلماء 49:5، العزيز شرح الوجيز 147:5-148، روضة الطالبين 476:3.
2- العزيز شرح الوجيز 148:5، روضة الطالبين 476:3.
3- المغني 79:5، الشرح الكبير 77:5.
4- ما بين المعقوفين من المصدر.
5- العزيز شرح الوجيز 148:5.

و على هذا يتعلّق بما يكسبه من بعدُ، أم به و بما في يده من الربح الحاصل، أم بهما و برأس المال ؟ فيه وجوه ثلاثة أشبهها عندهم: الثالث(1).

و على رأيٍ لبعض الشافعيّة: إذا كان مأذوناً له في الضمان، تعلّق بكسبه، و إلاّ لم يتعلّق إلاّ بالذمّة(2).

مسألة 489: إذا قال السيّد لعبده: اضمن و اقضه ممّا تكتسبه، صحّ ضمانه، و تعلّق المال بكسبه.

و كذا لو قال للمأذون له في التجارة: اضمن و اقض من المال الذي في يدك، قضى منه. و كذا إن عيّن مالاً و أمره بالقضاء منه.

و حيث قلنا: يؤدّي ممّا في يده لو كان عليه ديون، فإنّ المضمون له يشارك الغرماء؛ لأنّه دَيْنٌ لزم بإذن المولى، فأشبه سائر الديون، و هو أحد وجوه الشافعيّة.

و الثاني لهم: أنّ الضمان لا يتعلّق بما في يده أصلاً؛ لأنّه كالمرهون بحقوق الغرماء.

و الثالث: أنّه يتعلّق بما فضل عن حقوقهم رعايةً للجانبين(3).

هذا إذا لم يحجر عليه الحاكم.

و يُحتمل عندي أنّ مال الضمان يُقدَّم على ديون الغرماء؛ لأنّ مولاه عيّنه فيه.

أمّا لو حجر عليه الحاكم باستدعاء الغرماء ثمّ ضمن بإذن مولاه و جعل الضمان ممّا في يده، لم يتعلّق الضمان بما في يده؛ لتعلّق حقوق الغرماء به

ص: 300


1- العزيز شرح الوجيز 148:5، روضة الطالبين 476:3.
2- العزيز شرح الوجيز 148:5.
3- العزيز شرح الوجيز 148:5، روضة الطالبين 477:3.

بمقتضى حَجْر الحاكم عليه.

و لو عيّن السيّد مال الضمان من رقبته، تعيّن، كما لو ضمن الحُرّ على أن يؤدّي من مالٍ معيّن، فإنّ مال الضمان يتعلّق بذلك المال المعيّن، كذا هنا؛ لأنّ الحقوق تتعلّق بأعيان الأموال كالرهن، و أمّا تعلّق الضمان بعين ماله دون ذمّته فلا يصحّ، و صحّ هذا في حقّ العبد؛ لأنّ له ذمّةً.

و لو أذن للعبد في التجارة و في الضمان و لم يعيّن المال من أين يؤدّى، فقد قلنا: إنّ الأقوى تعلّقه بذمّة العبد. و يُحتمل بكسبه و بذمّة المولى.

و قال الشافعي: يتعلّق بما في يده من أموال التجارة، فيقضيه منها على الوجه الذي يتعلّق بكسبه(1).

و ليس بجيّد؛ لأنّه إنّما أذن له في الضمان بالإطلاق، فهو ينصرف إلى ذمّته أو كسبه أو ذمّة مولاه.

مسألة 490: المدبَّر و أُمّ الولد و المكاتَب المشروط كالقِنّ في الضمان لا يصحّ إلاّ بإذن سيّده؛

لأنّه تبرّع بالتزام مالٍ، فأشبه نذر الصدقة، أو نقول:

يصحّ و يتبع به بعد العتق على الخلاف الذي سبق كما قلناه في العبد القِنّ.

و لو ضمن بإذن سيّده، صحّ، كما لو أذن للعبد، و لأنّ الحقّ للمكاتب أو للسيّد لا يخرج عنهما، و قد اتّفقا على الضمان، فلا مانع.

و يُحتمل أن لا يصحّ؛ لأنّ فيه تفويتَ الحُرّيّة.

و الوجه عندي: الصحّة إن استعقب ضمانه الرجوع، كما لو أذن له المضمون عنه في الضمان، و يكون الضمان مصلحةً لا مفسدة فيه، كما لو كان المضمون عنه معسراً، فإنّه لا يصحّ، و كما لو تبرّع؛ لأنّ للسيّد منعه من

ص: 301


1- حلية العلماء 50:5.

التصرّف بغير الاكتساب.

و أمّا المكاتب المطلق فليس للسيّد منعه من الضمان مطلقاً كيف شاء؛ لانقطاع تصرّفات المولى عنه.

و لو كان بعض العبد حُرّاً و بعضه رقّاً و لا مهايأة بينه و بين السيّد، لم يكن له الضمان إلاّ بإذنه؛ لتعلّق حقّ السيّد برقبته و تصرّفه.

و كذا لو كان بينهما مهايأة و ضمن في أيّام السيّد.

و لو ضمن في أيّام نفسه، فالأقرب: الجواز.

قال بعض الشافعيّة: يجوز أن يخرج ضمان المُعتَق بعضُه على الخلاف في الاكتسابات النادرة هل يدخل في المهايأة أم لا؟(1).

و ضمان المكاتب - عند الشافعيّة - بغير إذن السيّد كضمان القِنّ، و بالإذن مبنيّ على الخلاف في تبرّعاته(2).

مسألة 491: إذا أذن السيّد لعبده في الضمان، صحّ،

و انتقل المال إلى ذمّة العبد أو ذمّة السيّد أو مال العبد الذي في يده لمولاه على الخلاف.

فإن أدّى مال الضمان حالة الرقّ، فحقّ الرجوع للسيّد؛ لأنّ الأداء من مال السيّد، سواء كان من رقبة العبد أو ممّا في يده أو من كسبه.

و إن أدّاه بعد عتقه، فحقّ الرجوع للعبد؛ لأنّه أدّاه من ماله.

و لو قلنا: إنّه إذا ضمن بإذن سيّده، تعلّق الضمان بذمّة السيّد أو بكسب العبد، فالأقرب: أنّ حقّ الرجوع للسيّد أيضاً.

و للشافعيّة وجهان فيما إذا أدّى بعد العتق:

أصحّهما: أنّ حقّ الرجوع للعبد.

و الثاني: أنّه للسيّد؛ لأنّ مال الضمان كالمستثنى عن اكتسابه،

ص: 302


1- العزيز شرح الوجيز 148:5، روضة الطالبين 477:3.
2- العزيز شرح الوجيز 148:5، روضة الطالبين 477:3.

فلا يستحقّها بالعتق(1).

و لو ضمن العبد لسيّده عن أجنبيّ، لم يصح؛ لأنّه يؤدّيه من كسبِه، و كسبُه لسيّده، فهو كما لو ضمن المستحقّ لنفسه.

و لو ضمن لأجنبيّ عن سيّده، فإن لم يأذن السيّد، فهو كما لو ضمن عن أجنبيّ. و إن ضمن بإذنه، صحّ.

ثمّ إن أدّى قبل العتق، فلا رجوع له. و إن أدّى بعده، ففي رجوعه على السيّد احتمال.

و للشافعيّة فيه وجهان مبنيّان على الوجهين فيما لو آجر(2) عبده مدّة ثمّ أعتقه في ابتدائها أو(3) في أثنائها هل يرجع بأُجرة المثل لبقيّة المدّة أو لا؟(4).

مسألة 492: يصحّ ضمان المرأة، و لا نعلم فيه خلافاً،

كما يصحّ ضمان الرجل؛ لأنّ الضمان عقد يقصد به المال، فيصحّ من المرأة، كالبيع.

و لأنّها حُرّة عاقلة مالكة لأمرها نافذة التصرّف في مالها تصحّ منها الاستدانة و غيرها من التصرّفات، فيصحّ منها الضمان، كالرجل.

و لا فرق في صحّة ضمانها بين أن تكون خليّةً من بَعْل أو تكون ذات بعل.

و لا تحتاج إلى إذن الزوج، كما في سائر تصرّفاتها، و به قال أكثر أهل العلم من العامّة و الخاصّة.

و قال مالك: إنّه لا بدّ من إذن الزوج(5). و ليس بمعتمد.

ص: 303


1- العزيز شرح الوجيز 148:5، روضة الطالبين 477:3.
2- في «ث، ر» و الطبعة الحجريّة: «آجره».
3- كذا قوله: «في ابتدائها أو». و الجملة لم ترد في المصدر.
4- العزيز شرح الوجيز 148:5، روضة الطالبين 477:3.
5- الوجيز 183:1، العزيز شرح الوجيز 147:5.
مسألة 493: المريض يصحّ ضمانه، و لا نعلم فيه خلافاً،

سواء كان مرض الموت أو لا، لكن إن لم يكن مرض الموت و عُوفي من مرضه، صحّ ضمانه مطلقاً.

و إن كان مرض الموت، فإن تبرّع بالضمان، نفذ من الثلث عند كلّ مَنْ أثبت تبرّعاته من الثلث. و مَنْ جَعَل منجّزاته من الأصل أمضاه هنا من الأصل.

و إن لم يتبرّع بالضمان، بل ضمن بسؤال المضمون عنه، كان حكمه حكم ما لو باع نسيئةً.

و الوجه: أنّه إن علم تعذّر الرجوع لفقر المديون بحيث يعلم عدم وصول مالٍ إليه، كان ماضياً من الثلث، كما لو تبرّع، و إلاّ مضى من الأصل.

و أطلق بعض العامّة احتسابَ ضمان المريض من الثلث؛ لأنّه تبرّع بالتزام مالٍ لا يلزمه و لم يأخذ عنه عوضاً، فأشبه الهبة(1).

و نمنع التبرّع في المتنازع.

النظر الثالث: في المضمون عنه.
مسألة 494: المضمون عنه هو المديون، و هو الأصيل.

و لا يشترط رضاه في صحّة الضمان بالإجماع، كما يجوز أداء الدَّيْن عن الغير بغير إذنه، فالتزامه في الذمّة أولى بالجواز. و لأنّه يصحّ الضمان عن الميّت بالإجماع. و لما تقدّم(2) من امتناع النبيّ صلى الله عليه و آله من الصلاة على الميّت حتى ضمنه أمير المؤمنين عليّ عليه السلام، و معلومٌ أنّه لا يتصوّر الرضا من

ص: 304


1- المغني 79:5-80، الشرح الكبير 77:5-78.
2- في ص 281، ضمن المسألة 473.

الميّت.

مسألة 495: و لا يشترط حياة المضمون عنه، بل يجوز الضمان عن الميّت،

سواء خلّف الميّت وفاءً أو لا، عند علمائنا أجمع - و به قال الشافعي و مالك و أبو يوسف و محمّد(1) - لما تقدّم(2) من أحاديث العامّة عن أمير المؤمنين عليه السلام و [أبي] قتادة لمّا ضمنا الدَّيْن عن الميّت، و ما رواه الخاصّة أيضاً.

و لأنّ كلّ مَنْ يصحّ الضمان عنه إذا كان له ضامن صحّ و إن لم يكن له ضامن كما لو خلّف وفاءً أو كان حيّاً.

و قال أبو حنيفة و الثوري: لا يصحّ الضمان عن الميّت إذا لم يخلّف وفاءً بمال أو ضمان ضامن؛ لأنّ الموت مع عدم الوفاء يُسقط المطالبة بالحقّ و الملازمة عليه، فوجب أن يمنع صحّة الضمان، كالإبراء(3).

و هو باطل؛ لأنّ الإبراء إسقاط للحقّ، و لهذا لا يصحّ بعده إبراء، و هنا بخلافه.

و ساعدنا أبو حنيفة فيما إذا ضمن عنه في حياته ثمّ مات معسراً أنّه

ص: 305


1- الأُمّ 229:3-230، و 118:7، الحاوي الكبير 454:6، المهذّب - للشيرازي 346:1، الوسيط 233:3، حلية العلماء 48:5، العزيز شرح الوجيز 144:5، روضة الطالبين 473:3، بداية المجتهد 298:2، المعونة 1232:2، بدائع الصنائع 6:6، الهداية - للمرغيناني - 93:3، الاختيار لتعليل المختار 277:2، المحلّى 112:8، المغني 73:5، الشرح الكبير 83:5.
2- في ص 281 و 282، ضمن المسألة 473.
3- بدائع الصنائع 6:6، الهداية - للمرغيناني - 93:3، الاختيار لتعليل المختار 277:2، الأُم 118:7، الحاوي الكبير 454:6، الوسيط 233:3، حلية العلماء 48:5، التهذيب - للبغوي - 180:4، العزيز شرح الوجيز 144:5، المحلّى 112:8، بداية المجتهد 298:2، المعونة 1232:2، المغني 73:5، الشرح الكبير 83:5.

لا يبطل الضمان(1).

مسألة 496: و لا تشترط معرفة المضمون عنه، فلو ضمن الضامن عمّن لا يعرفه، صحّ ضمانه،
اشارة

عند علمائنا - و به قال الشافعي في أصحّ القولين(2) - لما تقدّم(3) من أنّ عليّاً عليه السلام و أبا قتادة ضمنا عمّن لا يعرفانه.

و لأنّ الواجب أداء الحقّ، فلا حاجة إلى معرفة مَنْ يؤدّى عنه؛ لأنّه لا معاملة بينهما في ذلك. و لأنّه لا يشترط رضاه فلا تشترط معرفته، و به قال أحمد(4) أيضاً.

و الثاني للشافعي: أنّه تشترط معرفته ليعرف حاله، و أنّه هل يستحقّ اصطناع المعروف إليه أو لا؟(5).

و ليس بشيء.

إذا عرفت هذا، فهل تشترط معرفة ما يميّزه عن غيره ؟ الأقرب:

العدم، بل لو قال: ضمنت لك الدَّيْن الذي(6) لك على مَنْ كان من الناس، جاز على إشكالٍ.

نعم، لا بدّ من معرفة المضمون عنه بوصفٍ يميّزه عند الضامن بما يمكن القصد معه إلى الضمان عنه لو لم يقصد الضمان عن أيّ مَنْ كان.

ص: 306


1- التهذيب - للبغوي - 180:4، العزيز شرح الوجيز 144:5، و راجع: بدائع الصنائع 6:6.
2- الحاوي الكبير 433:6، المهذّب - للشيرازي - 347:1، الوسيط 233:3، حلية العلماء 52:5، التهذيب - للبغوي - 171:4، العزيز شرح الوجيز 144:5، روضة الطالبين 473:3، المغني 71:5-72، الشرح الكبير 79:5.
3- في ص 281، ضمن المسألة 473.
4- المغني 71:5، الشرح الكبير 79:5.
5- نفس المصادر في الهامش (2).
6- في «ج، ر» زيادة: «كان».
تذنيب: لو تبرّع الضامن بالضمان و رضي المضمون له بضمانه، صحّ الضمان و انعقد و برئت ذمّة المضمون عنه.

و لو أنكر المضمون عنه الضمانَ، لم يبطل ضمانه، و به قال الشافعي(1).

النظر الرابع: في المضمون له.
مسألة 497: المضمون له هو مستحقّ الدَّيْن.

و هل تشترط معرفته عند الضامن ؟ إشكال ينشأ: من عدم التعرّض له و البحث عنه في ضمان(2) عليّ عليه السلام و أبي قتادة، و لأنّ الواجب أداء الحقّ، فلا حاجة إلى ما سوى ذلك. و من أنّه لا بدّ و أن يعرفه الضامن ليأمن الغرر، فإنّ الناس يتفاوتون في المعاملة و الاقتضاء و الاستيفاء تشديداً و تسهيلاً، و تختلف الأغراض في ذلك، فالضمان مع إهماله غرر و ضرر من غير ضرورة.

و للشافعيّة وجهان، أصحّهما: الثاني عندهم(3).

و لا بأس به؛ لحصول المعاملة بين الضامن و بينه بالضمان، فافتقر إلى معرفته للحاجة.

و قال الشيخ رحمه الله في الخلاف: لا تشترط معرفة الضامن المضمونَ له و لا المضمونَ عنه. و استدلّ بضمان عليّ عليه السلام و أبي قتادة(4)

ص: 307


1- لم نعثر على قوله بحدود المصادر المتوفّرة لدينا.
2- تقدّم تخريجه في ص 281، الهامش (5 و 6) و 282، الهامش (1).
3- الحاوي الكبير 433:6، المهذّب - للشيرازي - 347:1، التنبيه: 106، الوسيط 234:3، حلية العلماء 52:5، التهذيب - للبغوي - 171:4، العزيز شرح الوجيز 145:5، روضة الطالبين 474:3، منهاج الطالبين: 129.
4- الخلاف 313:3، المسألة 1.
مسألة 498: يشترط رضا المضمون له في صحّة الضمان،
اشارة

و هو قول أكثر علمائنا(1) - و به قال أبو حنيفة و محمّد و الشافعي في أحد القولين(2) - لأنّه إثبات مالٍ لآدميّ، و تجدّد سلطنة و ولاية لم تكن، فلا يثبت إلاّ برضاه أو مَنْ ينوب عنه، كالبيع و الشراء، و يبعد أن يتملّك الإنسان بتمليك الغير شيئاً من غير رضاه.

و القول الثاني للشافعي: إنّه لا يشترط رضاه(3) ، و هو قول الشيخ(4) رحمه الله؛ لأنّ عليّاً عليه السلام و أبا قتادة ضمنا الدَّيْن عن الميّت(5) و النبيّ صلى الله عليه و آله لم يسأل عن رضا المضمون له.

ثمّ قال الشيخ رحمه الله: و لو قيل: إنّ من شرطه رضا المضمون له، كان أولى؛ بدلالة أنّه إثبات حقٍّ في الذمّة، فلا بدّ من اعتبار رضاه، كسائر الحقوق.

ثمّ قال: و الأوّل أليق بمذهبنا؛ لأنّ الثاني قياس(6).

إذا عرفت هذا، فقد قال أبو يوسف بالقول الثاني للشافعي أيضاً؛ لأنّ

ص: 308


1- منهم: ابن حمزة في الوسيلة: 280، و المحقّق الحلّي في شرائع الإسلام 108:2، و يحيى بن سعيد في الجامع للشرائع: 301.
2- الهداية - للمرغيناني - 93:3، الاختيار لتعليل المختار 276:2، الحاوي الكبير 434:6، المهذّب - للشيرازي - 347:1، الوسيط 234:3، حلية العلماء 52:5، التهذيب - للبغوي - 171:4، العزيز شرح الوجيز 145:5، روضة الطالبين 474:3، المغني 71:5، الشرح الكبير 79:5.
3- الحاوي الكبير 434:6، المهذّب - للشيرازي - 347:1، الوسيط 234:3، حلية العلماء 52:5، التهذيب - للبغوي - 171:4، العزيز شرح الوجيز 145:5، روضة الطالبين 474:3، المغني 71:5، الشرح الكبير 79:5.
4- الخلاف 313:3، المسألة 2.
5- تقدّم تخريجه في ص 281، الهامش (5 و 6) و 282، الهامش (1).
6- الخلاف 313:3-314 المسألة 2.

الضمان محض التزامٍ، و ليس موضوعاً على قواعد المعاملات(1).

تذنيب: أبو حنيفة وافقنا على اشتراط رضا المضمون له في الضمان

إلاّ في مسألة واحدة استثناها، و هي: أنّ المريض لو التمس من الورثة أن يضمنوا دَيْنه فأجابوا، صحّ و إن لم يرض المضمون له(2).

مسألة 499: نحن و أبو حنيفة و الشافعي - في أحد القولين - لمّا اشترطنا في صحّة الضمان رضا المضمون له تفرّع عندنا فرع،

و هو: أنّه هل يُشترط قبول(3) المضمون له، أو لا، بل يكفي في صحّة الضمان الرضا؟ إشكال ينشأ: من أنّه تملّك في مقابلة تمليك الضامن، فيعتبر فيه القبول، كسائر التمليكات و التملّكات. و من أصالة عدم الاشتراط، مع قيام الفرق بينه و بين سائر التملّكات؛ فإنّ الضمان لا يُثبت ملكَ شيء جديد، و إنّما يتوثّق به الدَّيْن الذي كان مملوكاً.

و يُنتقض بالرهن؛ فإنّه لا يفيد إلاّ التوثيق، و يُعتبر فيه القبول.

و للشافعيّة قولان - كالاحتمالين - لكنّ الأصحّ عندهم: الثاني(4).

و الأقرب عندي: الأوّل؛ لأنّه عقد، فلا بدّ من القبول.

قال بعض الشافعيّة: يقرب هذا الخلاف من الخلاف في اشتراط القبول في الوكالة؛ لأنّ كلّ واحدٍ منهم يُجدّد سلطنةً لم تكن، فإن شرطنا القبول فليكن بينه و بين الضمان من التواصل ما بين الإيجاب و القبول في

ص: 309


1- الهداية - للمرغيناني - 93:3، الاختيار لتعليل المختار 276:2، حلية العلماء 52:5.
2- الهداية - للمرغيناني - 93:3، الاختيار لتعليل المختار 277:2، فتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهنديّة 63:3، العزيز شرح الوجيز 145:5.
3- أي القبول لفظاً.
4- الحاوي الكبير 434:6-435، الوسيط 234:3، العزيز شرح الوجيز 145:5، روضة الطالبين 474:3، منهاج الطالبين: 129.

سائر العقود. و إن لم نشترط، فيجوز أن يتقدّم(1)(2).

و قد فرّع الجويني على عدم اشتراط رضا المضمون له، فقال: إذا ضمن من غير رضاه، نُظر إن ضمن بغير إذن المضمون عنه، فالمضمون له بالخيار إن شاء طالَب الضامن، و إن شاء تركه. و إن كان الضمان بإذنه، فحيث قلنا: يرجع الضامن على المضمون عنه [يُجبر](3) المضمون له على قبوله؛ لأنّ ما يؤدّيه في حكم ملك المضمون عنه. و حيث قلنا: لا يرجع، فهو كما لو قال لغيره: أدِّ دَيْني عنّي، و لم يشترط الرجوع و قلنا: إنّه لا يرجع(4).

و هل يستحقّ المدين و الحال هذه أن يمتنع من القبول ؟ فيه وجهان بناءً على أنّ المؤدّى يقع فداءً أو موهوباً ممّن عليه الدَّيْن ؟ إن قلنا بالثاني، لم يكن له الامتناع، و هو الأشهر عندهم(5).

و قد ظهر من هذا أنّ للشافعيّة في اشتراط معرفة المضمون له و المضمون عنه ثلاثة أقوال:

قال بعضهم: لا تشترط معرفتهما.

و قال آخَرون: تشترط معرفتهما.

و قال قوم: تشترط معرفة المضمون له دون المضمون عنه؛ إذ لا معاملة معه(6)5.

ص: 310


1- أي: يتقدّم الرضا على الضمان، كما في المصدر.
2- العزيز شرح الوجيز 145:5.
3- ما بين المعقوفين أضفناه من «روضة الطالبين». و بدلها في «العزيز شرح الوجيز»: «يتخيّر».
4- العزيز شرح الوجيز 145:5-146، روضة الطالبين 474:3.
5- العزيز شرح الوجيز 146:5، روضة الطالبين 474:3.
6- الحاوي الكبير 433:6، المهذّب - للشيرازي - 347:1، حلية العلماء 52:5-53، التهذيب - للبغوي - 171:4، العزيز شرح الوجيز 145:5-146، روضة الطالبين 474:3، المغني 71:5-72، الشرح الكبير 79:5.

و زاد الجويني قولاً رابعاً، و هو: اشتراط معرفة المضمون عنه دون المضمون له(1).

النظر الخامس: في الحقّ المضمون به.
مسألة 500: يشترط في الحقّ المضمون به أمران:

الأوّل: الماليّة، فلا يصحّ ضمان ما ليس بمال. و الضابط فيه أن يكون ممّا يصحّ تملّكه و بيعه، و كما لا يصحّ بيع المحرَّمات و الربويّات و غيرهما ممّا تقدّم، كذا لا يصحّ ضمانها.

الثاني: الثبوت في الذمّة، فلو ضمن دَيْناً لم يجب بَعْدُ و سيجب بقرضٍ أو بيعٍ أو شبههما، لم يصح.

و لو قال لغيره: ما أعطيت فلاناً فهو علَيَّ، لم يصح أيضاً عند علمائنا أجمع - و به قال أحمد(2) - لأنّ الضمان ضمّ ذمّةٍ إلى ذمّةٍ في التزام الدَّيْن، فإذا لم يكن على المضمون عنه شيء فلا ضمّ فيه و لا يكون ضماناً. و لأنّ الضمان شُرّع لوثيقة الحقّ، فلا يسبق وجوب الحقّ كالشهادة.

و للشافعيّة هنا طريقان:

أحدهما: قال ابن سريج: المسألة على قولين:

القديم: أنّه يصحّ ضمان ما لم يثبت في الذمّة و لم يجب؛ لأنّ الحاجة قد تمسّ إليه، كما أنّه في القديم جوّز ضمان نفقة المستقبل. و بهذا قال أبو حنيفة و مالك.

و الجديد: المنع، و به قال أحمد.

ص: 311


1- العزيز شرح الوجيز 146:5، روضة الطالبين 474:3.
2- العزيز شرح الوجيز 149:5.

و الثاني: القطع بالمنع، و يخالف ضمان النفقة؛ لأنّ النفقة - على القديم - تجب بالعقد، فضمانها ضمان ما وجب لا ما لا يجب(1).

مسألة 501: لو قال: ضمنت لك ما تبيعه من فلان، فباع الشيء بعد الشيء، لم يصح هذا الضمان عندنا،

و هو أحد قولي الشافعي(2).

و في القديم: يصحّ، و يكون ضامناً للكلّ؛ لأنّ «ما» من أدوات الشرط فتقتضي التعميم(3).

و لو قال: إذا بعت من فلان فأنا ضامن، فإنّه يضمن الأوّل لا غير؛ لأنّ «إذا» ليست من أدوات الشرط.

و قال أبو حنيفة: إذا قال لغيره: إذا بعت فلاناً شيئاً فهو عَلَيَّ، فباعه شيئاً ثمّ باعه شيئاً آخَر، لزم الضامن المال الأوّل خاصّةً. و لو قال: ما بعته اليوم فهو علَيَّ، لزمه ما يبيعه اليوم. و لو قال: مَنْ باع فلاناً اليوم فهو عَلَيَّ، فباعه رجل، لا يلزم الضامن(4).

مسألة 502: إذا شرطنا معرفة المضمون له عند ثبوت الدَّيْن، فهنا - أي في صورة ضمان ما لم يجب - أولى.

و إن لم نشترط، فللشافعيّة وجهان(5).

و كذا معرفة المضمون عنه.

و إذا ضمن ما لم يجب، فلا يطالب الضامن ما لم يلزم الدَّيْن على الأصيل، فيطالب حينئذٍ عند مَنْ جوّزه، و أمّا عندنا فلا.

قال مجوّزوه: إذا ضمن ما لم يجب ثمّ رجع عن الضمان، فإن كان

ص: 312


1- العزيز شرح الوجيز 149:5، روضة الطالبين 478:3.
2- العزيز شرح الوجيز 149:5.
3- العزيز شرح الوجيز 149:5، روضة الطالبين 478:3.
4- فتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهنديّة 60:3.
5- العزيز شرح الوجيز 149:5، روضة الطالبين 478:3.

بعد لزوم المال، لم يكن له الرجوع.

و إن كان قبله، فعن ابن سريج من الشافعيّة: أنّ له أن يرجع(1).

و قال غيره من الشافعيّة: لا يرجع؛ لأنّ وضع الضمان على اللزوم(2).

و على قولنا ببطلان ضمان ما لم يثبت لو قال: اقرض فلاناً كذا و علَيَّ ضمانه، فأقرضه، قال بعض الشافعيّة: المذهب أنّه لا يجوز(3).

و قال ابن سريج: إنّه يجوز؛ لأنّه ضمانٌ مقرون بالقبض(4).

مسألة 503: يصحّ ضمان النفقة الماضية للزوجة،

سواء كانت نفقة الموسرين أو نفقة المعسرين، و كذا ضمان الإدام و نفقة الخادم و سائر المؤن؛ لأنّها تثبت في الذمّة و استقرّت بمضيّ الزمان.

و كذا يصحّ ضمان نفقة اليوم الحاضر؛ لأنّها تجب بطلوع الفجر.

و أمّا النفقة المستقبلة - كنفقة الغد و الشهر المستقبل و السنة المستقبلة - فإنّها غير واجبة في الذمّة، فلا يصحّ ضمانها؛ لأنّ النفقة عندنا إنّما تجب بالعقد و التمكين، و التمكين في المستقبل لم يحصل، فلم تجب النفقة إلاّ مع حصوله، فيكون ضمانها ضمان ما لم يجب، و هو القول الجديد للشافعي.

و قال في القديم: يصحّ(1).

و هو مبنيّ على أنّ النفقة تجب بالعقد خاصّةً، و الأوّل مبنيّ على أنّها تجب بالعقد و التمكين.

و قال الجويني: إن قلنا بالقديم، صحّ الضمان. و إن قلنا بالثاني، فالأصحّ: البطلان(2)

ص: 313


1- الحاوي الكبير 442:6، العزيز شرح الوجيز 150:5، روضة الطالبين 478:3-479.
2- العزيز شرح الوجيز 150:5، روضة الطالبين 479:3.

و فيه قولٌ آخَر مع تفريعنا على أنّ ضمان ما لم يجب باطل؛ لأنّ سبب وجوب النفقة ناجز، و هو النكاح(1).

و فيه إشكال؛ لأنّ سبب وجوب النفقة إمّا النكاح أو التمكين في النكاح، فإن كان الأوّل، فالنفقة واجبة، فكيف قال: و لم تجب!؟ و إن كان الثاني، فالسبب غير موجود.

مسألة 504: قد بيّنّا أنّ ضمان نفقة المدّة المستقبلة للزوجة باطل.

و على قول الشافعي بالجواز يُشترط أمران:

أحدهما: أن يقدّر المدّة، فلو أطلق لم يصح فيما بعد الغد. و في الغد وجهان أخذاً من الخلاف فيما إذا قال: آجرتك كلّ شهر بدرهم، و لم يقدّر، هل يصحّ في الشهر الأوّل ؟ قولان.

الثاني: أن يكون المضمون نفقة المعسرين و إن كان المضمون عنه موسراً أو متوسّطاً؛ لأنّه ربما يعسر، فالزائد على نفقة المعسر غير ثابتٍ؛ لأنّه يسقط بالعسر(2).

و قال بعض الشافعيّة: إنّه يجوز ضمان نفقة الموسرين و المتوسّطين؛ لأنّ الظاهر استمرار حاله(3).

و أمّا نفقة القريب للمدّة المستقبلة فإنّها عندنا أولى بالبطلان؛ لعدم وجوبها، و به قال الشافعي(4).

أمّا نفقة اليوم، فالأقرب: جواز ضمانها؛ لوجوبها بطلوع الفجر.

و للشافعي وجهان، أحدهما: أنّه لا يصحّ(5).

و الفرق بينها و بين نفقة الزوجة: أنّ سبيل هذه النفقة سبيل البرّ و الصلة، لا سبيل الديون، و لهذا تسقط بمضيّ الزمان و ضيافة الغير، و نفقة الزوجة نفقة معاوضة، فسبيلها سبيل الديون.

ص: 314


1- العزيز شرح الوجيز 150:5، روضة الطالبين 479:3.
2- العزيز شرح الوجيز 150:5، روضة الطالبين 479:3.
3- العزيز شرح الوجيز 150:5، روضة الطالبين 479:3.
4- العزيز شرح الوجيز 150:5، روضة الطالبين 479:3.
5- العزيز شرح الوجيز 150:5، روضة الطالبين 479:3.
مسألة 505: لا يشترط في المال اللزوم،

بل مطلق الثبوت، سواء كان مستقرّاً لازماً، كثمن المبيع إذا كان في الذمّة، أو متزلزلاً، كضمان الثمن في مدّة الخيار، فإنّه يصحّ ضمانه - و هو أصحّ وجهي الشافعي(1) - لأنّه ينتهي إلى اللزوم بنفسه، فيحتاج فيه إلى التوثيق، و أصل وضع البيع اللزوم.

و الثاني: لا يصحّ ضمانه؛ لأنّه ليس بلازم(2).

و يُمنع اشتراط اللزوم.

و هذا الخلاف بين قولي الشافعي إنّما هو فيما إذا كان الخيار للمشتري أو لهما، أمّا إذا كان الخيار مختصّاً بالبائع، فإنّه يصحّ ضمانه بلا خلافٍ؛ لأنّ الدَّيْن لازم في حقّ مَنْ هو عليه(3).

و هو ممنوع.

و قال الجويني: تصحيح الضمان في بيع الخيار مبنيّ على أنّ الخيار لا يمنع نقل الملك في الثمن إلى البائع، أمّا إذا منعه فهو ضمان ما لم يثبت بَعْدُ(4).

مسألة 506: الحقوق على أربعة أضرب:
الأوّل: حقٌّ لازم مستقرّ،

كالثمن بعد قبض المبيع، و الأُجرة بعد انقضاء المدّة، و المهر بعد الدخول، و هذا يصحّ ضمانه إجماعاً.

الثاني: لازمٌ غير مستقرّ،

كالثمن قبل القبض، و المهر قبل الدخول، و الأُجرة قبل انقضاء المدّة، فهذا يصحّ ضمانه أيضاً؛ لأنّه لازمٌ في الحال و إن جاز أن يسقط، كما يسقط المستقرّ بالقضاء و الإبراء و بالردّ بالعيب و غير ذلك.

ص: 315


1- العزيز شرح الوجيز 156:5، روضة الطالبين 483:3.
2- العزيز شرح الوجيز 156:5، روضة الطالبين 483:3.
3- العزيز شرح الوجيز 156:5، روضة الطالبين 483:3.
4- العزيز شرح الوجيز 156:5، روضة الطالبين 483:3.

و كذا(1) السَّلَم يصحّ ضمانه عندنا و عند الشافعي(2) ؛ لأنّه دَيْنٌ لازمٌ، فصحّ ضمانه، كالقرض.

و قال أحمد بن حنبل في إحدى الروايتين: إنّه لا يصحّ ضمانه؛ لأنّه يؤدّي إلى استيفاء المُسْلَم فيه من غير المُسْلَم إليه، فلا يجوز، كالحوالة به(3).

و الفرق أنّه في الحوالة يطالب ببدل الحقّ، و في الضمان يطالب بنفس الحقّ.

الثالث: ما ليس بلازمٍ و لا يؤول إلى اللزوم،

كالكتابة عند بعض(4) علمائنا.

الرابع: ما ليس بلازمٍ و لكن يؤول إلى اللزوم،

كمال الجعالة.

مسألة 507: الأقرب عندي: أنّه يصحّ ضمان مال الكتابة
اشارة

- و هو إحدى الروايتين عن أحمد، و به قال أبو حنيفة و الشافعي في وجهٍ(5) ، و خرّجه ابن سريج على ضمان ما لم يجب و وُجد سبب وجوبه(6). و قال بعضهم: إنّه مأخوذ من تجويز ضمان الجُعْل في الجعالة على إحدى الروايتين(7) - لأنّه دَيْنٌ على المكاتب، فصحّ ضمانه، كسائر الديون عليه و على غيره.

ص: 316


1- في النسخ الخطّيّة: «كذلك».
2- الحاوي الكبير 390:5، المهذّب - للشيرازي - 347:1، التهذيب - للبغوي - 174:4، المغني 377:4، الشرح الكبير 378:4.
3- المغني 377:4، و 75:5، الشرح الكبير 377:4-378، و 88:5، الكافي في فقه الإمام أحمد 131:2.
4- الشيخ الطوسي رحمه الله في المبسوط 325:2.
5- المغني 75:5، الشرح الكبير 86:5، الكافي في فقه الإمام أحمد 131:2، العزيز شرح الوجيز 155:5.
6- العزيز شرح الوجيز 155:5.
7- العزيز شرح الوجيز 155:5.

و المشهور من مذهب الشافعي - و إليه مالَ الشيخ(1) رحمه الله و أحمد في الرواية الأُخرى -: أنّه لا يصحّ؛ لأنّ مال الكتابة ليس بلازمٍ و لا يؤول إلى اللزوم، فإنّ للمكاتَب أن يُعجّز نفسه و يمتنع من أدائه، فإذا لم يلزم(2) الأصيل فالضمين أولى(3).

و يُمنع عدم لزومه و أنّ للمكاتب تعجيز نفسه، بل يجب عليه القيام في المال؛ لأنّه قد صار دَيْناً عليه.

تذنيب: لو ضمن إنسان عن المكاتَب غير نجوم الكتابة،

فإن كان الدَّيْن لأجنبيّ، صحّ الضمان، و إذا أدّى الضامن، رجع على المكاتَب إن كان قد ضمن بإذنه.

و إن ضمنه لسيّده، جاز أيضاً.

و الشافعي بناه على أنّ ذلك الدَّيْن هل يسقط بعجزه ؟ و هو على وجهين، إن قلنا: نعم، لم يصح، كضمان النجوم، و إلاّ جاز(4).

مسألة 508: في ضمان

مسألة 508: في ضمان(5) ما ليس بلازمٍ في الحال و له مصير إلى اللزوم، و الأصل في وضعه الجواز، كمال الجعالة.

فنقول: إن ضمن قبل الشروع في العمل، لم يصح الضمان؛ لأنّه

ص: 317


1- المبسوط - للطوسي - 336:2.
2- في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «لم يلزمه». و الظاهر ما أثبتناه.
3- الحاوي الكبير 460:6، المهذّب - للشيرازي - 347:1، الوسيط 238:3، حلية العلماء 53:5، التهذيب - للبغوي - 175:4، العزيز شرح الوجيز 155:5، روضة الطالبين 482:3، المغني 75:5، الشرح الكبير 86:5، الكافي في فقه الإمام أحمد 131:2.
4- العزيز شرح الوجيز 155:5، روضة الطالبين 482:3.
5- ما بين المعقوفين أثبتناه كما استُظهر في هامش الطبعة الحجريّة، و لم يرد في النسخ الخطّيّة.

ضمان ما لم يجب؛ إذ العقد غير لازم، و المال الثابت بالعقد غير ثابت في الذمّة فكيف يلزم فرعه!؟

و إن ضمن بعد فراغ العمل و استحقاقه للمال، صحّ ضمانه قطعاً؛ لأنّه ضمان ما قد ثبت وجوبه.

و إن ضمن بعد الشروع في العمل و قبل إتمامه، فالأقرب: جواز الضمان؛ لوجود سبب الوجوب، و لانتهاء الأمر فيه إلى اللزوم، كالثمن في مدّة الخيار، و هو أحد قولي الشافعي.

و أصحّهما عنده: المنع؛ لأنّ الموجِب للجُعْل هو العمل؛ إذ به يتمّ الموجَب، فكأنّه لا ثبوت له قبل العمل(1).

و قال بعض الشافعيّة: يمكن بناء الوجهين على الوجهين في جواز رجوع المالك بعد الشروع في العمل، فنقول: إن لم نجوّز الرجوع، فقد لزم الجُعْل من قِبَله. و إن جوّزناه، لم يصح ضمانه(2).

و أمّا مال المسابقة و المناضلة فمبنيّ على أنّ عقدهما جعالة أو إجارة، فإن كان إجارةً، صحّ الضمان. و إن كان جعالةً، فهو كضمان الجُعْل.

و قال الشيخ(3) رحمه الله و أحمد: يصحّ ضمان مال الجعالة و المسابقة؛ لأنّه يؤول إلى اللزوم. و لقوله تعالى:«وَ لِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَ أَنَا بِهِ زَعِيمٌ» (4) و لأنّه يؤول إلى اللزوم إذا عمل العمل، و إنّما الذي لا يلزم2.

ص: 318


1- المهذّب - للشيرازي - 347:1، العزيز شرح الوجيز 156:5، و 460:4، روضة الطالبين 483:3، المغني 74:5، الشرح الكبير 87:5.
2- العزيز شرح الوجيز 460:4، و 156:5.
3- الخلاف 316:3 و 317، المسألتان 7 و 8 من كتاب الضمان، المبسوط - للطوسي - 325:2.
4- يوسف: 72.

العملُ، و المال يلزم لوجوده، و الضمان للمال دون العمل(1).

و كلامه يشعر بجواز الضمان قبل الشروع في العمل.

مسألة 509: يصحّ ضمان أرش الجناية، عند علمائنا،
اشارة

سواء كان من النقدين أو من الإبل و غيرها(2) من الحيوانات - و به قال أحمد(3) - لأنّه ثابت مستقرّ في الذمّة، فصحّ ضمانه، كغيره من الحقوق الثابتة في الذمم، و كغير الحيوانات من الأموال.

و قال أصحاب الشافعي: إذا لم نجوّز ضمان المجهول ففي ضمان إبل الدية وجهان، و يقال قولان:

أحدهما: لا يصحّ؛ لأنّه مجهول الصفة و اللون.

و الثاني: أنّه صحيح(4).

و نمنع بطلان ضمان المجهول.

سلّمنا، لكن نمنع الجهالة؛ فإنّ الإبل الواجبة في الذمّة عن النفس و الأعضاء و الجراحات معلومة العدد و السنّ، و جهالة اللون و غيره من الصفات الباقية لا تضرّ؛ لأنّ الذي يلزمه أدنى لون أو صفة أو غالب إبل البلد، فتحصل معلومة. و لأنّ جَهْلَ ذلك لا يمنع وجوبه بالإتلاف فلم يمنع وجوبه بالالتزام. و لأنّ الضمان تلو الإبراء، و الإبراء عنها صحيح فكذا الضمان.

ص: 319


1- الكافي في فقه الإمام أحمد 130:2، المغني 74:5، الشرح الكبير 87:5.
2- في الطبعة الحجريّة: «أو من غيرهما» بدل «و غيرها».
3- الكافي في فقه الإمام أحمد 130:2، المغني 74:5، الشرح الكبير 87:5.
4- الحاوي الكبير 442:6، المهذّب - للشيرازي - 347:1، الوسيط 238:3، التهذيب - للبغوي - 178:4، العزيز شرح الوجيز 158:5، روضة الطالبين 485:3.

و هذا الوجه(1) عند الشافعيّة أظهر حتى أنّ بعضهم قطع به(2).

تذنيب: إذا كان الضمان بحيث يقتضي الرجوع - كما إذا ضمن بسؤاله - فإنّه يرجع بالحيوان.

و للشافعيّة خلاف كما وقع في اقتراض الحيوان(3).

و هل يصحّ ضمان الدية على العاقلة قبل تمام السنة ؟ الأقرب:

جوازه؛ لأنّ سبب الوجوب ثابت.

و قالت الشافعيّة: لا يجوز؛ لأنّها غير ثابتة بَعْدُ(4).

مسألة 510: إذا ضمن عيناً لمالكها و هي في يد غيره،

فإن كانت أمانةً لم يتعدّ فيها الأمين، لم يصح الضمان، كالوديعة و العارية غير المضمونة و مال الشركة و المضاربة و العين التي يدفعها إلى الصانع و المال في يد الوكيل و الوصي و الحاكم و أمينه إذا لم يقع منهم تعدٍّ أو تفريط، عند علمائنا أجمع - و به قال الشافعي(2) - لأنّها غير مضمونة العين و لا مضمونة الردّ، و إنّما الذي يجب على الأمين مجرّد التخلية، و إذا لم تكن مضمونةً على ذي اليد فكذا على ضامنه.

و لو ضمنها إن تعدّى فيها، لم يصح؛ لأنّه ضمان ما لم يجب و لم يثبت في الذمّة، فيكون باطلاً، كما لو ضمن عنه ما يدفعه إليه غداً قرضاً.

و قال أحمد: يصحّ ضمانه، فعلى هذا إن تلفت بغير تعدٍّ من القابض و لا تفريط، لم يلزم الضامن شيء؛ لأنّه فرع المضمون عنه، و المضمون عنه

ص: 320


1- أي الوجه الثاني. (2-4) العزيز شرح الوجيز 158:5، روضة الطالبين 485:3.
2- التهذيب - للبغوي - 177:4، العزيز شرح الوجيز 162:5، روضة الطالبين 488:3.

لا يلزمه شيء. و إن تلفت بتعدٍّ أو تفريط، يلزمه ضمانها، و لزم الضامن ذلك؛ لأنّها مضمونة على مَنْ هي في يده، فلزم ضامنه، كالمغصوب(1).

و هذا في الحقيقة ضمان ما لم يجب، و قد بيّنّا بطلانه.

مسألة 511: الأعيان المضمونة - كالمغصوب و المستعار مع التضمين أو كونه أحد النقدين و المستام و الأمانات - إذا خان فيها أو تعدّى، فله صورتان:
الأُولى: أن يضمن ردّ أعيانها.

و هو جائز؛ لأنّه ضمان مال مضمون على المضمون عنه، و به قال أبو حنيفة و أحمد(2).

و المشهور عند الشافعيّة تخريجه على [قولي](3) كفالة الأبدان(4).

و منهم مَنْ قطع بالجواز مع إثبات الخلاف في كفالة الأبدان. و الفرق:

أنّ حضور الخصم ليس مقصوداً في نفسه، و إنّما هو ذريعة إلى تحصيل المال، فالتزام المقصود أولى بالصحّة من التزام الذريعة(5).

إذا ثبت هذا، فإن ردّها الضامن أو الغاصب، برئ من الضمان.

و إن تلفت و تعذّر الردّ، فهل عليه قيمتها؟ فيه للشافعيّة وجهان،

ص: 321


1- الكافي في فقه الإمام أحمد 131:2، المغني 76:5، الشرح الكبير 86:5.
2- تحفة الفقهاء 243:3، بدائع الصنائع 7:6، الهداية - للمرغيناني - 92:3، الاختيار لتعليل المختار 276:2، الكافي في فقه الإمام أحمد 130:2، المغني 75:5، الشرح الكبير 87:5، حلية العلماء 76:5، العزيز شرح الوجيز 162:5.
3- بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «قول». و الصحيح ما أثبتناه من المصادر.
4- المهذّب - للشيرازي - 351:1، حلية العلماء 76:5، التهذيب - للبغوي - 177:4، العزيز شرح الوجيز 161:5، روضة الطالبين 488:3.
5- العزيز شرح الوجيز 161:5، روضة الطالبين 488:3.

كالوجهين في وجوب الغُرْم على الكفيل إن [مات المكفول ببدنه(1).

فإن أوجبنا فيجب في المغصوب أقصى القِيَم أم قيمته يوم التلف؛ لأنّ الكفيل](2) لم يكن متعدّياً؟ حكى الجويني فيه وجهين(3).

و لو ضمن تسليم المبيع و هو في يد البائع، جرى الخلاف في الضمان، فإن صحّحناه و تلف، انفسخ البيع، فإن لم يوفّر المشتري [الثمن](4) لم يطالب الضامن بشيء.

و إن كان قد وفّره، عاد الوجهان في أنّ الضامن هل يغرم ؟

فإن أغرمناه، فيغرم الثمن أو أقلّ الأمرين من الثمن و قيمة المبيع ؟ للشافعيّة وجهان، أظهرهما عندهم: الأوّل(5).

الثانية: أن يضمن قيمتها لو تلفت.

و الأقوى عندي: الصحّة؛ لأنّ ذلك ثابت في ذمّة الغاصب، فصحّ الضمان.

و قالت الشافعيّة: يبنى ذلك على أنّ المكفول ببدنه إذا مات هل يغرم الكفيل الدَّيْن ؟ إن قلنا: نعم، صحّ ضمان القيمة لو تلفت العين، و إلاّ لم يصح، و هو الأصحّ عندهم(6).

و لو تكفّل ببدن العبد الجاني جنايةً توجب المال، فهو كما لو ضمن عيناً من الأعيان.

ص: 322


1- الحاوي الكبير 434:6، المهذّب - للشيرازي - 351:1، حلية العلماء 76:5-77، التهذيب - للبغوي - 178:4، العزيز شرح الوجيز 162:5، روضة الطالبين 488:3.
2- ما بين المعقوفين من «العزيز شرح الوجيز» و «روضة الطالبين».
3- العزيز شرح الوجيز 162:5، روضة الطالبين 488:3.
4- ما بين المعقوفين من المصدر. (5 و 6) العزيز شرح الوجيز 162:5، روضة الطالبين 488:3.

و جزم بعض الشافعيّة بالمنع هنا. و فرّق بأنّ العين المضمونة مستحقّة و نفس العبد ليست مستحقّةً، و إنّما المقصود تحصيل الأرش من بدله، و بدله مجهول(1).

و لو باع شيئاً بثوب أو دراهم معيّنة فضمن ضامن عهدة المبيع حتى إذا خرج مستحقّاً ردّ عليه الثمن و هو قائم في يد البائع، فهذا من صور ضمان الأعيان، فإن تلف في يد البائع فضمن قيمته، فهو كما لو كان الثمن في الذمّة و ضمن العهدة.

و لو رهن ثوباً من إنسان و لم يقبضه، فضمن رجل تسليمه، لم يصح؛ لأنّه ضمان ما لم يجب.

