نفحات القرآن المجلد 8

اشارة

سرشناسه : مكارم شيرازي ناصر، - 1305 عنوان و نام پديدآور : نفحات القرآن اسلوب جديد في التفسير الموضوعي للقرآن الكريم ناصر مكارم شيرازي بمساعده مجموعه من الفضلا مشخصات نشر : موسسه ابي صالح النشر و الثقافه [1377؟]. مشخصات ظاهري : ج 6 وضعيت فهرست نويسي : فهرستنويسي قبلي يادداشت : عربي مندرجات : ج 1. العلم و المعرفه في القران .-- ج 2. معرفه الله في القرآن .-- ج 3. .-- ج 4. معرفه صفات و جلال الله .-- ج 5، 6. المعاد في القرآن موضوع : تفاسير شيعه -- قرن 14 رده بندي كنگره : BP98/م7ن7 1377 رده بندي ديويي : 297/179 شماره كتابشناسي ملي : م 77-13711

الرسول لأكرم صلى الله عليه و آله و سلم و ظهور الإسلام

اشارة

نفحات القرآن، ج 8، ص: 7

الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم وظهور الإسلام

قبل كل شي ء يجب التمعن في دراسة حقيقة الإسلام ومنزلة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله في القرآن الكريم، والتحقيق في النقاط الظريفة والدقيقة الواردة في مختلف آيات القرآن الكريم، وحيث إنّ التعرف على هذه النقاط يقتضي معرفة تاريخ الإسلام بشكل إجمالي فعلى هذا الأساس يجب أن نتوفر على دراسة مختصرة ومركزة للتاريخ الإسلامي كي يتسنى لنا معرفة عوامل انتشار وتقدم الدين الإسلامي الحنيف، الأمر الذي يساعدنا على تمهيد الطريق للبحوث الآتية.

الرسول صلى الله عليه و آله وظهور الإسلام وسرعة انتشاره:

ظهر الإسلام قبل أربعة عشر قرناً في مكة المعظمة، وفي مدة 23 سنة (وهي فترة دعوة الرسول صلى الله عليه و آله) وقد أخضع لنفوذه أقصى منطقة في جنوبِ الحجاز، أي اليمن، وإلى شمال شبه الجزيرة العربية، أي الشام والعراق، بل إنّ قسماً من أفريقيا أي الحبشة قد تأثرت بأنواره، واليوم نرى أكثر من ميليارد إنسان يدين به في كل بقاع العالم.

وهنا نستعرض- ولو باختصار لحياة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله وسرعة انتشار الإسلام، والعوامل التي ساعدت على ذلك.

من الطبيعي أنّ هذا العمل ليس بالأمر اليسير، لأنّ الظروف التي أدّت إلى وصول الإسلام إلى هذا الحد، أوسع بكثير ممّا جاء في التاريخ بحيث يمكن القول: إنّ ما ذكره التاريخ قطرة من بحر، والذي نذكره هنا هو لمحات من ذلك التاريخ الذي لم يذكر لنا إلّاالقليل.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 8

بدأ الإسلام بشخصية الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه و آله وقد بعثهُ اللَّه سبحانه وتعالى بالرسالة وهو في الأربعين من عمره الشريف، ثم آمنت به السيدة خديجة عليها السلام، وبعدها أمير المؤمنين علي عليه السلام، حيث كانت دعوة الرسول

الأكرم صلى الله عليه و آله في المرحلة السرية، وكان قبل ذلك في السنين الثلاث لم يعلن دعوته إلّالمن يثق به.

أمّا بعد تلك السنوات الثلاث، وعندما نزلت الآية الكريمة: «وَأَنْذِرِ عَشيرَتَكَ الأقرَبين». (الشعراء/ 214)

أعلن رسول اللّه صلى الله عليه و آله دعوته أمام الناس، فصَعدَ على جبل الصفا ودعا أقرباءه وأعدّ لهم وليمة، وفي ذلك اليوم كان المسلمون يعدون بالأصابع «1».

وقد اقيمت الوليمة مرّتين، إذ في المرة الاولى لم يُعطِ أبو لهب النبي صلى الله عليه و آله فرصة للكلام، وفي المرة الثانية سخروا من كلامه صلى الله عليه و آله والتفتوا لأبي طالب قائلين له: «قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع».

وفي هذه المأدبة كان النبي الأعظم صلى الله عليه و آله يرى بعين الغيب انتشار الإسلام الأكيد، حتى أنّه عيّن خليفة ووارثاً له فيها «2».

ولم تمضِ مدّة طويلة حتى أدرك رؤساء مكة أنّ محمداً صلى الله عليه و آله قد أضاء أفكار الناس وأيقظهم وأثبت عدم صحة عبادة الأوثان ولزوم الإيمان بخالق الكون، فأحسّوا بالخطر عندما ترسخت دعوته، لأنّ منزلتهم الاجتماعية وعائداتهم المالية كانت مرتبطة إلى حد ما بتلك الأفكار والأعراف الجاهلية، حتى أنّهم ذهبوا إلى أبي طالب راجين منه رفع اليد عن حماية محمد صلى الله عليه و آله أو المصالحة بينهم وبين محمد صلى الله عليه و آله أو إصلاحه، وقالوا: «يا أبا طالب إنّ ابن أخيك قد سَبَّ آلهتنا وعابَ ديننا وسفّهَ أحلامنا وضلل آباءنا فإمّا أن تكفَّهُ عنّا وإمّا أن تخلّي بيننا وبينهُ» «3».

ولكنَّ أبا طالب عليه السلام قال لهم قولًا جميلًا وردهم ردّاً رقيقاً، وأخذ الإسلام يشق طريق

______________________________

(1) الكامل لابن الأثير، ج 1، ص 486، طبع دار احياء

التراث العربي؛ وتاريخ الطبري، ج 2، ص 61.

(2) تفسير جامع البيان، ج 2، ص 63.

(3) سيرة ابن هشام، ج 1، ص 283، ط مصر؛ الكامل لابن الأثير، ج 1، ص 488؛ والطبري، ج 2، ص 65.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 9

الرشد والتكامل وأحس رؤوس الكفر بالخطر الذي يهدد عقائدهم الوثنية وثقافتهم الجاهلية، فعادوا مرّة اخرى إلى أبي طالب فقالوا: «يا أبا طالب إنّ لك سناً وشرفاً وإنا قد أستنهيناك أن تنهى ابن أخيك فلم تفعل وإنّا واللَّهِ لا نصبر على شتم آلهتنا وآبائنا وتسفيهِ أحلامِنا حتى تكفّه عنّا أو نُنازلهُ وإيّاك حتى يهلكَ أحدُ الفريقين».

في هذه المرّة أخبر أبو طالب الرسول صلى الله عليه و آله بما جرى بينه وبين أقطاب قريش وأنّهم مصرون على مخالفته، عندها أحسّ الرسول صلى الله عليه و آله أنّ عمهُ أبا طالب قد تباطأ قليلًا في حمايته، فقال الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله لعمهِ تلك المقولة المشهورة: «ياعَماهُ لو وضَعوا الشمسَ في يميني والقَمرَ في شمالي على أن أتركَ هذا الأمر، حتى يُظهرَهُ اللَّهُ أو أهلكَ فيهِ ما تركتُهُ». ثم بكى وقام، فلما ولّى ناداهُ أبو طالب، فاقبلَ عليه وقال: «إذهب يابن أخي فقل ما أحببتَ فواللَّه لا اسلِّمكَ لشي ء أبداً» «1».

عندما رأى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حمايةَ عمّه ثانية، انطلق بعزيمة كبيرة وثقة عالية، ولما عرف رؤساء قريش ذلك عادوا إلى أبي طالب وعرضوا عليه أن يساومَ في ابن أخيهِ مقابل أجمل شاب من قريش على أن يتخذه ابناً له! وجاء الرفض القاطع «2» كصاعقةٍ دمرت ما يمكرون، فعمدوا إلى ايذاء المسلمين من كل طائفة.

ومرّة اخرى طلبوا من أبي طالب أن يبلغ الرسول صلى

الله عليه و آله بأن يكفّ عن هذا الأمر، وجاء الردّ المحمدي صلى الله عليه و آله: «يا عم أَو لا أدعوهم إلى ما هو خيرٌ لهم منها، كلمة يقولونها تَدينُ لهم بها العرب، ويملكون رقاب العَجَم» فقال أبو جهل: ما هي، وأبيك لنُعطِيَنَّكها وعَشرَ أمثالها، قال: «تقولونَ لا إله إلّااللَّه ....» وقالوا: سَلْ غيرها، فقال: «لو جئتموني بالشمسِ حتى تضعوها في يدي ما سألتُكم غيرَها» «3».

وفي هذا الوقت دخل في الإسلام أُناس كانوا يرزحون تحت ظُلم جبابرة مكة، وآخرون واعون ليسوا بالأغنياء المغرورين، ممّا حدا برؤوساء قريش إلى تغيير اسلوبهم

______________________________

(1) الكامل لابن الأثير، ج 1، ص 489؛ وسيرة ابن هشام، ج 1، ص 284- 285؛ والطبري، ج 2، ص 65.

(2) سيرة ابن هشام، ج 1، ص 285، والكامل، ج 1، ص 489، والطبري، ج 2، ص 66.

(3) الكامل لابن الأثير، ج 1، ص 490؛ والطبري، ج 2، ص 66.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 10

في الصراع مع الرسول صلى الله عليه و آله- غير الرجوع إلى أبي طالب- لكي ينجوا من هذا الخطر الداهم، وقد اتخذ الرسول صلى الله عليه و آله من بيت الأرقم مركزاً للإشعاع الفكري ونشر الدعوة.

ممارسة الضغط على المسلمين الجدد:

بعد أن يئس زُعماءُ مكة من التأثير على أبي طالب ورسول اللَّه صلى الله عليه و آله، التجأوا إلى تعذيب وايذاء المسلمين المستضعفين ليردوهم عن الإسلام فتضعف قدرة الرسول ومن ثم يترك الدعوة إلى الإسلام، ومن بين أولئك المسلمين بلال، وعمار، وياسر، وسمية، والخباب بن الارت، وصهيب، وعامر بن فهيرة، وأبو فكيهة، ولبيبة، وزبيدة، ونهدية، وأُم عبيس وأمثالهم، إذ صَبّوا عليهم ألوان العذاب حتى استشهد ياسر وسمية، ومر عليهم الرسول صلى الله عليه و آله

مخاطبهم قائلًا: «صبراً آلَ ياسر فإنّ مَوعِدكُم الجنَّةُ» «1».

ويحكي التاريخ عن كيفية تعذيبهم وصمودهم ما يستحق العجب.

التهمةُ والاستهزاء:

اتخذ المشركون اسلوباً آخر في محاربتهم للرسول صلى الله عليه و آله كالتهمة والسخرية والاستهزاء، فأتهموا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بأنّه ساحر، وكاهن، وشاعر، ومجنون «2»، وكذبوه وآذوه، ولم يتوقف رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عن نشر دعوته لإظهار أمر اللَّه سبحانه، ولم تأخذه في اللهِ لومةُ لائم.

ومن الذين كذّبوا واستهزأوا وآذوا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أبو لهب، والاسود بن عبد يغوث، والحارث بن قيس، والوليد بن المغيرة، وابي، وامية بن خلف، وأبو قيس، والعاص بن وائل، والنضر بن الحارث، وعدة آخرون حيث ذكر ابن هشام في سيرتهِ. «إنّه خَرَجَ يوماً فلم يَلقهُ أحدٌ من النّاس إلّاكذّبهُ وآذاهُ لا حرٌ ولا عبدٌ فرجع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إلى منزله فتدثَّر من شدّة ما أصابه» «3».

______________________________

(1) الكامل، ج 1، ص 491.

(2) تفسير جامع البيان، ج 2، ص 71؛ وسيرة ابن هشام، ج 1 ص 308؛ والكامل، ج 1، ص 493.

(3) سيرة ابن هشام، ج 1، ص 310.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 11

وذكر التاريخ أيضاً: إنّ أبا لهب كان شديداً عليه وعلى المسلمين، عظيم التكذيب له، دائم الأذى فكان يطرح العَذَرةَ والنتن على باب النبي وكان جارَهُ فكان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول: «أيُّ جوارٍ هذا يا بني عبد المطلب». وكان الأسود عندما يمرّ عليه فقراءُ المسلمين يستهزي ء بهم ويقول: «هؤلاء ملوك الأرض» وكذلك كان العاص بن وائل يقول: «إنَّ مُحمداً أبتر لا يعيش له ولدٌ ذكر ...» «1».

الهجرةُ إلى الحبشة:

إزداد ضغط المشركين وتعذيبهم، ففكر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بإنقاذ ضعفاء المسلمين وتخليصهم من أذى المشركين فدعاهم للهجرة إلى الحبشة، وبالفعل هاجر

إليها عدد منهم في السنة الخامسة للبعثة النبوية بعد سنتين من اعلان الدعوة الإسلامية وفي شهر رجب «2».

وبهذه الهجرة أخذ الإسلام يتحرك وينتشر بصورة جديدة لذلك قررت قريش اعادة المسلمين من الحبشة واخضاعهم لها، فأرسلوا هدايا ثمينة للنجاشي ملك الحبشة طالبين منه تسليم المسلمين لهم، وبالرغم من اعطاء هدايا اخرى لبطانة النجاشي للتعاطف معهم ولكن النجاشي قال لهم: إنّ هؤلاء قد لجأوا إلينا ولا يمكن تسليمهم مالم نسمع حديثهم، واحضر النجاشي المسلمين وأخذ يسألهم عن سبب لجوئهم إليه.

وانتخبوا جعفر بن أبي طالب ناطقاً عنهم للجواب عن استفسارات النجاشي الذي طلب منه أن يتلو عليه آيات من سورة مريم كانت تتضمن نظر رسول الإسلام صلى الله عليه و آله في المسيح وامّه مريم عليهما السلام، بعدها أعلن النجاشي إبقاء المسلمين عنده، وأرجع مبعوثي قريش.

ثم سأل النجاشي: «أي دين تدينون»؟ فقال جعفر: «أيّها الملك كنّا أهل جاهلية نعبدُ الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسي ء الجِوار، ويأكل القوي منّا الضعيف حتى بعثَ اللَّه إلينا رسولًا منّا نَعرفُ نَسَبَهُ، وصدقَهُ وأمانتهُ وعفافهُ فدعانا لتوحيد

______________________________

(1) الكامل، ج 1، ص 493؛ وتفسير جامع البيان، ج 2، ص 70.

(2) سيرة ابن هشام، ج 1، ص 344؛ الكامل، ج 1، ص 498.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 12

اللَّه وأن لا نُشرك به شيئاً ونخلع ما كنّا نعبد من الأصنام وأمرنا بصدق الحديث وأداءِ الأمانة وصلة الرحم وحسنِ الجوار والكفّ عن المحارم والدماء ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم، وأمرنا بالصلاة والصيام .... فآمنّا به وصدّقناهُ وحرَّمنا ما حرّمَ علينا وحللنا ما أحلَّ لنا فتعدى علينا قومُنا فعذَّبونا وفتنونا عن ديننا ليردّونا إلى عبادة الأوثان فلما قهرونا وظلمونا وحالوا بيننا وبين ديننا

خرجنا إلى بلادِك واخترناكَ على من سواك ورَجَونا أن لا نُظلم عندك أيّها الملك» فقال النجاشي بعد أن سمع آيات من القرآن حول مريم والمسيح عليهما السلام: «اذهبوا فأنتم آمنون ما احبُّ أنّ لي جبلًا من ذهبٍ وأنني آذيتُ رجلًا منكم» «1».

ورجع سفراء قريش خائبين منكسين رؤوسهم.

وقد اقترن بتلك الأيّام إسلام رجل قوي من بني هاشم وهو الحمزة بن عبد المطلب «2» فزاد المسلمون قوة فوق قوتهم وصمموا على تلاوة القرآن بشكل جماعي وسط الملأ من قريش، وأول من قام بهذا العمل هو ابن مسعود فتعرض للضرب والشتم.

ويذكر التأريخ: «فغدا عليهم في الضحى حتى اتى المقام وقريش في انديتها ثمَ رفعَ صوتَهُ وقرأ سورة «الرحمن» فلما علمت قريش أنّه يقرأ القرآن قاموا إليه يضربونه وهو يقرأ ثم انصرف إلى أصحابهِ وقد اثّروا في وجههِ، فقالوا: هذا الذي خشينا عليك، فقال: ما كان أعداءُ اللَّه أهون عليَّ منهم اليوم ولئن شئتم لأغادينَّهم، قالوا: حسبُك» «3».

ومن هنا نفهم أنّ المسلمين كانوا يؤدون عباداتهم إلى جانب الكعبة حيث كان عددهم يزيدُ على الستين شخصاً وكانوا يتزاورون في بيوتهم لتعلّم القرآن.

الحصار الاقتصادي:

ولما أدركت قريش عدم تأثير جميع الأساليب التي اتخذتها وظل الإسلام يشق طريقه

______________________________

(1) سيرة ابن هشام، ج 1، ص 358؛ والكامل، ج 1، ص 499؛ وتفسير جامع البيان، ج 2، ص 73.

(2) سيرة ابن هشام، ج 1، ص 311؛ والكامل، ج 1، ص 501؛ وتفسير جامع البيان، ج 2، ص 74.

(3) سيرة ابن هشام، ج 1؛ ص 336؛ الكامل، ج 1، ص 502؛ وتفسير جامع البيان، ج 2، ص 73.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 13

بثبات قررت كتابة وثيقة تمنع فيها العلاقات الاقتصادية والاجتماعية مع بني هاشم حتى تشكل

ضغوطاً على الرسول صلى الله عليه و آله لمنع نشر الدعوة: «ولما رأت قريش الإسلام يفشو ويزيد وان المسلمين قووا وعاد إليهم عمرو بن العاص وعبد اللَّه بن أبي امية من النجاشي بما يكرهون من منع المسلمين عنهم وآمنهم عنده، ائتمروا في أن يكتبوا بينهم كتاباً يتعاقدون فيه على أن لا ينكحوا من بني هاشم وبني المطلب ولا ينكحوا إليهم ولا يبيعوهم ولا يبتاعوا منهم شيئاً، فكتبوا بذلك صحيفة وتعاهدوا على ذلك ثم علّقوا الصحيفة في جَوف الكعبة توكيداً لذلك الأمر على أنفسهم» «1».

وهكذا قد ضيَّقوا الخناق على بني هاشم وبني المطلب ليقع الخلاف بينهم ويُسلِّموا لهم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.

واستمر الحصار على مدى ثلاث سنوات «2» وكانوا محرومين من كل شي ء ما عدا القليل الذي يهيؤنه سراً، غير أنّ مؤامراتهم فشلت مرّة اخرى فأكلت الارضة لائحتهم المعلّقة داخل الكعبة وملَّ بعض الأشخاص هذا العمل الوحشي غير الإنساني فاصبحوا بصدد إلغاء اللائحة، وقد الغيت بالفعل وانتهى الحصار «3». ورجع الرسول وعشيرتهُ إلى مكة المكرمة.

واستمر الإسلام بتقدمه والرسول صلى الله عليه و آله بدعوتهِ، وهنا وقعت حادثتان مؤلمتان للرسول صلى الله عليه و آله «4» قبل الهجرة بثلاث سنوات، وهما: وفاة أبي طالب وخديجة عليهما السلام وكان للحادثتين أثر بالغٌ على الرسول صلى الله عليه و آله والمسلمين، وضيقوا الخناق على الرسول صلى الله عليه و آله «حتى ينثر بعضهم التراب على رأسهِ وحتى أن بعضهم يطرَحُ عليه رحم الشاة وهو يصلي ....».

بعدها صمم الرسول صلى الله عليه و آله على أن يستمد العون من مجموعة من قبيلة ثقيف الساكنة في الطائف لحمايته ونشر الإسلام، ولكنهم كذبوه وطردوه فكان ذلك ثقيلًا على قلب

رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فأخذ يدعو بهذا الدعاء المعروف، يقول التأريخ: «فقام رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وقد يئس

______________________________

(1) الكامل، ج 1، ص 504؛ وابن هشام، ج 1، ص 375؛ وتفسير جامع البيان، ج 2، ص 74.

(2) سيرة ابن هشام، ج 1، ص 379.

(3) الكامل، ج 1، ص 505؛ وابن هشام، ج 2، ص 14؛ وتفسير جامع البيان، ج 2، ص 78.

(4) الكامل، ج 1، ص 507، وابن هشام، ج 2، ص 57، وتفسير جامع البيان، ج 2، ص 80.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 14

من خير ثقيف ... واغروا به سفاءهم فاجتمعوا إليه وألجأوه إلى حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة ... ورَجعَ السفهاءُ عنه وجلس إلى ظلّ حبلة من عنب ... وقال: اللّهم إليك اشكو ضعف قوتي وقلةَ حيلتي وهواني على الناس، اللّهم ياأرحم الراحمين أنت ربُّ المستضعفين وأنت ربي إلى مَن تكلني إلى بعيد يتجهمني أو إلى عَدُوٍ ملكتَه أمري إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أُبالي ولكن عافيتك هي أوسع، إنّي أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلماتُ وصلح عليه أمرُ الدنيا والآخرة من أن تنزلَ بي غضبك أو تحل بي سخطك» «1».

فلما رأى ابنا ربيعة ما لحقه صلى الله عليه و آله تحركت له رحمهما فدعوا غلاماً لهما نصرانياً اسمه «عداس» فقالا له: خذ هذا العنب إلى ذلك الرجل، ففعل فلما وضعه بين يدى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وضع يده عليه وقال «بسم اللَّه» وثمّ أكل، فقال عداس: واللَّه إنّ هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلدة.

فقال له النبي صلى الله عليه و آله من أي بلاد أنت وما دينك؟

قال: أنا نصراني من

أهل نينوى

فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: أمن قرية الرجل الصالح يونس بن متي؟ قال له: وما يُدريك ما يونس؟

قال الرسول صلى الله عليه و آله: ذلك أخي كان نبيّاً وأنا نبي.

فأكب عداس على يدي رسول اللَّه ورجليه يقبلهما، وأسلم «2».

فلم يرجع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله خائباً من سفره هذا.

بداية جديدة في ابلاغ الرسالة:

رغم هذه المشاكل الجمة لم يَنْثَنِ الرسول صلى الله عليه و آله عن ابلاغ رسالته، فاتصل في موسم الحج بالقبائل مُبتدئاً بقبيلة (كندة) حتى قبيلة (كلب) و (بني حنيفة) وكل من جاء لزيارة بيت اللَّه كان يدعوهم إلى الإسلام، وأبو لهب يلاحقه في كل مكان ليُكذبه ويتهمهُ بخلق الأقاويل «3».

______________________________

(1) الكامل، ج 1، ص 508؛ وتفسير جامع البيان، ج 2، ص 81.

(2) الكامل، ص 508، وابن هشام، ج 2، ص 61 و 62، وتفسير جامع البيان، ج 2، ص 81.

(3) الكامل، ص 509؛ وابن هشام، ج 2، ص 63؛ وتفسير جامع البيان، ج 2، ص 83 و 84.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 15

الرسول يلتقي أهل المدينة:

اشارة

التقى الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله (سويد بن صامت) أحد أفراد قبيلة الأوس في المدينة الذي جاء حاجّاً إلى مكة المعظمة فعرض عليه الإسلام وقرأ عليه بعض آيات القرآن الكريم فصدقه وآمن به وعاد إلى المدينة ومات مسلماً.

وعندما قدم (أبو الحيسر) أنس بن رافع مكة ومعه فتية من بني عبد الأشهل فيهم أياس بن معاذ يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج، سمع بهم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فأتاهم فجلس إليهم فقال لهم: «هل لكم إلى خير ممّا جئتم له؟ قالوا: وما ذاك؟ قال: أنا رسول اللَّه بعثني إلى العباد ادعوهم إلى اللَّه أن يعبدوا اللَّه لا يشركوا به شيئاً وأنزل علي الكتاب ثم ذكر لهم الإسلام وتلا عليهم القرآن»، فقال أياس بن معاذ وكان غلاماً حدثاً: أي قوم، هذا واللَّه خير ممّا جئتم له.

قال: فأخذ أبو الحيسر أنس بن رافع حفنة من البطحاء فضرب بها وجه أياس بن معاذ وقال: دعنا منك فلعمري لقد جئنا لغير

هذا، قال: فصمت أياس، وقام رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عنهم وانصرفوا إلى المدينة فكانت وقعة بعاث بين الأوس والخزرج، قال: ثم لم يلبث أياس بن معاذ أن هلك، قال محمود بن لبيد: فأخبرني من حضره من قومي عند موته أنّهم لم يزالوا يسمعونه يهلل اللَّه ويكبره ويحمده ويسبحه حتى مات فما كانوا يشكون أنّه قد مات مسلماً لقد كان استشعر الإسلام في ذلك المجلس حين سمع من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ما سمع «1».

بيعة العقبة الاولى

وفي السنة الاخرى من موسم الحج التقى الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله جماعة من أهل المدينة- عُرفوا بعد ذلك بالأنصار- وهم ينتسبون إلى قبيلة الخزرج ودعاهم صلى الله عليه و آله إلى الإسلام وكانوا قد سمعوا آنفاً من اليهود قولهم: سيُبعَثُ رسول في هذه الأيّام ونحنُ نحميه ونُساعده للقضاء

______________________________

(1) الكامل، ج 1، ص 510؛ سيرة ابن هشام، ج 2، ص 69؛ وتفسير جامع البيان، ج 2، ص 85.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 16

عليكم فَنظر بعضهم إلى بعض وقالوا: «هذا النبي الذي توعدكم به اليهود، فأجابوه وصدقوه، و قالوا له: إن بين قومنا شرّاً، وعسى اللَّه أن يجمعهم بك، فإن اجتمعوا عليك فلا رجل أعزّ منك». ثم انصرفوا عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله راجعين إلى بلادهم قد آمنوا وصدقوا وهم فيما ذكر سبعة نفر من الخزرج من بني عبد النجار هم: أسعد بن زرارة، عوف بن الحارث، رافع بن مالك، عامر بن عبد حادثة، قطبة بن عامر، عقبة بن عامر، جابر بن عبد اللَّه «1».

وبعد انتهاء موسم الحج رجعوا إلى المدينة حاملين معهم مشعل الحرية للناس ونشروا الإسلام بين أهل المدينة.

وبعد مرور

سنة وفي أيّام موسم الحج أيضاً جاء إثنا عشر رجلًا إلى العقبة وبايعوا الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله فسُميت هذه ببيعة العقبة الاولى وعند رجوعهم إلى المدينة أرسل الرسول صلى الله عليه و آله مصعب بن عمير لتعليمهم القرآن والإسلام وقد استقر في بيت (أسعد بن زرارة) والتفوا حول (مصعب) فبدأ يدعوهم إلى الإسلام باسلوب خاص فلم يبقَ بيتٌ من بيوت بني عبد الأشهل إلّاودخله الإسلام، ولم يقتصر على هذه القبيلة فحسب، بل دعا أهل المدينة الآخرين إلى الإسلام فدخل الإسلام جمعٌ كثير «2».

بيعة العقبة الثانية:

اتسع نطاق الإسلام في المدينة بين الأنصار حتى إزداد عدد المسلمين كثيراً فقرروا السفرَ إلى الحج والالتقاء برسول اللَّه صلى الله عليه و آله سرّاً ودعوته للقدوم إلى المدينة، وقد أرسلوا ممثلين عنهم يبلغ عددهم (72) شخصاً، (70) رجلًا وأمرأتين، وبدأوا عملهم سرّاً، بعد منتصف الليل وهم ينحدرون آحاداً إلى مكان معين فحضرَ الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله وصَحبهُ عمُّهُ العباس، فبايعوه على أن يبذلوا أرواحهم «3» دونه، وأن يكونوا أوفياء له وللاسلام، وواعدهم الرسول على الوفاء أيضاً، وقد أورد التاريخ مقاطع ممّا قيل في ذلك اللقاء حيث بدأ العباس الكلام قائلا:

______________________________

(1) الكامل، ج 1، ص 510؛ وسيرة ابن هشام، ج 2، ص 70؛ وتفسير جامع البيان، ج 2، ص 86- 88.

(2) الكامل، ج 1، ص 511؛ وسيرة ابن هشام، ج 2، ص 73.

(3) الكامل، ج 1، ص 513؛ وسيرة ابن هشام، ج 2، ص 84؛ وتفسير جامع البيان، ج 2، ص 91.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 17

«إِن محمداً منّا حيثُ قد علمتم، في عزٍ ومنعةٍ وإنّه قد أَبى إلّاالانقطاع إليكم فإنّ كنتم ترونَ أنّكم وافون له بما

دعوتموهُ إليه ومانعوه ممن خالفه فأنتم وما تحملتم من ذلك وإن كنتم تَرونَ أنّكم مسلموهُ وخاذلوه بعد الخروج إليكم فمن الآن فدَعُوه فانّه في عزٍّ ومنعةٍ من قومه وبلده»، فقالت الأنصار:

تكلّم يارسول اللَّه وخذ لنفسك وربّك ما أحببت «فتكلّم وتلا القرآن ودعا إلى اللَّه ورغب في الإسلام ثم قال: ابايعكم على أن تمنعوني ممّا تمنعون منه نساءكم وأبناءكم»، فأخذ (البراء بن معرور) بيده ثم قال: «والذي بعثك بالحقِ لنمنعنك ممّا نمنع منه أزرنا فبايعنا يارسول اللَّه فنحن واللَّه أهل الحرب ...».

وقال الآخر ويدعى أبو الهيثم بن تيهان: يارسول اللَّه إنّ بيننا وبين الناس حبالًا وإنا قاطعوها يعني اليهود فهل عسيتَ إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك اللَّه أن ترجع إلى قومِك وتدعنا؟ فتبسم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وقال:

«بل الدَّم الدَّم والهدمَ الهدمَ أنتم منّي وأنا منكم اسالم من سالمتم وأحارب من حاربتم» ثم قال صلى الله عليه و آله: «أخرجوا إليّ منكم اثني عشر نقيباً يكونون على قومهم بما فيهم» فاخرجوهم تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس وهنا قال العباس بن عبادة صاحب الفكر العميق والنظرة الثاقبة: يا معشر الخزرج هل تَدرون عَلامَ تُبايعون هذا الرجل ... تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس فإنّ كنتم تَرون أنّكم إذا نهكت أموالكم مصيبة وأشرافكم قتلًا أسلمتموهُ فمن الآن، فهو واللَّهِ خُزي الدنيا والآخرة إن فعلتم، وإن كنتم تَرون أنّكم وافون لهُ بما دعوتموه إليه على نهكة الأموال وقتل الأشراف فخذوهُ فهو واللَّه خير الدنيا والآخرة، قالوا: فإنّا نأخُذَه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف فمالنا بذلك يارسول اللَّه إن نحن وفينا؟ قال: الجنَّة، قالوا: أبسط يدكَ فبسط يده فبايعوهُ» «1».

إنّ هذا النصر الكبير أدّى

إلى ازدياد حقد وعداء أهل مكة للمسلمين فازدادوا ظلماً وتعذيباً لهم، فأمرهم الرسول صلى الله عليه و آله بالهجرة «2» إلى المدينة.

______________________________

(1) الكامل، ج 1، ص 513؛ وسيرة ابن هشام، ج 2، ص 88.

(2) سيرة ابن هشام، ج 2، ص 112؛ والكامل، ج 1، ص 515؛ وتفسير جامع البيان، ج 2، ص 97.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 18

الهجرة انعطافٌ جديدٌ في تاريخ الإسلام:

بعد هجرة المسلمين من مكة إلى المدينة ظل الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله في مكة منتظراً أوامر اللَّه تعالى وأحسَّ رؤساء قريش بالخطر الشديد لإسلام أهل المدينة وهجرة مسلمي مكة فقرروا قتل الرسول صلى الله عليه و آله فاجتمعوا لذلك وبعد مشاورات طويلة قرروا إشراك القبائل كافة مع قريش في قتل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، في ذلك الوقت نفسه أمر اللَّه سبحانه وتعالى رسوله الكريم صلى الله عليه و آله بالهجرة «1».

وفي بداية شهر ربيع الأول تخلص الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله من محاصرة الأعداء بمعجزة عجيبة وهاجر إلى المدينة في يوم الاثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول ووصل إلى (قباء) «2» وبقي فيها حتى الخميس وقد بنى هناك مسجداً سُمي (بمسجد قباء) وأقام أول صلاة للجمعة وخطبَ في الناس أول خطبتين للصلاة في تاريخ الإسلام، بالقرب من قباء في (قبيلة بني سالم).

بعدها دخل المدينة واستقبله أهلها استقبالًا عظيماً، وأول عمل قام به صلى الله عليه و آله هو بناء مسجد فيها اعتبره منطلقاً للرسالة وتعاليم الإسلام، ولتجمع «3» المسلمين، غير أنّ الرسول والمسلمين تعرضوا إلى ألوان المؤامرات فاضطر النبي صلى الله عليه و آله إلى إشهار السلاح والاستفادة من القوة العظيمة لمسلمي المدينة لإبطال تلك المؤامرات.

وبعد سبعة أشهر من دخولهِ

المدينة أرسل الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله أول كتيبة بقيادة عمّه (الحمزة بن عبد المطلب) للتعرض لقافلةِ قريش، ثم جهز سرية اخرى بقيادة «سعد بن أبي وقاص) وارسله إلى (الابواء)، بعدها غزوة (البواط) التي كان هدفها ضرب قافلة قريش، ثم غزوة (العشيرة) لملاحقة قافلة لقريش أيضاً وفي السنة الثانية أعدّ سرية (عبد اللَّه بن جحش) للتعرض إلى قريش بين مكة والطائف.

وفي السنة نفسها وقعت معركة بدر الكبرى التي نكست بها رؤوس الشرك والضلالة من

______________________________

(1) سيرة ابن هشام، ج 2، ص 123؛ والكامل، ج 1، ص 515.

(2) سيرة ابن هشام، ج 2، ص 138؛ والكامل، ج 2، ص 518؛ وتفسير جامع البيان، ج 2، ص 100.

(3) سيرة ابن هشام، ج 2، ص 143؛ والكامل، ج 2، ص 521؛ وتفسير جامع البيان، ج 2، ص 106- 116.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 19

قريش وأرسلوا إلى جهنم ووقع كثير من أهل مكة في الأسر، بعد هذا الانتصار ازداد المسلمون قوة وعزيمة وأوقعوا الرُعب في قلوب اعدائهم، ثم أعقبتها غزوة (بني قينقاع) بسبب نقض يهود المدينة عهدهم مع الرسول صلى الله عليه و آله، بعدها (غزوة كدر) ضد بني سليم ثم غزوة (السويق) ضد هجوم أبي سفيان.

وفي السنة الثالثة للهجرة وقعت حربُ (غطفان) ضد (بني ثعلبة) الذين أرادوا الهجوم على المسلمين ثم غزوة (بني سليم) التي قُتل فيها اثنان من شياطين الكفر هما (كعب بن أشرف) و (أبو رافع) على أيدي المسلمين، وبعدها معركة (احد) ثم تبعتها غزوة (حمراء الاسد) وقد مُني المسلمون بالهزيمة في معركة أحد لكن ذلك كان باعثاً لهم على التهيؤ للحروب القادمة وليعلموا أنّ الغفلة والغرور والتعلق بالماديات هي من أسباب الهزيمة.

وفي السنة الرابعة للهجرة

وقعت غزوة (رجيع) ضد قبيلة (عضل وقارة) حيث سلَّموا مبلغي الإسلام إلى الأعداء، بعدها حادثة (بئر معونة) فقد دعوا (70) شخصاً لتعليمهم الإسلام ثم قتلوهم، وحادثة (إجلاء بني النضير) إذ صمموا على قتل الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله وقد أخرجهم من المدينة بأجمعهم.

بعدها وقعت غزوة (ذات الرقاع) ضد طائفة (بني محارب) و (بني ثعلبة) من قبيلة (غطفان).

وفي هذه السنة وقعت (بدر الثانية) التي كان هدفها ملاحقة أبي سفيان. وقد كان لهذه الغزوات أثر بالغٌ في تقدم وانتشار الإسلام في الجزيرة العربية.

وفي السنة الخامسة للهجرة أحسّت قبائل العرب بخطر هذه القوة الجديدة فقرروا الاتحاد والتنسيق فيما بينهم للقضاء عليها وعدم فسح المجال لها بتأصيل جذورها كقوة ضد الظلم والشرك في المنطقة فحدثت (معركة الأحزاب) التي انتصر فيها المسلمون ورجع منها المشركون خائبين مندحرين وأصبحت فكرة القضاء على المسلمين وقلع جذورهم من المحال.

وفي السنة نفسها وقعت غزوة (بني قريظة) وحاصر المسلمون قلعتهم للتخلص من شر

نفحات القرآن، ج 8، ص: 20

اليهود الذين كانوا يحيكون الدسائس ضد المسلمين.

ثم في السنة السادسة للهجرة وقعت غزوة (ذي قرد) حيث أغار الكفّار على أموال المسلمين وأموال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله واجتمع كذلك (بنو المصطلق) ضد الإسلام ولكنهم اندحروا في غزوة (بني المصطلق)، إنّ هذه الحوادث كلها كانت دليلًا واضحاً على قدرة وعظمة الإسلام.

صلحُ الحديبية فتحٌ كبيرٌ وتقدمٌ للإسلام:

في السنة السادسة للهجرة أمر الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله المسلمين بالتهيؤ إلى حج العمرةِ مصطحبين معهم الإبل لذبحها قرابين إلى اللَّه سبحانه وتعالى ومعلنين لأهل مكة بأنّهم لم يأتوا للحرب، وكان لهذه الحادثة أثران واضحان:

الأول: أراد الرسول صلى الله عليه و آله من ذهابه إلى مكة اعلان عدم خوف المسلمين من أي

عدو في الجزيرة العربية.

الثاني: مع دخولهم مكة تظهر قدرة الإسلام في مقابل مركز عبادة الأوثان وهذا مؤشر واضح على قوة وانتصار الإسلام لأنّ مكة كانت من المراكز المهمّة والقوية في مقاومة الإسلام، وأدرك أهل مكة ذلك فقرروا منع دخول المسلمين من مكة وعندها أمر الرسول صلى الله عليه و آله أصحابه بمبايعته فكانت بيعة شديدة المواثيق والعهود سُميت ب «بيعة الرضوان».

ولما سمع المشركون بخبر البيعة قرروا عقد صلح مع الرسول صلى الله عليه و آله جاء فيه: أن يخرج المشركون من مكة السنة القادمة ويدخلها الرسول صلى الله عليه و آله لأداء حج العمرة «1». وبعد أن تمّ الاتفاق على هذا الصلح توفرت أرضية سهلة للقضاء على أعداء الإسلام الكبار والصغار الذين كانوا بين الحين والآخر يحوكون المؤامرات ضد المسلمين أو يتعرضون لهم، فبمجرد أن عاد الرسول صلى الله عليه و آله من الحديبية أعدّ العدّة لحرب هؤلاء الأعداء فارسل سرية (عكاشة)

______________________________

(1) الكامل، ج 1، ص 582؛ سيرة ابن هشام، ج 3، ص 321؛ وتفسير جامع البيان، ج 2، ص 270.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 21

إلى (بني اسد)، وسرية (محمد بن سلمة)، إلى (بني ثعلبة)، وسرية (أبي عبيدة الجراح)، إلى (ذي القصد)، وأرسل ست سرايا «1» بقيادة (زيد بن حارثة) لحرب (الجموح) إلى (عيص وطرف وحسمى ووادي القُرى وام قرفة)، وسرية (عبد الرحمن بن عوف) إلى (دومة الجندل)، وسرية (علي بن أبي طالب عليه السلام إلى (فدك)، وسرية (كرز بن جابر) «2» إلى (عرينين)، وكل هذه المعارك وقعت بعد الحديبية «3».

وكثير من القبائل التي كانت تعدُ العدّة لحرب المسلمين قد فشلت وانهزمت قبل أن تنجز شيئاً ذا بال ووصلت قدرة الإسلام إلى أوج عظمتها وحينها لم

تحدّث قبيلة من القبائل نفسها في أن تخوض معركة مع الرسول صلى الله عليه و آله والمسلمين وأحست مكة بالضعف وعقدت هدنة مع الرسول فاعترفت برسمية الحكومة الإسلامية.

رسائله صلى الله عليه و آله إلى ملوك العالم:

وتعاظمت في هذه الأثناء قدرة الإسلام وتوسع نفوذه فانتشر أول شعاع لشمسه خارج الجزيرة العربية، وقام الرسول بإرسال سفراء محملين برسائل إلى كسرى (ملك ايران)، وقيصر (حاكم الروم) «4»، والنجاشي (حاكم الحبشة)، والمقوقس (حاكم مصر) «5» وإلى عدّة اخرى من الرؤساء والحكام أداءً لتكليفه الإلهي ولدعوتهم إلى الإسلام فكان جواب بعضهم إيجابياً، وسكت بعضهم الآخر ماعدا خسرو برويز (شاه ايران) وهذا دليل على إمّا: أنّ التبليغ الإسلامي الصحيح قد وصلهم فاطلعوا على حقائق الإسلام، أو أحسّوا بقدرته ووصلتهم أخباره فكان صلاحهم في عدم المواجهة العسكرية مع المسلمين «6».

______________________________

(1) سيرة ابن هشام، ج 3، ص 53.

(2) المصدر السابق، ج 4، ص 290.

(3) الكامل، ج 1، ص 588- 590.

(4) تفسير جامع البيان، ج 2، ص 288.

(5) الكامل، ج 1، ص 591.

(6) الكامل، ج 1، ص 591؛ تفسير جامع البيان، ج 2، ص 298؛ وسيرة ابن هشام، ج 3، ص 342.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 22

ولم يبقَ من مراكز المؤامرات إلّاخيبر مركز اليهود «1» الذي يجب القضاء عليه.

لذلك فقد صمّم الرسول صلى الله عليه و آله في السنة السابعة للهجرة على اخضاعه مع قبيلة يهودية اخرى كانت تقطن أرض فدك.

بعد ذلك تجاوز الإسلام كل الموانع والعقبات التي كانت أمامه وارتفعت رايته عالية بالنصر المبين.

وفي هذه المرحلة وصل الإسلام في الجزيرة العربية إلى أوج العظمة والازدهار واستغل الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله فرصة الاستفادة من صلح الحديبية للذهاب إلى زيارة بيت اللَّه لأداء فريضة حج العمرة.

وبعد أن رجع الرسول الأكرم

صلى الله عليه و آله من خيبر في شهر ذي الحجة أعلن للمسلمين الذين ذهبوا معه العام الماضي للعمرة أن يتهيأوا إلى السفر في العام الحالي «2» فلما سمع أهل مكة بهذا الخبر تركوا بيوتهم وفروا لاجئين إلى الجبال (وفقاً للصلح الذي اتفقوا عليه)، ودخل المسلمون مكة رافعين رؤوسهم.

عند ذلك أعلن الرسول صلى الله عليه و آله بقوله: «رحم اللَّه امرأً أراهم اليوم من نفسه قوّةً» وبهذا الاسلوب استطاع المسلمون أن يحققوا آمالهم في زيارة بيت اللَّه سبحانه وهم يعرضون عظمة وقدرة الإسلام أمام أهل مكة «3».

وعند حلول السنة الثامنة من الهجرة وسّع الرسول صلى الله عليه و آله دائرة نفوذ الإسلام، فأرسل سرية (غالب بن عبد اللَّه الليثي) إلى (بني الملوح)، و (العلاء بن الحضرمي)، إلى (البحرين)، وحسب أحد الأقوال أرسل سرية (شجاع بن وهب) إلى (بني عامر)، وسرية (عمرو بن كعب الغفاري)، إلى (ذات الاطلاح)، في أحد نواحي الشام.

وفي هذه السنة بعث الرسول صلى الله عليه و آله (عمرو بن العاص) إلى أرض (بلي وعُذْرة) ليدعوهم

______________________________

(1) تفسير جامع البيان، ج 2، ص 390؛ وسيرة ابن هشام، ج 4، ص 12.

(2) المصدر السابق.

(3) الكامل، ج 1، ص 602.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 23

إلى الإسلام، فوقعت غزوة (ذات السلاسل) «1».

وفي السنة نفسها أرسل صلى الله عليه و آله (عمرو بن العاص) نحو (جيفر وعياز) إبني الجلندي في عمان ليدعوهم إلى الإيمان، ويأخذ (الجزية) من المجوس.

كما أرسل جيشاً بقيادة (أبي عبيدة الجراح) فحدثت غزوة (الخبط) التي وافقت السنة الهجرية نفسها وأرسل صلى الله عليه و آله أيضاً سرايا (أبي قتادة) للوقوف بوجه من جهز جيشاً لمحاربة الرسول صلى الله عليه و آله وحدثت أيضاً غزوة (مؤتة)

«2» في أرض مؤتة وهي إحدى القرى في الشام.

وكان عدد المسلمين المشتركين في هذه الغزوة ثلاثة آلاف مقاتل، وقد استشهد فيها عدد من قادتهم فكان ذلك سبباً لشعور المسلمين بالضعف الذي يعدُ نصراً للأعداء، غير أنّه سرعان ما تهيأت أسباب فتح مكة حيث إنّ قبيلة (خزاعة) كانت حليفة للرسول صلى الله عليه و آله وقبيلة (بني بكر) حليفة لقريش، فبغت قبيلة (بني بكر) على (خزاعة) وساندتها قريش، أتاح للرسول صلى الله عليه و آله التدخل لنصرة (خزاعة) فأمر صلى الله عليه و آله بتجهيز جيش لغزو مكة وتمكن بعشرة آلاف من المسلمين وبخطة عسكرية حكيمة من السيطرة على مكة وفتحها بدون قتال.

وبلغ المسلمون آمالهم في الدخول إلى بيت اللَّه الآمن مطهراً من دنس الجاهلية والأوثان.

وعندما رأى (أبو سفيان) كثرة المسلمين وقدرتهم انبهر بعظمة الإسلام فصرح إلى (العباس) بقولهِ: «لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيماً» فأجابه العباس: «ويحك إنّها النبوّة» «3».

وصل الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله إلى الكعبة ووقف في بابها بعمامته السوداء منادياً بالشعار

______________________________

(1) سيرة ابن هشام، ج 4، ص 272.

(2) سيرة ابن هشام، ج 4، ص 15؛ و تفسير جامع البيان، ج 2، ص 318.

(3) الكامل، ج 1، ص 614.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 24

المعروف لنبذ آداب واعراف الجاهلية بقوله صلى الله عليه و آله: «لا إله إلّااللَّه وحدهُ صَدقَ وعدهُ ونَصرَ عبدَهُ، وهَزمَ الأحزاب وحدهُ»، ثم أضاف صلى الله عليه و آله: «ألا كُل دَمٍ في- الجاهلية- أو مأثرة أو مال يُدعى فَهو تحت قدميّ هاتين إلّاسدانة البيت وسَقاية الحاج»، ثم قال: «يا معشر قريش ما تَرون أنّي فاعل بكم»؟ قالوا: «خيراً أخ كريمٌ وابن أخٍ كريمٍ»، قال: «اذهَبوا فأنتُم الطُلَقاء» «1».

ثم

أرسل الرسول صلى الله عليه و آله مجموعة من الجيش لاطفاء الفتنة التي حدثت بين القبائل في اطراف مكة «2» وللوقوف بوجه هوازن التي كانت مصرّة على قتال المسلمين واشتبك المسلمون مع هوازن في (حنين) وردوا بغيهم إلى نحورهم «3». وبعدها حاصروا الطائف واجبروهم على التسليم «4».

عندما حلت السنة التاسعة للهجرة تنفس المسلمون الصُعَداء بتدمير كل مراكز المؤامرات التي كان يحوكها المشركون واليهود والنصارى وبرزت قوة جديدة إلى الوجود، فأسلمت بعض القبائل المحيطة على يديها وخضع لها بعضها الآخر.

وفي خضم هذه الحوادث جاء خبرٌ مفاده أن (هرقل) امبراطور الروم وعدداً من العرب الذين اعتنقوا النصرانية يريدون الهجومَ على بلاد الإسلام، فأعلن الرسول صلى الله عليه و آله أن يعدّ المسلمون أنفسهم للحرب مع الروم.

ونقل أرباب التاريخ أن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله أعلن عن مكان الحرب ولم يتكتم عليه خلافاً لعادته في الحروب السابقة. ربّما لبُعد الطريق وأمثال ذلك ولكن يبدو أنّ هدفه كان بث الرعب في قلوب الأعداء وقد جهز جيشاً بصعوبة بالغة وبمعدات قليلة وسُمي ب (جيش العسرة) واتجهوا إلى (تبوك) «5» وعند وصولهم إليها ومرورهم ب (ميناء ايله) فوافق حاكمها على اعطاء الجزية وتعاهد مع المسلمين على الصلح «6». ثم أرسل صلى الله عليه و آله خالد بن الوليد إلى حاكم (دومة الجندل) فقبل الجزية أيضاً «7».

______________________________

(1) الكامل، ج 1، ص 620.

(2) الكامل، ج 1، ص 618؛ سيرة ابن هشام، ج 4، ص 70.

(3) الكامل، ج 1، ص 624؛ وسيرة ابن هشام، ج 4، ص 80؛ وتفسير جامع البيان، ج 2، ص 344.

(4) الكامل، ج 1، ص 628؛ وسيرة ابن هشام، ج 4، ص 122.

(5) الكامل، ج 1، ص 635؛

سيرة ابن هشام، ج 4، ص 159؛ وتفسير جامع البيان، ج 2، ص 373.

(6) الكامل، ج 1، ص 638.

(7) الكامل، ج 1، ص 638.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 25

وظل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في تبوك خمسة عشر يوماً تقريباً ولكن جيش الروم تخلف عن المجي ء فرجع الرسول صلى الله عليه و آله إلى مكة «1».

وفي هذه السنة جاءت مجموعة من ثقيف وأعلنت إسلامها بين يدي الرسول صلى الله عليه و آله «2»، وأمر الإمام علياً عليه السلام بتطهير قبيلة (طي) من دنس الأوثان فحاربهم وانتصر عليهم وأسّر بنت حاتم الطائي وعلى أثر ذلك دخل الإسلام (عدي بن حاتم و ...) «3».

إنّ فتح مكة ودخول بني ثقيف الإسلام والفراغ من تبوك كانت مؤشرات على عظمة الإسلام وصدق هذا الدين فتوافد كثير من القبائل على الرسول صلى الله عليه و آله واطلعوا تدريجياً على معارف الإسلام وعظمته فاعتنق بعضهم الإسلام وبعض عقد صلحاً وترك الحرب مع الرسول فسُمي ذلك العام (بعام الوفود) «4»، فجاء وفد (بني اسد) إلى الرسول صلى الله عليه و آله قائلين:

«أتيناك قبل أن تُرسل إلينا رسولًا» ووفد (بلى)، ووفد (زاريين)، ووفد (بني تميم) «5».

و وصلت رسائل كثيرة من ملوك وسلاطين (حِمْير) تدل على قبول قدرة وحكومة الإسلام «6».

وكذلك جاء وفد (بهراء) ووفدُ (بني البكاء) ووفدُ (بني فزارة)، ووفد (ثعلبة بن منقذ)، ووفد (سعد بن بكر) «7».

ونزلت سورة البراءة وقرأها الإمام علي عليه السلام معلناً البراءة من الشرك وعبادة الأوثان ومنع المشركين من الدخول إلى مكة للحج.

______________________________

(1) الكامل، ج 1، ص 638.

(2) المصدر السابق، ص 640.

(3) المصدر السابق.

(4) الكامل، ج 1، ص 641؛ وسيرة ابن هشام، ج 4، ص 205.

(5) الكامل، ج 1،

ص 642.

(6) سيرة ابن هشام، ج 4، ص 235.

(7) الكامل، ج 1، ص 644.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 26

«فأقام الناس الحج وحجت العربُ الكفّار على عادتهم في الجاهلية وعليُ z ]يؤذن ببراءة فنادى يوم الأضحى لا يحجنَّ بعد العام مُشرِكٌ ولا يَطوفنّ بالبيت عُريانٌ ومن كان بينهُ وبين رسول اللَّهِ عهد فأجلُهُ إلى مدّتهِ» «1».

وحَلَّ العام العاشر للهجرة وصوتُ الإسلام يدوي في كل مكان، فجاء نصارى (نجران) إلى المباهلة، ثم قبلوا الصُلح بدونها: «وصالحوه على ألفي حُلّة ثمنُ كل حُلّة أربعون درهماً وعلى أن يُضيّفوا رُسُلَ رسول اللَّه z ]وجعل لهم ذمَّةَ اللَّه تعالى وعَهدهُ ألّا يفتنوا عن دينِهم ولا يُعشِروا وشرط عليهم أن لا يأكلوا الربا ولا يتعاملوا به» «2».

وتوالت الوفود تلو الوفود إلى المدينة لتعلن وفاءها للاسلام والرسول الأعظم صلى الله عليه و آله، فجاء وفد (سلامان)، ووفد (غبشان)، ووفد (عامر)، ووفد (ازد)، ووفد (مراد)، ووفد (زبيد)، مع (عمرو بن معدي كرب)، ووفد (عبد قيس)، ووفد (بني حنيف)، ووفد (كندة)، ووفد (محارب)، ووفد (رهاويين)، ووفد (عبس)، ووفد (صَدف)، ووفد (خولان)، ووفد (بني عامر)، ووفد (طي) «3».

وقد تجلّت قوّة الإسلام في حجة الوداع فبناءً على ماذكر في بعض الروايات فإنّ مجموع المسلمين الذين ذهبوا لزيارة بيت اللَّه الحرام وحضروا (حجة الوداع) كان أكثر من مائة الف شخص، ويعد هذا الاجتماع من أكبر الاجتماعات الدينية في ذلك العصر، كما تعكس ذلك أيضاً خطب الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله في سفره سواء كانت في مكة، أم في عرفات، أم في منى أم في غدير خُم، لتعيين الخليفة والوصي من بعده وقد جاء في التاريخ مايلي:

«فأرآهم مناسكهم وعلمهم سنن حجهم وخطب خطتبهُ التي بيّن فيها للناس

ما بيّن وكان الذي يبلغ عنه بعرفة (ربيعة بن امية بن خلف) لكثرة الناس، فقال بعد حمد اللَّه: «ايّها الناس اسمعوا قولي فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبداً. أَيّها الناس إنّ دماءكم وأموالكم عليكم حرامٌ كحرمة يومكم هذا وكل ربا موضوع لكم رؤوس أموالكم وإن ربا العباس بن عبد المطلب موضوع كُلّهُ وكل دم كان في الجاهلية موضوع أَيّها النّاس

______________________________

(1) الكامل، ج 1، ص 644؛ سيرة ابن هشام، ج 4، ص 190.

(2) الكامل، ج 1، ص 646.

(3) الكامل، ج 1، ص 647- 649؛ وللاطلاع على غزوات وسرايا الرسول صلى الله عليه و آله) يمكن الرجوع إلى سيرة ابن هشام ج 4، ص 256؛ الكامل، ج 1، ص 252؛ وتفسير جامع البيان، ج 2، ص 404.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 27

إنّ الشيطان قد يئس أن يُعبد بأرضِكم هذه أبداً ولكنّه يُطاع فيما سوى ذلك وقد رضي بما تحقرون من أعمالكم ...» «1».

جاء في تاريخ حجة الوداع: أنّه أثناء ذهاب الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله إلى الحج كان قد اجتمع خلق كثير في المدينة على الرغم من انتشار أحد الأمراض الذي منع حج كثير منهم: «ومع ذلك كانت معهُ جموع لا يعلمها إلّااللَّه، وقد قيل إنّه خرج معهُ تسعون الفاً، ويقال: مائة الف وأربعة عشر الفاً وقيل: مائة الف وعشرون الفاً، وقيل: مائة الف وأربعة وعشرون الفاً، ويقال أكثر من ذلك وهذه عدةُ من خرج معه وأمّا الذين حجوا معه فأكثر من ذلك كالمقيمين بمكة والذي اتوا من اليمن مع علي z ]وأبي موسى «2».

ولو يمكن تقدير عدد المسلمين الذين لم يستطيعوا الحجّ لتبين مقدار ما وصلت إليه شوكة الإسلام.

وأخيراً جهّز الرسول

الأكرم صلى الله عليه و آله قبل وفاتهِ جيشاً بقيادة (أُسامة) لحرب ديار الشامات (بصرى فتخلف بعضهم عن أمر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.

______________________________

(1) الكامل، ج 1، ص 652.

(2) سيرة الحلبي، ج 3، ص 283؛ وتواريخ اخرى نقلًا عن الغدير، ج 1، ص 9 وهو مصدر جامع لمن أراد أن يستزيد.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 29

نبيُّ الإسلام في القرآن

تمهيد:

استعرضنا فيما تقدم لمحات مختصرة من حياة نبي الإسلام صلى الله عليه و آله من وجهة نظر المؤرخين، والآن نستعرض حياتَه الشريفة منذُ نعومةِ أظفارهِ وحتى انتهاء عُمره- كما جاء في القرآن الكريم- بتحقيق دقيق مختصر يصلح أن يكون مقدّمة خاصة للبحوث حول النبوة.

إنّ دراسة الآيات القرآنية وبالأخص ذات العلاقة بهذا البحث لها أهميّة بالغة وذلك للرد على أصحاب الشبهات والمخالفين، فلو أنّ هذه الآيات لم تنطبق على واقع حياة الرسول صلى الله عليه و آله فإنّ ذلك سيكون مدعاة لإثارة هذه الشبهات، والتي سوف يكتبونها في التواريخ كما كتبت الوقائع الأُخرى

وبتعبير آخر: بغض النظر عن كون القرآن الكريم كلام اللَّه سُبحانه وتعالى وكل ما جاء به من الآيات القرآنية منسجمٌ مع الحقيقة والواقع. فلو فرضنا عدم صحة تطابقها فإنّ الآيات القرآنية التي تخص حياة الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله لا يمكن عدم تطابقها مع الواقع، لأنّها ستكون وسيلة جيدة يتذرع بها الأعداء لتمرير شبهاتهم وبهذه الإشارة نمعن النظر مرة أُخرى في الآيات القرآنية والنقاط المهمّة التي جاءت بها حول مقاطع مختلفة من حياة الرسول صلى الله عليه و آله.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 30

محيط دعوة الرسول صلى الله عليه و آله:

اشارة

بيّن القرآن الكريم في سورتين منه وبتعبير في غاية الوضوح حياة عرب الجاهلية المعاصرين للرسول صلى الله عليه و آله بقوله: «وَان كَانُوا مِن قَبلُ لَفِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ».

(آل عمران/ 164) (الجمعة/ 2)

وتعبير (ضلالٌ مُبين) في الآيتين بيانٌ واضحٌ لتحكُّم الضلالةُ والضياع في المجتمع العربي الجاهلي.

ضياع في العقائد حيث كانوا مشركين يعبدون الأصنام التي يصنعونها بأيديهم من الحجر والخشب.

وضياعٌ في الجوانب الاجتماعية إلى الحد الذي كانوا يئدون بناتهم احياءً وهم يفتخرون بذلك.

وكانوا يطوفون رجالًا ونساءً حول الكعبة عُراة ويعتبرون ذلك

من ضمن عبادتهم.

والإعتداء والحروب وإراقة الدماء بالباطل، كل ذلك كان له قيمة اجتماعية في الجاهلية، حتى وصل الأمر إلى أن يَرِثَ الأبناء أحقاد واضغان الآباء.

والمرأة في خضم ذلك مجرّد متاع يقامرون به.

وأفضل من رسم مفهوم (ضلال مبين) قولُ (جعفر بن أبي طالب) عندما بيّن أوضاع عرب الجاهلية لملك الحبشة (النجاشي) بقوله: «أيّها الملك كنا قوماً أهل جاهلية نعبدُ الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسي ء الجوار، ويأكلُ القويُ منّا الضعيف حتى بعثَ اللهُ إلينا رسولًا منّا نعرفُ نسبهُ، وصدقهُ وامانتهُ وعفافهُ فدعانا لتوحيد اللَّه وان لا نشركَ به شيئاً ونخلعَ ما كنا نعبدُ من الأصنام وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحُسن الجوار والكف عن المحارم والدماء ...» «1».

ولمزيد من توضيح تلك الإشارة التي وردت في الآيتين الكريمتين نستعين بآيات اخرى حيث جاء فيها:

______________________________

(1) الكامل، ج 2، ص 80؛ تفسير في ظلال القرآن، ج 8، ص 95.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 31

1- الأصنام في عقائد العرب

إنّ عقائدأيّ قوم أو شعب تشكل ركناً أساسياً في ثقافتهم، وانحطاط تلك العقائد يدل على الانحطاط الثقافي والحضاري لهم.

وعلى هذا الأساس، فعرب الجاهلية كانوا في أرذل درجات الانحطاط الثقافي والضياع حيث كانوا يعبدون الأصنام التي يصنعونها بأيديهم فيتصورون أنّها تتحكم في مصائرهم بل يزعمون أنّها حاكمة على السماء والأرض أحياناً، وقد خاطب القرآن الكريم الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله بصدد ذلك بقوله: «قُلْ اتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَايَملِكُ لَكُم ضَرًّا وَلَانَفعَاً وَاللَّهُ هُوَ السَّميعُ العَلِيمُ». (المائدة/ 76)

وبالإضافة إلى الأصنام الصغيرة فقد كانت لديهم ثلاثة أصنام كبيرة ذات شهرة خاصة في مجتمعهم يزعمون بأنّها بنات الرب وهي وسيلة للتقرب إليه، أحدها (مَناة) وكان ما بين المدينة ومكة المكرمة بالقرب من

ساحل البحر الأحمر، ولهذا الصنم احترامٌ خاص عند كل العرب انذاك، فيقدمون إليه القرابين، وأكثر القبائل احتراماً وتقديساً له قبيلة (الاوس) و (الخزرج).

والثاني في الطائف يُعرف باسم (اللّات)، وقد شُيد في مكانه اليوم مسجد وكانت (ثقيف) من أكثر القبائل احتراماً له.

والثالث من الأصنام الكبيرة هو (العُزى وقد وضع في الطريق المؤدي إلى العراق قريباً من منطقة (ذات العِرق) ولقريش علاقة خاصة بهذا الصنم،

وهناك أصنام اخرى للقبائل والعشائر بل وللعوائل أيضاً إذ لا معنى لحياة عرب الجاهلية بدونها، فمثلًا لو أرادوا السفر فإنّهم يستاذنون من الصنم ولهم في اسفارهم أصنام يصحبونها معهم.

وقد أشار القرآن الكريم في سورة النجم إلى ذلك بقوله تعالى «افَرأَيتُمُ اللَّاتَ وَالعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الاخَرى الَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الانثَى . (النجم/ 19- 21)

ومن الجدير بالذكر في الحياة الجاهلية أنّهم كانوا يكرهون البنات ويئدونهن أحياناً

نفحات القرآن، ج 8، ص: 32

بالرغم من اعتقادهم بأنّ الملائكة بناتُ اللَّه وهذه الأصنام تماثيل تلك الملائكة، لذلك واجههم القرآن الكريم بمنطقهم وهو كيف تقولون: أنّ لله بنات في الوقت الذي تكرهونهن فيه؟

و قد استنكر القرآن وذم تلك الأفكار الخرافية المنحطة بقوله تعالى «وَجَعَلُوا المَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحَمنِ انَاثاً اشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ». (الزخرف/ 19)

وقد حارب الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله هذه العقائد الضالة الناشئة من التصورات الخاطئة وهوى النفس كما ورد في ذيل الآية الكريمة بعد أن أشارت إلى الأصنام الثلاثة الكبيرة المعروفة بقوله تعالى: «انْ هِىَ إِلَّا اسمَاءٌ سَمَّيْتُمُوَها انتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَّا انزَلَ اللّهُ بِهَا مِنْ سُلطَانٍ انْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهوَى الأنْفُسُ». (النجم/ 23)

صحيح أنّ المشركين قد تشبثوا بدليلٍ واهٍ ليبرّروا به عبادتهم للأصنام حيث قالوا: (إنّ ذاتَ اللَّه أسمى من أن يصلَ

إليها العقل والفكر الإنساني وهو منزه عن أن نعبده بصورة مباشرة)، وعلى هذا الأساس فالذين وكّل إليهم أمر خلقهِ وتدبيرهِ هم الواسطةُ إليه وهؤلاء هم الملائكة والجن وكل الموجودات المقدسة فهؤلاء اربابٌ نعبدهم وهم الذين يقربوننا إلى اللَّه «مَانَعبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلفَى . (الزمر/ 3)

وعلى هذا فإنّ أيدينا لا تصل إلى هذه المقدسات فنصنع لها تمثالًا ثم نَعبدُها! وهذه التماثيل هي أصنامهم وفي تصورهم أن هناك وحدة واتحاداً بين هذه الأصنام والوجودات المقدسة فهم يخاطبونها بالآلهة والأرباب.

وهم بهذه الخرافات الواهية ابتعدوا عن اللَّه سبحانه وتعالى وهو أقرب إلى الإنسان من نفسه، وبدلًا من أن يتوجهوا إلى اللَّه الذي هو منبع الفيض والقدرة البصير الموجود في كل مكان لجأوا إلى مخلوقات ممكنة لا حول ولا قوة ولا شعور لها بل إنّها مخلوقة بايدي عبّادها ومع ذلك فقد أجلسوا تلك المخلوقات التي لا قيمة لها على عرش الربوية والالوهية ناسين عظمة الذات الإلهيّة اللامتناهية ولاهثين وراء سراب يحسبونه ماءً.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 33

2- تفشي حالة الفقر الشديد بين الناس

في الوقت الذي بُعثَ فيه الرسول صلى الله عليه و آله كان عرب الجاهلية غارقين في فقر شديد إلى الحد الذي كانوا يقتلون فيه أبناءهم- وحتى الذكور منهم أولئك الذين يشكلون الحجر الأساس لحياتهم المادية والاقتصادية- ليقللوا عدد الأفواه الجائعة، قال تعالى «وَلَاتَقتُلُوا اولَادَكُمْ خَشْيَةَ املَاقٍ نَّحنُ نَرزُقُهُمْ وَايَّاكُم» «1». (الإسراء/ 31)

وقد جسّم أمير المؤمنين علي عليه السلام هذا المعنى في تحليل جامع فقال عليه السلام: «إنّ اللَّهَ بَعَثَ محمداً صلى الله عليه و آله نذيراً للعالمين، وأميناً على التنزيل وأنتم معشر العرب على شرِ دين وفي شر دار منيخون بين حجارةٍ خُشن وحيّات صُمٍّ، تَشربونَ الكَدِرَ، وتأكلونَ الجَشِبَ» «2».

3- عباداتهم العجيبة

كانت عبادة المشركين غريبة للغاية، ويجيب القرآن الكريم على ادّعاء المشركين الذين يزعمون: بأنّه إذا كان محمدٌ صلى الله عليه و آله قد اتى بعبادات فإنّ لنا مثلها وكنا نصلي إلى جانب الكعبة كذلك، فيقول القرآن: «وَمَا كَانَ صَلَاتُهُم عِندَ البَيتِ إِلَّا مُكَاءً وتَصدِيَةً». (الانفال/ 35)

نعم، إنّهم يُسمّون صفيرهم الاحمق وتصفيقهم الأبله صلاةً، «فالمكاء» يعني: صوت الطيور، وجاء تشبيه أصوات العرب في الجاهلية حول الكعبة بصوت الطيور، ربّما لأنّه خالٍ من أي مفهوم كصوت الطيور الذي لا محتوى فيه، أو أن كل ماكان يفعلونه ما هو إلّا مجرّد غناء.

وأمّا «التصدية» فمعناها التصفيق، وهو ضرب اليد على الاخرى والصوت الناتج من

______________________________

(1) هناك احتمال أنّ هذه الآية إشارة إلى قتل البنات اللاتي ينظر إليهن المجتمع باحتقار ويعدهن لوحدهن مخلوقات وضيعة مستهلكة ولكن الاحتمال هنا يشمل الأولاد أيضاً لوجود ضمير جمع المذكر ولقوله تعالى «إن قتلهم كان خِطأً كبيراً) ويعود هذا الضمير إلى الأولاد في صدر الآية التي نزلت إمّا بخصوص الأولاد فحسب أو الأولاد والبنات على

أقل تقدير وقد استخدم ضمير الجمع للمذكر لتغليب الذكور على الإناث.

(2) نهج البلاغة، الخطبة 26.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 34

ذلك يسمى تصدية، وعلى هذا الأساس سمي تردد الصوت بين الجبال بالصدى ولم ينتهوا إلى هذا الحد بل كانوا يطوفون عراة كما ولدتهم امهاتهم حول الكعبة، وهذا ما اشير إليه عندما نزلت سورة براءة وقام بإبلاغها أمير المؤمنين علي عليه السلام في شهر ذي الحجة بقوله: «لا يطوفَنَّ بالبيت عُريانٌ ولا يحُجنَّ البيتَ مشركٌ ...» «1».

ويقال: إنّ السبب من طوافهم عراة أنّ مجموعة من العرب يُسمّون أنفسهم (حُمس) «2» يعتقدون بأنّ طوافهم حول الكعبة يجب أن يكون بلباس خاص، ومن لم يملك ذلك اللباس ويطوف بملابسه المعتادة فعليه أن يرميها بعيداً بعد انتهاء الطواف ولا يحق له وللآخرين استخدامها ولذلك يطلقون على هذه الألبسة (اللَقاء)، أي ما يُلقى من الثياب، وإذا اخذ بنظر الاعتبار أنّ أكثر الناس كان يسودهم فقر مدقع ولا يملكون إلّالباساً واحداً فيضطرون لخلعه من أجل الاحتفاظ به ويطوفون عراة حول الكعبة.

وقد استفاد أصحاب الشهوات أحياناً من هذه الخرافة ليتمتّعوا بالنظر إلى الشباب من الرجال والنساء عندما يعرضون أجسادهم عارية «3».

ويذكر ابن هشام أنّ الرجال كانوا عراة تماماً. أمّا النساء فكنَّ يخلعن كل ملابسهن ما عدا ثوباً مشقوق الذيال يبدي أجسامهن ثم ينشغلن بالطواف، وذات يوم طافت امرأة في تلك الهيئة أمام أعين رجال شرهة فأنشأت هذا الشعر الذي حفظه لنا التاريخ:

اليَومَ يَبدُو بَعضُهُ أَو كُلُّهُ فما بَدا مِنهُ فَلا أحِلُّهُ «4»

أمّا القرابين التي يقدمونها إلى الأصنام فلها قصةٌ مفصلةٌ، فمن جملة ذلك أنّ الناس في (دومة الجندل) «5» كانوا يقدمون شخصاً في كل سنة قُرباناً إلى الآلهة مع مراسم خاصة ثم يدفنون جسده

المدمى قرب المذبح، حتى كتب بعضهم: ا نّ المصريين كانوا يقدمون أجمل

______________________________

(1) تفسير مجمع البيان، ج 5، ص 3، في ذيل الآيات الاولى لسورة البقرة.

(2) «حُمس» على وزن «خُمس» جمع «أحمس» وهو من تعصب لدينهِ، ولأنّ قريش كانت توطد عقيدةالشرك لذلك وصفوا أنفسهم بال (حُمس).

(3) الإسلام والعقائد والآراء البشرية، ص 288.

(4) سيرة ابن هشام، ج 1، ص 215.

(5) منطقة في شمال غربي (نجد) في قمة جبال الجزيرة العربية، وهناك كانت قصة وقوع التحكيم بصفين.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 35

الشباب والشابات قرابين إلى (آلهة النيل)، وقد بقي ذلك التقليد عُرفاً اجتماعياً لبعض قبائل العرب فينذر الآباء أبناءهم أحياناً قرابين إلى الآلهة أيضاً «1».

4- الخرافات الاخرى لعربِ الجاهلية

ومن جملتها مسألة اللحوم المحللة والمحرمة والقوانين المخزية الفارغة التي كانوا يسنونها لأنفسهم كما ذكر ذلك القرآن الكريم: «وَقَالُوا هَذِهِ انْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَّايَطعَمُهَا الَّا مَنْ نَّشاءُ بِزَعمِهِم وَانعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا». (الأنعام/ 138)

ويقول في الآية التي بعدها: «وَقَالُوا مَا فِى بُطُونِ هذِهِ الانعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلَى ازوَاجِنَا وَانْ يَكُنْ مَّيْتَةً فَهُم فِيهِ شُرَكَاءُ». (الأنعام/ 139)

وقد وعَد القرآن أصحاب تلك البِدع القبيحة التي ابتدعوها بالخسران كما ورد في ذيل هذه الآيات من قوله تعالى «قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا اولَادَهُم سفَهًا بِغَيرِ عِلمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَد ضَلُّوا وَمَاكَانُوا مُهتَدِينَ». (الأنعام/ 140)

حتى أنّهم قد حرَّموا بعض السنن الباقية من الأنبياء عليهم السلام وأصبحت غير مؤثرة مثل سُنة تحريم القتال في الاشهر الحرم (ذي القعدة، ذي الحجة، محرم، رجب) حيث كان ذلك المعتقد عاملًا مهماً في منعهم عن سفك وإراقة دمائهم، لكن تلك السُنة الخرافية (النسي ء) كانت تبطل تأثيرها، فمتى ما أرادوا تجاوز حرمة هذه الأشهر الحُرم، قالوا لا مانعَ من جعل

شهر آخر مكان هذا الشهر، فعابَ عليهم القرآن هذا العمل السي ء بقوله تعالى «انَّمَا النَّسِى ءُ زِيادَةٌ فىِ الكُفرِ». (التوبة/ 37)

إنّ الحج وزيارة بيت اللَّهِ الحرام التي كانت من سنن إبراهيم عليه السلام ودافعاً إلى الوحدة والتقرب إلى اللَّه سبحانه، قد تلوث بخرافاتهم ولم تصبح سبباً وعاملًا للابتعاد عن اللَّه سبحانه فحسب بل وللتفرقة والتشتت بين الناس، لأنّ التعصب للقومية والشرك وعبادة الأصنام كانت سائدة عليها.

______________________________

(1) الإسلام وعقائد وآراء البشر، ص 278.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 36

5- شيوع الفساد الأخلاقي

لقد بلغ الفساد الأخلاقي أعلى درجاته عند عرب الجاهلية فقد كانت تحكمهم عداوات شديدة وأحقاد موروثة من السلف إلى الخلف، لم تقتل الأخلاق فحسب بل إنّ كل شي ء في المجتمع ذهب ضحية لهذه العداوات وقد بيّن القرآن الكريم ذلك للعرب الذين مَنَّ اللَّهُ وتعالى عليهم بالإسلام بقوله: «وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَليَكُم اذْ كُنْتُم اعدَاءً فَالَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُم فاصبَحْتُم بِنِعمَتِهِ اخوَاناً وَكُنْتُم عَلى شَفَا حُفرَةٍ مِنَ النَّارِ فَانقَذَكُم مِّنهَا». (آل عمران/ 103)

و «الشفا»: كما جاء في «مقاييس اللغة» هي الإشراف والتسلُّط على الشي ء و (الشفا) هنا يطلق على الأشياء التي يشرف الإنسانُ عليها، مثل الإشراف على جوانب الحفرة أو حافة الوادي أو حافة النهر، وكذلك (شفة) الإنسان على جانبي فمه ويُطلق أيضاً على تحسن صحة المريض لأنّه يتسلط ويتغلب على المرض.

وعلى أيّة حال فقد شبَّه القرآن الكريم حياة عرب الجاهلية بمن يقف على شفا حفرة من النار ليسقط فيها بسهولة، نار تحرق كل شي ء وتحوله إلى رماد.

كانت العداوة والنفاق والاختلافات مطبوعةً في نفوسهم وحاكمةً عليهم بحيث صرح القرآن الكريم لنبيّ الإسلام محمد صلى الله عليه و آله: إنّ من المستحيل القضاء على هذه الاختلافات بالطرق العادية وإيجاد الاتحاد والوحدة بينهم إلّابمعجزة

إلهيّة، وقد حصل ذلك على يد الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله بإذن اللَّه: «لَو انفَقتَ مَا فِى الأَرضِ جَمِيعاً مَّاأَلَّفتَ بَينَ قُلُوبِهِم وَلَكنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَينَهُم». (الانفال/ 63)

إنَّ معاقرة الخمر واللعب بالميسر والأزلام كانت متفشية بحيث كان من الصعب القضاء عليها بمرحلة واحدة، لذلك جاء أمر تَحريم الخمر على عدّة مراحل «1».

كما أنّ أحد أكبر المفاسد الأخلاقية والاجتماعية هو مسألة (حقوق المرأة) في مجتمع عرب الجاهلية، فقد وصلت إلى الحد الذي يتفق مع ما قاله بعض المفسرين: إنّه عندما تحين ولادة المرأة في العصر الجاهلي تحفر حفرة وتجلس على شفتها فإن كان المولود بنتاً

______________________________

(1) والتفصيل في ذلك جاء في التفسير الامثل ذيل الآية 90 من سورة المائدة.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 37

قذفته فيها، وإذا كان ولداً عصمته منها. وقد قال أحد شعرائهم بهذا الصدد مفتخراً:

سَميتُها إِذْ وُلدت تَموتُ والقبرُ صِهرٌ ضامنٌ ذمِّيتُ «1»

إنّ هذا العمل سواء كان بدافع الفقر المدقع والاعتقاد بعدم الفائدة الاقتصادية للبنات أو بدليل التعصب المفرط ضدهن لتفادي وقوعهن في الحروب أسيرات بيد الأعداء فهو أفضع وأوحش عادات عصر عرب الجاهلية.

وقد عاب القرآن هذه الاعتقادات مراراً بقوله تعالى «وَاذَا بُشِّرَ احدُهُم بِالانثَى ظَلَّ وَجهُهُ مُسوَدّاً وَهُوَ كَظيمٌ* يَتَوَارَى مِنَ القَومِ مِن سُوءِ مَابُشِّرَ بِهِ ايُمسِكُهُ عَلَى هُونٍ امْ يَدُسُّهُ فِى التُّرابِ الَا سَاءَ مَايَحكُمُونَ». (النحل/ 58- 59)

إنّ هذا العمل نوع من أنواع التعصب الأعمى لحفظ الشرف وقد جرهم لاقتراف أفضع الجرائم: (قتل الإنسان لطفله المسالم) وهو دليل واضحٌ على أعظم حالات الجهل وسقوط الأخلاق وانعدام العواطف الإنسانية والاستهانة بمنزلة المرأة في ذلك المجتمع الجاهلي وتعبير «أَيُمسِكُهُ عَلَى هُونٍ» يشير إلى أنّ وجود البنت يعدّ عاراً عندهم إلى الحد الذي يهرب من

قومه وقبيلته تخلصاً من عارها، غافلًا عن أنّ مسألة عدم وجود بنت تعني عدم وجود امهات، وإذا انعدمت الامهات انعدم وجودهم أيضاً، يقول أحد شعرائهم في هذا الصدد:

لكل أبي بنت يُراعي شؤونهاثلاثةُ أصهارٍ إذا حُمِدَ الصهرُ

فبعلٌ يُراعيها وخِدرٌ يُكنّهاوقَبرٌ يُواريها وخيرُهُم القَبرُ «2»

طفولة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله:

لا يوجد بحث كثير في القرآن الكريم عن طفولةِ الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله إلّاسورة الضحى حيث نقرأ فيها: «أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَائِلًا فاغنَى .

(الضحى/ 7- 8)

______________________________

(1) تفسير مجمع البيان، ج 10، ص 444.

(2) تفسير القرطبي، ج 6، ص 3734. نفحات القرآن، ج 8، ص: 38

في الآية الاولى إشارة إلى يُتمِ الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله حيث جاء في التاريخ أيضاً أن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله عندما كان في بطن امه توفي والدهُ (عبد اللَّه)، وفي السنة السادسة من عُمرهِ الشريف توفيت والدتُهُ فتكفّله جدُهُ (عبد المطلب).

وفي السنة الثامنة من عمرهِ توفي جدُّهُ، فاحتضنه عمُّهُ (أبو طالب) وآثرهُ على أولادهِ ونفسهِ.

