سرشناسه : علامه حلي حسن بن يوسف ق 726 - 648
عنوان و نام پديدآور : تذكره الفقهاء/ تاليف العلامه الحلي الحسن بن يوسف بن المطهر؛ تحقيق موسسه آل البيت عليهم السلام لاحياآ التراث مشخصات نشر : قم موسسه آل البيت عليهم السلام لاحياآ التراث 1400ق = 1300.
مشخصات ظاهري : ج 22
فروست : (موسسه آل البيت عليهم السلام لاحياآ التراث 127؛ 129؛ 130134)
شابك : 964-5503-33-7 (دوره ؛ 964-5503-44-2 2900ريال (ج 4) ؛ 964-5503-46-9 (ج 6) ؛ 964-319-007-2 (ج 7) ؛ 964-319-224-5 8000ريال (ج 11)
يادداشت : عربي يادداشت : فهرست نويسي براساس جلد چهارم 1414ق = 1372
يادداشت : ج 1 (چاپ اول 1420ق = 1378)؛ 8000 ريال ج 1) :ISBN 964-319-197-4
يادداشت : ج 8 (چاپ اول 1417ق = 1376)؛ 6500 ريال ج )8ISBN 964-319-051-x
يادداشت : ج 9 (چاپ اول 1419ق = 1377)8000 ريال :(ج )9ISBN 964-319-008-0
يادداشت : ج 13 (چاپ اول 1423ق = 1381)9500 ريال :ISBN 964-319-389-6
يادداشت : كتابنامه مندرجات : (ج )7) ISBN 964-319-007-2 ج 12) 1422ق = 8500 :1380 ريال موضوع : فقه جعفري -- قرن ق 8
شناسه افزوده : موسسه آل البيت عليهم السلام لاحياآ التراث رده بندي كنگره : BP182/3 /ع8ت4 1300ي
رده بندي ديويي : 297/342
شماره كتابشناسي ملي : م 73-2721
ص: 1
ص: 2
ص: 3
ص: 4
الجزء السادس
و فيه مقدمة و فصول:
الصوم لغة: الإمساك(1) ، و شرعا: الإمساك عن أشياء مخصوصة من أول طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس.
و ينقسم الى واجب و مندوب و مكروه و محظور.
أمّا الواجب فستة: صوم شهر رمضان، و الكفّارات، و دم المتعة، و النذر و ما في معناه، و الاعتكاف على وجه، و قضاء الواجب.
و أمّا المندوب(2): فجميع أيام السنة إلاّ العيدين و أيّام التشريق لمن كان بمنى.
و يتأكّد أربعة عشر: صوم ثلاثة أيّام من كلّ شهر: أول خميس من كلّ شهر، و آخر خميس منه، و أول أربعاء في العشر الثاني، و ثلاثة أيام البيض، و الغدير، و مولد النبي عليه السلام، و مبعثه، و دحو الأرض، و عرفة لمن لا يضعفه عن الدعاء، و عاشوراء على جهة الحزن، و يوم المباهلة، و كلّ خميس، و كلّ جمعة، و أول ذي الحجة، و شهر رجب و شعبان.
و أمّا المكروه: فصوم عرفة لمن يضعف عن الدعاء، أو يشك في الهلال،
********
(1) انظر: الصحاح 1970:5.
(2) في النسخ الخطية: الندب. و ما أثبتناه من الطبعة الحجرية.
ص: 5
و النافلة سفرا عدا ثلاثة أيّام بالمدينة للحاجة، و الضيف ندبا بدون إذن مضيفه، أو الولد بدون إذن الوالد، و الصوم ندبا للمدعوّ إلى طعام.
و أمّا المحظور فتسعة: صوم العيدين، و أيام التشريق لمن كان بمنى، و يوم الشك بنية الفرض، و صوم نذر المعصية، و صوم الصمت، و صوم الوصال، و صوم المرأة و العبد ندبا بدون إذن الزوج و المالك، و صوم الواجب سفرا عدا ما استثني.
قيل: أول ما فرض صوم عاشوراء.
و قيل: كان تطوعا لا فرضا.
و قيل: لمّا قدم النبي عليه السلام [المدينة](1) أمر بصيام ثلاثة أيّام من كلّ شهر، و هو قوله تعالى كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ (2) ثم نسخ بقوله تعالى شَهْرُ رَمَضانَ (3)(4).
و قيل: المراد بالأيام المعدودات شهر رمضان، فلا نسخ.
و قيل: أول ما فرض صوم رمضان لا عينا، بل مخيّرا بينه و بين الفدية، و كان الصوم أفضل؛ لقوله وَ عَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ (5) الآية، ثم نسخ بقوله فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ (6).
قيل: و كان الصوم في بدء الإسلام أن يمسك بعد صلاة العشاء الآخرة، أو ينام إلى أن تغيب الشمس، فإذا غربت حلّ الأكل و الشرب إلى أن يصلّي العشاء أو ينام.
و صوم شهر رمضان واجب بالنص و الإجماع.
********
(1) الزيادة أثبتناها من المصدر.
(2) البقرة: 183.
(3) البقرة: 185.
(4) أنظر: سنن البيهقي 200:4 و 201.
(5) البقرة: 184.
(6) البقرة: 185.
ص: 6
واجبا كان أو ندبا، رمضان كان أو غيره، بإجماع علمائنا - و به قال أكثر الفقهاء(1) - لقوله تعالى وَ ما أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللّهَ مُخْلِصِينَ (2).
و قوله عليه السلام: (إنّما الأعمال بالنّيات)(3).
و قوله عليه السلام: (من لم يبيّت الصيام قبل الفجر فلا صيام له)(4).
و من طريق الخاصة: قول الرضا عليه السلام: «لا عمل إلاّ بنيّة»(5).
و لافتقار قضائه إلى النيّة، فكذا أداؤه كالصلاة.
و حكي عن زفر بن الهذيل و مجاهد و عطاء: أنّ صوم رمضان إذا تعيّن، بأن كان مقيما صحيحا، لا يفتقر إلى النيّة؛ لأنّه فرض مستحق لعينه، فأشبه
ص: 7
ردّ الوديعة(1).
و الفرق: أنّ الوديعة حقّ الآدمي.
و هو: أن ينوي الصوم لوجوبه متقربا إلى اللّه تعالى، لا غير، و لا يفتقر إلى التعيين، و هو: أن ينوي رمضان عند علمائنا - و به قال الشافعي في أحد قوليه(2) - لأنّ القصد من نيّة التعيين تمييز أحد الفعلين أو أحد وجهي الفعل الواحد عن الآخر، و لا يتحقّق التعدّد هنا؛ فإنّه لا يقع في رمضان غيره، فأشبه ردّ الوديعة.
و في الثاني للشافعي: أنّه يفتقر - و به قال مالك - لأنّه صوم واجب فيشترط فيه التعيين كالقضاء(3).
و ليس بجيّد؛ لعدم تعيّن زمان القضاء.
و قال أبو حنيفة بالاكتفاء إن كان مقيما(4).
و إن كان معيّنا لا بأصل الشرع، بل بالنذر و شبهه، قال السيد المرتضى رحمه اللّه: تكفي فيه نية القربة كرمضان(5) - و به قال أبو حنيفة(6) - لأنّه زمان
ص: 8
تعيّن للصوم بالنذر، فأشبه رمضان.
و قال الشيخ: لا تكفي، بل لا بدّ فيه من نيّة التعيين(1) - و به قال الشافعي و مالك و أحمد(2) - لأنّه لم يتعيّن بأصل الشرع، فأشبه النذر المطلق. و هو ممنوع.
و إن لم يكن معيّنا كالنذور المطلقة و قضاء رمضان و صوم الكفّارات و صوم النافلة، فلا بدّ فيه من نيّة التعيين عند العلماء كافة؛ لأنّه زمان لا يتعيّن الصوم فيه، و لا يتحقّق وجهه، فاحتاج الى المخصّص.
و للشافعي قولان(3).
و لو نوى غيره مع الجهل فكذلك؛ للاكتفاء بنية القربة في رمضان و قد حصلت، فلا تضرّ الضميمة، و مع العلم كذلك؛ لهذا الدليل، و يحتمل البطلان؛ لعدم قصد رمضان و المطلق فلا يقعان؛ لقوله عليه السلام: (و إنّما لكلّ امرئ ما نوى)(1) و المقصود منهي في رمضان.
فلو قال: أنا صائم غدا إن شاء اللّه؛ فإن قصد التبرّك أجزأ، و إلاّ فلا.
و لو نوى قضاء رمضان أو تطوّعا، لم يصح؛ لعدم التعيين، فلا جزم في كلّ منهما.
و قال أبو يوسف: يقع عن القضاء؛ لعدم افتقار التطوّع إلى التعيين، فكأنّه نوى القضاء و صوما مطلقا(2).
و قال محمد: يقع تطوّعا - و به قال الشافعي(3) - لأنّ زمان القضاء يصلح للتطوّع، فإذا سقطت نيّة الفرض بالتشريك، بقيت نيّة الصوم، فوقع تطوّعا(4).
و كلاهما ضعيف.
و لا يجوز تأخيرها عن الطلوع مع العلم، فيفسد صومه إذا أخّر عامدا؛ لمضيّ جزء من النهار بغير نيّة، و الصوم لا يتبعّض، و يجب عليه الإمساك.
و لو تركها ناسيا أو لعذر، جاز تجديدها الى الزوال؛ لأنّ أعرابيّا جاء الى
ص: 10
النبي عليه السلام، و قد أصبح الناس يوم الشك، فشهد برؤية الهلال، فأمر النبي عليه السلام مناديا ينادي: من لم يأكل فليصم، و من أكل فليمسك(1) ، و إذا جاز مع العذر - و هو الجهل - جاز مع النسيان.
و قال الشافعي: لا يجزئ الصيام إلاّ بنيّة من الليل في الواجب كلّه، المعيّن و غيره؛ و به قال مالك و أحمد(2) - و في جواز مقارنة النيّة لطلوع الفجر عنده وجهان(3) - لقوله عليه السلام: (لا صيام لمن لم يبيّت الصيام قبل الفجر)(4).
و نقول بموجبه في العمد.
و قال أبو حنيفة: يصحّ صوم رمضان بنيّة قبل الزوال، و كذا كلّ صوم معيّن بالقياس على التطوّع(5).
و الفرق: المسامحة في التطوّع تكثيرا له حيث قد يبدو له الصوم في النهار، و لو شرطت النيّة ليلا لمنع منه.
لقوله عليه السلام: (لا صيام
ص: 11
لمن لم يبيّت الصيام من الليل)(1) و هو عام.
و قال بعض الشافعية: إنّما تصح النية في النصف الثاني منه دون الأول؛ لاختصاصه بأذان الصبح و الدفع من مزدلفة(2).
و الفرق: جوازهما بعد الصبح، فلا يفضي منعهما في الأول إلى فواتهما، بخلاف النيّة؛ فإنّ أكثر الناس قد لا ينتبه في النصف الثاني، و لا يذكر الصوم.
و النيّة مقارنة.
و قال بعض الشافعية: يجب تقديمها على الفجر(3) ؛ لقوله عليه السلام: (من لم يجمع قبل الفجر فلا صيام له)(4).
و لا حجّة فيه؛ لأنّ المقارنة متعذّرة غالبا، و التأخير ممنوع منه، فتعيّن السبق؛ لإزالة مشقّة ضبط المقارنة، و مع فرض وقوعها يجب الإجزاء.
يبطل عند الشيخ(1) و الشافعي في أحد قوليه؛ لانعقاده أوّلا، فلا يبطل بغير المفطر.
و في الآخر: يبطل؛ لمضي جزء من النهار بغير نيّة فعلا و قوّة، و لا عمل إلاّ بنيّة(2).
و للشافعية وجهان(3).
و - لو نوى أنّه يصوم غدا من رمضان لسنة تسعين، و كانت إحدى و تسعين، صحّ - خلافا لبعض الشافعية(4) - لوجود الشرط، فلا يؤثّر الغلط، كما لو نوى الثلاثاء فبان الأربعاء.
و لو كان عليه قضاء اليوم الأول، فنوى قضاء الثاني، أو كان عليه يوم من سنة خمس، فنواه من سنة ست، لم يصح؛ لأنّه صوم لا يتعيّن بزمان، فلا بدّ فيه من النيّة، و الذي عليه لم ينوه.
إذا لم يفعل المنافي نهارا؛ لعدم تعيّن زمانه، فجاز تجديد النيّة إلى الزوال، كالنافلة.
و لأنّ هشام بن سالم قال للصادق عليه السلام: الرجل يصبح لا ينوي الصوم، فإذا تعالى النهار، حدث له رأي في الصوم، فقال: «إن هو نوى الصوم قبل أن تزول الشمس، حسب له يوم، و إن نواه بعد الزوال، حسب له من الوقت الذي نوى»(5).
ص: 13
و سأل صالح بن عبد اللّه، الكاظم عليه السلام، عن رجل جعل اللّه عليه صيام شهر فيصبح و هو ينوي الصوم، ثم يبدو له فيفطر، و يصبح و هو لا ينوي الصوم فيبدو له فيصوم، فقال: «هذا كلّه جائز»(1).
و سأل عبد الرحمن بن الحجاج، الكاظم عليه السلام، عن الرجل يصبح لم يطعم و لم يشرب و لم ينو صوما، و كان عليه يوم من شهر رمضان، إله أن يصوم ذلك اليوم و قد ذهب عامة النهار؟ فقال: «نعم، له أن يصوم و يعتدّ له من شهر رمضان»(2).
و قال أبو حنيفة: لا يجزئ إلاّ من الليل، و به قال الفقهاء(3) ؛ لقوله عليه السلام: (من لم يبيّت الصيام من الليل فلا صيام له)(4).
و المقصود منه المعيّن؛ لأنّه مخصوص بالنافلة، فكذا غير المعيّن.
(و بجواز التجديد بالنهار قال)(5) ابن مسعود و حذيفة و سعيد بن المسيّب و سعيد بن جبير و النخعي و الشافعي و أحمد و أصحاب الرأي(6).
و وافقنا على امتداده الى الزوال خاصة، أبو حنيفة و الشافعي في أحد قوليه، و أحمد في إحدى الروايتين(7) ؛ لأنّ النبي عليه السلام، دخل على
ص: 14
عائشة يوما، فقال: (هل عندكم شيء؟) قلنا: لا، قال: (فإنّي إذن صائم)(1).
و نحوه من طريق الخاصة، عن أمير المؤمنين عليه السلام(2).
و قال مالك: تجب النيّة من الليل، بمعنى أنّه لا يصح الصوم إلاّ بنيّة من الليل - و به قال داود و المزني، و هو مروي عن عبد اللّه بن عمر(3) - لقوله عليه السلام: (لا صيام لمن لم يبيّت الصيام من الليل)(4).
و لتساوي نيّة فرض الصلاة و نفلها في الوقت، فكذا الصوم.
و الحديث مخصوص بالناسي و المعذور، و حديثنا أخصّ.
و الفرق: أنّ النيّة مع أول الصلاة في النفل لا يؤدّي الى تقليلها، بخلاف الصوم.
و قال السيد المرتضى(5) و أكثر علمائنا(6) و الشافعي في قول(7): إنّ النيّة في النفل تمتدّ بامتداد النهار؛ لتناول الأحاديث السابقة له.
و سأل هشام بن سالم، الصادق عليه السلام: الرجل يصبح لا ينوي الصوم، فإذا تعالى النهار، حدث له رأي في الصوم، فقال: «إن هو نوى الصوم قبل أن تزول الشمس، حسب له يومه، و إن نواه بعد الزوال، حسب3.
ص: 15
له من الوقت الذي نوى»(1) و لو صحّ الصوم من أول النهار لحسب له.
إن عرض له ليلة الصيام سهو أو نوم أو إغماء، أجزأته النيّة السابقة، و إلاّ فلا بدّ له من تجديدها(2) ؛ لأنّ اقتران النيّة بالفعل غير شرط إجماعا، و لهذا جاز تجديد الناقض بعدها قبل الفجر، فجاز تقدّمها قبل الهلال بيوم أو أيّام؛ لتقارب الزمان.
و الوجه: عدم الجواز؛ لقوله عليه السلام: (لا صيام لمن لم يبيّت الصيام من الليل)(3) و أجزأ من أوله؛ لعسر ضبط آخره.
و لا يحتاج إلى تجديد النيّة كلّ ليلة، بخلاف غيره - و به قال مالك و أحمد في إحدى الروايتين، و إسحاق و زفر(4) - لأنّه نوى في زمان يصلح جنسه لنيّة الصوم، لا يتخلّل بينه و بين فعله زمان يصلح جنسه لصوم سواه، فأجزأه، كما لو نوى اليوم الأول من ليلته.
و قال أبو حنيفة و الشافعي و أحمد في رواية: إنّه لا بدّ من تجديد النيّة كلّ يوم كغير رمضان(5).
و هو الوجه؛ لأنّها عبادات متعدّدة لا يبطل بعضها بفساد البعض، بخلاف الصلاة الواحدة و اليوم الواحد.
ص: 16
و ادّعى الشيخ و السيد المرتضى الإجماع(1)(2).
مسألة 8: يستحب صوم(3) يوم الشك من شعبان إذا لم ير الهلال،
و لا يكره صومه، سواء كان هناك مانع من الرؤية كالغيم و شبهه، أو لم يكن - و به قال أبو حنيفة و مالك(4) - لأنّ عليّا عليه السلام قال: «لأن أصوم يوما من شعبان أحبّ إليّ من أن أفطر يوما من رمضان»(5).
و من طريق الخاصة: قول الصادق عليه السلام: «صمه فإن يك من شعبان كان تطوّعا، و إن يك من شهر رمضان فيوم وفّقت له»(6).
و لأنّ الاحتياط يقتضي صومه، فلا وجه للكراهية.
و قال شيخنا المفيد رحمه اللّه: إنّما يستحب مع الشك في الهلال لا مع الصحو و ارتفاع الموانع، و يكره مع الصحو و ارتفاع الموانع، إلاّ لمن كان صائما قبله(7) - و به قال الشافعي و الأوزاعي(8) - لأنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله، نهى عن صيام ستة أيام: اليوم الذي يشك فيه من رمضان(9).
و يحمل على النهي عن صومه من رمضان.
و قال أحمد: إن كانت السماء مصحية، كره صومه، و إن كانت مغيمة، وجب صومه، و يحكم بأنّه من رمضان - و هو مروي عن ابن عمر - لأنّ النبي
ص: 17
عليه السلام قال: (إنّما الشهر تسعة و عشرون يوما، فلا تصوموا حتى تروا الهلال، و لا تفطروا حتى تروه، فإن غمّ عليكم فاقدروا له)(1).
و معنى الإقدار: التضييق، بأن يجعل شعبان تسعة و عشرين(2).
و قد سبق أنّ النهي عن الصوم من رمضان، و معارض بقوله عليه السلام:
(صوموا لرؤيته، و أفطروا لرؤيته، فإنّ غمّ عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين)(3).
و قال الحسن و ابن سيرين: و إن صام الإمام صاموا، و إن أفطر أفطروا و هو مروي عن أحمد(4) ؛ لقوله عليه السلام: (الصوم يوم تصومون، و الفطر يوم تفطرون، و الأضحى يوم تضحّون)(5).
و لم يجزئه لو خرج منه؛ لدلالة النهي على الفساد.
قال مولانا زين العابدين عليه السلام عن يوم الشك: «أمرنا بصيامه، و نهينا عنه، أمرنا أن يصومه الإنسان على أنّه من شعبان، و نهينا عن أن يصومه على أنّه من شهر رمضان»(6).
ص: 18
و لو نواه ندبا على أنّه من شعبان، أجزأ عنه و إن خرج من رمضان؛ لأنّه أتى بالمأمور به على وجهه، فكان مجزئا عن الواجب؛ لأنّ رمضان لا يقع فيه غيره، و نيّة الوجوب ساقطة، للعذر.
و لو نوى أنّه واجب أو ندب و لم يعيّن، لم يصحّ صومه، و لم يجزئه لو خرج من رمضان، إلاّ أن يجدّد النيّة قبل الزوال.
و لو نوى أنّه من رمضان، فثبت الهلال قبل الزوال، جدّد النيّة، و أجزأه، لبقاء محلّ النيّة.
و لو نوى أنّه إن كان من رمضان فهو واجب، و إن كان من شعبان فندب، لم يصحّ - و هو أحد قولي الشيخ(1) رحمه اللّه، و به قال الشافعي(2) - لأنّ شرط النيّة الجزم و لم يحصل.
و للشيخ قول آخر: الإجزاء لو بان من رمضان؛ لأنّه نوى الواقع على التقديرين على وجههما، و لأنّه نوى القربة و هي كافية(3).
و قال عطاء: يأكل بقية يومه؛ و هو رواية عن أحمد(1) ، و لم يقل به غيرهما.
و لو أصبح بنيّة صوم شعبان، فبان أنّه من رمضان، نقل النيّة اليه و لو قبل الغروب، و أجزأه.
و لو كان عارفا بحساب التسيير، أو أخبره العارف بالهلال، لم يصح بنيّة رمضان؛ لأنّ ذلك ليس طريقا الى ثبوت الأهلّة في نظر الشرع و إن أفاد الظنّ.
و إن كان من شوّال فهو مفطر، قال بعض الشافعية: يصحّ؛ لأصالة بقاء الشهر(2).
و يبطل؛ لعدم الجزم.
و لو نوى أنّه يصومه عن رمضان أو نافلة، لم يصحّ إجماعا.
و هو أمور:
بالنصّ و الإجماع.
قال اللّه تعالى وَ كُلُوا وَ اشْرَبُوا حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ (1).
و لا فرق بين المعتاد و غيره عند علمائنا، سواء يغذّى به أو لا - و هو قول عامة أهل العلم(2) - للعموم، و لأنّ حقيقة الصوم الإمساك، و هو غير متحقّق مع تناول غير المعتاد.
و قال الحسن بن صالح بن حي: لا يفطر بما ليس بطعام و لا بشراب(3).
و كان أبو طلحة الأنصاري يأكل البرد في الصوم، و يقول: ليس بطعام و لا شراب(4).
ص: 21
و قال أبو حنيفة: لو ابتلع حصاة أو فستقة بقشرها، لم تجب الكفّارة(1) ؛ فاعتبر في إيجاب الكفّارة ما يتغذّى به أو يتداوى به، و هو مذهب السيد المرتضى(2).
و الكلّ باطل بما تقدّم.
سواء أخرجها من فمه أو لا؛ لأنّه ابتلع طعاما عامدا فأفطر، كما لو أكل.
و قال احمد: إن كان يسيرا لا يمكنه التحرّز منه فابتلعه، لم يفطر، و إن كان كثيرا أفطر(3).
و قال الشافعي: إن كان ممّا يجري به الريق، و لا يتميّز عنه، فبلعه مع ريقه، لم يفطره، و إن كان بين أسنانه شيء من لحم أو خبز حصل في فيه، متميّزا عن الريق، فابتلعه مع ذكره للصوم، فسد صومه(4).
و قال أبو حنيفة: لا يفطر به؛ لأنّه لا يمكنه التحرّز منه، فأشبه ما يجري به الريق(5).
و هو خلاف الفرض، فإنّه مع عدم إمكان التحرّز عنه عفو.
لعدم إمكان التحرّز منه.
و كذا لو جمعه في فيه ثم ابتلعه، و هو أحد قولي الشافعي، و في الآخر:
ص: 22
يفطر(1).
أمّا لو خرج من فيه بين أصابعه أو ثوبه، ثم ابتلعه، فإنّه يفطر.
و لو أخرج حصاة و شبهها من فيه و عليها بلّة من الريق، ثم أعاده و عليه الريق، و ابتلع الريق، أفطر، خلافا لبعض الجمهور(2).
و لو ابتلع ريق غيره، أفطر.
و لو أبرز لسانه و عليه ريق، ثم ابتلعه، لم يفطر؛ لعدم انفصاله عن محلّه.
لأنّه معتاد في الفم، غير واصل من خارج، فأشبه الريق، و لعموم البلوى به.
و قول الصادق عليه السلام: «لا بأس أن يزدرد الصائم نخامته»(3).
و قال الشافعي: يفطر - و عن أحمد روايتان(4) - لأنّه يمكن الاحتراز منه، فأشبه القيء(5).
و نمنع الصغرى.
فلو ابتلع المعتاد و غيره، أبطل صومه.
و قد أجمع العلماء كافة على إفساد الصوم بالجماع الموجب للغسل في قبل المرأة؛ للآية(6) ، سواء أنزل أو لم ينزل.
و لو وطأ في الدّبر فأنزل، فسد صومه إجماعا، و لو لم ينزل، فالمعتمد
ص: 23
عليه الإفساد؛ لأنّه جماع في محلّ الشهوة، فأشبه القبل.
و لو جامعها في غير الفرجين، أفسد مع الإنزال، و إلاّ فلا.
و لا فرق بين وطء الحيّة و الميتة، و لا بين الغلام و المرأة، و الموطوء كالواطئ.
و لو وطأ الدابة فأنزل، أفسد، و إلاّ فلا.
سواء كان باستمناء أو ملامسة أو ملاعبة أو قبلة إجماعا؛ لأنّ الصادق عليه السلام، سئل عن الرجل يضع يده على شيء من جسد امرأة فأدفق، فقال: «كفّارته أن يصوم شهرين متتابعين أو يطعم ستين مسكينا أو يعتق رقبة»(1).
و لو نظر إلى ما لا يحلّ النظر اليه عامدا بشهوة فأمنى، قال الشيخ:
عليه القضاء(2).
و لو كان نظره الى ما يحلّ له النظر إليه فأمنى، لم يكن عليه شيء.
و لو أصغى أو تسمّع الى حديث فأمنى، لم يكن عليه شيء؛ عملا بأصالة البراءة.
و قال الشافعي و أبو حنيفة و الثوري: لا يفسد الصوم بالإنزال عقيب النظر مطلقا؛ لأنّه إنزال من غير مباشرة، فأشبه الإنزال بالفكر(3).
و قال أحمد و مالك و الحسن البصري و عطاء: يفسد به الصوم مطلقا؛ لأنّه إنزال بفعل يتلذّذ به، و يمكن التحرّز عنه، فأشبه الإنزال باللمس(4).
و لو أنزل من غير شهوة - كالمريض - عمدا، أفسد صومه.
ص: 24
و لو قلنا بالإفساد بالنظر، فلا فرق بين التكرار و عدمه، و به قال مالك(1).
و قال أحمد: لا يفسد إلاّ بالتكرار(2).
و لو فكّر فأمنى لم يفطر، و به قال الشافعي(3).
و قال أصحاب مالك: يفطر(4).
و تكره القبلة للشاب الذي تحرّك القبلة شهوته، و لا تكره لمن يملك إربه(5) ؛ لأنّ النبي عليه السلام، كان يقبّل و هو صائم، و كان أملك الناس لإربه(6).
و لو أمذى بالتقبيل، لم يفطر عند علمائنا، و به قال أبو حنيفة و الشافعي، و هو مروي عن الحسن و الشعبي و الأوزاعي(7).
و قال مالك و أحمد: يفطر(8).
كغبار الدقيق و النفض، مفسد للصوم - خلافا للجمهور(9) - لأنّه أوصل إلى الجوف ما ينافي الصوم.
ص: 25
و لأنّ سليمان بن جعفر(1) سمعه يقول: «إذا شمّ رائحة غليظة، أو كنس بيتا، فدخل في أنفه و حلقه غبار؛ فإنّ ذلك له فطر، مثل الأكل و الشرب و النكاح»(2).
و لو كان مضطرّا أو لم يشعر به، لم يفطر إجماعا.
فسد صومه عند علمائنا، و به قال أبو هريرة و سالم ابن عبد اللّه و الحسن البصري و طاوس و عروة، و به قال الحسن بن صالح بن حي و النخعي في الفرض خاصّة(3) ؛ لقوله عليه السلام: (من أصبح جنبا فلا صوم له)(4).
و من طريق الخاصة: قول الصادق عليه السلام، في رجل أجنب في شهر رمضان بالليل، ثم ترك الغسل متعمّدا حتى أصبح، قال: «يعتق رقبة أو يصوم شهرين متتابعين أو يطعم ستين مسكينا»(5).
و قال الجمهور: لا يفسد الصوم(6) ؛ للآية(7).
و لقول عائشة: أشهد على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، أن كان
ص: 26
ليصبح جنبا من جماع غير احتلام، ثم يصومه(1).
و لا دلالة في الآية؛ لعود الغاية إلى الجملة القريبة.
و الحديث ممنوع، و محمول على القرب من الصباح؛ لمواظبته عليه السلام، على أداء الفرائض في أول وقتها.
و وجب القضاء إن لم يراع الفجر، و لو نزعه بنيّة الجماع فكالمجامع.
و لو راعى الفجر، و لم يظنّ قربه، ثم نزع مع أول طلوعه، لم يفسد صومه؛ لأنّ النزع ترك الجماع، و به قال الشافعي و أبو حنيفة(2).
و قال مالك و أحمد و المزني و زفر: يبطل صومه(3).
و أوجب أحمد الكفّارة(4).
فإن ابتلعه، فسد صومه.
و تركتا الغسل حتى يطلع الفجر عمدا، وجب القضاء خاصة.
و لو لم ينو، فسد صومه، و عليه القضاء - خلافا للجمهور(5) - لما تقدّم من اشتراط الطهارة في ابتدائه، و بنومه قد فرّط في تحصيل الشرط.
و لو أجنب فنام على عزم ترك الغسل حتى طلع الفجر، فهو كالتارك
ص: 27
للغسل عمدا.
و لو أجنب ثم نام ناويا للغسل حتى طلع الفجر، فلا شيء عليه، فإن استيقظ ثم نام حتى يطلع الفجر، وجب القضاء خاصة؛ لأنّ معاوية بن عمّار سأل الصادق عليه السلام: الرجل يجنب في أول الليل ثم ينام حتى يصبح في شهر رمضان، قال: «ليس عليه شيء» قلت: فإنّه استيقظ ثم نام حتى أصبح، قال: «فليقض ذلك اليوم عقوبة»(1).
و لو احتلم نهارا في رمضان من غير قصد، لم يفطر، و جاز له تأخير الغسل إجماعا.
عند أكثر علمائنا(2) ، و هو قول عامة العلماء(3) ؛ لقوله عليه السلام: (من ذرعه القيء و هو صائم فليس عليه قضاء، و من استقاء فليقض)(4).
و من طريق الخاصة: قول الصادق عليه السلام: «إذا تقيّأ الصائم فقد أفطر، و إن ذرعه من غير أن يتقيّأ فليتم صومه»(5).
و قال السيد المرتضى و ابن إدريس: لا يفسد صومه(6) - و به قال عبد اللّه ابن عباس و ابن مسعود(7) - لقوله عليه السلام: (لا يفطر من قاء)(8).
ص: 28
و نقول بموجبه فيما إذا ذرعه.
أمّا لو ذرعه القيء فإنّه لا يفطر بإجماع العلماء.
و حكي عن الحسن البصري في إحدى الروايتين عنه: أنّه يفطر(1). و هو غلط.
للشيخ قولان:
أحدهما: الإفساد(2) - و به قال الشافعي و أبو حنيفة و أحمد(3) - لقول الرضا عليه السلام: «الصائم لا يجوز له أن يحتقن»(4).
و لأنّه أوصل إلى جوفه ما يصلح بدنه و هو ذاكر للصوم، فأشبه الأكل.
و الثاني: لا يفسد(5) - و به قال الحسن بن صالح بن حي و داود(6) - لأنّ الحقنة لا تصل إلى المعدة، و لا الى موضع الاغتذاء، فلا يؤثّر فسادا، كالاكتحال، و لا يجري في مجرى الاغتذاء، فلا يفسد الصوم، كالاكتحال.
و قال مالك: يفطر بالكثير منها دون القليل(7).
ص: 29
أمّا الاحتقان بالجامد: فإنّه مكروه لا يفسد به الصوم، خلافا للجمهور؛ فإنّهم لم يفرّقوا بين المائع و الجامد(1) ، و به قال أبو الصلاح و ابن البراج(2).
أ - لو داوى جرحه فوصل الدواء إلى جوفه، أفسد صومه عند الشيخ(3) ،
و به قال الشافعي و أبو حنيفة و أحمد(4).
و قال مالك: لا يفطر(5) ، و به قال أبو يوسف و محمد(6) ، و هو الوجه.
قال الشيخ: يفسد صومه(7) ، و به قال الشافعي(8).
و الوجه: أنّه لا يفسد، و به قال أبو يوسف و محمد(9).
للأصل.
و لأنّ ابن أبي يعفور سأل الصادق عليه السلام، عن الصائم يصب الدواء
ص: 30
في أذنه، قال: «نعم»(1).
و قال بعض علمائنا: يفطر(2) ؛ و به قال الشافعي و أبو حنيفة و مالك و أحمد إذا وصل إلى الدماغ؛ لأنّه جوف فالواصل اليه يغذّيه، فيفطر به، كجوف البدن(3).
و هو منقوض: بالاكتحال.
سواء وصل الى المثانة أو لا - و به قال أبو حنيفة و أحمد(4) - لأنّ المثانة ليست محلا للاغتذاء، فلا يفطر بما يصل إليها؛ و لأنّه ليس بين باطن الذكر و الجوف منفذ، و إنّما يخرج البول رشحا.
و قال الشافعي: يفطر؛ و به قال أبو يوسف - و اضطرب قول محمد فيه(5) - لأنّ المثانة كالدماغ في أنّها من باطن البدن(6).
و نمنع المساواة.
ص: 31
عليهم السلام، مفسد للصوم(1) - و به قال الأوزاعي(2) - لقول الصادق عليه السلام: «الكذبة تنقض الوضوء و تفطر الصائم» قال أبو بصير: هلكنا، فقال عليه السلام: «ليس حيث تذهب، إنّما ذلك الكذب على اللّه و على رسوله صلّى اللّه عليه و آله، و على الأئمّة عليهم السلام»(3).
و هو محمول على المبالغة.
و قال السيد المرتضى: لا يفسده(4) ؛ و هو قول الجمهور(5) ، و هو المعتمد؛ لأصالة البراءة، و لا خلاف في أنّ الكذب على غير اللّه تعالى و غير رسوله و الأئمّة عليهم السلام، غير مفسد.
و أمّا المشاتمة و التلفّظ بالقبيح فكذلك، إلاّ الأوزاعي، فإنّه أوجب بهما الإفطار(6) ؛ لقوله عليه السلام: (من لم يدع قول الزور و العمل به فليس للّه حاجة أن يدع طعامه و شرابه)(7).
و لا دلالة فيه، و الإجماع على خلاف قوله.
قال الشيخان: إنّه يفسد الصوم(8) ؛ لقول الباقر عليه السلام: «لا يضرّ الصائم ما صنع إذا اجتنب أربع خصال:
ص: 32
الأكل و الشرب و النساء و الارتماس في الماء»(1).
و لا حجّة فيه؛ لجواز التضرّر بالتحريم دون الإفساد، كما هو القول الآخر للشيخ(2) ؛ لأنّ إسحاق بن عمار قال للصادق عليه السلام: رجل صائم ارتمس في الماء متعمّدا أ عليه قضاء ذلك اليوم ؟ قال: «ليس عليه قضاء و لا يعودنّ»(3).
قال الشيخ: لست أعرف حديثا في إيجاب القضاء و الكفّارة، أو إيجاب أحدهما على من ارتمس في الماء(4).
و قال السيد المرتضى: لا يفسد الصوم، و هو مكروه(5) ؛ و به قال مالك و أحمد(6) و الحسن و الشعبي(7).
و قال باقي الجمهور: إنّه غير مكروه أيضا(8).
و لا بأس بصبّ الماء على الرأس للتبرّد و الاغتسال من غير كراهة.
و لو ارتمس(9) فدخل الماء إلى حلقه، أفسد صومه، سواء كان دخول الماء اختيارا أو اضطرارا، إذا كان الارتماس اختيارا.ء.
ص: 33
و لو صبّ الماء على رأسه، فدخل حلقه متعمّدا، أفسد صومه. و كذا لو كان الصبّ يؤدّي إليه قطعا مع الاختيار لا الاضطرار، و لو لم يؤدّ، لم يفسد.
الحادي عشر: قال المفيد و أبو الصلاح: السعوط(1) الذي يصل إلى الدماغ
من الأنف مفسد للصوم مطلقا(2) - و به قال الشافعي و أبو حنيفة و أحمد(3) - لأنّ النبي عليه السلام، قال للقيط بن صبرة: (و بالغ في الاستنشاق إلاّ أن تكون صائما)(4).
و لأنّ الدماغ جوف، فالواصل اليه يغذّيه، فيفطر به، كجوف البدن.
و المنع إنّما كان للخوف من النزول الى الحلق؛ لعروضه في الاستنشاق غالبا، و التغذية لا تحصل من ذلك. و اشتراك الدماغ و المعدة في اسم الجوف لا يقتضي اشتراكهما في الحكم.
و قال الشيخ: إنّه مكروه لا يفسد الصوم، سواء بلغ الى الدماغ أو لا، إلاّ ما نزل إلى الحلق؛ فإنّه يفطر، و يوجب القضاء(5) ؛ و به قال مالك و الأوزاعي و داود(6) ، و هو المعتمد؛ عملا بالأصل.
- و به قال الشعبي و النخعي
ص: 34
و قتادة و الشافعي و أحمد و إسحاق و أصحاب الرأي(1) - للأصل.
و لأنّ أبا بصير سأل الصادق عليه السلام، عن الصائم يمضغ العلك، فقال: «نعم»(2).
و لا فرق بين ذي الطعم و غيره، و لا بين القوي الذي لا يتحلّل أجزاؤه و الضعيف الذي يتحلّل إذا تحفّظ من ابتلاع المتحلّل من أجزائه و إن وجد طعمه في حلقه.
كمصّ الخاتم و مضغ الطعام و زقّ(3) الطائر و ذوق المرق؛ لقوله عليه السلام:
(أ رأيت لو تمضمضت بماء ثم مججته(4)(5).
و سئل الصادق عليه السلام، عن صبّ الدواء في اذن الصائم، فقال:
«نعم و يذوق المرق و يزقّ الفرخ»(6).
فإن أدخل شيئا في فمه و ابتلعه سهوا، فإن كان لغرض صحيح، فلا قضاء عليه، و إلاّ لزمه.
و لو تمضمض فابتلع الماء سهوا، فإن كان للتبرّد، فعليه القضاء، و إن كان للصلاة، فلا شيء عليه.
و كذا لو ابتلع ما لا يقصده كالذباب و قطر المطر، فإن فعله عمدا أفطر.
ص: 35
سواء الرطب و اليابس، في أول النهار أو آخره عند علمائنا - و به قال مالك و أبو حنيفة(1) - لأنّ عامر بن ربيعة قال: رأيت النبي صلّى اللّه عليه و آله، ما لا احصي يتسوّك و هو صائم(2).
و من طريق الخاصة: قول الحلبي: سألت الصادق عليه السلام:
أ يستاك الصائم بالماء و العود الرطب يجد طعمه ؟ فقال: «لا بأس به»(3).
و قال أحمد: يكره بالرطب مطلقا، و يكره باليابس بعد الزوال - و به قال ابن عمر و عطاء و مجاهد و الأوزاعي و إسحاق و قتادة و الشعبي و الحكم(4) - لقوله عليه السلام: (إذا صمتم فاستاكوا بالغداة، و لا تستاكوا بالعشي فإنّه ليس من صائم تيبس شفتاه إلاّ كانتا نورا بين عينيه يوم القيامة)(5).
و يحمل على التسوّك لاستجلاب الريق؛ لدلالة آخر الحديث عليه.
و يتحفّظ من ابتلاع الرطوبة.
أمّا لو وقع نسيانا فلا، على ما يأتي الخلاف فيه.
و كذا ما يحصل من غير قصد، كالغبار الداخل من غير قصد، و ماء المضمضة، و كما لو صبّ في حلقه شيء كرها، فإنّه لا يفسد صومه إجماعا.
أمّا لو اكره على الإفطار بأن توعّده و خوّفه حتى أكل، قال الشيخ: إنّه
ص: 36
يفطر(1) ؛ و به قال أبو حنيفة و مالك(2) - و للشافعي قولان(3) - لأنّ الصوم الإمساك، و لم يتحقّق.
و لأنّه فعل ضدّ الصوم ذاكرا له، غايته أنّه فعله لدفع الضرر عن نفسه، لكنه لا أثر له في دفع الفطر، كما لو أكل أو شرب لدفع الجوع أو العطش.
و يحتمل: عدم الإفطار - و به قال أحمد و الشافعي في الثاني من قوليه(4) - لقوله عليه السلام: (رفع عن أمّتي الخطأ و النسيان و ما استكرهوا عليه)(5).
و لأنّه غير متمكّن، فلا يصحّ تكليفه.
و لو فعل المفطر جاهلا بالتحريم، أفسد صومه؛ لأنّ له طريقا الى العلم، فالتفريط من جهته، فلا يسقط الحكم عنه.
و يحتمل: العدم كالناسي.
و لأنّ زرارة و أبا بصير سألا الباقر عليه السلام، عن رجل أتى أهله في شهر رمضان، و أتى أهله و هو محرم، و هو لا يرى إلاّ أنّ ذلك حلال له، قال:
«ليس عليه شيء»(6).
و يمكن حمله على الكفّارة و الإثم.
و لو أكل ناسيا، فظنّ إفساد صومه، فتعمّد الأكل، قال الشيخ: يفطر،3.
ص: 37
و عليه القضاء و الكفّارة. قال: و قد ذهب بعض أصحابنا إلى أنّه يقضي و لا يكفّر(1).
و المعتمد: ما اختاره الشيخ.
مسألة 13: قد سبق(2) أنّه لو نوى الإفطار بعد انعقاد الصوم، لم يفطر؛
لانعقاده شرعا، فلا يبطل إلاّ بوجه شرعي.
هذا إذا عاد إلى نيّة الصوم، و لو لم يعد، فالوجه القضاء - و به قال أصحاب الرأي و الشافعية في أحد الوجهين(3) - لأنّه لم يصم لفوات شرطه، و هو: النية المستمرة فعلا أو حكما، فلا يعتدّ بإمساكه.
و قال أحمد و أبو ثور و الشافعية في الوجه الثاني: يفطر مطلقا(4).
و على كلّ تقدير، فلا كفّارة؛ لأصالة البراءة، السالم عن الهتك.
و لو نوى القطع في النفل، لم يصح صومه. و إن عاد فنواه، صحّ، كما لو أصبح غير ناو للصوم.
و لو نوى أنّه سيفطر بعد ساعة أخرى، لم يفطر؛ لأنّه لو نوى الإفطار في الحال، لم يفطره، فالأولى في المستقبل عدمه.
و لو نوى أنّه إن وجد طعاما أفطر، و إن لم يجد لم يفطر، لم يبطل صومه؛ لأنّ نيّة الجزم بالإفطار غير مؤثّرة فيه، فمع التردّد أولى.
و قد نازع بعض المشترطين لاستمرار حكم النيّة في الموضعين.
و قال الشيخ: لو نوى الإفطار في يوم يعلمه من رمضان، ثم جدّد نيّة الصوم قبل الزوال، لم ينعقد(5).
و هو جيّد و إن كان فيه كلام.
ص: 38
عند علمائنا أجمع - و هو قول عامة العلماء(1) - لأنّ رجلا جاء إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله، فقال: هلكت، فقال: (و ما أهلكك ؟) قال: وقعت على امرأتي في رمضان، فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله: (هل تجد رقبة تعتقها؟) قال: لا، قال: (فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين ؟) قال: لا، قال: فهل تستطيع إطعام ستين مسكينا؟) قال: لا أجد، فقال له النبي صلّى اللّه عليه و آله: (اجلس) فجلس، فبينا هو جالس كذلك، أتي بعرق(2) فيه تمر، فقال له النبي عليه السلام: (اذهب فتصدّق به) فقال: يا رسول اللّه، و الذي بعثك بالحق، ما بين لابتيها(3) أهل بيت أحوج منّا، فضحك
ص: 39
النبي عليه السلام، حتى بدت أنيابه، ثم قال: (اذهب و أطعم عيالك)(1).
و نحوه من طريق الخاصة(2).
و قال النخعي و الشعبي و سعيد بن جبير و قتادة: لا كفّارة عليه(3).
و هو خرق الإجماع، فلا يلتفت إليه.
إذا عرفت هذا، فقد أجمع العلماء على وجوب القضاء مع الكفّارة، إلاّ الأوزاعي؛ فإنّه حكي عنه أنّه إن كفّر بالعتق أو الإطعام، قضى، و إن كفّر بالصيام، لم يقض؛ لأنّه صام شهرين(4).
و الإجماع يبطله، و لا منافاة.
و للشافعي قول: إنّه إذا وجبت الكفّارة، سقط القضاء؛ لأنّ النبي عليه السلام، لم يأمر الأعرابي بالقضاء(5).
و هو خطأ؛ لأنّه عليه السلام، قال: (و صم يوما مكانه)(6).
و لا فرق بين وطء الميتة و الحيّة و النائمة و المكرهة و المجنونة و الصغيرة و المزني بها.
عند علمائنا أجمع - و به قال مالك و أبو حنيفة و أبو ثور و ابن المنذر و الشافعي في
ص: 40
أحد القولين(1) - لأنّها شاركت الرجل في السبب و حكم الإفطار، فتشاركه في الحكم الآخر، و هو وجوب الكفّارة.
و لعموم الروايات؛ لقول الرضا عليه السلام: «من أفطر يوما من شهر رمضان متعمّدا فعليه عتق رقبة مؤمنة، و يصوم يوما بدل يوم»(2).
و في الآخر للشافعي: لا كفّارة عليها - و عن أحمد روايتان(3) - لأنّ النبي عليه السلام أمر الواطئ في رمضان أن يعتق رقبة، و لم يأمر في المرأة بشيء(4).
و لا دلالة فيه؛ فإنّ التخصيص بالذكر لا يوجبه في الحكم، و لجواز أن تكون مكرهة.
و لا قضاء عليها عندنا.
و قال أصحاب الرأي: يجب عليها القضاء. و هو قول الثوري و الأوزاعي(1).
و قال مالك: يجب على المكرهة القضاء و الكفّارة(2).
و قال الشافعي و أبو ثور و ابن المنذر: إن كان الإكراه بوعيد حتى فعلت، وجب القضاء و الكفّارة، و إن كان إلجاء، لم تفطر، و النائمة كالملجأة(3).
فإن طاوعته، فعليها كفّارة واحدة عنها، و إن أكرهها، فلا كفّارة على أحدهما.
قال الشيخ: و لا يجب عنها شيء؛ لأنّ حمله على الزوجة قياس(4).
و هو مشكل؛ لأنّ الفاحشة هنا أشدّ.
فعليها كفّارة عن نفسها، و لا شيء عليه و لا عليها عنه؛ لأنّ القابل أقلّ في التأثير من الفاعل.
و إن لم ينزل فكذلك - و به قال الشافعي و أحمد و أبو حنيفة في رواية(5) - لأنّه أفسد صوم رمضان بجماع في فرج، فوجب عليه الكفّارة، كالقبل.
ص: 42
و لأنّه عليه السلام أمر من قال: واقعت أهلي، بالقضاء و الكفّارة(1) ، و لم يستفصله مع الاحتمال، فيكون عاما.
و في رواية عن أبي حنيفة: لا كفّارة؛ لعدم تعلّق الحدّ به(2).
و هو ممنوع، و أيضا لا ملازمة، كالأكل.
و كذا إذا لم ينزل - و به قال الشافعي(3) - لأنّه وطأ عمدا وطء يصير به جنبا، فوجبت الكفّارة.
و قال أبو حنيفة: لا كفّارة(4).
و إن لم ينزل قال الشيخ: لا نص فيه، و يجب القول بالقضاء؛ لأنّه مجمع عليه دون الكفّارة(5).
و منع ابن إدريس القضاء(6) أيضا.
و قال بعض العامة: تجب به الكفّارة؛ لأنّه وطء في فرج موجب للغسل، مفسد للصوم، فأشبه وطء الآدمية(7).
لاشتراكهما في السبب، و هو: الهتك.
ص: 43
و كذا لو وطأ فيما دون الفرجين فأنزل - و به قال مالك و أبو ثور(1) - لأنّه أجنب مختارا متعمّدا، فكان كالمجامع.
و لأنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله، أمر المفطر بالكفّارة(2).
و لأنّ الصادق عليه السلام، سئل عن الرجل يعبث بأهله في شهر رمضان حتى يمني، قال: «عليه من الكفّارة مثل ما على الذي يجامع»(3).
و عن رجل وضع يده على شيء من جسد امرأته فأدفق، قال: «كفّارته أن يصوم شهرين متتابعين أو يطعم ستين مسكينا أو يعتق رقبة»(4).
و عن الرجل يلاعب أهله أو جاريته و هو في(5) رمضان فيسبقه الماء فينزل، قال: «عليه من الكفّارة مثل ما على الذي يجامع(6)»(7).
و قال الشافعي و أبو حنيفة: عليه القضاء دون الكفّارة(8).
و قال أحمد: تجب الكفّارة في الوطء فيما دون الفرج مع الإنزال(9).
و عنه في القبلة و اللمس روايتان(10).
ص: 44
لم يفسد صومه - و به قال الشافعي و أبو حنيفة(1) - لعدم تمكّنه من الاحتراز عن النظرة الاولى.
أمّا لو كرّر النظر حتى أنزل، فالوجه: الإفساد.
و قال الشيخ: إن نظر إلى محلّلة، لم يلزمه شيء بالإمناء، و إن نظر إلى محرّمة، لزمه القضاء(2).
و قال مالك: إن أنزل من النظرة الأولى، أفطر و لا كفّارة، و إن استدام النظر حتى أنزل، وجبت عليه الكفّارة(3). و هو جيّد.
قضاه(4).
و به قال الشافعي(5) - لأنّه خارج لا يوجب الغسل، فأشبه البول.
و قال أحمد: يفطر، لأنّه خارج تخلّله الشهوة، فإذا انضمّ إلى المباشرة أفطر به، كالمني(6).
و الفرق: أنّ المني يلتذّ بخروجه و يوجب الغسل، بخلافه.
و إن أنزلتا، فسد صومهما.
و الوجه القضاء و الكفّارة، لأنّه إنزال عن فعل يوجب الحدّ، فأشبه الزنا.
ص: 45
و عن أحمد روايتان(1).
و لو ساحق المجبوب فأنزل، فكالمجامع في غير الفرج.
- و به قال مالك و الشافعي و أحمد(2) - لصدق المجامع عليه.
و قال أبو حنيفة: يجب القضاء خاصة، لأنّ وطأه لم يصادف صوما صحيحا، فلم يوجب الكفّارة، كما لو ترك النيّة و جامع(3).
و نمنع حكم الأصل.
و - لو نزع في الحال مع أول طلوع الفجر من غير تلوّم، لم يتعلّق به حكم، إلاّ أن يفرّط بترك المراعاة - و به قال أبو حنيفة و الشافعي(4) - لأنّه ترك للجماع، فلا يتعلّق به حكم الجماع.
و قال بعض الجمهور: تجب الكفّارة، لأنّ النزع جماع يلتذّ به، فيتعلّق به ما يتعلّق بالاستدامة(5).
و ليس بحثنا فيه، بل مع عدم التلذّذ.
و قال مالك: يبطل صومه و لا كفّارة، لأنّه لا يقدر على أكثر ممّا فعله في ترك الجماع، فأشبه المكره(6).
و نمنع وجوب القضاء.
على
ص: 46
من يجب عليه الصوم: القضاء و الكفّارة عند علمائنا أجمع - و به قال عطاء و الحسن البصري و الزهري و الثوري و الأوزاعي و إسحاق و أبو حنيفة و مالك(1) - لأنّه أفطر بأعلى ما في الباب من جنسه، فوجب عليه الكفّارة، كالجماع، لما رواه الجمهور: أنّ رجلا أفطر، فأمره النبي صلّى اللّه عليه و آله، أن يعتق رقبة أو يصوم شهرين متتابعين أو يطعم ستّين مسكينا(2).
و من طريق الخاصة: ما رواه عبد اللّه بن سنان عن الصادق عليه السلام، في رجل أفطر في شهر رمضان متعمّدا يوما واحدا من غير عذر، قال: «يعتق نسمة أو يصوم شهرين متتابعين أو يطعم ستّين مسكينا، فإن لم يقدر تصدّق بما يطيق»(3).
و قال الشافعي: لا تجب الكفّارة، بل القضاء خاصة - و به قال سعيد ابن جبير و النخعي و محمد بن سيرين و حمّاد بن أبي سليمان و أحمد و داود - لأصالة البراءة(4).
و الأصل قد يخالف، للدليل، و قد بيّناه.
و لا فرق بين الرجل و المرأة و العبد و الخنثى في ذلك، و لا بين أكل المحلّل و المحرّم، و لا المعتاد و غيره، خلافا للسيد المرتضى في الأخير(5) ،3.
ص: 47
و لأبي حنيفة و الشافعي(1).
القضاء و الكفّارة عند علمائنا،
لأنّه مفسد و أصل إلى الجوف، فأشبه الأكل.
و ما رواه سليمان بن جعفر المروزي، قال: سمعته يقول: «إذا تمضمض الصائم في شهر رمضان أو استنشق متعمّدا أو شمّ رائحة غليظة أو كنس بيتا، فدخل في أنفه و حلقه غبار، فعليه صوم شهرين متتابعين، فإنّ ذلك له فطر، مثل الأكل و الشرب»(2).
لقوله عليه السلام: (من أصبح جنبا في شهر رمضان فلا يصومنّ يومه)(3).
و من طريق الخاصة: قول الصادق عليه السلام في رجل أجنب في شهر رمضان بالليل، ثم ترك الغسل متعمّدا حتى أصبح، قال: «يعتق رقبة أو يصوم شهرين متتابعين أو يطعم ستين مسكينا»(4).
و قال ابن أبي عقيل منّا: عليه القضاء خاصة. و هو ظاهر كلام السيد المرتضى(5) رحمه اللّه، و به قال أبو هريرة و الحسن البصري و سالم بن عبد اللّه و النخعي و عروة و طاوس(6).
ص: 48
و قال الجمهور: لا قضاء و لا كفّارة، و صومه صحيح(1) ، لقوله تعالى:
حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ (2) .
و ما رووه عن النبي عليه السلام، أنّه كان يصبح جنبا من جماع غير احتلام ثم يصومه(3).
و الجواب: لا يجب اشتراك المعطوف و المعطوف عليه في الغاية.