إذا عرفت هذا، فقد اختلف قول الشافعيّة في صحّة ضمان الأعيان المضمونة، كالغصب و شبهه.

فقال بعضهم: يصحّ، و به قال أبو حنيفة و أحمد على ما تقدّم(2) ؛ لأنّها مضمونة على مَنْ هي في يده، فهي كالديون الثابتة في الذمّة.

و الثاني(3): لا يصحّ ضمانها؛ لأنّها غير ثابتة في الذمّة، و إنّما يصحّ ضمان ما كان ثابتاً في الذمّة، و وصفنا إيّاها بأنّها مضمونة معناه أنّه يلزمه قيمتها بتلفها، و القيمة مجهولة، و ضمان المجهولة لا يجوز(4).

مسألة 512: للشيخ رحمه الله قولان في ضمان المجهول.
اشارة

قال في الخلاف: لا يصحّ(5) ، و به قال ابن أبي ليلى و الثوري و الليث

ص: 323


1- العزيز شرح الوجيز 162:5، روضة الطالبين 488:3.
2- في ص 321، المسألة 511.
3- أي القول الثاني للشافعيّة.
4- المغني 75:5، الشرح الكبير 87:5، و أيضاً راجع المصادر في الهامش (4) من ص 321.
5- الخلاف 319:3، المسألة 13.

و أحمد(1) ؛ لأنّه إثبات مال في الذمّة بعقدٍ لآدمي، فلم يصح في المجهول، كالبيع و كما لو قال: ضمنت لك بعض مالك على فلان.

و قال في النهاية: لو قال: أنا أضمن لك ما يثبت لك عليه إن لم يأت به إلى وقت كذا، ثمّ لم يُحضره، وجب عليه ما قامت به البيّنة للمضمون عنه، و لا يلزمه ما لم تقم به البيّنة ممّا يخرج به الحساب في دفتر أو كتاب، و إنّما يلزمه ما قامت له به البيّنة، أو يحلف خصمه عليه، فإن حلف على ما يدّعيه و اختار هو ذلك، وجب عليه الخروج منه(2). و هذا يشعر بجواز ضمان المجهول، و به قال أبو حنيفة و مالك(3).

و عن أحمد روايتان(4).

و للشافعيّة طريقان:

أحدهما: أنّه على قولين: القديم: أنّه يصحّ. و الجديد: المنع.

و الثاني: القطع بالمنع(5).

و احتجّ المجوّزون بقوله تعالى:«وَ لِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَ أَنَا بِهِ3.

ص: 324


1- حلية العلماء 56:5، المغني 72:5، الشرح الكبير 80:5، و في الأخيرين و كذا في الكافي في فقه الإمام أحمد 131:2 صحّة ضمان المجهول، على العكس ممّا نُسب إلى أحمد في المتن.
2- النهاية: 315-316.
3- المبسوط - للسرخسي - 174:19، الهداية - للمرغيناني - 90:3، الاختيار لتعليل المختار 274:2، بداية المجتهد 298:2، الإشراف على نكت مسائل الخلاف 602:2، عيون المجالس 1666:4، حلية العلماء 56:5، الإشراف على مذاهب أهل العلم 121:1، العزيز شرح الوجيز 156:5، المغني 72:5، الشرح الكبير 80:5.
4- لاحظ المصادر في الهامش (1).
5- الوسيط 238:3، الوجيز 184:1، العزيز شرح الوجيز 156:5، روضة الطالبين 483:3.

زَعِيمٌ» (1) و حِمْل البعير مجهول، و يختلف باختلاف الأجناس.

و لعموم قوله عليه السلام: «الزعيم غارم»(2).

و لأنّه التزام حقٍّ في الذمّة عن معاوضة، فصحّ مع الجهالة، كالنذر و الإقرار. و لأنّه يصحّ تعليقه بغرر و خطر، و هو ضمان العهدة، و كما إذا قال لغيره: ألق متاعك في البحر و علَيَّ ضمانه، أو قال: ادفع ثيابك إلى هذا [الرفّاء](3) و علَيَّ ضمانها، فصحّ في المجهول، كالعتق و الطلاق(4).

تذنيب: إن قلنا بصحّة ضمان المجهول فإنّما يصحّ في صورة يمكن العلم فيها بعد ذلك،

كما لو قال: أنا ضامن للدَّيْن الذي عليك، أو أنا ضامن لثمن ما بعت من فلان، و هو جاهل بالدَّيْن و الثمن؛ لأنّ معرفته ممكنة، و الخروج عن العهدة مقدور عليه، أمّا لو لم يمكن الاستعلام، فإنّ الضمان فيه لا يصحّ قولاً واحداً، كما لو قال: ضمنت لك شيئاً ممّا لك على فلان.

مسألة 513: الإبراء - عندنا - من المجهول يصحّ؛
اشارة

لأنّه إسقاط عمّا في الذمّة، بل هو أولى من ضمان المجهول؛ لأنّ الضمان التزام، و الإبراء إسقاط.

و الخلاف المذكور للشافعيّة في ضمان المجهول آتٍ لهم في الإبراء(5)

ص: 325


1- يوسف: 72.
2- سنن ابن ماجة 2405/804:2، سنن أبي داوُد 3565/297:3، سنن الترمذي 1265/565:3، سنن الدارقطني 8/70:4، سنن البيهقي 72:6، مسند أحمد 21792/358:6.
3- ما بين المعقوفين من المصدر.
4- المغني 72:5، الشرح الكبير 80:5-81.
5- العزيز شرح الوجيز 156:5، روضة الطالبين 484:3.

و ذكروا للخلاف في الإبراء مأخذين:

أحدهما: الخلاف في صحّة شرط البراءة من العيوب، فإنّ العيوب مجهولة الأنواع و الأقدار.

و الثاني: أنّ الإبراء محض إسقاطٍ، كالإعتاق، أو هو تمليك للمديون ما في ذمّته، ثمّ إذا ملكه يسقط.

و فيه قولان إن قلنا: إنّه إسقاط، صحّ الإبراء عن المجهول - كما ذهبنا نحن إليه - و به قال أبو حنيفة و مالك. و إن قلنا: تمليك، لم يصح، و هو ظاهر مذهب الشافعي(1).

و خرّجوا على هذا الأصل مسائل:

أ: لو عرف المبرى قدر الدَّيْن و لم يعرفه المبرأ عنه، هل يصحّ أم لا؟ و سيأتي إن شاء اللّه تعالى في باب الوكالة.

ب: لو كان له دَيْنٌ على اثنين، فقال: أبرأت أحدكما، إن قلنا: إنّه إسقاط، صحّ، و طُولب بالبيان. و إن قلنا: تمليك، لم يصح، كما لو كان في يد كلّ واحدٍ منهما ثوب، فقال: ملّكت أحدكما الثوب الذي في يده.

ج: لو كان للأب دَيْنٌ على شخصٍ فأبرأه الولد و هو لا يعلم موت أبيه، إن قلنا: إنّه إسقاط، صحّ، كما لو قال لعبد أبيه: أعتقتك، و هو لا يعلم موت الأب. و إن قلنا: إنّه تمليك، فهو كما لو باع مال أبيه على ظنّ أنّه حيّ و هو ميّت

د: الإبراء إذا كان إسقاطاً، لم يحتج إلى القبول، و هو ظاهر مذهب الشافعي. و إن قلنا: إنّه تمليك، لم يحتج إليه أيضاً؛ لأنّه و إن كان تمليكاً3.

ص: 326


1- العزيز شرح الوجيز 156:5-157، روضة الطالبين 484:3.

فالمقصود منه الإسقاط. فإن اعتبرنا القبول، ارتدّ بالردّ. و إن لم نعتبره، ففي ارتداده بالردّ وجهان للشافعيّة(1).

و عندنا أنّه لا يرتدّ.

و احتجّ بعض الشافعيّة على أنّ الإبراء تمليك: بأنّه لو قال للمديون:

ملّكتك ما في ذمّتك، صحّ و برئت ذمّته من غير نيّة و قرينة، و لو لا أنّه تمليك لافتقر إلى نيّة أو قرينة، كما إذا قال لعبده: ملّكتك رقبتك، أو لزوجته: ملّكتكِ نفسكِ، فإنّه يحتاج عندهم إلى النيّة(2).

و لا يتأتّى ذلك على مذهبنا؛ لأنّ العتق و الطلاق لا يقعان بالكناية، و إنّ الإبراء عندنا إسقاط محض، و لا يعتبر فيه رضا المبرى، و لا أثر لردّه.

تذنيب: لو اغتاب شخصٌ غيرَه ثمّ جاء إليه فقال: إنّي اغتبتك فاجعلني في حلٍّ،

ففَعَل و هو لا يدري بِمَ اغتابه، فللشافعيّة وجهان:

أحدهما: أنّه يبرأ؛ لأنّ هذا إسقاط محض، فصار كما لو عرف أنّ عبداً قطع عضواً من عبده و لم يعرف عين العضو المقطوع فعفا عن القصاص، يصحّ.

و الثاني: لا يصحّ؛ لأنّ المقصود حصول رضاه، و الرضا بالمجهول لا يمكن، بخلاف مسألة القصاص؛ لأنّ العفو عن القصاص مبنيّ على التغليب و السراية، و إسقاط المظالم غير مبنيّ عليه(3).

مسألة 514: إذا منعنا من ضمان المجهول، فلو قال: ضمنت ما لك على فلان من درهم إلى عشرة، فالأقوى: الصحّة؛
اشارة

لأنّ ضمان المجهول إذا أبطلناه فإنّما كان باطلاً؛ لما فيه من الغرر، و مع بيان الغاية ينتفي الغرر،

ص: 327


1- العزيز شرح الوجيز 157:5، روضة الطالبين 484:3.
2- العزيز شرح الوجيز 157:5، روضة الطالبين 484:3.
3- العزيز شرح الوجيز 157:5-158، روضة الطالبين 484:3.

فينتفي المقتضي للفساد، فيبقى أصل الصحّة سليماً عن المبطل، و حيث وطّن نفسه على تلك الغاية فأيّ غرر يبقى فيه ؟ و هو أحد قولي الشافعي.

و الثاني: لا يصحّ؛ لما فيه من الجهالة(1).

فإذا قلنا بالصحّة و كان له عليه عشرة أو أكثر، فيلزمه العشرة؛ إدخالاً للطرفين في الملتزم، و هو المتعارف، و هو أحد وجوه الشافعيّة.

و الثاني: أنّه يلزمه ثمانية؛ إخراجاً للطرفين.

و الثالث: تسعة؛ إدخالاً للطرف الأوّل؛ لأنّه مبدأ الالتزام(2).

و ما اخترناه أصحّهما عندهم(3).

أمّا لو قال: ضمنت لك ما بين درهم و عشرة، فإن عرف أنّ دَيْنه لا ينقص عن عشرة، صحّ ضمانه، و كان ضامناً لثمانية.

و إن لم يعرف، ففي صحّته في الثمانية للشافعيّة قولان(4)..

و لو قال: ضمنت لك الدراهم التي لك على فلان، و قلنا ببطلان ضمان المجهول و هو لا يعرف قدرها، احتُمل صحّة ضمان ثلاثة؛ لدخولها قطعاً في اللفظ على كلّ حال، كما لو قال: آجرتك كلّ شهر بدرهم، هل يصحّ في الشهر الأوّل ؟ للشافعيّة وجهان(5).

و كلّ هذه المسائل آتية في الإبراء.

تذنيب: هل يجوز ضمان الزكاة عمّن هي عليه ؟ الأقوى عندي:

الجواز؛

لأنّها دَيْنٌ ثابت للّه تعالى، فجاز ضمانها.

و المضمون له هنا الحاكم أو المستحقّ؟ إشكال.

ص: 328


1- التهذيب - للبغوي - 179:4، العزيز شرح الوجيز 158:5، روضة الطالبين 485:3.
2- التهذيب - للبغوي - 179:4، العزيز شرح الوجيز 158:5، روضة الطالبين 485:3.
3- العزيز شرح الوجيز 158:5، روضة الطالبين 485:3.
4- العزيز شرح الوجيز 158:5، روضة الطالبين 485:3.
5- العزيز شرح الوجيز 158:5، روضة الطالبين 485:3.

و للشافعيّة وجه يمنع الضمان؛ لأنّها حقّ اللّه تعالى، فأشبه الكفالة ببدن الشاهد لأداء الشهادة(1).

و على ما اخترناه هل يعتبر الإذن عند الأداء؟ للشافعيّة وجهان أظهرهما: الاعتبار(2).

تذنيب: يجوز ضمان المنافع الثابتة في الذمم، كالأموال؛

لأنّها مستحقّة في ذمّة المضمون عنه معلومة، فلا مانع من صحّة ضمانها كالأموال.

البحث الثالث: في ضمان العهدة.
مسألة 515: مَنْ باع شيئاً فخرج المبيع مستحقّاً لغير البائع، وجب على البائع ردّ الثمن، و لا حاجة فيه إلى شرطٍ و التزام.

قال بعض(1) العلماء: من الحماقة اشتراط ذلك في القبالات.

و إن ضمن عنه ضامن ليرجع المشتري عليه بالثمن لو خرج مستحقّاً، فهو ضمان العهدة، و يُسمّى أيضاً ضمان الدرك.

و سُمّي ضمان العهدة؛ لالتزام الضامن ما في عهدة البائع ردّه، أو لما ذكره صاحب الصحاح، فقال: يقال: في الأمر عُهدة بالضمّ، أي: لم يُحكم بَعْدُ، و في عقله عُهدة، أي ضعف(2) ، فكأنّ الضامن ضمن ضعف العقد، و التزم ما يحتاج إليه فيه من غُرْم، أو أنّ الضامن التزم رجعة المشتري عليه

ص: 329


1- هو القفّال من الشافعيّة، كما في العزيز شرح الوجيز 151:5، و روضة الطالبين 479:3.
2- الصحاح 515:2 «عهد».

عند الحاجة.

و أمّا الدرك فقال في الصحاح: الدرك: التبعة(1).

و قيل: سُمّي ضمان الدرك؛ لالتزامه الغرامة عند إدراك المستحقّ عين ماله(2).

و هذا الضمان عندنا صحيح إن كان البائع قد قبض الثمن، و إن لم يكن قد قبض، لم يصح.

و للشافعي في صحّة ضمان العهدة طريقان:

أظهرهما: أنّه على قولين:

أحدهما: أنّه لا يصحّ؛ لأنّه ضمان ما لم يجب. و لأنّه لا يجوز الرهن به فكذا الضمين.

و أصحّهما - و هو قول الشافعي في كتاب الإقرار - أنّه صحيح - و به قال أبو حنيفة و مالك و أحمد - لإطباق الناس عليه، و إيداعه الصكوك في جميع الأعصار. و لأنّ الحاجة تمسّ إلى معاملة مَنْ لا يعرف من الغرماء و لا يوثق بيده و ملكه و يخاف عدم الظفر به لو ظهر الاستحقاق، فيحتاج إلى التوثيق.

و الثاني: القطع بالصحّة(3).

و نمنع كون ضمان العهدة ضمان ما لم يجب؛ لأنّه إذا ظهر عدم5.

ص: 330


1- الصحاح 1582:4 «درك».
2- العزيز شرح الوجيز 151:5، روضة الطالبين 479:3.
3- الحاوي الكبير 441:6، المهذّب - للشيرازي - 349:1، الوسيط 236:3، حلية العلماء 64:5، التهذيب - للبغوي - 175:4، العزيز شرح الوجيز 151:5، روضة الطالبين 479:3، الهداية - للمرغيناني - 90:3، بدائع الصنائع 9:6، الاختيار لتعليل المختار 280:2، الذخيرة 212:9، المغني 76:5، الشرح الكبير 84:5.

استحقاق البائع للعين، ظهر استحقاق الثمن عليه، و ثبوته في ذمّته، و أنّه يجب عليه ردّ الثمن إلى المشتري، إلاّ أنّا لم نكن نعرف ذلك لخفاء الاستحقاق عندنا.

و نمنع عدم جواز الرهن عليه و قد روى داوُد بن سرحان عن الصادق عليه السلام، قال: سألته عن الكفيل و الرهن في بيع النسيئة، قال:

«لا بأس»(1).

سلّمنا، لكنّ الفرق ظاهرٌ؛ لأنّ تجويز الرهن يؤدّي إلى أن تبقى العين مرهونةً أبداً.

مسألة 516: قد بيّنّا أنّ الضمان في عهدة الثمن و دركه إن كان بعد قبض البائع الثمنَ، صحّ،

و به قال الشافعي في أصحّ القولين عنده(2).

و إن كان قبله، فوجهان عنده:

أصحّهما: البطلان - كما قلناه نحن - لأنّ الضامن إنّما يضمن ما دخل في ضمان البائع و لزمه ردّه، و قبل القبض لم يتحقّق ذلك.

و الثاني: الجواز؛ لأنّ الحاجة تمسّ إليه و الضرورة تقود إليه؛ إذ ربما لا يثق المشتري بتسليم الثمن إلاّ بعد الاستيثاق(3).

و اعلم أنّ ضمان العهدة في المبيع يصحّ عن البائع للمشتري و عن المشتري للبائع، أمّا ضمانه عن البائع للمشتري فهو أن يضمن عن البائع الثمن متى خرج المبيع مستحقّاً أو رُدّ بعيبٍ، أو أرش العيب. و أمّا ضمانه عن المشتري للبائع فهو أن يضمن الثمن الواجب بالبيع قبل تسليمه، و إن

ص: 331


1- الفقيه 188/55:3، التهذيب 491/210:6.
2- العزيز شرح الوجيز 151:5، روضة الطالبين 479:3.
3- المهذّب - للشيرازي - 349:1، حلية العلماء 65:5، التهذيب - للبغوي - 175:4، العزيز شرح الوجيز 151:5، روضة الطالبين 480:3.

ظهر فيه عيب أو استحقّ، رجع بذلك على الضامن، فضمان العهدة في الموضعين ضمان الثمن أو جزء منه عن أحدهما للآخَر.

و حقيقة العهدة الكتاب الذي يكتب فيه وثيقة البيع، و يذكر فيه الثمن فغرمه عن الثمن الذي يضمنه.

مسألة 517: و كما يصحّ ضمان العهدة للمشتري يصحّ ضمان نقصان الصنجة للبائع،

فإذا جاء المشتري بصنجة و وزن بها الثمن، فاتّهمه البائع فيها، فضمن ضامنٌ النقصانَ إن كانت الصنجة ناقصةً، صحّ الضمان؛ لأنّه من ضمان العهدة.

و كذا لو ضمن رداءة الثمن إذا شكّ البائع في أنّ الثمن الذي دفعه المشتري إليه هل هو من الضرب الذي يستحقّه، صحّ، فإذا خرج ناقصاً، طالَب البائعُ الضامنَ بالنقصان.

و كذا لو خرج رديئاً من غير الجنس الذي يستحقّه المشتري، فردّه على البائع، طالَب المشتري الضامنَ بالضرب المستحقّ له.

و لو اختلف المتبايعان في نقصان الصنجة، فالقول قول البائع مع يمينه؛ لأصالة عدم القبض، فإذا حلف طالَب المشتري بالنقصان، و لا يطالب الضامن، على أقيس الوجهين للشافعيّة؛ لأنّ الأصل براءة ذمّته، فلا يطالب إلاّ إذا اعترف بالنقصان أو قامت عليه البيّنة(1).

و لو اختلف البائع و الضامن في نقصان الصنجة، صُدّق الضامن - و هو أصحّ وجهي الشافعيّة(2) - لأنّ الأصل براءة ذمّته، بخلاف المشتري، فإنّ ذمّته كانت مشغولةً بحقّ البائع، فالأصل(1) بقاء الشغل.

ص: 332


1- كذا، و الظاهر: «و الأصل».

و يُحتمل تقديم قول البائع؛ لاعتضاده بالأصل.

و لو باع و شرط كون المبيع من نوع كذا، فخرج المبيع من نوع أردأ، ثبت للمشتري الخيار و الرجوع بالثمن، فإذا ضمن ضامنٌ، كان له الرجوع على الضامن أيضاً.

و فيه نظر عندي؛ إذ الثمن هنا لم يكن واجباً على البائع، و إنّما وجب بفسخ المشتري البيع.

و لو شرط كون المبيع كذا رطلاً، فخرج دونه، فإن قلنا ببطلان البيع - كما هو أحد قولي الشافعي(1) - كان للمشتري الرجوع على ضامن الصنجة عن البائع.

و إن قلنا بأنّ البيع صحيح و ثبت للمشتري الخيار فإذا فسخ رجع على الضامن أيضاً.

و فيه النظر الذي قلناه.

مسألة 518: لو ضمن رجل عهدة الثمن لو خرج مستحقّاً - كما قلناه في طرف المبيع - فإذا خرج الثمن مستحقّاً، كان للبائع مطالبة الضامن

بالعين التي دفعها إلى المشتري إن كان ذلك بعد الدفع، و فيما قبله قولان للشافعي تقدّما(2).

و لو ضمن عهدة الثمن لو خرج المبيع مستحقّاً، فلا شكّ في صحّته كما سبق(3) ، إلاّ من بعض الشافعيّة(4) ، و قد بيّنّا خطأهم فيه.

أمّا لو ضمن عهدة الثمن لو خرج المبيع معيباً و ردّه أو بانَ فساد البيع

ص: 333


1- العزيز شرح الوجيز 152:5.
2- في ص 331، المسألة 516.
3- في ص 330، ضمن المسألة 515.
4- راجع: الهامش (3) من ص 330.

بسبب غير الاستحقاق، كتخلّف شرطٍ معتبر في المبيع أو اقتران شرطٍ فاسد به، فالأقوى عندي: عدم الجواز في الصورة التي خرج المبيع فيها معيباً؛ لأنّ وجوب ردّ الثمن على البائع بسببٍ حادث، و هو الفسخ، و الضمان سابق عليه، فيكون ضمان ما لم يجب، و هو أحد قولَي الشافعي(1).

و أمّا إذا ظهر فساد البيع بسبب غير الاستحقاق من تخلّف شرطٍ معتبر أو اقتران شرطٍ فاسد به، فالأقوى عندي: صحّة الضمان؛ لأنّ الثمن يجب ردّه على البائع، فأشبه ما لو بانَ الفساد بالاستحقاق، و هو أحد قولَي الشافعي.

و في الثاني: لا يصحّ الضمان؛ لأنّ هذا الضمان إنّما جُوّز للحاجة، و إنّما تظهر الحاجة في الاستحقاق؛ لأنّ التحرّز عن ظهور الاستحقاق لا يمكن، و التحرّز عن سائر أسباب الفساد ممكن، بخلاف حالة ظهور الاستحقاق(2).

و نمنع إمكان التحرّز عن جميع أسباب الفساد.

فإن قلنا بالصحّة لو ضمن ذلك صريحاً، قالت الشافعيّة: فيه وجهان في اندراجه تحت مطلق ضمان العهدة(3).

مسألة 519: ألفاظ ضمان العهدة أن يقول الضامن للمشتري: ضمنت لك عهدته، أو ثمنه، أو دركه، أو خلّصتك منه.

و لو قال: ضمنت لك خلاص المبيع و العهدة، لم يصح ضمان الخلاص؛ لأنّه لا يقدر على ذلك متى خرج مستحقّاً.

ص: 334


1- العزيز شرح الوجيز 152:5، روضة الطالبين 480:3.
2- العزيز شرح الوجيز 152:5-153، روضة الطالبين 480:3.
3- العزيز شرح الوجيز 153:5، روضة الطالبين 480:3.

و في العهدة قولا تفريق الصفقة للشافعيّة(1).

و قال أبو يوسف: العهدة كتاب الابتياع، فإذا ضمن العهدة، كان ضماناً للكتاب(2).

و هو غلط؛ لأنّ العهدة صار في العرف عبارةً عن الدرك و ضمان الثمن، و إذا ثبت للاسم عرفٌ، انصرف الإطلاق إليه.

و لو شرط في البيع كفيلاً بخلاص المبيع، قال الشافعي: بطل، بخلاف ما لو شرط كفيلاً بالثمن(3).

و يشترط أن يكون قدر الثمن معلوماً للضامن إن شرطنا العلم بالمال المضمون، فإن لم يكن، فهو كما لو لم يكن قدر الثمن معلوماً في المرابحة.

و يصحّ ضمان المُسْلَم فيه للمُسْلَم إليه لو خرج رأس المال مستحقّاً بعد تسليم المُسْلَم فيه، و قبله للشافعيّة وجهان، أصحّهما عندهم: أنّه لا يصحّ(4).

و لا يجوز ضمان رأس المال للمُسْلِم لو خرج المُسْلَم فيه مستحقّاً؛ لأنّ المُسْلَم فيه في الذمّة، و الاستحقاق لا يتصوّر فيه، و إنّما يتصوّر في المقبوض، و حينئذٍ يطالب بمثله لا برأس المال.

مسألة 520: ضمان المال - عندنا - ناقل للمال من ذمّة المديون إلى ذمّة الضامن على ما يأتي.

ص: 335


1- العزيز شرح الوجيز 153:5، روضة الطالبين 480:3.
2- حلية العلماء 66:5، و انظر: المغني 77:5، و الشرح الكبير 85:5.
3- العزيز شرح الوجيز 153:5، روضة الطالبين 480:3.
4- العزيز شرح الوجيز 153:5، روضة الطالبين 481:3.

و في ضمان الأعيان المضمونة و العهدة إشكال أقربه عندي: جواز مطالبة كلٍّ من الضامن و المضمون عنه بالعين المغصوبة.

أمّا الضامن: فللضمان.

و أمّا المضمون عنه: فلوجود العين في يده أو تلفها فيه.

و في العهدة إن شاء المشتري طالَب البائع، و إن شاء طالَب الضامن؛ لأنّ القصد هنا بالضمان التوثيق لا غير.

و لا فرق بين أن يخرج المبيع مغصوباً، و بين أن يكون شقصاً قد ثبتت فيه الشفعة ببيعٍ سابق، فأخذ الشفيع بذلك البيع.

و لو بانَ بطلان البيع بشرطٍ أو غيره، ففي مطالبة الضامن للشافعيّة وجهان:

أحدهما: يُطالب، كما لو خرج مستحقّاً، و هو الذي قلنا نحن به.

و الثاني: لا يُطالب؛ للاستغناء عنه بإمكان حبس المبيع إلى استرداد الثمن، لأنّ السابق إلى الفهم من ضمان العهدة هو الرجوع بسبب الاستحقاق(1).

و ليس بجيّد، بل بسبب الاستحقاق و الفساد.

و لو خرج المبيع معيباً فردّه المشتري، ففي مطالبة الضامن بالثمن عندي إشكال.

و للشافعيّة وجهان، قالوا: و أولى بأن لا يطالب فيه؛ لأنّ الردّ هنا بسببٍ حادث، و هو [مختار](2) فيه، فأشبه ما إذا(3) فسخ بخيار شرط أو مجلس، أو تقايلا(4).3.

ص: 336


1- العزيز شرح الوجيز 153:5-154، روضة الطالبين 481:3.
2- ما بين المعقوفين من المصدر.
3- في «ر، ث»: «لو» بدل «إذا».
4- العزيز شرح الوجيز 154:5، روضة الطالبين 481:3.

و هذا إذا كان العيب مقروناً بالعقد، أمّا لو حدث في يد البائع بعد العقد، قال بعض الشافعيّة: لا يطالب الضامن - و هو المعتمد عندي - لأنّ سبب ردّ الثمن لم يكن مقروناً بالعقد و لم يوجد من البائع تفريط فيه، و في العيب الموجود عند البيع سبب الردّ مقرون بالعقد، و البائع مفرط بالإخفاء، فأُلحق بالاستحقاق(1).

و لو تلف المبيع قبل القبض بعد قبض الثمن و انفسخ العقد، فهل يطالب الضامن بالثمن ؟ إن قلنا: إنّ البيع ينفسخ من أصله، فهو كظهور الفساد بغير الاستحقاق. و إن قلنا: ينفسخ من حينه، فكالردّ بالعيب.

مسألة 521: لو خرج بعض المبيع مستحقّاً، كان البيع في الباقي صحيحاً، و للمشتري فسخه على ما تقدّم

(2) .

و للشافعي في صحّة البيع في الباقي قولا تفريق الصفقة(3).

فعلى ما اخترناه و على قوله بالصحّة في تفريق الصفقة إذا أجاز المشتري بالحصّة من الثمن، طالَب المشتري الضامنَ بحصّة المستحقّ من الثمن. و إن أجاز بجميع الثمن، لم يكن له مطالبة الضامن بشيء.

و للشافعيّة قولان في أنّه هل يجيز بجميع الثمن أو بالحصّة ؟(4).

و الحكم على ما قلناه.

و إن فسخ، طالَب الضامن بحصّة المستحقّ من الثمن، و أمّا حصّة الباقي من الثمن فإنّه يطالبه بها البائع.

و هل له مطالبة الضامن ؟ أمّا عندنا فلا.

ص: 337


1- العزيز شرح الوجيز 154:5، روضة الطالبين 481:3.
2- في ج 12، ص 6، ضمن المسألة 550. (3 و 4) العزيز شرح الوجيز 154:5، روضة الطالبين 481:3.

و للشافعي قولان(1) ، كما لو فسخ بالعيب.

و على القول الثاني للشافعي في بطلان البيع مع تفريق الصفقة فله طريقان:

أحدهما: أنّه كما لو بانَ فساد العقد بشرطٍ و نحوه.

و الثاني: القطع بتوجيه المطالبة؛ لاستناد الفساد إلى الاستحقاق، لأنّ فسخ العقد ثبت له بسبب الاستحقاق، و ما ثبت له بسبب الاستحقاق يرجع به على ضامن العهدة، كما لو كان الكلّ مستحقّاً(2).

هذا إذا ضمن بالصيغة المذكورة أوّلاً، أمّا إذا كان قد عيّن جهة الاستحقاق، فقال: ضمنت لك الثمن متى خرج المبيع مستحقّاً، لم يطالب بجهةٍ أُخرى.

و كذا لو عيّن جهةً أُخرى، لا يطالب عند ظهور الاستحقاق.

مسألة 522: لو اشترى أرضاً و بنى فيها أو غرس ثمّ ظهر استحقاق الأرض، و قَلَع المستحقّ البناء و الغراس،

فهل يجب على البائع أرش النقصان، و هو ما بين قيمته قائماً و مقلوعاً؟ فيه خلاف يأتي، و الظاهر وجوبه، و به قال الشافعي(3).

و قال أبو حنيفة: إن كان البائع حاضراً، رجع المشتري بقيمة البناء و الغراس عليه قائماً، ثمّ المستحقّ إن شاء أعطى البائع قيمته مقلوعاً، و إن شاء أمر بقلعه. و إن كان البائع غائباً، قال المستحقّ للمشتري: إن شئت

ص: 338


1- العزيز شرح الوجيز 154:5، روضة الطالبين 481:3.
2- العزيز شرح الوجيز 154:5، روضة الطالبين 481:3-482.
3- التهذيب - للبغوي - 177:4، العزيز شرح الوجيز 154:5، روضة الطالبين 482:3.

أعطيتك قيمته مقلوعاً، و إلاّ فاقلعه، فإن قَلَعه، رجع المشتري بقيمته على البائع مقلوعاً؛ لأنّه سلّمه إليه مقلوعاً(1).

و إذا قلنا بوجوب الأرش على البائع، فلو ضمنه [ضامن](2) ، فإن كان قبل ظهور الاستحقاق، لم يصح عند الشافعي؛ لأنّه مجهول. و لأنّه ضمان ما ليس بواجب.

و إن كان بعد الاستحقاق و قبل القلع، فكمثله(3).

و قال أبو حنيفة: يصحّ في الصورتين(4).

فإن ضمنه بعد القلع و كان قدره معلوماً، صحّ، و إلاّ فقولان.

و إن ضمن ضامنٌ عهدة الأرض و أرش [نقص](5) البناء و الغراس في عقدٍ واحد، قال الشافعي: لم يصح في الأرش، و في العهدة قولا تفريق الصفة(6).

و لو كان البيع بشرط أن يعطيه كفيلاً بهما، فهو كما لو شرط في البيع رهناً فاسداً عند الشافعي(7).

و قال جماعة من الشافعيّة: إنّ ضمان نقصان البناء و الغراس كما3.

ص: 339


1- العزيز شرح الوجيز 154:5-155.
2- بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «منه». و الصحيح ما أثبتناه.
3- التهذيب - للبغوي - 177:4، العزيز شرح الوجيز 155:5، روضة الطالبين 482:3.
4- العزيز شرح الوجيز 155:5.
5- ما بين المعقوفين يقتضيه السياق.
6- التهذيب - للبغوي - 177:4، العزيز شرح الوجيز 155:5، روضة الطالبين 482:3.
7- العزيز شرح الوجيز 155:5، روضة الطالبين 483:3.

لا يصحّ من غير البائع لا يصحّ من البائع(1).

و هذا إن أُريد به أنّه لغو، كما لو ضمن العهدة لوجوب الأرش عليه من غير التزامٍ، فهو مستمرّ على ظاهر مذهب الشافعيّة(2)، و إلاّ فهو ذهاب منهم إلى أنّه لا أرش عليه.

مسألة 523: استحقاق رجوع المشتري بالثمن إن كان بسببٍ حادث بعد العقد - كتلف المبيع في يد البائع أو بغَصْبٍ منه،

أو تقايل المشتري - فإنّ المشتري يرجع هنا على البائع خاصّةً؛ لأنّ هذا الاستحقاق لم يكن موجوداً حال العقد، و إنّما ضمن في العقد الاستحقاق الموجود حال العقد.

و مَنْ جوّز ضمان ما لم يجب جَعَل للمشتري هنا الرجوعَ على الضامن.

و إن كان الاستحقاق للثمن بسببٍ كان موجوداً حال العقد، فإن كان لا بتفريطٍ من البائع كالشفعة، فإن أخذ الشقص من المشتري، رجع المشتري عليه، و لا يرجع على البائع و لا على الضامن؛ لأنّ الشفعة مستحقّة على المشتري.

و إن كان بتفريطه، فإن كان المشتري ردّ بعيبٍ كان موجوداً حال العقد، رجع على البائع.

و في رجوعه على الضامن إشكال.

و للشافعيّة وجهان(1).

و إن كان فيه عيب و حدث فيه عند المشتري عيب، فليس له ردّه،

ص: 340


1- العزيز شرح الوجيز 154:5، روضة الطالبين 481:3.

و له الرجوع بأرش العيب، و يرجع به على البائع.

و في رجوعه على الضامن الإشكال السابق.

و الوجهان للشافعيّة(1).

مسألة 524: لو ضمن البائع له ما يحدث المشتري في المبيع

من بناء أو غراس أو ما يلزمه من غرامة عن أُجرة و نفع، فالأقرب: صحّة الضمان، و به قال أبو حنيفة و أحمد؛ لأنّ ضمان ما لم يجب - عندهما - و ضمان المجهول صحيحان(2).

و عندنا أنّ ضمان المجهول صحيح، و ضمان ما لم يجب باطل، لكن نمنع هنا كون المضمون غيرَ واجب.

و قال الشافعي: لا يصحّ؛ لأنّه مجهول و لم يجب، و كلاهما لا يصحّ ضمانه(3).

فعلى قوله إذا ضمن ذلك البائعُ في عقد البيع أو ضمنه غيره و شرط ذلك في العقد، فسد به العقد عنده، و كذا إن كان في زمن الخيار. و إن كان بعد لزوم العقد، لم يصح و لم يؤثّر في العقد.

و إن ضمن ذلك مع العهدة، فإن كان البائعَ، لم يصح ضمان ما يحدث عنده، و العهدة واجبة عليه بغير ضمان. و إن كان أجنبيّاً، فسد ضمان ما يحدث عنده.

ص: 341


1- روضة الطالبين 481:3.
2- المغني 78:5، الشرح الكبير 86:5، حلية العلماء 66:5.
3- الحاوي الكبير 441:6، حلية العلماء 66:5، المغني 78:5، الشرح الكبير 86:5.
البحث الرابع: في أحكام الضمان.
اشارة

و هي أربعة: مطالبة المستحقّ و الضامن، و الرجوع، و ما يرجع به، ففيها أربعة أنظار:

النظر الأوّل: الضمان عندنا ناقلٌ للمال من ذمّة المضمون عنه إلى ذمّة الضامن،
اشارة

فللمضمون له مطالبة الضامن بالمال، و ليس له مطالبة المضمون عنه، عند علمائنا أجمع - و به قال ابن أبي ليلى و ابن شبرمة و داوُد و أبو ثور(1) - لما رواه العامّة عن أبي سعيد الخدري أنّه كان مع النبيّ صلى الله عليه و آله في جنازة، فلمّا وُضعت قال: «هل على صاحبكم من دَيْن ؟» قالوا: نعم، درهمان، فقال: «صلّوا على صاحبكم» فقال عليّ عليه السلام: «يا رسول اللّه صلِّ عليه و أنا لهما ضامن» فقام رسول اللّه صلى الله عليه و آله فصلّى عليه ثمّ أقبل على عليّ عليه السلام فقال: «جزاك اللّه عن الإسلام خيراً، و فكّ رهانك كما فككت رهان أخيك» فقلت: يا رسول اللّه هذا لعليّ خاصّةً، أم للناس عامّة ؟ قال:

«للناس عامّة»(2) فدلّ على أنّ المضمون عنه بري.

و عن جابر قال: توفّي صاحبٌ لنا فأتينا به النبيّ صلى الله عليه و آله ليصلّي عليه، فخطا خطوة ثمّ قال: «أ عليه دَيْنٌ؟» قلنا: نعم، ديناران، فانصرف فتحمّلهما أبو قتادة، فقال: الديناران عَلَيّ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: «وجب حقّ الغريم، و برئ الميّت منهما؟» قال: نعم، فصلّى عليه، ثمّ قال بعد ذلك: «ما فعل الديناران ؟» قال: إنّما مات أمس، قال: فعاد إليه من الغد فقال: قد

ص: 342


1- الإشراف على نكت مسائل الخلاف 1012/601:2، المغني 82:5، الشرح الكبير 71:5، الحاوي الكبير 436:6، حلية العلماء 58:5.
2- سنن الدار قطني 78:3-291/79 و 292، المغني 82:5، الشرح الكبير 71:5.

قضيتهما، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: «الآن برّدتَ جلده»(1).

و من طريق الخاصّة: ما رواه عطاء عن الباقر عليه السلام، قال: قلت له:

جُعلت فداك إنّ علَيَّ دَيْناً إذا ذكرته فسد عَلَيَّ ما أنا فيه، فقال: «سبحان اللّه أ وَ ما بلغك أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله كان يقول في خطبته: مَنْ ترك ضياعاً فعلَيَّ ضياعه، و مَنْ ترك دَيْناً فعلَيَّ دَيْنه، و مَنْ ترك مالاً فللّه(2) ، فكفالة رسول اللّه صلى الله عليه و آله ميّتاً ككفالته حيّاً، و كفالته حيّاً ككفالته ميّتاً» فقال الرجل:

نفّست عنّي جعلني اللّه فداك(3). فلولا براءة ذمّته من الدَّيْن، لم يحصل له نفع بالضمان و لا تنفّس عنه كربه.

و لأنّه دَيْنٌ واحد فمحلّه واحد، فإذا صار في ذمّة الضامن، برئت ذمّة الأوّل، كالمحال به، و ذلك لأنّ الواحد لا يحلّ في محلّين، و ثبوت دَيْنٍ آخَر في ذمّة الضامن يقتضي تعدّد الدَّيْنين.

و قال عامّة الفقهاء - كالثوري و الشافعي و أحمد و إسحاق و أبي عبيد و أصحاب الرأي -: إنّ المضمون عنه لا يبرأ من المال، و للمضمون له مطالبة مَنْ شاء من الضامن و من المضمون عنه؛ لقوله صلى الله عليه و آله لأبي قتادة حين قضى الدَّيْن عن الميّت: «الآن برّدتَ عليه جلده»(4).

و قوله عليه السلام: «نفس المؤمن معلّقة بدَيْنه حتى يقضى عنه»(5)7.

ص: 343


1- سنن الدار قطني 293/79:3، سنن البيهقي 74:6 و 75، المستدرك - للحاكم - 58:2، مسند الطيالسي: 1673/233، مسند أحمد 280:4-14127/281، و عن الأخير ابنا قدامة في المغني 82:5، و الشرح الكبير 72:5.
2- في المصدر: «فأكله» بدل «فللّه».
3- التهذيب 494/211:6.
4- تقدم تخريجه في الهامش (1).
5- سنن ابن ماجة 2413/806:2، سنن الترمذي 389:3-1078/390 و 1079، سنن البيهقي 49:6، المستدرك - للحاكم - 26:2-27.

و لأنّ الضمان يفارق الحوالة باسمٍ، فاختصّ عنها بحكمٍ يخالفها(1).

و قوله لأبي قتادة إنّما كان لأنّه بالقضاء تحقّق فائدة الضمان، و عُلم إبراء ذمّة الميّت، و صحّ الحكم منه صلى الله عليه و آله ببرد جلده، و الضمان عنه قضاء أيضاً. و الفرق بالاسم لا يستلزم ما ذكروه؛ لجواز اختصاص الضمان بأُمور لا تثبت في الحوالة.

مسألة 525: ليس للمضمون له مطالبة المضمون عنه، بل يطالب الضامن خاصّةً عندنا.

و قال الشافعي و أبو حنيفة و أحمد و غيرهم: يرجع على مَنْ شاء من الضامن و المضمون عنه(2).

و قال مالك: إنّه لا يطالب الضامن، إلاّ إذا عجز عن تحصيله من الأصيل؛ لغيبته أو إعساره؛ لأنّ الضمان وثيقة، فلا يستوفى الحقّ منها إلاّ عند تعذّره، كالرهن(3).

و احتجّ الشافعي: بأنّ الحقّ ثابت في ذمّة كلٍّ منهما، فكان له مطالبته كالضامنين، و لا يشبه الرهن؛ لأنّه مال مَنْ عليه الحقّ، و ليس بذي ذمّةٍ

ص: 344


1- المغني 81:5-83، الشرح الكبير 70:5-73، الكافي في فقه الإمام أحمد 129:2، المحلّى 113:8، مختصر المزني: 108، الحاوي الكبير 436:6، المهذّب - للشيرازي - 348:1، الوسيط 247:3، حلية العلماء 58:5، التهذيب - للبغوي - 171:4، الوجيز 185:1، العزيز شرح الوجيز 171:5، روضة الطالبين 496:3، بداية المجتهد 296:2.
2- الهداية - للمرغيناني - 90:3، بدائع الصنائع 10:6، الاختيار لتعليل المختار 274:2، و راجع أيضاً المصادر في الهامش (1).
3- المدوّنة الكبرى 256:5، بداية المجتهد 296:2، حلية العلماء 59:5، التهذيب - للبغوي - 171:4، العزيز شرح الوجيز 171:5، المغني 83:5، الشرح الكبير 71:5.

يطالب، و إنّما يطالب مَنْ عليه الحقّ، فيقضى منه أو من غيره(1).

هذا إذا ضمن مطلقاً، و لو ضمن بشرط براءة الأصيل، ففي صحّته عند الشافعيّة وجهان:

أشبههما عندهم: المنع؛ لأنّه قرن به شرطاً يخالف مقتضى الضمان.

و الثاني: يصحّ؛ لما روي أنّه لمّا ضمن أبو قتادة الدينارين عن الميّت، فقال النبيّ صلى الله عليه و آله: «هُما عليك [وجب](2) حقّ الغريم و برئ الميّت ؟» فقال: نعم، فصلّى عليه(3)(4).

و هذا عندنا ساقط؛ لأنّا نقول ببراءة الأصيل.

و إن لم يشترطه، فلا فائدة لهذا الشرط عندنا. و أمّا عند الشافعي فوجهان كما قلنا.

فعلى تقدير الصحّة في صحّة الشرط وجهان عندهم يشبهان الخلاف في براءة المحيل إذا أحال على مَنْ لا دَيْن عليه و قلنا بصحّة هذه الحوالة(5).

و قد يعكس بعض الشافعيّة الترتيبَ فيقول: في صحّة الشرط وجهان، إن فسد، ففي فساد الضمان وجهان.

و إذا صحّحنا العقد و الشرط، برئ الأصيل، و كان للضامن الرجوع عليه في الحال إن ضمن بإذنه؛ لأنّه حصل له براءة ذمّته، كما لو أدّى(6).

و عندنا ينبغي أن لا يكون، بل يرجع عليه مع الأداء.3.

ص: 345


1- المهذّب - للشيرازي - 348:1، المغني 83:5، الشرح الكبير 71:5.
2- ما بين المعقوفين أضفناه كما تقدّم.
3- تقدّم تخريجه في ص 343، الهامش (1).
4- العزيز شرح الوجيز 171:5-172، روضة الطالبين 496:3. (5 و 6) العزيز شرح الوجيز 172:5، روضة الطالبين 496:3.
مسألة 526: إذا أبرأ المالك للدَّيْن ذمّة الضامن، برئ الأصيل عند علمائنا؛

لأنّ الضمان عندنا ناقلٌ للدَّيْن من ذمّة الأصيل إلى ذمّة الضامن، و ليس للضامن أن يرجع على المضمون عنه إلاّ بما أدّاه، فإذا أُسقط الدَّيْن عنه لم يؤدّ شيئاً، فلم يرجع بشيء.

و لو تعدّد الضمناء على الترتيب بأن ضمن الدَّيْنَ ضامنٌ ثمّ ضمن الضامنَ ضامنٌ آخَر، فإذا أبرأ الضامنَ الأخير، برئ الأصيل و مَنْ تفرّع عليه عندنا؛ لما تقدّم.

و لو أبرأ المستحقّ للدَّيْن ذمّة الأصيل، لم يبرأ الضامن؛ لأنّ الحقّ سقط عن ذمّة الأصيل بالنسبة إلى صاحب الدَّيْن، فلا يصادف الإبراء استحقاقاً فلا يكون صحيحاً.

و لو أبرأ المستحقّ الضامنَ الأوسط، لم يبرأ الأخير.

و قال العامّة: إذا أبرأ المستحقُّ الأصيلَ، برئ الضمناء؛ لسقوط الحقّ، كما لو أدّى الأصيل الدَّيْنَ أو أحال مستحقَّ الدَّيْن على إنسان، أو أحال المستحقّ غريمه عليه. و كذا يبرأ ببراءة ضامن الضامن(1).

و لو أبرأ الضامنَ، لم يبرأ الأصيل عندهم؛ لأنّ إبراءه إسقاطٌ للوثيقة، و ذلك لا يقتضي سقوط أصل الدَّيْن كفكّ الرهن(2).

و هذا بناءً على بقاء الدَّيْن في ذمّة الأصيل، و قد بيّنّا بطلانه.

مسألة 527: لو ضمن الدَّيْن المؤجَّل فمات الأصيل و حلّ عليه الدَّيْن،

ص: 346


1- المهذّب - للشيرازي - 348:1، الوسيط 247:3، العزيز شرح الوجيز 172:5، روضة الطالبين 496:3، المغني 83:5، الشرح الكبير 73:5.
2- المهذّب - للشيرازي - 348:1، الوسيط 247:3، العزيز شرح الوجيز 172:5، روضة الطالبين 496:3-497.

لم يحل على الضامن؛ لأنّه حيّ يرتفق بالأجل، قاله أكثر الشافعيّة(1).

و قال بعضهم: يحلّ على الضامن أيضاً؛ لأنّه فرع على الأصيل(2).

و يحجر الحاكم من تركة الأصيل بقدر الدَّيْن، فإن تلف، ضمن الوارث، كما أنّ النماء له.

و لو أخّر المستحقّ المطالبةَ، كان للضامن أن يطالبه بأخذ حقّه من تركة الأصيل، و لا يجعل في يده؛ لأنّه إنّما يستحقّ أن يأخذ ما أدّى، و هو الآن لم يؤدّ شيئاً، بل يجعل في يد أمين أو في يد الورثة مع التضمين إن رأى الحاكم ذلك صلاحاً، أو يطالب المستحقّ بإبراء ذمّته؛ لأنّه قد تهلك التركة، فلا يجد مرجعاً إذا غرم.

و قال بعض الشافعيّة: ليس للضامن هذه المطالبة(3).

و ليس بجيّد؛ لأنّ الميّت عليه دَيْنٌ قطعاً لم تبرأ ذمّته منه بالكلّيّة، أقصى ما في الباب أنّ المال انتقل من ذمّته إلى ذمّة الضامن بالنسبة إلى المضمون له لا مطلقاً، و الديون على الميّت تحلّ قطعاً بلا خلاف، و ليس للمضمون له المطالبة بهذا الدَّيْن من التركة عندنا على ما تقدّم، فيبقى المطالب الضامن خاصّةً، لكنّ القبض على ما صوّرناه.

و لو مات الضامن، حلّ عليه الدَّيْن فإن أخذ المستحقّ المالَ من تركة الضامن، لم يكن لورثته الرجوعُ على المضمون عنه قبل حلول الأجل.

و قال زفر: إنّهم يرجعون عليه؛ لأنّه هو أدخلهم في ذلك مع علمه أنّه يحلّ بموته(1).