وفي الآية الثالثة إشارة واضحة إلى فقر الرسول صلى الله عليه و آله في بداية عمره الشريف فمنَّ اللَّه سبحانه وتعالى عليه بإلقاء محبته في قلب خديجة عليها السلام فتزوج منها واغدقت عليه ثروتها واعانته على حياته ودعوته.

وأمّا في الآية الثانية فيقول تعالى «وَوَجَدَكَ ضَالًا فَهَدَى وفسّرهُ أحد المفسرين بمعنى عدم معرفة الحق.

وقال آخرون: إنّ مفهوم الآية هو أنّك كنت ضالًا لا تعرف الحق ونحن هديناك إليه.

وقال بعضهم: إنّ المراد بكلمة «ضالًا» هو (غافل) عن الأحكام والكتب السماوية، ولكن بعضهم يذهب إلى الضلالة الظاهرية في الطفولة حيث ضاع الرسول صلى الله عليه و آله مرة أو مرات عديدة عند

أبواب مكة أو في أماكن اخرى واللَّه سبحانه هداهُ إلى أحضان مملوءة بالمحبّة فأرجعه إلى أحضان (عبد المطلب) و (أبي طالب) و (حليمة السعدية) التي كانت امُهُ في الرضاعة.

وقد بيّنا شرح هذه الآية في المجلد السابع من رسالة القرآن في بحث تنزيه الأنبياء، وفي التفسير الأمثل في ذيل هذه الآية آراء مختلفة وأفضل التفاسير هو ما ذكر أعلاه.

وعلى أيّة حال فإنّ هذه الآيات تُبيّن مراحل طفولة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله.

ومن أبرز خصائص الرسول صلى الله عليه و آله في هذه المرحلة أنّه لم يتعلم القراءة والكتابة عند استاذٍ قط، ولربّما يبدو لأول وهلة أنّه نقص ما، ولكنه من النقاط المهمّة والقوية في شخصية الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله، لأنّه عندما جاء القرآن الكريم بعباراته ومعارفه الراقية لم يشك أحد في كون القرآن منزل من اللَّه سبحانه من نتاج فكر إنسان امي.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 39

وقد أكدت سورة العنكبوت هذا المفهوم بقوله تعالى «وَمَاكُنتَ تَتلُوا مِن قَبلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمينِكَ اذاً لّارتَابَ المُبطِلُونَ» (العنكبوت/ 48)

لاشك أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله لو درس على يدي استاذ ما في تلك البيئة التي يُعد عدد المتعلمين فيها قليل جدّاً لكان من المستحيل عليه أن يأتي بمثل هذا القول الجلي، ولجابهه بعض الأفراد المطلعين على مجريات الأحداث بهذه الحجّة القوية متهمين إيّاه بالكذب والافتراء.

وحتى لو كان الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله يعرف القراءة والكتابة فإنّ من المسلّمات أيضاً أنّ هذا القرآن لا يمكن أن يأتي به عقل بشري، فعدم معرفة الرسول القراءة والكتابة دليل قاطع على هذا المعنى

وفي آيتين من القرآن الكريم جاء تصريح واضح أيضاً: «الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ

الرَّسُولَ النَّبِيَّ الامِّيَّ» و «فآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الامِّيِّ». (الأعراف/ 157- 158)

وفي آية اخرى ضمنت ذلك المعنى بقوله تعالى «هُوَ الَّذِى بَعَثَ فِى الامّيّينَ رَسُولًا مِّنهُم». (الجُمعة/ 2)

ونحن نعرف أنّ أشهر تفسير لكلمة «أُميّ» هو من لا يقرأ ولا يكتب وحاله كحال الذي يخرج من بطن أُمه لم ير استاذاً ولا مدرسة.

وفسّر البعض كلمة «أُميّ» بأنّه من قام من بين الامة والنّاس لا من بين الطغاة والجبابرة.

وبعضهم يذهب إلى أنّه من وُلد في مكة المكرمة لأنّ أحد أسمائها (أم القُرى أو من قام من مكة، وتخلتف الروايات بهذا الصدد ولكن لا مانع في ذلك لو احتملنا أنّ كلمة «أُميّ» تتضمن معنى المفاهيم الثلاثة (لا يقرأ ولا يكتب)، وقام من بين الأمة، وولد في منطقة مكة.

وقد حاول بعض المستشرقين المخالفين أن يسلبوا هذه الخصيصة من الرسول صلى الله عليه و آله حيث زعموا أنّه كان رجلًا غير (أمي)، ولو أنّه كان كما يدعون فكيف خفي ذلك على بيئة لا يمكن أَن يخفى فيها شي ء على أحد، بل إنّها ليس لها القدرة على انكار ذلك.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 40

بداية مرحلة البعثة النبوية:

ما تقدم يمثل لمحات مختصرة من القرآن الكريم حول حياة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله قبل البعثة الشريفة، والآن جاء دور البحوث المفصلة حول البعثة النبوية.

فقد أشار القرآن الكريم إشارات مختلفة حول بعثة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله ومن جملتها الآيات الخمس التي جاءت في أول سورة العلق، التي اتفق المفسرون على أنّ نزولها في بداية «1» الوحي وبعثة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله حيث قال عز من قائل: «اقْرَأ بِاسمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الانَسانَ مِن عَلَقٍ* اقْرَأ وَرَبُّكَ الاكرَمُ* الَّذِى

عَلَّمَ بِالقَلَمِ* عَلَّمَ الانسَانَ مَالَمْ يَعْلَمْ» وكما هو المشهور فإنّ هذه الآيات نزلت على النبي الأكرم صلى الله عليه و آله في غار حراء.

أجل، إنّ اللَّه سبحانه وتعالى ذو القدرة هو الذي أنزل إليك كتاباً سماوياً عظيماً يحمل بين دفتيه أسمى العلوم والمعارف الجليلة والقوانين والدروس التربوية بوسائل بسيطة كالحروف الهجائية، وأكد مرة اخرى على ضرورة تعلم القراءة باسم الخالق العظيم، واضافة إلى مسألة القراءة أشار إلى تعلم الكتابة وإلى أنّ اللَّه سبحانه هو المعلم، اللَّه معلم البشر الأول الذي «عَلَّمَ الانَسانَ مَالَمْ يَعْلَم» فكانت طرق التعليم على ثلاثة أقسام: (قسم خلقها على هيئة علوم فطرية في وجودها مع الإنسان في الفطرة، وقسم آخر يعتمد العقل والتدبر والتفكير في عالم الخلق، والقسم الثالث عن طريق الأنبياء).

إنّ هذه الآيات القرآنية تدل على أنّ البعثة بدأت في جو مفعمٍ بالمعنوية ومملوء بنور العلم والمعرفة «2».

فثقل الوحي من جهة وثقل الرسالة التي أُلقيت على عاتق الرسول صلى الله عليه و آله من جهة اخرى والمستقبل المُرعب في المجابهة المحتومة مع المشركين المعاندين المتعصبين من جهة

______________________________

(1) أورد بعض المفسرين ومن بينهم القرطبي قولًا ضعيفاً هو إنّ أول آية نزلت على الرسول صلى الله عليه و آله هي آيات، سورةالحمد، أو المدثر، ولكن وفقاً لما ورد في تفسير روح البيان، إذا كان هناك خلاف ففي سورة العلق كلها ولا يوجد هناك خلاف على الآيات الخمس الأوائل منها بكونها أول آيات نزلت، ج 10، ص 470.

(2) في الآيات 164 من سورة آل عمران والآية 2 من سورة الجمعة أيضاً إشارات إلى أصل البعثة ولم تذكر الآيات الاولى التي نزلت.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 41

ثالثة، كانت سبباً في شعور النبي صلى الله عليه

و آله بالتعب الشديد بعد نزول الوحي عليه أول مرةٍ، فرجع إلى بيته ونام على فراشه وإذا بصوت الوحي يقرع مسامعه للمرة الثانية بقوله تعالى «يَاايُّهَا المُدَّثِّرُ* قُمْ فَأَنذِرْ* وَرَبَّكَ فَكَبِّر». (المدثر/ 1- 3)

وهناك أقوال كثيرة حول سبب نزول هذه الآية عند المفسرين.

فبعضهم يقول: إنّها تتعلق بزمان تجمع فيه المشركون العرب في موسم الحج، وتشاوروا لمجابهة الرسول صلى الله عليه و آله.

وقد جاء في روايات متعددة أنّ الآيات الاولى من سورة العلق- على أقل تقدير- نزلت بعد حادثة غار حراء وبعثة الرسول صلى الله عليه و آله والآيات الباقية لها تتعلق بالسنوات التالية «1».

وتشابه هذه الآيات، الآيات الاولى من سورة المزّمل التي أشارت أيضاً إلى أنّ الرسول صلى الله عليه و آله تدثر بردائه ونام في فراشه فنزل قوله تعالى «يَاايُّهَا المُزَّمِّلُ* قُمِ الَّليلَ إِلَّا قَلِيلًا* نِّصفَهُ اوِ انقُصْ مِنهُ قَليِلًا* او زِدْ عَلَيهِ وَرَتِّلِ القُرآنَ تَرتِيلًا* انَّا سَنُلقِى عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا».

واسلوب هذه الآيات يدلل على أنّها نزلت في أوائل الدعوة الإسلامية لأنّ إلقاء القول الثقيل يشير إلى القرآن المجيد الذي نزل على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في زمان كان عدد المؤمنين فيه قليلًا، فاضطر صلى الله عليه و آله إلى جمع المؤمنين ليلًا وبعيداً عن أنظار الأعداء ليقرأ عليهم الآيات القرآنية التي كانت تحتوي على المعارف والقوانين الإسلامية.

وطبيعي أنّ قسماً من آيات هذه السورة قد نزلت في السنوات التالية، بل وهناك احتمال أنّ الآية الطويلة الواقعة في آخر السورة والتي جاء فيها حثٌ على الجهاد في سبيل اللَّه سُبحانه قد نزلت في المدينة أواخر المرحلة المكية (لأنّ فيها أخباراً عن المستقبل القريب).

وعلى أيّة حال فليس هناك سبب يمنع نزول الآيات الاولى

من السورة في بداية الدعوة

______________________________

(1) فسّر المفسرون كلمة (المدثر) على خمسة تفاسير، وردت في التفسير الامثل، ذيل هذه الآيات وأكثر الجميع ملاءمة هو أنّ الرسول صلى الله عليه و آله) كان مضطرباً فنام في فراشه ونزلت تلكم الآيات.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 42

وبالأخص أنّ كثيراً من المفسرين قد أشاروا إلى ذلك.

ومن المعروف أنّ دعوة الرسول صلى الله عليه و آله كانت سرية في بداية البعثة ولم يتصل ويدع إلى الإسلام إلّاالخواص الذين كان يطمئن باستعدادهم النسبي لتلبية دعوته، وفي هذه المدّة آمنت به عدّة معدودة.

قصة يوم الدار:

وفي السنة الثالثة للبعثة أمر اللَّه سبحانه رسوله الكريم صلى الله عليه و آله أن يعلن الدعوة الإسلامية فنزلت الآية الكريمة: «وَانذِرْ عَشِيرَتَكَ الاقرَبِينَ». (الشعراء/ 214)

وفي ا لآية: «فَاصدَعْ بِمَا تُؤمَرْ وَاعرِضْ عَنِ المُشرِكِينَ». (الحجر/ 94)

فأعلن الرسول صلى الله عليه و آله دعوته مبتدئاً بالأقربين من عشيرته، وهذه القصة معروفة، وقد بيّناها في القسم السابق.

وفي هذه الأثناء تعرض الرسول صلى الله عليه و آله إلى ضغوط متنوعة، وتحرك الأعداء ضده من كل حدبٍ وصوبٍ.

والجدير بالذكر أن تحرك الأعداء ضد الرسول صلى الله عليه و آله كان على عدّة مراحل واشكال مختلفة (ويظهر أنّ هذه المراحل كانت موجودة في جميع الدعوات الإلهيّة).

المرحلة الاولى كانت مرحلة الاستهزاء وهي أول المراحل في زمان لم ينظر فيه المشركون بشكل جدي إلى الدين الجديد، ولم يحسوا بخطره الحقيقي، بل تصوروا أنّ السخرية والاستهزاء سينهيان الأمر سريعاً ولا يحتاج إلى أكثر من ذلك، وقد جاء تعبير عن تلك المرحلة بقوله تعالى «وَاذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا انْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً اهَذَا الَّذِى يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بَذِكْرِ الرَّحَمنِ هُمْ كَافِرُونَ» «1». (الانبياء/ 36)

ولم تنحصر السخرية والاستهزاء بنبيّ الإسلام صلى

الله عليه و آله بل تعرض لها جميع الأنبياء

______________________________

(1) وجاء مثل هذه المعنى في الآية 41 من سورة الفرقان «وَإِذَا رَأَوْكَ ان يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولًا».

نفحات القرآن، ج 8، ص: 43

السابقين: «وَمَا يَأْتِيهِمْ مِّن رَّسُولٍ الَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ». (الحجر/ 11)

ولما رأى المشركون أنّ السخرية والاستهزاء لم تؤثرا شيئاً وأنّ الإسلام ما زال يواصل تقدمه دون تلكؤ، انتقلوا إلى المرحلة الثانية:

لقد تصور المشركون أنّهم سيخرجون الرسول صلى الله عليه و آله من ميدان الصراع بإلصاق التهم به كالجنون او (السحر)، أو (الشِعر)، أو أنّ ما جاء به قد تعلمه على يد هذا أو ذاك أو أنّه منقول من أساطير الأولين.

فمرة يقولون: «يَاايُّها الَّذِى نُزِّلَ عَلَيهِ الذِّكرُ انَّكَ لَمَجنُونٌ». (الحجر/ 6)

واخرى يقول بعضهم للآخر: «ائِنّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنا لِشَاعِرٍ مَّجنُونٍ». (الصافات/ 36)

وأحياناً يقولون: «هَذَا سِحْرٌ وَانَّا بِهِ كَافِرُونَ». (الزخرف/ 30)

وأضاف القرآن الكريم: إنّه ليس مشركو العرب لوحدهم ألصقوا تلك التُهم بالرسول صلى الله عليه و آله فحسب بل إنّ هذه التهم قد عانى منها كل الأنبياء: على مر التأريخ: «كَذَلِكَ مَا اتَى الَّذِينَ مِن قَبلِهِمْ مِّن رَّسُولٍ الَّا قَالُوا سَاحِرٌ اوْ مَجنُونٌ». (الذاريات/ 52)

وفي مكان آخر نقرأ قوله تعالى «وَلَقَدْ نَعلَمُ انّهُم يَقُولُونَ انَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِى يُلحِدُونَ الَيهِ اعْجَمىٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبىٌّ مُّبينٌ» «1». (النحل/ 103)

وأحياناً يقولون: «وَقَالُوا اسَاطِيرُ الأَوِّلِينَ اكتَتَبَها فَهِى تُمْلَى عَلَيهِ بُكرَةً وَاصِيلًا». (الفرقان/ 5)

و «اساطير»: جمع (اسطورة) ومعناها القصص الخيالية التي لا صحة لها، وبهذا الاسلوب ألصقوا أنواع التهم وكل ما يختمر في أذهانهم بالرسول صلى الله عليه و آله ولكن لم يؤثر أيّ منها، وأخذ الإسلام يشق طريقه بسرعة بين الطبقات المختلفة.

المرحلة الثالثة: بدأت المرحلة الثالثة بضغوط

مختلفة: اجتماعية وسياسية ولأنّهم أدركوا مدى خطورة الإسلام عليهم سعوا إلى القضاء على الرسول صلى الله عليه و آله والمجموعة القليلة التي آمنت به من هذا الطريق.

______________________________

(1) جاء في التفاسير أن رجلًا يدعى (بلعام) كان في مكة وأصله عبد رومي لبني حضرم وكان المشركون يقولون: إنّ محمداً صلى الله عليه و آله تعلم القرآن منه، وقال بعضهم: إنّ كلامه إنّما نقله من عبدين نصرانيين أحدهما يسار والآخر جبر أو ذكروا اسم سلمان الفارسي، ولم تكن لغة أي منهم العربية بينما يعد القرآن معجزة في الفصاحة والبلاغة.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 44

وقصة (شِعب أبي طالب) معروفة إذ تمّ فيها محاصرة المسلمين في ذلك الوادي المقفر لمدة ثلاث سنوات خلال السنة السادسة للبعثة حيث انتهت بموت اطفالهم وحتى بعض كبار السن.

وكذلك قصة الهجرة إلى الحبشة خلال السنة الخامسة للبعثة معروفة أيضاً على أثر تعرُّض المسلمين لضغوط شديدة وتعذيب المشركين لهم.

والعجيب أنّه لم يتعرض المسلمون وحدهم لهذه الضغوط فحسب، بل جاء في التاريخ أنّهم عقدوا معاهدة على مقاطعة كل بني هاشم وبني عبد المطلب سواء من أسلم منهم أم لم يسلم فلا يتزوجون منهم ولا يزوجونهم، وأن لا يشتروا منهم ولا يبيعوهم شيئاً حتى يزداد الضغط على المسلمين.

مع العلم أننا لا نرى في الآيات القرآنية إشارات واضحة حول هذه المسألة ولكن ممّا كان يتواصى به المشركون والكفار والمنافقون مع بعضهم في المدينة نستطيع أن نعرف وضع مكة: «هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَاتُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا».

(المنافقون/ 7)

إنَّ هذه الضغوط لم تجدِ نفعاً أيضاً، بل ازداد تعاطف الناس شيئاً فشيئاً مع المسلمين وصار الإسلام أنشودة على كل لسان، حيث إنّ المسلمين اكتسبوا مظلومية تأثرت بها عواطف مجاميع عظيمة فانجذبوا

إليهم.

وأخذت مواجهات الأعداء شكلًا أكثر حدة في:

المرحلة الرابعة: وفيها صمموا على قتل الرسول صلى الله عليه و آله وإراقة دمهِ ليتخلصوا منه إلى الأبد أو أن يبعدوه عن مكة على اقل تقدير، ففي (دار الندوة) محل اجتماعهم ومركز مشاوراتهم، اجتمعوا ووضعوا خطة شيطانية دقيقة للوصول إلى أهدافهم تلك كما يقول القرآن: «وَاذْ يَمكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا ليُثبِتُوكَ او يَقْتُلُوكَ او يُخرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ». (الانفال/ 30)

وكما نعلم أنّ اللَّه سبحانه وتعالى قد أبطل كل خططهم الشيطانية ونجا الرسول

نفحات القرآن، ج 8، ص: 45

الكريم صلى الله عليه و آله من سيوف الأعداء حيث هاجر إلى المدينة تلك الهجرة الكبيرة التي تركت آثاراً عظيمة وتحولًا كبيراً في تاريخ الإسلام وفي العالم أجمع.

ومرة أُخرى نتأمّل في القرآن حيث يُحدثنا بقوله تعالى «الَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ اذْ اخرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِىَ اثنَينِ اذْ هُمَا فِى الغَارِ اذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَاتَحْزَنْ انَّ اللَّهَ مَعَنَا فَانْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيهِ وَايَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفَلى وَكَلِمَةُ اللّهِ هىَ العُلْيا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ». (التوبة/ 40)

وبهذا الترتيب تخلص الرسول صلى الله عليه و آله من الأخطار المختلفة المحيطة به بلطفٍ من اللَّه سبحانه وبدأ هجرته المباركة بهدوء وسكينة ودخل الإسلام عندها مرحلة جديدة في حياته، وباء الأعداء بالفشل الذريع في هذه المرحلة أيضاً.

انتشر الإسلام في المدينة بسرعة فائقة وكثر اتباع الدين الإسلامي فشكل الرسول صلى الله عليه و آله الحكومة الإسلامية وصار للمسلمين جيش منظم وبيت للمال وكل ما تحتاجه الدولة آنذاك.

وفي مقابل توسع الإسلام وتثبيت أركانه احس الأعداء بخطر أكثر جدية فوسعوا مجابهتهم ودخلوا:

المرحلة الخامسة: وهي المواجهة المسلحة مع الإسلام، وبدأت الغزوات الإسلامية كغزوة (بدر

الكبرى و (الصغرى و (أحد) و (خيبر) و (حنين) و ..... واحدة تلو الاخرى وفي كل مرة- إلّافي مورد واحد- كان المسلمون يشهدون انتصارات ملفتة للنظر وكانوا في تقدم مستمر.

وقد أشار القرآن الكريم في كثير من الآيات إلى هذه المرحلة من حياة الرسول صلى الله عليه و آله حيث تعد من أكثر المرتكزات المهمّة في هذا المقطع من تاريخ الإسلام.

في الآية التالية إشارة اجمالية إلى هذه الغزوات بقوله تعالى «لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِى مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَينٍ». (التوبة/ 25)

فكلمة (مَواطِن) جمع (مَوْطِن) وتأتي أحياناً بمعنى وطن ومحل الإقامة الدائمية

نفحات القرآن، ج 8، ص: 46

وأحياناً بمعنى ساحة القتال ومن هنا جاءت «مواطن كثيرة» أي الساحات المتعددة للحروب الإسلامية حيث بلغ عدد هذه الغزوات ثمانين غزوة، لذا نقرأ في الحديث أنّه:

عندما نذر أحد خلفاء بني العباس أنّه إذا عافاه اللَّه سبحانه فإنّه يعطي مالًا كثيراً للفقهاء ولمّا تماثل للشفاء اجتمع الفقهاء حوله عاجزين عن تعيين مقدار (المال الكثير) إلّاأنَّ الإمام التاسع (محمد بن علي التقي عليه السلام فسّر ال (كثير) ب (ثمانين) (ربّما تكون ثمانين ألف درهم) لأن الآية السالفة الذكر قد اطلقت مواطن كثيرة على الغزوات الإسلامية البالغة ثمانين غزوة «1».

ثم جاء الفتح المبين و (فتح مكة) وحكم الإسلام شبه الجزيرة العربية بأجمعها وحطم المسلمون آخر معقل للأعداء.

ولكن العدو المهزوم لم يستسلم فقد اضطر إلى تشكيل جمعية سرية (وهم المنافقين الذين كانوا يتظاهرون بالإسلام وفي الخفاء كانوا منهمكين بأنواع المؤامرات ضده الدين الإسلامي).

وبهذا الاسلوب دخلوا:

المرحلة السادسة: (مرحلة نهاية الحرب مع الأعداء)، وبالطبع أنّ ظهور المنافقين بدأ مع أول انتصار للإسلام وتوسع في مقابله وما زال مستمراً إلى الآن.

وفي هذه المرحلة فقد باؤوا بالفشل الذريع أيضاً حيث كلما

أرادوا التآمر على الإسلام كشفهم اللَّه سبحانه وأبطل حيلهم ولم يبقَ منها سوى نارٍ خامدة تحت الرماد لم يظهر اشتعالها ثانيةً إلّابعد رحلة الرسول الكريم صلى الله عليه و آله.

نزلت آيات قرآنية كثيرة حول هذه المرحلة أيضاً تعد من مقاطع القرآن المهمّة في اسداء العبر والدروس، ففي سورة (الأحزاب)، و (التوبة)، و (المنافقون) بحوث حية ومجدية تحكي لنا عن عمق المؤامرات التي قام بها المنافقون ومن جملتها الآية الكريمة في قوله تعالى حيث ذكرت بحوثاً كثيرة حول هذه الجماعة ومخالفتهم وفتنتهم وتجسسهم،

______________________________

(1) تفسير نور الثقلين، ج 2، ص 197.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 47

قال تعالى «لَقَدِ ابتَغَوُا الفِتنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الامُورَ حَتَّى جَاءَ الحَقُّ وَظَهَرَ امرُ اللَّهِ وَهُم كَارِهُونَ». (التوبة/ 48)

إنّ هذه المراحل الست السالفة الذكر لم تكن في مقابل الثورة الإسلامية للرسول الكريم وحده صلى الله عليه و آله فحسب بل في مقابل كل الثورات الإلهيّة وهي بدورها موضوع لقصة مفصلة نتعلم منها الكثير.

ولكن لم يفلح الأعداء بكل مساعيهم للاطاحة بالإسلام وظلت شجرته زاهيةً مثمرةً حيث غطّت باغصانها واوراقها كل أصقاع شبه الجزيرة العربية كما دلت الآية الكريمة «اذَا جَاءَ نَصْرُ اللّهِ وَالفَتْحُ* وَرَأيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِى دينِ اللَّهِ افْوَاجاً». (النصر/ 1- 2)

الأشهر الأخيرة من حياة الرسول صلى الله عليه و آله:

إنَّ السنة الأخيرة من حياة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله هي السنة التي كانت فيها (حجة الوداع) ونزلت بها آخر سورة من سور القرآن يعني سورة (المائدة)، ومع نزول آخر رسالة للوحي على الرسول صلى الله عليه و آله أمر اللَّه سبحانه وتعالى نبيه الكريم صلى الله عليه و آله أن يعين أمير المؤمنين علياً عليه السلام وصياً له وخليفة من بعده كما في قوله تعالى «يَاايُّهَا الرَّسُولُ

بَلِّغْ مَا انْزِلَ الَيكَ مِن رَّبِّكَ وَانْ لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ انَّ اللَّهَ لايَهْدِى القَوْمَ الكَافِرِينَ».

(المائدة/ 67)

وفي (غدير خُم) ذلك المعبر الكبير الذي كان مُفتَرقَ طرق للمجاميع التي جاءت مع الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله في (حجة الوداع) وأمام الجمع الكبير أدّى الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله حق الرسالة بإظهار هذا الأمر «1».

وحلت الحادثة الكبيرة المؤلمة وهي رحيل الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله من الدنيا في وقت كان الإسلام ثابت الأركان من جميع النواحي. وله أرضية مهيأة للانتشار في جميع أنحاء العالم.

ولذا فقد كانت توقعات الأعداء هي ذهاب الإسلام مع رحلة الرسول صلى الله عليه و آله ولكن خابت

______________________________

(1) ويمكن مراجعة تفصيل ذلك في التفسير الأمثل، ذيل الآية مورد البحث.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 48

ظنونهم وذهبت أدراج الرياح: «وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الخُلْدَ أَفَايْن مِّتَّ فَهُمُ الخَالِدُونَ». (الأنبياء/ 34)

وقوله تعالى «انَّكَ مَيِّتٌ وَانَّهُم مَّيِّتُونَ». (الزمر/ 30)

وقال: «كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوتِ». (الأنبياء/ 35)

إنّ هذا القانون شامل وعام لعالم الخلقةِ أجمع: «وَخَسِرَ هُنالِكَ المُبطِلُون». (الغافر/ 78)

وتحقق وعداللَّه كما ورد في الآية: «يُرِيدُون انْ يُطفِؤا نُورَ اللَّهِ بِافوَاهِهِم وَيَأبَى اللَّهُ الَّا انْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَو كَرِهَ الكَافِرُونَ». (التوبة/ 32)

وهكذا فإنّ هذا النور الإلهي يتألقُ يوماً بعد يوم، وهو الآن يُنير افقاً واسعاً من آفاق البشرية، وفي كل سنة تتنور آفاق اخرى بنور الإسلام ليزيح الظلام والظُلم عن العالم أجمع.

كان هذا شرحاً مختصراً عن المراحل المختلفة لحياة الرسول صلى الله عليه و آله في القرآن المجيد، وشرح كل مرحلة منها يحتاج إلى كتاب خاصّ ومفصّل.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 49

الأدلة التي تثبتُ صدق دعوة رسول الإسلام

اشارة

الطريق الاول: اعجاز القرآن

الطريق الثاني: جمع القرائن

طريق آخر للاطمئنان

الطريق الثالث: البشارات والإشارات

نفحات القرآن، ج 8، ص: 51

الطريق الأول: اعجاز القرآن

تمهيد:

نفحات القرآن ج 8 99

بدون شك أنّ ادّعاء أيّ مدعٍ حول أي قضية لا يمكن قبوله إلّابالدليل المقنع، فكيف إذا كانت القضية غاية في الأهميّة مثل نبوّة الأنبياء والادّعاء بنزول الوحي والارتباط باللَّه سبحانه ودعوة الناس إلى اتباعهم؟!.

و على هذا فإنَّ أوّل المسائل التي نواجهها هي مسألة الأدلةُ على نبوة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله.

وإنَّ هذه الدلائل التي نعلم إجمالًا بتفرعها تقع تحت أربعة عناوين وهي:

1- المعجزات.

2- مضمون الدعوة.

3- أخبار الأنبياء الماضين والكتب السماوية السابقة.

4- القرائن المختلفة: من دراسة سوابق حياته واقربائه وأصحابه والوسائل المتخذة للوصول إلى الهدف، ومقدار تأثيره في المجتمع، ومقدار اعتقاده وايثاره في سبيل هدفه، والأخلاق والصفات الاخرى التي تشكل أرضية لمعرفة صدق ادعائه.

بعد هذه الإشارة المختصرة نعود إلى معجزات النبي صلى الله عليه و آله فنقوم ببحث ودراسة للقرآن الذي يعتبر أول وأفضل وأخلد معجزة للنبي صلى الله عليه و آله وقبل كل شي ء نقرأ منطق القرآن في وصف نفسه:

1- «قُل لَّئِنِ اجتَمَعَتِ الإِنسُ وَالجِنُّ عَلَى ان يَأْتُوا بِمِثلِ هَذَا القُرَآنِ لَايَأْتُونَ بِمِثلِهِ وَلَو

نفحات القرآن، ج 8، ص: 52

كانَ بَعضُهُم لبعضٍ ظَهِيراً». (الاسراء/ 88)

2- «أَمْ يَقُولُونَ افتَرَاهُ قُلْ فَأْتوُا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثلِهِ مُفَتَريَاتٍ وَادْعُوا مَنِ استَطَعتُمْ مِّنْ دُونِ اللَّهِ انْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ». (هود/ 13)

3- «وَانْ كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَائَكُمْ مِّنْ دُونِ اللَّهِ انْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ* فَانْ لَّمْ تَفعَلُوا وَلَنْ تَفعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ التَّى وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ اعِدَّتْ لِلكَافِرِينَ». (البقرة/ 23- 24)

4- «أمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّثلِهِ وادعُوا مَنِ استَطَعتُم مِّنْ دَونٍ اللَّهِ انْ كُنْتُم صَادِقِينَ». (يونس/ 38)

5-

«أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَّايُؤْمِنُونَ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثلِهِ انْ كَانُوا صَادِقِينَ».

(الطور/ 33- 34)

6- «قُلْ فَأْتُوا بِكَتابٍ مِّنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ اهدَى مِنْهمَا اتَّبِعْهُ انْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ* فِانْ لَّمْ يَستَجِيبُوا لَكَ فاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ اهوَاءَهُم وَمَن اضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ انَّ اللَّهَ لا يَهدِى القَومَ الظَّالِمِينَ». (القصص/ 49- 50)

7- «وَقَالُوا لَوْلَا انزِلَ عَليَهِ آيَاتٌ مِّنْ رَبِّهِ قُلْ انَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وانَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبينٌ* اوَلَمْ يَكْفِهِمْ انَّا انَزَلْنا عَليْكَ الكِتَابَ يُتلَى عَلَيِهمْ انَّ فِى ذَلِكَ لَرَحَمةً وذِكْرى لِقَومٍ يُؤْمِنُونَ». (العنكبوت/ 50- 51)

جمع الآيات وتفسيرها

في جميع الآيات السبع المذكورة ركّز القرآن الكريم على مسألة التحدي (الدعوة إلى المعارضة) التي هي من اركان الاعجاز، فتارة يقول بصراحة- وتارة اخرى بالدلالة الالتزامية-:

انَّ هذا الكتاب السماوي هو من عند اللَّه وإذا كنتم في شك وريب ممّانزلنا فاجمعوا كلَّ قواكم من أجل الإتيان بمثله أو بسورة منه، لأنّه إذا كان من نتاج فكر البشر فأنتم بشر أيضاً

نفحات القرآن، ج 8، ص: 53

ولديكم فكر وذكاء، وفي الواقع أنّ القرآن وبواسطة هذا المنطق العقلي الواضح أثبت اعجازه بصورة إجمالية.

إنَّ الآية الاولى تقف بوجه المعاندين قائلة: «قُلْ لَّئِنِ اجتَمَعَتِ الانسُ وَالجِنُّ عَلَى انْ يَأْتُوا بِمِثلِ هَذَا القُرآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثلِهِ وَلَو كانَ بَعَضُهُم لِبَعضٍ ظَهِيراً».

فهذه الآية تدعو من جهة أفراد البشر كافة دعوة عامة، ومن جهة اخرى فهي تدعو جميع أفراد البشر في عصرنا والعصور الآتية نظراً إلى خلود دعوة القرآن، ومن جهة ثالثة، وبملاحظة كلمة «اجتمعت»، وجملة «بَعضُهْم لِبعَضٍ ظَهِيراً» تبين أنّها دعوة للمشركين كافة للتعاون فيما بينهم وشحذ الهمم، وتوحيد أفكارهم في مجرى واحد من اجل المقابلة بالمثل، ومن جهة رابعة، فإنّ إثارة الخصم والتحرش به من أجل تأجيج

غيرته قد اتخذ أقوى أشكال التحدي، وحينما خاطبهم بكلام قاطع: «لايأتون بمثله»، فهو دليل قوي على ارتباطه الوثيق بعالم ما وراء الطبيعة.

إنّ هذا التحدي وهذا النداء كان موجهاً إلى أبناء البشر جميعاً في كل زمان ومكان، لأنّ دوافع أعداء الإسلام للقضاء عليه في عصر النبوة وفي كل عصر وزمان قائمة وقوية، ومن المُسلَّم أنّه لو كانت لديهم قدرة على ذلك لما تماهلوا عن ذلك، وتاريخ الإسلام وتاريخ كل العالم لم يذكر لنا بأنّ شخصاً أو جماعة قد أقدمت على هذا العمل، وهذا دليل على عجزهم وعدم قدرتهم، وفي النتيجة فهو دليل على عظمة واعجاز القرآن الكريم.

ويستفاد من هذه الآية أنّ الاجتماع وحده لا يؤثر في حل المشكلات مالم يكن بعضهم ظهيراً لبعض لحماية ومساعدة بعضهم للبعض الآخر وإسداء النصح لبعضهم الآخر.

كما نلفت الانظار إلى أنّ القرآن لا يكتفي في التحدي بالبلاغة وجمال البيان فقط، بل الشبه من جميع الجوانب الشاملة للمحتوى والمعارف والأحكام وكل شي ء، وهذا ما تؤكده كلمة (مثله) الواردة في الآية.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 54

في الآية الثانية يقلص القرآن تحديه عن الاتيان بمثله، ويطلب من الخصم أن يأتي بعشر سور وهو أقل من عشر كل القرآن قائلًا: «أَمْ يَقُولُونَ افتَرَاهُ قُلْ فَأْتوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثلِهِ مُفَتَرَياتٍ» ولم يكتف بهذا بل صرح: «وادعُوا مَنِ استَطَعُتم مِّن دُونِ اللَّه ان كُنُتم صَادِقِينَ».

وفي الآية الثالثة نرى أنّ التحدي القرآنى يصل إلى أقل من 1 خ قائلًا: «وَان كُنتُمْ فِى رَيبٍ مِّمَا نَزَّلنَا عَلَى عَبدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثلِهِ» ثم أضاف: «وَادعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إن كُنتُمْ صَادِقِينَ».

فمن الواضح أنّ المراد من: «شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّه» أنصارهم وكل من اعتقد اعتقادهم لأنهم هم الذين شهدوا لصالحهم

في رد وتكذيب رسالة النبي صلى الله عليه و آله. ومن الطبيعي أن يتعاونوا فيما بينهم ليأتوا بسورة واحدة مماثلة لسورة من القرآن وإلّا لو كان المراد من «شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّه» الإتيان بسورة تماثل سورة من القرآن لكان من المفروض مطالبة اللَّه بالشهادة قبل أي شخص آخر، ولذا فإنّ أول تفسير للآية نقله المرحوم الطبرسي في مجمع البيان عن ابن عباس هو: المراد منها الأعوان والأنصار، وأضاف: إنّه يطلق على الأعوان والأنصار: شهداء، لحضورهم وشهودهم حين التعاون.

وقدر رجح الفخر الرازي في تفسيره بعد ذكر معنيين للفظ الشهداء (أي: الأصنام، والأعوان، والأنصار) المعنى الثاني «1». وارتضى بعض المفسرين هذا المعنى أيضاً.

والسورة: تمثل جزءاً من آيات القرآن، تبدأ ب «بسم اللَّه ...».

وتختم قبل مجى ء «بسم اللَّه» جديدة في السورة التي تليها، ماعدا سورة واحدة وهي سورة التوبة أو سورة براءة.

وقيل: إنّ كلمة سورة مأخوذة من «سُور» وهو الجدار المحيط بالمدن، فكأنّما أعتُبرَ

______________________________

(1) تفسير الكبير، ج 2، ص 119.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 55

القرآن بمجموع آياته، دولة عظيمة واسعة، والسور القرآنية مُدن هذه الدولة العظيمة.

وبناءً على هذا الدليل نعتقد بوجود ترابط واتصال بين آيات السورة الواحدة، وإن لم يكن واضحاً في الظاهر أحياناً وهذا الارتباط نظير وجود نوع من الانسجام والارتباط بين البيوت والعمارات والشوارع لكل مدينة مع أنّ فيها المساجد والمدارس والأسواق والمناطق المأهولة بالسكان، كل كيان في موضعه المناسب.

ويستفاد من هذا المعنى أنّ السور كانت في وقت نزول القرآن على هذه الهيئة العالية بخلاف تصوُّر بعض الجّهال وإن كان بعض من الآيات النازلة أحياناً يُتخذ له مكان معين في سورة خاصة بأمر من النبي صلى الله عليه و آله.

وجملة: «من مثله» تتضمن معنى شي ء يكون على

شاكلة القرآن في كل أوصافه التي تشمل (الفصاحة) و (بلاغة الألفاظ) مع المحتويات والمعارف القيّمة «1».

والشاهد على هذا الكلام ما ورد في قوله تعالى «فَأتُوا بِسُورَةٍ مِثلِهِ». (يونس/ 38)

ونقرأ في قوله تعالى «فَلَيأتُوا بِحَديثٍ مِّثلِهِ». (الطور/ 34)

وعلى هذا الأساس يستبعد كثيراً احتمال عودة ضمير (مثله) إلى النبي صلى الله عليه و آله بأنّ يكون معناها: إذا كنتم مرتابين في أصل هذه الآيات السماوية فأعثروا على رجل مثل محمد صلى الله عليه و آله لم يكن قد درس على الاطلاق وأتوا بآيات تناظر الآيات التي أتى بها.

إنَّ هذا المعنى بعيدٌ وإن ذكرهُ جماعة من المفسرين إمّا على وجه الاحتمال أو على وجه القبول.

ويحتمل أيضاً اجتماع التعبيرين في هذا المعنى ويصير مفهومه بهذا الشكل: آتوا بسورة مثل سور القرآن من شخص لا يعرف القراءة والكتابة، كالنبي صلى الله عليه و آله.

والحديث الذي ورد في «تفسير البرهان» جمع هذين المعنيين في عبارة واحدة «2».

وعلى كل حال يقول عز من قائل في تعقيب هذه الآية: «فَإِنْ لَّم تَفعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فاتَّقُوا النّارَ الَّتي وَقُودُها النَّاسُ وَالحِجَارَةُ اُعدَّتْ لِلكَافِرِينَ».

______________________________

(1) وبناء على ذلك فإنّ (من) إمّا زائدة أو بيانية.

(2) تفسير البرهان، ج 1، ص 67. ح 1.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 56

وتضمنت الآية الرابعة أيضاً التحدي بالاتيان بسورة تشابه سور القرآن فيقول عز وجل:

«امْ يَقولُونَ افتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بسُورَةٍ مِّثلِهِ وادعُوا مَن استَطَعتُم مِّن دُونِ اللَّهِ ان كُنُتم صَادِقِينَ».

إنّ لفظة «سورة» تشمل السور الطوال والقصار في القرآن، والتعبير (بمثله) إشارة إلى مماثلته من جميع الجهات، وجملة: «وَادعُوا مَنِ استَطَعتُمْ مِّن دوُنِ اللَّهِ» شاملة لكل ما سوى اللَّه تعالى.

فعلى هذا الأساس إذا كان القرآن نتاج فكر بشري، فإنّ إنساناً آخر يستطيع أن يأتي

بمثله فضلًا عن أن يستعين أيضاً بأشخاص لا يحصون، وبالأخص مع كثرة وجود الفصحاء والبلغاء في أوساط العرب الجاهليين سابقاً.

ويستفاد ضمنياً من هذه الآية والآيات السابقة أنّ أفضل طريق للوصول إلى الأهداف المهمّة هو الاستفادة من الأطروحات المشتركة، وقد ذكر القرآن ذلك في الوقت الذي لم تكن مسألة الاجتماعات والمؤتمرات للوصول إلى حقائق المسائل المهمّة مطروحة على صعيد الواقع وحتى مساعي وجهود العلماء كانت تتخذ صبغة فردية وشخصية.

في الآية الخامسة ذكر هذا المعنى نفسه في قالب آخر، يقول عز من قائل: «امْ يَقولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَّايُؤمِنُونَ* فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثلِهِ إن كَانُوا صَادِقِينَ».

و «تَقَوَّلَ»: مأخوذة من لفظة (تَقُّول) بحسب ماورد عن المرحوم «الطبرسي» في مجمع البيان: هو بمعنى الكلام الذي يختلق ويفتعل بتكلف ومشقة، ويستعمل عادةً في الكذب والزور، لأنّه ليس من الواقع في شي ء ولايخلو من تكلف «1».

ويمكن الإشارة «بحديث مثله» إلى تمام القرآن أو بضع سور أو سورة واحدة، أو حتى أقل من ذلك لاطلاق كلمة (الحديث) على كل منها.

______________________________

(1) تفسير مجمع البيان، ج 9، ص 168.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 57

يقول الراغب في المفردات: كل كلام ينقل إلى الإنسان عن طريق السماع المباشر، أو الوحي، في اليقظة، أو في المنام، فهو يسمى بالحديث.

الآية السادسة من سورة القصص تطرقت إلى الحديث عن الإتيان بكتاب يشابه هذا الكتاب (القرآن)، يقول عز من قائل: «قُل فأتُوا بِكِتَابٍ مِّن عِندِ اللَّهِ هُوَ اهًدى مِنهُمَا اتَّبِعْهُ انْ كُنْتُم صَادِقِينَ».

ثم من أجل تعرية وفضح أساريرهم الملوثة، وبيان الاعجاز القرآني يعقب اللَّه تعالى بقوله: «فَانْ لَّمْ يستَجيبُوا لَكَ فَاعلَم أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ اهَواءَهُم».

أي: إذا عجز هؤلاء عن الإتيان بمثله فهو دليل على أنّ هذا الكتاب ليس وليد فكر البشر. وإلّا فليس هناك

مبرر لعجز الفصحاء والبلغاء الذين يعيشون بين ظهرانيهم مع كل جهودهم ومساعيهم التي بذلوها.

و لفظة (كتاب) تعني كل شي ء (مكتوب) و (مدوّن).

وبناءً على هذا فهو شامل لتمام القرآن ولاجزائه المختلفة أيضاً، خصوصاً إذا نظرنا إلى أنّ هذه الآية جاءت في سورة القصص، وقد نزلت في مكة، ومن المعلوم أنّ القرآن لم ينزل بتمامه في ذلك الزمان، فيتضح أنّه إضافة إلى كونه معجزة بأجمعه فإنّ أجزاءه المختلفة معجزة أيضاً.

وفي الآية السابعة والأخيرة من البحث جاء الردُّ على المحتجين فيقول تعالى على لسانهم: «وَقَالُوا لَولَا انزِلَ عَلَيهِ آيَاتٌ مِّن رَبِّهِ»، فيرد عليهم بقوله: «قُلْ انَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وانَّمَا أَنا نَذِيرٌ مّبِينٌ».

ثم يعقِّب على ذلك بقوله: «اوَلَمْ يَكْفِهِم أَنَّا انَزَلنَا عَليكَ الكِتَابَ يُتلَى عَليِهِم».

نفحات القرآن، ج 8، ص: 58

يعني لماذا يطلب هؤلاء معجزات اخرى على الرغم من وجود هذه المعجزة الإلهيّة العظيمة؟

فعلى هذا الأساس يُعلن بصراحة عن اعجاز القرآن ويتحدى المناوئين بالدلالة الالتزامية ويدعوهم إلى المنازلة.

يقول المفسر الكبير المرحوم الطبرسي في مجمع البيان: إنّ في إنزال القرآن دلالة واضحة ومعجزة لائحة وحجة بالغة تنزاح معه العلة وتقوم به الحجة فلا يحتاج في الوصول إلى العلم بصحة نبوته إلى غيره. على أنّ إظهار المعجزات مع كونها إزاحة للعلة تراعى فيه المصلحة فاذا كانت المصلحة في اظهار نوع منها لم يجز إظهار غيرها «1».

وتتبين أهميّة هذا البحث من خلال التوجه إلى النكتتين اللتين وردتا في (تفسير القرطبي) و (ظلال القرآن):

إحداهما: إنّ خوارق العادات الجسمية تتوافق غالباً مع الأفراد المبتلين بالمسائل الحسية، وتتناسب مع بداية التفكير البشري، أمّا مثل هذه المعجزة الروحية التي تنطوي على جنبة معنوية فهي تنسجم مع الحقبة المتفتحة للفكر البشري.

والاخرى اضافة إلى مخالفته خوارق عادات الأنبياء (نظير

معجزة موسى وعيسى عليهما السلام التي ألقيت عليها مسوح السحر تشكل هذا الإعجاز (الذي هو من جنس الكلام) من ألفاظ يقوى عليها جميع الأفراد من أصحاب تلك اللغة «2».

تحصَّل من ذلك أنّ القرآن الكريم أشار في سبع آيات من السور المختلفة على الأقل إلى أنّه معجزة إلهيّة كبرى وقام بتحدي المنكرين له بطرق مختلفة.

ومن المعلوم أنّ أيَّ شخص قام بعمل خارق للعادة ودعا جميع الناس إلى معارضته

______________________________

(1) تفسير مجمع البيان، ج 7، 8، ص 289.

(2) تفسير في ظلال القرآن، ج 6، ص 422؛ وتفسير القرطبي، ج 7، ص 571.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 59

ومنازلته وعجزوا عن القيام به فذلك دليل على إعجاز عمله.

وبعبارة اخرى احتج القرآن عليهم في هذه العبارات بكلام فريد من نوعه بقوله: إذا كنتم تعتقدون بأنّ هذه الآيات هي من صنع عقل البشر فأنتم أيضاً بشر، ولكم عقول وأفكار ولا يندر وجود البلغاء والمتكلمين والفصحاء في أوساطكم، فاذا كنتم صادقين في هذا الادّعاء فأتوا بآيات مثل هذه الآيات. فيدعوهم إلى المشاركة في هذه المنازلة من خلال عباراته المتنوعة والمثيرة.

من جهة اخرى لو كان بإمكان أولئك الانتصار في مثل هذه المنازلة، لحشدوا كلَّ قواهم لأنَّ الانهزام في هذه المواجهة يساوي التضحية بكل شي ء عندهم.

لقد كان القرآن في مواجهة حادة مع اسس ثقافتهم المتمثلة في عبادة الأوثان والمتغلغلة في مختلف شؤون حياتهم، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل أنزل شيوخهم ووجهاءهم وأثرياءهم المغرورين من اوج جبروتهم وقدرتهم إلى منتهى الحضيض، وسلب منهم امتيازاتهم المصطنعة والموهومة كافة.

وبغض النظر عن الشواهد التاريخية التي سوف نشير إليها لاحقاً فإنّ العوامل المحركة للمقابلة بالمثل كانت كثيرة جدّاً وإذا كان باستطاعتهم حقاً أن يجردوا النبي محمداً صلى الله

عليه و آله من السلاح بهذا الاسلوب، لما دعت الحاجة إلى كل هذه الحروب الدموية، والمجابهات الساخنة وحيث إننا نراهم قد توسلوا بكل شي ء سوى محاولة الإتيان بمثل آيات القرآن، فهذا بنفسه أكبر دليل على انهزامهم في هذه المنازلة.

توضيحات

أ) تأثير القرآن وجاذبيته المنقطعة النظير
اشارة

هناك قصص ووقائع موثقة وعجيبة يذكرهالنا التاريخ تروي من جهة عمق التأثير الذي يتركه القرآن الكريم على قلوب المخاطبين، وحتى على أولئك الذين لا يؤمنون بالإسلام

نفحات القرآن، ج 8، ص: 60

ولا بالقرآن، ومن جهة أُخرى تمثل هذه القصص دليلًا دامغاً على عجز المناوئين عن الجواب عن تحدي القرآن لهم.

إنّ دراسة هذه الحوادث توفر للإنسان فرصة التعرف على دروس وعبر يمكن الاستفادة منها في حياته وتبين عظمة وإعجاز هذا الكتاب السماوي وما ورد فيه، وهذه نماذج من هذه القصص:

1- قصة الوليد بن المغيرة المخزومي

تتحدث آيات سورة المدثر بشكل واضح عن الشخص الذي خطر في ذهنه أن يتحدى القرآن وقد آل أمره إلى مصيرٍ أسود حيث نطالع معاً هذه الواقعة التي حدثت وكانت سبباً لنزول هذه الآيات التي نقلها جمع غفير من المفسرين كالطبرسي، والقرطبي، والمراغي، والفخر الرازي وغيرهم. وهي كما يأتي:

يروى أنّ النبي صلى الله عليه و آله لما نزلت عليه الآية الكريمة: «حم تَنْزِيلُ الكِتَابِ مِنْ اللَّهِ العَزِيزِ العَلِيمِ غَافرِ الذَنْبِ وَقَابِلِ التَوْبِ شَدِيْدِ العِقَابِ» قام إلى المسجد والوليد بن المغيرة قريب منه يسمع قراءته فلما فطن النبي صلى الله عليه و آله لاستماعه لقراءته أعاد قراءة الآية فانطلق الوليد حتى أتى مجلس قومه بني مخزوم فقال: «واللَّه لقد سمعت من محمد آنفاً كلاماً ما هو من كلام الانس ولا من كلام الجن وإنّ له لحلاوة وإنّ عليه لطلاوة وإنّ أعلاه لمثمر وإنّ أسفله لمغدق وانّه ليعلو وما يعلى عليه»، قال ذلك ثم انصرف إلى منزله فقالت قريش: صبأ واللَّه الوليد، واللَّه لتصبأن قريش كلهم، وكان يقال للوليد ريحانة قريش: فقال لهم أبو جهل: أنا أكفيكموه، فانطلق فقعد إلى جنب الوليد حزيناً، فقال الوليد: مالي أراك حزيناً ياابن أخي،

قال: هذه قريش يعيبونك على كبر سنك ويزعمون أنّك زينت كلام محمد. فقام مع أبي جهل حتى أتى مجلس قومه فقال: أتزعمون أنّ محمداً مجنون فهل رأيتموه يخنق قط؟ فقالوا: اللّهم لا، قال: أتزعمون أنّه كاهن فهل رأيتم عليه شيئاً من ذلك؟ قالوا: اللّهم لا، قال: أتزعمون أنّه شاعر فهل رأيتموه أنّه ينطق بشعر قط؟ قالوا: اللّهم لا، قال: أتزعمون أنّه كذاب فهل جربتم

نفحات القرآن، ج 8، ص: 61

عليه شيئاً من الكذب؟ فقالوا: اللّهم لا، وكان يسمى الصادق الأمين قبل النبوة من صدقه، فقالت قريش للوليد: فما هو؟ فتفكرّ في نفسه ثم نظر وعبس فقال: ما هو إلّاساحر، ما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله وولده ومواليه فهو ساحر وما يقوله سحر يؤثر «1».

2- استماع زعماء قريش إلى القرآن

نقرأ في سيرة ابن هشام: أنّ أبا سفيان بن حرب وأبا جهل بن هشام والاخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي، حليف بني زهرة خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وهو يصلي ويتلو القرآن في بيته فأخذ كل رجل منهم مجلساً يستمع منه وكلٌ لا يعلم صاحبه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق فتلاوموا وقال بعضهم لبعض: لا تعودوا، فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئاً، ثم انصرفوا، حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق، فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرة، ثم انصرفوا حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل منهم مجلسه فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق، فقال بعضهم لبعض: لا نبرح حتى نتعاهد ألّا نعود، فتعاهدوا على ذلك،

ثم تفرقوا «2».

نعم لقد كانت جاذبية القرآن شديدة إلى درجة بحيث خضع لها حتى ألدُ الأعداء، فلو أُزيلت عنهم حجب العصبية والنعاد والتعلق بالمصالح الشخصية لآمنوا بالله بصورة قطعية.

3- قصة ابن أبي العوجاء ورفاقه

ينقل المرحوم الطبرسي في الاحتجاج عن هشام بن الحكم العالم المعروف وأحد تلامذة الإمام الصّادق عليه السلام يقول:

______________________________

(1) ونقل الحديث مفسرون عديدون- بتفاوت- كالفخر الرازي؛ والمراغي؛ والقرطبي؛ والطباطبائي في الميزان؛ وسيد قطب في الظلال.

(2) سيرة ابن هشام، ج 1، ص 337.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 62

اجتمع كل من (ابن أبي العوجاء)، و (أبي شاكر الديصاني)، و (عبد الملك البصري)، و (ابن المقفع) وقد كانوا جميعاً من الملحدين الذين لا إيمان لهم، اجتمعوا إلى جوار الكعبة واخذوا يسخرون من أعمال الحجاج ويوجهون الطعن إلى القرآن.

قال ابن أبي العوجاء: هَلمُّوا جميعاً لينقض كل واحد منّا ربعاً من القرآن ونأتي بشي ء مثله، وسيكون موعد لقائنا في السنة الآتية في هذا المكان، عندما ننقض القرآن بأكمله، لأن نقض القرآن هو السبب المؤدي إلى إبطال نبوة محمد صلى الله عليه و آله وإبطال نبوته هو إبطال للإسلام وإثبات لأحقية ادّعائنا، فاتفقوا وتفرقوا على ذلك.

وفي السنة المقبلة، وفي اليوم نفسه اجتمعوا إلى جوار الكعبة وأخذ ابن أبي العوجاء يحدثهم ويقول: منذ اليوم الذي تركتكم وابتعدت عنكم، كُنت افكر في هذه الآية: «فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنهُ خَلَصُوا نَجِيّاً». (يوسف/ 80)

فوجدتها على جانب كبير من الفصاحة والغزارة المعنوية بحيث إنني لم أتمكن من أن اضيف شيئاً إليها، إضافة إلى أنّ هذه الآية شغلت ذهني عن التفكير بغيرها.

وأمّا عبد الملك فقال: وأنا كذلك كنت افكر في هذه الآية حينما افترقت عنكم: «يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُربَ مَثَلٌ فاستَمِعُوا لَهُ إنَّ الَّذِينَ تَدعُونَ مِن دُونِ اللَّه لَنْ يَخلُقُوا ذُباباً وَلَوِ

اجتَمَعُوا لَهُ وإِنْ يسَلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيئاً لَّايَستَنقِذُوهُ مِنُه ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالمَطلُوبُ».

(الحج/ 73)

وقد وجدت نفسي عاجزاً عن الإتيان بمثلها.

وقال أبو شاكر: منذُ ذلك الوقت الذي ابتعدت عنكم كنت افكر في هذه الآية: «لَو كَانَ فَيهِمَا آلهةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا». (الأنبياء/ 22)

ولم أجد نفسي قادراً على الإتيان بمثلها.

وأضاف ابن المقفع فقال: «ياقوم إنّ هذا القرآن ليس من جنس كلام البشر لأنني منذ تلك اللحظة التي افترقت فيها عنكم كنت أتأمل في هذه الآية: «وَقِيلَ يَا ارْضُ ابلَعِى مَآءَكِ وَيَاسَمَاءُ اقْلِعِي وَغِيضَ المَاءُ وَقُضِىَ الْامْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِىِّ وَقَيِلَ بُعداً لِّلقَومِ الظَّالِمِينَ». (هود/ 44)

نفحات القرآن، ج 8، ص: 63

ورأيت نفسي عاجزاً عن الإتيان بمثلها.

يقول هشام بن الحكم: في هذه الأثناء مر بالقرب منهم جعفر بن محمد الصادق عليه السلام وتلا هذه الآية: «قُل لَّئِنِ اجتَمَعَتِ الانسُ وَالجنُّ عَلَى انْ يَأْتُوا بِمِثلِ هَذَا القُرآنِ لَايأْتونَ بِمثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعضُهُمْ لبَعضٍ ظَهيراً». (الاسراء/ 88)

عندئذٍ أخذ يَنظر كل واحد منهم إلى الآخر ويقول: إذا كان للإسلام حقيقة قائمة بذاتها، ولم يكن يمثل محمد صلى الله عليه و آله سوى جعفر بن محمد عليه السلام فتاللَّه لا يقع نظرنا عليه في وقت من الأوقات إلّاوتستحوذ علينا أُبهته، وتقشعر أبداننا من هيبته، قالوا هذا الكلام وتفرقوا معترفين بعجزهم.

4- قصة عثمان بن مظعون

وهو أحد صحابة نبي الإسلام صلى الله عليه و آله المعروفين، قال عثمان بن مظعون: كنت أسلمت استحياءً من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لكثرة ما كان يعرض عليَّ الإسلام ولما يقر الإسلام في قلبي فكنت ذات يوم عنده حال تأمله، فشخص بصره نحو السماء كأنّه يستفهم شيئاً فلما سري عنه، سألته عن حاله، فقال: نعم بينا أنا أحدثك إذ رأيت جبرائيل في الهواء

فأتاني بهذه الآية: «انّ اللهَ يَامرُ بالعدلِ وِالاحسان» وقرأها عليَّ إلى آخرها فقر الإسلام في قلبي وأتيت عمه أبا طالب فأخبرته فقال: يا آل قريش اتبعوا محمداً صلى الله عليه و آله ترشدوا، فانّه لا يأمركم إلّا بمكارم الأخلاق. وأتيت الوليد بن المغيرة وقرأت عليه هذه الآية فقال: إن كان محمد قاله فنعم ما قال وإن قاله ربّه فنعم ما قال «1».

5- قصة اسعد بن زرارة

وردت هذه القصة في كتاب (أعلام الورى و (بحار الأنوار) وقد تحدثت عن الجاذبية والتأثير الهائل لآيات القرآن في نفوس المخاطبين.

______________________________

(1) تفسير مجمع البيان، ج 5 و 6، ص 381، ذيل الآية 90 من سورة النحل.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 64

و استناداً إلى (بحار الأنوار) ننقل الحكاية بصورة موجزة وكمايلي:

«قدم أسعد بن زرارة وذكوان بن عبد قيس في موسم من مواسم العرب وهما من الخزرج، وكان بين الأوس والخزرج حرب قد بقوا فيها دهراً طويلًا وكانوا لا يضعون السلاح لا بالليل ولا بالنهار، وكان آخر حرب بينهم يوم بعاث، وكانت للأوس على الخزرج، فخرج أسعد بن زرارة وذكوان إلى مكة في عمرة رجب يسألون الحلف على الأوس، وكان أسعد بن زرارة صديقاً لعتبة بن ربيعة فنزل عليه فقال له: إنّه كان بيننا وبين قومنا حرب وقد جئنا نطلب الحلف عليهم، فقال له عتبة: بعدت دارنا من داركم، ولنا شغل لا نتفرغ لشي ء، قال: وما شغلكم وأنتم في حرمكم وأمنكم؟ قال له عتبة: خرج فينا رجل يدّعي أنّه رسول اللَّه، سفّه أحلامنا وسبّ آلهتنا وأفسد شبابنا، وفرّق جماعتنا، فقال له أسعد: من هو منكم؟ قال ابن عبد اللَّه بن عبد المطلب من أوسطنا شرفاً، وأعظمنا بيتاً، وكان أسعد وذكوان وجميع الأوس والخزرج يسمعون من اليهود

الذين كانوا بينهم: النضير وقريظة وقينقاع، أنّ هذا أوان نبي يخرج بمكة يكون مهاجره بالمدينة لنقتلنّكم به يا معشر العرب، فلما سمع ذلك أسعد وقع في قلبه ما كان سمع من اليهود، قال: فأين هو؟ قال:

جالس في الحجر وأنّهم لا يخرجون من شعبهم إلّافي الموسم، فلا تسمع منه ولا تكلمه فانّه ساحر يسحرك بكلامه.

وكان هذا في وقت محاصرة بني هاشم في الشعب، فقال له أسعد: فكيف أصنع وأنا معتمر لابدّ لي أن أطوف بالبيت؟ قال ضع في أذنيك القطن، فدخل أسعد المسجد وقد حشا اذنيه بالقطن، فطاف بالبيت ورسول اللَّه جالس في الحجر مع قوم من بني هاشم فنظر إليه نظرة فجازه، فلما كان في الشوط الثاني قال في نفسه، ما أجد أجهل منّي؟ أيكون مثل هذا الحديث بمكة فلا أتعرفه حتى أرجع إلى قومي فأخبرهم، ثم أخذ القطن من أذنيه ورمى به، وقال لرسول اللَّه: أنعم صباحاً، فرفع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله رأسه إليه وقال: «قد أبدلنا اللَّه به ما هو أحسن من هذا، تحية أهل الجنة: السلام عليكم»، فقال له أسعد: إنّ عهدك بهذا لقريب، إلى ما تدعو يا محمد؟ قال: «إلى شهادة أن لا إله إلّااللَّه، وأنّي رسول اللَّه، وأدعوكم إلى

نفحات القرآن، ج 8، ص: 65

«أن لا تشركوا به شيئا وبالوالدين احساناً ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإيّاهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم اللَّه إلّابالحق ذلكم وصّاكم به لعلكم تعقلون ولا تقربوا مال اليتيم إلّابالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفساً إلّاوسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد اللَّه أوفوا ذلكم

وصّاكم به لعلكم تذكرون».

فلما سمع أسعد هذا قال له: أشهد أن لا إله إلّااللَّه وأنّك رسول اللَّه، يارسول اللَّه بأبي أنت وامي أنا من أهل يثرب من الخزرج، وبيننا وبين اخوتنا من الأوس حبال مقطوعة، فإن وصلها اللَّه بك، ولا أجد أعزّ منك، ومعي رجل من قومي فإن دخل في الأمر رجوت أن يتمم اللَّه لنا أمرنا فيك، واللَّه يارسول اللَّه لقد كنا نسمع من اليهود خبرك، ويبشروننا بمخرجك، ويخبروننا بصفتك، وارجو أن يكون دارنا دار هجرتك عندنا، فقد أعلمنا اليهود ذلك، فالحمد للَّه الذي ساقني إليك، واللَّه ما جئت إلّالنطلب الحلف على قومنا، وقد آتانا اللَّه بأفضل ممّا أتيت له. ثم أقبل ذكوان فقال له أسعد: هذا رسول اللَّه الذي كانت اليهود تبشرنا به، وتخبرنا بصفته، فهلّم فأسلم ذكوان، ثم قالا: يارسول اللَّه ابعث معنا رجلًا يعلمنا القرآن، ويدعو الناس إلى أمرك، فقال رسول اللَّه لمصعب بن عمير، وكان فتى حدثاً مترفاً بين أبويه يكرمانه ويفضلانه على أولادهما ولم يخرج من مكة، فلما أسلم، جفاه أبواه، وكان مع رسول اللَّه في الشعب حتى تغيّر وأصابه الجهد، وأمره رسول اللَّه بالخروج مع أسعد، وقد كان تعلم من القرآن كثيراً، فخرجا إلى المدينة، ومعهما مصعب بن عمير فقدموا على قومهم وأخبروهم بأمر رسول اللَّه وخبره، فأجاب من كل بطن الرجل والرجلان «1».

6- قصة الأصمعي المثيرة

ينقل الزمخشري في تفسير (الكشاف) عن الأصمعي «2» أنّه قال: أقبلت من جامع البصرة

______________________________

(1) بحار الأنوار، ج 19، ص 8- 10.

(2) اسمه عبد الملك بن قريب، عاش في أيّام هارون الرشيد، اشتهر بكثرة حفظه ومعلوماته الواسعة عن تاريخ العرب وآدابهم توفي في البصرة سنة 216، الكنى والالقاب، ج 2، ص 37.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 66

فطلع أعرابي

على قعود له فقال: من الرجل؟ قلت: من بني أصمع، قال: من أين أقبلت؟

قلت: من موضع يتلى فيه كلام الرحمن، فقال: اتل عليَّ، فتلوت «والذاريات» فلما بلغت قوله تعالى «وَفِى السَمَاء رِزْقُكُمْ» قال: حسبك، فقام إلى ناقته فنحرها ووزعها على من أقبل وأدبر، وعمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما وولى فلما حججت مع الرشيد طفقت أطوف فاذا أنا بمن يهتف بي بصوت دقيق، فالتفتُّ فاذا أنا بالأعرابي قد نحل واصفّر، فسلم عليَّ واستقرأ السورة، فلما بلغت الآية صاح وقال: قد وجدنا ما وعدنا ربّنا حقاً، ثم قال:

وهل غير هذا؟ فقرأت: «فورب السماء والأرض إنّه لحق»، فصاح وقال: ياسُبحان اللَّه، من ذا الذي أغضب الجليل حتى حلف، لم يصدقوه بقوله حتى الجأوه إلى اليمين، قالها ثلاثاً وخرجت معها نفسه «1».

7- رد فعل إعرابي تجاه آية من القرآن

وروي أنّ رجلًا تعلم من النبي صلى الله عليه و آله القرآن فلما انتهى إلى قوله تعالى «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيراً يَرَهُ* وَمَنْ يَعْمَلْ مِثقَالَ ذَرَّةٍ شَراً يَرَهُ» (الزلزلة/ 7- 8)

قال: يكفيني هذه، وانصرف، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: انصرف الرجل وهو فقيه «2».

8- القصة المثيرة للسيد قطب

ينقل السيد قطب في تفسيره في ظلال القرآن قصة عجيبة من حياته، وذلك في ذيل قوله تعالى «امْ يَقُولُونَ افتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ». (يونس/ 38)

يقول: اذكر حادثاً وقع لي وكان عليه معي شهود ستة، وذلك منذ نحو خمسة عشر عاماً ... كنّا ستة مسلمين على ظهر سفينة مصرية تمخر عباب المحيط الأطلسي إلى نيويورك، من بين 120 راكباً وراكبة أجانب ليس فيهم مسلم ... وخطر لنا يوم الجمعة أن

______________________________

(1) الكشاف، ج 4، ص 400.

(2) تفسير روح البيان، ج 10، ص 495؛ وتفسير نور الثقلين، ج 5، ص 650؛ وسفينة البحار، ج 2، ص 414، مادة (قرء) والتفسير الأمثل، ذيل آيات سورة الزلزال.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 67

نقيم صلاة الجماعة في المحيط على ظهر السفينة! واللَّه يعلم- أنّه لم يكن بنا أن نقيم الصلاة لذاتها أكثر ممّا كان بنا حماسة دينية إزاء مبشر كان يقوم بمزاولة عمله على ظهر السفينة، وحاول أن يزاول تبشيره معنا! ... وقد يسَّر لنا قائد السفينة- وكان انجليزياً- أن نقيم صلاتنا، وسمح لبحارة السفينة وطهاتها وخدمتها- وكلهم نوبيون مسلمون- أن يصلي معنا من لا يكون في (الخدمة) وقت الصلاة! وقد فرحوا بهذا فرحاً شديداً، إذ كانت المرة الاولى التي تقام فيها صلاة الجماعة على ظهر السفينة ... وقمت بخطبة الجمعة وإمامة الصلاة، والركاب الأجانب معظمهم- متحلقون يرقبون صلاتنا، وبعد الصلاة جاءنا كثيرون

منهم يهنئوننا على نجاح (القدّاس)! فقد كان هذا أقصى ما يفهمونه من صلاتنا! ولكن سيدة من هذا الحشد- عرفنا فيما بعد أنّها يوغسلافية مسيحية هاربة من جحيم تيتو وشيوعيته!- كانت شديدة التأثر والانفعال تفيض عيناها بالدمع ولا تتمالك مشاعرها جاءت تشد على أيدينا بحرارة، وتقول:- في انجليزية ضعيفة- أنّها لا تملك نفسها من التأثر العميق بصلاتنا هذه وما فيها من خشوع ونظام وروح! ... وليس هذا موضع الشاهد في القصة ... ولكن ذلك كان في قولها: أي لغة هذه التي يتحدث بها (قسيسكم)! فالمسكينة لا تتصور أن يقيم (الصلاة) إلّاقسيس- أو رجل دين- كما هو الحال عندها في مسيحية الكنيسة! وقد صححنا لها هذا الفهم! وأجبناها: فقالت: إنّ اللغة التي يتحدث بها ذات ايقاع موسيقي عجيب، وإن كنت لم أفهم منها حرفاً ... ثم كانت المفاجأة الحقيقية لنا وهي تقول: ولكن هذا ليس الموضوع الذي أريد أن أسأل عنه ... إنّ الموضوع الذي لفت حسي، هو أن (الإمام) كانت ترد في أثناء كلامه- بهذه اللغة الموسيقية- فقرات من نوع آخر غير بقية كلامه! نوع أكثر موسيقية وأعمق ايقاعاً ... هذه الفقرات الخاصة كانت تحدث فيَّ رعشة وقشعريرة! إنّها شي ء آخر! كما لو كان الإمام- مملوءاً من روح القدس! حسب تعبيرها المستمد من مسيحيتها! وتفكرنا قليلًا، ثم أدركنا أنّها تعني الآيات القرآنية التي وردت في أثناء خطبة الجمعة وفي أثناء الصلاة! وكانت- مع ذلك- مفاجأة لنا تدعو إلى الدهشة، من سيدة لا تفهم مما نقول شيئاً «1»!

______________________________

(1) تفسير في ظلال القرآن، ج 4، ص 422.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 68

9- قصة النجاشي وعلماء الحبشة المسيحيين

لقد جاءت أول هجرة للمسلمين إلى الحبشة وذلك بسبب الضغوط والأذى الذي تعرضوا له من مشركي مكة،

ممّا اضطرهم إلى الهجرة إلى الحبشة بأمر من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وقد آواهم ملك الحبشة وعاشوا فيها بأمان.

ويعدُ هذا الأمر من العوامل الرئيسية التي ساعدت في انتشار الإسلام بشكل تدريجي في الحبشة، وكذلك ساعد على انتشار الإسلام في مكة وذلك لأنّ المسلمين وجدوا لهم مخرجاً، فعندما كانوا يتعرضون للاذى والمضايقة فكّروا أن يهاجروا إلى الحبشة.

يذكر ابن هشام في تاريخه المعروف ...:

«فلما رأت قريش أنّ أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قد آمنوا واطمأنوا بأرض الحبشة، وأنّهم قد أصابوا بها داراً وقراراً، ائتمروا بينهم أن يبعثوا رجلين من قريش جَلْدين إلى النجاشي فيردّهم عليهم ليفتنوهم في دينهم ويخرجوهم من دارهم التي اطمأنوا بها وأمنوا فيها، فبعثوا عبد اللَّه بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص بن وائل وجمعوا لهما هدايا للنجاشي ولبطارقته ... وأمروهما بأمرهم وقالوا لهما: ادفعا إلى كل بَطْريق هديته قبل أن تكلما النجاشي فيهم، ثم قدِّما إلى النجاشي هداياه، ثم سَلاهُ أن يُسلِّمهم إليكما قبل أن يُكلِّمهم، فخرجا حتى قدّما إلى النجاشي هداياه وقالا لكل بَطْريق منهم: إنّه قد ضوى إلى بلد الملك منّا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينكم، وجاءوا بدين مبتدع، لا نعرفه نحن ولا أنتم وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قومهم ليردهم إليهم، فإذا كلمنا الملك فيهم فأشيروا عليه بأنّ يُسلِّمهم إلينا ولا يُكلِّمهم فإنّ قومهم أعلى بهم عينا وأعلم بما عابوا عليهم.

فقالوا لهما: نعم، ثم كلّما الملك: ياأيّها الملك، إنّه قد ضوى إلى بلدك منّا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك وجاءوا بدين ابتدعوه لا نعرفه نحن ولا أنت وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم

وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إليهم، فهم أعلى بهم عيناً وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه، فقال بطارقته الذين كانوا حوله: صدقا أيّها

نفحات القرآن، ج 8، ص: 69

الملك، قومهم أعلى بهم عيناً وأعلم بما عابوا عليهم فأسلمهم إليهما فليرداهم إلى بلادهم وقومهم، فغضب النجاشي ثم قال: لاها اللَّه إذا لا أسلمهم إليهما ولا يُكادُ قوم جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي حتى ادعوهم فاسألهم عمّا يقول هذان في أمرهم، فإنْ كانوا كما يقولان أسلمتهم إليهما ورددتهم إلى قومهم وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهما وأحسنت جوارهم ما جاوروني. ثم أرسل إلى أصحاب محمد صلى الله عليه و آله فدعاهم فلما جاءهم رسوله اجتمعوا ثم قال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل إذا جئتموه؟ قالوا: نقول واللَّه ما علمنا وأمرنا به نبيّنا صلى الله عليه و آله فلما جاءوا وقد دعا النجاشي أساقفته فنشروا مصاحفهم حوله، سألهم: ما هذا الدين الذي فارقتم قومكم فيه ولم تدخلوا في ديني ولا في دين أحد من هذه الملل؟ فقال جعفر عليه السلام: «أيّها الملك كنّا قوماً أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسي ء الجوار ويأكل القوي منا الضعيف حتى بعث اللَّه إلينا رسولًا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته، وعفافه فدعانا إلى اللَّه لنوحده ونعبده ونخلع ما كنّا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان وأمر بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم ... وأمرنا بالصلاة والزكاة، والصيام، فعدد علينا امور الإسلام فصدقناه وآمنا به واتبعناه على ماجاء به من اللَّه ... فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان فخرجنا

إلى بلادك ورغبنا في جوارك ورجونا أن لا نُظلم عندك أيّها الملك»، فقال له النجاشي: هل معك ممّا جاء به عن اللَّه من شي ء؟ قال جعفر: نعم، قال النجاشي: فاقرأه عليّ، فقرأ جعفر عليه السلام كهيعص ذكِرُ رحمتِ رَبّكَ عَبْدهُ زكريا ....، فبكى النجاشي حتى اخضلّت لحيته وبكى أساقفته حتى أخضلّت مصاحفهم ... فضرب النجاشي بيده على الأرض، فأخذ منها عوداً، ثم قال: «واللَّه ما عدا عيسى بن مريم ما قلتَ هذا العود إنّ هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاةٍ واحدة، إِنطلقا، فلا واللَّه لا أسلمهم إليكما ولا يكادون».

فخرجا من عنده مقبوحين مردوداً عليهما ما جاءا به» «1».

______________________________

(1) سيرة ابن هشام، ج 1، ص 356، بشكل مُلخص.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 70

10- تأثير القرآن في اوساط العلماء الاجانب

لم يقتصر تأثير القرآن على العرب في الأدوار الاولى لعصر الرسالة وما بعدها، وإنّما شمل عصرنا هذا حتى أولئك الذين لايحيطون علماً برموز الأدب العربي؛ فإنّ تأثيره بينهم قوي عجيب؛ ولهذا السبب انبرى عدد من العلماء الغربيين إلى تعظيم القرآن والاعتراف بحقائقه التي هي مورد اعتزازنا ومن جملة هؤلاء:

الدكتور (واغليري) الاستاذ بجامعة (فاپل). حيث يقول في كتابه المعروف (التطور السريع للاسلام): «كتاب الإسلام السماوي هو أحد نماذج الاعجاز، والقرآن هو الكتاب الذي لا يمكن أنْ يُقلّد؟ فكيف يمكن أن يكون هذا الكتاب الاعجازي من انشاء محمد صلى الله عليه و آله الرجل العربي الذي لم يتعلم القراءة والكتابة، إننا نجد في هذا الكتاب من المحتويات والمضامين العلمية ما يفوق قابلية واستعداد أذكى أفراد البشر وأكبر الفلاسفة واقوى رجال السياسة» «1».

ويقول (كارلايل) العالم الانجليزي المعروف بصدد القرآن: «إذا ألقينا نظرة واحدة على هذا الكتاب المقدس، لوجدنا حقائق جلية، وخصائص أسرار الوجود مكنونة في

مضامينها الجوهرية، بالصورة التي تبين حقيقة القرآن وعظمته بوضوح، وهذا بحد ذاته مزية كبرى يختص بها القرآن وتفتقر إليها كل الكتب العلمية والسياسية والاقتصادية، وإن كانت بعض الكتب تحدث تأثيراً عميقاً في ذهنية الإنسان، إلّاأنّها لا تشابه القرآن في نفوذه وتأثيره».

يذكر (جان ديون بورت) في كتابه (اعتذار إلى حضرة النبي والقرآن): «القرآن منزّه عن النواقص، والعيوب بحيث لا يحتاج إلى أدنى تصحيح أو تقويم.

ثم يضيف على ذلك قائلًا: إنّ القسيسين أوجدوا- ولسنوات طويلة- هوة بعيدة بيننا وبين التعرف على حقائق القرآن المقدسة وعظمة المبشِّر به (محمد) صلى الله عليه و آله إلّاأننا كلما قطعنا خطوة في طريق العلم والمعرفة، كلما أنزاحت عنا حُحُب الجهل والتعصب، وسيستقطب

______________________________

(1) كتاب (التطور السريع للاسلام) ترجمة المرحوم سعيدي ص 49 (بشكل ملخص).

نفحات القرآن، ج 8، ص: 71

هذا الكتاب الغني عن الوصف العالم إلى نفسه في القريب العاجل، ويحدث تأثيراً عميقاً في العلم والفكر البشري، وسيصبح محور أفكار الدنيا «1».

ويقول الشاعر الألماني الكبير (غوته): «نحن كنا في بادى ء الأمر مبتعدين عن القرآن، ولم تنقضِ مدّة طويلة حتى أصبح هذا الكتاب موضع توجهنا واهتمامنا ومبعث حيرتنا، إلى الحد الذي أذعنا فيه بالتسليم لُاصوله وقوانينه العلمية الكبيرة».

ويقول العالم الفرنسي (جول لابن) في كتاب (تفصيل الآيات): «إنّ الذي أوقد فتيل العلم والمعرفة في العالم هم المسلمون، ونهلوا العلوم والمعرفة من بحر القرآن واجروا منه أنهاراً وينابيع إلى البشرية في العالم» «2».

يكتب (دينورت) أحد علماء الغرب في مايلي: «يجب الاعتراف بأنّ الفضل في انتشار العلوم الطبيعية والفلكية والرياضيات في اروبا إنّما يعود إلى تعليمات القرآن والمسلمين وأننا لمدينون لهم، بل يمكن القول: إنّ اروبا- من هذه الجهة- هي احدى البلاد الإسلامية» «3».

ويقول المستشرق الشهير (نولدكه):

«لقد فرض القرآن سيطرته باستمرار على قلوب أولئك الذين يخالفونه عن بعد وأوجد فيما بينه وبينهم ارتباطاً قوياً» «4».

ب) الذين لجأوا إلى المعارضة

ذكرنا فيما سبق إنّ المعجزة تمثل تحدياً ودعوة للآخرين بالمواجهة، فيعجز الجميع عن الإتيان بمثلها، وهنا يتبادر في الذهن سؤال، وهو: لقد تحدى القرآن البشرية والجنّ وعلى مر التاريخ أنْ لا يستطيعون الإتيان بمثله أبداً، من أين يعلم القرآن بأنّ هذا التحدي سوف يستمر مفعوله على طول التاريخ؟

______________________________

(1) اعتذار إلى محمد والقرآن. ترجمة فارسية ص 111.

(2) المعجزة الخالدة.

(3) المصدر السابق.