و الرواية ممنوعة، على أنّها محمولة على أنّه كان يقارب بالاغتسال طلوع الفجر، لا أنّه يفعله بعده، و إلاّ لكان مداوما لترك الأفضل و هو الصلاة في أول وقتها، فإنّ قولنا: كان يفعل، يدلّ على المداومة.
لأنّه مع ترك العزم على الغسل يسقط اعتبار النوم، و يصير كالمتعمّد للبقاء على الجنابة.
و لو نام على عزم الاغتسال ثم نام ثم انتبه ثانيا ثم نام ثالثا على عزم الاغتسال، و استمرّ نومه في الثالث حتى أصبح، وجب عليه القضاء و الكفّارة أيضا، لرواية سليمان بن جعفر المروزي عن الكاظم عليه السلام، قال:
«إذا أجنب الرجل في شهر رمضان بليل، فعليه صوم شهرين متتابعين مع صوم ذلك اليوم، و لا يدرك فضل يومه»(4) و هو يتناول صورة النزاع.
مسألة 21: أوجب الشيخان بالارتماس القضاء و الكفّارة(5).
ص: 49
و اختار السيد المرتضى - رحمه اللّه - الكراهية، و لا قضاء و لا كفّارة فيه(1) ، و به قال مالك و أحمد(2).
و للشيخ قول في الاستبصار: إنّه محرّم لا يوجب قضاء و لا كفّارة(3).
و هو الأقوى، لدلالة الأحاديث(4) على المنع، و أصالة البراءة(5) على سقوط القضاء و الكفّارة.
و قال ابن أبي عقيل: أنّه سائغ مطلقا. و به قال الجمهور(6) ، إلاّ من تقدّم.
أو على رسوله، أو على الأئمّة عليهم السلام(7).
و خالف فيه السيد المرتضى(8) رحمه اللّه، و ابن أبي عقيل، و الجمهور(9) كافّة، و هو المعتمد، لأصالة البراءة.
احتجّ الشيخان: برواية أبي بصير، قال: سمعت الصادق عليه السلام، يقول: «الكذبة تنقض الوضوء و تفطر الصائم» قال: قلت: هلكنا، قال:
ص: 50
«ليس حيث تذهب، إنّما ذلك الكذب على اللّه و على رسوله صلّى اللّه عليه و آله، و على الأئمّة عليهم السلام»(1).
و الإفطار يستلزم الكفّارة، لقول الصادق عليه السلام، في رجل أفطر في شهر رمضان متعمّدا يوما واحدا من غير عذر، قال: «يعتق نسمة أو يصوم شهرين متتابعين أو يطعم ستين مسكينا، فإن لم يقدر، تصدّق بما يطيق»(2).
و هي محمولة على المفطرات الخاصة، و الحديث الأول اشتمل على ما هو ممنوع عندهم، و هو: نقض الوضوء، فيحمل على المبالغة.
مسألة 23: و القضاء الواجب هو يوم مكان يوم خاصة عند عامة العلماء(3).
و حكي عن ربيعة أنّه قال: يجب مكان كلّ يوم اثنا عشر يوما(4).
و قال سعيد بن المسيب: إنّه يصوم عن كلّ يوم شهرا(5).
و قال إبراهيم النخعي و وكيع: يصوم عن كلّ يوم ثلاثة آلاف يوم(6).
و الكلّ باطل، لقوله عليه السلام للمجامع: (و صم يوما مكانه)(7).
و من طريق الخاصة: قول الكاظم عليه السلام: «و يصوم يوما بدل يوم»(8).
ص: 51
(1) ، و به قال مالك(2) ، لما رواه أبو هريرة: أنّ رجلا أفطر في رمضان، فأمره رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، أن يكفّر بعتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكينا(3).
و من طريق الخاصة: قول الصادق عليه السلام: «يعتق نسمة أو يصوم شهرين متتابعين أو يطعم ستين مسكينا»(4) و «أو» للتخيير.
و قال ابن أبي عقيل: إنّها على الترتيب - و به قال أبو حنيفة و الثوري و الشافعي و الأوزاعي(5) - لقوله عليه السلام للواقع على أهله: (هل تجد رقبة تعتقها؟) قال: لا، قال: (فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين ؟) قال: لا، قال: (فهل تجد إطعام ستين مسكينا؟)(6).
و من طريق الخاصة: قول الكاظم عليه السلام: «من أفطر يوما من شهر رمضان متعمّدا فعليه عتق رقبة، مؤمنة، و يصوم يوما بدل يوم»(7).
ص: 52
و لا دلالة، لأنّ إيجاب الرقبة لا ينافي التخيير بينها و بين غيرها، و إيجاب العتق لا ينافي إيجاب غيره.
و قال الحسن البصري: إنّه مخيّر بين عتق رقبة و نحر بدنة(1) ، لما رواه العامة عن جابر بن عبد اللّه عن النبي عليه السلام، أنّه قال: «من أفطر يوما في شهر رمضان في الحضر فليهد بدنة، فإن لم يجد فليطعم ثلاثين صاعا»(2).
و رواية ضعيف فلا يعوّل عليه.
و للسيد المرتضى - رحمه اللّه - قولان: أحدهما: أنّها على الترتيب، و الثاني: أنّها على التخيير(3).
و عن أحمد روايتان(4).
و التخيير عندنا أولى، لموافقة براءة الذمّة.
و من طريق الخاصة: قول الصادق عليه السلام: «أو يصوم شهرين متتابعين»(1).
و لأنّها كفّارة فيها صوم شهرين، فكان متتابعا، كالظهار و القتل(2).
و قال ابن أبي ليلى: لا يجب التتابع(3) ، لما روى أبو هريرة أنّ رجلا أفطر في رمضان، فأمره رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، أن يكفّر بعتق رقبة أو صيام شهرين أو إطعام ستين مسكينا(4). و لم يذكر التتابع، و الأصل عدمه.
و حديثنا أولى، لأنّه لفظ النبي صلّى اللّه عليه و آله، و حديثكم لفظ الراوي، و لأنّ الأخذ بالزيادة أولى.
قدره رطلان و ربع بالعراقي، و الواجب خمسة عشر صاعا - و به قال الشافعي و عطاء و الأوزاعي(5) - لما رواه العامة في حديث المجامع، أنّه أتي النبي صلّى اللّه عليه و آله، بمكتل فيه خمسة عشر صاعا من تمر، فقال: (خذها و أطعم عيالك)(6).
و من طريق الخاصة: ما رواه عبد الرحمن عن الصادق عليه السلام، قال: سألته عن رجل أفطر يوما من شهر رمضان متعمّدا، قال: «عليه خمسة عشر صاعا، لكلّ مسكين مدّ بمدّ النبي صلّى اللّه عليه و آله»(7).
ص: 54
و قال الشيخ رحمه اللّه: لكلّ مسكين مدّان من طعام(1).
و الأصل براءة الذمة.
و قال أبو حنيفة: من البرّ، لكلّ مسكين نصف صاع، و من غيره صاع(2) ، لما رواه العامة عن النبي صلّى اللّه عليه و آله، في حديث سلمة بن صخر: (و أطعم وسقا من تمر)(3).
و هو ضعيف، لأنّه مختلف فيه.
و قال أحمد: مدّ من برّ و(4) نصف صاع من غيره(5) ، لما رواه أبو زيد المدني قال: جاءت امرأة من بني بياضة بنصف وسق شعير، فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله، للمظاهر: (أطعم هذا فإنّ مدّي شعير مكان مدّ برّ(6).
و ليس محلّ النزاع.
و على القول بالترتيب لو فقدت الرقبة فصام ثم وجد الرقبة في أثنائه، جاز له المضيّ فيه، و الانتقال إلى الرقبة أفضل، لأنّ فرضه انتقل بعجزه الى الصيام و قد تلبّس به، فكان الواجب إتمامه، و سقط وجوب العتق، كالمتيمّم يسقط عنه الوضوء بشروعه في الصلاة.
ص: 55
و لأنّه بعد الرقبة(1) تعيّن عليه الصوم، فلا يزول هذا الحكم بوجود الرقبة، كما لو وجدها بعد إكمال الصوم.
و قال أبو حنيفة و المزني: لا يجزئه الصوم، و يكفّر بالعتق - و للشافعي قولان(2) - لأنّه قدر على الأصل قبل أداء فرضه بالبدل، فيبطل حكم البدل، كالمتيمّم يرى الماء(3).
و ليس حجّة، فإنّ المتيمّم بعد الدخول في الصلاة يمضي فيها، و لا يبطل تيمّمه، أمّا قبلها(4) فلا، و الفرق: أنّه لم يتلبّس بما فعل التيمّم له، فلم يظهر له حكم.
و لأنّ التيمّم لا يرفع الحدث بل يستره، فإذا وجد الماء، ظهر حكمه، بخلاف الصوم، فإنّه يرفع حكم الجماع بالكلية.
فإن لم يقدر، تصدّق بما وجد، أو صام ما استطاع، فإن لم يتمكّن، استغفر اللّه تعالى و لا شيء عليه، قاله علماؤنا، لما رواه العامة: أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله، قال للمجامع: (اذهب فكله أنت و عيالك)(5) و لم يأمره بالكفّارة في ثاني الحال، و لو كان الوجوب ثابتا في ذمته، لأمره بالخروج عنه عند قدرته.
و من طريق الخاصة: قول النبي صلّى اللّه عليه و آله: (فخذه فأطعمه عيالك و استغفر اللّه عزّ و جل)(6).
ص: 56
و لأنّ الكفّارة حقّ من حقوق اللّه تعالى على وجه البدل، فلا يجب مع العجز، كصدقة الفطر.
و قال الزهري و الثوري و أبو ثور: إذا لم يتمكّن من الأصناف الثلاثة، كانت الكفّارة ثابتة في ذمّته - و هو قياس قول أبي حنيفة(1) - لأنّ النبي عليه السلام، أمر الأعرابي أن يأخذ التمر و يكفّر عن نفسه، بعد أن أعلمه بعجزه عن الأنواع الثلاثة، و هو يقتضي وجوب الكفّارة مع العجز.
و لأنّه حقّ للّه تعالى في المال، فلا يسقط بالعجز، كسائر الكفّارات(2).
و ليس حجّة، لأنّه عليه السلام، دفع (التمر)(3) تبرّعا منه، لا أنّه واجب على العاجز. و حكم الأصل ممنوع.
و قال الأوزاعي: تسقط الكفّارة عنه(4). و للشافعي قولان(5). و عن أحمد روايتان(6).
أن لا يجد ما يصرفه في الكفّارة فاضلا عن قوته و قوت عياله ذلك اليوم.
بل يجب القضاء مع القدرة عليه، فإن عجز أيضا عنه، سقط، لعدم الشرط، و هو: القدرة.
فقال المفيد رحمه اللّه: لو عجز عن الأصناف الثلاثة، صام ثمانية عشر يوما متتابعات، فإن لم يقدر، تصدّق بما
ص: 57
أطاق، أو فليصم ما استطاع(1). فجعل الصدقة مرتّبة على العجز عن صوم ثمانية عشر.
و الشيخ - رحمه اللّه - عكس، فقال: إن لم يتمكّن من الأصناف الثلاثة فليتصدّق بما تمكّن منه، فإن لم يتمكّن من الصدقة، صام ثمانية عشر يوما، فإن لم يقدر، صام ما تمكّن منه(2).
د - أطلق الشيخ - رحمه اللّه - صوم ثمانية عشر يوما(3).
و المفيد و المرتضى - رحمهما اللّه - قيّداها بالتتابع(4).
و رواية سليمان بن جعفر الجعفري عن أبي الحسن عليه السلام، من قوله: «إنّما الصيام الذي لا يفرّق كفّارة الظهار و كفّارة اليمين»(5) يدلّ على قول الشيخ رحمه اللّه تعالى.
أمّا في الصدقة، فلو عجز عن إطعام ستين، و تمكّن من إطعام ثلاثين، وجب قطعا، لقوله عليه السلام: (فإن لم يتمكّن تصدّق بما استطاع)(6).
و كذا الإشكال لو تمكّن من صيام شهر و إطعام ثلاثين هل يجبان أم لا؟
و تجب أيضا في قضاء رمضان بعد الزوال
ص: 58
لا قبله، و في الاعتكاف عند علمائنا.
و أطبقت العلماء على سقوط الكفّارة فيما عدا رمضان(1) ، إلاّ قتادة، فإنّه أوجب الكفّارة في قضاء رمضان(2).
أمّا قضاء رمضان: فلأنّه عبادة تجب الكفّارة في أدائها، فتجب في قضائها كالحجّ.
و لما رواه بريد بن معاوية العجلي - في الصحيح - عن الباقر عليه السلام، في رجل أتى أهله في يوم يقضيه من شهر رمضان، قال: «إن كان أتى أهله قبل الزوال، فلا شيء عليه إلاّ يوما مكان يوم، و إن كان أتى أهله بعد الزوال فإنّ عليه أن يتصدّق على عشرة مساكين»(3).
و أمّا النذر المعيّن: فلتعيّن زمانه كرمضان.
و لأنّ القاسم الصيقل كتب اليه عليه السلام: يا سيدي رجل نذر أن يصوم يوما للّه تعالى، فوقع في ذلك اليوم على أهله، ما عليه من الكفارة ؟ فأجابه: «يصوم يوما بدل يوم و تحرير رقبة مؤمنة»(4).
و أمّا الاعتكاف الواجب: فلأنّه كرمضان في التعيين.
و لأنّ زرارة سأل الباقر عليه السلام عن المعتكف يجامع، فقال: «إذا فعل فعليه ما على المظاهر»(5).
فتجب الكفّارة لو أفطر بعده، و لا تجب لو أفطر قبله.
ص: 59
و الجمهور كافة - إلاّ قتادة - على سقوط الكفّارة فيهما(1).
و قتادة أوجبها قبل الزوال و بعده(2).
و ابن أبي عقيل من علمائنا أسقطها بعد الزوال أيضا.
و المشهور ما بيّناه، لأنّه قبل الزوال مخيّر بين الإتمام و الإفطار، و بعده يتعيّن الصوم، فلهذا افترق الزمانان في إيجاب الكفّارة و سقوطها، لقول الصادق عليه السلام: «صوم النافلة لك أن تفطر ما بينك و بين الليل متى ما شئت، و صوم قضاء الفريضة لك أن تفطر الى زوال الشمس، فإذا زالت الشمس فليس لك أن تفطر»(3).
لأصالة البراءة، و إن كان في قول الصادق عليه السلام، دلالة ما على الوجوب.
و أمّا النذر المعيّن: فالمشهور أنّ في إفطاره كفّارة رمضان، لمساواته إيّاه في تعيين الصوم.
و ابن أبي عقيل لم يوجب في إفطاره الكفّارة، و هو قول العامّة(1).
ثمّ أفطر بعد الزوال، ثمّ ظهر أنّه من رمضان، احتمل سقوط الكفّارة.
أمّا عن رمضان: فلأنّه لم يقصد إفطاره، بل قصد إفطار يوم الشك، و هو جائز له.
و أمّا عن قضاء رمضان: فلظهور أنّه زمان لا يصح(2) للقضاء.
و يحتمل: وجوب كفّارة رمضان، و يحتمل وجوب كفّارة قضائه.
وقوعه عنه متعمّدا، مختارا، مع وجوب الصوم عليه.
أمّا شرط العمد: فإنّه عندنا ثابت إجماعا منّا، فإنّ المفطر ناسيا لا يفسد صومه مع تعيّن الزمان، و لا يجب به قضاء و لا كفّارة عند علمائنا أجمع - و به قال أبو هريرة و ابن عمر و عطاء و طاوس و الأوزاعي و الثوري و الشافعي و أحمد و إسحاق و أصحاب الرأي(3) - لما رواه العامة عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: (إذا أكل أحدكم أو شرب ناسيا، فليتمّ صومه، فإنّما أطعمه اللّه و سقاه)(4).
ص: 61
و عن علي عليه السلام، قال: «لا شيء على من أكل ناسيا»(1).
و من طريق الخاصة: قول الباقر عليه السلام: «كان أمير المؤمنين عليه السلام، يقول: من صام فنسي فأكل و شرب فلا يفطر من أجل أنّه نسي، فإنّما هو رزق رزقه اللّه فليتمّ صيامه»(2).
و لأنّ التكليف بالإمساك يستدعي الشعور، و هو منفي في حقّ الناسي، فكان غير مكلّف به، لاستحالة تكليف ما لا يطاق.
و قال ربيعة و مالك: يفطر الناسي كالعامد، لأنّ الأكل ضدّ الصوم، لأنّ الصوم كفّ، فلا يجامعه، و تبطل العبادة به كالناسي في الكلام في الصلاة(3).
و نمنع كون الأكل مطلقا ضدّا، بل الضدّ هو: الأكل العمد. و نمنع بطلان الصلاة مع نسيان الكلام.
و لو فعل ذلك حالة النوم، لم يفسد صومه، لانتفاء القصد فيه و العلم، فهو أعذر من الناسي.
أمّا الجاهل بالتحريم فإنّه غير معذور، بل يفسد الصوم مع فعل المفطر و يكفّر.
و أمّا المكره و المتوعّد بالمؤاخذة، فالأقرب: فساد صومهما، لكن لا تجب الكفّارة.
فلو طارت ذبابة أو بعوضة إلى حلقه، لم يفطر بذلك إجماعا.
ص: 62
أمّا لو وصل غبار الطريق أو غربلة الدقيق إلى جوفه، فإن كانا غليظين، و أمكنه التحرّز منه، فإنّه يفسد صومه، و لو كانا خفيفين، لم يفطر.
و العامة لم تفصّل، بل قالوا: لا يفطر(1).
و لو أمكنه إطباق فيه أو اجتناب الطريق، لم يفطر عندهم أيضا، لأنّ تكليف الصائم الاحتراز عن الأفعال المعتادة التي يحتاج إليها عسر، فيكون منفيا(2) ، بل لو فتح فاه عمدا حتى وصل الغبار إلى جوفه، فأصحّ وجهي الشافعية: أنّه يقع عفوا(3).
و لو وطئت المرأة قهرا، فلا تأثير له في إفساد صومها، و كذا لو وجر في حلق الصائم ماء و شبهه بغير اختياره.
و للشافعي قولان فيما لو أغمي عليه فوجر في حلقه معالجة و إصلاحا، أحدهما: أنّه يفطر، لأنّ هذا الإيجار لمصلحته، فكأنّه بإذنه و اختياره.
و أصحّهما: أنّه لا يفطر، كإيجار غيره بغير اختياره(4).
و هذا الخلاف بينهم مفرّع على أنّ الصوم لا يبطل بمطلق الإغماء (و إلاّ فالإيجار)(5) مسبوق بالبطلان(6).
و هذا الخلاف كالخلاف في المغمى عليه المحرم إذا عولج بدواء فيه طيب هل تلزمه الفدية ؟(7).
سواء جمعه في فمه
ص: 63
ثم ابتلعه، أو لم يجمعه، و به قال الشافعي(1) ، و هو أصحّ وجهي الحنابلة(2).
أمّا إذا لم يجمعه: فلأنّ العادة تقتضي بلعه، و التحرّز منه غير ممكن، و به يحيى الإنسان، و عليه حمل بعض المفسّرين قوله تعالى وَ جَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ (3).
و أمّا إذا جمعه: فلأنّه يصل إلى جوفه من معدنه، فأشبه إذا لم يجمعه.
و قال بعض الحنابلة: إنّه يفطر، لأنّه يمكنه التحرّز عنه، فأشبه ما لو قصد ابتلاع غيره(4). و هو ممنوع.
فلو كان ممزوجا بغيره متغيّرا به، فإنّه يفطر بابتلاعه، سواء كان ذلك الغير طاهرا، كما لو كان يفتل خيطا مصبوغا فغيّر ريقه، أو نجسا، كما لو دميت لثته و تغيّر ريقه.
فلو ابيضّ الريق و زال تغيّره، ففي الإفطار بابتلاعه للشافعية وجهان:
أظهرهما عندهم: الإفطار، لأنّه لا يجوز له ابتلاعه لنجاسته، و الريق إنّما يجوز ابتلاع الطاهر منه.
و الثاني: عدم الإفطار، لأنّ ابتلاع الريق مباح، و ليس فيه عين(5) آخر و إن كان نجسا حكما.
و على هذا لو تناول بالليل شيئا نجسا و لم يغسل فمه حتى أصبح فابتلع الريق، بطل صومه على الأول.
فلو خرج الى الظاهر من فمه ثم ردّه بلسانه
ص: 64
أو غير لسانه و ابتلعه، بطل صومه. و هذا عندنا كما ذكروا.
أمّا لو أخرج لسانه و عليه الريق ثم ردّه و ابتلع ما عليه، لم يبطل صومه عندنا - و هو أظهر وجهي الشافعية - لأنّ اللسان كيف ما يقلب معدود من داخل الفم، فلم يفارق ما عليه معدنه.
فلو بلّ الخيّاط الخيط بالريق، أو الغزّال بريقه، ثم ردّه إلى الفم على ما يعتاد عند القتل، فإن لم يكن عليه رطوبة تنفصل، فلا بأس، و إن كانت و ابتلعها، أفطر عندنا - و هو قول أكثر الشافعية - لأنّه لا ضرورة اليه و قد ابتلعه بعد مفارقة المعدن.
و الثاني للشافعية: أنّه لا يفطر، لأنّ ذلك القدر أقلّ ممّا يبقى من الماء في الفم بعد المضمضة.
و خصّص بعض الشافعية، الوجهين بالجاهل بعدم الجواز، و إذا كان عالما يبطل صومه إجماعا.
أمّا لو جمعه ثم ابتلعه فعندنا لا يفطر، كما لو لم يجمعه.
و للشافعية وجهان: أحدهما: أنّه يبطل صومه، لإمكان الاحتراز منه.
و أصحّهما: أنّه لا يبطل - و به قال أبو حنيفة - لأنّه ممّا يجوز ابتلاعه و لم يخرج من معدنه، فأشبه ما لو ابتلعه متفرّقا(1).
و ما روي عن عائشة: أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله كان يمصّ لسانها و هو
ص: 65
صائم(1) ، ضعيف، لأنّ أبا داود قال: إنّ إسناده ليس بصحيح(2).
سلّمنا، لكن يجوز أن يمصّه بعد إزالة الرطوبة عنه، فأشبه ما لو تمضمض بماء ثم مجّه.
و إن كان قليلا فإشكال ينشأ: من أنّه لا يزيد على رطوبة المضمضة، و من أنّه ابتلع ريقا منفصلا عن فمه فأفطر به كالكثير.
فتقلّ مشقّة الصوم، فيقصر الثواب. و لا فرق بين أن يكون له طعم أم لا.
و لو كان مفتّتا فوصل منه شيء إلى الجوف، بطل صومه، كما لو وضع سكرة في فمه و ابتلع الريق بعد ما ذابت فيه.
بخلاف الريق.
و إن حصلت فيه بعد انصبابها من الدماغ في الثقبة النافذة منه إلى أقصى الفم فوق الحلقوم، فإن لم يقدر على صرفه و مجّه حتى نزل الى الجوف، لم يفطر، و إن ردّه الى فضاء الفم أو ارتدّ اليه ثم ابتلعه، أفطر عند الشافعية(3).
و إن قدر على قطعه من مجراه و مجّه، فتركه حتى جرى بنفسه، لم يفطر.
و للشافعية وجهان(4).
و قال الشافعي: إنّه يفطر، لأنّه يمكنه(1) التحرّز منه، فأشبه الدم، و لأنّها من غير الفم فأشبه(2) القيء(3). و عن احمد روايتان(4).
سواء كان في الطهارة أو غيرها.
و لأنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله، قال للسائل عن القبلة: (أ رأيت لو تمضمضت بماء ثم مججته أ كنت مفطرا؟)(5).
و لأنّ الفم في حكم الظاهر، فلا يبطل الصوم بالواصل اليه كالأنف و العين.
أمّا لو تمضمض للصلاة، فسبق الماء الى جوفه، أو استنشق، فسبق الى دماغه من غير قصد، لم يفطر عند علمائنا(6) - و به قال الأوزاعي و أحمد و إسحاق و الشافعي في أحد القولين، و هو مروي عن ابن عباس(7) - لأنّه وصل الماء الى جوفه من غير قصد و لا إسراف، فأشبه ما لو طارت الذبابة فدخلت حلقه.
و لأنّه وصل بغير اختياره، فلا يفطر به كالغبار.
و للشافعية طريقان: أصحّهما عندهم: أنّ المسألة على قولين، أحدهما: أنّه يفطر - و به قال مالك و أبو حنيفة(8) - لأنّه وصل الماء الى جوفه
ص: 67
بفعله، فإنّه الذي أدخل الماء في فمه و أنفه. و الثاني - و به قال أحمد(1) - أنّه لا يفطر.
و الثاني: القطع بأنّه لا يفطر.
و على القول بطريقة القولين، فما محلّهما؟ فيه ثلاث طرق، أصحّها عندهم: أنّ القولين فيما إذا لم يبالغ في المضمضة و الاستنشاق، فأمّا إذا بالغ أفطر بلا خلاف.
و ثانيها: أنّ القولين فيما إذا بالغ، أمّا إذا لم يبالغ فلا يفطر بلا خلاف.
و الفرق على الطريقين: أنّ المبالغة منهي عنها، و أصل المضمضة و الاستنشاق مرغّب فيه، فلا يحسن مؤاخذته بما يتولّد منه بغير اختياره.
و الثالث: طرد القولين في الحالتين، فإذا تميّزت حالة المبالغة عن حالة الاقتصار على أصل المضمضة و الاستنشاق، حصل عند المبالغة للشافعي قولان مرتّبان، لكن ظاهر مذهبهم عند المبالغة الإفطار، و عند عدمها الصحّة(2).
هذا إذا كان ذاكرا للصوم، أمّا إذا كان ناسيا فإنّه لا يفطر بحال.
و سبق الماء عند غسل الفم من النجاسة كسبقه في المضمضة، و كذا عند غسله من أكل الطعام.
و لو تمضمض للتبرّد، فدخل الماء حلقه من غير قصد، أفطر، لأنّه غير مأمور به.
مسألة 36: قد بيّنا أنّ الأكل و الشرب ناسيا غير مفطر عند علمائنا(3)
سواء قلّ أكله أو كثر.
ص: 68
و قال مالك: إنّه يفطر(1). و للشافعي فيما إذا كثر أكله ناسيا قولان(2).
و لو أكل جاهلا، أفسد صومه.
و قال الشافعي: إن كان قريب العهد بالإسلام، أو كان قد نشأ في بادية، و كان يجهل مثل ذلك، لم يبطل صومه، و إلاّ بطل(3).
و لو جامع ناسيا للصوم، لم يفطر عندنا. و للشافعية طريقان، أصحّهما:
القطع بأنّه لا يبطل. و الثاني: أنّه يخرّج على قولين(4).
فإن كان على عزم ترك الاغتسال و استمرّ به النوم الى أن أصبح، وجب عليه القضاء و الكفّارة.
و إن نام على عزم الاغتسال ثم استيقظ ثانيا ثم نام ثالثا بعد انتباهتين، وجب القضاء و الكفّارة أيضا.
و إن نام من أول مرة عازما على الاغتسال فطلع الفجر، لم يكن عليه شيء.
و إن نام ثانيا، و استمرّ به النوم على عزم الاغتسال حتى طلع الفجر، وجب عليه القضاء خاصة، لأنّ ابن أبي يعفور سأل الصادق عليه السلام:
الرجل يجنب في رمضان ثم يستيقظ ثم ينام حتى يصبح، قال: «يتمّ يومه(5) و يقضي يوما آخر، فإن لم يستيقظ حتى يصبح أتمّ يومه و جاز له»(6).
و لأنّه فرّط في الاغتسال، فوجب عليه القضاء، و لا تجب الكفّارة، لأنّ المنع من النومة الأولى تضييق على المكلّف.
و بالجملة
ص: 69
فعل المفطر، ثم ظهر له أنّ فعله صادف النهار، و أنّ الفجر قد كان طالعا، فإن كان قد رصد الفجر و راعاه فلم يتبيّنه، أتمّ صومه، و لا شيء عليه.
و إن لم يرصد الفجر مع القدرة على المراعاة ثم تبيّن أنّه كان طالعا، وجب عليه إتمام الصوم و القضاء خاصة، و لا كفّارة عليه، لأنّه مفرّط بترك المراعاة، فوجب القضاء، لإفساده الصوم بفعل المفطر، و لا كفّارة، لعدم الإثم، و أصالة البقاء.
و أمّا مع المراعاة: فلأنّ الأصل بقاء الليل، و قد اعتضد بالمراعاة، فكان التناول جائزا له مطلقا، فلا فساد حينئذ، و جرى مجرى الساهي.
و سئل الصادق عليه السلام، عن رجل تسحّر ثم خرج من بيته و قد طلع الفجر و تبيّن، فقال: «يتمّ صومه ذلك ثم ليقضه»(1).
و إن تسحّر في غير شهر رمضان بعد الفجر أفطر.
و العامّة لم يفصّلوا، بل قال الشافعي: لا كفّارة عليه مطلقا، سواء رصد أو لم يرصد مع ظنّ الليل، و عليه القضاء، و هو قول عامة الفقهاء(2) ، إلاّ إسحاق به راهويه و داود، فإنّهما قالا: لا يجب عليه القضاء(3). و هو مذهب الحسن و مجاهد و عطاء و عروة(4).
و قال أحمد: إذا جامع بظنّ أنّ الفجر لم يطلع و يبيّن أنّه كان طالعا، وجب عليه القضاء و الكفّارة مطلقا(5). و لم يعتبر المراعاة.
و احتجّ موجبو القضاء مطلقا: بأنّه أكل مختارا، ذاكرا للصوم فأفطر، كما لو أكل يوم الشك، و لأنّه جهل وقت الصيام، فلم يعذر به، كالجهل بأول رمضان.3.
ص: 70
و احتجّ الآخرون: بما رواه زيد بن وهب، قال: كنت جالسا في مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، في رمضان في زمن عمر، فأتينا بعساس(1) فيها شراب من بيت حفصة، فشربنا و نحن نرى أنّه من الليل، ثم انكشف السحاب، فإذا الشمس طالعة، قال: فجعل الناس يقولون: نقضي يوما مكانه، فقال عمر: و اللّه لا نقضيه، ما تجانفنا(2) لإثم(3).
و الجواب: المنع من الأكل في رمضان عالما مع المراعاة. و قول عمر ليس حجّة.
و احتجّ أحمد: بأنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله، أمر المجامع بالتكفير من غير تفصيل(4).
و الأمر إنّما كان للهتك، لأنّ الأعرابي شكا كثرة الذنب و شدّة المؤاخذة، و ذلك إنّما يكون مع قصد الإفطار.
فقلّده و ترك المراعاة مع قدرته عليها، ثم فعل المفطر و كان الفجر طالعا، وجب عليه القضاء خاصة، لأنّه مفرّط بترك المراعاة، فأفسد صومه، و وجب القضاء، و الكفّارة ساقطة عنه، لأنّه بناء على أصالة بقاء الليل و على صدق المخبر الذي هو الأصل في المسلم.
و سأل معاوية بن عمّار، الصادق عليه السلام: آمر الجارية أن تنظر طلع الفجر أم لا، فتقول: لم يطلع، فآكل ثم أنظر(5) فأجده قد طلع حين نظرت، قال: «تتمّ يومك(6) و تقضيه، أمّا انّك لو كنت أنت الذي نظرت ما كان عليك
ص: 71
قضاؤه»(1).
و لو أخبره غيره بطلوع الفجر فظنّ كذبه، فتناول المفطر و كان الفجر طالعا، وجب القضاء، للتفريط بترك المراعاة مع القدرة، و لا كفّارة عليه، لعدم الإثم، لأصالة بقاء الليل.
و سأل عيص بن القاسم، الصادق عليه السلام، عن رجل خرج في شهر رمضان و أصحابه يتسحّرون في بيت، فنظر الى الفجر فناداهم، فكفّ بعضهم، و ظنّ بعضهم أنّه يسخر فأكل، قال: «يتمّ صومه و يقضي»(2).
و لا فرق بين أن يكون المخبر عدلا أو فاسقا، للإطلاق.
و لو أخبره عدلان بطلوع الفجر فلم يكفّ، ثم ظهر أنّه كان طالعا، فالأقرب: وجوب القضاء و الكفّارة، لأنّ قولهما معتبر في نظر الشرع، يجب العمل به، فتترتّب عليه توابعه.
لتفريطه حين بنى على وهمه.
و لو ظنّ دخول الليل لظلمة عرضت إمّا لغيم أو غيره، فأفطر ثم تبيّن فساد ظنّه، أتمّ صومه، و وجب عليه القضاء عند أكثر علمائنا(3) - و هو قول العامة(4) - لأنّه تناول ما يفسد الصوم عامدا، فوجب عليه القضاء، و لا كفّارة، لحصول الشبهة.
و لما رواه العامة عن حنظلة، قال: كنّا في شهر رمضان و في السماء سحاب، فظننّا أنّ الشمس غابت، فأفطر بعضنا، فأمر عمر من كان أفطر أن
ص: 72
يصوم مكانه(1).
و من طريق الخاصة: ما رواه أبو بصير عن الصادق عليه السلام، في قوم صاموا شهر رمضان، فغشيهم سحاب أسود عند غروب الشمس، فرأوا أنّه الليل، فقال: «على الذي أفطر صيام ذلك اليوم، إنّ اللّه عزّ و جلّ يقول:
ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ (2) فمن أكل قبل أن يدخل الليل فعليه قضاؤه، لأنّه أكل متعمّدا»(3).
و للشيخ - رحمه اللّه - قول آخر: إنّه يمسك و لا قضاء عليه(4) ، لأنّ أبا الصباح الكناني سأل الصادق عليه السلام، عن رجل صام ثم ظنّ أنّ الشمس قد غابت و في السماء علّة فأفطر، ثم إنّ السحاب انجلى فإذا الشمس لم تغب، فقال: «قد تمّ صومه و لا يقضيه»(5).
و الحديث ضعيف السند، لأنّ فيه محمد بن الفضيل و هو ضعيف.
و اعلم: أنّه فرق بين بقاء الليل و دخوله، فإنّ الأول اعتضد بأصالة البقاء، و الثاني اعتضد بضدّه، و هو: أصالة عدم الدخول، مع أنّه متمكّن من الصبر الى أن يحصل اليقين.
و اعلم: أنّ المزني نقل عن الشافعي: أنّه لو أكل على ظنّ أنّ الصبح لم يطلع بعد، أو أنّ الشمس قد غربت و كان غالطا فيه، لا يجزئه صومه، و وافقه أصحابه على روايته في الصورة الثانية.
و أنكر بعضهم الاولى، و قال: لا يوجد ذلك في كتب الشافعي، و مذهبه أنّه لا يبطل الصوم إذا ظنّ أنّ الصبح لم يطلع بعد، لأصالة بقاء الليل،6.
ص: 73
بخلاف آخر النهار، فإنّ الأصل بقاء النهار، فالغلط في الأولى معذور، دون الثانية.
و منهم من صحّح الروايتين، و قال: لعلّه نقله سماعا، لأنّه تحقّق خلاف ظنّه، و اليقين مقدّم على الظنّ، و لا يبعد استواء حكم الغلط في دخول الوقت و خروجه، كما في الجمعة(1).
إذا عرفت هذا، فالأحوط للصائم الإمساك عن الإفطار حتى يتيقّن الغروب، لأصالة بقاء النهار، فيستصحب الى أن يتيقّن خلافه.
و لو اجتهد و غلب على ظنّه دخول الليل، فالأقرب: جواز الأكل.
و للشافعية وجهان: هذا أحدهما، و الثاني: لا يجوز، لقدرته على تحصيل اليقين(2).
و أمّا في أول النهار فيجوز الأكل بالظنّ و الاجتهاد، لأصالة بقاء الليل.
و لو أكل من غير يقين و لا اجتهاد، فإنّ تبيّن له الخطأ، فالحكم ما تقدّم، و إن تبيّن الصواب، فقد استمرّ الصوم على الصحّة.
لا يقال: مقتضى الدليل عدم صحّة الصوم، كما لو صلّى في الوقت مع الشك في دخوله، و كما لو شكّ في القبلة من غير اجتهاد، و تبيّن له الصواب، لا تصحّ صلاته.
لأنّا نقول: الفرق: أنّ ابتداء العبادة وقع في حال الشك فمنع الانعقاد، و هنا انعقدت العبادة على الصحّة و شك في أنّه هل أتى بما يفسدها ثم تبيّن عدمه.
و لو استمرّ الإشكال، و لم يتبيّن الخطأ من الصواب، فالأقرب: وجوب القضاء لو أفطر آخر النهار، لأصالة البقاء، و لم يبن الأكل على أمر يعارضه.6.
ص: 74
و إن اتّفق في أوله، فلا قضاء، لأصالة بقاء الليل.
و نقل عن مالك: وجوب القضاء في هذه الصورة أيضا، لأصالة بقاء الصوم في ذمته، فلا يسقط بالشك(1).
و الأقوى ما قلناه من جواز الأكل حتى يتبيّن الطلوع أو يظنّه - و به قال ابن عباس و عطاء و الأوزاعي و الشافعي و أحمد و أصحاب الرأي(2) - لقوله تعالى:
وَ كُلُوا وَ اشْرَبُوا حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ (3) .
و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، يقول: (فكلوا و اشربوا حتى يؤذّن ابن أمّ مكتوم)(4) و كان أعمى لا يؤذّن حتى يقال له: أصبحت.
و السقوط إنّما هو بعد الثبوت، و الصوم مختص بالنهار.
أفطر، و إن ذرعه من غير أن يتقيّأ فليتمّ صومه»(1).
و قال أبو ثور: لو تعمّد القيء وجب القضاء و الكفّارة(2) ، لأنّه سلوك في مجرى الطعام، فكان موجبا للقضاء و الكفّارة كالأكل.
و هو معارض بالروايات و أصالة البراءة.
و لو ذرعه القيء، فلا قضاء عليه و لا كفّارة بإجماع علمائنا - و هو قول كلّ من يحفظ عنه العلم(3) - لأنّه فعل حصل بغير اختياره. و للروايات(4).
و روي عن الحسن البصري: وجوب القضاء خاصة(5). و هو خارق للإجماع.
- و به قال مالك و الشافعي و أحمد(6) - لأنّه ترك صوم رمضان بجماع أثم به، لحرمة الصوم، فوجبت به الكفّارة، كما لو وطأ بعد طلوع الفجر.
و قال أبو حنيفة: يجب عليه القضاء دون الكفّارة، لأنّ وطأه لم يصادف صوما صحيحا، فلم يوجب الكفّارة، كما لو ترك النيّة و جامع(7).
و الأصل ممنوع، مع أنّ تركه للصوم لترك النية، لا للجماع.
فأمّا لو نزع في الحال فأقسامه ثلاثة:
ص: 76
الأول: أن يحسّ و هو مجامع بعلامات الصبح، فينزع بحيث يوافق آخر النزع ابتداء الطلوع.
الثاني: أن يطلع الصبح و هو مجامع و يعلم بالطلوع كما طلع، و ينزع كما علم.
الثالث: أن يمضي زمان بعد الطلوع ثم يعلم به، ففي الثالثة الصوم باطل - و به قال الشافعي(1) - و إن نزع كما علم، لأنّ بعض النهار قد مضى و هو مشغول بالجماع.
و الوجه: أنّه إن تمكّن من المراعاة و لم يراع و صادف الجماع النهار، وجب عليه القضاء.
و على القول الصحيح للشافعية: أنّه لو مكث في هذه الصورة، فلا كفّارة عليه، لأنّ مكثه مسبوق ببطلان الصوم(2).
و أمّا الصورتان الأوليان، فعندنا أنّه إن كان قد راعى و لم يفرط بترك المراعاة، لا قضاء عليه، و إلاّ وجب القضاء.
و عند الشافعي يصحّ صومه مطلقا(3) ، و لم يعتبر المراعاة.
و له قول آخر: إنّ الصورة الأولى يصحّ صومه فيها(4) ، لأنّ آخر النزع وافق ابتداء الطلوع، فلم يحصل النزع في النهار.
و هذا عندنا باطل، لأنّا نوجب الطهارة في ابتداء الصوم.
و أمّا إذا طلع ثم نزع، فسد صومه عندنا و عند الشافعي(5) ، لأنّ الإخراج يستلزم التلذّذ، فيكون مجامعا.
و قال مالك و أحمد: لا يفسد صومه، لأنّ النزع ترك الجماع، فلا يتعلّق به ما يتعلّق بالجماع، كما لو حلف أن لا يلبس ثوبا هو لابسه فنزعه في الحال، لا يحنث(6).4.
ص: 77
و هو فاسد عندنا، لما قدّمناه من وجوب الطهارة.
و لو طلع الفجر و علم به كما طلع، و مكث فلم ينزع، فسد صومه، و به قال الشافعي(1).
و تجب عليه الكفّارة عندنا، خلافا للشافعي في أحد القولين(2).
(و ذكر فيما)(3) إذا قال لامرأته: إن وطأتك فأنت طالق ثلاثا، فغيّب الحشفة، و طلّقت، و مكث: أنّه لا يجب المهر(4).
و اختلف أصحابه على طريقين: أحدهما: أنّ فيهما قولين نقلا و تخريجا، أحدهما: وجوب الكفّارة هنا و المهر ثمّ، كما لو نزع و أولج ثانيا.
و الثاني: لا يجب واحد منهما، لأنّ ابتداء الفعل كان مباحا.
و أصحّهما: القطع بوجوب الكفّارة و نفي المهر.
و الفرق: أنّ ابتداء الفعل لم يتعلّق به الكفّارة، فتتعلّق بانتهائه حتى لا يخلو الجماع في نهار رمضان عمدا عن الكفّارة، و الوطء ثمّ غير خال عن المقابلة بالمهر، لأنّ المهر في النكاح يقابل جميع الوطآت(5).
و قال أبو حنيفة: لا تجب الكفّارة بالمكث(6). و اختاره المزني من الشافعية(7).
و وافقنا مالك و أحمد على الوجوب(8).
و الخلاف جار فيما إذا جامع ناسيا ثمّ تذكّر الصوم و استدام.6.
ص: 78
قيل: كيف يعرف طلوع الفجر المجامع(1) و شبهه ؟ فإنّه متى عرف الطلوع كان الطلوع الحقيقي متقدّما عليه.
أجيب بأمرين:
أحدهما: أنّ المسألة موضوعة على التقدير، كما هو عادة الفقهاء في أمثالها.
و الثاني: إنّا تعبّدنا بما نطّلع عليه، و لا معنى للصبح إلاّ ظهور الضوء للناظر، و ما قبله لا حكم له.
فإذا كان الشخص عارفا بالأوقات و منازل القمر، و كان بحيث لا حائل بينه و بين مطلع الفجر و رصد، فمتى أدرك فهو أول الصبح الذي اعتبره الشارع(2) ، و قد نبّه اللّه تعالى عليه بقوله حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ (3).
لو سبق إلى الحلق من غير قصد، لم يفسد صومه، و لا كفّارة فيه - و لو كان للتبرّد أو العبث، وجب عليه القضاء خاصة عند علمائنا - لأنّه في الصلاة فعل مشروعا، فلا تترتّب عليه عقوبة، لعدم التفريط شرعا، و في التبرّد و العبث فرّط بتعريض الصوم للإفساد بإيجاد ضدّه، و هو: عدم الإمساك، فلزمه العقوبة، للتفريط.
و لا كفّارة عليه، لأنّ سماعة سأله عن رجل عبث بالماء يتمضمض به من عطش، فدخل حلقه، قال: «عليه قضاؤه، و إن كان في وضوئه فلا
ص: 79
بأس»(1).
و لم يفصّل العامة، بل قال الشافعي: إن لم يكن بالغ و إنّما رفق فسبق الماء، فقولان: أحدهما: يفطر - و به قال أبو حنيفة و مالك و المزني(2) - لأنّه أوصل الماء إلى جوفه، ذاكرا لصومه، فأفطر، كما لو تعمّد شربه.
و الفرق ظاهر، للمشروعية في المتنازع، و عدمها في الأصل.
و الثاني: لا يفطر، و به قال الأوزاعي و أحمد و إسحاق و أبو ثور، و اختاره الربيع و الحسن البصري(3).
و إن بالغ بأن زاد على ثلاث مرّات، فوصل الماء إلى جوفه، أفطر قولا واحدا(4). و به قال أحمد(5).
و روي عن عبد اللّه بن عباس: أنّه إن توضّأ لمكتوبة، لم يفطر، و إن كان لنافلة، أفطر، و به قال النخعي(6).
و في الصحيح عن الحلبي عن الصادق عليه السلام، في الصائم يتوضّأ للصلاة، فيدخل الماء حلقه، قال: «إن كان وضوؤه لصلاة فريضة، فليس عليه قضاء، و إن كان وضوؤه لصلاة نافلة، فعليه القضاء»(7).
و نحن نتوقّف في هذه الرواية.9.
ص: 80
و عليه قضاء ذلك اليوم إذا عاد إلى الإسلام، سواء أسلم في أثناء اليوم أو بعد انقضائه، و سواء كانت ردّته باعتقاد ما يكفر به، أو بشكّه فيما يكفر بالشك فيه، أو بالنطق بكلمة الكفر، مستهزئا أو غير مستهزئ.
قال اللّه تعالى وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنّا نَخُوضُ وَ نَلْعَبُ قُلْ أَ بِاللّهِ وَ آياتِهِ وَ رَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ. لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ (1).
لأنّ الصوم عبادة من شرطها النيّة، فأبطلتها الردّة، كالصلاة و الحجّ، و لأنّه عبادة محضة، فنافاها الكفر كالصلاة.
و قد مضى جزء من النهار، فالأقوى أنّه يفطر - و به قال الشافعي و أبو ثور و أصحاب الرأي و أحمد في أظهر الروايتين(2) - لأنّ الصوم عبادة من شرطها النية، ففسدت بنية الخروج منها كالصلاة.
و لأنّ الأصل اعتبار النية في جميع أجزاء العبادة، لكن لمّا شقّ اعتبار حقيقة النية، اعتبر بقاء حكمها، و هو: ان لا ينوي قطعها، فإذا نواه، زالت حقيقة و حكما، ففسد الصوم، لزوال شرطه، لأنّه نوى الإفطار في جزء من النهار و قد قال عليه السلام: (إنّما الأعمال بالنيات و إنّما لكلّ امرئ ما نوى)(3) فيتحقّق الإفطار في ذلك الجزء، و الصوم لا يقبل التبعيض، فكان مفطرا.
و الرواية الثانية عن أحمد: أنّه لا يفسد صومه، لأنّه عبادة يلزم المضيّ
ص: 81
في فاسدها، فلم تفسد بنية الخروج منها كالحجّ(1).
و هو غير مطّرد في غير رمضان. و القياس باطل، لأنّ الحجّ يصحّ بالنية المطلقة و المبهمة و بالنية عن غيره إذا لم يكن حجّ عن نفسه، فافترقا.
و لو عاد بعد أن نوى الإفطار و لم يفطر فنوى الصوم، فإن كان ذلك بعد الزوال، لم يصح عوده إجماعا، لفوات محلّ النية.
و إن كان قبله، أجزأه على قول بعض علمائنا(2) - و به قال أبو حنيفة(3) - لأنّ الصوم يصح بنية من النهار.
و أمّا صوم النافلة، فإن نوى الفطر ثم لم ينو الصوم بعد ذلك، لم يصح صومه، لأنّ النية انقطعت و لم توجد نية غيرها، فأشبه من لم ينو أصلا.
و إن عاد فنوى الصوم، صحّ صومه، كما لو أصبح غير ناو للصوم، لأنّ نية الفطر إنّما أبطلت الفرض، لما فيه من قطع النية المشترطة في جميع النهار حكما، و خلوّ بعض أجزاء الزمان عنها، و النفل بخلاف الفرض في ذلك، فلم تمنع صحته نية الفطر في زمن لا يشترط وجود نية الصوم فيه.
و لأنّ نية الفطر لا تزيد على عدم النية في ذلك الوقت، و عدمها لا يمنع صحة الصوم بعده، بخلاف الواجب، فإنّه لا تصحّ نيته من النهار.
و الأصل فيه أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله، كان يسأل أهله هل من غذاء؟ فإن قالوا: لا، قال: (إنّي إذن لصائم)(4).
فالأقرب: أنّه بخلاف نية
ص: 82
الفطر في وقته، خلافا لبعض العامة(1).
و لو تردّد في الفطر، فإشكال ينشأ من عدم الجزم بالصوم في زمان التردّد.
و من انعقاد الصوم قبله، و التردّد ليس من المفطرات.
و لو نوى أنّي إن وجدت طعاما أفطرت، و إن لم أجد أتممت صومي، فوجهان: الفطر، لانتفاء الجزم، و لهذا لا يصح ابتداء النية بمثل هذا.
و الثاني: لا يفطر، لأنّه لم ينو الفطر بنية صحيحة، فإنّ النية لا يصحّ تعليقها على شرط، و لذلك لا ينعقد الصوم بمثل هذه النية.
ثم تجدّد عذر مسقط للصوم - كجنون أو مرض أو حيض أو نفاس - في أثناء النهار، فالوجه عندي: سقوط الكفّارة - و هو قول بعض علمائنا(2) ، و قول أصحاب الرأي و الثوري و الشافعي في أحد القولين(3) - لأنّه زمان لا يصحّ الصوم فيه، فيستحيل من اللّه تعالى، العالم به الحكيم، الأمر بصومه، و إلاّ لزم تكليف ما لا يطاق، فيكون فعل المفطر قد صادف ما لا يصح صومه، فأشبه ما لو صادف الليل، و كما لو قامت البيّنة أنّه من شوّال.
و القول الثاني لعلمائنا و للشافعي و أحمد في الرواية الأخرى: إنّه تجب عليه الكفّارة - و به قال مالك و ابن أبي ليلى و إسحاق و أبو ثور و داود - لأنّ هذه الأعذار معان طرأت بعد وجوب الكفّارة، فلم تسقطها، كالسفر.
و لأنّه أفسد صوما واجبا في رمضان بجماع و شبهه، فاستقرّت الكفّارة عليه، كما لو لم يطرأ عذر(4).
و نمنع وجوب الكفّارة، و نمنع وجوب الصوم في نفس الأمر، و وجوبه في
ص: 83
اعتقادنا غير مفيد إذا ظهر بطلان الاعتقاد.
و قال زفر: تسقط بالحيض و الجنون، دون المرض و السفر(1).
و قال بعض أصحاب مالك: تسقط بالسفر، دون المرض و الجنون(2).
إذا عرفت هذا، فلو أفطر ثم سافر سفرا ضروريّا، فهو كالعذر المتجدّد من جنون أو حيض.
و لو سافر سفرا اختياريّا، فإن لم يقصد به زوال الكفّارة عنه، فالأقرب:
أنّه كالعذر، و إن قصد به إسقاط الكفّارة، لم تسقط، و إلاّ لزم إسقاط الكفّارة عن كلّ مفطر باختياره، و الإقدام على المحرّمات.
كما لو زنى في نهار رمضان، أو شرب خمرا، أو أكل (لحم خنزير)(3) فالأقوى: أنّ الواجب كفّارة واحدة يتخيّر فيها، كما لو أفطر بالمحلّل.
و قال بعض علمائنا: تجب به كفّارة الجمع(4) ، و هي: الخصال الثلاث: عتق رقبة و صيام شهرين متتابعين و إطعام ستين مسكينا، و به رواية عن أهل البيت عليهم السلام(5).
و المعتمد: الأول، لأصالة براءة الذمة.
بأن وطأ مرتين مثلا، فإن
ص: 84
كان في رمضانين، تكرّرت الكفّارة إجماعا - إلاّ رواية عن أبي حنيفة(1) - سواء كفّر عن الأول أو لا.
و لو كرّر في يومين من رمضان واحد، وجبت عليه كفّارتان، سواء كفّر عن الأول أو لم يكفّر عند علمائنا أجمع - و به قال الشافعي و مالك و الليث و ابن المنذر، و هو قول عطاء و مكحول(2) - لأنّ كلّ فعل من هذين الفعلين لو انفرد، لاستقلّ بإيجاب الكفّارة، فكذا حالة الاجتماع، لأصالة بقاء الحقيقة على ما كانت عليه.
و لأنّ كلّ واحد من الذنبين سبب في إيجاب عقوبة الكفّارة، فعند الاجتماع يبقى الحكم بطريق الأولى، لزيادة الذنب.
و لأنّ كلّ يوم عبادة قد هتكت، و هي منفردة عن العبادة الأخرى لا تتّحد صحتها مع صحة ما قبلها و لا ما بعدها، و لا بطلانها مع بطلانها، فلا يتّحد أثر السببين فيهما.
و لأنّ أحد الأمرين لا يتّحد مع الآخر، و هو القضاء، فكذا الأمر الآخر.
و قال أبو حنيفة: إن لم يكفّر عن الأول فكفّارة واحدة، و إن كفّر فروايتان، إحداهما: أنّها كفّارة واحدة أيضا - و به قال أحمد و الزهري و الأوزاعي - لأنّ الكفّارة تجب على وجه العقوبة، و لهذا تسقط بالشبهة، و هو: إذا ظنّ أنّ الفجر لم يطلع، و ما هذا سبيله تتداخل العقوبة فيه كالحدود(3).
و الفرق: أنّ الحدود عقوبة على البدن، و هذه كفّارة، فاعتبارها بالكفّارات أولى.1.
ص: 85
و لأن الحدود تتداخل في سببين، و هي مبنية على التخفيف، فتنافي التكرار.
و لو كرّر في يوم واحد، قال الشيخ(1) و بعض علمائنا(2): لا تتكرّر الكفّارة - و به قال أبو حنيفة و مالك و الشافعي(3) - لأنّ الوطء الثاني لم يقع في صوم صحيح، فلا يتحقّق الهتك به، فلا تثبت العقوبة.
و لأنّ أحد الأمرين - و هو القضاء - لا يتكرّر، فلا يتكرّر الآخر.
و قال السيد المرتضى رحمه اللّه: تتكرّر الكفّارة(4) ، لأنّ الجماع سبب تام في وجوب الكفّارة، فتتكرّر بتكرّره، عملا بالمقتضي.
و لدلالة الرواية عن الرضا(5) عليه السلام عليه.
و لأنّ الإمساك واجب كرمضان، و الوطء فيه محرّم كحرمة رمضان، فأوجب الكفّارة كالأول.
و نمنع السببية بدون الهتك، و إلاّ لوجب على المسافر.
و الفرق بين تحريم الأول و الثاني ظاهر و إن اشتركا في مطلق التحريم، لصدق الهتك في الأول دون الثاني.