و هو غلط؛ لأنّ الدَّيْن مؤجَّل على المضمون عنه، فلا تجوز مطالبته5.

ص: 347


1- حلية العلماء 58:5، المغني 81:5، الشرح الكبير 94:5.

به قبل الأجل، و لم يدخله في الحال، بل في المؤجَّل، و حلوله بموته بسببٍ من جهته، فهو كما لو قضى قبل الأجل.

و قال بعض الشافعيّة: لا يحلّ على الضامن، كما لم يحل على الأصيل(1).

النظر الثاني: في مطالبة الضامن.
مسألة 528: إذا ضمن الضامن دَيْناً على رجل من آخَر، لم يثبت للضامن حقٌّ على الأصيل الذي هو المضمون عنه

إن كان قد تبرّع بالضمان، و ضمن بغير سؤالٍ من المضمون عنه؛ لأنّه لم يدخله في الضمان.

و ليس للضامن متبرّعاً مطالبة المضمون عنه بتخليصه من الضمان، بل يؤدّي المال، و لا يرجع به على أحد.

و إن لم يكن متبرّعاً بالضمان و ضمن بسؤال المضمون عنه، فهل يثبت للضامن حقٌّ عليه و يوجب علقةً بينهما؟ للشافعيّة وجهان:

أحدهما: أنّه يثبت؛ لأنّه اشتغلت ذمّته بالحقّ كما ضمن، فليثبت له عوضه على الأصيل.

و الثاني: لا يثبت؛ لأنّه لا يفوت عليه قبل الغُرْم شيء، فلا يثبت له شيء إلاّ بالغُرْم(2).

إذا عرفت هذا، فإن كان المضمون له يطالب الضامن بأداء المال، فهل للضامن مطالبة الأصيل بتخليصه ؟ قال أكثر الشافعيّة: نعم، كما أنّه يغرم إذا غرم(1)

ص: 348


1- العزيز شرح الوجيز 172:5-173، روضة الطالبين 497:3.

و قال القفّال: لا يملك مطالبته به(1) ، و هو الأقوى عندي؛ إذ الضامن إنّما يرجع بما أدّى، فقبل الأداء لا يستحقّ الرجوع، فلا يستحقّ المطالبة.

و إن كان المضمون له لم يطالب الضامن، فهل للضامن أن يطالب المضمون عنه بالتخليص ؟ للشافعيّة وجهان:

أحدهما: نعم، كما لو استعار عيناً ليرهنها و رهنها، فإنّ للمالك المطالبة بالفكّ. و لأنّ عليه ضرراً في بقائه؛ لأنّه قد يتلف مال المضمون عنه فلا يمكنه الرجوع عليه.

و أصحّهما عندهم: أنّه ليس له المطالبة؛ لأنّه لم يغرم شيئاً، و لا توجّهت عليه مطالبةٌ، و الضمان تعلّق بذمّته، و ذلك لا يُبطل شيئاً من منافعه، فإذا لم يطالَبْ لم يطالِبْ، بخلاف الرهن؛ فإنّ الرهن محبوس بالدَّيْن، و فيه ضررٌ ظاهر(2).

و معنى التخليص أن يؤدّي دَيْن المضمون له ليبرأ ببراءة الضامن.

قال ابن سريج: إذا قلنا: ليس له مطالبته بتخليصه، فللضامن أن يقول للمضمون له: إمّا أن تطالبني بحقّك، أو تبرئني(3).

مسألة 529: إذا ضمن بسؤاله، كان له الرجوع إذا غرم، و ليس له الرجوع قبل الغرم.

و للشافعيّة في أنّه هل يُمكَّن الضامن من تغريم الأصيل قبل أن يغرم ؟ وجهان؛ بناءً على الأصل المذكور، إن أثبتنا له حقّاً على الأصيل بمجرّد الضمان، فله أخذه، و إلاّ فلا(4)

ص: 349


1- العزيز شرح الوجيز 173:5.
2- العزيز شرح الوجيز 173:5، روضة الطالبين 497:3.
3- العزيز شرح الوجيز 173:5.
4- العزيز شرح الوجيز 173:5، روضة الطالبين 497:3.

إذا ثبت هذا، فإن أخذ الضامن من المضمون عنه عوضاً عمّا يقضي به دَيْن الأصيل قبل أن يغرم، الأقرب: أنّه لا يملكه؛ لجواز السقوط بالإبراء، فيكون للأصيل.

و للشافعيّة وجهان؛ بناءً على الأصل السابق(1).

و لو دفعه الأصيل ابتداءً من غير جبر و مطالبة، فإنّ الضامن لا يملكه كما قلناه أوّلاً، فعليه ردّه، و ليس له التصرّف فيه.

و لو هلك عنده، ضمن، كالمقبوض بالشراء الفاسد، على إشكالٍ، و هو أحد قولَي الشافعي.

و في الآخَر: يملكه، فله التصرّف فيه، كالفقير إذا أخذ الزكاة المعجَّلة، لكن لا يستقرّ ملكه إلاّ بالغُرْم، حتى لو أبرأه المستحقّ، كان عليه ردّ ما أخذ، كردّ الزكاة المعجَّلة إذا هلك المال قبل الحلول(2).

و لو دفعه إليه و قال: اقض به ما ضمنتَ عنّي، فهو وكيل الأصيل، و المال أمانة في يده.

مسألة 530: لا يجوز للضامن حَبْسُ الأصيل إذا

مسألة 530: لا يجوز للضامن حَبْسُ الأصيل إذا(1) حَبَس المضمونُ له الضامنَ،

و هو أصحّ قولَي الشافعي.

و الثاني - و به قال أبو حنيفة - للضامن حبس المضمون عنه؛ بناءً على إثبات العلاقة بين الضامن و الأصيل(2).

و ليس بجيّد.

و لو أبرأ الضامنُ الأصيلَ عمّا سيغرم، لم يصح الإبراء؛ لأنّه إبراء ممّا

ص: 350


1- في «ث» و الطبعة الحجريّة: «لو» بدل «إذا».
2- التهذيب - للبغوي - 172:4، العزيز شرح الوجيز 173:5، روضة الطالبين 497:3-498.

لم يجب و عمّا يتجدّد، و الإبراء إسقاطٌ يستلزم الثبوت قبل الإبراء.

و قال الشافعي: إن أثبتنا العلاقة بين الضامن و المضمون عنه في الحال، صحّ الإبراء، و إلاّ خرج على الإبراء عمّا لم يجب و وُجد سبب وجوبه(1).

و لو صالح الضامن الأصيل عن العشرة التي سيغرمها على خمسة، لم يصح.

و قالت الشافعيّة: إن أثبتنا العلاقة في الحال، صحّ الصلح كأنّه(2) أخذ عوض بعض الحقّ و أبرأ عن الباقي، و إلاّ لم يصح(3).

و لو ضمن ضامن عن الأصيل للضامن بما ضمن، احتُمل صحّة الضمان؛ لأنّ حقّ الضامن و إن لم يكن ثابتاً إلاّ أنّ سبب ثبوته موجود.

و بطلانُه.

و لو رهن الأصيل عند الضامن شيئاً بما ضمن، ففي الصحّة إشكال.

و المنع في هذه المسائل كلِّها عند الشافعيّة أصحُّ الوجهين(4).

و لو شرط في ابتداء الضمان أن يعطيه الأصيل ضامناً، ففي صحّة الشرط للشافعيّة الوجهان، إن صحّ فإن أدّى الضامن و أعطاه ضامناً، فذاك، و إلاّ فله فسخ الضمان. و إن فسد، فسد به الضمان على أصحّ الوجهين(3).

النظر الثالث: في الرجوع.
مسألة 531: مَنْ كان عليه دَيْنٌ فأدّاه غيره عنه تبرّعاً بغير إذنه

من غير

ص: 351


1- العزيز شرح الوجيز 173:5، روضة الطالبين 498:3.
2- في «ث»: «لأنّه» بدل «كأنّه». (3 و 4) العزيز شرح الوجيز 173:5، روضة الطالبين 498:3.
3- العزيز شرح الوجيز 173:5-174، روضة الطالبين 498:3.

ضمان، لم يكن له الرجوع به؛ لأنّه متبرّع بفعله، بخلاف ما لو أوجر طعامَه المضطرَّ، فإنّه يرجع عليه و إن لم يأذن المضطرّ؛ لأنّه ليس متبرّعاً بذلك، بل يجب عليه إطعام المضطرّ استبقاءً لمُهْجته، و يخالف الهبة؛ فإنّ في اقتضائها الثواب خلافاً يأتي؛ لأنّ الهبة متعلّقة باختيار المتّهب، و لا اختيار للمديون هنا، و به قال الشافعي(1).

و قال مالك: إنّه يثبت له الرجوع، إلاّ إذا أدّى العدوّ دَيْن العدوّ، فإنّه يتّخذه ذريعةً إلى إيذائه بالمطالبة(2).

و إن أدّاه بإذن المديون، فإن [جرى بينهما](3) شرط الرجوع، ثبت الرجوع.

و إن لم يَجْر شرط الرجوع بينهما، ففي الرجوع إشكال ينشأ: من أنّه لم يوجد منه سوى الإذن في الأداء، و ذلك لا يستلزم الرجوع؛ إذ ليس من ضرورة الأداء الرجوع؛ لانتفاء الدلالات الثلاث في الأداء على الرجوع.

و من أنّ العادة قاضية في المعاملات بأنّ الرجوع تابع للإذن في الأداء، و الدافع جرى في ذلك على قانون العادات.

و الثاني أصحّ وجهي الشافعيّة(4).

قال بعض الشافعيّة: يقرب هذا الخلاف من الخلاف في أنّ الهبة5.

ص: 352


1- الوسيط 251:3، العزيز شرح الوجيز 174:5، روضة الطالبين 498:3، منهاج الطالبين: 130، مختصر اختلاف العلماء 1979/261:4.
2- المدوّنة الكبرى 255:5 و 218، بداية المجتهد 298:2، الكافي في فقه أهل المدينة: 399، العزيز شرح الوجيز 174:5، مختصر اختلاف العلماء 1979/261:4.
3- ما بين المعقوفين يقتضيه السياق.
4- العزيز شرح الوجيز 174:5.

المطلقة هل تقتضي الثواب و ترتيبه عليه ؟ و الحكم بالرجوع أولى من الحكم بالثواب ثَمَّ؛ لأنّ الهبة مصرّحة بالتبرّع، و الأداء بخلافه. و لأنّ الواهب مبتدئ بالتبرّع، و الأداء هاهنا مسبوق بالاستدعاء الذي هو كالقرينة المشعرة بالرجوع(1).

و أيضاً في الهبة قولٌ فارق بين أن يكون الواهب ممّن يطمع مثله في ثواب المتّهب، أو لا يكون، فخرج وجه ثالث للشافعيّة(2) مثله هنا.

مسألة 532: إذا كان عليه دَيْنٌ فضمنه ضامنٌ عنه و يؤدّي المال عنه إلى المضمون له، فأقسامه أربعة:

الأوّل: أن يضمن بإذن الأصيل و يؤدّي بإذنه.

الثاني: أن يضمن متبرّعاً من غير سؤالٍ، و يؤدّي كذلك.

الثالث: أن يضمن متبرّعاً، و يؤدّي بسؤالٍ.

الرابع: أن يضمن بسؤالٍ، و يؤدّي متبرّعاً.

فالأوّل يرجع الضامن فيه على المضمون عنه، سواء قال له المضمون عنه: اضمن عنّي، أو أدِّ عنّي، أو أطلق و قال: اضمن و أدِّ، عند علمائنا أجمع - و به قال الشافعي و مالك و أحمد و أبو يوسف(1) - لأنّه صرف ماله إلى منفعته بأمره، فأشبه ما لو قال: اعلف دابّتي، فعلفها. و لأنّه ضمن بإذنه و دفع بإذنه، فأشبه ما إذا كان مخالطاً له، أو قال: اضمن عنّي.

و قال أبو حنيفة و محمّد: إنّما يرجع إذا قال: اضمن عنّي و أدِّ عنّي،

ص: 353


1- الحاوي الكبير 438:6، المهذّب - للشيرازي - 349:1، حلية العلماء 62:5، التهذيب - للبغوي - 171:4، العزيز شرح الوجيز 174:5، روضة الطالبين 498:3، الكافي في فقه الإمام أحمد 131:2 و 132، المغني 86:5، الشرح الكبير 88:5.

و لو لم يقل: أدِّ عنّي، لم يرجع، إلاّ أن يكون مخالطاً له يستقرض منه و يودع عنده، أو يكون مخالطاً له بشركة أو زوجيّة أو نحوهما؛ لأنّه إذا قال: اضمن عنّي و أدِّ عنّي، كان قوله هذا إقراراً منه بالحقّ، و إذا أطلق ذلك، صار كأنّه قال: هب لهذا أو تطوّع عليه، و إذا كان مخالطاً له، رجع - استحساناً - لأنّه قد يأمر مخالطه بالنقد عنه(1).

و ليس بصحيح؛ لأنّه إذا أمره بالضمان، لا يكون إلاّ لما هو عليه؛ لأنّ أمره إنّما يكون بذلك، و أمره بالنقد بعد ذلك ينصرف إلى ما ضمنه بدليل المخالطة له، فيجب عليه أداء ما أدّى عنه، كما لو صرّح به، و ليس هذا أمراً بالهبة.

هذا إذا عرف من الإطلاق إرادة الضمان عنه، و لو لم يعرف ذلك و لا وُجد قرينة تدلّ عليه، فالوجه: ما قاله أبو حنيفة و محمّد.

مسألة 533: لا فرق في ثبوت الرجوع بين أن يشترط الرجوع أو لا يشترط،

و به قال أكثر الشافعيّة(2).

و قال الجويني: يحتمل في القياس أن ينزّل الإذن في الضمان و الأداء منزلة الإذن في الأداء من غير ضمان حتى نقول: إن شرط الرجوع، ثبت له الرجوع، و إلاّ فلا، كما في الإذن في الأداء من غير سبق ضمان، و إن لم يشترط، فعلى الخلاف(3).

و المعتمد ما قلناه.

مسألة 534: لو تبرّع بالضمان و الأداء معاً،

فإنّه لا يرجع الضامن على

ص: 354


1- حلية العلماء 62:5-63، العزيز شرح الوجيز 175:5، المغني 86:5، الشرح الكبير 88:5.
2- الوسيط 251:3، العزيز شرح الوجيز 175:5، روضة الطالبين 498:3.
3- العزيز شرح الوجيز 175:5، روضة الطالبين 498:3.

المضمون عنه بما أدّاه، عند علمائنا كافّة - و به قال الشافعي و أبو حنيفة و ابن المنذر و أحمد في إحدى الروايتين(1) - لحديث عليّ عليه السلام و أبي قتادة(2) ، لأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله صلّى على الميّتين بعد ضمانهما ما عليهما، و لو كان لهما الرجوع لما صلّى؛ لبقاء الدَّيْن في ذمّتهما. و لأنّه صلى الله عليه و آله قال:

«الآن برّدت جلده عن النار»(3) و لو بقي الدَّيْن لما حصل التبريد. و لأنّه لو بقي الدَّيْن لما قال لعليّ عليه السلام: «جزاك اللّه عن الإسلام خيراً، فكّ اللّه رهانك كما فككت رهان أخيك»(4)الإشراف على نكت مسائل الخلاف 1013/601:2، الإشراف على مذاهب أهل العلم 124:1، حلية العلماء 62:5، الكافي في فقه الإمام أحمد 132:2، المغني 88:5، الشرح الكبير 89:5.(5) و لو لا براءة الذمّة لما حصل فكّ الرهان.

و لأنّه تبرّع بذلك، فلا يرجع عليه، كما لو علف دوابّه و أطعم عبيده بغير إذنه.

و قال مالك و أحمد في الرواية الثانية: إنّه يرجع بما أدّى - و هو قول عبيد اللّه بن الحسن و إسحاق - لأنّه قضاء مبرئ من دَيْنٍ واجب، فكان من ضمان مَنْ هو عليه، كالحاكم إذا قضاه عنه عند امتناعه. و لأنّ الضمان بغير إذنه صحيح، فإذا لزمه الدفع عنه، رجع عليه، كما لو كان بأمره(5)5.

ص: 355


1- الحاوي الكبير 437:6-438، المهذّب - للشيرازي - 349:1، حلية العلماء 62:5، التهذيب - للبغوي - 171:4-172، الإشراف على مذاهب أهل العلم 124:1، الإشراف على نكت مسائل الخلاف 1013/601:2، الوسيط 251:3، العزيز شرح الوجيز 175:5، روضة الطالبين 499:3، الهداية - للمرغيناني - 91:3، الاختيار لتعليل المختار 274:2، مختصر اختلاف العلماء 1979/261:4، الكافي في فقه الإمام أحمد 132:2، المغني 88:5، الشرح الكبير 89:5.
2- راجع المصادر في الهامش (5 و 6) من ص 281، و الهامش (1) من ص 282.
3- راجع المصادر في الهامش (1) من ص 343.
4- راجع المصادر في الهامش
5- من ص 281.

و الفرق بين الضامن و الحاكم ظاهر؛ لأنّ للحاكم الاستدانة عن الممتنع و الدفع، بخلاف الضامن. و الفرق بين الأمر بالضمان و الأداء و عدمه ظاهر، فلا يصحّ القياس.

مسألة 535: لو ضمن متبرّعاً بغير سؤالٍ، و أدّى المال بالسؤال، لا يرجع هنا أيضاً،

عند علمائنا - و هو أظهر وجهي الشافعيّة(1) - لأنّ الدَّيْن لزمه بتبرّعه، فإنّ اللزوم باعتبار الضمان و لم يأذن فيه، و أمره بالقضاء انصرف إلى ما وجب عليه بالضمان، كما لو أمره بقضاء دَيْنه الذي وجب عليه بالأصالة، و كما لو أذن غير المضمون عنه.

و للشافعي(2) وجهٌ آخَر: أنّه يرجع عليه - و به قال أحمد - لأنّه دفع بأمره، فأشبه ما إذا ضمن بأمره و ما إذا لم يكن ضامناً. و لأنّه أسقط الدَّيْن عن الأصيل بإذنه(3).

و ليس بصحيح؛ لأنّه لا يملك مطالبته بفكّه، فلا يرجع عليه إذا فكّ نفسه. و الفرق بين ما إذا ضمن بإذنه و بغير إذنه ظاهرٌ، فلا يصحّ القياس.

و الحكم في غير الضامن ممنوع على ما تقدّم. و إسقاط الدَّيْن مستند إلى الضمان الذي تبرّع به، و الإذن إنّما كان في إسقاط الدَّيْن عن الضامن، لا عنه.

ص: 356


1- الحاوي الكبير 438:6، المهذّب - للشيرازي - 349:1، الوسيط 252:3، حلية العلماء 61:5، التهذيب - للبغوي - 172:4، العزيز شرح الوجيز 175:5، روضة الطالبين 499:3، المغني 87:5، الشرح الكبير 89:5.
2- كذا، و الظاهر: «و للشافعيّة».
3- الحاوي الكبير 438:6، المهذّب - للشيرازي - 349:1، الوسيط 252:3، حلية العلماء 61:5، التهذيب - للبغوي - 172:4، العزيز شرح الوجيز 175:5، روضة الطالبين 499:3، المغني 87:5-88، الشرح الكبير 89:5.

و بعض الشافعيّة رتَّب الوجهين على الوجهين فيما إذا أدّى دَيْن الغير بإذنه من غير ضمانٍ و من غير شرط الرجوع.

قال: و هذه الصورة أولى بمنع الرجوع؛ لأنّ الإذن في الأداء بعد اللزوم بالضمان في حكم اللغو.

و ذكر احتمالين فيما إذا أذن في الأداء بشرط الرجوع و الحالة هذه:

أحدهما: يرجع، كما لو أذن في الأداء بهذا الشرط من غير ضمانٍ.

و الثاني: أنّ الأداء مستحقّ بالضمان، و المستحقّ بلا عوض لا يجوز أن يقابَل بعوضٍ، كسائر الحقوق الواجبة(1).

مسألة 536: لو ضمن بسؤالٍ و أدّى بغير سؤالٍ و لا إذن، فإنّه يرجع الضامن عليه،

عند علمائنا - و به قال مالك و أحمد و الشافعي في أحد الوجوه(2) - لأنّ الضامن لم يتبرّع بالضمان، بل نقل المال إلى ذمّته غيرَ متبرّعٍ، بل بسؤال المضمون عنه، و الأصل في الباب الالتزام و قد صادفه الإذن فيكتفى به في الرجوع. و لأنّ إذنه في الضمان يتضمّن الإذن في الأداء؛ لأنّ الضمان يوجب عليه الأداء، فكان له الرجوع عليه، كما لو أذن في الأداء.

و الثاني للشافعي: لا يرجع؛ لأنّ الغرم حصل بغير إذن الأصيل، و ربما لم يقصد إلاّ التوثيق بالضمان. و لأنّه دفع بغير أمره، فكان كما لو ضمن بغير أمره(3)

ص: 357


1- العزيز شرح الوجيز 175:5، روضة الطالبين 499:3.
2- الحاوي الكبير 438:6، حلية العلماء 61:5، المهذّب - للشيرازي - 349:1، العزيز شرح الوجيز 175:5، روضة الطالبين 499:3، المغني 87:5، الشرح الكبير 88:5.
3- الحاوي الكبير 438:6، حلية العلماء 61:5، العزيز شرح الوجيز 175:5، روضة الطالبين 499:3، المغني 87:5، الشرح الكبير 88:5.

و قصد التوثيق يستلزم قصد الأداء عنه؛ لأنّ الضمان عندنا ناقل.

و القياس باطل؛ للفرق، و هو ما تقدّم من أنّ الأصل في الالتزام إنّما هو الضمان لا الأداء.

و الثالث: إن أدّى من غير مطالبة أو عن مطالبةٍ لكن أمكنه مراجعة الأصيل و استئذانه فلم يفعل، لم يثبت له الرجوع؛ لأنّه لم يكن مضطرّاً إلى الأداء عنه، فكان متبرّعاً به. و إن لم يتمكّن من مراجعته لغيبةٍ أو حبسٍ أو غير ذلك، فله الرجوع(1).

و الحقّ ما تقدّم من وجوب المال بالضمان المأذون فيه، و أنّه لا عبرة بالأداء.

و كذا لو وكّله في أن يشتري عبداً له بألف فاشتراه، فإنّ الوكيل يطالب بالثمن، فإن أدّى من ماله، فإنّه يرجع عندنا إذا لم يكن البائع عالماً بالوكالة.

و للشافعيّة الوجوه الثلاثة فيه(2).

مسألة 537: لو أحال الضامن المضمون له بالدَّيْن - الذي ضمنه - على إنسان و قَبِل المحتال و المحال عليه الحوالةَ، كان كالأداء

في صورة الرجوع له على المضمون عنه في كلّ موضعٍ ثبت له الرجوع فيه، و عدمِه في موضع العدم.

و لو أحال ربّ المال غريماً له على الضامن بالمال الذي ضمنه له فقَبِل الضامن الحوالةَ عليه، كان كالأداء أيضاً يرجع فيما يرجع في الأداء.

ص: 358


1- المهذّب - للشيرازي - 349:1، حلية العلماء 61:5، العزيز شرح الوجيز 176:5، روضة الطالبين 499:3، المغني 87:5، الشرح الكبير 88:5.
2- المهذّب - للشيرازي - 360:1-361، حلية العلماء 62:5 و 135.

و لو تصالح المضمون له و الضامن [عن](1) مال الضمان على عوضٍ، كان كالأداء أيضاً.

و لو صار الدَّيْن ميراثاً للضامن، كان كالأداء في ثبوت الرجوع و عدمه.

النظر الرابع: فيما به يرجع الضامن.
مسألة 538: إذا دفع الضامن المالَ إلى ربّه و كان قد ضمن بسؤال المضمون عنه و كان المدفوع من جنس الدَّيْن و على صفته، رجع به.

و إن اختلف الجنس، فالمأذون له في الضمان لو صالَح ربَّ الدَّيْن على غير جنسه، رجع إجماعاً؛ لأنّ الضمان سبب لإثبات الحقّ في ذمّته ثبوتَه في ذمّة الأصيل، و المصالحة معاملة مبنيّة عليه.

ثمّ يُنظر إن كانت قيمة المصالَح عليه أكثر من قدر الدَّيْن، لم يرجع بالزيادة؛ لأنّه متطوّع بها.

و إن كانت أقلّ - كما لو صالح عن ألف على عبدٍ يساوي ستمائة - لم يرجع إلاّ بستمائة لا غير - و هو أصحّ وجهي الشافعيّة(2) - لما رواه عمر ابن يزيد عن الصادق عليه السلام في رجل ضمّن على رجل ضماناً ثمّ صالح عليه، قال: «ليس له إلاّ الذي صالح عليه»(3).

و عن ابن بكير قال: سألت الصادقَ عليه السلام: عن رجل ضمن عن رجل ضماناً ثمّ صالح على بعض ما عليه، قال: «ليس له عليه إلاّ الذي صالح عليه»(4)

ص: 359


1- بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «على». و الظاهر ما أثبتناه.
2- الوسيط 254:3، الوجيز 168:1، العزيز شرح الوجيز 177:5، روضة الطالبين 500:3.
3- الكافي 7/259:5، التهذيب 490/210:6.
4- التهذيب 489/210:6.

و لأنّه لم يغرم سواها.

و به قال أحمد(1).

و الثاني: أنّه يرجع بالألف؛ لأنّه قد حصّل براءة ذمّته بما فَعَل، و مسامحة ربّ الدَّيْن جرت معه(2).

و لو باع العبد بألف و تقاصّا، احتُمل الرجوع بالألف؛ لأنّه ثبت في ذمّته ألف، و قيمةِ العبد؛ لأنّ الضمان وُضع للارتفاق.

و الشافعيّة على الأوّل خاصّة(3).

مسألة 539: لا فرق بين أن يدفع الأقلّ أو الأكثر في القدر أو الوصف فيما ذكرنا،

فلو ضمن ألفاً مكسّرة و دفع ألفاً صحيحة، لم يكن له الرجوع إلاّ بالمكسّرة؛ لأنّه تبرّع بالزيادة، فلا يرجع بها.

و لو انعكس الفرض، فضمن ألفاً صحيحة و أدّى ألفاً مكسّرة، لم يكن له الرجوع بالصحيحة إلاّ بالمكسّرة؛ لأنّه إنّما يرجع بما غرم و بالأقلّ من المغروم و المال.

و للشافعيّة فيما إذا أدّى الضامن [غير](4) الأجود قولان:

أحدهما: أنّ فيه الخلاف المذكور في اختلاف الجنس.

و الثاني: القطع بأنّه يرجع بما أدّى(5)

ص: 360


1- المغني و الشرح الكبير 89:5، الكافي في فقه الإمام أحمد 132:2.
2- نفس المصادر في الهامش (2) من ص 359.
3- العزيز شرح الوجيز 177:5، روضة الطالبين 500:3.
4- ما بين المعقوفين أضفناه لاقتضاء ما في المصدر له، حيث إنّ القولين للشافعيّة في الأداء من غير الأجود.
5- الحاوي الكبير 439:6، التهذيب - للبغوي - 174:4، العزيز شرح الوجيز 177:5، روضة الطالبين 500:3.

و الفرق أنّ غير الجنس يقع عوضاً، و المكسّرة لا تقع عوضاً عن الصحاح، و لا يبقى إلاّ رعاية حكم الإيفاء و الاستيفاء.

مسألة 540: لو ضمن ألفاً و دفع إليه عبداً قيمته ستمائة، فقال للمضمون له: بعتُ منك هذا العبد بما ضمنته لك عن فلان، ففي صحّة البيع وجهان للشافعيّة

(1) .

فإن صحّحنا البيع، رجع بالأقلّ - عندنا - من المال المضمون و من قيمة العبد، و هو أحد وجهي الشافعيّة.

و في الثاني: يرجع بما ضمنه(2).

و لو لم يضمن، بل أذن له المديون في الأداء بشرط الرجوع لو صالَح ربّ الدَّيْن على غير جنسه، فهل له الرجوع أو لا؟ للشافعيّة ثلاثة أوجُه:

أصحّها عندهم: أنّ له الرجوعَ؛ لأنّ مقصوده أن يبرئ ذمَّتَه و قد فَعَل.

و ثانيها: ليس له الرجوع؛ لأنّه إنّما أذن في الأداء دون المصالحة.

و ثالثها: الفرق بين أن يقول: أدِّ ما علَيَّ من الدنانير - مثلاً - فلا يرجع، و بين أن يقتصر على قوله: أدِّ دَيْني، أو ما علَيَّ، فيرجع، و يرجع بما سبق في الضامن(1).

مسألة 541: لو ضمن عشرة و أدّى خمسة و أبرأه ربُّ المال عن الباقي، لم يرجع الضامن إلاّ بالخمسة التي غرمها،

و تسقط الخمسة الأُخرى عن الأصيل عندنا؛ لأنّ إبراء الضامن يستلزم إبراء المضمون عنه، خلافاً للجمهور؛ فإنّهم قالوا: تبقى الخمسة في ذمّة الأصيل يطالب بها المضمون له؛ لأنّ إبراء الضامن لا يوجب براءة الأصيل(2)

ص: 361


1- الوسيط 251:3، العزيز شرح الوجيز 176:5، روضة الطالبين 500:3.
2- العزيز شرح الوجيز 177:5، روضة الطالبين 501:3.

و لو صالحه من العشرة على خمسة، لم يرجع إلاّ بالخمسة أيضاً، لكن يبرأ الضامن و الأصيل عن الباقي و إن كان صلح الحطيطة إبراءً في الحقيقة عند الشافعيّة؛ لأنّ لفظ الصلح يشعر برضا المستحقّ بالقليل عن الكثير، بخلاف ما إذا صرّح بلفظ الإبراء عندهم(1).

و اعترض بعض الشافعيّة: بأنّ [لفظ](2) الصلح يتضمّن الرضا بالقليل ممّن يجري الصلح معه، أم على الإطلاق ؟ الأوّل مسلَّم، و الثاني ممنوع، و لم يتّضح لهم الجواب(3).

و لو أدّى الضامن جميع الدَّيْن و لم يُبرئه المضمون له من شيء منه، لكن وهبه الدَّيْن بعد دفعه(4) إليه، فالأقرب: أنّ له الرجوع.

و فيه للشافعيّة وجهان مبنيّان على القولين [فيما لو وهبت المرأة](5) الصداق من الزوج ثمّ طلّقها قبل الدخول(6). و سيأتي إن شاء اللّه تعالى.

مسألة 542: لو ضمن ذمّيٌّ لذمّيٍّ دَيْناً عن مسلمٍ ثمّ تصالحا على خمر، فهل يبرأ المسلم أم لا؟ يحتمل البراءة؛

لأنّ المصالحة بين الذمّيّين، و أن لا يبرأ، كما لو دفع الخمر بنفسه.

و فيه للشافعيّة وجهان، فإن قالوا بالأوّل، ففي رجوع الضامن على

ص: 362


1- العزيز شرح الوجيز 177:5.
2- ما بين المعقوفين من المصدر.
3- العزيز شرح الوجيز 177:5.
4- في «ث، ج، ر»: «الدفع» بدل «دفعه».
5- بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «كما لو وهب». و الصحيح ما أثبتناه كما في المصادر.
6- الحاوي الكبير 439:6، المهذّب - للشيرازي - 349:1، الوسيط 248:3، حلية العلماء 63:5، التهذيب - للبغوي - 173:4، العزيز شرح الوجيز 178:5-179، روضة الطالبين 502:3.

المسلم وجهان، إن اعتبروا بما أدّى، لم يرجع بشيء، و إن اعتبروا بما أسقط، يرجع بالدَّيْن(1).

و الوجه عندي: أنّ المضمون عنه يؤدّي أقلّ الأمرين من قيمة الخمر عند مستحلّيه، و من الدَّيْن الذي ضمنه.

مسألة 543: لو ضمن الضامنَ ضامنٌ آخَر، انتقل المال من ذمّة الضامن الأوّل إلى ذمّة الثاني،

و سقطت مطالبة المضمون له عن الأصيل و الضامن الأوّل عند علمائنا و جماعةٍ تقدّم(2) ذكرهم.

و قال أكثر العامّة: لا ينتقل، بل تبقى الذمم الثلاث مشتركة، و يصحّ الضمان؛ لأنّ الحقّ ثابت في ذمّة الضامن، كما هو ثابت في ذمّة الأصيل، فإذا جاز أن يضمن عن الأصيل جاز أن يضمن عن الضامن(3).

لا يقال: الضمان وثيقة على الحقّ، فلا يجوز أن يكون له وثيقة، كما لا يجوز أن يأخذ رهناً بالرهن.

لأنّا نقول: الفرق: أنّ الضمان حقٌّ ثابت في الذمّة، و الرهن حقٌّ متعلّق بالعين، و الرهن لا يصحّ بحقٍّ متعلّقٍ بالعين، فافترقا.

فإن أدّى الثاني، فرجوعه على الضامن الأوّل كرجوع الضامن الأوّل على الأصيل، فيراعى الإذن و عدمه.

و إذا لم يكن له الرجوع على الأوّل، لم يثبت بأدائه الرجوع للأوّل على الأصيل؛ لأنّ الضامن إنّما يرجع بما أدّى و غرم، و الضامن الأوّل لم يغرم شيئاً، فلا يكون له مطالبته بشيء.

ص: 363


1- الوسيط 254:3، التهذيب - للبغوي - 174:4، العزيز شرح الوجيز 177:5، روضة الطالبين 501:3.
2- في ص 342، النظر الأوّل من البحث الرابع: في أحكام الضمان.
3- المغني 83:5-84، الشرح الكبير 82:5، و راجع الهامش (2) من ص 344.

و لو ثبت له الرجوع على الأوّل فرجع عليه، كان للأوّل الرجوع على الأصيل إذا وجد شرط الرجوع.

و لو أراد الثاني أن يرجع على الأصيل و يترك الأوّل، فإن كان الأصيل قد قال له: اضمن عن ضامني، ففي رجوعه عليه للشافعيّة وجهان(1) ، كما لو قال الإنسان: أدِّ دَيْني، فأدّى، و ليس هذا كقول القائل لغيره: اقض دَيْن فلان، ففَعَل، حيث لا يرجع على الآمر؛ لأنّ الحقّ لم يتعلّق بذمّته.

و إن لم يقل له: اضمن عن ضامني، فإن كان الحال بحيث لا يقتضي رجوع الأوّل على الأصيل، لم يرجع الثاني عليه.

و إن كان يقتضيه، فكذلك على أصحّ الوجهين عندهم؛ لأنّه لم يضمن عن الأصيل(2).

و الوجه عندي: أنّه ليس للثاني أن يرجع على الأصيل على كلّ تقدير، إلاّ أن يقول: اضمن عن ضامني و لك الرجوع علَيَّ.

و لو ضمن الثاني عن الأصيل أيضاً، لم يصح الضمان عندنا إن ضمن للمضمون له؛ إذ لا مطالبة للمضمون له، فيكون في الحقيقة ضمان ما لم يجب، و لا يتحقّق سبب الوجوب. و إن ضمن للضامن، فالأقوى:

الجواز؛ لوجود سبب الوجوب.

و عند أكثر العامّة يصحّ ضمان الثاني عن الأصيل؛ لشغل ذمّته و ذمّة الضامن الأوّل معاً، فتتشارك الذمم الثلاث في الشغل، فحينئذٍ لا يرجع أحد الضامنين على الآخَر، و إنّما يرجع المؤدّي على الأصيل(3)5.

ص: 364


1- التهذيب - للبغوي - 181:4، العزيز شرح الوجيز 178:5، روضة الطالبين 501:3.
2- العزيز شرح الوجيز 178:5، روضة الطالبين 501:3.
3- حلية العلماء 64:5، التهذيب - للبغوي - 182:4، العزيز شرح الوجيز 178:5، روضة الطالبين 501:3، المغني 85:5، الشرح الكبير 73:5.

و لو ضمن عن الأوّل و الأصيل جميعاً، لم يصح ضمانه عن الأصيل عندنا.

و عندهم يصحّ، فإن أدّى، كان له أن يرجع على أيّهما شاء، و أن يرجع بالبعض على هذا و بالبعض على ذاك. ثمّ للأوّل الرجوع على الأصيل بما غرم إذا وجد شرط الرجوع(1).

مسألة 544: لو كان لرجلٍ على اثنين عشرةٌ على كلّ واحدٍ منهما خمسةٌ فضمن كلّ واحدٍ منهما صاحبَه،

فإن أجاز المضمون له الضمانَ، لم يُفد الضمان شيئاً عندنا في باب المطالبة؛ لأنّ الضمان عندنا ناقل، فإذا ضمن كلّ واحدٍ منهما الآخَر، فقد انتقل ما على كلّ واحدٍ منهما إلى الآخَر و كانا في الدَّيْن كما كانا قبل الضمان، إلاّ أنّه يستفاد بالضمان صيرورة المال الأصلي في ذمّة كلّ واحدٍ منهما منتقلاً إلى ذمّة الآخَر.

و لا نقول: إنّه يبطل الضمان من أصله؛ لأنّه قد يستفاد منه فائدة، و هي: لو أدّى أحد الضامنين عن مال الضمان بعضَه ثمّ أبرأه صاحب الدَّيْن من الباقي، لم يكن له الرجوع على المضمون عنه إلاّ بما أدّاه.

و إن لم يأذن لهما المضمون له بالضمان فضمنا، فإن رضي بضمان أحدهما خاصّةً، كان الدَّيْنان معاً عليه، و لم يبق له مطالبة الآخَر، لكنّ الضامن يرجع على الآخَر إن ضمن بإذنه، و إلاّ فلا.

و عند أكثر العامّة يصحّ ضمان كلٍّ منهما عن صاحبه، و يبقى كلّ الدَّيْن مشتركاً في ذمّتهما معاً على ما هو أصلهم، فلربّ المال - عندهم - أن يطالبهما معاً و مَنْ شاء منهما بالعشرة، فإن أدّى أحدهما جميعَ العشرة، برئا

ص: 365


1- التهذيب - للبغوي - 182:4، العزيز شرح الوجيز 178:5، روضة الطالبين 501:3-502.

معاً، و للمؤدّي الرجوع بخمسة إن وجد شرط الرجوع. و إن أدّى كلّ واحدٍ منهما خمسةً عمّا عليه، فلا رجوع، فإن أدّاها عن الآخَر، فلكلّ واحدٍ الرجوعُ على الآخَر. و يجيء خلاف التقاصّ.

و إن أدّى أحدهما خمسةً و لم يؤدّ الآخَر شيئاً، فإن أدّاها عن نفسه، برئ المؤدّي عمّا كان عليه و صاحبُه عن ضمانه، و بقي على صاحبه ما كان عليه، و المؤدّي ضامن له.

و إن أدّاها عن صاحبه، رجع عليه بالمغروم، و بقي عليه ما كان عليه(1) ، و صاحبه ضامن له.

و إن أدّاها عنهما، فلكلٍّ نصفُ حكمه(2).

و إن أدّى و لم يقصد شيئاً، فوجهان عندهم(3): التقسيط عليهما؛ لأنّه لو عيّنه عن كلّ واحدٍ منهما، وَقَع، فإذا أطلق اقتضى أن يكون بينهما؛ لاستوائهما فيه. و أن يقال: اصرفه إلى ما شئت، كما لو أعتق عبده عن كفّارته و كان عليه كفّارتان، كان له تعيين العتق عن أيّهما شاء. و كذا في زكاة المالَيْن.

و من فوائده أن يكون بنصيب أحدهما رهنٌ، فإذا قلنا: له صرفه إلى ما شاء، فصَرَفه إلى نصيبه، انفكّ الرهن، و إلاّ فلا.

و لو اختلفا فقال المؤدّي: أدّيتُ عمّا علَيَّ، فقال ربّ المال: بل أدّيتَ عن صاحبك، فالقول قول المؤدّي مع يمينه، و إنّما أحلفناه؛ لأنّه قد3.

ص: 366


1- كلمة «عليه» لم ترد في «ر، ث».
2- الحاوي الكبير 446:6، التهذيب - للبغوي - 182:4، العزيز شرح الوجيز 179:5، روضة الطالبين 502:3-503.
3- الحاوي الكبير 447:6، التهذيب - للبغوي - 183:4، العزيز شرح الوجيز 179:5، روضة الطالبين 503:3.

يتعلّق بهذا فوائد، و إن كان قد يستحقّ المطالبة بالكلّ؛ لأنّه قد يكون ثمناً، فإذا أفلس، رجع في المبيع، و يسقط أيضاً عن صاحبه، فإذا حلف، برئ عمّا كان عليه، و لربّ المال مطالبته بخمسة؛ لأنّه إن كان صادقاً، فالأصل باقٍ عليه. و إن كان كاذباً، فالضمان باقٍ.

و قال بعض الشافعيّة: لا مطالبة له؛ لأنّه إمّا أن يطالب عن جهة الأصالة و قد حكم الشرع بتصديق المؤدّي في البراءة عنها، أو عن جهة الضمان و قد اعترف ربّ المال بأنّه أدّى عنها.

هذا حكم الأداء، أمّا لو أبرأ ربّ الدَّيْن أحدهما عن جميع العشرة، برئ أصلاً و ضماناً عندهم، و برئ الآخَر عن الضمان دون الأصيل عندهم؛ لأنّ الدَّيْن عندهم لا يسقط عن المضمون عنه بسقوطه عن الضامن.

و عندنا يسقط.

و لو أبرأ أحدهما عن خمسة، فإن أبرأه عن الأصيل، برئ عنه و برئ صاحبه عن ضمانه، و بقي عليه ضمان ما على صاحبه. و إن أبرأه عن الضمان، برئ عنه، و بقي عليه الأصلُ، و بقي على صاحبه الأصلُ و الضمان.

و إن أبرأه من الخمسة عن الجهتين(1) جميعاً، سقط عنه نصف الأصل و نصف الضمان، و عن صاحبه نصفُ الضمان، و يبقى عليه الأصلُ و نصفُ الضمان فيطالبه بسبعة و نصف، و يطالب المبرأ عنه بخمسة.

و إن لم يَنْوِ عند الإبراء شيئاً، فيُحمل على النصف، أو يُخيّر ليصرف إلى ما شاء؟ فيه الوجهان.

و لو قال المبرئ: أبرأت عن الضمان، و قال المبرأ عنه: بل عن الأصل، فالقول قول المبرئ(2)3.

ص: 367


1- أي: جهتا الأصالة و الضمان.
2- العزيز شرح الوجيز 179:5، روضة الطالبين 503:3.

هذا كلّه على مذهب الشافعي، و قد بيّنّا مذهبنا في صدر المسألة.

مسألة 545: لو كان على زيد عشرة فضمنها اثنان كلّ واحدٍ منهما خمسة، و ضمن أحدهما عن الآخَر و بالعكس، فقد بيّنّا أنّه بمنزلة عدم الضمان

إذا أجاز المضمون له ضمانهما معاً.

و عند أكثر العامّة يصحّ ضمانهما معاً، فلربّ المال - عندهم - مطالبة كلّ واحدٍ منهما بالعشرة نصفها عن الأصيل و نصفها عن الضامن الآخَر، فإن أدّى أحدهما جميعَ العشرة، رجع بالنصف على الأصيل و بالنصف على صاحبه.

و هل له الرجوع بالكلّ على الأصيل إذا كان لصاحبه الرجوعُ عليه إن غرم ؟ فيه الوجهان عندهم.

و إن لم يؤدّ إلاّ خمسة، فإن أدّاها عن الأصيل أو عن صاحبه أو عنهما، ثبت له الرجوع بخمسة(1).

مسألة 546: لو باع شيئاً و ضمن ضامنٌ الثمنَ فهلك المبيع قبل القبض،

أو وجد به عيباً فردّه، أو ضمن الصداق فارتدّت المرأة قبل الدخول، أو فسخت بعيبٍ، فإن كان ذلك قبل أن يؤدّي الضامن، برئ الضامن و الأصيل.

و إن كان بعده فإن كان بحيث يثبت له الرجوع، رجع بالمغروم على الأصيل، و رجع الأصيل على ربّ المال بما أخذ إن كان هالكاً، و إن كان باقياً، ردّ عينه.

و هل له إمساكه و ردّ بدله ؟ فيه خلاف مأخوذ ممّا إذا ردّ المبيع بعيبٍ

ص: 368


1- التهذيب - للبغوي - 182:4، العزيز شرح الوجيز 178:5، روضة الطالبين 502:3.

و عين الثمن عند البائع، فأراد إمساكه و ردّ مثله.

و الأصحّ: المنع، و به قال الشافعي(1).

و لو كان الذي دفعه الضامن أجود أو أزيد، فالأقرب: أنّه ليس للأصيل أخذُ الزيادة.

و إنّما يغرم ربّ المال للأصيل دون الضامن؛ لأنّ في ضمن الأداء عنه إقراضه و تمليكه إيّاه.

و إن كان بحيث لا يثبت له الرجوع، فلا شيء للضامن على الأصيل، و على المضمون له ردّ ما أخَذَه.

و على مَنْ يردّ؟ فيه احتمال أن يردّه على الضامن، أو على الأصيل.

و سيأتي تحقيقه إن شاء اللّه تعالى في المتبرّع بالصداق إذا طلّق الزوج قبل الدخول.

مسألة 547: لو كان لرجلٍ على آخَر دَيْنٌ فادّعى صاحبُ الدَّيْن على آخَر بأنّه ضمنه له على المديون،

فأنكر الضامن الضمانَ، سقط حقّ ربّ المال عن الأصيل عندنا؛ لانتقال المال عن ذمّته إلى ذمّة الضامن، خلافاً لأكثر العامّة(2).

ثمّ مدّعي الضمان إن لم تكن له بيّنة فأحلف الضامن على أنّه لم يضمن، سقط ما لَه، أمّا عن الضامن: فلبراءته باليمين، و أمّا عن الأصيل: فلاعترافه ببراءة ذمّته بالضمان.

و إن كان له بيّنة فأقامها على الضامن بالضمان، ثبت له عليه المطالبة، فإذا رجع عليه بالمال، رجع الضامن على الأصيل و إن كان قد كذّب المدّعي

ص: 369


1- العزيز شرح الوجيز 178:5، روضة الطالبين 502:3.
2- راجع الهامش (2) من ص 344.

للضمان؛ لأنّ البيّنة أبطلت حكم إنكاره، فكأنّه لم ينكره.

و هذا كما لو اشترى عيناً فادّعى آخَر أنّها ملكه و أنّ بائعها غصبها منه، فقال المشتري في جوابه: إنّها ملك بائعي و ليس لك فيها حقٌّ، و إنّها اليوم ملكي، فأقام المدّعي البيّنة، فإنّ المشتري يرجع على البائع و إن أقرّ له بالملك.

و كذا لو باع عيناً على رجل و ادّعى على آخَر أنّه ضمن الثمن عن المشتري و أقام على ذلك بيّنةً و أخذ الثمن من الضامن، يرجع الضامن على الأصيل.

و اعترض بعض الشافعيّة: بأنّ البيّنة إنّما تُقام عند الإنكار، و إذا أنكر كان مكذّباً للبيّنة زاعماً أنّ صاحب المال ظالم فيما أخذ منه، فكيف يرجع على الأصيل بما ظلمه به و المظلوم إنّما يرجع على ظالمه!؟(1).

و الجواب: نمنع أنّ البيّنة إنّما تُقام عند الإنكار، بل يجوز أن يُقرّ الضامن و تقام البيّنة للإثبات على الأصيل.

سلّمنا أنّه لم يُقرّ، لكنّ البيّنة لا تستدعي الإنكار بخصوصه، بل يكفي الإنكار و ما يقوم مقامه كالسكوت، فربما كان ساكتاً.

سلّمنا استدعاءها الإنكار، لكنّها لا تستدعي الإنكار منه بخصوصه، بل يكفي صدور الإنكار من وكيله في الخصومات، فلعلّ البيّنة أُقيمت في وجه وكيله المنكر.

سلّمنا أنّه أنكر، لكنّه ربما أنكر الضمان و سلّم البيع، و هذا الإنكار لو مَنَع لكان مانعاً للرجوع بجهة غرامة المضمون.

و جائزٌ أن يكون هذا الرجوع باعتبار أنّ المدّعي ظَلَمه بأخذ ما على الأصيل منه، و للظالم مثل المأخوذ على الغائب، فيأخذ حقّه ممّا عنده.5.

ص: 370


1- العزيز شرح الوجيز 180:5.

أمّا لو وجد منه التكذيب القاطع لكلّ الاحتمالات، فأصحّ وجهي الشافعيّة أنّه يمنع من الرجوع(1).

و قيل: لا يمنع(2) على ما اخترناه أوّلاً.

البحث الخامس: في اللواحق.
مسألة 548: كلّ موضعٍ قلنا فيه بأنّ المأذون له في الأداء أو الضامن يرجع على الآذن و المضمون عنه بما غرم

فإنّما هو مفروض فيما إذا أشهد المؤدّي أو الضامن على الأداء شهادةً يثبت بها الحكم، سواء أشهد رجلين أو رجلاً و امرأتين.

