نفحات القرآن المجلد 10

اشارة

سرشناسه : مكارم شيرازي ناصر، - 1305 عنوان و نام پديدآور : نفحات القرآن اسلوب جديد في التفسير الموضوعي للقرآن الكريم ناصر مكارم شيرازي بمساعده مجموعه من الفضلا مشخصات نشر : موسسه ابي صالح النشر و الثقافه [1377؟]. مشخصات ظاهري : ج 6 وضعيت فهرست نويسي : فهرستنويسي قبلي يادداشت : عربي مندرجات : ج 1. العلم و المعرفه في القران .-- ج 2. معرفه الله في القرآن .-- ج 3. .-- ج 4. معرفه صفات و جلال الله .-- ج 5، 6. المعاد في القرآن موضوع : تفاسير شيعه -- قرن 14 رده بندي كنگره : BP98/م7ن7 1377 رده بندي ديويي : 297/179 شماره كتابشناسي ملي : م 77-13711

العلاقة بين الإمامة والحكومة

تحدثنا في المجلد التاسع من نفحات القرآن عن مسألة الإمامة والولاية من وجهة نظر القرآن الكريم، وحيث إنّ مسألة (الإمامة) لا تنفصل عن مسألة (الحكومة) بل إنَّ روح الإمامة والولاية تعني حكومة النفوس والأبدان، وهدايتها إلى الصراط المستقيم والتحرّك نحو الكمال والسعادة، لذا وجب علينا بحث مسألة (الحكومة الإسلامية) بعد الانتهاء من بحث مسألة (الإمامة) والقيام بتحليلها وتفصيلها، حيث لم يكتمل موضوع الإمامة والولاية بذلك القدر.

ألم نَعُدّ اقامة حكومة العدل الواحدة في العالم احدى أهم الأهداف في قيام المهدي (عج)؟ ونعني به نفس الشي ء الذي كان بصدده الرسول صلى الله عليه و آله وباقي الأئمّة عليهم السلام، ولم تسنح الفرصة لا من حيث الزمان ولا المكان للوصول إلى هذا الهدف بالرغم في وجود الأسس اللازمة لإقامتها، نعم لقد بذل الجميع جهوداً للوصول إلى تشكيل حكومة العدل الإلهي. فكيف يمكن اذن فصل موضوع (الحكومة) عن (الإمامة)؟ بل، ولقد بدأ الرسول صلى الله عليه و آله بعد الانتصار في الغزوات

الاولى بتشكيل الحكومة الإسلامية واعتبرها ركناً مهماً من أركان الإسلام، بل الضامن الوحيد لإجراء القوانين بأكملها، وقد كان الهمّ الوحيد لأولئك الذين خلفوا الرسول صلى الله عليه و آله سواء كانت خلافتهم حقّه أم لم تكن، هو تشكيل وإدامة الحكومة الإسلامية.

ولقد دعى سكان الكوفة الإمام الحسين عليه السلام إلى تشكيل الحكومة الحقّة ومحاربة غاصبيها، ولو لا نقض العهد من قِبل أهل الكوفة وتخاذ لهم وعدم وفائهم، لرفع الإمام عليه السلام علم الحكومة الإسلامية عالياً، والروايات الواردة عن طريق الأئمّة المعصومين عليهم السلام

نفحات القرآن، ج 10، ص: 6

ونهج البلاغة احتوت على تعابير كثيرة توضّح من خلالها أنّ أعداءهم قد غصبوا حقهم عليهم السلام، وهذا الحقّ ليس إلّا (حكومة العدل الإسلامية).

كل هذه الأدلة وتلك الشواهد التي لا تُحصى برهانٌ آخر على أنَّ مسألة (الإمامة) لا تنفصل عن (الخلافة) و (الحكومة).

ونرى في رواية (هارون الرشيد) الذي أراد بزعمه أن يُرجعَ «فدكاً» إلى الإمام موسى بن جعفر عليه السلام ملاحظة جديرة بالاهتمام لتوضيح المقصود:

إنّ «فدكاً»- وكما هو معلوم- ضيعة قريبة من (خيبر) وكانت خضراء يانعة، وقد وهبها الرسول صلى الله عليه و آله إلى ابنته الزهراء عليها السلام في حياته، وقد اغتصبت منها بعد وفاته مباشرة، فكانت دائماً موضع اعتراض المحبين لأهل البيت عليهم السلام فلذلك وبعد ضغط الرأي العام، فكّر الرشيد بارجاعها إلى أولاد فاطمة عليها السلام فقال للإمام موسى بن جعفر عليه السلام: «حدَّ فدكاً حتّى أردَّها إليك» وألحَّ عليهَ كثيراً، فقال الإمام موسى الكاظم عليه السلام: «لا آخذها إلّابحدودها».

قال هارون: وما حدودها؟

قال الإمام عليه السلام: «إنْ حددتها لم تردّها».

قال هارون: بحقّ جدّك إلّافعلتَ.

قال الإمام عليه السلام: «أمّا حَدُها الأوّل فعدن»، فتغيّر وجه الرّشيد. وقال: أيهاً.

قال الإمام

عليه السلام: «والحدُّ الثّاني سمرقند». فأربد وجهه.

قال الإمام عليه السلام: والحدُّ الثالث أفريقية»، فاسودّ وجهه.

وقال هارون: هيه.

قال الإمام عليه السلام: «والرابع ساحل بحر الخزر وأرمينية».

قال الرّشيد: فلم يبقَ لنا شي ء، فتحوّل إلى مجلسي.

قال الإمام عليه السلام: «قد أعلمتك أننّي إن حددتها لم تردّها فعند ذلك عزم على قتلي» «1».

هذا الحديث يدلّ على أنّ بين مسألة (فدك) و (الخلافة) رابطة قوية وتعني أن ما غُصِبَ

______________________________

(1) بحار الأنوار، ج 48، ص 144 (نقلًا عن كتاب أخبار الخلفاء).

نفحات القرآن، ج 10، ص: 7

كان خلافة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله والتي تعتبر فدك جزءاً منها، ولو أراد هارون ارجاع فدك لكان يجب عليه أن يتخلى عن الخلافة، ممّا أشعره أنّ الإمام إذا ما وصل إلى حالة من القوّة لفعل ذلك وسيتولى الخلافة حتماً، لذا عزم على قتله «1».

الغرض، هو أنّ المسائل ذات العلاقة ببحث الإمامة لها رابطة مع المسائل ذات العلاقة بالحكومة وقيادة المسلمين، وهذا أمر بديهى ولا يقبل أي شك أو شبهة، ونرى هذا الارتباط واضحاً في كل مكان ويتجلى بوضوح في الروايات الإسلامية وفى تاريخ سيرة وحياة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله والأئمّة الأطهار عليهم السلام وفي طبيعة الأحكام الإسلامية.

ولقد اجملت مباحث الفقه الإسلامي في ثلاثة أقسام هي: قسم «العبادات» وقسم «المعاملات»، وقسم «السياسة».

و يعتبر قسم (السياسة) والذي هو من الأبواب الفقهية المهمّة ويشتمل على مسائل عدّة مثل (الجهاد، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، القضاء والشهادات، والحدود والديّات والقصاص) جزءاً من المسائل المتعلقة بالحكومة، إذن لا يمكن إجراء أقسام الجهاد وبعضاً من مسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكذلك القضاء والشهادات وتنفيذ الحدود والقصاص بدون وجود الحكومة على الاطلاق.

وترسم كذلك المسائل المرتبطة بالانفال

والخمس والزكاة والأراضي الخاصة بالخراج، الخطوط العريضة لجزء مهم من الحكومة باعتبارها الدعامة الأساسية لإقامة بيت المال الإسلامي.

وعلى هذا فقد امتزجت المسائل السياسية والحكومية بالفقه الإسلامي بشكل كامل بحيث لا يمكن وضعها موضع التنفيذ دون تشكيل الحكومة.

كل ذلك شاهد جلي على أنّ الإسلام ليس بمعزل عن الحكومة والسياسة، وقد نفذت المسائل المتعلّقة بالحكومة والسياسة- والتي تعنى بإدارة نظام المجتمع- في التعاليم الإسلامية بصورة لو أردنا أن نفصل بينها لا يكون للاسلام معنىً ومفهومٌ، والذين يحاولون

______________________________

(1) الزهراء سيدة نساء العالمين، ص 130.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 8

فصلهما عن بعضهما يقومون في الواقع (بفصل الإسلام عن الإسلام)، والإسلام بدون الإسلام تناقض واضح.

ويتبيّن لنا من خلال ذلك، السبب الذي دفع بنا إلى بحث مسائل الحكومة وزعامة المسلمين بعد انتهائنا من بحث الإمامة في الجزء السابق.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 9

ضرورة إقامة الحكومة في المجتمع البشري

اشارة

نفحات القرآن، ج 10، ص: 11

تمهيد:

بعد أن لاحظنا الصلة الوثيقة بين الإمامة والحكومة نتحول إلى مسألة مهمّة اخرى ألا وهي ضرورة وجود الحكومة للمجتمعات البشرية.

وكما يُبيّن لنا التاريخ، أن هناك أنواعاً معينه من الحكومات في المجتمعات البشرية، كحكومة القبيلة، وحكومة الملوك والسلاطين، والحكومات التي هي من النوع الذي نشهده في الوقت الحاضر، ويعني ذلك أنّ البشر وعبر مراحله العلمية والثقافية يُدرك تماماً ضرورة وجود الحكومة، ويعلم كذلك أنَّ الحياة الاجتماعية من دون تحكيم النظام والقانون لا يمكن إيجادها ولو ليوم واحد.

ولهذا السبب يمكن ملاحظة الهرج والمرج والشغب الذي يحدث بُعَيْدَ سقوط حكومة ما، وحتى قيام حكومة اخرى حيث يبسط النظام الجديد ظلّه على الحياة، فيحترق كل شي ء ويتحول إلى رُكام.

لذا فلا يمكن لأي عاقل ان يشك في ضرورة وجود الحكومة للمجتمعات البشرية، وقد وردت الكثير من الآيات والروايات الإسلامية التي تصرّح وتلمّح إلى هذا المعنى نذكر بعضها باختصار:

1- في قصة بني اسرائيل نلاحظ أنّه وعلى أثر الفوضى الداخلية وغياب الحكم القوي قد أصابهم الضعف والانحطاط والهزيمة وتسلّط الأعداء عليهم، فجاءوا إلى نبيّ لهم طالبين تعيين حاكم لهم حتى يتسنى لهم السير في طريق اللَّه تحت إمرته، يقول القرآن الكريم: «أَلَمْ تَرَ إلى المَلَإِ مِن بَنِى إِسرَائِيلَ مِن بَعدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبىٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً

نفحات القرآن، ج 10، ص: 12

نُقاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيتُم ان كُتِبَ عَلَيكُمُ القِتَالُ ألَّاتُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنا أَلَّا نُقاتِلَ في سَبِيلِ اللَّهِ وَقَد اخرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبنَائِنَا». (البقرة/ 246)

مع أنّ هذه الآية تشير إلى أبعاد وآثار وجود الحاكم على قوم أو شعب في مسألة الجهاد ضد العدو الخارجي وتطهير الأرض من دنس الأجنبي وتحرير الأسرى إلَّاأنّها

تتعدى إلى أبعاد معانٍ اخرى حيث تصدق فيها كذلك.

والقرآن يوضح بهذا التعبير أنَّ الوصول إلى الحرية والاستقرار الاجتماعي مستحيل بدون وجود الحكومة والحكم القوي، وقد يُتصور هنا أنّ بني اسرائيل أرادوا قائداً للجيش فقط لا حاكماً عليهم، إلّاأنّه يجب ملاحظة كلمة (ملك) والتي تعني الحاكم على جميع الشؤون وإن كان المعنى العام للقصة يشير إلى وجود ساحة قتال مع عدوّ خارجي.

والحقيقة أنّ النبي (أشموئيل) في ذلك الوقت كان يمتلك صلاحية قيادة المجتمع كذلك، بينما كان لطالوت الذي انتخبه لبني اسرائيل دور القائد للجيش.

2- وقد ورد في القرآن الكريم في ذيل هذه الآيات المذكورة، خبر اندحار جيش جالوت في مقابل بني اسرائيل، حيث يقول: «فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلكَ وَالحِكمَةَ وعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَولَا دَفعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدتِ الأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى العَالَمِينَ». (البقرة/ 251)

وتشير الجملة الأخيرة إلى أنّه لولا وجود حكومة قوية ومهيبة تقف بوجه الطغاة والخارجين على القانون، لامتلأت الأرض بالفساد، وعلى هذا فإنّ الحكومة العادلة هي هبة من اللَّه للحدّ من الفساد الديني والاجتماعي.

3- وقد ورد معنىً مشابه لهذا في سورة الحج حيث تقول بعد اعطاء الضوء الأخضر للمسلمين للجهاد ضد الاعداء: «الَّذِينَ اخرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيرِ حَقٍّ إِلَّا انْ يَقُولُواْ رَبُّنَا اللَّهُ وَلَولَا دَفعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وبِيَعٌ وصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذكَرُ فِيهَا اسمُ اللَّهِ كَثِيراً». (الحج/ 40)

و هنا أيضاً كان الحديث عن دور الحكومة في البعد الجهادي، ولكن من الطبيعي أنّ الجهاد من دون التشكلات المنظمّة السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة لا يمكن تحقيقه،

نفحات القرآن، ج 10، ص: 13

وذلك لأنّ المجاهدين يتألفون من قسمين: «القوّات العسكرية» و «القوّات الشعبية» وتعتبر الأخيرة الظهير والسند لما

وراء ميدان القتل والتي تضمّ في الواقع كل المجتمع.

4- ونقرأ في الآية التي تليها عبارة تشير إلى المؤمنين الحقيقيين: «الَّذِينَ انْ مَّكَّنَّاهُمْ فِى الأرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وأَمَرُوا بِالمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ». (الحج/ 41)

وتُشير هذه الآية ضمناً إلى أنّ إقامة الصلاة وايتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (في معناها الواسع والعام) لا يتيسّر إلّاعن طريق تشكيل الحكومة، ولذا فالآية تصف المؤمنين الحقيقيين بأنّهم عندما يمتلكون القدرة ويصلون إلى تشكيل الحكومة فإنّهم سيقيمون هذه الفرائض الإلهيّة الكبيرة، وهنا يتبيّن لنا دور الحكومة في إصلاح المجتمع من وجهة نظر الإسلام.

5- تشير الآيات (43- 56 من سورة يوسف) بوضوح إلى حدثٍ يتبيّن من خلاله ضرورة الحكومة، وذلك أنّ ملك مصر يرى مناماً ويطلب من يوسف الذي كان وقتها في السجن أن يفسّر له تلك الرؤيا بدقّة بعد أن ذاع صيته في تفسير الأحلام، فيكشف يوسف عليه السلام شيئاً من مستقبل مصر من خلال تلك الرؤيا حيث ينتظر الناس سبع سنوات من القحط والجوع، وإذا مرّوا من تلك السنين بسلام فإنّهم سيُلاقون سنين الخير والرفاه، ثم يُبيّن كيفية إجراء الأعمال الضرورية لمواجهة تلك السنين الصعبة وطرق تحضير وخزن المواد الغذائية وطريقة الاستهلاك، فيطلق الملك سراحه ويخرج من السجن ثم يعيّنه مسؤولًا عن خزانة مصر، وهكذا يتمّ انقاذ شعب كبير بأكمله وذلك بمديرية النبي يوسف عليه السلام الصحيحة جنباً إلى جنب مع ملك مصر.

وتبيّن هذه القصة بشكل لا لبس فيه ضرورة وجود الحكومة ذات الاطلاع والتدبير لتقوم بمهامها لإدارة المجتمعات الإنسانية وخصوصاً في الوقائع الصعبة، وأنّه إذا ما حُرمت هذه المجتمعات من الحكومات من ذلك النوع فإنّها لا محالة ستقع في مشاكل عويصة ممّا ستُسبّب لها اضراراً جسيمة

لا يمكن تعويضها.

6- نلاحظ الكثير من الآيات القرآنية تشير إلى أنّ الحكومة الإلهيّة إنّما هي نعمة من نِعَمِ

نفحات القرآن، ج 10، ص: 14

اللَّه، وذلك بملاحظة الحكومة ودورها الفعّال في تنظيم المجتمع الإنساني والحيلولة دون بروز الظلم والعدوان، وتوفير الجو الملائم للوصول إلى الكمال الإنساني.

ومن ذلك ما ورد عن النبي داود عليه السلام وابنه سليمان عليه السلام: «وَكُلًاّ آتَيْنَا حُكماً وَعِلْماً».

(الانبياء/ 79)

عندما تُعدّ نعم اللَّه الكثيرة على بني اسرائيل تقول: «وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذكُرُوا نِعمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُم أَنبِيَاءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكاً وآتَاكُمْ مَّا لَم يُؤتِ أَحَداً مِّنَ العَالَمِينَ».

(المائدة/ 20)

وطبعاً لم يكن جميع بني اسرائيل حكاما وملوكاً، لكن عندما ينتخبوا من بينهم حاكماً وملكاً عليهم فإنّ الخطاب يتوجه إليهم باعتبارهم قوم حباهم اللَّه سبحانه هذه النعمة فانتخب منهم ملوكاً وحكاماً.

ويتحدث القرآن الكريم عن لسان النبي سليمان عليه السلام: «قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِى وَهَبْ لِى مُلكاً لَّا يَنبَغِى لِأَحَدٍ مِّن بَعدِى إِنَّكَ أَنتَ الْوَهّابُ». (ص/ 35)

وتُشير الآيات التي تليها إلى أنّ اللَّه سبحانه استجاب دعاءه ووهب له حكومة عظيمة ومواهب كثيرة لا نظير لها، وجاء في قوله تعالى: «أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا ءَآتاهُمُ اللَّهُ مِن فَضلِهِ فَقدْ آتَيْنَا آلَ إِبرَاهِيمَ الكِتابَ وَالحِكمَةَ وَءَآتَيْنَاهُمْ مُّلكاً عَظِيماً». (النساء/ 54)

وتكمن أهميّة هذه المسألة في أنّ اللَّه سبحانه يُعِدُّ موهبة الحكم مرادفة للعزّة ويَعتبر فقدانها قرينة للذلّة.

يقول سبحانه وتعالى «قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلكِ تُؤتِى المُلْكَ مَن تَشَاءُ وتَنْزِعُ المُلكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَى ءٍ قَدِيرٌ».

(آل عمران/ 26)

تشير كل الآيات التي ذكرناها إلى أهميّة وجود الحكومة للمجتمعات البشرية من وجهة نظر القرآن الكريم، وفي الواقع إنّ هذا الآيات

نافذة على العالَم الواسع للحكومة في المجتمعات البشرية.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 15

ضرورة الحكومة في الرويات الإسلامية:

تُعَدُّ مسألة ضرورة الحكومة ذات أهميّة وصدى واسع في الروايات الإسلامية، وقد بيّنت تلك الروايات أنّه لا يمكن للناس العيش دون وجود الحكومة، وأنَّ وجود حكومة وإن كانت ظالمة خير من الفوضى في غياب الحكومة.

وهنا لنرى نموذجاً من تلك الروايات ذات المعنى المذكور:

1- عن أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة جواباً على ادّعاء الخوارج حين قالوا: «لا حُكم إلّاللَّه ، فقال عليه السلام: «كَلِمَةُ حَقٍّ يُرَادُ بِهَا بَاطِلٌ ثم استطرد قائلًا: «نَعَمْ إِنَّهُ لا حُكْمَ إِلَّا للَّهِ وَلكِنَّ هؤُلَاءِ يَقُولُونَ لَاإِمرَةَ إِلَّا للَّهِ، وإِنَّهُ لَابُدّ لِلنَّاسِ مِن أَمِيرٍ بَرٍّ أَو فَاجِرٍ يَعْمَلُ فِى امْرَتِهِ المُؤمِنُ وَيَسْتَمتِعُ فِيهَا الكَافِرُ، وَيُبَلِّغُ اللَّهُ فِيهَا الأَجَلَ وَيَجْمَعُ بِهِ الفَي ءَ وَ يُقَاتَلُ بِهِ العَدُوَّ، وَتَأمَنُ بِهِ السُّبُلُ وَيُؤخَذُ بِهِ لِلضَّعِيفِ مِنَ القَوِيِّ حَتَّى يَستَرِيحَ بَرٌّ وَيُستَرَاحَ مِن فَاجِرٍ» «1».

و بديهيٌّ أنَّ الإمام علياً عليه السلام لم يَقصد من عبارة «أمير بَرّ أو فاجر» أنّ هذين متساويين، بل قصد به أنّه لابدّ من وجود حاكم عادل وصالح، وإلّا فوجود حاكم وإن كان ظالماً خيرٌ من الفوضى والشغب، وعلى كل حال فلا تنفي هذه الحالة الأخيرة الحكم الإلهي الصالح على العالم كلّه، ذلك أنَّ الحكم يشبه النبوة والقضاء النّابعين من ذات الخالق المقدسة، ولقد بيّنت هذه العبارة ضمناً الأبعاد المختلفة لفلسفة الحكومة والأدلة الواردة في إثبات ضرورتها، وسنبحث ذلك بالتفصيل في صفحات قادمة.

2- اشير في الروايات المعروفة والتي نقلها (الفضل بن شاذان) عن الإمام الرضا عليه السلام إلى ثلاث نقاط مهمّة حيث بيّن فيها دلائل وأسباب تعيين (اولي الأمر) والحكم في المجتمع.

قال الفضل بن شاذان إنّه سمع من

الرّضا عليه السلام مرّة بعد مرّة، أنّه قال: فإنْ قال: فلم جعل أولي الأمر وأمر بطاعتهم؟

قيل: لعلل كثيرة منها أنّ الخلق كما وقفوا على حد محدود وأمروا ألّا يتعدوا ذلك الحد لما فيه من فسادهم لم يكن يثبت ذلك، ولا يقوم إلّابأن يجعل عليهم فيه أميناً يمنعهم من

______________________________

(1) نهج البلاغة، الخطبة 40.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 16

التّعدي والدّخول فيما حظر عليهم لأنّه لو لم يكن ذلك كذلك لكان أحد لا يترك لذته ومنفعته لفساد غيره، فجعل عليهم فيما يمنعهم من الفساد ويقيم فيهم الحدود والأحكام.

ومنها: أنا لا نجد فرقة من الفرق ولا ملة من الملل بقوا وعاشوا إلّابقيّم ورئيس كما لابدّ لهم منه في أمر الدّين، فلم يجز في حكم الحكيم أن يترك الخلق ممّا يعلم أنّه لابدّ لهم منه ولا قوام إلّابه، فيقاتلون فيه عدوهم ويقسمون به فيئهم، ويقيم لهم جمعتهم وجماعتهم، ويمنع ظالمهم من مظلومهم.

ومنها: إنّه لو لم يجعل لهم إماماً قيماً أميناً حافظاً مستودعاً لدرست الملّة وذهب الدين وغيرت السُّنة والأحكام، ولزاد فيه المبتدعون ونقّص منه الملحدون، وشبّهوا على المسلمين لأنا قد وجدنا الخلق منقوصين محتاجين غير كاملين، مع اختلافهم واختلاف أهوائهم وتشتت أنحائهم، فلو لم يجعل لهم قيماً حافظاً لما جاء به الرّسول لفسدوا على نحو ما بيّنا وغيّرت الشرايع والسنن والأحكام والإيمان وكان في ذلك فساد الخلق أجمعين «1».

3- في تفسير النعماني عن أمير المؤمنين عليه السلام وعند ذكر آيات من القرآن الكريم، مثل:

«يَأَأيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا استَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِما يُحيِيكُم». (الانفال/ 24)

وآية «وَلَكُم فِى القِصَاصِ حَيَاةٌ يَا اولِى الأَلبَابِ». (البقرة/ 179)

إنّه كان يقول: «وفي هذا أوضح دليل على أنّه لابدّ للُامة من إمام يقوم بأمرهم فيأمرهم وينهاهم

ويُقيم فيهم الحدود ويجاهد العدو، ويقسّم الغنائم ويفرض الفرائض ويعرّفهم أبواب ما فيه صلاحهم ويحذرهم ما فيه مضارهم، إذ كان الأمر والنهي أحد أسباب بقاء الخلق، وإلّا سقطت الرغبة والرّهبة، ولم يُرتدع، ولفسد التدبير وكان ذلك سبباً لهلاك العباد» «2».

وقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام في حديث آخر أنّه قال: «لا يستغني أهل كلّ بلد عن ثلاثة يُفزع إليهم في أمر دنياهم وآخرتهم، فإن عُدموا ذلك كانوا همجاً: فقيه عالم ورع،

______________________________

(1) بحار الأنوار، ج 6، ص 60، الرّواية طويلة لكننا انتخبنا قسماً منها.

(2) بحار الأنوار، ج 90، ص 41.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 17

وأمير خيّر مُطاع، وطبيب بصير ثقة» «1».

و قلنا مراراً إن ما ورد في الروايات الإسلامية يدلّ على ضرورة وجود حكومة وإن كانت ظالمة خير من الفوضى، حيث نقرأ لأمير المؤمنين عليه السلام قوله: «والٍ ظلوم غشوم خيرٌ من فتنة تدوم» «2».

ويعني ذلك أنَّه حتى في حالة عدم القدرة على تحقيق حكومة عادلة فلا أقل من إقامة حكومة وإن كانت ظالمة وجائرة وذلك في سبيل الاستقرار والأمن للبلد وحدوده ومنع العدوان عليه، وفي غير هذه الحالة تسود حالة من اللّا أمن والتدهور حيث ستُراق دماء الكثير من الأبرياء دون أيّ وازع مِمّا سيسهّل على الأعداء النفوذ إلى داخل البلد والسيطرة عليه.

ضرورة الحكومة في التصور العقلي:

كان ما ذكرناه حول ضرورة الحكومة في التصور القرآني والروائي والتي أشارت جميعها وبالأدلة القاطعة على ضرورة وجود الحكومة للمجتمعات الإنسانية، وهنا نُشير إلى ضرورة الحكومة من خلال الأدلة العقلية حتى تتّضح المسألة لنا أكثر.

وتنطلق هذه الأدلة أحياناً في تصور شخص يؤمن بالتوحيد، وأحياناً اخرى نراها من وجهة نظر الشخص المادي، حيث نلاحظ عاملًا مشتركاً بينهما وهو اعتقادهما بضرورة وجود الحكومة للمجتمع

البشري وإن كانت آراؤهما تتفاوت وتتباين في أحايين اخرى

ويمكن الإشارة إلى الأدلة المشتركة في التصور العام فيما يخصّ هذا الموضوع وهي:

أولًا: إنّ حياة الإنسان تنطبع بطابع اجتماعي بحيث لو خَلَتْ حياته من هذه الصفة فإنّها ستكون في أدنى مستوى لها من الجاهلية والوحشية والانحطاط، لأنّ كل المنافع والآثار

______________________________

(1) بحار الأنوار، ج 75، ص 235.

(2) غرر الحكم، ج 2، ص 784، ج 50، باب الواو.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 18

الإيجابية والبنّاءة في حياة البشر بما فيها الحضارة والتقدّم والكمال والعلوم والفنون والصناعات المختلفة، كلها نابعة من بركة الحياة الاجتماعية والعمل المشترك والتعاون فيما بين البشر في المجالات المتعددة.

فما لَمْ تنَضَّم الطاقات الفكرية والبدنية البسيطة بعضها إلى البعض الآخر، فلا مجال لوجود الحركات والانبعاثات العظيمة في المجتمع بأي حال من الأحوال، وببساطة: لو إنفصل الإنسان عن المجتمع فسيكون كالحيوان، فمن جهة نجد الرّغبات والآمال الداخلية والحياة الاجتماعية التي تهبه كل تلك القدرة والإمكان للتقدم والتطوّر نحو الأفضل، ومن جهة اخرى بما أنّ الحياة الإنسانية في داخل المجتمع على الرغم من أنّ كل تلك الآلاء والنَّعم لا تخلو من النزاع والمنافسة ليس بسبب غلبه الأنانية وحب الذّات فقط، بل لاشتباه الكثير من أفراد المجتمع في تشخيص الحدود والحقوق فيما بينهم، لذا فإنّ دور القوانين هنا يكون ضرورياً لتحديد حقوق الأفراد وسَدّ الطريق أمام التعدّيات والتجاوزات اللامشروعة.

كذلك فإنّ هذه القوانين لا يمكن أن تؤثر لوحدها في ردع الاعتداءات والنزاعات إلّاإذا انبرى إلى تنفيذها أفرادٌ يُعتمد عليهم في المجتمع، وبعبارة اخرى فالحكومة وحدها تستطيع أن تعزّز القوانين وتنفذها في المجتمع وتحول دون انتشار الفساد وسفك الدماء والاعتداء على حقوق الآخرين- ولو بصورة نسبية.

ولذلك نرى الأقوام البشرية ومنذ القِدمَ سعتْ

إلى إيجاد حكومة لها.

ثانياً: لو افترضنا أنّه يمكن للناس العيش بسلام بدون حكومة (وهو مُحال بالطبّع)، فلا يمكن على أية حال الوصول إلى التقدّم والكمال في العلوم والمعارف والصناعات ومختلف الشؤون الاجتماعية دون وجود برنامج دقيق ومديرية عالمة، وهذه هي أشكال اخرى للحكومة.

ومن هذا المنطلق فإنّ جميع العُقلاء في العالم يؤكدون على ضرورة تشكيل الحكومة للمجتمعات البشرية إلّاما يُرى نادراً في كلمات بعض المؤيدين للشيوعية من أنّه لو قُضيَ

نفحات القرآن، ج 10، ص: 19

على النظام الطبقي للمجتمع فلا تعود هناك ضرورة لأي حكومة، إذ يعتقدون أنَّ الدولة والحكومة إنّما تُساعد على الحفاظ على منافع الطبقة الرأسمالية وحسب، وعندما يتمّ القضاء على هذه الطبقية فلا يبقى سبب لوجود الحكومة.

ولكن من الواضح أنّ كل ذلك إنّما هو محض خيال وأوهام لا وزن لها في ميزان العقل والمنطق، ذلك أنَّ الوصول إلى حالة عدم وجود الطبقية في العالَم، أو أن يكون كل البشر في مستوى معاشي واحد، إنّما هو حُلُمٌ وخيال لا أكثر وخاصة في الوضع الحالي الذي تمرّ به المجتمعات البشرية.

ولو فرضنا أننا يمكننا الوصول إلى مجتمع كهذا والقضاء على النظام الطبقي والحكومي الحافظ لهذا النظام، تبقى الحاجة إلى برنامج دقيق ومديرية ضرورية للوصول إلى التقدّم العلمي والصناعي والحفاظ على السلامة الاجتماعية والنظام والحرية وتأمين الغذاء والسكن وسائر الاحتياجات. فهل يمكن مثلًا الاستغناء عن وزارة التربية والتعليم في سبيل وضع برنامج صحيح لغرض تعليم وتربية الشباب؟ وهل يمكن بدون وجود وزارة الصناعة الحفاظ على العوامل الصناعية؟ وهل بالإمكان ردّ العدوان والهجوم الأجنبي دون وجود وزارة الدفاع؟ ولو افترضنا عدم حدوث حرب في العالم، فهل يمكن إيجاد النّظم في المجتمع الإنساني مع غياب قوى الأمن في ذلك المجتمع؟

على أيّة

حال فإنّ هذه المسألة تعتبر من البديهيات وهي أنَّ المجتمع الإنساني لا يمكنه العيش بسلام دون وجود الحكومة ولو ليوم واحد، وحتى الذين لا يؤيدون هذه القاعدة لم يصلوا إلى أيّة نتيجة ورجعوا خائبين.

صحيح أنَّ الحكومات المستبدّة والظالمة هي التي تكون بؤرة للفساد ومنبع البؤس على طول التاريخ للبشرية ولا تزال، ولكن لوحدث وتهدّم النظام القائم لهذه الحكومات وتأخر تشكيل حكومة اخرى تخلف تلك الحكومة ليوم أو أكثر، وفي حالة غياب الحكومة، فستكون النتيجة لذلك، الهرج والمرج وحالة من اللاأمن والتدهور وإزدياد الشَغَب في جميع البلاد، وسنرى أنَّ وجود الحكومة الظالمة أفضل بكثير من غيابها.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 20

وأمّا الذين يؤمنون بإرسال الرّسُل وانزال الكتب السماوية من قِبَل اللَّه تعالى فهم يفهمون مسألة ضرورة الحكومة بشكل أوضح وأكثر بياناً، لأنّهم يؤيدون من جهة، الأهداف التي من أجلها بُعِثَ الأنبياء والتي ذُكِرَتْ في المصادر اللاهوتية، إضافة إلى الأدلة العقلية التي تسندها، ومن جهة أُخرى فإنّ الوضع بدون تشكيل الحكومة لا يمكن أن يُطاق أبداً، فمثلًا إِنَّ مسألة التربية الصحيحة والتعليم وتزكية النفوس وتطهيرها لا يمكن أجراؤها دون وجود الحكومة.

والآن تصوّروا أنَّ جميع المدارس والجامعات في عصرنا الحاضر هي تحت سلطة حكومة علمانية أو أنّها لاتعير أهميّة للقيم الدينية، وأنَّ وسائل الاعلام كالراديو والتلفزيون والصُّحف تُدار أيضاً من قِبَل نفس النظام، ثم سعينا عن طريق النصائح والإرشادات أو على الأكثر الاستفادة من المساجد والمنابر لتعليم الناس أهداف ومبادى ء الأنبياء والتعليم والتربية الدينية، فإننا حتماً لن نصل إلى أيّ مردود، بل ستبقى أنواره ضعيفة في قلوب بعض الاتقياء وهم أقلية، ولكن متى ما تشكّلت حكومة تبني أساسها على الإيمان والتوحيد والاعتقاد باللَّه وتؤمن بالمقدّسات وتأخذ أمر هذه

المراكز الحساسة على عاتقها، فإنّ الأمر حينئذٍ سيختلف تماماً.

وبالنسبة إلى موضوع (العدالة الاجتماعية) و (قيام الناس بالقسط) وهما الهدف الآخر فإنّ الأمر يبقى هو هو، إذ كيف يمكن إقامة القسط والعدل مع وجود حكومة ظالمة تفتقدُ إلى الإيمان والدين أو عميلة ومرتبطة بالاستكبار والاستعمار؟

وباختصار، فإنّ أيّاً من الأهداف التي جاء من أجلها الأنبياء لا يمكن تحقيق الجزء الأعظم منها إلّابوجود الحكومة، ولذا نرى أنَّ الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله لم يكن ليتمكّن من الوصول إلى الأهداف الإسلامية السامية إلّابعد أن قام بتشكيل الحكومة، وكذلك الحال مع الأنبياء الآخرين الذين استطاعوا التوصل إلى التوفيق المنقطع النظير بعد أن قاموا بتكوين الحكومة، بينما ظَلَّ أولئك الأنبياء الذين لم يحققّوا نجاحاً في تشكيل الحكومة مضطهدين من قِبَلِ الطبقات الفاسدة في مجتمعهم.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 21

ونفس الحالة ستتواجد في آخر الزمان على ما ذُكِرَ، إذ لا يمكن نشر التوحيد والعدل إلّا بتشكيل الحكومة، حكومة المهدي (عج) العالمية، هذا من جهة، ومن جهة اخرى فإنّ الأحكام الإسلامية لا تنحصر في إطار (العبادات) وحسب، بل إنّ لدينا احكاماً جمّة تهتم بالشؤون السياسية والاجتماعية للمسلمين، كأحكام الحدود والديّات والخُمس والزكاة والانفال وما شاكل.

فهل يمكن جمع حقوق مستحقي الزكاة وأخذها من الأغنياء دون وجود حكومة؟ أو هل يمكن تنفيذ كافة الامور القضائية في الإسلام؟ كيف يمكننا ضمان إجراء الحدود والحدّ من أعمال المفسدين؟ وإذا تعرّض البلد المسلم إلى الهجوم والعدوان، كيف يمكن بدون وجود الحكومة تعبئة الجيوش المجربّة وتهيئة الأسلحة المختلفة للدفاع عن حياض الإسلام ودرء الخطر الخارجي؟

وخلاصة الكلام: إنّه من غير تشكيل حكومة عادلة وشعبية على أساس العقائد الدينية، فإنّ القسم الأعظم من الأحكام الإسلامية ستظلّ معطّلة، لأنّه لا يمكن

بدون مساندة ووجود الحكومة إجراء الأقسام الثلاثة الرئيسية في الدين الإسلامي، (السياسيّات) وهو برنامج الحكومة وعمودها الفقري، و (المعاملات) التي لا تستقرّ إلّابوجود الحكومة، وحتى (العبادات) كالحج وصلوة الجمعة والجماعة، كل ذلك لا يمكن أن يتبلور ويتألق إلّافي ظل حكومة اللَّه العادلة.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 23

أهداف الحكومة الإسلاميّة

بناءً على ماورد في البحث المتقدّم حول ضرورة وجود الحكومة اتضحت أيضاً أهداف الحكومة الإسلامية بشكل اجمالي، ولمزيد من التوضيح نشير ادناه إلى بعض الآيات الشريفة:

1- نقرأ في قوله تعالى: «الَّذِينَ انْ مَّكَّنَّاهُم فِى الأَرضِ اقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأمَرُوا بِالمَعرُوفِ وَنَهَوا عَنِ المُنكَرِ». (الحجّ/ 41)

انَّ تعبير (مَكَّنَّاهُم فِى الأَرضِ) يُشير إلى القدرة المعطاة للمؤمنين في الأرض، لكن هذا التعبير نفسه قد استُخْدِمَ مراراً في القرآن الكريم معبّراً عن قدرة الحكم، كما نطالع في آيتين من سورة يوسف: «وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى الأَرضِ». (يوسف/ 56)

وفيما يخصّ ذا القرنين تقول الآية: «انَّا مَكَّنَّا لَهُ فِى الأَرضِ وَآتَينَاهُ مِن كُلِّ شَى ءٍ سَبَباً».

(الكهف/ 84)

وطبقاً لما تعنيه الآية الشريفة الاولى فإنّ المعنى يكون هكذا: إنَّ أولياء اللَّه إن اعطُوا زمام الامور والحكم فإنّهم سيقيمون الصلوة، وهي من جهة، مظهر في مظاهر التقرّب والوصول إلى اللَّه تعالى، ومن جهة اخرى فإنّهم سيعبّدون الطريق المؤدي إلى العدالة الاجتماعية، وأبرز مظاهر هذا الطريق أداء الزكاة، بالاضافة إلى ذلك فإنّهم سيعملون على اشاعة الفضائل الإنسانية والقضاء على المنكرات بواسطة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المجتمع بأبعادهِ المختلفة.

على هذا، فلو افترضنا أنّ كلمة (مكنّا) تعني أيَّ نوع من القدرة سيتمّ معنى الآية ضمن

نفحات القرآن، ج 10، ص: 24

التعبير الذي قلناه سابقاً، ذلك أنّ الحكومة هي أبرز انموذجٍ للقدرة.

وقد ذكر العلّامة الطباطبائي في ذيل هذه الآية

فهل يمكن

الوصول إلى هذه القدرة من دون استلام الحكم «1»؟

وقد ورد هذا المعنى في تفسير القرطبي بشكل أوضح حيث يفسّر جملة «الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ» بالامراء وأصحاب الحكومة «2».

وطبيعي أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المذكور في هذه الآية وكما ورد ذلك في مختلف البحوث الفقهية، يلزم لتنفيذه مراحل عِدّة، واحدى هذه المراحل يختصّ بالحكومة وتشكيلها.

2- ورد في القرآن الكريم ما يتعلّق بحكومة الصالحين حيث تقول الآية: «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُم وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِى الأَرضِ كَمَا استَخلَفَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِم وَلَيُمَكِنَنَّ لَهُم دِيِنَهُمُ الَّذِى ارتَضَى لَهُم وَلَيُبدِّ لَنَّهُم مِّن بَعدِ خَوفِهِم أمناً يَعبُدُونَنِى لَا يُشرِكُونَ بِى شَيئاً». (النور/ 55)

وفي هذه الآية وبعد أن وعد اللَّه المؤمنين الصالحين باستخلافهم وتسليمهم مقاليد الحكم، عقَّب قوله ببعض العبارات وهي في الواقع أهداف هذه الحكومة، أوّلها: التمكين والقدرة للدين الإلهي وتحكّمه على المجتمع، والاخرى إزالة حالة اللاأمن وتبديله إلى الأمن والاستقرار الاجتماعي الكامل والعبادات الخالية من كل أنواع الشّرك، وعلى هذا فإنَّ أهداف الحكومة طبقاً لذلك هي كما يلي:

1- سيادة الدّين والقوانين الإلهيّة على كلّ المجتمع.

2- نشر الأمن والاستقرار الكاملين في كلّ مكان.

3- إخلاص العبادة للَّه وحده وإزالة كلّ آثار الشرك والوثنية.

والواقع أنّ الهدف الأصلي لكلّ ذلك هو كمال الإنسان والسيّر نحو اللَّه سبحانه، وأنّ الأمن والاستقرار وتحكيم القوانين الإلهيّة إنّما هي مقدمة للوصول إلى ذلك.

______________________________

(1) تفسير الميزان، ج 14، ص 386.

(2) تفسير القرطبي، ج 7، ص 4465.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 25

3- ونقرأ خطاب اللَّه لنبيّه داود عليه السلام: «يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلنَاكَ خَلِيفةً فِى الأَرْضِ فَاحْكُم بَينَ النَّاسِ بِالحَقِّ». (ص/ 26)

وتبيّن هذه الآية بوضوح النتيجة المرجوّة للخلافة والحكومة في الارض وهي احقاق الحقوق أو ما

يُعَرفُ بالحدّ من الاعتداء والتعدّي على حقوق الآخرين وأخذ حق الضعفاء والمحرومين من الأقوياء والمترفين.

وبديهيٌّ أنّ هدف حكومة النبي داود عليه السلام وأنبياء بني اسرائيل الآخرين لم يكن هذا فحسب، بل إنّه أحد الأهداف لايّة حكومة في ايّ مكان وزمان.

و صحيحٌ أنّ عبارة (الحكم) الواردة في القرآن الكريم تعني أغلبها (القضاء) ولكن وبعد ملاحظة أنّ الشطر الأول من الآية يتحدّث عن الخلافة في الأرض، يتّضح أنّ أيّ نوع من الحكم بالعدل مشمول في مضمون الآية ككل، مضافاً إلى ذلك فانَّ القضاء هو شأن آخر من شؤون الحكومة، وقد ورد ما يشبه هذا المعنى في سورة النساء حيث يقول تعالى: «انَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُم ان تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمَتُم بَينَ النَّاسِ انْ تَحكُمُوا بِالعَدلِ».

(النساء/ 58)

ولقد ورد في روايات كثيرة في تفسير هذه الآية صراحة أنّ المقصود من هذه الامانة هو مقام الولاية والتي يُؤدّيها كلُّ إمام إلى الإمام الذي يليه، وإن كان المعنى العام لها يشمل باقي أنواع الأمانات كذلك، «1» وبالأخص ما ورد في بعض الروايات من أنّ المخاطب في الآية هم الحكّام والامراء، «2» ويدلّ ذلك على أنّ المراد بالحكومة العادلة في الآية المذكورة ليس القضاء فحسب، بل يشمل كلّ نوع من أنواع الحكم العادل.

4- إنّ جميع الآيات والرّوايات التي تذكر هدف بعثة الأنبياء على أنّه تعليم وتربية وتزكية النفوس واقامة القسط بين الناس ورفع الأغلال وتحطيم القيود، فإنّها في الواقع تبيّن أهداف تشكيل الحكومات الإلهيّة، لأنَّ هذه الحكومات هي مقدمة ووسيلة لضمان أهداف

______________________________

(1) تفسير نورالثقلين، ج 1، ص 495 و 496؛ تفسير العيّاشي، ج 1، ص 249؛ بحار الأنوار، ج 23، ص 274 فمافوق.

(2) تفسير البرهان، ج 1، ص 380 (أنّه

خاطب بها الحكام).

نفحات القرآن، ج 10، ص: 26

بعثة الأنبياء، وعلى هذا يمكن تلخيص أهداف الحكومات الإلهيّة بالنقاط التالية:

1- تعليم وتربية أفراد المجتمع في المجالات العلمية والأخلاقية.

2- ضمان الحرّيات الإنسانية، ورفض كل أنواع العبودية واستعمار الإنسان لأخيه الإنسان سواءً في المجالات الفكرية أو السياسية أو العسكرية أو الاقتصادية.

3- إقامة العدل والحقّ وضمان العدالة الاجتماعية في كلّ الطبقات الاجتماعية.

4- استتباب الأمن الاجتماعي بوصفه مقدمة للوصول إلى الأهداف الأخرى

5- تركيز المبادي ء الخاصة بالعبودية للَّه والسّير إليه تعالى والكمال الإنساني والوصول إلى منزلة القُرب من اللَّه والتي هي غاية الغايات ومنتهى الرّغبات.

ونختم هذا البحث بكلامٍ لأمير المؤمنين علي عليه السلام والذي ورد في أوّل عهده إلى مالك الأشتر، حيث يرسم له بوضوح أهداف الحكومة الإسلامية اذ يقول: (هَذَا مَا أَمَرَ بِهِ عَبدُ اللَّهِ عَلِىٌّ أَمِيرُ المُؤمِنِينَ، مَالِكَ بنَ الحَارِثِ الاشْتَرَ فِي عَهدِهِ إِلَيهِ حِينَ وَلَاه مِصْرَ، جِبَايَةَ خَرَاجِهَا، وَ جِهَادَ عَدُوِّهَا وَ استِصلَاحَ اهلِهَا وَ عِمَارَةَ بِلَادِهَا) «1».

وهكذا فإنّ عمارة البلاد واستصلاح أهلها وجهاد عدّوها وتعزيز بيت المال كلّ ذلك يعني دعامة لانجاز تلك الامور، وهي أهداف هذه الحكومة، ولكن كما أشرنا سابقاً فإنّ هذه الأهداف هي بمثابة اسس المرحلة الاولى أمّا الأهداف النهائية والاصلية فهي التعليم والتربية وتهذيب النفوس والسير إلى اللَّه سبحانه.

______________________________

(1) نهج البلاغة، الرسالة 53.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 27

أنواع الحكومات

اشارة

لقد كانت للحكومات على مدى التاريخ أشكال متباينة، وربّما كانت تلك الأشكال بعدد أنواع حكومات العالم، ولكن يمكن تقسيم اصولها إلى ثلاثة أنواع:

1- الحكومات الاستبدادية

وهي الحكومات المتشكلة على أساس الحكم الفردي أو حكم جماعة معينة حيث تدور حول محور المصلحة الفردية أو مصلحة تلك الجماعة، وطبيعي أن تخدم تلك الحكومة منافع ومصالح تلك الفئة فقط، ونتيجتها ستكون استعباد المجتمع وانتشار البؤس والحرمان فيه، هذا وقد قام حكّام وسلاطين من هذا القبيل على طول التاريخ بارتكاب أفضع الجنايات وذلك لحفظ مصالحهم الشخصية، وقد تعدّوا كلّ الحدود المعروفة، بل لقد سفكوا دماء إخوتهم وبنيهم عند احساسهم بالخطر منهم على مناصبهم.

وفي هذا النوع من الحكومات لا تؤخذ آراء الشعب بنظر الاعتبار بل ولا يُقام لها أي وزن على الاطلاق وكلّ شي ء يدور حول محور الظلّم والجبروت، وتنقسم هذه الحكومات إلى أنواع اخرى منها الحكومة الفردية الاستبدادية (المستبدة)، والحكومة الحزبية المستبدة حيث يسيطر فيها الحزب ذو الأقلية على الأكثرية المطلقة وذلك باستخدام اسلوب القوة، ثم تفرض على تلك الأكثرية آراؤها وايديو لوجيتها وهو ما كان يشيعه الماركسيّون حيث كانوا يسمّونها بالدكتاتورية البروليتارية (المقصود بالبروليتارية (الطبقة المُنتجة) والبعض منهم الذي ثبت ولاؤه وإخلاصه للماركسيين، فتُسَجَّلُ أسماؤهم في

نفحات القرآن، ج 10، ص: 28

الحزب الشيوعي حيث كانوا يشكّلون مجموعة صغيرة في مقابل الجموع الغفيرة للشعب ويتحكمون بمصير الشعب بأكمله، ولم يكن الحزب الشيوعي حزباً ممثلًا لمختلف قطاعات الشعب، ولا يهتم بالانتخابات الحرة، ولم يكن بمقدور أيِّ كان الانتماء إليه، بل ولم تكن في أفكاره أيُّ نوع من الديمقراطية.

2- الحكومة الديمقراطية

وهي أفضل وأكمل حكومة معروفة في عالمنا الحاضر.

والأساس في حكومة من هذا القبيل هو أنَّ جميع الناس في أيّة فئة كانوا أو طبقة يمكنهم- وبحريّة تامة- الذهاب إلى صناديق الاقتراع والادلاء بآرائهم حول من يريدون انتخابه من الممثلين وتسليمهم زمام أمور الشعب لفترة معينة تحت ضوابط خاصة

وشروط معينة، فيضع الممثلون للشعب بعد ذلك وبحرية واستقلالية كاملتين على الأرجح كل القوانين الضرورية، ثم يشكلّون هيئة بواسطة هؤلاء الممثلين تارةً أو بصورة مباشرة من قبل الشعب تارةً اخرى باسم مجلس الوزراء أو رئيس الجمهورية، ويطلق- كما أشرنا- على هذا النوع من الحكومة بالحكومة الديمقراطية (أي حكومة الشعب أو حكومة الشعب على الشعب).

وتنقسم هذه الحكومة بدورها إلى قسمين: النوع الأول وهو الحكومة التي لها صفة شعبية واقعاً، وهي نادرة الوجود سواءً في الماضي أو حتى في الحاضر وربّما لم تظهر ملامحها في الخارج بعد.

والنوع الآخر هي حكومة شعبية الظاهر والمظهر لكنها ليست كذلك في الواقع، فحقيقتها (استبدادية) وظاهرها (ديمقراطية)!

وهذا التفاوت الموجود بين الظاهر والواقع ينقسم كذلك إلى صنفين، فإمّا ان يتدّخل فرد أو أفراد مصَلحيون في نمط الانتخابات وبصورة علنية مرسلين أفراد الشعب إلى صناديق الاقتراع عنوةً، أو أنّهم يعملون على مل ء صناديق الاقتراع بأوراق انتخابية مزيّفة

نفحات القرآن، ج 10، ص: 29

حتى يتمّ لهم انتخاب الأفراد الذين يرغبون في فوزهم في هذه الانتخابات والخروج بأصوات انتخابية أكثر، وقد تأخذ هذه العملية، أي عملية تدخّل أولئك الأفراد طابعاً آخر هو طابع التدخّل الخفيّ وقد يكون غير محسوس، فيبدو للبعض من أصحاب العقول الساذجة وذوي النيّة الحسنة أنّ هذه الانتخابات إنّما جرت بحرية كاملة تماماً، بينما يختلف الواقع عمّا يَرَوْنَهُ، إذ يسيطر ذوو الإمكانات والنفوذ على وسائل الاعلام ويروّجون عن طريقها، لمن يريدون مستفيدين من أساليب علم النّفس بحيث يتصوّر النّاس أنَّ هؤلاء المرشحين عبارة عن علماء مدبّرين وكأنّهم ملائكة منزلين، لكنهم في الواقع عملاء يخدمون تلك الطبقة الثريّة وذات السلطة القويّة وكل المصلحيين والوصوليين.

والحقّ أنّ الحكومة في مثل هذه المجتمعات والتي نجدها بكثرة في اروبا وعلى

الأخص في أمريكا، هي حكومة مستبدة وظالمة إلّاأنّها ترتدي زيّ الحكومة الديمقراطية والشعبية.

3- الحكومة الإلهيّة

وهي الحكومة التي لا تعتمد لا على الإرادة الفردية ولا على الأكثرية الساحقة من الشعب، بل تنبثق طبقاً لإرادة اللَّه، ولا شك أنّ إرادة البارى ء عزّ وجلّ لا تقتضي سوى ضمان المصالح الواقعية لعباده ليس إلّا، ويمكن مشاهدة مثل تلك الحكومة من خلال حكومة الأنبياء وأوصيائهم الحقيقيّين وأولئك الذين يسيرون على خطاهم وينتهجون منهجهم، ومثل هذه الحكومة يندر وجودها في العالم.

لقد ذكر القرآن الكريم نماذج للانواع الثلاثة لهذه الحكومات:

1- أشار القرآن الكريم إلى حكومة فرعون باعتبارها حكومة مستبدة وفردية حيث يقول: «انَّ فِرعَونَ عَلَا فِى الأَرضِ وجَعَلَ أَهلَهَا شِيعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبنَاءَهُم وَيَسْتَحِيى نِسَاءَهُم انَّهُ كَانَ مِنَ المُفْسِدِينَ». (القصص/ 4)

كان فرعون يعتبر كل أرض مصر ملكاً شخصياً له وكل ما فيها من أنهار ومياه هي له

نفحات القرآن، ج 10، ص: 30

أيضاً. وكان يقول: «يَا قَومِ الَيْسَ لِى مُلكُ مِصرَ وَ هَذِهِ الأَنهَارُ تَجرِى مِن تَحتِى أَفَلَا تُبْصِرُونَ». (الزخرف/ 51)

إنّه لم يقنع بحكومته المستبدة على الشعب فحَسب، بل كان يتوقع أن يعبده الجميع ولا يعبدون غيره! ولذا قال لموسى عليه السلام: «لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيرِى لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المَسْجُونِينَ». (الشعراء/ 29)

و حتّى أنّه كان يتصوّر ان من يُريد الاعتقاد والإيمان بشخص يدّعي النبوّة بعد ما رأى معجزاته لا يمكن أن يفعل ذلك إلّابعد موافقته وإذنه! ولذلك نرى أنّه وبّخَ السحرة الذين آمنوا بموسى عليه السلام بعد مشاهدة أدلّته ومعجزاته حيث قال: «قَالَ فِرعَونُ آمَنتُم بِهِ قَبلَ ان آذَنَ لَكُم». (الاعراف/ 123)

ونرى انموذجاً آخر لحكومة مستبدة اخرى ألا وهي حكومة «نمرود» والذي صَرَّحَ مخاطباً إبراهيم عليه السلام: «أنا أحيي وأميت» ولكنه واجه بعد

ذلك استدلال إبراهيم عليه السلام الدامغ عندما قال له: «فَإِنَّ اللَّه يَأْتِى بِالشَّمسِ مِنَ المَشرِقِ فَأتِ بِهَا مِنَ المَغرِبِ فَبُهِتَ الَّذِى كَفَر».

(البقرة/ 258)

والحقيقة أنّ الناس جميعاً وحتى السلاطين المستبدين أنفسهم كانوا يعلمون بهذه الحقيقة وهي أنّ الملوك مفسدون في الأرض ومخلّون بأنظمة المجتمع الإنساني، ولذا نقرأ في القرآن الكريم أنّه عندما وصلت رسالة سليمان عليه السلام إلى بلقيس ملكة سبأ، وبدأت تحقيقاتها حول سليمان لتبَيّن فيما إذا كان ملكاً مستبداً أو نبيّاً مُرسلًا، فأرسلت إليه الهدايا، وقالت معبّرةً عن قلقها: «انَّ المُلُوكَ اذَا دَخَلُوا قَريَةً أَفسَدُوهَا وَ جَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهلِهَآ اذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ». (النّمل/ 34)

فقد كان الملوك يضطهدون ويعذّبون مخالفيهم بأبشع الصور بل حتى يدفنوهم أحياءً، وقد ورد ذلك في سورة البروج التي تتحدّث بعض آياتها عن أصحاب الاخدود (إذ يذكر التاريخ أنّ الملك «ذو نواس» أصْدر أمراً بحفر خندق ووضع كمية كبيرة من الحطب فيه وأشعل ناراً عظيمة ثم قذف ببعض المسلمين الذين فضّلوا البقاء على دينهم وسط تلك

نفحات القرآن، ج 10، ص: 31

النيران ولم يرحم منهم لا شيخاً ولا طفلًا رضيعاً)، وما كان ذنبهم إلّاأن آمنوا باللَّه العزيز القّهار: «وَمَا نَقَمُوا مِنْهُم الّا انْ يُؤمِنُوا بِاللَّهِ العَزِيزِ الحَمِيدِ». (البروج/ 8)

ويضمّ التاريخ بين صفحاته الكثير من هذه الوقائع التي مارستها الحكومات المستبدة والتي كانت تُعامل شعوبها كالعبيد، بل أدنى من ذلك أيضاً، وقد أشار القرآن في عدّة مواطن إلى مثل تلك الحكومات، ولذلك كان أحد أهم الأهداف لثورات الأنبياء عليهم السلام محاربة الاستبداد وإنقاذ الشعوب من براثن المستبدّين.

2- ونرى كذلك بعض الآيات القرآنية الشريفة التي تشير إلى حكومة الشورى أو كما هو المصطلح عليه بحكومة الشعب للشعب، وإن لم يكن هذا المصطلح واضحاً

كما عليه اليوم.

نطالع في قوله تعالى وفيما يخصّ قصة (سليمان عليه السلام) مع (بلقيس- ملكة سبأ): لما وصلت رسالة سليمان إلى بلقيس جمعت الأخيرة مستشاريها وبدأت معهم بالتحدث عن مضمون تلك الرسالة قائلة: «يَا أَيّها الْمَلَوُاْ أفتُونِى فِى أَمْرِى مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ». (النحل/ 32)

ومن المتيقّن أنّه لم تكن في ذلك الزمان انتخابات ولا آراء شعبية، لكن مع وجود مثل هذه الحالة عند الملكة وهي الالتزام بالشورى في سير الأمور والبتّ فيها فذلك يدّل على وجود حكومة الشورى نوعاً ما.

إضافة إلى ذلك فإنّ مسألة الشورى هي احدى المسائل التي تتضمنها البرامج الإسلامية و تؤكد عليها في الامور الاجتماعية والحكومية عامة، وكما يذكر القرآن الكريم واصفاً المؤمنين الحقيقيين بقوله: «وَأَمْرُهُم شُورَى بَيْنَهُم». (الشورى 38)

بل حتى أنّه أمر النبيّ صلى الله عليه و آله بالمشورة مع المؤمنين حيث يقول القرآن مخاطباً الرسول صلى الله عليه و آله: «وَشَاوِرهُم فِى الأَمرِ». (آل عمران/ 159)

ومع أنّ حكومة الرسول صلى الله عليه و آله كانت من نوع الحكومات الإلهيّة، إلّاأنّه صلى الله عليه و آله كان يُؤمر بمشاورة الناس لتبقى حكومته ذات صبغة شعبية.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 32

3- وأمّا ما يتعلّق بالحكومات الإلهيّة فقد وردت آيات قرآنية كثيرة تبحث ذلك، يقول القرآن الكريم عن لسان داود: «قَالَ رَبِّ اغفِرْ لِى وَهَبْ لِى مُلْكاً لَّايَنبَغِى لِأَحَدِ مِّن بَعدِى إِنّكَ أَنْتَ الوَهّابُ». (ص/ 35)

ونتبيّن من الآيات التي تلت هذه الآية أنّ دُعاء سليمان عليه السلام كان قد استُجيبَ ووهبه اللَّه حكومة لم يسبق لها مثيل، فقد كانت الرِيح تجري بأمره، وسخَّرَ اللَّه له الشياطين والعفاريت، وكان يستفيد حتى من الطيور في إنجاز بعض أعماله.

ويقول القرآن الكريم متحدثاً عن آل

إبراهيم: «فَقَد آتَينَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَآتَينَاهُم مُّلكاً عَظِيماً». (النساء/ 54)

وتشمل كلمة (آل إبراهيم): بني اسرائيل ويوسف وداود وسليمان وغيرهم).

ويذكر القرآن الكريم (طالوت)، أحد ملوك بني اسرائيل المعروفين وعلى لسان نبيّ ذلك الزمان (شموئيل) قائلًا: «وَقَالَ لَهُم نَبيُّهُم إِنَّ اللَّهَ قَد بَعَثَ لَكُم طَالُوتَ مَلَكاً». (البقرة/ 247)

ويُقصَدُ بذلك أنّ هذه الهبة قد وهبها اللَّه سبحانه لطالوت.

ولكن بني اسرائيل الذين لم يكونوا على علم واطّلاع كاملين بأمور الحكومة الإلهيّة، عارضوا هذا الانتخاب واعتبروا أنفسهم أفضل منه لاستلام ذلك المنصب لأنّ طالوت كان رجلًا قروياً، فلم يكن صاحب مال ولا عشيرة معروفة، لكن نبيّهم رفع تلك الشبهة بقوله:

«إِنَّ اللَّهَ اصطَفَاهُ عَلَيْكُم وَزَادَهُ بَسْطَةً فِى العِلْمِ وَالجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤتِى مُلكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ». (البقرة/ 247)

وقد اشير في سورة النساء إشارة واضحة إلى حكومة النبي صلى الله عليه و آله وآله بقوله: «أَم يَحسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضلِهِ فَقَد آتَينَا آلَ إِبرَاهِيمَ الكِتَابَ وَالحِكمَةَ وَآتَينَاهُم مُّلكاً عَظِيماً». (النساء/ 54)

كانت تلك لمحة حول بعض أنواع الحكومات المذكورة في القرآن الكريم، والآن نبدأ بنقد ودراسة كل نوع من تلك الحكومات الثلاث:

نفحات القرآن، ج 10، ص: 33

دراسة ونقد لأنواع الحكومات

اشارة

لا يخفى على أي شخص ما تستبطنه الحكومات المستبدة والدكتاتورية في ثناياها من مفاسد، وما أصاب المجتمعات من ويلات ومصائب مدمرة على مر التّاريخ، من قتل الأبرياء وتعذيبهم، والحروب المدمّرة والاستيلاء على الأموال، واستعباد المحرومين والضعفاء، وانتشار التعصّب والتمييز العنصري والظلّم، وصرف أموال المجتمع على التّرف والبذخ، كلّ ذلك من آثار تسلط الحكومات المستبدة، وقد ذكر القرآن الكريم وصفاً حقّاً لذلك حيث قال: «انَّ المُلُوكَ اذَا دَخَلُوا قَريَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا اعِزَّةَ أَهلِها اذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفعَلُونَ». (النمل/ 34)

ولا فرق بين أن

يكون الاستبداد فردياً أو جماعياً، بل إنّ آثار الاستبداد الجماعي أكثر سوءاً من الاستبداد الفردي، وأوضح مثال على هذا النوع من الاستبداد هو الحزب الشيوعي في روسية والذي كان السبب في جرّ أنواع المصائب والفجائع التي لا ميثل لها في التاريخ.

إنَّ الحكومات المستبدة والتي تتظاهر بزيّ الحكومات الشعبية والديمقراطية لا تقلّ سوءاً عن الحكومات المستبدة المطلقة، بل إنّها أسوء بكثير من جهات شتى ذلك لأنّ الشعب حسّاسٌ دائماً تجاه استبداد الدكتاتوريين ويتحين الفرص للانتفاض ضدهم والتخلّص منهم، أمّا في حالة الحكومة المستبدة المتلبسة بلباس الديمقراطية- كما هو الحال في كثير من الحكومات الغربية التي تستلم السلطة بصرف مبالغ طائلة على الاعلام والصحف بالإستعانه بالرأسماليين- فلا تبيّن شيئاً يمكّن الناس من معارضتهم والثورة ضدهم في الفرصة المناسبة.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 34

وأمّا الحكومة الديمقراطية الواقعية والّتي تمثل أكثرية الشعب (إذا وجدت حكومة كهذة في العالم) فهي كذلك، حيث تنطوي على مساوى ء كثيرة، بل وحتى تمارس الظلم والاعتداء، وذلك لأمور منها:

أولًا: إنّ الكثير من النّاس في أغلب الدول التي تكون حكوماتها واقعاً أو ظاهراً من هذا النوع، لا يشاركون بصورة عملية في الانتخابات فيها، إذ ربّما شارك ستون أو سبعون في المئة بل وأقل من ذلك أيضاً؛ ومع ذلك فاننا نرى ان نتائجها تشير إلى أنّ المرشّح الفلاني قد حاز على أكثرية الأصوات، إنّها لم تكن أكثرية في المجتمع. (مثلًا نسبة 31 خ مقابل 29 خ من مجموع 60 خ من الأفراد المشتركين في تلك الانتخابات).

وفي هذه الحالة، توجد مصاديق عديدة فإنّ الأقلية من الناس تتسلّم مقاليد الامور، بينما ترضخ الأكثرية تحت حكمهم وسيطرتهم، وبديهيّ أن ينظّموا كل القوانين حسب أهوائهم ومصالحهم، وهذا هو الظلم الفاحش بعينه.

ثانياً:

لو فرضنا أن جميع أفراد الشعب الذين لهم حقّ المشاركة في الانتخابات قد اشتركوا فيها (طبعاً إنّ مثل هذه الفرضية لم تحدث أبداً) فيمكن أيضاً فوز البعض بأكثرية قليلة وضئيلة (كأن يكون 51 خ في مقابل 49 خ أو أكثر أو أقل).

وهذا أيضاً أحد أنواع (استبداد الأكثرية) ضد الأقلية، ففي دولة يبلغ عدد سكانها 100 مليون نسمة مثلًا تخضع فيه 49 ميلون نسمة لسلطة 51 مليون شخص، فكلّ شي ء في المجتمع يسير وِفقاً لمصلحة الأكثريّة وقد يكون بضرر الأقليّة، ولهذا فقد أذعن كثير من المفكرين إلى أنّ حكومة الأكثرية هي نوع من الحكومة الظالمة الّتي لابدّ منها، لأنّه لا حيلة لهم ولا بديل سواها.

ثالثاً: وبعيداً عن ذلك وعلى فرض أنّ الحكومة الديمقراطية لا تنطوي على أيّ من الإشكالين المذكورين فإنّها حكومة تتبعُ رغبات الأكثرية من الشعب، ونحن نعلم أنّه يحدث أحياناً أن ينحرف أكثرية الشعب نتيجة للمستوى العلمي والثقافي المتدنّي، أو في هذه الحالة يتحتَّم على العلماء والمتقفين النهوض ومحاربة هذه الآفة الخطيرة، بينما لا نرى

نفحات القرآن، ج 10، ص: 35

في هذه الموارد معارضة ولا محاربة في الأنظمة الديمقراطية، بل نرى العكس، حيث أخذت هذه الانحرافات شكلًا قانونياً واجيزت من قبل المشرّعين هناك، فمثلًا أصبح الزواج من الجنس المماثل في انجلترا وأمريكا مجازاً من قِبلِ القانون، وكذلك الحال مع مسألة سقط الجنين أو الإجهاض، ذلك أنّ الممثلين في هذه الدوّل يعبّرون عن رغبات الشعب لا رعاية مصالحه.

ومن هنا نجد أنّنا بحاجة إلى البحث عن النوع الثالث من الحكومة، ألا وهي حكومة الصالحين، الحكومة التي اقترحها الأنبياء عليهم السلام، وحتّى لو كانت هناك انتخابات فإنّها تجري على أساس انتخاب الأصلح وقت رعاية الإمام العادل.

ففي هذا النوع من

الحكومة لا نجد الآفات الثلاث التي وجدناها في الحكومات الديمقراطية، فلا مجال للرأسمالية ولا للاستبداد حيث يسيطر بواسطتها نصف المجتمع على النصف الآخر، ولا مكان للرغبات المنحرفة في المجتمع.

وعلى هذا، فإنّ الحكومة الوحيدة التي يمكن قبولها تماماً هي حكومة اللَّه، وحكومة الرسول صلى الله عليه و آله والأئمّة المعصومين عليهم السلام، وأولئك الذين يمتلكون الشروط الخاصّة لخلافتهم، وطبيعي أن لا نرى الدنيا في حالة من العدالة والصلاح والسعادة التامة إلّافي ظل الحكومة الإلهيّة.

الحكومة تنصيب أم انتخاب:

الجواب عن هذا السؤال يختلف باختلاف وجهات النظر فالذين لاينتمون إلى دين معين، أو ينتمون إلى دين، لكن انتمائهم محدود بالامور والمسائل الشخصية وليس له أي نفوذ في الامور الاجتماعية، مثل «الكثير من المسيحيين» فإنّ جوابهم عن هذا السؤال واضح.

فهم يقولون: إنَّ أفضل أشكال الحكومات هي التي تكون منبثقة عن الشعب، ولأنّ اتفاق الآراء غير ممكن غالباً، فلذلك يجب انتخاب الحكّام عن طريق الأكثرية.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 36

ولكن ما هو جدير بالذكر أنّ الموالين لهذه الفكرة يؤيدون الحكومات التي تصل إلى دفّة الحكم عن طريق الانقلابات واستخدام القوة من قِبلَ العسكريين ويقيمون معها نفس العلاقات التي يقيمونها مع الحكومات الشعبية، ولا يهمّهم كيف وصلت هذه الحكومة إلى سدة الحكم! المهم هي على كرسي الحكم وتستطيع تثبيت حكمها وسيادتها.

ولهذا السبب نراهم يتريثون قليلًا حينما يقع انقلاب عسكري في أي بقعة من بقاع العالم ليروا هل ينتصر ويستلم مقاليد الحكم؟ فاذا انتصر وثبّت دعائم حكمه ووطّد أركانه فعندئذ تتبارى الحكومات المادية للإعتراف به.

والاعجب من ذلك أنّ جميع فقهاء المذاهب الأربعة من السنّة، حسب قول مؤلف كتاب (الفقه الإسلامي وادلّته) يتفقون على أنّ الإمامة والحكومة يمكن حيازتهما بالقوّة والغلبة، وكلّ من يصل إلى الحكم بالقوّة!

دون الحاجة إلى بيعة الناس أو خلافة امام ومجي ء خليفة من بعده «1». وقد ورد هذا المعنى بصراحة أكثر على لسان الفقيه السنّي المعروف «أحمد بن حنبل»، حيث لا يعتبر الإمامة مشروطة بالعدل ولا بالعلم ولا الفضيلة، وينقل حديثاً يتضمن معناه أنّ كلّ من تغلّب على الحكم بالسيف فهو خليفة وأمير للمؤمنين ولا يجوز لأحد انكار إمامة ذلك الغالب سواء كان بارّاً أم فاجراً «2».

وورد نظير هذا المعنى في كتاب (منهاج السنن) «3».

وربّما خطر على بال البعض ان القول بهذا المعنى لا يصدر إلّامن أولئك الذين لا يؤمنون بأي اله أو دين، ولكن لماذايصدر هذا القول وتلك الفتوى ممّن يدّعي الإيمان والإسلام ويتمسّك بالقيم الخاصة للحكومة كالإيمان والعدالة؟

ولكننا وبعد فهمنا لهذه الحقيقة وهي أنّهم كانوا غالباً بصدد تبرير موقف الخلفاء من بني امية وبني العباس ومسايرتهم، حينئذٍ لا يعترينا العَجَب من اعترافهم بالحكومات الظالمة والفاجرة التي وصلت إلى سدّة الحكم بالقوة والبطش.

______________________________

(1) الفقه الإسلامي وأدلّته، ج 6، ص 682.

(2) الأحكام السلطانية، ص 20.

(3) كتاب المنهاج السنّة كتاب البغاة، ص 518.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 37

على أيّة حال، فإننا وكلّما نظرنا بمنظار القرآن الكريم إلى هذه المسألة يتّضح لنا بجلاء أنّ الحكومة هي من حقّ الذات المقدّسة للخالق ثم لمن يراه عزّ وجلّ صالحاً لذلك.

فقد ذكر القرآن الكريم هذه الآية في أكثر من مكان: «إِنِ الحُكْمُ إِلَّا للَّهِ».

(الانعام/ 57) (يوسف/ 40- 67)

ونرى نفس هذا المضمون في آيات اخرى

إنَّ كلمة «حُكم» تتضمّن معنىً واسعاً حيث تشمل (الحكومة) و (القضاء) كذلك.

والواقع أن توحيد الخلقة ملازمٌ لتوحيد الحكم، بمعنى أننا عندما نُسَلِّم أنّ العالَم بأجمعه مخلوق من مخلوقات اللَّه سبحانه، علينا أن نقبل أنَّه ملكٌ تامٌ له أيضاً، وطبيعي أن

يكون الحكم المطلق لهذا العالم بيد اللَّه كذلك، لذا وجب أن نسير حسب أوامره، واعتبار من يجلس على كرسي الحكم دون اذنه وأمره متعدياً وغاصباً.

هذه الفكرة النابعة من (التوحيد الافعالي للخالق) (توحيد المالكية والحكم)، معروفة كاملًا للموحدين كما أنّ عقائد المذاهب الالحادية معروفة للجميع، (تأمل جيداً).

ولهذا السبب فإننا نعتبر الأنبياء حكّاماً حقيقيين من قبل اللَّه، ولهذا السبب أيضاً بدأ الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله بتشكيل الحكومة في أول فرصة سنحت له، أي عند هجرته إلى المدينة حيث كان الوقت مناسباً لذلك.

وبعد ذلك فالحكومة من حقّ الذين عُينّوا من قِبَلهِ بواسطة أو بدونها.

وهناك روايات كثيرة تحدد الأمراء والأئمّة بعد الرسول صلى الله عليه و آله بإثنى عشر إماماً وقد أوردنا المصادر لذلك في المجلد التاسع من نفحات القرآن بأن هذا الحقّ من نصيب الأئمّة الاثني عشر من آل البيت عليهم السلام، (إذ لم يظهر أيّ تفسير مقبول لتلك الرّوايات غيره).

وعلى هذا الأساس، فإنّ الأشخاص الذين لهم حق الخلافة والحكومة في زمن غيبة الإمام المهدي (عج) هم الذين ينصّبهم الإمام بصورة مباشرة أو غير مباشرة.

ويتبيّن لنا ممّا قيل أعلاه أنّ الحكومة من وجهة نظر المسلم الموحِّد يجب تعيينها من قبل اللَّه تعالى بل وحتى تلك الحقوق التي نقر بها للشعب فهي أيضاً تتعين من قبله تعالى

نفحات القرآن، ج 10، ص: 38

ولا يتمكن الموحِّد ابداً ان يجعل إرادة الخلق اساساً للحكومة دون أن تنتهي إلى إرادة الخالق. (تأمل جيداً).

وما كتبه بعض المغفلين من أنّ: «هناك حقيقة يدركها الجميع وهي أنّ كل من حاز على أكثرية الأصوات وأيده الشعب فهو الحاكم لأنّ القوّة الحقيقية للمجتمع هو الشعب ... الشعب هو الذي يمنح الولاية لشخص ويجسّد حاكميته

على الآخرين» لا يتلاءم مع النظرة التوحيدية.

نحن نقول: إنّ النظرة التوحيدية هي عكس هذا الأمر، أي: إنّه اللَّه تعالى هو الذي يمنح الولاية لشخص ما ويجسِّد حاكميته على الآخرين، ولو كان للشعب حق في هذا المجال فهو أيضاً من اللَّه تعالى

زبدة الكلام هي أنّ الحكومة وحسب النظرة التوحيدية تكون من السماء، بينما حسب الأفكار الالحادية فهي من الأرض!.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 39

حقيقة الحكومة الإسلامية

اشارة

البحث حول حقيقة الحكومة الإسلامية مع الاخذ بنظر الاعتبار ما تقدم من كلام في البحث السابق ليس بتلك الصعوبة، لان حق الحكومة هو اولًا وبالذات من شأنه سبحانه، وذلك بعد قبول التوحيد في الحاكمية الذي يعد من فروع التوحيد الافعالي، وفي المرتبة الثّانية من شأن كل من يعيِّنُه لذلك. وعلى هذا، فالحكومة الإسلامية ليست حكومة دكتاتورية استبدادية، ولا حكومة ديمقراطية، بل نمط من الحكومة الأفضل، اي الحكومة الإلهيّة.

لكن هذا لا يعني أنّ أصل (الشورى ، والاهتمام بآراء الشعب ليس له دور في الحكومة الإسلامية، وأنّه لا يعتد به لا من قريب ولا من بعيد.

لأنّ «مالك الملوك» و «أحكم الحاكمين» حينما يأمر بالشورى والاصغاء إلى آراء الشعب، تكتسب هذه الامور شرعيتها، ونعلم بوجود الأمر الصريح بالشورى في آيتين من القرآن الكريم.

ففي الآية 38 من سورة الشورى التي سميت بهذا الاسم لأجل نفس هذه الآية، ذكرت سبع خصال جلية للمؤمنين المتوكلين على اللَّه تعالى أحداهما، المشورة في الامور المهمّة، يقول تعالى «وَ أَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُم»!.

وذهبت الآية 159 من سورة آل عمران ابعد من ذلك إذ أوصت النبي صلى الله عليه و آله ثلاث توصيات فيما يتعلق بالمؤمنين، احداهما مشاورتهم في الامور الحساسة، يقول تعالى

«وَشَاوِرْهُم فِى الأَمْر».

نفحات القرآن، ج 10، ص: 40

وبناءً على

هذا، فاحترام آراء الناس يكتسب مشروعيته من أمره تعالى هذا من جهة ومن جهة اخرى فالنبي صلى الله عليه و آله وخلفاؤه المعصومون، وكذلك العلماء الذين يكتسبون مشروعيتهم بالواسطة من قبله سبحانه باعتبارهم من مصاديق «الولي الفقيه» ملزمون برعاية مصالح الناس في كل مكان وزمان، أي الاهتمام بغبطة العامّة كما يصطلح عليه، ومن البديهي أنّ مصلحة الناس تستلزم اسهامهم في أمر الحكومة نوعاً ما والاصغاء لآرائهم، وبهذا يكتسب الاهتمام بآرائهم صبغة إلهيّة.

وبعبارة اخرى فالحكومة الإلهيّة إنّما تبدو منسجمة حينما تتمتع بقدرة تنفيذية عالية، ولا سبيل إلى هذه القدرة إلّابمشاركة الشعب في أمر الحكومة، وبما أنّ تنفيذ الأحكام الإلهيّة واجب، فيكون اسهام الشعب في أمر الحكومة مقدّمة لذلك الواجب، ومقدّمة الواجب واجبة.

وخلاصة الكلام:، إنّ جوهر الحكومة الإسلامية هو الحكومة الإلهيّة، لكن هذه الحكومة تنبع في خاتمة المطاف من الحكومة الشعبية، فتعيين الأنبياء والأئمّة وخلفائهم يشكل جوهر الحكومة الإلهيّة، والتزام هؤلاء بمسألة الشورى واحترام آراء الشعب الذي يكون بأمر اللَّه تعالى أيضاً، يشكل الصبغة الشعبية لها.

فالذين يتصورون أنّ الحكومة الإسلامية متكئة على آراء الشعب مائة بالمائة، ويهملون عنصرها الإلهي، يذهبون شططاً، كما أنّ الذين يولون اهتمامهم للجانب الإلهي ويغضون الطرف عن جانب الشورى وآراء الشعب مخطئون أيضاً.

وسنتناول في الأبحاث القادمة (في بحث البيعة والشورى) هذا الأمر بتفصيل أكثر.

وعلى أيّة حال، فكيف يمكن تجاهل هذه الحقيقة، وهي أنّ مشاركة الشعب في أمر الحكومة تضيف قدرة ومنعة للحكام، كما أنّهم أعجز ما يكونون عند غياب مشاركة الشعب، كما يقول أمير المؤمنين عليه السلام في الخطبة الشقشقية:

«أَمَا وَالَّذِي فَلَقَ الحَبَّةَ وَ بَرءَ النَّسَمَةَ لَولَا حُضُورُ الحَاضِرِ وَ قِيَامُ الحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ وَمَا أَخَذَ اللَّهُ عَلَى العُلَمَاءِ إلَّايُقَارُّوا

عَلَى كِظَّةِ ظَالِمٍ وَلا سَغَبِ مَظلُومٍ، لَأَلقَيتُ حَبلَهَا عَلَى غَارِبِهَا» «1».

______________________________

(1) نهج البلاغة، الخطبة 3.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 41

هذا التعبير يحكي بكل وضوح عن أنّ تأييد الشعب يؤدّي أيضاً إلى إقامة الحجّة على الولي المنصوب من قبل اللَّه تعالى

ولا شك أنّ ولايته عليه السلام كانت ثابتة من قبل اللَّه تعالى وعن طريق الرسول صلى الله عليه و آله، وأنّ هذه الولاية فعلية، فهي- وعلى خلاف ما قاله بعض المغفلين- لم يكن لها جنبة الشأنية والقوة، أمّا من الناحية التنفيذية والعملية فلا تستغني عن دعم الشعب، ولا يتحرك لها ساكن بدون ذلك الدعم.

أمّا بالنسبة لفقهاء الإسلام- وكما سيأتي- فالولاية الفعلية ثابتة للجميع، لكن تجسيد هذه الولاية إنّما يكون ممكناً حينما تتمتع بدعم وتأييد الشعب فقط، ولهذا السبب فالولي الفقيه الذي يحظى بآراء الشعب تكون له الأولوية قياساً بالفقهاء الآخرين، لتمكنه من تطبيق ولايته التي يتمتع بها دون غيره، (وسيأتي تفصيل هذا الكلام في محله إن شاء اللَّه تعالى .

وعلى هذا، فلو تمّ التعبير في مثل هذه الموارد ب «الانتخاب»، فذلك لا يعني أنّ هذا المنصب يُمنح لهم من قبل الشعب، لأنّ حقّ الولاية من وجهة النظر التوحيدية إنّما هو للَّه لا غير، وهذا المنصب إنّما يكون للذين عيّنهم اللَّه تعالى مباشرة أو عن طريق أوليائه، أمّا اعتبار الشعب هو الأساس ونفي الجانب الإلهي للحكومة فنابع من عقائد الشرك غير التوحيدية.

والمقصود أنّ الشعب إنّما يعلن دعمه لفقيه ما حينما يراه أفضل وأليق من كل الفقهاء، ولو كان الانتخاب بيد الشعب، ولما كانت هنالك ضرورة لانتخابه من بين الفقهاء، بل لأمكنهم انتخاب من شاؤوا لهذا الأمر، سواء كان فقيهاً أم لم يكن.

وخلاصة القول: إنّ الشعب لا يضع أحداً

على سدة الحكم، لأنّ هذا الحق خاص باللَّه تعالى ودور الناس إنّما يقتصر على انتخاب شخص من بين الذين منحهم اللَّه تعالى حق الولاية، ولو تمّ التعبير ب «الانتخاب» فهذا لا يعني ما يروج له العالم المادي، والقرائن الحالية والمقالية شاهد صدق على هذه الحقيقة، وهي أنّ حقيقة هذين الانتخابين متفاوتة تماماً.

(تأمل جيداً).

نفحات القرآن، ج 10، ص: 42

وعلى هذا، فإنّ أمير المؤمنين عليه السلام كان ولياً من قِبل اللَّه تعالى حتى قبل بيعة الناس له، ومن الجدير بالذكر أنّ اللَّه تعالى قد منح هذه الولاية له عليه السلام طبقاً لصريح آية الولاية: «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم رَاكِعُونَ». (المائدة/ 55)

وطبقاً لحديث الغدير المتواتر وجملة: «مَنْ كُنْتُ مَولَاه فَهذا عَلىٌّ مَولَاه»، حيث إنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله قد عيّنه رسمياً لهذا المنصب من قبل اللَّه تعالى لكن بيعة الناس للآخرين حالت بينه وبين تطبيق ولايته مدّة من الزمن، ولم يمكن تجسيد هذه الولاية إلّابعد بيعة الناس له عليه السلام. أجل، فالشعب قد هيأ الأرضية للتنفيذ، لا أنّه أوصله إلى مقام الولاية الفعلي.

وكذا الأمر بالنسبة للفقهاء، حيث إنّهم- وطبقاً لما سيأتي من الأدلة- كلما تمتعوا بحسن التدبير والإدارة والإحاطة بأمور الزمن وشروطه فضلًا عن الاجتهاد والعدالة، فلهم الولاية الفعلية من قبل اللَّه تعالى لكن تطبيق هذه الولاية يحتاج إلى مقدمات وعلى رأس هذه المقدّمات دعم الشعب وتأييده.

وهكذا الحال في النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، إذ إنّه لم يتمكن من تشكيل الحكومة فترة وجوده في «مكة»، بل قام بتشكيلها حينما دخل المدينة وكان دعم الشعب كافياً لذلك والعقبات قد ازيلت، لكن هذا لا

يعني أنّ النبي صلى الله عليه و آله لم تكن له الولاية في مكة، وأنّها منحت له من قبل الناس في المدينة، (تأمل جيداً).

الولاية الخبرية والإنشائية؟!

يعتقد البعض أنّ العلماء الذين تحدثوا عن «ولاية الفقيه» لهم رأيان متفاوتان، فالبعض قال بولاية الفقيه بالمعنى «الخبري»، والبعض الآخر بالمفهوم «الإنشائي»، وهذان المفهومان يختلفان في الماهيّة عن بعضهما.

فالأوّل يقول: إنّ الفقهاء العدول منصوبون من قبل اللَّه تعالى للولاية.

ويقول الثاني: يجب على الناس انتخاب الفقيه الجامع للشرائط للولاية.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 43

لكننا نعتقد أنّ هذا التقسيم لا أساس له أصلًا، لأنّ الولاية كيفما تكون فهي إنشائية، سواء أنشأها اللَّه تعالى أو النبي صلى الله عليه و آله أو الأئمّة، كأن يقول الإمام عليه السلام: «إنّى قَدْ جَعَلْتُهُ حَاكِمَاً»، أو أن ينتخبه الناس «على سبيل الفرض»، فينشئون له الولاية والحكومة.

فكلاهما إنشائي، والتفاوت يكمن في أنّ إنشاء الحكومة يكون تارة من قبل اللَّه تعالى واخرى من قبل الناس، والتعبير ب «الإخباري» هنا يحكي عن عدم احاطة القائل بهذا القول، أو أنّه يدرك الفرق، إلّاأنّه استعمل هذه العبارات من باب المسامحة.

والتعبير الصحيح هو أنّ الولاية إنشائية في كل الأحوال، وهي من ضمن المناصب التي لا تتحقق بدون الإنشاء، والتفاوت هنا هو أنّ إنشاء هذا المنصب والموهبة قد يكون من قبل اللَّه تعالى أو من قبل الناس، فالمدارس التوحيدية تراه من قبل اللَّه تعالى (وحتى لو كان من قبل الناس فلابدّ أن يكون بإذنه تعالى أيضاً)، وتتوهمه المدارس الإلحادية بأنّه من قبل الناس.

وعلى هذا، فالخلاف ليس حول «الإخبار» و «الإنشاء»، بل حول الذي ينشي ء ذلك، هل هو اللَّه تعالى، أم الخلق؟ أو بعبارة اخرى هل أنّ أساس مشروعية الحكومة الإسلامية يكون بإذن اللَّه تعالى

وإجازته في كل مراحل ومراتب الحكومة، أم بإذن الناس واجازتهم؟

لا شك أنّ الذي يوافق النظرة الإلهيّة هو الأول دون الثاني.

الحكومة والوكالة:

يقال أحياناً إنّ الحكومة الشعبية نمط من الوكالة، لا منح منصب، لأنّ مالك الملوك هو اللَّه تعالى فيجب أن يهبه هو تعالى لمن يشاء، وبعبارة اخرى فكما أنّ كل واحد يتمكن أن يوكل غيره في الامور الشخصية، ولا شك أنّ لهذا الأمر مشروعيته، فكذا الأمر في القضايا الاجتماعية، إذ بإمكان الشعب اعتبار شخص ما وكيلًا له لإدارة الشؤون الاجتماعية، والشعب ملزم بتحمل نتائج تلك الوكالة ما بقيت.

لكن هذا الكلام سقيم لوجوه:

نفحات القرآن، ج 10، ص: 44

أولًا: بأي حق يتدخل وكيل الأكثرية في شؤون الأقلية؟ لنفرض أنّ 51 مليون نفر قد انتخبوا أحد الأشخاص وكيلًا عنهم، و 49 مليون قد وكّلوا شخصاً آخر، فبأي دليل يمتلك وكيل ال (51 مليون) حق التدخل في شؤون ال (49 مليون نفر).

ثانياً: هنالك شريحة يعتد بها من الشعب لا تشترك في الانتخابات في أكثر الأحيان ولأسباب شتى ولا يمنحون أصواتهم لأحد باعتباره وكيلًا لهم، فأيّة ضرورة تقضي بوجوب اتباعهم لمن يتمتع بوكالة الآخرين؟!

ثالثاً: الوكالة عقد جائز، وبإمكان الموكّل عزل وكيله متى شاء، في حين أنّ الشعب لا يمكنه أبداً في ظل الأنظمة السياسية في العالم عزل مرشحيه- والمرشحين لرئاسة الجمهورية وأمثالها.

الحقيقة هي أنّ الديمقراطية لا يمكن تحجيمها بهذه العناوين، إذ إنّ للديمقراطية هويتها الخاصة بها، وهي في الواقع نوعٌ من العقد الاجتماعي تفرضه الضرورة، لأنّ الشعب بحاجة إلى حكومة ما على كل الأحوال، ومن جهة اخرى فاتفاق آراء الشعب على هذا الأمر غير ممكن، إذن، فلابدّ من الذهاب- شئنا أم أبينا- وراء رأي الأكثرية، كما يجب على الأقلية الرضوخ

أمام الأكثرية، إذ لا سبيل لإدارة المجتمع ولا توجد رؤية اخرى سوى ذلك، وهي أنّه نتوافق مع رأيهم، حتّى لو لم يكن هذا الأمر متصفاً بالعدالة المحضة.

أمّا الذين ينظرون إلى الحكومة بأنّها من قبل اللَّه تعالى فلهم رؤية اخرى وهي أنّه لنرى من ذلك الشخص الذي وضع اللَّه تعالى الحكومة تحت اختياره؟ وبهذه الحالة تكون آراء الشعب- عند تعدد الأفراد اللائقين من وجهة نظر الإسلام- قادرة على صنع القرار عند تعيين الشخص المتفق عليه، فيتغلب ذلك الشخص الذي يحظى بدعم جماهيري أكبر لتنفيذ أهداف الحكومة.

وبإمكان المسائل المتعلقة بالبيعة توضيح هذا الأمر بشكل أكبر، وسنتكلم إن شاء اللَّه بالتفصيل في الأبحاث القادمة عن دور البيعة في الحكومة، وحقيقة البيعة وشروطها.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 45

العلاقة بين الدين والحكومة من وجهة نظر القرآن الكريم

اشارة

إنَّ شعار فصل الدين عن السياسة هو الأكثر رواجاً في الدول الغربية، وقد يعد من بديهياتهم المتفق عليها، ومن هنا يأخذهم الرعب والخوف من تشكيل الحكومة الإسلامية التي تجمع بين «الدين» و «السياسة» بشكل تام! وذلك لسببين:

1- الدين الموجود في المجتمعات الغربية هو دين المسيحية الحالي، ونحن نعلم أنّ هذا الدين ونتيجة للتحريفات الكثيرة التي طرأت عليه على مرّ الزمن قد تجسّد في سلسلة من التوصيات الأخلاقية، ولا علاقة له بالقضايا الاجتماعية خصوصاً السياسية منها.

والفرق بين الشخص المتديّن وغير المتديّن في هذه المجتمعات، هو أنّ الأول ملتزم بسلسلة من الاصول الأخلاقية، ويذهب في الاسبوع مرّة واحدة إلى الكنيسة ليتضرع ويناجي ربّه ساعة من الزمن، أمّا غير المتدين فلا يبالي بمثل هذه الأخلاقيات (وإن احترموها أحياناً باعتبارها من المثل الإنسانية لا الدينية)، ولا يذهبون إلى الكنيسة أبداً.

2- الذكرى المؤلمة جدّاً التي يحملونها معهم من حكومة أرباب الكنيسة في القرون الوسطى وعهد

«انكيزيسيون» (تفتيش العقائد)، سَببت في أن يفصلوا الدين عن السياسة وإلى الأبد.

توضيح ذلك: لقد هيمن رجال الكنيسة في القرون الوسطى على كافة الشؤون السياسية والاجتماعية لشعوب اوربا، وحَكم البابوات دول هذه القارة بكل قوة، بحيث انتهت حكومتهم إلى الاستبداد والطغيان، حتى أنّهم وقفوا أمام كل تقدم علمي، وسحقوا كل تطور

نفحات القرآن، ج 10، ص: 46

علمي وفكري باعتباره منافياً للدين، فأسسوا محاكم سميت فيما بعد ب «انكيزيسيون» «محاكم تفتيش العقائد»، وحكموا على أعداد كبيرة في هذه المحاكم بالموت، فقطعوا رؤوس بعضهم، وأحرقوا البعض الآخر بالنّار وهم أحياء، أو أنّهم حكموا عليهم بالسجن، ومن بينهم عدد من العلماء الطبيعيين المعروفين. وكلُّ الملوك كانوا يحسبون لرجال الدّين هؤلاء حساباً ويطيعون أوامرهم.

بالإضافة إلى الأموال الطائلة التي أخذوها وعاشوا في نعيم لا يوصف.

وقد أثارت كل هذه الامور الشعب ضدهم، خصوصاً علماء العلوم الطبيعية، حيث إنّهم وقفوا في وجوههم بقوة، وعمّ شعار «فصل الدين عن السياسة» من جهة، والتنافي بين العلم والدين، من جهة اخرى كلَّ مكان، ثم وبانتصار هذا الجناح، انسحبت الكنيسة ورجالها من المجتمع والحكومة، والدولة الوحيدة التي بقيت بيد رجال الكنيسة من تلك الامبراطورية الواسعة هي دولة الفاتيكان الصغيرة التي لا تتجاوز الكيلومتر المربع الواحد أي بمساحة قرية صغيرة «1».

كانت هذه كلها، تطورات قد حدثت في اوربا وخلال تلك الظروف الخاصة.

ثم إنّ فريقاً من الدول الإسلامية حينما ذهب إلى الغرب للدراسة أو التجارة أو السياحة جاء بمثل هذه الأفكار معه كهدية من الغرب للشرق الإسلامي وهي لزوم فصل الدين عن السياسة، دون الوقوف على البون الشاسع بين «الإسلام» وبين «المسيحية» المحرّفة، وبدون التأمل في التفاوت بين الثقافة الإسلامية الحاكمة على هذه الدول وثقافة الكنيسة.

