نفحات القرآن المجلد 9

اشارة

سرشناسه : مكارم شيرازي ناصر، - 1305 عنوان و نام پديدآور : نفحات القرآن اسلوب جديد في التفسير الموضوعي للقرآن الكريم ناصر مكارم شيرازي بمساعده مجموعه من الفضلا مشخصات نشر : موسسه ابي صالح النشر و الثقافه [1377؟]. مشخصات ظاهري : ج 6 وضعيت فهرست نويسي : فهرستنويسي قبلي يادداشت : عربي مندرجات : ج 1. العلم و المعرفه في القران .-- ج 2. معرفه الله في القرآن .-- ج 3. .-- ج 4. معرفه صفات و جلال الله .-- ج 5، 6. المعاد في القرآن موضوع : تفاسير شيعه -- قرن 14 رده بندي كنگره : BP98/م7ن7 1377 رده بندي ديويي : 297/179 شماره كتابشناسي ملي : م 77-13711

الولاية والإمامة

اشارة

1- الولاية والإمامة العامة في القرآن الكريم

2- الولاية والإمامة العامة في السنة النبوية الشريفة

نفحات القرآن، ج 9، ص: 6

الولاية والإمامة

تمهيد:

اشارة

إنّ «الولاية» و «القيادة» بشكل عام، «والإمامة» بشكل خاص- والتي تعني- خلافة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، هي من أهم الابحاث العقائدية والتفسيرية والروائية في تأريخ الإسلام، ولم يجر الحديث بشأن ايّ قضية بالقدر الذي جرى بشأن الأمامة على مدى التاريخ الإسلامي.

ومن المؤسف حقاً خروج هذه المسألة عن نطاق الكلام والبحث والاستدلال ودخولها ميادين الصراع والحروب الدموية، وكما يقول بعض المتكلمين:

«ما سلّ في الإسلام سيف كما سلّ في الإمامة».

ومن هنا فقد تكامل هذا الجانب من العقائد الإسلامية أكثر من غيره، والِّفت حوله المزيد من الكتب، وجرى تحقيق كافة جوانبه بالنسبة للذين يريدون دراسته بدقة وتفحص، وإن كان البعض من هذه البحوث غير منطقي ويدعو إلى التفرقة والتعصب.

أمّا واجبنا نحن في مثل هذه المسألة المهمّة والحساسة والواسعة فيتلخص في مايلي:

1- عزل البحوث المنطقية والاصولية عن غير المنطقية، والبحوث الاستدلالية والمحققة عن البحوث المليئة بالتعصب، والاستناد إلى الكتاب والسنة، والبرهان والعقل، ومن ثم تنظيمها.

2- مطابقة المسائل المتعلقة «بالإمامة» مع «الولاية والقيادة» والتي هي من تفرعات الولاية الإلهيّة للمعصومين عليهم السلام.

3- بالنظراً إلى أنَّ هدفنا الحقيقي في هذا البحث التفسيري هو ايضاح هذه المسألة من وجهة النظر القرآنية، فيتحتم علينا التمعن والتفسير الدقيق لللآيات المتعلقة بالإمامة.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 7

وكما يقول بعض الباحثين: «إن قضية الإمامة لا تخص ماضينا، فحسب فهي قضية العالم الإسلامي المعاصر وقضية الامّة، فهي عامل بقاء واستمرار النبوة وقضية الإسلام المصيرية» «1».

وبالطبع، فإننا نتناول بالبحث أولًا مسألة القيادة في عالم الوجود ككُل، ثم في عالم البشرية، ومن ثم نتطرق إلى قيادة الأئمّة

المعصومين عليهم السلام، وفي خاتمة المطاف نتعرض إلى مسألة حكومة وقيادة نوّابهم، ولكن يبدو من الضروري ذكر بعض الامور:

1- ماهي الإمامة؟

فيمايتعلق بتعريف الإمامة هنالك اختلاف كثير في وجهات النظر، ولابدّ من وجود هذا الاختلاف، فالامامة في نظر طائفة «الشيعة واتباع مذهب أهل البيت عليهم السلام» من اصول الدين والاسس العقائدية، بينما تعتبر في نظر طائفة اخرى «أهل السّنة» من فروع الدين والأحكام العملية.

فمن البديهي أن لا تتشابه نظرة الطائفتين إلى مسألة الإمامة، وأن لا يكون لهما تعريف واحد لها.

من هنا نرى أحد علماء السنة يعرِّف الإمامة هكذا: «الإمامة رئاسة عامة في امور الدين والدنيا، خلافة عن النبي صلى الله عليه و آله» «2».

واستناداً إلى هذا التعريف، فالإمامة مسؤولية ظاهرية في حدود رئاسة الحكومة، وغاية الأمر أنّ الحكومة تتأطَّر بإطارٍ ديني، واتخذت طابع خلافة النبي صلى الله عليه و آله «الخلافة والنيابة في أمر الحكومة»، وبطبيعة الحال يمكن انتخاب مثل هذا الإمام من قبل الناس.

واعتبر البعض أنّ الإمامة تعني: «خلافة شخص للنبي صلى الله عليه و آله في إقامة الأحكام الشرعية

______________________________

(1) الإمامة والقيادة، تأليف آية اللَّه الشهيد المطهري، ص 13.

(2) شرح التجريد للقوشجي، ص 472

نفحات القرآن، ج 9، ص: 8

وحراسة الدين بنحوٍ تكون اطاعته واجبة على جميع الامّة» «1».

وهذا التعريف لا يختلف عن التعريف الأول نوعاً ما، لأنّه يحتوى على نفس المفهوم والمضمون.

كما أنّ ابن خلدون قد سار على نفس هذا المعنى في مقدمة تاريخه المعروف «2».

ويقول المرحوم الشيخ المفيد في «أوائل المقالات» في بحث العصمة مايلي: «إنّ الأئمّة القائمين مقام الأنبياء في تنفيذ الأحكام، وإقامة الحدود، وحفظ الشرائع، وتأديب الأنام معصومون كعصمة الأنبياء» «3».

فطبقاً لهذا التعريف الذي يجاري مايعتقد به اتباع أهل البيت عليهم السلام أنّ الإمامة

أعلى مرتبة وأشمل من الزعامة والحكومة على الناس، بل إنّ جميع مسؤوليّة الأنبياء «سوى استلام الوحي وما شابهه» ثابتٌ للائمة، من هنا فشرط العصمة المتوفر في الأنبياء متوفر في الأئمّة أيضاً.

لهذا فقد جرى تعريف الإمامة في نظر الشيعة كما ورد في كتاب شرح احقاق الحق كما يلي: «هي منصبٌّ إلهي حائز لجميع الشؤون الكريمة والفضائل إلّاالنبوة وما يلازم تلك المرتبة السامية» «4».

وبناءً على هذا التعريف، فالإمام ينصب من قبل اللَّه تعالى عن طريق النبي صلى الله عليه و آله، ويمتلك نفس الفضائل والخصائص التي يمتلكها النبي صلى الله عليه و آله «عدا النبوة»، ولا ينحصر عمله في الحكومة الدينية فقط.

لهذا يعتبر الإيمان بالإمامة جزءً من اصول الدين لا من فروع الدين.

______________________________

(1) الشرح القديم للتجريد لشمس الدين الاصفهاني نقلًا عن توضيح المراد، تعليقة على شرح تجريد الاعتقاد للسيد هاشم الحسيني الطهراني، ص 672.

(2) مقدمة ابن خلدون، ص 191.

(3) أوائل المقالات، ص 74.

(4) احقاق الحق، ج 2، ص 300 (الهامش الأول).

نفحات القرآن، ج 9، ص: 9

2- هل الإمامة من الاصول أم من الفروع؟

يتبيّن جواب هذا السؤال ممّا قيل في البحث السابق، لأنّ الآراء مختلفة في مسألة الإمامة، يقول «الفضل بن روزبهان» صاحب «نهج الحق» الذي يعتبر «احقاق الحق» رداً عليه، مايلي: «إنّ مبحث الإمامة عند الأشاعرة ليس من اصول الديانات والعقائد بل هي عند الأشاعرة من الفروع المتعلقة بأفعال المكلّفين» «1».

كما أنّ سائر مذاهب أهل السنّة لا يختلفون مع الأشاعرة في ذلك، لأنّهم يعتبرونها من التكاليف العملية الموكولة إلى الناس، في حين أنّ الشيعة واتباع أهل البيت عليهم السلام ونفر قليل من أهل السنة كالقاضي البيضاوي وبعض من اتباعه يعتبرونها من اصول الدين «2».

والدليل هو أنّهم يعدون الإمامة منصباً إلهياً يجب أن يعين من

قبل اللَّه تعالى وأحد شروطهاالعصمة التي لا يعلمها إلّااللَّه، والإيمان بالائمة واجب كالايمان بالنبي صلى الله عليه و آله الباني الأول لقواعد الشريعة، إلّاأنّ هذا لا يعني أنّ الشيعة يعتبرون المخالفين لهم في قضية الإمامة كافرين، بل إنّهم يعتبرون جميع الفرق مسلمين، وينظرون إليهم على أنّهم اخوةٌ في الدين، وإن لم يقبلوا آراءَهم في مسألة الإمامة، ومردُّ ذلك لكونهم يقسمون اصول الدين الخمسة إلى قسمين، الاصول الثلاثة الاولى التوحيد والنبوة والمعاد على أنّها اصول الدين، والإمامة والعدل بأنّها اصول المذهب.

نختتم هذا الكلام بحديث عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام- الذي يعتبر ملهماً لاتباع أهل البيت عليهم السلام- في مسألة الإمامة: «إنّ الإمامة زمام الدين ونظام المسلمين وصلاح الدنيا وعزّ المؤمنين، إنّ الإمامة اسُّ الإسلام النامي وفرعه السامي بالإمام تمام الصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد وتوفير الفي ء والصدقات وامضاء الحدود والأحكام، ومنع الثغور والاطراف، الإمام يحلُّ حلال اللَّه، ويحرّم حرام اللَّه، ويقيم حدود اللَّه ويذبُ عن دين اللَّه، ويدعو إلى سبيل ربّه بالحكمة والموعظة الحسنة والحجة البالغة» «3».

______________________________

(1) احقاق الحق، ج 2، ص 294؛ دلائل الصدق، ج 2، ص 4.

(2) دلائل الصدق، ج 2، ص 8

(3) اصول الكافي، ج 1، ص 200.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 10

3- متى بدأ البحث في الإمامة؟

اشارة

بعد رحيل النبي صلى الله عليه و آله جرى جدلٌ حول من يخلف النبي، فطائفة كانوا يعتقدون بأنّ النبي صلى الله عليه و آله لم ينصب احداً لخلافته، واوكل هذا الأمر إلى الأمة، بأنْ يجلسوا ويختاروا قائداً من بينهم، القائد الذي يمسك بزمام الحكم، ويحكم الناس باعتباره موكلًا من قبلهم، وإن لم يجر هذا الاختيار أبداً، بل إنّ مجموعة صغيرة من الصحابة قامت باختيار الخليفة في مرحلة،

وفي المرحلة الاخرى اتخذ انتخاب الخليفة طابعاً تعينياً، وفي المرحلة الثالثة أُوكِلَ هذا الاختيار إلى مجلس من ستة أشخاص كلهم معينون.

ويطلق على اتباع هذا المنحى «أهل السّنة».

وفريق آخر كانوا يعتقدون بوجوب تعيين الإمام وخليفة النبي صلى الله عليه و آله من قبل اللَّه تعالى لأنّه يجب أن يكون مثل النبي صلى الله عليه و آله معصوماً من الزلل والخطأ، وذا علم خارق للعادة لكي يتحمل قيادة الأمة معنوياً ومادياً، ويحفظ أساس الإسلام، ويبيّن مشاكل الأحكام، ويشرح دقائق القرآن، ويعمل على استمرار الإسلام.

ويطلق على هذه الطائفة «الإمامية» أو «الشيعة»، وقد أخذت هذه الكلمة من الأحاديث المعروفة والصادرة عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله.

فقد روي في تفسير الدر المنثور وهو من المصادر المعروفة لدى أهل السنّة عن جابر بن عبد اللَّه الأنصاري تعقيباً على الآية الكريمة: «اولئكَ هُم خَيرُ البَرِيّةِ»، أنّه قال: كنّا عند النبي فأقبل علي عليه السلام فقال النبي صلى الله عليه و آله: «والذي نفسي بيده أنّ هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة»، ونزلت: «انَّ الَّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ اولئكَ هُمْ خَيْرُ البَريَّةِ». (البينة/ 7)

فكان أصحاب النبي صلى الله عليه و آله إذا أقبل علي، قالوا جاء خير البرية «1».

ويروي الحاكم النيسابوري وهو من علماء أهل السنة المعروفين في القرن الخامس الهجري هذا المعنى في كتابه المعروف شواهد التنزيل بطرق مختلفة عن النبي صلى الله عليه و آله، وقد

______________________________

(1) تفسير در المنثور، ج 6، ص 379، ذيل الآية 7، من سورة البينة.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 11

تجاوز عدد رواياته العشرين.

منها مانقله عن ابن عباس، لما نزلت آية: «انَّ الَّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ اولئكَ هُمْ خَيْرُ البَريَّةِ»، قال النبي صلى الله عليه و

آله لعلي عليه السلام: «هم أنت وشيعتك» «1».

وجاء في رواية اخرى عن أبي بريدة: لما تلا النبي صلى الله عليه و آله هذه الآية، قال لعلي عليه السلام: «هم أنت وشيعتك ياعلي» «2».

كما ذكر هذا الحديث الكثير من علماء الإسلام لاسيما من أهل السنّة مثل ابن حجر في صواعقه ومحمد الشبلنجي في نور الأبصار «3».

بناءً على شهادة هذه الروايات، فإنّ النبي صلى الله عليه و آله هو الذي إختار لأتباع علي عليه السلام ومحبيه هذه التسمية «الشيعة»، فهل يبقى مجال للعجب في انزعاج البعض من هذا الاسم ويعتبرونه شؤماً ونحساً، ويعدون حرف (الشين) الذي في مطلعه سبباً «للشر» و «الشؤم» وسائر الألفاظ التي تبتدئ بحرف الشين؟! على الرغم من أنّ حرف (السين) في مطلع اسم المذهب الآخر، تبترئ به كلمات من قبيل (السُمّ) و (السَرطان) و (السِلّ) و (السَفاحة) وغير ذلك.

إنّ هذه التعابير تعتبر بحق مثيرة للدهشة بالنسبة للباحث الذي يرغب في أن يسير في ظل البراهين المنطقية دائماً. والحال يمكن اختيار كلمات حسنة أو سيئة لكل حروف الهجاء بدون استثناء.

على أيّة حال فتاريخ ظهور الشيعة ليس بعد ارتحال النبي صلى الله عليه و آله بل في حياته صلى الله عليه و آله، حين اطلق هذه الكلمة على محبي واتباع علي عليه السلام، وكلُّ الذين يعتقدون بالنبي صلى الله عليه و آله أنّه رسول اللَّه، يعرفون أنّه لا يتكلم عن الهوى «وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوى إنْ هُوَ إِلَّا وَحيٌ يُوحى .

(النجم/ 3- 4)

وإذا ما قال لعلي عليه السلام: أنت وشيعتك المفلحون يوم القيامة فهذه حقيقة.

______________________________

(1) شواهد التنزيل، ج 2، ص 357.

(2) المصدر السابق، ص 359.

(3) الصواعق، ص 96؛ ونور الابصار ص 70 و

101، ومن أجل المزيد من الاطلاع على رواة هذا الخبر والكتب التي ذُكر فيها راجعوا من احقاق الحق، ج 3، ص 287 وما بعدها والجزء 14، ص 258.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 12

اصطلاح «الإمام» في اللغة والقرآن:

كلمة إمام كما قال أرباب اللغة، هي اسم مصدر على وزن «كتاب» وتطلق على كل ما يتجه إليه الإنسان ويقصده، ويختلف معنى هذه الكلمة باختلاف الموارد والجهات التي يستفاد منها لدى استعمالها فيها.

فتارة يقال: إمام الجمعة، وإمام الجماعة، وإمام الهدى واخرى يقال: إمام الضلالة «1».

وقد جاءت هذه الكلمة في الأصل من مادة «أمَّ» وتعني القصد، يقول صاحب مقاييس اللغة: «أمّ» تعني الأصل والمرجع والجماعة والدين، والإمام تعني منْ يُؤتمُّ به وهو إمام في الأفعال.

كما ذكرت معان كثيرة لكلمة إمام في لسان العرب، منها الإمام، المعلم، والشاقول الذي يستخدم أثناء تشييد المباني لتنظيم العمل، والسبيل، والمقدمة ونحو ذلك.

إلّا أنَّ مؤلف التحقيق، ارتأى أنَّ أصل جميع هذه المعاني هو القصد المقترن بالاهتمام الخاص، وحتى لو قيل للام «أماً» أو اطلقت كلمة «أم» على أصل وقاعدة كلِّ شي ء فهو لأنّها غاية الإنسان ومرامه، كما تفيد كلمة الإمام معنى المقتدى أي من يقصده الناس ويبدون عنايةً خاصة به.

ولابدّ من التذكير بهذه الملاحظة وهي أنّ هذه الكلمة وجمعها «أئمّة» قد وردت في القرآن الكريم اثنا عشر مرّة تماماً «سبع مرات بصيغة المفرد وخمس مرات بصيغة الجمع».

ففي مورد جاءت بمعنى اللوح المحفوظ: «وَكُلَّ شَى ءٍ احْصَيْنَاهُ فِى امَامٍ مُبّيِنٍ». (يس/ 12)

ولأنه قائد ودليل الملائكة لتمييز أعمال العباد، وكلهم يستلهمون منه، واستخدمت أيضاً مرّة واحدة بمعنى السبيل والطريق: «وَانَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ». (الحجر/ 79)

لأنّ الإنسان ومن أجل بلوغ هدفه يهتم بالسبل، وقد اطلق على التوراة بأنّها إمام اليهود مرتين: «وَمِنْ قَبْلِهِ

كِتَابُ مُوسَى امَامَاً وَرَحْمَةً». (الاحقاف/ 12) (هود/ 17)

واطلقت خمس مرات على الأئمّة الصالحين مثل قوله: «قَالَ انِّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ امَامَاً».

(البقرة/ 124)

______________________________

(1) التحقيق، مادة (أمّ).

نفحات القرآن، ج 9، ص: 13

وفي مكان آخر يقول تعالى بشأن فئة من الأنبياء: «وَجَعَلْنَاهُم ائمّةً يَهْدُونَ بِامْرِنَا».

(الأنبياء/ 73)

كما ورد هذا المفهوم العام والجامع في الآيات (74 من سورة الفرقان، و 5 من سورة القصص، و 24 من سورة السجدة أيضاً).

وذكرت أيضاً بمعنى أئمّة الكفر والضلالة في مورد واحد: «فَقَاتِلُوا ائِمّةَ الكُفْرِ».

(التوبة/ 12)

واطلقت أيضاً في حالة واحدة على مفهوم يشمل أئمّة الهدى والضلال: «يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ انَاسٍ بِإِمَامِهِم». (الاسراء/ 71)

على أيّة حال، فموارد استخدام هذه الكلمة في القرآن اثني عشر مورداً تماماً.

4- عظمة منزلة الإمام في القرآن الكريم

إنّ مسألة الإمامة والقيادة كما سنتطرق إليها فيما بعد ليست مسألة دينية وتشريعية فحسب، بل إنّ عالم الخلق والتكوين يخضع لها، اللَّه هو إمام عالم الوجود ومكوناته المختلفة، وهو يهديها ويدبرها جميعاً.

ويعطي القرآن الكريم أهميّة خاصة للإمامة ويعتبرها آخر مرحلة من مسيرة تكامل الإنسان، لم يصلها إلّااولوا العزم من الأنبياء، إذ يقول تعالى «وَاذِ ابتَلَى ابرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَاتَمَّهُنَّ قَالَ انِّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ امَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيّتَىِ قَالَ لايَنَالُ عَهدِى الظَّالِمِينَ».

(البقرة/ 124)

هنالك جدل كثير بين المفسرين حول هذه الكلمات التي اشير إليها في مطلع الآية، وكما يقول صاحب روح المعاني: لقد ذكروا حولها ثلاثة عشر قولًا «1».

إلّا أنّ ما يبدو صحيحاً هو أنّ المراد من هذه الكلمات هو «الأوامر والنواهي» التي تلقي

______________________________

(1) تفسير روح المعاني، ج 1، ص 336.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 14

التكاليف الثقيلة والصعبة على كاهل إبراهيم عليه السلام، ليتمحص- جيداً- في الابتلاء، وهي عبارة عن التصدي الشجاع لعبدة الأوثان، وتحطيم الأصنام، وإلقائه في النار، والاستقامة والثبات في

جميع هذه المراحل.

وكذلك الاستعداد للتضحية بفلذة كبده، والتوجه به إلى مكان الذبح ووضع السكين على رقبته، ولم ينشغل بعياله وتركهم في صحراء مكة القاحلة الرمضاء، غير المسكونة، وأخيراً الهجرة من بلاد عبدة الأوثان والتخلي عن الحياة من أجل أداء رسالته، وحقاً أنَّ كلًا منها كان اختباراً قاسياً وصعباً، إلّاأنّ إبراهيم قد خرج من جميع تلك الاختبارات ظافراً وذلك بفعل قوة الإيمان والثبات والصبر.

وقد أحصى بعض المفسرين الموارد التي ابتلي بها إبراهيم أنّها بلغت ثلاثين ابتلاءً، ويقولون: إنّ هذه الموارد الثلاثين قد ذُكرت في ثلاثة آيات من القرآن الكريم، فقد ذُكرت «عشرة منها» في الآية 13 من سورة التوبة، و «عشرة» في الآية 35 من سورة الأحزاب، وذُكرت «عشرة منها» في الآيات 1 إلى 9 من سورة «المؤمنون» إذ يصبح مجموعها ثلاثين وصفاً أو ثلاثين مادة امتحانية «1» ولكن نظراً إلى أنّ جانباً مهماً من هذه الصفات قد تكرر ذكره وأنّ عددها لا يصل إلى الثلاثين، فإنّ هذا الكلام لا يحظى بالقبول نوعاً ما.

على أيّة حال فقد خرج إبراهيم بطل تحطيم الأصنام، والنبي المخلص والمضحي ظافراً من جميع تلك الابتلاءات القاسية والصعبة فاستحق ارتداء جلباب الإمامة، وشرفه اللَّه بهذا الخطاب المفعم بالفخر: «انِّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ امَامَاً».

ما هو هذا المقام الذي ناله إبراهيم في آخر عمره بعد نيله مقام النبوة والرسالة، وبعد ذلك الجهاد الطويل؟

من المسلم به أنّه كان أسمى وأرفع منها جميعاً، فمن اجتاز ذلك الاختبار الصعب يستحق هذه المكرمة الإلهيّة.

______________________________

(1) تفسير روح المعاني، ج 1، ص 335 (وقد اضاف عليها بعض المفسرين سورة المعارج وقالوا: إنّها جاءت في أربع سورٍ من القرآن).

نفحات القرآن، ج 9، ص: 15

لقد كان للمفسرين جدالٌ طويل في تفسير معنى الإمامة، وحيث إنّ

بعضهم لم يستطع بلوغ أسرار المعنى السامي لهذه الكلمة، فقد وقعوا في متاهات عجيبة.

والأعجب من ذلك هو أنّ طائفة من مشاهير المفسرين قد فسّروها بمعنى النبوة، بينما من المسلم به أنّ إبراهيم عليه السلام كان نبياً وقتذاك، وقد فاتت سنوات على نبوته ورسالته، وأصبح ذا ذرية، وفي سياق الآية يطلب الإمامة لأبنائه وذريته أيضاً.

يرى الكثير من المفسرين أنّ الكلمات التي ابتلى اللَّه تعالى بها إبراهيم عليه السلام كانت عبارة عن مجموعة من التعاليم والأوامر التي أمره بها اللَّه تعالى كمقارعة عبدة الأوثان وبناء الكعبة وذبح ابنه، إلّاأنّهم والحالة هذه قد فسّروا الإمامة بالنبوة، مع العلم أنّ هذه الأوامر وهذه التضحيات كانت بعد بلوغ إبراهيم عليه السلام مقام النبوة، وأنّ عبارة: «انِّى جَاعِلُكَ لِلَّناسِ امَامَا» غامضة تماماً في تفسيرهم.

والمعنى الآخر الذي قالوه بصدد الإمامة هو وجوب الطاعة، ولا يخفى أنّ إطاعة كل نبي واجبة ولا حاجة له إلى نيل مقام آخر «1».

وقد ذكر البعض تفسيراً ثالثاً لها وقالوا: المراد هو الرئاسة في امور الدين والدنيا، أو بتعبير آخر: زعامة الحكم.

إنّ هذا التفسير وإن كان أفضل من سابقيه إلّاأنّه لم يدخل إلى عمق معنى الإمامة.

وحسب اعتقادنا واستناداً إلى سائر آيات القرآن التي تبحث في مجال الإمامة، فإنّ المقصود بالإمامة هنا أنّها مقام أسمى وأرفع من هذا كله، وهو تطبيق الأحكام، وتنفيذ الحدود الإلهيّة، وتربية وتهذيب ظاهر وباطن الإنسان.

وللتوضيح أكثر أنّ الهدف من بعثة الأنبياء وارسال الرسل هو هداية المجتمع البشري، وهذه الهداية تتخذ بعدين، الأول: الهداية التي تعني «اراءة الطريق» أي ما كلف به أيُّ نبيٍّ من الأنبياء، والثاني: «الايصال إلى المطلوب» وهو يتفرع إلى فرعين:

______________________________

(1) ذكر تفاسير روح البيان؛ والكشاف والمراغي؛ والقرطبي؛ والمنار؛ سُنن إبراهيم العشرة

المعروفة؛ والأوامر والنواهي الإلهيّة، ومجموعة هذه التعليمات.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 16

الفرع الأول: الهداية التشريعية، وتطبيق الأحكام الدينية، سواء عن طريق إقامة الحكم وتطبيق الحدود والأحكام الإلهيّة والعدالة الاجتماعية، أو عن طريق تربية وتعليم النفوس بشكل عملي، وكلاهما يؤدّي إلى تحقيق اهداف الأنبياء، ويحتاج إلى مخطط مرهق وصعب للغاية، وإلى مواصفات كثيرة كالعلم والتقوى والشجاعة والإدارة.

الفرع الثاني: الهداية التكوينية والهداية إلى المطلوب من خلال التأثير والنفوذ المعنوي والروحي وتوجيه شعاع الهداية إلى افئدة ذوي الاستعداد من الناس، وهذا يتطلب من أيّ نبيّ أو إمام أن يكون حسن السيرتين، الظاهرية والباطنية وهي التي كانت للأنبياء والأئمّة ازاء أتباعهم، ومن المسلم به أنّ مثل هذا الأمر يتطلب المزيد من المواصفات والمزايا والقابليات.

فمجموع هذين المخططين يحقق أهداف الدين والرسالات الإلهيّة، ويوصل ذوي الاستعداد من البشر إلى التكامل المادي والمعنوي، الظاهري والباطني، وهذا هو المراد من الإمامة في الآية المذكورة، ولم ينل إبراهيم عليه السلام هذا المقام من دون أن يؤدّي الامتحان لنيل تلك المؤهلات والصفات.

ويستفاد ممّا تقدم أنّ مقام «الإمامة» يشترك مع مقام «النبوة» في الكثير من الحالات، وبإمكان نبيّ من اولي العزم كإبراهيم أن يبلغ مقام الإمامة أيضاً، والأكثر وضوحاً من ذلك هو أنّ اجتماع مقام «النبوة» و «الرسالة» و «الإمامة» في خاتم الأنبياء صلى الله عليه و آله متحقق فعلًا.

ويمكن أن ينفصل مقام الإمامة عن مقام النبوة والرسالة، كما في الأئمّة المعصومين عليهم السلام الذين يعلمون مسؤولية الإمامة فقط، من دون أن ينزل عليهم الوحي ويكونوا «رسلًا» أو «أنبياء».

على أيّة حال، فمن خلال مطلع هذه الآية تتضح جيداً عظمة مقام الإمامة، وأن تعيين الإمام من قبل اللَّه تعالى «قَالَ انِّىِ جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ امَاماً».

وذيل هذه الآية يوكّد

كثيراً على هذا الموضوع، فهو يقول: إنّ إبراهيم عليه السلام لما أُعطي هذا المقام قال: «ومن ذرّيتي».

نفحات القرآن، ج 9، ص: 17

فجاءه الخطاب قائلًا: «لا ينال عهدي الظالمين»، أي أن النفر من ذرّيتك الذين لم يظلموا، وكانوا معصومين ومطهرين هم المؤهلون لهذا المنصب فقط.

لا شك في أنّ الظلم في هذه العبارة ليس ظلم الآخرين فحسب، بل الظلم بالمعنى الشامل الذي يقابل العدالة، و «العدالة» بمفهومها الواسع تعني وضع الشي ء في محله، والظلم يعني وضعه في المحل الذي لا يناسبه، لذا ينقل القرآن الكريم عن لسان لقمان حيث يقول لابنه: «يَا بُنَىَّ لَاتُشْرِكْ بِاللَّهِ انَّ الشِّركَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ». (لقمان/ 13)

كما يتضح أنّ العدالة هنا تعني العدالة التامة، أو بتعبير آخر مقام العصمة الذي يتناسب والإمامة بمفهومها الشامل، وإلّا فالعدالة القابلة للنقص والاقتران بالذنب لا تتلائم مع مقام الإمامة بمعناها الرفيع أبداً.

وبناءً على ذلك يمكن الاستدلال بالآية أعلاه لإثبات عصمة الإمام أيضاً، بَيدَ أنّ الكلام في الصفات هل يكون مقروناً بالعدالة وترك جميع أشكال الذنب مدى الحياة، أم أثناء التصدي للإمامة؟ فالبعض واستناداً إلى البحث الاصولي المشهور من أنّ في المشتق الحقيقي «من تلبس بالمبدأ» هو في حال النسبة- أي حينما ننسب صفة من الصفات لأحد يجب أن يمتلك تلك الصفة في حال نسبتها إليه، فمثلًا تطلق كلمة القائم على الذي يتمتع بصفة القيام أثناء نسبة هذه الصفة إليه، ولا تطلق على الذي كان قائماً وقد جلس الآن- يعتقد أنّ مفهوم الآية هو عدم تمتعه بصفة الظلم أثناء توليه الإمامة، لا بشرك ولا بذنب، وليس ملوثاً بأي معصية اخرى وعليه فالعدالة والعصمة لا تشمل بداية الحياة.

إلّا أننا نقرأ في الروايات أنّ أئمّة أهل البيت عليهم السلام واتباعاً لرسول اللَّه

صلى الله عليه و آله قد استدلوا بهذه الآية على العدالة في جميع مراحل العمر: إذ ينقل عبد اللَّه بن مسعود عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّ اللَّه تعالى قال لإبراهيم عليه السلام: «لا اعطيك عهداً للظالم من ذريتك، قال: ياربّ ومن الظالم من ذرّيتي الذي لا ينال عهدك؟ قال من سجد لصنم من دوني لا اجعله إماماً أبداً ولا يصلح أن يكون إماماً» «1».

______________________________

(1) أمالي الشيخ المفيد، (مطابق لنقل تفسير البرهان ج 1، ص 151 ح 13).

نفحات القرآن، ج 9، ص: 18

وقد نقل هذا المعنى ابن المغاربي عالم أهل السّنة المعروف في كتاب «المناقب» عن ابن مسعود عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله مع قليل من الاختلاف، إذ يقول: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في تفسير هذه الآية: قال اللَّه تعالى لإبراهيم عليه السلام ما معناه: «مَنْ سَجدَ لصنم من دوني لا اجعله إماماً».

ثم أضاف صلى الله عليه و آله: «وانتهت الدعوة إليَّ وإلى أخي علي، لم يسجد أحدنا لصنم قط» «1».

وقد نقلت روايات اخرى عن طريق ائمة أهل البيت عليهم السلام في الكتب المعتبرة بهذا الصدد أيضاً، وتضم مجموعة هذه الروايات هذه النكتة وهي: إنّ النبي إبراهيم عليه السلام كان أعلم وأذكى من أن يسأل اللَّه الإمامة للذين كانوا مشركين أو ظالمين، ولم تكن هنالك حاجة للرد عليه بأنّ الظالمين لا تشملهم هذه الهبة، لأنّ الأمر واضح.

فعلى هذا الأساس، لو سأل اللَّه شيئاً فمن المسلم به أنّه كان للذين كانوا ظالمين أو مشركين في وقت ما ثم تابوا واصلحوا، وفي هذا المجال سمع الجواب بأنّ عهد الإمامة لا يشمل مثل هؤلاء، أي أن لا يكونوا ذوي سابقة

في الظلم والشرك.

يقول المفسر الشهير العلّامة الطباطبائي في «الميزان»: «سأل بعض أساتذتنا عن تقريب دلالة الآية على عصمة الإمام، فأجاب: إنّ الناس بحسب القسمة العقلية على أربعة أقسام:

1- من كان ظالماً في جميع عمره.

2- من لم يكن ظالماً في جميع عمره.

3- من هو ظالم في أول عمره دون آخره.

4- ومن هو بالعكس.

وإن إبراهيم عليه السلام أجلُّ شأناً من أنْ يسأل الإمامة للقسم الأول والرابع من ذرّيته، فبقي قسمان، وقد نفى اللَّه أحدهم (وهو الذي يكون ظالماً في أول عمره دون آخره، فبقي الآخر) وهو الذي يكون غير ظالم في جميع عمره .. (تأملوا جيدا)» «2».

وقد اعترف الفخر الرازي في تفسيره بأنّ الآية دليل على عصمة الأنبياء، واللطيف هو

______________________________

(1) المناقب لابن المغازلي، مطابق لنقل تفسير الميزان ج 1، ص 278 في ذيل الآية مورد البحث.

(2) تفسير الميزان، ج 1، ص 274.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 19

«إنّه يثبت هذا الأمر من خلال وجوب عصمة الإمام وأنّ كل نبي إمام» (تأملوا جيداً أيضاً) «1».

وبطبيعة الحال يستفاد من هذه الآية مطالب اخرى بشأن الإمامة ووجوب عصمة الإمام، وتنصيبه من قبل اللَّه وغير ذلك مما لا يسع المقام لبحثه.

والآن وعلى ضوء ما مرّ تتضح عظمة وجلالة الإمامة في نظر القرآن الكريم، وقد كان غرضنا هنا بيان هذه النقطة.

5- فلسفة وجود الإمام

بالرغم من اتضاح فلسفة وجود الإمام بنحو إجمالي في البحث السابق من خلال الاستعانة بالآيات المتعلقة بإمامة إبراهيم عليه السلام إلّاأنّ هذا الموضوع مهم إلى الحد الذي يتطلب فتح بحث مستقل له.

وبشكل عام فإنّ الكثير من الامور التي تذكر على أنّها الأهداف من بعثة الأنبياء أو فلسفة وجودهم، تصدق بحق الإمام أيضاً.

لقد تطرق الخواجة نصير الدين الطوسي قدس سره إلى بيان فلسفة بعثة

الأنبياء في فصل النبوة من كتاب تجريد الاعتقاد وأشار العلّامة الكبير الحلّي في شرح ذلك الكلام إلى تسع نقاط من هذه الفلسفة إجمالًا ندرجها كما يلي، ونضعها أمام القاري ء الكريم، وكما سنلاحظ فإنّ الكثير منها يصدق على قضية تعيين الأئمّة المعصومين عليهم السلام أيضاً:

1- ترسيخ المعرفة العقلية عن طريق البيان النقلي، من هنا فإنّ الإنسان يدرك الكثير من الحقائق سواء في الاصول أو في فروع الدين من خلال القوة العقلية، إلّاأنَّ الوساوس قد تغزو قلبه أحياناً، وهذا الاضطراب يحول دون أدائها، أما إذا تم تأييد وترسيخ هذه الأحكام العقلية بكلام الأئمّة المعصومين فستزال جميع أشكال الغموض والاضطراب، ويسعى الإنسان لأدائها برباطة جأش.

______________________________

(1) التفسير الكبير، ج 4، ص 43.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 20

2- في بعض الأحيان يحذر الإنسان من القيام ببعض الأعمال وذلك لخوفه من الإتيان بتصرف في حدود سلطة اللَّه وهيمنته مخالف لإرادته فيكون كلام الإمام رافعاً لذلك الحذر والخوف.

3- لا تجتمع اعمال الإنسان في حدود «الحسن والقبح العقليين»، وما أكثر الامور التي لا يدرك عقل الإنسان حسنها وقبحها، فهنا لابدّ من الاقتداء بالقادة الإلهيين، لإدراك حسنها وقبحها.

4- إنّ بعض الأشياء نافع وبعضها الآخر مضرٌ، ولا قدرة للإنسان على إدراك نفعها وضررها من خلال تفكيره فقط بدون إرشاد القادة الإلهيين، فهنا يشعر بالحاجة إليهم.

5- إنّ الإنسان موجودٌ اجتماعي، وهو عاجز عن حل مشاكل حياته بدون التنسيق والتعاون مع الآخرين، ومن المسلَّم به أنَّ المجتمع لن يستقيم ولن يبلغ الكمال المطلوب مالم يمتلك القوانين التي تحافظ على حقوق جميع الأشخاص، وتأخذ بأيديهم نحو الصراط المستقيم، فتشخيص هذه القوانين بشكل صائب ومن ثم تطبيقها لن يحصل إلّاعن طريق القادة الواعين والطاهرين والمعصومين.

6- إنّ الناس يتفاوتون في إدراك

الكمالات وكسب العلوم والمعارف والفضائل، فالبعض يمتلك القدرة على السير في هذا الطريق، والآخر عاجزٌ، فالقادة الإلهيون يقومون بترسيخ الفئة الاولى وإعانة الفئة الثانية كي تصل الفئتان إلى الكمال الممكن.

7- إنّ النوع الإنساني بحاجة إلى مستلزمات وصناعات وعلوم، ويستطيع القادة الربانيون تأمين هذه المستلزمات وذلك من خلال توجيه المجتمع نحو الحصول عليها.

8- إنّ المراتب الأخلاقية متفاوتة لدى الناس، والسبيل الوحيد لتنمية هذه الفضائل هو سبيل القادة الإلهيين الطاهرين والمعصومين.

9- إنّ الأئمّة مطلعون على الثواب والعقاب والأجر والجزاء إزاء الطاعة والمعصية، وعندما يُعلِّمون الآخرين هذه الامور فهم يخلقون لديهم حافزاً قوياً لأداء الواجبات «1».

______________________________

(1) شرح التجريد، ص 271 (مع قليل من الاختصار والاقتباس).

نفحات القرآن، ج 9، ص: 21

ونظراً إلى أنّ الأئمّة ليسوا سوى استمرار لخط النبوة، فإنّ أغلب هذه الفلسفات بالإمكان تحقيقها بواسطة الأئمّة المعصومين عليهم السلام أيضاً.

وفي القرآن الكريم تتلخص هذه الامور بل وحتى أكثر منها في ثلاثة مواضيع وهي:

«التعليم» و «التربية» و «القيام بالقسط» التي اشير إليها في آيات عديدة، فيقول تعالى بشأن الفلسفة من بعثة النبي صلى الله عليه و آله «هُوَ الَّذِى بَعَثَ فِى الامّيّينَ رَسُولًا مِّنْهُم يَتْلُوا عَلَيهِم آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكمَةَ وَانْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ». (الجمعة/ 2)

فقد تمّت الإشارة هنا إلى مسألة «التعليم» و «التربية» التي هي أهم أهداف الأنبياء والأئمّة المعصومين عليهم السلام.

وفي مكان آخر يقول تعالى «لَقَدْ ارْسَلنَا رُسُلَنَا بالبَيِّنَاتِ وَانْزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالقِسْطِ». (الحديد/ 25)

وقد اشير هنا إلى العدالة الاجتماعية والقيام بالقسط الذي يوفر الأرضية المناسبة «للتعليم» و «التربية» الصحيحة.

نعم، فالزعماء العاديون في العالم يفكرون:

أولًا: بصيانة مكانتهم ومصالحهم الشخصية أو الحزبية، لهذا فهم دائماً يضحون بمصالح المجتمعات البشرية من

أجل مصالحهم الخاصة، أمّا القادة الطاهرون والمعصومون واتباعهم فهم وحدهم الذين يستطيعون المحافظة على حقوق الإنسان والمصالح العامة للمجتمع الانساني كما ينبغي.

ثانياً: هَب أنّ الزعماء غير الربانيين يريدون تطبيق العدالة وقيادة المجتمعات البشرية نحو الكمال المطلوب، فإنّ تشخيص هذه الامور في الكثير من الحالات غير ممكن بالنسبة لهم، فهم يستطيعون في هذه الحالة أن يشخصوا الامور ولكنّ تشخيصهم ناقص وغير دقيق.

وهذا الأمر- التشخيص الدقيق- ممكن فقط بالنسبة للقادة الربانيين الذين يعتمدون على البحر اللامتناهي من العلم الإلهي.

وقد أثبتت تجربة السبعين سنة من الحكم الشيوعي على نصف سكان الكرة الأرضية

نفحات القرآن، ج 9، ص: 22

هذه الحقيقة بوضوح، فلقد كرسوا أوسع وأعظم جهاز اعلاميّ لترسيخ دعائم الماركسية، وقدموا الملايين من الكتب والكراسات والمقالات والخطب على هذا الصعيد، وزعموا بأنّ الشيوعية هي الطريق الوحيد لحل مشاكل المجتمع البشري وتأمين العدالة الاجتماعية، وتكامل النوع الإنساني، وأفضل وسيلة للتفسير الصحيح للتاريخ والعلوم الاجتماعية، وقمعوا المعارضين لهم بشتى الأساليب، لكننا رأينا أنّها لم تجلب سوى التعاسة والتخلف والديكتاتورية، وفي خاتمة المطاف اضطر مفكروهم إلى الاعتراف بأنّ ما كانوا يتصورونه الطريق الحقيقي للسعادة لم يكن إلّاانحطاطاً وتخلفاً للمجتمع الإنساني! وربّما لم يشهد التاريخ نظيراً لهذه القضية، إذ تدافع طائفة كبيرة من المفكرين والعلماء واساتذة الجامعات عن عقيدة ما، وفي النهاية يتضح أنَّ ماكانوا يؤمنون به فارغٌ من أي محتوى

فما الضمان لعدم حدوث مثل هذه الحالة في المستقبل، وعدم تلوث عقائد المجتمع الإنساني بهذه الأفكار المضلّة؟

ومن هنا تبرز ضرورة الاستفادة من أفكار الأنبياء والأئمّة المعصومين عليهم السلام المصانين من الزلل والخطأ من قبل اللَّه تعالى

وخلاصة الكلام هي أنّ الإله الذي خلق النوع الإنساني وأمره بالسير في طريق الكمال والسعادة، وأرسل الأنبياء المعصومين

الذين يتلقون الأوامر الإلهيّة بواسطة الوحي، من أجل «تبيين الطريق» و «الايصال إلى المطلوب»، فلابدّ أن يجعل أئمّة معصومين لخلافة الأنبياء بعد رحيلهم وذلك من أجل استمرار هذا الطريق، وليعينوا المجتمع البشري في الهداية إلى الطريق والايصال إلى المطلوب، ومن المسلم به أنَّ هذا الهدف سيبقى ناقصاً بدونهم للأسباب التالية:

أولًا: من المتيقن أنّ العقول البشرية لا تستطيع تشخيص جميع عوامل وأسباب التقدم والرّقي وحدها، وقد لا تشخص عُشر ذلك.

ثانياً: ربّما يتعرض دين الأنبياء بعد ارتحالهم لانواع التحريف، فلابدّ من الحرّاس المعصومين والربانيين ليحافظوا عليه ويحولوا بين تحريف المبطلين وبين بلوغ مآربهم،

نفحات القرآن، ج 9، ص: 23

وآراء الجهلة وتفسيرات أصحاب الأهواء والمآرب.

وهذا ما يشير إليه الحديث المعروف الوارد في اصول الكافي عن الإمام الصادق عليه السلام حيث يقول: «إنَّ فينا أهل البيت في كل خَلف عُدولًا ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين» «1».

وكذلك ما أشار إليه الإمام علي عليه السلام في احدى كلماته القيمة، إذ يقول: «اللّهم بلى لا تخلو الأرض من قائم للَّه بحجّة إمّا ظاهراً مشهوراً، وإمّا حافياً مغموراً لئلا تبطُل حجج اللَّه وبيناته» «2».

ثالثاً: من المتعذر اقامة الحكومة الإلهيّة التي توصل الإنسان إلى الغاية التي خلق من أجلها، إلّاعن طريق المعصومين، لأنّ الحكومات البشرية- ووفقاً لشهادة التاريخ- كانت غالباً ما تسير في خط المصالح الشخصيه، أو الفئوية، وأنّ جميع مساعيها كانت في هذا الاتجاه، وكما جرّبنا مراراً وتكراراً أنّ شعارات «الديمقراطية» و «حكم الشعب للشعب» و «حقوق الإنسان»، وما شابه ذلك ماهي إلّاقناعٌ للوصول إلى أهدافهم الشيطانية عن طريق أسهل، فقد فرضوا أغراضهم على الشعوب بشكل خفي ومن خلال استغلال هذا المنطق وهذه الأدوات.

إنّ هذه الاصول الثلاثة أي «تبيين الطريق» الذي يعجز العقل

عن تشخيصه، و «المحافظه على ميراث الأنبياء» و «إقامة حكومة العدل»، تمثل بالواقع الاسس الحقيقية لفلسفة وجود الإمام المعصوم.

ونختم هذا الحديث بكلام للإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام حيث يعتبر من أكثر الكلمات شمولية فيما يتعلق بفلسفة الإمامة، وحديث من نهج البلاغة لأمير المؤمنين عليه السلام:

______________________________

(1) اصول الكافي، ج 1، ص 32، باب صفة العلم، ح 2.

(2) نهج البلاغة، كلمات القصار، الكلمة 147.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 24

الحديث الأول الذي تحدث به عليه السلام يوم الجمعة في المسجد الجامع في مدينة (مرو) بحضور حشد من الناس، يتناول مسائل كثيرة، نشير هنا إلى جانب منه، قال عليه السلام:

«إنّ الإمامة هي منزلة الأنبياء، وإرث الأوصياء، إنّ الإمامة خلافة اللَّه وخلافة الرسول ... الإمام البدر المنير، والسراج الزاهر، والنور الساطع، والنجم الهادي في غياهب الدجى ... الإمام الماء العذبُ على الظماء والدال على الهدى والمنجي من الردى ... الإمام السحاب الماطر، والغيث الهاطل، والشمس المضيئة ... الإمام أمين اللَّه في خلقه، وحجته على عباده، وخليفته في بلاده ... نظام الدين، وعز المسلمين، وغيضُ المنافقين، وبوار الكافرين» «1».

وفي عبارة قصيرة يصور أمير المؤمنين عليه السلام روح الإمامة، فيقول:

«ومكان القيّم بالأمر مكان النظام من الخرز، يجمعه ويضمه، فاذا انقطع النظام تفّرق الخرز والذهب ثم لم يجتمع بحذافيره أبداً» «2».

______________________________

(1) اصول الكافي، ج 1، ص 200، باب نادر جامع في فضل الإمام.

(2) نهج البلاغة، الخطبة 46.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 25

1- الولاية والأمامة العامة في القرآن الكريم

تمهيد:

هنالك بحثان مستقلان في موضوع الولاية وهما:

1- «الولاية العامة» أي لابدّ من وجود إمام بين الناس منصَّب من قبل اللَّه، دائماً وفي كل عصر، سواءً كان يتمتع بمقام النبوة والرسالة، أو بمقام الولاية فقط.

2- «الولاية والإمامة الخاصة» أي من الذي يتصدى

لهذا المنصب والمقام الإلهي بعد النبي صلى الله عليه و آله؟

وبتعبير آخر: كما أنّ النبوة تتفرع إلى «نبوة خاصة» و «نبوة عامة»، فكذلك الإمامة.

وقد ورد في القرآن الكريم مايشير إلى الولاية العامة ندرجه فيما يلي:

1- «انَّمَا انْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلّ قَوْمٍ هَادٍ». (الرعد/ 7)

2- «يَا ايُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَكُونُوا مَعَ الصّادِقِينَ». (التوبة/ 119)

3- «اطِيعُوا اللّهَ وَاطِيعُوا الرَّسُولَ وَاولِى الأَمرِ مِنْكُم». (النساء/ 59)

آية الانذار والهداية:

ففي الآية الاولى يخاطب اللَّه تعالى النبي صلى الله عليه و آله: «انَّمَا انْتَ مُنذِرٌ وَلِكُلّ قَومٍ هَادٍ».

ينقل الفخر الرازي ثلاثة أقوال في تفسير هذه الآية:

الأول: إنّ «المنذر» و «الهادي» شي ء واحد، وعليه يكون مفهوم الآية كما يلي:

«انَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَهادٍ لِكُلِّ قَومٍ».

نفحات القرآن، ج 9، ص: 26

الثاني: المنذر هو النبي صلى الله عليه و آله والهادي هو اللَّه تعالى

الثالث: المنذر هو النبي صلى الله عليه و آله والهادي هو علي عليه السلام، إذ يقول ابن عباس: إنّ النبي قد وضع يده على صدره وقال: «أنا المنذر ثم أومأ إلى منكب علي عليه السلام وقال: أنت الهادي ياعلي، بك يهتدي المهتدون من بعدي» «1».

وقد نقلت مجموعة اخرى من المفسرين هذه التفاسير الثلاثة، فيما أصرَّ بعض مفسري أهل السُنّة على أنّ تفسير الآية أحد التفسيرين الاولين، لأنّ التفسير الثالث لا يتناسب ونمط تفكيرهم الملي ء بالتعصب.

بينما لا يتناسب التفسير الأول مع ظاهر الآية، فلو كان مقرراً أن يكون الوصفان لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله لقال: إنّما أنت منذرٌ وهادٍ لكل قوم، وبتعبير آخر لاينبغي تقديم «لكل قوم» وهو جار ومجرور على «هادٍ»، وإذا ما تقدم فيجب أن يتقدم على الوصفين فيقال: إنّما أنت لكل قوم منذرٌ وهاد، وخلاصة القول: إنّه لا يبدو

هنالك مبرر لتقديم لكل قوم على وصف وتأخيره عن الآخر، أو لابدّ من تقديمه عليها أو تأخيره عنها (تأملوا جيداً).

والتفسير الثاني غير مألوف ولا مناسب، لأنّ كون اللَّه هادياً فلا شك فيه حتى يحتاج إلى بيان، أضف إلى أنّ ظاهر العبارة هو أنّ لكل عصر وزمان هادٍ خاص. والحال أنّ اللَّه واحدٌ أحد، فهذه الوحدانية لا تنسجم والتعددية التي تستفاد من عبارة لكل قوم هادٍ.

بناءً على ذلك فالتفسير الوحيد الذي يحظى بالقبول هو: إنّ النبي صلى الله عليه و آله منذرٌ ولكل قوم في كل عصر ودهرٍ «هادٍ».

فهل هذا الهادي إشارة إلى علماء كل قوم وكل زمان؟

الاجابة عن هذا السؤال سلبية أيضاً، فهنالك علماء عديدون في كل عصر ودهر وليس هادٍ واحد، فكما كان النبي صلى الله عليه و آله واحداً فهادي المسلمين واحدٌ في كل عصر وزمان.

وبتعبير آخر، أنَّ النبي صلى الله عليه و آله مؤسس الدين عن طريق الانذار، والإمام يواصل طريقه من خلال الهداية.

إنَّ هذه النكات تستفاد من الآية نفسها، ولو بحثنا عن الروايات المنقولة عن طريق أهل

______________________________

(1) التفسير الكبير، ج 19، ص 14.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 27

السنة والشيعة بهذا الصدد لاتضحت المسألة أكثر.

ففي تفسير الدر المنثور وهو من تفاسير أهل السنة المعروفة «تأليف جلال الدين السيوطي» المتوفى عام 910 ه ق، والقائم على أساس تفسير الآيات والروايات، ينقل روايات عديدة في تفسير هذه الآية عن النبي صلى الله عليه و آله:

1- يروي عن ابن جرير وابن مردويه وأبي نعيم والديلمي وابن عساكر وابن النجار: لما نزلت «انَّمَا انتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَومٍ هَادٍ» وضع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يده على صدره فقال: «أنا المنذر، وأومأ بيده إلى منكب

علي عليه السلام فقال: أنت الهادي يا علي، بك يهتدي المهتدون من بعدي» «1».

2- يقول أبو بريدة الاسلمي: سمعت من النبي صلى الله عليه و آله بشأن هذه الآية «2» وقد وضع يده على صدره وقال: «إنّما أنت منذرٌ، ووضع يده على صدر علي عليه السلام وقال: لكل قوم هاد».

3- وفي الكتاب نفسه ينقل عن «عبد اللَّه بن أحمد» و «ابن أبي حاتم» و «الطبراني» و «الحاكم» و «ابن مردويه» و «ابن عساكر» عن علي عليه السلام في تفسير الآية: «إنّما أنت منذر ولِكُلّ قوم هَاد» قال: «رسول اللَّه المنذر، وأنا الهادي» «3».

4- ونقرأ في رواية اخرى عن ابن عباس، أنّ النبي صلى الله عليه و آله قال: «أنا المنذر وعلي الهادي، وبك يا علي يهتدي المهتدون».

وقد أورد هذا الحديث طائفة من مشاهير حفاظ أهل السنة منهم: «الحاكم» في «المستدرك» و «الذهبي» في «التلخيص» و «الفخر الرازي» و «ابن كثير» في «تفسيريهما»، و «ابن الصباغ المالكي» في «الفصول المهمّة» و «الكلبنجي الشافعي» في «كفاية الطالب» و «العلّامة الطبري» في «تفسيره» و «ابن حيان الاندلسي» في «البحر المحيط» و «النيشابوري» في «تفسيره»، و «الحمويني» في «فرائد السمطين» وطائفة اخرى في كتبهم التفسيرية «4».

______________________________

(1) تفسير در المنثور، ج 4، ص 45.

(2) المصدر السابق.

(3) المصدر السابق.

(4) للاطلاع على هذا الحديث ووثائقه راجعوا كتاب احقاق الحق، ج 3، ص 88- 99.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 28

5- يقول «مير غياث الدين» مؤلف كتاب «حبيب السير»: «قد ثبت بطرق متعددة أنّه لما نزل قوله تعالى «انّما انْتَ مُنذرٌ وَلكل قَوْمٍ هادٍ»، قال صلى الله عليه و آله لعلي عليه السلام: «أنا المنذر وأنت الهادي، بك ياعلي يهتدي المهتدون من بعدي» «1».

6-

وقد نقل الحمويني هذا الحديث أيضاً عن أبي هريرة عن علي عليه السلام «2».

7- ونقل هذا الحديث في «مستدرك الحاكم» عن «أبي بريدة الاسلمي» بشكل واسع فقال: دعا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بالطهور وعنده علي بن أبي طالب فأخذ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بيد علي بعد ما تطهر فألصقها بصدره ثم قال: «إنّما أنت منذر» ويعني نفسه، ثم ردها إلى صدر علي ثم قال: «ولكل قوم هاد»، ثم قال له: «أنت منار الأنام وغاية الهدى وأمير القرّاء، أشهد على ذلك أنّك كذلك» «3».

وليس من المستبعد أنْ يكون النبي صلى الله عليه و آله قد بيَّن هذا الكلام في حالات متعددة وبأشكال مختلفة، والتعابير المختلفة للأحاديث المذكورة تشهد على هذا الأمر.

كما وردت في مصادر اتباع أهل البيت عليهم السلام روايات متعددة في هذا المجال، ولا مجال لذكرها جميعاً، بل نكتفي بالإشارة إلى بعضها، فقد ورد في تفسير نور الثقلين «4» مايربو على خمسة عشر حديثاً منها ما روي عن الإمام الباقر عليه السلام والإمام الصادق عليه السلام أنّهما قالا: «كل إمام هاد كل قوم في زمانه»، وفي تعبير آخر: «كل إمام هادٍ للقرن الذي هو فيه» «5».

والعجيب أنّ بعض المفسرين قد تناسوا جميع هذه الأحاديث، وذكروا معاني اخرى للآية المذكورة، مستندين إلى أقوال بعض الصحابة التي لم تروَ عن النبي صلى الله عليه و آله، منها التفسير الذي نُقل عن مجاهد حيث يقول: المراد من «المنذر» محمد صلى الله عليه و آله والمراد من «لكل قومٍ

______________________________

(1) حبيب السير، ج 2، ص 12.

(2) احقاق الحق، ج 3، ص 92.

(3) تفسير الميزان، ج 11، ص 327 ذيل الآية مورد البحث.

(4)

تفسير نور الثقلين، ج 2، ص 482- 485.

(5) المصدر السابق، ج 19 و 20، ص 483.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 29

هادٍ» «إنّ لكل قوم نبيّاً يدعوهم إلى اللَّه»! وهذا تفسير بعيد كما يبدو.

وروي تفسير آخر عن سعيد بن جبير حيث يقول: المنذر محمد صلى الله عليه و آله والهادي هو اللَّه! بينما ظاهر الآية هو أنّ هادي كلّ قومٍ يختلف عن هادي الآخرين، علماً أنّ اللَّه الواحد هادٍ لجميع الأقوام، ولا يتناسب مع مثل هذه التفاسير.

فهل من المناسب ترك الروايات المتواترة عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله والذهاب وراء هذه التفاسير الخاطئة حرصاً على أن لا يمتلك الشيعة مستمسكاً؟

آية الصادقين:

وفي الآية الثانية خاطب تعالى المؤمنين داعياً إيّاهم إلى التقوى وبعدها أمرهم بأنْ يكونوا مع الصادقين «دائماً» «لئلا ينحرفوا»: «يَا ايُّهَا الَّذِينَ آمنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقيِنَ».

فمن هم الصادقون هنا؟ ثمّة تفاسير مختلفة أيضاً:

لقد احتمل البعض أنّ المراد من «الصادقين» هو شخص النبي صلى الله عليه و آله، وهذه الآية منحصرة بزمانه، ولا يخفى أنَّ خطاب هذه الآية كسائر خطابات القرآن عامة، وتشمل كل المؤمنين في كلّ عصرٍ ومصرٍ.

وقال آخرون: إنّ «مَعَ» تعني «مِنْ»، أي كونوا من الصادقين! في الوقت الذي لا توجد ضرورة لمثل هذه التأويلات والتبريرات، بل ليس من المعتاد أبداً في الأدب العربي وكلام الادباء استخدام «مع» بمعنى «من».

فطبقاً لظاهر الآية فإنَّ جميع المسلمين مكلفون أنْ يكونوا في خط الصادقين ومعهم في كل زمن وعصر.

من هنا يُعرف بأنّ ثمّة صادق أو صادقين في كل عصر يتحتم على الناس أن يكونوا معهم في طريق التقوى والزهد.

ومن أجل فهم معنى الصادقين، من الأفضل أن نعود إلى القرآن نفسه لنرى ماذا يذكر من

نفحات

القرآن، ج 9، ص: 30

صفات للصادقين، ففي مكان يقول: «انَّمَا المُؤمنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا باموالِهِم وَانْفُسِهِم فِىِ سَبِيلِ اللَّهِ اوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ». (الحجرات/ 15)

ففي هذه الآية وصف تعالى الصدق بأنّه فرع أو شعبة من «الإيمان» و «العمل النزيه» عن كل أشكال الشك والريب والتردد.

وفي الآية 77 من سورة البقرة بعد أن ذكر تعالى أنّ حقيقة الإيمان تكمن في الإيمان باللَّه، واليوم الآخر، والملائكة، والكتب السماوية، والأنبياء، وكذا الانفاق في سبيل اللَّه، وفي سبيل تحرير المستضعفين والمحرومين من ربقة الظالمين، وكذلك إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والوفاء بالعهد، والصبر والاستقامة إزاء المشاكل وأثناء الجهاد، يضيف: «اوْلئكَ الَّذينَ صَدَقُوا».

بناءً على ذلك فقد ذكر أنّ السمة المميزة للصادقين هي: الإيمان التام بجميع المقدسات، واطاعة أوامر اللَّه على جميع الأصعدة، لاسيما الصلاة وإيتاء الزكاة والانفاق والاستقامة في الجهاد، وفي مواجهة المشاكل، وقد جاء نظير هذا المعنى في الآية 8 من سورة الحشر أيضاً.

من مجموع هذه الآيات وكذلك من اطلاق الآية مورد البحث التي تأمر باتباع الصادقين بدون قيد أو شرط، نستنتج أنّ المسلمين مكلفون باتباع الذين يتمتعون بأعلى مراحل الإيمان والتقوى وأسمى المستويات من ناحية العلم والعمل والاستقامة والجهاد، فالآية لا تقول: كونوا من الصادقين، بل تقول: كونوا معهم، بينما نراها تقول: كونوا من الزاهدين وهذا يبرهن على أنّ المراد مرتبة أسمى من المراتب التي يصلها الناس، وأجلى مصداق لهذا المعنى هم المعصومون هذا من جانب، ومن جانب آخر أنّ الأمر باتباع الصادقين بشكلٍ مطلق، وعدم الانفصال عنهم بدون قيد أو شرط، دليل آخر على عصمتهم، لأنَّ الاتباع بلا قيد أو شرط لا معنى له إلّافيما يتعلق بالمعصومين.

ونظراً لوضوح محتوى الآية لم يستطع الفخر

الرازي انكار دلالتها على وجود المعصوم في كل زمان ومكان، إلّاأنّه ولعدم إيمانه بعقائد أتباع أهل البيت عليهم السلام يتحدث عن عصمة

نفحات القرآن، ج 9، ص: 31

جميع الأمة، أو بتعبير آخر «إجماع الامّة»، بينما نرى أنّ القضايا التي تحظى بإجماع الأُمّة محدودة للغاية، والحال أنّ اتّباع الصادقين تكليف عام وفي كل الأحوال والشؤون.

وكذلك لم يفهم أي ناطق بالعربية أثناء نزول هذه الآية أنَّ كلمة «الصادقين» تعني مجموع الامّة، فكيف يمكن حملها على هذا المعنى أليس من الأفضل الاقرار بوجود صادق في كل عصر وزمان ليس في سيرته السهو والخطأ ويجب علينا اتباعه؟

سؤال: وهنا يثار سؤال وهو: إنّ «الصادقين» ذكرت بصيغة الجمع، وعليه فلابدّ من وجود عدّة معصومين في كل زمان، فكيف يتلائم هذا وعقائد أتباع مذهب أهل البيت عليهم السلام؟

إنّ الجواب على هذا السؤال من خلال الاستناد إلى نقطة، وهي: إنّ هذا الجمع ربّما يكون إشارة إلى مجموع الأزمنة، لأنّ «الصادقين» وعلى مدى مجموع الأزمنة يمثلون مجموعة، تماماً كما يقال: يتحتم على الناس اتباع الأنبياء في كل زمان، فليس مفهوم هذا الكلام هو وجود أنبياء متعددين في كل زمان، بل المقصود هو: أنَّ على كلّ قوم اتباع نبي زمانهم، أو يقال: على الناس أن يعرفوا تكاليفهم تجاه العلماء والمراجع، أي: على كلّ شخص اتباع عالم ومرجع زمانه.

والشاهد على هذا الأمر هو عدم وجود شخص مفترض الطاعة في عهد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله غيره، في الوقت الذي تشمل الآية المذكورة زمانه أيضاً بكل تأكيد.

من هنا يتضح أنّ المراد ليس الجمع في زمان واحد، بل في عدّة أزمنة، وهذا الكلام هو بمثابة تحليل لهذه الآية.

وأمّا من ناحية الروايات، فإنّ الكثير من مفسري ومُحدّثي أهل السّنّة

نقلوا عن ابن عباس قوله: إنّ هذه الآية نزلت بحق علي بن أبي طالب عليه السلام.

ومنهم «العلّامة الثعلبي» في تفسيره، فقد روى إنّ ابن عباس قال في تفسير هذه الآية:

نفحات القرآن، ج 9، ص: 32

«مع الصادقين يعني مع علي بن أبي طالب وأصحابه» «1».

كما ينقل «العلّامة الكنجي» في «كفاية الطالب»، و «العلّامة سبط بن الجوزي» في «التذكرة» عن طائفة من العلماء مايلي: «قال علماء السير: معناه كونوا مع علي عليه السلام وأهل بيته، قال ابن عباس: عليٌ عليه السلام سيد الصادقين» «2».

وجرى التأكيد على هذا المعنى أيضاً في الروايات العديدة التي وصلتنا عن أهل البيت عليهم السلام، منها الرواية التي نقرأها عن جابر بن عبد اللَّه الأنصاري عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال في تفسير آية «وكونوا مع الصادقين»، يعني «محمد وآل محمد» «3».

ونقرأ في رواية اخرى أنّ «بريد بن معاوية» روى عن الإمام الباقر عليه السلام في تفسير هذه الآية أنّه قال: «إيّانا عنى «4».

وفي تفسير البرهان ينقل عن كتاب نهج البيان: «روي أنّ النبي صلى الله عليه و آله سُئلَ عن الصادقين فقال: «هم علي وفاطمة والحسن والحسين وذريتهم الطاهرون إلى يوم القيامة» «5».

ومن البديهي أنّ جميع هذه الروايات إنّما هي في الواقع بيان للمصداق، ولا تتعارض مع المفهوم العام للآية، لأنّها تشمل شخص النبي صلى الله عليه و آله بالمرتبة الاولى ومن ثم الأئمّة المعصومين عليهم السلام في كلّ عصر ودهرٍ.

من هنا فإنّ الآية الآنفة الذكر تثبت «الولاية العامة» وكذلك «الولاية الخاصة».

آية اولي الأمر:

والحديث في الآية الثالثة عن وجوب اطاعة اللَّه ورسوله واولي الأمر، يقول تعالى

______________________________

(1) احقاق الحق، ج 3، ص 297.

(2) المصدر السابق.

(3) تفسير نور الثقلين، ج

2، ص 280، ح 392.

(4) المصدر السابق، ح 393.

(5) تفسير البرهان، ج 2، ص 170.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 33

«أَطِيعُوا اللّهَ وأَطيعُوا الرَسُولَ وَاولىِ الأَمْرِ مِنكُم». (النساء/ 59)

فوجوب اطاعة اللَّه ورسوله صلى الله عليه و آله واضحٌ ومعلوم، أمّا من هم المقصودون في «اولي الأمر» الذين اعتبرت اطاعتهم بموازاة اطاعة اللَّه ورسوله صلى الله عليه و آله، فهنالك جدلٌ بين المفسرين.

يتفق علماء الشيعة وأتباع مذهب أهل البيت عليهم السلام أنّ المراد من «اولي الأمر» هم الأئمّة المعصومون عليهم السلام الذين هم قادة المجتمع معنوياً ومادياً في كافة شؤون الحياة، ولا تشمل غيرهم، لأنّ الطاعة- بلا قيد أو شرطٍ- الواردة في الآية الكريمة والتي اعتبرت موازية لطاعة اللَّه ورسوله صلى الله عليه و آله لا يمكن تصورها إلّابحقّ الأئمّة المعصومين عليهم السلام، وأمّا الآخرون الذين تجب طاعتهم فإنّها محدودة بحدود ومقيدة بقيود، ولا وجود للطاعة المطلقة بشأنهم أبداً، وهذا الأمر واضحٌ.

هذا في الوقت الذي يختلف فيه مفسرو وعلماء أهل السّنة كثيراً في معنى اولي الأمر.

فمنهم من فسّرها بمعنى «الصحابة»، ومنهم ب «قادة الجيش»، وبعضهم فسّرها ب «الخلفاء الأربعة».

وهم لم يقدموا أي دليل واضح لهذه التفاسير الثلاثة.

واعتبرت طائفة اخرى «اولي الأمر» بمعنى العلماء، مستندين إلى الآية: «وَاذَا جَاءَهُم امرٌ مِّنَ الامنِ اوِ الخَوفِ اذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ الَى الرَّسُولِ وَالَى اولِى الامْرِ مِنْهُم لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُم». (النساء/ 83)

ولكن نظراً إلى أنّ الآية التي هي محل بحثنا تبحث الطاعة بلا قيد أو شرط، والآية 83 من سورة النساء تتعلق بالسؤال والتحقيق فإنّها توضح أمرين مختلفين، ولايمكن اعتبار كلا الأمرين بمعنى واحد، فالتحقيق من العالم أمر، والطاعة بلا قيد أو شرط أمر آخر، فلا يتصور الثاني إلّابصدد المعصومين، أمّا الأول

فله مفهوم أوسع.

وقد أعطى بعض مفسّري أهل السّنة احتمالًا خامساً وهو: أنّ المراد من اولي الأمر هم ممثلو طبقات الناس، والحكام، والزعماء، والعلماء، وذوو المناصب في جميع شؤون الحياة.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 34

وبتعبير آخر: المقصود هم أهل الحل والعقد الذين حيثما اتفقوا على شي ء تجب طاعتهم بلا قيد أو شرط «على شرط أن يكونوا منّا، حيث ذُكرت (منكم) كشرط في الآية الكريمة، ولا يخالفون سنة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله، ولا يتعرضون للإجبار في مباحثاتهم، وأن يتمتعوا باتفاق الآراء، وتلك المسألة من المسائل».

فهذه المجموعة واجبة الطاعة في المسائل التي لم يصلنا فيها نصٌ، ويمكن القول: إنّهم معصومون، لذا ورد الأمر باطاعتهم بلا قيد أو شرط «1».

من هنا فالموما إليه يعتبر اولي الأمر مجموعة من العلماء وأهل الحل والعقد الذين تتوفر فيهم الشروط الخمسة التالية:

1- الإسلام، 2- عدم مخالفة السّنة، 3- غير مجبور في ابداء الرأي، 4- ابداء الرأي فيما لا نصَّ فيه، 5- التمتع باتفاق الآراء، ويعدُّ مثل هذه الجماعة معصومة.

فهل ياترى أنّ المقصود من «اولي الأمر» في الآية الكريمة هو هذا؟ وهل أنّ أهل العرف وأصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كانوا يستفيدون هذا المعنى عند سماعهم للآية؟ أم أنَّ هذا المعنى قد فُرض على الآية بتكلّف وعناء لئلا ينصرف معنى الآية إلى الأئمّة المعصومين عليهم السلام الذين يعتقد بهم الشيعة؟

ويظهر أنّ كلام تفسير «المنار» مشتق من كلام «الفخر الرازي» حيث يقول:

«واعلم أنّ قوله «اولي الأمر منكم» يدل عندنا على أنّ إجماع الأمّة حجة والدليل على ذلك أنّ اللَّه تعالى أمر بطاعة اولي الأمر على سبيل الجزم، وفي هذه الآية ومن أمر اللَّه بطاعته على سبيل الجزم والقطع لابدّ وأن

يكون معصوماً عن الخطأ، إذ لو لم يكن معصوماً عن الخطأ كان بتقدير اقدامه على الخطأ، والخطأ لكونه منهي عنه، فهذا يفضي إلى اجتماع الأمر والنهي في الفعل الواحد بالاعتبار الواحد، وأنّه محال، فثبت أنّ اللَّه تعالى أمر بطاعة اولي الأمر على سبيل الجزم وثبت أنّ كل من أمر اللَّه تعالى بطاعته على سبيل الجزم وجب أن يكون معصوماً عن الخطأ، فثبت قطعاً أنّ وليَّ الأمر المذكور في هذه الآية لابدّ وأن يكون معصوماً.

______________________________

(1) تفسير المنار، ج 5، ص 181.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 35

ثم يضيف: ذلك المعصوم إمّا مجموع الامة أو بعض الامّة، لا جائز أن يكون بعض الامّة، لأننا بيّنّا أن اللَّه تعالى أوجب طاعة اولي الأمر في هذه الآية قطعاً، وايجاب طاعتهم قطعاً مشروط بكوننا عارفين بهم قادرين على الوصول إليهم والاستفادة منهم، ونحن نعلم بالضرورة أنا في زماننا هذا عاجزون عن معرفة الإمام المعصوم، عاجزون عن الوصول إليهم، عاجزون عن استفادة الدين والعلم منهم، وإذا كان الأمر كذلك علمنا أنّ المعصوم الذي أمر اللَّه المؤمنين بطاعته ليس بعضاً من أبعاض الامّة ولا طائفة من طوائفهم، وذلك يوجب القطع بأنّ إجماع الامّة حجّة» «1».

إنّ ما وضع الفخر الرازي وصاحب المنار وأمثالهم في الزاوية الحرجة وجعلهم يفسرون هذه الآية بهذا التفسير الذي من المسلَّم أنّ أيّاً من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لم يكن يفهمه حين نزول الآية، هو التعيين المسبق الذي يحول دون البحث عن مفهوم الآية في أئمّة أهل البيت عليهم السلام المعصومين، فمن ناحية أنّ دلالة الآية على عصمة اولي الأمر جليّةٌ.

ولم يكن في نيّتهم التسليم لشخص كإمام معصوم من ناحية اخرى لذا فهم يبحثون عن تفسير

لم يفهمه أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أثناء نزول الآية.

والأعجب من جميع التفاسير هو التفسير الذي ينتخبه بعض مفسري أهل السنّة، ويقولون: إنّ المراد من اولي الأمر: الحكام والأمراء والملوك ويجب اتباع أي حاكم يتسلط على المسلمين، عادلًا كان أم ظالماً، سالكاً جادة الصواب أم منحرفاً، يأمر بإطاعة اللَّه أم بمعصيته، كما يقول في تفسير المنار في إشارة غامضة: «وبعضهم اطلق في الحكام فأوجبوا طاعة كلّ حاكم» «2».

والأعجب من ذلك أيضاً، الروايات المشكوكة والموضوعة التي نُسبت لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله لإثبات تفسير هذه الآية، كالذي قاله رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في جوابه لجابر الجعفي حين قال:

يانبي اللَّه أرأيت إن قامت علينا امراءُ يسألونا حقّهم ويمنعونا حقّنا فما تأمرنا؟

قال صلى الله عليه و آله: «إسمعوا وأطيعوا» «3».

______________________________

(1) تفسير الكبير، ج 10، ص 144.

(2) تفسير المنار، ج 5، ص 181.

(3) صحيح مسلم، ج 3، ص 474، كتاب الامارة، باب طاعة الأمراء وإن منعوا الحقوق.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 36

وفي حديث آخر في الكتاب نفسه، روي عن أبي ذر أنّه قال: «إنّ خليلي أوصاني أن أسمع وأطيع وإن كان عبداً مجدع الأطراف» «1».

وقد فسّر البعض مجدع الأطراف بمعنى من ولد في بيت غير طاهر وملوث. ومن المسلَّم به أنّ الساحة المقدّسة للنبي صلى الله عليه و آله أطهرُ من أن يأمر خلافاً لمنطق العقل والشرع في الوقت الذي يروى عنه أنّه قال: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» وأجلى دليل على ابتداع مثل هذه الأحاديث هو أنّ أباذر الذي روي عنه الحديث لم يفعل هكذا بشهادة تاريخه، حتى أنّه قد ضحى بنفسه بسبب اعتراضه على انحراف امراء وحكام عصره!.

وعلى أيّة حال،

من الواضح أنّ النبي صلى الله عليه و آله أسمى من هذه الأقاويل، فليس من إنسان عاقل ينطق بهذا الكلام ويقول: إنّ الحاكم واجب الطاعة في كل مايقول ويعمل، لا سيما وأنّ هذا الحديث: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» «2» مشهورٌ بين علماء المسلمين سواء الشيعة أو السّنة.

ولا طاعة لبشرٍ في معصية اللَّه «3».

من هنا نستنتج أنّ أصح تفسير للآية هو اطاعة الأئمّة المعصومين عليهم السلام.

ويبقى لدينا سؤالان لابدّ من الاجابة عنهما، وهما:

1- إذا كان معنى «أولي الأمر» هو الإمام المعصوم، فهل يتناسب مع كلمة «اولي» التي تفيد الجمع؟ فباعتقاد الشيعة أنّ الإمام المعصوم واحد لا أكثر في كلّ عصر.

وقد اتضح الجواب عن هذا السؤال في البحوث السابقة، فصحيحٌ أنّ الإمام المعصوم واحدٌ في كل زمن، ولكن بالنظر لعمومية الآية بالنسبة لكافة الأزمنة، فإنّ الأئمّة المعصومين بمجموعهم يشكلون مجموعةً، ونظير هذا المعنى كثير في كلمات العرب، فمثلًا نقول: السلام عليكم وعلى أرواحكم وأجسادكم. فلا يمكن الاعتراض على هذا السلام، فكل إنسان لا يمتلك أكثر من روح وجسم، فلماذا ذكرت الأرواح والأجساد هنا بصيغة

______________________________

(1) صحيح مسلم، ج 3، ص 1467، كتاب الامارة، باب طاعة الأمراء وإن منعوا الحقوق.

(2) نهج البلاغة، كلمات القصار، الكلمة 165.

(3) تفسير در المنثور، ج 2، ص 177.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 37

الجمع؟ الجواب: إنّ هذا الجمع ناظرٌ للمجموع.

من هنا فبالرغم من أنّ النبي صلى الله عليه و آله له وصيٌ في كل زمان لكنهم يتعددون في مجموع الأزمنة، فيتحتم استخدام صيغة الجمع لهم.

2- والسؤال الآخر هو: إنّ الإمام المعصوم لم يكن موجوداً في عهد النبي صلى الله عليه و آله فكيف يؤمر بطاعته؟

وجواب هذا السؤال هو ما ورد سابقا وهو: لو كانت

الآية ناظرة إلى زمان النبي صلى الله عليه و آله فقط لورد مثل هذا الإشكال، أمّا وأنّها تعتبر حكماً عاماً لجميع المسلمين حتى يوم القيامة فلا يرد ذلك الإشكال، ففي عهد رسول اللَّه كان هو الإمام صلى الله عليه و آله وفي سائر العصور كان الأئمّة المعصومون عليهم السلام، فليس مفهوم الكلام «يجب على المسلمين اطاعة النبي وأوصيائه» هو وجوب وجود أوصيائه في عهده.

ونختتم هذا الكلام بإشارة سريعة إلى الروايات الواردة في كتب الشيعة والسّنة في ذيل هذه الآية والتي تفسرها بعلي عليه السلام وسائر الأئمّة المعصومين عليهم السلام:

ينقل الشيخ سليمان القندوزي الحنفي في كتاب ينابيع المودة، عن تفسير «مجاهد» أنّ آية: «اطِيعُوا اللَّه وَاطِيعُوا الرَسُولِ وَأولِى الأَمرِ مِنْكُم» نزلت في علي عليه السلام أثناء ما خلفه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في المدينة خلال «معركة تبوك»، ويروي عن علي عليه السلام بأنّه استدل بهذه الآية أثناء محاججته للمهاجرين والأنصار، ولم يؤاخذه المهاجرون والأنصار «1».

ونقل في شواهد التنزيل عن الحاكم الحسكاني في ذيل الآية: «اطِيعُوا اللَّهَ وَاطِيعُوا الرَسُولَ وَأُولِى الأَمرِ مِنْكُم»، سألتُ (أي علي) رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: يانبي اللَّه منْ هم؟ قال:

«أنت أولهم» «2».

كما رويت روايات كثيرة عن أئّمة أهل البيت عليهم السلام أيضاً في تفسير هذه الآية بالأئمّة المعصومين عليهم السلام وبلغت العشرات، وجاء فيها جميعاً أنّ «اولي الأمر» هم الأئمّة المعصومون «3».

______________________________

(1) ينابيع المودة، ص 114 و 115 و 116.

(2) شواهدالتنزيل، ج 1، ص 148.

(3) من أجل المزيد من الاطلاع راجعو تفسير البرهان، ج 1 ص 381 إلى 387؛ و تفسير كنز الدقائق ج 3 ص 437- 452.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 39

2- الولاية والإمامة العامة في السنة النبوية الشريفة

تمهيد:

يعتبر هذا القسم من أهم

أقسام السنّة النبوية الشريفة وقد وردت بهذا الصدد روايات كثيرة عن النبي صلى الله عليه و آله في أشهر وأهم المصادر الإسلامية وحيث من المناسب الالتفات إليها بكامل الدقة والحياد، من أجل إزالة الاتهامات التي الصقت بهذه المسألة سنوات طويلة، وذلك من خلال نور العلم والاخلاص والبحث، والكشف عن الصورة الحقيقية لها بعيداً عن التعصبات، وليتضح واجبنا الإلهي ازاء هذه القضية الإسلامية المهمّة.

ونكتفي هنا بتناول جانب من الروايات المشهورة التي تتناول مسألة الإمامة والولاية بشكل عام، مع شرح مختصر لمحتواها ومفهومها، ونرجو من القراء الكرام أنْ يكرروا ملاحظة هذه الروايات والوثائق والمصادر، وأن يطلعوا بدقة على مضمونها، ونوكل إليهم الاستنتاج والاستنباط النهائي.

إننا نعتقد أنّ اتخاذ موقف اللامبالاة ازاء هذه الأحاديث الناطقة والمرور عليها مرور الكرام، أو غض الطرف عن الحقائق، لا يقلل من مسؤليتنا، بل يضاعفها.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 41

1- حديث الثقلين

اشارة

لقد سمي هذا الحديث بهذا الاسم لأنّ النبي صلى الله عليه و آله قال فيه: «إنّي تاركٌ فيكم الثقلين ...» «1».

ونقل هذا الحديث عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بشكل واسع للغاية في كتب الشيعة والسّنة المشهورة (وفي مصادر الدرجة الاولى بحيث لم يبق معه شك في صدور هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه و آله. وبشكل عام، يمكن الاستفادة من هذه الأحاديث، بأنّه من الأحاديث التي لم يدل بها الرسول صلى الله عليه و آله لمرة واحدة فيكون حديثا واحداً، ورواته كثيرين، بل إنّه صلى الله عليه و آله ذكره في موارد مختلفة، وقد روي بروايات متعددة.

ونذكر هنا رواة هذا الحديث والكتب الإسلامية التي ورد فيها:

1- ففي صحيح مسلم الذي هو من أشهر المصادر لدى أهل السنّة وأهم الصحاح الستة،

ينقل عن «زيد بن أرقم» أنّه قال: «قام رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يوماً فينا خطيباً بماء يدعى خماً، بين مكة والمدينة «2»، فحمد اللَّه وأثنى عليه ووعظ وذكر، ثم قال: أمّا بعد ألا أيّها الناس فإنّما أنا بشر، يوشك أن يأتي رسول ربّي فاجيب وأني تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب اللَّه فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب اللَّه واستمسكوا به، فحث على كتاب اللَّه ورغب فيه، ثم قال:

وأهل بيتي اذكركُم اللَّه في أهل بيتي، اذكركُم اللَّه في أهل بيتي، اذكركم اللَّه في أهل بيتي» «3».

______________________________

(1) تقرأ كلمة «ثقلَين» على نحوين فتارة تقرأ على وزن «حَرَمَين»، ومفردها (ثَقَل) على وزن «حَرم» وتعني الشي ء الثمين والنفيس، كما تأتي بمعنى امتاع المسافر، وتارةً تُقرأ (ثِقْلَيْن) على وزن (سِبْطَيْنِ) حيث تعني الشي ء الثقيل، ويعتقد صاحب كتاب «التحقيق» أنّ الاولى تعني القيمة المعنوية (والثانية أكثر شمولية) كما ينبغي الانتباه إلى أنَ (ثَقل) على وزن (حرم) صفة مشبهة، و (ثِقْل) على وزن (سبط) اسم مصدر.

(2) جاء في هامش صحيح مسلم أنّ غدير خم يبعد عن الجحفة ثلاثة اميال.

(3) صحيح مسلم، ج 4 ص 1873.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 42

إنّ جعل أهل البيت عليهم السلام في موازاة القرآن باعتبارهما شيئين ثمينين، والتأكيد على التذكير بالمسؤولية الإلهيّة تجاههما يبرهن على علاقة هذا الأمر بمصير المسلمين وهدايتهم والمحافظة على اصول الإسلام، وإلّا لما اجتمعا.

2- وجاءت في نفس الكتاب رواية اخرى لنفس الراوي مع شي ء من الاختلاف «1».

واللطيف أنّه عندما يُسأل زيد بن أرقم تعقيباً على هذه الآية هل المقصود من أهل بيته زوجاته؟ فيجيب: لا، المقصود من أهل البيت أهله من النسب الذين تحرم عليهم الصدقة.

3- ونقرأ في كتاب سنن الترمذي الذي يعرف

ب «صحيح الترمذي أيضاً في بحث مناقب أهل البيت عليهم السلام عن جابر بن عبد اللَّه أنّه يقول: رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يوم عرفة وقد صعد ناقته وخطب، فسمعته يقول: «ياأيّها الناس إني قد تركتُ فيكم ما إنْ أخذتم به لن تضلّوا، كتاب اللَّه وعترتي أهل بيتي» «2».

ثم يضيف الترمذي: وقد روى كل من أبي ذر، وأبي سعيد الخدري، وزيد بن الأرقم، وحذيفة هذا المعنى أيضاً.

4- بعد قليل وفي نفس الكتاب يروي عن أبي سعيد وزيد بن الأرقم أنّهما قالا: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله «إني تارك فيكم ما أن تمسكتم به لن تضلّوا بعدي: أحدهما أعظم من الآخر، كتاب اللَّه حبل ممدود ما بين السماء والأرض، وعترتي أهل بيتي، وأنّهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما» «3».

5- وفي سنن الدارمي وهو من الكتب المعروفة أيضاً، روي حديث يشابه حديث زيد بن الأرقم عن النبي صلى الله عليه و آله، ويختتم الكلام بالتصريح باسم الثقلين و «كتاب اللَّه وأهل البيت» «4».

ولا ينبغي نسيان أنّ (الدارمي) وبناء على ما قاله بعض العارفين هو استاذ مسلم وأبي داود، وكتاب سنن الدارمي أحد الكتب الستة المعتبرة المعروفة لدى أهل السُّنة (وان ذكر

______________________________

(1) صحيح مسلم، ج 4، ص 1874.

(2) صحيح الترمذي، ج 5، ص 662، باب مناقب أهل بيت النبي، ح 3786.

(3) صحيح الترمذي، ص 663، ح 3788.

(4) سنن الدارمي، ج 2، ص 432.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 43

البعض سنن ابن ماجه بدلًا عنه).

6- ونقرأ في مسند أحمد وهو من الأئمّة الأربعة لأهل السنّة رواية عن زيد بن ثابت حيث يقول: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و

آله: «إنّي تارك فيكم خليفتين: كتاب اللَّه حبل ممدودٌ ما بين السماء والأرض، أو ما بين السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي وأنّهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض» «1».

انتبهوا إلى أنّه في بعض هذه الروايات ورد تعبير «الثقلين» «كما في رواية صحيح مسلم». وفي بعضها «خليفتي» «كما في الرواية الأخيرة التي نقلت عن سنن أحمد»، وفي البعض الآخر لم يرد ايّ منهما، بل مفهومها ومضمونها، وفي الحقيقة فانّها جميعاً تعود إلى أمر واحد.

7- يروي أحمد بن شعيب «النسائي»- الذي يعتبر من أعاظم أهل السنّة أيضاً، وكتاب سننه من الصحاح الستة المشهورة أيضاً- في كتاب «الخصائص» عن زيد بن الأرقم قوله:

إنّ النبي صلى الله عليه و آله وحين عودته من حجة الوداع ووصوله إلى غدير خم أمر بإقامة ظلة هناك واغتسل تحتها ثم قال: «كأنّي دعيت فاجبتُ، وإنّي تاركٌ فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر، كتاب اللَّه وعترتي فانظروا كيف تخلفوني فيهما، فإنّهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، ثم قال: إنّ اللَّه مولاي وأنا مولى كل مؤمن ثم أخذ بيد علي عليه السلام، فقال: منْ كنتُ مولاه فهذا وليه، اللّهم وال مَنْ والاه وعاد من عاداه».

وفي نهاية الرواية ورد أنّ الراوي الثاني «أبو طفيل» قال: قلتُ لزيد بن الأرقم: أسمعت هذا الحديث من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله؟.

قال: كلُّ من كان تحت الظلة رأى هذا المنظر بعينيه، وسمع هذا الكلام بأذنيه «2».

هذه الرواية تبرهن جيداً على أنّ النبي صلى الله عليه و آله أدلى بهذا الكلام في الملأالعام، وبحضور حشد غفير في غدير خم، والجميع قد سمعوا ذلك.

______________________________

(1) مسند الإمام أحمد، ج 5، ص 182.