و لو أشهد واحداً اعتماداً على أن يحلف معه، فالوجه: الاكتفاء؛ لأنّ الشاهد مع اليمين حجّة في نظر الشرع، كافية لإثبات الأداء، عند أكثر العلماء(1) ، و هو أحد وجهي الشافعيّة.

و الثاني: أنّه لا يكفي؛ لأنّهما قد يترافعان إلى حنفيٍّ لا يقضي بالشاهد و اليمين، فكان ذلك ضرباً من التقصير(2).

و إنّما تنفع الشهادة ما إذا أشهد عَدْلين أو عَدْلاً و امرأتين ثقتين أو عَدْلاً واحداً على الخلاف.

و لو أشهد فاسقين مشهورين بالفسق، لم يكف، و كان مقصّراً.

و لو أشهد مستورين فبانا فاسقين، فالأقرب: الاكتفاء؛ إذ يمتنع الاطّلاع على البواطن، فكان معذوراً، و هو أصحّ وجهي الشافعيّة.

ص: 371


1- المغني 11:12، الشرح الكبير 94:12.
2- الحاوي الكبير 450:6، الوسيط 253:3، حلية العلماء 86:5، التهذيب - للبغوي - 185:4، العزيز شرح الوجيز 180:5-181، روضة الطالبين 504:3.

و في الثاني: لا يكفي، و يكون بمنزلة مَنْ لم يُشهد؛ لأنّ الحقّ لا يثبت بشهادتهما(1).

و هو غلط، كما لو فسقا بعد الإشهاد و الأداء.

و لا تكفي شهادة مَنْ يُعرف ظعنه(2) عن قريبٍ؛ لأنّه لا يفضي إلى المقصود.

أمّا إذا أدّى من غير إشهادٍ، فإن كان الأداء في غيبة الأصيل، فهو مقصّر بترك الإشهاد؛ إذ كان من حقّه الاحتياط و تمهيد طريق الإثبات. و إن كان بحضوره، فلا تقصير.

مسألة 549: لو جحد ربّ الدَّيْن أداء الضامن إليه، و ادّعاه الضامن، و لا بيّنة، فإن كذّب الأصيل الضامنَ في الدفع، لم يرجع عليه،

فإذا حلف ربّ الدَّيْن، أخذ من الضامن ثانياً، و يرجع الضامن على المضمون عنه بما أدّاه ثانياً، إلاّ أن يكون الذي أدّاه أوّلاً أقلَّ مقداراً أو أقلَّ صفةً و ادّعى رضاه به، فإنّه يرجع بما أدّاه أوّلاً.

و إن صدّقه الأصيل، فالأقوى: رجوع الضامن عليه بما أدّاه أوّلاً إن ساوى الحقّ أو قصر عنه، لا بما يؤدّيه ثانياً بحلف المضمون له، و يؤدّي الضامن إلى المضمون له ثانياً لحلفه.

و للشافعيّة فيه وجهان، هذا أحدهما.

و الثاني: أنّه ليس له الرجوع بما أدّاه أوّلاً و صدّقه عليه؛ لأنّه لم يؤدّ بحيث ينتفع به الأصيل، فإنّ ربّ المال منكر، و المطالبة بحالها(3)

ص: 372


1- الوسيط 253:3، حلية العلماء 86:5، التهذيب - للبغوي - 185:4، العزيز شرح الوجيز 181:5، روضة الطالبين 504:3.
2- ظعن: سار. الصحاح 2159:6 «ظعن». و المراد هنا السفر.
3- العزيز شرح الوجيز 181:5، روضة الطالبين 504:3.

و لا بأس به عندي.

فعلى هذا القول لو كذّبه الأصيل هل يحلف ؟ قال بعض الشافعيّة:

يبنى على أنّه لو صدّقه هل يرجع عليه ؟ إن قلنا: نعم، حلّفه على نفي العلم بالأداء. و إن قلنا: لا يرجع، يبنى على أنّ النكولَ و ردَّ اليمين كالإقرار، أو كالبيّنة ؟ إن قلنا بالأوّل، لم يحلّفه؛ لأنّ غايته أن ينكل فيحلف الضامن، فيكون كما لو صدّقه، و ذلك لا يفيد الرجوع. و إن قلنا بالثاني، حلّفه طمعاً في أن ينكل فيحلف(1) ، فيكون كما لو أقام البيّنة(2).

و لو كذّبه الأصيل و صدّقه ربّ المال، فالأقوى: أنّه يرجع على الأصيل؛ لسقوط المطالبة بإقراره، و إقراره أقوى من البيّنة مع إنكاره، و هو أظهر قولَي الشافعيّة.

و الثاني: أنّه لا يرجع، و لا ينهض قول ربّ المال حجّةً على الأصيل(3).

و لو أدّى في حضور الأصيل، قال بعض الشافعيّة: إنّه لا يرجع(2) ، كما لو ترك الإشهاد في غيبته(3).

و ظاهر مذهب الشافعي: أنّه يرجع(4) ؛ لأنّه حال الغيبة مستبدّ بالأمر، فعليه الاحتياط و التوثيق بالإشهاد، و إذا كان الأصيل حاضراً، فهو أولى بالاحتياط، و التقصير بترك الإشهاد في حضوره مستند إليه(5).

مسألة 550: إذا توافق الأصيل و الضامن على أنّ الضامن أشهد بالأداء

ص: 373


1- في «ج، ر» و المصدر: «و يحلف». (2 و 3) العزيز شرح الوجيز 181:5، روضة الطالبين 504:3.
2- في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «إنّه يرجع». و ما أثبتناه كما في المصدر.
3- العزيز شرح الوجيز 181:5، روضة الطالبين 504:3.
4- في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «أنّه لا يرجع». و ما أثبتناه كما في المصدر.
5- العزيز شرح الوجيز 181:5، روضة الطالبين 504:3.

و لكن مات الشهود أو غابوا، ثبت له الرجوع على الأصيل؛ لاعترافه بأنّ الضامن أتى بما عليه من الإشهاد و التوثيق، و الموت و الغيبة ليسا إليه، و هو قول الشافعي(1).

و نَقَل الجويني وجهاً بعيداً: أنّه لا يرجع؛ إذ لم ينتفع بأدائه، فإنّ القولَ قولُ ربّ المال في نفي الاستيفاء(2).

و لو ادّعى الضامنُ الإشهادَ، و أنكر الأصيلُ الإشهادَ، فالقولُ قولُ الأصيل مع اليمين؛ لأصالة عدم الإشهاد، و هو أصحّ وجهي الشافعيّة.

و الثاني: أنّ القولَ قولُ الضامن؛ لأنّ الأصل عدم التقصير. و لأنّه قد يكون صادقاً، و على تقدير الصدق يكون منعه من الرجوع إضراراً، فليصدَّق؛ للضرورة، كما يصدَّق الصبي في دعوى البلوغ؛ إذ لا يُعرف إلاّ من جهته(1).

و لو قال: أشهدت فلاناً و فلاناً، و كذّباه، فهو كما لو لم يُشهد.

و لو قالا: لا ندري و ربما نسيناه، احتُمل تصديقه و تكذيبه.

و لو أقام بيّنةً على الشاهدين بأنّهما أقرّا بالشهادة، فالأقوى: السماع.

و إذا لم يُقم بيّنةً على الأداء و حلف ربّ المال، بقيت مطالبته بحالها، فإن أخذ المال من الأصيل، فذاك. و إن أخذه من الضامن مرّةً أُخرى، لم يرجع بهما؛ لأنّه مظلوم بإحداهما، فلا يرجع إلاّ على مَنْ ظَلَمه.

و في قدر رجوعه للشافعيّة وجهان:

أحدهما: أنّه لا يرجع بشيء، أمّا بالأوّل(4): فلأنّه قصّر عند أدائه بترك الإشهاد. و أمّا بالثاني(5): فلاعترافه بأنّه مظلوم به.

و الأظهر عندهم: أنّه يرجع؛ لأنّه غرم لإبراء ذمّته(2)3.

ص: 374


1- العزيز شرح الوجيز 181:5-182، روضة الطالبين 504:3. (4 و 5) أي: المبلغ الأوّل... المبلغ الثاني.
2- العزيز شرح الوجيز 182:5، روضة الطالبين 505:3.

و على هذا [هل](1) يرجع بالأوّل؛ لأنّه المبرئ للذمّة، أو بالثاني؛ لأنّه المسقط للمطالبة ؟ فيه لهم وجهان(2).

مسألة 551: إذا ضمن المريض في مرض موته، فإن كان على وجهٍ يثبت له الرجوع و وجد الضامن مالاً يرجع فيه، فالضمان صحيح،

يُخرج من صلب المال؛ لأنّه عقد شرعيّ ناقل للمال و لم يوجد تبرّعٌ من المريض، فكان ماضياً من الأصل.

و إن كان الضمان متبرَّعاً به غير متضمّن للرجوع، أو كان بالسؤال و له الرجوع، لكن لم يجد مالاً يرجع فيه، بأن يموت الأصيل معسراً، فهذا الضمان من الثلث؛ لأنّه تبرّعٌ محضٌ، فلا ينفذ في أكثر من الثلث. فإذا ضمن المريض تسعين درهماً عن رجلٍ بأمره، و لا مال للمريض سوى التسعين و مات الأصيل و لم يترك إلاّ نصف التسعين و مات الضامن، دَخَلها الدور.

و تقريره أن نقول: إذا وفت التركة بثلثي الدَّيْن، فلا دَوْر؛ لأنّ صاحب الحقّ إن أخذ الحقَّ من تركة الضامن، رجع ورثته بثلثي الدَّيْن في تركة الأصيل. و إن أخذ تركة الأصيل و بقي شيء، أخذه من تركة الضامن، و يقع تبرّعاً؛ لأنّ ورثة الضامن لا يجدون مرجعاً.

و إن لم تف التركة بالثلثين - كما في هذه الصورة - فقد ثبت الدَّوْر.

و تحقيقه أن نقول: صاحب الحقّ بالخيار إن شاء أخذ تركة الأصيل بتمامها، و حينئذٍ فلا دَوْر أيضاً، و له مطالبة ورثة الضامن بثلاثين درهماً، و يقع تبرّعاً؛ إذ لم يبق للأصيل تركة حتى يُفرض فيها رجوعٌ.

ص: 375


1- ما بين المعقوفين يقتضيه السياق.
2- العزيز شرح الوجيز 182:5، روضة الطالبين 505:3.

فإن أراد الأخذ من تركة الضامن، لزم الدَّوْر؛ لأنّ ما يغرمه ورثة الضامن يرجع إليهم بعضُه من جهة أنّه يصير المغروم دَيْناً لهم على الأصيل يتضاربون به مع صاحب الحقّ في تركته، و يلزم من رجوع بعضه زيادة التركة، و من زيادة التركة زيادة المغروم، و من زيادة المغروم زيادة الراجع.

و طريق معرفته أن يقال: يأخذ صاحب الحقّ من ورثة الضامن شيئاً، و يرجع إليهم مثل نصفه؛ لأنّ تركة الأصيل نصف تركة الضامن، فيبقى عندهم تسعون إلاّ نصف شيء، و هي تعدل مِثْلَي ما تلف بالضمان، و التالف نصف شيء، فمِثْلاه شيءٌ، فإذَنْ تسعون إلاّ نصف شيء يعدل شيئاً، فإذا جبرنا و قابلنا، عدلت تسعون شيئاً و نصف شيء، فيكون الشيء ستّين، فبانَ لنا أنّ المأخوذ ستّون، و حينئذٍ تكون الستّون دَيْناً لهم على الأصيل، و قد بقي لصاحب الحقّ ثلاثون، فيضاربون في تركته بسهمين و سهمٍ، و تركته خمسة و أربعون يأخذ منها الورثة ثلاثين، و صاحب الحقّ خمسةَ عشر، و يعطّل باقي دَيْنه، و هو خمسة عشر، فيكون الحاصل للورثة ستّين، ثلاثون بقيت عندهم، و ثلاثون أخذوها من تركة الأصيل، و ذلك مِثْلا ما تلف و وقع تبرّعاً، و هو ثلاثون.

و لو كانت المسألة بحالها لكن تركة الأصيل ثلاثون، قلنا: يأخذ صاحب الحقّ شيئاً، و يرجع إلى ورثة الضامن مثل ثلثه؛ لأنّ تركة الأصيل ثلث تركة الضامن، فيبقى عندهم تسعون ناقصةً ثلثَي شيء تعدل مثْلَي المتلف بالضمان، و هو ثلثا شيء، فمِثْلاه شيء و ثلث، فإذَنْ تسعون إلاّ ثلثَي شيء تعدل شيئاً و ثلثاً، فيُجبر و يُقابل، عدلت تسعون شيئين، فالشيء خمسة و أربعون، و ذلك ما أخذه صاحب الحقّ، و صار دَيْناً لورثة الضامن على الأصيل، و بقي لصاحب الحقّ عليه خمسة و أربعون أيضاً، فيتضاربون

ص: 376

في تركته بسهمٍ و سهمٍ، فيجعل بينهما نصفين.

و لو كانت تركة الأصيل ستّين، فلا دَوْر، بل لصاحب الحقّ أخذ تركة الضامن كلّها بحقّ الرجوع، و يقع الباقي تبرّعاً.

و لو كانت المسألة بحالها و كان قد ضمن عن الضامن ضامنٌ ثانٍ و مات الضامن الثاني و لم يترك إلاّ تسعين درهماً أيضاً، كان لصاحب الحقّ أن يطالب ورثة أيّهما شاء.

فإن طالَب به ورثة الضامن الأوّل، قال بعض الشافعيّين: كان كالمسألة الأُولى يأخذ ستّين، و من ورثة مَنْ كان عليه أصل المال خمسةَ عشر، و يرجع ورثة الضامن على ورثة الذي كان عليه الحقُّ بثلاثين(1).

و إن طالَب ورثة الضامن الثاني، أخذ منهم سبعين درهماً، و من ورثة مَنْ كان عليه الأصلُ خمسةَ عشر، و يرجع ورثة الضامن الثاني على الضامن الأوّل بأربعين درهماً، و يرجع الضامن الأوّل في مال مَنْ عليه أصلُ الحقّ بثلاثين.

و إنّما كانت هذه المسألة كالأُولى فيما إذا طالَب ورثة الضامن الأوّل؛ لأنّه لا يأخذ منهم إلاّ ستّين، و يأخذ من تركة الأصيل خمسةَ عشر، كما في الصورة السابقة، لكن لا يتلف من ماله شيء هنا، بل يطالب بالباقي - و هو خمسة عشر - ورثة الضامن.

و أمّا إذا طالَب ورثة الضامن الثاني، فقد غلّطه جماعة الشافعيّة في قوله من جهة أنّه أتلف من مال الثاني ثلاثين؛ لأنّه أخذ منهم سبعين، و أثبت لهم الرجوع بأربعين، و كان الباقي عندهم عشرين، فالمجموع ستّون، و لم يتلف من مال الأوّل إلاّ عشرة؛ لأنّه أخذ منهم أربعين، و أثبت لهم5.

ص: 377


1- العزيز شرح الوجيز 183:5.

الرجوع بثلاثين، و معلومٌ أنّ الضامن الثاني إنّما ضمن تسعين عمّن يملك تسعين، و الأوّل ضمن تسعين عمّن يملك خمسةً و أربعين، فكيف يؤخذ من الثاني أكثر ممّا يؤخذ من الأوّل!؟(1).

و اختلفت الشافعيّة في الجواب.

فقال الأُستاذ أبو إسحاق(2): يأخذ صاحب الحقّ من ورثة الضامن خمسةً و سبعين، و يرجعون بمثلها على ورثة الأوّل، و يرجع [ورثة](3) الأوّل على ورثة الأصيل بتركته، و هي خمسة و أربعون، فيكون جملة ما معهم ستّين: خمسة عشر من الأصل، و الباقي من العوض، و ذلك مِثْلا الثلاثين التالفة عليهم، و لم يثبت لصاحب الحقّ مطالبة ورثة الثاني بكمال الدَّيْن(4).

و قال الأكثر: له مطالبة ورثة الثاني بجميع الدَّيْن، ثمّ هُمْ يرجعون على ورثة الأوّل بخمسة و سبعين، و يتلف عليهم خمسة عشر؛ للضرورة، و يرجع ورثة الأوّل على ورثة الأصيل بتركته، كما ذكره الأُستاذ(5).

قال الجويني: كأنّ الأُستاذ اعتقد أنّ ضمان الأوّل لم يصح إلاّ في قدرٍ لو رجع معه في تركة الأصيل لما زاد التالف من تركته على ثلثها، و إذا لم يصح ضمانه فيما زاد، لم يصح ضمان الثاني عنه، و إلاّ دارَ(6).

قالوا: إنّما لا يؤخذ أكثر من الثلث لحقّ الورثة، لكنّه صحيح في الجميع متعلّق بالذمّة، فيكون ضمان الثاني عنه فيما زاد كالضمان عن المعسر(7)5.

ص: 378


1- العزيز شرح الوجيز 184:5.
2- كذا في النسخ الخطّيّة و الحجريّة، و في المصدر: «أبو منصور».
3- ما بين المعقوفين من المصدر. (4-7) العزيز شرح الوجيز 184:5.

و يجب أن يكون هذا الخلاف جارياً في مطالبتهم بتتمّة التسعين إذا طالب أوّلاً ورثة الضامن الأوّل و إن [لم](1) يُذكر ثَمَّ. و إن أخذ المستحقّ أوّلاً بتركة الأصيل، برئ الضامنان عن نصف الدَّيْن.

ثمّ المستحقّ - على جواب الأكثرين - إن شاء أخذ من ورثة الأوّل ثلاثين، و من ورثة الثاني خمسةَ عشر، و إن شاء أخذ الكلَّ من ورثة الثاني و هُمْ يرجعون على ورثة الأوّل بثلاثين، فيصل إلى تمام حقّه بالطريقين.

و على جواب الأُستاذ ليس له من الباقي إلاّ ثلاثون، إن شاء أخذها من ورثة الأوّل و لا رجوع، و إن شاء أخذها من ورثة الثاني، و هُمْ يرجعون بها على ورثة الأوّل(2).

مسألة 552: يجوز ترامي الضمان لا إلى غايةٍ معيّنة.

و هل يجوز دَوْرُه بأن يضمن ضامن رجلاً على دَيْنٍ ثمّ يضمن الرجل المضمون الضامنَ على ذلك الدَّيْن بعينه ؟ مَنَع منه الشافعيّة؛ لأنّ الضامن فرع المضمون عنه، فلا يجوز أن يكون أصلَه(3).

و فيه عندي نظر.

أمّا لو ضمن غيرَ ذلك الدَّيْن، فإنّه يجوز قطعاً؛ لأنّ الأصل في شيءٍ قد يكون فرعاً لفرعه في شيءٍ آخَر.

و كذا لو تبرّع الضامن بالضمان، فإنّ الحقّ يثبت في ذمّته، و تبرأ ذمّة المضمون عنه عندنا، فيجوز حينئذٍ للمضمون عنه أن يضمن الضامنَ.

فلو كان له على اثنين عشرةٌ على كلّ واحدٍ منهم خمسةٌ، فضمن كلّ واحدٍ صاحبَه فضمن ثالثٌ عن أحدهما العشرةَ و قضاها، سقط الحقّ

ص: 379


1- ما بين المعقوفين من المصدر.
2- العزيز شرح الوجيز 184:5.
3- راجع: الحاوي الكبير 444:6.

- عندنا و عند الشافعيّة(1) - عن الجميع بالأداء، و رجع على الذي ضمن عنه بخمسة؛ لأنّها هي التي تثبت في ذمّته، و لم يرجع على الآخَر بشيء؛ لأنّه لم يضمن عنه، و إنّما قضى الدَّيْن عنه تبرّعاً.

و عند الشافعيّة يكون له الرجوع على الذي ضمن عنه بالعشرة، و لا يرجع على الآخَر بشيء؛ لأنّه لم يضمن عنه، و إذا رجع على الذي ضمن عنه، رجع على الآخَر بنصفها؛ لأنّه ضمنها عنه و قضاها(2).

و لو كان المضمون عنه دفع مال الضمان إلى الضامن بإذنه و قال له:

اقض هذا المال للمضمون له عنّي، فقضاه، كان أمانةً في يده؛ لأنّه نائب عنه في دفعه إلى صاحب الدَّيْن، فإن(1) تلف قبل الدفع بغير تفريطٍ منه، لم يضمنه.

و إن دفعه إليه عن الذي ضمنه و قال له: خُذْ هذا عوضاً عمّا ضمنته، فللشافعيّة وجهان:

أحدهما: يصحّ و يملكه؛ لأنّ رجوعه عليه يتعلّق بسبب الضمان و الغرم، فإذا وجد أحد السببين، جاز أن يدفعه، كالزكاة.

و الثاني: لا يصحّ و لا يملكه؛ لأنّه يدفعه عوضاً عمّا يغرم، و لم يغرم بَعْدُ، فلا تصحّ المعاوضة على ما لم يجب له(2).

و يمكن أن يقال: هذا لا يجيء على مذهب الشافعيّة؛ لأنّ لصاحب الحقّ أن يطالب مَنْ عليه الدَّيْن بذلك، فكيف تصحّ المعاوضة عنه مع3.

ص: 380


1- في «ج»: «و إن».
2- المهذّب - للشيرازي - 348:1، العزيز شرح الوجيز 173:5، روضة الطالبين 497:3.

توجّه المطالبة به!؟ فإن قلنا: إنّه يملك، صحّ له التصرّف فيه، و إلاّ فلا، و يكون مضموناً عليه؛ لأنّه قبضه على وجه المعاوضة.

مسألة 553: لو ادّعى على رجلٍ حاضرٍ أنّه باع منه و من الغائب شيئاً بألفٍ و كلٌّ منهما ضامن لصاحبه،

فإن أقرّ الحاضر، لم يلزمه عندنا إلاّ النصف الذي ضمنه، بناءً على أصلنا من انتقال المال إلى ذمّة الضامن، و عند الشافعيّة من اشتراك الذمّتين في المال(1)الحاوي الكبير 448:6، حلية العلماء 87:5، التهذيب - للبغوي - 183:4-184، العزيز شرح الوجيز 180:5، روضة الطالبين 503:3-504.(2): يؤدّي الحاضر الألف، فإذا قدم الغائب و صدّقه، رجع عليه. و إن أنكره و حلف، لم يكن له الرجوع عليه(2).

و أمّا إن أنكر الحاضر الضمانَ، فإن لم يكن للمدّعي بيّنةٌ، قُدّم قول المنكر مع يمينه. فإذا(3) حلف، سقطت الدعوى عنه.

فإذا قدم الغائب فإن أنكر(4) ، حلف و برئ، و إن اعترف، لزمه خمسمائة التي ادّعاها عليه، و يسقط(5) عنه الباقي؛ لأنّ المضمون عنه سقطت عنه بيمينه، قاله بعض الشافعيّة(6).

و قال بعضهم: إنّه غير صحيح؛ لأنّ اليمين لم تبرئه من الحقّ، و إنّما أسقطت عنه في الظاهر، فإذا أقرّ به الضامن، لزمه، و لهذا لو أقام البيّنة عليه بعد يمينه، لزمه و لزم الضامن، فإذَنْ الحقُّ لم يسقط عنه و لا عن الضامن(7).

و أمّا إذا أقام على الحاضر البيّنة، وجب عليه الألف عندهم، فإذا قدم

ص: 381


1- راجع المصادر في الهامش
2- من ص 344.
3- في الطبعة الحجريّة: «و إذا».
4- في الطبعة الحجريّة: «فأنكر» بدل «فإن أنكر».
5- في «ر» و الطبعة الحجريّة: «سقط». (6 و 7) حلية العلماء 87:5.

الغائب، لم يكن للحاضر الرجوعُ على الغائب؛ لأنّه منكرٌ لما شهدت به البيّنة، مكذّبٌ لها، مدّعٍ أنّ ما أخذه ظلم، فلم يرجع(1).

و نقل المزني أنّه يرجع بالنصف على الغائب(2).

و تأوّله الشافعيّة بأُمور، أحدها: أنّه يجوز أن تُسمع البيّنة مع إقراره؛ لأنّه يثبت بذلك الحقُّ على الغائب، فتُسمع عليهما، أو يكون أنكر شراءه و لم ينكر شراء شريكه و الضمان عنه، بل سكت(3).

مسألة 554: لو شرط في الضمان الأداء من مالٍ بعينه، صحّ الضمان و الشرط معاً؛

لتفاوت الأغراض في أعيان الأموال، فلو تلف المال قبل الأداء بغير تفريط الضامن، فالأقرب: فساد الضمان؛ لفوات شرطه، فيرجع صاحب المال على الأصيل.

و هل يتعلّق الضمان بالمال المشروط تعلُّقُه به تعلُّقَ الدَّيْن بالرهن أو الأرش بالجاني ؟ الأقرب: الأوّل، فيرجع على الضامن لو تلف.

و على الثاني يرجع على المضمون عنه.

و كذا لو ضمن مطلقاً و مات معسراً على إشكالٍ.

و لو بِيع متعلَّق الضمان بأقلّ من قيمته؛ لعدم الراغب، رجع الضامن بتمام القيمة؛ لأنّه يرجع بما أدّى.

و يُحتمل بالثمن خاصّةً؛ لأنّه الذي قضاه.

و لو لم يساو المال قدر الدَّيْن، فالأقرب: الرجوع على الضامن، و يرجع على المضمون عنه.

ص: 382


1- حلية العلماء 88:5.
2- مختصر المزني: 108، حلية العلماء 88:5.
3- حلية العلماء 88:5.

و قد بيّنّا أنّ ضمان المجهول صحيح، فلو ضمن عنه ما في ذمّته، صحّ، و لزمه ما تقوم به البيّنة على ثبوته وقت الضمان، لا ما يتجدّد، و لا ما يوجد في دفتر و كتاب، و لا ما يُقرّ به المضمون عنه أو يحلف عليه المالك بردّ اليمين من المديون.

و لو ضمن ما تقوم به البيّنة، لم يصح؛ لعدم العلم بثبوته حينئذٍ.

مسألة 555: لو ضمن الدَّيْنَ اثنان على التعاقب مع صاحب الحقّ عن المديون، طُولب الضامن الأوّل، و بطل الثاني؛

لأنّ الحقّ انتقل من ذمّة المضمون عنه إلى ذمّة الضامن، فالضامن الثاني لم يصادف ضمانه حقّاً على المضمون عنه للمضمون له.

و لو قال الضامن الثاني: ضمنت لك هذا الدَّيْن على مَنْ كان، فإن قلنا: يصحّ الضمان عن المجهول، صحّ هذا الضمان، و كان ضامناً عن الضامن السابق، و إلاّ بطل.

و لو ضمن الثاني من وكيل صاحب الحقّ، بطل الثاني.

و لو اتّفق ضمان الأوّل مع صاحب الحقّ و ضمان الثاني مع وكيله في الزمان الواحد، بطل الضمانان معاً؛ لعدم أولويّة أحدهما بالصحّة و الآخَر بالبطلان.

مسألة 556: لو شرط الضمان في مالٍ بعينه ثمّ أفلس و حجر عليه الحاكم، كان حقّ الضمان في العين التي تعلّق الضمان بها - كالرهن - مقدّماً على حقّ الغرماء،

فإن فضل شيء من حقّ الضمان، تعلّق حقّ الغرماء بالفاضل، و إلاّ فلا.

ص: 383

و لو ضمن كلٌّ من المديونين ما على صاحبه، تعاكست الأصالة و الفرعيّة فيهما إن أجازهما المضمون له على ما بيّنّاه، و تتساقطان إذا أدّى كلّ واحدٍ منهما مالَ الضمان عن صاحبه، فلو شرط أحدهما كونَ الضمان من مالٍ بعينه و حُجر عليه بفلسٍ قبل الأداء، رجع على الموسر بما أدّى، و يضرب الموسر مع الغرماء.

و لو أجاز ضمانَ أحدهما خاصّةً، رجع عليه بالجميع، و يرجع المؤدّي على الآخَر بنصيبه، فإن دفع النصف، انصرف إلى ما قصده، و يُصدَّق باليمين، و ينصرف الإبراء إلى ما قصده المبرئ، فإن أطلق فالتقسيط.

و لو ادّعى الأصيل قصده، ففي توجّه اليمين عليه أو على الضامن إشكال ينشأ: من عدم توجّه اليمين لحقّ الغير، و من خفاء القصد.

و لو تبرّع بالضمان ثمّ سأل ثالثاً الضمانَ عنه فضمن، رجع عليه، دون الأصيل و إن أذن له الأصيل في الضمان و الأداء.

مسألة 557: لو دفع الأصيل الدَّيْنَ إلى المستحقّ أو إلى الضامن، فقد برئ، سواء أذن له الضامن في الدفع أو لا.

و لو ضمن فأنكر الأصيل الإذنَ في الضمان، قُدّم قوله مع اليمين، و على الضامن البيّنة بالإذن؛ لأصالة عدمه.

و كذا لو أنكر الأصيل الدَّيْنَ الذي ضمنه عنه الضامن؛ لأصالة براءة ذمّته.

و لو أنكر الضامن الضمانَ فاستوفى المستحقّ بالبيّنة، لم يرجع على

ص: 384

الأصيل إن أنكر الدَّيْنَ أيضاً أو الإذنَ، و إلاّ رجع اقتصاصاً، إلاّ أن ينكر الأصيل الإذنَ و لا بيّنة.

و لو أنكر المستحقّ دفع الضامن بسؤالٍ، قُدّم إنكاره.

فإن شهد الأصيل و لا تهمة، قُبلت، و مع التهمة يغرم ثانياً، و يرجع على الأصيل بالأوّل مع مساواته الحقّ أو قصوره.

و لو لم يشهد، رجع بالأقلّ من الثاني و الأوّل و الحقّ.

مسألة 558: كما ينبغي التنزّه عن الدَّيْن ينبغي التنزّه عن الضمان مع الإعسار؛ لما فيه من التغرير بمال الغير.

و قد روى أبو الحسن الخزّاز عن الصادق عليه السلام، قال: سمعته يقول لأبي العباس الفضل: «ما مَنَعك من الحجّ؟» قال: كفالة تكفّلت بها، قال: «ما لك و الكفالات ؟ أما علمت أنّ الكفالة هي التي أهلكت القرون الأُولى؟»(1).

و عن داوُد الرقّي عن الصادق عليه السلام قال: «مكتوب في التوراة: كفالة ندامة غرامة»(2).

و قد روى الحسن(3) بن خالد عن الكاظم عليه السلام، قال: قلت له:

جُعلت فداك، قول الناس: الضامن غارم، قال: فقال: «ليس على الضامن غُرْمٌ، الغُرْم على مَنْ أكل المال»(4). و المراد منه أنّ الضمان يستقرّ على الأصيل.

ص: 385


1- التهذيب 484/209:6.
2- التهذيب 492/210:6.
3- في المصدر: «الحسين».
4- الكافي 104:5-5/105، التهذيب 485/209:6.

ص: 386

الفصل الثاني: في الكفالة

اشارة

و فيه مباحث:

البحث الأوّل: العقد.
مسألة 559: الكفالة عقد شُرّع للتعهّد بالنفس، و يشابه الضمان، فإنّ الشيء المضمون قد يكون حقّاً على الشخص، و قد يكون نفسَ الشخص.

و هي عقد صحيح عند عامّة أهل العلم، و به قال الثوري و مالك و الليث و أبو حنيفة و أحمد و الشافعي(1) ، و لا نعرف فيه مخالفاً، إلاّ ما نُقل عن الشافعي من قوله في كتاب الدعاوي: إنّ الكفالة بالبدن ضعيفة(2).

و قال في اختلاف العراقيّين و في الإقرار و في المواهب و في كتاب اللعان: إنّ الكفالة بالبدن جائزة(3).

و اختلف أصحابه.

فقال بعضهم: إنّ الكفالة صحيحة قولاً واحداً، و أراد بقوله: «إنّها

ص: 387


1- المغني 95:5، الشرح الكبير 98:5، بداية المجتهد 295:2، المعونة 1230:2، الهداية - للمرغيناني - 87:3، المبسوط - للسرخسي - 2:20، مختصر اختلاف العلماء 1975/253:4، النتف 758:2، الاختيار لتعليل المختار 270:2، الحاوي الكبير 462:6، المهذّب - للشيرازي - 349:1، الوجيز 184:1، الوسيط 239:3، حلية العلماء 67:5، التهذيب - للبغوي - 187:4، العزيز شرح الوجيز 159:5، روضة الطالبين 486:3.
2- الأُم 231:3، و 229:6، الحاوي الكبير 462:6، المهذّب - للشيرازي - 349:1، حلية العلماء 67:5، التهذيب - للبغوي - 187:4، العزيز شرح الوجيز 159:5، المغني 95:5، الشرح الكبير 98:5.
3- الأُم 118:7، الحاوي الكبير 462:6، المهذّب - للشيرازي - 349:1.

ضعيفة» أي ضعيفة في القياس و إن كانت ثابتةً بالإجماع و الأثر.

و منهم مَنْ قال: إنّ فيها قولين:

أحدهما: أنّها صحيحة، و هو قول عامّة العلماء.

و الثاني: أنّها غير صحيحة؛ لأنّها كفالة بعين فلم تصح، كالكفالة بالزوجة و بدن الشاهدَيْن(1).

و الحقّ: الأوّل؛ لقوله تعالى:«قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ» (2) فطلب يعقوب عليه السلام من بنيه كفيلاً ببدن يوسف عليه السلام، و قالوا ليوسف عليه السلام:«إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ» (3) و ذلك كفالة بالبدن.

و ما رواه العامّة من قول النبيّ صلى الله عليه و آله: «الزعيم غارم»(4).

و من طريق الخاصّة: قول الباقر عليه السلام: «إنّ عليّاً عليه السلام أُتي برجل كفل برجلٍ بعينه فأخذ الكفيل، فقال: احبسوه حتى يأتي بصاحبه»(5).

و لإطباق الناس عليه في جميع الأعصار في كلّ الأصقاع، و لو لم تكن صحيحةً امتنع إطباق الخلق الكثير عليه. و لأنّ الحاجة تدعو إليه، و تشتدّ الضرورة إليه، فلو لم يكن سائغاً لزم الحرج و الضرورة. و لأنّ ما وجب تسليمه بعقدٍ وجب تسليمه بعقد الكفالة، كالمال و وجوب تسليم البدن».

ص: 388


1- المهذّب - للشيرازي - 349:1، حلية العلماء 86:5، التهذيب - للبغوي - 187:4، العزيز شرح الوجيز 159:5، المغني 95:5، الشرح الكبير 98:5.
2- يوسف: 66.
3- يوسف: 78.
4- سنن ابن ماجة 2405/804:2، سنن أبي داوُد 3565/297:3، سنن الترمذي 1265/565:3، سنن الدار قطني 8/70:4، سنن البيهقي 72:6، سنن سعيد ابن منصور 125:1-427/126، مسند أحمد 21792/358:6، و 22001/397.
5- التهذيب 486/209:6، و فيه: «بالمكفول» بدل «الكفيل».

يكون بعقد النكاح و الإجارة.

مسألة 560: و يصحّ عقد الكفالة حالّةً و مؤجَّلةً عند أكثر علمائنا

(1) - و به قال الشافعي(2) - للأصل الدالّ على الجواز.

و قال الشيخ رحمه الله: لا يصحّ ضمان مال و لا نفس إلاّ بأجلٍ معلوم(3).

و هو ممنوع.

إذا ثبت هذا، فإذا أطلق عقد الكفالة أو شرط الحلول، كانت حالّةً؛ لأنّ كلّ عقدٍ دَخَله الحلول إذا أطلق اقتضى الحلول، كالثمن.

و إذا ذكر أجلاً، وجب تعيينه، فإن أبهم، كان العقد باطلاً عندنا - و به قال الشافعي و أحمد(4) - لما فيه من الغرر بجهالة الأجل. و لأنّه ليس له وقت يستحقّ مطالبته فيه.

و كذا الضمان.

فإن جَعَله إلى الحصاد و الجذاذ و القطاع(5) ، لم يصح عندنا، و هو أحد قولَي الحنابلة(6).

و الأولى عندهم: صحّته؛ لأنّه تبرّع من غير عوضٍ جعل له أجلاً لا يمنع من حصول المقصود فيه، فصحّ(7).

و عن أحمد رواية: أنّه إذا قيّد الكفالة بساعةٍ، صحّ، و لزمه. و توقّف

ص: 389


1- منهم: الشيخ الطوسي في المبسوط 337:2، و الحلّي في السرائر 77:2، و المحقّق في شرائع الإسلام 115:2.
2- المهذّب - للشيرازي - 350:1.
3- النهاية: 315.
4- المهذّب - للشيرازي - 350:1، الوسيط 244:3، الوجيز 185:1، حلية العلماء 72:5 و 77، التهذيب - للبغوي - 190:4، العزيز شرح الوجيز 169:5، روضة الطالبين 493:3، المغني 100:5، الشرح الكبير 106:5.
5- في «ث»: «القطاف» بدل «القطاع». (6 و 7) المغني 100:5، الشرح الكبير 106:5.

لو عيّن الوقت المتّسع(1).

و لأنّه شرط فيها شرطاً فاسداً فلم يصح مطلقها؛ لعدم الرضا به، و لا مقيّدها بهذا الشرط؛ لفساده.

و للشافعي وجهٌ آخَر: أنّها تصحّ كالعاريّة بأجلٍ مجهول(2).

و هو غلط؛ لأنّ العاريّة لا تلزم، و لهذا لو قال له: أعرتك أحد هذين الثوبين، جاز، و كان له الانتفاع بأحدهما، و لو قال: كفلت لك بأحد هذين، لم يصح، كذا هنا.

مسألة 561: عقد الكفالة يصحّ دخول الخيار فيه،

فإن شرط الخيار فيها مدّة معيّنة، صحّ؛ لقوله عليه السلام: «المؤمنون عند شروطهم»(3).

و قولِه تعالى:«أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» (4) أمر بالوفاء بالعقد، و إنّما وقع العقد على هذا الشرط، و ليس منافياً لمقتضاه، كما لا ينافي غيره من العقود.

و قال الشافعي: إذا شرط في الكفالة الخيار، بطل العقد؛ لأنّه عقد لا يجوز فيه شرط الخيار، فإذا شرطه بطل، كالسَّلَم و الصرف(5).

و المقدّمة الأُولى ممنوعة، و الحكم في المقيس عليه ممنوع.

و قال أبو حنيفة: إذا شرط الخيار في الكفالة، صحّ العقد، و بطل الشرط؛ لأنّ الضمان يتعلّق بغرر و خطر، فلم يفسد بالشرط الفاسد،

ص: 390


1- المغني 100:5، الشرح الكبير 106:5.
2- المهذّب - للشيرازي - 350:1، حلية العلماء 72:5 و 77.
3- التهذيب 1503/371:7، الاستبصار 835/232:3، الجامع لأحكام القرآن 33:6.
4- المائدة: 1.
5- حلية العلماء 77:5، التهذيب - للبغوي - 191:4، العزيز شرح الوجيز 167:5، روضة الطالبين 493:3.

كالنكاح(1).

مسألة 562: لا بدَّ في العقد من صيغةٍ دالّةٍ على الإيجاب و القبول،

فيقول الكفيل: كفلت لك بدنَ فلان، أو: أنا كفيل بإحضاره، أو: كفيل به، أو بنفسه، أو ببدنه، أو بوجهه، أو برأسه؛ لأنّ كلّ ذلك يُعبَّر به عن الجملة.

و لو كفل رأسه أو كبده أو عضواً لا تبقى الحياة بدونه، أو بجزء شائع فيه، كثلثه أو ربعه، قال بعض علمائنا: لا يصحّ؛ إذ لا يمكن إحضار ما شرط مجرّداً، و لا يسري العقد إلى الجملة(2).

و قال بعض الشافعيّة: تصحّ الكفالة؛ لأنّه لا يمكن إحضار ذلك المكفول إلاّ بإحضار كلّه(3). و هو الوجه عندي.

و لو تكفّل بعضو تبقى الحياة بعد زواله، كيده و رِجْله و إصبعه و غيرها، للشافعيّة وجهان:

أحدهما: الصحّة؛ لأنّه لا يمكنه إحضار هذه الأعضاء على صفتها إلاّ بإحضار البدن كلّه، فأشبه الكفالة بالوجه و القلب. و لأنّه حكم تعلّق بالجملة، فيثبت حكمه إذا أُضيف إلى البعض، كالعتق.

و الثاني: لا تصحّ؛ لأنّه لا يمكن(4) إحضاره بدون الجملة مع بقائها(5)

ص: 391


1- حلية العلماء 77:5، العزيز شرح الوجيز 167:5.
2- راجع: شرائع الإسلام 118:2.
3- الحاوي الكبير 465:6، المهذّب - للشيرازي - 350:1، حلية العلماء 74:5، التهذيب - للبغوي - 192:4، العزيز شرح الوجيز 170:5، روضة الطالبين 495:3.
4- في المغني و الشرح الكبير: «يمكن» بدون «لا» النافية.
5- الحاوي الكبير 465:6، المهذّب - للشيرازي - 350:1، حلية العلماء 74:5، التهذيب - للبغوي - 192:4، العزيز شرح الوجيز 170:5، روضة الطالبين 495:3، المغني 96:5، الشرح الكبير 100:5-101.

و قال بعض الشافعيّة: لا تصحّ الكفالة في جميع ذلك كلّه، سواء بقيت الحياة بدونه أو لا، و سواء كان جزءً مشاعاً أو لا؛ لأنّ ما لا يسري إذا خصّ به عضواً لم يصح، كالبيع و الإعارة و الوصيّة و الإجارة(1).

البحث الثاني: في الكفيل و المكفول و المكفول له.
مسألة 563: يُشترط في الكفيل البلوغُ و العقلُ و الحُرّيّةُ و جوازُ التصرّف،

فلا تصحّ كفالة الصبي و لا المجنون و لا العبد و لا مَنْ لا يجوز تصرّفه، كالسكران و الغافل و النائم و الساهي و المحجور عليه للسفه و الفلس؛ لأنّ الكفالة تستلزم غرم المال مع عدم الإحضار، و هؤلاء كلّهم ممنوعون من التصرّف في أموالهم.

و لا يُشترط ذلك في المكفول و لا في المكفول له، فإنّه تجوز الكفالة للصبي و المجنون و غيرهما إذا قَبِل الوليّ.

مسألة 564: يُشترط رضا الكفيل، فلا تصحّ كفالة المكره على الكفالة؛

لأنّه لا يصحّ أن يلزمه الحقّ ابتداءً إلاّ برضاه. و لا نعلم فيه خلافاً.

و كذا يُعتبر رضا المكفول له؛ لأنّه صاحب الحقّ، فلا يجوز إلزامه شيئاً بغير رضاه، و كما يُعتبر رضا المرتهن في الارتهان، كذا المكفول له يُعتبر رضاه في الكفالة.

و قال أحمد: لا يُعتبر رضاه؛ لأنّها(2) التزام حقٍّ له من غير عوض،

ص: 392


1- المهذّب - للشيرازي - 350:1، حلية العلماء 74:5، التهذيب - للبغوي - 192:4، العزيز شرح الوجيز 170:5، روضة الطالبين 495:3.
2- في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «لأنّه». و ما أثبتناه كما في المصدر.

فلم يُعتبر رضاه فيها(1).

و ليس بصحيح.

أمّا المكفول به فلا يُعتبر رضاه، بل تصحّ الكفالة و إن كره المكفول به، عند علمائنا - و به قال ابن سريج من الشافعيّة(2) - لأنّها وثيقة على الحقّ، فصحّت بغير أمر مَنْ عليه، كالضمان.

و قال عامّة الشافعيّة - و هو منقول عن الشافعي -: إنّه يُعتبر رضا المكفول(3) به؛ لأنّه إذا لم يأذن المكفول به في الكفالة لم يلزمه الحضور معه، فلم يتمكّن من إحضاره، فلم تصحّ(4) كفالته؛ لأنّها كفالة بغير المقدور عليه، بخلاف الضمان؛ لأنّه يمكنه الدفع من ماله، و لا يمكنه أن ينوب عنه في الحضور(5).

و نمنع عدم لزوم الحضور.

و خلاف الشافعيّة هنا مبنيّ على أنّ الكفيل هل يغرم عند العجز؟ إن قلنا: لا يغرم، لم تصح الكفالة؛ لأنّه إذا تبرّع لم يتمكّن من إحضاره؛ إذ لا تلزمه الإجابة، فلا تفضي الكفالة إلى مقصودٍ. و إن قلنا: نعم، يغرم عند العجز(6).

فعلى قولنا إذا تكفّل به بغير أمره فطالَبه المكفول له بإحضاره، وجب5.

ص: 393


1- المغني 103:5، الشرح الكبير 102:5.
2- الحاوي الكبير 464:6، حلية العلماء 73:5.
3- في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «المضمون» بدل «المكفول». و الظاهر ما أثبتناه.
4- في النسخ الخطّيّة: «فلا تصحّ».
5- الحاوي الكبير 464:6، المهذّب - للشيرازي - 350:1، حلية العلماء 73:5، التهذيب - للبغوي - 189:4، العزيز شرح الوجيز 165:5، روضة الطالبين 491:3، المغني 103:5-104، الشرح الكبير 102:5.
6- العزيز شرح الوجيز 165:5.

عليه إحضاره، و وجب على المكفول به الحضورُ، لا من جهة الكفالة، و لكن لأنّ المكفول له أمره بإحضاره، فهو بمنزلة وكيله في مطالبته بحضوره.

و لو لم يقل المكفول له: أحضره، و لكن قال: أُخرج إليَّ من كفالتك، أو: أُخرج عن حقّي، فهل يجب على المكفول به الحضور؟ الأقرب: ذلك؛ لأنّ ذلك يتضمّن الإذن له في إحضاره، و هو أحد وجهي الشافعيّة على قول ابن سريج.

و الثاني: لا يلزمه؛ لأنّه طالَبه بما عليه من الإحضار، فعلى هذا له حبسه، و لا يلزم المكفول به الحضور(1).

و هو باطل؛ لأنّه يحبس على ما لا يقدر عليه.

مسألة 565: يُشترط في المكفول به التعيينُ،

فلو قال: كفلت أحد هذين، أو كفلت زيداً أو عمرواً، لم يصح؛ لأنّه لم يلتزم بإحضار أحدهما بعينه.

و كذا لو قال: كفلت لك ببدن زيد على أنّي إن جئت به و إلاّ فأنا كفيل بعمرو، لم يصح؛ لأنّه لم يلتزم إحضار أحدهما بعينه. و لأنّه علّق الكفالة في عمرو بشرطٍ، و الكفالة لا تتعلّق بالشرط، فلو قال: إن جئت فأنا كفيل به، لم يصح. و كذا لو قال: إن جاء زيد فأنا كفيل به، أو: إن طلعت الشمس، و بذلك كلّه قال الشافعي(2).

و لو قال: أنا أُحضره، أو أُؤدّي ما عليه، لم يكن كفالةً.

ص: 394


1- حلية العلماء 73:5، العزيز شرح الوجيز 165:5-166، روضة الطالبين 492:3.
2- التهذيب - للبغوي - 181:4 و 190 و 191، العزيز شرح الوجيز 161:5 و 167 و 171، روضة الطالبين 487:3 و 493 و 496.
مسألة 566: كلّ مَنْ عليه حقٌّ ماليٌّ صحّت الكفالة ببدنه،

و لا يشترط العلم بمبلغ ذلك المال؛ لأنّ الكفالة إنّما هي بالبدن لا بذلك المال، و البدن معلوم، فلا تبطل الكفالة لاحتمال عارضٍ. و لأنّا قد بيّنّا أنّ ضمان المجهول صحيح، و هو التزام المال ابتداءً، فالكفالة التي لا تتعلّق بالمال ابتداءً أولى، و هو قول أكثر الشافعيّة(1).

و قال بعضهم: لا تصحّ كفالة مَنْ عليه حقٌّ مجهول؛ لأنّه قد يتعذّر إحضار المكفول به، فيلزمه الدَّيْن، و لا يمكن طلبه منه؛ لجهله. و لأنّهم قالوا ذلك بناءً على أنّه لو مات، غرم الكفيل ما عليه(2).

و هذا عندنا غير صحيح.

مسألة 567: يُشترط أن يكون ذلك المال ثابتاً في الذمّة بحيث يصحّ ضمانه،

فلو تكفّل ببدن مَنْ لا دَيْن عليه أو مَنْ جعل جعالة قبل الفعل و الشروع فيه، لم يصح.

و لو تكفّل ببدن المكاتب للنجوم التي عليه، صحّ عندنا؛ لأنّ مال الكتابة عندنا ثابت في ذمّة المكاتب على ما سلف(3).

و للشيخ قولٌ بعدم الثبوت؛ لأنّ له أن يُعجّز نفسه(4) ، و به قال الشافعي(5)

ص: 395


1- المهذّب - للشيرازي - 350:1، العزيز شرح الوجيز 159:5-160، روضة الطالبين 486:3.
2- المهذّب - للشيرازي - 350:1، العزيز شرح الوجيز 160:5، روضة الطالبين 486:3.
3- في ص 316، المسألة 507.
4- المبسوط - للطوسي - 197:2 و 320.
5- الحاوي الكبير 441:6، المهذّب - للشيرازي - 347:1، الوسيط 238:3، التهذيب - للبغوي - 175:4، العزيز شرح الوجيز 155:5، روضة الطالبين 482:3.