ومع الأسف فقد رضخت بعض

الدول الإسلامية لهذه المؤامرة الاعلامية واعتبرتها أصلًا لا يمكن التنازل عنه (لا يخفى أنّ الدول الغربية التي كانت ولا تزال تخاف قوّة

______________________________

(1) ذكرت مساحة الفاتيكان في قاموس دهخدا وقاموس معين بأنّها 44 هكتاراً (أقل من نصف كم)، وبلغ عدد نفوسها حسب بعض المصادر 525 نفراً! وفي البعض الآخر 700 نفر، وفي البعض الآخر ألف نفر! وفي الحقيقة فإنّ هذه الدولة عبارة عن مجموعة من الكنائس والأبنية المتعلقة بها، وفيها محطة قطار، دائرة البريد، محطة الاذاعة، ولها قانون خاص بها وحكومة مستقلة، وهناك حوالي خمسين دولة لها ممثلين لدى البابا. والملفت للنظر أنّ هذا البلد يقع في قلب روما عاصمة ايطاليا (قاموس دهخدا، قاموس معين، والمنجد في الاعلام).

نفحات القرآن، ج 10، ص: 47

الحكومة الإسلامية، قد تابعت هذه القضية بجدية، وأن الدول المستغربة مثل تركيا، قد اتبعت هذا الأصل ووضعته على رأس قائمة أعمالها وقامت بتشكيل الحكومة العلمانية).

هذا في الوقت الذي وقفت الكثير من الدول الإسلامية وشعوبها اليقظة في وجه هذه المؤامرة، التي أرادت فصل «المسلمين» عن «الإسلام»، وجعل الإسلام كمسيحية اليوم مجرد طقوس ظاهرية خاصة بالخلق والخالق بعيدة عن المجتمع والسياسة.

ولهذا السبب، فحينما نجحت الثورة الإسلامية الايرانية وآتت اكلها وقامت بتشكيل أول حكومة إسلامية ثورية، أخذت الحيرة والدهشة كل من في الغرب من كيفية إمكان إمساك الدين بزمام الحكم؟ وهل بإمكان الدين تلبية كل متطلبات عصرنا؟ ولكن بعد أن فوجئوا بثبات وصلابة هذه الحكومة، ولغرض حصرها ضمن حدودها الجغرافية ولئلا تكون نموذجاً لبقية الدول الإسلامية، فقد توسّلوا بعمليات تخريبية كثيرة، بالإمكان الوقوف عليها في الكتب التي تتناول هذا الموضوع.

ولحسن الحظ بقيت هذه المؤامرات عقيمة، وتجذّرت نظرية تأسيس الحكومة الإسلامية في الكثير من الدول الإسلامية، في قارة آسيا

وأفريقيا وأصبح تياراً حياً ومنقذاً، مع ما يحاول الغرب بكل ما اوتي من قوّة، ولم يترك أي شي ء في هذا الطريق إلّاوتوسل به من كيل الاتهامات المغرضة الكاذبة والإعلام المغرض والمدسوس.

أمّا كيف أنّ الإسلام اقترن بمسألة الحكومة من حيث الاصول والفروع والتاريخ، فهذه المسألة ليست بتلك الصعوبة، وكل من يتأمل في القرآن الكريم وسنة النبي صلى الله عليه و آله والأئمّة المعصومين عليهم السلام وكذلك تاريخ الإسلام، يدرك هذه المسألة بكل وضوح، وهي استحالة فصل الحكومة والسياسة في الإسلام، ولأنّ ذلك بمنزلة فصل الإسلام عن نفسه!.

والشاهد على هذا الأمر وقبل كل شي ء هو تاريخ الإسلام، فكما تمّت الإشارة سابقاً فإنّ أول عمل قام به النبي الأكرم صلى الله عليه و آله بعد الهجرة إلى المدينة كان تشكيل الحكومة الإسلامية،

نفحات القرآن، ج 10، ص: 48

فقد كان صلى الله عليه و آله يدرك جيداً أنّ أهداف النبوة وبعثة الأنبياء وهي التربية والتعليم، وإقامة القسط والعدل وسعادة الإنسان ورفعته، غير ممكنة بدون تشكيل الحكومة، ولهذا السبب فقد بدأ في أول فرصة ممكنة بإرساء اسس الحكومة وذلك بأمر من اللَّه تعالى

فشكل جيشاً من المهاجرين والأنصار، وأوجب على الجميع في أي سن كانوا وتحت أي ظروف (باستثناء النساء والأطفال والمرضى والمقعدين) المشاركة فيه، وكان قسمٌ من تأمين السلاح والمؤونة والدواب لهذا الجيش المتواضع والبسيط على عاتق الشعب، والقسم الآخر على عاتق الحكومة الإسلامية، وكلما ازادادت الغزوات والمطاحنات مع الأعداء الشرسين واتّسعت رقعة الحروب أكثر، ازداد جيش الإسلام رسوخاً وتنظيماً.

ونزل حكم الزكاة، وتمّ ولأول مرّة تأسيس بيت المال الإسلامي لضمان تكاليف الجهاد، واحتياجات المحرومين.

ثم نزلت أحكام القضاء والعقوبات المترتبة على الجرائم والتخلفات الواحدة تلو الأخرى ودخلت الحكومة الإسلامية مراحل جديدة.

ولو

لم يكن للإسلام حكومة، فما هي ضرورة تشكيل الجيش وبيت المال وكيف يمكن معاقبة المجرمين والجناة إذا لم تكن هناك محاكم.

وقد امتد هذا الوضع على هذا المنوال إلى ما بعد النبي صلى الله عليه و آله في فترة الخلفاء، بل وحتى في عهد خلفاء بني امية وبني العباس، حيث إنّهم كانوا يحكمون باسم خلفاء رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، ومع أنّ حكومتهم كانت تتسم بالظلم والخروج عن اطار الشرعية والقوانين الإسلامية، لكن مهما يكن فهي تعكس هذه الحقيقة وهي أن تشكيل الحكومة الإسلامية يعدّ من المسائل الأولية والأساسية في الإسلام.

والضغوط الموجهة لأئمّة أهل البيت عليهم السلام، وثورة الإمام الحسين عليه السلام، وولاية عهد الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام، وحبس الإمام موسى بن جعفر عليه السلام، ونفي الإمام الهادي عليه السلام والإمام الحسن العسكري عليه السلام إلى سامراء ووضعهم تحت الرقابة خوفاً من الثورة على الحكومة، كلها تبيّن بوضوح أنّ الأئمّة من أهل البيت عليهم السلام كانوا يعتبرون تشكيل حكومة

نفحات القرآن، ج 10، ص: 49

العدل الإلهي من مسؤولياتهم الأكيدة، وقد استغلوا كل فرصة من أجل إثبات حقهم، كما أنّ عدوهم كان يدرك هذا الأمر جيداً.

ولو كان الإسلام كمسيحية اليوم محدوداً بسلسلة من الأحكام الأخلاقية، لما كان لهذه الظواهر في تاريخ الإسلام أي مفهوم، إذ لا أحد يعارض معلماً بسيطاً للأخلاق أو زاهداً منعزلًا في زاوية مكتفياً بإقامة صلاة الجماعة.

إنّما تبدأ المعارضة حينما يتعلق الأمر بالحكومة، هذا من جهة، ومن جهة اخرى فهنالك الكثير من الأحكام الإسلامية في القرآن المجيد والتي تصرخ عالياً بضرورة تشكيل الحكومة وإرساء اسسها، وبعبارة اخرى فهذه الأحكام أحكام سياسية، وهي الّتي ترسم الخط السياسي للمجتمع الإسلامي.

هناك آيات قرآنية

كثيرة حول الجهاد، وتكليف المجاهدين، وغنائم دار الحرب، والشهداء، والاسرى فهل يا ترى بالإمكان توجيه مثل هذه الأحكام خارج نطاق الحكومة؟

الكثير من الآيات القرآنية سلطت الأضواء على مسؤوليات القاضي، وأحكام القضاء، وتطبيق الحدود والقصاص وأمثالها، والكثير منها ناظر إلى أموال بيت المال.

وأمّا فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهي من واجبات كل فرد مادام في حدود التذكير والأوامر والنواهي الكلامية، لكن بعض مراحل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي تحتاج إلى الصلابة والقوة، بل وحتى المواجهة العسكرية المسلحة غير ممكنة إلّا عن طريق الحكومة.

وتطبيق العدالة الاجتماعية وإقامة القسط والعدل، وفتح الطريق للتبليغ بحرية في أقصى نقاط العالم، لا يكون بالنصيحة والموعظة والممارسات الأخلاقية أبداً، الحكومة هي التي ينبغي أن تنزل إلى الميدان لتفك قيد الظالم عن عنق المظلوم، وتعيد حقوق المستضعفين، وتوصل نداء التوحيد إلى اسماع كل سكان المعمورة عن طريق وسائل الإعلام المتوفرة في كل زمان.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 50

نفحات القرآن ج 10 99

وقد وردت نفس هذه المضامين وبشكل أوسع في أحاديث النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وروايات المعصومين عليهم السلام، والّتي تشكّل قسماً كبيراً من فقه الإسلام والكتب الفقهية، ولو أردنا فصل هذه المسائل عن الروايات والكتب الفقهية لما بقي هنا لك ما يعتد به.

وكما تقدم فالكتب الفقهية تقسم إلى ثلاثة أقسام، وهي «العبادات»، و «المعاملات»، و «السياسة».

فالعبادات هي علاقة الخلق بالخالق.

والمعاملات هي علاقة الناس بعضهم ببعض.

كما وأنّ السياسة هي علاقة الناس بالحكومة.

لكن لو دققنا النظر، لوجدنا أنّ قسم السياسة ليس الوحيد الذي لا يطبق بغياب الحكومة، بل إنّ المعاملات أيضاً لو لم تكن تحت اشراف الحكومة لحدثت الآلاف من المصاعب والعراقيل، ولضاعت حقوق المستضعفين، وانقسم المجتمع إلى قطبين

أغنياء وفقراء، ولعانى الشعب من مئات المشاكل المصطنعة.

بل وحتى العبادات لا تُقام إلّافي ظل حكومة قوية عادلة، ومن العبادات الحج وهو فريضة ذات صبغة سياسية قوية جدّاً.

وصلاة الجمعة عبادة مهمّة اخرى حيث إنّه وفضلًا عن الحضور الواسع لكل شرائح المجتمع فيها، فإنّ أهم القضايا الإسلامية والسياسية والاجتماعية والثقافية المعاصرة تطرح في خطبتيها.

كما أنّ صلاة الجماعة اليومية لا تخلو من هذا المحتوى أيضاً، وإن كانت صبغتها السياسية أقل درجة.

وفي سورة الحج إشارة لطيفة إلى هذه الامور، يقول تعالى «الَّذِينَ انْ مَكَّنَّاهُمْ فِى الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وآتُوا الزَّكاةَ وأَمَرُوا بِالمَعرُوفِ ونَهَوا عَنِ المُنكَرِ». (الحج/ 41)

وممّا تقدّم، لا يبقى هناك أدنى شك في أنّ فصل التعاليم الإسلامية عن المسائل السياسية أمر غير ممكن، وأنّ الشعارات التي تُطلق في الغرب لفصل الدين عن السياسة

نفحات القرآن، ج 10، ص: 51

فارغة من المحتوى تماماً في الشرق الإسلامي.

ونختتم هذا الكلام بحديث جامع ولطيف عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام:

حينما جاء «أبو الدرداء» و «أبو هريرة» برسالة معاوية إلى علي عليه السلام وكان قد طلب فيها تسليم قتلة عثمان إليه ليحاكمهم، قال الإمام علي عليه السلام: «لقد أبلغتماني ما قاله معاوية، والآن اسمعا كلامي وأبلغاه عنّي، إنّ عثمان بن عفان لا يعدو أن يكون أحد رجلين: إمّا إمام هدىً حرام الدّم وواجب النّصرة لا تحلّ معصيته ولا يسع الامّة خذلانه، أو إمام ضلالة حلال الدّم، لا تحلّ ولايته ولا نصرته، فلا يخلوا من احدى الخصلتين.

والواجب في حكم اللَّه وحكم الإسلام على المسلمين بعد ما يموت إمامهم أو يقتلُ، ضالّاً كان أو مهتدياً، ومظلوماً كان أو ظالماً، حلال الدّم أو حرام الدّم، أن لا يعملوا عملًا ولا يحدثوا حدثاً ولا يقدّموا يداً ولا

رجلًا ولا يبدأوا بشيٍ قبل أن يختاروا لأنفسهم إماماً عفيفاً عالماً ورعاً بالقضاء والسنّة، يجمع أمرهم ويحكم بينهم ويأخذ للمظلوم من الظّالم حقّه ويحفظ أطرافهم ويجبي فيئهم ويقيم حجتهم ويجبي صدقاتهم، ثم يحتكمون إليه في إمامهم المقتول ظلماً ليحكم بينهم بالحقّ، فإن كان إمامهم قتل مظلوماً حكم لأوليائه بدمه، وإن كان قتل ظالماً نظر كيف الحكم في ذلك» «1».

وعلى هذا الأساس وجب عليك يا معاوية وقبل التطرق لقضية قتل عثمان الرضوخ للحكومة الإسلامية وتبايع من بايعه كل الناس ولا تتأخر ولو لحظة بالتوسل بهذه الحجج والذرائع.

فريقان لا يروق لهما تشكيل الحكومة الإسلامية:

اشارة

مع كل ما تقدم- وطبقاً للأدلة اليقينية أنّ- «الإسلام بدون حكومة» إسلام ممسوخ وفارغ من المحتوى وفي الواقع «فهو إسلام بدون الإسلام»، فمع كل ذلك لا زال هناك فريق يصرّ ويخالف مسألة تشكيل الحكومة الإسلامية، وعلّة هذه المخالفة- في الواقع- أمران

______________________________

(1) كتاب سليم بن قيس، ص 182.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 52

أحدهما له صبغة نفسية، والآخر له صبغة روائية.

أمّا العامل النفسي فهو إنّهم يعيشون ذكرى مُرة مع الحكومات، واعتقادهم بعجز أي أحد في الظروف الراهنة من تشكيل الحكومة الإسلامية وبسط العدل الإلهي، نظراً للضغوط المستمرة الموجهة للحكومة من الداخل من قبل المتطرفين الذين يحاولون انتهاك حدود القوانين الإسلامية وضرب العدالة الاجتماعية، وتقديم الشعارات الفارغة على تعاليم الكتاب والسنة المعروفة.

ومن جهة اخرى فهناك الضغوط الواردة من الخارج، والمؤامرات التي تحاك من قبل الأجانب التي يقوم بها عملاؤهم من العناصر «السرية» و «العلنية» كل ذلك يحول دون نجاح الحكومة الإسلامية في مواصلة طريقها، ويتسبب في حرفها حتماً عن مسيرها الحقيقي لتضعها في خدمة أهدافهم، ولهذا السبب، يرون أنّ الحكومة الإسلامية الحقيقية غير قابلة للتطبيق عملياً.

وهم يستدلون على ادّعائهم هذا

بقضيّة الحكومة الدستورية في ايران حيث إنّ علماء الدين قد توغلوا فيها بكل ما اوتوا من قوّة، ليعكسوا للعالم تشكيلة الحكومة الإسلامية (أو ما يماثلها ولو من بعض الجهات)، لكن رغم كل تلك الجهود، فقد وقف مؤيدو الخط المنحرف من الداخل والأجانب وقفة رجل واحد وفي خاتمة المطاف استبدلوها بحكومة مستبدة ظالمة.

أمّا من الناحية الروائية فهم يتمسكون بالرّوايات القائلة: «كل راية ترفع قبل قيام القائم فهي راية ضلال»! وهذه الروايات تنقسم إلى عدّة أقسام:

الطّائفة الأولى

وفيها إشارة إلى أنّه ما لم يحن الوقت للثورة في وجه سلاطين الجور والحكومات الظالمة، فلا تحركوا ساكناً، مثل:

1- الرواية التي ينقلها «ابو المرهف» عن «الإمام الباقر» عليه السلام حيث يقول: «الغبرة على

نفحات القرآن، ج 10، ص: 53

من أثارها، هلك المحاصير، قلت جُعلت فداك: وما المحاصير؟ قال: المستعجلون ...» «1».

2- ونقرأ في حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام عن آبائه الكرام في وصية النبي صلى الله عليه و آله لعلي عليه السلام أنّه قال: «يا عَلي، إنَّ إزالَة الجِبالِ الرَّواسي أهوَنُ مِن إزالةِ مُلكٍ لَم تَنقَضِ أَيّامُهُ» «2».

3- وجاء في حديث عن «عيسى بن القاسم» أنّ الإمام الصادق عليه السلام قال: «اتّقوا اللَّهَ وانظروا لأنفُسكم، فإنّ أحقّ من نَظَر لها أنتم ... ثم أضاف عليه السلام قائلًا: إنْ أتاكُم مِنّا آتٍ لِيدعُوكُم إلى الرضا مِنّا فَنَحن نُشهدكُم إنا لا نرضى إنّه لا يُطيعُنا اليوم وهو وحده، فكيف يُطيعُنا إذا ارْتَفَعَتْ الراياتُ والاعلام؟» «3».

4- ونقرأ في نهج البلاغة عن امير المؤمنين عليه السلام: «الْزَموا الأَرضَ وَاصبِرُوا عَلَى البَلَاءِ وَلَا تُحَرِّكُوا بأَيدِيكُم وَسُيُوفِكُم فِى هَوَى أَلْسِنَتِكُم وَلَا تَسْتَعْجِلُوا بِما لَمْ يُعَجِّلْهُ اللَّه لَكُم، فَإنّهُ مَنْ مَاتَ مِنْكُم عَلَى فِرَاشِهِ وَهُوَ عَلَى

مَعرِفَةِ حَقِّ رَبِّهِ وحقِّ رَسُولِهِ وَأَهْلِ بَيتِهِ مَاتَ شَهيداً، وَوَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَاستَوجَبَ ثَوابَ مَا نَوَى مِنْ صَالِحِ عَمَلِهِ، وَقامَتِ النِّيَّةُ مَقَامَ إِصلَاتِهِ لِسَيفِهِ فَانَّ لِكُلِّ شَى ءٍ مُدَّةً وَأَجَلًا» «4».

ولا شك أنّ هذه الطائفة من الأخبار لا دلالة لها لا من قريب ولا من بعيد على النهي عن إقامة الحكومة الإسلامية قبل ظهور المهدي (عج)، بل الشي ء الوحيد الذي تتضمنه هو تحيُّن الفرص، وعدم البدء بهذه الامور قبل توفر الفرصة المناسبة، لأنّكم ستدفعون ثمناً غالياً وخسائر فادحة دون أية نتيجة تذكر.

بل ربّما يكون مفهوم هذا الكلام عكس ما يتوقعه هؤلاء، وهو أنّه متى ما تهيأت الظروف لتشكيل الحكومة الإسلامية، فعليكم بها.

وهذه الرويات- في الواقع- هي نفس ما جاء في الخطبة الخامسة من نهج البلاغة، حيث

______________________________

(1) وسائل الشيعة، ج 11، ص 36 (ذكر صاحب الوسائل هذه الروايات في الوسائل ج 11، كتاب الجهاد، الباب 13 من أبواب جهاد العدو).

(2) وسائل الشيعة، ج 11 ص 38.

(3) المصدر السابق.

(4) نهج البلاغة، الخطبة 190 (القسم الأخير منها).

نفحات القرآن، ج 10، ص: 54

يقول عليه السلام: «وَمُجتَني الثَمرَةَ لِغيرِ وَقتِ ايناعِها كالزارع بِغيِرِ أرضِهِ». (إذ لن يحصّل أيٌّ منهماعلى النّتيجة المتوقعة).

والطائفة الثانية:

هناك بعض الروايات تقول: يجب أن تكون أهداف الثورة هو توجيه الناس لطلب الرضامن آل محمد صلى الله عليه و آله، أي أنّ الدعوة للأئمّة المعصومين عليهم السلام وأهدافهم، وعدم جواز الثورة بدونهم.

ومن جملتها ما نقرأه عن الإمام الصادق عليه السلام حيث يقول: «إن أتاكم آت منّا فانظُروا عَلى أيّ شَي ء تخرجون؟ ولا تقولوا خرج زيد، فانَّ زيداً كان عالماً وكان صدوقاً ولم يَدْعُكُم إلى نَفسِهِ وَانّما دَعاكُم الى الرِّضا من آلِ مُحَمَّد، وَلَو ظَهَر لوفى بما دَعاكُم اليه، انّما خَرَجَ

إلى سُلطانٍ مُجتَمعٍ لِيَنْقُضَهُ، فالخارجُ مِنّا اليَومَ الى أىّ شَي ءٍ يَدْعُوكُم؟ الى الرّضا مِن آل محمّد؟

فنحن نُشْهَدُكُم انّا لَسْنا نَرضى بِهِ وَهُوَ يَعْصينا اليومَ وَلَيسَ مَعَه أَحَدٌ، وَهو إذا كانت الرّاياتُ وَالالويّةُ أجدَر أن لا يَسْمَعَ مِنّا ...» «1».

ومن البديهي أنّ هذا الحديث وأمثاله لا يدلّ أيضاً على النّهى عن تشكيل الحكومة الإسلامية، بل يقول: يجب أن يكون الهدف من تشكيل الحكومة هو إدخال السرور على الأئمّة عليهم السلام وكسب رضاهم، باعتبارهم الخلفاء الحقيقيين للنبي صلى الله عليه و آله، ولا يجب البدء بهذا العمل عشوائياً بدون موافقتهم!

وعلى هذا، فمتى ما توفرت الظروف المناسبة في عصر «الغيبة» لتشكيل الحكومة الإسلامية، وتيقنا بأنّ الإمام (عج) راضٍ عنها، وكان الهدف من تشكيلها هو احياء الإسلام والقرآن وارضاء آل محمد صلى الله عليه و آله، فلا مانع منها، بل يجب السعي إليها أيضاً، (تأمل جيداً).

والطائفة الثّالثة:

بعض الروايات، تقول: كلّ ثورة تقوم قبل قيام القائم عليه السلام فإنّ مصيرها الفشل، كالروايات أدناه:

1- نقرأ في حديث عن أبي بصير عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «كُلُّ رَايَةٍ تُرفعُ قَبلَ قيامِ القائمِ فَصاحِبُها طاغوتٌ يُعبدُ مِنْ دونِ اللَّهِ عَزَّوَجَل» «2».

______________________________

(1) وسائل الشيعة، ج 11، ص 36، ح 1.

(2) وسائل الشيعة، ج 11، ص 37، ح 6.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 55

2- ونقرأ في حديث آخر عن «الحسين بن خالد» أنّه قال: قلت لأبي الحسن الرضا عليه السلام:

إنّ عبد اللَّه بن بكير كان يروي حديثاً وأنا أحسب أنّه عرضه عليك، فقال: ما ذلك الحديث؟

قلت: قال ابن بكير: حدثني عبيد بن زرارة قال: كنت عند أبي عبداللَّه عليه السلام أيّام خروج محمد بن عبداللَّه بن الحسن «1» إذ دخل عليه رجل من أصحابنا

فقال له: جعلت فداك إنّ محمد بن عبداللَّه قد خرج فما تقول في الخروج معه؟ فقال: «اسكنوا ما سكنت السماء والأرض»، فقال عبد اللَّه بن بكير: فإن كان الأمر هكذا ولم يكن خروج ما سكنت السماء والأرض فما من قائم وما من خروج، فقال أبوالحسن عليه السلام «صدق أبوعبداللَّه عليه السلام وليس الأمر على ما تأوله ابن بكير، إنّما عنى أبوعبداللَّه عليه السلام اسكنوا ما سكنت السماء من النداء» (النداء الخاص الذي يأتي من السماء قبل قيام القائم عليه السلام)، والأرض من الخسف بالجيش (أي السفياني الّذي يحكم قبيل ظهور المهدي عليه السلام) «2».

ويستفاد من هذا الحديث أيضاً أنّه لا ينبغي الثّورة قبل قيام المهدي عليه السلام.

3- وفي حديث آخر عن سُدَيْر من أصحاب الإمام الصادق عليه السلام، أنّ الإمام عليه السلام قال له:

«الزَمْ بَيتكَ وَكُنْ حَلَسَاً مِن أحْلاسِهِ، وَاسْكُنْ ما سَكَنَ الليلُ والنَّهار، فاذا بَلغك أنْ السُفياني قَد خَرَجَ فارحَل إلينا وَلوَ عَلى رِجلِك» «3».

«السفياني»: أحد الجلادين والحكام الظالمين ويظهر قبل قيام المهدي عليه السلام، ويرسل الجيوش إلى مناطق مختلفة، من جملتها الجيش الذي يبعثه إلى المدينة المنوّرة فيصل إلى الصحراء القريبة من المدينة، فتحدّث زلزلة هناك وتنشق الأرض لتبتلعه وجيشه!.

وهناك روايات كثيرة اخرى بنفس هذا المضمون، وهو عدم جواز القيام ما لم تظهر علامات ظهور المهدي عليه السلام، كرواية «عمرو بن حنظلة» عن الإمام الصادق عليه السلام، ورواية المعلى بن خنيس عنه عليه السلام، ورواية جابر عن الإمام الباقر عليه السلام «4»، و ....

______________________________

(1) محمد بن عبدالله بن الحسن، حفيد الإمام الحسن المجتبى عليه السلام ثار أيام المنصور العباسي، وبايعه جمع غفير، استولى على مكة والمدينة واليمن، لكن المنصور أرسل إليه جيشاً

جراراً تغلب عليه ونال بدوره الشهادة، وهو معروف بالنفس الزكية، كانت شهادته في رمضان سنة 145 للهجرة (تتمة المنتهى، ص 135 فما بعدها).

(2) وسائل الشيعة، ص 36، ح 3.

(3) المصدر السابق، ص 36، ح 3.

(4) وسائل الشيعة، ج 11، ص 35 و 41.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 56

نقد وتحليل:

حول هذه الروايات نلفت نظركم إلى عدّة نقاط لابدّ منها:

1- توجد لدينا في الشريعة الإسلامية مجموعة اصول بديهية لا يجوز تخطيها، من جملتها «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» الذي لا سبيل للشك بوجوبه أبداً ومن حيث بداهته وكونه من الاصول المسلَّم بها، وما أكثر الآيات والروايات التي أكدت عليه.

لنفرض أننا نعيش في محيط قد ضاعت فيه الأحكام الإلهيّة، وعمّ التجاهر بالمنكرات، واودع المعروف في زاوية النسيان، وأحاط الظلم والفساد في كل مكان، وكان باستطاعتنا تغيير الوضع الفاسد بثورة قوية ضد النظام الحاكم ونشر المعروف بدل كل تلك المنكرات على نطاق واسع، فهل يدّعي أحد حُرمة هذا العمل في مثل هذه الظروف، وأنّه ينبغي التفرج على هذه الأوضاع الفاسدة التي تصادر فيها الأحكام الإلهيّة، ويخرج بواسطتها الشباب المسلم عن الدين؟!

قد يدّعي المتذرعون عدم حدوث مثل هذا الأمر، لنفترض أنّه يمكن حدوثه، إذ ليس هذا الفرض محالًا عقلياً، فهل يقولون ثانية بضرورة الامتناع عن كل تحرك والتسليم أمام الإنتشار السريع للفساد والظلم ومصادرة الأحكام الإسلامية؟!

لا أظن أنّ عالماً ومحققاً يتفوه بمثل هذا الكلام!

من الشواهد على هذا الكلام محمد بن عبداللَّه من أحفاد الإمام المجتبى عليه السلام المعروف ب «النفس الزكية»، حيث نقرأ عنه: «حينما بايعه عدد من الوجهاء باعتباره المهدي عليه السلام، وبلغ الإمام الصادق عليه السلام ذلك الخبر بل وحتى طلبوا منه عليه السلام أن يبايعه! قال عليه السلام:

دعوا هذا الأمر، فإنّه لم يحن الوقت بعد (وسيكون ظهور المهدي في المستقبل)، فلو أنّك (عبداللَّه أبو محمد) تعتبر ابنك هو المهدي الموعود، وأنّه ليس بالمهدي، ولم يحن وقت ذلك بعد، ولو أردت اجباره على الخروج في سبيل اللَّه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فواللَّه لن ندعه لوحده، وسنبايعه!».

نفحات القرآن، ج 10، ص: 57

فغضب عبداللَّه وأجاب بجواب غير مناسب «1».

خلاصة القول: هي أنّه لو فرضنا أنّ هذه الروايات تصرح بأنّ كل ثورة قبل قيام المهدي عليه السلام على ضلال، لكننا لا نتمكن أبداً لاجل خبر واحد أو عدّة أخبار هي في حكم خبر الواحد، من تجاهل الاصول المسلّمة للإسلام والتي جاءت في القرآن الكريم وأحاديث الأئمّة المعصومين عليهم السلام، وعلى هذا، فمتى ما توفرت مقدمات تشكيل الحكومة الإسلامية وأمكن محو الظلم والفساد والاعتداء و ... فلا ينبغي التشكيك في ضرورة القيام بذلك. إذ لا يمكن تناسي أدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتطبيق الحدود وإقامة القسط والعدل بحجة ورود النهي عن هذا العمل في عدّة أخبار مشكوكة!

2- لدينا في قبال هذه الروايات روايات اخرى عن أهل البيت عليهم السلام تحكي عن أنّ الأئمّة عليهم السلام قد أثنوا على بعض الثورات التي حدثت في زمانهم، مع أنّ هذه الثورات لم تبلغ غايتها، فكيف يعقل منع هذه الثورات مع ثنائهم عليهم السلام عليها؟!

ومن جملة ذلك ما جاء في الروايات حول قيام «زيد بن علي» باعتبارها ثورة مقدّسة:

يقول المرحوم الشهيد في القواعد في بحث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: «كان خروجه بإذن الإمام عليه السلام» ويقول الشيخ المفيد في الإرشاد: «كان زيد أفضل أبناء الإمام السجاد عليه السلام بعد الإمام الباقر عليه السلام، وكان عالماً عابداً تقياً سخياً شجاعاً،

قام بالسيف ليأمر بالمعروف وينهي عن المنكر ويأخذ بثأر شهداء كربلاء» «2».

يذكر المرحوم العلّامة المامقاني روايات كثيرة في فضل ومدح زيد بن علي، وقسماً من هذه الروايات وردت في ذمه، حيث يقوم بمناقشتها ولا يراها تستحق الذكر أمام روايات المدح تلك «3».

يقول المرحوم العلّامة المجلسي بعد ذكره لاختلاف الروايات حول «زيد» وثورته:

«الأخبار التي تدل على مكانته الرفيعة ومدحه والثناء عليه وأنّه لم يدع لغير الحق هي

______________________________

(1) إرشاد المفيد، ج 2، ص 185 (الباب 13 في حالات الإمام الصادق عليه السلام).

(2) تنقيح المقال (رجال المامقاني)، حالات زيد.

(3) المصدر السابق.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 58

الأكثر، وقد أقر جُل الأصحاب بعظمة مكانة زيد» «1».

فحينما تكون كل ثورة قبل المهدي عليه السلام ثورة ضلال وشرك، فكيف يمكن الثناء على ثورة زيد بن على عليه السلام، وتمجيدها؟!

والنموذج الآخر هو الروايات التي جاءت في مدح الحسين بن علي شهيد فخ.

وكان الحسين بن علي هذا من أحفاد الإمام الحسن المجتبى عليه السلام، ثار في أيّام الخليفة العباسي (موسى الهادى) سنة 169 ه، توجه من المدينة إلى مكة للحج في ذلك العام، وحينما وصل مع أنصاره أرض «فخ» قريباً من مكة، حدثت معركة ضارية بينه وبين أنصاره من جهة، وبين عمال وجنود الخليفة العباسي من جهة اخرى فاستشهد الحسين بن علي مع جماعة من أنصاره في هذه المعركة، وهو الذي عدّه دعبل الخزاعي في أبياته المعروفة «مدارس آيات» باعتباره شهيداً من شهداء أهل البيت عليه السلام، ولم يعترض الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام على قوله:

قُبورٌ بكوفان وأُخرى بِطيبةٍواخرى بِفَخِّ نالها صَلَواتي

ونقرأ في حديث عن الإمام التاسع، (الإمام الجواد عليه السلام): بينما كان النبى صلى الله عليه و آله يجتاز

أرض فخ إذ نزل وصلى وبينما هو في الركعة الثانية أخذته العبرة، فبكى بكاءً أبكى من معه، وحينما انتهت الصلاة، سألوه صلى الله عليه و آله عن سبب بكائه، فقال صلى الله عليه و آله: لقد جاءني جبرائيل وقال لي:

«أي محمد! إنّ رَجلًا مِن ولِدك يُقتل في هذا المكان، أجر الشهيد معه، أجر شهيدين» «2».

بل جاء في حديث عن الإمام الجواد عليه السلام أنّه قال: «لم يكن لنا بعد الطف مصرع أعظم من فخ» «3».

كما جاء في رواية عن الحسين بن علي (شهيد فخ) نفسه أنّه قال: «ما خرجنا حتى

______________________________

(1) بحار الأنوار، ج 4 ص 205.

(2) تنقيح المقال، ج 1 ص 337 (حالات الحسين بن علي شهيد فخ)؛ بحار الأنوار، ج 48، ص 17.

(3) المصدر السابق.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 59

شاورنا موسى بن جعفر فأمرنا بالخروج» «1».

يقول المرحوم العلّامة المامقاني في خاتمة ما يتعلق بشرح أحواله: «يتضح ممّا قلنا أنّه كان من الثقات، لأنّ الإمام موسى بن جعفر عليه السلام قد أمضى ذلك في أحد الأخبار، وجاء في الحديث: «أجر الشهيد معه، أجر شهيدين»، وقد بكى عليه النبي صلى الله عليه و آله في زمانه، وقال الإمام الصادق عليه السلام: «ستدخل روحه الجنّة قبل جسده».

ولمزيد من الاطلاع حول هذا الموضوع راجع كتاب تنقيح المقال الذي تقدم (ج 1 ص 337 وبحار الأنوار، ج 48، ص 160 فما بعدها).

مضافاً إلى ما تقدم، فقد جاء في الروايات أنّ أقواماً سيثورون قبل قيام المهدي عليه السلام، ويمهدون لظهوره عليه السلام، وقد ورد مدحهم في الأحاديث الشريفة، فلو كانت ثورتهم باطلة داعية إلى الطاغوت، لما كان لهذه الروايات مفهومٌ صحيحٌ.

ونكتفي هنا بروايتين عن طريقي الشيعة والسنّة، مع أنّ

الروايات أكثر من هذا بكثير.

نقرأ في حديث عن الإمام أبي الحسن الأول (الإمام الكاظم عليه السلام) أنّه قال: «رَجلٌ مِن قُم يدعو النّاسَ إلى الحقّ يجتمع معه قَومٌ كزبُرِ الحَديدِ لا تَزِلُّهُم الرياحُ العواصِفُ ولا يَملّونَ مِن الحَربِ وَلا يجَبنون وعلى اللَّهِ يتَوكِّلُون والعاقبة للمتقين» «2».

وقد تمّ التصريح في قسم من الروايات التي تشير إلى مثل هذه الثورات بأنّها ممهدة لظهور المهدي عليه السلام. وعلى أيّة حال، فهي حاكية عن أنّ ثورات مشروعة ستحدث قبل قيام المهدي عليه السلام، ثورات دامية داعية إلى الحق مع ضمان النصر.

ونقرأ في حديث في سنن ابن ماجة وهو من المصادر السنية المعروفة:

حضر جمع من شباب بني هاشم بين يدي الرسول صلى الله عليه و آله، وحينما وقع نظره المبارك عليهم أخذته العبرة وتغير لونه، فسئل عن ذلك، فقال صلى الله عليه و آله:

______________________________

(1) المصدر السابق.

(2) سفينة البحار، لفظة (قم).

نفحات القرآن، ج 10، ص: 60

«إنّا أهلُ بَيتٍ اختارَ اللَّهُ لَنا الآخرةَ عَلى الدّنيا، إنّ أَهل بيتي سَيَلقونَ بَعدِي بلاءً وتَشْريداً وَتَطْريداً حتى يأتي قَومٌ مِن قِبلِ المَشرقِ معهم رايات سود فَيسألون الخير فلا يعطونه فيقاتلون وينصرون فيُعطون ما سألوا فلا يَقبلونَهُ حتّى يَدفَعوها إلى رَجُل مِن أهلِ بِيتي فَيملأها قِسطاً كما ملأوها جَوْراً، فمن أدركَ ذلكَ مِنْكُم فليأتهم وَلَو حَبواً على الثَلْج» «1».

يستفاد من ذيل هذه الرواية بكل وضوح أنّ هذه الثورة ستحدث قبيل ثورة المهدي عليه السلام، وأنّها الممهدة له عليه السلام فضلًا عن مشروعيتها.

ويظهر بجلاء من كل ما قيل في هذا الفصل أنّ ثورات ستحدث قبل ظهور المهدي (عج) فيها صبغة إلهيّة، بعضها يؤتي أُكله وبعضها ينتهي بالفشل، وليس أن كل راية ترفع قبل المهدي (عج) راية ضلال وطاغوت

حتّى لو كانت بإذن أهل البيت عليه السلام وعلى خطاهم، (تأمل جيداً).

3- والحاصل أنّ الروايات التي تقول: «كل راية ترفع قبل قيام المهدي عليه السلام راية ضلال وصاحبها طاغوت ...»، يجب تفسيرها بشكل بحيث تتلاءم مع المسلّمات الفقهية وأحكام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر «محاربة الفساد»، وكذلك مع الثورات العديدة التي حدثت في زمان المعصومين عليهم السلام وأمضوها بدورهم عليهم السلام. ولدينا لتفسير هذه الروايات عدّة سبل:

1- المراد بها، تلك الثورات المنحرفة، الثورات التي تقع بدون إذن واجازة المعصومين عليهم السلام، أو الحكّام الشرعيين أو نواب الإمام المهدي (عج) في عصر الغيبة.

2- المراد منها، الثورات التي تحدث بقصد الدعوة لأنفسهم لا لأهداف آل محمد صلى الله عليه و آله، حيث تمّت الإشارة إلى ذلك في الروايات أكثر من مرّة.

3- المراد بها، الثورات التي تظهر في فترات معينة بدون استعداد لها، وأنّ الأئمّة عليه السلام إنّما تلفظوا بتلك الجمل ونهوا عن ذلك للحد من الثورات التي لم تنضج بعد.

______________________________

(1) سنن ابن ماجة، ج 2 ص 1366، ح 482.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 61

ونعود هنا ثانية إلى القرآن الكريم لنتأمل في النداء العام للقرآن بدعوة الامّة الإسلامية للثورة في وجه الظالمين والدفاع عن المظلومين وبسط القسط والعدل.

نقرأ في قوله تعالى: «وَمَا لَكُم لَاتُقَاتِلونَ فِى سَبيلِ اللَّهِ وَالمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِجَالِ وَالنّسَاءِ وَالوِلدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجنَا مِنْ هَذِهِ القَريَةِ الظَّالِمِ أهلُهَا وَاجْعَلْ لَّنَا مِنْ لَّدُنكَ وَلِيّاً واجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً». (النساء/ 75)

لا يخفى أنّ هذه الآية ونظائرها التي تتحدث حول إقامة القسط والعدل أو الدفاع عن المظلومين ومقارعة الظالمين لا تنحصر بزمان ومكان معينين، وأنّها من الاصول المهمّة للإسلام، وأنّه كلما توفرت الفرص والمقدّمات لهذا الهدف المقدس فلابدّ

من الإقدام على ذلك فوراً.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 63

أركان الحكومة الإسلامية

اشارة

1- السلطة التشريعية

2- السلطة التنفيذية

3- السلطة القضائية

4- التربية والتعليم

5- الدفاع (القوات المسلحة) نفحات القرآن، ج 10، ص: 65

أركان الحكومة الإسلامية

المقدّمة:

نحن نعلم أنّ أية حكومة بحاجة إلى ثلاثة أركان أساسية، ليس بمقدورها مواصلة السير والبقاء بدونها:

1- ركن التقنين (وضع القوانين).

2- ركن التنفيذ.

3- ركن القضاء.

فلابدّ أولًا من توفّر القوانين القادرة على معالجة مشاكل المجتمع ولتنظيم علاقات النّاس بعضهم بالبعض الآخر، والعمل على تحريك عجلات المجتمع على طريق الرقي والتكامل، سواءً كان مصدر سنّ القوانين الوحي الإلهي، تارة، وتارة، بأمر أحد الأفراد على من تسلط عليهم، وأحياناً بمجالس سنّ القوانين، الّذي سنتحدث عنه لاحقاً.

وحتى المجتمعات الّتي تُدار وفق القوانين الإلهية، والّتي تستمد قوانينها من مصدر الوحي، تحتاج هي الاخرى أيضاً إلى سلطةٍ مقننة كي تعمل على تطبيق القوانين الإلهيّة العامة لإدارة حياتهم اليومية، وتعمل أيضاً على تطبيق المسائل الجزئية واحتياجات كل زمان الّتي يعرض عليها التغيير والتبديل بمرور الزمان على المسائل الّتي هي محل ابتلاء، أو كما يصطلح على ذلك «ردّ الفروع إلى الأصول» أو بتعبير آخر، تقوم بعملية «التقنين الموضوعي». نفحات القرآن، ج 10، ص: 66

وبعد أن تُكتب نصوص القوانين وتجعل موضع التنفيذ والعمل، يجب أن يوكل أمر تنفيذها بيد مجموعة من الأفراد يقومون بتطبيقها على المجتمع، فلو كانت هذه القوانين بحاجة إلى مقررات تنفيذية، يقوم هؤلاء بتدوين هذه المقررات، وإن لم تكن هناك حاجة إلى ذلك، ينتقلون مباشرة إلى مرحلة التطبيق، وهذا ما يُعمل به في عالم اليوم والمسمى ب «السلطة التنفيذية» أو «الحكومة».

وللدول أيضاً رئيس يُعبّر عنه أحياناً برئيس الجمهورية، وأحياناً رئيس الوزراء، وأخرى بالصدر الأعظم، وهؤلاء أيضاً يقومون بدورهم بتعيين الوزراء والمديرين العامّين، والمديرين من الدرجة الأولى، ورؤساء الأقسام والشعب، إذ يقسّمون بينهم الواجبات

التنفيذية، ويطبّقون من خلالها برامجهم الحكومية.

وفي هذا الخضم يحتمل حدوث مشاكل واختلافات بين النّاس، أو بين دوائر الدّولة، أو بين الدولة والنّاس في المسائل الحقوقية المختلفة، والسلطة الّتي تأخذ على عاتقها تشخيص الظالم من المظلوم وصاحب الحق من المدّعي الفاقد له، تسمى ب «السلطة القضائية»، ولا شك في أنّ الحكم الصادر من قبل هذه السلطة، يحتاج بعد صدوره أيضاً إلى السلطة التنفيذية لغرض تنفيذه، والّتي يجب أن تنفذ هذه الأحكام بشكل دقيق.

وفي هذا المجال توجد أقسام أخرى في النّظام، قد نتصور أحياناً بأنّها تشكل أركاناً مستقلة بحد ذاتها، ومن الممكن أن ينظر لها على أنّها تمثل الركن الرابع والخامس و ...، كالشرطة والإستخبارات، وكذلك التربية والتعليم والمؤسسات الخبرية والقوات العسكرية وقوى الأمن الداخلي وما شاكل ذلك.

إلّا أنّه من الواضح أنّ هذه الأمور تُعد جزءً من السلطة التنفيذية وبمنزلة الأداة بيدها إذ تستخدمها لغرض تنفيذ القوانين بأفضل الطرق وأكثرها تأثيراً.

وتقوم الإستخبارات بكشف النقاب عن المؤامرات السريّة، وتضع المعلومات الوافية عن الحوادث الّتي تقع هنا وهناك بين يدي المسؤولين التنفيذيين، ليتسنى لهم أحباط تلك المؤامرات، والوقوف على ما يضر المجتمع وما ينفعه لاتخاذ الموقف المناسب، وفي الوقت

نفحات القرآن، ج 10، ص: 67

المناسب أزاءَها، وكذلك تقوم المراكز التعليمية والمؤسسات الخبرية بمساعدتهم للوصول إلى أهدافهم من خلال الطرق الثقافية، سيّما وأنّ أفضل الطرق لتطبيق القانون هو الطريق الثقافي، الّذي يدفع المجتمع إلى تطبيق القوانين بشكل ذاتي وآلي، ويصبح المجتمع بالتالي مصداقاً لقوله تعالى: «لِيَقومَ النَّاسُ بِالْقِسْط»، وكذا الحال بالنسبة للمراكز الّتي ذكرت آنفاً.

وبعد هذه الإشارة المختصرة نعود إلى القرآن المجيد ونبحث عن كلٍ من هذه الأركان الثلاثة في آيات القرآن الكريم.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 69

الركن الأول: السلطة التشريعية

تمهيد:

طبقاً للرؤية القرآنية وأحاديث المعصومين

عليهم السلام وعلماء الإسلام، فإنّ مسألة تشريع القوانين تختص باللَّه تعالى، والواقع أنّ مسألة التقنين (سنّ القوانين) تعد شأناً من شؤون التوحيد في الأفعال، فكما أنّ اللَّه تبارك وتعالى هو الحاكم المطلق على جميع عالم الوجود وعالم البشرية، فإنّه كذلك حاكمٌ على نظام التشريع أيضاً.

وهذه المسألة فضلًا عن كونها وردت بشكل صريح في الآيات المباركة والروايات الإسلامية، فهي مؤيدّة أيضاً بدليل العقل، لأنّ المقنّن الواقعي هو الّذي يجب أن يمتلك الصفات التالية:

1- يجب أن يكون مطلعاً على حقيقة الإنسان وملمّاً بجميع خصائصه من حيث الجسم والروح، بحيث يكون خبيراً كاملًا بالإنسان، وعارفاً بجميع أسراره، وعواطفه، وميوله، وغرائزه وشهواته، ومسائله الفطرية، ومطلعاً أيضاً على جميع القابليات والكفاءات الكامنة في الفرد والمجتمع، والكمالات المتيسرة له بالقوة، وبعبارة أخرى: يجب أن لا يخفى عليه أي شي ء في تركيبة الإنسان وكيانه.

2- يجب أن يكون عالماً بآثار وخواص جميع الأشياء في الوجود من حيث انسجامها وتناغمها مع وجود الإنسان أو عدم انسجامها، وبشكل أدق يجب أن يعلم فوائد ومفاسد جميع الأعمال الفردية والاجتماعية وآثارها ونتائجها.

3- أن يكون خبيراً بجميع الحوادث الّتي يمكن وقوعها في المستقبل البعيد أو القريب،

نفحات القرآن، ج 10، ص: 70

والتي تلعب دوراً مؤثراً بنحوٍ أو آخر في مصير الإنسان.

4- المقنن أو المشّرع الحقيقي هو الذي يكون مصوناً من كل خللٍ أو ذنبٍ أو خطأ، وأن يكون قوي الإرادة شجاعاً في الوقت الذي يكون فيه رؤوفاً رحيماً، وأن لا يداخله الخوف من أي قوةٍ في المجتمع.

5- يجب أن لا تكون له أية مصلحةٍ أو منفعةٍ في المجتمع البشري، لئلا يتّجه محور أفكاره أثناء سنِّة للقوانين- من حيث يعلم أو لا يعلم- نحو الجهة الّتي تحافظ على مصالحه الشخصية، ويضحي

بمصلحة المجتمع لحساب مصالحه الشخصية.

فهل تتوفر هذه الصفات في غير ذات اللَّه تعالى؟ وهل بإمكانكم العثور على من يقول: أنا عالمٌ بالإنسان وبجميع خصائصه؟ في حين أنّ أعاظم العلماء، يبدون عجزهم عن الإجابة عن هذا السؤال، بل إنّهم يقولون علناً إنّ الإنسان يُعدّ كائناً مجهولًا، حتى أنّهم اختاروا هذا العنوان لكتبهم ومؤلفاتهم؟

وهل هناك من هو خبيرٌ بالماضي والمستقبل والروابط الدقيقة فيما بينها وبين زماننا الحاضر؟

وهل هناك من يكون عارفاً بآثار وأسرار جميع الموجودات، ومصاناً من كل نوع من أنواع الإنحراف والذنب والخطأ؟

من المسلَّم أنّ هذه الصفات والخصائص لا تتحقق إلّافي اللَّه تعالى وأنبيائه الكرام.

ونخلص من هذه الإشارة القصيرة إلى نتيجة طيبة، وهي أن المشرّع الحقيقي هو اللَّه تعالى الذي خلق الإنسان وأطّلع على جميع أسرار خلقته، ويعلم أسرار جميع الموجودات، وخبيرٌ بحوادث المستقبل والماضي وعلاقتها بأحداث الحاضر على أحسن ما يرام.

ولا طريق لأي خطأ أو زلل إلى ذاته الطاهرة المقدّسة ولا يخشى أحداً، ولا حاجة له أو مصلحة شخصيّة لكي يشبعها عن طريق القوانين الموضوعة، بل إنّه تعالى يلاحظ منفعة الإنسان فقط في تشريعاته المقدّسة.

وفضلًا عن ذلك كله فإنّ الوجود بأسره ضمن دائرة حكومته وسلطته، ولا معنى لأن يقوم

نفحات القرآن، ج 10، ص: 71

غيره بإصدار أحكامه في هذه الدائرة، بل إنّ الخضوع لأحكام الآخرين والإعتراف بقانونٍ غير قانونه جلّ وعلا يعدّ نوعاً من الشرك والضَّلال.

وبهذه الإشارة نعود مرة أخرى إلى القرآن الكريم، ونستعرض الآيات الّتي نؤكّد على أنّ مسألة التشريع وسنّ القوانين مختصة باللَّه تعالى.

1- «مَالَهُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَلىٍّ وَلَا يُشرِكُ فى حُكمِهِ أَحَداً». (الكهف/ 26)

2- «وَمَا اختَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَى ءٍ فَحُكمُهُ إِلَى اللَّهِ». (الشورى/ 10)

3- «وَمَن لَّمْ يَحكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأولَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ». (المائدة/

44)

4- «وَمَن لَّم يَحكُم بِمَا أنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ». (المائدة/ 45)

5- «وَمَن لَّمْ يَحكُم بِمَا أنزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ». (المائدة/ 47)

6- «وَأَنِ احكُمْ بَينَهُم بِمَا أنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهوَاءَهُم وَاحذَرْهُمْ أَن يَفتِنُوكَ عَن بَعضِ ما أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ». (المائدة/ 49)

7- «افَحُكْمَ الجَاهِليَّةِ يَبْغُونَ ومَنْ أَحسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكماً لِّقُومٍ يُوقِنُونَ». (المائدة/ 50)

8- «إِنَّما كَانَ قَولَ المُؤمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحكُمَ بينَهُم أَن يَقولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعنَا وَأُولئِكَ هُمُ المُفلِحُونَ». (النور/ 51)

9- «وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِى مُسْتَقِيماً فاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتفَّرقَ بِكُم عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُم وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ». (الأنعام/ 153)

10- «اليَومَ أَكْملتُ لَكُم دِينَكُم وَأَتمَمتُ عَلَيكُم نِعمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسلَامَ دِيناً». (المائدة/ 3)

جمع الآيات وتفسيرها

في الآيات السبع الأولى من هذه الطائفة يدور الحديث على أنّ الحكم هو حكم اللَّه فقط وعلى الجميع إطاعة أحكامه تعالى.

صحيح أن «الحكم» يأتي بمعنى «المنع» «1» أساساً، ولكن بما أنّ الأمر والنّهي يصبح سبباً

______________________________

(1) يرجى الرجوع إلى كتاب مصابيح اللغة، ومصباح اللغة، ومفردات الراغب.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 72

لمنع وقوع المخالفات والأعمال الخاطئة، سُمّي ب «الحكم»، وسميت العلوم والمعارف لهذا السبب ب «الحكمة» إذ إنّها تمنع وقوع الأعمال الجاهلة وغير العقلائية.

والملاحظة الاخرى الجديرة بالإهتمام أيضاً، هي أن مصطلح «الحكم» في القرآن الكريم، يأتي أحياناً بمعنى التحكيم والفصل، وأخرى بمعنى الأمر والنّهي، وعندما يأتي بمعنى التحكيم، يُعدُّ أيضاً نوعاً من الأمر والنّهي الّذي يصدر عن القاضي.

ومع الأخذ بنظر الاعتبار ما تقدم ذكره، نعود مرّة اخرى إلى الآيات المباركة، إذ إنّ الآية الأولى، تصرح بأنّ الحاكمية والحكومة، والأمر والنّهي وكذلك الولاية، مختصة بأجمعها باللَّه تعالى إذ تقول: «مَالَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلىٍّ وَلَا يُشرِكُ فِى حُكمِهِ أَحَداً».

والواقع أنّ صدر الآية

وذيلها هما بمنزلة العلّة والمعلول، لأنّه عندما تختصّ الولاية باللَّه تعالى، فمن الطبيعي حينئذٍ أن يقتصر الحكم والقانون أيضاً به تعالى، ومن الواضح، أنّ «الحكم» يشمل هنا الأمر والنّهي وكذلك القضاء والحكومة أيضاً، لأنّ كل هذه الأمور تعدّ بمثابة فروع الولاية، وبما أنّ الولاية منحصرة به تعالى، إذن فالحكم من شأنه أيضاً، بل يعتقد البعض أنّ ولاية اللَّه تعالى تشتمل حاكميته التكوينية على عالم الخليقة أيضاً، لإنّ ولايته في عالمي التشريع والتكوين ثابتة، إذن فحاكميته تمتاز بالشمول والعمومية.

ويدور الحديث في الآية الثانية عن حكم اللَّه وقضائه: «وَمَا اخْتَلَفتُم فِيهِ مِن شَى ءٍ فحُكمُهُ إِلى اللَّه».

ويقول تعالى في نهاية الآية: «ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلتُ وإِليهِ انيبُ».

وبما أنّ كل شي ء (وخاصة الحكم والقضاء) بيده تعالى، إذن يجب أن يكون التوكّل عليه والإنابة إليه فقط.

وطالما أنّ التحكيم والقضاء غير منفصلين عن الحكم والقانون (بمعنى أنّ الكثير من موارد النزاع هي من قبيل الشبهة الحكمية، وليس الشبهة الموضوعية)، نصل إلى أنّ الحكم والأمور والقانون أيضاً بيده تعالى فقط.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 73

أمّا الآيات الثالثة والرابعة والخامسة، فقد تحدثت عن الذين لا يحكمون بما أنزل اللَّه تعالى، ولا يعيرون لذلك أهميّة تذكر، أو بعبارة أخرى، يحكمون بغير حكم اللَّه، فقيل عنهم في إحداها أنّهم «كافرون» وفي الآية الاخرى «ظالمون» وفي الثالثة أنّهم «فاسقون» وهو قوله تعالى: «وَمَن لَم يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكافِروُنَ ... فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُون ... فَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ».

فهم كافرون بسبب إعراضهم عن أحد فروع التوحيد الافعالي، أي التوحيد في حاكمية اللَّه حيث يؤكّد هذا الفرع من التوحيد أنّه: ليس لغيره سبحانه الحق في الحكم وإصدار الأوامر ولا في الحكومة، ولا في القضاء والتحكيم، لذا

من المسلَّم به أن من ينحرف عن هذه النظرية، فقد ابتُليَ بنوع من الشرك.

«وهم ظالمون»: بسبب ممارستهم الظلم بحق أنفسهم والآخرين، وتركهم جانباً الأحكام الّتي تمثل أساس سعادتهم وسبب رقي مجتمعهم، وأخذهم بأحكام قليلة الأهميّة أو فاقدة لها تماماً، والتي لا تأخذ بنظر الاعتبار سوى مصالح محدودة وقليلة.

«وهم فاسقون»: لكونهم تجاوزوا حدود العبودية وخرجوا عنها، لعلمنا بأنّ معنى الفسق هو الخروج عن الواجب والأمر.

هذه التعابير الثلاثة المختلفة (الكافرون والظالمون والفاسقون) في الآيات الثلاث الآنفة دقيقة جدّاً، ومن الممكن أن تكون إشارة إلى الأبعاد الثلاثة للقانون الإلهي، لأنّ «القانون» ينتهي في أحد جوانبه ب «المقنن» «اللَّه تعالى»، إذ تعتبر مخالفته «كفراً»، ومن ناحية أخرى ينتهي بعباد اللَّه تعالى، إذ تعد مخالفته «ظُلماً»، والثالثة، ينتهي بشخص الحاكم والقاضي من البشر، إذ يعد حكمه- «عندما يكون مخالفاً لحكم اللَّه»- «فسقاً».

والآية السادسة تأمر النّبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله بأن يحكم بينهم بما أنزل اللَّه ولا يتبع في ذلك أهواءهم ويحذرهم لئلا يفتنوه عن بعض الأحكام الّتي أنزلها اللَّه عليه، وهو قوله تعالى:

نفحات القرآن، ج 10، ص: 74

«وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ».

إن المقارنة بين «الحكم بما أنزل اللَّه» و «إتباع الهوى» يبين لنا أن الذي يعرض بوجهه عن حكم اللَّه تعالى، سيسقط في وادي الهوى المرعب، وقول الآية: «واحْذرهم أَنْ يَفْتِنُوكَ» تأكيد آخر ومكرر على اتباع أحكام اللَّه تعالى، والوقوف بوجه الوساوس وعدم الإعتراف بغيره، وممّا لا شك فيه أنّ النّبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله لم يكن ليفتتن بهم إطلاقاً بسبب تمتعه بمقام العصمة الرفيع، إلّاأن التعبير أعلاه يُعدّ درساً لسائر النّاس، لكي يحذروا مكائد

الأعداء وألاعيبهم من أجل حرف المؤمنين وإبعادهم عن الإمتثال للاحكام الإلهيّة ومع الأخذ بنظر الاعتبار سبب نزول هذه الآية والّذي ذكره المفسرون، فإنّ الآية الآنفة تتعلق بمسألة القضاء والفصل في الإختلافات والمنازعات، وكلمة «بينهم» أيضاً تعبّر عن هذا المعنى، ولكن من المسلّم به هو أنّ الفصل يجب أن يكون مستنداً إلى حكمٍ وقانون، ومفهوم هذه الآية يشير إلى أن مستند القضاء والفصل يجب أن يكون ما أنزل اللَّه فقط.

والآية الّتي تأتي بعد الآية السابقة مباشرة في القرآن الكريم، تقول: «أَفَحُكْمَ الجَاهِليَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَومٍ يُوقِنُونَ».

وهنا تصرح هذه الآية الكريمة بأنّ الأحكام غير الإلهيّة إنّما هي أحكام جاهلية، تلك الأحكام النّابعة من الجهل وعدم المعرفة، وأحياناً عن الهوى والوساوس الناجمة عن الجهل، ولو تأملنا في هذه الآية جيداً، لوجدنا أنّ هذا المعنى لا يختص فقط بعصر النّبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله ونهضته في العصر الجاهلي للعرب، بل إنّ كل حكم غير إلهي- وكما أشرنا إلى ذلك آنفاً- لا يمكن أن يكون منزّهاً من الجهل، لأنّ علم الإنسان محدود يقيناً، إذ إنّه لا يملك معرفةً كاملة بجميع خصائص وزوايا وجوده، ولا يملك اطلاعاً كاملًا على أسرار الموجودات والحوادث الماضية والحالية والمستقبلية، التي تلعب دوراً مؤثراً في نوعية

نفحات القرآن، ج 10، ص: 75

الأحكام سلباً وإيجاباً، مضافاً إلى أنّ لكل فرد في المجتمع ميولًا ومصالح معينة، ولا يمكنه أن يُبعد نفسه تماماً عن تلك المصالح أثناء سنّ القوانين، واللَّه تبارك وتعالى وحده العالم بكل شي ء والغني عن عباده.

يقول «البرسوئي» في تفسيره روح البيان، في تبيين معنى «الجاهلية»: «وهو كل ما لا يستند إلى الوحي والكتاب السماوي» «1».

ونقرأ في تفسير «في ظلال القرآن» «2».

ونقل في

تفسير «مجمع البيان» عن بعض المفسرين المتقدمين قولهم:

«إنّ هذا النوع من التمييز والإزدواجية المطبّقة أيضاً في عصرنا هذا، والقوانين الّتي تطبق على الضعفاء فقط سواء داخل الدول أو في العلاقات الدولية أيضاً، والتي غالباً ما يستثنى منها الأقوياء، دليل بارز على وجود المجتمعات الجاهلية!».

والملفت للنظر أن الكثير من الآيات الآنفة الذكر والتي صرّحت باختصاص حق التقنين والتشريع باللَّه تعالى موجودة في سورة المائدة، والمعلوم لدينا أن سورة المائدة وكما هو معروف هي آخر سورة، أو من أواخر السور التي نزلت على الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله، إذ إنّ الكثير من المسائل الإسلامية الهامة ومنها المسائل المتعلقة بالحكومة التي تعدّ من أركان الإسلام المهمّة وردت في هذه السورة، وتمّ التأكيد في آيات عدّة من هذه السورة المباركة، على أن «الحكم» و «الأمر» و «تشريع القوانين» مختصٌ باللَّه تعالى، وهذه التأكيدات المتكررة في هذه السورة ذات مغزى عميق.

وتتحدث الآية الثامنة عن الإيمان والتسليم المطلق أمام حكم اللَّه ورسوله صلى الله عليه و آله إذ تقول:

«إِنَّما كَانَ قَولَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولئِكَ هُمُ المُفلِحُونَ».

______________________________

(1) تفسير روح البيان، ج 2، ص 410.

(2) في ظلال القرآن، ج 2، ص 751.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 76

ويتضح لنا من سبب النزول الوارد في بعض التفاسير للآيات التي تأتي بعدها- وهو أنّ جماعة من المنافقين لما شعروا بضعف موقفهم جاءوا إلى الرسول صلى الله عليه و آله وأقسموا على تسليمهم لأوامر النّبي صلى الله عليه و آله- ومن الواضح أنّ الآية أعلاه تتحدث عن المجموعة المقابلة لهذه المجموعة، أي المؤمنين، وتقول: إنّ التسليم المطلق لابدّ أن يكون أمام قوانين اللَّه تعالى، ولا عبرة

بأي قانون غيره، وإنْ كان المراد بالآية مسألة القضاء والفصل بين المنازعات فكذلك أنّها تدلل على ما قصدناه، لإنّه وكما سبق وأن قلنا: إنّ مسألة التحكيم تقوم على أساس القانون أيضاً، وبناءً على ذلك فإنّ التسليم لقضاء اللَّه تعالى ورسوله صلى الله عليه و آله يعني التسليم، التسليم أمام القانون الإلهي، ولهذا نجد أنّ القضاة دائماً عندما يصدرون أحكامهم، يستندون في ذلك إلى مادة واحدة أو أكثر من المواد القانونية، يعني التسليم، فعلى المؤمنين الإستناد إلى مواد القانون الإلهي فقط.

وقد وردت الآية التاسعة بعد أوامر إلهيّة عشرة جاءت قبلها (بخصوص الشرك، والإحسان إلى الوالدين، والكف عن قتل الاولاد- وبشكل عام- إهراق الدماء البريئة، والأعمال القبيحة الاخرى) إذ يقول تعالى في نهاية هذه الطائفة من الأحكام: «وَأَنَّ هَذَا صِراطِى مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لَاتَتَبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُم وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ».

ومن هذا التعبير يتضح لنا جيداً أنّ «الصراط المستقيم» يعني حكم اللَّه تعالى وقانونه وأوامره، وكل ما هو دونه يعدّ من الطرق المعوجّة والمنحرفة والتي تبعد الناس عن صراط اللَّه المستقيم، ويستفاد من هذا التعبير أيضاً، أن اتباع الطرق الاخرى تؤدي إلى بث التفرقة والتشتت والاختلاف، والدليل على ذلك واضح أيضاً، لأنّ رأي النّاس وحتى العلماء الكبار في تشخيص منافع ومفاسد الأعمال يختلف اختلافاً كبيراً عن بعضهم البعض، ومتى ما احيلت مسألة تشريع القوانين إلى النّاس، فإنّ الاختلاف والتشتت سوف يحكمان

نفحات القرآن، ج 10، ص: 77

المجتمعات الإنسانية على الدوام.

ينقل «ابن مسعود» في حديثٍ عن النّبي الأكرم صلى الله عليه و آله، أنّ النّبي صلى الله عليه و آله خطَّ خطاً مستقيماً، ثم قال «1»: «هذا سبيل الرشد، ثم خط عن يمينه وعن شماله خطوطاً ثم

قال: هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه؟ ثم تلا هذه الآية «وأنّ هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه».

وفي الآية العاشرة والأخيرة، وبالرغم من عدم تصريحها بإختصاص سنّ القوانين باللَّه تعالى، إلّاأنّها تنطوي على تعبير معين يستفاد منه بشكل جيد عدم وجود أي مصدر للتشريع غير اللَّه تعالى، إذ تقول الآية المباركة: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً».

ونعلم أن «الدين» بمعناه الحقيقي يشمل جميع شؤون الحياة البشرية، وبالنظر إلى أنّ الإسلام هو خاتم الأديان السماوية، وسيبقى قائماً حتى قيام الساعة، فإنّ مفهوم هذه الآية يعني أنّ جميع ما يحتاجه الإنسان من حيث القوانين قد أخذه الإسلام بنظر الاعتبار حتى قيام الساعة، وبناءً على ذلك لا يبقى أيّ مجال لقوانين أخرى.

وتجدر الإشارة إلى أن بعض هذه القوانين خاصّة وجزئية، والبعض الآخر عامّة وكليّة، وواجب علماء الدين والمشرّعين الإسلاميين، القيام بتطبيق تلك الكليات على مصاديقها، واستنباط القوانين والضوابط اللازمة منها.

وقد تمّ التأكيد مراراً على هذا المعنى في الروايات الإسلامية أيضاً، وللإمام علي عليه السلام خطبة مؤثرة ومفصلة في ذمّ الذين يسمحون لأنفسهم بتشريع القوانين في المحيط الإسلامي معتبرين ذلك اجتهاداً، إذ يقول عليه السلام في جانب من هذه الخطبة: «أَمْ أَنْزَلَ اللَّهُ سُبحَانَهُ دِيناً

______________________________

(1) تفسير الكبير، ج 14، ص 3.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 78

نَاقِصاً فَاسْتَعَانَ بِهِم عَلَى إِتمَامِهِ، أَمْ كَانُوا شُرَكَاءَ لَهُ فَلَهُمْ أَنْ يَقُولُوا وَعَلَيهِ أَنْ يَرْضَى «1».

وهناك روايات متعددة تصرّح بأنّ كل ما تحتاجه الامّة الإسلامية إلى يوم القيامة مأخوذ بنظر الاعتبار في القوانين الإسلامية، حتى دية خدش بسيط في بدن الغير، على أنّه يجب أخذ هذه الأحكام من أهلها، وهذه تبيّن وبشكل واضح أنّ التشريع في الإسلام مختصّ

باللَّه تعالى، ولا مجال لتشريع الآخرين، وبناءً على ذلك فإنّ ما يحصل في المجالس التشريعية الإسلامية، هي عملية تطبيق القواعد العامة لقوانين الإسلام على مصاديقها ومواردها.

ونقرأ في حديث ورد عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: «إنّ اللَّهَ تَبارَكَ وَتَعالى لَمْ يَدَعْ شَيْئاً تحتاج إليه الامَّةُ إلّاأنْزَلَهُ في كِتابِهِ وبَيَّنَهُ لِرَسُولِهِ» «2».

ونقرأ في حديث آخر ورد عن الإمام الصّادق عليه السلام أنّه قال: «ما مِنْ شَي ء إِلّا وَفيهِ كتابٌ وَسُنَّة» «3».

وورد في روايات أخرى أنّ جميع الأحكام والقوانين اللازمة، شُرّعت للُامّة الإسلامية، ومنها ماورد في حديثٍ عن الإمام الصّادق عليه السلام أنّه قال: «ما تَرَكَ عَلِيّ شَيْئاً إلّاكَتَبهُ حتى أَرشِ الْخَدْشِ» «4». ولمزيد الإطّلاع على كثرة وسعه الأحاديث الواردة في هذا المجال يراجع المجلّد الأوّل الباب 4 من كتاب جامع أحاديث الشيعة.

______________________________

(1) نهج البلاغة، الخطبة 18.

(2) أصول الكافي، ج 1، ص 59، ح 2.

(3) المصدر السابق، ح 4.

(4) جامع أحاديث الشيعة، ج 1، باب 4 من أبواب المقدمات، ح 26.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 79

هل يمتلك الرسول صلى الله عليه و آله والمعصومون حق التشريع؟

إنّ مسألة الولاية على التشريع، أو بتعبير أبسط، حق التشريع بالنسبة للرسول صلى الله عليه و آله والأئمّة المعصومين عليهم السلام من المسائل المعقدة جدّاً، إذ تناولت الأحاديث الإسلامية هذه المسألة مراراً وتكراراً.

فهل يمتلك الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله الحق في أن يضع مايراه من المصلحة على شكل قانون للمسلمين حتى مع عدم نزول الوحي الإلهي بشأن تلك المسألة؟

لا شك في أنّ هذا الأمر ليس محالًا، بشرط أن يمنحه اللَّه تعالى مثل هذا الحق (أي حق التشريع)، ومفاد الكلام هنا هل وقع مثل هذا الأمر، وهل تشهد الأدلّة النقلية على ذلك أم لا؟

لدينا الكثير من الروايات (بعضها صحيحة السند

والبعض الآخر ضعيفة) إذ تقول: إنّ اللَّه تبارك وتعالى قد «فوض الأمر» إلى الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله والأوصياء من بعده (والمراد من مسألة «تفويض الأمر» هنا حق التشريع).

وقد جمع المرحوم الكليني الروايات المتعلقة بموضوع «التفويض» في الجزء الأول من أصول الكافي، وصنّفها في باب واحد، إذ ينقل في هذا الباب عشرة أحاديث في هذا المجال، ومن جملة هذه الأحاديث نقرأ في حديثٍ عن الإمام الباقر والإمام الصادق عليهما السلام حيث قالا: «إنّ اللَّه تَبَارَكَ وَتَعالى فَوَّضَ إلى نَبيّهِ أَمرَ خَلْقهِ لِيَنظُر كَيفَ طاعَتُهم، ثمَّ تَلى هذِهِ الآية: وما آتاكُمُ الرَّسولُ فَخُذُوهُ وَما نهاكُمْ عنه فانتهوا» «1».

______________________________

(1) أصول الكافي، ج 1، ص 267، ح 5.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 80

ونقرأ في حديث آخر عن الإمام الصّادق عليه السلام:

(إنّ اللَّهَ عَزَّوَجَلّ أدَّبَ نَبيَّه عَلى مَحَبتهِ فقال: وإنَّك لَعَلى خُلُقٍ عَظيمٍ، ثمَّ فَوّضَ إليه فقالَ عَزَّوَجَل: وَما آتاكُم الرَّسولُ فَخذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنهُ فانْتهوا، وَقَالَ عَزَّوَجَلْ: مَنْ يُطعِ الرُّسولَ فَقَدْ أطاعَ اللَّهَ ...» «1». فإذن، القرائن الموجودة في العبارات الواردة في هذا الحديث توضّح بشكل جلي ما المراد من التفويض.

وقد جاء في بعض هذه الروايات أنّه بعد هذا التفويض الإلهي، مارس الرسول صلى الله عليه و آله أمر التشريع وشرع بعض القوانين، منها: أن اللَّه تبارك وتعالى جعل الصلاة ركعتين وأضاف الرسول صلى الله عليه و آله ركعتين أخريين عليهما (في صلوات الظهر والعصر والعشاء)، وركعة واحدة في المغرب، وتشريع الرسول صلى الله عليه و آله هذا ملازم للفريضة الإلهيّة والعمل به واجب، كما أضاف صلى الله عليه و آله على ذلك (34 ركعة أخرى (أي ضعف الفرائض) بعنوان صلاة النوافل، وأوجب اللَّه تعالى صيام شهر رمضان

المبارك، وقال الرسول صلى الله عليه و آله باستحباب صيام شهر شعبان وثلاثة أيام من كل شهر ... «2».

ويلاحظ في أحاديث أخرى واردة في أمر تفويض التشريع إلى الرّسول صلى الله عليه و آله، نماذج أخرى من تشريعات الرسول صلى الله عليه و آله «3».

وفيما يتعلق بالمراد من «تفويض الأمر» هناك عدة احتمالات بخصوص هذه المسألة، منها:

1- تفويض أمر التشريع للرسول الأكرم صلى الله عليه و آله كلياً.

2- تشريع جزئي في الموارد المحدودة، وفيها أنّ الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله قام بتشريع بعض الأحكام قبل نزول الأحكام الإلهيّة أو بعدها، وأمضاها اللَّه تعالى.

3- تفويض أمر الحكومة والتدبير والسياسة وتربية النفوس والمحافظة على النظام.

4- تفويض أمر العطاء والمنع (فيعطي من بيت المال لمن يرى فيه الصلاح، ويمنع من لا

______________________________

(1) أصول الكافي، ج 1، ص 265، ح 1.

(2) المصدر السابق، ص 266، ح 4.

(3) للمزيد من التوضيح ودراسة جميع روايات التفويض عليكم بمراجعة كتاب أنوار الفقاهة، ج 1، ص 552.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 81

يرى فيه الصلاح).

5- التفويض في بيان حقائق أسرار الأحكام، أي يبيّن للناس كل ما يرى فيه المصلحة من الأسرار والأحكام، ولا يفصح عمّا لا يرى فيه المصلحة.

والمعنى الثاني هو المستفاد من مجموع الروايات الواردة في باب التفويض، وهو أنّ الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله قام بالتشريع في موارد محدودة بإذن اللَّه تعالى (ولعلها لم تتجاوز حدود العشرة موارد)، وأنّ اللَّه تعالى قد أمضى هذا الأمر، وبعبارة أخرى، أنّ اللَّه تعالى قد أعطاه هذه الصلاحية في قيامه بالتشريع في بعض الموارد، ومن ثم أمضاها اللَّه تعالى.

ويستفاد أيضاً من هذه الروايات وبشكل جيد، أنّ اللَّه تبارك وتعالى، قد أعطاه هذا المقام لعدّة

أسباب:

أولًا: لكي يبيّن عظمة مقامه ومنزلته وبأن تشريعاته من سنخ تشريعات اللَّه تعالى.

والثاني: لكي يمتحن الناس ويرى مدى تسليمهم لأوامر النّبيّ صلى الله عليه و آله.

والثالث: إنّ اللَّه تعالى قد أيّده بروح القدس، وأطلعه من خلال ذلك على أسرار الأحكام الإلهيّة.

ومن خلال ماذكرنا، تتضح لنا عدّة أمور:

1- يُستفاد من مجموع روايات التفويض، أنّ اللَّه تبارك وتعالى أعطى رسول الإسلام صلى الله عليه و آله الولاية على التشريع إجمالًا، لكي يمتحن طاعة الخلق من جهة، ولتعظيم المقام الرفيع للرسول صلى الله عليه و آله وبيان منزلته عند اللَّه تعالى من جهة أخرى.

2- إنّ هذا التفويض لا يتمتع بصفة الكلية والشمول، بل يتحقق في موارد محدودة ومعدودة، ولهذا السبب كان الرسول صلى الله عليه و آله ينتظر نزول الوحي في الأمور المهمّة الّتي كان المسلمون يسألونه عنها غالباً، وهذا دليل على عدم شمول التفويض، وإلّا لما دعت الضرورة إلى أن ينتظر الرسول صلى الله عليه و آله نزول الوحي، بل كان بمقدوره أن يشرّع أي قانون يراه، (فتأمل).

3- هذا المقام الرفيع أُعطيَ له صلى الله عليه و آله بإذن اللَّه تعالى، وإضافة لذلك فإنّ بعض القوانين الّتي شرعها الرسول صلى الله عليه و آله، أمضاها اللَّه سبحانه وأقرها، وبناءً على ذلك فلا دليل على تعدد الشارع

نفحات القرآن، ج 10، ص: 82

والمشرّع إطلاقاً، بل إنّ تشريع النّبي صلى الله عليه و آله يُعدّ أيضاً فرعاً من تشريع اللَّه تعالى.

4- هذا المقام الرفيع والسامي تحقق للنّبيّ صلى الله عليه و آله بعد النّبوّة وبعد أن صار مؤيّداً بروح القدس، وكان معصوماً، ولم يطرأ على فعله أي خطأ أو زلل، وبناءً على ذلك فالذين لا يتمتعون بهذه الشروط لن تتحقق لهم

مثل هذه المنزلة الرفيعة.

5- بالرغم من أنّ الأئمّة المعصومين عليهم السلام كانوا مؤيدين بروح القدس، ولم يصدر عنهم أي خطأ أو انحراف إطلاقاً، إلّاأنّهم لم يصدروا تشريعاً جديداً، لإنّه بعد إكمال الدين وإتمام النعمة الإلهية، فإنّ جميع الأحكام الّتي تحتاجها الأمة إلى يوم القيامة وطبقاً للروايات الكثيرة الّتي قد تصل إلى حد التواتر، قد تمَّ تشريعها ولم يبق مجال لأي تشريع جديد، وبناءً على ذلك فإنّ واجب الأئمّة المعصومين عليهم السلام إقتصر على توضيح وتبيين الأحكام الّتي وصلت إليهم عن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله سواء بدون واسطة أو بالواسطة.

سؤال:

هل من الممكن أن يُقال أنّه يُستفاد من بعض الروايات، أنّ أمير المومنين عليه السلام فرض الزكاة على الخيل فكان ذلك تشريعاً جديداً حيث وردت رواية بأنّ الإمامين الباقر والصّادق عليهما السلام قالا: «وَضَعَ أميرُ المؤمِنين عَلى الخَيل العِتاقِ الرّاعية في كُلِّ فَرسٍ في كلِّ عامٍ دِينارَيْن وَعَلى البَراذِين دِيناراً» «1».

وجاء أيضاً في رواية علي بن مهزيار أنّ الإمام الجواد عليه السلام عندما جاء إلى بغداد في عام 220 ه، فرض خُمساً آخر غير الخُمس الواجب المتعارف عليه في قسم عظيم من الأموال، ولمرّة واحدة فقط «2».

وكلا الحديثين معتبران من حيث السند، وبناءً على ذلك لابدّ من القول: إنّ الأئمّة المعصومين عليهم السلام كانوا يمتلكون حق التشريع أيضاً.

______________________________

(1) الخلاف، ج 2، ص 55.

(2) وسائل الشيعة، ج 6، أبواب ما يجب فيه الخمس، الباب 8، ح 5.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 83

الجواب:

إنّ الأحكام الكليّة في التشريع تختلف عن الأحكام التنفيذية للحاكم، فالأحكام الكليّة هي نفس القوانين الثابتة والمستمرة التي تبقى قائمة في كل عصر ومكان إلى يوم القيامة، إلّا أنّ الأحكام الصادرة عن الحاكم الشرعي هي الّتي

تصدر بسبب الأمور الضرورية وأمثالها وبشكل مؤقت (مثل حكم تحريم التنباكو الذي صدر في فترة محدّدة لغرض محاربة الاستعمار الاقتصادي الإنجليزي من قبل مرجع كبير ثم رفع بعد انتهاء الخطر).

ويستفاد من القرائن الواردة في رواية الإمام الجواد عليه السلام وبشكل واضح، أنّه عليه السلام لما جاء إلى بغداد كان الشيعة يعانون الفاقة والضنك، وقد أقرّ الإمام تعدد الخمس في تلك السنة لغرض حل هذه المشكلة بشكل خاص، والواقع أنّه عليه السلام طبّق أحكام العناوين الثانوية والضرورية على إحدى مصاديقها، بدون أن يمثل ذلك تشريعاً جديداً.

ويمكن أن يكون حكم الزكاة الوارد في رواية الإمام أمير المؤمنين عليه السلام من هذا النوع أيضاً، ولذا فإنّ هذا الحكم محدود بذلك الزمان فقط، ولم ينظر إليه الفقهاء كتشريع عام ولم يصدروا فتاواهم طبقاً لتلك الفتوى، (فتأمل).

6- ممّا ورد في البند الخامس يتضح لنا أنّ غير الأئمّة المعصومين عليهم السلام لا أحد يملك حق تشريع القوانين الكلية الإلهيّة بطريق أولى لأنّه باختتام النبوة وارتحال النّبيّ صلى الله عليه و آله وإكمال الدين وإتمام النعمة، لم يبق مجال لتشريع الآخرين من جهة، وأنّ جميع الأحكام الإلهيّة الكلية الّتي يحتاجها الإنسان إلى يوم القيامة تمّ تبيينها طبقاً للكثير من الآيات القرآنية والروايات الواردة بذلك الشأن، ومن جهة أخرى فإنّ غيرهم من الناس ليسوا معصومين وغير مؤيدين بروح القدس لكي يثبت لهم مثل هذا الحق، خاصة وقد اعتبرت الروايات السابقة هذا المعنى شرطاً للحاكمية على التشريع.

7- لابدّ من الإلتفات إلى أن البعض من روايات التفويض، لم تنظر إلى مسألة تشريع الأحكام، بل تناولت تسليمهم أمر الحكومة والولاية، أو تسليمهم بيت المال.

8- تعتقد طائفة من علماء السنة بتفويض تشريع الأحكام إلى الفقهاء في

ما لا نصّ فيه،

نفحات القرآن، ج 10، ص: 84

وتوضيح ذلك: يقسّم علماء السنّة المسائل إلى قسمين: مافيه نص (في القرآن والسنة) وما لا نصّ فيه.

وفيما يتعلق بالقسم الأول يعتقدون جميعاً بوجوب العمل بالأوامر والنصوص، وفي القسم الثاني يعتقد الكثير منهم بوجوب الذهاب إلى القياس أولًا، بمعنى قياس تلك المسألة التي لم يرد فيها نص مع المسائل التي ورد فيها حكم معين، والإفتاء بحكم شبيه بذلك الحكم لتلك المسألة، وبغير ذلك فإنّ علماء الدين مكلفون بدراسة مصلحة ومفسدة ذلك الأمر، ثم وضع حكم مناسب حسب ما هو أفضل وأقوى برأيهم، ويجب على أتباعهم القبول بذلك الحكم، والعمل به كحكم إلهي.

وهذا ما يصطلحون عليه أحياناً ب «الإجتهاد» (طبعاً الإجتهاد بمعناه الخاص، وليس الإجتهاد بمعنى استنباط الأحكام من الأدلة الشرعيّة)، وأحياناً يصطلحون عليه بكلمة «التصويب»، ويقولون إنّ ما يضعه الفقيه في هذه الموارد على شكل قانون يحظى بتصويب اللَّه تعالى! ولو وضع فقهاء مختلفون أحكاماً متعددة ومختلفة، فإنّها جميعاً تحظى بالقبول بعنوان حكم إلهي!

وبهذا الشكل فإنّهم يعطون للفقهاء حقّ في التشريع في الموارد التي لم يرد بشأنها نصّ أو دليل خاص.

إلّا أنّ فقهاء الشيعة السائرون على مذهب أهل البيت عليهم السلام يخالفون هذا الكلام جملةً وتفصيلًا، ويقولون: إنّ جميع الأحكام التي يحتاجها الإنسان إلى يوم القيامة وردت في الشريعة الإسلامية ولم يبق شي ء لم يُذكر له حكم لكي يقوم أحدٌ بتشريع قانونٍ ما، ولكن البعض من هذه الأحكام وردت بشكل صريح في القرآن الكريم أو السنة النبوية الشريفة، أو سنّة الأئمّة المعصومين عليهم السلام، والبعض منها ورد بشكل القواعد الكلية والأصول العامّة، أو بعبارة أخرى إنّ في «العمومات» و «الإطلاقات» أدلة أولية وثانوية، بحيث إنّ لكل موضوع من المواضيع،

هناك حكم ثابت له، سواء كان هذا الحكم حكماً واقعياً تارةً أو حكماً ظاهرياً تارةً أخرى.

وبناءً على ذلك لا وجود لشي ء بإسم الإجتهاد (بالمعنى الخاص) أو القياس أو ما لا نص

نفحات القرآن، ج 10، ص: 85

فيه فمسؤولية الفقهاء تقتصر على تطبيق الأحكام الكليّة على مصاديقها فقط.

ويتضح لنا ممّا تقدم ذكره أن «التشريع» في المجالس التشريعية لا يعني في عُرف مذهب أهل البيت عليهم السلام وضع أحكام جديدة بشأن المسائل التي يواجهها الإنسان، بل المراد به تطبيق الأصول على الفروع أو تشخيص الموضوعات المختلفة بمعنى التشريع الموضوعي.

وخلاصة القول: إنّ مجالس التشريع في مذهب الشيعة، ليست بمعنى وضع الأحكام الكليّة ازاء أحكام الإسلام، أو بدل ما لا نصّ فيه، والمسألة هي من قبيل تطبيق الأحكام، أو التشريع الموضوعي، ولهذا السبب وُضع «مجلس صيانة الدستور» إلى جانب المجلس التشريعي، لكي يُشرف عليه جمعٌ من الفقهاء ويتأكدوا من أنّ القوانين الموضوعة غير مخالفة لأحكام الإسلام.

وحتى مجلس «تشخيص المصلحة» الذي أُقرّ مؤخراً في الدستور، هو الآخر مسؤول عن تشخيص الموضوع أيضاً، وليس جعل القانون.

وبعبارة أوضح: إنّ أحد العناوين الثانوية هو عنوان الأهم والمهم، يعني متى ما تعارضت مسألتان شرعيتان مع بعضهما، كما هو الحال مثلًا في المحافظة على أموال الناس وعدم التصرّف بها إلّابإذن صاحبها مع مسألة الحاجة الملحّة لفتح شارع في المدينة أو طريق في الصحراء، فمن جهة تعتبر مسألة المحافظة على النظام في المجتمع الإسلامي واجبة، ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلّابشق الطرق الضروريّة، ومن جهة أخرى فإنّ المحافظة على أموال النّاس أمرٌ واجب، ففي هذه الحالات يجب تقديم الأهم على المهم، وأن تُمنح الإجازة بفتح هذه الطرق، مع دفع الأضرار والخسائر الناجمة عن ذلك إلى مالكي

تلك الأراضي.

وكذلك الحال فيما يتعلق بمسألة وضع الأسعار على المواد المختلفة، فالقانون الإسلامي أساساً، يقول بحرية الأسعار والتسعيرة، ولكن في الحالات التي تصبح فيها هذه الحرية سبباً لاستغلال الانتهازيين والجشعين الذين يجعلون المجتمع في وضع حرج بحيث تتوقف معها مسألة المحافظة على النظام الاقتصادي في المجتمع على تحديد

نفحات القرآن، ج 10، ص: 86

الأسعار، فممّا لا شك فيه أنّ مسألة المحافظة على النظام مرجحّة، ومن الممكن هنا القيام بإصدار قانون لتحديد الأسعار، وتكليف الحكومة الإسلامية بتنفيذه.

وعلى مجلس تشخيص المصلحة في هذه الموارد، اختيار الأهم من خلال دراسته الدقيقة للأمر، لكي تقوم الحكومة الإسلامية بتنفيذ القانون، بالضبط كما هو معروف أنّ المحافظة على النّفس واجبة وأكل اللحم الحرام ممنوع، ولكن في موارد خاصّة عندما ينحصر فيها حفظ النفس على الاستفادة من اللحم الحرام فقط، نسمح بذلك ونعتبره أمراً مجازاً، وذلك لأنّ أهميّة حفظ النسل أكبر وأهم من ذلك.

وبناءً على هذا المفهوم فإنّ (مجلس تشخيص المصلحة) يختلف كثيراً عن الإجتهاد والإستحسان والمصالح المرسلة الشائعة بين علماء السنّة، إذ يدور الأمر هنا بين تعارض وتضاد حكمين، فتصبح مسألة تشخيص المصلحة هي الأهم، في حين أنّ الذي يحصل هناك عبارة عن وضع حكم معين لموضوعٍ يعتقد بعدم وجود حكم معيّن له، (فتأمل).

ومن مجموع ما ذكرنا نستنتج أنّ المجلس التشريعي يعد أحد أركان الحكومة الإسلامية، ذلك أنّه في كل زمان ومكان وفي كل مرحلة معينة تبرز مجموعة من المتطلبات والمسائل المستحدثة التي تستوجب تحديد القانون الخاص بها بشكل دقيق، ولكن التشريع هنا يعني التخطيط وتطبيق الأصول على الفروع، واستخراج الفروع من القوانين الكلية وتشخيص المواضيع بشكل دقيق.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 87

مجلس الشورى وانتخاب النوّاب

اشارة

يجب علينا هنا أن نبحث أولًا مسألة أهميّة الشورى في الإسلام،

ومواردها، وصفات الذين ينبغي أن نستشيرهم.

أهميّة وضرورة المشورة:

تُعدّ مسألة المشاورة وخاصة في الأمور الاجتماعية وما يتعلق بمستقبل المجتمع من أهمّ المسائل التي عرضها الإسلام بدقّة وأهميّة خاصة، ولها مكانة متميزة في آيات القرآن الكريم والروايات الإسلامية وتاريخ أئمّة الإسلام العظام.

وقد جاء الأمر بالمشورة في عدّة آيات من القرآن الكريم.

ففي سورة آل عمران أمر اللَّه تعالى رسوله الكريم صلى الله عليه و آله، بأن يشاور المسلمين في الأمور المهمّة وهو قوله تعالى: «وَشَاوِرْهُمْ فِى الأَمْرِ». (آل عمران/ 109)

وفي سورة الشورى، وعند بيان الأوصاف المتميزة للمؤمنين حقاً يقول تعالى: «وَالَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِم وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ». (الشورى/ 38)

وكما تلاحظون في هذه الآية، أنّ مسألة الشورى هي بمستوى الإيمان باللَّه تعالى والصلاة، إذ يبيّن ذلك أهميّتها الاستثنائية.

ويُقال أحياناً إنّ السبب في صدور الأمر إلى الرسول صلى الله عليه و آله بمشاورة النّاس كان لغرض احترام المسلمين وإشراكهم في المسائل الاجتماعية فقط، ذلك أنّ الذي يعزم على الأمور في نهاية المطاف هو شخص الرسول صلى الله عليه و آله وليس الشورى، وهذا هو قوله تعالى في نهاية الآية الكريمة: «فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ». (آل عمران/ 159)

نفحات القرآن، ج 10، ص: 88

ولكن من المسلّم به أنّ المراد من الآية الكريمة لاسيما نهايتها ليس المقصود به أن يقوم الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله بمشاورة النّاس ومن ثم لا يأخذ بوجهات نظرهم وآرائهم، ويختار طريقاً آخر، فمثل هذا الأسلوب لا ينسجم، من جهة، مع الهدف الذي تقصده الآية (لأنّه سيصبح سبباً لعدم احترام الرأي العام، ويؤدّي بالتالي إلى انزعاج المسلمين وترتُّب نتائج عكسية)، ولا ينسجم من جهة أخرى مع تاريخ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أيضاً، لإنّه صلى الله عليه

و آله عندما كان يشاور النّاس في الحوادث والملمات المهمّة، فإنّه كان يحترم آراء النّاس، حتى أنّه كان يتجاهل أحياناً وجهة نظره الكريمة، بهدف تقوية ودعم مبدأ المشاورة بينهم.

وتجدر الإشارة إلى أنّ آية المشاورة ونظراً للآيات الورادة قبلها وبعدها، يُراد بها غزوة «احُد»، ونعلم أنّه في غزوة أحُد، لم يكن الرسول صلى الله عليه و آله موافقاً على الخروج بالجيش من المدينة، ولكن بما أنّ أكثرية آراء المسلمين استقرت على هذا الأمر، فقد وافق صلى الله عليه و آله على الخروج «1».

وعلى فرض أنّ هذه الآية تعطي هذه المزية للرسول صلى الله عليه و آله بأن تكون مشاورته للناس ذات جنبة تشريفية، إلّاأنّ الآية الواردة في «سورة الشورى» والتي توضح القانون العام للمسلمين بشكل واضح وجلي، تؤكد على أنّ الأمور المهمّة يجب أن تُنجز من خلال الشورى بين المسلمين، وأنّ الشورى تلعب دوراً مصيرياً.

ومن البديهي أنّ العمل بالشورى يكون في المسائل التي لم ينزل بها حكم خاص من قبل اللَّه تعالى، وعندما نقول: إنّ الشورى في مسألة خلافة الرسول صلى الله عليه و آله لا اعتبار لها، بسبب وجود أمر خاص من قبل اللَّه تعالى في هذا المجال، ومع تعيين الوصي وخليفة الرسول صلى الله عليه و آله عن طريق الوحي ومن خلال شخص رسول الإسلام صلى الله عليه و آله، لم يبق مجالٌ للشورى بعد ذلك.

وبعبارة أخرى، إنّ الشورى يُعمل بها دائماً في المواضيع، وليس في الأحكام التي صدر حكمها من قبل اللَّه تعالى.

وعلى أيّة حال فإنّ مسألة الشورى التي ذكرت في الإطار المبين أعلاه، تُعدّ ركناً ومبدأً

______________________________

(1) كتاب سيد المرسلين، ج 2، ص 142.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 89

أساسياً في الإسلام، إذ إنّ التعبير بكلمة

«أمر» إشارة إلى الأمور المهمّة، وخاصة المسائل التي يحتاجها المجتمع، ويحمل هذا المصطلح مفهوماً واسعاً لدرجةٍ يشمل معها جميع الأمور السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية المهمّة.

وقد صدر الأمر بالشورى في القرآن الكريم كذلك في الأمور المهمّة المتعلقة بنظام الأسرة (المجتمع المصغر، ومن ذلك فطام الطفل قبل بلوغ الحولين الكاملين إذ يشير إلى مبدأ الشورى، وهو قوله تعالى: «فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلَا جُناحَ عَلَيهِمَا». (البقرة/ 233)

وهذا دليل على الأهميّة البالغة للشورى في الأمور.