(2) خصائص النسائي، ص 20، وفقاً لما نقل

عن فضائل الخمسة، ج 2 ص 54.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 44

8- ويروي الحاكم النيسابوري- وهو من علماء القرن الرابع الهجري في كتاب مستدرك الصحيحين وهو من المصادر المعروفة لدى أهل السنة ويضم الروايات التي لم ترد في صحيحي البخاري ومسلم، بينما هو في مرتبتهما من ناحية القيمة والوزن- هذا الحديث عن ابن واصلة أنّه يقول: سمعت من زيد بن الأرقم أنّ النبي صلى الله عليه و آله وصل إلى أشجار بين مكة والمدينة وكانت هناك خمس ظلل، فنزل وقام الناس بتنظيف ما تحت الأشجار، وبعد صلاتي الظهر والعصر، خطبنا رسول اللَّه فحمد اللَّه وأثنى عليه، وبالغ في الوعظ ثم قال:

«أيّها الناس إنّي تارك فيكم أمرين لن تضلوا أن اتبعتموهما: وهما كتاب اللَّه وأهل بيتي عترتي» «1».

ثم يضيف الحاكم: وهذا الحديث صحيح على شرط الشيخين «2».

9- يقول ابن حجر الهيثمي مفتي الحجاز وهو من ألد أعداء الشيعة، في كتاب «الصواعق المحرقة»: في رواية صحيحة «كأنّي قد دُعيت فاجبت، إنّي قد تركتُ فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر، كتاب اللَّه عزّ وجلّ وعترتي فانظروا كيف تخلفوني فيهما فإنّهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض».

ثم يضيف: وقد وردت هذه الزيادة في رواية اخرى أيضاً: «سألتُ ربّي ذلك لهما، فلا تتقدموهما فتهلكوا، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا، ولاتعلموهم فإنّهم اعلم منكم».

ثم يضيف: إنّ لهذه الرواية طرقاً ورواة كثيرين يربون على نيف وعشرين راوياً، ولا حاجة لشرحه وتفصيله «3».

إنّ هذا الاقرار الصريح بسعة هذا الحديث «إلى حد التواتر» ومن شخص طالما شنَّ أعنف الهجمات على الشيعة فيما يخص مسألة الإمامة لهو أمرٌ جديرٌ بالاهتمام.

______________________________

(1) مستدرك الصحيحين، ج 3، ص 109 (طبقاً لنفس المصدر).

(2) المراد من شرط ذينك الشخصين هو أنّهما ينقلان

الأحاديث التي تنتهي سلسلة سندها إلى النبي صلى الله عليه و آله وأنّ رواتها يحظون بثقتهما وليسوا متهمين، وحيث إنّهما لم ينقلا كل الأحاديث التي تتمتع بهذا الشرط، فقد قام الحاكم النيسابوري بجمع الأحاديث التي تتمتع بالشروط ولم تأت في الكتابين، وذلك في كتابه «المستدرك»، من هنا يمكن أن يكون المستدرك موازياً لصحيحي البخاري ومسلم.

(3) الصواعق، ص 226.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 45

10- يروي ابن الأثير «محمد بن محمد بن عبد الكريم» صاحب الكتب المشهورة والتي من بينها كتاب «اسد الغابة في معرفة الصحابة» في أحوال «عبد اللَّه بن حنطب» أنّه قال:

«خطبنا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بالجحفة فقال: ألستُ أولى بكم من أنفسكم؟ قالوا: بلى يارسول اللَّه! قال إنّي سائلكم عن اثنين عن القرآن وعن عترتي» «1».

11- وذكر «جلال الدين عبد الرحمن السيوطي» وهو من العلماء المعروفين أيضاً وصاحب المؤلفات الكثيرة «2»، في كتاب «احياء الميت» ما أورده ابن الأثير في اسد الغابة «3».

12- وقد أورد البيهقي «أبو بكر أحمد بن الحسين» الذي يقول الزمخشري بحقه: «إنّ للشافعي دَيْناً على عاتق جميع أتباعه، إلّاأنّ البيهقي ولما كتبه فهو ذو حق على الشافعي نفسه وعلى أتباعه أيضاً» «4».

وأورد هذا الحديث في كتاب «السنن الكبرى وهو من أهم كتبه (نظيراً لما ورد في صحيح مسلم لا سيما وأنّ كلمة أهل البيت قد تكررت فيه ثلاثاً) «5».

13- كما أنّ الحافظ الطبراني وهو من المحدثين المعروفين لدى أهل السنة «وقد عاش في القرن الثالث والرابع للهجرة» وكما يقول البعض: إنّه عاصر أكثر من ألف استاذ في الحديث، يروي في كتابه الموسوم «المعجم الكبير» بسنده إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنَّ النبي صلى الله عليه

و آله دعا الناس إلى اتباع الثقلين، فقام رجل وسأله: يارسول اللَّه، وما الثقلان؟ قال:

«الأكبر كتاب اللَّه، سببٌ طرفه بيد اللَّه، وطرفه بأيديكم، فتمسكوا به لا تزلّوا ولا تضلوا، والأصغر عترتي وأنّهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض».

ثم أضاف النبي صلى الله عليه و آله: «وقد سألتُ ربّي لهما ذلك، فلا تتقدموهم فتهلكوا، ولا تعلموهم فإنّهم أعلم منكم» «6».

______________________________

(1) اسد الغابة في معرفة الصحابة، ج 3، ص 47.

(2) قيل إنّه كتب أكثر من خمسمائة كتاب (الكنى والالقاب، ج 1 ص 207).

(3) احياء الميت الذي طبع على هامش الاتحاف، ص 116.

(4) الكنى والألقاب، ج 2، ص 114.

(5) سنن البيهقي، ج 10، ص 114.

(6) المعجم الكبير، ص 137، وفقاً لما نقله احقاق الحق، ج 9، ص 322.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 46

14- ونقل ابن تيمية «أحمد بن عبد الحليم الحنبلي» «المتوفى سنه 728 ه» مؤسس «المذهب الوهابي» في كتاب منهاج السنة، هذا الحديث كما ورد في صحيح مسلم «1».

كما نقله جماعةٌ آخرون من علماء السنة المشهورين والمعروفين في كتبهم، منهم:

15- ابن المغازلي علي بن محمد، «الفقية الشافعي وهو من علماء القرن الخامس الهجري» إذ نقل هذا الحديث بمزيد من التفصيل عن زيد بن الأرقم «2».

16- الخوارزمي وهو من مشاهير علماء القرن السادس وكان من الفقهاء والمحدثين والخطباء والشعراء، نقل هذا الحديث أيضاً في كتابه الموسوم ب «المناقب» «3».

17- وذكره الذهبي «محمد بن أحمد بن عثمان الدمشقي الشافعي»- وهو من علماء القرنين السابع والثامن، وهو معروف بالتحيّز لمذهبة، وقد قال تاج الدين السبكي في كتاب «طبقات الشافعية» بحقه: إنّه محدّث عصره، وختام الحفاظ، ورافع راية مذهب السنة والجماعة، وامام أهل زماننا- هذا الحديث أيضاً في كتاب «تلخيص المستدرك» «4».

18-

وذكر المؤرخ الشهير علي بن برهان الحلبي الشافعي وهو من علماء القرن الحادي عشر، في كتابه «إنسانُ العيون» المشهور بالسيرة الحلبية، حديث الثقلين ضمن بيانه لحديث الغدير وبعبارات صريحه كالذي ذكرناه آنفاً، وبعد ذكر هذا الحديث يقول بصراحة:

«هذا حديث صحيح حيث نُقل باسناد صحيحة وحسنة» «5».

وذكر ابن حيان المالكي في كتاب «المقتبس في أحوال الاندلس» شبيه ما ورد في صحيح مسلم، إلّاأنّه ذكر المكان الذي تلا فيه النبي صلى الله عليه و آله تلك الخطبة والواقع بين مكة والمدينة بأنّه «الحصائن» والتي تعني «القلاع» «6».

______________________________

(1) منهاج السنّة، ج 4، ص 104.

(2) احقاق الحق، ج 4، ص 438، (نقلًا عن كتابه الخطي).

(3) المناقب، ص 93.

(4) جاء هذا الكتاب على هامش كتاب المستدرك للحاكم، ج 3، ص 109.

(5) السيرة الحلبية، ج 3، ص 274.

(6) المقتبس، ص 167.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 47

20- وأورد «علاء الدين علي بن محمد البغدادي» المشهور ب «الخازن» وهو من علماء القرن الثامن الهجري في تفسيره ما جاء في صحيحي مسلم والترمذي «1».

21- وأورد «ابن أبي الحديدالمعتزلي عز الدين عبد الحميد» وهو من علماء القرن السابع الهجري، هذه الرواية أيضاً في شرح نهج البلاغة، فيقول: «قد بين رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عترته من هي لمّا قال: إنّي تاركٌ فيكم الثقلين، فقال عترتي أهل بيتي».

ثم يضيف: وقد بين رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أهل بيته أيضاً في مكان آخر، عندما نشر عليهم الكساء، وعندما نزلت الآية: «انَّمَا يُريدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِجسَ ...»، قال: «إلهي هؤلاء أهل بيتي فأَذهب عنهم الرجس» «2».

22- ونقل «زيني دحلان» الشافعي (سيد أحمد) مفتي مكة وهو من علماء القرن الثالث عشر الهجري وله مؤلفات كثيرة،

هذا الحديث في كتاب «السيرة النبوية» الذي طبع على هامش السيرة الحلبية كما نقلة صحيح مسلم تماماً، وكما رواه مسند أحمد بن حنبل عن أبي سعيد الخدري «3».

ترتيب مختصر:

كانت هذه مجموعة من مشاهير العلماء منذ قرون الإسلام الاولى وحتى القرون الأخيرة، حيث نقلوا حديث الثقلين في كتبهم بكل صراحة، ولكن لا ينبغي أن ننسى أنّ هذه طائفةٌ قليلة من مجموع رواة هذا الحديث، وطبقاً لما جاء في خلاصة عبقات الأنوار فقد ذكر المرحوم مير حامد حسين الهندي مائة وستة وعشرين كتاباً معروفاً، وقد أورد في كتابه هذا نص العبارة مع رقم الجزء والصفحة في الكتاب «4».

ومن الجدير بالذكر أنّ هذا الحديث لم يُروَ عن جابر بن عبد اللَّه الأنصاري أو أبي سعيد

______________________________

(1) تفسير الخازن، ج 1، ص 4.

(2) شرح نهج البلاغة، لابن أبى الحديد، ج 2، ص 437، طبع القاهرة.

(3) السيرة النبوية، ج 2، ص 300؛ على هامش ج 3 من السيرة الحلبية، ص 33 وجاء أيضاً في ص 33.

(4) نقلًا عن خلاصة عبقات الأنوار، ج 2، ص 105- 242.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 48

الخدري أو زيد بن الأرقم فحسب، بل رواه ما لا يقل عن ثلاثة وعشرين من صحابة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عنه مباشرة، وفيما يلي أسماؤهم:

1- زيد بن الأرقم، 2- أبو سعيد الخدري، 3- جابر بن عبد اللَّه الأنصاري، 4- حذيفة بن أسيد، 5- خزيمة بن ثابت، 6- زيد بن ثابت، 7- سهل بن سعد، 8- ضمرة الاسلمي، 9- عامر بن ليلى 10- عبر الرحمن بن عوف، 11- عبد اللَّه بن عباس، 12- عبداللَّه بن عمر، 13- عدي بن حاتم، 14- عقبة بن عامر، 15- علي بن أبي طالب

عليه السلام، 16- أبو ذر الغفاري، 17- أبو رافع، 18- أبو شريح الخزاعي، 19- أبو قدامة الأنصاري، 20- أبو هريرة، 21- أبو هيثم بن التيهان، 22- ام سلمه، 23- أم هاني.

تكرار حديث الثقلين على لسان النبي صلى الله عليه و آله:

من الامور التي يجدر ذكرها هنا أنّ النبي صلى الله عليه و آله لم يدل بهذا الحديث لمرّة واحدة فقط كما هو الحال بالنسبة لحديث الغدير الذي صرح به النبي صلى الله عليه و آله مرّة واحدة وسمعه ونقله كثيرون، بل إنّه ردَّدَ حديث الثقلين في مواطن عديدة ومناسبات مختلفة.

والمواطن التي ذُكر فيها الحديث ونُقل عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في كتب أهل السنّة عبارة عن:

1- في غدير خم أثناء عودة النبي صلى الله عليه و آله من حجة الوداع، حيث قام وأورد حديث الثقلين ضمن كلماته المفصلة.

وهذا ما ذكرناه آنفاً عن صحيح مسلم وخصائص النسائي مع ذكر الاسناد والمصادر.

2- خلال أيّام الحج وفي يوم عرفة وعندما كان النبي صلى الله عليه و آله يخطب من على ناقته حيث أدلى بهذا الحديث.

وهذا ما رواه الترمذي في صحيحه عن جابر بن عبد اللَّه الأنصاري، وأدرج سابقاً تحت الرقم 2.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 49

3- تحدّث النبي الأكرم صلى الله عليه و آله بهذا الحديث في «الجحفة» وهي أحد مواقيت الحج بين مكة والمدينة، كما ذكر ذلك ابن الأثير في «اسد الغابة» في أحوال «عبد اللَّه بن حنطب»، وذُكر سابقاً في العدد 8 من سلسلة الأحاديث.

4- أثناء مرضه الذي انتهى بوفاته، وعندما كان يدلي بآخر وصاياه، أوصى صلى الله عليه و آله بالثقلين وقال: «أيّها الناس يوشك أن اقبض قبضاً سريعاً فينطلق بي وقد قدّمت إليكم القول معذرةً إليكم إلّاأنّي مخلف فيكم كتاب ربي عزّ

وجلّ وعترتي أهل بيتي، ثم أخذ بيد علي عليه السلام فرفعها، فقال: هذا عليٌ مع القرآن والقرآن مع علي لا يفترقان حتى يردا علي الحوض فاسئلوهما ما خلَّفت فيهما» «1».

وهناك دقائق وظرائف لا تخفى على أهل الحقيقة.

5- قال صلى الله عليه و آله في «مسجد الخيف» اثناء «حجة الوداع»: ألا وإنّي سائلكم عن الثقلين، قالوا: يارسول اللَّه وما الثقلان؟ قال: كتاب اللَّه الثقل الأكبر، طرف بيد اللَّه وطرف بأيديكم فتمسكوا به لن تضلوا ولن تزلوا، وعترتي أهل بيتي، فانّه قد نبأني اللطيف الخبير أنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض كاصبعيّ هاتين» «2».

6- أثناء عودته صلى الله عليه و آله من الطائف «بعد فتح مكة» حيث وقف النبي وذكر هذا الحديث وهذه النقاط المهمّة «3».

إنّ هذا التكرار والتأكيد وفي أماكن مختلفة، في المدينة وفي أيّام الحج، في يوم عرفة، وفي مسجد الخيف «أيّام منى» وفي وسط الطريق بين مكة والمدينة، وموارد اخرى دليلٌ واضح وبرهانٌ قويٌ وناطق على أنّ التمسك بهذين الأمرين المهمين يعتبر قضية مصيرية ومهمة بحيث كان النبي صلى الله عليه و آله يريد توعية المسلمين على أهميّتهما لئلا يضلوا، والعجب العجاب إذا ما تخلينا عنهما بعد كل هذا التكرار والتأكيد، وألقينا بأنفسنا في الضلالة، أو قللنا من شأنهم من خلال التبريرات الخاطئة.

______________________________

(1) الصواعق المحرقة، ص 75.

(2) تفسير علي بن إبراهيم وفقاً لنقل بحار الأنوار، ج 23، ص 129، ح 61.

(3) صواعق ابن حجر، الفصل الأول، الباب 11 آخر ص 89.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 50

نفحات القرآن ج 9 99

فكيف يمكن المرور مرور الكرام بحديث نقله نيفٌ وعشرون من صحابة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وورد في المصادر الشهيرة ومن قبل

الطبقة الاولى ونقل في ما يقارب من مائتي كتاب إسلامي معروف، لا شك ولا ريب في سنده، ولا غموض في برهانه؟ من المسلم به أنّ مَن يمر بهذا الحديث مرور الكرام تقع على عاتقه مسؤولية عظيمة.

فالذي يؤمن بالنبي صلى الله عليه و آله باعتباره رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وخاتم النبيين والأمين على الوحي، ويرى تأكيده على التمسك بهذين الأمرين المهمين رأي العين، ويعتبر أنّ الهدى في اتباعهما، عليه أن يعلم أنَّ هناك سرّاً مهماً يكمن في هذين الأمرين.

المسائل المهمّة المستوحاة من حديث الثقلين:

إنّ هذا الحديث الشريف يرسم خطوطاً مهمّة أمام المسلمين، وسنشير إلى جانب منها بشكل مختصر:

1- إنّ القرآن وأهل البيت عليهم السلام متلازمان دائماً ولا يمكن فصلهما، والذين يبحثون عن حقائق القرآن يتحتم عليهم التمسك بأهل البيت عليهم السلام.

2- كما أنّ اتّباع القرآن واجبٌ على المسلمين بلا قيد أو شرط فإنّ اتّباع أهل البيت عليهم السلام واجبٌ أيضاً بلا قيد أوشرطٍ.

3- إنّ أهل البيت معصومون عليهم السلام، فعدم افتراقهم عن القرآن من ناحية، ووجوب اتباعهم بلا قيد أو شرطٍ من ناحية اخرى دليل واضحٌ على عصمتهم من الزلل والخطأ والذنب، فلو كانوا يذنبون أو يخطئون لانفصلوا عن القرآن، وأنّ اتباعهم لم يؤمِّن المسلمين من الضلالة والانحراف، وأنّ قوله صلى الله عليه و آله: «ما إن تمسكتهم بهما لن تضلوا»، دليل جليٌّ على عصمتهم.

4- والأهم من كل ذلك أنّ النبي صلى الله عليه و آله قد رسم هذا الخط للمسلمين على مر الزمان إلى يوم القيامة، فيقول: «إنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض» فهذا يوضح بجلاء أنّ هناك

نفحات القرآن، ج 9، ص: 51

شخصاً من أهل البيت عليهم السلام بعنوان أمام معصوم على مرّ

التاريخ، وكما أنّ القرآن نبراس هداية فإنّهم كذلك، إذن لابدّ أن نسعى ونبحث عنهم في كلِّ عصر وزمان.

5- يستفاد من هذا الحديث الشريف أنّ الانفصال عن أهل البيت عليهم السلام أو التقدم عليهم يمثل أساس الضلال، ولا ينبغي تقدم شي ء على ما يختارونه.

6- إنّهم أفضل وأعلم من الناس كافّة.

نعم، فلا غموض في استجلاء هذه الامور من الحديث المذكور أبداً.

واللطيف أنّ «السمهودي» والشافعي «1» وهما من علماء القرن التاسع والعاشر الهجري المعروفين، وصاحب كتاب «وفاء الوفاء» يقول في احدى مؤلفاته باسم «جواهر العقدين» الذي كتبه حول حديث الثقلين: إنّ ذلك يفهم وجود مَنْ يكون أهلًا للتمسك به من أهل البيت والعترة الطاهرة في كلّ زمانٍ وُجدوا فيه إلى قيام الساعة، حتى يتوجه الحثُ المذكور إلى التمسك به كما أنّ الكتاب العزيز كذلك «2».

سؤال أخير:

يبقى سؤال واحد فقط وهو: إنّه عبر في بعض الروايات وإن كانت قليلة جداً ب «وسنتي» بدلًا عن «وعترتي أهل بيتي»، حيث عثرنا عليهما في مكانين في سنن البيهقي، ففي مورد يروي ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و آله أنّه خطبنا في حجة الوداع وقال: «إنّي تارك فيكم ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا أبداً، ثم قال: كتاب اللَّه وسنة نبيّه» «3».

وفي سند آخر نقل هذا المعنى عن أبي هريرة أيضاً «4».

ولكن من الواضح أنّ هذه الرواية لا يُستند عليها في مقابل جميع تلك الروايات التي

______________________________

(1) «سمهود»، قرية كبيرة إلى جانب النيل في مصر.

(2) خلاصة عبقات الأنوار، ج 2، ص 285.

(3) سنن البيهقي، ج 10، ص 114.

(4) المصدر السابق.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 52

تصرح باسم أهل البيت والعترة، وحتى أنّ كلمة أهل البيت تكررت في بعضها ثلاث مرات، وتم التأكيد عليهم،

وفي بعضها جاء اسم عليّ عليه السلام بالنص، وأنّ النبي صلى الله عليه و آله أخذ بيده وعرَّف به، ويبدو أنّ سلاطين الزمان قاموا بهذا التغيير للإفلات من مؤاخذات الناس، إلّاأنّهم لم يستطيعوا التحريف.

فضلًا عن أنّ هاتين الروايتين على فرض صحة حديث «وسنتي» لاتتعارضان، ففي مكان يوصي النبي صلى الله عليه و آله بالكتاب والسنّة، وفي مكان آخر بالكتاب والعترة، لأنّ النبي صلى الله عليه و آله وكما أسلفنا قد أدلى بهذا الحديث مرات عديدة (وفقاً للروايات التي وردت في المصادر المشهورة لأهل السنّة)، فتارة في حجة الوداع، واخرى أثناء عودته من الطائف، ومرّة في المدينة وعلى المنبر، واخرى على فراش المرض والوفاة «1»، فما الضير في أن يقول مرات ومرات: «وعترتي» ومرة واحدة: كتاب اللَّه وسنتي؟

وهل هنالك شخص ينكر أنّ سنّة النبي صلى الله عليه و آله هي احدى آثاره العظيمة، التي يجب العمل بها؟ وهل يمكن لمسلم أن يغض الطرف عن سنة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله التي أكد عليها القرآن، وقال: «مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهاكُمْ عَنهُ فَانتَهوُا». (الحشر/ 7)

إنّ هذا المعنى لا يتعارض والتأكيد على اتباع العترة والتمسك بها الوارد في الموارد الاخرى

وبتعبير آخر: إنّ اختيار إحدى الروايتين يكون في موضع يتعارضان فيه، والحال أنّهما لا يتعارضان على الاطلاق، إنّ التمسك بهدى أهل البيت عليهم السلام هو أحد المصاديق البارزة للعمل بسنة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فمن اطاع أهل البيت عليهم السلام فقد عمل بسنة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، والذي أدار ظهره لهم وقدم اختياره على اختيار رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقد تمرد على رسول اللَّه صلى الله

عليه و آله.

وعلى أي حالٍ لا يمكن التنصل من المسؤولية التي حمَّلتها إيّانا أحاديث الثقلين الأحاديث المتواترة بلا شك، ولا يمكن التغاضي عنها من ناحية السند والبرهان.

ونختم الكلام بشعر أورده الإمام الشافعي بهذا الصدد:

______________________________

(1) لقد تمّت الإشارة إلى هذه الموارد سابقاً، ويجدر القول إنّ المرحوم السيد شرف الدين قد أشار إلى الموارد في الرسالة الثامنة في كتابه المراجعات.

ولما رأيت الناس قد ذهبت بهم مذاهبهم في ابحرِ العين والجهلِ

ركبتُ على اسم اللَّه في سفن النجاةوهم آل بيت المصطفى خاتم الرسلِ

وأمسكتُ حبل اللَّه وهو ولاؤُهم كما قد أمرنا بالتمسك بالحبلِ

وما أسعد الإنسان إذ يراهم الملاذ في كلّ شي ء ويعرف الحق من خلالهم «1».

وقد استند في الكثير من الروايات الآنفة إلى قضية حوض الكوثر، وسبب ذلك بحسب الظاهر أنّ حوض الكوثر يقع في باب الجنّة، وأنّ أول قدم للدخول تكون هناك، وأنّ الصالحين يزورون النبي صلى الله عليه و آله وأهل البيت عليهم السلام هناك.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 55

2- حديث سفينة نوح

اشارة

من الأحاديث المشهورة بحق أهل البيت عليهم السلام والأئمّة المعصومين عليهم السلام هو «حديث السفينة» الذي ورد في الكتب المعروفة لدى الشيعة وأهل السنّة بشكل واسع، ونحن هنا نبحث في نص واسناد ومصادر هذا الحديث الشريف بشكل سريع:

لقد نقل هذا الحديث ما لا يقل عن ثمانية من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وهم (أبو ذر، وأبو سعيد الخدري، وابن عباس، وأنس، وعبد اللَّه بن الزبير، وعامر بن وائلة، وسلمة بن الاكوع، وعلي عليه السلام) «1».

لقد وردت الروايات الآنفة في الكتب المشهورة لدى أهل السنّة حيث نشير إلى جانب منها فيما يأتي،- وللمزيد من التوضيح نحث على مراجعة الكتب التالية: احقاق الحق، الجزء التاسع، وخلاصة عبقات الأنوار، الجزء

الرابع وسائر الكتب-.

إن أبا ذر رحمه الله كان ماسكاً بباب الكعبة ويقول: «مَن عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فليعلم أني أبو ذر الغفاري، سمعتُ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول: «مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها هلك»، وجاء في رواية: «ومَنْ تخلّف عنها غرق» «2».

وعليه فهم سفينة النجاة في بحر الحياة المتلاطم.

2- يروي «ابن عباس» وكذا «سلمة بن الاكوع»- وفقاً لما ينقله أبو الحسن علي بن

______________________________

(1) وفقاً لما نقل في اسد الغابة أنّ عبد اللَّه بن الزبير ولد في بداية الهجرة، وفي سن السابعة أو الثامنة جاء به أبوه الزبير إلى الرسول صلى الله عليه و آله ليبايعه، فسمع منه صلى الله عليه و آله ما بقي من عمره ورواها (اسد الغابة، ج 3، ص 162).

(2) روى هذا الحديث الحافظ الطبراني في المعجم الكبير والمعجم الصغير، ص 78 طبعة دلهي؛ وابن قتيبة الدينوري في عيون الأخبار، ج 1، ص 212 طبعة مصر؛ والحاكم النيشابوري في المستدرك، ج 3، ص 150؛ والذهبي في ميزان الاعتدال، ج 1، ص 224؛ والسيوطي في تاريخ الخلفاء، ص 573؛ وجماعة اخرى كثيرة.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 56

محمد الشافعي، المشهور بابن المغازلي، في كتاب المناقب- عن النبي صلى الله عليه و آله أنّه قال: «أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح مَنْ ركبها نجا ومن تخلف عنها هلك».

وهذه العبارة نقلت عن ابن عباس، إلّاأنّ عبارة «ابن الاكوع» أكثر اختصاراً وهي:

«مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح من ركبها نجا».

يقول الشيخ «محمد أمين الانطاكي»، مؤلف كتاب «لماذا اخترت مذهب الشيعة» في بحث حديث السفينة: اتفقت آراء علماء الإسلام على صحة واستفاضة نقل هذا الحديث

حتى بلغ حدّ التواتر، وهناك عدد كبير من الحفاظ وأئمّة الحديث وأهل السير والتواريخ نقلوا هذا الحديث حتى بلغ عددهم أكثر من مائة وحتى غير المسلمين نقلوا هذا الحديث ووضعوه بين الأحاديث الإسلامية» «1».

وروي هذا الحديث في كتاب «عبقات الأنوار» عن اثنين وتسعين كتاباً مكتوبة من قبل اثنين وتسعين من مشاهير علماء أهل السنة بشكل مفصل مع جميع المشخصات:

وفي الملحقات التي ذكرها صاحب كتاب «خلاصة عبقات الأنوار» نقل هذا الحديث عن ثمانية من الصحابة، وثمانية من التابعين، وثلاثة من علماء القرن الثاني، وثمانية من علماء القرن الثالث، وأربعة عشر من علماء القرن الرابع، وهكذا قرناً بعد قرن حتى وصل إلى القرن الحالي، وذكرهم جميعاً بالإسم والمواصفات «2».

مفاد حديث السفينة:

من أجل إدراك المعنى الدقيق لهذا الحديث لابدّ من إلقاء نظرة على أحوال سفينة نوح.

يقول القرآن الكريم: «فَفَتَحْنَا ابْوابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ* وَفَجَّرنَا الارضَ عُيُونًا فَالتَقَى المَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ». (القمر/ 11- 13)

______________________________

(1) لماذا اخترت مذهب الشيعة، ص 166.

(2) خلاصة عبقات الأنوار، ج 2، ص 126- 195.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 57

لقد دمر هذا الفيضان الشامل وغطى الماء كل شي ءً ولم يبق مأوى يلتجي ء الإنسان إليه سوى سفينة نوح التي ضمن اللَّه تعالى لمن ركبها النجاة من الغرق، بحيث عندما قال ابن نوح بغرور: «سَآوِى الَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِى مِنَ المَاءِ» فليس هناك فيضان يصل إلى قمم الجبال، جُوبه برد أبيه الحازم والرادع حيث قال له: «لَاعَاصِمَ اليَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ الَّا مَنْ رَّحِمَ»! إشارة إلى المؤمنين الذين ركبوا في السفينة، وظهر صدق كلام نوح مباشرة إذ: «وَحَالَ بَيْنَهُمَا المَوجُ فَكَانَ مِنَ المُغرَقينَ». (هود/ 43)

إنّ تشبيه أهل البيت بمثل هذه السفينة وفي تلك الظروف، زاخرٌ بالمعاني التي تعلَّمنا منها

الكثير من الحقائق، ومن بينها:

1- إنّ العواصف ستعصف بالامة الإسلامية بعد النبي صلى الله عليه و آله وتجرف الكثير معها ويغرق في أمواجها الكثير أيضاً.

2- هنالك طريق واحد فقط للخلاص من مخالب الأخطار التي تهدد الدين والإيمان وارواح الناس، ألا وهي سفينة أهل البيت عليهم السلام التي يُعتبر التخلف عنها أو تركها سبباً للهلاك.

3- إنّ الانفصال عن واسطة النقل في الصحراء قد لا يؤدّي إلى الموت دائماً، إلّاأنّه يُعرِّض الإنسان إلى العناء، بَيدَ أنّ التخلف عن سفينة النجاة في بحرٍ متلاطم لا ينتج عنه سوى الموت والهلاك.

4- لقد كان شرط الركوب في سفينة نوح عليه السلام الإيمان والعمل الصالح، من هنا فقد عرض نوح على ابنه الإيمان، والانفصال عن الكافرين، والركوب معه ومع أصحابه في السفينة: «يَابُنَيَّ ارْكَبْ مَّعَنَا وَلَا تَكُنْ مَّعَ الكَافِرينَ». (هود/ 42)

بناء على ذلك فشرط نجاة هذه الامه من العواصف والانحرافات هو الإيمان واليقين بمقام سفينة النجاة هذه.

5- ليست محبتهم فقط التي تؤدّي إلى النجاة، حيث طرح بعض علماء الإسلام ذلك بادّعائهم أنّ جميع المسلمين يحبون أهل البيت عليهم السلام ويعظمونهم، من هنا فهم جميعاً من الناجين. بل إنّ الكلام الذي جاء في الرواية هو عن اتباعهم (مقابل التخلف عنهم)، فإنَّ ابن

نفحات القرآن، ج 9، ص: 58

نوح كان يحبُّ أباه إلّاأنّه لم يكن يتبعه، ولم تؤدّ محبتُه إلى نجاته ابداً (تأملوا جيداً).

6- كما استفيد من «حديث الثقلين» خلال البحوث الآنفة أنّ التمسك بولاء أهل البيت عليهم السلام مستمرٌ حتى نهاية العالم، وأنّ القرآن وأهل البيت عليهم السلام لن يفترقا حتى يردا على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله الحوض في الجنة، يستفاد أيضاً من «حديث السفينة»، أنّ هذا الخط مستمرٌ حتى

نهاية الكون، لأنَّ الدنيا دائماً مركز الابتلاءات والعواصف، أي أنّ الشياطين ودعاة الضلالة والتائهين في وادي الحيرة موجودون في كل زمان، ولاتهدأ هذه العواصف أبداً، وهي قائمة إلى يوم القيامة حيث يحكم اللَّه تعالى بين عباده، فتزال الاختلافات «1» على هذا الأساس، فإنّ وجودالسفينة سفينة النجاة هذه ضرورىٌ إلى الأبد والتخلف عنها يؤدّي إلى الهلاك.

7- إنّ التمسك المطلق بأهل البيت عليهم السلام (في قبال التخلف عنهم) يمكن أن يكون شاهداً جلياً على وجود الإمام المعصوم في كل زمان من أهل البيت عليهم السلام، حيث يؤدّي اتّباعه إلى النجاة والتخلف عنه إلى الهلاك.

8- إنّ هذا الحديث تفسيرٌ للحديث المعروف «ستفترق امّتي على ثلاث وسبعين فرقة، فرقة ناجية والباقون في النار» «2».

ويبرهن على أنّ الفرقة الناجية هم الذين يتمسكون بمذهب أهل البيت عليهم السلام، ويهتدون بهداهم في اصول وفروع الدين.

من مجموع ما قيل يمكن الاستفادة أيضاً من هذا الحديث المعروف: إنّ مسألة أهل البيت عليهم السلام يجب أن تكون مسألة بسيطة وعلى الهامش، بحيث يأخذ المسلمون ما يريدونه في امور الدين والدنيا من الغير ويكتفون بمحبة أهل البيت عليهم السلام.

______________________________

(1) يصرح القرآن في آيات عديدة أنّ يوم القيامة يوم يزال فيه الاختلاف وأن اللّه يفصل بين الامم.

(2) لقد روى هذا الحديث طائفة كثيرة من علماء الشيعة والسنّة، وجاء في بعض طرق الحديث أن النبي عليه السلام قال في جوابه لعلي عليه السلام الذي سأله، من هي الفرقة الناجية؟، المتمسك بما تمسكت به أنت و شيعتك و أصحابك (احقاق الحق، ج 7 ص 185).

نفحات القرآن، ج 9، ص: 59

3- حديث النجوم

اشارة

الحديث الآخر الذي ورد بشكل واسع بحق أهل البيت عليهم السلام في المصادر الإسلامية، ويؤكّد على أنّهم عليهم السلام هداة وأئمّة

الناس في كل زمان هو حديث النجوم. حيث رواه جماعة كثيرة من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله (ما لا يقل عن سبعة أشخاص، ومنهم علي عليه السلام، وجابر بن عبد اللَّه، وأبو سعيد الخدري، وانس بن مالك، والمنكدر «1»، وسلمة بن الاكوع، وابن عباس)، وجرت الإشارة إليه في عشرات الكتب من قبل حفاظ أهل السنّة ومحدثيهم، حيث ندرج جانباً منها فيما يأتي، ونشير إلى بقية المصادر بشكل إجمالي (للمزيد من اطلاع القراء):

1- ينقل «الحاكم النيسابوري» في المستدرك عن «ابن عباس» أنّ النبي صلى الله عليه و آله قال:

«النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق، وأهل بيتي أمان لُامتي من الاختلاف، فاذا خالفتها قبيلةٌ من العرب اختلفوا فصاروا حزب ابليس».

وبعد ذكره لهذا الحديث قال الحاكم: هذا حديث صحيح السند «2».

يقول العلّامة «الحمزاوي» في «مشارق الأنوار»: جاء في الرواية التي صححها «3» الحاكم النيسابوري: «النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق وأهل بيتي أمان لُامتي من الاختلاف».

ومن الذين أوردوا هذا الحديث في كتابه، «ابن حجر» في «الصواعق» و «العلّامة علي المتقي» في «منتخب كنز العمال» و «البدخشي» في «مفتاح النجاح» و «الشيخ محمد صبان

______________________________

(1) المنكدر بن عبد اللَّه، أبو محمد بن المنكدر- طبقاً لقول ابن الأثير في اسد الغابة- هو من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.

(2) الحاكم النيشابوري في المستدرك، ج 3، ص 149 طبقاً لنقل احقاق الحق، ج 9، ص 294.

(3) عبارة الحمزاوي هكذا، صححها الحاكم على شرط الشيخين (إشارة إلى المعايير التي على أساسها يعتبرالبخاري ومسلم الأحاديث صحيحة، فهذا الحديث صحيح)، مشارق الأنوار، ص 90.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 60

المالكي» في «اسعاف الراغبين» و «العلّامة النبهاني» في «الشرف المؤبد» و «جواهر البحار» «1».

كل هذا

متعلق بالحديث الذي رواه ابن عباس عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، كما أشرنا أيضاً إلى أنَّ هناك رواة كثيرين أيضاً نقلوا هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه و آله، حيث وردت رواياتهم في كتب السنة والشيعة المعروفة (وبالطبع هناك تفاوت قليل في عبارات هذه الروايات لا أثر لها في ما يمثل الهدف الحقيقي).

فمثلًا نقرأ في رواية «سلمة بن الاكوع»: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «النجوم أمان لأهل السماء وأهل بيتي أمان لُامتي» «2».

وقد روى هذا المعنى عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بشي ء من الاختلاف كلٌّ من جابر بن عبد اللَّه الأنصاري والمنكدر، وانس، وأبو سعيد الخدري.

ونقرأ في الحديث الآخر الذي رواه علي عليه السلام عن النبي صلى الله عليه و آله بهذا الصدد: «النجوم أمان لأهل السماء فاذا ذهبت ذهب أهل السماء وأهل بيتي أمان لأهل الأرض فاذا ذهب أهل بيتي ذهب أهل الأرض».

وقد نقل هذا الحديث «محب الدين الطبري» في «ذخائر العقبى عن «مناقب أحمد بن حنبل» «3».

ونقله جماعةٌ آخرون في كتبهم، مثل «الحمويني» في «فرائد السمطين» و «ابن حجر» في «الصواعق» و «محمد بن صبان» و «إسعاف الراغبين» و «الخوارزمي» في «مقتل الحسين» و «النبهاني» في «الشرف المؤبد».

______________________________

(1) للمزيد من الاطلاع يراجع احقاق الحق، ج 9، ص 294- 296.

(2) لقد أورد هذا الحديث كلّ من السيوطي في الجامع الصغير، ص 587؛ ومحب الدين الطبري في ذخائر العقبى وابن حجر في الصواعق، وجماعة آخرون في كتبهم.

(3) ذخائر العقبى ص 7.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 61

مضمون حديث النجوم:

إن حديث أو أحاديث النجوم تشير إلى امور مختلفة:

1- إنّ هذا الحديث في واقع الأمر إشارة إلى

آيات القرآن التي تبيّن أنّ لنجوم السماء أثرين مهمين:

أولًا: قوله تعالى «وَبالنَّجْمِ هُم يَهتَدُونَ». (النحل/ 16)

ويقول في مكان آخر: «وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ النّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِى ظُلُمَاتِ البَرِّ وَالبَحرِ». (الانعام/ 97)

إنّ هذا في الواقع إشارة إلى احدى الفوائد المهمّة للنجوم، فقبل اختراع البوصلة كان من المتعذر تشخيص الطرق لاسيما في الأسفار البحرية- حيث لا وجود للجبال والأشجار- إلّا عن طريق النجوم، لهذا فإنّ السفن تتوقف عن المسير خلال الليالي التي تغطي فيها الغيوم السماء، وإذا واصلت طريقها فإنّ خطر الموت يهددها.

وهذا يعود إلى أنّ نجوم السماء متجمعة ماعدا النجوم الخمسة السيارة (عطارد، الزهرة، المريخ، المشتري، وزحل) ولا تغير مكانها، وكأنّها جواهر قد رصعت قطعة قماش سوداء، وهذه القطعة سحبت باتّجاه معين وهنّ يأخذن بها في الاتّجاه المعاكس، لهذا فقد سميت «الثوابت» بالإضافة إلى النجمة القطبية الثابتة في مكانها التي لاتبزغ أو تأفل كسائر النجوم، وهذا الوضع أدّى إلى أن يتعرفوا على سائر النجوم ويعرفوا مكانها على مدار السنة، وأن يلتمسوا طريقهم نحو مقاصدهم من خلال الخارطة التي كانت لديهم.

والفائدة الاخرى هي مايقوله القرآن في أنّ بعض النجوم «رجومٌ» للشياطين، أي أّنها بمثابة السهام التي تنطلق نحو الشياطين وتحول دون نفوذهم إلى السموات، إذ يقول القرآن: «انَّا زَيّنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الكَواكِبِ* وَحِفْظاً مِّنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مّارِدٍ* لَّا يَسَّمَّعُونَ الَى المَلَا الاعْلَى وَيُقذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ* دُحُوراً وَلَهُم عَذابٌ وَاصِبٌ». (الصافات/ 6- 9)

من هذه الآيات وسائر آيات القرآن يمكن أن ندرك مفهوم أمان النجوم لأهل الأرض.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 62

فكيف توصد النجوم أو «الشهب» الطريق أمام الشياطين، وتمنعها عن النفوذ إلى السموات؟ إنّ هذه المسألة يجب أن تبحث على حدة، وقد أوردنا شرحها في ذيل

هذه الآيات في التفسير الامثل، وما يتوجب الاهتمام به هنا هو المفهوم الإجمالي للآيات التي تبين أنّ النجوم هي سبب تقهقر الشياطين عن الملأ الأعلى ويصبح منطقة منزهة للملائكة والكروبيين وهذا المقدار كاف لتفسير حديث النجوم.

نعم فآل النبي صلى الله عليه و آله كنجوم السماء، فمن جهة ينقذون الناس من الضلالة في ظلمات الكفر والفساد والذنوب، ويشخصون لهم سبيل بلوغ غاياتهم، ويحفظون سالكي سبيل الحق من الغرق وسط أمواج الضلالة.

ومن جهة اخرى عندما يحاول شياطين الجن والانس النفوذ إلى حرم الإسلام ليقوموا بتحريف أحكام القرآن والسنّة فإنّهم عليهم السلام يردونهم على أعقابهم كالشهب الثاقبة، ويردون كيدهم إلى نحورهم ويحولون دون اطلاعهم على الأسرار.

وهذه النكتة جديرة بالاهتمام أيضاً لاسيما وأنّها تبيّن أنّ أهل البيت عليهم السلام أمان للُامة ازاء الاختلافات، فلو استمرت الاختلافات لصار الناس من حزب ابليس كما قال الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله: «اختلفوا فصاروا حزب ابليس» وهذا التعبير مفعم بالمعاني.

2- يستفاد من هذا الحديث أن خطَّ هداية أهل البيت عليهم السلام متواصل حتى فناء الكون، كاستمرار أمان النجوم لأهل السماء أو أهل الأرض.

3- أنّه يثبت عصمتهم من الخطأ والذنب أيضاً، فلو أمكن صدور الخطأ والذنب عنهم لم يتسن لهم أن يكونوا أماناً- بشكل كامل ومطلق- لأهل الأرض في مواجهة الاختلاف والضلال، (تأملوا جيداً).

4- كما أنّ نجوم السماء تتبادل البزوغ فكلما أفل منها واحدٌ بزغ آخر، وكلما اختفت منها مجموعة في الافق، طلعت اخرى فإنّ أهل البيت عليهم السلام كذلك أيضاً.

وقد وضح علي عليه السلام هذا الأمر بصريح العبارة في نهج البلاغة:

«ألا أن مثل آل محمد صلى الله عليه و آله كمثل نجوم السماء إذا هوى نجمٌ طلع نجمٌ» «1».

______________________________

(1)

نهج البلاغة، الخطبة 100.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 63

ولعل الأمر لا يحتاج إلى تذكير بعدم إمكانية تفسير أهل البيت عليهم السلام في هذه الروايات بنساء النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، لأنّه يتحدث عن أشخاص يمثلون أساس هداية الامّة ونجاتها من الغرق في الضلالة، ويتصدون للاختلافات في كل عصر، ونحن نعلم أنّ نساء النبي كن يعشن في زمان خاص، بالإضافة إلى أنهنَّ لم يكن لهنّ دور خاص في التصدّي للاختلافات.

سؤال:

ربما يقال: إننا نقرأ في الحديث المروي عن النبي صلى الله عليه و آله في مختلف الكتب: «أصحابي بمنزلة النجوم في السماء فأيّما أخذتم به اهتديتم» «1».

فهل أنّ هذا الحديث لا يتعارض والأحاديث المذكورة التي وردت بحق أهل البيت عليهم السلام؟

للاجابة عن هذا السؤال، لابدّ من الالتفات إلى بعض الامور:

1- على فرض أنّ حديث «أصحابي كالنجوم» حديث معتبر فهو لا يتعارض مع ما ورد بحق أهل البيت عليهم السلام، لأنّ وجود مرجع واحد في بيان حقائق الإسلام لا يتعارض مع وجود المراجع الآخرين، لاسيما وأنّه لم يرد الكلام في حديث «أهل بيتي كالنجوم» عن القرآن الكريم، بينما يمثل القرآن الكريم أهم سند للمسلمين.

2- إنّ هذا الحديث «موضوع» و «مقدوح به» من ناحية السند لدى الكثير من علماء أهل السنة، أو مشكوك على أقل تقدير.

ومن الذين صرحوا بهذا المعنى «أحمد بن حنبل» أحد الأئمّة الأربعة لأهل السنّة، و «ابن حزم»، و «أبو إبراهيم المزني»، أحد أصحاب الشافعي و «الحافظ البزاز» و «الدار قطني» و «الذهبي» وطائفة اخرى حيث يخرجنا نقل كلام كل منهم عن إطار البحث التفسيري، ولكن بإمكانكم مراجعة «خلاصة كتاب عبقات الأنوار» بغية الاطلاع الواسع على جميع هذه الأقوال «2».

______________________________

(1) جامع الاصول، ج

9، ص 410.

(2) خلاصة العبقات، ج 3، ص 124 إلى 167 (وفي هذا الكتاب بين ضعف سند هذا الحديث عن أكثر من ثلاثين من علماء أهل السنة مع شرح لأحوالهم).

نفحات القرآن، ج 9، ص: 64

3- إنّ مضمون هذا الحديث لا يتناسب مع المعايير المنطقية، فانّنا نعلم أنّ اختلافات شديدة قد وقعت بين أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله (الأصحاب بالمعنى الشامل للكلمة، نعني جميع الذين أدركوه صلى الله عليه و آله وكانوا إلى جانبه)، وقد أُريقت دماء كثيرة بسبب هذه الاختلافات ووقعت حروب رهيبة، فأي منطق يرتضي لنا أن نعتبر فرقتين متخاصمتين وكل منهما متعطش لدم الآخر، أنوار هداية، ونخيرُّ الناس بأنّ لا فرق بالنسبة لكم في أن تلتحقوا بمعسكر أمير المؤمنين عليه السلام أو بمعسكر معاوية؟ أي: أنّ الأمر سيان للقوم في حرب الجمل سواء كانوا مع علي عليه السلام أو مع طلحة والزبير! فكلهم أنوار هداية ويأخذون بأيديكم إلى الجنّة؟

فلا عقل يقبل مثل هذا المنطق، والنبي الأكرم صلى الله عليه و آله أسمى وأرفع من أن ينسب إليه مثل هذا.

إنَّ القرائن تبرهن على أنّ حكام «بني أُمية» ومن لف لفهم قد ابتدعوا هذا الحديث ونسبوه إلى النبي الأكرم صلى الله عليه و آله من أجل ترسيخ دعائمهم أو إضعاف معنى حديث النجوم والتقليل من أهميّة أهل البيت عليهم السلام، ليفهموا أهل الشام أن لو كانت حكومة علي عليه السلام على الحق ومشعل هداية، فإنّ حكومة معاوية كذلك بحكم كونه من أصحاب رسول اللَّه، فلا فرق في أن تكونوا مع هذا أو مع ذاك، واللَّه العالم بحقائق الامور.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 65

4- حديث «الأئمّة الأثنى عشر»

اشارة

الحديث الآخر الذي يكشف عن منزلة أهل البيت عليهم السلام في

الولاية والإمامة بشكل عام، وبإمكانه الاجابة عن الكثير من الأسئلة التي ترد بهذا الصدد، هو ذلك الحديث الذي يذكر أنّ الأئمّة اثنى عشر وهو من أشهر الأحاديث، وقد نقل في أكثر كتب الصحاح،

وفي البداية نتجه نحو سند الحديث، ومن ثم نتطرق إلى مضمونه:

روي هذا الحديث عن جملة من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إذ تنتهي أكثر الأسانيد إلى «جابر بن سمرة»، ثم إلى «عبد اللَّه بن مسعود» و «عبد اللَّه بن عمر»، و «عبد اللَّه بن عمرو بن العاص»، و «عبد الملك بن عمير»، و «أبي الجلد»، و «أبي جحيفة» (وهم سبعة أشخاص على الأقل)، إلّاأنّ حفاظ الحديث والذين نقلوه في كتبهم بلغوا العشرات، والآن نلفت انتباهكم إلى جانب منها:

1- روي في صحيح مسلم عن جابر بن سمرة أنّه قال: «سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول:

«لايزال الإسلام عزيزاً إلى اثني عشر خليفة- ثم قال كلمة لم افهمها! فقلت لأبي: ما قال؟

فقال: كلّهم من قريش» «1».

وينقل في هذا الكتاب بسند آخر عن جابر، وجاء: «لايزال هذا الأمر» بدلا عن «لايزال هذا الدين عزيزاً»، وجاء في تعبير ثالث وبسند آخر: «لايزال هذا الدين عزيزاً منيعاً».

ويروى عن عامر بن سعد بن أبي وقاص بتعبير رابع: إنني كتبت إلى جابر بن سمرة أن اكتب لي الأخبار التي سمعتها من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فكتب لي: سمعت رسول اللَّه يقول: «لا يزال الدين قائماً حتى تقوم الساعة، أو يكون عليكم اثنى عشر خليفة كلهم من قريش».

______________________________

(1) صحيح مسلم، ج 3، ص 1453.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 66

وسمعت أيضاً: «عصيبة من المسلمين يفتتحون بيت أبيض، بيت كسرى أو آل كسرى .

وسمعته يقول أيضاً:

«إنّ بين يدي الساعة كذّابين فاحذروهم» «1».

وعن طريق آخر جاء في صحيح مسلم نفسه عن جابر: «لا يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً إلى اثني عشر خليفة»، وفي آخر هذا الحديث تلاحظ أيضاً جملة «كلهم من قريش» «2».

2- جاء هذا الحديث في صحيح البخاري وبعبارات مشابهة، يقول جابر: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول:

«يكون اثنى عشر أميراً فقال كلمة لم اسمعها، فقال أبي إنّه قال كلهم من قريش» «3».

3- وذكر هذا المعنى في صحيح الترمذي أيضاً مع شي ء من الاختلاف، ويقول الترمذي بعد نقله: «هذا حديث حسن صحيح» «4».

4- كما جاء هذا الحديث في صحيح أبي داود أيضاً مع اختلاف بسيط، ويبرهن نمط الحديث على أنّ النبي صلى الله عليه و آله أدلى به على الملأ العام، فقد جاء فيه أنّ النبي صلى الله عليه و آله حينما قال:

«لا يزال هذا الدين عزيزاً إلى اثني عشر خليفة فكبر الناس وضجوا ثم قال كلمة خفية: كلهم من قريش» «5».

5- ذكر هذا الحديث في مسند أحمد أيضاً وفي عدّة موارد، بحيث عدّ بعض المحققين في هذا الكتاب طرقه إلى جابر أربعةً وثلاثين طريقاً «6».

وجاء عن «مسروق» أنّه قال: كنا جلوساً ليلة عند عبد اللَّه بن مسعود يقرئنا القرآن فسأله رجل فقال: ياأبا عبد الرحمن هل سألتم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كم يملك هذه الامّة من خليفة؟ فقال عبد اللَّه: ما سألني عن هذا أحد منذ قدمت العراق قبلك، قال: سألناه فقال:

______________________________

(1) صحيح مسلم، ج 3، ص 1453.

(2) المصدر السابق.

(3) صحيح البخاري، ج 3، الجزء 9، ص 101 (في الباب الذي أورده قبل باب اخراج الخصوم وأهل الريب).

(4) صحيح الترمذي، ج 4، ص

501، باب ما جاء في الخلفاء، الحديث 22223.

(5) صحيح أبي داود، ج 4 ص 103.

(6) يراجع كتاب منتخب الأثر، ص 12؛ واحقاق الحق، ج 13.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 67

«اثني عشر كعدة نقباء بني اسرائيل» «1».

مانقلناه يتعلق بأشهر كتب السنة وأكثرها اعتباراً التي نقل فيها هذا الحديث عن طرق مختلفة، ومن بعدها جاء في كتب اخرى أيضاً، حيث نشير إلى أسماء بعضها تجنّبا للاطالة في الحديث، وبإمكانكم الحصول على مزيد من التفصيل في كتب «احقاق الحق»، و «فضائل الخمسة»، و «منتخب الأثر» وأمثالها.

مضمون حديث «الأئمّة عليهم السلام اثنى عشر»:

إنَّ التعابير التي جاءت في هذه الروايات متفاوتة، فقد عبر في بعضها ب «اثني عشر خليفة» وفي بعض «اثني عشر أميراً» وفي بعض جرى الحديث عن ولاية وحكم اثني عشر رجلًا «ماولاهم اثنى عشر رجلًا»، ولكن غالباً ما عبر ب «خليفة»، وفي بعضها جاء التعبير أيضاً بالعدد فقط «اثني عشر كعدة نقباء بني اسرائيل»، كما عبر في بعضها ب «اثني عشرة قيماً».

ولكن من الواضح أنّها جميعا تشير إلى مسألة الخلافة والولاية والحكومة، وبالتالي فهي واحدة.

ومن ناحية اخرى فقد ورد في بعضها: «لا يزال هذا الدين عزيزا منيعاً»، وفي بعضٍ: «لا يزال أمر امتي صالحاً»، وفي بعض: «لا يزال أمر هذه الامة ظاهراً»، وفي بعض: «ماضياً» وفي بعض: «لا يضرهم من خذلهم».

وتعابير اخرى من هذا القبيل حيث تشير جميعها إلى حقيقة واحدة وهي: صلاح أمر الامّة واقتدارهم وظفرهم ونجاتهم.

______________________________

(1) مسند أحمد، ج 1، ص 398.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 68

ومن جهة ثالثة تلاحظ جملة «كلهم من قريش» في أغلب هذه الروايات التي نقلت بأساليب مختلفة، ما عدا بعض الروايات مثل الرواية التي نقلها القندوزي الحنفي في ينابيع المودة، إذ ينقل في ذيل هذه الرواية عن

كتاب «مودة القربى عن «جابر بن سمرة» أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: «كلهم من بني هاشم» «1».

وجاء في أغلب هذه الروايات أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله خفض صوته أثناء ذكره هذه الجملة، وصرح بها سرّاً، وهذا يدل بوضوح أنّ ثمّة أشخاص كانوا يعارضون أن يكون الخلفاء الاثنى عشر لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله في قريش أو بني هاشم، ممّا أدّى إلى أن يصرح النبي صلى الله عليه و آله بذلك بشكل سري!

على أيّة حال فإنّ تفسير هذا الحديث الشريف الذي ورد في المصادر المشهورة والمعتبرة ونظراً لاعتراف جميع علماء الإسلام به فإنّه واضح لأتباع أهل البيت عليهم السلام، وأنّهم لا يرون معنى له سوى الأئمّة الاثنى عشر، إلّاأنّ تفسيره بالنسبة لأتباع المذاهب الاخرى أصبح عبارة عن مسألة غامضة ومعقدة ومعضلة، بنحو يمكن معه القول بكل اطمئنان: إنّ أيّاً منهم لم يقدم تفسيراً واضحاً له، والسر في ذلك معلوم، فالخلفاء الأوائل كانوا أربعة، وحكام بني امية كانوا اربعة عشر، وبلغ عدد حكام بني العباس سبعاً وثلاثين شخصاً.

وإنّ أيّاً منهم لم ينطبق عليه حديث «الأئمّة اثنى عشر»، كما أنّ الجمع والتمييز بينهم لن يحل المشكلة، إلّاأن نلغي البعض ونقبل بالبعض الآخر وفقاً لميولنا، وننتخب اثني عشر منهم بمشقة وعناء، وهذا أيضاً لاينسجم مع أي منطق.

من الأفضل لنا أن نضع زمام الحديث بيد «الحافظ سليمان بن إبراهيم القندوزي الحنفي» فهو يقول في الكتاب المعروف «ينابيع المودة»:

قال بعض المحققين: إنّ الأحاديث الدالة على كون الخلفاء بعده صلى الله عليه و آله اثني عشر قد اشتهرت من طرق كثيرة فبشرخ الزمان وتعريف الكون والمكان علم أنّ مراد رسول اللَّه صلى

الله عليه و آله من حديثه هذا الأئمّة الاثني عشر من أهل بيته وعترته، إذ لا يمكن أن يحمل هذا الحديث على الخلفاء بعده من أصحابه لقلتهم عن اثني عشر ولا يمكن أن يحمله على الملوك الأموية لزيادتهم عن اثني عشر، ولظلمهم الفاحش- إلّاعمر بن عبد العزيز- ولكونهم غير

______________________________

(1) ينابيع المودة، ص 445، الباب 77.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 69

بني هاشم، لأنّ النبي صلى الله عليه و آله قال: كلهم من قريش، في رواية عبد الملك عن جابر واخفاء صوته صلى الله عليه و آله في هذا القول يرجح هذه الرواية لأنّهم لايحسنون خلافة بني هاشم، ولا يمكن أن يحمله على الملوك العبّاسيين لزيادتهم على العدد المذكور ولقلة رعايتهم الآية: «قُلْ لَّا أَسْئَلُكُم عَلِيهِ أَجْراً الَّا المَودَّةَ فِى القُربى . (الشورى/ 23)

وكذلك حديث الكساء، فلابدّ من أن يحمل هذا الحديث على الأئمّة الاثني عشر من أهل بيته وعترته صلى الله عليه و آله لأنّهم كانوا اعلم أهل زمانه وأجلهم وأورعهم واتقاهم وأعلاهم نسباً وأفضلهم حسباً وأكرمهم عند اللَّه «1».

يقول الدكتور «محمد التيجاني السماوي» الذي كان من أهل السنة ثم اختار التشيع، في الكتاب الذي ألّفه حول سبب تشيعه واسماه «كونوا مع الصادقين» في عدّة جمل قصيرة ومفعمة بالمعاني: «هذه الأحاديث لا تصح ولا تستقيم إلّاإذا فسرناها على أئمّة أهل البيت الذين تقول بهم الشيعة الإمامية، وأهل السنّة والجماعة هم المطالبون بحل هذا اللغز إذ إنّ عدد الأئمّة الاثني عشر الذي اخرجوه في صحاحهم بقي حتى الآن لغزاً لا يجدون له جواباً» «2».

والعجيب أنّ البعض أرادوا تفسير هذا الحديث الشريف دون الاذعان لاعتقاد اتباع أهل البيت عليهم السلام في هذا المجال فتعرضوا لعناء مدهش، فمن ناحية عدوا

«يزيد بن معاوية» من الاثني عشر الذين سما بهم الإسلام واصبح مقتدراً، ومن ناحية اخرى ألغوا عددا من الخلفاء وفقاً لرغبتهم.

وباعتقادنا أنّهم لو اختاروا السكوت لكان أفضل لهم من هذه التبريرات، والأعجب من ذلك كله التفسير الذي سمعناه في احدى أسفارنا لحج بيت اللَّه الحرام من أحد علماء مكة وفي المسجد الحرام وهو: إنّ الأئمّة الاثنى عشر أولهم الخلفاء الأربعة وثمانية منهم سيظهرون في المستقبل!

بينما كل من يقرأ هذا الحديث يعرف أنّ المراد منه الوجود المتتابع للخلفاء الاثني عشر،

______________________________

(1) ينابيع المودة، ص 446، ملحق الباب 77.

(2) كونوا مع الصادقين، ص 146.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 70

والتعابير مثل: «لا يزال هذا الدين منيعاً عزيزاً»، أو «لا يزال هذا الدين قائماً حتى تقوم الساعة» تفيد هذا المعنى بجلاء وصراحة بأنّ سلسلة خلفاء النبي صلى الله عليه و آله الاثني عشر ستستمر إلى يوم القيامة.

ونختم هذا البحث بحديث عن الحافظ أبي نعيم الاصفهاني في كتاب «حلية الأولياء» فهو ينقل بسنده عن ابن عباس أنّ النبي صلى الله عليه و آله قال: «منْ سرهُ أن يحيا حياتي ويموت مماتي ويسكن جنة عدن غرسها ربي، فليوال علياً من بعدي، وليوال وليه وليقتد بالائمة من بعدي فإنّهم عترتي» «1».

ملاحظة

وثمة ملاحظة مهمّة هنا نشير إليها ونترك شرحها للبحوث اللاحقة، وهي ورود أسماء الأئمّة الاثني عشر- كما يعتقد به اتباع مذهب أهل البيت- في العديد من الروايات التي نقلت عن طريق السنّة والشيعة، وفي بعض طرق هذه الروايات تمّت الإشارة إلى اسم أولهم علي عليه السلام وآخرهم المهدي (عج) بصيغة أولهم علي وآخرهم المهدي، وفي بعضها أشير إلى ثالثهم أي الإمام الحسين عليه السلام بهذا الشكل الذي نقل أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه

و آله أومأ إليه وقال:

«هذا ابني إمام ابن إمام أخو إمام أبو أئمّة تسع» «2»، وهكذا اشير إلى جميع الأئمّة الاثني عشر.

لا تخلو الأرض من حجّة:

من المسائل المهمّة التي يستند إليها في الروايات هي أنّ الأرض لا تخلو من مندوب عن اللَّه تعالى وقد تكرر هذه المضمون في الروايات المتواترة التي وصلتنا عن مصادر أهل

______________________________

(1) حلية الاولياء، ج 1، ص 86 (وفقاً لنقل الفضائل الخمسة من الصحاح الستة، ج 2، ص 34).

(2) يقول المرحوم العلّامة في كشف المراد (شرح تجريد الاعتقاد)، إنّ هذا الحديث روي بشكل متواتر عن النبي صلى الله عليه و آله كشف المراد، ص 314.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 71

البيت عليهم السلام، بأنّ الأرض لا تخلو من إمام أو «نبي» أو حجّة على العموم، وقد احتوى كتاب الكافي على بابين في هذا المجال، وروي في باب منهما تحت عنوان: «إن الأرض لا تخلو من حجّة»، ثلاثة عشر حديثاً عن الإمام الباقر عليه السلام والإمام الصادق عليه السلام والإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام وبعض الأئمّة، في الباب الآخر تحت عنوان: «إنّه لو لم يبق في الأرض إلّا رجلان لكان أحدهما الحجّة»، ورويت فيه خمسة أحاديث بهذا المضمون «1»، حيث نشير فيما يلي إلى بعض هذه الأحاديث الواردة في كلا البابين.

نقرأ في أحد الأحاديث الواردة عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «إنّ الأرض لا تخلو إلّا وفيها إمام كيما إنْ زاد المؤمنون شيئاً ردّهم وإن نقصوا شيئاً أتمَّهُ لهم» «2».

ونقرأ أيضاً في حديث آخر عنه عليه السلام: «ان اللَّه أجلُّ وأعظم من أن يترك الأرض بغير امام عادل» «3»، بل ورد في بعض هذه الأحاديث أنّ الأرض إذا خلت من الإمام والحجة ساعة واحدة

لتزلزلت الأرض وساخت بأهلها «4».

ونقرأ في حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «لو كان الناس رجلين لكان احدهما الإمام»، «وان آخر من يموت الإمام» «5».

بالاضافة إلى الأحاديث الثمانية عشر المذكورة فقد اشير إلى هذا المعنى بصراحة في نهج البلاغة أيضاً، ففي الكلمات المهمّة التي قالها الإمام علي عليه السلام لكميل بن زياد، يقول:

«اللهم بلى لا تخلو الأرض من قائم للَّه بحجة، اما ظاهراً مشهوراً واما خائفاً مغموراً لئلا تبطل حجج اللَّه وبيناته» «6».

وقد نقل المرحوم العلّامة المجلسي أيضاً في الجزء 23 من بحار الأنوار في باب «الاضطرار إلى الحجة» 118 حديثاً في هذا المجال وهذه الأحاديث الموجودة في اصول

______________________________

(1) اصول الكافي، ج 1، ص 178 و 179.

(2) المصدر السابق، ج 1 ح 2 من الباب الأول.

(3) المصدر السابق، ج 1، ح 6 من الباب الأول.

(4) المصدر السابق، ح 11 و 12 و 13.

(5) المصدر السابق، ح 3، (باب إنه لو لم يبق إلّارجلان احدهما الإمام).

(6) نهج البلاغة، الخطبة 147.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 72

الكافي هي قسم منها، وقسم كثير اضيف إليها من سائر الكتب «1».

بناءً على ذلك فإنّ قضية وجود حجة على الأرض في كل عصر تعتبر من الامور المسلَّم بها في مذهب أهل البيت عليهم السلام، إلى الحد الذي نقرأ في حديث للامام موسى بن جعفر عليه السلام:

«إنّ اللَّه لا يُخلي أرضهُ من حجةٍ طرفة عين، إمّا ظاهر وإمّا باطن» «2».

الإشارات القرآنية والمنطقية على وجوب الحجّة:

إنّ ما جاء في الروايات الآنفة الذكر يمكن تطبيقه مع الدليل العقلي أيضاً، لأنّ «برهان اللطف» الذي ورد في مستهل البحث حول لزوم وجود الإمام أو النبي في كل عصر وزمان، وكذلك المفاسد المترتبة على فقدانه تصدق على ذلك في جميع

الأحوال حتى لو كان سكان الكرة الأرضية شخصين فقط.

تقول قاعدة اللطف: إنّ الذي خلق الإنسان من أجل السعادة والتكامل، وألقى على عاتقه التكاليف، من الواجب أن يهي ء مقدمات هداية الإنسان وتربيته، وأن يضع تحت تصرفه مستلزمات بلوغ هذا الهدف لأنّه لو لم يفعل هكذا فقد نقض الغرض، ومن المستحيل أن يفعل اللَّه الحكيم هكذا.

لا شك في أنّ وجود العقل أو القادة العاديين لا يصون الإنسان من الأخطاء والزلات والمعاصي، وبتعبير آخر: إنّ علم الإنسان لايستطيع لوحده إرشاد الإنسان إلى غايته، أي طاعة اللَّه والسعادة الأبدية، بل بالإضافة إلى ذلك فهو يحتاج إلى منْ يرتبط بالعلم الإلهي والمعصوم من الخطأ والزلل والمعصية، ليتسنى له اتمام الحجة وتوضيح السبيل للناس بشكل تام.

إنّ هذا البرهان يصدق في كل عصر وزمان، ولكل مجتمع كبيراً كان أم صغيراً حتى ولو

______________________________

(1) بحار الأنوار، ج 23، من ص 1 إلى 56.

(2) بحار الأنوار، ج 47، ص 41.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 73

كان من شخصين، وعليه فلو لم يكن في الأرض إلّاشخصان فاحدهما النبي أو الإمام المعصوم.

على أيّة حال فكما قرأنا في الروايات الآنفة أنّ اللَّه أجلُ من أنْ يكلف الناس بلوغ مقام السعادة من دون أنْ يرشدهم إلى الطريق الصحيح الذي يخلو من الخطأ.

يلاحظ في بعض آيات القرآن إشارات إلى هذا المعنى أيضاً.

فالآية الكريمة: «إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ». (الرعد/ 7)

تدل على أنّ لكل قوم في كل عصر وزمان هادياً، (هادٍ بالمعنى الحقيقي للكلمة حيث يجسد الهداية الكاملة والخالية من كل خطأ)، ومن هنا نقرأ في الحديث الوارد عن الإمام الباقر عليه السلام، إذ قال في تفسير هذه الآية: «... وفي كلِّ زمانٍ إمامٌ منّا يهديهم إلى ما جاء به رسول اللَّه

صلى الله عليه و آله» «1».

والتعبير الذي جاء في نهج البلاغة يضم في ثناياه دليلًا منطقياً أيضاً، وهو: إنّ أحد واجبات الإمام هو المحافظة على آثار النبوة والتعاليم الإلهيّة من كل تحريف، وبتعبير آخر:

لو فرضنا أنّ كلَّ من على الأرض كفروا فلابدّ من وجود شخص يحافظ على تعاليم وآثار النبوة وينقلها إلى الأجيال القادمة التي تريد سلوك سبيل الهداية، وإلّا فإنّ الحجج الإلهيّة تُمحى وتزول، وتنتهي دلائله وبيناته «لئلا تبطل حجج اللَّه وبيناته».

وهنا نصل إلى خاتمة البحوث المتعلقة بالولاية العامة، والآن نتطرق إلى شروطها وخصائصها.

______________________________

(1) بحار الأنوار، ج 23، ص 5، ح 9.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 75

الشروط والصفات الخاصة بالإمام

اشارة

نفحات القرآن، ج 9، ص: 77

الشروط والصفات الخاصة بالإمام

تمهيد:

نظراً للمسؤوليات الخطيرة الملقاة على عاتق الإمام وخليفة النبي صلى الله عليه و آله، فلابدّ بطبيعة الحال من أن تتوفر فيه شروط صعبة.

وتلك الشروط تشابه إلى حدٍ ما شروط وخصائص النبي صلى الله عليه و آله لأنّهما يسيران في طريق واحد، ويتحملان نوعاً واحداً من المسؤولية، فالنبي صلى الله عليه و آله يتقدم في المرحلة الاولى والأئمّة يتابعونه في المراحل اللاحقة.

وكما تحدثنا في بحث النبوّة، فالنبي وبحكم المسؤولية المهمّة الملقاة على عاتقه يجب أن يتمتع بعلم واسع في كل مجال، ليستطيع انقاذ البشر من أخطار الضلالة، ويهديهم في القضايا العقائدية والأخلاقية والأحكام والأنظمة الاجتماعية إلى ما فيه خيرهم وسعادتهم وكمالهم، ويوضح الأحكام الإلهيّة بلا نقصٍ أو زيادة.

أضف إلى هذا فلابدّ أن يتمتع باطلاع عن روح وجسم الإنسان، والمسائل النفسية والاجتماعية، وتاريخ المجتمع البشري، والخلاصة أن يتمتع بما يساعد على معرفة الناس الذين يحتاجون إلى التربية، بل وتم التوضيح في بحث علم الأنبياء ووجوب تمتعهم بالعلم بما يخص وقائع المستقبل نوعاً ما، ليتسنى لهم وضع الخطط الدقيقة لذلك لشمولية رسالتهم (للمزيد من التوضيح بهذا الصدد راجعوا الجزء السابع من نفحات القرآن، بحث المقام العلمي للأنبياء).

وهذه الامور تصدق بالنسبة لأئمّة الحق وخلفاء الأنبياء أيضاً مع شي ء من التفاوت لأنّهم يواصلون طريق الأنبياء وخطهم، وكل مايشرع به اولئك يواصله هؤلاء، وكل ما أقامه

نفحات القرآن، ج 9، ص: 78

الأنبياء يصونه ويكمله الأئمّة عليهم السلام فالشجيرات التي غرستها سواعد الأنبياء تسقى بسواعد الأئمّة الهداة عليهم السلام.

ومن جهة اخرى فالائمة الصالحون كالأنبياء يجب أن يوصلوا ما يعلمونه إلى الناس سالما من الخطأ والزلل والانحراف، وإذا لم يكونوا معصومين لا تتحقق الغاية من وجودهم.

ومن

ناحية ثالثة فالأنبياء وبمقتضى مقام القيادة في الدين والدنيا لابدّ وأن يكونوا ذوي أخلاق فاضلة وصفات محمودة ظاهرية كانت أو باطنية لئلا يتذمر منهم الناس ولكي تثمر الأهداف من بعثتهم ولايعرض امرٌ ينقض الغاية.

هذا الأمر يصدق بحق الأئمّة عليهم السلام تماما، فهم لا ينبغي عليهم التنزه عن أسباب التذمر فحسب، بل لابدّ من توفر الجاذبيات الأخلاقية لديهم بالقدر الكافي لجذب القلوب والعقول، وهنا لابدّ اولًا من البحث في علم الإمام.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 79

علم الإمام

اشارة

يشير القرآن الكريم إلى هذه المسألة في عدّة آيات:

فيقول تعالى في مكان: «وَاذَا جَاءَهُم أَمْرٌ مِّنَ الامْنِ أَوِ الخَوْفِ اذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ الَى الرَّسُولِ وِالَى اولِى الامْرِ مِنْهُم لَعَلِمَهُ الَّذينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُم وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُم وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعتُمُ الشَّيطَانَ الَّا قَلِيلًا». (النساء/ 83)

ويقول في آية اخرى «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ انْ كُنْتُم لا تَعْلَمُونَ». (النحل/ 43)

تدل الآية الاولى على أنّ هناك اشخاصاً بين المسلمين كانوا يسلكون- وبلا وعي منهم- سبيل بث الشائعات التي يثيرها أعداء الإسلام أحياناً، فتارة يثيرون إشاعة الانتصار، واخرى إشاعة الهزائم، أو سائر الإشاعات، وسبب هذا الأمر الغفلة والجهل، وقد يتسبب في انهيار معنويات المسلمين، يقول القرآن: على المسلمين أن يراجعوا النبي صلى الله عليه و آله أو اولي الأمر في مثل هذه المسائل الاجتماعية المهمّة التي يجهلونها.

واولي الأمر تعني أصحاب القرار، ومن المسلم به أنّها لا تعني هنا القادة الحربيين، لأنّه تعالى يقول بعد ذلك ما معناه: إنّ الذين يستنبطون الأحكام (أي الذين يبحثون القضايا من أصلها يمتلكون الاطلاع حول هذه الامور، وعلى الذين يجهلون مراجعة هؤلاء)، فإنّ «يستنبطونه» من مادة «نَبَطْ»- على وزن «فَقَطْ»- وتعني في الأصل الماء الأول الذي يستخرجونه من البئر ويتفجر من

باطن الأرض، لذا يقال للحصول على الحقيقة من مختلف

نفحات القرآن، ج 9، ص: 80

الأدلة والقرائن، استنباط.

وهذا التعبير صادق بحق العلماء فقط، لا قادة الجيش ولا الأمراء، من هنا فإنّه تعالى يكلف المسلمين بالرجوع إلى العلماء وأُولي الأمر في المسائل الحساسة والمصيرية.

لكن ما المقصود هنا من «اولي الأمر»؟ ثمّة جدل بين المفسرين أيضاً، فبعض فسرها بمعنى امراء الجيش لاسيّما الجيش الذي فيه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وبعضٌ بمعنى العلماء والفقهاء، وبعضٌ فسّرها بالخلفاء الأربعة، وبعضٌ بمعنى أهل الحل والعقد (زعماء المجتمع)، وطائفة اعتبرتهم الأئمّة المعصومين عليهم السلام.

والظاهر أنّ التفسير الأخير أكثر ملائمة من البقية، فقد ذكرت خصلتان لُاولي الأمر في ذيل الآية لايمكن لهما أن تصدقا على غير المعصوم:

الاولى: ما يقوله تعالى بما معناه: ولو ردوه إلى اولي الأمر لأرشدهم أولئك الذين يعلمون اصول القضايا، وظاهر هذا التعبير أنّ علمهم غير مختلط بالجهل والشك، وهذا الأمر لا يصدق على غير المعصومين.

والثانية: هي أنّه تعالى يعدُّ وجود اولي الأمر نوعاً من الفضل والرحمة الإلهيّة حيث تحول طاعتهم دون اتباع الناس للشيطان: «وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُم وَرَحمَتُهُ لَاتَّبَعتُمُ الشَّيطَانَ إلَّاقَلِيلًا».

ومن الواضح أنّ اتباع المعصومين فقط هو الطريق الأمثل والأصوب الذي بإمكانه الحؤول دون ضلال الإنسان واتباعه للشياطين، لأنّ غير المعصومين ربّما يزلون ويقعون في الخطأ والمعصية ويصبحون أُلعوبة بيد الشيطان.

لهذا فقد فسّرت (اولي الأمر) في هذه الآية في العديد من الروايات التي وصلتنا عن طرق أهل البيت عليهم السلام وأهل السنّة بمعنى الأئمّة المعصومين.

ففي رواية ذكرها المرحوم الطبرسي في مجمع البيان عن الإمام الباقر عليه السلام قوله: «هم الأئمّة المعصومون» «1».

______________________________

(1) تفسير مجمع البيان، ج 3، ص 82.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 81

ونقرأ في الحديث الذي

نقل في تفسير العياشي عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام:

«يعني آل محمد، وهم الذين يستنبطون من القرآن ويعرفون الحلال والحرام وهم حجة اللَّه على خلقه» «1».

ونقرأ في الحديث الآخر الذي نقل في «كمال الدين» للصدوق عن الإمام الباقر عليه السلام:

«ومنْ وضع ولاية اللَّه وأهل استنباط علم اللَّه في غير أهل الصفوة من بيوتات الأنبياء فقد خالف أمر اللَّه» «2».

أمّا فيما يتعلق بالآية الثانية أى: فهي توعز إلى الجميع بسؤال أهل الذكر عن الامور التي يجهلونها يقول اللّه سبحانه: «فاسأَلُوا اهْلَ الذِّكرِ ان كُنتُم لَاتعلَمُونَ».

(النحل/ 43 والأنبياء/ 7)

فممّا لا شك فيه أنّ الذكر هنا بمعنى العلم والاطلاع، وأهل الذكر تشمل العلماء والمطلعين بشكل عام، وعلى هذا الأساس فقد استدل بهذه الآية بشأن التقليد ورجوع الجاهل للعالم، إلّاأنّ المصداق الكامل لها هم الذين يستلهمون علمهم من علم النبي صلى الله عليه و آله والباري جلّ وعلا، فعلمهم علم منزه من الخطأ والزلل، علمٌ مقترن بالعصمة، لهذا فقد فسرت هذه الآية باهل البيت عليهم السلام والأئمّة المعصومين، ففي الرواية الواردة عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام في اجابته عندما سئل عن الآية: «نحن أهل الذكر ونحن المسؤولون» «3».

والجدير بالذكر أنّ نفس هذا المطلب أو ما يقاربه قد نقل عن التفاسير الاثني عشر لأهل السنّة، (المراد من التفاسير الاثني عشر، تفسير «أبو يوسف» و «ابن حجر» و «مقاتل بن

______________________________

(1) تفسير كنز الدقائق، ج 3، ص 486.

(2) المصدر السابق، ص 486.

(3) تفسير البرهان، ج 2، 369.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 82

سليمان» وتفسير «وكيع بن جراح» وتفسير «يوسف بن موسى القطان» وتفسير «قتادة» وتفسير «حرب الطائي» وتفسير «السدي» وتفسير «مجاهد» وتفسير «مقاتل بن حيان» وتفسير «أبي صالح»

وتفسير «محمد بن موسى الشيرازي»).

فقد روي في هذه التفاسير عن ابن عباس أنّ المراد من الآية «فاسألوا أهل الذكر هو محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، هم أهل الذكر والعلم والعقل والبيان، وهم أهل بيت النبوّة» «1».

وملخص الكلام هو: بالرغم من سعة مفهوم الآية، إلّاأنّ نموذجها الكامل والشامل لا يتصور إلّافي الأئمّة المعصومين عليهم السلام المنزه علمهم من الخطأ والزلل، ومن هنا يتضح عدم معارضة نزول الآية بشأن علامات الأنبياء السابقين، والتوراة، والانجيل، والسؤال من علماء اليهود والنصارى مع ما قيل في معنى هذه الآية.

ملاحظة

كما ذكرنا في مبحث علم الأنبياء في الجزء السابع من هذا الكتاب، فإنّ الأنبياء المكلّفين بهداية الناس في جميع الجوانب المادية والمعنوية، الذين تمتد حدود مسؤولياتهم إلى الجسم والروح والدنيا والآخرة، يجب أن يكونوا على جانب كبير للغاية من العلم ليتسنى لهم انجاز هذا الواجب على أحسن وجه.

والأئمّة الذين هم خلفاء النبي يحظون بهذا الحكم أيضاً، فلابدّ من امتلاكهم لعلم يتناسب مع واجبهم العظيم ليطمئن إليهم الناس ويسلمونهم دينهم.

ويجب أن يكون هذا العلم منزهاً من الخطأ والعيب والزلل، وإلّا فإنّه لا يحظى بثقة الناس، ويسمح الناس لأنفسهم بتقديم بعض آرائهم على آراء النبي أو الإمام، باعتبار أنّ النبي والإمام يخطئان أيضاً ولا ينبغي التسليم لهما مطلقاً، إذن فالثقة المطلقة تتبع عصمتهما.

يقول القرآن الكريم بشأن إمام بني اسرائيل «طالوت»: «انَّ اللَّهَ اصطَفَاهُ عَلَيْكُم وَزادَهُ

______________________________

(1) احقاق الحق، ج 3، ص 482.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 83

بَسطَةً فِىِ العِلمِ وَالجِسمِ». (البقرة/ 247)

من هنا يقول تعالى في مقابل مزاعم بني اسرائيل الذين كانوا يقولون: إنّ طالوت من أُسرة فقيرة ومجهولة، وأنّه خالي اليدين من مال الدنيا: أنّ الأساس الحقيقي للحكم الإلهي هو

«العلم» و «القدرة» حيث وهبه اللَّه ما يكفيه منهما.

وفيما يتعلق بيوسف عليه السلام عندما يصف نفسه بالأهلية للتصدي لجانب من حكم مصر، أي إدارة بيت المال، فهو يستند إلى العلم والأمانة: «قَالَ اجعَلْنِى عَلَى خَزَائِنِ الارْضِ انِّى حَفِيظٌ عَلِيمٌ». (يوسف/ 55)

بل كما قلنا سابقاً بشأن علم الأنبياء: لابدّ أن يتمتعوا بجانب من علم الغيب على الأقل ليتسنى لهم القيام بواجبهم على أحسن وجه، وأنَّ الذي يصدق بحقهم يصدق بحق الأئمّة أيضاً.

إنّ تكليفهم عالَمي أيضاً، فلابدّ أن يكونوا مطلعين على أسرار العالم، وواجبهم مرتبط بالماضي والمستقبل، فكيف يمكنهم أداء رسالتهم جيداً إذا كانوا يجهلون الماضي والمستقبل، وأن يضعوا الخطط لجميع الناس؟

إنّ حدود رسالتهم تشمل ظاهر وباطن المجتمع، والناس، فمن المتعذر انجاز هذه الامور المهمّة بدون العلم بالغيب، وهذا ماورد بتعبير لطيف للغاية في حديث الإمام الصادق عليه السلام يقول «مَنْ زعمَ أنّ اللَّه يحتج بعبد في بلاده ثم يستر عنه جميع ما يحتاج إليه فقد افترى على اللَّه» «1».

نعم فالعلم بأسرار العالم حالياً وفي الماضي والمستقبل هو في واقع الأمر: السبيل إلى انجاز الرسالة المهمّة في هداية البشر والتحول إلى حجة للَّه تعالى

ومختصر الكلام هو أنّ أول شرط للتصدي لمقام الإمامة هو العلم والاطلاع وإلالمام بجميع العلوم الدينية، وحوائج الناس، وكل ما يلزم في أمر تعليم وتربية وهداية وإدارة المجتمع الإنساني، ومن المستحيل أداء هذه المسؤولية بدون مثل هذا العلم.

______________________________

(1) بصائر الدرجات وفقاً لنقل بحار الأنوار، ج 26، ص 137.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 85

مصادر علم الأئمّة!

اشارة

من الامور المهمّة الجديرة بالدقّة والاهتمام فيما يتعلق بعلم الأئمّة المعصومين عليهم السلام، مصادر علم الأئمّة عليهم السلام، إذ من أين يحصل لهم هذا الاطلاع الواسع على امور الدين والدنيا، وبالتسليم

بأنّ الوحي لاينزل عليهم، وأنّ أبواب الوحي بعد وفاة خاتم الأنبياء صلى الله عليه و آله قد أوصدت والى الأبد، فكيف يطلعون على مسائل الشريعة ومصالح الإسلام والمسلمين والحقائق المتعلقة بالماضي والمستقبل التي تعتبر ضرورية في أمر هداية الامة؟

من الممكن معرفة هذه المصادر جيدا من خلال الإشارات التي وردت في آيات القرآن والبيانات المفصلة والواسعة التي جاءت في الروايات.

إنّ هذه المصادر متنوعة وكثيرة نذكر بعضاً منها:

1- العلم الكامل بكتاب اللَّه

بنحو يلمّون فيه بمعرفة تفسيره وتأويله وباطنه وظاهره ومحكمه ومتشابهه.

يقول القرآن الكريم: «وَيَقُولُ الَّذينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُم وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الكِتابِ». (الرعد/ 43)

يتضح من خلال هذه الآية أنّ هناك شخصا لديه علم الكتاب جميعاً (انتبهوا إلى أنّ علم الكتاب قد جاء بشكل مطلق، وشامل لجيمع العلوم المتعلقة بعلم الكتاب، على العكس ممّا ورد في الآية: «قَالَ الَّذِى عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ انْ يَرْتَدَّ اليكَ طَرْفُكَ».

(النمل/ 40)

نفحات القرآن، ج 9، ص: 86

من المسلَّم به أنّ كتاب اللَّه معين لا ينضب من العلوم، وأنّ العلم به مفتاح لجميع الامور، فعندما يستطيع «آصف بن برخيا» وزير سليمان من القيام بهذا العمل المهم نتيجة لعلمه ببعض الكتاب، ويأتي بعرش ملكة سبأ بطرفة عين من أقصى جنوب الجزيرة العربية (اليمن) إلى أقصى شمالها (الشام مركز حكومة سليمان)، فمن المسلم به أنّ الذي عنده جميع علم الكتاب يستطيع القيام بأعمال أهم من ذلك كثيراً، ولكن من الذي عنده علم الكتاب؟ يشير القرآن الكريم إلى ذلك إشارة غامضة.

فقال البعض: إنّ المراد هو اللَّه تعالى (وعلى هذا سيكون عطف جملة «عنده علم الكتاب» عطفاً تفسيرياً، وهذا يخالف ظاهر الكلام).

كما قال عدد من المفسرين: المراد منه هم علماء أهل

الكتاب وأشخاص كسلمان، وعبد اللَّه بن سلّام الذين كانوا قد شاهدوا علامات النبي صلى الله عليه و آله في الكتب السماوية السابقة ويشهدون بحقانيته صلى الله عليه و آله.

إلّا أنّ أغلب المفسرين نقلوا في كتبهم أنّ هذه الآية إشارة إلى علي بن أبي طالب عليه السلام وأئمّة الهدى عليهم السلام.

يروي المفسر الشهير القرطبي في تفسير هذه الآية عن عبد اللَّه بن عطاء: قلت لأبي جعفر علي بن الحسين عليه السلام: إنّ الناس يظنون أنّ الذي عنده علم الكتاب هو عبد اللَّه بن سلام، فقال: «إنّما ذلك علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه»، هو علي بن أبي طالب فقط، وكذلك قال محمد بن الحنفية ذلك «1».

والجدير بالذكر أنّ هذه السورة (سورة الرعد) نزلت في مكة والحال أنّ عبد اللَّه بن سلام وسلمان الفارسي وسائر علماء أهل الكتاب أسلموا في المدينة.

وقد ورد هذا الكلام عن سعيد بن جبير أيضاً عندما سئل: هل أنّ «مَنْ عنده علم الكتاب» هو عبد اللَّه بن سلام؟ قال: «كيف يكون هو وهذه السورة مكية» «2»؟

______________________________

(1) تفسير القرطبي، ج 5، ص 3565.

(2) تفسير در المنثور، ج 4، ص 69.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 87

كما ينقل الشيخ سليمان القندوزي الحنفي «1» في «ينابيع المودة» عن «الثعلبي» و «ابن المغازلي» عن «عبد اللَّه بن عطاء»: كنت مع محمد الباقر عليه السلام في المسجد ورأيت ولد عبداللَّه بن سلام فقلت: هذا ابنُ منْ عنده علم الكتاب، فقال: هذه الآية بحق علي بن أبي طالب عليه السلام «2».

وقد رويت في نفس الكتاب رواية اخرى عن عطية العوفي عن «أبي سعيد الخدري» قال: سألت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عن آية «الذي عنده علم من الكتاب»،

فقال صلى الله عليه و آله: هو وزير أخي سليمان، ثم سألته عن آية «قل كفى باللَّه شهيداً بيني وبينكم ومنْ عنده علم الكتاب»، فقال صلى الله عليه و آله: ذاك أخي علي بن أبي طالب عليه السلام «3».

ونقرأ أيضاً في رواية اخرى عن ابن عباس أنّه قال: «مَنْ عنده علم الكتاب» إنّما هو عليّ عليه السلام، لقد كان عالماً بالتفسير والتأويل والناسخ والمنسوخ «4».

وملخص الكلام هو: لا يمكن تفسير هذه الآية بعلماء أهل الكتاب ابداً، بسبب نزول هذه السورة الرعد في مكة، وهؤلاء أسلموا بعد الهجرة في المدينة، واستناداً إلى الروايات الآنفة فهي بحق عليّ عليه السلام ومن بعده تشمل (سائر الأئمّة المعصومين عليهم السلام).

نعم، فهذا العلم الواسع بالقرآن الكريم وأسراره، ودقائقة، وظاهره وباطنه، هو أحد المصادر الرئيسة لعلم الأئمّة المعصومين عليهم السلام «5».

ومن شواهد هذا المعنى قول الآية الكريمة: «وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ الَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِى العِلْمِ». (آل عمران/ 7)

وللتوضيح ثمّة جدل بين المفسرين بأنّ هل «الرَّاسِخُونَ فِى العِلمِ» معطوفة على «اللَّه» أي ليس هنالك من يعلم تأويل القرآن سوى اللَّه «والراسخون في العلم»، أم أنّها مطلع جملة

______________________________

(1) «قندوز»، مدينة شمال أفغانستان نسب إليها هذا العالم السنّي.