فعلى هذا لا تصحّ كفالة بدن المكاتب للنجوم التي عليه؛ لأنّه لو ضمن النجوم لم يصح، فالكفالة بالبدن للنجوم أولى أن لا تصحّ. و لأنّ الحضور لا يجب على المكاتب، فلا تجوز الكفالة به، كدَيْن الكتابة.

مسألة 568: إذا كان عليه عقوبة، فإن كانت من حقوق اللّه تعالى - كحدّ الزنا و السرقة و الشرب - لم تصح الكفالة ببدنه عليها

عند علمائنا - و هو المشهور من مذهب الشافعي(1) - لأنّ الكفالة للتوثيق، و حقوق اللّه تعالى مبنيّة على الإسقاط، و ينبغي السعي في دفعها ما أمكن، و لهذا لمّا أقرّ ماعز بالزنا عرض له رسول اللّه صلى الله عليه و آله بالرجوع و الإنكار، فقال له: «لعلّك قبّلتها، لعلّك لامَسْتَها» و أعرض بوجهه صلى الله عليه و آله عنه(2).

و طرّد القاضي ابن سلمة و ابن خيران من الشافعيّة القولين فيه(3).

و الخلاف في هذا الباب شبيه الخلاف في ثبوت العقوبات بالشهادة على الشهادة و كتاب القاضي إلى القاضي.

و أمّا إن كانت العقوبة من حقوق الآدميّين - كالقصاص و حدّ القذف - فالأقرب عندي: ثبوتها في القصاص، أمّا الحدّ فلا تصحّ الكفالة به؛ لما رواه العامّة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه (عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه)(4) قال: «لا كفالة في حدٍّ»(5).

و من طريق الخاصّة: ما رواه الصدوق رحمه الله عن أمير المؤمنين عليّ عليه السلام،

ص: 396


1- الحاوي الكبير 463:6، المهذّب - للشيرازي - 350:1، التهذيب - للبغوي - 187:4، العزيز شرح الوجيز 160:5، روضة الطالبين 486:3.
2- صحيح البخاري 207:8، سنن الدار قطني 131/121:3 و 132، مسند أحمد 2130/394:1، المعجم الكبير - للطبراني - 11936/338:11.
3- العزيز شرح الوجيز 160:5.
4- بدل ما بين القوسين في «ج، ر»: «أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله».
5- الكامل - لابن عدي - 1681:5، تاريخ بغداد 391:3.

قال: قضى أنّه لا كفالة في حدٍّ(1).

و هذا القول بعدم صحّة الكفالة في الحدّ قولُ أكثر العلماء، و به قال شريح و الحسن البصري و إسحاق و أبو عبيد و أبو ثور و أصحاب الرأي و أحمد(2).

و اختلف قول الشافعي فيه.

فقال في باب اللعان: إنّه لا يكفل رجل في حدٍّ و لا لعان(3).

و نقل المزني عنه أنّه قال: تجوز الكفالة بمن(4) عليه حقّ أو حدّ(5).

و اختلف أصحابه في ذلك على طُرق أظهرها عندهم - و يُحكى عن ابن سريج - أنّه على قولين:

أحدهما: الجواز؛ لأنّه حقٌّ لازم لآدميٍّ، فصحّت الكفالة به، كسائر حقوق الآدميّين. و لأنّ الحضور مستحقٌّ عليه، فجاز التزام إحضاره.

و الثاني: المنع؛ لأنّ العقوبات مبنيّة على الدفع، و لهذا قال عليه السلام:

«ادرءوا الحدود بالشبهات»(6) فينبغي إبطال الذرائع المؤدّية إلى توسيعها و تحصيلها. و لأنّه حقٌّ لا يجوز استيفاؤه من الكفيل إذا تعذّر إحضار المكفول به، فلم تصح الكفالة بمن(7) هو عليه، كحدّ الزنا(8)5.

ص: 397


1- الفقيه 184/54:3.
2- المغني 97:5، الشرح الكبير 99:5.
3- الأُم 297:5، مختصر المزني: 214، الحاوي الكبير 462:6، العزيز شرح الوجيز 160:5، المغني 97:5، الشرح الكبير 160:5.
4- في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «لمن» بدل «بمن». و الظاهر ما أثبتناه.
5- العزيز شرح الوجيز 160:5، المغني 97:5، الشرح الكبير 100:5.
6- تاريخ بغداد 303:9، تاريخ مدينة دمشق 347:23.
7- في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «ممّن» بدل «بمن». و الظاهر ما أثبتناه.
8- العزيز شرح الوجيز 160:5.

و أبو حامد من الشافعيّة بنى القولين على أنّه إذا مات المكفول ببدنه هل يغرم الكفيل ما عليه من الدَّيْن ؟ إن قلنا: نعم، لم تصح الكفالة؛ لأنّه لا يمكن مؤاخذته بما عليه. و إن قلنا: لا، صحّت، كما لو تكفّل ببدن مَنْ عليه مالٌ(1).

و قضيّة هذا البناء أن يكون قول التصحيح أظهر.

و هو اختيار القفّال(2).

و ادّعى الروياني أنّ المذهب المنعُ(3).

الطريق الثاني للشافعيّة: القطع بالجواز، و حَمْلُ ما ذكره في اللعان على الكفالة بنفس الحدّ(4).

الطريق الثالث: القطع بالمنع؛ لأنّه لا تجوز الكفالة بما عليه، فلا تجوز ببدنه(5).

و الضابط في ذلك أن نقول: حاصل كفالة البدن التزام إحضار المكفول ببدنه، فكلّ مَنْ يلزمه حضور مجلس الحكم عند [الاستدعاء](1) أو يستحقّ إحضاره تجوز الكفالة ببدنه.

مسألة 569: لو ادّعى شخصٌ زوجيّةَ امرأةٍ، صحّت الكفالة ببدنها؛ لوجوب الحضور عليها إلى مجلس الحكم. و كذلك الكفالة بها لمن

مسألة 569: لو ادّعى شخصٌ زوجيّةَ امرأةٍ، صحّت الكفالة ببدنها؛ لوجوب الحضور عليها إلى مجلس الحكم. و كذلك الكفالة بها لمن(2) ثبتت زوجيّته.

و قال بعض الشافعيّة: الظاهر أنّ حكم هذه الكفالة حكم الكفالة ببدن

ص: 398


1- بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «الاستعداء». و الظاهر ما أثبتناه.
2- بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «ثمّ». و الصحيح ما أثبتناه.

مَنْ عليه القصاص؛ لأنّ المستحقّ عليها لا يقبل النيابة(1).

و لو تكفّل ببدن عبدٍ آبقٍ لمالكه، صحّ، و يلزمه السعي في ردّه.

و يتأتّى فيه ما قيل في الزوجة.

و مَنْ في يده مالٌ مضمون - كالغصب و المستام و العارية بشرط الضمان - تصحّ كفالتُه و ضمانُ عين المغصوب و المستام ليردّها على مالكها، فإن ردَّ، برئ من الضمان. و إن تلفت، ففي إلزامه بالقيمة وجهان، الأقرب: العدم.

و تصحّ كفالة المستودع و الأمين؛ لوجوب ردّ الوديعة عليه.

و الميّت قد يستحقّ إحضاره ليقيم الشهود الشهادة على صورته إذا تحمّلوها كذلك من غير معرفة النسب و لا الاسم، فتصحّ الكفالة على إحضار بدنه.

و أيضاً الصبي و المجنون قد يستحقّ إحضارهما لإقامة الشهادة على صورتهما في الإتلاف و غيره، فتجوز الكفالة ببدنهما.

ثمّ إن كفل بإذن وليّهما، فله مطالبة وليّهما بإحضارهما عند الحاجة.

و إن كفل بغير إذنه، فهو كالكفالة ببدن العاقل بغير إذنه، و قد بيّنّا(2) جوازه عندنا.

و للشافعي قولان(3).

قال(4) الجويني: لو كفل رجل ببغداد ببدن رجل بالبصرة، فالكفالة».

ص: 399


1- العزيز شرح الوجيز 161:5، روضة الطالبين 486:3.
2- في ص 393، ضمن المسألة 564.
3- حلية العلماء 77:5، التهذيب - للبغوي - 192:4، العزيز شرح الوجيز 161:5، روضة الطالبين 487:3، و راجع الهامش (2 و 5) من ص 393.
4- في الطبعة الحجريّة: «و قال».

باطلة؛ لأنّ مَنْ بالبصرة لا يلزمه الحضور ببغداد في الخصومات، و الكفيل فرع المكفول ببدنه، فإذا لم يجب عليه الحضور، لا يمكن إيجاب الإحضار على الكفيل(1).

و هو حسن.

مسألة 570: كلّ مَنْ يستحقّ عليه الحضور إلى مجلس الشرع تجوز كفالته،

فتصحّ كفالة مَن ادّعى عليه و إن لم تقم البيّنة عليه بالدَّيْن و إن جحد؛ لاستحقاق الحضور عليه.

و الأصل فيه: أنّ المنكر يجب عليه فصل الخصومة، فإذا رضي بتأخيرها، صحّت الكفالة عليه و إن كانت الكفالة في نفسها ليست لازمةً إذا طلب الفصل في الحال.

و أمّا كفالة الحقّ فالحقّ الذي يُدّعى على المكفول ببدنه إن ثبت بإقراره أو بالبيّنة، فلا خلاف في صحّة الكفالة ببدنه.

و إن(2) لم يثبت لكن ادّعى المدّعي عليه، فإن لم ينكر و لم يصدِّق بل سكت، صحّت الكفالة أيضاً.

و إن أنكر، صحّت الكفالة أيضاً؛ لأنّ الحضور مستحقّ(3) عليه، فجاز [التزام](4) إحضاره، و معظم الكفالات إنّما تتّفق قبل ثبوت الحقوق، و هو أصحّ وجهي الشافعيّة.

و الثاني: البطلان؛ لأنّ الأصل براءة ذمّة المكفول، و قد تأيّد ذلك بصريح الإنكار، و الكفالة ببدن مَنْ لا حقّ عليه باطلة(5)

ص: 400


1- العزيز شرح الوجيز 161:5، روضة الطالبين 487:3.
2- في «ث، ر»: «فإن».
3- في الطبعة الحجريّة: «يستحقّ».
4- بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «إلزام». و الظاهر ما أثبتناه.
5- العزيز شرح الوجيز 161:5، روضة الطالبين 487:3.

و الأوّل أقوى.

إذا عرفت هذا، فإنّ الكفالة و إن صحّت لكن ليس للمدّعي قبل ثبوت دعواه إلزام الغريم بكفيلٍ على الحضور، كما ليس له إلزامه بكفيلٍ على المال، لكن لو كفله شخص على الحضور قبل ثبوت الدعوى، صحّ.

إذا ثبت هذا، فإنّ الكفالة تصحّ ببدن الغائب و المحبوس و إن تعذّر تحصيل الغرض في الحال، كما يجوز من المعسر ضمان المال، و به قال الشافعي(1).

و قال أبو حنيفة: لا تجوز(2).

و تصحّ كفالة مَنْ يُدّعى(3) عليه الكفالة، و كذا مَنْ يُدّعى عليه القصاص و الحدّ؛ لأنّ الحدّ و إن لم تصحّ الكفالة عليه فإنّه تصحّ الكفالة ببدن مَنْ يُدّعى عليه الحدّ؛ لوجوب حضوره عند الحاكم ليثبت المدّعي عليه حقّه بالبيّنة أو الإقرار.

مسألة 571: إذا عيّن الكفيل في كفالته مكانَ التسليم، تعيّن، و لم يجب عليه تسليمه في غير ذلك المكان،

سواء كان أرفق له أو لا.

و لو طلب ذلك المكفولُ له، لم تجب له إجابته.

و إن أطلق، فالأقرب: وجوب تسليمه في موضع العقد؛ لأنّه المفهوم عند الإطلاق.

و قال بعض الشافعيّة: إنّ فيه قولين، كما لو أطلق السَّلَم و لم يعيّن

ص: 401


1- التهذيب - للبغوي - 188:4، العزيز شرح الوجيز 161:5، روضة الطالبين 487:3.
2- العزيز شرح الوجيز 161:5، المغني 97:5، الشرح الكبير 99:5.
3- في النسخ الخطّيّة: «ادّعي» بدل «يدّعى».

مكان التسليم(1).

و قال الجويني: يُحمل على مكان الكفالة، و لا يجيء فيه ذلك الخلاف(2).

و على كلّ تقدير فالأقوى جواز الإطلاق، و حمله على مكان العقد، و قد بيّنّا أنّه إذا عيّن المكان أو أطلق و حملنا الإطلاق على موضع العقد فأحضره في غيره، لم يلزمه تسلّمه، سواء كان عليه مئونة أو مشقّة في حمله إلى المعيّن أو لا.

و قال الشافعي: إن كان عليه مئونة أو مشقّة في حمله إلى الموضع الذي عيّنه، لم يلزمه تسلّمه، و إن لم يكن عليه في ذلك ضرر، لزمه قبوله(1).

و حكى أبو العباس ابن سريج فيه وجهين(2).

و الحقّ ما قلناه من أنّه لا يبرأ بالتسليم في غير المعيّن، و به قال أبو يوسف و محمّد(3).

و قال بعض العامّة: إن أحضره بمكانٍ آخَر من البلد و سلّمه، برئ من الكفالة(4).

و قال بعضهم: متى أحضره في أيّ مكانٍ كان و في ذلك الموضع5.

ص: 402


1- المهذّب - للشيرازي - 351:1، حلية العلماء 80:5.
2- حلية العلماء 81:5.
3- تحفة الفقهاء 245:3، بدائع الصنائع 12:6، المبسوط - للسرخسي - 166:19، الهداية - للمرغيناني - 88:3، الاختيار لتعليل المختار 272:2، فتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهنديّة 57:3، المغني 99:5، الشرح الكبير 103:5.
4- المغني 99:5، الشرح الكبير 103:5.

سلطان، برئ من الكفالة؛ لكونه لا يمكنه الامتناع من مجلس الحكم، و يمكن إثبات الحجّة فيه(1).

و هو غلط؛ لأنّه سلّم ما شرط تسليمه في مكانٍ في غير ذلك المكان، فلم يبرأ بهذا التسليم، كما لو أحضر المُسْلَم فيه في غير المكان المشترط.

و لأنّه قد سلّمه في موضعٍ لا يقدر على إثبات الحجّة فيه إمّا لغيبة شهوده، أو لعدم(2) معرفة الحاكم و أهل بلده بحالهم(3) أو غير ذلك، و قد يهرب منه و لا يقدر على إمساكه.

إذا عرفت هذا، فإنّ الكفيل إذا أتى بالمكفول [به] في غير الموضع، لم يلزم المكفول له قبوله، لكن يجوز له قبوله، و له أن يمتنع و إن لم يكن له غرض، خلافاً للشافعي(4) ، كما تقدّم، أو كان(5) بأن كان قد عيّن مجلس الحكم أو بقعة يجد فيها مَنْ يعينه على خصمه.

مسألة 572: إذا دفع الكفيلُ المكفولَ ببدنه إلى المكفول له من غير حائلٍ من يد سلطان أو شبهه، بل تسليماً تامّاً، لزمه قبوله،
اشارة

أو إبراء ذمّة الكفيل من الكفالة، فإن امتنع، دَفَعه إلى الحاكم و سلّمه إليه ليبرأ. و إن لم يجد حاكماً، أشهد عَدْلين بإحضاره إلى المكفول له و امتناع المكفول له.

و الأقوى: أنّه يكفي الإشهاد على الامتناع، و أنّه سلّمه إليه فلم يتسلّمه، و لا يجب دفعه إلى الحاكم؛ لأنّ مع وجود صاحب الحقّ لا يلزمه دَفْعه إلى مَنْ ينوب عنه من حاكمٍ أو غيره.

ص: 403


1- المغني 99:5، الشرح الكبير 103:5.
2- في «ث، ج»: «عدم».
3- أي: حال الشهود.
4- العزيز شرح الوجيز 163:5، روضة الطالبين 489:3.
5- أي: كان له غرض.

و للشافعيّة القولان(1).

و يبرأ الكفيل بتسليم المكفول [به] في المكان الذي وجب التسليم فيه، سواء طلبه المستحقّ أو لم يطلبه بل أتاه به، بشرط أن لا يكون هناك حائل من يد سلطانٍ و متغلّبٍ و حبسٍ بغير حقٍّ لينتفع بتسليمه و يطالب الخصم.

و لو كان المكفول [به] محبوساً في حبس ظالمٍ، لم يكن له أن يسلّمه إليه محبوساً، و لا يبرأ بذلك، و لا يلزمه أن يتسلّمه محبوساً؛ لأنّ ذلك الحبس يمنعه من استيفاء حقّه(2).

و إن كان محبوساً عند الحاكم فسلّمه إليه محبوساً، لزمه تسلّمه، و برئ الكفيل من الكفالة؛ لأنّ حبس الحاكم لا يمنعه من استيفاء حقّه، لإمكان إحضاره و مطالبته بالحقّ، فإذا طالَب الحاكم بإحضاره، أحضره بمجلسه، و حَكَم بينهما، فإذا فرغت الحكومة، ردّه إلى الحبس بالحقّ الأوّل.

و إن توجّه عليه حقّ المكفول له، حَبَسه بالحقّ الأوّل و حقّ المكفول له، و من أيّهما خلص بقي محبوساً على الآخَر.

فروع:
أ - لو ارتدّ المكفول به و لحق بدار الحرب، لزم الكفيل إحضاره إن تمكّن منه، و إلاّ فلا.

و كذا المحبوس عند غير الحاكم.

ب - لا يُشترط تسليم المكفول به من الكفيل في براءة ذمّة الكفيل،

ص: 404


1- حلية العلماء 79:5.
2- في «ث، خ، ر» و الطبعة الحجريّة: «من الاستيفاء بحقّه».

بل لو جاء المكفول به و سلّم نفسه إلى المكفول له تسليماً تامّاً، برئ الكفيل من الكفالة؛ لأنّ القصد ردّه إلى المكفول له، فلا فرق بين حصوله في يده بالكفيل أو بغيره نائباً عنه.

ج - لو أخذ المكفولُ له المكفولَ به إمّا طوعاً أو كرهاً و أحضره مجلس الحكم،

برئ الكفيل من الكفالة؛ لما تقدّم.

د - لو حضر المكفول به و قال: سلّمت نفسي إليك عن جهة الكفيل، برئ الكفيل،

كما يبرأ الضامنُ بأداء الأصيل الدَّيْنَ.

و لو لم يُسلّمه نَفْسَه عن جهة الكفيل، لم(1) يبرأ الكفيل؛ لأنّه لم يسلّمه إليه و لا أحد من جهته، حتى قال بعض الشافعيّة: لو ظفر به المكفول له في مجلس الحكم و ادّعى عليه، لم يبرأ الكفيل(2).

و ليس بجيّد، و الوجه: ما قلناه أوّلاً.

ه - لو سلّمه أجنبيّ لا عن جهة الكفيل، لم يبرأ الكفيل.

و لو(3) سلّمه عن جهة الكفيل، فإن كان بإذنه، فهو كما لو سلّمه بنفسه؛ إذ لا تُشترط المباشرة. و إن كان بغير إذنه، لم يجب على المكفول له القبولُ؛ إذ لا يجب عليه قبض الحقّ إلاّ ممّن عليه. لكن لو قَبِل، برئ الكفيل.

مسألة 573: لو تكفّل واحد ببدن رجلٍ لاثنين فسلّمه

مسألة 573: لو تكفّل واحد ببدن رجلٍ لاثنين فسلّمه(4) إلى أحدهما، لم يبرأ من كفالة الآخَر،

فإنّ العقد مع اثنين بمنزلة العقدين، فهو كما لو

ص: 405


1- في «ج، ر» و الطبعة الحجريّة: «لا» بدل «لم».
2- التهذيب - للبغوي - 188:4-189، العزيز شرح الوجيز 163:5-164، روضة الطالبين 489:3.
3- في النسخ الخطّيّة: «و إن» بدل «و لو».
4- في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «فسلّم». و الظاهر ما أثبتناه.

تكفّل لكلّ واحدٍ منهما به على الانفراد، و كما لو ضمن دَيْنين لشخصين فأدّى دَيْن أحدهما، لم يبرأ من دَيْن الآخَر.

و لو كفل رجلان برجلٍ لرجلٍ، صحّت الكفالة، كما يصحّ أن يضمن اثنان واحداً. فإن ردّه أحدهما إلى المكفول له، فهل يبرأ الآخَر؟ الأقرب:

البراءة، كما لو أدّى الدَّيْنَ أحدُ الضمناء، برئ الباقون، و هو أحد قولَي الشافعيّة.

و الثاني لهم: أنّهما إن كفلا على الترتيب، وقع تسليمه عن المُسلِّم دون صاحبه، سواء قال: سلّمتُ عن صاحبي، أم لم يقل(1).

و إن كفلا معاً، فوجهان.

قال المزني: يبرأ المسلِّم و الآخَر أيضاً، كالضامنين إذا أدّى أحدهما.

و قال ابن سريج و الأكثر: لا يبرأ، كما لو كان بالدَّيْن رهنان فانفكّ أحدهما، لا ينفكّ الآخَر، بخلاف ما إذا أدّى أحد الضامنين الدَّيْنَ، فإنّه يوجب براءة الأصيل، و إذا برئ الأصيل برئ كلّ ضامنٍ، و هنا سقطت الوثيقة عن أحدهما مع بقاء الحقّ(2).

و لو كفل اثنان بواحدٍ و كفل كلٌّ من الكفيلين ببدن صاحبه، صحّت الكفالات كلّها؛ لأنّ كلّ مكفولٍ هنا عليه حقٌّ. فعلى ما قلناه إذا أحضر أحدُهما المكفولَ به و سلّمه، يبرأ كلّ واحدٍ منهما عن كفالة صاحبه و كفالة الذي كفلا به.

و على قول ابن سريج وجهان:3.

ص: 406


1- العزيز شرح الوجيز 164:5، روضة الطالبين 489:3-490.
2- حلية العلماء 75:5، التهذيب - للبغوي - 191:4، العزيز شرح الوجيز 164:5، روضة الطالبين 490:3.

أحدهما: يبرأ الأصيل و الكفيل.

و الثاني: أنّ الذي أحضره تسقط كفالته بالمكفول به، و تسقط عن الآخَر كفالته بالكفيل الذي أحضره، و بقي عليه وجوب إحضار المكفول به(1).

مسألة 574: يصحّ ترامي الكفالات،

فلو تكفّل رجل ببدن مَنْ عليه الحقُّ ثمّ تكفّل آخَر ببدن الكفيل و تكفّل ثالثٌ ببدن الكفيل الثاني، جاز، كالضمان يصحّ أن يضمن الضامن الحقَّ و يضمن ثانٍ عن الضامن و يضمن عن ضامن الضامن ضامنٌ آخَر، و هكذا.

فإذا أحضر الكفيلُ الأوّل مَنْ عليه الحقُّ، برئ و برئ الكفيلان الآخَران؛ لأنّهما فرعاه.

و إن أحضر الكفيل الثاني الكفيلَ الأوّل، برئ و برئ الثالث؛ لأنّه فرعه، و لم يبرأ الأوّل و لا مَنْ عليه الحقُّ.

فإن مات مَنْ عليه الحقُّ، فعندنا و عند الشافعي(2) يبرأ الكفلاء الثلاثة، و لا شيء عليهم.

و إن مات الكفيل الأوّل، برئ الكفيلان الآخَران.

و إن مات الثاني، برئ الثالث، دون الأوّل.

و إن مات الثالث، لم يبرأ الأوّلان.

مسألة 575: إذا مات المكفول به، بطلت الكفالة، و لم يلزم الكفيل شيء،

عند علمائنا - و به قال شريح و الشعبي و حمّاد بن أبي سليمان و أبو حنيفة و الشافعي و أحمد(3) - لأنّه تكفّل ببدنه على أن يُحضره، و قد

ص: 407


1- لاحظ: العزيز شرح الوجيز 164:5، و روضة الطالبين 490:3.
2- في «ث»: «الشافعيّة». و لاحظ الهامش التالي.
3- الهداية - للمرغيناني - 88:3، الاختيار لتعليل المختار 273:3، الحاوي الكبير 466:6، المهذّب - للشيرازي - 351:1، حلية العلماء 75:5، المغني 105:5، الشرح الكبير 104:5.

سقط الحضور عن المكفول [به] فيبرأ الكفيل، كما لو برئ من الدَّيْن. و لأنّ ما التزم به من أجله يسقط عن الأصل(1) فيبرأ الفرع، كالضامن إذا قضى المضمون عنه الدَّيْنَ أو أُبرئ منه عندهم(2). و لأنّه تكفّل ببدنه، فلا يلزمه ما في ذمّته، كما لو غاب غيبةً منقطعة. و لأنّه لا يلزمه بذل نفسه فما في ذمّته أولى.

و قال مالك و الحكم و الليث: يجب على الكفيل المال الذي كان في ذمّته - و به قال ابن سريج من الشافعيّة - لأنّ الكفيل وثيقة على الحقّ، فإذا تعذّر استيفاء الحقّ ممّن هو عليه، استوفي من الوثيقة كالرهن(3).

و الفرق ظاهر؛ فإنّ الرهن تعلّق بالمال، فاستوفى منه.

و قال بعض الشافعيّة: لا تبطل الكفالة، و لا ينقطع طلب الإحضار عن الكفيل - و هو أصحّ قولَي الشافعيّة عندهم - بل عليه إحضاره ما لم يُدفن - و قلنا بتحريم النبش لأخذ المال - إذا أراد المكفول له إقامة الشهادة على صورته، كما لو تكفّل ابتداءً ببدن الميّت(4).

و ليس بجيّد؛ لأنّ الكفالة على الإحضار إنّما يُفهم منها إحضاره حالَ الحياة، و هو المتعارف بين الناس و الذي يخطر بالبال، فيُحمل الإطلاق عليه.

و على قول ابن سريج و مالك هل يطالَب بالدَّيْن أو بالأقلّ من الدَّيْن3.

ص: 408


1- فيما عدا «ج» من النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «الأصيل».
2- المغني 105:5، الشرح الكبير 104:5.
3- الكافي في فقه أهل المدينة: 398، الحاوي الكبير 466:6، المهذّب - للشيرازي - 351:1، حلية العلماء 76:5، العزيز شرح الوجيز 165:5، روضة الطالبين 491:3، المغني 105:5، الشرح الكبير 104:5.
4- العزيز شرح الوجيز 165:5، روضة الطالبين 491:3.

ودية المقتول ؟ وجهان مبنيّان على القولين في أنّ السيّد يفدي العبد الجاني بالأرش أو بالأقلّ من الأرش و قيمة العبد؟(1).

البحث الثالث: في الأحكام.
مسألة 576: إذا كانت الكفالة حالّةً أو مؤجَّلةً و حلّ أجلها، فإن كان المكفول به حاضراً، وجب على الكفيل إحضاره
اشارة

إذا طلبه المكفول له، فإن أحضره، و إلاّ حُبس. و إن كان غائباً فإن كان موضعه معلوماً يمكنه ردّه منه، أُمهل الكفيل بقدر ذهابه و مجيئه، فإذا مضى قدر ذلك و لم يأت به من غير عذرٍ، حُبس، و لا يُحبس في الحال، و به قال عامّة أهل العلم.

و قال ابن شبرمة: يُحبس في الحال؛ لأنّ الحقّ قد توجّه عليه(2).

و هو غلط؛ لأنّ الحقّ و إن كان قد حلّ فإنّه يُعتبر فيه إمكان التسليم، و إنّما يجب عليه إحضار الغائب عند إمكان ذلك.

و إن كان غائباً غيبةً منقطعة - و المراد منها أن لا يُعرف موضعه و ينقطع خبره - لم يكلَّف الكفيل إحضاره؛ لعدم الإمكان، و لا شيء عليه؛ لأنّه لم يكفل المال، و به قال الشافعي(3).

و قال أحمد: يجب عليه المال(4) ، مع أنّه قال: إذا مات المكفول برئ الكفيل، و لا شيء عليه(5)

ص: 409


1- العزيز شرح الوجيز 165:5، روضة الطالبين 491:3.
2- حلية العلماء 80:5، المغني 98:5، الشرح الكبير 106:5.
3- العزيز شرح الوجيز 164:5، روضة الطالبين 490:3.
4- المغني 98:5-99، الشرح الكبير 106:5.
5- المغني 105:5، الشرح الكبير 104:5.
فروع:
أ - لو عرف موضعه، فقد بيّنّا أنّه يجب عليه إحضاره،

سواء كان على أزيد من مسافة القصر أو أنقص.

و قال بعض الشافعيّة: إن كان دون مسافة القصر، فعليه إحضاره و يُمهَل مدّة الذهاب و الإياب ليتبعه. و إن كان على مسافة القصر، فوجهان:

أظهرهما عندهم: أنّه كما لو كان دون مسافة القصر، كما لو كان المديون غائباً إلى هذه المسافة، يؤمر بإحضاره.

و الثاني: أنّه لا يُطالَب بإحضاره، إلحاقاً لهذه الغيبة بالغيبة المنقطعة، كما لو غاب [الولي](1) أو شاهدا(2) الأصل إلى مسافة القصر، يكون كما لو غاب غيبةً منقطعة(3).

ب - لو كان غائباً حين كفل،

فالحكم في إحضاره كما لو غاب بعد الكفالة.

ج - لو كانت الكفالة مؤجَّلةً، لم يكن للمكفول له مطالبة الكفيل بالإحضار قبل الأجل،

سواء كان عليه مئونة في التقديم أو لا.

و لو دَفَعه قبل الأجل، لم يجب على المكفول له أخذه، سواء كان عليه ضرر في أخذه، أو انتفى الضرر.

و قال بعض العامّة: إذا انتفى الضرر، وجب عليه أخذه(4)

ص: 410


1- بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «المولى». و الظاهر ما أثبتناه.
2- في «ث، ج، ر»: «شاهد».
3- العزيز شرح الوجيز 164:5، روضة الطالبين 490:3.
4- المغني 99:5، الشرح الكبير 103:5-104.

و ليس بمعتمد.

د - لو فرّط الكفيل في تحصيله بأن طالَبه المكفول له بإحضاره و كان متمكّناً منه

فهرّبه أو ماطَل بإحضاره حتى غاب غيبةً منقطعة و لم يُعرف له خبر، فإن أوجبنا المال، وجب هنا، و إلاّ فإشكال.

مسألة 577: قال الشيخ رحمه الله: و مَنْ ضمن لغيره نفسَ إنسان إلى أجلٍ معلوم بشرط ضمان النفس ثمّ لم يأت به عند الأجل، كان للمضمون له حبسه حتى يُحضِر المضمونَ،

أو يخرج إليه ممّا عليه(1).

و هذا يقتضي وجوب أحد الأمرين على الكفيل: الإحضار، أو الأداء.

فإن طلب المكفول له الإحضار لا غير، فالأقرب عندي: إلزامه به؛ لأنّه قد يكون له غرض لا يتعلّق بالأداء، و قد يرغب المكفول له في القبض من غير الغريم.

و على ظاهر كلام الشيخ يبرأ الكفيل بأداء المال.

إذا عرفت هذا، فإذا أدّى الكفيل المالَ فإن كان قد كفل بإذنه أو أدّى بإذنه، كان له الرجوع عليه، بخلاف ما قلنا في الضمان: إنّه لو ضمن متبرّعاً و أدّى بالإذن، لم يكن له الرجوع؛ لأنّ الكفالة ليست بالمال، فيكون حكمه حكمَ الأجنبيّ إذا أدّى بإذن مَنْ عليه الدَّيْنُ، كان له الرجوع - على ما تقدّم - إن شرط الرجوع، أو مطلقاً على الخلاف.

و إنّما أوجبنا الرجوع هنا فيما إذا كفل بإذنه؛ لأنّ الإذن في الكفالة إذنٌ في لوازمها، و من لوازمها الأداء مع عدم الإحضار.

إذا ثبت هذا، فإن تمكّن من الإحضار و أدّى المال من غير حبسٍ أو

ص: 411


1- النهاية: 315.

معه، فالأقرب: أنّه لا يرجع و إن كفل بإذنه؛ لأنّ الواجب في الكفالة الإحضار مع المكنة، و قد أمكنه الإحضار، فيكون في أداء المال متبرّعاً.

مسألة 578: قد بيّنّا أنّه لا يُعتبر رضا المكفول به عندنا، و هو أحد قولَي الشافعي. و في الثاني: يشترط

(1) .

و إذا كفل بإذن المكفول به فأراد الكفيل إحضاره إمّا لطلب المكفول له أو ابتداءً ليخرج عن العهدة، فعليه الإجابة، و مئونة الإحضار على الكفيل.

و إن كفل بغير إذنه عندنا أو على قوله بالصحّة فطالَبه المكفول له بالإحضار، فللكفيل مطالبته بالحضور على جهة التوكيل من المضمون له.

و لو قال: أُخرج من حقّي، للشافعيّة وجهان:

أحدهما: قال ابن سريج: لم يكن له مطالبة المكفول به بالإحضار، كما لو ضمن بغير إذنه مالاً و طالَب المضمون له الضامنَ، فإنّه لا يطالب الأصيل.

و الثاني: نعم؛ لتضمّنه التوكيلَ في الإحضار(2).

مسألة 579: لو مات المكفول له، انتقل حقّه من الكفالة إلى ورثته،

و تكون الكفالة باقيةً، و تقوم ورثته مقامه، كما لو ضمن له المال، و هو أظهر وجوه الشافعيّة.

و الثاني: أنّ الكفالة تنقطع؛ لأنّها ضعيفة، فلا يُحكم بتوريثها.

و الثالث: إن كان له وصيٌّ أو عليه دَيْنٌ، بقيت الكفالة؛ لأنّ الوصيّ نائبه، و تمسّ حاجته إلى قضاء الدَّيْن، فإن لم يكن وصيٌّ و لا دَيْنٌ، انقطعت الكفالة(3)

ص: 412


1- تقدّم تخريجه في ص 393، الهامش (2 و 5).
2- تقدّم تخريجه في ص 394، الهامش (1).
3- الوسيط 242:3، العزيز شرح الوجيز 166:5، روضة الطالبين 492:3.

و الصحيح عندنا: الأوّل؛ لأنّه حقٌّ للميّت، فانتقل عنه إلى ورثته، كغيره من الحقوق.

و نمنع ضعفها. سلّمنا، لكن تُنتقل إلى الوارث ضعيفةً.

و الثالث لا وجه له؛ لأنّ الكفالة إمّا أن تورث و تكون حقّاً متروكاً للميّت، أو لا، فإن كانت، وُرثت على التقديرين. و إن لم تكن، لم يُصيّرها الدَّيْن و الوصيّ حقّاً موروثاً.

مسألة 580: إذا تكفّل برجلٍ إلى أجلٍ إن جاء به، و إلاّ لزمه ما عليه،

فإن قدّم كفالة النفس بأن قال: إن لم أُحضره كان علَيَّ كذا، لم يلزمه إلاّ الإحضار، عند علمائنا؛ لأنّ الضمان لا يقبل التعليق بخطر، فإنّه لا يصحّ لو علّقه بقدوم زيدٍ، فلهذا بطل ضمان المال، و وجب عليه الإحضار بالكفالة، و لا يضرّ ضميمة الضمان الباطل؛ لأنّه قصد بالضمان تأكيد الحجّة عليه بالإحضار و تقوية حقّ الإحضار عليه.

و إن قدّم ضمانَ المال، فقال: علَيَّ كذا إلى كذا إن لم أُحضره، و لم يُحضره، وجب عليه ما ذكره من المال؛ لما رواه الخاصّة عن أبي العباس عن الصادق عليه السلام، قال: سألته عن الرجل يكفل بنفس الرجل إلى أجل فإن لم يأت به فعليه كذا و كذا درهماً، قال: «إن جاء به إلى أجلٍ فليس عليه مال، و هو كفيل بنفسه أبداً إلاّ أن يبدأ بالدراهم، فإن بدأ بالدراهم فهو له ضامن إن لم يأت [به] إلى الأجل الذي أجّله»(1).

و عن أبي العباس أيضاً عن الصادق عليه السلام: رجل كفل لرجلٍ بنفس رجلٍ، فقال: إن جئتُ به و إلاّ فعلَيَّ خمسمائة درهم، قال: «عليه نفسه،

ص: 413


1- التهذيب 209:6-488/210، و ما بين المعقوفين من المصدر.

و لا شيء عليه من الدراهم» فإن قال: علَيّ خمسمائة درهم إن لم أدفعه إليه، فقال: «تلزمه الدراهم إن لم يدفعه إليه»(1).

إذا عرفت هذا، فإنّ الشافعي و محمّد بن الحسن قالا: إذا تكفّل برجلٍ إلى أجلٍ إن جاء به فيه و إلاّ لزمه ما عليه، لا تصحّ الكفالة، و لا يلزمه ما عليه. و كذا لو قال: متى لم أُحضره كان علَيَّ كذا و كذا؛ لأنّ هذا خطر، و لا يجوز تعليق الضمان به، كما لو قال: إن جاء المطر فأنا ضامن، لم يصح(2).

و قال أبو يوسف و أبو حنيفة و أحمد: تصحّ الكفالة، فإن جاء به في الوقت و إلاّ لزمه ما عليه؛ لأنّ هذا موجَب الكفالة و مقتضاها، فصحّ اشتراطه، كما لو قال: إن جئتُ به في وقت كذا و إلاّ فلك حبسي(3).

و لا بأس به عندي.

أمّا لو قال: إن جئتُ به في وقت كذا و إلاّ فأنا كفيل ببدن فلان، أو:

فأنا ضامن ما لك على فلان، أو قال: إذا جاء زيد فأنا ضامن ما عليه، أو:

إذا قدم الحاج فأنا كفيل فلان، أو قال: أنا كفيل بهذا شهراً، على إشكالٍ في الأخير، لم تصح الكفالة - و به قال الشافعي و محمّد بن الحسن(4) - لأنّ الضمان خطر، فلا يجوز تعليقه على شرطٍ، كالهبة.

و قال أبو حنيفة و أبو يوسف: فتصحّ؛ لأنّه أضاف الضمان إلى سبب5.

ص: 414


1- التهذيب 493/210:6.
2- حلية العلماء 77:5، الهداية - للمرغيناني - 89:3، المغني و الشرح الكبير 101:5.
3- الهداية - للمرغيناني - 89:3، حلية العلماء 77:5، المغني 100:5-101، الشرح الكبير 101:5.
4- الهداية - للمرغيناني - 89:3، المغني و الشرح الكبير 101:5.

الوجوب، فتصحّ، كضمان الدرك(1).

و قال بعض العامّة: إذا قال: كفلتُ بفلان إن جئتُ به في وقت كذا و إلاّ فأنا كفيل بفلان، أو ضامنٌ المالَ الذي على فلان، يصحّ(2).

و الحقّ: البطلان؛ لأنّ الأوّل موقوف، و الثاني معلَّق على شرط.

مسألة 581: لو قال: كفلتُ ببدن فلان على أن يبرأ فلان الكفيل، أو على أن تبرئه من الكفالة، فالأقوى عندي: الصحّة؛

عملاً بقوله تعالى:

«أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» (3) و بقوله عليه السلام: «المؤمنون عند شروطهم»(4) و هذا شرط تمسّ الحاجة إليه، و لا وجه لفساده؛ لأنّه شرط تحوّل الوثيقة التي على الكفيل إليه.

و قالت الشافعيّة: لا تصحّ الكفالة؛ لأنّه شرط فيها شرطاً لا يلزمه الوفاء به، فيكون فاسداً، فتفسد به الكفالة(5).

و نمنع من عدم لزومه مع الشرط.

و قال ابن سريج كما قلناه؛ لأنّه طلب تحويل الحقّ في الكفالة إليه(6).

فعلى هذا لا تلزمه الكفالة إلاّ أن يُبرئ المكفول له الكفيلَ الأوّل من

ص: 415


1- الهداية - للمرغيناني - 89:3، المغني و الشرح الكبير 101:5.
2- المغني 101:5-102، الشرح الكبير 101:5.
3- المائدة: 1.
4- التهذيب 1503/371:7، الاستبصار 835/232:3، الجامع لأحكام القرآن 33:6.
5- المهذّب - للشيرازي - 351:1، حلية العلماء 74:5-75، التهذيب - للبغوي - 190:4-191، العزيز شرح الوجيز 171:5، روضة الطالبين 496:3، و لاحظ: المغني 102:5، و الشرح الكبير 101:5.
6- المهذّب - للشيرازي - 351:1، حلية العلماء 74:5-75، التهذيب - للبغوي - 190:4، العزيز شرح الوجيز 171:5، روضة الطالبين 496:3.

الكفالة؛ لأنّه إنّما كفل بهذا الشرط، فلا تثبت كفالته بدون شرطه.

و لو قال: كفلتُ لك بهذا الغريم على أن تبرئني من الكفالة بفلان، أو: ضمنتُ لك هذا الدَّيْن بشرط أن تُبرئني من ضمان الدَّيْن الآخَر، أو:

على أن تُبرئني من الكفالة بفلان، خرج فيه الوجهان.

و الأولى عندي: الصحّة.

و قال بعض العامّة: لا تصحّ؛ لأنّه شرط فسخ عقدٍ في عقدٍ، فلم تصح، كالبيع بشرط فسخ بيعٍ آخَر(1).

و نمنع ثبوت الحكم في الأصل.

و لو شرط في الكفالة أو الضمان أن يتكفّل المكفول له أو المكفول به بآخَر أو يضمن دَيْناً عنه أو يبيعه شيئاً أو يؤجره داره، فالأقرب: الصحّة، خلافاً لبعض العامّة(2).

مسألة 582: تصحّ الكفالة ببدن المحبوس و الغائب؛

لأنّ كلّ وثيقة صحّت مع الحضور صحّت مع الغيبة و الحبس، كالرهن و الضمان. و لأنّ الحبس لا يمنع من التسليم؛ لكون المحبوس يمكن تسليمه بأمر الحاكم أو أمر مَنْ حَبَسه ثمّ يعيده إلى الحبس بالحقّين جميعاً، و الغائب يمضي إليه فيُحضره إن كانت الغيبة غيرَ منقطعة. و إن لم يعلم خبره، لزمه ما عليه عند بعض العامّة(3).

و قال أبو حنيفة: لا تصحّ(4)

ص: 416


1- المغني 102:5، الشرح الكبير 101:5.
2- المغني و الشرح الكبير 102:5.
3- المغني 97:5، الشرح الكبير 99:5.
4- العزيز شرح الوجيز 161:5، المغني 97:5، الشرح الكبير 99:5.
مسألة 583: إذا دفع الكفيلُ المكفولَ به إلى المكفول له في وقته و مكانه و سلّمه تسليماً تامّاً، برئ من الكفالة عند أكثر أهل العلم؛

لأنّه عقد على عملٍ، فيبرأ منه بعمل المعقود عليه، كالإجارة(1).

و قال ابن أبي موسى: لا يبرأ حتى يقول: قد برئت يدي منه، أو: قد سلّمتُه إليك، أو: قد أخرجتُ نفسي من كفالته(2).

و إذا أبرأ المكفول له الكفيلَ من الكفالة أو اعترف بذلك بأن يقول:

أبرأتُه، أو: برئ إليَّ، أو: ردّ إليَّ المكفول به، برئ من الكفالة، و إذا أُبرئ الكفيل، لم يبرأ المكفول به من الدَّيْن، بخلاف الضمان.

و لو أُبرئ المكفول به من الحقّ الذي كفل الكفيل عليه، برئ الكفيل أيضاً.

و لو ادّعى الكفيل أنّ المكفول به برئ من الحقّ و أنّ الكفالة سقطت عنه، و أنكر ذلك المكفولُ له، فالقول قوله مع يمينه إذا لم تكن للكفيل بيّنة، فإذا حلف برئ من دعوى الكفيل، فإن جاء المكفول به فادّعى الإبراء، لم يكتف باليمين التي حلفها للكفيل، بل كان عليه يمينٌ أُخرى.

و لو نكل في دعوى الكفيل، حلف الكفيل، و برئ من الكفالة، و لا يبرأ المكفول به من الحقّ؛ لأنّه لا يجوز أن يبرأ بيمين غيره.

و لو نكل عن يمين المكفول به، حلف المكفول به، و برئ هو و الكفيل و إن كان قد حلف على عدم الإبراء له.

و لو قال: تكفّلتُ لك به و لا حقّ لك عليه، أو ضمنتُ ما عليه و لا شيء عليه، فالقول قول المكفول له؛ لأنّ الظاهر صحّة الكفالة و الضمان.

ص: 417


1- المغني 98:5، الشرح الكبير 102:5.
2- المغني 98:5، الشرح الكبير 102:5.

و هل يحلف ؟ للشافعيّة وجهان:

أحدهما: لا يحلف؛ لأنّ دعوى الكفيل تخالف ظاهر قوله.

و الثاني: يحلف؛ لأنّ ما يدّعيه ممكن(1).

فإن حلف، فلا كلام. و إن نكل، رددنا اليمين على الكفيل؛ لجواز أن يعلم أنّه لا حقّ له عليه بقول المكفول له: إنّه لا حقّ لي عليه.

فإن قال: تكفّلتُ به بشرط الخيار، لم يُقبل منه في قوله: «بشرط الخيار» و حُكم عليه بالكفالة، سواء قلنا: إنّه يدخلها الخيار أو لا، و هو أحد قولَي الشافعيّة. و الثاني: يسقط إقراره(2).

و الأصل فيه أنّه إذا عقّب إقراره بما يُبطله، هل يبطل الإقرار أو المُبطل ؟

و لو قال رجل لآخَر: إنّ فلاناً يلازم فلاناً و يضايقه على حقّه فاذهب و تكفّل به، ففَعَل، كانت الكفالة لازمةً للمباشر دون الآمر؛ لأنّ المباشر فَعَل باختياره، و الأمر بذلك حثّ و إرشاد.

مسألة 584: مَنْ خلّى غريماً من يد صاحبه قهراً و إجباراً، ضمن إحضاره

أو أداء ما عليه؛ لأنّه غصب اليد المستولية المستحقّة من صاحبها، فكان عليه إعادتها أو أداء الحقّ الذي بسببه تثبت اليد عليه.

و لو خلّى قاتلاً من يد الوليّ، لزمه إحضاره أو الدية و إن كان القتل عمداً، و لا نوجب عليه عين حقّ القصاص؛ إذ لا يجب إلاّ على المباشر، فلمّا تعذّر استيفاؤه وجبت الدية، كما لو هرب القاتل عمداً أو مات، فإن

ص: 418


1- حلية العلماء 78:5، العزيز شرح الوجيز 170:5، روضة الطالبين 495:3.
2- التهذيب - للبغوي - 192:4، العزيز شرح الوجيز 170:5-171، روضة الطالبين 495:3-496.

دفع الدية ثمّ حضر القاتل، تسلّط الوارث على قتله، و يدفع ما أخذه من المخلّص؛ لأنّ الدية إنّما أخذها لمكان الحيلولة و قد زالت.

و إن لم يقتل و تمكّن من استيفاء القصاص، وجب دفع المال أيضاً إلى صاحبه، و لا يتسلّط الكفيل لو رضي هو و الوارث بالمدفوع بديةٍ و لا قصاص.

و لو تعذّر عليه استيفاء الحقّ من قصاصٍ أو مالٍ و أخذنا المال أو الدية من الكفيل، كان للكفيل الرجوعُ على الغريم الذي خلّصه قصاصاً.

مسألة 585: إذا كفل بدن شخصٍ ادّعي عليه مال ثمّ قال الكفيل:

لا حقّ لك عليه، قُدّم قول المكفول له؛

لاستدعاء الكفالة ثبوت المال.

فإن تعذّر إحضاره، فهل يجب عليه أداء المال من غير بيّنةٍ؟ إشكال أقربه: عدم الوجوب.

و إن أوجبناه فدفع المال، لم يكن له الرجوعُ على المكفول به؛ لأنّه اعترف ببراءة ذمّته و أنّه مظلوم في أخذ المال منه، و المظلوم إنّما يرجع على مَنْ ظَلَمه.

مسألة 586: لو كان لذمّيٍّ على ذمّيٍّ خمرٌ و تكفّل به ذمّيٌّ آخَر، فأسلم المكفول له أو المكفول عنه، برئ الكفيل و المكفول عنه.

و قال أبو حنيفة: إذا أسلم المكفول عنه، لم يبرأ واحد منهما، و يلزمهما قيمة الخمر؛ لأنّه كان واجباً، و لم يوجد إسقاط و لا استيفاء، و لا وُجد من المكفول له ما أسقط حقّه، فبقي بحاله(1).

و هو غلط؛ لأنّ المكفول به مسلم، فلم يجب عليه الخمر، كما لو كان مسلماً قبل الكفالة، و إذا برئ المكفول به، برئ كفيله، كما لو أدّى الدَّيْن أو أُبرئ منه.