أهميّة الشورى في الأحاديث الإسلامية:

لقد ذكرت أهميّة استثنائية للشورى في الأحاديث الإسلامية، سواءً تلك التي نقلت عن شخص الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله، أو عن الأئمّة المعصومين عليهم السلام، لدرجةٍ اعتُبرت معها مسألة الشورى في الحديث النبوي الشريف إحدى أسباب إحياء المجتمع، وتركها يُشكل إحدى أسباب موت المجتمع إذ قال صلى الله عليه و آله:

«إذا كانَ امَراؤُكُمْ خِيارَكُمْ وَاغْنِياؤُكُمْ سُمَحاؤَكُمْ وَأمْرُكُمْ شُورى بَيْنَكُمْ فَظَهْرُ الأرْضِ خَيرٌ لَكُمْ مِنْ بَطْنِها، وَإذا كانَ امَراؤُكُمْ شِرارَكُمْ وَأغْنياؤُكُمْ بُخَلاؤُكُمْ وَلَمْ يَكُنْ أمْرُكُمْ شُورى بَيْنَكُمْ فَبَطْنُ الأرْضِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ ظَهْرِها» «1».

وبلغت أهميّة الشورى إلى درجة أن قال عنها الإمام علي عليه السلام:

«الإسْتِشارَةُ عَيْنُ الْهِدايَةِ، وَقَدْ خاطَرَ مَنْ اسْتَغنى بِرَأيِهِ» «2».

ونقرأ في حديث آخر عن الإمام علي عليه السلام أيضاً أنّه قال:

______________________________

(1) تحف العقول، باب الأحاديث القصيرة للنّبي صلى الله عليه و آله، ح 13.

(2) بحار الأنوار، ج 75، ص 42، ح 10.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 90

«لا يَسْتغنِي الْعاقِلُ عَنِ الْمُشاوَرَةِ» «1».

والسببُ في ذلك واضحٌ أيضاً، وجاء ذلك في تعبير جميل ورد في بعض الروايات عن الإمام علي عليه السلام في هذا المجال إذ قال:

«حَقّ عَلى العاقِلِ أنْ يُضيفَ إلى رَأيِهِ رَأيَ الْعُقَلاءِ وَيَضُمَّ إلى عِلْمِهِ عُلُومَ

الَحُكَماءِ» «2».

وجاءَ في حديث آخر أيضاً عن الإمام علي عليه السلام أنّه قال:

«من شاورَ ذوي العقول استضاءَ بأنوار العقولِ» «3».

وبناءً على ذلك، فالمشاورة هي السبب في إضافة عقول الآخرين وعلومهم وتجاربهم إلى عقل المرء وعلمه وتجربته، إذ إنّ الإنسان في هذه الحالة قليلًا ما يقع في الخطأ والانحراف. والاحاديث الواردة في هذا المجال كثيرة جدّاً، ونختتم هذا البحث المختصر بحديث آخر عن النّبي الأكرم صلى الله عليه و آله، وحديث عن الإمام علي عليه السلام.

قال النّبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله:

«لا مظاهرةَ أوثقُ من المشاورةِ» «4».

وقال الإمام علي عليه السلام:

«شاور ذوي العقولِ تأمنْ من الزَّللِ والنَّدم» «5».

وهناك ملاحظة أخرى جديرة بالإشارة إليها، إذ ليس من الضروري أن يكون مستوى الذين نشاورهم أرفع درجةً من المشاورين أنفسهم، والدليل على ذلك مشاورة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله لأصحابه، ولربما نجد أفراداً بسطاء يمتلكون من العقل والفطنة الفطرية ما يجعل مشاورتهم تحل الكثير من المعضلات، كما ورد ذلك في حديث عن الإمام علي بن موسى الرّضا عليه السلام، إنّه دار الحديث ذات مرّةٍ في مجلسه عليه السلام عن أبيه المعصوم عليه السلام فقال: «إنَّ اللَّه

______________________________

(1) غرر الحكم.

(2) المصدر السابق.

(3) المصدر السابق.

(4) بحار الأنوار، ج 75، ص 100.

(5) غرر الحكم.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 91

تبارك وتعالى ربَّما فتح على لسانِهِ» «1».

ونختتم الحديث حول أهميّة المشاورة بأبيات من الشعر الحسن لأحد الشعراء العرب إذ يقول:

أَقرِنْ برأيكَ رَأي غيركَ واسْتَشِرفالحقُّ لا يخفى على الإثنينِ

للمرءِ مِرآة تريهِ وجههُ ويرى قفاهُ بجمعِ مرآتيْنِ

أي أنّ المرآة الواحدة تريه جانباً منه، فإذا أراد أن يرى جوانب متعددة فعليه بمرآتين.

صفات المستشارين:

ممّا لا شك فيه أنّ الطرف الذي يشاوره الإنسان، وخاصة في الأمور المهمّة

والمسائل الاجتماعية الحساسة، لا يمكن أن يكون أي شخصٍ كان، بل يجب أن يمتلك صفات خاصة تجعله فرداً صالحاً للمشورة، ولهذا السبب نجد الروايات الإسلامية وصفت مجموعة من النّاس بأنّهم «أفراد جديرون بالمشاورة» ومجموعة أخرى بأنّهم «غير جديرين».

ويقول الإمام الصّادق عليه السلام في حديث مروي عنه:

«إن المشورة لا تكونُ إلّابحدودها الأربعةِ ... فأولها أن يكون الذي تشاوِرُهُ عاقلًا، والثاني أن يكونَ حُرّاً متديناً، والثالثُ أن يكونَ صديقاً مؤاخياً، والرابع أنْ تطلعه على سرِّك فيكون علمُهُ به كعلمك ...» «2».

ونطالع في حديث آخر عن الإمام علي عليه السلام أنّه قال:

«خيرُ ما شاورتَ ذووا النُّهى والعِلمِ واولوا التجاربِ والحزمِ» «3».

وورد في النقطة المقابلة لهذا المعنى، نهي شديد عن المشورة مع الأفراد «البخلاء» و «الجبناء» و «الحريصين» و «الحمقى»، إذ قال النّبي الأكرم صلى الله عليه و آله للإمام علي عليه السلام:

«يا علي لا تشاور جباناً فإنّه يضيّقُ عليك المخرجَ، ولا تشاور البخيل فإنّه يقصِّرُ بك عن

______________________________

(1) ميزان الحكمة، ج 5، ص 211.

(2) ميزان الحكمة، ج 5، ص 318.

(3) غرر الحكم.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 92

غايتك، ولا تشاور حريصاً فإنّه يزيّن لك شَرَهاً» «1».

كما ورد النّهي في الروايات أيضاً عن مشاورة الأفراد الحمقى والجهلاء والكذّابين.

ويُستفاد ممّا تقدم أنّ المستشارين- وخاصة في الأمور المهمّة- يجب أن يكونوا من الأذكياء، والعقلاء، والمحسنين، وذوي التجربة، والصادقين، والأمناء، والشجعان والأسخياء، وإن فقدان أو زوال كل واحدة من هذه الصفات يوجب وهن وتخلخل أركان واسس المشاورة.

وعلى سبيل المثال، عندما يكون المستشار فرداً أحمقاً وجاهلًا، فإنّه سيقلب الحقائق للإنسان، وبالشكل الذي ورد ذكره في الأحاديث، فإذا أراد أن يُحسن إليك فسوف ينقلب عليك شراً! ولو كان جباناً فإنّه سيحول دون الإقدام المناسب والحزم في

الأمور، فتذهب تلك الفرصة السانحة، ولو كان كذّاباً- وكما تعبّر الروايات عنه- يقرّب إليك البعيد، ويبعّد عنك القريب ويشبه في ذلك السراب الذي يخدع العطاشى في الصحراء، ولو كان بخيلًا يحول دون أعمال الخير ويخوّفك دائماً من الفقر وعسر الحال، ولو كان قليل التجارب أو عديمها، فإنّه سيؤدّي إلى العبث وإفشال البرامج والمناهج البنّاءة، ولو كان حريصاً فإنّه سيدعوك إلى ممارسة الظلم والعدوان لكي يطفي ء بذلك نار الحرص «2».

ومن خلال ما تقدم ذكره من الملاحظات يجب أن نتوخى الحذر الشديد في اختيار من نستشيرهم، وخاصة في المسائل الاجتماعية المهمّة التي تأخذ بنظر الاعتبار حقوق الآخرين، وأن تؤخذ المعايير الآنفة الذكر بنظر الاعتبار بشكل دقيق.

وهناك ملاحظة أخرى جديرة بالذكر أيضاً، إذ إنّ المشاورة في الإسلام تؤدّي إلى إيجاد الحق بمعنى أنّ الشخص المستشار إمّا أن لا يقبل المشاورة، أو يقبلها ولكن بشرط أن يراعي حق أداء الأمانة في ذلك، وأن يجعل بين يدي من استشاره ما يرى فيه الخير والصلاح، وبغير ذلك فإنّه يعد «خائناً»!، والخيانة في المشاورة تعدّ من كبائر الذنوب.

______________________________

(1) بحار الأنوار، ج 70، ص 34.

(2) إن جميع ما ذكر أعلاه تقريباً ورد في الروايات المختلفة.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 93

ونقرأ في حديث ورد عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله:

«إنّ استشاره أخوه المؤمن فلم يمحِّضه النصيحةَ سَلبَ اللَّهُ لُبَّهُ» «1».

وورد في حديث آخر عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: «خيانة المستسلمِ والمستشير من أفظع الأمور وأعظم الشرور وموجبُ عذابِ السعير!» «2».

إنّ الحديث عن المشاورة وفروعها وما يتعلق بها واسعٌ جدّاً، وما ذكرناه يعدّ غيضاً من فيض وعصارة من هذه الأبحاث التي تساعد على فتح الطريق أمام الأبحاث اللاحقة.

ونختتم بحثنا هذا بمقطع جميل آخر

من الشعر الذي يتناول صفات المستشارين:

لا تستشر غير ندبٍ حازمٍ فطنٍ قد استوى منهُ اسرار واعلان

فللتدابير فرسان إذا ركظوافيها أبرّوا كما للحربِ فرسانُ «3»

______________________________

(1) بحار الأنوار، ج 72، ص 104.

(2) غرر الحكم.

(3) حياة الحيوان، الدميري، ج 1، ص 173. نفحات القرآن، ج 10، ص: 95

كيفية انطباق مجالس الشورى مع موازين المشورة الإسلامية

اشارة

هناك سؤال مهم يطرح نفسه وهو: إنّنا موافقون على أنّ مسألة الشورى والمشاورة تعدّ من أهمّ القوانين الإسلامية الأساسية، ولكن الطريقة المتبعة حالياً في انتخاب مجموعة من الأفراد، الذين يجتمعون في مجلسٍ معين مثل «مجلس الشورى الإسلامي»، وتتمّ إدارة جلساته طبقاً لقانون خاص بهذا المجلس، ويتناولون فيه القضايا المختلفة بالبحث والدراسة والمشاورة، ومن ثم يصوّتون على تلك الأمور بأكثرية الآراء، وتصبح تلك القرارات لازمة التنفيذ، فما هو الدليل الشرعي على صحة هذا الأسلوب في الشورى؟!

وبعبارة أخرى: إنّ مثل هذه المراسيم والإجراءات المعمول بها في المجالس التشريعية الفعلية، لم ترد في أيّة آية أو رواية أو سند تأريخي، فكيف نثبت شرعيتها ولزوم الالتزام بلوازمها؟ في الوقت الذي يشكّل فيه مجلس الشورى في عصرنا هذا واحداً من الأركان الأساسية الثلاثة للحكومة الإسلامية، بلوائحه الداخلية وآدابه وتقاليده الخاصة به.

ويلاحظ هذا المعنى أيضاً في إقرار اللوائح في المستويات الأدنى، وعلى مستوى مجالس الوزراء والمسؤولين عن المسائل الاقتصادية والثقافية والسياسية والعسكرية.

وفي معرض الإجابة عن هذا السؤال المهم لابدّ أن نقول وباختصار: إنّ مجلس الشورى الحالي يمثل في الواقع نفس «الصورة المتبلورة للمشورة» والتي وردت في تعاليم الدين الإسلامي.

وتوضيح ذلك: إنّه من الأفضل في المسائل الاجتماعية المتعلقة بالبلاد، التشاور مع

نفحات القرآن، ج 10، ص: 96

جميع النّاس وفي جميع أنحاء البلاد، ولكن بما أنّ مثل هذا الأسلوب غير ممكن عملياً، وفضلًا عن أنّ جميع النّاس لايملكون الخبرة

اللازمة في جميع المسائل، فلذلك لا يوجد أيّ حلّ آخر لهذه المسائل سوى أن يُصار إلى انتخاب النواب من قبل النّاس لكي يتشاوروا فيما بينهم، وما يختاره هؤلاء النواب- حيث يمثل حضورهم في ذلك المجلس حضور جميع النّاس- ويصادقون عليه، يعدّ مصداقاً كاملًا وجامعاً للشورى الإسلامية الحقيقية.

وبما أنّ اتفاق جميع الآراء في أغلب المسائل لا يتحقق عادةً، فلا يوجد حلّ لذلك إلّا من خلال رأي الأكثرية كمعيار ومقياس لذلك، والذي غالباً ما يكون أقرب إلى الواقع.

والأكثرية هنا طبعاً هي الأكثرية المتشكلة من الأفراد المؤمنين والواعين، سيّما وأنّ افتراضنا مبنيّ على أنّ النّاس وبحكم تكليفهم الديني ينتخبون ممثليهم من الأفراد الذين يمتلكون الصفات اللازمة لهذا الأمر.

وبناءً على ذلك فإنّ ما يُقال إنّ القرآن الكريم يذم الأكثرية في كثير من الموارد، لا يشمل الموضوع الذي نتحدث عنه قطعاً، إذ إنّ الأكثرية المقصودة في قوله تعالى: «أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ». (المائدة/ 103)

وقوله تعالى «أَكْثَرُهُمْ لَايَعْلَمُونَ». (الأنعام/ 37)

وقوله تعالى: «أَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ». (التوبة/ 8)

وقوله تعالى: «أكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ». (المؤمنون/ 70)

وأمثالها ناظرة إلى الأكثرية في المجتمعات المنحرفة والضالّة لا الأكثرية المؤمنة والعالمة والملتزمة.

إنّ هذه الضمائر وبقرينة ما جاء قبلها، تعود جميعاً إلى المشركين والجهلاء والمتعصبين وغير الملتزمين، إذ لم يصرح القرآن أبداً بأن: «أكثر المؤمنين أو أكثر المتقين لا يعلمون ولا يفقهون»، ولهذا السبب فإنّنا نقرأ في علم الاصول في باب «التعادل والتراجيح» عندما يدور الحديث حول الروايات المتعارضة: إنّ الشهرة بين الفقهاء هي إحدى المرجّحات، والمشهور هو نفس الاستناد إلى قول أكثرية الفقهاء، وقد ورد في الحديث: «خُذْ بِما اشتَهَرَ

نفحات القرآن، ج 10، ص: 97

بَينَ أصْحابِكَ وَدَعِ الشّاذَّ النادِرَ، فإنّ المُجْمع عَلَيه لا رَيبَ فِيه» «1».

بل ويستفاد من تاريخ النبي الأكرم

صلى الله عليه و آله أنّه كان يحترم رأي الأكثرية من المسلمين في موارد المشاورة، بالرغم من كونه صلى الله عليه و آله يمثل العقل الكلي.

ويتضح ذلك في معركة أُحُد عندما شاور المسلمين بخصوص مسألة البقاء داخل المدينة أو الخروج منها وخوض الحرب خارجها، فلما رأى إجماع أكثرية المسلمين على تأييد النظرية الثانية، قبلها وعمل بها، حتى إنّه صلى الله عليه و آله لم يعتن برأيه الشخصي المؤيد للأقلية.

فأعطى بذلك أكبر درسٍ في تاريخ الإسلام بشأن مسألة الشورى «2». وكما هو معلوم لدينا أنّ نتيجة هذا الأمر لم تكن إيجابية تماماً، ولكن بالرغم من ذلك فإنّ فوائد احترام الشورى كانت أكثر بكثير من الخسائر الفادحة لمعركة أُحُد! (فتأمل).

وحصل ما يشبه هذا الأمر أيضاً في معركة «الخندق»، فقد جاء في (مغازي الواقدي) أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله كان يشاور أصحابه كثيراً في المسائل والامور العسكرية والحربية، ومن ذلك أنّه قال صلى الله عليه و آله لأصحابه قبل وقوع معركة الخندق: هل نغادر المدينة ونقاتل جيش المشركين، أم نبقى في المدينة ونحفر خندقاً حول المدينة، أم نكون على مقربةٍ من المدينة ونجعل الجبل خلفنا؟! وعندها اختلف أصحاب النبي الأكرم صلى الله عليه و آله حول هذه المسألة ...

فرأى جمعٌ من أصحابه أن يخرج النبي صلى الله عليه و آله خارج المدينة، ولكن سلمان قال: كنّا إذا داهمنا فرسان العدو وخشيناهم، نحفر الخندق حول المدينة، فهل تجيزنا يا رسول اللَّه أن نحفر خندقاً حول المدينة؟ فنالت وجهة نظر سلمان قبول (أكثر) المسلمين (ورجّحوا حفر الخندق وقبل الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله بهذا الرأي) «3».

ونكرر القول مرّة أخرى أنّه في عملية الشورى

عندما تتعرض مجموعة ما للقيام بمسألة الشورى وخاصة في المسائل الاجتماعية المهمّة- فقلّما يحصل الإجماع على رأي واحد، ولو أهملت الأكثرية ولم يؤخذ بها، لن ينجز أيّ عمل على الاطلاق.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، ج 8، ص 75، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، ح 1،

(2) سيرة ابن هشام، ج 3، ص 66.

(3) مغازي الواقدي، ج 1، ص 444 (مع التلخيص).

نفحات القرآن، ج 10، ص: 98

ومن اللازم أن نذكر الملاحظة التالية أيضاً، وهي أنّ مسألة الشورى والمشاورة، قبل أن يقرّها الدين الإسلامي كانت متداولة بين سائر العقلاء في العالم أيضاً، وقد أقرها الدين الإسلامي- مع إضافة بعض الشروط المهمّة إليها- حيث إنّ الأمر بين سائر العقلاء في العالم يستند إلى أنّ المعيار هو رأي الأكثرية، هذا فيما يتعلق برأي الأكثرية.

وأمّا اللوائح المعمول بها في المجالس التشريعية لُاسلوب إدارة تلك المجالس وكيفية أخذ الآراء، فهي موضوعة أيضاً على أساس تصويت ذلك المجلس وعن طريق تلك الشورى.

وبناءً على ذلك فإنّ مجالس التشريع الإسلامية، بجميع التشريفات المتّبعة في أمر الانتخابات، والمنتخبين، وإدارة الجلسات، وكيفية مناقشة المسائل، وتقسيمها إلى مسائل فوريةوغير فورية، وأمثال ذلك، فإنّها تمثل نفس «الشكل المنظّم لقاعدة الشورى التي ينظر إليها الإسلام باعتبارها إحدى الثوابت الأساسية، إذ يمكن مطابقة جميع تلك الممارسات مع هذه القاعدة.

ومن البديهي أنّه متى ما انحرف أحد المجالس عن نظرية الشورى الإسلامية من حيث مواصفات المشاورين أو الامور الاخرى ويُصار إلى انتخاب أفرادٍ غير واعين أو غير ملتزمين، أو يتحول المحيط الحر لابداء الرأي إلى جوّ من الضغوط، أو يتمّ اقرار شي ء ما خلافاً للقوانين الإسلامية والضوابط الدينية المسلّم بها، فإنّ هذا المجلس سوف لن يكون مجلساً اسلامياً للشورى ولن ندافع عنه

اطلاقاً.

المسؤولية الرئيسية لمجلس التشريع الإسلامي:

إنّ تعبير «السلطة المقننة» أو «المجلس التشريعي»- المقتبس من الأجانب- يؤدّي أحياناً إلى أن يتداعى إلى الذهن بأنّ المراد به قيام ممثّلي الشعب في هذا المجلس بوضع القوانين، أي قيامهم بتشريع الحلال والحرام، في حين أنّ الأمر ليس كذلك، إذ كما أشرنا إلى ذلك في بحوثنا السابقة أنّ العمل الرئيسي للممثلين في هكذا مجلس هو تطبيق الأحكام

نفحات القرآن، ج 10، ص: 99

الكلية على المصاديق، والفهم الموضوعي للُامور، أي ينبغي عليهم الجلوس والتشاور لتحديد المواضيع المعقدة التي يحتاجها المجتمع، بهدف تطبيق الأحكام الإسلامية عليها.

وعلى سبيل المثال، يعدّ الدفاع عن دولة الإسلام ضد الغزو الاجنبي وقتالهم أمراً واجباً، كما أن عقد الصلح معهم في ظروف خاصة يؤدّي إلى تعزيز وتقوية دعائم الإسلام وردّ كيدهم وشرّهم، إلّاأنّ تشخيص هذا المعنى وتحديده، وهو هل أنّ الحرب مثلًا في الظروف الحالية، تؤدّي إلى دفع شرّهم، أم الصلح؟ هذا الأمر بحاجة إلى الفهم والخبرة الموضوعية، ويعقد المجلس في هذه الحالة جلسة خاصة، ومن خلال دراسته للموضوع من كافة جوانبه، يختار مافيه الصلاح للُامّة.

وكذلك فيما يتعلق بكيفية إنفاق أموال بيت المال، وكيفية تنظيم الخزينة وتوزيعها بشكل عادل، لتصبح مصداقاً للعدل والمساواة، فإنّ المجلس يعقد اجتماعه الخاص لمناقشة هذا الموضوع، ويختار ما يراه المصداق الحقيقي للأصلح.

ومن الممكن طبعاً في بعض الاحيان أن يُخطِى ء المجلس في محاولته لتطبيق الأحكام الإسلامية على مصاديقها، لأنّ أغلب النواب عادةً ليسوا من الفقهاء والمجتهدين، ولهذا السبب بالذات ولغرض الحد من الوقوع في هذه الأخطاء، فقد تم تشكيل (مجلس صيانة الدستور) في نظام الجمهورية الإسلامية، ويضم نخبة من الفقهاء والحقوقيين، إذ يقوم هذا المجلس بالاطمئنان على إسلامية القوانين، والدراسة الموضوعية لها.

ومن خلال هذا الكلام يمكن الوصول إلى هذه

النتيجة، وهي وجود اختلافين رئيسيين بين المجالس التشريعية الإسلامية، والمجالس التشريعية للأنظمة العلمانية والغربية:

1- تقوم المجالس التشريعية غير الدينية بتشريع الأحكام فعلًا ويضعون الحلال والحرام والمجاز والممنوع، دون أن يستندوا في ذلك إلى حكم إلهي، ولكن في المجالس التشريعية الإسلامية، يتمثل العمل الرئيسي فيها بتطبيق الأحكام الإلهية الكليّة على مصاديقها أو الدراسة والدراية الموضوعية لها.

2- إنّ الهدف المطلوب في المجالس التشريعية الغربية والعلمانية هو السعي لتحقيق

نفحات القرآن، ج 10، ص: 100

نفحات القرآن ج 10 149

متطلبات الناس، سواء كانت هذه المتطلبات منحرفة وتؤدّي إلى انحطاط المجتمع، أو إيجابية وبنّاءة ومفيدة، ولهذا السبب فإننا نشاهد ونلاحظ أنّه يتمّ في هذه المجالس التصويت على قوانين مخزية وحمقاء من قبيل السماح بالاختلاط الجنسي، والاعتراف الرسمي بعقد الزواج بين الذكور، ونظائرها من القوانين المخزية!

بينما نجد أنّ الهدف الأساسي في المجالس التشريعية الإسلامية يتمثل بتحقيق إرادة اللَّه سبحانه وتعالى والاصول المعروفة في الدين الإسلامي، والاهتمام بتلبية المتطلبات السليمة للناس.

وحل المشاكلهم وتطوير المجتمع الإسلامي في جميع المجالات الإيجابية ضمن إطار التعاليم الإسلامية، مع رفض تلبية الحاجات والرغبات المنحرفة.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 101

الركن الثاني: السلطة التنفيذية

اشارة

القوانين بشكل مجرد، عبارة عن كلمات مدونة على الورق، ولا تظهر قيمتها الحقيقية إلّا بعد أن تصل إلى مرحلة التطبيق العملي، وهي بالضبط تشبه وصفة الطبيب، التي مهما كانت دقيقة وصحيحة في تشخيصها للداء والدواء، لن يكون لها أدنى تأثير يذكر على حالة المريض إلّابعد أن يُعمل بها، إذ إنّ تشخيص المرض، والقيام بجميع التحليلات وبدقة، والمعرفة الصحيحة بكمية ونوعية الأدوية كلها على حدة، والتطبيق العملي لها، على حدة، بل إنّ الركن الأساسي يتمثل بالجوانب العملية.

إنّ أي قانون مهما كان مثالياً وقيّماً، لن يكون له أدنى تأثير مالم

نتحرك نحو تطبيقه، ف «السلطة التنفيذية» هي التي تحفظ ماء وجه السلطة التشريعية.

وبالرغم من أنّ هذه المسألة تعدّ من الواضحات، إلّاأنّ القرآن الكريم لديه إشارات غنيّة المعنى بشأنها، ومن ذلك:

1- عندما بُلّغ النبي موسى عليه السلام بالرسالة في جانب الطور في الوادي الأيمن، وأخذ الأمر بالتصدي لفرعون وانقاذ بني اسرائيل والدعوة إلى التوحيد والحق والعدالة، طلب من اللَّه تعالى أن يعينه على تنفيذ ذلك وقال: «وَاجْعَلْ لِّى وَزِيْرَاً «1» مِنْ أَهْلى هَارُونَ اخى اشْدُدْ بِهِ ازْرِى* وَاشْرِكْهُ فى امْرِى». (طه/ 29- 31)

2- ونطالع في قصة «بني اسرائيل» و «طالوت»: عندما انتفض بنو اسرائيل من ظلم

______________________________

(1) يقول «الماوردي» في الأحكام السلطانية: من الممكن أن يكون وزير من مادة «وزر» اي مشتق من الثقل، ذلك انه يتحمل المسؤولية، أو من مادة وزر بمعنى الملجأ والملاذ (لانه ملجأ الناس)، «أومن» مادة «أزر» بمعنى السند (لأنّ السند الرئيسي هو اللَّه تعالى (الأحكام السلطانية، ص 24).

نفحات القرآن، ج 10، ص: 102

«جالوت»:، ذلك الرجل الذي أخرجهم من ديارهم وأسّر أبناءَهم، فخططوا لقتاله وخوض الحرب ضده، ولتطبيق هذه الخطة، لابدّ من قائد خبير وجدير، ومدبّر من جميع الجوانب، ومن أجل اختيار مثل هذا الرجل، قصدوا نبي زمانهم «اشموئيل» وقالوا له: «ابْعَث لَنا مَلِكَاً نُّقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ». (البقرة/ 246)

فأوحى إليه اللَّه تعالى بأن يختار طالوت، ذلك الشاب المؤمن الواعي والشجاع، وقال:

«إِنَّ اللَّهَ قَد بَعَثَ لَكُم طَالُوتَ مَلكِاً». (البقرة/ 247)

3- ونقرأ في قصة النبي يوسف عليه السلام كذلك: عندما تنّبأ بسنين عجاف من الناحية الاقتصادية لأهل مصر، ووضع لهم برنامجاً حكيماً لتجاوز هذه السنين الصعبة، اختار سلطان مصر النبي يوسف عليه السلام لتنفيذ ذلك البرنامج والاشراف عليه، وتمّ ذلك الاختيار باقتراح

من النبي يوسف عليه السلام، إذ يقول القرآن الكريم بهذا الشأن: «قَالَ اجْعَلْنِى عَلَى خَزَآئِنِ الأرْضِ إِنّىِ حَفْيِظٌ عَلِيمٌ». (يوسف/ 55)

وتمكن النبي يوسف عليه السلام بما يمتلكه من القدرة الجيدة والإدارة الرشيدة، أن يعبر ببلاد مصر من تلك السنين العجاف ويحافظ عليها.

4- ممّا لا شك فيه أنّ الأرض شهدت قيام حكومة النبي سليمان عليه السلام والتي تعدّ من أكبر الحكومات التي قامت على وجه البسيطة، ولغرض دفع عجلة تطور المجتمع البشري إلى الأمام، ونشر العدالة فيه، لجأ النبي سليمان عليه السلام إلى الاستفادة القصوى من جميع الوسائل والسبل الممكنة، وبدرجة عالية من الحنكة الإدارية والضبط العالي، وبعبارة أُخرى فقد سخّر اللَّه تعالى له كل الامكانيات اللازمة لتحقيق تلك الأهداف، وتمكن هو أيضاً ومن خلال الاستفادة من هذه الوسائل، أن يحقق اهدافاً هامّة وسامية.

ويشير القرآن الكريم في سورة النمل المباركة في شرح قصة حكومة داود وابنه سليمان عليهما السلام، إلى العلم الواسع والجم الذي يتمتعان به عليهما السلام إذ يقول تعالى

«وَلَقَدْ آتَيْنا دَاوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً ...» ثم يضيف قائلًا: «وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَ أُوتِيَنا مِنْ كُلِّ شَى ءٍ». (النمل/ 15- 16)

نفحات القرآن، ج 10، ص: 103

ويتحدث القرآن الكريم في سورة سبأ المباركة عن الأب وابنه عليهما السلام إذ يقول تعالى

«وَلَقَدْ آتَينَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا يا جِبَالُ أَوِّبِى مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَالَنَّا لَهُ الحَديدَ* أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فىِ السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنّىِ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير* وَلِسُلَيْمانَ الرِّيْحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَواحُهَا شَهْرٌ وَاسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِاذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ* يَعْمَلُون لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَّحارِيبَ وَتَماثِيلَ

وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِىَ الشَّكُورُ».

(سبأ/ 10- 13)

إنّ القوّة الإدارية التي كان يتمتع بها سليمان عليه السلام وشدة انضباطه في الأمور التنفيذية وإدارة البلاد، كانت إلى درجة أنّه عندما قضى فيها نحبه وهو متكي ء على عصاه (ولهذا السبب مات واقفاً)، كان عماله من الجِن يؤدّون واجباتهم بمنتهى الدقة، حتى أكلت دابة الأرض منسأته وسقط على الأرض، كما جاء ذلك في القرآن الكريم:

«فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيهِ المَوتَ مَادَلَّهُم عَلَى مَوتِهِ إِلَّا دابَّةُ الأَرْضِ تَأكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الجِنُّ أَنْ لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِى الْعَذَابِ الْمُهِينِ». (سبأ/ 14)

وكل هذه الامور تحكي عن مدى الإدارة المحكمة والقوية لسليمان عليه السلام وشدّة التزامه وانضباطه في العمل.

وكما يلاحظ في عالم الخلقة من أنّ المكلّفين من قبل اللَّه تعالى بتنظيم وإدارة العالم في مختلف المجالات والمشار إليهم في القرآن الكريم: «وَالْمُدَبِّراتِ أَمْرَاً». (النازعات/ 5)

ووردت الكثير من الإشارات الاخرى أيضاً بشأن أعمال الملائكة في هذا المجال، ففي عالم البشرية أيضاً لا يمكن اشاعة النظام وتنفيذ القوانين بدون جهازٍ تنفيذي قوي ومنظّم ومعتبر يتمّ فيه تقسيم الأعمال وتوزيع المسؤوليات.

ويتضح هذا الأمر بشكل جلي في كتاب الإمام علي عليه السلام لمالك الاشتر رضى الله عنه الذي يضم النموذج الكامل للنظام التنفيذي من حيث كيفية ادارة الدولة.

فبعد أن يشير الإمام علي عليه السلام في هذا الكتاب إلى مسألة المستشارين ينتقل للإشارة إلى

نفحات القرآن، ج 10، ص: 104

واجبات مالك الاشتر رضى الله عنه باعتباره حاكم بلاد مصر، إذ يأمره عليه السلام ويقول: «اختر وزراءك من الأفراد ذوي السيرة الحسنة والأذكياء».

ومن ثم ينتقل إلى ذكر الامور والجوانب الإدارية والتنفيذية المختلفة للدولة، فيشير في البداية إلى مسألة القوّة الدفاعية

والجيش الإسلامي المقتدر، ومن ثم يشير إلى الموظفين والعمال الحكوميين، وبعد ذلك يشير إلى القضاة، ثم ينتقل إلى التجّار والامور التجارية والصناعية والاقتصادية، وأخيراً يتناول المسائل المتعلقة بالمحتاجين، والمعوزين في المجتمع، ويتطرق إلى شرح وواجبات ومسؤولية كل منهم في هذا المجال من خلال شرح مستفيض ودقيق، ويذكر في ذلك أدق الامور وأظرفها.

إنّ هذا العهد الذي يعدّ في الواقع مستخلصاً من آيات القرآن الكريم والروايات النبوية الشريفة، تمّ تنظيمه بالشكل الذي لم تتمكن فيه القرون الأربعة عشر أن تغطيه بغبارها وتجعل منه عهداً تقادمت عليه السنون فعادَ قديماً فحسب، بل إنّ عظمته واشعاعه أصبح أكثر بهاءً بمرور الزمان عليه، حيث بعدُ نموذجاً بارزاً من التخطيط الإسلامي في مجال الاصول التي ينبغي أن تسيّر الإدارة الإسلامية، والنظام التنفيذي في الحكومة الإسلامية عليها.

النظام التنفيذي للحكومة الإسلامية في عصر النبي الأكرم صلى الله عليه و آله:

بالرغم من أنّ الحكومة الإسلامية على عهد النبي الأكرم صلى الله عليه و آله كانت بسيطة جدّاً في تكوينها، إلّاأنّ كل ما تحتاجه الحكومة القوية والمقتدرة، كان منظوراً في تركيبة تلك الحكومة، إذ كان مسجد الرسول صلى الله عليه و آله بما يعنيه من بساطة عجيبة، يمثل القاعدة الأساسية للحكومة ونظامها التنفيذي.

فهو من جانب يمثل الجامعة الإسلامية، ذلك لأنّه يمثل مهداً لتعلم الدين والقراءة والكتابة والتربية في الليل والنهار.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 105

ويمثل من جانب آخر مقر الجيش الإسلامي، ومركز القائد العام لهذا الجيش.

ومن جهة ثالثة يمثل محكمة القضاء أو كما يقال بيت العدالة.

ومن جهة رابعة يمثل مركز بيت المال وجمع الزكوات والغنائم الحربية، وبالرغم من صغر حجمه وبساطته التي كان عليها فإنّه كان يسع لاستيعاب جميع هذه الامور!

وقد اختار النبي الأكرم صلى الله عليه و آله لكل أمرٍ من هذه الأمور، مسؤولًا أو عدداً

من المسؤولين، واستمر هذا الأمر بعده صلى الله عليه و آله على هذا المنوال، وخاصةً في عصر الإمام علي عليه السلام، إذ اتخذ طابعاً جديداً وتنظيمات أوسع بموازاة توسّع رقعة الدولة الإسلامية وتطورها في العالم، إذ تمّ توضيح قواعده في عهده عليه السلام لمالك الاشتر رضى الله عنه.

وكل ذلك يدل على أنّه لابدّ من النظر إلى مسألة النظام التنفيذي بعد مسألة الشورى إذ بدون ذلك يفقد أي قانون قيمته واعتباره.

صفات وشروط المسؤولين التنفيذيين:

تناول القرآن الكريم وبشكل صريح في ثلاثٍ من آياته المباركة- وعلى نحو الإشارة في العديد من الآيات الاخرى صفات وخصائص العمال اللائقين في الحكومة.

نقرأ أولًا في قصة طالوت وبني اسرائيل: «عندما اعترض بنو اسرائيل على انتخاب طالوت من قبل نبيهم (اشموئيل) لقيادة الحكومة، وقالوا بعدم جدارته بسبب عدم امتلاكه المال والثروة (وعدم انتسابه إلى احدى الاسر المعروفة في بني اسرائيل)، خاطبهم نبيهم قائلًا: لقد أوتي اثنتين من الصفات: سعة العلم، وقدرة في الجسم، وبسبب هاتين الصفتين (العلم والقوة) اختاره اللَّه تعالى ، «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيكُم وَزَادَهُ بسَطَةً فِى العِلْمِ وَالجِسْمِ»

(البقرة/ 247)

وبناءً على ذلك فقد عدَّ القرآن الكريم صفتي العلم والقوة على أنّهما يمثلان الشرطين الأساسيين لرئيس الحكومة الإسلامية أولًا، ومن ثم يشمل ذلك جميع العاملين في تلك الحكومة أيضاً.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 106

ويشير القرآن الكريم في قصة يوسف عليه السلام إلى شرطين آخرين أيضاً فيما يتعلق بالمدراء والموظفين في المستويات العليا للحكومة كالعاملين على حفظ بيت المال (وزير المالية) إذ يقول تعالى «قَالَ اجْعَلْنِى عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ انّىِ حَفِيظٌ عَلِيمٌ». (يوسف/ 55)

وفي قصة موسى وشعيب عليهما السلام أيضاً أشارَ القرآن الكريم على لسان بنات شعيب إلى شرطين آخرين أيضاً بخصوص العمال اللائقين: «قالَتْ

إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأجَرْتَ الْقَوِىُّ الامِينُ». (القصص/ 26)

وبناءً على ذلك فإنّ القرآن الكريم يشترط العلم والوعي والعقل، والقوة والقدرة، والامانة والاستقامة في جميع المستويات، بدءاً برئيس الحكومة ومروراً بالوزراء وحتى العاملين الصغار- مع تفاوت المناصب.

وقد تمّت الإشارة أيضاً في العديد من الآيات المباركة في القرآن الكريم، إلى هذا المطلب، وذُكر فيها بعض الشروط التي ينبغي توفرها في العاملين في الحكومة، ومنها:

1- اجتناب التعاطي مع المسرفين: «وَلَا تُطِيعُوا امْرَ المُسْرِفِينَ». (الشعراء/ 151)

2- اجتناب التعاطي مع السفهاء: «وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ امْوالَكُمُ التَّى جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامَاً». (النساء/ 5)

3- اجتناب اتخاذ المضُلِّين: «وَمَاكُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً». (الكهف/ 51)

4- اجتناب المكذبين: «فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ». (القلم/ 8)

5- اجتناب الهمّازين والنمامين والمنّاعين للخير والمعتدين الآثمين والحاقدين والسيئين: «وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ* هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ* مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ* عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ». (القلم/ 10- 13)

6- عدم اتباع هوى النفس: «فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا». (النساء/ 135)

7- وأخيراً ضرورة اتباع المؤمنين والتعاون معهم وعدم الاستفادة من غير المسلمين في المناصب الحساسة والذي يؤدّي إلى تسلطهم على المسلمين: «وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرينَ عَلَى الْمُؤمِنِينَ سَبِيلًا». (النساء/ 141)

نفحات القرآن، ج 10، ص: 107

وتمثل هذه بعض الشروط والصفات التي من الضروري مراعاتها لدى القائمين على أعمال الحكومة الإسلامية.

شروط القائمين على الحكومة في الأحاديث الإسلامية:

اشارة

وردت في الاحاديث الإسلامية أيضاً شروط ثقيلة جدّاً وكثيرة للقائمين على الحكومة، والتي لا يمكن بدونها تحقيق إقامة الحكومة الإسلامية بشكل كامل مطلقاً.

1- العلم والوعي في أعلى مستوياتهما

نقرأ في حديثٍ عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله: «مَنْ أَمَّ قوماً وفيهم من هو أعلَمُ مِنه لم يَزَلْ أمُرهُم إلى السِّفال إلى يوم القيامة!» «1».

ونقرأ في حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام: «مَنْ دعى الناسَ إلى نفسه وفيهم من هو أعلم منه فهو مبدع ضالّ!» «2».

2- سعة الصدر وانفتاح الفكر والاستعداد لتحمل الحوادث المختلفة

نقرأ في أحدى الكلمات القصار المعروفة للإمام أمير المؤمنين عليه السلام:

«آلةُ الرياسة سعة الصدر» «3».

3- الوعي بمسائل الزمان

نقرأ في حديث عن الإمام الصادق عليه السلام:

«العالمُ بزمانِهِ لا تهجُمُ عليهِ اللوابسُ!» «4».

______________________________

(1) الوسائل، ج 5، ص 415 (الباب 26 من ابواب صلوة الجماعة).

(2) سفينة البحار، ج 2 مادة (العلم).

(3) نهج البلاغة، الكلمات القصار، الكلمة 176.

(4) اصول الكافي، ج 1، ص 37.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 108

4- مراعاة العدالة وعدم التفريق بين الناس

ونقرأ في حديثٍ أنّ الإمام أمير المؤمنين عليه السلام قال لعمر بن الخطاب:

«ثلاث إن حفظتهن وعملت بهنّ كفتك ما سواهنَّ، وإِن تركتهنَّ لم ينفعك شي ء سواهنَّ».

قال: «وما هُنَّ يا أبا الحسن»؟

قال: «إقامة الحدود على القريب والبعيد، والحكم بكتاب اللَّه في الرضا والسخط، والقِسْمُ بالعدلِ بين الأحمر والأسود».

«فقال عمر: لقد أوجزْتَ وأَبلغت»! «1».

5- الاهتمام بمكافأة المحسنين والعفو عن المذنبين الذين يؤمل بتوبتهم وعودتهم عن ذنوبهم

نقرأ في حديثٍ عن الإمام الصادق عليه السلام:

«ثلاثة تجبُ على السلطان للخاصة والعامة: مكافأةُ المحسن بالاحسانِ ليزدادوا رغبةً فيه، وتغمُّدُ ذنوب المسي ء ليتوبَ ويرجع عن غيّه، وتألفهم جميعاً بالاحسانِ والانصاف» «2».

6- النظر لمصالح الناس ومصالحه بعين المساواة!

ومن بين الأوامر التي أصدرها الإمام علي عليه السلام لمحمد بن أبي بكر عندما اختاره لولاية بلاد مصر مايلي:

«أحِبَّ لعامة رعتيك ما تحبّ لنفسك وأهل بيتك، واكره لهم ما تكره لنفسك وأهل بيتك، فإنّ ذلك أوجبُ للحجة وأصلح للرعية» «3».

7- الارتباط العاطفي مع الناس

لقد اعتبرت بعض الروايات الإسلامية السلطان العادل بمنزلة الوالد، وأوصت الناس أن

______________________________

(1) بحار الأنوار، ج 72، ص 349، ح 53.

(2) بحار الأنوار، ج 75، ص 233.

(3) بحار الأنوار، ج 72، ص 27.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 109

يحترموه احترام الأب، والمراد بهذا الحديث أنّه ينبغي للسلطان أيضاً أن ينظر للناس بعين الابوة ويعتبرهم بمنزلة ابنائه، وبناءً على ذلك لابدّ من إقامة روابط عاطفية قوية بينه وبين الناس كما هو الحال بين الأب وابنائه، ويقول الإمام موسى بن جعفر عليه السلام في حديثٍ ورد عنه:

«إنَّ السُّلْطانَ الْعادِلَ بِمَنْزِلَةِ الْوالِدِ الرَّحيمِ فَأحِبُّوا لَهُ ما تُحِبُّونَ لأنْفُسِكُمْ وَاكْرهُوا لَهُ ما تَكْرَهُونَ لأنْفُسِكُمْ» «1».

8- الابتعاد عن البخل، والجهل، والجفاء والظلم

يقول الإمام أمير المؤمنين عليّ عليه السلام في هذا المجال:

«وَقَدْ عَلِمْتُمْ أنَّهُ لا يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ الْوالي عَلَى الْفُرُوجِ وَالدِّماءِ وَالْمَغانِمِ وَالاحْكامِ وَامامَةِ الْمُسْلِمِينَ؛ الْبَخِيلُ، فَتَكُونَ فِي امْوالِهِمْ نَهْمَتُه، وَلا الْجاهِلُ فَيُضِلَّهُمْ بِجَهْلِهِ، وَلا الْجافي فَيَقْطَعهُمْ بِجِفائِهِ، وَلا الخائِفُ لِلدُّوَلِ، فَيَتَّخِذَ قَوْماً دُوْنَ قَوْمٍ، وَلا الْمُرتشِي فِي الْحُكْمِ فَيَذْهَبُ بِالْحُقوقِ وَيَقِفُ بِها دُوْنَ الْمَقاطِعِ، وَلا الْمُعَطِّلِ لِلْسُنَّةِ فَيُهْلِكَ الامَّةَ» «2».

9- عدم المصانعة والتعاطي مع أهل الباطل

يقول إمامنا ومولانا أمير المؤمنين عليه السلام في كلماته القصار في نهج البلاغة:

«لا يقيم أمر اللَّهِ سبحانَهُ إلّامن لا يصانعُ ولا يضارعُ ولا يتبَّع المطامع» «3».

10- النظر بعين الامانة لمقامه ومنصبه

وهذه الملاحظة أيضاً جديرة هي الاخرى بالاهتمام، وهي أنّ المناصب والمسؤوليات في الحكومة الإسلامية، تمّ اعتبارها في العديد من الروايات أمانة إلهيّة، دون اعتبارها

______________________________

(1) وسائل الشيعة، ج 18، ص 472، ح 1.

(2) نهج البلاغة، الخطبة 131.

(3) نهج البلاغة، الكلمات القصار، الكلمة 120.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 110

وسيلة للتعالي والاستفادة منها للاغراض الشخصية، حتى أنّه أُشير لهذا الأمر في بعض الآيات المباركة في القرآن الكريم، قبل الروايات الإسلامية، إذ نقرأ في قوله تعالى

«إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤْدُّوا الامَانَاتِ الى أَهْلِهَا وَاذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ». (النساء/ 58)

وقد ورد في نهاية هذه الآية في كتب التفسير والحديث روايات متعددة على أن المراد بالامانة، هو الولاية والحكومة، وعلى رأس ذلك ولاية الأئمّة المعصومين عليهم السلام، ومن ذلك ما نقرأه في إحدى الروايات الواردة في تفسير الآية الآنفة:

«يعني الإمامة، والإمامة الامانةُ»! «1»

وينقل في كتاب دعائم الإسلام أيضاً في حديثٍ عن الإمام عليّ عليه السلام أنّه كتب إلى «رفاعة» قاضي الأهواز مايلي:

«إعلم يا رفاعة، أنَّ هذه الامارة أمانة، فمن جعلها خيانةً فعليه لعنةُ اللَّه إلى يومِ القيامةِ، ومن استعملَ خائناً فإنّ محمداً صلى الله عليه و آله بري ءٌ منه في الدنيا والآخرة» «2».

وينقل في تفسير الدر المنثور عن الإمام عليّ عليه السلام أيضاً أنّه قال:

«حقّ على الإمام أن يحكمَ بما انزلَ اللَّهُ وأن يؤدّيَ الأمانةَ، فاذا فَعل ذلك فحق على الناس أن يسمعوا له وان يطيعوا وأن يجيبوا إذا دُعوا» «3».

ونطالع في نهج البلاغة أيضاً، أنّ أمير المؤمنين عليه السلام قال في

كتابه إلى والي آذربايجان:

«وإنّ عملك ليس لك بطعمةٍ ولكنه في عنقك امانة» «4».

ومن البديهي أنّ هذه الروايات لا تحجّم المفهوم الواسع للآية التي توصي بالمحافظة على جميع الامانات، بل وكما هو واضح لدينا فإنّها تمثل المصداق الواضح للامانة الإلهيّة.

وممّا لا شك فيه أيضاً أنّ الذي ينظر إلى هذه المناصب بعين الأمانة الإلهيّة، فإنّ اسلوبه

______________________________

(1) نُقل في تفسير البرهان سبع روايات على الأقل في هذا المجال، وتلاحظ في كتاب بحار الأنوار أيضاً في الجزء 23 و 67، و 102 (في الصفحات 380، و 280، و 253 على التوالي)، روايات متعددة بهذا الشأن.

(2) دعائم الإسلام، ج 2، ص 531.

(3) تفسير الدر المنثور، ج 3، ص 175.

(4) نهج البلاغة، الخطبة 5.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 111

في التعاطي مع هذا الأمر يختلف كثيراً عن ذلك الذي ينظر إليها على أنّها ملك مطلق له، وكذا الحال بشأن الأموال والثروات، فإنّ القرآن الكريم يعبّر عنها أيضاً بأنّها عبارة عن أمانة إلهيّة بين يدي الناس، موضحاً بأنّ المالك الأصلي لها هو اللَّه تبارك وتعالى وهو الذي أودعها بأيدي الناس أيّاماً معدودات، كما ورد في قوله تعالى «آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَانْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ». (الحديد/ 7)

ومن المسلَّم به أن صرف الأموال المودعة بعنوان أمانة لدى الإنسان في الموارد الخاصة التي يجيزها صاحب تلك الأموال لا توجد فيه أية صعوبة، في حين أنّ الإنسان لو كان هو المالك الأصلي لها، فإن صرف تلك الأموال ليس سهلًا عليه.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 113

هيكلية السلطة التنفيذية

اشارة

يتألف النظام التنفيذي عادةً من شبكة واسعة، يقف على رأسها رئيس الحكومة، ويليه الوزراء في المرتبة التالية، ويأتي في المرتبة الثالثة منهم المديرون العامون والمحافظون، ورؤساء الاقسام والنواحي التابعة، وكل

دولة سواء كانت كبيرة أم صغيرة، فإنّها بحاجة إلى هذه التقسيمات، سواء كانت بهذه المسميات أو بغيرها.

والواقع أنّ هذه الشبكة الواسعة تمتلك فلسفة واضحة، تستمد قوتها من مسألة ضرورة تقسيم الأعمال.

وتمثل هذه المسألة في عالم التشريع والانظمة البشرية، صورة واضحة عن تركيبة النظام التكويني، فعندما ننظر إلى بدن الإنسان من حيث تشكيلاته الداخلية والخارجية، نرى أنّ هذا «العالم الصغير» الذي انطوى فيه «العالم الكبير»، يمتلك نظاماً تنفيذياً غايةً في الانسجام، مع شبكةٍ واسعة لتقسيم الأعمال.

وعندما يقرر العقل أداء عملٍ ما، ويصدر الأمر النهائي بذلك، يبدأ كل جزء من أجزاء جسم الإنسان بأداء نشاطه الخاص به، ويواصل تنفيذ ذلك العمل إلى مراحله النهائية بانسجام كامل.

وكمثال بسيط على ذلك، عندما يشعر الإنسان بالخطر، كأن يُدرك بواسطة العين أو الاذن، وجود حيوان مفترس بالقرب منه (كأن يرى هيكله أو يسمع صوته)، ولا يملك سلاحاً يدافع به عن نفسه، وبالقرب منه ملجأ يمكن أن يلوذ به، فإن أمر الفرار نحو ذلك الملجأ سيصدر له من العقل، وسرعان ما تبدأ شبكات الاعصاب والعضلات بالعمل، وتزداد

نفحات القرآن، ج 10، ص: 114

ضربات القلب بشدّة عالية لإيصال المزيد من الدم إلى العضلات، وتزداد سرعة عمل الرئتين لتنقية الدم وتصفيته، وايصال المزيد من الاوكسجين اللازم لحركة العضلات، وتزول جميع آثار التعب والكسل والنوم من الإنسان بشكل مؤقت، ويراقب أوضاعه وحركاته بمنتهى الذكاء واليقظة، وبعبارة اخرى يطير الكرى عن مقلتيه.

وينسى الإنسان فجأةً وبشكل لا إرادي جميع الامور التي من الممكن أن تشغل فكره وتعيقه عن أداء هذا العمل من قبيل الجوع، والعطش، والألم!

ويستنفر الجسم جميع طاقاته الكامنة فيه، ويصبح مستعداً لأداء أصعب الاعمال وأكثرها مشقة، ويبدي أحياناً عشرة أضعاف ممّا يبديه من الطاقة في الحالات

الاعتيادية، وجميع هذه الامور تتم بشكل تلقائي واتوماتيكي تماماً وبمستوى عالٍ من الدقة والظرافة، بحيث أن مجرّد مطالعة هذا الموضوع لوحده يكفي للوقوف على علم اللَّه تعالى وعجيب قدرته، والاطلاع على حقيقة التوحيد.

وكلّ مجتمع بشري ينطبق عليه نفس الحكم الذي ينطبق على الجسم، ولهذا السبب لا بد من تقسيم الأعمال فيه بشكل دقيق، ومواصلة تأمين متطلباته الثقافية، والاقتصادية، والعسكرية، والمادية والمعنوية، من خلال التخطيط الدقيق لذلك، وبالرغم من الاختلاف الموجود بين كل منها، فإنّ التناغم والتنسيق وإكمال كل منها للآخر يعدّ أمراً في غاية الضرورة.

ولهذا السبب أيضاً فإنّ جميع المجتمعات البشرية- سواء المتدينة أو البعيدة عن الدين، شرقيّها أو غربيّها، قديمها أو جديدها- رضخت لهذه القاعدة في حياتها الاجتماعية، بالرغم من التفاوت الموجود فيما بينها في كيفية تقسيم الاعمال والمناصب والمسؤوليات، إذ إنّ البعض منها بدائي جدّاً في ذلك والبعض الآخر تعمل بشكل دقيق للغاية.

النظام التنفيذي في عالم الوجود:

بالرغم من اللَّه تبارك وتعالى قادر على كل شي ء، وكل مايريده يتحقق بارادته تعالى فوراً:

«إِنَّما امْرُهُ اذَا ارَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ». (يس/ 82)

نفحات القرآن، ج 10، ص: 115

وبالرغم من ذلك كله فإنّ الآيات المباركة في القرآن الكريم توضح وبشكل جلي، أنّ اللَّه تبارك وتعالى قسَّم الأعمال في هذا العالم، إذ خلق طوائف من الملائكة ليقوم كل منها بانجاز إحدى الأعمال المهمّة في هذا العالم.

فيشير القرآن الكريم أحياناً بشكل عام إلى هذه المسألة وهو قوله تعالى

«جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا اولِى اجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ». (فاطر/ 1)

ويقول في موضع آخر: «فَالْمُدَبِّراتِ امْراً». (النازعات/ 5)

وينقل في موضع آخر قول الملائكة: «و مَا مِنَّا الَّا لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ* وَانَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ* وَانَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ». (الصافات/ 164- 166)

وأحياناً اخرى يشير إلى طوائف خاصة

منها لها وظائفها الخاصة، إذ يمكن أن نشير فيما يلي إلى المجاميع التالية كنموذج على ذلك:

1- الملائكة المبلغين للوحي والمنزلين للكتب السماوية:

«يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوْحِ مِنْ امْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ». (النحل/ 2)

2- مجموعة حَمَلَةِ العرش:

«الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ». (غافر/ 7)

3- مجموعة المراقبين لأعمال الناس:

«وَانَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ* كِرَاماً كَاتِبِينَ* يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ». (الانفطار/ 10- 12)

4- مجموعة جند اللَّه الذين يعززون المؤمنين في الحروب وحوادث الحياة القاسية:

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ اذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَارْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً». (الاحزاب/ 9)

5- مجموعة حفظة الناس ازاء الكثير من الاخطار والحوادث:

«وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً». (الانعام/ 61)

6- مجموعة المكلفين بقبض الأرواح:

«قُلْ يَتَوفَّاكُمْ مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِى وُكِّلَ بِكُمْ». (السجدة/ 11)

نفحات القرآن، ج 10، ص: 116

وكذلك: «الَّذِينَ تَتَوفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِيْنَ». (النحل/ 32)

7- الملائكة المكلفون بتقسيم الأرزاق:

«فَالْمُقسِّماتِ امْراً». (الذاريات/ 4)

إذ يقول البعض في تفسير هذه الآية الكريمة، وجرياً مع تناسب الآيات الواردة قبلها:

إنّها تشير إلى الملائكة الذين يقسمون الأرزاق بين العباد، بينما يقول البعض الآخر: إنّها تشير إلى الملائكة المكلفين بتقسيم جميع الأعمال في عالم الوجود.

8- الملائكة المكلفون بنشر السحاب ونزول الأمطار والمكلفون بتشتيتها بعد هطول الأمطار:

«وَالنَّاشِرَاتِ نَشْراً* فَالْفارِقَاتِ فَرْقاً». (المرسلات/ 3- 4)

9- الملائكة المكلفون بدفع وساوس الشياطين عن قلوب المؤمنين، والذين يصدون هجوم الشياطين عن افكار المؤمنين، فيقضون على وساوسهم:

«فَالزَّاجِرَاتِ زَجراً» «1». (الصافات/ 2)

10- الملائكة الذين ينزلون في ليلة القدر، والمكلفون بإبلاغ تقديرات اللَّه تعالى على مدى سنة كاملة، تلك المقدرات التي تحُدد وفقاً لاستحقاق الأفراد وحسن أعمالهم، وليس بدون حساب وبشكل اجباري:

«تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِاذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْر». (القدر/ 4)

وكما تلاحظون فإنّ اللَّه

تبارك وتعالى وبالرغم من قدرته التامة على جميع الأعمال، فإنّه يقسم تدبير أمور هذا العالم بين الملائكة، وجعل لكل مجموعة منهم واجباً وتكليفاً محدداً.

ونلاحظ في الروايات الإسلامية أيضاً تعبيرات متعددة وبليغة بشأن أصناف الملائكة، من حيث تقسيم المسؤوليات، ومن جملة ذلك ماورد في نهج البلاغة في خطبة الأشباح:

______________________________

(1) قيل الكثير من الأوجه في تفسير هذه الآية، وأحد تلك المعاني ماجاء أعلاه.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 117

«ومنهم من هو في خلق الغمام الدُّيح، وفي عظمِ الجبال الشمَّخ ... وفي فترةِ الظلامِ الأيِهمِ، خَرَقت اقدامُهمُ تخومَ الارضِ السّفلى فهي كراياتٍ بيضٍ قد نفذت في مخارقِ الهواءِ، وتحتها ريحٌ هفافة، تحبسُها على حيثُ انتهت من الحدود المتناهيةِ، قد استفرغتهم اشغالُ عبادتِهِ، ووصلت حقائق الايمانِ بينهم وبين معرفته ... قد ذاقوا حلاوة معرفته، وشربوا بالكأس الرويَّة من محبتِهِ!» «1».

ولدينا المزيد من الروايات الاخرى بشأن تقسيم المسؤوليات فيما بين الملائكة، لو ذكرناها جميعاً لطال بنا المقال «2».

ويمكننا أن نستخلص ممّا تقدم ذكره آنفاً المفهوم القرآني التالي: لو أرادت البشرية أن تساير نظام ربوبية الباري ء جلّ وعلا في الوجود وتطبق نظام ادارته في عالم التكوين، لابدّ لها أن تهتم وبكل دقة بمسألة تقسيم الأعمال والمسؤوليات في المجتمع الإنساني، لكي تقترن حياة أفراد المجتمع بالموفقية والنجاح.

وبعبارة أخرى نحن نعلم أنّ نظامي التكوين والتشريع يجب أن يعملا بشكل متناغم، ولابدّ لحياة البشرية أن تستلهم فلسفتها من خلقة الباري جلّ وعلا وتصطنع بصبغة اللَّه تعالى وأنّ كل ما هو حاكم هناك يجب أن يكون هو الحاكم هنا.

إنّ الاهتمام والالتفات إلى هذه الحقيقة يدعونا إلى مسألة تنظيم الامور التنفيذية.

النظام التنفيذي في عصر النبي صلى الله عليه و آله:

بالرغم من أن الحكومة الإسلامية على عهد الرسول صلى الله عليه و آله كانت بسيطة

جدّاً، إلّاأنّه في نفس الوقت كانت مسألة تقسيم المسؤوليات في النظام التنفيذي لهذه الحكومة، واضحة جدّاً ومدروسة بشكل دقيق.

______________________________

(1) نهج البلاغة، الخطبة 91 (خطبة الاشباح).

(2) وللمزيد من الايضاح بشأن أصناف الملائكة عليكم بمراجعة بحار الأنوار، ج 59، ص 174 ومايليه.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 118

ومن ذلك أن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله كان يختار للمعارك- التي لا يشارك فيها بشخصه- قائداً أو عدداً من القادة، وحتى أنّه صلى الله عليه و آله أحياناً كان يعيّن خليفة للقائد الأول لتلافي الحوادث المحتملة الوقوع للقائد الأول، وعلى سبيل المثال في معركة مؤته كان القائد الأصلي للجيش جعفر بن أبي طالب ثم أضاف قائلًا: لو حصل أمرٌ لجعفر فبعده «زيد بن حارثة» على الجيش، ولو حصل له أمرٌ أيضاً «فعبد اللَّه بن رواحة» على الجيش، ولو حصل له أمرٌ ما أيضاً، على المسلمين أن يختاروا شخصاً من بينهم عن طريق الشورى لقيادة الجيش «1».

وجاء في التواريخ أيضاً أنّه كان للرسول صلى الله عليه و آله كتّاباً للوحي وللُامور الاخرى إذ يمكن أن نذكر من بينهم الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وكذلك «زيد بن ثابت»، و «علاء بن الخصري» و «أبي بن كعب» «2».

واختار صلى الله عليه و آله بعض الأفراد لجمع أموال الزكاة والامناء على بيت المال، إذ يمكن أن نذكر من بينهم «مهاجر بن أبي اميّة» المكلّف بجمع أموال بيت المال في صنعاء، و «زياد بن لبيد» في «حضرموت» و «عدي بن حاتم» في قبيلة «طي» و «مالك بن نويره» في «بني حنظلة»، و «زبرقان بن بدر» في قبيلة «بني سعد» و «العلاء بن الحضرمي» في «البحرين» «3».

وعين الرسول صلى الله عليه

و آله أيضاً بعض الخبراء لتحسين محصول بساتين النخيل لغرض دفع الزكاة، ومنهم «عبداللَّه بن رواحة».

كما أنّه صلى الله عليه و آله كان يعين الأمراء للمناطق المختلفة، ويمكن أن نذكر من بينهم عليّاً عليه السلام، و «معاذ بن جبل» على اليمن، و «عتاب بن اسيد» على «مكة» و «عثمان بن أبي العاص» على منطقة «بني ثقيف».

لقد كان للرسول صلى الله عليه و آله، العديد من الرسل الذين أرسلهم للملوك ورؤساء البلدان المجاورة، ومنهم «عبداللَّه بن حذاقة» الذي بعثه إلى «كسرى ملك الساسانيين، و «دحية

______________________________

(1) سيد المرسلين، ج 2، ص 44، ونقل بعض المؤرخين الأمراء الثلاثة بشكل آخر، ولا يوجد بينهم وبين مرادنا اختلاف.

(2) الكامل لابن الأثير، ج 2، ص 313.

(3) سيرة ابن هشام، ج 4، ص 246.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 119

الكلبى» إلى «قيصر» ملك الروم، و «حاطب بن أبى بلتعة» إلى «المقوقس» ملك مصر، و «عمرو بن اميّة» إلى «النجاشى» ملك الحبشة «1».

وبهذا الشكل نشاهد أنّه في تلك الحكومة الخالية من أي نوع من أنواع التشريفات، نجد نظاماً تنفيذياً منسجماً بشكل كامل ويتألف من اقسام مختلفة، وقد اختار صلى الله عليه و آله لكل قسم منها مسؤولًا أو عدّة مسؤولين، يحكمون فيها.

وهذا كله يوضّح لنا بشكل جلي، أن مسألة تقسيم المسؤوليات والإدارات في الأقسام المختلفة للنظام التنفيذي للحكومة الإسلامية، يعد أمراً مسلّماً به ولا يمكن اجتنابه.

كيفية انتخاب رئيس السلطة التنفيذية والمسؤولين الآخرين:

في النظرة الكونية الإسلامية التي تقول: إنّ الحكم للَّه، وإنّ مصدر شرعيتها في المجتمعات البشرية تستند إلى الاجازة والتفويض الإلهي، ومن الطبيعي أن يتمّ في الأنظمة التنفيذية تعيين المسؤولين في جميع المستويات من قبل النبي الأكرم صلى الله عليه و آله ومن ثم الأئمّة المعصومين عليهم السلام وبعدهم

خلفائهم ونوّابهم أي الفقهاء العظام.

ولهذا السبب نجد أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله عندما شرع ببناء الدولة الإسلامية في بداية الهجرة إلى المدينة، وعمل على توسيعها فيما بقي من عمره الشريف، كان يقوم صلى الله عليه و آله بتعيين الولاة وامراء الجيش والقضاة والسفراء بنفسه، ومن المحتمل أنّه كان صلى الله عليه و آله يقوم باستشارة أصحابه في الحالات المهمّة بشأن انتخاب أولئك الأشخاص.

ومن المؤكّد عندما يتحول الأمر إلى الفقيه الجامع للشرائط، وخاصةً في عصرنا وزماننا- إذ تعتبر المشاركة الجماهيرية في أمر الحكومة من البديهيات، ذلك أنّه بدون مشاركتهم لن تتوفر دواعي المساهمة والتعاون مع الحكومة مطلقاً- يجب أن تكون مسألة الشورى والمشاورة مع الناس على رأس البرنامج الخاص باختيار المستويات الرفيعة للسلطة التنفيذية.

وبعبارة أخرى لابدّ أن يكون للناس المعرفة الكافية برئيس السلطة التنفيذية، الشخص

______________________________

(1) بيت النبوّة (خاندان وحي)، ص 26 بالفارسية.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 120

الأول في هذه السلطة، والتعاون في هذا المجال- ومتى ما كان الفقيه الجامع للشرائط غير معنيًّ بهذا الأمر، فإنّه يعرض مصالح المسلمين للخطر ويتسبب في زعزعة النظام الإسلامي، وبناءً على ذلك فإنّه يفقد شرعية ولايته أيضاً.

وليس بوسع الولي الفقيه أن يقول: أنا خليفة المعصوم، وأنا الذي أعين جميع المديرين التنفيذيين ورئيس الوزراء والوزراء ورئيس الجمهورية في الحكومة الإسلامية مطلقاً، ذلك لأن هذا الأمر لا ينسجم مع مصالح الناس وغبطة المسلمين وشروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويؤدّي إلى زعزعة دعائم الحكومة، وتضعيف اسسها وقدرتها، بل إنّ أساس مثل هذه الحكومة سرعان ما ينهار وتمحى من صفحة التاريخ والمجتمع.

إذن، يجب عليه أن يحترم قاعدة الشورى القرآنية في هذا الأمر، ويعطي الاهميّة لاختيار الناس، ويدعوهم للمساهمة في هذا

الأمر المهم، وإحدى أفضل الطرق لذلك هو ما نص عليه دستور الجمهورية الإسلامية، من أنّ انتخاب رئيس الجمهورية يتمّ في البداية من قبل الشعب، ويكتسب دعمه الشعبي من خلال آرائهم، ثم يصار في المرحلة النهائية إلى صدور الأمر بتنصيبه من قبل الفقيه الجامع للشرائط، لكي يصار إلى تثبيت جنبته الشعبية من جهة، ويضمن من جهة أخرى الجنبة الإلهيّة التي تشكل أساس هذا الانتخاب. (فتأمل).

وهذه الملاحظة هي الاخرى جديرة بالاهتمام، وهي أنّ التجربة أثبتت أنّ انتخاب الناس في مجتمع مؤمن وملتزم متى ما تّم من خلال الإعداد الصحيح والمسبق والتدريب والمعرفة الكافيين، غالباً مايكون صحيحاً.

بينما لو حصل في بعض الموارد خطأ معين في تشخيص الشعب وضمير الامة- وهذا قليل ونادر- فيجب على الفقيه الجامع للشرائط أن يستفيد من صلاحياته، ويُعرض عن تنفيذ تنصيب مثل هذا الشخص، ولكن بما أنّ الولي الفقيه منتخب هو الآخر من قبل الشعب، (كما سنشير لذلك لاحقاً)، فيجب أن يقوم بتنوير الأذهان من خلال التدبير والدراية الصحيحة وإرائة الوثائق والأدلة، ويعمل على توعية الضمير الشعبي تجاه هذا الأمر، ولو حصل خطأٌ معين فعليه أن يقف بوجهه ويتصدى له.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 121

ولكن كما قلنا إنّ هذا الأمر يحصل في موارد نادرة جدّاً، خاصة وأنّ صلاحية المرشحين لهذا الأمر يجب أن تؤيد من قبل مجموعة من أهل الخبرة والدراية، لذا من المستبعد أن تحصل مشكلة مهمّة في هذا المجال.

طبعاً من الممكن أن يتحقق اختيار الشعب بشكل غير مباشر، بمعنى أن يختار الناس نوابهم لمجلس الشورى الإسلامي، ومن ثم يقوم النواب بترشيح إحدى الشخصيات لمنصب رئاسة الوزراء، وبعد المداولة اللازمة واحرازه الصلاحية يمنحونه رأي الاعتماد والثقة، ولغرض تنفيذ هذا الحكم يراجعون الولي الفقيه بعد

ذلك، ومن ثم يقوم الولي الفقيه أيضاً- إما بشكل مباشر أحياناً، أو بشكل غير مباشر (كما نشاهد ذلك بخصوص فقهاء مجلس صيانة الدستور)- بتأييد هذا الرأي والموافقة عليه وتنفيذه.

وبالرغم من أن رئيس السلطة التنفيذية، أي رئيس الجمهورية في نظام حكم الجمهورية الإسلامية يتمّ انتخابه في الوقت الحاضر من قبل الشعب، إلّاأن مسؤولي الدرجة الاولى أي الوزراء، يتمّ تعيينهم بواسطة اقتراحه وانتخاب نواب الشعب في مجلس الشورى ، وبهذا الشكل فإنّ الشعب يشارك ويساهم عن طريقين في انتخاب الوزراء: أولًا: عن طريق نواب المجلس، وثانياً: بواسطة رئيس السلطة التنفيذية، والاثنان منتخبان عن طريق الشعب.

كما أنّ الفقيه الجامع للشرائط، يشرف على هذا الأمر أيضاً عن طريق مجلس صيانة الدستور، من خلال المصادقة على تنفيذ تنصيب رئيس الجمهورية أيضاً.

إنّ هذا الاسلوب غير المعقّد نسبياً يضمن من جهة، تدخل الفقيه الجامع للشرائط في هذا الانتخاب طبقاً للموازين الشرعية، ومن جهة أخرى مشاركة الشعب أيضاً، وبهذا الشكل تتمّ مراعاة الجنبتين الشرعية والشعبية بشكل دقيق، (فتأمل).

نفحات القرآن، ج 10، ص: 123

الثقافة الحاكمة على الحكومة الإسلامية

اشارة

هذا الجزء من المسائل المتعلقة بالحكومة الإسلامية يعد من أهم الأجزاء وأكثرها حيوية، لأنّ من الممكن أن نفهم ممّا تقدم عن النظام التنفيذي في الحكومة الإسلامية، أنّها تسير بنفس الاسلوب الذي يسير عليه الحكام غير الإسلاميين.

أي أن تقسيم المسؤوليات، وتشكيل الوزارات وانتخاب الوزراء، والمديرين الكبار والأدنى منهم، ورئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء مطلوب هنا أيضاً، وكذا الحال بالنسبة لمسألة الانتخابات الشعبية، والاستناد إلى آراء وإرادة الشعب، والانتخاب المباشر أو غير المباشر من قبل نواب الشعب في مجلس الشورى وامثال ذلك، موجودة هي الاخرى أيضاً.

وبناء على ذلك فإنّ الفرق الوحيد لهذه الحكومة مع سائر الحكومات، يكمن في الاسم والعنوان فقط!

إلّا أنّ ذلك

يعد خطأً فاحشاً، لأنّ الشي ء الاهم الذي يفرّق بين الشعوب والحكومات والجمعيات يكمن في الثقافة الحاكمة عليهم، خاصة وأن الحكومة أو المؤسسات والجمعيات هي بمنزلة الجسم فقط، وروحها يكمن في الثقافة الحاكمة عليها.

ولغرض الوقوف على الثقافة الإسلامية الحاكمة على هذه التنظيمات، يلزمنا المزيد من البحوث، وهي بحاجة إلى كتاب أو مجموعة من الكتب المستقلة، وما تطالعونه هنا يمثل في الواقع فهرساً من تلك البحوث، هذا الفهرس الذي بإمكانه أن يوضح للقراء الكرام الكيفية الاجمالية لهذه المسألة وأهدافها وأهميتها.

وبشكل عام فإنّ ثلاثة أصول أساسية تتحكم بنظام الحكومة الإسلامية. والتي تميّزها عن سائر الحكومات الشعبية:

نفحات القرآن، ج 10، ص: 124

1- معرفة المسؤولين التنفيذيين بأنّهم المؤتمنون على أمر اللَّه تعالى ويجب عليهم المحافظة على ما أودع بأيديهم من أمر الحكومة والمناصب الحكومية كوديعة وامانة إلهيّة، وبأنهم بمثابة حلقة الوصل بين اللَّه سبحانه وتعالى وعبادة، وأن ينفّذوا بدقة كل ما أمر به تعالى بشأن عباده، وليس بأمكانهم مطلقاً أن ينشغلوا بالتفكير في المحافظة على مناصبهم أو مصالحهم الشخصية أو مصالح جماعة معينة.

في حين أنّ الحكام الماديين يفكرون في كيفية المحافظة على مناصبهم ومصالحهم الشخصية أكثر من أي شي ء آخر، ومن الممكن أحياناً ان يعمدوا إلى صرف الملايين من أجل الوصول إلى أحد المناصب، والمؤكد أنّهم وبعد استلام الحكم يقومون بتعويض ما أنفقوه ويزيدون عليه أضعافاً مضاعفة، أو على الأقل يتعلق هؤلاء الأفراد بطبقة معينة من المجتمع، ومن أجل المحافظة على مصالح تلك الطائفة التي ينتمون لها، والتي رصدت مبالغ طائلة لإيصالهم إلى سدة الحكم، يقومون بشتى الجهود، من أجل أن تعود على تلك الطبقة بالمزيد من الفوائد والارباح المضاعفة.

ولذا فإنّ اختلاف هذا المنظار عن المنظار الذي يعمل بموجبه الحكام

والمديرون الإسلاميون واضح جدّاً وفي جميع المجالات.

2- ينظر الناس إليهم كمبعوثين من قبل اللَّه تعالى ذلك لأنّ طاعتهم تعد فرعاً من طاعة اللَّه تعالى وأوامرهم بمنزلة أوامر اللَّه.

ويعتبرون قوانين الحكومة الإسلامية- في حالة قيام تلك الحكومة على الاسس الصحيحة- بمنزلة قانون اللَّه، ويعتقدون بأنّ طاعتها توجب النجاة في الآخرة، وأنّ مخالفتها يعد ذنباً ويوجب العذاب يوم القيامة.

هذه النظرة تختلف كثيراً عن النظرة السائدة في الحكومات الماديّة، إذ يرى الناس أنّ الحكّام عبارة عن أفرادٍ مثلهم، وهم غالباً في صدد المحافظة على مصالحهم الشخصية أو مصالح الحزب والجماعة التي ينتمون لها، وإذا شعروا بأنّ النّاس غير راضين بالقوانين المشرعّة، وأمنوا من العقاب، فإنّهم سرعان ما يتخلّون عن واجبهم في تحمّل مسؤولياتهم.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 125

3- في الحكومة الإسلامية وبشكل عام يجب أن تلقي الروح المعنوية والقيم الاخلاقية بظلالها على جميع الامور، وأن تأتي المسائل الاخلاقية والإنسانية على رأس قائمة الاعمال، ويجب أن تكون الدوافع أبعد بكثير من الدوافع الماديّة، أوليس الهدف النهائي من تشكيل الحكومة والحياة الأفضل إنّما يتمثل في توفير المقدمات اللازمة للسير إلى اللَّه والقرب من الباري وايجاد التكامل الروحي والمعنوي؟!

فهل يمكن أن تتساوى هذه الأهداف والدوافع مع أهداف ودوافع الشعب والعاملين في حكومة ماديّة؟

طبعاً لغرض الوصول إلى تحقق حكومة إلهيّة تامة وكاملة، لابدّ أن نطوي طريقاً طويلًا وشاقاً، ولابدّ من اعطاء دروس كثيرة للمجتمع، ولكن مهما يكن الحال فإنّ محتوى هذه الحكومة قياساً للحكومات المادية، من حيث العنصر الثقافي «متفاوت» للغاية بل و «متباين» أيضاً.

ومن خلال هذا التحليل ننتقل إلى الآيات القرآنية المباركة، ومن ثم إلى الروايات الإسلامية، لغرض الوقوف على الثقافة الحاكمة على المحاور المختلفة للحكومة الإسلامية ومناقشتها:

1- نقرأ في

قوله تعالى

«فَبَما رَحْمةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَليظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَولِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ واسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى الأَمرِ فَاذِا عَزَمْتَ فَتَوكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّليِنَ».

(آل عمران/ 159)

وبناءً على ذلك فإنّ الحاكم الإسلامي وبالاضافة إلى الحزم والعزم الشديدين، فهو مطالب ومكلف بالعفو والصفح، وحتى الاستغفار واللين والانسجام، وأن يرى في اللَّه تعالى السند والملاذ الأول والأخير في كل حال من الأحوال.

2- وفي سورة فصلت المباركة يأمر الباري تعالى بغسل العداوة والبغضاء بماء المحبة

نفحات القرآن، ج 10، ص: 126

والاحسان، وتلافي مواجهة الأحبّة بالمثل كلما أمكن ذلك، إذ يقول تعالى «إِدْفَعْ بالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ فَاذِا الَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأنَّهُ وَليٌّ حَمِيمٌ». (فصلت/ 34)

إنّ سيطرة مثل هذه الثقافة على النظام الإسلامي التنفيذي والتي تقف على نقيض الثقافة المادية تضفي عليه نورانية وصفاءً، وتعطي له معنىً ومفهوماً آخرين.

3- ويقول تعالى في سورة الكهف المباركة تجاه اصرار الذين يعتقدون بأنّ واجب النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أن يُبعد الفقراء وإن كانوا مؤمنين ومخلصين، ويقترب من الطبقات الغنية والمتنفذة، إذ تقول الآية بكل صراحة وحزم:

«واصْبرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدعُونَ رَّبّهُمْ بِالغَدَاةِ وَالعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْههُ وَلاتَعْدُ عَينَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحَياةِ الدُّنيا وَلَا تُطِعْ مَنْ أغْفَلنْا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً». (الكهف/ 28)

وشتان بين هذا المنطق الذي يرى في الحب والإيمان باللَّه تعالى لدى هؤلاء الأفراد أثمن وأغلى شي ء لديهم، ويأمر بصد الأغنياء الغافلين عن ذكر اللَّه، وليس الفقراء المخلصين المؤمنين، وبين منطق الذين يعلنون اليوم بكل صراحة في العالم، بأنّ القيمة العليا تكمن في المصالح والمنافع المادية، ويضحّون بجميع القيم الاخرى في سبيل تلك المصالح.

4- وتخاطب سورة ص وبلهجة

حازمة وشديدة، النبي داود عليه السلام:

«يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلنَاكَ خَلِيفَةً فِى الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّه». (ص/ 26)

وكما نرى فإنّ الآية الكريمة تنذر هذا النبي المعصوم والقدوة للنّاس بأن يحذر وساوس النفس الأمارة، لئلا تصبح سبباً لانحرافه عن طريق الحق والعدالة.

وعلى هذا الأساس، يجب على الحاكم الأسلامي أن يراقب نفسه جيداً ويحذر من الأهواء والدوافع الدنيوية والحبّ والبغض أن تتحكم في أعماله وتصرفاته فيضيع بها حقاً أو يرتكب باطلًا، وما أشد ما اختلف هذا الميزان للحاكم مع من يقول إنّ القاضي يعتبر

نفحات القرآن، ج 10، ص: 127

مسؤولًا فقط أمام القانون لا أكثر، ذلك القانون الذي له أكثر من ألف طريقة للفرار والتبرير.

5- وفي سورة النساء يخاطب القرآن الكريم جميع المؤمنين ويذكّرهم بأصل مهم، وهو تقديم الأصول والضوابط على الروابط، ويقول:

«يَا ايُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ للَّهِ وَلَوْ عَلَى انْفُسِكُمْ اوِ الْوالِدَيْنِ وَالاقْرَبِينَ انْ يَكُنْ غَنِيّاً اوْ فَقِيراً فَاللَّهُ اوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى انْ تَعْدِلُوا وَانْ تَلْوُواْ اوْ تُعْرِضُوا فَانَّ اللَّهَ كَانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً». (النساء/ 135)

وبهذا لا ينبغي للروابط بين الأب والأم والأبن والأخ أن تكون حجر عثرة أمام تطبيق القانون وإجراء العدالة، بل حتى المنافع الشخصية لابدّ من نسيانها وتركها في مقابل الحق.

ومن البديهي أنّ مثل هذه الكلمات يمكن أن تطرح في المحافل المادية، ولكن مضافاً إلى عدم وجود الضمانات العملية في تطبيقها، لا يمكن تصوّر مفهوم صحيح عنها، ولهذا نجدهم يقدّمون المنافع الشخصيّة والحزبية دائماً على القيام بالعدل والقسط، فالروابط حاكمة هنا على الضوابط، وأحياناً يتم هذا المعنى من تجاوز القوانين علناً في التصرفات المتناقضة للحكّام الماديّين فيما لو تشابهت المفردات، أحدهم يسير

وفق المصلحة، والآخر على نقيضه، فهنا يتضح زيف الشعارات المتعلقة بالقسط والعدل وحقوق البشر ويثبت بطلانها.

هناك ملاحظات ملفتة للنظر في الروايات الإسلامية لبيان الثقافة الحاكمة على الحكومة الإسلامية يطول شرحها، ولكن يمكن الإشارة إليها باختصار:

1- رعاية الاصول الأخلاقية في حرب مع الأعداء

بالرغم من أن الحرب تمثل منتهى الخشونة لدى الإنسان، وتكون مع الأسف ضرورية في بعض الأحيان مقابل من لا يدرك سوى منطق القوة، مع ذلك نجد أنّ الإسلام في برنامجه الحربي قرن المسائل الإنسانية مع وحشية الحرب، وأوجب على المسلمين رعاية الأصول

نفحات القرآن، ج 10، ص: 128

الأخلاقية في حربهم مع الأعداء الشرسين.

وعندما كانت مجموعات المجاهدين من جيش الإسلام تتوجه إلى ميادين القتال كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يدعوهم إليه ويوصيهم بوصاياه، ويقول:

«سِيرُوا بِسْمِ اللَّهِ وَبِاللَّهِ وَفي سَبيلِ اللَّهِ وَعَلى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّه لا تَغُلُّوا، وَلا تُمَثَّلُوا وَلا تَغْدرُوا وَلا تَقْتُلُوا شَيْخاً فانِياً، وَلا صَبِيّاً وَلا امْرَأَةً وَلا تَقْطَعُوا شَجَراً الّا انْ تَضْطَرُّوا الَيْها، وَايُّما رَجُلٍ مِنْ ادْنَى الْمُسْلِمينَ اوْ افْضَلِهِمْ نَظَرَ الى رَجُلٍ مِنَ الْمُشْرِكينَ فَهُوَ جارٍ حَتّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ فَانْ تَبِعَكُمْ فَاخُوْكُمْ فِي الدِّيْنِ وَانْ ابى فَابْلِغُوهُ مَأْمَنَهُ وَاسْتَعينُوا بِاللَّهِ عَلَيْهِ» «1».

ونقرأ في حديث آخر:

«نَهى رسُولُ اللَّهِ أنْ يُلقى السُّمُّ في بلادِ المشركين» «2».

«ما بيّتَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه و آله عدوّاً قَطْ» «3».

ونقرأ أيضاً في حديث آخر من وصايا النبيّ صلى الله عليه و آله الحربية إلى الإمام علي عليه السلام عندما كان الإمام عازماً للتوجه إلى اليمن:

«لا تقاتلن أحداً حتى تدعوه، وأيم اللَّه لأن يهدي اللَّه على يديك رجلًا خير لك ممّا طلعت عليه الشمس وغربت» «4».

2- الآداب الإسلامية في جمع الضرائب

ونقرأ في الآداب المتعلقة بجمع الزكاة والأموال لبيت المال أنّ الإمام عليّاً عليه السلام كلما بعث رجلًا لجمع الزكاة أوصاه بوصايا عديدة. منها ما يلي:

______________________________

(1) فروع الكافي، ج 5، ص 27- 28- ح 1.

(2) المصدر السابق، ص 28، ح 2.

(3) المصدر السابق، ص 28، باب وصية رسول اللَّه ...، ح

23.

(4) المصدر السابق، ح 4.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 129

«انْطَلِقْ عَلى تَقْوَى اللَّهِ وَحْدَهُ لا شَرِيْكَ لَهُ، وَلا تُرَوِّعَنَّ مُسْلِماً، وَلا تَجْتازَنَّ عَلَيْهِ كارِهاً، وَلا تَأخُذَنَّ مِنْهُ اكْثَرَ مِنْ حَقِّ اللَّهِ فِي مالِهِ فَاذا قَدِمْتَ عَلَى الْحَيِّ فَانْزِلْ بِمائِهِمْ مِنْ غَيْرِ انْ تُخالِطَ ابْياتَهُمْ، ثُمَّ امْضِ الَيْهِمْ بِالسَّكِيْنَةِ وَالْوَقارِ حَتّى تَقُومَ بَيْنَهُمْ، فَتُسَلِّمَ عَلَيْهِمْ وَلا تُخْدِجْ بِالتَّحِيَّةِ لَهُمْ، ثُمَّ تَقُولَ: عِبادَ اللَّهِ! ارْسَلني الَيْكُمْ وَلِيُّ اللَّهِ وَخَلِيْفَتُهُ لآخُذَ مِنْكُمْ حَقَّ اللَّهِ في امْوالِكُمْ فَهَلْ للَّهِ فِي امْوالِكُمْ مِنَ حَقٍّ فَتُؤَدُّوهُ الى وَلِيِّهِ، فَانْ قالَ قائِل: لا، فَلا تُراجِعْهُ، وَانْ انْعَمَ لَكَ مُنْعِمٌ فَانْطَلِقْ مَعَهُ مِنْ غَيْرِ انْ تُخِيْفَهُ او تُوَعِّدَهُ اوْ تُعَسِّفَه أو تُرهقه» «1».

وبعد هذه التعليمات، يوصيه الإمام عليه السلام بوصايا مؤكدّة عن كيفية الإنتخاب العادل لزكاة بيت المال من بين الأموال الجيدة والسقيمة، ورعاية الرفق والمداراة والمحبة، وغير ذلك ممّا يعتبر نموذجاً واضحاً على حاكمية القيم الإسلامية في هذه الأمور في المعاملة مع الناس.

قد يتصور البعض أنّ طريقة المعاملة هذه في مسألة الضرائب الإسلامية توجب الضعف والفتور لدى الناس، وتختلف كثيراً عمّا نشاهده اليوم من كيفية جمع الضرائب.

ولكن لا ينبغي الغفلة عن أنّ هذه التعليمات واردة في المجتمع الإسلامي الذي تربى أفراده تربية إسلامية وشعروا فيه بالمسؤولية.

كما أننا نجد الآن وفي بعض المجتمعات غير الإسلامية، كثيراً من الأشخاص- وبسبب الثقافة الحاكمة هناك- يدفعون الضرائب عن طيب خاطر من دون أن يطالبهم أحد، وأكثر من ذلك وأفضل ما يجري في مجتمعنا الإسلامي حيث تأتي الناس زرافاتٍ ووحداناً إلى مراجع الدين ليؤدوا ما عليهم من الخمس الواجب وبدقة متناهية حتى يحسبوا حساب عدّة كيلو غرامات من السكّر أو الشاي الموجودة في بيوتهم ممّا زاد عن مؤونة

السنة، حيث إنّ النّاس يشعرون جميعاً بالمسؤولية، وهكذا بالنسبة لزكاة الفطرة وشعور الناس بالمسؤولية تجاهها.

وكلما انتشرت وتعمقت هذه الثقافة والشعور بالمسؤولية اتّضح الجواب عن هذا الإشكال كاملًا.

______________________________

(1) نهج البلاغة، الرسالة 25.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 130

3- الإقتصاد في كلّ شي ء

من مميزات الثقافة الإسلامية أيضاً الاقتصاد والدقّة في صرف أموال بيت المال بعنوان أنّه وديعة وأمانة إلهيّة بيد المسؤولين يحاسبون عليها يوم القيامة حساباً عسيراً، والحادثة المعروفة التي وقعت لعقيل بن أبي طالب أحد الشواهد على ذلك حيث طلب من أخيه الإمام علي عليه السلام أن يفضله على الآخرين في العطاء، فنجد أنّ الإمام عليّاً عليه السلام رفض وضع أدنى امتياز بين أخيه والآخرين حتىّ أنّه عليه السلام أحمى له حديدة وقربها من يده وحذّره من عذاب اللَّه يوم القيامة.

وهناك موارد اخرى كثيرة ولا نظيرلها ستبيّن دقة المسؤولين ورجال الإسلام في هذا المجال ومن ذلك تعليمات الإمام علي عليه السلام إلى الكُتّاب في الحكومة الإسلامية حيث يقول عليه السلام:

«ادِقُّوا اقْلامَكُمْ وَقارِبُوا بَيْنَ سُطُورِكُمْ وَاحْذِفُوا عَنّي فَضُولَكُمْ، وَاقْصُدُوا قَصْدَ الْمَعاني، وَايّاكُمْ وَالاكْثارَ، فَانَّ امْوالَ الْمُسْلِمينَ لا تحتمل الاضْرارَ» «1».

وقد بيّن الإمام الصّادق عليه السلام هذا المعنى بصورة كلية حيث قال:

«انَّ الْقَصْدَ امْرٌ يُحِبُّهُ اللَّهُ عَزَّوَجَلَّ وَانَّ السَّرَفَ يُبْغِضُهُ حَتّى طَرْحَكَ النواةَ فَانَّها تَصْلحُ لِشَي ءٍ وَحَتّى صَبَّكَ فَضلَ شَرابِكَ» «2».

وقد ثبت في هذا الزمان أن كل شي ء لا ينبغي أن يطرح، فيمكن الاستفادة حتى من القمامة والمواد الزائدة للمصانع وغيرها، وحتى أنّ مياه المجاري مع قذارتها ورائحتها النتنة يتم تصفيتها من جديد وإرسالها إلى المزارع، وكذلك يتم جمع القمامة فيصنعون منها منتوجات مختلفة، ونختم هذا الكلام بحديث كريم من دعاء الصحيفة السجادية للإمام علي بن الحسين عليه السلام في هذا المجال حيث

يدعو اللَّه تبارك وتعالى ويقول:

«اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَالِهِ وَاحْجُبْنِي عَنِ السَّرَفِ وَالازدِيادِ، وَقَوِّمْنِي بِالبَذْلِ وَالاقْتِصادِ، وَعَلِّمْنِي حُسْنَ التَّقْدير، وَاقْبِضْنِي بِلُطْفِكَ عَنِ التَّبْذِيْرِ» «3».

______________________________

(1) الخصال، ج 21، الباب 25، ح 85؛ بحار الأنوار، ج 73، ص 49، ج 101، ص 275.

(2) بحار الأنوار، ج 68، ص 34، ح 10.

(3) الصحيفة السجادية، الدعاء 130 (دعاؤه في المعونة على قضاء الدين).

نفحات القرآن، ج 10، ص: 131

4- المعيار الفضيلة وليس العمر

لقدتم انتخاب عتاب بن أسيد من قبل النبيّ صلى الله عليه و آله أميراً على مكة المكرمة، وكان شاباً شجاعاً ذكياً، فكتب له رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في كتاب تنصيبه كلمات منيرة توضح الثقافة السامية للإسلام في المجال التنفيذي في الحكومة الإسلامية ونقرأ في بعض كلماته:

«فَهُوَلَنا خادِم وَفِي اللَّهِ اخ وَلَاوْلِيائِنا مُوالٍ، وَلَاعْدائنا مُعادٍ، وَهُوَ لَكُمْ سَماء ظَلِيْلَة، وَأَرْض زَكِية، وَشمس مُضِيْئَة وَلا يَحْتَجٌّ مُحْتَجٌّ مِنْكُمْ فِي مُخالَفَتِهِ بِصِغَرِ سِنّه، فَلَيْسَ الَاكْبَرُ هَوَ الافْضَلَ، بَلِ الافْضَلُ هُوَ الاكْبَرُ!» «1».

5- الرأفة الإسلامية

الإمام علي عليه السلام عندما أراد بيان الرأفة الإسلامية وشفقة الحاكم الإسلامي على سائر الرعية في عهده المعروف بعهد مالك الأشتر الذي يعتبر حقاً أفضل مرسوم إداري كتب لحد الآن ولم يصبه غبار النسيان على مرور الزمان، كتب يقول فيه:

«وَاشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ وَالمَحَبَّةَ لَهُمْ وَاللُطْفَ بِهِم، وَلا تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضارِياً تَغْتَنِمُ اكْلَهُمْ، فَانَّهُمْ صِنْفان: إِمّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّيْن اوْ نَظيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ» «2».

وفي الحقيقة أنّ الثقافة الإسلامية الحاكمة على العلاقات بين المسلمين وبين غيرهم تتلخّص في هذه الجملات المعدودة.

6- الإعتماد على الشعب

في مكان آخر من كتاب العهد هذا، يوصي الإمام عليه السلام بأن يجعل الوالي اعتماده على

______________________________

(1) بحار الأنوار، ج 21، ص 123.