(2) ينابيع المودة، ص 102.

(3) المصدر السابق، ص 103.

(4) ينابيع المودة، ص 104.

(5) وردت عن أهل البيت عليهم السلام روايات عديدة في هذا المجال، فللمزيد من الاطلاع راجعوا تفسير كنز الدقائق، ج 6، ص 480 وتفسير البرهان ذيل الآية مورد البحث.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 88

مستقلة؟ وعليه فإنّ مفهوم الآية يكون هكذا: لا يعلم تأويل القرآن غير اللَّه، أمّا الراسخون في العلم فيقولون: وإن كنّا لا نعلم تأويل الآيات المتشابهة، إلّا أننا نُسلِّم أمامها».

وما يؤيد المعنى الأول

هو أولًا: من المستبعد أن تكون في القرآن أسرار لا يعلمها إلّااللَّه فقط، فالقرآن نزل لتربية الناس وهدايتهم، ولا معنى في أن تكون في هذا الكتاب آيات وجملٌ لايعلم مقصودها إلّااللَّه تعالى

ثانياً: كما يقول المفسر الكبير «الطبرسي» في «مجمع البيان»: لا يوجد بين المفسرين من يقول: إنّ الآية الفلانية لايعلم معناها إلّااللَّه، بل إنّهم يسعون دائماً لكشف أسرار الآيات بطرق مختلفة، منها أحاديث المعصومين عليهم السلام، وفي الواقع أنّ هذا الكلام يناقض إجماع المفسرين.

ثالثاً: إذا كان المقصود هو التسليم بدون علم فيجب أن يقال: «الراسخون في الإيمان، لا الراسخون في العلم»، فالذي لا يعرف شيئاً كيف يمكن تسميته راسخاً في العلم؟

رابعاً: جاء في عدّة روايات أنّ «الراسخون في العلم، يعلمون تأويل القرآن» وهذا دليلٌ على أنّ هذه العبارة عطف على لفظ الجلالة «اللَّه».

فنقرأ في حديث عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «الراسخون في العلم أمير المؤمنين والأئمّة من بعده» «1».

وجاء في رواية اخرى عنه عليه السلام أنّه قال: نحن الراسخون في العلم ونحن نعلم تأويله» «2».

ونقرأ في رواية اخرى أيضاً، أنّ الإمام الباقر عليه السلام (أو الإمام الصادق عليه السلام) قال في تفسير الآية: «وَمَا يَعلَمُ تَأوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِى العِلمِ»: «فرسول اللَّه أفضل الراسخين في العلم، قد علمه اللَّه عزّ وجلّ جميع ما أُنزل عليه من التنزيل والتأويل، وما كان اللَّه لينزل عليه شيئاً لم يعلمه تأويله، وأوصيائه من بعده يعلمونه كله» «3».

وهنالك روايات عديدة اخرى بهذا الصدد تؤيد هذا المعنى المفهوم «4».

______________________________

(1) اصول الكافي، ج 1، ص 213، ح 3.

(2) المصدر السابق، ح 1.

(3) المصدر السابق، ح 2.

(4) للمزيد من التوضيح، يراجع كتاب جامع الأحاديث، ج 1، ص 27؛ وتفسير

كنز الدقائق، ص 42- 45؛ واصول الكافي، ج 1، ص 415.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 89

من خلال البراهين الأربعة التي ذكرناها آنفا- وكل برهان منها يكفي لإثبات الغرض- فلا يبقى شك في أنّ عبارة «والراسخون في العلم» معطوفة على «اللَّه» ومعناها علمهم بالتأويل وباطن الكتاب.

والجدير بالذكر أنّ التعبير ب «الراسخون في العلم» جاء مرتين في القرآن الكريم، فمرة جاء في الآية محل البحث سورة آل عمران 7، ومرّة في سورة النساء حيث يقول تعالى بعد أنّ ذم أفعال أهل الكتاب (اليهود والنصارى القبيحة المتمثلة بأكل الربا ونهب أموال الناس:

«لَّكِنِ الرَّاسِخُونَ فِى العِلْمِ مِنهُمْ وَالمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ الَيكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبلِكَ».

(النساء/ 162)

ويبدو أنّ الذين ذكروا اسم «عبداللَّه بن سلام» وأمثاله من علماء أهل الكتاب- الذين أسلموا- في تفسير الراسخين في العلم يقصدون هذه الآية 162 من سور النساء، لا الآية 7 من سورة آل عمران، لأنّ الآية التي تتحدث حول علماء أهل الكتاب الآية الاولى، أمّا الآية التي هي محل بحثنا (الآية 7 من سورة آل عمران) فلا علاقة لها بقضية أهل الكتاب، (تأملوا جيداً).

كما تتضح هنا نكتة مهمّة اخرى وهي: ما ورد في خطبة الأشباح في نهج البلاغة حيث يقول عليه السلام: «واعلمْ أنّ الراسخين في العلم هم الذين أغناهم اللَّه عن اقتحام السدد المضروبة دون الغيوب لاقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب» «1».

وربّما يكون إشارة إلى آية سورة النساء أيضاً، حيث يتحدث عن تسليم بعض علماء أهل الكتاب والمؤمنين بلا قيد أو شرط أمام القرآن وسائر الكتب السماوية، لا الآية من سورة آل عمران (تأملوا جيداً كذلك).

وملخص الكلام أنّ ظاهر الآية 7 من سورة آل عمرأن يقول: إنّ اللَّه والراسخين

في العلم يعلمون تأويل القرآن، ونظراً إلى أنّ المقصود من الراسخين في العلم هم النبي صلى الله عليه و آله والأئمّة المعصومون عليهم السلام بالدرجة الاولى إذن يُعرف أحد مصادر علمهم وهو القرآن الكريم وتأويله وتفسيره وظاهره وباطنه.

______________________________

(1) نهج البلاغة، الخطبة 91 (خطبة الأشباح).

نفحات القرآن، ج 9، ص: 90

ونختتم هذا الحديث بإشارة اخرى إلى آيات القرآن الكريم فنقرأ في الآية: «بَلْ هُوَ آياتٌ بَيَّنَاتٌ فِى صُدُورِ الَّذِينَ اوْتُوا العِلْمَ». (العنكبوت/ 49)

ففي مصادر أهل البيت عليهم السلام تلاحظ روايات كثيرة بصدد تفسير جملة «الذين اوتوا العلم» في هذه الآية بالأئمّة المعصومين بعد النبي صلى الله عليه و آله.

وللمزيد من الاطلاع راجعوا بحار الأنوار وتفسير البرهان «1».

2- الوراثة من النبي صلى الله عليه و آله

المصدر الثاني من مصادر علوم الأئمّة المعصومين عليهم السلام هو الوراثة من النبي صلى الله عليه و آله، بمعنى أنّ النبي صلى الله عليه و آله قد علَّم عليّاً عليه السلام جميع العلوم وشرائع الإسلام، واستنادا إلى بعض الروايات فإنّ علياً عليه السلام قد كتب ذلك في كتاب بخط يده وانتقل هذا العلم إلى أولاده أي الأئمّة المعصومين عليهم السلام نسلًا بعد نسل.

أو بتعبير آخر- كما ورد في الروايات- أنّ النبي صلى الله عليه و آله علمَ علياً عليه السلام ألف باب من العلم ينفتح من كل باب ألف باب.

وقد احتوى في كتاب الكافي على روايات عديدة في هذا المجال، منها ما نقرأه في حديث عن أبي بصير حيث يقول: سألت الإمام الصادق عليه السلام إنّ شيعتكم يقولون: إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله علَّم علياً عليه السلام باباً من العلم ينفتح منه ألف باب، قال الإمام عليه السلام: «علم رسول اللَّه علياً ألف باب يفتح من كل

باب ألف باب».

ثم قال عليه السلام: «يا أبا بصير! ان عندنا الجامعة ... قلت وما الجامعة؟ قال: صحيفة طولها سبعون ذراعاً بذراع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله واملائه، من فَلْق فيه، وخطّ علي بيمينه، فيها كل حلال وحرام، وكل شي ء يحتاج الناس إليه حتى الارش من الخدش» «2».

والجدير بالذكر أنّه قد وردت روايات لا حصر لها في اشهر كتب السنة والشيعة حول

______________________________

(1) بحار الأنوار، ج 23، ص 188- 208؛ وتفسير البرهان، ج 3، ص 254- 256 (لقد روي في هذين الكتابين مايقارب عشرين حديثاً بهذا الصدد).

(2) اصول الكافي، ج 1، ص 239.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 91

الحديث المعروف ب «مدينة العلم» ومن جملة رواة هذا الحديث «ابن عباس» و «جابر بن عبد اللَّه» و «عبد اللَّه بن عمر» و «علي عليه السلام».

ومن الذين نقلوا هذا الحديث في كتبهم هم «الحاكم النيسابوري» في «المستدرك»، و «أبو بكر النيشابوري» في «تاريخ بغداد» و «ابن المغازلي» في «مناقب أميرالمؤمنين عليه السلام»، والكنجي في «كفاية الطالب» و «الحمويني» في «فرائد السمطين» و «الذهبي» في «ميزان الاعتدال» و «القندوزي» في «ينابيع المودة» و «النبهاني» في «الفتح الكبير» وطائفة اخرى «1».

ونقرأ أيضاً في عدّة روايات بصريح القول أنّ أئمّة أهل البيت عليهم السلام كانوا يقولون: ما ننقله بإمكانك أن تنقله عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، لأننا سمعنا كل ذلك عن أجدادنا عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله!.

فقد سأل أحد أصحاب الإمام الصادق عليه السلام: ربّما نسمع حديثاً منك، ثم نشك في هل أننا سمعناه منك أم من أبيك؟

فقال عليه السلام: «ما سمعته منّي فاروه عن أبي، وما سمعته من أبي فاروه عن رسول اللَّه

صلى الله عليه و آله» «2».

ويقول في مكان آخر أيضاً: «حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدي، وحديث جدي حديث الحسين، وحديث الحسين حديث الحسن، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين عليه السلام وحديث أمير المؤمنين عليه السلام حديث رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وحديث رسول اللَّه قول اللَّه عزّ وجلّ» «3».

وجاء عنه عليه السلام في رواية اخرى حيث قال بصريح العبارة: «مهما اجبتك فيه بشي ء فهو من رسول اللَّه لسنا نقول برأينا من شي ء» «4».

______________________________

(1) للمزيد من الاطلاع راجعوا احقاق الحق، ج 5، ص 468- 501 وللاطلاع على مصادر هذا الحديث في كتب الشيعة راجعوا كتاب جامع الأحاديث، الطبعة القديمة، ص 16 وما بعدها.

(2) جامع الأحاديث، ج 1، ص 17، ح 4، باب حجية فتوى الأئمّة.

(3) المصدر السابق، ح 1.

(4) المصدر السابق، ح 7 (وتوجد أحاديث اخرى أيضاً بهذا الصدد في نفس الكتاب).

نفحات القرآن، ج 9، ص: 92

3- الاتصال بالملائكة

من مصادر علم الأئمّة، اتصالهم بالملائكة، لا بمعنى أنّهم كانوا من الأنبياء والرسل، فإنّنا نعلم أنّ نبي الإسلام صلى الله عليه و آله كان خاتم الأنبياء والرسل، وبوفاته انقطع الوحي، بل إنّهم كانوا ك «الخضر» و «ذي القرنين» و «مريم»، حيث كانوا على اتصال بالملائكة بناءً على ظاهر آيات القرآن، وكانت الحقائق تلقى في قلوبهم من خلال عالم الغيب.

جاء عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: «إنّ علياً كان مُحدَّثاً»؟ وعندما طلبوا منه عليه السلام معرفة من يُحدِّثه قال: يُحدِّثه ملك، ولما سألوه: هل كان نبيّاً؟ فأومأ بيده بالنفي والانكار، ثم أضاف: كصاحب سليمان، أو كصاحب موسى أو كذي القرنين «1»، (هناك روايات عديدة أيضاً بهذا المجال) «2».

4- إلقاء روح القدس

المصدر الرابع لعلم الأئمّة هو فيض روح القدس.

وتوضيح ذلك: إنّ الحديث قد تكرر في آيات القرآن عن تأييد «روح القدس» فقد ورد ثلاث مرات بشأن المسيح عليه السلام، (البقرة/ 87 و 253 والمائدة/ 110) ومرّة واحدة بشأن النبي صلى الله عليه و آله (البقرة/ 110).

فمن هو أو ما هو «روح القدس»؟ ثمّة جدل كثير بين المفسرين، فقد فسّره جماعة من المفسرين ب «جبرائيل»، وفسّر بالروح المقدسة الطاهرة للمسيح عليه السلام، أو بمعنى الانجيل الذي انزل عليه، وتارة قالوا: إنّ المراد هو اسم اللَّه الأعظم الذي كان المسيح يحيي به الموتى «3».

______________________________

(1) اصول الكافي، ج 1، ص 271.

(2) المصدر السابق.

(3) جاءت هذه المعاني الأربعة في تفسير كنز الدقائق، ج 2، ص 78، ولكن في بعض التفاسير المعروفة ذكر التفسير الأول فقط، واكتفى في تفسير الكبير بذكر ثلاثة معانٍ وهي، جبرئيل، والانجيل، والاسم الأعظم (تفسير الكبير، ج 3، ص 177).

نفحات القرآن، ج 9، ص: 93

ولكن يستفاد من تعابير القرآن

الكريم، وكذا مختلف الروايات، أنّ روح القدس له عدّة معان وربّما يحمل معنىً خاصاً في كل مكان، ففي احدى آيات القرآن الكريم: «قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالحَقِّ». (النحل/ 102)

يعني بحسب الظاهر «جبرئيل» الذي كان ينزل بالقرآن على النبي صلى الله عليه و آله من قبل اللَّه تعالى

لكن يبدو أنّه يحمل مفهوماً آخر في الموارد الثلاثة الاخرى والتي جميعها بحق المسيح عليه السلام، فالتعبير «إذ أيدتك بروح القدس»- أو- «وأيدناه بروح القدس» يدل على أنّه إشارة إلى الروح التي كانت ترافق المسيح عليه السلام وتؤيده وتسدده.

ويفهم من الروايات التي وردت في مصادر أهل البيت عليهم السلام أنّ روح القدس هي الروح التي كانت مع الرسل والأنبياء والمعصومين عليهم السلام دائماً، وكانت تنقل إليهم الامدادات الغيبية في مختلف الحالات، بل يستفاد من الروايات العديدة التي وردت في مصادر السنّة أيضاً، أنّهم كانوا يصفون الكلام أو الشعر ذي المغزى الذي يصدر عن شخص ما: «كان هذا بتأييد من روح القدس».

ومن هذا الكلام ما نقرأه في الرواية الواردة في تفسير الدر المنثور أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله قال بحق الشاعر الإسلامي المعروف «حسان بن ثابت»: «اللّهم أيّد حساناً بروح القدس كما دافع عن نبيّه» «1».

ونقرأ بشأن شاعر أهل البيت المعروف «الكميت بن زيد الأسدي» أنّ الإمام الباقر عليه السلام قال له: كما قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لحسان بن ثابت، «لن يزال معك روح القدس ما ذَبَيْتَ عنّا» «2».

وورد في رواية اخرى أنّ الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام بكى كثيراً عندما أنشده الشاعر دعبل الخزاعي بعض أبيات قصيدته المعروفة «مدارس آيات» ثم قال له: «نطق

______________________________

(1) تفسير در

المنثور، ج 1، ص 87 (ذيل الآية 87 من سورة البقرة) وجاء في صحيح مسلم، ج 4، ص 19 و 32 باب فضائل حسان بن ثابت ما يشبه هذا المضمون.

(2) سفينة البحار، ج 2، ص 4954.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 94

روح القدس على لسانك بهذين البيتين» «1».

من هنا يتضح جيدا أنّ «روح القدس» روح معينة تعين الإنسان أثناء ادائه للاعمال المعنوية الإلهيّة، وبطبيعة الحال فإنّها متفاوتة بتفاوت مراتب الأشخاص، فهي لدى الأنبياء والأئمّة المعصومين تكون فعالة وتعمل بشكل استثنائي وأكثر وضوحاً، ولدى الآخرين تكون وفقاً لقابلياتهم وإن كنّا نفتقد العلم بماهيتها وتفاصيلها.

وجاء عن الإمام الصادق عليه السلام في تفسير «وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ* اوْلَئِكَ المُقَرّبونَ»

(الواقعة/ 10- 11)

فقال: «فالسابقون هم رسل اللَّه عليهم السلام وخاصة اللَّه من خلقه، جعل فيهم خمسة أرواح، أيدّهم بروح القدس فبه عرفوا الأشياء ...» «2».

وجاء في رواية اخرى عن الإمام الباقر عليه السلام بهذا الصدد حيث قال بعد تعداده للأرواح الخمسة الموجودة لدى الأنبياء والأوصياء: «فبروح القدس .. عرفوا ما تحت العرش إلى ما تحت الثرى «3».

وهناك روايات كثيرة اخرى بهذا المجال في اصول الكافي وسائر الكتب، حيث لا يسع المجال لشرحها هنا.

نعم فالإمداد الإلهي عن طريق روح القدس مصدر آخر من مصادر علم المعصومين عليهم السلام.

5- النور الإلهي

المصدر الخامس الذي يمكن ذكره لعلوم الأئمّة هو ماورد في العديد من الروايات في اصول الكافي، منها ما يقوله «حسن بن راشد»: سمعت الإمام الصادق عليه السلام يقول: «... فاذا

______________________________

(1) كشف الغمة، ج 3، ص 118؛ واعلام الورى ص 331، وذانك البيتان هما، خروج إمام لا محالة خارج يقوم على اسم اللَّه والبركات

يميز فيّنا كلَّ حقٍ وباطل ويجزي على النعماء والنقمات

(2) اصول الكافي، ج 1،

ص 271.

(3) المصدر السابق، ص 272.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 95

مضى الإمام الذي كان قبله رفع لهذا منار من نور ينظر به إلى أعمال الخلائق فبهذا يحتج اللَّه على خلقه» «1».

وورد في بعض الروايات أيضاً ب «عمود من نور» «2»، إلّاأنّه غالباً ما جاء تعبير «منار من نور»، وبالطبع ليس هنالك تباين كثير بين هذين التعبيرين.

وللمزيد من الاطلاع راجعوا بحار الأنوار، ج 6، ص 132، إذ ينقل المرحوم العلّامة المجلسي ستة عشر رواية بهذا الصدد، وكذلك وردت روايات عديدة في هذا المجال في باب «عرض الأعمال» (ج 23، ص 333 وما بعدها).

يستفاد من مجموع ما قيل إنّ مصادر علم الأئمّة المعصومين عليهم السلام متعددة ومتنوعة، ويأتي علمهم بجميع معاني القرآن الكريم بالدرجة الاولى، وفي الدرجة الثانية تأتي العلوم التي يرثونها عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، ويليها التسديد والتأييد الإلهي، والالهامات القلبية والاتصال بالملائكة وعالم الغيب.

ومن فيض هذه المصادر يقتبس الأئمّة المعصومون علوماً ومعارف كثيرة ليتسنى لهم إنجاز مهمّتهم التي تتجسد في المحافظة على الإسلام والقرآن وسنة النبي صلى الله عليه و آله وهداية الخلق نحو الخالق، وتربية النفوس وإقامة الحدود وتدبير الامور على أحسن وجه.

والملاحظة الاخرى الجديرة بالاهتمام هي أنّه يستفاد من بعض الروايات أنّ أرواح الأئمّة عليهم السلام تستلهم كل ليلة جمعة علوماً ومعارف جديدة بصدد القضايا المستجدة، وذلك من قبل اللَّه تعالى (لينسجموا مع متطلبات الامّة الإسلامية).

منها ما نقرأه في الرواية الواردة عن الإمام الصادق عليه السلام حيث قال: «إنّ لنا في كل ليلة جمعة سروراً».

______________________________

(1) اصول الكافي، ج 1، ص 387، ح 2.

(2) المصدر السابق، ح 4.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 96

يقول الراوي فقلت: زادك اللَّه وما ذاك؟

قال عليه السلام: «إذا

كان ليلة الجمعة وافى رسول اللَّه العرش ووافى الأئمّة معه، فلا تُرَّدُ أرواحنا إلى أبداننا إلّابعلم مستفاد، ولولا ذلك لأنفدنا» «1».

وتشاهد روايات عديدة في هذا البحث بهذا الصدد أيضاً يطول شرحها هنا.

نظراً إلى ما ذكرناه في هذا الفصل يتضح أنّ مصادر علم الأئمّة ليست أمراً بسيطاً، فالمصادر التي يمتلكونها هي التي تميزهم عن سائر الناس، وتعينهم في أدائهم للمسؤوليات المهمّة التي يتحملونها في المحافظة على الإسلام وتعاليم القرآن وهداية العباد.

______________________________

(1) اصول الكافي، ج 1، ص 254 (باب في أنّ الأئمة عليه السلام يزدادون في ليلة الجمعة).

نفحات القرآن، ج 9، ص: 97

عصمة الأئمّة عليهم السلام

تمهيد:

التوقي من الخطأ والسهو والمعصية شرطٌ آخر من الشروط العامة للأئمّة المعصومين، وفي الحقيقة أنّ القرائن كافّة التي تدل على عصمة الأنبياء عليهم السلام تدل على عصمة الأئمّة عليهم السلام أيضاً، لأنّ مسؤوليتهم تتشابه إلى حد كبير.

صحيح أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله الواضع لُاسس الشريعة ويتصل بعالم الوحي، أمّا الأئمّة فهم بمثابة الامتداد لوجود النبي صلى الله عليه و آله وهم حماة حراس الشريعة بالرغم من عدم نزول الوحي عليهم، لأنّهم يتبعون أثر النبي صلى الله عليه و آله في هداية الناس، والدفاع عن الأحكام والحدود الإلهيّة وجميع ما يتعلق بالشريعة، من هنا فهم يشتركون في الكثير من الصفات ويتشابهون فيما بينهم.

بناءً على ذلك فإنّ جميع الأدلة الرئيسة التي ذكرناها في بحث عصمة الأنبياء «1» تصدق فيما يتعلق بالائمّة أيضاً.

بعد هذه اللمحة المختصرة نرجع إلى بعض آيات القرآن الواردة بهذا الصدد ونبدأ بالكلام من القرآن:

1- «انَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجسَ اهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً». (الأحزاب/ 33)

______________________________

(1) للمزيد من الايضاح راجعوا ج 7، ص 145- 160 من هذا التفسير.

نفحات القرآن، ج 9، ص:

98

في البحوث السابقة وأثناء تفسير الآية 124 من سورة البقرة، قرأنا ما يتعلق بعظمة مقام الإمامة والولاية في قصة إبراهيم عليه السلام حيث أنّ اللَّه تبارك وتعالى قد أخضع هذا النبي العظيم إلى العديد من الاختبارات المهمّة، ولما خرج منها ظافراً قال له: «انِّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ امَاماً» (فالإمامة تعني الهيمنة على الجسم والروح، وتربية النفوس والمجتمعات البشرية).

وعندما سأل إبراهيم عليه السلام هذا المقام لبعض ذريته وأبنائه، جوبه بالرد الإلهي المشروط، فقال تعالى: «لَايَنَالُ عَهدِىِ الظَّالِميِنَ»، أي (أنّ الرهط الطاهر والمعصوم من أبنائك يستحقون هذا المقام فقط).

وقد تبيّن في تلك البحوث كيف أنّ هذا المقطع من الآية دليل على عصمة الأئمّة، وأنّ الذين أمضوا عمرهم في طريق الكفر والشرك من ناحية الاعتقادات، أو من ناحية أعمالهم حيث ارتكبوا الظلم بحق أنفسهم أو الآخرين، لا يستحقون هذا المقام، لأنّ الظلم بالمعنى الشامل للكلمة يشمل الظلم والشرك والكفر والانحرافات العقائدية، وكذلك جميع أشكال التجاوز على الآخرين، وظلم النفس عن طريق ارتكاب المعصية.

وحيث إنّ هذه البحوث قد جاءت هناك بشكل مفصل ومستفيض فلا نرى حاجة للتكرار، وعليه فقد وضع القرآن الكريم الركيزة الأساسية لشرط عصمة الأئمّة في هذه الآية الكريمة.

والآن نعود إلى آية التطهير وبحث مسألة العصمة الواردة في هذه الآية:

صحيح أنّ هذه الآية تتوسط الآيات المتعلقة بنساء النبي صلى الله عليه و آله إلّاأنّها تحمل نغمة مختلفة عنها، وتشير إلى معنى آخر، فجميع الآيات التي سبقتها وتلتها جاءت بضمير «جمع المؤنث» بينما جاءت الآية محل البحث بضمائر «جمع المذكر»!

ففي مستهل هذه الآية خاطب تعالى نساء النبي صلى الله عليه و آله وأمرهنّ بالمكوث في بيوتهن، وأن لا يخرجن بين الناس كما كان سائداً في الجاهلية، ويحافظن على معايير

العفة، وأن يقمن الصلاة ويؤتين الزكاة ويطعن اللَّه ورسوله «وَقَرنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَلَاتَبَرَّجنَ تَبَرُّجَ الجَاهِليَّةِ الاولَى وَاقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَاطِعنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ». (الاحزاب/ 33)

نفحات القرآن، ج 9، ص: 99

فجميع الضمائر الستة التي وردت في هذا المقطع من الآية هي على صورة جمع المؤنث (تأملوا جيداً).

ثم يتبدل لحن الآية، ويقول: «انَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذهِبَ عَنْكُم الرِّجسَ اهلَ البَيتِ وَيُطهرِّكُم تَطهِيراً».

وقد استخدم في هذا المقطع من الآية ضميرين جمع بصورة جمع المذكر.

صحيح أنّ مطلع ونهاية كل آية يستهدف امراً واحداً، إلّاأنّ هذا الكلام يجري في المكان الذي لا تتوفر فيه قرينة على الخلاف، وعلى هذا فالذين رأوا أنّ هذا الجانب من الآية ناظرٌ إلىّ نساء النبي صلى الله عليه و آله أيضاً فقد نطقوا خلافاً لظاهر الآية والقرينة التي فيها، أي تباين الضمائر.

بالإضافة إلى ذلك نمتلك روايات عديدة فيما يتعلق بهذه الآية حيث نقلها أكابر علماء المسلمين سواء الشيعة أم السنّة عن النبي صلى الله عليه و آله وجاءت بشكل وآخر في أشهر كتب الفريقين التي تحظى بقبولهم.

هذه الروايات بأجمعها تفيد أنّ المخاطب في هذه الآية هو النبي صلى الله عليه و آله وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام (لا نساء النبي) كما سيأتي بالتفصيل فيما بعد.

ولكن قبل الدخول في البحث لابدّ من التطرق إلى تفسير العبارات:

إنّ التعبير ب «إنّما» الذي عادة ما يستعمل للحصر دليل على أنّ الموهبة الواردة في هذه الآية تخص آل النبي صلى الله عليه و آله ولا تشمل غيرهم.

وعبارة «يريد» إشارة إلى إرادة اللَّه التكوينية- أي أنّ اللَّه تعالى شاء من خلال أمر تكويني أن يطهركم ويحفظكم من كل قذارة- لا الإرادة التشريعية، فالإرادة التشريعية تعني تكليفهم بصيانة أنفسهم طاهرة، ونحن نعلم

أنّ هذا التكليف لا يختص بآل الرسول صلى الله عليه و آله بل إنّ المسلمين جميعاً مكلفون بتطهير أنفسهم.

ربّما يتصور أنّ الإرادة التكوينية تفرض نوعاً من الجبر، وفي هذه الحالة لن تكون العصمة فضيلة وفخراً.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 100

نفحات القرآن ج 9 149

لقد ذكرنا الاجابة عن هذا السؤال بالتفصيل في الجزء السابع في بحث عصمة الأنبياء، ولابدّ من التعرض إليه باختصار: إنّ المعصومين يمتلكون نوعين من القابلية «قابلية ذاتية موهوبة» و «قابلية اكتسابية من خلال أعمالهم وملكاتهم الداخلية»، ومن مجموع هاتين القابليتين اللتين لا تخلو إحداهما على أقل تقدير من صبغة اختيارية لتحصيل هذا المقام السامي، وبتعبير آخر فإنّ المشيئة الإلهيّة توفر الأرضية للتوفيق من أجل بلوغ هذا المقام الشامخ، واستثمار هذا التوفيق يتعلق بإرادتهم (تأملوا جيداً).

فترك الذنب بالنسبة لهم محال عادي لا عقلي، فمثلًا، محال عاديٌ أن يصطحب إنسان عالم ومؤمن الخمر إلى المسجد ويحتسيه بين صفوف الجماعة، إلّاأنّه من المسلم به أنّ هذا الأمر ليس محالًا عقلياً، ولا يتعارض مع كون هذا الفعل اختيارياً، أو على سبيل المثال، أنّ الإنسان العاقل لا يخرج إلى الزقاق والشارع عارياً كما ولدته امه أبداً، فالقيام بهذا العمل ليس محالًا بالنسبة له، بل مستوى تفكيره ومعرفته لا يسمح له بالقيام بمثل هذا الفعل وإن كان فعله وتركه باختياره.

وهكذا حالة ارتكاب الذنوب بالنسبة للأنبياء والأئمّة، صحيح أنّ العصمة من الألطاف الإلهيّة، بَيدَ أنّ الألطاف الإلهيّة تخضع لحساب، كما يقول القرآن الكريم بشأن إبراهيم عليه السلام:

لن تنال منزلة الإمامة ما لم تفلح في الابتلاءات الإلهيّة «وَاذِ ابْتَلى ابْرَاهِيمَ ربُّه بِكَلِماتٍ ...» «1».

(البقرة/ 124)

وأمّا كلمة «الرجس» فتعني لغةً، الشي ء القذر سواء من ناحية كونه قذراً ومقززاً لطبع الإنسان، أو

بحكم العقل، أو الشرع، أو جميعها.

من هنا فبعد أن يفسر «الراغب» في «المفردات» الرجس بأنّه الشي ء القذر، يذكر له أربع حالات (نفس الحالات الاربع التي ذكر ت أعلاه من ناحية طبع الإنسان، أو العقل، أو الشرع، أو جميعها)، وإذا ما فسّر الرجس في بعض تعابير العلماء بالذنب أو «الشرك» أو

______________________________

(1) للمزيد من الايضاح في مجال أنّ العصمة لا تتنافى واختيارية أفعال المعصومين راجعوا، ج 7، ص 155 وما بعدها من هذا التفسير.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 101

«العقيدة الباطلة» أو «البخل والحسد» فهو في الحقيقة بيان لمصاديق من هذا المفهوم الواسع الشامل.

على أيّة حال، نظراً لمجي ء «الف ولام الجنس» في بداية هذه الكلمة «الرجس» والتي تفيد العموم، يكون مفهوم الآية: إن اللَّه شاء أن يبعد كل أنواع الرجس عنهم.

وفي عبارة: «ويطهركم تطهيرا»، فبما أنّ «التطهير» تعني التزكية فهي تمثل تأكيداً آخر على قضية نفي الرجس وكافة الاقذار التي وردت في العبارة السابقة، وكلمة «تطهيراً» التي هي بعنوان مفعول مطلق فهي تأكيد آخر على هذا المعنى

والنتيجة: هي أنّ اللَّه تعالى شاء وبمختلف التأكيدات أن يُطهر ويُنزه آل النبي صلى الله عليه و آله من كل أشكال القذارة والرجس، ومن المسلم أنّه يشمل النبي صلى الله عليه و آله بالمرتبة الاولى باعتباره صاحب الدار ومن ثم البقية، والآن لنعرف من هم أهل البيت؟

مَنْ هم أهل البيت؟

رأى بعض من مفسري أهل السنّة أنّ ذلك يعني نساء النبي صلى الله عليه و آله، ولكن كما قلنا فإنّ تغيير سياق الآية، وتبديل الضمائر من «جمع المؤنث»- فيما قبل وبعد هذه الآية- إلى «جمع المذكر» دليل بَيّنٌ على أنّ لهذه العبارة مضمونا منفصلًا، وأنّ المراد منها أمر آخر، أليس اللَّه حكيماً والقرآن في أعلى

مراتب الفصاحة والبلاغة وجميع عباراته تخضع للحساب.

وطائفة اخرى من المفسرين خصتها بالنبي وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، والروايات الكثيرة الواردة في مصادر أهل السنّة والشيعة والتي نشير إلى بعضها لاحقاً شاهدٌ على هذا المعنى

وبسبب وجود هذه الروايات ربما ذكر الذين لا يحصرون الآية بهؤلاء العظماء معنىً واسعاً لها بحيث يشملهم ويشمل نساء النبي صلى الله عليه و آله وهذا تفسير ثالث للآية.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 102

أمّا الروايات التي تدل على اختصاص الآية بالنبي صلى الله عليه و آله وعلي عليه السلام وسيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء عليها السلام وابنيهما الحسن والحسين عليهما السلام فهي- وكما أشرنا- كثيرة للغاية، منها ثمانية عشرة رواية، نقلت خمس منها في تفسير «الدر المنثور» عن ام سلمة، وثلاث عن أبي سعيد الخدري، وواحدة عن عائشة، وواحدة عن انس، واثنتان عن ابن عباس، واثنتان عن أبي الحمراء، وواحدة عن وائلة بن الاسقع، وواحدة عن سعد، وواحدة عن الضحاك بن مزاحم، وواحدة عن زيد بن الأرقم «1».

ويحصي المرحوم العلّامة الطباطبائي في تفسير «الميزان» الروايات التي وردت بهذا الصدد بما يربو عن سبعين رواية ويقول: وهي روايات جمة تزيد على سبعين حديثاً يربو ما ورد منها من طرق أهل السنّة على ما ورد منها من طرق الشيعة، ويضيف رواة آخرين سوى الذين ذكرناهم أعلاه (الرواة الذين ذكرت رواياتهم في غير تفسير الدر المنثور).

وذكر البعض أنّ عدد الروايات والكتب التي نقلت فيها بلغ المئات ولا يُستبعد أن يكون كذلك.

وهنا نذكر طائفة من هذه الروايات فقط مع ذكر مصادرها ليتبين قول الواحدي في «أسباب النزول»: أنّ الآية نزلت في النبي صلى الله عليه و آله وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام خاصة لايشاركهم

فيها غيرهم «2».

ويمكن اختصار هذه الروايات في أربعة اقسام:

1- الروايات التي نقلت عن بعض نساء النبي صلى الله عليه و آله تقول بصريح التعبير: عندما كان النبي صلى الله عليه و آله يتحدث عن هذه الآية سألناه هل نحن منهم؟ فقال: «لا ولكنكم على خير».

منها ما يرويه الثعلبي في تفسيره عن «ام سلمة» زوجة النبي صلى الله عليه و آله أنّ النبي كان في بيتها وجاءته فاطمة عليها السلام بالطعام، فقال لها صلى الله عليه و آله: «ادع لي بعلك وابنيك» فجاؤوا فتناولوا الطعام ثم نشر صلى الله عليه و آله عليهم الكساء وقال: اللّهم هؤلاء أهل بيتي وعترتي فأَذهب عنهم الرجس

______________________________

(1) تفسير در المنثور، ج 5، ص 196 و 199.

(2) تفسير الميزان، ج 16، ص 311.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 103

وطهِّرهم تطهيراً، ونزلت آية «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ ...» فقلت يارسول اللَّه وأنا معكم؟! فقال: «إنّكِ على خير» «1».

وكذلك الثعلبي وهو من العلماء المعروفين لدى أهل السنّة الذي عاش في القرن الرابع وأوائل القرن الخامس، وتفسيره الكبير معروف، يروي عن عائشة زوجة النبي صلى الله عليه و آله مايلي:

عندما سئلت عن حرب الجمل ودورها في تلك الحرب المدمرة، قالت (بتأسف): لقد كان تقديراً إلهياً! وعندما سئلت عن علي عليه السلام قالت:

«تسألني عن أحبّ الناس كان إلى رسول اللَّه، وزوج أحب الناس كان إلى رسول اللَّه، لقد رأيت علياً وفاطمة وحسنا وحسيناً وجمع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بثوب عليهم، ثم قال: اللّهم هؤلاء أهل بيتي وحامتي فأَذهب عنهم الرجس وطهِّرهم تطهيراً. قالت: فقلت يارسول اللَّه أنا من أهلك؟ قال: تنحي فإنّك إلى خير» «2».

فمثل هذه الروايات تؤكد بصراحة أنّ نساء النبي صلى الله

عليه و آله لم يكنّ من أهل البيت في هذه الآية.

2- وردت قصّة حديث الكساء في روايات كثيرة للغاية وبتعابير مختلفة والمضمون المشترك لها جميعاً هو أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله دعا علياً عليه السلام وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام- أو أنّهم حضروا عند رسول اللَّه صلى الله عليه و آله- أو أنّه غطاهم بالكساء أو بقماش، وقال: إلهي هؤلاء أهل بيتي فأَذهب عنهم الرجس، فنزلت الآية: «انَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيتِ ويُطَهِّرَكُم تَطْهِيراً».

والجدير بالاهتمام أنّ هذا الحديث روي في صحيح مسلم عن «عائشة»، وكذلك نقله الحاكم في «المستدرك»، والبيهقي في «السنن»، وابن جرير في «تفسيره»، والسيوطي في «الدر المنثور» «3».

______________________________

(1) ذكر الطبرسي في مجمع البيان في ذيل الآية مورد البحث، والحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل، ج 2، ص 56، الحديث أعلاه.

(2) تفسير مجمع البيان، ذيل الآية محل البحث.

(3) صحيح مسلم، ج 4، ص 1883، ح 2424 (باب فضائل أهل بيت النبي صلى الله عليه و آله).

نفحات القرآن، ج 9، ص: 104

وأورده الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل أيضاً «1»، كما نقل هذا الحديث في صحيح «الترمذي» مراراً، ففي موضع رواه عن «عمرو بن أبي سلمة» وفي موضع آخر عن «ام سلمة» «2».

والملاحظة الاخرى هي أنّ «الفخر الرازي» يضيف في ذيل آية المباهلة (سورة آل عمران، الآية 61) بعد نقله لهذا الحديث (حديث الكساء):

واعلم أنّ هذه الرواية كالمتفق على صحتها بين أهل التفسير والحديث «3».

كما يجدر ذكر هذه الملاحظة وهي: أنّ الإمام «أحمد بن حنبل» أورد هذا الحديث في مسنده بطرق مختلفة «4».

3- نقرأ في جانب آخر من الروايات العديدة والكثيرة أيضاً أن النبي صلى الله عليه و آله وبعد نزول

آية التطهير كان يمرّ على دار فاطمة عليها السلام ولعدّة أشهر «في بعضها ستة أشهر، وفي بعضها ثمانية أو تسعة أشهر» أثناء ذهابه لصلاة الصبح وينادي: «الصلاة ياأهل البيت! إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيتِ ويُطَهِّرَكُم تَطهِيراً».

وروي هذا الحديث في «شواهد التنزيل» للمفسر الشهير «الحاكم الحسكاني» عن «انس بن مالك» «5».

وجاء في نفس الكتاب رواية اخرى عن «أبي الحمراء» يذكر فيها أنّ المدّة كانت «سبعة

______________________________

(1) شواهد التنزيل، ج 2، ص 33، ح 376.

(2) صحيح الترمذي، ج 5، ص 699، ح 3871 (باب فضل فاطمة).

(3) تفسير الكبير، ج 8، 105 ص 80.

(4) مسند أحمد، ج 1، ص 330 و ج 4، ص 107 وج 6، ص 292 (نقلًا عن فضائل الخمسة، ج 1، ص 276 وما بعدها).

(5) شواهد التنزيل، ج 2، ص 11 و 12 و 13 و 14 و 15 و 92 (انتبهوا إلى أنّ شواهد التنزيل نقل هذه الرواية بطرق عديدة).

نفحات القرآن، ج 9، ص: 105

أشهر».

ورويت هذه الواقعة أيضاً في نفس الكتاب عن «أبي سعيد الخدري» ذاكراً أنّ المدّة كانت «ثمانية أشهر» «1».

إنّ الاختلاف في هذه التعابير أمر طبيعي، فربما شاهد أنس هذا الأمر لمدّة ستة أشهر، وأبو سعيد الخدري لمدّة ثمانية أشهر، وأبو الحمراء لمدّة سبعة أشهر وابن عباس تسعة أشهر «2».

فكل منهم نقل ما رآه، فلا تضارب بين كلامهم.

على أيّة حال، فاستمرار هذه الحالة وتكرار هذا الكلام خلال تلك الفترة الطويلة من قبل النبي الأكرم صلى الله عليه و آله كان أمراً مخططاً له، فهو كان يريد أن يُبيّن بوضوح أنّ المراد من «أهل البيت» هم أهل هذه الدار فقط، لئلا يبقى شك بالنسبة لأي شخصٍ في المستقبل، وليعلم الجميع أنّ هذه

الآية نزلت بحق هذه الزمرة فقط، والعجيب أنّ القضية بالرغم من هذا التكرار والتأكيد بقيت غامضة بالنسبة للبعض.

لاسيّما وأنّ الدار الوحيدة التي كانت بابها مفتوحة على مسجد النبي صلى الله عليه و آله هي دار النبي صلى الله عليه و آله وعلي عليه السلام، (فقد أمر النبي صلى الله عليه و آله بإغلاق جميع الأبواب التي كانت تفتح على المسجد ماعدا هاتين البابين).

ويذكر أنّ الكثير من الناس طالما سمعوا هذا الحديث عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أثناء الصلاة، وبعد هذا التأكيد والإثبات أليس من المدهش أن يصر بعض المفسرين على سعة مفهوم الآية لتشمل نساء النبي صلى الله عليه و آله أيضاً، مع ما أوردناه سابقاً من حديث عائشة زوجة النبي صلى الله عليه و آله واستنادا إلى شهادة التاريخ حيث أنّها لم تَدعْ شيئاً أثناء ذكرها لفضائلها وتفاصيل حياتها مع النبي صلى الله عليه و آله، فهي لم تر نفسها غير مشمولة بهذه الآية فحسب، بل تقول: إنّ النبي قال لي:

«لستِ منهم»!

______________________________

(1) شواهد التنزيل، ج 2، ص 28؛ واحقاق الحق، ج 2، ص 503 إلى 548.

(2) تفسير در المنثور، ج 5، ص 199.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 106

4- الروايات العديدة المروية عن الصحابي المعروف أبي سعيد الخدري التي أشارت الى آية التطهير تقول بصراحة: نزلت في خمسة: في رسول اللَّه وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام «1».

وملخص الحديث هو: إنّ الروايات التي وردت في المصادر الإسلامية بشأن آية التطهير واختصاصها بالنبي وعلي وفاطمة والحسن والحسين من الكثرة بحيث يجعلها في صف الروايات المتواترة، ولا يبقى فيها أدنى شك من هذه الناحية، حيث إنّ صاحب شرح إحقاق الحق ينقلها عن مايربو على سبعين

مصدراً من مصادر أهل السنة (بالإضافة إلى المصادر المعروفة لدى أتباع أهل البيت) ويقول: «لو أحصينا كافة هذه المصادر لتجاوزت الألف» «2»!.

أجوابة عن عدّة أسئلة:

نظراً إلى أنّ الآية الآنفة الذكر التي تواترت الروايات في المصادر الإسلامية المعروفة في تفسيرها، تعد كرامة عظيمة لأئمّة أهل البيت عليهم السلام يمكن اعتبارها دليلًا على حقانية خَطِّهم، وقد تشبث بعض العلماء وأخذوا كالعادة بالبحث عن إشكالات أشبه ما تكون باختلاق المبررات بعيداً عن الانتقاد العلمي، بينما أيقنت طائفة اخرى بالآية والروايات بشجاعة، وإن ظلوا أتباعاً لطريقة أهل السنّة من الناحية الاصولية، وفيما يلي بعض الانتقادات:

1- المراد من أهل البيت هم الساكنون في بيت النبي صلى الله عليه و آله، لأنّ البيت يعني الدار المسكونة، وسكنةُ بيت النبي صلى الله عليه و آله هم نساؤه، وليس الآخرين، وإذا ما جاء الضمير على صورة ضمير المذكر فالسبب يعود إلى أنّ لفظ «الاهل» مذكر، وإذا ما جاء البيت بصيغة المفرد لا الجمع، بينما نساء النبي صلى الله عليه و آله كنّ يسكنّ في بيوت عديدة، فذلك بسبب أنّ النبي صلى الله عليه و آله كان واحداً، فذكر بيته بصفة الواحد أيضاً، والخلاصة أنّ الآية ناظرة إلى نساء النبي صلى الله عليه و آله فقط.

______________________________

(1) وردت في شواهد التنزيل أربع روايات بهذا الصدد، ج 2 من ص 24- 27 (ح 659 و 660 و 661 و 664).

(2) اقتباساً من احقاق الحق، ج 2، ص 502 إلى 563.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 107

لقد اتضحت الاجابة جيداً عن هذا السؤال أو التبرير من خلال الأبحاث السابقة، وآثار التكلف أثناء الدفاع عن هذا الرأي مشهودة تماماً، فلو كان المقصود من (الأهل) نساء النبي صلى الله عليه و آله يكون

ظاهر اللفظ «مفرد مذكر» ومعناه «جمع مؤنث»، بينما لم يذكر في الآية لا «المفرد المذكر» ولا «الجمع المؤنث» بل جاء بصيغة «الجمع المذكر».

كما أنّ التعبير ب «البيت» جاء بصيغة المفرد خلافاً لمطلع الآية الذي جاء بصيغة الجمع، فمن المتعذر أن تكون عبارة: «وَقَرَن فىِ بُيُوتِكُنَّ» من أجل شخص النبي صلى الله عليه و آله، لأنّ النبي صلى الله عليه و آله لم يكن يمتلك بيتاً مستقلًا، فقد كان بيته هي البيوت التي كانت تعيش فيها زوجاته.

على هذا الأساس فلا سبيل سوى أن يكون المقصود من البيت هنا بيت القرابة والارتباط النسبي بالنبي صلى الله عليه و آله، لا بيت السكنى كما في التعبير المتداول والمعتاد عليه.

بالإضافة إلى كل هذا فعلى فرض قبولنا بهذه الآراء البعيدة عن الواقع، فهل يمكن التغاضي عن روايات بهذه السعة والكثرة والصراحة وهى التي تحصر أهل البيت عليهم السلام بخمسة أشخاص؟ أم نعتبرها روايات ضعيفة السند؟ فلو لم تكن هذه الروايات متواترة وقوية، فليس لدينا- إذن- حديث متواتر وصحيح، ولو كانت هذه الروايات خالية من الصراحة، فأيّ رواية صريحة في مضمونها؟!

والأدهى من ذلك كله مانقل عن «عكرمة» قوله: من شاء باهلتُه أنّها نزلت في نساء النبي صلى الله عليه و آله «1»، ونقل عنه في تعبير آخر: إنّ عكرمة كان ينادي في السوق أنّ قوله تعالى إنّما يريد اللَّه ... نزل في نساء النبي صلى الله عليه و آله «2».

إنّه لمدهش حقاً، فهل يمكن إثبات المسائل العلمية والاستدلالية بالمباهلة والصراخ في الأسواق، وهو أمر يمتلك جميع هذه الأدلة والشواهد والقرائن، إذ يقوم النبي صلى الله عليه و آله ببسط الكساء على خمسة أشخاص ويشخِّصهم بدقّة ويخاطبهم، حتى أنّه لم يسمح ل

«أم سلمة»

______________________________

(1) تفسير روح المعاني، ج 22، ص 12.

(2) المصدر السابق، ص 13.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 108

و «عائشة» بالدخول تحته، وأخذ يكرر هذه العبارة أمام دار فاطمة عليها السلام لمدة ستة أشهر أو ثمانية أشهر أو تسعة أشهر، دالًا على أنّ المرادف بهذه الآية هو أنتم، وإنّ كلمة «إنّما» التي تدل على الحصر واضحة للعيان.

والنبي صلى الله عليه و آله إنّما يريد بهذا التأكيد ازالة جميع اشكال الشبهات، بَيدَ أنّ عكرمة يريد من خلال الدوافع التي يعلمها جيداً أن يثبت بالمباهلة غير ذلك رافعاً عقيرته في الأسواق ضد ذلك!.

إنَّ حماس واندفاع عكرمة وراء المباهلة النادرة والقليلة الحصول في الأبحاث العلمية، وكذا مناداته في الأسواق التي هي من النوادر في القضايا العلمية أيضاً، بحد ذاته دليلٌ على أنّ هناك أمراً وراء ذلك، وإنّ وراء هذا القيل والقال تكمن أسرارٌ اخرى فهل كان مكلَّفاً بإنكار هذه الفضيلة الإلهيّة العظيمة ارضاءً لسلاطين زمانه، وأن ينبري للتصدي لأحاديث النبي صلى الله عليه و آله بهذه الصلافة؟!

2- السؤال الآخر هو: إذا كان المراد هو تلك الأنوار المقدّسة الخمسة، فما هي منزلة سائر ائمة أهل البيت عليهم السلام؟

والجواب هو: أنّ الذين كانوا يعاصرون ذلك الوقت هم أولئك الخمسة، والآخرون جاءوا فيما بعد، وورثوا تلك الصفات عن النبي صلى الله عليه و آله وآبائهم عليهم السلام.

3- كما تمّ التلميح آنفاً إلى أنّ المراد من الإرادة في «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ»، الإرادة التكوينية، لا التشريعية، وبتعبير آخر ليس المراد هو أنّ اللَّه أمركم بالابتعاد عن المعصية، لأنّ هذا الأمر الإلهي يعمّ المسلمين جميعاً ولا يخصُ أصحاب الكساء فقط.

يتضح ممّا تقدم أنّ الإرادة التكوينية والمشيئة الإلهيّة قضت بتطهيرهم، والمحافظة عليهم من

كل ذنب، وصيانتهم من شر الشيطان والأهواء النفسية، ونحن نعلم أنّ مشيئة اللَّه غير قابلة للتخلُّف، وما تفوَّه به البعض من أنّ إرادة اللَّه قابلة للتخلف يمثل غاية الجهل والغباء، فمن الذي يستطيع الحيلولة دون مشيئة اللَّه، إلّاأن تكون مشيئة اللَّه متعلقة بشرط

نفحات القرآن، ج 9، ص: 109

ولم يحصل ذلك الشرط؟ ونحن نعلم أنّ الإرادة في الآية أعلاه مطلقة، وليست مشروطة بشرط أبداً.

وما قاله البعض: إنّ هذا الكلام يستدعي أن يكون صحابة النبي صلى الله عليه و آله معصومين لاسيّما الذين شاركوا في معركة بدر، حيث قال تعالى بحقهم:

«وَلَكِن يُريدُ لِيُطَهِّرَكُم وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيكُم لَعَلَّكُم تَشْكُرونَ» «1». (المائدة/ 6)

وممّا يبعث على الأسف هو عند اضطرام نار التعصب فإنّها تلتهم كل شي ء وتحوِّله إلى رماد، وبالأساس فإننا نفتقد في القرآن الكريم مثل هذه الآية بشأن معركة بدر، وما نزل بشأن معركة بدر هو: «وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيطَانِ». (الانفال/ 11)

وظاهر هذه الآية تتعلق بنزول المطر (في معركة بدر) واستثمار المسلمين له للغسل والوضوء، ولا ترتبط ببحثنا أبداً، إلّاأنّ هذا الأخ المتعصب حذف مطلع الآية وجاء بعبارة «ليطهركم» فقط، وعدّها دليلًا على طهارة وقداسة الصحابة كافّة.

وبالطبع فإنّ عبارة: «وَلَكِن يُريدُ لِيُطَهَّرَكُم وَلِيُتِمَّ نِعمَتَهُ عَلَيكُم لَعَلَّكم تَشكُرُونَ» لم تأتِ بشأن أصحاب بدر، بل جاءت في ذيل آية الوضوء والغسل والتيمم، وواضح أنّها تشير إلى الطهارة التي تحصل من هذه المطهرات الثلاثة، فكيف يصادرها هذا المفسر الشهير من هناك ويذهب بها إلى ميدان بدر، ويصادر أمراً يخص الغسل والتيمم ويقحمه في موضوع بحث العصمة؟ إنّه أمرٌ غامض.

ويثار هنا سؤال آخر وهو: إذا كانت الآية دليلًا على عصمة هؤلاء العظماء، فلماذا جاءت «يريد» بصيغة «الفعل

المضارع» إذن؟

فإن كانوا معصومين فلماذا يقول: «يريد اللَّه» فهل أنّ تحصيل الحاصل ممكن؟ لماذا لم يقل «أراد اللَّه بصيغة الفعل الماضي»؟ «2».

______________________________

(1) تفسير روح المعاني، ج 22، ص 17، (ذيل الآية 33 من سورة الأحزاب).

(2) تفسير روح المعاني، ج 22، ص 17.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 110

لو كان قائل هذا الكلام يبحث التعبير ب «يريد» في آيات القرآن الكريم بدقة وتمعُّن لما تفوَّه بمثل هذا الكلام، لأنّ هذه الكلمة طالما استعملت في الكثير من آيات القرآن الكريم بشأن الامور المتعلقة بالإرادة المستمرة من الماضي وحتى الآن، ومن الآن إلى المستقبل، وبتعبير آخر: إنّ هذه العبارة غالباً ماتستعمل للدلالة على استمرار وثبات المشيئة على شي ء ما في الماضي والحاضر والمستقبل، ويمكن ملاحظة صدق هذا الكلام في الآيات التالية:

«وَمَا اللَّهُ يُريدُ ظُلْماً لِلعَالَمِينَ». (آل عمران/ 108)

«يُريدُ اللّهُ بِكُمُ اليُسرَ وَلَايُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ». (البقرة/ 185)

«يُريدُ اللَّهُ انْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ». (النساء/ 28)

وبديهي أنّ مفهوم هذه الآيات ليس هو أنّ اللَّه أراد ظلماً في السابق، وكان يريد بكم العسر قبل ذلك، أو أنّه لم يُرِدْ سابقاً التخفيف عنكم واليوم فعل هكذا، بل إنّ مفاد هذه الآيات جميعها هو أنّه أراد هكذا في الماضي والحاضر وفي المستقبل.

وكذلك قال تعالى بشأن الشيطان: «وَيُرِيدُ الشَّيطَانُ أَنْ يُضِلَّهُم ضَلَالًا بَعِيداً». (النساء/ 60)

و «انَّمَا يُرِيدُ الشَّيطَانُ انْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العَداوَةَ وَالبَغضَاءَ فِى الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ». (المائدة/ 91)

و «بَلْ يُرِيدُ إِلانسَانُ لِيَفْجُرَ امَامَهُ». (القيامة/ 5)

يتضح جلياً من خلال هذه الآيات بيان الإرادة المستمرة للشيطان في الماضي والحاضر والمستقبل لإغواء الناس، وذلك بخلق العداوة والبغضاء عن طريق الخمر والقمار، وكذا مفهوم الآية الثالثة، وهو: إنّ الإنسان الجاحد يريد أن يكون متحرراً على الدوام ويرتكب الذنب، لذا فهو ينكر القيامة.

هنالك

آيات كثيرة في القرآن تتابع هذا الموضوع، غير هذه الآيات الست أعلاه التي تبيّن أنّ استعمال كلمة «يريد» بنحو الاستمرارية يشمل الأزمنة الثلاثة.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 111

على هذا الأساس فمفهوم الآية الكريمة: «انَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِجْسَ»، هو تعلُّق الإرادة الإلهيّة المستمرة بطهارة وقداسة وعصمة أصحاب الكساء.

شبهات حول العصمة:

تثار عدّة أسئلة فيما يتعلق بعصمة الأنبياء والأئمّة المعصومين عليهم السلام أهمها هو: أليس العصمة صفة إجبارية؟ فاذا كانت العصمة موهبة إلهيّة تمنح فقط إلى هؤلاء، وليس بمقدور الأنبياء والأئمّة المعصومين عليهم السلام ارتكاب الذنب، أو أنّ اللَّه يحول دون عوامل الذنب بشكل حازم، فما الفضيلة والفخر في ذلك؟

لقد تمّ تقديم الاجابة عن هذا السؤال بشكل مفصّل في الجزء السابع من نفحات القرآن في بحث عصمة الأنبياء وهو باختصار:

إنّ إثارة هذه الشبهة سببه عدم التمعُّن باصول عصمة المعصومين عليهم السلام، فهم لم يلتفتوا إلى أنّ هذه «التقوى الراسخة» تنبع من «إيمانهم القوي وعلمهم ومعرفتهم الخارقة» التي يكون جانب منها اكتسابياً والآخر هبة، فمثلًا: إنّ الإنسان الذي يبلغ درجة عالية في الطب، محال أن يشرب ماءً ملوثاً بالجراثيم، بينما ربّما يفعل الإنسان الامي هذا الأمر، إنّ امتناع الطبيب عن شرب الماء الملوث كان باختياره، فهو يستطيع شرب ذلك الماء، إلّاأنّ إيمانه ومعرفته بعواقب الأمر تحول دون ذلك، فهو شبيه المعصوم في حرية إرادته ازاء القيام بهذا العمل «1».

السؤال الآخر هو: إنّ الأئمّة اعترفوا بالخطأ والذنب من خلال كلماتهم، فكيف يمكن اعتبارهم معصومين؟ ففي أدعيتهم يسألون اللَّه أن يغفر لهم ذنوبهم، وهذا بحد ذاته دليل على عدم عصمتهم.

______________________________

(1) للمزيد من الايضاح راجعوا ج 7، ص 155- 160 من هذا التفسير.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 112

يقول أمير المؤمنين الإمام علي بن

أبي طالب عليه السلام في الخطبة 216 من نهج البلاغة: «إنّي لستُ في نفسي بفوق أن اخطي ء ولا آمن ذلك من فعلي إلّاأن يكفي اللَّه من نفسي ما هو أملك بي منّي» «1».

ويثار نظير هذا الاعتراض بشأن الكثير من الآيات المتعلقة بقصص الأنبياء في القرآن الكريم أيضاً، حيث ذكرناها جميعا في نفس الجزء السابع تحت عنوان «تنزيه الأنبياء»، وأعطينا الجواب عنها، وتعقَّبنا هذه القضايا من خلال الإشارة إلى جزئيات تاريخ الأنبياء وما يمكن أن يتعرض إلى هذه الشبهات.

ولابدّ من الإشارة إلى بعض النقاط بشكل مختصر:

1- في الكثير من الحالات كان الأئمّة عليهم السلام يتحدثون لتعليم الناس باعتبارهم الاسوة، وأنّ أقوالهم كانت تحمل طابعاً تعليمياً، واللطيف أنّ تفسير روح المعاني وبعد إثارة هذا الاعتراض بشأن علي عليه السلام يأتي بهذا الجواب، ثم يقول: وقصد الكلام كما في بعض الأدعية النبوية بعيد «2» فلماذا لا يكون مستبعداً في كلام النبي صلى الله عليه و آله بينما يستبعد في كلام علي عليه السلام. إنّ هذا لا يدل إلّاعلى تعصب هذا المفسر المعروف.

2- كان الغرض في بعض الحالات هو أنّهم عليهم السلام يريدون أن يقولوا: إنّنا لا نملك شيئاً بدون الاعتماد على اللطف الإلهي، وهذه هي عطاياه ومواهبه وفيوضاته التي تجعلنا معصومين، وبتعبير آخر: إنّ ما نقل عن علي عليه السلام في العبارة يعاكس ما يقوله المشككون تماماً فهو يدل على عصمته بالاعتماد على الألطاف الإلهيّة، فالإمام يقول: لست معصوماً عن الخطأ «بدون اللطف الإلهي»، وهذه الموهبة ليست سوى لطف إلهي، أو وفقاً للتعبير الذي ورد في سورة يوسف ليس إلّا.

3- في الكثير من الامور التي وردت في الآيات أو الأدعية باعتبارها ذنباً، فهي ليست سوى ترك الأولى

ومصداق للقول المعروف: «حسنات الأبرار سيئات المقربين».

______________________________

(1) يصرُ الآلوسي في تفسيره، ذيل آية التطهير اصراراً عجيباً في انكار أنّ مفهوم الآية يتعلق بعصمة أهل البيت عليهم السلام ويثير هذه الشُبهة (تفسير روح المعاني، ج 22، ص 17).

(2) تفسير روح المعاني، ج 22، ص 18.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 113

وهذه النكتة جديرة بالذكر أيضاً وهي أنّ المراد من ترك الأولى ليس ترك عمل واجب، أو ارتكاب محرم أو مكروه، بل أراد الفعل المباح أو المستحب في قبال عمل أكثر استحباباً منه، وواضح أنّ ترك المستحب الأولى والإتيان بمستحب آخر ليس في فعله خلاف، إلّاأنّه ترك للأولى لكن ليس هذا الفعل بالنسبة للآخرين لا يعتبر خلافاً فحسب، بل إنّ أداء المستحب بحد ذاته يعدُّ فضيلة، وربّما يؤدّي إلى اللوم بالنسبة إلى المقربين لدى اللَّه تعالى

فالصلاة المقبولة من شخص عادي، تعد تركاً للأولى بالنسبة للعالم الكبير، وصلاة ذلك العالم لا تليق بالمعصوم، للمزيد من التوضيح راجعوا الجزء السابع من نفحات القرآن.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 115

خصائص الأئمّة عليهم السلام

اشارة

كما تكررت الإشارة فإنّ رسالة الأئمّة المعصومين عليهم السلام تشبه وتنسجم مع رسالة الأنبياء في الكثير من الحالات، سوى أنّ الوحي لاينزل عليهم، ولم يضعوا الحجر الأساس للدين، بل واصلوا خط الأنبياء، من هنا فإنّ أكثر الصفات اللازمة فيهم تطابق صفات الأنبياء، ونظراً إلى أنّنا قد جئنا بهذه الصفات بشكل مفصّل، مستندين إلى آيات القرآن الكريم في بحث الصفات العامة للأنبياء في الجزء السابع، فلا نرى ضرورة لشرحها بشكل موسع هنا، ولكن من أجل التذكير لابدّ لنا من المرور عليها ثانية (التفتوا إلى أنّ هذه الصفات جميعها طرحت في القرآن بشأن الأنبياء)، ولابدّ للقادة الالهيين والأئمّة المعصومين عليهم السلام بالاضافة إلى تمتعهم

ب «العلم» و «العصمة» أن يتمتعوا بالصفات التالية:

1- الصدق: فلو لم تتوفر لديهم هذه الصفة لم يحصل الاطمئنان والثقة اللازم توفرها من أجل اقامة العلاقات المعنوية بين الأتباع والقادة.

2- الالتزام بالعهود والمواثيق: لأنّ جانباً عظيماً من دعوتهم يقوم على أساس الوعود التي يمنحونها للناس، فإن لم يكونوا «صادقي الوعد» تنهار ركائز ثقة العامة بهم.

3- الأمانة في المحافظة على الودائع والأحكام الإلهيّة وابلاغها: حيث إنّها تمثل إحدى دعائم الثقة والإعتماد.

4- المحبة والحرص الفائق تجاه الناس: فلو لم تتوفر هذه الميزة من المستحيل أن يبدي الناس تحملًا للعناء والمشقات في قيادة المجتمع- لاسيما الجهلة والمعاندون-.

5- الاخلاص والتجرد التام وقطع الأمل بكل أجر مادي وإلّا ستفقد الدعوة والقيادة جاذبيتها.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 116

6- الاحسان والتفضل بحق الأصدقاء بل وحتى الأعداء: وهي من مظاهر رحمانية اللَّه ورحيميته وسبب في إقامة الارتباط المعنوي بين القيادة والقاعدة.

7- الشجاعة الفائقة وعدم الخشية إلّامن اللَّه تعالى التي تعد ميزة أساسية للذين «يبلغون رسالات اللَّه» في القرآن الكريم، لأنّها السر الحقيقي وراء النجاح، وبدونها لا يتقدم العمل في مجال القيادة.

8- التوكُّل المطلق على اللَّه: فغالباً ما يبقى القائد الرباني وحيداً فريداً ويعزله عن الآخرين الفساد الذي يسود البيئة، فلو لم يكن متوكِّلًا على اللَّه فمن المتعذر عليه مواصلة طريقه.

9- الرفق وحسن الخلق: الميزة الاخرى التي وردت في القرآن الكريم بشأن النبي صلى الله عليه و آله، وفي الحقيقة لابدّ لكل قائد إلهي (سواء كان نبياً أو إماماً) أن يتمتع بها، وإلّا فإنّ الخشونة والغلظة والاتصاف ب «فظ غليظ القلب» يؤدّي إلى تفرق الناس وعقم أهداف القائد الإلهي.

10- النجاح في الامتحانات القاسية: حيث يعتبر القرآن الكريم إعطاء منصب الإمامة لإبراهيم عليه السلام بسبب نجاحه في

اجتياز الامتحان والإبتلاء وتحمله المشاق.

وفي واقع الأمر يجب على المعصومين أن يخرجوا من الامتحانات القاسية ظافرين، ليكونوا مؤهلين لقيادة المؤمنين جسماً وروحاً وظاهراً وباطناً.

لقد وردت هذه المواضيع بشكل مفصّل ومستند إلى آيات القرآن الكريم في بحث الصفات العامة للأنبياء في الجزء السابع من نفحات القرآن.

اللَّه فقط الذي يُعيِّن الإمام:

يستنتج من مجموع الأبحاث التي جرت بشأن صفات الإمام وتشبيهه بالأنبياء في الكثير من الحالات أنّ الأئمّة المعصومين عليهم السلام (أوصياء الأنبياء) يجب أن يكون تعيينهم من قبل اللَّه تعالى.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 117

وبتعبير آخر: ليس ل «انتخاب الامّة» دور في هذا المجال ولا «إجماع الامّة» أو «التنصيب» من قبل أشخاص عاديين، لأنّ الصفات اللازمة في الإمام لا يعلمها إلّااللَّه تعالى، وأهمها «العصمة»، و «العلم الخاص»، حيث يتعذر على الإمام التحليق في سماء الإمامة والزعامة بدون هذين الجناحين!

فمن الذي يعلم أنّ فلاناً معصوم عن الذنب والخطأ، وأنّ هيمنة علمه على جميع مسائل التشريع وحياة البشر مسُلَّمة وثابتة؟

إنّ تشخيص سائر الصفات الخاصة بالإمام التي ذكرت آنفاً، متعذر على أغلب الناس، وربّما جميعهم.

من هنا يستفاد جيداً أنّ لا سبيل لتعيين الإمام سوى عن طريق التنصيب الإلهي، وهذا «التنصيب» يثبت من خلال ثلاثة طرق:

الأول: عن طريق النبي صلى الله عليه و آله أو الإمام المعصوم السابق الذي يعين خليفته بأمر اللَّه تعالى ويعرِّفه لجميع الناس، وفي الحقيقة أنّه في هذه القضية يمثل الواسطة في نقل الأمر الإلهي إلى الناس.

الثاني: عن طريق مشاهدة «المعجزات» كما مر ذكره في بحث النبوة، أي خرق العادة، وهو خارج عن طاقة البشر، وهو مترافق مع التحدي ودعوة الآخرين بالإتيان بمثلها إن لم يذعنوا.

غاية الأمر أنّ التحدي في قضية «النبوة» يأتي في مجالها وفي قضية «الإمامة» في مجال الإمامة،

أو بتعبير أكثر بساطة: إنّ الذي يدّعي الإمامة يقوم بخرق العادة الخارج عن طاقة أي إنسان تأكيداً على ادّعائه الإمامة.

ومن المسلَّم به أنّ خرقاً للعادة كهذا يعطى له من قبل اللَّه تعالى ومن المحال أن يمنح اللَّه الحكيم والعالم بالسرائر هذه الوسيلة للذي يدّعي الإمامة زوراً وبهتاناً.

الثالث: الطريق الثالث هنا هو كالذي مرّ في بحث النبوة، وهو جمع القرائن، أي مجموعة الصفات والأفعال والخصائص المتوفرة لدى شخصٍ ما بحيث يتيقن الإنسان من

نفحات القرآن، ج 9، ص: 118

خلال مشاهدتها أنّه إمام معصوم وقائد إلهي، فيتظافر علمه ومعرفته مع المزايا الأخلاقية والصفات الإنسانية والأفعال والأقوال والسلوكيات لتثبت بكل يقين أنّه إمام معصوم وخليفة للنبي صلى الله عليه و آله.

راجعوا تفصيل هذه المسألة في الجزء السابع من نفحات القرآن في بحوث «النبوة والقرآن».

نفحات القرآن، ج 9، ص: 119

الولاية التكوينية للأنبياء والأئمّة عليهم السلام

اشارة

نفحات القرآن، ج 9، ص: 121

الولاية التكوينية للأنبياء والأئمّة عليهم السلام

تمهيد:

نحن نعلم أنّ الولاية على نحوين:

1- الولاية التشريعية.

2- الولاية التكوينية.

المراد من الولاية التشريعية هو الحكم والاشراف القانوني والإلهي الذي يكون تارة بشكل محدود كولاية الأب والجد على الصغير، وتارة بشكل واسع وشامل كولاية الحاكم الإسلامي على كافة القضايا المتعلقة ب «الحكومة» و «إدارة شؤون الامّة الإسلامية»، حيث سيأتي بحث ذلك بشكل مفصل في «الجزء العاشر من نفحات القرآن» إن شاء اللَّه تعالى

أمّا المراد من الولاية التكوينية، فهي: قدرة الإنسان على التصرف في عالم الخلق والتكوين بأمر اللَّه وإذنه، والإتيان بأفعال خارقة للعادة والنواميس الطبيعية لعالم الأسباب، فمثلًا يبري ء المريض الذي لا علاج له بإذن اللَّه، وذلك من خلال الهيمنة والنفوذ الذي وهبه اللَّه تعالى له، أو يحيي الموتى وأعمال اخرى من هذا القبيل، وكل أشكال التصرف المعنوي غير الاعتيادي في أرواح وأجسام البشر، وهذا النوع يشمل الطبيعة أيضاً.

وربّما تكون ل «الولاية التكوينية» أربع حالات بعضها «مقبولة» وبعضها «غير مقبولة».

1- «الولاية في أمر الخلقة وخلق العالم»: بمعنى أنّ اللَّه تبارك وتعالى يمنح عبداً من عباده أو ملكاً من ملائكته قدرة خلق العوالم أو محوها من الوجود، ومن المسلَّم به أنّ هذا الأمر ليس مستحيلًا، لأنّ اللَّه على كل شي ء قدير وقادرٌ على منح أي نحو من القدرة لأي إنسان، بَيدَ أنّ آيات القرآن تؤكّد في كل المواضع على أنّ خلق عالم الوجود والسموات

نفحات القرآن، ج 9، ص: 122

والأرضين والجن والانس والملائكة والنباتات والحيوانات والجبال والبحار قد حصل بقدرة اللَّه جلّ وعلا، لا عن طريق عباده الخاصين أو ملائكته، لذا فقد نسب الخلق إليه في جميع الأحوال، ولم ينسب هذا الأمر إلى غيره «بنحو واسع»

في أي موضع أبداً، وعليه فإنّ خالق السموات والأرضين والنبات والحيوان والإنسان هو اللَّه وحده.

2- «الولاية التكوينية في ايصال الفيض»: بمعنى أنّ كل إمداد ورحمة وبركة وقدرة من قبل اللَّه تعالى تصل إلى عباده أو سائر الكائنات في عالم الوجود بواسطة أولياء اللَّه وخاصة عباده، كمياه الشرب بالنسبة للبيوت في مدينة ما التي تمر من خلال الانبوب الرئيس وهذا الانبوب الكبير يستلم المياه من مصدرها ويوصلها إلى جميع النقاط، ويعبر عنه ب «الواسطة في الفيض».

وهذا المعنى ليس محالًا أيضاً من الناحية العقلية، ويشاهد نموذجه في العالم الصغير، وبناء الإنسان، وتوزيع المواد الغذائية على الخلايا كافّة عن طريق شريان القلب، فما المانع من ذلك في العالم الكبير أيضاً؟

ولكن ممّا لا شك فيه أنّ إثباته بحاجة إلى دليل مقنع، وإذا ما ثبت فهو بإذن اللَّه تعالى

3- «ولاية تكوينية في حدود معينة»: كإحياء الموتى وشفاء المرضى الذين يستحيل علاجهم ونحو ذلك.

وقد وردت نماذج من هذا النوع من الولاية بشأن بعض الأنبياء في القرآن الكريم بصراحة حيث سيشار إليها لاحقاً، والروايات الإسلامية شاهد على ذلك أيضاً، من هنا فإنّ هذا الفرع من الولاية التكوينية ليس ممكناً من ناحية العقل فحسب، بل هنالك أدلة نقلية عليه أيضاً.

4- «الولاية التي تعني الدعاء من أجل تحقيق المطالب»: ويأتي ذلك بقدرة اللَّه تعالى فإنّ النبي صلى الله عليه و آله أو الإمام المعصوم يدعو فيتحقق ما طلبه من اللَّه تعالى

وهذا المعنى ليس فيه أي محذور عقلي ولا نقلي، وأنّ الآيات والروايات مليئة بنماذج منه، بل ربّما لا يمكن اطلاق اسم الولاية التكوينية عليه لأنّ استجابة دعائه تأتي من قبل اللَّه تعالى.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 123

ويشاهد في الكثير من الآيات إشارات

إلى ال «الاسم الأعظم» الذي كان لدى الأنبياء والأئمّة عليهم السلام أو بعض أولياء اللَّه (من غير الأنبياء والأئمّة)، ومن خلاله كانوا يستطيعون التصرف بعالم التكوين.

وبغض النظر عن المراد من «الاسم الأعظم»- الذي بحثناه بشكل مفصّل في بحث صفات اللَّه- فإنّ مثل هذه الروايات ربما تكون ناظرة إلى القسم الثالث من الولاية التكوينية وتنطبق عليه بشكل تام.

بهذه الإشارة نعود إلى بعض آيات القرآن في هذا المجال «الولاية التكوينية»:

1- «وَيُعَلِّمُهُ الكِتَابَ وَالحِكمَةَ وَالتَّوراةَ وَالإِنجِيلَ* وَرَسُولًا الَى بَنِىِ اسْرائِيلَ أَنِّى قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُم انِّى اخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ الطِّينِ كَهَيئَةِ الطَّيْرِ فَانْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَابرِى ءُ الاكْمَهَ وَالابْرَصَ وَاحْىِ المَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَانْبّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرونَ فِى بُيُوتِكُم انَّ فِى ذَلِكَ لَايَةً لَّكُمْ انْ كُنْتُم مُّؤمِنِينَ». (آل عمران/ 48- 49)

2- «فَسَخَّرنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِى بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيثُ اصَابَ». (ص/ 36)

3- «قَالَ الَّذِى عِنْدَهُ عِلْمٌ مِّنَ الكِتَابِ انَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرتَدَّ اليكَ طَرْفُكَ فَلَمّا رَآهُ مُستَقِرّاً عِنْدَهُ قَالَ هَذا مِنْ فَضْلِ رَبّى لِيَبْلُوَنِى أَأَشْكُرُأَمْ اكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبّى غَنِىٌّ كَرِيمٌ». (النمل/ 40)

في الآية الاولى يدور الحديث أولًا عن الألطاف الإلهيّة بحق عيسى عليه السلام حيث «وَيُعَلِّمُهُ الِكَتابَ وَالحِكَمةَ وَالتَّورَاةَ وَالإِنجِيلَ».

ثم بعثه كرسول إلى بني اسرائيل، «وَرَسُولًا الَى بَنى اسرائِيلَ»، ومن ثم يشرح كلام المسيح عليه السلام في إثبات حقانيته وبيان معاجزه التي تم بيانها في خمس مراحل:

يقول في الاولى:: «أَنِّى قَدْ جِئتكُمُ بِآيَةٍ مِّن رَبِّكُمْ أَنِّى اخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ الطّيِنِ كَهَيْئَةِ الطَّيرِ فَانْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِاذنِ اللَّهِ».

نفحات القرآن، ج 9، ص: 124

وفي الثانية والثالثة: «وَأَبرِى ءُ الاكمَهَ وَالابرَصَ».

والرابعة: «وَأُحْىِ المَوتَى بِإذنِ اللَّهِ».

والخامسة: «وَانبّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرونَ فِى

بُيُوتِكُم انَّ فِى ذَلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ انْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنيِنَ».

إنّ التمعُّن في مضمون هذه الآيات والتفاوت في التعابير المستعملة فيها، يوضح هذه المسألة وهي: أنّ المسيح عليه السلام ينسب خلق الطير من الطين إلى اللَّه تعالى، بينما في الأقسام الثلاثة الاخرى ينسب (شفاء الأعمى والأبرص، وإحياء الموتى إلى نفسه، ولكن باذن اللَّه وأمره، وهذا هو المقصود من الولاية التكوينية، حيث إنّ اللَّه تعالى قد يمنح مثل هذه القدرة للانسان بحيث يؤثر في عالم الخلق والطبيعة بأمره، ويخرق الأسباب الطبيعية، فيحيي الميت ويشفي المرضى الذين يستحيل علاجهم.

هذا النموذجٌ من الولاية التكوينية التي وهبها اللَّه تبارك وتعالى لعبده المسيح عليه السلام، ولامانع أو حائل ابداً دون اعطاء مثل ذلك لسائر الأنبياء أو الأئمّة المعصومين عليهم السلام.

وإذا قال قائلٌ: إنّ مقصود هذه الآية هو أنّ المسيح عليه السلام كان يدعو فيبرى ء اللَّه المريضَ، أو يحيى الميت، فقد نطق بما يخالف ظاهر الآية، لأنّ الآية تقول بوضوح: «بِإِذنِ اللَّه» أي إنني أفعل ولكن تحقيق الفعل بإذن اللَّه، وليس هنالك من دليل لترك هذا والبحث عن معنى يخالف الظاهر.

بل ليس هنالك مانع أيضاً في مرحلة خلق الطير من أنْ يلقي اللَّه تعالى هذا الأثر في فم عيسى عليه السلام فيكون القيام بمثل هذا العمل بإذن اللَّه، بَيدَ أنّ بعض المفسرين لم يقتنعوا بهذا المعنى وقالوا: إنّ خلق الطير مستندٌ إلى اللَّه مباشرة، ولعلّ هذا القول يأتي لئلا يدعي الجهلاء الوهية المسيح، لأنّ أمر الخلقة متعلقٌ به وحده:

وورد شبيه هذا المعنى أيضاً في سورة المائدة، غاية الأمر أنّ الخطاب صادر من قبل اللَّه تعالى للمسيح عليه السلام لا على لسان المسيح عليه السلام، فيقول تعالى

«وَاذْ تَخلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيرِ

بِإِذْنِى فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيراً بِاذْنى وَتُبرِى ءُ الاكْمَهَ

نفحات القرآن، ج 9، ص: 125

وَالْأَبرَصَ بِإِذْنِى وَاذْ تُخْرِجُ المَوتَى بِإِذْنىِ». (المائدة/ 110)

والملفت للنظر هو أنّ اختلاف التعبير الذي كان في سورة آل عمران ظاهرٌ بدقّة هنا أيضاً، أي لم تُنسب مسألة الخلق وخلق الطير إلى المسيح عليه السلام، ولكن نُسبَ إليه احياء الموتى وشفاء المرضى والعمي الذين يستحيل علاجهم، وإنْ جاء التعبير بإذن اللَّه في كل ذلك.

وملخص الكلام أنّ هذه الآيات تثبت بأنَّ الولاية التكوينية لعيسى عليه السلام هي في نطاق خاص، وليس هنالك دليلٌ على اختصاصها المطلق بالمسيح عليه السلام، ويمكن أن تصدق بحق سائر الأنبياء أو الأئمّة المعصومين عليهم السلام بمقتضى أنّ: «حكمُ الأمثال في ما يجوز وما لا يجوز واحدٌ».

وفي الآية الثانية يتحدث تعالى عن تسخير الرياح لسليمان عليه السلام ويقول: «فَسَخَّرنَا لَهُ الرِّيحَ تَجرِى بِأَمرِهِ رُخَاءً حَيثُ اصَابَ».

ويستفاد من هذه الآية والآيات التي تليها أنّه وكما أنّ الشياطين كانت تُنفِّذ أمر سليمان وتنجزُ له أعمالًا مهمّةً في البر والبحر، فإنّ الريح كانت تُنفِّذ أمره أيضاً، وكانت تتحرك حيث يأمرها، وهذا الأمر ليس سوى مصداق للولاية التكوينية في هذا الجانب من الموجودات.

وورد نظير هذا المعنى أيضاً في سورة الأنبياء، والحديث هنا عن أمر سليمان عليه السلام على العواصف، إذ يقول تعالى «وَلِسُلَيَمانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجرِى بِأَمرِهِ الَى الارضِ الَّتِى بَارَكنَا فِيهَا».

(الانبياء/ 81)

وهذا الاحتمال واردٌ أيضاً فيما جاء في قصة موسى عليه السلام في البقرة، الآية 60: (من ضرب الحجر وانبثاق عين الماء فيه بإذن اللَّه)، (وكذا ضربُ البحر بالعصا، حيث يقول تعالى «فَاوْحَيْنَا الَى مُوسَى انِ اضْرِبْ بِّعَصَاكَ البَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّودِ العَظِيمِ». (الشعراء/ 63)

نفحات القرآن، ج 9، ص: 126

وكل ذلك كان

من قبيل الولاية التكوينية أيضاً.

والخلاصة هو أنّه في جميع الحالات التي يمنح فيها اللَّه تعالى لأحد عباده الخاصين القدرة والقوة للنفوذ في عالم الخلق والطبيعة، يحصل لذلك العبد نوعُ من الولاية التكوينية.

والحديث في الآية الثالثة عن التصرف التكويني لشخص من المقربين لسليمان ومن خاصته، بَيدَ أنّ اسمه لم يأت في القرآن سوى بوصف (الذي عنده علمٌ من الكتاب)، فعندما خاطب سليمان عليه السلام أصحابه وخاصته: «قَالَ يَاايُّهَا المَلَأُ ايُّكُم يَأتِيِنى بِعَرشِهَا قَبلَ أَنْ يَأْتُونىِ مُسلمِينَ* قَالَ عِفرِيْتٌ مِّنَ الجِنِّ أَنَا آتِيْكَ بِهِ قَبْلَ انْ تَقومَ مِن مَّقامكَ»، ثم يضيف:

«قالَ الَّذِى عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الكِتَابِ انَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ انْ يَرتَدَّ الَيكَ طَرفُكَ».

وبطبيعة الحال أنّ هذا لم يكن ادّعاءً فحسب، بل إنّه نفّذ وعده، إذ نقرأ في سياق الآية:

«فَلَمّا رَآهُ مُستَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّى».

وهنا بحوث كثيرة:

من ذلك الذي كان عنده علمٌ من الكتاب؟ فالمعروف والمشهور أنّه كان وزير سليمان عليه السلام، (آصف بن برخيا) الذي يقال إنّه كان ابن اخته، وطبقاً لما ورد في الرواية في تفسير العياشي في جواب الإمام محمد بن علي الجواد عليه السلام ليحيى بن الأكثم فإنّ «آصف» كان وصي وخليفة سليمان عليه السلام، وكان نبيّاً، وكان سليمان عليه السلام يريد بهذا العمل تعريف العامة بمكانته ومنزلته، وإلّا فإنّه كان يمتلك القدرة على هذا العمل من باب أولى «1».

وقد احتمل البعض أيضاً أنّ هذا الشخص كان سليمان نفسه «2»، إلّاأنه لا ينسجم وظاهر الآية.

______________________________

(1) تفسير نور الثقلين، ج 4، ص 91، ح 77 كما نقل هذا المعنى بصريح القول في تفسير الدر المنثور عن ابن عباس وآخرين بأنّ القائل كان آصف بن برخيا حيث كان الاسم الآخر له «اتمليخا»،

(تفسير در المنثور، ج 5، ص 109).

(2) نقل هذا الاحتمال في تفسير الميزان، ج 15، ص 363 واشكَل عليه.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 127

واحتمل البعض أنّه كان رجلًا من بني اسرائيل، حيث يتعارض هذا مع التفسير الذي يقول إنّه كان آصف بن برخيا، لأنّه وحسب الظاهر كان من بني اسرائيل، على أيّة حالٍ فالذي يحظى باهتمامنا هنا ليس شخصاًبعينه، بل الغرض هو أنّ أحد اولياء اللَّه كانت له القدرة في التصرف في عالم التكوين وعالم الأسباب من خلال امتلاكة ل «علمٍ من الكتاب» أو معرفة الاسم الأعظم، أو أي شي ء آخر، وأن ينقل عرش وملكة سبأ من اقصى جنوب شبه الجزيرة العربية إلى أقصى شمالها خلال طرفة عين، ولا يخفى أنّ هذا الأمر ممكنُ لسائر أولياء اللَّه لاسيّما والأنبياء والأئمّة المعصومين عليهم السلام.

وقد ورد في بعض الروايات عن الإمام الباقر عليه السلام:

«إنّ اسم اللَّه الأعظم على ثلاثة وسبعين حرفاً وإنّما كان عند آصف منها حرف واحد فتكلم به فخسف بالأرض ما بينه وبين سرير بلقيس حتى تناول السرير بيده ثم عادت الأرض كما كانت أسرع من طرفة عين ونحن عندنا من الاسم الأعظم اثنان وسبعون حرفاً وحرف واحد عند اللَّه تعالى استأثر به في علم الغيب عنده، ولا حول ولا قوة إلّاباللَّه العلي العظيم» «1».

ونقل هذا المعنى أيضاً في روايات اخرى عن الإمام الباقر عليه السلام والإمام الصادق عليه السلام وبعض أئمّة أهل البيت عليهم السلام.

ويستفاد بوضوح ممّا مرّ من الآيات أنّ الولاية التكوينية أمرّ ممكنُ وجدير بالقبول في نظر القرآن الكريم.

الولاية التكوينية في الأحاديث الإسلامية:

كثيراً ما نصادف في الروايات الإسلامية إشارات عن المعجزات التي حصلت في إطار الولاية التكوينية، وتوضيح ذلك أنّ المعجزات لها أقسام وأنواع فبعضها يحصل بدعاء

______________________________

(1)

اصول الكافي، ج 1 ص 230 استناداً إلى نقل تفسير البرهان، ج 3، ص 203، ح 1.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 128

النبي صلى الله عليه و آله أو الإمام المعصوم فقط، وبعضٌ يحصل بطلب الناس منهم وبإذن اللَّه، وبعضها يحصل عن طريقهم وبفعلهم، أي أنّ بعض المعجزات يحصل من خلال تصرفهم ومقامهم الروحي والمعنوي وبإذن اللَّه، بحيث لا يمثل سوى الولاية التكوينية التي نتحدث عنها الآن.

وهذه الحالات كثيرةٌ للغاية، وفيما يلي نشير إلى بعض النماذج منها:

1- ورد نموذج ظريف منها في نهج البلاغة- الخطبة القاصعة- حيث يقولُ عليه السلام «ولقد كنتُ معه صلى الله عليه و آله كما أتاه الملأ من قريش فقالوا له: يامحمد إنّك ادّعيت عظيماً لم يدعه أباؤك ولا أحد من بيتك، ونحن نسألك أمراً إنْ أنت أجبتنا إليه وأريتناه علمنا أنّك نبيٌ ورسول، وإن لم تفعل علمنا أنّك ساحرٌ كذاب».

فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله «وما تسألون» قالوا: تدعو لنا هذه الشجرة حتى تنقلع بعروقها وتقف بين يديك، فقال صلى الله عليه و آله: «إنّ اللَّه على كلّ شي ء قدير، فإنّ فعل اللَّه لكم ذلك، أتؤمنون وتشهدون بالحقّ»؟ قالوا: نعم، قال: «فاني ساريكم ما تطلبون وإنّي لأعلم أنّكم لا تفيئون إلى خير، وإنّ فيكم من يطرحُ في القليب ومنْ يحزّبُ الأحزاب»، ثم قال صلى الله عليه و آله: «ياأيّتها الشجرة إنْ كنت تؤمنين باللَّه واليوم الآخر، وتعلمين أنّي رسول اللَّه فانقلعي بعروقك حتى تقفي بين يديّ بإذن اللَّه».

فوالذي بعثه بالحق (لا نقلعت) بعروقها وجاءت ولها دويٌ شديد وقصف كقصف أجنحة الطير حتى وقفت بين يدي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله مرفرفة، وألقت بعضها الأعلى على رسول اللَّه صلى

الله عليه و آله وببعض أغصانها على منكبيه، وكنت عن يمينه صلى الله عليه و آله.

فلما نظر القوم إلى ذلك قالوا- علواً واستكباراً: فَمُرها فليأتك نصفها، ويبقى نصفها، فأمرها بذلك فاقبل إليه نصفها كأعجب إقبال وأشدّه دويّاً فكادت تلتفّ برسول اللَّه صلى الله عليه و آله!