ص: 419


1- المبسوط - للسرخسي - 24:20، اختلاف الفقهاء: 269، المغني 107:5.

و لو أسلم المكفول له، برئ الجميع، و كذا إن أسلم المكفول به.

و إن أسلم الكفيل وحده، برئ من الكفالة؛ لامتناع وجوب الخمر عليه و هو مسلم.

و لو كان ضماناً، فإنّه لا يسقط بإسلام المضمون عنه.

و في رجوع الضامنِ المأذونِ عليه بالقيمة نظر.

مسألة 587: لو قال: أعط فلاناً ألفاً، ففَعَل، لم يرجع على الآمر،

و لم يكن ذلك كفالةً و لا ضمانَ مالٍ، إلاّ أن يقول: أعطه عنّي.

و قال أبو حنيفة: يرجع عليه إذا كان خليطاً له؛ لجريان العادة بالاستقراض من الخليط(1).

و لو تسلّط الظالم عليه فأخذ منه شيئاً، لم يتسلّط المظلوم على الآمر، و لم يكن له الرجوعُ بما أخذه الظالم و إن كان سبباً؛ لأنّ الحوالة مع اجتماع المباشر و السبب على المباشر. أمّا لو قبض و سلّم إلى الظالم، فإنّه يطالب قطعاً.

مسألة 588: إذا كانت سفينة في البحر و فيها متاع فخِيف عليها الغرق

فألقى بعض الركبان متاعَه في البحر لتسلم السفينة و مَنْ فيها، لم يكن له الرجوعُ على أحدٍ، سواء ألقاه بنيّة الرجوع على الركبان أو لا بنيّة الرجوع؛ لأنّه أتلف مال نفسه باختياره من غير ضمانٍ.

و لو قال له بعض الركبان: ألق متاعك، فألقاه، لم يرجع أيضاً على أحدٍ؛ لأنّه لم يكرهه على إلقائه، و لا ضمن له.

و لو قال له: ألق متاعك و علَيَّ ضمانه، فألقاه، فعلى القائل ضمانُه

ص: 420


1- فتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهنديّة 65:3، المبسوط - للسرخسي - 73:20، العزيز شرح الوجيز 175:5، المغني و الشرح الكبير 107:5.

و إن كان ضمانَ ما لم يجب؛ للحاجة الداعية إلى ذلك.

و لو قيل بأنّه جعالة، خلصنا من الإلزام.

و لو قال: ألقه و أنا و ركبان السفينة ضمناء له، ففَعَل، فالأقرب أن نقول: إن كان ضمانَ اشتراكٍ، فليس عليه إلاّ ضمان حصّته؛ لأنّه لم يضمن الجميع، إنّما ضمن حصّته، و أخبر عن سائر الركبان بضمان الباقي، و لم يُقبل قوله في حقّ الباقين.

و إن كان ضمانَ اشتراكٍ و انفرادٍ بأن يقول: كلّ واحدٍ منّا ضامنٌ لك متاعك أو قيمته، لزم القائل ضمان الجميع، و سواء قال هذا و الباقون يسمعون و سكتوا، أو قالوا: لا نضمن شيئاً، أو لم يسمعوا؛ لأنّ سكوتهم لا يلزمهم به حقّ.

و قال بعض العامّة: يضمنه القائل وحده، إلاّ أن يتطوّع بقيّتهم(1).

و لو قال: ألقه و علَيَّ ضمانه و على الركبان فقد أذنوا لي، فأنكروا بعد الإلقاء، ضمن الجميع بعد اليمين على إشكالٍ ينشأ: من استناد التفريط إلى المالك حيث متاعه قبل الاستيثاق.

و لو لم يكن خوف، فالأقرب: بطلان الضمان.

و كذا يبطل لو قال: مزّق ثوبك و علَيَّ ضمانه، أو اجرح نفسك و علَيَّ ضمانه؛ لعدم الحاجة، فلا يصحّ الضمان و لا الجعالة إن ألحقنا مثل هذا بالجعالة؛ لأنّها ليست على عملٍ مقصود.

أمّا لو قال: طلّق زوجتك و علَيَّ كذا، أو أعتق عبدك و علَيَّ كذا، ففَعَل، لزمه ذلك؛ لإمكان أن يعلم التحريم بينهما فطلب التفرقة بالعوض أو طلب ثواب العتق.

مسألة 589: لو انتقل الحقّ عن المستحقّ ببيعٍ أو إحالةٍ أو غيرهما،

ص: 421


1- المغني و الشرح الكبير 108:5.

برئ الكفيل من الكفالة؛ لأنّه إنّما كفل له، لا لغيره، و قد انتقل المال عنه، فلا يتعدّى حقّ الكفالة إلى مَن انتقل إليه المال.

و كذا لو أحال المكفول به المكفول له بالمال الذي عليه و قَبِل المحتال و المحال عليه، برئ الكفيل أيضاً؛ لأنّ الحوالة كالقضاء إذا كان المحال عليه مليّاً.

أمّا لو كان معسراً أو لم يعلم المحتال، فالأقوى: عدم البراءة، إلاّ أن يرضى بالحوالة على المعسر.

و لو أدّى الكفيل لتعذّر إحضار المكفول ببدنه، كان له مطالبة المكفول بما أدّاه عنه، سواء كفل بإذنه أو لا.

و لو ظهر بعد الأداء سبق موت المكفول، رجع الكفيل على المكفول له بما قبضه؛ للعلم ببطلان الكفالة.

و لو مات المحال عليه الموسر و لم يترك شيئاً، برئ الكفيل، و سقط دَيْن المحتال.

مسألة 590: قد بيّنّا أنّ الميّت تحلّ عليه الديون المؤجَّلة عليه، عند علمائنا أجمع

- و عليه عامّة الفقهاء، و به قال الشعبي و النخعي و سعيد بن المسيّب و سوار و مالك و الثوري و الشافعي و أصحاب الرأي و أحمد في إحدى الروايتين(1) - لأنّ هذا الدَّيْن إمّا أن يبقى في ذمّة الميّت أو ذمّة الورثة أو متعلّقاً بالمال.

و الأوّل محال؛ لأنّ الميّت خرجت ذمّته، و تعذّرت مطالبته.

ص: 422


1- المدوّنة الكبرى 236:5، الإشراف على نكت مسائل الخلاف 987/589:2، بداية المجتهد 286:2، المهذّب - للشيرازي - 234:1، حلية العلماء 519:4، المغني 526:4، الكافي في فقه الإمام أحمد 105:2، الشرح الكبير 544:4-545.

و الثاني باطل؛ لأنّ صاحب الدَّيْن لم يرض بذمّتهم، و الذمم تختلف و تتباين. و أيضاً فإنّهم لم يلتزموا به.

و الثالث باطل؛ إذ لا يجوز تعلّقه بالأعيان و تأجيله؛ لما فيه من الإضرار بالميّت و صاحب الدَّيْن، و لا منفعة للورثة فيه، بل ربما استضرّوا به.

أمّا الميّت: فلقوله صلى الله عليه و آله: «الميّت مرتهن بدَيْنه حتى يقضى عنه»(1).

و أمّا صاحبه: فقد تتلف الأعيان فيسقط حقّه.

و لا منفعة للورثة؛ فإنّهم لا ينتفعون بالأعيان و لا يتصرّفون فيها. و إن تصوّر في ذلك منفعة لهم، فلا يسقط حقّ الميّت و صاحب الدَّيْن ليحصل لهم منفعة.

و قال ابن سيرين و عبيد اللّه بن الحسن و إسحاق و أبو عبيد و طاوُوس و أبو بكر بن محمّد و الزهري و سعيد بن إبراهيم و الحسن البصري و أحمد في الرواية الأُخرى: لا تحلّ؛ لأنّه لو كان له دَيْنٌ مؤجَّل لم يحل، فكذلك ما عليه، كالحيّ. و لأنّ الموت ما جُعل مُبطلاً للحقوق، إنّما هو علامة على الوراثة، و قد قال عليه السلام: «مَنْ ترك حقّاً أو مالاً فلورثته»(2)(3).

و الفرق: أنّ الحيّ له ذمّة، و ما لَه يمكن حفظه، بخلاف ما عليه، فإنّ2.

ص: 423


1- جامع المسانيد - للخوارزمي - 74:2، المغني 526:4، الشرح الكبير 545:4.
2- صحيح البخاري 128:3، سنن ابن ماجة 2416/807:2، سنن النسائي 66:4، سنن البيهقي 214:3، و 214:6، مسند أبي داوُد الطيالسي: 156-1150/157، مسند أحمد 13744/222:4 و 13745، المصنّف - لعبد الرزّاق - 289:8-15257/290، المعجم الكبير - للطبراني - 264:20-625/266-628، و في الجميع: «مَنْ ترك مالاً فلورثته».
3- حلية العلماء 519:4، المغني 526:4، الشرح الكبير 544:4، الكافي في فقه الإمام أحمد 105:2.

المديون يتضرّر بترك الحقّ متعلّقاً بالعين. و لأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله لمّا امتنع من الصلاة على المديون حتى ضمن الدَّيْنَ عليٌّ عليه السلام تارةً و أبو قتادة أُخرى(1) لم يسأل هل كان الدَّيْن مؤجَّلاً؟ فلا تجوز مطالبته في الحال لو لم يحل و لم يكن هناك مانع من الصلاة، أو كان حالاًّ؟ و ترك الاستفصال يدلّ على العموم.

و ما رواه السكوني عن الصادق عن الباقر عليهما السلام، قال: «إذا كان على الرجل دَيْنٌ إلى أجلٍ و مات الرجل حلّ الدَّيْن»(2).

و عن الحسين بن سعيد قال: سألته عن رجل أقرض رجلاً دراهم إلى أجلٍ مسمّى ثمّ مات المستقرض، أ يحلّ مال القارض عند موت المستقرض منه، أو لورثته من الأجل ما للمستقرض في حياته ؟ فقال: «إذا مات فقد حلّ مال القارض»(3).

مسألة 591: لو مات مَنْ له الدَّيْن المؤجَّل، قال أكثر علمائنا

مسألة 591: لو مات مَنْ له الدَّيْن المؤجَّل، قال أكثر علمائنا(4):

لا يحلّ دَيْنه بموته

- و هو قول أهل العلم(5) - لعدم دليل الحلول، و أصالة الاستصحاب، و براءة ذمّة مَنْ عليه الدَّيْن من الحلول.

و قال الشيخ رحمه الله في النهاية: إذا مات و له دَيْنٌ مؤجَّل، حلّ أجل ما لَه، و جاز للورثة المطالبة به في الحال(6)

ص: 424


1- تقدّم تخريجه في ص 281، الهامش (5 و 6).
2- التهذيب 408/190:6.
3- التهذيب 409/190:6.
4- منهم: الشيخ الطوسي في الخلاف 271:3، ضمن المسألة 14، و ابن إدريس في السرائر 53:2، و المحقّق الحلّي في شرائع الإسلام 93:2.
5- في الطبعة الحجريّة: «قول أكثر أهل العلم».
6- النهاية: 310.

لما رواه أبو بصير عن الصادق عليه السلام أنّه قال: «إذا مات الميّت(1) حلّ ما لَه و ما عليه من الدَّيْن»(2).

و لأنّه دَيْنٌ، فحلّ بموت صاحبه، كما يحلّ بموت مَنْ هو عليه.

و الرواية مقطوعة السند، على أنّها غير دالّةٍ على المطلوب بالنصوصيّة؛ إذ لم تشتمل على ذكر الأجل.

و الفرق بين موت صاحب الدَّيْن و المديون ظاهرٌ؛ فإنّ الميّت لا ذمّة له، فلا يبقى للدَّيْن محلٌّ، و مَنْ له الدَّيْن ينتقل حقّه بعد موته إلى الورثة، و إنّما كان له دَيْنٌ مؤجَّل، فلا يثبت للوارث ما ليس له.

مسألة 592: قد بيّنّا أنّ الدَّيْن المؤجَّل يحلّ بموت مَنْ عليه و أنّ أحمد قد خالف فيه في إحدى الروايتين

(3) .

فعلى قوله يبقى الدَّيْن في ذمّة الميّت كما كان، و يتعلّق بعين ماله، كتعلّق حقوق الغرماء بمال المفلس عند الحجر عليه، فإن أحبّ الورثة أداء الدَّيْن و التزامه للغريم و يتصرّفون في المال، لم يكن لهم ذلك، إلاّ أن يرضى الغريم، أو يوفوا الحقّ بضمينٍ مليء، أو برهنٍ يثق به لوفاء حقّه، فإنّ الوارث قد لا يكون أميناً و قد لا يرضى به الغريم، فيؤدّي إلى فوات حقّه(4).

و قال بعض العامّة: إنّ الحقّ ينتقل إلى ذمم الورثة بموت مورّثهم من غير أن يشترط التزامهم له، و لا ينبغي أن يلزم الإنسان دَيْن لم يتعاط له،

ص: 425


1- كذا في النسخ الخطّيّة و الحجريّة، و في المصدر: «الرجل» بدل «الميّت».
2- الكافي 99:5 (باب أنّه إذا مات الرجل حلّ دَيْنه) ح 1، التهذيب 407/190:6.
3- راجع المصادر في الهامش (3) من ص 423.
4- المغني 526:4-527، الشرح الكبير 545:4.

و لو لزمهم ذلك بموت مورّثهم للزمهم و إن لم يخلّف وفاءً(1).

و هذا كلّه ساقط عندنا، إلاّ أن يرضى الغريم بتذمّم الورثة بالدَّيْن، و يصير عليهم تبرّعاً منه.

و على قولنا بحلول الدَّيْن بموت المديون يتخيّر الوارث بين الدفع من عين التركة و من غيرها؛ لانتقال المال إليهم، فإن امتنعوا من الأداء من عين التركة و من غيرها، باع الحاكم من التركة ما يقضى به الدَّيْن.

مسألة 593: مَنْ مات و عليه دَيْنٌ لم يمنع الدَّيْن من نقل التركة إلى الورثة على أشهر قولَي أصحابنا؛

لأنّ مستحقّ التركة إمّا الميّت، و هو محال؛ إذ ليس هو أهلاً للتملّك، أو الغريم، و هو محال؛ لأنّه لو أبرأه لم يكن له في التركة شيء، أو لا لمالكٍ، و هو محال، فلم يبق إلاّ الورثة. و لأنّ تعلّق الدَّيْن بالمال لا يزيل الملك في حقّ الجاني [و الراهن](2) و المفلس، فلم يمنع نقله هنا.

و إن تصرّف الورّاث(3) في التركة ببيعٍ أو غيره، صحّ تصرّفهم، و لزمهم أداء الدَّيْن، فإن تعذّر وفاؤه، فسخ تصرّفهم، كما لو باع السيّد عبده الجاني أو النصاب الذي وجبت فيه الزكاة.

و قال بعض علمائنا: إنّ التركة لا تنتقل(4) - و عن أحمد روايتان(5) - لقوله تعالى:«مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ» (6) فجَعَل التركة للوارث

ص: 426


1- المغني 527:4، الشرح الكبير 545:4-546.
2- بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «الرهن». و الصحيح ما أثبتناه.
3- في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «الوارث» بدل «الورّاث». و ما أثبتناه يقتضيه السياق.
4- شرائع الإسلام 16:4.
5- المغني 527:4-528، الشرح الكبير 546:4.
6- النساء: 11.

من بعد الدَّيْن و الوصيّة، فلا يثبت لهم الملك قبلهما، فعلى هذا لو تصرّف الورثة، لم يصح تصرّفهم - لأنّهم تصرّفوا في غير ملكهم - إلاّ بإذن الغرماء.

و لو تصرّف الغرماء، لم يصح، إلاّ بإذن الورثة.

و الحقّ: الأوّل؛ لأنّ المراد زوال الحجر عن التركة بعد الوصيّة و الدَّيْن.

** *

ص: 427

ص: 428

الفصل الثالث: في الحوالة

اشارة

و فيه مباحث:

البحث الأوّل: في ماهيّتها و مشروعيّتها.
اشارة

الحوالة مشتقّة من تحويل الحقّ من ذمّةٍ إلى ذمّةٍ. و هي عقد وُضع للإرفاق، منفرد بنفسه، و ليست بيعاً و لا محمولةً عليه عند علمائنا أجمع، و هو قول أكثر العلماء(1) ، و إلاّ لما صحّت؛ لأنّها بيع دَيْنٍ بدَيْنٍ، و ذلك منهيّ عنه(2) ، و الحوالة مأمور بها، فتغايرا.

و لأنّها لو كانت بيعاً، لما جاز التفرّق قبل القبض؛ لأنّه بيع مال الربا بجنسه، فلا يجوز مع التأخير و التفرّق قبل القبض، و لجازت بلفظ البيع، و لجازت من جنسين، كالبيع.

و لأنّ لفظها يشعر بالتحويل لا بالبيع. فعلى هذا لا يدخلها خيار المجلس، و في خيار الشرط ما تقدّم(3) ، و تلزم بمجرّد العقد.

و قد قيل: إنّها بيع، فإنّ المحيل يشتري ما في ذمّته بما لَه في ذمّة المحال عليه، و جاز تأخير القبض رخصةً؛ لأنّه موضوع على الرفق، فيدخلها حينئذٍ خيارُ المجلس لذلك(4).

و الصحيح ما تقدّم؛ فإنّ البيع مختصّ بألفاظ و لوازم منفيّة عن هذا

ص: 429


1- راجع المغني و الشرح الكبير 54:5.
2- الكافي 100:5 (باب بيع الدَّين بالدَّيْن) ح 1، التهذيب 400/189:6.
3- في ج 11، ص 64، ضمن المسألة 251.
4- المغني و الشرح الكبير 54:5.

العقد.

مسألة 594: الحوالة عقد جائز بالنصّ و الإجماع.

روى العامّة عن أبي هريرة أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله قال: «مَطْل الغني ظلم، و إذا أُتبع أحدكم على مليء فليتبع»(1).

و في لفظٍ آخَر: «و إذا أُحيل أحدكم بحقٍّ على مليء فليحتل»(2).

و من طريق الخاصّة: ما رواه منصور بن حازم عن الصادق عليه السلام، قال: سألته عن الرجل يحيل على الرجل الدراهم أ يرجع عليه ؟ قال:

«لا يرجع عليه أبداً إلاّ أن يكون قد أفلس قبل ذلك»(3).

و قد أجمع كلّ مَنْ يُحفظ عنه العلم على جواز الحوالة في الجملة.

إذا عرفت هذا، فمعنى «أُتبع» هو معنى «أُحيل».

قال صاحب الصحاح: يقال: أُتبع فلان بفلان، إذا أُحيل له عليه، و التبيع: الذي لك عليه مال(4).

و الأشهر في الرواية الثانية: «و إذا أُحيل أحدكم» بالواو. و يُروى: «فإذا» بالفاء.

فعلى الأوّل هو مع قوله: «مطل الغني ظلم» جملتان لا تعلّق للثانية

ص: 430


1- صحيح البخاري 123:3، صحيح مسلم 1564/1197:3، سنن ابن ماجة 2403/803:2، سنن أبي داوُد 3345/247:3، سنن الترمذي 1308/600:3، سنن النسائي 317:7، سنن البيهقي 70:6، سنن الدارمي 261:2، الموطّأ 84/674:2، مسند أحمد 8715/78:3.
2- سنن البيهقي 70:6، مسند أحمد 225:3، ضمن ح 9655، العزيز شرح الوجيز 125:5، المغني و الشرح الكبير 54:5 بتفاوت يسير.
3- الكافي 4/104:5، التهذيب 498/212:6.
4- الصحاح 1190:3 «تبع».

بالأُولى، و يصير كقوله عليه السلام: «العارية مردودة، و الزعيم غارم»(1).

و على الثاني يجوز أن يكون المعنى في الترتيب أنّه إذا كان المطل ظلماً من الغني، فليقبل مَنْ أُحيل بدَيْنه عليه، فإنّ الظاهر أنّه يحترز عن الظلم و المطل.

و هل الأمر بالاحتيال على الإيجاب أو الاستحباب ؟ الأقوى عندنا:

الثاني - و به قال الشافعي(2) - لأصالة البراءة.

و عن أحمد أنّه للوجوب(3)؛ قضيّةً لمطلق الأمر.

مسألة 595: مدار الحوالة على ستّة أشياء: أشخاص ثلاثة: محيل و محال عليه و محتال، و دَيْنان و معاملة،

فإذا كان لزيدٍ عليك عشرة، و لك على عمرو مثلها، فأحلت زيداً على عمرو، فأنت محيل، و زيد محتال، و عمرو محال عليه، و قد كان لزيدٍ عليك دَيْنٌ، و لك على عمرو دَيْنٌ، و جرت بينك و بين زيد مراضاة بها، انتقل حقّه إلى عمرو، فهذه ستّة أُمور لا بدَّ منها في وجود الحوالة، إلاّ الخامس؛ فإنّ فيه خلافاً يأتي إن شاء اللّه تعالى.

و يُشترط في صحّتها أُمور، منها ما يرجع إلى الدَّيْنين، و منها ما يتعلّق بالأشخاص الثلاثة.

مسألة 596: الحوالة عقد لازم، فلا بُدّ فيها من إيجابٍ و قبول، كغيرها من العقود.

و الإيجاب كلّ لفظٍ يدلّ على النقل و التحويل، مثل: أحلتك،

ص: 431


1- ورد نصّه في العزيز شرح الوجيز 125:5-126، و في سنن أبي داوُد 296:3-3565/297، و مسند أحمد 21791/358:6 بتفاوت يسير. (2 و 3) العزيز شرح الوجيز 126:5.

و قَبَلتك، و أتبعتك.

و القبول ما يدلّ على الرضا، نحو: رضيت، و قَبِلت.

و لا تقع معلّقةً بشرطٍ و لا صفة، بل من شرطها التنجيز، فلو قال: إذا جاء رأس الشهر، أو: إن قدم زيد فقد أحلتك عليه، لم تصح؛ لأصالة البراءة، و عدم الانتقال.

و لا يدخلها خيار المجلس؛ لأنّه مختصّ بالبيع، و ليست بيعاً عندنا.

و هل يدخلها خيار الشرط؟ مَنَع منه أكثر العامّة(1).

و الحقّ: جواز دخوله؛ لقولهم عليهم السلام: «كلّ شرطٍ لا يخالف الكتاب و السنّة فإنّه جائز»(2).

و لو قال: أحلني على فلان، فقال: أحلتك، افتُقر إلى القبول، و لا يكفي الاستيجاب.

و الخلاف المذكور في البيع في الاستيجاب و الإيجاب آتٍ هنا.

و قطع بعض الشافعيّة بالانعقاد هنا؛ لأنّ الحوالة أُجيزت رفقاً بالناس، فيسامح فيها بما لا يسامح في غيرها(3).

و المعتمد ما قلناه.

مسألة 597: اختلف العامّة في أنّ الحوالة هل هي استيفاء حقٍّ، أو بيع و اعتياض ؟ فللشافعي قولان:

أحدهما - و هو الأقوى عندي -: أنّها استيفاء حقٍّ كأنّ المحتال

ص: 432


1- الحاوي الكبير 30:5، المهذّب - للشيرازي - 345:1، التنبيه: 105، العزيز شرح الوجيز 193:4، روضة الطالبين 111:3.
2- الكافي 1/169:5، الفقيه 553/127:3، التهذيب 94/22:7، الخلاف 255:3، المسألة 64.
3- العزيز شرح الوجيز 128:5، روضة الطالبين 463:3.

استوفى ما كان له على المحيل و أقرضه المحال عليه؛ لأنّها لو كانت معاوضةً، لجاز أن يحيل بالشيء على أكثر منه أو أقلّ.

و أظهرهما عندهم: أنّها بيع؛ لأنّها تبديل مالٍ بمالٍ، فإنّ كلّ واحدٍ من المحيل و المحتال يملك بها ما لم يملكه قبلها، و هذا هو حقيقة المعاوضة، و ليس فيها استيفاء و لا إقراض محقّق، فلا يقدّران(1).

و قد بيّنّا عندنا ما في هذا القول.

و على تقديره هي بيع ما ذا بأيّ شيء؟ للشافعيّة وجهان:

أحدهما: أنّها بيع عينٍ بعينٍ، و إلاّ لبطلت؛ للنهي عن بيع الدَّيْن بالدَّيْن.

و كأنّ هذا القائل نزّل الدَّيْن على الشخص منزلة استحقاق منفعةٍ تتعلّق بعينه، كالمنافع في إجارات الأعيان. و هذا غير معقول.

و الثاني - و هو المعقول -: أنّها بيع الدَّيْن بالدَّيْن، فإنّ حقّ الدَّيْن لا يستوفى من عين الشخص، و لغيره أن يؤدّيه عنه.

و استثني هذا العقد عن النهي؛ لحاجة الناس إليه مسامحةً و إرفاقاً، و لهذا المعنى لم يُعتبر فيه التقابض، كما في القرض، و لم يجز فيه الزيادة و النقصان؛ لأنّه ليس بعقد مماكسة، كالقرض(2).

و قال الجويني و شيخُه: لا خلاف في اشتمال الحوالة على المعنيين:

الاستيفاء، و الاعتياض، و الخلاف في أيّهما أغلب ؟(1).

و كلّ هذه تمحّلات لا فائدة تحتها، و لا دليل عليها.3.

ص: 433


1- العزيز شرح الوجيز 126:5، روضة الطالبين 462:3.
البحث الثاني: في الشرائط.
اشارة

و هي أربعة تشتمل عليها أربعة أنظار:

النظر الأوّل: كماليّة الثلاثة،
اشارة

أعني المحيل و المحتال و المحال عليه؛ لأنّ رضاهم شرط على ما يأتي.

و إنّما يُعتبر الرضا ممّن له أهليّة التصرّف، فلا تصحّ من الصبي و إن كان مميّزاً، أذن له الولي أو لا، و لا المجنون، سواء كانا محيلين أو محتالين أو محالاً عليهما.

و كذا يُشترط رفع الحجر في الثلاثة.

أمّا المحيل: فلما فيه من التصرّف المالي، و السفيه و المفلس ممنوعان منه.

و أمّا المحتال: فكذلك أيضاً؛ لما فيه من الاعتياض عن ماله بماله.

و أمّا المحال عليه: فلأنّه التزام بالمال.

مسألة 598: يُشترط ملاءة المحال عليه وقت الحوالة،

كالضمان، أو علم المحتال بإعسار المحال عليه، فلو كان معسراً و احتال عليه مع جهله بإعساره، كان له فسخ الحوالة، و مطالبة المحيل بالمال، سواء شرط التساوي أو أطلق، عند علمائنا؛ لما فيه من الضرر و التغرير به.

و لما رواه منصور بن حازم عن الصادق عليه السلام أنّه سأله عن الرجل يحيل على الرجل الدراهم أ يرجع عليه ؟ قال: «لا يرجع عليه أبداً إلاّ أن يكون قد أفلس قبل ذلك»(1) و هو نصٌّ في الباب.

ص: 434


1- تقدّم تخريجه في ص 430، الهامش (3).

و لا يُشترط استمرار الملاءة، بل لو كان المحال عليه مليّاً وقت الحوالة و رضي المحتال ثمّ تجدّد إعسار المحال عليه بالمال بعد الحوالة، لم يكن للمحتال الرجوعُ على المحيل؛ لأنّ الحوالة لزمت أوّلاً، و انتقل الحقّ عن ذمّة المحيل إلى ذمّة المحال عليه، فلا يعود إلاّ بسببٍ ناقلٍ للمال.

و لو رضي المحتال بالحوالة على المعسر، لم يكن له بعد ذلك الفسخُ، و لا الرجوع على المحيل بشيء، بل لو مات المحال عليه معسراً، ضاع ماله.

إذا ثبت هذا، فقد وافقنا - على أنّ المحتال يرجع إلى ذمّة المحيل إذا ظهر إفلاسه و لم يشترط للمحال [عليه] الملاءة و لم يعلم المحتال بإفلاسه - مالكُ و أحمد في إحدى الروايتين و جماعة من أصحابه؛ لأنّ الفلس عيب في المحال عليه، لأنّ الظاهر سلامة الذمّة، و قد ظهر أنّها معيبة، فكان له الرجوعُ، كما لو اشترى سلعةً فوجدها معيبةً. و لأنّ المحيل غرّه، فكان له الرجوعُ، كما لو دلّس المبيع(1).

و قال الليث و الشافعي و أبو عبيد و أحمد - في الرواية الأُخرى - و ابن المنذر: ليس له الرجوعُ، سواء أمكن استيفاء الحقّ أو تعذّر بمَطْلٍ أو فَلْسٍ أو موتٍ أو غير ذلك؛ لأنّ هذا الإعسار لو حدث قبل قبضه لم يثبت له الخيار، فكذا حال العقد(2).

و هو ممنوع؛ لأنّ المتجدّد لا يمكن الاحتراز منه، و لا غرر فيه،2.

ص: 435


1- المغني 59:5، الشرح الكبير 55:5، الكافي في فقه الإمام أحمد 125:2.
2- العزيز شرح الوجيز 132:5، روضة الطالبين 466:3، المغني 59:5، الشرح الكبير 55:5، الكافي في فقه الإمام أحمد 125:2.

بخلاف المقارن.

مسألة 599: قد بيّنّا أنّ الحوالة تقتضي نقل الحقّ من ذمّة المحيل إلى ذمّة المحال عليه، عند علمائنا أجمع،

و به قال عامّة الفقهاء، إلاّ ما يُحكى عن زفر، فإنّه قال: لا ينتقل الحقّ، و أجراها مجرى الضمان(1).

و هو خطأ؛ لأنّ الحوالة مشتقّة من تحوّل الحقّ، بخلاف الضمان عندهم(2) ، فإنّه مشتقّ من ضمّ ذمّةٍ إلى ذمّةٍ، فعلّق على كلّ واحدٍ منهما ما يقتضيه لفظه.

و أمّا عندنا فإنّ الضمان أيضاً ناقل على ما تقدّم(3) بيانه.

مسألة 600: إذا تمّت الحوالة بأركانها و كان المحال عليه موسراً أو علم المحتال بإفلاسه، انتقل الحقّ من ذمّة المحيل إلى ذمّة المحال عليه،

و لم يكن للمحتال الرجوعُ على المحيل أبداً - و به قال الشافعي و مالك و أحمد في إحدى الروايتين(4) - لما رواه العامّة: أنّ حزناً جدّ سعيد بن المسيّب كان له على عليّ عليه السلام دَيْنٌ فأحاله به، فمات المحال عليه فأخبره، فقال: «اخترت علينا أبعدك اللّه تعالى»(5) فأبعده بمجرّد احتياله، و لم يُخبره أنّ له الرجوعَ، و لو كان له الرجوعُ لأخبره بذلك.

ص: 436


1- مختصر اختلاف العلماء 1993/271:4، تحفة الفقهاء 247:3، بدائع الصنائع 17:6، الهداية - للمرغيناني - 99:3، الاختيار لتعليل المختار 5:3، حلية العلماء 35:5، المغني 58:5-59، الشرح الكبير 55:5.
2- راجع الهامش (1) من ص 344.
3- في ص 342 (النظر الأوّل).
4- الحاوي الكبير 421:6، المهذّب - للشيرازي - 345:1، الوسيط 223:3، حلية العلماء 36:5، التهذيب - للبغوي - 163:4، العزيز شرح الوجيز 132:5، روضة الطالبين 466:3، الذخيرة 249:9، المغني 59:5، الشرح الكبير 55:5.
5- الحاوي الكبير 421:6، المغني 59:5، الشرح الكبير 55:5.

و من طريق الخاصّة: قول الصادق عليه السلام: «لا يرجع عليه أبداً» و قد تقدّم(1).

و عن عقبة بن جعفر عن أبي الحسن عليه السلام، قال: سألته عن الرجل يحيل الرجل بمالٍ على الصيرفي ثمّ يتغيّر حال الصيرفي أ يرجع على صاحبه إذا احتال و رضي(2) ؟ قال: «لا»(3).

و لأنّ الحوالة براءة من دَيْنٍ ليس فيها قبض ممّن عليه، فلا يكون فيها رجوعٌ عليه، كما لو أبرأه من الدَّيْن.

و قال شريح و الشعبي و النخعي: متى(4) أفلس أو مات رجع على صاحبه(5).

و قال أبو حنيفة: يرجع عليه في حالتين: إذا مات المحال عليه مفلساً، و إذا جحد و حلف عليه عند الحاكم.

و قال أبو يوسف و محمّد: يرجع عليه في هاتين الحالتين و في حال أُخرى: إذا أفلس و حُجر عليه.

لما روي أنّ عثمان سئل عن رجل أُحيل بحقّه فمات المحال عليه مفلساً، فقال: يرجع بحقّه لا يزرأ(6) على مال مسلمٍ(7).

و لأنّه عقد معاوضة لم يسلم العوض فيه لأحد المتعاقدين، فكان له5.

ص: 437


1- في ص 430 و 434.
2- في النسخ الخطّيّة و الحجريّة بدل «و رضي»: «و ضمن». و ما أثبتناه من المصدر.
3- التهذيب 501/212:6.
4- في النسخ الخطّيّة و الحجريّة بدل «متى»: «مَنْ». و الصحيح ما أثبتناه من المصدر.
5- المغني 59:5، الشرح الكبير 55:5.
6- كذا قوله: «لا يزرأ» في جميع النسخ الخطّيّة و الحجريّة، و بدلها في الحاوي الكبير و المغني و الشرح الكبير: «لا توى» أي الهلاك. و الإزراء: التهاون بالشيء، يقال: أزريت به، إذا قصّرت به. الصحاح 2368:6 «زرى».
7- الحاوي الكبير 421:6، المغني 59:5، الشرح الكبير 55:5.

الفسخ، كما لو اعتاض بثوبٍ فلم يسلّمه إليه.

و لأنّه نَقْلُ حقٍّ من ذمّةٍ إلى غيرها، فإذا لم يسلم له ما نقل إليه، كان له الرجوعُ بحقّه، كما لو أخذ دَيْنه عيناً فتلفت(1) في يد مَنْ عليه الحقّ(2).

و رواية عثمان ضعيفة لم تصح يرويها خليد(3) بن جعفر عن معاوية ابن قرة عن عثمان(4) ، و لم يصح سماعه منه. و قد روي أنّه قال: في حوالة أو كفالة(5) ، و هو يدلّ على شكّه و تردّده في الرواية، فلا يجوز العمل بها.

على أنّ قول عثمان ليس بحجّة، خصوصاً مع معارضته للحجّة، و هو قول عليّ عليه السلام(6).

و لا نسلّم أنّ الحوالة معاوضة؛ لاشتمالها على بيع الدَّيْن بالدَّيْن، و هو منهيّ عنه(7).

و القياس على العين باطل؛ لأنّه لا يشبه مسألتنا؛ لأنّ في ذلك قبضاً يقف استقرار العقد عليه، و هنا الحوالة بمنزلة العوض المقبوض، و إلاّ كان بيعَ دَيْنٍ بدَيْنٍ.).

ص: 438


1- في «ث، خ» و الطبعة الحجريّة: «و تلفت».
2- تحفة الفقهاء 247:3، بدائع الصنائع 18:6، الهداية - للمرغيناني - 99:3-100، الاختيار لتعليل المختار 5:3، فتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهنديّة 73:3، مختصر اختلاف العلماء 1993/271:4، الحاوي الكبير 421:6، الوسيط 223:3، حلية العلماء 36:5، التهذيب - للبغوي - 163:4، العزيز شرح الوجيز 132:5، الذخيرة 249:9، المغني 59:5، الشرح الكبير 55:5.
3- في المغني 59:5، و الشرح الكبير 55:5، و نسختَي «ج، خ»: «خالد».
4- راجع: الحاوي الكبير 421:6، و المغني 59:5، و الشرح الكبير 55:5.
5- مختصر المزني: 107، الحاوي الكبير 421:6، المغني 59:5، الشرح الكبير 55:5.
6- المغني 59:5، الشرح الكبير 55:5.
7- تقدّم تخريجه في ص 429، الهامش (2).
مسألة 601: لو شرط المحتال ملاءة المُحال عليه فبانَ معسراً، كان له الرجوعُ على المحيل؛
اشارة

لما بيّنّا من أنّه يرجع عند الإطلاق فمع شرط الملاءة أولى - و هو قول ابن سريج(1) - لقوله عليه السلام: «المسلمون على شروطهم(2)»(3).

و لأنّه شرط ما فيه مصلحة العقد في عقد معاوضةٍ، فيثبت فيه الفسخ بفواته، كما لو شرط صفة في المبيع، و قد يثبت بالشرط ما لا يثبت بإطلاق العقد، كما لو شرط صفة في المبيع.

و قال المزني - نقلاً عن الشافعي -: إنّه لا يرجع؛ لأنّه قال: غرّه أو لم يغرّه لا يرجع(4).

قال ابن سريج: هذا الذي نقله المزني لا نعرفه للشافعي، و الذي يُشبه أصلَه: أنّه يرجع كما إذا شرط صفة في المبيع فبانَ بخلافها(5).

قال بعض الشافعيّة: الصواب ما نَقَله المزني؛ لأنّ الإعسار لا يردّ الحوالة إذا لم يشترط الملاءة مع كونه نقصاً، فلو ثبت ذلك بالشرط لثبت بغير شرطٍ. و لأنّ الإعسار لو حدث لم يثبت له فسخ الحوالة، بخلاف

ص: 439


1- المهذّب - للشيرازي - 345:1، حلية العلماء 36:5، التهذيب - للبغوي - 163:4، العزيز شرح الوجيز 133:5.
2- في «ج، ر»: «المؤمنون عند شروطهم». و في «ث، خ»: «المسلمون عند شروطهم».
3- صحيح البخاري 120:3، سنن الدارقطني 96/27:3 و 98 و 99، و 100/28، سنن البيهقي 249:7، الجامع لأحكام القرآن 33:6، التهذيب 1503/371:7، الاستبصار 835/232:3.
4- مختصر المزني: 107، الحاوي الكبير 423:6، المهذّب - للشيرازي - 345:1، العزيز شرح الوجيز 133:5.
5- الحاوي الكبير 423:6، حلية العلماء 36:5، العزيز شرح الوجيز 133:5، المغني 60:5، الشرح الكبير 62:5.

النقص الحادث في المبيع، فكذلك عدم المشروط. و لأنّ الإعسار يثبت به فسخ البيع بغير شرطٍ، و لا يثبت مثل ذلك في الحوالة، فاختلفا(1).

و نمنع كون الإعسار لا يردّ الحوالة إذا لم يشترط، و قد سبق. و نمنع الملازمة بين ثبوته بالشرط و بعدمه، و نحن لا ندّعي مساواة الحوالة للبيع في جميع أحكامه.

تذنيب: لو كان المحال عليه معسراً و لم يعلم المحتال ثمّ تجدّد اليسار و علم سبق الفقر، احتُمل ثبوت الخيار؛ للاستصحاب.

و عدمُه؛ لزوال المقتضي.

مسألة 602: إذا حصلت الحوالة مستجمعة الشرائط، انتقل المال إلى ذمّة المحال عليه، و برئ المحيل،

سواء أبرأه المحتال أو لا - و هو قول عامّة الفقهاء(2) - لأنّ الحوالة مأخوذة من التحويل للحقّ، و إنّما يتحقّق هذا المعنى لو انتقل المال من ذمّةٍ إلى أُخرى، و ليس هنا إلاّ ذمّة المحيل و المحال عليه، فإذا تحوّل الحقّ من ذمّة أحدهما إلى الآخَر مع اليسار أو علم الإعسار، لم يعد الحقّ إليه؛ لعدم المقتضي.

و قال شيخنا رحمه الله في النهاية: و مَنْ كان له على غيره مالٌ فأحال به على غيره، و كان المُحال عليه مليّاً به في الحال و قَبِل الحوالة و أبرأه منه، لم يكن له الرجوعُ عليه، ضمن ذلك المُحال به عليه أو لم يضمن بعد أن يكون قد قَبِل الحوالة، فإن لم يقبل الحوالة إلاّ بعد ضمان المُحال عليه و لم يضمن مَنْ أُحيل عليه ذلك، كان له مطالبة المُحيل، و لم تبرأ ذمّته بالحوالة، فإن انكشف لصاحب المال أنّ الذي أُحيل به عليه غير ملي بالمال، بطلت

ص: 440


1- العزيز شرح الوجيز 133:5، المغني 60:5، الشرح الكبير 62:5.
2- المغني 58:5، الشرح الكبير 55:5.

الحوالة، و كان له الرجوعُ على المديون بحقّه عليه، و متى لم يُبرئ المُحال له بالمال المُحيل في حال ما يُحيله، كان له أيضاً الرجوعُ عليه في أيّ وقت شاء(1).

و كان الحسن البصري أيضاً لا يرى الحوالة مبرئةً إلاّ أن يُبرئه(2).

و احتجّ الشيخ رحمه الله بما رواه زرارة - في الحسن - عن الصادق أو الباقر عليهما السلام: في الرجل يحيل الرجل بمالٍ كان له على رجلٍ [آخَر]، فيقول له الذي احتال: برئت ممّا لي عليك، قال: «إذا أبرأه فليس له أن يرجع عليه، و إن لم يُبرئه فله أن يرجع على الذي أحاله»(3).

و هذه الرواية لا بأس بها؛ لصحّة السند، لكنّ المشهور عند الأصحاب و العامّة البراءة بمجرّد الحوالة، فلا بدَّ من حمل الرواية على شيء، و ليس ببعيدٍ من الصواب حملها على ما إذا شرط المحيل البراءة، فإنّه يستفيد بذلك عدم الرجوع لو ظهر إفلاس المحال عليه، أو نقول: إذا لم يُبرئه، فله أن يرجع على الذي أحاله إذا تبيّن له إعساره وقت الحوالة.

النظر الثاني: في الرضا بالحوالة.
مسألة 603: يشترط في الحوالة رضا المحيل - و هو الذي عليه الحقّ - إجماعاً،

فلو أُكره على أن يحيل فأحال بالإكراه، لم تصحّ الحوالة، و لا نعرف فيه خلافاً؛ لأنّ مَنْ عليه الحقّ مخيَّر في جهات القضاء، فله أن يقضي من أيّ جهة شاء، فلا يُعيَّن عليه بعض الجهات قهراً، فلا يلزمه

ص: 441


1- النهاية: 316.
2- المغني 58:5، الشرح الكبير 55:5.
3- الكافي 2/104:5، التهذيب 211:6-496/212، و ما بين المعقوفين من المصدر.

أداؤه من جهة الدَّيْن الذي له على المحال عليه، إلاّ في صورةٍ واحدة لا يُعتبر فيها رضا المحيل، و هي ما إذا جوّزنا الحوالة على مَنْ لا دَيْن عليه لو قال للمستحقّ: أحلت بالدَّيْن الذي لك على فلان على نفسي، فقَبِل، صحّت الحوالة، فإذَنْ لا يشترط هنا رضا المحيل، بل رضا المحتال و المحال عليه خاصّةً.

مسألة 604: يشترط رضا المحتال عند علمائنا أجمع

- و به قال الشافعي و أبو حنيفة(1) - لأنّ حقّه ثابت في ذمّة المحيل، فلا يلزمه نقله إلى ذمّةٍ أُخرى، إلاّ برضاه، كما أنّه لا يجوز أن يُجبر على أن يأخذ بالدَّيْن عوضاً، و كما إذا ثبت حقّه في عينٍ، لا يملك نقله إلى غيرها بغير رضاه.

و قال داوُد و أحمد: لا يعتبر رضاه إذا كان المحال عليه مليّاً؛ لقوله صلى الله عليه و آله: «مَنْ أُحيل على مليء فليحتل»(2) و الأمر للوجوب(3).

و نحن نمنع الوجوب، بل المراد به الإرشاد.

مسألة 605: يشترط عندنا رضا المحال عليه،

فلو لم يرض المحال عليه أو لم يُعلم هل رضي أم لا؟ لم تصحّ الحوالة، و به قال أبو حنيفة و الزهري و المزني(4)

ص: 442


1- الحاوي الكبير 418:6، المهذّب - للشيرازي - 345:1، التهذيب - للبغوي - 162:4، العزيز شرح الوجيز 127:5، روضة الطالبين 462:3، الهداية - للمرغيناني - 99:3، الاختيار لتعليل المختار 5:3، الذخيرة 243:9، المغني و الشرح الكبير 61:5.
2- مسند أحمد 225:3، ضمن ح 9655.
3- الحاوي الكبير 418:6، بداية المجتهد 299:2، الذخيرة 243:9، المعونة 1228:2، المغني و الشرح الكبير 61:5.
4- الهداية - للمرغيناني - 99:3، الاختيار لتعليل المختار 5:3، الحاوي الكبير 418:6، الوسيط 221:3، حلية العلماء 35:5، التهذيب - للبغوي - 162:4، العزيز شرح الوجيز 127:5، المغني 61:5، الشرح الكبير 61:5-62.

و قال أبو العبّاس ابن القاص: نصّ الشافعي في الإملاء على أنّها تفتقر إلى رضا المحال عليه - و إليه ذهب أبو سعيد الاصطخري من الشافعيّة - لأنّه أحد مَنْ تتمّ به الحوالة، فأشبه المحتال و المحيل. و لأنّ الناس يختلفون في الاقتضاء و الاستيفاء سهولةً و صعوبةً. و لأنّ الأصل بقاء الحقّ في ذمّة المحال عليه للمحيل، فيستصحب إلى أن يظهر المعارض.

و أصحّ القولين عند الشافعي: أنّه لا يعتبر رضا المحال عليه إذا كانت الحوالة على مَنْ عليه دَيْنٌ للمحيل - و به قال مالك و أحمد - لأنّ المحيل أقام المحتال مقام نفسه في القبض بالحوالة، فلم يفتقر إلى رضا مَنْ عليه الحقّ، كما لو كان وكيلاً في قبضه، بخلاف المحتال، فإنّه ينتقل حقّه، و تبرأ ذمّته منه. و لأنّ المحال عليه محلّ الحقّ و التصرّف، فلا يعتبر رضاه، كما لو باع عبداً، لا يعتبر رضاه(1).

و بنوا الوجهين على أنّ الحوالة اعتياض أو استيفاء؟ إن قلنا بالأوّل، فلا يشترط؛ لأنّه حقٌّ للمحيل، فلا يحتاج فيه إلى رضا الغير. و إن قلنا بالثاني، يشترط؛ لتعذّر إقراضه من غير رضاه(2).

و إن كانت الحوالة على مَنْ لا دَيْن عليه، لم تصحّ عند الشافعي إلاّ برضا المحال عليه؛ لأنّا لو صحّحناه، لألزمناه قضاء دَيْن الغير قهراً. و إن رضي، ففي صحّة الحوالة وجهان بناهما الجمهور على الأصل المذكور(3)3.

ص: 443


1- الحاوي الكبير 418:6، المهذّب - للشيرازي - 345:1، الوسيط 221:3، حلية العلماء 35:5، التهذيب - للبغوي - 162:4، العزيز شرح الوجيز 127:5، روضة الطالبين 462:3، بداية المجتهد 299:2، التلقين 443:2، الذخيرة 243:9، المعونة 1229:2، المغني 61:5، الشرح الكبير 61:5-62. (2 و 3) العزيز شرح الوجيز 127:5، روضة الطالبين 462:3.

و سيأتي(1).

فقد ظهر من هذا الإجماعُ على اعتبار رضا المحيل إلاّ في الصورة التي ذكرناها في أوّل النظر، و أنّ أصحابنا اشترطوا رضا الثلاثة: المحيل و المحتال و المحال عليه.

النظر الثالث: في الدَّيْن.
مسألة 606: إذا أحال زيد عمراً على بكر بألف، فلا يخلو إمّا أن تكون ذمّة زيدٍ

مسألة 606: إذا أحال زيد عمراً على بكر بألف، فلا يخلو إمّا أن تكون ذمّة زيدٍ(2) مشغولةً بالألف لعمرو، أو لا،

و على كلا التقديرين فإمّا أن يكون بكر بريء الذمّة منها أو مشغولها، فالأقسام أربعة:

أ - أن تكون ذمّة زيدٍ و بكرٍ مشغولتين، و لا خلاف هنا في صحّة الحوالة.

ب - قسيم هذا، و هو أن تكون ذمّتهما بريئةً، فإذا أحال زيد - و هو بريء الذمّة - عمراً - و لا دَيْن له عليه - على بكر، و هو بري الذمّة، لم يكن ذلك إحالةً صحيحة؛ لأنّ الحوالة إنّما تكون بدَيْنٍ، و هنا لم يوجد، بل يكون ذلك وكالةً في اقتراضٍ، و إنّما جازت الوكالة هنا بلفظ الحوالة؛ لاشتراكهما في المعنى، و هو استحقاق الوكيل أن يفعل ما أمره الموكّل من الاقتراض، و أن يطالبه من المحال عليه، كما يستحقّ المحتال مطالبة المحال عليه.

ج - أن يكون المحيلُ بريء الذمّة و المحالُ عليه مشغولها، (فيحيل

ص: 444


1- في ص 445، القسم «د» من الأقسام المذكورة في المسألة 606.
2- في «ج»: «ذمّته» بدل «ذمّة زيد».