(2) نهج البلاغة، الرسالة 53.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 132

الطبقة العامة والكادحة، والإجتناب عن الطبقة المترفة وموالاتها، والسعي دائماً لكسب رضا الطبقة الأولى دون الثانية، يقول عليه السلام:

«وَلْيَكُنْ احَبَّ الامُورِ الَيْكَ اوْسَطُها فِي الْحَقِّ وَاعَمُّها فِي الْعَدْلِ وَاجْمَعُها لِرِضَى الرَّعِيَّةِ، فَانَّ سُخْطَ الْعامَّةِ يُجْحِفُ بِرِضَى الْخاصَّةِ، وَانَّ سُخْطَ الْخاصَّةِ يُغْتَفَرُ مَعَ رِضَى الْعامَّةِ، وَلَيْسَ احَد مِنَ الرَّعِيَّةِ اثْقَلُ عَلَى الْوالِي مَؤُونَةً فِي الرَّخاءِ وَاقَلُّ مَعُونَةً لَهُ فِي الْبَلاءِ وَاكْرَهُ لِلِانْصافِ وَاسْأَلُ بِالالْحافِ وَاقَلُّ شُكْراً عِنْدَ الاعْطاءِ وَابْطَأُ عُذْراً عِنْدَ الْمَنْعِ، وَاضْعَفُ صَبْراً عِنْدَ مُلِمّاتِ الدَّهْرِ مِنْ اهْلِ الْخاصَّةِ، وإنّما عِمادُ الدّينِ وَجِماعُ الْمُسْلِمينَ وَالْعُدَّةُ لِلَاعْداءِ، الْعامّةُ مِنَ الامَّةِ، فَلْيَكُنْ صِغُوكَ لَهُمْ وَمَيْلُكَ مَعَهُمْ».

ويأمر عليه السلام في محل آخر بأن يبتعد كل البعد عن أهل الحسد والذين يبحثون عن عيون الناس، ويقول:

«وَلْيَكُنْ ابْعَدُ رَعِيَّتِكَ مِنْكَ وَاشْنأُهُمْ عِنْدَكَ، اطْلِبُهُمْ لِمَعايِبِ النّاسِ، فَانَّ فِي النّاس عُيُوباً الْوالِي احَقُّ مَنْ سَتَرها، فَلا تَكْشِفَنَّ عَمّا غابَ عَنْكَ مِنْها، فَانَّما عَلَيْكَ تَطْهيرَ ما ظَهَرَ لَكَ وَاللَّهُ يَحْكُمُ

عَلى ما غابَ عَنْكَ!».

7- الإتصال المستمر بالعلماء

التعاون والإتصال المستمر مع المتخصصين والمفكرين والعلماء من كل فن أحد النقاط المهمّة في الثقافة الإسلامية الحاكمة على الجهاز التنفيذي، وقد جاء في عهد مالك الأشتر أيضاً:

«وَاكْثِرْ مُدارَسَةَ الْعُلماءِ وَمُناقَشَةَ الْحُكَماءِ فِي تَثْبيتِ ما صَلَحَ عَلَيْهِ امْرُ بِلادِكَ واقامَةِ مَا اسْتَقامَ بِهِ النّاسُ قَبْلَكَ» «1».

ويستفاد من هذه العبارة بصورة جيدة أنّ على المسؤولين والحكام الإسلاميين أن يكون لهم دائماً مستشارون في مختلف المسائل السياسية والاجتماعية، ولا يتخذوا قراراً أو يبرموا أمراً في المسائل المهمّة من دون مراجعة هؤلاء المستشارين.

______________________________

(1) نهج البلاغة، الرسالة 53.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 133

8- الثقافة الحاكمة على الجهاز القضائي

يستفاد أيضاً من الصفات المذكورة للقضاة في هذا العهد نكات مهمّة جدّاً لم يُتطرق إليها بهذه الدقة في أي مذهب أو دين، وتوضح جانباً من الثقافة الحاكمة على الأجهزة القضائية في الحكومة الإسلامية، يقول عليه السلام:

«ثُمَّ اخْتَرْ لِلْحُكْمِ بَيْنَ النّاسِ افْضَلَ رَعِيَّتِكَ فِي نَفْسِكَ مِمَّنْ لا تَضِيقُ بِهِ الامُورُ، وَلا تُمَحِّكُهُ الْخُصُومُ وَلا يَتَمادى فِي الزَّلَّةِ، وَلا يَحْصَرُ مِنَ الْفَي ءِ الَى الْحَقِّ اذا عَرَفَهُ، وَلا تُشْرِفُ نَفْسُهُ عَلى طَمَعٍ وَلا يَكْتَفي بِادْنى فَهْمٍ دُوْنَ اقْصاهُ، وَاوْقَفَهُمْ فِي الشُّبُهاتِ وَآخَذَهُمْ بِالْحُجَجِ، وَاقَلَّهُمْ تَبَرُّماً بِمُراجَعَةِ الْخَصْمِ، وَاصْبَرَهُمْ عَلى تَكَشُّفِ الامُورِ وَاصْرَمَهُمْ عِنْدَ اتِّضاحِ الْحُكْمِ، مِمَّنْ لا يَزْدَهيهِ اطراء، وَلا يَسْتَميلُهُ اغْراء وَاولئِكَ قَليل!» «1».

9- الإرتباط المباشر مع الناس

الارتباط المباشر مع الناس ارتباطاً واقعياً وصحيحياً لا ظاهرياً تشريفاتياً، من النقاط المهمّة الاخرى التي استند إليها في هذا العهد، حيث يأمر الإمام عليه السلام مالك الأشتر بعنوانه حاكماً مطلعاً على الثقافة الإسلامية بهذه الصورة:

«وَاجْعَلْ لِذَوِي الْحاجاتِ مِنْكَ قِسْماً تُفَرِّغُ لَهُمْ فيه شَخْصَكَ وَتَجْلِسُ لَهُمْ مَجْلِساً عامّاً فَتَتَواضَعُ فيه للَّهِ الَّذي خَلَقَكَ وَتُقْعِدُ عَنْهُمْ جُنْدَكَ وَاعْوانَكَ مِنْ احْراسِكَ وَشُرَطِكَ حَتّى يُكَلِّمَكَ مُتَكَلِّمُهُمْ غَيْرَ مُتَتَعْتِعٍ فَانّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي غَيْرِ مَوْطِنٍ: «لَنْ تُقَدَّسَ امَّة لا يُؤْخَذُ لِلضَّعيفِ فيها حَقُّهُ مِنَ الْقَويِّ غَيْرَ مُتَتَعْتِعٍ» «2».

وقد أثبتت التجارب أنّ الارتباط غير المباشر بالشعب، يكون سبباً لتزييف الواقع وعدم الإطلاع الكامل على الأوضاع الجارية، غالباً، وعدم حصول الضعفاء من النّاس على

______________________________

(1) نهج البلاغة، الرسالة 53.

(2) المصدر السابق.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 134

الأخص على حقوقهم، مضافاً إلى أنّ الارتباط المباشر يوجب ازدياد المحبّة يوماً بعد آخر بين المسؤولين وبين أفراد الشعب.

10- الإهتمام بالمحرومين

آخر نقطه مهمّة اخرى نذكرها كخاتمة في بحث الثقافة الحاكمة على الجهاز التنفيذي في الحكومة الإسلاميّة بالرغم من المطالب الكثيرة في هذا المجال، وهي الأهميّة القصوى للاهتمام بالمحرومين في الثقافة الإسلاميّة، ففي العهد المذكور لمالك الأشتر وعندما يصل الإمام علي عليه السلام إلى هذا الموضوع يتغيّر لحن كلامه كلّيّاً، ويقول:

«ثُمَّ اللَّهَ اللَّهَ في الطَّبَقَةِ السُّفْلى مِنَ الَّذينَ لا حِيَلَةَ لَهُمْ مِنَ المَساكِينِ وَالْمُحْتاجِينَ وَاهْلِ الْبُؤْسَى وَالزَّمْنى فَانَّ في هذِهِ الطَّبَقَةِ قانعاً وَمُعْتَرّاً وَاحْفَظْ للَّهِ مَااسْتَحْفَظَكَ مِنْ حَقَّهِ فيهِمْ، وَاجْعَلْ لَهُمْ قِسْماً مِنْ بَيْتِ مالِكَ، وَقِسْماً مِنْ غَلّاتِ صَوافي الإِسْلامِ فِي كُلِّ بَلَدٍ، فَانَّ لِلأقْصى مِنْهُمْ مِثْلَ الَّذِي لِلأَدْنى، وَكُلّ قَدْ اسْتُرعِيتَ حَقَّهُ فَلا يَشْغَلَنَّكَ عَنْهُمْ بَطَر، فَانَّكَ لا تُعْذَرُ بِتَضْييعِكَ التّافِهَ، لاحْكامِكَ الْكَثَيرَ

المُهِمَّ، فَلا تُشْخِصْ هَمَّكَ عَنْهُمْ وَ لا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لَهُمْ» «1».

إنَّ هذا التّأكيد والإصرار الشديد الذي لا نظير له لأمير المؤمنين عليه السلام بالنّسبة إلى هذه الطبقة يعتبر من أوضح معالم العدالة الاجتماعيّة في الإسلام لحفظ حقوق النّاس وخاصّة الطبقة المُستضعَفة، والأسلوب العملي الّذي اتّبعه الإمام عليه السلام في أيّام حكومته شاهد على هذا المدّعى

النّتيجة:

ما تقدّم يعتبر جانباً من الثّقاقة الحاكمة على النّظام التنفيذي في الإسلام ونموذجاً من

______________________________

(1) نهج البلاغة، الرسالة 53.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 135

مجمل الثّقافة الإسلاميّة في هذا المجال يبيّن أبعاد هذه الحكومة الإلهيّة والشعبيّة، وبواسطته يمكننا الوصول إلى هذه الحقيقة وهي أن ما يطرح فعلًا بعنوان الحكومة الإسلاميّة تفصله عن الشكل الأصلي لهذه الحكومة فاصلة واسعة بالرّغم من الحركة نحو ذلك الهدف المنشود:

نفحات القرآن، ج 10، ص: 137

كيفيّة انتخاب رئيس الجهاز التنفيذي

هناك طرق مختلفة في عالمنا المعاصر لانتخاب رئيس السلطة التنفيذيّة والمسؤولين من الدّرجة الاولى فتارة عن طريق الانتخاب المباشر، وأخرى الإنتخاب غير المباشر، وثالثة تنصيبه من قبل مسؤولٍ أعلى

وأمّا بالنسبة لمن ينصبهم النبي صلى الله عليه و آله فتارة يكون تنصيبه أمراً إلهيّاً وأُخرى يكون التنصيب عن طريق النبي نفسه، وهذا ما لاحظناه في حياة الرسول صلى الله عليه و آله

و بالنسبة لمن ينصبه النبي صلى الله عليه و آله عن طريق الأمر الالهي فذلك أمر واضح، وقد أشارت إليه الآيات التالية:

1- «النَّبِىُّ أَولَى بِالمُؤمِنينَ مِن أَنفُسِهِم». (الأحزاب/ 6)

2- «يَا أيَّهُا الَّذِين آمنَوُا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ اولىِ الأَمرِ مِنْكُمْ».

(النّساء/ 59)

3- «فَلَا وَرَبِّكَ لَايُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِمّوُكَ فِيَما شَجَر بَينَهُمْ، ثُمَّ لَايَجِدُوا فِى أَنفُسِهِم حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسلِيماً». (النّساء/ 65)

4- «فَليَحذَرِ الَّذِين يُخَالِفُونَ عَن أَمرِهِ أَن تُصِيَبهُم فِتنَةٌ أَو يُصِيبَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ». «1» (النّور/ 63)

ومن الواضح أنّ الإطاعة المطلقة للنّبي صلى الله عليه و آله الواردة في هذه الآيات الشّريفة ملازمة لتنصيبه صلى الله عليه و آله قائداً للمجتمع الإسلامي.

______________________________

(1) ذهب بعض المفسّرين إلى أنّ، الضمير في (أمره) يعود إلى الرّسول صلى الله عليه و آله، والبعض الآخر ذهب إلى رجوعه إلى

اللَّه تعالى ولكن الأوفق لمحتوى الآية الشّريفة هو المعنى الأول، وإليه ذهب صاحب الميزان.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 138

وهناك آيات اخرى في القرآن الكريم تؤيّد هذا المعنى أيضاً.

أمّا بالنّسبة إلى الأئمّة المعصومين عليهم السلام فاعتقادنا أنّهم أيضاً منتخبون من قبل اللَّه تعالى وتّم نصبهم بواسطة الرّسول صلى الله عليه و آله، وهناك آيات من سورة المائدة تشير إلى ذلك «يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِليَكَ ...». (المائدة/ 67)

الواردة في واقعة الغدير والمذكورة في التّفسير الأمثل بشرح كاف، وكذلك روايات عديدة من مختلف الفرق الإسلاميّة حول انتخاب الإمام علي عليه السلام ونصبه خليفة واماماً بعد الرّسول صلى الله عليه و آله، وكذلك الرّوايات الواردة عن الرّسول صلى الله عليه و آله، حول تعيين الأئمّة الإثنَي عشر، والرّوايات الواردة عن الأئمّة والمعصومين عليهم السلام (تعيين كلّ إمام لما بعده) (وتمّ شرحها في الجزء التاسع من نفحات القرآن) كلّها شاهدة على هذا المدّعى ولا حاجة لنا إلى التّكرار.

هذا بالنسبة إلى النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله والأئمة المعصومين عليهم السلام، وامّا بالنسبة إلى من يأتي بعدهم وفي الفترة اللاحقة، فيمكن للولي الفقيه الجامع للشرائط أن يعيّن شخصاً لذلك المقام، لأنّ الولي الفقيه والصالح والذي تتوفر فيه سائر الشروط المعتبرة هو النائب عن الأئمّة المعصومين عليهم السلام كما في بحث ولاية الفقيه والذي سنشير إليه فيما بعد، ويجب على الحاكم الشرعي والفقيه الجامع للشرائط أن يضع نصب عينيه مصلحة الامّة في جميع الشؤون الاجتماعية والسياسية، وبلاشك أن مصلحة الامّة توجب أن يكون انتخاب مسؤولي الجهاز التنفيذي بمشورة الناس ومشاركتهم حتى يتسنى لهم التعاون بينهم بشكل أفضل فيما بعد، وهذا لا يكون إلّابانتخاب الشعب لهؤلاء المسؤولين، سواء كان بطريقة

مباشرة أو غير مباشرة وخاصة في عصرنا الحاضر الذي سادت فيه ثقافة مشاركة الشعب في الحكومة في المجتمعات البشرية.

وعلى هذا الأساس يُرشح عدّة أشخاص تتوفر فيهم الصلاحية الكافية والشروط اللازمة لإحراز هذا المنصب المهم والحساس طبقاً لتأييد مجلس الخبراء الصالحين، ويتمّ عرضهم على الناس، ثم ينتخب الشعب آخر هؤلاء الأشخاص ضمن برنامج انتخاب صحيح وسالم، ومن المعلوم أنّ من يتمتع بشعبية أكبر وأوسع هو الذي سيفوز بالإنتخابات،

نفحات القرآن، ج 10، ص: 139

ومن خلال تأييد الناس له وتكاتفهم معه أكثر فسيكون هو الأصلح لهذا المنصب.

ثم تأتي النوبة لتنفيذ الحكم من قبل الولي الفقيه الجامع للشرائط لكي ينتهي بالأمر إلى الأئمة المعصومين عليهم السلام والنبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله حيث ينتهي في الواقع إلى إذن اللَّه تعالى ورضاه.

ومن المعلوم أن تنفيذ حاكمية هذا الشخص والذي يتمتع بشعبية أكبر، وتدلّ أكثرية الأراء التي حصل عليها على أنّه يتمتع بحماية أوسع من الشعب هي بصلاح الشعب ومصلحته، وسوف لا يمتنع الولي الفقيه الموظّف برعاية مصالح الامّة من تنفيذ هذا الحكم.

النتيجة: هي أن الحكومة الإسلامية التي تطوي مسيرها من الأعلى- أي حكومة اللَّه- إلى الناس، يمكنها أن تتوافق بصورة كاملة مع موازين الحكومة الشعبية، مع فارق بينهما، وهو أنّ المرشحين لإشغال منصب رئاسة السلطة التنفيذية في الحكومة الإسلامية لابدّ أنْ تتوفر فيهم عدّة شروط من الإسلام والإيمان والامانة والتقوى، بخلاف نظام الحكم غير الإسلامي الذي لا اعتبار فيه لهذه الشروط مطلقاً، وهذا فارق مهم يفرق بين الحكومة الإلهيّة والحكومة المادية بالرغم من اشتراكهما في شكل الحكومة الشعبية.

كان هذا بالنسبة إلى المسؤول الأول للجهاز التنفيذي، أمّا بالنسبة إلى المسؤولين الكبار من الدرجة الثانية فما فوق، فيمكن أن تكون مشاركة الشعب

في انتخابهم بصورة مباشرة أو غير مباشرة، مثلًا يمكن للشعب أن يدلي بأصواته للوزراء، أو يتمّ ذلك عن طريق نوّابه في مجلس الشورى الإسلامي، وفي كلا الصورتين يكون لرأي الناس ومشاركتهم دخل في انتخاب الوزراء، ولكن في هذه المرحلة أيضاً لابدّ من توفر بعض الشروط كالإسلام والإيمان والأمانة في المنتخبين، لأنّهم إنتخبوا من أجل إجراء أحكام الإسلام وتحقيق العدالة الاجتماعية ونشر الثقافة الإنسانية والفضائل الأخلاقية، فلو كان لا يملكها فكيف يمكنه السعي إلى إيجادها ونشرها؟

نفحات القرآن، ج 10، ص: 141

الركن الثالث: السلطة القضائية

تمهيد:

إنّ القضاء والحكم لحلّ الاختلافات ورفع المشاجرات موجود بين الناس من قديم الأيام. حتى في المجتمعات البدائية كان هناك نوع من التحكيم لحلّ الاختلاف من قبل رئيس القبيلة أو بعض أقربائه أو يتم تعيين شخص لهذا الغرض، وفي الحقيقة أنّه من العسير أن يذكر تاريخ بداية القضاء، سوى أن نقول أن عمره يتزامن مع عمر المجتمعات البشرية.

والدليل على ذلك، لأنّه كما نعلم أنّ حياة الإنسان هي حياة اجتماعية، وبدون شك فإنّ هذا النوع من المعيشة بالرغم من الإيجابيات يعتبر ميداناً خصباً لنشوء الاختلاف والتضاد، وبعبارة اخرى، إنّ هذه الحياة الاجتماعية وبالرغم من أنّها تعتبر مصدراً لمنافع كثيرة وبركات للمجتمعات البشرية وتؤدّي إلى التطور المادي والمعنوي، إلّاأنّها تحتوي أيضاً على نقاط سلبية ومشكلات عديدة، وتتلخص في الصراعات التي تظهر دائماً لدفع الاعتداء وإرجاع الحق إلى أهله، فلولا وجود الجهاز القضائي الصحيح لحلّها، لتبدلت المجتمعات البشرية إلى ميدان للصراع الدائم والدامي يحرق الأخضر واليابس.

ومن الجدير بالذكر أنّ هذا الصراع والاختلاف والذي يكون تارة بين اثنين أو أكثر من الأشخاص، وتارة اخرى بين قبيلتين أو دولتين، ليس من الضروري أن يكون نابعاً من روح العدوان والأنانية واتباع الهوى. بل

لو فرضنا وجود مجتمع يكون مصداقاً تاماً للمدينة الفاضلة، وكان جميع من فيها على أعلى مستويات الإيمان والأخلاق والتقوى والثقافة الإنسانية، فمع ذلك يمكن لاختلاف الأذواق وعدم الإطلاع على جزئيات الحقوق

نفحات القرآن، ج 10، ص: 142

الاجتماعية والقوانين الموضوعة أن تكون سبباً لظهور الخلافات في تشخيص الحقوق المُستَحقّة للأفراد.

على هذا الأساس يكون وجود السلطة القضائية على كل الأحوال جزءاً لا يتجزأ من المجتمعات الإنسانية وبدونها لا يمكن العيش في مختلف السطوح والمستويات الثقافية والفكرية.

ومن البديهي أنّ السلطة القضائية تتوسع وتتعمق بموازاة توسع المجتمعات البشرية، لأنّه مضافاً إلى زيادة التعداد الكميّ وكثرة الصراعات بسبب كثرة الروابط، نلاحظ زيادة في كيفية الصراعات وتنوعها، فلو لم تتوسّع السلطة القضائية بموازاة توسع المجتمع لكان الجانب الاجتماعي مهدداً بالخطر بسبب الاختلافات العميقة والخطرة.

وخلاصة الكلام: إنّ من الضروري وجود جهاز قضائي مقتدر مع ضمانات كافية لأجراء الأحكام وتعميم العدالة الاجتماعية ومنع الظلم والفساد، ووضع نهاية للصراعات والمنازعات والتنفيذ الصحيح للقوانين، وكذلك الرقابة الدقيقة على الأجهزة التنفيذية، وتعريف المسؤولين في مختلف المراتب بوظائفهم، وبذلك أعطى الدين الإسلامي أهميّة بالِغَة لهذه المسألة ووضع لها المقررات الكثيرة والمتنوعة، لأنّه دين الحياة الحقيقية للبشرية بمضمون قوله تعالى:

«يَا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للَّهِ ولِلْرَسُولِ إذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحييكُمْ». (الأنفال/ 24)

نكتفي بهذه الإشارة ونرجع إلى القرآن الكريم حيث أشار إلى هذا الموضوع في عدّة آيات، منها:

1- يقول القرآن الكريم مخاطباً النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله:

«انَّا انْزَلْنَا الَيْكَ الْكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا اراكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِّلْخائِنيِنَ خَصِيماً». (النّساء/ 105)

2- ويقول في موضوع آخر مخاطباً الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله بالنسبة إلى التحكيم لغير المسلمين:

نفحات القرآن، ج 10، ص: 143

«وَانْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ

انَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ». (المائدة/ 42)

3- ويقول في مكان آخر مخاطباً جميع المؤمنين:

«انَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ انْ تُؤَدُّوا الأَمانَاتِ الَى اهْلِهَا وَاذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ انْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ انَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ انَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً». (النساء/ 58)

4- ومن جهة اخرى يوصي المؤمنين بالخضوع والتسليم لحكم النبي صلى الله عليه و آله وعدم إظهار التبرم لا في الظاهر ولا في الباطن، والقبول بالحق والعدل بالروح والبدن مهما كان الحق مرّاً، ويقول:

«فَلَا وَرَبِّكَ لَايُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيَما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَايَجِدُوا فِى انْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّموا تَسْلِيماً». (النساء/ 65)

5- ويقول أيضاً:

«انَّما كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ اذَا دُعُوا الَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ انْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَاطَعْنَا وَاولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ». (النور/ 51)

6- ويؤكد القرآن الكريم حتى على مسألة الشهادة في المحاكم والتي هي أحدى المقدمات المهمّة في القضاء بالحق والعدالة، ويخاطب جميع المؤمنين قائلًا:

«يَا ايُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ اقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ انَّ اللَّهَ خَبِير بِما تَعْمَلُونَ». (المائدة/ 8)

فعلى هذا الأساس لا يمكن لأي شي ء أن يخلّ بالحق والعدل في المجتمع الإسلامي، فالشهادة ينبغي أن تكون عادلة سواءً في حق الصديق والعدو، والقضاء يجب أن يدور حول محور العدالة ويكون الأقرب والأبعد بالنسبة إليه على حد سواء.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 145

من يكون له حق الفصل والقضاء؟

تمهيد:

كما أن حق الحكومة والحاكمية يعود إلى اللَّه تعالى على أساس أصل «التوحيد الأفعالي» المسلّم به، كذلك حق القضاء أيضاً يعود إلى من له الإذن من اللَّه تعالى.

«التوحيد الأفعالي» يقول: إنّ كل الأفعال تعود إلى اللَّه تعالى، و «توحيد الخالقية» يقول:

إنّ كل شي ء في هذا العالم خُلق منه و «توحيد الحاكمية» الذي هو

فرع توحيد الخالقية يقول: إنّ الحكومة للَّه تعالى خالصة، وهذا هو السبب في كون القضاء في محيط حكومته من اختصاصه تبارك وتعالى ومن يأذن له بذلك.

من جانب آخر يقول توحيد الطاعة: إنّ الأمر المطاع والمقبول إنّما هو أمر اللَّه تعالى ومن يعود أمره إلى أمر اللَّه تعالى، فعلى هذا الأساس لابدّ أنّ يكون الحكم القضائي المقبول أيضاً بإذن منه تعالى.

لو نظرنا إلى المجتمع البشري من هذه الزاوية فسوف نجد أنّ مبدأ القضاء واضح جدّاً، فلا نقع في حيرة في تشخيصه مطلقاً، لأنّ أنظارنا متوجهة إلى نقطة واحدة وهي التي صدر منها الوجود، وانبعثت منها الخلائق، والأمر النافذ في كل شي ء هو أمره، إذن فلابد أن نسعى كي تكون محاكمنا القضائية خاضعة لأمره ومصطبغة بصبغة إلهيّة كي نحصل بذلك على مشروعيتها.

نعود بعد هذا التمهيد إلى القرآن الكريم لنكتشف مسألة انحصار القضاء والتحكيم باللَّه تعالى:

نفحات القرآن، ج 10، ص: 146

1- نقرأ في قوله تعالى

«انِ الْحُكْمُ الَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِيْنَ». (الأنعام/ 57)

وقد جاء صدر هذه الآية الشريفة «انِ الْحُكْمُ الَّا لِلَّهِ» في سورة يوسف الآية 40 كذلك.

ويمكن أن يكون ما جاء في سورة يوسف له مفهوم أوسع بحيث يشمل الحكومة والقضاء، ولكن ما جاء في الآية المذكورة فيه إشارة أقوى إلى القضاء وحل الاختلافات بقرينة ذيل الآية الكريمة، وقد أشار إلى هذا المعنى مجموعة من المفسرين:

أمثال الطبرسي في مجمع البيان والفخر الرازي في التفسير الكبير «1».

2- نقرأ في قوله تعالى:

«وَمَنْ لَّمْ يَحْكُمْ بِمَا انْزَلَ اللَّهُ فَاولَئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ ... فَاولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ... فَاولَئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ». (المائدة/ 44- 45، 47)

فهم كفّار لأنّهم خرجوا عن جادة التوحيد (توحيد الحاكمية)، وظالمون لأنّهم ظلموا أنفسهم والآخرين وحُرموا من مصالح

الأحكام القطعية وغرقوا في دوّامة مفاسد الأحكام الجاهلية، وفاسقون لأنّهم خرجوا عن دائرة الطاعة، والفسق كما تعلم هو الخروج عن طاعة المولى، وهذه الآيات الشريفة لها مفهوم واسع كذلك بحيث يشمل الفتوى في الأحكام الإلهيّة، ومسألة القضاء والتحكيم، ومسألة الحكومة أيضاً، فيجب أن تكون في كل من الأبعاد الثلاثة موافقة ومطابقة لحكم اللَّه تعالى (لاحظ جيداً).

3- القرآن الكريم يعتبر كل حكم غير إلهي حكم طاغوت، واتِّباعه يمثل السير على خطى الشيطان، فيقول:

«الَمْ تَرَ الَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ انَّهُمْ آمَنُوا بِمَا انْزِلَ الَيْكَ وَما انْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُريدُونَ انْ يَتَحَاكَمُوا الَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ امِرُوا انْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُريدُ الشَيْطانُ انْ يُضِلَّهُمْ ضَلالَا بَعيداً». (النساء/ 60)

4- القرآن الكريم يعتبر أيضاً الأحكام التي تصدر عن مبدأ غير إلهي أحكاماً جاهلية،

______________________________

(1) تفسير مجمع البيان، ج 3، ص 310؛ التفسير الكبير، ج 13، ص 7.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 147

ويعبّر عن الأشخاص الذين يريدون أحكاماً غير إلهيّة (كبعض اليهود الذين اختلفوا فيما بينهم فجاؤوا إلى النبيّ صلى الله عليه و آله وكانوا يريدون منه أن يصدر حكماً مطابقاً لرغبتهم) بقوله:

«افَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ احْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَّوْمٍ يُوقِنُونَ». (المائدة/ 50)

5- يقول القرآن الكريم في مكان آخر معلماً للنّبي الكريم صلى الله عليه و آله بأن يقول:

«افَغَيْرَ اللَّهِ أَبتَغِى حَكَماً وَهُوَ الَّذِى انْزَلَ الَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلًا». (الأنعام/ 114)

6- ويأمرنا القرآن الكريم بحل اختلافاتنا بواسطة تحكيم اللَّه تعالى، بقوله:

«وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَى ءٍ فَحُكْمُهُ الَى اللَّهِ». (الشورى/ 10)

يستفاد من مجموع هذه الآيات وآيات اخرى بصورة واضحة أنّ نظرية القرآن في هذا الموضوع تقضي بأنّ الحاكم والقاضي هو اللَّه تعالى، وكذلك من جعله اللَّه تعالى قاضياً وحاكماً من قبله، وما سوى ذلك فهو حكم

الشيطان والطاغوت والجاهلية.

وعلى هذا لابدّ في سلسلة مراتب القضاة في الحكومة الإسلامية أن تنتهي إلى أمر وإذن اللَّه تعالى وتكتسب المشروعية منه، فالرسول الكريم صلى الله عليه و آله قد حصل على هذا المنصب من اللَّه تعالى، والأئمّة المعصومون عليهم السلام أيضاً قد انتخبوا لهذا المقام من قبل اللَّه تعالى وبواسطة النبيّ صلى الله عليه و آله، والقضاة الإسلاميون يكتسبون مشروعيتهم من الأئمة عليهم السلام.

وقد بيّن القرآن الكريم هذا المعنى بوضوح في قوله تعالى

«وَاللَّهُ يَقْضِى بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَايقضُونَ بِشَى ءٍ». (المؤمن/ 20)

إذن فقضاء اللَّه تعالى وأوليائه هو المقبول والصحيح، لا التحكيم الجاهلي وغيرالإلهي.

وهذا المعنى أيضاً ورد بصراحة أكثر في الروايات الإسلامية في أبواب القضاء منها:

1- ورد عن الإمام الصّادق عليه السلام قوله:

«اتَّقُوا الْحُكُومَةَ فَانَّ الْحُكُومَةَ إِنَّما هِيَ لِلِامامِ الْعالِمِ بِالْقَضاءِ الْعادِلِ فِي الْمُسْلِمينَ، لنَبيِّ أو وصيّ نبيٍّ» «1».

______________________________

(1) وسائل الشيعة، ج 18، أبواب صفات القاضي، باب 3، ح 3.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 148

2- وفي حديث آخر ورد عن الإمام الصّادق عليه السلام بأن الإمام علي عليه السلام قال لشريح القاضي:

«يا شُرَيْحُ قَدْ جَلَسْتَ مَجْلِساً لا يَجْلِسُهُ الّا نَبيّ، اوْ وَصِيّ نَبيٍّ اوْ شَقيّ» «1».

3- وفي حديث آخر عن الإمام الصّادق عليه السلام أيضاً أنّه قال:

«وَالْحُكْمُ لا يَصِحُّ الّا بِاذْنٍ مِنَ اللَّهِ وَبُرْهانِهِ» «2».

وهكذا نجد أنّ الأدلة العقلية الناظرة إلى التوحيد الأفعالي وتوحيد الحاكمية والمالكية تثبت اشتراط القضاء بالإذن الإلهي، وكذلك الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة الواردة في هذا المجال، وما يقال إنّ المجتهد الجامع للشرائط (الولي الفقيه) له ثلاثة مناصب: منصب الإفتاء، ومنصب القضاء، ومنصب الولاية، فهوناظر إلى هذا المعنى.

والآن نبحث صفات القاضي في الإسلام، وكذلك آداب القضاء، والفرق بين القضاء في الإسلام

والقضاء في الثقافة الغربية ومسائل اخرى في هذا الباب.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، ج 18، ابواب صفات القاضى، باب 3، ح 2.

(2) مصباح الشريعة، ص 41 (إنّ اعتبار هذا الكتاب مشكوك عند العلماء، وبالاخص فإنّ مؤلفه لم يُعرف لحدّ الآن).

نفحات القرآن، ج 10، ص: 149

صفات القاضي

اشارة

ذُكرت في المصادر الإسلامية شروط صعبة للقاضي لعلّنا لا نجدها في أي مدرسة ودين آخرين، وإن اختلف في عددها علماء الإسلام وفقهاء الشيعة والسنّة.

ولمّا لم يكن هذا الكتاب كتاباً فقهياً استدلالياً، فسنشير فقط إلى المجمع عليه منها عند فقهائنا، ثم نستعرض استعراضاً خاطفاً تلك الشروط التي وقعت محل بحث ونقاش بين العلماء والتي اعتبر البعض اشتراطها والبعض الآخر كونها أموراً كمالية في القاضي.

أمّا الشروط المتفق عليها بين فقهائنا، وكما عبرّ عنها الفقيه الماهر صاحب الجواهر رضوان اللَّه عليه: «لا خلافَ أجِدُه فِي شي ء منها»، وكما عدّها المرحوم الشهيد الثاني من موارد الاتفاق، فهي سبعة:

1- البلوغ: فلا يقبل قضاء الصبي الذي لم يبلغ، ولا حكومته حتى لو كان يتمتع بدرجة عالية من التقوى والعلم والاطلاع، لأنّ غير البالغين غير مكلفين بالأحكام الإلهيّة، ولذا فهم خارجون عن دائرة القوانين والأوامر الإسلامية، وبهذا الدليل لا يعتمد على قضائهم وحكومتهم.

2- كمال العقل: فلا يحق للمجنون ولا لناقص العقل ومن يفقد التعادل الروحي، أن يجلس على مسند القضاء، ودليله واضح.

3- الإسلام والإيمان: فلا تقبل حكومة الخارج عن زمرة المسلمين ومن لم يعتقد بمباني مذهب أهل البيت عليهم السلام ودليله واضح أيضاً.

4- العدالة: وهي مرحلة عالية من التقوى تمنع صاحبها من ارتكاب الكبائر والاصرار

نفحات القرآن، ج 10، ص: 150

نفحات القرآن ج 10 199

على الصغائر، والحق أنّ من لا يتمتع بمثل هذه الدرجة من التقوى لا يُتوقع أن يقضي

قضاءً صحيحاً.

5- العلم والإطلاع على القوانين الإلهيّة: في موارد حقوق الناس والحدود والديات والقصاص والمعاملات، وكذلك مقررات العدالة الإسلامية. فهل ينفذ حكم من يفقد مثل هذا الشرط (الاجتهاد المطلق أو على الأقل المتجزى ء) أو غير المجتهد المطلع على كل المسائل الحقوقية ومقررات العدالة الإسلامية؟ فيه بحث ونقاش بين العلماء والفقهاء، وإن كان المشهور بينهم اعتبار الاجتهاد، حتى أنّ بعضهم اشترط أعلميته على كل علماء مدينته، ولكن هذا الشرط ضعيف.

وعلى كل حال، فإنّه وفي حالة عدم الحصول على العدد اللازم من المجتهدين- المجتهد المطلق- فلا مناص من الاعتماد على غير المجتهدين، والمطلعين منهم على كل المسائل عن طريق التقليد.

6- طهارة المولد: وبعبارة أخرى ولد الحلال، لأنّ ولد الحرام وإن لم يكن له ذنب في كونه ولد حرام، إلّاأنّه غير مقبول في المجتمع الإسلامي، فلا تكون كلمته نافذة، ولا شك في ضرورة نفوذ كلمة القاضي وقبولها- مضافاً إلى ذلك، فإنّ احتمال الانحراف والذنب في مثل هذا الإنسان أكثر من احتمالهما في غيره وإن لم يكن مجبوراً على الذنب والانحراف، (لاحظوا ذلك بدقة).

7- الذكورة: المشهور والمعروف بين علماء الإسلام أنّ القاضي لابُدَّ أن يكون رجلًا، وإن خالف وترددّ بعض فقهاء العامة كأبي حنيفة في هذا الحكم «1».

ومن الواضح أن سيطرة العواطف والاحاسيس عند المرأة لايسمحان لها بالقيام بوظيفة فيها شدّة وصرامة كمسألة القضاء والحكومة، مضافاً إلى أنّ هذا الموضوع مورد اتفاق وإجماع علماء الشيعة.

______________________________

(1) نقل عن أبي حنيفة قبول قضاء المرأة في الأموال، ولكن حكي عن الطبري جواز ذلك بقول مطلق. (بداية المجتهد، ج 2، ص 460، كتاب الاقضية).

نفحات القرآن، ج 10، ص: 151

وهنا ثلاثة شروط وقع البحث في شرطيتها بين العلماء:

8- الحرّية (وعليه لا يمكن أن يكون العبد

قاضياً) ولكن الكثيرين لم يقبلوا هذا الشرط.

9- البصر.

10- السمع.

والواقع، لا يوجد اي دليل على اشتراط هذه الثلاثة، وعليه فلا فرق في صلاحية القضاء عند الحر والعبد (ومن حسن الحظ أنّ موضوع الرقيّة منتفٍ في زماننا).

وأمّا في خصوص السمع والبصر، فإنّ لم يكن القضاء في الموارد التي يحتاج فيها إلى الإبصار أو إلى السمع، فلو كان القاضي أعمى ولكن كان بإمكانه الاستماع والقضاء بدقّة، أو كان أصماً ولكن كان بإمكانه النظر وقراءة ملف الدعوى والقضاء بشكل صحيح، فلا مانع من حكومته، وإن كان الأغلب هو أنّ الأعمى أو الأصمّ لا يمتلك القدرة الكافية للقضاء في كل الموارد، وعليه تكون رعاية هذين الشرطين واجبة غالباً من باب المقدمة.

وما ذكرنا هنا من الشرائط السبعة ولزومها، وعدم لزوم الشرائط الثلاثة الأخيرة، كان في الواقع بنحو الإشارة، وأمّا تفصيل الكلام في ذلك فموكول إلى الكتب الاستدلالية الفقهية «1».

الشرائط الكمالية:

وبالاضافة إلى الشرائط العشرة الانفة، فقد قلنا في البحث السابق أنّ هناك شروطاً وصفاتٍ اخرى اعتبرت في الروايات الإسلامية للقاضي والتي لابدّ من عدّها من شروط الكمال، وقد وردت إشارة إلى القسم المهّم منها في عهد أمير المؤمنين عليه السلام إلى مالك الاشتر (في ضمن الشروط الواجبة)، وهي:

1- «ثُمَّ اخْتَرْ لِلْحُكْمِ بَيْنِ النّاسِ أَفْضَلَ رَعِيَّتِكَ فِي نَفْسِكَ».

2- «مِمَّنْ لا تَضيقُ بِهِ الأُمُورُ».

______________________________

(1) يمكن في هذا المجال مراجعة من كتاب الجواهر، ج 40، ص 12- 23.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 152

3- «ولا تُمَحِّكُهُ الخُصوم»، سعة الصدر.

4- «وَلا يَتمادَى في الزَّلَّةِ»، عدم اللجاجة.

5- «ولا يحْصُر مِنَ الفي ء الى الْحَقِّ اذا عَرَفَهُ»، التسليم للحق.

6- «ولا تُشرِفُ نفسُهُ عَلى طَمَعٍ».

7- «وَلا يَكْتَفي بِادْنى فَهْمٍ دُونَ أقْصاهُ»، عدم الاكتفاء بالتحقيق السطحي.

8- «وَأَوقَفُهُمْ في الشُّبُهاتِ».

9- «وآخَذُهُمْ بِالحُجَجِ».

10- «وأقلُّهُمْ تَبرُّماً بِمُراجَعَةِ

الخَصْمِ».

11- «وأصْبَرُهُمْ عَلى تَكَشُّف الأُمُورِ».

12- «وأصْرَمُهُمْ عِنْدَ اتَّضاحِ الْحُكْمِ».

13- «مِمَّنْ لا يَزْدَهِيه اطْراء وَلا يَسْتَميلُهُ إغْراء».

14- «وَافْسَحْ لَهُ فِي الْبَذْلِ ما يُزيلُ عِلَّتَهُ وتَقِلُّ مَعَهُ حاجَتُهُ إلى النّاس» «1»، ينبغي أن يكون مكتفياً من بيت المال.

ومضافاً إلى ذلك فقد وردت بعض الإرشادات في الروايات الإسلامية في القاضي والتي يمكن عدَّها من جهة ما، شرائط كمالية منها: عدم قبول دعوة الناس إلى طعام، عدم قبول الهدية وأن لا يذهب بنفسه للسوق لشراء حوائجه، وأن لا يدعو احد طرفي الدعوى إلى ضيافته، والورع عن كل الامور التي قد تؤدي إلى تاثير الناس في حكمه وتغيير قناعاته فيحكم بغير الحق عالماً أو جاهلًا.

القرآن وصفات القاضي:

لم ترد الصفات والشروط بشكل مفصل ومبسوط في القرآن الكريم، ولكن وردت

______________________________

(1) نهج البلاغة، عهد الإمام عليّ عليه السلام لمالك الاشتر.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 153

تعبيرات جمعت فيها أكثر الشروط المذكورة.

1- ففي موضع نجد القرآن الكريم يعتبر أنّ اتّباع الهوى يمنع من الحكم بالعدل، حيث يقول تعالى

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للَّهِ وَلَو عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالاقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَولَى بِهِما فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا».

(النساء/ 135)

2- ونفس هذا المعنى جاء بشكل آخر في قصه حكومة وقضاء داود عليه السلام، حيث خوطب داود بقوله تعالى

«يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِى الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ». (ص/ 26)

وبذلك يعتبر القرآن أنّ الورع عن «أمِّ المفاسد»- وهو اتباع هوى النفس- يمثِّل أحد الشروط الأساسيّة للحكومة بالحق، والنقطة المقابلة لها، هي الدرجة العالية من التقوى والمانعة من الانحراف عن مسير العدالة والحق، إلى درجة أنَّ أقوى العواطف الإنسانية كالعلاقات الأُسرية لا

تستطيع أن تؤثر سلباً في تلك التقوى

3- وفي موضع آخر من القرآن- نجد أنّه يعتبر الحكم بما أنزل اللَّه من شروط الإيمان والعدالة «1»، ويؤكد على نبي الإسلام صلى الله عليه و آله أن يكون حكمه مطابقاً لما علّمه اللَّه «إِنَّا أَنْزَلَنَا الَيكَ الْكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بِيْنَ النَّاسِ بِمَا أَراكَ اللَّهُ». (النساء/ 105)

4- وفي موضع آخر نجد القرآن الكريم يُحذّرُ النبي صلى الله عليه و آله من اتباع أهواء الناس، فيقول:

«وأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ الَيْكَ». (المائدة/ 49)

5- كما ويحذرهُ من أن تؤثر العداءات الشخصية في القاضي فيحكم بغير عدل، بل لابدّ أن يكون الحكم والشهادة مطابقين دائماً للعدل والحق، سواءً كانا في حق الصديق أو كانا

______________________________

(1) المائدة، 44، 45، 47.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 154

في حق العدو، يقول تعالى «وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَومٍ عَلَى الَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أقْرَبُ لِلتَّقْوَى . (المائدة/ 8)

النتيجة:

من خلال الآيات المذكورة والروايات الإسلامية وفتاوى كبار الفقهاء في الصفات اللازمة للقضاء والشهادة، وكذلك الصفات الكمالية في القاضي، يمكن أن نستفيد هذه النتيجة وهي: أنّ الإسلام اعتنى عناية خاصة بهذهِ المسألة، وتابع بدقة فائقة قضية العدالة القضائية، وألزم معتقديه بها بشكل يمنع عن أدنى درجة من الانحراف عن الحق والعدالة في القاضي مهما كانت قليلة حتى أنّه اهتم بأصغر الامور التي قد تؤثر في عدالة حكم القاضي وتحرفه عن الحق، وحذّر منها.

ومتى ما اضفنا الشرائط الآتية في الفصل اللاحق حول «آداب القضاء» سيتضح لنا أكثر فاكثر اهتمام الإسلام بهذا الأمر بشكل تتصاغر معه شعارات العدالة التي ترفعها المدارس الاخرى

آداب القضاء في الإسلام:

المسألة المهمّة هي: إنّ الأديان الإلهيّة قد تقدمت على المدارس المادية بخطوات كثيرة في مجالات القضاء والحكومة والقواعد التي تقتضيها المجالس القضائية، بل لا يمكن المقارنة بينهما في هذا المجال، وما ذاك إلّامن أجل الاسس الأخلاقية القوية التي تمتكلها الأديان الإلهيّة في تلك المجالات.

ففي هذه الأحكام نجد لطائف ودقائق كثيرة، وعلى الرغم من أن بعضها مرتبط بالزمان السابق وقد لا يكون له اليوم مورد، ولكنّها من وجهة النظر الاصولية تمتاز بمفهوم قيِّم بالنسبة للمسائل القضائية.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 155

ويكفينا للاستشهاد على ذلك ماجاء على لسان «المحقق الحلي» في كتاب الشرائع في بحث آداب القضاء والذي يعتبر في الواقع عصارة ما ورد في الروايات الإسلامية وكلمات الفقهاء.

حيث يقول: يستحب للقاضي رعاية عدّة امور:

1- أن يطلب من أهل ولايته من يسأله عمّا يحتاج إليه في أمور بلده (أي يتعرف على عادات الناس واوضاعهم الاقتصادية، وأن يتعرف على العلماء والصالحين وحتى القضاة السابقين ليحصل على بصيرة كافية في عمله، إذ إنّ الاطلاع بأوضاع المنطقة والمحل والثقافة الحاكمة

على الناس، له تأثير بالغ في مسألة القضاء والحكومة العادلة).

2- أن يسكن عند وصوله في وسط البلد حتّى ترد الخصوم عليه وروداً متساوياً.

3- وأن يُنادى بقدومه إن كان البلد واسعاً ولا ينتشر خبره فيه إلّابالنداء.

4- أن يجلس للقضاء في موضع بارز، مثل رحبة أو فضاء ليسهل الوصول إليه (لا خلف الأبواب المغلقة محاطاً بالحرس).

5- أن يبدأ بأخذ ما عند الحاكم المعزول من حاجات الناس وودائعهم، لأن نظر الأول سقط بولايته. (وقد كانت العادة في تلك الأزمنة أن يودع الناس ودائعهم عند الحاكم، وكذا الأموال المتنازع فيها).

6- لو حكم في المسجد، صلّى عند دخوله تحية المسجد، ثم يجلس مستدبراً القبلة ليكون وجوه الخصوم إليها (ليستشعر الخصوم أنّهم في محضر اللَّه).

7- ويسأل عن أهل السجون، ويثبت أسماءهم وينادي في البلد بذلك ليحضر الخصوم ويجعل لذلك وقتاً فإذا اجتمعوا أخرج اسم واحد واحد، ويسأله عن موجب حبسه، وعَرَض قوله على خصمه، فإن ثبت محبسه فوجب اعادته، وإلّا اشاع حاله بحيث إن لم يظهر له خصم اطلقه.

وكذا يسأل عن الأوصياء على الأيتام، وأمناء الحاكم، والحافظين لأموال الأيتام (الذين يليهم الحاكم) فيعزل الخائن، ويستبدل به الصالحين بحسب ما يقتضيه رأيه.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 156

8- أن يحضر من أهل العلم من يشهد حكمه، فإن أخطأ نبّهوه.

9- أن لا يتولى البيع والشراء بنفسه (حذراً من مراعاة الناس لحاله فيبيعونه بأقل من القيمة السوقية، فيتأثر بذلك).

10- أن لا يقطب وجهه في مجلس القضاء، فيخاف الناس من بيان مطالبهم بصراحة، وأن لا يكون ليّنا فيتجرأ الخصوم.

11- أن لا يضع فوارق بين الشهود (أن يكون الشهود سواءً الذين يعرفهم أم الذين لايعرفهم، القريب والبعيد سواسية أمام القضاء).

12- أن يجمع الدعاوى المقدمة في كل اسبوع مرّة،

ويرتبها ويحفظها، وكذا ينظم الدعاوى المقدمّة في كل شهر وكل سنة، فينظمها بتواريخها (أو يصدر أوامرهُ بهذا الصدد).

ويقول هذا الفقيه الكبير البارع في بحث وظائف القاضي وما يلزم عليه مراعاته:

في وظائف القاضي وهي سبع:

1- المساواة بين الخصمين في السلام والجلوس والنظر والكلام والانصات والعدل في الحكم، (بمعنى أنّه إذا سلّمَ على أحدهما سلاماً مميزاً بالاحترام فعليه أن يسلّم على الآخر بنفس الكيفية، وكذا في ردِّ السلام دونَ أن تؤثر فيه العلاقات الاجتماعية والمقامات الاجتماعية، وإذا نظر إلى أحدهما بلحاظات معينة فعليه أن ينظر للآخر بنفس الكيفية وحتى إذا استمع إلى كلام احدهما بدقة فعليه أن يستمع لكلام الآخر بنفس الدقة، والحاصل أنّ عليه مراعاة المساواة الكاملة في مجلس القضاء والحكومة في كل الجوانب حتى التشريفات والاحترامات الجزئية، وما ذاك إلّاللحدّ من الانحراف الكلي الكبير).

2- لا يجوز له أن يُلقِّنَ أحد الخصمين مافيه حذر على خصمه ولا أن يهديه لوجوه الإحتجاج.

3- إذا سكت الخصمان، استحبَّ أن يقول لهما تكلّما، أو ليتكلم المدّعي.

4- إذا ترافع الخصمان وكان الحكم واضحاً، لزمه القضاء، ويستحب له ترغيبهما في

نفحات القرآن، ج 10، ص: 157

الصلح، فإن أبيا إلّاالمناجزة، حكم بينهما.

5- إذا ورد الخصوم مترتبين، بُدء بالأول فالأول، فإن وردوا جميعاً، قرع بينهم.

6- إذا قطع المدّعى عليه دعوى المدّعي بدعوى لم تسمع حتى يجيب عن الدعوى وينهي الحكومة ثم يستأنف.

7- إذا بدر أحد الخصمين بالدعوى فهو أولى «1».

ونكرر هنا إنّ البحث الجامع والمستدل حول هذه المسائل موكول إلى كتب الفقه الاستدلالية ومصادر الحديث المعروفة، وما ذكرناه هنا عصارة ما جاء في تلك الكتب ليتضح النظام الحاكم على المؤسسات القضائية الإسلامية، وليتضح الفرق بينه وبين سائر المدارس الوضعية.

والنقطة الاخرى المهمّة هنا هي أن الروايات الإسلامية أوصت

القاضي بأن لا يجلس مجلس القضاء حال الغضب «2».

كما ينبغي عليه أن لا يقضي بين الناس وهو عطشان أو جائع أو حال النعاس (إذ قد تؤثر تلك الامور في قضائه سلباً) «3».

تفاوت كيفية القضاء في الإسلام عن المدارس المادّية:

توجد اليوم في العالم مجالس قضائية كثيرة وهي جذابة بظاهرها ولكن متى ما قارّنا محتوى تلك المجالس القضائية مع المجالس القضائية الإسلامية، نجد بأنّ تلك المجالس المادية خاوية وسخيفة وسوف نجد اختلافات واضحة وبينة فيها، ومن جملتها:

1- ينبغي على القاضي الإسلامي أن يكون صاحب نظر ورأي، ولا يقتصر على مواد القانون فقط، بل لابدّ أن يكون عارفاً بجذورها ومبانيها، مجتهداً فيها، وبعبارة أخرى الاجتهاد في القضاء شرط من شروطه، بينما لا نجد مثل هذا الاشتراط في دنيا اليوم

______________________________

(1) جواهر الكلام، ج 40، ص 139- 149.

(2) وسائل الشيعة، ج 18، ص 156.

(3) كنز العمال، ج 6، ص 103، ح 1504؛ اللمعة الدمشقية، كتاب القضاء.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 158

ومجالسها القضائية حتى يكتفي بمعرفة مواد القانون فقط والاقتصار على تلك المواد، وهذا فرق واضح بين هذه المجالس والمجالس القضائية الإسلامية.

وبتعبير أوضح، أنّ الاطلاع على الأحكام التي جاءت في تحرير الوسيلة (مثلًا) قد يكون عن طريق التقليد وقد يكون عن طريق الاجتهاد، وإن كانت وظيفة القاضي على أي حال تطبيق هذه الأحكام في موارد الدعوى وتشخيص صاحب الحق عن غيره، ولكن هناك فرق واضح بين ما إذا كان مطلعاً على أحكام تحرير الوسيلة عن طريق التقليد، أم عن طريق الاجتهاد وتتبع جذور تلك الأحكام ومبانيها من الكتاب والسنّة والإجماع والعقل، فالإسلام يوحي بالطريق الثاني.

2- في النظم القضائية الحديثة، يُكتفى بلياقة القاضي في حدود القضاء والحكومة فقط، أمّا في الإسلام فإنّ هذا المقدار غير كافٍ، بل لابدَّ

أن يكون القاضي نزيهاً في كل المجالات، إذ إنّ العدالة تعني الورع عن كل أنواع الذنب سواءً كان في دائرة المسائل القضائية، أم في دائرة غير القضاء.

ومن الواضح أن هناك فرقاً كبيراً بين من يكون ورعاً في كل المجالات عن الذنب وبين من يكون ورعاً في مجال معين ودائرة ضيقة، فاحتمال انحراف الثاني أكثر من احتمال انحراف الأول.

3- إذا قضى قاضي المجالس القضائية الحديثة بالحق دون أن يكون مطلعاً، فإنّه لا يكون مسؤولًا، بينما وكما أشرنا آنفاً فإنّ مثل هذا القاضي مسؤول أمام اللَّه في نظر الإسلام، فالوصول إلى الحق لا يكفي وحده لعدم تحمل المسئولية، بل لابدّ أن يكون عن تحقيق واطلاع.

4- يعتبر الارتشاء في نظام القضاء الإسلامي ليس من الذنوب الكبيرة فحسب، بل طبقاً لبعض الروايات فإنّه في حدِّ الكفر والشرك، قال الإمام الصادق عليه السلام: «أمّا الرُّشا فِي الْحُكْمِ فَهُوَ الْكُفْرُ بِاللَّهِ» «1».

______________________________

(1) وسائل الشيعة، ج 18، ص 163، باب تحريم الرشوه، ح 8.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 159

فالإسلام يمنع القاضي حتى من قبول الهدية (بطبيعة الحال الهدايا التي تقدم له باعتبار أنّه في مقام القضاء، سواء قبل الحكومة والقضاء أم بعده) وقصّة الأشعث بن قيس معروفة، حيث جاء ليلًا بهدية إلى دار الإمام عليّ عليه السلام وهي طبق من الحلوى اللذيذة، فقال له الإمام عليّ عليه السلام ما هذا؟

فقال: هدية جئت بها إليك! فغضب الإمام عليه السلام وصاح به:

«هَبَلَتْكَ الْهَبُول أَعَنْ دِيْنِ اللَّهِ أَتَيْتَني لِتَخْدَعَني»؟!

أي تريد أن تعطيني الرشوة باسم الهدية «1».

والملفت للنظر هو أنّ الإسلام يلعن الراشي والمرتشي والواسطة بينهما، وقد ورد في حديث عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله: «لَعَنَ اللَّه الرّاشِي والْمُرْتَشي وَالرّائشَ الَّذي بَيْنَهُما» «2».

وقد وردت

آيات من القرآن الكريم وبشكل مكرر تشير إلى مسألة الرشوة وتذمها، منها قوله تعالى

«وَلَا تأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وتُدْلُوا بِهَا الَى الْحُكَّامِ لَتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ امْوال النَّاسِ بِالأِثْمِ وَانْتُمْ تَعْلَمُونَ». (البقرة/ 188)

وللفخر الرازي هنا تعبير جميل وهو أنّ «الادلاء» مأخوذ من «الدلو» وهو الإناء الذي يستخرج الماء من البئر بواسطته، «والرشاء» بمعنى «الحبل» فكما أنّ الإنسان يستخرج الماء الموجود في الدلو بالحبل، فكذلك الراشي يأكل أموال الناس بواسطة الرشوة التي يعطيها للقاضي.

نعم، فالتعبير ب «ولا تدلوا بها إلى الحكّام» تشبيه وإشارة لطيفة لهذا الموضوع.

ويستفاد أيضاً من سورة المائدة بأنّ علماء اليهود حرّفوا الأحكام الإلهيّة لمنافعهم الخاصة، وقد ذمّ القرآن الكريم هذه الظاهرة، فقد قال تعالى

«وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتى ثَمَناً قَلِيلًا وَمَن لَّم يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَاولِئكَ هُمُ الْكافِرُونَ».

(المائدة/ 44)

______________________________

(1) نهج البلاغة، الخطبة 244.

(2) ميزان الحكمة، ج 4، ص 135.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 160

فمن هذهِ الآيات يمكن الاستنتاج بأنّ القضاء والحكومة للَّه بالدرجة الاولى ومن ثمَّ نقلت منه إلى من يرى فيه المصلحة، وبتعبير آخر:

إنّ غير اللَّه يأخذ مشروعية أحكامه وقضائه من اللَّه تعالى وهذا ما يقتضيه التوحيد الأفعالي وحاكمية اللَّه أيضاً.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 161

الحدود والتعزيرات في الإسلام

اشارة

في معرض البحث عن النظام القضائي في الإسلام، لابدّ من الإشارة السريعة إلى مسألة «الحدود والتعزيرات» (وتفصيل ذلك موكول إلى كتاب أو كتب مستقلة) وهذا البحث في الحقيقة مكملُ لأبحاث القضاء في الإسلام، لأنّ وظيفة القاضي هي «احقاق الحقوق» و «اجراء الحدود» ليردع المجرمين، ويحذّر المنحرفين والذين تلوثت أيديهم بالاجرام، وهنا لابدّ من بحث وتسليط الضوء على عدّة مواضيع.

1- فلسفة الحدود والتعزيرات في الإسلام

لا شكّ في أنّ تشريع الأحكام الإلهيّة إنّما هو من أجل دعوة الناس إلى القسط والعدل، وهداية المجتمع إلى طرق الأمن والامان، ليتمكن الناس من كسب الفضائل والتخلص من الرذائل، والسير إلى اللَّه ومقام القرب الإلهي والذي هو أعلى مقصد للخلق.

ولما لم تكن الأحكام الإلهيّة بمفردها مؤثرة في كل النفوس، كان من اللازم أن تقترن بالانذار والتبشير من أجل خلق الدافع لدى الناس للتحرك باتجاه العمل بها.

ولمّا لم تكن الانذارات والبشارات الاخروية كافية لردع بعض الناس من ارتكاب المخالفات وداعية لقيامهم بالواجبات والوظائف الفردية والاجتماعية، كان من اللازم تعيين مجازات دنيوية لاولئك الذين يتجاوزون الحدود الإلهيّة المرسومة، ويسحقون الحق والعدالة باقدامهم، لتكون تلك المجازاة ضامناً لإجراء هذه الأحكام بين أولئك الذين لم يتربوا تربية دينية كافية والذين يفتقدون التقوى الدينية.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 162

ولا شكّ في أنّ النظام الإسلامي يختلف في هذا المضمار عن النظم المادية، إذ لا يوجد في تلك النظم أي ضامن إجرائي غير تلك المجازاة الدنيوية والمادية، ولذا فإنّ كل حكم فاقدٍ لمعاقبة المتخلف لا يعدُّ في نظر تلك النظم قانوناً وحكماً، وإنّما يعتبر في نظرهم توصية أخلاقية فحسب.

وأمّا في النظم الإلهيّة، فإنّ الاعتقادات القلبية، والإلتزامات المعنوية والإيمان بمحكمة العدل الالهي العظيمة يوم القيامة والاعتقاد بمراقبة اللَّه في الدنيا، كل ذلك يعتبر من

الدوافع المهمّة وضامناً إجرائياً قوياً، ولكن لما لم يكن ذلك الداعي موثراً في كل النفوس لوحده، كان من الضروري أن يكون إلى جنبه ضامناً إجرائياً ماديّاً، وعقوبة دنيوية.

واهتمام الشارع المقدس بإجراء الحدود والمجازاة ضد المتخلفين وصل إلى حدٍّ بحيث ورد في الروايات المتعددة:

«حدٌّ يُقام في الأرض أزكى من مطر أربعين ليلة وأيّامها».

وهذا الحديث مروي عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وعن الإمام الباقر عليه السلام والإمام الصادق عليه السلام أيضاً، وفي بعض النصوص وردت كلمة «أفضل» أو «أنفع» بدلًا عن كلمة «أزكى «1».

ونقرأ في حديث عن الإمام السابع موسى بن جعفر عليه السلام في تفسير قوله تعالى «يُحيي الأرض بعد مَوْتِها» قال عليه السلام: «لَيْسَ يحييها بالقَطر ولكن يَبْعَثُ اللَّه رجالًا فَيُحيونَ العَدْلَ فتحيى الأرضُ لاحياء العَدْلِ ثمَّ قال عليه السلام: ولإقامَةُ الحَدّ فَيه أَنْفَعُ في الأرضِ من القَطر أربعين صباحاً».

وكيف لا يكون إجراء الحدِّ «أنفع» و «أفضل» و «أزكى من قطر أربعين صباحاً، وسلامة وأمن المجتمع إنّما هي في ذلك الأصل، وأنّ جذور كل خير وبركة في إجراء الحدود، إذ إنّ الأحكام المباركة التي تجلب الخير والنعمة والمنافع الاقتصادية لا تفيد بلا وجود أمن وأمان في المجتمع، كما أنّ أمن المجتمع لا يحصل بدون إجراء الحدود واحقاق الحق، ولولا ذاك لعمَّ الفساد والظلم في المجتمع ولقتل الناس بعضهم بعضاً وخُرِّبت المدن واستضعف

______________________________

(1) وسائل الشيعة، ج 18، باب 1 من أبواب مقدمات الحدود، ح 2، 3، 4.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 163

عباداللَّه، ولهذا فإنّ أول ما طلبه إبراهيم الخليل عليه السلام من ربّه عندما بنى الكعبة، هو أن يجعل ذلك البيت آمناً فقال: «رَبِّ أجْعَل هَذَا بَلَداً آمِنَاً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ

الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَومِ الآخِرِ». (البقرة/ 126)

وبذلك طلب نعمة الأمن قبل الأرزاق الاخرى لأنّه كان يعلم أنّ فقدان الأمن يمنع من الاستفادة من المواهب الاخرى

2- معنى الحدِّ والتعزير

«الحدود»: جمع «حدّ» وهو لغةً بمعنى «المنع»، وانتخاب هذا الاسم لقسم من المجازاة الشرعية هو لأنّها تمنع الناس من ارتكاب بعض المخالفات القانونية الشرعية. وهي في الاصطلاح الشرعي في عبارات الفقهاء، مجازاة خاصة تجرى في حق المكلفين لارتكابهم بعض الذنوب.

وأمّا «التعزير» في اللغة فهو بمعنى «التأديب» وقد يأتي أحياناً بمعنى «التعظيم» أو «النصرة» و «المنع»، وفي الاصطلاح بمعنى المجازاة والاهانة، حيث لم يرد فيها مقدار معين في الشرع وإنّما أوكلت إلى نظر القاضي، فهو الذي يحدد مقدار ونوع التعزير طبقاً «لميزان الجرم» الذي يرتكبه المذنب و «مقدار تحمله».

وعلى هذا فالفارق بين «الحدِّ» و «التعزير» هو أنّ مقدار الأول ثابت ومحدد، وأمّا التعزير فهو في الأغلب غير معين، وقلنا (في الأغلب) لأنّ بعض التعزيرات ورد فيها مقدار معين في الروايات الإسلامية، وتفصيل ذلك في كتاب الحدود، ومع ذلك وقع الخلاف في أنَّ تعيين المقدار في تلك التعزيرات هل هو معيّن قطعي أم أنّه مذكور من باب المثال والمصداق؟

وتوجد بعض الفوارق الاخرى بين الحدِّ والتعزير، حتّى عَدَّ الشهيد في كتاب «القواعد» عشرة وجوه للاختلاف بينهما ولامجال هنا لتفصيل الكلام فيها «1».

______________________________

(1) القواعد، الشهيد الأول، ج 2، ص 142.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 164

3- تعداد الحدود الإسلامية
اشارة

ورد في الإسلام عشرة حدود أساسية لعشرة ذنوب كبيرة، وذكرت أربعة منها في القرآن المجيد صريحة، واستفيدت الستة الباقية من السنّة الشريفة.

1- حدُّ الزنا

جاء في قوله تعالى

«الزَّانِيَةُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُما مِاْئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأَفَةٌ فِى دِيْنِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُما طَآئِفَةٌ مِّنْ المُؤمِنِينَ». (النور/ 2)

ففي الآية إشارة إلى حد زنا المرأة والرجل، ولم يرد فيها «الاستثناءات» و «الجزئيات» الاخرى مثل أحكام زنا المحصن والمحصنة والزنا بالمحارم والامور الاخرى من هذا القبيل والتي بيّنتها السنة والروايات الإسلامية بشكل مفصل.

2- حدُّ السرقة

جاء في قوله تعالى

«وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ».

(المائدة/ 38)

ويوجد في هذا المورد أيضاً بعض الشروط والاستثناءات في قطع يد السارق التي وردت في السنّة والروايات الإسلامية، ونحن نعلم بأنّ القرآن الكريم يذكر غالباً أصول المسائل فقط ويترك التفصيل والشرح للسنّة.

3- حدَّ القذف

ورد في قوله تعالى فيما يرتبط بنسبة الأعمال المخالفة للعفّة للأشخاص المنزهين عنها، ما يلي:

«وَالذَّيِنَ يَرْمُونَ الُمحصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلَدةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ». (النور/ 4)

نفحات القرآن، ج 10، ص: 165

فهذه المجازاة الثلاثية للقاذف، ذكرت لتطهير المحيط الاجتماعي وحفظ احترام وكرامة الناس، وللحد من اشاعة الفحشاء والفساد، كما أنّ هناك بعض الشروط والخصوصيات والاستثناءات ذكرت في الروايات الإسلامية.

4- حدُّ المحارب

وردت في القرآن المجيد مجازاة ثقيلة لأولئك الذين يحاولون الاخلال بأمن المجتمع، وأولئك الذين يتعرضون بالأسلحة لأنفس وأموال وأعراض الناس، وهذهِ الشدَّة والصرامة في المجازاة إنّما هي لردع الأشرار، يقول تعالى

«إِنَّما جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِى الأَرضِ فَسَادَاً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصلَّبوا أَو تُقَطَّعَ أَيْديِهمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِى الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِى الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ». (المائدة/ 33)

والمقصود من المحارب، وكما أشرنا أيضاً، هو الشخص الذي يحمل السلاح ويتعرض لأموال الناس وأعراضهم وأنفسهم بالسلاح، سواء أكان ذلك من قطّاع الطرق أو من أهل المدن أو من الأشقياء الذين يتعرضون للناس بالسكّين والأسلحة الباردة فيعتدون على أنفس الناس وأموالهم ونواميسهم، والملفت للنظر أنّ القرآن عدَّ هولاء من المحاربين للَّه ولرسوله صلى الله عليه و آله وهذا دليل على اهتمام الإسلام الفائق بالحريات والأمن الاجتماعي وحقوق الناس.

وهناك كلام بين الفقهاء والمفسرين في أنّ هذه الأنواع الأربعة من الحدود المذكورة في المحارب، هل هي على التخيير وبإمكان القاضي أن ينتخب أيّها شاء، أم أنّها معينة ولكنها تختلف باختلاف الجناية التي يرتكبها المحارب؟ فمثلًا المحارب الذي يقتل الأبرياء، جزاؤه الاعدام، والذي يتجاوز على أموال الناس فجزاؤه أن تقطع أصابعه، وإن ارتكب الجنايتين معاً فجزاؤه الاعدام

والصلب لاعتبار النّاس، وإن شهر السلاح فقط في وجه الناس وأرعبهم بدون أن يرتكب جناية أخرى فإنّ جزاءَهُ النفي عن بلده، ولا مجال

نفحات القرآن، ج 10، ص: 166

هنا لبيان اختلاف الفقهاء والمفسرين بشكل مفصل، ومن أراد التفصيل فليراجع كتب الفقه المطولة (كتاب الحدود بحث «حدّ المحارب») وتفاسير القرآن ومن جملتها «التفسير الامثل» «1».

هذهِ الحدود الأربعة وردت في القرآن المجيد، وأمّا الحدود الستّة التي وردت الإشارة إليها في السنّة فهي كالآتي.

5- حدُّ المرتد
اشارة

والمراد به، الشخص الذي يعتنق الإسلام ثم يعود إلى الكفر ويعلن كُفره، وقد ذكر الإسلام له حدّاً شديداً (ولذلك فلسفة خاصة سنشير إليها فيما بعد).

في القرآن الكريم وردت الإشارة فقط إلى ذمِّ هولاء المرتدين بشدّة وتوعدهم بالعذاب الإلهي العظيم، بدون أن يتعرض إلى الجزاء الدنيوي لهم، قال تعالى

«مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالايمانِ، وَلَكِنْ مَّنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرَاً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ». (النحل/ 106)

ويقول عزوجل في موضع آخر:

«كَيْفَ يَهدِى اللَّهُ قَوماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيْمَانِهِمْ وشَهدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ البَيِّناتُ وَاللَّهُ لَايَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِين* أُولئِكَ جَزَائُهُمْ أَنَّ عَلَيهِمْ لَعنَةَ اللَّهِ وَالمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ». (آل عمران/ 86- 87)

وكما أسلفنا فإنّه لم ترد إشارة في القرآن الكريم إلى حدِّ الارتداد، ولكن العذاب العظيم الذي وعِدَ به المرتد يحكي عن الجزاء الدنيوي الثقيل أيضاً.

والمشهور بين الفقهاء هو أن المرتدّ إن كان فطرياً (وهو الذي انعقدت نطفته من أب وام مسلمين أو على الأقل أحدهما مسلم) فحدُّه القتل ولا تقبل توبته (إذا كان رجلًا)، وإن كان

______________________________

(1) التفسير الأمثل، ذيل الآية مورد البحث.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 167

مرتداً ملياً، وهو الذي ولد من أب وام كافرين، يستتاب فإن تاب

وإلّا قُتل، ومن جملة من يلحق بالمرتد، الشخص الذي يسبّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله- نعوذُ باللَّهِ- ويهينهُ، ويلحق بالنبي والأئمّة المعصومين عليهم السلام وفاطمة الزهراء عليها السلام، وفي الحقيقة أنّ هذا العمل يعد من جملة أسباب الارتداد، وعليه فلا داعي لذكره كحدٍّ مستقل، وإن عنونه بعض الفقهاء في كتاب الحدود في الفقه الإسلامي بعنوان حدٍّ مستقل، وتوجد بعض الروايات الخاصة في اباحة دم مثل هذا الشخص، وردت في المصادر الإسلامية «1».

لماذا كلُّ هذه الصرامة في المرتدّ؟

الملاحظ هو أنّ الإسلام لم يتعامل بشدّة مع أولئك الذين لم يقبلوا الإسلام أصلًا، وإنّما يدعوهم إلى الإسلام بالاعلام والتبليغ المنطقي، فإن لم يقبلوا الإسلام وقبلوا العيش مع المسلمين بشرائط الذّمة فإنّه لا يكفّ عنهم فحسب بل يتكفل برعاية أموالهم ومنافعهم المشروعة وأنفسهم.

وأمّا بالنّسبة إلى أولئك الذين اعتنقوا الإسلام ثم ارتدوا فإنّه يتعامل معهم بشدّة، وما ذلك إلّالأنّ الارتداد عن الإسلام يؤدّي إلى زعزعة المجتمع الإسلامي ويعدُّ نوعاً من الانتفاضة ضد الحكومة والنظام الإسلامي، ويكون غالباً دليلًا على سوءُ نوايا المرتدّين.

ولذا وكما سبقت الإشارة فإنّ مثل هذا المرتد الذي انعقدت نطفته من أب أو امٍ مسلمين، وعدل عن الإسلام وأعلن ذلك وثبت ارتداده في المحكمة الإسلامية، فإنّ الإسلام يهدر دمه، وتقسم أمواله على أقربائه المسلمين وتنفصل عنه زوجته ولا تقبل توبته ظاهراً، أي أنّ هذه الأحكام الثلاثة تجري عليه على أيّة حال.

وأمّا إذا كان نادماً حقاً فإنّ توبته تقبل مابينه وبين اللَّه (هذا في الرجل أمّا في المرأة فإنّ توبتها تقبل ولا تقتل)، وأمّا إذا لم يندم ولم يتب، ولكنه لم يتفوه ظاهراً بما يدل على ارتداده، لم يتعرض له أحد باذى

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18، ص 458، كتاب الحدود

الباب 25، ح 1- 4.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 168

وإذا لم يكن المرتد عن الإسلام مولوداً من مسلمين أو من مسلم من طرف واحد فإنّه يؤمر بالتوبة، فإن تاب قبلت توبته ولم تجر عليه تلك الأحكام، وأمّا إذا لم يتب جرت عليه (ويكفي في ذلك التوبة الظاهرية، ولم نؤمر بالتّحقيق في حقيقة أمره).

ومن وجهة النظر السياسية قد يبدو أنَّ حكم المرتد الفطري نوع من الارهاب العقائدي والفكري، خصوصاً لأولئك الذين لم يطلعوا على حقيقة محتوى هذهِ الأحكام، ولكن الانصاف أننا إذا لاحظنا أنّ هذهِ الأحكام غير مرتبطة بأولئك الأشخاص الذين يعتقدون بامور لم يظهروها للملأ، وإنّما هي مختصة بالمرتدين الذين يعلنون ارتدادهم، فهم في الحقيقة يعلنون عن ثورتهم ضد الحكم الإسلامي، وعليه فمن الواضح أنّ هذه الصرامة والشدّة في حقهم ليست خالية من الدليل، كما أنّها لا تتنافى أبداً مع حرية الرأي والعقيدة، فكم من دولة شرقية وغربية تجري قوانيناً شبيهة بهذا القانون مع اختلافات بسيطة حيث إنّها تهدر دم كل من يحاول التعرّض والثورة ضد الحكومة.

وينبغي الالتفات إلى هذه النكتة وهي أنّ قبول الشخص للإسلام لابدّ أن يكون طبقاً للمنطق والعقل، خصوصاً أولئك الذين ولدوا من أبوين مسلمين وترعرعوا في محيط اسلامي، فإنّه من البعيد جدّاً أنّهم لم يتعرفوا على محتوى الإسلام، وعليه فإنّ ارتدادهم عن الإسلام أقرب ما يكون إلى سوء النيّة والخيانة منه إلى الاشتباه وعدم درك الحقيقة، فمثل هذا الشخص يستحق جزاء الارتداد.

ورد في القرآن الكريم الآية 72، 73 من سورة آل عمران، الحديث عن طائفة من المتآمرين على الإسلام الذين يظهرون الإسلام أولًا ثم يظهرون الكفر بعد ذلك ليوهموا الآخرين أنّهم لم يجدوا في الإسلام من عناصر القوة شيئاً يدفعهم إلى

البقاء على اعتناق الإسلام، ولذا فإنّهم عدلوا عنه، وهدفهم من ذلك زلزلة اعتقاد المسلمين بإسلامهم وإيمانهم، فقد ورد في قوله تعالى

«وَقَالَتْ طائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِى انْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ». (آل عمران/ 72)

نفحات القرآن، ج 10، ص: 169

وخلاصة الكلام: أولًا: إنّ حكم توبة المرتد الفطري مختص بالرجال المتولدين من مسلمين، وقبلوا الإسلام أولًا ثم رجعوا عنه، فمن لم يقبل الإسلام عند بلوغه، لا تشمله تلك الأحكام!

ثانياً: الأشخاص الذين لازالوا في حال التحقيق والفحص، غير مشمولين بهذا الحكم حتى لو كانت نتيجة تحقيقهم هي الرجوع عن الإسلام واعتناق عقيدة أخرى لكن بشرط أن لا يظهروا خلافهم وعداءهم للإسلام بالقول، فلا يتعرض لهم حينئذٍ أحدٌ، ويعفون عن تلك العقوبات.

ثالثاً: متى ما سُكِتَ عن المرتدين، خيف على الإسلام من التآمر عليه يومياً من قبل جماعات (كاليهود في صدر الإسلام) وخيانة المسلمين وزلزلة اعتقادات الناس والثورة ضد الحكومة الإسلامية عن طريق اظهار الارتداد، ومن هنا يعمّ الهرج والمرج العظيمين في المجتمعات الإسلامية، خاصة وإن مثل هذهِ الأعمال التخريبية لها آثار سريعة وخطيرة، ولذا فإنّ الإسلام تعامل معها بشدّة وصرامة.

6- حدّ شرب الخمر

بحثت مسألة شرب الخمر وآثارها الوخيمة في عدّة آيات من القرآن الكريم، ولكن لم يرد في القرآن حدُّ شرب الخمر، وإنّما ورد ذلك في الروايات الإسلامية، وحدّ شرب الخمر هو ثمانين جلدة، فقد ورد في حديث عن بريد بن معاوية عن الإمام الصادق عليه السلام قال:

«إنَّ فِي كِتابِ عَلِيّ يُضْرَبُ شارِبُ الْخَمْرِ ثَمانِينَ وَشارِبُ النَّبيذِ ثَمانينَ» «1».

(والخمر هو الشراب المتخذ من العنب، والنبيذ: الشراب المتخذ من التمر وقد يطلق أحياناً على معنى أوسع).

وقد ورد في بعض الروايات تعليل هذا الحدّ بأنّ شارب

الخمر يسكر فاذا سكر افترى وتعرض بالقذف (لناموس الناس، ومن هنا كان حدُّه حدِّ القذف) «2».

______________________________

(1) مرآة العقول، ج 23، ص 330، ح 4.

(2) المصدر السابق، ص 331، ح 7.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 170

7- حدُّ اللواط

لقد بيّن القرآن الكريم قبح هذا العمل وعظمة هذا الذنب حين استعرض قصة قوم لوط عليه السلام، وباعتقاد بعض المفسرين فإنّ إشارة إجمالية وردت في بيان حدِّه في قوله تعالى

«وَالَّذَانِ يَأتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآَذُوهُما فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَاعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّاباً رَّحِيماً». (النساء/ 16)

وهذا مبني على أنّ «اللّذان» إشارة إلى الرجلين وأنّ الضمير في «يأتيانها» إشارة إلى اللواط، في حين أنّ هذا الضمير يعود إلى كلمة «الفاحشة» التي وردت في الآية السابقة على هذهِ الآية إشارة إلى «الزنا».

وعلى أيّة حال فإنّ حدّ اللواط طبقاً للروايات الإسلامية هو الاعدام، في صورة تحقق الادخال، فإن لم يتحقق فالجلد وقد وردت روايات كثيرة في هذا المعنى عن الأئمّة المعصومين عليهم السلام «1».

8- حدّ المساحقة

وللمساحقة في الإسلام حدُّ شديد، وهو طبقاً للمشهور، كحدِّ الزنا، مائة جلدة، ولا فرق فيه بين المحصنة وغيرها.

وهذا المطلب ورد في روايات عديدة عن أئمّة الدين «2».

ولا يوجد في القرآن الكريم ما يدلُّ بصراحة على هذا الحكم، ولكن بعض المفسرين يرى أنّ في سورة النساء إشارة إلى ذلك، يقول تعالى

«وَاللَّاتى يَأْتِينَ الفَاحِشَةَ مِنْ نِّسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِّنْكُم فَإِنْ شَهِدُوا فَأمْسِكُوهُنَّ فِى الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوفّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا». (النساء/ 15)

ولكن أغلب المفسرين عدَّ هذهِ الآية إشارة إلى حكم الزِنا قبل نزول حكم الجلد في سورة النور، والقرائن الموجودة في هذهِ الآية والآية التالية لها تؤيد هذا المعنى أيضاً.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، ج 18، ص 416 أبواب حدّ اللواط.

(2) المصدر السابق، ص 42، أبواب حدّ السحق والقيادة.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 171

9- حدّ القيادة

القيادة أو الوساطة بين النساء والرجال الذين يرتكبون الأفعال المنافية للعفّة، لها حدٌّ ثابت ومعين في الإسلام أيضاً (وأن لم يُذكر ذلك الحدُّ في القرآن)، وطبقاً للمشهور فإنّ حدّ القيادة هو الجلد 75 جلدة، أي ثلاثة أرباع حدِّ الزنا «1».

10- حدّ الساحر

يذمُّ القرآن المجيد السحر والسحرة بشكل واضح، حيث نقرأ في قصة موسى وفرعون، على لسان موسى عليه السلام: «وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيثُ أتَى . (طه/ 69)

وفي قصة هاروت وماروت (المَلَكَيْن) ورد ذمُّ شديد، حيث عدّت الآيات القرآنية الواردة في هذِهِ القصة السحر كفراً، حيث جاءت في سورة البقرة، الآية 102.

ولكن لم ترد إشارة في القرآن الكريم إلى حدِّ الساحر، وإنّما ورد في الروايات الإسلامية إنّ حدَّ الساحر القتل «2».

وهناك خلاف بين الفقهاء في أنَّ هذا الحدَّ مطلق وبدون قيد وشرط أم أنّه خاص بأولئك الذين يحلّون السحر ويفعلونه أو بتعبير آخر «المرتدين»؟

كما أنّ هناك كلام بين العلماء في حقيقة السحر، وإنّه هل للسحر واقعية أم أنّه نوع تخّيل؟ أم أن بعضه واقعي وبعضه تخيّل؟

ومن هنا، بحثت مسألة السحر بشكل مطول في الكتب الفقهية «3».

وما ينبغي معرفته هنا هو أنّ شدّة الإسلام وصرامته في مسألة السحرة قد يكون باعتبار أنّ هؤلاء السحرة وقفوا بوجه الأنبياء وحاربوهم كما هو واضح من قصة سحرة فرعون،

______________________________

(1) راجع كتاب جواهر الكلام، ج 41، ص 400؛ وكتاب وسائل الشيعة، أبواب حدّ السحق والقيادة، الباب 5، ج 18، ص 429.

(2) وسائل الشيعة ج 18، ص 576.

(3) وهذا البحث تارة عنون في المكاسب المحرمة في مبحث تحريم السحر، وتارة في كتاب الحدود، في مبحث حدِّ الساحر.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 172

وأحياناً يقوم هؤلاء السحرة بدور إغواء الناس البسطاء فيحرفونهم عن الاعتقاد بمعاجز الأنبياء، وهذا

ذنب عظيم يستوجب عقاباً شديداً.

كان ذلك، فهرسة للحدود الإلهيّة في الإسلام، الهدف منها تطهير المجتمع والحدّ من انتشار الفساد والمنكرات وضياع الأمن بين الناس.

ومضافاً إلى هذهِ الحدود، وكما أشرنا سابقاً، فإنّ بعض العقوبات الاخرى مقررة في الإسلام، سمّاها الفقهاء «التعزيرات» (والتعزير ياتي بمعنى المنع، التأديب، التعظيم والاحترام والنصرة أيضاً كما بينا ذلك سابقاً، وكل هذهِ المفاهيم تجتمع مع التعزير بمعنى «العقاب»، وذلك لأنّ التعزير يمنع المجرم والمذنب من الذنب، ويؤدبه، ويبعث على احترامه وتعظيمه في المستقبل، وينصره على هواه ونفسه الأمارة).

قلنا بان «التعزيرات» هي العقوبات التي تجري في الذنوب التي لم يرد فيها حدُّ معين.

وتوضيح ذلك:

إنّ كل قانون لابدّ من ضامن لتنفيذه، بمعنى السند الّذي يوجد دافعاً عقلائياً لاجرائه، فإن خلى القانون من هذا السند تبدل إلى توصية أخلاقيّة بحتة، وخرج عن النطاق العملي.

صحيح أنّ الدوافع الإلهيّة والثواب والعقاب يوم القيامة، من الدوافع القوية عند المؤمنين، ولكن الإسلام لم يكتف بهذهِ الحوافز الاخروية وإن كان يحترمها ويقدسها، ولكنه أضاف إليها دوافع دنيوية ومادية، ليعمل من كان ضعيف الإيمان والذين لا تؤثر فيهم الوعود الاخروية كثيراً، على رعاية تلك القوانين خوفاً من العقاب على أقل التقادير، كي لا يتحول المجتمع إلى ميدان يجول ويصول فيه المفسدون الفاسدون عديمو أو ضعيفو الإيمان.

ولما كانت الذنوب يختلف بعضها عن البعض الآخر، كما ويختلف المرتكبون لها من جهة الاطلاع والعمر والسوابق الاخلاقية، وكذا المكان والزمان، وقدرة تحمل تلك

نفحات القرآن، ج 10، ص: 173

العقوبات، اختلفت التعزيرات أيضاً، فأوكل تعيينُها إلى نظر القاضي فيراعي فيه الشروط بدّقة من كل الجهات فيعين ما يراه مناسباً للمجرم.

وفي الحقيقة، إنّ كل العقوبات الإسلامية متفاوتة- ماعدا بعض الموارد التي ادرجت في الحدود المعينة، فيؤثر في التعزير

ومقداره أحوال المجرم وكيفية وكميّة الذنب الذي يرتكبه، ولذا فتعيين مقدار التعزير موكول إلى نظر القاضي.

عدّة نكات مهمّة في التعزيرات الإسلامية:

1- وحدة القرار

إنّ حرّية القضاة في تعيين مقدار التعزير وإن كانت امتيازاً ونقطة قوة مضيئة تمنحهم إمكان تعيين التعزيرات المناسبة للمجرمين كلٌ بحسب جرمه، ولكن هذه المسألة تصير سبباً أحياناً في اختلاف القضاة في المناطق المختلفة في كمية التعزيرات للجرم الواحد، وهذا الأمر لم يكن يشكل مشكلة في الزمن الماضي حيث كانت المناطق متصلة بعضها عن البعض الآخر، ولكن اليوم وبالالتفات إلى الاتصالات السريعة والواسعة بين المناطق المختلفة، يشكل ذلك مشكلة حقيقية.

ولهذا الدليل، فلا مانع من أن يجلس أهل النظر والقضاة البارعون في جلسات مشتركة لتعيين حدود للتعزيرات، ولكن ينبغي أن لا تكون تلك التعزيرات معينة وإنّما كحدٍ أعلى وحدٍّ أدنى كالحبس والغرامة المالية والعقوبات الإسلامية وامثال ذلك لتكون التعزيرات على نسق واحد في المناطق المختلفة.

وهذا الأمر ينسجم تماماً مع الموازين الإسلامية، وعلى أقل تقدير يمكن الاستدلال على مشروعيته بالعناوين الثانوية.

2- عدم اقتصار التعزير على الجلد

التعزير- وكما أسلفنا- له معنى واسع يشمل كل ردع وتأديب، ولا يوجد أي دليل على

نفحات القرآن، ج 10، ص: 174

أنّ هذا المعنى قد تغيّر في الشرع الإسلامي المقدس أو في اصطلاح الفقهاء (وبالاصطلاح ليس له حقيقة شرعية أو متشرعية)، كما أنّه لم ينقل إلى معنى جديد في اصطلاح الفقهاء، وإن كان كثير من الفقهاء وتبعاً للروايات اعتمدوا على مصداق خاص منه (الجلد)، ولكن بيان هذا المصداق المعروف لا يُعدُّ دليلًا على انحصار مفهوم التعزير بالجلد، وإن توهّم بعضٌ أنّ التعزير مساوٍ للضرب والجلد.

ولكن التحقيق والتدقيق في كلمات الفقهاء يثبت بطلان هذا التصور.

يقول العلّامة الحلّي- قدس سرّهُ الشريف- في «التحرير» بعد أن يبيّن أنّ التعزير ورد للجنايات والذنوب التي لم يرد فيها حدٌّ معين:

«وَهُوَ يَكُونُ بِالضَّرْبِ وَالحَبْسِ وَالتُّوبِيخِ مِنْ غَيْرِ قَطْعٍ وَلا جَرْحٍ وَلا أَخْذِ مالٍ» «1».

ويقول

في كتاب «الْفقه على المذاهب الأربعة» بعد نقل كلام «ابن القَيِّم» وإن ظاهر عبارته أن الحاكم له تعزير المجرمين بأي طريقة يرى فيها الصلاح- سواءً الحبس أو الضرب-: «وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّ التَّعزِيرَ باب واسع يُمْكِنُ لِلْحاكِمِ أنْ يَقْضي بِه عَلَى كُلِّ الْجرائم الَّتي لَمْ يَضَعِ الشّارِعُ لَها حدّاً أَوْ كَفّارَةً عَلَى أنْ يَضَعَ العقُوبَة المُناسِبَةَ لكلِّ بَيئةٍ ولكلِّ جَرِيْمَةِ مِنْ سَجْنٍ أَوْ ضَرْبٍ أَوْ نَفيٍ أَوْ تَوبيخٍ أَوْ غَيْرِ ذلِك» «2».

هذهِ مقتطفات من كلمات فقهاء الخاصة والعامة.

ومضافاً إلى ذلك، فإنّ روايات كثيرة وصلتنا في ابواب مختلفة من الفقه، تدلُّ بوضوح على سعة معنى مفهوم ومصداق التعزير يطول المقام بذكرها هنا، ومن رغب في الوقوف عليها لابدَّ له من مراجعة بحث التعزير في كتاب الحدود والتعزيرات.

ومن مجموع ماورد في كتب «اللغة» و «كلمات الفقهاء» و «الروايات الإسلامية» في أبواب الفقه المختلفة، يمكن الاستنتاج بوضوح أن الحاكم الإسلامي غير مقيد بانتخاب نوعٍ معين من أنواع التعزير، والموارد ادناه كلها من جملة التعزيرات، بشرط رعاية حال المجرم

______________________________

(1) التحرير، ج 2، ص 239.

(2) الفقه على المذاهب الأربعة، ج 5، ص 400.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 175

والمحيط الاجتماعي وكمية وكيفية الذنب وسائر الجهات:

1- الضرب باشكال مختلفة.

2- الحبس بكيفية وكمية متفاوتة.

3- الغرامة المالية، أي أخذ مقدار من المال، وتوقيف أموال المجرم لمدة معينة (كحجز سيارات المتخلفين عن قوانين المرور).

4- التوبيخ العلني والسرّي.

5- النفي إلى منطقة اخرى لمدّة طويلة أو قصيرة، وترك المراودة، أو ترك التعامل مع المجرمين.

6- المنع من السفر إلى خارج البلدة، أو الدولة، أو حتى الإقامة الجبرية في المنزل.

7- المنع من التكسب والاشتغال لمدّة معينة.

8- حرمانه من العمل في بعض المناصب، والحقوق الاجتماعية.

9- التشهير بالمجرم عن طريق وسائل الاعلام بشكل

محدود أو موسع.

10- حرمانه من بعض الامتيازات، كمنعه من ارتداء زي الروحانيين، بالنسبة إلى الأفراد الذين يرتدون ذلك الزي.

وامور اخرى يمكنها أن تردع المتخلفين والمجرمين، وتحدَّ من تكرار تلك الذنوب من قبلهم ومن ارتكابها من قبل الآخرين.

3- معنى تخيير الحاكم في التعزيرات

هناك كلام طويل بين الفقهاء في مقدار التعزيرات التي يُخيّر فيها القاضي، ولكنهم متفقون على أن التعزير لابدّ أن يكون اقلَّ من الحدِّ وإن اختلفوا في الحدِّ الذي لابدّ أن يكون التعزير أقلَّ منه، وهل هو حدُّ الزنا، أم أقل الحدود، أم أنّه يتناسب مع الذنب المرتكب؟

وما ينبغي التنبيه عليه هنا هو أنّ المراد من تخيير القاضى في انتخاب كمية وكيفية التعزير، لا يعنى أنّه يتبع ميوله الشخصية في ذلك، بل المراد في التخيير هو فسح المجال

نفحات القرآن، ج 10، ص: 176

للقاضي لكي يأخذ بنظر الاعتبار مناسبات «الجرم» و «الجريمة» من كل الجهات، فالقاضي وإن كان ظاهراً مخيرٌ في تعيين التعزير إلّاأنّه في الحقيقة ليس مخيراً، لأنّه يُعيّن لكل جرم مقداراً من العقوبة يتناسب مع ذلك الجرم، بمعنى أنّ الجرم إذا كان يقتضي الحبس لمدة شهر من الزمان، أو عشرين جلدة فلا يمكنه زيادة تلك المدّة أو عدد الجلدات حتى يوماً واحداً أو جلدة واحدة، أو فلساً واحداً في الغرامة المالية.

4- التعزيرات في القرآن الكريم
اشارة

ذكرت في القرآن الكريم بعض موارد التعزير يمكن أن تكون نموذجاً للحكم الكلي الإسلامي:

أ) قصة المتخلفين عن غزوة تبوك

وتوضيحه: نقرأ في قوله تعالى

«وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى اذَا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الارْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا انْ لَّامَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ الَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا انَّ اللَّهَ هُوَ التَّوابُ الرَّحِيمُ». (التوبة/ 118)

فقد بُيِّنَ في هذه الآية بنحو الإشارة، وفي الروايات والتفاسير بنحو التفصيل، التعزير العجيب الذي مارسه النبي الأكرم صلى الله عليه و آله في حق أولئك النفر الثلاثة الذين تخلفّوا عن غزوة تبوك (والذين لم يأتمروا بأمر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وتركوا الجهاد بدون عذر وجيه).

وهؤلاء الثلاثة طبقاً لتصريح بعض الروايات هم «كعب بن مالك» و «مرارة بن ربيع» و «هلال بن اميّه»، ومع أنّهم لم يكونوا من المنافقين ولكنهم تخاذلوا عن الجهاد في تبوك، ثم انتبهوا إلى أنّهم ارتكبوا ذنباً عظيماً، وندموا على ذلك.

وعندما رجع الرسول الكريم صلى الله عليه و آله من غزوة تبوك، جاء هؤلاء الثلاثة إليه وقدموا الاعتذار، ولكن الرسول صلى الله عليه و آله لم يكِّلمْهُمْ وأمر المسلمين بأن لا يكلّموهم، فلم يكلّمهم أحدٌ

نفحات القرآن، ج 10، ص: 177

وقاطعهم الناس حتى أنّ نساءهم وأولادهم جاءوا إلى النبي صلى الله عليه و آله وطلبوا منه الرخصة في الانفصال عنهم، فلم يسمح لهم الرسول صلى الله عليه و آله بالانفصال التامِّ عنهم وإنّما أمرهم بعدم مقاربتهم.

وعندما وجَدَ هؤلاء المتخلفون أنفسهم في حصار اجتماعي رهيب وضاقت عليهم الآفاق على سعتها اضطروا إلى ترك «المدينة» هرباً من الفضيحة والذلّ، والتجأوا إلى الجبال في أطراف المدينة، فكان أهلوهم يأتونهم بالطعام ولكن كانوا لا يكلمّونهم حتى بكلمة واحدة!