(4) مجموعة مقالات على كتاب.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 72

الجواب واضح، فهذا الموضوع ليس بمسألة هامشية حتى يمكن للتاريخ أن ينساها، بل هي مرتبطة كثيراً بمصير هذه العقيدة المهمّة ومصير منافسيها الذين يمتلكون قدرة هائلة ويصرفون سنوياً مبالغ ضخمة في محاربة الإسلام ومواجهته ولو كان يقع مثل هذا الأمر، لاتخذوا من ذلك وسيلة اعلامية وبوقاً دعائياً واسعاً ومربحاً.

وعليه وبناءً على المثل المعروف القائل: «لو كان لبان» لابد أن يبدو للعيان كل مظهر من مظاهر المعارضة والمواجهة في هذا المجال، ولهذا السبب كانت ترد بعض الاتهامات على عدة من الأفراد الذين قد لا يفكرون في معارضة القرآن اطلاقاً واتُخِذَ من ذلك وسيلة دعائية، وهذا يدل بوضوح على الاصرار الكبير على هذه المسألة من قبل المناوئين ولهذا الأمر كانوا يتشبثون بكل الوسائل الممكنة في سبيل الوصول إلى مقاصدهم الدنيئة.

1- الشخص الوحيد الذي سجله التاريخ هو (مُسَيلَمة) المشهور (بالكذاب) الذي قام بادّعاء النبوة في عصر النبي صلى الله عليه و آله وعلى أرض (اليمامة) من منطقة شرق الحجاز.

كان اسمه الحقيقي (مسيلمة بن حبيب) وأظهر دعوته في آواخر حياة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله (في السنة العاشرة للهجرة) وكان يبذل

ما وسعه من أجل أن يقلد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في كل شي ء.

ويدعي أنّ ملكاً ينزل عليه اسمه (رحمان) ويأتيه بآيات تشابه آيات القرآن.

وقيل: إنّه طلب من النبي أن يشاركه في النبوة ويوصي بأنّ يقوم مقامه بعد وفاته صلى الله عليه و آله حتى يكف عن المخالفة والعداء.

ونستشف من الكثير من القرائن والامارات أنّ أيادي العصبيه القبلية كانت وراء مسيلمة وتؤيده على هذا العمل وتؤازره.

وكان أهل اليمامة يتخذون هذه الوسيلة للقضاء على سيادة قريش وحاكمية أهل مكة والمدينة التي تحققت تحت ظل مقام نبوة نبي الإسلام صلى الله عليه و آله.

ولهذا السبب كانوا يبحثون عن رجل يثير الشغب ويطلب الرئاسة والمال، فوجدوا هذه الصفات عند مسيلمة.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 73

إلّا أنّ الحديث الذي ينقل عنه بعنوان المعارضة للقرآن يدل بوضوح- فضلًا عن كل ما مرّ- على أنّه رجل سخيف، يعتمد السجع في الكلمات من دون أن يهتم بمحتوى كلامه.

من جملة عباراته المضحكة التي نقلت عنه في هذا المجال كتقليد للقرآن، هي هذه الكلمات:

«والمبذرات بذراً، والحاصدات حصداً، والذاريات قمحاً، والطاحنات طحناً، والعاجنات عجناً، والخابزات خبزاً، والثاردات ثرداً، واللاقمات لقماً، إهالة وسمناً» «1».

يبدو أنّه يريد من وراء هذه الجمل المضحكة أن يتحدى آيات سورة العاديات أو الذاريات.

يقول القرآن: «وَالعَادِيَاتِ ضَبحَاً* فَالمُورَياتِ قَدحَاً* فَالمُغِيَراتِ صُبحَاً* فَأَثَرنَ بِهِ نَقعَاً* فَوَسَطنَ بِهِ جَمعَاً* انَّ الانَسانَ لِرَبّهِ لَكَنُودٌ ...» انظر إلى هذا التفاوت البعيد.

ينقل عنه في عبارة اخرى أنّه نزلت عليه هذه الآيات «يا ضفدعة بنت ضفدعين نقي ماتنقين أعلاكِ في الماء وأسفلك في الطين لا الماء تكدرين ولا الشارب تمنعين» «2».

وسائر الأحاديث أو بحسب زعمه الآيات الاخرى التي نقلت عنه هي على هذه الشاكلة أيضاً، بل إنّ

بعضها أسوء حالًا، وبعضها ركيك، فالإعراض عن ذكرها أولى

ويستفاد بوضوح من عباراته التي نقلت عنه أنه يولي السجع أهميّة كبيرة ويرى ذلك كافياً، بالضبط على غرار الأشعار التي تنظم في زماننا للاطفال وهي مطالب خاوية لا قيمة لها تصب من دون معنى مترابط في قوالب شعرية، ويكتفون بقافيتها فقط.

يذكر المؤرخون: أنّه كان في عصره امرأة معروفة بالكذب اسمها (سَجاح) على وزن حَباح)، وكانت العرب تقول: «فلان أكذب من سجاح» نظراً لما اشتهر عنها بالكذب. وهي من بني تميم، وكانت تدعي النبوة ونزول الوحي عليها أيضاً وتبعها ثلة من الناس، وأخذت هي الاخرى تنشى ء الفاظ السجع كمسيلمة.

______________________________

(1) سفينة البحار، مادة (سلم)؛ تاريخ ابن الاثير، ج 2، ص 361؛ اعجاز القرآن للرافعي، ص 127.

(2) المصدر السابق ص 128.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 74

يقال: انَّ أتباع هذين الشخصين المتجاورين استعد كل منهما للحرب مع الآخر، إلّاأنّ مسيلمة توسل بأسلوب الحيلة والمكر واختلى بسَجاح، وقال لها: هل ترغبين بالزواج مني، فتتحد قبيلتي مع قبيلتك ونحمل حملة رجل واحد على العرب، فرضيت بذلك، ومكثت معه ثلاثة أيّام ولما رجعت سألها أفراد قبيلتها عن مهر هذا الزواج، فجاءت إلى مسيلمة وطالبته بالمهر، فأمر مسيلمة أحد الأشخاص بالنداء بين القبيلتين: إنّ مهر سجاح هو رفع وحذف صلاتي الصبح والعشاء اللتين وردتا في شريعة محمد.

وعندما قُتل مسيلمة في حرب اليمامة بعد رحلة نبي الإسلام صلى الله عليه و آله على يد قاتل حمزة المعروف (وحشي) أظهرت هذه المرأة الإسلام «1».

ولقد اشتهر هذان الشخصان بالكذب إلى درجة بحيث قال أحد الشعراء في حقهما:

والت سَجاح ووالاها مسيلمةٌكذابةٌ من بني الدنيا وكذّابُ

2- ومن ضمن الأفراد الذين قاموا بمعارضة القرآن في آواخر حياة النبي هو (الأسود

العنسي) وكان هو الآخر يكتفي بتلفيق الكلمات في معارضة القرآن وإن كانت فارغة من المحتوى وادّعى النبوة في أيّام حجة الوداع (في آواخر حياة النبي) ولم تستغرق مدّة ادّعائه للنبوة أكثر من أربعة أشهر.

وقد فرض سيطرته على بلاد (البحرين) و (نجران) وقسم من بلاد (اليمن) وسواحل (الخليج الفارسي) وغيرها ومن ثمَّ قتل في اليمن على يد «فيروز» الايراني مستعيناً بزوجته، ووصلت أنباء قتله إلى المدينة في حياة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله «2».

ويقال: إنّه كان يعيش في الأماكن المنحطة فكرياً وخلقياً، ولهذا السبب تبعه مجموعة من شذاذ الآفاق، وكان يراهن على السجع في كلماته لمعارضة القرآن، كما نقل عن مسيلمة ذلك آنفاً. إلّاأنّ اتباعه سرعان ما اطلعوا على فساد عقيدته وابتعدوا عنه.

3- وردت بعض الاتهامات المفتعلة أيضاً إلى عدد من الشخصيات بمعارضة القرآن وإن

______________________________

(1) دائرة معارف القرن العشرين، فريد وجدي وفق نقل تنزيه التنزيل للمرحوم الشهرستاني ص 176.

(2) دايرة معارف البستاني وفق نقل تنزيه التنزيل للسيد هبة الدين الشهرستاني ص 186.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 75

لم يثبت تاريخياً، وقد يكون السبب وراء تلك الاتهامات أنَّ مجموعة من الجهال فسرت قسماً من المقاطع المسجعة لبعض الادباء العرب على انّها تحد للقرآن الكريم، أو أنّ الأعداء المحتالين أرادوا أنْ يستغلوا هذا الاحتمال.

ومن جملتهم: (عبد اللَّه بن المقفع) وهو من الكتاب والادباء المعروفين في القرن الثاني للهجرة عاصر الإمام الصادق عليه السلام ويُقال عنه إنّه كان في بداية الأمر مسيحياً ثم أسلم بعد ذلك، وكان يمتلك الاحاطة الكاملة باللغة الفارسية، وترجم إلى العربية بعض الكتب من جملتها كتاب (كليلة ودمنة) وقد أظهر الإسلام بوضوح في المقدمة التي كتبها لهذا الكتاب.

ولكن يقال: إنّه سُمع منه أحياناً بعض

الكلمات الجارحة.

ومن ثَمَّ سلَّموه إلى أمير البصرة (سفيان بن معاوية المُهلبي) فقتله بسبب بعض الاختلافات الجانبية بينهما ظاهراً.

ويقالُ: إنّه لما أراد سفيان أن يلقيه في التنور قال له: أقتلك ولا شي ء عليّ لأنّك زنديق قد أفسدت عقائد الناس. وعلى أي حال فإنّ عقائده ليست واضحة لنا بدقة، ولكن المسلّم به هو أنّه لم يدعُ إلى معارضة القرآن، وإن كان بعضهم يرى أنّ كتابه المعروف (بالدرة اليتيمة) دُوِّنَ لهذا الغرض، ومن حسن الحظ أنّ كتابه هذا بين أيدينا وقد طبع عدّة مرات.

ولم نرَّ فيه أيّة إشارة لمسألة المعارضة للقرآن، ولا يعلم ما هو السبب وراء هذه النسبة له ولكتابه.

وعلى أيّة حال لا توجد هناك وثيقة تاريخية تدل على معارضته للقرآن، وكتابه المذكور وإن دوّن بصورة أدبية إلّاأنّه لا يوجد فيه شي ء يدل على (تحديه) للقرآن.

4- من ضمن الأشخاص الذين نسبت إليهم هذه التهمة أيضاً: (أبو العلاء المعري) وهو من الكتاب والشعراء المعروفين في القرن الخامس للهجرة، وكان رجلًا ملحداً، نقل عنه كلام جارح، بحيث لايمكن القياس بينه وبين (عبد اللَّه بن المقفع)، إلّاأنّه- وعلى أي حال- لا يوجد بين أيدينا سند تاريخي يدل على توجهه إلى تحدي القرآن؛ ولعل توجيه مثل هذه النسبة إليه يعزى إلى اتهامه بالإلحاد وعدم التدين من جهة، وإلى كونه أديباً وشاعراً وكاتباً

نفحات القرآن، ج 8، ص: 76

من جهة اخرى يشهد على ذلك استخفافه بالعبارات المسجعة المذكورة في كتاب (التاج) لابن الراوندي، إذ يقول بصراحة في (رسالة الغفران) التي كتبها رداً، على كتاب (التاج):

بان قوافي وسجعيات ابن الراوندي لاتعدو أن تكون نظير ما يقوله الكهنة نحو: افٍ وتُفٍ وجَورَبٍ وخُفٍ «1».

وعلى هذا الأساس، يرى هو الآخر أن حَبكَ العبارات المسجوعة من دون مضمون

ليس لها أية قيمة وأهميّة.

ومن الجدير بالذكر، أنّه يمتلك مقالة جيدة بصدد القرآن في رسالة الغفران نفسها تدل على اعترافه بعظمة القرآن وشموخ معانيه (وإن كان لا يعتبره وحياً سماوياً) فهو يقول بصراحة: عندما تأتي آية واحدة من القرآن في حديث ما فهي كنجم مضي ء يتلألأ في ليل بهيم.

5- (أحمد بن الحسين الكوفي) الشاعر المعروف بالمتنبي الذي يظهر من اسمه أنّه كان ادّعى النبوّة، وقد كان من ادباء القرن الرابع للهجرة، وهو على جانب كبير من الذوق الشعري، في بداية الأمر اعتنق الإسلام لكنه ادّعى النبوّة بعد ذلك كما قيل، ومن الجدير بالذكر أن دعواه هذه كانت في السنة السابعة عشرة من عمره.

جاء في حاشية كتاب (اعجاز القرآن) للرافعي: أنّه ادّعى النبوّة في سنة 320 ه. وتبعه جمع من (بني كلب)، ومن ثَمّ ألقاه والي حمص في السجن وتفرق عنه اتباعه، فتاب وافرِج عنه، ثم أنكر هذا الأمر بعد ذلك، ومرّت مدّة من الزمن أصبح فيها مقرباً إلى (سيف الدولة) وكلما ذُكِّر في مجلسه ادّعائه للنبوّة كان ينكر ذلك؛ قُتل في نهاية الأمر على يد (فاتك بن أبي جهل) بسبب وقوع اختلافات بينه وبين اتباع (عضد الدولة الديلمي) «2».

6- ومن ضمن الأشخاص الذي فكروا في تحدي القرآن: (أحمد بن يحيى المعروف بابن الراوندي، وهو من متكلمي المعتزلة، لازَمَ الملحدين والمناوئين للاسلام دائماً لأنّهم

______________________________

(1) اعجاز القرآن للرافعي، ص 137.

(2) المصدر السابق.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 77

كانوا يلومونه كثيراً، وكان يقول: أريد أن احيط علماً بعقائدهم؛ ثم تظاهر بالالحاد بعد ذلك ودخل في منازعات مع الناس، يقال: إنّ أباه كان يهودياً ثم أسلم، لذا قال بعض اليهود لبعض المسلمين: إنّ ابن الراوندي سيضيع كتابكم كما ضيع والده كتاب

اليهود.

وكتبوا عنه: أنّه لم يستقر على عقيدة معينة، إذ كتب لليهود كتاباً في الرد على الإسلام، مقابل أربعمائة درهم تحت عنوان (البصيرة) ولما انتهى منه، انبرى للرد عليه، وامتنع عن ذلك مقابل استلامه لمائة درهم.

ويقال: إنّه قام بتأليف كتاب، يتحدى به القرآن اسمه (التاج) إلّاأنّه لم تقع في ايدينا نسخة منه إلى وقتنا هذا. وهو الكتاب نفسه الذي يقول عنه (أبو العلاء المعري): أمّا تاجُهُ فليس إلّانعلًا! وهل تاجه إلّاكما قالت الكهنة: افٍ وتُفٍ وجورَبٍ وخُفٍ «1».

يُستنتج بشكل واضح من كل ما قلناه: أنّ أحداً لم يعطِ جواباً لدعوة القرآن إلى المناظرة والتحدي، على الرغم من توفر الدواعي لهذا الأمر، ابتداءً من زمن المشركين العرب وأهل الجاهلية، وانتهاءً بهذا اليوم الذي تخصص فيه القوى الاستكبارية رؤوس اموال ضخمة من اجل القضاء على الإسلام والقرآن، ومن الطبيعي أنه إذا كان باستطاعتهم أن يعبئوا طاقات الادباء العرب والعلماء الاجانب للإتيان بما يماثل القرآن لما ادخروا وسعاً في ذلك.

وما نشاهد في طول التاريخ من أشخاص كمسيلمة وسجاح مع كل فضائحهما فأنّهم لم يثبتوا قدماً واحداً في هذا وعندئذ سندرك جيداً عدم إمكانية هذا الأمر، وإلّا لكان ذلك ذريعة كبرى يتوسل بها أعداء الإسلام المعاندون لنشر هذا الأمر في كل مكان، وهذا هو معنى الضعف والعجز عن تحدي القرآن.

______________________________

(1) اعجاز القرآن ص 133- 137.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 79

صور اعجاز القرآن

اشارة

1- الاعجاز القرآني في الفصاحة والبلاغة

2- الاعجاز القرآني على صعيد المعارف الإلهيّة

3- اعجاز القرآن في تصور العلوم الحديثة

4- الاعجاز التاريخى للقرآن

5- الاعجاز القرآني في سن القوانين

6- الاعجاز الغيبي للقرآن

7- الاعجاز القرآني في عدم وجود التناقض والاختلاف

نفحات القرآن، ج 8، ص: 81

تمهيد:

يتصور البعض أنّ إعجاز القرآن يقتصر على جانب الفصاحة والبلاغة فحسب وهي:

المحسنات اللفظية والمعاني والبلاغة، في حين أنّ أغلب أصحاب الخبرة والمحققين في عصرنا يذهبون إلى عدم صحة هذا الكلام، لأنّ جوانب الاعجاز القرآني متنوعة ومتعددة، حتى يمكن القول إنّنا مع مرور الزمان سنقف على جوانب جديدة من اعجاز القرآن لم تتضح معالمها لنا في الماضي.

ويمكن التعرف على الجوانب التالية للإعجاز القرآني في وقتنا الحاضر من خلال الشواهد الموجودة في القرآن نفسه:

1- الإعجاز في الفصاحة والبلاغة وهو الظاهر الحسن والباطن العميق والبيان المتين المنزّه والصراحة والحدية والشمولية في المفاهيم، وانسجام الألفاظ مع المعاني.

2- الإعجاز في المعارف والاطروحات العقائدية.

3- الإعجاز في طرح المسائل التاريخية.

4- الإعجاز في سن القوانين.

5- الإعجاز في العلوم العصرية والمفاهيم العلمية المجهولة في عصر القرآن.

6- الإعجاز في التنبؤات المستقبلية والأخبار الغيبية.

7- الإعجاز في عدم وجود الاختلاف بين الآيات القرآنية التي نزلت طيلة 23 عاماً بالرغم من تغيّرات الظروف والأوضاع الزمانية والمكانية كافة.

ومع هذه الإشارة نعود إلى القرآن مرّة اخرى لنبحث كل واحدة من الصور المتقدمة بصورة مستقلة:

نفحات القرآن، ج 8، ص: 83

1- الاعجاز القرآني في الفصاحة والبلاغة

اشارة

يقول علماء المعاني في تعريف البلاغة والفصاحة: إنّ الفصاحة تستعمل تارة لوصف الكلمة، وتارة اخرى لوصف الكلام وهي: عبارة عن خلو الكلام من الحروف والكلمات الثقيلة غير المحببة ذات الايقاع الردي ء غير المتجانس من العبارات الركيكة والضعيفة والمنفرة والوحشية والمعقدة والمبهمة.

وأمّا البلاغة فهي عبارة عن تناسب الكلام مع مقتضى الحال والانسجام التام مع الغاية المتوخاة من الكلام.

وبعبارة اخرى الفصاحة ناظرة إلى كيفية الألفاظ والبلاغة ناظرة إلى كيفية المعنى والمحتوى أو بعبارة ثانية: الفصاحة تقتصر على الجوانب الشكلية والظاهرية للكلام والبلاغة تقتصر على الجوانب المعنوية والجوهرية.

ومما لا شك فيه أنّ هذين الأمرين ينطويان

على جانب ذوقي واستحساني فضلًا عن الجانب العلمي والقانوني، ولكن هذا الجانب الفني والذوقي نفسه يتفتح ويكتمل ويتسق في ظل التعليم والتربية والاعتماد على القواعد التي تستقى غالباً من كلمات الفصحاء والبلغاء. نظير الحس الشعري أو القابلية على الخط اللذين يتكاملان بالتعليم والممارسة والاستعانة بالمعلم.

وعلى كل حال يعتقد بعضهم أنّ اعجاز القرآن والدعوة إلى التحدي التي وردت في آيات مختلفة مستندة إلى هذا المعنى نفسه، ويمكن الاستدلال على ذلك بالامور التالية:

1- إنّ ما اشتهر به العرب في ذلك العصر والزمان هوفن الفصاحة والبلاغة، بحيث بلغت

نفحات القرآن، ج 8، ص: 84

أشعار الجاهلية أوج فصاحتها، وكان أحد أهم برامجهم هو قراءة أجمل قصائد تلك السنة خلال التجمع الاقتصادي الذي يعقد في (سوق عكاظ) بالقرب من الطائف في كل عام.

وعندما يقع اختيارهم على أفضل هذه القصائد يعلقونها على جدار الكعبة بصفتها أثراً أدبياً قيّماً، ومع مرور السنين علقت سبع قصائد عرفت فيما بعد باسم (المعلقات السبع).

وعلى هذا الأساس إذا أراد القرآن أن يدعوهم إلى التحدي والمعارضة فيلزم أن يكون في هذا المجال.

2- ولعل الاتهام الذي كان يوجهه المشركون العرب إلى القرآن بكونه سحراً وإلى النبي بكونه ساحراً يعود إلى التأثير السحري للقرآن، حيث اشتمل، على روعة الكلام والفصاحة.

3- نقرأ في الحديث الوارد عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام في صدد انسجام معجزات الأنبياء مع العلوم والفنون المتطورة في أعصارهم: «إنّ اللَّه تعالى لما بعث موسى عليه السلام كان الغالب على أهل عصره السحر فأتاهم من عند اللَّه تعالى بما لم يكن في وسعهم مثله وما أبطل به سحرهم وأثبت به الحجّة عليهم وأنّ اللَّه تعالى بعث عيسى عليه السلام في وقت قد ظهرت فيه الزمانات (الآفات)

واحتاج الناس إلى الطب فأتاهم من عند اللَّه بما لم يكن عندهم مثله وبما أحيى لهم الموتى وأبرء الأكمه والأبرص باذن اللَّه، وأثبت به الحجّة عليهم وأنّ اللَّه تبارك وتعالى بعث محمداً صلى الله عليه و آله في وقت كان الغالب على أهل عصره الخطب والكلام (وأظنه قال: الشعر) فأتاهم من اللَّه عزّ وجلّ بخطبه ومواعظه وأحكامه ما أبطل به قولهم، وأثبت به الحجة عليهم» «1».

إنَّ جميع هذه القرائن تدل على أنّ الاعجاز القرآني كان ولا يزال متكئاً على جانب الفصاحة والبلاغة إلّاأنّ واقع الأمر هو أنّ الاعجاز في الفصاحة والبلاغة كان مورد اهتمام عميق وإن لم ينحصر به. خصوصاً أنّ الجوانب الاخرى من الاعجاز القرآني واضحة جلية.

______________________________

(1) عيون اخبار الرضا، (وفق نقل تفسير نور الثقلين، ج 1، ص 43) ونقله أيضاً الكليني في الكافي والعلامة المجلسي في بحار الأنوار.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 85

وللحصول على معلومات كافية حول اعجاز القرآن فلابد من الالتفات إلى النقاط التالية:

1- تقدمت الإشارة إلى أنّ عرب الجاهلية كانوا على جانب كبير من الفصاحة والبلاغة بحيث إنّ القصائد المتبقية من ذلك العصر ومن جملتها (المعلقات السبع) مازالت تعرف بالقصائد المنتخبة لدى العرب.

إلّا أننا نعلم بانّهم جمعوا قصائدهم كلها بعد نزول القرآن وانحنوا إجلالًا أمام الفصاحة القرآنية المنقطعة النظير، وبالرغم من امتلاكهم كل الدوافع والحوافز الذاتية لمعارضة القرآن ومنازلته إلّاأنّهم أخفقوا في ابداء شي ء ما.

ولقد اطلعنا على نماذج حية واضحة من تأثير القرآن في هذا المجال في البحث السابق لجاذبية القرآن.

2- يقف ثلة من الذين تعرضت مصالحهم اللامشروعة للخطر بوجه رجال الحق دائماً وعلى طول التاريخ، ليوجهوا إليهم التهم والافتراءات، وبالرغم من كونها كاذبة إلّاأنّها تحكي عن بعض الحقائق الموجودة في تلك

البيئة.

فعلى سبيل المثال، من ضمن الافتراءات والتهم التي وجهت إلى نبي الإسلام صلى الله عليه و آله هي مسألة السحر والساحرية، التي كانت تستخدم ضمن نطاق واسع.

ويقول القرآن في الآيات (24) و (25) من سورة المدثر على لسان الوليد كبير المشركين: «فَقَالَ انْ هَذَا الَّا سِحْرٌ يُؤثَرُ* انْ هَذَا الَّا قَولُ البَشَرِ» «1»، فالسبب الرئيس وراء هذه النسبة المفتعلة للنبي صلى الله عليه و آله هو النفوذ العجيب والخارق للآيات القرآنية التي استحوذت على القلوب من خلال فصاحتها وبلاغتها العجيبة؛ بحيث لا يمكن أن يعتبروا هذا النفوذ أمراً عادياً ولذلك لم يجدوا لفظة مناسبة ينسبونها له سوى لفظة (السحر)، التي تعني في اللغة كل عمل خارق للعادة ومجهول المنشأ، فأولئك وإن أرادوا بهذه النسبة أن يسدلوا الستار على هذه الحقيقة الناصعة وينكروا الاعجاز الإلهي، إلّاأنّهم اعترفوا بحديثهم هذا

______________________________

(1) ورد في تفصيل قصة الوليد بن المغيرة وحديثه بصدد جاذبية القرآن في البحوث السابقة.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 86

بدون وعي منهم بعظمة القرآن وجاذبيته السحرية.

3- إنَّ من يتتبع آثار المؤلفين والادباء يجد أنّهم عادة ينقسمون إلى فئتين مختلفتين:

فئة تعلق اهتماماً كبيراً على الجانب الفني للألفاظ، وتجعل المعاني في بعض الأحيان ضحية للألفاظ. وبعكس ذلك فئة لا تولي اهتماماً كبيراً للألفاظ وإنّما تستخدم كامل قدرتها ونبوغها في النظر إلى عمق المعاني ولهذا السبب قسّم كتّاب تاريخنا الادبي والآثار القديمة للشعراء الكبار، إلى اسلوبين مختلفين، الاسلوب العراقي والاسلوب الهندي.

الشعراء الكبار الذين نظموا قصائدهم على النحو الأول، استخدموا قابلياتهم الفنية في مجال التفنن بروعة الألفاظ وحسنها في حين أنّ اتباع النحو الثاني وجهوا اهتمامهم في الغالب إلى دقائق المعاني والملابسات المحيطة بها.

ومما لايقبل الانكار أنّ الذين أبدوا اهتمامهم بكلا الأمرين وخلفوا

وراءهم آثاراً طيبة، هم نزر يسير، إلّاأنّ الحديث عن مدى نجاحهم في هذا المضمار حديث ذو شجون.

والدليل على هذا الكلام واضح، لأنّ الألفاظ الجميلة العذبة لا تتحكم في واقع المعاني المطلوبة، ولا تعكس حقائقها الدقيقة فيها، ولهذا غالباً مايقف الشاعر والمتكلم على مفترق طريقين: جمالية اللفظ وجمالية المعنى ومن ثَمَّ يضطر إلى اختيار أحدهما، ولذلك في كثير من النثر والنظم تذهب المعاني ضحية للسجع والقافية.

غير أنّ الذين اطلعوا على آداب العرب وتعرفوا على حقائق القرآن يفهمون جيداً أنّ هذا الكتاب الإلهي العظيم حافظ على الامتياز المهم وهو الاعجاز، فألفاظه في منتهى العذوبة والحلاوة، والجمل المحبوكة في غاية الدقة والجمال. والكلمات فيه ذات ايقاع ووزن عذب، والمعاني قد اعطي حقها بكل خصائصها ودقتها، وهذه هي احدى أبعاد اعجاز القرآن في الفصاحة والبلاغة.

إنّ القرآن لا يتكلف بأداء المعاني ويبين مراده بوضوح وفي الوقت نفسه يضفي على المعاني ألفاظاً عذبة وفي منتهى الجمال.

4- اشتهر الشعراء والخطباء بهذه الصفة: وهي أنّهم غالباً مايبالغون إلى حد الكذب في

نفحات القرآن، ج 8، ص: 87

أحاديثهم من أجل التوصل إلى حلاوة البيان وطراوته؛ وعلى سبيل المثال يجعلون الطبقات السبع للأرض ستاً، والطبقات السبع للسماء ثمانياً. لتصاعد غبار حوافر خيل العسكر، في الصحراء أو وضع تسعة مقاعد من الفلك تحت قدميه ليصل إلى طول ركاب (قزل ارسلان)، أو يجعلون من القلب بحراً، ومن الدم ومن دمع العين نهر (جيحون) حتى قالوا:

لا تراوغ في الشعر وفي فنه لأن أكذبه هو أحسنه

وعلى هذا الأساس فإنّ اعذب الشعر أكذبه ويشير التعبير القرآني في صدد الشعراء إلى أنّهم غالباً مايستغرقون في تخيلاتهم وتشبيهاتهم الشعرية: «الَم تَرَ أَنَّهُم فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ». (الشعراء/ 225)

غير أننا حينما نقرأ جميع آيات

القرآن فلا نرى فيها أي نوع من المبالغة الكاذبة، بالرغم من وجود كل الدقّة والجمال في الالفاظ والمعاني والتي تشترك في تبيين الحقائق.

ولهذا السبب نشاهد أنّ القرآن يبرى ء ساحة نبي الإسلام صلى الله عليه و آله من تهمة الشاعرية، وساحته أيضاً من تهمة الشعر «1».

نعم على الرغم من خلو القرآن من التخيلات الشاعرية والمبالغات والاستغراقات البعيدة عن الحقيقة الشعرية، والتشبيهات والاستعارات الوهمية، فلايحتوي إلّاعلى بيان الحقائق بصورة واقعية وقطعية، بالرغم من كل ذلك نجده في عين الوقت في منتهى العذوبة والجاذبية بحيث استقطب البعيدين عن الإسلام بل حتى المخالفين للنبي صلى الله عليه و آله وذكرنا أمثلة لذلك في البحث السابق عن جاذبية القرآن.

ومن الجدير بالذكر أنّ ما نقله التاريخ من أن كثيراً من الشعراء العرب عندما اصطدموا بفصاحة القرآن، ارتضوا الإسلام طوع أنفسهم، ومن جملة الشعراء الذين أسلموا تحت تأثير جاذبية القرآن هو (لبيد) الذي كان له في زمن الجاهلية احدى المعلقات السبع (وهي

______________________________

(1) ينقل القرآن هذه التهمة عن المشركين في ثلاث آيات في سور: الأنبياء، 5؛ والصافات، 36؛ والطور، 30؛ وينفيها اللَّه سبحانه وتعالى عن نبيه بصراحة في آيتين من سورة يس، 69؛ والحاقة، 41.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 88

سبع قصائد شعرية معروفة ومتميزة انتخبت وعلقت على جدار الكعبة).

وكذلك حسان بن ثابت وهو من الشعراء الأثرياء فقد أسلم تحت تأثير جاذبية القرآن.

ومن الشعراء الذين دخلوا إلى الإسلام طواعية واستفادوا كثيراً من جاذبية القرآن هم:

(الخنساء) الشاعرة والناقدة العربية، و (الاعشى الذي كان من نوادر الشعراء في عصر الجاهلية.

5- من الظواهر الاخرى للفصاحة والبلاغة القرآنية هو الايقاع الخاص الموجود في القرآن نفسه.

إنّ أحاديث الادباء عادة إما أنْ تكون شعراً أو نثراً، أمّا القرآن فليس شعراً

ولا نثراً عادياً ومعروفاً، وإنّما هو نثر ذو ايقاع خاص به، نثر حينما يتلوه قرّاء القرآن يقع غالباً في قالب موزون كامل.

وإذا كان لا يمكن استعمال كلمة (الموسيقى فيما يخص القرآن لأنّه يمتزج في عُرفنا بالمفاهيم السلبية. إلّاأنّ بعض الكتاب العرب المعروفين نظير (مصطفى الرافعي). يقول في كتابه (اعجاز القرآن): «الاسلوب القرآني يسبب ويوجد الحاناً تلفت اسماع كل مستمع إليها، وهي نوع من الموسيقى الخاصة التي لم تكن في الكلام الموزون في ذلك الزمان وهذا الترتيب والنظم كان يلطف طباع العرب ويعرفهم اسلوباً جديداً في الكلام لم يكن موجوداً سابقاً».

ويقول (بولاتيتلر) أحد العلماء الغربيين في هذا المضمار: «من الخطأ أن نفكر بأنّ الفصاحة الإنسانية تستطيع أن تؤثر بمثل ما يؤثر القرآن لأنّه دائماً يسير باطرادٍ إلى الرفعة بدون أن يرى فيه أي ضعف وفتور، وكل يوم يفتح لنا قمماً جديدة، نعم إنّه معجزة يتضاءل أمامها اناس الأرض وملائكة السماء» «1».

ويضيف إلى ذلك عالم آخر اسمه (كنت هنري دي كستري) قوله: «إذا لم تكن في القرآن غير عظمة المعاني وجمال المباني لكان كافياً لأن يتسلط على كل العقول ويجذب جميع القلوب إليه» «2».

______________________________

(1) إثبات الهداة، ج 1، هامش ص 223.

(2) المصدر السابق، ص 222.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 89

6- ومن الامور المهمّة أيضاً: إنّ أيَّ حديث يبعث الملل والسأم مع التكرار عادةً، إلّا

القرآن فإنّه في منتهى الروعة بحيث لو قرى ء مئات المرات لاحتفظ بجاذبيته ورونقه، الأمر الذي يدركه عشاق القرآن وغيرهم بوضوح.

وهذا ما نقرأه جلياً في الحديث المشهور عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام والذي جاء فيه بأنّ رجلًا سأل الإمام الصادق عليه السلام «ما بال القرآن لا يزداد على النشر والدرس إلّا غضاضة، فقال:

لأنّ اللَّه تبارك وتعالى لم يجعله لزمان دون زمان ولا لناس دون ناس فهو في كل زمان جديد وعند كل قوم غض إلى يوم القيامة» «1».

ويقول علي عليه السلام في جملة مختصرة وبليغة أيضاً: «لا تُخلقُه كَثرة الرَدّ وَولوج السمعِ» «2».

7- ومن دقائق الفصاحة والبلاغة في القرآن هو تجنب كثرة الألفاظ ومراعاة الاختصار، مع ما يؤديه من وضوح المعنى وبيان تمامية المقصود، وهو ما يسمى اصطلاحاً بترك «الايجاز المخل» و «الاطناب الممل».

وقد تمت مراعاة ذلك في آيات القرآن على أحسن وجه، فنجد أحياناً آية واحدة من القرآن تبين معالم قصة طويلة بحيث إنّ كل جملة منها تتكلم عن مجال واسع من هذه القصة، ونقف على هذا في أمثلة كثيرة من القرآن، ومنها الآية المشهورة التي تقول: «وَقِيلَ يَا ارْضُ ابْلَعِى مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِى وَغِيضَ المَاءُ وَقُضِىَ الامْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الجُودِىّ وَقِيلَ بُعْدَاً لِّلقُومِ الظَّالِمِينَ». (هود/ 44)

نعم هذه هي الآية نفسها التي جثى لها الأديب العربي المعروف (ابن المقفع) على ركبتيه عندما قصد القيام بمعارضة أحد أرباع القرآن حسب الاتفاق الذي عقده مع أصحابه، وحينما وصل إلى هذه الآية أعرض عن ذلك وأقرّ في نفسه بالضعف والعجز الكامل.

ذلك لأنّها تروي قصة طوفان نوح عليه السلام باختصار بارع بكل تفاصيلها ونتائجها، وبعبارات قصيرة وغنية بالمعاني، وحسب قول أحد المحققين إنّها تشتمل على 23 نكتة من

______________________________

(1) بحارالأنوار، ج 17، ص 213.

(2) نهج البلاغة، الخطبة 156.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 90

النكات الأدبية، من قبيل: (الإستعارة، الطباق، مجاز الحذف، الإشارة، الموازنة، الجناس، التسهيم أو الإرسال، التقسيم، التمثيل، الارداف و ...) «1».

8- احدى خصائص القرآن من الناحية الادبية، هي الصراحة القاطعة بما يقل نظيرها، اضافة إلى اللطافة والدقّة في العبارات.

ومن

المعلوم أنّ كل إنسان يستمتع بالنبرة الصريحة لأحد الفصحاء، ذلك لأنّه يبيّن الحقائق بصدق وأمانة وبدون أي تشويه أو تشويش، وليس هناك لذة تفوق لذة درك الحقائق.

إنّ التشدق والتحدث بأشكال متعددة، يدل بوضوح (إلّافي الموارد الاستثنائية) على عدم إيمان المتكلم بأقواله، أو على مخاوفه واحتراسه من حكم المستمعين له، وفي كلتا الحالتين يحكي ذلك عن ضعف وعجز المتكلم.

وتقترن الصراحة والصدق القاطع بالخشونة في أغلب الأحيان والمهم في الأمر أنّ على المتكلم في الوقت الذي يكون صريحاً فيه أن يهتم بلطافة البيان أيضاً، ونشاهد ذلك في آيات القرآن بشكل واضح.

ومن أهم الجبهات القتالية للإسلام هي جبهة التوحيد والشرك، وقد استفاد القرآن من أعلى مراتب الصراحة والقاطعية في هذا المجال فتارة يقول: «انَّ الّذينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابَاً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَانْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لَّايَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالمَطلُوبُ». (الحج/ 73)

وتارة اخرى يقول رداً على عبدة الأوثان الذين احتموا بذريعة اتباع عقائد آبائهم وأشرافهم هروباً من المنطق الصاعق للقرآن: «بَلْ نَتَّبِعُ مَا الْفَيْنَا عَلَيهِ آبَاءَنَا اوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَايَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ». (البقرة/ 170)

وفي موضع آخر يصعد من حدة قاطعيته في مقابل التوسل بآداب وتقاليد الأجداد بقوله على لسان إبراهيم عليه السلام: «لَقَدْ كُنْتُم انْتُم وَآبَاؤُكُم في ضَلَالٍ مُّبِينْ». (الأنبياء/ 54)

______________________________

(1) أساليب اعجاز القرآن، ص 52.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 91

ويقول في صدد الإيمان بنبي الإسلام صلى الله عليه و آله: «فَلَا وَرَبِّكَ لَايُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيَما شَجَرَ بَيْنَهُم ثُمَّ لَايَجِدُوا في انْفُسِهِم حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيَماً». (النساء/ 65)

وعلى هذا الأساس يعتبر الشرط الأساسي للإيمان الصادق التسليم ظاهراً وباطناً وسراً وعلانيةً، إضافة إلى ايجاد الانسجام بين الرغبات الذاتية والأوامر النبوية الشريفة، وبالرغم من كل

هذه الصراحة والقاطعية نشهد اللطافة والدقة في العبارات بصورة كاملة أيضاً.

ونلاحظ هذه الحدية أيضاً بشكل واضح في المباحث الاخرى ذات العلاقة بالمبدأ أو المعاد، والقوانين الاجتماعية، أو المسائل المتعلقة بالحرب والصلح، أو البحوث الأخلاقية، والتي يتطلب شرح كل واحدة منها كتاباً مستقلًا.

9- المتانة والنزاهة في البيان: الأشخاص الاميون لا يعبأون بعباراتهم عادة وغالباً ما يستعينون بالجمل البعيدة عن الأدب والذوق من أجل التوصل إلى أداء مقاصدهم من الكلمات، وبالرغم من أنّ القرآن ظهر في أوساط هذه الفئة من الناس، إلّاأنّه لم يتأثر بتلك البيئة على الاطلاق، وحرص على مراعاة منتهى المتانة والعفة في تعبيراته وهو ممّا أضفى على فصاحة القرآن وبلاغته طابعاً خاصاً.

وحينما يتصدى الخطباء والكُتّاب الكبار لحوادث العشق أو مسائل اخرى مشابهة، فهم يضطرون لأن يطلقوا العنان لألسنتهم وأقلامهم كيفما شاؤا فيطرحون ألواناً كثيرة ومختلفة من التعابيرالمهيجة والمؤذية لرسم معالم الصورة الواقعية للأبطال الحقيقيين في القصة، وإمّا أن يسدلوا ستار الغموض والإبهام على جانب من هذه الوقائع- مراعاةً للعفة والذوق العام- ويتحدثوا مع رقبائهم بشكل مغلق.

والجمع بين هذين الأمرين: أي رسم معالم الواقع بصورة كاملة، وعدم تلوث القلم واللسان بكل ما يخدش العفة والآداب، يعتبر أمراً في منتهى الصعوبة لا يؤديه إلّاالقليل.

فكيف يمكن أن نتصور شخصاً اميّاً ظهر في مجتمع متخلف متوحش يحدد المعالم الدقيقة كاملة للأوضاع القائمة، ثم لا نجد في تعابيره أدنى معنى يخدش العفة والآداب؛ وعلى سبيل المثال حينما يبدأ القرآن في وصف الوقائع الحساسة لقصة يوسف الواقعية وما

نفحات القرآن، ج 8، ص: 92

اشتملت عليه من معاني الحب والغرام الذي اشتعل في قلب تلك المرأة الجميلة المتهورة نجده يستفيد من جميع اصول الأخلاق والعفاف من دون أي تمويه وتعتيم على الحقائق، أو إجمال الحوادث

في جو من الابهام والغموض، إنّه لا يدع أي شاردة وواردة في الحديث إلّا وذكرها ولكنه لا يتطرق إلى أدنى انحراف عن اصول العفة في البيان، فعلى سبيل المثال يقول في صدد شرح قصة اختلاء زليخا بيوسف عليه السلام: «وَرَاوَدَتْهُ الَّتِى هُوَ فِى بَيْتِهَا عَنْ نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الابْوابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ انَّهُ رَبِّى احْسَنَ مَثْوَاىَ انِّهُ لَايُفْلِحُ الظَّالِمُونَ». (يوسف/ 23)

ومن الجدير بالذكر استعمال القرآن لكلمة «راود» التي تستفاد في مورد الالحاح في الطلب من إنسان ما بشي ء من الهدوء والمرونة، وهي تنسجم تماماً مع أداء المعنى المقصود هذا من جهة، ومن جهة ثانية، لا يذكر اسم زليخا ولا زوجها عزيز مصر بل يقول: «الَّتي هُو في بَيْتِها» من أجل أن يبيّن مروءة يوسف وعدم خيانته لمولاه، كما يبين في الوقت ذاته تقواه، ومقاومته لمن يعيش في كنفه وتحت إمرته.

ومن جهة ثالثة تشير جملة «غَلَّقَتِ الابْوَابَ» التي تفيد معنى المبالغة بحكم مصدر باب التفعيل إلى مدى صعوبة الموقف وتلاطم الاحداث التي مرت بها هذه الواقعة.

ومن جهة رابعة توضح جملة «قَالَتْ هَيْتَ لَكَ» ذلك الحديث الأخير لزليخا الذي قالته لبلوغ وصال يوسف، إلّاأننا نلاحظ هنا مدى رزانته وقوة سبكه المصحوبة بنزاهة البيان وسمو المعنى

ومن جهة خامسة يشير كلام يوسف: «مَعَاذَ اللَّهِ انَّهُ رَبِّى احْسَنَ مَثْوَاىَ» راداً على زليخا مندداً بها وبصرامة، بمعنى انني لا أقوم بخيانة صاحب البيت الذي أنعم عليَّ وقاسمته هموم العيش، بالرغم من الأيّام القليلة لتي قضيتها في هذا البيت فما بالك أنت وقد قضيت هنا عمراً طويلًا.

وتوضح الآيات اللاحقة التي يطول شرحها هذه القصة بشكل رائع، ومن ثم ترسم معالم المقاومة الخيرة، لعواصف الهوى والتهور وتسليم الامور الذاتية بيد

اللَّه تعالى في هذه المشاهد بشكل ممتع وجميل.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 93

وفي آية اخرى عندما يصف أحاسيس نساء مصر، حينما دعتهن زليخا إلى ضيافتها لتبرئة نفسها، يقول في جملة مختصرة: «فَلَمَّا رَأَيْنَهُ اكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ ايْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً انْ هَذَا الَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ». (يوسف/ 31)

ويدل تعبير «مَلَكٌ كَريمٌ» على مدى عفَّته ونقائه الفائقين فضلًا عن دلالته على مدى جماله المنقطع النظير، وهذا مثل تعبيرنا عن عفة أحد الأشخاص عادة بأنّه مَلَك من الملائكة، وكذلك توجد على أثر هذه الحوادث جمل تحتوي على قدر كبير من الفصاحة والجمال، تدلل على عظمة ومقام يوسف بصورة كاملة ذلك المثل الأعلى في العفة والطهارة «1».

10- أمثلة القرآن: يستخدم القرآن أمثلة كثيرة من أجل تبيان الحقائق وهي بأجمعها تجليات واضحة للفصاحة والبلاغة في هذا الكتاب الإلهي العظيم، ممّا يبعث على اعتزاز الإنسان واعجابه الكبير، وهي الادوات الدقيقة التي استخدمت في هذه الأمثلة والامور الصغيرة الجذابة الممتعة التي نلاحظها في كل واحد منها:

وممّا لا يقبل انكاره أساساً هو دور المثال في توضيح وتفسير البحوث، ولهذا السبب لا يمكن الاستغناء عن ذكره في أي مبحث مهم، لتوضيح الحقائق وتقريبها من الذهن.

فالمثال الجيد والمنسجم مع المعنى المقصود يمكن أن يؤدّي دور أحد الكتب أحياناً، فيوضح المطالب المعقدة ويجعلها قابلة للفهم، ولهذا يعتبر التمثيل من أحد الفنون التي يعتمد عليها الفصحاء والبلغاء والادباء والشعراء في العالم؛ يقول الزمخشري في الكشاف في صدد (المثل):

المثل في أصل الكلام معناه المِثْل ويعني النظير ... ولضرب الأمثال عندهم والتحدث بالأمثال والنظائر لدى العلماء شأن رفيع ذلك لأنّها ترفع الحجاب عن المعاني الخفية وتوضح النكات المبهمة بحيث يصبح الأمر المتخيل حقائق ويقع الشي ء المتوهم مستيقناً في محله

وتتجلى صورة الغائب على غرار صورة الشاهد ولهذه الجهة أورد اللَّه تعالى أمثالًا كثيرة في كتابه القرآن المبين وسائر كتبه الاخرى «2».

______________________________

(1) لمزيد من الاطلاع يُراجع التفسير الأمثل ذيل الآية 31 من سورة يوسف.

(2) أمثال القرآن، ص 120.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 94

وللأمثلة فوائد عديدة، منها أنّها تجعل المسائل العقلية حسية وتقرب الطرق البعيدة، وتوصل فهم المسائل إلى جميع الناس وبصورة شاملة، وتصعّد درجة الاطمئنان بالامور المطروحة، ومن ثم المثال المناسب يعتبر رداً صاعقاً على منطق المعاندين، وقد جمع بعض المحققين أمثال القرآن في كتاب درس وحلل فيه أكثر من مائة مثال قرآني.

إنّ أمثلة القرآن معجزة حقاً، ويكفي من أجل الوصول إلى هذه الحقيقة، أن نجعل قسماً منها مورداً للبحث.

مقتطفات من الأمثلة الاعجازية للقرآن:

حينما يريد القرآن رسم مشهد دقيق عن الحق والباطل يقول: «انْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ اوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدَاً رَّابِيَاً وَمِمَّا يُوْقِدُونَ عَلِيهِ فِى النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ اوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الحَقَّ وَالبَاطِلَ فَامَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَامَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِى الارْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الامْثَالَ». (الرعد/ 17)

لقد بيّن اللَّه تعالى معالم صورة الحق والباطل على احسن وجه في هذا المثال الغزير بالمعاني والمشتمل على ألفاظ وعبارات موزونة، وتجدر الإشارة هنا إلى بعض الحقائق المهمّة التي تضمنها هذا المثال:

1- يحدث أحياناً أن تلتبس كثيراً عملية التمييزبين الحق والباطل ممّا يقتضي الرجوع إلى الأمثلة والأدلة.

2- الحق دائماً يعود على الإنسان بالخير والفائدة شأنه شأن الماء الصافي الذي هو مادة الحياة أو نظير المعدن الخالص الذي يستخدم للزينة أو لوسائل الحياة الضرورية.

3- الحق غني في ذاته قائم بنفسه دائماً، أمّا الباطل فيستمد العون من مكانة الحق ويسعى إلى التلبس به والاستفادة من

قيمه مثلما يستمد أي نوع من أنواع الكذب وجوده وشأنه من الصدق بحيث لو لم يظهر على مسرح الوجود كلام صادق لم يتصور أحد معنى الكذب، وإذا لم يكن للحق وجود لما عُرف الباطل.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 95

4- إنّ استفادة أي موجود بحسب قابليته وقدرته كما يجمع الوادي من ماء المطر على قدر اتساعه واستيعابه.

5- الباطل يبحث دائماً عن سوق مضطرب، مثله كمثل الماء المنحدر من قمة الجبل فانّه ينهمر بسرعة مصحوبة بهدير وتلاطم يعلوه الزبد، أمّا عندما يصل إلى السهل فإنّ هديره وهيجانه سوف يهدأ وكذلك الزبد فانه يختفي ولا يبقى له أثر.

6- الباطل لايظهر في صورة واحدة وإنّما يظهر في كل لحظة بشكل معين، مثلما يطفو الزبد على سطح الماء وعلى سطح المعادن في فرن صهر المعادن، لذلك لا ينبغي الانخداع بتلك المظاهر المختلفة على الاطلاق، ولابد من تحديد مقاييس لمعرفة الحق والباطل، لتشخيص وفرز كل واحد منهما عن الآخر.

7- الصراع بين الحق والباطل مستمر استمرار الحياة ويتوارث من جيل لآخر فهذا ماء عذب فرات وهذا ملح اجاج، يسري بين الخلائق حتى ينفح في الصور فكما أن تساقط الأمطار من السماء وذوبان المعادن في فرن صهر المعادن مستمر ودائم، كذلك هذا الأمر مستمر ودائم أيضاً.

8- الباطل يميل إلى التعالي وجلب الأنظار، لكنه خاوٍ من أي محتوى أمّا الحق فيمتاز بالتواضع والهدوء والمهارة في الفن.

وهناك نكات أخرى يمكن استخلاصها من هذه الأمثلة وفي مجالات مختلفة إذا ما دققنا النظر في الزوايا المختلفة لهذه الآية.

وهذه الآية تمثل نموذجاً من الأمثال القرآنية، وهناك أمثال أخرى نظير المثل الذي يدعو الناس للانفاق في سبيل اللَّه سبحانه وتعالى، ويشبه ذلك بالحبوب والسنابل، كما ورد في الآية 261 من سورة

البقرة، وكالمثال الذي ورد في ذم الأعمال المقرونة بالرياء حيث صورها القرآن كالحجر الصلب الذي يعلوه التراب، فاذا أصابه المطر أزال عنه التراب وتركه صلداً أملساً، أما الأعمال الخالصة لوجه اللَّه فقد شبهها المثل بالجنة على مكان مرتفع وأصابها المطر فآتت ثمارها ضعفين. كل ذلك ورد في الآيتين 264 و 265 من سورة البقرة.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 96

وكالذي ورد في صدد أعمال الكفار وتشبيهها بالرماد في مهب الريح (إبراهيم/ 18)، أو تشبيهها بالسراب (النور/ 39)، أو بالظلمات المتراكمة في البحر عند قدوم الليل والسحب تغطي السماء (النور/ 40).

وكالذي ورد في صدد أعمال المنافقين وتشبيهها بالشخص التائه في صحراء مقفرة في الليل البهيم، وقد هزمته صواعق الرعد والبرق وإذا به يرى لحظة واحدة أنّ أشعة البرق قد أضاءت ما حوله وحين يعقد العزم على التحرك في طريقه تعود الظلمة لتغطي كل ما يقع عليه نظره (البقرة/ 19 و 20).

وكالذي ورد في صدد تمسك عبدة الأصنام باصنامهم العديمة الشعور والقدرة وتشبيهها ببيت العنكبوت (العنكبوت/ 41).

وما ورد في صدد تشبيه المغتابين بأولئك الذين يأكلون لحوم إخوانهم الموتى (الحجرات/ 12) ومن ثم ما ورد في صدد الذات المقدّسة لله تعالى بأنّه نور السموات والأرض، وتشبيه ذلك النور بالمصباح والخواص المتعلقة به المقترن بأنواع الظرافة والروعة (النور/ 35).

ويمكن إزاحة الستار في هذا القسم من الفصاحة والبلاغة القرآنية عن موارد اخرى كثيرة يستغرق الكلام عنها وقتاً طويلًا، وهي بدورها تطلعنا على حياة مليئة بالقيم وأضدادها تواجهنا في حياتنا اليومية وتبين لنا عالماً من المعارف في حلة من الأمثلة البديعة.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 97

2- الاعجاز القرآني على صعيد المعارف الإلهيّة

بعد الكلام عن مسألة الفصاحة والبلاغة وصل بنا المطاف للحديث عن المضمون وقبل كل شي ء نتعرض لمسألة المعارف

ونحاول بيان المسائل المتعلقة بالمبدأ والمعاد والعقائد الدينية.

ومن الامور الأساسية هي أنّ بيان المسائل ذات العلاقة بالمبدأ والمعاد والنبوة والإمامة، يُعدُّ أحد المعايير الفاصلة بين الأديان الحقة والباطلة، لأنّ بحوث هذا القسم وبالأخص ما يتعلق بالذات القدسية لله تعالى وصفاته واسمائه في غاية الدقة والتعقيد، بحيث يصبح الحد الفاصل بين الشرك والتوحيد ادق من الشعرة أحياناً.

إنّ هذا القسم من الآيات القرآنية على جانب كبير من الابداع والعمق والدقة، بحيث لو لم يوجد دليل على اعجازه سوى الايضاحات الدقيقة التي يبينها في هذه المسائل، لكان هذا كافياً للاستدلال عليه.

خصوصاً وأنّ القرآن ظهر في بيئة عاكفةٍ على عبادة الأصنام مملوءه بالمعابد بدءاً من الأصنام المنزلية وانتهاءً بالاصنام العشائرية والأصنام الكبيرة العامة، التي كانت مقصداً لكل بلد وحي.

لقد كانوا يصنعون الأصنام بأيديهم من الاخشاب أو الصخور أو المعادن، وبالرغم من علمهم بعدم امتلاكها لأدنى احساس وشعور وحركة ورؤية، نجدهم ينسبون إليها القدرة الهائلة استناداً إلى جملة من التخيلات المحضة الركيكة التي تدور في أذهانهم، ومن ثم يسلمونها مقاليد امورهم ومقدراتهم ويخضعون لها في عجز وتضرع يلتمسونها ويسجدون

نفحات القرآن، ج 8، ص: 98

لها ويقدمون لها القرابين حتى تصير واسطة للفيض والشفاعة بينهم وبين اللَّه تعالى وكان يصل بهم الأمر أحياناً إلى أن يصنعوا أصناماً من التمر، واتفق في احدى سني القحط أن خلت منازلهم من الطعام فحملوا على آلهتهم التي صنعوها بأيديهم فأكلوها، ومن شواهد هذه القصة هو الشعر الذي لا يزال شاخصاً بين أشعار عصر الجاهلية:

أكلت حنيفةُ ربَّها عامَ التقحمِ والمجاعه لم يحذروا مِن ربّهم سوءَ العواقبِ والتباعه

وهذه الأفكار هي من أسوأ الأفكار خرافية وانحطاطاً وأكثرها سخافة والتي يمكن أن تخطر في ذهن إنسان.

إنّ الأكثرية الساحقة من عرب

الجاهلية تعتبر الملائكة بنات اللَّه، في حين أنّهم أنفسهم كانوا ينفرون من مجرد سماع اسم البنت- لما أُثر عنهم من تحقيرهم للمرأة في تلك البيئة- كما نقرأ ذلك في قوله تعالى «وَاذَا بُشِّرَ احَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحَمنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ». (الزخرف/ 17)

وتوجد هناك مسائل خرافية اخرى كثيرة يطول شرحها سواء في مبحث المعرفة الإلهيّة أو في مبحث المعاد وغيرها.

وعندما نشاهد شخصاً ظهر من تلك البيئة يدعو إلى التوحيد الخالص والمعارف الأصيلة ببيان دقيق يذعن له كبار الفلاسفة، حينئذٍ لا يعترينا الشك بأنّ بيان مثل هذه المعارف لا يصدر إلّامن اللَّه عزّ وجلّ، وليست هناك أدنى مبالغة في هذا القول ولا حاجة إلى قطع طريق بعيد طويل للتوصل إلى الحقيقة، فاذا القينا نظرة على المجلد الثاني والثالث من هذا الكتاب «نفحات القرآن» حيث تضمن المجلد الثاني بحثاً عن اللَّه سبحانه وتعالى والثالث حول معرفة اللَّه لاطلعنا على سعة المعارف القرآنية وعمقها، وكذلك الحال بالنسبة إلى المعاد في القرآن فقد افرد له بحث واسع في المجلد الخامس والسادس من نفحات القرآن.

لذا نقف هنا عند البحث الإجمالي ونكتفي باشارات عابرة في هذا المجال، الغرض منها

نفحات القرآن، ج 8، ص: 99

ان نعود بقرّائنا الأعزاء إلى المجلدات السابقة.

وبالرغم من سيطرة فكرة الشرك بالله وعبادة الأصنام على تلك البيئة بحيث لا يجرؤ احد على النيل من هذه العقيدة بادنى لوم أو اعتراض، انبرى القرآن بقاطعية كاملة إلى ضرب تلك العقيدة الخرافية، فتارة ينقل ذلك على لسان إبراهيم الخليل عليه السلام فيقول: «قَالَ افَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَالَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلَا يَضُرُّكُمْ* افٍّ لَّكُم وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ افَلَا تَعْقِلُونَ». (الأنبياء/ 66- 67)

وتارة اخرى يقول في صدد قصة عجل

السامريّ الذي أصبح مورداً لإغواء عدة من جهال بني اسرائيل واغترارهم به: «افَلَا يَرَوْنَ الَّا يَرْجِعُ الَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرَّاً وَلَا نَفْعَاً». (طه/ 89)

وبجملة مختصرة: إنّ القرآن يندِّد كثيراً بالشرك ويذم عبادة الأصنام بحيث إنّه يعفو ويصفح عن جميع الذنوب ما عدا الشرك، فيقول: «انَّ اللّهَ لَايَغْفِرُ انْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى اثْمَاً عَظِيَماً». (النساء/ 48)

إنّ هذا التنديد القاطع والحاسم بفكرة عبادة الأصنام يعدّ بحق أمراً فريداً من نوعه؛ لأنّ هذه الفكرة تعتبر سُنّة معروفة للأجداد، والثقافة الرائجة في جميع أنحاء تلك البيئة بحيث إنّ العدول عنها يُعد من عجائب الامور ومورداً لكل أنواع الذم والتقريع، أمّا نحن ففي الوقت الحاضر نلقي نظرة عفوية على هذه الآيات ونعتبرها أمراً عادياً بغض النظر عن أنّ تلك البيئة كانت تعيش ضمن ظروف وأوضاع خاصة تختلف عن أوضاعنا، هذا من جانب ومن جانب آخر عندما يشرع في بحث التوحيد، يعمد إلى طرح الدلائل الفطرية والمنطقية و (برهان النظام) و (برهان الصديقين) بشكل لا يتصور الإنسان ما هو أروع منه.

ويشير في بحث التوحيد الفطري إلى المسألة التي كانت تحدث في حياة كل أولئك الناس وبأشكال مختلفة فيقول: «فَاذَا رَكِبُوا فِى الفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الّدِينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ الَى البَرِّ اذَا هُمْ يُشْرِكُونَ». (العنكبوت/ 65)

وبهذه الطريقة يبيّن استقرار نور التوحيد في أعماق وجودهم ووجدانهم، ويزيح النقاب

نفحات القرآن، ج 8، ص: 100

نفحات القرآن ج 8 149

عن طوفان الحوادث تلك الشعلة المستترة في أقبية الجهل والجاهلية، فعندما يأتي إلى التوحيد الاستدلالي يقول في جملة مختصرة: «أَفِى اللَّهِ شَكٌ فَاطِرِ السَّموَاتِ وَالارْضِ».

(إبراهيم/ 10)

بعد هذا البيان الإجمالي يأخذ بيد البشرية ويجوب

كل نقطة من نقاط هذا العالم الفسيح ليريهم الآيات في الآفاق وفي أنفسهم واحدة تلو الاخرى فتارة يقول: «وَفِى الارْضِ آيَاتٌ لِّلمِوقِنِينَ* وَفِى انْفُسِكُمْ افَلَا تُبْصِرُونَ». (الذاريات/ 20- 21)

ثم بالبراهين المفصلة على عظمة اللَّه تعالى وقدرته وحكمته في السماءوالنجوم والأرض، والنباتات والطيور، والليل والنهار، والهواء والمطر .... فيستأنس الإنسان عند البحث فيها وتأخذه حالة سرور غامر «1».

ونجده يبدي رأيه أيضاً حينما يشرع في بحث الصفات الإلهيّة وهو من أعقد الأبحاث العقائدية وواحد من أهم المنزلقات الفكرية المحيرة لكثير من العلماء؛ ففي أحد المواضع يكرم اللَّه تعالى وينزهه من أي نوع من الصفات الممكنة المحدودة الناقصة، فيقول في جملة مختصرة: «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَى ءٌ». (الشورى 11)

وعلى هذا الأساس ينفي عنه جميع الأوصاف الممكنة، ويثبت له الصفات الجمالية والكمالية المنقطعة النظير.

ويتوسع في كلامه أحياناً فيقول: «هُوَ اللَّهُ الَّذِى لَاالهَ الَّا هُوَ عَالِمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيْمُ* هُوَ اللَّهُ الَّذِى لَاالهَ الَّا هُوَ المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلَامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ العَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ* هُوَ اللَّهُ الخَالِقُ البَارِى ءُ المُصَوِّرُ لَهُ الاسْمَاءُ الحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِى السَّمواتِ وَالارْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ». (الحشر/ 22- 24)

وفي الواقع أننا لو عقدنا مقارنة بين الوصف الذي رسمه القرآن في عدّة آيات عن خالق الكون وبين الرؤية التي يمتلكها المشركون والانطباعات السائدة في بيئة ظهور القرآن عن اللَّه تعالى لما أمكن تصور أن هذا البيان الساطع الفريد من نوعه هو وليد تلك البيئة الخرافية المظلمة اطلاقاً.

______________________________

(1) شرحنا هذه الآيات تحت عشرين عنواناً في ج 2، من هذا التفسير.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 101

ويصف في موضع آخر العلم اللامحدود للَّه تعالى بهذا الرسم الذي يفوق حد التصور «وَلَوْ انَّمَا فِى الارْضِ مِن شَجَرَةٍ اقْلامٌ وَالبَحْرُ يَمُدُّهُ

مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ ابْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ». (لقمان/ 27)

في واقع الأمر أنّ هذه الصورة تتضمن الإشارة إلى حالة غير متناهية إلّاأنّها صورة حية، لأنّ العدد اللامتناهي قد يستفاد منه بشكل جامد في الرياضيات والتوضيحات الفلسفية، وقد يستفاد منه وهو ينبض بالحياة على شاكلة الصورة التي وردت في هذه الآية بحيث ترتقي بفكر الإنسان، إلى ذرى اللانهاية.

ونحن عندما نستطيع أن نقف على عمق المعارف الإسلامية فيما يخص أدق المسائل التوحيدية والأسماء والصفات الإلهيّة نكون قد بحثنا دورة لكل القرآن المجيد بهذا الصدد «1».

وحينما يضع القرآن اللبنات الاولى لمسألة المعاد والحياة بعد الموت نجده تارة يفند جميع المزاعم والافتراضات الخاطئة للمناوئين في جملة مختصرة ويقول: «كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ». (الأعراف/ 29)

وتارة يقول في تبيان أوسع: «اوَلَيْسَ الَّذِى خَلَقَ السَّمواتِ وَالارْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الخَلَّاقُ العَليمُ* انِّمَا امْرُهُ اذَا ارَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ». (يس/ 81- 82)

وتارة اخرى يجسم لهم مشهد المعاد والبعث في لوحة حية بدون أن يكلفوا تفكيرهم عناء الاستدلال: «يَا ايُّهَا النَّاسُ انْ كُنْتُم فِى رَيْبٍ مِّنَ البَعْثِ فَانَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِى الارْحَامِ مَا نَشَاءُ الَى اجَلٍ مُّسَمّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُم طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا اشُدَّكُمْ وَمِنْكُم مَّنْ يُتَوَفّى وَمِنْكُم مَّنْ يُرَدُّ الى ارْذَلِ

______________________________

(1) يراجع ج 3 من هذا التفسير، للحصول على معلومات واسعة ومنظمة بهذا الصدد.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 102

العُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الارْضَ هَامِدَةً فَاذَا انْزَلْنَا عَلَيْهَا المَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَانْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ* ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الحَقُّ وَانَّهُ يُحْىِ المَوْتى وَانَّهُ عَلَى كُلِّ شَى ءٍ قَدِيرٌ».

(الحج/ 5- 6)

وبناء على ذلك يبين القرآن مشهد البعث في عالم الإنسان وطيّه لمختلف المراحل الجنينية التي تُعدُّ كل واحدة منها بعثاً عظيماً، وفي عالم النباتات أيضاً نلاحظ مشهد الموت والحياة وبعثها في كل شتاء وربيع من كل سنة.

إنّ الآيات التي تطرقت إلى الحياة بعد الموت والأدلة المختلفة عليها تعرضت إلى المنازل والمشاهد المتعددة للآخرة، وما يقع هناك من حوادث، وكيفية تجسُّم الأعمال والحساب والكتاب والميزان والشهود في يوم القيامة، وتحتوي هذه الآيات على امور ومسائل دقيقة، تجعل الإنسان عند مطالعتها والتأمل فيها في حالة غامرة من العجب، وبإمكانكم مطالعة نبذة من هذه المسائل بشكل موسع في المجلد الخامس والسادس من هذا الكتاب.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 103

3- إعجاز القرآن في تصور العلوم الحديثة

اشارة

قبل الدخول في هذا البحث لابدّ من الإشارة إلى نقطتين لتصحيح أي نوع من سوء الفهم بصدد هذا البحث:

1- يجب أن لا يتوقع أحد أن يُبيّن القرآن الكريم جميع مسائل العلوم الطبيعية وأسرار وخواص كل الأشياء، لأنّ القرآن لم ينزل لبيان هذه الامور، فهو ليس دائرة للمعارف أو كتاباً لعلم طبقات الأرض «الجيولوجيا» أو لعلم النبات وإنّما هو كتاب للتربية والهداية، نزل ليقود الناس إلى حياة طيبة مقترنة بالسعادة والفضيلة ويحكمها الصدق والأمانة والنظام والرحمة، وليوصلها في النهاية إلى القرب من اللَّه تعالى

وأمّا الغرض من قوله تعالى في صدد القرآن الكريم: «وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَانَاً لِّكُلِّ شَى ءٍ». (النحل/ 89)

فهو لبيان كليات الامور التي تتعلق بنجاة الإنسان وسعادته وتربيته ولذلك يقول تعقيباً على هذه الجملة: «وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلمُسْلِمِينَ». (النحل/ 89)

بيدَ أنّ بعضاً من الآيات الإلهيّة ومن أسرار الخلق في العالم وفي وجود الإنسان ذاته تساعد على معرفة اللَّه والتعرف على عظمة عالم الخلائق الذي هو من صنع اللَّه

تعالى لذلك قد نجد أحياناً إشارات إلى هذه المسائل بين الآيات القرآنية وقد رفعت الستار عن امور خفيت واستترت عن جميع علماء العالم في ذلك الوقت.

وملخص الكلام هو: أنّ الإتيان ببعض أسرار العلوم وحقائق عالم الوجود في القرآن لا لعرض العلوم الطبيعية أو لتأليف دائرة للمعارف بل الغرض منه هو تبيين الأهداف التربوية

نفحات القرآن، ج 8، ص: 104

والأخلاقية، وتعليم درس التوحيد ومعرفة اللَّه، وفهم أسماء وصفات الحق، أو الاطلاع على جانب من أسرار المعاد وما شاكل ذلك.

2- هل من الصحيح التشبث بمثل هذه البحوث وتطبيق الآيات القرآنية على الاكتشافات العلمية؟ هل يحق لنا أن نطبق المسائل المختلفة للعلوم الطبيعية على الآيات القرآنية، أو بالعكس؟ في حين أنّ آراء العلماء لا تستقر على حال، وهي في تغير دائم، ولذلك ليس من المنطق في نظرنا أن نطبق أمراً ثابتاً مستحكماً على آخر متغير؟

للاجابة عن هذا السؤال لابدّ من القول: إنّ هناك ثلاثة آراء مختلفة، فأتباع الرأي الأول وهم الذين اتخذوا جانب الإفراط في هذا المجال، فقد طبقوا الآيات القرآنية على الفرضيّات العلمية لأدنى تناسب أو توافق بينهما- لا على الحقائق المسلَّمة والقطعية للعلوم- ظناً منهم أنّهم قد أسدوا خدمة إلى معرفة القرآن من هذا الطريق.

في حين أننا نعلم في وقتنا الحاضر أنّ القيام بهذا العمل يعد خطأً كبيراً لأنّه لا يعد عدم خدمة للقرآن فحسب، بل سبباً لسقوط اعتبار القرآن ومكانته، لأنّ الفرضيات العلمية- لا القوانين المسلَّمة- في حالة تحول وتغير مستمر، ولذلك ليس من المنطق ولا هي خدمة للعلم والعقيدة أن نقوم بتطبيق الحقائق القرآنية الثابتة على جملة من الامور المتحولة والمتغيرة، والمشكوكة أو المظنونة.

وأمّا القائلون بالرأي الثاني: فهم الذين سلكوا طريق التفريط، واعتقدوا بعدم جواز التطبيق

في أي مورد من الموارد حتى في المسلّمات العلمية التي تنسجم بصورة أو بأخرى مع العبارات القرآنية الصريحة، وهذا يعدُ نوعاً من التعصب والجمود والبعد عن المنطق والدليل أيضاً.

و أمّا الرأي الثالث وهو الذي يمثل الحالة الوسط بين هاتين النظريتين الخاطئتين، فلو خرجنا من حيز الافتراضات ودخلنا في عالم القوانين العلمية الثابتة بالدلائل القطعية أو الشواهد المُسَلَّمة لكانت دلالة القرآن على هذه الامور صريحة وواضحة.

فما هو المانع من تطبيق هذه المسائل على آيات القرآن؟ ولماذا نتخوف من هذا

نفحات القرآن، ج 8، ص: 105

الانسجام الذي هو أحد الأدلة على عظمة هذا الكتاب السماوي؟ وإذن ما المانع من أن يكشف القرآن الستار بوضوح عن البحوث التوحيدية ومعرفة اللَّه تعالى والمسائل التربوية المستندة لجملة من الحقائق العلمية المجهولة بصورة كاملة في ذلك العصر، ومن ثم يوجه أتباعه ويوقفهم على هذا الأمر، فبالإضافة إلى تحقق النتائج التوحيدية والأخلاقية من وراء ذلك، يعتبر إمارة واضحة على حقانية القرآن فضلًا عن أنه يفتح باباً واسعاً للعلوم والمعارف.

وعلى هذا الأساس سنتطرق بدقة إلى نقطتين مهمتين في هذا البحث المتواصل وهما:

1- سنختار المسائل الثابتة والمسلَّمة مائة بالمائة من العلوم الطبيعية مثل قانون الجاذبية، والزوجية في عالم النباتات، حركة الأرض، وحركة المنظومة الشمسية، وأمثال ذلك ممّا ثبت بالأدلة الحسية في يومنا هذا.

2- سننتخب من الآيات في هذا المجال ما هو صالح للانطباق على القواعد العلمية العصرية بدون أدنى تكلُّف أو تأويل، أو بعبارة اخرى فدلالة الآيات التي تقع مورداً للقبول، هي التي تكون وفق القواعد الأدبية التي يكثر فيها استفادة المعاني من الجمل والكلمات.

1- القرآن وجاذبيته العامة

نقرأ في قوله تعالى «اللَّهُ الَّذِى رَفَعَ السَّمواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ». (الرعد/ 2)

مما يستحق الإهتمام

في هذه الآية، أنّ القرآن لا يقول: إنّ السماء ليس لها عمد، وإنّما يقول: ليس لها عمد قابل للرؤية والمشاهدة. يستفاد جيداً من هذا التعبير أنّ أعمدة السماء غير مرئية وأنّ هذه الأعمدة هي التي أرست دعائم السماء «1».

______________________________

(1) يستفاد من ظاهر الآية أنّ «ترونها» وصف ل «عمد»، وقول البعض: إنّ مفهوم الآية «ترونها بغير عمدٍ» هو أنّكم ترون السماء بغير عمد (وعلى هذا، فعبارة «بغير عمد» جار ومجرور ومضاف إليه متعلقة ب «ترونها»)، خلاف الظاهر أولًا، وثانياً، إنّ هذا التعبير يشير إلى أنّكم ترون السماء بدون عمد في حين أنّ لها اعمدة في حقيقة الأمر.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 106

ونقرأ في حديث عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام وقد سأله أحد أصحابه وهو «حسين بن خالد» عن معنى قوله تعالى «وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الحُبُكِ ...». (الذاريات/ 7)

فقال الإمام عليه السلام: «سبحان اللَّه، أليس اللهُ يقول: «بغير عمدٍ ترونها»؟ قلت: بلى فقال:

ثَمَّ عمدٌ ولكن لا ترونها» «1».

فهل يوجد توجيه وتفسير لهذا الحديث سوى العمد الذي نطلق عليه في عصرنا هذا إسم «التوازن بين القوة الجاذبية والدافعة».

وتوضيح ذلك، يكمن في أنّ النظرية الوحيدة التي غزت أفكار علماء ذلك العصر- زمان نزول القرآن الكريم- ومن ثم القرون السابقة واللاحقة، هي نظرية «الهيئة» لبطليموس التي سيطرت بقوة تامة على المحافل العلمية الدولية. ووفقاً لذلك صوَّرت السماوات على شكل كرات متداخلة نظير طبقات البصل المتلاصقة وكانت الأرض في مركزها، ومن الطبيعي أن تستند السماوات كل منها إلى الاخرى

إلّا أنّه ثبت بطلان هذه العقيدة بالأدلة القطعية بعد مرور زهاء الالف سنة من نزول القرآن، وذهبت تماماً نظرية الأفلاك- قشور البصل- إلى غير رجعة، وأصبح من المسلّمات أنّ كلّاً من

هذه الكرات السماوية معلقة وثابتة في مدارها وموضعها، وأنّ المجاميع والمنظومات متحركة، والشي ء الوحيد الذي يحافظ على ثباتها واستقرارها هو نفس هذا التعادل بين القوة الجاذبة والدافعة.

إنّ الذي يتسبب في التحرك السريع لكل الكرات السماوية ومن ثم اجتماعها في مركز واحد، هو القوة الجاذبة- التي تقول: إنّ الجاذبية بين كل جسمين تتناسب طردياً مع وزنيهما، وعكسياً مع الجذر التربيعي للمسافة بينهما-، بَيدَ أنّ الحركة الدورية موجودة في الكواكب السيارة أو المنظومات- ولا يخفى أنّ الميزة الدورية هي نفس القوة الطاردة المركزية وهي التي تؤدّي إلى الابتعاد السريع لهذه الكرات والمنظومات عن بعضها (على

______________________________

(1) تفسير البرهان، ج 2، ص 278. ورد هذا الحديث في التفسير المزبور عن طريقين، عن تفسير علي بن إبراهيم، وكذلك عن تفسير العياشي.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 107

شاكلة الهروب من دائرة النار في حالة دورانها وذلك عندما ينقطع سلكها ويتطاير الشرر من قطع النار المتقاذفة)، أمّا لو كانت القوة الجاذبة متساوية مع القوة الدافعة بدون أدنى نقيصة أو زيادة، فسيظهر في هذه الحالة العمد اللامرئي القوي حتى يثبتها في موضعها الخاص كما أنّ الكرة الأرضية تتحرك في دورانها حول الشمس بمدار معين ملايين السنين بدون أن تقترب منها أو تبتعد عنها، وهذه من دلائل عظمة اللَّه وإعجاز القرآن.

ومن الظريف أنّ المفسرين القدامى وقفوا على هذه النكتة إجمالًا بيد أنّهم لم يعبِّروا عنها سوى بالقول بمسألة القدرة الإلهيّة، بحيث يقول «ابن عباس» وفقاً لنقل الطبرسي في «مجمع البيان» والآلوسي في «روح المعاني»: إنّ معنى الآية هو أنّ السماء تكون بدون عمد قابل للمشاهدة، وعليه يكون عمدها هو القدرة الإلهيّة الهائلة «1».

2- القرآن وخلقُ العالم

إنّ للقرآن الكريم تعابير وإشارات متعددة حول حدوث العالم، إذ يقول في

أحد المواضع: «ثُمَّ اسْتَوَى الَى السَّمَاءِ وَهِىَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلَارْضِ ائتِيَا طَوْعَاً اوْ كَرْهَاً قَالَتَا اتَيْنَا طَائِعِينَ». (فصلت/ 11)

وفي موضع آخر يقول: «اوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا انَّ السَّموَاتِ وَالْارضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَى ءٍ حَىٍّ افَلا يُؤْمِنُونَ». (الأنبياء/ 30)

لقد اشير في هاتين الآيتين إلى ثلاث نكات مهمة في صدد خلق العالم والموجودات الحيّة:

1- كان العالم في بادى ء الأمر على شكل غاز وبخار.

2- كان العالم متصلًا في البداية ثم فصلت الكرات السماوية عن بعضها الاخرى

3- بدأت خلقة الموجودات الحية من الماء.

______________________________

(1) تفسير مجمع البيان، ج 5، ص 274؛ وتفسير روح المعاني، ج 13، ص 78.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 108

وهذه هي نفس الامور التي عرفت في هذا اليوم بعنوان النظريات العلمية المسلمة.

ويتقرر توضيح ذلك: بأنّه بالرغم من وجود فرضيات مختلفة لم تخرج عن حدود الفرضية في صدد كيفية نشوء العالم، إلّاأنّه نظراً للمطالعات التي اجريت على المجرات والمنظومات التي تتجه نحو التكون والحدوث، بدا من المسلَّم أنّ العالم كان على شكل أكوام من الغاز في بادى ء الأمر نظير الشي ء المضغوط الذي تنعزل منه قطعاته وتتطاير أوصاله على أثر دورانه حول نفسه، وهذه القطع تبرد شيئاً فشيئاً ثم تظهر بشكل مائع أو جامد في كثير من الأحيان لتشكل الكرات المسكونة وغير المسكونة.

وبعبارة اخرى تدل دراسات العلماء الفلكيين في مجال السُحب، والعوالم البعيدة عن متناول اليد والتي تأخذ طريقها نحو التكامل على أنّهم أخرجوا هذه النظرية وهي كون الدنيا على شكل أكوام من غاز البخار من حيِّز الفرضية واعتبروها من النظريات القطعية، والتي تم تأييدها من قِبل المحافل العلمية الدولية.

وكذلك نقرأ في بداية الآية الاولى بصراحة ب «أن السموات» الكرات السماوية كانت في بداية

الأمر على هيئة دخان وهذه الآية تنسجم مع الاكتشافات العلمية للعلماء التي لم تزل حديثة العهد، وفي ذلك دلالة واضحة على الاعجاز العلمي للقرآن الذي يكشف عن الحقيقة التي كانت مجهولة في زمن نزول القرآن بصورة كاملة.

والآية الثانية أيضاً تُعبِّر عن حالة الارتباط الموجودة في العالم في بادى ء الأمر، ومن ثم انفصال أجزائه الاخرى وهذا أيضاً أيدته المحافل العلمية كأصل من الأصول في يومنا هذا، وكذلك الحال بالنسبة إلى ظهور الموجودات الحية من ماء البحار في بادى ء الأمر- سواء كانت نباتية أو حيوانية- هي الاخرى تعتبر اليوم من النظريات العلمية المعروفة، وإن كان البحث قائماً على قدم وساق بين العلماء في صدد كيفية التحول والتطور، وظهور الأنواع المختلفة للنباتات والحيوانات.

والقرآن أيضاً يفصح عن حقيقة ظهور كافة الموجودات الحية من الماء في الآية الثانية المتقدمة الذكر، وفضلًا عن ذلك تصرح الآيات التي تنسب خلقة الإنسان إلى التراب، بأنّ

نفحات القرآن، ج 8، ص: 109

هذا التراب كان ممتزجاً مع الماء على هيئة طين.