فقالوا- كفراً وعتواً-: فمرّ هذا النصف فليرجع إلى نصفه كما كان، فأمره صلى الله عليه و آله فرجعَ، فقلت أنا: «لا إله إلّااللَّه، إنّي أول مؤمن بك يارسول اللَّه، وأول منْ أقرّ بأنّ الشجرة فعلت ما فعلت بأمر اللَّه تعالى تصديقاً بنبوتك وإجلالًا لكلمتك». نفحات القرآن، ج 9، ص: 129

فقال القوم كلهم: بل ساحرٌ كذاب عجيب السحر، خفيفٌ فيه، وهل يصدقك في أمرك إلّا مثل هذا «يعنونني»؟

«وإنّي لمن قوم لا تأخذهم في اللَّه لومة لائم، سيماهم سيما الصديقين، وكلامهم كلام الأبرار، عمارُ الليل ومنار النهار، متمسكون بحبل القرآن، يحيون سنن اللَّه وسنن رسوله، لا يستكبرون ولا يعلون، ولا يغلون ولا يفسدون، قلوبهم في الجنان وأجسادهم في العمل» «1».

تأملوا تعابير هذه الخطبة قليلًا، فإنّها تثبت أنّ هذا الأمر الخارق للعادة حدث بنفوذ وتصرف النبي صلى الله عليه و آله في التكوين، وعليه فما ورد في ذيل هذه العبارة: «إنّ الشجرة فعلت مافعلت بأمر اللَّه تعالى ، هو أمر اللَّه وإذنه والقدرة التي قد وهبها لنبيه لمثل هذا التصرف، كما ورد التعبير ب «إذن اللَّه» في بداية هذه الكلمة.

بناءً على ذلك، فالتعابير مثل: مُرْ ليحدث كذا أو كذا، وكلام رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أيّتها الشجرة افعلي كذا وكذا، كلها أدلة على ولاية النبي صلى الله عليه و آله ونفوذه التكويني.

2- يروي المرحوم العلّامة المجلسي في كتاب بحار الأنوار عن سلمان

الفارسي: لما قدم النبي صلى الله عليه و آله المدينة تعلق الناس بزمام الناقة، فقال النبي صلى الله عليه و آله: ياقوم دعوا الناقة فهي مأمورة، فعلى باب من بركت فأنا عنده (وهذا أفضل طريق للخلاص من كل اختلاف وتفرقة).

فأطلقوا زمامها وهي تهف في السير حتى دخلت المدينة، فبركت على باب أبي أيوب الأنصاري، ولم يكن في المدينة أفقر منه، فانقطعت قلوب الناس حسرةً على مفارقة النبي صلى الله عليه و آله، فنادى أبو أيوب: «ياامّاه افتحي الباب، فقد قدم سيد البشر، وأكرم ربيعة ومضر، محمد المصطفى والرسول المجتبى .

فخرجت وفتحت الباب وكانت عمياء، فقالت: «واحسرتاه ليت كانت لي عين أبصر بها

______________________________

(1) نهج البلاغة، الخطبة 192 (القاصعة).

نفحات القرآن، ج 9، ص: 130

وجه سيدي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في المدينة»، وضع صلى الله عليه و آله كفه على وجه ام أبي أيوب فانفتحت عيناها «ربّما يراد في وضع اليد الإشارة باليد، أو وضع اليد فوق قطعة قماش» «1».

3- كما وردت هذه الرواية أيضاً في الكتب المشهورة لدى الشيعة والسنة وهي لما لم يأت النصر على يد بعض امراء الجيش في معركة خيبر، قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «سأعطي الراية غداً إلى رجل يحبُّ اللَّه ورسولهُ ويحبّهُ اللَّه ورسولهُ، يفتح اللَّه على يديه، ثم ارسل على عليّ وكان أرمداً، فحضر فبصق في عينيه فبرأتا، ثم سلَّمه الراية وفتح خيبر» «2».

تفيد هذه الرواية المشهورة أنّ النبي صلى الله عليه و آله ابرء عيني علي عليه السلام من خلال ولايته التكوينية- بإذن اللَّه-.

4- وجاء في تاريخ أمير المؤمنين عليه السلام أيضاً «مُد الفرات في عهد علي عليه السلام فأقبل إليه الناس، فقالوا: يا أمير

المؤمنين نحن نخاف الغرق لأنّ في الفرات قد جاء من الماء مالم ير مثله وقد امتلأت جنبتاه فاللَّه اللَّه، فركب أمير المؤمنين عليه السلام والناس معه وحوله يميناً وشمالًا 0000 حتى انتهى إلى الفرات وهو يزخر بأمواجه، فوقف والناس ينظرون فتكلّم بالعبرانية كلاماً فنقص الفرات ذراعاً، فقال: حسبكم؟ قالوا: زدنا» «3».

فهل هذا الفعل سوى تصرفٌ تكويني بإذن اللَّه؟

______________________________

(1) بحار الأنوار، ج 19، ص 121.

(2) لقد أورد ابن الأثير هذه الرواية في الكامل بالتفصيل (ج 2، ص 219)؛ وكذا ابن هشام في السيرة النبوية ج 3، ص 349؛ والعلّامة المجلسي في بحار الأنوار ج 21، ص 298، ح 30.

(3) بحار الأنوار، ج 41، ص 237 (مع الاختصار).

نفحات القرآن، ج 9، ص: 131

5- ونقرأ في تاريخه عليه السلام أيضاً أنّه وأثناء مروره قرب الكوفه جاءه قوم من اليهود، وقالوا: «أنت علي بن أبي طالب الإمام؟ فقال: أناذا، قالوا: لنا صخرة مذكورة في كتبنا عليها اسم ستة من الأنبياء، وهو ذا نطلب الصخرة فلا نجدها فإنّ كنت إماماً أوجدنا الصخرة .... فسار القوم خلف أمير المؤمنين عليه السلام إلى أنّ استبطن فيهم البر فاذا بجبل من رمل عظيم فقال عليه السلام: أيّتها الريح انسفي الرمل عن الصخرة بحق اسم اللَّه الأعظم فما كان إلّاساعة حتى نسفت الرمل وظهرت الصخرة» «1»

وهذا نموذج آخر من النفوذ والتأثير على عالم التكوين.

وقد وردت نماذج اخرى في الكثير من كتب التاريخ والتفسير، والحديث، ومختلف المصادر الإسلامية للشيعة والسنّة، حيث يحتاج ذكرها كلها إلى تدوين كتاب مستقل.

إنّ هذه الآيات والروايات تؤكّد أنّ أولياء اللَّه سواء من الأنبياء أو الأئمّة المعصومين عليهم السلام كانوا يتمتعون بقدرة بأمر اللَّه وإذنه، بحيث كانوا يستطيعون التصرف في عالم التكوين

من خلال ما وهبهم اللَّه تعالى من إذن في حالاتٍ معينةٍ، وهذا ما نُعبر عنه بالولاية التكوينية.

وبطبيعة الحال، فإنَّ الولاية التكوينية لها تفرعات اخرى أيضاً، منها التأثير في القلوب المستعدة لقبول الحق عن طريق الألطاف المعنوية والروحية، وتربية وهداية النفوس المؤهلة من خلال التأثير الروحي فيها، حيث تتوفر أمثلة كثيرة لذلك في التاريخ الإسلامي.

وغالباً ماكان يحصل لكثير من الأشخاص تحولٌ وتغيرٌ مفاجي ءٌ، بنحوٍ لا ينسجم مع الموازين والمعايير الطبيعية، وذلك بمجرّد وجودهم في محضر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أو الإمام المعصوم عليه السلام، وبالتالي يستقيم سلوكهم في الحياة على أثره.

إنّ هذا التحول والتغير المفاجى ء والخارق للعادة يحصل أيضاً نتيجة ل «الولاية التكوينية» والتاثير في النفوس المؤهلة.

______________________________

(1) بحار الأنوار، ج 41 ص 237 (مع الاختصار).

نفحات القرآن، ج 9، ص: 133

الولاية والإمامة الخاصة

اشارة

1- الآيات التي تهتم بمسألة الإمامة بشكل مباشر

2- آيات الفضائل

نفحات القرآن، ج 9، ص: 135

الولاية والإمامة الخاصة

تمهيد:

بعد الفراغ من البحوث العامة في «الإمامة العامة» جاء دور الكلام في بحث الإمامة الخاصة، حيث سيكون البحث في معرفة الإمام المعصوم والوصي بعد النبي صلى الله عليه و آله، مُستعينين بمختلف المصادر الإسلامية، والنصوص الواردة في القرآن، والروايات الموثوقة في هذا البحث.

كما نستعين بأسلوب جمع القرائن الذي هو أحد أهم الأساليب لمعرفة الأنبياء والأئمّة المعصومين عليهم السلام، ونسأل اللَّه تعالى أن يأخذ بأيدينا وقلمنا وبياننا إلى ما هو حقٌ، ويبعدنا عن كلّ خلاف وانحراف.

في البداية نيمّم وجوهنا صوب آيات القرآن الكريم لنرى ما ورد من آيات بصدد الإمامة الخاصة.

حيث يمكن تقسيم هذه الآيات إلى قسمين:

1- الآيات التي تهتم بمسألة الإمامة بشكل مباشر وتبحث فيها بجلاء.

2- الآيات التي تبحث هذه المسألة بشكل غير مباشر.

وبالرغم من كثرة الآيات في كلا القسمين، فإنّنا سننتخب مجموعة من الآيات وذلك لمزيد من التوضيح، ومن ثم نشرع بالبحث.

ففي القسم الأول نناقش الآيات التالية:

1- آية التبليغ وواقعة الغدير.

2- آية الولاية.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 136

3- آية اولي الأمر.

4- آية الصادقين.

5- آية القربى

وفي القسم الثاني نتجه نحو آيات الفضائل، وهذه الآيات لا تطرح مسألة الخلافة والولاية بشكل مباشر، إلّاأنّها تثبت الفضائل بحق أمير المؤمنين عليه السلام، حيث تصفه بأنّه أفضل امّة محمد صلى الله عليه و آله، وأسمى شخصية بعد النبي صلى الله عليه و آله، مع إلحاق مقدمة عقلية واضحة (ترجيح المرجوح على الراجح قبيح) حيث نستنتج عدم وجود شخص أليق وأجدر منه لقيادة الأمة بعد النبي صلى الله عليه و آله.

وهذه الآيات كثيرة للغاية حيث تجري الإشارة إلى 32 آية، من بينها:

1- آية

المباهلة. 2- آية خير البرية. 3- آية ليلة المبيت. 4- آية الحكمة. 5- آيات سورة هل اتى 6- آيات مقدمة سورة براءة، 7- آية سقاية الحاجّ. 8- آية صالح المؤمنين.

9- آية الوزارة. 10 و 11- آيات سورة الاحزاب. 12- آية البينة والشاهد. 13- آية «الصديقون»، 14- آية النور. 15- آية الانذار. 16- آية مرج البحرين. 17- آية النجوى

18- آية «السابقون». 19- آية أذن واعية. 20- آية المحبّة. 21- آية «المنافقين»، 22- آية الايذاء. 23- آية الانفاق. 24- آية المحبّة. 25- آية المسؤولين. 23- آية اشقاها.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 137

القسم الأول: الآيات التي تهتم بمسألة الإمامة بشكل مباشر

1- آية التبليغ

اشارة

«يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَاأُنزِلَ الَيكَ مِن رَّبِّكَ وَإِنْ لّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ واللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ انَّ اللَّهَ لَايَهْدِى القَوْمَ الكَافِرِينَ». (المائدة/ 67)

شأن النزول:

جاء في الكثير من كتب علماء السنّة (وكافة كتب الشيعة المعروفة) سواءً التفسير أو الحديث أو التاريخ، أنّ الآية أعلاه نزلت بحق علي عليه السلام.

وروى هذه الروايات جمعٌ كثير من الصحابة، منهم «أبو سعيد الخدري، وزيد بن أرقم، وجابر بن عبد اللَّه الأنصاري، وابن عباس، والبراء بن عازب، وحذيفة، وأبو هريرة، وابن مسعود، وعامر بن أبي ليلى ، وجاء في رواياتهم أنّ هذه الآية نزلت بشأن علي عليه السلام وواقعة يوم الغدير.

واللطيف أنّ بعض هذه الروايات نُقلت بطرق متعددة منها:

رواية أبي سعيد الخدري عن أحد عشر طريقاً.

رواية ابن عباس عن أحد عشر طريقاً أيضاً.

ورواية البراء بن عازب نُقلت عن ثلاثة طرق.

ومن بين الذين أوردوا هذه الروايات (بشكل واسع أو بالاجمال) في كتبهم، العلماء

نفحات القرآن، ج 9، ص: 138

المعروفون المدرجة أسماؤهم فيما يلي:

«أبو الحسن الواحدي النيشابوري في أسباب النزول ص 150.

«ابن عساكر الشافعي نقلًا عن «الدر المنثور»، ج 2، ص 298.

«الفخر الرازي في التفسير الكبير ج 3، ص 636.

«أبو اسحاق الحمويني في «فرائد السمطين» (مخطوط).

«ابن الصباغ المالكي في «الفصول المهمّة» ص 27.

«جلال الدين السيوطي في «الدر المنثور» ج 2، ص 298.

«القاضي الشوكاني في «فتح القدير» ج 3، ص 57.

«شهاب الدين الالوسي الشافعي في «روح المعاني» ج 6، ص 172.

«الشيخ سليمان القندوزي الحنفي في «ينابيع المودّة» ص 120.

«بدر الدين الحنفي في عمدة القاري في «شرح صحيح البخاري» ج 8، ص 584.

«الشيخ محمد عبدة المصري في تفسير المنار ج 6، ص 463.

«الحافظ ابن مردويه (المتوفي عام 418 ه. ق) (على ضوء نقل السيوطي في الدر

المنثور) وكثيرٌ غيرهم.

وبالطبع لاينبغي نسيان أنّ بعض هؤلاء العلماء في الوقت الذي ينقلون به الرواية وشأن النزول فإنّهم يمرون بها مرور الكرام للأسباب التي سنشير إليها لاحقاً، أو يبادرون إلى نقدها، حيث سنتطرق إلى بحث أقوالهم بشكل دقيق في البحوث القادمة إن شاء اللَّه.

حادثة الغدير:

اتضح من البحث السابق وبشكل إجمالي أنّ هذه الآية وعلى ضوء الشواهد التي لا تحصى قد نزلت بحق علي عليه السلام، وأنّ الروايات التي نقلت في الكتب المعروفة لأهل السنّة- فضلًا عن كتب الشيعة- أكثر من أن يستطيع أحدٌ إنكارها.

وبالإضافة إلى الروايات أعلاه، فلدينا روايات اخرى تفيد بصريح القول: إنّ هذه الآية وردت أثناء واقعة الغدير وخطبة النبي صلى الله عليه و آله في التعريف بعلي عليه السلام على أنّه الوصي والولي،

نفحات القرآن، ج 9، ص: 139

وعددها يربو على الروايات السابقة، حتى أنّ المحقق الكبير العلّامة «الأميني» ينقل في كتاب الغدير، حديث الغدير عن 110 من صحابة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بالاسناد والوثائق الحية، وكذلك عن 84 من التابعين و 360 من مشاهير علماء المسلمين ومؤلفيهم.

إنّ كلّ من يلقي نظرةً على مجموعة هذه الأسانيد والوثائق يدرك بأنّ حديث الغدير من أكثر الروايات الإسلامية جزماً، ومصداقاً واضحاً للحديث المتواتر، ومن يشك في تواتره، فعليه أن لا يؤمن بايّ حديث متواتر.

وحيث إنّ الولوج في هذا البحث بنحوٍ واسعٍ يخرجنا عن اسلوب كتابة تفسير موضوعي، فنكتفي بهذا القدر بشأن اسناد الرواية وشأن نزول هذه الآية، ونتطرق إلى مضمون الرواية، ونرشد من يريد المزيد من المطالعة حول إسناد الرواية إلى الكتب التالية:

1- كتاب الغدير، ج 1.

2- احقاق الحق، تأليف العلّامة الكبير القاضي «نور اللَّه التستري» مع شرح مفصلٍ لآية اللَّه النجفي، ج 2

و 3 و 14 20.

3- المراجعات للمرحوم السيّد «شرف الدين العاملي».

4- عبقات الأنوار للعالم الكبير «ميرحامد الحسيني الهندي» (من الأفضل مراجعة خلاصة العبقات، ج 7 و 8 و 9).

5- دلائل الصدق، تأليف العالم الكبير المرحوم «المظفر»، ج 2.

مضمون روايات الغدير:

وهنا نأتي بقصة الغدير بشكل مختصر كما يستفاد من مجموع الروايات أعلاه، (وطبعاً فإنّ هذه الواقعة قد وردت في بعض الروايات بشكل مفصّل ومطوّل، وفي بعضها بشكل مختصرٍ وقصير، وفي بعضها اشير إلى جانبٍ من هذه القصة وفي البعض إلى جانب آخر، ومنها جميعاً يستفاد ما يلي):

في السنّة الأخيرة من حياة النبي صلى الله عليه و آله اقيمت مراسم حجة الوداع بكل جلال بمشاركة

نفحات القرآن، ج 9، ص: 140

النبي صلى الله عليه و آله، وكانت الأفئدة تمتلئ بالمعنويات ولم تزل اشعاعات هذه اللذة المعنوية وهذه العبادة العظيمة تنعكس في النفوس.

وكان أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله الذين كان عددهم كثيراً للغاية لا تسعهم أنفسهم نتيجة لإدراكهم هذا الفيض والسعادة العظيمة «1».

ولم يكن أهل المدينة وحدهم الذين يرافقون رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في هذا السفر، بل كان المسلمون من مختلف بقاع الجزيرة العربية برفقته صلى الله عليه و آله لنيل هذا الفخر التاريخي العظيم.

وكانت شمس الحجاز تضفي على الجبال والأودية حرارة لا تطاق، إلّاأنّ حلاوة هذا السفر المعنوي النادر كانت تيسِّر كل شي ء، وقد اقترب الظهر، وأخذت منطقة الجحفة، وصحراء «غدير خم» الجافة الرمضاء تبدو للعيان.

ومن هذا المكان الذي يتشعب إلى أربعة طرق يفرق أهل الحجاز، فطريق يتجه إلى الشمال نحو المدينة، وطريق إلى الشرق نحو العراق، وطريق إلى الغرب نحو مصر، وطريق إلى الجنوب نحو اليمن، وهنا يجب أن تُطرح آخر المستجدات في

هذا السفر، ويتفرق المسلمون بعد استلامهم لآخر حكم وهو في واقع الأمر كان خط النهاية في الواجبات الناجحة للنبي صلى الله عليه و آله.

كان ذلك في يوم الخميس من السنة العاشرة للهجرة، وقد مضت عشرة أيّام على عيد الأضحى، وفجأة صدر الأمر من الرسول صلى الله عليه و آله إلى الذين معه بالتوقف، ونادى المسلمون بأعلى أصواتهم أصحابَهم الذين تقدموا الركب بالتوقف والعودة، وامهلوا المتأخرين حتى يصلوا، وزالت الشمس وصدح صوت مؤذن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بالأذان: اللَّه أكبر، داعياً الناس إلى صلاة الظهر، وسرعان ما استعد الناس للصلاة، إلّاأنّ حرارة الجو كانت إلى الحد الذي اجبر البعض على أنّ يغطي أرجله بقسم من ازاره ويستر رأسه بالقسم الآخر، وإلّا فإنّ حصى الصحراء وأشعة الشمس ستحرق أرجلهم ورؤوسهم.

______________________________

(1) ذكر البعض أنّ عدد الذين كانوا مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله 90 ألفاً، والبعض 112 ألفاً، وبعضٌ 120 ألفاً، وبعضٌ 124 ألفاً.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 141

فلا خيمة في الصحراء، ولا خضرة، ولا نبات، ولا شجرة، سوى بعض الأشجار البرية الجرداء التي تقاوم حرارة الصحراء، والتي لاذ بها البعض، ووضعوا قطعة من القماش على إحداها وجعلوها ظلًا لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله، إلّاأنّ الرياح اللاهبة تهب تحتها وتلفها بحرارة الشمس المحرقة.

وانتهت صلاة الظهر، وعزم المسلمون على اللجوء إلى خيامهم الصغيرة التي كانوا يحملونها معهم، بَيدَ أنّ النبي صلى الله عليه و آله أوعز لهم بالاستعداد لسماع بلاغ إلهي جديد يُوضح ضمن خطبة مفصلة، ولم يكن بمقدور البعيدين عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله رؤية وجهه الملكوتي وسط زحام الناس، لذا فقد صنعوا له منبراً من أربعة من أحداج الإبل،

فارتقاهُ النبي صلى الله عليه و آله، وفي البداية حمد اللَّه واثنى عليه واستعاذ به، ثم خاطب الناس قائلًا:

«أيّها الناس: يوشك أن أُدعى فأُجيب.

أنا مسؤول، وأنتم مسؤولون.

فكيف تشهدون بحقي؟

فصاح الناس: نشهد أنّك قد بلّغت ونصحت وجاهدت فجزاك اللَّه خيراً، ثم قال:

ألستم تشهدون أن لا إله إلّااللَّه، وأنّي رسول اللَّه إليكم، وأنّ البعث حق، وأنّ اللَّه يبعث من في القبور؟! فقالوا: نشهد بذلك، قال: اللّهم اشهد، ثم قال:

أيّها الناس أتسمعوني؟ قالوا: نعم، ثم عمّ السكوت الصحراء فلم يسمع إلّاصوت الريح، فقال صلى الله عليه و آله: فانظروا ماذا صنعتم بالثقلين من بعدي؟

فقال رجل من بين القوم: ما هذان الثقلان يارسول اللَّه؟!

قال صلى الله عليه و آله: أمّا الثقل الأكبر فهو كتاب اللَّه حبل ممدود من اللَّه إليكم، طرفه بيد اللَّه والطرف الآخر بأيديكم، فلا تدعوه، وأمّا الثقل الأصغر فهم عترتي وقد أخبرني اللطيف الخبير أنّهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، فلا تتقدموهما فتهلكوا ولا تتأخروا عنهما فتهلكوا.

ونظر الناس إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وهو يلتفت حوله، وكأنّه يبحث عن أحد، ولما وقعت

نفحات القرآن، ج 9، ص: 142

عيناه على علي عليه السلام التفت إليه وأخذ بيده ورفعها حتى بان بياض ابطيهما، وشاهدهما جميع القوم، وعرفوا أنّه ذلك الفارس المقدام، وهنا ارتفع صوت النبي صلى الله عليه و آله، وقال: أيّها الناس من أولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: اللَّه ورسوله أعلم، فقال النبي صلى الله عليه و آله: اللَّه مولاي، وأنا مولى المؤمنين وأولى منهم بأنفسهم، ثم قال: فمن كنت مولاه فعلي مولاه، وكرر هذا الكلام ثلاث مرات، وكما قال أرباب الحديث: إنّه كرره أربعاً، ثم رفع رأسه نحو السماء، وقال:

اللّهم والِ من

والاه وعاد من عاداه، واحب من أحبّه وابغض من أبغضه وانصر من نصره واخذل من خذله وأَدر الحق معه حيث دار.

ثم قال صلى الله عليه و آله: إلّافليبلِّغ الشاهدُ الغائبَ».

هنا انتهت خطبة الرسول صلى الله عليه و آله وكان العرق يتصبب من النبي صلى الله عليه و آله وجميع من حضر، وما زال الناس لم يتفرقوا من ذلك المكان حتى نزل عليه الوحي وقرأ هذه الآية على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «اليومَ اكملتُ لكُم دينَكُم وَأَتْمَمْتُ عَليكم نِعمتي».

فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «اللَّه أكبر، اللَّه أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ورضى الربّ برسالتي والولاية لعلي من بعدي».

في هذه الأثناء عمّ الناس النشاط والحركة، وأخذوا يهنئون علياً عليه السلام بهذا المقام، وكان من الذين هنّأوه، أبو بكر وعمر حيث نطقا بهذه العبارة أمام أعين الحاضرين:

«بخ، بخ لك ياابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة».

أثناء ذلك قال ابن عباس: «واللَّه أنّه عهد سيبقى في أعناقهم»، واستأذن النبيّ صلى الله عليه و آله الشاعر المعروف «حسان بن ثابت» لينشد شعراً بهذه المناسبة، ثم استهل قصيدته المعروفة:

يناديهمُ يومَ الغدير نبيُّهم بُخمٍّ وأسمِعْ بالرسول مناديا

فقال فمن مولاكُمُ ونبيُّكمْ؟فقالوا ولم يُبدو هناك التعاميا

إلهكَ مولانا وأنت نبيُّناولم تلقَ منّا في الولاية عاصيا

نفحات القرآن، ج 9، ص: 143 فقال له قم ياعليُّ فإنني رضيتُكَ من بعدي إماماً وهاديا

فمن كنت مولاهُ فهذا وليُّهُ فكونوا له أتباعَ صِدقٍ مَواليا

هناك دعا اللّهُمَّ والِ وليَّهُ وكُن للذي عادى علياً مُعاديا «1»

دراسة وتحليل حول آية التبليغ:

لو تغاضينا عن جميع الروايات الواردة بشأن نزول الآية الآنفة الذكر، وكذا الروايات الواردة حول واقعة الغدير، وأمعنا النظر بمضمون الآية نفسها وما تلاها من

الآيات، نستطيع من خلال عمق هذه الآيات اتخاذ موقف ازاء مسألة خلافة النبي صلى الله عليه و آله.

والتوضيح: إنّ الآية المذكورة باختلاف التعابير التي وردت فيها تؤكّد على أنّها ناظرة إلى قضية ذي ثلاث مزايا مهمّة:

1- إنّها قضية تحظى بأهميّة فائقة من وجهة نظر الإسلام إلى الحد الذي يؤمر النبي صلى الله عليه و آله بإبلاغها، وإن لم يفعل فما بلّغ رسالة اللَّه! وبتعبير آخر فقد كانت أمراً مرادفاً لقضية النبوة، فإن لم يؤدّها تبقى رسالة النبي صلى الله عليه و آله ناقصة!

ومن البديهي أنّهُ ليس المراد أنّ هذا أمرٌ الهيٌّ عاد وكل أمر إلهي لا يبلغ لم تبلغ رسالة اللَّه، فهذا الكلام من قبيل توضيح الواضح وغني عن البيان، بينما ظاهر الآية هو أنّ القضية المشار إليها تحظى باهتمام خاص من حيث إنّها خلاصة الرسالة والنبوة.

2- إنّ هذه القضية لا تتعلق بالصلاة والصوم والحج والزكاة وما شابه ذلك من قواعد تعاليم الإسلام، لأنّها من آيات سورة المائدة، ونحن نعلم أنّ سورة المائدة هي آخر سورة نزلت على النبي صلى الله عليه و آله (أو من أواخر السور) أي في آواخر عمر النبي صلى الله عليه و آله المبارك حيث كان قد تم بيان كافة الأركان المهمّة للاسلام «2».

______________________________

(1) روى هذا الشعر جماعة من كبار علماء السنة منهم، الحافظ «أبو نعيم الاصفهاني»، والحافظ «أبو سعيد السجستاني»، و «الخوارزمي المالكي»، والحافظ «أبو عبد اللَّه المرزباني»، و «الكنجي الشافعي»، و «جلال الدين السيوطي»، و «سبط بن الجوزي»، و «صدر الدين الحموي».

(2) يقول الفخر الرازي في ذيل هذه الآية، قال أصحاب الآثار أنّه لما نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه و آله لم يعمر بعد نزولها

إلّاأحد وثمانين يوماً، أو اثنين وثمانين يوماً، التفسير الكبير، ج 11، ص 139؛ وجاء في تفسير المنار أيضاً وبعض الكتب الاخرى أنّ سورة المائدة جميعها نزلت في حجة الوداع (تفسير المنار، ج 6، ص 116) وبالطبع فقد نقل البعض بشأن عدد الأيّام أعلاه، أقل من ذلك.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 144

3- إنّ عبارات الآية تدلل على أنّ القضية المقصودة من الآية كانت مسألة قد اتخذ البعض ازاءها موقفا متصلباً، ولربّما تعرضت حياة النبي صلى الله عليه و آله إلى الخطر بسببها، من هنا أعلن الباري تعالى دعمه الخاص لنبيه في هذا الصدد وقال:

«وَاللَّهُ يَعصِمُكَ مِنَ النَّاسِ».

ثم يؤكد تعالى في نهاية الآية:

«انَّ اللَّهَ لَايَهدِى القَومَ الكَافِرِينَ».

وهذه العبارة بحد ذاتها دليل على المواقف السلبية لبعض المخالفين.

إنَّ مجموع هذه الامور الثلاثة التي تستنتج من الآية تؤكد على أنّ المراد منها ليس إلّا ابلاغ خلافة ووصاية النبي صلى الله عليه و آله.

نعم، فمثل هذا الأمر يمكن أن يحظى بالبحث والتمعن في آواخر حياة النبي صلى الله عليه و آله، وليس سائر دعائم الإسلام التي كانت قد بُينت آنذاك، ومثل هذا الأمر باستطاعته أن يكون مرادفاً للنبوة ومماثلًا لها، وربّما تثار الاعتراضات نتيجة لاظهار مثل هذا الأمر قبل هذا الوقت ويكمن فيه الخوف من الخطر.

إنّ أي تفسير آخر يعطى لهذه الآية عدا مايتعلق بالولاية والإمامة والخلافة، لا ينسجم معها.

فلو طالعتم جميع كلمات المفسرين الذين أرادوا صرف مضمون الآية إلى قضايا اخرى لم يستطع أي منهم أن يُشير إلى الأمر الذي تؤكّد عليه الآية، وهذا ما حدا بهم إلى أنّ يتوقفوا عن تفسيرها.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 145

توضيحات
1- معنى الولاية والمولى في حديث الغدير

لقد اطلعنا على حديث الغدير المتواتر بشكل إجمالي، والعبارة المشهورة التي جاءت عن رسول

اللَّه صلى الله عليه و آله في جميع الكتب وهي: «من كنتُ مولاه فعليٌ مولاه» توضح الكثير من الحقائق، وإن أصرّ كثيرٌ من كتاب أهل السنّة على تفسير كلمة «المولى بمعنى الصديق والمحبّ والناصر، لأنّ هذا أحد المعاني المعروفة ل «المولى .

ونحن نسلّم بأنّ إحدى معاني «المولى الصديق والمحب والناصر، إلّاأنّ ثمّة قرائن عديدة تثبت أنّ المولى في الحديث أعلاه تعني «الولي والمشرف والقائد» وهي كما يلي بإيجاز:

1- إنّ قضية محبّة علي عليه السلام مع جميع المؤمنين لم تكن أمراً خفياً وسريا ومعقداً، بحيث يحتاج إلى هذا التأكيد والايضاح، وبحاجة إلى إيقاف ذلك الركب العظيم وسط الصحراء القاحلة الساخنة والقاء خطبة عليهم لأخذ الاقرارات من ذلك الجمع.

فالقرآن يقول بصريح القول: «انَّمَا المُؤمِنُونَ إِخوَةٌ». (الحجرات/ 10)

وفي موضع آخر يقول: «وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعضُهُمْ اوْلِيَاءُ بَعْضٍ». (التوبة/ 71)

والخلاصة: إنّ الاخوة الإسلامية ومودّة المسلمين مع بعضهم من أكثر المسائل الإسلامية بداهة، حيث كانت موجودة منذ انطلاقة الإسلام، وطالما أكّد عليها النبيُّ صلى الله عليه و آله مراراً بالإضافة إلى عدم كونها مسألة تحتاج إلى بيان بهذا الاسلوب الحاد في الآية، وأن يشعر النبي صلى الله عليه و آله بالخطر من البوح بها (تأملوا جيداً).

2- إنّ عبارة: «ألَسْت اولى بكم من انفسكم» الواردة في الكثير من الروايات لا تتناسب أبداً مع بيان مودّة عادية، بل إنّه يريد القول إنّ تلك الأولوية والصلاحيات التي لي تجاهكم وكوني نبيّكم وإمامكم وقائدكم، فإنّ كل ذلك ثابت لعلي عليه السلام وأنّ أي تفسير لهذه العبارة غير ما قيل فهو بعيد عن الانصاف والواقعية، لاسيما مع الأخذ بنظر الاعتبار جملة «من أنفسكم» (أنا أولى بكم من أنفسكم).

نفحات القرآن، ج 9، ص: 146

3- التهاني التي

قدمها من حضر في هذه الواقعة التاريخية لعلي عليه السلام، لاسيما التهاني التي قدمها أبو بكر وعمر، إذ إنّها تبرهن على أنّ القضية لم تكن سوى تعيينه للخلافة التى تستحق التبريك والتهاني، فالاعلان عن المودة الثابتة لدى كل المسلمين بشكل عام لايحتاج إلى تهنئة.

جاء في مسند الإمام أحمد أنّ عمراً، قال لعلي بعد خطبة النبي صلى الله عليه و آله: «هنيئاً لك يا ابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة» «1».

ونقرأُ في العبارة التي ذكرها الفخر الرازي في ذيل الآية: «يَا أَيُّها الرَسُولُ بلِّغْ مَا أُنزِلَ الَيكَ» إنّ عمراً قال: «هنيئاً لك أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومومنة، وبهذا فإنّ عمراً يعدهٌ مولاه ومولى المؤمنين جميعاً».

وفي تاريخ بغداد جاءت الرواية بهذا الشكل: «بخٍ بخٍ لك يا ابن أبي طالب! أصبحت مولاي ومولى كل مسلمٍ» «2».

وجاء في «فيض القدير»، و «الصواعق»، أنّ أبا بكرٍ وعمراً باركا لعلي بالقول: «أمسيت يا ابن أبي طالب مولى كل مؤمن ومؤمن» «3».

ومن نافلة القول: إنّ المودّة العادية بين المؤمنين ليست لها مثل هذه المراسيم، وهذا لا ينسجم إلّامع معنى الولاية التي يفيد الخلافة.

4- إنّ الشعر الذي نقلناه آنفاً عن «حسان بن ثابت» بذلك المضمون والمحتوى الرفيع، وتلك العبارات الصريحة والجلية شاهد آخر على هذا الادّعاء، وتشير إلى هذه القضية بما فيه الكفاية (راجعوا تلك الأبيات مرة آخرى .

2- آيات أُخرى في القرآن تؤيد حديث الغدير

روى كثيرٌ من المفسرين ورواة الحديث في ذيل الآيات الاولى من سورة المعارج:

______________________________

(1) مسند أحمد، ج 4، ص 281 (على ضوء نقل الفضائل الخمسة، ج 1 ص 432).

(2) تاريخ بغداد، ج 7، ص 290.

(3) فيض القدير، ج 6، ص 217؛ الصواعق، ص 107.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 147

«سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ*

لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ* مِنَ اللَّهِ ذِى الْمَعَارِجِ». (المعارج/ 1- 3)

سبب النزول وخلاصته:

إنّ النبي صلى الله عليه و آله عيَّن علياً خليفة يوم غديرخم وقال بحقه: «من كنت مولاه فعلي مولاه»، فمالبث أن انتشر الخبر، فجاء «النعمان بن الحارث الفهري»- (وكان من المنافقين) «1»- إلى النبي صلى الله عليه و آله وقال: لقد أمرتنا أن نشهد أن لا إله إلّااللَّه وأنّك محمد رسول اللَّه، فشهدنا، ثم أمرتنا بالجهاد والحج والصلاة والزكاة فقبلنا، فلم ترض بكل ذلك، حتى أقمت هذا الفتى «مشيراً إلى علي عليه السلام خليفة لك، وقلت: مَنْ كنتُ مولاه فعليٌ مولاه فهل هذا منك أم من اللَّه»؟ قال النبي صلى الله عليه و آله: «واللَّه الذي لا معبود سواه إنّه من اللَّه»، فالتفت إِليه «النعمان بن الحارث»، وقال: «إلهي إن كان هذا حقاً منك فانزل علينا حجارة من السماء».

وفجأةً نزلت حجارة من السماء على رأسه وقتلته فنزلت آية «سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ».

ما ورد أعلاه يطابق الرواية التي نقلت في مجمع البيان عن أبي القاسم الحسكاني «2» وقد نقل هذا المضمون الكثير من مفسري أهل السنّة ورواة الأحاديث مع شي ء من الاختلاف، مثل: القرطبي في تفسيرهِ المعروف «3»، والآلوسي في تفسير روح المعاني «4»، وأبو اسحاق الثعلبي في تفسيره «5».

وينقل العلّامة الأميني هذه الرواية في كتاب الغدير عن ثلاثين من علماء السنة (مع ذكر المصدر ونص العبارة)، منها السيرة الحلبية، «فرائد السمطين» للحمويني، و «درر السمطين» للشيخ محمد الزرندي، و «السراج المنير» لشمس الدين الشافعي، و «شرح الجامع الصغير» للسيوطي، و «تفسير غريب القرآن» للحافظ أبو عبيد الهروي، و «تفسير

______________________________

(1) جاء في بعض الروايات أنّه «الحارث بن النعمان» وفي بعضها «النضر بن الحارث».

(2) تفسير

مجمع البيان، ج 9 و 10، ص 352.

(3) الجامع لأحكام القرآن، ج 10، ص 6757.

(4) تفسير روح المعاني، ج 29، ص 52.

(5) وفقاً لنقل نور الابصار للشبلنجي، ص 71.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 148

شفاء الصدور» لأبي بكر النقاش الموصلي، وكتب اخرى

وقد أورد بعض المفسرين أو المحدِّثين الذين يُقرّون بفضائل علي عليه السلام على مضضٍ إشكالات مختلفة على سبب النزول هذا، أهمها الإشكالات الأربعة التالية التي أوردها صاحب تفسير المنار وآخرون بعد ذكرهم لهذه الرواية:

الإشكال الأول: إنّ سورة المعارج مكية، ولا تتناسب مع واقعة غدير خم.

والجواب: إنّ كون السورة مكية لا يعتبر دليلًا على أنّ جميع آياتها نزلت في مكة، فلدينا العديد من سور القرآن الكريم التي تُدعى بالمكية وكتبت في جميع المصاحف على أنّها مكية، بيد أنّ عدداً من آياتها نزلت في المدينة، وكذا العكس، فعلى سبيل المثال أنّ سورة العنكبوت من السور المكية، والحال أنّ آياتها العشر الاولى نزلت في المدينة، على ضوء قول الطبري في تفسيرهِ المعروف، والقرطبي في تفسيره وآخرين من العلماء «1».

أو سورة الكهف المعروفة بأنّها مكية بينما نزلت آياتها السبع الاولى في المدينة استناداً لتفسير «القرطبي»، و «الاتقان» للسيوطي، وتفاسير عديدة «2».

وهكذا فهنالك سورٌ عُدَّت بأنّها مدنية بينما نزلت آيات منها في مكة، مثل سورة «المجادلة» فهي مدنية كما هو معروف، إلّاأنّ الآيات العشر الاولى منها نزلت في مكة، طبقاً لتصريح بعض المفسرين «3».

وموجز الكلام أنّه توجد حالات كثيرة بأنّ تذكر سورة على أنّها مكية أو مدنية، ويكتب عليها في التفاسير والمصاحف هذا الاسم إلّاأنّ جانباً من آياتها قد نزل في موضع آخر.

وعليه فلا مانع أبداً من أن تكون سورة المعارج هكذا أيضاً.

الاشكال الثاني: جاء في هذا الحديث أنّ الحارث

بن النعمان جاء إلى النبي صلى الله عليه و آله في الأبطح، ونحن نعلم أنّ الأبطح اسم لوادي مكة، ولا تتلائم مع نزول الآية بعد واقعة الغدير بين مكة والمدينة.

______________________________

(1) تفسير جامع البيان، ج 20، ص 86؛ وتفسير القرطبي ج 13، ص 323.

(2) للمزيد من الاطلاع على الموضوع، راجعوا الغدير، ج 1، ص 356، و 257.

(3) تفسير أبي السعود الذي كتب على هامش تفسير الرازي، ج 8 ص 148؛ والسراج المنير، ج 4، ص 310.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 149

الجواب: أولًا: إنّ عبارة الأبطح في بعض الروايات فقط لا في جميعها، وثانياً: إنّ «الابطح والبطحاء» تعني الأرض الرملية التي يجري فيها السيل، وهنالك مناطق في المدينة وسائر المناطق يطلق عليها اسم الأبطح أو البطحاء أيضاً، واللطيف أنّه قد اشير إليها مراراً في الشعر العربي.

منها: الشعر المعروف الذي أنشده «شهاب الدين» المشهور ب «حيص بيص» في رثائه لأهل البيت عليهم السلام، عن لسانهم في مخاطبة قاتليهم:

ملكنا فكان العفو منّا سجيةفلما ملكتم سال بالدم أبطحُ

وحلّلتم قتل الاسارى وطالماغدونا عن الاسرى نعفُّ ونصفحُ

ومن الواضح أنّ مقاتل أهل البيت عليهم السلام كانت على الأغلب في العراق وكربلاء والكوفة والمدينة، وما أُريق دمٌ في أبطح مكة أبداً، نعم استشهد بعض أهل البيت عليهم السلام في واقعة «الفخ» التي تبعد عن مكة ما يقرب من فرسخين، والحال أنّ الأبطح يجاور مكة «1».

وشاعرٌ آخر يرثي الإمام الحسين عليه السلام سيد الشهداء قائلًا:

وتأنُّ نفسي للربوعِ وقد غدابيت النبيِّ مقطّع الاطنابِ

بيتٌ لآلِ المصطفى في كربلاضربوه بين اباطحٍ وروابي

وثمّة أشعار اخرى كثيرة ورد فيها تعبير «الأبطح» أو «الأباطح» لا تعني منطقة خاصة في مكة.

وملخّص الكلام، صحيح أنّ أحد معاني الأبطح هو بقعة

في مكة، إلّاأنّ معنى ومفهوم ومصداق الأبطح لا ينحصر بتلك البقعة.

3- كيفية ارتباط هذه الآية بما قبلها وبعدها

إنّ بعض المفسرين ومن أجل مجانبة الحقيقة الكامنة في هذه الآية توسّل بمبرر آخر

______________________________

(1) الغدير، ج 1، ص 255.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 150

نفحات القرآن ج 9 199

وهو: إنّ سياق الآيات السابقة واللاحقة بشأن أهل الكتاب لا تنسجم مع قضية الولاية والخلافة والإمامة، ولا تتناسب هذه الاثنينية مع بلاغة وفصاحة القرآن «1».

إلّا أنّ كافة المطلعين على كيفية جمع آيات القرآن يعرفون أنّ آيات القرآن نزلت تدريجياً وبمناسباتٍ مختلفة، من هنا فكثيراً ما تتحدث سورةٌ ما حول قضايا مختلفة، فجانبٌ منها يتحدث عن الغزوة الفلانية، والجانب الآخر حول الحكم والتشريع الإسلامي الفلاني، وجانبٌ يخاطب المنافقين، وآخر يخاطب المؤمنين، فمثلًا لو طالعنا سورة النور لوجدناها تحتوي على جوانب متعددة، كلٌ منها ناظرٌ إلى موضوعٍ، بدءً من التوحيد والمعاد ومروراً بتنفيذ حدّ الزنا وقصة «الافك»، والقضايا المتعلقة بالمنافقين، والحجاب، وغيرها، (وكذلك سائر السور الطوال إلى حدٍ ما) بالرغم من وجود ارتباط عام بين مجموعة اجزاء السورة.

والسر وراء هذا التنوع في المحتوى ما قيل: إنّ القرآن نزل تدريجياً وحسب المتطلبات والضرورات وفي مختلف الأحداث، وليس على هيئة كتاب كلاسيكي أبداً بحيث يتابع موضوعاً معداً سلفاً، على هذا الأساس لا مانع على الاطلاق من أن تنزل مقاطع من سورة المائدة بشأن أهل الكتاب، ومقاطع منها في واقعة الغدير، بالطبع فمن وجهة النظر العامة أنّهما يرتبطان معاً إذ إنّ تعيين خليفة لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله يترك أثره على قضايا أهل الكتاب أيضاً، لأنّه سيؤدّي إلى يأسهم من انهيار الإسلام برحيل النبي صلى الله عليه و آله.

4- لماذا لم يحتج الإمام علي عليه السلام بحديث الغدير؟

إنَّ البعض الآخر من اللاهثين وراء التبريرات يقول: إذا كان حديث الغدير يتمتع بهذه العظمة والواقعية فلماذا لم يحتج به علي عليه

السلام وأهل بيته وأصحابهُ ومحبوه عند الحاجة؟ ألم يكن من الأفضل أن يستندوا إلى مثل هذه الوثيقة المهمّة من أجل إثبات خلافة علي عليه السلام؟!

______________________________

(1) تفسير المنار، ج 6، ص 466.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 151

إنّ هذا الإشكال شأنه شأن سائر الإشكالات فهو ناتج عن عدم الاطلاع الكافي على كتب الحديث والتاريخ والتفسير، فلقد رويت أحاديث عديدة في كتب علماء السنّة أنّ علياً عليه السلام أو الأئمّة أو أنصارهم قد احتجوا بحديث الغدير، والمدهش هو: كيف غابت عن أنظار المشككين؟.

منها ما ينقله «الخطيب الخوارزمي الحنفي» في كتابه «المناقب» عن «عامر بن وائلة» قال: كنت مع علي عليه السلام يوم الشورى وسمعته يقول لهم: «لاحتجن عليكم بما لايستطيع عربيكم ولا عجميكم تغيير ذلك، ثم قال: أنشدكم اللَّه أيّها النفر جميعاً أفيكم أحد وحّد اللَّه قبلي؟ .... فانشدكم باللَّه هل فيكم أحدٌ قال له رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: مَن كنتُ مولاه فعليٌ مولاه اللهمَّ والِ مَن والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره ليبلغ الشاهد الغايب، غيري» «1».

ونقل هذه الرواية الحمويني في فرائد السمطين في الباب 58، وابن حاتم في درر النظم، وابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة.

كما روى ابن حجر في الصواعق هذا المضمون عن الدار قطني «2».

وفي كتاب الغدير ذكر بحث شامل وبمصادر واسعة حول «مناشدة» أمير المؤمنين عليه السلام في مواطن عديدة، منها أيّام عثمان، وأبان خلافته، يوم الجمل، ومرّة اخرى في الكوفة يوم صفين، بالإضافة إلى المواضع الستة عشر الاخرى المنقولة من احتجاجات فاطمة عليها السلام، والإمام الحسن عليه السلام، والإمام الحسين عليه السلام، وجماعة من الصحابة وغيرهم، التي تحكي عن المعلومات الواسعة لهذا الكاتب الكبير من ناحية، ومن ناحية

آخرى تبرهن على أنّ الاحتجاج بهذا الحديث كان موضع اهتمام على مدى القرون المختلفة، بالرغم من سعي السياسات الخاصة التي كانت مهيمنة على هذه القضية في التقليل من أهميّتها قدر الإمكان.

ونظراً إلى أنّ الغور في هذه البحوث الواسعة يخرجنا عن الهدف الذي نبتغيه، فإنّنا نكتفي بهذا المقدار ونحيل الراغبين إلى هذا المصدر «3» وسائر المراجع.

______________________________

(1) المناقب، ص 217.

(2) الغدير، ص 161.

(3) المصدر السابق، ص 159- 213.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 153

2- آية الولاية

اشارة

الآية الاخرى التي تعقب قضية الإمامة الخاصة، تقول:

«إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذيِنَ يُقِيُمونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ». (المائدة/ 55)

سبب النزول:
اشارة

روى الكثير من المفسرين والمحدثين في سبب نزول هذه الأية أنّها نزلت بحق عليّ عليه السلام.

فقد نقل السيوطي في «الدر المنثور» عن ابن عباس: إنّ علياً كان راكعاً وإذا سائل فأعطاه خاتمه، فسأله النبي صلى الله عليه و آله من الذي أَعطاك هذا الخاتم؟ فأَومأَ إلى علي عليه السلام وقال:

ذلك الراكع، فنزلت آية: «إنّما وليكم اللَّه ...» «1».

وفي الكتاب نفسه رويت روايات عديدة بنفس المضمون عن «ابن عباس»، و «سلمة بن كهيل» وعن علي عليه السلام نفسه «2».

وروي المعنى نفسه في كتاب «أسباب النزول» للواحدي عن «جابر بن عبد اللَّه»، وكذا عن «ابن عباس» «3».

يقول المفسر الشهير «جاراللَّه الزمخشري» في كتاب «الكشاف»: «إنّها نزلت في

______________________________

(1) تفسير در المنثور، ج 2، ص 293.

(2) المصدر السابق.

(3) أسباب النزول، ص 148.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 154

علي عليه السلام حين سأله سائل وهو راكع في صلاته فطرح له خاتمه» «1»، وينقل الفخر الرازي في تفسيره عن «عبد اللَّه بن سلام»: لما نزلت هذه الآية، قلت: يارسول اللَّه أنا رأيت علياً تصدق بخاتمه على محتاج وهو راكع فنحن نتولاه

كما ويروى عن أبي ذر قوله: صليت مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يوماً صلاة الظهر فسأل سائل في المسجد فلم يعطه أحد فرفع السائل يده إلى السماء وقال: اللّهم اشهد أني سألت في مسجد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فما أعطاني أحد شيئاً، وعلي عليه السلام كان راكعاً فأوما إليه بخنصره اليمنى وكان فيها خاتم، فأقبل السائل حتى أخذ الخاتم بمرأى النبي صلى الله عليه

و آله فقال: «اللّهم إنّ أخي موسى سألك فقال: رب اشرح لي صدري- وأشركه في أمري فأنزلت قرآنا ناطقاً «سنشدُّ عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطاناً» فنزلت الآية «2».

وبطبيعة الحال فإنّ للفخر الرازي- وكالعادة- شبهات على كيفية دلالة هذه الآية على الإمامة حيث سنشير إليها لاحقاً.

ويروي الطبري أيضاً في تفسيره روايات عديدة في ذيل هذه الآية وسبب نزولها، إذ تفيد أكثرها أنّ هذه الآية نزلت بحق علي عليه السلام «3».

وأوردت طائفة اخرى هذه الرواية بعبارات مختلفة في حق علي عليه السلام، منها في كنز العمال ج 6، ص 319 حيث ينقل هذه الرواية عن ابن عباس.

كما ينقل «الحاكم الحسكاني» الحنفي النيشابوري من علماء القرن الخامس المعروفين في «شواهد التنزيل» بخمسة طرق عن «ابن عباس»، واثنين عن «انس بن مالك»، ومثلهما عن «محمد بن الحنفية»، وواحد عن «عطاء بن السائب»، ومثله عن «عبد الملك بن جريح المكي» عن النبي صلى الله عليه و آله آية «إنّما وليكم اللَّه» نزلت بحق علي عليه السلام عندما تصدق بخاتمه وهو راكع «4».

______________________________

(1) تفسير الكشاف، ج 1، ص 649.

(2) تفسير الكبير، ج 12، ص 26.

(3) تفسير جامع البيان، ج 6، ص 186.

(4) للمزيد من الاطلاع على الطرق المذكورة، راجعوا شواهد التنزيل ص 161- 168.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 155

ونقل المرحوم العلّامة الأميني هذه الرواية ونزول هذه الآية بحق علي عليه السلام عن كثير من كتب السنّة فقارب العشرين كتاباً (مع ذكر دقيق لمصادرها ووثائقها)، وبإمكان الراغبين مراجعة ذلك الكتاب للمزيد من الاطلاع «1».

ونقل هذا المعنى في كتاب احقاق الحق عن كثير من الكتب «2».

والأمر اللطيف الآخر هو أنّ شاعر الرسول صلى الله عليه و آله المعروف «حسان بن ثابت» أورد هذه القضية

في شعره على أنّها مسألة تاريخية مُسلّم بها.

فهو يقول في شعره مخاطباً علياً عليه السلام:

وأنت الذي أعطيتَ إذ كنتَ راكعاًزكاةً فدتكَ النفس ياخير راكعِ

فانزل فيك اللَّه خير ولايةوَبَيّنها في محكمات الشرائعِ «3»

ونقرأ في القصيدة الاخرى التي رواها «سبط بن الجوزي» عن «حسان»:

منْ ذا بخاتمه تَصدَّقَ راكعاًواسرَّها في نفسه اسرارا! «4»

وموجز القول: إنّ نزول هذه الآية بحق علي عليه السلام ليس بالأمر الذي يُشككُّ أو يرتاب فيه حتى أنّ مؤلف «منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة»، يقول: لقد نقلت روايات «متظافرة» بل متواترة عن طرق أهل السنّة وأتباع مذهب أهل البيت عليهم السلام بهذا الصدد. والمهم هو تبيين كيفية دلالتها على الولاية وخلافة النبي صلى الله عليه و آله.

كيفية دلالة الآية على الخلافة:

لقد استند في الآية المذكورة على مفهوم كلمة «الولي»، وذكر الإمام علي عليه السلام على أنّه

______________________________

(1) الغدير، ج 2، ص 52 و 53.

(2) احقاق الحق، ج 2، ص 399- 407.

(3) روي شعر حسان بن ثابت في كثير من الكتب باختلاف بسيط، منها في تفسير روح المعاني، وكفاية الطالب للكنجي الشافعي وكتب اخرى

(4) تذكرة الخواص، ص 10، ونقله الكنجي الشافعي أيضاً في كفاية الطالب ص 123 وعد قائليه بعدة شعراء. نفحات القرآن، ج 9، ص: 156

ولي المسلمين، صحيح أنّ لكلمة الولي معانِيَ عديدة كما أشرنا إليها آنفاً، فتارة تعني الناصر والصديق، واخرى جاءت بمعنى المتصرّف والحاكم المشرف وكما يقول الراغب: إنّ أصلها بمعنى أن يحصل شيئان فصاعداً حصولًا ليس بينهما ما ليس منهما ثم يضيف: «الولاية» بكسر الواو بمعنى «النصرة» و «الولاية» بفتح الواو تعني تولي الأمر «1».

أمّا القرينة الموجودة في الآية فهي تدلّ على أنّ «الولي» هنا تعني المتولي والمشرف وصاحب الخيار لأنّها

لو كانت تعني الناصر والصديق والمعين لشملت المؤمنين جميعاً، كما نقرأ في الآية: «وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ». (التوبة/ 71)

بَيدَ أنّ الولاية في آية البحث اعتبرت منحصرة في حالة خاصة بذلك المتصدق في ركوعه، وكلمة «إنّما» التي تفيد الحصر جاءت معها (تأملوا جيداً).

إنّ هذا التعبير يجعلنا نتيقن بأنّ «الولاية» في الآية الآنفة الذكر لا تعني الصداقة والنصرة (وكذا سائر المعاني المشابهة والقريبة لهذا المعنى ، وعلى هذا الأساس فلا مجال إلّاأن تكون بمعنى المتولي وصاحب الأمر المشرف، الذي توازي ولايته ولاية اللَّه والنبي الأكرم صلى الله عليه و آله.

والآية التالية: «وَمَنْ يَتَولَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ والَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الغَالِبُونَ».

وحقيقة هذه الآية أنّها تتمّة لمضمون الآية المذكورة، وتلاحظ فيها قرينة اخرى على تفسير الولاية بمعنى تولي الأمر والاشراف، لأنّ التعبير ب «حزب اللَّه» وانتصارهم على الأعداء يتعلق بإقامة حكومة إسلامية لا على أساس الصداقة العادية، وهذا يفيد أنّ كلمة الولي في الآية تعني المشرف والحاكم والماسك بزمام امور الإسلام والمسلمين، لانّ معنى «الحزب» هو ضربٌ من التنظيم والتضامن الاجتماعي من أجل تأمين اهداف مشتركة.

______________________________

(1) مفردات الراغب، مادة (ولي) وذكر البعض 27 معنى للمولى (الغدير، ج 1، ص 362) إلّاأنّ اصول معانيها ذانك المعنيان والبقيّة ترجع إليهما.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 157

شبهات واعتراضات:

إنّ دلالة الآية على الإمامة والخلافة- كما رأينا- واضحةٌ، ولو كانت هذه الآية قد نزلت بحق الآخرين ربّما لم يجرِ حولها أَدنى جدال! ولكن لكونها قد نزلت بحق علي عليه السلام ولا تنسجم مع الغاية الناشئة عن الطائفية، فقد أصر البعض على إيراد الشبهات على صدر الآية وذيلها وسبب نزولها ودلالتها من كل جانب.

ويمكن تصنيف هذه الشبهات إلى صنفين: فبعضها ذات صبغة علمية ظاهراً

فيجب الرد عليها بصورة علمية، إلّاأنّ البعض يستند إلى ما يُستَشَهدُ بهِ، وكذلك وجود المبررات حسب زعم مثيريها فينبغي أيضاً بحثها ونقدها بشكل إجمالي:

1- الشبهة الاولى التي تعتبر من الصنف الأول هي أنّ الضمائر والأسماء الموصولة التي في الآية جاءت بصيغة ضمير الجمع، مثل «الذين آمنوا» و «الذين يقيمون الصلاة» و «يوتون الزكاة» و «هم راكعون» فكيف والحالة هذه تنطبق على فردٍ واحدٍ.

فالآية تقول: إنّ أولياءكم هم الذين يتمتعون بهذه المزايا أي علي بن أبي طالب عليه السلام.

والجواب: بالنظر إلى أن سبب نزول الآية الذي نقل بشكل مستفيض بل متواتر في كتب الشيعة والسنّة لم يبق مجال للشكّ في أنّها ناظرةٌ إلى شخص واحد، وبتعبير آخر: إنّ الروايات والتاريخ الإسلامي يشهد بأنّ التصدق على السائل في حال الركوع يختص بعلي عليه السلام لأنّ القائم بالتصدّق واحد، ولم تقم به مجموعة، من هنا لابدّ من القول: إنّ التعبير بصيغة الجمع جاء من أجل احترام وتعظيم منزلة ذلك الشخص.

وكثيراً ما يُشاهد في الأدب العربي أنّ لفظ الجمع جاء تعبيراً عن المفرد، فمثلًا جاءت كلمة «نسائنا» في آية المباهلة بصورة الجمع، بينما المقصود منها فاطمة الزهراء عليها السلام فقط طبقاً لصريح سبب النزول، وفي نفس الآية جاءت كلمة «أنفسنا» بصيغة الجمع، والحال أنّ الجميع يسلّمون بأنّ لا أحد شارك في المباهلة غير النبي صلى الله عليه و آله وعلي عليه السلام، وجاء في القرآن أيضاً في قصة «غزوة حمراء الأسد»: «الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ» (آل عمران/ 173)

نفحات القرآن، ج 9، ص: 158

وهنا ذكر الناطق بهذا الكلام كلمة «الناس» التي تفيد الجمع بينما جاء في التاريخ أنّ

القائل ليس سوى «نعيم بن مسعود».

وجاء أيضاً بشأن نزول الآية: «فَتَرَى الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ ...». (المائدة/ 52)

إذ نعلم هنا أنّها نزلت بشأن «عبد اللَّه بن أبي»، والحال أنّ الضمائر هنا جاءت بصيغة الجمع.

كما أنّ الخطاب في الآية الاولى من سورة الممتحنة عامٌ بينما نزلت بشأن رجل يدعى «حاطب بن أبي بلتعة»، وفي الآية التالية جاء الضمير بصيغة الجمع أيضاً: «يَقُولُونَ لَئِنْ رَّجَعنا إِلَى المَدِينَة ...» بينما كان القائل هو «عبد اللَّه بن أُبى). (المنافقون/ 8)

وكذلك في الآية: «الَّذِينَ يُنِفقُونَ امَوَالَهُمْ بِالَّليلِ وَالنَّهَارِ». (البقرة/ 274)

التي نزلت في حق علي عليه السلام طبقاً للكثير من الروايات، بينما ضمائرها جميعاً جاءت بصيغة الجميع.

وجاءت الآية 215 من سورة البقرة المتعلقة بالسؤال عن الأشياء التي يجب أن ينفقوها:

«يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ» بصيغة الجمع بينما كان السائل هو شخص يدعى «عمرو بن الجموح» «1».

ولكن ما السبب في أن يأتي الكلام بصيغة الجمع في هذه الحالات مع أنّ المراد شخص واحد؟ ربّما يكون سببه في بعض الحالات، الاحترام، وفي بعضها إشارة إلى مؤازرة الآخرين لذلك الشخص، وبالتمعّن في الحالات أعلاه يمكن تمييز حالات الاحترام عن حالات المؤازرة.

فضلًا عن كل ذلك فنحن نعلم أنّ ضمير الجمع «المتكلم مع الغير» قد استخدم في آيات القرآن في حالات لا حصر لها أثناء حديث اللَّه عن نفسه، مع أنّ ذاته المقدّسة لا نظير لها في الوحدانية والتفرد، وهو «أحد واحد» من جميع الجوانب، وهذا مرده إلى أنّ العظيم يمتلك جنوداً مطيعين وممثلين لأوامره في أداء ما يشاء، وهذا يؤدّي إلى استخدام ضمير الجمع مع

______________________________

(1) للمزيد من الاطلاع على مصادر هذه الروايات، يراجع التفسير الأمثل، ذيل الآية 215 من

سورة البقرة.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 159

كونه مفرداً، وبتعبير آخر أنّ ضمير الجمع هذا دليلٌ على عظمته وسمو مقامه.

3- الشبهة الثانيه هي أنّ من المُسلَّم به أنّ علياً عليه السلام لم تكن له ولاية بمعنى الحكم وقيادة المسلمين في عصر النبي صلى الله عليه و آله، فكيف يتعين تفسير الآية هكذا؟ الجواب عن هذا السؤال واضح، فكثيراً ما شاهدنا خلال التعابير اليومية بأنّ يطلق اسم أو عنوان على أشخاص مرشحين أو منتخبين لذلك المنصب وإن لم يمارسوا العمل به بعد، أو بتعبير آخر: إنّهم يتمتعون بذلك المقام بالقوة لا بالفعل.

فمثلًا يقوم إنسان في حياته بتعيين شخص ما «وصياً» له، وبالرغم من كونه حياً فإننانقول: إنّ فلاناً وصيّه أو القيِّم على أطفاله.

فإطلاق الوصي والخليفة على علي عليه السلام في عهد النبي صلى الله عليه و آله كان من هذا القبيل أيضاً، حيث اختاره النبي صلى الله عليه و آله في حياته لهذا الأمر بإذنٍ من اللَّه، وأثبت له الخلافة بعد رحيله.

ويلاحظ هذا المعنى أيضاً في الآية الكريمة إذ يطلب زكريا من اللَّه تعالى «هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً». (مريم/ 5)

واستجاب اللَّه له ووهبه يحيى ومن المسلم به أنّ يحيى لم يكن خليفته ووليه ووارثه في حياته، بل عُيّنَ لما بعد حياته.

ويشاهد نظير هذا الكلام في واقعة «يوم الانذار» (اليوم الذي جمع به النبي صلى الله عليه و آله أقرباءَه ليدعوهم إلى الإسلام للمرة الاولى ، فطبقاً لما ذكره «المؤرخون» الإسلاميون سواء من السنّة أو الشيعة، أنّ النبي صلى الله عليه و آله أومأ إلى علي صلى الله عليه و آله في ذلك اليوم وقال:

«إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له واطيعوه» «1».

فهل يتسبب التعبير

أعلاه في خلق مشكلة في عهد النبي صلى الله عليه و آله؟

فلا شكّ في أنّ الجواب سيكون بالنفي، فالتعبير بالولي في آية البحث هو كما أشرنا إليه.

أمّا شبهات الفريق الثاني (التبريرات) فهي عديدة أيضاً منها:

1- قولهم: أي زكاة واجبة كانت متعلقة بذمة علي عليه السلام وهو الذي لم يكن يجمع لنفسه

______________________________

(1) روى هذا الحديث الكثير من علماء السنّة مثل، ابن أبي جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبي نعيم والبيهقي والثعلبي والطبري، وأورد ابن الأثير هذا الكلام في ج 2 من كتاب الكامل، وكذلك «أبو الفداء» في الجزء الأول من تاريخه، وجماعة آخرون (للمزيد من الاطلاع انتظروا البحوث الآتية).

نفحات القرآن، ج 9، ص: 160

من مال الدنيا أي شي ء؟ وإذا كان المراد الصدقة المستحبة فلا يقال لها زكاة؟

الجواب: أولًا: إنّ موارد إطلاق الزكاة في القرآن الكريم على الزكاة المستحبة كثيرة، فكثيراً ماورد في العديد من السور المكية اسم «الزكاة» والمراد منها الزكاة المستحبة، إذ إنّ وجوبها كان بعد هجرة النبي صلى الله عليه و آله إلى المدينة.

والآيات 3 من سورة النمل، و 39 من سورة هود، و 4 من سورة لقمان من جملة الموارد التي جاءت فيها كلمة الزكاة، ونظراً لكون هذه السور مكية فإنّ المراد هو الزكاة المستحبة.

ثانياً: صحيح أنّ علياً عليه السلام لم يدخر من مال الدنيا إلّاأنّه كانت تأتيه حصة من بيت المال، ومن المتيقن أنّه كان يمتلك وارداً بسيطاً من مجهوده أيضاً، وأنّ الخاتم المذكور من الفضة والظاهر أنّه كان رخيصاً، على هذا الأساس فإنّ تعلق هذا القدر من الزكاة البسيطة به عليه السلام ليس مستبعداً أبداً، وأنّ المبالغة بما قالوه بشأن قيمة ذلك الخاتم لا أساس لها من الصحة على الاطلاق.

ثالثاً:

ألا يتعارض الانتباه إلى السائل مع حضور القلب في الصلاة والاستغراق في مناجاة الخالق جل وعلا مع القول السائد عنه: (حتى عرف بأنّ نصلًا وقع في رجله فأخرجوه أثناء الصلاة ولم يُحسّ) «1» فكيف يتسنى له الانتباه إلى السائل أثناء الصلاة؟!

الجواب: إنّ الذي يورد هذا الإشكال غافل عن سماع صوت السائل ومساعدته فما قام به عليٌّ عليه السلام لا يعتبر توجها إلى غير اللَّه، أو إلى الذات أو الامور الدنيوية، بل إنّه في واقع الأمر توجّه إلى اللَّه.

فقد كان القلب المقدس لعلي عليه السلام يشعر بالسائلين، ويستجيب لندائهم فقد مزج عمله العبادي هذا بعبادة اخرى وتصدق أثناء الصلاة، وكلاهما كان للَّه وفي سبيله.

ومثل هذا الإشكال في الحقيقة إشكال على القرآن الكريم، لأنّ اللَّه تعالى قد امتدح في هذه الآية اعطاء الزكاة أثناء الركوع، ولو كان هذا العمل دليلًا على الغفلة عن ذكر اللَّه فلا ينبغي أن يستند إليها كصفة سامية وفائقة الأهميّة.

______________________________

(1) نص الرواية هكذا، روي أنّه وقع نصلٌ في رجله فلم يُتَمكن من اخراجه فقالت فاطمة عليها السلام أخرجوه في حال صلاته فإنّه لا يحسّ بما يجري عليه حينئذٍ فأُخرج وهو في صلاته (المحجة البيضاء، ج 1، ص 398- احقاق الحق، ج 2، ص 414).

نفحات القرآن، ج 9، ص: 161

فهؤلاء المتعصبون يريدون في الواقع انكار فضل علي عليه السلام فيُشكلون على اللَّه عزّ وجلّ.

انتبهوا هنا إلى كلام الرازي فهو يقول: «وهو أنّ اللائق بعلي عليه السلام أن يكون مستغرق القلب بذكر اللَّه حال ما يكون في الصلاة، والظاهر أنّ من كان كذلك فانّه لا يتفرغ لاستماع كلام الغير ولفهمه» «1».

علينا أن نسأل الفخر الرازي أن إذا كان هذا العمل خلافاً لآداب الصلاة وحضور القلب، فلماذا

اثنى عليه الباري جلّ وعلا، واعتبر ولاية المؤمنين حقيقة بمثل هذا الشخص؟!

على أيّة حال، فلا مجال للشك في أنّ سماع صوت المحتاج والاستجابة له في حال الصلاة عبادة مضاعفة حصلت في آن واحد، وعلينا أن نعوذ باللَّه من التعصب الذي يبعدنا عن الحقائق.

3- ومن جملة التبريرات التي طرحت هنا بصيغة إشكال هو: إنّ التصدق بالخاتم على السائل فعل كثير ويتعارض مع الصلاة!.

ليس هناك ما يدعو للعجب، فعندما يريد الإنسان أن لا يذعن للواقع فإنّه يصطنع التبريرات ليحاجج بها، وهو على يقين بأنَّ تبريراته واهية؟!

والجواب: أولًا: إنّ عملية اخراج الخاتم تمّت باشارة بسيطة وعلى ضوء جميع الفتاوى فإنّ هذا العمل لايعتبر فعلًا كثيراً ولا يوجب الإشكال في الصلاة، لا سيما إذا أشار الإمام عليه السلام إشارة بسيطة، والسائل اخرجه بنفسه.

ثانياً: لقد صرح الفقهاء بأنّ حتى قتل الحيوان اللادغ مثل «العقرب» أثناء الصلاة، أو رفع الطفل أثناء الصلاة، أو حساب عدد الركعات عن طريق الحصى، بل وحتى غسل جانب من اللباس أو اليد إذا تنجست أثناء الصلاة، لايضر بالصلاة، بينما يعتبر اعطاء الخاتم للسائل أو اخراجه أبسط من ذلك بكثير.

4- يقول المبررون: من اين جاء علي عليه السلام بذلك الخاتم النفيس؟ وألم يكن التختم به إسرافاً؟

______________________________

(1) التفسير الكبير، ج 12، ص 30.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 162

الجواب: من الذي قال: إنَّ ذلك الخاتم كان نفيساً، ولماذا نصغي ونصدّق بمثل ذلك الهراء الفارغ، ونسير رويداً رويداً نحو إنكار آية قرآنية؟

لقد ورد في رواية واحدة مرسلة وضعيفة أنّ قيمة ذلك الخاتم كانت تعادل خراج الشام! حيث من المسلم به أنّها أكثر شِبهاً بالخرافة لا بالحقيقة، ولعلها جعلت من قبل الذين وضعوها بقصد التقليل من قيمة هذه الفضيلة العظيمة.

إنَّ في مثل

هذه الحالات ليس المهم أن ينفق فيها بل المهم هو أنّ الإنسان نفسه محتاج إلى الشي ء ويغضُّ الطرف عنه في سبيل اللَّه، ويكون هذا الفعل مقروناً بغاية الاخلاص في النيّة.

فعندما تنزل سورة كاملة في القرآن وهي (سورة هل أتى بسبب اعطاء بضعة اقراص من الخبز (وفي حالة من الجوع طبعاً) إلى المسكين واليتيم والأسير في سبيل اللَّه، فما العجب في أن تنزل آية بشأن التصدق بخاتم على فقير أثناء الصلاة.

وأمثال هذه الشبهات التي يؤدّي التطرق إلى ذكرها والرد عليها إلى ضياع الوقت.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 163

3- آية اولي الأمر

يقول تعالى في الآية: «يَاايُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيُعوا اللَّهَ وَاطِيُعوا الرَّسُولَ وَأُولىِ الامْرِ مِنكُمْ». (النساء/ 59)

في بحث الولاية العامة كان لنا كلام مفصل حول معنى هذه الآية ومن هم المقصودون فيها، وكما جرت الإشارة إليه فإنّ الأمر بالطاعة المطلقة ل «اولي الأمر» إلى جانب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله دليل على أنّ «اولي الأمر» تشمل الذين هم في منزلة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أي أوصياؤه المعصومون، لأنّه من المتعذر الطاعة المطلقة لغير المعصومين عليهم السلام.

وبالمناسبة فإنّ جميع الاحتمالات التي قيلت في تفسير «اولي الأمر» قد بحثت، ورأينا عدم وجود دلالة ومعنى صحيح لها إلّافي الإمام المعصوم.

إنّ ما يجب أن نضيفه على ذلك هنا- في بحث الولاية الخاصة «خلافة علي عليه السلام»، وهو بحث أكثر تفصيلًا حول الروايات التي وردت في المصادر الإسلامية المعروفة (لاسيما مصادر أهل السنة المشهورة) في دلالة هذه الآية على علي عليه السلام.

نقل المفسر المعروف «الحاكم الحسكاني» الحنفي النيشابوري خمسَ روايات في ذيل هذه الآية حيث دلّت فيها جميعاً صفة «اولي الأمر» على علي عليه السلام (كمصداق جلي).

ففي الرواية الاولى

ينقل عنه عليه السلام لما قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: شركائي الذين قرنهم اللَّه بنفسه وبي وأنزل فيهم «ياأيّها الذين آمنوا اطيعوا اللَّه واطيعوا الرسول» الآية ... قلت: يانبي اللَّه من هم؟ قال: أنت أولهم «1».

وفي الرواية الثانية ينقل عن المفسر المعروف «مجاهد» أنّ هذه الآية نزلت بحق أمير

______________________________

(1) سنذكر مصادر هذه الروايات عند الانتهاء من الروايات الخمس.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 164

المؤمنين عليه السلام حينما خلفه على المدينة (عندما توجه إلى معركة تبوك).

وفي الرواية الثالثة ينقل هذا المعنى عن أبي جعفر الباقر عليه السلام، وفي الرواية الرابعة ينقل عن «سعد بن أبي وقاص»، قوله: «لما نزل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لحقه علي عليه السلام يحمل سلاحاً؛ فقال: يارسول اللَّه خلفتني عنك ولم اتخلف عن غزوة قبلها وقد أرجف المنافقون بي أنّك خلفتني لما استثقلتني!!! قال سعد: فسمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول: ياعلي أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلّاأنّه لا نبي بعدي فارجع اخلفني في أهلي وأهلك».

وروي عنهُ عليه السلام نفس هذا المعنى في الرواية الخامسة «1».

وفي تفسير «البحر المحيط» تأليف «أبو حيان الأندلسي المغربي» ومن بين مانقل حول معنى أولي الأمر، ينقل عن مقاتل وميمون والكلبي (وثلاثتهم من المفسرين): أنّ المراد منها امراء السرايا أو أئمة أهل البيت عليهم السلام «2».

ثم آثار الموما إليه شبهتين على نزول الآية بحق علي عليه السلام:

الاولى أنّ علياً عليه السلام كان واحداً، والحال أنّ «اولي الأمر» صيغة جمع.

والاخرى أنّ ظاهر هذه الآية هو أنّ الناس أمروا بأن يطيعوا اولي الأمر أثناء وجود رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بينما لم يكن علي

عليه السلام إماماً في عهد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله «3».

وكان قد طرح مايشابه هذه الشبهات والإشكالات في آية الولاية، وقد تطرقنا إلى الاجابة عنها بوضوح هناك، فمن ناحية قلنا، كثيراً ما يعني أشخاصاً وهم على قيد الحياة، ويقولون أو يكتبون: إنّ فلاناً وصييّ، وعليه أن يفعل كذا وكذا، وعلى أولادي اتباعه، ومعنى ذلك هو أن يتعهد القيام بهذه الأعمال بعد ممات الموصي له.

وإنّ قضية «الجمع» أيضاً كما قلنا لا تتسبب في خلق مشكلة على الاطلاق، فكثيراً ما يطلق الجمع على المفرد في القرآن وغيره من النثر والشعر، وفي الواقع أنّ «اولي الأمر» هنا تفيد الجمع وتشمل جميع الأئمّة المعصومين، وإن كان في كل زمان إمام ومعصوم واحد، إلّا أنّهم سيكونون جمعاً في النهاية.

______________________________

(1) هذه الأحاديث الخمسة أوردها صاحب شواهد التنزيل، ج 1، ص 148- 151.

(2) البحر المحيط، ج 3، ص 278.

(3) المصدر السابق، ص 279.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 165

للمزيد من التفصيل بصدد الرد على هذين الإشكالين راجعوا ذيل آية الولاية.

والجدير بالذكر هو أنّ فريقاً آخر نقل روايات في شأن نزول هذه الآية غير «الحاكم الحسكاني» في «شواهد التنزيل» إذ يقولون: إنّها ناظرة إلى خلافة علي عليه السلام. منهم العالم الشهير «أبو بكر بن المؤمن الشيرازي» الذي ينقل في رسالة الاعتقاد (على ضوء نقل المناقب للكاشي) عن ابن عباس: إنّ الآية المذكورة نزلت بحق علي عليه السلام عندما توجه الرسول الى غزوة تبوك وأبقى علياً في المدينة، فقال له علي عليه السلام: «أتخلفني على النساء والصبيان؟»، فقال له الرسول صلى الله عليه و آله: «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى حين قال: اخلفني في قومي واصلح، فقال عز وجل واولي

الأمر منكم» «1».

يروي صاحب كتاب «ينابيع المودة» الشيخ سليمان الحنفي القندوزي في كتابه عن كتاب «المناقب» عن سليم بن قيس الهلالي: إنّ رجلًا جاء إلى علي عليه السلام وسأله: أرني أدنى ما يكون العبد مؤمناً، وأدنى مايكون به العبد كافراً، وأدنى ما يكون به العبد ضالًا؟ فقال له عليه السلام: «قد سألت فافهم الجواب ....... وأمّا أدنى ما يكون العبد به ضالًا أن لا يعرف حجّة اللَّه تبارك وتعالى وشاهده على عباده الذي أمر اللَّه عزّ وجلّ عباده بطاعته وفرض ولايته»، قلت: ياأمير المؤمنين صفهم لي؟

قال: «الذين قرنهم اللَّه تعالى بنفسه ونبيه فقال: «يَاأيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِى الْأَمرِ مِنْكُمْ»» «2».

إنّ هذه الرواية شاهد على أنّ اولي الأمر حجج اللَّه ووكلاؤه.

ووردت عشرات الروايات في تفسير البرهان عن مصادر أهل البيت عليهم السلام في ذيل الآية كلها تقول: إنّ الآية المذكورة نزلت بحق علي عليه السلام أو بحقه وسائر أئمّة أهل البيت عليهم السلام، بل وفي بعض هذه الروايات جاءت اسماء الأئمّة الاثنى عشر واحداً واحداً «3».

______________________________

(1) احقاق الحق، ج 3، ص 425.

(2) ينابيع المودة، ص 116.

(3) تفسير البرهان، ج 1، ص 381- 387.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 167

4- آية الصادقين

«يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ». (التوبة/ 119)

لقد تحدثنا عن تفسير هذه الآية بالتفصيل في بحث الولاية العامة، وما يحتاج توضيح أكثر هنا هو شرح الروايات الكثيرة التي طبقت الآية على علي عليه السلام أو جميع أهل البيت عليهم السلام فمثلًا:

1- يروي المفسر المعروف «السيوطي» في «الدر المنثور» عن ابن عباس في تفسير الآية: «اتقوا اللَّه وكونوا مع الصادقين ...»، أنّه قال: «مع علي بن أبي طالب عليه السلام».

ونقل شبيه هذا المعنى كل

من «الخوارزمي» في «المناقب»، و «الزرندي» في «درر السمطين»، و «عبد اللَّه الشافعي» في «المناقب»، و «الحاكم الحسكاني» في «شواهد التنزيل»، مع فارق أنّ بعضها يعبر ب- «هو علي بن أبي طالب»، وبعضها ب «علي بن أبي طالب خاصة»، وبعض رواها «مع علي وأصحاب علي» «1».

2- يروي «الحافظ سليمان القندوزي الحنفي» في «ينابيع المودة» عن سلمان الفارسي:

لمّا نزلت آية «ياايها الذين آمنوا اتقوا اللَّه وكونوا مع الصادقين»، قال سلمان: يارسول اللَّه هذه عامة أم خاصة؟

قال النبي صلى الله عليه و آله: «أمّا المأمورون فعامة الناس، وأمّا الصادقون فخاصة، أخي علي وأوصياؤه من بعده إلى يوم القيامة» «2».

3- يروي «الحاكم الحسكاني» في «شواهد التنزيل» عن عبد اللَّه بن عمر في ذيل عبارة

______________________________

(1) المناقب، ص 189؛ درر السمطين، ص 91؛ المناقب لعبد اللَّه الشافعي، ص 154؛ شواهد التنزيل، ج 1، ص 259.

(2) ينابيع المودة، ص 115.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 168

«وكونوا مع الصادقين» قوله: «يعني محمداً وأهل بيته عليهم السلام» «1».

4- روى جماعة من كبار أهل السنّة مثل «العلّامة الحمويني» في «فرائد السمطين» و «الشيخ أبو الحسن الكازروني» في «شرف النبي» عن أبي جعفر الباقر عليه السلام في ذيل هذه الآية قوله: «مع آل محمد، أو مع محمد وآله، أو مع محمد وعلي» حيث إنّ معناها جميعاً متقارب «2».

ولم يقتصر العظماء الذين نقلوا الرواية على الأشخاص الذين ذكرناهم.

وهذا الأمر يحظى بالأهميّة أيضاً حيث يأمر اللَّه تعالى المؤمنين أن يكونوا دوماً مع الصادقين، فهو حكم مطلق بلا قيد أو شرط، وهذا المعنى لايتحقق أبداً إلّابشأن المعصومين عليهم السلام، لأنّ غير المعصوم ربما يخطي ء، وفي هذه الحالة فانَّ الشخص الذي يمكن الوقوف إلى جانبه واتباعه دائماً لن يكون إلّامن المعصومين،

وعليه فالمراد من الصادقين في هذه الآية ليس كل صادق، بل الصادقون الذين لا سبيل للكذب إليهم- لا عمداً ولا سهواً- مع هذا فالعجب من بعض مفسري أهل السنّة المعروفين كالآلوسي في تفسير روح المعاني مثلًا، فبعد ذكره لبعض الأخبار التي تفسر الصادقين في هذه الآية بعلي عليه السلام، يضيف: إنّ الشيعة قد استدلوا بها على أَحقية علي عليه السلام، ثم يقول: إنّه استدلالٌ باطل ويمر منها بدون أن يأتي بدليل واحد على مزاعمه.

إنَّ مثل هذه المواقف تدلّ على أنّه إلى أي حد يستطيع حجاب التعصب من الحيلولة دون اشعاع نور الفكر، ويسلب حرية التفكير حتى من العلماء.

وفي المقابل يبرر اناس متحررو التفكير كالدكتور محمد التيجاني الذي شخص طريقه في ظل هذه الآية والآيات المعنيّة، وأظهر إيمانه بعلي عليه السلام وسائر ائمة أهل البيت عليهم السلام بشجاعة فائقة، وألف كتاباً ظريفاً ولطيفاً للغاية في هذا المجال اسماه (لاكون مع الصادقين)، وقد ترك هذا الكتاب أثراً عجيباً في نفوس الكثير من المسلمين.

______________________________

(1) شواهد التنزيل، ج 1، ص 262.

(2) للمزيد من الاطلاع، راجعوا احقاق الحق، ج 14، ص 274 و 275؛ والغدير، ج 2، ص 277؛ واحقاق الحق، ج 3، ص 296 ومابعدها، وج 14، ص 270- 277.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 169

5- آية القربى

اشارة

يخاطب تعالى النبي صلى الله عليه و آله قائلًا في الآية: «قُلْ لَّاأَسأَلُكُم عَلَيهِ اجراً إِلَّا المَوَدَّةَ فِى القُربَى . (الشورى/ 23)

إنّ المراد من «القربى في هذه الآية، حسب ما قاله جميع مفسري الشيعة وطائفة من مفسري السنّة: هم قرابة النبي صلى الله عليه و آله.

وفي قبال هذا التفسير ذكرت احتمالات وتفاسير اخرى يبدو أنّ الدافع الحقيقي لها هو التقليل من أهميّة الإمامة وخلافة

النبي صلى الله عليه و آله والاقلال من شأن أهل البيت عليهم السلام، منها التفاسير الثلاثة الآتية:

1- المراد من اجر وثواب الرسالة هو حب الامور التي تدعوكم إلى القرب من اللَّه، وعليه فإنّ «القربى هي الامور التي تؤدي إلى القرب من اللَّه تعالى ومن الواضح أنّ هذا التفسير لايتلائم وظاهر الآية على الاطلاق، لأنّ المهم فيما يتعلق بالصلاة والصوم والجهاد ونحو ذلك من عوامل القرب الإلهي هو العمل بها لا مودتها ومحبتها، فالتعبير بالمودة لا يتناسب وهذه القضية باي شكل من الأشكال، إلّاأن يكون هنالك شخص بين مخاطبي النبي صلى الله عليه و آله لم يحب هذه الامور حتى الذين كانوا يقصرون في عملهم منهم مَنْ كانوا يحبون هذه الامور بحكم تعلقهم باللَّه والقرآن، وإن لم يكونوا يعملون.

فضلًا عن جميع ذلك، ف «القربى تعنى: القرب والدنو لا «المقرِّب»، لذا فإنّها جاءت في جميع الحالات التي استخدمت فيها هذه الكلمة في القرآن الكريم (15 مرة بالاضافة الى هذه الآية التي هي مورد بحثنا) بمعنى الأشخاص الذين يتمتعون بالقرابة (وأساساً ذوي القربى النسبية).

نفحات القرآن، ج 9، ص: 170

فلماذا ولأي سبب تفسر آية البحث خلافاً لجميع حالات استعمال القرآن والمفهوم اللغوي لهذه الكلمة؟ هل هنالك دافع غير ماأشير إليه آنفاً؟!

الجدير بالاهتمام أنّ الكثير من أرباب اللغة قد صرحوا بأنّ القربى أو ذي القربى تعني قرابة النسب، فيقول صاحب مقاييس اللغة: فلان ذو قربتي، هو من يقرب منك رحماً، ثم يضيف: «القربى والقرابة» أي أنّ كلاهما بمعنى واحد وجاء في لسان العرب، والقرابة والقربى الدنو في النسب.

2- وقال البعض الآخر: إنّ المقصود هو ايها المسلمون أحبّوا قرباكم كأجر للرسالة، والحال أنّ مودّة قرباهم لا علاقة

لها بالرسالة.

عجبٌ، كيف تُتْرك محبّة قربى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله التي هي انسب معنى هنا، وتطرح مودة قرباهم على أنّها أجر الرسالة؟!

3- وقال بعض من المفسرين: إنّ المقصود هو احفظوا قرابتي منكم كأجر للرسالة، وحيث إنّ لي قرابة سببية أو نسبية مع الكثير من قبائلكم فلا تؤذوني.

إنّ هذا التفسير هو اسوء تفسير لهذه الآية، لأنّ أجر الرسالة مطلوب من الذين تقبلوا رسالته فقط، ولا يعني أولئك الذين يؤذون النبي صلى الله عليه و آله، وأمّا إذا كان المراد أعداؤه الذين يؤذونه، فأولئك لم يتقبلوا رسالته أبداً، ناهيك عن أجرهم واحسانهم! فكيف يمكن أن يقول إنّ أجري أن لا تؤذوني لقرابتي منكم.

النقطة الأساسية فيما يخص الآية هي أنّ القرآن الكريم- من ناحية- ينقل عن الكثير من الأنبياء أنّهم كانوا يقولون بصريح القول «وَمَا أَسْأَلُكُم عَلَيهِ مِنْ أَجرٍ انْ أَجرِىَ إلَّاعَلَى رَبِّ العَالَمِينَ» «1».

ومن ناحية اخرى تقول آية البحث فيما يتعلق بالنبي صلى الله عليه و آله: «قُلْ لَااسأَلُكُمْ عَليهِ أَجْراً إِلَّا المَوَدّةَ فىِ القُربَى .

ومن ناحية ثالثة: نقرأ بشأن النبي صلى الله عليه و آله في الآية: «قُلْ مَا أَسأَلُكُمْ عَلَيهِ مِنْ أَجرِ إلَّامَنْ

______________________________

(1) بالتسلسل، الآية 109 و 127 و 145 و 164 و 180 من سورة الشعراء.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 171

شَاءَ انْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا». (الفرقان/ 57)

ومن ناحية رابعة جاء بشأن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في الآية: «قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِّنْ أَجرٍ فَهُوَ لَكُم إِنْ أَجرِىَ إلَّاعَلَى اللَّهِ». (سبأ/ 47)

من خلال جمع هذه الآيات الأربعة مع بعضها يمكن الاستنتاج جيداً أنّ النبي صلى الله عليه و آله شأنه شأن بقية الأنبياء لم يطلب أجراً لشخصه من الناس،

بل إنّ في مودة قرباه مرضاة اللَّه، وهو امر يصب في صالح هؤلاء تماماً، لأنّ هذه المودة نافذة في الإمامة وخلافة النبي صلى الله عليه و آله واستمرار خط قيادة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في الأمة، وهداية الناس في ظلها (تأملوا جيداً).

نعم فحيثما فسرنا هذه الآيات الأربع بهذا الشكل لم تبق فيها نقطة غموض وتعقيد واشكال، وإلّا فسيشاهد تضاد فيما بينها من ناحية، ومن ناحية اخرى نضطر إلى تفاسير طويلة وعريضة لا تتلائم وظاهر الآيات بأي شكل من الأشكال.

ولكن بما أنّ هذا التفسير لا يروق لبعض من المفسرين، لأنّه لايتفق مع حكمهم المسبق فقد تركوه، فتارة قالوا: إنّ طلب الأجر لا يتلائم ومقام النبي صلى الله عليه و آله، وعلى هذا الأساس فآية «إِلَّا المَوَدَّةَ فِى القُربَىَ» يجب اعتبارها استثناءً منقطعاً، وتارة قالوا: إنّ هذه الآية لاتتفق بالآية: «قُل مَا اسأَلُكُم عَلَيهِ مِن اجرٍ وَمَا انَا مِنَ المُتَكَلِّفِينَ». (ص/ 86)

وتارة يتورطون في تبريرات معقدة.