وحينئذٍ قال أحدُهم لصاحبيه: والآن وقد قاطعنا

الناس تعالوا ليقاطع أحدُنا الآخر، فلعلَّ اللَّه يقبل توبتنا!

وتحقق هذا الاقتراح عملياً، وبعد خمسين يوماً من التضرع والتوبة إلى اللَّه، قبلت توبتهم ونزلت الآية الآنفة الذكر «1».

وبمختصر تدقيق في هذه الحادثة التاريخية العجيبة، يتضح لنا أنّ هذا الأمر في الواقع نوع مهمّ من التعزير، وإنّه سجن معنوي شديد مقترن بالتحقير والتشهير والطرد المؤقت من المجتمع، وقد ترك أثراً بليغاً في نفوس المسلمين وفي نفوس هؤلاء المجرمين الثلاثة، وصار سبباً في ترك مثل هذهِ الذنوب في المستقبل.

وهذهِ القصة شاهد حيٌّ آخر على عمومية مفهوم التعزير وعدم اختصاصه بالجلد بالسياط، وتدلّ أيضاً على أنّ بعض أنواع التعزيرات لها تأثير أقوى وأبلغ بكثير من الجلد بالسوط، وإنّه يكون موجباً للنهي عن المنكر بشكل أوسع في المجتمع.

ب) قصة ثعلبة

والمورد الآخر هو قصة أحد الأنصار (ثعلبة بن حاطب) والتي ورد ذكرها في الآيات وهي قوله تعالى

______________________________

(1) تفسير مجمع البيان؛ وتفسير روح الجنان، ذيل الآية مورد البحث؛ وسفينة البحار.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 178

«وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ* فَلَمَّا آتَاهُمْ مِّن فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَولَّوْا وَّهُمّ مُعرِضُونَ* فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِى قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوْهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ* أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الغُيُوبِ». (التوبة/ 75- 78)

يعتقد كثير من المفسرين أنّ هذهِ الآيات نزلت في شأن أحد الأنصار واسمه «ثعلبة بن حاطب»، لقد كان هذا الرجل فقيراً، يأتي إلى المسجد دائماً ويطلب من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أن يدعو اللَّه أن يعطيه مالًا كثيراً، فكان النبي صلى الله عليه و آله يقول له: «قليلٌ تؤدّي شُكْرَهُ خيرٌ من كثير لا تُطيقُهُ»، ولكن ثعلبة

كان يصرُّ ويلِحُّ على النبي صلى الله عليه و آله، ويُقسم بأنّه سيؤدّي كل ما عليه من حقوق فيما لو أعطاه اللَّه المال الكثير، فاضطر النبي صلى الله عليه و آله إلى أن يدعو اللَّه أن يعطيه مالًا كثيراً.

لم تمض فترة طويلة إلّاومات ابن عمّ ثعلبة وكان غنيّاً، فورث ثعلبة ثروة طائلة، وكانت ثروته تزداد يوماً بعد آخر، فصار يملك قطعاناً من الأنعام.

وعندما حان موسم الزكاة بعث الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله الجباة لجمع الزكوات، فلم يمتنع ثعلبة الذي ذاق لتوّه لذَّة المال عن دفع الحق الإلهي فحسب، بلْ أخذ يُشكل على أصل تشريع الزكاة أيضاً! وادّعى أنّها «شبيه الجزية» التي تؤخذ من أهل الكتاب! (عاد مأمور رسول اللَّه صلى الله عليه و آله صفر اليدين، فنزلت الآيات المذكورة أعلاه في ذمِّ ثعلبة وبخله ونفاقه ونقضه العهد!).

نزول هذهِ الآيات بنفسه يُعدُّ تعزيراً شديداً في حقه، لأنّها فضحت افعاله القبيحة.

وطبقاً لبعض الروايات فإنّ ثعلبة ومن أجل استعادة حيثيته وجبر هذهِ الخسارة الاجتماعية الفادحة، جاء بنفسه إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وأعلن عن استعداده لدفع زكاة أمواله، ولكن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله رفض قبولها منه!

رَحَل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إلى جوار ربّه، فجاء ثعلبة ثانية إلى الخليفة الأول ليؤدّي زكاة ماله، فلم يقبلها منه الخليفة الأول!

وفي زمن الخليفة الثاني والثالث جاء ثعلبة ليدفع زكاة أمواله، فكان جواب كل منهما له

نفحات القرآن، ج 10، ص: 179

هو: لا نقبل منك لأنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لم يقبل منك، ومات ثعلبة في آخر أيّام خلافة عثمان «1».

ففي الآيات الآنفة الذكر، وإن لم يُصرَّح بمسألة التعزير، ولكن

نفس هذا الأمر (نزول الآيات في ذم فعل ثعلبة وفضحه، ومعاملة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله والخلفاء لثعلبة بتلك الكيفية)، يعتبر من مصاديق التعزير، وقد ترك ذلك أثراً عميقاً في نفسه ونفوس الآخرين، ولا يراد من التعزير إلّاردع المذنبين سواءً بالعقاب المادي أو المعنوي.

ج) آية الايذاء

وكما أشرنا سابقاً، فإنّ القرآن قد أمر بمعاقبة الرجال والنساء (الذين لا أزواج لهم) ويرتكبون الزنا، حيث يقول تعالى «والَّذَانِ يَاْتِيَانِهَا مِنكُم فَآذُوهُمَا ...». (النساء/ 16)

فإن كان المراد من الايذاء هنا هو نفس الحدّ الشرعي الوارد في الآية 2 من سورة النور:

«الزَّانِيَةُ والزَّانى ..»، فحينئذٍ لا علاقة له ببحث التعزيرات بل يدخل في بحث الحدود، ولكن متى ما قلنا أنّ المنظور من «الايذاء» هو العقاب بنحو مطلق والذي ليس له حدُّ وحدود معينة مذكورة وإنّه يرتبط بما قبل نزول حدِّ الزِنا- كما قاله جمع من المفسرين- فإنّه حينئذٍ سيرجع إلى التعزيرات، لأنّه عقاب غير معين في حق الزناة غير المحصنين كان موجوداً في الإسلام قبل تشريع حدّ الزنا.

وقد ذكر المرحوم «الطبرسي» في مجمع البيان معنيين لجملة «آذوهما» كلاهما يتلائم مع التعزيرات، الأول: هو أنّ المراد منها توبيخهما بالألفاظ وضربهما بالنعل! والثاني: هو أنّ المراد منها توبيخهما بالكلام فقط «2».

د) آية النشوز

______________________________

(1) القسم الأول من هذهِ الرواية نقله كثير من المفسرين، والقسم الأخير منها ذكر في تفسير الكبير، ج 16 ص 138؛ وتفسير روح الجنان، ج 6، ص 74.

(2) تفسير مجمع البيان، ج 3، ص 21.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 180

نلاحظ في القرآن الكريم حكماً يرتبط بالنساء الناشزات، ويعتبر هو الآخر من مصاديق التعزيرات، مع أنّ الأزواج قد امروا بمراعاة الاحتياط في إجراء هذا الحكم، يقول عزوجل:

«وَالَّلاتِى تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِى المَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَانْ اطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا». (النساء/ 34)

والمراد بالناشزات أولئك النسوة اللاتي يمتنعن عن أداء وظائف الزوجية، واللاتي تظهر فيهنَّ علامات عدم الوئام المختلفة «1».

ففي الآية أعلاه، ذكرت ثلاثة أنواع من التعزير لمثل هؤلاء النسوة، الأول: الوعظ والنصيحة (ويجب أن لا ننسى بأنّ

الوعظ في كل مورد يعدُّ من مراتب التعزير، لما له من الأثر الرادع)، الثاني: الهجر والابتعاد عنهُنَّ في المضاجِع، الثالث: العقاب البدني، وكل من المرحلتين الثانية والثالثة إنّما تجري مع عدم نجاح المرحلة السابقة لها في التأثير.

فإن سُئلنا: هل يجري ذلك في الرجل إذا نشز وطغى

قلنا في الجواب: نعم! ولكن لما كان مثل هذهِ العقوبات خارجة عن طاقة النساء، فإنّها أوكلت إلى الحاكم الشرعي، فيكلف الحاكم بمعاقبة الرجال الناشزين بوعظهم ونصيحتهم أو ضربهم في موارده.

وقصة الرجل الذي أجحف بحق زوجته ولم يقبل الرضوخ إلى الحق فأجبره الإمام عليّ عليه السلام على التسليم بكل الطرق حتى اضطر إلى تهديده بالسيف، معروفة.

ومن هنا يتضح الجواب عن السؤال الذي قد يخطر في أذهان الكثير من الناس عند ذكر هذهِ الآية وهو: كيف يمكن أن يسمح الإسلام للرجال بضرب نسائهم، في حين أنّ هذا الأمر يسي ء إلى كرامة الإنسان وخصوصاً شريك الحياة، وذلك:

«أولًا»: أنّ المراد من الضرب والعقاب البدني هنا ليس أن يأخذ الرجل السوط وينهال على زوجته ضرباً حتى يختلط لحمها بدمها، ولا أن يضربها بكفّه على وجهها حتى يسودّ وجهها، فإنّ كل ذلك غير جائز في شرع الإسلام المقدس، بل وعليه الدّية لو فعل ذلك، بل

______________________________

(1) «نشوز» من مادة «نشز» على وزن «نذر» وفي الأصل بمعنى الأرض المرتفعة، وإذا اطلق على أحد الزوجين كان معناه طغيان ذلك الزوج وامتناعه عن أداء وظيفته تجاه زوجه.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 181

المراد هو الضرب الخفيف الذي لا يؤدّي إلى الجرح ولا إلى احمرار واسوداد الجسم، حتى قال بعض المفسرين في توضيح الآية: ضرب كضرب اليد بالسواك! أو ما شابه ذلك ممّا يؤدّي إلى ايلامها، ولكن ينبغي أن لا يكون

شديداً فيجرحها.

«ثانياً»: يجب أن لا ننسى أنّ النساء على أربعة أقسام:

القسم الأول: النساءٌ المؤمنات الصالحات، الواقفات على مسؤوليتهنَّ في الأسرة وذلك على أثر اللياقات الذاتية والتربوية المكتسبة عندهُنَّ، ومثل هؤلاء النسوة لابدّ من احترامهن من قبل أزواجهن على أتمِّ وجه، وهُنَّ مصداق الآية: «وَعَاشِرُوهُنَّ بِالمعَرُوفِ». (النساء/ 19)

والقسم الثاني: أولئك النسوة اللاتي يتخلفن عن أداء وظائفهنَّ في محيط الأسرة، فيتسبَبْنَ في ايذاء أزواجهنَّ، ولكن تخلفهن ليس عميقاً وفاحشاً، بل يمكن أن يتأثرن بالوعظ والنصيحة خوفاً من اللَّه، ويرجعن إلى الحق لتقواهُنَّ، فهؤلاء مشمولات بقوله:

«فعِظوهُنَّ» في الآية المذكورة.

والقسم الثالث: النسوة اللاتي يكون نشوزهُنَّ عميقاً، ولا ينفع معهن الوعظ ولكن ولأرواحهنَّ الشفافة يؤثر فيهن الهجر، فانّهن لا يرغبن إلّافي العيش بصلح وصفاء، فهؤلاء يشملهنّ: «وَاهجُرُوهُنَّ فىِ المَضَاجِعِ». (النساء/ 34)

فيبقى القسم الرابع: فقط من النساء اللاتي يتمردنَّ على أزواجهن ويمتنعن عن أداء وظائفهنَّ، ويتمادَين في غيهن وعنادهنَّ، ولجاجتهنَّ، فلا تقوى عندهن فتمنعهن عن ذلك، ولا وعظ ينفع ويؤثر فيهن، ولا هجر في مضجع يكدِّر أرواحهن، فلا سبيل إلّاالشدّة، ومن هنا فإنّ الإسلام في هذا المورد فقط يجيز للزوج أن يؤدب زوجته بالضرب الخفيف ويعزّرها، وهذا الأمر رائج حتى في المجتمعات الشرقية والغربية المعاصرة، حتى أنّ المعترضين على هذا القانون الإسلامي يمارسون ذلك بأنفسهم أيضاً في مثل هذهِ الظروف والحالات، فمع تلك الظروف التي بيّناها لا يُعدُّ هذا الأمر عجيباً لا يتلائم مع احترام كرامة الإنسان.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 182

«ثالثاً»: هذا الأمر لا يختص بالنساء، بل يشمل الرجال إذا ما نشزوا وامتنعوا عن أداء وظائف الزوجية، وبنفس تلك المراحل المذكورة، ففي البدء لابدّ من وعظهم ونصيحتهم، فإن لم يؤثر ذلك، فالتعزير المعنوي كالهجر وعدم الاكتراث بهم في المجتمع حتى يرجعوا

عن غيهّم، فإن لم يؤثر ذلك، فلابدّ من اتباع سبيل الضرب وأمثاله من العقوبات، ولكن وكما قلنا سابقاً: بما أنّ هذا العمل لايمكن للنساء القيام به وأنّ سلطة الرجل تحول دونه، أرجع الأمر إلى الحاكم الشرعي فهو المكلف بايقاف هؤلاء الرجال عند حدّهم.

وبالالتفات إلى النكات الثلاثة السابقة، لا نظن أن منصفاً يعترض على هذا الحكم ويدعي أنّه خلاف كرامة الإنسان.

ولابدّ من التنبيه إلى أنّه ورد في ذيل هذهِ الأحكام الثلاثة مباشرة قوله تعالى: «فَإنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا». (النساء/ 34)

نفحات القرآن، ج 10، ص: 183

أحكام السجن في الإسلام

تمهيد:
اشارة

كما ذكرنا في بحث التعزيرات، فإنّ «السجن» من أنواع «التعزيرات» والوسائل الرادعة للمتخلفين والمجرمين، مضافاً إلى أنّه لا مفر من الحبس، والتوقيف في بعض الأحيان وذلك للحد من فرار المتهمين، أو الضغط والتضييق على المدينين لاجبارهم على أداء ديونهم، ولهذا فإنّ أحكام السجن لها موقع خاص في الفقه الإسلامي، وسنشير هنا ببعض الإشارات لتكميل البحث المرتبط بالحكومة الإسلامية، وإن كان أداء حق هذا البحث يتطلب تأليف كتاب أو كتب مستقلة، وبعض المحققين قد كتب أيضاً في هذا المجال بعض الكتب «1».

1- تأريخ السجن
اشارة

لا يتأتى لأحد أن يحدد تاريخاً دقيقاً لتاسيس أول سجن في تاريخ البشرية، لأنّ هذهِ المسألة تعود تقريباً إلى بدايات الحياة الاجتماعية للبشرية، ومنذ ذلك اليوم الذي وجدت فيه الحكومات فالسجون كانت موجودة، بل وحتى غير الحكام كالملّاك الجبّارين والاقطاعيين الظالمين، قد اعدوا بعض الأمكنة لسجن عبيدهم ورعيتهم، حتى أنّ بعضهم كان يحبسهم في اصطبلات الحيوانات!

وأمّا في خصوص تاريخ تأسيس السجن في الإسلام، فقد اتفق المؤرخون تقريباً على

______________________________

(1) من جملتها كتاب «أحكام السجون» للدكتور الشيخ أحمد الوائلي، وهو أحد المصادر التي اعتمدنا عليها في بحثنا هذا.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 184

أنّه لم يكن في عصر النبي صلى الله عليه و آله سجن بشكل رسمي، لا لأنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لم يكن يُجوِّز ذلك، بل لعدم اتساع المجتمع حينذاك وخاصة في بداية الإسلام حيث كان الناس يلتزمون بالقوانين الإلهيّة، وقلّما كان يوجد شخص متخلف عن تلك القوانين.

ولذا لا نرى في القرآن الكريم عبارة أو جملة واحدة تدل على وجود السجن في ذلك العصر مطلقاً.

ولكن وفي نفس الوقت كانوا يستعينون بطرق اخرى بالنسبة إلى المجرمين الذين لابدّ من توقيفهم حتى يتعين التكليف

فيهم، أو المَدينين الذين يمتنعون عن أداء ديونهم مع امتلاكهم المال اللازم لذلك، أو الأسرى الذين يؤسرون في حروب المسلمين، ومن جملة تلك الطرق:

1- كان المجرمون يحبسون أحياناً في المسجد، ولّما لم يكن في ذلك الوقت قفلٌ وقيدٌ ونحو ذلك، كانوا يوكلون شخصاً لمراقبة ذلك السجين كي لا يفَّر من المسجد، أو أنّهم كانوا يخطُّون دائرة حوله ويوصونه بعدم اجتياز ذلك الخط المستدير، وإلّا فهو مسؤول عن ذلك! والمتهم أيضاً ولأسباب اجتماعية خاصة ولأجل أن لا يتضاعف عقابه، لم يكن يتخطى ذلك الخط المرسوم حوله، ولعلَّ التعبير «بالترسيم» في بعض الروايات إشارة إلى هذا المطلب.

2- الحبس في دهليز المنازل إذ إنّ أكثر المنازل كان لها دهليز طويل بين باب الدار وباحتها وفي أكثر الأحيان كان لها باب يفصلها عن باحة الدار، فلو اغلقت البابان تحوّل الدهليز عملياً إلى سجن.

3- نفس المنازل كانت نوعاً آخر من السجون، وكما ورد في القرآن الكريم الأمر بحبس النساء في المنازل، يقول تعالى: «وَالَّلَاتِى يَأْتينَ الْفَاحِشَةَ مِن نَّسَائِكُمْ فَاستَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ اربَعَةً مِّنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَامْسِكُوهُنَّ فِى الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمُوتُ اوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا». (النساء/ 15)

ولا يخفى أنّ هذا الحكم كان قبل نزول حدِّ الزنا، وعندما نزل، نسخ الحكم المذكور.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 185

4- «الملازمة» وهي شكل آخر من السجون، وتكون بهذا الترتيب مثلًا، بأن يلازم الدائنُ المدين المتمكن ولا ينفصل عنه حتى يأخذ حقه.

5- مسألة «استرقاق الأسرى تعتبر أيضاً قائمة مقام السجن، وقد وردت أحكامها مفصلًا في الفقه الإسلامي.

هذه أشكال بدائية وبسيطة للسجون، وقد تغيرت وتعقّدت بمرور الزمن واتساع المجتمع الإسلامي وتعقيد الحياة وزيادة عدد المجرمين، وأصبح السجن على شكل بناء مخصص، وإن كان السجن موجوداً وبشكل

كامل في بلدانٍ اخرى وقبل قرون من الزمن.

أولُ سجن أُسّس زمن عمر بن الخطاب:

على الرغم من اصرار بعض المؤرخين على عدم وجود سجن بمعنى المحل الخاص لحجز المجرمين في زمن الخلفاء الثلاثة الأُوَل، وإن السجن بُني في زمن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، إلّاأنّ هذا الادّعاء مخالف لكثير من الروايات التي ورد فيها أنّ «عمر» كان أول من أقدم على تأسيس السجن في الإسلام.

والشاهد على هذا الأمر هو ما ذكره «ابن همان» في كتاب «شرح فتح القدير» المصنف في الفقه الحنفي حيث يقول:

«لم يكن السجن موجوداً في زمن النبي صلى الله عليه و آله ولا زمن خلافة أبي بكر، بل كان المجرمون يُحجزون في المسجد أو في دهليز المنازل، حتى جاء «عمر» فاشترى بيتاً في مكة بأربعة آلاف درهم وجعله سجناً «1».

وقد ذكر هذا المطلب في كتب أخرى أيضاً ككتاب «النظم الإسلامية» وكتاب «الجنبات المتحدة بين القانون والشريعة»، فقد صرّح هؤلاء أنّ «عمر» اشترى تلك الدار من «صفوان بن أميّة» أحد زعماء مكة، وقد ذكر هذا المطلب أيضاً في كتاب «المهذب» لأبي إسحاق

______________________________

(1) شرح فتح القدير، ج 5، ص 471.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 186

الشيرازي، المصنف في الفقه الشافعي، وأنّ عمر اشترى تلك الدار وبدّلها إلى سجن «1».

ومن هنا نجد أنّ بعض الشعراء في زمن الخليفة الثاني قد ضمنوا أشعارهم ببعض الأبيات التي لم ترق للخليفة أو أنّها كانت مخالفة للشرع فكان عمر يأمر بحبسهم في تلك السجون، ولذا نظم بعضهم بعض الأبيات معتذراً ومبيناً براءته من التهمة، ومن مجموع هذه الأمور يتضح الشاهد الحي على وجود السجن في زمن خلافة عمر.

ومن جملة هؤلاء الشعراء، «الحطيئة» الذي حبسه عمر فانشد هذين البيتين وأرسلهما إلى عمر:

ماذا تقول لأفراخ بذي

مرخ حُمرِ الحواصِل لا ماءٌ ولا شجرُ!

ألْقَيتَ كاسِبَهُمْ في قَعرِ مُظلمةٍفارحَمْ عليك سلامُ اللَّه يا عُمَرُ!

ومن تعبيره «قعر مظلمة» بالخصوص يستفاد أنّ ذلك السجن كان عميقاً ومظلماً فكأنّه كان طامورة.

وهناك قرائن اخرى تدل على وجود مثل هذا السجن في زمن عمر، إذ مع اتساع رقعة العالم الإسلامي يزداد عدد الجرائم والمجرمين لا محالة، فلا يمكن تصور عدم وجود سجن ومحبس للمجرمين.

السجن في زمن أمير المؤمنين علي عليه السلام:

والوجه الوحيد الذي يبقى للجمع بين كلام أولئك الذين نفوا وجود السجن في زمن عمر وبين كلام أولئك الذين يصرّون على وجوده هو أنّ عمر لم يقدم على بناء السجن وإنّما اكتفى بشراء دار «صفوان بن أميّة» بأربعة آلاف درهم واستفاد منه في هذا المضمار.

وأمّا في عصر أمير المؤمنين علي عليه السلام فإنّه أقدم شخصياً على بناء السجن (لكي تراعى المسائل الإنسانية بشكل أفضل في حق المسجونين، وللحِّد من فرارهم).

والظريف في هذا المقام هو أنّ التواريخ نقلت أنّ الإمام عليه السلام بنى أولَّ سجن من «البواري»

______________________________

(1) المهذب، ج 2، ص 294.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 187

لتوفير الاضاءة والتهوية الكافيتين وسمّاه «النافع» (ولعلّ هذه التسمية لأنّ الحبس كان من أجل تربية المجرمين وإصلاحهم)، ولكن وللاسف فإنّ بعض المجرمين استغلَّ شفقة الإمام عليه السلام وأساء الاستفادة من هذا السجن، فقام بعض اللصوص بثقب حائط ذلك السجن وهربوا منه، فاضطر الإمام عليه السلام إلى بناء سجن محكم من الطين وسمّاه «المخيَّس».

وكما أشرنا آنفاً فإنّ الدولة الإسلامية كانت قد اتسعت رقعتها في زمن عمر بن الخطاب بشكل لا يمكن معه إدارة المجتمع دون وجود سجن للمجرمين، والظاهر أنّ الاصرار على انكار هذا الموضوع يعود إلى الأوضاع السياسية والتوصيات القومية، وإلّا فإنّ التاريخ يشهد هو الآخر على هذا الأمر مضافاً

إلى قرائن الأوضاع والاحوال.

وعلى أيّة حال كان السجن في ذلك الوقت مجرد محلٍّ لحجز المجرمين والمدينين والسارقين وأمثال هؤلاء، ولم يكن ذلك السجن محلًا للمخالفين السياسيين أبداً، فلو صار وجودهم مضراً في المجتمع فإنّهم كانوا يرسلون إلى المنفى كما هو الحال في قضية أبي ذر الغفاري التي نقرأها في التاريخ، حيث إنّ عثمان وحاشيته لم يتحملوا صراحة لسان أبي ذر الذي كان على الدوام يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فاضطروا إلى نفيه إلى أرض وعرة بلا ماء ولا كلأ باسم «الربذة» وبقي هناك إلى أن ودّع دار الفناء وانتقل إلى جوار ربّه، ولكن سنرى أنّ السجن قد تغيّر جدّاً في عصر بني أمية وصار مقراً لاعتقال الخصوم السياسيين والمعارضين المؤمنين والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر.

2- فلسفة وأقسام السجون
اشارة

ينبع عشق الإنسان للحرية من عشقه الملتهب للتكامل والرقي، ولا يمكن لأي موجود سجين أن يستمر في سيره التكاملي، وحتى الحيوانات تتغرب في أقفاصها مهما تهيأت لها ظروف العيش في تلك الأقفاص، فهي ترجح الحرية على أسر القفص وإن كانت الأخطار تهددها خارج القفص.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 188

ولهذا، فإنّ الحيوانات الاسيرة في الأقفاص لا تبدي أي مظهر من مظاهر الفرح والراحة كالتغريد واللعب إلّاإذا كانت قد ولدت في نفس تلك الأقفاص ولم تذق طعم الحرية.

وإذا كان ذلك غريزة كامنة في الحيوانات، ففي الإنسان يتلاحم هذا الشعور العاطفي مع الإدراك العقلي، فيطلب الإنسان بالدليل والبرهان حريته، ولهذا الدليل نفسه يعتبر السجن وسلب الحرية منه نوعاً من أنواع العقاب الصعب والمُرِّ.

ولا شك في أنّ أكثر السجون على طول التاريخ كانت تعبر عن أبشع صور الظلم من قبل الطغاة والحاقدين للوصول إلى مقاصدهم الدنيئة اللامشروعة، ولكن ذلك لا يمنع في أن يكون للسجن فلسفة

وأهميّة واقعية، وآثار إيجابية في إصلاح الأفراد ومحاربة الفساد الاجتماعي.

فالاعتقال وسلب الحرية، يُعدُّ وسيلة ثقيلة للضغط على المسجونين لتحقيق أحد الامور العشرة التالية التي تشكل فلسفة الحبس.

1- السجن الايذائي

هذا النوع من السجن يكون عادة للأشخاص الذين يرتكبون المخالفات، فالسجن يسلبهم الحرية ليقفوا على قبح أفعالهم، ويردعهم عن تكرارها في المستقبل، ولكي يعتبر الآخرون بذلك. وهذا السجن موجود منذ القدم وحتى الآن، وكل حكومة لها مثل هذا السجن (إلّا في بعض الموارد الاستثنائية).

2- السجن الإصلاحي

وهذا السجن يستفاد منه لحبس الأفراد الذين يعتادون على الامور السيئة (كالمعتادين على المخدرات) والذين لا ينفع معهم النصح والإرشاد، فلا مهرب من حبسهم في هذا السجن وعزلهم عن المجتمع لمدّة قصيرة أو طويلة، لإصلاحهم واجبارهم على ترك ما اعتادوا عليه.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 189

3- السجن الاحتياطي

كأن تحدث حادثة مهمة كمقتل نفس محترمة، ولم يُعرف القاتل ولكن يُتهم البعض بالقتل، وحينئذٍ لابدّ من التحقيق للتعرف على القاتل، ولمنع هروب المتهمين وعدم التمكن من القبض على القاتل بعد ثبوت الأدلة الكافية، لابدّ من توقيف المتهمين فترة التحقيق المؤقتة، فمن ثبتت براءته قدّم الاعتذار إليه وأُطلق سراحه، ومن ثبت جُرمه عوقب بالعقاب الذي يستحقه.

وهذا النوع من السجون كالأنواع السابقة كان ولا يزال موجوداً في كل مكان تقريباً، ومن الطبيعي أنّ التحقيقات لابدّ أن تتمّ على وجه السرعة، إذ قد يكون المتهم بريئاً في الواقع، فينبغي أن لا يبقى فترة طويلة في الحبس.

4- السجن التأديبي

وهذا السجن يُستفاد منه عادة في حق الأطفال الذين لا تشملهم القوانين، والذين لو اطلق عنانهم لأساءوا استغلال الحرية الممنوحة لهم وسلكوا طريق الانحراف، ومن هنا كان لابدّ من ايداعهم في مثل هذا السجن في مقابل ارتكابهم بعض الذنوب. ليتم تأديبهم وتربيتهم.

5- السجن السياسي

يطلق لفظ «السجين السياسي» على أولئك الأشخاص الذين يقومون بنشاطات سياسية معارضة لمصلحة المجتمع والنظام الحاكم، وقد تكون تلك النشاطات أحياناً غير معارضة لمصلحة المجتمع، بل قد تكون في مصلحته ولكنها مخالفة لمطامع الحكم المتسلط على رقاب أبناء المجتمع (كالسجناء السياسيين في أكثر البلاد هذا اليوم، حيث يتمّ حبس هؤلاء الأفراد حتى لو كان الحق معهم).

6- السجن الاستحقاقي

ونقصد بالاستحقاق هنا، أخذ الحق، فمثلًا، لشخص على آخر دينٌ يمتنع عن أدائه إليه

نفحات القرآن، ج 10، ص: 190

مع أنّه متمكن من الأداء، فهنا قد يحبس المدين حتى يضطر إلى دفع ما عليه للدائن، ولكن هنا لابدّ من الافراج عنه فوراً بمجرد أن يقبل دفع حق الدائن إليه، لأنّ فلسفة الحبس تنتهي بهذا المقدار.

7- سجن الحفظ
اشارة

وهذا السجن قد يوجد ولكن بندرة، وهو مورد بعض الأشخاص الذين اشتد غضب الناس عليهم إلى درجة أنّ وجود هؤلاء الأشخاص في المجتمع يشكل خطراً على حياة الناس، في حين أنّهم على فرض ارتكابهم ذنباً فإنّهم لا يستحقون الاعدام، ومن هنا تضطر الدولة وهي الحافظة لمصالح الناس إلى نقل هؤلاء الأشخاص إلى سجن معين حتى تهدأ ثائرة المجتمع ضدهم، ومتى ما عادت الأوضاع إلى حالتها الطبيعية اطلق سراح هؤلاء الأشخاص، وكما قلنا فإنّ مثل هذا السجن نادر التحقق، وقد تحققت مصاديقه في حالات الثورات والانتفاضات الشعبية والحركات الاجتماعية.

ما ذكرناه من الاقسام السبعة أعلاه، فلسفة معقولة يمكن تصورها للسجن.

وفي قبال هذه الفلسفة المعقولة، توجد أهداف ومبررات لا معقولة وظالمة كانت العامل الأصلي لكثير من السجون في دنيا الأمس واليوم ولا تزال، ويمكن هنا ذكر عدّة أنواع منها:

1- السجن الانتقامي

سجن ليس له هدف معقول اطلاقاً، إلّاأنّ الجبّارين والظلمة والاقطاعيين وللانتقام من الاحرار والرعية حيث يحمل هؤلاء الجبّارون حقداً أعمى في قلوبهم على الناس، فيلقون بهم في السجون، وكم من شاهد من التاريخ أنّ بعض هؤلاء الناس يبقون في تلك السجون حتى يموتوا وتتهرأ أجسادهم؟

نفحات القرآن، ج 10، ص: 191

2- السجون المعدة لقمع التحرر

يحاول الجبّارون كسر روح المقاومة المعنوية أو الجسدية عند المناضلين الثائرين ضدهم، فيلقون بهم في السجون لأجل ذلك، وأحياناً يكون الحبس توأماً مع الاهانة والتعذيب الروحي والجسدي، ومن الواضح أنّ الأفراد المقاومين الصامدين سيخرجون من هذه الحلبة سالمين غانمين، بل يزدادوا أحياناً صلابة وتجربة وعزيمة كالفولاذ الذي يصهر في الحرارة فيصير أكثر صلابة ونقاءً، ولكن قد يؤثر هذا السجن سلباً في بعض الأشخاص الضعفاء أو ممن هم في مستوى متوسط من الإيمان والعزيمة، فنراهم بعد التحرر من السجن يغيرون مسيرحياتهم ويتركون نضالهم، وقد ينحرف بعضهم ويعمل ضمن أجهزة القطاع الظالم، وذلك للضغوط التي واجهوها في السجن.

3- السجن لعزل القيادة عن القاعدة

هذه السجون خاصة بقادة الدين والقادة السياسيين، حيث إنّ الجبّارين وعندما يضيقون ذرعاً بجهاد هؤلاء يحاولون التفكيك بينهم وبين قواعدهم ومؤيديهم، فيلقون بالقادة في السجون، والملفت للنظر أنّ هذه السجون يكون لها في أكثر الموارد نتيجة معكوسة بحيث تؤدي إلى زيادة الانسجام والتآلف بين القواعد والقيادات، فتعزر مكانة القادة في قلوب مؤيديهم، وتزيد من جماهيريتهم.

4- السجن لرفع المضايقات

أحياناً يكون وجود العالم، المخترع، القائد، أو أي فرد لائق، مزاحماً لوجود الحكام الجبّارين، فما يكون من الجبّارين إلّاأن يودعوا هؤلاء في السجون ليرتاحوا من مضايقاتهم ومزاحمتهم، ويستمروا في تسلطهم وتجبّرهم دون مزاحم.

حتى أنّ التاريخ نقل لنا أنّ بعض الجبّارين قام بسجن أزواج نساء جميلات من دون ذنب سوى السيطرة على نسائهم!

نفحات القرآن، ج 10، ص: 192

5- السجن بسبب النزاهة

ومن أعجب أنواع السجن على طول التاريخ، السجن الذي يبتلى به بعض الأشخاص بسبب نزاهتهم وبراءتهم، ولابدّ من الإلتفات إلى النزاهة والطهارة تعدُّ جُرماً في المحيط الملوث بالذنوب والآثام!! لأنّ ذلك يؤدّي إلى افشال مخططات هؤلاء الملوثين، فكم من يوسفٍ على مرِّ التاريخ أودع السجن بذنب الطهر والعفة والرغبة عن الذنوب.

كما في يوسف الذي دخل السجن بسبب طهارته وعفته.

ومن الواضح أنّ مثل هذه السجون التي ليس لها أية فلسفة عقلية وشرعية خارجة عن موضوع بحثنا، وإنّما أشرنا إليها للتوضيح والضرورة.

3- السجن من وجهة نظر القرآن الكريم

لا شك في أنّ كثيراً من الامور التي ذكرت في فلسفة السجن أمور معقولة، وفي الواقع يعتبر السجن تبعاً لتلك الامور ضرورة اجتماعية، سواء كان لمعاقبة المجرمين أو كان لإصلاحهم وتأديبهم، أو كان لقطع خطرهم أو قطع جذور الفساد وغير ذلك من المسوغات، وقد وردت إشارات عديدة لهذا المعنى في القرآن المجيد.

ولا يخفى أنّ الألفاظ التي تدل على مفهوم «السجن» كثيرة في لغة العرب وقد استعملت في القرآن والسنّة الشريفة، وبعض تلك الألفاظ بشكل واضح الدلالة على هذا المعنى، وبعضها قابل للبحث والنقاش.

ومن جملة المصطلحات، لفظة «السجن» التي وردت في تسعة موارد في آيات القرآن الكريم في سورة يوسف بمناسبة حبس هذا النبي الكريم الطاهر «بنفسها أو بمشتقاتها».

واستعملت في مورد واحدٍ في قصة فرعون في سورة الشعراء حيث خاطب فرعون موسى عليه السلام مهدداً ايّاه بالسجن وحكى هذا القول القرآن الكريم بقوله تعالى «قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ الَهاً غَيْرِى لَاجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ». (الشعراء/ 29)

فمن هذه التعبيرات يُستفاد أنّ السجن بمعناه الواقعي كان موجوداً في عصر موسى وفرعون، وحتى قبل ذلك أي في زمن يوسف وعزيز مصر، فكانوا يودعون المذنب والبري ء

نفحات القرآن، ج 10، ص: 193

في السجن

بحيث إنّ بعض السجناء كان يبقى سنوات عديدة حتى يأتي عليه النسيان.

والمصطلح الآخر هو «الحبس» الذي استعمل في القرآن الكريم في موردين، ولكن ليس في معنى السجن، وإنّما استعمل في هذا المعنى في الأحاديث الإسلامية كثيراً «1».

مصطلح «الإمساك» الذي استعمل في مورد واحد في القرآن المجيد بمعنى السجن، وهو مورد النساء اللاتي يأتين الفاحشة، وذلك قبل نزول حكم حدِّ الزنا (الجلد)، وقد ورد هذا التعبير في الآية 15 من سورة النساء وسيأتي تفصيل الكلام عنه لاحقاً.

مصطلح «النفي» عن «الأرض» الذي ورد في الآية 33 من سورة المائدة وفسّره البعض بالسجن.

وكذا مصطلح «الإرجاء» الذي ورد في سورة الأعراف الآية 111 في قصة موسى وفرعون، حيث يعتقد البعض أنّه بمعنى السجن، وذلك عندما اقترح ملأ فرعون عليه أن يرجي ء موسى وأخاه هارون حتى يجمع السحرة، قال تعالى «قَالُوا ارْجِهْ وَاخَاهُ وَ ارسِلْ فِى الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ».

ولكن أغلب المفسرين لم يفسر الإرجاء بهذا المعنى، بل قالوا إنّ معناه التأخير، وبالالتفات إلى المعجزات التي جاء بها موسى أمام فرعون، واستعداد فرعون لنزال السحرة مع موسى، يستبعد جدّاً أن يكون فرعون قد حبس موسى وهارون عليهما السلام.

وعلى أيّة حال، فإنّ المتيقن أنّه يوجد في القرآن المجيد مورد واحد على الأقل من موارد حكم السجن، وكما أشرنا آنفاً فإنّه ذكر بعبارة «الإمساك» حيث يقول عزوجل:

«وَالَّلاتِى يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسائِكُمْ فَاستَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَربَعَةً مِّنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَامْسِكُوهُنَّ فِى الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوفَاهُنَّ الْمَوتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا». (النساء/ 15)

والمعروف بين المفسرين هو أنّ هذه الآية ناظرة إلى عقاب النساء اللاتي يرتكبن الزنا، قبل نزول حكم حدِّ الزنا وهنا ذكر حكمهن وهو السجن المؤبد، وإن تبدل هذا الحكم فيما بعد إلى حكم الجلد

أو الرجم.

______________________________

(1) راجع كتاب ميزان الحكمة ج 2 ص 246- 251 للاطلاع على تلك الأحاديث، حيث ذكرت أبواب مختلفة فيمن يجوز حبسه ومن يحكم عليه بالحبس المؤبد وكذلك حقوق المحبوسين وموارد حرمة الحبس.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 194

وجملة «أَمْسِكُوهُنَّ فِى الْبُيُوتِ حَتَى يَتَوفَاهُنَّ الْمَوتُ»، وإن لم يذكر لفظ السجن فيها، ولكن الإمساك في البيوت إلى آخر العمر أمرٌ شبيه بالسجن.

وهذا هو المورد الوحيد المتحقق في القرآن حول حكم السجن.

4- موارد السجن في الروايات الإسلامية
اشارة

وردت في الروايات الإسلامية موارد متعددة للسجن المؤبد وغيره، من جملتها:

1- في مورد الإعانة على القتل

إذا أمسك شخص شخصاً آخر فقتله ثالث، فحكم القاتل هو الإعدام، وحكم المعاون هو السجن المؤبد، وهذا الحكم مورد اتفاق وإجماع فقهائنا، وقد وردت روايات كثيرة في المصادر المعتبرة تدل عليه.

ففي حديث عن الإمام علي عليه السلام في رجلين أمسك أحدهما بثالث فقتله الثاني، قال عليه السلام:

«يُقتل القاتل ويحبس الآخر حتى يموت غمّاً كما حَبَسه حتى مات غمّا» «1».

2- الأمر بالقتل

يرى الفقه الإسلامي أنّ الشخص إذا أمرَ آخراً بقتل ثالث بري ء، لا يحق للمأمور أن يقتل ذلك البري ء حتى لو هدده الآمر بالقتل إذا لم يفعل، إذ لا تقية في الدماء وما يقال من أنّ المأمور معذور لا أساس له من الصحة.

فلو أنّ شخصاً لم يعتقد بهذا الحكم الإسلامي، فقتل بريئاً حفظاً لنفسه من تهديد الآمر الظالم، فحكمه في الإسلام هو القتل وحكم الآمر هو السجن المؤبد!

قال الإمام الباقر عليه السلام في حقّ مثل هذا الشخص: «يُحبَسُ الآمر بقتله حتى يموت» «2».

______________________________

(1) وسائل الشيعة، ج 19، ص 35، ح 1، الباب 7 من أبواب قصاص النفس.

(2) المصدر السابق، ص 32، ح 1، الباب 13 من أبواب القصاص.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 195

3- في مورد تكرر السرقة

يحكم في مورد تكرر السرقة في المرّة الثالثة بالسجن المؤبد على السارق، وقد نقل هذا الحكم بعض كبار أصحاب الإمام الباقر والصادق عليهما السلام عنهما «1».

4- في مورد المرتدة الفطرية:

إذا لم تتب، حيث يحكم عليها بالسجن المؤبد، وقد جاء في حديث عن الإمام الباقر والإمام الصّادق عليهما السلام:

«والمرأةُ إذا ارتدت عن الإسلام استتيبت فإن تابت وإلّا خُلِّدَتْ في السجن» «2».

وقد ذكرت موارد أخرى للسجن المؤبد، لابدّ من مطالعتها في كتب الفقه المطولة.

وتختلف السجون المؤقتة التي لها جنبة تعزيرية، ويرتبط ذلك بميزان «الجرم» و «مقدار تحمّل المجرم» وشرائط أخرى.

والمتهمون بالقتل في صورة خوف فرارهم، ومن يساعد القاتل على الفرار بعد ثبوت جرمه، والمرأة الحامل التي يثبت عليها الزنا والتي يحتمل فرارها والتي ينبغي أن تسجن حتى تضع حملها، والسارق من غير حرز، والمدين الذي يمتنع عن أداء دينه مع تمكنه من ذلك، وشهود الزور، ومن يكفل مجرماً فيسجن حتى يحضر المجرم إلى المحكمة، وكل من يرتكب منكراً ولا يتركه إلّاأن يحبس، كل هؤلاء من المساجين المؤقتين.

5- التعامل الإنساني مع المساجين

كما أشرنا سابقاً، فإنّه على الرغم من سوء استغلال موضوع السجن بشكل واسع وعلى مرِّ التاريخ، فإنّ السجن من وجهة النظر الاجتماعية والإنسانية، أمرٌ ضروري لمكافحة الجرائم والجنايات وتربية النفوس المريضة، ولكن بحدود وشروط معينة ومحسوبة!

أحد تلك الشروط، هو مراعاة المعاملة الإنسانية مع السجناء، فلابدّ من التعامل معهم على أساس أنّهم بشر، فينبغي ترك المضايقات الظالمة، وأن لا يحبس أحدٌ بذنب غيره، وأن

______________________________

(1) وسائل الشيعة، ج 18، ص 492، الباب الخامس من أبواب حدِّ السرقة.

(2) المصدر السابق، ص 549، الباب الرابع من أبواب حدِّ المرتد، ح 6.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 196

لا يعاقب أحدٌ أكثر ممّا يستحق حتى لساعة، ولابدّ أن تكون كل البرامج في سبيل تعليم وتربية السجين، وبتعبير آخر، ينبغي أن يكون السجن مركزاً للتربية والتهذيب لا مركزاً لتخريج المجرمين والحاقدين، فلابدّ أن يتصف السجن بمواصفات درس التربية.

ومن قصة

النّبيّ يوسف عليه السلام ومدّة سجنه في مصر، يستفاد بشكل جيد أنّ تلك السجون كانت على درجة عالية من الظلم والإضطهاد بحيث أنّ بعض السجناء كان يبقى طيلة عمره في السجن، وفقط بعض المصادفات أو الحوادث غير المترقبة هي التي كانت تلفت انتباه الظلمة والحكام إلى السجناء، ولو لم تقع تلك الحادثة لبقي السجين إلى آخر عمره في السجن، بالضبط كما حصل ليوسف حيث إنّ الملك لو لم يرَ تلك الرؤيا ولو لم يعرف يوسف تفسير الأحلام، لما التمس عزيز مصر تفسير رؤياه من يوسف ولما بعث خلفه ولبقي يوسف، إلى آخر عمره في السجن، في حين أنّه لم يرتكب أي ذنب، وذنبه الوحيد هو طهارته وتقواه وعدم انصياعه لرغبات وأهواء زوجة عزيز مصر (زليخا)، وبطبيعة الحال فإنّ هذه التقوى والطهارة ليست ذنباً صغيراً في قاموس مثل هذه البيئة المنحطة المتسافلة!

والقرآن الكريم يحدثنا كيف أن يوسف الصديق حاول أن يحوّل بيئة السجن إلى محيط للتربية والتعليم والإصلاح، فكان يعلم السجناء درس التوحيد وعبادة اللَّه وهو أصل كل طهارة وحسن، فمتى ما سُئل يوسف عن مسألة بسيطة، أو طلب منه تفسير رؤيا عابرة، كان يطرح المعارف الإلهيّة ويبين المسائل التربوية للسجناء.

قال تعالى حكاية عن لسان يوسف:

«يَا صَاحِبَىِ السِّجْنِ ءَارْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ امِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ* ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ الَّا اسْماءً سَمَّيْتُمُوهَا انْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَّا انْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطانٍ انِ الْحُكْمُ الَّا للَّهِ امَرَ الَّا تَعْبُدُوا الَّا ايَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ اكْثَرَ النَّاسِ لَايَعْلَمُونَ». (يوسف/ 39- 40)

فصحيح أنّ يوسف عليه السلام كان سجيناً من السجناء، ولكن عمله ذلك كان دليلًا على أنّه لو كان على رأس السلطة لكان يمارس نفس العمل التربوي مع السجناء

في محيط السجن بالأولوية، ولحوّل بيئة السجن إلى مركز للتعليم والتربية الإلهيّة، ولبذل كل جهده من أجل

نفحات القرآن، ج 10، ص: 197

استغلال الفرصة التي يمتلكها السجناء في السجن لإعادة النظر في تصرفاتهم السابقة وإعادة حساباتهم لبناء أنفسهم من جديد، وتبديل سلوكهم المنحرف إلى سلوك قويم.

وقد أثبتت لنا التجارب أنّ كثيراً من السجناء الأشرار الملوّثين بالذنوب والجرائم سرعان ما يتمّ إصلاحهم إذا ما وجدوا قريناً صالحاً يرشدهم إلى الطريق الصحيح، إذ إنّهم خارج السجن لم يكن لديهم الفرصة الكافية من أجل التفكير والتأمل في تصرفاتهم الفائتة وإعادة حساباتهم للمستقبل، فالسجن توفيق إجباري لمثل هؤلاء.

ونلاحظ في الروايات الإسلامية اهتمام الدين بحقوق السجناء ومنحهم الإجازات للاشتراك في صلاة الجمعة والإلتقاء بذويهم وأصدقائهم.

ومن جملة ذلك ماورد في حديث عن الإمام الصّادق عليه السلام حيث يقول:

«عَلى الإمام أنْ يُخرجَ المُحْبسِين فِي الدّين، يَومَ الْجُمعَة إلى الجُمعَة، وَيَومَ العِيدِ إلى العِيد فَيُرسلُ مَعَهُم فَإذا قَضَوا الصّلاة وَالْعِيد رَدَّهُم إلى السِجن» «1».

وينبغي الإلتفات إلى أنّ لكلٍّ من صلاة الجمعة والعيد خطبتان ولهما أثر بالغ في التربية.

وفي حديث آخر يتوسع أكثر من نطاق الأول، حيث ورد فيه: «إنّ علياً عليه السلام كان يخرج أهل السجون- مَنْ حُبِسَ في دَيْنِ، أو تُهْمَه- إلى الجمعة فيشهدونها ويُضمنهُمْ الاولياء حتى يَردُّوهمْ» «2».

كما ويستفاد من حديث آخر أنّ علياً عليه السلام كان كل جمعة يتفقد السجن والسجناء بنفسه، فيجري الحدَّ على أولئك الذين ينتظرون إجراء الحدِّ عليهم (ويطلقهم) ويطلق من ليس عليه حدَّ «3».

ومن خلال الآيات والروايات والأحكام الواردة في هذا المجال يمكن استنباط وتنظيم إرشادات جامعة، من نماذجها:

1- عندما القي القبض على عبد الرحمن بن ملجم قاتل الإمام علي عليه السلام وأودع السجن،

______________________________

(1) وسائل الشيعة، ج

18، ص 221، باب من يجوز حبسه، ح 2.

(2) المستدرك، ج 17، ص 403، ح 1.

(3) ميزان الحكمة، ج 2، ص 25.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 198

أوصى الإمام عليه السلام بمداراته والإهتمام به، ومن جملة وصاياه لأولاده في حق ابن ملجم، قال:

«أطعموه واسقُوه وأحسنوا أسارَهُ» «1».

والمعروف هو أنّ الإمام عليه السلام بعد أن ضربه ابن ملجم على رأسه الشريف فشقّه ورقد الإمام عليه السلام في الفراش يغمى عليه أحياناً ويفيق أحياناً، ناوله الإمام الحسن عليه السلام قعباً من لبن، فشرب منه قليلًا ثم نحّاه عن فيه وقال: إحملوه إلى أسيركم، ثم قال للحسن عليه السلام: بحقّي عليك يا بني إلّاما طيبتم مطعمه ومشربه ... «2».

ويروي العلّامة المجلسي حديثاً آخر، وذلك عندما جي ء بابن ملجم إلى الإمام علي عليه السلام فتكلم معه الإمام بكلام ثم قال لولده الإمام الحسن عليه السلام: «ارْفِقْ يا وَلَدى بِاسيرِكَ وَارْحَمْهُ وَاحْسِنْ الَيْهِ وَاشْفِقْ عَلَيْهِ، الا تَرى الى عَيْنَيْهِ قدْ طارَتا الى امِّ رَأْسِهِ وَقَلْبُهُ يَرْجِفُ خَوْفاً ورُعباً وَفَزَعاً، فَقالَ لَهُ الْحَسَنُ عليه السلام يا اباهُ! قَدْ قَتَلَكَ هذَا اللَّعينُ الْفاجِرُ وَافْجَعَنا فيكَ وَانْتَ تَأْمُرُنا بِالرِّفْقِ بِهِ؟! فَقالَ لَهُ نَعَمْ يا بُنَيَّ نَحْنُ اهْلُ بَيْتٍ لا نَزْدادُ عَلَى الذَّنْبِ الَيْنا الّا كَرَماً وَعَفْواً وَرَحْمَةً وَالشَّفَقَةُ مِنْ شيمَتِنا لا مِنْ شيْمَتِهِ، بَحَقّي عَلَيْكَ فَاطْعِمْهُ يا بُنَيَّ مِمّا تَأْكُلُهُ، وَاسْقِهِ مِمّا تَشْرَبهُ وَلا تُقَيّدْ لَهُ قَدَماً، وَلا تَغُلَّ لَهُ يَدَاً» «3».

2- يقول المرحوم الشيخ الطوسي في كتاب الخلاف: من أمسك بصبي صغير وحبسه، فسقط عليه جدار، أو قتله حيوان مفترس، أو لدغهُ عقرب أو ثعبان فمات، فهو ضامن لدمه، ثم يقول الطوسي بعد ذلك: «دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم» «4».

فمن هذه العبارة يستفاد ضرورة كون

السجن مأموناً ونظيفاً فلو مات السجين بسبب عدم تحقق ذلك فدمه مضمون.

3- ونقل المرحوم الشيخ الطوسي في كتابه «المبسوط» عن بعض الفقهاء، لو سجن شخصاً في غرفة واغلق عليه الباب فاختنق ومات فهو ضامن لديته «5».

______________________________

(1) بحار الأنوار، ج 42، ص 239.

(2) بحار الأنوار، ج 42، ص 289.

(3) المصدر السابق، ص 287- 88.

(4) كتاب الخلاف، ج 3، ص 94، (كتاب الجنايات، المسألة 19).

(5) أحكام السجن في الإسلام، ص 263 (فارسي).

نفحات القرآن، ج 10، ص: 199

ونفس هذا الكلام قيل في مورد الجوع ونحوه.

ومن مجموع ذلك يستفاد تأمين الغذاء ومراعاة التهوية الكافية في السجن كي لا تتعرض حياة السجين وسلامته للخطر.

4- ذكر كثيرٌ من الفقهاء في بحث آداب القاضي، أنّ على القاضي إذا دخل المدينة أن يطالع أحوال السجناء وملفاتهم ويحقق فيها ويدرسها بشكل جيد، ليطلق من انتهت فترة محكوميته أو حُبس بلا دليل كافٍ، فوراً.

وصرح بعض الفقهاء أنّ على القاضي حين وصوله إلى المدينة أن يعلن للملأ بأنّه سيدرس قضايا السجناء في موعدٍ يعينه لهم ليتسنى لذوي السجناء الحضور ساعة التحقيق، وعندما يحضر أطراف النزاع يقرأ أسماء السجناء واحداً بعد الآخر.

ويسألهم عن علة حبسهم، ثم يسأل من طرف الدعوى الآخر، فإن كان عنده دليل مقنع على حبسه، ردّه إلى السجن، وإن لم يكن هناك مدعٍ، أعلن عن إسمه ليأتي من يدعي عليه شيئاً ويطرح دعواه عند القاضي، وإلّا أطلق صراحه «1».

6- الطرح التّاريخي لأبي يوسف لحماية السّجناء

يعتبر العصر العباسي من فترات التّاريخ الإسلامي المظلمة، واحد الشّواهد الحيّة على ذلك هو ازدياد عدد السّجون والضّغط الشدّيد على السّجناء، واعتقال الأبرياء بتهم واهية، وتعذيب القرون الوسطى.

لقد تسربت أخبار هذه السّجون الرهيبة إلى الخارج على الرّغم من التعتيم الشّديد من الحاكم في ذلك العصر، حتى تعالت

صرخات النّاس من هنا وهناك، وطالبت العلماء في ذلك الوقت للتدّخل في الأمر لوضع حد لهذا الإرهاب والظّلم.

ومن جملة الأمور الايجابية التي تحققت في هذا المجال، الطرح الذي قدمّهُ أبو يوسف

______________________________

(1) جواهر الفلاح، ج 4، ص 74.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 200

نفحات القرآن ج 10 249

الفقيه السّني المعروف وتلميذ أبي حنيفة، حيث إنّ هارون الرّشيد ومن أجل أنْ يكمَّ أفواه المعارضين طلب من أبي يوسف أنْ يكتب طرحاً في كيفية التعامل مع السّجناء من وجهة النّظر الإسلاميّة والفقه الإسلامي، وقد أكدَّ هارون الرّشيد على كيفية التعامل مع السّارقين والأشرار والمخالفين عندما يلقي عليهم القبض، وإنّه هل يجب تهيئة الطّعام لهم؟ وإن كان واجباً فهل يجب أخذه من مورد الزكاة أم من محل آخر؟ وكيف يتعامل معهم بنحو كلي؟

ومن الواضح أنّ هارون الرشيد لم يكن يهمه أمر السّجناء وإنّما اضطره الضّغط الجماهيري لذلك.

فكتب أبو يوسف طرحاً مفصلًا وموسعاً في هذا المجال وأرسله إلى هارون الرّشيد وكان طرحه متسماً بالصّراحة والشّجاعة في عدّة موارد من فقراته، وقرن ذلك بالإنتقاد الشّديد للوضع الرّاهن حينذاك من دون أن يحدد الإجابة بالموارد التي أرادها لهارون الرّشيد، لإنّه كان يعلم جيداً بأنّ أكثر سجناء الحكم العباسي هم من السّياسيين!

وتتلخص هذه الرّسالة التّاريخية بإثنتي عشرة فقرة نذكرها هنا:

1- إذا لم يكن للسجناء شي ء ممّا يأكلون منه، فيجب أن يُصرف عليهم من الزكاة أو «حق الفقراء» أو من بيت المال أو من «الأموال العامة».

2- يجب أن يصرف على أي من السجناء مبلغ من بيت المال وذلك لتأمين قوتهم، ويحرم عدا ذلك.

3- واعلم أنّ الأسير من أسرى المشركين لابدّ وأن يُطعم ويُحسن إليه حتى يحكم فيه، فكيف برجل مسلم قد أخطأ أو أذنب أيترك ليموت

جوعاً؟

4- ولم تزل الخلفاء، يا أيّها الخليفة تجري على أهل السجون ما يقوتهم في طعامهم وكسوتهم في الشتاء والصيف، وأول من فعل ذلك الإمام على بن ابي طالب عليه السلام وحذا من جاء بعده حذوه.

وحدثنى بعض الرواة، حيث قالوا: إنّ عمر بن عبدالعزيز كتب إلينا ما نصه: لا تدعن في سجونكم أحداً من المسلمين في وثاق لا يستطيع أن يصلي قائماً، ولا يبيتن في قيد إلّا رجلًا مطلوباً بدم.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 201

5- أوصي بأنّ تدفعوا للسجناء دراهم في كل شهر، فإنّك إن أعطيتهم الخبز ذهب به ولاة السجن والقوام والجلاوزة فلايصل إليهم شي ء.

«و هنا كشف أبو يوسف اللثام عن فساد ولاة السجون في زمان خلافة بني العباس واوضح ذلك بكل جلاء».

6- ووَلَّ رجلًا من أهل الخير والصلاح يثبت أسماء مَن في السجن فتجري عليهم الصدقة وتكون الأسماء عنده ويدفع ذلك إليهم شهراً بشهر، يقعد ويدعو باسم رجل رجل ويدفع ذلك إليه في يده ويكون للأجراء عشرة دراهم في الشهر لكل واحد.

7- سمعت أنّ بعض السجناء يغلون بالسلاسل كي يتصدق عليهم الناس، فإنّ هذا عظيم أن يكون قوم من المسلمين قد أذنبوا واخطأوا وقضى اللَّه عليهم ما هم فيه فحبسوا يخرجون في السلاسل يتصدقون، وما أظن أهل الشرك يفعلون هذا بأسارى المسلمين الذين في أيديهم فكيف ينبغي أن يفعل هذا بأهل الإسلام؟

وإنّما صاروا إلى الخروج في السلاسل يتصدقون لما هم فيه من جهد الجوع فربّما أصابوا مايأكلون وربّما لم يصيبوا «وهذه من المصائب الكبرى .

8- ومن مات منهم ولم يكن له ولي ولا قرابة يغسل ويكفن من بيت المال ويصلى عليه ويدفن.

وقد بلغني وأخبرني به الثقات أنّه ربّما مات منهم الميت الغريب فيمكث في السجن اليوم

واليومين حتى يستأمر الوالي في دفنه وحتى يجمع أهل السجن من عندهم وما يتصدقون ويكنزون لمن يحمله إلى المقابر فيدفن بلا غسل ولا كفن ولا صلاة عليه، فما أعظم هذا في الإسلام وأهله.

9- ولو أمرت بإقامة الحدود لقل أهل الحبس ولخاف الفساق وأهل الدعارة ولتناهوا عمّا هم عليه، وإنّما يكثر أهل الحبس لقلة النظر في أمرهم، فأمُر ولاتك جميعاً بالنظر في أمر المساجين، فمن كان عليه أدب أُدب وأُطلق، ومن لم يكن له قضية خلي عنه.

10- وعليهم أن لا يسرفوا في الأدب ولا يتجاوزوا بذلك إلى ما لا يحل ولا يسع، فإنّه

نفحات القرآن، ج 10، ص: 202

بلغني أنّهم يضربون الرجل في التهمة وفي الجناية الثلاثمائة والمائتين ضربة وأكثر أو أقل، وهذا ممّا لا يجوز ولا يحل في الإسلام، فظهر المؤمن حمىً ولا يجوز أذيته.

11- كل من أتى بما يجب عليه الحد أو القصاص وقامت عليه البيّنة بذلك، يجب أن تقام عليه الحدود الإسلامية، فمن جُرح منهم جراحة في مثلها قصاص، وقامت عليه البينة بذلك، قِيسَ جرحُه واقتُصَّ منه إلّاأن يعفو المجني عليه، فإن اقتُصَّ منه أو عَفا عنه صاحب الدم، فيطلق سراحه ولا يبقى في السجن.

12- إذا لم يستطع الجاني تحمل القصاص حكم عليه بالأرش واطيل حبسه حتى يحدث توبه ثم يخلى سبيله «1».

فهذه الرسالة التاريخية تحكي عن رؤية فقيه عاصر العباسيين عن أحكام الإسلام في السجناء، ويمكن أن تكون نموذجاً صغيراً من مجموعة كبيرة من الشواهد والأدلة على التعليمات الإسلامية في هذا المجال.

______________________________

(1) كتاب الخراج للقاضي أبي يوسف، ص 149- بتصرُّف.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 203

الحسبة والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر

تمهيد:

إنّ قيمة أي قانون مرتبطة بميزان إجرائه، فأفضل القوانين إذا لم تطبق على الأرض لا تعدو أن تكون مجرّد

حبر على ورق، ولا تحلُّ أي مشكلة من مشاكل المجتمع، وبالعكس فإن أضعف القوانين إذا طبقت بشكل جيد ودقيق فإنّه يمكنها أن تحلَّ كثيراً من مشكلاته.

ولهذا، وردت في الإسلام، والحكومة الإسلامية برامج موسعة وكثيرة لضمان إجراء القوانين والحدّ من التّخلف عنها، وهذه البرامج تشتمل على الأمور التّالية:

1- الجهاز القضائي.

2- وظيفة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر.

3- مسألة الحسبة.

وقد تكلمنا بالمقدار الكافي حول وظائف الجهاز القضائي وإجراء الحدود والتّعزيرات، والآن نكرس الكلام للبحث في مسألة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر وموضوع الحسبة.

يعتبر إجراء الحدود والحسبة في الواقع من فروع الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، لإننا نعلم بأنّ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر له ثلاث مراحل، إثنتان منها وظيفة عامة النّاس بنحو الواجب الكفائي، ومرحلة واحدة من وظائف الحكومة، والمراحل هي:

1- الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر بالقلب (أي أنْ يتأذى القلب من المخالفات والذنوب التي يرتكبها الآخرون، ويميل إلى الخير والصلاح، (وقال البعض أنّ المقصود من

نفحات القرآن، ج 10، ص: 204

هذه المرحلة هو أن يظهر انزجاره أو ميله القلبيين بوجهه أو عمله بصورة قطيعة أو صلح للمرتكبين) وهذه وظيفة عامة الناس في قبال ترك الواجبات والإتيان بالمحرمات.

2- الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر باللسان، ويكون إبتداءً بالكلمات اللطيفة اللينة الحبيبة والوعظ والحكمة، ثم بالكلمات الحادّة الخشنة (وهي وظيفة عامة النّاس أيضاً).

3- الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر باليد، وبتعبير آخر اتخاذ الأجراءات العملية والقاسية أحياناً في قبال تاركي الواجبات ومرتكبي المحرمات سواءً عن طريق العقاب البدني أو الحبس أو الأعمال المشابهة الاخرى

وكما قلنا في الابحاث الفقهيّة فإنّ هذه المرحلة من وظائف الحكومة الإسلامية ولا يمكن أن يسمح للناس بالقيام بها، لأنّ ذلك يؤدّي إلى وقوع الهرج والمرج وأنواع الفوضى الاخرى

وهذا الأمر هو بالضّبط ما جاء بعنوان وظيفة الحسبة في الفقه الإسلامي وكلمات الفقهاء ومؤرخي الإسلام.

وبعد هذه الإشارة نرجع إلى الآيات القرآنيّة في هذا المضمون:

1- «كُنْتُمْ خَيْرَ امَّةٍ اخْرِجَتْ لِلْنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤمِنُونَ بِاللَّهِ». (آل عمران/ 110)

2- «وَلْتَكُنْ مِّنْكُمْ امَّةٌ يَدْعُونَ الَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ». (آل عمران/ 104)

3- «لَيْسُوا سَوَاءً مِّنْ اهْلِ الْكِتَابِ امَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ* يُؤْمِنُونَ باللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ويَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِى الْخَيْراتِ وَاولَئِكَ مِنَ الصَّالِحيِنَ». (آل عمران/ 113- 114)

4- «وَالْمُؤمِنُونَ والْمُؤمِنَاتُ بَعْضُهُمْ اوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ

نفحات القرآن، ج 10، ص: 205

وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطيعُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ اولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ انَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ». (التوبة/ 71)

5- «التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ والنَّاهُونَ عَنِ المُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤمِنِينَ». (التوبة/ 112)

6- «الَّذِين انْ مَّكَّنّاهُمْ فِى الارْضِ أَقامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَامَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلهِ عَاقِبَةُ الامُورِ». (الحج/ 41)

7- «يَا بُنَىَّ اقِمِ الصَّلَاةَ وَأمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا اصَابَكَ انَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الامُورِ». (لقمان/ 17)

جمع الآيات و تفسيرها
خطوة مهمة في طريق إجراء الأحكام:

ما جاء في هذه الآيات هو أكثر ما جاء من آيات القرآن المجيد في خصوص فريضة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر المهمّة، والتي تبين أبعادها المختلفة.

فالآية الأولى تصوّر الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر بعنوان أمرٍ عام وتعتبره من خصائص الأمة الإسلامية، لا بمعنى أنّه لم يوجد في الأمم السابقة أصلًا، بل بمعنى أنّه يعدُّ أصلًا أصيلًا في الأمة الإسلاميّة وركناً ركينا فيها حيث يقول: «كُنْتُمْ خَيْرَ امَّةٍ اخْرِجَتْ لِلْنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤمِنُونَ بِاللَّهِ».

والملفت للنظر أنّها من جهة

تعتبر الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر خصوصيّة من الخصائص التي أدّت إلى أفضلية الإسلام على سائر الأديان وأنّ الأمّة الإسلامية هي الأمّة النموذجية المثلى ومن جهة أُخرى تقدم هذه الوظيفة على الإيمان باللَّه! وهذا يدل على أنّه إذا لم تؤدّ هذه الوظيفة على المستوى العام بصورة أصلين أساسيّين اجتماعيين، فلا ضمان لاستمرار إيمان الناس.

نعم، فهو كذلك، فلو نُسِيتَ هاتان الوظيفتان، ضعف الإيمان في القلوب، وذبلت غصونه

نفحات القرآن، ج 10، ص: 206

وأوراقه، والنّتيجة هي اضمحلال الإيمان والإسلام.

ثُمّ إنّه من هذا البيان يتضح جيداً أنّ المسلمين إنّما يكونون أُمّة متميزة وممتازة ما داموا يدعون إلى الخير والصلاح ويجاهدون المنكر والفساد، فإذا ما نسوا ذلك لم يعودوا خير أمة ولم يترشح منهم النفع للمجتمع البشري!

نعم .. فالمسلمون إنّما يمكنهم أن يكونوا قادة الأمم في العالم وأن تستفيد البشريّة جمعاء من وجودهم، فيما لو طبقوا هاتين الوظيفتين الكبيرتين.

وبتعبير آخر: كل واحدٍ من أفراد الأمة الإسلاميّة، لابدّ أن يشعر بالمسؤولية، وخلافاً لما نراه اليوم حيث توكل مسؤولية مكافحة الفساد إلى مجموعة معينة من المأمورين الحكوميين ويبقى سائر أفراد المجتمع في حلٍّ من تحمل هذه المسؤولية الاجتماعيّة المهمّة فيبقون متفرجين على الممارسات الاجتماعية السلبية بلاحراك.

فالآية تؤكد على أنّ هذه المسؤولية مسؤولية عامة لابدّ أن يتحملها الصغير والكبير، الشّاب والشّيخ والرّجل والمرأة والعالم والجاهل.

واستعمال كلمة «المعروف» و «المنكر» في الآية لنكتة مهمة أُخرى، إذ هي من جهة، تبيّن أنّ الواجبات والمحرمات امورٌ يدركها ويعرفها عقل الإنسان وروحه جيداً، فهو يعشق الواجبات، في حين أنّ المنكرات أُمور بعيدة عن ذوقه فهو يجهلها وينفر منها.

ومن جهة أخرى، فإنّ من البديهي إننا لو نسينا هاتين الوظيفتين واعتاد المحيط على المنكرات والبعد عن الخير والمعروف، صار

المنكر معروفاً والمعروف منكراً في نظر الناس، وهذه أكبر خسارة يمكن أن يتحملها مجتمع من المجتمعات، وهذا البلاء هو الذي عمَّ اليوم كثيراً من المجتمعات العالمية، حيث تبدل المعروف عندهم منكراً والمنكر معروفاً!

والآية الثانية ناظرة إلى قسم آخر من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتي تختص

نفحات القرآن، ج 10، ص: 207

بها مجموعة من الامّة الإسلاميّة، وبتعبير آخر هي مختصة بالحكومة وموظفي الحكومة حيث ورد فيها: «وَلْتَكُنْ مِّنْكُمْ امَّةٌ يَدْعُونَ الَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ».

وعندما نضع هذه الآية في قبال الآية السّابقة نجد أنّ الآية السّابقة تتحدث عن مرحلة من مراحل هاتين الوظيفتين المهمتين غير المرحلة التي تتحدث عنها هذه الآية، فتلك مرحلة القلب واللسان وهذه مرحلة استخدام القوة والشدَّة، والملفت للنظر هو أنّ هذه الآية تحصر الفلاح بأولئك الأشخاص الّذين يؤدون هاتين الوظيفتين العظيمتين (إلتفتوا إلى أنّ جملة أولئك هم المفلحون تدل على الحصر) «1».

والتعبير بالأمَّة، قد يكون إشارة إلى أنّ هذه الوظيفة لابدّ أنْ تؤدّى بصورة «جماعية»، وأن تكون مقترنة «بمنهج تنظيم»، ونحن نعلم بأنّ الأمور الّتي تحتاج إلى شدة والتي تؤدّى من قبل الحكومة لا تكون ممكنة بغير الشّرطين.

وذيل الآية يبيّن بوضوح أنّ كل فلاح ونجاح في الدّنيا والآخرة وفي الفرد والمجتمع، لا يتحقق إلّافي ظل هاتين الوظيفتين.

وفي الآية الثّالثة، إشارة إلى نكتة ظريفة اخرى في مجال هاتين الوظيفتين العظيمتين، تتضح لنا من خلال دراسة سبب النزول.

فقد ورد في سبب نزول هذه الآية أنّ مجموعة من علماء وأخبار اليهود كانوا قد أسلموا والتحقوا بصفوف المسلمين، ممّا أدّى إلى غضب زعماء اليهود جدّاً، فمن أجل إذلال وتحقير هؤلاء المؤمنين ادّعى زعماء اليهود أنّ ثلّة من أشرارهم قد اعتنقوا الإسلام

وإنّهم لو كانوا صالحين ما تركوا دينهم!!

______________________________

(1) ما قاله البعض من أنّ «من» التي وردت في الآية زائدة أو أنّها للبيان، وأنّ مفهوم الآية شاملٌ لكل المؤمنين، مخالف لظاهر الآية، فالظاهر منها هو أنّ «من» تبعيضية، أي أنّه يجب على مجموعة منكم فقط القيام بهذه الوظيفة.

وكذلك فإنّ ما قاله البعض من أنّ «من» تبعيضية للواجب الكفائي، مخالف للظاهر أيضاً، لأنّ الواجب الكفائي واجب على الجميع، غايته أنّ نوع الوجوب فيه يختلف عن نوع الواجب العيني (وتوضيح ذلك موكول إلى علم الأصول).

نفحات القرآن، ج 10، ص: 208

فالآية المذكورة أعلاه تجيب هؤلاء وتقول: «لَيْسُوا سَوَاءً مِّنْ اهْلِ الْكِتابِ امَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ* يُؤْمِنُونَ باللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوف ويَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِى الْخَيْراتِ وَاولَئِكَ مِنَ الصَّالِحيِنَ».

فالآية تلخص خصائص الصّالحين من أهل الكتاب الذين اعتنقوا الإسلام في ثلاثة أمور: الإيمان بالمبدأ والمعاد، ثُمّ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وفي النّهاية المسارعة في الخيرات. وهذا يدل على أنّ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر يعدُّ من أبرز مظاهر الصّالحين بعد الإيمان باللَّه ويوم القيامة، وأنّه أصل كل الخير.

وفي الآية الرّابعة، يعتبر الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر أول خصوصيّة من خصائص المؤمنين، حتّى أنّ إقامة الصلاة وأداء الزّكاة وإطاعة اللَّه والنّبيّ صلى الله عليه و آله جاءت بعدها، وهذا يدل على أنّ هاتين الوظيفتين العظيمتين إذا لم تطبقاً، فإنّ أساس العبادة والطّاعة وعبوديّة اللَّه تتعرض للخطر.

يقول اللَّه تعالى: «وَالْمُؤمِنُونَ والْمُؤمِنَاتُ بَعْضُهُمْ اوْلَياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطيعُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ اولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ انَّ اللَّهَ عَزيزٌ حَكِيمٌ».

وقد احْتُمِلَت عدّة أمور في تفسير جملة «بَعْضُهُمْ اوْلِياءُ بَعْضٍ»، من جملتها أنّ هؤلاء منسجمون

في الإيمان باللَّه ومباني الإسلام- والآخر هو أنّ أحدهم ينصر الآخر في امور الدين والدنيا، والثّالث هو أنّ هؤلاء بالتّعليم والتّربية يخرجون الآخرين صوب درجات الكمال العالية.

ومن الواضح أنّ هذه التفسيرات الثّلاثة لا منافاة فيما بينها، ويمكن أن تجتمع في مفهوم الآية، لأنّ الولاية في الآية جاءت مطلقة فتشمل ارتباط المؤمنين ببعضهم في أبعادٍ مختلفة.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 209

وفي الآية الخامسة وبعد ذكر التجارة المربحة التي يتّجر بها المؤمنون الحقيقيون مع اللَّه، أي الجهاد في سبيله، حيث يشرون أنفسهم وأموالهم بالجنة الغالية، وبعد بيان أنّ اللَّه عزّوجلّ يبارك لهم هذه المعاملة ويعدها فوزاً عظيماً، يلخّص أوصاف هؤلاء في تسعة أمور ويقول: «التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ والنَّاهُونَ عَنِ المُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤمِنِينَ».

وفي الواقع فإنّ الأوصاف السّتة المذكورة أوّلًا، إشارة إلى مراحل العبادة والطّاعة والعبوديّة في هؤلاء، والأوصاف الثّلاثة الأخيرة (وهي الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر وحفظ الحدود) إشارة إلى جهاد هؤلاء الاجتماعي في طريق إرساء مباني الحق والعدالة وإجراء الأحكام الإلهيّة، وبعد هذه الأمور جاءت البشارة الإلهيّة لهم بشكل مطلق.

وبتعبير آخر، فإنّ الأوصاف الستة الاولى ناظرة إلى علاقة الخلق بالخالق، والثّلاثة الأخيرة ناظرة إلى علاقة الخلق بأنفسهم وهذه البشارة الّتي ذكرت في آخر الأمر تشمل سعادة الدّنيا وسعادة الآخرة معاً.

وفي الآية السّادسة، إشارة إلى بُعدٍ آخر من هذه المسألة وهو البعد الحكومتي، وبتعبير آخر تعتبر الآية الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر أحد وظائف الحكّام الإسلاميين المهمّة، حيث يقول عزّوجلّ:

«الَّذِينَ انْ مَّكَّنَّاهُمْ فِى الارْضِ أَقامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَامَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الامُورِ».

وفي الحقيقة فإنّ الوعد بنصر اللَّه، الوارد في الآية السّابقة لهذه الآية «ولَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ»

مختصة بمثل هؤلاء الأشخاص، الذين إذا ما تسلموا زمام القدرة والحكم في الأرض فإنّهم مضافاً إلى أدائهم الصّلاة وحدهم، يقيمونها أيضاً في كل مكان، ويؤتون الزكاة لمستحقيها، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 210

هذا على الرّغم من أنّ البعض يتصور أنّ مراد الآية، المهاجرون فقط، ولكن من الواضح أنّ الآية الشّريفة لها مفهوم أوسع وتشمل الجميع حتى قيام القيامة.

والنكتة التي لابدّ من الإلتفات إليها أيضاً هي أنّ القرآن الكريم غالباً ما يعبر بلفظ «الإقامة» في خصوص الصّلاة إلّافي مورد المنافقين حيث عبر بالقيام بدل الإقامة، حيث يقول واصفاً إيّاهم، «وَإِذَا قَامُوا الَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالى . (النّساء/ 142)

وهذا التعبير قد يكون إشارة إلى أنّ المؤمنين الحقيقيين لا يؤدّون الصلاة بأنفسهم فحسب، بل إنّهم يحاولون إقامة الصلاة في كل المجتمع، وقال البعض إنّ ذلك إشارة إلى أنّ هؤلاء المؤمنين ليس فقط يأتون بظاهر الصّلاة وصورتها بل إنّهم يحاولون إقامة الصلاة بكل محتواها الحقيقي وشرائط صحتها وكمالها (والجمع بين هذين التفسيرين ليس مشكلًا).

وفي الآية السّابعة والأخيرة نلاحظ نكتة اخرى حول الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وهي أنّ هذين الأمرين المهمين ليسا من مختصات الشريعة الإسلامية فقط، بل إنّ هناك تأكيد شديد عليهما في الأمم السّالفة أيضاً (وإن كانتا قد أخذتا شكلًا موسعاً وأساسياً في الشّريعة الإسلاميّة).

فينقل لنا القرآن الكريم عن لسان لقمان ذلك الرّجل الحكيم العالم:

«يَا بُنَىَّ اقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى ما اصَابَكَ انَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الامُورِ».

فهنا اعتبرت الآية أنّ رمز انتصار الإنسان في أربعة أُمور:

إقامة الصلاة، الأمر بالمعروف، النّهي عن المنكر، والصّبر.

وجملة «إِن ذَلِكَ مِنْ عَزمِ الأمُورِ» قد تكون إشارة إلى خصوص الصبر المذكور في الذيل، وقد تكون

شاملة للاصول الأربعة جميعاً.

ولابدّ هنا من التدقيق في هذه النّكتة وهي أنّ اقتران الصّبر بمسألة الأمر بالمعروف

نفحات القرآن، ج 10، ص: 211

والنّهي عن المنكر إشارة إلى الارتباط الوثيق بين هذين الأمرين، إذ إنّ أداء هاتين الوظيفتين الإلهيتين المهمتين يقترن أحياناً بالمشاكل والصعوبات، ولا يمكن تحقق الأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر إلّابالصّبر والإستقامة. كما أنّ هذين الأمرين على ارتباط وثيق أيضاً بالصلاة، لإننا نعلم جيداً بأن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، أو بتعبير آخر هي الأساس الأصلي للأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر «إنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحشَاءِ والمُنكَرِ». (العنكبوت/ 45)

الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر في الروايات:

نلاحظ في الروايات أيضاً تأكيداً كبيراً على هاتين الوظيفتين المهمتين، وتعتبرهما الضّامن لإجراء كلّ الفرائض الإلهيّة والسّبب الرئيس في الأمن والأمان وتحقيق العدالة.

1- ورد في حديث عن النّبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله: «مَنْ أمَرَ بالمعروفِ ونهى عن المنكرِ فهو خَليفَةُ اللَّه في أرضِهِ، وخليفةُ رسول اللَّهِ وخليفةُ كِتابِهِ» «1».

2- وفي حديث آخر عنه صلى الله عليه و آله نلاحظ تعبيراً أوضح، حيث كان النّبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله على المنبر فقام إليه رجل وقال: يا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «مَنْ خير النّاس؟» فقال النّبي صلى الله عليه و آله: «آمَرَهُمْ بالمعروفِ وأنهاهُمْ عن المُنكر وأتقاهم للَّه وأرضاهم» «2».

3- وفي حديث آخر عن النّبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله: «لتأمُرْنَّ بالمعروف ولَتَنْهُنَّ عَن المُنكر أو لَيَعُمَنَّكُمْ عذابُ اللَّه» «3».

4- وفي حديث معروف أيضاً عن علي عليه السلام قال: «وما أعمال البرّ كلِّها والجهاد في سبيل اللَّه عِنْدَ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر إلّاكنفثةٍ في بحرٍ لُجيّ» «4».

______________________________

(1) تفسير مجمع البيان، ج 2، ص 484، ذيل الآية 104 من سورة آل

عمران.

(2) المصدر السابق.

(3) وسائل الشّيعة، ج 11، ص 407، ح 12، الباب 3 من أبواب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر.

(4) نهج البلاغة، الكلمات القصار، الكلمة 374.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 212

5- وأخيراً نقرأ عن الإمام الباقر عليه السلام بياناً لفلسفة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر في كلام مختصر مفيد حيث يقول عليه السلام: «إنَّ الأمرَ بالمعروفِ والنّهيَ عَنْ المُنكر فريضةٌ عظيمةٌ بها تُقامُ الفرائِضُ وتأمنُ المذاهبُ وتحلُّ المكاسبُ وتُردُّ المظالم وتعمُرُ الأرضُ ويُنتَصَفُ من الاعداء ويَستَقيم الأمر» «1».

والأحاديث الواردة عن أئمّة الدين الإسلامي عليهم السلام في هذا المجال كثيرة جدّاً إلى درجة أنّها لو جمعت لصارت كتاباً مستقلًا.

وهنا ينبغي الإلتفات إلى عدّة نكات ضرورية:

1- إنّ أحسن أنواع الحكومات، تلك الحكومة التي يشترك فيها كلّ النّاس، وبتعبير آخر الحكومة التي يحمل أركانها أكتاف النّاس، والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر في الواقع تصميم لمسألة الحكومة وتثبيت لاشتراك عامة الناس فيها، إذ عن هذا الطّريق يمكن الحدّ من الكثير من المخالفات، وتعريف النّاس بوظائفهم الفردية والاجتماعيّة، ومع الأخذ بنظر الاعتبار قلّة المأمورين الحكوميين (كالشّرطة وقوى الأمن الداخلي) قياساً إلى عدد المتخلفين، تتضح لنا أهميّة هذه الوظيفة الإسلاميّة أكثر فأكثر، إذ لا يمكن نظم المجتمع والحدِّ من وقوع المخالفات والجرائم إلّاعن هذا الطّريق.

وما قيل من أنّه لو كان في داخل البيت ولد مجرم فإن أباه وأُمّه مسؤولان تجاهه، وأنّ الولد البالغ مسؤول عن أبيه وأُمهُ إذا ما ارتكبا ذنباً، وأنّه إذا صدر ذنبٌ في شرق العالم وكان في غربه رجل يمكنه الحدَّ من ارتكابه، فلم يفعل كان شريكاً له، هذا القول، له تأثير عميق بلا شك في الحدِّ من ارتكاب الذّنوب والمخالفات والدّعوة إلى القيام بالفرائض والمسؤوليات.

هذا في حين أنّ مجتمع اليوم والحكومات الالحادية، قد

أوكلت مسؤولية الحدّ من

______________________________

(1) وسائل الشّيعة، ج 1، ص 395، الباب 1، ح 6.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 213

المخالفات والمفاسد على عهدة مجموعة صغيرة خاصّة فقط، ولذا فإن نتاج هذه المجموعات محدود جدّاً وقليل.

ومن هنا يتضح لنا عظمة وأهميّة هذه الفريضة الإسلاميّة من جهة، وجماهيرية الحكومة الإسلامية من جهة أخرى.

ولكن هذا لا يعني أن يتصرف جميع النّاس وكأنّهم رجال شرطة، بل إنّ وظيفتهم على مستوى الدّعوة إلى الخيرات ومكافحة المنكرات والشّرور عن طريق النّصح والموعظة، وأحياناً عن طريق قطع الرّوابط والعلاقات الاجتماعيّة مع الفاسدين والمفسدين.

2- قد أشرنا في بحث التعزيرات إلى أنّها قسمٌ من أقسام الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وهو نفس القسم الذي يجرى من قبل الحاكم الشرعي والذي لا يحق للآخرين التدّخل فيه، وكما جاء هناك، فإنّ التّعزير بمعنى المنع من ارتكاب الذنب أو الحدّ من الاستمرار على ارتكابه أو تكراره، وفي هذه الطريق لابدّ من الإستفادة من قاعدة الاسَهَل فالأسَهل أي ينبغي البدء بالمراحل البسيطة أولًا، فإن لم تقع مؤثرة انتقل إلى المراحل المعقدة والخشنة.

فيبدأ بالتذكير الأخوي أو الأبوي، ثّم العتاب الخفيف، ثُمّ الشّديد، ثُمّ عدم الإكرام وقطع الرّوابط، وفي النّهاية الحبس والجلد والغرامات المالية والتوبيخات الاجتماعيّة وأمثال ذلك، فهذه هي المراحل في طريق التعزير عن المنكر، وبعبارة أُخرى المصاديق المختلفة للأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر.

ولهذا فإنّ العلماء يعتمدون على أدلة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر في الفقه عندما يبحثون الحدود والتّعزيرات لإثبات مشروعيتها.

3- لا يمكن إنكار تأثير فريضتي «الأمر بالمعروف» و «النّهي عن المنكر» في تأمين العدالة الاجتماعيّة وإجراء القوانين ومحاربة المنكرات والحدِّ من الجنايات وتقليل عدد السّجناء، وتطوير الثّقافة الاجتماعّية، وقد أثبتت التجارب أنّ المجتمعات التي تؤدّي هاتين الوظيفتين

بشكل صريح وقاطع ومدروس، تكون عادة مجتمعات نظيفة وسليمة ويعم الأمن والأمان فيها، وبالعكس فإنّ المجتمعات الّتي نسيت هاتين الوظيفتين والتي وقفت

نفحات القرآن، ج 10، ص: 214

مكتوفة الأيدي قبال التخّلفات والمعاصي، ابتليت بعواقب سيئة، فدخل الفساد حتّى في المنازل والبيوت، وفي هذا المجتمع لا يأمن أي فرد من أفراده من المخاطر، وبالضبط كما ورد في الحديث الشّريف عن النّبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله فإنّ البلاء والعذاب سيعم الجميع، وكما ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام: «فيُولّى عليكُم شَراركم ثُمّ تَدعُونَ فلا يُستجاب لَكُمْ» «1».

4- إنّ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، يبدءان عادة كما نعلم من العمل الثّقافي، وعليه، فإن كلّ أجهزة الإعلام الجماعيّة، وكلّ مراكز الإذاعة والتلّفزيون لها دخل في رفع مستوى الإطلاع والثّقافة الجماهيرية وتوجيه النّاس نحو الخير والصلاح والطهر والأخلاق الإنسانيّة الرفيعة والفضيلة، والتنّفر من الفساد والقبائح، فلكلٍ من هؤلاء موقعه في دائرة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وحتّى مراكز التّربية والتّعليم بمستوياتها المختلفة والّتي تُعرِّف الشُبّان والصّبيان أُصول العقائد الصّحيحة والموازين الإنسانيّة والقوانين والأداب الاجتماعيّة، والتي تخطو من أجل التّعليم والتّربية الصّحيحين، لها موقعها الخاص في تلك الدّائرة، وذلك لأنّ كل هذه الأمور يمكن أنْ تساهم في الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وعليه فإنّ دور هذه المراكز في تحقيق هذين الأصلين الاجتماعيين المهمين، واضح وجلّي.

والنّكتة المهمّة الاخرى هي أنّ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وإنِ اعتبرا قسمين من فروع الدّين، إلّاأنّهما من جهة أخرى، بدرجة من السّعة والأهميّة بحيث يشملان قسماً عظيماً من أصول العقائد، لأنّ تلك الأمور مؤثرة في هذا المسير وعن طريق تحكم أُسس الإعتقادات يمكن محاربة المفاسد الاجتماعية، كما أنّ العبادات أيضاً تعتبر مقدمة لها.

5- خلافاً لما

يراه البعض، فإنّ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ليسا وظيفة عبادية، بل فلسفة عقلية واضحة (التفتوا جيداً).

وتوضيح ذلك:

بالإلتفات إلى العلاقات الاجتماعيّة، وأنّ أي عمل خير أو شرّ في المجتمع الإنساني لا يتحدد بنقطة خاصة، بل يسري بأي صورة إلى النقاط الاخرى، فكل عمل قبيح يعتبر كالنار

______________________________

(1) نهج البلاغة، الرسالة 47.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 215

التي إذا لم تطفأ فإنّها ستسري وتحرق كل ما في طريقها وتحيله إلى رمادٍ، فمحاربة الفساد حقٌ اجتماعي.

وأفضل تعبير عن هذا المطلب هو ما ورد في الحديث النبوي حيث يقول:

«إنّ مثل الفاسق في القوم كمثل قوم ركبوا سفينة في البحر فاقتسموها فصار لكل واحد منهم [مكان فعمد أحدهم الى مكانه لخرقه تعالى فقالوا أتريد أن تهلكنا فقال وما انتم من مكانى فإن تركوه غرقوا وغرق معهم و إن أخذوا على يديه نجوا ونجا فذلك مثل الفاسق» «1».

ومن هنا يتضح لنا، أنّ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، ليسا تدخلًا في حياة الآخرين الخاصّة، فلا شك في أنّ الإسلام يعتبر التدّخل في حياة الآخرين والتجسس عليهم حراماً، والقرآن الكريم تحدث عن هذه الحقيقة في (سورة الحجرات)، ولكن حدود الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر هي الإضطرابات والمفاسد الاجتماعيّة الفاضحة، والتي لها مدخلية مباشرة في تحديد مصير المجتمع، وأنّ مصير المجتمع معقود عليها، والتّخلف والانحراف في كلّ فردٍ من أفراد المجتمع له أثر بالغ على المجتمع ككلّ.

وبناءً على هذا، فإنّه لا يحق لأحد أن يعترض على أولئك الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر في مثل هذه الموارد ويقول لهم: إنّ هذا الأمر لا يهمكم فلا تتدخلوا فيه، فإن جواب هذا الشخص، هو أنّ هذا الأمر يخصّنا جميعاً، فإنّ مصيرنا مرتبط بنا جميعاً، فهل يحق لأحد أن

يعترض على الدولة إذا ما عينت مأمورين للتلقيح ضد الأمراض المسرية إذا ما سرت تلك الأمراض في المجتمع ويقول لمسؤولي الدولة: إنّ هذا الأمر لا يعنيكم؟ فأنا الذي أتمرّض وأنا الذي أعرّض نفسي للخطر فلماذا تتدخلون في حياتي الشخصية؟!

فلا شك في أنّ الجميع سيجيبون ذلك الشّخص بأنّ سلامتك ليست منفصلة عن سلامة المجتمع، ومرضك سيسري إلى أفراد المجتمع الآخرين، ولذا فإن الأمر يهمّ الجميع.

وعليه فلابدّ من الإذعان بأنّ هاتين الوظيفتين (الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر) تعتبران من أثار الحياة الاجتماعيّة للإنسان ومن الحقوق والواجبات الاجتماعية.

كان هذا ملخصاً لبحث الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وأثرهما في تحقيق أهداف الحكومة الإسلاميّة.

______________________________

(1) راجع تفسير روح الجنان، ج 3، ص 142؛ المعجم الاوسط، ج 3، ص 149.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 216

جهاز الحسبة والمحتسب في الحكومة الإسلاميّة:

هذا البحث مرتبط تماماً ببحث الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر وهو في الحقيقة فرع من فروعه، إذ كما أشرنا فإنّ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر له شقّان، شقّ عام يشمل جميع النّاس، وشقّ خاص تختص به الحكومة الإسلاميّة، ففي هذه المرحلة قد يلزم إبداء الخشونة والشّدّة وهذا ليس من شأن النّاس، بل لابدّ أن يقوم مأمور الحكومة المدربون على القيام بهذه الوظيفة، وهذا يشكل أساس «الحسبة» «1».

توضيح ذلك:

«الحسبة»: في اللغة، إسم مصدر من مادة «إحتساب»، وكما ذكر أرباب اللغة فإنّه بمعنى التّسليم والصّبر حيال المشكلات طلباً للأجر الإلهي، وكذلك السّعي في أداء أعمال الخير لتحصيل الثّواب.

ولما كان هذا الشق من الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر سعيٌ واجتهاد وجدٌّ في طريق إطاعة اللَّه ومكافحة المنكرات لنيل رضا اللَّه، سُمي «حسبة».

يقول في كتاب «التّحقيق» حول معنى مادة «حسب»: الأصل في هذا المصطلح بمعنى التّحقيق والبحث والتّدقيق بقصد الإمتحان.

وهذا التعبير يناسب كثيراً شغل المحتسب الذي يستخبر عن شرائح مختلفة من المجتمع ويبحث ويحقق ويراقب حركاتهم، فإن وجد انحرافاً نبههّم إليه، فإن لم ينفع واجههم بشدّة.

وكانت دائرة «الحسبة» من الدوائر المعروفة في زمن الخلفاء وتشرف على نشاطات الكسبة والتجّار والفلاحين وشرائح المجتمع الاخرى من حيث المخالفات والمنكرات، وكلما رأى المحتسبون مخالفة كانوا ينهون مرتكبيها لها، فإن لم يؤثر فيهم النهي والتذكير والموعظة، كانوا يعاقبون المخالف في نفس المكان مباشرة، أو يقبضون عليه ويسلّمونه إلى القاضي فيأمر بحبسه.

______________________________

(1) التّحقيق في كلمات القرآن الكريم، ح 2، مادة (حسب).

نفحات القرآن، ج 10، ص: 217

وباعتقاد البعض، فإنّ جذور هذه المسألة تعود إلى عصر النّبيّ صلى الله عليه و آله حيث كان صلى الله عليه و آله يمارس عمل المحتسب بنفسه الشّريفة، وتارة كان يوكل الأمر

إلى شخص ينتخبه لهذا الغرض، ولكن لابدّ من الإلتفات إلى أنّ استعمال هذا المصطلح لم يكن معمولًا به في ذلك العصر، ولم يكن موجوداً في كلام الفقهاء المتقدمين، ويبدو أنّ هذا المصطلح استعمل لأول مرّة، في عصر خلفاء بني أُميّة وبني العبّاس، حيث انتخب لهذا الشق من الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر.