ونقرأ أيضاً في قوله تعالى «وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِّنْ مَّاءٍ». (النور/ 45)

وللمفسرين أحاديث مطولة في صدد «الرتق» و «الفتق» الواردين في الآية الثانية واللذيْنِ هما في الأصل بمعنى «الإتصال» و « «الإنفصال».

اختار البعض المعنى المتقدم، وهو السماء والأرض واللتين كانتا على هيئة كُتل عظيمة من البخار والغاز الُمحترق، وتجزأت شيئاً فشيئاً على أثر الانفجارات الداخلية وحركتها حول نفسها، ومن ثم ظهرت الكواكب والنجوم، من جملتها المنظومة الشمسية.

ويرى البعض الآخر أنّ ذلك إشارة إلى الوحدة النوعية في مواد العالم، بحيث كانت متداخلة في بداية الأمر حيث ظهرت على هيئة مادة واحدة، لكنها انفصلت عن بعضها الآخر، وتشكلت مع مرور الزمان بتركيبات جديدة.

وذهب جمع آخر أيضاً إلى

أنّ ذلك إشارة إلى عدم نزول المطر ونمو النباتات من الأرض، بمعنى أنّ السماء كانت في بداية الأمر متصلة مع بعضها الآخر، ولم يكن ينزل المطر، والأرض أيضاً كانت متصلة مع بعضها الآخر، فلم يكن للنبات وجود فيها، ثم بأمر من اللَّه تعالى انفجرت السماء ونزل المطر، وتفتحت الأرض فخرجت النباتات.

وقد أشارت إلى المعنى الأخير روايات متعددة من طريق أهل البيت عليهم السلام، وكذلك قسم من الروايات الواردة من طريق العامة «1»، في حين تضمنت بعض الروايات الاخرى الإشارة إلى المعنى الأول «2»، وتبدو الإشارة إلى هذا الاتصال أيضاً في الخطبة الاولى من نهج البلاغة، وفي كل الاحوال ينسجم ظاهر الآية مع التفسير الأول، علاوة على عدم وجود مانع من الجمع بين التفاسير المتقدمة، فمن الممكن الجمع بين كل من المعاني الثلاثة في المفهوم الجامع للآية.

وممّا يسترعي الإنتباه ما ورد في قوله تعالى «ءَانْتُمْ اشَدُّ خَلْقَاً امِ السَّمَاءُ بَنها ...

______________________________

(1) راجع تفسير نور الثقلين، ج 3، ص 424، الأحاديث 52، و 53، و 54، و 55؛ وتفسير در المنثور، ج 4، ص 317.

(2) المصدر السابق.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 110

وَالارْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحهَا* اخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا* وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا».

(النازعات/ 27- 32)

وتدل هذه الآيات بوضوح أيضاً على كون السماء مخلوقة قبل الأرض، ثم إنّ ظهور الماء والنباتات والجبال كان بعد الانتهاء منها.

وبناءً على ذلك، يكون هذا الأمر هو الشي ء الذي يؤكّد عليه العلم الحديث، وهو يرى أنّ الأرض وجدت بعد وجود الشمس، ويعتبر ظهور الماء من سطح الأرض، ومن ثم النباتات وكذلك ظهور الجبال بعد خلق الأرض.

3- القرآن وحركة الأرض

نقرأ في قوله تعالى «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِىَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِى اتْقَنَ كُلَّ شَى ءٍ انَّهُ خَبيرٌ

بِمَا تَفْعَلُونَ». (النمل/ 88)

تتجلّى في هذه الآية عدّة نكات:

أولًا: إنّ الجبال التي تبدو ساكنة في نظركم، هي في حركة سريعة كسرعة حركة السحب، (وينبغي الالتفات إلى أنّ السرعة الفائقة تُشَبَّهُ عادة بسرعة السَّحاب، إضافة إلى خلو الحركة السريعة للسحب من التزلزل والصخب).

ثانياً: إنّ هذا هو صنع اللَّه الذي خلق كل شي ء بميزان معين.

ثالثاً: إنّ اللَّه عزّ وجل مطلع على أفعالكم.

عند التأمل بدقّة في هذه الجمل الثلاث، يتضح أنّ الآية لا ترتبط بيوم القيامة كما تخيَّل بعض المفسرين، بل ترتبط بنفس هذه الدنيا، إذ تقول: «أنتم تتخيلونها وتتصورونها هكذا في حين أنّها ليست كذلك»، وأمّا حركة الجبال في القيامة أو على مشارف القيامة فليست هي من الامور المخفية والمبهمة، بل إنّها واضحة ومهوِّلة بحيث لا يقوى أحد على تحملها والصبر على مشاهدتها.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 111

إضافة إلى أنّ الاتقان في الخلقة وحاكمية النظم والموازين فيها، هو إشارة ودلالة على وضعها الفعلي لا على زمن اقتراب يوم القيامة، حيث سيتلاشى النظام العالمي ليبنى على أنقاضه نظام جديد.

فضلًا عن ذلك فإنّ العلم الإلهي بالأفعال التي نقوم بها يرتبط بأفعالنا في هذه الدينا، وإلّا فإنّ القيامة يوم حساب لا يوم عمل.

ويتضح من خلال هذه القرائن الثلاث أنّ هذه الآية لا تطابق حركة الجبال في نهاية مسيرة العالم ووقوع يوم القيامة بأيّ شكل من الأشكال، غاية ما في الأمر أنّ جماعة من المفسرين لم يتمكنوا من إدراك عمق المفهوم في الآية، فما وجدوا بُدّاً سوى القبول بخلاف ظاهر الآية، وتفسيرها بمسألة القيامة.

كما تتضح هذه المسألة أيضاً وهي أنّ حركة الجبال لا تنفصل عن حركة الأرض، بل هما مترابطتان مع بعضهما الآخر كوحدة واحدة، فاذا تحركت الجبال تحركت الأرض الحركة الدائبة.

وربّما

ينقدح في الذهن هذا السؤال: لماذا اقتصر اللَّه تعالى على ذكر الجبال، ولم يقل إنّك ترى الأرض فتحسبها ساكنة في حين أنّها متحركة.

والجواب عن هذا السؤال واضح، لأنّ الجبال من أعظم الموجودات على وجه الأرض، وهي مظهر من مظاهر الصلابة والصمود والاستحكام، ولذا نقول لضرب المثل المعروف:

«إنّ الشخص الفلاني منيع وصامد كالجبل»، ولذلك يمكن اعتبار حركة الجبال على عظمتها وصلابتها وثباتها، أحد العلائم على القدرة اللامتناهية للحق تعالى لكن ممّا لا جدال فيه أنّ حركة الجبال هي احدى التجليات الواضحة لحركة الأرض.

وفي كل الاحوال، تعتبر الآية المذكورة أحد المعاجز العلمية المهمّة للقرآن، إذ من المعلوم أنّ العقيدة الرائجة والحاكمة لدى كافة المحافل العلمية الدولية في عصر نزول القرآن وزهاء الألف سنة بعد ذلك هي نظرية ثبات الأرض ودوران الكرات حولها، والتي نشأت من هيئة «بطليموس».

نفحات القرآن، ج 8، ص: 112

ومن العلماء الأوائل الذين اكتشفوا حركة الأرض هم كل من «غاليلو» الايطالي، و «كبرنيك» البولندي، وذلك بعد مرور ما يقارب الألف سنة، إذ اعلنوا عقيدتهم في آواخر القرن السادس عشر وأوائل القرن السابع عشر الميلاديين، ممّا أثار على الفور حفيظة أرباب الكنيسة بشدّة بحيث هدّدوهما بالقتل، في حين أنّ القرآن الكريم كشف الستار عن هذه الحقيقة بعشرة قرون قبلها، وطرح بعباراته البديعة المتقدمة حركة الأرض باعتبارها إحدى علائم التوحيد والعظمة الإلهيّة.

وعلى كل حال، فممّا لا شك فيه أنّ هذه الآية تتحدث عن حركة الجبال (وبتعبير آخر حركة الأرض) في هذه الدينا، ذلك لأنّ حركة الجبال عند وقوع يوم القيامة، تُحدثُ زلزالًا قوياً في الكرة الأرضية بحيث يقول تعالى عنها «يَومَ تَروْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمّا أرْضَعَتْ وتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَملٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكارَى وَمَاهُمْ بِسُكارَى ...».

(الحجّ/ 2)

وهذا الكلام لا ينسجم مع جملة: «تَحْسَبُها جَامِدَةً» على الاطلاق.

إضافة إلى أنّه لا يبقى مجال لأفعال الخير والشر في تلك اللحظات الحرجة، حتى يتأتى القول بأنّ اللَّه تعالى مطلع على الأفعال التي نقوم بها.

والقول بأنّ الآيات التي تسبق الآية المتقدمة أو ما بعدها ترتبط بالقيامة لا يمكن اعتباره دليلًا قطعياً على أنّ مفهوم هذه الآية يرتبط بالقيامة، لأنّ هذا ليس أحد المصاديق النادرة في القرآن، فَرُبَّ آية تتحدث في مسألة معينة وتتحدث التي قبلها أو بعدها عن مسألة اخرى وبعبارة اخرى فالإطلاع على محتوى الآية نفسها والقرائن الموجودة فيها أهم وأفضل من الملاحظات الاخرى

وهذه النكتة تستحق الاهتمام أيضاً وهي أنّ التشبيه بحركة السحب بالإضافة إلى أنّه إشارة إلى السرعة الفائقة لها، يعتبر جواباً قاطعاً عن هذا السؤال، وهو إذا كانت الأرض متحركة فلماذا لا نشعر بها؟ فيأتي الجواب إنّها تتحرك ببطءٍ ومرونة وهدوءٍ بحيث لا يمكن تشخيص ذلك، كما لو صعد أحد على السحاب مثلًا، فانّه لم يكن يشخص حركتها أيضاً.

وممّا يدعو إلى الاهتمام هذه النكتة أيضاً وهي أنّ القرآن يقول: «الَمْ نَجْعَلِ الارْضَ

نفحات القرآن، ج 8، ص: 113

كِفَاتَاً* احْيَاءً وَامْوَاتَاً». (المرسلات/ 25- 26)

ونشاهد في قواميس اللغة التي من جملتها «المفردات» للراغب وكتاب «العين» أنّه قد ذكر معنيان للفظة «كِفات» المأخوذة من مادة «كَفْت» وهما الجمع والطيران السريع، فاذا كان المعنى الأول هو المقصود، يكون مفهوم الآية على أن جعلنا الأرض محطاً لاجتماع بني البشر في حياتهم، وما تحت الأرض مقراً لاجتماعهم بعد مماتهم، وإذا كان المقصود المعنى الثاني، يكون مفهومها الطيران السريع للأرض. وهذا يتناسب مع الحركة الانتقالية للأرض حول الشمس التي تسير دائريّاً بسرعة فائقة- تقدر ب (20) كيلو متر في

كل ثانية و (1200) كيلو متر في كل دقيقة- ثم إنّها تحمل الأموات والأحياء معها وتدور بهم حول الشمس.

ولعل السبب في اطلاق لفظة «كَفْت» على الطيران السريع، هو أنّ الطيور عندما تريد أن تطير بسرعة فائقة في السماء تجمع أجنحتها بصورة كاملة وبشكل متناوب وتسبح في الفضاء، لكن نظراً لكون لفظة «كَفْت وكِفات» تحتمل معنين، لم نذكر هذه الآية بعنوان أحد الأدلة القطعية على مسألة دوران الأرض.

4- القرآن وحركة المنظومة الشمسية

يقول القرآن الكريم: «وَالْشَّمْسُ تَجْرِى لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ* لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِى لَهَا انْ تُدْرِكَ القَمَرَ وَلَا الليْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ».

(يس/ 38- 40)

كما تقدمت الإشارة إليه من قبل أنّ النظرية التي تحدثت في صدد السماء والأرض وسيطرت على المحافل العلمية في عصر نزول القرآن والقرون السابقة واللاحقة عليه، هي نظرية الهيئة ل «بطليموس» الذي كان يعتبر الأرض مركز العالم، ويعتقد أنّ النجوم والشمس مندكَّة في قلب الأفلاك البلورية، ويتصور أنّ الأفلاك تدور حول أطراف الأرض.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 114

ويذكر القرآن في الآيات أعلاه مطلباً يتنافى مع هذا الكلام بصورة كاملة، فهو يقول:

أولًا: إنّ الشمس تتحرك باتجاه احدى المقرات (أو إنّ الشمس تتحرك في قرارها المختص بها)، لا أنّ الشمس مع فلكها البلوري تدور حول الأرض.

ثانياً: إنّ كلّاً من الشمس والقمر يسبح في فلكه الخاص به.

وبعد إنهيار دعائم فرضية «بطليموس» على أثر اكتشافات القرون الأخيرة، وتحرُّر الأجرام السماوية من قيود الأفلاك الخارجية، استحكمت هذه النظرية التي ترى أنّ الشمس ساكنة وثابتة في مركز المنظومة الشمسية، وتدور حولها المنظومة الشمسية بأكملها.

وفي هذا المضمار أيضاً لم تكن هناك معلومات عن حركة الشمس باتجاه قرارها الخاص أو في دائرة نفسها.

وهكذا تطور العلم أكثر فأثبت من خلال مشاهداته

النجومية بالاستفادة من المراصد الفلكية القوية جدّاً أنّ للشمس حركتين على أقل تقدير: الحركة الموضعية حول نفسها، والحركة الانتقالية بصحبة المنظومة الشمسية بأكلمها باتجاه نقطة معينة من السماء، او بتعبير آخر باتجاه نجم «ويكا» وهو يعتبر من نجوم الصورة الفلكية التي تسمى «الجاثي على ركبتيه» «1».

جاء في إحدى دوائر المعارف: أنّ للشمس- بالإضافة إلى الحركات الظاهرية- حركة واقعية، «الحركة الدورية للمجرات تسير بالشمس وتدور بها في الفضاء بسرعة مليون ومائة وثلاثين ألف كيلو متر في الساعة تقريباً، وكذلك ليست الشمس ثابتة في داخل المجرات، بل تتحرك باتجاه الصورة الفلكية التي تدعى «بالجاثي» بسرعة تناهز (72) ألف كيلو متر في الساعة، والسبب في عدم اطلاعنا على الحركة السريعة للشمس في الفضاء هو الدورة الفلكية للأجرام السماوية».

______________________________

(1) تطلق الصورة الفلكية «الجاثي على ركبتيه» على النجوم التي تكون بمجموعها على هيئة شخص جاثٍ على ركبتيه يريد القيام، ونجم «ويكا» يعد من هذه المجموعة التي تدور حولها المنظومة الشمسية بما فيها الشمس.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 115

ثم تضيف على ذلك بالقول: إنّ للشمس في دورانها حول نفسها حركة دورية موضعية أيضاً (الدورة الموضعية لحركة الشمس في استوائها تستغرق (25) ليلة تقريباً «1».

إذن ممّا لا يقبل الشك أنّ الآية: «كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ» لا تتلاءم مع نظرية الأفلاك البلورية ل (بطليموس) التي أثبتت كل واحدة من الكرات في موضعها الخاص، وتنسجم تماماً مع اكتشافات العلم الحديث، علاوة على أنّ الحركة باتجاه «المستقر» إشارة اخرى إلى حركة الشمس باتّجاه أحد جوانب المجرات أيضاً، وفي الواقع فإنّ بيان هذا الموضوع يُعدُّ معجزةً.

5- القرآن واتساع العالم

نقرأ في قوله تعالى «وَالْسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِاييْدٍ وَانَّا لَمُوسِعُونَ». (الذاريات/ 47)

«أيدٍ»: (على وزن صيدٍ) معناه القدرة والقوة، كما جاء هذا المعنى

في آيات اخرى من القرآن أيضاً، وذكر بعض المفسرين إضافة إلى ما قلناه معنى (النعمة) ل «أيد» أيضاً، في حين أن «يَدْ» تأتي بمعنى «النعمة» في بعض الأحيان والتي يكون جمعها «أيدي» وجمع جمعها «أيادي».

وعلى أيّة حال، تدل جملة «انّا لَمُوْسِعُون» بوضوح على أنّ اللَّه تعالى الذي خلق السموات بقدرته التامة يضفي عليها عامل الاتساع والاستيعاب بصورة مستمرة، وبناء على عدم وضوح هذا المطلب بالنسبة للعلماء والمفسرين سابقاً، فقد فسَّر الكثير منهم هذه الجملة بأنّها تعطي معنى سعة رزق اللَّه تعالى على عباده من خلال نزول المطر، أو من خلال طرق مختلفة. وفسَّرها بعض أنّها تعطي معنى الغنى والكفاف، وبأنّ اللَّه تعالى كلما أجزل نعمة وأعطى لا تنقضي خزائنه أبداً. بيدَ أنّنا لو ألقينا نظرة على ما أثبتته المشاهدة النجومية بواسطة المراصد الفضائية نلاحظ أنّ المجرات تبتعد إحداها عن الاخرى بسرعة، وأنّ

______________________________

(1) قاموس دهخدا، ج 22، مادة (الشمس) «باللغة الفارسية».

نفحات القرآن، ج 8، ص: 116

العالم في حالة اتساع مطَّرد، ولكي يتّضح مفهوم هذه الجملة في أذهاننا بصورة كاملة، نقرأ في كتاب «بداية ونهاية العالم» لمؤلفه «جان ألدر»:

«لقد كشفت أحدث وأدق الحسابات على طول مسيرة الأمواج التي تنبعث من النجوم، الستار عن إحدى الحقائق العجيبة والمدهشة، حيث بيّنت أنّ مجموعة النجوم التي تشكل هيئة العالم تبتعد بسرعة فائقة عن مركز العالم بصورة مستمرة، وكلما اتسعت الفاصلة بينها وبين مركز العالم كلما زاد ذلك من سرعة سيرها، ويبدو أنّ النجوم بأكملها كانت مجتمعة في هذا المركز في يوم من الأيّام ثم تشتت شملها بعد ذلك، وانفصلت عنها مجموعة من النجوم الكبيرة لتشق طريقها في مسالك الفضاء المختلفة، علاوة على أنّ العلماء استفادوا من هذا الموضوع على أنّ

للعالم نقطة شروع في بداية الأمر» «1».

ونقل في نفس الكتاب عن «جورج كاموف» قوله في كتاب «خلق العالم»:

«إنّ فضاء العالم المتكون من مليارات المجرّات، في حالة اتساع مطَّرد، وفي الحقيقة أنّ عالمنا ليس في حالة سكون وإنّما في حالة انبساط، والتوصل إلى الحقيقة القائلة بأنّ هذا العالم هو في حالة انبساط وتوسع، هو المفتاح الذهبي للتعرف على لغز هذا العالم، قولنا: إنّ العالم في حالة انبساط حالياً، يستلزم منه أنّ العالم كان في حالة انقباض شديد جدّاً في يوم من الأيّام» «2».

ونقرأ في كتاب «حدود النجوم» لمؤلفه «فورد هويل» حول سرعة الانبساط واتساع العالم مايلي:

«تصل أقوى درجات السرعة لتقهقر الكرات التي خضعت للقياس إلى وقتنا هذا إلى حدود ستة وستون ألف كيلو متر في الثانية، إنّ نور المجرات الأبعد يبدو ضعيفاً بنظرنا إلى درجة بحيث يتعسر علينا قياس سرعتها، نظراً لعدم وجود النور الكافي، لقد بيّنت الصور التي التقطت من السماء بوضوح أنّ فاصلة هذه المجرّات ابعد بكثير من فاصلة المجرّات القريبة» «3».

______________________________

(1) بداية ونهاية العالم، ص 74- 77 (باختصار).

(2) المصدر السابق.

(3) حدود النجوم، ترجمة رضا أقصى ص 338، عن النسخة الفارسية.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 117

وعلى هذا الأساس نقف على تفسير واضح جدّاً في صدد الآية السابقة واتساع السموات، والتي تكشف الستار عن السر وراء أحد المعجزات العلمية للقرآن.

وممّا يستحق الاهتمام أيضاً أنّ عبارة: «إنّا لَمُوْسِعُونَ» والتي استعمل فيها اسم الفاعل والجملة الإسمية للدلالة على حالة الاستمرار والديمومة، وعلى تداوم حالة التوسع والانبساط.

6- القرآن ووجود الحياة في المجرات الاخرى

جاء في قوله تعالى «وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّموَاتِ وَالارْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ اذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ». (الشورى 29)

يا ترى هل العيش والحياة مختص بالكرة الأرضية، والكرات الاخرى ليست

مسكونة اطلاقاً؟ لقد كان العلماء الأوائل يتابعون هذه المسألة دائماً بشي ء من التردّد أو الحكم المنفي، بيدَ أنّ التحقيقات الأخيرة للعلماء أثبتت لنا أنّ الحياة لا تختص بالكرة الأرضية.

ونقرأ في كتاب «الحياة في العالم» من منشورات مجلة «لايف» ما يلي:

«من الممكن حسب احصاءات العلماء أن تتواجد في مجرتنا ملايين النجوم التي تكون سياراتها التابعة لها آهلة بالسكان».

وذهب البعض إلى أكثر من ذلك حيث اعتقدوا بوجود موجودات حية في بعض الكرات السماوية تفوق حالة التطور لدى الإنسان بكثير، فالإرسالات الراديوية التي يبثونها في الفضاء ولا نستطيع الإتيان بمثلها، قابلة للاطلاع عليها بصورة كاملة من خلال أجهزة الاستقبال التي بحوزتنا، وإن كنّا لا نفهم لغتهم ولا نعي مغزاها.

وعلى أيّة حال فتصريح الآية المتقدمة بالقول: إنّ اللَّه تعالى بث الموجودات الحية في السموات والأرض، يخبر عن حياة الموجودات الاخرى بشكل واضح، ومن الاشتباه بمكان أن نتصور أنّ المقصود من الموجودات الحية في السماء هي (الملائكة)، وذلك لكون

نفحات القرآن، ج 8، ص: 118

كلمة «دابة» تطلق على الموجودات الجسمانية فحسب ولا تطلق على الملائكة.

ولهذا ففي الموضع الذي يريد القرآن الكريم أن يذكر الملائكة يتحدث عنها بصورة مستقلة بعد ذكر كلمة «الدابة»، كما نقرأ ذلك في قوله تعالى «وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِى السَّمواتِ وَمَا فِى الارْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لَايَسْتَكْبِرُونَ». (النحل/ 49)

بحيث نجد أنّ «الملائكة» جعلت في قبال «الدابة»، وهذا يدل على عدم شمول كلمة الدابّة للملائكة في الآية التي جاء ذكرها في بحثنا هذا.

ومن الظريف ما يقوله «الفخر الرازي» في تفسير الآية الواردة في بحثنا هذا بأنّه: «لا يستبعد أن يقال إنّ اللَّه خلق في السموات أنواعاً من الموجودات الحية تمشي كما يمشي الإنسان على وجه الأرض» «1».

ونقرأ في

حديث ظريف عن الإمام علي عليه السلام ما يلي: «هذه النجوم التي في السماء مدائن مثل المدائن التي في الأرض مربوطة كل مدينة إلى عمودٍ من نور» «2».

ووردت في بعض المصادر الإسلامية روايات اخرى في هذا المجال «3».

ومن المعلوم أنّ هذه المعلومات استقيت من نفس المصدر الذي استقاه القرآن الكريم، وإلّا لم يطلع أحد على هذه المسائل في ذلك العصر.

7- القرآن وخلق الجبال

وردت في القرآن الكريم عبارات مختلفة وغنية في معانيها في مجال خلق الجبال، يقول تعالى في أحد المواضع: «وَالْقَى فِى الارْضِ رَوَاسِىَ انْ تَمِيدَ بِكُمْ وَانْهَاراً وَسُبُلًا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ». (النحل/ 15)

وفي موضع آخر يقول تعالى «الَمْ نَجْعَلِ الارْضَ مِهَادَاً* وَالْجِبالَ اوْتَادَاً». (النبأ/ 6- 7)

ونقرأ في آية اخرى قوله عزّ وجلّ: «وَجَعَلْنَا فِيهَا رَواسِىَ شَامِخَاتٍ وَاسْقَيْنَاكُمْ مَّاءً فُرَاتاً». (المرسلات/ 27)

______________________________

(1) تفسير الكبير، ج 27، ص 171.

(2) سفينة البحار، ج 2، ص 574، مادة (النجم).

(3) لمزيد من الاطلاع راجع كتاب «الهيئة والإسلام».

نفحات القرآن، ج 8، ص: 119

ويقول تعالى أيضاً: «وَالْقَى فِى الارْضِ رَواسِىَ انْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ». (لقمان/ 10)

وهناك آيات اخرى بهذا المضمون أو قريبة منها في القرآن الكريم أيضاً.

الأمر الذي نواجهه لأول وهلة في هذه الآيات، هو تأثير وجود الجبال في الحفاظ على استقرار الأرض، والتي عبر عنها تارة ب «الأوْتاد» والتي تستخدم عادة في اقفال أقسام مختلفة من الأبواب والصناديق والسفن وما شابه ذلك، أو صيانة المخيمات وتقويتها في مقابل هبوب الرياح.

وتارة اخرى عبر عنها ب «أنْ تَميدَ بِكُم» المأخوذة من مادة «مَيْدان» بمعنى الاهتزاز والاضطراب، ومعنى ذلك أنّ الجبال تَحُدُّ دون اضطراب الأرض واهتزازها. ولم يطلع أحد على هذا المطلب في ذلك العصر، ونحن في هذا الوقت نعلم جيداً مدى دور

الجبال على هذا الصعيد، وذلك للنقاط التالية:

أولًا: إنّ الجبال في واقع الأمر هي في قوة أحد الدروع الفولاذية التي تحيط بالأرض من كل جوانبها، ونظراً لقوة ارتباطها واتصالها باعماق الأرض تشكل بدورها أحد الشبكات القوية الشاملة، وإذا لم يكن كذلك وكانت الرمال الناعمة تغطي صعيد الأرض، لوقعت تحت تأثير الجاذبية القوية للقمر بكل سهولة، ولهزَّ الجزر والمدُّ كل شي ء على اليابسة نظير المد والجزر في البحار، واستولى الاضطراب والاهتزاز والحركة على وجه الأرض في الليل والنهار، ولتعرض لإمكان الانهدام والسقوط كل مبنى من المباني.

بيدَ أنّ وجود هذا الحصن المنيع في الأرض ينزل بالمد والجزر إلى أدنى مستوى وحالياً تأخذ القشرة السميكة للأرض بالارتفاع والانخفاض بمقدار ثلاثين سانتيمتراً في كل يوم وليلة أيضاً، وهذا بعكس البحار التي ترتفع وتنخفض على أثر الجزر والمد امتاراً متعددة أحياناً.

وتوجِد جاذبية الشمس المد والجزر أيضاً وإن كان ضعيفاً، ولو وقع مسير الشمس والقمر في خط واحد واتصلت الجاذبيتان في جانب واحد، لاشتدت قوة هذه الحركات

نفحات القرآن، ج 8، ص: 120

وتضاعفت قوتها، إلّاأنّ القرآن يذهب بالقول إلى أنّ الجبال التي هي أوتاد الأرض تصونها من الاهتزاز.

ثانياً: إنّ الضغط الداخلي للأرض بواسطة حرارتها المركزية الهائلة يؤثر على قشرة الأرض بصورة دائمة، ولولا وجود الجبال لأصبح مصدراً من مصادر الاضطراب المستمر للأرض.

والآن تدبّروا لو اشتد الاضطراب الناجم عن المد والجزر والضغط الداخلي على أثر مرونة قشرة الأرض وطراوتها، فهل سننعم بالهدوء والاستقرار الذي نعيشه الآن على الكرة الأرضية؟ وهل سنجد بيتاً وملجأً ومأوىً نلجأ إليه؟

ثالثاً: لقد ثبت في وقتنا الحاضر أنّ الجبال بأعمدتها القوية تحرك معها الهواء الحاصل في أطراف الأرض، والآن لو فرضنا أنّ الأرض تتحرك في دورانها حول نفسها بسرعتها الذاتية

المعهودة- أي ما يقارب الثلاثين كيلو متر في الدقيقة-، فلو لم تكن الجبال، لما تحقق مثل هذا الدوران للهواء الموجود في أطرافها، ولثارت ثائرة العواصف والأعاصير والرياح الشديدة على أثر اصطدام جزيئات الهواء بوجه الأرض، فضلًا عما يولِّد ذلك من حرارة هائلة تحرق الأخضر واليابس. كما أنّ الطائرات السريعة لو سارت في الطبقات السفلى للجو لارتفعت درجة حرارة أجنحتها بحيث قد يؤدّي ذلك إلى عواقب وخيمة، لهذا تضطر إلى الصعود في الطبقات العليا للجو لتتحرك في وسط الهواء الرقيق جدّاً حتى يقل احتكاكها بالهواء الذي هو المنشأ لإيجاد الحرارة.

أجل، لقد أزالت منخفضات ومرتفعات وجبال الأرض هذه الازمة وحرَّكت الطبقة السميكة للجو مضافاً إلى حركة الأرض، تماماً كدوران أسنان الدواليب ذات المقود التي تدور مع دورانها بقية الأشياء الاخرى

فبناءً على ذلك، تعتبر الجبال وسيلة من وسائل استقرار الأرض واستقرار ساكنيها سواء في مقابل جاذبية القمر والشمس، أو في مقابل الضغط الداخلي، أو في مقابل العواصف الشديدة والمستمرة، أو في مقابل تولد الحرارة الشاقة.

من جهة اخرى تقدمت الإشارة في الآيات السابقة إلى وجود العلاقة بين الجبال وبين

نفحات القرآن، ج 8، ص: 121

نزول المطر وارتواء الأراضي والحصول على الماء الفرات وهو «الماء العذب»، يقول عزّ من قائل: «وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِىَ شَامِخَاتٍ وَاسْقَيْنَاكُم مَّاءً فُراتاً».

ممّا لا يقبل الشك هو أنّ العلاقة بين الاثنين- الماء والجبال- لم تكن معروفة في السابق، إلّاأنّنا نعلم في الوقت الحالي:

أولًا: أنّ الجبال هي سبب من اسباب تجمع بخار الماء، أي تراكم السحب.

وثانياً: أنّها سبب من أسباب برودة طبقة الهواء المجاور لها.

وثالثاً: أنّها تحتفظ بالقسم الأكبر من الأمطار على شكل ثلج، كما أنّها مصدر من مصادر الطاقة المستمرة لجريان المياه على سطح الأرض، ومن ثم

صيانة المياه من الهدر والضياع.

بالإضافة إلى أنّ الامتداد الواسع للجبال، وقشرتها المتعرجة تقلب أمواج الماء وتعرضها للهواء النقي، فيصفو الماء ويتحول إلى «ماء فرات» وهو (الماء العذب).

وبغض النظر عن كل ذلك، فإنّ النكتة الظريفة الاخرى التي استأثرت باهتمام بعض العلماء في صدد جبال الأرض، هي أنّ الجبال في مقابل تغيرات الضغط الأرضي في قوّة «الدولاب الثابت» الذي يحول دون تبدل السرعة.

توضيح ذلك: أنّ المقصود من «الدولاب الثابت» هو نفس الشي ء الموجود في جميع الوسائل التي لها حركة دورية مشابهة، وذلك في صورة دولاب ثقيل يدعى بالدولاب الطيار أو الدولاب الثابت، ينصب في محورها حتى ينظم سرعتها، وعلى سبيل المثال لو ورد ضغط من الخارج على هذه الوسيلة ذات الحركة الدورية ثم انقطع الضغط فجأة لقفزت إلى الأمام ووجهت صدمة إلى ذلك الجهاز، أمّا إذا نصب الدولاب الثابت عليها لاحتفظت بهذا الضغط في داخلها، ثم تدفعه بالتدريج بدون أن تتوجه أي صدمة إلى ذلك الجهاز (تأمل جيداً).

هذا من جهة، ومن جهة اخرى بإمكان العواصف الهائجة التي تهب أحياناً في الجهة المخالفة أو الموافقة لحركة الأرض أن تؤثر على حركتها ...، وحينما تهدأ فورة العاصفة تتحول الأرض إلى حالة من الاندفاع العشوائي الذي يوجه ضربة قاصمة إلى جميع

نفحات القرآن، ج 8، ص: 122

الموجودات الأرضية، بحيث يولد الاضطراب في كل شي ء.

إلّا أنّ لوجود الجبال التي هي بمثابة «الدولاب الثابت» دور في الاحتفاظ بكل هذه الضغوط المثبتة فيها والمنفية فتحدُّ دون حدوث الصدمات، وتحافظ على الحركة المتوازنة للأرض، وعلى حد تعبير القرآن تقف مانعاً دون حدوث الاهتزازات وزعزعة الاستقرار.

ولو كان البحث في زمن هذه الآيات قائماً على قدم وساق في مجال مباحث «الدولاب الثابت» وآثاره في ذلك العصر، لما

كانت التعبيرات في هذه الآيات مدهشة ومثيرة، ولكن نظراً إلى عدم وجود مثل هذه المسائل في ذلك الزمن على الاطلاق، خصوصاً أنّه لم يكن للفيزياء معنى في محيط الجزيرة العربية، فضلًا عن هذه المسائل المعقدة، فلابدّ من الاعتراف بأنّ بيان مثل هذه الآيات تعبير عن احدى المعاجز العلمية الكبرى «1».

والنكتة الاخرى هي أنّ القرآن الكريم عندما يتحدث عن تكوين الجبال يقول: «وَالْقَى فِى الارْضِ رَواسِىَ». ويقول في مكان آخر: «أَمَّن جَعَلَ الارْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلَالِهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِىَ». (النمل/ 61)

هذه التعابير ونظائرها التي تكررت في القرآن تبين بوضوح أنّ الجبال خلقت بعد خلق الأرض، وقد أثبت العلم الحديث هذا المعنى بوضوح أيضاً، وذهب إلى القول بأنّ الكثير من الجبال حدث على أثر إلتواء الأرض، والبعض حدث على أثر المواد الذائبة المحرقة، والبعض الآخر حدث بسبب تنقية المواد الرخوة من اطراف المواد الصلبة للأرض الذي يحصل على أثر نزول المطر، وكل ذلك تحقق بعد خلق الأرض وايجادها .. وممّا لا ريب فيه أنّ هذه المسائل لم تكن معروفة حين نزول هذه الآيات من القرآن.

8- عنصر الزوجية بين النباتات في القرآن

وردت الإشارة إلى عنصر الزوجية في عالم النباتات في آيات خمس من القرآن

______________________________

(1) ما تقدم أعلاه موجز من مقال محقق تحت عنوان «أثر الجبال في استقرار الأرض» (مسألة الدولاب الثابت) في المجلة الدينية والعلمية المدرسة الإسلامية العدد 8، السنة 13 (ص 68- 73 باللغة الفارسية)، ولمزيد من الاطلاع حول هذا الموضوع والوقوف على جزئياته راجع المقال المذكور.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 123

الكريم، فنقرأ في قوله تعالى «وَانْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَانْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ». «1»

(لقمان/ 10)

و قوله تعالى «وَتَرى الارْضَ هَامِدَةً فَاذا انْزَلْنَا عَلَيْهَا المَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَانْبَتَتْ مِنْ

كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ» «2». (الحج/ 5)

ونقرأ أيضاً في قوله تعالى «وَانْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَاخْرَجْنَا بِهِ ازْوَاجَاً مِّنْ نَّبَاتٍ شَتَّى .

(طه/ 53)

عندما وصل أغلب المفسرين الاوائل إلى هذه الآيات فسروا «زوج» بمعنى «النوع» «الصنف»، و «الأزواج» بمعنى «الأنواع» و «الأزواج» المختلفة للنباتات، لأنّ حقيقة الزوجية في حقل النباتات بمعناها المعروف لم يكن معروفاً في ذلك الزمان.

إنّ الناس في سالف الزمان وإن كانوا يعلمون نوعاً ما عن أنّ بعض أنواع النباتات يتكون من جنسين، الذكر والانثى وأنّهم كانوا يستخدمون عملية التلقيح من أجل تكثيرها (خصوصاً شجرة النخل التي يُعلم بوجود الذكر والانثى فيها منذ قديم الزمان، وأنّهم كانوا يحرصون على إنمائها عن طريق التلقيح)، لكن أحد العلماء المعروفين في حقل النباتات من السويد يدعى «لينه» كشف عن هذه المسألة لأول مرّة في أواسط القرن الثامن عشر للميلاد وهي أنّ عنصر الزوجية (بين الذكر والانثى في عالم النباتات تعتبر من احدى المسائل العامة، والمتفق عليها، وأنّ النباتات كأغلب الحيوانات إنّما تتكاثر وتنمو من خلال الامتزاج بين نطفة الذكر والانثى ومن ثم تعطي الثمار.

إلّا أنّ القرآن الكريم- كما رأينا- قد كشف النقاب عن هذة الحقيقة قبل هذا العالم بإثني عشر قرناً، وأشار إلى عنصر الزوجية في عالم النباتات في موارد متعددة، إلّاأنّه نظراً لعدم امتلاك هؤلاء للجرأة في التصريح بهذه الحقيقة، عمدوا إلى تفسير الزوجية بمعنى آخر على خلاف ظاهرها.

______________________________

(1) وورد نفس المضمون في كل من الآية (7) من سورة الشعراء والآية (7) من سورة (ق).

(2) ورد نفس هذا المضمون في الآية 7 من سورة الشعراء و الآية 7 من سورة ق.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 124

ومن الظريف أنّ النباتات مختلفة من هذه الجهة، ففي كثير منها يجتمع الذكر

والانثى فيها في أصل واحد، وفي البعض الآخر تنفصل أشجار الذكر عن أشجار الانثى

خذوا وردة من الورود ثم افصلوا أوراقها عنها، وتأملوا بدقة في داخلها تجدون عالماً مليئاً بالعجائب والأسرار. وفي الواقع ينعقد هناك محفل كبير، بيدَ أنّه لا صخب فيه، ويخلو من أي لون من ألوان العنف والاعتداء، حيث أنّ المياسم الظريفة واللطيفة التي تحمل معها أكياس حبوب اللقاح تحيط بما حولها ثم تتحرك مع هبوب الرياح، لتنثر تلك الحبوب على المدقة. إنّ الحبات المذكرة التي تمثل كل واحدة منها خلية صغيرة جدّاً، تتجذر بسرعة وبعد العبور من على عنق المدقة تمتزج مع نطفة الانثى في المبيض في أصل الورد لتشكل بدورها بذرة الورد أو الفاكهة.

وكأنّ الأوراق الزاهية للورد بمنزلة احدى معالم الزينة لهذا المحفل الغرامي العجيب أو الاستار الموضوعة على الحجرة المزينة للعروسين، ثم تُدعى الحشرات والفراشات الجميلة والنحل إلى هذا المحفل البهيج أيضاً.

ويتناول كل منهم الحلوى المخصوصة والمعدّة له من قبل رحيق الأزهار ويبعثون لنا حصةً منها، وما نشاهده من العسل في الأسواق، هو نصيبنا من ذلك المحفل.

وعلى أيّة حال استناداً إلى تصريح القرآن في آيات مختلفة على شمولية عنصر الزوجية للنباتات، وبالرغم من بعض الاستثناءات القليلة الواهية الموجودة في كل قانون كلي، يكون قد رفع الستار عن هذا السر المهم الذي خفي عن أنظار العلماء في ذلك العصر والقرون التي تلته وهذه بحد ذاتها من المعاجز العلمية البديعة.

9- القرآن والزوجية العامة

نقرأ في قوله عزّ من قائل: «وَمِن كُلِّ شَىٍ ء خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُم تَذَكَّروُنَ».

(الذاريات/ 49)

ويقول تعالى «سُبْحَانَ الَّذِى خَلَقَ الازْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الارضُ وَمِن انفُسِهِم وَمِمَّا لَا

نفحات القرآن، ج 8، ص: 125

يَعْلَمُونَ». (يس/ 36)

فهذه الآية تبين- بوضوح أكثر- شمولية عنصر الزوجية للنباتات والبشر

والأشياء الخارجة عن حدود العلم البشري، ونظراً لأنّ كثيراً من المفسرين لم يجدوا هنا مفهوماً للزوجية بالمعنى الحقيقي (أي عنصري الذكر والانثى ، فقد عمدوا إلى تفسيرها بالأصناف المختلفة للموجودات في العالم التي تبدو على شكل زوج زوج مثل: النهار والليل، النور والظلمة، البحر والبر، الشمس والقمر وغيرها.

لكننا نجد تفسيراً أدق لهاتين الآيتين في وقتنا الحاضر، حيث إنّ التحقيقات العلمية أثبتت هذه الحقيقة بوضوح وهي أنّ جميع الموجودات لعالم المادة تتشكل من أجزاء صغيرة جدّاً تدعى بالذرة، وهذه الأجزاء التي عرفت قديماً بالموجود الذي لا يتجزء (أجزاء لا تتجزأ) وسمي ب «الذرة» لهذا السبب قد تحطم على أثر تطور القدرة العلمية والفكرية للإنسان، ومن هذا المنطلق نشأت القوة الذرية والصناعات المتعلقة بها.

وعندما حلّلوا الذرة وجدوا أنّها مركبة من أجزاء متكونة غالباً من الألكترونات (الجزئيات التي تغلف النواة، وتحمل شحنة سالبة)، البروتونات (الجزئيات التي تحمل شحنة موجبة).

وعلى هذا الأساس نستنتج من ذلك معنى أدق للزوجية في كل ذرات عالم الوجود وهو توفر عنصري (الذكر) و (الانثى ، (الموجب) و (السالب)، (الفاعل) و (القابل) وبدون أي استثناء أيضاً، في حين أنّ التفسير الذي قال به العلماء الأوائل بالرغم من عدم انسجامه الكامل مع مفهوم الزوجية، فإنّ فيه استثناءات كثيرة أيضاً.

وعلى أي حال، توجد هناك جاذبية قوية بين الزوجين الحقيقيين، وكذلك بين جسمين بشحنتين كهربائيتين مختلفتين سالبة وموجبة، وهي كثيراً ما تشابه الجاذبية الجنسية، في حين لا يوجد أي نوع من أنواع الجاذبية بين الليل والنهار، النور والظلمة، البحر والبر، وما شابه ذلك.

ومن الجدير بالذكر ماصرح به بعض المفسرين القدامى من خلال ما استلهموه من

نفحات القرآن، ج 8، ص: 126

الآيات السالفة، بأنّ المقصود من الزوجين في هذه الآيات

هو عنصري الذكر والانثى نفسيهما، وإن لم يوضحوا هذا المطلب بصورة كاملة «1».

10- القرآن يكشف النقاب عن مسألة مراحل تطور الجنين

وردت ضمن الآيات القرآنية المرتبطة بعلائم التوحيد ودلائل المعاد إشارات غزيرة المعاني إلى مسألة خلق الإنسان من النطفة ومن ثمَّ مراحل تطور الجنين. والتي يمكن عدّ بعض منها في قائمة المعجزات العلمية للقرآن.

من جملتها ما نقرأه في الآية الثانية من سورة الإنسان: «انَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُّطفَةٍ أَمشَاجٍ نَّبَتلِيهِ فَجَعَلنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً».

«النطفة»: في اللغة بمعنى الماء الصافي أو الماء القليل «2». (الامشاج) جمع مشج (على وزن نسج أو على وزن سَبب). أو جمع مشيج بمعنى الشي ء المختلط. وقد ابدى المفسرون احتمالات متعددة في صدد الجواب عن ما هو الشي ء الذي تختلط به النطفة.

فتارة تصوروا أنّ ذلك إشارة إلى تركيب نطفة الإنسان من «الحيامن» و «البويضة»، وتارة أنّه إشارة إلى كونها مركبة من الاستعدادات المختلفة من الناحية الجسمية أو الروحية (القبح والحسن، الذكاء والغباء و ...). واخرى إلى أنّه إشارة إلى أنّ نطفة الإنسان مركبة من مواد مختلفة من المعادن ونحوها.

بطبيعة الحال أنّ ذلك كله حسن، ولعله كان من أفضل التفاسير في عصره، إلّاأنّه لا ينطبق بدقة على معنى الآية. ذلك أنّ لفظة الأمشاج جمع، واطلاقها على شيئين أي (البويضة والحيمن) خلاف الظاهر، هذا أولًا، وثانياً: أنّ وجود الاستعدادات المختلفة في

______________________________

(1) جاء في تفسير مجمع البيان، ج 9، ص 160، عن أحد المفسرين القدماء ويدعى «ابن زيد» أنّه قال في تفسير الآية «ومن كل شي ء خلقنا زوجين ...» الزوجين الذكر والانثى. كما ورد هذا المعنى نفسه عن قتادة في تفسير الآية «سبحان الذي خلق الأزواج كلها». (تفسير القرطبي، ج 8 ص 5470).

(2) تمت الإشارة إلى المعنى الأول في معجم مقاييس اللغة والمفردات، والى المعنى

الثاني في لسان العرب.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 127

الأشخاص بشكل مستقل لا يتلاءم مع معنى الأمشاج، وكذلك ليس من المناسب القول بتركيب النطفة من أنواع المعادن واشباهها، لأنّ هذا الأمر لا ينحصر في النطفة فقط، وإنّما تتركب من هذه المواد كل الموجودات العالية نظير الإنسان والنبات وألوان الاطعمة، اضافة إلى أنّ كلمة النطفة في آيات متعددة من القرآن جاء في خصوص نطفة الرجل.

فمثلًا نقرأ في قوله تعالى «الَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّنْ مَّنىٍّ يُمْنَى ؟ (القيامة/ 37)

لكن مع تطور العلم واتساع نطاق تحقيقات العلماءثبت اليوم أنَّ القطرات القليلة للمني والتي تدعى ب (النطفة) مركبة من مياه متعددة تفرزها الغدد المختلفة للجسم، وبشكل رئيسي فهناك خمس غدد تتظافر فيما بينها لكي تصنع المني من ترشحاتها، وهي عبارة عن: غدتان تقعان في أكياس قريبة من غدة البروستات وتدعى ب (البيضة).

والاخرى هي غدة البروستات نفسها، وكذلك غدتا «الكوبر» و «الليترة» اللتان تقعان بالقرب من المجاري البولية هذا ما أثبته العالم الفرنسي الدكتور (بوكاري) «1».

وتختلط هذه المياه الخمسة مع بعضها بنسب دقيقة وموزونة لتشكل مادة الحياة (النطفة).

ويعتقد هذا العالم الفرنسي أنَّ التعبير ب (الأمشاج) الوارد في القرآن هو إشارة إلى تلك النكتة الدقيقة التي خفيت عن أنظار علماء ذلك العصر.

وممّا يسترعي الانتباه هو قوله تعالى في ذيل الآية السابقة: «فَجَعلْناهُ سَميعاً بَصيراً»، بمعنى أنّ نعمة السمع قد تقدمت على نعمة البصر، لاحتمال أن يكون السبب في ذلك كما ذهب إليه العلماء هو أنَّ الحس الأول الذي يبدأ بالعمل لدى الرضيع هو السمع، فهو يستعد لالتقاط الأصوات في الأيّام الاولى من حياته. بل إنّ له قبل ذلك نشاطاً محدوداً في العالم الجنيني أيضاً.

______________________________

(1) مقتبس من كتاب (مقارنة بين التوراة والانجيل والقرآن والعلم) تأليف

الدكتور «بوكاري» ترجمة المهندس «ذبيح اللَّه دبير» باللغة الفارسية- ص 271. الملفت للنظر أنّ هذا الدكتور الفرنسي يميل كثيراً إلى القرآن حينما يصمم على مقارنة هذه الكتب فيما بينها، وحيث إنّ ترجمات القرآن المتداولة لا تشفي غليله، نراه يستفيد من الادب العربي ويحيط به احاطة تامة ليتمكن من الحصول على مايحتاجه من القرآن مباشرة دون حاجة للرجوع إلى ترجماته.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 128

وهذا بخلاف البصر فانّه يستعد للإبصار بعد ذلك ولعله بعد مرور اسبوعين، لعدم امتلاك العين المغمضة أي استعداد لرؤية امواج النور في البيئة المظلمة للرحم. ولهذا السبب فإنّ عين الرضيع تبقى مغمضة بعد ولادته مدة من الزمن أيضاً، حتى تعتاد على الضياء بالتدريج.

من جانب آخر يقول تعالى «الَمْ نَخْلُقْكُّمْ مِّنْ مَّاءٍ مَّهِينٍ* فَجَعَلْنَاهُ فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ* الَى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ* فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ القَادِرُونَ». (المرسلات/ 20)

لقد توصل علماء الأجنة اليوم من خلال مطالعاتهم ومشاهداتهم الدقيقة والمصورة عن تحولات الجنين إلى هذه النكتة، هي أنّ لقاء (الحيامن والبيوض) إنّما يتمّ خارج الرحم وفي الممرات المنتهية إليه. ثم تنعقد النطفة لتشق طريقها نحو قرارها الأصلي وهو الرحم فتلتصق بجداره.

ويتبيّن هذا المعنى بوضوح في الآية الآنفة الذكر أيضاً، ففي البداية تتحدث عن خلقة الإنسان، ومن ثم عن استقراره في قرار الرحم (وينبغي الالتفات إلى أنَ «ثمَّ» تُستعمل في لغة العرب عادة للترتيب بشي ء من الفاصلة)، وعليه فإنّ الأمر الذي غاب عن أنظار جميع العلماء في ذلك العصر وما بعده قد جاء في القرآن بشكل واضح.

والتعبير ب «القرار المكين» هو الآخر تعبير غني جدّاً في معناه والذي كان مجهولًا في ذلك الزمان قطعاً.

ونعلم في وقتنا الحاضر أنّ هناك خصائص مهمّة أخذت بنظر الاعتبار في خلق الرحم بحيث أصبح من

آمن الأماكن للجنين.

وبغض النظر عن الأغشية الثلاثة التي تحيط بالجنين من كل جوانبه (غلاف بطن الام، جدار الرحم، الكيس الخاص لاستقرار الجنين). فإنّ كل جنين يسبح في كيس يحتوي على ماء لزج، ويستقر هناك تقريباً في حالة من انعدام الوزن وعدم الاتكاء على شي ء معين، وهو يتحمل كثيراً من الصدمات التي ترد على انحاء جسد الأم، ذلك أنّ الصدمات في الواقع تصيب (كيس الماء) لا الجنين نفسه مباشرةً، وبعبارة اخرى يمكن أن نسمي ذلك

نفحات القرآن، ج 8، ص: 129

الكيس ومحتواه بالجهاز المضاد للصدمات نظير النوابض المرنة للسيارة التي تخفف من تأثير عراقيل الطريق. فضلًا عن ذلك أنّه يحول دون تسليط ضغط على أعضاء جسم الجنين، ذلك لأنّ هذا الضغط يلحق الضرر بذلك الجسم اللطيف، إضافة إلى أنّ البرودة والحرارة الخارجية لا تنتقل إلى الجنين بسهولة كما لا يخفى لأنّها وفي طريقها إلى الجنين لابدّ أن تخترق ذلك الكيس المملوء بالماء، فتصل إليه معتدلة الحرارة، وإلّا فمن الممكن أن يختل وضع الجنين بصورة كاملة عند استحمام واحد للُام بالماء البارد أو الحار.

وبناءً على هذه الامور التي توضح لنا مفهوم (القرار المكين) بصورة كاملة لا يعتبر الرحم ملجأً آمناً ومناسباً للجنين فحسب، بل إنّ هذا الأمن والحصانة تسايره في المراحل التي تمر بها ولادته أيضاً.

وكما قال بعض المفسرين الجدد: إنّ المادة السائلة الخاصة التي يسبح فيها الجنين تتسبب في اتساع فوهة الرحم حين الولادة وتعقيم المجرى الذي يمر منه الجنين ليتمكن من اجتياز هذا المجرى المتلوث بأنواع الميكروبات عادة فيخرج إلى الدنيا سالماً، في منتهى الأمن والراحة «1».

وممّا يستحق الاهتمام أنّ القرآن الكريم عندما يريد أن يفصح عن سلسلة المراحل التكاملية للجنين يقول تعالى «ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ

عَلَقَةً فَخَلَقْنَا العَلَقَةَ مُضغَةً فَخَلَقْنَا المضغةَ عِظَاماً فَكَسَوَنا العِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ انشَأنَاهُ خَلْقًا آخَرَ* فَتَبَارَكَ اللَّهُ احْسَنُ الخَالِقِينَ».

(المؤمنون/ 14)

ومن طريف القول هو ما اثبته علم الأجنة حالياً أنَّ الجنين عندما يطوي مرحلة كونه علقة ومضغة، تتبدل كل خلاياه إلى خلايا عظمية، ثم تغطيها العضلات واللحم بالتدريج (وقد أثبتت ذلك الأفلام الدقيقة الباهضة التكاليف التي أخذت لكل المراحل الجنينية).

وهذا هو ما جاءت به الآية السابقة بدقة إذ تقول: «فَخَلَقْنَا المُضَغةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا العِظَامَ لَحْمًا»، وهذه هي احدى المعجزات العلمية للقرآن الكريم، ذلك أنّه لم يكن في ذلك الزمن

______________________________

(1) تفسير المراغي، ج 18، ص 11.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 130

مايسمى بعلم «الأجنة»، وعلى الخصوص في محيط جزيرة العرب الذي لم يتوفر فيه الاطلاع على أبسط المسائل العلمية «1».

11- القرآن يتحدث عن الآثار المهمّة للغلاف الجوي للأرض

نقرأ في قوله تعالى «وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفاً مَّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعرِضُونَ».

(الأنبياء/ 32)

لقد أبدى المفسرون القدماء وجهات نظر مختلفة في صدد بيان حقيقة السقف السماوي المحفوظ، فتارة يذهبون إلى أنّه محفوظ من نفوذ الشياطين، وتارة يقولون: إنّه محفوظ من السقوط على الأرض، وتارة ثالثة: إنّه محفوظ من الانهدام بالرغم من تقادم الزمن «2».

إنّ السر وراء هذه التفاسير المبهمة هو عدم اطلاع البشر على السماء اطلاعاً دقيقاً في ذلك العصر.

وعندما وُجد علم الهيئة الجديد أثبت أنّ الكواكب بأجمعها تسبح في الفضاء اللامتناهي، وأنّه لا يوجد سقف أساساً، أصبح مفهوم هذه الآية أكثر تعقيداً بالنسبة لبعض المفسرين، حتى لجأوا إلى القول: إنّ معناها هو أنّ السماء كالسقف المحفوظ الذي يحول دون حدوث أي اختلال في نظام الوجود.

وعلى هذا الأساس صار المتبادر إلى الذهن من معنى السقف هو المعنى المجازي والذي جاء بصورة التشبيه والكناية.

إلّا أنّ العلم البشري لم يزل يواصل تقدمه

نحو الأمام، وأصبح مفهوم هذه الآية أكثر وضوحاً نظراً إلى ما حصل عليه العلماء من معلومات جديدة عن طبقات الغلاف الجوي، فثبت أنّه يوجد سقف محفوظ بمعناه الحقيقي.

______________________________

(1) أشار سيد قطب في كتابه في ظلال القرآن ج 6 ص 16 إلى ذلك. وقد شاهدنا ذلك أخيراً في فيلم وثائقي عجيب عن المراحل التكاملية للنمو الجنيني.

(2) تفسير مجمع البيان، ج 7 ص 46؛ والتفسير الكبير، ج 22، ص 165 وتفاسير اخرى

نفحات القرآن، ج 8، ص: 131

توضيح ذلك: أنّه توجد طبقة عظيمة للهواء تحيط بالأرض من كل أطرافها تسمى «الغلاف الجوي» يصل سمكها مئات الكيلو مترات ونظراً لضخامة هذه الطبقة الشفافة ظاهراً والمتكونة من الهواء وبعض الغازات الاخرى نجدها على جانب كبير من القوة والمقاومة يقدرها بعض العلماء بمقاومة سقف فولاذي سمكه عشرة أمتار، تُصان به الكرة الأرضية من ألوان المخاطر.

فمن جهة يقف سداً منيعاً أمام سقوط الصخور المستمرة- ليلًا ونهاراً والمعروفة ب (الشهب) المنجذبة نحو الأرض بسرعة هائلة وتشكل خطراً كبيراً فيما لو اصطدمت بإحدى الأماكن.

وتتضح أهميّة هذه المسألة أكثر من خلال النظر إلى ما قاله العلماء: إنّ ملايين من هذه الشهب تتجه نحو الأرض في كل يوم وليلة، وعندما تصطدم هذه الأحجار السريعة بمقاومة الغلاف الجوي تتولد حرارة فتحترق وتشتعل متحولة إلى رماد، ينزل إلى الأرض رويداً رويداً، و في بعض الأحيان تكون هذه الأحجار كبيرة جدّاً فتجتاز الغلاف الجوي (بعد أن يحترق جزء منها) فتصيب نقطة من الكرة الأرضية، وتحدث أضراراً مخيفة، وقد سُجلت نماذج لها في التاريخ، ولعله انذار موجه إلى الغافلين بأنّ اللَّه تعالى لو لم يخلق هذا السقف المحفوظ، لتعرضتم بأجمعكم إلى هذا القصف الخطير، ولما كان للهدوء والاستقرار معنىً في

حياتكم.

ومن جهة اخرى نعلم أنّ الشمس تنبعث منها أشعة تدعى بالأشعة فوق البنفسجية (تلك الأشعة هي نفسها التي تقع فوق اللون البنفسجي عندما يتحلل ضوء الشمس ولا تشاهد بالعين المجرّدة) والمقدار القليل منها مفيد ونافع جدّاً، فضلًا عن أنّه لا يلحق الضرر بأحد، وبالأخص إنَّ له دوراً كبيراً في قتل الميكروبات، إلّاإذا ازداد وكثر فانّه يحرق البدن بدون أن يشعر الإنسان بالحرارة، (إنّ السبب وراء الحروق التي تصيب جلد الرأس والوجه والبدن في المناطق القريبة من خط الاستواء في فصل الصيف هو أنّ الشمس تسطع بصورة عمودية وتجتاز طبقة قليلة من الهواء، فلا تحظى بقدر كافٍ من التصفية) ولو لم يوجد هذا

نفحات القرآن، ج 8، ص: 132

(السقف المحفوظ) وهو «الغلاف الجوي» لم يستطع أي إنسان أن يقاوم الشمس ولو لحظة واحدة.

من جهة ثالثة أنّ الاشعاعات المميتة المسماة ب (الأشعة الكونية) تتجه بسرعة نحو الأرض ممّا وراء المنظومة الشمسية فيقف جزءٌ من الغلاف الجوي ويسمى ب «طبقة الاوزون» «1» مانعاً من نفوذ هذه الأشعة القاتلة ويقاومها كالسقف المحفوظ.

أخيراً برزت مخاوف كثيرة للعلماء على أثر الثقب الذي حدث في طبقة الاوزون بسبب تصاعد الغازات الضارة من بعض أجزاء السيارات في الهواء وإلحاقها الضرر بتلك الطبقة، هذه المخاوف ظهرت بصورة جدية بحيث أخذ رجال الدول والعلماء يفكرون في وضع مقررات دولية تمنع حدوث هذه الاضرار.

هذا ما توصلنا إليه حالياً من التعرف على الآثار العجيبة لهذا (السقف المحفوظ)، أي الطبقات العظيمة للهواء ومن الممكن الكشف عن حقائق أهم وأكثر في هذا المضمار مستقبلًا.

وقد يخطر في الذهن هذا السؤال وهو: هل يمكن اطلاق اسم «الغلاف الجوي» على السماء فتصدق عليه؟ وهل تعني السماء الكواكب والأجرام السماوية والمنظومات والمجرّات؟

في الجواب عن هذا

السؤال نقول: إنّ القرآن الكريم هو الذي اطلق مراراً هذه الكلمة على الغلاف الجوي ومن جملة ذلك ما نقرأه في قوله تعالى «وَأنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخرَجَ بِهَ مِنَ الثَّمراتِ رِزقَاً لَكُم» «2». (البقرة/ 22)

ويتجلى بوضوح نموذج آخر لهذا المعنى في قوله عز من قائل: «الَمْ يَروَا الَى الطَّيرِ مُسَخَّرَاتٍ فِى جَوِّ السَّمَاءِ». (النحل/ 79)

______________________________

(1) الاوزون، غاز أزرق اللون ذو رائحة نفاذة ويعد أخطر من غاز الاوكسجين. ويتكون عند التفريغ الكهربائي للاوكسجين، ويستعمل لاغراض الصباغة وتصفية الماء والهواء.

(2) وورد نظير هذا المعنى في البقرة، 164؛ الأنعام، 99؛ الأعراف، 96؛ يونس، 24؛ هود، 44؛ الرعد، 17 وآيات أخرى متعددة.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 133

12- القرآن والغلاف الجوي للأرض أيضاً

نقرأ في قوله تعالى «فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ انْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدرَهُ لِلإِسلَامِ وَمَنْ يُرِد انْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَانَّمَا يَصَّعَّدُ فِى السَّماءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَؤْمِنُونَ». (الأنعام/ 135)

وربّ سؤال يتبادر إلى الذهن وهو:

ماهي العلاقة بين الصعود إلى السماء وضيق الصدر؟

وهو سؤال لم يجد له المفسرون الأوائل جواباً دقيقاً.

قال كثير منهم: إنّ المقصود من ذلك هو كما أنّ الصعود إلى السماء أمر عسير أو محال كذلك تحصيل الإيمان بالنسبة إلى الكفار المعاندين والجهلاء المتعصبين «1».

في حين أنّ الأعمال الشاقة والمستحيلة كثيرة على وجه الأرض فليس هناك مبرر للتشبيه، إضافة إلى أنّ هذا التفسير بحاجة إلى تقدير: وهو أنّ الإيمان يشابه الصعود إلى السماء، في حين أنّ القرآن يقول: «يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَانَّمَا يَصَّعَّدُ فِى السَّماءِ».

وقالوا في بعض المواضع: شبَّه اللَّه الكافر في نفوره من الإيمان وثقله عليه بمنزلة من تكلف ما لا يطيقه، كما أنّ صعود السماء لايطاق «2»، ولا يخفى عدم تناسب هذا التفسير مع محتوى

الآية أيضاً.

أمّا بالنظر إلى الاكتشافات الأخيرة فإنّ للآية المتقدمة تفسيراً آخر يناسب هذا المعنى من كل الجهات وهو:

لقد ثبت اليوم أنّ الهواء المحيط بأطراف الكرة الأرضية مضغوط بصورة كاملة في الأماكن المجاورة لسطح الأرض ويلائم تنفس الإنسان ويناسبه، لأنّه يحتوي على الاوكسجين الكافي، وكلما ابتعدنا عن سطح الأرض أصبح الهواء أقل كثافة فيغدو التنفس شاقاً جدّاً على ارتفاع عشرة كيلو مترات عن سطح الأرض بدون استخدام الإنسان نقاب الاوكسجين، ويصاب بحالة من الضيق الحاد في التنفس، وكلما ارتفع إلى الأعلى أكثر،

______________________________

(1) تفاسير مجمع البيان؛ روح البيان؛ تفسير القرطبي و ... ذيل الآية مورد البحث.

(2) تفسير روح البيان، ج 3، ص 1.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 134

ازدادت حدّة الضيق في تنفسه حتى يصل إلى الوقت الذي يغمى عليه لقلّة الاوكسجين.

إذن توجد هناك علاقة وثيقة بين ضيق النفس والصعود إلى السماء، ولم تتبلور هذه الحقيقة في ذهن أي شخص في ذلك العصر «1». بيد أنّها قد تبلورت في اذهان الجميع في يومنا هذا، فقد سبق لنا أن سمعنا هذا الحديث من مضيّفي الطائرة عدة مرات أثناء سفرنا بها، بأنّ الهواء الموجود داخلها ينظم بجهاز خاص، فاذا حدث خلل فيه، فحينئذ ينبغي الاستفادة من نقاب الاوكسجين، لتستغل الطائرة سرعتها وتصل إلى الطبقات السفلى للجو الأكثر ضغطاً.

كما أنّ العلاقة بين هذا المعنى وبين تفسير الآية واضحة جلية.

وهي في الواقع تشبيه المعقول بالمحسوس، فقد شبّه الجمود الفكري والتعصب واللجاجة وقصر نظر الضالين المعاندين في اعتناقهم للإسلام، بضيق التنفس الناجم عن قلة حصول الاوكسجين بالنسبة للشخص الذي يصعد إلى السماء.

ونُنهي هذا البحث بمقولة للمراغي في تفسيره هذه الآية، إذ يقول: «سُبحانك ربّي نطق كتابك الكريم بقضية لم يتفهم سرها البشر، ولم يفقه

معرفة كنهها إلّابعد أن مضى على نزولها نحو أربعة عشر قرناً، وتقدم فن الطيران، الآن علم الطيارون بالتجربة صدق ما جاء في كتابك، ودلّ على صحة ما ثبت في علم الطبيعة من اختلاف الضغط الجوي في مختلف طبقات الهواء، وقد عُلم الآن أنّ الطبقات العليا أقل كثافة من الطبقات التي هي أسفل منها، وأنّه كلما صعد الإنسان إلى طبقة أعلى شعر بالحاجة إلى الهواء وبضيق في التنفس نتيجة لقلة الهواء الذي يحتاج إليه، حتى لقد يحتاجون أحياناً إلى استعمال جهاز التنفس ليساعدهم على السير في تلك الطبقات، وهذه الآيات وأمثالها لم يستطع العلماء أن يفسروها تفسيراً جلياً لأنّهم لم يهتدوا لسرّها، وجاء الكشف الحديث وتقدُّم العلوم فأمكن شرح مغزاها وبيان المراد منها بحسب ما أثبته العلم، ومن هذا صح قولهم، «الدين والعلم

______________________________

(1) يُصاب الإنسان أحياناً بضيق في النفس عند تسلق الجبال، هذا صحيح ومعروف منذ الأيّام السالفة، ويحصل نتيجة للجهد البدني الشديد ويشاهد في حالة الركض على الأرض المستوية أيضاً، غير أن القرآن يقول: إنّ ضيق النفس يسببه الصعود إلى السماء لا الجهد البدني الشديد.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 135

صِنوان لا عَدوّان»، وهكذا كلما تقدم العلم أرشد إلى إيضاح قضايا خفي أمرها على المتقدمين من العلماء والمفسرين» «1».

13- القرآن وأسباب نزول المطر والثلوج

نقرأ في قوله تعالى «الَمْ تَرَ انَّ اللَّهَ يُزجِى سَحَاباً ثُمَّ يُؤلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الوَدْقَ يَخْرُجُ مِن خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصرِفُهُ عَن مَّن يَشَاءُ يَكَادُ سَنَابَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالابصَارِ». (النور/ 43)

في هذه الآية تعابير مختلفة، لم تتوضح معانيها بدقة في الماضي.

«يزجي»: مأخوذة من مادة (إزجاء) ومعناها في الأصل هو الدفع أو التحريك الملائم الهادي ء.

يقول الراغب في

المفردات: «التزجية» معناها هو التحريك على سبيل الترتب والتسلسل.

واستعمل القرآن الكريم هذه الكلمة لحركة السفن على أثر هبوب الرياح في البحر كما رودت في سورة الاسراء، الآية 66.

«الركام»: (على وزن غلام) وتعني الأشياء الموضوعة فوق بعضها.

«وَدْق»: (على وزن شَرق)، وهي حسب رأي بعض المفسرين بمعنى قطرات المطر، وحسب رأي البعض الآخر بمعنى البرق.

«البَرَد»: على وزن (سَبَد) والمقصود به قطرات المطر المنجمدة، وهي في الأصل مأخوذة من مادة بَرْد على وزن (فَرْد) وهي البرودة. ولأنّ قطع البَرَد ذات طبيعة باردة وتبعث على برودة الأرض أيضاً اطلقت هذه الكلمة عليها «2».

______________________________

(1) تفسير المراغي، ج 8، ص 25.

(2) جاء في كتاب (التحقيق): «البرودة في الماء أن يبرد إلى أن يصل حدَّ الانجماد فيقال له البَرَد».

نفحات القرآن، ج 8، ص: 136

«جِبال»: جمع جَبَل، جاء في (معجم مقاييس اللغة) هو: بمعنى تجمع الشي ء مصحوباً بالارتفاع، وورد هذا المعنى في (التحقيق) أيضاً، وعليه فالجبل لايراد منه جبال الحصى والرمال فحسب، بل إنّ كل مرتفع متراكم ومخزون يقال له في لغة العرب: جبل.

واستناداً إلى ما قيل في هذا المجال نعود إلى الآية الآنفة الذكر: «وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ».

لم يدرك أحد في ذلك العصر بدقّة أنّ السحب في السماء على هيئة جبال بارتفاعات متفاوتة نشاهد قاعدتها غالباً. لأننا نراها بصورة لوحة واسعة في السماء، لكن عندما نحلق بالطائرة إلى أعلى السحب، نشاهدها جبالًا وودياناً ومرتفعات ومنخفضات، كما نشاهد ذلك على سطح الأرض، وبعبارة اخرى إنّ السطح الأعلى للسحب غير مستوٍ وعلى غرار سطح الأرض يحتوي على تضاريس كثيرة، وفي كثير من الأحيان يكون متراكماً على هيئة جبل.

ومن أجل أن يتضح مفهوم الجبال في الآية أكثر يمكن أن نضيف النكتة الدقيقة

والتي ثبتت نتيجة لتطور العلوم وازدهارها وهي:

ذكر أحد العلماء في تحليله الشخصي ما خلاصته: إنّ السحب المرتفعة عُبّر عنها بجبال الثلج، في الآية التي وقعت مورداً للبحث؛ لأنّ العلماء في تحليقاتهم الجوية اصطدموا بسحب متكونة من إبَرٍ ثلجية، يصدق عليها عنوان (جبال من الثلج) واقعاً، ومن الغريب هو ما ذكره بصددها أحد العلماء الروس أثناء شرحه لبعض (السحب المحملة بالأمطار) بأنّها جبال من الثلج، أو جبال من السحب.

هذا كله من جهة ومن جهة اخرى ذهب علماء معاصرون في صدد كيفية نشوء البَردَ في السماء إلى القول: إنّ قطرات المطر تنفصل عن السحاب وتصطدم بالمناطق العليا الباردة للجو فتنجمد، ولكونها صغيرة جدّاً تقذفها إلى الأعلى من جديد تيارات هوائية شديدة مسلطة على تلك المنطقة فتنفذ تلك الحبيبات داخل السحب مرّة اخرى لتستقر مقابلها صفحة جديدة من الماء، تنجمد مرّة ثانية حينما تنفصل عن السحاب، ويحدث أحياناً أن

نفحات القرآن، ج 8، ص: 137

يتكرر هذا الأمر عدّة مرات حتى يصبح حجم البَرَد كبيراً، ولا تقوى التيارات الهوائية على دفعه إلى الأعلى أو أن تهدأ تلك التيارات بصورة مؤقتة، فحينئذٍ يشق طريقه إلى الأرض ويسقط باتجاهها بدون أي مانع، ويحدث أن يكون كبيراً ثقيلًا في بعض الأحيان فيلحق اضراراً بالمزارع والبساتين والحيوانات وحتى أفراد البشر أيضاً.

من هنا يتبيّن أنّ وجود بَرَد كبير الحجم ثقيل الوزن ممكن عندما تتراكم الحبيبات المنجمدة فوق قمم السحب الجبلية إلى أن تظهر رياح شديدة فتقذفها وسط السحب، وتجمع مقداراً أكثر من الماء، فتصبح ثقيلة الوزن.

وعلى هذا الأساس تعتبر السحب الجبلية منبعاً مهماً لتكوّن بَردٍ كبيرٍ الحجم، سبقت الإشارة إليه في الآية.

وتتضح المسألة أكثر فيما لو قلنا: إنّ هذه الجبال هي الأكوام المتكونة من الذرات

الثلجية نفسها «1».

والسؤال الوحيد الذي يبقى هنا هو: لماذا وجه القرآن الكريم الخطاب إلى النبي صلى الله عليه و آله بقوله: (الَم تَرَ) في حين أنّنا نعلم أنّ هذه المسألة لا تقبل الرؤية على الاطلاق، وإنّما تمكن ملاحظاتها في عصرنا فقط من خلال التحليق بالطائرة؟

والجواب عن هذا السؤال واضح، ذلك أنّ (الَم تَرَ) والجمل المشابهة لها يراد منها «الَم تَعْلم»، ولهذا يقول القرآن مخاطباً النبي في سورة الفيل الآية 1: «الَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِاصْحَابِ الفِيلِ»، بالرغم من ولادته صلى الله عليه و آله في عام الفيل (العام الذي هاجم فيه أبرهة مكة المكرمة) وعدم حضوره تلك الواقعة.

______________________________

(1) ذهب المفسرون في تفسير: «وينزل من السماء من جبال فيها من بَرَد» إلى قولين يمكن استنتاجهما من سياق تركيب الآية؛ الأول: إنّ الجار والمجرور في «من برد» متعلق بينزل وهي في حكم المفعول فيصبح معنى الآية: إنّ اللَّه ينزل قطع الجليد من جبال في السماء (وهنا ذكرت الجبال بصورة مطلقة). والثاني: إنّ الجار والمجرور متعلق بفعل محذوف يقع صفة ل «جبال» فيصبح معنى الآية بناء على ذلك: إنّ اللَّه ينزل بَرداً من جبال الثلج التي في السماء (وهنا يكون مفعول «ينزل» محذوفا ويفهم من سياق الكلام).

وكلا التفسيرين يوضح الاعجاز العلمي للقرآن وفقا لما ذكرناه سالفاً. لأنّ قولًا تضمن ذكر جبال من الثلج، وقولًا اخر تضمن جبال السحاب، وكلاهما لم يكن معروفا في زمانه.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 138

14- القرآن وعلاقة الرعد والبرق والمطر

ورد الحديث عن الرعد والبرق في القرآن الكريم بشكل مكرر ثم وردت الإشارة إلى هطول الأمطار بعد ذلك مباشرةً.

ورد في قوله تعالى «وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ البَرْقَ خَوْفَاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ ماءً فَيُحىِ بِهِ الارضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِى

ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ». (الروم/ 24)

ونقرأ في قوله تعالى «هُوَ الَّذِى يُريكُمُ البَرْقَ خَوْفَاً وَطَمَعاً وَيُنْشِىُ ء السَّحَابَ الثِّقَال».

(الرعد/ 12)

وفي الماضي لم يكن أحد يعرف بدقة منشأ (الرعد) و (البرق)، ولذا فقد كان كل واحد يختلق لنفسه فرضية معينة، ويضفي عليها أحياناً طابع الأساطير والخرافات، أما اليوم فقد أضحى مسلَّماً أن حدوث الرعد والبرق يرتبط بالتفريغ الكهربائي بين سحابتين لهما شحنتان كهربائيتان مختلفتان (أحدهما موجبة والآخرى سالبة).

وفي الواقع مثلما يتصل سلكان كهربائيان احدهما بالآخر فتحدث شرارة كهربائية يصحبها الصوت والحرارة معاً، كذلك يحدث هذا الأمر بين السحب. (فالبرق) هو الشرارة الكهربائية الهائلة، و (الرعد) هو صوت تلك الشرارة.

وقد يحدث هذا التفريغ الكهربائي بين قطع السحاب التي لها شحنات كهربائية موجبة وبين الأرض ولها شحنة كهربائية سالبة عادة، فتقذف شرارة نارية إلى سطحها يطلقون عليها اسم (الصاعقة) والتي تسبب الحرائق الكبيرة في الصحارى والغابات وحتى في المباني والعمارات في بعض الأحيان.

وبإمكانها أن تُحوِّل قطيعاً كبيراً من الحيوانات إلى رماد في لحظة واحدة وإذا ما ضربت جبلًا ما فسوف يتلاشى وينهار، أو إذا اصابت سطح البحر قضت على كل ذي روح يعيش في ذلك الموضع منه؛ ويُعزى ذلك كله إلى أنّ الحرارة الناجمة من تلك الشرارة النارية هائلة جدّاً، (تصل إلى حدود خمسة عشر الف سانتيكراد، أي ضعف حرارة سطح الشمس تقريباً)، فتحيل كل الأشياء إلى دخان ورماد.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 139

وإذا ما كان البرق والرعد من المظاهر المرعبة لعالم الطبيعة إلّاأنّهما بالرغم من ذلك يشتملان على فوائد ومعطيات كثيرة أيضاً.

فمن احدى آثارهما المهمّة هي نزول الأمطار الغزيرة، وذلك لأنّ الحرارة المتولدة من البرق، تُسخن مساحة واسعة من الهواء المحيط بها، فيقلّ ضغطه، ومن المعلوم أنّ السحب ستفرغ

ما فيها من أمطار على أثر قلة الضغط، ولهذا السبب تهطل أمطار غزيزة بعد حصول الرعد والبرق.

وممّا يجدر ذكره: عندما تقترب السحب المتراكمة من الأرض لتظلِّلها يصبح الجو مظلماً، ويسمع صوت الرعد المخيف وتتراءى أنوار البرق، في الوقت ذاته تؤثر العواصف العاتية على السحب فتجعلها محملة بقطرات كبيرة غزيرة وتؤدي إلى تزايد وزنها «1»، وهذا هو عين ما قرأناه في الآيات السابقة التي تحدثت عن السحب الثقيلة بعد أن أشارت إلى مسألة البرق، إضافة إلى أنّ الحرارة الشديدة للبرق تؤدي إلى أن تتركب قطرات المطر من مقادير أكثر من الاوكسجين، فينتج من ذلك ماء مؤكسد ويسمونه بالماء الثقيل أيضاً (H 2 O 2).

ولهذا الماء الثقيل تأثير كبير في القضاء على كثير من الميكروبات والآفات النباتية، ولذا ذهب العلماء إلى القول بتكاثر الآفات النباتية في السنة التي يقل فيها الرعد والبرق (وهذا تفسير آخر في صدد السُحب الثقيلة).

وإضافة إلى ذلك فإنّ حامض الكربونيك يتولد من قطرات المطر الممتزجة بكاربون الجو وبواسطة الحرارة الشديدة للبرق، وبعد سقوطه على الأرض يتفاعل مع مواد اخرى لينتج مركبات تعد من أفضل الأسمدة لنمو الأعشاب، حتى ذهب العلماء إلى القول: إنّ مقدار الأسمدة الناشئة من الرعد والبرق في الكرة الأرضية تصل إلى حدود العشرة ملايين طن في جميع أنحاء الكرة الأرضية، وهو رقم كبير جدّاً.

وتتوضح عظمة القرآن العلمية بالمقارنة بين هذه الاكتشافات والآيات الآنفة الذكر،

______________________________

(1) العواصف والأمطار، ص 138.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 140

خصوصاً إذا أُخذ بنظر الاعتبار عدم وجود أدنى أثر لهذه العلوم في ذلك العصر وفي بيئة الجزيرة العربية.

15- القرآن وكشف هوية الإنسان

نقرأ في قوله عزّ من قائل: «ايَحْسَبُ الانسَانُ الَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ* بَلَى قَادِرِينَ عَلَى انْ نُّسَوِّىَ بَنَانَهُ». (القيامة/ 3- 4)

جاء في الروايات،

أنّ أحد مشركي العرب ويُدعى (عدي بن ربيعة) وكان رجلًا معانداً ومتعصباً جدّاً، أتى إلى النبي صلى الله عليه و آله وسأله عن يوم القيامة وكيفية وزمان تحققه، وقال: إنني لا اصدقك ولا أؤمن بك وإن رأيت ذلك اليوم بأمُ عيني، كيف يمكن التصديق بأنّ اللَّه تعالى يجمع هذه العظام النخرة، هذا ممّا لا يقبل التصديق فنزلت الآية المذكورة أعلاه «1».

«بَنان»: في اللغة بمعنى الاصابع، وقد ورد أحياناً (بمعنى رؤوس الأصابع)، وهو مأخوذ من مادة (بَنَ) بمعنى الإقامة.

وبناءً على كون الأصابع، أداة لإصلاح أحوال إقامة الإنسان في العالم، اطلق عليها هذا الاسم «2».