مَنْ لا دَيْن عليه مَنْ لا دَيْن له على مَنْ للمحيل عليه دَيْنٌ)(1) بقبضه، فلا يكون ذلك أيضاً حوالةً؛ لأنّ الحوالة مأخوذة من تحوّل الحقّ و انتقاله، و لا حقّ [هاهنا](2) ينتقل و يتحوّل، بل يكون ذلك في الحقيقة وكالةً في الاستيفاء؛ لاشتراكهما في استحقاق الوكيل مطالبة مَنْ عليه الدَّيْن، كاستحقاق المحتال مطالبة المحال عليه، و تحوّل ذلك إلى الوكيل كتحوّله إلى المحيل.

د - أن يكون المحيل مشغولَ الذمّة و المحالُ عليه بريء الذمّة.

و في صحّة هذه الحوالة إشكال أقربه: الصحّة - و به قال أبو حنيفة و أصحابه(3) - لأنّ المحال عليه إذا قَبِلها، صار كأنّه قضى دَيْن غيره بذمّته؛ لأنّ الحوالة بمنزلة الحقّ المقبوض، و إذا قبض حقّاً من غيره، صحّ و سقط عن غيره، كذا هنا، لكن يكون ذلك بالضمان أشبه.

و للشافعيّة وجهان مبنيّان على أنّ الحوالة اعتياض أو استيفاء؟ فإن قلنا: إنّها اعتياض، لم تصحّ؛ لأنّه ليس له على المحال عليه شيء نجعله عوضاً عن حقّ المحتال. و إن قلنا: إنّها استيفاء حقٍّ، صحّت(4) ، كأنّه أخذ المحتال حقّه و أقرضه من المحال عليه(5).

قال الجويني: الصحيح عندي تخريج الخلاف على الخلاف في أنّه3.

ص: 445


1- بدل ما بين القوسين في الطبعة الحجريّة: «فيحيل مَنْ لا دَيْن له عليه على مَنْ للمحيل عليه دَيْنٌ». و كذا في «ر» بإسقاط «له» من «لا دَيْن له عليه».
2- بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «فيها». و الصحيح ما أثبتناه.
3- راجع: فتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهنديّة 73:3 و 74، و بدائع الصنائع 16:6.
4- في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «صحّ». و الظاهر ما أثبتناه.
5- التهذيب - للبغوي - 164:4، العزيز شرح الوجيز 127:5، روضة الطالبين 462:3.

هل يصحّ الضمان بشرط براءة الأصيل ؟ بل هذه(1) الصورة غير(2) تلك الصورة؛ فإنّ الحوالة تقتضي براءة المحيل، فإذا قَبِل الحوالة، فقد التزم على أن يُبرئ المحيل(3).

و هذا ذهابٌ منه إلى براءة المحيل و جَعْلها أصلاً مفروغاً عنه.

لكن للشافعيّة وجهان:

أحدهما: أنّه يبرأ على قياس الحوالات.

و الثاني - و به قال أكثرهم -: أنّه لا يبرأ، و قبول الحوالة ممّن لا دَيْن عليه ضمانٌ مجرّد(4).

ثمّ فرّعوا فقالوا: إن قلنا: لا تصحّ هذه الحوالة، فلا شيء على المحال عليه، فإن تطوّع و أدّاه، كان كما لو قضى دَيْنَ الغير. و إن قلنا:

تصحّ، فهو كما لو ضمنه، فيرجع على المحيل إن أدّى بإذنه(5).

و كذا إن أدّى بغير إذنه عندنا و على أظهر الوجهين عند الشافعيّة(6) ؛ لجريان الحوالة بإذنه.

و للمحال عليه الرجوع على المحيل هنا قبل الأداء - و هو أحد وجهي الشافعيّة(7) - لأنّ المحيل يبرأ، فينتقل الحقّ إلى ذمّة المحال عليه بمجرّد الحوالة.3.

ص: 446


1- في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «هنا» بدل «هذه». و المثبت كما في المصدر.
2- كذا في النسخ الخطّيّة و الحجريّة، و في المصدر «عين» بدل «غير». و في «ر»: «على غير».
3- العزيز شرح الوجيز 127:5.
4- العزيز شرح الوجيز 127:5، روضة الطالبين 462:3.
5- العزيز شرح الوجيز 127:5-128، روضة الطالبين 462:3. (6 و 7) العزيز شرح الوجيز 128:5، روضة الطالبين 463:3.

و الثاني: ليس له ذلك بناءً على أنّ المحيل لا يبرأ، كما أنّ الضامن لا يرجع على المضمون عنه قبل الأداء(1).

و إذا طالبه المحتال بالأداء، فله مطالبة المحيل بتخليصه.

و هل له ذلك قبل مطالبة المحتال ؟ الأقوى عندي: ذلك.

و للشافعيّة وجهان كالوجهين في مطالبة الضامن(2).

و لو أبرأه المحتال، لم يرجع على المحيل بشيء.

و لو قبضه المحتال ثمّ وهبه منه، فالأقوى: الرجوع؛ لأنّه قد غرم عنه، و إنّما عاد المال إليه بعقدٍ مستأنف.

و للشافعيّة وجهان يُنظر في أحدهما إلى أنّ الغُرْم لم يستقر عليه، فلم يغرم عنه في الحقيقة شيئاً. و في الثاني إلى أنّه عاد إليه بتصرّفٍ مبتدأ(3).

و هُما مأخوذان من القولين فيما إذا وهبت منه الصداق بعد القبض ثمّ طلّقها قبل الدخول.

و لو ضمن عنه ضامنٌ، لم يرجع على المحيل حتى يأخذ المحتال المالَ منه أو من ضامنه.

و لو أحال المحتال على غيره، نُظر إن أحاله على مَنْ عليه دَينٌ، رجع على محيله بنفس الحوالة؛ لحصول الأداء بها. و إن أحال على مَنْ لا دَيْن عليه، لم يرجع عليه الذي أحاله عليه.

مسألة 607: الأقوى عندي أنّه لا يشترط في الدَّيْن المحال به اللزومُ

ص: 447


1- العزيز شرح الوجيز 128:5، روضة الطالبين 463:3.
2- العزيز شرح الوجيز 128:5، روضة الطالبين 463:3.
3- العزيز شرح الوجيز 128:5، روضة الطالبين 463:3.

- و هو أصحّ وجهي الشافعيّة(1) - كما لو أحال بالثمن في مدّة الخيار بأن يحيل المشتري البائعَ على رجلٍ أو يحيل البائع رجلاً على المشتري. و لأنّه صائرٌ إلى اللزوم، و الخيار عارضٌ فيه، فيعطى حكم اللازم.

و الثاني لهم: المنع؛ لأنّه ليس بلازم(2).

و هو مصادرة على المطلوب.

قال بعض الشافعيّة: هذا الخلاف مبنيّ على أنّ الحوالة معاوضة أو استيفاء؟ إن قلنا معاوضة، فهي كالتصرّف في المبيع في زمان الخيار. و إن قلنا: استيفاء، فتجوز(3).

قالوا: فإن قلنا بالمنع، ففي انقطاع الخيار وجهان:

أحدهما: أنّه لا ينقطع؛ لحكمنا ببطلانه، و تنزيلنا إيّاه منزلة العدم.

و الثاني: نعم؛ لأنّ التصرّف في عوض العقد يتضمّن الرضا بإبطال الخيار(4).

و إن قلنا بالجواز، لم يبطل الخيار عند بعضهم(5).

و قال آخَرون: يبطل؛ لأنّ قضيّة الحوالة اللزوم، و لو بقي الخيار لما صادفت الحوالة مقتضاها، و كانت هذه الحوالة كالحوالة على النجوم(6).

و الأقوى: بقاء الخيار.

مسألة 608: إذا وقعت الحوالة بالثمن المتزلزل بالخيار ثمّ انفسخ البيع

ص: 448


1- الحاوي الكبير 419:6، الوسيط 222:3-223، العزيز شرح الوجيز 129:5، روضة الطالبين 464:3.
2- الحاوي الكبير 419:6، الوسيط 222:3-223، العزيز شرح الوجيز 129:5، روضة الطالبين 464:3.
3- العزيز شرح الوجيز 129:5.
4- العزيز شرح الوجيز 129:5، روضة الطالبين 464:3.
5- العزيز شرح الوجيز 129:5، روضة الطالبين 464:3.
6- العزيز شرح الوجيز 129:5، روضة الطالبين 464:3.

بفسخ صاحب الخيار، بطل الثمن، و بطلت الحوالة المترتّبة عليه، فلو أحال البائع على المشتري بالثمن رجلاً له عليه دَيْنٌ ثمّ فسخ المشتري بالخيار، بطلت الحوالة؛ لأنّها فرع البيع، و البيع قد بطل.

و عندي فيه نظر؛ لأنّ البيع لم يبطل من أصله، و إنّما تجدّد له البطلان، فلا يؤثّر في الحوالة التي جرت منهما.

و لو أحال المشتري البائعَ على غيره ثمّ فسخ البيع بالخيار، بطلت الحوالة؛ لترتّبها على البيع، و البيع قد بطل.

و يُحتمل قويّاً عدم بطلان الحوالة.

و على قول الشافعيّة ببطلان الخيار لو أحال المشتري البائعَ على ثالثٍ، يبطل خيارهما جميعاً؛ لتراضيهما. و لو أحال البائع رجلاً على المشتري، لم يبطل خيار المشتري، إلاّ أن يقبل و يرضى بالحوالة(1).

مسألة 609: لو أحال زيد على عمرو بكراً بمالٍ فأدّاه عمرو - بعد قبول الثلاثة الحوالة - إلى بكر،

ثمّ جاء عمرو يطالب زيداً بما أدّاه بحوالته إلى بكر، فادّعى زيد أنّه إنّما أحال بما لَه عليه، و أنكر عمرو ذلك و أنّه احتال و لا شيء لزيد عليه، كان القولُ قولَ عمرو؛ لأصالة براءة ذمّته.

و يُحتمل أن يقال: إن قلنا بصحّة الحوالة على مَنْ لا مال عليه، كان القولُ قولَ المحال عليه قطعاً. و إن قلنا: إنّها لا تصحّ، كان القولُ قولَ المحيل؛ لاعترافهما بالحوالة، و ادّعاء المحال عليه بطلانها، و الأصل الصحّة.

مسألة 610: لو أحال السيّد على مكاتَبه بمال النجوم،

فإن كان بعد

ص: 449


1- العزيز شرح الوجيز 129:5، روضة الطالبين 464:3.

حلوله، صحّ؛ لثبوته في ذمّة المكاتَب. و إن كان قبل الحلول، فكذلك على الأقوى.

و يجيء على قول الشيخ رحمه الله المنع(1) ؛ لأنّ مال الكتابة غير واجبٍ - عنده(2) - على المكاتَب؛ إذ له أن يُعجّز نفسه، فله أن يمتنع من أدائه.

و للشافعيّة وجهان فيما إذا أحال السيّد غيره على مكاتَبه بالنجوم.

أحدهما: الجواز - كما قلناه - لأنّ النجوم دَيْنٌ ثابت على المكاتَب، فأشبه سائر الديون.

و أصحّهما عندهم: المنع؛ لأنّ النجوم غير لازمة على المكاتَب، و له إسقاطها متى شاء، فلا يمكن إلزامه الدفع إلى المحتال(3).

و على ما اخترناه - من صحّة الحوالة - لو أعتق السيّد عبده المكاتَب، بطلت الكتابة، و لم يسقط عن المكاتَب مال الحوالة؛ لأنّ المال بقبوله الحوالة صار لازماً له للمحتال، و لا يضمن السيّد ما يغرمه من مال الحوالة.

و لو كان للسيّد عليه دَيْنُ معاملةٍ غير مال الكتابة، صحّت الحوالة به قطعاً؛ لأنّ حكمه حكم الأحرار في المداينات.

و قال بعض الشافعيّة: إنّه مبنيّ على أنّ المكاتَب لو عجّز نفسه، هل يسقط ذلك الدَّيْن ؟ إن قلنا: نعم، لم تصح الحوالة، و إلاّ صحّت(4).

و المعتمد ما قلناه، و هو قول أكثر الشافعيّة و قول أكثر العامّة(5).

و لو أحال المكاتَبُ السيّدَ على إنسانٍ بمال الكتابة، صحّت الحوالة5.

ص: 450


1- المبسوط - للطوسي - 321:2.
2- الخلاف 393:6، المسألة 17، المبسوط - للطوسي - 73:6 و 82.
3- العزيز شرح الوجيز 129:5-130، روضة الطالبين 464:3.
4- العزيز شرح الوجيز 130:5، روضة الطالبين 464:3.
5- روضة الطالبين 464:3، المغني 56:5، الشرح الكبير 57:5.

عندنا و عند أكثر الشافعيّة و أكثر المانعين من حوالة السيّد عليه بالنجوم(1) ، و تبرأ ذمّة المكاتَب من مال الكتابة، و يتحرّر، و يكون ذلك بمنزلة الأداء، سواء أدّى المحال عليه أو مات مفلساً؛ لأنّ ما أحاله عليه مستقرّ، و الكتابة لازمة من جهة السيّد، فمتى أدّى المحال عليه وجب على السيّد القبول أو الإبراء.

و قال بعض الشافعيّة: لا تصحّ هذه الحوالة أيضاً(2).

فللشافعيّة إذَنْ ثلاثة أقوال في الجمع بين الصورتين:

أحدها: جواز إحالة المكاتَب بالنجوم، و إحالة السيّد على النجوم، و هو قول ابن سريج.

و الثاني: منعهما جميعاً.

و الثالث: أظهرها عندهم، و هو: جواز إحالة المكاتَب بها، و منع إحالة السيّد عليها(3).

و لو أحال السيّد بأكثر مال الكتابة ثمّ أعتقه، سقط عن المكاتَب الباقي، و لم تبطل الحوالة.

مسألة 611: مال الجُعْل في الجُعالة إن استحقّ بالعمل، صحّت الحوالة به إجماعاً.

و إن لم يشرع في العمل، فالأقرب: الجواز؛ لأنّا نجوّز الحوالة على بريء الذمّة.

ص: 451


1- العزيز شرح الوجيز 130:5، روضة الطالبين 464:3، المغني 56:5، الشرح الكبير 57:5.
2- العزيز شرح الوجيز 130:5، روضة الطالبين 464:3.
3- الوسيط 223:3، العزيز شرح الوجيز 130:5.

و قياس الشافعيّة أنّه يجيء في الحوالة به و عليه الخلافُ المذكور في الرهن به و في ضمانه(1).

و قال بعض الشافعيّة: تجوز الحوالة به و عليه بعد العمل، لا قبله(2).

و لو أحال مَنْ عليه الزكاة الساعيَ على إنسانٍ بالزكاة، جاز، سواء قلنا: إنّ الحوالة استيفاء أو اعتياض؛ لأنّه دَيْنٌ ثابت في الذمّة، فجازت الحوالة.

و عندنا يجوز دفع قيمة الزكاة عن عينها، فجاز الاعتياض فيها.

أمّا الشافعيّة فإنّهم منعوا من دفع القيمة في الزكاة و من الاعتياض عنها(3) ، فهنا قالوا: إن قلنا: إنّ الحوالة استيفاء، صحّت الحوالة هنا. و إن قلنا: إنّها اعتياض، لم تجز؛ لامتناع أخذ العوض عن الزكاة(4).

و لو أحال الفقير المديون صاحبَ دَيْنه بالزكاة على مَنْ وجبت عليه، لم تصح؛ لأنّها لم تتعيّن له إلاّ بالدفع إليه.

و لو قَبِل مَنْ وجبت عليه، صحّ، و لزمه الدفع إلى المحتال.

مسألة 612: تجوز الحوالة بكلّ مالٍ لازمٍ ثابتٍ في الذمّة معلومٍ؛

لأنّها إمّا اعتياض، فلا تصحّ على المجهول، كما لا يصحّ بيعه، و إمّا استيفاء، و إنّما يمكن استيفاء المعلوم، أمّا المجهول فلا. و لاشتماله على الغرر.

فلو قال: أحلتك بكلّ ما لك عَلَيَّ، فقَبِل، لم تصح.

ص: 452


1- العزيز شرح الوجيز 130:5، روضة الطالبين 464:3.
2- روضة الطالبين 464:3.
3- المهذّب - للشيرازي - 157:1، المجموع 428:5-429، و 132:6، حلية العلماء 167:3، التهذيب - للبغوي - 65:3، المغني 671:2، الشرح الكبير 521:2.
4- روضة الطالبين 465:3.

و يحتمل الصحّة، و يكون على المحال عليه للمحتال كلّ ما تقوم به البيّنة، كما قلناه في الضمان.

و لا يشترط اتّفاق الدَّيْنين في سبب الوجوب، فلو كان أحدهما ثمناً و الآخَر أُجرةً أو قرضاً أو بدلَ متلفٍ أو أرشَ جنايةٍ و ما أشبهه، جازت الحوالة، و لا نعلم فيه خلافاً.

مسألة 613: تصحّ الحوالة بكلّ دَيْنٍ ثابتٍ في الذمّة،

سواء كان مثليّاً، كالذهب و الفضّة و الحبوب و الأدهان، أو من ذوات القِيَم، كالثياب و الحيوان و غيرهما - و هو أصحّ وجهي الشافعيّة(1) - لأنّه حقٌّ لازمٌ ثابتٌ في الذمّة، فأشبه ما لَه مِثْلٌ.

و الثاني: المنع؛ لأنّ الغرض من الحوالة إيصال الحقّ إلى مستحقّه من غير تفاوتٍ، و هذا الغرض لا يتحقّق فيما لا مِثْل له؛ لأنّ المثل لا يتحرّز(2) ، و لهذا لا يضمن بمثله في الإتلاف(3).

و الأوّل أصحّ. و الوصول إلى الحقّ قد يكون بالمثل، و قد يكون بالقيمة، و كما يجوز إبراء المديون منه بالأداء، كذا المحال عليه.

و لو كان المال ممّا لا يصحّ السَّلَم فيه، ففي جواز الحوالة به إشكال أقربه: الجواز؛ لأنّ الواجب في الذمّة حينئذٍ القيمة، و تلك العين لا تثبت في الذمّة، فلا تقع الحوالة بها و لا بمثلها؛ لعدمه، بل بالقيمة.

ص: 453


1- المهذّب - للشيرازي - 344:1، حلية العلماء 32:5، التهذيب - للبغوي - 162:4، العزيز شرح الوجيز 130:5، روضة الطالبين 465:3.
2- في النسخ الخطّيّة: «لا يتحرّر» بالراءين المهملتين.
3- المهذّب - للشيرازي - 344:1، حلية العلماء 32:5، التهذيب - للبغوي - 162:4، العزيز شرح الوجيز 130:5، روضة الطالبين 465:3.

و لو كان عليه خمس من الإبل أرش الموضحة مثلاً، و له على آخَر مثلها، فأحاله بها، فالأقرب: الصحّة؛ لأنّها تنحصر بأقلّ ما يقع عليه الاسم في السنّ و القيمة و سائر الصفات، و هو أحد قولَي الشافعي(1).

و الثاني: لا تجوز؛ لأنّ صفاتها مجهولة(2).

و هو ممنوع.

و قال بعض الشافعيّة: إذا أحال بإبل الدية و عليها و فرّعنا على جواز الحوالة في المتقوّمات، فوجهان أو قولان مبنيّان على جواز المصالحة و الاعتياض عنها.

و الأصحّ عندهم: المنع؛ للجهل بصفاتها(1).

و لو كان الحيوان صداقاً و دخل بها، جازت الحوالة عند بعض الشافعيّة؛ لأنّه لا يكون مجهولاً(4).

و مَنَعه بعضهم؛ لأنّه لا تجوز المعاوضة معها(5).

النظر الرابع: في تساوي الجنسين.
مسألة 614: من مشاهير الفقهاء

مسألة 614: من مشاهير الفقهاء(2) وجوب تساوي الدَّيْنين

- أعني الدَّيْن الذي للمحتال على المحيل، و الذي للمحيل على المحال عليه - جنساً و وصفاً، فلو كان له دنانير على شخصٍ فأحال عليه بدراهم، لم تصحّ؛ لأنّ الحوالة إن جعلناها استيفاءً، فلأنّ مستحقّ الدراهم إذا

ص: 454


1- المهذّب - للشيرازي - 344:1، العزيز شرح الوجيز 130:5، روضة الطالبين 465:3. (4 و 5) راجع: التهذيب - للبغوي - 162:4.
2- بداية المجتهد 300:2، العزيز شرح الوجيز 131:5، روضة الطالبين 466:3، المغني 55:5، الشرح الكبير 59:5.

استوفاها و أقرضها فمحال أن ينتقل حقّه إلى الدنانير.

و إن جعلناها معاوضةً، فلأنّها و إن كانت معاوضةً فليست هي على حقيقة المعاوضات التي يقصد بها تحصيل ما ليس بحاصل من جنس مالٍ أو زيادة قدرٍ أو صفة، و إنّما هي معاوضة إرفاقٍ و مسامحة للحاجة، فاشترط فيها التجانس و التساوي في القدر و الصفة؛ لئلاّ يتسلّط على المحال عليه، كما في القرض.

و لأنّا نجبر المحال عليه عند مَنْ لا يشترط رضاه، و لا يمكن إجباره مع الاختلاف.

و لأنّ الحوالة لا يُطلب بها الفضل، و لهذا جازت دَيْناً بدَيْن، أ لا ترى أنّه لا يجوز بيع الدَّيْن بالدَّيْن، فلو جوّزنا الإحالة مع الاختلاف في الجنس أو الوصف، لكان بيعَ الدَّيْن بالدَّيْن.

و مع هذا فقد قال المشترطون للتساوي: إنّه تصحّ الحوالة على مَنْ لا دَيْن عليه، و الأحرى جواز الإحالة على مَنْ عليه دَيْن مخالف. لكنّ الغرض بقولهم: «إذا تغاير الدَّيْنان جنساً أو وصفاً أو قدراً، لم تصحّ الحوالة» أنّ الحقّ لا يتحوّل بها من الدنانير إلى الدراهم و بالعكس، لكنّها إذا جرت فهي حوالة على مَنْ لا دَيْن له عليه، و حكمه ما تقدّم(1).

مسألة 615: لو كان عليه إبل من الدية و له على آخَر مثلها قرضاً، فأحاله صاحب القرض على المقترض بإبل الدية،

فإن قلنا: يردّ في القرض مثلها، صحّت الحوالة؛ لأنّه يمكن استيفاء الحقّ على صفته من المحال عليه. و لأنّ الخيرة في التسليم إلى مَنْ عليه الدَّيْن، و قد رضي بتسليم ما لَه

ص: 455


1- العزيز شرح الوجيز 131:5، روضة الطالبين 466:3.

في ذمّة المقترض، و هو مثل الحقّ، فكانت الحوالة صحيحةً.

و إن قلنا: إنّه يردّ في القرض القيمة، لم تصحّ الحوالة؛ لاختلاف الجنس.

و كذا ما يثبت في الذمّة قيمته في القرض - كالجواهر و اللآلئ و غيرهما ممّا لا يصحّ السَّلَم فيه - لا تصحّ الحوالة به.

و لو احتال المقرض بإبل الدية، لم تصح؛ لأنّا إن قلنا: تجب القيمة في القرض، فقد اختلف الجنس. و إن قلنا: يجب المثل، فللمقرض مثل ما أقرض في صفاته، و الذي عليه الدية لا يلزمه ذلك.

مسألة 616: يجب تساوي الدَّيْنين في القدر،

فلا يحال بخمسة على عشرة، و لا بعشرة على خمسة؛ لما قلنا من أنّ هذا العقد للإرفاق، و لإيصال كلّ حقٍّ إلى مستحقّه، و لم يوضع لتحصيل زيادة أو حطّ شيء.

و المراد بذلك وقوع المعاوضة بالقليل عن الكثير و بالعكس، و إلاّ فلو كان له عشرة فأحال بخمسة منها، أو كان له خمسة فأحال بها و بخمسةٍ أُخرى، فإنّه تصحّ.

و للشافعيّة وجهٌ في الإحالة بالقليل على الكثير: أنّها جائزة، و كأنّ المحيل تبرّع بالزيادة(1).

و قال أبو العباس ابن سريج: الحوالة بيع إلاّ أنّه غير مبنيّ على المكايسة و المغابنة و طلب الربح و الفضل، بل جُعل رفقاً، كالقرض، و إن كان نوعَ معاوضةٍ، فلا تجوز إلاّ مع اتّفاق الجنس جنساً و قدراً و صفةً، و قد قال الشافعي في كتاب البيوع في باب الطعام قبل أن يستوفى: و إن حلّ عليه

ص: 456


1- العزيز شرح الوجيز 131:5، روضة الطالبين 466:3.

طعام فأحال به على رجل له عليه طعام أسلفه إيّاه، لم تجز من قِبَل أنّ هذا الطعام لمّا لم يجز بيعه لم تجز الحوالة به؛ لأنّه بيع، و هذا نصٌّ منه(1).

و قيل: ليست بيعاً(2) - و هو ما اخترناه نحن أوّلاً - لأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله ندب إليها، فقال: «مَنْ أُحيل على مليء فليحتل»(3). و لأنّها لا تصحّ بلفظ البيع، و لا تجوز الزيادة فيها و لا النقصان، و لما جازت في النقود إلاّ مع التقابض في المجلس، إلاّ أنّ هذا القائل لا يجوّز الحوالة بالمُسْلَم فيه، و هذا تشمير(4) لقول مَنْ قال: إنّه بيع.

لا يقال: لو كان بيعاً، لكان على المحيل تسليمه إلى المحال عليه؛ لأنّه عوض من جهته، كما إذا باع شيئاً في يد غيره، فإنّه يطالبهما به المشتري.

لأنّا نقول: أجاب مَنْ قال: «إنّه بيع»: بأنّه لمّا استحقّ مطالبة المحال عليه به لم يستحقّ مطالبة المحيل؛ لأنّه لو استحقّ مطالبتهما، لكان قد حصل له بالحوالة زيادة في حقّ المطالبة، و قد ثبت أنّ الحوالة مبنيّة على أنّه لا يستحقّ بها إلاّ مثل ما كان يستحقّه، بخلاف البيع؛ لأنّه تجوز فيه الزيادة.

و فائدة الاختلاف: ثبوت خيار المجلس إن قلنا: إنّها بيع.

و الحقّ ما تقدّم، و الاعتذار باطل؛ لأنّ تخلّف لازم البيع يقضي بانتفائه.».

ص: 457


1- انظر: الحاوي الكبير 419:6، و العزيز شرح الوجيز 126:5، و راجع: الأُم 73:3.
2- انظر: الحاوي الكبير 419:6، و العزيز شرح الوجيز 126:5.
3- المصنّف - لابن أبي شيبة - 2445/79:7.
4- التشمير: التقليص و الإرسال. لسان العرب 428:4 «شمر».
مسألة 617: الأقرب: أنّه لا يشترط تساوي المالَيْن في الحلول و التأجيل،
اشارة

فيجوز أن يحيل بالمؤجَّل على الحالّ؛ لأنّ للمحيل أن يُعجّل ما عليه، فإذا أحال به على الحالّ فقد عجّل.

و كذا يجوز أن يحيل بالحالّ على المؤجَّل.

ثمّ إن رضي المحال عليه بالدفع معجَّلاً، جاز، و إلاّ لم يجز، و وجب على المحتال الصبر، كما لو احتال مؤجّلاً.

و للشافعيّة قولان:

أصحّهما عندهم: أنّه يشترط التساوي في الحلول و التأجيل؛ إلحاقاً للوصف بالقدر.

و الثاني: أنّه يجوز أن يحيل بالمؤجَّل على الحالّ؛ لأنّه تعجيل، و لا يجوز العكس؛ لأنّ حقّ المحتال حالٌّ، و تأجيل الحالّ لا يلزم(1).

و نحن نمنع عدم اللزوم مطلقاً، بل إذا تبرّع به، لم يلزم، أمّا إذا شرطه في عقدٍ لازم، فإنّه يلزم، و الحوالة عقد لازم، و المحيل إنّما أحال بالمؤجَّل، و المحال عليه إنّما قَبِل على ذلك، فلم يكن للمحتال الطلبُ معجَّلاً.

فروع:
أ - لو كان الدَّيْنان مؤجَّلين، فإن تساويا في الأجل، صحّت الحوالة قطعاً.

و إن اختلفا، صحّت عندنا أيضاً.

و للشافعيّة وجهان بناءً على الوجهين في الحالّ و المؤجَّل، فإن منعناه هناك، منعناه هنا. و إن جوّزناه هناك، جاز هنا على حدّ ما جاز هناك على معنى أنّه يجوز أن يحال بالأبعد على الأقرب؛ لأنّه تعجيل، و لا يجوز

ص: 458


1- العزيز شرح الوجيز 131:5، روضة الطالبين 466:3.

العكس؛ لأنّه تأجيل الحالّ(1).

ب - لو كان أحدهما صحيحاً و الآخَر مكسَّراً،

قالت الشافعيّة:

لم تجز الحوالة بينهما على الوجه الأوّل، و على الثاني يحال بالمكسَّر على الصحيح، و يكون المحيل متبرّعاً بصفة الصحّة، و لا يحال بالصحيح على المكسَّر، إلاَّ إذا كان المحتال تاركاً لصفة الصحّة، و يرضى بالمكسَّرة رشوةً ليحيله المحيل.

ج - يُخرّج على هذا الخلاف عندهم حوالة الأردأ على الأجود في كلّ جنسٍ، و بالعكس

(2) .

و الأقرب عندي: جواز ذلك كلّه.

د - لو أدّى المحال عليه الأجود إلى المحتال، وجب القبول.

و كذا الصحيح عوض المكسَّر.

أمّا تعجيل المؤجَّل فلا يُجبر عليه، خلافاً للشافعيّة، فإنّهم أوجبوه(3) ، حيث يجبر المستحقّ على القبول(4).

و هذا يتفرّع على الصحيح في أنّ المديون إذا جاء بأجود ممّا عليه من ذلك النوع، يُجبر المستحقّ على قبوله، و لا يكون ذلك معاوضةً؟(5).

ه - لو كان الدَّيْنان حالَّيْن فشرط في الحوالة أنّ المحتال يقبض حقّه أو بعضه بعد شهرٍ، صحّ عندنا

- خلافاً لأحمد(4) - لعموم قوله عليه السلام:

ص: 459


1- العزيز شرح الوجيز 131:5، روضة الطالبين 466:3.
2- العزيز شرح الوجيز 131:5-132.
3- في النسخ الخطّيّة: «جوّزوه» بدل «أوجبوه». (4 و 5) العزيز شرح الوجيز 132:5.
4- المغني 56:5، الشرح الكبير 59:5.

«المؤمنون عند شروطهم»(1).

و لأنّ مبنى الحوالة على الإرفاق، و هذا مناسب لمقتضى العقد، فيكون لازماً.

و كذا يصحّ لو كان الدَّيْنُ المحال به مؤجَّلاً، فشرط المحتال في الحوالة الحلول، و رضي الثلاثة به، صحّ و لزم؛ عملاً بالشرط.

و - لو اجتمعت شرائط الحوالة و جرى بينهما عقدها ثمّ رضي المحتال بأخذ الأقلّ أو الأردأ أو الصبر إلى أجلٍ، صحّ إجماعاً،

و لم يكن للمحيل الرجوعُ على المحال عليه بتمام دَيْنه.

و كذا لو رضي المحال عليه بدفع الأجود و الأكثر و المعجَّل، صحّ، و لا نعلم فيه خلافاً.

ز - لو احتال بالحقّ الذي له على مَنْ عليه مثله فتعاوضا عن الحقّ بمخالفه، جاز؛

لأنّه يجوز اقتضاء أحد الجنسين من الآخَر مع التراضي.

و قد روى داوُد بن سرحان - في الصحيح - عن الصادق عليه السلام، قال:

سألته عن الرجل كانت له على رجل دنانير فأحال عليه رجلاً بدنانير أ يأخذ بها دراهم ؟ قال: «نعم»(2).

البحث الثالث: في الأحكام.
مسألة 618: إذا جرت الحوالة بشرائطها، برئ المحيل من دَيْن المحتال،
اشارة

و تحوّل حقّ المحتال إلى ذمّة المحال عليه، و برئ المحال عليه

ص: 460


1- التهذيب 1503/371:7، الاستبصار 835/232:3، الجامع لأحكام القرآن 33:6.
2- التهذيب 499/212:6.

من دَيْن المحيل، حتى لو أفلس المحال عليه و مات أو لم يمت أو جحد و حلف، لم يكن للمحتال الرجوعُ على المحيل، كما لو أخذ عوضاً عن الدَّيْن و تلف في يده، و قد سبق(1).

و لأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله تعرّض للملاءة، فقال: «إذا أُحيل أحدكم على مليء فليحتل»(2) و لو تمكّن المحتال من الرجوع، لما كان للتعرّض للملاءة كثير فائدةٍ.

و لأنّ الحوالة إمّا أن يتحوّل بها الحقّ، فقد برئت ذمّته، فوجب أن لا يعود إليه، كما لو أبرأه. و إن لم يتحوّل، فلتدم المطالبة كما في الضمان.

و لو شرط في الحوالة الرجوع بتقدير الإفلاس أو الجحود، ففي صحّة الحوالة إشكال.

و للشافعيّة وجهان، فإن صحّت، ففي صحّة الشرط وجهان لهم إذا طرأ الإفلاس(3).

أمّا لو اقترن الإفلاس بعقد الحوالة و جَهِلَه المحيل، فللمحتال هنا الرجوع - عندنا - على المحيل على ما تقدّم.

و عند الشافعيّة يُنظر إن لم يَجْر شرط الملاءة، فالمشهور أنّه لا رجوع للمحتال، و لا خيار له، و ما يلحقه من الضرر فهو نتيجة ترك التفحّص(4).

و لهم وجهٌ نَقَله الجويني: أنّه يثبت له الخيار تداركاً لما لحقه من الخسران، كما لو اشترى شيئاً فبانَ معيباً(5):5

ص: 461


1- في ص 435.
2- سنن البيهقي 70:6.
3- العزيز شرح الوجيز 133:5، روضة الطالبين 466:3.
4- العزيز شرح الوجيز 133:5، روضة الطالبين 466:3.
5- العزيز شرح الوجيز 133:5

و إن شرط ملاءة المحال عليه، فبانَ معسراً، فإن قلنا بثبوت الخيار عند الإطلاق، فهنا أولى. و إن منعناه ثَمَّ، ففي الحكم هنا قولٌ للمزني: إنّه لا يرجع(1).

و قال ابن سريج: يرجع، نقلاً عن الشافعي، كما لو اشترى عبداً بشرط أنّه كاتب فبانَ خلافه، يثبت له الخيار(2).

و اختار أكثرهم نَقْلَ المزني؛ لأنّه لو ثبت الرجوع بالحلف في شرط اليسار، لثبت عند الإطلاق؛ لأنّ الإعسار نقصٌ في الذمّة، كالعيب في المبيع يثبت الخيار، سواء شرطت السلامة أو لا، بخلاف شرط الكتابة؛ فإنّ فواتها ليس نقصاً، و إنّما هو عدم فضيلةٍ(3).

فإذا جمع بين [صورتي](1) الإطلاق و الاشتراط، حصل للشافعيّة في ثبوت الخيار ثلاثة أوجُه ثالثها: الفرق بين الصورتين(2).

تذنيب: لو صالح مع أجنبيّ عن دَيْنٍ على عينٍ ثمّ جحد الأجنبيّ و حلف، هل يعود إلى مَنْ كان عليه الدَّيْن ؟

قال بعض الشافعيّة: نعم، و يفسخ الصلح(6).

و قال بعضهم: لا يعود(7).

مسألة 619: لو خرج المحال عليه عبداً، فإن كان لأجنبيٍّ و للمحيل دَيْنٌ في ذمّته، صحّت الحوالة،

كما لو أحال على معسر، و يتخيّر المحتال عندنا؛ لأنّ إعسار العبوديّة أعظم إعسارٍ، فإن رضي بالحوالة عليه، تبعه

ص: 462


1- بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «صورة». و الظاهر ما أثبتناه.
2- العزيز شرح الوجيز 133:5. (6 و 7) العزيز شرح الوجيز 133:5، روضة الطالبين 467:3.

المحتال بعد العتق.

و لو كان الدَّيْن الذي على العبد للمحيل ممّا يجب قضاؤه من كسبه أو من رقبته و صحّت الحوالة برضا المحتال، كان له مطالبته على حدّ ما كان للمحيل.

و هل يلحق بالمعسر في تخيّر المحتال لو كان الدَّيْن ممّا يتعلّق بالرقبة كأرش الجناية ؟ الأقرب ذلك أيضاً.

و لو كان عبداً للمحيل، فالحوالة عليه حوالة على مَنْ لا دَيْن عليه، فإن صحّحناها و قلنا: إنّها ضمان، فهذا ضمان العبد عن سيّده بإذنه، و قد سبق(1).

و إنّما قلنا: إنّها حوالة على مَنْ لا دَيْن عليه؛ لاستحالة ثبوت دَيْن السيّد في ذمّة عبده.

و أمّا الشافعيّة فقالوا: إن كان في ذمّته دَيْنٌ - بأن ثبت قبل أن مَلَكه - و فرّعنا على أنّه لا يسقط إذا مَلَكه، فهو كما لو كان لأجنبيّ(2).

مسألة 620: لو اشترى عبداً و أحال المشتري البائعَ بالثمن على رجلٍ ثمّ اطّلع على عيبٍ قديم في العبد فردّه، قال الشيخ: تبطل الحوالة؛

لأنّها فرع البيع، فإذا بطل الأصل بطل الفرع(3)(4).

و قال المزني: إنّها لا تبطل(5)

ص: 463


1- في ص 303، ضمن المسألة 491.
2- العزيز شرح الوجيز 134:5، روضة الطالبين 467:3.
3- في الطبعة الحجريّة: «فرعه» بدل «الفرع».
4- الخلاف 308:3، المسألة 7، المبسوط 313:2.
5- الحاوي الكبير 424:6، الوسيط 225:3، العزيز شرح الوجيز 134:5.

و له قولٌ آخَر: إنّها تبطل(1).

و لأصحاب الشافعي في ذلك ثلاثة طُرق، أظهرها عندهم: أنّ في بطلان الحوالة قولين، أظهرهما: البطلان.

و هُما مبنيّان على أنّ الحوالة استيفاء أو اعتياض ؟

إن قلنا: إنّها استيفاء، بطلت و انقطعت؛ لأنّ الحوالة على هذا التقدير نوع إرفاقٍ و مسامحة، فإذا بطل الأصل، بطلت هيئة الإرفاق، التابعة له، كما لو اشترى شيئاً بدراهم مكسَّرة و تطوّع بأداء الصحاح ثمّ ردّه بالعيب، فإنّه يستردّ الصحاح، و لا يقال: يطالب بمثل المكسَّرة ليبقى التبرّع بصفة الصحّة.

و إن قلنا: إنّها اعتياض، لم تبطل، كما لو استبدل عن الثمن ثوباً ثمّ ردّ المبيع بالعيب، فإنّه لا يبطل الاستبدال، بل يرجع بمثل الثمن. على أنّ بعض الشافعيّة مَنَع هذه المسألة، و جَعَلها كمسألة الحوالة.

و الطريق الثاني: القطع بالبطلان.

و الثالث: القطع بعدم البطلان.

و قد تأوّل أصحاب الطريقين الأخيرين، و جمعوا بين قولَي المزني بوجوه:

أحدها: حَمْلُ قوله بالبطلان على ما إذا كان العيب لا يمكن حدوثه في يد المشتري، أو كان بحيث يمكن حدوثه، إلاّ أنّ البائع أقرّ بقِدَمه، و حَمْلُ قوله بالصحّة على ما إذا ثبت قِدَمه بالبيّنة و ردَّه.5.

ص: 464


1- مختصر المزني: 107، الحاوي الكبير 424:6، المهذّب - للشيرازي - 345:1، الوسيط 225:3، حلية العلماء 37:5، التهذيب - للبغوي - 166:4، العزيز شرح الوجيز 134:5.

و الفرق: أنّ في الحالة الأُولى اعترف البائع بسقوط الثمن عند الفسخ، و أمّا في الحالة الثانية فإنّه يزعم بقاء حقّه و استمرار الحوالة، فلا يمنع من مطالبة المحال عليه بدعوى المشتري.

و الثاني: حَمْلُ الأوّل على ما إذا ذكر المحيل أنّه يحيله من جهة الثمن، و حَمْلُ الثاني على ما إذا لم يذكر ذلك، فإنّه إذا لم يذكر، لا ينبغي العود إليه؛ لبراءة ذمّته عن حقّه ظاهراً.

و الثالث: أنّ البطلان مفرَّع على أنّ الحوالة تفتقر إلى رضا المحال عليه، فإنّ الحوالة حينئذٍ تتمّ برضا الثلاثة، فلا تنقطع بموافقة اثنين.

و الرابع: حَمْلُ البطلان على ما إذا كانت الحوالة على مَنْ لا دَيْن عليه و رضي المحال عليه، فإنّه إذا أسقط الثمن انقطع تطوّعه، و سقطت المطالبة عنه(1).

و عندي في قول الشيخ رحمه الله بالبطلان نظر.

مسألة

مسألة(2) 621: لم يفرّق الشيخ رحمه الله بين ما إذا كان الردّ بالعيب بعد قبض المبيع أو قبله

(3)العزيز شرح الوجيز 135:5.(4) .

و قال بعض الشافعيّة: إنّ محلّ الخلاف ما إذا كان الردّ بعد قبض المبيع، فإن كان قبله، انقطعت الحوالة بلا خلافٍ؛ لكون المبيع معرضَ الانفساخ، و عدم تأكّده، و لهذا جعلنا الفسخ قبل القبض ردّاً للعقد من أصله على رأي. ثمّ زيَّف ذلك، و قضى بطرد القولين في الحالتين(4)

ص: 465


1- العزيز شرح الوجيز 134:5-135.
2- في «ث»: «تذنيب» بدل «مسألة».
3- لاحظ: الهامش
4- من ص 463.

و قضيّة الطريقين معاً تجويز الإحالة بالثمن قبل قبض المبيع، لكنّه قبل قبض المبيع غير مستقرّ.

و المشهور في كتب الشافعيّة(1) أنّ من شرط الحوالة استقرار ما يحال عليه(2).

و قال بعض الشافعيّة: لا تجوز الحوالة بالثمن قبل قبض المبيع(3).

مسألة 622: فرّق بعض الشافعيّة بين أن يتّفق الردّ بعد قبض المحتال مالَ الحوالة، أو قبله.

و فيه للشافعيّة طريقان:

أحدهما: أنّ الحوالة لا تنقطع إذا اتّفق الردّ بعد القبض جزماً، و الخلاف مخصوص بما إذا كان [ذلك](4) قبل القبض. و الفرق تأكّد الأمر بالقبض، و براءة ذمّة المحال عليه.

و الثاني: طرد القولين في الحالتين، و هو قول أكثرهم(5).

قال المزني: إذا ردّه قبل قبض المحتال مالَ الحوالة، بطلت الحوالة، و تعدّى حقّ المشتري إلى ذمّة المحال عليه، و [به](6) قال أبو إسحاق(7)

ص: 466


1- كما في العزيز شرح الوجيز 135:5-136.
2- في المصدر: «ما يحال به و يحال عليه».
3- العزيز شرح الوجيز 136:5.
4- ما بين المعقوفين أضفناه من المصدر.
5- العزيز شرح الوجيز 136:5.
6- ما بين المعقوفين أضفناه لاقتضاء ما في المصادر إيّاه.
7- مختصر المزني: 107، الحاوي الكبير 424:6، المهذّب - للشيرازي - 345:1، حلية العلماء 37:5، التهذيب - للبغوي - 166:4، العزيز شرح الوجيز 134:5 و 135.

[و قال أبو علي:](1) لا تبطل(2).

و إن كان الردّ في مدّة الخيار، فالحوالة باطلة؛ لأنّها كانت بالثمن، فصار له الثمن في ذمّة المحال عليه، و انتقل إليها من ذمّة المحيل، فإذا انفسخ البيع، سقط الثمن، فوجب أن يسقط عن ذمّة المحال عليه.

و احتجّ القائل بعدم البطلان: بأنّ المشتري دفع إلى البائع بدل ما لَه في ذمّته، و عاوضه عنه بما في ذمّة المحال عليه، فإذا انفسخ العقد الأوّل، لم ينفسخ، كما لو أعطاه بالثمن ثوباً و سلّمه إليه ثمّ فسخ، لم يرجع عليه بالثوب، كذا هنا.

و قد عرفت ما اخترناه هنا.

مسألة 623: لو أحال البائع رجلاً على المشتري بالثمن ثمّ ظهر عيب فردَّه المشتري بالعيب، فالأقرب: عدم بطلان الحوالة،

بل هو أولى بعدم البطلان من المسألة السابقة التي احتال البائع فيها؛ لأنّ الحوالة هنا تعلّقت بالأجنبيّ غير المتعاقدين.

و اختلفت الشافعيّة هنا.

فمنهم مَنْ طرّد القولين.

و الجمهور منهم قطعوا هنا بأنّه لا تنقطع الحوالة، سواء قبض المحتال مالَ الحوالة من المشتري أو لم يقبضه؛ لأنّ الحوالة هنا تعلّق بها حقّ غير المتعاقدين، و هو الأجنبيّ المحتال، فيؤخذ ارتفاعها بفسخٍ يخصّ المتعاقدين، و صار كما لو اشترى عبداً بجارية و قبضه و باعه ثمّ وجد بائع

ص: 467


1- ما بين المعقوفين أضفناه لاقتضاء ما في المصادر إيّاه.
2- الحاوي الكبير 424:6، المهذّب - للشيرازي - 345:1، حلية العلماء 37:5.

العبد بالجارية عيباً فردّها، لا يفسخ البيع الثاني؛ لتعلّق حقّ الثالث به، بخلاف المسألة الأُولى، فإنّ المحال عليه لا حقّ له في الحوالة(1).

و لو ظهر بطلان البيع من أصله، بطلت الحوالة في المسألتين، فيتخيّر المشتري في الرجوع على مَنْ شاء من المحتال و البائع.

مسألة 624: لو أحال المشتري البائعَ بالثمن ثمّ فسخ بالعيب،
اشارة

فإن قلنا: لا تبطل الحوالة، برئ المحال عليه، و لم يكن للمشتري مطالبة المحال عليه بشيء بحال؛ لأنّه قبض منه بإذنه، بل يرجع على البائع فيطالبه إن كان قد قبض مال الحوالة، و لا يتعيّن حقّ المشتري فيما أخذه البائع من المحال عليه، بل للبائع أن يدفع إليه عوضه؛ لبقاء الحوالة صحيحةً. و إن لم يكن البائع قد قبض، فله أن يقبضه.

و هل للمشتري الرجوع عليه قبل قبضه ؟ وجهان للشافعيّة:

أحدهما: نعم؛ لأنّ الحوالة كالمقبوضة، أ لا ترى أنّ المشتري إذا أحال البائع بالثمن، سقط حقّ الحبس(2) ، و الزوج إذا أحال المرأة [بالصداق](3) سقط حقّ حبسها(4).

و أصحّهما عندهم: أنّه لا يرجع؛ لأنّه لم توجد حقيقة القبض(5).

و إن كان للحوالة حكم القبض، و الغرامة إنّما تكون بحسب القبض،

ص: 468


1- المهذّب - للشيرازي - 346:1، الوسيط 226:3، التهذيب - للبغوي - 166:4، العزيز شرح الوجيز 136:5، روضة الطالبين 467:3-468.
2- أي: حبس المبيع.
3- ما بين المعقوفين أضفناه من «التهذيب» - للبغوي - و «العزيز شرح الوجيز».
4- أي: حبس نفسها عن الزوج.
5- التهذيب - للبغوي - 167:4، العزيز شرح الوجيز 136:5، روضة الطالبين 468:3.

فإن قلنا: لا يرجع المشتري عليه قبل أن يقبض، فله مطالبته بتحصيل مال الحوالة ليرجع عليه؛ لأنّ البائع إنّما ملك مطالبة المحال عليه من جهته، فكيف يمنعه من المطالبة مطلقاً!؟

و فيه للشافعيّة وجهٌ بعيد: أنّه لا يملك المطالبة بالتحصيل أيضاً(1).

و إن قلنا: تبطل الحوالة، فإن كان قد قبض المالَ من المحال عليه، فليس له ردّه عليه؛ لأنّه قبضه(2) بإذن المشتري، و لو ردّ لم تسقط مطالبة المشتري عنه، بل حقّه الردّ على المشتري و يبقى حقّه فيما قبضه، و إن كان تالفاً، فعليه بدله.

و إن لم يكن قبضه، فليس له قبضه؛ لأنّه عاد إلى ملك المشتري كما كان، و لو خالف و قبض، لم يقع عنه.

و هل يقع عن المشتري ؟ وجهان:

أحدهما: يقع؛ لأنّه كان مأذوناً في القبض بحقّه(3) ، فإذا بطلت تلك الجهة، بقي أصل الإذن.

و أصحّهما: المنع؛ لأنّ الحوالة قد بطلت، و الوكالة عقدٌ آخَر يخالفها، فإذا بطل عقدٌ، لم ينعكس عقداً آخَر(4).