إنّ هذه الحقيقة تتضح أكثر فيما لو رجعنا إلى الروايات الواردة عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، في شرح وتفسير هذه الآية ونضعها إلى جانب هذه الآيات.

من مجموع الروايات الواردة في تفسير الآية نستنتج مايلي:

لا شك أنّ أيّة البحث ناظرة إلى قضية الإمامة والخلافة حيث يمكن اعتبارها أجراً للرسالة، الأجر الذي يقرب الناس إلى اللَّه، وتعود فائدته إليهم.

وممّا قيل آنفا يتضح الرد على بعض المفسرين الذين طالما يتخذون موقفاً ملؤه العصبية ازاء الآيات المتعلقة بالإمامة.

يقول «الآلوسي» في «روح المعاني» في تفسير هذه الآية:

نفحات القرآن، ج 9، ص: 172

«علي كرم اللَّه وجهه واجب المحبّة وكل واجب المحبّة واجب الطاعة وكل واجب الطاعة صاحب الإمامة وينتج علي رضي اللَّه تعالى

عنه صاحب الإمامة وجعلوا الآية دليل صغرى «1».

ولكن كما فهم من البحوث الآنفة فنحن لا نريد أبداً استغلال هذه الآية من خلال الصغرى والكبرى الواهيتين، والأمر المهم في الآية شي ء آخر وهو أنّ مودة ذوي القربى عدّت أجراً للرسالة، وفي الآيات الأخرى ذكر الاجر المذكور على أنّه وسيلة للتقرب من اللَّه وفي صالح الناس، ومن مجموع ذلك تتضح مسألة الإمامة والخلافة بالتفصيل الذي ورد أعلاه، وأحاديث النبي صلى الله عليه و آله التي يشار إليها سند لهذا الاستدلال.

آية القربى في الروايات الإسلامية:

نقلت روايات كثيرة في مصادر السنّة والشيعة في ذيل هذه الآية: «قُلْ لَاأَسْأَلُكُمْ عَلَيهِ أَجْراً إِلَّا الْمَودَّةَ فِى الْقُربى حيث لها تأثير كبير في تفسير وتبيين مفهوم الآية، من جملتها الروايات الآتية:

ينقل «الحاكم الحسكاني» وهو من مشاهير علماء القرن الخامس الهجري في «شواهد التنزيل» عن «سعيد بن جبير» عن «ابن عباس» مايلي:

«لمّا نزلت قل لا أسألكم عليه أجراً إلّاالمودة في القربى قالوا: يارسول اللَّه من هؤلاء القربى الذين أمرنا اللَّه بمودتهم؟ قال: علي وفاطمة وولدهما» «2».

ورويت في الكتاب نفسه عدّة روايات اخرى بهذا المضمون بطرق مختلفة عن ابن عباس «3».

2- وفي رواية اخرى في الكتاب نفسه يروي عن أبي امامة الباهلي أنّ النبي صلى الله عليه و آله قال:

______________________________

(1) تفسير روح المعاني، ج 25، ص 30.

(2) شواهد التنزيل، ج 2، ص 130.

(3) المصدر السابق، ص 131- 135.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 173

«إنّ اللَّه خلق الأنبياء من أشجار شتى وخلقت وعلي من شجرة واحدة، فأنا أصلها وعلي فرعها، وفاطمة لقاحها والحسن والحسين ثمارها وأشياعنا أوراقها فمن تعلق بغصن من أغصانها نجا ومن زاغ هوى ولو أنّ عبداً عبد اللَّه بين الصفا والمروة ألف عام،

ثم ألف عام، ثم ألف عام، حتى يصير كالشنّ اليابس، ثم لم يدرك محبتنا أكبّه اللَّه على منخريه في النار. ثم قرأ: «قل لا أسألكُم عليه أجراً إلّاالمودة في القربى «1».

3- يروي «السيوطي» المفسر السنّي الشهير في الدر المنثور في ذيل آية البحث عن مجاهد عن ابن عباس أنّ النبي صلى الله عليه و آله قال في تفسير الآية: «قل لا أسألكم عليه أجراً- أنّ تحفظوني في أهل بيتي وتودوهم بي» «2».

4- يروي «أحمد بن حنبل في «فضائل الصحابة» عن «سعيد بن جبير»: لما نزلت آية «قل لا أسألكم عليه أجراً إلّاالمودة في القربى ، سأل القوم رسول اللَّه: من هم قرباك الذين وجبت مودتهم علينا؟ قال: «علي وفاطمة وابناهما وقالها ثلاثاً» «3».

ونقل القرطبي المعنى نفسه في تفسير الآية بشي ء من الاختلاف عن سعيد بن جبير عن ابن عباس.

5- يروي «الحافظ أبو نعيم الاصفهاني» في «حلية الأولياء» عن «جابر»: أنّ أعرابياً جاء لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله وقال: يامحمد أعرض عليّ الإسلام، فقال: «تشهد أن لا إله إلّااللَّه وحده لا شريك له وأنّ محمداً عبده ورسوله، قال تسألني عليه أجراً؟ قال: لا، إلّاالمودة في القربى قال: قرباي أو قرباك؟ قال: قرباي، قال: هات ابايعك، فعلى من لا يحبّك ولا يحب قرباك لعنة اللَّه، قال صلى الله عليه و آله: آمين» «4».

6- ويروي المفسر المعروف «ابن جرير الطبري» أيضاً في ذيل هذه الآية عن ابن جبير أنّه قال: «هي قربى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله».

______________________________

(1) شواهد التنزيل، ص 141.

(2) تفسير در المنثور، ج 6، ص 7.

(3) احقاق الحق، ج 3، ص 2.

(4) حلية الأولياء، ج 3، ص 201.

نفحات القرآن،

ج 9، ص: 174

7- يروي «الحاكم» في «مستدرك الصحيحين» عن علي بن الحسين عليه السلام لمّا قتل علي عليه السلام خطب الحسن بن علي عليه السلام: «وممّا قاله في خطبته أنّه عرف نفسه حتى بلغ هذه العبارة): إنا من أهل البيت الذين افترض اللَّه مودتهم على كل مسلم فقال تبارك تعالى لنبيه صلى الله عليه و آله: قل لا اسألكم عليه أجراً إلّاالمودة في القربى «1».

كما نقل هذه الرواية فريقٌ من مشاهير أهل السنّة، منهم محبّ الدين الطبري في الذخائر (ص 138) وابن حجر في صواعقه الصفحة 101، والسيوطي في الدر المنثور ذيل آية البحث.

8- يروي المفسر المعروف أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في جامع البيان عن أبي الديلم:

لما جي ء بعلي بن الحسين عليه السلام أسيراً إلى الشام فاوقفوه عند باب دمشق، فقام رجل من أهل الشام وقال: الحمد للَّه الذي قتلكم واستأصلكم وقطع قرني الفتنة، فقال له علي بن الحسين عليه السلام: أَقرأت القرآن ياشيخ؟ قال: نعم، فقال عليه السلام أقرات حم؟ قال: قرأتٌ القرآن ولكن لم أقرء آل حم، قال عليه السلام أما قرأت: «قل لا أسألكم علية أجراً إلّاالمورة في القربى ، فقال: وإنّكم لأنتم هم؟ قال عليه السلام: «نعم!» «2».

9- يروي «ابن حجر» في «الصواعق المحرقة» عن علي عليه السلام أنّه قال: «فينا آل حم آية، لا يحفظ مودتنا إلّاكل مؤمن ثمّ قرأ: قل لا أسألكم عليه أجراً إلّاالمودّة في القربى «3».

وورد نظير هذا المعنى أيضاً في كنز العمال «4».

و يستفاد جيداً من هذه الرواية أنّ المراد من «القربى في آية البحث هم قربى الرسول صلى الله عليه و آله.

والمقصود من آل حم مجموعة السور التي جاءت حم في

مطلعها وهي عبارة عن السور

______________________________

(1) مستدرك الصحيحين، ج 3، ص 172.

(2) تفسير جامع البيان، ج 25، ص 16.

(3) الصواعق المحرقة، ص 101.

(4) كنز العمال، ج 1، ص 118.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 175

السبع التالية: المؤمن، فصلت، الشورى الزخرف، الدخان، الجاثية والاحقاف، وآية البحث في واحدة منها «1».

10- نقل الزمحشري في الكشاف، وكذا الفخر الرازي في التفسير الكبير، والقرطبي في تفسيره حديثاً عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في ذيل هذه الآية الكريمة تكشف عن أهميّة مودة آل محمد صلى الله عليه و آله بنحو مدهش، ونحن هنا ننقل نصّ الحديث عن تفسير الكشاف، إذ يقول: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «مَنْ مات على حب آل محمّد مات شهيداً- ألا ومَنْ مات على حب آل محمّد صلى الله عليه و آله مات مغفوراً له، ألا ومَنْ مات على حبّ آل محمّدٍ مات تائباً، أَلا ومَنْ مات على حبّ آل محمّد صلى الله عليه و آله مات مؤمناً مستكمل الإيمان، ألا وَمَنْ مات على حب آل محمّد صلى الله عليه و آله بشّرهُ مَلَك الموت بالجنّة ثم مُنكر ونكير، ألا وَمَنْ مات على حب آل محمّد صلى الله عليه و آله يزف إلى الجنّة كما تُزف العروس إلى بيت زوجها، ألا ومَنْ مات على حب آل محمّد صلى الله عليه و آله فُتح له في قبره بابان إلى الجنّة، ألا ومَنْ مات على حب آل محمّد صلى الله عليه و آله جعل اللَّه قبره مزار ملائكة الرحمة، ألا ومَنْ مات على حب آل محمّد صلى الله عليه و آله مات على السنّة والجماعة، ألا «2» ومَنْ مات على بغض آل محمّد صلى

الله عليه و آله جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه آيس من رحمة اللَّه، ألا ومَنْ مات على بغض آل محمّد صلى الله عليه و آله مات كافراً، ألا ومَنْ مات على بغض آل محمّد لم يشم رائحة الجنة».

والمدهش أنّه جاء في بعض حواشي تفسير الكشاف التي دونت من قبل بعض المتعصبين بعد نقل هذا الحديث الشريف: وآثار الوضع عليه لائحة!.

ولكن ما الدليل على مجعوليته وفي أي موضع من هذا الحديث يلوح أثر هذا الجعل؟ لم يوضّح ذلك، سوى أنّ عظمة شأن آل محمّد صلى الله عليه و آله التي تمّ بيانها في هذا الحديث النبوي الشريف لاتتفق والحكم المسبق للبعض، ولعلهم كانوا يرون عظمة آل محمّد صلى الله عليه و آله للمرة الاولى بهذا المستوى الراقي في هذا الحديث النبوي الشريف، وقد نقل ذلك الحديث القديم

______________________________

(1) يراجع هامش تفسير مجمع البيان، ج 7 و 8، ص 512 مطلع سورة المؤمن.

(2) تفسير الكشاف، ج 4، ص 220 و 221؛ تفسير الكبير، ج 27، ص 165 و 166؛ تفسير القرطبي، ج 8، ص 5843.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 176

ثلاثة من كبار المفسرين الذين يعتقدون به وتقبلوه بقبول حسن ولم يوردوا عليه مؤاخذه.

هذا في الوقت الذي يقول الفخر الرازي في ذيل هذا الحديث: وإن كان في معنى «آل» جدل واختلاف، ولكن «لا شك أنّ فاطمة وعلياً والحسن والحسين كان التعلّق بينهم وبين رسول اللَّه أشدّ التعلقات وهذا كالمعلوم بالنقل المتواتر فوجب أن يكونوا هم الآل».

ويقيم «الفخر الرازي» أيضاً شواهد وقرائن كثيرة على هذا المعنى بأنّ علياً وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام داخلون في هذه الآية «1».

يتبيّن ممّا قيل آنفاً أنّ بعض الروايات التي نقلت في ذيل هذه

الآية والتي تقول: «إنّ المخاطب فيها هم كفار قريش، والمراد هو أن لا تنسوا قرابتي منكم ولاتؤذوني لقرابتي منكم» لايمكن قبولها، ويحتمل أنّ وُضّاع الحديث قد نقلوا مثل هذا الأمر، للتقليل من أهميّة منزلة أهل البيت عليهم السلام، لأنّ مثل هذا الخطاب لكفار قريش يتعارض تماماً مع مفهوم الآية، فمن المستحيل أن يقول النبي صلى الله عليه و آله لهم لا أسألكم أجراً سوى أن لا تنسوا قرابتي منكم وهم غير موقنين أطلاقاً برسالة النبي صلى الله عليه و آله فضلًا عن رغبتهم في اعطائه الأجر.

خلاصة القول، إنّ أولئك الذين تمسكوا بهذه الرواية ولكنهم يقطعون علاقة الآية بأهل البيت عليهم السلام هم في الحقيقة ينكرون مضمون الآية لأنّ طلب أجر الرسالة من منكريها فارغ عن المعنى تماماً.

ونختتم هذا البحث بأبيات من الشعر حيث ذكرها الفخر الرازي والآلوسي في «التفسير الكبير» و «روح المعاني» في ذيل هذه الآية ليكون ختاماً مباركاً لهذا البحث ويكون «ختامه مسك».

وهذا الشعر صادر عن الإمام الشافعي المعروف باعتقاده الراسخ بأهل البيت عليهم السلام إذ يقول:

يا راكباً قف بالُمحصب من منى واهتف بساكن خيفها والناهض

سَحراً إذا فاض الحجيج إلى مِنى فيضاً كَمُلْتَطَمِ الفرات الفائضِ

______________________________

(1) للمزيد من الاطلاع راجعوا تفسير الكبير، ج 27، ص 166 و 167.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 177 إن كان رفضاً حبُّ آل محمّدٍفليشهد الثقلان انّي رافضي «1»

جعلنا اللَّه من محبي آل محمّد صلى الله عليه و آله الذين نصلي عليهم في صلاتنا وبدون ذلك لا تقبل صلاتنا، اللّهم اجعل هذه المحبّة مقدّمة لمعرفة «مقام ولايتهم» كي لانتصور أنّ قضية بهذه الأهميّة طرحت على أنّها مودة عادية، ثم اجعل هذه المعرفة سبيلًا لاتباع مذهبهم.

______________________________

(1) تفسير الكبير، ج 27، ص

166؛ و تفسير روح المعاني، ج 25، ص 32.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 179

القسم الثاني: آيات الفضائل

تمهيد:

كما أسلفنا سابقاً، أننا في هذه البحوث لانتقصى الآيات القرآنية التي تحدثت، مباشرة عن قضية الخلافة والولاية، بل نبحث في الآيات التي ورد فيها ذكر لفضائل على بن أبي طالب عليه السلام والتي بمجموعها توضح زوايا هذه القضية لمن فاتهم الاطلاع عليها، وجميع هذه الآيات تشير إلى أن أمر الإمام على عليه السلام مستثنىً عن الآخرين، ومع وجود علي بن أبي طالب في هذه الأمة فإنّ الإمامة والخلافة لاتناط أمورها بغيره.

بعبارة اخرى إنَّ من خلال حوار بين الإنسان وعقله يمكن استنتاج مسألة الإمامة والخلافة منها، وهي: إنّ اللَّه الحكيم لا يجعل «المفضول» حاكماً وقائداً على الأفضل، بل وحتى عقلاء الدنيا فإنّهم يوجهون اللوم والتأنيب لمن يقوم بعمل كهذا، ويعتبرون فعله هذا دليلًا على ضعف إدارته وعدم تدبيره لأنّه جعل الأفضل تابعاً لمن هو أدنى منه.

إنّ هذه الآيات من الكثرة بحيث إنّ بعض العلماء ألّفوا كتباً مستقلة بهذه المسألة، إلّاأننا اخترنا من بينها آية تضم مفاهيم واضحة، كما أنّها تنسجم واختصار الكتاب.

وهنا نتجه نحو المصادر المعروفة لدى أهل السنة ونختزل الكلام عما ورد في مصادر أتباع مذهب أهل البيت عليهم السلام لئلا يتصور أحد أنّ أتباع هذا المذهب قد نطقوا بشي ء بدافع التعصب.

وعلى أيّة حال فإنّ هذه الآيات كثيرة، وقد اخترنا منها 24 آية.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 181

1- آية المباهلة

اشارة

«فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ ابْنَاءَنَا وَابْنَاءَكُم وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُم وَانْفُسَنَا وَانْفُسَكُم ثَمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلى الْكَذِبِينَ». (آل عمران/ 61)

هنا ينبغي توضيح بعض الامور:

اولًا: مضمون الآية.

ثانياً: من الذين ذكرتهم الروايات التي جاءت في المصادر الإسلامية المعروفة في تفسير هذه الآية؟

ثالثاً: كيفية الاستدلال بهذه الآية على أفضلية علي وفاطمة والحسن

والحسين عليهم السلام.

رابعاً: الرد على بعض الشبهات فيما يتعلق بهذه الآية.

مضمون آية المباهلة:

تدلُّ الآية أعلاه بالإضافة إلى الآيات التي نزلت قبلها وبعدها أنّ النبي صلى الله عليه و آله يُؤْمَر في مواجهة اصرار النصارى على التمسك بعقائدهم المحرفة كزعمهم بأُلوهية عيسى عليه السلام مثلًا، وعدم جدوى المنطق والاستدلال ازاء عنادهم، فكان لابدّ للنبي عليه السلام من التضرع وأن يسلك طريق المباهلة، ويثبت صدق كلامه من خلال هذا الطريق المعنوي، أي يباهلهم ليتبين الصّادق من الكاذب!

والمباهلة في الأصل من مادة «بهلْ» على وزن (أهلْ) وتعني الترك، من هنا فعندما يتركون الحيوان لحاله ولا يلفون ثداياه في كيس خاص- لمنع وليده من الرضاعة- يقولون

نفحات القرآن، ج 9، ص: 182

له: «باهل»، و «الابتهال» في الدعاء تعني التضرع وايكال الأمر إلى اللَّه تعالى

وتارة فسروا هذه الكلمة بمعنى «الهلاك واللعن والطرد من اللَّه»، وذلك أيضاً بسبب ترك العبد وايكاله إلى نفسه والخروج عن ظل لطف اللَّه سبحانه.

هذا الرأي هو الأصل اللغوي، أمّا من ناحية «المفهوم المتداول» الذي أشير إليه في الآية، فالمباهلة الملاعنة بين شخصين، من هنا فعندما لاتجدي الاستدلالات المنطقية، ويجتمع الذين يدور بينهم جدول بشأن مسألة دينية مهمّة ويتضرعون إلى اللَّه سائلين منه أن يفضح الكاذب ويعاقبه، وهو مافعله النبي صلى الله عليه و آله في مواجهة نصارى نجران، حيث اشير إليه في الآية.

ومن خلال ماذكر نلقي نظرة على تفسير هذه الآية:

«فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعدِ مَاجَاءَكَ مِنَ العِلمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ ابنَاءَنَا وَابنَاءَكُم وَنسَاءَنَا وَنسَاءَكُم وَانْفُسَنا وَانْفُسَكُم ثُمَّ نَبتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الكَذِبِينَ».

لا شك أنّ هذه الواقعة التاريخية قد حصلت ولم يستطع أحد انكارها، ومفادها: أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله اختار نفراً واصطحبهم معه

للمباهلة.

جاء في الروايات الإسلامية التي نقلها المفسرون والمحدثون: لما نزلت الآية أعلاه اقترح النبي صلى الله عليه و آله على نصارى نجران المباهلة، فطلب زعماء النصارى من النبي صلى الله عليه و آله مهلة يوم واحد ليتشاوروا في الأمر، فقال لهم حبرهم:

«انظروا محمّداً في غدٍ فإن غدا بولده وأهله فاحذروا مباهلته، وإن غدا بأصحابه فباهلوه فإنّه على غير شي ء فلما كان الغد جاء النبي صلى الله عليه و آله آخذاً بيد علي والحسن والحسين بين يديه يمشيان وفاطمة تمشي خلفه، وخرج النصارى يقدمهم أسقفهم، فلما رأى النبي صلى الله عليه و آله قد أقبل بمن معه سأل عنهم فقيل له: هذا ابن عمه وزوج ابنته وأحب الخلق إليه، وهذان ابنا بنته من علي عليه السلام، وهذه الجارية بنته فاطمة أعزّ الناس عليه وأقربهم إلى قلبه، وتقدم رسول اللَّه فجثا على ركبتيه قال الأسقف جثا واللَّه كما جثا الأنبياء للمباهلة، فرجع ولم

نفحات القرآن، ج 9، ص: 183

يقدم على المباهلة، فقال الأسقف: ياأبا القاسم إنا لا نباهلك ولكن نصالحك» «1».

وجاء هذا المضمون أيضاً باختلافات طفيفة لا تضر بأصل القضية في الكثير من التفاسير الاخرى مثل تفسير الفخر الرازي (ج 8، ص 10)؛ والقرطبي (ج 2، ص 1346)؛ وروح البيان (ج 2، ص 44)؛ وروح المعاني (ج 3، ص 188)؛ والبحر المحيط (ج 2، ص 472)؛ وتفسير البيضاوي (ذيل آية البحث) وتفاسير آخرى

والآن لنرى كتب الحديث، ماذا تقول:

المباهلة في أقوال المحدثين:

وردت روايات كثيرة تعد موثوقة ومعتبرة في مصادر أهل السنّة ومصادر أهل البيت عليهم السلام حيث تفيد بصريح القول: إنّ آية المباهلة نزلت بحق علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام. منها:

1- روي في صحيح مسلم في كتاب «فضائل

الصحابة» في باب فضائل علي بن أبي طالب عليه السلام عن سعد بن أبي وقاص أنّ معاوية قال لسعد: ما منعك أن تسب أبا تراب؟ قال:

أما ما ذكرت ثلاثاً قالهن له رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فلن أسبّهُ لئن تكون لي واحدة منها لكانت أحبّ الي من حمر النعم، ثم أخذ يذكر قصة حديث المنزلة في (معركة تبوك) وقصة اعطاء الراية لعلي عليه السلام أبان معركة خيبر، ثم يضيف: ولما نزلت هذه الآية «قل تعالوا ندع ابناءنا وابناءكم» دعا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً فقال: اللّهم هؤلاء أهلي «2».

روى هذا الحديث جماعة آخرون من عظماء أهل السنّة مثل! الترمذي في صحيحه «3».

______________________________

(1) تفسير مجمع البيان، ج 1 و 2، ص 452 مع شي ء من الاختصار.

(2) صحيح مسلم، ج 4، ص 1871، ح 32، الباب 4.

(3) صحيح الترمذي، ج 5، ص 638، ح 3732 (الباب 21 باب مناقب علي عليه السلام).

نفحات القرآن، ج 9، ص: 184

فبعد نقله يضيف. يقول أبو عيسى إنّه حديث حسن وصحيح وغريب (لعل غرابته تكمن في عدم اتفاقه مع حكمه المسبق الملي ء بالتعصب).

وأحمد بن حنبل في مسنده «1».

والبيهقي في السنن الكبرى «2».

والسيوطي في الدر المنثور «3».

2- وفي موضع آخر من صحيح الترمذي أيضاً نقل الحديث عن سعد بن أبي وقاص: إنّه لما نزلت آية المباهلة دعا النبي صلى الله عليه و آله علياً وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام وقال: اللّهم هؤلاء أهلي «4».

والرواية نفسها نقلها الحاكم في «مستدرك الصحيحين»، وأخيراً يقول: هذا حديث صحيح موافق لمعايير الشيخين «5».

كما نقله البيهقي أيضاً في السنن الكبرى «6».

3- يروي السيوطي في «الدر المنثور» عن «الحاكم»، و «ابن

مردويه» و «أبو نعيم» في «الدلائل»، عن «جابر بن عبد اللَّه الأنصاري»: لما عزم النبي صلى الله عليه و آله على مباهلة النصارى أخذ في اليوم التالي بيد علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام واتى بهم إلى المباهله، لكنهم لم يباهلوا، ثم يضيف جابر: إنّ آية «تعالوا ندع ابناءنا وابناءكم ...» نزلت بحق هؤلاء «7».

يقول السيوطي: هذا حديث صحيح لدى «الحاكم».

4- ويروى عن ابن عباس في كتاب الدر المنثور نفسه أنّ وفد نصارى نجران جاء إلى النبي صلى الله عليه و آله وبعد تفصيله لقصة المباهلة ورجوع نصارى نجران يضيف: كان هذا لما خرج النبي صلى الله عليه و آله وكان معه علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام وقال لهم: إن دعوت أنا فأمنوا أنتم، فأبوا أن يلاعنوه وصالحوه على الجزية.

______________________________

(1) مسند أحمد بن حنبل، ج 1، ص 185.

(2) السنن الكبرى طبقاً لنقل الفضائل الخمسة، ح 1، ص 291.

(3) تفسير در المنثور، ذيل الآية 61 من سورة آل عمران.

(4) صحيح الترمذي، ج 5، ص 225 (الباب 4، ح 2999).

(5) مستدرك الصحيحين، ج 3، ص 150.

(6) السنن الكبرى ج 7، ص 63.

(7) تفسير در المنثور، ج 2 ص 38 ذيل آية البحث (مع الاختصار).

نفحات القرآن، ج 9، ص: 185

5- وفي نفس الكتاب يروي عن «ابن جرير» عن «العلباء بن أحمر اليشكري»، عندما «1» نزلت آية قل تعالوا ندعُ ابناءنا 000 ودعا النبي صلى الله عليه و آله بعلي وفاطمة وابنيهما الحسن والحسين عليهم السلام واقترح على المخالفين المباهلة فأبوا «2».

6- يروي العلّامة الطبري في تفسيره وبسنده عن «زيد بن علي» في تفسير هذه الآية: كان النبي وعلي وفاطمة والحسن والحسين «3».

7- ويروي في نفس

الكتاب أيضاً بسنده عن السديّ في ذيل هذه الآية: أخذ النبي بيد الحسن والحسين وفاطمة وقال لعلي اتبعنا «4».

8- يقول العلّامة «أبو بكر الحصاص» وهو من علماء القرن الرابع الهجري في كتاب «أحكام القرآن» في تعبير مفيد بصدد المباهلة: أنّ رواة السير ونَقلةَ الأثر لم يختلفوا في أنّ النبي صلى الله عليه و آله أخذ بيد الحسن والحسين وعلي وفاطمة عليهم السلام ودعا النصارى الذين حاجّوه إلى المباهلة «5».

وعلى ضوء قول الجصاص فإنّ هذه القضية محل إجماع واتفاق علماء الحديث والتاريخ جميعاً.

9- يقول هذا العالم نفسه في كتاب آخر تحت عنوان «معرفة علوم الحديث» بعد ذكره لقصة المباهلة: قال الحاكم وقد تواترت الأخبار في التفاسير عن عبد اللَّه بن عباس وغيره إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أخذ يوم المباهلة بيد عليّ وحسنٍ وحسينٍ وجعلوا فاطمة وراءهم ثم قال:

هؤلاء أبناؤنا وأنفسنا ونساؤنا «6».

هذا جانبٌ فقط من الروايات المتعلقة بقصة المباهلة ونزولها بحق هؤلاء، ومن الطبيعي أنّ اختلاف هذه الأحاديث في بعض الجزئيات مثل إن كانت فاطمة مع النبي صلى الله عليه و آله أم أنّها

______________________________

(1) تفسير در المنثور، ج 2، ص 39.

(2) المصدر السابق.

(3) تفسير جامع البيان، ج 3، ص 192 (وفقاً لنقل احقاق الحق، ج 3، ص 47).

(4) المصدر السابق.

(5) أحكام القرآن للجصاص، ج 3، ص 14.

(6) معرفة علوم الحديث، ص 50، (وفقاً لنقل احقاق الحق، ج 3، ص 48).

نفحات القرآن، ج 9، ص: 186

جاءت خلفه، أم أنّ علياً عليه السلام كان إلى جانب النبي صلى الله عليه و آله أم خلفه، لا يترك أثراً على أصل القضية، لأنَّ ثمّة اختلاف في نقل جزئيات وفروع ومتعلقات الكثير من الوقائع التاريخية المسلم بها، مثل

معركة بدر، وخيبر، والأحزاب، وفتح مكة، ومن النادر أن نستطيع العثور على واقعةٍ تاريخية مهمّة تخلو من هذه الاختلافات في مثل هذه الامور الثانوية.

على أيّة حال فالروايات المذكورة وبشهادة جماعة من عظماء أهل السنة كثيرةٌ ومشهورة بحيث وصلت إلى حدّ التواتر، مع هذا فإنّ من العجب أن يقول صاحب تفسير المنار في ذيل هذه الآية: قال الاستاذ الإمام: الروايات متفقة على أنّ النبي صلى الله عليه و آله اختار للمباهلة علياً وفاطمة وولديهما ويحملون كلمة (نساءنا) على فاطمة، وكلمة (أنفسنا) على علي عليه السلام فقط، ومصادر هذه الروايات الشيعة! ومقصدهم منها معروفٌ «1».

وإنّه لمدهشٌ حقاً، فعندما تتركز قاعدة الحكم المسبق والتعصبات الطائفية يتفوه عالم معروفٌ كمؤلف كتاب المنار بكلام لا يخفى خواؤه على أحد، هل أنّ «صحيح مسلم وصحيح الترمذي ومسند أحمد من مصادر الشيعة؟ وهل أنّ علماء الشيعة كتبوا سنن البيهقي، والدر المنثور للسيوطي، وأحكام القرآن للجصاص، وتفسير الطبري، ومستدرك الحاكم»؟

إنّ خطأً بهذا المستوى لا يحصل إلّانتيجة لحجاب التعصب.

فمن ناحية يقول الموما إليه: إنّ الروايات التي نقلت هذا الحديث «متفقٌ عليها» ومن ناحية اخرى يضعها موضع التشكيك.

فاذا كانت كتب مثل صحيح مسلم، والترمذي، ومسند أحمد، وما شابهها بحيث يستطيع الشيعة وضع روايات ودسّها فيها بحيث تغدو متواترة، فاي قيمة تبقى لهذه الكتب؟ وكيف يتسنى قبول ولو حديثٍ واحدٍ منها؟

وفي واقع الأمر أنّ مؤلف المنار بكلامه هذا أفقد اعتبار المصادر المعروفة لأهل السنّة، وسلب منها قيمتها بالكامل، نعم فهو أراد التنكر لفضيلة علي وفاطمة وابنيهما عليهم السلام بَيدَ أنّه

______________________________

(1) تفسير المنار، ج 3، ص 322.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 187

وجَه ضربة قاصمة لأصل المذهب السنّي!.

والكلام الوحيد الذي يبقى هنا هو الشبهة التي آثارها المنار

وآخرون بصدد «ضمائر الجمع» الموجودة في الآية، وسنتطرق إليه فيما بعد بشكل مفصل.

أهميّة المباهلة:

إنَّ أول أمر يثير الاهتمام في هذه الآية هو إمكانية طرح قضية المباهلة على أنّها دليلٌ جليٌ على حقانية وصدق النبي صلى الله عليه و آله في مسألة ادّعائه للرسالة، لأنّه من المتعذر على الذي لا يملك إيماناً جازماً بصلته بالباري عزوجل أن يدخل مثل هذا الميدان، أي ليدعو معارضيه أن تعالوا ندعو اللَّه أن يفضح الكاذب، وأنا اعطي عهداً على أنّ دعائي على أعدائي سيحصل بشكل عملي، وسترون نتيجة ذلك!

ومن المسلَّم به أنّ دخول مثل هذا الميدان خطير للغاية، فلو لم يُستَجب الدعاء ولا يظهر أثرٌ من عقاب الخصوم، فلا تكون هناك نتيجة سوى فشل الداعي، وأي إنسان عاقل لا يدخل هذا الميدان مالم يطمئن إلى النتيجة.

من هنا نقرأ في الروايات الإسلامية: لما حضر النبي صلى الله عليه و آله إلى المباهلة استمهله نصارى نجران ليفكروا في الأمر، وعندما رأوا أنّ النبي صلى الله عليه و آله اصطحب معه الأشخاص الذين يمكن أن تستجاب دعوتهم، وحضر إلى المباهلة بعيداً عن المراسيم والضجيج، اعتبروا ذلك دليلًا آخر على صدق دعوته فانصرفوا عن المباهلة، لئلا يصيبهم العذاب الإلهي.

فعندما رأوا أنّ النبي صلى الله عليه و آله جاء بنفر قليل من خاصته وحامته وابنائه الصغار وابنته فاطمة عليها السلام، اضطربوا وذعروا وأبوا المباهلة.

ومن جهة أخرى فانَّ هذه الآية سندٌ واضحٌ على المقام الشامخ لآل النبي صلى الله عليه و آله، علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، لأنّ الآية فيها ثلاث كلمات، «أنفسنا، ونساءَنا، وأبناءنا»، ولا شك في أنّ المراد من «أبنائنا» الإمام الحسن والحسين عليه السلام ولا اعتراض في ذلك أبداً، ولا تنطبق كلمة

«نساءنا» على أحدٍ سوى فاطمة عليها السلام، وأمّا كلمة «أنفسنا» فمن

نفحات القرآن، ج 9، ص: 188

المتيقن بأنّها ليست إشارة إلى شخص النبي صلى الله عليه و آله، لأنَّ الآية تقول:

ندعُ ... وأنفسنا، فإن كان المراد هو النبيّ صلى الله عليه و آله، فإنّ دعوة الإنسان لنفسه لا معنى لها، بناء على ذلك فلا يبقى سبيل إلّاأنّ نقول: أنّ المراد هو علي عليه السلام فحسب.

والملفت للنظر هو أنّ «الفخر الرازي» ينقل في ذيل هذه الآية عن «محمود بن الحسن الحمصي» وهو من علماء الشيعة، أنّه يثبّت من خلال هذه الآية أنّ علياً أفضل من الأنبياء والصحابة أجمعين بعد النبيّ صلى الله عليه و آله. فيقول: ليس المراد بقوله (وأنفسنا) نفس محمّد صلى الله عليه و آله لأنّ الإنسان لا يدعو نفسه بل المراد به غيره، وأجمعوا على أنّ ذلك الغير كان علياً عليه السلام فدلّت الآية على أنّ نفس علي هي نفس محمّد صلى الله عليه و آله، ولا يمكن أن يكون المراد منه أنّ هذه النفس هي عين تلك النفس، فالمراد أنّ هذه النفس مثل تلك النفس، وذلك يقتضي الاستواء في جميع الوجوه ....

ثمّ الإجماع دل على أنّ محمداً صلى الله عليه و آله كان أفضل من سائر الأنبياء عليهم السلام فيلزم أن يكون علي أفضل من سائر الأنبياء عليهم السلام فهذا وجه الاستدلال بظاهر هذه الآية، ثمّ قال: ويؤيد الاستدلال بهذه الآية الحديث المقبول عند الموافق والمخالف هو قوله عليه السلام: «مَنْ أراد أن يرى آدم في علمه، ونوحاً في طاعته، وإبراهيم في خلته، وموسى في هيبته، وعيسى في صفوته، فلينظر إلى علي بن أبي طالب عليه السلام».

ثمّ يضيف قائلًا: (وأمّا سائر الشيعة فقد

كانوا قديماً وحديثاً يستدلون بهذه الآية على أنّ علياً (رضى اللَّه عنه) أفضل من سائر الصحابة، وذلك لأنّ الآية لما دلت على أنّ نفس علي (رضى اللَّه عنه) مثل نفس محمّد صلى الله عليه و آله إلّافيما خصّه الدليل وكان نفس محمّد أفضل من الصحابة (رضوان اللَّه عليهم) فوجب أن يكون نفس علي أفضل أيضاً من سائر الصحابة) «1».

وبعد ايراده لهذا الدليل يمر الفخر الرازي مر الكرام ويكتفي في الجواب قائلًا: (إنّه كما انعقد الإجماع بين المسلمين على أنّ محمّداً صلى الله عليه و آله أفضل من علي، فكذلك انعقد الإجماع بينهم قبل ظهور هذا الإنسان، على أنّ النبيّ أفضل ممن ليس بنبيّ واجمعوا على أنّ علياً

______________________________

(1) التفسير الكبير، ج 8، ص 81.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 189

(رضي اللَّه عنه) ما كان نبيّاً، فلزم القطع بأنّ ظاهر الآية كما أنّه مخصوص في حقّ محمّد صلى الله عليه و آله، فكذلك مخصوص في حقّ سائر الأنبياء عليهم السلام) «1».

تمعّنوا جيداً في كلام «الفخر الرازي» تجدوا بأنّه في واقع الأمر لا يمتلك جواباً لذلك الاستدلال القوي والمتين، وكأنّه يريد الكلام لمل ء الفراغ فحسب، وإلّا فالقول بأفضلية كل نبي من الأنبياء على من هو غير نبي ليس محل جدالٍ، لأنّ أفضلية جميع أنبياء اللَّه على غيرهم مسلّم بها في الوحي فقط، وأمّا في غير الوحي فربّما يكون هناك عظماء أفضل من الأنبياء جميعاً ما عدا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، ولو غضضنا النظر عن هذا فإنّ الكلام حول أفضلية علي على سائر الامّة، وهذا الأمر لايحتاج إلى إثبات أفضليته عليه السلام على سائر الأنبياء (تأملوا جيداً).

على أيّة حال، فالفضيلة التي تستنتج من هذه الآية والروايات المتواترة التي

جاءت تعقيباً عليها تستطيع توضيح قضية خلافة النبيّ صلى الله عليه و آله لأنّ اللَّه تعالى يأبى أن يكون الأفضل مأموماً وغير الأفضل إماماً، وأن يكون الذي هو كنفس النبيّ صلى الله عليه و آله تابعاً، ومن سواه الذي يليه في المرتبة متبوعاً!!

وفي هذه القضية لا فرق في أن نرى الإمامة مشروطة بتعيين إلهي- كما نعتقد نحن أو عن طريق انتخاب الامّة، كما يعتقد أبناء السنّة، لأنّه في الحالة الاولى من المحال أن يقدم اللَّه تعالى «المفضول» على «الأفضل»، وفي الحالة الثانية لا ينبغي للُامّة أن تقدم على فعل يخالف الحكمة، ولن يكون مقبولًا ومرضياً فيما أقدمت عليه.

مؤاخذاتهم على آية المباهلة:

المؤاخذة المعروفة التي أثارها صاحب المنار والآخرون بصدد نزول الآية بحق أهل البيت عليهم السلام، وهي: كيف يتسنى أن يكون المراد من «أبناءنا» الحسن والحسين عليهما السلام والحال إنّ كلمة «أبناء» جمعٌ ولا يطلق الجمع على المثنى؟ وأيضاً: كيف يمكن اطلاق كلمة

______________________________

(1) تفسير الكبير، ج 8، ص 81.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 190

«نساءنا» وهي تفيد الجمع، على السيدة فاطمة عليها السلام فقط؟

وكذا كيف يمكن أن يكون المراد من «أنفسنا» علياً وحده؟ إذ إنّ «انفسنا» صيغة جمع أيضاً، وعلي عليه السلام كان واحداً.

الجواب:

في الرد على هذا السؤال نلفت انتباهكم إلى عدّة امور:

1- كما ذكر بالتفصيل فيما سبق فقد وصلتنا روايات كثيرة في العديد من المصادر الإسلامية المعتبرة والمعروفة سواء من الشيعة أو السنّة بصدد نزول هذه الآية بشأن أهل البيت، حيث صرّح فيها أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله لم يصطحب معه إلى المباهلة غير علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، وهذا بذاته سيكون قرينة واضحة لتفسير الآية، فإننا نعلم أنّ من بين القرائن التي تفسّر آيات القرآن هي (السنّة وسبب النزول القطعي).

على هذا الأساس، فالمؤاخذة المذكورة لا تثير اهتمام الشيعة فحسب، بل يجب على علماء الإسلام جميعاً الرد عليها.

2- إنّ اطلاق (صيغة الجمع- على «المفرد» أو «المثنى») ليس أمراً مستجداً، وكثيراً ما يشاهد هذا المعنى في القرآن وغيره من الأدب العربي وغير العربي.

وتوضيح ذلك هو: كثيراً ما يحصل عند تفصيل قانون ما، أو تنظيم وثيقة ما، ايراد الحكم بصيغة العموم أو الجمع، فمثلًا يدوّنون في الوثيقة أنّ: المسؤول على تنفيذها هم الموقّعون عليها وأبناؤهم، بينما ربّما يكون لأحد طرفيها ولدٌ واحدٌ أو ولَدَان، فهذا الموضوع لا يتعارض أبداً مع تنظيم القانون أو الوثيقة بصيغة

«الجمع».

خلاصة الأمر لدينا مرحلتان: «مرحلة ابرام العقد»، و «مرحلة التنفيذ».

ففي مرحلة ابرام العقد تذكر الألفاظ بصيغة الجمع لكي تنطبق على كافة المصاديق، أمّا في مرحلة التنفيذ فربّما ينحصر المصداق بشخص واحد، وهذا الحصر في المصداق لا يتعارض وعمومية القضية.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 191

وبعبارة اخرى فقد كان النبيّ صلى الله عليه و آله مكلّفاً على ضوء العهد الذي كان أبرمه مع نصارى نجران أن يصطحب معه أبناءه ونساءه والذين هم بمنزلة نفسه جميعاً إلى المباهلة، ولكن لم يكن مصداقاً لهؤلاء سوى ابنين وامرأة واحدة ورجل واحد.

وفي القرآن الكريم لدينا موارد اخرى عديدة بأنّ تأتي العبارة بصيغة الجمع إلّاأنّ مصداقها يختص بشخص واحد لسبب ما، مثل الآية: «الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوهُمْ». (آل عمران/ 173)

فالمراد في كلمة الناس في هذه الآية وعلى ضوء تصريح فريق من المفسّرين هو «نعيم بن مسعود» الذي كان قد أخذ الأموال من «أبي سفيان» لِيُرْعِبَ المسلمين من قوّة المشركين!

كما نقرأ في الآية: «لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ انَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحنُ أَغْنِيَآءُ».

(آل عمران/ 181)

فالمراد من «الذين» في الآية وبناءً على ما صرّح به بعض المفسّرين هو «حي بن اخطب» أو «الفنحاص»، وأحياناً يشاهد اطلاق كلمة الجمع على المفرد أيضاً من باب الإكبار، كما نقرأ بشأن إبراهيم: «إِنَّ إِبرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ». (النحل/ 120)

فهنا اطلقت كلمة «امّة» وهي جمع على شخص واحد (وكان لنا بحث مفصّل أيضاً بهذا الصدد).

3- يُستفاد من آية المباهلة أيضاً أن يقال لأبناء البنت «ابن» على العكس ممّا كان شائعاً في الجاهلية حيث كانوا يعتبرون أبناء الابن فقط أبناءهم، وكانوا يقولون:

بنونا بنو أبنائنا، وبناتنابنوهنّ أبناء الرجال الأباعدِ

فهذا النمط من التفكير كان

وليداً لتلك السنّة الخاطئة حيث إنّهم لم يكونوا يرون أنّ الانثى عضواً رئيساً في المجتمع البشري، ويعدونهن أوعية لحمل الأولاد فقط.

كما يقول شاعرهم:

وإنّما امهات الناس أوعيةمستودعاتٌ وللانساب آباءُ

بيدَ أنّ الإسلام قضى على هذا النمط من التفكير قضاءً مبرماً واجرى حكم الابن على

نفحات القرآن، ج 9، ص: 192

أبناء الولد والبنت على حدّ سواء.

ونقرأ في القرآن الكريم بشأن أبناء إبراهيم: «وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيمنَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهرُونَ وَكَذَلِكَ نَجزِى الُمحسِنِينَ* وَزَكَرِيَّا وَيَحيَى وَعِيسَى وَإِليَاسَ كُلٌّ مِنَ الصلِحِينَ». (الأنعام/ 85- 84)

ففي هذه الآية عدّ المسيح من أبناء إبراهيم والحال أنّه كان ابن من البنت.

وفي الروايات الواردة عن طرق الشيعة والسنّة بحقّ الإمام الحسن والإمام الحسين عليهما السلام كثيراً ما يلاحظ تكرار اطلاق كلمة «ابن رسول اللَّه».

ونقرأ في الآيات المتعلقة بالنساء اللواتي يحرّم الزواج منهن: «وحلائل أبنائكم ...»، فهذه المسألة من المسلّم بها بين فقهاء الإسلام حيث إنّ زوجات الأبناء والأحفاد أولاداً كانوا أم بنات محرمات على الشخص ومشمولات بالآية أعلاه.

ومن الامور الجديرة بالاهتمام بشأن آية المباهلة ما ورد في الرواية المشهورة أنّ المأمون العباسي سأل الإمام علياً بن موسى الرضا عليه السلام: ما الدليل على خلافة جدك علي بن أبي طالب؟ قال: «آية انفسنا»، قال: «لولا نسائنا» قال: «لولا أبنائنا».

يقول العلّامة الطباطبائي في تفسير هذه الجمل القصيرة:

«آية «أنفسنا» يريد أن اللَّه جعل نفس علي عليه السلام كنفس نبيّه صلى الله عليه و آله، وقوله: لولا نسائنا.

معناه: أنّ كلمة نسائنا في الآية دليل على أنّ المراد بالأنفس الرجال فلا فضيلة فيه حينئذٍ، وقوله: لولا أبنائنا، معناه: أنّ وجود أبنائنا فيها يدل على خلافه، فإنّ المراد بالأنفس لو كان هو الرجال لم يكن مورداً لذكر الأبناء» «1» (تأملوا

جيداً).

ونُقلت هذه الحادثة في بحار الأنوار بنحو آخر، والظاهر أنّ السؤال وجواب الإمام الرضا عليه السلام عنه كان في موضع آخر، تقول هذه الرواية: قال المأمون يوماً للرضا عليه السلام: أخبرني بأكبر فضيلة لأمير المؤمنين عليه السلام يدل عليها القرآن، فقال له الرضا عليه السلام: «فضيلة في المباهلة، قال اللَّه تعالى «فمن حاجك فيه ...» الآية، فدعا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله الحسن والحسين عليهم السلام فكانا

______________________________

(1) تفسير الميزان، ج 3، ص 230- ذيل آية المباهلة.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 193

ابنيه، ودعا فاطمة عليها السلام فكانت في هذا الموضع نساءَه، ودعا أمير المؤمنين عليه السلام فكان نفسه بحكم اللَّه عزّ وجلّ، فقد ثبت أنّه ليس أحد من خلق اللَّه تعالى أجلَّ من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وأفضل فوجب أن لا يكون أحد أفضل من نفس رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بحكم اللَّه تعالى ...».

فقال له المأمون: هل بالإمكان أن يذكر الدعاء لمن هو نفسه، ويكون المراد نفسه في الحقيقة دون غيره فلا يكون لأمير المؤمنين عليه السلام ما ذكرت من الفضل؟ قال عليه السلام: «ليس يصحّ ما ذكرت، وذلك أنّ الداعي إنّما يكون داعياً لغيره، كما أنّ الآمر آمر لغيره، لم يدع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله رجلًا في المباهلة إلّاأمير المؤمنين عليه السلام فقد ثبت أنّه نفسه التي عناها اللَّه سبحانه في كتابه وجعل حكمة ذلك في تنزيله» «1».

______________________________

(1) بحارالأنوار، ج 10، ص 350، مع الاختصار.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 195

2- آية خير البرية

«انَّ الَّذيِنَ آمَنوُا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الَبِريَّةِ* جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجرِى مِنْ تَحتِهَا الانهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ابَداً رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا

عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِىَ رَبَّهُ». (البيّنة/ 7- 8)

في هذه الآيات وما قبلها ذكر اللَّه تعالى «خير» و «شر» مخلوقاته، فهو يصف الكفار والمشركين وأهل الكتاب الذين يفكّرون بإطفاء نور اللَّه من خلال مختلف الدسائس والمؤامرات، وهم ضالون ويجرّون الآخرين نحو الضلالة، بأنّهم شر البرية «1»، وفي المقابل وصف المؤمنين الذين اكتشفوا طريق الحقّ في ظل إيمانهم وكانوا ولا زالوا مصدراً للأعمال الصالحة، فبالاضافة إلى أنّهم مهتدون فهم نبراس هداية الآخرين، على أنّهم «خير البرية».

صحيح أنّ مفهوم الآية واسع وشامل، ولا يختص بشخص أو أشخاص معينين، ولكن تمت الإشارة في العديد من الروايات الإسلامية التي جاءت في مصادر الحديث لأهل السنّة والشيعة، إلى أشخاص يقفون في طليعة (خير البرية) وأفضل مخلوقات اللَّه.

إنّ التمعن في مضمون هذه الروايات بإمكانه ايضاح الكثير من الحقائق التي يلفها الغموض لحد الآن بالنسبة للبعض. وأن يكون رداً على الكثير من الأباطيل النابعة عن الجهل.

______________________________

(1) «البرية» من مادة «برء» وتعني الخلق، لذا يقال للَّه تعالى «الباري» بمعنى «الخالق» والمخلوقات برية، وقال البعض، إنّ «البرية» من «البري» وتعني «التراب» وبما أنّ المخلوقات برئت من التراب فيقال لها «برية»، وقال البعض أيضاً، إنّ «البرية» أخذت من «بريت القلم» ونظراً إلى أنّ المخلوقات تأتي إلى الوجود بأمر اللَّه على أشكال مختلفة من حيث الهيئة والقامة كأنّهم يشبهون الأقلام المبراة في مصنع الخلق فيقال لها «برية» (يراجع تفسير القرطبي، ج 10، ص 7235؛ ومفردات الراغب وسائر كتب اللغة).

نفحات القرآن، ج 9، ص: 196

وهنا نلفت انتباه القراء إلى جانب من هذه الروايات:

1- يروي المفسر المعروف «السيوطي» في الدر المنثور عن «ابن عساكر» عن «جابر بن عبد اللَّه» في ذيل هذه الآية: كنّا عند رسول اللَّه صلى الله عليه و آله

وإذا بعلي قادم نحونا، ولمّا وقعت عين رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عليه، قال: «والذي نفسي بيده إنّ هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة، ونزلت «إنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات اولئك هم خير البرية»، فكان أصحاب النبي صلى الله عليه و آله إذا أقبل علي عليه السلام قالوا: جاءَ خَيرُ البَرِيّة» «1».

وجاءت هذه الرواية بنفس المضمون، في «شواهد التنزيل» للحاكم الحسكاني «2».

2- ونقرأ في رواية اخرى عن ابن عباس: لما نزلت آية: «إنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية»، قال النبيّ صلى الله عليه و آله لعلي عليه السلام: «هو أنت وشيعتك، تأتي أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيين ويأتي عدوّك غضباناً مقمحين» «3».

3- جاء في رواية اخرى عن «أبو بريدة»: لمّا قرأ النبيّ صلى الله عليه و آله هذه الآية، التفت إلى علي عليه السلام وقال: «هم أنت وشيعتك يا علي وميعاد ما بيني وبينك الحوض» «4».

4- جاء في تفسير الدر المنثور أنّ ابن مردوية يروي عن علي عليه السلام أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله قال لي:

«ألم تسمع قول اللَّه إنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية، أنت وشيعتك وموعدي وموعدكم الحوض إذا جِئْتُ الامَمُ للحِسابِ تُدَعَوْنَ غُراً محَجَلينَ» «5».

5- كما ورد في «شواهد التنزيل»: إن «عطية الكوفي» يقول: دخلنا على «جابر بن عبد اللَّه الأنصاري» وقد سقط حاجباه على عينيه من الكبر فقلنا له: اخبرنا عن علي، فرفع حاجبيه بيده ثم قال: «ذاك من خير البريَّة» «6».

______________________________

(1) تفسير در المنثور، ج 6، ص 379.

(2) شواهد التنزيل، ج 2، ح 1139.

(3) شواهد التنزيل، ج 2، ص 357، ح 1126؛ ونفس المضمون أورده ابن حجر في الصواعق،

ص 96؛ والشبلنجي في نور الابصار، ص 70 و 101 أيضاً.

(4) المصدر السابق، ص 359، ح 1130.

(5) تفسير در المنثور، ج 6، ص 379.

(6) شواهد التنزيل، ج 2، ص 364، ح 1142.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 197

6- يروي الكنجي الشافعي في كفاية الطالب عن عطاء: سألت عائشة عن علي عليه السلام فقالت: «ذاك خير البشر لايشك فيه إلّاكافر» «1».

ونُقل في نفس الكتاب أيضاً عن «حذيفة» أنّه قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول: «علي خير البشر، من أبى فقد كفر» «2».

بديهي أنّ هذه التعابير جميعها ناظرة إلى شخص علي عليه السلام بعد النبيّ صلى الله عليه و آله، أي أنّه أفضل الناس بعد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.

والملفت للانتباه أن الآلوسي المفسر السنّي المعروف الذي يمتاز بتشدد خاص في الروايات الخاصة بفضائل علي عليه السلام (وطالما أشرنا إلى نماذج من ذلك في هذا الكتاب) وبعد بيانه لجانب مهم من الروايات الواردة عن النبيّ صلى الله عليه و آله في ذيل هذه الآية، يقول: «ليس معنى هذه الروايات أنّ هذه الآية تخص علياً عليه السلام وشيعته، وإن كانوا داخلين في هذه الآية ويقفون في الصفوف الاولى بلا ريب.

ثمّ يقول: إنّ الإمامية وإن كانوا يعتبرون علياً عليه السلام أفضل من الأنبياء والملائكة، إلّاأنّهم يفضلون النبيّ صلى الله عليه و آله عليه».

وخلاصة القول: إنّ جماعة كثيرة نقلت الروايات المتعلقة ب «خير البرية» في المصادر الإسلامية المعروفة، وهي من أجلى الأدلة على افضلية علي عليه السلام على كافة المسلمين والصحابة بعد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.

هذا في الوقت الذي ركز أعداء علي عليه السلام وبسبب عدائهم له أبان عهد بني امية الأسود على

كتمان فضائله، وَكَتَمَ شيعتُهُ فضائله بسبب خوفهم من أولئك المجرمين، إلّاأنّ هذه الفضائل العظمى قد تجاوزت جميع هذه الحقب، وبعد كل هذه القرون والاعصار وصلت إلينا بأُعجوبة، وهذا لم يتحقق إلّاباللطف الإلهيّ.

على أيّ حال، يستفاد من هذه الروايات بالإضافة إلى الآية الشريفة أمران هما:

______________________________

(1) 1. كفاية الطالب، ص 118، طبعة الغري (على ضوء نقل احقاق الحق، ج 3، ص 288).

(2) المصدر السابق.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 198

1- أفضلية علي عليه السلام على جميع أصحاب النبيّ صلى الله عليه و آله، وحيث إنّ تقديم غير الأفضل على الأفضل فعل قبيح وغير مقبول، فلا يمكن تقديم غيره عليه، وعليه يجب أن يكون هو أول خليفة لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله، سواء كان التنصيب من اللَّه- كما تعتقد الشيعة- أم من قبل الامّة حيث تعتقد به طائفة اخرى

2- الأمر الآخر الذي نحصل عليه من هذه الروايات العديدة هو أن تسمية اتباع علي عليه السلام ب «الشيعة» أمر ورد على لسان النبيّ صلى الله عليه و آله مراراً، والذين يعلنون عداءهم لهذه الصفة، ويتنفرون منها، وأحياناً يتخذون «الشين» فيها دليلًا على «الشؤم» و «الشر» هم في الواقع قد انبروا إلى معارضة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ويعربون عن انزعاجهم لكلامه والعياذ باللَّه، ومن المسلّم به أنّ فعلهم صعب جدّاً فيما لو صرحوا بكلامهم هذا علانية، أليس الأفضل أن نقول:

«إنّهم كانوا يجهلون هذه الروايات الواردة عن النبيّ صلى الله عليه و آله؟».

نعم، فلقب الشيعة لا يثير الازعاج، إنّه تاج فخر وضعه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله على رؤوس أتباع مذهب علي عليه السلام، طبقاً للكثير من الروايات، نسأل اللَّه أن نكون أهلًا لهذا الفخر.

نفحات

القرآن، ج 9، ص: 199

3- آية ليلة المبيت

نقرأ في الآية: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشرِى نَفْسَهُ ابتغَاءَ مَرضاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالعِبَادِ». (البقرة/ 207)

وردت روايات كثيرة في المصادر الإسلامية المعروفة في شأن نزول هذه الآية منها:

1- ينقل المفسر السنّي المعروف «الثعلبي» في تفسيره في شأن نزول هذه الآية مايلي:

«لما عزم النبي صلى الله عليه و آله على الهجرة إلى المدينة، ترك عليَّ بن أبي طالب عليه السلام في مكّة ليؤدّي الديون التي عليه والأمانات إلى اهلها، وأمرهُ ليلة خرج إلى الغار وقد احاط المشركون بالدار، أن ينام في فراشه صلى الله عليه و آله وقال له: اتشح ببردي الأخضر، ونم على فراشي فانّه لا يصل منهم إليك مكروه إن شاء اللَّه، ففعل ذلك علي عليه السلام فأوحى اللَّه تعالى إلى جبرئيل وميكائيل إنّي آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من الآخر، فأيّكما يؤثر صاحبه بالحياة، فاختار كلاهما الحياة فأوحى اللَّه تعالى إليهما: أَفلا كنتما مثل علي؟ آخيت بينه وبين محمّد فبات على فراشه يفديه بنفسه ويؤثره بالحياة، إهبطا إلى الأرض فاحفظاه من عدوَّه، فنزلا فكان جبرائيل عند رأسه وميكائيل عند رجليه وجبرائيل ينادي بخ بخ من مثلك يا علي بن أبي طالب يباهي اللَّه تبارك وتعالى بك الملائكة فأنزل اللَّه على رسوله صلى الله عليه و آله وهو متوجه إلى المدينة في شأن علي عليه السلام: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشرِى نَفْسَهُ ابتغَاءَ مَرضاتِ اللَّهِ»».

وقد نقل رواية الثعلبي هذه وبنفس التفصيل كل من الغزالي في إحياء العلوم (ج 3، ص 238) والكنجي في كفاية الطالب (ص 114) ... وابن الصباغ المالكي في «الفصول المهمّة» (ص 33) و «السبط بن الجوزي الحنفي» في «تذكرة الخواص» (ص 21) و «الشبلنجي» في «نور

الابصار» (ص 82) «1».

______________________________

(1) الغدير، ج 2، ص 48.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 200

نفحات القرآن ج 9 249

2- ويروي الحاكم الحسكاني في «شواهد التنزيل» عن «أبو سعيد الخدري» هذا المضمون بشي ء من التفاوت «1».

3- وفي نفس الكتاب «شواهد التنزيل» يروي عن ابن عباس أنّ علياً عليه السلام كان أول من آمن برسول اللَّه صلى الله عليه و آله بعد خديجة وارتدى رداءه وبات في فراشه ... (لكنه لم يشر إلى الآية الشريفة في هذه الرواية) «2».

4- وفي نفس الكتاب أيضاً يروي هذا المعنى عن «عبد اللَّه بن سليمان» (وفي نسخة عن عبد اللَّه بن عباس) قال: «أنام رسول اللَّه صلى الله عليه و آله علياً على فراشه ليلة انطلق إلى الغار، فجاء أبو بكر يطلب رسول اللَّه فأخبره علي أنّه قد انطلق، فأتبعه أبو بكر وباتت قريش تنظر علياً وجعلوا يرمونه، فلما أصبحوا إذا هم بعلي، فقالوا: أين محمّد؟ قال: لا علم لي به، فقالوا: قد أنكرنا تضورك كنّا نرمي محمّداً فلا يتضور وأنت تتضور، وفيه نزلت هذه الآية: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشرِى نَفْسَهُ ابتغَاءَ مَرضاةِاللَّهِ» «3».

5- يروي الحاكم النيسابوري في كتابه المعروف «مستدرك الصحيحين» عن ابن عباس أنّ علياً عليه السلام باع نفسه للَّه، وارتدى ثوب النبيّ صلى الله عليه و آله وبات في فراشه ... وفي نهاية هذه الرواية يقول: هذا الحديث صحيح الاسناد ولم يخرجاه «4».

6- في نفس الكتاب يروي عن «حكيم بن جبير» عن «علي بن الحسين عليه السلام: «إنّ أول من شرى نفسه ابتغاء مرضاة اللَّه علي بن أبي طالب عليه السلام» «5».

ثمّ يضيف: لما أراد علي عليه السلام المبيت في فراش رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، كان

يردد هذه الأبيات:

وقيتُ بنفسي خير منْ وطى ء الحصى ومن طاف بالبيت العتيق وبالحجر

رسول إله خاف أن يمكروا به فنجاه ذو الطول الإله من المكر

______________________________

(1) شواهد التنزيل، ج 1، ص 196، ح 133.

(2) المصدر السابق، ص 98.

(3) شواهد التنزيل، ج 1، ص 100.

(4) مستدرك الصحيحين، ج 3، ص 4.

(5) المصدر السابق.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 201 وبات رسول اللَّه في الغار آمناًموقى وفي حفظ الإله وفي ستر

وبتُّ اراعيهم ولم يتهمونني وقد وطنت نفسي على القتل والأسر «1»

وجاءت هذه الأبيات التي تعبّرُ عن التضحية والإيثار وفخر علي عليه السلام بهذا الأمر، في كتب اخرى أيضاً.

7- يقول «الطبري» المؤرخ المعروف بشأن هجرة النبيّ صلى الله عليه و آله واحاطة المشركين بداره صلى الله عليه و آله: ثم جعلوا يطلّعون فيرون علياً على الفراش متسجياً ببرد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فيقولون:

«واللَّه إنّ هذا لمحمد نائم عليه بُردُه فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا فقام علي عن الفراش فقالوا: واللَّه لقد صدقنا الذي حدثنا فكان ممّا نزل في ذلك اليوم وما كانوا أجمعوا له: «وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثِبتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ ....»» «2». (الانفال/ 30)

8- يروي «ابن الأثير» في «اسد الغابة» في فضائل علي عليه السلام: «لما أراد النبيّ صلى الله عليه و آله الهجرة، خلَّف عليَّ بن أبي طالب بمكة لقضاء ديونه ورد الودائع التي كانت عنده، وأمره ليلة خرج من الغار وقد أحاط به المشركون بالدار أن ينام على فراشه وقال: إِتَّشِحْ ببردي الحضرمي- وبعدها نقل قصة ليلة المبيت وما أوحى اللَّه إلى جبرائيل وميكائيل .. ثمّ قال:

فأنزل اللَّه عزّ وجلّ على رسوله وهو متوجه إلى المدينة في شأن علي: «وَمِنَ النَّاس

مَن يَشرِىِ نَفْسَهُ ابتغَاءَ مَرضَاتِ اللَّهِ»» «3».

9- يروي «أحمد بن حنبل» أحد أئمّة أهل السنّة الأربعة في مسنده وهو من المصادر الإسلامية المشهورة، عن ابن عباس في تفسير الآية: «وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثِبتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ ....» قال: تشاورت قريش ليلة بمكة، فقال بعضهم: إذا أصبح فأَثبتوه بالوثائق- يريدون النبيّ صلى الله عليه و آله وقال بعضهم: بل اقتلوه، وقال بعضهم: بل أَخرجوه، فأَطلَع اللَّه نبيّه صلى الله عليه و آله على ذلك فبات علي عليه السلام على فراش النبيّ صلى الله عليه و آله وخرج النبيّ صلى الله عليه و آله حتى لحق بالغار» «4».

______________________________

(1) مستدرك الصحيحين: ج 3، ص 4.

(2) تاريخ الطبري، ج 2، ص 100.

(3) اسد الغابة، ج 4، ص 25.

(4) مسند أحمد، ج 1، ص 348.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 202

ولم يشر الإمام أحمد إلى آية: «وَمِنَ النَّاس مَن يَشرِىِ نَفْسَهُ ...»، إلّاأنّه يتحدث عن آية: «وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا ...» التي وردت في واقعة ليلة المبيت أيضاً.

ولا تنحصر الروايات بما قيل: بل هناك روايات كثيرة اخرى رويت في المصادر المعروفة بهذا الصدد، وللمزيد من الاطلاع بإمكانكم مراجعة كتب: احقاق الحق «1»، وشواهد التنزيل «2»، وفضائل الخمسة «3»، والغدير «4»، وتفسير البرهان «5».

______________________________

(1) شواهد التنزيل، ج 1، ص 96 وما بعدها.

(2) فضائل الخمسة، ج 2، ص 345 وما بعدها.

(3) الغدير، ج 2، ص 49 و مابعدها.

(4) الغدير، ج 2، ص 49 و مابعدها.

(5) تفسير البرهان، ج 1، ص 206- 207.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 203

4- آية الحكمة

«يُؤْتِى الِحكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوِتىَ خَيْراً كَثِيراً». (البقرة/ 269)

يروي الحاكم الحسكاني في «شواهد التنزيل» عن «الربيع بن الخيثم» أنّهم

ذكروا عنده علياً، فقال: لم أرهم يجدون عليه في حكمه واللَّه تعالى يقول: «يُؤْتِى الِحكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوِتىَ خَيْراً كَثِيراً» «1».

وفي نفس الكتاب نُقلت عدّة روايات اخرى بهذا المعنى أو ما يدانيه.

بالاضافة إلى أنّه يروي عن ابن عباس أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله قال: «مَنْ أراد أن ينظر إلى إبراهيم في حلمه، وإلى نوح في حكمته، وإلى يوسف في اجتماعه، فلينظر إلى علي بن أبي طالب» «2».

وفي موضع آخر يروي عن «أبي الحمراء»: كنّا عند رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فقدم علي عليه السلام نحونا، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «مَنْ سرّه أن ينظر إلى آدم في علمه، ونوح في فهمه، وإبراهيم في حُلمه فلينظر إلى علي بن أبي طالب» «3».

ويروي عن «ابن عباس» أيضاً، كنت عند رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فسئل عن علي عليه السلام فقال:

«قُسمت الحكمة عشرة أجزاء فأُعطي علي تسعة أجزاء وأُعطي الناس جزءً واحداً» «4».

إنّ هذه العبارات تكشف بجلاء أن ليس هنالك من أحد من الامّة الإسلامية بعد

______________________________

(1) شواهد التنزيل، ج 1، ص 137، ح 147.

(2) المصدر السابق، ص 106، ح 147.

(3) المصدر السابق، ص 79، ح 116.

(4) المصدر السابق، ص 105، ح 146.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 204

النبيّ صلى الله عليه و آله يضاهي علياً عليه السلام في العلم والمعرفة والحكمة، وحيث إنّ أهم أركان الإمامة، العلم والحكمة فإنّه كان أجدر الناس للإمامة والخلافة بعد النبيّ صلى الله عليه و آله.

جاء أيضاً في «صحيح الترمذي» أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله قال: «أنا دار الحكمة وعلي بابها» «1».

و من المسلّم به أنّ من أراد دخول البيت،

عليه أن يدخل من الباب كما أمر بذلك القرآن الكريم: «وَأْتُوا البُيوتَ مِنْ أَبوابها». (البقرة/ 189)

وعليه فمن أراد الدخول إلى خزائن علم النبيّ صلى الله عليه و آله عليه المبادرة إلى علي عليه السلام وطلب مفتاح هذا الكنز منه.

______________________________

(1) صحيح الترمذي، ج 5، ص 637 (المناقب، باب مناقب علي بن أبي طالب، ح 3723).

نفحات القرآن، ج 9، ص: 205

5- آيات سورة هل اتى (الإنسان)

اشارة

تعتبر سورة «هل اتى سنداً آخر من الأَسانيد المهمّة لفضيلة علي عليه السلام وآل النبيّ صلى الله عليه و آله، وأنّ التمعن في مضمون هذه السورة وعباراتها، وكذا شأن النزول الذي ذُكر لها يزيل الغموض عن الكثير من القضايا.

صحيح أنّ آيات هذه السورة تعرض بحثاً عاماً، إلّاأنّ سبعة عشر آية منها التي تبدء من الآية 5: «إِنَّ الابرَارَ يَشرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كَافُورًا» وتستمر حتّى الآية 22، تتحدث عن نفر على أنّهم «ابرار»، بَيدَ أنّ شأن النزول والروايات العديدة التي وردت في المصادر الإسلامية المعروفة، تكشف أنّ أتم وأكمل مصداق للأبرار في هذه الآية هم: علي، وفاطمة، والحسن، والحسين عليهم السلام.

والجدير بالاهتمام أنّ في هذه الآيات السبعة عشر ذكرت أنواع نعم الجنّة، وأفضلها واسماها- سواءً المعنوية أو المادية- إذ أنّها تتحدث عن بساتين الجنّة، وعيون ماء الجنّة الطاهر، والملابس، والزينة، والطعام، والارائك والأسِرَّة، والوِلدان، وبالتالي النعم العظيمة والملك العظيم، والنعمة الوحيدة التي لم تجرِ الإشارة إليها في ما بين هذه النعم هي الأزواج وحور الجنّة حيث يقول بعض العارفين بأسرار القرآن: إنّ هذا الأمر بمثابة الاحترام لسيدة الإسلام فاطمة الزهراء عليها السلام.

وقليلًا ما تجتمع نعم الجنّة هذه وفي أقصى درجاتها في سورة من سور القرآن الكريم، وهذا يبرهن على أنّ المراد من «الأبرار» هنا ليسوا

اناساً عاديين، بل أبرار ومطهرون وفي غاية العظمة والقرب من اللَّه.

وهذا الأمر جدير بالذكر أيضاً حيث ذكرت علامات لهؤلاء «الأبرار» إذا أنّها تكشف عن

نفحات القرآن، ج 9، ص: 206

منزلتهم، يقول تعالى: «يُوفُونَ بِالنَّذْرِ ويَخَافُونَ يَومًا كَانَ شَرُّهُ مُستَطِيراً* ويُطعِمُونَ الطَّعامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَاسِيراً* انَّما نُطعِمُكُم لِوَجهِ اللَّهِ لَانُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُوراً* انَّا نَخَافُ مِنْ رَّبِّنا يَوماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً». (الإنسان/ 7- 10)

أمّا شأن نزول هذه الآية: فيروي الزمخشري في تفسيره المعروف «الكشاف» عن ابن عباس: «إنّ الحسن والحسين عليهما السلام مرضا فعادهما رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في ناس معه، فقالوا: يا أبا الحسن، لو نذرت على ولدك، فنذر علي وفاطمة وفضة إن بَرِئا ممّا بهما: أن يصوموا ثلاثة أيّام فشفيا وما معهم شي ء فاستقرض علي عليه السلام ثلاثة أصوع شعير فطحنت فاطمة صاعاً واختبزت خمسة أقراص على عددهم فوضعوها بين أيديهم ليفطروا فوقف عليهم سائل فقال: «السلام عليكم «1» أهل بيت محمّد» مسكين من مساكين المسلمين، أطعموني أطعمكم اللَّه من موائد الجنّة، فآثروه وباتوا لم يذوقوا إلّاالماء، وأصبحوا صياماً فلما أمسوا ووضعوا الطعام بين أيديهم وقف عليهم سائل يتيم فآثروه، ووقف عليهم أسير في الثالثة، ففعلوا مثل ذلك؛ فلما أصبحوا أخذ علي عليه السلام بيد الحسن والحسين وأقبلوا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فلما أبصرهم يرتعشون كالفراخ من شدّة الجوع قال: ما أشد ما يسوءني ما آرى بكم، وقام فانطلق معهم فراى فاطمة في محرابها قد التصق ظهرها ببطنها وغارت عيناها فساءه ذلك، فنزل جبريل وقال: خذها يا محمد هنأك اللَّه في أهل بيتك فأقرأه السورة» «2».

ويروي القرطبي هذا المعنى باختلاف قليل في تفسيره في ذيل آيات

البحث، وينقل أيضاً شعراً عن السائلين وعن سيدة الإسلام في هذا المجال «3».

ونقل «الفخر الرازي» أيضاً في تفسيره نفس هذه القصة عن الواحدي في كتاب «الوسيط»، والزمخشري في الكشاف، ولكنه يضيف في ذيلها: إنّ عبارة «إنّ الأبرار يشربون ...» جاءت بصيغة الجمع، وأنّها تشمل الأبرار جميعاً، ولا يمكن حصرها بشخص

______________________________

(1) جاء نذر الحسن والحسين عليهما السلام في رواية الجعفي طبقاً لنقل تفسير القرطبي (تفسير القرطبي، ج 10، ص 6922).

(2) تفسير الكشاف، ج 4، ص 670 (ذيل آيات هذه السورة).

(3) تفسير القرطبي، ج 10، ص 6922.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 207

واحد (علي بن أبي طالب عليه السلام)، وبالطبع لا يمكن انكار أنّ علياً عليه السلام داخل في عموم هذه الآيات، لكنها لاتختص به.

إلّا أن يقال: إنّ هذه السورة نزلت أثناء أداء علي عليه السلام العبادة خاصة، ولكن ثبت في اصول الفقه أنّ المعيار عموم اللفظ، لا خصوصية السبب «1».

على أنّ الفخر الرازي كأنّه نسي هذ الأمر وهو أنّ شأن النزول يقول: إنّ هذه الآيات نزلت بحق علي، وفاطمة، والحسن، والحسين عليهم السلام لا في علي بن أبي طالب خاصةً لتقع مشكلة صيغة الجمع.

أضف إلى ذلك: أنّ المراد من شأن النزول ليس إلغاء «عمومية مفهوم الآية»، بل المراد هو أنّ هذه الآيات نزلت للمرة الاولى بعد قيام هذه الاسرة بتلك العبادة والطاعة والايثار، وهذه فضيلة عظيمة ومنحة كبيرة أن تنزل هذه الآيات بعد أداء ذلك العمل.

وبتعبير آخر: إنّ علياً عليه السلام وأهل بيته المصداق السامي لهذه الآيات، بل يعدّون النموذج الكامل لها، لأنّ علة نزولها هو عملهم الطاهر، ومن أراد انكار هذه الفضيلة العظمى إنّما يخادع نفسه.

وينقل «الآلوسي» أيضاً هذه القصة بكاملها في «روح المعاني» عن ابن

عباس، ومن ثمّ يضيف: وهذا الخبر مشهور بين القوم.

ثمّ يسعى وعلى ديدنه إلى التقليل منها أو إضعافها، ومن أجل هذا الغرض يضيف بعد بيانه الامور بشأن اسناد هذه الرواية: فاحتمال أصل النزول في الأمير «كرم اللَّه وجهه» وفاطمة (رض) قائم ولا جزم بنفي ولا إثبات لتعارض الأخبار ولا يكاد يسلم المرجح عن قيل وقال ... إذ دخولهما في الأبرار أمر جلي بل هو دخول أولى فهما هما وماذا عسى يقول امرؤ فيهما سوى أنّ علياً مولى المؤمنين ووصي النبي صلى الله عليه و آله وفاطمة البضعة الأحمدية والجزء المحمدي وأمّا الحسنان فالروح والريحان وسيدا شباب الجنان وليس هذا من

______________________________

(1) تفسير الكبير، ج 3، ص 244.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 208

الرفض بشي ء بل ما سواه عندي هو الغي «1».

إلّا أننا نقول: لو تغافلنا عن منقبة بهذه الشهرة فإنّ سائر الفضائل يكون مصيرها هكذا، وسيأتي اليوم الذي ستوضح أفضلية علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام. فلماذا نتجاهل هذه الرواية المعروفة التي نقلها كبار المحدثين والمفسرين والتي لا معارض لها، ونسد على انفسنا طرق معرفة هؤلاء العظماء؟!

يروي «السيوطي» العالم السني المعروف في تفسير «الدر المنثور» عن ابن مردويه عن ابن عباس: إنّ الآية «ويطعمون الطعام على حبّه ....» نزلت بحق علي وفاطمة عليهما السلام.

وأورد «الشبلنجي» أيضاً في «نور الابصار» قصة شأن النزول بكاملها «2»، وكذلك فريق آخر من كبار المفسّرين والمحدّثين.

هل أتى في الشعر:

إنّ نزول هذه السورة بحق أهل البيت عليهم السلام جلي إلى الحد الذي أشار الكثير من الشعراء المعروفين إلى هذا المعنى في شعرهم، منها هذه الأبيات التي نقلت عن إمام الشافعية «محمّد بن ادريس الشافعي» في العديد من الكتب:

إلى مَ، إلى مَ، وحتى متى اعاتبُ في حبِّ هذا

الفتى

وهلْ زُوجتْ فاطمٌ غيرهُ؟وفي غيره هل أتى هل اتى «3»

ينقل «ابن البطريق» وهو من علماء القرن السادس الهجري في كتاب «عمدة عيون صحاح

______________________________

(1) تفسير روح المعاني، ج 29، ص 158.

(2) نور الابصار، ص 62.

(3) احقاق الحق، ج 3، ص 158؛ وعلي في الكتاب والسنة، ج 1، ص 447. نفحات القرآن، ج 9، ص: 209

الأخبار» عن تفسير ابن اسحاق الثعلبي، أنّه قال:

أنا مولى لفتى انزل فيه هل أتى «1»

ويقول «محمّد بن طلحة الشافعي» أيضاً (من علماء القرن السابع) في كتاب «مطالب السؤال» بحق آل النبي صلى الله عليه و آله:

هم العروة الوثقى لمعتصم بهامناقبهم جاءت بوحي وانزال

مناقبُ في الشورى وسورة هل اتى وفي سورة الاحزاب يعرِفُها التالي «2»

المراد من مناقب تلك العترة في الآية: «قُلْ لَّااسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ اجْراً الَّا المَوَدَّةَ فِى القُربَى .

(الشورى/ 23)

والمراد من الآية «انَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ اهْلَ البَيتِ». (الأحزاب/ 33) وقصة سورة هل اتى معلومة أيضاً.

كما نقلت أشعار كثيرة اخرى بهذا الصدد عن «طلائع» ابن رزيك (أبو الغارات) «3».

المشككون وسورة هل أتى

إنَّ كل مطلع على كتب الحديث والتفسير والتاريخ للاخوة أهل السنّة يعرف جيداً حيثما يكون الحديث عن منقبة لعلي بن أبي طالب عليه السلام وآل النبيّ صلى الله عليه و آله ينبري بعض المتعصبين من هنا وهناك ويثيرون الشبهات، ويسعون بشتى الذرائع اثارة المؤاخذات على سند ودلالة ومضمون ذلك الحديث، ويقللون من أهميّته، وإن كانت المؤاخذات ضعيفة وواهية، وكأنّهم قطعوا عهداً على أنفسهم على أنّ لا يتقبلوا أياً من هذه الفضائل، وإن تقبلوها فإنّها لا تتفق وحكمهم المسبق.

إنّ مطالعة كتب مثل تفسير «روح المعاني»، و «الفخر الرازي»، و «المنار»، ونحو ذلك شاهد على هذا الكلام

بأنّ حكمهم العقائدي المسبق يقف حائلًا في جميع الأحوال أمام

______________________________

(1) عمدة عيون صحاح الاخبار؛ ص 349.

(2) مطالب السؤال، ص 8 (طبقا لنقل الغدير، ج 3، ص 109).

(3) يراجع كتاب علي في الكتاب والسنة، ج 1، ص 447.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 210

الاذعان لهذه الروايات، إلى الحد الذي يصاب الإنسان بالدهشة أحياناً بسبب المؤاخذات الواهية التي أثاروها على هذه الروايات.

بينما يتقبلون مناقب الآخرين برحابة صدر، وإن بدت عليها آثار الضعف، ومع هذا فقد افلتَ الكثير من الحالات من سيف انتقاداتهم وهي تكفي لإدراك الحقيقة.

على أيّة حال من الواجب هنا الإشارة إلى جانب مهم من تلك المؤاخذات:

1- إنّ هذه الفضيلة تصح في حالة نزول هذه السورة في المدينة وبعد ولادة الإمامين الحسن والحسين عليهما السلام (والمشهور أنّ ولادة الإمام الحسن عليه السلام في السنّة الثالثة للهجرة، وولادة الإمام الحسين عليه السلام في السنّة الرابعة للهجرة)، بينما يعتقد الكثيرون بأنَّ هذه السورة مكية، وعليه فإنّها لا تتفق وشأن النزول الآنف الذكر.

ولكن بناءً على قول المفسر السني المعروف القرطبي، فإنّ المشهور أنّ العلماء يعتقدون بأنّ هذه السورة مدنية (وقال الجمهور مدنية) «1».

وانضمت طائفة كثيرة إلى هذا الرأي أيضاً، منهم:

الحاكم الحسكاني إذ عدّ هذه السورة من السور المدنية حيث نزلت بعد سورة «الرحمن» وقبل سورة «الطلاق»، والجدير بالاهتمام أنّ العالم المذكور نقل ثمانية روايات بهذا الصدد جرى التصريح فيها جميعاً بأنّ سورة «هل اتى مدنية، وبعض هذه الروايات عن «ابن عباس»، وبعضها عن «عكرمة»، و «الحسن»، وبعضها عن آخرين.

وقد قال في كلامه: إنّ بعض أعداء أهل البيت اعترضوا على سبب نزول هذه السورة، فقالوا: لقد اتفق علماء التفسير على أنّ هذه السورة مكية في حين أن قصتها وقعت في المدينة.

ثمّ

يضيف: كيف يسوغ له دعوى الإجماع مع قول الأكثر أنّها مدنية «2».

ونقل في كتاب «تاريخ القرآن» لأبي عبد اللَّه الزنجاني عن كتاب «نظم الدرر وتناسخ الآيات والسور»، عن جماعة من مشاهير أهل السنّة: إنّ سورة هل أتى مدنية «3».

______________________________

(1) تفسير القرطبي، ج 10، ص 6909.

(2) شواهد التنزيل، ج 2، ص 310- 315.

(3) تاريخ القرآن، ص 55.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 211

ويروي «السيوطي» المفسر السنّي المعروف أيضاً في «الدر المنثور» المعنى نفسه عن ابن عباس بطرق مختلفة.

وفي «الاتقان للسيوطي» نقل أيضاً عن «البيقهي» في «دلائل النبوة» عن عكرمة: إنّ سورة هل أتى مدنية «1».

بالإضافة إلى أنّ كافة الذين يرون أنّ شأن نزول هذه السورة في علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام،- وهم جماعة كثيرة جرت الإشارة إليهم آنفا- وكلّهم يشهدون على كون السورة مدنية.

فضلًا عن جميع ذلك، على فرض أنّ قسماً من هذه السورة مكي، والقسم المتعلق بنذر علي وأهل بيته مدني، فلا مانع من أن يكون قسم من السورة مكيّاً والآخر مدنيّاً.

من هنا، فإنّ مؤلف تفسير «روح البيان» (البرسوئي الحنفي) بعد ذكره عن طائفة من كبار العلماء أنّ سورة «هل اتى مدنية، إشارة إلى كلام الذين يرون أنّ بعض آياتها مكي والآخر مدني، فيقول: على هذا الأساس يمكنك القول: (إنّ هذه السورة مكية وإن شئت قلت إنّها مدنية على أنّ الآيات المدنية في هذه السورة أكثر من الآيات المكية، فالظاهر أنّها تسمى مدنية لا مكية ونحن لا نشك في صحة القصة) «2».

من بين الامور التي اتخذها هذا المفسر وغيره من الواعين دليلًا على كون هذه السورة مدنية هو مجي ء كلمة «أسير» فيها، ونحن نعلم أنّ لا وجود للأسير في مكة، وأنّ قضية الأسر والأسير كانت

بعد نزول حكم الجهاد في المدينة.

يقول صاحب «روح البيان» في هذا المجال: «دل على ذلك أنّ الأسير إنّما كان في المدينة بعد آية القتال والأمر بالجهاد» «3».

والمدهش أنّ المتزمتين الذين ليسوا على استعداد للتخلّي عن حكمهم المسبق بصدد الولاية والخلافة خلقوا التبريرات ل «الأسير» هنا، حيث بالإمكان أن تكشف عن الحقائق، فقد قالوا: إنّ المراد من الاسير اسير زوجة! أو أسير الديون، ونحو ذلك ... «4».

______________________________

(1) تفسير الميزان، ج 20، ص 221.

(2) تفسير روح البيان، ج 10، ص 269.

(3) المصدر السابق.

(4) نقلت هذه الأقوال في البحر المحيط، ج 8، ص 395 عن بعض المفسرين، إلّاأنّ صاحب هذا الكتاب E

(أبو حيان الاندلسي) يرى أنّه يعني الاسير من الكفار.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 212

وينبغي التساؤل: لماذا نذهب وراء المجازيات، مع إمكانية تفسير الاسير بالمعنى الحقيقي؟

2- كيف يتسنى حصر اللفظ العام للآية بأشخاص محددين؟

ولكن كما أسلفنا مراراً أنّ عمومية مفهوم الآيات لا يتعارض مع سبب النزول الخاص، وهذا يشاهد أيضاً في الكثير من آيات القرآن الكريم الاخرى حيث يكون مفهوم الآية عاماً وشاملًا، إلّاأنّ سبب نزولها وهو مصداقها الكامل والسامي يكون مورداً خاصاً، والمثير للدهشة أنّ أحداً لم يتخذ عمومية مفهوم الآية في سائر الآيات الواردة في القرآن وسبب نزولها دليلًا على معارضة سبب النزول، إلّاأنّ القضية هنا مختلفة!!

3- المؤاخذة الاخرى التي يثيرها المشككون هي: كيف يتمكن الإنسان من البقاء طاوياً ثلاثة أيّام ويفطر بماء فقط؟

بيدَ أنّ هذه المؤاخذة عجيبة، لأننا كثيراً ما رأينا- وعلى امتداد حياتنا- أشخاصاً يمسكون عن الطعام من أجل العلاج، فبعضهم قد يمسك ثلاثة أيّام وهذا يسير، وتارة يمسكون لمدّة عشرة أيّام أو عشرين يوماً بل وحتى أربعين يوماً، أي أنّهم وعلى مدى اربعين

يوماً لا يشربون سوى الماء فقط، ولا يتناولون طعاماً أبداً (حتى عصير الفواكه والشاي)، وهذا الأمر- حسب اعتقاد الأطباء الذين يعالجون المرضى عن طريق الصيام أدى إلى علاج الكثير من أمراضهم، حتى أنّ طبيباً مشهوراً غير مسلم يدعى «الكسي سوفورين» ألف كتاباً حول آثار الصيام لمدّة أربعين يوماً مع بيان دقيق لطرقه «1».

واعتبر بعض الكتاب الصوم لأكثر من عشرين يوماً علاجاً لبعض الأمراض.

إنّ الاضراب عن الطعام ومنه «الاضراب عن الماء» متداول في عصرنا الراهن وأحياناً يتجاوز الأربعين يوماً.

ولكن لماذا يتعجب هؤلاء المشككون من الصوم لمدّة ثلاثة أيّام والامساك عن الطعام والافطار بالماء لوحده؟ أليس هدفهم هو تعطيل هذه الفضيلة العظمى بأي وسيلة متاحة؟

______________________________

(1) ترجم هذا الكتاب إلى العربية واسمه «التطبيب بالصوم».

نفحات القرآن، ج 9، ص: 213

6 و 7- آيات مقدّمة سورة «البراءة» وآية «سقاية الحاجّ»

اشارة

في سورة التوبة، وفي موضعين منها نزلت آيات تتضمن مناقب عظيمة لأمير المؤمنين عليه السلام بلحاظ سبب نزولها والروايات التي نقلها أغلب المفسرين والمؤرخين والمحدّثين.

الاولى آيات مقدّمة سورة البراءة
اشارة

الآيات التي في مطلع هذه السورة التي نزلت بشأن اعلان الحرب على المشركين الذين ينقضون العهد، وقد اتفق كافة المفسرين والمؤرخين تقريباً على أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله وأثناء نزول هذه الآيات في السنّة التاسعة للهجرة التي تعلن فيها عن نقص العهد مع المشركين، اختار «أبا بكر» لابلاغ هذا الأمر إلى عامة الناس في مكة خلال الحج، ولكن لم يمض من الوقت شي ء حتى استرجع الآيات منه وأعطاها لعلي عليه السلام وأمره بابلاغها إلى أهل مكة في مراسم الحج، وهكذا فعل.

وبالرغم من وجود جدل بين المحدثين والمفسرين والمؤرخين في تفرعاتها، نشير هنا إلى جانب من هذه الروايات:

1- يقول أحمد بن حنبل الإمام السنّي المعروف في مسنده الذي هو أحد كتب الحديث المعروفة لدى السنةّ: إنّ النبيّ صلى الله عليه و آله بعث بالبراءة إلى أهل مكة مع أبي بكر، لا يحج بالبيت مشرك ولا يطوف بالبيت عريان، ولا يدخل الجنة إلّانفس مسلمة، من كان بينه وبين رسول اللَّه صلى الله عليه و آله مدّة فأجله إلى مدّته، واللَّه بري ء من المشركين ورسوله، قال: فسار بها ثلاثاً، ثم قال

نفحات القرآن، ج 9، ص: 214

لعلي عليه السلام: إلحقه فَرُدَّ عليَّ أبا بكر وبلغها أنت، قال: ففعل، قال: فلما قدم على النبي صلى الله عليه و آله أبو بكر بكى وقال: يارسول اللَّه حدث فيّ شي ء؟ قال: «ما حدث فيك إلّاخير ولكن امرت أن لا يبلغه إلّاأنا أو رجل منّي» «1».