وعلى أيّة حال، فإنّ الأخبار الواصلة عن عصر النّبيّ صلى الله عليه و آله تدل على أنّ كلمة «الحسبة» وإنْ لم تكن متداولة في ذلك العصر بمعناها ومفهومها المعهود اليوم، ولكن مفهومها الواقعي أي، النظارة على المسائل الاجتماعيّة من قبل الحكومة الإسلاميّة، كان مراعىً تماماً حينذاك، فتارة كان الرسول صلى الله عليه و آله يقوم بنفسه بهذه الوظيفة، واخرى يوكلها إلى آخرين.

ومن جملة الشّواهد على ذلك، ما ورد من أنّ الرّسول صلى الله عليه و آله قد أمر سعيد بن سعيد بن العاص- بعد فتح مكة- بالاشراف على السّوق، حيث ورد في الحديث: «استعملَ رَسولُ اللَّهِ سعيد بنَ سَعيد بن العاص بَعْدَ الفَتح على سُوق مكّة» «1».

حتى أنّ المستفاد من بعض الرّوايات، أنّ بعض النّساء كنَّ يمارسن وظيفة الاشراف على المسائل النّسائية (كمسائل الحجاب وأمثال ذلك)، ومن جملة تلك النّسوة امرأة باسم «سحراء» بنت نهيك «2» الذي أدرك عصر النّبيّ صلى الله عليه و آله، كانت مأمورة بالقيام بتلك الوظيفة، فكانت تدور في الأسواق وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر (وإن ذهب البعض إلى أنّها لم تقم بذلك الدور في عصر النّبيّ صلى الله عليه و آله وإنّما كان ذلك في زمن عمر بن الخطاب) «3».

وفي كثير من المواضع، كان النّبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله يتولى ذلك بنفسه، خاصة في مسائل الإحتكار والغش

والتدليس في المعاملة وأمثال ذلك، ومن جملة ما ورد في ذلك: «إنّ

______________________________

(1) التّراتيب الإدارية، للكتاني، ج 1، ص 285 (ينقل الرّواية عن إبن عبد البرّ في الإستيعاب).

(2) «نهيك» على وزن شريك، وفي الأصل بمعنى الجمل القوي، والسّيف القاطع، ويقال للرّجال القاطعين الحازمين أيضاً.

(3) المصدر السابق.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 218

رسول اللَّه صلى الله عليه و آله مرَّ بالمحتكرين فأمر بحكرتِهم أنْ تخرج إلى بطون الأسواق وحيث تنظرُ الأبصار إليها» «1»، فاقترح النّاس أن تُعيّن أسعارها، فرفض النّبيّ صلى الله عليه و آله ذلك.

وفي حديث آخر، أنّ النّبيّ صلى الله عليه و آله مرَّ على رجل خلط طعاماً جيداً بردي ء، فقال له النّبيّ صلى الله عليه و آله في ذلك، فقال الرجل: أردت أن أبيعه جميعاً فقال صلى الله عليه و آله: «ميِّزْ كُلَّ واحدٍ منهما على حِدة، ليس في ديننا غشّ» «2».

وجاء في عهد الإمام عليّ عليه السلام إلى مالك الأشتر:

«إمنَع من الإحتكار فإنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله مَنَعَ مِنهُ، وليكن البَيْعُ بيعاً سَمحًا بموازين عدلٍ، وأسعار لا تجحِفْ بالفريقين من البائع والمبتاع، فمن قارفَ حُكْرَةً بعد نهيك إيّاه، فنكِّل به وعاقبهُ في غيرِ إسراف» «3».

ونقرأ أيضاً في أحوال الإمام عليّ عليه السلام أنّه كان يتولى بنفسه الأُمور المرتبطة بالحسبة، فكان أحياناً يمرُّ في سوق القصابين وينهاهم عن المخالفة «4».

وكان عليه السلام يمرَّ تارة في سوق السّماكين وينهاهم عن بيع الأسماك المحرّمة «5».

ولكن، وبمرور الزّمان، اتسعت مسألة «الحسبة» واتخذت تدريجياً صورة دائرة مهمّة من دوائر الدولة الإسلاميّة، فكان المأمورون باسم «المحتسبين» يدورون في الأزقة والأسواق والشّوارع الكبيرة ليل نهار ويراقبون الأمور الاجتماعيّة، المختلفة، فيعاقبون المخالفين في محل ارتكاب المخالفة أحياناً، وأحياناً أخرى يأخذونه إلى القاضي

(كما في مأموري شرطة المرور هذه الأيّام).

واتّسعت دائرة «الحسبة» إلى درجة أنّ «جرجي زيدان» المؤرخ المعروف ذكر في كتابه «تاريخ الحضارة الإسلامية» يقول:

______________________________

(1) وسائل الشيعة، ج 12، ص 317، ح 1، الباب 3.

(2) كنز العمال، ج 4، ص 159.

(3) نهج البلاغة، الرسالة 53.

(4) كنز العمال، ج 4، ص 158.

(5) وسائل الشيعة، ج 16، ص 332.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 219

«الحسبة»: وهي احدى المناصب الإسلامية، شأنها شأن منصب القضاء وللمحتسب حق ردع الناس عن القيام بالمنكرات، وله حق الاشراف على التعزير والتأديب، وأمر الناس بضرورة رعاية المصالح في المؤن، ومنعهم من الوقوف في الطرقات، ومراقبة شؤون النقل، ومنع أصحاب السفن من تحميل السفينة أكثر من طاقتها، وذلك حفاظاً على أموال وأرواح الناس، ويأمر بإقامة وتعديل الجدران المشرفة على السقوط وكل شي ء من شأنه تعريض المارة للخطر، وكل شي ء يلحق بهم الضرر، ويمنع الغش والتدليس في الكسب والعمل، ويأمر بمراعاة المكيال والميزان والاشراف على منع كل ما من شأنه أن يلحق الاذى والاجحاف بالناس.

وكل ما ذكر هو مسؤوليات القاضي، ولكن لكون القاضي لا يستطيع ممارسة كل هذه الأعمال بشكل عملى، لذا فُصلت هذه المسؤولية من مهامه، وأصبحت مستقلة.

المتصدي لهذا المنصب أو المسؤول يجب أن يكون فرداً صالحاً ومن ذوي الوجاهة، لأنّ هذه المسؤولية تمثل خدمة دينية «ومن دون هذه الوجاهة لا يمكنه القيام بهذه المسؤولية».

ورئيس امور الحسبة يقوم بتعيين ممثلين عنه في كافة المناطق ويستطيع أن يجلس كل يوم في أحد المساجد المهمّة، ويقوم مُمثِّلوه يقومون بممارسة الأعمال المختلفة الملقاة على عاتقهم في الاشراف على المشاغل المختلفة والسوق.

وفي مصر، كان رئيس امور الحسبة يجلس يوماً في مسجد القاهرة ويوماً في مسجد الفسطاط، ويرسل ممثليه إلى الشوارع والأزقة لكي

يقوموا بالاشراف على وضع اللحوم ومراكز الطبخ والأغذية، وكذلك الاشراف على الحمولة التي تحملها الحيوانات، حيث لا يسمحون تحميلها أكثر من طاقتها، ويأمرون سقاة الماء بأن يغطوا أوانيهم بقطع من القماش، وأن يراعوا الموازين الصحية والإسلامية في أعمالهم.

ويحذرون معلمي المدارس والمكاتب بأن لا يضربوا تلامذتهم ضرباً شديداً إذا ما أذنبوا، وإذا ما ضربوهم فليتجنبوا المناطق الحساسة والخطرة من الجسم.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 220

والمحتسب له حق الاشراف على محل ضرب العملة لكي لا يحصل الغش أثناء ضرب السكة فتخرج عن العيار المطلوب.

وفي الأندلس كان يسمى هذا المنصب لاخطة «الاحتساب» والمسؤول عنه أحد القضاة، ويقوم هذا الشخص بركوب مركباً والتجوال في الأسواق يحيط به أعوانه وموظَّفوه، ويحمل معه ميزان ليزن به الخبز، فاذا كان أقل مِمّا هو مقرر فيعاقب البائع.

ويجب على القصاب أن يعلق قيمة للحومة في دكانه، وذلك لكي لا يتلاعب بالاسعار.

وفي بعض الأحيان يقوم المحتسب بإرسال طفلٍ أو امرأة لكي يشتريا من السوق، ويقوم المحتسب بوزن ما اشترياه، فاذا راى نقصاً في الوزن فيقوم بمجازاة البائع.

هؤلاء، لديهم قوانين واسعة لها علاقة بالحسبة يقومون بتدريسها في مدارسهم، كما يدرس فقهاء الإسلام دروسهم «1».

ومن مجموع هذا الكلام والمطالب الاخرى المذكورة في الكتب المصنفة في «الحسبة»، يظهر أنّ «دائرة الحسبة» كانت تتولى كثيراً من الأمور التي تتولاها اليوم الدوائر الحكومية كأمانة العاصمة والقوى الدّاخلية، وقوى التعزيرات والغرامات الحكومية، والتّربية والتعليم، والقضاة، وأنّها أحد أركان الحكومة الإسلاميّة الفعالة، وخاصة في دورها الواضح والبارز في محاربة المنكرات، ولذا فإنّ قصائد الشعراء تضمنّت مصطلح «المحتسب» ووظائفه بشكل موسع.

والمستفاد من مجموعة من المصادر أنّ القيام بوظيفة «المحتسب» كان من الواجبات الكفائيّة بين المسلمين، إذ كما قلنا فإنّ «الحسبة» فرع من فروع الأمر

بالمعروف والنّهي عن المنكر، حتّى أنّ بعض النّساء كنَّ يُنتَخَبْنَ لهذه الوظيفة ليشرفن على تحركات النّساء الاجتماعيّة.

ونقرأ في «دائرة معارف دهخدا» (فارسي) في بحث «وظائف المحتسب»: «إنّ وظيفة المحتسب، أوّلًا: الاشراف على إجراء المقررات الشّرعيّة والمنع من ارتكاب

______________________________

(1) تاريخ الحضارة الإسلامية «جرجى زيدان»، ج 1، ص 252، مع التصرف.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 221

المحرمات، وثانياً: الاشراف على صحة سير الأمور المرتبطة بالمصالح العامة للمجتمع ورفاههم وحياتهم، وكذلك الحدِّ من سدِّ الطّرقات العامة والأزقة من قبل بعض المخالفين والباعة ... والإشراف على الوزن، وما هو اليوم في عهدة «البلديات» من هذه الوظائف كان في الأصل في عهدة القاضي، ولكنّهم جعلوها شغلًا مستقلًا لكي لا يبتلى القاضي بها» «1».

ويذكر في نفس الكتاب وظائف المحتسب نقلًا عن كتاب «معالمُ القُرْبَة» والذي قد يكون أجمع كتاب كتب في أحكام الحسبة، حيث يذكر ما يظهر منه أنّ شغل المحتسب يشمل الاشراف على أنواع الكسب والتجارات وموارد الإنتاج والخدمات والتّربية والتعليم.

ومن جملة الموارد: منع وقوع المنكرات في الأزقة والأسواق ومراقبة صحة الوزن والمكيال وأمور الأفران والمخابز، والأمُور الصّحية والمسالخ والتّدقيق في صحة الذّبح وشرائطه، والحمّامات العامة، والأطباء والمعلمين والمؤذنين وخدمة المساجد والوعاظ والكتّاب، وكذا النظارة على أشغال التّجارة، والملاحين، والمعمارين والبنّائين، والسماسرة والصرّافين والصاغة وأمثالهم «2».

وفيما يرتبط بالفرق بين مسألة «الحسبة» ومسألة «الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر» ذكرت بعض الكتب مثل «الأحكام السلطانية» فروقاً كثيرة بينهما بلغت تسعة فوارق «3».

ويمكن في الواقع تلخيص تلك الفروق في جملة واحدة وهي أنّ «الحسبة» هي الشّق الحكومي للأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر والذي يمكن التّوسل به في موارد اللزوم، وعليه فالمحتسب يُعَيَّن من قبل الحكومة، وله أعوان وأنصار، وظيفتهم الإشراف والنظارة على المسائل الاجتماعيّة المذكورة،

وهؤلاء يستلمون مرتباتهم الشّهرية من صندوق بيت المال، ويلقون القبض على المخالفين ويعزّرونهم ويعاقبونهم على النحو الذي مرَّ، وأما الشّق العام للأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، فلا يكون بهذا النحو.

______________________________

(1) لغتنامه دهخدا، مادة (حسبة).

(2) المصدر السابق.

(3) الأحكام السلطانية، ص 24.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 223

الرّكن الرّابع: التربية والتعليم

تمهيد:

اشارة

يعتبر نشر الثقافة الصّحيحة والتّربية والتّعليم أحد الأركان المهمّة في الحكومة الإسلاميّة، وبالنظر إلى الإنسان كموجود ثقافي، أي أنّ أعماله وسلوكه نتاج لمجموعة افكاره واستعداداته، لذا فأيّ إصلاح وتحوّل في وضع المجتمع غير ممكن ما لم يتمّ النفوذ إلى فكره وروحه.

ولذا تحاول الدول العظمى النّفود في ثقافة المجتمعات ووسائل الإعلام العامة كالمطبوعات (الكتب والجرائد والمجلات) والإذاعة والتلفزيون وأمثال ذلك، من أجل تحقيق أهدافها السياسية والاجتماعيّة والعسكرية والاقتصادية المختلفة، ويعتبر ذلك ركناً من أركان تلك الحكومات وقوة رابعة تضاف إلى القوى الثّلاث (القوة التشريعيّة والتنفيذيّة والقضائية)، بل إنّ الكثيرين يعتبرون ذلك من أهم أركان المجتمع ويراهنون عليه كثيراً.

وهذه حقيقة لا مبالغة فيها، إذ إنّ وسائل الإعلام العامة لو استغلت في طريق نشر الثقافة الصحيحة السالمة المبرمجة المؤثرة، لكان جو التّشريع والقضاء والتّنفيذ سالماً، ولخففت كثيراً من ذلك العب ء الثقيل عن كاهل المسؤولين، ولأدّى أفراد المجتمع وظائفهم بشكل طبيعي ومنظم.

والملفت للنظر هو أنّ منهج الحكومة الإسلاميّة المستنبط من القرآن المجيد والسّنة النبوية، والمقرر قبل أربعة عشر قرناً، كان قد اهتم فوق حد التصور بمسائل التّربية والتّعليم والتّبشير والإنذار، وقد اعتمد برامج عديدة ومتنوعة لتحقيق هذا الغرض.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 224

والموضوع القابل للتّأمل هو أنّ أبرز أنواع الحكم الإسلامي وهو حكومة الرّسول الأكرم محمّد صلى الله عليه و آله، بنيت على أساس ثورة ثقافيّة، فقد إهتم الرّسول صلى الله عليه و آله طيلة الثّلاثة عشر

عاماً التي قضاها في مكة بالتربية والتّعليم ونشر الثّقافة الإسلاميّة والعقائد، وقد ربّى أصحابه وعلّمهم بحيث صار كلٌ منهم لُبنَةً أساسية في بناء الحكومة الإسلامية، أي أنّ الثّورة السياسيّة والاجتماعيّة للنظام الإسلامي قامتا على أساس نفس تلك الثّورة الثّقافية.

ويعتبر إحياء الفكر والتّفكر، المادة الأولية لكل البرامج الإسلاميّة، حتّى أنّ الرّسول الأكرم صلى الله عليه و آله كان يطلب من مخالفيه هذا الأمر فقط وكما ورد في القرآن المجيد: «قُلْ إِنَّما أَعِظُكُم بِوَاحِدةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّه مَثنَى وَفُرادَى ثُمَّ تَتَفكَّروُا ...». (سبأ/ 46)

وفي حديث عن النّبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله: «إنَّ التّفكر حياةُ قَلْبِ البَصيرِ، كما يمشي المُستَنِيرُ في الظّلمات بالنّور» «1».

وفي حديث عن الإمام عليّ عليه السلام قال: «بالفِكْرِ تَنْجلي غياهِبُ الأمور» «2».

وورد في حديث آخر معروف: «تفكُّرُ ساعةٍ خيرٌ من عبادةِ ستّين سنة» «3».

وعلى هذا الأساس، سنتناول بالبحث الأمُور التّالية، مستلهمين من القرآن الكريم:

1- التّربية والتّعليم في الإسلام.

2- أهميّة العلم لا تنحصر بالعلوم الدينيّة.

3- تعلم العلوم المفيدة، في الرّوايات الإسلاميّة.

4- مقام المعلّم في الإسلام و ...

1- التّربية والتّعليم في الإسلام

وردت في القرآن الكريم آيات كثيرة في «التّعليم» و «التّعلّم» و «نشر العلم»، وذكر كلّ

______________________________

(1) بحار الأنوار، ج 89، ص 17.

(2) غرر الحكم.

(3) بحار الأنوار، ج 66، ص 293.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 225

تلك الآيات لا يَسَعَهُ هذا المختصر، ولذا سنشير هنا إلى بعض تلك الآيات:

1- «اللَّهُ الَّذِىِ خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الارْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الامْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شى ءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَى ءٍ عِلْماً». (الطلاق/ 12)

2- «كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنَا ويُزَكّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَّالَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ». (البقرة/ 151)

3- «رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ

يَتْلُوا عَلَيْهِمُ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَة وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ». (البقرة/ 129)

4- «وَمَا ارْسَلْنَا مِنْ قَبلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِى الَيْهِمْ فَاسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُم لَا تَعْلَمُونَ». (النّحل/ 43)

5- «وَمَا كَانَ الْمُؤمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِى الدِّينِ وَليُنْذِروُا قَوْمَهُمْ اذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ». (التوبة/ 122)

6- «يُؤتِى الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ اوتِىَ خَيْراً كَثيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا اولُوا الالْبَابِ». (البقرة/ 269)

7- «انَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ مَا بَيْنَّاهُ لِلنَّاسِ فِى الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ». (البقرة/ 159)

فبنظرة إجمالية إلى هذه الآيات السبع التي انتخبناها من بين عشرات الآيات القرآنية حول التّعليم والتّربية، يتضح لنا اهتمام الإسلام البالغ بهذا الأمر المهم.

ففي الآية الأولى، يعتبر العالم كلّه بمثابة جامعة خُلِقَت جميع الموجودات فيه لتعليم الإنسان وزيادة اطلاعه، والهدف هو أن يتفكر الإنسان في أسرار هذه الكائنات، فيتعرف على علم وقدرة الخالق، وبتعبير آخر، الهدف من عالم الخلقة كلّه هو العلم والمعرفة حيث يقول عزّوجلّ:

نفحات القرآن، ج 10، ص: 226

«اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ سَبْعَ سَماوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ ... لتَعلَموا أنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شى ءٍ قَديرِ ...» «1».

وهذا في الحقيقة موضوع ظريف وهو أنّ خلق السماوات وخلق الأرضين وتدبيرهما الدائمي، يكون وسيلة لتحريك حسّ الإطلاع عند الإنسان للتفكر والتّأمل في أسرار العالم، وبالنّتيجة التّيقن من علم اللَّه وقدرته، فكل تلك الأمور إذن مقدمة لتربية النفس الإنسانيّة والقرب إلى اللَّه، وللإطلاع على أنّ أحكام الشّريعة كأحكام الخلقة، مبتنية على حسابات دقيقة، فالخلقة إذن من أجل العلم.

وتشير الآية الثّانية إلى الهدف من بعثة نبيّ الإسلام صلى الله عليه و آله، وتعتبر أنّ الهدف هو التّعليم والتّربية

في ظل تلاوة آيات اللَّه، حيث تقول:

«كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا ويُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَالَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ».

فهنا لم يحصر الهدف من البعثة في تعليم الكتاب والحكمة، بل تعليم الأمور التي لم يكن بالإمكان التعرف عليها إلّابنزول الوحي، ولذا يقول: «وَيُعَلِّمُكُمْ مَّالَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ».

وبهذا يكون الهدف من الخلقة تطوير المعرفة، والهدف من البعثة كذلك هو توسعة ونشر العلم والحكمة وتهذيب وتربية النفوس.

______________________________

(1) فُسرّت السّماوات السّبع بتفسيرات عديدة، منها تفسير معروف وهو أن كلّ ما نراه من سماوات وكرات سماوية ونجوم سيارة وثابتة، مرتبط بالسّماء الأولى، وما بعدها ستة عوالم أخرى عظيمة جدّاً، واحد تفاسير الأرضين السبّع هو أن ما يوجد فوقنا من عوالم يوجد مثله تحت أرجلنا وهذا المعنى بينه الرّسول الأكرم صلى الله عليه و آله في عبارة رائعة حيث سأل أصحابه هل يعرفون ما تحت أرجلهم؟ فقالوا: اللَّه ورسوله أعلم فقال صلى الله عليه و آله: «الأرض وتحتها أرض اخرى بينهما خمسمأة عام» (تفسير روح البيان، ج 10، ص 44). وللإطلاع أكثر على معنى السماوات السبع راجعوا الى ج 2، ص 144 من هذا التفسير.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 227

والمستفاد من الآية الثالثة هو أنّ هذا الهدف الكبير أي التّربية والتعليم والحكمة، ورد في دعاء إبراهيم الخليل عليه السلام لهذه الأمة، حتى إنّه يطلب ذلك من اللَّه عزّوجلّ ويقول:

«رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزٌ الْحَكِيمُ».

وهذا يدل على أنّ هذين الهدفين (الترّبية والتعليم) كانا من الأهداف المعروفة في الأمم السّابقة أيضاً.

والملفت للنظر هو أنّه ورد في هذه الآية وبعض الآيات الاخرى الواردة في هذا المضمار، الحديث عن تعليم الكتاب وتزكية النّفس إضافة

إلى تعليم الحكمة، وفيما يرتبط بمعنى «الحكمة» وردت تفسيرات كثيرة ومختلفة.

الأول: إنّ المراد منها هو العلوم الدّينيّة والتّعرف على أحكام الدّين.

والثّاني: إنّ المراد منها هو سنّة النّبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله، لإنّها ذُكرت إلى جنب كتاب اللَّه. وقال البعض الآخر إنّ المراد من الحكمة هو العلامات والفوارق التي تميز الحق من الباطل، وقيل أيضاً إنّ الحكمة بمعنى الآيات المتشابهة التي لابدّ أنْ يُعلِّمها الرّسول بنفسه للآخرين «1».

لكن وبالتأمل في أصل لفظ «الحكمة» في اللغة، والتي جاءت بمعنى المنع من الجهل والخطأ، ووضع كلّ شي ء في موضعه، يبدو أنّ المراد من الحكمة هنا الإطلاع على أسرار وعلل ونتائج الأحكام، وأسرار خلقة الكون والإنسان، ومصيره ونهايته.

وفي الآية الرّابعة إشارة إلى قاعدة كلية هي أساس مسألة التّربية والتعليم، حيث يقول عزّوجلّ: «فَاسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُم لَاتَعْلَمُونَ».

وهذه الآية وإنْ وردت في صفات الأنبياء السابقين عليهم السلام وإنّهم كانوا من جنس البشر، وأنّه لا فرق بينهم وبين سائر البشر في الظّاهر، ولكننا نعلم أنّ مورد الآية لا يحدّد مفهومها

______________________________

(1) التّفسير الكبير، ج 4، ص 66 (ذيل الآية مورد البحث).

نفحات القرآن، ج 10، ص: 228

الوسيع، بل الحكم باقٍ على عموميته.

وهذا في الواقع أصلٌ أساسي يذعن بصحته كل عقلاء العالم، وهو أن غير أهل العلم يتعلمون من أهل العلم، إذ إنّ العلوم والمعارف الحقيقية محصول التفكر والتأمل والتجارب التي اكتسبها القدماء، والّتي يضعونها تحت تصرف الأجيال القادمة، وهؤلاء يضيفون عليها ويسلمونها للأجيال اللاحقة، وهكذا يتكامل العلم والمعرفة البشرية يوماً بعد يوم، ولهذا الدّليل تعتبر مسألة التّربية والتّعليم الأساس الأول لكل تطور ورقّي اجتماعي في البعد المعنوي والمادي.

ونُقِلَت عبارة عن الغزّالي توضح هذا المطلب أكثر، وهي أنّه سئل عن كيفية حصوله

على هذه الإحاطة العلميّة باصول وفروع الإسلام، فأجاب بتلاوة هذه الآية: «فَاسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُم لَاتَعْلَمُونَ» «1».

وقد فَسَرَّت الروايات العديدة الواردة عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام، أهل الذكر، بمعنى الأئمّة المعصومين عليهم السلام «2» ولكن وكما تعلم أنّ هذه التفاسير ليست بمعنى الحصر، بل في بيان المصداق الأتمِّ والأكمل لها، وشبيه هذا المعنى نلاحظه في تفسير كثير من آيات القرآن.

والآية الخامسة تقسم المسلمين إلى مجموعتين: «المعلمين والمتعلمين» وفي الواقع لابدّ أن يكون المسلم فرداً من أفراد إحدى المجموعتين، فإمّا أنْ يكون معلماً أو متعلماً حيث يقول عزّوجلّ:

«وَمَا كَانَ الْمُؤمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِى الدِّينِ وَليُنْذِروُا قَوْمَهُمْ اذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ».

وقد استند كثير من العلماء على طول التّاريخ إلى هذه الآية الشّريفة لإثبات لزوم تعلم

______________________________

(1) تفسير روح البيان، ج 5، ص 37.

(2) للإطلاع على هذه الروايات يراجع من تفسير البرهان ج 2 ص 369، والملاحظ أنّ هذا التعبير ورد في روايات أهل السنّة أيضاً (راجع شواهد التّنزيل للحسكاني ج 1، ص 344، وإحقاق الحق، ج 3، ص 482.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 229

العلوم الإسلاميّة لإبلاغها إلى الآخرين بعنوان الواجب الكفائي، مضافاً إلى أنّهم يوجبون التّعلُّمَ على الجميع وجوباً عينياً.

وفي عالم اليوم، يعتبر طلب العلم في كثير من الدّول إلزامياً، فيجب على كلّ طفل أنْ يتعلم وإلّا استدعي وليّه من قبل الجهات المسؤولة، ولكن التّعليم ليس إلزامياً في أي مكان من العالم، بل الناس مخيرون بين انتخاب التعليم وعدمِه.

وأمّا في الإسلام، فإنّه كما يعتبر تحصيل العلم واجباً، فكذلك تعليم الآخرين فإن فيه جنبة الإلزام والوجوب وأحد الأدلة على ذلك هو نفس آية النّفر هذه، فإنّها من جهة توجب

تحصيل العلم بجملة «فَلَولَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طائِفَةٌ» «1».

ومن جهة أخرى فإنّها توجب التّعليم، بجملة «وَليُنْذِرُوا قَومَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ»، ولا شك في أنّ كلّ ذلك مقدّمة للقيام بالتّكاليف الإلهيّة، والذي تخلّصَ في جملة: «لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ».

ولهذا، فإنّ بعض علماء الإسلام، كان أحياناً يطوي المسافات البعيدة لأيّام عديدة وينتقل من بلدٍ إلى آخر لتعلّم حديثٍ واحد!، ومن جملة هؤلاء- كما ذكر التاريخ- «جابر» الذي سافر من «المدينة» إلى «مصر» ليسمع حديثاً واحداً من أحد العلماء الذي كان يروي ذلك الحديث، ولذا قيل إنّ أحداً لا يصل إلى مرحلة الكمال إلّابالسفر (والإلتقاء بعلماء البلاد المختلفة والاستفادة من علومهم وتجاربهم)، وإنّ أحداً لا يصل إلى مقصوده إلّا بالهجرة «2».

ونقرأ في قصة الخضر وموسى عليه السلام والتي وردت الإشارة إليها في سورة الكهف كيف أنّ هذا النّبيّ الكبير (موسى)، كان قد طوى طريقاً طويلًا وشاقاً حتى وصل إلى هذا العبد الصّالح (الخضر) وتعلم شيئاً من علومه.

______________________________

(1) طبقاً لأقوال علماء الأدب فإن «لولا» تحضيضية، وهي في مقام اللَوم والتّقريع ومن الواضح فإن التقريع إنّما يكون على ترك الواجب أو فعل الحرام.

(2) تفسير روح البيان، ج 3، ص 537.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 230

وفي الآية السّادسة، نواجه تعبيراً مهماً آخر حول تعلُّم العلم والمعرفة، يقول عزّوجلّ:

«يُؤتِى الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ اوتِىَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا اولُوا الالْبَابِ».

بداهة أن المنظور من تعبير «مَنْ يَشاءُ» ليس هو أنّ يعطي اللَّه الحكمة والعلم لهذا وذاك بلا مبرر وبدون مقدمة، بل وكما تعلم فإنّ «مشيئة» اللَّه وإرادته منسجمة دائماً مع «حكمته»، أي أنّه يؤتي الحكمة من كان لائقاً بها، وهذه اللياقة إنّما يحصل عليها الإنسان عن طريق الجد والسّعي وتحمل عناء

ومشقة تحصيل العلم، أو بواسطة جهاد النفس والتقوى التي تعتبر منبع النّظرة الصائبة والفرقان الإلهي.

واللّطيف في هذا الأمر هو أن الآية الكريمة تعبر عن العلم والحكمة بعبارة «خَيْراً كَثيراً» وهو تعبير جامع يشمل كل الحُسْن والخَير، خير الدنيا والآخرة، والخير المادي والمعنوي، والخير في كل الجهات.

وللمفسر الكبير، المرحوم العلّامة الطّباطبائي (ره) نكتة في هذا المقام يقول: «إنّ جملة «وَمَنْ يُؤتَ الْحِكْمَةَ» جاءت بصيغة المبني للمجهول، في حين أنّ الجملة التي قبلها جاءت بصيغة المعلوم حيث قال تعالى «يُؤتِى الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ» وماذاك إلّاليبيّن أنّ الحكمة والمعرفة ذاتاً منبع خير كثير، لا من جهة الإنتساب إلى اللَّه المتعال فقط، بل إنّ ذات وحقيقة العلم خير كثير» «1».

والآية الأخيرة، أشارت إلى بُعد آخر في هذه المسألة، حيث ورد فيها ذمٌّ شديد لأولئك الذين يكتمون العلم والمعرفة، حيث يقول تعالى:

«انَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ مَا بَيْنَّاهُ لِلنَّاسِ فِى الْكِتَابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ».

______________________________

(1) تفسير الميزان، ج 2، ذيل الآية مورد البحث.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 231

والتعبير بلعن اللَّه ولعن اللاعنين من أشدّ التّعبيرات التي استعملت في القرآن المجيد في ذنب من الذّنوب، وهذا دليل على قبح كتمان العلم والهدى إلى أبعد الحدود، بالخصوص تلك العلوم والمعارف التي تكون أساساً لهداية النّاس.

وفي الآية التي تلي هذه الآية مباشرة من سورة البقرة، ذكر تعالى الطريق الوحيد للتوبة من هذا الذّنب الكبير وهو تبيين المسائل المكتومة بعد النّدم والعودة إلى اللَّه، وهذا بنفسه دليل واضح على أنّ جبران «كتمان العلم» لا يتحقق إلّابتبيينه حيث يقول تعالى: «إِلَّا الَّذِين تَابُوا وَأَصلَحُوا وبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوابُ الرَّحيمُ». (البقرة/ 160)

وهذه الآية وإن نزلت في أهل الكتاب الّذين كتموا

علامات نبيّ الإسلام صلى الله عليه و آله المذكورة في كتبهم، إلّاأنّ مفهومها أوسع من ذلك، فتشمل كتمان كلّ علم من العلوم يكون سبباً في هداية النّاس، والرّوايات الواردة عن المعصومين عليهم السلام تشهد بهذا الأمر وأنّ المراد من العلم مفهومه المطلق، يقول النّبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله: «مَنْ سُئل عن عِلْم يَعْلَمُهُ فَكَتَمه، الجِمَ يوم القيامة بلجامٍ من نارٍ» «1».

وفي حديث آخر عنه صلى الله عليه و آله نلاحظ تعبيراً أوضح من الأوّل حيث يقول صلى الله عليه و آله: «مَنْ كَتَمَ عِلمَاً نافِعاً عِنْدَه، أَلْجَمَهُ اللَّهُ يومَ القيامَة بلجامٍ منْ نارٍ» «2».

ومن الواضح أنّ هذا التّعبير يشمل كلّ العلوم المفيدة للإنسان في مجالٍ من المجالات.

وقد نُقل هذا المعنى بصراحة في حديث آخر عنه صلى الله عليه و آله أيضاً حيث يقول صلى الله عليه و آله: «مَنْ عَلِمَ شَيئاً فلا يكتمه» «3».

2- أهميّة العلم لا تنحصر بالعلوم الدينيّة

قد يتصور البعض أنّ كلّ تلك التأكيدات الواردة في الآيات القرآنية والرّوايات الشّريفة في التعلّم والتّعليم ونشر العلوم، ناظرة إلى العلوم الدينيّة فقط، ولا تشمل ما يرتبط ببحث

______________________________

(1) تفسير مجمع البيان، ج 1- 2، ص 241، ذيل الآية مورد البحث.

(2) كنز العمال، ح 29142، ج 10، ص 216؛ بحار الأنوار، ج 2، ص 78.

(3) كنز العمال، ح 29145.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 232

الحكومة الإسلاميّة ونشر كلّ العلوم وهو مورد حديثنا!

ولكن هذا اشتباه كبير، إذ إنّ المستفاد من آيات القرآن، ومن الرّوايات الإسلامية أيضاً، هو أهميّة العلم والتّربية والتعليم بشكل مطلق.

والشواهد على هذا المعنى كثيرة، من جملتها الآيات القرآنيّة الشّريفة التالية:

1- ورد في قصة آدم عليه السلام، مسألة تعليم الأسماء، وهي إشارة إلى العلم والإطلاع على أسرار خلقة تمام الموجودات،

لا فقط العلوم الدينيّة، يقول عزّوجلّ:

«وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسَماءَ كُلَّهَا». (البقرة/ 31)

2- تعرضت الآية الرّابعة من سورة الرحمن التي تعدّد نعم اللَّه تعالى وآلائه إلى تعليم البيان، واعتبرته موهبة إلهيّة عظيمة، يقول تعالى: «عَلَّمَهُ البَيَانَ». (الرحمن/ 4)

3- ورد في سورة يوسف عليه السلام إشارة إلى علم تفسير الأحلام التي تحكي عن المستقبل والتي قد يكون لها أثر في مصير الأمم كشعب مصر، وتأويل تلك الأحلام، حيث يحكي القرآن عن لسان يوسف ويقول:

«ذَلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِى رَبِّى». (يوسف/ 37)

4- وفي نفس تلك السّورة، يشير إلى مسألة تدبير أمر دولة كاملة والإطلاع على إدارة بيت المال، حيث يحكي القرآن عن لسان يوسف مخاطباً عزيز مصر:

«قَالَ اجْعَلنِى عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنّىِ حَفِيْظٌ عَلِيمٌ». (يوسف/ 55)

5- (وفي أمر إدارة الدّولة هذا) قصّة طالوت وجالوت، عندما يُبين دليل انتخاب طالوت ملكاً من قبل نبيّ ذلك العصر (اشموئيل)، تقول الآية:

«إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيكُم وَزَادَهُ بسَطَةً فِى العِلْمِ وَالجِسْمِ». (البقرة/ 247)

ومن الواضح أنّ امتياز طالوت على سائر بني إسرائيل لم يكن في العلوم والمعارف الإلهيّة فقط، بل كان العلم والقدرة الإدارية للأمور العسكريّة والسّياسية عند هذا الشّاب الذكّي المدبّر، مورد نظر في الاستدلال.

6- وفي قصة داود عليه السلام يعتبر تعليم (صنعة لَبوس من امتيازاته الكبيرة بل على رأي

نفحات القرآن، ج 10، ص: 233

الطبّرسي في مجمع البيان أنّ «لبوس» يشمل كلّ أنواع الأسلحة الدفاعيّة والهجوميّة، ولا تختص بالدّروع «1»، يقول عزّوجلّ:

«وَعَلَّمْنَاهُ صَنعَةَ لَبُوسٍ لَّكُم لِتُحْصِنَكُمْ مِّنْ بَأْسِكُمْ». (الأنبياء/ 80)

7- وتتحدث سورة الكهف عن قصّة موسى والخضر والعلوم والمعارف التي تعلمهاموسى عليه السلام من الخضر عليه السلام، ونلاحظ أنّ أياً منها لم يكن من العلوم الدينيّة، بل كانت من العلوم التي تدير المجتمع الإنساني طبق

نظام أحسن، يقول تعالى:

«فَوَجَدَا عَبْدَاً مِّنْ عِبَادِنَا آتينَاهُ رَحمَةً مِّنْ عِنْدِنَا وعَلَّمنَاهُ مِنْ لَّدُنَّا عِلْماً». (الكهف/ 65)

ثم يذكر في الآيات اللاحقة ثلاثة نماذج لهذه العلوم وهي ليست من العلوم الدينيّة، بل مرتبطة بتدبير الحياة.

8- ورد في سورة النمل الحديث عن اطلاع سليمان عليه السلام وعلمه بحديث الطير ومنطقه، ويعتبر ذلك من الأمور التي كان سليمان يفتخر ويتباهى بها، يقول تعالى

«وقَالَ يَا أَيُّها النَّاسُ عُلِّمنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ». (النمل/ 16)

9- وفي أواخر سورة الكهف وفي قصّة ذي القرنين، ورد الحديث عن بنائه السّد وإنّه حادثة مهمّة حتى أنّها تبيّن بعض الجزئيات في عملية بناء ذلك السّد وكيفيّة تدبير أمر بناء سدٍّ محكم قوي حديدي للحدِّ من هجوم القبائل الفاسدة والمفسدة (يأجوج ومأجوج)، يقول تعالى:

«آتُونِى زُبَرَ الحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَينِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتونىِ أُفْرِغْ عَلَيهِ قِطْراً». (الكهف/ 96)

10- وفي سورة لقمان أيضاً، وردت آيات في بيان وصايا لقمان لابنه، حيث نرى مجموعه من الإرشادات لها جنبة اجتماعيّة وإداريّة، يعتبر رعايتها والاهتمام بها من الأمور المهمّة في حياة كلّ فردٍ، من جملتها إنّه قال:

______________________________

(1) تفسير مجمع البيان، ذيل الآية 80 من سورة الأنبياء عليهم السلام ولكن هناك قرائن في الآية تشير جميعها إلى أنّها إشارة إلى الدّرع.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 234

«وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمشِ فِى الأَرضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَايُحِبُّ كُلَّ مُختَالٍ فَخورٍ* وَاقْصِدْ فِى مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوتُ الحَمِيرِ».

(لقمان/ 18- 19)

هذا في حين أنّ اللَّه تعالى كرَّم لقمانَ لعلمه وحكمته ومعرفته، حتى قرن كلامه بكلامه تعالى!

11- وفي سورة سبأ وفي بيان أحوال سليمان عليه السلام ورد الحديث عن برامجه العمرانية والفنيّة المتشعبة والتي كان

الجن يقومون بها تحت إشرافه:

«يَعملُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ».

(سبأ/ 13)

وفي الآية السابّقة لهذه الآية، وردت إشارة إلى تعلم سليمان إذابة الفلزات، حيث يقول تعالى: «وَاسَلْنَا لَهُ عَيْنَ القِطْرِ». (سبأ/ 12)

12- يقول تعالى في سورة البقرة، في ما يرتبط بحكومة داود النّبيّ:

«وَقَتَلَ دَاوَدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ المُلكَ وَالحِكمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ». (البقرة/ 251)

ومن الواضح، فإنّ العلم والحكمة هنا، هي المعرفة اللازمة بتدبير المُلك والمملكة وإن كان لها معنى أوسع من ذلك، فإنّها بلا شكّ تشمل هذا القسم من العلوم وهو المرتبط بالحكومة وإدارة الدّولة.

ومن مجموع الإشارات التي وردتْ في الآيات المذكورة والبعض الآخر من آيات القرآن المجيد، يمكن الإستفادة بوضوح أنّه وخلافاً لتصور البعض أنّ القرآن الكريم قد اهتم فقط بالعلوم الدينيّة والمعارف الإلهيّة، وأنّه لم يتعرض لأهميّة العلوم الاخرى، يتبين لنا أنّ القرآن الكريم قد اهتمَّ بتعلّم وتعليم هذه الأقسام من العلوم وعدَّها من المواهب الإلهيّة العظيمة، وهو يحفِّز المسلمين على تعلُّمها وتعلُّم كلّ علم مفيد ونافع في الحياة المادية والمعنوية.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 235

3- تعلّم العلوم المفيدة في الرّوايات الإسلاميّة

وفي الأحاديث الإسلاميّة أيضاً (وتبعاً لآيات القرآن المجيد) فلم تكتف بالحث والتّرغيب لتعلم العلوم الدينيّة فقط، بل نجد أنّ الرّوايات قد اهتمت بالترّغيب لتعلم العلوم المفيدة في الحياة المادية والمعنوية مضافاً إلى العلوم الدينية، وإليك نماذج من تلك الرّوايات الشّريفة:

1- ورد في حديث معروف عن النّبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه قال:

«اطلبُوا العِلمَ ولو بالصّين فإنّ طَلَب العِلم فَريضَةُ عَلى كُلّ مسلمٍ» «1».

وينبغي الإلتفات إلى أنّ الصيّن في ذلك الوقت كانت أبعد دولة معروفة، وعليه فإنّ المراد من ذكر الصين هو التمثيل للبعد في المسافات في هذا الحديث.

ومن البديهي، فإنّ ما كان في

الصّين من العلوم لم يكن من العلوم الدينيّة والمعارف القرآنيّة، إذ لم تكن الصين مركزاً من مراكز الوحي، بل كان المراد هو العلوم الدنيوية المفيدة.

2- وفي حديث آخر عن أمير المؤمنين الإمام علي عليه السلام، قال: «الحِكْمَةُ ضالةُ المؤمنِ فاطلُبوها وَلو عِنْدَ المُشرِك» «2».

ومن الواضح، أنّ ما عند المشركين ليس من العلوم الدينيّة ومعارف التوّحيد، بل كان عندهم بعض العلوم المفيدة الاخرى النافعة في الحياة.

ومن مثل هذه الأحاديث، يتداعى إلى الذّهن الشّعار المعروف «العلم ليس له وطن» ويؤكد على أن العلم ضالة المؤمن، وقد ورد في حديث آخر: «كلمة الحكمة ضالة المؤمن فحيثُ وَجَدها فهو أحقُّ بها» «3».

3- وفي حديث معروف عن النّبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله: «العلمُ عِلْمان عِلمُ الأديانِ وعِلْمُ الأبدانِ» «4» (فالعلم الأول أساس سلامة الرّوح والثّاني أساس سلامة جسد الإنسان).

4- وفي حديث آخر عنه صلى الله عليه و آله قال:

______________________________

(1) بحار الأنوار، ج 1، ص 180؛ وكنز العمال، ح 28697.

(2) بحار الأنوار، ج 75، ص 34.

(3) بحار الأنوار، ج 2، ص 199، ح 58.

(4) بحار الأنوار، ج 1، ص 220، ح 52.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 236

«العِلْمُ ثلاثَة: الفِقْهُ للأديان والطِّبُ للأبدان والنّحو للِّسان» «1».

فهنا يبيّن صلى الله عليه و آله ثلاثة أقسام مهمة من العلوم الإلهيّة والبشريّة، وهي العلوم الدينيّة وعلم الطّب والنحو الذي هو مفتاح العلوم الاخرى

5- وفي حديث آخر عن أمير المؤمنين علي عليه السلام:

«العلُوم أربَعَةٌ الفقه للاديانِ والطّبُّ للأبدان والنّحو للَّسان والنّجوم لمعرفة الأزمان» «2».

6- وفي حديث آخر عن الإمام الصّادق عليه السلام يقول فيه:

«وكذلك أعطى (الإنسانَ) علم ما فيه صلاح دُنياه كالزّراعة والغِراس واستخراج «3» الأرضينَ واقتناء الأغنامِ والأنعام واستنباط المياه ومعرفة العقاقير التي

يُستَشفى بها من ضروب الأسقام، والمعادن التي يستخرج منها أنواع الجواهر، وركوب السَّفن والغوصِ في البحر ... والتصرُّف في الصّناعاتِ ووجوه المتاجرِ والمكاسبِ» «4».

وبهذا، يعتبر الإمام الصّادق عليه السلام أن جميع هذه العلوم من المواهب الإلهيّة وأنّه يحفِّز ويرغب النّاس على تعلّمها.

7- وفي حديث عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ضمن بيان حقوق الأبناء على الآباء، قال:

«ويُعَلِّمُهُ كتابَ اللَّهِ ويُطَهِّرَهُ ويَعلِّمَهُ السِّباحَةَ» «5».

فمن هذا الحديث، يستفاد بوضوح أن تعليم فنِّ السباحة أيضاً اخذ بنظر الاعتبار لدّى مشرع الإسلام، وأوصى بتعليمه للأبناء.

8- وفي حديث عن الإمام موسى بن جعفر عليه السلام: «وبَعْدَ عِلْمِ القرآنِ ما يكون أشرفَ من علم النّجوم وهو علم الأنبياء والأوصياءِ وورثة الأنبياءِ الذّين قال اللَّه عزّوجلّ: وعلاماتٍ وبالنّجم هم يهتدون» «6».

______________________________

(1) بحار الأنوار، ج 75، ص 45، ح 52.

(2) المصدر السابق، ج 1، ص 218.

(3) بما أنّ استخراج المعادن ذكر في الفقرات اللاحقة، فلا يبعد أن المقصود من استخراج الأرضين هو تحضيرالأراضي الموات لزراعتها.

(4) بحار الأنوار، ج 3، ص 83.

(5) وسائل الشّيعة، ج 15، ص 199، باب 88، ح 7.

(6) بحار الأنوار، ج 47، ص 146.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 237

فالمستفاد من مجموع الآيات والروايات المذكورة، وروايات أخرى يطول المقام بذكرها جميعاً، هو أنّ الإسلام أسَّس نهضة علمية واسعة، وأنّ هذه النهضة المباركة نمت وترعرعت خلال قرنين أو ثلاثة وتشعبت تلك الشّجرة المباركة حتى عمَّت غصونها كلّ العالم الإسلامي، وأثمرت في فترة وجيزة ثماراً كثيرة منها الكتب الكثيرة التي أُلِّفتْ وصُنِّفتْ في مختلف الفروع العلميّة كالمعارف الإلهيّة والفلسفيّة والطّب والصّحة والجغرافيا والفيزياء والكيمياء وغير ذلك، وتُرجِمَ بعضها وحققّ البعض الآخر ونشرت بصورة تحقيقات جديدة لعلماء الإسلام.

العلماء الذين بحثوا تاريخ الحضارة الإسلاميّة

وكتبوا كتُباً في ذلك، ومنهم علماء الغرب خصصوا فصلًا مهما من تاريخ الحضارة الإسلاميّة للنهضة العلميّة عند المسلمين، وعدّدوا فروع علوم مختلفة انتشرت وإتخذت رونقاً خاصاً عندهم مع ذكر روّاد تلك العلوم المسلمين فرداً فرداً.

والنكتة المهمّة هنا هي اعتراف المؤرخين الغربيين الصّريح بأن النّهضة العلميّة في أوربا قد استندت إلى نهضة المسلمين العلميّة وأنّ الأوربيين مدينون في نهضتهم لعلماء الإسلام!

ففي كتاب «تاريخ الحضارة الغربية ومبانيها في الشّرق» والذي كتب من قبل مجموعة من علماء الغرب، جاء: «عندما نطالع خدمات البيزنطينيّة «1» والمسلمين للثّقافة الغربيّة يمكننا القول بأنّ نوراً عظيماً أشرق من الشرق على الغرب»!

يقول الدكتور ماكس يرهوف في كتاب «ميراث الإسلام»: «لقد كانت علوم العرب (المسلمين) كالقمر المنير الذي يضي ء ظلمات ليالي أوربا القرون الوسطى، ولما ظهرت العلوم الجديدة خفت نور ذلك القمر، ولكن كان ذلك القمر هو الذي هدانا في تلك الليالي الظلماء حتى وصلنا إلى هذا المستوى، ويمكننا القول بأنّ نور ذلك القمر لا زال معنا» «2».

ونقرأ في ذلك الكتاب أيضاً: «.... والخلاصة، وبهذه الوسيلة (ترجمة كتب علماء

______________________________

(1) «البيزنطينيّة»، إمبراطورية روما الشّرقية وعاصمتها البيزنطينيّة وهي الآن تشمل قسماً من تركية، وتعتبرإسطانبول الفعلية محلًا لعاصمتها البيزنطينيّة.

(2) ميراث الإسلام، ص 134.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 238

الإسلام) هطلت علوم الشّرق كمطر الرّحمة على أرض أوربا القاحلة، فحولتها إلى أرض خصبة مثمرة، وشيئاً فشيئاً تعرّف الأوربيون على علوم الشرق!».

ويقول هذا الكاتب في مذكرات تحت عنوان «العلوم الطبيعيّة والطّب»: «إنّ ما اكتشف في السنين الأخيرة كان نوراً جديداً على تاريخ علوم العالم الإسلامي القديم، ولا شكَّ في أنّ هذه الإكتشافات ليست كافية لحد الآن، وأنّ العالم سيقف أكثر فأكثر على أهميّة العلوم الإسلامية في المستقبل» «1».

وفي مقالة اخرى عن البروفسور «كيب»

أستاذ اللغة العربية في جامعة لندن، تحت عنوان «نفوذ الأدب الإسلامي في أوربا» يقول:

«عندما نلقي نظرة على الماضي نلاحظ بأنّ علوم وأدب الشرق كان بمنزلة المادة الأولية للحضارة العربية بنحو أضاءت معنويات وأفكار الشرق، الروح الكدرة لأهل القرون السّالفة الغربيين، وهَدَتْهُم إلى عالم أوسع» «2».

وكتب «جرجي زيدان» المؤرخ المسيحي المعروف في كتابه «تاريخ الحضارة الإسلاميّة» في مبحث تأثير الإسلام في العلوم والمعارف التي وردت دائرة الإسلام من الخارج، قائلًا: «عندما وصلت الحضارة الإسلاميّة إلى مرحلة الكمال، وانتشرت العلوم الأجنبية في بلاد المسلمين، بدأ المسلمون بتعلُّمِ تلك العلوم، فاستفاد بعض (علماء الإسلام) من نبوغهم وسبقوا أهل تلك العلوم الأصليين، وأضافوا إليها آراء واكتشافات جديدة، وبهذا تنوعت العلوم وتكاملت وانسجمت مع الثّقافة والآداب الإسلاميّة، واتخذت شكل الحضارة الإسلاميّة.

وعندما نهض الغربيون لاستعادة علوم اليونان، أخذوا أكثر هذه العلوم بنفس ذلك اللون الإسلامي من اللغة العربية!» «3».

ويقول في موضوع آخر: «وممّا قلناه حول دور التّعليم في الحضارة الإسلاميّة، يمكن

______________________________

(1) ميراث الإسلام، ص 111.

(2) المصدر السابق، ص 181.

(3) تاريخ الحضارة، جرجي زيدان، ج 3، ص 196.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 239

الجزم بأنّ العلم والمعرفة نشأتا في جهات مختلفة عند المسلمين، وأنّ العلماء والفقهاء والأطباء والفلاسفة قد أبدَوا نبوغهم وإبداعهم في هذا المجال» «1».

وخلاصة الكلام، إنّ الكتب التّاريخية العالميّة العامّة، أو تلك الخاصّة بتاريخ الحضارة الإسلامية، قد ذكرت بوضوح اعترافات مؤرخي الشرق والغرب بتأثير النهضة العلميّة عند المسلمين على تأريخ وعلم وثقافة المجتمع البشري على المدى البعيد أو القصير، وتفصيل الكلام في ذلك يحتاج إلى كتاب مستقل، وما ذكر إنّما هو جانب مختصر من ذلك.

4- مقام المُعَلِّمِ في الإسلام

كما نعلم فإن التعلّمِ في نظر الإسلام واجب عيني، وقد يكون في بعض العلوم واجباً كفائياً،

أي أنّ بعض العلوم يجب على الجميع تعلّمها، وأمّا ذلك القسم الذي يتميز بميزة تخصّصية وتعلّمة ليس ميسوراً للجميع، فهو واجب كفائي.

وكذلك الكلام في تعليم العلوم، فقسم من العلوم لابدّ أنْ يتم تعليمه للجميع من قبل الذين يحملون تلك العلوم، في حين أنّ تعليم البعض الآخر، واجب كفائي.

فعلى كل حال، فإنّ تَعلُّم وتعليم كلّ العلوم التي يرتبط بها قوام المجتمع البشري مادّياً ومعنويّاً لازم وضروري، سواءً كان واجباً عينيّاً أو كفائيّاً، ولهذا فإنّ أي مسلم لا يحق له أن ينفصل عن التّطورات العلميّة الحديثة، بل عليه ومن أجل تقوية أركان الحكومة الإسلاميّة، أنّ يبذل كل ما بوسعه لتعلّم وتعليم تلك العلوم، ولا شك في أنّ المسلمين لو قصّروا في هذا المجال وصاروا سبباً في تأخر الدّول الإسلاميّة عن المجتمع البشري، فإنّهم سيكونون مسئولين أمام اللَّه!

يعتبر القرآن المجيد أنّ المعلم الأوّل هو اللَّه عزّوجلّ، وأنّ التّلميذ الأوّل هو آدم عليه السلام، وأوّلُ عِلمٍ تعلمه آدم هو، علم الأسماء «ويحتمل قوياً أنّ المراد من ذلك هو الإطلاع على أسرار الخلقة وموجودات الكون».

______________________________

(1) تاريخ الحضارة، جرجي زيدان، ج 3، ص 222.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 240

وآدم لم يكن الوحيد الّذي تعلَّم من اللَّه عزوجل، بل عَلَّمَ اللَّه يوسف الصّديقَ أيضاً عِلْمَ تفسير الأحلام: «وَعَلَّمتَنِى مِن تَأوِيلِ الأَحَادِيثِ». (يوسف/ 101)

وعلَّمَ سليمان لغة الطيور وقال: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيرِ». (النّمل/ 16)

وعلَّمَ دواد عليه السلام صنعة الدّروع: «وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ». (الأنبياء/ 80)

وعلّم الخضر علْماً واطلاعاً كثيراً: «وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَّدُنّا عِلْماً». (الكهف/ 65)

وعلَّمَ الملائكة علماً جمّاً: «سُبْحَانَكَ لَاعِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمتَنَا». (البقرة/ 32)

وعلَّمَ البشر النّطق والبيان: «عَلَّمَهُ البَيَانَ». (الرحمن/ 4)

وفوق كلّ ذلك فإنّه علَّمَ نبيّ الإسلام صلى الله عليه

و آله علوماً ومعارف لا يمكن تحصيلها عن طرق طبيعية «وَعَلَّمَكَ مَالَم تَكُنْ تَعْلَمُ». (النساء/ 113)

كما أنّ المَلَك العظيم سفير الوحي جبرئيل قد علَّمَ النّبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله علوماً كثيرة «عَلَّمَهُ شَدِيدُ القُوَى «1». (النجم/ 5)

والأنبياء عليهم السلام بدورهم يُعتبرون في زمرة أكبر معلمي العالم حيث إنّهم علَّموا البشريّة علوماً ومعارف كثيرة في مجالات الدّين والدّنيا، يقول القرآن الكريم في نبيّ الإسلام صلى الله عليه و آله أعظم الأنبياء: «ويُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكمَةَ». (الجمعة/ 2)

ونفس هذا المنهج سلكه كلّ نبيّ من الأنبياء عليهم السلام مع أمّته وعلَّمهم علم الدّين والدّنيا.

والعلماء وهم ورثة الأنبياء، جلسوا مقعد التعليم بعد الأنبياء وعلّموا النّاس العلم والمعرفة، ولذا فإنّ مقامهم في نظر القرآن شامخ وعظيم حتّى قال تعالى فيهم: «يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُم وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجاتِ». (المجادلة/ 11)

وأمّا مقامُ المعلِّم في الرّوايات الإسلاميّة فإنّه شريف وعظيم حتّى أنّ اللَّه وملائكته وكل الموجودات- حتّى النملة في جحرها والحيتان في البحار- تصلّي عليهم كما ورد في الحديث المروي عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حيث قال:

______________________________

(1) أكثر المفسرين، فسروا «شديد القوى بأنّه جبرئيل، ولكن البعض يرى أنّ المقصود (بشديد القوى) هو الذات الإلهيّة المقدّسة.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 241

«إنَّ اللَّهَ وملائِكتَهُ حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِها وَحتّى الْحُوتَ فِي الْبَحْرِ يُصَلُّونَ عَلى مُعَلِّمِ النَّاس الْخَيْرَ» «1».

وهذا المضمون ورد في أحاديث عديدة اخرى أيضاً.

وفي حديث آخر عن النّبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله أيضاً:

«ألا أُخْبِرُكُم بأجودِ الأجْوَدِ؟ اللَّه الأجْوَدُ الأجْوَدُ! وأنا أجْوَدُ وُلدِ آدم! وأجْوَدكُمَ مِنْ بعدي رَجُلٌ عَلَّمَ عِلْماً فَنَشَرَ عِلْمَهُ، يُبعَثُ يومَ القيامة أُمّةً وَحْدَهُ!» «2».

والتّعبير بالأُمّة، يبين لنا بوضوح سعة وجود المعلمين في

موازاة سعة انتشار تعليماتهم بين المجتمع البشري، وكلمّا كان عدد تلامذتهم أكثر كانت سعة شخصيتهم المعنوية الاجتماعيّة أوسع، حتّى تصل أحياناً إلى سعة أمَّة كاملة.

وقد بلغت أهمّية نشر العلم والمعرفة والثّقافة في الإسلام إلى درجة أنّه ورد في حديث معروف أنّ مجلس العلم روضة من رياض الجنّة «3».

والملفت للنظر أنّ أي عمل في الإسلام يكون مقدمة لنشر العلم أو يتناسب معه، يعد عبادة، فقد ورد في حديث عن النّبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله: «مُجالَسةُ العُلماءِ عِبَادَةٌ» «4».

وفي حديث آخر عن الإمام موسى بن جعفر عليه السلام قال: «النّظرُ إلى وجهِ العالمِ حُبّاً لهُ عِبادةٌ» «5».

وفي حديث آخر عن النّبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله قال لأبي ذر: «الجلُوسُ ساعةً عِندَ مُذاكَرةِ العِلْمِ

______________________________

(1) كنز العمال، ح 38736.

(2) ميزان الحكمة، ج 6، ص 474.

(3) هذا الحديث وإنْ لم نعثر على نصّه في المصادر الإسلاميّة، إلّاأنّه ورد في بعض الرّوايات عن النّبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه قال: «بادروا إلى رياض الجنّة، قالوا: يا رسول اللَّه وما رياض الجنّة؟ قال: حَلَقُ الذكر»، وبعد أن ذكر المرحوم الفيض الكاشاني هذا الحديث في المجلد الأوّل من الوافي، قال: والمراد من حلقة الذّكر هنا، وكما ورد في أحاديث اخر في هذا الباب، هو مجلس العلم (الوافي، ج 1، ص 177).

ونقل الترمذي في صحيحه هذا الحديث بتفاوت بسيط «إذا مررتُم برياض الجنّة فارتعوا. قالوا: وما رياض الجنّة؟ قال: حَلَقُ الذكر» صحيح الترمذي، ج 5، ص 532، باب 83، ح 3510).

(4) بحار الأنوار، ج 1، ص 204.

(5) المصدر السابق، ص 205.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 242

خيرٌ لكَ مِن عبادة سَنة، صِيامُ نهارها وقيامُ ليلها، والنّظرُ إلى وجه العالم خيرٌ

لكَ من عتق ألف رقبةٍ» «1».

والأحاديث الواردة في هذا المضمار كثيرة ومتنوعة، يطول المقام بذكرها ونختصر الحديث هنا ونختم هذا البحث بحديث عن لقمان الحكيم، الذي قُرِنَ كلامُه بكلام اللَّه تعالى في القرآن الكريم، يقول لقمان لولده: «يا بُنيَّ جالسِ العلماءَ .... فإنّ اللَّهَ عزّوجلّ يُحيي القُلُوبَ بنورِ الحِكْمَة كما يُحيي الأرضَ بوابل السّماءِ» «2».

وممّا ذكر، يتضح جيداً أنّ مسألة التّعليم والتّربية ونشر العلم والثّقافة، تتميز في المنهج الإسلامي عموماً وفي برنامج الحكومة الإسلاميّة بشكل خاص، (ومن وظيفة الحكومة الإسلاميّة الإهتمام الفائق بأمر التّربية والتّعليم).

5- التّعليم المباشر وغير المباشر

ماذكر في البحوث المتقدمة، كان في اطار التّربية والتّعليم بالطّرق المباشرة، كتشكيل حلقات الدّرس، والمدرسة وأمثال ذلك، ولكن توجد في الإسلام طرق تعليم غير مباشرة كثيرة، وتأثيرها من بعض الجهات أوسع وأعمق من تأثير الطرق المباشرة.

فالعبادات الإسلاميّة، وخاصّة تلك التي تؤدّى بشكل جماعي كصلاة الجماعة والجمعة ومناسك الحج، من جملة الأمور التي لها تأثير قويّ في التّعليم الجماعي للنّاس.

فصلاة الجماعة الّتي تقام خمس مرّات باليوم واللّيلة تُعَلِّم المسلمين درس الوحدة والإتحاد ورصّ الصفوف والمساواة والأُخوة، فتجمع شرائح المجتمع المختلفة والتي قد لا تلتقي في السّنة مَّرةً واحدة في غير الصّلاة على أثر المشاغل والمسؤوليات المختلفة التي ينشغلون بها عن بعضهم، فصلاة الجماعة تعلّم هؤلاء درس وحدة التّفكير ووحدة الهدف في المسائل الاجتماعيّة.

______________________________

(1) بحار الأنوار، ج 1، ص 203.

(2) المصدر السابق، ج 1، ص 204.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 243

فصفوف صلاة الجماعة، ومضافاً إلى روحانيتها الخاصة الحاكمة عليها واقترانها بنور المعنوية والصّفاء، خير وسيلة لاطلاع عامة النّاس على المسائل المصيريّة للمجتمع الإسلامي.

لقد استطاع المسلمون الأوائل ومن خلال صلاة الجماعة- وهو لقاء يوفرلهم اللقاء صباحاً ونهاراً ومساءً- كسب الوعي الكافي ووحدة الصف والكلمة

مقابل اعدائهم ذوى العدة والعدد، حيث استطاعوا أن ينشروا برنامج الحكم الإسلامي وتعاليم الدين بسرعة فائقة. ففي صلاة الجمعة والجماعة، وطبقاً للتعاليم الإسلامية، فإنّ الإمام وحده هو الذي يقرأ الحمد والسورة نيابة عن الجميع، وبهذه الطريقة يبعت الانضباط الاجتماعي في نفوس الناس التي تعتاد على الإدارة المقرونة بالروح والمعنى اللذين توفِّرهما مضامين السورتين اللتين يقرأهما إمام الجماعة.

والنّكتة المهمّة هنا هي أنّ للإمام الحق أنْ ينتخب سوراً مختلفة وآيات متنوعة من القرآن لقراءتها بعد سورة الحمد بحسب المناسبات المختلفة، وكلّ واحدة من هذه السور يمكنها أنْ تشتمل على دروس في المعرفة الإسلاميّة، والأخلاق، والتّربية السّياسية والاجتماعيّة، فعندما يقرأها الإمام بشكل جذّاب والكلّ قائم يصغي لها بسكون عميق، يكون لها أثرٌ تعليمي قوي منقطع النّظير في نفوس المأمومين، يضطرهم إلى التّفكر والتّعمق في محتوى الآيات، ويضاعف روحانيّة العبادة وتأثيرها، ولو أنّ هذه المراسم العبادية تؤدّى بآدابها الإسلاميّة المقررة وحضور القلب وتمركز الحواس وهي الشرط الأساسي لقبولها، لكانت مدرسة عظيمة لتربية المجتمع الإسلامي، وفضلًا عن ذلك فإنّ هذه المراسم تكون درساً تربوياً لأعداء الإسلام والأجانب، وغالباً ما يلاحظ أنّ هؤلاء يقفون متأملين متفكرين في هذه العبادة عندما يشاهدون المسلمين في صفوف منظمة ومرصوصة يُقيمون الصلاة.

ومن هنا ورد عن الإمام علي بن موسى الرّضا عليه السلام أنّه قال:

«إنَّما جُعلتْ الجَمَاعَةُ لِئَلا يَكُونَ الإِخلاصُ وَالتُّوحِيدُ وَالإسْلامُ وَالْعِبادَةُ للَّه إِلّا ظاهِراً مَكْشوفاً مَشْهُوراً، لأنَّ فِي إظْهارِهِ حُجَّةً عَلى أَهلِ الشَّرقِ وَالْغَرْبِ ... مَعَ مافيهِ مِنَ المُساعَدَةِ

نفحات القرآن، ج 10، ص: 244

عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوى وَالزَّجْرِ عَنْ كَثيرِ مِنْ مَعاصِي اللَّهِ عَزَّوَجَلَّ» «1».

وخلاصة الكلام هي إنّ تأثير صلاة الجماعة في إيقاظ المسلمين وتربيتهم، وتأثيرها في افشال مخططات الأعداء وكسر شوكتهم، لا يخفى على أحد.

ولهذا فإنّ

هذه العبادة العظيمة، من أهَم وآكد العبادات الإسلاميّة، وقد ذكر لها فضل عظيم وثواب جزيل في الرّوايات إلى درجة يبهت الإنسان لها.

ففي حديث عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: «مَنْ مَشى إلى مَسْجِد يَطْلُب فيه الجَماعَة كانَ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ سَبْعُونَ أَلْفَ حَسَنَةٍ وَيُرْفَعُ لَهُ من الدّرَجاتِ مِثْلُ ذَلِكَ، فَإِنْ ماتَ وَهُوَ عَلى ذلِكَ، وَكَّلَ اللَّهُ بِهِ سَبْعينَ أَلْفَ مَلَكٍ يَعُودُونَهُ فِي قَبْرِهِ وَيُبَشِّرُونَهُ وَيُؤنِسُونَهُ فِي وَحْدَتِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لَهُ حَتّى يُبْعَثَ» «2».

6- صلاة الجمعة وآثارها التّربويّة

وصلاة الجمعة هي الاخرى إحدى أهم الاجتماعات العباديّة السيّاسية الإسلاميّة، والتي لها تأثير قوي في التّربيّة المباشرة وغير المباشرة.

فهذه الصّلاة الرائعة، تقام كل أسبوع مرّة ومسلموا المدينة الواحدة مكلّفون بالإشتراك في صلاة واحدة فقط «3».

ولصلاة الجمعة خطبتان قبل الصلاة، تشتملان على مواعظ وعبر وأمرٍ بالتّقوى، وخصوصاً على المسائل الاجتماعيّة السّياسية المهمّة للمجتمع، فهي من جهة تُلَطِّفُ الرّوح والنّفس وتغسلها من أوساخ الذنوب والمعاصي، ومن جهة أخرى تعلم النّاس الإطلاع على المعارف الإسلاميّة والأحداث الاجتماعيّة والسّياسية المهمّة، وكيفية اتخاذ المواقف

______________________________

(1) وسائل الشّيعة، ج 5، ص 372.

(2) المصدر السابق، ح 7.

(3) هذا بحسب الفقه الشّيعي التّابع لأهل البيت عليهم السلام وهناك من الفرق الإسلامية السنيّة من يجيز إقامة العديد من صلوات الجمعة في المدينة الواحدة، كصلوات الجماعة التي تقام في مساجد متعددة (الفقه على المذاهب الأربعة، ج 1، ص 385).

نفحات القرآن، ج 10، ص: 245

الصّحيحة قبالها، ومن جهة ثالثة توفر الجو المناسب للعمل الجماعي لحلِّ المشاكل في إطار تجديد الروح الإيمانية والنشاط المعنوي.

والخطبتان من واجبات الصّلاة، وورد في الرّوايات الإسلاميّة والكتب الفقهيّة أن من آداب الخطبة هو أن يرفع الخطيب صوته بحيث يسمعه كلّ النّاس، وأن عليهم أن يصغوا لكلامه ويراعوا السكوت التام،

وأن يستقبلوا الخطيب بوجوههم.

والأفضل أن يكون الخطيب رجلًا فصيحاً بليغاً مُطّلِعاً على أوضاع وأحوال المسلمين، خبيراً بمصالحهم، شجاعاً، صريح اللهجة في بيان الحقّ، مضافاً إلى حسن سيرته وسلوكه في المجتمع فيكون ذلك سبباً لنفوذ كلامه في قلوبهم وأن يُذَكِّر سلوكه النّاس باللَّه.

ولابدّ من بيان المسائل المهمّة المرتبطة بالدِّين ودنيا المسلمين في الخطبتين، وكذا ما يحتاجه النّاس في داخل وخارج الدّول الإسلاميّة والمنطقة، وطرح المسائل السيّاسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة المهمّة مع مراعاة الأولويات، فيزود النّاس بالمعلومات اللازمة ويخبرهم عن مؤامرات الأعداء، ويشير إلى البرامج القصيرة والبعيدة المدى لإفشال خُطَطِهم.

ولابدّ أن يكون الخطيب ذكيّاً جدّاً وفطناً، مفكراً، مطلّعاً على المسائل المعنوية والمادية في الإسلام، وأن يستغل هذه الشعيرة العظيمة أفضل استغلال لتوعية المسلمين وتطوير الأهداف الإسلاميّة.

وفي حديث جامعٍ عن الإمام عليّ بن موسى الرّضا عليه السلام، يُبين فيه ضرورة خطبة الجمعة وأنّ ذلك لتعميم الفائدة وأنّ اللَّه يريد أن يفسح المجال لأمير المسلمين ليعظ النّاس ويُرغبهم في الطّاعة ويحذرهم المعصية، إلى أن يقول الإمام الرضا عليه السلام: «وَتَوْقِيفِهُمْ عَلى ما أرادَ مِنْ مَصْلَحَةِ دينِهِمْ وَدُنْياهُمْ وَيُخبِرُهُمْ بِما وَرَدَ عَلَيْهِمْ مِن الآفاقِ مِنَ الأَهْوالِ الَّتي لَهُمْ فِيها المَضَرّةُ وَالمَنْفَعَةُ».

ثُمّ يبين الإمام عليه السلام فلسفة وجود خطبتين فالأولى للحمد والثّناء والّتمجيد والتّقديس للَّه (والمسائل المعنوية والأخلاقيّة)، والثّانية لبيان باقي متطلبات الوعي والإنذار والأدعية

نفحات القرآن، ج 10، ص: 246

وغير ذلك من الأوامر والنّواهي والإرشادات المرتبطة بصلاح وفساد المجتمع «1».

والدّور الّذي تلعبه اليوم صلاة الجمعة في توعية النّاس في المسائل السياسية والاجتماعيّة غير خافٍ على أحد، وكثيراً ما يتم إفشال مخططات الأعداء التي يبثونها من خلال وسائل إعلامهم على طول الأسبوع ومع كل إمكاناتهم وتجهيزاتهم، في خطبة واحدة من خطب الجمعة المدروسة والدقيقة، ولو

أنّ المسلمين يعون أهميّة هذا البرنامج الأسبوعي المهم، ويقيمونه كما أراد الإسلام، وأن لا يمسخوا هوية هذه العبادة العظيمة كبعض الدول ضعيفة الإرادة أو المأجورة من قبل الاستعمار، فإنّهم- أي المسلمون- سيستثمرون هذه الشعيرة الإسلاميّة ويتعرفون على عمق تأثيرها الثّقافي والتّربوي.

ولصلاة العيدين (عيد الفطر وعيد الأضحى) وهما تشابهان صلاة الجمعة كثيراً وخصوصاً من جهة الخطبتين اللتين يؤتى بهما بعد الصلاة هنا، نفس آثار وبركات صلاة الجمعة.

7- الآثار الثّقافيّة لمؤتمر الحجّ العظيم

ومن العبادات الاخرى التي لها تأثيرٌ مهم في تربيّة المسلمين ونشر العلم والمعرفة ووحدة الصّفوف وقوة شوكة المسلمين هي مراسم الحجّ، التي يجتمع فيها كل سنة الملايين من المسلمين من شتى بقاع الأرض في مؤتمر عظيم فيتعلمون في هذا المؤتمر شتى أنواع العلوم والمعارف وفي كلّ الجهات الماديّة والمعنويّة.

والنّكتة المهمّة هنا هي أنّ الإشتراك في هذا المؤتمر العالمي واجب على كلّ مُسلم يستطيع الحج مرّةً واحدة في العمر، وأمّا باقي المرّات فهي مستحبة، ولا فرق في هذا الحكم

______________________________

(1) وسائل الشّيعة، ج 5، ص 39، ح 6.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 247

بين المسلمين، فالحج واجب على الرّجل وعلى المرأة، والشّاب والشّيخ، والأبيض والأسود والمتعلم والجاهل، ولهذا نجد كلّ سنة مجموعة عظيمة من كبار الشّخصيات العلميّة والثّقافيّة والسّياسيّة والاقتصاديّة من المسلمين بين صفوف الحجّاج يتشرفون بزيارة بيت اللَّه الحرام، وفي طول المدّة الّتي يقضونها في مكة والمدينة وسائر المشاهد والمواقف يلتقي بعضهم بالبعض الآخر فيتبادلون العلوم والمعارف والمعلومات والأخبار فيما بينهم.

وفي الآونة الأخيرة وبعد وقوف المسلمين على أهميّة هذا الاجتماع المعنوي العظيم نجد أنّ علماء الدّول الإسلاميّة المختلفة يعقدون المؤتمرات المصغرة والموسعة على هامش مؤتمر الحجّ العظيم، فيلتقون ويتبادلون العلوم والمعارف والثّقافات عن هذا الطريق.

يذكر القرآن الكريم جملة مختصرة في بيان

فلسفة الحجّ حيث يقول: «لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ». (الحج/ 28)

وللمفسرين كلام طويل في تفسير معنى كلمة (منافع) ولكن من الواضح أنّهُ لا يوجد حدٌّ لمفهوم هذا اللفظ، فيشمل كلّ المنافع والبركات المعنويّة والماديّة والنّتائج السّياسيّة والثّقافيّة والاجتماعيّة.

وقد سأل الرّبيع بن خيثم الإمام الصّادق عليه السلام عن تفسير هذه الكلمة، فبيّن له الإمام عليه السلام أنّها تشمل المنافع الدنيويّة والأخرويّة «1».

وفي رواية أخرى عن الإمام الصّادق عليه السلام يجيب فيها هشام بن الحكم عن فلسفة الحجّ، فيشير الإمام عليه السلام إلى عدّة أبعاد مهمة، منها تعرف مسلمي العالم بعضهم على البعض الآخر، ثُمّ المنافع الاقتصاديّة، ثُمّ إيجاد كثير من مجالات العمل في إطار موسم الحجّ ثم يشير عليه السلام إلى آثاره الثّقافيّة ويقول: «ولِتُعْرَفَ آثارُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه و آله وتُعْرَفَ أخْبارُهُ ويُذْكَرَ وَلا يُنْسى» «2».

وعلى أيّة حال، فلو أنّ أحداً دقّق وتأمل في جزئيات مراسم الحجّ، وخاصة إذا شاهد تلك المراسم عن قرب، فإنّه سيقف على أهمّية البعد الثّقافي والتّربوي للحجّ بنحو يقل نظيرُهُ.

______________________________

(1) تفسير نور الثّقلين، ج 3، ص 488.

(2) وسائل الشيعة، ج 8، ص 9، ح 18.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 248

نعم، فالحجّ يمكن أنْ يكون مؤتمراً سنوياً ثقافيّاً عظيماً- بل مؤتمرات- فيلتقي العلماء من كل أنحاء العالم الإسلامي في الأيّام التي يتواجدون فيها في مكة المكرمة، فتُتبادَل الأفكار والإبداعات الّتي يحملونها فيما بينهم مضافاً إلى آثار الحجّ المعنويّة الخاصّة.

وفي الفترات المظلمة لحكومة السّلاطين الظّالمين والطّغاة الّذين لم يفسحوا المجال لانتشار العلوم والمعارف الإسلاميّة، كان المسلمون يستفيدون من الظّرف الّذي يتاح لهم في موسم الحجّ لحلّ الكثير من مشاكلهم، وبالإلتقاء بائمّة الهدى عليهم السلام وكبار علماء الإسلام، حيث كانوا يطّلعون على المعارف والقوانين

الإسلاميّة وسنة النّبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله، وعندما يعودون إلى بلادهم، يعودون وهم يحملون رسالات مهمّة في الأخلاق والثّقافة وشتى العلوم.

8- تأثير المساجد والأماكن المقدّسة

من جملة المراكز التي يمكنها أن تشارك في نشر الثّقافة الإسلاميّة، وتكون مؤثرة في زيادة اطلاع عامة المسلمين، هي الأماكن المقدّسة التي يرتادها الزّائرون لزيارة مراقد قادتهم العظام حتّى يشدُّ هؤلاء الرحال من بلدانهم في سفر معنوي باتجاه تلك المشاهد الشّريفة، وهذا بنفسه وسيلة جيدة لتبادل المعلومات والمعارف، ومواجهة الهجمة الثّقافية المضادة للإسلام.

وهناك بعض المساجد الشّهيرة في الإسلام، امرنا بشدِّ الرحال إليها، لتسبح الروح ويغوصُ القلب في بحر متلاطم من الرّوحانيّة والمعنويات والنّور، ولتقوية الارتباط بين المسلمين الذين يفدون من مناطق قريبة وبعيدة لزيارة تلك المساجد.

وقد ورد في حديث عن أمير المؤمنين علي عليه السلام قال: «لا يُشَدُّ الرّحال إلّاإلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجد الرّسول ومسجد الكوفة» «1».

______________________________

(1) وسائل الشّيعة، ج 3، ص 552، أبواب أحكام المساجد، الباب 44، ح 16.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 249

وهذا المعنى جاء أيضاً في كتب أهل السنّة المعروفة، فقد رووا عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إنّه قال: «لا تُشَدُّ الرِّحال إلّاإلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام والمسجد الأقصى «1».

ومن الواضح أنّ هذين الحديثين لا تنافي بينهما، ومتى ما ضممناهما إلى بعضهما، يكون المقصود أربعة مساجد، كما أنّه من الواضح أنّ الهدف من بيان مثل هذه الأحاديث هو بيان أهميّة المساجد الثّلاثة أو الأربعة ولا يعني أنّ الإنسان إذا ماشدَّ الرّحال إلى مسجد آخر فإنّه يكون قد ارتكب مخالفة، كما تصور بعض الجّهال، إذ لو كان مفهوم هذا الحديث هو التّحريم، فإنه يَحُرم كل سفرٍ مطلقاً إلّاإلى هذه الأسفار الثّلاثة في حين أنّ

هناك أسفاراً مشروعة اخرى كثيرة.

(ولابدّ من الإلتفات إلى أنّ «لا تُشَدُّ الرّحال» مطلقة تشمل كلّ سفر).

وشبيه هذا المعنى ورد في بحار الأنوار مع تفاوت مختصر «2».

فمثل هذه المساجد في الحقيقة، تعتبر من المراكز الإسلاميّة الثّقافية وقد كانت لسنين عديدة في صدر الإسلام وما بعد ذلك محلًا لإقامة حلقات الدّرس والبحث العلمي، وكان كبار العلماء يتواجدون فيها للتّدريس وتعليم العلوم والتّربية، وكذلك اليوم فإنّ المسجد الحرام ومسجد النّبيّ غاصٌّ على طول السّنة بالطّلاب والأساتذة وحلقات الدّرس، كما أنّ كثيراً من المساجد الإسلاميّة المهمّة في البلاد الاخرى كسورية وإيران والعراق تعتبر منتديات للتّربية والتّعليم، حتّى أنّها تصير أحياناً مركزاً لأكبر حلقات الدّرس، وقد يكون التّحفيز من قبل الرّوايات على شدِّ الرّحال إلى هذه المراكز إنّما هو لأجل ذلك، مضافاً إلى كسب المعنويات والرّوحانيات في تلك المساجد، والاستفادة من السّوابق العلميّة التّاريخية لهذه المساجد.

ونفس هذا المعنى متحقق في المراقد المقدّسة لأئمّة الدّين عليهم السلام، حيث يكون صحن

______________________________

(1) صحيح مسلم، ج 2، ص 1014، كتاب الحجّ، باب 95، ح 1397.

(2) بحار الأنوار، ج 66، ص 240، باب 44، ح 2.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 250

نفحات القرآن ج 10 301

وروضة تلك المراقد مركزاً للدّرس والتّعليم ونشر العلوم والمعارف الإسلاميّة، وأنّ زيارة تلك المراكز تكون عادة مقترنة بالاستفادة العلميّة.

وممّا يلفت النّظر هو أن بعض هذه المشاهد الشرّيفة كحرم الإمام عليّ بن موسى الرّضا عليه السلام يَغصُّ على طول السنّة بالزّوار حتّى يصل عددهم إلى 12 مليون زائر سنوياً، ولذا فإن اجتماعات عظيمة تعقد على طول أيّام السنّة، وتقام مؤتمرات وجلسات رائعة، ولذلك كله تأثيره العميق في تربية المسلمين.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 251

دور الصحف والمجلات في الحكومة الإسلامية

تمهيد:

لاشكّ في أنّ الصحف والمجلات تعتبر اليوم من

أهم وسائل التّربية والتعليم في العالم، والتي انتشرت بفضل التّقدم العلمي وتطور التّكنولوجيا والصّناعة، ولذا فهي عاملٌ مهم في تهذيب الأفكار العامة أو تخريبها وتضليلها، وقد يصل عدد النّسخ المطبوعة لمجلة من المجلات أو صحيفة من الصحف، إلى عدّة ملايين نسخة، توزع في عدّة قارات من هذا العالم في نفس الوقت تقريباً، فتؤثر في توجيه أفكار المجتمعات في العالم نحو جهة معينة.

ولاشك في أنّ دور الصّحف والمجلات لم يكن واسعاً ومؤثراً في السّابق كما هو عليه اليوم- كما في كثير من الأمور الاخرى أيضاً- ولكن وعلى أيّة حال، كان للكتاب والمكتبات على طول التّأريخ أثرٌ بالغٌ في التربية والتعليم وانتقال العلوم من جيل إلى آخر وفي تكامل الثّقافة البشريّة.

وبعد هذه الإشارة الخاطفة، نعود إلى القرآن الكريم، ونتأمل في الأهميّة التي أوْلاها للكتاب والكتابة والتي كانت بلا شكّ مبرراً من مبررات الحركة العلميّة للمسلمين في صدر الإسلام.

وفي القرآن المجيد آيات كثيرة تتعرض لهذا الموضوع، منها:

1- «ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ». (القلم/ 1)

2- «اقْرَأْ وَرَبُّكَ الاكْرَمُ* الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الانْسَانَ مَالَمْ يَعْلَمْ». (العلق/ 3- 5)

3- «وَلْيَكْتُبْ بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلُيملِلِ الَّذِي عَلَيهِ الحَقُّ ...». (البقرة/ 282)

نفحات القرآن، ج 10، ص: 252

4- «وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهيِدٌ». (البقرة/ 282)

5- «وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِّنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا». (سبأ/ 44)

6- «ائتُونىِ بِكِتَابٍ مِّنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ اثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ انْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ». (الأحقاف/ 4)

7- «رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُّطَهْرَةً* فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ». (البينّه/ 2- 3)

جمع الآيات و تفسيرها

يستعمل القرآن الكريم في بعض الآيات صيغة القسم للتأكيد على أهميّة الموضوع الذي يريد بيانه، والقسم تارة يكون بالذات الإلهيّة الطّاهرة، وفي كثير من الموارد يكون بالموجودات المهمّة كالشّمس

والقمر والأرض والسّماء وأمثال ذلك.

وفي الآية الأولى الّتي ذكرناها وهي أوّلُ آية من سورة القَلم، يقسم عزّوجلّ بالقلم، وكل ما يكتبه القلم: «ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ».

وفي الحقيقة أنّ ما وقع القسم به هنا، وإن كان في الظّاهر موضوعاً صغيراً، فهو قطعة خشب وقصبة بسيطة أو ما شابه، وشي ء من السّوائل الملونة، وأسطرٍ على صفحات متواضعة، إلّاأنّه في الواقع منبع ظهور الحضارات الإنسانيّة وتقدم العلوم والمعارف ويقظة الفكر وتصوير المذاهب والأديان بصورتها الحقيقية، ومصدر التّربية والتعليم والهداية للبشرية.

ومن هنا، فإنّ العلماء يقسّمون أدوار حياة الإنسان إلى دورين رئيسيين هما «مرحلة ما قبل التّاريخ» و «مرحلة ما بعد التّاريخ»، ويقولون إنّ مرحلة ما بعد التّاريخ تبدأ من حين اختراع الخط والكتابة، وعندما استطاع الإنسان أن يمسك القلم بيده ويكتب أحداث حياته على الصفحات، وأمّا قبل ذلك فيسمى بمرحلة ما قبل التّاريخ.

ويجب أن لا نغفل عن أنّ هذه الآية نزلت في محيط جاهلي أكثر من أي محيط آخر، حيث لم يكن هناك من يهتم بالقلم والكتابة، ولم يصل عدد الذين كانوا يعرفون الكتابة في

نفحات القرآن، ج 10، ص: 253

مكة- وهي أكبر مركز عبادي سيّاسي واقتصادي في الحجاز حسب قول بعض العلماء- إلى أكثر من عشرين شخصاً!

فالقَسَم بالقلم في مثل هذا المحيط له من العظمة والجلال الكبيرين مالا يخفى!

ومن فلسفة القسم في القرآن هو أنّه كان يحفز المسلمين على التأمل في الأمور التي يُقسَمُ بها، وفي هذه الآية كان الأمر كذلك، فصار ذلك سبباً في اتساع أمر القراءة والكتابة والتّأليف وترجمة كتب المجتمعات الاخرى، وانتشار العلوم في العالم الإسلامي.

وتعتبر الآية الثّانية، من أولى الآيات- طبقاً للرأي المشهور- الّتي نزلت على قلب النّبيّ الطّاهر في جبل النور في غار حراء، وكانت

أولى ومضات الوحي، ولذا فإنّها إشارة إلى أَهم المسائل، فعندما يأمر تعالى الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله بتلاوة آيات القرآن، يقول له: «اقْرَأْ وَرَبُّكَ الاكْرَمُ* الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الانْسَانَ مَالَمْ يَعْلَمْ».

وبهذا فإن أوّل وصف للَّه تعالى بعد الرّبوبيّة والكرامة هو وصف التّعليم بواسطة القلم وهو منبع تعليم «مالم يعلم».

ومن هنا فإنّ بداية الوحي نشأت مع بداية الحركة العلميّة، وهذا المعنى عميق ودقيق ومربٍّ لكل مسلم.

فمثل هذه العبارات، حفّزت المسلمين باستمرار على الإهتمام بالكتاب والمكتبات وتعلم العلوم والمعارف، وإذا كانت الرّوايات قد صرحت بأن «مداد العلماءِ أفضل من دماءِ الشُهداءِ»، فإنّ ذلك من أجل أن أسس دماء الشهداء مبتنية على المعارف والعقائد التي تنبع أساساً من القلم، كما أنّ سند بقاء دماء الشهداء هو مداد أقلام العلماء.

إنّ تفاهم النّاس فيما بينهم وانتقال الأفكار ينحصر في طريقين عادة: البيان والقلم مع تفاوت بينهما وهو أنّ البيان وسيلة للارتباط بين الحاضرين في مكان وزمان واحد، أمّا الارتباط بالقلم فلا ينحصر في الحاضرين، وإنّما يعتبر القلم وسيلة للارتباط بين أبناء

نفحات القرآن، ج 10، ص: 254

الأجيال والعصور المختلفة وفي الأمكنة المختلفة، فهو يربط أهل القرون السّابقة بالقرون السائدة واللاحقة، ولذلك يقول أحد العلماء: «بيانُ اللِّسان تُدرِسُهُ الأعوام وما تُثبتُهُ الأقلام باقٍ على مرِّ الأيّام».

وكذلك قال بعض العلماء: «ينبغي أن لا تسقط برايا الأقلام تحت الأقدام، فإنّها محترمة أيضاً!».

والنّكتة الملفتة للنّظر هي أنّه كما أنّ البيان من خصوصيات الإنسان، فإنّ القلم أيضاً من مختصاته، بل إنّ القلم أعقد بكثير من البيان باللِّسان، وليس عبثاً أن يكون أمرُ تعليم الكتابة بالقلم من قبل اللَّه نفسه- بشكل مباشر بواسطة أحد الأنبياء (آدم أو إدريس) أو بطريق غير مباشر، أي منح موهبة

وقابلية القراءة والكتابة للبشرية- من أكبر النعم الإلهيّة على الإنسان، وأنّ الآيات القرآنية الأولى للوحي قد استندت إلى القلم، وأشارت إليه بعد الإشارة إلى عظمة اللَّه.

وفي الآية الثّالثة وهي مقطع من أطول آيات القرآن المجيد، والنّاظرة إلى تنظيم العلاقات اليوميّة بين النّاس، نجد اهتماماً خاصاً بمسألة القلم، يقول عزّوجلّ: «وَلْيَكْتُبْ بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ» ثُمّ يضيف: «وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلُيملِلِ الَّذِي عَلَيهِ الحَقُّ ...».

فهنا تعتبر الآية أنّ القدرة على الكتابة موهبة إلهيّة، ويوصي أولئك الّذين شملتهم هذه العناية الرّبانيّة أن يعينوا أولئك الاميين لإحقاق حقوقهم، فيستفيدوا من هذه القدرة ويكتبوا لهم.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 255

والظّريف هو أنّه جاء في بقية هذه الآية: «وَلَا يُضارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيْدٌ» أي لا ينبغي أن يتضرر كاتب أو شهيد، فإن وسّعنا مفهوم هذه الآية الّتي وردت في مورد خاص (وهو كتابة وثيقة القرض) أي لو ألغينا الخصوصية وألحقنا بها الموارد الاخرى التي يمكن الاستفادة فيها من موهبة الكتابة لإعانة أفراد المجتمع، وكذلك عدم إضرار الكتّاب، وبعبارة أُخرى حفظ حرية القلم، نصل إلى نكتة مهمّة وصلت إليها البشريّة بعد قرون من نزول هذه الآية، مع أنّها تواجه مشاكل عديدة في تطبيق ذلك عمليّاً.

وفي الآية الخامسة، يذّم القرآن المجيد أولئك الّذين يخالفون الآيات الإلهيّة، ويحاججهم ويطالبهم بالمبررات المنطقية التي دعتهم إلى ذلك، يقول عزّوجلّ:

«وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِّنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَّذيرٍ».

وبالرغم من أن المراد من الكتب، الكتب السّماوية، ولكن ماذكر من موضوع الكتاب ودراسته وتعلمه في هذه الآية إلى جانب إرسال الأنبياء، وأنّ الكتاب أحد الدليلين المعتبرين، يكفي لمعرفة أهميّة ودور الكتاب، ونظير هذا المعنى نجده في سورة القلم، في مقام المؤاخذة وذم

منكري الإسلام والقرآن، حيث يقول تعالى: «أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ». (القلم/ 37)

وهذا إشارة إلى أنّ الكتاب يمكن أنْ يكون في عدّة موارد سنداً معتبراً يُستند إليه في الإحتجاج.

والحقيقة أنّ اعتماد القرآن المجيد على مسألة الكتاب والكتابة في مورد الكتب السّماوية للأنبياء سواءً في أمور الدّنيا، أو في صحيفة الأعمال والمحكمة الإلهيّة، كلها تبيّن أهميّة هذا الموضوع من وجهة نظر القرآن والإسلام.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 256

توضيحات
1- أهميّة الكتاب والقلم في الرّوايات

وردت روايات كثيرة عن النّبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله والأئمّة المعصومين عليهم السلام في بيان أهميّة الكتاب والكتابة، وإليك نماذج من تلك الروايات:

1- ورد في حديث عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال:

«قَيِّدوا العِلْمَ فقيل: يا رسول اللَّه، وَما تَقْييدُهُ».

قال صلى الله عليه و آله: «كِتابَتُهُ» «1».

2- وفي حديث آخر عنه أيضاً: «اكْتُبُوا العِلْمَ قَبْلَ ذَهاب الْعُلَماءِ وَإنَّما ذَهاب العِلْمِ بِمَوتِ الْعُلَماءِ» «2».

3- قال الإمام الصّادق عليه السلام لأحد أصحابه: «أُكْتُبْ وبُثَّ عِلْمَكَ فِي إخوتِكَ فإنْ مِتَّ فورِّثْ كُتُبَكَ بنيك، فإنَّهُ يأتي على النّاس زَمانُ هَرَجٍ ما يأنسونَ فيه إلّابِكُتبِهِمْ» «3».

4- وفي حديث آخر عنه أيضاً: «مَنَّ اللَّهُ على النّاس بَرِّهم وفاجِرِهِمْ بالكتاب والحسابِ ولولا ذلك لتغالطوا» «4».

5- يقول أمير المؤمنين عليه السلام في حديث رائع جدّاً ومختصر: «الكُتُبُ بَساتُينُ العُلَماءِ» «5».

والبساتين لها هواء لطيف، ولها مناظر خلّابة، وفيها أنواع الثمار، وفيها أنواع الأوراق والورود والأعشاب الطبيّة، وفي الحقيقة، فإنّ الكتاب له كلّ تلك الآثار.

6- وفي حديث آخر عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، ورد بتعبير رائع جدّاً يُبِّين فيه أهميّة الكتاب والكتابة بطرز محيّر للعقول، يقول صلى الله عليه و آله: «ثلاث تخرِقُ الحجبَ، وتنتهي إلى مابين يدي اللَّه:

صريرُ أقلامِ

العلماءِ، وَوَطءُ أقدام المجاهدينَ، وصوتُ مغازلِ المُحصَناتِ» «6».

وفي الواقع، كلّ واحدٍ من هذه الأصوات الثّلاثة خفيٌّ في الظّآهر إلّاأنّه في باطنه وواقعهِ

______________________________

(1) بحار الأنوار، ج 2، ص 151.

(2) كنز العمال، ح 28733.

(3) بحار الأنوار، ج 2، ص 150.