إنّ للأصابع دوراً مهماً جدّاً في حياة الإنسان، وتعد من عجائب الخلقة، وإن غفلنا عن أسرارها. لأنّها تحت تصرفنا دائماً، ولو قطعت أصابع يد أحد ما، فإنّه سوف لا يستطيع أن ينجز عملًا دقيقاً بأي شكل من الأشكال، وستستحيل عليه الكتابة، وتصفح أوراق الكتاب، وتناول الطعام بسهولة، والاتصال بالهاتف، وفتح الأبواب بالمفاتيح وأنواع الصناعات الدقيقة وتستحيل عليه بقية الصناعات الاخرى كانواع الأعمال المتعلقة بالسيارات، وحتى أخذ الأشياء الثقيلة باليد أيضاً، بل ويمكن لنقص أحد الأصابع أن يوجه

______________________________

(1) التفسير الكبير، ج 3، ص 217؛ وتفسير القرطبي، ج 10، ص 6885.

(2) المفردات للراغب؛ ومجمع البحرين؛ ومعجم مقاييس اللغة، مادة (بن).

نفحات القرآن، ج 8، ص: 141

ضربة عنيفة لكثير من الأعمال اليومية التي يقوم بها الإنسان. ولهذا السبب تنجز الحيوانات ذوات الأربع كثيراً من أعمالها بفمها أو رأسها.

وبعبارة اخرى يمكن القول: إنّ وجود الأصابع لدى الإنسان يعتبر من العوامل المهمّة للتقدم الحضاري له، والتعبير ب «البنان» المأخوذ من مادة الإقامة والدوام، إشارة لطيفة إلى هذه الحقيقة نفسها، وذلك لصعوبة وجوده في العالم بدونها.

يقول اللَّه تعالى في الآية

الآنفة الذكر: إنّ بإمكاننا أن نعيد العظام الصغيرة الدقيقة في يوم القيامة أيضاً فضلًا عن العظام الكبيرة.

واحتمل جماعة من المفسرين أيضاً أنّ المقصود من تسوية البنان هو وصالها مع بعضها واخراجها بصورة حافر حيوان من ذوات الأربع وليس لهذا التفسير تناسب مع آيات السورة.

من الامور التي يمكن استنتاجها من هذه الآية هو هذا الاكتشاف المهم، فقد أصبح من الثابت أنّ معرفة هوية أحد ما يتمّ بوسيلة رؤوس أصابعه. وهي أوثق وأدق من كل امضاء ولا يستطيع أحد تزويره، في حين أنّ التزوير قادر على التسرب إلى أعقد التواقيع، ولهذا السبب أصبحت مسألة «أخذ البصمات» من الحقائق العلمية في عصرنا الحاضر واستحدثت لأجلها دائرة خاصة في المراكز الأمنية، من خلالها يكشف النقاب عن كثير من المجرمين، فيكفي أن يضع أحد السراق يده على مقبض الباب، أو زجاج الغرفة، أو على القفل والصندوق والكرسي عند دخوله لأحد الغرف أو المنازل فيبقى أثرها على تلك الأشياء، أو يتمّ العثور على سلاح في قضية قتل، عليه بصمات أحد الأشخاص، وهذا يكفي لأخذ نماذج فورية لها فتتم مطابقتها على بصمات الأشخاص المشكوك بهم في تلك الحادثة،- إضافة لما لديهم من معلومات عن المجرمين والسراق- ومن ثم يلقون القبض على الجاني.

إذن يكون مفهوم الآية بناءً على هذا التفسير: إنّنا لسنا قادرين على أن نجمع العظام الكبيرة والصغيرة فحسب، بل إنّ في مقدورنا أيضاً أن نعيد الأصابع وبصماتها بجميع

نفحات القرآن، ج 8، ص: 142

مزاياها، التي هي من أدق ما في البدن من خصوصيات إلى حالتها الاولى

وبعبارة اخرى أنّ مفهوم تسوية البنان (ومعناها التنظيم والترتيب)، شامل لجميع الخصوصيات والجزئيات، من جملتها بصمات الأصابع.

ومن الجدير بالذكر هو ما نجده من توافق بين هذا

المعنى وبين مسألة القيامة، المحكمة الكبرى للعدل الإلهي، التي يجب التحقيق فيها مع المجرمين والمذنبين، ذلك أنّ هذه المسألة يستفاد منها أيضاً في محاكم الدنيا، قبل أي مكان آخر.

16- القرآن يكشف الستار عن عظمة خلق السماوات

نقرأ في قوله تعالى «لَخَلْقُ السَّمَواتِ وَالارضِ اكبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ اكْثَرَ النَّاسِ لَايَعْلَمُونَ». (المؤمن/ 57)

صحيح أنّ أغلب المفسرين اعتبر هذه الآية رداً على جدال المشركين في (المعاد) «1»، أي إنّكم تشكون في بعث الإنسان من جديد، في حين أنّ خلق الإنسان ليس بأعظم من خلق السماوات، بل إنّ خلق السماوات والأرض أهم من ذلك وأعظم، بيدَ أنّ جملة «ولكنّ أكثر الناسِ لا يَعلَمُون»، هي إشارة إلى حقيقة أنّ عظمة السماوات كانت مجهولة لدى معظم الناس سابقاً.

وبالرغم ممّا اكتشفه العلم الحديث من اسرار عظيمة ومهمة جدّاً عن وجود البشر لم يكن واحد من الألف منه معروفاً في العصور السابقة، إلّاأنّ الاكتشافات التي تحققت في مجال عظمة السماوات، تدل على أنّ خلقها والأرض يفوق بمراتب خلق البشرية بكل ما تنطوي عليه من عجائب.

إنّ آخر ما توصل إليه العلماء بصدد السماوات وبالأخص المجرات يقول: إنّه قد اكتشف إلى اليوم أكثر من مليارد مجرة بواسطة المراصد الفلكية الكبيرة، ومنظومتنا الشمسية ما هي

______________________________

(1) تفاسير مجمع البيان؛ الصافي؛ الكبير؛ الكشاف؛ روح المعاني؛ وروح البيان.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 143

إلّا جزء ضئيل من احدى المجرّات التي تسمى ب «درب التبانة»، ففي مجرّتنا فقط أكثر من مائة مليارد كوكب والشمس بعظمتها هي احدى النجوم المتوسطة في هذا الجيش الجرّار للنجوم.

الفضاء واسع جدّاً بحيث إنّ سبر اغواره ليس يستحيل بالمركبات الفضائية البشرية فحسب، بل إنّنا لو ركبنا ذرات الضوء- التي تسير بسرعة فائقة تصل إلى ثلاثمائة الف كيلو متر في الثانية الواحدة- لاستغرقت رحلتنا

هذه ملياردات السنين الضوئية أيضاً حتى يمكننا أن نقطع المساحة المكتشفة في هذا العالم.

وكلما كان حجم المراصد الفلكية أكبر وأدق، كلما كشفت لنا الحجب عن عوالم جديدة اخرى

بالرغم من هذه الاكتشافات فإنّنا لحد الآن لم نتوصل إلى ما وراء ما عرفناه وشاهدناه، وإنّ ما اكتشف بأكبر المراصد هو زاوية صغيرة وتافهة من هذا العالم العريض.

وحسب قول أحد العلماء: فإنّ كل هذا العالم الواسع الذي نشاهده ليس إلّاذرة صغيرة، وجزء لا حدود له من عالم أكثر عظمة «1».

ومن هنا نقف على عمق الآية الآنفة الذكر التي تقول: «لَخَلقُ السَّمَواتِ وَالارض اكبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكنَّ اكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعلَمُونَ».

ونتساءل ألا يُعدُّ بيان مثل هذه الامور من قبل فرد امي في عصر نزول القرآن وفي بقعة من أكثر بقاع العالم تأخراً، معجزة؟

وبهذا النحو نصل إلى نهاية بحث الاعجاز العلمي للقرآن، وإن كانت لا تزال هناك ملاحظات كثيرة لم نتطرق إليها.

ونعتقد أنّ البحث في النماذج الستة عشر السابقة أثبت بشكل منصف ولكل إنسان واع حقيقة استحالة أن يكون هذا الكتاب العظيم أي (القرآن) من صنع عقل البشر.

______________________________

(1) مجلة الفضاء، العدد 56، سنة 1971.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 145

4- الاعجاز التاريخي للقرآن

دور التاريخ في المسائل التربوية:

ممّا لا يقبل الشك أنّ القرآن ليس كتاباً تاريخياً، لكنه ولأسباب مختلفة فانه يضم بحوثاً تاريخية متنوعة، وذلك لأن المسائل التربوية وبالأخص الاجتماعية لا يمكنها أن تنفصل عن المباحث المرتبطة ب (تاريخ القدماء) لأنّ التاريخ من أكبر معلمي الحياة وهو معيار جيد لتحديد وتبيين مزايا وخصائص المبادي ء الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وفصل الحقائق عن الأوهام والمثاليات عمّا يناقضها.

إنَّ عظمة التاريخ تكمن في اظهاره المسائل الفكرية والعقلائية في قالب محسوس تؤدي خدمة كبيرة لفهم المسائل الإنسانية بصورة صحيحة، فمن جملة المسائل التي

تُستنبط من التاريخ هي: إلى أين تؤول عاقبة الظلم والجور والاستبداد، وماهي نتيجة الاختلاف والتشرذم، وما هي خاتمة التعصب والعناد والانانية، وعدم الاعتناء بالحقائق الواقعية؟

ولهذا السبب يمكن القول: إنّ التاريخ هو معين الحياة الذي يمد الإنسان بالعمر والبقاء، فمن خلال مطالعة تاريخ القدماء نحصل على صفحات مركزة هي عصارة آلاف السنين من التجارب الإنسانية توضع بين يدي جيل الحاضر والمستقبل.

وأشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة المهمّة بجملة مختصرة إذ يقول:

«لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّاوْلي الأَلبَابِ مَا كانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِى بَيْنَ يَدَيهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَى ءٍ وَهُدىً وَرَحمَةً لِّقَومٍ يُؤمِنُونَ». (يوسف/ 111)

نفحات القرآن، ج 8، ص: 146

والجدير بالذكر هنا أنّ القرآن بيّن هذا المفهوم بعد قصة النبي يوسف عليه السلام المليئة بالحوادث والعبر التي يستفاد منها في الأبعاد المختلفة للمسائل التربوية.

وفي موضع آخر يعتبر القرآن قصص وتاريخ القدماء وسيلة لإيقاظ الأفكار والعقول فيقول: «فَاقْصُصِ القَصَصَ لَعَلَّهُم يَتَفكَّرُونَ». (الأعراف/ 176)

وفي آيات اخرى يُعد تاريخ الأنبياء الاوائل وسيلة ناجحة ل (تثبيت قلب) نبي الإسلام صلى الله عليه و آله وتقوية إرادته ولتوعية المؤمنين وايقاظهم، فيقول عز من قائل: «وَكُلًّا نَّقُصُّ عَلَيكَ مِنْ انْبَاءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجاءَكَ فِى هَذِهِ الحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلمُؤمِنِينَ». (هود/ 120)

ويقول اللَّه سبحانه وتعالى في صدد التعريف بقصّة نوح عليه السلام: «وَلَقَدْ تَّرْكنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُّدَّكِرٍ». (القمر/ 15)

ويذكر الآثار المتبقية للقدماء بتعبير حي جميل، فيقول: «افَلَمْ يَسِيرُوا فِى الارضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا او آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فانَّهَا لَاتَعْمَى الابْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُورِ». (الحج/ 46)

وعلى هذا، فالأحداث التاريخية المفصلة والآثار التاريخية الغابرة للقدماء تساهم في إنارة البصائر وتفتح آفاق جديدة رحبة.

ومن خلال هذه الإشارة إلى

فلسفة تاريخ القدماء نعود إلى القرآن مرة ثانية لنلقي نظرة على الاعجاز التاريخي للقرآن.

الخطوط العريضة للتاريخ في القرآن:

اشارة

سبق القول إلى أنّ مقطعاً مهماً من المباحث التربوية والمواعظ والنصائح والبشائر والنُذر والعهود والآمال القرآنية بُيِّنت بصفتها مسائل تاريخية شيقة ومعبرة ومؤثرة تجذب السامع تلقائياً نحو الأهداف العليا، ولانستطيع الوقوف على عظمة البحوث التاريخية

نفحات القرآن، ج 8، ص: 147

المعجزة في القرآن مالم نطالع بدقة سورة يوسف، والأنبياء، وطه، والقصص، ومريم، وآل عمران، وأمثالها.

و تنطوي البحوث التاريخية على الخصوصيات الأساسية التالية:

1- الاستناد إلى المقاطع الحساسة وإلقاء نظرة فاحصة ونافذة على المسائل التربوية المهمّة.

2- خُلّوها من أي شكل من أشكال الحشو والإضافات.

3- خُلّوها من حالات التضاد والتناقض وعدم السنخية والانسجام.

4- خلافاً لُاسلوب كتابة التاريخ المتعارف في ذلك الزمان (وحتى في القرون التي تلته)، حيث طرح التاريخ فيها كمادة مسلية، ووسيلة للإطلاع على اوضاع الماضين، فلم يشتمل على أيّة نظرة فاحصة محللة تشكل فلسفة التاريخ والدروس والعبر المستلهمة من حياة القدماء.

بينما اهتم القرآن المجيد في تواريخه بأصول المسائل وبظواهرها أيضاً بشكل يُنمي روح حب الإطلاع في نفس القارى ء والمتلقّي ويحفز ذهنهما على التفكير الدقيق في الحوادث.

ومن الجدير بالذكر: إنّه لم يرد ذكر للحوادث التافهة التي لا هدف لها سوى اطالة الكلام وإتلاف الوقت في أي واحدة من آياته.

5- أولى القرآن اهتماماً بالغاً وبشكل دقيق بمسألة فصل الحقائق التاريخية عن الأساطير، وهي من المسائل المعقدة أحياناً، لأنّ هناك عوامل مزجت التاريخ بالأساطير الكاذبة دائماً: من جملتها، الترفيه وإرضاء العواطف الطفولية، إدارة الخيال وإيجاد الروابط المفتعلة، بحيث يمكن القول: إنّ الأساطير والخرافات تستأثر بمقطع مهم من تواريخ القدماء وتشكل أحد أركانها الأساسية.

فبناءً على ذلك لو فرضنا أنفسنا في زمن نزول القرآن وأجواء حياة نبي الإسلام صلى

الله عليه و آله لشاهدنا مدى امتزاج تواريخ ذلك الزمان بخرافات تُتناقل على الألسنة وتعد في قائمة

نفحات القرآن، ج 8، ص: 148

المسلمات بحيث لايستطيع المتعلمون الفصل بينهما، فضلًا عن أحد الامّيين.

وقد كان علماء ذلك العصر من الربانيين و (أحبار) اليهود والنصارى ومشركي العرب يدافعون عن هذه الأساطير والخرافات، ومن الطبيعي أنّ من يعيش في مثل تلك البيئة ويصل سنّه إلى الأربعين تنسج أفكاره بهذه الأساطير والخرافات ويستحيل الفصل بينها عادة، ترى هل يستطيع أحد أن يُنقي التاريخ في تلك البيئة المظلمة ويفصل الحقائق عن الأوهام والخرافات؟ إنّ أحداً من المحققين، والمطلعين على التاريخ في يومنا هذا لا يتمكن من القيام بمثل هذا العمل إلّابشق الأنفس، فكيف يمكن توقع ذلك من شخص امّي لا يعرف القراءة في ذلك العصر؟

والآن نتوقف عند بعض الأمثلة في القرآن وبشي ء من المقارنة يتضح ماقلناه سابقا:

1- كيفية خلق «آدم» كما ورد في القرآن وفي العهدين

بيّنَ القرآن الكريم (خلقة) الإنسان في سورة البقرة في الآيات (30 إلى 37) بالشكل التالي:

«وَاذْ قَالَ رَبُّكَ لِلمَلَائِكَةِ انِّى جاعِلٌ فِى الْأَرضِ خَلِيفَةً قَالُوا اتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيَها وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ انِّى اعْلَمُ مَالَا تَعْلَمُونَ* وَعَلَّمَ آدَمَ الاسْماءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى المَلَائِكَةِ فَقَالَ انْبِئُونِى بِاسْماءِ هؤُلَاءِ إنْ كُنْتُم صَادِقِينَ* قَالُوا سُبْحَانَكَ لَاعِلْمَ لَنَا الَّا مَاعَلَّمْتَنَا انَّكَ انْتَ العَلِيمُ الحَكِيمُ* قَالَ يَاآدَمُ انبِئهُمْ بِاسَمائِهِم فَلَمَّا انبَاهُمْ بِاسمائِهِم قَالَ الَمْ اقُلْ لَّكُمْ انِّى اعْلَمُ غَيْبَ السَّموَاتِ وَالارضِ وَاعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ* وَاذْ قُلْنا لِلمَلَائِكةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا الَّا ابلِيسَ ابَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الكَافِرِينَ* وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ انْتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ وَكُلَا مِنَها رَغَداً حَيْثُ شِئْتَما وَلَاتَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ* فازَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنهَا فاخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنا

اهْبِطُوا بَعْضُكُم لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِى الارضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ الَى حِينٍ* فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَّبِّهِ كَلِماتٍ فَتَابَ عَلَيهِ انَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ». (البقرة/ 30- 37)

نفحات القرآن، ج 8، ص: 149

وقد أشير إلى هذا المعنى أيضاً في سور قرآنية اخرى كالأعراف وطه.

ويستفاد من الآية (12) من سورة طه بشكل واضح، أنّ الشيطان خدع آدم من خلال قوله له: إنّ هذه الشجرة، شجرة الحياة الأبدية، في حين أنّ آدم تلقى إنذاراً مُسبقاً يقضي بأنّ الشيطان عدوٌّ لك فلا تغتر بأقواله.

وكذلك يستفاد من الآية (26 و 27) من سورة الأعراف و (121) من سورة طه هذا المعنى أيضاً هو أنّ آدم وزوجته كانا يرتديان الأثواب في الجنّة لكن عندما تناولا من تلك الشجرة المُحرّمة عليهم، خُلعت عنهما أثواب الجنة.

وصنعوا لأنفسهما لباساً من اوراق اشجار الجنة، واستناداً إلى الآيات السابقة نستنتج مايلي:

أولًا: من المميزات الأساسية لشخصية آدم عليه السلام هي نيله مقام الخلافة الإلهيّة وسجود الملائكة له، وهي نفس حالة اطلاعه على «علم الأسماء» وعلمه بالحقائق والأسرار الكونية.

ثانياً: السبب وراء خروج آدم من الجنّة، هو تناوله من تلك الشجرة التي حُظرت عليه من قبل وإن كان القرآن لم يذكر اسماً لهذه الشجرة، لكن ظاهر الأمر أنّها كانت تحمل فاكهة طيبة ولذيذة والغاية من الأمر بتركها هو اختبار آدم عليه السلام وامتحانه من أجل غربلة إيمانه وصقل إرادته في مقابل الوساوس النفسانية والشيطانية.

ويتضح من عبارة «فأزَلَّهُما الشَّيطانُ» معنى أنّ التناول من تلك الشجرة المحظورة لايعدو أن يكون مخاضاً من المخاضات وليس هو من نوع ارتكاب الذنب والطغيان أمام قدرة اللَّه وانتهاك حرمة العبودية.

والآن نعرج على التوراة لنرى كيف امتزجت هذه الحادثة التاريخية بأنواع الخرافات والمسائل غير المنطقية والصبيانية؟

جاء في الفصل الثاني

من (سفر التكوين 7- 25) مايلي:

* ثم صور اللَّه تعالى آدم من صعيد الأرض ونفخ في انفه نسمة الحياة، فأخذ روح آدم ينبض بالحياة.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 150

نفحات القرآن ج 8 199

* وغرس اللَّه تعالى بستاناً في الجانب الشرقي من عدن، وأنزل الإنسان الذي صوره هناك.

* وأنبت اللَّه تعالى كل شجرة بديعة ولذيذة المطعم، وانبت شجرة الحياة وسط البستان وشجرة المعرفة (بالحسن والقبُح) ...* وأخذ اللَّه تعالى آدم وأنزله في بستان عدن ليرعاه ويحرسه.* وأمر اللَّه تعالى آدم وقال انك مخير بأنّ تأكل من كل اشجار البستان.* ولكن لا تأكل من شجرة المعرفة، لأنك ستستحق الموت حين تناولك منها ...* وكان آدم وزوجته كلاهما عاريين ولا يستحيان.

ووردت تتمة هذه الواقعة في الفصل الثالث من (سفر التكوين) نفسه على النحو التالي:

1- خلق اللَّه الأفعى (الشيطان) أمكر من كل ذي روح يدب على وجه الصحراء، فقالت للمرأة: هل قال اللَّه حقاً لا تأكلا من جميع أشجار البستان.

2- وقالت المرأة للافعى بأننا نأكل من فاكهة أشجار البستان.

3- إلّاأنّ اللَّه تعالى أمرنا بأنّ لا نأكل من ثمار الشجرة التي في وسط البستان ولا نلمسها حتى لا نموت.

4- وقالت الأفعى للمرأة وبالطبع لا تموتان.

5- الحقيقة أنّ اللَّه يعلم أنكما يوم تأكلان منها تتنور بصيرتكما، وتصبحان كالآلهة (الملائكة) الذين يعلمون الحسن والقبح.

6- فرأت المرأة أنّ من الصلاح أن تأكل من الشجرة التي تبدو رائعة المنظر، جذابة لمن يعشق المعرفة فوظفت من ثمارها واكلت واعطت لزوجها أيضاً فأكل.

7- حينئذٍ تنورت بصيرتهما، وعلما أنّهما عاريان فحاكا من أوراق شجرة التين إزاراً لهما.

8- وسمعا صوت اللَّه تعالى حينما كان يتبختر صباحاً في البستان، فاختفى آدم وزوجته بعيداً عن حضرة اللَّه بين الأشجار.

9- ونادى

اللَّه آدم وقال له اين أنت؟

10- فأجابه إنني سمعت نداءك في البستان وأصابني الهلع، لأنني عارٍ من اللباس ولهذا اختفيت.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 151

11- فقال اللَّه من قال لك إنّك عارٍ؟ هل تناولت من الشجرة التي أمرتك أن لا تأكل منها؟

12- وقال آدم: إنّ المرأة التي منحتها لي لتكون معي هي التي أعطتني من تلك الشجرة فأكلت.

13- وقال اللَّه تعالى للمرأة ما هذا الذي فعلت؟ قالت المرأة لقد أغوتني الأفعى فأكلت.

14- وقال اللَّه تعالى للأفعى: لأنك فعلت ذلك فأنت ملعونة من بين كل البهائم، والحيوانات الصحراوية ستمشين على بطنك وستأكلين التراب طيلة أيّام حياتك ...

22- وقال اللَّه تعالى نظراً لأنّ آدم أصبح واحداً منّا لعلمه بالحسن والقبح، فلا ينبغي أن يمد يده إلى شجرة الحياة أيضاً فيأكل منها ويعيش عيشاً أبدياً.

23- إذن لهذا السبب ابعده اللَّه تعالى من بستان عدن، ليشتغل بزراعة الأرض التي نشأ منها.

24- وأبعد آدم واسكن الكروبيين (الملائكة) في الجانب الشرقي من «بستان عدن» وكانوا يطوفون حول شجرة الحياة بالسيف البتار ليحرسونها.

وخلاصة ما جاء في التوراة بصدد تاريخ خلق آدم وخروجه من الجنّة على النحو التالي:

خلق اللَّه آدم، وأسكنه بستاناً في الجانب الشرقي من عدن، ليرعاه، وختم هذا البستان بين أشجاره شجرتين.

إحداهما: (شجرة العلم، بالحسن والقبح) وهي شجرة يحصل من يأكل من ثمارها على العقل والذكاء، ولأنّ آدم لم يكن قد تناول منها شيئاً، فلم يدرك معنى الحسن والقبح. ولهذا السبب لم يستح من عُريه هو وزوجته قط، والاخرى كانت (شجرة الحياة) ومن أكل منها حَظي بالعمر الخالد.

وأمر اللَّه تعالى آدم أن لا يتناول شيئاً من شجرة العلم، المعرفة والحسن والقبح على الاطلاق وإلّا فسيموت، وسرعان ما ألقى الشيطان وسواسه في روع

زوجة آدم (حواء) وقال لها: لِمَ لا تأكلين من (شجرة العلم، والمعرفة) لأنّك لو أكلت لانُيرت بصيرتك ولاطّلعت على الحسن والقبح كالملائكة، وكان منظر تلك الشجرة جذاباً جميلًا، ومن ثمّ

نفحات القرآن، ج 8، ص: 152

أكلت منها حواء واعطت منها لآدم أيضاً فتفتحت عيناهما، واطلعا على الحسن والقبح، وأدركا قبح العري فصنعا من الورق العريض لشجرة التين ستراً لهما وربطوه حولهما، حينما كان اللَّه تعالى يتمشى في الجنّة عمد آدم إلى اخفاء نفسه بين أشجارها، فلم يشاهده اللَّه تعالى وناداه أين أنت؟ فأجاب اللَّه تعالى إنّي هنا بين الأشجار وقد أخفيت نفسي لأنني عارٍ فسأله اللَّه تعالى من أين علمت أنّك عارٍ؟ لعلك تناولت شيئاً من شجرة الحسن والقبح (شجرة العلم والمعرفة)، فالقى التبعة على عاتق زوجته، لما عُوتبت حواء ألقت التبعة على عاتق الأفعى (الشيطان)، هنا عاقب اللَّه الأفعى بأنّ تزحف على بطنها، وتأكل من تراب الأرض طيلة حياتها.

من ناحية اخرى بعد أن تناول آدم من (شجرة العلم والمعرفة) وأصبح كأحد الآلهة، احترس اللَّه تعالى من أن يتناول من (شجرة الحياة) أيضاً ويحظى بالعمر الخالد. ولذلك اصدر اللَّه تعالى أمراً بإخراجه من الجنّة وأمر الملائكة أن يحرسوا شجرة الحياة بالسيف البتار لئلا يقترب منها آدم.

ولا يخفى علينا أنّ هذا هو التوراة نفسه الذي يعد اليوم (الكتاب المقدس) لجميع يهود ومسيحيي العالم، ويؤمن جميعهم بمحتواه ويعتقدون أنّه الكتاب عينه الذي كان في أيدي اليهود والنصارى في عصر نزول القرآن.

وبطبيعة الحال فإنّنا لا نعتقد بوجود مثل هذا النوع من الخرافات الصبيانية المبتذلة في الكتاب السماوي لموسى عليه السلام، أو أنّ الأنبياء بعده دافعوا عنه، ولكن على أي حال احتوت هذه الاسطورة الغريبة على امور جارحة في حق

اللَّه تعالى بحيث إنّ كل واحدة منها أشنع من الاخرى ومن جملتها:

1- نسبة الكذب إلى اللَّه تعالى استناداً إلى ما نقلوه من قوله أنّكما لو تناولتما شيئاً من شجرة (العلم والمعرفة) فستموتان.

2- نسبة البخل إليه جل وعلا بمانقلوه من أنّه لم يوافق على أن يأكل آدم وحواء من شجرة العلم والمعرفة، فيحظيا بالعقل والإدراك وكان يريد لهما البقاء على جهلهما وعدم معرفتهما.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 153

3- إنّ اللَّه تعالى لم يمنحهما العقل والعلم الكافيين ليدركا قبح كونهما عاريين، بل وكان تعالى كثيراً ما يرتضي لهما هذه الحالة.

4- القول بأنّ له جسماً وأنّه يتمشى على قدميه في البستان، وفي الوقت نفسه يغفل ولا يعلم بما يدور حوله، بحيث يمكن لآدم وحواء أن يتواريا عن نظره وكل واحد من تلك الامور يعد كفراً، ولا ينسجم مع مقام الألوهية اطلاقاً.

5- إنّ الشيطان (نعوذ بالله) أشد حرصاً من اللَّه تعالى على آدم وحواء لأنّه أرشدهما إلى معرفة الحسن والقبح، وهو لم يكف عن اضلاله فحسب بل دعاهما إلى طريق التكامل، بينما الحقيقة هي أننا ندين الشيطان في علومنا ومعارفنا.

6- إنَّ الجنة منزل الجهال والأغبياء لأنّ اللَّه أخرج آدم وحواء من الجنّة بجريرة حصولهما على العلم.

7- إنّ الشيطان إنّما لعن وطرد من ساحة الرحمة الإلهيّة، لأنّه كان يطلب الخير لآدم، فعوقب من دون أن يرتكب ذنباً معيناً.

وكذلك فيما يخص الخرافات الاخرى كالعلم والمعرفة والحياة، وثمار أشجار البستان، أو أنّ غذاء الأفعى هو التراب دائماً، وأمثال ذلك.

والآن يمكننا اجراء مقارنة بسيطة بين ما بينه القرآن في صدد تاريخ نشوء آدم وصراعه مع الشيطان، وبين ما قرأناه في العبارات السابقة، لنعلم أيّهما هو الكتاب السماوي وأيّهما نتاج عقل إنسان جاهل؟

2- لقاء إبراهيم عليه السلام بالملائكة

يبيّن القرآن

الكريم قصة مجي ء الملائكة إلى إبراهيم في حالة مسيرتهم إلى قوم (لوط) لإنزال العقاب بحقهم في قوله تعالى، على النحو التالي:

«وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا ابْرَاهِيمَ بالبُشْرَى قَالُوا سَلَاماً قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ ان جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ* فَلَمَّا رَءَآ ايْدِيَهُمْ لَاتَصِلُ الَيهِ نَكِرَهُمْ وَاوْجَسَ مِنْهُم خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ انَّا ارْسِلْنَا

نفحات القرآن، ج 8، ص: 154

الَى قَومِ لُوطٍ* وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرنَاهَا بِاسحقَ وَمِنْ وَرَاءِ اسحقَ يَعْقُوبَ* قَالَتْ يَاوَيْلَتَى ءَأَلِدُ وَانَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلى شَيْخاً إِنَّ هذَا لَشَى ءٌ عَجِيبٌ* قَالُوا أتَعْجَبِينَ مِنْ أَمِرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُم اهْلَ البَيْتِ إِنّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ* فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ ابْرَاهيِمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ البُشْرَى يُجَادِلُنَا فِى قَوْمِ لُوطٍ* إِنَّ ابْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ* يَاابْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وإِنَّهُم آتِيِهِم عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ». (هود/ 69- 76)

في هذا المقطع التاريخي لا نواجه شيئا غريباً ومعقداً وغير متعارف أو غير منطقي مطلقاً، فالقصة واضحة المعالم بكل تفاصيلها: حيث أمر اللَّه الملائكة بمعاقبة قوم لوط عليه السلام، وقبل ذلك جاءوا إلى إبراهيم عليه السلام يبشرونه بأنّه سيرزق ولداً، فقرر أن يطعمهم، وسرعان ما اطلع على حقيقة الأمر وأراد أن يشفع لقوم لوط عليه السلام ليدفع العذاب عنهم، غير أنّ الأمر قد انتهى فقوم لوط لا يستحقون الشفاعة، ثم يبشرونه وزوجته بولادة ابن لهما، وتنتهي فصول هذه القصة.

ولكن لنرى ماذا نسج الكتاب المقدس- (كما يسمونه)، وهو مورد قبول اليهود والنصارى من أساطير في هذا المجال وما الذي طرحه من مسائل غير منطقية؟

نقرأ في الفصل الثامن عشر من سفر التكوين مايلي:

«وظهر اللَّه تعالى في معبر يسمى «بلوطستان» بينما كان (إبراهيم) جالساً على باب الخيمة في يوم قائظ، وما أن فتح عينيه حتى رأى ثلاثة

أشخاص واقفين أمامه. وحينما رآه أخذ يعدو من الخيمة لاستقباله وانحنى إلى الأرض وقال: سيدي الآن وقد حزتُ على التفاتة منك أرجوك ألّا ترحل قبل أن آتيك بقليل من الماء لأغسل رجليك، وتستريح تحت هذه الشجرة وسأجلب بعض الخبز لتقوي به قلبك، وبعد ذلك أرحل لأنّهم سيقولون لقد عمل كما أمره عندما عبر بالقرب مني.

ثمّ هرع إبراهيم إلى (سارة) في الخيمة، وقال: عجلي في ثلاثة مكاييل من الحنطة أعجنيها واخبزيها أقراصاً بالتنور، ثم اسرع إبراهيم إلى قطيع الأبقار وأخذ عجلًا ذكراً يافعاً واعطاه لشاب فأعده وحضره بسرعة ثم حمل الزبد والحليب مع العجل الذي أحضره ووضعه أمامه ووقف بالقرب منه تحت تلك الشجرة ليتناول طعامه!

نفحات القرآن، ج 8، ص: 155

ثمّ قال له: أين امرأتك سارة؟ فقال: ها هي في الخيمة، وقال آخر: سأعيد لك عمرك وهذه امرأتك سارة سيكون لها ولدٌ، وكانت سارة عند باب الخيمة وراءه تسمع ذلك وهي وإبراهيم كانا عجوزين طاعنين في السن، وانقطعت عن سارة عادة النساء ضحكت سارة من دون قصد، وقالت: بعد أن هرمت أنا وزوجي هل يمكن أن أكون مسرورة؟!

ثم قال اللَّه تعالى لإبراهيم: لماذا ضحكت سارة؟ قالت: هل سألد حقّاً بعدما أصبحت عجوزاً، وهل يصعب على اللَّه أمر ما، والحال سأعيد لك عمرك في الوقت الموعود، وسيكون لسارة ولد، وانكرت سارة وقالت: لم أضحك، لأنّها ذعرت، فقال: ليس كذلك بل ضحكت حقاً!

ونهض هذا الشخص من هناك واتجه إلى سدوم وشايعه إبراهيم ليسلك الطريق.

وقال اللَّه: لا أخفي على إبراهيم الأمر الذي أفعله، لأنّ إبراهيم سيكون حقاً قوماً عظيماً وكبيراً وتتبرك به كافة طوائف الأرض ...

وقال اللَّه تعالى حيث إنّ صيحة (سدوم) و (عموراه) وعالية ذنوبهم عظيمة فسأهبط لأرى هل

قاموا بهذه الصيحة كما أخبرت، وإذا لم يكن كذلك فسأطلع على الأمر، وتوجه هؤلاء الأشخاص من هناك وتحركوا باتجاه (سدوم) والحال أنّ إبراهيم لازال واقفاً أمام اللَّه، ثم أخذ إبراهيم يتقرب وقال: هل ستقوم باهلاك الصالح مع الطالح حقاً؟ من الممكن أن يوجد 50 فرداً صالحاً، في أعماق المدينة، هل يمكن أن تهلك المكان ولا تنقذه بسبب مايوجد في الأعماق من 50 فرد صالح، حاشا لك أن تقوم بهذا العمل وتهلك الصالحين مع الطالحين فيكون الصالح مساوياً للطالح، حاشا لك، هل يمكن لمن يحكم الأرض بأجمعها أن لا يكون عادلًا؟

ثم قال اللَّه تعالى إذا وجدت 50 فرداً صالحاً في وسط مدينة سدوم فسأخلص كافة أهل ذلك المكان بسببهم، وقال إبراهيم في الجواب: الآن وقد شرعت في الكلام من التراب والرماد، أطلب من سيدي، لو انقصنا خمسة أفراد من مجموع 50 فرد صالح .. هل يمكن أن تهلك كل أهل المدينة بسبب أولئك الخمسة أفراد؟ فقال اللَّه: لو وجدت 45 فرداً لما أهلكتها.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 156

وتحدث معه مرة اخرى قال لو وجد فيها 40 شخصاً، فقال هو: لا أقوم بهذا الأمر بسبب 40 شخصاً، وقال: إبراهيم أرجو أن لا يغضب سيدي حتى أتكلم بل وجد فيها 30 شخصا، قال: لو وجدت فيها 30 شخصا لما فعلت ذلك.

وقال اخرى والآن وقد منح لي أن أتكلم مع سيدي، بل وجد هناك 20 شخصاً، قال هو لا أهلكها بسبب 20 شخص، وقال تارة اخرى أرجو أن لا يغضب سيدي حتى أتكلم مرّة اخرى بل وجد هناك 10 أشخاص، فقال هو سوف لا أهلكلهم بسبب 10 أشخاص وعندما قضى اللَّه الكلام مع إبراهيم بدأ المسير وعاد إبراهيم إلى مكانه»

«1».

استناداً إلى هذه المخطوطة في التوراة إطلع اللَّه تعالى وثلاثة من الملائكة على إبراهيم في معبر يدعى «بلوطستان» في أحد الأيّام الحارة، ويقوم إبراهيم باستقبال الملائكة الثلاثة استقبالًا حاراً، وهم بدورهم يتناولون من طعامه (وفهم البعض من هذه العبارة أنّ اللَّه تعالى أكل من طعامه!! وأنّ هؤلاء النفر الثلاثة كانوا من المظاهر الثلاثية للَّه وفقاً لعقيدة التثليث) وعلى كل حال حمل اللَّه البشارة إلى «سارة» بأنها سترزق ولداً، إلّاأنّ سارة ضحكت وعاتب اللَّه سارة بالقول لماذا ضحكت فأنكرت ذلك بأنّها لم تضحك إلّاأنّ اللَّه أكد عليها بأنّك ضحكت.

ثم إنّ هؤلاء عزموا على الرحيل وأخذ إبراهيم يشايعهم، وفي منتصف الطريق يحدث اللَّه نفسه بأنّه لماذا لا يخبر إبراهيم بالقرار الذي يريد أن يتخذه في حق قوم لوط، لذلك قال له: سمعت ضجة كبيرة من بلاد قوم لوط وقد نقل عنهم ارتكابهم لمعاصي كثيرة، فهبطت من السماء لاحقق النظر فيما أخبرت به هل كان صحيحاً أم لا، وإذا كان صحيحاً فسأبيدهم عن آخرهم، ثم إنّ هؤلاء الثلاثة تحركوا تجاه «سدوم» غير أنّ إبراهيم لم يزل واقفاً أمام اللَّه تعالى وبدأ بالمحاورة والمجادلة أو بالاصطلاح (الرد والبدل) فقال: ليس من العدالة بمكان أن تهلك هذه البلاد لو وجد فيها 50 فرداً صالحاً، فطمأنه اللَّه تعالى على أنّه لو وجد فيها ذلك لما أهلكهم، ثم يبدأ إبراهيم بالعد التنازلي بشي ء من الحيطة والحذر، وفي كل مرة

______________________________

(1) التوراة، سفر التكوين، الفصل 18.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 157

يشرع في حديثه يطلب العفو والمسامحة لئلا يغضب اللَّه تعالى حتى أنّه قال مرتين بصراحة: (أرجو أن لا يسبب ذلك في ازعاجك وغضبك) إلى أن وصل العدد إلى عشرة، ويبدو أنّ إبراهيم لم يجرأ على التنزل

أكثر من ذلك، لذا في هذه الحالة اختار السكوت على مواصلة الحديث، ولما وصلت المحاورة إلى طريق مسدود، انتهى كلام اللَّه مع إبراهيم وتحرك اللَّه تعالى باتجاه (سدوم) وعاد إبراهيم إلى مقره الأصلي، وانطلاقاً من أنّ المقصود من اللَّه عزّ وجلّ في هذه الآيات (أو بالأصح، الجُمل) هو نفس باري هذا الكون يمكن أن نستنتج المطالب التالية.

أ) نسبة الجسمانية إلى اللَّه تعالى وقد لاحظنا هذا الموضوع في موارد متعددة من هذه العبارات.

ب) نسبة الجهل إلى اللَّه تعالى وذلك بقوله هبطت إلى الأرض، لاحقق النظر في شأن قوم لوط.

ج) التعصب والتشدد الإلهي! بحيث يلتمس منه إبراهيم أن لا يغضب، وكان يتوسل بالحيل اللطيفة، من أجل النزول بحالة الغلظة والحدة الإلهيّة ازاء عباده إلى ادنى مستوى ممكن!

د) الملائكة يتناولون الطعام!

ه) (سارة) تلك المرأة المؤمنة العارفة ضحكت على أثر بشارة اللَّه ثم بعد ذلك أنكرت أيضاً.

هذه من نقاط الضعف الواضحة لهذه الاسطورة الكاذبة في التوراة المحرفة التي نسبت إلى اللَّه عز وجل ولكن عندما نطالع أصل الواقعة في القرآن، لا نشاهد أي واحدة من هذه الاشتباهات والنسب الشنيعة، فمن خلال هذه المقارنة تتبين حقائق كثيرة في هذا المضمار.

3- منشأ اختلاف اللغات

من المسائل المثيرة التي كانت تقع دائماً في قائمة الأولويات الأساسية هي مسألة

نفحات القرآن، ج 8، ص: 158

اختلاف ألسنة شعوب العالم بالرغم من تولدهم جميعاً من وأب واحد وام واحدة، يقول القرآن الكريم في هذا الصدد: «و مِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمواتِ وَالارْضِ وَاخْتِلافُ الْسِنَتِكُمْ وَالْوانِكُمْ انَّ فِى ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلعَالِمِينَ». (الروم/ 22)

إنّنا اليوم نعلم أنّ منشأ اختلاف اللغات في الواقع يكمن في شيئين:

أولًا: وجود قدرة (الابتكار) والاختراع في ذهن البشر فهم يعمدون إلى خلق لغات جديدة وصياغة جمل جديدة في سبيل

تأمين حاجاتهم الذاتية.

وثانياً: الفواصل القائمة بين الملل والشعوب، ففي العصور السابقة عندما كانت الأقوام والشعوب تتباعد عن إحداها عن الاخرى كانت تتحقق تغيرات وتحولات في ألفاظهم وعباراتهم القائمة شيئا فشيئاً، وذلك لعدم وجود وسائل الاعلام وأخذت هذه التغيرات تتضاعف عبر آلاف السنين فبدأت اللغات والألسنة تنفصل إحداها عن الاخرى فكان ذلك سبباً لبداية نشوء الاختلافات في الألسنة واللغات.

وانطلاقاً من كون اختلاف اللغات هي أحد دعائم التعرف على الأقوام المختلفة واعتبر ذلك من العوامل المساعدة والمؤثرة في مسألة التعرف على المجتمع البشري وإذا كان القرآن الكريم يعدّ اختلاف اللغات إلى جانب اختلاف الألوان من آياته وعلائمه فهي إشارة إلى هذه الحكمة نفسها، لأنّ كلًا من اختلاف الألوان واللغات وسيلة وأداة للتعارف، غاية ما في الأمر أن الأول خارج عن اختيار البشر والثاني له ارتباط واضح بالإبتكار والإبداع البشري.

والآن لننظر إلى ما تقوله (التوراة) المحرفة على صعيد اختلاف اللغات.

فقد ورد في الفصل الحادي عشر من سفر التكوين مايلي:

«وكان اللسان والكلام واحد في جميع أنحاء الأرض- وحدث عندما أخذوا بالرحيل من الجانب الشرقي «إشارة إلى أبناء نوح وقبائلهم» أن وجدوا وادياً في أرض شنعار «الاسم القديم لبابل» وسكنوا فيه- وقال بعضهم للآخر هلموا لنصنع الآجر وذلك بحرق اللبن بالنار، وكان الآجر يستعمل بدلًا عن الحجر، والطين اللازب بدلًا عن الجص- وقالوا

نفحات القرآن، ج 8، ص: 159

هلموا لنبني لنا بلدة وبرجاً يناطح السماء، ولنختار لنا إسماً لئلا نتفرق على وجه الأرض- ولان اللَّه تعالى أراد أن يرى مايصنعه بنو البشر من بلدة وبرج، نزل- وقال: إنّ هؤلاء القوم مجموعة واحدة وهم على حد سواء في اللسان وشرعوا بالقيام بهذا العمل، ولا شي ء يمنعهم عما يريدون- بناءه- تعال لننزل إلى الأسفل

وهناك نقوم بخلط ألسنتهم حتى لا يفهم أحدهم لسان الآخر- ومن هناك عمد اللَّه إلى تفريقهم على وجه الأرض بأكملها، وحال دون اتمام بناء البلدة وصار سبباً لتسميتها ببابل، لأنّ اللَّه خلط كل الأرض فيها، ومن هناك فرقهم على جميع وجه الأرض» «1».

ووفقاً لهذه الرواية الموجودة في التوراة، كانت لغة جميع الناس واحدة على وجه الأرض في البداية إلى أن اجتمع أبناء نوح وقبائلهم في (شنعار) بابل، وصمموا على عمل مهم، وهو بناء بلدة كبيرة وبرجاً عالياً، ولم يكن هذا العمل مرضياً عند اللَّه تعالى فكان قلقاً من تحركهم ومايؤول ذلك من نتائج لذا قال لبعض الملائكة هيا اهبطوا إلى الأرض لايجاد الاختلاف في السنتهم حتى يتفرقوا (فأوجد الاختلاف بينهم حتى افرض هيمنتي الإلهية) ووقع هذا الأمر، ونظرا لعدم فهم أحدهم للغة الآخر انتشروا في البقاع المختلفة، وحال دون اتمام بناء البرج العظيم.

وقد أشير في كتاب (أعلام القرآن) إلى وجه تسمية «بابل» بهذا الاسم بالقول:

(رواة القصة ظنوا أنّ لفظة «بابل» مأخوذة من بلبل وقالوا إنّ الناس اجتمعوا في هذه المدينة بعد طوفان نوح وشيدوا فيها برجاً لتصبح علامة على مركزيتهم وشكلوا فيها المجاميع الرسمية ولكنهم عندما ناموا في الليل واستيقظوا في الصباح اختلفت ألسنتهم واخذ كل منهم يتكلم بلغة جديدة، وعلى أثر عدم حصول التفاهم بينهم افترقوا في أنحاء العالم ونشأ من كل واحد منهم شعب من الشعوب «2».

هذه الاسطورة تنطبق تماماً مع مانقلناه سابقاً في متن التوراة التي دلت على أنّ

______________________________

(1) التوراة، سفر التكوين، الفصل 11، من الجملة 1 إلى 9.

(2) اعلام القرآن، ص 238.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 160

الاختلاف في اللغات تحقق من قبل اللَّه تعالى من أجل مقارعة قدرة المجتمع البابلي.

إلّا أنّ

السيد «هاكس» مؤلف كتاب «القاموس المقدس» له كلام آخر لتبرير ما ورد من جمل في التوراة إذ يقول: «كانت الدنيا بأجمعها تمتلك لهجة ولغة واحدة إلى حدود الألفين عام تقريباً ... لكن بعد مائة سنة من الطوفان، أي في زمن عصيان الكوشيون «1» في بابل، أوجد اللَّه تعالى بشكل خارق للعادة الاختلاف في لغاتهم، وبسط ولايته على وجه الأرض مع هذه الأقوام المختلفة والألسنة المتنوعة» «2».

وفي موضع آخر يقول:

«بناء على عدم كون هذه المسألة وهي (بناء البرج العالي) موافقة للإرادة الإلهية أوجد اللَّه تعالى الاختلاف في ألسنتهم بحيث لم يكن بمقدور أحدهم أن يفهم كلام الآخر ولهذا السبب انتشروا في جميع بقاع المعمورة وتحققت على إثر ذلك امنية اللَّه تعالى وتعمرت الأرض» «3».

هذه التعابير توحي إلى أنّ الغاية الإلهيّة من ايجاد هذا التبعثر في لغة مجتمع بابل، هي العمران والتشييد، والحال أنّ التوراة في العبارة التي نقلناها تقول بصراحة: إنّ الهدف من ذلك لم يكن سوى إضعاف مجتمع بابل وكسر قدرتهم ووحدتهم وشوكتهم، إلّاأننا نعلم على كل حال بأنّ منشأ اختلاف اللغات لم يكن مثل هذا الأمر على الاطلاق، وأنّ العامل الأساسي لهذا الأمر هو مرور الزمان وتباعد الأقوام فيما بينهم، ولازال الحديث في المطلب متواصلًا أيضاً.

4- عباده العجل من قبل بني اسرائيل

وردت الإشارة إلى قصة عجل السامري في القرآن الكريم فبعدما جاء موسى عليه السلام إلى

______________________________

(1) «كوشيان»، هو اسم والد نمرود.

(2) القاموس المقدس، مادة (اللغة).

(3) المصدر السابق، مادة (بابل).

نفحات القرآن، ج 8، ص: 161

ملتقى الوعد الإلهي (جبل الطور) ليتسلم آيات الوحي وجه اللَّه تعالى إليه الخطاب بالقول:

«قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَاضَلَّهُمُ السَّامِرِىُّ* فَرَجَعَ مُوسَى الَى قَوْمِهِ غَضْبانَ اسِفًا قَالَ يَاقَوْمِ الَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدَاً حَسَنًا افَطَالَ

عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ امْ ارَدتُّم انْ يَحِلَّ عَلَيكُم غَضَبٌ مِن رَّبِّكُم فَاخْلَفْتُم مَّوْعِدِى* قالُوا مَا اخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا اوْزاراً مِنْ زِينَةِ القَومِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذلِكَ الْقَى السَّامِرِىُّ* فَاخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ فَقالُوا هَذَا الهُكُم وَالَهُ مُوسَى فَنَسِىَ* افَلَا يَرَوْنَ الّا يَرجِعُ الَيهِم قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُم ضَرَّاً وَلا نَفْعَاً* وَلَقَدْ قَالَ لَهُم هَارُونُ مِنْ قَبْلُ ياقَومِ انَّمَا فُتِنْتُم بِهِ وَانَّ رَبَّكُمُ الرَّحمنُ فَاتَّبِعُونِى وَاطِيعُوا امْرِى* قَالُوا لَنْ نَّبْرَحَ عَلَيهِ عَاكِفِينَ حَتّى يَرْجِعَ الَيْنَا مُوسَى قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ اذْ رَايْتَهُم ضَلُّوا* الَّا تَتَّبِعَنِ افَعَصَيتَ امْرِى* قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَاتَاخُذْ بِلِحْيَتِى وَلَا بِرَاْسِي انِّى خَشِيتُ انْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِى اسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرقُبْ قَوْلِى* قَال فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِىُّ* قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّن اثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِى نَفْسِى».

(طه/ 85- 96)

يستفاد من مجموع هذه الآيات أنّ بني اسرائيل في غياب موسى قد غرّر بهم «السامري» ذلك الرجل المنحرف والذي يقال إنّ له خبرة في صياغة الذهب، فصنع لهم من حُليّهم وزينتهم عجلًا من ذهب وانبرى هارون إلى منازلتهم. إلى أن يقول القرآن في مقام اعتذار هارون من موسى «إنَّ القَومَ اسْتَضعَفُونِى وَكَادُوا يَقتلُونَنى». (الأعراف/ 150)

وأخيراً انزعج موسى عليه السلام كثيراً من هذه القضية، وألقى باللائمة على أخيه، وعاتب السامري، وأحرق صنمه بالنار، وذرَّ رماده في البحر، ووجه عقاباً صارماً إلى بني اسرائيل، والآن لنلقي نظرة على ما تقوله التوراة في هذا المجال:

جاء في الفصل الثاني من سفر الخروج في التوراة مايلي:

«ولما رأى القوم أنّ موسى عليه السلام يتريث في هبوطه من الجبل، اجتمع أولئك القوم عند

نفحات القرآن، ج 8، ص: 162

هارون)؛ وقالوا له: انهض واصنع لنا آلهة تسير أمامنا،

لأننا لا نعلم ما حلّ بذلك الرجل الذي أخرجنا من ملك مصر- وقال لهم هارون أخرجوا الاقراط الذهبية من آذان نسائكم وصبيانكم! وبناتكم واجلبوها عندي- فاخرج جميع القوم الأقراط الذهبية التي كانت في آذانهم وجاءوا بها إلى هارون، فأخذها من أيديهم، فصورها بشكل بارز، وصبت على شكل عجل وقالوا: ياأسرائيل هذه هي آلهتك التي أخرجتك من أرض مصر.

وعندما رأى هارون ذلك أقام مذبحة مقابل ذلك، ونادى هارون وقال غداً سيكون عيداً نعقده لهذا الإله- وقاموا في وقت السحر وقربوا القرابين المحترقة وقذفوا الهدايا بالقرب منها للحفظ والسلامة وجلسوا للأكل والشرب وقاموا من فورهم للّعب- وقال اللَّه تعالى لموسى عليه السلام انزل إلى قومك، لأنّ القوم الذين أخرجتهم من أرض مصر قد فسدوا- بل إنّهم انحرفوا بسرعة عن المسلك الذي أمرتهم به، وصنعوا لأنفسهم عجلًا أعدوه من قبل وسجدوا له وقدموا له قرباناً أيضاً، وقالوا لاسرائيل هاهي آلهتك التي اخرجتك من أرض مصر، لكن موسى طلب من ربّه وقال: لماذا تصب غضبك على القوم الذين أخرجتهم من أرض مصر بحولك العظيم لكي لا يتكلم أهل مصر بأنّك أخرجتهم لقصد سيّ ء، حتى تقضي عليهم في وسط الجبال ولتبيدهم من على وجه الأرض؛ تنازل من شدّة سخطك! وغيّر إرادتك بصدد انزال البلاء على قومك، واذكر عبادك إبراهيم واسحاق واسرائيل، لأنّهم أقسموا بذاتك من أجلهم، قلت لهم: بأنّي سأبارك في ذرّيتكم واجعل عددكم بعدد النجوم.

ووقع الأمر بالفعل، فعندما اقترب من المخيم شاهد العجل والمهرولين وثارت ثائرة موسى، فألقى الألواح من يده، وكسرها تحت الجبل، وأخذ العجل الذي صنعوه وأحرقه بالنار وسحقه إلى أن أصبح تراباً ثم نثره في الماء، وسقى بني اسرائيل منه! وقال موسى لهارون: ماذا فعل بك

هؤلاء القوم حتى أقدمت على ارتكاب هذا الذنب العظيم، فقال هارون: لاتثر ثائرة سيدي لأنّك تعلم أنّهم يميلون إلى الخطايا، وقالوا لي اصنع لنا آلهة نقتدي بهم ونمضي خلفهم، لأنّ موسى الرجل الذي أخرجنا من أرض مصر، لا نعلم ماذا حلَّ به، وأنا قلت لهم: ليخرج كل من كان لديه قطع ذهبية، ثم أعطوني إيّاها والقيتها في نار حامية فخرج هذا العجل ...

نفحات القرآن، ج 8، ص: 163

ورجع موسى إلى ربّه، وقال وا أسفي على ما ارتكب هؤلاء القوم من ذنب عظيم لأنّهم صنعوا لأنفسهم آلهة من ذهب، والآن لو رفعت عنهم وزرهم وإلّا ألتمس منك أن تمحو إسمي من الكتاب الذي عهدته لي (مقام النبوة)!

وقال اللَّه تعالى لموسى كل من أقام على الذنب امحو اسمه من كتابه، فإذن تحرك الآن وارشد هؤلاء القوم إلى المكان الذي أوصيتك به «1».

ويستفاد من العبارات السابقة المنقولة عيناً من كتاب العهد القديم عدّة نكات:

1- إنّ الأمر بصنع الصنم وعبادته صدر من هارون، كما أنّ الأمر تحقق بمعونته أيضاً وهو فضلًا عن عدم نهيه عن هذا العمل كان مروجا له ومرسياً لدعائمه، ولم يأت الحديث عن السامري في هذا الفصل مطلقاً، ترى هل يمكن تحقق هذا العمل من قبل شخص يقوم مقام موسى بصفته وزيراً مساعداً وملازماً ورئيساً لكهنة بني اسرائيل- بشهادة التوراة- كيف يصدق العقل والمنطق أن تُنسب هذه النسبة القبيحة والمخجلة إلى هارون «2»؟

2- إنّ اللَّه تعالى اشتد غضبه على أثر هذه القضية بحيث أراد أن يبيد قوم موسى لكن موسى نبّهَ اللَّه تعالى إلى نكتتين (خصوصاً أنّه يخاطب اللَّه تعالى بجملة واحدة ويقول لا يعزب عن بالك ليهدأ من فورة غضبه وسخطه، الاولى إنّك إذا قمت بهذا

العمل فإنّ أهل مصر سيقولون: ألهذه الغاية اخرجت بني اسرائيل من مصر، كي تقتلهم في وسط الجبال وتبيدهم من على وجه الأرض، والاخرى هي أنّك اعطيت موثقا بأني سأزيد من نسل أبنائكم بعدد نجوم السماء، وهذا العمل لا ينسجم مع هذا القول والقسم! وتغيرت مشيئة اللَّه تعالى على أثر تنبيهات موسى له كما هو المصرح به في التوراة.

3- إنّ موسى عليه السلام بعد أن أحرق العجل بالنار، نثر رماده في الماء وأعطى هذا الماء لبني اسرائيل كي يشربوا منه فهل كانت هناك خصوصية في الرماد المتبقي من العجل حتى يشربوا من مائه؟!

______________________________

(1) نقلًا عن التوراة المترجم والذي طبع في بريطانيا سنة 1878 ص 104 و 105، (سفر الخروج الباب 23).

(2) مؤلف كتاب «القاموس المقدس» هاكس الاميركي يقدم توجيهاً مضحكاً لهذه القصة إذ يقول:

«لقد قام هارون بهذا العمل لإسكات القوم»، فمع أنّ هذا الكلام يصدق عليه القول المعروف «العذر أقبح من الفعل»، فهو لا يتلائم أبداً مع اقامة المذبحة والأمر بالقربان وتعيين العيد.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 164

4- حينما اعترض موسى على هارون، قال هارون بهدوء تام له: أنت تعلم مدى ميل هؤلاء القوم نحو الخطايا وهم طلبوا مني وأنا لبيت طلبهم (ياله من عذر؟! ...) وموسى لم يعترض عليه في المرة الثانية (فياله من مصلح متقاعس).

5- وفي نهاية المطاف ذهب موسى عليه السلام إلى محضر القدس الإلهي، وهدد اللَّه بالاستقالة من مقام النبوة قائلًا: إذا غفرت لهؤلاء العاصين فهو الأحسن وإلّا فامحو اسمي من الكتاب الذي دونته! (واعهد بهذه المهمّة الشاقة إلى شخص آخر ...).

لاحظوا جيداً إلى ما رسمته التوراة عن اللَّه، والنبي، ووزيره، ثم قارنوا بعد ذلك بين هذا الفصل التاريخي وبين ماورد في القرآن!

5- قصة النبي داود عليه السلام وزوجة اوريا

من المقاطع التاريخية الاخرى للقرآن الكريم، هي مسألة «قضاء داود» النبي عليه السلام التي دارت بين أخوين متخاصمين.

ويفصل القرآن القول في هذه القصة بالنحو التالي:

«وَهَل اتَاكَ نَبؤُ الخَصمِ اذْ تَسَوَّرُوا الِمحْرَابَ* اذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لاتَخَفْ خَصْمَانِ بَغى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بالحَقِّ وَلاتُشْطِطْ وَاهْدِنَا الَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ* انَّ هَذَا اخِى لَهُ تِسعٌ وَتِسعُونَ نَعجَةً وَلِىَ نَعجةٌ وَاحِدةٌ فَقَالَ اكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِى فِى الخِطابِ* قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ الَى نِعَاجِهِ وَانَّ كَثيراً مِنَ الخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُم عَلَى بَعْضٍ الَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاودُ انَّمَا فَتَنَّاهُ فَاستَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَانَابَ* فغَفَرنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنا لَزُلفَى وحُسنَ مَآبٍ* يَادَاوُدُ انَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِى الارْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالحَقِّ وَلَاتَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الذَّينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُم عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَومَ الحِسَابِ».

(ص/ 21- 26)

في هذا المقطع التاريخي من حياة داود عليه السلام، لانقع على أي مفهوم سلبي سوى أنّه تسرع

نفحات القرآن، ج 8، ص: 165

شيئاً ما في إصدار الحكم، فحينما طرح أحد هذين الأخوين ادّعاءه، أعرب عن قوله ومن دون أن يستمع إلى ادّعاءات الأخ الثاني: إنّ أخاك قد ظلمك وأنّه لاينبغي أن ينازعك في صدد نعجة واحدة مع كل مايمتلكه من المال والثروة، وإن كان هذا لا يمثل الحكم النهائي لداود عليه السلام، إلّاأنّ نفس هذا المقدار من التسرع في إصدار الحكم لا يصلح لمقام القضاء العادل بصورة عامة، وقضاء النبي داود عليه السلام بصورة خاصة، ولعل هذا هو السبب في توبته واستغفاره وسجوده.

ولأجل هذه الدقّة في مسألة القضاء والتماس المغفرة والمسامحة من هذه الزلة أعطاه اللَّه المقام المحمود.

والشاهد

على هذا التوجيه للآيات السابقة هي الآية التي وردت مباشرة بعد هذه الآيات وذلك عندما يقول: «يَادَاوُدُ انَّا جَعَلنَاكَ خَلِيفَةً فِى الأَرضِ فَأَحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالحَقِّ وَلَاتَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ».

هذه الآية تدل بوضوح على أنّ المخالفة، أو بعبارة أصح، ترك الأولى الذي صدر من النبي داود عليه السلام لم يكن يتضمن في حقيقته بعض الامور التي هي من قبيل الغرام والتعلق بزوجة أحد قادة جيشه الذي يدعى باسم (اوريا) وأمثال ذلك من المفاهيم التي نسجتها ذهنية أهل الأساطير استناداً إلى ما جاء في التوراة.

والآن نعود إلى التوراة الفعلي المحرف لننظر إلى مايقوله في هذا المجال:

نطالع في الكتاب الثاني لاشموئيل هذه الحادثة:

«ووقع عند الغروب عندما نهض من فراشه وطاف حول سطح بيت الملك، ورأى من السطح امرأة تستحم وكانت هذه المرأة غاية في الجمال والرشاقة، وأخذ داود يستفسر عن هذه المرأة، وقال شخص أليست «بث شبع» «1» (وهذا اسمها) وهي بنت «اليعام» «2» زوجة «اورياه حتّي» «3»؟

______________________________

(1) «بث شبع» اسم تلك المرأة التي رآها داود- طبقاً لما تقوله التوراة- عارية من سطح البيت وعشقها، وهي ابنةاليعام أحد أصحاب المناصب العبرية.

(2) المصدر السابق.

(3) «اوريا»، بتشديد الياء اسم أحد القادة البارزين في جيش داود، و «حتّي» بتشديد التاء وكسر الحاء نسبة إلى «حت بن كنعان» الذي يعرف قومه ب «بن حت».

نفحات القرآن، ج 8، ص: 166

وأرسل داود اليجيان فأمسكها وجي ء بها إليه، فاضطجع معها وبعد التطهير من النجاسة ذهبت إلى بيتها وحملت المرأة، وأرسلت إلى داود من يخبره أنّها حاملة وأرسل داود إلى «يوآب» (قائد جيشه) أن ابعث اليّ «اورياه حتّي» وبعث يوآب اورياه إليه وقدم عليه، فسأله داود عن سلامة يوآب وسلامة القوم وعن استقرار أوضاع

الحرب.

وقال داود لاورياه انزل إلى بيتك واغسل رجليك، وخرج اورياه من قصر الملك واخرج من ورائه مقداراً من طعام الملك، إلّاأنّ اورياه نام مع سائر عبيد سيده في رحبة القصر ولم ينزل في بيته فحينما خبروا داود أنّ اورياه لم ينزل في بيته، فقال داود لاورياه ألم تأتِ من السفر فلمَ لم تنزل في بيتك؟ فقال اورياه لداود: إنّ الصندوق واسرائيل ويهوداه يسكنون تحت السقوف ويجلس سيدي يوآب وعبيده في خيمة وسط الصحراء، فهل يجوز لي أن أذهب إلى البيت لأقضي وطري من الطعام والشراب والنوم مع زوجتي، أقسم بحياتك أن لا أقوم بهذا العمل قط ...

وتحقق الأمر بالفعل بأنّ كتب في الصباح رسالة إلى «يوآب» وبعثها بيد اورياه، وكتب الرسالة بهذا المضمون. ألقوا بأورياه في اتون حرب ضارية ثم امنعوه من الانسحاب، حتى يصاب ويموت «أي يقتل» وتحقق الأمر بالفعل بعدما ألقى يوآب نظرته على المدينة، ووضع اورياه في الموضع الذي علم بوجود الرجال الشجعان فيه وخرج رجال المدينة، وقاتلوا ضد يوآب، وسقط البعض من القوم عبيد داود ومات «اورياه حتّي» أيضاً ... وعلمت زوجة اورياه أنّ زوجها قد مات وأقامت العزاء في حق زوجها وبعد انتهاء العزاء أرسل على أثرها داود عليه السلام وأتى بها إلى بيته وأصبحت زوجته! ... غير أنّ العمل الذي أقدم عليه داود لم يكن مرضيا عند اللَّه تعالى » «1».

خلاصة القصة أن داود عليه السلام عندما كان في «اورشليم» صعد في يوم من الأيّام إلى سطح القصر، فوقعت عيناه على البيت المجاور له، فشاهد امرأة عارية فوقع حبّها في قلبه وجلبت بعنف إلى قصره واضطجع معها فحملت منه!.

______________________________

(1) نقل عن الكتاب الثاني شموئيل الفصل 11، من الجمل 2،

وحتى 27.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 167

وكان زوج هذه المرأة من القادة المرموقين لجيش داود وكان رجلًا مجبولًا على الصفاء ونقاء الطبع بحيث إنّه عندما عاد من ميدان القتال لم تطاوعه نفسه أن يذهب إلى بيته ويضطجع مع زوجته ويستمتع بالأطعمة الممتازة مواساة منه لأترابه المقاتلين الذين لازالوا في ميدان القتال يعيشون في الخيمة، بالرغم من ذلك أصدر داود قراراً مجحفاً جدّاً، فكتب رسالة إلى قائد عسكره (يوآب) وأعطاها بيد (اورياه) نفسه ليوصلها بدوره إلى قائد العسكر، وقد كتب في هذه الرسالة أنّه لابدّ من تحديد مسؤوليته في احدى المواضع الخطرة لساحة القتال، ثم تخلية أطرافه كي يقضى عليه بسيف الأعداء، ونفذ هذا القرار الاجرامي المشؤوم، وقتل على أثره اورياه الطاهر القلب والنقي والشجاع واستأثر داود عليه السلام بزوجته!! .... ونقرأ في الجملة الأخيرة من هذا الفصل «أنّ هذا العمل لم يقع مورداً لرضا وقبول الحق تعالى ».

والآن نعود إلى تتمة الحكاية، فقد ورد في الفصل الآتي من التوراة مايلي:

«وبعث اللَّه تعالى «ناثان» «1» إلى داود فجاء إليه، وقال له: كان في احدى المدن شخصان أحدهما غني والآخر فقير، كان الغني يمتلك غنماً وبقراً كثيراً جدّاً، ولم يكن الفقير يمتلك سوى انثى واحدة من الغنم، اشتراها وربّاها وتعاهدها مع أولاده بالرعاية تأكل من طعامه وتشرب من إنائه وتنام في احضانه وكانت كأحد بناته.

وقدم مسافر إلى هذا الغني وآل على نفسه أن يأخذ من أغنامه وأبقاره حتى يعده للمسافر الذي قدم عليه وأخذ نعجة ذلك الرجل الفقير وذبحها على شرف الرجل المسافر الذي قدم عليه.

وثارت ثائرة داود وقال ل (ناثان) أقسم باللَّه الحي القيوم، أنّ الرجل الذي فعل ذلك يستحق القتل! وبسبب فعله هذا وعدم اعتنائه يجب

أن يؤخذ منه!.

حينئذٍ قال ناثان لداود: إنّ ذلك الرجل هو أنت، يقول اللَّه تعالى ربّ اسرائيل: أنا الذي

______________________________

(1) «ناثان أو ناتان» أحد أنبياء بني اسرائيل وكان مستشاراً لداود.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 168

جعلتك سلطانا على اسرائيل وأنقذتك من ربقة «شاوول» «1» ... لماذا استهنت بأمر اللَّه تعالى وارتكبت عملًا قبيحاً لديه فضربت، (اورياه حِتّي) بالسيف، وفعلت مع زوجته فعلا قبيحاً، إنّك قتلته بسيف «بني عمون» «2»، والآن لن يفارق بيتك السيف أبداً، والسبب في ذلك هو تحقيرك لي، أخذت امرأة (اورياه حتي» لتكون زوجتك، واللَّه تعالى يقول سأشعل فتيل البلاء عليك من قصرك وساخذ زوجاتك من أمام عينيك واعطيها لصاحبك! وسينام مع نساءك في عين هذه الشمس! لأنّك قمت بهذا العمل سراً أمّا أنا فسأنفذ العقاب في وضح النهار بمرأى ومسمع من بني اسرائيل.

وقال داود ل «ناثان»: إنّي خالفت أمر اللَّه تعالى بارتكابي الذنب، وقال «ناثان» لداود أيضاً: إنّ اللَّه قد عفى عن ذنبك ولن تموت ...

وقدم داود التعازي إلى زوجته «بث شبع» وقاربها، نام معها فأنجبت ولداً سماه (سليمان) وقد أحبّه اللَّه تعالى «3».

تظهر في هذا المقطع من القصة بعض الملاحظات التي ينبغي التدقيق فيها:

أ) لم يأت إلى داود عليه السلام من يطالب بإجراء العدالة وإنّما جاء إليه أحد أنبياء بني اسرائيل في ذلك العصر وقد كان مستشاراً لداود وذكر له على سبيل المثال أحد القصص للموعظة والنصيحة، ولم يتطرق الحديث في هذه القصة إلى الأخوين، وإنّما اتّجه البحث إلى الرجلين الغني والفقير وكان أحدهما يملك قطيعاً كبيراً من الأبقار والأغنام والآخر لا يملك سوى نعجة واحدة، كما أنّه لم يتطرق الحديث في هذا الموضع أيضاً إلى مسألة استدعاء الشخص الأول من الثاني، بل

غاية ما في الأمر أنّه حينما قدم ضيف إلى الرجل الغني ذبح النعجة التي كَبُرت على يد الرجل الثاني واعدها طعاماً للضيف.

ب) ذهب داود عليه السلام إلى الاعتقاد بأنّ مثل هذا الظالم يستحق القتل (ولماذا يتوجّب القتل من أجل اغتصاب نعجة واحدة؟!).

______________________________

(1) «شاوول»، أحد سلاطين بني اسرائيل.

(2) «بني عمون»، كانت من الشعوب المحاربة التي تعيش في الطرف الشرقي من «البحر الميت» وقد حاربهم داود.

(3) الكتاب الثاني، شموئيل الفصل 12، من الجملة 1، وحتى 24.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 169

ج) حكم داود عليه السلام بإعطاء أربع نعجات عوضا عن نعجة واحدة (فلماذا أربع مقابل واحدة!).

د) اعترف داود عليه السلام بذنبه وعمله القبيح في صدد قضية زوجة «أورياه».

ه) وعفى اللَّه تعالى عن داود (بهذه البساطة؟!).

و) وقدر اللَّه تعالى لداود جزاء دنيوياً واحداً وهو أن تقع نساؤه في أيدي أصحابه فيمارسون معهنّ هذا العمل في وضح النهار وبمرأى من بني اسرائيل!.

ز) وبالنتيجة أصبحت إحدى هذه النساء أمّاً ل (سليمان) وولد منها سليمان وكان اللَّه تعالى يحبّه أيضاً؟!

إذا اعتقدنا بنبوة داود من قبل اللَّه تعالى كما يقر بذلك جميع المسلمين وتؤيدها مقاطع من عبارات التوراة، فليست هناك أدنى حاجة للبحث والمناقشة في منافاة هذه الأعمال لمقام النبوة، ولا يقتصر هذا الأمر على عدم انسجامه مع منزلة النبوة بل يعتبر من الأعمال الإجرامية الكبرى والذي يعد حدوثه من قبل شخص عادي أمراً شاذاً وغريباً من نوعه ويستحق العقاب، فكيف يمكن التصديق بأنّ اللَّه تعالى يعفو ويتسامح بهذه البساطة عن إنسان قاتل عرض أحد قادة جيشه للقتل عمداً، من أجل الإستيلاء على زوجته ثم اقترف الزنى بها قبل الزواج منها؟!

وإذا اعتبرناه ملكاً من ملوك بني اسرائيل فقط- كما وردت أحواله في كتاب الملوك

والسلاطين في التوراة- لايقبل منه ذلك أيضاً على الاطلاق لأنّه:

أولًا: لم يكن ملكاً عادياً، فالتوراة أفصح عن عظمة داود ومقامه الشامخ في فصوله المختلفة، وأنّه هو الذي وضع الحجر الأساس للمعبد الكبير لبني اسرائيل والذي لم يكتمل بناؤه في زمانه بسبب الحروب الكثيرة وألقيت مسؤولية اكماله على ابنه سليمان، ترى هل يمكن صدور هذا العمل من قائد يمتلك مقاما معنوياً محموداً ويكون مسدداً ومؤيداً من قبل اللَّه تعالى !

ثانيا: من الكتب المعروفة للتوراة كتاب «مزامير داود» وأناشيده الاعتقادية ومناجاته،

نفحات القرآن، ج 8، ص: 170

فهل يمكن أن تقع مناجاة ودعوات «قاتل ارتكب الزنى بالمحصنة» ضمن الكتب السماوية؟

إلّا أننا عندما نعود إلى القرآن، نجد أنّه لا أثر لأي حديث عن عشق داود وإجرامه واقترافه للذنب ولا على فقرات هذه القصة الكاذبة، وإنّما ورد الحديث عن حكاية لأحد المحاكم العادلة- وذلك بشكل جدي لا على شكل مثال- والذي سبق شرحه من قبل، وممّا تجدر الإشارة إليه هو خلو القرآن من هذه التهم، والنكتة التي ينبغي ذكرها في هذا الموضع أيضاً هي أنّ من المؤسف وقوع بعض المؤرخين والمفسرين الإسلاميين تحت تأثير الأساطير الكاذبة للتوراة ونقلهم إيّاها في كتبهم، ومن البديهي أنّ أحاديث هذا النمط من الأفراد لا تمتلك أي قيمة علمية وتاريخية وتفسيرية، وذلك لعدم وجود أدنى دليل على مقالاتهم في المنابع الإسلامية المعتبرة.

والجدير بالذكر هو مانقل عن الإمام علي عليه السلام قوله: «لا اوتي برجل يزعم أن داود تزوج امرأة اوريا إلّاجلدته حدّين حدّاً للنبوّة وحداً للاسلام» «1».

6- هل أنّ سليمان عليه السلام بنى معبداً للأصنام؟!

ورد التعريف بشخصية سليمان عليه السلام في القرآن الكريم على كونه نبياً كبيراً وقائداً مقتدراً امتلك سلطة عريضة وفريدة من نوعها، واشيد بعظمته وصلاحه في سور قرآنية مختلفة، من جملتها سورة

البقرة، النساء، الأنبياء، النمل، سبأ وص، فعلى سبيل المثال نقرأ قوله تعالى

«وَوَهَبنَا لِدَاودَ سُلَيَمانَ نِعْمَ العَبدُ إِنَّهُ اوَّابٌ». (ص/ 30)

القرآن في حكايته المفصلة نوعاً ما التي أوردها في السور المتقدمة الذكر عن هذا النبي الكبير ليس فقط لا ينسب له نسبة عبادة الصنم وصناعته مطلقاً وإنّما يعدّ كافة جوانب حياته نزيهة من أي لون من ألوان التلوث بالشرك والمعصية.

______________________________

(1) تفسير مجمع البيان، ج 8، ص 472.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 171

يكفي في هذا المجال مراجعة سورة الأنبياء (الآيات 28 إلى 82) وسورة النمل (الآيات 15 إلى 44) وسورة ص (الآيات 30 إلى 40) وعلى الخصوص قصة هداية (ملكة سبأ) وانقاذها من براثن الشرك ودعوتها إلى التوحيد الخالص، وخاصة عندما يقول: «وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ إِنَّها كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرينَ». (النمل/ 43) وأساساً، يستفاد من الآيات الموجودة في نفس السورة أنّ الهدف الرئيسي لسليمان في واقعة ملكة سبأ يكمن في محاربة الشرك والوثنية وانقاذها وقومهامن وطأة هذا الانحراف، والآن نعود إلى التوراة الفعلي المحرف لننظر إلى ما يقوله في شأن سليمان وما يختلقه من صورة بشعة عن هذا النبي العظيم، صورة لرجل مفتون بالأهواء بحيث ساقه هوسه وهواه إلى حد الشرك والوثنية وحتى بناء معبد للأصنام.

جاء في الكتاب الأول للملوك والسلاطين مايلي: «وأحبّ الملك سليمان نساء أجنبيات كثيرة من الامم التي قال الربّ لبني اسرائيل في شأنها: لا تذهبوا إليهن ولا يذهبن إليكم فإنّهنّ يستميلنّ قلوبكم إلى اتباع آلهتهن، فتعلق بهن سليمان حبّاً لهنّ، وكان له سبع مائة زوجة وثلاث مائة جارية فازاغت نساؤه قلبه، وفي زمن شيخوخة سليمان تمكن أزواجه من امالة قلبه إلى اتباع آلهة اخرى فلم يكن قلبه مخلصاً للربّ

إلهَهُ، كما كان قبل داود أبيه فتبع سليمان عشتروت آلهة الصيدونيين، وملكوم بني عمون ووضع الشر في عيني الرب ولم يتبع الرب اتباعاً تاماً مثل أبيه داود.

حينئذٍ بنى سليمان مشرفاً لكاموش صنم قبيلة موآب في الجبل المقابل لاورشليم ولمولك صنم بني عمون، وكذلك صنع لجميع نسائه الغريبات اللواتي كن يحرقن البخور ويذبحن لآلهتهن، فغضب الرب على سليمان، لأنّ قلبه مال عن الرب إله اسرائيل الذي تراءى له مرّتين وأمره في ذلك أن لا يتبع آلهة اخرى فلم يحفظ ما أمره الرب به، فقال الرب لسليمان: بما أنّ أمرك هذا، وأنت لم تحفظ عهدي وفرائضي التي أمرتك بها، فسأنتزع الملك عنك واسلمه إلى عبدك، إلّاأنّي لا أفعل ذلك في أيّامك نظراً لداود أبيك، بل انتزعه من يد ابنك» «1».

______________________________

(1) سفر الملوك الأول، الفصل 11: 33: 34.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 172

يستخلص من مضمون هذه القصة الكاذبة للتوراة مايلي:

أ) كان لسليمان عليه السلام علاقات كثيرة بنساء الطوائف المشركة، وقد استولى على قسم كبير منهن خلافا لأمر اللَّه ثم أخذ يميل إلى معتقداههن شيئاً فشيئاً، وبالرغم من كونه شخصاً ميالًا للنساء فقد حاز على 700 امرأة بالعقد الدائم و 300 امرأة بالعقد المنقطع! إلّاأن تعلقه الشديد بالنساء ادى به إلى ابتعاده عن طريق اللَّه تعالى .

ب) أصدر سليمان قرارا معلنا ببناء معبد للأصنام، وبنى على الجبل المطل على «اورشيلم» تلك البقعة المقدّسة لاسرائيل، معبدا لصنم كموش- الصنم المعروف لطائفة الموابيان- وصنم مولك- الصنم المختص بطائفة بني عمون- وبرزت في نفسه علاقة خاصة بصنم «عشتروت» الصنم المنسوب إلى الصيدونيان، وقد تحقق ذلك كله في عهد شيخوخته!

ج) ووجه اللَّه تعالى له عقابا على هذا الانحراف والذنب العظيم، وتبلور هذا العقاب في

أن يسلب منه مملكته وسلطانه ولكن لا يسلبه من يده شخصاً وإنّما يسلبه من يد ابنه «رحبعام»! وسيمنحه فرصة البقاء في الحكم متى شاء، وهذا الأجل لكونه من عباد اللَّه المقربين؛ لقد كان والد سليمان هو داود، ذلك العبد المقرب عند اللَّه والذي أقدم على قتل النفس وارتكاب الزنى بالمحصنة، وهي زوجة أحد قادة جيشه!!

هل يمكن لأحد الأشخاص العقلاء أن ينسب هذه التهم الفظيعة إلى ساحة إنسان مقدس كالنبي سليمان؟!