و قال ابن الجنيد من علمائنا: إن كفّر عن الأول كفّر ثانيا، و إلاّ كفّر واحدة عنهما(6) ، و به قال أحمد بن حنبل(7) ، و لا بأس به.3.
ص: 86
و اعلم: أنّ القضاء لا يتكرّر مع اتّحاد اليوم إجماعا.
و لو اختلف السبب في يوم واحد، كما لو جامع و أكل، فيه إشكال ينشأ من تعليق الكفّارة بالجماع و الأكل مطلقا و قد وجدا، فتتكرّر الكفّارة، بخلاف السبب المتّحد، لأنّ التعليق على الماهية المتناولة للواحد و الكثير، و من كون السبب الهتك و إفساد الصوم الصحيح، و هو منتف في الثاني.
فإن كان عن فطرة، قتل من غير أن يستتاب.
و لو نشأ في برّيّة و لم يعرف قواعد الإسلام و لا ما يوجب الإفطار، عرّف و عومل بعد ذلك بما يعامل به المولود على الفطرة.
و لو لم يولد على الفطرة، استتيب، فإن تاب و إلاّ قتل.
و لو اعتقد التحريم، عزّر (فإن عاد، عزّر)(1) فإن عاد، قتل في الثالثة، لأنّ سماعة قال: سألته عن رجل أخذ في شهر رمضان ثلاث مرّات و قد رفع الى الإمام ثلاث مرّات، قال: «فليقتل في الثالثة»(2).
و روي: أنّ الباقر عليه السلام، سئل عن رجل شهد عليه شهود أنّه أفطر من شهر رمضان ثلاثة أيام، قال: «يسأل هل عليك في إفطارك إثم ؟ فإن قال: لا، كان على الإمام أن يقتله، و إن قال: نعم، كان على الإمام أن يؤلمه ضربا»(3).
و قال بعض علمائنا: يقتل في الرابعة(4). و هو أحوط، لأنّ التهجّم على الدم خطر.
ص: 87
إذا ثبت(1) هذا، فإنّما يقتل في الثالثة أو الرابعة على الخلاف لو رفع في كلّ مرّة الى الإمام و عزّر، أمّا لو لم يرفع فإنّه(2) يجب عليه التعزير خاصة و لو زاد على الأربع.
عزّر بخمسين سوطا عند علمائنا، و وجب عليه كفّارتان، إحداهما عنه، و الثانية عنها، و لا كفّارة عليها و لا قضاء، لأنّه سبب تام في صدور الفعل.
و لو طاوعته، عزّر كلّ واحد منهما بخمسة و عشرين سوطا، و وجب على كلّ واحد القضاء و الكفّارة، لأنّ المفضّل بن عمر، سأل الصادق عليه السلام، في رجل أتى امرأته و هو صائم و هي صائمة، فقال: «إن كان استكرهها، فعليه كفّارتان، و إن كانت طاوعته، فعليه كفّارة و عليها كفّارة، و إن كان أكرهها، فعليه ضرب خمسين سوطا نصف الحدّ، و إن كانت طاوعته، ضرب خمسة و عشرين سوطا، و ضربت خمسة و عشرين سوطا»(3).
أفطرت، و لزمها القضاء، لأنّها دفعت عن نفسها الضرر بالتمكين كالمريض، و لا كفّارة(5).
لأنّه أغلظ من الوطء
ص: 88
المباح.
و يشكل: بأنّه لا يلزم من كون الكفّارة مسقطة لأقلّ الذنبين كونها مسقطة لأعلاهما.
في قول عامة الفقهاء(1) ، إلاّ عطاء، فإنّه قال: يأكل بقية يومه(2). و أحمد في رواية(3).
و هو خلاف الإجماع، مع أنّ أحمد قد نصّ على إيجاب الكفّارة على من وطأ ثم كفّر ثم عاد فوطأ في يومه، لأنّ حرمة اليوم لم تذهب، فإذا أوجب الكفّارة على غير الصائم لحرمة اليوم كيف يبيح الأكل!؟(4).
لا يقال: إنّ المسافر إذا قدم و قد أفطر، جاز له الأكل، فليكن هنا مثله.
لأنّا نقول: المسافر كان له الفطر ظاهرا و باطنا، و هذا لم يكن له الفطر في الباطن مباحا، فأشبه من أكل بظنّ أنّ الفجر لم يطلع و قد كان طالعا.
إذا عرفت هذا، فكلّ من أفطر و الصوم لازم له، كالمفطر بغير عذر، و المفطر يظنّ أنّ الفجر لم يطلع و قد كان طالعا، أو يظنّ الغروب فظهر خلافه، أو الناسي لنية الصوم، يلزمهم الإمساك إجماعا.
و الصبي و المجنون و الكافر، إذا زالت أعذارهم في أثناء النهار، يستحب لهم الإمساك باقي النهار من غير وجوب - و به قال جابر بن زيد و ابن مسعود و مالك و الشافعي و أحمد في إحدى الروايتين(5) - للاستصحاب.
ص: 89
و قال أبو حنيفة و الثوري و الأوزاعي و الحسن بن صالح بن حي و العنبري:
يجب الإمساك، لأنّه معنى لو وجد قبل الفجر، لوجب الصيام، فإذا طرأ بعد الفجر، وجب الإمساك، كقيام البيّنة بالرؤية(1). و الفرق ظاهر.
أمّا المسافر إذا قدم و المريض إذا برأ، فإن كان قبل الزوال و لم يتناولا شيئا، وجب الإمساك، و لا قضاء، و إن كان بعد الزوال، وجب القضاء.
و - المسافر و الحائض و المريض يجب عليهم القضاء إذا أفطروا إجماعا، لقوله تعالى فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ (2) و التقدير: فأفطر.
و قالت عائشة: كنّا نحيض على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فنؤمر بقضاء الصوم(3).
و إن أفاق المجنون أو بلغ الصبي أو أسلم الكافر في أثناء النهار، فلا قضاء.
و عن أحمد روايتان(4).3.
ص: 90
تقبيلا و لمسا و ملاعبة حذرا من الوقوع في الوطء، و أجمع العلماء على كراهة التقبيل لذي الشهوة، لما رواه العامة عن عمر بن الخطاب، قال: رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، في المنام، فأعرض عنّي، فقلت له: ما لي ؟ فقال: (إنّك تقبّل و أنت صائم)(1).
و من طريق الخاصة: ما رواه الأصبغ بن نباتة، قال: جاء رجل الى أمير المؤمنين عليه السلام، فقال: يا أمير المؤمنين اقبّل و أنا صائم ؟ فقال له:
«عفّ صومك، فإنّ بدء القتال اللطام»(2).
إذا ثبت هذا، فإنّها تكره لذي الشهوة إذا لم يغلب على ظنّه الإنزال، فإن غلب، فالأقرب أنّها كذلك.
و قال بعض الشافعية: إنّها محرّمة حينئذ(3) ، لأنّه لا يجوز أن يعرّض
ص: 91
الصوم للإفساد.
و الجواب: التعريض للإفساد مشكوك فيه، و لا يثبت التحريم بالشك.
أمّا من يملك إربه كالشيخ الكبير، فالأقرب انتفاء الكراهة في حقّه - و به قال أبو حنيفة و الشافعي(1) - لما رواه العامة أنّ رجلا قبّل امرأته، فأرسلت فسألت النبي صلّى اللّه عليه و آله، فأخبرها النبي عليه السلام، أنّه يقبّل و هو صائم، فقال الرجل: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، ليس مثلنا و قد غفر اللّه له ما تقدّم من ذنبه و ما تأخّر، فغضب النبي صلّى اللّه عليه و آله و قال: (إنّي أخشاكم للّه و أعلمكم بما أتّقي)(2).
و من طريق الخاصة: أنّ الباقر عليه السلام سئل هل يباشر الصائم أو يقبّل في شهر رمضان ؟ فقال: «إنّي أخاف عليه، فليتنزّه عن ذلك، إلاّ أن يثق أن لا يسبقه منيّه»(3).
و ظاهر كلام الشيخ في التهذيب الكراهة مطلقا(4) ، و به قال مالك(5) - و عن أحمد روايتان(6) - لأنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله، أعرض عن عمر بمجرّد القبلة مطلقا(7).
و هو استناد الى منام أو لوجود الشهوة عند عمر.
إذا عرفت هذا، فلو قبّل، لم يفطر إجماعا، فإن أنزل، وجب عليه).
ص: 92
القضاء و الكفّارة عند علمائنا، و به قال أحمد و مالك(1) ، خلافا للشافعي(2) ، و قد سلف(3).
مسألة 52: يكره الاكتحال بما فيه مسك أو صبر(4) أو طعم يصل الى الحلق،
و ليس بمفطر و لا محظور عند علمائنا - و به قال الشافعي و أبو حنيفة(5) - لما رواه العامة عن أبي رافع مولى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، قال: نزل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، خيبر و نزلت معه، فدعا بكحل إثمد(6) ، فاكتحل به في رمضان و هو صائم(7).
و من طريق الخاصة: ما رواه محمد بن مسلم عن الباقر عليه السلام، في الصائم يكتحل، قال: «لا بأس به، ليس بطعام و لا شراب»(8).
و قال أحمد: إن وجد طعمه في حلقه، أفطر، و إلاّ فلا(9). و مثله قال أصحاب مالك(10).
و عن ابن أبي ليلى و ابن شبرمة: أنّ الكحل يفطر الصائم، لأنّه أوصل
ص: 93
الى حلقه ما هو ممنوع من تناوله، فأفطر به، كما لو أوصله من أنفه(1).
و هو غير مفيد، لأنّ الإيصال إلى الحلق غير مفطر(2) ما لم يبتلعه، و لأنّ الوصول من المسام غير مفطر، كما لو دلك رجله بالحنظل، فإنّه يجد طعمه مع عدم الإفطار.
و إنّما كره ما فيه صبر أو مسك أو شبهه، لأنّ سماعة سأله عن الكحل للصائم، فقال: «إذا كان كحلا ليس فيه مسك و ليس له طعم في الحلق، فليس به بأس»(3).
لئلاّ يتضرّر بالضعف، أو ربما أفطر.
و كذا يكره دخول الحمام إن خاف الضعف أو العطش، و إلاّ فلا، لما لا يؤمن معه من الضرر أو الإفطار.
و روى أبو بصير أنّه سأل الصادق عليه السلام، عن الرجل يدخل الحمام و هو صائم، فقال: «ليس به بأس»(4).
و سئل الباقر عليه السلام، عن الرجل يدخل الحمام و هو صائم، فقال:
«لا بأس ما لم يخش ضعفا»(5).
و يكره شمّ الرياحين، و يتأكّد في النرجس، لأنّ للأنف اتّصالا بجوف الدماغ، و يكره الإيصال اليه.
و سئل الصادق عليه السلام: الصائم يشمّ الريحان، قال: «لا، لأنّه
ص: 94
لذّة، و يكره أن يتلذّذ»(1).
و قال محمّد بن العيص(2): سمعت الصادق عليه السلام ينهى عن النرجس، فقلت: جعلت فداك لم ذاك ؟ قال: «لأنّه ريحان الأعاجم»(3).
و كره علي عليه السلام أن يتطيّب الصائم بالمسك(4).
فإن أمن، فلا بأس.
و على التقديرين فلا يفطر بها الصائم عند علمائنا أجمع - و به قال في الصحابة: الحسين بن علي عليهما السلام، و عبد اللّه بن عباس و عبد اللّه بن مسعود و أبو سعيد الخدري و زيد بن أرقم و أمّ سلمة، و في التابعين: سعيد بن المسيّب و الباقر و الصادق عليهما السلام، و سعيد بن جبير و طاوس و القاسم بن محمد و سالم و عروة و الشعبي و النخعي و أبو العالية، و به قال الشافعي و مالك و الثوري و أبو ثور و داود و أصحاب الرأي(5) - لما رواه العامة عن ابن عباس أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله، احتجم و هو صائم محرم(6).
و من طريق الخاصة: ما رواه الحسين بن أبي العلاء - في الصحيح - قال:
سألت الصادق عليه السلام، عن الحجامة للصائم، قال: «نعم إذا لم
ص: 95
يخف ضعفا»(1).
و في الصحيح عن عبد اللّه بن ميمون عن الصادق عليه السلام، قال:
«ثلاثة لا يفطرن الصائم: القيء و الاحتلام و الحجامة، و قد احتجم النبي صلّى اللّه عليه و آله، و هو صائم، و كان لا يرى بأسا بالكحل للصائم»(2).
و لأنّه خارج من ظاهر البدن، فلم يكن مفطرا، كالفصد.
و قال أحمد و إسحاق: يفطر الحاجم و المحجوم(3) - و في الكفّارة عن أحمد روايتان(4) - و اختاره ابن المنذر و محمد بن إسحاق و ابن خزيمة، و كان مسروق و الحسن و ابن سيرين لا يرون للصائم أن يحتجم(5) - لما رواه أحد عشر نفسا عن النبي صلّى اللّه عليه و آله، أنّه قال: (أفطر الحاجم و المحجوم)(6).
و هو محمول على مقاربتهما من الإفطار، للضعف.
و لأنّه منسوخ بما قدّمناه عنه صلّى اللّه عليه و آله(7).
- خلافا للعامة، فإنّهم قالوا: إنّه مفطر(8) - لأنّ ابن يقطين سأل الكاظم عليه السلام، ما تقول
ص: 96
في التلطّف(1) يستدخله الإنسان و هو صائم ؟ فكتب: «لا بأس بالجامد»(2).
و في المائع قولان تقدّما(3).
و يكره بلّ الثوب على الجسد، لاقتضائه اكتناز(4) مسام البدن، فيمنع خروج الأبخرة، و يوجب احتقان الحرارة باطن البدن، فيحتاج معه الى التبريد.
و سأل الحسن الصيقل، الصادق عليه السلام، عن الصائم يلبس الثوب المبلول، فقال: «لا»(5).
و لا بأس أن يستنقع الرجل بالماء، للأصل، لأنّ(6) الحسن بن راشد سأل الصادق عليه السلام عن الحائض تقضي الصلاة ؟ قال: «لا» قلت:
تقضي الصوم ؟ قال: «نعم» قلت: من أين جاء هذا؟ قال: «إنّ أول من قاس إبليس» قلت: فالصائم يستنقع في الماء؟ قال: «نعم» قلت: فيبلّ ثوبا على جسده ؟ قال: «لا» قلت: من أين جاء هذا؟ قال: «من ذاك»(7).
و أمّا المرأة فيكره لها الجلوس في الماء، و لا يبطل صومها، للأصل.
و قال أبو الصلاح من علمائنا: يلزمها القضاء(8) ، لأنّ حنان بن سدير سأل الصادق عليه السلام، عن الصائم يستنقع في الماء، قال: «لا بأس3.
ص: 97
و لكن لا يغمس رأسه، و المرأة لا تستنقع في الماء لأنّها تحمله بقبلها»(1).
و الرواية ضعيفة السند.89
ص: 98
لأنّ التكليف يستدعي العقل، لقبح تكليف غير العاقل.
و لقوله عليه السلام: (رفع القلم عن ثلاثة - و عدّ - المجنون حتى يفيق)(1).
و لا يؤمر بالصوم للتمرين - بخلاف الصبي - إجماعا، لانتفاء التمييز في حقّه.
هذا إذا كان جنونه مطبقا، أمّا لو كان يفيق وقتا يصحّ صومه، و وافق جميع نهار رمضان، وجب عليه صوم ذلك اليوم، لوجود الشرط فيه، و لأنّ صوم كلّ يوم عبادة بنفسها، فلا يؤثّر فيه زوال الحكم عن غيره.
و لو جنّ في أثناء النهار و لو لحظة، بطل صوم ذلك اليوم، و هو ظاهر مذهب الشافعي، و الثاني و هو القديم للشافعي: عدم البطلان(2).
و أمّا المغمى عليه، فإنّه كالمجنون إن استوعب الإغماء النهار،
ص: 99
و سيأتي(1).
و النائم لا يسقط عنه الصوم، فلو نوى من الليل و نام جميع النهار، صحّ صومه.
و قال بعض الشافعية: لا يصح، كما لو أغمي عليه جميع النهار(2).
و الفرق: أنّ الإغماء مخرج عن التكليف.
فلا يجب على الصبي، سواء كان مميّزا أم لا، إلاّ في رواية عن أحمد: أنّه يجب عليه الصوم إذا أطاقه(3).
و يبطل بالإجماع و النص:
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: (رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، و عن المجنون حتى يفيق، و عن النائم حتى يستيقظ) رواه العامة(4).
و من طريق الخاصة: رواية معاوية بن وهب عن الصادق عليه السلام، في كم يؤخذ الصبي بالصيام ؟ فقال: «ما بينه و بين خمس عشرة سنة و أربع عشرة سنة و إن هو صام قبل ذلك فدعه»(5).
و قال الصادق عليه السلام: «على الصبي إذا احتلم الصيام، و على الجارية إذا حاضت الصيام و الخمار»(6).
ص: 100
احتجّ أحمد: بقوله عليه السلام: (إذا أطاق الغلام صيام ثلاثة أيام، وجب عليه صيام شهر رمضان)(1).
و الحديث مرسل، و حمل الوجوب على تأكّد الاستحباب، جمعا بين الأدلّة.
يستحب تمرين الصبي بالصوم إذا أطاقه، و حدّه الشيخ - رحمه اللّه - ببلوغ تسع سنين(2). و تختلف حاله بحسب المكنة و الطاقة.
و لا خلاف بين العلماء في مشروعية ذلك، لأنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله، أمر ولي الصبي بذلك، رواه العامة(3).
و من طريق الخاصة: قول الصادق عليه السلام: «إنّا نأمر صبياننا بالصيام إذا كانوا بني سبع سنين بما أطاقوا من صيام اليوم، فإذا غلبهم العطش أفطروا»(4).
و لاشتماله على التمرين على الطاعات و المنع من الفساد.
و ينوي الندب لأنّه الوجه الذي يقع عليه فعله، فلا ينوي غيره.
و قال أبو حنيفة: إنّه ليس بشرعي، و إنّما هو إمساك عن المفطرات تأديبا(5). و لا بأس به.
و قد ظهر بما قلناه أنّ البلوغ شرط في الوجوب لا في الصحة، و أنّ العقل
ص: 101
شرط فيهما معا.
لما عرف في أصول الفقه: أنّ الكافر مخاطب بفروع العبادات، و الكافر لا يصح منه الصوم، سواء كان كافرا أصليا، أو مرتدّا عن الإسلام، كما لا يصحّ منه سائر العبادات.
و هو شرط معتبر في جميع النهار حتى لو طرأت ردّة في أثناء النهار، بطل الصوم، لأنّه لا يعرف اللّه تعالى، فلا يصحّ أن يتقرّب اليه.
و لأنّ شرط صحة الصوم النية، و لا يصحّ وقوعها منه، و فوات الشرط يستلزم فوات المشروط.
روى العامة عن عائشة قالت: كنّا نحيض على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فنؤمر بقضاء الصوم و لا نؤمر بقضاء الصلاة(1).
و من طريق الخاصة: رواية أبي بصير، قال: سألت الصادق عليه السلام، عن امرأة أصبحت صائمة في شهر رمضان، فلمّا ارتفع النهار، حاضت، قال: «تفطر»(2).
و لو وجد الحيض في آخر جزء من النهار، فسد صوم ذلك اليوم إجماعا.
و لو أمسكت الحائض و نوت الصوم مع علمها بالتحريم، لم ينعقد صومها، و كانت مأثومة عليه، و يجب عليها القضاء إجماعا.
أحدهما: أنّه يفسد
ص: 102
صومه بزوال عقله، و هو قول الشيخ أبي جعفر(1) رحمه اللّه، و أكثر علمائنا(2) ، و أحد أقوال الشافعي(3) ، و هو المعتمد، لأنّه بزوال عقله سقط التكليف عنه وجوبا و ندبا، فلا يصحّ منه الصوم مع سقوطه.
و لأنّ كلّ ما يفسد الصوم إذا وجد في جميعه، أفسده إذا وجد في بعضه، كالجنون و الحيض.
و لقول الصادق عليه السلام: «كلّما غلب اللّه عليه فليس على صاحبه شيء»(4).
و القول الثاني لعلمائنا: إنّه إن سبقت منه النية، صحّ صومه، و كان باقيا عليه، اختاره المفيد(5) رحمه اللّه، و هو ثاني أقوال الشافعي(6).
و ثالث الأقوال: إنّه إن أفاق في أوله أو وسطه أو آخره، صحّ صومه، و إلاّ فلا.(7)
و قال مالك: إن أفاق قبل الفجر و استدام حتى يطلع الفجر، صحّ صومه، و إلاّ فلا(8).
و قال أحمد: إذا أفاق في جزء من النهار، صحّ صومه(9).
و قال أبو حنيفة و المزني: يصحّ صومه و إن لم يفق في شيء منه، لأنّ6.
ص: 103
النية قد صحّت، و زوال الشعور بعد ذلك لا يمنع من صحّة الصوم كالنوم(1).
و الفرق: أنّ النوم جبلّة و عادة، و لا يزيل العقل، و الإغماء عارض يزيل العقل، فأشبه الجنون، فكان حكمه حكمه.
و أمّا السكران و شارب المرقد فلا يسقط عنه الفرض، لأنّ الجناية من نفسه، فلا يسقط الفرض بفعله، و كذا النائم.
كالصلاة و شبهها، إذا فعلت ما تفعله المستحاضة.
و يجب عليها الصوم، و يصحّ منها مع فعل الأغسال إن وجبت عليها، لقول الصادق عليه السلام في المستحاضة: «تصوم شهر رمضان إلاّ الأيام التي كانت تحيض فيهن ثم تقضيها بعد»(2).
و لو أخلّت المستحاضة بالأغسال مع وجوبها عليها، لم ينعقد صومها، و تقضيه، لفوات شرطه، و لا تجب عليها الكفّارة، لأصالة البراءة.
و إنّما يعتبر الغسل في صحة الصوم في حقّ من يجب عليها الغسل، كالمستحاضة الكثيرة الدم، أمّا التي لا يظهر دمها على الكرسف، فإنّه لا يعتبر في صومها غسل و لا وضوء.
و أمّا كثير الدم التي يجب عليها غسل واحد، فإذا أخلّت به، بطل صومها.
و التي يجب عليها الأغسال الثلاثة لو أخلّت بغسلي النهار أو بأحدهما، بطل صومها.
و لو أخلّت بالغسل الذي للعشاءين، فالأقرب صحة صومها، لأنّ هذا
ص: 104
الغسل إنّما يقع بعد انقضاء صوم ذلك اليوم.
فلا يصحّ الصوم الواجب في السفر إلاّ ما نستثنيه، عند علمائنا - و به قال أهل الظاهر و أبو هريرة(1) - لقوله تعالى فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ (2) أوجب عوض رمضان عدّة أيام غيره للمسافر، و إيجابها يستلزم تحريم صوم رمضان، لأنّه لا يصحّ صومه، و يجب قضاؤه إجماعا.
و ما رواه العامة عن النبي صلّى اللّه عليه و آله، أنّه قال: (ليس من البرّ الصيام في السفر)(3).
و قال عليه السلام. (الصائم في السفر كالمفطر في الحضر)(4).
و من طريق الخاصة: قول معاوية بن عمّار: سمعته يقول: «إذا صام الرجل رمضان في السفر لم يجزئه، و عليه الإعادة»(5).
و قال الصادق عليه السلام: «لم يكن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، يصوم في السفر في شهر رمضان و لا غيره»(6).
أمّا الندب ففي صحته في السفر قولان: أشهرهما: الكراهة، لأنّ أحمد بن محمد سأل أبا الحسن عليه السلام عن الصيام بمكّة و المدينة و نحن سفر، قال: «فريضة ؟» فقلت: لا و لكنّه تطوّع كما يتطوّع بالصلاة،
ص: 105
فقال: «تقول اليوم و غدا؟» قلت: نعم، فقال: «لا تصم»(1) و أقلّ مراتب النهي الكراهة.
فإنّه يجب صومه و إن كان مسافرا، لقوله تعالى وَ الْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا (2) و للرواية(3).
لقوله تعالى فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ فِي الْحَجِّ (4).
و عجز عن البدنة.
و من عزم على مقام عشرة أيام، أو كان سفره معصية.
و قد تقدّم ذلك كلّه في كتاب الصلاة.
و أمّا ما عدا ذلك فيحرم صومه في السفر، لأنّ عمّار الساباطي سأل الصادق عليه السلام، عن الرجل يقول: للّه عليّ أن أصوم شهرا أو أكثر من ذلك أو أقلّ، فعرض له أمر لا بدّ له أن يسافر، أ يصوم و هو مسافر؟ قال: «إذا سافر فليفطر، لأنّه لا يحلّ له الصوم في السفر فريضة كان أو غيره، و الصوم في السفر معصية»(5).
و هو نص في الباب، و عمّار و إن كان فطحيا إلاّ أنّه ثقة اعتمد الشيخ - رحمه اللّه - على روايته في مواضع.
ص: 106
و هو مستثنى من كراهة صوم النافلة سفرا، لضرورة السفر و المحافظة على الصوم في ذلك الموضع.
روى معاوية بن عمار - في الصحيح - عن الصادق عليه السلام، قال:
«إن كان لك مقام بالمدينة ثلاثة أيام، صمت أول [يوم](1) يوم الأربعاء و تصلّي ليلة الأربعاء عند أسطوانة أبي لبابة - و هي الأسطوانة التي كان يربط إليها نفسه حتى ينزل عذره من السماء - و تقعد عندها يوم الأربعاء، ثم تأتي ليلة الخميس [الأسطوانة](2) التي تليها ممّا يلي مقام النبي صلّى اللّه عليه و آله، ليلتك و يومك، و تصوم يوم الخميس، ثم تأتي الأسطوانة التي تلي مقام النبي صلّى اللّه عليه و آله و مصلاّه ليلة الجمعة، فتصلّي عندها ليلتك و يومك، و تصوم يوم الجمعة، و إن استطعت أن لا تتكلّم بشيء في هذه الأيّام إلاّ ما لا بدّ لك منه و لا تخرج من المسجد إلاّ لحاجة و لا تنام في ليل و لا نهار، فافعل فإنّ ذلك ممّا يعدّ فيه الفضل»(3) الحديث.
إمّا بزيادة أو استمرار أو منع برئه لا يجوز له الصوم، فإن تكلّفه و صام، لم يصح، لأنّه منهي عنه بقوله تعالى فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ (4) و النهي في العبادات(5) يدلّ على الفساد.
و لو قدر على الصوم و لا ضرر عليه بسببه البتة، وجب عليه الصوم.
و قد اضطرب
ص: 107
قول الشافعي فيه، و أثبت الأصحاب(1) في المسألة له طريقين: إثبات الخلاف و نفيه.
أمّا المثبتون للخلاف فلهم طرق، أظهرها: أنّ المسألة على ثلاثة أقوال، أصحّها: أنّه إذا كان مفيقا في أول النهار(2) ، صحّ صومه - و به قال أحمد - لاقتضاء الدليل اشتراط النية مقرونة بجميع أجزاء العبادة، إلاّ أنّ الشرع لم يشترط ذلك، و اكتفى بتقديم العزم، دفعا للعسر، فلا بدّ و أن يقع المعزوم عليه بحيث يتصوّر القصد، و إمساك المغمى عليه لم يقع مقصودا، فإذا استغرق الإغماء، امتنع التصحيح، و إذا وجدت الإفاقة في لحظة، أتبعنا زمان الإغماء زمان الإفاقة.
و الثاني: اشتراط الإفاقة في أول النهار - و به قال مالك - لأنّها حالة الشروع في الصوم، فينبغي أن تجتمع فيه صفات الكمال، و لهذا خصّ أول الصلاة باشتراط النية فيه(3).
و الطريق الثاني: أنّه ليس في المسألة إلاّ قولان: الأول و الثاني.
و الثالث(4): أنّ المسألة على خمسة أقوال: هذه الثلاثة و قولان آخران:
أحدهما ما ذكره المزني، و هو: أنّه إذا نوى من الليل، صحّ صومه و إن استغرق الإغماء جميع النهار كالنوم. و خرّجه من النوم. و به قال أبو حنيفة.
و الثاني: أنّه تشترط الإفاقة في طرفي النهار وقت طلوع الشمس و غروب الشمس، لأنّ الصلاة لمّا اعتبرت النية فيها و لم تعتبر في جميعها اعتبرت فيث.
ص: 108
طرفيها، كذلك حكم الإفاقة في الصوم.
و أمّا النافون للخلاف، فلهم طريقان:
أحدهما: أنّ المسألة على قول واحد، و هو: اشتراط الإفاقة في أول النهار.
و أظهرهما: أنّ المسألة على قول واحد، و هو: اشتراط الإفاقة في جزء من النهار(1).
و لو نوى من الليل ثم شرب مرقدا فزال عقله نهارا، فالأقرب: وجوب القضاء.
و رتّب الشافعية ذلك على الإغماء، فإن قالوا: لا يصحّ الصوم في الإغماء، فهنا أولى، و إن قالوا: يصحّ، فوجهان، و الأصحّ عندهم: وجوب القضاء، لأنّه بفعله(2).
و لو شرب المسكر ليلا و بقي سكره في جميع النهار، فعليه القضاء، و إن بقي بعض النهار ثم صحا، فهو كالإغماء في بعض النهار عند الشافعية(3).
و يكاد يلحقه بالبهائم.
حتى لا يبقى في دفعه اختيار.
و العقل معه كالشيء المستور الذي يسهل الكشف عنه.
ص: 110
للنصّ و الإجماع.
قال اللّه تعالى فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَ ابْتَغُوا ما كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَ كُلُوا وَ اشْرَبُوا حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ (1).
و أجمع المسلمون كافة على ذلك.
و لو نذر صوم الليل، لم ينعقد نذره، لأنّه نذر الصوم في الليل و ليس محلا له، فلم يكن الإمساك فيه عبادة شرعية، فلا ينعقد.
و لا فرق بين أن يفرده عن النهار في الصوم أو يضمّه إليه، لأنّه لا يصحّ صومه بانفراده، فلا يصح منضمّا الى غيره، و لا ينعقد صوم النهار حينئذ، لأنّ المجموع لا يصحّ صومه، و لا ينعقد نذره، لأنّه نذر معصية، فلا ينعقد نذر صوم النهار.
فإن صام واحدا منهما أو صامهما، فعل محرّما، و لم يجزئه عن الفرض بإجماع علماء
ص: 111
الأمصار، لما رواه العامة عن أبي هريرة أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، نهى عن صيام يومين: يوم فطر و يوم أضحى(1) ، و النهي يدلّ على التحريم.
و من طريق الخاصة: ما رواه الزهري عن سيد العابدين عليه السلام، قال في حديث طويل ذكر فيه وجوه الصيام: «و أمّا الصوم الحرام فصوم يوم الفطر و يوم الأضحى»(2) الحديث.
لم ينعقد نذره و لم يصر العيد قابلا لإيقاع الصوم فيه باعتبار النذر - و به قال الشافعي(3) - لأنّه محرّم شرعا إجماعا، فلا يصح نذره.
و لأنّه معصية، لأنّه منهي عنه، لقوله عليه السلام: (ألا لا تصوموا هذه الأيام)(4) فلا يتقرّب بالنذر فيه الى اللّه تعالى، لتضادّ الوجهين.
و لقوله عليه السلام: (لا نذر في معصية)(5).
و لأنّه نذر صوما محرّما فلم ينعقد، كما لو نذرت صوم أيام حيضها.
و لأنّ ما لا يصحّ صومه عن النذر المطلق و الكفّارة لا يصحّ عن النذر المعيّن فيه كأيّام الحيض و النفاس.
و قال أبو حنيفة: صومه محرّم، و لو نذره انعقد، و لزمه أن يصوم غيره، و إن صام فيه أجزأه - و لو صام فيه عن نذر مطلق، لم يجزئه - لأنّه نذر صوم يوم مع أهليته للصوم فيه، فانعقد نذره كسائر الأيام(6).
ص: 112
و نمنع أهليته للصوم، لورود النهي عنه(1).
- و هي الحادي عشر من ذي الحجة و الثاني عشر و الثالث عشر - لمن كان بمنى خاصة في الفرض و النفل عند علمائنا.
و قد قال أكثر أهل العلم بأنّه لا يحلّ صيامها تطوّعا(2) ، لأنّ العامة روت عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، أنّه قال: (أيام التشريق أيام أكل و شرب و ذكر اللّه عزّ و جل)(3).
و عن عبد اللّه بن حذافة قال: بعثني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، أيام منى انادي: أيّها الناس إنّها أيام أكل و شرب و بعال(4)(5) ، يعني أيام التشريق.
و من طريق الخاصة: رواية الزهري عن زين العابدين عليه السلام:
«و أما صوم الحرام فصوم يوم الفطر و يوم الأضحى و ثلاثة أيام التشريق»(6).
و أمّا صومها في الفرض: فعندنا أنّه لا يجوز، لما تقدّم من الأخبار من طريق العامة و الخاصة، و به قال أبو حنيفة(7).
و قال مالك: يجوز(8).
ص: 113
و للشافعي قولان: القديم: الجواز، لأنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله، رخّص للمتمتّع إذا لم يجد الهدي و لم يصم الثلاثة في العشر أن يصوم أيام التشريق. و الجديد: التحريم(1).
و اعلم: أنّ بعض الشافعية خصّ جواز صومها بالمتمتّع في بدل الهدي، و منع غيره، لأنّ النهي عام، و الرخصة وردت في حقّ المتمتّع خاصة، و هو قول أكثرهم(2).
و قال بعضهم: إنّه يجوز صومها لغيره، لأنّ تجويز صومها للمتمتّع إنّما كان لأنّه صوم له سبب، فيجوز مثل هذا الصوم لكلّ أحد، دون التطوّعات المحضة(3).
لم يحرم صوم أيام التشريق عليه، لأنّ معاوية بن عمّار سأل الصادق عليه السلام، عن الصائم(4) أيام التشريق، فقال: «أمّا بالأمصار فلا بأس به، و أمّا بمنى فلا»(5).
فيه إشكال.
لأنّه صوم محرّم، و ان كان بغيرها، صحّ.
فإن فاته صوم هذه، فليصم يوم الحصبة - و هو يوم النفر - و يومان
ص: 114
بعده متواليات(1).
و يشكل: بأنّ يوم الحصبة من جملة أيام التشريق.
ص: 116
أقسام الصوم أربعة:
واجب و مندوب و مكروه و محظور فالواجب من الصوم ستة: شهر رمضان و الكفّارات و دم المتعة و النذر و شبهه، و الاعتكاف على وجه، و قضاء الواجب، فهنا مطالب:
و فيه مباحث:
يعلم دخول شهر رمضان و غيره من الشهور بأحد أمور ثلاثة: إمّا رؤية الهلال أو الإخبار أو الحساب.
و علامة على دخوله.
قال اللّه تعالى يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنّاسِ وَ الْحَجِّ (1) دلّ على أنّه تعالى اعتبر الأهلّة في تعرّف أوقات الحجّ و غيره ممّا
ص: 117
يعتبر فيه الوقت.
و أجمع المسلمون من عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، الى زماننا هذا على اعتبار الهلال و الترائي له، و التصدّي لإبصاره، و قد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يتصدّى لرؤيته و يتولاّها(1).
و شرّع عليه السلام قبول الشهادة(2) عليه، و الحكم في من شهد بذلك في مصر من الأمصار، و من جاء بالخبر من خارج المصر، و حكم المخبر به في الصحو، و خبر من شهد برؤيته مع العوارض، و ذلك يدلّ على أنّ رؤية الهلال أصل من أصول الدين معلوم ضرورة من شرع الرسول عليه السلام، و الأخبار متواترة بذلك، و لا نعلم فيه خلافا.
و قد سئل الصادق عليه السلام عن الأهلّة، فقال: «هي أهلّه الشهور، فإذا رأيت الهلال فصم، و إذا رأيته فأفطر»(3).
و إن كان واحدا انفرد برؤيته، سواء كان عدلا أو غير عدل، شهد عند الحاكم أو لم يشهد، قبلت شهادته أو ردّت، ذهب إليه علماؤنا أجمع - و به قال مالك و الليث و الشافعي و ابن المنذر و أصحاب الرأي(4) - لما رواه العامّة عن النبي صلّى اللّه عليه و آله، أنّه قال: (صوموا لرؤيته و أفطروا لرؤيته)(5) و تكليف الرسول صلّى اللّه عليه
ص: 118
و آله كما يتناول الواحد يتناول الجميع و بالعكس.
و من طريق الخاصة: قول الصادق عليه السلام و قد سئل عن الأهلّة:
«هي أهلّه الشهور، فإذا رأيت الهلال فصم، و إذا رأيته فأفطر»(1).
و لأنّه يتيقّن أنّه من رمضان، فلزمه صومه، كما لو حكم به الحاكم.
و لأنّ الرؤية أبلغ في باب العلم من الشاهدين، بل الشاهدان يفيدان الظنّ، و الرؤية تفيد القطع، فإذا تعلّق حكم الوجوب بأضعف الطريقين فبالأقوى أولى.
و قال عطاء و الحسن و ابن سيرين و إسحاق: إذا انفرد الواحد برؤية الهلال، لا يصوم - و عن أحمد روايتان(2) - لأنّه يوم محكوم به من شعبان، فأشبه التاسع و العشرين(3).
و نمنع الحكم بكونه من شعبان في حق الرائي، لأنّه يتيقّن أنّه من شهر رمضان، فلزمه صيامه كالعدل.
إذا ثبت هذا، فإن أفطر هذا المنفرد، وجب عليه الكفّارة عند علمائنا أجمع، لأنّه أفطر يوما من رمضان، فوجب عليه الكفّارة، كما لو قبلت شهادته.
و قال أبو حنيفة: لا تجب عليه الكفّارة، لأنّها عقوبة، فلا تجب بفعل مختلف فيه كالحدّ(4).0.
ص: 119
و نمنع كون الكفّارة عقوبة، و ينتقض قياسه بوجوب الكفّارة في السفر القصير مع وقوع الخلاف فيه.
و تطلّبه، ليحتاطوا بذلك لصيامهم، و يسلموا من الاختلاف.
و قد روى العامّة أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله، قال: (أحصوا هلال شعبان لرمضان)(1).
و من طريق الخاصة: ما روي عن الباقر عليه السلام، قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من ألحق في شهر رمضان يوما من غيره متعمّدا، فليس يؤمن باللّه و لا بي»(2).
و لأنّ الصوم واجب في أول رمضان، و كذا الإفطار في العيد، فيجب التوصّل إلى معرفة وقتهما، لأنّ ما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب.
لأنّه انتقال من زمان الى آخر، فاستحبّ فيه الدعاء بطلب الخير فيه.
روى العامّة أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله، كان يقول إذا رأى الهلال:
(اللّه أكبر، اللّهم أهلّه علينا بالأمن و الإيمان، و السلامة و الإسلام، و التوفيق لما تحبّ و ترضى، ربّي و ربّك اللّه)(3).
و من طريق الخاصة: قول الباقر عليه السلام: «إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، كان إذا أهلّ شهر رمضان، استقبل القبلة، و رفع يديه، و قال:
اللّهم أهلّه علينا بالأمن و الإيمان، و السلامة و الإسلام، و العافية المجلّلة(4) ،
ص: 120
و الرزق الواسع، و دفع الأسقام، اللّهم ارزقنا صيامه و قيامه و تلاوة القرآن فيه، اللّهم سلّمه لنا، و تسلّمه منّا، و سلّمنا فيه»(1).
و كان أمير المؤمنين عليه السلام، إذا أهلّ هلال رمضان أقبل الى القبلة، و قال: «اللّهم أهلّه علينا بالأمن و الإيمان، و السلامة و الإسلام، و العافية المجلّلة، اللّهم ارزقنا صيامه و قيامه و تلاوة القرآن فيه، اللّهم تقبّله لنا، و تسلّمه منّا، و سلّمنا فيه»(2).
و كان عليه السلام أيضا يقول: «إذا رأيت الهلال، فلا تبرح و قل:
اللّهم إنّي أسألك خير هذا الشهر و فتحه و نوره و نصره و بركته و طهوره و رزقه، أسألك خير ما فيه و خير ما بعده، و أعوذ بك من شرّ ما فيه و شرّ ما بعده، اللّهم أدخله علينا بالأمن و الإيمان، و السلامة و الإسلام، و البركة و التقوى، و التوفيق لما تحبّ و ترضى»(3).
و كان من قول أمير المؤمنين عليه السلام أيضا عند رؤية الهلال: «أيّها الخلق المطيع، الدائب(4) السريع، المتردّد في فلك التدوير(5) ، المتصرّف في منازل التقدير، آمنت بمن نوّر بك الظلم، و أضاء بك البهم، و جعلك آية من آيات سلطانه، و امتهنك(6) بالزيادة و النقصان و الطلوع و الأفول، و الإنارة و الكسوف، في كلّ ذلك أنت له مطيع، و الى إرادته سريع، سبحانه ما أحسن5.
ص: 121
ما دبّر، و أتقن ما صنع في ملكه، و جعلك اللّه [هلال](1) شهر حادث لأمر حادث، جعلك اللّه هلال أمن و أمان، و سلامة و إسلام، هلال أمن(2) من العاهات، و سلامة من السيّئات، اللّهم اجعلنا أهدى من طلع عليه، و أزكى من نظر اليه، و صلّ على محمد و آله، و افعل بي كذا و كذا يا أرحم الراحمين»(3).
فإن تقاربت البلدان كبغداد و الكوفة، كان حكمهما واحدا: يجب الصوم عليهما معا، و كذا الإفطار، و إن تباعدتا كبغداد و خراسان و الحجاز و العراق، فلكلّ بلد حكم نفسه، قاله الشيخ(4) رحمه اللّه، و هو المعتمد، و به قال أبو حنيفة، و هو قول بعض الشافعية، و مذهب القاسم و سالم و إسحاق(5) ، لما رواه كريب أنّ أمّ الفضل بنت الحارث بعثته إلى معاوية بالشام، قال: قدمت الشام فقضيت بها حاجتي و استهلّ عليّ رمضان، فرأينا الهلال ليلة الجمعة، ثم قدمت المدينة في آخر الشهر، فسألني عبد اللّه بن عباس و ذكر الهلال، فقال:
متى رأيتم الهلال ؟ فقلت: ليلة الجمعة، فقال: أنت رأيته ؟ قلت: نعم و رآه الناس و صاموا و صام معاوية، فقال: لكنّا رأيناه ليلة السبت، فلا نزال نصوم حتى نكمل العدّة أو نراه، فقلت: أو لا تكتفي برؤية معاوية و صيامه ؟ قال: لا، هكذا أمرنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله(6).
ص: 122
و لأنّ البلدان المتباعدة تختلف في الرؤية باختلاف المطالع و الأرض كرة، فجاز أن يرى الهلال في بلد و لا يظهر في آخر، لأنّ حدبة(1) الأرض مانعة من رؤيته، و قد رصد ذلك أهل المعرفة، و شوهد بالعيان خفاء بعض الكواكب القريبة لمن جدّ في السير نحو المشرق و بالعكس.
و قال بعض الشافعية: حكم البلاد كلّها واحد، متى رئي الهلال في بلد و حكم بأنّه أول الشهر، كان ذلك الحكم ماضيا في جميع أقطار الأرض، سواء تباعدت البلاد أو تقاربت، اختلفت مطالعها أو لا - و به قال أحمد بن حنبل و الليث بن سعد(2) ، و بعض علمائنا - لأنّه يوم من شهر رمضان في بعض البلاد للرؤية، و في الباقي بالشهادة، فيجب صومه، لقوله تعالى فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ (3).
و قوله عليه السلام: (فرض اللّه صوم شهر رمضان)(4) و قد ثبت أنّ هذا اليوم منه.
و لأنّ الدّين يحلّ به، و يقع به النذر المعلّق عليه.
و لقول الصادق عليه السلام: «فإن شهد أهل بلد آخر فاقضه»(5).
و قال عليه السلام، في من صام تسعة و عشرين، قال: «إن كانت له بيّنة عادلة على أهل مصر أنّهم صاموا ثلاثين على رؤية، قضى يوما»(6).
و لأنّ الأرض مسطّحة، فإذا رئي في بعض البلاد عرفنا أنّ المانع في3.
ص: 123
غيره شيء عارض، لأنّ الهلال ليس بمحل الرؤية.
و نمنع كونه يوما من رمضان في حق الجميع، فإنه المتنازع، و لا نسلّم التعبّد بمثل هذه الشهادة، فإنّه أول المسألة.
و قول الصادق عليه السلام محمول على البلد المقارب لبلد الرؤية، جمعا بين الأدلّة.
و نمنع تسطيح الأرض، بل المشهور: كرؤيتها.
أ - اختلفت الشافعية في الضابط لتباعد البلدين، فبعضهم اعتبر مسافة القصر(1).
و قال بعضهم: الاعتبار بمسافة يظهر في مثلها تفاوت في المناظر، فقد يوجد التفاوت مع قصور المسافة عن مسافة القصر، للارتفاع و الانخفاض، و قد لا يوجد مع مجاوزتها لها، و هذا لا قائل به(2).
و بعضهم اعتبر ما قلناه و ضبطوا التباعد: بأن يكون بحيث تختلف المطالع، كالحجاز و العراق، و التقارب: بأن لا تختلف، كبغداد و الكوفة(3).
و منهم من اعتبر اتّحاد الإقليم و اختلافه(4).
ب - لو شرع في الصوم في بلد ثم سافر الى بلد بعيد لم ير الهلال فيه في يومه الأول،
فإن قلنا: لكلّ بلدة حكمها، فهل يلزمه أن يصوم معهم أم(5) يفطر؟ وجهان: أحدهما: أنّه يصوم معهم - و هو قول بعض الشافعية(6) - لأنّه بالانتقال الى بلدهم أخذ حكمهم، و صار من جملتهم.
و الثاني: أنّه يفطر، لأنّه التزم حكم البلدة الاولى، فيستمرّ عليه، و شبّه
ص: 124
ذلك بمن اكترى دابة لزمه الكراء بنقد البلد المنتقل عنه.
و إن عمّمنا الحكم سائر(1) البلاد، فعلى أهل البلدة المنتقل إليها موافقته إن ثبت عندهم حال البلدة المنتقل عنها إمّا بقوله، لعدالته، أو بطريق آخر، و عليهم قضاء اليوم الأول.
ج - لو سافر من البلدة التي يرى(2) فيها الهلال ليلة الجمعة إلى التي يرى(3) فيها الهلال ليلة السبت،
و رئي هلال شوّال ليلة السبت، فعليهم التعييد معه و إن لم يصوموا إلاّ ثمانية و عشرين يوما، و يقضون يوما.
و على قياس الوجه الأول لا يلتفتون الى قوله: رأيت الهلال، و إن قبل في الهلال قول عدل.
و على عكسه لو سافر من حيث لم ير فيه الهلال الى حيث رئي، فيعيّدوا التاسع و العشرين من صومه، فإن(4) عمّمنا الحكم، و قلنا: حكمه حكم البلد المنتقل اليه، عيّد معهم، و قضى يوما، و إن لم نعمّم الحكم و قلنا: إنّه بحكم البلد المنتقل عنه، فليس له أن يفطر.
د - لو رئي الهلال في بلد، فأصبح الشخص معيّدا،
و سارت به السفينة، و انتهى الى بلدة على حدّ البعد، فصادف أهلها صائمين، احتمل أن يلزمه إمساك بقية اليوم حيث قلنا: إنّ كلّ بلدة لها حكمها، و عدمه، لأنّه لم يرد فيه أثر، و يجزئه اليوم الواحد، و إيجاب إمساك بعضه بعيد.
و لو انعكس الحال، فأصبح الرجل صائما، و سارت به السفينة الى حيث عيّدوا، فإن عمّمنا الحكم أو قلنا: إنّ حكمه حكم البلدة المنتقل إليها، أفطر، و إلاّ فلا.
و إذا أفطر، قضى يوما، لأنّه لم يصم إلاّ ثمانية و عشرين يوما.ق.
ص: 125
مسألة 77: إذا رئي الهلال يوم الثلاثين، فهو للمستقبلة(1) ،
سواء رئي قبل الزوال أو بعده، فإن كان هلال رمضان، لم يلزمهم صيام ذلك اليوم، و إن كان هلال شوّال، لم يجز لهم الإفطار إلاّ بعد غروب الشمس، عند علمائنا أجمع - و به قال مالك و الشافعي و أبو حنيفة(2) - لما رواه العامة عن أبي وائل منصور بن سلمة(3) ، قال: جاءنا كتاب عمر و نحن بخانقين: أنّ الأهلّة بعضها أكبر من بعض، فإذا رأيتم الهلال في أول النهار، فلا تفطروا(4) حتى تمسوا، إلاّ أن يشهد رجلان مسلمان أنّهما أهلاّه بالأمس عشيّة.
و من طريق الخاصة: ما روى محمد بن عيسى، قال: كتبت اليه عليه السلام: جعلت فداك ربما غمّ(5) علينا هلال شهر رمضان، فيرى من الغد الهلال قبل الزوال، و ربما رأيناه بعد الزوال فترى أن نفطر قبل الزوال إذا رأيناه، أم لا؟ و كيف تأمر في ذلك ؟ فكتب عليه السلام: «تمّم الى الليل، فإنّه إن كان تامّا رئي قبل الزوال»(6).
ص: 126
و قال الباقر عليه السلام: «قال أمير المؤمنين عليه السلام: إذا رأيتم الهلال فأفطروا، أو يشهد عليه عدل من المسلمين، فإن لم تروا الهلال إلاّ من وسط النهار أو آخره، فأتمّوا الصيام الى الليل، فإنّ غمّ عليكم، فعدّوا ثلاثين ثم أفطروا»(1).
و قال الثوري: إن رئي قبل الزوال، فهو للّيلة الماضية، و إن رئي بعده، فهو للمستقبلة(2). و به قال أبو يوسف(3).
و قال أحمد: إن كان في أول شهر رمضان، و كان قبل الزوال، فهو للماضية، و إن كان في هلال شوّال، فروايتان: إحداهما: أنّها كذلك، و الثانية: لمستقبلة، لقوله عليه السلام: (صوموا لرؤيته و أفطروا لرؤيته) و قد رأوه، فيجب الصوم و الفطر.
و لأنّ ما قبل الزوال أقرب الى الماضية(4)المغني 108:3، الشرح الكبير 7:3.(5).
و المراد في الخبر: إذا رأوه عشية، بدليل ما لو رئي بعد الزوال.
و على الرواية التي لأحمد: أنّه عن الماضية في أول رمضان، يلزمه قضاء ذلك اليوم، و إمساك بقيته احتياطا للعبادة(5).
و هو غلط، لأنّ ما كان للّيلة المقبلة في آخره فهو لها في أوله، كما لو رئي بعد العصر.3.
ص: 127
بإجماع علماء الأمصار.
على أنّ للشهادة اعتبارا في رؤية الهلال، و أنّها علامة على الشهر، و إنّما الخلاف وقع في عدد الشهود.
و المشهور عند علمائنا: أنّه لا يقبل في رؤية الهلال في رمضان و غيره إلاّ شهادة رجلين عدلين سواء الصحو و الغيم، و سواء كانا من نفس البلد أو خارجه - و به قال مالك و الليث و الأوزاعي و إسحاق و الشافعي في أحد القولين، و أحمد في إحدى الروايتين(1) - لما رواه العامة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، أنّه قال: (صوموا لرؤيته و أفطروا لرؤيته، فإن غمّ عليكم فعدّوا ثلاثين، فإن شهد ذوا عدل، فصوموا و أفطروا و انسكوا)(2).
و قال عليه السلام: (صوموا لرؤيته و أفطروا لرؤيته، فإن غمّ عليكم فأكملوا شعبان ثلاثين يوما إلاّ أن يشهد شاهدان)(3).
و من طريق الخاصة: قول الصادق عليه السلام: «إنّ عليا عليه السلام قال: لا تقبل شهادة النساء في رؤية الهلال إلاّ شهادة رجلين عدلين»(4).
ص: 128
و لأنّها عبادة فاعتبر عددها بأعمّ الشهادات وقوعا، اعتبارا بالأعمّ الأغلب.
و قال سلاّر من علمائنا: يقبل في أول رمضان شهادة الواحد العدل، و لا يقبل في غيره إلاّ شهادة عدلين(1) - و هو أحد قولي الشافعي، و الرواية الثانية عن أحمد، و قول ابن المبارك(2) - لما رواه العامة عن ابن عباس، قال: جاء أعرابي إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله، فقال: رأيت الهلال، قال: (أ تشهد أن لا إله إلاّ اللّه، و أنّ محمّدا عبده و رسوله ؟) قال: نعم، قال: (يا بلال أذّن في الناس فليصوموا)(3).
و من طريق الخاصة: ما رواه محمد بن قيس عن الباقر عليه السلام، قال: «قال أمير المؤمنين عليه السلام: إذا رأيتم الهلال فأفطروا، أو شهد عليه عدل من المسلمين»(4).
و لأنّ الاحتياط للعبادة يقتضي قبول الواحد.
و لأنّه خبر عن وقت الفريضة فيما طريقه المشاهدة، فقبل من واحد كالخبر بدخول وقت الصلاة.
و لأنّه خبر ديني يشترك فيه المخبر و المخبر، فقبل من واحد عدل كالرواية.
و رواية ابن عباس حكاية حال لا عموم لها، فيحتمل أنّه شهد عند النبي صلّى اللّه عليه و آله شاهد آخر.2.
ص: 129
و يحتمل أن يكون قد حصل بشهادة الأعرابي ظنّ، فأمر النبي صلّى اللّه عليه و آله بالصوم غدا، ليتحفّظوا من الفطر، فربما شهد بعد ذلك في النهار(1) شاهد آخر، فيثبت أنّه من رمضان، فلا ينبغي المبادرة فيه بالإفطار.
و قول أمير المؤمنين عليه السلام، نقول بموجبه، و لا يدلّ على مطلوبهم، لأنّ لفظة «العدل» يصح إطلاقها على الواحد فما زاد، لأنّه مصدر يصدق على القليل و الكثير، تقول: رجل عدل. و رجلان عدل. و رجال عدل. و نمنع قبول خبر الواحد في دخول وقت الصلاة. و الرواية قبل فيها الواحد، للإجماع، فإنّه يشترط في الشهادة ما لا يشترط في الرواية، لعظم خطرها.
و للشيخ - رحمه اللّه تعالى - قولان:
قال في المبسوط: إن كان في السماء علّة و شهد عدلان من البلد أو خارجه برؤيته، وجب الصوم، و إن لم يكن هناك علّة لم يقبل إلاّ شهادة القسامة خمسين رجلا من البلد أو خارجه(2).