وينقل الترمذي في سننه المعروفة وهي من المصادر الرئيسة للحديث لدى

أهل السنّة، هذه الرواية بتعبير آخر في بحث تفسير القرآن عن أنس بن مالك، أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله بعث بالبراءة مع أبي بكر، ثمّ دعاه وقال: «لا ينبغي لأحد أن يبلغ هذا إلّارجلٌ من أهلي فدعا علياً فأعطاه إيّاها» «2».

ثمّ نقل الترمذي رواية اخرى عن ابن عباس حول هذا الموضوع، ولكن أكثر تفصيلًا وبياناً «3»، واللطيف أنّه يقول بعد نهاية الحديثين، سواء عنه أم نقلًا عن الآخرين: هذا حديث حسن غريب، إلّاأنّه لم يعبر بهذا بشأن غيرهِ من الروايات سواء قبله أو بعده، وهذا بحدّ ذاته من الامور الغريبة، وكأن كل حديث يروي منقبة استثنائية بحق علي عليه السلام يعتبر غريباً بنظرهم.

2- ينقل السيوطي في الدر المنثور عن «عبد اللَّه بن أحمد بن حنبل» و «ابن مردويه» عن علي عليه السلام لما نزلت الآيات العشر الاولى من سورة التوبة على النبيّ صلى الله عليه و آله دعا أبا بكر ليأخذ هذه الآيات ويقرأها على أهل مكة؛ ثمّ دعاني النبي صلى الله عليه و آله فقال لي: أدرك أبا بكر فحيثما لحقته فخذ الكتاب منه فاذهب به إلى أهل مكة فاقرأه عليهم فلحقته بالجحفة فأخذت الكتاب منه، فرجع أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه و آله فقال: يا رسول اللَّه نزل فيّ شي ء؟ قال: «لا، ولكن جبرئيل جاءني فقال: لن يؤدّي عنك إلّاأنت أو رجل منك» «4».

3- وفي نفس الكتاب يروي عن «أحمد» و «الترمذي» و «ابن مردويه» أيضاً عن «انس» بأنّه صلى الله عليه و آله بعث بآيات البراءة مع أبي بكر، ثمّ دعاه وقال: «لا ينبغي لاحد أن يبلغ هذا إلّارجل

______________________________

(1) مسند أحمد، ج 1، ص 3.

(2) سنن الترمذي،

ج 4، ص 339، ح 5085.

(3) المصدر السابق، ح 3091.

(4) تفسير در المنثور، ج 3، ص 209.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 215

من أهلي، فدعا علياً فأعطاها إيّاه» «1».

4- ويروي أيضاً في هذا الكتاب عن «سعد بن أبي وقاص»: إنّ النبيّ صلى الله عليه و آله بعث بآيات البراءة مع أبي بكر إلى مكة حتى إذا كان ببعض الطريق أرسل علياً عليه السلام فأخذها منه ثمّ سار بها، فوجد أبو بكر في نفسه، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «لا يؤدّي عني إلّاأنا أو رجل منّي» «2».

5- ويروي في الكتاب نفسه عن «أبي سعيد الخدري» الصحابي المعروف: إنّ النبيّ صلى الله عليه و آله بعث أبا بكر يؤدّي عنه براءة، فلما أرسله بعث إلى علي عليه السلام فقال: يا علي أنّه لا يؤدّي عنّي إلّا أنا أو أنت فحمله على ناقته العضباء فسار حتى لحق بأبي بكر فأخذ منه براءة، فأتى أبو بكر النبي صلى الله عليه و آله وقد دخله من ذلك مخافة أن يكون قد انزل فيه شي ء، فلما أتاه قال: «مالي يا رسول اللَّه؟ (وساق الحديث) إلى أن ذكر قول النبيّ صلى الله عليه و آله: «لا يبلّغ عنّي غيري أو رجل منّي» «3».

6- وفي هذا الكتاب أيضاً يروي عن «أبي رافع» الصحابي المعروف: إنّ النبيّ صلى الله عليه و آله بعث أبا بكر بآيات البراءة إلى الحج فنزل عليه جبرئيل وقال: «إنّه لن يؤدّيها عنك إلّاأنت أو رجل منك» «4».

7- 8- روى الحاكم الحسكاني في «شواهد التنزيل» ما يقارب من اثنتي عشرة رواية بشأن هذا الموضوع عن أنس بن مالك، وابن عباس، وسعد، وأبي سعيد الخدري، وأبي هريرة، وغيرهم حيث يطول

المقام بذكرهم جميعاً، وبمقدور الراغبين الرجوع إلى الكتاب المذكور الذي هو في متناول الجميع من أجل المزيد من التحقيق «5».

وروى جماعة كثيرة اخرى أيضاً هذه الرواية بطرق مختلفة، وأنّ رواة هذا الحديث كثيرون إلى الحد الذي يقول المرحوم العلّامة الأميني: «هذا الحديث أخرجه كثير من أئمّة

______________________________

(1) تفسير در المنثور، ج 3، ص 209.

(2) المصدر السابق.

(3) المصدر السابق، ص 230 (بشي ء من الاختصار).

(4) المصدر السابق.

(5) شواهد التنزيل، ج 1، ص 232- 243 (الحديث رقم 309 و 310 و 311 و 312 و 314 و 315 و 316 و 317 و 318 و 323 و 324 و 325).

نفحات القرآن، ج 9، ص: 216

الحديث وحفاظه بعدة طرق صحيحة يتأتى التواتر بأقل منها عند جمع من القوم ثم عدد 73 نفراً منهم «1» ثم يضيف: إنّ رواة هذا الحديث ينتهي أسانيدهم إلى جمع من الصحابة الأولين منهم علي عليه السلام، أبو بكر، جابر بن عبد اللَّه الأنصاري، أنس بن مالك، أبو سعيد الخدري، سعد بن أبي وقاص، أبو هريرة، عبد اللَّه بن عمر، حبش بن جنادة، عمران بن حصين، أبو ذر الغفاري» «2».

ونختم هذا البحث بشعر ل «شمس الدين المالكي» وهو من شعراء القرن الثامن الهجري المعروفين، يقول:

وأرسلهُ عنهُ الرسول مبلّغاًوخصّ بهذا الأمر تخصيص مفردِ

وقال هل التبليغ عني ينبغي لمن ليس من بيتي من القوم فاقتدي

النتيجة:

إنَّ هذه الرواية بهذه السعة في المصادر تعتبر أحد الأدلة الواضحة على أفضلية علي عليه السلام على غيره بعد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله واعتماده صلى الله عليه و آله عليه، وغاية قربه من اللَّه تعالى، فهو يقول بصريح القول: «أمرني جبرئيل الامين عن اللَّه بأن يبلغ علي هذه الآيات»، وقال

صلى الله عليه و آله: «لن يؤدّي هذا الأمر إلّاأنا أو رجل منّي، وأنّ علياً وحده المؤهل لأداء هذا العمل».

وبالنظر إلى أنّ: إلغاء العهود مع المشركين كان أحد أكثر المراحل حساسية في تاريخ الإسلام ويقتضي اطلاعاً وتدبيراً وشجاعة استثنائية وكان من الممكن أن يواجه ردود فعل قوية من قبل المعارضين أثناء مراسم الحج، فإنّ اختيار علي عليه السلام لهذه المهمّة كان أفضل دليل على أنّه أعلم الامّة وأشجعها وأكثرها تدبيراً، ومن المسلّم به أنّ الذي يُختار لهذا الأمر أكثر أهلية وأجدر لخلافة النبيّ صلى الله عليه و آله.

والجدير بالاهتمام أنّ أبا بكر نفسه أدرك هذا الأمر أيضاً، وعند حضوره عند النبيّ صلى الله عليه و آله

______________________________

(1) للاطلاع على اسماء هؤلاء ال 73 شخص راجعوا كتاب الغدير، ج 6، ص 341- 388.

(2) الغدير، ج 6، ص 341- 348.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 217

استفسر باضطراب: هل نزل شي ء بحقي؟ فأجابه النبيّ صلى الله عليه و آله: «هذا العمل يؤدّيه شخص منّي!».

وهنا نلاحظ أنَّ المشككين- بما امتلكوه من حكم مسبق- بذلوا كل مابوسعهم من أجل التقليل من أهميّة هذه المنقبة، وتجاوزوا هذه المسألة بتحليلاتهم الواهية.

فمثلًا يقول «الآلوسي» في «روح المعاني»: هذا الحديث يدل باختصار على افضلية علي عليه السلام وقربه من الرسول صلى الله عليه و آله، وهذا ما لا ينكره مؤمن، لكنه لا يدل أبداً على أنّ علياً أليق بامر الخلافة من أبي بكر، ثمّ يضيف قائلًا: وقد ذكر بعض أهل السنّة نكتة في نصب أبي بكر أميراً للناس في حجهم ونصب الأمير «كرم اللَّه وجهه» مبلغاً نقض العهد في ذلك المحفل، وهي أنّ أبا بكر كان مظهراً لصفة الرحمة والجمال، وعلي عليه السلام هو أسد اللَّه

ومظهر جلاله ففوض إليه نقض عهد الكافرين الذي هو من آثار الجلال وصفات القهر فكانا عينين فوّارتين يفور من إحداهما صفة الجمال، ومن الاخرى صفة الجلال في ذلك الجمع العظيم الذي كان أنموذجاً للحشر ومورداً للمسلم والكافر.

يقول الآلوسي بعد ذكره لهذا الكلام: «ولا يخفى حسنه لو لم يكن في البين تعليل النبي صلى الله عليه و آله» «1».

وكما قال «الآلوسي» في كلامه الأخير فإنّ هذا التحليل «الشاعري» لا يتفق وقول النبيّ صلى الله عليه و آله، فهو يقول بصراحة: لقد أمرني جبرئيل عن اللَّه أنّ هذا الأمر لايؤدّيه إلّاأنا أو رجل منّي، أي رجل نظير للنبي صلى الله عليه و آله ويمتلك مواصفات خاصة وأقرب الناس إليه، ونحن نعلم أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله كان جامعاً لصفات الجمال والجلال.

لماذا يصر هؤلاء الاخوة على إغفال منقبة بهذه العظمة أو يحرفونها عن منحاها الحقيقي بتبريرات شاعرية، مخافة أن يستند إليها الشيعة ويثبتوا حقانية مذهبهم؟!

وننهي كلامنا هذا بالحديث الذي روي عن أبي ذر الغفاري في كتاب «مطالب السؤال»، فهو يقول: قال النبي صلى الله عليه و آله: «علي منّي وأنا من علي ولا يؤدّي إلّاأنا أو علي» «2».

______________________________

(1) تفسير روح المعاني، ج 10، ص 47.

(2) مطالب السؤال، ص 18 (على ضوء نقل الغدير، ج 6، ص 348).

نفحات القرآن، ج 9، ص: 218

الثانية: آية سقاية الحاج

نقرأ في قوله تعالى «أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الحَاجِّ وَعِمارَةَ الَمَسْجِدِ الحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَاليَومِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِى سَبيلِ اللَّهِ لَايَستَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَايَهدِى القَومَ الظَّالِميِنَ».

(التوبة/ 19)

لقد أورد الحاكم الحسكاني الحنفي في «شواهد التنزيل» ما يربو على عشر روايات من طرق مختلفة في ذيل هذه الآية، تثبت أنّها نزلت بحق علي عليه السلام.

ففي احدى

هذه الروايات ينقل عن أنس بن مالك: إنّ «العباس بن عبد المطلب» و «شيبة» قعدا يفتخران، فقال له العباس: أنا أشرف منك، أنا عم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ووصي أبيه وساقي الحجيج، فقال شيبة: أنا أشرف منك، أنا أمين اللَّه على بيته وخازنه، أفلا أئتمنك كما ائتمنني؟ فاطّلعَ عليهما علي عليه السلام فأخبراه بما قالا، فقال علي عليه السلام: أنا أشرف منكما، أنا أول من آمن وهاجر، فانطلقوا ثلاثتهم إلى النبي صلى الله عليه و آله فأخبروه فما أجابهم بشي ء، فانصرفوا فنزل عليه الوحي بعد أيّام فأرسل إليهم فقرأ: «أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحَاجِّ ...» إلى آخر العشر «1».

وورد هذا المضمون أيضاً بشي ء من الاختلاف في بقيّة الروايات.

وجاء في بعضها: لما سمع العباس بنزول الآية قال ثلاثاً: «إنا قد رضينا».

وبالإضافة إلى «الحاكم الحسكاني» فقد نقل هذه الروايات أيضاً جمع غفير- بعضهم بشكل مفصل وبعضهم على نحو الاختصار- في كتبهم، منهم:

«الطبري» في تفسيره عن «أنس بن مالك» «2».

«الواحدي» في «أسباب النزول» «3».

«القرطبي» في تفسيره «4».

______________________________

(1) شواهد التنزيل، ج 1، ص 249.

(2) تفسير جامع البيان، ج 10، ص 59.

(3) أسباب النزول، ص 182.

(4) تفسير القرطبي، ج 8، ص 91.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 219

«الفخر الرازي» في «التفسير الكبير» «1».

«الخازن» في تفسير «الخازن» «2».

«أبو البركات النسفي» في تفسيره «3».

«ابن الصباغ المالكي» في «الفصول المهمّة» «4».

وفي تفسير «الدر المنثور» وهو تفسير يستند إلى أحاديث أهل السنّة نقل روايات كثيرة بشأن نزول هذه الآية بحق علي عليه السلام، والقصة الآنفة «5».

وهنا يتبادر إلى الذهن سؤال هو: أليس التفاخر أمر منبوذ في الإسلام؟ فلم يُقْدِم أمير المؤمنين عليه السلام على هذا الأمر؟

تتضح الاجابة عن هذا السؤال من خلال الالتفات إلى قضية

واحدة وهي: إنّ الناس ربّما يقعون بالخطأ في تشخيص القيم، فيتركون القيمة الحقيقية ويتبعون الامور المتأخرة من ناحية القيمة، ففي مثل هذه الحالات لا مانع من الافتخار والتباهي من أجل توضيح الحقيقة، بل تعتبر واجباً في بعض الحالات، فمثلًا ربّما يفتخر شخص بنفسه في احدى المجالس قائلًا: إِنني امتلك الثروة الفلانية، وآخر يقول: إنّ القصر الفلاني يعود لي، ويقول ثالث: كفاني فخراً إنني أمير بلدي!.

وينبري شخص قد جلس هناك فيقول من أجل ابراز القيم الحقيقية:

بالرغم من افتقاري للمال والثروة والمقام والجاه إلّاأنني افتخر بكوني حافظاً للقرآن.

فهذا الفعل لايعد قبيحاً بل هو درس بليغ.

______________________________

(1) تفسير الكبير، ج 4، ص 422.

(2) تفسير الخازن، ج 2، ص 221.

(3) تفسير أبو البركات، ج 2، ص 221.

(4) الفصول المهمّة، ص 123.

(5) تفسير در المنثور، ج 3، ص 218 و 219.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 221

8- آية «صالح المؤمنين»

نقرأ في القرآن الكريم، أنّ الباري جل وعلا خاطب بعض نساء النبيّ صلى الله عليه و آله اللواتي ارتكبن مخالفة، قائلًا: «وَانْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَانَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الُمؤْمِنيِنَ وَالمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلَكَ ظَهِيرٌ». (التحريم/ 4)

إِنَّ عبارة «صالح المؤمنين» تشمل المؤمنين والصالحين والصادقين من أصحاب النبيّ صلى الله عليه و آله، وليس الصحابة والأنصار الذين عاصروه فحسب، بل هي تشمل المؤمنين والصالحين في سائر الدهور والأعصار أيضاً، أولئك الذين يتصدون لنصرة الإسلام والنبيّ صلى الله عليه و آله ورسالته بمختلف السبل.

بيدَ أنّ المهم هنا أنّ «صالح المؤمنين» فسرت في روايات عديدة بعلي عليه السلام، وتؤكد على أنّه أفضل واكمل مصداق لهذه الآية، ونظراً لمجيئه جنباً إلى جنب جبرئيل تتجلى عظمة منزلته وأهميّة هذه الفضيلة جيداً.

نعم فقد كان علي عليه السلام أفضل نصير لرسول اللَّه صلى

الله عليه و آله مدى حياته بعد اللَّه وجبرئيل الأمين، وعليه فمن يستحق أن يخلف النبيّ صلى الله عليه و آله غيره؟ ألا تدل هذه الروايات على أنّه كان أفضل الامّة، وأفضل الخلق بعد النبي صلى الله عليه و آله؟

والآن لننظر في اسناد هذه الروايات ونتطرق إلى جانب منها الذي اقتطف بشكل عام من مصادر أهل السنّة:

ينقل «الحاكم الحسكاني» ثمانية عشر حديثاً! في ذيل هذه الآية من مختلف الطرق، بأنّ المراد من «صالح المؤمنين» علي بن أبي طالب عليه السلام، منها: إنّه يروي عن «أسماء بنت

نفحات القرآن، ج 9، ص: 222

عميس» تقول: سمعت النبيّ صلى الله عليه و آله يقول: «صالح المؤمنين علي بن أبي طالب» «1».

وروي في الكتاب نفسه عن «ابن عباس» أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال بحق علي بن أبي طالب عليه السلام: «هو صالح المؤمنين» «2».

ويروي عن «عمار بن ياسر» قوله: سمعت علياً عليه السلام يقول: دعاني رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وقال:

«ألا أُبشرك: قلت: بلى يا رسول اللَّه ومازلت مبشراً بالخير، قال: قد أنزل اللَّه فيك قرآناً، قلت: وما هو يا رسول اللَّه؟ قال: قُرنت بجبرئيل، ثم قرأَ: وجبريل وصالح المؤمنين» «3».

وينقل هذا المعنى أيضاً في رواية أُخرى عن «حذيفة».

وفي رواية ينقل عن «ابن سيرين»، وفي اخرى عن «علي بن أبي طالب» نفسه، أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله قال: «صالح المؤمنين، علي بن أبي طالب» «4».

كما نقل الكثير من المفسرين هذا الحديث في تفاسيرهم، منهم السيوطي في «الدر المنثور» في ذيل الآية عن «ابن عباس» و «أسماء بنت عميس».

ويقول «البرسوئي» في تفسير «روح البيان» بعد نقله لهذه الأقوال في ذيل هذه الآية:

منها قول

مجاهد في أنّ المراد من صالح المؤمنين، علي عليه السلام ويؤيده قوله صلى الله عليه و آله: «يا علي أنت منّي بمنزلة هارون من موسى ، ثمّ ينقل آيات عديدة حيث اطلق الباري تعالى كلمة الصالحين في القرآن الكريم على كبار الأنبياء، ويستنتج بأنّه لمّا كان علي عليه السلام بمنزلة نبي اللَّه «هارون»، فهو جدير بصفة الصالحين «5».

بالإضافة إلى أنّ هذه الرواية نقلت من قبل جماعة آخرين مثل «العسقلاني» في «فتح الباري»، و «ابن حجر» في «الصواعق»، و «علاء الدين المتقي» في «كنز العمال».

وخلاصة القول: إنّها منقبة عظيمة لا نظير لها إذ قرن اللَّه تعالى صالح المؤمنين بجبرئيل،

______________________________

(1) شواهد التنزيل، ج 2، ص 256، ح 982.

(2) المصدر السابق، ص 258، ح 987.

(3) المصدر السابق، ص 259، ح 989.

(4) المصدر السابق، ص 255- 263.

(5) تفسير روح البيان، ج 10، ص 53.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 223

ومصداقها التام والكامل على ضوء هذه الروايات علي بن أبي طالب عليه السلام.

نعم، فقد كان جنباً إلى جنب النبيّ صلى الله عليه و آله في جميع مراحل حياته، وكان يعد نصيراً وظهيراً له في الأحوال جميعاً، وهو اجدر الجميع بخلافته صلى الله عليه و آله.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 225

9- آية الوزارة

اشارة

نقرأ في القرآن الكريم على لسان موسى عليه السلام: «وَاجْعَلْ لِىّ وَزِيرًا مِنْ أَهِلىِ* هاروُنَ أَخِى* أشُدُدْ بِهِ ازْرِى* وَاشْرِكْهُ فِى أَمْرِى». (طه/ 29- 32)

فهذه الآيات تبين طلبات موسى عليه السلام في بداية بعثته.

في ذيل هذه الآيات نشاهد روايات عديدة أيضاً في مصادر أهل السنّة، مَفادُها أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله قد سأل اللَّه ذلك من أجل تحقيق أهداف رسالته، مع فارق أنّه جعل اسم علي عليه السلام بدل اسم هارون، وفيما

يلي تطالعون بعضاً من هذه الروايات:

1- روي في «شواهد التنزيل» عن «حذيفة بن اسيد» أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله أمسك بيد علي بن أبي طالب عليه السلام وقال: «ابشرْ، وأبشر، أنّ موسى دعا ربّه أن يجعل له وزيراً من أهله هارون، وإنّي أدعو ربّي أن يجعل لي وزيراً من أهلي عليّاً أخي، أُشدْدُ به ظهري واشركه في أمري» «1».

2- في رواية اخرى يروي عن «أسماء بنت عميس» تقول: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول: «اللّهم إنّي أقول كما قال أخي موسى اللّهم اجعل لي وزيراً من أهلي، علياً أخي، أشدد به أزري، واشركه في أمري، كي نسبحك كثيراً، ونذكرك كثيراً، إنّك كنت بنا بصيراً» «2».

بديهي أنّ المراد من الاشتراك في عمل النبيّ صلى الله عليه و آله لا تعني الشركة في النبوة، بل الشركة في أمر قيادة الامّة.

3- وفي رواية اخرى ينقل حديثاً عن «أنس بن مالك» ليس فيه إشارة إلى قصة

______________________________

(1) شواهد التنزيل، ج 1، ص 368، ح 510.

(2) المصدر السابق، ص 370، ح 511.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 226

موسى عليه السلام، بل مطروح فيه مسألة الخلافة والوزارة، فيقول: قال رسول اللَّه عليه السلام: «إنّ خليلي ووزيري وخليفتي في أهلي، وخير من أترك بعدي، ينجز موعدي ويقضي ديني، علي بن أبي طالب» «1».

4- روي هذا الحديث باختلاف بسيط أيضاً عن سلمان الفارسي «2».

5- ويروي الحافظ أبو نعيم الاصفهاني وهو من علماء القرن الخامس الهجري في كتاب «مانزل من القرآن في علي» ماتضمنهُ حديث «أسماء بنت عميس» عن «ابن عباس»، وفي نهايته يقول ابن عباس: بعد دعاء النبي صلى الله عليه و آله هذا سمعت منادياً ينادي: «يا

أحمد قد اوتيت ما سألت» «3».

6- وينقل «الفخر الرازي» في تفسيره الكبير هذه الرواية بمزيد من التفصيل عن «أبي ذر الغفاري» عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إلى أن يقول: لما تصدق علي عليه السلام بخاتمه ... فأقبل السائل حتى أخذ الخاتم بمرأى النبي صلى الله عليه و آله فقال: «اللّهم إنّ أخي موسى عليه السلام سألك فقال: ربّ اشرح لي صدري (إلى قوله) وأشركه في أمري فانزلت قرآناً ناطقاً، سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطاناً، اللّهم وأنا محمد نبيّك وصفيك فاشرح لي صدري ويسر لي أمري واجعل لي وزيراً من أهلي علياً اشدد به ظهري»، قال أبو ذر: فواللَّه ما أتمّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله هذه الكلمة حتى نزل جبرئيل فقال: يامحمد اقرأ: «انَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ...» إلى آخرها «4».

إنّ إسناد وطرق هذه الرواية والكتب التي رويت فيها من الكثرة بحيث لا يستوعبها هذا الموجز وقد أُشير إلى جانب منها فقط.

مضمون آية وروايات «الوزارة»:

تقول هذه الروايات بجلاء: إنّ النبيّ صلى الله عليه و آله دعا واستجاب له اللَّه تعالى كما استجاب

______________________________

(1) شواهد التنزيل، ج 1، ص 374، ح 516.

(2) المصدر السابق، ج 1، ص 77، ح 115.

(3) ملحقات احقاق الحق، ج 20، ص 128.

(4) تفسير الكبير، ج 12، ص 26 (ذيل الآية 55 من سورة المائدة).

نفحات القرآن، ج 9، ص: 227

لموسى وكان دعاؤه أن يجعل له وزيراً من أهله يشاركه في أمره، ويشدَّ به أزره، كما هو هارون لموسى عليه السلام تماماً.

وكما جرت الإشارة فإنّ من المسلَّم به ليس المراد من الشركة الاشتراك في أمر النبوة، إذ لا نبي بعد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله الذي كان

خاتم النبيين، ومعلوم أيضاً ليس المراد المشاركة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإرشاد، وتبليغ الرسالة فحسب، لأنّها تكليف المسلمين جميعاً، فيجب على الجميع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى الجميع كل حسب وسعه نشر الإسلام وهداية الآخرين.

على هذه الأساس، فالمراد مقام خاص غير النبوّة والتكليف العام بالأمر بالمعروف، وهل يمكن أن تكون هذه القضية سوى القيادة والوزارة من قبل الباري عزّ وجلّ؟ والنتيجة المباشرة لهذا الأمر هي أنّه عليه السلام سيكون خليفة النبي صلى الله عليه و آله.

وبعبارة اخرى، ثمّة تكاليف لا تمثل واجب جميع الناس، وهي صيانة الرسالة الإلهيّة من كل تحريف وانحراف، وكذلك توضيح ما ليس يدركه الناس في مضمون الدين، وقيادة الامّة أثناء غياب النبي صلى الله عليه و آله وبعد رحيله، والمساعدة المؤثرة في تحقيق أهدافه، حيث تختصر جميعها في كلمة وزير «1».

وهذا ما سأله النبيّ صلى الله عليه و آله من اللَّه بحق علي عليه السلام، واستجاب اللَّه دعاءه.

وهنا يتضح الرد على وساوس بعض المفسرين الذين لايطيقون الاذعان لمثل هذه المناقب بحق علي عليه السلام.

فهم يحاولون تفسير «الشركة في أمر النبيّ صلى الله عليه و آله» بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر «2»، والحال أنّنا نعلم أنّها واجب المسلمين جميعاً، ولا تحتاج إلى تعيين وزير من قبل اللَّه تعالى.

______________________________

(1) «الوزير» من مادة «وزر»، حيث إنّ الوزير يتحمل ثقل المسؤوليات المختلفة على عاتقه، فقد اطلقت هذه الكلمة عليه.

(2) تفسير روح المعاني، ج 16، ص 185.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 229

10 و 11- آيات سورة الاحزاب

اشارة

هنالك آيات في سورة الأحزاب نزلت بحق علي عليه السلام على ضوء قول طائفة من المفسرين، أو أنّها ناظرة إلى تضحياته الفريدة من نوعها.

فنقرأ في قوله تعالى «مِّنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا

مَاعَاهَدوُا اللَّهَ عَلَيهِ فَمِنْهُمْ مَّنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبدْيلًا». (الاحزاب/ 23)

ويقول تعالى (أي بعد آيتين): «وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ المُؤْمِنِينَ القِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً». (الاحزاب/ 25)

نحن نعلم أنّ معركة الأحزاب كانت من أهم الغزوات في الإسلام، فهي كما يتضح من اسمها تعتبر صراع جميع أعداء الإسلام ضد المسلمين، وتظافرت كافة الفرق التي تعرضت مصالحها للخطر نتيجة لانتشار الدين الإسلامي، من أجل القضاء على الإسلام ورسول اللَّه صلى الله عليه و آله، ولتطمئن قلوبهم إلى الأبد!.

فهناك سبع عشرة آية من سورة الأحزاب شرحت أحوال هذه المعركة، وقد توضحت فيها دقائق الامور وخفاياها، وقد فصلت أحوال مختلف فرق المسلمين في هذا المضمار بدقة وظرافة.

لقد مرّت على المسلمين لحظات حرجة وخطيرة للغاية في هذه المعركة، فحشود العدو، وقلة الجيش الإسلامي في مقابلهم (ذكر المؤرخون عدد جيش الأحزاب بعشرة الآف رجل، والجيش الإسلامي بثلاثة الآف رجل) بالإضافة إلى استعداد العدو من حيث المعدات الحربية وقلة عدّة المسلمين.

فالآيتان من ضمن هذه الآيات السبع عشرة.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 230

ويروي صاحب «شواهد التنزيل» في ذيل الآية الاولى بسنده عن علي عليه السلام قوله: «فينا نزلت رجال صدقوا ما عاهدوا اللَّه عليه، ثمّ قال: فأنا واللَّه المنتظر» «1».

ويروي عن «عبد اللَّه بن عباس» أيضاً: إنّ الآية «مِّنَ المُؤمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيهِ» ناظرة إلى علي عليه السلام والحمزة وجعفر، وعبارة «وَمِنْهُم مَّن يَنْتَظِرُ» إشارة إلى علي عليه السلام الذي كان ينتظر الشهادة في سبيل اللَّه، «فواللَّه لقد رُزق الشهادة» «2».

وروي هذا المعنى أيضاً في كل من «الصواعق المحرقة» لابن حجر، و «الفصول المهمّة» لابن الصباغ المالكي، و «الكشف والبيان» للنيسابوري

«3».

البحث فيما يتعلق بالآية الثانية أكثر اتساعاً من هذا، فقد قال الكثير من المحدثين والمفسرين: إنّ «كَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ القِتَالَ ...» إشارة إلى علي عليه السلام وضربته المؤثرة التي وجهها لعمر بن عبد ود وكفى المؤمنين قتال الكفار.

ومن بين الذين رووا هذا المعنى هو «عبد اللَّه بن مسعود»، فعندما كان يقرأ هذه الآية كان يقول في تفسيرها: «و كفى اللَّه المؤمنين القتال، بعلي بن أبي طالب» «4».

ويروي «الحاكم الحسكاني» عدّة أحاديث بهذا المضمون عن عبد اللَّه بن مسعود «5».

ويروي عن ابن عباس أيضاً أنّه لمّا قرأ آية «وكفى اللَّه المؤمنين القتال» قال: «كفاهم اللَّه القتال يوم الخندق بعلي بن أبي طالب، حين قتل عمرو بن عبد ود» «6».

كما روى عن حذيفة الصحابي المعروف حديثاً مفصّلًا حول نزال علي عليه السلام لعمرو بن عبد ود وقتله، ثمّ يقول: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «أبشر يا علي! فلو وزن اليوم عملك بعمل امّة

______________________________

(1) شواهد التنزيل، ج 2، ص 1 و 2، ح 627.

(2) المصدر السابق.

(3) علي في الكتاب والسنّة، ص 218.

(4) شواهد التنزيل، ج 2، ص 3، ح 629.

(5) المصدر السابق، ح 630 و 631 و 632.

(6) المصدر السابق، ص 5، ح 633.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 231

محمد لرجح عملك بعملهم وذلك أنّه لم يبق بيت من بيوت المسلمين إلّاوقد دخله عزٌ بقتل عمرو» «1».

وينقل نفس المعنى عن «ابن حكيم» عن جده عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.

ينقل «السيوطي» في الدر المنثور عن «ابن أبي حاتم»، و «ابن مردويه»، و «ابن عساكر» عن «ابن مسعود» أنّه لما كان يقرأ هذه الآية، يقول (في شرحها): «وكفى اللَّه المؤمنين القتال بعلي بن أبي طالب» «2».

ونقل

هذا المعنى العلّامة «الشيخ سليمان القندوزي» في «ينابيع المودة» «3».

ونقل فريق آخر يطول المقام بذكر أسمائهم، هذا الحديث أيضاً.

والجدير بالاهتمام أنّ مضمون هذه الآيات ومن خلال الشرح المذكور هو أنّ علياً عليه السلام كان السبب في انتصار المسلمين بإذن اللَّه في ذلك الميدان الخطير للغاية، حيث كانت معركة الأحزاب السهم الأخير بيد العدو، وهي أصعب مؤامرات المشركين ضد الإسلام، نعم، فقد كان مجريا للإرادة الإلهيّة، واحد الأسباب المهمّة لانتصار المسلمين في هذه المعركة، فلا تشاهد هذه المنقبة لأي أحد من امّة محمد صلى الله عليه و آله سوى علي عليه السلام.

ألا يستحق من يفوق عمله هذا عمل كافة امّة محمد صلى الله عليه و آله، خلافة النبيّ صلى الله عليه و آله؟!

سؤال:

ربّما يقال هنا: إنّه قد جاء في الآية التي تشير بالإجمال إلى قصة معركة الأحزاب:

«يَاايُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيكُمْ اذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَارْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعمَلُونَ بَصِيراً». (الاحزاب/ 9)

طبقاً لهذه الآية، فأحد أسباب هزيمة الاحزاب كانت الريح العاصفة التي هبت عليهم، والسبب الآخر الجنود غير المرئيين (الملائكة)، وعليه فكيف يمكن القول: إنّ علياً عليه السلام كان سبب الانتصار؟

______________________________

(1) شواهد التنزيل، ج 2، ص 7، ح 634.

(2) تفسير در المنثور، ج 5، ص 192.

(3) ينابيع المودة، ص 94.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 232

الجواب: هو أنّ الانتصار في معركة ما، ربّما تكون له عوامل متعددة كالعامل العسكري، والطبيعي، والمعنوي، وغيرها، وممّا لا شك فيه أنّ ثلاثة عوامل قد تظافرت في هذه المعركة بحيث لا يتسنّى انكار أي منها أبداً، وهي: مصرع عمربن عبد ود فارس الأحزاب على يد علي عليه السلام، وهبوب الرياح، وجيش الملائكة، ففي جميع الحالات التي

تتظافر فيها عوامل عديدة في صنع حادث ما، يمكن نسبة ذلك الحادث إلى واحد منها أو إليها جميعاً.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 233

12- آية البينة والشاهد

«أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّنْ رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ». (هود/ 17)

لقد أورد «الحاكم الحسكاني» في «شواهد التنزيل» روايات عديدة تناهز ال 16 رواية في ذيل هذه الآية تشهد بأنّ المراد من الشاهد في الآية أعلاه علي عليه السلام «1»، من ضمنها ما نقله عن «أنس بن مالك» في أنّ المراد من عبارة «أَفَمَن كَان عَلَى بَيَّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ ...»، محمد صلى الله عليه و آله، والمراد من عبارة «وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنّهُ ...»، علي بن أبي طالب. فهو كان لسان حال النبيّ صلى الله عليه و آله لأهل مكة في نقض العهد معهم».

وينقل في رواية اخرى عن «ابن عباس» أنّه قال في تفسير: « «وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنهُ ...»: هو علي خاصّة» «2».

وينقل عن زإذان (أحد أصحاب علي عليه السلام) عن علي عليه السلام أنّه قال: «لو ثنيت لي الوسادة فجلست عليها لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم وبين أهل الانجيل بانجيلهم وبين أهل الزبور بزبورهم وبين أهل الفرقان بفرقانهم بقضاء يزهر يصعد إلى اللَّه، واللَّه مانزلت آية في ليل أو نهار ولا سهل ولا جبل ولا بر ولا بحر إلّاوقد عرفت أي ساعة نزلت وفيمن نزلت، وما من قريش رجل جرى عليه المواسي إلّاقد نزلت فيه آية من كتاب اللَّه تسوقه إلى جنة أو تقوده إلى نار، فقال قائل: فما نزل فيك يا أمير المؤمنين؟ قال: «افَمَن كَان عَلَى بَيَّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتلُوُه شَاهِدُ مِّنهُ» محمد صلى الله عليه و آله على بيّنة من ربّه وأنا الشاهد

منه أتلو آثاره» «3».

______________________________

(1) شواهد التنزيل، ج 1، ص 280، ح 383.

(2) المصدر السابق، ص 369، ح 387.

(3) شواهد التنزيل، ج 1، ص 280، ح 384.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 234

وأورد السيوطي في تفسير «الدر المنثور» أيضاً روايات عديدة في هذا الصدد، منها أنّه ينقل عن «ابن أبي حاتم»، و «ابن مردويه»، و «أبي نعيم» عن علي بن أبي طالب، أنّه قال: «ما من رجل من قريش إلّانزل فيه طائفة من القرآن».

فسأله رجل: مانزل فيك؟ قال عليه السلام: أما تقرأ سورة هود: «أفمن كان على بيّنة من ربّه ويتلوه شاهد منه» رسول اللَّه صلى الله عليه و آله على بيّنة من ربّه، وأنا شاهد منه «1».

ثمّ أورد عدّة أحاديث بهذا المعنى «2».

وفي تفسير «روح المعاني» وبعد نقله لرواية «ابن أبي حاتم»، و «ابن مردويه»، عن علي عليه السلام في أن نزول هذه الآية بحقه عليه السلام، ويروي هذا المعنى أيضاً في حديث آخر عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ»، أنا، «وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنهُ» علي يقول:

لقد استدل بعض الشيعة أَنَّ علياً (كرم اللَّه وجهه) هو خليفة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لأنّ اللَّه تعالى سمّاه شاهداً في قوله: «انَّا أَرْسَلنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً». (الفتح/ 8)

فينبغي أن يكون مقام علي كمقامه صلى الله عليه و آله، وحيث أخبر أنّه يتلوهُ أي يعقبه ويكون بعده دلّ على أنّه خليفته.

ثمّ يقول: هذا الخبر لا يكاد يصح، وبعد ذلك ينقل رواية تفيد أنّ المراد من «الشاهد» زمان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله «3».

وقد توسل مفسّر المنار الذي لا يقل تعصباً عن الآلوسي في روح المعاني ازاء

الشيعة والقضايا المتعلقة بإمامة علي عليه السلام بكل ما لديه في تفسير الآية وأوقع نفسه في عناء عجيب، فمن جملة مايقول: ويجوز أن تكون البيّنة على هذا علمه اليقيني الضروري بنبوّته كما تقدم، ويكون الشاهد الذي يتلوه منه القرآن وهو الأظهر عندي وروي عن .... (سعيد بن جبير): إنّ البيّنة القرآن والشاهد جبريل عليه السلام ... ويتلوه من تلاوة القرآن لا من التلو والتبعية

______________________________

(1) تفسير در المنثور، ج 3، ص 324، (ذيل آية مورد البحث).

(2) المصدر السابق.

(3) تفسير روح المعاني، ج 12، ص 28.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 235

فهو الذي كان يقرأه على النبيّ صلى الله عليه و آله عند نزوله به وفي الشاهد روايات اخرى ضعيفة ومنها أنّه علي عليه السلام يرويه الشيعة ويفسرونه بالإمامة. «1».

وياللأسف، فقد كانت الأحكام والفرضيات المسبقة أهم حائل دون فهم آيات القرآن والروايات الإسلامية المشهورة، وهنا ثمّة مسائل تحظى بالأهميّة، منها:

1- المدهش أن يقال حول الرواية التي تتمتع بهذه الطرق المختلفة في الكتب المشهورة لدى أهل السنّة إنّها رواية ينقلها الشيعة، ألم يشاهد مفسّر المنار هذه الروايات الواردة في «الدر المنثور» و «شواهد التنزيل» بل حتى «روح المعاني» بشأن تفسير الشاهد بعلي عليه السلام، ويدعي: إنّ هذه الرواية نقلها الشيعة فقط، أم يجب القول أنّ كل رواية تصب في صالح مذهب التشيع هي رواية شيعية، وإن رواها العشرات من رواة أهل السنّة؟!

2- هناك طائفة من مفسري السنّة يؤمنون بأنّ المراد من الشاهد «لسان» النبيّ صلى الله عليه و آله (المعنى الذي لا يشاهد في أي موضع من القرآن).

بينما يعتبر صاحب المنار أنّها رواية ضعيفة، لعله التفت إلى هذه الحقيقة وهي أنّ تفسير «الشاهد» ب «لسان» النبي صلى الله عليه و

آله، وكذا «يتلوه» ب «تلاوة القرآن» ملي ء بالتكلف.

فيصبح المعنى الإجمالي للآية: «أفمن كان يمتلك الدليل الواضح من ربّه وهو القرآن، ويتلوه لسانه ويشهد على ذلك ... كمن ليس كذلك»، فمفهوم هذا القول هو: إنّ النبيّ صلى الله عليه و آله شاهد على نفسه، فهل يمكن للمدعي أن يكون شاهداً على نفسه؟ أم يجب أن يكون الشاهد شخصاً آخر؟ ألم يأت النبيّ صلى الله عليه و آله بالقرآن، فكيف يكون لسان النبي صلى الله عليه و آله شاهد على القرآن؟

وهل أنّ لسان النبيّ صلى الله عليه و آله ليس منه؟ فكيف نجعلُ جزءً منه شاهداً عليه؟ إنّ الذي لا يريد الاعتراف بهذه الحقائق سيقع في هذه المتاهات.

3- ما قيل من أنّ المراد من «الشاهد» هو «جبرئيل»، والحال أنّ أيّا من الناس لم يره ويجهل وجوده، فكيف يتفق ومفهوم الشهادة؟

فهل نحن مجبورون على إنشاد شعر نتورط في قافيته؟

4- الأعجب ما يقوله الآلوسي في روح المعاني: المراد من «البيّنة» القرآن و «الشاهد» صفته الاعجازية.

______________________________

(1) تفسير المنار، ج 12، ص 53.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 236

والحال أنّ كون القرآن «بيّنة» يكون من خلال اعجازه فحسب، ولا يعد القرآن «بيّنة» بدون صفاته الاعجازية، على هذا الأساس ستكون «البيّنة» و «الشاهد» واحداً، وهذا لا يتفق ومضمون الآية.

5- إنّ تفسير «البيّنة» ب «العلم اليقيني الباطني لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله» بنبوته، ومن ثمّ تفسير «الشاهد» بالقرآن الكريم من الغرائب أيضاً، فلابدّ أولًا من البحث عن معنى «البيّنة» في القرآن نفسه، فقد استعملت «البيّنة» في القرآن الكريم 19 مرة، و «البينات» وهي جمعها 52 مرة، وعادة ماجاءت بمعنى «المعجزة» أو «الكتب السماوية والقرآن الكريم» لا بمعنى العلم الباطني الفطري اللازم.

وعليه فلو أردنا

تجاوز التكلفات، فالبيّنة في الآية المذكورة تعني القرآن الذي هو المعجزة الخالدة لنبي الإسلام صلى الله عليه و آله، والشاهد شخص غير النبيّ صلى الله عليه و آله حيث يشهد على حقانيته صلى الله عليه و آله، أمّا الذين لا يرغبون في أن يفضي هذا التفسير إلى حقانية مذهب التشيع فهم على استعداد للخوض في كل أشكال التكلف من أجل نبذ هذا التفسير، لئلا يعاكس حكمهم المسبق الخط الصحيح.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 237

13- آية الصدّيقون

«وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوِلئَكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ اجْرُهُمُ وَنُورُهُمْ». (الحديد/ 19)

نقل في «شواهد التنزيل» عن «ابن أَبي ليلى عن أبيه: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «الصديقون ثلاثة: حبيب النجار مؤمن آل ياسين، وحزبيل (حزقيل) مؤمن آل فرعون، وعلي بن أبي طالب الثالث وهو أفضلهم» «1».

وورد هذا الحديث أيضاً في كتاب «الفضائل» لأحمد بن حنبل، و «معرفة الصحابة» لأبي نعيم، و «المناقب» لابن المغازلي «2».

وفي نفس كتاب «شواهد التنزيل» نقل اربعة أحاديث اخرى بهذا المعنى عن طرق اخرى «3».

ونقل الحديث الآنف الذكر في كتاب «ينابيع المودة» للشيخ سليمان القندوزي عن مسند أحمد، وأبي نعيم، وابن المغازلي، والموفق الخوارزمي، عن «أبي ليلى» و «أبي ايوب الأنصاري»، أنّهما قالا: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «الصديقون ثلاثة، حبيب النجار، وحزقيل مؤمن آل فرعون ... وعلي بن أبي طالب وهو أفضلهم» «4».

ونقل هذا المعنى أيضاً في «كنز العمال» عن ابن عباس «5».

______________________________

(1) شواهد التنزيل، ج 2، ص 223، ح 938.

(2) تعليقات- وحواشي- المحمودي على شواهد التنزيل، ج 2، ص 224.

(3) المصدر السابق، ح 939 و 940 و 941 و 942.

(4) ينابيع المودة، ص 124، الباب 42.

(5)

كنز العمال، ج 11، ص 601، ح 32897.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 238

كما نقل «احقاق الحق» هذا الحديث عن كتب وطرق مختلفة «1».

وبالرغم من أنّ هذه الروايات لا تتناول قضية الخلافة بصورة مباشرة، إلّاأنّ إثبات صفة صديق الامّة لعلي عليه السلام ترجح كفة ميزانه فيما لو قيس مع غيره، حيث تكشف عن أهليته للخلافة أكثر ممّن سواه.

والمدهش أنّه واستناداً إلى هذه الروايات الكثيرة أنّ علياً عليه السلام صديق هذه الامّة، إلّاأنّ البعض منحوا هذا اللقب إلى الآخرين، حيث نقلوا في ذيل هذه الآية أنّ الصديقين ثمانية، منهم أبو بكر وعلي عليه السلام، بَيدَ أنّ هذه الرواية ليست عن النبيّ صلى الله عليه و آله، فالروايات التي نقلت عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله تصف علياً عليه السلام بأنّه صديق هذه الامّة.

ويجدر ذكر هذا الأمر وهو أنّ عمومية مفهوم الآية لا تتعارض وهذه الروايات، فقد قلنا مراراً: إنّ مثل هذه الروايات ناظرة إلى الأكمل، أي أنّها تقول: إنّ أكمل مصداق ل «الصديق» في الامّة الإسلامية، هو علي عليه السلام الذي كان صادقاً إلى أبعد الحدود، وقد سبق رجال هذه الامّة إيماناً، وصدّق برسول اللَّه صلى الله عليه و آله، واطلق عليه النبي صلى الله عليه و آله لقب «الصديق».

وستطالعون اموراً كثيرة في هذا المضمار أيضاً في تفسير الآية اللاحقة.

______________________________

(1) احقاق الحق، ج 3، ص 243.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 239

14- آية النور

«يَاايُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحيمٌ». (الحديد/ 28)

يروى في «شواهد التنزيل» عن ابن عباس في تفسير هذه الآية، أنّ المراد من عبارة «يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَّحْمَتِهِ»، الحسن والحسين عليهما السلام الذين

وهبهما اللَّه تعالى لعلي عليه السلام، والمراد من «وَيَجْعَلْ لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ»، علي بن أبي طالب عليه السلام (حيث إنّه نبراس الامّة الإسلامية ووسيلة هدايتها) «1».

إنّ «ابن عباس» لم يقل هذا اجتهاداً منه، ففي رواية اخرى يروي في الكتاب نفسه بسنده عن «جابر بن عبد اللَّه» عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال في تفسير «يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَّحْمَتِهِ ...»: «الحسن والحسين عليهما السلام»، وقال في تفسير «وَيَجْعَلْ لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ ...»: «علي بن أبي طالب عليه السلام» «2».

ويروي في الكتاب نفسه عن أبي جعفر الباقر عليه السلام أنّه قال في تفسير هذه الآية: «من تمسك بولاية علي فله نور» «3». (تأملوا جيداً).

وفي تأييده لهذا المعنى يروي عن «أبي سعيد الخدري» أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: «أما واللَّه لا يحب أهل بيتي عبد إلّاأعطاه اللَّه عزّ وجلّ نوراً حتى يرد عليَّ الحوض» «4».

ونقل في «كنز العمال» عن علي عليه السلام أنّه قال: «أنا عبد اللَّه وأخو رسوله وأنا الصديق

______________________________

(1) شواهد التنزيل، ج 2، ص 227، ح 943.

(2) المصدر السابق، ص 228، ح 944.

(3) شواهد التنزيل، ج 2، ص 228، ح 946.

(4) المصدر السابق، ج 2، ص 228، ح 947.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 240

الأكبر لا يقولها بعدي إلّاكذّاب مفترٍ، ولقد صليت قبل الناس سبع سنين» «1».

مشيرا إلى أنَّهُ أول من آمن برسول اللَّه صلى الله عليه و آله من الرجال، وعليه فإنّه الجدير بحمل لقب «الصديق الأكبر».

وفي نفس الكتاب، نقل عن «معاذ بن عدوية» قوله: سمع علياً عليه السلام يقول على المنبر في البصرة: «أنا الصديق الأكبر آمنت قبل أن يؤمن أبو بكر وأسلمت قبل أن يسلم»

«2».

على أيّة حال، فهذه منقبة من أفضل المناقب، وصاحبها أجدر من غيره بخلافة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله.

لقد أورد العلّامة الأميني رحمه الله في الجزء الثالث من الغدير بحثاً مطولًا بشأن إيمان علي عليه السلام بالنبي صلى الله عليه و آله على أنّه أول من آمن من الرجال، وذكر مصادر كثيرة عن أشهر كتب علماء أهل السنة، حتى أنّه ذكر كثيرا من الشعر لشعراء الإسلام أيضاً كشاهد على ذلك «3».

وسنخصص فصلًا كاملًا تحت عنوان «المسلم الأول»، وسيجري البحث عن الكثير من القضايا هناك «إن شاء اللَّه».

______________________________

(1) كنزل العمال، ج 13، ص 122، ح 36389.

(2) المصدر السابق، ص 164، ح 36497.

(3) الغدير، ج 3، ص 211- 241.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 241

15- آية الانذار

«وَانْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقرِبينَ* وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ».

(الشعراء/ 214- 215)

إِنَّ هذه الآيات لها قصة معروفة حيث ذكرها جميع مؤرخي الإسلام تقريبا.

وفي تفسير هذه الآية، تشاهد رواية معروفة لدى الخاص والعام كما يقول «الطبرسي» في «مجمع البيان»، وكذا قول «الحاكم الحسكاني» في «شواهد التنزيل»، يقول «البراء بن عازب»: لمّا نزلت آية «وَانْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقرِبينَ» جمع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بني عبد المطلب وهم يومئذٍ أربعون رجلًا، الرجل منهم يأكل المسنة، ويشرب العس، فأمر علياً عليه السلام برجل شاة فأدمها ثمّ قال: ادنوا بسم اللَّه فدنا القوم عشرة عشرة فأكلوا حتى صدروا، ثم دعا بقعب من لبن فجرع، منه جرعة ثم قال لهم: اشربوا بسم اللَّه فشربوا حتى رووا، فبدرهم أبو لهب فقال: هذا ما سحركم به الرجل. فسكت صلى الله عليه و آله يومئذٍ ولم يتكلّم، ثم دعاهم من الغد على مثل ذلك من الطعام والشراب ثم أنذرهم رسول اللَّه

صلى الله عليه و آله فقال: يا بني عبد المطلب إنّي أنا النذير إليكم من اللَّه عزّ وجلّ والبشير فأسلموا وأطيعوني تهتدوا، ثم قال: من يؤاخيني (منكم) ويؤازرني ويكون وليي ووصيي بعدي وخليفتي في اهلي ويقضي ديني. فسكت القوم.

فأعادها ثلاثاً، كل ذلك يسكت القوم ويقول علي عليه السلام: أنا، فقال في المرة الثالثة: أنت، فقام القوم وهم يقولون لأبي طالب: أطع ابنك فقد أُمِّرَ عليك «1»، نقل هذا الحديث في هوامش شواهد التنزيل عن «عبد اللَّه بن عباس» وكذلك عن «أبي رافع».

وينقل عن «خصائص النسائي» أنّ «ربيعة بن ناجذ» يقول: إنّ رجلًا قال لعلي عليه السلام:

______________________________

(1) شواهد التنزيل، ج 1، ص 420 (مع الاختصار)؛ وتفسير مجمع البيان، ج 7 و 8، ص 206.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 242

ياأمير المؤمنين بم ورثت ابنَ عمك دون أعمامك؟ قال: جمع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بني عبدالمطلب فصنع لهم مداً من الطعام فأكلوا حتى شبعوا، وبقي الطعام كما هو كأنّه لم يُمس، ثم دعا بغمر فشربوا حتى رووا، وبقي الشراب كأنّه لم يُمس، أو لم يُشرب، فقال: «يا بني عبد المطلب إنّي بعثت إليكم خاصة وإلى الناس عامة وقد رأيتم من هذه الآية ما قد رأيتم، أيّكم يبايعني على أنّ يكون أخي وصاحبي ووارثي؟» فلم يقم إليه أحد فقمت إليه وكنت أصغر القوم فقال: اجلس، حتى كان في الثالثة ضرب بيده على يدي، ثم قال علي عليه السلام: بذلك ورثت ابن عمي دون عمي «1».

وقد نقل «الطبري» المؤرخ الشهير هذا الحديث أيضاً بالتفصيل، ويقول تعقيباً عليه: إنّ النبيّ صلى الله عليه و آله، أومأ إلى علي عليه السلام وقال: «إنّ هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له

وأطيعوا». فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع «2».

ثمّ نقل الطبري هذا المعنى بطرق اخرى

من الامور الظريفة أنّ الطبري المؤرخ والمفسر السنّي الكبير، الذي نقل قصة يوم الانذار في «تاريخه» بهذا النحو، عندما يأتي إلى «التفسير» (التفتوا إلى أنّ للطبري تفسيراً مفصلًا في 30 جزء، عدا التاريخ) ويصل إلى هذه الآية ويروي الحادثة المذكورة، يقول: إنّ النبيّ عليه السلام قال: «أيكم يؤازرني على هذا الأمر على أنّ يكون اخي وكذا وكذا ...، قال علي عليه السلام: أنا يا نبيَّ اللَّه أكون وزيرك ... فقال النبيّ صلى الله عليه و آله: إنّ هذا أخي وكذا وكذا» «3».

فكما تلاحظون فإنّ هذا المفسّر المعروف يعبّر «بكذا وكذا» بدلًا عن وصيي وخليفتي فيكم، وكرر هذا الأمر مرّتين لئلا يقع تعبير «الوصي والخليفة» بأيدي اتباع مذهب أهل البيت عليهم السلام ويقدمونه وثيقة على خلافة علي عليه السلام، ويصاب حكم الطبري وأمثاله المسبق الملي ء بالتعصب!.

فهل هذا هو معنى المحافظة على الأمانة في تدوين ونقل أحاديث رسول اللَّه صلى الله عليه و آله؟ ألم

______________________________

(1) تعليقات شواهد التنزيل، ج 1، ص 423.

(2) تاريخ الطبري، ج 2، ص 63.

(3) تفسير جامع البيان، ج 19، ص 75، ذيل الآية 214 من سورة الشعراء.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 243

يكن يفكر بأن تعبيره التاريخي سيوضع يوماً أمام تعبيره التفسيري ويقام القياس بينهما، وتجري محاكمتهما؟ ويجدر الانتباه إلى أنّ الطبري ليس فريداً في القيام بهذا الفعل، فهنالك الكثير ممن مارسوا ويمارسون هذه الأفعال.

فقد نقل الآلوسي هذه الرواية أيضاً في روح البيان بشكل ناقص ومعيب، ثمّ يضيف:

«ومن الروايات ما يتمسك به الشيعة فيما يدعونه من أمر الخلافة وهو مؤول أو ضعيف أو موضوع»

«1».

إنّ الأحكام المسبقة لهذا المفسر المعروف عجيبة حقاً، فهو يقول: بما إنّ هذه الرواية تصب في صالح الشيعة فأمّا يجب أن توجه، أو تضعف، أو تعتبر مزورة، أي أنّ أساس الحكم لايستند إلى الحقائق التاريخية والقرآن والسنّة، بل إلى الأحكام المسبقة وكل ما يخالفها يجب غض الطرف عنه وتبريره وتضعيفه.

ومن البديهي أنّه لو اجتمع جميع الأنبياء والكتب السماوية لعجزوا عن النفوذ إلى عقلية من يمتلك مثل هذا النمط من التفكير، وتغييره.

لقد ذكر «أحمد بن حنيل» أحد أئمّة مذاهب السنّة في كتابه المعروف ب «مسند أحمد» قصة يوم الانذار إلى أن يقول: قال علي عليه السلام قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: لما نزلت هذه الآية «وانذر عشيرتك الاقربين ...» قال: جمع النبي صلى الله عليه و آله من أهل بيته فاجتمع ثلاثون فأكلوا وشربوا فقال صلى الله عليه و آله: من يضمن عني ديني ومواعيدي ويكون معي في الجنّة ويكون خليفتي في أهلي ... فقلت: أنا «2».

يقول ابن أبي الحديد المعتزلي: أمّا خبر الوزارة (إشارة إلى الحديث الذي يثبت وزارة علي عليه السلام) فقد نقله الطبري في تاريخه عن عبد اللَّه بن عباس عن علي بن أبي طالب عليه السلام قال:

لما انزلت هذه الآية «وانذر عشيرتك الاقربين ...» على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله دعاني ... ثمّ نقل القصة إلى أن ذكر قول الرسول صلى الله عليه و آله «وقد أمرني اللَّه أن أدعوكم إليه، فأيّكم يؤازرني على

______________________________

(1) تفسير روح المعاني، ج 19، ص 135 ذيل آية البحث.

(2) مسند أحمد، ج 1، ص 111 (مع شي ء من الاختصار).

نفحات القرآن، ج 9، ص: 244

هذا الأمر على أنّ يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم؟

فقال علي عليه السلام: أنا يارسول اللَّه أكون وزيرك عليه، فقال الرسول صلى الله عليه و آله: هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم» «1».

انتبهوا إلى أنّه قد جاء في هذه الرواية وبعض الروايات المتقدمة التعبير بخليفتي فيكم، ويتضح من ذلك أنّ التعبير بالاهل في الروايات الاخرى يفيد هذا المعنى أيضاً (تأملوا جيداً).

ذكر «ابن الاثير» «2» هذه الحادثة أيضاً بالتفصيل في كتابه «الكامل»- بل وأكثر تفصيلًا من أغلب المحدثين والمؤرخين إلى أن يقول: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «أيّكم يؤازرني على هذا الأمر على أنّ يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم؟ فأحجم القوم عنها جميعاً»، فقال علي عليه السلام: «أنا يارسول اللَّه أكون وزيرك عليه ... فقال الرسول صلى الله عليه و آله: إنّ هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا» «3».

واللطيف أنّه قد عبر ب «خليفتي فيكم» في هذا الحديث أيضاً، وفي الحقيقة أنّها احدى معجزات النبي صلى الله عليه و آله إذ أنّه قال هذه العبارة بحزم لعلي عليه السلام في ذلك الحين، ولم يكن له من العمر سوى ثلاثة عشرة سنة، فمن يستطيع التنبؤ بأنّ هذا الصبي ذا الثلاث عشر عاماً سيصبح من أعظم رجال البشرية في المستقبل، ويستحق خلافة النبي صلى الله عليه و آله، والكل يسمعون له ويطيعونه؟

واللطيف أيضاً: إنّ النبيّ صلى الله عليه و آله قال هذا في الأيّام الاولى لدعوته، يوم الانذار، وكذلك في الأشهر الأخيرة من حياته المباركة، أليس هذا الكلام أفضل دليل على إمامة علي عليه السلام؟

______________________________

(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ج 13، ص 210.

(2) «ابن الاثير» من أشهر المؤرخين حيث عاش في القرن السابع، و تاريخه يقع في 13 جزء.

(3) الكامل، ج

2، ص 63.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 245

16- آية مرج البحرين

«مَرَجَ البَحرَينِ يَلتَقِيَانِ* بَيْنَهُمَا بَرزَخٌ لَّايَبْغيَانِ* فَبِأَىِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ* يَخْرُجُ مِنْهُما اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرجَانُ». (الرحمن/ 19- 22)

لقد وردت أقوالٌ كثيرة في تفسير هذه الآية، وقد ذكرنا أبحاثاً كثيرة بهذا المضمار في التفسير الأمثل، فتارة قيل: المراد من البحرين بحران ذواتا ماء عذب ومالح، حيث يتجاوران في الكثير من المناطق دون أن يختلطا مع بعضهما، ويلاحظ هذا المشهد جيداً في جميع المناطق التي تصب فيها الأنهار بالبحار.

والتفسير الآخر اللطيف لهذين البحرين، تيار «غولف استريم» والأنهار البحرية العملاقة التي تتحرك في الكثير من محيطات العالم وتأخذ المياه الدافئة من المناطق الاستوائية نحو المناطق القطبية، وربّما يختلف لونها عن لون المياة المحيطة بها، والمدهش أنّ عرضها يبلغ أحياناً مائة وخمسين كيلو متراً وعمقها عدّة مئات من الأمتار، وقد تصل سرعتها إلى 160 كم في اليوم! وتختلف درجة حرارتها عن المياه المجاورة ب 10- 15 درجة!.

إنّ هذا التيار من المياه الدافئة يخلق رياحاً دافئة ويمنح قسماً من حرارته إلى المناطق المجاورة، ويعمل على تلطيف الجو في المناطق الشمالية للكرة الأرضية التي يمر بها، ويجعلها ملائمة، ولولا هذه التيارات البحرية لتعسرت الحياة في تلك البلدان، وربّما لا يمكن تجرعها.

وطبعاً فإنّ «غولف استريم» اسم لأحد التيارات والأنهار البحرية، ويشاهد شبيه ذلك في مياه القارات الخمس، وأنّ السبب الرئيس لهذه الحركة هو الاختلاف بين درجة حرارة مياه المناطق الاستوائية ومياه المناطق القطبية. «1»

______________________________

(1) للمزيد من التفصيل في هذا الصدد وبشأن هذه الآيات راجعوا الى التفسير الأمثل ذيل الآيات مورد البحث.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 246

وحيث إنّ آيات القرآن ذوات ظاهر وباطن، فقد تفسر تفسيراً مادياً ومعنوياً، ففي الروايات الإسلامية فسر هذان البحران بعلي وفاطمة عليهما السلام،

وفسر اللؤلؤ والمرجان معنوياً بالحسن والحسين عليهما السلام.

فقد روي في «شواهد التنزيل» عن «سلمان الفارسي» في تفسير آية «مرج البحرين يلتقيان» أنّ «المراد هو علي وفاطمة عليهما السلام» ثمّ يضيف: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان، يعني الحسن والحسين» «1»، ونقل هذا المعنى بطريق آخر عن «ابن عباس» و «الضحاك» «2».

وجاء في رواية اخرى عن «سعيد بن جبير» عن «ابن عباس» أنّ المراد من «مرج البحرين يلتقيان» علي وفاطمة عليهما السلام، والمراد من «بينهما برزخ لا يبغيان» حب دائم لا ينقطع ولا ينفد، والمراد من «يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان» الحسن والحسين عليهما السلام «3».

وورد في رواية اخرى تعبير أكثر وضوحاًا عن «ابن عباس» بشأن «بينهما برزخ لايبغيان» وهو أنّ المراد «ود لا يتباغضان» «4».

وفي الحقيقة أنّ البرزخ يعني «الحائل بين شيئين» فالمحبة هنا تحول دون البغي والتجاوز.

وبعد أن يذكر «السيوطي» أيضاً في تفسيره الروائي «الدر المنثور» الروايات المتعلقة بالتفسير الظاهري لهذه الآية، نقل مضمون الأحاديث المتقدمة عن «ابن عباس» وعن النبيّ صلى الله عليه و آله، فيقول: روى «ابن مردويه» عن «ابن عباس» في تفسير آية «مرج البحرين يلتقيان»، أنّ المراد علي وفاطمة عليهما السلام.

ثمّ يضيف: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان، يعني الحسن والحسين عليهما السلام» «5».

______________________________

(1) شواهد التنزيل، ج 2، ص 209 (ح 919.

(2) المصدر السابق، ص 208.

(3) شواهد التنزيل، ج 2، ص 210.

(4) المصدر السابق، ص 230.

(5) تفسير در المنثور، ج 6، ص 143.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 247

وروى هذا المعنى عن «انس بن مالك» أيضاً «1».

واللطيف أنّ المفسر المعروف «الآلوسي» بعد أن ينقل الرواية الآنفة في تفسير «روح المعاني» عن

«ابن عباس» و «انس بن مالك»، وكذا عن طريق الطبرسي عن «سلمان الفارسي» و «سعيد بن جبير» و «سفيان الثوري» يضيف قائلًا: «والذي اراه أنّ هذا إن صح ليس من التفسير في شي ء بل هو تأويل كتأويل المتصوفة لكثير من الآيات، وكل من علي وفاطمة رضي اللَّه تعالى عنهما عندي أعظم من البحر المحيط علماً وفضلًا وكذا كل من الحسنين رضي اللَّه تعالى عنهما أبهى وأبهج من اللؤلؤ والمرجان بمراتب جاوزت حد الحسبان» «2».

إنّ اعترافه الصادق بمنزلة هؤلاء العظماء امر حسن في ذاته، على شرط أن لا يكون غرضه سلب قيمة هذه الروايات!

ولعل الآلوسي تناسى أنّ هذا الحديث روي عن النبيّ صلى الله عليه و آله، بطرق عديدة، وأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله له كامل الصلاحية في تأويل الآيات، وأنّ مقارنته بتأويلات الصوفيين الموضوعة والمنحرفة التي تفتقد للسند مقارنة مجحفة لا تتناسب وشأن العالِم.

على أيّة حال، فهذه الآية من الآيات التي تدلل على الفضل العظيم والمقام الرفيع لعلي وزوجته وولديهما الحسن والحسين عليهم السلام، لأنّها شبهت علياً وفاطمة عليها السلام ببحرين عظيمين، البحر الذي يكشف عن عظمة الباري جلّ وعلا، والذي يعتبر مصدراً للبركات، ومنطلقاً للعلوم والمعارف الزاخرة، ومظهراً بارزاً لفضائل الأخلاق كالجود والسخاء والطهارة والعصمة، وتشبه ولديهما باللؤلؤ النفيس الذي لانظير له، الذي ينمو في أعماق البحر، ثمّ يبرز إلى الخارج، تكامل فيه الحسن والجمال، ظاهرياً وباطنياً، والعلم والتقوى والفضيلة والطهارة والعصمة.

فأي شخص تشاهد فيه كل هذه المناقب؟ ومن أكثر جدارة بخلافة النبيّ صلى الله عليه و آله غير علي وأولاده عليهم السلام، وكم مروا من هذه المناقب مرور الكرام!

______________________________

(1) المصدر السابق.

(2) تفسير روح المعاني، ج 37، ص 93 (ذيل آيات البحث).

نفحات

القرآن، ج 9، ص: 249

17- آية النجوى

اشارة

«يَا ايُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذَا نَاجَيْتُمُ الَّرسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَى نَجْوَاكُم صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُم وَاطْهَرُ فَانْ لَّمْ تَجِدُوا فَانَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحيمٌ* ءَاشْفَقْتُمْ انْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَى نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَاذ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَاقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ». (المجادلة/ 12- 13)

من القرائن المتوفرة في هاتين الآيتين، وكذلك من شأن النزول الذي أورده الكثير من المفسرين من بينهم المرحوم «الطبرسي» في «مجمع البيان»، و «الفخر الرازي» في «التفسير الكبير»، و «القرطبي» في تفسير «الجامع لأحكام القرآن»، و «الآلوسي» في «روح المعاني»، وغيرهم يستفاد أن نفراً من المسلمين وكما يقول بعض المفسرين أنّهم جماعة من الأغنياء والأثرياء كانوا يناجون رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في أبسط الامور من أجل الحصول على مكانة لهم لدى الناس، غافلين عن حقيقة أنّ وقت النبي صلى الله عليه و آله اثمن من أن يضيّعها شخص من أجل قضايا بسيطة أو لا أهميّة لها، اضف إلى ذلك أنّ هذا الأمر كان يؤدّي إلى انزعاج المستضعفين، وتمييز الأغنياء، وأحياناً كان يبعث على التشاؤم.

فنزلت أول آية من الآيتين أعلاه تأمر المسلمين أنّ: «اذَا نَاجَيتُمُ الرَّسُولَ فَقَدَّمُوا بَينَ يَدَى نَجوَاكُم صَدَقَةً»، فخلق هذا الايعاز اختباراً لطيفاً، وكان محكاً للذين يزعمون قربهم من النبي صلى الله عليه و آله، فقد أبى الجميع اعطاء الصدقة والنجوى سوى شخص واحد وهو أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، هنا تبيّن ما كان يجب أن يوضّح ويفهمه المسلمون ويعتبروا به، وأخذوا منه الدرس البليغ.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 250

نفحات القرآن ج 9 302

وبعد مدّة وجيزة نزلت الآية الثانية، ونقضت هذا الحكم واصبح معلوماً استحكام

حب المال في قلوب البعض من الرغبة في نجوى النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، وان هذه النجوى غالباً ما كانت بشأن الامور غير الضرورية، وكان القصد منها الحصول على الوجاهة الاجتماعية.

وقد وردت هنا روايات عديدة مفادها أنّ علياً هو الرجل الوحيد الذي عمل بهذه الآية.

روي في شواهد التنزيل عن مجاهد، عن علي عليه السلام أنّه قال: «انَّ في القرآن لآية ما عمل بها أحد قبلي ولا بعدي وهي آية النجوى قال: كان لي دينارٌ فبعته بعشرة دراهم فكلما اردت أن أناجي النبي صلى الله عليه و آله تصدقت بدرهم منه ثم نُسختْ» «1».

ونقل في رواية اخرى عن أبي أيوب الأنصاري قال: نزلت هذه الآية في علي: «يَا ايُّهَا الَّذِينَ ... صدقة»، أنّ علياً ناجى النبيّ صلى الله عليه و آله عشر نجوات، يتصدق في كل نجوة بدينار «2».

وجاء في نفس الكتاب أيضاً في روايةٍ اخرى عن مجاهد انَّ في القرآن آية لم يعمل بها أحد غير علي بن أبي طالب عليه السلام حتى نُسختْ، وهي: «يَا ايَّهَا الَّذِين آمَنُوا اذَا نَاجَيتُمُ الرَّسُولَ ...»، فهو قد ناجى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وتصدق بدينار «3».

ونُقلت في هذا الكتاب روايات اخرى عديدة بهذا الصدد تُناهز عشر روايات!.

وذكر السيوطي في تفسيره الروائي «الدر المنثور» هذه الرواية أيضاً بطرق عديدة (أكثر من سبع طرق)، لا سيّما أنّه ينقل عن «الحاكم النيشابوري» باقراره أنّ هذا الحديث صحيحٌ، عن علي عليه السلام: «إنّ في كتاب اللَّه لآية ما عمل بها أحد قبلي ولا أحد بعدي»، ثم ذكر بقية الحديث كما ذكرنا أعلاه عن شواهد التنزيل «4».

وفي الكتاب نفسه ينقل عن الكثير من الرواة عن علي عليه

السلام: «إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله استشار علياً بشأن تحديد مقدار هذه الصدقة قائلا: ما ترى ديناراً، قلت: لا يطيقونه، قال: فنصف دينار قلت: لا يطيقونه، قال: فكم، قلت: قلت: شعيرة قال: إنّك لزهيد، قال: فنزلت

______________________________

(1) شواهد التنزيل، ج 2، ص 231، ح 951.

(2) المصدر السابق، ص 240، ح 946.

(3) المصدر السابق.

(4) تفسير در المنثور، ج 6، ص 185.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 251

ءَأَشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات، قال: فبي خفف اللَّه عن هذه الامّة» «1».

وهنالك رواية لطيفة بهذا الصدد ينقلها «البرسوني» في تفسير «روح البيان» عن «عبد اللَّه بن عمر» حيث كان يقول:» كان لعلي عليه السلام ثلاث لو كانت لي واحدة منهن كان أحبّ إليَّ من حمر النعم، تزويجه فاطمة عليها السلام، واعطاؤه الراية يوم خيبر، وآية النجوى «2».

وأورد الزمخشري ذلك أيضاً في «الكشاف» «3».

وكذلك القرطبي في تفسير «الجامع لأحكام القرآن» «4».

والطبرسي في «مجمع البيان» «5».

وفي الحقيقة أنَّ «عبد اللَّه بن عمر» أشار إلى ثلاث قضايا مهمّة وهي: إنَّ فاطمة عليها السلام وكما يعبّر النبيّ صلى الله عليه و آله «سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين»، لم يكن لها كفوٌ سوى علي عليه السلام إذ كان رجل التاريخ بعد النبيّ صلى الله عليه و آله.

وقضية اعطائه الراية يوم خيبر، واحرازه للقب «كرار غير فرار»، بعد أن تقدم الآخرون وقفلوا خائبين، والظفر الذي تحقق من خلال ذلك يعدُّ منقبة اخرى لا نظير لها، وكذلك وجود آية في القرآن ما عمل بها إلّاعلي عليه السلام.

والمدهش أنّ البعض يصرّون على التقليل من أهميّة هذه المنقبة، بل انكار كونها منقبة بشكل تام! وكالمعتاد فإنّهم يتوسلون بمختلف المبررات والعلل الواهية، والتي لا

أساس لها.

فتارةً يدَّعون أنَّ كبار الصحابة لما لم يقوموا بهذا العمل فلأنّهم لم يروا حاجة إليها! واخرى يقولون: لم يكن لديهم متسع من الوقت لأنّ الآية سرعان ما نُسختْ! وحيناً يقولون: إنَّ الآخرين كانوا يظنون أنّ اعطاء الصدقة والنجوى يؤدي إلى انزعاج الفقراء وذعر

______________________________

(1) تفسير در المنثور، ج 6، ص 185.

(2) تفسير روح البيان، ج 9، ص 406.

(3) الكشاف، ج 4، ص 494 (ذيل آيات البحث).

(4) تفسير القرطبي، ج 9، ص 6472.

(5) تفسير مجمع البيان، ج 9 و 10، ص 252.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 252

الأغنياء، والفقراء عاجزون عن القيام بمثل ذلك، والأغنياء القادرون على ذلك يخشون التعرض للتأنيب إذا تركوه، وعلى هذا الأساس فانَّ عدم عمل الآخرين بهذه الآية لا يسلب الفضل عنهم «1».

ولكن، يبدو أنَّ هؤلاء المفسرين الكبار! قد نسوا الآية الثانية خلال اختلاقهم لهذه المبررات، إذ وجّه القرآن الكريم اللَّومَ لمن تناجوا آنفاً وتركوا ذلك بعد نزول حكم الصدقة، فيقول تعالى «ءَاشْفَقْتُم انْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَى نَجوَاكُم صَدَقَاتٍ».

ثم يعدُّ القرآن هذا الفعل وكأنّه معصية، ويعتبرهم إجمالًا مشمولين بالتوبة «وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُم»، ومن أجل تلافي هذا العمل القبيح أمرهم بإقامة الصلاة وايتاء الزكاة واطاعة اللَّه ورسوله.

فلو كان الوقت ضيقاً لما كان هناك ما يدعو للتأنيب واللوم، ولا حاجة للتوبة، وإذا كان هدفهم استقطاب قلوب الفقراء وازالة الاضطراب عن قلوب الأغنياء فهو عمل يستحق التشجيع والتكريم، فلماذا يوجه الباري تعالى اللوم لهم ويتحدث عن التوبة؟ إذن من خلال التأمل في هذه الآية يتبيّن جيداً أنّ عملهم كان قبيحاً.

فالواقع أنّ القضايا الواقعة لا تتفق والحكم المسبق لهؤلاء الاخوة، فإنّ كل شي ء وحتى آيات القرآن الكريم يلفّها النسيان، والحال أنّها شاخصة أمامهم.

وهنا يقول البعض من أجل

التقليل من أهمية هذه الفضيلة: لقد كان الفاصل الزمني بين نزول آية النجوى ونسخها ساعة واحدة فقط، لهذا لم يفلح كبار الصحابة بالعمل بها، فهؤلاء من الناسين أيضاً، حيث لم ينتبهوا إلى لحن آية النسخ، الآية التي توجهت إلى بعض الصحابة باللوم لتركهم الصدقة خشية الاملاق، وتغاضوا عن النجوى والآن فإنّ اللَّه تعالى يقبل توبتهم.

فاذا كان الفاصل الزمني بينهما ساعة واحدة فقط لن يبق مجال لهذه الجدالات، وعليه فمن المناسب أن تكون هناك رواية تقول: إنّ الفاصل الزمني بينهما كان عشرة أيّام «2».

______________________________

(1) التفسير الكبير، ج 29، ص 272؛ وتفسير روح المعاني، ج 28، ص 28.

(2) في تفسير روح المعاني، نقل هذا القول عن مقاتل الذي كان معاصراً للمنصور الدوانيقي، ومن تلامذة التابعين.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 253

سؤال:

السؤال الوحيد الذي يبقى ههنا هو: كيف يعد هذا العمل فضيلة؟ وهل الأمر كما يقول بعض المتعصبين من المفسرين: أن لا العمل بها يعد فضيلة ولا تركها منقصة؟

أم أنّ الأمر كما جاء في الروايات الإسلامية من أنّ علياً عليه السلام كان يعتبرها منقبة عظيمة بالنسبة له، وأنّ عبد اللَّه بن عمر كان يعدُّ الزواج من فاطمة عليها السلام سيدة النساء وفتح خيبر منقبة؟

لقد تبيّن الجواب عن هذا السؤال خلال البحوث المتقدمة، ونضيف: إنَّ أفضل طريق للحصول على جواب هذا السؤال هو الرجوع إلى القرآن الكريم والتمعن في الآية الناسخة (الثانية)، فهذه الآية تثبت أنّ اللَّه تعالى كان يريد بهذا الحكم اختبار المسلمين، هل أنّهم على استعداد لدفع شي ء ما من أجل النجوى مع النبي صلى الله عليه و آله- حيث كانوا يزعمون أنّها تجري من أجل مصالح المسلمين، وأن يتصدقوا في سبيل اللَّه؟

وهنا يخرج شخص واحد ظافراً

من هذا الاختبار، وهو علي بن أبي طالب عليه السلام، أليس هذا هوالفخر بعينه؟

وبعبارة اخرى فإنّ جميع الناس شملهم التأنيب والتوبيخ والتوبة الواردة في هذه الآية، والوحيد الذي لم يشمله هذا التوبيخ هو علي عليه السلام، فلماذا ياترى يُنكر بعض العلماء حقائقَ بهذا الجلاء والوضوح؟ اجيبوا أنتم؟!

نفحات القرآن، ج 9، ص: 255

18- آية السابقون

اشارة

«وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ* اولَئِكَ المُقَرَّبُونَ* فِى جَنَّاتِ النَّعِيمِ* ثُلَّةٌ مِّنَ الاوَّلِينَ* وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخِرِينَ». (الواقعة/ 10- 14)

روي في تفسير «شواهد التنزيل» ل «الحاكم الحسكاني» عن «ابن عباس»: «السُّباق ثلاثة: سَبقَ يوشع بن نون إلى موسى وسَبقَ صاحب ياسين إلى عيسى وسَبقَ علي إلى النبي صلى الله عليه و آله» «1».

وروي في الكتاب نفسه عن «ابن عباس» قوله: سألت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عن تفسير هذه الآية، فقال: «حدثني جبرئيل بتفسيرها، قال ذاك علي وشيعتُه إلى الجنّة» «2».

هذان التفسيران لا يتعارضان مع بعضهما، لأنّ علياً عليه السلام كان سبَّاقاً إلى الإيمان بالنبي صلى الله عليه و آله وكذلك فهو سبّاقٌ إلى الجنّة، وفي الحقيقة أنّ بينهما ارتباط والتحام لا ينفك أبداً.

وفي الكتاب نفسه نُقلت عدّة أحاديث اخرى في هذا الصدد.

وفي تفسير «الدر المنثور» أيضاً نُقلت روايتان عن «ابن عباس» في هذا المجال، في احداهما ينقل «ابن أبي حاتم»، و «ابن مردويه» عن «ابن عباس» في تفسير هذه الآية، قال:

«يوشع بن نون سبق إلى موسى ومؤمن آل ياسين سبق إلى عيسى وعلي بن أبي طالب سبق إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله» «3».

وفي الكتاب نفسه ينقل حديثاً آخر بنفس المضمون «4».

______________________________

(1) شواهد التنزيل، ج 2، ص 213، ح 924.

(2) المصدر السابق، ص 215 و 216، ح 927.

(3) تفسير در

المنثور، ج 6، ص 154.

(4) المصدر السابق.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 256

ومن الذين نقلوا هذه الرواية هو «ابن المغازلي» (على ضوء نقل ابن البطريق) في كتاب «العمدة»، و «سبط ابن الجوزي» في «التذكرة»، و «ابن كثير» في «تفسيره»، و «ابن حجر» في «الصواعق»، و «العلّامة الشوكاني» في «فتح القدير»، و «الشيخ سليمان القندوزي» في «ينابيع المودة» «1».

والمسألة الجديرة بالاهتمام أيضاً هي أنّ «القاضي روز بهان» الذي يتّصف بتعصب خاص في القضايا المتعلقة بالإمامة والخلافة، وكتابه المسمى «ابطال نهج الحق» شاهد على هذا المعنى يقول في معرض اجابته للعلّامة الحلّي بشأن هذه الآية (حيث ينقل العلّامة الحلّي في كتابه، عن طريق أهل السنّة عن ابن عباس سابقُ هذه الامّة علي بن أبي طالب) في كتابه «ابطال نهج الحق»: هذا الحديث جاء في روايات أهل السنّة ولكن بهذه العبارة:

«سبّاق الامّة ثلاثة: مؤمن آل فرعون، وحبيب النجار، وعلي بن أبي طالب» ثم يضيف: ولا شك أنّ علياً عليه السلام سابق في الإسلام، وصاحب السابقة والفضائل التي لا تحصى ولكن لا تدل الآية على نص بإمامته «2».

ولكن ينبغي الالتفات إلى عدم قول أي أحد بأنّ هذه الأحاديث لوحدها تعني النصّ على إمامة علي بن أبي طالب عليه السلام، بل الغرض أنّنا عندما نستجمع هذه الآيات والروايات مع بعضها نرى أنّ علياً عليه السلام ابرز شخص في الأمّة الإسلامية كان لائقاً لهذا المقام، ولا يلحقه أحد في هذا المجال.

فهل من المناسب أن نقدّم غيره عليه مع كل هذه المناقب التي لا تقبل الانكار، ونتبع غيره مع وجوده؟!

______________________________

(1) احقاق الحق، ج 3، ص 114- 120.

(2) المصدر السابق، ص 121.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 257

نستأنف هذا البحث بذكر أمرين:

1- مَن المقصود من: «قليلٌ من الآخرين»؟

في سياق الآيات المتقدمة،

وبعد ذكر القرآن الكريم لمنزلة السابقين الرفيعة على أنّهم المقربون لدى اللَّه تعالى وأنّ منزلتهم في جنات النعيم، يضيف: «ثُلَّةٌ مِّنَ الاوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخِرِينَ».

ينقل الحاكم الحسكاني في «شواهد التنزيل» عدّة روايات عن «محمد بن فرات»، و «محمد بن سهل»، و «علي بن عباس» عن «جعفر بن محمد عليه السلام» انّه قال في تفسير آية:

«وقليل من الآخرين» هو علي بن أبي طالب عليه السلام «1».

ومن البديهي أن ليس مفهوم الآية أنّ جنّة هذه الامة مختصة به، بل إنّ مقام السبق في الإيمان يستدعي مقامات سامية في الجنّة والقرب من اللَّه تعالى حيث يختص بعلي بن أبي طالب عليه السلام (بعد النبي صلى الله عليه و آله).

من هنا ففي الآيات اللاحقة من هذه السورة التي توضّح منازل ومزايا طائفة اخرى من أهل الجنّة (أصحاب اليمين)، يقول تعالى في آخر المطاف: «ثُلَّةٌ مِّنَ الاوَّلِينَ* وثُلَّةٌ مِّنَ الآخِرِينَ». (الواقعة/ 39- 40)

واضح أنّ أصحاب اليمين وإن كانوا من أهل الجنّة إلّاأنّهم يُدانون «المقربين من السابقين».

2- مَنْ هو أول مسلم؟
اشارة

هذا بحث مهم «مَنْ هو أول مَن آمن»؟ والبحث حوله لا تخفى أهميّته؟

فقد اتفقت الامّة الإسلامية جميعها على أنّ خديجة الكبرى عليها السلام كانت أوّل مَنْ آمن من النساء، أمّا من الرجال فبالرغم من اصرار البعض على تعقيد المسألة وتعريضها للبحث

______________________________

(1) شواهد التنزيل، ج 2، ص 298- 299، الأحاديث 932- 935.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 258

والجدال، فمن خلال تفحص الأحاديث والتواريخ لا يبقى شك لكل مراقب محايد، بأنّ عليَّ بن أبي طالب عليه السلام كان أول مؤمن، فهو كان أول مصدّق برسول اللَّه صلى الله عليه و آله وأول مَن بايعه، وأول مَن صلّى معه.

إنّ القرائن والأدلة على هذه القضية متوفرة في جميع المصادر

الإسلامية حيث نشير فيما يأتي إلى جانب منها:

لقد روى ما لا يقل عن ثمانية عشر من الصحابة وبطرق مختلفة- هذا الحديث عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بأنّ علياً عليه السلام كان أول مَن آمن من الرجال وصلّى مع النبي صلى الله عليه و آله:

1- يقول أبو سعيد الخدري وهو من كبار الصحابة: أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ضرب على كتف علي عليه السلام وقال: «يا علي لك سبع خصال لا يحاجك فيهن أحد يوم القيامة أنت أول المؤمنين إيماناً باللَّه ...» «1».

2- تقول عائشة: نقلت فاطمة عليها السلام هذا الحديث عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال لها:

«زَوَّجتُكِ أعلمَ المؤمنين علماً واقدمَهمْ سلماً وافضلهم حلماً» «2».

3- يقول ابن عباس: سمعت «عمر بن الخطاب» يقول:

كفوا عن ذكر علي بن أبي طالب فقد رأيت من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فيه خصالًا لئن تكون لي واحدة فهي في آل الخطاب أحب اليَّ مما طلعت عليه الشمس، كنت أنا وأبو بكر وأبو عبيدة في نفر من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فانتهيت إلى باب أم سلمة، وعلي قائم على الباب فقلنا:

أردنا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فقال: يخرج إليكم، فخرج رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فصرنا إليه فاتكأ على علي بن أبي طالب ثم ضرب بيده منكبه، ثم قال: «إنّك مخاصم تخاصم، أنت أول المؤمنين إيماناً، وأعلمهم بأيّام اللَّه، وأوفاهم بعهده، وأقسمهم بالسوية، وأرأفهم بالرعية وأعظمهم رزية» «3».

إنّ هذا الحديث يكشف عن قضايا كثيرة لا يستوعبها هذا البحث.

______________________________

(1) أورد هذا الحديث «أبو نعيم الاصفهاني» في «حُلية الاولياء»، ج 1،

ص 66.

(2) ينقل هذا الحديث «ابن عساكر» في «تاريخ دمشق» في ترجمة الإمام علي عليه السلام ج 1، ص 244.

(3) كنز العمال، ج 13، ص 117.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 259

4- يروي «معاذ بن جبل» عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال لعلي عليه السلام: «تخصمُ الناس بسبع لا يحاجك فيه أحد من قريش أنت أولهم إيماناً باللَّه» «1».

5- تروي «أسماء بنت عميس» زوجة جعفر بن أبي طالب، أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال لفاطمة: «زوجتُك أقدمهم سلماً وأعظمهم حلماً وأكثرهم علماً» «2».

6- يقول «سلمان الفارسي»: إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: «أولكم وروداً على الحوض، أولكم إسلاماً علي بن أبي طالب» «3».

7- يقول «أبو سخيلة» حججت مع سلمان فنزلنا بأبي ذر فكنا عنده ما شاء اللَّه، فلما حان منا خفوف قلت: يا أبا ذر اني ارى أموراً قد حدثت واني خائف أن يكون في الناس اختلاف فإن كان ذلك فما تأمرني؟ قال: «إلزم كتاب اللَّه عزّ وجلّ وعلي بن أبي طالب فأشهد أنّي سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول: علي أول من آمن بي، وأول من يصافحني يوم القيامة، وهو الصديق الأكبر وهو الفاروق يفرق بين الحق والباطل» «4».

8- يقول «عبد الرحمن بن عوف» في حديث في ذيل آية «السابقون الاولون»، كانوا عشرة انفار من قريش: «كان أولهم إسلاماً علي بن أبي طالب» «5».

9- ينقل جمال الدين أبو الحجاج في كتاب «تهذيب الكمال» عن «أبو رافع» من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «أول مَنْ أسلم من الرجال علي» «6».

10- يروي أنس بن مالك خادم رسول اللَّه أنّه صلى الله عليه

و آله قال: «أول هذه الامّة وروداً على

______________________________

(1) أورد هذا الحديث شهاب الدين الحسيني الشافعي في كتاب «توضيح الدلائل»، ص 171 (حسب نقل احقاق الحق، ج 20، ص 455.

(2) تاريخ ابن عساكر، ج 1، ص 245.