إذا اعتقدنا بنبوة سليمان عليه السلام- كما صرح به القرآن- فالأمر واضح وإذا وضعناه في قائمة ملوك بني اسرائيل، فكذلك لا يمكن أن تصدق في حقه مثل هذه التُهم أيضاً.

ولو أننا أنكرنا نبوته فمن المسلم أنّه كان تالياً للنبي من بعده، لأنّ من الكتب التي اشتملت على أقوال هذا الرجل الإلهي الكبير كتابين من كتب العهد القديم أحدهما يقع تحت عنوان «مواعظ سليمان» أو «حكم سليمان» والآخر تحت عنوان «نشيد سليمان» بالإضافة إلى أنّ التوراة في الفصل الثالث من الكتاب الأول لتاريخ الملوك «الجمل من 5

نفحات القرآن، ج 8، ص: 173

إلى الأخير» يقول بصراحة: «لقد تجلى اللَّه تعالى لسليمان في المنام ليلًا، وخاطبه بالقول، أطلب مني ما تشاء ونظراً لصغر سنه وقلة تجربته طلب سليمان من اللَّه الحكمة، واستجاب اللَّه دعاءه وأعطاه الفهم والحكمة وقال: إنّ هذا الفهم والحكمة التي أعطيته إليك لم أعطه لأحد من قبلك ولا من بعدك».

هل يعقل أن يتلقى أحد الأشخاص هذا النوع الفريد من العلم والحكمة من اللَّه تعالى في أيّام شبابه ثم يقدم على بناء معبد للأصنام ارضاءً لرغبات زوجاته في عهد كِبَرِهِ ونضج عقله واكتمال إدراكه؟!

ممّا لا يقبل الشك أنّ هذه الأساطير الكاذبة كانت من صنع الأدمغة العاجزة في السابق،

ومن المؤسف حقاً أنّ عدّة من الأفراد الجهلاء وضعوها في سلسلة الكتب السماوية بعد ذلك، وقد أطلقوا على هذا الكلام «اللا مقدّس» اسم «الكتاب المقدّس» لكن، هل ترى واحدة من هذه النسب السيئة في الوقائع والحوادث التي ينقلها القرآن؟ فاذا دققت وبحثت فسوف يكون الجواب بالنفي.

7- المنافسة العجيبة بين يعقوب وأخيه عيسو

القرآن الكريم يسدي احتراماً بالغاً لابراهيم عليه السلام وابنه «اسحاق» وحفيده «يعقوب» ويشيد بعظمتهم واخلاصهم، فنقرأ في قوله تعالى «وَاذكُر عبَادَنَا إِبرَاهِيمَ وَإِسحَاقَ وَيَعقُوبَ أُولِى الايدِى وَالأَبْصَارِ* إِنَّا اخْلَصَناهُم بِخَالِصَةٍ ذِكَرى الدَّارِ* وَإِنَّهُم عِنَدنَا لَمِنَ المُصَطفَينَ الاخْيَارِ». (ص/ 45- 47)

وفي موضع آخر في قوله تعالى في شأن هذه الاسرة: «وَوَهَبنَا لَهُ إِسحَقَ ويَعقُوبَ نَافِلَةً وَكُلّاً جَعَلنا صَالِحِينَ* وَجَعَلْنَاهُم أَئِمَّةً يَهدُونَ بِأَمرِنَا وَأَوحَينَا إِلَيهِم فِعلَ الخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَآءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِديِنَ». (الانبياء/ 72- 73)

هذه التعبيرات إن دلت على شي ء فانما تدل على أنّ هؤلاء رجال موحدون، على جانب

نفحات القرآن، ج 8، ص: 174

كبير من الإيمان وصفاء السريرة وعلى اطلاع ولياقة عالية في قيادة البشرية، ولذا فهم مطهرون ومنزهون عن كل رجس ودنس، لكن عندما يدوّن تاريخ حياة هؤلاء على أيدي أصحاب الخرافات يرسمون عنهم صورة قبيحة جدّاً تنزل بهم إلى مستوى الأشخاص الانتهازيين والجشعين والمتحللين الذين لا يدخرون وسعاً في سبيل التوصل إلى منافعهم اللامشروعة، ولإثبات حقيقة هذا الكلام نلتجي ء إلى التوراة المحرف لنرى ما اختلقه من ملامح ومعالم رهيبة عن «اسحاق» و «يعقوب» والأخ الأكبر ليعقوب «عيسو»:

«وحدث لما شاخ اسحاق وكلّت عيناه عن النظر فدعا عيسو ابنه الأكبر وقال له: يابني، فقال هاأنذا، فقال: إنني قد شخت ولا أعرف يوم وفاتي فالآن خذ عدتك، واسلحتك وقوسك واخرج إلى البرية وتصيد لي صيداً واصنع لي أطعمة كما أحب،

وائتني بها لآكل حتى تباركك نفسي قبل أن أموت.

وكانت ربقاه سامعة لكلام اسحق مع عيسو ابنه، فذهب عيسو إلى البرية كي يصطاد صيداً ليأتي به، وأما ربقاه فكلمت يعقوب ابنها قائلة: إنّي قد سمعت أباك يكلم عيسو أخاك قائلا: ائتني بصيد وأصنع لي أطعمة لآكل واباركك أمام الرب قبل وفاتي، فالآن يابني اسمع لقولي في ما أمرك به، اذهب إلى الغنم وخذ لي من هناك نعجتين جيدتين، فاصنعهما أطعمة لأبيك كما يحب وحضرها إليه ليأكل حتى يباركك قبل وفاته، فقال يعقوب لربقاه امّه: هو ذا عيسو أخي رجل أشعر، وأنا رجل أملس ربّما يجسني أبي فاكون في عينيه كمتهاون وأجلب على نفسي لعنة لا بركة، فقالت له امّه: لعنتك عليَّ يابني، اسمع لقولي فقط واذهب. فذهب وأحضر لُامه فصنعت منها أطعمة كما كان أبوه يحب وأخذت رفقة ثياب عيسو ابنها الأكبر الفاخرة التي كانت عندها في البيت وألبست يعقوب ابنها الأصغر، وشدته على يديه وعنقه جلود جديي المعزى واعطت الأطعمة والخبز التي صنعت في يد يعقوب ابنها فدخل إلى أبيه وقال: ياأبي، هاأنذا. من أنت ياإبني؟ فقال يعقوب لأبيه: أنا عيسو بكرك، قد فعلت كما كلمتني، قم واجلس وكل من صيدي لكي تباركني نفسك.

فقال اسحق لابنه: ما اسرع ما اصطدت يابني؟ فقال: إنّ الرب إلهك قد يسرلي فقال

نفحات القرآن، ج 8، ص: 175

اسحق ليعقوب: تقدم لاحسك يابني، أأنت هو ابني عيسو أم لا؟ فتقدم يعقوب إلى اسحق أبيه؟، فجسه وقال: الصوت صوت يعقوب ولكن اليدين يدا عيسو، ولم يعرفه لأنّ يديه كانتا مشعرتين كيدي عيسو أخيه فباركه، وقال: هل أنت ابني عيسو، فقال: أنا هو، فقال قدم لي لآكل من صيد ابني حتى تباركك نفسي،

فقدم له فاكل واحضر له خمرا فشرب، فقال له اسحق أبوه: تقدم وقبلني يابني، فتقدم وقبله فشم رائحة ثيابه وباركه وقال: انظر، رائحة ابني كرائحة حقل قد باركه الرب.

فليعطك اللَّه من ندى السماء ومن دسم الأرض وكثرة الحنطة والخمر، ليستعبد لك شعوب، وتسجد لك قبائل، كن سيداً لاخوتك وليسجد لك بنو امك، ليكن لاعنوك ملعونين ومباركوك مباركين، وحدث عندما فرغ اسحق من بركة يعقوب وفي حين خروج يعقوب من عند أبيه فاذا بعيسو اخاه قد اتى بصيده، فصنع هو اطعمة ودخل بها إلى أبيه، وقال لابيه: ليقم أبي ويأكل من صيد ابنه حتى تباركني نفسك فقال له اسحق أبوه: من أنت؟

فقال؟: أنا ابنك، بكرك عيسو فارتعد اسحق ارتعاداً عظيماً، وقال: فمن هو الذي اصطاد صيداً وأتى به اليّ فأكلت منه قبل أن تجي ء وباركته؟ فعندما سمع عيسو كلام أبيه صرخ صرخة عظيمة وقال لأبيه: باركني أنا أيضاً ياأبي، فقال: قد جاء أخوك بمكر وأخذ بركتك» «1».

ونطالع في الفصل الآتي هذا المعنى

«ثم إنّ اسحاق استدعى يعقوب ودعى له بالخير والبركة، وأوصاه أيضاً بوصية وقال لا تتزوج بامرأة من بنات كنعان ... وإنّ اللَّه القادر المطلق سيبارك لك وسيحيطك برعايته وعنايته لكي تصبح قيّماً على جماعة الامم، وليمدك اللَّه ولك ولنسلك ببركة إبراهيم حتى ترث الأرض التي اعطاها اللَّه لابراهيم ليسافر فيها» «2».

خلاصة الحكاية تقع في أنّ اسحاق كان له ولدان الأكبر يسمّى «عيسو» والأصغر يسمّى

______________________________

(1) التوراة، سفر التكوين، فصل 27، الجمل 1- 40.

(2) المصدر السابق، فصل 28، الجمل 1- 4.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 176

«يعقوب»، وفي آواخر أيّام حياته حينما فقد بصره قرَّر أن يجعل ولده الأكبر وصيّاً ونائباً عنه من بعده ويبارك له (يستفاد

من القرائن أنّ المقصود من هذه البركة هو نفس مقام النبوة والروح الرساليّة وقيادة الامة) إلّاأنّ يعقوب توسّل بالحيلة ولبِس ثوب أخيه الأكبر بأمر من أمّه التي كانت متعلّقة به وتفضّل له أن يقوم مقام اسحاق، ثمَّ ربط على يده وعنقه قطعة من جلد الغنم لأن بدن أخيه كان مكتسياً بالشعر، ممّا قد يفضي به ذلك إلى إفشاء سره لدى أبيه (الإنسان الذي يكسوه الشعر إلى هذا الحد بحيث يكون بدنه كالغنم غريب في بابه واقعاً) وبالتالي شغل مكان أخيه الأكبر بالحيلة والكذب والخداع، واقتنع والده العجوز بلمس يده المكسّوة بالصوف فقط مع أنّه قد عرف صوته في الوهلة الاولى ثمَّ إنّه دَعا في حقه وبارك له في عمله وأعدّه وصيّاً ونائباً عنه وقيّماً على أهله وأسرته، وحينما اطلع اخوه الأكبر على القضية بكى بكاءً مرّاً، إلّاأنّ الأمر قد انقضى فحينما طلب من أبيه أن ينزل البركة عليه أيضاً، سمع جواباً يقضي بانتهاء البركة وأنّ ما كان منها استأثر به أخوه يعقوب ولم يعد هناك فرصة لاعادة النظر!!

والغريب في الأمر هو ماذهب إليه إله اسحاق من تأييده هذا العمل أيضاً، وتسليم مقام النبوة لرجل محتال وكذاب ومزيف، وعلى حد قول التوراة أنّه انشأه وتعاهده وطاف به كثيراً وجعله مالكا للجماعة والامم ووارثا لملك ومآثر نبيه (إبراهيم) العظيم، وليس فقط اسرة اسحاق مأمورة باتباعه فحسب، بل إنّ سائر الناس مأمورون باتباعه والخضوع له تعظيما واجلالًا له.

كيف يمكن اعتبار هذه الاسطورة الكاذبة والمضحكة على أنّها وحي سماوي؟!

لو أنّ شخصاً استولى على مقام بسيط بالحيلة والكذب- كأن يرتدي على سبيل المثال زيا عسكريا متواضعاً- فإنّه بعد الكشف عن حقيقته ليس فقط يسلبون منه ذلك، ويخلعون عنه هذا اللباس

بل يعاقبونه على هذا العمل أيضاً، لكن كيف يمكن الاستيلاء على مقام النبوة والحصول على البركة الإلهيّة وقيادة المجتمع بالخداع والمكر، ثم الإبقاء عليه بعد الكشف عن حقيقته المخزية؟!

نفحات القرآن، ج 8، ص: 177

8- نسبة صنع الخمر إلى عيسى المسيح عليه السلام

أولى القرآن الكريم احتراماً بالغاً للسيد المسيح عليه السلام وتحدث عنه في سور متعددة (من قبيل سورة البقرة وآل عمران والمائدة وبعض السور الاخرى ، وأشار إليه بكونه أحد أنبياء أولي العزم (صاحب شريعة وكتاب سماوي) وله معجزات كثيرة، نقرأ في قوله تعالى

«وَيُعَلِّمُهُ الكِتَابَ وَالحِكمَةَ وَالتَّورَاةَ وَالإِنجِيلَ* وَرَسُولًا الَى بَنِى اسْرَائِيلَ انِّى قَد جِئتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُم انِّى اخْلُقُ لكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيئَةِ الطَّيْرِ فَانْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيراً بِاذنِ اللَّهِ وَابرِىُ الأَكمَهَ وَالأَبرَصَ وَاحِي المَوتَى بِاذنِ اللَّهِ وأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِى بِيُوتِكُم انَّ فِى ذَلِكَ لَآيةً لَّكُم انْ كُنْتُم مُّؤمِنيِنَ». (آل عمران/ 48- 49)

وبناء على ذلك تشكل المعاجز الأربع من (خلق الطير) و (شفاء المرضى الميؤوس من معالجتهم) و (إحياء الأموات) و (الإخبار عن الغيب) (التي كانت تتحقق بإذن اللَّه) عظمة معاجز السيد المسيح عليه السلام (وفقاً لبيان القرآن).

وفي موضع آخر يعد نزول المائدة السماوية (طعام الجنّة) إحدى معاجز المسيح عليه السلام وذلك في (سورة المائدة آية 115) نظراً إلى اعتبار المسائل المعقولة والمقبولة من المعاجز بصورة عامة، والآن لنلقي نظرة على ما تقوله (الأناجيل) في هذا المجال، ففي الباب الثاني من «انجيل يوحنا» الأنجيل الرابع من الأناجيل الأربعة ورد هذا المعنى:

«وفي اليوم الثالث كان في قاناي الجليل (أحد مدن بيت المقدس) عرس، وكانت ام يسوع هناك فدعي يسوع وتلاميذه إلى العرس ونفذت الخمر، فقالت له امه: ما بقي عندهم خمر، فأجابها: ومالي ولك يا امرأة ما جاءت ساعتي

بعد، فقالت امه للخدم: اعملوا مايأمركم به.

وكان هناك ستة جرات من حجر يتطهر اليهود بمائها على عادتهم، يسع كل واحد منها مقدار مكيالين أوثلاثة، فقال يسوع للخدم: املأوا الجرات بالماء فملأوها حتى فاضت فقال لهم: استقوا الآن وناولوا رئيس الوليمة، فناولوه فلما ذاق الماء الذي صار خمرا، وكان لا يعرف من أين جاءت الخمر، لكن الخدم الذين استقوا منه كانوا يعرفون، دعا العريس

نفحات القرآن، ج 8، ص: 178

وقال له: جميع الناس يقدمون الخمر الجيد أولًا، حتى إذا سَكَر الضيوف، قدموا إليهم الخمر الردي ء، أما انت فأخرت الخمر الجيد إلى الآن» «1».

يستشف من هذه القصة النكات التالية:

1- لما دخل السيد المسيح مع امّه مريم عليهما السلام إلى محفل العرس ونفذت المشروبات الخمرية، أقدم وبإيعاز من امه على خلق المعجزة، وأبدل ست جرات ممتلئة بالماء إلى خمور صافية، بحيث إنّ الطعم اللذيد لها استهوى على أفئدة الحاضرين.

2- هذه هي المعجزة الاولى من نوعها للمسيح عليه السلام والتي تحققت بإيعاز من أمه.

3- عظم شأن السيد المسيح وجلَّ قدره من خلال هذه المعجزة (تبديل الماء إلى خمر) ممّا أدى ذلك إلى إيمان تلامذته به.

والطريف هنا أنّ أهالي مدينة قاناي الجليل، لم يبرحوا يصنعون جرات المياه ويبيعوها للزوار والسياح احتفاء بذكرى جرات الخمر التي حدثت بإعجاز السيد المسيح عليه السلام.

و ممّا لا شك فيه أنّ هذه هي اسطورة من الأساطير المفتعلة والكاذبة المنسوبة إلى هذا النبي العظيم، ولا يخفى على أحد ما للخمر من قبح واضرار غير قابلة للحصر، وقد منعت وحرمت في كافة الأديان السماوية، حتى أنّه سبق التصريح بها في نفس الكتب المقدّسة لليهود والنصارى، كما ورد ذم الخمر بلهجة شديدة في كتاب «أمثال سليمان» إذ يقول هناك:

«لمن

الويل لمن الشقاوة لمن المخاصمات لمن الكرب لمن الجروح بلا سبب لمن ازمهرار العينين، للذين يدمنون الخمر الذين يدخلون في طلب الشراب الممزوج، لا تنظر إلى الخمر إذا إحمّرت حين تظهر حبابها في الكأس وساعت مرقوقة وفي الآخر تلسع كالحية وتلدغ كالاقحوان» «2».

يفهم من هذه العبارة جيدا أنّ مفاسد الخمرة كثيرة جدّاً فهي السبب الأساسي لكل الالام

______________________________

(1) انجيل يوحنا عرس قانا الجليل ص 256.

(2) العهد العتيق، كتاب أمثال سليمان، فصل 23.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 179

الجسدية والهموم النفسية والفكرية والمنازعات والمصادمات والاختلافات الاجتماعية، وهي من عوامل شقاء الإنسان وبؤسه، وتفعل فعلها في وجود البشر كسم الحية وهي مبرر كاف على انعدام العفة والسقوط في وحل الانحرافات الجنسية السيئة والوقوع في شرك أنواع التخيلات والابتلاءات التي طرحت في هذه العبارات بشكلٍ واضح جدّاً.

ونقرأ في موضع آخر من كتاب «أمثال سليمان» هذه العبارة: الخمرة المستهزئة (وهي التي تدعو الإنسان إلى أن يقوم بحركات ويتحدث بكلمات تفضي إلى الاستهزاء والسخرية) والمسكرات الصاخبة (وهي التي تسبب المنازعات والمخاصمات) وكل من يقع في أسره لايصبح حكيماً «1».

كما ونقرأ في الفصل 28 من كتاب اشعياء هذه العبارة أيضاً: «أما هؤلاء (إشارة إلى مجموعة من المنحرفين) فقد ضلوا طريقهم وفقدوا صوابهم بفعل الخمر والمسكرات أيضاً».

وجاء في موضع آخر من نفس الكتاب هذا المعنى: «الويل لُاولئك الذين استعانوا بشرب الخمرة على الغلبة وبمزج المسكرات على القوة» «2»، أي أنّ قواهم تتحرك من خلال شرب الخمرة وتستعد للنزاع.

وجاء في كتاب هوشيع (من التوراة): «إنّ الزنا والخمر وعصير العنب «بصورته المسكرة» كل منهم يؤدّي إلى ضعف القلب» «3».

يتضح من هذه العبارات جيداً أنّ المعوّل في حرمة الخمر ليس كونها من المشروبات العادية إنّما لكونها من

المائعات المسكرة التي تلحق الضرر بالجسم والروح الإنسانية وتؤدي إلى الضياع والشقاء.

بناء على هذا أليس من المخجل أن يقال إنّ المعجزة الاولى للسيد المسيح عليه السلام التي ظهرت في مدينة قاناي الجليل تبلورت في التحول الذي طرأ ببركته على عدّة ظروف كبيرة

______________________________

(1) عهد عتيق، كتاب أمثال سليمان، فصل 20، جملة 1.

(2) كتاب اشعياء، فصل 5، جملة 22.

(3) كتاب هوشيع فصل 4، جملة 11.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 180

ممتلئة بالماء إلى خمور صافية، وعندما نقارن ذلك مع المعاجز القرآنية للسيد المسيح يتضح لنا مدى الفاصلة بين التواريخ المختلفة في ذهن البشر وبين التاريخ الواقعي الناشي ء من طريق الوحي.

9- المسيح عليه السلام ودعوى الالوهية

القرآن يبري ء ساحة السيد المسيح عليه السلام من أي لون من ألوان الادّعاء المزيف على صعيد الالوهية، ويقول بصراحة: «وَإِذ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابن مَريَمَ ءَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونى وَأُمِّىَ إِلَهَيَنِ مِن دوُنِ اللَّهِ قَالَ سُبحَانَكَ مَايَكُونُ لِى ان اقُولَ مَالَيسَ لِى بِحَقٍّ انْ كُنتُ قُلتُهُ فَقَد عَلِمتَهُ تَعلَمُ مَافِى نَفِسى وَلَا أَعلَمُ مَافِى نَفسِكَ انَّكَ انتَ عَلَّامُ الغُيوُبِ* مَاقُلتُ لَهُم إِلَّا مَاأَمَرتَنِى بِهِ انِ اعبُدُوا اللَّهَ رَبِّى وَرَبَّكُم وَكُنتُ عَلَيِهم شَهِيداً مَّادُمتُ فِيهِم فَلَمَّا تَوَفَّيتَنِى كُنتَ انتَ الرَّقِيبَ عَلَيهِم وَانتَ عَلَى كُلِّ شَى ءٍ شَهيدٌ». (المائدة/ 116- 117)

والآن لننظر إلى ماتقوله الأناجيل في صدد المسيح عليه السلام.

نقرأ في انجيل يوحنا هذا المعنى:

«وجاء عيد التجديد في اورشليم، وذلك في الشتاء وكان يسوع يتمشى في الهيكل في رواق سليمان فتجمع اليهود حوله وقالوا له: «إلى متى تبقينا حائرين؟ قل لنا بصراحة: هل أنت مسيح؟

فأجابهم يسوع: «قلت لكم، ولكنكم لاتصدقون، الأعمال التي أعملها بأسم أبي تشهد لي، وكيف تصدقون وما أنتم من خرافي، خرافي تسمع صوتي وأنا أعرفها وهي تتبعني اعطيها الحياة

الأبدية فلا تهلك أبداً ولايخطفها أحد مني الأب الذي وهبها لي هو أعظم من كل موجود، وما من أحد يقدر أن يخطف من يد الأب شيئاً، أنا والأب واحد».

وجاء اليهود بحجارة ليرجموه فقال لهم يسوع: «أريتكم كثيرا من الأعمال الصالحة من عند الأب، فلاي عمل منها ترجموني

أجابه اليهود: لا نرجمك لاي عمل صالح عملت بل لتجديفك فما أنت إلّاإنسان، لكنك جعلت نفسك إلها. نفحات القرآن، ج 8، ص: 181

فقال لهم يسوع: «أما جاء في شريعتكم أنّ اللَّه قال: أنتم آلهة؟ ماذا كان الذين تكلموا بوحي من اللَّه يدعوهم اللَّه آلهة، على حد قول الشريعة التي لا ينقضها أحد، فكيف تقولون لي، أنا الذي قدّسه الأب وأرسله إلى العالم: أنت تجدف لأنّي قلت: أنا ابن اللَّه؟ إذا كنت لا أعمل أعمال أبي فلا تصدقوني وإذا كنت اعملها فصدقوا هذه الأعمال إن كنتم لا تصدقوني حتى تعرفوا وتؤمنوا أنّ الأب فيّ وأنا في الأب» «1».

يتضح من خلال هذه العبارات عدّة نكات:

1- اتّهم اليهود عيسى من ذي قبل أنّه ادعى الالوهية وأصدروا حكماً بتكفيره ورميه بالحصى

2- يقول المسيح تارة في صدد الدفاع عن نفسه: أنا الذي قلت إنّي ابن اللَّه، وأنّ أبي اللَّه، وتارة اخرى يقول: أنا أقوم بأعمال إلهيّة، ولو لم أنجز ذلك فلا تصدقوا كلامي، ولو انجزت ذلك فصدقوا أني حالٌّ في اللَّه واللَّه حالٌّ في نفسي.

إنّ التعبير بالأب والابن والقيام بأعمال إلهيّة، والقول بحلول الإنسان في اللَّه واللَّه في الإنسان، كلها تعبيرات إلحادية، لا تلتئم مع كافة الموازين المنطقية، ولا دليل على أن يدلي أحد الأنبياء بمثل هذه العبارات في حق نفسه وحق اللَّه تعالى ولو بصورة مجازية، لأنّ ذلك يؤدي إلى وقوع البسطاء

في دوامة الاشتباه والالتباس، ويساهم في أن يجد الأعداء الذريعة المناسبة لأنّ يرموه بالحصى متى ماشاءوا.

هذا في الوقت الذي يقول القرآن في الآيات التي تلوناها سابقاً بصراحة تامة إنّه لم يصدر من المسيح عليه السلام أي ادّعاء سوى العبودية لله ودعوى النبوة والرسالة وكان في غاية الخضوع والتذلل في مجال العبودية والتسليم لأمر اللَّه تعالى

وفي آيات اخرى يقول أيضاً: إنّ كل ما أنجزه من معاجز كان جميعه بإذن اللَّه، نقرأ في قوله تعالى «وَاذْ تَخلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيئَةِ الطَّيرِ بِاذْنِى فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيراً بِاذنِى وَتُبرِىُ ء الاكمَهَ وَالأَبرَصَ بِاذنِى وَاذْ تُخْرِجُ المَوْتَى بِاذْنِى». (المائدة/ 110)

______________________________

(1) انجيل يوحنا، باب، اليهود يرفضون المسيح، ص 289.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 182

إنّ المقارنة بين هذا النوع من المسائل التاريخية في القرآن وبين ماورد منها في الانجيل من شأنه أن يضع الحدود الفاصلة بينهما ويبين أيّهما هو الصادر من قبل اللَّه حقاً، وأيّهما هو المحرف والمختلق من الذهن البشري.

10- حضور المرأة العاصية في مجلس السيد المسيح عليه السلام

لم تظهر في الآيات المختلفة للقرآن التي وردت في حق السيد المسيح حتى الحد الأدنى من ترك الأولى وقد وصفت الآيات التي وردت في شأن أمه مريم قداستها في أجلى صورها، بحيث إنّها ذعرت بشدة والتجأت إلى اللَّه حينما شاهدت ملك الوحي الذي جاءها من قبل اللَّه ليهبها ولداً، (لأنّه ظهر أمامها على هيئة شاب جميل مجهول) حتى أنّها لما قاست من آلام وضع الحمل، وجسدت في مخيلتها مستقبل حياتها، بأنّ من الممكن أن ينسب لها الأعداء والبسطاء النسب القبيحة؛ قالت: «يَالَيْتَنِى مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَّنْسِيّاً». (مريم/ 23)

غير أنّ نبيّاً بهذه القداسة بحيث ينطلق لسانه بأمر من اللَّه في المهد، ويبرهن عملياً على طهارة امه، ويتحدث عن الصلاة والزكاة،

وكل مظهر من مظاهر التقوى من تلك اللحظة، مثل هذا النبي يرد وصفه في بعض الأناجيل بأوصاف تبعث كلّ قارى ء على الدهشة والاستغراب.

والآن لنستمع وننظر إلى مابينه «انجيل لوقا» عن حكاية المرأة السيئة الصيت التي جاءت إلى المسيح عليه السلام وتابت: «ودعا أحد الفريسيين (إحدى فرق اليهود، والفريس بمعنى المُعتزل) إلى الطعام عنده فدخل بيت الفريسي وجلس إلى المائدة وكان في المدينة امرأة خاطئة فعلمت أن يسوع يأكل في بيت الفريسي وجاءت ومعها قارورة طيب، ووقفت من خلف عند قدميه وهي تبكي واخذت تبل قدميه بدموعها وتمسحهما بشعرها، وتقبلهما وتدهنهما بالطيب فلما رأى الفريسي صاحب الدعوة ماجرى، قال في نفسه: «لو كان هذا

نفحات القرآن، ج 8، ص: 183

الرجل نبيّاً لعرف من هي هذه المرأة التي تلمسه وما حالها فهي خاطئة!» فقال له يسوع:

«ياشمعون، عندي ما أقول لك»، فقال شمعون: «قل يامعلم»، فقال يسوع: «كان لمدين دين على رجلين: خمسمئة دينار على أحدهما وخمسون على الآخر وعجز الرجلان عن ايفائه دينه، فاعفاهما منه فأيّهما يكون أكثر حبّاً له؟».

فأجابه شمعون: «أظن الذي أعفاه من الأكثر» فقال له يسوع: «أصبت» والتفت إلى المرأة وقال لشمعون «1»: «أترى هذه المرأة؟ أنا دخلت بيتك فما سكبت على قدميَّ ماء، وأمّا هي فغسلتهما بدموعها ومسحتهما بشعرها، أنت ما قبلتني قبلة، وأمّا هي فما توقفت منذ دخولي عن تقبيل قدميَّ، أنت ما دهنت رأسي بزيت، وأمّا هي فبالطيب دهنت قدميَّ، لذلك أقول: غفرت لها خطاياها الكثيرة لأنّها أحبتني كثيراً، وأمّا الذي يغفر له القليل فهو يحب قليلًا» ثم قال للمرأة: «مغفورة لك خطاياك!» فأخذ الذين معه على المائدة يتساءلون، من هذه حتى يغفر خطاياها» «2».

ملخص هذه الحكاية أنّ السيد المسيح ينزل في بيت

لأحد الفريسيين وهم كانوا طائفة من اليهود، ولا يبدي له صاحب البيت احتراما بالغاً، وما أن اطّلعت المرأة العاهرة والمنحرفة «3» التي تسكن ذلك البلد على حضوره حتى توجهت إلى بيت اليهودي وكانت العادة الجارية في ذلك العصر على غسل رجل الضيف اكراماً له، وطلي شعره بالدهن أحياناً لأنّ الناس كانوا يمشون حفاة غالباً، ونظراً لعدم امتلاكهم وسيلة للتغطية والحفظ في الأسفار كانت شعور وقشور أبدانهم تصاب بالجفاف على أثر هبوب الرياح.

ووفقا لهذه الحكاية المفتعلة قامت المرأة العاهرة بغسل رجلي المسيح عليه السلام بدموعها عوضاً عن الماء، وجففتهما بشعرها الطويل عوضاً عن المنشفة، وقبّلتهما بشفتيها بحرارة،

______________________________

(1) شمعون في الأصل بمعنى السامع، وقد اشير إلى اسماء 10 أشخاص في الكتاب المقدس للمسيح طبقاً لما قاله مؤلف كتاب (قاموس الكتاب المقدس)، وكان أحدهم شمعون الفريسي.

(2) انجيل لوقا، باب يسوع يغفر لامرأة خاطئة، ص 183.

(3) هذه المرأة هي مريم مجدليته كانت عاهرة ومتمولة، فأعلنت عن توبتها على يد السيد المسيح عليه السلام طبقاً لماجاء في انجيل لوقا في الباب الثامن.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 184

بحيث أدّى هذا المشهد المثير إلى استياء الرجل اليهودي صاحب البيت وقلقه، وقال في نفسه إن كان هذا نبياً وواقفاً على سيرة هذه المرأة لصدها عن هذا العمل على الأقل، المسيح بفراسته علم بذلك، وأقنعه بذلك من خلال المثال الذي ضربه في صدد الشخصين المديونين وأعرب له: إنني كنت ضيفك إلّاأنّك لم تقم بما قامت به المرأة المنحرفة من حسن الضيافة، فأنت لم تغسل رجليَّ بالماء وهي غسلته بدموع عينيها وأنت لم تقبلني وهي قبلت رجليَّ بلا انقطاع، ولم تدلك رأسي بالدهن وهي دلكت رجلي بالعطر.

والآن لنبدأ قليلًا بتحليل هذه القصة، لنرى هل من المناسب لهذا

النبي العظيم وحتى لمؤمن عادي أن يضع نفسه تحت تصرف امرأة عاهرة كي تعامله بمثل هذه المعاملة.

أولًا: إنّ السيد المسيح عليه السلام كان شاباً يناهز عمره الثلاثين عاماً في ذلك العصر، ولابدّ أن تكون تلك المرأة العاهرة شابة وجميلة أيضاً، ولا يعقل أن تكون قبيحة المنظر منهوكة القوى في الأعم الأغلب فكيف يتأتى لنبي عظيم بعث لتهذيب الأخلاق ونشر مظاهر التقوى أن يسمح لامرأة فاجرة بأن تتمسّح برجليه مرات متعددة ثم تغسهما بدموع عينيها وتجففهما بشعرها الناعم وتدهنهما بيديها الظريفتين وتطبع عليهما قبلات حارة، فهل يُعقل هذا؟

وعلى فرض أنّها أرادت التوبة من وراء ذلك فإنّ للتوبة حدوداً وقيوداً أيضاً، وهل سبق لأحد إلى يومنا هذا أن يتعامل مع أحد الروحانيين أو الرهبان العاديين بمثل هذه المعاملة، حتى تصل إلى نبي من أنبياء اللَّه؟

وعلى كل حال فالآثار الخرافية لهذه الرواية ظاهرة من بين ثناياها بصورة كاملة، فضلًا عن أنّ ما ذكره السيد المسيح عليه السلام من المثال لا يعتبر جواباً عن استفسار اليهودي على الاطلاق.

فإشكال اليهودي لم يقع على عظم محبّة هذه المرأة حتى يأتي الجواب على أنّ عظم محبتها وشدّة تعلقها ناتج عن كثرة ذنوبها، وإنّما وقع للاستفسار عن السبب في سماح نبي من أنبياء اللَّه بأنّ تمسح أمراة عاهرة وسيئة السمعة برجليه إلى هذه الدرجة ثم تغسلهما

نفحات القرآن، ج 8، ص: 185

بدموع عينيها، وتجففهما بشعرها، وتدلكه بالعطر والدهن، فمما لا شك فيه أنّ كثرة الذنوب وقلتها لا صلة له بهذا العمل من قريب أو بعيد.

وعليه فما جاء في تواريخ القرآن من وقائع وحوادث عن السيد المسيح عليه السلام تنزهه وتبرء ساحته من مثل هذه النسب السيئة.

نتيجة البحث:

يستنتج ممّا ذكر سابقا ضمن هذه النقاط العشر ومن

خلال ما أجريناه من مقارنة واضحة بين تواريخ العهدين (الكتب المقدسة لليهود والنصارى) هي نفس الكتب التي عُدّت من أهم المصادر التاريخية للأديان في عصر نزول القرآن- على أنّ القرآن لا يمكن أن يكون وليد الفكر الإنساني اطلاقاً، لأنّ ذلك يستلزم أن يتأثر بها، وقابلية التأثر هذه تترك أثرها في نقل وقائع هذه القصص، فدلت نزاهة التواريخ التي ينقلها القرآن من هذه الخرافات والنسب القبيحة خصوصاً فيما يتعلق بشرح وقائع الأنبياء على أنّه صادر من مصدر العلم الرباني وأنّه معجزة خالدة على مر الدهور.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 187

5- الاعجاز القرآني في سن القوانين

اشارة

من المعلوم أنّه قد ورد في القرآن الكريم بالإضافة إلى المعارف والتعاليم المرتبطة بالمبدأ والمعاد والمسائل الأخلاقية والتاريخية والتشريعات المتعلقة بالعبادات، مجموعة من القوانين الاجتماعية أيضاً، والتي ترسم معالم القانون الأساسي للاسلام وبعض القوانين المدنية، الحقوقية والجزائية المتعلقة به.

إنّ الدقّة والحكمة الموجدتين في النصوص القرآنية تكفيان لوحدهما في اظهار معجزة القرآن استناداً إلى أنّ ظهور وبروز هذه القوانين الحكيمة جدّاً- والتي ستأتي أمثلتها فيما بعد- في محيط تحكمه شريعة الغاب، أو بعبارة اخرى في جو يضجُّ بالفوضى والتسيب، هذه القوانين بإمكانها أن تحمل كل فرد منصف على التسليم والاذعان، لذا نحن لسنا ملزمين بأنّ نفتش عن عظمة هذا الكتاب السماوي واعجازه في المسائل المرتبطة بالفصاحة والبلاغة، أو المعارف والعلوم والجوانب التاريخية فقط، بل إنّ الاقتصار على البحث في مجموعة القوانين القرآنية يفتح نافذة بوجه هذا العالم الكبير.

وهنا ينبغي- وقبل كل شي ء- أن نقدم مقدمة قصيرة حول بيان معنى القانون الصالح وحقيقته، وذلك من أجل تدعيم أساس هذا البحث.

ماهي أفضل القوانين؟

من الصعوبة الجواب عن هذا السؤال، ولكن إذا وقفنا على الحكمة الواقعية من وراء وضع القوانين في المجتمعات الإنسانية فإنّ معالم الطريق ستصبح واضحة.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 188

إنّ المسألة تكمن في كون الإنسان يميل فطرياً إلى الحياة الاجتماعية، ويعود الفضل في رُقيه وتطوره إلى حياته الاجتماعية، فمن خلال هذه الحياة تتلاقح أفكار العلماء والمفكرين وتتآزر الاكتشافات والاختراعات والإبتكارات العلمية الموجودة في المجتمع وتنتقل من جيل إلى جيل آخر، ففي كل يوم نشهد تطوراً وتقدماً ورقياً على صعيد العلوم والتفكر والخصارة الإنسانية.

وأيّاً كان الدافع من وراء الاهتمام بهذا التعايش المشترك فإنّ له موضوعاً مستقلًا للبحث، ولكن ممّا لا شك فيه إذا كانت حياة الناس مبعثرة ومشتتة شأنها شأن

حياة الحيوانات الاخرى لم يكن هناك أي فرق بين إنسان اليوم وإنسان العصر الحجري، ولا يوجد معنى للعلم والحضارة والاختراع والاكتشاف ولا الصناعات والفنون ولا اللغة والآداب ولا لأي شي ء آخر، إلّاأنّ لهذه الحياة الاجتماعية طواري ء ومشاكل إذا لم تتمّ الوقاية منها بشكل صحيح فإنّها تؤدّي إلى حدوث نكبات وويلات تُودي بحياة الأجيال فضلا عمّا يترتب على ذلك من توقفٍ لعجلة التكامل والرقي.

إنّ هذه الافرازات عبارة عن: الصراعات التي تنشأ من تعارض المصالح وتزاحم الحقوق وطلب الاستعلاء، وحب الاستئثار، والأنانيات والمنافع الشخصية والتي تؤدّي بدورها إلى حدوث الخلافات والنزاعات والمناوشات الفردية أو الجماعية ونشوب الحروب الأقليمية، أو الدولية، ولهذا أدركت المجاميع الإنسانية منذ تلك اللحظة هذه الحقيقة وهي أنّه لو لم توضع المقررات اللازمة لتعيين حدود صلاحيات الأفراد وحقوقهم واسلوب حل المنازعات والد عاوى والمشاجرات، لانقلبت الموازين الاجتماعية رأساً على عقب وأدّت إلى حدوث كارثة كبرى

وأساساً إنّما يأخذ المجتمع الواقعي طريقه إلى الوجود والظهور بعد أن تسوده حالة التعاون والتعاضد والتعاطف بين أفراده، ومثل هذا الأمر لا يتحقق إلّافي ظل وضع القوانين والمقررات، وفي الواقع ليس هناك مفهوم للتعاون من دون تعهد أخلاقي، وهذا التعهد بحد ذاته منشأ حدوث القانون.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 189

علاوة على ذلك فإنّه من الخطأ أن نعتبر وظيفة القانون منحصرة في نطاق الحد من حدوث الاعتداءات وإنهاء النزاعات- وإن كان هذا هو الهدف من وضع الكثير من القوانين- بل يقع على عاتق القانون قبل هذا مسؤولية توثيق العلاقات الاجتماعية وإيجاد الضمانات والتعامل معها بصدق وأمانة وتأمين الحرية اللازمة من أجل تمكين وتربية القابليات وتنميتها، وتمركز القوى وتعبئة الإمكانيات باتّجاه معين من أجل توسيع رقعة التكامل.

والواقع إنّ القانون هو بمثابة الدم الجاري

في عروق المجتمع البشري، لهذا لابدّ من القول بصراحة: إنّه إذا انعدم القانون لم يكن لوجود المجتمع معنى، ولم يتحقق التقدم والازدهار.

إذن لم يعد الجواب عن السؤال المتقدم صعباً، فالقانون الأفضل هو الذي يمتلك صلاحية أكثر في تأمين الامور التالية:

1- أن يجمع بين كافة القوى المؤلفة للمجتمع الإنساني تحت راية واحدة قوية، ويحل مشكلة الاختلافات الموجودة فيه كاختلاف الألوان والقوميات واللغات.

2- أن يهي ء الأرضية المناسبة لنمو الاستعدادات الكامنه وتطوير القدرات الخلاقة لدى المجتمع.

3- أن يؤمّن الحرية الواقعية حتى يتمكن جميع الأفراد من العمل على تنمية استعداداتهم في ظلها.

4- يحدد الحق المشروع لكل شخص من الأشخاص وكل فئة من الفئات كي يقف حاجزاً دون حصول النزاعات والاختلافات والاعتداءات.

5- أن يعمق في النفوس روح الاعتماد والاطمئنان من خلال تعيين نظام إجرائي صحيح مضمون.

6- القانون الصالح ليس كما يتصوره البعض بأنّه القانون الذي يحمل معه مجموعة من القوانين العريضة والموسعة والتي تشتمل على الأجهزة القضائية الواسعة والشرطة والسجون الكثيرة، بل إنّ هذا يدل على ضعف ذلك القانون وذلك المجتمع وعجزهما،

نفحات القرآن، ج 8، ص: 190

فالقانون الصحيح هو الذي يتخذ إجراءات وقائية مناسبة من خلال وضع التعليمات الثقافية والمقررات الصحيحة حتى لا تدعو الحاجة إلى التوسل بمثل هذه الامور.

إنّ الأجهزة القضائية والعقوبات والسجون بمثابة الطب العلاجي، أو بعبارة أصح، بمثابة إجراء عملية جراحية للمريض؛ بينما القوانين السليمة والمقررات الدقيقة بمثابة الطب الوقائي الذي يعتبر أقل مؤونة وأسلم طريقة لخلوه من الطواري ء والأخطار.

بعد هذه المقدّمة نعود إلى القرآن مرّة اخرى لندقق في قوانينه ونبحثها.

مزايا القوانين القرآنية:

اشارة

قبل كل شي ء نرى من اللازم أن نذكر هذه النكتة وهي: إنّ جميع هذه القوانين إنّما خرجت في محيط الحجاز، ذلك المحيط الذي لايعرف للقانون معنى تقريباً،

والأمر الوحيد الذي حكم بشكل قانوني في اوساط قبائله هي العادات والتقاليد المحدودة والممتزجة بالخرافات، لذا فإنّ ظهور القوانين الإسلامية في مثل هذا المحيط يعدّ بحق ظاهرة عجيبة لا يمكن تبريرها وتصورها تصوراً طبيعيا وعادياً، ومن هنا فلابدّ أن نتعرف على خصائص القوانين الإلهيّة، وليس لنا سوى القبول والتسليم بأنّ ذلك كله صادر من اللَّه تعالى

أولًا: الشمولية والسعة

بالرغم من أنّ القرآن نزل في محيط مغلق من جهات مختلفة، ومحدود في ارتباطه مع عالم ما وراء شبه الجزيرة العربية، وكان الطابع الذي يسود ارجاءه هو طابع القومية والعنصرية والحياة القبلية، فكان من الطبيعي حتماً أن يصطبغ مثل هذا المحيط بصبغة القومية العربية، بل بصبغة التعصب القبلي ممّا يلفت النظر إلى أنّ القوانين لم تصطبغ بهذه الصبغة بأي شكل من الأشكال حتى أنّه لم يرد الخطاب ب (يا أيّها العرب) ولا مرّة واحدة في القرآن، بل إنّ الخطاب كان موجهاً إلى عامة الناس في كل المواضيع والخطابات حيث

نفحات القرآن، ج 8، ص: 191

ورد بصيغة- يا بني آدم «1» ويّا أيها الناس «2» ويا أيّها الذين آمنوا «3» وياعبادي «4» ويا أيّها الإنسان «5»- فالمخاطبين في القرآن هم جميع أهل العالم، وقوانينه ناظرة إلى البشرية جمعاء.

وممّا يدل على هذا المدعى أيضاً هذه الآية: «وَمَا ارْسَلْنَاكَ الَّا رَحمَةً لِلعَالَمِينَ». (الأنبياء/ 107)

والآية: «تَبَارَكَ الَّذِى نَزَّلَ الفُرقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلعَالَمِينَ نَذِيراً». (الفرقان/ 1)

والآية: «انْ هُوَ الَّا ذِكْرٌ لِّلعَالَمِينَ». ونظائرها. (يوسف/ 104)

لقد نبذ القرآن التمييز العنصري- في ذلك المحيط العنصري- بحيث أولى اهتماماً كبيراً وعناية فائقة للأواصر الأخوية ولجميع أبناء البشرية من خلال اطروحته الرائعة المتضمنة هذا المعنى «أنتم جميعاً أبناء آدم وخلقتم من أب واحد وام واحدة» فأنتم جميعاً اخوة لُاسرة

واحدة، يقول عزّ من قائل في هذا المضمار: «يَا ايُّهَا النَّاسُ انَّا خَلَقنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَانثَى وَجَعَلْنَاكُم شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا انَّ اكْرَمَكُم عِندَ اللَّهِ اتْقَاكُم». (الحجرات/ 13)

وفي موضع آخر ينفي كافة الارتباطات المحدودة ويبلور العلاقة القائمة بين المؤمنين في إطار الاخوة والصداقة التي هي من أقرب العلائق التي تقوم على أساس المساواة والمواساة، إذ يقول عز من قائل: «انَّمَا المُؤمِنونَ إخوَةٌ». (الحجرات/ 10)

وممّا يدعو إلى الانتباه والالتفات إلى ما في هذه الآية هو مجي ء كلمة «إنّما» التي تستعمل للحصر، هذا من جهة، ومن جهة اخرى أحاطت هذه القوانين بشموليتها سائر

______________________________

(1) وردت 5 مرات.

(2) وردت 20 مرّة.

(3) وردت 80 مرّة.

(4) وردت 5 مرات.

(5) وردت مرّتين.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 192

أنحاء الحياة البشريّة بدءاً بأهمّ المسائل الاعتقاديّة (كالتوحيد) وانتهاءً بأبسط المسائل الأخلاقيّة والاجتماعية، (كالرد على السلام وعلى أي لون من ألوان التحية والاستقبال)، فعلى سبيل المثال يقول تعالى في أحد المواضع: «وَاذَا حُيِّيتُم بِتَحَّيةٍ فَحَيُّوا بِاحْسَنَ مِنْهَا اوْ رُدُّوها انَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَىٍ ء حَسِيبَاً». (النساء/ 86)

وقد ضمَّ القرآن الكريم بين دفتيه آيةً تُعدُّ من أطول الآيات القرآنية التي دار الحديث فيها حول كتابة الديون والحقوق، فقد ذكر فيما يتعلق بهذه المسألة عشرين حكماً إلهياً، وهي (الآية 282 من سورة البقرة) وهذا إن دل على شي ء فإنّما يدل على أن تطرق القرآن للمسائل المرتبطة بالعقائد والمعارف الإسلامية لايتنافى بتاتاً مع بيانه للأحكام الضرورية العملية أيضاً، ولا نقصد من ذلك أنّه قد تمّ بيان جميع جزئيات الأحكام والقوانين على صعيد الظواهر القرآنية، لأنّ ممّا لا يقبل الشك أنّ حجمها يعادل أضعاف حجم القرآن، وإنّما المقصود أنّه تعالى قد بيَّن الاصول والقواعد الضرورية في كل مورد من الموارد القرآنية.

ولا

يضير في هذا المجال أن نشير إشارات مختصرة إلى مقتطفات من هذه الأصول:

1- أكَّدَنا أنّ القرآن الكريم استند في المسائل الاعتقادية قبل كل شي ء على (أصل التوحيد)، وقد ذكر هذا المفهوم مئات المرات في الآيات القرآنية، بحيث رسم الخطوط العريضة لأدقّ المفاهيم التوحيدية إلى أن يقول في صدد الحديث عن ماهية اللَّه تعالى

«لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَى ءٌ». (الشورى/ 11)

وقد بين صفاته الجلالية والجمالية في مئات الآيات، ويمكنكك في هذا المجال مراجعة المجلد الثالث من هذا الكتاب (نفحات القرآن)، ولا يقتصر الأمر عند تعريفه بوحدانية اللَّه من كل جهة، بل يعتبر نبوة الأنبياء دعوة واحدة أيضاً، بحيث لا يرى وجود الاختلاف والتفرقة بينهم، لذا يقول: «لَانُفَرِّقُ بَيْنَ احَدٍ مِّن رُسُلِهِ». (البقرة/ 285)

وبالرغم من حمل كل واحدٍ منهم مسؤولية خاصة به وفقاً للمتطلبات الزمنية التي يعيش فيها كل نبي، إلّاأنّ حقيقة دعوتهم وجوهرها واحدة في كل المواقع. بالإضافة إلى أن مسألة

نفحات القرآن، ج 8، ص: 193

التوحيد تفرض سيطرتها على مرافق المجتمع الإنساني أيضاً، وكما قلنا سابقاً: يعتبر أفراد البشر أعضاء لأسرة واحدة، ويعبّر عنهم بالأخوة المولودين من أب واحد وأم واحدة.

2- «العدالة الاجتماعية» وتعتبر من أهم تعاليم الأنبياء يقول تعالى «لَقَدْ ارْسَلْنَا رُسُلَنا بِالبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالقِسطِ». (الحديد/ 25)

وتعقيباً لهذه الغاية فقد حرّض اللَّه تعالى كافة المؤمنين على هذا الأمر سواء كونهم كباراً أو صغاراً، شيباً أو شباباً، وبغض النظر عن انتمائهم العنصري أو اللغوي، فيقول: «يَاايُّهَا الَّذينَ آمنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالقِسطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى انْفُسِكُم اوِ الوَالِدَينَ وَالأَقرَبِينَ». (النساء/ 135)

3- وأما على صعيد «الروابط الاجتماعية» والاتفاقيات وكل عهد وميثاق فيدعو اللَّه الجميع إلى الالتزام بهذا الأصل، ويقول: «يَاايُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اوْفُوا بِالعُقُودِ». (المائدة/

1)

ويقول أيضاً: «وَاوفُوا بِالعَهْدِ انَّ العَهْدَ كَانَ مَسْؤُولًا». (الاسراء/ 34)

إنّ امتداد وسعة هذه الآيات شملت حتى المعاهدة والمفاوضة مع غير المسلمين، وفرضت سيطرتها على العلاقات الاجتماعية والفردية والاتفاقيات الدولية أيضاً.

4- وعلى صعيد «الوقوف بوجه الاعتداءات»، وتفادي الاحباطات، يقول تعالى في عبارة مختصرة ودقيقة جدّاً: «فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيكُم فَاعْتَدُوا عَلَيهِ بِمِثْلِ مَااعْتَدَى عَلَيكُم وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا انَّ اللَّهَ مَعَ المُتَّقِينَ». (البقرة/ 194)

5- وعلى صعيد «الدفاع» يقدم اطروحة أصيلة ومتينة عامة متجسدة بقوله تعالى

«وَاعِدُّوا لَهُم مَّااستَطعتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخَيلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُم». (الانفال/ 60)

وفي هذا الصدد يوصي «بإعداد القوة وتعبئة القوى بصورة عامة»، وتجهيز القدرة الحربية لذلك العصر بصورة خاصة «بعنوان أحد المصاديق» وذلك من أجل الحد من وقوع الحرب، والارهاب، وإلقاء الرعب في قلوب الأعداء، وهذا من الأهداف المنطقية الكبرى لتقوية البنية العسكرية.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 194

6- وأما من ناحية المناوشات الكلامية والنزاعات التي تقع بين أصحاب المذاهب والرقباء الاجتماعيين فله وصية اخرى يقول فيها: بدلًا من المقابلة بالمثل وإعداد القوى استخدموا أسلوب مقابلة الضد بالضد، وردّوا القبيح بالحسن كي تُقتلع بذرة النفاق والعداوة من جذورها، يقول عزّ من قائل: «ادْفَعْ بِالَّتِى هِىَ احْسَنُ فَاذَا الَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَانَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ* وَمَا يُلَقَّهَا الَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَايُلَقَّاهَا الَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ». (فصلت/ 34- 35)

7- أما بصدد «المصير الإنساني» يقول بصراحة: إنّ مصير كل شخص بيده، وموقوف على جهده وسعيه: «كُلُّ نَفسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ». (المدثر/ 38)

«وَان لَّيسَ لِلإِنَسانِ الَّا مَا سَعَى وَانَّ سَعيَهُ سَوفَ يُرَى . (النجم/ 39- 40)

8- وحول «حرية العقيدة» وإنّه لا يمكن النفوذ في الحيز الفكري لشخص معين إلّاعن طريق الاستدلال وتوضيح معالم الدين يقول تعالى «لَا

اكرَاهَ فِى الدِّينِ قَدْ تَّبَيَّنَ الرُّشدُ مِنَ الغَىّ». (البقرة/ 256)

وفي مجال «حرية الإنسان» يقول: إنّ أحد الأهداف المهمّة لبعثة نبي الإسلام صلى الله عليه و آله هو اطلاق سراح الناس من قيود وسلاسل الأسر والعبودية: «وَيَضَعُ عَنْهُمْ اصْرَهُم وَالاغْلَالَ الَّتِى كَانَتْ عَلَيِهْم». (الأعراف/ 157)

ولهذه الأغلال مفهوم واسع بحيث تشمل كافة أنواع سلب الحرية الإنسانية.

9- وفي صدد «عدم التدخل في الأمور الشخصية للآخرين»، والمحافظة على كرامة الأفراد، وعدم هتك حرمتهم يقول تعالى «يَاايُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجتَنِبُوا كَثِيرَاً مِّنَ الَظَّنِّ انَّ بَعضَ الظَنِّ اثمٌ وَلَاتَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَّعضُكُم بَعْضاً». (الحجرات/ 12)

10- ومن المبادي ء التي أكد عليها القرآن الكريم هو مبدأ «التعايش السلمي» مع كافة الأفراد المسالمين الذين يعدونهم من أهل التفاهم والحوار في الأهداف المشتركة، أو على الأقل من الذين اتخذوا طريق الحياد والاعتدال، لذا يقول تعالى «لَّايَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَم يُقَاتِلُوكُم فِى الدِّينِ وَلَمْ يُخرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُم انْ تَبَرُّوهُم وَتُقسِطِوُا إِلَيهِم انَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقسِطِينَ»، ثم يعقب على ذلك بقوله: «انَّمَا يَنَهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلوُكُم فِى الدِّينِ

نفحات القرآن، ج 8، ص: 195

وَأَخرجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخرَاجِكُمْ انْ تَوَلَوْهُمْ وَمَن يَتَولَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ». (الممتحنة/ 8- 9)

ثانياً: تقوية الروابط الاجتماعية

إنّ المجتمع البشري هو المصدر الرئيسي لكل تطور وتقدم علمي واجتماعي ويستطيع أن يصل إلى هدفه المطلوب عندما تحكمه روابط وثيقة ومحكمة جدّاً، وفيما عدا ذلك فسوف يتحول إلى جحيم لا يطاق يحمل في طياته مآسي وويلات اجتماعية، هذا فضلًا عن عدم استثماره لمعطياته ومكتسباته الذاتية، فمن جانب يؤكد على الوحدة الشمولية للعالم البشري بصفتهم أعضاء لُاسرة واحدة، وإخوة من أب واحد وأم واحدة، كما جاء ذلك في سورة الحجرات الآية 13 وأشرنا إليه سابقاً.

ومن جانب آخر

يعتبر المؤمنين أعضاء لكيان واحد بغض النظر عن الاختلافات الموجودة بينهم من الناحية اللغوية والعرقية، لذا يقول تعالى «بَعضُكُم مِن بَعْضٍ». (آل عمران/ 195)

ويقول في موضع آخر: «وَالمُؤمِنونَ وَالمُؤمِنَاتُ بَعضُهُم اوْلِيَاءُ بَعضٍ». (التوبة/ 71)

ولم يكتفِ بهذا الأمر فقط، فبالإضافة إلى العلاقات الإنسانية والإيمانية أوصى وأكد على الروابط الشخصية أيضاً والتي تتحقق في نطاق أضيق وأقرب.

ولذا يعتبر نقض هذا العهد والحلف جريمة كبرى يقول تعالى في هذا الصدد: «الَّذِينَ يَنقَضوُنَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعدِ مِيثَاقِهِ وَيَقطَعُونَ مَا امَرَ اللَّهُ بِهِ انْ يُوصَلَ وَيُفسِدُونَ فِى الارْضِ اولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ». (البقرة/ 27)

ونقرأ في سورة محمد الآية 22 و 23 قوله تعالى «فَهَلْ عَسَيْتُم انْ تَوَلَّيتُم انْ تُفسِدُوا فِى الارضِ وَتُقَطِّعُوا ارحَامَكُم* اولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَاصَمَّهُم وَاعمَى ابصَارَهُم».

نفحات القرآن، ج 8، ص: 196

وبناءً على ذلك يرى أن قطع هذه العلاقات مقارن للفساد في الأرض، ومن دواعي فقدان البصيرة والجمود الباطني.

وتنبثق أهميّة هذه الروابط في الإسلام من أنّ كل ما يساهم في تحكيم العلاقات الاجتماعية يعتبر أمراً ضرورياً، حتى أنّ الكذب الذي هو من أبشع الذنوب يعدّ جائزاً لأجل إصلاح ذات البين، وعلى العكس من ذلك فإنّ كل مايساهم في تضعيف هذه الارتباطات وتفككها يعتبر أمراً منبوذاً ومرفوضاً تحت أي عنوان وإسم كان.

ثالثاً: احترام حقوق الإنسان

إنّ القانون الناجح والممتاز هو القانون الذي يُقدم- بالإضافة إلى امتيازاته الاخرى أطروحة جامعة ودقيقة في مجال حقوق الإنسان، وبناءً على هذه الحقيقة، كلما ألقينا نظرة حول الآيات القرآنية التي وردت في هذا المجال تجلّت عظمة هذه القوانين أكثر فأكثر.

فالقرآن حرص كثيراً على مسألة حفظ النفس والمال والنواميس البشرية، بحيث وصل به الأمر إلى أن يعتبر النفس الإنسانية الواحدة مساوية لنفوس الناس جميعاً، لنقرأ قوله تعالى: «مَن

قَتَلَ نَفْسَاً بِغَيْرِ نَفْسٍ او فَسَادٍ فِى الارْضِ فَكَانَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَن احْيَاهَا فَكَانَّمَا احْيَا النَّاسَ جَمِيعاً». (المائدة/ 32)

ولا نجد لهذا التعبير مثيلًا في أي قانون آخر.

ويذهب القرآن في صدد مسألة حقوق الإنسان إلى أنّ أصل العدالة يحتل مركز الصدارة على جميع الأمور في إجراء الحقوق، ويحذر من أن تقضي النزاعات الشخصية أو العلاقات الحميمة إلى عدم إجراء العدالة والعمل بها.

يقول تعالى في محكم كتابه: «وَلَا يَجرِمَنَّكُم شَنَئَانُ قَومٍ عَلَى الَّا تَعدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ اقْرَبُ لِلتَّقوَى . (المائدة/ 8)

وفي مجال آخر يتعرض القرآن الكريم إلى تأثير الصداقة على إجراء العدالة حيث

نفحات القرآن، ج 8، ص: 197

يوجه هذا الانذار بقوله تعالى «يَاايُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بالقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى انفُسِكُم اوِ الوَالِدَينِ وَالاقرَبِينَ انْ يَكُن غَنِيّاً او فَقِيراً فَاللَّهُ اولَى بِهِمَا». (النساء/ 135)

وتتضح هذه المسألة أكثر من خلال التأكيدات الكثيرة للقرآن على مسألة رعاية الأيتام والمراقبة الدقيقة لأوضاعهم، والتعهد بكفالتهم إلى أن يكبروا ويبلغوا سن الرشد، فيقول في هذا الصدد: «ان تَقُومُوا لِليَتَامَى بِالقِسْطِ». (النساء/ 127)

والجدير بالذكر أنّ القرآن الكريم جعل مسألة الحماية والرعاية للأيتام مرادفة للتوحيد وللمسائل الإنسانية والأخلاقية الاخرى فيقول عزّ من قائل: «... لَاتَعبُدُونَ الَّا اللَّهَ وَبِالوالِدَينِ احْسَاناً وَذِى القُربَى وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينَ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسناً وَاقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ». (البقرة/ 83)

ومن طريف القول: إنّه تعالى قرر خمسة قوانين إنسانية لها علاقة بحقوق الإنسان في ضمن شعيرتين من أهم الشعائر الإسلامية على صعيد الاعتقاد والعمل، ألا وهما- التوحيد والصلاة.

رابعاً: الحرص على تأمين الحرية والأمن

من أهم الأمور التي اهتمت بها القوانين القرآنية هي: حرية العقيدة، وحرية الإنسان، واستقرار الأمن على في الأصعدة والمجالات كافّة، وتشير إلى هذا المعنى الآية الكريمة:

«لَآاكرَاهَ فِى الدِّينِ قَدْ تَّبَيَّنَ الرُّشدُ مِنَ

الغَىّ». (البقرة/ 256)

ومن الأهداف المهمّة لبعثة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله هي القضاء على الأسر والقيود والاغلال إذ يقول سبحانه: «وَيَضَعُ عَنهُم اصْرَهُم وَالاغلَالَ الَّتِى كَانَت عَلَيهِم». (الأعراف/ 157)

وفي موضع آخر يخاطب المؤمنين بقوله: «يَاعِبَادِىَ الَّذِينَ آمَنُوا انَّ ارْضِى وَاسِعَةٌ فَايَّاىَ فَاعبُدُونِ». (العنكبوت/ 56)

وينقل القرآن قصة عجيبة عن «أصحاب الاخدود»، أولئك الذين كانوا يعذبون المؤمنين

نفحات القرآن، ج 8، ص: 198

ويلقونهم في حفر النيران لا لشي ء إلّا لأنّهم حملوا اعتقادات راسخة، لذا يصفهم بالقول: إنّ هذه الزمرة المتسلطة ما أقدمت على عملها هذا إلّالأجل سلب حرية العقيدة والإيمان، ثم يبين لهم أشد العقوبات الإلهيّة النازلة بحقهم لنقرأ قوله تعالى «انَّ الَّذِينَ فَتَنُوا المُؤمِنيِنَ وَالمُؤمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُم عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُم عَذابُ الحَرِيقِ». (البروج/ 10)

وكثيراً ما يُشيد القرآن الكريم بنعمة «الأمن» بحيث يعتبره مقدماً على أي شي ء آخر، ولهذا السبب حينما قدم إبراهيم الخليل عليه السلام على الأرض القاحلة، ذات الحرارة المحرقة والخالية من النبات والشجر في مكة، وبنى الكعبة، فإنّ أوّل حاجة طلبها من اللَّه تعالى لساكني هذه الأرض مستقبلا هي نعمة الأمن كما ورد ذلك في القرآن: «رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارزُق اهْلَهُ مِنَ الَّثمَراتِ». (البقرة/ 126)

وقد ورد هذا الموضوع في مكان آخر من القرآن وبتعبير آخر، فيقول تعالى «رَبِّ اجعَلْ هَذًا البَلَدَ آمِناً وَاجنُبنى وبَنِىَّ ان نَّعُبدَ الاصنَامَ». (ابراهيم/ 35)

ففي الآية الاولى تقدم ذكر الأمن على الأمور الاقتصادية، وفي الآية الثانية تقدم ذكره أيضاً على مسألة التوحيد، ولعله إشارة إلى عدم تحقق الضمان الديني والدنيوي للمجتمع بدون انتشار الواقع الأمني في المحيط القائم، بالإضافة إلى أنّ القرآن يصف حالة انعدام الأمن بأنّها أسوأ حالًا من القتل وسفك الدماء، فيقول: «وَالفِتَنةُ

اشَدُّ مِنَ القَتلِ».

(البقرة/ 191)

وبالرغم من أنّ للفتنة معاني كثيرة، (كالشرك، والتعذيب والتنكيل والفساد)، ولكن لايستبعد أن يكون مفهوم الآية شاملًا بحيث يستوعب كل هذه المعاني.

وعليه فإنّ إيجاد حالة من انعدام الأمن والفساد تفوق بمراتب حالة سفك الدماء لأنّها بالإضافة إلى كونها مصدراً لسفك الدماء، هي مصدر للمفاسد الاخرى أيضاً.

وتجدرالإشارة إلى هذه النكتة أيضاً وهي: إنّه قد تقرر في الإسلام نوع خاص من «الأمن» لم يسبق له وجود في أي قانون من القوانين الدولية ألا وهو الحفاظ على حيثية الأفراد وكرامتهم، حتى في دائرة أفكار الآخرين.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 199

وبتعبير أدق: إنّ الإسلام لايسمح لأي مسلم أن يحمل في نفسه الظن السي ء والتفكير الخاطي ء تجاه الآخرين فيعمد إلى خدش كرامة الآخرين وحرمتهم في دائره التفكير الشخصي، وقد تجسد هذا المعنى بقوله سبحانه في الآية: «يَاايُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجتَنِبُوا كَثِيراً مِن الظَنِّ انَّ بَعضَ الظَنِّ اثمٌ وَلَاتَجَسَّسوُا». (الحجرات/ 12)

إنَّ الإسلام يريد أن تسود حالة الامن والاطمئنان التام في المجتمع الإسلامي، ولا يقتصر الأمر على النزاعات الشخصية بين الآخرين فحسب، وإنّما يشمل المناوشات الكلامية، وأكثر من ذلك على صعيد الاتجاهات الفكرية بين الأفراد مع بعضهم البعض، بحيث يشعر كل واحد منهم بأنّ أخيه لا يسدد باتجاهه سهام التهمة والافتراء، وهذه الحالة تمثل أعلى مستويات الأمن ولاتتحقق إلّافي ظل وجود المجتمع الإيماني وسيادة القوانين الإسلامية.

والجدير بالذكر إنّه قد ورد النهي عن الكثير من الظنون، ولكن في أثناء بيان العلة يقول:

إنَّ بعض الظنون إثم، ولعل منشأ التفاوت في التعبير عائد إلى أنّ الظنون السيئة تجاه الآخرين تطابق الواقع أحياناً، ولاتطابقه أحياناً اخرى وبناءً على أنّ النوع الثاني يعدُّ ذنباً من الذنوب، فلابدّ من الابتعاد عن كل الظنون السيئة الواقعة تحت عنوان

«كثيراً من الظن».

النكتة الأخيرة في هذا البحث: هي أنّ الإسلام انطلاقاً من اهتمامه الكبير بتحقيق الأمن الداخلي في المجتمعات الإسلامية أجاز التوسّل بالقوة والقدرة العسكرية لحل الاختلافات والمجابهات الداخلية في حالة فشل الأساليب والطرق السلمية، ونطالع هذا المعنى في قوله تعالى «وَانْ طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤمِنِينَ اقتَتَلُوا فَاصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَانْ بَغَتْ احدَاهُمَا عَلَى الاخَرَى فَقَاتِلُوا الَّتِى تَبْغِى حَتَّى تَفِى ءَ الَى امْرِ اللَّهِ فَانْ فَاءَتْ فَاصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالعَدْلِ وَاقسِطُوا انَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقسِطِينَ». (الحجرات/ 9)

إنّ مَن يمعن النظر جيداً في تعبير هذه الآية: يجد أنَّ كلَّ مقطع من المقاطع فيها يحكي عن تحديد صورة لمنهج دقيق يقضي بإنهاء أي شكل من أشكال الاضطراب والفتن

نفحات القرآن، ج 8، ص: 200

نفحات القرآن ج 8 248

الاجتماعية وذلك من خلال استخدام أفضل السبل السلمية، أو اللجوء إلى القوة في نهاية المطاف إذا لم تثمر الأساليب الاخرى

ومن البديهي أنّ المقصودين بالخطاب في هذه الآية هم أفراد المجتمع الإسلامي، أو بعبارة اخرى الحكومة الإسلامية.

خامساً: ضمانات تنفيذ القوانين القرآنية

إنّ وجود القوانين الدولية لا يمثل سوى حبرٍ على ورق، وغاية ماتقوم به من تأثير ذاتي أنّها تنقل النصيحة والموعظة لكن بدون الاستناد إلى أي دليل، وبعبارة اخرى فإنّ القوانين بحد ذاتها لاتنطوي إلّاعلى بعد ذهني وفكري، وحتى تكتسب قيمة اجتماعية تحتاج إلى أن تستند إلى قاعدة معينة تلزم أفراد المجتمع باتباعها والانصياع لها، وهذه القاعدة هي التي يطلقون عليها عنوان «الضامن التنفيذي» أو «الضمانة التنفيذية».

يتضح جيداً من هذه المقدّمة أنّ قيمة القانون وصلاحيته متوقفة على مدى قوّة الضمانات لتنفيذ هذه القوانين وقدرتها، فمتى ما كانت الضمانة الإجرائية لأحد القوانين أقوى وأدق كانت قيمتُهُ الاجتماعية أعلى وأكثر.

إنّ الكثير من الضمانات التنفيذية للقوانين تنطوي على آثار سيئة للغاية،

وتخلق مشاكل ومساوي ء على صعيد المجتمع؛ وتؤدّي أحياناً إلى الاصطدام وانعدام الثقة، وسوء الظن بين الأفراد، أو أنّها تعكس القانون بشكل صارم ورهيب وهذه بحد ذاتها تعتبر خسارة كبرى

ولو كانت الضمانة التنفيذية تستند إلى مجموعة من المباني الثقافية والأخلاقية والعاطفية، لما اشتملت على أيٍّ من هذه المساوي ء.

إنّ العالم المعاصر ومن أجل تطبيق القوانين الوضعية يمر في دوامة قاتلة.

وهذه الدوامة ناشئة من عدم وجود ما يضمن تنفيذ هذه القوانين سوى العقوبات المادية

نفحات القرآن، ج 8، ص: 201

والتي تشمل العقوبات الجسدية أو الغرامات المادية، هذا من جهة، ومن جهة أُخرى عدم سن القوانين التي تقضي بمعاقبة المجرمين بالإعدام عند ارتكابهم للجرائم والجنايات الفجيعة والتي يستحق فاعلها ذلك.

إنّ عدم وجود الوازع النفسي والوجداني الذي يضمن تنفيذ القوانين الوضعية، وكذلك ضعف الضمانات التنفيذية الخارجيه، أدّى إلى حصول الكثير من المخالفات القانونية وقد ترتب على ذلك ابتعاد الناس عن الضوابط والمقررات وتجذر حالة عدم المبالاة يوماً بعد يوم، والدليل على ذلك هو كثرة المؤسسات القضائية والسجون في العالم.

وهذا الوضع هو الذي يمكن أن يطلق عليه عنوان «أزمة الضمانة التنفيذية»، وله نتائج وعواقب غير محمودة، الأمر الذي جعل المجتمعات الإنسانية بأسرها تدفع ضرائب ثقيلة، ويمكن الوقوف على شواهد من هذا القبيل في أرقى الدول الصناعية في العالم.

ومن العقبات الاخرى للضمانات التنفيذية في القوانين الدولية المعاصرة، هو الاقتصار على الأحكام الجزائية وفقدان الجانب الإيجابي في الجزاء أي الاتكاء على العقوبة وترك المكافاة.

إنّ الإنسان يتمتع بقوتين «القوة الجاذبة والدافعة» أو بعبارة اخرى الميل للحصول على المنافع ودفع المضار، ولابدّ من الاستعانة بكلا الجانبين في إجراء القوانين، في حين أنّ عالم اليوم يحصر جلّ اهتمامه على دفع المضار وفي دائرة محدودة أيضاً، والدليل على

ذلك واضح، لأنّ العالم المادي ليس في جعبته شي ء ليجعله بعنوان مكافأة تقديرية أزاء كل من يعمل ببنود القانون.

وعلى ضوء هذه المقدّمات نعود إلى مسألة «الضمانة التنفيذية للقوانين القرآنية» لنرى اشتماله على أقوى الضمانات التنفيذية وأجمعها، وهذا الامتياز ينفرد به دون غيره.

وقد أُخذت بعين الاعتبار ثلاثة أنواع من الضمانات التنفيذية في القرآن:

نفحات القرآن، ج 8، ص: 202

1- الضمانة التنفيذية المستمدة من الدولة الإسلامية.

2- الضمانة التنفيذية المستندة إلى الرقابة العامة.

3- الضمانة الذاتية الداخلية أو بتعبير آخر، الضمانة الناشئة من الإيمان والاعتقاد بمبادي ء الإسلام والقيم الأخلاقية والعاطفية.

ففي المورد الأول تقع على عاتق الدولة الإسلامية مسؤولية الوقوف بصورة حدّية بوجه أي شكل من أشكال المخالفة القانونية، فالخطوة الاولى التي أقدم عليها نبي الإسلام صلى الله عليه و آله بعد هجرته إلى المدينة، وبعد التغلب على المشاكل العالقة، هي إرساء دعائم الدولة الإسلامية، وبيان معالم القوانين الإسلامية، وملاحقة أي نوع من أنواع الانحراف والشذوذ باعتباره من الذنوب التي تدخل في دائرة (العقوبة الجزائية).

لقد اعتبر الإسلام القوانين القرآنية حدوداً إلهيّة، ووجه العقوبة إلى كل من يتجاوز هذه الحدود.

فمن جهة يُعرِّف المتخلفين بأنّهم ظالمون يقول تعالى «وَمَن يَتَعدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الَّظَالِمُونَ». (البقرة/ 229)

ومن جهة اخرى يؤكد على محاربة الظالمين.

فحينما يذهب القرآن إلى القول: «لَقَدْ ارْسَلنَا رُسُلَنَا بِالبَيِّنَاتِ وَانزَلنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالقِسْطِ وَانزَلْنَا الحَدِيدَ فِيهِ بَاسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعلَمَ اللَّهُ مَن يَنْصُرهُ وَرُسُلَهُ بِالغَيبِ انَّ اللَّهَ قَوِىٌّ عَزِيزٌ». (الحديد/ 25)

فإنّ معناه: إن شَخْصَ نبي الإسلام صلى الله عليه و آله الذي هو خاتم الأنبياء وسيدهم هو الذي تقع على كاهله هذه المسؤولية قبل أي شخص آخر.

هذا من جانب، ومن جانب آخر يدعو كل فرد من أفراد الأمة

الإسلامية إلى المراقبة في اجراء القوانين الإلهيّة، ووفقاً لمبدأ «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، يلزم الجميع بأن لا يتهاونوا ويتخاذلوا في الوقوف بوجه الانحراف عن القوانين الربانية.

لذا يقول سبحانه في أحد المواضع: «وَالمُؤمِنُونَ وَالمؤمِنَاتُ بَعضُهُم اولِيَاءُ بَعضٍ

نفحات القرآن، ج 8، ص: 203

يَأْمُرُونَ بِالمَعرُوفِ وَيَنهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ ويُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ». (التوبة/ 71)

وتتجلّى الأهميّة القصوى لهاتين الوظيفتين في الآية الكريمة من خلال تقديم ذكرهما على الصلاة والزكاة وإطاعة اللَّه والرسول، والسر في ذلك يقع في أنّ أركان الصلاة والزكاة والطاعة لاتستقيم أعمدتها من دون هذه الرقابة العامة على إجراء القوانين.

وفي موضع آخر حينما يعمد تعالى إلى طرح الصفات المختصة بالمجاهدين في سبيل اللَّه أولئك الذين اشتروا الجنّة من اللَّه تعالى بأموالهم وأنفسهم، يقول بعد بيان ست صفات من الصفات المتعلقة بهؤلاء المجاهدين: «الآمِرُونَ بِالمَعرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ المُنكَرِ والحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ». (التوبة/ 112)

وممّا يلفت النظر: إنّه نظراً إلى أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر له مراحل مختلفة تبدأ من النصيحة والإرشاد والمواعظ الاخوية، وتشق طريقها حتى تصل إلى مرحلة التشدد والحزم العملي، بناءً على ذلك فقد قسمها القرآن إلى قسمين، جعل القسم الأول في متناول الجميع، أمّا القسم الثاني فقد جعله في متناول جماعة خاصة تمارس أعمالها تحت إشراف الحكومة الإلهيّة، ولذا يشير إلى هذا التقسيم بقوله تعالى «وَلتَكُن مِّنكُم امَّةٌ يَدعُونَ الَى الخَيرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعرُوفِ وَيَنهوَنَ عَنِ المُنكَرِ واولَئِكَ هُمُ المُفلِحوُنَ».

(آل عمران/ 104)

ومن البديهي إنّ الامّة التي تأخذ على عاتقها مسؤولية الرقابة، على إجراء القوانين ويشاطرها في هذا الشعور بالمسؤولية كافة أفراد المجتمع، سيكون القانون في أوساطها معززاً مكرماً وصالحاً للتطبيق في الوقت المناسب.

وحينما نخرج من دائرة الرقابة العامة يأتي الكلام عن الرقابة

الذاتية، والروحية والاعتقادية والوجدانية للأفراد على حسن إجراء القوانين وهكذا رقابة تعتبر بحقّ أفضل أنواع الرقابات وذلك لوجود الرادع الذاتي للفرد.

أمّا «الإيمان بالمبدأ» أي بالله عزّ وجلّ الذي هو حاضر في كل حين وهو أقرب إلى العباد من أنفسهم: «وَنَحنُ اقرَبُ الَيهِ مِن حَبلِ الوَرِيدِ». (ق/ 16)

نفحات القرآن، ج 8، ص: 204

وسبحان الذي: «يَعلَمُ خَائِنَةَ الاعُينِ وَمَاتُخفِى الصُّدُوُر». (غافر/ 19)

واللَّه الذي جعل الأرض والزمان وحتى أعضاء بدن الإنسان رقيباً عليه وشاهداً وشهيداً على أفعاله «1».

و «الإيمان بمحكمة القيامة الكبرى بحيث لو كان في صحيفة أعمال الإنسان مقدار ذرة من عمل الخير أو الشر لاحضروها أمامه، ويلاقي حسابه وجزاؤه: «فَمَن يَعملْ مِثَقالَ ذَرَّةٍ خَيراً يَرَهُ* وَمَن يَعملْ مِثَقالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ». (الزلزلة/ 7- 8)

وليست الأمثلة السابقة هي التي تعكس آثار الإيمان بالمبدأ والمعاد فحسب، بل لدينا مئات الأمثلة من هذه الآيات في القرآن الكريم يعدّ الاعتقاد بها من أفضل الضمانات لتنفيذ القوانين الإلهيّة.

وكم هو الفرق بين من يرى نفسه مراقباً من قبل القوى الامنية والعسكرية التي لا تتجاوز أعدادها الواحد بالالف وبما تمتلك من إمكانيات محدودة ونواقص كثيرة عندما تكون رقيبةً على أعمال الآخرين، ومع ما تراه لازماً من اتخاذ الاستعدادات الكافية من أجل الدخول في الأماكن الهامة والمنازل العامة، وما أبعد الهوة بين هذا الشخص وبين من يرى نفسه في كل الأحوال والأمكنة وبدون استثناء خاضعاً لرقابة اللَّه المستمرة والملائكة، ويعتقد أنّ الموجودات من حوله وحتى أعضاء بدنه ستحتفظ بأعماله وتعلن عنها في حينه.

إنّ الضمانة التنفيذية لا أثر لوجودها في العالم المادي إطلاقاً، ولهذا السبب لم تتمكن الضمانات التنفيذية الاخرى بأي شكل من الأشكال أن تقف حاجزاً أمام المخالفات الاخرى في حين تنحسر هذه المخالفات القانونية

في ظل الأجواء الدينية الواقعية التي يكون هذا الضامن التنفيذي فيها فعالًا، كما تحقق ذلك في زمن حياة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله ففي ذلك الزمان لم يكن لوجود السجون معنى على الاطلاق، وقلّما كانت تعقد المحاكم القضائية، فقد كانت شكاوى الناس تتلخص بمجي ء بعض الأشخاص أحياناً إلى محضر النبي صلى الله عليه و آله في المسجد ويطرحون دعاواهم، فيستمعون إلى الأجوبة في المكان نفسه ويخرجون راضين بالحلول العادلة.