و قد قرّب بعضُهم هذا الخلافَ من الخلاف في أنّ مَنْ يُحرم بالظهر قبل الزوال هل تنعقد صلاته نَفْلاً؟(5)5.

ص: 469


1- العزيز شرح الوجيز 136:5، روضة الطالبين 468:3.
2- في «ث، ج، خ»: «قبض».
3- في «العزيز شرح الوجيز»: «بجهة» بدل «بحقّه».
4- العزيز شرح الوجيز 137:5، روضة الطالبين 468:3.
5- العزيز شرح الوجيز 137:5.

و أمّا في صورة المسألة الثانية - و هي التي أحال البائع فيها ثالثاً على المشتري بالثمن - إن قلنا بصحّة الحوالة مع فسخ البيع بالعيب - على ما هو الأصحّ عندنا - فإن كان المحتال قد قبض الحقّ من المشتري، رجع المشتري على البائع.

و إن لم يكن قد قبضه، فهل يرجع المشتري عليه، أم لا يرجع إلاّ بعد القبض ؟ فيه الوجهان السابقان(1).

فروع:
أ - لا فرق في هاتين المسألتين بين أن يكون الردّ بالعيب أو التحالف

أو الإقالة أو الخيار أو غير ذلك.

ب - إذا قلنا بعدم بطلان إحالة المشتري البائعَ بالثمن، فللمشتري مطالبة البائع بأمرين:

إمّا التحصيل ليغرم، و إمّا الغُرْم في الحال، فإذا قلنا: له الرجوع قبل أن يقبض البائع مالَ الحوالة، فله أن يقول: اغرم لي، و له أن يقول تسهيلاً: خُذْه ثمّ اغرم لي. و إن قلنا: لا رجوع له قبل أن يقبض مالَ الحوالة، فله أن يقول: خُذْه لتغرم لي، و إن رضيت بذمّته فشأنك، فاغرم لي.

ج - الحوالة إذا انفسخت، فالإذن الذي كان ضمناً لا يقوم بنفسه، فيبطل أيضاً.

لكن يشكل بالشركة و الوكالة إذا فسدتا، فإنّ الإذن الضمني يبقى، و يصحّ التصرّف.

و يمكن الفرق بأنّ الحوالة تنقل الحقّ إلى المحتال، فإذا صار الحقّ

ص: 470


1- العزيز شرح الوجيز 137:5، روضة الطالبين 468:3.

له، ملك قبضه لنفسه بالاستحقاق، لا للمحيل بالإذن، بخلاف الوكالة و الشركة، فإنّه إذا بطل خصوص الإذن، جاز أن يبقى عمومه.

مسألة 625: لو أحالت المرأة على زوجها بالصداق قبل الدخول، صحّ؛ لثبوته في ذمّته بالعقد و إن كان متزلزلاً.

و مَنْ شرط اللزومَ أبطله.

و لو أحال الزوج زوجته بالصداق على غريمٍ، صحّ؛ لأنّ له تسليمه إليها، و حوالته به تقوم مقام تسليمه، فإذا أحالها على الغريم ثمّ طلّق قبل الدخول، لم تبطل الحوالة، و للزوج أخذها بنصف المهر.

و هذه المسألة مترتّبة على ما إذا أحال المشتري البائعَ على غريمه، إن قلنا: لا تبطل الحوالة هناك، فهنا أولى. و إن قلنا: تبطل، ففي البطلان هنا في نصف الصداق وجهان للشافعيّة(1).

و الفرق: أنّ الطلاق سبب حادث لا استناد له إلى ما تقدّم، بخلاف الفسخ، و الصداق أثبت من غيره، و لهذا لو زاد الصداق زيادةً متّصلة، لم يرجع في نصفه إلاّ برضاها، بخلاف ما إذا كان(2) في المبيع.

و لو أحالها ثمّ ارتدّت قبل الدخول، أو فسخ أحدهما النكاح بعيب الآخَر، ففي بطلان الحوالة هذان الوجهان(3).

و الأظهر: أنّها لا تبطل، و يرجع الزوج عليها بنصف الصداق في صورة الطلاق، و بجميعه في الردّة و الفسخ بالعيب.

ص: 471


1- العزيز شرح الوجيز 138:5، روضة الطالبين 468:3.
2- الظاهر: «كانت».
3- المهذّب - للشيرازي - 345:1، التهذيب - للبغوي - 167:4، العزيز شرح الوجيز 138:5، روضة الطالبين 468:3.

و إذا قلنا بالبطلان، فليس لها مطالبة المحال عليه، بل تطالب الزوجَ بالنصف في الطلاق.

مسألة

مسألة(1) 626: قد بيّنّا الخلافَ فيما إذا أحال المشتري البائعَ بالثمن ثمّ فسخ بعيبٍ و شبهه،

فإنّ المزني أبطل الحوالة؛ لأنّها كانت بالثمن، فصار له الثمن في ذمّة المحال عليه، و انتقل إليها من ذمّة المحيل، فإذا انفسخ البيع، سقط الثمن، فيسقط عن ذمّة المحال عليه(2).

و قال غيره: لا تبطل(3) ؛ لأنّ المشتري دفع مالاً بدل ما لَه في ذمّته، و عاوضه بما في ذمّة المحال عليه، فإذا انفسخ الأوّل، لم تنفسخ المعاوضة، كما لو أعطاه بالثمن ثوباً ثمّ فسخ بالعيب، لم يرجع عليه بالثوب، كذا هنا.

و أُجيب: بأنّ الثوب مَلَكه بعقدٍ آخَر، بخلاف الحوالة، فإنّ نفس الحقّ تحوّل إلى ذمّة المحال عليه، و لهذا لا يجوز أن يختلف ما في ذمّة المحيل و المحال عليه.

و قال بعضهم: لا نسلّم مسألة الثوب أيضاً، بل إذا فسخ العقد، وجب ردّ الثوب الذي أخذه بدلاً من الثمن(4).

لا يقال: قد قال الشافعي: إذا باع عبداً بثوبٍ ثمّ سلّم العبد و تصرّف المشتري، ثمّ وجد بالثوب عيباً، فإنّه يردّه، و لا يبطل التصرّف في العبد(5).

لأنّا نقول: إنّ العبد تعلّق به حقٌّ لغير المتعاقدين، فلم يكن لهما إبطاله، و هنا لم يخرج الحقّ عنهما، فلهذا إذا فسخا البيع، بطلت الحوالة.

ص: 472


1- في «ث»: «تذنيب» بدل «مسألة».
2- راجع الهامش (1) من ص 464.
3- راجع الهامش (1) من ص 465. (4 و 5) لم نعثر عليه في مظانّه.

لا يقال: المحال عليه قد كانت برئت ذمّته من المحيل.

لأنّا نقول: الحقّ في ذمّته لا يتغيّر للمحيل أو للمحتال، فلهذا لا تفتقر الحوالة إلى رضاه عند بعضهم(1).

إذا ثبت هذا، فإن كان المحتال قد قبض الحوالة، فعلى الاختلاف، إن قلنا: ينفسخ، ردّ على المشتري ما أخذه. و إن قلنا: لا ينفسخ، رجع عليه بالثمن.

و كذا يجري الوجهان(2) لو أحال الزوجة بالصداق ثمّ ارتدّت قبل الدخول، فهل تبطل الحوالة ؟ على ما تقدّم(3) من الخلاف.

مسألة 627: لو كان المبيع عبداً و أحال البائعُ غريمَه بالثمن على المشتري

ثمّ تصادق المتبايعان على أنّه حُرّ الأصل إمّا ابتداءً أو ادّعى العبد الحُرّيّةَ فصدّقاه، فإن وافقهما المحتال، بطلت الحوالة؛ لاتّفاقهم على بطلان البيع، و إذا بطل البيع من أصله، لم يكن على المشتري ثمنٌ، و إذا بطلت الحوالة، ردّ المحتال على المشتري، و بقي حقّه على البائع كما كان.

و إن كذّبهما المحتال، فإمّا أن تقوم بيّنة على الحُرّيّة أولا.

فإن قامت، بطلت الحوالة، كما لو تصادقوا.

و هذه البيّنة يتصوّر أن يُقيمها العبد؛ لأنّ العتق حقّه، و أن يبتدئ الشهود على سبيل الحسبة، و لا يمكن أن يُقيمها المتبايعان؛ لأنّهما كذّباها بالدخول في البيع.

ص: 473


1- راجع المصادر في الهامش (1) من ص 443.
2- المهذّب - للشيرازي - 345:1، حلية العلماء 37:5، التهذيب - للبغوي - 167:4، العزيز شرح الوجيز 138:5، روضة الطالبين 468:3.
3- في ص 471، ذيل المسألة 625.

و يحتمل أن يقيماها إذا أظهرا عذراً بأن يكون البائع قد وكّل في العتق و صادف البيع العبد معتوقاً، فإنّ للبائع هنا إقامةَ البيّنة حيث لم يكن في إقامته تكذيبٌ لها.

و كذا لو ادّعى المشتري عتق البائع و جهله.

و إن لم تكن بيّنة، لم يلتفت إلى تصادقهما في حقّ المحتال، كما لو باع المشتري العبد ثمّ اعترف هو و بائعه أنّه كان حُرّاً، لم يقبل قوله على المشتري، لكن لهما تحليف المحتال على نفي علم العتق، فإن حلف، بقيت الحوالة في حقّه، و لم يكن تصادقهما حجّةً عليه، و إذا بقيت الحوالة، فله أخذ المال من المشتري.

و هل يرجع المشتري على البائع المحيل ؟ الوجه: ذلك؛ لأنّه قضى دَيْنه بإذنه، و على هذا فيرجع إذا دفع المال إلى المحتال.

و هل يرجع قبله ؟ الأقرب: لا.

و لو نكل المحتال، حلف المشتري.

ثمّ إن جعلنا اليمين المردودة كالإقرار، بطلت الحوالة. و إن جعلناها كالبيّنة، فالحكم كما لو لم يحلف؛ لأنّه ليس للمشتري إقامة البيّنة.

و لو نكل المشتري، فهل للعبد الحلف ؟ الأقرب: ذلك إن ادّعاه و لا بيّنة و نكل المحتال عن اليمين التي وجبت عليه للعبد.

و كذا للبائع الحلف أيضاً.

هذا إذا اتّفقوا على أنّ الحوالة بالثمن، و لو لم يقع التعرّض لكون الحوالة بالثمن و زعم البائع أنّ الحوالة على المشتري بدَيْنٍ آخَر له على المشتري، فإن أنكر المشتري أصل الدَّيْن، فالقول قوله مع يمينه؛ لأصالة

ص: 474

براءة ذمّته.

و إن سلّمه و أنكر الحوالة به، فإن لم نعتبر رضا المحال عليه، فلا عبرة بإنكاره. و إن اعتبرناه، فالقول قول مَنْ يدّعي صحّة الحوالة، أو قول مَنْ يدّعي فسادها؟ فيه للشافعيّة قولان(1) ، أكثرهم على تقديم مدّعي صحّة الحوالة؛ لأنّ الأصل صحّتها، و هُما يدّعيان ما يفسدها، فكانت حيثيّته أقوى، فإن أقاما البيّنة بأنّ الحوالة كانت بالثمن، سُمعت البيّنة في ذلك؛ لأنّهما لم يكذّباها.

و لو اتّفق المحيل و المحتال على حُرّيّة العبد و كذّبهما المحال عليه، لم يُقبل قولهما عليه في حُرّيّة العبد؛ لأنّه إقرار على غيرهما، و تبطل الحوالة؛ لاتّفاق المرجوع عليه بالدَّيْن و الراجع به على عدم استحقاق الرجوع، و المحال عليه يعترف للمحتال بدَيْنٍ لا يصدّقه فيه، فلا يأخذ منه شيئاً، و إن كان قد أخذ، لم يكن للمأخوذ منه الرجوعُ.

و لو اعترف المحتال و المحال عليه بحُرّيّة العبد، عُتق؛ لإقرار مَنْ هو في يده بحُرّيّته، و بطلت الحوالة بالنسبة إليهما، و كان للمحيل الرجوعُ على المحال عليه بمال الحوالة، و لم يكن للمحتال الرجوعُ على المحيل بشيء؛ لأنّ دخوله في قبول الحوالة بالثمن اعتراف ببراءته، فلم يكن له الرجوعُ عليه.

و لو اتّفق المحيل و المحتال على الحُرّيّة و كذّبهما المحال عليه، لم تبطل العبوديّة، و سقط الثمن عنه؛ لاعتراف البائع و المحتال ببراءة ذمّته، لكنّه يعترف للمحتال بالثمن، فليس للمحتال قبضه.3.

ص: 475


1- العزيز شرح الوجيز 139:5، روضة الطالبين 470:3.

و إن كان قد قبضه، لم يكن للمحال عليه استعادته، لكن إن كان قد قبضه، برئ المحيل على إشكالٍ أقربه: العدم؛ لاعترافه بأنّ المحتال قد ظلم المحال عليه بأخذ المال منه، فيجب عليه الدفع إلى المحتال.

مسألة 628: إذا كان لرجلٍ على آخَر دَيْنٌ فأذن المديون له في قبض دَيْنٍ له على ثالثٍ ثمّ اختلفا،

فقال المديون للقابض: وكّلتك في قبض حقّي من الثالث لي، و قال القابض: بل أحلتني على الثالث، فإن اختلفا في أصل اللفظ فزعم المديون أنّه وكّله بلفظ الوكالة، و زعم القابض أنّ الجاري لفظ الحوالة و هي مقصودة، فالقول قول المديون مع اليمين و عدم البيّنة؛ لأنّ الأصل استمرار حقّ القابض على المديون، و استمرار حقّ المديون على الثالث، فالموكّل يدّعي بقاء الأصل، و الآخَر يدّعي خلافه، فكان المقدَّم مدّعي الوكالة.

و لو كان مع أحدهما بيّنة، حُكم بها؛ لأنّ اختلافهما في اللفظ، و يمكن إقامة البيّنة عليه.

و لو اتّفقا على جريان لفظ الحوالة ثمّ ادّعى المديون أنّه قصد التسليط بالوكالة، و عبّر عن الوكالة بلفظ الحوالة، و ادّعى القابض أنّه قصد حقيقة اللفظ، و هو معنى الحوالة، احتُمل تقديم قول المديون؛ لأنّه أعرف بلفظه، و أخبَر من غيره بقصده.

و لأنّ الأصل بقاء حقّ المحيل على المحال عليه، و بقاء حقّ المحتال عليه، و المحتال يدّعي نقلهما و المحيل ينكرهما، و القول قول المنكر مع اليمين، و كما يُستعمل اللفظ في معناه الحقيقي، يُستعمل في معناه المجازي، و التعويل في إرادة أحدهما إلى المتكلّم.

و هذا قول بعض الشافعيّة و أبي حنيفة و أصحابه؛ لأنّ اللفظ محتمل

ص: 476

لما يدّعيه المديون، و هو أعرف بنيّته و إرادته، فأشبه ما إذا قال له المديون:

اقبض، ثمّ اختلفا في المراد منه(1).

و يحتمل تقديم قول المحتال؛ عملاً بالظاهر من حمل الألفاظ على حقائقها، و مَنْ يدّعي حملها على مجازاتها فقد ادّعى خلاف الظاهر لا يُقبل منه، كما لو ادّعى ثوباً في يد زيد، فإنّا نقضي لزيد به؛ عملاً بظاهر اليد، كذا هنا، فيُقدَّم قول مدّعي الحوالة؛ عملاً بظاهر اللفظ بشهادة لفظ الحوالة له.

هذا إذا قال له المديون: أحلتك بمائة على الثالث، أمّا لو قال:

أحلتك بالمائة التي لك علَيَّ على المائة التي لي على الثالث، فهذا لا يحتمل إلاّ حقيقة الحوالة، فالقول قول مدّعيها قطعاً.

مسألة 629: إذا قدّمنا قول القابض باعتبار حمل اللفظ على حقيقته، يحلف، فإن حلف، ثبتت الحوالة، و برئت ذمّته. و إن نكل، حلف المديون، و بطلت الحوالة.
اشارة

و إن قدّمنا قول المديون فيما إذا اختلفا في اللفظ أو اتّفقا على جريان لفظ الحوالة و اختلفا في المراد، يحلف، فإن حلف، نُظر فإن كان القابض قبض ما على الثالث، برئت ذمّة الثالث؛ لأنّ القابض إمّا وكيل كما زعم المديون، أو محتال كما زعم القابض، و على كلا التقديرين يبرأ الثالث بالدفع إليه.

و حكى الجويني وجهاً ضعيفاً: أنّه لا يبرأ في صورة ما إذا اتّفقا على جريان لفظ الحوالة(2)

ص: 477


1- العزيز شرح الوجيز 140:5، روضة الطالبين 470:3.
2- العزيز شرح الوجيز 140:5.

ثمّ يُنظر فإن كان المقبوض باقياً، فعليه تسليمه.

و هل للقابض مطالبة المحيل ؟ الوجه: ذلك؛ لأنّه إن كان وكيلاً، فحقّه باقٍ على المديون. و إن كان محتالاً، فقد استرجع المحيل ماله منه ظلماً، فلا وجه لتضييع حقّه، و به قال أكثر الشافعيّة(1).

و قال بعضهم: ليس للقابض مطالبة المحيل بحقّه؛ لاعترافه ببراءة المديون بدعوى الحوالة(2).

و ليس شيئاً.

هذا كلّه من حيث الظاهر، فأمّا فيما بينه و بين اللّه تعالى فإنّه إذا لم يصل إلى المحتال حقُّه من المحيل، فله إمساك المأخوذ؛ لأنّه ظفر بجنس حقّه من مال المديون، و المديون ظالمٌ له.

و إن كان المقبوض تالفاً، فإن لم يكن بتفريطٍ من القابض، احتُمل أن لا يضمن؛ لأنّه وكيل بقول المحيل، و الوكيل أمين، و ليس للقابض مطالبة المديون بحقّه؛ لأنّه قد استوفاه بزعمه و هلك عنده.

و يحتمل الضمان؛ لأنّه وكيل بحلف المحيل، و تثبت وكالته، و الوكيل إذا أخذ المال لنفسه، ضمن.

و إن كان المحتال لم يقبض من الثالث شيئاً، فليس له القبض بعد حلف المحيل؛ لأنّ الحوالة قد اندفعت بيمين المحيل، و صار المحتال معزولاً عن الوكالة بإنكاره.

و للمديون أن يطالب الثالث بما كان له عليه، و للمحتال مطالبة المديون بحقّه، و هو أحد وجهي الشافعيّة.3.

ص: 478


1- العزيز شرح الوجيز 140:5-141، روضة الطالبين 470:3.
2- العزيز شرح الوجيز 140:5، روضة الطالبين 470:3.

و الثاني لهم: أنّه ليس له المطالبة(1).

و قطع بعضهم على أنّه لا يطالب هنا وجهاً واحداً؛ لاعترافه بأنّ حقّه ثابت على الثالث، و أنّ ما يقبضه المديون من الثالث ليس حقّاً، بخلاف ما إذا كان قد قبض، فإنّ حقّه قد تعيّن في المقبوض، فإذا أخذه المديون، يكون قد أخذ مال المحتال، فافترقا(2).

تذنيب: إذا ادّعى المحتال جريان لفظ الحوالة، و صدّقه المحيل على ذلك و ادّعى قصد الوكالة

و أنّه لا حقّ عليه للمحتال، و ادّعى المحتال ثبوت الحقّ في ذمّته، فالوجه: أنّه لا يثبت الحقّ بمجرّد جري لفظ الحوالة.

مسألة 630: لو انعكس الفرض، فقال المديون لزيد: أحلتك على عمرو، و قال القابض: بل وكّلتني بقبض ما عليه، و حقّي باقٍ عليك

- و تظهر الفائدة عند إفلاس عمرو - فإن اختلفا في أصل اللفظ، قُدّم قول مدّعي الوكالة مع يمينه؛ عملاً بأصالة بقاء الحقّين، و المديون يدّعي خلافهما و انتقالهما، فكان عليه البيّنة.

و لو اتّفقا على جريان لفظ الحوالة، فالوجهان في المسألة الأُولى على العكس هنا، فكلّ مَنْ قال في المسألة الأُولى: القول قول مدّعي الحوالة يقول هنا: القول قول مدّعي الوكالة، و بالعكس مع اليمين فيهما؛ لما مرّ في الوجهين السابقين.

فإذا قلنا: يُقدّم قول مدّعي الحوالة فحلف، برئ من دَيْن المحتال، و كان لزيد مطالبة عمرو إمّا بالوكالة أو بالحوالة، و ما يأخذه يكون له؛ لأنّ المديون يقول: إنّه حقّه، و على زعم زيد إنّه للمديون و حقّ زيد على

ص: 479


1- العزيز شرح الوجيز 141:5، روضة الطالبين 470:3.
2- العزيز شرح الوجيز 141:5، روضة الطالبين 470:3.

المديون، فأخذه بحقّه.

و إذا قلنا: القول قول زيد المحتال فحلف، نُظر إن لم يكن قبض المال من عمرو، فليس له القبض؛ لأنّ قول الموكّل: «ما وكّلتك» يتضمّن عزله - على إشكالٍ يأتي - لو كان وكيلاً، و له مطالبة المديون بحقّه.

و هل للمديون الرجوع إلى(1) عمرو؟ فيه احتمال: من حيث إنّ المديون اعترف بتحوّل ما كان عليه إلى زيد، و من حيث إنّ زيداً إن كان وكيلَ المديون فإذا لم يقبض، بقي حقّ المديون. و إن كان محتالاً، فقد ظلم المديون بأخذ المال منه، و ما على عمرو حقّه، فللمديون أن يأخذه عوضاً عمّا ظلم المديون به.

و إن كان قد قبض المال من عمرو، فقد برئت ذمّة عمرو.

ثمّ إن كان المقبوض باقياً، فوجهان:

أحدهما: أنّه يطالب المديون بحقّه، و يردّ المقبوض على المديون.

و الثاني: أنّه يملكه الآن و إن لم يملكه عند القبض؛ لأنّه جنس حقّه، و صاحبه يزعم أنّه ملكه. و هو المعتمد.

و إن كان تالفاً، نُظر إن تلف بتفريطٍ منه، فللمديون عليه الضمان، و له على المديون حقّه، و ربما يقع في التقاصّ. و إن لم يكن مقصّراً، فلا ضمان؛ لأنّا إذا صدّقناه في نفي الحوالة، كانت يده يدَ وكالةٍ، و الوكيل أمين.

و نقل الجويني وجهاً آخَر: أنّه يضمن؛ لأنّ الأصل فيما يتلف في يد الإنسان من ملك غيره الضمانُ، و لا يلزم من تصديقه في نفي الحوالة ليبقى».

ص: 480


1- في النسخ الخطّيّة: «على» بدل «إلى».

حقّه تصديقُه في إثبات الوكالة ليسقط عنه الضمان، كما إذا اختلف المتبايعان في قِدَم العيب و حدوثه، و صدّقنا البائعَ بيمينه في نفي الردّ، ثمّ اتّفق الفسخ بتحالفٍ و غيره، فإنّه لا يُمكَّن من المطالبة بأرش ذلك العيب ذهاباً إلى أنّه حادث بمقتضى يمينه السابقة(1).

مسألة 631: يجوز ترامي الحوالات و دَوْرها،

فلو أحال المديون زيداً على عمرو ثمّ أحال عمرو زيداً على بكر ثمّ أحال بكر زيداً على خالد، جاز، و هكذا؛ لأنّ حقّ الثاني ثابت مستقرّ في الذمّة، فصحّ أن يحيل به كالأوّل، فيبرأ بالحوالة، كما برئ المحيل الأوّل بالحوالة.

و كذا كلّما أحال واحد على واحدٍ، كان كالأوّل.

و هنا قد تعدّد المحال عليهم و المحتال واحد.

و لو أحال المديون زيداً على عمرو فأحال عمرو زيداً على المديون، صحّت الحوالتان معاً، و بقي الدَّيْن كما كان.

و لو أحال المديون زيداً على عمرو ثمّ ثبت لعمرو مثل ذلك الدَّيْن فأحال زيداً على المديون، جاز.

مسألة 632: لو كان لزيد على اثنين مائة على كلّ واحدٍ خمسون، و كلّ واحدٍ ضامن عن صاحبه،

فأحال أحدهما زيداً بالمائة على شخصٍ، فعندنا هذا الضمان لا فائدة تحته، بل الدَّيْن كما كان عليهما قبل الضمان.

و مَنْ جوّزه قال: يبرءان معاً(2).

و لو أحال زيد على أحدهما بالمائة، برئ الثاني؛ لأنّ الحوالة كالقبض.

ص: 481


1- العزيز شرح الوجيز 142:5، روضة الطالبين 471:3.
2- العزيز شرح الوجيز 142:5، روضة الطالبين 472:3.

و إن أحال زيد عليهما على أن يأخذ المحتال المائة من أيّهما شاء، فيه للشافعيّة وجهان: المنع؛ لأنّه لم يكن له إلاّ مطالبة واحدٍ، فلا يستفيد بالحوالة زيادة، كما لا يفيد زيادة(1) قدرٍ و صفةٍ. و الجواز؛ للأصل(2).

و لا اعتبار بهذا الارتفاق، كما لو أحاله على مَنْ هو أملأ منه و أشدّ وفاءً.

مسألة 633: قد بيّنّا أنّه يشترط ملاءة المحال عليه، أو عِلْمُ المحتال بالإعسار في لزوم الحوالة،

فلو بانَ معسراً، كان له الرجوعُ على الأصيل، سواء شرط الملاءة أو لا.

و مع هذا لو شرط، كان له الرجوعُ لو بانَ معسراً، خلافاً لأكثر الشافعيّة؛ لأنّ الحوالة عندهم لا تردّ بالإعسار إذا لم يشترط، فلا تردّ به و إن شرط(3).

و لو لم يرض المحتال بالحوالة ثمّ بانَ إعسار المحال عليه أو موته، رجع المحتال على المحيل بلا خلافٍ، فإنّه لا يلزمه الاحتيال على المعسر؛ لما فيه من الضرر، و إنّما أمر النبيّ صلى الله عليه و آله بقبول الحوالة إذا أُحيل على ملي(4).

و لو أحاله على ملي فلم يقبل حتى أعسر، فله الرجوع على قول مَنْ

ص: 482


1- كذا في النسخ الخطّيّة و الحجريّة، و في «العزيز شرح الوجيز»: «لا يستفيد بها زيادة».
2- العزيز شرح الوجيز 142:5، روضة الطالبين 472:3.
3- المهذّب - للشيرازي - 345:1، حلية العلماء 36:5 و 37، التهذيب - للبغوي - 163:4، العزيز شرح الوجيز 133:5، روضة الطالبين 466:3، المغني 60:5، الشرح الكبير 62:5.
4- سنن البيهقي 70:6، المصنّف - لابن أبي شيبة - 2445/79:7، مسند أحمد 225:3، ذيل ح 9655.

أوجب قبول الحوالة على الملي.

مسألة 634: لو كان لزيدٍ على عمرو ألف درهم و لخالد على زيد مثلها

فجاء خالد إلى عمرو و قال: قد أحالني زيد بالألف التي له عليك، فإن كذّبه فأقام خالد البيّنةَ بدعواه [ثبتت](1) في حقّه و حقّ زيد، و لزمه الدفع إلى المحتال. و إن لم تكن له بيّنة فأنكر، فالقول قوله مع اليمين، فإذا حلف، سقطت دعواه، و لم يكن لخالد الرجوعُ على زيد؛ لأنّه أقرّ أنّه بري من دَيْنه بالحوالة. ثمّ ننظر في زيد، فإن كذّب خالداً، كان له مطالبة عمرو بدَيْنه.

و إن صدّق خالداً، برئ عمرو من دَيْنه.

و قال بعض الشافعيّة: ليس من شرط الحوالة رضا المحال عليه عنده(2) ، فحينئذٍ تثبت الحوالة بتصديقه المحتال، و يكون له المطالبة.

و أمّا إن صدّق عمرو خالداً، وجب عليه دفع المال إليه؛ لاعترافه باستحقاقه عليه.

ثمّ ننظر في زيد، فإن صدّقه، فلا كلام. و إن كذّبه، كان القول قولَه مع يمينه، فإذا حلف، رجع على عمرو بالألف، و لا يرجع خالد عليه بشيء؛ لأنّه قد استوفى حقّه بالحوالة بإقراره، و له أن يستوفي ذلك من عمرو؛ لتصادقهما على ذلك.

إذا عرفت هذا، فإذا ادّعى أنّ فلاناً الغائب أحاله عليه، فأنكر و لا بيّنة، حلف المنكر.

ص: 483


1- بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة و الحجريّة: «ثبت» بدل «ثبتت». و الظاهر ما أثبتناه.
2- الحاوي الكبير 418:6، المهذّب - للشيرازي - 345:1، التنبيه: 105، حلية العلماء 35:5، الوجيز 181:1، العزيز شرح الوجيز 127:5، روضة الطالبين 462:3، منهاج الطالبين: 128.

و قال بعض العامّة: لا تلزمه اليمين، بناءً على أنّه لا يلزمه الدفع إليه؛ لأنّه لا يأمن إنكار المحيل و رجوعه عليه، فكان له الاحتياط لنفسه، كما لو ادّعى عليه أنّي وكيلُ فلانٍ في قبض دَيْنه منك، فصدّقه و قال: لا أدفعه إليك(1).

مسألة 635: لو كان عليه ألف ضمنه رجلٌ فأحال الضامن صاحب الدَّيْن به

مسألة 635: لو كان عليه ألف ضمنه رجلٌ فأحال الضامن صاحب الدَّيْن به(2) برئت ذمّته و ذمّة المضمون عنه؛

لأنّ الحوالة كالتسليم، و يكون الحكم هنا كالحكم فيما لو قضى عنه الدَّيْن.

و إن(3) كان لرجلٍ دَيْنٌ آخَر على آخَرَ فطالَبه به، فقال: قد أحلت به على فلان الغائب، و أنكر صاحب الدَّيْن، فالقول قوله مع اليمين. و إن كان لمن عليه الدَّيْن بيّنة بدعواه، سُمعت بيّنته لإسقاط حقّ المحيل عليه.

مسألة 636: إذا كان له على رجلٍ دَيْنٌ فأحال

مسألة 636: إذا كان له على رجلٍ دَيْنٌ فأحال(4) به آخَر ثمّ قضاه المحيل، صحّ القضاء،

كما إذا قضى الإنسان دَيْن غيره عنه.

ثمّ إن كان المحال عليه قد سأله القضاء عنه، كان له الرجوعُ عليه بما أدّاه إلى المحتال.

و إن لم يكن قد سأله ذلك، بل قضاه متبرّعاً به، لم يكن له الرجوعُ عليه - و به قال الشافعي(5) - لأنّه قضى عنه دَيْنه بغير إذنه، و المتبرّع لا يرجع على أحد.

ص: 484


1- المغني 67:5، الشرح الكبير 68:5.
2- إضافة يقتضيها السياق.
3- في النسخ الخطّيّة: «فإن» بدل «و إن».
4- في الطبعة الحجريّة: «فأحاله».
5- حلية العلماء 41:5.

و قال أبو حنيفة و أصحابه(1): لا يكون متبرّعاً بذلك، و يكون له الرجوعُ به؛ لأنّ الدَّيْن باقٍ في ذمّة المحيل من طريق الحكم و إن برئ في الظاهر؛ لأنّه يرجع عليه(2) عند تعذّره.

و هو غلط؛ لأنّه لا يملك إبطال الحوالة و إسقاط حقّه عن المحيل، فما يدفعه يكون متبرّعاً إذا كان بغير إذن مَنْ عليه [الدَّيْن](3) كالأجنبيّ.

و ما ذكروه فهو ممنوع و ليس بصحيح أيضاً؛ لأنّه لو كان الحقّ باقياً في ذمّته حكماً، لمَلَك مطالبته، كالمضمون عنه.

و إذا أحاله على مَنْ لا دَيْن عليه و قلنا بصحّة الحوالة إذا رضي المحال عليه، يكون للمحتال مطالبة المحال عليه، فإذا طالَبه، كان له مطالبة المحيل بتخليصه، كالضامن يطالب المضمون عنه بتخليصه، فإن دفع بإذن المحيل، رجع.

و إن دفع بغير إذنه، احتُمل الرجوع؛ لأنّ الحوالة تقتضي التسليط، فإذا سلّطه عليه بالمطالبة، كان ضامناً لما يغرمه. و لأنّه يكون في الحقيقة ضماناً بسؤاله.

و يحتمل عدمه؛ لأنّه متبرّع.

فإن ادّعى المحيل أنّه كان لي عليك ما أحلت به عليك، و أنكر المحال عليه ذلك، قدّم قوله مع اليمين؛ لأصالة عدم ذلك.

و لو ضمن رجل عن رجل ألف درهم و أحال الضامن المضمونَ له على رجل - له عليه ألف - بالألف، و قَبِل الحوالة، برئ الضامن و المضمون عنه، كما قرّرناه أوّلاً، و رجع الضامن على المضمون عنه إن كان ضمنق.

ص: 485


1- حلية العلماء 41:5.
2- في «ج، ر»: «إليه» بدل «عليه».
3- ما بين المعقوفين يقتضيه السياق.

بإذنه، سواء أدّى بإذنه أو لا، عندنا، و عند الشافعي إذا أدّى بغير إذنه وجهان(1) ، و سواء قبض المحتال الحوالة أو أبرأ المحال عليه؛ لأنّ الضامن قد غرم، و الإبراء قد حصل للمحال عليه، فلا يسقط رجوع الضامن.

و أمّا إذا أحاله على مَنْ ليس له عليه شيء، فإن قلنا: لا تصحّ الحوالة، فالمال باقٍ على الضامن بحاله. و إن قلنا: تصحّ، فقد برئت ذمّة الضامن و المضمون عنه، و لكن لا يرجع على المضمون عنه بشيء في الحال؛ لأنّه لم يغرم شيئاً، فإن قبض المحتال الحوالة و رجع المحال عليه على الضامن، رجع على المضمون عنه، و إن أبرأه من الحوالة، لم يرجع على المحيل، و لم يرجع الضامن على المضمون عنه؛ لأنّه لم يغرم شيئاً.

و أمّا إن قبضه منه و وهبه، فهل يرجع على المحيل ؟ وجهان [كالوجهين فيما](2) إذا وهبت المرأة الصداقَ ثمّ طلّقها.

و قال(3) أبو حنيفة و أصحابه: يرجع عليه، وهب له أو تصدّق به أو ورثه من المحتال. و وافقنا في الإبراء أنّه لا يرجع(4).

و عندنا أنّ هبته قبل القبض بمنزلة الإبراء.

و عندهم(5) لا يكون بمنزلته، و يثبت له الرجوع؛ لأنّه يملك ما في ذمّته بالهبة و الصدقة و الميراث، فكان له الرجوعُ، كالأداء، فإنّه يملك ما في ذمّته بالأداء، بخلاف الإبراء؛ لأنّه إسقاط حقٍّ.

و هو غلط؛ لأنّه لم يغرم عنه شيئاً، فلم يرجع عليه، كالإبراء.5.

ص: 486


1- لاحظ: التهذيب - للبغوي - 164:4، و العزيز شرح الوجيز 128:5.
2- إضافة يقتضيها السياق.
3- في «ر» و الطبعة الحجريّة: «فقال».
4- حلية العلماء 63:5.
5- حلية العلماء 64:5.

و قولهم: «إنّه يملك ما في ذمّته» غلط؛ لأنّ الإنسان لا يملك في ذمّته شيئاً، و إنّما يسقط عن ذمّته بوجود سبب الملك، فصار كالإبراء.

مسألة 637: لو كان لرجلٍ على رجلين ألف درهم فادّعى عليهما أنّهما أحالاه على رجلٍ لهما عليه ألف درهم، فأنكرا ذلك،
اشارة

فالقول قولهما مع أيمانهما، فإن حلفا، سقطت دعواه.

و إن شهد له ابناه، سُمعت عندنا، خلافاً للشافعي(1).

و إن شهد عليهما ابناهما، لم تُسمع عندنا، خلافاً للشافعي(2).

و لو انعكس الفرض فادّعيا عليه إنّما أحالاه و أنكر، فالقول قوله مع يمينه.

فإن شهد عليه ابناه، لم يُقبل عندنا، خلافاً للشافعي(3).

و إن شهد ابناهما، قُبل عندنا، خلافاً للشافعي(4).

و هل تُقبل شهادة ابن كلّ واحدٍ منهما للآخَر؟ للشافعي قولان، بناءً على أنّ الشهادة إذا رُدّت للتهمة في بعضها، فهل تردّ في الباقي ؟(5).

و لو ادّعى المديون عند مطالبة صاحب الدَّيْن أنّ صاحب الدَّيْن أحال الغائب عليه، فأنكر صاحب الدَّيْن، فأقام المدّعي بيّنةً، سُمعت لإسقاط حقّ المحيل عنه، و لا يثبت بها الحقّ للغائب، قاله بعض الشافعيّة(6) ؛ لأنّ الغائب لا يقضى له بالبيّنة، فإذا قدم الغائب و ادّعى ذلك و أنكر صاحب الدَّيْن أنّه أحاله، احتاج إلى إعادة البيّنة ليثبت له.

و فيه نظر؛ لأنّ المطالبة إنّما تسقط بالبيّنة عن المحال عليه، فإذا قدم الغائب و ادّعى فإنّما يدّعي على المحال عليه دون المحيل، و هو يُقرّ له بذلك،

ص: 487


1- راجع: حلية العلماء 42:5.
2- لم نعثر عليه في مظانّه.
3- حلية العلماء 42:5.
4- حلية العلماء 42:5.
5- حلية العلماء 42:5.
6- حلية العلماء 41:5-42.

فلا حاجة به إلى إقامة البيّنة، أ لا ترى أنّ المحال عليه لو دفع إليه، لم يكن لصاحب الدَّيْن مطالبته بشيء؛ لأنّ حقّ المطالبة قد سقط عنه بالبيّنة.

و لو ادّعى رجل على رجل أنّه أحاله عليه فلان الغائب، و أنكر المدّعى عليه، فإنّ القول قوله مع اليمين، فإن أقام المدّعي البيّنةَ، ثبتت في حقّه و حقّ الغائب؛ لأنّ البيّنة يقضى بها على الغائب.

تذنيب: لو قال صاحب الدَّيْن لمن لا دَيْن له عليه: قد أحلتك بالدَّيْن الذي لي على فلان فاقبضه منه، كان ذلك وكالةً

عبّر عنها بلفظ الحوالة، فلو مات المحيل، بطلت؛ لأنّها وكالة، و كان لورثة المحيل قبضُ المال.

و كذا لو جُنّ، كان للحاكم المطالبة بالمال.

مسألة 638: الحوالة عند أبي حنيفة ضربان:

مطلقة بأن يقول المحيل للمحتال: أحلتك بالألف التي لك علَيَّ على فلان، سواء كان له على فلان ألف أو لم يكن، و إذا قَبِل فلانٌ الحوالةَ، لزمت، و يبرأ المحيل، إلاّ إذا مات المحال عليه مفلساً لم يَدعْ مالاً و لا كفيلاً، و إذا جحد المحال عليه الحوالةَ و لا بيّنة، فيحلف، فيرجع على المحيل في هاتين الصورتين.

و مقيّدة بأن يقول المحيل: أحلتك على فلان بالألف التي لك علَيَّ على أن يؤدّيها من الوديعة التي لي عنده، أو من المال الذي لي عليه، و إذا قَبِل فلان، برئ المحيل من دَيْن المحتال، فلو قال: أحلتك بالألف التي لي على فلان، فمات فلان مفلساً أو جحد المحال عليه الحوالة و لا بيّنة، بطلت الحوالة، و عاد دَيْن المحتال على المحيل(1)

ص: 488


1- تحفة الفقهاء 248:3، بدائع الصنائع 16:6، فتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهنديّة 73:3 و 74.

و قد بيّنّا ما عندنا في ذلك.

و لو كانت الحوالة مقيّدةً بوديعةٍ كانت عند المحال عليه، فهلكت الوديعة، أو استُحقّت، بطلت الحوالة، و عاد الدَّيْن إلى المحيل؛ لأنّ المحتال لم يضمن المال مطلقاً، و به قال أبو حنيفة(1).

و لو كانت الحوالة مقيّدةً بغَصْبٍ كان عند المحال عليه، فاستُحقّ الغصب، بطلت الحوالة.

و لو هلك لم تبطل إذا كان مليّاً بمال الحوالة؛ لأنّ مال الضمان قائم مقام عين المغصوب.

و مهما دام المال الذي قصد به الحوالة قائماً لا يكون للمحيل أن يأخذ ماله و لا دَيْنه من المحال عليه؛ لأنّ ذلك المال صار مشغولاً بمال الحوالة.

و لو كاتب المولى أُمّ ولده ثمّ أحال غريمه عليها بمال الكتابة ثمّ مات المولى، انعتقت أُمّ الولد، و بطلت الكتابة.

قال أبو حنيفة: و لا تبطل الحوالة استحساناً(2).

مسألة 639: لو أحاله بألفٍ كانت للمحيل على المحال عليه، و قَبِل الثلاثة، صحّت الحوالة،

ثمّ [إن](1) أبرأ المحتال المحال عليه عن مال الحوالة، برئ المحيل و المحال عليه عن دَيْن المحتال، أمّا المحيل:

فبالحوالة، و أمّا المحال عليه: فبالإبراء. و يبرأ أيضاً المحال عليه من دَيْن المحيل؛ لأنّه بالحوالة نقل حقّه من المحال عليه إلى المحتال.

و قال أبو حنيفة: يرجع المحيل بدَيْنه على المحال عليه(2)

ص: 489


1- إضافة يقتضيها السياق.
2- فتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهنديّة 74:3-75.

و ليس بجيّد.

و لو وهب المحتال مالَ الحوالة للمحال عليه، جازت الهبة، و بطل ما كان للمحيل على المحال عليه، و لا يكون للمحيل أن يرجع بدَيْنه على المحال عليه، و به قال أبو حنيفة(1).

مسألة 640: لو كانت الحوالة مقيّدةً بوديعةٍ كانت عند المحال عليه،

فمرض المحيل فدفع المحال عليه الوديعة إلى المحتال ثمّ مات المحيل و عليه ديون كثيرة، لم يضمن المستودع شيئاً لغرماء المحيل؛ لأنّه دفع بأمر المحيل المالك للوديعة.

و هل يملكها المحتال حينئذٍ؟ الأقرب ذلك؛ عملاً بالحوالة الناقلة.

و قال أبو حنيفة: لا يُسلّم الوديعة للمحتال، بل تكون بينه و بين غرماء المحيل بالحصص؛ لأنّ الدفع وقع حالة الحجر بالمرض(2).

و لو أنّ المحال عليه أمسك الوديعة لنفسه و قضى دَيْن المحتال من مال نفسه، قال أبو حنيفة: تكون الوديعة له، و لا يكون متبرّعاً استحساناً(3).

و الأقرب ذلك إن تراضيا هو و المحتال على أخذ العوض، فإن لم يقع بينهما عقد مراضاة، كان للمحتال أن يرجع إلى العين، و للمحال عليه استرداد ما دفعه إليه.

مسألة 641: لو كان على رجلٍ دَيْنٌ لرجلٍ فأحال صاحبَ الدَّيْن بجميع ما لَه عليه

- و هو ألف مثلاً - على رجل و قَبِل المحال عليه الحوالة، ثمّ إنّ المحيل أحال المحتالَ على رجلٍ آخَر بجميع ما لَه عليه و قَبِل المحال عليه الثاني، قال أبو حنيفة: تكون الحوالة الثانية نقضاً للأُولى؛ لأنّه لا صحّة للثانية إلاّ بعد نقض الأُولى، و المحيل و المحتال يملكان النقض، فإذا نقضا

ص: 490


1- فتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهنديّة 75:3.
2- فتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهنديّة 75:3.
3- فتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهنديّة 75:3.

الحوالة الأُولى، انتقضت، و برئ المحال عليه الأوّل، بخلاف ما إذا كان المديون أعطى صاحب الدَّيْن كفيلاً آخَر بعد الكفيل الأوّل، فإنّ الكفالة الثانية لا تكون إبطالاً للكفالة الأُولى؛ لأنّ المقصود من الكفالة التوثيق مع بقاء الدَّيْن على الأصيل، و ضمّ الكفيل إلى الكفيل يزيد في التوثيق(1).

و هذا غير صحيح على أصلنا؛ لأنّ الحوالة ناقلة، فإذا صار الدَّين - الذي على المحال عليه للمحيل - [للمحتال](2) لم يمكن النقض؛ لأنّا نعتبر رضا المحال عليه.

نعم، لو كان المحيل قد قصد بالحوالة الثانية الحوالة بما على المحال عليه من المال، صحّ، و برئ المحال عليه، و كان متبرّعاً بالحوالة عن المحال عليه، و لا يرجع على أحدٍ.

مسألة 642: إذا احتال بالحالّ على شرط الصبر مدّة، وجب تعيينها، و صحّ الشرط عندنا

- خلافاً لأحمد(3) - على ما بيّنّاه.

و لو لم يعيّن المدّة، بطلت الحوالة؛ لبطلان شرطها.

و لو شرط أداء المال من ثمن دار المحال عليه أو من ثمن عبده، صحّ الشرط؛ لعموم قوله عليه السلام: «المؤمنون عند شروطهم»(4) و به قال أبو حنيفة(5).

و هل يُجبر المحال عليه على بيع داره أو عبده معجَّلاً؟ الأقرب ذلك

ص: 491


1- فتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهنديّة 75:3-76.
2- ما بين المعقوفين يقتضيه السياق.
3- المغني 56:5، الشرح الكبير 59:5.
4- التهذيب 1503/371:7، الاستبصار 835/232:3، الجامع لأحكام القرآن 33:6.
5- فتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهنديّة 76:3.

إن كانت الحوالة معجَّلةً، و إلاّ عند الأجل.

و قال أبو حنيفة: لا يُجبر على البيع، و هو بمنزلة ما لو قَبِل الحوالة على أن يعطى المال عند الحصاد أو ما أشبه ذلك، فإنّه لا يُجبر على أداء المال قبل الأجل(1).

إذا عرفت هذا، فهل يشترط الأجل في مثل هذه الحوالة ؟ يحتمل ذلك؛ إذ الثمن ليس موجوداً في الحال، بل لا بدّ من مضيّ مدّة يحصل فيها الراغب في الشراء و لو قلّ زمانه، فأشبه المكاتَب إذا عقد الكتابة حالّةً، فحينئذٍ يجب تعيين المدّة، خلافاً لأبي حنيفة(2).

مسألة 643: لو كان عليه دَيْنٌ لزيدٍ فأحال زيداً به على عمرو و ليس للمديون على عمرو شيء و قَبِل، صحّت الحوالة على الأقوى،

و به قال أبو حنيفة(3).

فإذا جاء فضوليٌّ و قضى الدَّيْن عن المحال عليه تبرّعاً، كان للمحال عليه أن يرجع على المحيل، كما لو أدّى المحال عليه المال بنفسه و ليس عليه دَيْنٌ، فإنّه يرجع على المحيل، و به قال أبو حنيفة(4).

و لو كان للمحيل دَيْنٌ على المحال عليه، فجاء الفضوليّ و قضى دَيْن المحتال عن المحيل الذي عليه أصل المال، لم يكن للمحيل أن يرجع بدَيْنه على المحال عليه عندنا؛ لأنّ قضاء الفضوليّ عنه كقضائه بنفسه.

و لو قضى المحيل دَيْن الطالب بمال نفسه بعد الحوالة، لم يكن له الرجوعُ إذا كان متبرّعاً.

ص: 492


1- فتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهنديّة 76:3.
2- لم نعثر عليه في مظانّه. (3 و 4) فتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهنديّة 77:3.

و قال أبو حنيفة: يرجع(1).

و قد سلف(2) بطلانه.

فعلى قوله لو اختلف المحيل و المحال عليه كلّ واحدٍ منهما يدّعي أنّ الفضوليّ قضى عنه، رجع إلى الفضوليّ.

فإن مات قبل البيان، قال أبو حنيفة: يكون القضاء عن المحال عليه؛ لأنّ القضاء يكون عن المطلوب ظاهراً(3).

مسألة 644: لو أحال البائع غريماً له على المشتري حوالةً مقيّدةً بالثمن، لم يبق للبائع حقُّ الحبس.

و لو أحال المشتري البائعَ على غريمٍ له، قال أبو حنيفة: يكون للبائع حقُّ الحبس(4).

و قال: لو أحال الزوج امرأته بصداقها على آخَر، كان للزوج أن يدخل بها. و لو أحالت المرأة على زوجها بالمهر غريماً لها، كان لها أن تمنع نفسها؛ لأنّ غريمها بمنزلة وكيلها، ما لم يصل الصداق إلى وكيلها، كان لها حقّ المنع(5).

و يشكل إذا جعلنا الحوالةَ استيفاءً.

ص: 493


1- فتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهنديّة 77:3.
2- في ص 485، المسألة 636.
3- فتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهنديّة 77:3.
4- فتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهنديّة 77:3.
5- فتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهنديّة 77:3-78.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.