(4) فروع الكافي، ج 5، ص 155.

(5) غرر الحكم.

(6) الشهاب في الحكم والآداب، ص 22.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 257

جوهري، وكلّ واحدٍ منها إشارة إلى إحدى المسائل الاساسيّة في المجتمعات البشريّة «العلم والكتابة» «الجهاد والشّهادة» «السّعي والعمل»!

7- يقول الإمام الصّادق عليه السلام للمفضّل ضمن بيان نعم اللَّه العظيمة على البشرية:

«وكَذَلِكَ الكِتابَةُ الَّتي بِها تُقَيَّدُ أخْبارُ الْماضِيْنَ لِلْباقينَ وَأَخْبارُ الْباقينَ لِلآتينَ وَبِها تُخَلَّدُ الْكُتُبُ فِي الْعُلُومِ وَالآدابِ وَغَيْرِها وَبِها يَحْفَظُ الإنْسانُ ذِكْرَ ما يَجْرى بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِنَ الْمُعامِلاتِ وَالْحِسابِ، وَلَوْلاهُ لانْقَطَعَ اخبارُ بَعْضِ الأزْمِنَةِ عَنْ بَعْضٍ، وَأَخْبارُ الْغائبينَ عَنْ أوْطانِهِم، وَدَرَسَتِ الْعُلُومُ وَضاعَتِ الآدابُ، وَعَظُمَ ما يَدْخُلُ عَلَى النّاسِ مِنَ الْخَلَلِ فِي أُمُورِهِمْ وَمُعامِلاتِهِمْ، وَما يَحْتاجُونَ إلَى النَّظَرِ فِيهِ مِنْ أمْرِ دِينِهِمْ وَما رُوِيَ لَهُمْ مِمّا لا يَسَعُهُمْ جَهْلُهُ» «1».

8- ونختم هذا البحث برواية عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله تكشف الستار عن أهميّة بقاء الآثار العلمية بواسطة الكتابة، وتدعو العلماء وتحفزهم وتشدُّهُمْ إلى ذلك، يقول صلى الله عليه و آله:

«الْمُؤمِنُ إذا ماتَ وَتَرَكَ وَرَقَةً واحِدَةً عَلَيْها عِلْمٌ، تَكُونُ تِلْكَ الْوَرَقَةُ يَوْم القِيامَةِ سِتْراً فيما بَيْنَهُ وَبَيْنَ النّارِ وَأعْطاهُ اللَّهُ تَبارَكَ وَتَعالى بِكُلِّ حَرْفٍ مَكْتُوبٍ عَلَيْها مَدينَةً أوْسَعُ مِنَ الدُّنْيا سَبْعَ مَرّاتٍ» «2».

2- وصايا مهمة للحكومات الإسلامية

من مجموع ما قرأناه في الآيات والرّوايات، تتضح لنا هذه النّقطة، وهي أنّ المسلمين في القرون الأولى لظهور الإسلام لما توجهوا للعلوم والفنون والمعارف، وأوجدوا نهضة علميّة واسعة عمّت بركاتها وثمارها اوربا أيضاً،

فإنّ جذور ذلك موجود وكامن في الثّقافة الّتي علمهم إيّاها الإسلام، ومن الواضح جدّاً أنّ على الحكومات الإسلاميّة أن تهتم بهذه المسألة

______________________________

(1) بحار الأنوار، ج 58، ص 257.

(2) المصدر السابق، ج 1، ص 198.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 258

الّتي تعتبر أساس حياتهم وتقدمهم في دينهم ودنياهم.

وفي هذا المجال، فإنّ الحكومة الإسلاميّة وبالاستفادة ممّا ذُكر، عليها أنْ تراعي القواعد والأمور التّالية.

1- لابدّ أن تنتشر القراءة والكتابة بشكل واسع في كلّ طبقات المجتمع حتّى لا يبقى فرد جاهل بهما، بل يتنعم الجميع بنعمة القراءة والكتابة، وأي تقصير في هذا المجال تكون الحكومة الإسلاميّة مسؤولة عنه.

2- تأسيس المكتبات العامة والخاصّة لعامة النّاس ولخصوص المحققين والعلماء، والمكتبات التي تضم مختلف الكتب في شتى العلوم من وظائف الحكومة الإسلاميّة أيضاً.

وكلّ جهد في هذا المجال، فضلًا عن كونه مطلوب من قبل الشّارع المقدّس، فمع ذلك سيكون سبباً في قوة واقتدار المسلمين، ومواجهة النواقص والمفاسد الفردية والاجتماعيّة المختلفة، وهو أيضاً سبب في تطور المجتمع الإسلامي ورقيه.

3- ينبغي أن لا تقتصر وسائل الإعلام العامة في الحكومة الإسلاميّة على الأخبار والمسائل السيّاسية وبرامج التّسلية، بل لابدّ أن يخصص جزءٌ كبير منها لنشر العلوم والمعارف وبما يتناسب مع كل الأمزجة لجميع أفراد المجتمع ونشر آخر التطورات والإكتشافات العلميّة في أوّل فرصة ممكنة بشكل واسع في المجتمع الإسلامي، للحدِّ من أي تخلف حضاري وعلمي عند المسلمين.

4- على الحكومة الإسلاميّة أن تشجِّع العلماء والمحققين والكتّاب على الاستفادة من كل الوسائل العلميّة الحديثة وأن توفر ما يلزم لتعزيز هذه القدرة عندهم، وعليها من أجل إنتاج حصيلة علمية تشجيع الابداعات والإبتكارات العلميّة، وتوزيع الجوائز والإمتيازات، وإن تكرم العلماء والمحققين بنحو يحفز الآخرين على الجدّ والسعي في هذا المجال.

5- توسعة المدارس والجامعات

وتعميق برامجها وتطويرها واستثمار الإبتكارات العلميّة للعلماء المسلمين، وحتى المحققين الأجانب، وفي هذا المجال لابدّ أن يكون ذلك على رأس برامج الحكومة الإسلامية، وأن يتبلور ذلك طبقاً لما أراده الإسلام والذي

نفحات القرآن، ج 10، ص: 259

انعكس في الآيات والروايات المذكورة وهي نموذج من تعاليم الإسلام.

والإطلاع على الصنّاعة والتّكنلوجيا ليس أمراً منفصلًا عن ذلك بحال، لأننا نعلم أن تعلّم كل الأمور المهمّة بنحوٍ من الأنحاء لحفظ المجتمع الإسلامي، واجبٌ عيني في الفقه الإسلامي، ولا يحقّ لأي مسلم أن يغفل عنه.

3- تأسيس المكتبات

إحدى مسؤوليات الحكومة الإسلاميّة المهمّة فيما يرتبط بمسألة التّربية والتّعليم هو تأسيس المكتبات العامة، وذلك لأنّ أكثر النّاس غير قادرين على شراء كتب مختلفة وعديدة، في حين أنّهم يطلبون العلم ويريدون المعرفة، وحتى لو كانوا قادرين على ذلك، فإنّه لا يلزم أن تُجَمّد أموال طائلة في المنازل، فالأفضل أن يتمّ تأسيس مكتبات عامة ليتم استغلال الثروات في أمور أخرى، ولكي يتمكن الفقير والغني ومتوسط الحال والصغير والكبير من اقتناء الكتب المختلفة ومطالعتها، سواءً الكتب الدينيّة أو العلميّة أو الأدبيّة أو التّاريخية والسياسية.

وفلسفة تشكيل المكتبات معروفة من قدم الدهر، ولهذا نجد أن مكتبات عديدة قد اسست منذ آلاف السّنين في نقاط مختلفة من هذا العالم وإن كان بعضها بسيطاً وابتدائياً.

وفي المجتمع الإسلامي، وللتأكيد الكبير الذي ورد في التعاليم الإسلامية على مسألة العلم والمعرفة نجد أنّ المكتبات العظيمة كانت قد اسست منذ القرن الثّاني للهجرة في البلاد الإسلاميّة، حتّى أظهر المؤرخون غير المسلمين إعجابهم وتقديرهم لمثل تلك المكتبات.

ولجرجي زيدان، المؤرخ المسيحي الشّهير، بحث مفصل حول مكتبات بغداد والأندلس ومصر وسائر نقاط العالم الإسلامي، الأمر الذي يُبيِّن انفتاح المسلمين العلمي العظيم في القرون الأولى للإسلام.

ومن جملة المكتبات العظيمة المهمّة التي

يذكرها هي مكتبة بيت الحكمة في بغداد،

نفحات القرآن، ج 10، ص: 260

والتي يُحتمل وبشكل قوي أنّ هارون الرّشيد هو الّذي أسسها، والتي جُمِعَ فيها كل الكتب المؤلفة في الطّبّ والعلوم الاخرى وكذا العلوم الإسلاميّة المدوّنة «1».

وقد قام كثير من رجال بغداد بتأسيس مكتبات أخرى تبعاً لمكتبة بيت الحكمة، جمعوا فيها آلاف الكتب المختلفة.

ولقد كان المأمون العبّاسي، من السّباقين في تأسيس المكتبات في الدّول الإسلاميّة، وكان بعض حكام الأندلس قد اقتدوا به في هذا المجال.

ومن جملة من اهتم بهذا الأمر «المستنصر العبّاسي» في القرن الرّابع للهجرة، حيث أسس مكتبة عظيمة في «قُرطبة» جمع فيها الكتب من أنحاء العالم، وكان قد كلَّفَ جماعة من التّجار بالترحال والسّفر إلى نقاط الدنيا وشراء الكتب العلمية لتلك المكتبة، حتى أنّ البعض قال إنّ عدد الكتب الموجودة في تلك المكتبة بلغ «أربعمائة ألف كتاب» «2».

وهذا العدد كبير جدّاً بعد الأخذ بنظر الاعتبار أنّ كل الكتب حينذاك كانت مخطوطة، وكانت كتابة الكتاب الواحد تستغرق أسابيع أو أشهر أو سنين.

وقد اقتدى به كثير من ملوك «الأندلس» فأسسوا مكتبات عديدة في سائر البلاد، حتى قيل إنّ «غرناطة» كانت تضم سبعين مكتبة عامة ضخمة، وكل ذلك إنّما هو لأجل الرغبة الشديدة واللهفة لطلب العلم والمعرفة عند النّاس، حتى صار جمع الكتب وتأسيس المكتبات من علامات العظمة والشخصية، فحتى الرؤوساء والملوك الذين لم يكونوا من أهل المطالعة، كانوا يحاولون تأسيس مكتبة معتبرة خاصة في منازلهم!!

وفي زمن «الفاطميين في مصر» تأسست مكتبات كبيرة أيضاً، كانوا يسمون بعضها «خزانة الكتب» ويصرفون أموالًا طائلة في جمع الكتب حتى أنّهم كانوا أحياناً يجمعون عدّة نسخ من الكتاب وبخطوط مختلفة وزخرفة متنوعة، حتى ذكر التاريخ أنّ المكتبة التي أسسها «يعقوب بن

كلس» كانت تضم 3400 نسخة مختلفة من «القرآن المجيد» و 1200

______________________________

(1) تأريخ الحضارة، جرجي زيدان، ج 3، ص 228.

(2) تاريخ الحضارة، جرجي زيدان، ج 3، ص 228.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 261

نسخة من «تاريخ الطبري» وقيل أن عدد الكتب في تلك المكتبة بلغ 000/ 600/ 1 كتاب منها 6500 نسخة في النّجوم والهندسة والفلسفة «1».

يقول «ول ديورانت» في كتابه «تاريخ الحضارة»: كانت مكتبات الخلفاء الفاطميين تضم مئات الكتب المزينة بالنقوش من جملتها (2400) نسخة من القرآن، وكان في «مكتبة الخليفة» في القاهرة 000/ 100 كتاب في عهد الخليفة «الحاكم بأمر اللَّه» و 000/ 200 كتاب في عهد الخليفة «المستنصر» «2».

ومتى ما قارنا بين هذه الأعداد وبين أعداد الكتب في المكتبات اليوم في كثير من البلدان، نلاحظ تفاوتاً واضحاً بينها، مع أنّ أمر طبع ونشر الكتب اليوم أسهل بكثير من ذلك الوقت خصوصاً مع تطور وسائل الطّباعة الكبير، حيث لم يكن في السّابق إلّاالكتب المخطوطة، وهذا التفاوت في الأعداد والأرقام مسألة مهمّة لابدّ من دراستها، ونختم هذا الحديث بعبارة أخرى للمؤرخ الشّهير «ول ديورانت» حيث يقول: كانت أغلب المساجد تشتمل على مكتبة، وكان في أكثر المدن أيضاً توجد مكتبة عامة تحتوي على عدد كبير من الكتب، تفتح أبوابها لطلّاب العلم ... وكان فهرست مكتبة «الريّ» فقط عشرة مجلدات، وكان روّاد مكتبة «البصرة» يحصلون على مخصصات وإعانات مالية!

وكان «ياقوت الحموي» الجغرافي الشهير قد قضى ثلاث سنوات في مكتبة «مرو» و «خوارزم» لجمع المعلومات لكتابه «معجم البلدان»، وعندما خرَّب المغول «بغداد» كان في بغداد ستة وثلاثون مكتبة عامة، غير المكتبات الخاصة العديدة، إذ كان المتعارف أن يكون لكل من الأغنياء مكتبة تضم عدداً من الكتب!

ولقد دعى «أمير بخارى» طبيباً معروفاً

إلى بلاطه، فلم يستجب الطبيب لدعوته واعتذر بأنّه يحتاج إلى أربعمائة بعير! لحمل كتبه، وعندما توفي «الواقدي» ترك ستمائة صندوق مملوءة بالكتب، يلزم لحمل كل منها رجلين.

______________________________

(1) تاريخ الحضارة «ول ديورانت»، ج 3، ص 231.

(2) المصدر السابق، ج 4، ص 367.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 262

وكان لبعض الأعاظم مثل «الصاحب بن عبّاد» كتبٌ بعدد كتب كل مكتبات أوربا! ولم يكن في أي بلد من بلدان العالم- إلّاالصين أيّام «مينك هوانك»- شوق وشغف بجمع الكتب نظير ما كان عند المسلمين في الفترة ما بين القرن الثامن وحتى القرن الحادي عشر الميلادي (الثاني- الخامس الهجري) وقد وصلت الحياة الثّقافيّة للمسلمين إلى أوجها في تلك الفترة «1».

لقد كانت الدوّل الإسلاميّة مهداً للعلم والحضارة والثقافة في القرون الوسطى وفي أكثر القرون حيث كان الأوربيون يعيشون في أحلك فترات تاريخهم المظلم.

ولكي لا نبتعد عن صلب الموضوع، نقول: إنّ الهدف هو أن يتضح مدى تأثير تعاليم الإسلام في تطور التّربية والتّعليم وتأسيس المكتبات وانتشار العلم والمعرفة، ومن هنا تتضح لنا خطورة مسؤولية الحكومة الإسلاميّة في هذا الأمر المهم.

______________________________

(1) قصّة الحضارة، ول ديورانت، ج 4، ص 304.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 263

الركن الخامس: الدفاع (القوات المسلحة)

تمهيد:

لو كانت الدنيا خالية من الظّلمة الطّامعين والمعتدين والمتجاوزين، لما كان هناك أيّة ضرورة لوجود القوات المسلحة لحفظ الحدود، ولعاش النّاس في بلادهم آمنين مطمئنين تربطهم روابط تجارية وثقافية وسياسية واجتماعية واقتصادية سالمة وطبيعيّة.

ولكن حب الإستعلاء والتّسلط الذي قد يوجد أحياناً عند بعض الأفراد، وأحياناً عند بعض الشعوب، يؤدّي غالباً إلى اعتداء هذا الفرد أو ذلك الشعب على فرد آخر أو شعب آخر، وفي مثل هذه الحالات يحق للجميع أن يتسلحوا ويستعدّوا لحفظ أمنهم وحياتهم، إذ إنّ النّظام الذي يحكم العالم اليوم

وللأسف هو نظام الغلبة للقوي وهذا الأمر يبرر لنا فلسفة تشكيل القوى المسلحة وقوات الدفاع.

فصحيح أنّ وجود مثل هذه القوى لم ينجح بشكل كامل لمنع مثل هذه الإعتداءات العدوانيّة، ولكنّها بلا شك كانت ولا تزال مانعة بنسبة معينة من ذلك، إذ في كثير من الأحيان يتحتم على القوى المعتدية أن تغامر وتخاطر بوجودها في اعتدائها، حيث إنّ النتيجة لا تكون معلومة، فقد تتحمل خسائر جسيمة وتدفع ضريبة غالية في طريق الغلبة على البلد المعتدى عليه وهذا نفسه يمنع في كثير من الأحيان مثل هذه الإعتداءات والحروب.

ومضافاً إلى ذلك، فإنّ الأُمّة ذات الحضارة والثقافة والتي تريد الحصول على ميدان حرٍّ لتنشر ثقافتها بين الأمم الاخرى تحتاج إلى قوة عسكرية للحصول على ذلك الجو الحرِّ، ولا يمكنها ذلك بدون الإتكاء على القوة، وهذه فلسفة اخرى لتشكيل القوى العسكرية.

ولو أردنا بحث هذه المسألة في بعد أوسع، لابدّ أن نقول إنّ الحياة غير ممكنة بلا

نفحات القرآن، ج 10، ص: 264

«جهاد»، إذ إنّ الكائن الحي يواجه دائماً في طريق استمرار حياته، بعض الموانع والصعوبات التي تهدد كيانه في كل لحظة، وإذا لم يكن مجهزاً بقوة دفاعية فسوف ينهزم بسرعة.

وجسم الإنسان وهو «عالَمٌ صغير» يتجلى فيه العالم الأكبر، هذا الجسم نموذج بارز لهذه المسألة، وذلك لأنّ حياة الإنسان مهددة دائماً بخطر التلوث «بالميكروبات» و «والفايروسات» التي ترد البدن عن أربعة طرق (التّنفس، الأكل، الشّرب، والجلد إذا ما أصيب البدن بجراحات)، فلو لم يكن بدن الإنسان مزوداً بالقوى الدفاعية المجهّزة، لابتلي بأنواع الأمراض الخطيرة التي تشلُّ حركته وتقتله.

نعم، فكريات الدّم البيضاء تهب لمواجهة أي عدو خارجي يرد البدن، وتجاهده عن طريق حروب فيزيائية وكيميائية، وحتى لو انتصر العدو مؤقتاً ومرض الإنسان، تستمر تلك

الكريات بدفاعها حتى تتغلب على العدو وتؤمّن السلامة الكاملة للبدن.

وعدد هذه الخلايا الدفاعية الموجودة في بدن الإنسان يصل إلى عدّة ملايين كما يقول العلماء، وعند ملاحظة عمل هذه القوى يحتار عقل الإنسان حيث تحكي عن نكات عجيبة من أسرار الخلقة تجعل الإنسان يضطر للركوع أمام قدرة الخالق عز وجلّ.

والمجتمع الإنساني والدّول المختلفة غير مستثناة عن هذا القانون العام، وتحتاج إلى إدامة حياتها واستمرارها لقوى عسكرية مجهّزة ومتطورة.

وبعد هذه الإشارة نعود إلى القرآن الكريم.

ففي القرآن الكريم آيات عديدة في مجال الجهاد وفلسفته وأحكامه، وكذلك آثاره ونتائجه، وقد إنتقينا إحدى عشرة آية من بين تلك الآيات:

1- «اذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِانَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ* الَّذِينَ اخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ». (الحج/ 39- 40)

2- «وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَاتَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّهِ فَإِنِ انْتَهَوا فَإِنَّ اللَّهِ بِمَا يَعمَلُونَ بَصِيرٌ». (الأنفال/ 39)

نفحات القرآن، ج 10، ص: 265

3- «وَاعِدُّوا لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُمْ مِّنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ».

(الأنفال/ 60)

4- «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِىِ سَبيلِهِ صَفّاً كَأنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ». (الصف/ 4)

5- «يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ حَرِّضِ الْمُؤمِنينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِّنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائتَيْنِ وَإِنْ يَكُن مِّنْكُمْ مِّائَةٌ يَغْلِبُوا ألْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَايَفْقَهُونَ». (الأنفال/ 65)

6- «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجارَةٍ تُنْجِيْكُمْ مِّنْ عَذابٍ أَلِيمٍ* تُؤمِنُونَ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ* يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنّاتٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهارُ

وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِى جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوزُ الْعَظِيمُ* وَاخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤمِنِينَ».

(الصف/ 10- 13)

7- «إِنَّ اللَّهَ إشْتَرَى مِنَ الْمُؤمِنينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقَاً فِى التَّوراةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِى بَايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ». (التوبة/ 111)

8- «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ».

(آل عمران/ 200)

9- «يَا أَيُّهَا النَّبىُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ». (التوبة/ 73) (التحريم/ 9)

10- «لَّايَستَوِى الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤمِنيِنَ غَيْرُ اوْلِى الضَّرَرِ وَالُمجاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِامْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الُمجاهِدينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الُمجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً». (النساء/ 95)

نفحات القرآن، ج 10، ص: 266

جمع الآيات و تفسيرها

روح الجهاد، دفاعٌ لاغزو:

في الآية الأولى من الآيات الآنفة الذكر، والتي يعتقد جمعٌ من المفسرين أنّها أول آية في الجهاد، تزيح الستار عن أهم فلسفة للجهاد، وتجيز للمسلمين الذين حوصروا من قبل الأعداء الشرسين الجائرين، أن يحاربوا هؤلاء عسكرياً ويجاهدوهم، يقول تعالى.

«اذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِانَّهُمْ ظُلِمُوا وَإَنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقِديرٌ».

فهنا حصل المسلمون على إذن بالجهاد، مضافاً إلى أنّهم وُعدوا بالنصر من قبل اللَّه تعالى، وقد ذكر لذلك دليل، وهو أنّ العدو هو الذي بدأ الحرب العدوانية عليهم، ولذا فالسكوت عنه خطأ، لأنّه يؤدّي إلى تجرؤ العدو وتجاسره وإلى ضعف المسلمين.

يقول المرحوم الشيخ الطبرسي في مجمع البيان: وكان المشركون يؤذون المسلمين ولا يزال يجي ء مشجوج ومضروب إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ويشكون ذلك إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فيقول لهم صلوات اللَّه عليه وآله: إصبروا فإنّي لم

أؤمر بالقتال، حتى هاجر فأنزل اللَّه عليه هذه الآية بالمدينة وهي أول آية نزلت في القتال» «1».

والملفت للنظر هو أنّ القرآن المجيد يقول في الآية السّابقة لهذه الآية: «إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا»، أي أنّ هذا الكلام لا يعني أن يجلس هؤلاء في زاوية من زوايا المسجد ويضعون يداً على يدٍ وينتظرون دفاع اللَّه، بل إنّ سنة اللَّه اقتضت أن يكون دفاعه عن المؤمنين بعد أداء وظيفتهم في أمر الجهاد ومواجهة العدو، إذن، فالذين يحقّ لهم الإطمئنان للحماية الإلهيّة هم الذين لم يتركوا وظيفة الجهاد.

كما أن النكتة الاخرى التي ينبغي الإلتفات إليها هي أنّ الآية اللاحقة تقول في تحفيز المؤمنين على الدفاع المقدس: «الَّذينَ اخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ». (الحج/ 40)

______________________________

(1) ومن جملة من صرّح بأن هذه الآية هي أوّل آية نزلت في الجهاد- مضافاً إلى ما جاء أعلاه- المرحوم العلّامة الطّباطبائي في الميزان» و «البرسوئي) في (روح البيان) والعلّامة المشهدي في (كنز الدقائق) و «الآلوسي»، في روح المعاني، وإن ادّعى البعض أن الآية الأولى في الجهاد هي قوله تعالى: «قاتلوا في سبيل اللَّه الذين يقاتلونكم ...» (البقرة/ 19) وقال البعض إنّها قوله تعالى: «إن اللَّه اشترى من المؤمنين ..» (التوبة/ 111).

نفحات القرآن، ج 10، ص: 267

أي أنّ المشركين أخرجوكم من وطنكم ومنازلكم لا لذنب إلّالإيمانكم باللَّه، ولذا إذا لم تقفوا في وجوههم وتقاتلون تعرضت دنياكم ودينكم وإيمانكم ومساجدكم للخطر.

وبما أنّ الأمر بالجهاد صدر بعد الهجرة، فيدل على أنّ أصل الجهاد في الإسلام هو الدفاع ضد الأعداء، لأنّ المسلمين لم يحملوا السلاح طيلة السّنوات الثّلاث عشرة على الرّغم من كل أساليب الإيذاء والضرب والجرح، لعل المشركين يعودون إلى الرّشد، ولما لم تنفع الأساليب السّلمية مع

المشركين وكانت نتيجة الصبر والتّحمل هو الهجرة العامة والضّغوط الاجتماعية والاقتصادية حتى بعد الهجرة، لم يكن هناك أي مبرر عقلي لجلوس المسلمين مكتوفي الأيدي ناظرين قساوة الأعداء واضطهادهم واعتداءاتهم!؟

وفي الآية الثّانية إشارة إلى فلسفة أُخرى للجهاد، وهي كالفلسفة المذكورة في الآية السّابقة يمكن أن توجد في كل زمان ومكان، يقول تعالى: «وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَاتَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ».

والظّريف أنّ القرآن الكريم يشير في ذيل هذه الآية بصراحة ويقول:

«فَإِنِ انْتَهَوا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ».

وذهب جمع من المفسرين إلى أنّ المراد من «الفتنة» هو «الشرك»، وبعض قال إنّ المراد منها الضّغوط التي استعملها المشركون لإرجاع المؤمنين إلى الشرك وردّهم عن إيمانهم.

وفي تفسير الميزان- واعتماداً على جذور هذا المصطلح الأصلية- فسَّر الفتنة بمعنى الأمور التي يُمتَحن النّاس بها، وبالطّبع فإنّ تلك الأمور تكون ثقيلة على النّاس وتستعمل عادة بمعنى زوال الأمن والصلح.

وقد ذكرنا في التفسير الأمثل، في ذيل الآية 193 من سورة البقرة خمسة معانٍ لهذا المصطلح استناداً إلى آيات القرآن وهي:

1- الإمتحان.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 268

2- المكر.

3- البلاء والعذاب.

4- الشّرك وعبادة الأوثان.

5- الإضلال والإغواء.

وقد اشير في بعض كتب اللغة كلسان العرب إلى أغلب هذه المعاني أيضاً، ومن البديهي أنّ الفتنة في الآية مورد البحث لا يمكن أنْ تكون بمعنى الإمتحان أو المكر والبلاء، وعليه فهي بمعنى الشّرك أو ضغوط المشركين لإضلال الآخرين، ويمكن أن تكون بمعنى جامع شامل للشّرك وضغوط المشركين والعذاب والبلاء، وعليه فما دامت الضغوط مستمرة من قبل الكفّار لتغيير عقيدة المؤمنين، يكون القتال في مواجهة ذلك مأذوناً فيه، ويجوز الجهاد للحصول على الحريّة والحدِّ من الضّغوط والتّعذيب، ولكن متى ما رفع الكفّار أيديهم عن ممارسة ذلك، ينبغي الكف عن قتالهم، وعليه فالجهاد

هنا نوع من أنواع الدّفاع.

وفي الآية الثالثة ورد أمرٌ للمسلمين لإعداد كلّ لون من ألوان القوّة لقتال الأعداء، يقول عزوجلّ: «وَاعِدُّوا لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُمْ مِّنْ قُوَّةٍ» ثُمّ يشير إلى مصداق واضحٍ لذلك كان يعدُّ حينذاك من وسائل القتال المهمّة، يقول عزّوجلّ: «وَمِنْ رِّبَاطِ الخَيْلِ».

وفي العبارة اللاحقة يشير تعالى إلى الهدف النّهائي لهذا الإعداد ويقول: «تُرهِبُونَ بهِ عَدُّوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُم».

وعليه فالهدف من الإعداد وتهيئة القوى ليس غزو الآخرين والهجوم على أحد، وإنّما الهدف هو إخافة الأعداء، ذلك التخويف الذي يكون رادعاً من نشوب الحرب والقتال.

وفي الحقيقة، فإنّ تقوية البنية الدّفاعيّة، كان دائماً عاملًا مؤثراً في الحدِّ من هجوم الأعداء، وهذا هدف مقدّس جدّاً ومطابق للعقل والمنطق.

ولابدّ من الإلتفات إلى هذه النّكتة وهي أنّ مفهوم الآية الكريمة أوسع بكثير، ويشمل كلّ

نفحات القرآن، ج 10، ص: 269

نوع من أنواع إعداد القوى المعنويّة والماديّة والعسكريّة والاقتصاديّة والثّقافيّة، وخصوصاً وأنّها تؤكد على القوى المتناسبة مع كل زمان، ويدل ذلك على أنّ المسلمين يجب أن لا يتوانوا، بل عليهم أن يسعوا جاهدين لتوفير أحدث الأسلحة المعقدة في زمنهم، بل ويسبقوا الآخرين في ذلك، ولكن يبقى الهدف الأصلي لهذا الإعداد والاستعداد ليس غزو الآخرين والإعتداء عليهم، بل هو إطفاء نار الفتنة والحدّ من الإعتداء، وبعبارة اخرى خنق هجوم الأعداء في مرحلة النّطفة.

ولما كان إعداد المعدات العسكريّة المتطورة والحديثة في قبال الأعداء يحتاج إلى أموال طائلة، وهذا الأمر لا يمكن بدون اشتراك جميع أفراد المجتمع، تعقّب الآية الكريمة بهذا المعنى بالقول: «وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَى ءٍ فِى سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِليكُم وَأَنْتُم لَا تُظْلَمُونَ». (الانفال/ 60)

والنّكتة المهمّة هنا هي أنّ الآية اللاحقة لهذه الآية: «وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ

السَّمِيعُ العَلِيمُ». (الأنفال/ 61)

فذكر هذه الآية بعد تلك له معنى دقيق وعميق، وهو تأكيدٌ آخر على روح حب الصّلح والسّلام في الإسلام، أي أنّ أمر المسلمين بإعداد أفضل أنواع الأسلحة والقوى إنّما هو من أجل تحكيم اسس السّلام والصّلح لا الإعتداء على أحد.

والآية الرّابعة وفي ضمن التّرغيب في الجهاد، تقّيد الجهاد أوّلًا بالأهداف المقدّسة، ثُمّ تؤكد على توحيد صفوف المسلمين، وهي من أهم عوامل الإنتصار في الحرب مع الأعداء، يقول عزوجلّ: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِى سَبيلِهِ صَفّاً كَأنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ» وعبارة «في سبيله» الواردة في كثير من آيات الجهاد تكشف لنا هذه الحقيقة وهي أنّ الجهاد يجب أن لا يكون من أجل حبّ التسلَّط والإستعمار والإستعلاء وغصب حقوق الآخرين وأراضيهم أو الإنتقام منهم أو اتباعاً للهوى والرّغبات، بل لابدّ أنْ يكون الهدف هو الحقّ والعدالة وما يوجب رضا اللَّه تعالى فقط، وتكرار هذا التّعبير في آيات عديدة من القرآن إنّما

نفحات القرآن، ج 10، ص: 270

هو للحدِّ من وقوع الحروب التي يكون الهدف منها وساوس ورغبات شيطانيّة وماديّة، وهذا الأمر هو الفارق الأساسي بين القوى المسلحة الإسلاميّة وبين غيرها! (التفتوا جيداً).

ثُمّ أنّ التّعبير بجملة بنيان مرصوص (وهو البناء الذي استُعمل فيه الرّصاص الذّائب بدلًا من الإسمنت، لكي يكون صلداً وقوياً) ويمكن أنْ يكون إشارة إلى أنّ أعداء الإسلام كالسّيل الجارف المخرب، وأنّ صفوف المجاهدين المسلمين كالسدِّ الحديدّي المنيع الذي يصمد أمام السُّيول. أو هو إشارة إلى السّدِّ الحديدي الذي بناهُ ذو القرنين لمقابلة قوم «يأجوج ومأجوج» السّفاكين للدّماء، أو كناية عن كلِّ سدٍّ يقام في وجه الأعداء وهجومهم.

وعلى أيّة حال، فإنّ هذا التّعبير يدلّ على أنّ الجهاد في الإسلام له صفة دفاعيّة في الأصل، لأنّ

السّدود وسيلة دفاعيّة مؤثرة في قبال أمثال «يأجوج ومأجوج» على مرِّ التّاريخ، ولا يوجد سدٌّ لهُ ميزة الغزو والهجوم والإعتداء.

وكما أنّ السُّدود إذا أصابها خَللٌ أو ثغرة فإنّها ستكون معرضة للخطر والتّلاشي، فكذلك صفوف المجاهدين الرّساليين فمتى ما برز فيها اختلاف وفرقة وعدم انسجام، فستكون محكومة بالإندحار والفشل، فاللَّه عزّوجلّ يحب الصّفوف المتراصفة المتحدة المتفقة والمنسجمة تماماً.

وفي الآية الخامسة، يأمر نبي الإسلام صلى الله عليه و آله أن يحفز المسلمين على قتال الأعداء، وهذا الأمر وارد بعد تلك الآيات التي تحرض على إعداد القوى لإخافة العدو والحدِّ من وقوع الحروب المدمرّة، وكذلك بعد الآية التي تحرضهم على الصّلح والسّلم.

وفي الحقيقة، الحرب في نظر الإسلام آخر وسيلة مشروعة تستعمل للحدِّ من اعتداءات الأجانب الأعداء، ففي البدء تعدُّ القوى لترهب الأعداء، ثُمّ دعوتهم إلى السّلم من موضع القدرة لا من موضع الضّعف، ثُمّ يصدر أمر القتال والجهاد إذا لم تنفع تلك السّبل، يقول عزّوجلّ: «يَا أَيُّهَا النَّبىُّ حَرِّضِ الْمُؤمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ»، ثُمّ يشير إلى أهم عوامل النصر يعني

نفحات القرآن، ج 10، ص: 271

الإستقامة والصّمود، ويقول: «إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُن مِّنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَايَفْقَهُونَ».

فغباء هؤلاء وجهلهم يكون من جهةٍ سبباً في مخالفتهم للمنطق والعقل وإصرارهم على روح العدوان فلا يفهمون إلّامنطق القوّة، ومن جهة اخرى يكون جهلهم سبباً لضعفهم وعدم اقتدارهم في ميدان الحرب، وذلك لأنّهم يفتقدون الهدف والمبرر الواقعي في حروبهم، ومن هنا فإن بإمكان المؤمن الواحد أن يغلب عشرة منهم إذا ما استقام وصمد، وبإمكان العشرين أن يغلبوا مائتين من الكفار.

يقول الراغب في مفرداته: التّحريض في الأصل بمعنى التّحريك نحو شي ء بعد تزيينه وتسهيل طريق

الوصول إليه عن طريق إزالة الموانع- وفي الحقيقة فإنّ الإيمان باللَّه والإعتقاد بيوم المعاد والأجر العظيم الذي أعدّهُ اللَّه للمجاهدين والشّهداء في سبيل اللَّه يزيل كل الموانع عن طريق جنود الإسلام، ويهوّن عليهم هذا العمل الثقيل والصّعب جدّاً.

هذه الآية تُخطّي ء كلّ حسابات الموازنة بين القوى الظّاهريّة والماديّة، وتدل بوضوح على أنّ سلسلة من القوى المعنويّة موجودة عند المسلمين يمكنهم بالإتكاء عليها كسر شوكة جيش العدوّ المتفوّق صورياً بعدته وعدده عليهم، وكسب المعركة لصالح المسلمين.

الآية السّادسة تحرض المؤمنين على الجهاد بطريق آخر، بواسطة تشبيه الجهاد بالتّجارة المربحة الّتي توجب النّجاة من عذاب ألِيم، والنصر في الدّنيا والآخرة، يقول تعالى:

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجارَةٍ تُنْجِيْكُمْ مِّنْ عَذَابٍ أَليمٍ* تُؤمِنُونَ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ»، وفي الآيات اللاحقة لهذه الآيات يَعد المؤمنين بدرجات عظيمة، حيث يقول: «يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنّاتٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِى جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوزُ الْعَظِيمُ* وَاخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤمِنِينَ».

نفحات القرآن، ج 10، ص: 272

ففي هذه الآيات يعتبر رأسمال هذه التّجارة المربحة في الدّنيا والآخرة مُركَّب من الإيمان والجهاد، أي أنَ «العقيدة» و «الجهاد» هما ركنا هذه التّجارة، ذلك الجهاد الذي يكون بالمال والنّفس معاً، إذ إنّ إعداد الوسائل والمعدات العسكريّة اللازمة للنّصر لا يمكن إلّا بصرف الأموال، والملفت للنّظر هنا هو أنّه لم يذكر أن نتيجة الجهاد هي المغفرة والرّحمة الإلهيّة والنِّعم الخالدة في الجنّة فقط، وإنّما يذكر النّصر القريب في هذه الدّنيا ويعتبره أعزّ من آثاره الاخرى. (دققواجيداً).

والتّعبير بالتّجارة، إشارة إلى نكتة أنّ الإنسان على أيّة حال له رأسمال، وهذه الدّنيا كالمتجر يمكن

استغلال رؤوس الأموال، فيها وتشغيلها وتبديلها إلى رؤوس أموال خالدة وباقية، وهذا لا يتمّ إلّابالتّعامل مع الوجود المقدسّ للباري تعالى، الوجود الذي بيده كل مفاتيح الخير والسّعادة، والتّجارة مع هذا الوجود مقترن على الدوام مع الكرامة والمواهب وأنواع النّعم.

كما أنّ النّكتة الجديرة بالذكر هنا هي أنّ المخاطب في هذه الآيات هم المؤمنون، مع أنّها تدعوهم في نفس الوقت إلى الإيمان! والهدف من ذلك هو أنْ يرتقي هؤلاء المؤمنون من مراحل الإيمان الابتدائية والصُورية إلى المراحل العالية المقترنة بالجهاد والأعمال الصّالحة، وذلك لأنّ الإيمان شجرة مثمرة تبدأ من شجيرة صغيرة حتّى تصير أغصانها عالية إلى عنان السّماء، فتثمر أنواع الفضائل ومكارم الأخلاق، وهذا يحتاج إلى طي مراحل تكامليّة مختلفة.

وفي الآيةالسّابعة، نجد نفس مضمون الآية السّابقة ولكن في صورة جميلة أخرى، فهي تصور المعاملة وكأن اللَّه هو المشتري والمؤمن هو البائع، والمتاع هو الأموال والأنفس، والثمن هو الجنّة الخالدة، وأسناد هذه المعاملة العظيمة المربحة ووثائقها، ثلاثة كتب سماوية هي التّوراة والأنجيل والقرآن، يقول تعالى:

نفحات القرآن، ج 10، ص: 273

«إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقَاً فِى التَّورَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ».

وهذه التّجارة المربحة بأركانها الأربعة ووثائقها المضمونة، من أهم التّجارات التي يمكن أن يقوم بها الإنسان في طول عمره ولهذا يبارك عزّوجلّ للمؤمنين بصورة مباشرة هذه المعاملة المربحة حيث يقول: «فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِى بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ».

نعم لقد كانت هذه الدّواعي هي السبب في وصول معنويات المقاتلين المسلمين إلى أعلى مستوياتها الممكنة، فمع قلة عَدَدهم وعدّتهم استطاعوا أنّ يتغلبوا على عدوهم في شرق العالم وغربه.

وفي الآية الثّامنة يخاطب المؤمنين مرّةً أُخرى

ويأمرهم بالصبر والمثابرة والإستعداد لصدّ هجمات الأعداء، يقول عزّوجلّ:

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا ورَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ».

ففي هذه الآية أربعة أوامر مهمّة تضمن عزّة المؤمنين وانتصارهم: الأوّل، الأمر بالصّبر والصّمود أمام الأحداث المختلفة وهوى النّفس والشهوات، فيقول: إصبروا وهو في الواقع أساس كل انتصار.

ثُمّ يأمرهم بعد ذلك بالمصابرة، وهي من باب مفاعلة بمعنى الصّبر والإستقامة في مقابل صبر واستقامة العدو، وبتعبير آخر فإنّ مفهومها هو إنّه مهما كانت المشاكل كثيرة وصعبة فإنّ صبركم واستقامتكم أيها المؤمنون لابدّ وأنْ يكون أكبر، وكلما زاد العدو من هجومه، عليكم أنْ تزيدوا من استقامتكم وصمودكم حتى تغلبوا العدو (وصابروا).

وفي الأمر الثّالث يأمرهم بالمرابطة ويقول: «ورَابِطُوا»، وهذه الجملة مأخوذة من مادة «رباط» وهي بالأصل بمعنى ربط شي ء في مكان ما (كربط الفرس في محلٍ معين) وهي

نفحات القرآن، ج 10، ص: 274

كناية عن الإستعداد الذي يعتبر الصمود وحماية الثّغور من أوضح مصاديقه، إذ إنَّ الجنود يحفظون دوابهم ووسائلهم ومعداتهم في ذلك المحل.

ولذا فإنّ بعض المفسرين فسرها بحفظ الخيل والدّواب المركوبة في الثغور فقط، والإستعداد في مقابل العدو حتّى قالوا إنّ مفهومها الواسع يشمل الإستعداد لصناعة المعدات الحربية الحديثة- أعم من تلك التي يستفاد منها في حروب الجو أو الأرض أو البحر «1».

ولا شك في أنّ هذا لا يعني أنّ الآية الكريمة لا تشمل الحدود الثّقافيّة والعقائديّة، فإنّ مفهوم «رابطوا» واسعٌ إلى درجة أنّه يشمل كلّ استعداد للدّفاع مقابل العدو، ولذا شبّهت بعض الروايات الإسلاميّة، العلماء بحراس الحدود حيث يقف هؤلاء صفّاً بوجه جنود إبليس، ويحولون دون هجومهم على الأشخاص الفاقدين لقدرة الدفاع عن أنفسهم، يقول الإمام الصّادق عليه السلام: «عُلَماءُ شيعتِنا مُرابطون فِي الثّغر الّذي يلي إبليسَ وعفاريتَه ويمنَعونَهُ

عن الخروجِ على ضعفاءِ شِيعَتنا وعن أنْ يَسَّلطَ عليهم إبليس» «2».

حتّى أنّه ورد في بعض الرّوايات عن الإمام عليّ عليه السلام تفسير جملة «رابطوا» بانتظار الصّلوات الواحدة بعد الاخرى «3»، وهو في الحقيقة كالإستعداد في مقابل جنود الشّيطان (تأملوا جيداً).

وفي الأمر الرّابع، يأمرهم بالتّقوى، إشارة إلى أنّ الصّبر والإستقامة والمرابطة لابدّ أن تكون جميعاً منسجمة ومعجونة بالتّقوى والإخلاص، وأن تكون منزهة عن كلّ رياء وتظاهر.

وفي الآية التّاسعة، يأمرهم عزّ وجلّ بأن يقاتلوا على جبهتين ويغلظوا في القتال، جبهة الأعداء الدّاخليين والعناصر المخربّة الّذين تغلغلوا في صفوف المسلمين والّذين يستغلون

______________________________

(1) تفسير المراغي، ج 4، ص 172.

(2) بحار الأنوار، ج 2، ص 5.

(3) تفسير مجمع البيان، ج 1 و 2، ص 562.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 275

الفرص لتضعيف الحكومة الإسلاميّة وزعزعة الأمن الداخلي، ويأمرهم أن يقفوا أيضاً بوجه الأعداء في الخارج الّذين أشارت الآية إليهم بعنوان الكفار، يقول تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّبىُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغلُظ عَلَيْهِمْ وَمَأواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ».

وبطبيعة الحال فإنّ الجهاد له معنى واسع، فكما يشمل المواجهة المسلحة يشمل أيضاً المواجهة الثقافية والاجتماعية والغلظة في الكلام والكشف عن الهويات والتهديد أيضاً، وعليه فما ورد في الرّوايات عن الإمام الصّادق عليه السلام: «إن رسولَ اللَّهِ لم يُقاتِل منافقاً قط» «1» لا ينافي ما جاء في هذه الآية.

ومضافاً إلى ذلك فإن ما جاء في الآية الشرّيفة يعتبر أمراً كلّياً، فإن لم يتجاوز المنافقون الحدود المعينة لابدّ من مواجهتهم بالأساليب غير المسلحة فقط، وأمّا إذا كانت مؤامراتهم تشكل خطراً جدّياً، لم يكن إلّامواجهتهم بالجهاد المسلح وكسر شوكتهم، كما حدث مراراً في زمن الإمام علي عليه السلام.

وبتعبير آخر، فإنّه وإنْ كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله

قد سلك طريق المداراة واللين مع المنافقين ولكن، كما وذكر ذلك سيد قطب في تفسير الظلال فإن اللين له مواضع وللشدّة مواضع اخرى، وإذا لم يتصرف في كل موضع بما يناسبه، أدى الأمر إلى تضرر الشّريعة والمسلمين، وعليه فلا مانع من المداراة في شرائط معينة، واستعمال الشّدّة والخشونة وحتّى الجهاد المسلح في شرائط وظروف اخرى «2».

وفي الآية العاشرة إشارة إلى مقام المجاهدين والقوى العسكريّة الإسلاميّة الشّامخ، وأفضليتهم وامتيازهم على الآخرين، يقول تعالى «لَّايَستَوِى الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤمِنِينَ غِيْرُ اوْلِى الضَّرَرِ وَالُمجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِامْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الُمجَاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ

______________________________

(1) تفسير مجمع البيان، ج 10، ص 319.

(2) تفسير في ظلال القرآن، ج 4، ص 255.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 276

وَأنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًاّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسَنى وَفَضَّل اللَّهُ الُمجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً».

وبهذا يقسّم القرآن المجيد المسلمين إلى مجموعتين «المجاهدين» و «القاعدين»، ثُمّ يقسم القاعدين إلى قسمين «اولي الضّرر» و «غير اولي الضّرر» الذين يمتنعون عن الإشتراك في القتال لتخاذلهم ثم يعتبر أنّ الدرجات العظيمة والفضل الكبير والمغفرة والرّحمة الإلهيّة لا تشمل إلّاالمجاهدين.

ومن هنا يتضح تماماً أنّه، وخلافاً لما هو المعروف اليوم في العالم من أنْ وظيفة القتال مع الأعداء مختصة بمجموعة خاصّة من النّاس.

إنّ وجوب القتال في الإسلام يكون في عهدة كلّ من يقدر على حمل السلاح وجهاد الأعداء ولهذا لم نعهد في عهد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله تشكيل جيش خاص بعنوان القوات المسلحة، وعندما تندلع الحرب كان كلّ من يقدر على حمل السلاح وباستلهام من القرآن المجيد يحمل سلاحه ويتجه نحو ميدان القتال، وبتعبير اليوم، فإنّ لكل فرد من المسلمين مكانه الخاص في صف التعبئة العسكريّة، وهذا الأمر صار

سبباً في تعاظم القدرة العسكريّة عند المسلمين.

توضيحان

1- الجيوش المنظمة والتعبئة الجماهيريّة

من خلال آيات كثيرة اخرى واردة في أبعاد مسألة الجهاد الإسلامي المختلفة يتضح الهيكل العام للقوات المسلحة في الحكومة الإسلاميّة وخصائصها، وتبدو امتيازاتها على سائر مناهج المجتمعات الاخرى في الأمور العسكريّة.

وبطبيعة الحال فإننا نعيش في عصر تعقدت فيه الفنون العسكريّة جدّاً، واكتسبت طابع التّخصص، فلا مفرَّ من الاستفادة من القوى المتخصصة في هذه الفنون من كبار الضّباط وذوي الرتب العسكريّة الذين درسوا فنون الحرب وتمرنوا عليها، وعليه فمن اللازم إبقاء

نفحات القرآن، ج 10، ص: 277

مجموعة من هؤلاء بعنوان «الكوادر الثّابتة» في الجيش، ليهتموا ليلًا ونهاراً بالأمور الدّفاعيّة والتّخطيط والبرمجة والإستعداد في كلّ لحظة لمواجهة الخطر الخارجي والدّاخلي، ولكن مع كل ذلك، فدور التّعبئة الجماهيرية العامّة محفوظ في محله، بل لا يمكن أنْ تؤدّي المجاميع المذكورة دورها بشكل فاعل ومثمر بدون التّعبئة العامة والقوات الجماهيريّة، كما شاهدنا دور هذه القوات الجماهيريّة في الحرب العدوانيّة التي فرضت على الجمهوريّة الإسلاميّة ولمدّة ثمان سنوات، إذ لولا وجود قوات التعبئة الجماهيريّة، لاحتلت القوات العراقيّة المعادية مساحات عظيمة من أراضي إيران، وقد كانت هذه القوات العظيمة البطلة هي التي صدت قوات صدام المدعومة من القوى الإستكباريّة العظمى كلّ الدعم.

ولذا، فإن تصور البعض أنّ دور التعبئة الجماهيريّة العامة خاص بذلك الزمن الذي لم تكن الفنون العسكريّة قد تعقدت وتطورت فيه كما هي عليه اليوم- كزمن النّبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله، تصور خاطى ء جدّاً.

واليوم أيضاً لا يمكن إنكار دور قوات التّعبئة الجماهيريّة في الدّفاع عن الدّول الإسلاميّة، والشّاهد الأخر على هذا الموضوع مجاهدو فلسطين المحتلة، فنحن نعلم جيداً أنّ الذي أقلق إسرائيل وسلب النوم من عينيها في الأراضي المحتلة هو القوات الجماهيريّة غير النظاميّة

والتي تتشكل غالباً من الشبّان والصّبيان ذوي الأعمار الصّغيرة، والذين لا يمتلكون السلاح إلّاالحجارة في مواجهة إسرائيل!

فلو لم نكن نعيش نماذج عينية لهذه القضيّة، فسوف يصعب تصديق وجود أفراد يقاتلون بالحجارة ويؤرقون العدو في عصر الأسلحة المتطورة والقنابل الذّرية والصّواريخ العابرة للقارات!

ففي فلسطين المحتلة، لا يوجد جيش نظامي يواجه إسرائيل، وكلّ ما يوجد إنّما هو قوات تعبوية وقوات جماهيرية غير منظمة، اكتسبت بمرور الزّمن تجربة جيدة وخبرات كثيرة حتى صارت عملياً وكأنّها جيش مدرب، مع وجود مجاميع لا تزال تحارب بنفس

نفحات القرآن، ج 10، ص: 278

الطرق البدائيّة ومع ذلك فقد أقلقت العدو المجهز بأحدث أنواع الأسلحة!

وعليه ينبغي على الحكومة الإسلاميّة أن لا تتساهل في مسألة الاستفادة من قوات التعبئة الجماهيريّة مطلقاً.

وعدم وجود قوات تعبوية جماهيريّة في الدّول الصّناعيّة المتطورة، وعدم استفادة تلك الدوّل من الجماهير، ليس إلّالعدم اعتقاد هؤلاء بوجوب الجهاد بعنوان فريضة إلهيّة عظيمة، فهؤلاء يرون أنّ الحرب مسئوولية الدّولة فقط، أمّا في الإسلام فإنّ الجهاد وظيفة كلّ فرد من أفراد المسلمين.

إنّ عظمة الشّهادة وعظمة مقام الشّهداء في الإسلام أمر غير معروف عند غير المسلمين، ومن هنا فإنّ دواعي التعبئة الجماهيريّة غير موجودة عند الآخرين، أمّا عند المسلمين فهي موجودة دائماً.

وطبيعة الحال، فإنّ تلك الدّول التي لا تعتقد بمثل هذه الثّقافة عندما يصل حدُّ السيف إلى رقابها، وتتعرض بلادهم لخطر الفناء فإنّها قد تفكر في الإستعانة بتشكيل قوات تعبئة جماهيريّة، أمّا في الإسلام فإنّ هذه القوات موجودة على الدّوام.

ولذا، فعلى الحكومة الإسلاميّة وبعد الإفتخار بهذه الثّقافة الدّينيّة، أن تهتم جيداً بقوات التعبئة الجماهيريّة حتى في زمن الصّلح، بل عليها أن تدرب قوات التبعئة الجماهيريّة بمرور الزّمن على الفنون العسكريّة المتناسبة مع عصرها، حتّى يتمكن

كل من يقدر على حمل السلاح من التّوجه إلى ميدان المعركة ساعة الخطر.

ومن ذلك الوقت، أصبح تكريم مقام الشّهداء واحترام أُسرِهم وتقديرهم المادي والمعنوي جزء من إرشادات الإسلام، ومن التّدابير الأساسيّة لحفظ روح التّعبئة الجماهيريّة الجهاديّة وبقائها في أوساط المسلمين، ولو نُسي الأمر فإنّه سيترك بدون شك تأثيرات سلبية خطيرة وكثيرة في تضعيف الرّوح الجهادية عند المسلمين.

وكم هو جميل أن يكون إلى جنب كل مسجد من مساجدنا وحدات للتعبئة الجماهيرية، وأن تعتبر التّعبئة الجماهيريّة عبادة كبيرة إلى جنب الصّلاة، وهذه الأمور لا يمكن تحققها إلّا

نفحات القرآن، ج 10، ص: 279

في ظلّ الإعتقادات الصحيحة والثّقافة الدّينيّة، وهي من الأسلحة الإستراتيجية التي نمتلكها اليوم والتي حرمت منها الدّول الإلحادية وإن كانت مجهزة بأحدث أنواع الأسلحة والتّدريبات العسكريّة:

ويتضح لنا من خلال الآية الشريفة: «وَأَعِدُوا لَهُم مَّا استَطَعتُم مِّن قُوَّةٍ». (الأنفال/ 60)

والتي مرَّ الحديث عنها في البحث السّابق، أنّ على المسلمين أن يحفظوا استعدادهم وقدراتهم العسكرية حتّى في زمن الصّلح، فإذا تطورت الفنون العسكرية الحربيّة يوماً بعد آخر فإنّ على المسلمين أنْ يتدربوا باستمرار بحسب ما يتناسب مع ذلك التّطور، كما أنْ عليهم أنّ يحصلوا على تلك الأسلحة المتطورة بأي ثمن كان، ومع الأخذ بنظر الاعتبار أنّ كلمة «قوّة» تشمل كلّ أنواع القوى الماديّة والمعنويّة، البشريّة وغير البشريّة، فلابدّ من إعداد كلّ ذلك.

ونقرأ في القرآن الكريم: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فاْنْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً». (النساء/ 71)

وبعد الأخذ بنظر الاعتبار أنّ «الحذر» بمعنى اليقظة والفطنة والإستعداد الدائم لمواجهة المخاطر، وقد تأتي أحياناً بمعنى الوسيلة التي يمكن بها مواجهة الخطر، يتضح لنا جيداً لزوم الإستعداد الكامل الدّائم عند المسلمين في مقابل الأعداء.

وجملة «فَاْنَفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُوا جَميِعاً» مع الإلتفات

إلى أنّ النّفر هو الرّحيل والهجرة، تدلّ على أنّه لا ينبغي للمسلمين الجلوس في البيوت انتظاراً لهجوم العدو، بل عليهم أنْ يستعدوا لاستقباله ومواجهته- قبل أنْ يهجم عليهم- ويهجموا عليه مستفيدين من الأساليب القتاليّة المختلفة لهذا الأمر، فتارة يهجمون بصورة مجاميع متفرقة، واخرى بصورة حرب عصابات، وتارة بشكل جيش منظم يبدأ بالهجوم على العدو، فيقاتلون في كلّ ظرف بما يتناسب معه.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 280

2- السّبق والرّماية

وبالنسبة إلى التّدريب العسكري، نجد أنّ الإسلام مضافاً إلى ترغيبه المسلمين بمسابقة الخيل والرماية، فإنّه أجاز للمسلمين إقامة المسابقات والرّهان والرّبح والخسارة في هذا المجال أيضاً، مع أنّ الإسلام يحرم القمار والرّبح والخسارة ويعتبر ذلك من الذّنوب الكبيرة، أمّا في هذا المورد فهناك حكمة وفلسفة واضحة استثنى فيها هذه الموارد.

يقول الإمام الصّادق عليه السلام: «إنّ الملائكةَ لَتَنْفِرُ عِند الرِّهان، وتلعن صاحبه ما خلا الحافِرْ والخّفّ والرّيش والنّصل» «1».

والملفت للنظر أنّ مثل هذه المسابقات كانت تقام بحضور رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وأحياناً بدعمه المادي لها، حتّى ورد عن الإمام السّجاد عليه السلام أنّه قال: «إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أجرى الخيل وجعل سبقَها أواقي من فضة».

حتّى أنّ المستفاد من بعض الرّوايات أنّ النّبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله كان يشترك بنفسه في بعض تلك المسابقات «2».

______________________________

(1) وسائل الشّيعة، ج 13، ص 347، ح 6، الباب 1 من كتاب السبق والرمّاية، واحتمل بعض الأعاظم أنّ مصطلح «نصل» لا يختص بالسهم بل يشمل كل سلاح له رأس مدبب كالرّمح والخنجر، حيث كانوا يستبقون برميها، كما أنّ مصطلح «الخف» يشمل السّباق بالجمال والفيلة، وإن «الحافر» يشمل ذوات الأربعة غير الحصان، وأن «الريش» إشارة إلى السهم، الذي يكون في

آخره عادة عدّة ريشات لتنظيم حركته.

(2) المصدر السابق، ص 349، ح 5، وص 351، ح 4.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 281

آداب الجهاد

اشارة

أحد أفضل الطرق لمعرفة أصالة المدارس الفكرية هو دراسة كيفية سلوك أنصار تلك المدرسة مع العدو وخاصة في ميدان الحرب وما بعدها أي مع أسرى الحرب وما تفرزه تلك الحرب.

ودراسة الآيات القرآنية والرّوايات الإسلاميّة الواردة في آداب الحرب توضح هذه الحقيقة وهي أنّ الإسلام لم يتخلَّ عن الإهتمام بالمسائل الأخلاقيّة والإنسانيّة حتّى في أخشن لحظات الحياة، يعني ميدان القتال، فنجده قد عجن مورد الغضب باللطف والخشونة بالرحمة، ولا شك أنّ على الحكومة الإسلاميّة أنّ تهتم بهذه الأخلاقيّة الرّفيعة التي لها أثر عميق في كيفية نظرة الأجانب للإسلام والتي يمكنها أن تكون وسيلة لاستقطاب هؤلاء وتأملهم في الدين الإسلامي علّهُمْ يرجعون.

وقد وردت تأكيدات كثيرة في آيات القرآن على رعاية العدالة وعدم تجاوز الحدود المعقولة والإنسانيّة في مقابل الأعداء.

من جملة تلك الآيات، قوله تعالى:

«وَقَاتِلُوا فِى سَبيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَايُحِبُّ المُعتَدِينَ».

(البقرة/ 190)

ففي الآية إشارة إلى ثلاث نقاط، الأولى هي أنّ الحرب لابدّ أن تكون للَّه وفي سبيل اللَّه لا من أجل السلطة والإنتقام.

والاخرى هي أنّ الحرب لابدّ أنْ تكون ضد المعتدي، أي مالم تُشنَّ الحرب عليكم، لا تمدوا أيديكم إلى السلاح.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 282

والنقطة الثّالثة هي عدم تجاوز الحدود في ميدان الحرب، ورعاية الأصول الأخلاقية.

وعليه، فإن وضع العدو سلاحه واستسلم، فلا ينبغي قتاله، وكذا الحال بالنّسبة لأولئك الذين لا يقدرون على الحرب والقتال كالعجزة والشّيوخ والأطفال والنّساء، فلا ينبغي إلحاق الأذى بهم، كما أنّ تدمير البساتين والمزارع وهدم الأماكن الّتي يمكن أن يستفاد منها، واللجوء إلى استخدام الأسلحة ذات الدّمار الشامل، كل ذلك

من مصاديق التعدّي على الأبرياء والأساليب غير الإنسانيّة، وهي ممنوعة في نظر الإسلام.

وفي نفس السورة (بعد تلك الآية بعدّة آيات) يؤكد تعالى مرّة أخرى على هذا المعنى ويقول:

«فَمَنِ اعتَدَى عَلَيكُم فَاعْتَدُوا عَلَيهِ بِمثِلِ ما اعتَدَى عَلَيْكُم وَاتّقُوا اللَّهَ وَاعلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ المُتَّقِينَ». (البقرة/ 194)

وفي هذا إشارة إلى أنّكم إذا أردتُم نصر اللَّه لكم والإنتصار في الحرب، فعليكم اجتناب التّعدي والّتمادي في القتال.

ونفس هذا المعنى أكدت عليه سورة المائدة بشكل آخر، حيث تصرح الآية قائلة: «وَلَا يَجرِمَنَّكُمْ شَنَئَانُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا». (المائدة/ 2)

(وتسيطر عليكم روح الإنتقام الناشئة من سلوك أعدائكم الخشن في الحديبية).

وفي الرّوايات الإسلاميّة أيضاً وردت تعبيرات مختلفة وإرشادات كثيرة في مورد رعاية الأصول الأخلاقيّة الإنسانيّة في ميدان الحرب وبعد الإنتهاء منها تجاه الأعداء، وتتجلى في هذه الرّوايات العواطف الإنسانيّة وروح السّلم بشكل واضح.

كتب أرباب السّير في سيرة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه متى ما أمرَ جيشاً بالسّير إلى حرب، كان يستدعي الجيش وقادته ويعظهم ويرشدهم بمواعظ وإرشادات منها: «إذهبوا باسم اللَّه تعالى ...» «1».

اغزوا بسم اللَّه وفي سبيل اللَّه تعالى، قاتلوا من كفر باللَّه ولا تغدروا ولا تغلّوا ولا تمثلّو،

______________________________

(1) منتهى الأمال، ج 1، ص 16، في باب الفضائل الأخلاقية عند النّبيّ صلى الله عليه و آله وذكر العلامّة المجلسي شبيه هذا المعنى في بحار الأنوار، ج 97، ص 25.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 283

ولاتقتلوا وليداً ولا متبتلًا في شاهق ولاتحرقوا النخل ولا تغرقوه بالماء ولا تقطعوا شجرة مثمرة ولا تحرقوا زرعاً وأنّكم لا تدرون لعلكم تحتاجون إليه ولا تعقروا من البهائم ممّا يؤكل لحمه إلّاما لابدّ لكم من أكله وكان ينهى عن إلقاء السم في

بلاد المشركين ورسول اللَّه صلى الله عليه و آله نفسه لم يتعامل مع الأعداء بغير هذا التّعامل الإنساني، فلم يتوسل بالإغارة لتحقيق النصر، وكان يرى جهاد النّفس مقدّم على كل شي ء.

والتّدقيق في هذه الإرشادات الدّقيقة جدّاً، يبيّن بوضوح أنّ الإسلام لم يغفل عن المسائل الأخلاقيّة المرتبطة بالحرب أبداً، وإن شخص الرسول صلى الله عليه و آله كان يعمل بها بحذافيرها تجاه العدو، لا مثل الأشخاص الذين يدافعون عن حقوق الإنسان بألسنتهم فقط، وأمّا أعمالهم فلا تشير إلى شي ء من ذلك.

ومضافاً إلى ذلك فإنّ التأكيد على أنّ جهاد النّفس أفضل الجهاد، إشارة إلى أنّ المسلم الحقيقي هو المسلم الذي يراعي الأصول الإنسانية في ميدان الحرب.

وممّا ذكر يتّضح أنّ الإسلام يمنع من استخدام الأسلحة الكيميائية وكل سلاح ذي دمار شامل، وعلى الحكومة الإسلاميّة أن تجتنب استخدام مثل هذه الأسلحة.

وفي حديث آخر عن أمير المؤمنين علي عليه السلام قال: «فإذا كانت الهزيمة بإذن اللَّه فلا تقتلوا مُدْبِراً ولا تصيبوا مُعْوراً ولا تجهزوا على جريح ولا تهيجوا النّساء بأذى وإن شَتَمْنَ أعراضكم وسببنَ امراءَكُم» «1».

ومن خلال التأمل في حديث النّبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله الذي ذكرناه وأوامره إلى الجيش وقادته قبل الحرب، يتضح لنا أنّ هذه الإرشادات إنّما هي من متبنيات الإسلام الأساسيّة في الجهاد والحرب ضد الأعداء، وعلى الحكومة الإسلاميّة أن تعمل كلّ ما بوسعها من أجل إحياء تلك المباني والمحافظة عليها.

______________________________

(1) نهج البلاغة، الرسالة 14.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 284

أقسام الجهاد:
اشارة

الجهاد الإسلامي وإن قسَّمهُ المحققون إلى قسمين هما: الجهاد الابتدائي والجهاد الدفاعي، ولكل منهما فروع اخرى، ولكن في الواقع حتى الجهاد الإبتدائي يعتبر جهاداً دفاعيّاً كما سيتضح لنا لاحقاً، وبعد هذه الإشارة نعود إلى آيات القرآن

المجيد، ونتناولها بالبحث والتحقيق:

1- الجهاد الإبتدائي

ورد في سورة الحج، والتي يعتقد بعض المفُسرين أنها أول آية نزلت في الجهاد: «أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِانَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِم لَقَدِيرٌ». (الحج/ 39)

ثُم يضيف تعالى في توضيح المطلب ويقول: «الَّذِينَ اخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ».

والتعبير (بالإذن) في الآية يناسب ما ذهب إليه القائلون بأنّها أول آية نزلت في الجهاد، وتدلّ على عدم وجود مثل هذا الإذن قبل ذلك.

وعلى أيّة حال، فهي تدلّ بوضوح على أنّ بداية تشريع الجهاد هو الجهاد الدّفاعي في مقابل العدو، ذلك العدو الذي أجبر المسلمين على الهجرة وترك منازلهم بلا ذنب اقترفوه، نعم إن كان لهم ذنب فهو الإعتقاد باللَّه تعالى وحده.

ويذهب البعض الآخر من المفسرين إلى أنّ أوّل آية في الجهاد هي قوله تعالى:

«وَقَاتِلُوا فِىِ سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ». (البقرة/ 190)

وحتى لو قبلنا هذا الرأي فإنّ أساس الجهاد مبتنٍ على كسر هجوم العدو وعدوانهم، وكلّ عاقلٍ يدرك أنْ السكوت على عدوان العدو السّفاك لا يتلائم مع أي منطق.

والتّعبير ب «في سبيل اللَّه» يدلُّ على أنّه حتّى الدّفاع الإسلامي، إنّما يكون للَّه وعلى أساس الموازين الشّرعية الإلهيّة لا طلباً للتَّسلط والجاه والهوى.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 285

هذا أول شكل للجهاد في الإسلام، ولكن لا ينبغي أن يُفهم من معنى «الجهاد الدّفاعي» أنّ الحكومة الإسلاميّة لابدّ أن تجلس مكتوفة الأيدي بلا حراك حتّى يدخل العدو بيتها ويغزوها في عقر دارها، ثم تهب للدفاع، بل على العكس من ذلك، فبمجرّد أن تشعر باستعداد العدو للهجوم والقتال وأن غرضه هو الإعتداء على بلاد الإسلام، عليها أن تأخذ بزمام المبادرة وتكسر شوكة العدو وقدرته في مهدها.

2- الجهاد لإخماد نار الفتنة

ورد في قوله تعالى «وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَاتَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ

انتَهَوا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِميِنَ». (البقرة/ 193)

وكما أشرنا فيما سبق فإنَّ في تفسير مصطلح «الفتنة» بين العلماء كلام، ولكن مهما فسرنا «الفتنة»، تارةً بإيجاد الفساد، وإيذاء المؤمنين أو بالشّرك وعبادة الأوثان المقترنة بفرض هذا الإعتقاد على الآخرين، أو كان بمعنى إضلال وإغواء وخداع المؤمنين، كلّ ذلك أنواع من الهجوم من قبل العدو على المؤمنين، ولذا فإنّ الجهاد في مقابل ذلك يأخذ شكلًا دفاعيّاً.

وجملة «فَإِنِ انتَهَوا فَلا عُدوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِميِنَ» تدل بوضوح على أن الهدف هو الحدُّ من ظلم الظّلمة الجائرين.

والملفت للنّظر أنّه ورد في الآية نفس السورة:

«وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَاخْرِجُوهُمْ مِّنْ حَيثُ اخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ». (البقرة/ 191)

فهذه الآية وبملاحظة الآية السّابقة الّتي تتحدث عن المشركين المهاجمين، تدعو بصراحة إلى قتال ومحاربة أولئك الذين أغاروا على المسلمين وأخرجوهم من ديارهم ومنازلهم والذين لا يمتنعون من ارتكاب أي جريمة في حقّ المسلمين خاصّة من أجل تغيير عقيدتهم، فكانوا يمارسون الضّغوط والتّعذيب الوحشي ضدّهم، فالقرآن لا يجيز قتال هؤلاء فحسب، بل إنّه يوجب ذلك عليهم.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 286

والفتنة وإن فُسَّرت في بعض الأحاديث وكلمات جمعٍ من المفسرين بالشّرك وعبادة الأوثان، ولكن قرائن كثيرة في هذه الآية والآيات السّابقة واللاحقة تدلّ بوضوح على أنّه لم يكن المنّظور منها الشّرك أبداً، بل أعمالٌ كأعمال مشركي مكّة الّذين كانوا دائماً يمارسون الضّغوط والتّعذيب ضدّ المسلمين لتغيير عقيدتهم، ولذا ورد في تفسير «المنار» في معنى الآية قوله: «حتّى لا تكونَ لَهُم قوَّة يفتنونَكُم بها ويؤذونكُم لأجلِ الدّين ويمنعونكم من إظهارهِ أو الدّعوة إليه» «1».

ولا شكَّ في أنّ مثل هذه الفتنة وسلب الحريات والتّعذيب والضّغوط لتغيير العقيدة ودين اللَّه أشدُّ من القتل.

وعليه فجملة «ويكون الدّينُ كُلُّهُ للَّه

إشارة إلى أنّ رفع الفتنة إنّما يكون في أن يعبد شخص خالقه بحرية، وأن لا يخشى أحداً، لا أنْ يكون المشّركون أحراراً في عبادة الأوثان فيبدلوا الكعبة إلى محل عبادة الأصنام، ويُسلَبُ المسلمون حقّ قول «اللَّه أكبر» و «لا إله إلّا اللَّه» علناً.

وعلى أيّة حال، فالآيات «190» و «191» و «193» من هذه السّورة والمرتبطة بعضها مع البعض الآخر، تدلّ جميعاً على أنّ إخماد نار الفتنة باعتباره هدفاً للجهاد الإسلامي له جنبة دفاعيّة في الواقع، ويحفظ المسلمين في مقابل الهجمة الثّقافيّة والاجتماعيّة والعسكريّة لأعداء الإسلام.

3- الجهاد لحمايّة المظلومين

يدعو القرآن الكريم المسلمين إلى الجهاد من أجل حماية المظلومين وقتال الظالمين وتقول: «وَمالَكُمْ لَاتُقاتِلُونَ فِي سَبيلِ اللَّهِ والْمُسْتَضْعَفينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا اخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَليّاً وَاجْعَلْ لَّنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصيراً». (النساء/ 75)

______________________________

(1) تفسير المنار، ج 2، ص 211.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 287

ففي الآية أوّلًا دعوة للجهاد في سبيل اللَّه، ثُمّ تعقب مباشرة بالكلام عن المستضعفين والمظلومين الذين مارس الأعداء القساة معهم أشدَّ الضّغوط حتى أجلوهم عن وطنهم وديارهم ومنازلهم وأهليهم، ويبدو أنّ هذين المعْنيين يعودان في الواقع إلى معنى واحد، إذ إنّ نصرة مثل هؤلاء المظلومين مصداق واضح من مصاديق الجهاد في سبيل اللَّه.

وينبغي أن لا نغفل عن الفرق الواضح بين «المستضعف» والضّعيف، فالضّعيف يطلق على الشّخص العاجز، أمّا المستضعف فهو الشّخص الذي أُضطهد على يد الظّلمة الجائرين، سواءً كان اضطهاداً فكرّياً أو اجتماعيّاً أو اقتصادياً أو سياسيّاً (إلتفتوا جيداً).

ومن الواضح أنّ هذا الجهاد جهادٌ دفاعي أيضاً، وهو الدّفاع عن المظلومين ضد الظّالمين.

والأهداف الثّلاثة المذكورة، هي أهم أهداف الجهاد الإسلامي، وبالرغم من تقسيمه إلى قسمين (الجهاد الابتدائي والجهاد

الدّفاعي) إلّاأنّ حقيقتهما دفاعيّة- ولهذا لا نجد في تاريخ الإسلام مورداً واحداً يدلّ على استعداد الكافرين للعيش بصلح وسلام مع المسلمين ومواجهة ذلك بالرّد والرّفض من قبل الإسلام.

واليوم أيضاً، ليس للحكومة الإسلاميّة هدف عدواني ضد أحدٍ، ومالم تفرض عليها الحرب فإنّها لا تقاتل أحداً أبداً، ولكنّها تعتقد أنّ الدّفاع عن المظلومين من أهم وظائفها ومسؤولياتها، وأنّ حبّ الفتنة وإيجاد الرّعب والوحشة والتّضييق والضغوط وسلب الحريات من قبل أعداء الإسلام نوعٌ من أنواع إعلان الحرب، ولذا تعتبر نفسها مسؤولة عن الدّفاع ضد المعتدين.

ونكرر ثانية، إنّ مفهوم الدّفاع ليس أنْ يجلس الإنسان مكتوف الأيدي حتّى يُغزى في عقر داره، بل عليه أنْ يتحرك إيجابياً ضدّ تحركات الأعداء ويحفظ قدرته العسكريّة القتاليّة وخاصة في الظرّوف الحسّاسة، وأنْ يبادر بضرب الأعداء قبل أن يفاجئه العدو المتآمر.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 289

الحكومة الإسلاميّة والسّلام

اشارة

لا شك في أنّ الحرب وإراقة الدماء والتّخريب مضافاً إلى منافاتها للفطرة السليمة، فإنّها لا تنسجم أيضاً مع قوانين عالم الوجود.

فالحرب، هي نوع من المرض والانحراف واللجوء إلى العنف للوصول إلى الأهداف الظالمة، وحتى الحروب المقدسة التي تتميز بصفة الدفاع عن الحق والعدالة، إنّما تنشأ نتيجة انحراف مجموعة من النّاس عن الصّراط المستقيم، وتارة تفرض على بعض الأفراد أو الأمم.

فحصيلة الحرب دائماً هي الدّمار وإزهاق الأرواح وإتلاف الأموال وتخريب المدن وتعطيل الإعمار، وتأصيل العداوات والبغضاء.

ولذا ينبغي اجتناب الحروب كلما استطعنا إلى ذلك سبيلًا، واستغلال القوى البشريّة والمنح الإلهيّة في طريق بناء المجتمعات.

نحن نعرف أنّ جهاداً وقتالًا دائماً يدور في داخل وجود كلّ إنسان، وهو الجهاد ضد الميكروبات الخارجية، فكريات الدّم البيضاء الّتي تعتبر في الواقع جنوداً مدافعة عن الجسم في حالة قتال دائم ومرير مع أنواع الميكروبات التي ترد

إلى الجسم عن طريق «الماء» والغذاء و «الهواء» و «الجروح».

وهذه الحرب في الواقع، حرب دفاعيّة أيضاً، فلو توقفت الميكروبات عن مهاجمة جسم الإنسان لتوقف دفاع كريات الدم، وعندها فلا حرب.

يحاول بعض المفكرين الذين جنّدوا طاقاتهم لخدمة المستعمرين أنْ يصوروا الحرب

نفحات القرآن، ج 10، ص: 290

على أنّها أمرٌ ينسجم مع الطبع البشري، فيضفون الشّرعية على استخدام المستعمرين القوّة والعنف لتحقيق أهدافهم الخبيثة التّوسعية، فهؤلاء يتوسلون بأصل الصّراع من أجل البقاء وهو أحد أصول (دارون) الأربعة ويقولون: «ينبغي أنْ تكون الحرب والصّراع بين البشر قائمة على قدمٍ وساق وإلّا عمَّ الخنوع والضّعف الأرض، وتأخر نسل البشر إلى الوراء! وأمّا الصّراع والحرب فهو سبب لبقاء الأقوياء واضمحلال الضعفاء وزوالهم وبهذا تتحقق مسألة انتخاب الأصلح!!».

وقد يُستدل أحياناً ببعض آيات القرآن- التي يفسرونها تفسيراً محرّفاً بالإعتماد على الرأي- لإثبات هذا الموضوع.

ولكن هذا الاستدلال ضعيف جدّاً، إذ على فرض قبول هذا الأصل- الصّراع من أجل البقاء- في خصوص الحيوانات المفترسة المتوحشة- وهو رأي مردود من قبل العلماء الذين نقدوا الأصول الدارونية- فلا يمكن أن نقبل ذلك في عالم الإنسانيّة، إذ إنّ البشر يمكنهم أنْ يتكاملوا عن طريق التعاون البقائي والإستباق السّالم للرقي، كما يفعلون ذلك في ميدان الصّناعة والسّياسة بين الأحزاب والجمعيات المتنافسة في دنيا اليوم، وعلى هذا الأساس فإنّ حياة البشريّة اليوم مبتنية على أصل التّعاون من أجل البقاء لا الصّراع من أجل البقاء.

وعلى كل حال، لا نجد أي دليل يمكنه توجيه الحرب وإضفاء الشرعيه عليها وخاصة في مثل حروب هذا العصر التي لا يمكن جبران الخسائر النّاجمة عنها في قرون، سواءً الخسائر البشريّة أو الصّناعية والزّراعيّة وغيرها.

والفكر السّقيم المريض فقط هو الذي يمكنه تبرير مثل هذه الحروب.

وبعد هذه الإشارة

نعود للقرآن المجيد، ونحقق في روح السّلم في الحكومة الإسلاميّة:

1- «يَا ايُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِى السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ». (البقرة/ 208)

2- «وَانْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ». (الأنفال/ 61)

نفحات القرآن، ج 10، ص: 291

3- «فَانِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَ الْقَوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا».

(النساء/ 90)

4- «وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَاصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الاخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِى تَبْغى حَتَّى تَفِى ءَ إلَى امْرِ اللَّهِ فَانْ فَاءَتْ فَاصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَاقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ». (الحجرات/ 9)

5- «وَالصُّلْحُ خَيْرٌ». (النّساء/ 128)

6- «وَاذَا تَوَلَّى سَعَى فِى الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَايُحِبُّ الْفَسَادَ». (البقرة/ 205)

7- «وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ الْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤمِناً». (النساء/ 94)

جمع الآيات و تفسيرها

تدعو الآية الاولى المؤمنين في كل العالم إلى الصّلح والسّلام والاستقرار، وتعتبر الحرب من مؤامرات ومخططات الشّيطان، يقول تعالى:

«يَا ايُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِى السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ».

فمن جهة تخاطب الآية المؤمنين، وهذا يدلّ على أنّ السّلام والصّلح لا يتحقق إلّافي ظل الإيمان.

ومن جهة أخرى، فإنّ الإعتماد على مصطلح «كافَّة» يدلّ على عدم وجود أي استثناء في قانون الصّلح، وأنّ الحرب أمرٌ مخالف لتعاليم الإسلام والقرآن، ولا يمكن تصورها إلّا بشكل مفروض.

ومن جهة ثالثة، فإنّ التعبير «بخطوات الشيطان» إشارة لطيفة إلى أنّ أسباب الحرب تنشأ بشكل تدريجي وأنّ شياطين الجنِّ والإنس يسوقون النّاس خطوة خطوة نحو

نفحات القرآن، ج 10، ص: 292

الإقتتال، وكما ورد في المثل المعروف «بَدْو القِتال اللّطام» أي الصفعه، ولذا ينبغي إخماد نار الحرب في مراحلها الأولى.

ومن جهة رابعة، يستفاد من الآية أنّ كلّ عمل يؤدّي

إلى عرقلة عملية السلام والصلح، إنّما هو عمل شيطاني، ولم لا يكون كذلك والحال أنّ الحرب نارٌ محرقة تأكلُ كلّ القوى والطّاقات الماديّة والمعنوية البشريّة وغير البشريّة وتحيلها إلى رمادٍ، وخاصّة في مثل عصرنا الحاضر والذي تكون الحروب فيه أفضع وأكثر تخريباً وخسارة من الحروب السابقة، وطبقاً للحسابات والاحصائيات فإنّ جبران الخسائر النّاجمة من بعض الحروب تستغرق أحياناً قرناً من الزمن، وهذا بالنسبة إلى الخسائر المادية فقط، أمّا الخسائر البشريّة فهي غير قابلة للتعويض والجبران أبداً.

وقد يكون ذلك هو السّبب في أنّ الملائكة اعتبروا أنّ من أهم العيوب في الإنسان هو إراقته للدّماء والحروب المدمرّة، وذلك عندما قال تعالى: «إِنّىِ جَاعِلٌ فِى الأَرْضِ خَلِيفَةً» فكان جواب الملائكة: «قَالُوا اتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ». (البقرة/ 30)

فيتضح أنّه لا عيب أقبح من هذا العيب.

وما ينبغي التّأمل فيه هنا هو أنّ أرباب اللّغة صرّحوا بأنّ «السِلم» و «السَلَم» كلاهما بمعنى «الصّلح» وقد اخذا من مادة «السّلامة» وإن أحد أسماء اللَّه تعالى هو «السلام»، وذلك لإنّ ذاته المنزهة هي مصدر الصّلح والإستقرار والسّلامة، وطبقاً لما ورد في «التحقيق» فإنَّ مادة «سِلْم» في الأصل ما يقابل «الخصومة» ولازمها الخلاص من الآفات والبلايا والوصول إلى السّلامة والعافية، وإنّما سُمي الإسلام (إسلاماً) لأنّه منشأ الصّلح والسّلامة في الدّنيا والآخرة، (والسُلَّمْ) هو الآلة التي يصل بها الإنسان سالماً إلى النقاط العالية ثم يعود كذلك.

والعجيب أن بعض المفسرين الكبار فسّروا «السِّلْمَ» في هذه الآية بتفسيرات لا تتناسب مع ظاهر الآية.

وفي الآية الثّانية، إشارة إلى جماعة من الّذين يحاربون المسلمين، يقول عزوجلّ: «وَانْ

نفحات القرآن، ج 10، ص: 293

جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ».

والمهم هنا هو أنّ هذه الآية

في سورة الأنفال وردت بعد آية شريفة تأمر المسلمين بالإستعداد الدّائم وتهيئة كافة أنواع القوى لإخافة الأعداء.

أي أنّ الهدف الأصلي ليس هو الحرب، بل من أجل تقوية دعائم الصّلح أيضاً، إذ لو لم يكن المسلمون مستعدين تماماً، لسيطرت الروح الاستعمارية والتسلط على تفكير العدو.

والنّكتة المهمّة الاخرى هنا هي استخدام لفظ «جَنَحُوا» المأخوذة من مادة (جَناح) بمعنى الخضوع والرّغبة والتّحرك نحو الشي ء، ومفهومها التّرغيب في قبول حتّى المحادثات الأوليّة للصّلح.

والتّعبير ب «توكّل على اللَّه» قد يكون إشارة إلى أنّ بعض المسلمين أخذ يروّج أنّ رغبة العدو في الصّلح إنّما هي خدعة منهم، ولذا خالفوا ذلك، أو على الأقل دبّت فيهم بعض الوساوس.

فالقرآن يخاطب الرّسول الكريم ويأمره بعدم الأخذ بآراء هؤلاء ووساوسهم إذا ما رغب العدو في الصّلح، وإنّما عليه أن يتوكل على اللَّه ويجنح للسّلم مع رعاية موازين الإحتياط اللازم.

فهذه الآية من الآيات التي توصي الحكومات الإسلاميّة باتخاذ الرّغبة في الصّلح أصلًا أساسياً في سياساتها، وما قاله البعض من أنّ هذه الآية نسخت بآيات الجهاد «1» لا أساس له، إذ لا دليل عليه، حيث لا تنافي بين آيات الجهاد وهذه الآية، فلا ضرورة للقول بالنسخ.

وفي الآية الثّالثة إشارة إلى مجموعة من الكفّار من أنصار الحرب، حيث تقول: «فَانِ اعْتَزلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَ الْقَوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبيِلًا».

وتعبير «فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا» تأكيد كاملٌ على قبول دعوة الصّلح التي تقدم

______________________________

(1) راجع تفسير الكبير، ج 15، ص 187.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 294

بها العدو، ذلك الصّلح العادل الحقيقي لا الصّلح الكاذب الذليل.

وذكر في سبب نزول هذه الآية، إنّها تحكي عن طائفة «الاشجع» حيث جاء جمع منهم بزعامة مسعود بن رجيله إلى مقربة

من المدينة، فأرسل الرسول صلى الله عليه و آله ممثلين عنه إليهم للتّعرف على نواياهم من هذا السّفر، فقالوا:

جئنا للتّعاقد مع محمّد على ترك المخاصمة (وأن نكون على حياد في نزاعكم مع الآخرين). فأمر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أن يأخذوا إليهم مقداراً من الّتمر بعنوان الهديّة، ووقع على عقد ترك التّعرض معهم.

ومن البديهي أنّ مفهوم الآية قانون كلّي عام وخالد، وإن كان سبب نزولها مورداً خاصّاً، لإنّنا نعلم بأنّ سبب النّزول لا يحدد مفهوم الآيات العام.

وفي الآية الرّابعة، حديث عن الحروب المحتملة في داخل الدّولة الإسلاميّة بين الاجنحة المتخاصمة، أي طوائف من المؤمنين، ففي الآية أمرٌ أكيد على إقرار الصّلح بينها، فإن أُغلقت كلّ الطّرق إلّاقتال الفئة الباغيّة لتحقيق الصّلح والسّلام، كان ذلك واجباً على المؤمنين، يقول تعالى:

«وَإِنْ طَائِفَتانِ مِنَ الْمُؤمِنيِنَ اقْتَتَلُوا فَاصْلِحُوا بَيْنَهُمَا» ثُمّ يضيف «فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الاخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِى تَبْغى حَتّى تَفِى ءَ إِلَى امْرِ اللَّهِ»، وفي الختام يعود إلى مسألة الصّلح ويقول: «فَانْ فَاءَتْ فَاصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَاقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ».

فالمستفاد من صدر الآية هو أنّ ترك الخصام وإقرار الصّلح داخل الدّول الإسلاميّة أصل أساسي أيضاً، ولذا فإنّ الشّارع جوّز القتال باعتباره آخر الحلول المتصورة لتحقيق هذا الهدف!

ويستفاد من ذيل الآية أنّ الصّلح لابدّ أن يكون عادلًا ومن موقع القوّة، لا أنْ يكون جائراً ومن موقع الضّعف والإستسلام، إذ إنّ مثل هذا الصّلح الأخير يكون دائماً متزلزلًا وغير ثابت ويُربّي في داخله نطفة الحرب.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 295

والنّكتة المهمّة هنا هو أنّه ورد التعبير في الآية ب «العدل» أحياناً، واخرى بتعبير «القسط»، وعلى رأي الرّاغب الأصفهاني، فالعدل لفظ يحمل مفهوم المساواة، و «القسط» يعني «النّصيب العادل» (غاية

الأمر، إذا جاء هذا المصطلح بصيغة الثّلاثي المجرّد فإنّه يعني أخذ نصيب الآخرين، وعليه فإنّه يعطي مفهوم الظّلم، وتارة يستعمل على وزن أفعال- أقساط- ومفهومه إعطاء نصيب وسهم الآخرين، وحينئذٍ يحمل معنى العدالة).

وطبقاً لهذا البيان، وتعبيرات اخرى للراغب، فإنّ كلمة «القسط» و «العدل» واحدٌ من حيث المعنى والمفهوم، ولكن يمكن أنْ يكون بينهما فارق وهو أنّ مصطلح «القسط» و «الإقساط» يستعمل في الموارد التي يشترك فيها جماعة إذا اعطي لكل واحد منهم نصيبه الكامل فذلك القسط، وإلّا فهو «الجور».

وأمّا «العدالة» التي يُقابلها «الظّلم» فإنّ لها مفهوماً أوسع من ذلك فهي تستعمل في موارد الشّركة وفي غير موارد الشّركة، وعليه، فإن كان مالٌ حقاً مُسَلَّماً لشخص ما، وأُعطي ذلك الحقّ فتلك هي العدالة وإن أُخذ ذلك الحق منه فهو «الظلم» «1».

والآية الخامسة ناظرة إلى الخلافات الشخصية الخاصة، فتأمر بإقرار الصلح بين الرجل والمرأة إذا برزت الخلافات بينهما، يقول تعالى: «وإِنِ امرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَو إِعَراضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيِهمَا أَن يُصلِحَا بَينَهُمَا صُلحًا وَالصُّلحُ خَيرٌ».

وعلى الرّغم من أنّ مورد الآية هو الصّلح في الخلافات الزوجية، ولكن مفهوم العبارة واسع جدّاً يشمل كل صلحٍ وصفاء بين شخصين أو مجموعتين أو شعبين ودولتين. (تأملوا جيداً).

والملفت للنّظر هو أن الصّلح الوارد في هذه الآيات المتعاقبة ورد في ثلاث صور هي:

______________________________

(1) وفي الواقع أن النّسبة بينهما هي نسبة العموم والخصوص المطلق، فللقسط مفهوم خاص يستعمل في موارد الشّركة فقط، والعدالة مفهوم أوسع يشمل غير موارد الشّركة.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 296

الصّلح بين المسلمين وأعدائهم الّذين يرغبون في الصّلح.

والصّلح بين المجاميع المتخاصمة من المسلمين أنفسهم.

والصّلح بين فردين متنازعين.

إنّ الصّلح العادل الشّريف مطلوب بكل أشكاله، حيث الإسلام يدافع عن مثل هذا الصّلح،

ومسئوولية الحكومة الإسلاميّة هي تقويّة أُسس الصّلح في هذه المراحل الثّلاثة أيضاً.

والآية السّادسة التي لا تشير إلى مسألة الصّلح بشكل مباشر ولكنّها تحمل رسالة بيّنةً بشكل غير مباشر في هذا المجال، إذ إنّها تقول في ذم بعض المنافقين (إنّ له ظاهراً خادعاً) وعندما يخرج من عندك: «وَاذَا تَوَلَّى سَعَىَ فِى الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَايُحِبُّ الْفَسَادَ».

وفي الآية اللاحقة في نفس هذه السّورة يُهددَّ أمثال هؤلاء الأشخاص بالعذاب الإلهيّ الأليم، ومن الطّبيعي، فإنّ الحروب لا تثمر إلّاالفساد في الأرض وهلاك الحرث والنّسل والأموال سواءً المزارع وحقول تربية الحيوانات وغير ذلك، ولذا فإنّها منفورة في نظر الإسلام، ومالم يكن هناك موجب ومسوغ مشروع للحرب، ينبغي الإنتهاء عنها، وبعبارة اخرى (الصّلحُ أصلٌ والحرب استثناء).

النَّتيجة:

من مجموع ما جاء في الآيات الآنفة الذكر، يُستفاد أنّ أساس الحكومة الإسلاميّة قائم على الصّلح والصّفاء والصّداقة، وقد اعتبر القرآن الكريم ذلك أصلًا ثابتاً في كلّ الأحوال سواء في مورد الأعداء، أو في مورد الاصدقاء والأحبّة، وحتى في داخل الأُسرة الواحدة

نفحات القرآن، ج 10، ص: 297

وآحاد النّاس، وإذا لم يكن هناك مبرر وموجب لفرض الحرب، فلا يرجح القرآن الحرب أبداً.

ولكن هذا لا يعني أنْ يفقد المسلمون استعدادهم العسكري فيرغب الأعداء في الهجوم عليهم، كما أنّه لا يعني أنْ يقبل المسلمون الصّلح غير العادل ومن موقع الضّعف، إذ إنّ هذين الأمرين من عوامل الحرب، لا الصلح العادل الثّابت.

وكذلك الرّوايات الإسلاميّة فإنّها تؤكد على ضرورة السّعي والجدّ في إقرار السّلام والصّلح في المجتمعات البشريّة، حتّى ورد في الحديث:

«أجْرُ المُصْلِح بين النّاس كالمجاهدِ في سبيلِ اللَّه»، أي لا تتصوروا أنّ كلّ ذلك الثَّواب العظيم المذكور «للمُجاهِدينَ فِي سَبيل اللَّهِ» لا يشمل «المُصلحين»، بل إنّ

السّاعين إلى إقرار السّلام حالهم حال المجاهدين المترصدين للعدو في المتاريس، وورد في حديث آخر عن أمير المؤمنين عليه السلام قال:

«من كمال السّعادة السّعي في صلاح الجمهور» «1».

ويمكن أن يكون لهذا الحديث مفهوم أوسع يشمل كلّ صلاح اجتماعي، ولكنه بلا شك يدل على الصّلح في قبال الحرب.

وجاء في عهده عليه السلام لمالك الأشتر الذي يعتبر أفضل مصدر للأبحاث المرتبطة بالحكومة الإسلاميّة، حول إقرار الصّلح:

«ولا تَدْفَعَنَّ صُلْحاً دعاك إليه عَدُوُّكَ وللَّه فيه رضى فإنَّ في الصّلح دَعَةً لجنودك وراحة من همومك وأمناً لبلادك».

فالإمام عليه السلام يبيّن هنا فلسفة الصّلح في ثلاث ثمرات: الأمن للنّاس، وفرصة لتجديد قوى المقاتلين، وراحة لفكر رئيس الدّولة.

والنّكتة المهمّة هنا هي أنّ الإمام عليه السلام لا يعتبر كل صلح مفيد، بل ذلك الصّلح الّذي فيه

______________________________

(1) غرر الحكم، نقلًا عن ميزان الحكمة، ج 5، ص 363.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 298

رضى للَّه تعالى، أي، ذلك الصّلح الذي يكون سبباً في عزَّة المسلمين ونشر العدل، ولكنه يحذّر مالكاً من العدو بعد عقد الصّلح ويقول:

«ولكنّ الحَذَرَ كُلَّ الحَذَرِ من عَدُوِّك بعد صُلْحِه فإنّ العَدو رُبّما قاربَ ليتغَفَّلَ فَخُذْ بالحَزْم واتَّهِمْ في ذلك حُسْنَ الظَّنِّ» «1».