______________________________

(1) الزلزلة، 4؛ ويس، 65؛ والنور، 24.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 205

وفي الوقت الحاضر أيضاً تصل الجنايات والانحرافات إلى الحد الأدنى في المجتمعات الدينية خاصةً في المناسبات الدينية (من جملتها مناسبة شهر رمضان المبارك).

سادساً: إحياء القيم الروحية

بالرغم من أنّ الوجود الإنساني مركب من مادة وروح أو من جسم وروح، وحياة الإنسان متكونة من جانبين، جانب مادى وجانب معنوي، إلّاأن جميع القوانين في العالم المادي ناظرة إلى القيم المادية، فأي عمل لا يتعارض مع المسائل المادية للمجتمع يعتبر جائزاً ومشروعاً في نظرهم، ويدخل في هذا المضمار تصويب الكثير من القوانين المخزية والتي يبعث ذكرها على الاشمئزاز والتقزز، والحال أنّ هذا الفصل لايوجه ضربة إلى الشخصية الإنسانية المرموقة ويحطها إلى مستوى الحيوان فحسب، بل يُعرض نفس القيم المادية للخطر أيضاً، وذلك لعدم إمكانية الفصل عملياً بين هذين الأمرين.

وانطلاقاً من كون القرآن منسجما مع الخلقة والفطرة الإنسانية فهو يأخذ بالاعتبار كلًا من القيم المادية والمعنوية معاً، فحينما يتطرق في حديثه إلى اختيار الزوجة يقول: «الزَّانِى لَاينَكِحُ الَّا زَانِيَةً او مُشرِكَةً والزَّانِيَةُ لَايَنكِحُهَا الَّا زَانٍ او مُشرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى المُؤمِنِينَ». (النور/ 3)

ويقول أيضاً: «قُلْ لَّايَستَوِى الخَبِيثُ وَالَّطِيبُ وَلَوْ اعجَبَكَ كَثَرةُ الخِبيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا اولِى الالبَابِ لَعلَّكُم تُفلِحونَ». (المائدة/ 100)

من الواضح

إنّ ذكر الخبيث والطيب في هذه الآية إمّا ناظر إلى الطهارة المعنوية وعدمها، وإمّا ناظر على الأقل إلى العموم فيشمل المعنى المادي والمعنوي معا، لذا فإنّ كثرة الأوبئة وانتشار الموبقات لا يمكن أن يكون دليلًا على مشروعيتهم وحقانيتهم.

وتتبلور هذه المسألة أكثر في القوانين والدساتير المرتبطة بالزواج خاصة لأنّه يحدث كثيرا أن يقع كل من الجمال الظاهري والمعنوي على طرفي نقيض، فيقترن جمال الظاهر مع

نفحات القرآن، ج 8، ص: 206

تلوث الباطن، وحسن الباطن مع عدم جمال الظاهر. ففي هذه الحالة يرجحِّ القرآن الكريم الكفة الثقيلة لجمال الباطن وجاذبية الروح والأخلاق والإيمان فيقول: «وَلَا تَنكِحُوا المُشرِكَاتِ حَتَّى يُؤمِنَّ وَلَامَةٌ مُّؤمِنَةٌ خَيرٌ مِّن مُّشرِكَةٍ وَلَو اعجَبَتكُم وَلا تَنكِحُوا المُشرِكِينَ حَتَّى يُؤمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُّؤمِنٌ خَيرٌ مِّن مُّشرِكٍ وَلَو اعجَبَكُم اولَئِكَ يَدعُونَ الَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدعُوا الَى الجَنَّةِ وَالمَغفِرَةِ بِإذنِهِ». (البقرة/ 221)

ومن المؤسف حقّاً هو عدم الاهتمام بالقيم المعنوية في وضع القوانين والمقررات الاجتماعية في عالم اليوم حيث أصبح من العوامل المهمّة للكثير من المآسي والويلات، علاوة على أنّ هؤلاء لا يجدون الطريق إلى هذه القيم في الواقع، لأنّ الاعتراف بهذه القيم لا يتمّ بدون الاستناد إلى رؤية معنوية للكون تقيم وزناً لها وتحتفظ بقيمتها، لذا أصبح العالم المادي عاجزاً عن الوصول إليها، وما يشاهد حالياً في المتون القانونية لعالم اليوم من قبيل حقوق الإنسان مثلًا فهو الآخر عرضة للتفاسير المختلفة دائماً، أو مبرر لتوجيه الابتزازات المادية، وغطاء للتستر على الأهداف اللامشروعة المنافية للأصول المنسجمة مع الإنسانية في كل الحالات.

سابعاً: الاصول الثابتة والمتغيرة

من المعلوم لدينا أنّ مسلمي العالم يعتقدون من خلال ما استلهموه من القرآن والأحاديث الإسلامية المعتبرة أنّ نبي الإسلام هو خاتم الأنبياء، وأنّ الدين الإسلامي هو الدين الخالد، ومع التسليم

بهذا الاعتقاد يبرز هذا السؤال وهو: كيف يمكن الحفاظ على بقاء الأحكام والمقررات الثابتة والخالدة مع حدوث التغييرات المستمرة للحياة الاجتماعية للجنس البشري، وكيف يتم حصول المتطلبات المتغيرة مع وجود قوانين ثابتة؟

إنِّ القوانين القرآنية عالجت هذه المشكلة وذلك من خلال تصنيف القرآن لهذه القوانين

نفحات القرآن، ج 8، ص: 207

إلى صنفين: الصنف الأول منها هي القوانين الكلية التي أصلها ثابت، ومصداقها وموضوعها الخارجي في تغير وتبدل مع مرور الزمن، والصنف الثاني منها هي القوانين الخاصة والجزئية بالاصطلاح وهي غير قابلة للتغيير.

وتوضيح ذلك: يُؤخذ من خلال ما خاطب به القرآن المؤمنين بقوله: «يَاايُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اوفُوا بِالعُقُودِ». (المائدة/ 1)

هذه هي إحدى الاصول العامه السائدة على مرِّ العصور والأزمنة، وإن كان موضوعها ومصداقها في حالة تغير وتبدل، فمثلًا ظهرت مع مرور الزمن سلسلة من الارتباطات الحقوقية الجديدة والاتفاقيات المستحدثة بين أوساط الناس لم يسبق لها وجود في عصر نزول القرآن، فعلى سبيل المثال لم يكن يبدو للعيان شي ء اسمه «التأمين»، أو أنواع الشركات المختلفة في ذلك الزمن، والتي تحققت في عصرنا هذا حسب حصول المتطلبات اليومية، بيدَ أنّ القانون العام الآنف الذكر قد شمل كل هذه الأمور، فأي شكل من أشكال الاتفاقيات والمعاملات الجديدة والعقود والمواثيق الدولية، التي تظهر على مسرح الوجود حسب المتطلبات إلى نهاية العالم وتكون منسجمة مع الاتفاقيات الإسلامية تقع ضمن هذا الشمول، ونجد قسطاً وافراً من هذه القوانين في الإسلام بصورة عامة والقرآن بصورة خاصة.

ولننظر في قوله عزّ من قائل: «وَمَا جَعَل عَلَيكُم فِى الدِّينِ مِن حَرَجٍ». (الحج/ 78)

بناءً على ذلك إذا تعذّر أداء إحدى التكاليف الإسلامية في ظروف خاصة فإنّها تخرج من دائرة الوجوب والإلزام تلقائياً، فيتبدل الوضوء في ظروف قاسية إلى التيمم،

والصلاة من وقوف إلى الصلاة من جلوس، والصلاة من جلوس إلى الصلاة في حالة الاضطجاع، ويتبدل صوم الأداء إلى صوم القضاء، ويرتفع الحج في مثل هذه الظروف.

وقد وردت إشارات إلى «قاعدة لاضرر» في موارد خاصة من آيات قرآنية متعددة تدل على خطر الأمور التي تلحق الضرر والأذى بشكل أو بآخر، ولذلك تحدد وتضيق دائرة

نفحات القرآن، ج 8، ص: 208

الأحكام والمقررات التي بينت على شكل حكم عام حينما تصل إلى موارد الضرر والحرج.

يقول القرآن في موضوع النساء المطلقات: «وَلَا تُضَارُّوهُنَّ». (الطلاق/ 6)

ويقول في موضع آخر: «وَلَا تُمِسكُوهُنَّ ضِراراً». (البقرة/ 231)

ويقول في مورد الوصية: «مِن بَعدِ وَصيَّةٍ يُوصَى بِهَا او دَينٍ غَيرَ مُضَارٍ». (النساء/ 12)

ويقول في مورد الشهود وكتاب السندات: «وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ». (البقرة/ 282)

إنَّ هذه القاعدة المطروحة بشكل أكثر تفصيلا في الروايات الإسلامية تعتبر من القواعد المهمّة التي تقوم بتطبيق الأحكام الإسلامية (من خلال التغيرات الطارئة على الموضوعات)، على الاحتياجات والضروريات الواقعية لكل زمان، وقد تمّ شرح ذلك في كتب «القواعد الفقهية»، وعلى أي حال فإنّ من الشواهد الاخرى لهذا المدعى هي: «قاعدة العدل والانصاف»، وقاعدة: «عدم تكليف مالا يطاق»، وقاعدة: «المقابلة بالمثل»، في المسائل المتعلقة بالجنايات والقصاص والاضرار المالية، وكلها لها جذور قرآنية، وخلاصة الكلام: إنطلاقا من «خاتمية نبوة نبي الإسلام صلى الله عليه و آله وفقاً للآية 40 من سورة الأحزاب» واستمرارية القرآن الكريم، فإنّ القوانين القرآنية طرحت من الدقة بمكان بحيث لم تسنح لظروف الزمان وتحولات الظروف والمتطلبات البشرية التي عفا عليها الدهر وعلاها غبار الزمن الغابر.

وفي الوقت التي كانت تسد الاحتياجات القانونية لعصر النبي صلى الله عليه و آله الذي هو عصر نزول القرآن كانت ناظرة أيضاً إلى الأزمنة والقرون الآتية،

ومن الأمثلة الرائعة والجلية هو مانلاحظه في الآية المتضمنة لمفهوم (إعداد القوى وتعبئتها حفاظاً على بيضة الإسلام والمسلمين: «وَاعِدُّوا لَهُم مَّااستَطَعتُم مِّن قُوّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخَيلِ تُرهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ». (الانفال/ 60)

فمن جهة يضع بصماته على المستلزمات الضرورية لذلك العصر ويتحدث عن الخيول المُجرَّبة، ولكن من جهة اخرى يُنوِّه إلى أصل عام يتوافق مع ذلك العصر، ومع كل عصر

نفحات القرآن، ج 8، ص: 209

حتى قيام الساعة، وهذا الأصل هو تهيئة شتى أنواع القوى والقدرات التي تشمل كافة الوسائل القديمة والحالية والمستقبلية.

وأروع ماورد في هذه الآية هو هذا المعنى: إنّ الغاية من كل هذه الأمور هو إلقاء الرعب في قلوب الأعداء ليقف ذلك حاجزاً دون وقوع الاعتداء والحرب، لا أن يؤدّي ذلك إلى مزيد من إراقة الدماء.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 211

6- الاعجاز الغيبي للقرآن

إشارة وتنبيه:

اشارة

بالرغم من وجود أصول وجذور للحوادث المستقبلية في الماضي والحاضر إلّاأنّه لن يستطيع أحد أن يكشف النقاب بدقّة عن الحوادث المستقبلية، وبالرغم من إرادة الإنسان وعزمه المستمر في التعرف والاطلاع على الحوادث المستقبلية، وبالرغم من المساعي الكثيرة التي بذلها في هذا الطريق، إلّاأنّه لم يصل إلى وسيلة ناجحة ترفع الحجب الكثيفة التي حالت بينه وبين المستقبل.

إنّ الرغبة الشديدة التي يحملها الإنسان للاطلاع على الحوادث المستقبلية هو الذي بعث الحماس والحمية في سوق الكهان والمنجمين وأصحاب الخرافات، بل حتى الذين يقرأون الطالع والفأل، وهؤلاء بدورهم كانوا يستثمرون حالة النهم والولع لدى الناس بالاستفادة من ألاعيبهم وخدعهم الماكرة، ويُسلّونهم بسلسلة من العبارات المبهمة أو الأقاويل المملة التي كان يتمكن كل شخص أن يطبقها على مراده ومقصوده بسهولة، وكانوا يكسبون المنافع والأرباح من هذا الطريق.

وفي يومنا هذا أيضاً تحصل نبوءات كثيرة في عالم السياسة وغيرها من العوالم الاخرى

ترمي الوصول إلى أهداف خاصة غالباً، وهي جزء لايتجزأ من المخطط السياسي للدول، لكن الكثير منها لا يتحقق في الخارج. ويخالف ما هو عليه واقعاً.

والجدير بالذكر إنّ هذه الاقاويل الخاطئة لاتقف مانعاً أمام التنبؤات المستقبلية في مثل هذا النوع من المسائل أيضاً، بيدَ أنّ الحقيقة التي لا يمكن التعتيم عليها هي لو أنّ شخصاً

نفحات القرآن، ج 8، ص: 212

عمد إلى بيان الأمور المستقبلية بدقة وبكل تفاصيلها (لا بصورة طرح المعاني الكلية والبيانات المبهمة والعبارات المتضاربة) فهذا إن دل على شي ء فإنّما يدل على أنّه مطلع على أسرار الغيب بصورة إجمالية، وإذا تكرر وقوع هذا التنبؤ وكان متقارناً مع دعوى النبوة أو الإمامة فحينئذٍ يمكن التعويل عليه بصفته أحد البراهين والأدلة.

من خلال هذه الإشارة نعود مرة اخرى لنبحث أمثلة كثيرة من هذا القبيل في القرآن الكريم:

1- «الَم* غُلِبَتِ الرُّومُ* فِى ادنَى الارْضِ وَهُم مِّن بَعدِ غَلَبِهِم سَيَغلِبُونَ* فِى بِضْعِ سنِينَ لِلهِ الامْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَؤِمئذٍ يَفَرَحُ المُؤمنونَ* بِنَصرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ العَزِيزُ الرَّحيمُ* وَعْدَ اللَّهِ لَايُخِلفُ اللَّهُ وَعدَهُ وَلَكِنَّ اكثَرَ النَّاسِ لَايَعلَمُونَ».

(الروم/ 1- 6)

2- «لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُؤيَا بِالحَقِّ لَتَدخُلُنَّ المَسجِدَ الحَرَامَ انْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحِلّقِينَ رُؤسَكُم وَمُقَصِّرِينَ لَاتَخَافُونَ فَعَلِمَ مَالَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحَاً قَرِيبَاً».

(الفتح/ 27)

3- «وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَاخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ ايدِىَ النَّاسِ عَنكُم وَلِتَكونَ آيَةً لِّلمُؤمِنيِنَ وَيَهدِيَكُم صِرَاطًا مُّستَقِيًما* وَاخرَى لَمْ تَقدِرُوا عَلَيهَا قَدْ احَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَى ءٍ قَديراً». (الفتح/ 20- 21)

4- «امْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنَتصِرٌ* سَيُهزَمُ الجَمعُ وَيُوَلُّونَ الدُبُر». (القمر/ 44- 45)

5- «وَاذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ احدَى الطَّائِفَتينِ انَّهَا لَكُم وَتَوَدُّونَ انَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ ويُرِيدُ

اللَّهُ ان يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقطَعَ دَابِرَ الكَافِرِينَ* لِيُحِقَّ الحَقَّ وَيُبِطلَ البَاطِلَ وَلَو كَرِهَ الُمجرِمُونَ». (الانفال/ 7- 8)

6- «انَّ الَّذِى فَرَضَ عَلَيكَ القُرآنَ لَرَادُّكَ الَى مَعَادٍ». (القصص/ 85)

7- «تَبَّتْ يَدَا ابِى لَهَبٍ وَتَبَّ* مَا اغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ* سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ».

(تبت/ 1- 3)

نفحات القرآن، ج 8، ص: 213

8- «انَّا اعْطَيْنَاكَ الكَوْثَرَ* فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ* انَّ شَانِئَكَ هُوَ الابْتَرُ».

(الكوثر/ 1- 3)

9- «لَنْ يَضُرُّوكُم الَّا اذًى وَانْ يُقَاتِلُوكُم يُوَلُّوكُم الادبَارَ ثُمَّ لَايُنصَرُونَ».

(آل عمران/ 111)

10- «ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِلَّةُ ايْنَ مَاثُقِفُوا الَّا بِحَبْلٍ مِّنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ». (آل عمران/ 112)

1- الأخبار عن هزيمة الأعداء في اقل من عشر سنين

في الآية الاولى إخبارٌ عن هزيمة الروميين «غُلِبَتِ الرُّومُ»، ثم يتحدث بعد ذلك عن محل وقوع هذه الحادثة فيقول: «فِى أَدْنى الأَرْضِ»، والمقصود منها أراضي الشام بحد ذاتها أي (المنطقة الواقعة بين بُصرى واذْرُعات)، وهي داخلة ضمن دائرة الروم الشرقية، وكانت تعتبر من المناطق القريبة بالنسبة إلى سكان الجزيرة العربية.

وقد وقعت هذه الحرب بحسب ماورد عن بعض المؤرخين المعاصرين في عهد «خسرو برويز» وهي حرب طويلة الأمد دارت رُحاها بين الفرس والروم في حدود عام 617 ميلادي، حينما قام اثنان من القادة الايرانيين المعروفين، وهما «شهر بُراز» «1» و «شاهين» بمهاجمة أراضي امبراطورية الروم الشرقية، وتمكّنا من إلحاق هزيمة مرة بجيش الروم، وكانت منطقة الشامات ومصر وآسيا الوسطى مسرحاً لهذه العمليات، وقد آلت امبراطورية الروم أثر هذه العمليات إلى السقوط والانقراض بعد الهزيمة النكراء التي لحقت بها، وقد استولى الايرانيون على كل ما بسط الروم نفوذهم عليه في منطقة آسيا ومصر، وقد وقعت هذه الحرب في حدود السنة السابعة لبعثة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله.

______________________________

(1) اسمه فرّخان، قائد ايرانى حارب الروم في زمان خسرو برويز

واستولى على مصر سنة 616 ميلادي، معجم دهخدا- مادة (براز).

نفحات القرآن، ج 8، ص: 214

وفرح أعداء الإسلام والمشركون في مكة بهذه الواقعة وتفاءلوا بها خيراً واستدلوا على حقانية أهل الشرك فقالوا: إنّ الايرانيين «مجوس» ومشركون و «وثنيون» أمّا الروميون فهم مسيحيون أهل كتاب، فكما تغلب الايرانيون على الروميين، سيكون النصر حليفنا أيضاً نحن المشركين، وستطوى صحيفة حياة محمد صلى الله عليه و آله وتكون الغلبة لنا ولمعتقداتنا.

إنّ هذا النوع من الاستنتاج والتفاؤل وإن لم يستند إلى أي قاعدة منطقية، إلّاأنّه لم يخل من تأثير إعلامي في أوساط ذلك المحيط، ولهذا السبب كان تأثيره شديد الوطأة على المسلمين.

ويضيف القرآن تعقيباً على الآية السابقة: اعلموا أنّ هذه الغلبة للفرس لا تدوم زمناً طويلًا «وَهُم مِّن بَعدِ غَلَبِهِم سَيَغلِبُونَ» أي الروم، ثم يشير إلى الجزئيات بعد ذلك بقوله:

«فِى بضِع سنِيِنَ للَّهِ الامرُ مِّن قَبلُ وَمِن بَعدُ وَيؤمئذٍ يَفْرَحُ المُؤمِنونَ».

إلّا أنّ هذا الفرح والسرور ليس قائماً على أساس التفاؤل بالخير بالنسبة لغلبة الإسلام على الشرك فحسب، بل السبب الأساسي لغبطتهم هذه هو حصولهم على المدد الإلهي (بالنصرة على مجموعة من الأعداء في محيطهم الداخلي) «بِنَصرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَ العَزِيزُ الرَّحِيمُ».

ومن أجل ترسيخ هذا المعنى أكثر، وازالة أي لون من ألوان الشك والتردد، يقول تعالى

«وَعْدَ اللّهِ لايُخلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ اكْثَرَ النَّاسِ لَايَعلَمُونَ».

إنّ هذا التنبؤ العجيب المشتمل على ذكر الجزئيات، والذي يخبر عن أحد المسائل العسكرية والسياسية المهمّة، كيف يمكن له أن يتحقق بدون الإحاطة بأسرار الغيب؟

فمن جهة يخبر عن أصل وقوع الانتصار للروميين المندحرين الذين وصل بهم الاحباط والهزيمة إلى حد الانقراض وفقدوا مساحة شاسعة من أرض بلادهم، ولم يعد هناك أمل بأنّ يستعيدوا قواهم ويثبتوا كيانهم بهذه السهولة،

ومن جهة اخرى يصرح بأنّ هذا الأمر سيتحقق في بضعة أعوام.

ويضيف على ذلك بقوله: إنّ هذا سيقترن بنصر آخر للمسلمين على الكفار، وفضلًا عن

نفحات القرآن، ج 8، ص: 215

ذلك كله يؤكد تأكيداً قاطعاً على أنّ هذا الوعد الإلهي حتمي الوقوع وا نّ اللَّه لن يخلف وعده.

ونرى أنّ هذا الوعد تحقق فعلا بكل جزئياته، فقام ملك الروم «هرقل» بإلحاق الهزيمة تلو الهزيمة بمعسكر «خسرو برويز» في سنة 626 م أي بعد 9 سنوات تقريباً حيث كانت نتائج هذه الحروب لصالح الروميين إلى سنة 617 م وحققوا النصر الكامل والشامل، وأصيب «خسروبرويز» بالفشل الذريع فأزاحه الايرانيون من على دسدّة الحكم وأجلسوا مكانه ابنه «شيرويه».

خلاصة الكلام: إنّ هزيمة الروميين وقعت في سنة 617 م الموافق للسنة السابعة للبعثة النبوية الشريفة، واستعاد الروميون نصرهم من جديد في سنة 626 م حينما ألحقوا الهزيمة «بالجيش الساساني»، ووصلت هذه الهزيمة إلى أوجها في السنة القادمة أي (سنة 627 م) ذلك أن هرقل زحف إلى «دستجرد» الواقعة على بعد عشرين فرسخا من «تيسفون» عاصمة ايران وموطن «خسرو برويز»، واندحر «خسرو برويز» ولاذ بالفرار، وعُزل على أثرها من مقام السلطة ممّا أدى ذلك إلى قتله، ونجد أنّ الفاصلة بين هذين لم تتجاوز التسع سنوات، وهو مطابق تماماً لمعنى «بضع سنين»، لأنّ «البضع» في قاموس اللغة وعلى حد قول الراغب في المفردات: هو بمعنى حصة من العدد عشرة، فكل مايقع بين الثلاثة والعشرة يقال له: بضع، وقال البعض: إنّ البضع يطلق على العدد الذي يكون أكثر من خمسة وأقل من عشرة.

وجاء في معجم مقاييس اللغة أيضاً أنّ «البضع» هو العدد الذي يقع بين الثلاثة والعشرة.

وممّا تجدر الإشارة إليه أنّ هذه النبوءة أصبحت من الأمور

المتعارفة والمسلَّمة لدى المسلمين حتى كان البعض منهم على استعداد لأنّ يراهن على هذه المسألة مع المشركين في مكة، وتحقق هذا الرهان بالفعل، وفي بداية الأمر وقع الرهان على خمس سنوات، ولما لم يتغير من الأمر شي ء جاءوا إلى النبي وأخبروه بحقيقة الأمر، وما جرى عليهم مع المشركين، فقال لهم: كان ينبغي عليكم أن تحاوروهم على أقل من عشر سنوات،

نفحات القرآن، ج 8، ص: 216

وهكذاحصل وتحقق النصر بعد الهزيمة في أقل من عشر سنوات.

ومن النكات المهمّة الاخرى هي اقتران هذا النصر بانتصار المسلمين في «معركة بدر» لأنّ معركة بدر وقعت في السنة الثانية للهجرة، والمقطع الزمني الفاصل بين السنة السابعة للبعثة والسنة الثانية للهجرة هو تسع سنوات- هذا إذا ما أخذنا في الاعتبار نفس السنة السابعة أيضاً وبدونها تكون الفاصلة بينهما ثمان سنوات.

من هنا كان انتصار الروميين وانتصار المسلمين متقاربين، وفي الواقع إنّما فرح المسلمون لأمرين، الأول: هو الذي حققه أهل الكتاب أي الروميّون على المجوسيين الذي كان أحد مشاهد انتصار العبودية لله تعالى على الشرك، في الوقت الذي كانت هزيمة الروم مدعاة لارتياح مشركي مكة وغبطتهم، والآخر: هو ما حققوه من انتصار كبير على المشركين في معركة بدر.

2- التنبوء عن نصرين هامين آخرين

تكشف الآية الثانية- في هذا البحث- الستار عن اثنين من الحوادث المهمّة الآخرى المرتبطة بمستقبل المسلمين. الحادثة الاولى تكشف عن هذه الحقيقة للمسلمين وهي:

إنّكم ستدخلون المسجد الحرام وتقيمون هذه الشعائر الكبرى في منتهى الأمن والآمان في المستقبل القريب بالرغم ممّا يحمله المشركون من رفض واعتراض على دخول المسلمين إلى المسجد الحرام وأدائهم لمناسك الحج والعمرة، والاخرى تبيّن هذه الحقيقة لهم وهي:

إنّ النصر الحقيقي سيكون حليفكم قبل ذلك.

يقول عزّ من قائل: «لَقَد صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُؤيَا بِالحَقِّ لَتَدخُلُنَّ

المَسجِدَ الحَرَامَ ان شَاءَ اللَّهُ آمِنيِنَ مُحَلّقِيِنَ رُوسَكُم وَمُقَصِّرِينَ لَاتَخَافُونَ فَعَلِمَ مَالَمْ تَعلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحَاً قَرِيبَاً».

تخبر هذه الآية عن أنّ النبي رأى في منامه رؤيا تعبّر عن أنّ المسلمين سيدخلون

نفحات القرآن، ج 8، ص: 217

المسجد الحرام آمنين لأداء مناسك الزيارة لبيت اللَّه.

كان البعض يتصور أنّ هذه الرؤيا ستتحقق مباشرة في السنة نفسها، فعندما توجه المسلمون إلى مكة للزيارة واعترض طريقهم مشركوا مكة في الحديبية (وهي القرية التي تقع مسافة 20 كيلومتر عن مكة واشتق اسمها من البئر أو الشجرة الموجودة فيها) ممّا أدّى ذلك إلى التوقيع على اتفاق الصلح المعروف بصلح الحديبية، عندئذٍ أخذ البعض يراوده الشك والتردد في أن لا تكون لهذه الرؤيا مصداقية، على مستوى الواقع، حتى أنّهم بدأوا يسألون النبي صلى الله عليه و آله في هذا المجال عن السبب وراء عدم تحقق هذه الرؤية الرحمانية؟ فأكد لهم النبي صلى الله عليه و آله على أنّه لم يقل: إنّ ذلك يتحقق في هذه السنة وإنّما قصد وقوعه في المستقبل القريب، في هذه الأثناء نزلت الآية المذكورة وأول ما أكدت عليه هو صدق هذه الرؤيا، ثم أشارت بعد ذلك إلى الجزئيات وقالت: إنّكم ستدخلون المسجد الحرام قريباً وتؤدّون مناسك الحج بكل حرية واطمئنان، كما أنّ النصر سيكون حليفكم قبل أداء هذه المناسك، وتحققت هذه النبوءة وفقاً لما ذكرها جميع المؤرخين، واستطاع جمع غفير من المسلمين أن يؤدّوا مناسك العمرة في السنة التالية لواقعة «الحديبية» وهي (السنة السابعة للهجرة)، وسميت هذه المناسك (عمرة القضاء) لأنّها في الواقع قضاء للعمرة التي أراد الجميع أن يؤدّوها في السنة الماضية.

نخرج من كل ما قيل سابقاً بهذه النتيجة: أنّه قد تمّ الاعلان بقوة وحزم في هذا

المقطع من الآيات عن مسألة غير متوقعة الحدوث، والتي كانت مورداً من موارد مثار الاختلاف ونزاع شديد بين المسلمين والمشركين، كما اشير فيها إلى التفاصيل أيضاً بالإضافة إلى ماحصل من تنبّؤ عن اقتران ذلك بنصر آخر للمسلمين، وهذا في حد ذاته بيان مضاعف فيما يرتبط بهذا التنبّؤ الهام.

هناك بحث ونقاش بين المفسرين حول المقصود «بالفتح القريب» فقد تحققّ للمسلمين على مقربة من هذه الواقعة، أحدهما هو صلح الحديبية الذي كان من دواعي الانفتاح، والآخر هو «فتح خيبر» الذي تحقق في أوائل السنة السابعة للهجرة، أي بعد واقعة الحديبية

نفحات القرآن، ج 8، ص: 218

بعدّة أشهر، والظاهر أنّ «الفتح القريب» هو إشارة إلى الواقعة الثانية كما ذهب إليه الكثير من المحققين على أساس قوله تعالى «مَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيَماً».

(الفتح/ 19)

صحيحٌ أنّ للغنيمة مفهوماً واسعاً وشاملًا لكل أنواع الغنيمة المادية والمعنوية، ولكن المتبادر في مثل هذه الموارد هو معنى الغنائم الظاهرية في الأعم الأغلب، وممّا نعلمه أنّ الغنائم الظاهرية كانت موجودة في «فتح خيبر» لا في صلح الحديبية.

إذن، يمكن الخروج بهذه النتيجة بوضوح وهي: إنّ مثل هذه التنبؤات الدقيقة، والصادرة بكل قاطعية وجدية، وبدون أن يشوبها الاحتمال والتردد، لايمكن أن تتأتى إلّامن خلال الارتباط بعالم الغيب.

3- الغنائم الكثيرة في المستقبل

يخبر القرآن في الآية الثالثة- تعقيباً على قضية «صلح الحديبية» وما تنبَّأ به من «عمرة القضاء» و «فتح خيبر»- عن فتوحات اخرى متتالية وحائزة على غنائم وافرة فيقول:

«وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَاْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ ايِدىَ النَّاسِ عَنْكُم وَلِتَكُونَ آيَةً لِلمُؤمِنينِ وَيَهْدِيَكُم صِرَاطاً مُّستَقِيماً».

ثم يضيف إلى ذلك قائلًا: «وَاخَرى لَم تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ احَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كلِّ شَى ءٍ قَدِيراً».

في هذه الآيات ورد الإخبارُ عن انتصارين على الأعداء

مع الحصول على غنائم كثيرة، أحدهما قصير المدى والآخر بعيد المدى

تلك الغنائم والفتوحات التي عجز عنها المسلمون بحسب الظاهر قد جعلها اللَّه في اختيارهم وطوع إرادتهم بحوله وقوته الكاملين.

وثمة نقاش واختلاف بالرأي بين المفسرين في تحديد نوعية الغنائم والفتوحات، فقد

نفحات القرآن، ج 8، ص: 219

ذهب الكثير منهم إلى أنّ المقصود من الغنائم التي يحظى بها المسلمون في فترة قصيرة هي «غنائم خيبر»، وإن احتمل البعض أنّها إشارة إلى «الغنائم المعنوية لصلح الحديبية»، إلّاأنّ هذا الاحتمال ضعيف كما قلناه سابقاً.

وأمّا في صدد الغنائم طويلة الامد فقد ذهب الكثير من المفسرين إلى أنّها إشارة إلى «غنائم حرب حنين» وقبيلة «هوازن» «1» و «2».

واحتمل البعض أيضاً أنّها إشارة إلى الفتوحات الكبيرة القادمة نظير فتح بلاد ايران والروم واليمن، وبالرغم من أنّ فتح حنين والحصول على غنائم قبيلة هوازن لم يكن مستبعدا من قبل المسلمين، إلّاأنّ التوصل إلى فتح «ايران والروم» وما شابهها كان بالنسبة إليهم أمراً شاقاً وبعيد المنال، ولهذا حينما أعطى النبي صلى الله عليه و آله البشارة وفقاً لرواية معروفة بفتح ايران والروم واليمن في حرب الخندق بدأ المنافقون يسخرون من ذلك، والسبب في ذلك يعود إلى عدم إمكان تحققه من ناحية الاسباب الظاهرية، لكن اللَّه تعالى القادر على كل شي ء هو الذي جعل الوصول إلى هذه الفتوحات، والحصول على الغنائم الثمينة قيد الإمكان والتحقق، فكشف الستار عنها قبل التوصل إليها بسنين طويلة، وبيّنها بشكل تنبؤ صادق في الآيات المتقدمة، فيا ترى هل يمكن حصول هذه التنبؤات بدون الارتباط بعالم الغيب؟

4- التنبّؤ بالهزيمة الساحقة للاعداء

في المقطع الرابع نقف على صورة اخرى للتنبؤ.

نزلت هذه الآيات في مكة عندما كان اعداء الإسلام يسرحون ويمرحون في أوج قدرتهم، في حين كان المسلمون

في غاية الضعف وقلة العدد.

______________________________

(1) اشير إليه في تفاسير مجمع البيان؛ الكبير للفخر الرازي؛ وروح المعاني؛ والميزان.

(2) إنّ غنائم حنين كانت عظيمة حتى أنّ البعض قدرها ب 24 الف ناقة و 40 الف شاة ومقادير كثيرة من الفضة (تفسير روح البيان ج 9، ص 42؛ منتهى الآمال ج 1، ص 65).

نفحات القرآن، ج 8، ص: 220

وكان الأعداء يفتخرون بقدرتهم وشوكتهم ويقولون: نحن جماعة قوية ومتحدة وسننتقم من مناوئينا وننتصر عليهم: «ام يَقُولُونَ نَحنُ جَمِيعٌ مُّنْتصِرٌ»، إلّاأنّ القرآن يعقب على ذلك مباشرة بقوله: «سَيُهْزَمُ الجَمعُ وَيُولُّونَ الدُّبُرَ».

إنّ من المسلم هو عدم إمكان حصول التوقع والحدس بالانتصار السريع للمسلمين وكسر شوكة أعداء الإسلام في ذلك الزمان، إلّاأنّه لم تمرّ فترة قصيرة من الزمن حتى هاجر المسلمون وعظمت قدرتهم وشوكتهم بحيث إنّهم وجهوا ضربة قوية ومباغتة إلى نحور الأعداء في أول اصطدام من نوعه مع الأعداء في ساحة معركة بدر.

والجدير بالذكر أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله في يوم بدر كما جاء عن ابن عباس بدأ بالدعاء في خيمته ومن ضمن ما كان يدعو به أنّه صلى الله عليه و آله كان يقول: (اللّهم أقسم عليك بالعهد الذي عاهدته معنا»، ثم لما خرج بلامة الحرب من الخيمة ودخل ساحة القتال تلا هذه الآية: «سَيُهَزمُ الجَمعُ وَيُولُّونَ الدُّبُرَ» أي أنّ الوعد الإلهي سيتحقق هذا اليوم «1».

وبطبيعة الحال فقد استمرت هزائم الأعداء ونكوصهم على اعقابهم مراراً وتكراراً، ولم تمر أعوام حتى اذعنت «شبه الجزيرة العربية» كافة- فضلًا عن كفار مكة- بالتسليم والانقياد للمسلمين.

ونقل في تفسير القرطبي عن بعض المفسرين: إنّ هذه الآية نزلت في ميدان معركة بدر، في حين أنّ المعروف والمشهور هو نزول سورة القمر بأجمعها في مكة،

والظاهر أنّ منشأ الاشتباه راجع إلى نفس ما تقدمت الإشارة إليه بأنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله كرر هذه الآية في ساحة بدر، فكانت إشارة واضحة إلى تحقق الوعد الإلهي في ذلك اليوم، لهذا ظن البعض أنّ الآية نزلت في ذلك المكان، على كل حال فهذه هي احدى التنبؤات القاطعة للقرآن التي تحققت على حين غرة في فترة قصيرة.

______________________________

(1) نقل هذا الحديث عن صحيح البخاري عن ابن عباس في تفسير في ظلال القرآن، ج 7، ص 657 «مع التلخيص».

نفحات القرآن، ج 8، ص: 221

5- نبوءة اخرى عن الانتصار في معركة بدر

يدور الكلام في الآية الخامسة عن أحد الوعود الصريحة بالنصر الذي منَّه اللَّه على المؤمنين من قبل، يقول عز من قائل: «وَاذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ احدَى الطَّائِفَتِينِ انَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ انَّ غَيرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ انْ يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيقْطَعَ دَابِرَ الكَافِرِينَ».

ثم يضيف على ذلك بقوله: «لِيُحِقَّ الحَقَّ وَيُبطِلَ البَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الُمجرِمُونَ».

وتوضيح ذلك أنّ «أبو سفيان» سيد مكة وزعيم المشركين كان في حال عودته من الشام على رأس قافلة كبيرة تحمل معها بضائع تجارية تقدر بخمسين الف دينار كانت تتعلق به وبجماعة من أساطين مكة وأكابرها.

وأصدر رسول الإسلام صلى الله عليه و آله أمرا إلى أصحابه بأن يعدوا أنفسهم للهجوم على القافلة، وذلك لتحطيم جزء من القدرة الاقتصادية للأعداء عن طريق مصادرة أموالهم لأنّهم لم ينفكوا لحظة واحدة في اظهار العداء للمسلمين وإيجاد العراقيل.

اطلع أصحاب «أبو سفيان» في المدينة على هذه القضية ممّا حدا بهم إلى ايصال الخبر إلى مسامع أبي سفيان.

فلما علم بذلك اسرع في إرسال أحد الأشخاص إلى مكة ليطلعهم على الخطر الكبير الذي يهدد أموالهم وممتلكاتهم، ولم تمضِ إلّافترة قصيرة حتى تحركت رجالات قريش وقواتها

مع سبعمائة بعير ومائة فارس، وكان يقود عسكرهم أبو جهل، وقد حملت هذه المسألة على محمل كبير من الجد والخطورة بحيث أخذ زعماء مكة يهددون بهدم بيت كل من يستطيع الالتحاق بجبهة الحرب ثم يمتنع عن ذلك.

من جانب آخر سلك أبو سفيان طريقا آخر لينجو من قبضة المسلمين وأخذ يسير في طريق مجهول لكي يبعد نفسه عن مواطن الخطر.

ووصل «نبي الإسلام» مع أصحابه البالغ عددهم 313- مع عدّة وعتاد حربي بسيط ولكن بقلوب مملوءة بالايمان والعزم والإرادة- على مقربة من منطقة بدر أحد المنازل القريبة الواقعة بين مكة والمدينة، وجاءه الخبر هناك بتحرك جيش قريش المسلح من مكة

نفحات القرآن، ج 8، ص: 222

إلى المدينة، فبدأ يشاور أصحابه في ذلك المكان وما يرتأونه من ملاحقة القافلة التجارية أو الوقوف بوجه معسكر الأعداء، فوافق البعض على مواجهة الأعداء إلّاأنّ البعض الآخر كان يميل باطنياً إلى ملاحقة القافلة والسبب في ذلك يعود إلى أنّهم لا يجدون في أنفسهم الاستعداد الكافي لمواجهة القدرة العسكرية الهائلة للأعداء.

لكن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله اختارالمسلك الصحيح وأصدر أمراً بالتحرك باتجاه العدو، ووصل الجيش الإسلامي إلى ناحية بدر (وبدر هو اسم لبئر في تلك المنطقة من الأرض نسبة إلى صاحبها الأصلي المسمى بهذا الاسم، اطلق على جميع هذه الأرض بعد ذلك).

إنَّ الآية السابقة ناظرة إلى هذه الواقعة حيث تقول: إنّ اللَّه وعدكم أن تكون احدى الطائفتين (جيش قريش أو قافلتهم التجارية) من نصيبكم، إلّاأنّكم أحببتم الحصول على الطائفة غير المسلحة أي القافلة التجارية، لكن اللَّه يريد اظهار الحق والقضاء على الكافرين.

لذا خاطب النبي المسلمين في ذلك الموضع أنّ اللَّه تعالى قد وعدنا أن تكون احدى الطائفتين لنا وسنتحرك باتجاه جيش الأعداء، وسننتصر عليهم

وأننا سنشاهد بأعيننا مصرع «أبي جهل» ومحل قتله ....

وتحقق هذا الوعد كما أراده اللَّه ورسوله حيث اشتبك الجيشان مع بعضهما البعض، وبعد حرب طاحنة وتضحيات جسيمة وردت تفاصيلها في مجمل التواريخ الإسلامية، انتصر المسلمون وهزم مشركو مكة هزيمة مُرّة بحيث خلّفوا وراءهم سبعين قتيلًا، وسبعين أسيراً، ولاذ الباقون بالفرار.

وقعت هذه الحرب في اليوم السابع عشر لشهر رمضان المبارك في السنة الثانية للهجرة، وتركت تاثيراً بالغاً جدّاً في مسيرة التاريخ الإسلامي، بحيث إنّ مجاهدي بدر كانوا يعدونها دائماً من أمجادهم ومآثرهم العظيمة.

هنا يطرح هذا التساؤل وهو: هل كان من المتوقع وفقا للمقاييس الاعتيادية أن يتحقق مثل هذا النصر للمسلمين بشكل أو بآخر؟ والجواب عن ذلك، كلا لأنّه:

نفحات القرآن، ج 8، ص: 223

أولًا: لم يتحرك المسلمون بنية القتال ومن الطبيعي لم تكن في حوزتهم العدة والعتاد الكافي، لأنّهم كانوا بهدف الاستيلاء على القافلة فاذا بهم يباغتون بجيش جرار ومسلح من قريش (طبعاً في مقياس ذلك الزمان).

ثانياً: من جهة الموازنة بين القوى فقط كان المسلمون يعيشون في وضع سي ء في الظاهر فقد كان عدد أفراد جيش العدو يفوق عدد أفراد المسلمين بثلاثة أضعاف، وكانت في حوزتهم الخيول والجمال الكثيرة والمستلزمات الحربية الكافية، في حين كان المسلمون يمتلكون فارسين فقط، وكانت عدتهم الأساسية تتكون من 70 ناقة يركبها كل واحد منهم بالتناوب.

ثالثاً: كان يوجد هناك أفراد أقوياء وشجعان بين صفوف جيش قريش، وكان الوازع والدافع النفسي للحرب ناشئاً من احساسهم بأنّهم لا يرون أنّ أموالهم وثروتهم هي المعرضة للخطر فحسب، بل كل شي ء يمتلكونه هو معرض للخطر أيضاً.

لكن بالرغم من ذلك كله فإنّ اللَّه وعد المسلمين بالنصر وفقاً للآية الصريحة التي تقدم ذكرها، وأكّد النبي على ذلك تأكيداً بالغاً أيضاً.

والجدير

بالذكر أنّه قد ظهرت على مدار هذه الحادثة قضايا مختلفة عبرت عن وجود «امدادات غيبية» من جملتها أنّ المسلمين غطوا في نوم هادي ء في ليلة وقعة بدر بحيث أعدتهم وعبأت قواهم ليوم المنازلة، كما هطل المطر من السماء ليغتسلوا ويتطهروا ممّا هم عليه، ثم لتصبح الأرض الرخوة التي يصعب التحرك عليها صلبة ومتماسكة وصالحة للنزال، وهذا هو ما أشارت إليه الآيات اللاحقة بالقول: «اذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ امَنَةً مِّنهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَآءً لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيَطانِ وَلِيَربِطَ عَلَى قُلُوبِكُم وَيُثَبِّتَ بِهِ الَاقدَامَ». (الانفال/ 11)

ملخص الكلام أنّه يتضح جيداً من مجموع الآيات المتعلقة بملحمة بدر في القرآن الكريم مدى الاضطراب والتزلزل الروحي لدى بعض المسلمين من تزايد أفراد العدو وقدراته العسكرية وتفوقهم على المسلمين، لذلك كان من الطبيعي جدّاً التنبوء بهزيمة

نفحات القرآن، ج 8، ص: 224

المسلمين، لكن على الرغم من كل هذه القرائن يقول القرآن: لقد وعد اللَّه المسلمين بالنصر من قبل وانتصروا في نهاية المطاف.

قد يقال: إنّ هذه الآيات نزلت بعد الانتصار في بدر كما يعبر عنه لحنها وسياقها، وعليه لا يمكن اعتبارها جزءً من التنبؤات القرآنية، إلّاأنّ الاجابة عن هذا الإشكال تتضح من خلال الدقّة والتأمل في نفس هذه الآيات، لأنّ القرآن يقول بصراحة: إنّ الوعد بالنصر قد جاءكم من قبل ثم تحقق هذا الوعد بعد ذلك.

6- الوعد بالعودة

في الآية السادسة وهي- الآية 85 من سورة القصص- وعد اللَّه تعالى نبيّه بالعودة إلى الحرم الإلهي الآمن، وقد جاء هذا الوعد في أصعب أيّام حياة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، أي في الوقت الذي أراد أن يكسر طوق حصار الأعداء الحاقدين ويخرج من ضيق خناقهم ويهاجر من مكة إلى المدينة.

وقد قام بهذا

العمل واتجه صوب المدينة ولما وصل إلى منطقة الجحفة التي لا تبعد عن مكة إلّاقليلًا تذكر موطنه الحرم الإلهي الآمن، وبدت على ملامح وجهه آثار هذا الشوق الممتزج بالحزن والاسى وفي هذا الأثناء نزلت الآية الآنفة الذكر، وأبلغ على هذا النحو:

«انَّ الَّذِى فَرَضَ عَلَيْكَ القُرآنَ لَرَادُّكَ الَى مَعَادٍ».

إنّ التنبوء بعودة النبي إلى مكة بصورة صريحة وقاطعة غير وارد في تلك الظروف الحرجة والعصيبة عادة خصوصاً مع اقترانها بنزول القرآن وبأنّ اللَّه المنزل للقرآن سيقوم بهذا العمل قطعاً، لكننا نعلم أنّ هذا الوعد الإلهي تحقق في النهاية، وعاد النبي صلى الله عليه و آله مع جيشه القوي المقتدر إلى مكة منتصراًبعد عدّة سنين، وانضم الحرم الإلهي الآمن تحت راية الإسلام بدون أي قتل وقتال، وهذه هي احدى النبوءات الاعجازية للقرآن التي أخبر فيها عن المستقبل بصورة صريحة وقاطعة، وبدون أي قيد أو شرط، هذا في الوقت الذي لم

نفحات القرآن، ج 8، ص: 225

تظهر فيها القرائن والعلائم على تحقق النصر اطلاقاً.

يقول المرحوم الطبرسي في مجمع البيان: «في الآية دلالة على صحة النبوة لأنّه أخبر به من غير شرط ولا استثناء وجاء المخبر مطابقاً للخبر» «1».

ويقول الفخر الرازي في تفسيره أيضاً: «قال أهل التحقيق: وهذا أحد ما يدل على نبوته صلى الله عليه و آله لأنّه اخبر عن الغيب ووقع كما أخبر» «2».

واحتمل البعض في هذا المقام أنّ المراد من «المعاد» هو معاد يوم القيامة، وهذا الاحتمال ضعيف كما نقل المحققون القول عن المفسرين، لأنّ المعاد لايختص بنبي الإسلام حتى يوجه الخطاب إليه فقط، بالإضافة إلى أنّ كلمة «لرادك» لاتتناسب نوعا ما مع معاد يوم القيامة، لأنّ العودة إلى مكان ما هي فرع الخروج منه.

كما أنّ الاستناد إلى

نزول القرآن في جملة: «انَّ الَّذِى فَرَضَ عَلَيكَ القُرآنَ» التي وردت قبله، وكذلك جملة: «قُلْ رَبّىِ أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالهُدَى وَمَنْ هُوَ فِى ظَلَال مُّبِينٍ» التي وردت بعده، كلاهما قرينة على أنّ الحديث يدور حول حقانية نبي الإسلام والقرآن، لا حول مسألة المعاد في يوم القيامة، فضلًا عن أنّ هذا التفسير لا يلتئم مع شأن نزول الآية أيضاً.

بالإضافة إلى لفظة «المعاد» على مانقله المرحوم الطبرسي عن القتيبي هو بلد الإنسان ووطنه (معاد الرجل بلده»، لأنّه أينما يذهب يعود من حيث ذهب.

وتجدر الإشارة إلى أنّ كلمة «المعاد» وردت مرّة واحدة في القرآن الكريم وذلك في هذا الموضع الذي هو بمعنى مسقط الرأس والموطن.

7- لن ينال الإيمان أبداً

يدور الحديث في الآية السابعة حول أحد المشركين المعروفين وهو «أبو لهب» عم

______________________________

(1) تفسير مجمع البيان، ج 7 و 8، ص 269 في ذيل الآية مورد البحث.

(2) تفسير الكبير، ج 25، ص 21 في ذيل الآية مورد البحث.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 226

النبي، وابن عبد المطلب، وهو الشخص الوحيد الذي ورد ذكره في القرآن من بين مشركي مكة، وأكد على أنّه من أهل النار وفيه إشارة واضحة إلى أنّه لن يؤتى الإيمان أبداً، يقول عزّ من قائل: «تَبَّتْ يَدَا ابِى لَهَبٍ وَتَبَّ* مَااغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ* سَيَصْلَى نَارَاً ذَاتَ لَهَبٍ».

وبالرغم من أنّ أبا سفيان كان عدواً خطيراً لكنه آمن إيماناً ظاهرياً في نهاية الأمر، وآمن الكثير من الأفراد الخطرين والمجرمين إيماناً ظاهرياً أمثال «وحشي» قاتل حمزة.

إنَّ هذا التنبوء القاطع عن مصير شخص ك (أبو لهب) لم يكن يتأتى من الطرق العادية، فهذه النبوءة القرآنية لا تتأتى إلّامن طريق الاعجاز.

إنّ الكثير من مشركي مكة آمنوا إيماناً واقعياً، والبعض آمن إيمانا ظاهرياً، لكن من

الذين لم يؤمنوا لا في الواقع ولا في الظاهر هو: أبو لهب وزوجته «ام جميل» شقيقة أبي سفيان، وقد صرح القرآن بوضوح أنّهما لن يؤمنا أبداً، وهذه من الأخبار الغيبية للقرآن الكريم.

كيف يتأتى للقرآن أن يتحدث عن جهنمية شخص ما يمكن له أن يقف إلى جانب المسلمين في نهاية الأمر، أو يتظاهر بالاسلام على الأقل إذا لم يكن صادراً من عند اللَّه تعالى

يدعى أبو لهب «عبد العزى (وعزى هو اسم لأحد الأصنام الكبيرة للعرب)، وكنيته: أبو لهب ولعل اختياره لهذه الكنية عائد إلى كونه ذا وجه يطفح بالحمرة والشرر، ولا ريب في أنّ هذه الآيات نزلت في زمن حياة أبي لهب، ولذا يقول: «تبت يدا أبي لهب»، وما نقله أغلب المفسرين عن شأن النزول يدل كذلك على أنّ هذه المسألة حدثت في حياته، وذلك حينما أمر النبي بأنّ يدعو عشيرته الاقربين إلى الإسلام ويحذرهم من الكفر والشرك، في تلك الأثناء صعد النبي إلى قمة جبل من جبال مكة يدعى ب (جبل صفا) ونادى ياصياحا، (و هذه الجملة لا تستخدم إلّاحين الهجوم المباغت للعدو) فظن أهل مكة أنّ هناك هجوماً عدوانيا على مكة من الخارج، فلما اجتمعوا عند النبي صلى الله عليه و آله قال لهم: «انِّى نَذِيرٌ لَكُم بَيْنَ يَدَىْ

نفحات القرآن، ج 8، ص: 227

عَذَابٍ شَدِيدٍ»، احذركم من عبادة الأصنام وادعوكم إلى التوحيد.

فاستشاط أبو لهب غضباً وقال: «تباً لك أما جمعتنا إلّالهذا» فعندئذ نزلت الآيات الآنفة الذكر، وقالت: الموت له لأنّه سيكون طعمة لنار جهنم في النهاية «1».

8- إنّا أعطيناك الخير الكثير

نطَّلع في المقطع الثامن من الآيات وهي «سورة الكوثر» على ثلاث نبوءات هامة، لأنّه تعالى يقول: «انَّا اعْطَيْنَاكَ الكَوْثَرَ* فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَر* انَّ شَانِئَكَ هُوَ الابْتَرُ».

ذكر

معظم المفسرين شأن نزول هذه الآية، وهي متقاربة مع بعضها البعض ومن جملتها ما قاله «البرسوي» في روح البيان: «وذلك أنّهم (أي المشركون) زعموا حين مات أولاده القاسم وعبد اللَّه بمكة، وإبراهيم بالمدينة، أن محمداً صلى الله عليه و آله ينقطع ذكره إذا ما مات وذلك لفقدان نسله، فنبّه اللَّه سبحانه الى: إنّ الذي ينقطع ذكره هو الذي يشنأه، فأمّا هو فكما وصفه اللَّه تعالى «ورفعنا لك ذكرك»، وذلك أنّه أعطاه نسلًا باقياً على مر الزمان، فانظر كم قتل من أهل البيت والعالم ممتلي ء منهم» «2».

وقال «الطبرسي» في «مجمع البيان»: «قيل: نزلت السورة في العاص بن وائل السهمي وذلك أنّه رأى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يخرج من المسجد فالتقيا عند باب بني سهم وتحدثا، واناس من صناديد قريش جلوس في المسجد، فلما دخل العاص قالوا: مع من كنت تتحدث؟

قال: مع الأبتر، وكان قد توفى قبل ذلك عبد اللَّه ابن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وهو من خديجة، وكانوا يسمون من ليس له ابن أبتراً فسمته قريش عند موت ابنه أبتراً» «3».

ونقل الفخر الرازي ستة أقوال في شأن نزول هذه الآية بأنّ عدّة أفراد قالوا للنبي

______________________________

(1) نقل الكثير من المفسرين والمؤرخين شأن النزول هذا مع اختلاف طفيف (تفسير مجمع البيان؛ القرطبي؛ المراغي؛ الكبير؛ الدر المنثور؛ في ظلال نهج البلاغة؛ كذلك الكامل لابن الاثير، ج 2، ص 60).

(2) تفسير روح البيان، ج 10، ص 525.

(3) تفسير مجمع البيان، ج 30، ص 549.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 228

الأكرم صلى الله عليه و آله: إنّك «ابتر»، وهذه السورة ناظرة إلى هؤلاء الأشخاص «1».

وعلى الرغم من أنّه قد ذكر افراداً متعددين، إلّاأنّ المحتوى والمضمون واحد

في جميعها، وأنّ جميعهم كانوا يسمون النبي صلى الله عليه و آله «بالأبتر» حقداً وعداوة، وقد رد عليهم القرآن بأجمعهم، لأنّ هذه الأقوال الستة لا تتنافى مع بعضها البعض، فمن المحتمل أنّ هذا التعبير صدر من جميعهم، والرد القرآني ناظر إليهم جميعاً.

وعلى أيّة حال فإنّ لفظة «الأبتر» في الأصل، تعني قطع عضو من أعضاء جسم الحيوان، ومن المتعارف أنّها تطلق على قطع الذنب، ثم اطلقت بعد ذلك على الأشخاص المقطوعي النسل، وكذلك على الذين ينقطع ذكرهم الحسن، أو يمحى من الخواطر، والخطبة «البتراء» أيضاً تقال للخطبة التي لا تبدأ باسم اللَّه (أو أنّها لا تشتمل على ذكر اللَّه).

وورد في المقاييس أيضاً أنّ «البتر» هو القطع، و «السيف الباتر» هو السيف القاطع، ويقال لمن لا عقب له: «ابتر». أمّا «الكوثر» فهي مأخوذة من مادة الكثرة «2»، وهي نفس هذا المعنى، ولها هنا في هذا المقام معنى واسع وشامل، وهو عبارة عن الخير الكثير والبركة الكثيرة، واحد مصاديقها البارزة هم الأبناء الصالحون والسلالة الطيبة، واجلى مصداق لذلك هي بنت نبيِّ الإسلام و «سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين» فاطمة الزهراء عليها السلام.

وذكر المفسرون احتمالات كثيرة لمعنى «الكوثر» بحيث نقل الفخر الرازي خمسة عشر قولًا، ونقل صاحب تفسير روح المعاني عن بعض المفسرين ستة وعشرين قولًا، وأشار إليه المرحوم العلّامة الطباطبائي في «الميزان» أيضاً، ومن جملة التفاسير المشهورة له هو نفس «حوض الكوثر» المتعلق بالنبي الأكرم صلى الله عليه و آله والذي يرتوي منه المؤمنون عند دخولهم إلى الجنّة «3».

______________________________

(1) تفسير الكبير، ج 32، ص 132.

(2) يقول الآلوسي في تفسير روح المعاني، ج 30، ص 245: الكوثر صيغة مبالغة، بمعنى الكثرة التي تجاوزت حداًمعيناً، وفي لسان العرب؛ الكوثر

هو الكثير من كل شي ء.

(3) تفسير مجمع البيان، ج 30، ص 549.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 229

وفسره البعض أيضاً بأنّه مقام النبوة، أو القرآن، أو نهر في الجنّة، أو الشفاعة. وكما قلنا:

إنّ لهذه الكلمة معنى واسعاً وشاملًا لكل هذه المعاني وغيرها، ولا يمنع من جامعية المفهوم تعدد مصاديق هذا المفهوم، فليس ثمّة تضاد وتنافر بين هذه التفاسير المتعددة.

وعلى أي حال يستكشف من هذه السورة ثلاث نبوءات هامة:

أولًا: إنّه يقول: (انّا أعطيناك الخير الكثير).

إنّ كلمة «اعطيناك» وإن خرجت بهيئة الفعل الماضي إلّاأنّها من الممكن أن تكون من قبيل المضارع القطعي المبين بصيغة الفعل الماضي.

وهذا الخير الكثير في الحقيقة يستوعب كل الانتصارات التي حظي بها النبي صلى الله عليه و آله، والتي لم تكن متوقعة حين نزول هذه السورة.

هذا مع الأخذ بنظر الاعتبار شأن النزول وكلمة «الأبتر» التي اطلقها الأعداء على النبي صلى الله عليه و آله، فيكون أحد المصاديق الجلية لهذا الخير الكثير هم «الأبناء»، والسلالة الخيرة التي تفرعت من ابنته الوحيدة «فاطمة الزهراء عليها السلام»، وانتشرت في سائر أنحاء الكرة الأرضية، وعلى حد قول البعض: إنّهم ملأوا العالم في يومنا هذا، وهذا هو الذي لم يكن متوقعا في ذلك العصر.

وأشار إلى هذا الموضوع- بصراحة- جماعة من مفسري أهل السنّة أيضاً، من ضمنهم الفخر الرازي، فالقول الثالث الذي ينقله في تفسير «الكوثر» هم نفس أولاده وأبنائه وهذه السورة إنّما نزلت رداً على من عابه صلى الله عليه و آله بعدم الأولاد، فالمعنى أنّه يعطيه اللَّه تعالى نسلًا يبقون على مر الزمان، فانظركم قتل من أهل البيت، والعالم ممتلي ء منهم، ولم يبق من بني امية في الدنيا أحد يعبأ به، ثم انظركم من الأكابر من العلماء: كالباقر والصادق

والكاظم والرضا عليهم السلام والنفس الزكية وأمثالهم «1».

وجاء هذا المعنى في تفسير روح المعاني أيضاً: وقيل: هو أولاده صلى الله عليه و آله لأنّ السورة نزلت رداً على من عابه صلى الله عليه و آله وهم والحمد لله كثيرون قد ملأوا البسيطة «2».

______________________________

(1) تفسير الكبير، ج 32، ص 124.

(2) تفسير روح المعاني، ج 30، ص 245.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 230

من جهة ثانية يخبر أنّ أعداءه سيكونون «مبتورين»، وبلا عقب، وتحققت هذه النبوءة أيضاً، ووصلت حالة التشرذم والتشتت بأعداء الرسول بحيث لم يبق لهم أثر في هذا اليوم.

إنّ «أبو سفيان» وأبناءه وعشيرة بني امية الذين كانوا من الأعداء الشرسين للإسلام قد وقف بعضهم بوجه النبي والبعض الآخر بوجه أبنائه، كانوا في يوم من الأيّام جمعاً غفيراً، بحيث تجاوز عدد ذويهم وأبنائهم وأرحامهم عن حد الاحصاء، لكن لم يبق لهم شي ء يذكر في يومنا هذا فكل شي ء عنهم انطوى في صفحة النسيان.

يقول الآلوسي في روح المعاني: «الأبتر، هو الذي لا عقب له، حيث لا يبقى منه نسل ولا حسن ذكر، وأما أنت فتبقى ذريتك وحسن صيتك وآثار فضلك إلى يوم القيامة» «1».

إنّ هذه السورة وإن دلّ شأن نزولها وفقاً للرواية المشهورة على أنّ القائل لهذا الكلام هو «العاص بن وائل» الذي كان من الأعداء الألداء للنبي صلى الله عليه و آله إلّاأنّه من البديهي أنّ هذه السورة ليست ناظرة إلى الشخص فقط، بل إنّ كلمة «شانى ء» المأخوذة من مادة «شنآن» التي هي بمعنى البغض والعداوة، لها مفهوم واسع وشامل لكل الأعداء، وهذا التنبؤ صادق في حقهم جميعاً، لأنّه لم يبق لهم ذكر يؤثر، ولا أبناء معروفون ولم يكن التكهن بهذا المعنى ممكنا في ذلك اليوم الذي كان

النبي صلى الله عليه و آله يعيش في مكة، والمسلمون في منتهى القلة.

9 و 10- أولئك لن يضروكم بشي ء

في الآيتين التاسعة والعاشرة من هذا البحث نلاحظ تنبؤات مهمّة:

1- «إنّ أهل الكتاب لن يتمكنوا أن يلحقوا بكم ضررا ذا بال ويهددوا وجود الإسلام والمسلمين بالخطر لأنّ اضرارهم طفيفة وغير مؤثرة» «لَنْ يَضرُّوكُم الَّا اذىً».

إنّ كلمة «أذىً» وان شملت على حد قول «الراغب» في «المفردات» كل مايلحق الضرر

______________________________

(1) تفسير روح المعاني، ج 30، ص 247.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 231

بروح الإنسان وجسمه ومتعلقاته لكنه نظرا إلى أنّها وردت بصيغة الاستثناء من جملة «لن يضروكم»، ومجيئها بصيغة النكرة أيضاً، دلّ ذلك على أنّ المقصود منها هي الاضرار الجزئية سواء كانت مبادرة بشكل كلام جارح، أو بشكل حركات استفزازية سطحية.

ولا تتأتى هذه النبوءة المستقبلية الصريحة إلّامن طريق الوحي نظراً إلى القوة العسكرية الهائلة التي كان يتمتع بها أهل الكتاب وبالأخص اليهود، وإلى حالة الضعف التي يعانى منها المسلمون من الناحية الظاهرية.

2- ثم يقول تعالى إنّ هؤلاء سيكون نصيبهم الفشل والاندحار والفرار متى ما قاتلوكم وأثبتوا وجودهم في ميدان النزال: «وَانْ يُقَاتِلُوكُم يُوَلُّوكُم الادْبَارَ ثُمَّ لَايُنْصَرُونَ».

إنّ هذا التنبؤ عن أنّ مصير اليهود وسائر أهل الكتاب هو الفشل والتراجع في كل حرب تقع بينهم وبين أصحاب النبي صلى الله عليه و آله لم يكن بالشي ء اليسير ولا يتأتى هذا التنبوء من الطرق العادية أيضاً.

3- إنّ هؤلاء اليهود لن يصمدوا بحال من الأحوال، وأينما وجدوا كُتِبَ عليهم الذل والهوان إلّابالارتباط باللَّه (وإعادة النظر في سلوكهم الخاطي ء)، أو الارتباط بالناس والتبعية لهذا وذاك: «ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِلّةُ ايْنَ مَا ثُقِفُوا الَّا بِحَبْلٍ مِّنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ».

وتحققت هذه الوعود والبشائر السماوية الثلاثة في عصر النبي كما ذكر التاريخ الإسلامي، وبالأخص

أنّ اليهود في الحجاز وهم «بني قريظة»، و «بني النضير»، و «بني قينقاع»، و «يهود خيبر»، و «بني المصطلق»، قد خسروا الجولة في نهاية الأمر، وتواروا عن مسرح الحياة بعدما قاموا به من انتهاكات كثيرة، وتحركات مثيرة ضد الإسلام، هذا وإن لم يرد التصريح بذكر اليهود في الآيات السابقة، لكن يستفاد من القرائن الموجودة في هذه الآية والآيات المشابهة لها (كالآية 61 من سورة البقرة التي ذكر فيها اسم اليهود صريحاً).

إنّ هاتين الآيتين ناظرتان إلى اليهود، وبالأخص بالنسبة لما جاء في الآية الأخيرة من أنّ هؤلاء إنّما يستطيعون أن يمسحوا عن جبينهم وصمة الذل في صورتين:

الاولى في صورة «الرجوع إلى اللَّه، وترك العصيان، والذنب، والفساد في الأرض»، ولا يتمّ ذلك (إلّا بحبل من اللَّه).

نفحات القرآن، ج 8، ص: 232

والثانية: في صورة «إتباع الناس والاتكال على الآخرين»، (وحبل من الناس).

وهذه الآية تشير إلى نفس الظاهرة المشهورة في حياة اليهود إلى يومنا هذا، وتاريخهم يفصح إمّا عن حالة الضياع والتشرد والذل، وإمّا عن حالة التبعية والانقياد للقوى الاخرى وتسخير الذات في خدمة مقاصدهم السيئة، (وتشاهد الحالة الاولى في العصر الأخير في عهد النازيين والحالة الاخرى في يومنا هذا).

وبالرغم ممّا ذكره المفسرون من احتمالات متعددة لتفسير «حبل من اللَّه وحبل من الناس» إلّاأنّ ما تقدم ذكره آنفاً هو الأنسب ظاهراً، ويمكن الأخذ ببعض تفاسير هؤلاء بعنوان مصداق لهذا المفهوم الكلي الذي ذكرناه.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 233

7- الاعجاز القرآني في عدم وجود التناقض والاختلاف

اشارة

من الدلائل الاخرى على اعجاز القرآن الكريم، وكونه نازلًا من قبل اللَّه تعالى هو عدم وجود التناقض والاختلاف في سائر أنحائه، في حين أنّ الصفة الغالبة على الظروف التي نزل فيها القرآن والمبعوث به تدلل على أنّه لو لم يكن صادراً من قبل

اللَّه لوقع فيه الاختلاف و التناقض، بل الاختلافات والتناقضات الكثيرة، وقد أشار القرآن إلى هذه الحقيقة في قوله تعالى «افَلَا يَتَدَبَّروُنَ القُرآنَ وَلَوْ كَانَ مِن عِنْدِ غَيرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اختِلَافَاً كَثِيراً».

(النساء/ 82)

ويمكن الوقوف على النكتة الأساسية لهذه المسألة من خلال تحليل بسيط، فنقول: إنّ الحالات الروحية لأي إنسان في تغير مطرد- وقانون التكامل يحيط بالإنسان فكراً وروحاً في حالة وجود ظروف طبيعية، وعدم حصول وضع استثنائي فهو يحدث على مرّ الأيّام والشهور والسنين تحولًا مستمراً في ألسنة البشر وأفكارهم وأحاديثهم، وإذا ألقينا نظرة فاحصة على تصانيف أحد الكتّاب فسوف لن نجدها على نسق واحد اطلاقاً، بل لابدّ من وجود تفاوت في بداية الكتاب ونهايته، خاصة إذا ماكان الإنسان واقفاً أمام موجة من الأحداث الكبيرة والساخنة، الأحداث التي تضع الحجر الأساس لأحد الانقلابات الفكرية والاجتماعية والدينية الشاملة، فهو مهما سعى وأراد أن يكون كلامه على سياق ونسق واحد، ومعطوفاً على سابقة لا يقوى على ذلك وخاصة إذا ما كان اميّاً وناشئاً في محيط متخلف جدّاً.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 234

أمّا القرآن فقد نزل على حسب الاحتياجات والمتطلبات التربوية للمجتمع في ظروف وملابسات مختلفة تماماً طيلة 23 عاماً، فهو الكتاب الذي تحدث عن مواضيع متنوعة، وهو ليس كسائر الكتب التي تواكب أحد البحوث الاجتماعية أو السياسية أو الفلسفية أو الحقوقية أو التاريخية فحسب، بل أحياناً يتحدث عن التوحيد وأسرار الخلقة، وأحياناً عن الأحكام والقوانين، والآداب والسنن، وتارة يتحدث عن الامم السابقة وقصصهم المثيرة، وتارة اخرى عن المواعظ والنصائح، والعبادات، والعلاقة القائمة بين اللَّه تعالى وعباده، وعلى ضوء قول الدكتور «غوستاولبون»: إنّ الكتاب السماوي للمسلمين- وهو القرآن- لا يقتصر على التعاليم والدساتير الدينية فحسب، بل تندرج فيه الدساتير الاجتماعية

والسياسية للمسلمين أيضاً.

إنَّ مثل هذا الكتاب المشتمل على هذه الخصوصيات لا يمكن أن يخلو من التضاد والتناقض واختلاف الأقوال الكثيرة عادة، لكن عندما نرى الانسجام القائم بين آياته كلها، وخلوها من كل ألوان التضاد والاختلاف والتهافت يمكننا حينئذٍ الحدس بأنّ هذا الكتاب ليس وليد أفكار الناس، بل هو صادر من قبل الباري تعالى كما بيّن القرآن نفسه هذه الحقيقة في الآية السابقة.

وبعبارة اخرى إنّ كافة الموجودات المادية- ومن ضمنها الإنسان الذي له صبغة مادية بأحد اللحاظات- في تغّير وتحول دائم ومطرد وتنقل هذا التغيّر إلى الموجودات الدائرة حوله، إنّ قابلية التأثر والتأثير جزء لا يتجزأ من طبيعة الإنسان، وطبيعة أي موجود مادي آخر، ولهذا السبب تتبدل أفكار الإنسان وآراؤه مع تقدم الزمن، علاوة على أنّ ازدياد تجارب الإنسان ورقي مستوى إبداعه في المسائل المختلفة يساهم في تصعيد هذا التغير، وهذه هي التي تؤدّي حتما إلى التغير والتضاد واللاإنسجام في المذكرات التي تعود إلى سنين متمادية لأحد الأشخاص فيما لو جمعت ونسقت بعد ذلك، واللَّه القادر المتعال وحده هو الذي يكون بمعزل عن هذه التغيرات وقابلية التأثر والتأثير، فليس في كلماته تضاد أبداً وهذه هي إحدى الطرق في معرفة كلام الحق وتمييزه عن كلام غيره، حتى أنّ البعض من

نفحات القرآن، ج 8، ص: 235

المفسرين صرحوا بأنّه لايقتصر الأمر على عدم وجود التضاد في القرآن فحسب، بل يتعداه إلى عدم وجود التفاوت والاختلاف في درجة فصاحته وبلاغته أيضاً، ومن الصحيح القول بأنا نجد بعض الآيات القرآنية أبلغ من بعضها الآخر، وعلى حد قول الشاعر: متى كانت «تبت يدا» بمنزلة «ياأرض ابلعي» ولكن هذا يتأتى عند اختلاف المقامات أي أنّ كل واحدة منها تعتبر من أفضل التعابير وانسبها في مقامها

الخاص بها، ومن هذه الجهة لا يوجد تفاوت واختلاف.

سؤال:

وهناك سؤال لابدّ من طرحه وهو: إذا لم يكن هناك تضاد واختلاف في القرآن الكريم فما هو السبب من وجود آيات ناسخة وآيات منسوخة؟

الجواب:

سبق وأن قلنا في بحث الناسخ والمنسوخ في القرآن: إنّ الآيات المنسوخة تشتمل على قرائن تدل على أنّ أمدها المضموني قصير وسينتهي في يوم من الأيّام، بمعنى وجود دواعي النسخ في مضمونها، وبناء على هذه النكتة فليست لا تضاد فيها فحسب، بل- علاوة على ذلك- يوجد فيها نوع من التناسب والتوافق بينها.

وعلى سبيل المثال لو أردنا أن نعد برنامجاً دراسياً لمقاطع زمنية مختلفة حتى نساعد الأفراد الدارسين في دائرة التعليم والتربية على تخطي المراحل المختلفة، والوصول بهم إلى المرحلة النهائية، فإنّ التغيرات الطارئة على البرامج في فترات مختلفة لا تعد بعنوان تضاد وتناقض وذلك لوجود قرائن في متن هذه البرامج، بل على العكس هناك نوع من التوافق والانسجام بينها.

وممّا قلناه آنفاً اتضح الجواب عن سؤال مشابه أيضاً يطرح في مورد آيات «العام والخاص» أو «المطلق والمقيد» ذلك أنّ الجمع بين العام والخاص عن طريق التخصيص،

نفحات القرآن، ج 8، ص: 236

وكذلك الجمع بين المطلق والمقيد هو جمع عرفي متعارف، ولا يعد تناقضاً بأي شكل من الاشكال.

فمثلًا لو أعلنت الحكومة عن موافقتها على حرية التصدير بشكل مطلق، ثم قررت وضع استثناءات معينة بعد ذلك، فإنّ وجود هذه الاستثناءات ليس دليلًا على التضاد، وبالأخص إذا ما تجسد هذا العمل على شكل سُنّة وخطّة معينة بحيث يقال له: حكم عام، ثم يقومون بتقييده وتخصيصه بعد ذلك، علاوة على أنّه لا يوجد حكم بدون استثناء عادة.

إلى هنا نصل إلى نهاية البحث في الاعجاز القرآني والصور المختلفة للاعجاز.

نفحات القرآن، ج 8، ص:

237

خرق العادات والنواميس الطبيعية

اشارة

ممّا لا شك فيه أنّ لنبي الإسلام معجزات اخرى كثيرة غير القرآن الكريم، وقد أجمع المسلمون في العالم كافة على هذه المسألة ودلت عليها روايات متواترة أيضاً، وكما أنّ القرآن الكريم أشار إليها مراراً وتكراراً، فذكرها تارة بشكل مجمل ومقتضب، وتارة بشكل مفصل من خلال الإشارة والتنويه إلى المعجزات الخاصة.

وممّا تجدر الإشارة إليه هنا هو المقطع الأول من الآية التالية:

1- «وَاذَا ذُكِّرُوا لَايَذْكُرُونَ* وَاذَا رَأَوا آيَةً يَستَسخِرُونَ* وَقَالُوا انْ هَذَا الَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ». (الصافات/ 13- 15)

التعبير ب (رأَوا آية) يدل بوضوح على أنّهم لو شاهدوا معجزة أو معاجز للنبي، فبدلًا من أن يؤمنوا بها صدرت منهم ردود فعل وممارسات سلبية، من بينها، أولًا: إنّهم أخذوا يتوسلون بمنطق الاستهزاء والسخرية، وثانياً: إنّهم اعتبروا ذلك «سحراً مبيناً».

ومن المسلَّم أنّ الآيات القرآنية سمعيّة وليست بصريّة، وعليه لا يمكن أن تكون لفظة «الآية» هنا ناظرة إلى الآيات القرآنية، بالإضافة إلى ذلك فإنّ التعبير ب «السحر المبين» يتناسب تماماً مع المعجزات وخوارق العادات، والواقع أنّ اتهامهم نبي الإسلام بالسحر، وترويجهم لهذه المسألة بشكل واسع يدل على أنّهم رأوا منه خوارق عادات ومعجزات، وفضلًا عن ذلك كله كيف يتأتى للنبي الأكرم صلى الله عليه و آله أن ينقل في كتابه السماوي المعاجز الحسية للأنبياء السابقين كمعجزة «اليد البيضاء»، و «عصا موسى»، والمعجزات التسعة الصادرة منه (النمل/ 12)، أو المعجزات المتعددة للسيد المسيح، نظير «إحياء الأموات»،

نفحات القرآن، ج 8، ص: 238

«وشفاء المكفوفين الذين فقدوا بصرهم منذ الولادة»، و «المرضى الذين يستحيل علاجهم» وما شابه ذلك، وكذلك المعاجز التي جاء بها الأنبياء العظام إبراهيم، وصالح، ويوسف، وسليمان، وداود، والتي ورد ذكرها جميعاً في القرآن- ثم لا يأتي بنفسه بمعجزة حسية؟! كيف يمكن له

أن يقنع الناس بأنّ جميع الأنبياء كانوا يمتلكون معاجز حسية وهو لايمتلك شيئا منها في حين أنّ نبوّته أفضل النبوّات، ودينه أفضل الأديان؟ إنّ كل هذه القرائن- مضافاً إلى الآية السابقة- تدل على أنّه كانت له صلى الله عليه و آله معجزات اخرى

بالإضافة إلى الآية السابقة فهناك آيات كثيرة اخرى بصدد بيان مسألة معاجز نبي الإسلام، وقد وردت عن ائمة الدين روايات في تفسيرها وذكر سبب وتاريخ نزولها، إنّ معاجز نبيّ الإسلام لا تعدّ ولا تحصى فعلى سبيل المثال لا الحصر نلاحظ نماذج منها:

1- نطالع في قوله تعالى «سُبْحَانَ الَّذِى اسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ الَى المَسْجِدِ الاقْصَى الَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِن آيَاتِنَا انَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ».

(الاسراء/ 1)

لا شك أنّ الذهاب من «المسجد الحرام» إلى «المسجد الاقصى»، وأكثر من ذلك الصعود إلى السماوات، خاصة في الظروف الموضوعية لذلك الزمان، كان أمراً خارقاً للعادة، بيدَ أنّه ما لم يشاهد الناس هذا المشهد لايمكن أن تكون له صبغة إعجازية ولا يمكن أن يقع في طريق إثبات دعوى النبي صلى الله عليه و آله، إلّاأنّ الروايات الإسلامية تدل على أنّ الناس اطلعوا على هذه القضية عن طريق الأخبار التي ألقاها النبي على القافلة أو القوافل التي كانت تشق طريقها بين مكة والشام «1».

2- جاء في ذيل قوله تعالى «انّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئينَ». (الحجر/ 95)

______________________________

(1) جاء في إثبات الهداة، ج 1، ص 247، عن الإمام الصادق عليه السلام أنّ النبي صلى الله عليه و آله أخبر عن رؤية قافلة أبي سفيان ومرورها ببئر قبيلة فلان بحثاً عن ناقة لهم ذات وبر أحمر، كما وصف سوق الشام الذي لم يره قط (تفسير مجمع البيان ج 1، ص 395؛

وسيرة ابن هشام، ج 2، ص 43- 44).

نفحات القرآن، ج 8، ص: 239

أنّ ستة مجموعات (أو أقل) كانت كل واحدة منها تتعامل مع نبي الإسلام بنوع من أنواع الاستهزاء، وكلما انبرى إلى دعوة الناس كانوا يسعون من خلال أحاديثهم إلى تفريق الناس من حوله، غير أنّ اللَّه تعالى ابتلى كل واحد منهم ببلاء معين، ووصل الأمر بهم إلى أن ينشغلوا بأنفسهم كثيراً بحيث نسوا النبي الأعظم صلى الله عليه و آله «1».

3- يقول تعالى «يَاايُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُم اذْ هَمَّ قَوْمٌ انْ يَبْسُطُوا الَيْكُم ايْدِيَهُمْ فَكَفَّ ايْدِيَهُمْ عَنْكُم». (المائدة/ 11)

ورد في بعض الروايات أنّ هذه إشارة مستبطنة ناظرة إلى المؤامرة التي دبرها «يهود بني النضير» لاغتيال نبي الإسلام، وذلك حينما توجه النبي إليهم مع جمع من أصحابه ليتباحثوا حول الاتفاقية التي كانت معقودة بينهم بالنسبة إلى دِيَة المقتولين، فقالوا: لا مانع من ذلك، اجلسوا وتناولوا الطعام حتى يتحقق مرادكم، وفي تلك الحالة كان في نيّتهم أن يقوموا بحملة مباغتة ويقضوا على النبي وأصحابه، فأطلع اللَّه تعالى النبي على ذلك وأخبر النبي بذلك أصحابه فعادوا بسرعة، «وكانت هذه احدى معجزات النبي» «2».