و قال في النهاية: إن كان في السماء علة و لم يره جميع أهل البلد و رآه خمسون نفسا، وجب الصوم، و لا يجب الصوم إذا رآه واحد أو اثنان، بل يلزم فرضه لمن رآه حسب، و ليس على غيره شيء.
و متى كان في السماء علّة و لم ير في البلد الهلال و رآه خارج البلد شاهدان عدلان، وجب أيضا الصوم، و إن لم يكن في السماء علّة و طلب فلم ير، لم يجب الصوم إلاّ أن يشهد خمسون نفسا من خارج البلد أنّهم رأوه(3) ، لقول الصادق عليه السلام: «لا تجوز الشهادة في الهلال دون خمسين رجلا عدد القسامة، و إنّما تجوز شهادة رجلين إذا كانا من خارج0.
ص: 130
المصر، و كان بالمصر علّة، فأخبرا أنّهما رأياه، و أخبرا عن قوم صاموا للرؤية»(1).
و سأل إبراهيم بن عثمان الخزاز، الصادق عليه السلام: قلت له: كم يجزئ في رؤية الهلال ؟ فقال: «إنّ شهر رمضان فريضة من فرائض اللّه، فلا تؤدّوا بالتظنّي، و ليس رؤية الهلال أن تقوم عدّة فيقول واحد: رأيته، و يقول الآخرون: لم نره، إذا رآه واحد رآه مائة، و إذا رآه مائة رآه ألف، و لا يجزئ في رؤية الهلال إذا لم يكن في السماء علّة أقلّ من شهادة خمسين، و إذا كانت في السماء علّة قبلت شهادة رجلين يدخلان و يخرجان من مصر»(2).
و لأنّه مع انتفاء العلّة يبعد اختصاص الواحد و الاثنين بالرؤية مع اشتراكهم في صحة الحاسّة، فلم يكن قولهما مؤثّرا.
و نمنع صحة سند الخبرين. و قول الخمسين قد لا يفيد إلاّ الظنّ، و هو ثابت في العدلين.
و قال أبو حنيفة: لا يقبل في الصحو إلاّ الاستفاضة، و في الغيم في هلال شهر رمضان يقبل واحد، و في غيره لا يقبل إلاّ اثنان، لأنّه لا يجوز أن ينظر الى مطلع الهلال مع صحة الحاسّة و ارتفاع الموانع جماعة، فيختص واحد برؤيته(3).
و نحن نقول بموجبه من أنّه لا تقبل شهادة الواحد، و لا تشترط الزيادة على الاثنين، لجواز الاختلاف في الرؤية، لبعد المرئي و لطافته، و قوة الحاسّة و ضعفها، و التفطّن للرؤية و عدمه، و اختلاف مواضع نظرهم، و كدورة الهواء و صفوه.3.
ص: 131
و لأنّه ينتقض: بما لو حكم برؤيته حاكم بشهادة الواحد أو الاثنين، فإنّه يجوز، و لو امتنع - كما قالوه - لم ينفذ فيه حكم الحاكم.
لقول علي عليه السلام:
«لا تقبل شهادة النساء في رؤية الهلال»(1).
و قال الشافعي: إن قلنا: لا بدّ من اثنين، فلا مدخل لشهادة النساء فيه. و لا عبرة بقول العبد. و لا بدّ من لفظ الشهادة. و تختص بمجلس القضاء، لأنّها شهادة حسّية لا ارتباط لها بالدعاوي.
و إن قبلنا قول الواحد، فهل هو على طريق الشهادة أم على طريق الرواية ؟ وجهان، أصحّهما عنده: الأول، إلاّ أنّ العدد سومح به، و البيّنات مختلفة المراتب.
و الثاني: أنّه رواية، لأنّ الشهادة ما يكون الشاهد فيها بريئا، و هذا خبر عمّا يستوي فيه المخبر و غير المخبر، فأشبه رواية الخبر عن النبي صلّى اللّه عليه و آله، فعلى الأول لا يقبل قول المرأة و العبد، و على الثاني يقبل.
و هل يشترط لفظ الشهادة ؟ وجهان عنده(2).
و قال أبو حنيفة: يقبل إخبار المرأة الواحدة، لأنّه خبر ديني، فأشبه الخبر عن القبلة، و الرواية، و هو قياس قول أحمد(3).
و لا تقبل شهادة الصبي المميّز الموثوق به.
و قال الجويني: فيه وجهان مبنيّان على قبول رواية الصبيان(4).
و قال بعض الشافعية: إذا أخبره موثوق به عن رؤية الهلال، لزم اتّباع قوله و إن لم يذكر عند الحاكم(5).
ص: 132
و قالت طائفة: يجب الصوم بذلك إذا اعتقد أنّ المخبر صادق(1).
و لا خلاف أنّه لا يقبل في هلال شوّال إلاّ عدلان، إلاّ أبا ثور، فإنّه قال: تقبل شهادة الواحد فيه(2).
و هو غلط، لما تقدّم(3) من الأحاديث.
احتجّ: بأنّه خبر يستوي فيه المخبر و المخبر، فأشبه أخبار الديانات، و لأنّه إخبار عن خروج وقت العبادة، فيقبل فيه قول الواحد كالأخبار عن دخول وقتها(4).
و نمنع كونه خبرا، و لهذا لا يقبل فيه: فلان عن فلان(5).
أ - لا تقبل شهادة الفاسق،
لقوله تعالى إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا (6).
و لا بدّ من اعتبار العدالة الباطنة التي يرجع فيها إلى الخبرة الباطنة و أقوال المزكّين - و هو أحد قولي الشافعية(7) - لأنّ الشرط انتفاء الفسق، و إنّما يعرف بالاتّصاف بالضدّ.
ب - لو صاموا بشهادة الواحد عند من اعتبرها فلم ير الهلال بعد الثلاثين،
فالوجه: الإفطار - و به قال أبو حنيفة و الشافعي في أحد القولين(8) -
ص: 133
لأنّ الصوم ثبت شرعا بشهادة الواحد، فيثبت الإفطار باستكمال العدّة، و لا يكون إفطارا بالشهادة، كما أنّ النسب لا يثبت بشهادة النساء، و تثبت بهن الولادة، فيثبت النسب بالفراش على وجه التبع للولادة.
و الثاني للشافعي: لا يفطرون - و به قال محمد بن الحسن(1) - لأنّه يكون فطرأ بشهادة واحد(2).
و قد تقدّم جوابه من جواز إثبات الشيء ضمنا بما لا يثبت به أصلا.
و ما موضع القولين ؟ للشافعية طريقان: أحدهما: مع الصحو، و لو كانت السماء مغيّمة، وجب الإفطار. و الثاني: أنّ الصحو و الغيم واحد(3).
ج - لو صاموا بشهادة عدلين و رئي الهلال بعد ثلاثين، فلا بحث،
و إن لم ير الهلال فإن كانت السماء متغيّمة، أفطر، و كذا إن كانت مصحية عند عامة العلماء(4) ، لأنّ العدلين لو شهدا ابتداء على هلال شوّال، لقبلنا شهادتهما، و أفطرنا، فلأن نفطر على ما أثبتناه بقولهما أوّلا أولى.
و قال مالك: لا يفطرون، لأنّا إنّما نتّبع قولهما بناء على الظنّ(5). و قد بيّنا خلافه.
و على هذا القول لو شهد اثنان على هلال شوّال ثم لم ير الهلال و السماء مصحية بعد ثلاثين، قضينا صوم أول يوم أفطرنا فيه، لظهور أنّه من رمضان، لكن لا كفّارة للشبهة.
د - إذا قلنا بقبول الواحد ففي قبول العبد إشكال يأتي.
و قال بعض الشافعية القائلين بقبوله: إنّا لا نوقع به العتق و الطلاق9.
ص: 134
المعلّقين بهلال رمضان، و لا نحكم بحلول الدين المؤجّل به(1).
ه - لا يثبت الهلال بالشهادة على الشهادة عند علمائنا،
لأصالة البراءة، و اختصاص ورود القبول بالأموال و حقوق الآدميين.
و للشافعية طريقان: أحدهما: أنّه على قولين في أنّ حدود اللّه تعالى هل تثبت بالشهادة على الشهادة ؟ و أصحّهما عندهم: القطع بثبوته كالزكاة و إتلاف بواري المسجد و الخلاف في الحدود المبنية على الدفع و الدرء.
و على هذا، فعدد الفروع مبني على القول في الأصول، إن اعتبرنا العدد في الأصول فحكم الفروع ها هنا حكمهم في سائر الشهادات، و لا مدخل فيه لشهادة النساء و العبيد.
و إن لم نعتبر العدد، فإن قلنا: إنّ طريقه طريق الرواية، فوجهان:
أحدهما: الاكتفاء بواحد، كرواية الإخبار. و الثاني: لا بدّ من اثنين، و هو الأصحّ عندهم، لأنّه ليس بخبر من كلّ وجه، لأنّه لا يكفي أن يقول: أخبرني فلان عن فلان أنّه رأى الهلال.
و على هذا، فهل يشترط إخبار حرّين ذكرين، أم يكفي امرأتان و عبدان ؟ وجهان(2).
و إن قلنا: إنّ طريقه طريق الشهادة، فهل يكفي واحد أم لا بدّ من اثنين ؟ وجهان عندهم(3).
و - لو رأى اثنان هلال شوّال، و لم يشهدا عند الحاكم، جاز لمن سمع شهادتهما الإفطار
مع(4) معرفته بعدالتهما، و كذا يصوم لو شهدا برمضان، لقولهد.
ص: 135
عليه السلام: (إذا شهد اثنان فصوموا و أفطروا)(1).
و لو شهدا، فردّ الحاكم شهادتهما، لعدم معرفته بهما، جاز الإفطار أيضا في شوّال و الصوم في رمضان.
و يجوز لكلّ منهما أن يفطر عندنا، و به قال أحمد بشرط أن يعرف عدالة صاحبه(2) ، و ليس شيئا.
ز - إنّما يقبل في الهلال عدلان،
و لا تقبل شهادة مجهول الحال و لا مستور الظاهر.
لأنّه نوع تواتر يفيد العلم.
و لو لم يحصل العلم، بل حصل ظنّ غالب بالرؤية، فالأقوى: التعويل عليه كالشاهدين، فإنّ الظنّ الحاصل بشهادتهما حاصل مع الشياع.
أكملت عدّة شعبان ثلاثين يوما، ثم صاموا وجوبا من رمضان، سواء كانت السماء متغيّمة أو صاحية، عند علمائنا، لما رواه العامة عن عائشة، قالت: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، يتحفّظ من هلال شعبان ما لا يتحفّظ من غيره، ثم يصوم رمضان لرؤيته، فإن غمّ عليه عدّ ثلاثين يوما ثم صام(3).
ص: 136
و من طريق الخاصة: قول أمير المؤمنين عليه السلام: «فإن غمّ عليكم، فعدّوا ثلاثين ليلة ثم أفطروا»(1).
لأنّ أصل الجدول مأخوذ من الحساب النجومي في ضبط سير القمر و اجتماعه بالشمس، و لا يجوز المصير إلى كلام المنجّم و لا الاجتهاد فيه - و هو قول أكثر العامة(2) - لما تقدّم من الروايات، و لو كان قول المنجّم طريقا و دليلا على الهلال، لوجب أن يبيّنه عليه السلام للناس، لأنّهم في محلّ الحاجة اليه، و لم يجز له عليه السلام حصر الدلالة في الرؤية و الشهادة.
و حكي عن قوم من العامة أنّهم قالوا: يجتهد في ذلك، و يرجع الى المنجّمين(3). و هو باطل، لما(4) تقدّم.
و لقول الصادق عليه السلام: «ليس على أهل القبلة إلاّ الرؤية، ليس على المسلمين إلاّ الرؤية»(5).
و الأحاديث متواترة على أنّ الطريق أمّا الرؤية أو مضيّ ثلاثين، و قد شدّد النبي صلّى اللّه عليه و آله، في النهي عن سماع كلام المنجّم، فقال عليه السلام: (من صدّق كاهنا أو منجّما فهو كافر بما انزل على محمد)(6).
احتجّوا: بقوله تعالى وَ عَلاماتٍ وَ بِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (7).
ص: 137
و لأنّ النبي عليه السلام قال: (فإن غمّ عليكم فاقدروا له)(1) و التقدير إنّما هو معرفة التسيير و المنازل، و لذلك رجعنا الى الكواكب و المنازل في القبلة و الأوقات، و هي أمور شرعية رتّب الشارع عليها أحكاما كثيرة.
و الجواب: الاهتداء بالنجم معرفة الطرق و مسالك البلاد و تعريف الأوقات، و نقول أيضا بموجبه، فإنّ رؤية الهلال تهدي الى معرفة أول الشهر، أمّا قول المنجّم فلا.
و أمّا الحديث: (فاقدروا له ثلاثين)(2) و المراد: أن يحسب شعبان ثلاثين عند قوم، و تسعة و عشرين عند آخرين.
و أمّا القبلة و الوقت فالطريق هو المشاهدة.
و للشافعية وجهان في من عرف منازل القمر هل يلزمه الصوم به ؟ و أصحّهما عندهم: المنع. و الثاني: أنّه يجوز له أن يعمل بحساب نفسه(3).
و لو عرفه بالنجوم، لم يجز أن يصوم به عندهم(4) قولا واحدا.
ذهبوا الى أنّه معتبر، و أنّ شهور السنة قسمان: تام و ناقص، فرمضان لا ينقص أبدا، و شعبان لا يتمّ أبدا، لأحاديث منسوبة إلى أهل البيت عليهم السلام(5) ، أصلها حذيفة بن منصور عن الصادق عليه السلام، تارة بواسطة معاذ بن كثير، و اخرى بغير واسطة، و اخرى لم يسندها الى إمام: أنّ الصادق عليه السلام سأله معاذ: أنّ الناس يقولون: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، صام تسعة
ص: 138
و عشرين يوما أكثر ممّا صام ثلاثين، فقال: «كذبوا، ما صام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، الى أن قبض أقلّ من ثلاثين يوما، و لا نقص شهر رمضان منذ خلق اللّه السماوات و الأرض من ثلاثين يوما و ليلة»(1).
قال الشيخ رحمه اللّه: هذا الخبر لا يعوّل عليه.
أمّا أولا: فلأنّه لم يوجد في شيء من الأصول المصنّفة، و إنّما هو موجود في الشواذّ من الأخبار.
و أيضا، كتاب حذيفة بن منصور عري عن هذا الحديث، و الكتاب مشهور، و لو كان الحديث صحيحا عنده، لضمنه كتابه.
و أيضا، فإنّه مختلف الألفاظ، مضطرب المعاني، لأنّه تارة يرويه عن الصادق عليه السلام، و تارة يفتي من قبل نفسه، و لا يسنده الى أحد، و روايته عن الإمام تارة بواسطة، و اخرى بغير واسطة، و هذا دليل اضطرابه و ضعفه، فلا يعارض به المتواتر من الأخبار و القرآن العزيز و عمل جميع المسلمين، مع أنّه معارض بأحاديث كثيرة مشهورة(2):
قال الصادق عليه السلام: «شهر رمضان يصيبه ما يصيب الشهور من الزيادة و النقصان، فإن تغيّمت السماء يوما، فأتمّوا العدة».
و قال عليه السلام في شهر رمضان: «هو شهر من الشهور يصيبه ما يصيب الشهور من النقصان»(3).
و قال الباقر عليه السلام: «حدّثني أبي عليه السلام أنّ عليا عليه السلام قال: صمنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تسعة و عشرين يوما، و أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال لمّا ثقل في مرضه: أيّها الناس إنّ السنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم، ثم قال بيده فذاك رجب مفرد، و ذو القعدة و ذو الحجّة2.
ص: 139
و المحرّم ثلاثة متواليات، ألا و هذا الشهر المفروض، صوموا لرؤيته و أفطروا لرؤيته، و إذا خفي الشهر فأتمّوا العدّة شعبان ثلاثين، [و](1) صوموا الواحد و ثلاثين»(2).
لقوله عليه السلام:
(الصوم للرؤية و الفطر للرؤية)(3).
و لأصالة براءة الذمة.
و قال بعض من لا يعتد به: إن غاب بعد الشفق فهو للّيلة الماضية، و إن غاب قبله فهو لليلته(4) ، لقول الصادق عليه السلام: «إذا غاب الهلال قبل الشفق فهو لليلته، و إذا غاب بعد الشفق فهو لليلتين»(5).
و نمنع صحة سنده. و نعارضه بالأحاديث الدالّة على حصر الطريق في الرؤية و الشهادة و مضيّ الثلاثين.
قال الشيخ رحمه اللّه: هذا إنّما يكون أمارة على اعتبار دخول الشهر إذا كانت السماء مغيّمة، فجاز اعتباره في الليلة المستقبلة بالغيبوبة قبل الشفق و بتطوّق الهلال، فأمّا مع زوال العلّة فلا(6).
إذا ثبت هذا، فلا يجوز التعويل أيضا على تطوّق الهلال.
و في رواية عن الصادق عليه السلام: «إذا تطوّق الهلال فهو لليلتين»(7).
ص: 140
و نمنع صحة سندها.
مسألة 85: لا اعتبار بعدّ خمسة أيام من الماضية(1) ،
عملا بالأصل، و ما تقدّم من الأحاديث الدالّة على العمل بالرؤية أو مضيّ ثلاثين، فعلى هذا لو غمّ هلال الشهور كلّها، عدّ كلّ شهر ثلاثين يوما.
و قد روى عمران الزعفراني عن الصادق عليه السلام: قلت له: إنّ السماء تطبق علينا بالعراق اليومين و الثلاثة لا نرى(2) السماء، فأيّ يوم نصوم ؟ قال: «انظر(3) اليوم الذي صمت من السنة الماضية، و صم يوم الخامس»(4).
و سأل عمران أيضا، الصادق عليه السلام: قلت: إنّما نمكث في الشتاء اليوم و اليومين لا نرى سماء و لا نجما، فأيّ يوم نصوم ؟ قال: «انظر(5) اليوم الذي صمت من السنة الماضية، و عدّ خمسة أيام، و صم يوم الخامس»(6).
و الأول مرسل. و في طريق الثاني: سهل بن زياد، و هو ضعيف مع أنّ عمران الزعفراني مجهول.
و لو قيل بذلك بناء على العادة القاضية بعدم تمامية شهور السنة بأسرها، كان وجها.
و لو غمّ هلال رمضان و شعبان، عدّدنا رجب ثلاثين، و كذا شعبان، فإن غمّت الأهلّة بأسرها، فالأقرب: الاعتبار برواية الخمسة بناء على العادة، و هو
ص: 141
اختيار الشيخ في المبسوط(1).
و أكثر علمائنا قالوا: تعدّ(2) الشهور ثلاثين ثلاثين(3).
إذا لم يعلم الشهر، وجب عليه أن يجتهد و يغلّب على ظنّه شهرا أنّه من رمضان، فإن حصل الظنّ بنى عليه.
ثم إن استمرّ الاشتباه، أجزأه إجماعا - إلاّ من الحسن بن صالح بن حي(4) - لأنّه أدّى فرضه باجتهاده، فأجزأه، كما لو ضاق الوقت و اشتبهت القبلة.
و إن لم يستمرّ، فان اتّفق وقوع الصوم في رمضان، أجزأه إجماعا، إلاّ من الحسن بن صالح بن حي، فإنّه قال: لا يجزئه(5).
و هو غلط، لأنّه أدّى العبادة باجتهاده، فإذا وافق الإصابة أجزأه، كالقبلة إذا اشتبهت عليه.
و لأنّه مكلّف بالصوم إجماعا، و العلم غير ممكن، فتعيّن الظنّ.
احتجّ: بأنّه صامه على الشك، فلا يجزئه، كما إذا صام يوم الشك ثم بان أنّه من رمضان(6).
و الفرق: أنّ يوم الشك لم يضع الشارع الاجتهاد طريقا اليه.
و إن وافق صومه بعد رمضان، أجزأه أيضا عند عامّة العلماء(7) ، إلاّ الحسن بن صالح بن حي، فإنّه قال: لا يجزئه(8).
ص: 142
و ليس بجيّد، لأنّه أدّى العبادة في أحد وقتيها - أعني وقت القضاء - فأجزأه، كما لو فعلها في الوقت الآخر، و هو وقت الأداء، و كما لو دخل الوقت و هو متلبّس بالصلاة.
و لأنّ عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه سأل الصادق عليه السلام: الرجل أسرته الروم، و لم يصم شهر رمضان، و لم يدر أيّ شهر هو، قال: «يصوم شهرا يتوخّاه، و يحسب، فإن كان الشهر الذي صامه قبل رمضان لم يجزئه، و إن كان بعده أجزأه»(1).
و إن وافق صومه قبل رمضان، لم يجزئه عند علمائنا - و به قال أبو ثور و مالك و أحمد و الشافعي في أحد القولين(2) - لأنّه فعل العبادة قبل وقتها، فلا يقع أداء و لا قضاء، فلم يجزئه، كالصلاة يوم الغيم.
و لرواية عبد الرحمن، و قد تقدّمت(3).
و الثاني للشافعي: الإجزاء، لأنّه فعل العبادة قبل وقتها مع الاشتباه فأجزأه، كما لو اشتبه يوم عرفة فوقف قبله(4).
و نمنع حكم الأصل.
و يتخيّر فيه - و به قال بعض الشافعية(5) - لأنّه مكلّف بالصوم، و قد فقد العلم بتعيّن الوقت، فسقط عنه التعيين، و وجب عليه الصوم في شهر
ص: 143
يتوخّاه، كما لو فاته الشهر مع علمه و لم يصمه، فإنّه يسقط عنه التعيين، و يتوخّى شهرا يصومه للقضاء، و كما لو اشتبهت القبلة و ضاق الوقت.
و لرواية عبد الرحمن(1).
و قال بعض الشافعية: لا يلزمه ذلك، لأنّه لم يعلم دخول شهر رمضان و لا ظنّه، فلا يلزمه الصيام، كما لو شك في دخول وقت الصلاة، فإنّه لا يلزمه الصلاة(2).
و الفرق ظاهر، لتمكّنه من العلم بوقت الصلاة بالصبر.
و لو وافق بعضه الشهر دون بعض، صحّ ما وافق الشهر و ما بعده دون ما قبله.
و لو وافق صومه شوّال، لم يصحّ صوم يوم العيد، و قضاه، و كذا ذو الحجّة.
و إذا توخّى شهرا، فالأولى وجوب التتابع فيه و إن كان له أن يصوم قبله و بعده.
و إذا وافق صومه بعد الشهر، فالمعتبر صوم أيام بعدّة ما فاته، سواء وافق ما بين هلالين أم لا، و سواء كان الشهران تامّين أو أحدهما أو ناقصين.
نعم لو كان رمضان تاما، فتوخّى شهرا ناقصا، وجب عليه إكمال يوم.
و قال بعض الشافعية: إذا وافق شهرا بين هلالين، أجزأه مطلقا، و إن لم يوافق، لزمه صوم ثلاثين و إن كان رمضان ناقصا، لأنّه لو نذر صيام شهر أجزأه عدّه بين هلالين و إن كان ناقصا(3).
و هو خطأ، لأنّه يلزم قضاء ما ترك، و الاعتبار بالأيام، لقوله تعالى:ظ.
ص: 144
فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ (1) .
و الإجزاء في النذر، لأنّ اسم الشهر يتناوله، أمّا هنا فالواجب عدد ما فات من الأيام.
و لو صام شوّالا و كان ناقصا و رمضان ناقص أيضا، لزمه يوم عوض العيد.
و قال بعض الشافعية: يلزمه يومان(2). و ليس بجيّد.
و إذا صام على سبيل التخمين من غير أمارة، لم يجب القضاء، إلاّ أن يوافق قبل رمضان.
و لو صام تطوّعا، فبان أنّه رمضان، فالأقرب: الإجزاء - و به قال أبو حنيفة(3) - لأنّ نية التعيين ليست شرطا، و كما لو صام يوم الشك بنيّة التطوّع و ثبت أنّه من رمضان.
و قال الشافعي: لا يجزئه. و به قال أحمد(4).
قال اللّه تعالى وَ كُلُوا وَ اشْرَبُوا حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ (5).
و يجوز له الأكل و الشرب الى أن يطلع الفجر.
و أمّا الجماع فيجوز الى أن يبقى للطلوع مقدار الغسل.
و يجب الاستمرار على الإمساك إلى غروب الشمس الذي تجب به صلاة المغرب.
و لو اشتبه عليه الغيبوبة، وجب عليه الإمساك، و يستظهر حتى يتيقّن،
ص: 145
لأصالة البقاء.
و يستحب له تقديم الصلاة على الإفطار، إلاّ أن يكون هناك من ينتظره للإفطار، فيقدّم الإفطار معهم على الصلاة.
سئل الصادق عليه السلام عن الإفطار قبل الصلاة أو بعدها؟ قال:
«إن كان معه قوم يخشى أن يحسبهم عن عشائهم فليفطر معهم، و إن كان غير ذلك فليصلّ و ليفطر»(1).
و هي قسمان:
فلا يجب على الصبي و لا المجنون و لا المغمى عليه إجماعا، إلاّ في رواية عن أحمد: أنّه يجب على الصبي الصوم إذا أطاقه(2) ، و به قال عطاء و الحسن و ابن سيرين و الزهري و قتادة و الشافعي(3).
و قال الأوزاعي: إذا أطاق صوم ثلاثة أيام متتابعات لا يخور(4) منهن و لا يضعف، حمّل(5) صوم رمضان(6).
ص: 146
و قد تقدّم(1) بطلانه.
فلو بلغ الصبي قبل الفجر، وجب عليه الصوم إجماعا، و لو كان بعد الفجر، لم يجب، و استحبّ له الإمساك، سواء كان مفطرا أو صائما بلغ بغير المفطر، و لا يجب عليه القضاء، لقوله عليه السلام: (رفع القلم عن ثلاثة:
عن الصبي حتى يبلغ، و عن المجنون حتى يفيق، و عن النائم حتى ينتبه)(2).
و قال(3): يجب عليه الإمساك، و لا يجب عليه القضاء، لأنّ نية صوم رمضان حصلت ليلا، فيجزئه كالبالغ.
و لا يمتنع أن يكون أول الصوم نفلا و باقية فرضا، كما لو شرع في صوم يوم تطوّعا ثم نذر إتمامه.
و قال بعض الحنابلة: يلزمه القضاء، لأنّه عبادة بدنية بلغ في أثنائها بعد مضيّ بعض أركانها، فلزمه إعادتها، كالصلاة و الحجّ إذا بلغ بعد الوقوف.
و هذا لأنّه ببلوغه يلزمه صوم جميعه، و الماضي قبل بلوغه نفل، فلم يجزئ عن الفرض، و لهذا لو نذر صوم يوم يقدم فلان فقدم و الناذر صائم، لزمه القضاء(4).
و أمّا ما مضى من الشهر قبل بلوغه فلا قضاء عليه، و سواء كان قد صامه أو أفطره في قول عامة أهل العلم(5).3.
ص: 147
و قال الأوزاعي: يقضيه إن كان أفطره و هو مطيق لصيامه(1).
و هو غلط، لأنّه زمن مضى في حال صباه، فلم يلزمه قضاء الصوم فيه، كما لو بلغ بعد انسلاخ رمضان.
و إن بلغ الصبي و هو مفطر، لم يلزمه إمساك ذلك اليوم و لا قضاؤه.
و عن أحمد روايتان في وجوب الإمساك و القضاء(2).
و قال الشافعي: إن كان أفطر، استحبّ له الإمساك، و في القضاء قولان.
و إن كان صائما فوجهان: أحدهما: يتمّه استحبابا، و يقضيه وجوبا، لفوات نية التعيين. و الثاني: يتمّه وجوبا، و يقضيه استحبابا(3).
فلا يجب على المجنون بالإجماع، و للحديث(4).
و لو أفاق في أثناء الشهر، وجب عليه صيام ما بقي إجماعا، و لا يجب عليه قضاء ما فات حال جنونه - و به قال أبو ثور و الشافعي في الجديد، و أحمد(5) - لأنّه معنى يزيل التكليف، فلم يجب القضاء في زمانه كالصغر.
و قال مالك و الشافعي في القديم، و أحمد في رواية: يجب قضاء ما فات و إن مضى عليه سنون، لأنّه معنى يزيل العقل، فلم يمنع وجوب الصوم كالإغماء(6).
و الأصل ممنوع.
و قال أبو حنيفة: إن جنّ جميع الشهر، فلا قضاء عليه، و إن أفاق في
ص: 148
أثنائه، قضى ما مضى(1).
و لو تجدّد الجنون في أثناء النهار، بطل صوم ذلك اليوم.
و لو أفاق قبل طلوع الفجر، وجب عليه صيامه إجماعا، و إن أفاق في أثنائه، أمسك بقية النهار استحبابا لا وجوبا، و حكم المغمى عليه حكم المجنون.
و لو أسلم في أثناء الشهر، وجب عليه صيام الباقي دون الماضي - و به قال الشعبي و قتادة و مالك و الأوزاعي و الشافعي و أبو ثور و أصحاب الرأي(2) - لقوله عليه السلام: (الإسلام يجبّ ما قبله)(3).
و قال عطاء: يجب عليه قضاؤه(4). و عن الحسن كالمذهبين(5).
و هو غلط، إلاّ أن يكون مرتدّا، فيجب عليه القضاء إجماعا.
و اليوم الذي يسلم فيه إن كان إسلامه قبل طلوع فجره، وجب عليه صيامه، و إن كان بعده، أمسك استحبابا، لأنّ عيص بن القاسم روى - في الصحيح - أنّه سأل الصادق عليه السلام عن قوم أسلموا في شهر رمضان و قد مضى منه أيام، هل عليهم أن يقضوا ما مضى أو يومهم الذي أسلموا فيه ؟ قال: «ليس عليهم قضاء و لا يومهم الذي أسلموا فيه إلاّ أن يكونوا أسلموا(6) قبل طلوع الفجر»(7).
ص: 149
و قال أحمد: يجب عليه إمساكه - و به قال إسحاق - لأنّه أدرك جزءا من وقت العبادة فلزمته، كما لو أدرك جزءا من وقت الصلاة(1).
و الأصل ممنوع. و وافقنا مالك و أبو ثور و ابن المنذر.
و لو طرأ الكفر في آخر النهار، بطل الصوم.
فلو كان المريض يتضرّر بالصوم، لم يصح منه.
و حدّ المرض الذي يجب معه الإفطار: ما يزيد في مرضه لو صام، أو يتباطأ البرء معه لو صام عند أكثر العلماء.
و حكي عن قوم لا عبرة بهم: إباحة الفطر بكلّ مرض، سواء زاد في المرض أو لم يزد، لعموم قوله تعالى فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً (2)(3).
و هو مخصوص، كتخصيص السفر بالطاعة، و قد سئل الصادق عليه السلام عن حدّ المرض الذي يفطر صاحبه، و المرض الذي يدع صاحبه الصلاة(4) ، فقال بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (5) و قال: «ذلك اليه هو أعلم بنفسه»(6).
و كلّ الأمراض مساوية في هذا الحكم، سواء كان وجع الرأس أو حمى و لو حمّى يوم، أو رمد العين و غير ذلك، فإن صامه مع حصول الضرر به، لم يجزئه، و وجب عليه القضاء، لأنّه منهي عنه، و النهي في العبادة(7) يدلّ على الفساد، لقوله تعالى:
ص: 150
فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَ مَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ (1) و التفصيل قاطع للشركة.
و قال بعض العامة: إذا تكلّف، صحّ صومه و إن زاد في مرضه و تضرّر به(2). و ليس بجيّد.
أمّا الصحيح الذي يخشى المرض بالصوم، فإنّه لا يباح له الإفطار.
و كذا لو كان عنده شهوة غالبة للجماع يخاف أن تنشقّ أنثياه.
و لو خافت المستحاضة من الصوم التضرّر، أفطرت، لأنّ الاستحاضة مرض.
و لو جوّزنا لصاحب الشبق المضرّ به، الإفطار، و أمكنه استدفاع ذلك بما لا يبطل منه الصوم، وجب عليه ذلك.
فإن لم يمكنه إلاّ بإفساد الصوم، فإشكال ينشأ: من تحريم الإفطار لغير سبب، و من مراعاة مصلحة بقاء النفس على السلامة، كالحامل و المرضع، فإنّهما يفطران خوفا على الولد، فمراعاة النفس أولى.
و لو كان له امرأتان: حائض و طاهر، و اضطرّ الى وطء إحداهما، و جوّزنا له ذلك، فالوجه وطء الطاهر، لأنّ اللّه تعالى حرّم وطء الحائض(3).
و قال بعض العامة: يتخيّر. و ليس شيئا.
و كذا لو أمكنه استدفاع الأذى بفعل محرّم كالاستمناء باليد، لم يجز، خلافا لبعضهم(4).
فلا يجب الصوم على المسافر سفرا مخصوصا بإجماع العلماء.
ص: 151
قال اللّه تعالى وَ مَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ (1) و التفصيل قاطع للشركة، فكما أنّ الحاضر يلزمه الصوم فرضا لازما، كذا المسافر يلزمه القضاء فرضا مضيّقا، و إذا وجب عليه القضاء مطلقا، سقط عنه فرض الصوم.
و روى العامة أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: (إنّ اللّه تعالى وضع عن المسافر الصوم و شطر الصلاة)(2).
و من طريق الخاصة: قول الصادق عليه السلام و قد سئل عن قوله تعالى فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ (3) قال: «ما أبينها من شهد فليصمه و من سافر فلا يصمه»(4).
إذا عرفت هذا، فلو صام المسافر في سفره المبيح للقصر، لم يجزئه إن كان عالما عند علمائنا أجمع، و كان مأثوما - و به قال أبو هريرة و ستّة من الصحابة، و أهل الظاهر(5). قال أحمد: كان عمر و أبو هريرة يأمران المسافر بإعادة ما صامه في السفر(6). و روى الزهري عن أبي سلمة عن أبيه عبد الرحمن بن عوف، أنّه قال: الصائم في السفر كالمفطر في الحضر(7) - لقوله تعالى فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ (8) أوجب عدّة من أيام أخر، فلم يجز صوم5.
ص: 152
رمضان في السفر.
و ما رواه العامة عن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: (ليس من البر الصيام في السفر)(1).
و قال عليه السلام: (الصائم في السفر كالمفطر في الحضر)(2).
و أفطر صلّى اللّه عليه و آله في السفر، فلمّا بلغه أنّ قوما صاموا، قال:
(أولئك العصاة)(3).
و من طريق الخاصة: قول الصادق عليه السلام: «لو أنّ رجلا مات صائما في السفر ما صلّيت عليه»(4).
و قال عليه السلام: «الصائم في شهر رمضان في السفر كالمفطر فيه في الحضر»(5).
و قال باقي العامة: إنّ صومه جائز(6). و اختلفوا في الأفضل.
فقال أبو حنيفة و مالك و الشافعي و الثوري و أبو ثور: إنّ الصوم في السفر أفضل من الإفطار(7).6.
ص: 153
و قال أحمد و الأوزاعي و إسحاق: الإفطار أفضل - و به قال عبد اللّه بن عباس و عبد اللّه بن عمر(1) - لما روت عائشة أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله قال لحمزة الأسلمي و قد سأله عن الصوم في السفر: (إن شئت فصم و إن شئت فأفطر)(2).
و قال أنس: سافرنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فصام بعضنا و أفطر بعضنا، فلم يعب الصائم على المفطر و لا المفطر على الصائم(3).
و لأنّ الإفطار في السفر رخصة، و من رخص له الفطر جاز له أن يتحمّل المشقة بالصوم كالمريض.
و الحديثان لو صحّا، حملا على صوم النافلة، جمعا بين الأدلّة.
و التخيير ينافي الأفضلية و قد اتّفقوا على أفضلية أحدهما و إن اختلفوا في تعيينه.
و نمنع الحكم في المريض فيبطل(4) القياس.
لما تقدّم، و تجب عليه الإعادة، لأنّه منهي عن الصوم، و النهي في العبادة يدلّ على الفساد.
أمّا لو صام رمضان في السفر جاهلا بالتحريم، فإنّه يجزئه الصوم، لأنّه معذور.
و لأنّ الحلبي سأل الصادق عليه السلام: قلت له: رجل صام في السفر،
ص: 154
فقال: «إن كان بلغه أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نهى عن ذلك، فعليه القضاء، و إن لم يكن بلغه، فلا شيء عليه»(1) و غير ذلك من الأخبار.
فإن كان سفر(2) معصية أو لصيد لهو و بطر، لم يجز له الإفطار عند علمائنا أجمع، لأنّ في رخصة الإفطار إعانة له على المعصية و تقوية له عليها.
و لقول الصادق عليه السلام: «من سافر قصّر و أفطر، إلاّ أن يكون رجلا سفره في الصيد أو في معصية اللّه، أو رسولا لمن يعصي اللّه، أو في طلب شحناء(3) ، أو سعاية ضرر على قوم من المسلمين»(4).
و جاء رجلان الى الرضا عليه السلام بخراسان، فسألاه عن التقصير، فقال لأحدهما: «وجب عليك التقصير لأنّك قصدتني» و قال للآخر: «وجب عليك التمام لأنّك قصدت السلطان»(5).
إذا ثبت هذا فإنّما يجوز التقصير في مسافة القصر، و هي: بريدان:
ثمانية فراسخ، لقول الصادق عليه السلام في التقصير: «حدّه أربعة و عشرون ميلا»(6).
و سئل الصادق عليه السلام في كم يقصّر الرجل ؟ فقال: «في بياض يوم أو بريدين»(7) و قد تقدّم ذلك في كتاب الصلاة(8).
ص: 155
و إنّما يجوز التقصير إذا قصد المسافة، فالهائم لا يترخّص و إن سار أكثر من المسافة، و قد تقدّم(1).
و لو نوى المسافر الإقامة في بلدة عشرة أيام، وجب عليه التمام، و انقطع سفره.
و من كان سفره أكثر من حضره لا يجوز له الإفطار، لأنّ وقته مشغول بالسفر، فلا مشقة له فيه.
و لقول الصادق عليه السلام: «المكاري و الجمّال الذي يختلف و ليس له مقام، يتمّ الصلاة و يصوم شهر رمضان»(2).
و لو أقام أحدهم في بلده عشرة أيام، أو أقام العشرة في غير بلده مع العزم على إقامتها، وجب عليهم التقصير إذا خرجوا بعد العشرة، لأنّ بعض رجال يونس سأل الصادق عليه السلام عن حدّ المكاري الذي يصوم و يتمّ، قال:
«أيّما مكار أقام في منزله أو في البلد الذي يدخله أقلّ من مقام عشرة أيام وجب عليه الصيام و التمام أبدا، و إن كان مقامه في منزله أو في البلد الذي يدخله أكثر من عشرة أيام فعليه التقصير و الإفطار»(3).
و لو تردّد في السفر و لم ينو المقام عشرة أيام، و كان ممّن يجب عليه التقصير في السفر، وجب عليه التقصير الى شهر ثم يتمّ بعد ذلك.
لقول الصادق عليه السلام: «ليس يفترق التقصير و الإفطار، فمن قصّر فليفطر»(4).
ص: 156
و هل يشترط تبييت النية من الليل ؟ قال الشيخ رحمه اللّه: نعم، فلو بيّت نيته على السفر من الليل ثم خرج أيّ وقت كان من النهار، وجب عليه التقصير و القضاء. و لو خرج بعد الزوال، أمسك و عليه القضاء.
و إن لم يبيّت نيته من الليل، لم يجز له التقصير، و كان عليه إتمام ذلك اليوم، و ليس عليه قضاؤه أيّ وقت خرج، إلاّ أن يكون قد خرج قبل طلوع الفجر، فإنّه يجب عليه الإفطار على كلّ حال.
و لو قصّر، وجب عليه القضاء و الكفّارة(1).
و قال المفيد رحمه اللّه: المعتبر خروجه قبل الزوال، فإن خرج قبله، لزمه الإفطار، فإن صامه، لم يجزئه، و وجب عليه القضاء، و لو خرج بعد الزوال، أتمّ، و لا اعتبار بالنية. و به قال أبو الصلاح(2).
و قال السيد المرتضى رحمه اللّه: يفطر و لو خرج قبل الغروب(3) - و هو قول علي بن بابويه(4) رحمه اللّه - و لم يعتبر التبييت.
و المعتمد: قول المفيد رحمه اللّه، لقوله تعالى فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ (5) و هو يتناول بعمومه من خرج قبل الزوال بغير نية.
و من طريق العامة: أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله خرج من المدينة عام4.
ص: 157
الفتح، فلمّا بلغ الى كراع الغميم(1) أفطر(2).
و من طريق الخاصة: ما رواه الحلبي عن الصادق عليه السلام، أنّه سئل عن الرجل يخرج من بيته و هو يريد السفر و هو صائم، قال: «إن خرج قبل أن ينتصف النهار فليفطر و ليقض ذلك اليوم، و إن خرج بعد الزوال فليتمّ يومه»(3).
و لأنّه إذا خرج قبل الزوال، صار مسافرا في معظم ذلك النهار، فالحق بالمسافر في جميعه، و لهذا اعتبرت النية فيه لناسيها، و أمّا بعد الزوال فإنّ معظم النهار قد انقضى على الصوم، فلا يؤثّر فيه السفر المتعقّب، كما لم يعتدّ بالنية فيه.
احتجّ الشيخ رحمه اللّه: بقول الكاظم عليه السلام في الرجل يسافر في شهر رمضان أ يفطر في منزله ؟ قال: «إذا حدّث نفسه بالليل في السفر، أفطر إذا خرج من منزله، و إن لم يحدّث نفسه من الليل ثم بدا له في السفر من يومه، أتمّ صومه»(4).
و في الطريق ضعف، مع احتمال أن يكون عزم السفر تجدّد بعد الزوال.
احتجّ السيد: بقوله تعالى فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ (5) و هو عام في صورة النزاع.4.
ص: 158
و بما رواه عبد الأعلى في الرجل يريد السفر في شهر رمضان، قال:
«يفطر و إن خرج قبل أن تغيب الشمس بقليل»(1).
و الآية مخصوصة بالخبر الذي رويناه. و الحديث ضعيف السند و مقطوع.
و أمّا العامة فنقول: المسافر عندهم لا يخلو من أقسام ثلاثة:
أحدها: أن يدخل عليه شهر رمضان و هو في السفر، فلا خلاف بينهم في إباحة الفطر له(2).
الثاني: أن يسافر في أثناء الشهر ليلا، فله الفطر في صبيحة الليلة التي يخرج فيها و ما بعدها في قول عامة أهل العلم(3).
و قال عبيدة السلماني و أبو مجلز و سويد بن غفلة: لا يفطر من سافر بعد دخول الشهر، لقوله تعالى فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ و هذا قد شهده(4).
و لا حجّة فيها، لأنّها متناولة لمن شهد الشهر كلّه، و هذا لم يشهده كلّه.
و يعارض بما روى ابن عباس، قال: خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عام الفتح في شهر رمضان فصام حتى بلغ الكديد(5) فأفطر و أفطر الناس(6).
الثالث: أن يسافر في أثناء اليوم من رمضان، فحكمه في اليوم الثاني حكم من سافر ليلا.
و في إباحة فطر اليوم الذي سافر فيه قولان:
أحدهما: أنّه لا يجوز له فطر ذلك اليوم - و هو قول مكحول و الزهري و يحيى الأنصاري و مالك و الأوزاعي و الشافعي و أصحاب الرأي و أحمد في3.
ص: 159
إحدى الروايتين(1) - لأنّ الصوم عبادة تختلف بالسفر و الحضر، فإذا اجتمعا فيها غلب حكم الحضر كالصلاة.
و الفرق: أنّ الصلاة يلزمه إتمامها بنيته، بخلاف الصوم.
و الثاني: أنّه يفطر - و هو قول الشعبي و إسحاق و داود و ابن المنذر و أحمد في الرواية الثانية(2) - للرواية(3).
و لأنّ السفر معنى لو وجد ليلا و استمرّ في النهار، لأباح الفطر، فإذا وجد في أثنائه أباحه كالمرض.
لأنّه إنّما يصير ضاربا في الأرض(4) بذلك، و هو قول أكثر العامة(5).
و قال الحسن البصري: يفطر في بيته إن شاء يوم يريد أن يخرج(6).
و روي نحوه عن عطاء(7).
روى محمد بن كعب قال: أتيت أنس بن مالك في رمضان و هو يريد سفرا و قد رحلت له راحلته و لبس ثياب السفر، فدعا بطعام فأكل، فقلت له:
سنّة ؟ فقال: سنّة، و ركب(8).
و عندنا إنّما يجوز إذا نوى المقام عشرة أيام، فلو نوى المقام، لزمه الصوم.
فإن نوى المقام قبل الزوال و لم يكن قد تناول المفطر، وجب عليه تجديد نية الصوم و إتمامه، و أجزأ عنه.
و لو نوى بعد الزوال أو كان قد تناول، أمسك مستحبا، و كان عليه القضاء.
و من سوّغ الصوم في السفر - و هم العامّة - لو نوى الصوم في سفره ثم بدا له أن يفطر، فله ذلك عند أحمد(1)(2).
و للشافعي قولان، فقال مرة: لا يجوز له الفطر. و قال اخرى: إن صحّ حديث الكديد، لم أر به بأسا أن يفطر(3).
و عنى بحديث الكديد، الحديث الذي رواه ابن عباس، قال: خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عام الفتح في شهر رمضان فصام حتى بلغ الكديد فأفطر و أفطر الناس(4)المغني 35:3، و الشرح الكبير 22:3.(5).
و قال مالك: إن أفطر، فعليه القضاء و الكفّارة، لأنّه أفطر في صوم(6) رمضان فلزمه ذلك، كما لو كان حاضرا(6).
إذا عرفت هذا، فإنّ له أن يفطر عندهم بالأكل و الشرب و غيرهما، إلاّ الجماع ففيه قولان: أحدهما: ليس له ذلك. و الثاني: الجواز.
و على القول الأول هل تجب الكفّارة ؟ عن أحمد روايتان: إحداهما:
أنّه لا كفّارة عليه - و هو مذهب الشافعي - لأنّه صوم لا يجب المضيّ فيه، فلم3.
ص: 161
تجب الكفّارة بالجماع فيه، كالتطوّع.
و الثانية: أنّه تجب عليه الكفّارة، لأنّه أفطر بجماع، فلزمته الكفّارة، كالحاضر.
و الفرق: أنّ الحاضر يجب عليه المضيّ في الصوم، و لأنّ حرمة الجماع و غيره بالصوم، فتزول بزواله، كما لو زالت بمجيء الليل(1).
لأنّ الفطر أبيح رخصة و تخفيفا عنه، فلا يجوز له الإتيان بما خفّف عنه، كالتمام و القصر في الصلاة.
و كذا ليس للحاضر أن يصوم غير رمضان فيه، لأنّه زمان لا يقع فيه غيره.
فإذا نوى المسافر الصوم في شهر رمضان للنذر أو القضاء، لم يصح صومه عن رمضان و لا عمّا نواه، لأنّه أبيح له الفطر للعذر، فلم يجز له أن يصومه عن غير رمضان كالمريض، و هذا قول أكثر العلماء(2).
و قال أبو حنيفة: يقع ما نواه إذا كان واجبا، لأنّه زمن أبيح له الفطر فيه، فكان له صومه عن واجب عليه كغير رمضان(3).
و ينتقض: بصوم التطوّع.
و ليس واجبا عند علمائنا أجمع - و به قال الشافعي و مالك و أبو ثور و داود(4) - لأنّه أبيح له الإفطار باطنا و ظاهرا في أول النهار، فإذا أفطر، كان له أن يستديمه الى آخر النهار، كما لو بقي العذر.
ص: 162
و لأنّ الصوم غير قابل للتبعيض و قد أفطر في أول النهار فلا يصح صوم الباقي.
و إنّما استحب الإمساك تشبّها بالصائمين، لأنّ محمد بن مسلم سأل الصادق عليه السلام عن الرجل يقدم من سفره بعد العصر في شهر رمضان فيصيب امرأته حين طهرت من الحيض أ يواقعها؟ قال: «لا بأس به»(1).
و أمّا استحباب الإمساك: فلأنّ سماعة سأله عن مسافر دخل أهله قبل زوال الشمس و قد أكل، قال: «لا ينبغي له أن يأكل يومه ذلك شيئا، و لا يواقع في شهر رمضان إن كان له أهل»(2).
و قال أبو حنيفة و الثوري و الأوزاعي: لا يجوز لهم أن يأكلوا في بقية النهار - و عن أحمد روايتان(3) - لأنّه معنى لو طرأ قبل طلوع الفجر لوجب الصوم، فإذا طرأ بعد الفجر وجب الإمساك كقيام(4) البيّنة أنّه من رمضان(5).
و الفرق: جواز الإفطار باطنا و ظاهرا هنا، فإذا أفطر كان له استدامته، بخلاف البيّنة، لأنّه لم يكن له الفطر باطنا، فلمّا انكشف له خطؤه حرم عليه الإفطار.
و كذا البحث في كلّ مفطر كالحائض إذا طهرت، و الطاهر إذا حاضت، و الصبي إذا بلغ، و الكافر إذا أسلم.
وجب عليهما الإمساك بقية اليوم، و أجزأهما عن
ص: 163
رمضان، و لو كان بعد الزوال أمسكا استحبابا، و قضيا عند علمائنا، لأنّه قبل الزوال يتمكّن من أداء الواجب على وجه يؤثّر النية في ابتدائه فوجب الصوم، و الإجزاء مخرج عن العهدة، و أمّا بعد الزوال: فلفوات محل النية، فلا يجب بالصوم، لعدم شرطه، و استحباب الإمساك لحرمة الزمان.
و لأنّ أحمد بن محمد سأل أبا الحسن عليه السلام عن رجل قدم من سفره في شهر رمضان و لم يطعم شيئا قبل الزوال، قال: «يصوم»(1).
و سأله أبو بصير عن الرجل يقدم من سفره في شهر رمضان، فقال: «إن قدم قبل زوال الشمس فعليه صوم ذلك اليوم و يعتدّ به»(2).
- و لو أمسك حتى يدخل و يتم صومه كان أفضل، و أجزأه - لأنّ السفر المبيح للإفطار موجود، و المانع مفقود بالأصل.
و لما رواه رفاعة - في الحسن - أنّه سأل الصادق عليه السلام عن الرجل يصل(3) في شهر رمضان من سفر حتى يرى أنّه سيدخل أهله ضحوة أو ارتفاع النهار، قال: «إذا طلع الفجر و هو خارج لم يدخل فهو بالخيار إن شاء صام و إن شاء أفطر»(4).
و أما أولوية الصوم: فلحرمة الوقت، و لاشتماله على المسارعة إلى فعل الواجب.
و لو زال عذرهما في أثناء النهار، لم يصح لهما صوم و إن كان بعد الفجر
ص: 164
بزمان يسير جدّا، لكن يستحب لهما الإمساك و يجب عليهما القضاء - و هو قول عامة أهل العلم(1) - لأنّ الوجوب سقط عنهما ظاهرا و باطنا، فلا يجب الإمساك.
و قال أبو حنيفة: يجب كما لو قامت البيّنة(2) ، و قد سلف(3).
و لو تجدّد عذرهما بعد طلوع الفجر و إن كان قبل الغروب بزمان يسير جدّا وجب عليهما الإفطار و القضاء بالإجماع.
قيل: الصوم يجب على الحائض و النفساء،
و لهذا وجب القضاء عليهما مع أنّه محرّم(4).
و هو خطأ، للتنافي بين الحكمين، نعم سبب الوجوب قائم في حقهما و لم يثبت الوجوب لمانع، و القضاء بأمر جديد.
القسم الثاني: في شرائط وجوب القضاء(5).
فلو فات الصبي الذي لم يبلغ في شهر رمضان، لم يجب عليه القضاء بعد بلوغه، سواء كان مميّزا أو غير مميّز، بإجماع العلماء، لأنّ الصبي ليس محلّ الخطاب بالأداء، فلا يجب عليه القضاء، و لا نعلم فيه خلافا، إلاّ من الأوزاعي، فإنّه
ص: 165
قال: يقضيه إن كان قد أفطر و هو قادر على الصوم(1).
و كذا اليوم الذي بلغ فيه لا يجب عليه قضاؤه، لمضيّ جزء منه لا يصح تكليفه بالصوم فيه، فيكون الباقي كذلك، لعدم قبوله للتجزّي، و لا فرق بين أن يصوم اليوم الذي بلغ فيه أو لا، و به قال أبو حنيفة(2).
و للشافعي قولان، أحدهما: أنّه يجب قضاؤه و إن كان صائما.
و الثاني: لا يجب قضاؤه إذا(3) كان مفطرا، لأنّه يجب عليه صوم باقية لبلوغه، و تعذّر عليه صومه، للإفطار، و قضاؤه منفردا، فوجب أن يكمل صوم يوم ليتوصّل إلى صوم ما وجب عليه، كما إذا عدل الصوم بالإطعام، فبقي نصف مدّ، فإنّه يصوم يوما كاملا(4).
و هو غلط، لأنّا نمنع وجوب صوم باقية.
فلو فات المجنون شهر رمضان ثم أفاق، لم يجب عليه قضاؤه عند علمائنا - و به قال الشافعي و أبو حنيفة(5) - لأنّه ليس محلاّ للتكليف، فلا يجب عليه الأداء، فلا يجب عليه تابعه، و هو: القضاء.
و قال مالك: يجب عليه القضاء. و به قال بعض الشافعية - و عن أحمد
ص: 166
روايتان(1) - لأنّ الجنون معنى يزيل العقل، فلا ينافي وجوب الصوم، كالإغماء(2).
و نمنع حكم الأصل، و الفرق: أنّ الإغماء مرض قد يلحق الأنبياء، بخلاف الجنون المزيل للتكليف لنقص فيه.
فإن أفاق في أثناء الشهر، لم يقض ما فاته حال جنونه و لا اليوم الذي يفيق فيه، إلاّ أن يكون أفاق قبل الفجر - و به قال الشافعي في أحد الوجهين(3) - لأنّ الجنون مزيل للخطاب و التكليف، فسقط قضاء ما فات من بعض الشهر، كما لو فات جميعه.
و قال أبو حنيفة: يجب قضاء ما فات، لأنّ الجنون لا ينافي الصوم(4).
و هو ممنوع بخلاف الإغماء.
و قال محمد بن الحسن: إذا بلغ مجنونا ثم أفاق في أثناء الشهر، فلا قضاء عليه، أمّا إذا كان عاقلا بالغا ثم جنّ، قضى ما فاته حالة الجنون، لأنّ بلوغه في الأول لم يتعلّق به التكليف(5). و نمنع الأصل.