______________________________

(1) نهج البلاغة، الرسالة 53.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 299

أسرى الحرب

تمهيد:

يقع عادةً في أكثر الحروب عددٌ من الأسرى، وذلك لحصول ظروف قاهرة في أثناء الحرب لم يَعْد بإمكان المقاتلين الاستمرار بالقتال أو التّراجع إلى الخلف، كأن تنفذ معداتهم أو ينفذ طعامهم أو يحاصروا من قبل القوات المعادية، حتّى يصبح القتال بالنّسبة لهم نوعاً من الإنتحار، ولذا يضطرون إلى التّسليم.

والعقل والمنطق يحكمان بعدم جواز قتل هؤلاء، بل ينقلوا إلى الخطوط الخلفية للجبهات، ويحبسون في أماكن محروسة، إلى حين الاستفادة منهم في تبادل الأسرى، أو

الاستفادة منهم في ممارسة الضّغط على العدو والحرب النّفسية لإجباره على الكفِّ عن الاستمرار بالقتال أو كسب امتيازات معينة حين الصّلح.

والأهم من هذا كله، فإن إراقة الدّماء تحتاج إلى مسوغٍ ومبرر، وفي حالة استسلام العدو لا يبقى وجه لذلك.

ولذا فإنّ مسألة وقوع الأسرى في الحروب أمرٌ عاديّ وكذلك الحال في الإسلام، ونلاحظ أنّ الإسلام قد شرّع أحكاماً عديدة ومهمّة بالنسبة للاسرى ينبغي على الحكومة الإسلاميّة العمل بها وتطبيقها مع الاسرى الذين يقعون في حوزتها.

وبعد هذه الإشارة نعود إلى القرآن لنرى أحكام أسرى الحرب من وجهة نظره:

1- «فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا اثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإمَّا فِدَاءً». (محمّد/ 4)

نفحات القرآن، ج 10، ص: 300

2- «مَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ اسْرَى حَتّى يُثْخِنَ فِى الارْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ». (الأنفال/ 67)

3- «يَا ايُّهَا النَّبِىُّ قُلْ لِّمَنْ فِى ايْدِيكُمْ مّنَ الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِى قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمّا اخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُم وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ». (الأنفال/ 70)

جمع الآيات و تفسيرها

تخاطب الآية الأولى المسلمين وتذكِّرهم باستعمال الشدّة والحزم في الحرب، فتقول أوّلًا: «فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ».

وواضح أنّ كلمة «لقيتُم» هنا مأخوذة من «اللقاء» بمعنى الحرب لا كلّ لقاء، وخير دليل على ذلك هو ذيل الآية حيث تتحدث عن أسرى الحرب.

وبعد التأمل فيما مرَّ من أنّ الحرب في الإسلام كانت دائماً دفاعية ومفروضة على المسلمين، تتضح منطقية الأمر أعلاه وذلك لأنّ المسلمين إذا لم يظهروا الشدّة والحزم قبال هجوم الأعداء، فإنّ الفشل سيكون حليفهم لا محالة، فكل إنسانٍ يواجه عدواً سفاكاً للدماء، إذا لَم يوجه الضربات المهلكة له، فإنّ ذلك يعني الهزيمة أمامه.

ثُمّ تضيف الآية: «حَتَّى

إِذَا اثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ».

وأكثر المفسرين قالوا: إنّ هذه الجملة تعني التّشديد على العدو والإكثار من قتلهم، ولكن وبعد الإلتفات إلى أنّ هذه الجملة مأخوذة من مادة «ثخن» بمعنى «الغلظة» والصّلابة فإنّه يمكن حينئذٍ تفسيرها بالنّصر والغلبة التّامّة على العدو والسّيطرة الكاملة عليه، أي ينبغي أن يستمروا بالقتال بقوّة واقتدار حتّى يغلبوا العدو (وعليه فليس الهدف هو إراقة الدّماء وإنّما الهدف هو الغلبة على العدو).

وعلى أيّة حال، فإنّ الآية الاولى ناظرة إلى أمرٍ عسكري مهم وهو وجوب متابعة الحرب وعدم إيقافها مالم يتمّ التّغلب على العدو وكسره وأخذ الأسرى، لأنّ إيقاف الحرب يكون

نفحات القرآن، ج 10، ص: 301

سبباً في زعزعة صمود المسلمين في الحرب، وأنّ الإنشغال بنقل الأسرى إلى الخطوط الخلفية يشغل المقاتلين عن أهدافهم الأساسية.

وتعبير «شُدّوا الوَثاق» إشارة إلى ضرورة إحكام قيد الأسرى والتّدقيق في حبسهم، كي لا يهربوا من الأسر، فينقلبوا إلى مقاتلين ضد المسلمين.

ثُمّ تبين الآية حكم الأسرى وتقول: «فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً».

فهنا تخيِّر المسلمين بين أمرين، إطلاق الأسرى بلا مقابل، أو مقابل الفدية (ويراد بالفدية «الغرامة» التي يتحملها العدو في أزاء إطلاق سراح أسراه، وهي في الواقع جزءٌ من الخسائر التي تسبب بها في عدوانه).

والنّكتة المهمّة هنا هي أنّ فقهاء الإسلام وتبعاً للرّوايات، ذكروا طريقاً ثالثاً في المسألة وهي استرقاق الأسرى، ولكن لم ترد إشارة إلى ذلك في الآية الشّريفة على الرّغم من مسألة استرقاق الأسرى كانت أمراً عادياً في ذلك الزّمان، وقد يكون ذلك باعتبار أن «الإسترقاق»- وكما ذكرنا ذلك مفصلًا في محله- كان حكماً مقطعياً متناسباً مع شرائط خاصة، وكان نظر الإسلام هو أن يتمّ تحرير هؤلاء العبيد تدريجياً حتّى لا يبقى شي ء بإسم الإسترقاق، ولهذا فإنّ الآية إشارة

فقط إلى الطريقين الأولين أي الإطلاق بلا مقابل أو في مقابل الفدية (وتبادل الأسرى بين الطرفين نوعٌ من أخذ الغرامة في مقابل إطلاق سراح الأسرى).

كما أنّهم ذكروا طريقاً رابعاً في الكتب الفقهية للأسرى (وهو قتل الأسرى) ولم تذكره الآية أيضاً، وذلك لأنّ قتل الأسير ليس حكماً أساسياً في الأسرى، بل هو استثناء يتمّ إجراؤه في خصوص الأسرى من ذوي الخطر ومجرمي الحرب لا في كل أسير «1».

وممّا ذكرنا يتضح أنّ حكم الآية ليس منسوخاً، ولا دليل على نسخة، وعدم ذكر بعض أحكام الأسرى فيها، له دليل وجيه.

______________________________

(1) وللفخر الرازي في تفسير هذه الآية وعدم ذكر القتل والإسترقاق، رأي يشابه ما ذكرناه أعلاه (تفسير الكبير، ج 28، ص 44).

نفحات القرآن، ج 10، ص: 302

نفحات القرآن ج 10 338

وفي الآية الثّانية إشارة إلى كيفية أسر الأسرى، تقول: «مَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ اسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِى الارْضِ».

وتعبير «يُثْخِنَ فِى الارْضِ» وكما أشرنا سابقاً لا يعني المبالغة في إراقة الدّماء والإكثار من القتل، بل ومن خلال جملة «فِي الارْضِ» يتضح أنّ المراد هو تحكيم المواقع على أرض المعركة والتّفوق على العدو، والسّيطرة على المنطقة، وحتّى لو فرضنا أنّ معناها هو إراقة الدّماء فإنّما هو من أجل كسر شوكة العدو والغلبة عليه.

وفي الواقع فإنّ هذا التّعبير شبيه جدّاً بما جاء في ذيل الآية حيث يقول تعالى «حَتَّى تَضَعَ الْحَربُ أَوْزَارَهَا» وهذا خير شاهد على تفسيرنا.

والنّكتة المهمّة هنا هي أنَّ هذا تحذير للمسلمين من أخذ الأسرى قبل تحقيق الأهداف المرسومة، بسبب أنّ بعض المسلمين الذين أسلموا حديثاً، كان هدفهم الأساسي هو أخذ الأسرى، ليحصلوا على مبلغ أكبر من المال عند الفداء، وكان ذلك يؤدّي إلى تماهل هؤلاء في

أداء مسؤولياتهم الخطيرة في الحرب وعدم اكتراثهم بالأخطار المحتملة ضد المسلمين، وانشغالهم بالأمور الثّانوية، فيتعرض جندُ الإسلام إلى ضربة ماحقة، كما حدث ذلك في معركة أُحد وانشغال بعض المسلمين في جمع الغنائم.

ولذا يقول تعالى في ذيل الآية: «تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ».

ثُمّ إنّ المستفاد من الآية هو أن أخذ الأسرى لم يكن في عصر نبيّ الإسلام صلى الله عليه و آله فقط، بل كان ذلك أمراً جارياً في عصور الأنبياء السّابقين أيضاً، غاية الأمر أنّ هذه الآية تؤكد على أنّ أخذ الأسرى ينبغي أنّ لا يكون لأجل الربح المادي، فكم من مورد تقتضي فيه مصلحة المسلمين أنْ يطلق المسلمون سراح أسرى العدو بدون أخذ الفدية منهم.

والملفت للنظر هنا هو أنّ القرآن الكريم يُحذِّر في الآية اللاحقة أولئك الذين يضحّون بالمصلحة العامة وأهداف الحرب المهمّة من أجل مصالحهم الشّخصية الماديّة، فيعّرضون مصلحة المجتمع للخطر، تقول الآية: «لَّولَا كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ» (وهو أنّه لا يعذب أمة بلا

نفحات القرآن، ج 10، ص: 303

حجة) «لَمَسَّكُمْ فِيَما أخَذْتُم» (الأسرى الذين أخذتموهم لأغراض دنيوية) «عَذابٌ عَظِيمٌ». (الانفال/ 68)

ومن مجموع هذه العبارات، يستفاد بوضوح أنّ أخذ الأسرى لابدّ أنْ يتمّ أولًا بعد السّيطرة الكاملة على العدو (ولو في موقع معين من ميدان القتال)، وثانياً إنّ أخذ الأسرى يجب أنْ لا يكون لأغراض مادية أي لأخذ الفدية مقابل إطلاق سراحهم فيما بعد، إذ في كثير من الأحيان تستوجب المصالح الإنسانيّة ومصلحة المسلمين أن يتمّ إطلاق سراح هؤلاء الأسرى بلا مقابل، وفي مثل هذه الظروف يصعب على المسلمين الذين أسّروا هؤلاء الأسرى لأغراض مادية إطلاق سراحهم والإمتثال للحكم الإلهيّ.

وفي الآية الثّالثة، نجد حديث عن مسألة الرفق بالاسرى بما يَدّلُّ على

احترام الإسلام لَهُم ولأحاسيسهم، تقول الآية: «يَا ايُّهَا النَّبىُّ قُلْ لِّمَنْ فِى ايْدِيكُمْ مِّنَ الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِى قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا اخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُم وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ».

وكلمة «خيراً» في الجملة الأولى إشارة إلى الإيمان والإسلام وإتّباع الحقّ، والمراد من «خيراً» في الجملة الثّانية هو الثّواب الإلهي الماديّ والمعنوي الذي يحصل عليه هؤلاء في ظلّ الإيمان باللَّه، وهذا أفضل بكثير من المبالغ التي دفعوها بعنوان الفدية أو الّتي خسروها في ساحة الحرب.

وجملة «إنْ يَعْلَمِ اللَّهُ» وكما ذكرنا ذلك مِراراً، بمعنى التّحقق- المعلوم- إذ إنّ علم اللَّه شمل كلّ شي ء من الأزل، ولا يحدث شي ءٌ في علمه أو يزيد أو ينقص، إلّاالمعلومات التي تتحقق على أثر مرور الزّمن مثل وجود نيّة أوْ اعتقاد في قلب الأسير.

ومضافاً إلى هذا الثّواب، فإن لطفاً إلهياً آخر يشملهم وهو غفران ذنوبهم، والذي يُشغل بالهم لا محالة بعد إيمانهم ويُعذب روحهم، فالمغفرة الإلهيّة تسكين لهم.

كان هذا تفسيراً مختصراً للآيات القرآنيّة الواردة في الأسرى، واستنتاجاتها.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 304

الأسرى في الرّوايات:

وردت روايات عديدة عن الأئمّة الأطهار عليه السلام في التّعامل العطوف مع أسرى الحرب، ورعاية الأخلاق الإنسانيّة معهم، وهذه الرّوايات تبيّن عظمة التّعاليم الإسلاميّة في هذا المجال.

1- ورد في حديث عن أمير المؤمنين علي عليه السلام بعدما ضربه إبن ملجم (لعنه اللَّه) ثمّ قبض عليه، قال الإمام عليه السلام لولده الحسن عليه السلام: «إحبسوا هذا الأسير، وأطعِمُوه واسْقوه وأحسنُوا أسارَهُ» «1».

2- وفي حديث آخر عنه عليه السلام قال: «إطعام الأسير والإحسانُ إليه حق واجبٌ وإن قَتْلَتُهُ من الغَدِ!» (أي وإن كان محكوماً بالإعدام غداً كإبن ملجم) «2».

وهذا الحكم شامل لجميع الأسرى ويعمّ المسلم والكافر، ولذا نجد في حديث آخر عن

الإمام الصّادق عليه السلام ما يدلّ صراحة على هذا الحكم، يقول عليه السلام: «إطعامُ الأسِير حقّ على من أسَرَهُ وإنْ كان يراد من الغدِ قتلُهُ فإنّهُ ينبغي أنْ يُطعم ويُسقى ويُرفَقَ به كافراً كان أو غَيْرَهُ» «3».

وهناك روايات اخرى في قصّة أسر ابن ملجم قاتل الإمام عليّ عليه السلام تحكي جميعاً عن غاية لطف الإمام عليّ عليه السلام بالإسرى (سواءً كانوا أسرى حرب أو غير حرب).

ومن جملة ذلك ما ورد عن الإمام عليّ عليه السلام عندما كان راقداً في فراش الشّهادة يوصي ولده الحسن عليه السلام بمداراة أسيره والتّرحُم عليه والإحسان إليه، ثُمّ يغمى على الإمام عليه السلام، وعندما يفيق يأتيه ولده الحسن بقدح من لبن فيشرب الإمام عليه السلام منه قليلًا ثُمّ ينحيه عن فيه ويأمرهم أن يَسقُوا ابن ملجم، ويضيف قائلًا: «وحقّي عليكَ يا بُنّي إلّاما طَيّبتُمْ مطعَمَهُ ومَشْرَبَهُ وارْفِقوا بِه إلى حينِ موتي وتُطعمهُ ممّا تأكُلُ وتسقيه ممّا تَشربُ» «4».

______________________________

(1) مستدرك الوسائل، ج 2، ص 257.

(2) وسائل الشّيعة، ج 11، ص 69.

(3) المصدر السابق، ص 68.

(4) مستدرك الوسائل، ج 3، ص 258، ح 4.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 305

وهنا نكتة مهمّة اخرى وهي أنّ إطلاق سراح الأسرى مقابل فدية لابدّ أن يتناسب مع مكنتهم، كما راعى ذلك النّبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله مع أسرى بدر، بل ويجوز إطلاق سراحهم في قبال عملٍ ثقافي يقدمونه كما ذكر المؤرخون، واعتبروا ذلك خطوة تاريخيّة مهمّة بعد معركة بدر الكبرى من قبل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وهي إطلاق سراح كل أسير من المشركين في قبال تعليم عشرة من المسلمين القراءة والكتابة «1» في حين دفع البعض الآخر من الأسرى أربعة آلاف درهم

فدية لحريته، أمّا الفُقراء والمعدمين فقد أطلق سراحهم بلا مقابل.

______________________________

(1) سيرة الحلبي، ج 2، ص 193.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 307

علاقة المسلمين بغير المسلمين، الأقليات الدّينيّة والحكومة الإسلاميّة

تمهيد:

من المسائل الّتي تثار ضدّ الحكومة الإسلاميّة ويُطبَّلُ ويزمَّرُ لها من قِبل الأعداء هي مسألة كيفيّة تعامل الحكومة الإسلاميّة مع الإقليات الدّينيّة غير المسلمة، ولكن ليس هذا بسبب وجود تعقيد في المسألة، بل من أجل أمرين هما:

الأول: عدم اطلاع الكثير من النّاس على قوانين وتعاليم الإسلام في هذه القضيّة، والوقوع في شباك التّعصبات الجافة.

الثاني: وسائل اعلام العدو المضللة وسعي الأعداء لابعاد أتباعهم عن الشّريعة الإسلاميّة، لأنهّم يعلمون جيداً أنّ جاذبية التّعاليم الإسلاميّة قويّة إلى درجة أنّها تؤثر على أتباع الأديان الاخرى بمجرّد تفهمها، ولذا يقول هؤلاء لأتباعهم: إنّ الإسلام يتعامل بخشونة مع أتباع الأديان الأُخرى، فابتعدوا عن المسلمين!!

في حين أنّ الإسلام يتعامل تعاملًا أخوياً مع أتباع المذاهب الاخرى ويدعوهم دائماً للعيش بسلام جنباً إلى جنب، وتفصيل الكلام في ذلك سيتضح في الأبحاث القادمة.

وبعد هذه الإشارة، نرجع إلى القرآن الكريم ونتعمق في دراسة الآيات القرآنيّة ثُمّ الرّوايات الواردة في هذا المجال:

1- «لَّايَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّنْ ديَارِكُمْ انْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا الَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ* إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَاخْرَجُوكُمْ مِّنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ». (الممتحنة/ 8- 9)

نفحات القرآن، ج 10، ص: 308

2- «قَاتِلُوا الَّذِينَ لَايُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَومِ الآخِرِ وَ لَايُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ اوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ».

(التوبة/ 29)

3- «وَلَا تُجَادِلُوا اهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِى هِىَ احْسَنُ إلَّاالَّذينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَ قُولُوا آمَنَّا بِالَّذِى انْزِلَ

إِلَيْنَا وَ انْزِلَ إِلَيْكُمْ وَ إِلهُنَا وَ إِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ».

(العنكبوت/ 46)

4- «قُلْ يَا اهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَ بَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَ لَانُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَ لَايَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَاباً مِّنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِانَّا مُسْلِمُونَ». (آل عمران/ 64)

5- «لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَ الَّذينَ اشْرَكُوا وَ لَتَجِدَنَّ اقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَ رُهْبَاناً وَ انَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ». (المائده/ 82)

جمع الآيات و تفسيرها

الآية الأولى الّتي وردت بعد آيات تحذر المسلمين من عقد الصّداقة مع أعداء اللَّه، وتذكرهم ببغض هؤلاء للنّبيّ صلى الله عليه و آله والمسلمين، وإيذائهم باليد واللسان للمسلمين الأبرياء، تقول: «لَايَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّنْ ديَارِكُمْ انْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا الَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ».

ثُمّ تضيف للتأكيد الأقوى في مورد الذين يحاربون المسلمين وتقول: «إِنَّما يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِى الدِّينِ واخْرَجُوكُمْ مِّنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ».

من ملاحظة سبب نزول هاتين الآيتين والآيات السّابقة لهما في سورة «الممتحنة»، وبملاحظة القرائن الموجودة في نفس الآيات، يتضح تماماً أنّ هذه الآيات ناظرة إلى

نفحات القرآن، ج 10، ص: 309

المشركين وعبدة الأوثان، فهي تقسِّمُهُمْ إلى مجموعتين: مجموعة قاتلت المؤمنين وآذتهم ولم تتردد عن كل مخالفة وممارسة عدائية ضدهم، ومجموعة ثانية كانت مستعدة للعيش معهم بسلام.

ففي هذه الآيات نجد منع إنشاء العلاقة والتّعامل مع المجموعة الأولى وقد أجازت ذلك منع المجموعة الثّانية، وعدّت الّذين يرتبطون بالمجموعة الأولى من الظّالمين، أمّا المتعاملين مع المجموعة الثّانية فاعتبرتهم الآية الشريفة من أنصار العدالة.

وإذا كان الحكم الإلهي في مورد

المشركين وعبدة الأوثان على هذا النّحو، فهو بالنسبة للكفار من أهل الكتاب من باب أولى.

واعتبر بعض المفسرين أنّ الأمر الوارد في هذه الآية قد نُسِخ، وأنّ ناسخة هو قوله تعالى: «فَإِذَا انسَلَخَ الأَشهُرُ الحُرُمُ فَاقتُلُوا المشُرِكِينَ حَيثُ وَجَدتُّمُوهُمْ». (التوبة/ 5)

ولكن وبقرينة أنّ هذه الآية بشهادة سائر آيات سورة التّوبة، نازلة في شأن المشركين الذين ينقضون العهد، والّذين أعلنوا العداء للمسلمين، يتضح لنا تماماً أنّ الآية لم تُنْسَخْ، بل إنّ آيات سورة التّوبة مرتبطة بالمجموعة الأولى.

وروى بعض المفسرين في تفسير هذه الآية أنّ زوجة أبي بكر المطلّقة قد جاءت لإبنتها «أسماء» ببعض الهدايا من مكة، ولما كانت لا تزال مشركة، امتنعتْ أسماء من قبول تلك الهدايا منها، حتى أنّها لم تسمح لأمِّها بالدّخول عليها، فنزلت الآية المذكورة، وأمرها الرّسول الأكرم صلى الله عليه و آله أنْ تستقبل امَّها وتقبل هديتها وأنْ تحترمها «1».

وعلى أيّة حال، يستفاد من هذه الآيات، أصلٌ عام كلّي في كيفية تعامل المسلمين مع غير المسلمين، بلا تحديد ذلك بزمانٍ أو مكانٍ خاص، وهذا الأصل هو أنّ المسلمين مكلّفين بسلوك طريق السّلم مع كلّ فرد أو مجموعة أو مجتمع أو دولة لا تتخذ موقفاً معادياً تجاههم، أو تحارب الإسلام والمسلمين وتنصر أعداءهم، سواءً كان هؤلاء مشركين أو كانوا من أهل الكتاب.

______________________________

(1) تفسير روح البيان، ج 9، ص 481، كما نقلت هذه الرواية في كثير من كتب التفسير، وفي صحيح البخاري بتفاوت.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 310

وحتى لو كانت مجموعة أو دولة تقف في صف أعداء الإسلام ثمّ تراجعت عن ذلك وغيرّت سياستها، فإنّ على المسلمين أنْ يقبلوهم وأن لا يعادوهم، فالمعيار هو الموقف الراهن لأولئك تجاه الإسلام والمسلمين.

قصّة «الجزية»:

والآية الثّانية وهي من سورة التّوبة

أيضاً، وبعد بيان الأحكام الخاصّة بالنّسبة للمشركين وعبدة الأوثان، تتعرض لبيان موقف المسلمين من كفار أهل الكتاب (اليهود والنّصارى) وتقول:

«قَاتِلُوا الَّذِينَ لَايُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَومِ الآخِرِ وَ لَايُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ لَا يَديِنُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ اوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ»

ولا شكَّ في أنّ لهجة الآية في خصوص أهل الكتاب «شديدة» وذلك لأنّ أهل الكتاب وخاصة «اليهود» كانت لهم مواقف سلبية جدّاً تجاه الإسلام والمسلمين، فقد وافقوا الأعداء في حرب الأحزاب وبعض الحروب الاخرى مضافاً إلى أنّهم وقفوا في وجه الإسلام في بعض الحروب كحرب «خيبر» وتآمروا على قتل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وكانوا يتجسسون على المسلمين لصالح الأعداء.

وبالنظر لأن الآية أعلاه من آيات سورة التّوبة، ونعرف أنّ سورة التوبة نزلت في السّنة التّاسعة للهجرة، حيث كان المسلمون قد غزو غزوات عديدة، وكان من الضّروري أن يحددوا موقفهم من كل القوى المخالفة لهم.

ففي البدء تحذر المشركين وتطلب منهم تحديد موقفهم، فتعلن الحرب ضد أولئك الذين نقضوا عهدهم إلّاإذا أذعنوا للحق، وأمّا أولئك الذين وفوا بعهدهم فتطلب منهم الاستمرار بالوفاء حتّى النّهاية (وهذا المعنى ذكر في الآيات الأولى من السّورة).

ثُمّ تعلن الحرب على أهل الكتاب الّذين لا زالوا يُنسّقون مع المشركين ضد المسلمين،

نفحات القرآن، ج 10، ص: 311

فتصفهم بثلاثة أوصاف، الأولى: «لا يُؤمِنُونَ بِاللَّهِ ولَا بِاليَومِ الآخِرِ»، فصحيح أنّ اليهود والنّصارى كانوا في الظّاهر يقبلون المبدأ والمعاد، ولكنّهم من جهة اخرى كانوا قد دنّسوا هذا الإعتقاد بالخرافات، فأداروا ظهورهم للتّوحيد الصّحيح وتمسّكوا بالتثليث والشّرك، وقالوا بانحصار المعاد غالباً في المعاد الرّوحاني، والأهم من ذلك هو أنّ إيمانهم بالمبدأ والمعاد لم ينعكس على أعمالهم وأفعالهم، وانغماسهم

في الخرافات والضّلال كان إلى درجة يمكن القول معها أنّهم ليسوا بمؤمنين بالمبدأ والمعاد.

والصّفة الثّانية هي: «وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ».

وتاريخ هؤلاء يشهد بأنَّهم لم يلتزموا عمليّاً باجتناب المحرمات وكانوا يرتكبون الذّنوب المحرمة في كلّ الشّرائع السماويّة، فكان الدين عندهم مجرد طقوس خاوية صوريّة (كما أن الدين عندهم اليوم عبارة عن مسألة شخصيّة تقتصر على الدّعاء الأسبوعي وذكر بعض الأمور الأخلاقيّة التي ليس لها أي أثر على حياتهم عملياً، مثالهم الصهيونيّة التي لا تتورع عن القيام بأي جريمة نكراء من أجل تحقيق أغراضها).

والصفة الثّالثة هي: «وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ».

لأنّهم غيّروا مفهوم الدّين كليّاً وعزلوه عن هموم البشريّة وخلطوه بالخرافات.

وهذه الأوصاف الثّلاثة، تعتبر متلازمة لهم في الواقع، وهي التي كانت تدعوهم مجتمعة لمواجهة الإسلام ومخالفته.

ولكن مع كلّ ذلك فإنّ الآية تفتح باباً للصّلح أمامهم وتقول: «حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ».

يقول الرّاغب في مفرداته: «الجزية» ما يؤخذ من أهل الذّمة (وهم غير المسلمين الذين يتعاهدون معهم للعيش جنباً إلى جنب داخل الدّول الإسلاميّة)، وتسميته بذلك لإنّه بمنزلة الجزاء والأجر الّذي يدفعونه لحفظ أنفسهم (وأموالهم).

وجاء في كتاب التّحقيق، أنَّ الجزيّة نوع من الجزاء والأجرة، وهو نفس ما يؤخذ من غير المسلمين.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 312

وعلى كلّ حال، فإنّ أصل «الجزية» هو «الجزاء»، لأنّ ما يدفعونه من مال لا يكون مجاناً وبلا عوض، بل عوضه هو أنّ الحكومة الإسلاميّة تكون مسؤولة عن الدّفاع عن أموالهم وأنفسهم وأعراضهم وتوفير الأمن اللازم لهم.

وقد احتمل البعض أنّ «الجزيّة» مأخوذة من «الجزء» لأنّ الجزية عادة مبلغ قليل من المال يدفعه كلّ فرد منهم سنوياً.

والتّعبير ب «عن يدٍ» إشارة إلى أنّ «المعاهد» لابدّ أنّ يدفع «الجزيّة» بيده شخصيّاً، ولا يحق له

توكيل شخص آخر للقيام بذلك، ولكن البعض يعتقد أنّ هذا التّعبير إشارة إلى أنّ الجزية لابدّ أن تكون نقداً، وعليه فيحق للذّمي أنْ يُوَكِّل عنه شخصاً آخر لدفع الجزيّة ولكن يجب أن تكون نقداً لا نسيئة، أو أن المراد من ذلك هو أنّ «الجزية» تؤخذ من الأغنياء فقط، وأمّا الفُقراء فيعفون عن أداء الضرائب الإسلاميّة.

وأيّاً كان المعنى من هذه الثّلاثة فلا يؤثر على أصل المسألة مع أنّه يمكن جمعها جميعاً.

وأمّا تعبير «صاغِرُونَ» والذي ذكرت له معانٍ وتفاسير غير مناسبة، فهو في الأصل مأخوذ من مادة «صِغَر» بمعنى الاستصغار والخضوع، فيكون المراد هنا هو خضوع هؤلاء واحترامهم للإسلام والمسلمين ولمقررات الحكومة الإسلاميّة، وبعبارة اخرى علامة على العيش بسلام وقبول أنَّهُم أقلية مسالمة ومحترمة في قبال الأكثرية.

وماذكره بعض المفسرين من أنّه بمعنى «التّحقير والإهانة والسّخرية بأهل الكتاب» لا يمكن استفادته لا من المفهوم اللّغوي للكلمة ولا من روح التّعاليم الإسلاميّة، ولا من أحكام التّعامل مع الأقليات الدّينيّة الواصلة إلينا، وفي الواقع فإنّ هؤلاء المفسرين يفرضون عقيدتهم الخاصة على الآية.

ومن هنا تتضح لنا حقيقة تلك (الزوبعة) التي يثيرها البعض حول هذه الكلمة من هذه الآية، وأنّها مخالفة لكرامة الإنسانية ونهج العيش المشترك المسالم، فهي ضجَّةٌ وزوبعة لا أساس لها من الواقع.

والنكتة المهمّة هنا هي أنّ «الجزية» عادة مبلغ قليل من المال كان أهل الكتاب يدفعونه

نفحات القرآن، ج 10، ص: 313

في قبال تعهد الحكومة الإسلاميّة على حفظ أموالهم وأنفسهم ونواميسهم، وطبقاً لما ورد في بعض الرّوايات فإنّ مقدار الجزيّة كان ديناراً واحداً في السنة!!

حتى أنّ بعض أهل الكتاب الذين كانوا يعجزون عن دفعه كانوا يعفون من الجزية (وقد أشرنا سابقاً إلى أنّ البعض يرى أنّ جملة «عن يدٍ» إشارة

إلى ذلك).

إختيار الأسلوب الأفضل في النقاش:

والآية الثّالثة تتناول كيفية مجادلة المسلمين لأهل الكتاب، فهي توصيهم بانتخاب أفضل أسلوب للنّقاش والبحث وتقول: «وَلَا تُجَادِلُوا اهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِى هِىَ احْسَنُ».

وهذا مفهوم عام وجامع وأساسي.

و «الجدال»: في اللغة هو إبرام الحبل وإحكامه، فإذا تباحث اثنان في أمرٍ وأراد كلٌ منهما حرف صاحبه عن رأيه يقال «جادله» والمراد منه هنا النّقاش والبحث المنطقي.

أمّا فيما يرتبط بالمراد من جملة «بِالَّتِى هِىَ احْسَنُ»، فإن بعض المفسرين قالوا إنّ المراد منها هو التعامل معهم بلين ولطف ومحبة، ففي قبال الخشونة اللين، وفي قبال الغضب، الصّبر، وفي قبال الشرّ، حب الخير، وفي قبال التسرُّع، التأني.

وعلى أيّة حال، فإنّ تعبير بجملة (بالتي هي أحسن) جامع جدّاً يشمل كلّ الأساليب الصّحيحة والمناسبة للبحث والنّقاش، سواءً كان ذلك بالألفاظ أو في محتوى الكلام، أو في لحن القول أو في الحركات والسلوك العملي، وعليه يكون مفهوم الجملة هو أنّ الحديث معهم لابدّ أنْ يكون مؤدباً، وأنْ لحن القول لابدّ أنْ يكون حبيباً وأنْ محتوى الكلام لابدّ أن يكون منطقيّاً وبرهانيّاً، فينبغي أنْ يكون الصّوت خالياً عن العربدة والغوغاء والضجيج، وأن تكون حركات اليد والعين والحاجبين المكملّة للبيان على هذا المنوال.

وكلّ ذلك من أجل أنّ الهدف من النّقاش والمجادلة ليس حب السّيطرة والإستعلاء، وإنّما هو إقناع الطرّف المقابل ونفوذ الحقّ إلى أعماق روحه، وأنْ يتخذ الموقف الصّحيح في

نفحات القرآن، ج 10، ص: 314

قبال الإسلام، فهؤلاء المعاهدون لابدّ أنْ يعرفوا أنّ روح الإسلام روح السّلام والصّفاء، والآية توصي المسلمين بأن يتعاملوا مع غير المسلمين معاملة سلمية.

وبطبيعة الحال، فإنّ هذه الأمور يجب أنْ لا تكون بنحو يتصور المقابل أنّ المسلمين ضعفاء عاجزين فيسي ء استغلال عطفهم ولينهم. ثُمّ تستثني الآية مجموعة من هؤلاء

وتقول: «إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ» وهي إشارة إلى الذين رفضوا العيش بسلام إلى جنب المسلمين، وأساءوا استغلال محبّة المسلمين لهم ومداراتهم ولينهم، حيث عادوا الحق وعاندوه مع أنّهم كانوا قد قرأوا علامات نبيّ الإسلام صلى الله عليه و آله في كتبهم، وكانوا يحاولون إخفائها وكتمانها، وكانت ميولهم ميول عدوانية وغير مسالمة، بعيده عن الاحترام والمحبّة، فمثل هؤلاء لا شكّ في ضرورة استثنائهم من تلك الأحكام الرّؤوفة.

وجاء في تتمّة الآية عدّة جمل لطيفة اخرى في هذا المجال حيثُ يقول تعالى: «وَ قُولُوا آمَنَّا بِالَّذِى انْزِلَ إلَيْنَا وَ انْزِلَ إِلَيْكُمْ وإلهُنَا وَ إلهُكُمْ وَاحِدٌ وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ».

وهذا في الحقيقة نموذج واضح ورائع للمجادلة بالّتي هي أحسن، أي أنّ القرآن الكريم لم يكتفِ بذكر الكليّات في هذا المجال، بل عرض مصاديق واضحة في الأثناء.

وهذه العبارة تدل بوضوح على ضرورة الإعتماد على النّقاط المشتركة لتحكيم اسس العيش السّليم المشترك، وهي الإيمان باللَّه الواحد والإيمان بكل الكتب السّماوية وأمثال ذلك.

ولكنّ التّأكيد والإصرار على الجهات المشتركة لا يعني قبول المسلمين لبدع هؤلاء وانحرافاتهم وتراجعهم عن معقتداتهم، وقد تكون جملة «وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ»، إشارة لطيفة لهذا المعنى.

ونقرأ في حديث مفصل عن الإمام الصّادق عليه السلام الذي يرشدنا فيه إلى نموذج «للمجادلة بالتي هي أحسن» ويأمرنا بالتّأمل في آخر سورة «ليس»، وملاحظة كيفيّة مجادلة منكري المعاد بطرق مختلفة وبمنطق لطيف وبرهاني قوي في نفس الوقت «1».

______________________________

(1) إقتباس من تفسير نور الثّقلين، ج 4، ص 163، ذيل الآية مورد البحث.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 315

هذا وقد جاء مضمون الآية بشكل آخر في سورة النّحل، حيث يقول تعالى «ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمةِ وَالمَوعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ». (النّحل/ 125)

والملفت للنّظر هو

أنّ هذه الآية هي أول الإرشادات الأخلاقيّة العشرة التي وردت في تلك السّورة في مورد التّعامل الصّحيح مع المخالفين.

وفي الواقع فإن الجملة الأولى أي: «أدْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكمَةِ» ناظرة إلى الاستدلالات العقليّة في قبال أرباب الاستدلال والفكر.

وعبارة «والمُوعَظِةِ الحَسَنَةِ» إشارة إلى الأسلوب العاطفي في المجادلة مع غير أرباب الإستدلال العقلي، أي أولئك الذين يدورون مدار المسائل العاطفيّة، وخصوصاً وأنّ وصف «الموعظة» بالحسنة، إشارة إلى ضرورة خلوها من الخشونة والإستعلاء وتحقير الطرف المقابل وإثارة إحاسيسه وأمثال ذلك، ولا شك في أنّ مثل هذه الموعظة تكون مؤثرة.

و «وجَادِلْهُمْ بِالَّتِى هي أَحسَنُ» إنّما هي مع أولئك الذين مُلِئَت أذهانهم بالشّبهات والشكوك، فينبغي مجادلتهم عن طريق المناظرات الصّحيحة وإخلاء أذهانهم من تلك الشّبهات تمهيداً لقبول الحق.

الدّعوة إلى أصلٍ أساسي مشترك:

والآية الرابعة تخاطب أهل الكتاب وتدعوهم إلى أصل أساسي مشترك وهو التّوحيد وفروعه، يقول عزّوجلّ:

«قُلْ يَا اهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَ بَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَ لَانُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَ لَايَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَاباً مِّنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِانَّا مُسْلِمُونَ».

والدعوة إلى القدر المشترك خير طريق للعيش بين مذهبين مختلفين، إذ لا يمكن عادة أنْ نطلبَ من طرف واحد أن يتخلى عن معتقداته ويتبع الطّرف الآخر، وحتّى لو كان ذلك مقبولًا ومنطقيّاً فإنّه غير ممكن عملياً، فالأفضل أن نترك أتباع الأديان الاخرى على

نفحات القرآن، ج 10، ص: 316

معتقداتهم إذا رفضوا قبول الإسلام بعد بيان الأدلة على حقانيته، وأنّ نعمل ضمن القدر المشترك بيننا وبينهم، وخير مشترك بين كلّ الأديان السماوية هو أصل «التوحيد» في الذات والصفات.

وحتّى أنصار التّثليث (وينبغي التّنبيه هنا إلى أنّ الإعتقاد بثالث ثلاثة لم يكن موجوداً في عصر المسيح والقرن الأوّل بعده، كما

صرح بهذا المعنى علماء المسيحيّة) فإنّهم يفسرِّون التّثليث بشكل يتلائم مع التّوحيد، ويسمّونَهُ ب «الوحدة في التثليث»، وعلى الرغم من أنّ ذلك تناقض واضح، ولكنه في نفس الوقت دليل على أنّ هؤلاء يرغبون في بقائهم أوفياء لأصل التّوحيد.

وهذه الدّعوة إلى الحياة السّلميّة المشتركة المستمرة من المعتقدات المشتركة يعتبر في الحقيقة مصداقاً واضحاً «للمجادلة بالّتي هي أحسن» الذي ورد في الآية السّابقة، ويدلّ بوضوح على أنّ الإسلام لا يرغب أبداً في إجبار أتباع الأديان الاخرى بالقوة على اعتناق الشّريعة الإسلاميّة.

والظّريف هنا، هو أنّ النّبيّ صلى الله عليه و آله بعد صلح الحديبيّة في السّنة السابعة للهجرة وعندما أرسل كتباً إلى زعماء وملوك الدّول العظمى في ذلك الوقت مثل «المقوقس» ملك مصر و «هرقل» ملك الرّوم، و «كسرى» ملك إيران، دعاهم فيها إلى الإسلام، ذكر هذه الآية المباركة في ذيل تلك الكتب ودعاهم على الأقل إلى الأصل المشترك بين كل الأديان السّماويّة، أي أصل «التّوحيد»، ثُمّ العيش بسلام جنباً إلى جنب.

وهذا بنفسه خير دليل على روح السّلام والصّلح في الإسلام والرّغبة في العيش السّليم مع أتباع سائر الأديان السّماوية، والذي لها جذور منذ عصر النّبيّ صلى الله عليه و آله.

وفي خامس وآخر آية من الآيات الّتي ذكرناها في صدر البحث، إشارة إلى اختلاف مواقف أتباع الأديان الاخرى تجاه المسلمين، فتتحدث الآية عن كلٍ من هؤلاء بحسب حاله، يقول تعالى:

نفحات القرآن، ج 10، ص: 317

«لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَ الَّذِينَ اشْرَكُوا وَ لَتَجِدَنَّ اقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى .

ثُمّ تبين الآية الكريمة دليل محبة المجموعة الثّانية للمؤمنين وتقول:

«ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسّيِسيِنَ وَ رُهْبَاناً وَ انَّهُمْ لَايَسْتَكْبِرُونَ».

وهذا التّعبير يدلّ بوضوح على أنّ الإسلام مضافاً

إلى أنّه يرفض مواجهة من لا يكنُّ للإسلام العداء والبغضاء، فإنّه يعتبر هؤلاء من أقرب الأصدقاء إلى الإسلام، ويثني على زعماء هؤلاء ويعتبرهم من أهل العلم والمعرفة وترك الدّنيا والإستكبار وبهذا يستقبل هؤلاء بصدر رحب ويفتح لهم ذراعي المحبّة والصّداقة ويكنُّ لهم احتراماً خاصاً.

وإذا كان موقف الإسلام تجاه اليهود والنّصارى متفاوتاً، فإنّ ذلك ليس لعداوة خاصة يكنّها لليهود، بل من أجل مواقفهم العدائيّة ضدّ المسلمين واتفاقهم مع المشركين العرب السّفاكيّن، على العكس من النّصارى، ولذا جمع في الذكر بين اليهود والمشركين في هذه الآية، وأمّا المسيحيين فكانوا على صلة حسنة بالمسلمين.

والملفت للنّظر هنا هو أنّ المسيحيين كانوا أبعد من اليهود عن المسلمين لاعتقادهم بالتّثليث بينما كان اليهود يقولون بالتّوحيد صراحة، ولكن لما كان اليهود عملياً يضمرون العداء ويحيكون المؤامرات ضدّ المسلمين بخلاف المسيحيين فإنّ الإسلام يهتم بالعيش بسلام مع النّصارى أكثر من اليهود.

وللأسف، فإن وضع اليهود اليوم هو الإستمرار في ميولهم العدوانيّة السّالفة، حيث نجد أنّ اليهود اليوم قد جنّدوا كلّ قدراتهم ضدّ الإسلام والمسلمين، في حين أنّ بين المسيحيين أفراد أو دول تربطهم روابط حسنة مع المسلمين.

ومن مجموع ما ذكر، يتّضح تماماً أنّ سعة صدر الإسلام وعظمته تميل إلى الرّغبة في العيش بسلام مع الأديان السّماويّة الاخرى بشرط أن يدخل هؤلاء من باب الصّلح والصّفاء والصّداقة والإحترام المتقابل- ويأمر المسلمين بالتّعامل الحسن معهم، وأن يجادلوهم بالموعظة الحسنة وإتباع المنطق والأدب والإنصاف، وبهذا الطّريق يرشدونهم إلى تعاليم

نفحات القرآن، ج 10، ص: 318

شريعة الإسلام، لا عن طريق ممارسة الخشونة والشّدّة والتّصرفات المرفوضة إسلامياً.

العيش المشترك مع أتباع الأديان الاخرى في الرّوايات:

نلاحظ في الروايات الإسلاميّة إرشادات كثيرة فيما يرتبط بكيفية التعامل مع أتباع الأديان الاخرى:

1- جاء في عهد أمير المؤمنين المعروف لمالك الأشتر:

«وأشعِرْ قلبك

الرحمة للرعيّة والمحبّةِ لهم واللّطف بهم ولا تكوننَّ عليهم سبُعاً ضارياً تغتنم أكْلَهُمْ، فإنّهُمْ صنفان، إمّا أخ لَك فِي الدين أو نظيرٌ لك فِي الخلْق» «1».

ونحن لم نعهد تعبيراً أوضح وأبلغ من هذا التعّبير حول العيش بمحبّة وسلام مع غير المسلمين، وبملاحظة أنّ الإمام عليّاً عليه السلام يبيّن في هذا العهد أنَّ إبداء المحبّة والمداراة والرحمّة واللطف تجاه غير المسلمين هو من وظائف رئيس الحكومة الإسلاميّة، يتضح لنا جلياً تكليف سائر أفراد المجتمع الإسلامي تجاه بعضهم البعض.

2- وفي حديث عن الإمام الصّادق عليه السلام أنّ عليّاً عليه السلام صاحب رجلًا ذمّياً فقال له الذمّي:

أين تريد يا عبداللَّه؟

قال عليه السلام: أُريد الكوفة. فلمّا عدل الطّريق بالذمّي عَدَل معه الإمام عليّ عليه السلام، فقال له الذمّي: أليس زعمت تريد الكوفة؟

قال الإمام عليه السلام: بلى.

فقال له الذّمّي: فقد تركت الطّريق.

فقال الإمام عليه السلام: قد علمتُ.

فقال له الذّمي: فَلِمَ عدلت معي وقد علمت ذلك؟

فقال له الإمام عليّ عليه السلام:

______________________________

(1) نهج البلاغة، الرسالة 53.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 319

«هذا من تمام حسن الصُحْبَة أن يُشيِّعَ الرَجُلُ صاحِبَهُ هُنَيْئةً إذا فارقهُ، وكذلك أمَرَنا نبيّنا».

فقال له الذّمي: هكذا؟ قال: نعم.

فقال له الذّمي: لا جَرَم إنّما تبِعَهُ مَنْ تبعه لأفعاله الكريمة، وأنا أُشهدك أنّي على دينك.

فرجع الذمّي مع عليّ عليه السّلام، فلمّا عرفَه أسْلَم «1».

3- ونقرأ في حديث عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال:

«من ظَلَمَ معاهداً وكلّفَهُ فوق طاقته فأنا حَجيجَهُ يومَ القيامة» «2».

4- وجاء في كتاب «الخراج» لأبي يوسف أنّ «حكيم بن حزام» شاهد «عياض بن غنم» وقد حبس قوماً من أهل الذمّة في الشّمس لمّا امتنعوا عن إعطاء الجزية (وكان يريد أن يضيق عليهم ليضطرهم لدفع الجزية) فقال له

حكيم: ما هذا يا عياض، لقد سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول:

«إنَّ الذينَ يعذّبونَ النّاس في الدنيا يُعَذَّبونَ في الآخرة» «3».

وقد كان هذا الأمر معروفاً بين المسلمين إلى درجة أنّهم نقلوا أنّ أحد ولاة عمر بن عبد العزيز واسمه «على بن أرطأه كتب له بأنّ قوماً عندنا لا يدفعون الخراج مالم يجبروا على ذلك بالضرب والإيذاء! فكتب له عمر بن عبد العزيز: عجيب حقاً أن تطلب مني أن أجبرك بتعذيب النّاس، أتريد أن تجعلني درعاً أمام عذاب اللَّه، وتظن أن إذني ينجيك من عذابه!؟

فإذا جاءك كتابي فمن دفع خراجه وإلّا حلّفهُ على عجزه عن دفع الخراج، واكتفِ بذلك الحلف.

ثم يضيف: وأيم اللَّه إنّه لأحب إليّ أن ألقى اللَّه يوم القيامة وهؤلاء لم يدفعوا الخراج من أن ألقاه وقد عذّبْتُهُمْ «4».

وكما تلاحظون فإنّ الوارد في الحديث هو «تعذيب وإيذاء الإنسان» وهذا يدلّ على أنْ

______________________________

(1) بحار الأنوار، ج 41، ص 53.

(2) فتوح البلدان، البلاذري، ص 167.

(3) الخراج، ص 124.

(4) الخراج، ص 119.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 320

الممتنعين عن أداء الخراج لم يكونوا من المسلمين.

ونفس هذا المضمون ورد في حديث آخر، ولكن ورد فيه عنوان «النّاس»، حيث ورد أن «سعيد بن زيد» رأى أنّ قوماً يُعذَّبون لعدم دفعهم «الجزية» فقال: سمعت من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: «من عذَّبَ النّاس عذّبهُ اللَّهُ» «1».

5- ورد تعبير رائع في نهج البلاغة، خطبة الجهاد، يقول عليه السلام: «وَلَقَد بلغنِي أنّ الرّجُلَ مِنهُم كان يدخل على المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة فينتزع حِجْلَها وقُلْبَها وقلائدها ورُعْتَها ما تمتنعُ مِنهُ إلّابالإسترجاع والإسترحام .... فلو أنَّ امرءً مُسلماً مات من بعد هذا أسفاً ما كان به ملوماً، بل كان

به عندي جديراً».

(عندما أَخبروا أمير المؤمنين عليه السلام بأنّ سرايا من جيش معاوية هجموا على الأنبار وقتلوا واليهِ عليها «حسان بن حسان» ونهبوا أموال المسلمين وغير المسلمين، فدعى أمير المؤمنين النّاس إلى الجهاد وخطب خطبة الجهاد المعروفة، جاء فيها المقطع أعلاه) «2».

فهنا نجد أنّ الإمام عليه السلام يعتبر المرأة المعاهدة والمرأة المسلمة في رعيل واحد في وجوب الدّفاع عنهما، وأن من مات أسفاً على سلبهما أموالهما فهو عنده جدير، ولا نجد تعبيراً أبلغ من هذا في الدّفاع عن حيثية أهل الذّمة وأموالهم وأنفسهم وأعراضهم.

6- روي أنّ علياً أمير المؤمنين عليه السلام رأى رجلًا مكفوفاً كبيراً يسأل، فقال أمير المؤمنين عليه السلام ما هذا؟ قالوا: يا أمير المؤمنين هو نصراني. فقال أمير المؤمنين عليه السلام:

«استعملتموه حتى إذا كبر وعجز منعتموه، أَنفقوا عليه من بيت المال».

تعامل المسلمين مع غير أهل الذمّة:

قد يُتصور أحياناً أنّ غيرَ المسلمين صنفان، هما «أهل الذمّة» و «المحاربون»، وعليه فكلُّ من لم يكن من «أهل الذمّة» فهو محارب وأنّ ماله ودمه مهدوران.

______________________________

(1) الخراج، ص 124 و 125.

(2) نهج البلاغة، الخطبة 27.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 321

ولكن في الحقيقة أنّ غير المسلمين أربعة أصناف، إذ يوجد مضافاً إلى الصنفين المذكورين صنف ثالث وهم «المعاهدون» (وهم الذين يرتبطون بالمسلمين بعهدٍ وميثاق وإن كانوا يعيشون خارج المحيط الإسلامي ولم يكونوا أقليّة) و «المهادنون» وهم غير الأصناف الثّلاثة، بل هم قوم يعيشون في بلادهم ولا يزاحمون المسلمين.

وفي دنيا اليوم، يوجد لهذه الأصناف الأربعة مصاديق واضحة:

1- الأقليات التي تعيش داخل الدّول الإسلاميّة، والتي تشملها قوانين تلك الدّول، وتكون الحكومات الإسلاميّة ملزمة بحفظ أموال ودماء ونواميس أفراد هذه الأقليات والدّفاع عن حقوقها، وهؤلاء يدفعون بعض الضّرائب للحكومة الإسلاميّة، ويمكن اعتبارها بمقام «الجزية» لأنّ «الجزيّة»

كما ذكرنا مأخوذة من «الجزاء» بمعنى الشي ء الذي تأخذه الحكومة الإسلاميّة كأجرٍ أو معونة للدّفاع عنهم، وهؤلاء هم «أهل الذمّة».

2- بعض الدّول «كإسرائيل» و «أمريكا» الذين يحاربون المسلمين اليوم، ولا يتورعون عن أي عدوان ضدهم ولا يُقصرون في إيذائهم، فهؤلاء كفرة حربيّون، لَسْنا ملزمين بأي تعهد في قبالهم.

3- هناك شعوب غير مسلمة تربطهم معنا علاقات صداقة، ونتبادل معهم السّفراء، ونعقد معهم أحياناً بعض المعاهدات الإقتصاديّة والتجاريّة والثّقافيّة، أو نلتزم بمقررات معينة فيما بيننا من خلال المنظمات الدّولية وكل هؤلاء مصاديق «للمعاهدين» وعلينا أنّ نتعامل معهم بما تقضيه الإلتزامات التي تربطنا معهم بشكل مباشر أو غير مباشر (عن طريق المنظمات العالمية) وأن نرعى الإحترام المتبادل فيما بيننا.

4- وهناك بعض الدّول التي ليست في حالة حرب معنا، ولا معاهدة لنا، ولا يوجد بيننا سفراء، ولا تربطنا بهم مواثيق، ولكن لا يزاحموننا ولا نحن نزاحمهم، فعلينا أنْ نراعي الأصول الإنسانيّة والأخلاقيّة معهم، وهؤلاء هم (المهادنون).

وممّا ذكر أعلاه، يتضح لنا أنّ «أهل الذمّة» هم فقط ذلك الصنف من أهل الكتاب الذين يعيشون داخل الدّول الإسلاميّة، وأنّ أحكام الجزية أو عدم التّظاهر بالمعاصي والذنوب

نفحات القرآن، ج 10، ص: 322

الكبيرة وأمثالها، خاصة بهم.

وأمّا أهل الكتاب من الذين يعيشون في دولهم، فلا يعتبرون من مصاديق أهل الذمّة، حتى لو ارتبطوا بمواثيق وعهود معنا، وإنّما هم مصداق «المعاهدين» وقد يكونون «محاربين» وقد يكونون «مهادنين» في بعض الظروف. (إلتفتوا جيداً).

نفحات القرآن، ج 10، ص: 323

الحكومة الإسلامية والأجهزة الأمنية

تمهيد:

لا شك في أنّ التجسس على أحوال النّاس الخاصة والبحث عن أسرارهم عملٌ مذموم وقبيح، فإنّ اللَّه «ستّار العيوب»، وينبغي على عباده أن يكونوا كذلك أيضاً، إلّابالنسبة للذين يهتكون السّتر ويتركون الحياء جانباً ويتظاهرون بارتكاب الذّنوب، فإنّه لا حرمة لهم،

لإنّهم هم الذين هتكوا حرمهم.

والقرآن الكريم يحذِّر بصراحة من التّجسس، كما ورد في سورة الحجرات، حيث يقول تعالى:

«يَا ايُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَّعْضُكُمْ بَعْضًا». (الحجرات/ 12)

فهنا إشارة إلى ثلاثة ذنوب كبيرة «سوء الظن»، «التجسس» و «الغيبة» وكل واحدٍ من هذه الثّلاثة في الواقع مقدّمة للآخر، فإنّ إساءة الظّن بالأشخاص مقدّمة للتّجسس عليهم، والتجسس سبب في الإطلاع على العيوب والأخطاء، فتكون الغيبة، التي تعتبر من أكبر الذّنوب، وأساس العداوات والاختلاف وفقدان الثقة.

و «كرامة الإنسان» في الحقيقة، أهم شي ء في كيانه من وجهة نظر الإسلام، حتّى أنّها أهم من حاله وحياته أيضاً، وقد ورد في حديث عن النّبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله:

«إنّ الدِّرْهَمَ يُصيبُهُ الرَّجُل من الرِّبا أعْظَمُ فِي الخطيئة من سِتٍّ وثلاثين زَنيَةً يزنيها الرَجُلُ، وأربى الرّبا عِرضُ الرّجل المُسْلِم» «1».

______________________________

(1) المحجّة البيضاء، ج 5، ص 253.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 324

والواقع هو أنّ رأسمال الإنسان في المجتمع هو كرامته، وكل المسائل الاخرى تابعة لها، ولا شك في أنّ سوء الظنِّ والتّجسس والغِيبة تعرِّض رأسماله الغالي إلى الخطر، أو تفنيه.

ولكن ومع ذلك، فإنّ هناك بعض الموارد إذا واجهناها بحسن الظن، ولم يُتَجسَّسْ عليها وتفضح أسرارها، فإنّها ستشكل خطراً على المجتمع الإسلامي، سواءً كان هذا الخطر مؤامرة من قبل المنافقين في الدّاخل، أو مخططات مشئومة من قبل الأعداء من الخارج تنفذ على أيدي عملائهم في الداخل.

فمثل هذه الموارد لابدّ من مواجهتها بريبة واستفهام، والتّجسس لحفظ الأهداف الأهم، وهذه هي فلسفة تشكيل الأجهزة الأمنيّة والأمن المضاد، وهي فلسفة معقولة ومنطقيّة وموافقة للعقل والشّرع، وإن كان طلّاب الدّنيا والحكومات المستبدة والإستكبارية تسي ء استغلال ذلك، ولكن هذا لا

يمنع من بقاء أصل هذا الأمر منطقيّاً ومعقولًا، فلا يقال ما هي الضرورة لمثل هذه الأعمال؟ فأي قانون مقدس لم يُستغل استغلالًا سلبياً من قبل ضعاف النّفوس؟!

وخلاصة الكلام، هي أنّ عدم التّجسس على أوضاع الآخرين وحياتهم الخاصة «أصلٌ» لابدّ أن يحفظ، ولكن التّجسس في موارد معينة «استثناء» ولابدّ أن يُحفظ هو الآخر في حدود وشرائط خاصة باعتباره وظيفة شرعية واجتماعية.

وفي الواقع إنّ هذا الاستثناء يخضع لقانون الأهم والمهم ويخضع للعناوين الثّانوية، فحفظ كرامة الأفراد مهمٌ جدّاً، ولكن حفظ وجود المجتمع الإسلامي ونظام الحكم والأمن والإستقرار أهم من ذلك وأوجب، ولذا ففي مثل هذه الموارد يقدم الثاني على الأول.

وممّا تقدم يتضح أن التّجسس واستقصاء أسرار الآخرين يحتاج إلى مجوّز ودليل كافٍ، وأمّا التّصرف الشّخصي فغير مجاز.

هذا ما يرتبط بالتّجسس في داخل المجتمع الإسلامي.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 325

وأمّا في خارج المجتمع الإسلامي، فالمسألة أوضح، فإنّ على المسلمين دائماً أنْ يتعرفوا على ما يجري في ظاهر وباطن المجتمعات الأجنبية والذي قد يرتبط بمصير المجتمع الإسلامي، فعليهم أنّ يحبطوا المؤامرات في مهدها ويخنقوها وهي في مراحلها الاولى وبغير ذلك فإنّهم سيطلعون عليها بعد فوات الأوان، ويكون القضاء عليها صعباً حينئذٍ، أو يكلف ثمناً باهضاً جدّاً!

وهناك نوع آخر من التّجسس في الحكومة الإسلاميّة (وكل حكومات العالم) وهو التّجسس على أحوال موظفي وكوادر الحكومة الإسلاميّة ومسؤوليها، ليحصل الإطمئنان بأنّهم يؤدّون وظائفهم بشكل صحيح، وأنّهم لا يجحفون ولا يتعدّون على حقوق المسلمين، وأنّهم لا يسيئون استغلال مناصبهم.

وعلى أيّة حال، فالمستفاد من آيات القرآن هو أنّ مسألة التّجسس كانت موجودة في تلك الأعصار، وأنّ النّبيّ صلى الله عليه و آله كان له أجهزة للأمن المضاد لمواجهة عمليات التّجسس لصالح أعداء الإسلام، وبهذا

الطريق كان يحبط مؤامراتهم وتحركاتهم.

وقد حذّر اللَّه عزّ وجلّ، المسلمين وأمرهم بمراقبة تحركات جواسيس المنافقين، وقال:

«لَو خَرَجُوا فِيكُم مازَادُوكُم إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيْكُمْ سَمّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ» «1». (التوبة/ 47)

وقد يكون لفظ «سمّاع» بمعنى «الجاسوس»، أو من يتميز بقوة السمع والإستقبال، والاحتمال الأوّل أنسب لمورد الآية.

هذا في حين أنّ اللَّه تعالى قبل عدّة آيات يأمر النّبيّ صلى الله عليه و آله ببذل الجهد للتعرف على المنافقين، ويقول: «عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعلَم الْكَاذِبِينَ». (التوبة/ 43)

______________________________

(1) و «أوضعوا» من مادة «إيضاع» بمعنى السّرعة في الحركة، فالمراد هنا هو أنّ المنافقين يوجدون الفتنة في قلوب البسطاء من المسلمين والفرقة والنّفاق بسرعة.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 326

توضيحات
1- قصة تجسس حاطب وسارة

يظهر أنّ النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله كان له جهاز أمني قوي من خلال قصة «حاطب بن أبي بلتعة» التي وقعت قبيل فتح مكة المكرّمة.

وتوضيح ذلك: كان النّبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله يستعد لفتح مكة وكان حريصاً على عدم انتشار أخبار ذلك وإنتقالها إلى أسماع المشركين وكان هناك رجل من المسلمين يقال له «حاطب بن أبي بلتعة» اشترك في غزوة «بدر» و «بيعة الرّضوان»، وكان يخاف على أهله في مكة من كيد المشركين فوسوس له الشيطان، فأراد أن يقدم خدمة لهم ليأمن كيدهم على عياله، فاتفق مع امرأة تدعى «سارة» كانت قد جاءت من مكة إلى المدينة، وعندما أرادت العودة إلى مكة كتب حاطب كتاباً معها لتوصله إلى أهل مكة يخبرهم بنية رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وأعطاها عشرة دنانير، وقيل عشرة دراهم، وكان قد كتب في الكتاب: من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل

مكة أنّ رسول اللَّه يريدكُم فخذوا حذركم، فخرجت سارة، ونزل جبرئيل فأخبر النّبيّ صلى الله عليه و آله بما فعل حاطب، فبعث رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عليّاً وعماراً وعمر والزّبير وطلحة والمقداد بن الأسود وأبا مرثد، وكانوا كلهم فرساناً وقال لهم: إنطلقوا حتّى تأتوا روضة خاخ فإنّ بها ظعينة معها كتاب من حاطب إلى المشركين فخذوه منها، فخرجوا حتى أدركوها في ذلك المكان الذي ذكره رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقالوا لها: أين الكتاب؟ فحلفت باللَّه ما معها من كتاب، فنحّوها وفتشوا متاعها فلم يجدوا معها كتاباً، فهموا بالرجوع فقال علي عليه السلام: واللَّه ما كذبنا ولا كُذِبنا وسَلَّ سيفه وقال لها: أَخرجي الكتاب وإلّا واللَّه لأَضربنَّ عنقك، فلما رأت الجدَّ أخرجته من ذوائبها فقد أخبأته في شعرها، فرجعوا بالكتاب إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فأرسل إلى حاطب فأتاه، فقال له: تعرف الكتاب؟ قال: نعم، قال ما حملك على ما صنعت؟ قال: يا رسول اللَّه، واللَّه ما كفرت منذ أسلمت، ولا غششتُك منذ نصحتك ولا أحببتهُم منذ فارقتهم ولكن لم يكن أحدٌ من المهاجرين إلّاوله بمكة من يمنع عشيرته وكنت عزيزاً فيهم- أي غريباً، وكان أهلي بين ظهرانيهم فخشيتُ على أهلي فأردت أن أتخذ عندهم يداً وقد علمت أنّ اللَّه ينزل بهم بأسه وأنّ كتابي لا يغني عنهم شيئاً، فصدقه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وعذره،

نفحات القرآن، ج 10، ص: 327

فقام عمر بن الخطاب وقال دعني يا رسول اللَّه أضرب عنق هذا المنافق، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: وما يدريك يا عمر لعلَّ اللَّه إطَّلع على أهل بدر فغفر لهم، فقال لهم اعملوا

ما شئتم فقد غفرت لكم.

فنزلت الآيات الأولى من سورة «الممتحنة» وحذَّرت بشدّة المسلمين من تكرار مثل هذه التّصرفات، لأنّها تذهب بدنياهم وآخرتهم «1».

ففي هذه القصة، نجد أنّ هناك تجسساً لصالح الأعداء، ولكن جهاز الأمن المضاد عند النّبيّ صلى الله عليه و آله- سواءً كان عن طريق اطلاع جبرئيل الأمين أو أي طريق آخر- أحبط مؤامرة العدو، بنحو لم يصل أي خبر عن تحرك النّبيّ صلى الله عليه و آله ومخططه لفتح مكة إلى أسماع قريش وفوجي ء مشركو قريش بدخول جيش الإسلام إلى مكّة، وكان ذلك سبباً في تحرير أقوى قلاع الشرك بلا إراقة دماء ولا حرب، ولو كانت الجاسوسة قد أوصلت ذلك الكتاب إلى مكّة، كان يُحتمل أن تراق دماء كثيرة في هذا الطّريق، وهذا يدل على أهميّة دور الأجهزة الاستخبارية أو الأمن المضاد في تحديد مصير مجتمع وأمّة بكاملها.

2- قصة استخبار حُذيفة

نموذج آخر من النشاطات الأمنية في عصر النّبيّ صلى الله عليه و آله، هو قصّة «حذيفة» في حرب الأحزاب.

فقد روي في التواريخ؛ ذات ليلة من ليالي حرب الأحزاب، وبعد اختلاف الأحزاب فيما بينهم، قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: مَن رجلٌ يقوم فينظر لنا ما فعل القوم ثم يرجع- يشرط له رسول اللَّه صلى الله عليه و آله الرجعة- أسأل اللَّه تعالى أن يكون رفيقي في الجنّة؟ قال حذيفة: فما قام رجل من القوم من شدّة الخوف وشدّة الجوع وشدّة البرد، فلما لم يقم أحد دعاني رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فلم يكن لي بدّ من القيام حين دعاني، فقال: «يا حذيفة إذهب فأوغل في القوم فانظر ماذا

______________________________

(1) ذكر أكثر المفسرين هذا المعنى في شأن نزول الآيات الأولى من سورة الممتحنة.

نفحات

القرآن، ج 10، ص: 328

يصنعون ولا تُحدثَنَّ شيئاً حتى تأتينا».

قال فتهيأت فدخلت في القوم والرّيح وجنود اللَّه تفعل بهم ما تفعل لا تقرُّ لهم قِدراً ولا ناراً ولا بناءً، فقام أبو سفيان فقال: يا معشر قريش لينظر امرؤ مَنْ جليسه؟ قال حذيفة:

فأخذت بيد الرجل الذي كان إلى جنبي فقلت: من أنت قال: فلان بن فلان ثم قال أبو سفيان:

يا معشر قريش إنّكم واللَّه ما أقمتم بدار فقام، لقد هلك الكُراع والخفّ وأخلفتنا بنو قريظة وبلغنا عنهم الذي نَكره ولقينا من شدة الرّيح ما ترون ما يطمئن لنا قِدر ولا تقوم لنا نار ولا يستمسك لنا بناء، فارتحلوا تحلوا فإني مرتحل، ثم قام إلى جَمَله وهو معقول فجلس عليه ثم ضربه فوثبَ به على ثلاث فواللَّه ما أطلق عقاله إلّاوهو قائم، ولولا عهد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إليّ «أن لا تحدث شيئاً حتى تأتيني» ولو شئت لقتلته بسهم.

والمستفاد من آيات القرآن، أن وجود الأجهزة الأمنيّة والتّجسسية كان أمراً رائجاً حتّى في زمن الأنبياء الذين سبقوا نبيّنا محمّداً صلى الله عليه و آله، حتّى استفيد من الطيّور في هذا المجال كما في قصّة سليمان عليه السلام والهدهد، الذي كان يأتي بأخبار البلدان البعيدة إلى سليمان، ثُمّ يحمل رسالة سليمان- التي كانت تبين علاقته بالدّول الاخرى إلى تلك الدّول «1».

3- المنظمات الأمنية في الروايات الإسلاميّة

لهذه المسألة في الروايات الإسلاميّة وكتب التاريخ صدىً واسعٌ، فمن خلال الاطلاع عليها يمكن الوقوف على هذه الحقيقة وهي أنّ الحكومة الإسلاميّة ينبغي أن لا تغفل عن هذه المسألة المهمّة، وأنّ عليها أن تمارس نشاطاً موسعاً في اتجاهين: أن تطّلع على تحركات العدو العسكريّة والسّياسية والاقتصاديّة التي لها تأثير على مستقبل ومصير المسلمين، وأن تواجه

الفعاليات الجاسوسية، للعدو الذي يحاول النفوذ واختراق المسلمين للتعرف على أسرارهم وسرقتها.

وسنتعرض هنا إلى بيان نموذج من هذه الرّوايات والوقائع التّاريخية:

______________________________

(1) الآية 20 إلى 26 من سورة النّمل (وللتّفصيل راجع التفسير الأمثل، ذيل الآية مورد البحث).

نفحات القرآن، ج 10، ص: 329

1- ورد في حديث عن الإمام عليّ بن موسى الرّضا عليه السلام: «كان رسولُ اللَّه صلى الله عليه و آله إذا بعثَ جَيشاً فاتَّهمَ أميراً بَعَثَ مَعَهُ من ثقاتِه مَنْ يتجسس خَبَرَهُ» «1».

فقد يكون ذلك الأمير معتمداً من بعض الجهات، ولكن خطورة مسؤوليته توجب وجود ناظرٍ ومفتش عليه، تحسُباً من انحرافه- لا سمح اللَّه- وارتكابه ما لا يمكن جبرانه من قبل المسلمين.

وهذا الحديث موافق لما ورد في متن الوسائل وقرب الإسناد، الطّبعة الجديدة (مؤسسة آل البيت)، ولكن ورد في بعض الكتب كلمة «فأمَّهُمْ» أي، عيّن لهم أميراً، بدلًا من «فاتَّهَمَ»، ولكن تعيين المفتش والجاسوس أنسب بلفظ «فاتَّهَمَ»، وانتخاب مثل هذا الأمير يكون لتميزه ببعض الميزات المفقودة في غيره، (التفتوا جيداً).

2- ورد في حديث آخر حول سَرِّية «عبد اللَّه بن جحش» (والسّرية، الحرب التي لم يحضر الرسول بنفسه فيها)، أنّ النّبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله بعث عبداللَّه بن جحش بن رئاب الأسدي ومعه ثمانية رهط من المهاجرين ليس فيهم من الأنصار أحد، وكتب له كتاباً وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه فيمضي لما أمره به. فلما سار عبداللَّه يومين فتح الكتاب فنظر فيه فإذا فيه: إذا نظرت في كتابي هذا فامضى حتى تنزل نخلّة بين مكة والطائف فترصد بها قريشاً وتعلم من أخبارهم (والقصة طويلة وقد جاء في ذيلها أنّه اشتبك معهم وأسر منهم جماعة وغنم غنائم ... «2».

3- بعد

غزوة بدر «3»، لما انصرف أبو سفيان ومن معه نادى: إنّ موعدكم بدر للعام القابل.

فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لرجل من أصحابه قل: نعم، هو بيننا وبينكم موعد.

ثم بعث رسول اللَّه صلى الله عليه و آله علي بن أبي طالب عليه السلام وقال له: أخرج في آثار القوم، فأنظر ماذا

______________________________

(1) وسائل الشّيعة، ج 11، ص 44.

(2) سيرة ابن هشام، ج 2، ص 252؛ والكامل، لابن الأثير ج 2، ص 113.

(3) سيرة ابن هشام، ج 3، ص 100.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 330

يصنعون وما يريدون، فإن كانوا قد جنبوا الخيل وامتطوا الإبل فإنّهم يريدون مكة وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل فإنّهم يريدون المدينة، والذي نفسي بيده لئن أرادوها لأسيرن إليهم فيها ثم لأُناجزنّهم!

قال عليّ: فخرجت في آثارهم أنظر ماذا يصنعون، فجنبوا الخيل وامتطوا الأبل وتوجّهوا إلى مكّة.

وكان هذا النّشاط التّجسسي للنّبي على يد أمير المؤمنين عليه السلام، عملٌ مهمٌ جدّاً ومؤثر في تحديد مصير المسلمين، وكان ينقذهم من أن يُفاجأوا.

4- ونقرأ «1» في قصة حرب أُحُد أنّ النّبيّ صلى الله عليه و آله أرسل رجلين يتجسسان على أحوال جيش قريش قبل أن يردوا أُحُد ليتعرفوا على عدد قوات العدو وعدتهم، كما أنّه أرسل «الحباب بن المنذر» سراً ليستطلع أوضاع قريش بعد أن نزلوا أحداً، وطلب منه أن يأتيه بالخبر سرّاً إذا كان عددهم كبيراً، وإذا كان قليلًا فلا مانع من أنْ يخبره علناً.

ولمّا كان عدد المشركين كبيراً، جاء الحباب وأخبر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بعددهم سرّاً.

5- وكتب نهج البلاغة، تبيّن لنا بوضوح أنّ الجهاز الأمني للإمام علي عليه السلام كان مطّلعاً على الأمور في كلّ بقاع الدولة الإسلاميّة.

ومن جملة ذلك «عهده لمالك

الأشتر» في تعيين المفتشين السّريّين للنّظر في كيفيّة قيام العمّال- الولاة بوظائفهم، يقول عليه السلام: «وابعثِ العيونَ من أهل الصّدق والوفاء عليهم فإنَّ تعاهُدَكَ في السّرِّ لأمورهم حَدْوَة لَهُمْ على استعمال الأمانة والرفق بالرعيّة».

وبطبيعة الحال، فإنّ هذا النّشاط واحد من نشاطات العيون التّجسسية، وهو أن يتجسسوا على كيفية قيام مأموري وموظفي الدولة الإسلاميّة بوظائفهم.

6- وفي كتاب آخر له عليه السلام إلى واليه على مكة «القُثم بن عباس» وهو أخو عبد اللَّه بن عباس، يقول فيه: «أمّا بعد، فإنَّ عَيني بالمغرب «2» كتب إليّ يُعلِمُني أنَّه وُجِّهَ إلى الموسم

______________________________

(1) المغازي للواقدي، ج 2، ص 206 و ص 207.

(2) الشام، وعاصمتها دمشق، التي تقع إلى الغرب (أو الشّمال الغربي) من الكوفة مركز خلافة الإمام عليّ عليه السلام.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 331

اناس من أهل الشّام العُمي القلوب الصُمِّ الأسماع الكُمهِ الأبصار الذين يَلبسُونَ الحقَّ بالباطل ويطيعون المخلوق في معصية الخالق .... فَاقِمْ على ما في يَدَيك قيامَ الحازم الصَّليب» «1» ويبدو أنّ معاوية كان قد أعدَّ مخططاً لخداع «القثم بن عباس» ودعوته لخيانة علي عليه السلام، وإيجاد الفوضى في موسم الحج، فأخبر عيون الإمام عليه السلام المخترقين جهاز حكم معاوية، الإمام عليّاً عليه السلام بهذا الخبر بسرعة فأسرع الإمام عليه السلام في إحباط تلك المؤامرة.

والكلام هنا في المأمورين السّريّين الذين يخترقون قلب أجهزة العدو وينفذون فيها لنقل المعلومات السرية.

7- ونقرأ كتاب أمير المؤمنين عليه السلام إلى «عثمان بن حنيف»، حيث يقول عليه السلام: «أمّا بَعدُ يا ابن حنيف فقد بلغني أنّ رجلًا من فتية أهل البصرة دعَاكَ إلى مأدُبَة فأسْرَعْتَ إليْها تُستطابُ لك الألوانُ وتُنقَلُ إليكَ الجفانُ» «2».

فمن هذا الكتاب يتضح لنا بأنّ عيون الإمام عليه السلام السريّة

لم تكن تنقل له المسائل السّياسية والعسكرية فقط، بل وكذلك المسائل الأخلاقيّة التي لم تكن مناسبة لمقام الولاة وموظفي الحكومة الإسلاميّة وغير المنسجمة مع أُصول التّعاليم الإسلاميّة وخاصّة فيما يرتبط بالزّهد، وأنّ جزئيات حركاتهم غير خافية على عيون الإمام التّجسسية الفطنة.

وشبيه هذا المعنى نراه في كتابه عليه السلام إلى «المنذر بن جارود» واليه على «اصطخر» حيث ورد في هذا الكتاب:

«أمّا بعدُ فإنَّ صلاحَ أبيك غرَّني مِنك، وظَننتُ إنّك تَتَّبِعُ هَدْيَهُ، وتَسلُكُ سَبيلَهُ فإذا أنت فيما رُقّيَ إليَّ عَنْكَ لا تَدَعُ لِهَواكَ انْقياداً ولا تبقى لآخرتكَ عِتاداً تعْمُرُ دُنياكَ بِخَرابِ آخرتِكَ وتَصِلُ عَشِيرَتَكَ بِقَطِيعِةِ دِينِكَ» «3».

والمستفاد من الرّوايات أنّ خيانة إبن الجارود هي أنّه اختلس أربعمائه الف درهم من

______________________________

(1) نهج البلاغة، الرسالة 33.

(2) المصدر السابق، الرسالة 45.

(3) المصدر السابق، الرسالة 71.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 332

بيت المال، له ولأقربائه، فعزله الإمام عليه السلام من ولايته وحبسه مدة من الزمن «1».

ونرى هنا أنّ عيون الإمام عليه السلام قد نقلوا خيانة هذا الوالي الخفيّة بعد أن كشفوها، وأنّ الإمام عليه السلام أبدى موقفاً شديداً تجاهه.

8- جاء في تاريخ حياة الإمام الحسن المجتبى عليه السلام لمّا بلغ معاوية بن أبي سفيان وفاة أمير المؤمنين عليه السلام وبيعة النّاس ابنه الحسن عليه السلام دسَّ رجلًا من حِمْيَر إلى الكوفة، ورجلًا من بني القين إلى البصرة ليكتبا إليه بالأخبار، ويفسدا على الحسن الأمور، فعرف ذلك الحسن عليه السلام فأمر باستخراج الحميري من عند لجّام بالكوفة، فأُخرج وأمر بضرب عنقِه، وكتب إلى البصرة باستخراج القينيِّ من بني سليم فأُخرج وضُربت عُنُقه» «2» وكتب الحسن عليه السلام إلى معاوية: أمّا بعد فإنّك دسست الرّجال للإحتيال والإغتيال وارصدت العيون كأنك تحب اللقاء وما أشكُّ

في ذلك فتوقعه إن شاء اللَّه.

9- بعد حرب صفين أعلن جماعة من «بني ناجية» يتزعمهم «الحريث بن راشد» مخالفتهم للإمام ونقضهم البيعة، فأرسل الإمام عليّ عليه السلام إلى الحريث وطلب منه المثول عنده ليبيّن له السُنَن وأموراً من الحق، فلم يحضر الحريث وفرَّ برجاله، وفي الطريق قتلوا رجلًا مسلماً من أتباع الإمام عليه السلام، وتركوا يهودياً واعتبروه من أهل الذمّة، فكتب الإمام عليه السلام كتاباً إلى عمّاله في تلك المناطق، مضمونه: أنّ قوماً مذنبين هربوا، ونظن أنّهم قصدوا البصرة، وكان ممّا جاء في ذلك الكتاب: «واجْعَل عليهم العيون في كل ناحية من أرضك ثم اكتب إليّ بما ينتهي اليك عَنْهُمْ» «3».

______________________________

(1) سفينة البحار، مادة (نذر).

(2) بحار الأنوار، ج 44، ص 45، ح 5.

(3) شرح نهج البلاغة، لابن ابي الحديد، ج 3، ص 130.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 333

من مجموع الروايات الآنفة الذكر، والرّوايات والتّواريخ الاخرى التي يطول المقام بذكرها، يتضح جيداً أنّ أجهزة التجسس والتفتيش كانت تعمل دائبة في عصر النّبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله والأئمّة المعصومين عليهم السلام سواءً في مجال كشف مؤامرات الأعداء، أو في إبطال خطط الأجهزة الجاسوسية للمخالفين، أو في التحقيق في سلوك موظفي الدّولة الإسلاميّة، وكذلك كشف مؤامرات المنافقين في داخل الدّولة الإسلاميّة.

وبطبيعة الحال، فإنّ أساليب «التّجسس» و «ضد التّجسس» في زماننا تغيرت كثيراً كغيرها من المسائل عمّا كانت عليه في ذلك الوقت واتسعت وتعقدت كثيراً واستفيد فيها من التّكنولوجيا الحديثة المتطورة بشكل واسع.

ولا شك، أنّ الحكومة الإسلاميّة في هذا العصر لا يمكنها الإكتفاء بالأساليب القديمة والبدائيّة للوصول إلى أهدافها الأمنية بواسطة الأمن المضاد، بل لابدّ أن تتجهّزَّ بكلّ الوسائل المتطورة، لكي تكشف كل مؤامرات الأعداء ومخططاتهم الرامية إلى

تضعيف الدولة الإسلامية وقهرها، كما أنّ عليها أنْ تراقب بدقة تصرفات المسؤولين في الدوّلة الإسلاميّة، ونشاطات الأحزاب والتجمعات السياسيّة المتواجدة، لإقرار الأمن والحدِّ من المفاسد والتخريب.

وعلى الحكومة الإسلاميّة أن تستعين بالتّكنولوجيا الحديثة وكلّ أساليب التّجسس ولا تكتفي بالأساليب القديمة.

وعلى الرّغم من أنّ هذا يكلِّفُ الدّولة أموالًا طائلة، إلّاأنّه قد يكون صرف أموال قليلة في هذا المجال سبباً للحدِّ من ضياع أموالٍ طائلة في المجالات العسكريّة والسياسيّة والإقتصاديّة، أو تكون سبباً في الوقاية من خسائر كثيرة لا يمكن تعويضها.

فمثلًا لو أنّ أجهزة التّجسس في الدّولة الإسلاميّة، كشفت عملية تفجير تستهدف زعزعة أمنها، فإنّها ستمنع من حدوث خسائر فادحة في القوى البشريّة والاقتصاديّة، والأهم من ذلك أنّها ستكشف مؤامرة الأعداء العسكريّة الخطيرة وتمنع من مضاعفات مثل هذا العمل.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 334

4- إستراق السّمع

لا شك في أنّ مراقبة المكالمات الهاتفية الشّخصية والتّجسس على محتواها للإطلاع على أسرار النّاس، مصداق من مصاديق الآية الشّريفة في سورة الحجرات الدّالة على حرمة «التّجسس»، كما أنّ الرّوايات الإسلامية تؤكد هذا المعنى.

فقد ورد في حديث عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «لا تتّبعوا عَثَرات المسلمين فإنه من تَتَبّع عثراتِ المسلمين تَتَّبعَ اللَّهُ عَثْرَتهُ، ومن تتَّبعَ اللَّهُ عَثرتَه يَفْضَحُهُ».

والملفت للنظر هو أنّه ذكر المخاطبين في هذا الحديث بقوله: «يا معشرَ من أسْلَمَ بلسانهِ ولم يُسلمْ بِقَلْبِه» «1».

وفي أصول الكافي، في باب من طلب عثرات المسلمين وعوراتهم ذكرت أحاديث كثيرة أخرى- غير الحديث أعلاه-.

وحرمة هذا الأمر كانت مسلّمَةً بين المسلمين إلى درجة أنّ عمر بن الخطّاب كان ذاتَ ليلة يتجول في أزقة المدينة، فسمع رجلًا يُغنّي في داره، فتسلق عمر حائط الدّار وصاح بالرّجل يا عدوّ اللَّه أتعصي اللَّه هنا وتظن أنّ اللَّه

لن يفضحك؟!

فقال الرجل: مهلًا أيّها الخليفة، فإن كنتُ قد ارتكبتُ ذنباً واحداً فإنّك قد ارتكبت ثلاثة ذنوب، فإن اللَّه عزّوجلّ يقول «وَلَا تَجَسَّسُوا» وأنت تتجسس، وإن اللَّه عزّوجلّ يقول «وَأتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِهَا» (البقرة/ 189) وأنت سطوت من على الجدران، وإنّ اللَّه عزّوجلّ يقول:

«لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلّمُوا عَلَى أَهْلِهَا» (النور/ 27) ولم تفعل أنت ذلك!

فاستحى عمر وقال: لو عفوتُ عنك فهل تترك اقتراف هذا الذنب؟

قال الرجل: نعم، فعفى عنه عمر وخرج «2».

وعلى أيّة حال، فلا شبهة في أنّ استراق السّمع، بمعنى مراقبة مكالمات النّاس، العادية منها أو الهاتفية، وحتّى التّجسس على الرّسائل والمكاتبات الخاصّة، كل ذلك من مصاديق التّجسس الواضحة الحرمة.

______________________________

(1) أصول الكافي، ج 2، ص 355، ح 4.

(2) كنز العمّال، ج 3، ص 808، ح 8827.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 335

ولكن، قد تقتضي الضرورات أحياناً، أن ترتكب الحكومة الإسلاميّة مثل هذا الفعل في بعض الموارد، وهو مورد احتمال وجود مؤامرة ضد الإسلام والمسلمين، واحتمال وجود خطر على الأنفس والأموال المحترمة، ففي مثل هذه الموارد لا مفرَّ من استراق السمع والتفتيش في الأعمال، بالضّبط كما يتمّ ذلك في التّفتيش عن المواد المخدرّة وأمثال ذلك في الطرق العامة ووسائل النّقل أو تفتيش الأشخاص في مداخل المدن!

والواقع أنّ هذه المسألة فرع من فروع مسألة تزاحم الواجبات أو تزاحم الواجب والحرام، ولابدّ من مراعاة «المرجحات» ومسألة «الأهم والمهم».

وبتعبير أوضح، التّجسس على أفعال المسلمين حرام ولكن حفظ نفوس أفراد المجتمع، ونظام الدّولة الإسلاميّة، وإحباط مؤامرات الأعداء، أهم من ذلك، وعليه ففي كلّ مورد يخاف فيه من تعرّض مثل هذه الأمور للخطر، يجوز استراق السّمع للحدِّ من وقوع تلك المخاطر.

5- التعذيب الجسدي لأخذ الإعترافات!
اشارة

لاشكَّ في أنّ إيذاء أي إنسان بلا

مبرر غير جائز، وقلنا في الأبحاث السابقة أيضاً: إنّه لا يجوز تعذيب أحدٍ لأخذ الإعترافات منه، وأنّ كل إقرار مأخوذ بهذا الأسلوب غير معتبر شرعاً وليس له أيّة قيمة قانونية.

ففي حديث عن أمير المؤمنين الإمام عليّ عليه السلام قال: «مَنْ أقرَّ عِنْدَ تجريدٍ أو تخويف أو حَبسٍ أو تهديد فلا حدَّ عَلَيْه» «1».

ولكن إذا كان المتهم قد ارتكب جرماً بيّناً غير ذلك الجرم الذي لم يثبت عليه، جاز تعزيره لأجله، كما لو ألقي القبض على سارق في أثناء اقتحامه منزل أحد الناس ولم تثبت سرقته، فلو عزّر لاقتحامه المنزل واعترف أثناء التّعزير بالسّرقة ظناً منه أنّ هذا التّعزير

______________________________

(1) وسائل الشّيعة، ج 18، ح 2، الباب السابع من أبواب حدِّ السرقة.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 336

تعذيب لأخذ الإقرار، وثبت بالقرائن صدق اعترافه هذا (كما لو دلَّ على مواضع إخفاء تلك المسروقات وتبين صحة ذلك)، أمكن الأخذ بهذا الإقرار واعتباره شرعيّاً، وذلك لأنّ القرائن القطعيّة هي التي تثبت صحة هذا الإقرار.

كما يمكن اتباع هذا الأسلوب في خصوص الجواسيس الأجانب حتى لو لم يرتكبوا مخالفة قطعيّة، وكان الحاكم الشرعي يعتقد يقيناً أو ظناً قوياً بأنّ هذا الجاسوس يحمل معلومات سريّة خطيرة تهدد مصير الدّولة الإسلاميّة والمسلمين بالخطر، فإنه في مثل هذه الحالة يمكن تعذيب هذا الجاسوس والتّضييق عليه بشرط مراعاة التّعامل الإنساني.

وقد مرَّ بنا في قصة «حاطب بن أبي بلتعة»، عندما امتنعت «سارة» تلك الجاسوسة، عن الإعتراف وتسليم الكتاب الذي كتبه حاطب لأهل مكة، سلّ علي عليه السلام سيفه وهدّدها بالقتل، فخافت «سارة» فأخرجت الكتاب من شعرها وسلمته للإمام عليه السلام. فهذا الإقرار كان مقروناً بالتّعذيب الرّوحي ومع ذلك حكم بصحته.

فمن الواضح أنّ مثل هذه الضّغوط في مثل هذه

الموارد، ليست أمراً مخالفاً للعقل ولا للشّرع لأنّ أهميّة المسألة تكون إلى درجة يجوز معها مثل هذا التّعذيب، ففي تلك الحادثة، لو أن خبر عزم الرّسول صلى الله عليه و آله على فتح مكة، كان قد وصل إلى أسماع قريش، لأريقت دماء كثيرة في ذلك البلد الآمن مع أنّ نتيجة الحرب كانت واحدة.

وفي قصة قضاء أمير المؤمنين عليه السلام نجد موارد كثيرة مارس الإمام عليه السلام فيها التّعذيب النفسي ضد المجرمين وخاصّة في القضايا المهمّة التي كانوا يرفضون الإعتراف والإقرار فيها، فكان الإمام يمارس مثل ما مرَّ ذكره من الأساليب للحصول على إقرارهم، فمثلًا جاء في قضيته: أنّ رجلين تداعيا عنده، وكان كل منهما يدعي أنّه السيّد وأنّ الآخر غلامه، فقال الإمام عليه السلام لقنبر: يا قنبر علي بسيف رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لأجل أن أضرب رقبة العبد (بعد أن أدخل رأسيهما في ثقبين أعدّهما خصّيصاً لهذا الأمر)، قال: فأخرج الغلام رأسه مبادراً، فقال عليّ عليه السلام للغلام: ألست تزعم أنّك لست بعبد، ومكث الآخر في الثقب، قال: بلى إنّه ضربني وتعدّى علي «1».

______________________________

(1) وسائل الشيعة، ج 18، أبواب كيفية الحكم، باب 21، ح 4، ص 208.

نفحات القرآن، ج 10، ص: 337

فلا شك في أنّ هذا التهديد كان مؤذياً للغلام الواقعي ولكن هذا المقدار جائز للكشف عن واقع حقٍّ مهم ففي موارد التجسس يكون الأمر كذلك، بل هو أعلى وأولى.

وبتعبير آخر، فإنّ قانون «الأهم والمهم» و «تزاحم الواجبات والمحرمات» يُجيز مثل هذا التعذيب في مثل هذه الموارد.

ولكن، ينبغي أن لا يُستغل هذا القانون بهذه الذّريعة ويُعذَّب المتهمّون تعذيباً شديداً لا يطاق أو يطبق هذا القانون والإستثناء لأدنى سوءِ ظنٍ بالأشخاص.

وينبغي أن لا

ننسى أنّ هذا مجرد استثناء، ولا يجوز الاستفادة من مثل هذه الأساليب إلّا في موارد الضّرورة مع رعاية الحقوق الإنسانيّة كمّاً وكيفاً.

ومن هنا تتضح لنا مسألة أخرى وهي أنّ بعض المأمورين لجمع المعلومات والأسرار يضطرون- ولكسب الأخبار الحسّاسة والمصيرية- أن يتزيّوا بزي الأعداء ويتقمصوا شخصيات أفراد العدو في الملبس والمأكل كي يتمكنوا من اختراق العدو، وفي مثل هذه الحالات قد يضطرون إلى ارتكاب بعض الذّنوب كأكل الحرام أو الحديث ضدّ الإسلام والمقدّسات الإسلاميّة لتحقيق أغراضهم، فالحكم هنا مشمول لقاعدة «تزاحم الواجب والحرام» و «الأهم والمهم»، فمتى ما كان الهدف أعلى وأهم من الذّنب، كان ارتكاب ذلك الذّنب جائزاً، لتحقيق الهدف.

سؤال: هل الغاية تبرر الوسيلة؟

قد يقال، إنّ ما ذكرنا من استثناءات أليس تعبيراً آخر عن ما هو معروف عند بعض زعماء المدارس الإلحادية المادية من أنّ: «الغايات تبرر الوسائل»؟

و الجواب:

وفي الإجابة عن هذا السّؤال، لابدّ من الإلتفات إلى نكتة واحدة وهي أن هؤلاء الذين يقولون بهذه المقالة لم يحددوا قيداً ولا شرطاً لها، أي إنّهم يقولون: للوصول إلى الأهداف

نفحات القرآن، ج 10، ص: 338

(بلا استثناء) يمكن التّوسل بأيّة وسيلة (بلا استثناء)، ولذا فإنّهم يوجهون الحروب المدمِّرة الدامية من أجل الحفاظ على مصالحهم الإقتصاديّة، فيذهب آلآف النّاس ضحيّة من أجل عدم تضرر مصالحهم بأقل ضرر.

أمّا أتباع الأديان السّماويّة، فهم ينكرون هذه العمومية في الشّقين معاً، أي أنّه لا يكفي كل هدفٍ لتبرير وتجويز الوسيلة، كما أنّه ليست كل وسيلة مجازة وإن كان الهدف سامياً، فالحاكم هنا هو قانون «الأهم والمهم»، تلك الأهميّة المقررة عقلًا وشرعاً، لا كلّ أهميّة وإن كانت مصلحة شخصيّة، وهوى وهوَساً شيطانيّاً.

فقانون الأهم والمهم ليس أمراً يمكن إنكاره- فمثلًا يجوز ضرب وجه من استعمل الترياق ويريد النّوم- ذلك النّوم الذي يؤدّي بحياته- بعدة صفعات على خدّه ليفيق من نومه من أجل إنقاذه من الموت، وأكبر من ذلك يمكن أخذ الضّرائب المالية من النّاس من أجل إعداد القوة المناسبة لحفظهم من أخطار الأعداء وغزوهم، أو حبس كلّ أفراد المجتمع في منازلهم لعدة أيّام، لتلقيحهم بلقاح ينقذهم من وباءٍ خطير يهدد حياتهم جميعاً.

هذا ما يقوله أتباع مدرسة الأنبياء عليهم السلام، بينما نجد أنّ أتباع المدارس الماديّة الإلحادية لا يشترطون أي شرط لتطبيق قاعدتهم، فيجيزون كل وسيلة للوصول إلى أي هدف من أهدافهم.

وبهذا ينتهي الجزء العاشر من نفحات القرآن والذي تناول البحث حول الحكومة والولاية، وبهذا تنتهي الدورة الكاملة في

المعارف والعقائد الإسلاميّة من وجهة نظر القرآن الكريم وعلى أساس التّفسير الموضوعي في عشرة أجزاء. نشكر اللَّه ونحمده على هذا التّوفيق الذي شملنا لأداء هذا الأمر المهم.

إلهنا: تقبل منا جميعاً هذا المجهود المتواضع واجعله ذخراً لنا في يوم الجزاء، ووفق كلّ من يود الإطلاع على المعارف والعقائد الإسلاميّة من وجهة نظر القرآن الكريم، للإطّلاع عليه.

تمّ في آخر شهر صفر يوم ذكرى استشهاد

الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام

سنة 1416 ه ق

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.