(3) أورد هذه الرواية محمد بن أبي بكر في كتاب «الجوهرة»، ص 8، ونقلها صاحب كتاب كنز العمال أيضاً دون ذكر سندها، ج 11 ص 616.

(4) مختصر تاريخ دمشق، ج 17، ص 306، حسب نقل احقاق الحق، ج 20، ص 472، وأورد هذا الحديث كنزُ العمال من عبارة (إنّ هذا أول من آمن بي إلى الأخير) في ج 11، ص 616، ح 32990.

(5) مختصر تاريخ دمشق، ج 17، ص 307، تأليف الإمام محمد بن مكرم المعروف بابن منظور).

(6) تهذيب الكمال، ج 3، ص 85، (طبقاً لنقل احقاق الحق، ج 20، ص 367).

نفحات القرآن، ج 9، ص: 260

الحوض أولها إسلاماً، علي بن أبي طالب» «1».

11- يقول ابن عباس يمتاز علي عليه السلام بأربع خصائص لسْنَ في احد غيره: هو اول عربي وعجمي صلّى مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله «2».

ويقول في موضع آخر: «أول مَنْ أسلم بعد خديجة، علي بن أبي طالب» «3».

12- ينقل المحدّث المعروف النسائي في كتاب «السنن» عن زيد بن أرقم أنّه قال: «اول مَن أسلم مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله علي بن أبي طالب» «4».

13- ينقل أبو أحمد الجرجاني الشافعي في كتاب «الكامل في الرجال» عن مالك بن الحوريث» أنّه قال: «كان علي أول مَن اسلم من الرجال وخديجة أول مَن أسلم من النساء» «5».

14- تقول ليلى الغفارية، وهي امرأة كانت تداوي جرحى الحرب في عصر الرسول الأكرم صلى الله عليه و

آله: خرجت مع علي عليه السلام بالبصرة فلما رأيت عائشة واقفة دخلني شي ء من الشك فأتيتها، فقلت: هل سمعت من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فضيلة في علي؟ قالت: نعم، دخل علي على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وهو على فِراش لي وعليه جرد قطيفة فجلس بينهما فقلت له: أما وجدت مكاناً هو أوسع لك من هذا؟ فقال النبيّ صلى الله عليه و آله: «يا عائشة دعي لي أخي فإنّه أول الناس بي إسلاماً وآخر الناس بي عهداً عند الموت وأولى الناس بي يوم القيامة» «6».

15- ينقل أحمد بن حنبل أحد الأئمّة الأربعة لأهل السنّة في مسنده- حديثاً عن الصحابي المعروف «معقل بن يسار»: إنّي كنت ذات يوم جالساً عند الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله

______________________________

(1) أورد هذا الحديث ابن عديم الحلبي وهو من علماء القرن السابع الهجري، في كتابه تاريخ حلب ص 295.

(2) المختار في مناقب الابرار، ص 16، طبقاً لنقل احقاق الحق، ج 20 ص 457).

(3) ورد هذا الحديث في كتاب آل محمد، ص 174، عن حسام الدين الحنفي.

(4) احقاق الحق، ج 20، ص 475.

(5) الكامل في الرجال، ج 6، ص 2378.

(6) نقل هذا الحديث محمد بن مكرم الأنصاري في كتاب مختصر تاريخ دمشق، ج 17، ص 308.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 261

فقال: هل لك في فاطمة عليها السلام تعودها؟ فقلت: نعم، فقام متوكئاً عليَّ، فقال: أمّا أنّه سيحمل ثقلها غيرك ويكون أجرها لك، قال: فكأنّه لم يكن على شي ء حتى دخلنا على فاطمة عليها السلام، فقال لها: كيف تجدينك؟ قالت: واللَّه لقد اشتد حزني، واشتدت فاقتي وطال سقمي .... قال:

«أوما ترضين أنّي زوجتُك أقدم امتي سلماً

وأكثرهم علماً وأعظمهم حلماً» «1».

تجدر الإشارة إلى أنّ هذا الحديث أورده ابن أبي الحديد في «شرح نهج البلاغة ج 3 ص 257»، وابن عساكر في «تاريخ دمشق، ج 1، ص 232»، والهيثمي في «مجمع الزوائد، ج 9، ص 101»، والمتقي الهندي في «كنز العمال، ج 12، ص 205»، وأورده جمع آخر من علماء السنّة في كتبهم.

16- يقول «عبد اللَّه بن صامت» (ثابت) وهو من صحابة الرسول صلى الله عليه و آله: دخلنا يوماً على رسول اللَّه فقلنا: «من أحب أصحابك إليك؟ فإن كان أمر كنّا معه، وإن كان ناسئة كنا دونه، قال هذا علي أقدمكم سلماً وإسلاماً» «2».

ويظهر جلياً من هذا الحديث بأنّ «عبد اللَّه بن ثابت» وأصحابه كانوا يبحثون عن رجل أفضل الناس جميعاً بعد النبي صلى الله عليه و آله للإمامة والولاية، فأشار النبي صلى الله عليه و آله إلى الإمام علي عليه السلام معرّفاً إيّاه لتحمل هذا الأمر.

17- وينقل «بريدة» وهو صحابي من صحابة النبي صلى الله عليه و آله قصةً مشابهة لقصة «معقل بن يسار»، حيث نقرأ في نهاية تلك القصة أنّ الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله واسى فاطمة الزهراء عليها السلام وقال: «أما ترضين أنّ اللَّه زوجك من أقدم امتي إسلاماً وأغزرهم علماً وأفضلهم حلماً»؟ ثم يضيف: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: واللَّه «إنّ أبنيك سيدا شباب أهل الجنّة» «3».

18- الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام نقل بنفسه هذا المعنى في حديثه المقبول من قبل الجميع، وقد ورد في كتاب «الجوهرة» تأليف محمد بن أبي بكر الأنصاري: إنّ الإمام

______________________________

(1) مسند أحمد، ج 5، ص 26.

(2) نقل هذا الحديث أحمد بن مردويه في كتاب

المناقب، احقاق الحق، ج 15، ص 336.

(3) أورد هذا الحديث «ابن عساكر» في «تاريخ دمشق» في كتاب «ارجح المطالب» تأليف العلّامة التستري، ص 107 و 396 فقط.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 262

علي عليه السلام قال على منبر البصرة: «أنا الصديق الأكبر، آمنت قبل أن يؤمن أبو بكر، وأسلمت قبل أن يسلم» «1».

كذلك ينقل «الشيخ محمد بن مكرم الأنصاري» في كتابه «مختصر تاريخ دمشق» عن الإمام أنّه قال: «أنا أوَّلّ مَنْ أسلم» «2».

وهناك موارد متعددة في «نهج البلاغة» تستند على هذا المعنى منها أنّ الإمام يقول في الجملة رقم 131: «اللّهم إنّي أول مَن أناب وسمع وأجاب، لم يسبقني إلّارسول اللَّه صلى الله عليه و آله بالصلاة» «3».

تجدر الإشارة إلى أننا خرجنا بعض الشي ء في هذا البحث عن اسلوبنا في هذا التفسير واسهبنا في الحديث، إلّاأنّ أهميّة المسألة أوجبت علينا التوسّع في البحث أكثر مما ينبغي.

على أيّة حال نختم هذه الروايات والروايات التي أوردها «ابن هشام» في تاريخه المعروف «السيرة النبوية» مع الاعتراف بهذه الحقيقة، أنّ المواضيع غير المطروقة كثيرة في هذا الباب.

إنّه ينقل أنّ الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله في أوائل أيّام الإسلام كان يذهب إلى بعض مفاوز مكة عند دخول وقت الصلاة لأداء الصلاة، ويرافقه علي بن أبي طالب- خفية- فقط ... وذات يوم قال له أبوه أبو طالب: يا ولدي ما هذا الدين الذي أنت عليه؟ قال: يا أبت! آمنت باللَّه وبرسول اللَّه، وصدّقته بما جاء به، وصليت معه للَّه واتبعته، فقال له: أمّا أنّه لم يدعك إلّاإلى خير فالزمه «4».

______________________________

(1) الجوهرة، ص 8، وقد نقل هذا المعنى طائفة اخرى مثل «أبو أحمد الجرجاني» في كتاب الكامل في الرجال، ج 3، ص

1123، وتوضيح الدلائل، ص 171، و مختصر تاريخ دمشق وغيرها.

(2) مختصر تاريخ دمشق، ج 17، ص 118.

(3) ورد هذا المعنى في الخطبتين 71 و 192 أيضاً.

(4) سيرة ابن هشام، ج 1، ص 263.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 263

إنّ أسبقية إيمان علي عليه السلام من الوضوح والجلاء بحيث إنّ جمعاً من الشعراء المعروفين ذكروه في أشعارهم كواحدٍ من مناقب الإمام علي عليه السلام ومفاخره.

يقول أحدهم في هذا المجال:

أليس أول مَنْ صلّى لقبلتكُمْ وأعلم الناس بالقرآن والسنن؟

ويقول آخر:

فهذا وفي الإسلام أوَّلُ مسلمٍ واوَّل مَنْ صلّى وصام وهلّلا

وينقل المرحوم «العلّامة الأميني» في «الغدير» بعد ذكره لعشرة شعراء أنّهم انشدوا هذا المعنى في طيات أشعارهم «1».

وجدير بالذكر أيضاً أنّ العلّامة الأميني ينقل في ذلك الكتاب أكثر من مائة حديث آخر عن «الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله»، و «أمير المؤمنين عليه السلام»، و «الصحابة»، و «التابعين»، و «المؤرّخين»، و «المحدثين»، كلها تنصّ على أنّ علياً عليه السلام أول مَن آمن برسول الإسلام صلى الله عليه و آله من الرجال.

سؤال واحد فقط!

بقي هنا سؤال معروف كان مطروحاً بين بعض «المرجفين» منذ القرون الاولى لظهور الإسلام، وهو «صحيحٌ أنّ علياً عليه السلام أول مَن اسلم من الرجال، ولكن: هل يصح إسلامُ غلامٍ في العاشرة من عمره؟» ولو سلّمنا بجعل زمان بلوغه معياراً فإنّ جمعاً آخر آمنوا بالإسلام قبله على هذا الأساس.

الجواب:

من المناسب أن نورد هنا المحاججة التي جرت بين «المأمون» الخليفة العباسي، مع أحد علماء أهل السنّة المعروفين في عصره ويُدعى «اسحاق»، وقد أورد هذا الحديث «ابن عبد ربه»، في «العقد الفريد».

______________________________

(1) الغدير، ج 3، ص 231- 233.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 264

إذ قال له «المأمون»: يا اسحاق أي الأعمال كان أفضل يوم بعث اللَّه رسوله؟

قال اسحاق: الإخلاص بالشهادة، قال المأمون: أليس السبق إلى الإسلام؟ قال اسحاق: نعم، قال المأمون: فهل علمت أحداً سبق علياً إلى الإسلام؟ قال اسحاق: إنّ علياً أسلم وهو حديث السن لا يجوز عليه الحكم، وأبو بكر أسلم وهو مستكمل يجوز عليه الحكم ... فقال المأمون: أخبرني عن إسلام علي حين أسلم؟ فهل يخلو رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حين دعاه إلى الإسلام من أن يكون دعاه بأمر اللَّه أو تكلف ذلك من نفسه؟ ثم قال: يا اسحاق لا تنسب رسول اللَّه إلى التكلف فإنّ اللَّه يقول: «وما أنا من المتكلفين»، قال اسحاق:

دعاه بأمر اللَّه، قال المأمون: فهل من صفة الجبار جلّ ذكره أن يكلّف رسله دعاء من لا يجوز عليه حكم قد تكلّف رسول اللَّه صلى الله عليه و آله من دعاء الصبيان ما لا يطيقون ... أترى هذا جائزاً عندك أن تنسبه إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله؟ قال اسحاق: أعوذ باللَّه «1».

ويضيف المرحوم العلّامة الأميني رحمه

الله) بعد نقله هذا الحديث من «العقد الفريد»: قال أبو جعفر الاسكافي المعتزلي المتوفي سنة 240 في رسالته: قد روى الناس كافة افتخار علي عليه السلام بالسبق إلى الإسلام وأنّ النبي صلى الله عليه و آله استنبئ يوم الاثنين وأسلم علي يوم الثلاثاء، وأنّه كان يقول: صليت قبل الناس سبع سنين وأنّه مازال يقول: أنا أول مَن أسلم ويفتخر بذلك ويفتخر له به أولياؤه، وما دحوه، وشيعته في عصره، وبعد وفاته، والأمر في ذلك أشهر من كل شهير، وقد قدمنا منه طرفاً وما علمنا أحداً من الناس فيما خلا استخف بإسلام علي عليه السلام، ولا تهاون به، ولا زعم أنّه أسلم إسلام حدث غرير وطفل صغير، ومن العجب أن يكون مثل العباس وحمزة ينتظران أبا طالب وفعله ليصدوا عن رأيه، ثم يخالفه علي ابنه لغير رغبة ولا رهبة يؤثر القلة على الكثرة «2».

وخلاصة الحديث توضح من خلال النقاط التالية:

أولًا: إنّ رسول الإسلام صلى الله عليه و آله قَبِل إسلام علي عليه السلام، ومَن لم يقرّ بإسلامه في ذلك السن،

______________________________

(1) العقد الفريد، ج 3، ص 43، بشكل مختصر.

(2) الغدير، ج 3، ص 237.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 265

فانه في الواقع إنّما يُشكل على الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله.

ثانياً: من خلال الروايات المشهورة التي تمت الإشارة إليها آنفاً ورد في قصة يوم الدار أنّ الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله اعدَّ طعاماً ودعا عشيرته الأقربين من قريش لتناول الطعام ودعاهم للاسلام وأنَّ: أول من يلبي دعوته صلى الله عليه و آله في الدفاع عن الإسلام سيكون أخاه ووصيه، فلم يلب أحد دعوته صلى الله عليه و آله سوى علي بن أبي طالب، حيث قال عليه

السلام: «أنا أعينك وابايعك» فقال صلى الله عليه و آله: «أنت أخي ووصي وخليفتي من بعدي» «1».

فهل يصدّق احد أنّ الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله يتخذ- من لم يبلغ في ذلك اليوم سن البلوغ، ولم يكن إسلامه مقبولًا أيضاً حسب قول المرجفين- أخاً ووصياً وخليفة له من بعده ويدعو الآخرين لمؤازرته إلى أن يصل الأمر ليقول رؤوس الشرك لابي طالب مستهزئين: يجب أن تسمع لابنك وتؤازره.

إنّ سن البلوغ ليس شرطاً في صحة الإسلام بدون أدنى شك، فكل صبي مميز عاقل بما فيه الكفاية يؤمن بالإسلام على فرض عدم إسلام أبيه، يفصل عن أبيه ويحتسب في زمرة المسلمين.

ثالثاً: يستفاد من القرآن الكريم أنّ البلوغ ليس شرطاً حتى في النبوة، وأنّ بعض الأنبياء بلغوا هذا المقام في سن الطفولة، كما يقول تعالى بخصوص النبي يحيى «وَآتَيْنَاهُ الحُكْمَ صَبيّاً». (مريم/ 12)

وقد جاء كذلك في قصة عيسى عليه السلام أنّه قال بصريح الكلام حين طفولته: «انّىِ عَبدُ اللَّهِ آتَانِىَ الكِتَابَ وَجَعَلَنِى نَبِيّاً». (مريم/ 30)

وأكثر من هذه الامور جميعاً أنّ رسول الإسلام صلى الله عليه و آله قَبِلَ علياً عليه السلام حتى أنّه اتخذه في يوم الدار أخاً ووصياً ووزيراً وخليفة له من بعده.

وعلى أيّة حال فإنّ الروايات التي تقول إنّ علياً عليه السلام هو أول مَن قَبِلَ دعوة الرسول صلى الله عليه و آله تعد فضيلة لا مثيل لها للإمام لا يساويه فيها أحد، ولهذا السبب فإنّه أفضل الامّة لخلافة الرسول صلى الله عليه و آله.

______________________________

(1) تفسير در المنثور، ج 6، ص 260.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 267

19- آية «اذُنٌ واعِيَة»

اشارة

«لِنَجعَلَهَا لَكُمْ تَذكِرَةً وَتَعِيَهَا اذُنٌ وَاعِيَةٌ». (الحاقة/ 12)

لقد كان الهدف هو أن نجعل من نجاة المؤمنين بواسطة سفينة نوح واغراق

الكافرين بواسطة الطوفان تذكرةً (لكم) لتعيها (والحوادث المشابهة لها) اذُنٌ واعية (كي تنقلوها للآخرين فيتّعظوا).

ينقل «السيوطي» في «الدر المنثور» من ستة طرق عن «بريدة» الصحابي المعروف، عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال لعلي عليه السلام: «إنّ اللَّه أمرني أن ادنيَكَ ولا اقصيَكَ، وأن اعَلّمَكَ وَأنْ تَعِيَ، وَحَقٌ لَكَ أنْ تَعِيَ، فنزلت هذهِ الآيةَ: وَتَعِيهَا اذُنٌ واعِيَةٌ» «1».

وينقل في نفس ذلك الكتاب عن «أبو نعيم الاصفهاني» في «حلية الاولياء» عن علي عليه السلام أنّ الرسول صلى الله عليه و آله قال له ... ثم يذكر نفس مضمون حديث «بريدة»، ويضيف في النهاية: «فَأنْتَ اذُنٌ وِاعَيَةٌ لِعِلْمي» «2».

وينقل أيضاً في نفس ذلك الكتاب من خمسة طرق عن «مكحول» وهو احد خدّام النبي صلى الله عليه و آله، عندما نزلت آية «وتعيها اذُنٌ واعية» قال الرسول صلى الله عليه و آله: «سألت ربي أن يجعلها اذن علي، قال محكول: فكان علي يقول ما سمعت من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله شيئاً فنسيته» «3».

______________________________

(1) تفسير در المنثور، ج 6، ص 260.

(2) المصدر السابق.

(3) المصدر السابق.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 268

ونقل «الزمخشري» الحديث الأخير في «الكشاف» أيضاً دون أن يشكل عليه «1».

ونقل جمعٌ آخر من المفسرين مثل «الفخر الرازي» في «التفسير الكبير» «2»، و «الآلوسي» في «روح المعاني» «3»، و «البرسوني» في «روح البيان» «4»، و «القرطبي» في «التفسير الجامع» «5»، نقلوا جميعاً نهاية الآية بخصوص الحديث الأخير.

وأورد «الطبري» أيضاً في تفسيره هذا الحديث وطائفة اخرى من الأحاديث بصدد هذا الموضوع. «6»

وقد ذكر «الحاكم الحسكاني» في «شواهد التنزيل» ثلاثة عشر حديثاً في نهاية هذه الآية حيث نقلها من عدّة رواة، وتنتهي سلسلة سندها إلى الرسول

الأكرم صلى الله عليه و آله، وبعض هذه الأحاديث مروية عن «مكحول» خادم النبي صلى الله عليه و آله، وبعض منها عن «بريدة»، وبعضها عن شخص «علي بن أبي طالب عليه السلام»، والبعض الآخر عن «جابر بن عبد اللَّه الأنصاري»، حيث ستطالعون نماذج من تلك الأحاديث أدناه:

نقرأ في حديث عن «أبو الدنيا» عن علي عليه السلام أنّه عندما نزلت الآية «وَتَعْيِهَا اذُنٌ وَاعِيَة»، قال لي الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله: «سألت اللَّه أن يجعلها اذنك يا علي» «7».

ونقرأ في حديث آخر عن «مكحول» أنّه عندما تلا الرسول صلى الله عليه و آله آية «وَتَعيِهَا اذُنٌ وَاعِيَة»، التفت إلى علي عليه السلام وقال: «سألت اللَّه أن يجعلها اذُنك» «8».

وفي حديث آخر عن «بريدة» أورد مضمون الحديث الذي نقلناه بادى ء الأمر نصاً «9» واخيراً ينقل عن «جابر بن عبد اللَّه الأنصاري» أنّه عندما نزلت الآية الآنفة الذكر، سأل

______________________________

(1) تفسير الكشاف، ج 4، ص 600.

(2) تفسير الكبير، ج 30، ص 107.

(3) تفسير روح المعاني، ج 29، ص 43.

(4) تفسير روح البيان، ج 10، ص 136.

(5) تفسير القرطبي، ج 10، ص 6743.

(6) تفسير جامع البيان، ج 29، ص 35.

(7) شواهد التنزيل، ج 2، ص 271.

(8) المصدر السابق، ص 277 ح 1015.

(9) المصدر السابق، ص 282، ح 1022.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 269

الرسول اللَّه تعالى أن يجعل اذن علي عليه السلام (مصداقها الأتم) وتحقق مراد النبي هذا «1».

ونقل مؤلف كتاب «الفضائل الخمسة» هذا الحديث أيضاً، اضافة لما ذكر من «كنز العمال»، و «نور الابصار»، و «مجمع الزوائد» للهيثمي، و «أسباب النزول» للواحدي «2».

النتيجة:

مع الأخذ بنظر الاعتبار ما نقلناه سابقاً بخصوص شروط الإمامة والولاية وخلافة الرسول الأكرم صلى

الله عليه و آله والتي تنص على ضرورة تمتع الأئمّة الإلهيين بالمقدار الكافي والسهم الأعظم من العلم والمعرفة لكي يتمكنوا تحمل مسؤولية قيادة الامّة، وهداية الخلق في أمر الدين والدنيا، ويحفظوا تعاليم الإسلام وقوانين اللَّه تعالى ويحرسوا القرآن والسنّة، ومع الأخذ بنظر الاعتبار أنّ علياً عليه السلام كان الشخص الوحيد من الامّة الذي يمتاز بمثل هذه المكانة والموهبة بما يطابق الروايات الآنفة الواردة في تفسير الآية المذكورة، فقد ثبت لنا دون أدنى شك بأنّه لم يكن اليق منه لاحراز مقام الإمامة والخلافة أحد.

______________________________

(1) شواهد التنزيل، ج 2، ص 280، ح 1019.

(2) الفضائل الخمسة، ج 1، ص 320 و 321.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 271

20- آية المحبة

«انَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الَّرحمنُ وُدّاً». (مريم/ 96)

لهذه الآية دلالة واضحة على أنّ الإيمان والعمل الصالح هما مصدر المحبة بين فئات المجتمع.

أجل، للإيمان والعمل الصالح جاذبية عجيبة، ذلك أنّها تجذب القلوب نحو بعضها كما يجذب المغناطيس الحديد نحوه، وحتى الأفراد الملوثون والنجسون يستأنسون بالطاهرين والصالحين من الأفراد.

ونقلت روايات كثيرة في تفسير هذه الآية الشريفة في المصادر المعروفة لأهل السنّة بواسطة عدّة رواة عن شخص الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله تنص على أنّ هذه الآية نزلت في علي بن أبي طالب عليه السلام، وقد قلنا مراراً بأنّ نزول الآية في أحد الأفراد، يراد منه بأنّ ذلك الشخص هو المصداق الأتم لتلك الآية، ولا يتنافى مع شمولية معنى الآية.

ونتوجه هنا نحو المنابع الإسلامية متناولين جوانب من هذه الروايات بالبحث والدراسة:

في «شواهد التنزيل» ينقل روايات متعددة عن «البراء بن عازب»، و «أبو رافع»، و «جابر بن عبد اللَّه الأنصاري»، و «ابن عباس»، و «أبو سعيد الخدري»، و «محمد بن الحنفية»،

وبطرق متعددة على أنّ هذه الآية نزلت في علي بن أبي طالب عليه السلام بأنّ جعل اللَّه محبته في قلب كل مؤمن.

وجاء في حديث عن أبي سعيد الخدري أنّ الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله قال لعلي عليه السلام «يا أبا

نفحات القرآن، ج 9، ص: 272

الحسن! قل اللّهم اجعل لي عندك عهداً واجعل لي في صدور المؤمنين مودةً» «1».

فنزلت الآية الكريمة: «انَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيجَعَلُ لَهُمُ الرَّحمَنُ وُدّاً»، ثم أردف قائلًا: «لا تلقى مؤمناً إلّافي قلبه حبُّ لعلي بن أبي طالب» «2».

ويلاحظ هذا المعنى في حديث آخر عن «جابر بن عبد اللَّه الأنصاري» باختلاف قليل جدّاً «3».

ونقل هذا المضمون أيضاً عن «البراء بن عازب» عن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله «4».

وكذلك نقل هذا المعنى عن «محمدبن الحنفية» (بعدة طرق) مع هذا الفارق أنّه في هذه الروايات وردت محبّة ذرية وأهل بيت علي عليه السلام إلى جانب محبّته «5».

وقد وردت في هذا الكتاب عشرون رواية تقريباً وكلها تتناول هذا المعنى بطرق متعددة.

ونقل «السيوطي» هذا الحديث أيضاً في «الدر المنثور» بطرقه المختلفة عن «البراء بن عازب»، وعن «ابن عباس» «6».

ونقل «الزمخشري» في تفسير «الكشاف» هذه الرواية في نهاية الآية الشريفة أنّ الرسول صلى الله عليه و آله قال لعلي عليه السلام:

«يا علي قل اللهم اجعل لي عندك عهداً واجعل لي في صدور المؤمنين مودة فأنزل اللَّه هذه الآية» «7».

وأورد المفسر المعروف «القرطبي» عين هذا المضمون في تفسيره، ولم يشكل عليه أيضاً مثل الكشاف «8».

______________________________

(1) هذا التعبير إشارة للآية 87 من هذه السورة التي تقول حول مسألة الشفاعة أنّهم لايملكون الشفاعة إلّامن اتخذ عند الرحمن عهداً.

(2) شواهد التنزيل، ج 1 ص 365، ح

504.

(3) المصدر السابق.

(4) المصدر السابق، ص 359، ح 489 و 490.

(5) شواهد التنزيل، ج 1، ص 366 و 367 الأحاديث 505 و 506 و 507 و 508 و 509.

(6) تفسير در المنثور، ج 4، ص 287.

(7) تفسير الكشاف، ج 3، ص 47.

(8) تفسير القرطبي، ج 6 ص 420 (ذيل آية مورد البحث).

نفحات القرآن، ج 9، ص: 273

ومن الشخصيات المعروفة التي نقلت هذا الحديث في نهاية الآية «سبط ابن الجوزي» في «التذكرة» «1»، و «محب الدين الطبري» «2»، و «ابن الصباغ المالكي» في «الفصول المهمّة»، «3» و «الهيثمي» في «الصواعق» «4»، و «ابن صبان» في «اسعاف الراغبين» «5»، وقد وردت اسماؤهم في الكتب المبسوطة حول الإمامة والولاية.

والمفسر الوحيد الذي اتخذ موقفاً سلبياً ازاء هذا الحديث بين المفسرين المعروفين «هو الالوسي» في «روح المعاني»، حيث إنّه ينقل الحديث طبقاً لما هو معمول به ثم يسعى إلى التقليل من شأنه أو اهماله بالكامل.

إنّه وبعد أن ينقل الحديث عن «البراء بن عازب» ويؤيده مع حديث «محمد بن الحنفية» يقول: «المعيار في تفسير الآية عموم اللفظ دون خصوص سبب النزول» «6».

قلنا مراراً ونعود فنقول مرة اخرى لا يدعي أحد أنّ سبب النزول يحدد المفهوم الشامل للايات، بل إنّ سبب النزول هو الاتم والاكمل للاية.

وبتعيبر آخر: إنّ ما جاء في هذه الروايات بشأن علي عليه السلام على أنّ اللَّه تعالى جعل محبته في قلوب المؤمنين جميعاً، لم يأت بشأن أي فرد آخر من امة محمد صلى الله عليه و آله، وهذه فضيلة كبرى لأمير المؤمنين علي عليه السلام حيث لا يجاريه احد في هذه الفضيلة.

يا ترى أليس من جعل اللَّه تعالى قلوب المؤمنين جميعاً تطفح بمودته ومحبته، أجدر من الجميع لمنصب

الإمامة الإلهي، وخلافة الرسول صلى الله عليه و آله؟

______________________________

(1) التذكرة، ص 20.

(2) ذخائر اعقبى، ص 89.

(3) الفصول المهمة، ص 106.

(4) الصواعق المحرقة، ص 170.

(5) اسعاف الراغبين المدون في حاشية نور الابصار، ص 118.

(6) تفسير روح المعاني، ج 16، ص 130.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 275

21- آية المنافقين

«وَلَوْ نَشَاءُ لَارَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيَماهُم وَلَتَعْرِفَنَّهُم فِى لَحْنِ القَوْلِ». (محمد/ 30)

تعدُّ هذه الآية- في الحقيقة- نقطة مقابل شي ء ما ورد في الآية السابقة.

فقد نزلت هذه الآية بشأن المنافقين وصفاتهم، يقول تعالى ولو نشاء لأريناكهم بل ونضع العلامات في وجوههم لتعرفهم بها.

ثم يضيف بعد ذلك: ولتعرفنّهم أيضاً في طريقة حديثهم، لاسيما وأنّه كلما ورد الحديث عن الجهاد، تراهم يسعون للتنصل واضعاف معنويات الناس، وعندما يدور الحديث عن الصالحين والطاهرين والسابقين في الإسلام، يسعون لخدش سمعتهم ومكانتهم.

ومن هنا حيث نقرأ في حديث مشهور عن «أبي سعيد الخدري» أنّه يقوله في تفسير جملة «وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِى لَحْنِ القَوْلِ»: «ببغضهم علي بن أبي طالب!» نقل هذا الحديث «الحاكم الحسكاني» في «شواهد التنزيل» من ثلاثة طرق «1».

ونقل «السيوطي» أيضاً في تفسير «الدر المنثور» هذا الحديث عن «ابن مردويه» و «ابن عساكر» عن «أبي سعيد الخدري» «2».

وينقل في رواية اخرى عن «ابن مسعود» أنّه كان يقول: «ماكنا نعرف المنافقين على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إلّاببغضهم علي بن أبي طالب عليه السلام» «3».

ولا يقتصر رواة هذا الحديث والكتب التي نقل فيها على ما ذكره فقط، ذلك أنّ «جابر بن

______________________________

(1) شواهد التنزيل، ج 2، ص 178 (ح 883 إلى 885).

(2) تفسير در المنثور، ج 6، ص 66.

(3) المصدر السابق.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 276

عبد اللَّه الأنصاري»، و «أبوذر الغفاري» نقلا هذا الحديث أيضاً.

ومنهم أنّ «ابن

عبد البر» ينقل هذا الحديث عن جابر في «الاستيعاب» «1»، وأنّ «محب الدين الطبري» ينقل عن «أبو ذر» في «الرياض النضرة» بهذا النحو: «ما كنا نعرف المنافقين على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إلّابثلاث: بتكذيبهم اللَّه ورسوله والتخلف عن الصلاة وبغضهم عليَّ بن أبي طالب» عليه السلام «2».

ونقل هذا الحديث أيضاً في «صحيح الترمذي» وهو من المصادر الرئيسة لدى أهل السنة من طريقين عن «أبي سعيد الخدري» و «أم سلمة»، وهناك فارق بسيط في حديث «أم سلمة» عن الحديث السابق «3».

ونقل ابن عساكر أيضاً في تاريخ دمشق، نفس هذا المضمون أو نظيره مرة عن «أبي سعيد الخدري»، ومرة عن «جابر بن عبد اللَّه»، واخرى عن «عبادة بن الصامت»، ومرة عن «محبوب بن أبي الزناد» «4».

جاء في حديث «عبادة بن الصامت» أنّه قال «كنّا نبور أولادنا بحب علي بن أبي طالب عليه السلام، فاذا رأينا أحداً لا يحب علي بن أبي طالب علمنا أنّه ليس منّا، وأنّه لغير رُشده»، وفي حديث «محبوب بن أبي الزناد»، أنّه ورد على لسان طائفة من الأنصار قولهم: «إنّ كنّا لنعرف الرجل إلى غير أبيه ببغضه علي بن أبي طالب عليه السلام» «5».

وننهي حديثنا بنقل هذه الرواية التي تمتاز بسعة مفهومها وشموليتها مع حديث منقول عن شخص الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله.

تحدث الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله يوم خيبر بحديث مفصل بشأن علي عليه السلام، ومن جملة ماقاله:

«يا أيّها الناس امتحنوا أولادكم بحبه، فإنّ علياً لايدعو إلى ضلالة ولا يبعدعن هدى فمن

______________________________

(1) الاستيعاب، ج 2، ص 464.

(2) الرياض النضرة، ص 214.

(3) صحيح الترمذي، ج 5، ص 635، ح 3717.

(4) تاريخ مدينة دمشق،

ج 42، ص 287.

(5) المصدر السابق.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 277

أحبه فهو منكم ومن أبغضه فليس منكم!» «1».

يتضح لنا بشكل جلي أنّ الإنسان عندما يتأمل بشكل دقيق في هذه الروايات والرواية السابقة المذكورة في نهاية الآيتين الشريفتين من القرآن بانه يواجه شخصية يعد حبه ومودته علامة الإيمان، ومخالفته ومعاداته علامة الكفر والنفاق، هذا في الوقت الذي تمكنت فيه هذه الروايات أن تمر عبر الممرات الزمنية السابقة، حيث قامت الحكومات السابقة مثل حكومة بني امية بمضايقة ومحاصرة أصحاب ومحبي علي عليه السلام باشد ما يكون، وحيث كان أعداؤه يمسكون زمام الامور في كل مكان، بل وحتى أنّ سب ولعن علي في المجالس العامة كان ممّا يتقرب به للحكومة ومراكز السلطة، حقاً أنّ الإنسان ليتعجب من أنّ كل هذه الفضائل الفريدة والنادرة التي ملأت الآفاق شرقاً وغرباً، وملأت صفحات كتب الرواية والتفسير والتاريخ، كيف تمكنت أن تفلت من قبضة هؤلاء الأعداء الألداء وتصل اليوم إلى أيدينا.

لا يمكن أن ننظر إلى هذا الأمر سوى أنّه من مشيئة اللَّه وامداده من أجل بقاء نور الحق مضيئاً على مر القرون والأعصار، ولإتمام الحجة في خلافة وولاية علي عليه السلام على جميع الاجيال.

______________________________

(1) مختصر تاريخ ابن عساكر، ج 17، ص 371.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 279

22- آية الإيذاء

«انَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِى الدُّنيَا وَالآخِرَةِ وَاعَدَّ لَهُمْ عَذابَاً مُّهِيناً».

(الأحزاب/ 57)

من البديهي أنّه ليس بوسع احد أن يلحق الاذى والضرر بالذات المقدسة للَّه تعالى وبناءً على ذلك فإنّ المراد من ايذاء اللَّه- كما أكّد على ذلك المفسرون أيضاً- أنّ الكفر والالحاد هما اللذأن يغضبان اللَّه تعالى وقد أكدت الآية على معاقبة الذين يؤذون الرسول والمؤمنين، ذلك أنّ ايذائهم يعد بمنزلة ايذاء اللَّه

تعالى

ونقرأ هنا في الروايات المتعددة التي وصلت عن طرق الاخوة من أهل السنّة، وعن طرق أهل البيت عليهم السلام أنّ الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله قال: «ياعلي! من آذاك فقد آذاني»، وعلى هذا النحو فإنّ ايذاءه يعد ايذاءً للرسول صلى الله عليه و آله.

ينقل «الحاكم الحسكاني» في «شواهد التنزيل» عن «جابر بن عبد اللَّه الأنصاري» أنّه قال: سمعت من الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله، أنّه قال لعلي «من آذاك فقد آذاني» «1».

وينقل في حديث آخر عن «ابن أبي سلمة» عن أم سلمة زوج الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله، أنّها قالت: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول لعلي بن أبي طالب عليه السلام: «أنت أخي وحبيبي، من آذاك فقد آذاني» «2».

ثم يضيف قائلًا: ونقل نفس هذا المعنى عن طائفة اخرى مثل «عمر»، و «سعد بن أبي وقاص»، و «أبو هريرة»، و «ابن عباس»، و «أبو سعيد الخدري» «3».

______________________________

(1) شواهد التنزيل، ج 2، ص 89، ح 777.

(2) المصدر السابق، ص 98، ح 778.

(3) المصدر السابق، ص 99.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 280

ونقل في حديث آخر عن علي بن أبي طالب عليه السلام أنّه قال وقد اشار إلى شعره ومسكه بيده: حدثني رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وقد أشار إلى شعره وقبض عليه بيده ثم قال: «من آذى شعرةً منك فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى اللَّه، ومن آذى اللَّه فعليه لعنة اللَّه» «1».

إنّ الأحاديث التي ذكرت تشير فقط إلى أنّ ايذاء علي عليه السلام يعد ايذاءً للرسول صلى الله عليه و آله، إلّاأنّه لم يستند فيها إلى الآية السابقة، بينما ورد هذا الاستناد بشكل صريح

في بعض الروايات، منها ماقاله الحاكم النيسابوري في «مستدرك الصحيحين» في حديث صحيح معتبر عن «ابن عباس» أنّه قال: إنّ رجلًا من أهل الشام سب علياً عليه السلام أمامه، فقال ابن عباس: «ياعدو اللَّه آذيت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله «انَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِى الدُّنيَا وَالآخِرَةِ وَاعَدَّ لَهُمْ عَذابَاً مُّهِيناً» لو كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حياً لآذيته» «2».

ونقل «الذهبي» هذا الحديث أيضاً في «تلخيص المستدرك» ويصرح أنّه حديث صحيح «3».

ونقل السيوطي في «الدر المنثور» رواية ابن عباس واستناده إلى الآية الشريفة السابقة أيضاً «4».

وينقل أيضاً في كتاب «مستدرك الصحيحين» عن «عمرو بن شاس» حديثاً مفصلًا جاء في آخره: «يقول عمرو بن شاس الاسلمي وكان من أصحاب الحديبية قال: خرجنا مع علي عليه السلام إلى اليمن فجفاني في سفره ذلك حتى وجدت في نفسي، فلما قدمت اظهرت شكايته في المسجد حتى بلغ ذلك رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: فدخلت المسجد ذات غداة، ورسول اللَّه صلى الله عليه و آله في ناس من أصحابه فلما رآني أبدني عينيه، قال: يقول حدد إليّ النظر حتى إذا جلست قال: ياعمرو أما واللَّه لقد آذيتني، فقلت: أعوذ باللَّه أن أوذيك يارسول اللَّه، قال: بلى من آذى علياً فقد آذاني».

______________________________

(1) شواهد التنزيل، ج 2، ص 97، ح 776.

(2) مستدرك الصحيحين، ج 3، ص 121.

(3) تلخيص المستدرك المطبوع نهاية مستدرك الصحيحين، ج 3، ص 122.

(4) تفسير در المنثور، ج 5، ص 220.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 281

ويقول الحاكم النيسابوري بعد ذكره هذا الحديث: إنّه حديث صحيح معتبر «1».

تجدر الإشارة إلى أنّ: مؤلف «مختصر تاريخ دمشق» أورد هذا الحديث

في كتابه مع عدّة أحاديث اخرى عن «جابر»، و «سعد بن أبي وقاص»، و «عمرو بن شاس»، وكلها تُجمع على أنّ ايذاء علي عليه السلام يعد ايذاءً للرسول صلى الله عليه و آله «2».

إنّ هذه الأحاديث «متظافرة» وكثيرة، وأنّ الكثير منها يعدّ من الأحاديث التي قال بصحة سندها علماء أهل السنّة، وهي تدل بشكل واضح على أنّ علياً عليه السلام هو نفس الرسول صلى الله عليه و آله، ومودته مودة للرسول صلى الله عليه و آله ومحبته محبة لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله وايذاؤه ايذاء لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله.

وبناءً على ما تقدم، هل من شك في أنّ علياً عليه السلام أفضل الامّة بعد رسول اللَّه، وأنّه أليق فرد في الامّة لتولي منصب الإمامة والولاية وخلافة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله؟

______________________________

(1) مستدرك الصحيحين، ج 3، ص 122، وقد ورد هذا ورد هذا الحديث نصاً في تلخيص الذهبي.

(2) مختصر تاريخ دمشق، ج 17، ص 342.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 283

23- آية الانفاق

«الَّذِينَ يُنْفِقُونَ امْوَالَهُمْ بَالَّليلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلَانِيَةً فَلَهُم اجْرُهُم عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ». (البقرة/ 274)

لاشك أنّ مفهوم الآية مفهوم عام وشامل، إذ إنّ الترغيب بالانفاق في سبيل اللَّه يتخذ اشكالًا مختلفة، في السر والعلن وفي الليل والنهار، وتبشر المنفقين بشارة عظيمة: «فَلَهُمْ اجْرُهُمْ عِندَ رَبَّهِم وَلَا خَوفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحزَنُونَ» ممّا قد سلف أو ممّا هو آت، ولكن يستفاد من الروايات الإسلامية أنّ مصداق هذه الآية الأكمل هو علي عليه السلام.

لاسيما أنّه وردت روايات كثيرة في سبب نزول هذه الآية، تؤكد على أنّها نزلت أول مرّة في حق علي عليه السلام.

يقول ابن عباس: نزلت هذه

الآية في علي بن أبي طالب عليه السلام وكانت عنده أربعة دراهم فقط، أنفقهن في سبيل اللَّه، درهماً في الليل، ودرهماً في النهار، ودرهماً في العلن، ودرهماً في السر، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله «ما حملك على هذا؟ قال: حملني عليها رجاء أنّ استوجب على اللَّه ما وعدني».

فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «ألا ذلك لك»، فنزلت الآية السابقة في هذه الأثناء.

أورد هذا الحديث «الحاكم الحسكاني» في «شواهد التنزيل» مع سبعة أحاديث اخرى بنفس هذا المضمون بطرق مختلفة «1».

وينقل «السيوطي» هذا المضمون نفسه في «الدر المنثور» بطرق متعددة منها: عن ابن عباس، أنّ هذه الآية نزلت في علي بن أبي طالب عليه السلام وعنده أربعة دراهم، انفق منها درهماً

______________________________

(1) شواهد التنزيل، ج 1، ص 109- 115.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 284

في الليل، ودرهماً في النهار، ودرهماً في السر ودرهماً في العلن، ونزلت هذه الآية «1».

معنى هذا الحديث أنّ علياً عليه السلام كان يسلك مختلف السبل من أجل الحصول على رضا اللَّه تعالى فقد انفق كل ما تحت بساطه في سبيل اللَّه، وكذلك فإنّه اعطى ليلًا وانفق في حالتين مختلفتين سراً وعلناً، وفي النهار أيضاً انفق في كلا الحالتين سراً وعلانية، إنّ هذا الإيثار والإخلاص المقرون بالشوق العظيم لكسب رضا اللَّه تعالى وبكل وسيلة ممكنة، نال قبول اللَّه تعالى فنزلت تلك الآية الشريفة.

ومن الذين نقلوا هذه الرواية، «محب الدين الطبري» في «ذخائر العقبى «2»، و «سبط ابن الجوزي» في «التذكرة» «3»، و «العلّامة الكنجي» في «كفاية الطالب» «4»، والمفسر المعروف «القرطبي» في تفسيره «5»، وأورد هذا الحديث- بنفس تلك العبارة أو باختلاف بسيط- جمع آخر في كتبهم.

وكذلك ذكره «الشبلنجي»

في «نور الأبصار» «6»، و «الشيخ سليمان القندوزي» في «ينابيع المودة» «7».

وينقل مؤلف «الفضائل الخمسة» هذا الحديث أيضاً في كتابه عن جمع آخر منهم «ابن الاثير» في «اسد الغابة» «8»، و «ابن حجر» في «الصواعق المحرقة» «9»، و «الواحدي» في «أسباب النزول» «10».

ونختم هذه الأحاديث بجملة عن ابن أبي الحديد المعتزلي: إنّه وبعد الإشارة إلى

______________________________

(1) تفسير در المنثور، ج 1، ص 363.

(2) ذخائر العقبى ص 88.

(3) تذكرة الخواص، ص 17.

(4) كفاية الطالب، ص 108.

(5) تفسير القرطبي، ج 2، ص 1115، (ذيل الآية مورد البحث).

(6) نور الابصار، ص 105.

(7) ينابيع المودة، ص 92.

(8) اسد الغابة، ج 4، ص 25.

(9) الصواعق المحرقة، ص 78.

(10) أسباب النزول، ص 64 (استناداً لنقل الفضائل الخمسة)، ج 1، ص 321 و 322.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 285

الصفات السامية لعلي عليه السلام، وعندما يصل إلى مسألة الجود والسخاء يقول بعد الإشارة لآيات سورة هل أتى: وروى المفسرون أنّه لم يملك إلّاأربعة دراهم، فتصدق بدرهم ليلًا، وبدرهم نهاراً، وبدرهم سراً، وبدرهم علانية، فأنزل فيه «الذين ينفقون أموالهم ...» «1».

يبين هذا التعبير أنّ هذه المسألة متفق عليها بين المفسرين أو على الأقل مشهورة.

______________________________

(1) شرح ابن أبي الحديد، ج 1، ص 21 (أورده ضمن مقدمة في وصف المولى علي عليه السلام).

نفحات القرآن، ج 9، ص: 287

24- آية المحبة

«يَا ايُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِى اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ اذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ اعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلَايَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ». (المائدة/ 54)

تصرح هذه الآية بوضوح: بأنّ ارتداد المسلمين الداخلين توّاً إلى الإسلام لا يشكل ضرراً عليه، فإنّ اللَّه تعالى قد أوكل أمر

الدفاع عن هذا الدين المقدس إلى طائفة من المؤمنين ذوي الخصال المتميزة، من الذين يحبون اللَّه ويحبهم.

والذين يمتازون بالتواضع والتخضع أمام المؤمنين، وبالشدة والشجاعة أمام الكافرين، الذين يحاربون ويجاهدون دون كلل في سبيل اللَّه، ولا يخافون لومة لائم أبداً.

أجل، إنّ اجتماع هذه الصفات في فرد أو مجموعة من الأفراد، يعد فضلًا إلهياً لا يليق بكائن من كان.

ولا شك في أنّ مفهوم هذه الآية واسع وشامل كما هو الحال في كثير من الآيات السابقة، ولكن يستفاد من الروايات المنقولة عن طرق الشيعة والسنة وبشكل واضح أنّ علياً عليه السلام أفضل واكمل مصداق لهذه الآية.

وعندما يصل الفخر الرازي إلى تفسير هذه الآية، وينقل اقوالًا عن المفسرين حول تطبيق هذه الآية، يقول في نهاية البحث:

قال جمع إنّ هذه الآية نزلت في علي عليه السلام، ثم يستدل بدليلين لدعم هذا القول، أولًا عندما اعطى الرسول صلى الله عليه و آله الراية بيد علي عليه السلام يوم خيبر، قال «لأدفعن الراية غداً إلى رجل يحبُّ اللَّه ورسوله ويحبه اللَّه ورسوله». نفحات القرآن، ج 9، ص: 288

ثم يقول: وهي عين الصفة التي اشير إليها في الآية الآنفة، والدليل الآخر أنّ الآية التالية لها هي آية: «انَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ...» إذ نزلت بحق علي عليه السلام لذا من الأجدر القول أنّ الآية السابقة هي الاخرى نزلت بحقه أيضاً (نهاية كلام الفخر الرازي) «1».

إنّ استدلال الفخر الرازي بكلام الرسول صلى الله عليه و آله يوم فتح خيبر إشارة إلى حديث معروف نقل في الكثير من الكتب المشهورة على أنّه قيل بحق علي عليه السلام، ويعد من أعظم فضائله عليه السلام، سيما وأنّه طبقاً لهذا الحديث، وبعد أن فشل نفر من قادة جيش الإسلام

في فتح خيبر، فإنّ الرسول صلى الله عليه و آله وقف في ليل ذلك اليوم وسط الجيش وخاطبهم قائلًا: «لأعطين الراية غداً رجلًا يحب اللَّه ورسوله ويحبه اللَّه ورسوله كراراً غير فرار، لا يرجع حتى يفتح اللَّه على يده!».

ثم قال: اين علي؟ قالوا: إنّه مريض، وعينه تؤلمه (ولا يقوى على الحرب) فقال: عليّ به، فجاء علي ونفخ الرسول صلى الله عليه و آله في عينه (أو مسح من ريق فمه على عينه) فبرأت عينه المباركة، فأعطاه الراية، وفي اليوم التالي فتح خيبر في هجوم خاطف (فتحقق هذا التنبوء العجيب للرسول صلى الله عليه و آله بشأنه).

وقد أورد هذا الحديث- إضافة للفخر الرازي- كثير من المحدثين والمؤرخين (باختلاف بسيط في التعابير) في كتبهم، ومنهم الحاكم النيسابوري في كتاب مستدرك الصحيحين: وقد أشار إليه في ثلاثة مواضع: أولًا نقل في حديث عن «ابن عباس» أنّ جماعة تحدثوا عنده بألفاظ غير مناسبة بشأن علي عليه السلام فانزعج بشدّة وقال: «اف وتف، وقعوا في رجل له بضع عشرة فضائل ليس لأحد غيره وقعوا في رجل قال له النبي صلى الله عليه و آله لأبعثن رجلًا لا يخزيه اللَّه أبداً يحب اللَّه ورسوله ويحبه اللَّه ورسوله» «2».

وينقل في حديث آخر عن «عامربن سعدبن أبي وقاص» أنّ معاوية قال لأبي «سعد» ذات يوم: ما يمنعك أن تسب ابن أبي طالب؟ فقال: لا أسبه ماذكرت ثلاثاً قالهن له رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لأنّ تكون لي واحدة منهن احب الي من حمر النعم، قال معاوية: وما هن؟ قال: «حين أنزل

______________________________

(1) التفسير الكبير، ج 12، ص 20.

(2) المستدرك، ج 3، ص 132.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 289

عليه «انَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ

الرِّجسَ اهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» فأخذ علياً وفاطمة وابنيها فادخلهم تحت ثوبه وقال: «ربّ إنّ هؤلاء أهل بيتي»، ولا أسبه ما ذكرت حين خلفه في غزوة تبوك، فقال له: خلفتني مع الصبيان والنساء، قال:

«إلّا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلّاأنّه لا نبوة بعدي»، ولا اسبه ماذكرت يوم خيبر، وقال: «لأعطين الراية غداً رجلًا يحب اللَّه ورسوله ويفتح اللَّه على يديه» فتطاولنا لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقال: أين علي، قالوا: هو أرمد، قال: ادعوه، فدعوه فبصق في وجهه ثم أعطاه الراية ففتح اللَّه عليه، قال: فلا واللَّه ماذكره معاوية بحرف حتى خرج من المدينة «1».

وينقل في الحديث الثالث عن «عبد اللَّه بن بريدة الأسلمي» أنّ الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله قال الجملة التالية في خيبر ... ثم ينقل القصة مع بعض الإضافات علاوة على ماذكر آنفاً «2».

ومن الذين صرحوا بأنّ الآية السابقة نزلت بحق علي عليه السلام، «الثعلبي» في تفسيره (استناداً إلى ما ورد في مناقب عبد اللَّه الشافعي) إذ يقول في نهاية الآية السابقة: «إنّها نزلت في علي عليه السلام» «3».

ويصرح العلّامة «الثعلبي» في نهاية هذه الآية أيضاً (بناءً على نقل ابن بطريق في كتاب العمدة): أنّها نزلت في علي بن أبي طالب عليه السلام «4».

وينقل ذلك أيضاً مؤلف «كنز العمال» في كتابه عن «سعد بن أبي وقاص»، وفي حديث آخر عن «عامر بن سعد» أورد نفس هذا المعنى مع بعض الإضافات «5».

إنّ هذه الأحاديث وما يشابهها التي وردت في الكتب المعروفة للسنة واتباع مذهب أهل البيت عليهم السلام تحكي عن فضيلة لا مثيل لها على قول سعد بن أبي وقاص، التي إن وجدت في أحد الأفراد

تكفيه فخراً وفضلًا.

______________________________

(1) تلخيص المستدرك المطبوع في حاشية المستدرك، ج 3، ص 108 و 109.

(2) المستدرك، ج 3، ص 437.

(3) المناقب، ص 160 مخطوطة (بناءً على نقل احقاق الحق، ج 14، ص 248).

(4) العمدة، ص 151، (طبقاً لنقل احقاق الحق، ج 3 ص 198).

(5) كنز العمال، ج 13، ص 162 و 163 (الحديث رقم 36495 و 36496) (طبع مؤسسة الرسالة- بيروت).

نفحات القرآن، ج 9، ص: 290

وبوجود مثل هذه الشخصية وسط الامّة، هل يجدر بنا أن نتصور أنّه بالإمكان تسليم خلافة الرسول صلى الله عليه و آله لغير شخصه؟!

ولهذه الملاحظة أيضاً أهميّة بالغة في تأكيد مفهوم آية المودّة، أنّه يستفاد من الروايات الواردة في الكتب المعروفة والمشهورة أنّ علياً عليه السلام لم يحظ برعاية الرسول صلى الله عليه و آله ولطف اللَّه تعالى به فحسب، بل إنّه كان أحبّ المخلوقات عند اللّه ورسوله أيضاً.

والشاهد على هذا الكلام حديث «الطير» المعروف.

نقرأ في كتاب «المستدرك على الصحيحين» إنّ «أنساً» خادم الرسول صلى الله عليه و آله مرض بعد أن عمَّر طويلًا بعد النبي صلى الله عليه و آله فأتاه محمد بن الحجاج يعوده في أصحاب له، فجرى الحديث حتى ذكروا علياً عليه السلام فتنقصه محمد بن الحجاج، فقال أنس: من هذا أقعدوني فأقعدوه، فقال: يا ابن الحجاج، إلّاأراك تنقص علي بن أبي طالب، والذي بعث محمداً صلى الله عليه و آله بالحق، لقد كنت خادم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بين يديه وكان كل يوم يخدم بين يدي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله غلام من أبناء الأنصار، فكان ذلك اليوم يومي، فجاءت ام أيمن مولاة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بطير فوضعته بين

يدي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: يا ام أيمن ما هذا الطائر؟ قالت: هذا طائر أصبته فصنعته لك، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «اللّهم جئني بأحبّ خلقك إليك وإليَّ يأكل معي من هذا الطائر»، وضرب الباب، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: ياأنس انظر من على الباب، قلت: اللّهم اجعله رجلًا من الأنصار، فذهبت فاذا علي بالباب، قلت: إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله على حاجة فجئت حتى قمت مقامي فلم ألبث أن ضرب الباب، فقال: يا أنس انظر من على الباب، فقلت: اللّهم اجعله رجلًا من الأنصار فذهبت فاذا علي بالباب، قلت: إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله على حاجة فجئت حتى قمت مقامي فلم ألبث أن ضرب الباب، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يا أنس اذهب فأدخله فلست بأول رجل أحبّ قومه ليس هو من الأنصار فذهبت فأدخلته، فقال: يا أنس قرب إليه الطير، قال: فوضعته بين يدي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فأكلا جميعاً، قال محمد بن

نفحات القرآن، ج 9، ص: 291

الحجاج: يا أنس كان هذا بمحضر منك؟ قال: نعم، قال: اعطي باللَّه عهداً أن لا انتقص علياً بعد مقامي هذا ولا أعلم أحد ينتقصه إلّاأشنت له وجهه «1».

وأورد «الذهبي» هذا الحديث أيضاً في «تلخيص المستدرك» المطبوع في حاشية «المستدرك».

وإضافة لما قلناه، فإنّ الحديث المعروف ب «حديث الطير» في مختلف المصادر الإسلامية، ورد في كتب كثيرة، بحيث إنّ العلّامة الأميني رحمه الله يقول بشأنه: حديث الطير حديث متواتر وصحيح سلّم أئمّة الحديث بتواتره وصحته.

وأورد هذا الحديث «موفق بن

أحمد» وهو فقيه، ومحدث كبير، وخطيب فذ، وأديب، وشاعر في كتاب المناقب «2».

والأهم من ذلك أنّ المحدث المعروف «الترمذي» ينقل في كتابه المشهور باسم «صحيح الترمذي» عن «أنس بن مالك» أنّه كان بين يدي الرسول صلى الله عليه و آله طيراً، فقال: «اللّهم أئتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي هذا الطير فجاء علي فأكل معه» «3».

يقول العلّامة الكنجي الشافعي في «كفاية الطالب» بعد نقله هذا الحديث: «وفيه دلالة واضحة على أنّ علياً عليه السلام أحبّ الخلق إلى اللَّه وأدل الدلالة على ذلك اجابة دعاء النبي صلى الله عليه و آله فيما دعا به، وقد وعد اللَّه تعالى من دعاه بالاجابة حيث قال: «ادعوني استجب لكم» فأمر بالدعاء ووعد بالاجابة، وهو عزّ وجلّ لا يخلف الميعاد، وما كان اللَّه عزّ وجلّ ليخلف وعده رسله ولا يرد دعاء رسوله لأحبّ الخلق إليه ومن أقرب الوسائل إلى اللَّه تعالى محبته ومحبة من يحبّه لحبّه» «4».

وينقل «العلّامة النسائي»- وهو من علماء القرن الثالث الهجري- هذا الحديث أيضاً مع

______________________________

(1) المستدرك على الصحيحين، ج 3، ص 131.

(2) المناقب، ص 67.

(3) صحيح الترمذي، ج 13، ص 170.

(4) كفاية الطالب، ص 59، (طبقاً لنقل احقاق الحق، ج 5، ص 319).

نفحات القرآن، ج 9، ص: 292

بعض الإضافات في كتابه المعروف «الخصائص» «1».

ومن العلماء الآخرين الذين نقلوا هذا الحديث في كتبهم: «سبط ابن الجوزي» في «التذكرة»، و «ابن الأثير» في «اسد الغابة»، و «ابن مسعود الشافعي» في «مصابيح السنة»، و «محب الدين الطبري» في «ذخائر العقبى ، و «الشيخ سليمان البلخي القندوزي» في «ينابيع المودة»، وطائفة اخرى غيرهم لو أردنا ذكر أسمائهم وشرح كلماتهم لطال بنا المقام.

ومن الملاحظات التي قد تثير الدهشة لدى البعض أنّ

ابن الأثير في «اسد الغابة» عندما ينقل حديث الطير بعدة طرق، يقول في احدى طرق الحديث المنقول عن أنس بن مالك: إنّ النبي صلى الله عليه و آله كان عنده طائر فقال اللّهم ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي من هذا الطائر فجاء أبو بكر فرده، ثم جاء عثمان، فرده (وفي رواية اخرى نقلها النسائي في الخصائص ورد اسم عمر بدل عثمان) فجاء علي فأذن له.

يقول «ابن الأثير» في نهاية هذا الحديث أن ذكر أسماء «أبو بكر وعثمان» في هذا الحديث غريب جدّاً «2».

والأعجب من ذلك أنّ بعض المحدثين من السنّة إذ أرادوا المرور بهذه الفضيلة الفريدة مرّوا مستطرقين وأغمضوا أعينهم عن الحقائق، ولجأوا إلى التشكيك في سند هذا الحديث، مثل ابن كثير الدمشقي كاتب «البداية والنهاية» إذ يقول بعد ذكر هذا الحديث: «وفي القلب من صحة هذا الحديث نظر وإن كثرت طرقه» «3».

بينما نجد أنّ هذا الحديث المتواتر الذي ورد في الكثير من المصادر المعروفة بشكل واسع، لا غبار عليه من حيث السند والدلالة سوى أنّه لا ينسجم مع الأحكام المسبقة للبعض، وللمرحوم العلّامة الأميني جملة لطيفة بعد ذكر هذه العبارة إذ يقول: «باجتماع

______________________________

(1) الخصائص، ص 5.

(2) اسد الغابة، ج 4، ص 30.

(3) البداية والنهاية، ص 353.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 293

جميع شروط الصحة في هذا الحديث إن كان شك ما في القلب تجاه هذا الحديث أيضاً، فالإشكال يكمن في ذلك القلب وليس في الحديث».

25- آية المسؤولين

نقرأ في قوله تعالى بشأن الظالمين: إنّ الخطاب يأتي إلى ملائكة العذاب: «وَقِفُوهُم انَّهُمْ مَّسْؤولُونَ». (الصافات/ 24)

وهناك أخذ ورد بين المفسرين فيما سيسألون عنه، قال بعضهم: عن البدع التي ابتدعوها، وقال بعضهم الآخر: عن أعمالهم السيئة وعن خطاياهم، وأضاف

بعضهم: عن التوحيد: «ولا إله إلّااللَّه» «1».

ولا مانع من اجتماعهن جميعاً في مفهوم الآية.

إلّا أنّه ورد في العديد من الروايات أنّ المراد هو السؤال عن «ولاية علي بن أبي طالب عليه السلام».

وقد وردت هذه الروايات في المصادر الإسلامية المعروفة.

ومنها في «شواهد التنزيل»، إذ ينقل بطريقين عن أبي سعيد الخدري، عن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه قال في تفسير هذه الآية: «عن ولاية علي بن أبي طالب» «2».

وينقل في حديث آخر عن «سعيد بن جبير»، عن «ابن عباس» أنّ الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله قال: «إذا كان يوم القيامة أوقف أنا وعلي على الصراط فما يمر بنا أحد إلّاسألناه عن ولاية علي، فمن كانت معه، وإلّا ألقيناه في النار! وذلك قوله وقفوهم إنّهم مسؤولون» «3».

ونقل «الحاكم الحسكاني» هذا الحديث أيضاً في الكتاب المذكور، عن طرق اخرى

______________________________

(1) تفسير مجمع البيان، ج 7، ص 441 (نهاية الآية التي نحن بصددها).

(2) شواهد التنزيل، ج 2، ص 106- 107، ح 786 و 787.

(3) المصدر السابق، ح 788.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 294

ونقل «ابن حجر» أيضاً في كتاب «الصواعق» هذا الحديث عن «أبي سعيد الخدري» عن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله «1».

وممن نقل هذا الحديث «أحمد بن حنبل» (أحد الأئمّة الأربعة للسنّة) في كتاب المسند عن أبي سعيد الخدري: «إنّه يسأل في يوم القيامة عن ولاية علي بن أبي طالب عليه السلام».

ونقل هذا الحديث أيضاً كل من: «عز الدين الحنبلي» في «كشف الغمة» «2»، والآلوسي في تفسيره «3»، و «سبط ابن الجوزي» في «التذكرة» «4»، و «أبو نعيم الاصفهاني» في «كفاية الخصام» «5»، و «الشيخ سليمان القندوزي» في «ينابيع المودة» «6»، وجمع آخر لو

أردنا ذكر اسمائهم وكتبهم لطال بنا المقام.

والطريف أنّه- في بعض هذه الروايات- وردت «ولاية أهل البيت» إضافة لولاية علي عليه السلام «7».

كما أنّ هذه الملاحظة جديرة بالاهتمام أيضاً وهي أنّ جميع الروايات الآنفة الذكر نقلت عن المصادر المعروفة والكتب المشهورة للسنة، والرواة المقبولين، ولكن مع ذلك فإنّ «الآلوسي» عندما ينقل هذه الرواية يقول: «روى بعض الإمامية عن ابن جبير عن ابن عباس يسألون عن ولاية علي»، و «كذلك نقل الإمامية هذه الرواية عن أبي سعيد الخدري» «8».

ويضيف من عنده ولاية سائر الخلفاء بكل تعجب!

إنّ هذا المفسر المتعصب يتصور أنّ كل حديث بشأن فضائل علي عليه السلام لابدّ وأن يكون

______________________________

(1) الصواعق، ص 89.

(2) كشف الغمة، ص 92.

(3) تفسير روح المعاني، نهاية الآية التي نحن بصددها.

(4) التذكرة، ص 21.

(5) كفاية الخصام،، ص 361.

(6) ينابيع المودة، ص 257.

(7) علي في الكتاب والسنة، ج 1 ص 229.

(8) تفسير روح المعاني، ج 23، ص 74.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 295

رواته من الإمامية والشيعة حتماً، وكأنّ أحكامه الطائفية المسبقة لا تسمح له التصديق بأنّ هذه الأحاديث منقولة بهذا الشكل الواسع في المصادر المعروفة للسنّة، وكأنّه لا يصدق أيضاً بأنّ الاجيال اللاحقة سيقرأون كلماته، ويشكلون عليه، أنّ رواة هذا الحديث ليسوا من الإمامية فحسب، بل إنّهم غالباً من علماء السنّة.

وعلى أيّة حال فإنّ مفهوم هذه الأحاديث وكذلك الآية الآنفة لا يعني أنّه في يوم القيامة يسأل عن ولاية «علي بن أبي طالب» فقط، ذلك أنّ يوم القيامة هو يوم السؤال عن جميع الأعمال، والنعم، وجميع أنواع المسؤوليات، بل المراد أنّ احدى أهم الامور التي يسأل عنها هي ولاية هذا الإمام المعصوم، وبلا أدنى شك فإنّ الولاية هنا ليست بمعنى نوع من المحبة

العادية والدارجة التي لابدّ وأن يتحلى بها كل مؤمن تجاه الآخرين، ذلك أنّ هذا الأمر يعد أحد الفروع العادية للدين، بل إنّ المراد شي ء أبعد من هذه المسألة ويعد من أهم أركان الإسلام واسس الدين.

فهل يمكن أن يكون هذا الموضوع شيئاً آخر غير مقام القيادة والخلافة الإلهيّة بعد رسول الإسلام صلى الله عليه و آله؟!

نعم، علي بن أبي طالب عليه السلام هو ذلك الشخص الذي تعد ولايته من أهم أركان الإسلام وشروط الإيمان، وعلى رأس تسلسل الامور التي يُسال عنها في يوم القيامة.

وكيف لا يكون كذلك، وقد ملأت فضائله ومفاخره جميع كتب الحديث، وتتلألأت شخصيته الرفيعة في آيات القرآن المجيد، بالرغم من كل المواقف العدائية التي اتخذها أعداؤه معه، وكتموا فضائله (ولايزالون يكتمونها لحد الآن أيضاً)، وبالرغم من أنّ أصحابه واتباعه اضطروا إلى اخفاء فضائله أيضاً خوفاً من بطش الأعداء!.

ونختم هذا الكلام بنقل حديث معروف عن ابن عباس ورد في الكثير من المصادر الإسلامية إذ يقول: ما نزل في القرآن «يَا ايَّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» إلّاعلي سيدها وشريفها وأميرها، وما أحد من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إلّاقد عاتبه اللَّه في القرآن، ما خلا علي بن أبي طالب فإنّه لم يعاتبه بشي ء، وما نزل في أحد من كتاب اللَّه مانزل في علي ... نزلت في علي ثلاثمائة آية!» «1».

______________________________

(1) مختصر تاريخ دمشق، ج 18، ص 11.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 296

ونقل هذا الحديث- أو قسمه الأول- عن طائفة اخرى كثيرة أيضاً، مثل الحافظ «أبو نعيم الاصفهاني» في «حلية الأولياء»، و «محب الدين الطبري» في «ذخائر العقبى ، و «العلّامة الكنجي الشافعي» في «كفاية الطالب»، و «سبط ابن الجوزي» في «التذكرة»، و «الشبلنجي» في «نور

الأبصار»، و «الهيثمي» في «الصواعق»، و «السيوطي» في «تاريخ الخلفاء»، و «القندوزي» في «ينابيع المودة» «1».

كانت هذه طائفة من الآيات التي نزلت بشأن علي عليه السلام في القرآن، إذ عمدنا إلى اختيار هذا العدد منها.

______________________________

(1) للمزيد من الاطلاع على هذه المصادر يرجى مراجعة احقاق الحق، ج 3، ص 476.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 297

الأئمّة الاثنى عشر

اشارة

نفحات القرآن، ج 9، ص: 299

الأئمّة الاثنى عشر عليهم السلام

تمهيد:

اشارة

بالرغم من أنّ المذهب الشيعي لا ينحصر ب «الإمامية الاثنى عشرية»، بل يضم الشعب والفرق الاخرى مثل «الزيدية» الذين يعتقدون بأربعة من الأئمّة فقط، و «الاسماعيلية» الذين يعتقدون «بسبعة أئمّة» وغيرهم من الفرق، إلّاأنّه وبلا أدنى شك يعد الشيعة الاثنى عشرية أشهر تلك الفرق قاطبة، إذ يشكلون جزءً مهماً من المسلمين في سائر انحاء العالم، ويشكلون في بعض الدول كايران والعراق والبحرين الأكثرية القاطبة من السكان، وفي البعض الآخر يشكلون نسبة كبيرة من السكان كما هو الحال في أغلب البلدان الإسلامية.

إنّ للشيعة الاثنى عشرية مراكز علمية هامة، تضم عشرات الآلاف من العلماء والطلاب المنهمكين في التحقيق والتدريس وتعلم العلوم الإسلامية.

وقد تمّ تأليف وطبع ونشر عشرات الآلاف من الكتب العلمية حول العقائد الإسلامية، والفقه، والاصول، والتفسير، والحديث، والفلسفة، والرجال، والدراية، والتاريخ الإسلامي من قبل علماء الشيعة.

وقد ذكر المرحوم المحقق الجليل «الشيخ آقا بزرك الطهراني» في كتابه «الذريعة إلى تصانيف الشيعة» والذي تمّ طبعه مؤخراً في 26 مجلداً، أسماء عشرات الآلاف من كتب علماء الشيعة مع ذكر مؤلفيها مع شرح وجيز عن كل منهم، مما يوضح بشكل جلي حجم الخدمات الجليلة التي قدمها العلماء الشيعة للعلوم الإسلامية، وكيف أنّهم خلفوا وراءَهم تصانيف ثمينة جدّاً في جميع الفنون الإسلامية والعلوم الإنسانية مخلدة ذكراهم.

ويجدر بالذين لا يدركون هذه الحقائق أن يقوموا بزيارة المراكز العلمية للشيعة في

نفحات القرآن، ج 9، ص: 300

مختلف مناطق العالم، ليروا الطلاب والفضلاء وعلماء الشيعة الذين يمتازون بالمهارة الفائقة في العلوم الإسلامية المختلفة عن كثب، ويطلعوا على مكتباتهم المملوءة بالكتب العلمية لهؤلاء العلماء، وكذلك بالكتب العلمية للعلماء السنّة.

ويلاحظوا عن قرب، الفقهاء، والمتكلمين، ومفسري القرآن، والكتاب اللامعين، والخطباء، والكم

الهائل من حفظة القرآن الكريم.

ولكن مما يؤسف له أنّ الرقابة الشديدة المفروضة على الكثير من المحافل الخبرية الإسلامية والحاكمة كذلك على أغلب المكتبات المعروفة للدول الإسلامية، لم تسمح لحد الآن بأن يقوم المحققون المحايدون للسنّة من التعرف بشكل واضح على اتباع مذهب أهل البيت عليهم السلام والعلماء وآثارهم العلمية.

ونجد هنا أنّ المكتبات مليئة بكتب علماء السنّة إلى جانب كتب علماء الشيعة دون ملاحظة أدنى فرق بينهم من حيث الحضور في المكتبات، ولا يشعر أي منهم أيضاً بأدنى خطر من هذه الناحية على مذهبه، إلّاأنّ مكتبات الاخوة السنة لها شكل آخر غالباً، ولا يلاحظ فيها أي أثر لعشرات الآلاف من المؤلفات العلمية المعروفة للشيعة، أو أنّها تقتصر على مقدار قليل منها فقط!.

وعلى أيّة حال نأمل أن يأتي اليوم الذي يتمكن فيه المحققون وبحياد تام، أن يدققوا ويبحثوا فيما قلناه آنفاً، ويعرفوا المجتمع الشيعي الإمامي كما هم عليه- وليس كما يقوله اعداؤهم، أو كما تحاول أن تصوره الأبواق الاستعمارية عنهم- ويقيناً سيشهد ذلك اليوم وقائع جديدة في العالم الإسلامي مع اتباع هذا المذهب، وسينعم العالم الإسلامي بتفاهم وانسجام أفضل.

ولكي لا نبتعد عن أصل الموضوع، تلاحظ في الآيات القرآنية، إشارات لأئمّة أهل البيت المعصومين عليهم السلام تزداد جلاءً ووضوحاً بمساعدة الروايات الواردة في المصادر الإسلامية المعروفة بشأن تفسير هذه الآيات.

وهذه الآيات متعددة، ونشير في النهاية إلى بعض منها فقط، وتمت الإشارة إلى مجموعة

نفحات القرآن، ج 9، ص: 301

منها في بداية البحث في موضوع ولاية وإمامة علي عليه السلام، ومنها:

1- آية «انَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ أَهلَ البَيتِ». (الاحزاب/ 33)

بشهادة محتواها، وكذلك الروايات الواردة في شرحها وتفسيرها عن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله في المصادر الإسلامية المعروفة، أنّ

مفهومها عام أي أنّها تشمل بالإضافة لعلي عليه السلام سائر الأئمّة المعصومين، وخاصة الإمام الحسن والإمام الحسين عليهما السلام اللذين صُرح باسميهما في هذه الروايات.

2- آية «قُل لَّاأَسأَلُكُم عَلَيهِ اجراً إِلَّا المَوَدَّةَ فِى القُرَبى . (الشورى 23)

تشير أيضاً وبنحو الإجمال لجميع الأئمّة المعصومين عليهم السلام، وقد صرح في روايات متعددة منقولة عن سعيد بن جبير وابن عباس عن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله أنّ المراد من «القربى في هذه الآية، علي عليه السلام وفاطمة عليها السلام وذريتهما، وصرح في البعض الآخر باسم الإمامين الحسن والحسين عليهما السلام أيضاً.

ولغرض المزيد من التوضيح يرجى مراجعة «شواهد التنزيل» وسائر المصادر التي ذكرناها أثناء شرح هذه الآية «1».

3- آية «أَطِيعُوا اللَّهَ وَاطيِعُوا الرَّسُولَ وَاولىِ الامرِ مِنكُم». (النساء/ 59)

وهذه الآية هي الاخرى كسابقتها، لاسيّما أنّ لهذه الآية مفهوماً عاماً يشمل كل زمان، وبناء على ذلك لابدّ من وجود مصداق من «اولي الأمر» في كل عصر وزمان، يكون فرداً معصوماً، وطاهراً من الذنوب (لأنّ الطاعة المطلقة الخالية من كل قيد وشرط غير مشروعة سوى للمعصومين خاصة).

إضافة إلى ذلك ففي بعض الروايات المعروفة الواردة في مصادر أهل السنّة صرح باسم الإمام الحسن والإمام الحسين عليهما السلام.

4- آية «كُونُوا مَعَ الصَّادقِينَ». (التوبة/ 119)

هي الاخرى بنفس المفهوم الذي شرحناه سابقاً، إذ لها مفهوم عام شامل لكل عصر

______________________________

(1) أوردت روايات بطرق مختلفة في هذا المجال في شواهد التنزيل، ج 2، ص 130- 134.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 302

وزمان، وهي دليل على أنّه يوجد في كل عصر وزمان صادق معصوم (ذلك أنّ المؤازرة والتبعية المطلقة دون قيد أو شرط ليس لها مفهوم سوى للمعصومين فقط)، وإضافة إلى ذلك فإنّ بعض الروايات الواردة في

شرح هذه الآية، تفسر الصادقين بأنّهم محمد وأهل بيته عليهم السلام «1».

وبما أنّ هذه الآيات والروايات المتعلقة بها، ذكرناها في هذه المباحث بشكل مفصل لذا نحجم عن تكرارها مرة اخرى وننتقل إلى آيات الفضيلة.

ونؤكد مرّة اخرى على أنّ آيات الفضيلة لا تطرح باعتبار أنّها الآيات التي لها دلالة مباشرة على إمامة وولاية أئمّة أهل البيت عليهم السلام، بل الهدف من ذلك هو أن يتضح بشكل جلي أنّ كل واحد منهم كان أفضل أفراد عصره، وبما أنّه لابدّ من وجود اولي الأمر والإمام المعصوم في كل عصر وزمان طبقاً لمفهوم الآيات السابقة، فإنّهم مصداق هذا المعنى

1- آية الصلوات والتحية

نفحات القرآن ج 9 346

نقرأ في قوله تعالى «انَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىِّ يَا ايُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً». (الأحزاب/ 56)

لقد تم تجسيد مقام نبي الإسلام صلى الله عليه و آله في هذه الآية بأفضل وجه، ذلك أنّ اللَّه تعالى وملائكته المقربين يصلون على النبي صلى الله عليه و آله، وكذلك صدور الأمر لجميع المؤمنين أن يصلوا ويسلموا عليه بدون استثناء.

أي مقام اسمى من هذا المقام؟ وأ ي عظمة فوق هذه العظمة؟

صحيح أنّه لم يرد في هذه الآية، كلام عن آل الرسول صلى الله عليه و آله إلّاأننا نقرأ في الكثير من الروايات أنّ أصحابه وانصاره عندما سألوه: كيف نصلي ونسلم عليك، فقد جعل الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله «الآل» إلى جانب الصلاة عليه، وجميع الرحمة والسلام اللذين يطلبان من اللَّه

______________________________

(1) شواهد التنزيل، ج 1، ص 262.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 303

تعالى فهما له، وآله أيضاً، وهذه قرينة على أنّ الصلوات والتحية من اللَّه والملائكة تتسم بالتعميم أيضاً، فهي تشمل الرسول صلى الله

عليه و آله وآله وهذه ليست مسأله بسيطة، بل إنّها توضح أنّ لهم مقامات تالية لمقام الرسول صلى الله عليه و آله، وتكليف شبيه بتكليفه من بعض الجهات، وإلّا فإنّ هذا المقام الشامخ لا يمكن أن يكون لهم بسبب القرابة فقط.

وننتقل الآن إلى طائفة من هذه الروايات الواردة في أشهر مصادر السنة:

1- نقل في «صحيح البخاري» عن أبي سعيد الخدري قلنا: يارسول اللَّه صلى الله عليه و آله السلام عليك معلوم، كيف نصلّي عليك؟ قال: «قولوا اللّهم صل على محمد عبدك ورسولك كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم وبارك على محمد وآل محمد كما باركت على إبراهيم» «1».

وينقل هذا الحديث في نفس الكتاب والصفحة بنحو اكمل عن «كعب بن عجره» أحد الصحابة المعروفين أنّه قال لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله: عرفنا كيفية السلام عليك، ولكن كيف يجب أن تكون الصلوات عليك؟ قال: «قولوا اللّهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم انك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنّك حميد مجيد» «2».

تجدر الإشارة إلى أنّ البخاري يذكر هذه الأحاديث في نهاية الآية الشريفة: «إنّ اللَّه وملائكته ...».

2- نقل في «صحيح مسلم» وهو ثاني مصدر معروف للحديث عند الاخوة السنّة عن «أبي مسعود الأنصاري» أنّ الرسول صلى الله عليه و آله دخل علينا ونحن في مجلس سعد بن عبادة، فقال بشير بن سعد: يارسول اللَّه! لقد امرنا اللَّه بأنّ نصلي عليك فكيف نصلي عليك؟ فسكت الرسول أولًا، ثم قال: «قولوا اللّهم صل على محمد وآل محمد كما صليت على آل إبراهيم، بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل

إبراهيم في العالمين إنّك حميد مجيد» «3».

______________________________

(1) صحيح البخاري ج 6، ص 151.

(2) المصدر السابق.

(3) صحيح مسلم، ج 1 ص 305، ح 65.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 304

3- وفي تفسير «الدر المنثور» وهو اشهر تفسير روائي ينقل نفس رواية «أبو سعيد الخدري» عن «البخاري» و «النسائي» و «ابن ماجة» و «ابن مردويه» عن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله «1».

ونقل في نفس الكتاب عبارة «أبو مسعود الأنصاري» عن «الترمذي» و «النسائي» و «ابن مردويه» «2».

وينقل عين هذا المضمون أيضاً بفارق قليل عن «مالك» و «أحمد» و «البخاري» و «مسلم «و «أبو داود» و «النسائي» و» ابن ماجة» و «ابن مردويه» عن «أبي أحمد الساعدي» «3».

و ينقل الحاكم النيسابوري في المستدرك على الصحيحين عن ابن أبي ليلى أنّ «كعب بن عجرة» صادفني وقال: أتريد أن اعطيك هدية سمعتها من الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله؟! قلت: بلى اهدني! قال: سألنا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: كيف نصلي عليكم أهل البيت؟ قال قولوا: «اللّهم صل على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم إنّك حميد مجيد، اللّهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد».

ثم يقول الحاكم النيسابوري وقد عزم على ذكر أحاديث غير مذكورة في صحيحي البخاري ومسلم: نقل البخاري هذا الحديث في كتابه عن «موسى بن إسماعيل» بنفس هذا السند والألفاظ، والسبب في ذكري إيّاه ثانية هنا يعود للإشارة إلى أنّ «أهل البيت» و «الآل» أمر واحد، وتجدر الإشارة إلى أنّ الحاكم نقل هذا الحديث بعد حديث «الكساء» الذي اشير فيه وبشكل صريح أنّ أهل بيتي علي وفاطمة والحسن والحسين «4»، وهذا

تعبير عميق المعنى

______________________________

(1) تفسير در المنثور، ج 5 ص 217.

(2) المصدر السابق.

(3) المصدر السابق.

(4) المستدرك على الصحيحين، ج 3، ص 148.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 305

وبعد ذلك ينقل «الحاكم» حديث الثقلين، وبعده حديث «أبو هريرة» أنّ الرسول صلى الله عليه و آله نظر إلى علي والحسن والحسين وقال: «أنا حرب لمن حاربكم وسلم لمن سالمكم» «1».

ونقل محمد بن جرير الطبري في تفسيره نهاية هذه الآية الرواية أعلاه مع اختلاف بسيط عن «موسى بن طلحة» عن أبيه، ويروي برواية اخرى نفس الحديث عن ابن عباس، وفي رواية ثالثة عن «زياد» عن «إبراهيم»، وفي رواية رابعة عن «عبد الرحمن بن بشر بن مسعود الأنصاري» «2».

ونقل البيهقي أيضاً في كتابه المعروف «السنن» روايات متعددة بهذا الصدد حيث إنّ بعضها يوضح تكليف المسلمين في الصلاة وأثناء التشهد، ومنها في حديث عن «أبي مسعود وعقبة بن عمرو»، ينقل أنّ رجلًا جاء وجلس بين يدي الرسول صلى الله عليه و آله وكنا جلوساً عنده، فقال: يارسول اللَّه إنا نعرف كيفية السلام عليك، ولكن كيف نصلي عليك أثناء الصلاة؟

فسكت الرسول صلى الله عليه و آله حتى قلنا: ليت الرجل لم يسأل مثل هذا السؤال، ثم قال: «إذا أنتم صليتم علي فقولوا اللّهم صل على محمد النبي الامي وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد النبي الامي وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد».

ثم ينقل عن «أبي عبد اللَّه الشافعي» أنّه حديث صحيح بشأن الصلوات على النبي صلى الله عليه و آله في الصلوة «3».

وأورد البيهقي أحاديث متعددة اخرى بصدد كيفية الصلاة على الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله بشكل

مطلق أو في الصلاة خاصة في حديث عن «كعب بن عجرة» عن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله ينقل أنّه كان يقول في الصلاة: «اللّهم صل على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم وبارك على محمد وآل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنّك حميد مجيد» «4».

______________________________

(1) المستدرك على الصحيحين ج 3، ص 149.

(2) تفسير جامع البيان، ج 22 ص 32.

(3) سنن البيهقي ج 2 ص 146 و 147.

(4) سنن البيهقي ج 2 ص 147.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 306

يتضح من هذا الحديث أنّه حتى الرسول صلى الله عليه و آله كان يذكر هذه الصلوات في صلواته.

يقول البيهقي في نهاية احدى الروايات التي لم يرد الحديث فيها عن الصلاة:- هذه الروايات ناظرة إلى حال الصلاة لأنّ جملة «قد علمنا كيف نسلم» هي إشارة إلى السلام في التشهد (السلام عليك أيّها النبي ورحمة اللَّه وبركاته) لذا فإنّ المراد من الصلوات هي الصلوات في حال التشهد «1».

وعلى هذا الأساس فإنّ المسلمين مأمورون بالصلاة على الرسول صلى الله عليه و آله في التشهد أيضاً كما هم مأمورون حسب اعتقاد جميع الفرق الإسلامية بالسلام على الرسول صلى الله عليه و آله في التشهد بلفظ: «السلام عليك أيّها النبي ورحمة اللَّه».

وبالرغم من أنّه يلاحظ هنا اختلاف بسيط بين المذاهب الأربعة للسنّة، إذ إنّ الشافعيين والحنبليين يقولون: الصلاة على الرسول صلى الله عليه و آله في التشهد الثاني واجبة، في الوقت الذي يقول المالكيون والحنفيون: إنّها سنّة «2»، إلّاأنّه وطبقاً للروايات الآنفة فإنّها واجبة على الجميع.

وعلى أيّة حال فإنّ الكتب التي نقلت فيها الروايات المرتبطة بالصلوات على محمد وآل محمد صلى الله عليه و آله (سواء بشكل

مطلق أو في خصوص التشهد في الصلاة) أكثر ممّا أوضحناه في هذا الموجز، وما ذكر هنا كان بمثابة نموذج من هذه الروايات والكتب، وقد نقل هذه الروايات مجموعة من الصحابة أمثال ابن عباس، وطلحة، وأبو سعيد الخدري، وأبو هريرة، وأبو مسعود الأنصاري، وبريدة، وابن مسعود، وكعب بن عجره، وشخص علي صلى الله عليه و آله.

الملاحظة المحيرة جدّاً أنّ علماء السنّة بالرغم من كل هذه التأكيدات الواردة في روايات الرسول صلى الله عليه و آله بشأن إضافة آل محمد تراهم دائماً (باستثناء بعض الموارد النادرة) يحذفون «آل محمد» ويقولون صلى اللَّه عليه وسلم!.

______________________________

(1) سنن البيهقي ج 2 ص 147.

(2) الفقه على المذاهب الأربعة، ج 1، ص 266.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 307

والأعجب من ذلك أنّه في كتب الحديث، وحتى في الأبواب التي تنقل فيها الروايات الآنفة بشأن إضافة «آل محمد صلى الله عليه و آله» فإنّهم عندما يذكرون اسم الرسول صلى الله عليه و آله في طيات هذه الأحاديث يقولون: «صلى اللَّه عليه وسلم»! (بدون إضافة الآل) ولا ندري ما عذرهم بين يدي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في هذه المخالفة الصريحة لأوامره وتوجيهاته؟

فمثلًا يكتب البيهقي في عنوان هذا الباب «باب الصلوة على النبي صلى اللَّه عليه وسلم في التشهد»! وكذا الحال في البعض الآخر من مصادر الحديث المعروفة.

إنّ اختيار هذا العنوان سواء كان من قبل مؤلفي هذه الكتب أو من قبل المحققين التالين لهم، ومع الأخذ بنظر الاعتبار ماورد في نهايته عجيب ومتناقض جدّاً.

وننهي هذا الموضوع بذكر حديثين آخرين:

1- ينقل ابن حجر في الصواعق هكذا: إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: «لا تصلوا علي الصلاة البتراء، قالوا: وماالصلاة البتراء؟ قال: تقولون اللّهم

صل على محمد وتمسكون، بل قولوا:

اللهم صل على محمد وآل محمد» «1».

يوضح هذا الحديث أنّه حتى كلمة «على يجب أن لا تفصل بين محمد، وآل محمد ويجب القول: «اللهم صل على محمد وآل محمد».

2- ينقل السمهودي في الاشراف على فضل الاشراف عن ابن مسعود الأنصاري أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: «من صلى صلاة لم يصل فيها علي وعلى أهل بيتي لم تقبل» «2».

وعلى ما يبدو أنّ الإمام الشافعي في شعره المعروف، أخذ بنظر الاعتبار هذه الروايةيقول:

ياأهل بيت رسول اللَّه حبكم فرض من اللَّه في القرآن انزلهُ

كفاكم من عظيم القدر أنّكم من لم يصل عليكم لا صلاة لهُ «3»

يا ترى أنّ الذين يمتلكون مثل هذا المقام الذي يجب ذكر أسمائهم إلى جانب اسم

______________________________

(1) الصواعق، 144.

(2) السمهودي في الاشراف، ص 28 طبقاً لنقل احقاق الحق، ج 18، ص 310.

(3) في كتاب الغدير النفيس ورد أن انتساب هذه الابيات هي للإمام الشافعي عن شرح المواهب للزرقاني ج 7، ص 7 وجمع آخر. نفحات القرآن، ج 9، ص: 308

النبي صلى الله عليه و آله في الصلوة كواجب وفريضة إلهيّة، هل يمكن مساواتهم مع الآخرين.

وهل يبقى مكان لغيرهم للتصدي لمسألة الولاية والإمامة وخلافة النبي صلى الله عليه و آله بوجودهم؟ وأي منصفٍ بوسعه أن يرجّح الآخرين عليهم- مع حيازتهم على كل هذه الفضائل والمقام الشامخ-؟ ألّا توضح كل هذه الادلة مسألة الولاية والخلافة بشكل مباشر؟ لكم أن تحكموا بأنفسكم.