فالذي نصّ عليه الشيخ - رحمه اللّه - أنّه لا قضاء عليه، سواء كان مفيقا في أول الشهر ناويا للصوم ثم أغمي عليه، أو لم يكن مفيقا، بل أغمي
ص: 167
عليه من أول الشهر(1).
و هو المعتمد، لأنّ مناط التكليف العقل، و التقدير زواله، فيسقط التكليف.
و لأنّ أيوب بن نوح كتب إلى الرضا عليه السلام، يسأله عن المغمى عليه يوما أو أكثر هل يقضي ما فاته أم لا؟ فكتب: «لا يقضي الصوم و لا يقضي الصلاة»(2).
و للشيخ قول آخر: إنّه إن سبقت منه النيّة، صحّ صومه، و لا قضاء عليه، و إن لم تسبق، بأن كان مغمى عليه من أول الشهر، وجب القضاء(3) - و به قال المفيد و السيد المرتضى(4) - لأنّه مريض، فوجب عليه القضاء كغيره من المرضى، لأنّ مدّته لا تتطاول غالبا.
و لقول الصادق عليه السلام: «يقضي المغمى عليه ما فاته»(5).
و نمنع مساواته للمرض الذي يبقى فيه العقل.
و الرواية محمولة على الاستحباب.
و قال الشافعي و أبو حنيفة: يقضي زمان إغمائه مطلقا. و اختلفا في يوم إغمائه، فقال أبو حنيفة: لا يقضيه، لحصول النية فيه. و قال الشافعي:
يقضيه(6).1.
ص: 168
فلو فات الكافر الأصلي شهر رمضان ثم أسلم، لم يجب عليه قضاؤه بإجماع العلماء، لقوله عليه السلام: (الإسلام يجبّ ما قبله)(1).
و لو أسلم في أثناء الشهر، فلا قضاء عليه لما فات، عند علمائنا أجمع، و هو قول عامة العلماء(2) ، لما تقدّم.
و لقوله تعالى قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ (3).
و قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، في رجل أسلم في نصف شهر رمضان: «ليس عليه قضاء إلاّ ما يستقبل»(4).
و لأنّ ما مضى عبادة خرجت في حال كفره، فلا يجب قضاؤها، كالرمضان الماضي.
و قال عطاء: عليه القضاء(5). و عن الحسن كالمذهبين(6).
و أمّا اليوم الذي أسلم فيه، فإن كان قبل طلوع الفجر، وجب عليه صيامه، و لو أفطر، قضاه و كفّر، و إن كان بعد الفجر، أمسك استحبابا، و لا قضاء عليه، و لا يجب عليه صيامه، لما تقدّم من أنّ الصوم لا يتبعّض. و كذا كلّ ذي عذر.
و للشافعي وجهان(7). و بقولنا أفتى مالك و أبو ثور و ابن المنذر(8).
ص: 169
و قال أحمد: يجب عليه الإمساك و يقضيه(1).
و ليس بجيّد، لأنّ عيص بن القاسم روى - في الصحيح - عن الصادق عليه السلام، قال: سألته عن قوم أسلموا في شهر رمضان و قد مضى منه أيام، هل عليهم أن يقضوا ما مضى منه أو يومهم الذي أسلموا فيه ؟ قال: «ليس عليهم قضاء و لا يومهم الذي أسلموا فيه إلاّ أن يكونوا أسلموا قبل طلوع الفجر»(2).
- و به قال الشافعي(3) - لأنّه ترك فعلا وجب عليه مع علمه بذلك، فوجب عليه قضاؤه، كالمسلم.
و قال أبو حنيفة: لا يجب قضاؤه(4) ، لقوله عليه السلام: (الإسلام يجبّ ما قبله)(5).
و المراد به الأصلي، لأنّه لا يؤخذ بالعبادات حال كفره.
و لا فرق بين أن تكون الردّة باعتقاد ما يوجب الكفر أو بشكّه فيما يكفر بالشك فيه.
و لو ارتدّ بعد عقد الصوم صحيحا ثم عاد، قال الشافعي: يفسد صومه(6). و هو جيد.
و لو غلب على عقله بشيء من قبله، كشرب المسكر و المرقد، لزمه
ص: 170
القضاء و لو كان بشيء من قبله تعالى، لم يلزمه.
و لو طرح في حلق المغمى عليه أو من زال عقله دواء، لم يجب عليه القضاء إذا أفاق، خلافا للشيخ(1).
و يستحب للمغمى عليه و للكافر القضاء.
يجب عليه القضاء في السنة التي فاته الصوم فيها ما بينه و بين الرمضان الثاني، فلا يجوز له تأخيره إلى دخول الرمضان الثاني، فإذا فاته شيء من رمضان أو جميعه بمرض، وجب عليه القضاء عند البرء وجوبا موسّعا إلى أن يبقى إلى الرمضان الثاني عدد ما فاته من الأيام.
فإن أخّر القضاء بعد برئه و تمكّنه من القضاء حتى دخل الرمضان الثاني، فإمّا أن يكون تأخيره على وجه التواني أو لا.
فإن كان على وجه التواني، صام الرمضان الحاضر، و قضى الأول بالإجماع، و كفّر عن كلّ يوم من الفائت بمدّين، و أقلّه مدّ، قاله شيخنا المفيد(2) رحمه اللّه - و به قال الشافعي و مالك و الثوري و أحمد و إسحاق و الأوزاعي، و هو قول ابن عباس و ابن عمر، و أبي هريرة، و مجاهد و سعيد بن جبير(3) - لما رواه العامة عن أبي هريرة، أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله، أوجب
ص: 171
عليه إطعام مسكين عن كلّ يوم(1).
و من طريق الخاصة: ما رواه محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام، عن رجل مرض فلم يصم حتى أدركه شهر رمضان آخر، فقال: «إن كان بريء ثم توانى قبل أن يدركه الصوم الآخر، صام الذي أدركه، و تصدّق عن كلّ يوم بمدّ من طعام على مسكين، و عليه قضاؤه، و إن كان لم يتمكّن من قضائه حتى أدركه شهر رمضان، صام الذي أدركه، و تصدّق عن الأول لكلّ يوم مدّا لمسكين، و ليس عليه قضاؤه»(2).
و قال ابن إدريس منّا: لا كفّارة عليه - و به قال أبو حنيفة و الحسن البصري و النخعي(3) - لأصالة براءة الذمة(4) ، و لأنّه تأخير صوم واجب، فلا تجب به الكفّارة، كما لو أخّر القضاء و النذر.
و أصالة البراءة حجّة إذا لم يقم دليل على شغلها، و الأخبار به كثيرة.
و القياس باطل عندنا، خصوصا إذا عارض النصّ.
بل كان عازما كلّ وقت على القضاء و يؤخّره لعذر من سفر و شبهه، و على كلّ حال لم يتهاون به، بل تركه لأمور عرضت، ثم عرض مع ضيق الوقت ما يمنعه من القضاء، كان معذورا يلزمه القضاء إجماعا، و لا كفّارة عليه، لعدم التفريط منه.
و لو استمرّ به المرض من الرمضان الأول إلى الرمضان الثاني و لم يصحّ.
فيما بينهما، صام الحاضر، و سقط عنه قضاء الأول، و تصدّق عن كلّ يوم
ص: 172
بمدّين أو بمدّ، عند أكثر علمائنا(1) ، لقول الصادق عليه السلام: «فإن كان لم يزل مريضا حتى أدركه شهر رمضان، صام الذي أدركه، و تصدّق عن الأول لكلّ يوم مدّا لمسكين، و ليس عليه قضاؤه»(2).
و نحوه روى زرارة - في الصحيح - عن الباقر عليه السلام(3).
و قال الصدوق: يقضي الأول و لا كفّارة - و هو قول العامة(4) - لعموم قوله تعالى فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ (5)(6).
إذا عرفت هذا، فحكم ما زاد على رمضانين حكم الرمضانين سواء، و لو أخّره سنين، تعدّدت الكفّارة بتعدّد السنين. و للشافعي وجهان(7).
و لو استمرّ به المرض إلى أن مات، سقط القضاء وجوبا لا استحبابا، و لا كفّارة عند جمهور العلماء(8) ، لأصالة البراءة.
و لأنّ سماعة سأل الصادق عليه السلام، عن رجل دخل عليه شهر رمضان و هو مريض لا يقدر على الصيام، فمات في شهر رمضان أو في شهر شوّال، قال: «لا صيام عليه و لا يقضى عنه»(9).2.
ص: 173
و قال قتادة و طاوس: يجب أن يكفّر عنه عن كلّ يوم إطعام مسكين، لأنّه صوم واجب سقط بالعجز عنه، فوجب الإطعام عنه، كالشيخ الهمّ إذا ترك الصيام لعجزه(1).
و الفرق ظاهر، فإنّ الشيخ يجوز ابتداء الوجوب عليه، بخلاف الميت، و قولهما مخالف للإجماع، فلا عبرة به.
ثم إذا عرفت هذا، فإنّه يستحب القضاء عنه.
- و به قال الشافعي في القديم و أبو ثور(2) - لما رواه العامة عن ابن عباس، قال: جاء رجل إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله، فقال: يا رسول اللّه إنّ أمّي ماتت و عليها صوم شهر أ فأقضيه عنها؟ قال: (لو كان على أمّك دين كنت قاضيه ؟) قال: نعم، قال: (فدين اللّه أحقّ أن يقضى)(3).
و من طريق الخاصة: قول الصادق عليه السلام، في الرجل يموت في شهر رمضان، قال: «ليس على وليّه أن يقضي عنه ما بقي من الشهر، و إن مرض فلم يصم رمضان ثم لم يزل مريضا حتى مضى رمضان و هو مريض ثم مات في مرضه ذلك، فليس على وليّه أن يقضي عنه الصيام، فإن مرض فلم يصم شهر رمضان ثم صحّ بعد ذلك فلم يقضه ثم مرض فمات، فعلى وليّه أن يقضي عنه لأنّه قد صحّ فلم يقض و وجب»(4).
ص: 174
و لأنّ الصوم يدخل في جبرانه المال، فتدخل النيابة فيه، كالحج.
و قال الشافعي في الجديد: يطعم عنه كلّ يوم مدّا، و به قال أبو حنيفة و مالك و الثوري - إلاّ أنّ مالكا يقول: لا يلزم الولي أن يطعم عنه حتى يوصي بذلك - و هو مروي عن ابن عباس و عائشة، لما رواه ابن عمر: أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله، قال: (من مات و عليه صيام شهر فليطعم عنه مكان كلّ يوم مسكينا)(1).
و لأنّ الصوم لا تدخله النيابة في حال الحياة، فكذا بعد الموت، كالصلاة(2).
و حديثه موقوف، و نقول بموجبه، لأنّ الصدقة تجب إذا لم يكن ولي، و قياسه ممنوع الأصل.
و قال أحمد: إن كان صوم نذر، صام عنه الولي، و إن كان صوم رمضان، أطعم عنه، لأنّ ابن عباس سئل عن رجل مات و عليه نذر صوم شهر، أو عليه صوم رمضان، قال: أمّا رمضان فليطعم عنه، و أمّا النذر فيصام عنه(3).
و قول ابن عباس ليس حجّة، أو قاله في شخصين لأحدهما وليّ دون الآخر.
و يقضي ما فاته من صيام بمرض و غيره إذا تمكّن من قضائه و لم يقضه، و إن لم يكن له
ص: 175
ولد ذكر و كان له إناث، تصدّق عنه من ماله عن كلّ يوم بمدّين، قاله الشيخ(1) رحمه اللّه.
و قال المفيد رحمه اللّه: إذا لم يكن إلاّ أنثى، قضت عنه(2).
و الوجه: قول الشيخ، لأصالة البراءة.
و لما رواه حمّاد بن عثمان عمّن ذكره عن الصادق عليه السلام، قال:
سألته عن الرجل يموت و عليه دين [من](3) شهر رمضان من يقضي عنه ؟ قال:
«أولى الناس به» قلت: فإن كان أولى الناس به امرأة ؟ قال: «لا إلاّ الرجال»(4).
إذا عرفت هذا، فلو لم يكن له ولي من الذكور، قال الشيخ رحمه اللّه:
يتصدّق عنه عن كلّ يوم بمدّين، و أقلّه مدّ(5).
و السيد المرتضى - رحمه اللّه - عكس، فأوجب الصدقة أوّلا، فإن لم يكن له مال، صام عنه وليه(6) ، لقول الصادق عليه السلام: «فإن صحّ ثم مرض حتى يموت و كان له مال، تصدّق عنه، فإن لم يكن له مال، صام عنه وليه»(7).
و المعتمد: قول الشيخ، لأنّ الواجب في الأصل الصوم.
لأنّه ولي له.
ص: 176
فإن قام بالجميع بعضهم، سقط عن الباقين.
و وجب الصدقة، و كذا لو لم يكن له ولي. و لو كان له أولاد ذكور و إناث، و كان الأكبر أنثى، وجب القضاء على أكبر الذكور.
فإن انكسر العدد، فاليوم المنكسر واجب عليهم على الكفاية، كما لو كانوا ثلاثة في سنّ واحد و عليه أربعة.
فلو فاته يومان مثلا و له ولدان فصاما معا يوما واحدا، كفاهما عن اليومين.
و إن صام بأمر الولي، فالأقرب: الإجزاء.
و للشافعي فيه وجهان(1).
و كذا يجوز للولي أن يستأجر عنه من يصوم.
كاليمين و النذر و العهد، إذا مات من وجب عليه مع إمكان القضاء و لم يقضه، وجب على وليّه القضاء عنه أو الصدقة(2).
و كذا يجب عليه قضاء ما فاته من صلاة.
تصدّق عنه من مال الميت عن شهر، و قضى وليّه شهرا آخر(3) ، تخفيفا
ص: 177
عن الوليّ.
و لو وجب عليه شهران على التعيين فكذلك، خلافا لبعض(1) علمائنا.
و لو كان على التخيير، مثل كفّارة رمضان، تخيّر الوليّ بين الصوم و الصدقة من مال الميت من الأصل أو بعض من الأصل، لأنّ الصوم وجب على التخيير، و خرج الميت عن أهلية التخيير، فيكون للولي.
و لا فرق بين أنواع المرض في ذلك.
في أنّ ما يفوتها في زمن الحيض أو السفر أو المرض لا يجب على أحد القضاء عنها و لا الصدقة، إلاّ إذا تمكّنت من قضائه و أهملته، فإنّه يجب على وليّها القضاء أو الصدقة، على ما مرّ في الرجل سواء(2). و هو قول أكثر العامّة(3).
و أنكر ابن إدريس ذلك(4).
و ليس بشيء، لما رواه أبو بصير - في الصحيح - عن الصادق عليه السلام، قال: سألته عن امرأة [مرضت في رمضان](5) و ماتت في شوّال، فأوصتني أن أقضي عنها، قال: «هل برئت من مرضها؟» قلت: لا، ماتت، قال: «لا تقض عنها، فإنّ اللّه لم يجعله عليها» قلت: فإنّي أشتهي أن أقضي عنها و قد أوصتني بذلك، قال: «و كيف تقضي شيئا لم يجعله اللّه عليها!؟ فإن اشتهيت أن تصوم لنفسك فصم»(6) استفسره عليه السلام عن حصول البرء أوّلا، و لو لم يجب القضاء مع البرء، لم يكن للسؤال معنى.
لا يقال: إنّه قد حصلت الوصية، فجاز أن يكون الوجوب بسببها.
ص: 178
لأنّا نقول: الوصية لا تقتضي الوجوب، أمّا مع عدم القبول: فظاهر، و أمّا معه: فلأنّه راجع إلى الوعد.
و لا غيره من الواجبات إلاّ ما استثني، بل يجب عليه الإفطار و القضاء مع حضور البلد، أو نيّة الإقامة عشرة أيام في غيره، أو إقامة ثلاثين يوما، فإن مات المسافر بعد تمكّنه من القضاء، وجب أن يقضى عنه، كما تقدّم.
و لو مات في سفره و لم يتمكّن من القضاء، فللشيخ في وجوب القضاء عنه قولان:
أحدهما: عدم الوجوب، لأنّه لم يستقرّ في ذمته الأداء و لا القضاء، لأنّ معنى الاستقرار فيه أن يمضي زمان يتمكّن فيه من القضاء و يهمل(1).
و الثاني: وجوب القضاء(2) ، لقول الصادق عليه السلام، في الرجل يسافر في رمضان فيموت، قال: «يقضى عنه، و إن امرأة حاضت في رمضان فماتت، لم يقض عنها، و المريض في رمضان لم يصح حتى مات لا يقضى عنه»(3).
و لا بأس به. و الفرق: أنّ المرض حصل العذر فيه من قبل اللّه تعالى، و كذا الحيض، أمّا السفر فمن المكلّف.
لعدم تعيين زمانه.
و لأنّه محلّ تجديد النيّة، و كلّ وقت يجوز فيه تجديد نيّة الصوم يجوز فيه الإفطار.
و لا يجوز بعد الزوال، لأنّه قد استقرّ له الوجوب بمضيّ أكثر الزمان في
ص: 179
الصوم، و فات محلّ تجديد النيّة.
و لقول الصادق عليه السلام: «صوم النافلة لك أن تفطر ما بينك و بين الليل و متى ما شئت، و صوم قضاء الفريضة لك أن تفطر إلى زوال الشمس، فإذا زالت الشمس، فليس لك أن تفطر»(1).
إذا ثبت هذا، فإن أفطر بعد الزوال لعذر، لم يكن عليه شيء، و إن كان لغير عذر، وجب عليه القضاء و إطعام عشرة مساكين، فإن عجز، صام ثلاثة أيّام - و به قال قتادة(2) ، خلافا لباقي العامة(3) - لأنّه بعد الزوال يحرم عليه الإفطار على ما تقدّم، و الكفّارة تتعلّق بارتكاب الإثم بالإفطار في الزمان المتعيّن للصوم، و هو متحقّق هنا.
و لأنّ بريد العجلي سأل الباقر عليه السلام، في رجل أتى أهله في يوم يقضيه من شهر رمضان، قال: «إن كان أتى أهله قبل الزوال، فلا شيء عليه إلاّ يوما مكان يوم، و إن كان أتى أهله بعد الزوال، كان عليه أن يتصدّق على عشرة مساكين»(4).
و قد روي: «أنّ عليه كفّارة رمضان»(5).
و حملها الشيخ - رحمه اللّه - على من أفطر متهاونا بالفرض و مستخفّا به(6).4.
ص: 180
و روي أيضا: «أنّه لا شيء»(1).
و حملها الشيخ - رحمه اللّه - على العاجز(2).
و ترك الاغتسال ساهيا من أول الشهر إلى آخره، قال الشيخ رحمه اللّه: عليه قضاء الصلاة و الصوم معا(3).
و منع ابن إدريس قضاء الصوم(4).
و الوجه: ما قاله الشيخ، لما رواه الحلبي - في الصحيح - عن الصادق عليه السلام، أنّه سئل عن رجل أجنب في شهر رمضان فنسي أن يغتسل حتى خرج شهر رمضان، قال: «عليه أن يقضي الصلاة و الصيام»(5).
و لأنّه مفرّط بتركه الغسل.
و ليس واجبا عند أكثر علمائنا(6) - و به قال ابن عباس و أنس بن مالك و أبو هريرة و مجاهد و أبو قلابة و أهل المدينة و الحسن البصري و سعيد بن المسيّب و مالك و أبو حنيفة و الثوري و الأوزاعي و الشافعي و إسحاق(7) - لما رواه العامّة: أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله، قال في قضاء رمضان: (إن شاء فرّق و إن شاء تابع)(8).
ص: 181
و سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، عن تقطيع قضاء رمضان، فقال عليه السلام: (لو كان على أحدكم دين فقضاه من الدرهم و الدرهمين حتى يقضي ما عليه من الدين هل كان ذلك قاضيا دينه ؟) قالوا: نعم يا رسول اللّه، قال: (فاللّه أحقّ بالعفو و التجاوز منكم)(1).
و من طريق الخاصة: قول الصادق عليه السلام: «إذا كان على الرجل شيء من صوم شهر رمضان فليقضه في أيّ الشهور شاء أيّاما متتابعة، فإن لم يستطع فليقضه كيف شاء، و ليحص الأيّام، فإن فرّق فحسن، و إن تابع فحسن»(2).
و قال عليه السلام: «من أفطر شيئا من رمضان في عذر، فإن قضاه متتابعا أفضل، و إن قضاه متفرّقا فحسن»(3).
و لأنّ التتابع يشبه الأصل، و ينبغي المشابهة بين القضاء و الأداء.
و قال بعض علمائنا: الأفضل التفريق(4) ، للفرق، لأنّ الصادق عليه السلام، سئل عن الرجل يكون عليه أيام من شهر رمضان كيف يقضيها؟ فقال: «إن كان عليه يومان فليفطر بينهما يوما، و إن كان عليه خمسة فليفطر بينها أيّاما»(5).
و الطريق ضعيف، و يحمل على التخيير.
و قال بعض علمائنا: إن كان الذي فاته عشرة أيام أو ثمانية، فليتابع بين ثمانية أو بين ستة، و يفرّق الباقي(6).1.
ص: 182
و قال داود و النخعي و الشعبي: إنّه يجب التتابع - و نقله العامّة عن علي عليه السلام، و ابن عمر - لقول النبي صلّى اللّه عليه و آله: (من كان عليه صوم شهر رمضان فليسرده و لا يقطعه)(1)(2).
و يحمل على الاستحباب، مع ضعفه، فإنّه لم يذكره أهل السير، و قد بيّنّا أنّ الأفضل التتابع.
و قال الطحاوي: التفريق و التتابع سواء(3) ، لأنّه لو أفطر يوما من شهر رمضان لم يستحب له إعادة جميعه، لزوال التفريق، فكذا إذا أفطر جميعه.
و هو خطأ، لأنّ فعله في وقته يقع أداء، فإذا صامه، لم يكن صوم الفرض، فلم تستحب إعادته.
- و هو إحدى الروايتين عن أحمد(4) - لما رواه العامة: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، قال: (من صام تطوّعا و عليه من رمضان شيء لم يقضه فإنّه لا يقبل منه حتى يصومه)(5).
و من طريق الخاصة: ما رواه الحلبي - في الحسن - أنّه سأل الصادق عليه السلام، عن الرجل عليه من شهر رمضان طائفة أ يتطوّع ؟ فقال: «لا، حتى يقضي ما عليه من شهر رمضان»(6).
و لأنّه عبادة يدخل في جبرانها المال، فلم يصح التطوّع بها قبل أداء
ص: 183
فرضها، كالحجّ.
و قال أحمد في الرواية الأخرى بالجواز، لأنّها عبادة تتعلّق بوقت موسّع، فجاز التطوّع في وقتها قبل فعلها، كالصلاة(1).
و الأصل ممنوع.
العيدين مطلقا، و أيّام التشريق لمن كان بمنى ناسكا، و أيام الحيض و النفاس و السفر الذي يجب فيه القصر.
و قد أجمع العلماء كافة على العيدين، لنهي النبي صلّى اللّه عليه و آله، عن صومهما(2).
و أمّا أيام التشريق: فعلماؤنا عليه، و كذا أكثر أهل العلم(3) - و عن أحمد روايتان(4) - لأنّ(5) صومها منهي عنه، فأشبهت العيدين.
و احتجّ أحمد: بجواز صومها لمن لا يجد الهدي، فيقاس كلّ فرض عليه، و القضاء مشابه له(6).
و نمنع حكم الأصل، و الفرق: أنّه في محلّ الضرورة للفاقد(7).
و أيّام الحيض و النفاس إجماع.
و أيام السفر، لقول الصادق عليه السلام، في رجل مرض في شهر
ص: 184
رمضان، فلمّا بريء أراد الحجّ، كيف يصنع بقضاء الصوم ؟ قال: «إذا رجع فليقضه»(1).
- و به قال سعيد بن المسيّب و الشافعي و إسحاق و أحمد في إحدى الروايتين(2) - لعموم قوله تعالى فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ (3).
و ما رواه العامة: أنّ عمر كان يستحب قضاء رمضان في العشر(4).
و من طريق الخاصة: ما رواه الحلبي - في الصحيح - أنّه سأل الصادق عليه السلام: أ رأيت إن بقي عليّ شيء من صوم شهر رمضان أقضيه في ذي الحجة ؟ قال: «نعم»(5).
و قال أحمد في الرواية الأخرى: إنّه مكروه. و رواه العامة عن علي عليه السلام، و الزهري و الحسن البصري(6) ، لقول علي عليه السلام: «لا يقضى صوم(7) رمضان في عشر ذي الحجة»(8). و الطريق ضعيف.
و لم يجز له صومه، لما رواه ابن سنان - في الصحيح - عن الصادق عليه السلام، أنّه سأله عن الرجل يقضي رمضان فيجنب من أول الليل و لا يغتسل حتى آخر الليل و هو يرى أنّ الفجر قد طلع، قال: «لا يصوم ذلك اليوم و يصوم
ص: 185
غيره»(1).
قال الشيخ رحمه اللّه: و كذا كلّ ما لا يتعيّن صومه و كذا صوم النافلة(2).
أمّا لو أكل أو شرب ناسيا في قضاء رمضان، فالوجه: أنّه يتمّ على صومه، لما رواه الحلبي - في الصحيح - عن الصادق عليه السلام، أنّه سئل عن رجل نسي فأكل و شرب ثم ذكر، قال: «لا يفطر، إنّما هو شيء رزقه اللّه، فليتم صومه»(3) و هو يتناول صورة النزاع.
و سأل أبو بصير، الصادق عليه السلام، عن رجل صام يوما نافلة، فأكل و شرب ناسيا، قال: «يتمّ يومه ذلك، و ليس عليه شيء»(4).
و للشيخ - رحمه اللّه - قول آخر.
قال اللّه تعالى فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللّهِ (5).
و إنّما يجب بعد العجز عن العتق. و هو: شهران متتابعان.
و يجب صوم كفّارة الظهار بالإجماع و النصّ:
قال اللّه تعالى فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ (6).
و هو يجب مرتّبا على العتق، مثل كفّارة قتل الخطأ صفة و قدرا.
ص: 186
و أمّا كفّارة قتل العمد: فهي كفّارة الجمع يجب فيه العتق و صيام شهرين متتابعين و إطعام ستين مسكينا.
و قدره شهران متتابعان، و لا خلاف في قدره و إن وقع الخلاف في صفته.
و صوم كفّارة من أفطر يوما من قضاء شهر رمضان: إطعام عشرة مساكين على ما تقدّم(1).
و قال بعض أصحابنا: يجب فيه كفّارة يمين(2). و ليس بجيّد.
و يجب صوم بدل الهدي للمتمتّع إذا لم يجد الهدي و لا ثمنه بالنصّ و الإجماع.
قال اللّه تعالى فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ فِي الْحَجِّ وَ سَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ (3).
فإن أقام بمكّة، انتظر وصول أهل بلده أو شهرا، لقول الصادق عليه السلام: «إنّه إن كان له مقام بمكّة فأراد أن يصوم السبعة ترك الصيام بقدر سيره إلى أهله أو شهرا ثم صام»(4).
إذا عرفت هذا، فإنّه لا يكفي مقام عشرة أيام و إن نواها.
و صوم كفّارة اليمين و باقي الكفّارات كالنذر و العهد. و كفّارات الإحرام واجب إجماعا.
لما يأتي من
ص: 187
اشتراط الصوم في الاعتكاف، فإذا نذر اعتكافا وجب عليه صوم أيامه، لأنّ شرط الواجب واجب، و لو كان الاعتكاف مندوبا، كان الصوم كذلك.
و صوم كفّارة من أفاض من عرفات قبل مغيب الشمس عامدا واجب مرتّب على مقدار الجزور، و قدره ثمانية عشر يوما.
و كذا يجب صوم اليمين و النذر و العهد، و سيأتي بيانه في مواضعه إن شاء اللّه تعالى.
و هو جميع أيام السنة، إلاّ الأيام التي نهي عن الصوم فيها.
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: (الصوم جنّة من النار)(1).
و قال عليه السلام: (الصائم في عبادة و إن كان نائما على فراشه ما لم يغتب مسلما)(2).
و عنه صلّى اللّه عليه و آله، أنّه قال: (قال اللّه تعالى: الصوم لي و أنا أجزي به، و للصائم فرحتان: حين يفطر و حين يلقى ربّه عزّ و جلّ، و الذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم عند اللّه أطيب من ريح المسك)(3).
و قال الصادق عليه السلام: «نوم الصائم عبادة، و صمته تسبيح، و عمله متقبّل، و دعاؤه مستجاب»(4).
و منه ما يختصّ وقتا بعينه نحن نذكره إن شاء اللّه تعالى، في المسائل
ص: 188
الآتية.
- و هي أول خميس في الشهر، و أول أربعاء في العشر الثاني، و آخر خميس من الشهر - لقول الصادق عليه السلام: «صام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، حتى قيل: ما يفطر، ثم أفطر حتى قيل: ما يصوم، ثم صام صوم داود عليه السلام، يوما و يوما لا، ثم قبض عليه السلام، على صيام ثلاثة أيام في الشهر. و قال:
يعدلن صوم الشهر و يذهبن بوحر الصدر - و هو الوسوسة - و إنّما خصّت هذه الأيام، لأنّ من قبلنا من الأمم كانوا إذا نزل على أحدهم العذاب، نزل في هذه الأيام المخوفة»(1).
و يجوز تأخيرها من الصيف إلى الشتاء للمشقّة، لأنّ أبا حمزة الثمالي سأل الباقر عليه السلام، عن صوم ثلاثة أيام في كلّ شهر أؤخّرها إلى الشتاء ثم أصومها؟ فقال: «لا بأس»(2).
و إذا أخّرها إلى الشتاء، قضاها متوالية و متفرّقة و كيف شاء، لقول الصادق عليه السلام، و قد سئل عن قضائها متوالية أو متفرّقة، قال: «ما أحبّ، إن شاء متوالية و إن شاء فرّق بينها»(3).
و لو عجز عن(4) صيامها، تصدّق عن كلّ يوم بمدّ من طعام، لأنّه فداء يوم من رمضان.
و لأنّ عيص بن القاسم سأل الصادق عليه السلام، عمّن لم يصم الثلاثة الأيام و هو يشتدّ عليه الصيام هل من فداء؟ قال: «مدّ من طعام في كلّ
ص: 189
يوم»(1).
- و هي الثالث عشر و الرابع عشر و الخامس عشر من كلّ شهر - بإجماع العلماء.
روى العامة عن أبي ذر، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: (يا أبا ذر إذا صمت من الشهر ثلاثة فصم ثلاث عشرة و أربع عشرة و خمس عشرة)(2).
و من طريق الخاصة: ما رواه الزهري عن زين العابدين علي بن الحسين عليهما السلام، في حديث طويل: «و صوم أيّام البيض»(3).
و سميّت أيّام البيض، لابيضاض ليلها كلّه بضوء القمر. و التقدير: أيّام الليالي البيض.
و نقل الجمهور: أنّ اللّه تعالى تاب على آدم فيها، و بيّض صحيفته(4).
يوم مبعث النبي صلّى اللّه عليه و آله - و هو السابع و العشرون من رجب - و يوم مولد النبي صلّى اللّه عليه و آله - و هو السابع عشر من ربيع الأول - و يوم دحو الأرض - و هو الخامس و العشرون من ذي القعدة - و يوم الغدير - و هو الثامن عشر من ذي الحجة، و هو اليوم الذي نصب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عليّا عليه السلام خليفة و إماما للناس - لأنّها أيام شريفة أنعم اللّه تعالى بأعظم البركات، فاستحب شكره بالصوم فيها.
ص: 190
روى محمد بن عبد اللّه الصيقل، قال: خرج علينا أبو الحسن الرضا عليه السلام بمرو في خمسة و عشرين من ذي القعدة، فقال: «صوموا فإنّي أصبحت صائما» قلنا: جعلنا اللّه فداك أيّ يوم هو؟ قال: «يوم نشرت فيه الرحمة و دحيت فيه الأرض و نصبت فيه الكعبة»(1).
و سأل الحسن بن راشد، الصادق عليه السلام، قال: قلت له:
جعلت فداك، للمسلمين عيد غير العيدين ؟ قال: «نعم يا حسن أعظمهما و أشرفهما» قلت: فأيّ يوم هو؟ قال: «يوم نصب أمير المؤمنين عليه السلام فيه علما للناس - إلى أن قال - و لا تدع صوم سبعة و عشرين من رجب، فإنّه اليوم الذي نزلت فيه النبوة على محمد صلّى اللّه عليه و آله»(2).
قال إسحاق(3) بن عبد اللّه العريضي العلوي: و جل في صدري ما الأيام التي تصام، فقصدت مولانا أبا الحسن علي بن محمد الهادي عليهما السلام، و هو ب «صريا»(4) و لم أبد ذلك لأحد من خلق اللّه، فدخلت عليه، فلمّا بصر بي قال عليه السلام: «يا إسحاق جئت تسألني عن الأيام التي يصام فيهنّ و هي أربعة: أوّلهنّ يوم السابع و العشرين من رجب يوم بعث اللّه تعالى محمدا صلّى اللّه عليه و آله إلى خلقه رحمة للعالمين، و يوم مولده صلّى اللّه عليه و آله، و هو السابع عشر من شهر ربيع الأول، و يوم الخامس و العشرين من ذي القعدة، فيه دحيت الكعبة، و يوم الغدير، فيه أقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، أخاه عليّا عليه السلام، علما للناس و إماما من بعده» قلت: صدقت4.
ص: 191
جعلت فداك لذلك قصدت، أشهد أنك حجّة اللّه على خلقه(1).
روى العامة أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، قال: (صيام يوم عرفة كفّارة سنة و السنة التي تليها)(2).
و من طريق الخاصة: قول الصادق عليه السلام: «صوم يوم التروية كفّارة سنة و يوم عرفة كفّارة سنتين»(3).
و لا يكره صومه للحاج، إلاّ أن يضعفهم عن الدعاء، و يقطعهم عنه - و به قال أبو حنيفة و ابن الزبير و إسحاق و عطاء(4) - لأنّ محمد بن مسلم سأل الباقر عليه السلام، عن صوم يوم عرفة، قال: «من قوي عليه فحسن إن لم يمنعك عن الدعاء فإنّه يوم دعاء و مسألة فصمه، و إن خشيت أن تضعف عن ذلك فلا تصمه»(5).
و قال باقي العامة: إنّه مكروه، لأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، لم يصمه(6)(7).
و هو ممنوع، و لو سلّم فللضعف، أو لكونه مسافرا، أو أصابه عطش.
و لو شكّ في هلال ذي الحجة، كره صومه، لجواز أن يكون العيد.
لأنّه يوم قتل
ص: 192
أحد سيدي شباب أهل الجنة الحسين بن علي صلوات اللّه عليهما، و هتك حريمه و جرت فيه أعظم المصائب على أهل البيت عليهم السلام، فينبغي الحزن فيه بترك الأكل و الملاذ.
قال أمير المؤمنين عليه السلام: «صوموا العاشوراء التاسع و العاشر، فإنّه يكفّر ذنوب سنة»(1).
و قول الباقر و الصادق عليهما السلام: «لا تصم يوم عاشوراء»(2) محمول على التبرّك به.
إذا عرفت هذا، فإنّه ينبغي أن لا يتمّ صوم ذلك اليوم، بل يفطر بعد العصر، لما روي عن الصادق عليه السلام: «إنّ صومه متروك بنزول شهر رمضان، و المتروك بدعة»(3).
و المراد بيوم عاشوراء هو اليوم العاشر من المحرّم، و به قال سعيد بن المسيّب و الحسن البصري(4).
و روي عن ابن عباس: أنّه التاسع من المحرّم(5). و ليس بمعتمد.
و قد اختلف في صوم عاشوراء - و لنا روايتان - هل كان واجبا أم لا؟ قال بعضهم: إنّه كان واجبا(6). و به قال أبو حنيفة(7).
و قال آخرون: إنّه لم يكن واجبا(8). و للشافعي قولان(9). و عن أحمد6.
ص: 193
روايتان(1).
و هو الرابع و العشرون من ذي الحجة - أمر اللّه تعالى رسوله بأن يباهل بأمير المؤمنين و فاطمة و الحسن و الحسين عليهم السلام، نصارى نجران. و فيه تصدّق أمير المؤمنين عليه السلام بخاتمه في ركوعه(2) ، و نزلت فيه الآية، و هي: قوله تعالى إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ (3) - لأنّه يوم شريف أظهر اللّه تعالى فيه نبيّنا عليه السلام على خصومه، و حصل فيه التنبيه على قرب أمير المؤمنين عليه السلام من ربّه و اختصاصه و عظم منزلته و ثبوت ولايته و استجابة الدعاء به، و ذلك نعمة عظيمة يستحب مقابلتها بالشكر بالصوم.
و هو يوم ولد فيه إبراهيم خليل اللّه تعالى(4) ، لعظم النعمة فيه بولادته عليه السلام.
قال الكاظم عليه السلام: «من صام أول يوم من ذي الحجة كتب اللّه له صوم ثمانين شهرا، فإن صام التسعة كتب اللّه له صوم الدهر»(5).
و قيل: إنّ فاطمة عليها السلام تزوّجت في ذلك اليوم(6).
و قيل: في السادس من ذي الحجّة(7).
و يستحب صوم عشر ذي الحجة إلاّ يوم العيد بالإجماع، لما روى العامة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، أنّه قال: (ما من أيّام العمل الصالح فيهنّ
ص: 194
أحبّ إلى اللّه من هذه الأيام العشر)(1).
و من طريق الخاصة: ما تقدّم(2) في حديث الكاظم عليه السلام.
و يستحب صوم يوم الخامس و العشرين من ذي الحجة، و هو يوم نزل في علي و فاطمة و الحسن و الحسين عليهم السلام هَلْ أَتى (3).
و في السادس و العشرين منه طعن عمر بن الخطاب سنة ثلاث و عشرين من الهجرة(4). و في التاسع و العشرين منه قبض عمر بن الخطاب(5).
و يوم الثامن عشر منه هو يوم الغدير، و هو يوم قتل عثمان بن عفّان، و بايع المهاجرون و الأنصار عليّا عليه السلام، طائعين مختارين عدا أربعة أنفس منهم: عبد اللّه بن عمر و محمد بن مسلمة(6) و سعد بن أبي وقاص و أسامة ابن زيد(7).
لأنّه شهر شريف معظّم في الجاهلية و الإسلام، و هو أحد الأشهر الحرم.
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: (من صام شهر رجب كلّه كتب اللّه تعالى له رضاه، و من كتب له رضاه لم يعذّبه)(8).
و كان أمير المؤمنين عليه السلام يصومه و يقول: «رجب شهري، و شعبان شهر رسول اللّه، و رمضان شهر اللّه»(9).
ص: 195
و قال أحمد: يكره صومه كلّه، إلاّ لصائم السنة فيدخل ضمنا، لأنّ خرشة بن الحرّ قال: رأيت عمر يضرب أكف المترجّبين حتى يضعوها في الطعام، و يقول: كلوا فإنّما هو شهر كان تعظّمه الجاهلية(1).
و فعله ليس حجّة.
و يتأكّد استحباب أوّله و ثانية و ثالثة.
و في اليوم الأول منه ولد مولانا الباقر عليه السلام يوم الجمعة سنة سبع و خمسين(2).
و في الثاني منه كان مولد أبي الحسن الثالث عليه السلام(3). و قيل:
الخامس منه(4).
و يوم العاشر ولد أبو جعفر الثاني عليه السلام(5).
و يوم الثالث عشر منه ولد مولانا أمير المؤمنين عليه السلام في الكعبة قبل النبوّة باثنتي عشرة سنة، ذكره الشيخ - رحمه اللّه - عن ابن عيّاش من علمائنا(6).
و في اليوم الخامس عشر خرج فيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، من الشعب(7).
و في هذا اليوم لخمسة أشهر من الهجرة عقد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، لأمير المؤمنين عليه السلام، على ابنته فاطمة عليها السلام، عقدة النكاح(8).
و فيه حوّلت القبلة من بيت المقدس و كان الناس في صلاة العصر(9).
ص: 196
قال الصادق عليه السلام: «صوم شعبان و شهر رمضان متتابعين توبة من اللّه»(1).
و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: (ألا إنّ شعبان شهري، فرحم اللّه من أعانني على شهري)(2).
و يتأكّد صوم أول يوم منه.
قال الصادق عليه السلام: «من صام أول يوم من شعبان وجبت له الجنّة البتة، و من صام يومين نظر اللّه إليه في كلّ يوم و ليلة في دار الدنيا و دام نظره إليه في الجنّة، و من صام ثلاثة أيام زار اللّه في عرشه في جنته في كلّ يوم»(3).
و في الثالث منه ولد الحسين عليه السلام(4). و ليلة النصف منه ولد القائم عليه السلام(5). و هي إحدى الليالي الأربعة: ليلة الفطر و ليلة الأضحى و ليلة النصف من شعبان و أول ليلة من رجب.
رحمه اللّه.
قال: و في اليوم الثالث من المحرّم كان عبور موسى بن عمران عليه السلام، على جبل طور سيناء. و في اليوم السابع منه أخرج اللّه سبحانه، يونس عليه السلام، من بطن الحوت. و في اليوم العاشر كان مقتل سيّدنا الحسين عليه السلام. و يستحب في هذا اليوم زيارته. و يستحب صوم هذا العشر، فإذا كان يوم عاشوراء أمسك عن الطعام و الشراب إلى بعد العصر ثم تناول شيئا من التربة(1).
قال الشيخ رحمه اللّه: و في اليوم السابع عشر من المحرّم انصرف أصحاب الفيل عن مكّة و قد نزل عليهم العذاب. و في اليوم الخامس و العشرين منه سنة أربع و تسعين كانت وفاة زين العابدين عليه السلام(2).
قال الشيخ رحمه اللّه: يستحب صوم النصف من جمادى الأولى، ففي ذلك اليوم من سنة ست و ثلاثين كان فتح البصرة لأمير المؤمنين عليه السلام.
و في ليلته من هذه السنة بعينها كان مولد مولانا أبي محمد علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام(3).
و من طريق الخاصة: ما رواه الزهري عن زين العابدين عليه السلام «و صوم ستة أيّام من شوّال»(1).
و قال أبو يوسف: كانوا يكرهون أن يتبعوا رمضان صياما خوفا أن يلحق ذلك بالفريضة(2). و حكي مثل ذلك عن محمد بن الحسن(3).
و قال مالك: يكره ذلك. قال: و ما رأيت أحدا من أهل المدينة(4) يصومها، و لم يبلغني ذلك عن أحد من السلف، و أنّ أهل العلم يكرهون ذلك و يخافون بدعته، و أن يلحق الجهّال برمضان ما ليس منه(5).
لأنّ أعمال الخلائق ترفع فيهما، فيستحب رفع هذه العبادة الشريفة.
روى العامّة أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله، كان يصوم يوم الاثنين و الخميس، فسئل عن ذلك، فقال: (إنّ أعمال الناس تعرض يوم الاثنين و الخميس)(6).
و من طريق الخاصة: ما رواه الزهري عن زين العابدين عليه السلام:
«و الخميس»(7).
ص: 199
و كذا يستحب صوم كلّ جمعة - و به قال أبو حنيفة و مالك و محمد(1) - لأنّ الصوم في نفسه طاعة، و هذا يوم شريف تضاعف فيه الحسنات.
و لما رواه الزهري عن زين العابدين عليه السلام: «فأمّا الصوم الذي صاحبه فيه بالخيار فصوم يوم الجمعة و الخميس»(2).
و قال ابن سنان عن الصادق عليه السلام: رأيته صائما يوم جمعة، فقلت له: جعلت فداك إنّ الناس يزعمون أنّه يوم عيد، فقال: «كلاّ إنّه يوم خفض و دعة»(3).
و قال أحمد و إسحاق و أبو يوسف: يكره إفراده بالصوم، إلاّ أن يوافق ذلك صوما كان يصومه، مثل: من يصوم يوما و يفطر يوما، فيوافق صومه يوم الجمعة. و كذا من عادته صيام أول الشهر أو آخره فيوافقه، لما رواه أبو هريرة: أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله، نهى أن يفرد يوم الجمعة بالصوم(4).
و سأل رجل جابر بن عبد اللّه و هو يطوف، فقال: أسمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، نهى عن صيام يوم الجمعة ؟ قال: نعم و ربّ هذا البيت(5)(6).
فإن صحّت هاتان الروايتان، حملتا على من يضعف عن الفرائض3.
ص: 200
و نوافل الجمعة و الأدعية و أداء الجمعة على وجهها و السعي إليها، جمعا بين الأدلّة.
و قد روى علماؤنا أنّ صوم داود على نبيّنا و آله و عليه السلام، فعله رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله(1).
قال رسول اللّه عليه و آله السلام: (أحبّ الصيام إلى اللّه تعالى صيام أخي داود عليه السلام، كان يصوم يوما و يفطر يوما، و أحبّ الصلاة إلى اللّه تعالى صلاة أخي داود، كان يرقد شطر الليل و يقوم ثلثه ثم يرقد آخره)(2).
لأنّه مملوك ليس له التصرّف في نفسه، و منافعه مستحقّة لغيره، و ربما تضرّر السيد بضعفه بالصوم، فإن أذن له مولاه، صحّ. هذا في صيام التطوّع.
و لقول زين العابدين عليه السلام: «و أمّا صوم الإذن فالمرأة لا تصوم تطوّعا إلاّ بإذن زوجها، و العبد لا يصوم تطوّعا إلاّ بإذن مولاه، و الضيف لا يصوم تطوّعا إلاّ بإذن صاحبه، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من نزل على قوم فلا يصوم تطوّعا إلاّ بإذنهم»(3).
أمّا الفرض فلا، و كذا ليس له أن ينذر الصوم إلاّ بإذن مولاه. و هذا كلّه
ص: 201
لا خلاف فيه. و لا فرق بين أن يكون المولى حاضرا أو غائبا.
سواء كان الزوج حرّا أو عبدا، لأنّه مالك لبضعها، و له حقّ الاستمتاع، و ربما يمنعه الصوم عنه، فلم يكن سائغا لها إلاّ برضاه.
و لا فرق بين أن يكون زوجها حاضرا أو غائبا.
و اشترط الشافعي حضوره(1).
و ليس بجيّد، لما اشتمل عليه حديث الزهري عن زين العابدين عليه السلام(2).
و لو كان عليها صوم واجب، لم يعتبر إذنه، بل يجب عليها فعله، و لا يحلّ له منعها عنه.
و لو كان الواجب موسّعا، ففي جواز منعها من المبادرة لو طلبت التعجيل إشكال.
لما تقدّم في حديث الزهري عن زين العابدين عليه السلام(3).
و لما فيه من جبر قلب المؤمن و مراعاته، فكان مستحبّا.
و من صام ندبا و دعي إلى طعام، استحبّ إجابة الداعي إذا كان مؤمنا، و الإفطار عنده، لأنّ مراعاة قلب المؤمن أفضل من ابتداء الصوم.
و لما رواه داود الرقّي عن الصادق عليه السلام، قال: «لإفطارك في منزل أخيك أفضل من صيامك سبعين ضعفا أو تسعين ضعفا»(4).
و لا ينبغي للمضيف أن يصوم إلاّ بإذن الضيف، لئلاّ يلحقه الحياء، رواه
ص: 202
الصدوق عن الصادق عليه السلام(1).
و كذا لا ينبغي للولد أن يتطوّع بالصوم إلاّ بإذن والده، لأنّ امتثال أمر الوالد و طاعته أولى، لما رواه الصدوق - رحمه اللّه - عن الصادق عليه السلام، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: (من فقه الضيف أن لا يصوم تطوّعا إلاّ بإذن صاحبه، و من طاعة المرأة لزوجها أن لا تصوم تطوّعا إلاّ بإذنه و أمره، و من صلاح العبد و طاعته و نصيحته لمولاه أن لا يصوم تطوّعا إلاّ بإذن مولاه، و من برّ الولد بأبويه أن لا يصوم تطوّعا إلاّ بإذن أبويه و أمرهما، و إلاّ كان الضيف جاهلا، و كانت المرأة عاصية، و كان العبد فاسدا، و كان الولد عاقّا)(2).
المسافر و الحائض و النفساء و المريض و الكافر و الصبي، و ليس ذلك صوما حقيقيّا، لأنّ هؤلاء قد كانوا مفطرين في أول النهار، و الصوم غير قابل للتجزّي، لكن يستحب الإمساك لهم، تشبّها بالصائمين.
فإذا قدم المسافر إلى أهله و قد أفطر في سفره، أمسك بقية النهار تأديبا، و كذا لو أفطر مسافرا ثم قدم بلدا عزم على الإقامة فيه عشرة أيام فزائدا، سواء كان قدومه قبل الزوال أو بعده، استحبابا و ليس بفرض، و به قال الشافعي و مالك و أبو ثور و داود(3).
و قال أبو حنيفة و الثوري و الأوزاعي: لا يجوز له الأكل بقية النهار(4).
ص: 203
و عن أحمد روايتان(1) ، و قد تقدّم(2) ذلك.
و يجوز له أن يدخل مفطرا.
و ينبغي للمسافر الذي يجب عليه التقصير أن لا يتملّأ من الطعام و لا يتروّى من الماء، بل يتناول منهما قدر الحاجة و الضرورة، لحرمة الشهر.
و لما رواه ابن سنان - في الصحيح - عن الصادق عليه السلام، قال:
«إنّي إذا سافرت في شهر رمضان ما آكل كلّ(3) القوت و ما أشرب كلّ الري»(4).
و يشتدّ استحباب اجتناب النساء، فلا يواقع في نهار رمضان، و يكره له ذلك كراهة شديدة، و به قال الشافعي(5).
و ليس محرّما، لأنّ الصوم ساقط عنه، فلا مانع له من الجماع المباح بالأصل.
و روى عمر بن يزيد - في الصحيح - عن الصادق عليه السلام، أنّه سأله عن الرجل يسافر في شهر رمضان، أ له أن يصيب من النساء؟ قال:
«نعم»(6).
و قال الشيخ رحمه اللّه: لا يجوز له مواقعة النساء(7) - و به قال أحمد، حتى أنّ أحمد قال: تجب به الكفّارة كما يجب به القضاء(8) - لقول الصادق3.
ص: 204
عليه السلام: «إذا سافر الرجل في رمضان فلا يقرب النساء بالنهار فإنّ ذلك محرّم عليه»(1).
و هو محمول على شدّة الكراهة، جمعا بين الأخبار.
و لو قدم من سفره مفطرا، جاز له ترك الإمساك، و أن يأكل و يشرب و يجامع.
و ليس واجبا عليهما، لأنّهما مفطرتان برؤية الدم، و قد قلنا: إنّ الصوم لا يتجزّى، لكن يستحب لهما الإمساك، تشبّها بالصائمين، لحرمة الزمان، لقول الصادق عليه السلام، و قد سأله أبو الصباح الكناني، في امرأة ترى الطهر في أول النهار في شهر رمضان و لم تغتسل و لم تطعم كيف تصنع بذلك اليوم ؟ قال: «إنّما فطرها من الدم»(2).
و كذا الطاهر إذا تجدّد حيضها أو نفاسها في أثناء النهار، فإنّها تفطر ذلك اليوم، و يستحب لها الإمساك تأديبا، لما روى أبو الصباح عن الصادق عليه السلام، في امرأة أصبحت صائمة، فلمّا ارتفع النهار أو كان العشاء حاضت أ تفطر؟ قال: «نعم، و إن كان قبل الغروب فلتفطر»(3).
و أمّا المستحاضة: فإنّها بحكم الطاهر يجب عليها الصيام، و يشترط في صحّته أن تفعل ما تفعله المستحاضة من الأغسال إن وجبت عليها، فإن أخلّت بالأغسال أو ببعضها الواجب عليها، وجب عليها قضاء الصوم، لانتفاء الغسل الذي هو شرط الصوم.
و لما رواه علي بن مهزيار، قال: كتبت إليه: امرأة طهرت من حيضها أو دم نفاسها في أول يوم من شهر رمضان ثم استحاضت فصلّت و صامت شهر
ص: 205
رمضان كلّه من غير أن تعمل ما تعمله المستحاضة من الغسل لكلّ صلاتين، هل يجوز صومها و صلاتها أم لا؟ فكتب عليه السلام: «تقضي صومها و لا تقضي صلاتها، لأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، كان يأمر المؤمنات بذلك»(1).
قال الشيخ رحمه اللّه: إنّما لم يأمرها بقضاء الصلاة إذا لم تعلم أنّ عليها لكلّ صلاتين غسلا، أو لا تعلم ما يلزم المستحاضة، فأمّا مع العلم بذلك و الترك له على التعمّد فإنّه يلزمها القضاء(2).
إذا عرفت هذا، فلو كان الدم كثيرا و أخلّت بغسل الغداة، وجب عليها القضاء. و كذا لو أخلّت بغسل الظهرين.
أمّا لو أخلّت بغسل العشاءين، فالأقرب عدم وجوب القضاء، إذ غسل الليل لا يؤثّر في صوم النهار، و لم يذكره علماؤنا.
لقول زين العابدين عليه السلام، في حديث الزهري:
«و كذلك من أفطر لعلّة في أول النهار ثم قوي بقية يومه أمر بالإمساك عن الطعام بقية يومه تأديبا و ليس بفرض»(3).
هذا إذا كان قد تناول شيئا يفسد الصوم، فإن كان برؤه قبل الزوال، أمسك وجوبا، و احتسب به من رمضان، و إن كان برؤه بعد الزوال، أمسك استحبابا، و قضاه على ما تقدّم.
سواء تناولا شيئا أو لم يتناولا، و سواء زال عذرهما قبل
ص: 206
الزوال أو بعده، و هو أحد قولي الشيخ(1) رحمه اللّه.
و في الآخر: يجدّدان نية الصوم إذا زال عذرهما قبل الزوال و لم يتناولا، و لا يجب عليهما القضاء(2).
و المعتمد: الأول، لأنّ المتقدّم من الزمان على الإسلام و البلوغ لا يصح صومه، و الصوم لا يقبل التجزّي.
و احتجاج الشيخ - رحمه اللّه - بأنّ الصوم ممكن في حقّهما، و وقت النية باق، و قد صار الصبي مخاطبا ببلوغه.
و بعض اليوم إنّما لا يصح صومه إذا لم تكن النية يسري حكمها إلى أوّله، أمّا إذا كانت بحال يسري حكمها إلى أول الصوم، فإنّه يصح، و هو هنا كذلك.
و هو ممنوع، لأنّ النية هنا لا يسري حكمها إلى أول الصوم، لأنّه قبل زوال العذر غير مكلّف، و النية إنّما يصح فعلها قبل الزوال للمخاطب بالعبادات، أمّا غيره فممنوع.
روى العامة: أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله، نهى عن صوم هذين اليومين، أمّا يوم الأضحى فتأكلون من لحم نسككم، و أمّا يوم الفطر ففطركم عن صيامكم(3).
و من طريق الخاصة: قول زين العابدين عليه السلام: «و أمّا صوم
ص: 207
الحرام فصوم يوم الفطر و يوم الأضحى»(1).
قال الشيخ رحمه اللّه: القاتل في أحد الأشهر الحرم يجب عليه صوم شهرين متتابعين و إن دخل فيهما العيدان و أيام التشريق(2) ، لأنّ زرارة سأل الباقر عليه السلام عن رجل قتل رجلا خطأ في الشهر الحرام، قال: «يغلّظ عليه الدية، و عليه عتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين من أشهر الحرم» قلت:
فإنّه يدخل في هذا شيء، قال: «و ما هو؟» قلت: يوم العيد و أيام التشريق، قال: «يصوم فإنّه حقّ لزمه»(3).
و في طريقه سهل بن زياد و هو ضعيف، و مع ذلك فهو مخالف للإجماع.
و قال عليه السلام: (من نذر أن يعصي اللّه فلا يعصه)(1).
و قال أبو حنيفة: ينعقد، و عليه قضاؤه، و لو صامه أجزأ عن النذر، و سقط القضاء(2).
أمّا لو نذر صوم يوم، فظهر أنّه العيد، فإنّه يفطره إجماعا.
و الأقرب: أنّه لا يجب عليه قضاؤه، لأنّه نذر صوم زمان لا يصح الصوم فيه، فلم ينعقد، كما لو علم.
عند علمائنا و أكثر العلماء(3) ، لما رواه العامة: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، قال: (أيّام التشريق أيّام أكل و شرب و ذكر اللّه عزّ و جلّ)(4).
و من طريق الخاصة: قول الصادق عليه السلام: «نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن صوم ستة أيّام»(5) و ذكرها.
و لأنّ معاوية بن عمّار سأل الصادق عليه السلام، عن صيام أيّام التشريق، فقال: «أمّا بالأمصار فلا بأس به، و أمّا بمنى فلا»(6).
و للشافعي قولان، أحدهما: الجواز للمتمتّع إذا لم يجد الهدي، لأنّ [ابن](7) عمر و عائشة قالا: لم يرخص في صوم أيّام التشريق إلاّ لمتمتّع إذا
ص: 209
و قولهما ليس حجّة.
و هو: أن ينذر إن تمكّن من زنا أو قتل مؤمن و شبهه من المحارم صام (أو صلّى)(3) و قصد بذلك الشكر لا الزجر، لقوله عليه السلام: (لا نذر إلاّ ما أريد به وجه اللّه تعالى)(4).
و يحرم أيضا صوم الصمت - قاله علماؤنا - لأنّه غير مشروع عندنا، فيكون بدعة.
و لحديث الزهري عن زين العابدين عليه السلام(5).
و يحرم صوم الوصال عند علمائنا - و للشافعي قولان(6) ، هذا أحدهما - لما رواه العامة عن ابن عمر قال: واصل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، في رمضان فواصل الناس، فنهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، عن الوصال، فقالوا: إنّك تواصل، فقال: (إنّي لست مثلكم إنّي أظلّ عند ربي يطعمني و يسقيني)(7).
و من طريق الخاصة: قول زين العابدين عليه السلام: «و صوم الوصال
ص: 210
حرام، و صوم الصمت حرام»(1)النهاية: 170، المبسوط للطوسي 283:1.(2).
و الثاني للشافعي: إنّه مكروه غير محرّم(3) - و هو قول أكثر العامة(4) ، و كان عبد اللّه بن الزبير يواصل(5) - لأنّه ترك الأكل و الشرب المباح، فلم يكن محرّما، كما لو تركه حال الفطر.
و يبطل بما لو ترك الأكل و الشرب يوم العيد.
و اختلف قول الشيخ - رحمه اللّه - في حقيقة الوصال، فقال في النهاية و المبسوط: هو أن يجعل عشاءه سحوره(5) ، لقول الصادق عليه السلام:
«الوصال في الصوم أن يجعل عشاءه سحوره»(6).
و قال في الاقتصاد: هو أن يصوم يومين من غير أن يفطر بينهما ليلا(7) - و هو قول العامة(8) - لما روي عن الصادق عليه السلام، أنّه قال: «إنّما قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لا وصال في صيام، يعني لا يصوم الرجل يومين متواليين من غير إفطار»(9).
و لا خلاف في تحريمه مع دخول هذه الأيّام.
ص: 211
روى العامة عن النبي صلّى اللّه عليه و آله، أنّه قال: (من صام الدهر ضيّقت عليه جهنم)(1).
و من طريق الخاصة: قول زين العابدين عليه السلام: «و صوم الدهر حرام»(2)راجع: صحيح مسلم 814:2-815-186 و 187، و سنن ابن ماجة 544:1-1705 و 1706، و مصنف ابن أبي شيبة 78:3.(3).
إذا ثبت هذا، فلو أفطر هذه الأيّام التي نهي عن صيامها هل يكره صيام الباقي ؟.
قال الشافعي و أكثر الفقهاء: ليس بمكروه(4) ، لأنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله، نهى عن صيام ستّة أيام من السنة(5) ، فدلّ على أنّ صوم الباقي جائز.
و قال أبو يوسف: إنّه مكروه، لأنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله نهى عنه(5) ، و لو أراد بالنهي هذه الأيّام لأفردها بالذكر دون صوم الدهر(6).
و يحرم صوم الواجب سفرا - عدا ما استثني - و لا يجزئ. و يحرم صوم المرأة ندبا مع منع الزوج، و العبد مع منع المولى.2.
ص: 212
و هل تجب الفدية ؟ قال الشيخ: نعم فيصدّق عن كلّ يوم بمدّ من طعام(1).
و بوجوب الكفّارة قال أبو حنيفة و الثوري و الأوزاعي و سعيد بن جبير و طاوس و أحمد(2) ، إلاّ أنّ أبا حنيفة قال: يطعم عن كلّ يوم نصف صاع من حنطة أو صاعا من تمر(3).
ص: 213
و قال أحمد: يطعم مدّا من برّ أو نصف صاع من تمر أو شعير(1).
لما رواه العامة عن ابن عباس، قال: الشيخ الكبير يطعم عن كلّ يوم مسكينا(2).
و من طريق الخاصة: ما رواه الحلبي - في الصحيح - عن الصادق عليه السلام، قال: سألته عن رجل كبير يضعف عن صوم شهر رمضان، فقال:
«يتصدّق بما يجزئ عنه طعام مسكين لكلّ يوم»(3).
و قال المفيد(4) - رحمه اللّه - و السيد المرتضى(5) و أكثر علمائنا(6): لا تجب الكفّارة مع العجز - و به قال مالك و أبو ثور و ربيعة و مكحول(7) ، و للشافعي قولان(8) ، كالمذهبين - لأنّه ترك الصوم لعجزه، فلا يجب به الإطعام، كما لو ترك لمرضه.
و الفرق ظاهر.
أمّا لو لم يتمكّن من الصوم البتة، فإنّه يسقط عنه و لا كفّارة. و لو عجز عن الكفّارة، سقطت أيضا.
إذا عرفت هذا، فقد اختلف قول الشيخ - رحمه اللّه - في قدر الكفارة،6.
ص: 214
فقال تارة: مدّان، فإن عجز فمدّ(1) ، لرواية محمد بن مسلم عن الصادق عليه السلام، قال: «و يتصدّق كلّ واحد منهما في كلّ يوم بمدّين من طعام»(2).
و تارة قال: مدّ(3). و هو أقوى، عملا بالأصل.
و بما رواه محمد بن مسلم - في الصحيح - عن الباقر عليه السلام، قال: سمعته يقول: «الشيخ الكبير و الذي به العطاش لا حرج عليهما أن يفطرا في شهر رمضان، و يتصدّق كلّ واحد منهما في كلّ يوم بمدّ من طعام، و لا قضاء عليهما»(4).
كما تقدّم. و هو أحد قولي الشيخ(5) رحمه اللّه.
و الثاني: أنّه يتصدّق بمدّين، فإن عجز فبمدّ(6) ، للضرر المبيح للإفطار، كما أبيح للمريض.
و لما رواه المفضّل بن عمر عن الصادق عليه السلام، قال: قلت له:
إنّ لنا فتيانا(7) و بنات لا يقدرون على الصيام من شدّة ما يصيبهم من العطش، قال: «فليشربوا مقدار ما تروى به نفوسهم و ما يحذرون»(8).
و أمّا الصدقة: فلعجزه عن الصيام.
ص: 215
و لقول الصادق عليه السلام فيمن ترك الصيام، قال: «إن كان من مرض فإذا بريء فليصمه، و إن كان من كبر أو لعطش فبدل كلّ يوم مدّ»(1).
و أمّا سقوط القضاء: فلأنّه أفطر لعجزه عن الصيام و التقدير دوامه، فيدوم المسبّب.
و لتفصيل الصادق عليه السلام، و التفصيل قاطع للشركة.
و أمّا العطّاش الذي يرجى برؤه: فإنّه يفطر إجماعا، لعجزه عن الصيام، و عليه القضاء مع البرء، لأنّه مرض و قد زال، فيقضي، كغيره من الأمراض.
و هل تجب الكفّارة ؟ قال الشيخ رحمه اللّه: نعم(2) ، كما تجب في العطاش الذي لا يرجى زواله.
و منع المفيد و السيد المرتضى(3).
إذا ثبت هذا، فلا ينبغي لهؤلاء أن يتملّوا من الطعام و لا من الشراب و لا يقربوا النساء في النهار.
و عليهما القضاء بلا خلاف بين علماء الإسلام، و لا كفّارة عليهما، لما رواه العامة عن النبي صلّى اللّه عليه و آله، قال: (إنّ اللّه وضع عن المسافر شطر الصلاة و عن الحامل و المرضع الصوم)(4).
و من طريق الخاصة: ما رواه محمد بن مسلم - في الصحيح - قال:
سمعت الباقر عليه السلام، يقول: «الحامل المقرب و المرضع القليلة اللبن
ص: 216
لا حرج عليهما أن تفطرا في شهر رمضان لأنّهما لا تطيقان الصوم، و عليهما أن تتصدّق كلّ واحدة منهما في كلّ يوم تفطر بمدّ من طعام، و عليهما قضاء كلّ يوم أفطرتا فيه تقضيانه بعد»(1).
إذا عرفت هذا، فالصدقة بما تضمّنته الرواية واجبة.
و لو خافتا على الولد من الصوم، أفطرتا إجماعا، لأنّه ضرر على ذي نفس آدمي محترم، فأشبه الصائم نفسه. و يجب عليهما القضاء مع زوال العذر، و عليهما الصدقة عن كلّ يوم بمدّ من طعام، ذهب إليه علماؤنا و الشافعي و أحمد(2) - إلاّ أنّه يقول: مدّ من برّ أو نصف صاع من تمر أو شعير(3) - و به قال مجاهد(4) ، لقوله تعالى وَ عَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ (5).
قال ابن عباس: كانت رخصة للشيخ الكبير و المرأة الكبيرة و هما يطيقان الصيام أن يفطرا و يطعما لكلّ يوم مسكينا، و الحبلى و المرضع إذا خافتا على أولادهما أفطرتا و أطعمتا. رواه العامة(6).
و من طريق الخاصة: ما تقدّم من حديث محمد بن مسلم عن الباقر عليه السلام(7) ، فإنّه عليه السلام سوّغ لهما الإفطار مطلقا، و أوجب عليهما القضاء و الصدقة، و هو يتناول ما إذا خافتا على الولد كما يتناول ما إذا خافتا علىة.
ص: 217
أنفسهما.
و تتصدّقان بما تقدّم(1) في الشيخ و الشيخة، لأنّه جبر لإخلالهما بالصوم مع القدرة عليه.
و القول الثاني للشافعي: إنّ الكفّارة تجب على المرضع دون الحامل - و هو رواية عن أحمد(2) ، و به قال الليث بن سعد - لأنّ المرضع يمكنها أن تسترضع لولدها، بخلاف الحامل.
و لأنّ الحمل متّصل بالحامل، فالخوف عليه كالخوف على بعض أعضائها(3).
و الفرق لا يقتضي سقوط القضاء مع ورود النصّ به، و هو: الآية و الأحاديث.
و قال أبو حنيفة: لا تجب عليهما كفّارة - و هو مذهب الحسن البصري و عطاء و الزهري و ربيعة و الثوري و الأوزاعي و أبي ثور و أبي عبيد بن داود و المزني و ابن المنذر - لأنّ أنس بن مالك روى عن النبي صلّى اللّه عليه و آله، أنّه قال:
(إنّ اللّه وضع عن المسافر شطر الصلاة، و عن الحامل و المرضع الصوم)(4).
و لأنّه فطر أبيح لعذر، فلم تجب به كفّارة كالمريض(5).6.
ص: 218
و لا دلالة في الحديث على سقوط الكفّارة. و المريض أحسن حالا منهما، لأنّه يفطر بسبب نفسه.
و للشافعي قول ثالث: إنّ الكفّارة استحباب(1).
و قال ابن عباس و ابن عمر: إنّ الكفّارة تجب عليهما دون القضاء - و هو قول سلاّر(2) من علمائنا - لأنّ الآية(3) تتناولهما، و ليس فيها إلاّ الإطعام.
و لقول النبي صلّى اللّه عليه و آله: (إنّ اللّه وضع عن الحامل و المرضع الصوم)(4)(5).
و الجواب: أنّهما تطيقان القضاء فلزمهما، كالحائض و النفساء. و الآية أوجبت الإطعام و لا إشعار لها بسقوط القضاء.
و المراد بوضع الصوم وضعه عنهما في حال عذرهما، كما في قوله عليه السلام: (إنّ اللّه وضع عن المسافر الصوم)(6).
- و عن أحمد روايتان(7) - لما رواه العامة: أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله، قال: (من صام تطوّعا و عليه من رمضان شيء لم يقضه، فإنّه لا يتقبّل منه حتى يصومه)(8).
و من طريق الخاصة: ما رواه الحلبي - في الحسن - أنّه سأل الصادق عليه السلام، عن الرجل عليه من شهر رمضان طائفة أ يتطوّع ؟ فقال: «لا،
ص: 219
حتى يقضي ما عليه من شهر رمضان»(1).
و لأنّ الصوم عبادة يدخل في جبرانها المال فلم يصحّ التطوّع بها قبل أدائها فرضا كالحج.
احتجّ أحمد(2): بأنّها عبادة متعلّقة بوقت موسّع، فجاز التّطوّع في وقتها كالصلاة(3).
و هو قياس في مقابلة النص فلا يسمع.
و أيضا فإنّ أداء الصلاة لا يمنع من فعل النافلة، لأنّه لا يفوت وقتها، أمّا قضاء الصلاة فإنّه لا يجوز التطوّع لمن عليه القضاء.
و يجوز إبطاله قبل الغروب، و لا يجب قضاؤه، سواء أفطر لعذر أو لغيره - و به قال الشافعي و الثوري و أحمد و إسحاق(4) - لما رواه العامة عن عائشة قالت: دخل عليّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقال: (هل عندكم شيء؟) فقلت: لا، قال: (فإنّي صائم) ثم مرّ بي بعد ذلك اليوم و قد اهدي إليّ حيس(5) ، فخبأت(6) له منه و كان يحبّ الحيس، قلت: يا رسول اللّه اهدي لنا حيس فخبأت لك منه، قال: (أدنيه أما إنّي قد أصبحت و أنا صائم) فأكل منه، ثم قال: (إنّما مثل صوم التطوّع مثل الرجل يخرج من ماله الصدقة فإن شاء
ص: 220
أمضاها و إن شاء حبسها)(1).
و من طريق الخاصة: ما رواه جميل بن درّاج - في الصحيح - عن الصادق عليه السلام، أنّه قال في الذي يقضي شهر رمضان: «إنّه بالخيار إلى زوال الشمس، و إن كان تطوّعا فإنّه إلى الليل بالخيار»(2).
و قال أبو حنيفة: يجب المضيّ فيه، و لا يجوز الإفطار إلاّ لعذر، فإن أفطر قضاه(3).
و روي عن محمد أنّه إذا دخل على أخ فحلف عليه، أفطر و عليه القضاء(4).
و قال مالك: يجب بالدخول فيه، و لا يجوز له الخروج عنه إلاّ لعذر، و إذا خرج منه لعذر لا يجب القضاء - و به قال أبو ثور(5) - لأنّ عائشة قالت:
أصبحت أنا و حفصة صائمتين متطوّعتين فاهدي لنا حيس، فأفطرنا، ثم سألنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقال: (اقضيا يوما مكانه)(6).
و لأنّها عبادة تلزم بالنذر، فلزمت بالشروع فيها كالحج و العمرة(7).
و الخبر ضعيف عند المحدّثين(8) ، و محمول على الاستحباب.3.
ص: 221
و إحرام الحجّ آكد من الشروع هنا، و لهذا لا يخرج منه باختياره و لا بإفساده.
إذا عرفت هذا، فإنّ جميع النوافل من سائر العبادات لا تجب بالشروع فيها إلاّ الحج و العمرة، فإنّهما يجبان بالشروع فيهما، لتأكّد إحرامهما.
و لعموم قوله وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلّهِ (1).
و عن أحمد رواية: أنّه لا يجوز قطع الصلاة المندوبة، فإن قطعها قضاها(2).
و ليس بجيّد، لأنّ ما جاز ترك جميعه جاز ترك بعضه كالصدقة.
أمّا لو دخل في واجب، فإن كان معيّنا - كنذر معيّن - لم يجز له الخروج منه، و إن كان مطلقا - كقضاء رمضان أو النذر المطلق - فإنّه يجوز الخروج منه، إلاّ قضاء رمضان بعد الزوال.
صوم النذر المجرّد عن التتابع و ما في معناه من يمين أو عهد، لأصالة البراءة. و صوم قضاء رمضان، و صوم جزاء الصيد، و صوم السبعة في بدل الهدي.
أمّا ما عدا هذه الأربعة، كصوم كفّارة الظهار و القتل و الإفطار و كفّارة اليمين و أذى حلق الرأس و ثلاثة أيام الهدي، فإنّه يجب فيها التتابع.
قال الصادق عليه السلام: «صيام ثلاثة أيام في كفّارة اليمين متتابعا لا يفصل بينهن»(3).
إمّا في كفّارة أو نذر أو شبهه إذا أفطر في الشهر الأول أو بعد انتهائه قبل أن يصوم من الشهر الثاني
ص: 222
شيئا، استأنف.
و إن كان أفطر لعذر من مرض أو حيض و شبهه، لم ينقطع تتابعه، بل ينتظر زوال العذر ثم يتمّ صومه، عند علمائنا - و به قال الشافعي في الحيض، أمّا المرض فله قولان(1) - لمساواة المرض الحيض في كونه عذرا، فتساويا في سقوط التتابع.
و لاشتماله على الضرر و ربما تجدّد عذر آخر فيستمرّ التكليف، و هو مشقة عظيمة.
و لأنّ رفاعة سأل الصادق عليه السلام - في الصحيح - عن رجل عليه صيام شهرين متتابعين فصام شهرا و مرض، قال: «يبني عليه، اللّه حبسه» قلت: امرأة كان عليها صيام شهرين متتابعين فصامت و أفطرت أيام حيضها، قال: «تقضيها» قلت: فإنّها قضتها ثم يئست من الحيض، قال: «لا تعيدها أجزأها»(2).
و لو أفطر في الشهر الأول أو بعد إكماله قبل أن يصوم من الثاني شيئا لغير عذر، استأنف، بإجماع فقهاء الإسلام، لأنّه لم يأت بالمأمور به على وجهه، فيبقى في عهدة التكليف.
و لو صام من الشهر الثاني شيئا بعد الشهر الأول و لو يوما ثم أفطر، جاز له البناء، سواء كان لعذر أو لغير عذر، عند علمائنا كافة - خلافا للعامة كافّة(3) - لأنّه بصوم بعض الشهر الثاني عقيب الأول تصدق المتابعة، لأنّها أعمّ من المتابعة بالكلّ أو بالبعض، و الأعم من الشيئين صادق عليهما، فيخرج عن العهدة بكلّ واحد منهما.0.
ص: 223
و لرواية الحلبي - الصحيحة - عن الصادق عليه السلام: «في كفّارة الظهار صيام شهرين متتابعين، و التتابع أن يصوم شهرا و يصوم من الآخر أيّاما أو شيئا منه»(1).
فليس له أن يصوم شعبان منفردا إلاّ إذا صام قبله و لو يوما من آخر رجب.
و لا تكفي متابعة شهر رمضان، لأنّه صوم استحقّ بأصل التكليف، و التتابع وصف لصوم الكفّارة، و أحدهما غير الآخر، فلا يقوم أحدهما مقام الآخر.
لكن هل يكون الإفطار له سائغا أو حراما؟ قولان لعلمائنا.
و المعتمد: الأول، لأنّ الصادق عليه السلام حدّ التتابع «بأن يصوم شهرا و يصوم من الآخر أياما أو شيئا منه»(2).
نعم الأولى تركه، لاشتماله على الخلاف و ترك المسارعة إلى فعل الطاعة.
انقطع تتابعه و وجب عليه الاستئناف، و إن كان مضطرّا، لم ينقطع و يتمّ بعد رجوعه.
يصحّ معها التتابع و البناء مطلقا.
ص: 224
و الحرّ إذا وجب عليه شهر متتابع بنذر و شبهه، فصام خمسة عشر يوما ثم أفطر لعذر أو غيره، جاز له البناء، و إن أفطر قبل ذلك لغير عذر، استأنف، و لعذر يبني، لما روي عن الصادق عليه السلام، في رجل جعل عليه صيام شهر فصام منه خمسة عشر يوما ثم عرض له أمر، قال: «إن كان صام خمسة عشر يوما فله أن يقضي ما بقي، و إن كان أقلّ من خمسة عشر يوما لم يجزئه حتى يصوم شهرا تامّا»(1).
فلو صام يوما ثم أفطر، استأنف مطلقا.
و إن صام يومين ثم أفطر فكذلك، إلاّ أن يصوم يوم التروية و عرفة، فإنّه يفطر العيد، و يأتي بثالث بعد انقضاء أيام التشريق، لأنّ يحيى الأزرق سأل أبا الحسن عليه السلام، عن رجل قدم يوم التروية متمتّعا و ليس له هدي، فصام يوم التروية و يوم عرفة، قال: «يصوم يوما آخر بعد أيام التشريق»(2).
أمّا لو كان الثالث غير العيد، بأن صام يومين غير يوم التروية و عرفة ثم أفطر الثالث، استأنف.
و اعلم أنّ كلّ صوم يشترط فيه التتابع إذا أفطر في أثنائه لعذر، بنى، و إن كان لغير عذر، استأنف، إلاّ في المواضع الثلاثة، و هي: تتابع الشهرين، أو الشهر، أو ثلاثة أيام بدل الهدي بالعيد(3).
و ليس محرّما، فإن كانت مسافرة معه، جاز لهما معا الجماع.
و كذا لو قدم من سفره و وجدها مفطرة لمرض أو حيض طهرت منه
ص: 225
حينئذ، لسقوط فرض الصوم عنهما.
و لو غرّته فقالت: إنّي مفطرة، فوطأها، أفطرت و لا كفّارة عليه عن نفسه، لإباحة الفطر له، و لا عنها، لغروره، و لا صنع له فيه، و يجب عليها كفّارة عن نفسها.
و لو علم بصومها، فإن طاوعته، وجب عليها الكفّارة عن نفسها، و لا يجب عليه شيء.
و إن أكرهها، فلا كفّارة عليه عن نفسه، و تجب عليه كفّارة عنها.
و لا فرق في الإكراه بين أن يغلبها على نفسها، أو يتهدّدها بضرب و شبهه فتطاوعه، و لا تفطر في الحالين.
و قال الشافعي: لا تفطر في الاولى، و في التهدد قولان(1).
- إلاّ إذا مضت ثلاثة و عشرون يوما من الشهر فتزول الكراهة - لما فيه من التعريض لإبطال الصوم، و لمنعه عن ابتداء العبادة و إحراز فضيلته في شهر رمضان، و بعد ثلاثة و عشرين مضى أكثر وقت العبادة مشغولا بها.
و كذا تنتفي الكراهة مع الضرورة، كالخوف على فوات مال أو هلاك أخ أو المضيّ في حجّ أو زيارة، لأنّ الصادق عليه السلام قال: «إذا دخل شهر رمضان فليس للرجل أن يخرج إلاّ في حج أو في عمرة أو مال يخاف تلفه أو أخ يخاف هلاكه، و ليس له أن يخرج في إتلاف مال أخيه، فإذا مضت ليلة ثلاث و عشرين فليخرج حيث شاء»(2).
و روى أبو بصير سأل الصادق عليه السلام: جعلت فداك يدخل عليّ
ص: 226
شهر رمضان فأصوم بعضه، فتحضرني نية في زيارة قبر أبي عبد اللّه عليه السلام، فأزوره و أفطر ذاهبا و جائيا أو أقيم حتى أفطر و أزوره بعد ما أفطر بيوم أو يومين ؟ فقال: «أقم حتى تفطر» قلت له: جعلت فداك فهو أفضل ؟ قال: «نعم أما تقرأ في كتاب اللّه فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ (1)»(2).
و روى ابن بابويه أنّ تشييع المؤمن أفضل من المقام عن الصادق عليه السلام، عن الرجل يخرج يشيّع أخاه مسيرة يومين أو ثلاثة، فقال: «إن كان في شهر رمضان فليفطر» فسئل أيّهما أفضل يصوم أو يخرج يشيّع أخاه ؟ فقال:
«يشيّعه إنّ اللّه عزّ و جلّ وضع الصوم عنه إذا شيّعه»(3).
لما رواه أبو بصير عن الصادق عليه السلام، قال:
سألته عن رجل كان عليه صيام شهرين متتابعين فلم يقدر على الصيام و لم يقدر على العتق و لم يقدر على الصدقة، قال: «فليصم ثمانية عشر يوما عن كلّ عشرة مساكين ثلاثة أيّام»(4).
إذا عرفت هذا، فلو قدر على صيام شهر لا غير، ففي وجوبه إشكال، و كذا لو تمكّن من صيام شهرين لكن متفرّقة، ففي وجوبه إشكال.
و الأقرب: أنّ الثمانية عشر متتابعة، مع احتمال عدمه.
أفطر و قضاه، إلاّ أن يقيّد نذره بالسفر و الحضر فيصومه مسافرا.
و يصح نذر صوم يوم من شهر رمضان - خلافا لبعض(5) علمائنا - و إن
ص: 227
كان الصوم واجبا بغير النذر، لما فيه من التشديد في فعل الواجب.
و لو أفطره، فإن قلنا بعدم انعقاده، فلا بحث، و إن قلنا بانعقاده، ففي تعدّد الكفّارة إشكال.
أمّا لو نذر صومه في السفر عن رمضان أو غيره لم يصحّ.
و لو نذر صوم الدهر و استثنى الأيام المحرّم صومها، انعقد.
فلو كان عليه قضاء من رمضان أو وجب عليه بغير ذلك، لزمه أن يصوم القضاء مقدّما على صوم النذر، لأنّه واجب ابتداء بأصل الشرع.
فإذا صامه فالزمان الذي قضى فيه هل يدخل تحت النذر؟ إشكال ينشأ:
من ظهور استحقاقه للقضاء، فلم يدخل في النذر، كشهر رمضان، و من دخوله في النذر، لأنّه لو صامه عن النذر وقع عنه، و بقي القضاء في ذمته.
إذا ثبت هذا، فلا كفّارة عليه في هذه الأيام التي فاتته من نذره، لأنّه لا يمكنه فعلها، كالمريض إذا أفطر ثم اتّصل مرضه بموته.
و قال بعض الشافعية: تلزمه الكفّارة، لأنّه عجز عن صوم الواجب عجزا مؤبّدا فلزمته الكفّارة، كالشيخ الهم(1).
و هو معارض ببراءة الذمة.
و إذا وجب على صائم الدهر واجبا، كفّارة مخيّرة أو مرتّبة، صام عن الكفّارة، لأنّه كالمستثنى.
و إذا نذر صوم قدوم زيد، لم ينعقد، لأنّه إن قدم ليلا، لم يجب صومه، لعدم الشرط، و إن قدم نهارا، فلعدم التمكّن من صيام اليوم المنذور.
و قال الشيخ رحمه اللّه: إن وافق قدومه قبل الزوال و لم يكن تناول شيئا مفطرا، جدّد النيّة، و صام ذلك اليوم، و إن كان بعد الزوال، أفطر، و لا قضاء عليه فيما بعد(2).1.
ص: 228
و لو نذر يوم قدومه دائما، سقط وجوب اليوم الذي قدم فيه، و وجب صومه فيما بعد.
و لو اتّفق في رمضان، صامه عن رمضان خاصة، و سقط المنذور، لأنّه كالمستثنى، و لا قضاء عليه.
و لو صامه عن النذر، وقع عن رمضان و لا قضاء عليه. و فيه إشكال.
و إذا نذر صوم يوم بعينه، فقدّم صومه، لم يجزئه، لأنّه قدّم الواجب على وقته، فلا يحصل به الامتثال، كما لو قدّم رمضان.
لإحدى الكفّارات، قال الشيخ: يصوم في الشهر الأول عن الكفّارة، تحصيلا للتتابع، و إذا صام من الثاني شيئا، صام ما بقي عن النذر، لسقوط التتابع(1).
و قال بعض علمائنا: يسقط التكليف بالصوم، لعدم إمكان التتابع، و ينتقل الفرض إلى الإطعام(2). و ليس بجيّد.
و يحتمل صوم ذلك اليوم عن النذر، ثم لا يسقط التتابع لا في الأول و لا في الأخير، لأنّه عذر لا يمكنه الاحتراز عنه.
و لا فرق بين تقدّم وجوب الكفّارة عن النذر و تأخّره. و قول الشيخ فيه بعض القوة.
و إذا نذر أن يصوم في بلد معيّن، للشيخ قولان، أحدهما: يتعيّن البلد(3). و الثاني: أنّه يصوم أين شاء(4).
ص: 229
و الوجه أن يقال: إن كان الصوم في بعض البلاد يتميّز عن الصوم في الآخر، تعيّن ما نذره، و إلاّ فلا. و الأقرب: عدم تميّز البلاد في ذلك.
وجب عليه صومها، إلاّ العيدين و أيّام التشريق لمن كان بمنى، فإن لم يشترط التتابع حتى أفطر في أثنائها، قضى ما أفطره، و صام الباقي، و وجب عليه الكفّارة في كلّ يوم يفطره، لتعيّنه للصوم بالنذر على ما تقدّم.
و إن شرط التتابع، استأنف.
و قيل: إن جاز النصف، بنى و لو فرّق(1).
هذا إذا كان إفطاره لغير عذر، و إن كان لعذر بنى و يقضي و لا كفّارة عليه.
و لو نذر صيام سنة غير معيّنة، تخيّر في التتالي و التفريق إن لم يشترط التتابع.
و لو نذر صوم شهر، تخيّر بين ثلاثين يوما و بين صوم شهر هلالي من أول الهلال إلى آخره، و يجزئه و لو كان ناقصا.
و إذا صام في أثناء الشهر، أتمّ عدّة ثلاثين، سواء كان تامّا أو ناقصا.
و لو نذره متتابعا، وجب عليه أن يتوخّى ما يصحّ فيه ذلك، و يجتزئ بالنصف. و لو شرع في أول ذي الحجة، لم يجزئ، لانقطاع التتابع بالعيد.
و لو نذر أن يصوم يوما و يفطر يوما، فوالى الصوم، قال ابن إدريس:
وجب عليه كفّارة خلف النذر(2). و فيه نظر.
و يشترط في نذر الصوم التقرّب، فلو نذر صومه لا على وجه التقرّب، بل لمنع النفس أو على جهة اليمين، لم ينعقد.
ص: 230
و لو نذر صوما و لم يعيّن، أجزأه صوم يوم.
و لو نذر أن يصوم زمانا، وجب عليه صوم خمسة أشهر.
و لو نذر أن يصوم حينا، كان عليه أن يصوم ستة أشهر، لقوله تعالى:
تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ (1) .
روى السكوني عن الباقر عليه السلام عن آبائه عليهم السلام عن علي عليه السلام قال في رجل نذر أن يصوم زمانا، قال: «الزمان خمسة أشهر، و الحين ستة أشهر، لأنّ اللّه تعالى يقول تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ »(2).
و لا ينعقد نذر العبد إلاّ بإذن مولاه. و كذا الزوجة لا ينعقد إلاّ بإذن الزوج.
روى العامة: أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله، قال: (تسحّروا فإنّ في السحور بركة)(3).
و من طريق الخاصة: ما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام «أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله، قال: إنّ اللّه تعالى و ملائكته يصلّون على المستغفرين و المتسحّرين بالأسحار، فليتسحّر أحدكم و لو بشربة من ماء»(4).
و يستحب تأخيره، لما رواه العامة عن زيد بن ثابت قال: تسحّرنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، ثم قمنا إلى الصلاة، قلت: كم كان قدر
ص: 231
ذلك ؟ قال: خمسين آية(1).
و من طريق الخاصة: أنّ رجلا سأل الصادق عليه السلام، فقال: آكل و أنا أشكّ في الفجر، فقال: «كل حتى لا تشك»(2).
و لأنّ القصد القوّة على الطاعة.
قال أحمد بن حنبل: إذا شكّ في الفجر يأكل حتّى يستيقن طلوعه. و هو قول ابن عباس و الأوزاعي(3) ، و هو الذي نقلناه عن الصادق عليه السلام.
و يستحب تعجيل الإفطار بعد صلاة المغرب إن لم يكن هناك من ينتظره للإفطار، و لو كان، استحبّ تقديمه على الصلاة.
روى العامة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: (يقول اللّه تعالى:
أحب عبادي إليّ أسرعهم فطرأ)(4).
و من طريق الخاصة: قول الصادق عليه السلام و قد سئل عن الإفطار قبل الصلاة أو بعدها، فقال: «إن كان(5) قوم يخشى أن يحبسهم عن عشائهم، فليفطر معهم، و إن كان غير ذلك، فليصلّ و ليفطر»(6).
لأنّ الباقر عليه السلام قال: «كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، يفطر على
ص: 232
الأسودين» قلت: رحمك اللّه و ما الأسودان ؟ قال: «التمر و الماء أو الزبيب و الماء»(1).
و أنّ عليا عليه السلام، كان يستحب أن يفطر على اللبن(2).
و يستحب للصائم الدعاء عند إفطاره، فإنّ له دعوة مستجابة، لما رواه الباقر عليه السلام: «أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، كان إذا أفطر قال:
اللهم لك صمنا و على رزقك أفطرنا، فتقبّله منّا، ذهب الظمأ و ابتلّت العروق و بقي الأجر»(3).
و كان الباقر عليه السلام، يقول في كلّ ليلة من شهر رمضان عند الإفطار إلى آخره: «الحمد للّه الذي أعاننا فصمنا و رزقنا فأفطرنا، اللهم تقبّل منّا و أعنّا عليه، و سلّمنا فيه، و تسلّمه منّا في يسر منك و عافية، الحمد للّه الذي قضى عنّا يوما من شهر رمضان»(4).
و عن الباقر عليه السلام قال: «خطب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في آخر جمعة من شعبان، فحمد اللّه و أثنى عليه و تكلّم بكلام، ثم قال: قد أظلّكم شهر رمضان، من فطّر فيه صائما كان له بذلك عند اللّه عزّ و جلّ عتق رقبة و مغفرة ذنوبه فيما مضى، قيل له: يا رسول اللّه ليس كلّنا يقدر أن يفطّر صائما، قال: إنّ اللّه كريم يعطى هذا الثواب لمن لا يقدر إلاّ على مذقة(1) من لبن يفطّر بها صائما أو شربة من ماء عذب أو تمرات لا يقدر على أكثر من ذلك»(2).
قال ابن عباس: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، كان أجود الناس بالخير، و كان أجود ما يكون في شهر رمضان، و كان أجود من الريح المرسلة(3).
و هي أفضل ليالي السنة، خصّ اللّه تعالى بها هذه الأمّة. و معنى القدر الحكم.
قال ابن عباس: سمّيت ليلة القدر، لأنّ اللّه تعالى يقدّر فيها ما يكون في تلك السنة من خير و مصيبة و رزق و غير ذلك(4).
روى العامة أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، قال: (من صام رمضان و قام ليلة القدر إيمانا و احتسابا غفر له ما تقدّم من ذنبه)(5).
ص: 234
و من طريق الخاصة: قول الصادق عليه السلام: «ليلة القدر هي أول السنة و هي آخرها»(1).
و «أري رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، في منامه بني أميّة يصعدون منبره من بعده يضلّون الناس عن الصراط القهقرى، فأصبح كئيبا حزينا، فهبط عليه جبرئيل فقال: يا رسول اللّه ما لي أراك كئيبا حزينا؟ قال: (يا جبرئيل إنّي رأيت بني أميّة في ليلتي هذه يصعدون منبري من بعدي يضلّون الناس عن الصراط القهقري) فقال: و الذي بعثك بالحقّ إنّ هذا لشيء ما اطّلعت عليه، ثم عرج إلى السماء فلم يلبث أن نزل عليه بآي من القرآن يؤنسه بها، منها:
أَ فَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ. ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ. ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ (2) و أنزل عليه إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ. وَ ما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ. لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) جعل ليلة القدر لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله، خيرا من ألف شهر من ملك بني أميّة»(4).
إذا عرفت هذا، فإنّها باقية لم ترتفع إجماعا، لما رواه العامة عن أبي ذر، قال، قلت: يا رسول اللّه ليلة القدر رفعت مع الأنبياء أو هي باقية إلى يوم القيامة ؟ فقال: (باقية إلى يوم القيامة) قلت: في رمضان أو غيره ؟ فقال (في رمضان) فقلت: في العشر الأول أو الثاني أو الأخير؟ فقال: (في العشر الأخير)(5).
و من طريق الخاصة قول الصادق عليه السلام: «ليلة القدر تكون فيا.
ص: 235
كلّ عام، لو رفعت ليلة القدر لرفع القرآن»(1).
إذا عرفت هذا، فأكثر العلماء على أنّها في شهر رمضان(2).
و كان ابن مسعود يقول: من يقم الحول يصبها(3) ، يشير بذلك إلى أنّها في السنة كلّها.
و يستحب طلبها في جميع ليالي رمضان، و في العشر الآخر آكد، و في ليالي الوتر منه آكد.
روى العامّة أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، قال: (اطلبوها في العشر الأواخر في ثلاث بقين أو سبع بقين أو تسع بقين)(4).
و من طريق الخاصة: قول الصادق عليه السلام: «كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، إذا دخل العشر الأواخر شدّ المئزر و اجتنب النساء و أحيى الليل و تفرّغ للعبادة»(5).
و قد اختلف العلماء، فقال أبيّ بن كعب و عبد اللّه بن عباس: هي ليلة سبع و عشرين(6).
و قال مالك: هي في العشر الأواخر، و ليس فيها تعيين(7).0.
ص: 236
و قال ابن عمر: إنّها ليلة ثلاث و عشرين(1).
و قال أبو حنيفة و أحمد: إنّها ليلة السابع و العشرين(2).
و ميل الشافعي إلى أنّها ليلة الحادي و العشرين(3).
و أمّا علماؤنا، فنقل الصدوق عن الصادق عليه السلام قال: «في ليلة تسع عشرة من شهر رمضان التقدير، و في ليلة إحدى و عشرين القضاء، و في ليلة ثلاث و عشرين إبرام ما يكون في السنة إلى مثلها، و للّه عزّ و جلّ أن يفعل ما يشاء في خلقه»(4).
«قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، لمّا حضر شهر رمضان، و ذلك في ثلاث بقين من شعبان، قال لبلال: ناد في الناس، فجمع الناس ثم صعد المنبر فحمد اللّه و أثنى عليه، ثم قال: أيّها الناس إنّ هذا الشهر قد خصّكم اللّه به، و هو سيد الشهور، فيه ليلة خير من ألف شهر، تغلق فيه أبواب النار، و تفتح فيه أبواب الجنان، فمن أدركه و لم يغفر له فأبعده اللّه، و من أدرك و الدية و لم يغفر له فأبعده اللّه، و من ذكرت عنده و لم يصلّ عليّ فأبعده اللّه»(5).
و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، إذا دخل شهر رمضان أطلق كلّ أسير و أعطى كلّ سائل(6).
ص: 237
و ينبغي ترك المماراة في الصوم و التنازع و التحاسد.
قال الصادق عليه السلام: «إنّ الصيام ليس من الطعام و الشراب وحده» ثم قال: «قالت مريم إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً (1) أي:
صمتا، فإذا صمتم فاحفظوا ألسنتكم و غضّوا أبصاركم و لا تنازعوا و لا تحاسدوا» قال: «و سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، امرأة تسابّ جارية لها و هي صائمة، فدعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بطعام، فقال لها: كلي، فقالت: إنّي صائمة، فقال: كيف تكونين صائمة و قد سببت جاريتك!؟ إنّ الصوم ليس من الطعام و الشراب»(2).
و يكره إنشاد الشعر، لما فيه من المنع للاشتغال عن الذكر.
قال الصادق عليه السلام: «لا ينشد الشعر بليل و لا ينشد في شهر رمضان بليل و لا نهار» قال له إسماعيل: يا أبتاه فإنّه(3) فينا، قال: «و ان كان فينا»(4).
و روى حمّاد بن عثمان - في الصحيح - عن الصادق عليه السلام، قال: سمعته يقول: «تكره رواية الشعر للصائم و المحرم في الحرم و في يوم الجمعة، و أن يروى بالليل» قلت: و إن كان شعر حقّ؟ قال: «و إن كان شعر حقّ»(5).8.
ص: 238
و مطالبة ستة:
الاعتكاف لغة: اللبث الطويل.
قال اللّه تعالى ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (1).
و أمّا في الشرع: فإنّه عبارة عن لبث مخصوص للعبادة.
و هو مشروع في شريعتنا و الشرائع السابقة، مستحب بإجماع العلماء.
قال اللّه تعالى أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ وَ الْعاكِفِينَ (2).
و قال تعالى وَ لا تُبَاشِرُوهُنَّ وَ أَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ (3).
و روى العامة أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله، كان يعتكف في العشر الأواخر(4).
ص: 239
و من طريق الخاصة: قول الصادق عليه السلام: «كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، إذا كان العشر الأواخر اعتكف في المسجد، و ضربت له قبّة من شعر، و شمّر المئزر و طوى فراشه»(1).
في ابتداء الشرع، و إنّما يجب بالنذر و شبهه.
روى العامة أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله، قال: (من أراد أن يعتكف فليعتكف العشر الأواخر)(2) علّقه بالإرادة، و لو كان واجبا لما كان كذلك.
و من طريق الخاصة: قول الصادق عليه السلام: «إذا اعتكف يوما و لم يك اشترط فله أن يخرج و يفسخ اعتكافه، و إن أقام يومين و لم يك اشترط فليس له أن يخرج و يفسخ اعتكافه حتى تمضي ثلاثة أيام»(3).
و قد أجمع المسلمون على استحبابه، لأنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله، كان يعتكف في كلّ سنة و يداوم عليه.
و أفضل أوقاته العشر الأواخر من شهر رمضان.
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: (اعتكاف عشر في شهر رمضان يعدل حجّتين و عمرتين)(4) و داوم على اعتكافها حتى قبضه اللّه تعالى.
فمن رغب إلى المحافظة على هذه السنّة فينبغي أن يدخل المسجد قبل غروب الشمس يوم العشرين حتى لا يفوته شيء من ليلة الحادي و العشرين،
ص: 240
و يخرج بعد غروب الشمس ليلة العيد، و إن بات ليلة العيد فيه إلى أن يصلّي فيه العيد أو يخرج منه إلى المصلّى كان أولى.
لأنّه عبادة و شرطه الصوم على ما يأتي(1) ، و إنّما يصحّ الصوم بالشرطين.
و يصحّ اعتكاف الصبي المميّز، كما يصحّ صومه.
و هل هو مشروع أو تأديب ؟ إشكال.
و لا يصحّ من المجنون المطبق و لا من يعتوره وقت جنونه، لانتفاء التكليف عنه.
و لا ينعقد من الكافر الأصلي، لفقدان الشرط، و هو: النيّة المشروطة بالتقرّب.
فلو اعتكف من غير نية، لم يعتدّ به، لأنّه فعل يقع على وجوه مختلفة، فلا يختص بأحدها إلاّ بواسطة النية التي تخلص بعض الأفعال أو الوجوه و الاعتبارات عن بعض.
و لأنّ الاعتكاف عبادة، فلا يصحّ من دون النية، لقوله تعالى وَ ما أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ (2) و لا معنى للإخلاص إلاّ النية.
و لأنّه عمل و قد قال عليه السلام: (إنّما الأعمال بالنيّات)(3).
و تشترط نية الفعل، و الوجه من الوجوب أو الندب، و التقرّب إلى اللّه تعالى، لأنّ الفعل صالح للوجوب و الندب و التقرّب و اليمين أو منع النفس أو
ص: 241
الغضب، فلا بدّ من التقرّب و الوجه.
و إذا نوى الاعتكاف مدّة لم تلزمه إجماعا.
نعم يشترط استمرار النية حكما، فلو خرج لقضاء حاجة أو لغيره، استأنف النية عند الرجوع إن بطل الاعتكاف بالخروج، و إلاّ فلا.
عند علمائنا أجمع، و هو قول أهل العلم، لأنّ الاعتكاف في اللغة عبارة عن المقام، يقال: عكف و اعتكف، أي: أقام.
و للشافعي وجهان: هذا أحدهما، و الثاني: أنّه لا يشترط اللبث، بل يكفي مجرّد الحضور، كما يكفي الحضور بعرفة في تحقيق ركن الحج.
ثم فرّع على الوجهين، فقال: إن اكتفينا بالحضور حصل الاعتكاف بالعبور حتى لو دخل من باب و خرج من باب و نوى، فقد اعتكف، و إن اعتبرنا اللبث، لم يكف ما يكفي في الطمأنينة في أركان الصلاة، بل لا بدّ و أن يزيد عليه بما يسمّى إقامة و عكوفا، و لا يعتبر السكون، بل يصح اعتكافه قائما و قاعدا و متردّدا في أرجاء المسجد(1).
و هذا القول لا عبرة به عند المحصّلين.
و عن مالك رواية اخرى أنّه لا يكون أقلّ من عشرة أيام(1).
لنا: ما رواه العامة عن النبي صلّى اللّه عليه و آله، أنّه قال: (لا اعتكاف إلاّ بصوم)(2) و الصوم لا يقع في أقلّ من يوم، فبطل قول الشافعي و من وافقه.
و أمّا التقدير بالثلاثة: فلأنّ الاعتكاف في اللغة هو اللبث المتطاول و في الشرع قيّد بالعبادة، و لا يصدق ذلك بيوم واحد، لأنّ التقدير بيوم لا مماثل له في الشرع، و التقدير بعشرة سيأتي إبطاله، فتتعيّن الثلاثة، كصوم كفّارة اليمين و كفّارة بدل الهدي و غير ذلك من النظائر.
و لقول الصادق عليه السلام: «لا يكون الاعتكاف أقلّ من ثلاثة أيام و من اعتكف صام»(3).
و احتجاج الشافعي: بأنّ الاعتكاف لبث، و هو يصدق في القليل و الكثير(4). و أبو حنيفة: بأنّ من شرطه الصوم، و أقلّه يوم(5). و مالك: بأنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله، كان يعتكف العشر الأواخر(6) ، باطل: بأنّ الاعتكاف في اللغة هو اللبث الطويل، و الأصل بقاء الوضع، و قد بيّنّا أنّه لاة.
ص: 243
يكون أقلّ من ثلاثة أيام عن أهل البيت عليهم السلام. و فعل الرسول صلّى اللّه عليه و آله، لا يدلّ على تحديد الأقلّ.
و قد أجمع علماء الأمصار على اشتراط المسجد في الجملة، لقوله تعالى وَ لا تُبَاشِرُوهُنَّ وَ أَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ (1) و لو صحّ الاعتكاف في غير المسجد، لم يكن للتقييد فائدة، لأنّ الجماع في الاعتكاف مطلقا حرام.
و لأنّ الاعتكاف لبث هو قربة، فاختصّ بمكان كالوقوف.
ثم اختلف العلماء بعد ذلك في أنّه هل يشترط مسجد معيّن أم لا؟ فالذي عليه أكثر علمائنا(2) أنّه يشترط أن يكون في مسجد جمّع فيه نبي أو وصي نبي، و هي أربعة مساجد: المسجد الحرام و مسجد النبي عليه السلام، جمّع فيهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و مسجد الكوفة و مسجد البصرة جمّع فيهما علي عليه السلام.
و قد روي في بعض الأخبار بدل «مسجد البصرة»: «مسجد المدائن» رواه الصدوق(3).
و قال ابن أبي عقيل منّا: إنّه يصح الاعتكاف في كلّ مسجد.
قال: و أفضل الاعتكاف في المسجد الحرام و مسجد الرسول صلّى اللّه عليه و آله، و مسجد الكوفة، و سائر الأمصار مساجد الجماعات(4). و به قال الشافعي و مالك(5).
ص: 244
و للشافعي قول قديم - كقول الزهري - إنّه يصحّ في كلّ جامع و غير جامع(1).
و قال المفيد رحمه اللّه: لا يكون الاعتكاف إلاّ في المسجد الأعظم، و قد روي: أنّه لا يكون إلاّ في مسجد جمّع فيه نبي أو وصي، و المساجد التي جمّع فيها نبي أو وصي هي أربعة مساجد(2). و عدّ ما اخترناه.
و قال أبو حنيفة و أحمد: لا يجوز إلاّ في مسجد يجمّع فيه(3).
و عن حذيفة: أنّه لا يصحّ الاعتكاف إلاّ في أحد المساجد الثلاثة:
المسجد الحرام و المسجد الأقصى و مسجد الرسول عليه السلام(4).
لنا: أنّ الاعتكاف عبادة شرعية، فيقف على مورد النصّ، و الذي وقع عليه الاتّفاق ما قلناه.
و لأنّ عمر بن يزيد سأل الصادق عليه السلام: ما تقول في الاعتكاف ببغداد في بعض مساجدها؟ فقال: «لا اعتكاف إلاّ في مسجد جماعة قد صلّى فيه إمام عدل صلاة جماعة، و لا بأس أن يعتكف في مسجد الكوفة3.
ص: 245
و مسجد المدينة و مسجد مكّة و مسجد البصرة»(1).
و لأنّ الاعتكاف يتعلّق به أحكام شرعية من أفعال و تروك، و الأصل عدم تعلّقها بالمكلّف إلاّ مع ثبوت المقتضي و لم يوجد.
احتجّ المفيد: بقول أمير المؤمنين عليه السلام: «لا أرى الاعتكاف إلاّ في المسجد الحرام أو مسجد الرسول صلّى اللّه عليه و آله، أو في مسجد جامع»(2).
و احتجّ ابن أبي عقيل: بقوله تعالى وَ أَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ (3).
و لقول الصادق عليه السلام: «لا اعتكاف إلاّ بصوم و في المصر(4) الذي أنت فيه»(5).
و احتجّ أبو حنيفة: بقوله عليه السلام: (كلّ مسجد له إمام و مؤذّن يعتكف فيه)(6).
و لأنّه قد يأتي عليه الجمعة، فإن خرج، أبطل اعتكافه، و ربما كان واجبا، و إن لم يخرج، أبطل جمعته، فحينئذ يجب المسجد الذي يصلّي فيه جمعة.
و الجواب: أنّ قول أمير المؤمنين عليه السلام: «أو في مسجد جامع» مطلق، و ما قلناه مقيّد، فيحمل عليه، جمعا بين الأدلّة.2.
ص: 246
و لا دلالة في الآية، لأنّ اللام قد تقع للعهد.
و قول الصادق عليه السلام، محمول على المسجد الذي هو أحد الأربعة. و لا بدّ من التأويل، لأنّه يقتضي تحريم الاعتكاف إلاّ في مصره، و هو خلاف الإجماع.
و حجّة أبي حنيفة لنا.
- و هو الذي عزلته و هيّأته للصلاة فيه - لأنّه ليس له حرمة المساجد، و ليس مسجدا حقيقة، و لهذا يجوز تبديله و توسيعه و تضييقه، فلم يكن مسجدا حقيقة، فأشبه سائر المواضع، و هو الجديد للشافعي، و به قال مالك و أحمد(1).
و قال في القديم: يجوز لها ذلك - و هذا التفريع على رأي من يعمم الأماكن. و أبو حنيفة قال بالجواز(2) أيضا - لأنّه مكان صلاتها، كما أنّ المسجد مكان صلاة الرجل(3).
و ليس بجيّد، لأنّ نساء النبي صلّى اللّه عليه و آله، كنّ يعتكفن في المسجد(4) ، و لو جاز اعتكافهنّ في البيوت، لأشبه أن يلازمنها.
ص: 247
و على الجواز ففي جواز الاعتكاف للرجل وجهان للشافعية، لأنّ(1) تنفّل الرجل في البيت أفضل، و الاعتكاف ملحق بالنوافل(2).
و كلّ امرأة يكره لها حضور الجماعات يكره لها الاعتكاف في المساجد.
- و به قال ابن عمر، و ابن عباس و عائشة و الزهري و أبو حنيفة و مالك و الليث و الأوزاعي و الحسن بن صالح بن حي و أحمد في إحدى الروايتين(3) - لما رواه العامة عن النبي صلّى اللّه عليه و آله، أنّه قال: (لا اعتكاف إلاّ بصوم)(4).
و من طريق الخاصة: قول الصادق عليه السلام: «لا اعتكاف إلاّ بصوم»(5).
و لأنّه لبث في مكان مخصوص، فلم يكن بمجرّده قربة، كالوقوف بعرفة.
و قال الشافعي: لا يشترط الصوم، بل يجوز من غير صوم - و به قال ابن مسعود و سعيد بن المسيّب و عمر بن عبد العزيز و الحسن و عطاء و طاوس و إسحاق و أحمد في الرواية الأخرى - لأنّ عمر سأل النبي صلّى اللّه عليه و آله، إنّي نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام، فقال النبي صلّى اللّه
ص: 248
عليه و آله: (أوف بنذرك)(1) و لو كان الصوم شرطا لم يصح اعتكاف الليل.