2- آية النور والبيوت

نقرأ في الآيات التي تأتي بعد آية: «اللَّهُ نُورُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ»، ما يلي: «فىِ بُيُوتٍ اذِنَ اللَّهُ انْ تُرفَعَ ويُذْكَرَ فيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيَها بِالغُدُوِّ وَالآصَالِ* رِجَالٌ لَّاتُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ

واقَامِ الصَّلَاةِ وإيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخافُونَ يَوماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ القُلُوبُ وَالابصَارُ* لِيَجزِيَهُمُ اللَّهُ احسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِن فَضلِهِ وَاللَّهُ يَرزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيرِ حِسَابٍ». (النور/ 35- 38)

بعد أن بيّن اللَّه تعالى في الآية 35 من هذه السورة، النور الإلهيّ بمثال دقيق وظريف ولطيف، ينتقل إلى مكان هذا النور في الآيات التالية.

تأملوا جيداً في التعابير الآنفة الذكر، ولاحظوا ما لهذه البيوت الإلهيّة وحرّاسها من مكانة وعظمة، حسب الوصف والتجسيد الوارد في هذه الآيات، ثم تأملوا الروايات الواردة ادناه:

ينقل السيوطي في تفسير الدر المنثور عن «أنس بن مالك»، و «بريدة» (وهما من صحابة الرسول صلى الله عليه و آله) أنّه عندما تلا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله هذه الآية، قام رجلٌ، وقال: «ايُّ بيوت هذه يارسول اللَّه!».

قال الرسول صلى الله عليه و آله: «بُيُوتُ الأنبياء!».

فقام «أبو بكر» وقال: «هذا البيت منها لبَيْتُ عليٍّ وفاطمة؟!». نفحات القرآن، ج 9، ص: 309

قال: «نَعَمْ من أفاضلها» «1».

ونقل «الحاكم الحسكاني» شبيه هذا المعنى في «شواهد التنزيل» عن «أبو برزة» (رجلٌ آخر من الصحابة) عن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله، دون أن يذكر شخصاً معيّناً، بل هكذا: «قيل:

يارسول اللَّه أَبيتَ عليِّ وفاطمة منها؟ قالَ: مِنْ أفضلها» «2».

وبعد ذكر هذه الرواية، ينقل الرواية السابقة أيضاً بطريقين عن «أنس بن مالك» و «بريدة» «3».

ومن الملفت للنظر أنّ «الآلوسي» في «روح المعاني» وبالرغم من ذكره لجميع فضائل أهل البيت عليه السلام دون رغبةٍ منه إلّاأنّه يضيف هنا بعد أن ينقل الرواية الاولى عن «أنس بن مالك» و «بريدة»: «هذا إن صَحّ لا ينبغي العُدول عَنْهُ» «4». (وبعبارة اخرى إنّه أفضل كلامٍ في تفسير الآية إذ إنّ المراد بذلك بيوت الأنبياء وأفضلها

بيت عليّ وفاطمة).

وأورد جمعٌ آخر من كبار علماء السنّة هذه الرواية في كتبهم أيضاً.

ويقيناً فإنّ هذه الروايات، تشمل علياً عليه السلام وفاطمة عليها السلام وولديهماالحسن والحسين عليهما السلام وكذا أولاد فاطمة عليها السلام من نسل الحسين عليه السلام أي الأئمّة المعصومين فإنّهم مشمولون بهذه الآية أيضاً، ذلك أنّهم يواصلوان نفس الطريق ونفس النهج.

نعم، إنّ بيوتهم كبيوت الأنبياء، بل من أفضلها، إنّه بيت يتلألأ منه نور اللَّه دائماً، ولا تصل إليه يدُ الشيطان، ويقيناً فإنّ الساكنين في هذا البيت هم من أفضل البشر، وهم كالأنبياء في الفضل والفضيلة.

3- الصراط المستقيم

في الآية السادسة من سورة الحمد التي نقرأها ليل نهار في الصلوة نسأل اللَّه تعالى

______________________________

(1) تفسير در المنثور، ج 5، ص 50.

(2) شواهد التنزيل، ج 1 ص 532، ح 566.

(3) المصدر السابق، ح 567 و 568.

(4) تفسير روح المعاني، ج 18، ص 157 نهاية الآية التي نحن بصددها.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 310

ونقول: «اهدنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ».

الصراط الذي يوصلنا إليك وإلى ما يرضيك، صراطاً غير صراط الذين غضبت عليهم ولا الضالّين.

اللّهم اهدنا أيضاً إلى هذا الصراط، وثبتنا عليه.

بلا شك أنّ مفهوم «الصراط المستقيم» مفهوم واسع جدّاً ولذا فسره البعض على أنّه بمعنى «الإسلام»، والبعض الآخر فسّره على أنّه «القرآن»، وبعض على أنّه «الرسول صلى الله عليه و آله وائمة الحق» وبعض آخر بمعنى «دين اللَّه»، وبعض آخر بمعنى طريق واسلوب أنبياء اللَّه، إذ إنّ كلًا من هذه التفاسير بوسعه أن يشكّل جزء من مفهوم الآية الواسع.

ولكن في العديد من الروايات التي نقلت عن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله بطرق مختلفة، وُضِع الاصبع على واحدةٍ من ابرز مصاديق هذه الآية، ذلك أنّ الصراط المستقيم فُسِّرَ بمعنى صراط وطريق

علي بن أبي طالب عليه السلام أو محمد وآل محمد صلى الله عليه و آله.

ينقل «الحاكم الحسكاني» في «شواهد التنزيل» عن «جابر بن عبد اللَّه الأنصاري» عن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه قال:

«انّ اللهَ جَعلَ علياً وزوجتَهُ وابناءَهُ حُجَجَ اللهِ على خلقِهِ وهُمْ أبوابُ العِلْمِ في امَّتي، مَن اهْتدَى بهِمْ هُدِيَ إلى صراطٍ مستقيمٍ» «1».

وينقل في حديث آخر عن «ابن عباس» عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال لعلي بن أبي طالب عليه السلام: «أنت الطريق الواضحُ وأنت الصِّراطُ المستقيمُ وأنت يعسوبُ المؤمنين!» «2».

وينقل أيضاً في حديث ثالث عن «ابن عباس» أنّه كان يقول في تفسير «اهدنا الصّراط المستقيم»: «قولوا- معاشرَ العبادِ- اهدنا إلى حُبِّ النبيِّ واهلِ بيتهِ»! «3».

وينقل في الحديث الرابع عن «أبو بريدة» في نهاية هذه الآية أنّه قال: المراد بالصراط محمدٌ وآله» «4».

______________________________

(1) شواهد التنزيل، ج 1، ص 76، ح 89.

(2) المصدر السابق، ح 88.

(3) المصدر السابق، ح 87.

(4) شواهد التنزيل، ج 1، ص 74، ح 86.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 311

وقد أورد «العلّامة الثعلبي» هذا الحديث في تفسيره أيضاً «1».

ونقله أيضاً «الشيخ عبيد اللَّه الحنفي» في كتاب «ارجح المطالب» عن «أبو هريرة» «2».

وينقل في الحديث الخامس الوارد في «شواهد التنزيل» عن «عبد الرحمن بن زيد» عن أبيه أنّه قال في تفسير آية: « «صِرَاطَ الَّذِينَ انعَمتَ عَلَيهِمْ»: هو النبيُّ ومن مَعَهُ وعَليُّ بنُ ابي طالبٍ وشيعَتُه» «3».

وقد وردت روايات متعددة بهذا الشأن أيضاً في مصادرالشيعة واتباع مذهب أهل البيت عليهم السلام، ومنها أنّه ورد في رواية عن الإمام الصادق صلى الله عليه و آله في تفسير الآية: «صراط الَّذِينَ انعَمتَ عَلَيهِمْ» أنّه قال: «يعني محمداً وذرَّيتَهُ عليهمُ

السلامُ» «4».

وبناءً على ذلك فإنّ أبرز وأوضح مصاديق الصراط المستقيم هو صراط النبي وعليٍّ عليه السلام وأولاده المعصومين من نسل فاطمة الزهراء عليها السلام، من اهتدى بهم وسار على نهجهم، هُدي إلى صراطٍ مستقيمٍ يقرّبه إلى اللَّه تعالى ويبعده عن الضلالة والانحراف.

4- وسيلة قبول توبة آدم عليه السلام

جاء في قوله تعالى أنّ آدم عليه السلام بعد «ترك الأولى تلقى «كلماتٍ من ربّه، وتاب بهن، وقبل اللَّه توبته ذلك أنّ اللَّه توابٌ رحيم» وهو قوله تعالى «فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلِيهِ انَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ». (البقرة/ 37)

فما هي هذه الكلمات التي أوحاها اللَّه تعالى لآدم كي يتوب بهن؟ هناك جدال بين المفسّرين، إذ يرى البعض منهم أنّ ذلك يعد إشارةً لما جاء في الآية: «قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا انْفُسَنَا

______________________________

(1) تفسير الثعلبي بناءً على نقل كفاية الخصام، ص 345.

(2) أرجح المطالب، ص 85.

(3) شواهد التنزيل، ج 1، ص 85، ح 105.

(4) تفسير نور الثقلين، ج 1، ص 23، ح 1101 (للمزيد من الاطلاع على هذه الأحاديث يرجى مراجعة تفسير نور الثقلين والبرهان).

نفحات القرآن، ج 9، ص: 312

وَانْ لَم تَغفِر لَنا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ». (الأعراف/ 23)

ويرى البعض الآخر أنّ ذلك إشارة للأدعية الاخرى ومنها دعاء يونس أثناء مكثه في بطن الحوت، أي جملة: «سُبحَانَكَ انِّي كُنْتُ من الظَّالِمينَ».

ولكن جاء في الروايات المتعددة التي نقلت عن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله أو عن الصحابة، أنّ تلك الكلمات كانت القسم على اللَّه بحق محمدٍ وعليٍّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام.

ينقل السيوطي في «الدر المنثور» في نهاية هذه الآية عن «ابن عباس» إنّي سألت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: عن الكلمات التي تلقاها آدم من ربّه فتاب عليه،

قال: «سأل بحق محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين إلّاتُبت عليَّ، فتاب عليه» «1».

وينقل أيضاً في ذلك الكتاب عن عليٍّ عليه السلام إنّي سألت الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله عن تفسير هذه الآية، قال: ... أمر اللَّه آدم أن قل: «اللهم إنّي أسألك بحق محمدٍ وآلِ محمدٍ، سبحانك لا إله إلّا أنت عملتُ سوءً وظلمتُ نفسي فَاغْفِرْ ليِ إنّكَ أنتَ الغفورُ الرحيم، اللهم إنّي أسأَلُكَ بحق محمدٍ وآلِ محمدٍ سبحانك لا إله إلّاأنت عملتُ سوءً وظَلمتُ نفسي فَتُبْ عليَّ إِنَّكَ أنت التّوابُ الرحيم فهؤلاءِ الكلمات التي تلقّى آدَمُ» «2».

يُعلَمُ جيداً من هذه الروايات أنّه لا منافاة بين هذه التفاسير الثلاثة، وكل هذه الكلمات كانت مجموعة في دعاء آدم عليه السلام.

ونقل «ابن المغازلي» في مناقبه نفس هذا المعنى عن «سعيد بن جبير» عن «ابن عباس» أنّه سأل الرسول صلى الله عليه و آله بشأن الكلمات التي تلقاها آدم من ربّه فتاب عليه، فقال الرسول صلى الله عليه و آله:

«سَألهُ بحَقِّ محمدٍ وعلي وفاطِمةَ والحسن والحسينِ إِلّا ما تُبْتَ عليَّ فتابَ عليهِ» «3».

ونقل «العلّامة القندوزي» هذا الحديث أيضاً في «ينابيع المودّة»، والبيهقي في «دلائل النبوّة»، و «البدخشي» في «مفتاح النّجاح»، و «عبد اللَّه الشافعي» في «المناقب» «4».

______________________________

(1) تفسير در المنثور، ج 1، ص 60.

(2) المصدر السابق.

(3) مناقب ابن المغازلي، طبقاً لنقل احقاق الحق، ج 9 ص 102.

(4) المصدر السابق.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 313

وبالرغم من أنّ الكثير من الكتب، انهت سند هذا الحديث ب «ابن عباس»، إلّاأنّ الراوية لا ينحصر ب «ابن عباس»، ذلك أنّه ينقل نفس هذا المعنى في «الدر المنثور» عن الديلمي في «مسند الفردوس» بسندٍ ينتهي ب عليِّ عليه السلام، أنّ علياً عليه السلام

يقول: سألت من الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله بشأن هذه الآية إلى أن يقول: «فعليك بهؤلاء الكلمات فإنّ اللَّه قابل توبتك وغافر ذنبك. قل: اللّهم إنّي اسألك بحق محمد وآل محمد سبحانك لا إله إلّاأنت عملت سوءً وظلمتُ نفسي فتب عليَّ إنّك أنت التوابُ الرحيم» «1».

ونقل هذا المعنى في مصادر أهل البيت عليهم السلام ومصادر السنّة عن الإمام الصادق عليه السلام أيضاً، ورواياته متعددة وطرقهُ متنوعة «2».

لا ينبغي النظر إلى هذا الحديث على أنّه فضيلة عابرة، والمرور به مروراً عابراً، إذ إنّ آدم عليه السلام عندما يريد أن يتوب من تركه الأولى (وهذا أول ترك للأولى يؤمرُ من قبل اللَّه أن يسأَلَهُ بحق محمد وآل محمد صلى الله عليه و آله، أو بحق محمدٍ وعليِّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، كي يقبل توبته.

لاسيّما وأنّ هذا المعنى لم يرد بشأن أحد سواهم، وهو مقام رفيع مختصٌ بهم، وهذا دليل العظمة الفائقة للخمسة الطيبة وللرسول وأهل بيته والأئمّة المعصومين عليهم السلام.

وعلى هذا كيف يمكن القول بوجود مَن هو أفضل وأليق منهم لخلافة وولاية الرسول صلى الله عليه و آله، وكيف يمكن ترجيح سواهم عليهم؟

وبالرغم من وجود مثل هذه الأسانيد، أَمِنَ العجب- ياترى أن تبقى الإمامة في نسل الرسول صلى الله عليه و آله إلى يوم القيامة؟!

5- أفضل الحسنات

اشارة

«مَنْ جَاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئذٍ آمِنُونَ». (النمل/ 89)

______________________________

(1) تفسير در المنثور، ج 1، ص 60 (مع الاختصار).

(2) تفسير البرهان، ج 1، ص 86؛ تفسير نور الثقلين، ج 1، ص 67 فما فوق؛ بحار الأنوار، ج 26، ص 319 فما فوق.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 314

للحسنة هنا، مفهوم واسع بأنّها تشمل جميع الحسنات، وتبشّر

مَن يأتي بحسنة، فله خيرٌ منها، وأحد آثارها المهمّة الأمان من خوفِ وفزعِ يوم المحشر وهو أعظم الفزع.

ولكن ورد في بعض الروايات «إنّ محبّة أهل بيت النبي صلى الله عليه و آله تعتبر واحدة من أهم وأبرز مصاديق الحسنة في هذه الآية، وتبيّن أنّ هذه المحبّة تعد من أفضل وسائل الأمان في يوم المعاد».

ونقلت عدّة روايات في «شواهد التنزيل» في نهاية هذه الآية بهذا المعنى أنّ المراد من «الحسنة» في الآية أعلاه محبّة أهل البيت عليهم السلام.

ومنها أنّه يُنقل عن «أبي عبد اللَّه الجدلي» عن عليٍّ عليه السلام أنّه قال له: «ألا أُخبرك بقول اللَّه تعالى «مَن جَاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا- إلى قوله- تعملون»؟ قال: بلى جُعلت فداك.

قال: «الحسنة حبّنا أهل البيت والسيئة بغضنا»، ثم قرأ الآية» «1».

ونقل نفس هذا المعنى في الحديثين 582، و 587 مع هذا الفارق أنّه جاء في نهاية الحديث الثالث: «ألا اخبركَ بالسيئةِ التي مَن جاء بها أَكبَّهُ اللَّهُ على وجهِهِ في نارِ جهنَّمَ، بُغْضَنا أهلَ البيتِ»! ثم تلا أمير المؤمنين عليه السلام الآية الثانية وقال: «وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وَجُوهُهُمْ فِى النَّارِ» «2». (النمل/ 90)

ويُنقل في حديث آخر عن «أبو امامة الباهلي» «3» أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: «إِنَ اللَّه خلق الأنبياء من شجرٍ شتّى وخلقني وعلياً من شجرةٍ واحدة فانا أصلها وعليٌّ فرعها، والحسنُ والحسينُ ثمارها، واشياعنا اوراقُها، فمَن تعلقَ بغُصْنٍ من أغصانها نجا، ومَنْ زاغَ هوى وَلَوا أنّ عابداً عَبَد اللهَ الفَ عامٍ، ثم الف عامٍ، ثم ألف عام ثم لم يدرك محبَّتَنااكَبَّهُ اللهُ على مِنْخرَيْهِ في النار!» «4».

______________________________

(1) شواهد التنزيل، ج 1، ص 548، ح 581.

(2) المصدر السابق،

ص 552، ح 587.

(3) أبو امامة الباهلي كان من أصحاب الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله، وذكروا أنّ وفاته كانت سنة 81، وهو آخر مَن توفي في الشام (اسد الغابة، في مادة صَدَيَهْ)، ولكن في كتاب الكنى والالقاب ذكروا أنّ وفاته كانت سنة 86 واسمه صُدَي على وزن رُجَيل، وكان من جملة الذين جعل عليهم معاوية العيون لئلا يذهب إلى عليٍّ عليه السلام.

(4) شواهد التنزيل، ج 1 ص 553، ح 588.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 315

وينقل العلّامة القندوزي أيضاً مضمون الحديث الأول عن عليٍّ عليه السلام ويختم الحديث، أنّه قال: «الحسنَةُ حبّنا والسَّيئَةُ بغضنا» «1».

وينقل عن «ابن كثير» عن الإمام الصادق عليه السلام في ذلك الكتاب نفسه أنّه قال (آية): «مَنْ جَاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشرُ امثَالَهَا»، قال: هي للمسلمين عامة واما الحسنة التي من جاء بها فله خير منها وهم من فزع يومئذٍ آمنون فهي ولايتنا وحبنا».

وبالرغم من أنّ طائفة من المفسرين وأرباب الحديث لم يوردوا مودة أهل البيت عليهم السلام على أنّها حسنة كبيرة في نهاية الآية التي نحن بصددها، إلّاأنّهم نقلوا هذا المضمون لهذه الاحاديث في نهاية الآية: «وَمَنْ يَقتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسناً». (الشورى 23)

ومن جملة هؤلاء «السيوطي» إذ نقل في «الدر المنثور» عن «ابن أبي حاتم» عن «ابن عباس» أنّه قال في تفسير هذه الآية: «المودَّةُ لآلِ محمَّدٍ صلى الله عليه و آله» «2».

ويقول «الآلوسي» في «روح المعاني» في نهاية هذه الآية 23 من سورة الشورى بعد أن يقول: إنّ بعض المفسرين قالوا: المراد من «الحسنة» المودّة لذوي قربى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، يقول: هذا المعنى نُقل عن «ابن عباس» و «السدّي»، ثم يضيف قائلًا: محبّة

آل الرسول من أعظم الحسنات، وجاء عنوان «الحسنة» في صدر هذه الآية «3».

وهناك أحاديث اخرى شبيهة بالأحاديث السابقة وردت في كتب اخرى لو أردنا ذكرها لطال بنا المقام.

ونختم هذا البحث بحديثٍ ورد بشأن محبّة أهل البيت عليهم السلام (وإن لم يرد في نهاية الآية):

نقل «الشبلنجي» حديثاً عن الرسول صلى الله عليه و آله، في كتاب «نور الأبصار» وصرّح بأنّه حديث صحيح، وقد ورد ضمن الحديث أنّ الرسول صلى الله عليه و آله قال: «واللَّهِ لا يدخُلُ قَلب رجلٍ، الإيمان

______________________________

(1) ينابيع المودّة، ص 98.

(2) تفسير در المنثور، ج 6، ص 7.

(3) تفسير روح المعاني، ج 25، ص 31.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 316

حتى يحبَّهُم (اهلَ بَيتي) لِقرابتهِم مِنّي» «1».

وهذه الملاحظة أيضاً لها أهميتها، إذ إنّ المحبّة العادية والمألوفة لا يسعها اطلاقاً أنّ تصبح وسيلةً للنجاة من فزع يوم القيامة، أو أن تكون شرطاً من شروط الإيمان، إنّ هذه التعابير توضح بشكل جليّ أنّ محبّة أهل البيت إنّما هي إشارة لمسألة الولاية والإمامة الهامة لبناء الدين، إذ تعد سبب بقاء الدين واستمرارية خط النبوّة وحفظ الإيمان.

ومن مجموع ما ورد بنحو الإشارة في الآيات السابقة، وما ورد بشكل صريح في الروايات الواردة في تفسير تلك الآيات، تتّضح لنا هذه المسألة، وهي: إنّ آل محمدٍ صلى الله عليه و آله وأهل بيت الرسول صلى الله عليه و آله خاصةً علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام يحظون بمقام رفيع جداً وذلك لأنّهم:

أولئك الذين تعد محبتهم اجراً على الرسالة.

من لم يصلّ ويسلّم عليهم لا صلاة له.

تعد منزلتهم بمثابة الصراط المستقيم.

إنّ آدم عليه السلام ومن أجل الفكاك من غضب اللَّه تعالى عليه بسبب «تركه الأولى أقسم بأسمائهم على اللَّه تعالى

وتاب لكي تقبل توبته!

وأخيراً فإنّ مودتهم حسنة تنقذ كل مؤمن من خوف وفزع يوم القيامة.

نعم، إنَّ الذين يتصفون بهذه الصفات الحميدة، ويحظون بهذا المقام الشامخ كما ورد في الروايات المعروفة للسنّة والمصادر المشهورة لأهل البيت، لا يمكن أن يجاريهم الآخرون اطلاقاً، وبالنتيجة لا يمكن الذهاب لغيرهم مع وجودهم، ويقيناً فإنّ هذه المحبّة والمودةَ تعد مقدمةً لمسألة الولاية والقيادة والتي بدورها تعد استمراراً لخط قيادة الرسول صلى الله عليه و آله.

______________________________

(1) نور الأبصار، ص 126.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 317

وكذلك الذين ذكروا في الروايات المتواترة لحديث الثقلين وأصبحوا إلى جوار القرآن الكريم يمثلون أحد الثقلين، واصبح الاثنان يمثلان وسيلتي النجاة من الضلال، تلك الوسيلتان اللتان ستبقيان قائمتين في الامّة الإسلامية حتى قيام الساعة، ولابدّ للمسلمين أن يلجأوا إليهما.

والذين عُرفوا بأنّهم سفينة النجاة، ونجوم الهداية الساطعة هم خير البريّة وأفضل الناس، هذه الأوصاف التي وردت في أغلب المصادر المعروفة والمشهورة لكلا الفريقين.

نعم، إنّنا نعتقد بأنّ الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله وتأكيداً على الإشارات الواردة في آيات القرآن الكريم بهذا الشأن أتمّ الحجة بحديثه على جميع المسلمين، وبقي على المسلمين أن يختاروا سبيل نجاتهم بعيداً عن مشاعر التعصب والأحكام المسبقة، أي أن يلجأوا إلى آل محمد صلى الله عليه و آله ليصلوا من خلال هدايتهم وقيادتهم إلى السعادة وبر الأمان، والذين لا يعتنون بكل هذه الإشارات والتصريحات المستندة إلى هذا الكم من الوثائق المعتبرة أو يبررون ويؤوّلون ويفسّرون بالرأي، عليهم أن يجيبوا عن أعمالهم هذه.

التصريح باسماء أئمّة أهل البيت عليهم السلام:

هذه الملاحظة جديرة أيضاً بأنّ تذكر وهي: إنّ في البعض من الروايات الواردة في مصادر السنّة ذكرت أسماء الأئمّة الاثني عشر بشكل كامل أيضاً، أي أنّه بعد ذكر عليِّ عليه السلام ورد

اسم الإمام الحسن عليه السلام ثم الإمام الحسين عليه السلام ثم الإمام علي بن الحسين عليه السلام ثم الإمام محمد بن علي الباقر عليه السلام وبعده جعفر بن محمد الصادق عليه السلام، ثم موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام، ثم علي بن موسى الرضا عليه السلام، ثم محمد بن علي الجواد التقي عليه السلام، وبعده علي بن محمد الهادي النقي عليه السلام، ثم الحسن بن علي العسكري عليه السلام، ثم محمد بن الحسن المهدي عليه السلام!

ومن هؤلاء الذين ذكروهم «سليمان بن إبراهيم القندوزي الحنفي» إذ نقل في كتاب «ينابيع المودّة» حديثين بهذا الشأن:

الحديث الأول: ينقله عن «فرائد السمطين» بسندٍ ينتهي بابن عباس أن يهودياً جاء إلى

نفحات القرآن، ج 9، ص: 318

الرسول صلى الله عليه و آله وسأل أسئلة متعددة حول الإسلام والتعاليم الإسلامية، ومن جملة أسئلته أنّه قال: أخبرني عن وصيك مَن هو؟ فما من نبي إلّاوله وصي، وأنّ نبيّنا موسى بن عمران أوصى إلى يوشع بن نون، فقال صلى الله عليه و آله: إنّ وصيي علي بن أبي طالب، وبعده سبطاي الحسن والحسين، تتلوه تسعة أئمّة من صلب الحسين «1».

الحديث الثاني: وينقل في حديث آخر عن «المناقب» عن جابر بن عبد اللَّه الأنصاري قصّة مشابهة لهذه القصة أيضاً، وردت فيها أسماء الأئمّة الاثنا عشر واحداً بعد الآخر بشكل صريح، وقد أشرنا إلى كلا الحديثين بنحو الاختصار لطولهما «2».

ويجب أن لا ننسى بأننا نقلنا روايات كثيرة في السابق لها دلالة على الأئمّة الاثنا عشر بنحو الإجمال، ومتى ما عاودتم الرجوع إلى ذلك البحث، وأخذتم بنظر الاعتبار تلك الروايات المعتبرة والمشهورة المنقولة عن طرق السنّة والشيعة ستلاحظون بأنّه لم يطرح أي تفسير صحيح وجدير بالملاحظة بشأن

الأئمّة الاثني عشر (أو الخلفاء والأمراء الاثني عشر) سوى ما نقله الشيعة، وبقي الجميع متحيرين في تفسير عدد الاثني عشر بشأن خلفاء الرسول صلى الله عليه و آله.

إنّ هذه الروايات المنقولة في أكثر مصادر الحديث اعتباراً، على درجةٍ من القوة بحيث أنّها غير قابلة للانكار، والتفسير الصحيح والوحيد لهذه المسألة هو التفسير الذي ذكره «الإمامية».

نأمل أن يأتي اليوم الذي ندع فيه أحكامنا المسبقة جانباً، ونشرع بانجاز بحثٍ جديد ومستقل في هذه الروايات والآيات القرآنية بشأن الإمامة وخلافة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، لعل ذلك يؤدي إلى فتح آفاقٍ جديدة امام الجميع.

______________________________

(1) ينابيع المودة، ص 440، الباب 76.

(2) المصدر السابق، ص 442، الباب 76.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 319

الإمام المهدي عليه السلام

اشارة

نفحات القرآن، ج 9، ص: 321

الإمام المهدي عليه السلام

تمهيد:

اشارة

على العكس مما يتصوره بعض الجهلة فإنّ الاعتقاد بقيام المهدي عليه السلام وحكومته العالمية، لا يختص فقط بالشيعة واتباع مذهب أهل البيت عليهم السلام، بل إنّ جميع الفرق الإسلامية دون استثناء يعتقدون بظهور رجل من ذرية الرسول في آخر الزمان يسمى المهدي، يملأ الأرض قسطاً وعدلًا، ونقلوا رواية هذا الموضوع في كتبهم عن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله.

وقد كُتبت مصنفات كثيرة وذكرت روايات عديدة في هذا الصدد على أيدي علماء السنّة والشيعة سنشير إلى بعضٍ منها في الأبحاث القادمة.

هذه الروايات من الروايات المتواترة والقطعية وأيّدها جميع المحققين من الإسلاميين- بصرف النظر عن مذاهبهم الخاصة، باستثناء عدد محدود مثل «ابن خلدون»، و «أحمد أمين المصري» اللذان شككا في صدور هذه الروايات عن الرسول صلى الله عليه و آله، وبين ايدينا مجموعة من القرآئن الدالة على أنّ الباعث الذي حملهم على هذا السلوك لم يكن ضعف الروايات، بل لعلهم كانوا يتصورون بأنّ الروايات المتعلقة بظهور المهدي تنطوي على الخارق من العادات بحيث لا يسعهم تصديقها بسهولة.

هذا في الوقت الذي وافقت على ذلك أكثر الفرق الإسلامية تعصباً لاسيما الوهابيون، واعترفوا بتواتر أحاديثه.

والشاهد على هذا الادّعاء بيان صدر قبل عدّة سنوات من قبل رابطة العالم الإسلامي

نفحات القرآن، ج 9، ص: 322

الواقعة بشدة تحت نفوذ الوهابيين وحكومة آل سعود، جواباً على سؤالٍ موجهٍ لهم بشأن ظهور الإمام المهدي عليه السلام.

وكان هذا البيان بمثابة جواب لأحد أهالي (كينيا) باسم «أبو محمد» وبتوقيع الامين العام «لرابطة العالم الإسلامي» «محمد صالح القزاز»، وقد ورد في هذا البيان مايلي:

انَّ «ابن تيمية» مؤسس مذهب الوهابيين يؤيد الأحاديث المتعلقة بالمهدي عليه السلام. وقد تطرق البيان بعد

ذلك إلى الرسالة التي اعدها خمسة من علماء الحجاز المعروفين في هذا الشأن: ونقرأ في مقطع من هذه الرسالة:

(عندما يظهر الفساد في العالم وينتشر الكفر والظلم، سوف يملأ اللَّه تعالى العالم عدلًا ب (المهدي) كما ملي ء ظلماً وجوراً، وأنه آخر الخلفاء الراشدين الاثنى عشر الذين أخبر عنهم النبي صلى الله عليه و آله في كتب الصحاح المعتبرة ...).

وقد نقل الكثير من صحابة النبي صلى الله عليه و آله الأحاديث المتعلقة بالمهدي، ومن جملتهم:

عثمان بن عفان، علي بن أبي طالب، طلحة بن عبيد اللَّه، عبد الرحمن بن عوف، عبد اللَّه بن عباس، عمار بن ياسر، عبد اللَّه بن مسعود، أبو سعيد الخدري، ثوبان، قرة بن اياس المزني، عبد اللَّه بن الحارث، أبو هريرة، حذيفة بن اليمان، جابر بن عبد اللَّه الأنصاري، أبو امامة، جابر بن ماجد، عبد اللَّه بن عمر، أنس بن مالك، عمران بن الحصين، وام سلمة.

وهؤلاء عشرون شخصاً ممن نقلوا روايات المهدي، ويوجد كثير غيرهم.

كما نقلت أحاديث كثيرة حول ظهور المهدي عبر أولئك الصحابة أنفسهم بما يمكن اعتبارها من ضمن الروايات النبوية، لأنّ هذه المسألة ليست بالتي يمكن الاجتهاد حولها (ولذلك فإنّ الصحابة سمعوا بها من النبي صلى الله عليه و آله).

ثم يضيف: إنّ هاتين المسألتين- أي روايات النبي صلى الله عليه و آله وروايات الصحابة التي لها هنا حكم الحديث- وردتا في الكثير من المتون الإسلامية المعروفة وكتب الحديث الرئيسية فضلًا عن (السنن) و (المعاجم) و (المسانيد).

ومن جملتها (سنن أبي داود، سنن الترمذي، ابن ماجة، ابن عمرو، مسند أحمد، وابن

نفحات القرآن، ج 9، ص: 323

ليلى والبزاز، وصحيح الحاكم، ومعاجم الطبراني، والدارقطني، وأبو نعيم، والخطيب البغدادي، وابن عساكر وغيرهم).

ثم يضيف: ولأهميّة هذه القضية

كتب وألّف البعض من علماء المسلمين كتباً خاصة بموضوع أخبار المهدي، من ضمنهم (أبو نعيم الاصفهاني) في [أخبار المهدي و (ابن حجر الهيثمي) في [القول المختصر في علامات المهدي المنتظر] والشوكاني في [التوضيح في تواتر (ما) جاء في المنتظر والدجال والمسيح و (ادريس العراقي المغربي) في كتاب [المهدي وأبو العباس ابن (عبد المؤمن المغربي) في كتاب [الوهم المكنون في الرد على ابن خلدون .

يضيف بعد ذلك: وقد صرح قسم من علماء المسلمين الكبار- قديماً وحديثاً- في تأليفاتهم بأنّ الأحاديث المتعلقة بالمهدي وصلت إلى حد التواتر (ولهذا فهي غير قابلة للانكار).

ومن جملة هؤلاء (السخاوي) في كتاب [الفتح المغيث ومحمد بن أحمد السفاويني في [شرح العقيدة]، وأبو الحسن الابري في [مناقب الشافعي ، وابن تيميه في كتاب فتاواه، والسيوطي في [الحاوي ، وادريس العراقي في كتابه، والشوكاني في [التوضيح ، ومحمد جعفر الكناني في [نظم التنافر].

ويقول في نهاية هذا المبحث: إنّ (ابن خلدون) فقط حاول النيل من أحاديث المهدي ولكن سادة الدين وعلماء المسلمين ردّوا أقواله، وبعض آخر مثل (ابن عبد المؤمن) ألّفوا كتباً خاصة في الرد عليه.

وخلاصة القول: إنّ حفظة الحديث وعظماء الشريعة قد صرحوا بأنّ أحاديث المهدي تشتمل على روايات صحيحة وحسنة تؤدي بمجموعها إلى التواتر.

ويستنتج في الختام: (وبناءً على ذلك فإنّ الاعتقاد بظهور المهدي يعتبر واجباً على كل مسلم، وهو جزء من عقائد أهل السنّة والجماعة، ولا ينكر ذلك إلّاكل جاهل أو مبتدع) «1».

______________________________

(1) من الرسالة المؤرخة في 21 مايو 1976 التي جاءت بتوقيع مدير المجمع الفقهي الإسلامي محمد منتظر الكناني، وهي الرسالة التي جاءت نتيجة مباحثة المذكور مع أربعة أشخاص آخرين من فقهاء الحجاز المعروفين وهم، الشيخ صالح بن عثيمين،

والشيخ أحمد محمد جمال، والشيخ أحمد علي، والشيخ عبد اللَّه الخياط.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 324

ومن الضروري أيضاً الإشارة إلى هذا المطلب، أنّه حسب اعتقاد طائفة من المحققين، فإنّ الاعتقاد بوجود المهدي لا يقتصر على المسلمين فقط، بل إنّ سائر اتباع المذاهب الاخرى أيضاً في انتظار مصلح كبير لهذا العالم، وقد اشير إلى هذا المعنى في مصادرهم المختلفة، وللتعرف على الشرح الوافي لهذا الموضوع لابدّ من مطالعة الكتب المصنّفة بشأن ظهور المهدي «1».

والآن ومع الأخذ بنظر الاعتبار اسلوب مباحث الكتاب التي تدور حول محور التفسير الموضوعي، ننتقل إلى الآيات التي تشير إلى هذا الظهور الكبير:

1- حكومة الصالحين في الأرض

نقرأ في قوله تعالى «وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذّكرِ انَّ الارْضَ يَرِثُهَا عِبَادِىَ الصّالِحُونَ* انَّ فِى هَذَا لَبَلَاغَاً لِّقَومٍ عَابِدِينَ». (الأنبياء/ 105- 106)

تأتي هذه الآيات بعد الآيات التي تبيّن الأجر الاخروي للصالحين، وفي الواقع فانها تكشف عن الاجر الدنيوي لهم، وهو أجرٌ مهمٌ جداً، ذلك أنّه يهي ء أرضية السعادة وتطبيق أحكام اللَّه تعالى وصلاح ونجاة المجتمع الإنساني.

ومع الأخذ بنظر الاعتبار أنّ «الأرض» بمعناها المطلق تشمل كل الكرة الأرضية، وجميع أنحاء العالم (إلّا إذا كانت هناك قرينة خاصة)، فإنّ هذه الآية تعدّ بشارةً بخصوص الحكومة العالمية للصالحين، وإذ لم يتحقق هذا المعنى في الماضي، فلابدّ من انتظار تحققه في المستقبل، وهذا هو نفس الشي ء الذي نتوخاه تحت عنوان «الحكومة العالمية للمهدي».

______________________________

(1) بإمكانكم مراجعة كتاب ثورة المهدي العالمية بهذا الشأن.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 325

وهذه الملاحظة جديرة بالاهتمام أيضاً إذ تقول الآية: ولقد كتبنا هذا الوعد في كتب الأنبياء السابقين أيضاً، وهذه إشارة إلى أنّ هذا الوعد ليس وعداً جديداً، بل إنّه امرٌ متجذر ورد في المذاهب الاخرى أيضاً.

والمراد ب

«الزبور» على الأقوى نفس «زبور داود»، وهو عبارة عن مجموعة من المناجاة، والأدعية، ونصائح داود النبي المذكورة في كتب العهد القديم (الكتب الملحقة بالتوراة) باسم «مزامير داود».

واللطيف أنّه- بالرغم من كل التحريفات التي طالت كتب العهد القديم بمرور الزمان- فإنّ هذه البشارة الكبيرة يمكن ملاحظتها بشكل واضح في نفس هذا الكتاب أي «مزامير داود».

ونقرأ في المزمور/ 37 الجملة/ 9: (... لأن الأشرار سينقطعون، وأمّا المتوكلون على الرب فسيكونون ورثة الأرض، وحالًا يختفي الأشرار، وكلما بحثت عنهم فسوف لن تجد لهم أثراً).

وجاء في الجملة/ 11: (أما المتواضعون فقد ورثوا الأرض، وهم يتلذذون من وفور النعمة).

وورد المعنى نفسه أيضاً في الجملة/ 27 من نفس المزمور بالعبارة التالية: (لأنّ مباركي الرب سيرثون الأرض، اما ملعونوه فسوف يتقطعون).

وجاء في الجملة/ 29: (فالصديقون ورثوا الأرض، وسيسكنونها أبداً).

ومن الواضح أن التعابير السابقة من قبل «الصديقون»، «المتوكلون» «المتبركون» و «المتواضعون» إشارة لعبارة «عبادي الصالحون» التي وردت في القرآن الكريم.

والمراد من «الذكر» في الآية الآنفة، الذكر حسب اعتقاد الكثير من مفسّري التوراة، وتشهد على ذلك الآية: «وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الفُرقَانَ وَضِياءً وَ ذِكرى لِلّمُتَّقِينَ».

(الأنبياء/ 48)

واحتمل البعض الآخر أنّ المراد من «الذكر»، «القرآن»، وجميع كتب الأنبياء السابقين

نفحات القرآن، ج 9، ص: 326

من «الزبور»، (وبناء على ذلك فإنّ معنى الآية يصبح بهذا الشكل: لقد كتبنا هذه البشارة في جميع كتب الأنبياء السابقين بالاضافة «للقرآن»).

وعلى أيّة حال فإنّ هذه البشارة قد جاءت أيضاً في قسم من ملحقات التوراة مثل كتاب «النبي اشعياء» كما نقرأ ذلك في الفصل الحادي عشر من هذا الكتاب:

«الاذلاء بعدالة الحكم، وستكون الأرض حقاً نكالًا «ورمزاً لليقظة» للمساكين ... حزام ظهرها العدل ... ونطاق وسطها سيكون الوفاء ... سيسكن «سيأنس» الذئب مع

الشاة ...

وسيكون الطفل الصغير راعيها ... لأن الأرض ستمتلي ء من علم اللَّه، كما تمتلي ء البحار من المياه).

كما تلاحظ مثل هذه الإشارات في كتاب التوراة نفسه أيضاً من جملتها: الفصل/ 13 رقم 15: (سنعطي الأرض إلى واحد من أولاد إبراهيم. ولو عد أحد ذرات غبار الأرض لعدَّ ذريته).

وجاء في الفصل/ 17 الجملة/ 20: (اعطيته «إسماعيل» بركتي واربيته (ابناؤه) إلى أقصى غاية وسيظهر منه اثنا عشر سيداً وامّة عظيمة).

لاحظوا الجملة الثانية عشر فانه سيبعث السرور ممّا يدل على أنّ الأئمّة الاثني عشر كلهم من ذريته وأولاده.

وفي الفصل/ 18 الجملة/ 18: (سيتبارك منه جميع أقوام الدنيا ...).

وهناك تعابير واشارات اخرى من هذا القبيل لو اردنا ذكرها لطال بنا المقام.

لقد وردت هذه المسألة بشكل صريح في الروايات الإسلامية أيضاً- بالإضافة إلى الإشارات الواضحة لمسألة قيام المهدي عليه السلام في الآية السابقة، ومنها أنّ المرحوم «الطبرسي» في «مجمع البيان» نقل في نهاية هذه الآية عن الإمام الباقر عليه السلام قوله: «هم أصحابُ المهديِّ في آخر الزَّمانِ». نفحات القرآن، ج 9، ص: 327

وجاء في تفسير القمي أيضاً في نهاية هذه الآية مايلي: «قال القائمُ وَاصحابُه».

ليس من شك في أنّه من الممكن أن يقيم عباد اللَّه الصالحون حكومة على جزء من الأرض، كما حصل في عصر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وبعض الأعصار الاخرى إلّاأنّ استقرار الحكومة بأيدي الصالحين على وجه الأرض كلها ستحصل في عصر المهدي عليه السلام فقط، وهناك روايات كثيرة بلغت حد التواتر، وقد وردت عن طرق السنّة والشيعة بهذا الصدد.

كما أنَّ «الشيخ منصور علي ناصف» مؤلف كتاب «التاج الجامع للاصول»- وهو كتاب يضم الاصول الخمسة المعروفة لدى السنّة، وقد كتب علماء الازهر تقاريض مهمة عليه- أورد

في الكتاب المذكور ما يلي: «اشتهر بين العلماءِ سَلَفاً وخَلَفاً انَّهُ في آخِر الزمانِ لابدَّ من ظهورٍ لرجلٍ من أهلِ البيت مُسَمّى المهدي يستولي على الممالكَ الإسلاميةِ ويتَّبعُهُ المسلمونَ ويَعدِلُ بينهم ويؤيِّدُ الدين».

ثم يضيف قائلًا: «وقد روى أحاديث المهدي جماعة من خيارِ الصَّحابةَ، واخرَجَها أكابرُ المَحَدّثين: كابي داود، والترمذي، وابن ماجة، والطبراني، وأبي يعلي والبزاز والإمام أحمد والحاكم «1».

لم يستطع حتى ابن خلدون المعروف بمخالفته لأحاديث المهدي، انكار شهرة هذه الأحاديث بين جميع علماء الإسلام أيضاً «2».

ومن الذين أوردوا تواتر هذه الأخبار في كتبهم «محمد الشبلنجي» العالم المصري المعروف في كتاب «نور الأبصار» إذ يقول: «تواتُرِ الأخبار عن النبي صلى الله عليه و آله على أنَّ المهدي من أهل بيتهِ وأَنّه يملأ الأرضَ عدلًا».

لقد ورد هذا التعبير في الكثير من الكتب الاخرى أيضاً، حتى أنّ «الشوكاني» من علماء السنّة المعروفين يقول في كتاب ألَّفَهُ حول تواتر الأحاديث المرتبطة بالمهدي عليه السلام، وخروج الدجال، وعودة المسيح عليه السلام، بعد بحثٍ مفصّل بشأن تواتر الأحاديث المتعلقة بالمهدي عليه السلام:

______________________________

(1) التاج الجامع للُاصول، ج 5 ص 341 (ورد هذا المطلب كهامش في تلك الصفحة).

(2) ابن خلدون، ص 311.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 328

«هذا يكفي لمن كان عندَهُ ذرَّةٌ من الإيمان وقليل من انصافٍ» «1».

ومن المستحسن هنا أن نذكر على الأقل بعضاً من روايات النخبة الواردة في أشهر المصادر الإسلامية كنموذج من هذا البيدر:

1- ينقل «أحمد بن حنبل» من أئمّة السنّة الاربعة في كتابه «مسند أحمد» عن «أبو سعيد الخدري» أنّ الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله قال: «لا تقوم الساعَةَ حتى تمتلأ الأرض ظلماً وعدواناً، قال ثم يخرجُ رجلٌ من عترتي او مِنْ أهل بيتي يملأها قسطاً وعدلًا

كما مُلِئَتْ ظلماً وعدواناً» «2».

2- ونقل الحافظ أبو داود السجستاني نفس هذا المعنى في كتابه «السنن» مع فارق ضئيل «3».

3- نقل الترمذي المحدّث المعروف بسند صحيح (طبقاً لتصريح منصور علي ناصف في التاج) عن عبد اللَّه، عن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه قال: «لو لم يبقَ من الدنيا إلّايومٌ لطوَّلَ اللهُ ذلك اليومَ حتى يبعثَ رجلًا منّي أو من أهل بيتي يواطيُ اسمَهُ اسمي، واسم ابيهِ اسم ابي «4»، يملأُ الأرضَ قسطاً وعدلًا، كما مُلئَتْ ظلماً وجوراً» «5».

وأورد الحاكم النيسابوري في «المستدرك» ما يشبه هذا الحديث مع فارق قليل، ويقول في نهايته: هذا حديث صحيح «6».

4- ونقل أيضاً في صحيح «أبي داود» عن امّ سلمة أنّها قالت: سمعتُ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: إنّه كان يقول: «المهديُّ من عترتي من ولدِ فاطمَةَ» «7».

______________________________

(1) نقلًا عن كتاب التاج، ج 5، ص 360.

(2) مستدرك أحمد، جملة 3، ص 36.

(3) سنن أبي داود، ج 4 ص 152.

(4) صرّح بعض العلماء الكبار أنّ الصحيح هنا، اسم ابيه اسم ابني، وبهذا الشكل يكون موافقاً تماماً للاسم المبارك للامام المهدي حسب اعتقاد الشيعة أي (محمد بن الحسن العسكري).

(5) التّاج، ج 5، ص 343.

(6) المستدرك، ج 4، ص 558.

(7) صحيح أبي داود، ج 2، ص 207.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 329

5- نقل الحاكم النيسابوري في المستدرك، حديثاً أكثر تفصيلًا بهذا الشأن عن أبي سعيد الخدري عن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه قال: «ينِزِلُ بأُمتي في آخِرِ الزمانِ بلاءٌ شديد من سلطانهِمْ، لم يُسمع بلاءٌ اشدّ منه، حَتّى تضيقَ عَنْهُمُ الأرضُ الرَّحْبَةُ، وحتى يملأُ الأرضَ جوراً وظَلماً، لا يجدُ المؤمنُ مَلْجأً يَلتَجِأُ اليهِ مِنَ الظلْمِ فيبعثُ

اللهُ عزَّ وجَلَّ رجُلًا من عترتي، فيمَلأُ الأرضَ قسطاً وعدلًا كما مُلَئِتْ ظُلماً وَجَوراً، يرضى عنه ساكن السماء وساكنُ الارضِ، لا تدَّخِرُ الأرضُ مِنْ بَذرها شَيْئاً الّا اخْرَجَتْهُ، ولا السماءُ من قطرها شيئاً الّا صَبَّهُ اللهُ عليهم مدراراً» «1».

وبعد ذكر هذا الحديث يقول الحاكم: هذا حديث صحيح وبالرغم من أنّ «البخاري» و «مسلم» لم يورداه في كتبهما.

ومثل هذه الأحاديث- الواردة عن مختلف الرواة من المصادر المشهورة- كثيرة جدّاً، وتشير إلى الحكومة العالمية التي ستقام في نهاية المطاف على اليد المقتدرة الكفوءة للإمام المهدي عليه السلام، ويملأ العدل والقسط كل مكان، ويتحقق بالتالي مضمون الآية السابقة: «أنَّ الأرضِ يَرثُها عباديَ الصالحون».

2- آية سورة النور

نقرأ في قوله تعالى «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُم وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِىِ الارْضِ كَمَا استَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلُيمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِى ارتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِّنْ بَعْدِ خَوفِهِمْ امْناً يَعْبُدُونَنِى لَايُشْرِكُونَ بِى شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ».

(النور/ 55)

لقد بُشر المؤمنون الصالحون في هذه الآية المباركة وبشكل صريح، أنّهم سيمسكون زمام السلطة والحكومة على الأرض في نهاية المطاف، وسيُنشر الدين الإسلامي، وستتبدل حالات اللا أمن والخوف إلى الاستقرار والأمن، وتُقلع جذور الشرك في جميع أنحاء العالم،

______________________________

(1) المستدرك على الصحيحين، ج 4، ص 465.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 330

ويتمكن عباد اللَّه من مواصلة عبادة اللَّه الواحد الأحد بكل حرية، وتتم الحجّة على الجميع، بحيث لو أنّ أحداً أراد أن يواصل مسير الكفر سيكون فاسقاً ومقصراً، (أرجو أن تتأملوا في القسم الأخير من الآية بدقّة).

وبالرغم من أنّ هذه الامور الهامة كانت تعد وعداً إلهياً تحقق في عصر الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله والأزمنة اللاحقة من بعده بنحو أوسع للمسلمين في العالم، وعاد

الإسلام الذي كان يوماً ما تحت قبضة الأعداء يعاني من وطأة الظلم بحيث لم يسمحوا له بأدنى فرصةٍ للظهور والبروز على الساحة، ويعيش المسلمون في حالة دائمة من الخوف والفزع، عاد في نهاية المطاف وانتشر ليس في شبه جزيرة العرب فحسب، بل عمَّ أجزاءً عظيمة واسعة من العالم، وانكفأ الأعداء منهزمين في جميع الجبهات، ولكن بالرغم من هذا كله، فإنّ حكومة الإسلام العالمية التي يجبُ أن تعمّ كافة أرجاء المعمورة وآفاق الأرض، وتقلع جذور الشرك وعبادة الأوثان بشكل نهائي، وتنشر الأمن والآمان والهدوء والحرية والتوحيد الخالص، لم تتحقق بعد، إذن يجب انتظار تحقق هذا الأمر.

سيتحقق هذا الأمر طبقاً لما ورد في الرواية المتواترة التي أشرنا إليها آنفاً في عصر قيام المهدي عليه السلام، وبناءً على ما تقدم فإنّ احدى مصاديق هذه الآية تحقق في عصر النبي صلى الله عليه و آله والأعصار المقارنة له، وسيتحقق شكله الأوسع في عصر قيام المهدي عليه السلام، ولا منافاة بين هذين الأمرين، ولابدّ من تحقق هذا الوعد الإلهيّ في كلا المرحلتين.

المراد من الاستخلاف هنا خلافة الأقوام الكافرة الماضية، إذ تزول فيها حكومتهم وتحل محلها حكومة الحق، نظير ما جاء في قوله تعالى «ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلَائِفَ فِى الارْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ». (يونس/ 14)

وقد ورد شبيه هذا المعنى في الآيتين 69 و 74 من سورة الأعراف.

وبناءً على ذلك، فالذين تصوروا أنّ الآية تعد دليلًا واضحاً على خلافة الخلفاء الأربعة- أمثال الفخر الرازي- باعتبار أنّ أولئك هم الذين استخلفوا الرسول، وأنّ الوعد الإلهيّ قد تحقق في عصرهم، إنّما وقعوا في الخطأ، لأنّ هذه الآية لا يراد بها خلافة الرسول، بل خلافة

نفحات القرآن، ج 9، ص: 331

الأقوام السابقة كما ورد ذلك

في الآيات الثلاثة الآنفة الذكر، وكما ورد في قوله تعالى

«وَاوْرَثنَا القَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُستَضعَفُونَ مَشَارِقَ الارْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الحُسْنَى عَلَى بَنِى إِسرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا». (الأعراف/ 137)

من البديهي أنّ بني اسرائيل ورثوا الفراعنة وسيطروا على جميع أنحاء ذلك البلد الواسع الملي بالبركات (مصر وأطرافها).

على أيّة حال فإنّ الآية تُبشر بقيام حكومة المؤمنين الصالحين في جميع أنحاء العالم، تلك الحكومة التي تحقق مقدار واسع منها في عصر رسول الإسلام صلى الله عليه و آله وبعده، وهي وإن لم تعمُ جميع العالم، إلّاأنّها كانت نموذجاً على تحقق هذا الوعد الإلهي، ولكن لم تتحقق بعد على هيئة حكومة عالمية تعمّ أرجاء المعمورة، والمصداق النهائي لها سوف يتحقق بقيام حكومة الإمام المهدي عليه السلام مع توفر الأرضية والظروف بمشيئة اللَّه تعالى إذ ستُملأ الدنيا عدلًا وقسطاً طبقاً لما ورد في الروايات الصادرة عن الرسول صلى الله عليه و آله وسائر الأئمّة المعصومين عليهم السلام، بعد ما ملئت ظلماً وجوراً، ونحن بانتظار تحقق هذا الوعد القرآني.

والروايات الواردة في المصادر المختلفة في تفسير هذه الآية تؤكد وتؤيد هذه المسألة أيضاً.

ومنها إنّ المفسّر المعروف «القرطبي» ينقل في تفسير «الجامع لاحكام القرآن» في نهاية هذه الآية عن «سليم بن عامر»، عن «المقداد بن اسود»، يقول: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «ما على ظهر الأرض بيتُ حجرٍ ولا مدرٍ إلّاأدخَلَهُ اللَّه كَلِمَةَ الإسلام» «1».

وفي تفسير «روح المعاني» نُقل عن «الإمام علي بن الحسين عليه السلام» أنّه قال في تفسير هذه الآية: «هم واللَّه شيَعتُنا أهل البيتِ يُفعَلُ ذلِكَ بهمْ على يَدِ رَجُلٍ منّا وهو مهديُّ هذه الامّة وهو الَّذي قال رسول اللَّه صلى

الله عليه و آله: لو لم يبقَ من الدنيا إلّايوم واحد لطوَّلَ اللَّه تعالى ذلك اليومَ حتى يِلِيَ رجلٌ من عترتيِ اسمُهُ اسمي يملأُ الأرضَ عدلًا وقسِطاً كما مُلِئَتْ ظلماً وجَوراً».

______________________________

(1) تفسير القرطبي، ج 7 ص 4692.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 332

ويمكن مشاهدة هذا المعنى باختلاف قليل في الكثير من مصادر أهل البيت عليهم السلام.

وبالرغم من أنّ «الآلوسي» لم يقيمّ هذا الحديث برأي ايجابي في تفسير «روح المعاني»، إلّاأنّه يقول في نهايته:

وردت عدّة روايات عن طرقنا تؤيد هذا المعنى وإن لم نعوّل عليها- كرواية «عطية» عن النبي صلى الله عليه و آله بعد أن تلا هذه الآية، قال صلى الله عليه و آله: «أهل البيت هاهنا وأشار إلى القبلة» «1».

وينقل القرطبي حديثاً آخر بهذا الشأن أيضاً أنّ الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله قال: «زُوِيَتْ لي الأرضُ فَرأَيتُ مشارِقَها ومغارِبَهَا وسيبلُغ مِلْكُ امَّتي ما زويَ لي منها» «2».

يتّضح من كل ما أسلفناه، الجواب عن الكثير من مؤآخذات المخالفين لمنطق اتباع أهل البيت عليهم السلام في تفسير هذه الآية.

وتوضيح ذلك: إنّه كما قلنا سابقاً: إنّ تحقق هذا الوعد الإلهي له عدّة مراحل، واحدى هذه المراحل حصلت مع المؤمنين الصالحين في عصر الرسول صلى الله عليه و آله، إذ بعد فتح مكة وسيطرة الإسلام على الجزيرة العربية، شعر المسلمون في ظل الإسلام والرسول صلى الله عليه و آله بأمنٍ نسبي واستولوا على جزء عظيم من المنطقة، وتحقق بذلك ما ورد بشأن نزول هذه الآية.

(وقد ورد سبب نزول هذه الآية في العديد من التفاسير، ومنها أسباب النزول، ومجمع البيان، وفي الظلال، والقرطبي (باختلاف بسيط)، أنّه عندما هاجر رسول الإسلام صلى الله عليه و آله والمسلمون إلى المدينة

واستقبلهم الأنصار بأحضانهم، نهض العرب بأجمعهم ضدهم، بحيث إنّهم اضطروا إلى عدم مفارقة اسلحتهم، فينامون الليل بالسلاح، ويستيقظون الصبح مع السلاح، وكان الاستمرار على هذه الحالة يثقل على المسلمين، وأخذ بعضهم يتساءل إلى متى ستستمر هذه الحالة؟ هل سيأتي زمان ننام فيه الليل براحة بال واطمئنان، ولا نخشى احداً سوى اللَّه؟ فنزلت هذه الآية، وبشرت بقرب حلول هذا الوقت).

______________________________

(1) تفسير روح البيان، ذيل آية مورد البحث.

(2) تفسير القرطبي، ذيل آية مورد البحث.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 333

والمرحلة الاخرى لهذا الوعد، حصلت في زمن الخلفاء إذ سيطر الإسلام على أجزاء واسعة من العالم وأخضعها لسلطته، فعادت على المسلمين بمزيد من الأمن والاستقرار.

إلّا أنّ المرحلة الثالثة والنهائية أي عالمية الإسلام وحاكميته المطلقة على العالم المتزامنة مع الأمن والاستقرار وانتصار جيش التوحيد على معسكر الشرك ولم يتحقق بعد، وسيقتصر تحققهُ على عصر قيام المهدي عليه السلام فقط، وهذه المعاني الثلاثة التي تمثل سلسلة مراحل لحديثٍ واقعي لا توجد بينها أيّة منافاة.

كما يستفاد من هذه الآية أيضاً، أنّ هذا الوعد الإلهيّ يختص بالأفراد الذين يمتلكون الإيمان والعمل الصالح، ويقيناً كلما تحقق هذان الشرطان وفي أي عصر ومصر سوف تتهيّأ للمسلمين احدى مراحل هذه الحاكمية الإلهيّة، وبالمقابل كلما حدثت هزيمة ما، وعاد المسلمون أذلاء ضعفاء في قبضة الأعداء، يجب أن نعلم بأنّ ذينك الأساسين اللذين يمثلان شرطي تحقق الوعد الإلهيّ قد طوتهما صحف النسيان، فالإيمان عاد ضعيفاً، والاعمال آلت ملوثة!

3- آية ظهور الحق

نقرأ في قوله تعالى «هُوَ الَّذِى ارسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشرِكُونَ». (التوبة/ 33)

تجدر الإشارة إلى أنّ هذه الآية تأتي بعد آية: «يُرِيدُونَ انْ يُطفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِافواهِهِم وَيَأَبَى اللَّهُ الَّا انْ يُتِمَّ نُورَهُ

وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ».

وأعطى اللَّه في هذه الآيات- كما في الآيات السابقة- الوعد في غلبة وانتصار الإسلام على كافة الأديان في العالم.

وحول السؤال القائل: ما هو المقصود بانتصار الإسلام على كافة الأديان؟ اعطى المفسرون عدّة احتمالات.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 334

فالفخر الرازي يعطي خمسة تفاسير هنا تعد جواباً على الاسئلة المرتبطة بكيفية هذه الغلبة:

1- المقصود بالغلبة هو الغلبة النسبية والموضعية، ذلك إنّ الإسلام انتصر بمنطقه على جميع الأديان والمذاهب.

2- المراد هو الانتصار على الأديان في الجزيرة العربية.

3- المراد إخبار النبي صلى الله عليه و آله بجميع الأديان الإلهيّة (فسّرت جملة «ليظهره» هنا بمعنى الإخبار).

4- المراد النصر والغلبة المنطقية، أي أنّ اللَّه ينصر منطق الإسلام على سائر الأديان.

5- المراد النصر النهائي على جميع الأديان والمذاهب عند نزول عيسى عليه السلام وقيام المهدي عليه السلام إذ سيصبح الإسلام عالمياً.

ولا شك بأنَّ تفسير الآية بالنصر المنطقي وبصورة وعدٍ مستقبلي لا ينطوي على مفهوم صحيح، لأنّ النصر المنطقي للإسلام كان واضحاً منذ البداية، إضافة إلى ذلك فإنّ مادة «الظهور» و «الاظهار» (ليظهره على الدين كُلِّهِ) وكما يستفاد من موارد استعماله في القرآن المجيد، بمعنى الغلبة الخارجية والعينية كما نقرأ ذلك في قصة أصحاب الكهف: «انَّهُم انْ يَظْهَرُوا عَليَكُم يَرجُمُوكُم». (الكهف/ 20)

ونقرأ في قوله تعالى «كَيفَ وَانْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَايَرقُبُوا فِيكُم الًّا وَلَا ذِمَّهً».

(التوبة/ 8)

ومن البديهي أنّ عَبَدة الأصنام من قوم أصحاب الكهف، ومشركي مكة لم ينتصروا منطقياً على المؤمنين باللَّه اطلاقاً، واقتصرت غلبتهم على الغلبة الخارجية فقط، وبناءً على هذا فإنّ المراد بغلبة الإسلام على جميع الأديان هي الغلبة الخارجية والعينية، وليس الغلبة المنطقية والفكرية.

إنَّ هذه الغلبة- وكما ورد نظير ذلك في البحث الماضي- لها مراحل مختلفة:

حصلت احدى مراحلها في

عصر الرسول صلى الله عليه و آله، ومرحلتها الأوسع حصلت في القرون

نفحات القرآن، ج 9، ص: 335

التالية، ومرحلتها النهائية ستحصل عند قيام المهدي عليه السلام، لأنّ الآية الشريفة تتحدث عن غلبة الإسلام على جميع الأديان دون أي قيد وشرط، والغلبة المطلقة دون أي قيد أو شرط إنّما تتحقق بشكل كامل عندما تلقي ظلالها على جميع أرجاء المعمورة، كما ورد في رواية رسول الإسلام صلى الله عليه و آله إذ قال: «لا يبقى على ظهر الأرض بيتُ مَدَرٍ ولا وَبَرٍ الّا أدخَلَهُ اللهُ كلمة الإسلامِ» «1».

ونقل شبيه هذا المعنى في تفسير «الدرّ المنثور» عن «سعيد بن منصور، و «ابن المنذر» و «البيهقي» في سننه عن «جابر بن عبد اللَّه» أنّه قال في تفسير هذه الآية:

«لا يكون ذلك حتى لا يبقى يهوديٌّ ولا نصرانيٌّ صاحبُ ملةٍ الّا الإسلام» «2».

أجل سيتحقق هذا الوعد الكبير في ذلك اليوم الكبير.

ونقل هذا المعنى عن الإمام الصادق عليه السلام في تفسير الآية السابقة، إذ قال: «واللَّه ما نزل تأويلها بَعْدُ ولا ينزلُ تأويلها، حتى يخرُجَ القائمُ، فاذا خرجَ القائمُ لم يبق كافرٌ باللَّه العظيم» «3».

وهذه الملاحظة على جانب من الأهميّة إذ إنّ الآية: «هُوَ الَّذِى ارسَلَ رسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظهِرَهُ عَلَى الّدِينِ كُلِّهِ» قد ورد في ثلاث سورٍ من القرآن: الاولى في التوبة الآية 33 (كما مرَّ سابقاً)، والثانية في سورة الفتح الآية 28، والثالثة في سورة الصف الآية 9.

هذا التكرار يبيّن أنّ القرآن المجيد قد تابع هذه المسألة بتأكيد متزايد.

ونقرأ في حديث آخر نُقل في مصادر السنّة عن أبي هريرة: المقصود من الآية: «لِيُظهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ»، خروج عيسى بن مريم عليه السلام (ونحن نعلم أنّ خروج عيسى ابن مريم

عليه السلام وطبقاً لما ورد في الروايات الإسلامية سيكون أثناء قيام المهدي عليه السلام) «4».

______________________________

(1) تفسير مجمع البيان، الآية التي نحن بصددها.

(2) تفسير در المنثور، ج 3، ص 231.

(3) تفسير نور الثقلين، ج 2، ص 212.

(4) تفسير در المنثور، ج 3، ص 231.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 336

ونختم هذا البحث بحديث منقول عن «قتادة» المفسّر المعروف، إذ يقول في تفسير هذه الآية: «الأديانُ ستَّةٌ: الَّذين آمنوا، والذين هادوا، والصابئون، والنصارى والمجوس، والذين اشركوا، فالأديان كُلُّها تدخل في دين الإسلام» «1».

ومن الواضح أنّ هذا المعنى لم يتحقق بَعْدُ بشكل نهائي، ولن يتحقق إلّافي عصر قيام المهدي عليه السلام.

وهذه الملاحظة جديرة بالاهتمام أيضاً، وهي: أنّ المقصود بزوال الديانة اليهودية والمسيحيّة ليس بشكل كامل، بل المقصود حاكمية الإسلام على العالم اجمع (تأملوا جيداً).

آثار انتظار المهدي عليه السلام:

تصوّر بعض الجهلة أنّ انتظار ظهور المهدي عليه السلام بناءً على الآيات والروايات الآنفة، يمكن أن يتسبب في الركود والتخلف، أو الهروب من تحمّل أعباء المسؤوليات، والاستسلام أمام الظلم والاضطهاد، ذلك أنّ الاعتقاد بهذا الظهور الكبير يعني في مفهومه اليأس وقطع الأمل في إصلاح العالم قبله، بل وحتى الاعانة على انتشار الظلم والفساد لكي تتهيأ الأرضية المناسبة لظهوره!

لقد مرّت سنوات عديدة وألسن المخالفين والمنكرين لقيام المهدي عليه السلام تتناول هذا الحديث، وأشار إلى ذلك ابن خلدون، في الوقت الذي تعد هذه المسألة على العكس من ذلك تماماً، وأنّ انتظار هذا الظهور الكبير له آثار بناءة جداً، سنشير إليها لاحقاً بشكل سريع ومختصر، كي يتّضح أنّ مثل هذا الحكم يعدُ حكماً متسرعاً وغير دقيق أمام مسألة اشير إليها في القرآن المجيد، وكذلك في الأحاديث المتواترة الواردة في الكتب المعروفة للسنّة،

______________________________

(1) تفسير در المنثور، ج 3، ص 231.

نفحات

القرآن، ج 9، ص: 337

والمصادر المشهورة للشيعة، ومبيّنة بشكل صريح.

حقيقة الانتظار وآثاره البناءة:

لقد كان الحديث يدور حول حقيقة الإيمان بظهور المهدي عليه السلام ببرنامجه العالمي الذي يملأ بموجبه العالم عدلًا وقسطاً ويقطع جذور الظلم والاضطهاد، فهل لتلك الحقيقة آثار تربوية بناءة أم آثار سلبية؟

وهل أنّ الإيمان بمثل هذا الظهور يحمل الإنسان على الاستعراض في افكار تخيلية بحيث يغفل عن واقعه المعاش ويجعله مستسلماً أمام كل الظروف؟

أم أنّ ذلك في حالة صحة هذه العقيدة يعد نوعاً من الدعوة للثورة وبناء الفرد والمجتمع؟

هل يبعث على التحرك أم الركود؟

هل يخلق روح تحمّل المسؤولية أم يكون داعياً إلى الهروب من اعباء المسؤوليات؟!

وأخيراً: هل هو عامل مخدّر أم منبّه؟

ولكن قبل توضيح ومتابعة هذه الاسئلة، يعدُ الالتفات إلى هذه النقطة أمراً ضرورياً جدّاً، وهي: أنّ أفضل القوانين وارقى المفاهيم إذا وقعت في ايدي الأفراد غير الكفوئين أو غير اللائقين أو الانتهازيين يمكن أن تتعرض إلى المسخ الشديد، بحيث تعطي نتائج مغايرة للهدف الأصلي تماماً، وتتحرك بالاتّجاه المضاد منها، ولهذه القضية نماذج كثيرة، ومسألة «الانتظار» وبالنحو الذي سنراه في عداد هذه المسائل.

وعلى أيّة حال فإنّ التخلّص من كافة أنواع الخطأ في الحساب في مثل هذه الأبحاث، لابدّ- كما يقال- من أخذ الماء من مصدره، لكي لا يُؤثر فيه التلويث المحتمل للأنهار والقنوات التي يمرُ فيها الماء خلال مسيره.

أي إنّنا سنتوجه في بحث مسألة «الانتظار» مباشرةً نحو المصادر الإسلامية الأصلية، ونُخضع مضامين الأحاديث المختلفة التي تؤكد على مسألة «الانتظار» للبحث والتحقيق، كي نصل إلى الهدف الأساسي.

والآن تأمّلوا في هذه الطائفة من الروايات بدقّة:

1- سأل سائل من الإمام الصادق عليه السلام: ماذا تقول فيمن مات وهو على ولاية الأئمّة

نفحات القرآن، ج 9، ص: 338

بانتظار ظهور حكومة الحق؟

فقال الإمام عليه السلام في جوابه: «هو بمنزلة مَنْ كان مع القائم عليه السلام في فسطاطِه- ثم

سكت هنيئَةً- ثم قال: هو كَمَنْ كانَ مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله» «1».

ونُقل هذا المضمون نفسه في روايات كثيرة وبتعابير مختلفة.

2- وجاء في بعضٍ منها: «بمنزلة الضاربِ بسيفهِ في سبيل اللَّه».

3- وفي البعض الآخر: «كمَنْ قارَعَ مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بسيفِهِ».

4- وفي البعض الآخر: «بمنزلةِ مَنْ كانَ قاعداً تحت لِواءِ القائمِ».

5- وفي البعض الآخر: «بمنزلةِ المجاهِدِ بين يديْ رسولِ اللَّه صلى الله عليه و آله».

6- وفي البعض الآخر: «بمنزلةِ مَنْ استشهِدَ مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله».

انَّ هذه التشبيهات السبعة الواردة في هذه الروايات الستّة بشأن انتظار ظهور المهدي عليه السلام، تكشف عن هذه الحقيقة، بوجود نوع من الرابطة والتشابه بين مسألة «الانتظار» من جهة، و «الجهاد»، ومقاتلة الأعداء بأعلى صورة من جهة اخرى (تأملوا).

7- ورد انتظار مثل هذه الحكومة أيضاً في روايات متعددة، واشير إليه على أنّه أفضل العبادات.

ونقل هذا المضمون في بعض الأحاديث عن الرسول صلى الله عليه و آله، وفي البعض الآخر عن أمير المؤمنين عليه السلام، ونقرأ في حديث أنّ الرسول صلى الله عليه و آله قال: «أَفضَلُ اعمالِ امَّتي انتِظارُ الفرجِ من اللهِ عَزَّ وَجَلَّ» «2».

ونقرأ في حديث آخر عن الرسول صلى الله عليه و آله: «أَفضَلُ العبادَةِ انتظارُ الفرج» «3».

وهذا الحديث سواء نظرنا فيه إلى مسألة انتظار الفرج بالمعنى الواسع للكلمة أو بالمفهوم الخاص لها أي بمعنى انتظار ظهور المصلح العالمي الكبير، يُوضّح أهميّة الانتظار في بحثنا هذا.

______________________________

(1) محاسن البرقي طبقاً لنقل بحار الأنوار، ج 13، ص 136.

(2) اصول الكافي بناءً على نقل بحار الأنوار، ج 13، ص 137.

(3) اصول الكافي بناءً على نقل بحار الأنوار، ج 13، ص 136.

نفحات

القرآن، ج 9، ص: 339

كل هذه التعابير تقول بأجمعها إنّ الانتظار يعد ثورة مقرونة بشكل مستمر بالجهاد الواسع الشامل، اجعلوا هذه المسألة نصب أعينكم كي ننتقل إلى مفهوم الانتظار، ثم نستخلص النتيجة من مجموع هذه المفاهيم.

مفهوم الانتظار:

«الانتظار»: يُطلق عادةً على حالة من يشعر بعدم الارتياح من الوضع الموجود، ويسعى من أجل ايجاد وضع أفضل.

ومثله كمثل المريض الذي ينتظر تحسن حالته، أو الأب الذي يعيش حالة انتظار عودة ولده من السفر، أو مَن يشعر بعدم الارتياح من مرض أو فراق الولد ويسعى من أجل وضعٍ أفضل.

وكذا الحال بالنسبة للتاجر الذي يشعر بعدم الارتياح من وضع السوق المضطرب ويعيش الانتظار كي تنتهي الأزمة الاقتصادية، فانه يعيش كلا الحالتين «عدم الانسجام مع الوضع الموجود»، و «السعي من أجل وضعٍ أفضل».

وبناءً على ذلك فإنّ مسألة انتظار حكومة الحق والعدالة للامام «المهدي» وقيام المصلح العالمي مركّبة في الواقع من عنصرين، عنصر «النفي» وعنصر «الإثبات». ويمثل عنصر النفي عدم الانسجام مع الوضع الموجود، ويمثل عنصر الإثبات السعي من أجل الحصول على الوضع الأفضل.

وإن حلّت هاتان الخصلتان بصورة متجذرة في روح الإنسان فستكونان مصدراً لنوعين من الأعمال الواسعة الشاملة.

وهذان النوعان من الاعمال يتمثلان بترك أي نوع من أنواع التعاون والانسجام مع عوامل الظلم والفساد، وحتى النضال والاشتباك معها من جهة، وبناء الذات واعدادها والمحافظة عليها من الزلل، واكتساب الاستعدادات الجسمية والروحية والمادية والمعنوية من أجل تبلور تلك الحكومة العالمية والشعبية الموحّدة من جهة اخرى

نفحات القرآن، ج 9، ص: 340

ولو تأملنا جيداً نرى أنّ كلًا منها يعدُ بنّاءً وعامل تحرّكٍ ووعيٍ ويقظة.

ومع أخذ المفهوم الأساس «للانتظار» بنظر الاعتبار يمكن أن نُدرك جيدا معنى الروايات المتعددة التي نقلناها آنفاً بشأن البشارة، ونتيجة عمل المنتظرين. والآن

نفهم لماذا عُدَّ المنتظرون الحقيقيون أحياناً كالذين مع المهدي عليه السلام في فسطاطه، أو تحت لوائِهِ، أو كالضارب بسيفه في سبيل اللَّه، أو المتشحط بدمه، أو المستشهد؟

أليست هذه الحالات إشارة إلى المراحل المختلفة، ودرجات الجهاد في سبيل الحق والعدالة، والتي تتناسب مع مقدار الاستعداد ودرجة انتظار الأفراد؟

أَي، كما أنّ ميزان تضحية المجاهدين في سبيل اللَّه ودورهم متفاوت فيما بينهم، فإنّ الانتظار وبناء الذات والاستعداد له درجات متفاوتة أيضاً، بحيث إنّ كلًا منها يتشابه مع ما يقابلها من حيث «المقدمات» و «النتيجة»، فكلاهما يمثلان الجهاد، وكلاهما يريدان الاستعداد وبناء الذات، فمن كان في فسطاط قائد مثل تلك الحكومة أي في مركز القيادة العامة لحكومة عالمية لا يسعه أن يكون فرداً غافلًا وغير مبال، لأنَّ ذلك المكان ليس لكائن مَنْ كان، إنّه مكان أولئك الذين يليقون حقاً بتلك المنزلة والأهميّة.

وكذلك فإنّ الذي يحمل السلاح بيده ويقاتل بين يدي قائد هذه الثورة ضد المخالفين لحكومته، حكومة الصلح والسلام والعدالة، لابدّ وأن يمتلك استعداداً روحياً وفكرياً وقتالياً عالياً.

ولغرض المزيد من الاطلاع على الآثار الواقعية لانتظار ظهور المهدي عليه السلام نرجو الالتفات إلى التوضيح التالي:

الانتظار يعني الاستعداد التام:

اشارة

لو كنت ظالماً ومضطهداً كيف يمكن أن أنتظر فرداً تكون دماء الظلمة طعمة لسيفه؟

لو كنت ملوثاً نجساً كيف بوسعي أن أكون في انتظار ثورةٍ ستأتي شرارتها على حضائر النجسين والملوثين؟

نفحات القرآن، ج 9، ص: 341

فالجيش الذي ينتظر أن يخوض حرباً شعواء يجب أن يعمل على رفع الاستعداد القتالي لأفراده، ويؤجج فيهم روح الثورة، ويعمل على إصلاح أي نقطة ضعف فيه.

لأنّ كيفية «الانتظار» تتناسب دائماً مع الهدف الذي نحن بانتظاره.

انتظار مسافر عائد من سفره.

انتظار عودة أحد الأحبّة الأعزاء.

انتظار حلول موسم جني الثمار من الأشجار وحصاد المحصول.

وكل نوع

من حالات الانتظار هذه ممزوج بنوعٍ من الاستعداد، ففي احداها لابدّ من اعداد البيت وتوفير وسائل الاستقبال، وفي الاخرى تهيئة الأدوات اللازمة، كالمنجل.

من هنا لكم أن تنظروا إلى أنّ الذين ينتظرون قيام مصلحٍ عالميٍ كبير فإنّهم ينتظرون في الواقع ثورةً وانقلاباً وتحولًا يعدُ من أوسع واشمل الثورات الإنسانية على مرّ تاريخ البشرية.

إنّهم ينتظرون انقلاباً مغايراً للثورات السابقة التي كانت تفتقر إلى الصيغة المنطقية في محتواها، بل ثورة عامة شاملة لجميع الشؤون والجوانب الحياتية للبشرية، ثورة سياسية وثقافية واقتصادية وأخلاقية.

الفلسفة الاولى بناء الذات فردياً

إنَّ مثل هذا التحول يحتاج قبل كل شي ء إلى العناصر الإنسانية المستعدة والأمينة لكي يكون بوسع القائمين به تحمّل أعباء تلك الإصلاحات الواسعة في العالم، ويحتاج ذلك بالدرجة الاولى إلى رفع مستوى التفكير والوعي والاستعداد الروحي والفكري للمساهمة في تطبيق ذلك البرنامج العظيم، إنّ النظرات الضيقة والمحدودة، والأفكار المنحرفة، والحسد، والنزاعات الصبيانية وغير العقلائية، وبشكل عام كل نوع من النفاق والتشتت لا ينسجم مع مكانة «المنتظرين الواقعيين».

والملاحظة المهمّة هي أنّ المنتظر الحقيقي ليس بوسعه أن يتخذ دور المتفرّج أمام هذا

نفحات القرآن، ج 9، ص: 342

البرنامج المهم اطلاقاً، ولابدّ أن ينخرط من الآن في صفوف الثوريين.

إنّ الإيمان بنتائج وعاقبة هذا التحول لا يسمحان له بأنّ يكون في خندق المعارضين اطلاقاً، كما أنّ الانضمام لخندق المؤيدين أيضاً لا يحتاج فقط إلى امتلاك «اعمال نظيفة»، وروحٍ أنظف، والتحلّي «بالشهامة» و «الوعي»، إذ إنّ ذلك وحده لا يكفي.

فلو كنت شخصاً فاسداً وغير مستقيم كيف بوسعي أن أعدّ الأيّام في انتظار نظامٍ ليس فيه للفاسدين وغير الصالحين أي دور أو أثر، بل سيكونون مطرودين وغير مرغوب فيهم.

ألا يكفي هذا الانتظار لتصفية الروح والفكر، وغسل الجسم والروح من الدرن والنجاسات؟

إنّ الجيش الذي يعيش

الانتظار لخوض جهاد التحرير لابدّ وأن يكون في حالة الانذار القصوى والاستعداد الكامل، ويعمل جاهداً للحصول على السلاح اللائق بساحة القتال هذه، ويبني المواضع اللازمة، ويرفع المستوى القتالي لمنتسبيه،

ويقوي معنوية أفراده، ويعمل على ابقاء شعلة الحب والشوق لمثل هذه المنازلة حيّة في قلوب جنوده، والجيش الذي لا يتحلى بمثل هذا الاستعداد لا يمكن أن يعيش حالة الانتظار مطلقاً، وإن ادّعى ذلك فإنّما يكذب.

إنّ انتظار مصلحٍ عالمي بمعنى الاستعداد الفكري والأخلاقي، المادي والمعنوي الكامل، إنّما هو من أجل إصلاح العالم اجمع، تأملوا كم أنّ هذا التهيؤ والاستعداد يُعدّ بنّاءً.

إنّ إصلاح جميع أرجاء الأرض وإنهاء كل أنواع المظالم والاضطرابات ليس مزاحاً، ولا يمكن أن يكون عملًا بسيطاً، فالاستعداد والتهيؤ لمثل هذا الهدف العظيم يجب أن يكون متناسباً مع حجمه، أي: يجب أن يكون بسعته وعمقه!

ومن أجل تحقيق هذه الثورة، لابدّ من رجال عظماء جداً يمتازون بالتصميم العالي والاقتدار الرفيع ولا يقبلون الهزيمة، طاهرين وبعيدي النظر وبشكل استثنائي، وعلى استعداد كامل، ويمتلكون نظرة ثاقبة للُامور.

ويستلزم البناء الذاتي لمثل هذا الهدف استخدام اعمق البرامج الأخلاقية والفكرية

نفحات القرآن، ج 9، ص: 343

والاجتماعية، هذا هو معنى الانتظار الواقعي، فهل يتسنى لاحدٍ الادّعاء بأنّ مثل هذا الانتظار ليس بنّاءً؟

الفلسفة الثانية: أعمال الرعاية الاجتماعية

المنتظرون الصادقون مكلفون في نفس الوقت بأن لا يركّزوا اهتمامهم بأنفسهم فحسب، بل بمراقبة أحوال بعضهم البعض، وأن يبادروا في إصلاح الآخرين وإصلاح أنفسهم، لأنّ البرنامج العظيم والثقيل الذي ينتظرونه ليس برنامجاً فردياً، بل إنّه برنامج ينبغي أن تساهم فيه جميع عناصر الثورة، ولابدّ أن يكون طابع العمل طابعاً جماعياً وجماهيرياً، ولابدّ أن تتناغم الجهود والمساعي، وينبغي أن يكون عمق الانسجام وسعته بعظمة ذلك البرنامج الثوري العالمي الذي يعيشون انتظاره.

وفي هكذا ميدان واسع

للمنازلة الجماعية، ليس بوسع أي فردٍ أن يبقى غافلًا عن أحوال الآخرين، بل إنّه مكلّف بإصلاح أي نقطة ضعف في أي مكانٍ يراها، وأن يرمم أي موضعٍ متضرر، وأن يقوي كل جزء ضعيف، لأنّه بدون الاشتراك الفعّال والمنسجم لكل المناضلين فإنّ تطبيق مثل هذا البرنامج يعدُ امراً مستحيلًا.

وبناءً على هذا فإنّ المنتظرين الواقعيين واضافة لسعيهم في إصلاح أنفسهم، مكلفون أيضاً بإصلاح الآخرين.

هذا هو الأثر البنّاء الآخر لانتظار قيام مصلحٍ عالمي، وهذه هي فلسفة كل تلك الفضائل المعدّة للمنتظرين الحقيقيين.

الفلسفة الثالثة: المنتظرون الحقيقيون لا يذوبون في فساد المحيط

الأثر المهم الآخر الذي يمتاز به انتظار المهدي هو عدم الذوبان في مفاسد المحيط، وعدم الاستسلام أمام الانحرافات والفساد.

وتوضيح ذلك: إنّه عندما يشيع الفساد ويجر الأكثرية نحو التلوث، فإنّ الأفراد الطاهرين

نفحات القرآن، ج 9، ص: 344

يواجهون أحياناً مأزقاً نفسياً حاداً لا مخرج منه، مأزقاً مغلقاً نابعاً من اليأس من الإصلاحات.

إنّهم يعتقدون أحياناً بأنّ الأمر قد خرج من أيديهم ولا أمل بالإصلاح قط، والسعي من أجل المحافظة والابقاء على الطهارة يعد عبثاً، ومن الممكن أن يجرهم هذا اليأس والاحباط نحو الفساد والتأقلم مع المحيط تدريجياً، بحيث لا يتمكنون معه من المحافظة على أنفسهم بصورة أقلية صالحة أمام الأكثرية الطالحة، وينظرون إلى مسألة عدم التأقلم مع الجماعة كباعثٍ على الفضيحة!

والشي ء الوحيد الذي يمكن أن يبعث فيهم «الأمل» ويدعوهم إلى المقاومة والمحافظة على النفس، ولا يدعهم يذوبون في المحيط الفاسد هو الأمل بالإصلاح النهائي، في هذه الصورة فقط سوف لن يرفعوا أيديهم عن بذل المساعي والجهود للمحافظة على طهارتهم وإصلاح الآخرين.

وإن كنّا نلاحظ في القوانين الإسلامية أنّ اليأس من غفران الذنوب يعدّ من الذنوب الكبيرة، ومن الممكن أن يتعجب الجاهلون أنّه لماذا يعد اليأس من رحمة اللَّه على هذا

القدر من الأهميّة، بل حتى أنّه أهم من كثير من الذنوب، إنّ فلسفة هذه المسألة تكمن في حقيقة مفادها هو أنّ المذنب الآيس من الرحمة لا يرى أي مبررٍ للتفكير بالتكفير عن ذنبه، أو على الأقل الاعراض عن الاستمرار بارتكاب الذنب، ومنطقه يرتكز على أنّ الماء قد تجاوز هامتي سواء بمتر أو مائة متر! أنا المفضوح في الدنيا فلن ابالي بهموم الدنيا! ولا لون بعد السواد أشد منه، سأدخل جهنم لا محالة، أنا الذي اشتريت ذلك لنفسي، فممّ الخوف إذن؟! وأمثال هذا المنطق ...

أمّا عندما تفتح أمامه نافذة أمل، الأمل بعفو اللَّه، الأمل بتغيير الوضع الموجود، ستتولد نقطة عطفٍ في حياته تدعوه إلى التوقف عن مسيرة الذنوب والعودة نحو الطهارة والإصلاح.

ولهذا السبب يمكن اعتبار الأمل على أنّه عامل تربوي مؤثر في أوضاع الفاسدين دائماً، وكذلك الصالحون المبتلون بالأوساط الفاسدة، لا يسعهم المحافظة على أنفسهم بدون الأمل.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 345

والنتيجة إنّ انتظار ظهور مصلحٍ يزداد الأمل بظهوره كلما إزدادت الدنيا فساداً، له أثر نفسي متزايد لدى المعتقدين، ويصونهم أمام أمواج الفساد المتلاطمة؛ إنّهم لا يعرفون اليأس بمجرّد انتشار رقعة فساد المحيط، بل بمقتضى «اقتراب موعد الوصل* يزداد لهيب الشوق والوله» فإنّهم يرون موعد الوصل والوصول إلى الهدف الذي هو نصب أعينهم، وتزداد حدّة المنازلة مع الفساد أو المحافظة على النفس بكل شوق واستماتة.

من مجموع الأبحاث الماضية نستخلص النتيجة التالية: إنّ الأثر التخديري للانتظار يقع في حالة واحدة بأن يصبح مفهومه المسخ أو التحريف- كما حرّفه إلى هذا المفهوم جمعٌ من المعارضين، ومسخه جمعٌ من المؤيدين- أمّا لو تُرجم إلى مفهومه الواقعي في المجتمع والفرد فيتحوّل إلى عاملٍ مهم للتربية وبناء الذات والتحرك والأمل.

ومن جملة الأسانيد

الواضحة التي تؤيد هذا الموضوع ما جاء في آخر هذه الآية «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُم وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الارْضِ ....». (النور/ 55)

ونقل عن أئمّة الإسلام الكرام المقصود بهذه الآية «هو القائِمُ وأصحابُهُ» «1».

ونقرأ في حديث آخر: (نَزَلت في المهدي).

وفي هذه الآية اشير إلى المهدي عليه السلام وأصحابه بأنّهم «الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُم وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ»، وبناءً على ذلك فإنّ تحقق هذه الثورة العالمية بدون الإيمان الراسخ الذي لا يداخله أي نوع من الضعف والتخاذل، وبدون الأعمال الصالحة التي تفتح الطريق أمام إصلاح العالم يعدّ أمراً غير ممكن البتة، وعلى الذين ينتظرون مثل هذا البرنامج أن يرفعوا مستوى وعيهم وإيمانهم، وأن يجتهدوا في إصلاح اعمالهم.

ويمكن لهؤلاء الأفراد أن يمنحوا أنفسهم أمل الاشتراك في حكومته فقط، وليس الذين يتعاونون مع الظلم والاضطهاد، وليس البعيدون عن الإيمان والعمل الصالح، ولا الأفراد

______________________________

(1) بحار الأنوار، ج 13، ص 14.

نفحات القرآن، ج 9، ص: 346

الجبناء والأذلاء الذين يخشون كل شي ء وحتى يخافون من ظلهم بسبب ضعف إيمانهم.

ولا الأفراد المتقاعسون والكسالى والعاطلون الذين يقفون مكتوفي الأيدي أمام مفاسد محيطهم ومجتمعهم مفضلين السكوت دون أن يكون لهم أدنى سعيٍ أو جهدٍ على طريق مواجهة معالم الفساد.

هذا هو الأثر البنّاء لقيام المهدي عليه السلام في المجتمع الإسلامي.

اللّهم! نوّر أبصارنا بجمال طلعته البهيّة، واجعلنا من أنصاره المخلصين وجنوده المضحّين!

نهاية الجزء التاسع من نفحات القرآن

ربيع الثاني سنة 1415 ه ق

المطابق لشهر مهر

سنة 1373 ه ش

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.