و لقول ابن عباس: (ليس على معتكف صوم)(2).
و لأنّه عبادة تصح في الليل، فلا يشترط لها الصيام، كالصلاة(3).
و الجواب: الليلة قد تطلق مع إرادة النهار معها، كما يقال: أقمنا ليلتين أو ثلاثا، و المراد: الليل و النهار و نمنع صحة الاعتكاف ليلا خاصة. و الفرق بينه و بين الصلاة ظاهر، لأنّه بمجرّده لا يكون عبادة، فاشترط فيه الصوم.
و قول ابن عباس لا يكون حجّة.
سواء كان الصوم واجبا أو ندبا، و سواء كان الاعتكاف واجبا أو ندبا، فلو نذر اعتكاف ثلاثة أيام مثلا، وجب الصوم بالنذر، لأنّ ما لا يتمّ الواجب إلاّ به يكون واجبا.
فلو اعتكف في شهر رمضان، صحّ اعتكافه، و كان الصوم واقعا عن رمضان، و أجزأ عن صوم اعتكافه الواجب.
و كذا لو نذر صوم شهر و نذر اعتكاف شهر، و أطلق النذرين، أو جعل زمانهما واحدا، صحّ أن يعتكف في شهر صومه المنذور، و تقع نية الصوم عن النذر المعيّن أو غير المعيّن.
و كذا لو نذر اعتكافا و أطلق، فاعتكف في أيّام أراد صومها مستحبّا،
ص: 249
جاز.
و القائلون بعدم اشتراط الصوم من العامة حكموا باستحبابه، لأنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله، كان يعتكف و هو صائم(1). و لا خلاف فيه، و جوّزوا اعتكاف بعض يوم أو بعض ليلة(2).
و من اشترطه منهم لم يسوّغوا اعتكاف بعض يوم و لا اعتكاف ليلة منفردة و لا بعضها، لأنّ الصوم المشترط لا يصح في أقلّ من يوم(3).
و يحتمل عندهم صحة اعتكاف بعض يوم إذا صام اليوم بأسره، لأنّ الصوم المشروط وجد في زمن الاعتكاف، و لا يعتبر وجود المشروط في زمن كلّ زمان الشرط(4).
و على مذهبنا من اشتراط الصوم لا يصح اعتكاف زمان لا يصح فيه الصوم، كيومي العيدين و أيام التشريق و المرض المضر و السفر الذي يجب فيه القصر، خلافا للشافعي، فإنّه جوّز الاعتكاف في يومي العيدين و أيام التشريق(5).
و كذا السيد في حق عبده، لأنّ منافع الاستمتاع و الخدمة مملوكة للزوج و السيد، فلا يجوز صرفهما إلى غيرهما إلاّ بإذنهما، و كذا المدبّر و أمّ الولد و من انعتق بعضه إلاّ مع المهايأة و إيقاع الاعتكاف في أيام نفسه.
ص: 250
أمّا المكاتب فإنّه كالعبد إذا كان مشروطا، لأنّه لم يخرج عن الرقّ بالكتابة، فتوابع الرقّ لا حقة به.
و قال الشافعي: يجوز، لأنّ منافعه لا حقّ للمولى فيها(1).
و ليس بجيّد، لأنّ الرقّ لم يزل عنه، و إطلاق الإذن منصرف إلى الاكتساب دون غيره.
و منعهما ما لم يجب - و به قال الشافعي(2) - لأنّه فعل مندوب يجوز الرجوع فيه، لأنّ التقدير أنّه لم يجب، لأنّ الشروع غير ملزم عندنا على ما يأتي(3) ، كما لو اعتكف بنفسه ثم بدا له في الرجوع.
و لأنّ من منع غيره من الاعتكاف إذا أذن فيه و كان تطوّعا، كان له إخراجه منه، كالسيد مع عبده.
و قال أبو حنيفة: له منع العبد و ليس له منع الزوجة - و قال مالك: ليس له منعهما(4) - لأنّ المرأة تملك بالتمليك، فإذا أذن لها، أسقط حقّه عن منافعها، و أذن لها في استيفائها، فصار كما لو ملّكها عينا، بخلاف العبد الذي لا يملك البتة، و إنّما يتلف منافعه على ملك السيد، فإذا أذن له في إتلافها، صار كالمعير(5).
ص: 251
قال مالك: إنّ السيّد قد عقد على نفسه تمليك منافع كان يملكها لحقّ اللّه تعالى، فلم يكن له الرجوع فيه، كصلاة الجمعة(1).
و الجواب: أنّ منافع المرأة لزوجها، و لهذا يجب عليها بذلها، فإذا أذن لها في إتلافها، جرى مجرى المعير.
و الجمعة تجب بالدخول فيها، بخلاف الاعتكاف.
و كذا العبد إلاّ بإذن مولاه، فإذا أذنا فإن كان النذر لأيّام معيّنة، لم يجز للمولى و لا للزوج المنع و لا الرجوع، و إن كان لأيّام غير معيّنة، جاز المنع ما لم يجب بأن يمضي يومان، لأنّه ليس على الفور.
و لو دخلا في المندوب بإذنه، جاز الرجوع أيضا.
و قال الشيخ رحمه اللّه: يجب عليه الصبر ثلاثة أيّام هي أقلّ الاعتكاف(2).
و ليس بجيّد، لأنّا لا نوجب المندوب بالشروع.
و لو نذرا غير معيّن بإذن الزوج و المولى، لم يجز لهما الدخول فيه إلاّ بإذنهما، لأنّ منافعهما حقّ مضيّق يفوت بالتأخير، بخلاف الاعتكاف.
و إذا أذن لعبده في الاعتكاف فاعتكف ثم أعتق، وجب عليه إتمام الواجب، و استحبّ إتمام المندوب.
و لو دخل في الاعتكاف بغير نذر(3) فأعتق في الحال، قال الشيخ رحمه
ص: 252
اللّه: يلزمه(1).
و ليس بجيّد، لأنّ الدخول منهي عنه، فلا ينعقد به الاعتكاف، فلا يجب إتمامه.
لأنّ منافعه مملوكة له. و كذا ينبغي في الضيف، لافتقار صومه تطوّعا إلى الإذن.
قال اللّه تعالى وَ لا تُبَاشِرُوهُنَّ وَ أَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلا تَقْرَبُوها (2).
و أجمع العلماء كافّة على تحريم الوطء للمعتكف، فإن اعتكف و جامع فيه متعمّدا، فسد اعتكافه إجماعا، لأنّ الوطء إذا حرم في العبادة أفسدها، كالحجّ و الصوم.
و إن كان ناسيا، لم يبطل - و به قال الشافعي(3) - لقوله عليه السلام:
(رفع عن أمّتي الخطأ و النسيان)(4).
و لأنّها مباشرة لا تفسد الصوم فلا تفسد الاعتكاف، كالمباشرة فيما دون
ص: 253
الفرج.
و قال أبو حنيفة و مالك و أحمد: يبطل الاعتكاف، لأنّ ما حرم في الاعتكاف استوى عمده و سهوه، كالخروج من المسجد(1).
و نمنع الأصل. و الفرق: أنّ الخروج ترك المأمور به، و هو مخالف لفعل المحظور فيه، فإنّ من ترك النية في الصوم لا يصح صومه و إن كان ناسيا، بخلاف ما لو جامع سهوا.
و لا فرق في التحريم بين الوطء في القبل و الدّبر، و لا بين الإنزال و عدمه، و كما يحرم الوطء نهارا يحرم ليلا، لأنّ المقتضي للتحريم الاعتكاف فيهما، و لا نعلم فيه خلافا.
و يجوز أن يلامس بغير شهوة بالإجماع، لأنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله، كان يلامس بعض نسائه في الاعتكاف(2).
و للشافعي كالقولين(1) - لأنّه لا يفسد الصوم فلا يفسد الاعتكاف، كما لو كان بغير شهوة(2).
و الفرق: أنّ هذه المباشرة لم تحرم في الصوم لعينها، بل إذا خاف الإنزال، و أمّا في الاعتكاف فإنّها محرّمة لعينها - كما ذهب إليه أبو حنيفة في وطء الساهي(3) - فلا يفسد الصوم و يفسد الاعتكاف.
ج - قد بيّنّا(1) أنّ القبلة بشهوة و اللمس كذلك متعمّدا مفسدان للاعتكاف
- خلافا(2) لأحد قولي الشافعي(3) - لأنّها مباشرة محرّمة في الاعتكاف، فأشبهت الجماع.
و الثاني(4): لأنّها مباشرة لا تبطل الحج فلا تبطل الاعتكاف، كالقبلة بغير شهوة(5).
و ما موضع القولين ؟ للشافعية ثلاث طرق:
أحدها: أنّ القولين فيما إذا أنزل، فأمّا إذا لم ينزل لم يبطل الاعتكاف بلا خلاف، كالصوم.
و ثانيها: أنّ القولين فيما إذا لم ينزل، أمّا إذا أنزل بطل اعتكافه بلا خلاف، لخروجه عن أهلية الاعتكاف بالجنابة.
و ثالثها - و هو الأظهر عندهم -: طرد القولين في الحالين.
و الفرق على أحد القولين فيما إذا لم ينزل بين الاعتكاف و الصوم: أنّ هذه الاستمتاعات في الاعتكاف محرّمة لعينها، و في الصوم ليست محرّمة لعينها، بل لخوف الإنزال، و لهذا يترخّص فيها إذا أمن أن لا تحرّك القبلة شهوته.
فحصل من هذا للشافعي ثلاثة أقوال:
أحدها: أنّها لا تفسد الاعتكاف، أنزل أو لم ينزل.
ص: 256
و الثاني: تفسده، أنزل أو لم ينزل، و به قال مالك(1).
و الثالث - و به قال أبو حنيفة(2) - أنّ ما أنزل منها أفسد الاعتكاف، و ما لا فلا(3).
لإفساده الصوم.
و بالجملة استدعاء المني مطلقا نهارا و ليلا حرام.
و عند أكثر(4) الشافعية أنّ الاستمناء باليد مرتّب على ما إذا لمس فأنزل، إن قلنا: إنّه لا يبطل الاعتكاف فهذا أولى، و إن قلنا: إنّه يبطله فوجهان.
و الفرق: كمال الاستمتاع و الالتذاذ ثمّ باصطكاك السوأتين(5).
و لا بأس أن يلمس بغير شهوة.
الطيب، و لا يتلذّذ بالريحان، و لا يماري، و لا يشتري، و لا يبيع»(1).
و لأنّ الاعتكاف لبث للعبادة، فينافي ما غايرها.
و للشافعي قولان: أحدهما: الجواز - و به قال أبو حنيفة(2) - للأصل، و الثاني: الكراهة(3).
و الأصل يعدل عنه، للدليل، و قد بيّنّاه.
إذا عرفت هذا، فلو باع أو اشترى فعل محرّما، و لم يبطل البيع، للأصل.
و قال الشيخ: يبطل، للنهي(4).
و ليس بجيّد، لأنّه في المعاملات لا يدلّ على الفساد.
و ينبغي المنع من كلّ ما يساوي البيع ممّا يقتضي الاشتغال، كالإجارة و شبهها.
قال السيد المرتضى رحمه اللّه: تحرم التجارة و البيع و الشراء(5).
و التجارة أعمّ.
و لا بأس بشراء ما يحتاج إليه، كشراء غذائه و مائه و قميصه الذي يستتر به و يبيع شيئا يشتري به قوته، للضرورة.
و كذا الأقرب: تحريم الصنائع المشغلة عن العبادة، كالحياكة و الخياطة و أشباهها، إلاّ ما لا بدّ له منه، لأنّه يجري مجرى الاشتغال بلبس4.
ص: 258
قميصه و عمامته.
نعم يجوز له النظر في أمر معاشه و صنعته، و يتحدّث ما شاء من المباح، و يأكل الطيّبات.
لقول الباقر عليه السلام: «و لا يماري»(1).
و كذا يحرم عليه الكلام الفحش. و لا بأس بالحديث حالة الاعتكاف بإجماع العلماء، لما في منعه من الضرر.
و يحرم الصمت، لما تقدّم(2) من أنّ صوم الصمت حرام في شرعنا.
و قد روى العامّة عن أمير المؤمنين عليه السلام، أنّه قال: «حفظت عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، أنّه قال: لا صمات يوم إلى الليل»(3).
و نهى [النبي صلّى اللّه عليه و آله](4) عن صوم الصمت(5).
فإن نذر الصمت في اعتكافه، لم ينعقد بالإجماع.
قال ابن عباس: بينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، يخطب إذا هو برجل قائم، فسأل عنه، فقالوا: أبو إسرائيل نذر أن يقوم في الشمس و لا يقعد و لا يستظلّ و لا يتكلّم و يصوم، فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله: (مره فليتكلّم و ليستظلّ و يقعد و ليتمّ صومه)(6).
و لأنّه نذر في معصية فلا ينعقد. و انضمامه إلى الاعتكاف لا يخرج به عن كونه بدعة.
ص: 259
قيل: لا يجوز أن يجعل القرآن بدلا من كلامه، و قد جاء: (لا يناظر(1) بكلام اللّه) و هو أن لا يتكلّم عند الشيء بالقرآن، كما يقال لمن جاء في وقته:
جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (2) و ما شابهه، لأنّ احترام القرآن ينافي ذلك و قد استعمله في غير ما هو له، فأشبه استعمال المصحف في التوسّد(3).
و يستحب دراسة القرآن و البحث في العلم و المجادلة فيه و دراسته و تعليمه و تعلّمه في الاعتكاف، بل هو أفضل من الصلاة المندوبة - و به قال الشافعي(4) - لما فيه من القربة و الطاعة.
و قال أحمد: لا يستحب له إقراء القرآن و لا دراسة العلم، بل التشاغل بذكر اللّه و التسبيح و الصلاة أفضل، لأنّ الاعتكاف عبادة شرّع لها المسجد، فلا يستحب فيها إقراء القرآن و تدريس العلم، كالصلاة و الطواف(5).
و الفرق: أنّ الصلاة شرّع [لها](6) أذكار مخصوصة و خشوع، و اشتغاله بالعلم يقطعه عنها، و الطواف لا يكره فيه إقراء القرآن و لا تدريس العلم.
و لأنّ العلم أفضل العبادات، و نفعه متعدّ(7) ، فكان أولى من الصلاة.
أحدهما: التحريم، و هو الأقوى، لقول الباقر عليه السلام:
ص: 260
«المعتكف لا يشمّ الطيب و لا يتلذّذ بالريحان»(1).
و لأنّ الاعتكاف عبادة تختص مكانا، فكان ترك الطيب فيها مشروعا، كالحجّ.
و الثاني: الكراهة - و به قال أحمد(2) - عملا بأصالة الإباحة.
و الشافعي(3) نفى الكراهة و التحريم معا، للأصل.
و ليس بجيّد، لأنّ الاعتماد على الرواية.
و هو ظاهر عندنا، لأنّ الاعتكاف مشروط بالصوم، فإذا بطل الشرط بطل المشروط.
و كلّ ما ذكرنا أنّه محرّم على المعتكف نهارا، فإنّه يحرم ليلا، عدا الأكل و الشرب، فإنّهما يحرمان نهارا لا ليلا.
قال الشيخ رحمه اللّه: السكر يفسد الاعتكاف، و الارتداد لا يفسده، فإذا عاد بنى(4).
و الوجه: الإفساد بالارتداد.
و قال الشيخ أيضا: لا يفسد الاعتكاف سباب و لا جدال و لا خصومة(5).
و لا بأس به، لأنّها غير مفسدة للصوم، فلا تفسد الاعتكاف.
و هل يبطل الاعتكاف بالبيع و الشراء؟ قيل: نعم، لأنّه منهي عنهما في
ص: 261
هذه العبادة(1).
و قيل: يأثم و لا يبطل الاعتكاف بهما(2).
مسألة 186: قال بعض علمائنا: يحرم على المعتكف ما يحرم على المحرم(3).
و ليس المراد بذلك العموم، لأنّه لا يحرم عليه لبس المخيط إجماعا، و لا إزالة الشعر، و لا أكل الصيد، و لا عقد النكاح، فله أن يتزوّج في المسجد و يشهد على العقد، لأنّ النكاح طاعة، و حضوره مندوب، و مدّته لا تتطاول، فيتشاغل به عن الاعتكاف، فلم يكن مكروها، كتسميت العاطس و ردّ السلام. و يجوز له قصّ الشارب و حلق الرأس و الأخذ من الأظفار، و لا نعلم فيه خلافا.
- و به قال الشافعي(4) - عملا بالأصل.
و لقوله تعالى قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ (5).
و قال أحمد: يستحب ترك التزيّن برفيع الثياب(6). و ليس بجيّد و يجوز له أن يأمر بإصلاح معاشه و بتعهّد متاعه، و أن يخيط و يكتب و ما أشبه ذلك إذا اضطرّ إليه.
أمّا إذا لم يضطرّ فإنّه لا يجوز، خلافا للشافعية(7).
ص: 262
و قال مالك: إذا قعد في المسجد و اشتغل بحرفته، بطل اعتكافه(1).
و هو كما قلناه.
و نقل عن الشافعي في القديم مثله في الاعتكاف المنذور(2). و رواه بعضهم في مطلق الاعتكاف(3).
و المشهور عند الشافعية: الجواز مطلقا، لأنّ ما لا يبطل قليله الاعتكاف لا يبطل كثيره، كسائر الأفعال(4). و هو ممنوع.
للحاجة إليه، و للأصل، و لأنّه مأمور باللبث فيه، و الأكل بدون الاعتكاف جائز في المسجد، فمعه أولى، لكن ينبغي أن يبسط سفرة و شبهها، لأنّه أبلغ في تنظيف المسجد.
و له غسل يده فيه، لكن ينبغي أن يكون ماء الغسالة في طست و شبهه، حذرا من ابتلال المسجد فيمنع غيره من الصلاة فيه و الجلوس.
و لأنّه قد يستقذر، فينبغي صيانة المسجد عنه.
و له أن يرشّ المسجد بالماء المطلق لا المستعمل إذا استقذرته النفس و إن كان طاهرا، لأنّ النفس قد تعافه(5).
و كذا يجوز الفصد و الحجامة في المسجد إذا لم يتلوّث، و الأولى الاحتراز عنه.
و لا يجوز أن يبول في المسجد في آنية - خلافا للشافعية في بعض أقوالهم(6) - لما فيه من القبح و الاستهانة بالمسجد، و اللائق تعظيم المساجد و تنزيهها، بخلاف الفصد و الحجامة، و لهذا لا يمنع من استقبال القبلة و استدبارها حالة الفصد و الحجامة، و يمنع منه حالة البول.
ص: 263
و لأنّ المساجد لم تبن لهذا، و هو ممّا يستخفى(1) به، فوجب صيانة المسجد عنه، كما لو أراد أن يبول في أرضه ثم يغسله.
و قال بعض الحنابلة: يمنع من الفصد و الحجامة فيه، لأنّه إراقة نجاسة في المسجد، فلم يجز، كما لو أراد أن يبول في أرضه ثم يغسله.
و لو دعت الحاجة الشديدة إليه، خرج من المسجد و فعله، و إن استغنى عنه، لم يكن له الخروج الذي يمكن احتماله(2).
و الوجه: جوازه، لأنّ المستحاضة يجوز لها الاعتكاف، و يكون تحتها شيء يقع فيه الدم.
قالت عائشة: اعتكفت مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، امرأة من أزواجه مستحاضة، فكانت ترى الحمرة و الصفرة، و ربما وضعنا الطست تحتها و هي تصلّي(3).
و قال: لو سكر في اعتكافه ثم أفاق، استأنف(1). و هذا حكم ببطلان الاعتكاف.
و لأصحابه طريقان:
أحدهما: تقرير القولين.
و الفرق: أنّ السكران ممنوع من المسجد، لقوله تعالى لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى (2) أي موضع الصلاة، فإذا شرب المسكر و سكر، فقد أخرج نفسه عن أهلية اللبث في المسجد، فينزّل ذلك منزلة خروجه منه، و المرتدّ غير ممنوع من المسجد، بل يجوز استدامته(3) فيه، و تمكينه من الدخول لاستماع القرآن و نحوه، فلم يجعل الارتداد متضمّنا بطلان الاعتكاف.
و الثاني: التسوية بين الردّة و السكر، و في كيفيتها طريقان:
أحدهما: أنّهما على قولين:
أحدهما: أنّهما لا يبطلان الاعتكاف.
أمّا الردّة: فلما سبق.
و أمّا السكر: فلأنّه ليس فيه إلاّ تناول محرّم، و ذلك لا ينافي الاعتكاف.
و الثاني: أنّهما يبطلان.
أمّا السكر: فلما سبق.
و أمّا الردّة: فلخروج المرتدّ عن أهلية العبادة.
و الأصحّ عندهم: الجزم في الصورتين، و في كيفيته طرق:
أحدها: أنّه لا يبطل الاعتكاف بواحد منهما. و كلام الشافعي فيه.
ص: 265
السكر محمول على ما إذا خرج من المسجد أو اخرج لإقامة الحدّ عليه.
و ثانيها: أنّ السكر يبطله، لامتداد زمانه، و الردّة كذلك إن طال زمانها.
و ثالثها: أنّ الردّة تبطل، لأنّها تفوّت شرط العبادة، و السكر لا يبطله، كالنوم و الإغماء.
و رابعها: أنّهما جميعا مبطلان، فإنّ كلّ واحد منهما أشدّ من الخروج من المسجد، فإذا كان ذلك مبطلا للاعتكاف ففيهما أولى.
و قوله(1) في الردّة مفروض فيما إذا لم يكن اعتكافه متتابعا، فإذا عاد إلى الإسلام بنى على ما مضى، لأنّ الردّة لا تحبط العبادات السابقة.
و قوله(2) في السكر مفروض في الاعتكاف المتتابع(3).
و هذا كلّه عندنا باطل، لأنّ المرتدّ لا يمكّن من الدخول إلى المسجد، و أنه مناف للعبادة، و كذا السكر.
إذا عرفت هذا، فالمفهوم من كلام الشافعي أنّ زمان الردّة و السكر لا اعتكاف فيه، فإنّ الكلام في أنه يبني أو يستأنف إنّما ينتظم عند حصول الاختلال في الحال(4). و المشهور عند أصحابنا(5) أنّ زمان الردّة غير محسوب من الاعتكاف، إذ ليس للمرتدّ أهلية العبادة، و أمّا زمان السكر ففي احتسابه لهم وجهان(6).
لفساد الشرط، و خروجه عن أهلية العبادة، سواء أخرجا من
ص: 266
المسجد أو لا.
و قال الشافعي: إن لم يخرج من المسجد لم يبطل اعتكافه، لأنّه معذور فيما عرض، و إن اخرج نظر، فإن لم يمكن حفظه في المسجد، فكذلك، لأنّه لم يحصل الخروج باختياره، فأشبه ما لو حمل العاقل و اخرج مكرها، و إن أمكن ذلك، ففيه خلاف مخرّج ممّا لو أغمي على الصائم(1).
و لا تحسب أيّام الجنون من الاعتكاف، لأنّ العبادات البدنية لا تصحّ من المجنون.
و في زمان الإغماء للشافعية خلاف(2). و عندنا أنّه لا يحسب.
- و به قال الشافعي(3) - لأنّهما ممنوعان من اللبث في المساجد. قال اللّه تعالى وَ لا جُنُباً إِلاّ عابِرِي سَبِيلٍ (4) و إذا منعا من اللبث منعا من الاعتكاف، لأنّه أخصّ منه.
و إذا طرأ الحيض على المعتكفة، وجب عليها الخروج من المسجد، فإن لبثت فيه لم يحسب من الاعتكاف، لأنّه منهي عنه، و النهي في العبادات يدلّ على الفساد.
و لأنّ الصوم شرط في الاعتكاف عندنا و الحيض لا يجامعه، و منافي الشرط مناف للمشروط.
و لو طرأت الجنابة، فإن كان ممّا يبطل الاعتكاف أو الصوم، بطل الاعتكاف قطعا، و إن طرأت بما لا يبطله، كالاحتلام و الجماع ناسيا، وجب عليه أن يبادر إلى الغسل، لئلاّ يبطل اعتكافه، فإن لم يمكنه الغسل، فهو
ص: 267
مضطر إلى الخروج، و إن أمكنه، عذر في الخروج أيضا، و لا يكلّف الغسل في المسجد، لأنّ الخروج أولى، لما فيه من صيانة حرمة المسجد.
و اعلم أنّ الجنابة الطارئة إذا لم تقتض بطلان الاعتكاف، و بادر إلى الاغتسال، احتسب زمانها من الاعتكاف، كما في وقت الخروج لقضاء الحاجة، و إن أهمل، بطل الاعتكاف من حين الإهمال، و قبله يحسب من زمان الاعتكاف.
و للشافعية في احتساب زمان الجنابة من الاعتكاف مطلقا وجهان(1).
غير واجبة و إنّما يجب بالنذر أو شبهه، كاليمين و العهد، فإذا نذر الاعتكاف، وجب عليه.
ثمّ إمّا أن يطلق أو يعيّن، و التعيين إمّا أن يحصل بوصف الفعل أو بخارج عنه، كالمكان أو الزمان.
فإن أطلق، وجب عليه اعتكاف ثلاثة أيام، إذ لا يصحّ الاعتكاف أقلّ منها عند علمائنا أجمع، و يتخيّر في أيّ وقت شاء - ممّا يصحّ صومه - أوقعه فيه.
و يجب أن يكون صائما هذه الأيام الثلاثة، لأنّ الاعتكاف عندنا لا يصحّ إلاّ بالصوم، و ما لا يتمّ الواجب إلاّ به يكون واجبا. و يتخيّر أيضا في أحد المساجد الأربعة أيّها شاء اعتكف فيه.
فلو نذر اعتكاف أيام لا يجب فيها الصوم، وجب صومها عندنا و إن لم ينذر الصوم.
ص: 268
و لو نذر اعتكاف أيام يجب فيها الصوم، كرمضان و النذر المعيّن، أجزأ.
و من لم يشترط الصوم فيه من العامة إذا نذر الاعتكاف، لم يجب الصوم.
و لو نذر أن يعتكف أياما هو فيها صائم، لزم الاعتكاف في أيام الصوم، و وجب عليه الصوم إجماعا، لأنّ الاعتكاف بالصوم أفضل و إن لم يكن مشروطا به، فإذا التزمهم بالشرط، لزم، كما لو التزم التتابع فيه، و ليس له في هذه الصورة إفراد أحدهما عن الآخر إجماعا.
و لو اعتكف في رمضان، أجزأه، لأنّه لم يلتزم بهذا النذر صوما، و إنّما نذر الاعتكاف على صفة و قد وجدت.
و لو نذر أن يعتكف صائما أو يعتكف بصوم، لزمه الاعتكاف و الصوم جميعا بهذا النذر، و لزمه الجمع بينهما عندنا.
و للشافعية وجهان:
أحدهما: أنّه لا يجب الجمع، لأنّهما عبادتان مختلفتان، فأشبه ما إذا نذر أن يصلّي صائما.
و أصحّهما - و هو قول الشافعي في الأم -: أنّه يجب، لما تقدم من أنّ الاعتكاف بالصوم أفضل(1).
و لو شرع في الاعتكاف صائما ثم أفطر، لزمه استئناف الصوم و الاعتكاف عند الشافعية على الوجه الثاني، و يكفيه استئناف الصوم على الأول(2).6.
ص: 269
و لو نذر اعتكاف أيام و ليال متتابعة صائما و جامع ليلا، ففيه للشافعية هذان الوجهان(1).
و لو اعتكف عن نذره في رمضان، أجزأه عن الاعتكاف في الوجه الأول، و عليه الصوم، و على الثاني لا يجوز الاعتكاف أيضا(2).
و لو نذر أن يصوم معتكفا، انعقد نذره عندنا، لأنّها عبادة منذورة فلزمته.
و للشافعية طريقان، أظهرهما: طرد الوجهين. و الثاني: القطع بأنّه لا يجب الجمع.
و الفرق: أنّ الاعتكاف لا يصلح وصفا للصوم و الصوم يصلح وصفا للاعتكاف، فإنّه من مندوباته(3).
و لو نذر أن يعتكف مصلّيا أو يصلّي معتكفا، لزمه الصلاة و الاعتكاف، و يلزمه الجمع عندنا.
و للشافعية طريقان:
أحدهما: طرد الوجهين في لزوم الجمع.
و أصحّهما عندهم: القطع بأنّه لا يجب.
و الفرق: أنّ الصوم و الاعتكاف متقاربان، فإنّ كلّ واحد منهما كفّ و إمساك، و الصلاة أفعال مباشرة لا مناسبة بينها و بين الاعتكاف(4).
و يخرّج على هذين الطريقين: ما لو نذر أن يعتكف محرما، فإن لم نوجب الجمع بين الاعتكاف و الصلاة، فالقدر الذي يلزمه من الصلاة هو القدر الذي يلزمه لو أفرد الصلاة بالنذر، و إن أوجبنا الجمع، لزمه ذلك القدر في يوم3.
ص: 270
اعتكافه، و لا يلزمه استيعاب اليوم بالصلاة(1).
و إن كان نذر اعتكاف أيام مصلّيا، لزمه ذلك القدر كلّ يوم.
و قال بعضهم: ظاهر اللفظ يقتضي الاستيعاب، فإنّه جعل كونه مصلّيا صفة لاعتكافه(2).
و هذا هو الوجه عندي، لأنّا لو تركنا هذا الظاهر و لم نعتبر تكرير القدر الواجب من الصلاة في كلّ يوم و ليلة، اكتفي به في جميع المدّة(3).
و لو نذر أن يصلّي صلاة يقرأ فيها سورة كذا، لزم الجمع عندنا.
و للشافعية قولان، أحدهما: أنّه على الخلاف(4).
كذلك ليس لهما نذر الاعتكاف إلاّ بإذن المولى و الزوج، فإن نذر أحدهما، لم ينعقد نذره.
و هل يقع باطلا أو موقوفا على الإذن ؟ إشكال، أقربه: الثاني.
فإن أجازا نذرهما و أذنا في الشروع في الاعتكاف و كان الزمان معيّنا أو غير معيّن لكن شرطا التتابع، لم يجز لهما الرجوع، و إن لم يشترطا التتابع، فالأقرب أنّ لهما الرجوع، و هو أظهر وجهي الشافعية(5).
و لو نذرا بالإذن، فإن تعلّق بزمان معيّن، فلهما الشروع فيه بغير إذن، و إلاّ لم يشرعا فيه إلاّ بالإذن، و إذا شرعا بالإذن، لم يكن لهما المنع من
ص: 271
الإتمام. و هو مبني على أنّ النذر المطلق إذا شرع فيه، لزم إتمامه.
و فيه إشكال. و للشافعية خلاف(1).
سواء عقد عليهما في نذر واحد أو أطلق نذر الاعتكاف ثم نذر تعيين المطلق فيه.
و لا خلاف في تعيين المسجد الحرام لو عيّنه بالنذر، لما فيه من زيادة الفضل على غيره، و تعلّق النّسك به.
و إن عيّن مسجد النبي صلّى اللّه عليه و آله، بالمدينة، أو المسجد الأقصى، تعيّن أيضا عندنا - و به قال أحمد و الشافعي في أحد قوليه(2) - لأنّه نذر في طاعة، فينعقد و لا يجوز له حلّه.
و لقول النبي صلّى اللّه عليه و آله: (لا تشدّ الرحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام و المسجد الأقصى و مسجدي هذا)(3) فأشبها المسجد الحرام.
و الثاني للشافعي: أنّه لا يتعيّن بالنذر، لأنّه لا يتعلّق بهما نسك، فأشبها سائر المساجد(4).
و ليس بجيّد، لأنّه لا يلزم من انتفاء تعلّق النّسك بهما مساواتهما لغيرهما من المساجد.
ص: 272
و لو عيّن غير هذه المساجد بالنذر، تعيّن عندنا، لاشتماله على عبادة، فانعقد نذره، كغيره من العبادات.
و قال أحمد: لا يتعيّن بالنذر غير هذه المساجد الثلاثة، لقوله عليه السلام: (لا تشدّ الرحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد)(1)المغني 160:3-161، الشرح الكبير 133:3-134.(2).
و لو تعيّن غيرها بتعيينه، لزمه المضيّ إليه، و احتاج إلى شدّ الرحل لقضاء نذره فيه.
و لأنّ اللّه تعالى، لم يعيّن لعبادته مكانا فلم يتعيّن بتعيين غيره، و إنّما تعيّنت هذه المساجد الثلاثة، للخبر الوارد فيها.
و لأنّ العبادة فيها أفضل، فإذا عيّن ما فيه فضيلة، لزمه، كأنواع العبادة(3). و هو أحد قولي الشافعي(3) أيضا.
و له قول آخر: إنّه لا يتعيّن المسجد الأقصى، لأنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله، قال: (صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلاّ المسجد الحرام)(4)(5).
و هذا يدلّ على التسوية فيما عدا هذين المسجدين، لأنّ المسجد الأقصى لو فضّلت الصلاة فيه على غيره، للزم أحد أمرين: إمّا خروجه من عموم هذا الحديث، و إمّا كون فضيلته بألف مختصّا بالمسجد الأقصى.
و ليس بلازم، فإنّه إذا فضّل الفاضل بألف فقد فضّل المفضول بها أيضا.
و قد بيّنّا أنّ النذر عندنا يتعيّن به ما يعيّنه الناذر من المكان كالزمان، و التعيين و إن كان بالنذر لكن لمّا أوجب اللّه تعالى، الوفاء بالنذر، كان التعيين3.
ص: 273
مستندا إليه تعالى.
و هل له العدول إلى مسجد أشرف ؟ إشكال، أقربه: الجواز.
فلو نذر أن يعتكف في المسجد الحرام، لم يجز له أن يعتكف في غيره، لأنّه أشرفها.
و لو نذر أن يعتكف في مسجد النبي صلّى اللّه عليه و آله، جاز له أن يعتكف في المسجد الحرام، لأنّه أفضل منه، و لم يجز أن يعتكف في المسجد الأقصى، لأنّ مسجد النبي صلّى اللّه عليه و آله، أفضل منه.
و قال قوم: إنّ مسجد النبي صلّى اللّه عليه و آله، أفضل من المسجد الحرام، لأنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله، إنّما دفن في خير البقاع، و قد نقله اللّه تعالى من مكّة إلى المدينة، فدلّ على أنّها أفضل(1).
و المشهور: أنّ المسجد الحرام أفضل، لقوله عليه السلام: (صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلاّ المسجد الحرام)(2).
و في خبر آخر أنّه قال عليه السلام: (صلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه)(3) فيدخل في عمومه مسجد النبي صلّى اللّه عليه و آله، فتكون الصلاة فيه أفضل من مائة ألف صلاة فيما سوى مسجد النبي صلّى اللّه عليه و آله.
و لو نذر الاعتكاف في المسجد الأقصى، جاز له أن يعتكف في المسجدين الآخرين، لأنّهما أفضل منه.
و قد روى العامّة أنّ رجلا جاء إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله، يوم الفتح
ص: 274
و النبي عليه السلام في مجلس قريبا من المقام، فسلّم على النبي صلّى اللّه عليه و آله، ثم قال: يا نبي اللّه إنّي نذرت لئن فتح اللّه للنبي و المؤمنين مكّة لأصلّينّ في بيت المقدس، و إنّي وجدت رجلا من أهل الشام ها هنا في قريش مقبلا معي و مدبرا، فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله: (ها هنا فصلّ) فقال الرجل قوله هذا ثلاث مرّات كلّ ذلك يقول النبي صلّى اللّه عليه و آله: (ها هنا فصلّ) ثم قال الرابعة مقالته هذه، فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله: (اذهب فصلّ فيه، فو الذي بعث محمّدا بالحقّ لو صلّيت ها هنا لقضي عنك ذلك كلّ صلاة في بيت المقدس)(1).
فلو نذر أن يعتكف في غير هذه الأربعة لم يجز.
و على القول الآخر لعلمائنا بجواز الاعتكاف في غيرها لو نذر أن يعتكف في غيرها، انعقد نذره، و تعيّن ما عيّنه، و هو أحد قولي الشافعي(2).
يكن له الخروج منه، و لا الانتقال إلى مسجد آخر، لكن لو كان ينتقل في خروجه لقضاء الحاجة إلى مسجد آخر على مثل تلك المسافة أو أقرب، كان له ذلك في أصحّ وجهي الشافعية(3).
و لو أوجب على نفسه اعتكافا في مسجد فانهدم، اعتكف في موضع منه، فإن لم يتمكّن، خرج، فإذا بني المسجد، رجع و بنى على اعتكافه.
و من لم يوجب التعيين بالنذر، له أن يخرج إلى أين شاء من المساجد ليعتكف فيه.
ص: 275
حتى أنّه لا يجوز له التقديم عليه و لا التأخير(1) عنه(2) ، فإن أخّر، كان قضاء، و هو أصحّ وجهي الشافعية(3).
و الثاني: لا يتعيّن الزمان بالتعيين، كما لا يتعيّن في نذر الصلاة و الصدقة(4).
و الحكم في الأصل ممنوع.
و الوجهان عندهم جاريان فيما إذا عيّن الزمان للصوم(5).
و الحقّ عندنا أنّه يتعيّن أيضا.
وجب عليه أن يعتكف ثلاثة أيام، لأنّ الاعتكاف لا يصح في أقلّ من ثلاثة، خلافا للشافعي، فإنّه جوّزه لحظة، و يبرأ بها من عهدة النذر عنده، لكن يستحب أن يعتكف يوما(6).
و إن نذر الاعتكاف مدّة من الزمان، فإمّا أن يطلق تلك المدّة أو يعيّنها، فإن أطلق تلك المدّة، فإمّا أن يشترط فيها التتابع، كأن يقول: للّه عليّ أن أعتكف ثلاثة أيام متتابعات، أو لا يشترطه.
فإن شرطه، لزم، لأنه نذر في طاعة هي المسارعة إلى فعل الخير، كما لو شرط التتابع في الصوم.
و إن لم يشترط التتابع، لم يلزمه إلاّ في ثلاثة ثلاثة، فإذا نذر اعتكاف شهر أو عشرة أيام، وجب عليه اعتكاف شهر بأن يعتكفه متتابعا أو متفرّقا ثلاثة ثلاثة، و لا يجب عليه تتابع الشهر بأسره، كما في الصوم، لأنّه معنى يصح
ص: 276
فيه التفريق، فلا يجب فيه التتابع بمطلق النذر، كالصيام، و هو أحد قولي الشافعي و إحدى الروايتين عن أحمد(1).
و الثاني: أنّه يلزمه التتابع - و هو قول أبي حنيفة و مالك و أحمد في الرواية الأخرى - لأنّه معنى يحصل في الليل و النهار، فإذا أطلقه، اقتضى التتابع، كما لو حلف: لا يكلّم زيدا شهرا، و كمدّة الإيلاء و العدّة(2).
و الوجه: الأول، لأصالة براءة الذمة.
إذا عرفت هذا، فإنّ التتابع و إن لم يلزمه إلاّ في كلّ ثلاثة عندنا، و لا يلزمه مطلقا عند العامة، فإنّ الأفضل التتابع، لما فيه من المسابقة إلى فعل ما يوجب المغفرة.
و لو لم يتلفّظ بالتتابع في نذره، لكن نواه في ضميره، فإن قلنا: النذر ينعقد بالضمير، لزمه، و إلاّ فلا.
و لو شرط في نذره التفريق، لم يلزمه، و خرج عن العهدة بالتتابع، لأنّ الأولى التتابع، فلا ينعقد نذر خلافه عندنا - و هو أصحّ وجهي الشافعيّة(3) - كما لو عيّن غير المسجد الحرام، يخرج عن العهدة بالاعتكاف في المسجد الحرام.
و هل يجوز التفريق يوما يوما، بأن يعتكف يوما عن نذره ثم يضمّ إليه يومين مندوبا؟ الأقرب: الجواز، كما لو نذر أن يعتكف يوما و سكت عن الزيادة و عدمها، فإنّه يجب عليه الإتيان بذلك اليوم، و يضمّ إليه يومين
ص: 277
آخرين، فحينئذ إذا نذر أن يعتكف ثلاثة أيام، فاعتكف يوما عن النذر، و ضمّ إليه آخرين لا عنه، بل تبرّع بهما، ثم اعتكف يوما آخر عن النذر، و ضمّ إليه آخرين ثم اعتكف ثالثا عن النذر و ضمّ إليه آخرين، جاز، سواء تابع التسعة أو فرّقها.
و لو نذر اعتكاف يوم، لم يجز تفريق الساعات على الأيام، لأنّ الاعتكاف يجب فيه الصوم و لا يصح صوم الساعة بمفردها - و هو أصحّ وجهي الشافعية(1) - لأنّ المفهوم من لفظ «اليوم» المتصل.
قال الخليل بن أحمد: إنّ اليوم اسم لما بين طلوع الفجر و غروب الشمس(2).
و الثاني للشافعية: أنّه يجوز التفريق، تنزيلا للساعات من اليوم منزلة الأيام من الشهر(3).
و لو دخل المسجد في أثناء النهار، و خرج بعد الغروب ثم عاد قبل طلوع الفجر و مكث إلى مثل ذلك الوقت، فهو على هذين الوجهين(4).
و لو لم يخرج بالليل فعند أكثر الشافعية أنّه يجزئه، سواء جوّزوا التفريق أو منعوه، لحصول التواصل بالبيتوتة في المسجد.
و قال بعضهم: لا يجزئه، تفريعا على الوجه الأول، لأنّه لم يأت بيوم متواصل الساعات، و الليلة ليست من اليوم، فلا فرق بين أن يخرج فيها من المسجد أو لا يخرج(5).6.
ص: 278
و لو قال في أثناء النهار: للّه عليّ أن أعتكف يوما من هذا الوقت، لم يصحّ عندنا إذا لم يكن صائما من أوله، و إن كان فإشكال.
و قالت الشافعية: إنّه يلزمه دخول المعتكف من ذلك الوقت إلى مثله من اليوم الثاني، و لا يجوز أن يخرج بالليل، ليتحقّق التتابع.
و قال بعضهم: إنّ الناذر التزم يوما و البعضان يوم(1) ، و الليلة المتخلّلة ليست من اليوم، فلا يمنع التتابع بينهما، كما أنّه لا يمنع وصف اليومين الكاملين بالتتابع(2).
و من جوّز تفريق الساعات من الشافعية في اليوم اكتفى بساعات أقصر الأيام، لأنّه لو اعتكف أقصر الأيام، أجزأه. و كذا لو فرّق على ساعات أقصر الأيام في سنين(3).
و لو اعتكف في أيام متباينة الطول و القصر، فينبغي أن ينسب اعتكافه في كلّ يوم بالجزئية إليه إن كان ثلثا فقد خرج عن ثلث ما عليه، نظرا إلى اليوم الذي يوقع فيه الاعتكاف، و لهذا لو اعتكف بقدر ساعات أقصر الأيام من يوم طويل، لم يكفه.
كما لو نذر أن يعتكف عشرة أيام من الآن، أو نذر أن يعتكف هذه العشرة أو هذا الشهر، وجب عليه الوفاء به.
فإن أفسد آخره إمّا بأن خرج لغير عذر أو بسبب غير ذلك، فإمّا أن يقيّد بالتتابع أو لا، فإنّ قيّد نذره بالتتابع بأن قال: أعتكف هذه العشرة أو هذا الشهر متتابعا، وجب عليه الاستئناف، لأنّه لم يأت بما نذره فيجب القضاء، و يكفّر
ص: 279
لمخالفته(1) النذر.
و لو فاته الجميع لغير عذر، وجب عليه القضاء متتابعا - و هو أصحّ وجهي الشافعية(2) - لأنّه صرّح في نذره بالتتابع، فيكون مقصودا له بالذات.
و الثاني للشافعية: أنّه لا يلزمه الاستئناف لو أفسد آخره، و لا تتابع القضاء لو أهمل الجميع، لأنّ التتابع واقع من ضروراته، فلا أثر للفظه و تصريحه(3). و هو ممنوع.
و إن لم يقيّد بالتتابع، لم يجب الاستئناف لو أفسد آخره و لا تتابع القضاء لو أهمله، بل يجب القضاء مطلقا، لأنّ التتابع فيه كان من حقّ الوقت و ضروراته، لا أنّه وقع مقصودا، فأشبه التتابع في صوم رمضان.
و هل يلزمه التتابع ؟ الأقرب: العدم، بل له أن يفرّقه ثلاثة ثلاثة، أو يوما و يضيف إليه آخرين مندوبين على الإشكال السابق.
و قال الشافعي: لا يلزمه التتابع، لأنّه معنى يصحّ فيه التفريق، فلا يجب فيه التتابع بمطلق النذر كالصيام. و هو إحدى الروايتين عن أحمد.
و الثانية: يلزمه التتابع. و به قال أبو حنيفة و مالك(4).
فإن اعتكف شهرا بين هلالين، أجزأه و إن كان ناقصا. و إن اعتكف ثلاثين يوما من شهرين، جاز.
و يدخل فيه الليالي، لأنّ الشهر عبارة عنهما، و لا يجزئه أقلّ من ذلك - و به قال الشافعي(5) - إلاّ أن يقول: أيّام شهر أو نهار هذا الشهر، فلا يلزمه
ص: 280
الليالي.
و لو قال: ليالي هذا الشهر، لم ينعقد عندنا، لأنّ من شرط الاعتكاف الصوم، و الليل ليس محلا للصوم.
و قال الشافعي: ينعقد و يلزم الاعتكاف ليلا، و لا يلزمه الأيّام(1).
و لو نذر اعتكاف يوم، قال الشافعي: لا يلزم ضمّ الليلة إلاّ أن ينوي، فحينئذ يلزم، لأنّ اليوم قد يطلق و يراد به اليوم بليلته(2).
و للشافعي قول آخر: إنّه تدخل الليلة إلاّ أن ينوي يوما بلا ليلة(3).
و لو نذر اعتكاف يومين، وجب عليه ضمّ ثالث إليهما عندنا، و عند العامّة لا يلزم.
فعلى قولهم هل تلزمه الليلة بينهما؟ للشافعية ثلاثة أوجه:
أحدها: لا تلزم إلاّ إذا نواها، لما سبق من أنّ اليوم عبارة عمّا بين طلوع الفجر و غروب الشمس.
و الثاني: تلزم إلاّ أن يريد بياض النهار، لأنّها ليلة تتخلّل نهار الاعتكاف، فأشبه ما لو نذر اعتكاف العشر.
و الثالث: إن نوى التتابع أو قيّد به لفظا، لزمت ليحصل التواصل، و إلاّ فلا(4).
و لو نذر اعتكاف ليلتين ففي النهار المتخلّل بينهما هذا الخلاف.
و لو نذر ثلاثة أيام أو عشرة أيام أو ثلاثين يوما، ففي لزوم الليالي المتخلّلة، الوجوه الثلاثة(5).6.
ص: 281
و قال بعض الشافعية: إن نذر اليومين لا يستتبع شيئا من الليالي، و الخلاف في الثلاثة فصاعدا، لأنّ العرب إذا أطلقت اليومين عنت مجرّد النهار، و إذا أطلقت الأيّام عنت بلياليها(1).
فإذا نذر يومين لم تلزم(2) ليلتان بحال، و به قال مالك و أحمد(3).
و قال أبو حنيفة: تلزم(4) ليلتان(5).
و لو نذر اعتكاف يوم، لم يجز تفريقه، و يلزمه أن يدخل معتكفة قبل طلوع الفجر و يخرج منه بعد غروب الشمس.
و قال مالك: يدخل معتكفة قبل غروب الشمس من ليلة ذلك اليوم، كما لو نذر اعتكاف شهر، لأنّ الليل يتبع النهار بدليل ما لو كان متتابعا(6).
و الوجه: ما قلناه من أنّ الليلة ليست من اليوم، و هي من الشهر.
و لو نذر اعتكاف ليلة، لزمه دخول معتكفة قبل غروب الشمس و يخرج منه بعد طلوع الفجر عند العامة(7). و ليس له تفريق الاعتكاف عند أحمد(8).
و قال الشافعي: له التفريق(9).
و تكون الليالي هنا بعدد الأيّام، كما في نذر الشهر، و قد تقدّم.
ص: 282
و يخرج عن العهدة إذا استهلّ الهلال، كان الشهر كاملا أو ناقصا، لأنّ الاسم يقع على ما بين العشرين إلى آخر الشهر.
و لو نذر أن يعتكف عشرة أيّام من آخر الشهر و دخل المسجد اليوم العشرين، أو قبيل الحادي و العشرين فنقص الشهر، لزمه قضاء يوم، لأنّه حدّد القصد إلى العشرة.
لأنّه إن قدم ليلا، لم يلزمه شيء، و إن قدم نهارا، لم ينعقد، لمضيّ بعض اليوم غير صائم للاعتكاف.
و من لا شرط(1) الصوم أوجب عليه اعتكاف بقية النهار(2).
و للشافعي في قضاء ما مضى من النهار قولان:
أصحّهما عندهم: العدم، لأنّ الوجوب ثبت من حين القدوم.
و الثاني: الوجوب، لأنّا نتبيّن بقدومه أنّ ذلك يوم القدوم، فيجب أن يعتكف بقية اليوم، و يقضي بقدر ما مضى من يوم آخر(3).
و قال بعضهم: يستأنف اعتكاف يوم ليكون اعتكافه موصولا(4).
و لو كان الناذر وقت القدوم ممنوعا من الاعتكاف بمرض أو حبس، قضاه عند زوال العذر.
و قال بعضهم: لا شيء عليه، لعجزه وقت الوجوب، كما لو نذرت المرأة صوم يوم بعينه فحاضت فيه(5).
ص: 283
فإذا تبرّع به كان ندبا إجماعا، فإذا شرع في الاعتكاف، فلعلمائنا في صيرورته واجبا حينئذ أقوال ثلاثة:
أحدها: قال الشيخ - رحمه اللّه - في بعض مصنّفاته: إنّه يصير واجبا بالنيّة و الدخول فيه(1) - و به قال أبو الصلاح(2) من علمائنا، و هو قول مالك و أبي حنيفة(3) - لأنّ الأخبار دلّت على وجوب الكفّارة بإفساد الاعتكاف بجماع و غيره على الإطلاق، و لو لم ينقلب واجبا لم تجب الكفّارة، و بالقياس على الحج و العمرة.
و الأخبار محمولة على الاعتكاف الواجب. و أيضا لا استبعاد في وجوب الكفّارة في هتك الاعتكاف المستحب. و الفرق: احتياج الحجّ و العمرة إلى إنفاق مال كثير ففي إبطلاهما تضييع للمال و هو منهي عنه.
الثاني: أنّه إن اعتكف يومين وجب الثالث، و إن اعتكف أقلّ لم يجب الإكمال - و هو ظاهر كلام الشيخ في النهاية(4) و مذهب ابن الجنيد(5) و ابن البرّاج(6) - لقول الباقر عليه السلام: «إذا اعتكف يوما و لم يكن اشترط فله أن
ص: 284
يخرج و يفسخ اعتكافه، و إن أقام يومين و لم يكن اشترط فليس له أن يخرج و يفسخ اعتكافه حتى تمضي ثلاثة أيام»(1).
و في طريقها علي بن فضّال، و فيه ضعف.
الثالث: أنّ له إبطاله مطلقا، و فسخه متى شاء، سواء في اليوم الأول أو الثاني أو الثالث، اختاره السيد المرتضى(2) رضي اللّه عنه، و ابن إدريس(3) ، و به قال الشافعي و أحمد(4) ، و هو الأقوى، لأصالة بقاء ما كان على ما كان، و براءة الذمة.
- و هو قول عامّة أهل العلم - للأصل.
و قال من لا يعتدّ به: إنّه يجب الاعتكاف بمجرّد العزم عليه، لأنّ عائشة روت أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله، كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان، فاستأذنته عائشة فأذن لها فأمرت ببنائها(5) فضرب، و سألت حفصة أن تستأذن لها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، ففعلت فأمرت ببنائها فضرب، فلمّا رأت ذلك زينب بنت جحش أمرت ببنائها فضرب.
قالت: و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، إذا صلّى الصبح دخل معتكفة، فلمّا صلّى الصبح انصرف فبصر بالأبنية، فقال: (ما هذا؟) فقالوا: بناء عائشة و حفصة و زينب، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:
ص: 285
(أ لبرّ أردتنّ؟ ما أنا بمعتكف) فرجع، فلمّا أفطر اعتكف عشرا من شوّال(1).
و لأنّها عبادة تتعلّق بالمسجد فلزمت بالدخول فيها، كالحجّ(2).
و الرواية تدلّ على النقيض، لأنّ تركه دليل على عدم الوجوب بالعزم.
و الفرق بينه و بين الحجّ قد سبق.
إن شاء زاد عليها و إن شاء لم يزد، و إن زاد يوما جاز له عدم الزيادة على الأربعة.
فإن زاد على الثلاثة يومين، قال الشيخ رحمه اللّه: يجب الإكمال ستة(3) ، فأوجب السادس - و به قال ابن الجنيد(4) و أبو الصلاح(5) - لقول الباقر عليه السلام: «من اعتكف ثلاثة أيّام فهو يوم الرابع بالخيار إن شاء ازداد أيّاما أخر، و إن شاء خرج من المسجد، فإن أقام يومين بعد الثلاثة فلا يخرج من المسجد حتى يستكمل ثلاثة أخر»(6).
و في طريقها علي بن فضّال، و الأصل براءة الذمة.
بإجماع العلماء كافة، لما رواه العامة عن عائشة أنّها قالت: السنّة للمعتكف أن لا يخرج إلاّ لما لا بدّ له منه(7).
و عنها: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، كان إذا اعتكف يدني إليّ
ص: 286
رأسه فأرجّله، و كان لا يدخل البيت إلاّ لحاجة الإنسان(1).
و من طريق الخاصة: قول الصادق عليه السلام: «لا يخرج المعتكف من المسجد إلاّ في حاجة»(2).
و لأنّ الاعتكاف هو اللبث، فإذا خرج بطل الاسم.
و الممنوع إنّما هو الخروج بجميع بدنه، فلو أخرج يده أو رأسه، لم يبطل اعتكافه، لما تقدّم في رواية عائشة.
و لو أخرج إحدى رجليه أو كلتيهما و هو قاعد مادّ لهما، فكذلك، و إن اعتمد عليهما فهو خارج.
و الممنوع منه الخروج عن كلّ المسجد.
فلو صعد على المنارة، فإن كانت في وسط المسجد أو بابها فيه أو في رحبته و هي تعدّ من المسجد، جاز سواء كان الصعود للأذان أو لغيره، كما يصعد على سطح المسجد و دخول بيت منه.
و إن كان الباب خارج المسجد، لم يجز، لأنّها لا تعدّ حينئذ من المسجد، و لا يصح الاعتكاف فيها.
و هل للمؤذّن صعودها للأذان ؟ الأقرب: المنع - و هو أحد وجهي الشافعية(3) - لأنّه لا ضرورة إليه، لإمكان الأذان على سطح المسجد، فصار كما لو صعدها لغير الأذان، أو خرج لغير ضرورة، أو خرج إلى الأمير ليعلمه الصلاة.
و الثاني: الجواز، لأنّها مبنيّة للمسجد معدودة من توابعه.
و لأنّه قد اعتاد صعودها للأذان و قد استأنس الناس بصوته، فيعذر فيه.6.
ص: 287
و يجعل زمان الأذان مستثنى عن اعتكافه(1).
بإجماع العلماء.
قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أنّ للمعتكف أن يخرج من معتكفة للغائط و البول(2).
و لأنّ هذا ممّا لا بدّ منه، و لا يمكن فعله في المسجد، فلو بطل الاعتكاف بخروجه إليه، لم يصح لأحد أن يعتكف.
و لأنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله، كان يعتكف، و من المعلوم أنّه كان يخرج لقضاء الحاجة.
و لما رواه العامة عن عائشة أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله، كان إذا اعتكف لا يدخل البيت إلاّ لحاجة الإنسان(3).
و من طريق الخاصة: ما رواه داود بن سرحان، قال: كنت بالمدينة في شهر رمضان، فقلت للصادق عليه السلام: إنّي أريد أن أعتكف فما ذا أقول و ما ذا أفرض على نفسي ؟ فقال: «لا تخرج من المسجد إلاّ لحاجة لا بدّ منها و لا تقعد تحت ظلال حتى تعود إلى مجلسك»(4).
و في معناه الخروج للاغتسال من الاحتلام.
و لو كان إلى جانب المسجد سقاية خرج إليها و لا يجوز التجاوز، إلاّ أن يجد غضاضة بأن يكون من أهل الاحتشام(5) ، فيحصل له مشقّة بدخولها، فيجوز له العدول إلى منزله و إن كان أبعد.
ص: 288
و لو بذل له صديق منزله - و هو قريب من المسجد - لقضاء الحاجة، لم تلزمه الإجابة، لما فيه من المشقّة بالاحتشام، بل يمضي إلى منزل نفسه، سواء كان منزله قريبا أو بعيدا بعدا متفاحشا أو غير متفاحش، إلاّ أن يخرج بالعبد عن مسمّى الاعتكاف.
و لو كان له منزلان أحدهما أقرب، تعيّن عليه القصد إليه، خلافا لبعض الشافعيّة حيث سوّغ له المضيّ إلى الأبعد(1).
و لو احتلم، وجب عليه المبادرة بالخروج عن المسجد للغسل، لأنّ الاستيطان حرام.
إذا لم يكن له من يأتيه به بالإجماع، لأنّ الحاجة تدعو إليه، و الضرورة ثابتة فيه، فجاز كغيره من الضروريات.
و هل يجوز الخروج للأكل خارج المسجد؟ إشكال، أقربه ذلك إن كان فيه غضاضة و يكون من أهل الاحتشام، و إلاّ فلا.
و للشافعية وجهان: هذا أحدهما، لأنّه قد يستحيي منه و يشقّ عليه.
و الثاني: أنّه لا يجوز - و هو قول الشافعي في الأمّ(2) - لأنّ الأكل في المسجد ممكن(3).
و لو عطش و لم يجد الماء في المسجد، فهو معذور في الخروج.
و لو وجده فالأقرب منعه من الخروج للشرب - و هو أصحّ وجهي الشافعية - لأنّ فعله في المسجد ممكن، و لا يستحي منه، و لا يعدّ تركه من المروة،
ص: 289
بخلاف الأكل فيه(1).
و لو فجأه القيء خرج من المسجد ليتقيّأ خارجه صيانة للمسجد و أهله عن الاستقذار.
و كلّ ما لا بدّ منه و لا يمكن فعله في المسجد فله الخروج إليه، و لا يفسد اعتكافه، و هو على اعتكافه ما لم يطل المكث و يخرج به عن اسم المعتكف.
لضرورة، أو اعتكف في غيرها عند من سوّغه، خرج لأدائها، و لم يبطل اعتكافه عند علمائنا - و به قال أبو حنيفة و أحمد(2) - لأنّه خرج لأداء واجب عليه، فلا يبطل به اعتكافه، كما لو خرج لأداء الشهادة، أو لإنقاذ غريق، أو إطفاء حريق.
و قال الشافعي: يجب أن يخرج لصلاة الجمعة.
و في بطلان اعتكافه قولان، أحدهما: لا يبطل، كما اخترناه.
و الثاني: أنّه يبطل - و به قال مالك(3) - لسهولة الاحتراز عن هذا الخروج بأن يعتكف في الجامع.
و على هذا لو كان اعتكافه المنذور أقلّ من أسبوع، ابتدأ من أول الأسبوع أين شاء من المساجد و في الجامع متى شاء، و إن كان أكثر من أسبوع، فيجب أن يبتدئ به في الجامع حتى لا يحتاج إلى الخروج للجمعة.
فإن كان قد عيّن غير الجامع و قلنا بالتعيين، فلا يخرج عن نذره إلاّ بأن
ص: 290
يمرض فتسقط عنه الجمعة، أو بأن يتركها عاصيا و يدوم على اعتكافه(1).
و هذا يستلزم الجمع بين الضدّين في الحكمين.
و احتجّ على بطلان الاعتكاف: بأنّه أمكنه أداء فرضه بحيث لا يخرج منه، فبطل بالخروج، كالمكفّر إذا ابتدأ صوم شهرين متتابعين في شعبان أو ذي الحجّة.
و ليس بجيّد، لأنّه إذا نذر أيّاما معيّنة فيها جمعة، فكأنّه استثنى الجمعة بلفظه.
و يبطل ما ذكره بما لو نذرت المرأة اعتكاف أيّام متتابعة فيها عادة حيضها.
عند علمائنا أجمع، سواء اشترط ذلك في اعتكافه أو لا - و به قال علي عليه السلام، و سعيد بن جبير و النخعي و الحسن(2) - لما رواه العامّة عن علي عليه السلام، أنّه قال: «إذا اعتكف الرجل فليشهد الجمعة و ليعد المريض و ليحضر الجنازة و ليأت أهله و ليأمرهم بالحاجة و هو قائم»(3).
و من طريق الخاصة: قول الصادق عليه السلام: «و لا يخرج في شيء إلاّ لجنازة أو يعود مريضا و لا يجلس حتى يرجع»(4).
و لأنّه مؤكّد الاستحباب، و الاعتكاف للعبادة، فلا يناسب منعها من مؤكّداتها.
و قال عطاء و عروة و مجاهد و الزهري و الشافعي و مالك و أصحاب الرأي:
ص: 291
ليس له الخروج في ذلك - و عن أحمد روايتان(1) - لما روته عائشة، قالت:
كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، إذا اعتكف لا يدخل البيت إلاّ لحاجة الإنسان(2).
و عنها: أنّها قالت: السنّة على المعتكف أن لا يعود مريضا و لا يشهد جنازة و لا يمسّ امرأة و لا يباشرها و لا يخرج لحاجة إلاّ لما لا بدّ منه(3).
و لأنّه ليس بواجب، فلا يجوز ترك الاعتكاف الواجب لأجله(4).
و الحديث نقول بموجبه، و لا دلالة فيه على موضع النزاع.
و الحديث الثاني ليس مسندا إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله، فلا يكون حجّة.
و كونه ليس بواجب لا يمنع الاعتكاف من فعله، كقضاء الحاجة.
و أمكنه فعلها في المسجد، لم يجز له الخروج إليها، فإن لم يمكنه ذلك، فله الخروج إليها.
و إن تعيّن عليه دفن الميت أو تغسيله، جاز له الخروج لأجله، لأنّه واجب متعيّن، فيقدّم على الاعتكاف، كصلاة الجمعة.
و الشافعي لمّا منع من عيادة المريض و صلاة الجنازة قال: لو خرج لقضاء الحاجة فعاد في الطريق مريضا، فإن لم يقف و لا ازورّ(5) عن الطريق، بل اقتصر على السلام و السؤال، فلا بأس، و إن وقف و أطال، بطل اعتكافه، و إن لم يطل فوجهان، و الأصحّ: أنّه لا بأس به.
ص: 292
و لو ازورّ عن الطريق قليلا فعاده، فقد جعلوه على هذين الوجهين.
و الأصحّ عندهم: المنع، لما فيه من إنشاء سير لغير قضاء حاجة.
و قد روي أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله، كان لا يسأل عن المريض إلاّ مارّا في اعتكافه و لا يعرّج عليه(1)(2).
و لو كان المريض في بيت الدار التي يدخلها لقضاء الحاجة، فالعدول لعيادته قليل، و إن كان في دار اخرى فكثير.
و لو خرج لقضاء حاجة فعثر في الطريق على جنازة، فلا بأس إذا لم ينتظرها و لا يزورّ عن الطريق.
و فيه وجه آخر: أنّه لا يجوز، لأنّ في صلاة الجنازة يفتقر إلى الوقفة(3).
سواء كان الاعتكاف واجبا أو ندبا، و سواء كان متتابعا أو غير متتابع، تعيّن عليه التحمّل و الأداء أو لم يتعيّن عليه أحدهما إذا دعي إليها، لأنّ إقامة الشهادة أمر واجب لا بدّ منه، فصار ضرورة، كقضاء الحاجة، فلا يكون مبطلا، و إذا دعي إليها مع عدم التعيين، تجب الإجابة، فلا يمنع منه الاعتكاف.
و قال الشافعي: إن تعيّن عليه التحمّل و الأداء، خرج، و لا يبطل اعتكافه المتتابع بخروجه، و يستأنف إذا عاد، و إن تعيّن عليه التحمّل دون الأداء، فكما لو لم يتعيّنا عليه، و إن كان بالعكس فقولان، لأنّه خرج لغير حاجة، فأبطل التتابع(4).
و المقدّمة الأولى ممنوعة.
ص: 293
لأنّه طاعة فلا يمنع الاعتكاف منه.
و لما رواه الصدوق - رحمه اللّه - عن ميمون بن مهران، قال: كنت جالسا عند الحسن بن علي عليهما السلام، فأتاه رجل فقال له: يا ابن رسول اللّه إنّ فلانا له عليّ مال و يريد أن يحبسني، فقال: «و اللّه ما عندي مال فأقضي عنك» قال: فكلّمه فلبس عليه السلام نعله، فقلت له: يا ابن رسول اللّه أنسيت اعتكافك ؟ فقال: «لم أنس و لكني سمعت أبي يحدّث عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقال: من سعى في حاجة أخيه المسلم فكأنّما عبد اللّه عزّ و جلّ تسعة آلاف سنة صائما نهاره قائما ليله»(1).
و إن كان بينه و بين المسجد فضاء(2) ، و لا يكون مبطلا لاعتكافه، لأنّ هذه المنارة بنيت للمسجد و أذانه، فصارت كالمتّصلة به.
و لأنّ الحاجة قد تدعو إلى ذلك بأن يكون مؤذّن المسجد و قد عرف الجيران صوته و وثقوا بمعرفته بالأوقات، فجاز ذلك.
و قال الشافعي: إن لم يكن بابها في المسجد و لا في رحبته المتّصلة به، ففي بطلان اعتكاف المؤذّن الراتب بصعودها للأذان وجهان.
و لو خرج إليها غير المؤذّن الراتب للأذان، فإن أبطلنا اعتكاف الراتب فإبطال هذا أولى، و إلاّ فقولان مبنيّان على أنّها مبنيّة للمسجد، فتكون معدودة من توابعه، فلا يبطل اعتكافه، أو أنّ الراتب قد اعتاد صعودها للأذان، و استأنس الناس بصوته، فيبطل هذا(3) ، لفقد هذا المعنى فيه(4).
ص: 294
قال الشيخ رحمه اللّه: لو خرج المؤذّن إلى دار الوالي و قال: حيّ على الصلاة أيّها الأمير، أو قال: الصلاة أيّها الأمير، بطل اعتكافه(1).
و هو حسن، لأنّه خرج من معتكفة لغير ضرورة.
و للشافعي قول بالجواز، لأنّ بلالا جاء فقال: السلام عليك يا رسول اللّه و رحمة اللّه و بركاته، الصلاة يرحمك اللّه(2).
و نمنع كون بلال قاله حال اعتكافه، أو أنّه خرج من المسجد فجاز أن يكون وقف على بابه.
سلّمنا، لكن فعله ليس حجّة.
و يجوز للمعتكف الصعود على سطح المسجد، لأنّه من جملته، و به قال الفقهاء الأربعة(3). و كذا يجوز أن يبيت فيه.
و لو كان إلى جنب المسجد رحبة و ليست منه، لم يجز الخروج إليها إلاّ لضرورة، لأنّها خارجة عن المسجد فكانت كغيرها، و هو إحدى الروايتين عن أحمد. و الثانية: الجواز، لأنّها تابعة له و معه، فكانت بمنزلته(4).
و المقدّمتان ممنوعتان. و لا فرق بين أن يكون عليها حائط و باب أو لم يكن.
- إلاّ لضرورة - إلى أن يعود إلى المسجد. و كذا لا يقف تحت غير الظلال، لأنّه مناف للاعتكاف الذي هو اللبث في المسجد خاصة، و لأنّ في المشي تحت الظلال نوع ترفّه.
قال الصادق عليه السلام: «و لا تقعد تحت ظلال حتى تعود إلى
ص: 295
مجلسك»(1).
و قال الصادق عليه السلام: «لا ينبغي للمعتكف أن يخرج من المسجد إلاّ لحاجة لا بدّ منها ثم لا يجلس حتى يرجع و لا يخرج في شيء إلاّ لجنازة أو يعود مريضا و لا يجلس حتى يرجع»(2).
و به قال الثوري(3).
و حكى عنه الطحاوي في كتاب الاختلاف أنّ المعتكف لا يدخل تحت سقف إلاّ أن يكون ممرّه فيه، فإن دخل فسد اعتكافه(4). و باقي العامّة يجيزون له الاستظلال بالسقف(5).
و [السيد المرتضى](6) رحمه اللّه، احتجّ عليهم: بإجماع الطائفة و الاحتياط.
فإنّه يصلّي في أيّ بيوتها شاء، لأنّها حرم، فلها حرمة ليست لغيرها.
و لقول الصادق عليه السلام: «المعتكف بمكّة يصلّي في أيّ بيوتها شاء سواء عليه صلّى في المسجد أو في بيوتها» ثم قال عليه السلام بعد كلام.
«و لا يصلّي المعتكف في بيت غير المسجد الذي اعتكف فيه إلاّ بمكّة»(7).
و قال الصادق عليه السلام: «المعتكف بمكّة يصلّي في أيّ بيوتها
ص: 296
شاء، و المعتكف في غيرها لا يصلّي إلاّ في المسجد الذي سمّاه»(1).
و لو اعتكف في غير مكّة فخرج لضرورة فضاق وقت الصلاة عن عوده، صلّى أين شاء، و لا يبطل اعتكافه، لأنّه صار ضروريا، فيكون معذورا، كالمضيّ إلى الجمعة.
و لا يخرج المعتكف فيها عن اعتكافه إذا لم يطل الزمان، بل يكون الاعتكاف مستمرّا في أوقات الخروج لقضاء الحاجة و شبهها، و لهذا لو جامع في هذا الوقت، بطل اعتكافه. و هو أحد وجهي الشافعيّة(2).
و الثاني: أنّه لا يستمرّ، بل يكون زمان الخروج لقضاء الحاجة كالمستثنى لفظا عن المدّة المنذورة، لأنّه لا بدّ منه، فإن جعلناه كقضاء الحاجة، لم يحتج إلى تجديد النيّة، و إن جعلناه كالمستثنى، فلأنّ اشتراط التتابع في الابتداء رابطة لجميع ما سوى تلك الأوقات(3).
و قال بعض الشافعية: إن طال الزمان، ففي لزوم التجديد وجهان(4).
و الحقّ: أنّ مع طول الزمان بحيث يخرج عن الاسم يبطل الاعتكاف.
و إذا خرج لقضاء الحاجة، لم يكلّف الإسراع، بل يمشي على سجيّته المعهودة، لأنّ عليه مشقّة في إلزامه غير ذلك.
و إذا خرج لقضاء الحاجة، لم يجز له أن يجامع في مروره بأن يكون في هودج، أو فرض ذلك في وقفة يسيرة، فإن فعل بطل الاعتكاف.
و للشافعية في إبطال الاعتكاف وجهان: أصحهما: البطلان.
أمّا على تقدير القول باستمرار الاعتكاف في أوقات الخروج لقضاء
ص: 297
الحاجة: فظاهر، لأنّ الجماع يكون قد صادف الاعتكاف.
و أمّا على تقدير القول بعدم استمراره: فلأنّ الجماع عظيم الوقع، فالاشتغال به أشدّ إعراضا عن العبادة.
و الثاني: أنّه لا يبطل، لأنّه غير معتكف في تلك الحالة و لم يصرف إليه زمانا(1).
و إذا فرغ من قضاء الحاجة و استنجى، لم يلزمه نقل الوضوء إلى المسجد، بل يقع ذلك تابعا، بخلاف ما إذا احتاج إلى الوضوء بمعنى غير قضاء الحاجة، كما لو قام من النوم، فإنّه لا يجوز له الخروج ليتوضّأ في أظهر وجهي الشافعية إذا أمكن الوضوء في المسجد(2).
و إذا منعنا من الأكل خارج المسجد أو مشى إلى منزله لقضاء الحاجة، جاز له أن يأكل لقمة أو لقمتين، و ليس له أن يأكل جميع أكله، لأنّ القليل لا اعتداد به.
بلا خلاف، لأنّ الحيض حدث يمنع اللبث في المسجد، فهو كالجنابة و آكد منه و قد قال عليه السلام: (لا أحلّ المسجد لحائض و لا جنب)(3).
و إذا خرجت لعذر الحيض، مضت إلى بيتها. و به قال الشافعي و مالك و ربيعة و الزهري و عمرو بن دينار(4).
أمّا خروجها من المسجد: فلما تقدّم من الإجماع و الحديث.
و أمّا رجوعها إلى منزلها: فلأنّه وجب عليها الخروج من المسجد و بطل
ص: 298
اعتكافها.
و لقول الصادق عليه السلام: «إنّها ترجع إلى بيتها»(1).
و قال أحمد: إن لم يكن في المسجد رحبة، رجعت إلى منزلها، و إن كان له رحبة خارجه يمكن أن تضرب فيها خباءها، ضربت خباءها فيها مدّة حيضها(2).
و قال النخعي: تضرب فسطاطها في دارها، فإذا طهرت، قضت تلك الأيّام، و إن دخلت بيتا أو سقفا استأنفت(3).
لأنّ عائشة قالت: كنّ المعتكفات إذا حضن أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بإخراجهنّ من المسجد و أن يضربن الأخبية في رحبة المسجد حتى يطهرن(4).
و لا حجّة فيه، لجواز أن يكون عليه السلام أمر بذلك ليعرف الناس أنّ رحبة المسجد ليست منه، أو لأنّ الاعتكاف قد كان واجبا عليهنّ و علم عليه السلام من حالهنّ توهّم سقوطه بخروجهنّ من المسجد.
إذا عرفت هذا، فإن كان اعتكافها ثلاثة أيّام لا غير، فإذا حاضت في أثنائه بطل، و لم يجز لها البناء على ما فعلته، لأنّ الاعتكاف لا يكون أقلّ من ثلاثة أيّام عندنا.
ثم إن كان واجبا، وجب عليها بعد الطهر الاستئناف، و إلاّ فلا.
و إن كان أكثر، فإن حاضت بعد الثلاثة، جاز لها البناء على ما فعلته بعد الطهر، لأنّه عذر كقضاء الحاجة.
و لا يعدّ أيّام الحيض من الاعتكاف إجماعا. و من لا يشترط الصوم من3.
ص: 299
العامّة يجوّز البناء على ما تقدّم مطلقا(1).
إذا ثبت هذا، فالنفساء بحكم الحائض، لأنّ النفاس في الحقيقة حيض، و أمّا المستحاضة فإنّها بمنزلة الطاهر يجوز لها الاعتكاف مع الأغسال.
قالت عائشة: اعتكفت مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، امرأة من أزواجه مستحاضة، فكانت ترى الحمرة و الصفرة، و ربما وضعنا الطست تحتها و هي تصلّي(2).
فإن لم يمكن صيانة المسجد عن التلويث، خرجت، لأنّه عذر، فإن كان الزمان يسيرا جدّا كقضاء الحاجة، بنت على ما فعلت و حسبت زمان الخروج من الاعتكاف، كزمان قضاء الحاجة.
و قال الشافعي: إن كانت المدّة المنذورة طويلة لا تخلو عن الحيض غالبا، لم ينقطع التتابع، بل تبني إذا طهرت، كما لو حاضت في صوم الشهرين عن الكفّارة.
و إن كانت بحيث تخلو عن الحيض، فقولان: أحدهما: أنّه لا ينقطع به التتابع، لأنّ جنس الحيض متكرّر بالجبلة، فلا يؤثّر في التتابع، كقضاء الحاجة. و أظهرهما: ينقطع، لأنّها بسبيل أن تشرع كما لو طهرت(3).
عند علمائنا أجمع - و به قال الشافعي و أحمد(4) - لقوله تعالى:
ص: 300
لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَ لا يَخْرُجْنَ (1) .
و لأنّ الاعتداد في بيتها واجب فلزمها الخروج إليه، كالجمعة في حقّ الرجل.
و قال ربيعة و مالك و ابن المنذر: تمضي في اعتكافها حتى تفرغ منه ثم ترجع إلى بيت زوجها فتعتدّ فيه، لأنّ الاعتكاف المنذور واجب، و الاعتداد في بيت الزوج واجب، و قد تعارضا، فيقدّم الأسبق(2).
و ينتقض: بالخروج إلى الجمعة و سائر الواجبات.
أمّا استئناف الاعتكاف فإنّه يصحّ على تقدير أن يكون الاعتكاف واجبا و لم يشترط الرجوع.
كإدرار البول و انطلاق البطن و الجرح السائل، فإنّه يخرج منه إجماعا صيانة للمسجد عن النجاسة، و إذا بريء بنى على اعتكافه، و لا يبطل ما تقدّم إلاّ أن يكون أقلّ من ثلاثة أيام عندنا. و ينقطع به التتابع.
و المشهور عند الشافعية أنّه لا ينقطع التتابع، لاضطراره إليه، كالخروج للحيض(3).
و للشافعي قول آخر: إنّه ينقطع(4).
فإن كان المرض خفيفا يمكنه معه المقام في المسجد، و لا يتضرّر بالصوم، وجب عليه إكمال اعتكافه الواجب، و يستحب إتمام المندوب، فإن خرج فيهما، بطل اعتكافه، و ذلك كوجع ضرس و صداع يسير و ما أشبهه ممّا لا يوجب الإفطار.
ص: 301
و إن كان المرض ثقيلا يفتقر معه إلى الإفطار، و يحتاج إلى الفراش و الطبيب و المعالجة، خرج إجماعا فإذا بريء أتمّ اعتكافه إن كان قد اعتكف أوّلا ثلاثة أيّام فما زاد، و إلاّ وجب عليه الاستئناف.
و للشافعي قولان: أحدهما: أنّه لا ينقطع به التتابع، لدعاء الحاجة إليه، فصار كالخروج لقضاء الحاجة.
و الثاني: أنّه ينقطع، لأنّ المرض لا يغلب عروضه، بخلاف قضاء الحاجة و الحيض، فإنّه يتكرّر غالبا، فيجعل كالمستثنى لفظا(1).
إذا عرفت هذا، فالاعتكاف إن كان مندوبا، خرج المريض إلى بيته، و لا يجب قضاؤه، و إن كان واجبا، فإن كان ثلاثة لا غير، استأنف الاعتكاف، لأنّ ما بقي أقلّ من ثلاثة و كذا ما مضى، فالماضي لا يجزئه عنه و كذا الباقي.
و لقول الصادق عليه السلام: «إذا مرض المعتكف أو طمثت المرأة المعتكفة، فإنّه يأتي بيته ثم يعيد إذا بريء و يصوم»(2).
و إن كان أكثر من ثلاثة، فإن كان قد حصل العارض بعد الثلاثة خرج، فإذا عاد بنى، فإن كان الباقي ثلاثة أيضا فما زاد، أتى به، و إن كان أقلّ، ضمّ إليه ما يكمله ثلاثة.
و إن حصل العارض قبل انقضاء الثلاثة، فالأقرب الاستيناف.
لزمه الإحرام، و يقيم في معتكفة إلى أن يتمّ ثم يمضي في إحرامه، لأنّها عبادة تبطل بالخروج لغير ضرورة و لا ضرورة هنا.
و لو خاف فوت الحجّ، ترك الاعتكاف، و مضى في الحج، فإذا فرغ
ص: 302
استأنف واجبا إن كان الاعتكاف واجبا و لم تمض ثلاثة، و إلاّ ندبا، لأنّ الخروج حصل باختياره، لأنّه كان يسعه أن يؤخّر الاعتكاف.
و لو نذر أن يعتكف في المسجد الحرام، فإن كان فيه، اعتكف، و إن كان بعيدا عنه، دخل إليه و لم يدخله إلاّ بنسك إمّا حجّ أو عمرة.
و لو أغمي على المعتكف أيّاما ثم أفاق، قال الشيخ رحمه اللّه: لم يلزمه قضاؤه، لعدم الدليل عليه(1).
و لو وقعت فتنة خاف منها على نفسه أو ماله نهبا أو حريقا إن قعد في المسجد، فله ترك الاعتكاف، لأنّ اللّه تعالى أباح ترك الجمعة الواجبة و طهارة الماء بذلك فأولى أن يباح لأجله ترك ما أوجبه على نفسه.
و قد روي عن الصادق عليه السلام: «إن واقعة بدر كانت في شهر رمضان، فلم يعتكف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فلمّا أن كان من قابل اعتكف عشرين يوما، عشرة لعامه و عشرة قضاء لما فاته»(2) و إذا جاز ترك الاعتكاف من أصله فكذا في أثنائه.
و لا تتابعه - و هو أحد قولي الشافعية(3) - لقوله عليه السلام: (رفع عن أمّتي الخطأ و النسيان)(4).
و لأنّه فعل المنهي عنه ناسيا، فلا يقتضي فساد العبادة كالأكل في الصوم و غيره من المفطرات.
و الثاني للشافعية: أنّه يبطل التتابع، لأنّ اللبث مأمور به، و النسيان
ص: 303
ليس بمعذّر في ترك المأمورات(1).
و هو ممنوع، و للحنابلة قولان(2) كهذين.
لانتفاء المسمّى، و لو لم يطل لم يبطل بل يبني مع العود، لقوله عليه السلام:
(رفع عن أمّتي الخطأ و النسيان و ما استكرهوا عليه)(3)المهذب للشيرازي 200:1، المجموع 521:6، الوجيز 108:1، فتح العزيز 6:
537، حلية العلماء 225:3.(4).
و للشافعي قولان، أحدهما: بطلان الاعتكاف و انقطاع التتابع بالإكراه على الخروج. و الثاني: عدم البطلان(4).
و لو أخرجه السلطان، فإن كان ظلما، مثل أن يطالبه بما ليس عليه أو بما له عليه و هو معسر، لم يبطل اعتكافه إلاّ مع طول الزمان، و إن أخرجه بحقّ، مثل إقامة حدّ أو استيفاء دين يتمكّن من أدائه، بطل اعتكافه و استأنف.
و به قال الشافعي في المال خاصّة دون الحدّ، لأنّ التقصير منه في المال، و أحوج نفسه إلى الإخراج مع تمكّنه من تركه، فكان كمن يخرج مختارا.
أمّا في الحدّ: فلأنّه مكره على الخروج إن ثبت بالبيّنة، و إن ثبت بإقراره انقطع تتابعه، و نصّ في الثابت بالبيّنة أنّه لا ينقطع تتابعه(5).
و فرّق بينه و بين إقامة الشهادة: أنّ الشهادة إنّما تتحمّل لتؤدّي، فاختياره للتحمّل اختيار للأداء، و الجريمة الموجبة للحدّ لا يرتكبها المجرم ليقام عليه
ص: 304
الحدّ، فلم تحصل باختياره و لا اعتبار باختيار السبب(1).
و ينتقض: بأداء الشهادة إذا كان مختارا في تحمّلها، فإنّه يبطل اعتكافه عنده لو خرج لأدائها مضطرّا.
و لو حمل فاخرج فكالمضطرّ.
و قال الشافعي: لا يبطل، كما أنّه لو وجر الصائم الطعام لا يبطل صومه(2).
على الأقوى، لأنّه كالمستثنى.
و قال الشافعي: يجب قضاؤها إلاّ وقت قضاء الحاجة.
و هل يجب تجديد النيّة عند العود؟ أمّا إذا خرج لقضاء الحاجة فلا، و كذا ما لا بدّ منه، كالخروج للاغتسال و الأذان إذا جوّزنا الخروج إليه.
أمّا ما منه بدّ فوجهان، أحدهما: أنّه يجب، لأنّه خرج عن العبادة بما عرض. و الأظهر: عدم الوجوب، لشمول النيّة جميع المدّة(3).
بإجماع العلماء - إلاّ ما حكي عن مالك أنّه قال: لا يصح الاشتراط(4) - لأنّه عبادة في إنشائها الخيرة، فله اشتراط الرجوع مع العارض كالحجّ. و لأنّه عبادة يجب بعقده، فكان الشرط إليه فيه كالوقف. و لأنّ الاعتكاف لا يختص بقدر، فإذا شرط الخروج، فكأنّه نذر القدر الذي أقامه.
ص: 305
و قد قال الصادق عليه السلام: «و اشترط على ربك في اعتكافك كما تشترط عند إحرامك (إنّ ذلك في)(1) اعتكافك عند عارض إن عرض لك من علّة تنزل بك من أمر اللّه»(2).
و قال الصادق عليه السلام: «و ينبغي للمعتكف إذا اعتكف أن يشترط كما يشترط الذي يحرم»(3).
و احتجّ مالك: بأنّه شرط في العبادة ما ينافيها، فلا يصح، كما لو شرط الجماع أو الأكل في الصلاة(4).
و نمنع شرط المنافي، بل هو بمنزلة من شرط الاعتكاف في زمان دون زمان، و هو صحيح، بخلاف أصله، لأنّه شرط أن يأتي بمنهي عنه في العبادة فلم يجز.
فله الرجوع أيّ وقت شاء ما لم يمض له يومان، فإن مضى له يومان، وجب الثالث، و إن لم يشترط، وجب عليه بالدخول فيه تمام ثلاثة أيّام، لأنّ الاعتكاف لا يكون أقلّ من ثلاثة أيّام(5).
و قال في النهاية: متى شرط جاز له الرجوع فيه أيّ وقت شاء، و إن لم يشترط، لم يكن له الرجوع فيه إلاّ أن يكون أقلّ من يومين، فإن مضى عليه يومان، وجب عليه ثلاثة أيّام(6) ، لقول الباقر عليه السلام: «إذا اعتكف يوما
ص: 306
و لم يكن اشترط فله أن يخرج و يفسخ اعتكافه، و إن أقام يومين و لم يكن اشترط، فليس له أن يخرج و يفسخ اعتكافه حتى تمضي ثلاثة أيام»(1).
و يجيء على قول الشيخ - رحمه اللّه - تفصيل، و هو: أنّ الاعتكاف إن كان متبرّعا به، جاز له أن يرجع متى شاء، سواء شرط أو لا، لأنّه عبادة مندوبة لا تجب بالدخول فيها، و إن كان منذورا فإمّا أن يعيّنه بزمان أو لا، و على التقديرين فإمّا أن يشترط التتابع أو لا، و على التقادير الأربعة فإمّا أن يشترط على ربّه الرجوع إن عرض له عارض أو لا، فالأقسام ثمانية:
أ - أن يعيّن زمانا و يشترط التتابع و الرجوع مع العارض، فله الرجوع عند العارض، و لا يجب عليه إتمامه، عملا بالشرط، و لا قضاؤه، لأصالة البراءة السليمة عن المعارض.
ب - عيّن النذر و لم يشترط التتابع، لكن شرط الرجوع ثم عرض العارض، فله الخروج، عملا بالشرط، و لا يجب عليه الإتمام و لا القضاء.
ج - عيّن النذر و شرط التتابع و لم يشترط على ربه، فإنّه يخرج مع العارض، و يقضي مع الزوال متتابعا.
د - عيّن النذر و لم يشترط التتابع و لا شرط على ربّه ثم حصل العارض، فإنّه يخرج و يقضي الفائت.
ه - لم يعيّن زمانا لكن شرط التتابع و اشترط على ربّه، فعند العارض يخرج ثم يأتي بما بقي عليه متتابعا عند زواله إن كان قد اعتكف ثلاثة، و إن كان أقلّ استأنف.
و - لم يعيّن و اشترط التتابع و لم يشترط على ربّه، فإنّه يخرج مع العارض ثم يستأنف اعتكافا متتابعا، لأنّه وجب عليه متتابعا، و لا يتعيّن بفعله إذا لم يعيّنه بنذره، فيجب عليه الإتيان به على وصفه الذي شرط في نذره. و فيه1.
ص: 307
إشكال.
ز - لم يعيّن و اشترط على ربّه و لم يشترط التتابع، فإنّه يخرج مع العارض، ثم يستأنف إن كان قد اعتكف أقلّ من ثلاثة، و إلاّ بنى إن كان الواجب أزيد، و أتى بالباقي إن كان ثلاثة فما زاد، و إلاّ فثلاثة.
ح - لم يعيّن و لم يشترط التتابع و لا شرط على ربّه، فإنّه يخرج مع العارض و يستأنف إن لم تحصل ثلاثة، و إلاّ أتمّ.
أمّا إذا أطلقه من الاشتراط، فلا يصح له الاشتراط عند إيقاع الاعتكاف، فإذا لم يشترط ثم عرض ما يمنع الصوم أو الكون في المسجد، فإنّه يخرج و يقضي الاعتكاف إن كان واجبا فواجبا، و إن كان ندبا فندبا.
و إنّما يصح اشتراط الرجوع مع العارض، فلو شرط الجماع في اعتكافه أو الفرجة و التنزّه أو البيع و الشراء للتجارة أو التكسّب بالصناعة في المسجد، لم يجز، لأنّه مناف للاعتكاف.
و لنفع المؤمن و الصلاة على الجنازة و عيادة المريض و شراء مأكوله و مشروبه.
و أكثر العامّة منع من الخروج إلاّ لقضاء الحاجة و لما لا بدّ له منه، فإن خرج لما له منه بدّ، بطل اعتكافه و إن قلّ، و به قال أبو حنيفة و مالك و الشافعي و أحمد(1).
و قال أبو يوسف و محمد: لا يفسد حتى يكون أكثر من نصف يوم، لأنّ اليسير معفوّ عنه، كما لو تأنّى في مشيه.
و لأنّ صفيّة أتت النبي صلّى اللّه عليه و آله، تزوره في معتكفة، فلمّا
ص: 308
قامت لتنقلب خرج معها ليقلبها(1)(2)(3).
و يحتمل أن لا يكون له عليه السلام منه بدّ، لأنّه كان ليلا فلم يأمن عليها.
في اعتكافه، فيكون له فعله، سواء كان الاعتكاف واجبا أو ندبا، و كذا ما كان قربة، كزيارة أهله أو رجل صالح أو عالم، أو كان مباحا ممّا يحتاج إليه، كالأكل في منزله و المبيت فيه، فله فعله(4). و في المبيت إشكال.
و قد أجاز اشتراط الأكل في منزله الحسن و العلاء بن زياد و النخعي و قتادة(5).
و منع منه مالك و الأوزاعي(6).
قال مالك: لا يكون في الاعتكاف شرط(7).
و ليس بجيّد، إذ لا يجب بعقده، فكان الشرط فيه إليه كالوقف. و لأنّ الاعتكاف لا يختص بقدر، فإذا شرط الخروج، فكأنّه نذر القدر الذي إقامة.
و إن قال: متى مرضت أو عرض لي عارض خرجت، جاز شرطه.
صحّ شرطه على ما تقدّم، لأنّ الاعتكاف إنّما يلزم بالتزامه، فيجب بحسب الالتزام، و هو أظهر قولي الشافعي(8).
ص: 309
و له قول آخر: إنّه لا يصح - كما هو مذهب مالك - لأنّه شرط المنافي فيلغو، كما لو شرط أن يخرج للجماع(1).
و المشهور عند الشافعية: الصحة(2) ، و به قال أبو حنيفة(3). و بالثاني قال مالك(4). و عن أحمد روايتان(5).
فعلى القول بالصحة إن عيّن نوعا، مثل أن قال: لا أخرج إلاّ لعيادة المريض، أو عيّن ما هو أخصّ، فقال: لا أخرج إلاّ لعيادة زيد، خرج فيما عيّنه خاصة دون غيره و إن كان أهمّ منه عند الشافعي(6). و عندنا يجوز فيما عداه من القرب على ما سبق، إلاّ أن يطول الزمان.
و إن أطلق و قال: لا أخرج إلاّ لشغل يعتري أو لعارض يعرض، كان له أن يخرج لكلّ شغل ديني، كحضور الجمعة و عيادة المرضى، أو دنيوي، كلقاء السلطان و اقتضاء الغريم، و لا يبطل التتابع بشيء من ذلك عنده(7).
و شرط في الشغل الدنيوي الإباحة.
و للشافعيّة وجه آخر: أنّه لا يشترط(8).
و لا عبرة بالنزهة، لأنّه لا يعدّ من الأشغال، و لا يعتنى به.
و لو قال: إن عرض لي عارض قطعت الاعتكاف، فالحكم كما لو شرط، إلاّ أنّه في شرط الخروج يلزمه العود عند قضاء الحاجة، و فيما إذا قصد القطع لا يلزمه ذلك.
و كذا لو قال: عليّ أن أعتكف رمضان إلاّ أن أمرض أو أسافر، فإذا مرض أو سافر فلا شيء عليه.
و لو نذر صلاة و شرط الخروج إن عرض عارض، أو صوما و شرط الخروج إن جاع أو أضيف فيه، فلهم وجهان:6.
ص: 310
أحدهما - و هو قول أكثر الشافعيّة - أنّه يصحّ هذا الشرط، كما في الاعتكاف.
و الثاني: لا يصحّ و لا ينعقد النذر، بخلاف الاعتكاف، لأنّ ما يتقدّم منه على الخروج عبادة، و بعض الصلاة و الصوم ليس بعبادة(1).
و لو فرض ذلك في الحج، انعقد النذر عندهم(2) ، كما ينعقد الإحرام المشروط، و لكن في جواز الخروج للشافعي قولان(3). و الصوم و الصلاة أولى لجواز الخروج منهما عند أكثرهم، لأنّهما لا يلزمان بالشروع، و الالتزام مشروط، فإذا وجد العارض فلا يلزم، و الحج يلزم بالشروع(4).
و لو نذر التصدّق بعشرة دراهم أو بهذه الدراهم إلاّ أن تعرض حاجة و نحوها، فلهم وجهان، و الأظهر عندهم: صحة الشرط، فإذا احتاج فلا شيء عليه(5).
و لو قال: في هذه القربات إلاّ أن يبدو لي، فوجهان:
أحدهما: أنّه يصح الشرط، فلا شيء عليه إذا بدا له، كشرط سائر العوارض.
و أظهرهما عندهم: البطلان، لأنّه تعليق للأمر بمجرّد الخيرة، و ذلك يناقض صيغة الالتزام(6).
ثم هل يبطل النذر من أصله أو يصحّ و يلغو الشرط؟ للشافعيّة قولان(7).
و إذا شرط الخروج لغرض و قالوا بصحته، فخرج لذلك الغرض، هل يجب تدارك الزمان المصروف إليه ؟ ينظر إن نذر مدّة غير معيّنة، كشهر مطلق أو عشرة مطلقة، فيجب التدارك ليتمّ المدّة المنذورة، و تكون فائدة الشرط:
تنزيل الغرض منزلة قضاء الحاجة في أنّ التتابع لا ينقطع به.0.
ص: 311
و إن عيّن المدّة فنذر اعتكاف هذه العشرة أو شهر رمضان، لم يجب التدارك، لأنّه لم ينذر إلاّ اعتكاف ما عدا ذلك الزمان من العشرة(1).
دخل المسجد قبل غروب الشمس، و خرج منه يوم الثلاثين بعد غروب الشمس - و به قال مالك و الشافعي و أحمد في إحدى الروايتين(2) - لأنّه نذر الشهر، و أوّله غروب الشمس، و لهذا تحلّ الديون المعلّقة به، و يقع الطلاق و العتاق المعلّقان به، و وجب أن يدخل قبل الغروب ليستوفي جميع الشهر، فإنّه لا يمكن إلاّ بذلك فيجب، كما يجب إمساك جزء من الليل مع النهار في الصوم.
و قال أحمد في الرواية الثانية: إنّه يدخل قبل طلوع الفجر - و به قال الليث و زفر - لأنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله، كان إذا أراد أن يعتكف صلّى الصبح ثم دخل معتكفة(3).
و لأنّ اللّه تعالى قال فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ (4) و لا يلزم الصوم إلاّ من قبل طلوع الفجر.
و لأنّ الصوم شرط في الاعتكاف فلم يجز ابتداؤه قبل شرطه(5).
و لا حجّة في الخبر، لأنّه يدخل في التطوّع متى شاء.
قال ابن عبد البرّ: لا أعلم أنّ أحدا من الفقهاء قال به(6).
و الصوم محلّه النهار، فلا يدخل فيه شيء من الليل في أثنائه و لا ابتدائه
ص: 312
إلاّ ما حصل ضرورة، بخلاف الاعتكاف.
و لو أحبّ اعتكاف العشر الأواخر تطوّعا، ففيه روايتان عن أحمد:
إحداهما: يدخل فيه قبل غروب الشمس من ليلة إحدى و عشرين، لأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، كان يعتكف العشر الأوسط من رمضان حتى إذا كان ليلة إحدى و عشرين، و هي الليلة التي يخرج في صبيحتها من اعتكافه، قال: (من اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر).
و لأنّ العشر بغير «هاء» عدد الليالي(1). و هو إحدى الروايتين عن أحمد(2).
و في الثانية: يدخل بعد صلاة الصبح - و به قال الأوزاعي و إسحاق - لما روت عائشة: أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله، كان إذا صلّى الصبح دخل معتكفة(3).
و استحبّ أحمد لمن اعتكف العشر الأخير من رمضان أن يبيت ليلة العيد في معتكفة(4).
و يستحبّ للمرأة إذا أرادت الاعتكاف أن تستتر بشيء، لأنّ أزواج النبي صلّى اللّه عليه و آله، لمّا أردن الاعتكاف أمرن بأبنيتهنّ فضربن في المسجد(5).
و إذا ضربت بناء، جعلته في مكان لا يصلّي فيه الرجال، لئلاّ تقطع صفوفهم و تضيّق عليهم.
و لا بأس للرجل أن يستتر أيضا، فإنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله، أمر4.
ص: 313
ببنائه فضرب(1). و لأنّه أستر له و أخلى(2).
عند علمائنا أجمع - و به قال الحسن البصري و الزهري و بعض الحنابلة و أحمد في إحدى الروايتين(3) - لأنّه عبادة يفسدها الوطء بعينه، فوجبت الكفّارة بالوطء فيها، كالحجّ و صوم رمضان.
و لأنّه زمان تعيّن للصوم، و تعلّق الإثم بإفساده، فوجبت الكفّارة فيه بالجماع كرمضان.
و لأنّ سماعة سأل الصادق عليه السلام، عن معتكف واقع أهله، فقال: «هو بمنزلة من أفطر يوما من شهر رمضان»(4).
و سأله أبو ولاّد الحنّاط عن امرأة كان زوجها غائبا فقدم و هي معتكفة بإذن زوجها، فخرجت - حين بلغها قدومه - من المسجد إلى بيتها و تهيّأت لزوجها حتى واقعها، فقال: «إن كانت خرجت من المسجد قبل أن تمضي ثلاثة أيام و لم تكن اشترطت في اعتكافها كان عليها ما على المظاهر»(5).
و قال أحمد في الرواية الأخرى: لا كفّارة عليه - و هو قول عطاء و النخعي
ص: 314
و أهل المدينة و مالك و أهل العراق و الثوري و أهل الشام و الأوزاعي - لأنّها عبادة لا تجب بأصل الشرع، فلا تجب بإفسادها كفّارة، كالنوافل.
و لأنّها عبادة لا يدخل المال في جبرانها، فلم تجب الكفّارة بإفسادها، كالصلاة.
و لأنّ الكفّارة إنّما تثبت بالشرع و لم يرد الشرع بإيجابها، فتبقى على الأصل(1).
و الفرق: أنّ النوافل لا يتعلّق بإفسادها إثم فلا كفّارة، لأنّ الكفّارة تتبع الإثم.
و القياس على الصلاة ممنوع، و معارض بما قلناه، و بأنّه في مقابلة النصّ.
و قد بيّنّا ورود الشرع بالوجوب، و هي الأخبار المرويّة عن أهل البيت عليهم السلام، و هم أعرف بالأحكام من غيرهم، فإنّ الوحي في بيتهم نزل.
عتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكينا - و به قال الحسن و الزهري إلاّ أنّهما قالا بالترتيب، و هو إحدى الروايتين عن أحمد(2) - لأنّها كفّارة في صوم واجب، فكانت مثل كفّارة رمضان.
و لما تقدّم من الروايتين(3) عن الصادق عليه السلام.
و لأنّ سماعة قال: سألت الصادق عليه السلام، عن معتكف واقع أهله، قال: «عليه ما على الذي أفطر يوما من شهر رمضان متعمّدا: عتق رقبة
ص: 315
أو صوم شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكينا»(1).
و قال بعض الحنابلة: تجب كفّارة يمين(2).
و المشهور عن أحمد أنّه قال: من أصاب في اعتكافه فهو كهيئة المظاهر، نقله عن الزهري. ثم قال: إذا كان نهارا، وجبت عليه الكفّارة(3).
لما تقدّم من الروايات(4). و للأصل.
و في رواية عن الباقر عليه السلام، و اخرى عن الصادق عليه السلام أنّ «عليه ما على المظاهر»(5).
و هي محمولة على المساواة في المقدار دون الترتيب، جمعا بين الروايات.
إحداهما عن الاعتكاف، و الأخرى عن رمضان، و إن وقع ليلا، وجبت كفّارة واحدة و إن كان في غير رمضان، و كذا إن وقع في نهار غير رمضان، لأنّ كلّ واحد من عبادتي الاعتكاف و رمضان يوجب الكفّارة، و الأصل عدم التداخل عند تغاير السبب.
و قد سأل عبد الأعلى بن أعين، الصادق عليه السلام، عن رجل وطأ امرأته و هو معتكف ليلا في شهر رمضان، قال: «عليه الكفّارة» قال: قتلت:
فإن وطأها نهارا؟ قال: «عليه كفّارتان»(6).
ص: 316
و السيد المرتضى - رحمه اللّه - أطلق، فقال: المعتكف إذا جامع نهارا، كان عليه كفّارتان، و إن جامع ليلا، كان عليه كفّارة واحدة(1). و الظاهر أنّ مراده رمضان.
وجب عليها مثل ما يجب على الرجل، فإن أكرهها، تضاعفت الكفّارة عليه، فإن كان الإكراه في نهار رمضان، وجب عليه أربع كفّارات، و لا يبطل اعتكافها و لا صومها للإكراه، و إن كان في ليل غير رمضان، كان عليه كفّارتان لا غير، و لا يفسد اعتكافها أيضا، و مع المطاوعة يفسد اعتكافها كالرجل.
و قال بعض(2) علمائنا: لا يجب تضاعف الكفّارة بالإكراه، لأنّ الكفّارة تتبع إفساد الاعتكاف و هو غير متحقّق في طرف المرأة، لأنّ اعتكافها صحيح.
و لا بأس به، مع أنّ رواية التضعيف(3) ضعيفة، لأنّ في طريقها المفضّل ابن عمر، و فيه قول.
مثل أن تغسل رأسه أو تفليه(4) أو تناوله شيئا، لأنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله، كان يدني رأسه إلى عائشة و هو معتكف فترجّله(5).
و إن كانت عن شهوة، فهي محرّمة، لقوله تعالى وَ لا تُبَاشِرُوهُنَّ وَ أَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ (6).
و لأنّه لا يأمن من إفضائها إلى إفساد الاعتكاف، و ما أفضى إلى الحرام
ص: 317
يكون حراما.
فإن فعل ما ينزل، فسد اعتكافه، و إن لم ينزل، لم يفسد - و به قال أبو حنيفة و الشافعي في أحد قوليه(1) - لأنّها مباشرة لا تفسد صوما و لا حجّا فلم تفسد الاعتكاف، كالمباشرة بغير شهوة.
و القول الثاني للشافعي: إنّها تفسد في الحالين - و به قال مالك - لأنّها مباشرة محرّمة، فأفسدت الاعتكاف، كما لو أنزل(2).
و الفرق: أنّها مع الإنزال تفسد الصوم.
قال الشيخ رحمه اللّه: و يجب القضاء و الكفّارة بالجماع، و كذا كلّ مباشرة تؤدّي إلى إنزال الماء عمدا(3).
إجماعا، و كذا بالإنزال بالمباشرة و شبهها عند علمائنا و أكثر العامّة(4).
و هل تجب بالأكل و الشرب ؟ خلاف عند علمائنا، المشهور: أنّها تجب.
و قال بعض علمائنا: لا تجب(5) ، للأصل، و النصّ إنّما ورد في الجماع، و لا يجب سوى القضاء إن كان الصوم واجبا أو كان في ثالث
ص: 318
المندوب، و إلاّ لم يجب القضاء أيضا.
قال المفيد رحمه اللّه، و السيد المرتضى رضي اللّه عنه: تجب الكفّارة بكلّ مفطر في شهر رمضان(1).
و قال بعض(2) علمائنا: إن كان الاعتكاف في نهار شهر رمضان، وجبت الكفّارة بكلّ مفطر، و كذا إن كان منذورا معيّنا، لأنّه بحكم رمضان، و لو كان الاعتكاف مندوبا أو واجبا غير معيّن بزمان، لم تجب الكفّارة إلاّ بالجماع خاصة.
قال الشيخ رحمه اللّه: في أصحابنا من قال: يقضي عنه وليّه أو يخرج من ماله من ينوب عنه، لعموم ما روي أنّ من مات و عليه صوم واجب وجب على وليّه القضاء عنه أو الصدقة(3).
و الأقرب أن يقال: إن كان واجبا فكذلك على إشكال، و إن كان ندبا فلا.
قال الشيخ رحمه اللّه: قضاء الاعتكاف الفائت ينبغي أن يكون على الفور(4).
فإن قصد الوجوب فهو ممنوع، لأصالة البراءة، و إن أراد الاستحباب فهو جيّد، لما فيه من المسارعة إلى فعل الطاعة و إخلاء الذمّة عن الواجب.
ثم قال رحمه اللّه: إذا أغمي على المعتكف أيّاما ثم أفاق، لم يلزمه
ص: 319
قضاؤه، لأنّه لا دليل عليه(1).
و الوجه: الوجوب إن كان واجبا غير معيّن، و إن كان معيّنا و أغمي عليه في تلك الأيام، فالأولى السقوط، لأصالة البراءة.
ثم قال رحمه اللّه: متى كان خروجه من الاعتكاف بعد الفجر، كان دخوله في قضائه قبل الفجر، و يصوم يومه، و لا يعيد الاعتكاف ليله، و إن كان خروجه ليلا، كان قضاؤه من مثل ذلك الوقت إلى آخر مدّة الاعتكاف المضروبة، فإن كان خرج وقته من مدّة الاعتكاف بما فسخه به ثم عاد إليه و قد بقيت مدّة من التي عقدها، تمّم باقي المدّة و زاد في آخرها مقدار ما فاته من الوقت(2).
على أقوى القولين، فينوي الندب إن لم ينذره.
و عند الشيخ - رحمه اللّه - ينوي الندب في اليومين الأوّلين، و في الثالث ينوي الوجوب(3).
و على قوله الآخر من أنّه يجب بالدخول فيه(4) ينوي الوجوب في اليوم الثاني و الثالث.
و إذا وجب عليه قضاء يوم من اعتكاف، اعتكف ثلاثة ليصحّ ذلك اليوم، و ينوي الوجوب في الجميع، لأنّ ما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب.
و كذا لو نذر أن يعتكف أول الشهر، أو قال: قدوم زيد، وجب أن يضمّ إليه آخرين، و ينوي الوجوب في الجميع.
ص: 320
و لو نذر أن يعتكف يوما لا أزيد، أو نذر أن يعتكف يوم قدوم زيد، لم ينعقد نذره.
و لو نذر أن يعتكف ثلاثة أيام دون لياليها، قيل: يصحّ(1).
و قيل: لا، لأنّه بخروجه عن الاعتكاف يبطل اعتكافه(2). و هو المعتمد.
و إذا اعتكف العبد بإذن مولاه ندبا، لم يجب بالدخول فيه، فإذا أعتق، لم يصر واجبا و لا اليوم الثالث على الأقوى.
و يجيء على قول الشيخ: الوجوب و إن لم يعتق.
و لو نذر اعتكاف شهر بعينه و لم يعلم به حتى خرج، كالمحبوس و الناسي، قضاه.
و إذا اعتكف ثلاثة متفرّقة، قيل: يصحّ، لأنّ التتابع لا يجب إلاّ بالاشتراط(3).
و قيل: لا يصحّ، لأنّ شرط الاعتكاف التتابع(4). و هو الحقّ.
تمّ الجزء الرابع(5) من كتاب تذكرة الفقهاء بحمد اللّه و منّه، في رابع عشر المحرّم سنة ست عشرة و سبعمائة. فرغت من تصنيفه و تصفيفه في هذا التاريخ، و يتلوه في الجزء الخامس(6) كتاب الحج.
و كتب حسن بن يوسف بن علي بن المطهّر الحلّي مصنّف الكتاب بالحلّة، و الحمد للّه رب العالمين، و صلّى اللّه على سيّد المرسلين محمّد النبي و آله الطيّبين الطاهرين.ع.
ص: 321