4- تعقيباً على قوله تعالى «وَاذَا قَرأْتَ القُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَايُؤمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابَاً مَّسْتُوراً». (الاسراء/ 45)

ورد أنّ بعض الأعداء كانوا ينوون القضاء على حياة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله في حالة انشغاله بتلاوة القرآن، فأسدل اللَّه تعالى حجاباً على أبصارهم يحول بينهم وبين رؤية نبيّه.

وورد في الحديث الذي نقله المرحوم الطبرسي في الاحتجاج عن علي عليه السلام: إنّ اللَّه تعالى أسدل خمسة حجب على انظارهم للحيلولة بينهم وبين رؤية محمد صلى الله عليه و آله، وقد اشير إلى هذه

الحجب الخمسة في القرآن الكريم.

في أحد المواضع من سورة يس يقول: «وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ ايْدِيهِم سَدَّاً»، فهذا هو الحجاب الأول ثم يعقب بقوله: «وَمِنْ خَلْفِهِم سَدَّاً». (يس/ 9)

وهذا هو الحجاب الثاني.

______________________________

(1) نقل الطبرسي في تفسير مجمع البيان، ج 5- 6، ص 346، وكذلك العلّامة المجلسي في بحار الأنوار، ج 18، ص 48، وابن هشام في السيرةج 2، ص 50، وبقية المفسرين والمؤرخين شرحاً وافياً لهذه الواقعة.

(2) تفسير مجمع البيان، ج 3، ص 165.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 240

ثم يقول بعدها: «فَاغْشَيْنَاهُم فَهُمْ لَايُبْصِرُونَ» وهذا هو الحجاب الثالث.

ثم إنّه يقول: «وَاذَا قَرأْتَ القُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذينَ لَايُؤمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابَاً مَّسْتُوراً».

وهذا هو الحجاب الرابع.

وقال تعالى بعد ذلك: «انَّا جَعَلْنَا فِى اعْنَاقِهِم اغْلَالًا فَهِىَ الَى الاذْقَانِ فَهُمْ مُّقمَحُونَ» «1».

(يس/ 8)

ولذا لا يرون شيئاً، وهذا هو الحجاب الخامس.

إنّ هذه الحجب سواء كان لها صبغة مادية أو معنوية، فهي وقفت حاجزاً أمام المؤامرات المختلفة المدبرة ضد النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، وهذه بحد ذاتها تمثل إحدى المعاجز النبوية الشريفة.

5- نطالع في قوله تعالى «فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ». (البقرة/ 137)

إنّ الأشخاص المحيطين علماً بالتاريخ الإسلامي هم القادرون على الاطلاع على عمق مفهوم هذه الآية التي يُستشف من ظاهرها أنّ الأعراب المعاندين والمتعصبين الجاهليين وخاصة الاشراف من مشركي مكة الذين تعرضت منافعهم اللامشروعة للخطر مع ظهور الإسلام، لم يدخروا جهداً في القضاء على الإسلام والنبي الأكرم صلى الله عليه و آله.

في الوقت ذاته تعطي الآية التي نحن بصددها وعداً صريحاً بأنّ اللَّه تعالى سوف يدفع شرورهم، ويسفِّه أحلامهم، ويفشل مؤامراتهم، وهذه من إحدى النبوءات الاعجازية.

6- وردت الإشارة في القرآن الكريم إلى اعجاز آخر حدث في حرب الأحزاب، يقول عز

من قائل: «يَا ايُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُم اذْ جَاءَتْكُم جُنُودٌ فَارْسَلْنَا عَلَيهِم رِيحَاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصيِراً». (الأحزاب/ 9)

إنّ الذين يطالعون قصة «حرب الأحزاب» في القرآن الكريم، والروايات والتواريخ، يجزمون على وجود بون شاسع بين المسلمين واعدائهم، فقد فرض الأعداء حصاراً شديداً على المدينة بحيث أصبح سقوطها حتمياً بحسب الظاهر، ووصلت الحالة بالمسلمين إلى

______________________________

(1) تفسير البرهان، ج 2، ص 423، ح 2.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 241

أنّ يُعبِّر القرآن عنهم بقوله: «وَاذْ زَاغَتِ الابْصَارُ وَبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَنَاجِرَ ... وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيداً». (الاحزاب/ 10- 11)

في خضم هذه الظروف هبَّت- على حين غِرّة- نسمة الرحمة الإلهيّة، وانقلبت الامور رأساً على عقب وتتابعت فيوضات المدد الإلهي على المسلمين وقذف اللَّه في قلوب المشركين الرعب والفزع الشديد فتراجعوا خائبين بدون أن يحققوا عملًا معيناً وعادوا إلى مكة.

وفي الواقع أنّ جميع الأخبار الغيبية في القرآن التي بحثناها مفصلًا في الفصل السابق، يمكن الاستناد إليها في هذا البحث أيضاً، وذلك لأنّ كل واحد منها يعتبر معجزة من معاجز نبي الإسلام ودليلًا على صدق قوله وادّعائه. طالعوا مرة اخرى كل ماذكرناه في الفصول العشرة من بحث الاعجاز القرآني من ناحية الأخبار الغيبية، إذ كل واحد من تلك الفصول يعتبر شاهداً على البحوث التي بين ايدينا في هذا الفصل.

وأمّا الموارد الخاصة التي حددها القرآن الكريم، ففي مقدمتها قصة شق القمر التي جاء ذكرها في قوله تعالى «اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ القَمَرُ* وَانْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ* وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا اهْوَاءَهُم وَكُلُّ امْرٍ مُّسْتَقِرٌّ». (القمر/ 1- 3)

الكلام يقع في أنّ المقصود من شق القمر هل هو بعنوان معجزة من المعاجز الواقعة في هذا العالم، أو أنّه إشارة

إلى انشقاق القمر في المستقبل أو في نهاية العالم بصفته واحدة من العلامات على بداية الآخرة، فالمشهور بين المسلمين هو الاحتمال الأول على حد قول الفخر الرازي الذي يقول: «والمفسرون بأسرهم على أنّ المراد أنّ القمر انشق وحصل فيه الانشقاق، ودلت الأخبار على حديث الانشقاق، وفي الصحيح خبر مشهور رواه جمع من الصحابة» «1».

وينقل المرحوم «الطبرسي» أيضاً حديث انشقاق القمر عن جمع كبير من صحابة النبي

______________________________

(1) تفسير الكبير، ج 29، ص 28.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 242

الأكرم صلى الله عليه و آله، وجماعة من المفسرين ويعد المخالفين لهذه المسألة ثلاثة أشخاص فقط، هم:

(عثمان بن عطاء، عن أبيه وكذلك الحسن والبلخي)، ثم يقول بعد ذلك: «وهذا لا يصح لأنّ المسلمين أجمعوا على ذلك فلا يعتد بخلاف من خالف فيه ولأنّ اشتهاره بين الصحابة يمنع من القول بخلافه» «1».

وذكر جماعة من المفسرين عبارات متشابهة لما نقلناه عن «الطبرسي» و «الرازي».

علاوة على ذلك فانه توجد قرائن واضحة على هذا المعنى في نفس هذه الآيات من جملتها:

1- جملة «وانشق القمر» المذكورة بصيغة الفعل الماضي التي تدل على وقوع مثل هذا الأمر، وأمّا كون الفعل الماضي بمعنى المضارع فإنّه وإن ورد ذكره في موارد معينة من القرآن الكريم، لكن نظراً لكونه استعمالًا مجازياً فهو بحاجة إلى القرينة، ولا توجد قرينة في هذا المقام.

2- إنّ أفضل شاهد على هذا المعنى هي الآية الثانية التي تقول: «وَانْ يَرَوا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ»، لأنّ مشاهدة «الآية» و «الإعراض» عنها، ونسبة السحر إلى النبي كلها تدل في الظاهر على وجود معجزة.

3- تخبر جملة: «وكَذَّبوا واتَّبَعوا أَهْواءَهم» في الآية الثالثة عن تكذيب هؤلاء لنبي الإسلام صلى الله عليه و آله حتى بعد مشاهدة المعجزة،

ولو لم يكن إعجازاً في البين لما كان لهذه التعابير أساس من الصحة بأي شكل من الأشكال.

4- بالإضافة إلى ذلك فقد نقلت روايات كثيرة في مصادر الحديث الإسلامى أخبار عن حدوث هذا الإعجاز وقد وصلت إلى حد الشهرة والتواتر، وقد أقر جمع من المفسرين مسألة تواتر الأخبار الواردة في شق القمر، من جملتهم: الطبرسي، والفخر الرازي، وسيّد قطب، والبروسوي في روح البيان فلا يمكن الإعراض عن هذه الآيات والروايات بالاستناد إلى بعض الهواجس والفرضيات البعيدة على الاطلاق.

وممّا يمكن ذكره بعنوان قرينة على وقوع هذه الحادثة في المستقبل هو اقتران قرب

______________________________

(1) تفسير مجمع البيان، ج 9 و 10، ص 186.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 243

وقوع يوم القيامة إلى جانب شق القمر حينما في قوله تعالى «اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ القَمَرُ».

إلّا أنّ الذي ذهب إليه جماعة من المفسرين هو أنّ اقتراب يوم القيامة تحقق مع ظهور نبي الإسلام، لأنّنا نقرأ في المأثور عنه: «بعثت أنا والساعة لهاتين» وقد أشار إلى اصبعين متوازيين من أصابعه المباركة «1».

ولذا نقرأ في قوله تعالى «اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُم وَهُم فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ».

(الأنبياء/ 1)

ونقرأ في قوله تعالى «قُلْ انَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبَاً».

(الأحزاب/ 63)

وذلك حينما سألوا النبي صلى الله عليه و آله عن موعد حصول يوم القيامة.

ووفقاً لما ورد في الروايات المشهورة فإنّ المشركين جاؤوا إلى رسول اللَّه وقالوا: «إذا كنت صادقاً في قولك وإنّك نبي حقاً فاشطر القمر لنا شطرين» «2».

ولم يمض شي ء من الوقت حتى اتصل أحد شقي القمر بالآخر وعاد إلى حالته الاولى

وقد نقل الصحابي المشهور حذيفة قصة انشقاق القمر بحضور جمع من الناس في مسجد المدائن، فلم يعترض عليه أحد مع أنّهم أدركوا عصر

النبي، وهذا إن دلّ على شي ء فإنّما يدل على قطعية هذه المسألة في أوساطهم «3».

إشكالات حول مسألة شق القمر
اشارة

في قبال الآيات السابقة، والروايات الإسلامية المشهورة التي وردت في جميع كتب الحديث المعروفة، وتفسير أهل السنة والشيعة، يميل البعض من خلال الاستناد إلى مجموعة من الإشكالات إلى رفع اليد عن ظهور هذه الآيات، وربطها بالحوادث المختصة ببدايات يوم القيامة وبالاصطلاح «أشراط الساعة».

______________________________

(1) تفسير الكبير، ج 29، ص 29؛ و تفسير مجمع البيان ذيل آية 18 من سورة محمد.

(2) تفسير مجمع البيان وكتب التفسير الاخرى في ذيل الآية مورد البحث.

(3) نقل السيوطي هذا الحديث في تفسير در المنثور، وتفسير القرطبي في ذيل الآية مورد البحث.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 244

1- إشكال من زاوية تاريخية

من جملة الإشكالات التي يوردها بعض البسطاء والسذج على مسألة «انشقاق القمر» هو أنّ هذا الأمر ينبغي أن يدون مع ماله من أهميّة كبرى في تواريخ العالم، والحال أنّ الأمر ليس كذلك فلا نشاهد أثراً له يذكر في التواريخ.

ومن الواضح إنّ هذا الاعتراض غير وارد، حيث يلزم ومن خلال دراسة وتحليل لجميع جوانب هذه المسألة تبيين مايلي:

أ) ينبغي الالتفات إلى أنّ القمر قابل للرؤية دائماً في نصف الكرة الأرضية لا في جميعها، ولهذا فإنّ نصف الناس مستثنون من هذه القاعدة.

ب) إنّ الأكثرية الساحقة في هذا النصف من الكرة نائمون أيضاً بعد منتصف الليل، وعليه فإنّ الذي يحيط علما بمثل هذه الحادثة هم ربع الناس في العالم فقط.

ج) لايبعد في المجال القابل للرؤية أيضاً أن تكون مساحات شاسعة من السماء ملبدة بالغيوم، ويكون وجه القمر محجوباً عن الرؤية.

د) إنّ الحوادت السماوية إنّما تسترعي انتباه الأشخاص في صورة كونها كالصواعق المصحوبة بالصخب الشديد، أو كالخسوف والكسوف الكلي المستلزم لانقطاع النور بصورة تامة ولمدّة طويلة نوعاً ما أيضاً.

ولهذا السبب قلما يطلع أحد على الخسوفات الجزئية، والكسوفات البسيطة إذا لم

تكن مسبوقة بالاعلان من قبل الفلكيين، حتى أنّ الكثير من الناس تخفى عليهم حالة الكسوف التامة أيضاً في بعض الأحيان.

إنّ العلماء الذين يترصدون القمر والأجرام السماوية، أو الأشخاص الذين تقع أعينهم على السماء صدفة، هم فقط يمكنهم أن يطلعوا على مثل هذه الحادثة ويخبروا عنها مَن لَم يَرَها من الناس.

ولذا فإنّ مثل هذه الحادثة القصيرة الأمد لاتسترعي انتباه جميع الناس في العالم، لا سيما أنّ مجتمع ذلك العصر لم يبد الاهتمام المطلوب بالأجرام السماوية.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 245

ه) بالإضافة إلى أنّ الوسائل اللازمة لتدوين المطالب في التاريخ ونشرها كانت محدودة في ذلك الزمان، وحتى الأفراد المتعلمون كانوا قليلين جدّاً، وكانت الكتب جميعها خطية، ولم تكن تنشر الحوادث المهمّة بواسطة وسائل الاعلام المسموعة والمرئية والصحف المحلية في جميع أنحاء العالم، وتسجل في جميع التواريخ كما هو الحال في يومنا هذا.

واستنادا إلى هذه النقاط لا ينبغي الاستغراب من عدم ذكر هذه الحادثة في التواريخ غير الإسلامية، واعتبار ذلك دليلًا على عدم وقوعها.

2- من الزاوية العلمية

استناداً إلى «هيأة بطليموس» التي ترى أنّ الأرض هي مركز العالم والأفلاك التسعة المحيطة بأطرافها على شاكلة طبقات قشرة البصل، وكانت تعتقد أنّ هذه الأفلاك كالجسم البلوري المرتبط بعضه ببعض، والنجوم والأجرام السماوية مندكة في قلب الأفلاك، وتدور مساوقة لحركة الأفلاك، وأي نوع من أنواع الخرق والالتئام في الأفلاك محال، لهذا السبب أنكر اتباع هذه العقيدة كلًا من «المعراج الجسماني»، و «انشقاق القمر» معاً، ذلك أنّ كليهما يوجب الخرق والالتئام في الأفلاك!.

إلّا أنّه لم يعد هناك أرضية لهذا الكلام في يومنا هذا بعد أن طويت فرضية الهيأة لبطليموس في ملف الأساطير والخرافات وثبت بطلان الافلاك التسعة من الناحية العلمية والحسية.

وقد يقال: ليس من السهل تحقق مسألة

انشقاق القمر بمنظار العلم الحديث أيضاً، لأنّ هذه الكرة «مساحة القمر» وإن كانت خمس الكرة الأرضية إلّاأنّها مع ذلك كرة عظيمة، ووقوع الانشقاق والانفجار فيها بحاجة إلى عامل قوي جدّاً، والجواب عن هذا الإشكال واضح في نظر أهل التوحيد، إذ لم يَدَّعِ أحد بحدوث «انشقاق القمر» من جراء احدى العوامل الطبيعية، بل كان يُعزي سبب حدوث ذلك إلى الاعجاز مستنداً إلى القدرة اللامتناهية للباري عزّ وجلّ.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 246

ولا يخفى عليكم أنّ اللَّه لا يصعب عليه انشقاق القمر، بل إنّ ايجاد المنظومات والمجرّات الاخرى كلها منقادة لإرادته ومشيئته أيضاً، ذلك اللَّه الذي أحدث الانفجار الأول في قلب الشمس منذ البداية، وفصل عنها السيارات الكبيرة للمنظومة الشمسية، فقذفت كل واحدة منها في ناحية من النواحي وبدأت تدور حولها، أجل، إنَّ مَن بيده كل شي ء وقادر على كل شي ء لقادر على إثبات نبوة نبيّه، وذلك أن يحدث في لحظة من اللحظات مثل هذا الانفجار ثم الالتئام في كرة القمر التي هي لا تساوي شيئاً أمام قدرته تعالى

إنّ الذين يستهينون بالقدرة الإلهيّة- والعياذ باللَّه- أو لم يحيطوا علماً بحدوث المنظومات السماوية الكبيرة على أثر الانفجارات المتتابعة، هم فقط الذين يثيرون الإشكالات على هذا النوع من المسائل.

3- انشقاق القمر في التصور القرآني

يقولون إنّ هناك آيات في القرآن الكريم تدل على أنّ نبي الإسلام صلى الله عليه و آله لم يمتلك معجزة سوى القرآن: واستدل هؤلاء على إثبات فكرتهم كما ورد في قوله تعالى «وَمَا مَنَعَنَا انْ نُّرسِلَ بِالآيَاتِ الَّا انْ كَذَّبَ بِهَا الاوَّلُونَ». (الأسراء/ 59)

وكذلك تشبثوا بالآية 90 إلى 93 من سورة الاسراء، وذلك استناداً إلى أنّ جماعة طلبوا من النبي طلبات مختلفة، فتارة قالوا: لا نؤمن إلّاأن تفجر لنا ينبوعاً

من هذه البقعة من الأرض (الجرداء القاحلة)، وتارة اخرى قالوا: لا نؤمن لك إلّاأن يكون في حوزتك بستان كبير من أشجار النخل والعنب وتجري من خلاله الأنهار، أو تنزل على رؤوسنا- كما تدعي- الأحجار السماوية، أو تحضر لنا اللَّه وملائكته، أو تمتلك بيتاً من الذهب، مليئاً بالرسوم والنقوش، أو تصعد إلى السماء، ولا نكتف بذلك إلّاأن تأتينا بكتاب من قبل اللَّه تعالى لنطّلع عليه، فما كان جواب النبي الأكرم على مطالبهم إلّاأن قال: «سُبْحَانَ رَبِّى هَلْ كُنْتُ الَّا بَشَراً رَسُولًا». (الاسراء/ 93)

وعلى ضوء جوابه صلى الله عليه و آله ادّعى أولئك المرتابون بأنّه لم يأت بأي معجزة.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 247

الجواب:

إنّ الالتفات إلى الكلمة التي وردت في أقوال جمع من المفسرين الكبار توضح الجواب عن هذا الإشكال وهي: إنّ المعجزات على نوعين:

النوع الأول: هي المعجزات الضرورية لإثبات صدق دعوى النبي، وترغيب الناس في الإيمان، وتخويف المنكرين، وهي المعاجز المنطقية للذين ينشدون الحق والباحثين عن الحقيقة، بحيث يعبر القرآن الكريم في ذيل الآية المذكورة بقوله: «وَمَا نُرسِلُ بِالآيَاتِ الّا تَخْوِيفًا». (الاسراء/ 59)

النوع الثاني من المعجزات: هي المعجزات التي تسمى ب «الاقتراحية»، أي المعجزات التي يطالب بها المتعلّلون لا لأجل سلوك سبيل الحق واليقين بصدق دعوى النبوة ومن ثم الإيمان واعتناق الإسلام، وإنّما بقصد تعجيز الطرف الآخر، فإن وجدوا به قدرة على ذلك اتهموه بالسحر.

والأنبياء كانوا يتجهون صوب القسم الأول ولا يستسلمون اطلاقاً لمقترحات المتعللين والمعاجز الاقتراحية.

يشير لحن الآيات 90- 93 من سورة الاسراء بشكل واضح إلى أنّ هذه الموضوعات العجيبة والغريبة والمتهافتة لمشركي العرب لم يكن منشأُها هو البحث عن الحقيقة، بل الغاية منها هي اختلاق الأعذار والتشكيك في نبوة نبي الإسلام وارساء دعائم الشرك والصنمية، ولذا

لم يُمعِنوا النظر حتى في مفهوم كلامهم، فمن ضمن مطالبهم مثلًا أنّهم يطلبون معجزة من المعاجز التي تبيدهم «كنزول الأحجار السماوية على روؤسهم»، وتارة يطلبون معجزة كمعجزة (الصعود إلى السماء)، ثم ينفون ذلك مباشرة ويقولون: نحن لا نؤمن بذلك حتى تبعث لنا كتاباً من قبل اللَّه، وتارة يطلبون الامور المستحيلة كقولهم: أن تأتينا بالله والملائكة، والحال أنّ اللَّه ليس له مكان، وليس بجسم ولا جسماني.

ثم إذا كان الهدف هو التوصل إلى معرفة حقانية النبي فَلِمَ يطلبون ست معاجز مختلفة؟

ألا تكفي معجزة واحدة؟

نفحات القرآن، ج 8، ص: 248

من هنا لم يتسن لأي نبي أن يستسلم لهذا النوع من الأراجيف والأباطيل، فضلًا عن أنّ الاعجاز ليس من شأن النبي واختياره، وإنّما هو من شأن اللَّه تعالى واختياره.

إنَّ النبي بإمكانه أن يطلب المعجزة من اللَّه واللَّه تعالى يضع بين يديه أي شي ء يراه صالحاً، ولهذا نقرأ هذا المعنى في ذيل قوله تعالى «قُلْ سُبْحَانَ رَبِّى هَلْ كُنْتُ الَّا بَشَراً رَّسُولًا» (الأسراء/ 90- 93)

وكذا في قوله تعالى «وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ انْ يَاتِىَ بِآيَةٍ الَّا بِاذْنِ اللّهِ». (الرعد/ 38)

وأمّا قوله: نحن لن نستسلم لمطاليبكم لأنّ الأولين كذبوا ذلك، فهذا يدعو إلى هذا التساؤل وهو: كيف يجوز أن يكون تكذيب الأولين سبباً لحرمان الأجيال المتعاقبة من مشاهدة المعجزات؟ فالاجابة عنه تكمن في كون هذه العبارة متداولة وذلك بأن يقال للشخص العنيد الذي لا نريد أن نستسلم له: إنَّ اقتراحك لم يكن وجيهاً وقد سبق لغيرك أن اقترحه، ولم يرضخ للحق.

بعبارة اخرى أنّ المعاجز التي تقترحونها لا تستند إلى أساس البحث عن الحقيقة، وإنّما هي «اقتراحية» وتعجيزية، ولو نفذت طلباتكم لما آمنتم أيضاً، فقد سبق لافراد مثلكم في الامم الغابرة أن طلبوا إظهار معاجز

ثم كذبوها بعدما شاهدوها.

ملخص الكلام هو أنّ من الصحيح القول: إنّ القرآن لوحده معجزة خالدة، ولو لم يكن هناك معجزة اخرى سوى هذه المعجزة للنبي لاستطاعت أن تكون شاهداً على صدقه، ولكن هذا لا يدل على أنّ النبي لم يمتلك معجزات جسمانية ومادية غير هذه المعاجز الروحية والمعنوية، بل ذهبت الآيات والروايات والتواريخ الإسلامية وسيرة النبي إلى القول: إنّه كان يمتلك ذلك، ولا شك في أنّ انضمام المعجزات المحسوسة والمادية إلى تلك المعجزة المعنوية الكبيرة يظهر حقانية الدعوة النبوية بصورة أجلى وأوضح.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 249

الطريق الثاني: جمع القرائن طريق آخر للاطمئنان

اشارة

نفحات القرآن، ج 8، ص: 251

نفحات القرآن ج 8 299

الطريق الثاني: جمع القرائن طريق آخر للاطمئنان

تمهيد:

خلافاً لما يظن البعض فإنّ سبيل إثبات صدق دعوى النبوة لايقتصر على المعجزات فقط، بل أحياناً تثبت عن طريق تجميع القرائن المتعلقة بحياة ذلك النبي، وصفاته وخصائصه الأخلاقية والعملية، ومضمون الدعوة وبرامجها المستخدمة يمكن الحصول على سند واضح قد يعادل اقوى المعجزات بل أحياناً يتقدم تلك المعجزات أيضاً.

إنَّ هذا النوع من الاستدلال يلاحظ أيضاً في كلام القدامى وإن كان يبدو شكله اقل انسجاماً.

ولهذا السبب فمن اللازم تقديم بعض التوضيحات حول هذا الموضوع مسبقاً.

جمع القرائن دليل متداول في كل العلوم:

اشارة

للتوصل إلى الحقائق في العلوم المختلفة يتمّ اليوم الاستفادة من طريقة جمع القرائن بشكل كبير لكشف الجرائم، ولتشخيص أنواع الأمراض، ولمعرفة خصائص الشخصيات العظيمة السالفة على طول التاريخ، ولكشف القضايا المتعلقة بعالم الخلق، الأرض والسماء، النباتات والحيوانات.

والفرق بين هذا الاسلوب وأسلوب (الاستقراء) الذي هو أحد طرق البرهان هو: إنّنا نحصل بالاستقراء على حكم كلي عند البحث والتنقيب عن الأفراد، فعلى سبيل المثال نقوم بعدّ فقرات أفرادٍ كثيرين ثم ندرج في الكتب قانوناً عاماً يقول: إنّ الإنسان له كذا عدد من الفقرات.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 252

ولكن بطريقة جمع القرائن نقوم بدراسة آثار موضوع خاص أو مايسمى ب «الجزئي الحقيقي» ثم نتوصل من مجموع تلك الآثار إلى المؤثر.

وكمثال على ذلك: حينما تقع جريمة في نقطة ما ويؤتى بالمتهم إلى المحكمة فينكر التهمة الموجهة إليه جملةً وتفصيلًا، مستفيداً من عدم وجود شاهد يثبت التهمة، فإنّ الحاكم الذكي لا يغلق ملفَّ القضية بذريعة إنكار المتهم وعدم تيسّر الشاهد، بل يقوم بتجميع القرائن عن طريق التحقيقيات المختلفة، ودراسة امور كثيرة اخرى مثل:

أ) سوابق المتهم.

ب) نوع العلاقة التي تربط بين المتهم والشخص الذي وقعت عليه الجريمة، وهل هناك من خصومة أو اختلاف بينهما أم لا؟

ج) مكان وزمان وقوع

الحادثة، وهل بإمكان المتهم ايضاح المكان الذي كان فيه وقت وقوعها؟

د) نوع السلاح أو الرصاصة التي عُثر عليها في هذه الحادثة، وهل أنّ المتهم يستخدم مثل هذا السلاح أم لا؟

ه) ملاحظة الحالة الجسدية للمتهم والشخص الذي وقعت عليه الجناية، وهل توجد آثار منازعة عليهما ام لا، وهل للمتهم توضيحات لهذه الآثار أم لا؟

و) الاحساس الذي ينعكس على المتهم عند مشاهدته رداء المقتول وآثار الجريمة، وهل تضطرب حالته أم يحتفظ بهدوئه أثناء ذلك؟

ز) الحالة النفسية للمتهم ومقارنتها بالسابق، هل هي متعادلة أم يسيطر عليها الاضطراب؟

ح) عند اجابته عن أسئلة المحقق والحاكم هل ينتابه الارتباك والاضطراب والتناقض وأمثالها أم لا؟

بالإضافة إلى مسائل اخرى كثيرة، وقد لاتكون آحادها كافية لإثبات الحقيقة، ولكن بحث هذه الجوانب أحياناً لايبقي أي شك أو ترديد بأنّ الجريمة نفذت من قبل المتهم، وهذا

نفحات القرآن، ج 8، ص: 253

مايقوي من عزم الحاكم أو القاضي بأنّ يتابع القضية بأناة وما أكثر ماتنتهي متابعته إلى إقرار الطرف المقابل أيضاً.

بل ويمكن القول: إنّ (الاقرار) هو دليل ظني- لأنّه لوحظ كثيراً أنَّ البعض ومن أجل الهروب من قبضة العدالة أعطوا أموالًا طائلة لشخص آخر حتى يعترف بعد طمأنته بأنّهم سيخلصونه في النهاية، وكذلك (شهادة الشهود) هي دليل ظني أيضاً، لأنّ احتمالها للخطأ أو التواطؤ ليست مستحيلة (لا شك أنّ شهادة الشهود والاعتراف مقبولة، وأنّ المقصود هو أنّها دلائل ظنية مقبولة في نهاية الأمر، في حين أن تجميع القرائن يمكن قبولها عند وصولهامرحلة القطع واليقين).

وتلاحظ في الأحكام الإسلامية أيضاً نماذج واضحة لهذه المسألة، وأحياناً تمّ إثباتها حتى بواسطة قرينة حكم واحدة مثل حكاية اختلاف (العبد) و (السيد) في عصر أمير المؤمنين عليه السلام عندما أمر عليه السلام (صورياً) بضرب عنق

العبد منهما إذ سحب أحدهما رأسه ليثبت على نفسه أنّه العبد.

أو كقصة اختلاف تينك المرأتين على وليدٍ، وأمره عليه السلام- صورياً- بقطع ذلك الوليد نصفين، عندئذٍ تنازلت الام الحقيقية لذلك الطفل عن حقها فكان موقفها ذاك دليلًا على صدق دعواها، وأمثال ذلك.

على أيّة حال إنّ الاستفادة من هذه الطريقة للوصول إلى نتائج قطعية ليس في المسائل القضائية وحسب، بل وفي الكثير من العلوم، وكذلك القضايا الاجتماعية والسياسية المختلفة هو أمر معتاد وبنّاء، ويمكننا أيضاً الاستفادة منه في مسألة إثبات نبوة الأنبياء وأحياناً يكون تأثيره في ايجاد اليقين والاطمئنان أكثر من تأثير المعجزات العادية.

بهذه الإشارة نعود إلى الآيات القرآنية لنرى مالها من بيان حول هذا الدليل- بشكله الكلي، ثم نتجه نحو حياة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله لنجمع القرائن المختلفة عن حياته ونضعها إلى جانب بعضها البعض حتى يحكم القراء عليها بأنفسهم.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 254

في القسم الأول وفي آيات متعددة من القرآن تلاحظ إشارات حافلة بالمعاني حول هذا الدليل، ومن جملتها:

الآيات التي تعبر عن وجود نبي الإسلام صلى الله عليه و آله بأنّه (شاهد) و (سراج منير) و (برهان) و (شمس).

فنقرأ في قوله تعالى

«يَاايُّهَا النَّبِىُّ انَّا ارْسَلْنَاكَ شَاهِدَاً وَمُبَشِّراً وَنَذيراً* وَدَاعِياً الى اللَّه بِاذنِهِ وَسِراجاً مُّنِيراً». (الأحزاب/ 45- 46)

في هاتين الآيتين يقدم القرآن الكريم نبي الإسلام صلى الله عليه و آله على أنّه (شاهد)، فقد ورد في أحد التفاسير أنّه شاهد على أحقيته، لأنّ صفاته وأخلاقه، وخططه البناءة، وسوابقه الساطعة، وأعماله، تشهد على حقانية دينه وصدق دعوته، هذا من جهة «1».

ومن جهة اخرى يعرّفه بعنوان (سراج منير)، واننا نعرف أنّ السراج هو دليل على نفسه ولا يحتاج لدالٍ عليه، أو كالقول المعروف

(طلوع الشمس دليل على الشمس).

وتعبير (برهان) الذي جاء في قوله تعالى «يَاايُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرهَانٌ مِّنْ رَبِّكُم وَانْزَلْنَا اليكُم نُوراً مُّبِيناً». (النساء/ 174)

هو إشارة اخرى لتلك الحقيقة، لأنّ (برهان) مشتقة من مادة (بَره) على وزن (فرح) وتعني الإبيضاض، ولأنّ الاستدلالات الواضحة تنير وجه الحق وتُبيِّضه، لذا أطلق عليها برهان.

ويعتقد جمع من المفسرين أنّ المقصود من البرهان في هذه الآية هو ذات الرسول صلى الله عليه و آله «2»، والمقصود من النور هو القرآن المجيد.

وبناءً على ذلك فإنّ شخص الرسول صلى الله عليه و آله جرى تعريفه بعنوان (برهان)، وذلك بسبب توفّر آثار وقرائن في وجوده تنبي ء بأحقيته فضلًا عن معجزاته.

______________________________

(1) في تفسير آخر للآية المذكورة اعتبر النبي صلى الله عليه و آله كشاهد على الأنبياء قبله. أو شاهد على أعمال امته يوم القيامة. في حين لا يوجد أي تنافض أو تعارض بين هذه التفاسير الثلاثة ويمكن جمعها في معنى الآية.

(2) من الذين قبلوا هذا المعنى أو نقلوه باعتباره تفسيراً: المرحوم الطبرسي في مجمع البيان، والعلّامة الطباطبائي في تفسير الميزان؛ والمراغي؛ والقرطبي في تفسيرهما (ذيل الآية مورد البحث).

نفحات القرآن، ج 8، ص: 255

وجاء في تفسير: «والشمس وضحاها» في روايات متعددة أنّ (الشمس) هي إشارة لوجود الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله، وأنّ (القمر) هو إشارة إلى وصيِّه بالحق «1».

من البديهي أنّه لايوجد دليل لإثبات وجود الشمس سوى وجودها بالذات، لأنّ الجميع يطلعون على وجود الشمس المشرقة والمنيرة بمجرد طلوعها من افق المشرق.

وفيما عدا هذه التعابير أشار القرآن الكريم في آيات اخرى إشارة واضحة إلى هذه المسألة، وأشار إلى بعض دلائل أحقية الرسول صلى الله عليه و آله ومن جملتها أنّه استند إلى قضية (امّيته) واعتبارها قرينة،

مثلًا يقول تعالى

«وَمَاكُنتَ تَتلُوا مِنْ قَبلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَميِنكَ اذاً لَّارتَابَ المُبطِلُونَ».

(العنكبوت/ 48)

وهنا يشير القرآن إلى أنّ الرسول صلى الله عليه و آله لو كان يقرأ ويكتب لكان الشك يقع بين كون القرآن منه أو من اللَّه، ولكن بالنظر إلى أنّه صلى الله عليه و آله كان امّياً وأنّ القرآن الكريم كان معجزة من جوانب مختلفة فلا يبقى لأحد أي مجال للشك في أنّ هذا الكتاب هو من قبل اللَّه تعالى

وهذه طبعاً قرينة واحدة فقط من القرائن الكثيرة التي تلاحظ في وجوده صلى الله عليه و آله، ودليلٌ على صدق دعوته، وكلما وضعنا مجموع هذه القرائن إلى جنب بعضها البعض لأضحت المسألة أكثر سطوعا من الشمس.

وتعبير (المبطلون) يدل على أنّه حتى لو كان النبي صلى الله عليه و آله قد تلقى التعليم فلا مجال أيضاً إلى أنّ نعتبر هذا الكتاب هو من بناة أفكاره، لماذا؟ لأنّه يقينا اسمى من فكر وعلم بني البشر، ولكن هذا الأمر بمفرده قد يشكل ذريعة للمفسدين والمبطلين.

ونقرأ في قوله تعالى:

«قُلْ لَّوْ شَآءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا ادرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثتُ فِيكُم عُمُراً مِّن قَبلِهِ افَلَا تَعقِلُونَ». (يونس/ 16)

______________________________

(1) في تفسير البرهان، ج، 4 ص 466 توجد خمسة أحاديث حول هذا الموضوع، وليس في هذا التفسير تعارض مع التفاسير الاخرى للشمس، ويمكن جمعها كلها في معنى الآية.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 256

وفي الحقيقة كان النبي صلى الله عليه و آله يعتمد على هذه القرينة عندما يقول: إنني عشت بينكم سنين طويلة ولم تسمعوا مني مطلقاً مثل هذا الكلام (الآيات القرآنية)، ولو كانت هذه الآيات صادرة مني فلابدّ أن تجري على لساني خلال هذه الاربعين سنة أو لسمعتم

مني قسماً منها على الأقل.

وكما يقول بعض علماء النفس: فإنّ النبوغ الفكري، واكتشاف وإبداع المسائل المستحدثة يبدأ عادة عند الإنسان من سن العشرين، وتمتد على الأكثر إلى سن 30 أو 40 سنة، أي أنّ الإنسان إذا لم يأت حتى ذلك العمر بابتكار جديد ففي الغالب ينتفي عنده بعد ذلك.

وهذا الموضوع الذي يُعدّ اليوم كاكتشاف نفساني كان في الماضي غير واضح إلى هذا الحد، ولكن غالبية الناس كانوا يعرفون عادة بالهداية الفطرية أن ليس بمقدور الإنسان أن تكون له أفكار خاصة متمثلة بدين جديد وهو يعيش بين قومه وشعبه مدّة أربعين سنة ولا يظهرها مطلقاً، ولهذا يقول القرآن: كيف لا تدركون استحالة هذا الأمر؟

إنّ استناد القرآن الكريم في آيات متعددة على (امّية) النبي صلى الله عليه و آله له دلالات مليئة بالمعاني، وكذلك القرائن بأنّ كيف يستطيع شخص لم يتلقَّ تعليماً أن يأتي بكتاب بهذا المحتوى الذي ليس له نظير، وبهذا الشمول الاستثنائي، والحقائق التي تحتفظ بطراوتها تماما بعد مضي الف سنة أو أكثر، والذي يعتبر وصفة راقية وناجعة لحل المشاكل الحياتية لبني البشر في الجوانب المعنوية والمادية؟

وممّا قيل نستنتج أنّ للقرآن الكريم اهتماماً خاصاً بهذا الدليل (أي تجميع القرائن).

والآن نعود إلى الشرح والبيان التفصيلي لهذه القرائن التي اختصّ بها النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، ونخضع الامور التالية للبحث والدراسة الدقيقين:

محيط دعوته والظروف السائدة هناك.

الخصائص الأخلاقية والنفسية لنبي الإسلام صلى الله عليه و آله وسوابقه.

زمان دعوته من ناحية الوضع العام في العالم وبالخصوص في منطقة ظهوره صلى الله عليه و آله.

مضمون دعوته وأسس القضايا التي يدعو الناس إليها. نفحات القرآن، ج 8، ص: 257

الوسائل التي يستفيد منها للوصول إلى أهدافه.

انسجامه وعدم انسجامه مع متطلبات البيئة

المنحرفة وكيفية تصديه للخرافات.

ماهية الأفراد الذين آمنوا ومن أي طبقة وأي نوع.

ميزان اعتقاده بالاهداف التي يدعو الناس إليها.

سرعة انتشار دعوته ومستوى الاثر الذي تتركه أحكامها وقوانينها في المجتمع.

بالإضافة إلى علائم اخرى

1- ميحط دعوة النبي صلى الله عليه و آله والظروف السائدة هناك

إنّ القضية التي يتفق عليها كل المؤرخين الكبار هي: أنّ العرب قبل بدء الرسول صلى الله عليه و آله بدعوته كانوا في أوضاع سيئة للغاية من ناحية سيطرة المعتقدات الخرافية، والانحطاط الأخلاقي، والاختلافات، والحروب الداخلية المستعرة، والظروف الاقتصادية السيئة، ولا تتحرك في تلك البيئة نسمة من رياح العلم والمعرفة، ولا يوجد حتى أثر من الحضارة الشكلية للبشر، ولهذا السبب كانوا يعتبرونهم قوما نصف متوحشين، ويطلقون على عصرهم اسم (العصر الجاهلي).

وللقرآن الكريم تعابير صريحة وواضحة عن ذلك العصر يمكنها رسم ملامح الأوضاع في ذلك الزمان بشكل جيد (حتى لو لم يصدّق أحد بأنَّ القرآن الكريم وحي إلهي، ولكن لا يمكنه انكار حقيقة أن ذكر تلك الصفات لذلك العصر في القرآن هي دليل على واقعيته وحقيقته، وإلّا يكون منكراً لكل الجوانب).

فيقول اللَّه تعالى في مكان: «لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى المُؤمِنيِنَ اذْ بَعَثَ فِيهِم رَسُولًا مِّنْ انْفُسِهِم يَتلُوا عَلَيهِم آيَاتِهِ وَيُزَكّيِهِمْ وَيُعلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكمَةَ وَانْ كَانُوا مِنْ قَبلُ لَفى ضَلَالٍ مُّبِينٍ».

(آل عمران/ 164)

وعبارة (ضلال مبين) في هذه الآية وفي أواخر الآية الثانية من سورة الجمعة أيضاً، هو

نفحات القرآن، ج 8، ص: 258

إشارة معبرة عن الاوضاع في العصر الجاهلي الذي كانت الضلالة المبينة تسود أركانه، وأي ضلالة أوضح وأبين من عبادتهم لأصنام من الحجر والخشب صنعوها بأيديهم، والأسوأ من ذلك هو تلك الأوثان التي يعملونها من التمر ويعبدونها، ثم يأكلونها أيّام القحط والجفاف.

أو يدفنون بناتهم بأيديهم وهن أحياء، وهم يفخرون ويتباهون بعملهم هذا بدعوى أنّهم لا يدعون عرضهم وناموسهم

يقع بأيدي الأجانب، أو يقتلون أبناء خوفاً من الإملاق.

وجاء في قوله تعالى «وَاذا بُشِّرَ احَدُهُم بالانثَى ظَلَّ وَجهُهُ مُسوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ* يَتَوارى مِن القَومِ مِنْ سُوءِ مَابُشِّرَ بِهِ ايُمسِكُهُ عَلَى هُونٍ امْ يَدُسُّهُ فِىِ التُّرابِ* الَا سَآءَ مَايَحكُمُونَ». (النحل/ 58- 59)

وأي ضلال أوضح من سيطرة أنواع الخرافات والأوهام عليهم، أو اعتبارهم الملائكة بنات اللَّه: «وَجَعَلُوا المَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحمَنِ انَاثاً». (الزخرف/ 19)

وفي مكان آخر يقول: «وَيَجعَلُونَ لِلَّهِ البَنَاتِ سُبحَانَهُ». (النحل/ 57)

وهناك آيات اخرى نظير ما أشرنا إليها.

أيّ ضلالٍ أوضح وأبين من أن تسيطر عليهم الحروب وسفك الدماء في كل أيّام السنة- باستثناء الأشهر الحرم-، وتوارث الأحقاد القبلية من الآباء للأبناء واستمرارها لسنوات وسنوات، كما يشير القرآن إلى ذلك بقوله: «وَاذكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيكُم اذْ كُنْتُم اعدَاءً فَالَّفَ بَينَ قُلُوبِكُم فَاصبَحْتُم بِنِعمَتِهِ اخوَاناً وَكُنتُم عَلَى شَفَا حُفرَةٍ مِنَ النَّارِ فَانقَذَكُم مِّنهَا». (آل عمران/ 103)

أيّ ضلالة أوضح من أن تكون حتى مراسم صلاتهم ودعائهم مضحكة ومقززة، فحيناً تطوف النساء حول بيت اللَّه الحرام وهن عاريات تماماً ويحتسبن ذلك عبادة، وحيناً آخر يقيمون صلاتهم مصحوبة بالتصفيق والصفير: «وَمَا كَانَ صَلَاتُهُم عِنْدَ البَيتِ الَّا مُكَاءً وَتَصدِيَةً». (الانفال/ 35)

لقد كانت الخرافات والأوهام تخيم على مجتمعهم، بضروب شتى وكانت كل قبيلة تسعى إلى إبراز نفسها على أنّها أرفع من القبيلة الاخرى وربّما يؤدّي إلى ظهور الأحقاد

نفحات القرآن، ج 8، ص: 259

والضغائن والحسد، وأحياناً سفك الدماء بين القبائل إلى الحد الذي يدعهم- من أجل إثبات كثرة عددهم- إلى التوجه صوب القبور لعدّ قبور موتاهم والتفاخر بالعظام النخرة لأجدادهم وهي تحت التراب.

يقول القرآن الكريم: «الَهكُمُ التَّكَاثُرُ* حَتَّى زُرتُمُ المَقَابِرَ». (التكاثر/ 1- 2)

وما إلى ذلك من أوهام ومفاسد وكوارث اخرى من هذا القبيل.

إنّ الانحطاط

في تلك البيئة والفقر المعنوي والمادي جَعل تلك المنطقة في قائمة أكثر مناطق العالم تخلُّفاً.

ينقل أحد المؤرخين الغربيين عن بعض المؤرخين المعروفين حول بيئة الحجاز في العصر الجاهلى قائلًا: عندما دخل (ديمتريوس) القائد اليوناني الكبير (البتراء)- إحدى مدن الحجاز القديمة- وهو في طريقه لاحتلال المنطقة العربية، قال له العرب الساكنون هناك: (أيّها الملك ديمتريوس! لماذا تحاربنا؟ إنّنا نعيش في أرض حصباء تفتقر لأبسط متطلبات الحياة، ومحرومة من كل النعم التي يتمتع بها أهالي المدن والقصبات، لقد اخترنا السكن في هذه الصحراء القاحلة لأننا لا نريد أن نكون عبيداً لأحد، ولهذا تقبّل منّا هذه التحف والهدايا التي نقدمها لك وأخرج جيوشك من هنا وعُدْ ...).

وانتهز (ديمتريوس) رسالة الصلح هذه وقبلَ الهدايا وغض النظر عن هكذا حرب تُخلِّف مشاكل كثيرة «1».

ومنطقة (الحجاز) لم تخضع لسيطرة الفاتحين القدامى على مدى التاريخ وقد حافظت على استقلالها، والسبب كما يقول المحلّلون: هو عدم استحقاق مثل هذه المنطقة- الجرداء التي تفتقر لكل شي ء- هذه الجهود والمشاكل، وأيضاً افتقار منطقة الحجاز لحضارات البلدان القديمة مثل ايران وروما والتي تتواجد في الكثير من نقاط شبه الجزيرة العربية.

وبعد أن تعرفنا على حال الجزيرة العربية لابدّ لنا من النظر إلى حال الإنسان البسيط الذي عاش في محيطها مهما كانت قوة إرادته وقوة تفكيره (لاسيما إذا لم يكن قد تلقّى أي نوع من التعليم).

______________________________

(1) تاريخ حضارة العرب والإسلام تأليف كوستاف لوبون.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 260

هل أنّ الذي تربى في محيط موبوء بالجهل والفساد يمكنه أن يكون مؤسسة للعلم والمعرفة والفضائل الأخلاقية؟

و هل سمعتم بأنّ علماء عظماء وفلاسفة نوابغ نهضوا من بين قبائل جاهلية نصف متوحشة؟

إذا نبتت ورود جميلة وحشائش طرية في ارض خصبة ومهيأة فلا عجب

في ذلك، بل العجب عندما تنبت وردة جميلة في ارض سبخة.

وعلى أية حال يمكن أن تكون هذه المسألة بمفردها غير كافية في إثبات أحقية الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله، ولكنها بدون شك تعتبر واحدة من القرائن التي متى ما ألحقناها بالقرائن الاخرى شكلت برهاناً قوياً ومبيناً.

نختم هذا الحديث بقول أمير المؤمنين علي عليه السلام- الذي أدرك العصرين، عصر الإسلام والجاهلية- وهو يرسم لنا العصر الجاهلي: «أرسله على حين فترة من الرسل، وطول هجعةٍ من الامم، واعتزام من الفتن، وانتشار من الامور، وتلظ (تلظى من الحروب، والدنيا كاسفة النور، ظاهرة الغرور، على حين اصفرار من ورقها، وإياس من ثمرها، واغورار من مائها، قد درست منار الهدى وظهرت اعلام الردى، فهي متجهمة لأهلها، عابسة في وجه طالبها، ثمرها الفتنة، وطعامها الجيفة، وشعارها الخوف ودثارها السيف» «1».

وفي مكان آخر نقرأ له عليه السلام: «إنّ اللَّه بعث محمداً صلى اللَّه عليه وآله وسلم نذيراً للعالمين، وأميناً على التنزيل، وأنتم معشر العرب على شر دينٍ وفي شر دارٍ، منيخون بين حجارة خُشنٍ وحياتٍ صُمٍ تشربون الكدر، وتأكلون الجشب، وتسفكون دماءكم، وتقطعون أرحامكم، الأصنام فيكم منصوبة، والآثام بكم معصوبة» «2».

وخلاصة القول هي: إنّ البحث في القرآن الكريم والروايات الإسلامية ومجموع التواريخ التي كتبت في الشرق والغرب حول العصر الجاهلي، تدلل على أنّها متفقة جميعاً

______________________________

(1) نهج البلاغة، الخطبة 89.

(2) نهج البلاغة، الخطبة 26.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 261

على أن البيئة التي ظهر فيها نبي الإسلام صلى الله عليه و آله هي من أحط البيئات وأكثرها تأخراً، بيئة لا تنسجم أبداً مع ظهور هكذا دين وتعاليم متطورة في الأصعدة كافة.

2- تاريخ الرسول صلى الله عليه و آله وخصائصه الأخلاقية

إنّ الخصائص الأخلاقية هي احدى أفضل الطرق إلى معرفة الدعاة الصادقين من

الكاذبين، فهذه الخصائص يمكن اعتمادها كقرائن وأدلة واضحة لنفي أو إثبات احقية الداعي، وكلما شوهدت مظاهر الطهارة والتقوى، والعظمة والتسامح والرأفة والمحبّة، والزهد والتقشف، والشجاعة والشهامة والماضي الاجتماعي الحسن في المدّعي، فمن الصعوبة بمكان أن لا نعتبره صادقاً، وبالعكس فاذا كان محبّاً للدنيا، ومنكباً على المادة، ومتعلقاً بالمال، والمقام، والجاه، والقدرة المصحوبة بالتهور والكذب، والحقد وحب الانتقام، وما شابه ذلك من رذائل خلقية (لا سمح اللَّه)، فلا يمكن اعتبار مدعي النبوة هذا صادقاً مطلقاً.

ولحسن الحظ فإنّ سوابق النبي الأكرم صلى الله عليه و آله قبل نبوته هي سوابق ساطعة ومضيئة حيث قضى أربعين عاماً بين ظهرانيهم والتاريخ الذي كتبته أيادي الأصدقاء والأعداء يعطى صورة ناطقة ومعبرة عن ذلك.

ففي كل التواريخ اعتبرت نزاهة النبي صلى الله عليه و آله وأمانته بأنّها مسألة متفق عليها وأن لقب (الأمين) سمعوه يطلق عليه من قبل الجميع.

والملفت للنظر هو أنّ الناس- بالرغم من مخالفتهم له- بعد بداية دعوته للإسلام بقوا يودعون أماناتهم عنده، ولذا أمر صلى الله عليه و آله علياً عليه السلام أثناء الهجرة إلى المدينة المنورة- أي بعد مرور ثلاثة عشر عاماً من البعثة- بأنّ يبقى في مكة ليؤدّي عنه الأمانات إلى أهلها، ثم يهاجر إلى المدينة.

إنّ حسن خلق النبي صلى الله عليه و آله وحسن معاشرته وسخائه وكرمه، وخلاصة الصفات التي تليق

نفحات القرآن، ج 8، ص: 262

بقائد إلهي عظيم يمكن مشاهدتها به صلى الله عليه و آله بوضوح خلال الوقائع المختلفة في حياته، وخاصةً أثناء فتح مكة، ومعركة احد، وكذلك في تعامله مع أسرى الحرب، والرقيق، وطبقات المجتمع المحرومة، إلى الحد الذي اعتبروا فيه هذه المسألة بأنّها نقطة ضعف عنده، وأنّ دينه هو دين العبيد والمحرومين، وابتعد

عنه الأغنياء والأثرياء، وعرضوا عليه طرد الحفاة والمستضعفين وإبعادهم مقابل تأييدهم له وتقربهم منه صلى الله عليه و آله، وقد جاء هذا المعنى بإشارة واضحة في قوله تعالى

«وَاصْبِر نَفسَكَ مَعَ الّذِينَ يَدعُونَ رَبَّهُم بِالغَداةِ والعَشِىِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَينَاكَ عَنهُم تُرِيدُ زِيَنةَ الحَيَاةِ الدُّنيَا وَلَاتُطِعْ مَنْ اغْفَلنَا قَلبَهُ عَن ذِكرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً». (الكهف/ 28)

وهو الذي صفح عن (أبو سفيان) ألدّ اعدائه والمؤجج الخطير لنيران الحروب ضد الإسلام، وجعل من بيته أثناء فتح مكة ملجأً ومأمناً لأهل مكة، وأعلن العفو العام عن المكيّين الذين ارتكبوا جرائم كثيرة ضده وضد أتباعه، وهذا الخُلق الحسن والتسامح واللُّطف والكرم صار السبب في جعلهم يلتفون حوله.

وفي (معركة احد) أيضاً عندما فرّ جماعة من حديثي الدخول في الإسلام من أرض المعركة وتركوه وحيداً بين الأعداء متحملا ضربات شديدة منهم، عاد وأعلن العفو العام، وصفح عن الجميع إلى درجة استوجبت نزول الآية المباركة: «فَبما رَحمةٍ مَن اللهِ لِنْتَ لَهُم وَلَو كُنتَ فَظّاً غَليظَ القلبِ لَانْفَضُّوا مِن حَولك فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُم فِى الأَمْرِ». (آل عمران/ 159)

فقد بيّنت هذه الآية لين قلب وباطن النبي صلى الله عليه و آله وصفاء سريرته وكذلك لهجته الرقيقة والمليئة بالعاطفة التي لم تأمره بالعفو عن أخطائهم فحسب، بل أمرته أيضاً بطلب المغفرة لهم من اللَّه تعالى، وأن يحترم شخصياتهم ويشاورهم.

لقد كان صلى الله عليه و آله رحيماً بالمؤمنين وغير المؤمنين بالقدر الذي يجعله يتألم بشدّة من عدم إيمان البعض، وإلى حد يوشك فيه على الهلاك أسفاً عليهم.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 263

ونقرأ في قوله تعالى ما يتضّمن معنى التسلية للنبي صلى الله عليه و آله: «فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفسَكَ عَلَى آثَارِهِم انْ لَّمْ

يُؤمِنُوا بِهَذَا الحَدِيثِ اسَفَاً». (الكهف/ 6)

وشبيه هذا المعنى جاء في قوله تعالى «لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ الَّا يَكُونُوا مُؤمِنينَ» «1».

(الشعراء/ 3)

وحقاًإذا لم يتصف القائد بهذه الصفات فلا يستطيع أن يجسّد المعنى الحقيقي والواقعي للقيادة، وقد جاء في قوله تعالى «لَقَدْ جَاءَكُم رَسُولٌ مِّن انفُسِكُم عَزِيزٌ عَليَهِ مَا عَنِتُّم حَرِيصٌ عَلَيكُم بِالمُؤمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ». (التوبة/ 138)

ومن المسلَّم به أنّ البحث حول الملكات الخلقية للرسول الأكرم صلى الله عليه و آله وخصائصه الأخلاقية أوسع وأشمل من أن يضمها حديث قصير، وأنّ غايتنا فقط هي الإشارة العابرة لهذه المسألة باعتبارها إحدى القرائن.

3- مضمون الدعوة

إنَّ تحقيق ودراسة محتوى أيّ دعوة يشكل في الغالب دليلًا مقنعاً للتوصل إلى صدق أو كذب المُدّعي، فالدين السماوي الذي يصدر عن جهة السماء، وينزل عن طريق الوحي، له مزاياه الخاصة، في حين أنّ الدين الكاذب الذي يبتدعه فرد أو أفراد لأهداف مادية وشيطانية له مزايا اخرى

فالأول: غايته هداية البشرية، وتقوية النفوس، وإقامة العدل، وتهيئة متطلبات الصلح والسلام والأمن، وأخيراً تكامل الإنسان مادياً ومعنوياً.

في حين أنّ الثاني. يسعى لتحميق الإنسان وتخدير فكره، والانتفاع الأكثر منه والاستعمار والاستثمار له، ومسلّماً أن أهدافاً كهذه تتطلب خططاً وبرامج اخرى

وبملاحظة ما ذكر آنفا نلقي نظرة إجمالية على مجموع المعارف والقوانين والبرامج

______________________________

(1) «باخع» من مادة «بَخْع» على وزن «نَقْع» تعنى الهلكة من شدة الغم والحزن، وبتعبير آخر، الموت غصة.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 264

الإسلامية، لاسيّما تلك التي استند إليها القرآن الكريم وأكد عليها:

1- إنَّ أول شي ء يبدو للناظر ويشكل الأساس الرئيسي لكل العلوم والقوانين الإسلامية هو مسألة (التوحيد) ومحاربة كل أنواع الشرك بالاعتماد على هذا الأصل، فقد حرر رسول الإسلام صلى الله عليه و آله الإنسان من قيود كل عبودية

إلّاعبودية اللَّه الأحد، ودعا البشرية إلى عبادة الآله الواحد الأحد خالق السماوات والأرض، وجامع كل صفات الكمال، المطلع على ظاهرهم وباطنهم، وحطم سلاسل الأوهام والخرافات وعبادة البشر أو الحجر أو الخشب وأنواع الأوثان والأصنام.

وقد ذّم القرآن الكريم اليهود والنصارى لعبادتهم البشر بقوله تعالى «اتَّخَذُوا احبَارَهُم وَرُهبانَهُم ارباباً مِّن دُونِ اللَّهِ». (التوبة/ 31)

وفي مقارنة بديعة على لسان نبي اللَّه يوسف وهو يخاطب رفاقه في السجن يقول تعالى

«ءَاربَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيرٌ امِ اللَّهُ الوَاحِدُ القَهَّارُ». (يوسف/ 39)

2- إنّ القرآن لايعتبر أيَّ مؤثر في مصير الإنسان إلّااللَّه تعالى ويدعو الجميع للتوكل عليه ويقول: «الَيسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبدَهُ». (الزمر/ 36)

3- ومن جهة اخرى يعتبر الإنسان مرهوناً بأعماله، وأنّ طريق الخلاص والفلاح الوحيد هو الجد والاجتهاد الأكثر، فيقول تعالى: «وَان لَّيسَ لِلانَسانِ الَّا مَا سَعَى . (النجم/ 39)

ويقول: «كُلُّ نَفسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ». (المدثر/ 38)

4- إعتبر الإسلام كل بني البشر ومن أي عنصر ولون وفي كل زمان متساوين، وبناءً على هذا لا يوجد أيّ تمايز بينهم أو تفاضل إلّاب (التقوى) والورع كما أشارت إلى ذلك الآية 13 من سورة الحجرات.

5- يخاطب القرآن كل المؤمنين بأنّهم (إخوة) لبعضهم البعض، ويعتبر أنّ أقرب رابطة ممكنة بين إنسانين هي الرابطة التي تقوم على العدالة والمساواة، بقوله تعالى «انَّمَا المُؤمِنونَ اخوَةٌ فَاصْلِحُوا بَينَ أَخَوَيْكُم وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرحَمُونَ». (الححرات/ 10)

نفحات القرآن، ج 8، ص: 265

6- يعتبر القرآن (العدالة الاجتماعية) أصلًا اساسياً حاكماً على المجتمعات البشرية ويدعو كل المؤمنين للقيام بالقسط، فيقول: «وَلَايَجرِمَنَّكُم شَنَآنُ قَومٍ عَلَى الَّا تَعدِلُوا اعدِلُوا هُوَ اقرَبُ لِلتَّقَوى وَاتَّقُوا اللَّهَ». (المائدة/ 8)

وأن لا تكون صلة القرابة والابوة والبنوة ونظائرها حائلًا دون إجراء العدالة وترجيح كفّة الحكم لصالحهم- بدون دليل- كما أشارت إلى

ذلك الآية 135 من سورة النساء.

7- أقرَّ الإسلام حاكمية أصل (الإنفاق) على العلاقات الإنسانية، ودعا الجميع إلى الإنفاق ممّا رزقهم اللَّه من نعم على الآخرين: «وَمِمَّا رَزَقَناهُم يُنفِقُونَ». (البقرة/ 3)

يؤكّد على (صلة الرحم) ورعاية رابطة القرابة (البقرة- 27). وقد أولى (الأب والام) خاصةً احتراماً بالغاً إلى الحد الذي أوصى بالتعامل الحسن معهما حتى وإن لم يكونا مسلمين في سورة لقمان الآية 14 و 15.

9- من المسائل التي أكد عليها الإسلام أيضاً هي: (حماية المظلومين) في شرق العالم وغربه، حتى أنّ ظواهر الآيات القرآنية لم تفرق بين أبناء الدين الإسلامي وغيرهم في هذه المسألة، كما ورد في قوله تعالى «وَمَا لَكُم لَاتُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَالمُستَضَعِفينَ مِنَ الرِجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالوِلَدانِ». (النساء/ 75)

10- أكد أيضاً على (احترام حقوق المرأة) في ذلك المحيط الذي أهدر كل حقوقها ولم يعطها حتى الحق في الحياة، ويقبرُ البنات وهنّ أحياء، فأعاد إليها مكانتها إلى الحد الذي يقول تعالى فيه: «ولَهُنَّ مِثلُ الَّذِى عَلَيهِنَّ بِالمَعُروفِ». (البقرة/ 228)

والحق لا ينفصل عن الواجب أبداً.

11- دعوته ل (التعايش مع أتباع الأديان الاخرى وحملة الكتب السماوية، ودعوته كذلك الجميع اللالتفاف حول نقاط الالتقاء والاشتراك، كما نقرأ في قوله تعالى «قُل يَاأَهلَ الكِتَابِ تَعَالَوا الى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَينَنَا وَبَينَكُم الَّا نَعبُدَ الَّا اللَّهَ وَلَا نُشرِكَ بِهِ شَيئاً وَلَا يَتَّخِذَ بَعضُنَا بَعضاً اربَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ». (آل عمران/ 64)

12- أعطى الإسلام أهميّة بالغة ل (العلم والمعرفة)، وقد أشارت مئات الآيات القرآنية

نفحات القرآن، ج 8، ص: 266

إلى ذلك، وهذا الأمر كان مثيراً وملفتاً للنظر لاسيما إذا لاحظنا المحيط الذي نزل فيه القرآن، والذي كان مركزاً للجهل والامّية، وأول الآيات التي نزلت على النبي صلى الله عليه و آله كانت تؤكد

على العلم كما جاء في سورة العلق الآية 1- 5.

ويقسم في مكان آخر بالقلم كما جاء في سورة القلم الآية 1، واعتبر أنَّ أفضلية (آدم)، والبشر بصورة عامة تكمن في (فضيلة العلم والمعرفة) هذه. (البقرة/ 31- 33)

13- تعتبر فريضة (الأمر بالمعروف) و (النهي عن المنكر) احدى المميزات المشرقة لهذا الدين والتي يعتبرها نوعاً من الاشراف والرقابة العامة على كل المجتمع بواسطة كل المجتمع، ومسؤولية متقابلة لكل أفراده في مقابل أي نوع من المفاسد الاجتماعية أو ترك القيام بالواجب، انظر إلى سورة آل عمران الآية 104 و 110 وآيات اخرى

14- بما أنّ مصدر الكثير من المفاسد الاجتماعية هو الميل الشديد للقضايا المادية، والتنافس في حب التجمّل والبذخ في الحياة فقد دعا الإسلام إلى (العيش البسيط) ونبذ حب التجمل من أجل اغلاق مصدر الشر هذا كما في سورة الزخرف الآية 33- 35، في نفس الوقت الذي اعتبر الانتفاع المعقول والمنطقي من المواهب المادية وحتى التزيينية والكمالية بأنّه مباح وقد أشار إليه في سورة الأعراف الآية 32.

15- دعوته إلى ل (مراعاة الاداب)، وحسن المواجهة مع الآخرين، وملاحظة الموازين الأخلاقية في أي مكان، وقد أشار لهذه المسألة في سورة لقمان، الآيتين 18 و 19، وسورة الحجرات، الآيتين 11 و 12، وسورة الفرقان، الآية 72، وآيات اخرى وورد ايضاً في الآية: «خُذِ الَعفوَ وأْمُرْ بِالعُرفِ وَأَعرِضْ عَنِ الجاهلِينَ» «1». (الأعراف/ 199)

16- استخدام (البحث المنطقي» في الحوار مع اتباع الأديان الاخرى بدلًا من التعصب الأعمى يقول القرآن الكريم: «ادعُ الَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكمَةِ وَالموَعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلهُم بِالَّتِى هِىَ احسَنُ». (النحل/ 125)

______________________________

(1) في حديث للإمام الصادق عليه السلام أن هذه الآية أكثر الآيات الأخلاقية شمولًا في القرآن المجيد (تفسير مجمع البيان، ذيل

الآية مورد البحث).

نفحات القرآن، ج 8، ص: 267

17- (الخضوع للحقِّ) وقبوله من أيٍّ كان لأنه يعتبر واحداً من المبادئ السامية للدين الإسلامي، يقول تعالى «فَبَشِّر عِبَادِ* الّذِينَ يَستَمِعُونَ القَولَ فَيتَّبِعُونَ احْسَنَهُ اولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَاولَئِكَ هُمْ اولُوا الالبَابِ». (الزمر/ 17- 18)

18- (اخلاص النية من الدوافع غير الإلهيّة) من الاصول التي أكد عليها القرآن الكريم والروايات الإسلامية مراراً، واعتبرها من الأعمال النزيهة المقبولة عند اللَّه تعالى، والتي تؤدي إلى النجاة والسعادة هي الأعمال التي لم يقصد بها التظاهر والرياء، وإنّما التي يراد بها غايات إنسانية واخلاقية وإلهيّة سامية تشكل ركناً اساسياً، واستندت سبعة آيات من القرآن إلى جملة «مُخْلِصِين لَهُ الّدِينَ» «1».

ومن جهة شبّهَ صدقات المؤمنين- الخالصة- في سورة البقرة، الآية 265 بالبستان الملي ء بالثمر عندما تنزل عليه رحمة المطر الإلهيّة تتضاعف ثماره ضعفين.

ومن جهة اخرى شبّه في سورة البقرة، الآية 264 أعمال المرائين- غير المؤمنين- بالبذور التي بُذرت في تراب قليل على صخر صلد جرفه المطر عندما نزل عليه.

19- انتقد الإسلام بشدة (الاسراف والتبذير) وسمى المبذرين بإخوان الشياطين: «انَّ المُبَذِّرِينَ كَانُوا اخَوانَ الشَّيَاطِينِ». (الاسراء/ 27)

20- من الاصول الأساسية للإسلام أيضاً: (رعاية الأطفال الأيتام وفاقدي المعيل) وأكدت آيات وروايات كثيرة على ذلك إلى الحد الذي اعتبرت فيه أكل أموال الأيتام كأكل النار: «انَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ امْوَالَ اليَتَامَى ظُلماً انَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِم نَاراً». (النساء/ 10)

وفي مكان آخر اوصى بإصلاح شؤونهم، يقول تعالى «وَيَسئَلُونَكَ عَنِ اليَتَامَى قُلْ اصلاحٌ لَّهُم خَيْرٌ». (البقرة/ 220)

21- احترام الاسرى في الإسلام، وقد أوصى بحسن معاملتهم واعتبر مساعدتهم وإعانتهم في القرآن الكريم بأنّها جزء من أعمال الابرار والاخيار: «وَيُطعِمُونَ الطَّعَامَ عَلى حُبِّهِ مِسكِينَاً وَيَتِيماً وَاسِيراً». (الدهر/ 8)

______________________________

(1) الأعراف، 29؛ يونس، 22؛ العنكبوت، 65؛

لقمان، 32؛ غافر، 14 و 65؛ البينة، 5.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 268

وجاء في حديث للإمام علي عليه السلام: (اطعام الأسير والاحسان إليه حقٌ واجبٌ) «1».

22- ومن المسائل المهمّة التي أكد عليها القرآن الكريم والروايات الإسلامية هي مسألة (التشاور في الامور)، حتى أنّ الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله مع عقله الكامل كان مأموراً بالاستشارة:

«وَشَاوِرهُم فِى الامر». (آل عمران/ 159)

واعتبر التشاور في الامور الاجتماعية المهمّة بأنّه احدى علائم الإيمان: «وَامْرُهُم شُوَرى بَيْنَهُم». (الشورى 38)

23- كانت (محاربة الخرافات) أيضاً من المهام الرئيسية للنبي صلى الله عليه و آله في حين كان مدّعو النبوة الكاذبون يصرون على نشر الخرافات وتسميم أفكار الناس عن طريقها، ولترغيب العامة لقبول خرافاتهم، ولكن نبي الإسلام صلى الله عليه و آله حطم هذا السد، بل كان يحارب كلّ خرافةٍ حتى لو كان الإسلام يستفيد منها ظاهراً.

وأي خرافة أكبر من (عبادة الأوثان) التي اجتاحت جزيرة العرب بأسرها، إلى حد أنّ مخالفتها والإعراض عنها أصبح مشكلة عويصةً وعجيبةً جدّاً، بل عدّ أحياناً من علامات الجنون، وأثناء ما كان النبي صلى الله عليه و آله يدعو لعبادة الإله الواحد الأحد، قالوا: «اجَعَلَ الآلِهَةَ الهَاً وَاحِدَاً انَّ هَذَا لَشَى ءٌ عُجَابٌ». (ص/ 5)

وظاهراً إن أحد أسباب نعت نبي الإسلام صلى الله عليه و آله بالجنون هي أنّه نهض لمحاربة قضية عبادة الأصنام التي كانت من أكثر بديهيات تلك البيئة والمحيط.

والخلاصة هي أنّ عرب الجاهلية كانت تخيم عليهم خرافات كثيرة يطول شرحها، وقد حاربها الرسول صلى الله عليه و آله كلها.

24- من المسائل التي أعطاها الإسلام أهميّة كبيرة هي تحرير الإنسان من ربقة الهوى والهوس واستعباد الآخرين، أو الوقوع في أسر الأعراف والتقاليد والسنن المغلوطة، إلى درجة اعتبر

فيها أن احدى صفات النبي صلى الله عليه و آله هي: «وَيَضَعُ عَنهُم اصرَهُم وَالاغلَالَ الَّتِى كَانَت عَلَيهِم». (الأعراف/ 157)

______________________________

(1) وسائل الشيعة، ج 11، ص 69 أبواب جهاد العدو، الباب 32، ح 3.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 269

وجاء في الحديث النبوي المعروف: أنّ أحد الذنوب التي لايغفرها اللَّه أبداً هي أن يسلب الإنسان حرية الإنسان الآخر ويستعبده ويبيعه «1».

25- أحد البرامج الأساسية لهذا الدين (المنع من التكاثر) وطلب الزيادة والحرص والطمع في الامور المادية، وقد اشير إلى ذلك في آيات متعددة من القرآن الكريم، وكذلك الروايات الإسلامية، إلى حد اعتبرها من الصفات المذمومة في الحياة الدنيا، وجعلها مرادفة للهو واللعب والتفاخر (الحديد- 20)، وعدها سببا في عدم الإيمان بالله، وذم بشدة أولئك الذين يتوجهون صوب القبور لحساب قبور موتاهم حتى يثبتوا كثرة قبائلهم: «أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ* حَتَّى زُرتُمُ المَقَابِرَ». (التكاثر/ 1- 2)

ويقصُّ عليهم- بالتفصيل- قصة «قارون» المستكبر المستكثر الذي كان يرى نفسه فوق الجميع، وعاقبته وعاقبة أمواله بعد أن خسفت به الأرض، وينهى نبيه صلى الله عليه و آله عن مد عينيه إلى الإمكانات المادية لهؤلاء الأفراد أو اعتبارها علامة على أفضليتهم وعلوهم، (طه/ 131، القصص/ 76 فما بعد).

26- (الدعوة إلى الاتحاد والتضامن) يمكن اعتبارها جزء من الأوامر التي تحتل صدر قائمة البرامج الإسلامية، والتي ذكرها القرآن الكريم بتأكيد شديد، فكان يدعو الجميع إلى الاتحاد وينهاههم عن التفرقة، ويحذرهم من العودة إلى اختلافات الجاهلية وعد الأفراد المتفرقين المشتتين على شفير هاوية من النار، (آل عمران- 103) واعتبر التنازع والاختلافات مصدراً لضعف المجتمع، وضياع قدرته وشوكته، (الانفال/ 46).

27- (احترام القانون) يعتبر من اهم وصايا الإسلام التي أكد عليها لدرجة أنّه قال:

احترموا القانون حتى لو حكم ضدكم، وجاء في

القرآن: «كُونُوا قَوَّامِينَ بِالقِسطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَو عَلَى انفُسِكُمْ اوِ الْوَالِدَينِ وَالاقرَبِينَ». (النساء/ 135)

واعتبر نقض حرمة القانون حراماً، والتعدي على (حدود اللَّه) ظلماً وجوراً: «وَمَنْ يَتَعدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَاولَئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ». (البقرة/ 229)

______________________________

(1) عن النبي صلى الله عليه و آله، إنّ اللَّه تعالى غافر كل ذنب إلّامن جحد مهراً، أو اغتصب أجيراً أجره، أو باع رجلًا حراً، سفينة البحار، مادة (أجر).

نفحات القرآن، ج 8، ص: 270

وإنّ الإيمان الصادق هو التسليم المطلق لقانون الحق وترك معارضته حتى في حيّز الفكر والعقل كما ورد في الآية 65 من سورة النساء.

28- (نبذ حب الانتقام) ولم تكن هذه الصفة الحميدة مختصة بالرسول صلى الله عليه و آله وإن تجلّت بوضوح كامل في حروبه وخاصةً في فتح مكة، وإنّما أوصى أتباعه مراراً وتكراراً إلى العفو والصفح، وغض النظر عن زلات الآخرين وتذكيرهم بالعفو الإلهي: «وَليَعفُوا وَليَصفَحُوا الَا تُحِبُّونَ انْ يَغفِرَ اللَّهُ لَكُم». (النور/ 22)

بل تعدى ذلك إلى القول: «ادفَع بِالَّتِى هِىَ احسَنُ فَإِذَا الَّذِى بَينَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَانَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ». (فصلت/ 34)

ولكنّه مع كل هذا لا يسمح بأنّ يستغل الأعداء الحاقدون رحمة الإسلام ورأفته، بل كان صلى الله عليه و آله يأمر أصحابه: مثلما عليكم أن تكونوا لينين وعطوفين مقابل الأصدقاء والأعداء المخدوعين فيجب عليكم أن تتعاملوا مع الأعداء الأشداء بخشونة وشدّة، حتى أنّه وصف الصادقين بأنّهم: «اشِدَّآءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَينَهُم». (الفتح/ 29)

29- (الدعوة إلى التقوى وهي من القضايا التي يستند إليها الإسلام في كل مناسبة، ويعتبرها السبيل الوحيد لخلاص الإنسان، وزاد آخرته «1»، ومعيار شخصيته «2»، وبركة الدنيا «3»، وسعادة الآخرة «4»، وسبباً للبصيرة والمعرفة «5».

30- (الحب والبغض في اللَّه) من اسس التعاليم الإسلامية أيضاً، أو بتعبير أوضح اعتبر

الإسلام كل من يخطو في محجة الإيمان، والحق، والعدل، والتقوى والنزاهة، صديقاً يجب توثيق العلاقة معه، وبالعكس أوصى بالابتعاد عن الاشرار وذوي السمعة السيئة والملوثين والظالمين، واعتبر القرآن الكريم الامتثال لذلك من علائم الإيمان الأصلية (حزب اللَّه) «6». واعتبرتها الروايات الإسلامية بأنّها من أقوى عرى الإيمان والإسلام (أوثق

______________________________

(1) البقرة، 197.

(2) الحجرات، 13.

(3) الأعراف، 96.

(4) مريم، 63.

(5) الانفال، 29.

(6) المجادلة، 22.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 271

عرى الإيمان الحبُّ في اللَّه والبغض في اللَّه) «1»، وأفضل الأعمال «2».

هذه طائفة من تعاليم الإسلام في الاصول والفروع.

فهل يصدق أن يأتي إنسان امّي لم يتلقَّ أي تعليم، وهو ابن بيئة غمرتها ظلمات الجاهلية، وعاش في بؤرة الكفر والفساد والجور والخشونة، بمثل هذه التعاليم؟ كلا بالطبع إلّا إذا كان مسدداً عن طريق الوحي السماوي والالهام والتأييد الإلهي.

إنَّ دراسة مضمون ومحتوى الدعوة لأي دين من أفضل الأدلة التي يستخدمها العلماء لإثبات صدق أو كذب مايدعيه ذلك الدين، وأحياناً تكون مقدمة على الكثير من المعجزات، لأنّ العديد من الوساوس التي تبرز من قبل المعاندين اللجوجين لها (من قبيل اتهامه بالسحر وأمثاله) تصبح لا معنى لها عند البحث في محتوى الدعوة، بل وحتى يمكن تأليف كتاب ضخم حول هذا الموضوع وخاصةً حول تعليمات الإسلام في كافة الجوانب الاعتقادية والأخلاقية والاجتماعية، وكذلك الميدان الواسع والفسيح لهذا المبحث في المسائل الفردية والجماعية المعنوية والمادية.

بديهي أنّه لا يمكن أن تكون هذه المجموعة من التعاليم الصادرة من عربي صحراوي امي خرج من أكثر البيئات تخلفاً هي مسألة عادية، وباعتقادنا أنّه لا توجد أي معجزة أكبر من هذه المعجزة، أو على الأقل هي قرينة إذا ضممناها إلى القرائن الاخرى شكلت مجموعة مطمئنة وقوية.

4- عمق تأثيره في محيطه

صحيح إنَّ التأثير الواسع الذي تتركه مدرسة من

المدارس في بيئة معينة لا يمكن أن يكون بمفرده دليلًا على صحتها، لأننا نعرف العديد من الديانات والتعاليم الخاطئة تركت

______________________________

(1) اصول الكافي، ج 2، ص 125.

(2) سفينة البحار ج 1، ص 201.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 272

تأثيرها على بيئات واسعة وكانت نهايتها أن انفرط عقدها أو لازال البعض منها متصلًا، ولكن كيفية هذا التأثير وماهيته يمكن اعتباره كقرينة حية إلى جانب القرائن الاخرى

وعندما يكون هذا التأثير على شكل قفزة وفي جوانب إيجابية ومع أقل الاضرار، فمن المسلَّم به أن يدلِّل على عمق تلك المدرسة وأصالتها.

ومن له أدنى اطلاع على تاريخ العرب والإسلام لا ينكر الفاصلة الزمنية التي مدّتها 23 عاماً وهي سني دعوة الرسول صلى الله عليه و آله- الفاصلة التي أحدثت (طفرة فلسفية) أكثر ممّا هي ثورة؟

فالمنبوذون الذين لم يتركوا في التاريخ اسماً ولا رسماً ... ومن وجهة نظر علم الاجتماع لم يخطّ على جباههم أي استعداد للتطور المذهل حتى لو بعد عدة قرون، يتحولون فجأة ويدخلون مرحلة جديدة من الحضارة العظيمة، ولم يغيّروا أنفسهم فقط، بل غيروا أيضاً العالم المعاصر لهم ولتبقى آثار هذه الثورة والتغيير ظاهرة في القرون اللاحقة وإلى زمان غير محدود ...

حضارة حولت مسير تاريخ البشرية، وغطت باشعاعها الحضارات الخمس العظمى في عصرها، أي: (حضارة الروم) و (ايران) و (مصر) و (بابل) و (اليمن).

وهذا بالضبط مالم يستطع المؤرخون وعلماء الاجتماع تفسيره وفق المعايير المعروفة التي بين أيديهم، وإن كانوا قد الّفوا كتباً بعنوان: تاريخ حضارة الإسلام، أو مسميات اخرى ولكنهم يعترفون بأنّه لازالت عندهم نقاط كثيرة غامضة لم تجد الحل حول ظهور الإسلام ونفوذه في العالم.

والملفت هو أنّ هذه الثورة وهذا التحول- خلافاً لسائر الثورات- لم يحدث على صعيد

واحد، ولم تكن له جوانب سياسية أو اقتصادية فحسب، بل وغيّر كل نُظُم المجتمع كالثقافة، والأخلاق، والاقتصاد، والآداب، والتقاليد، وكل شي ء.

ملخص الكلام: هو أنّ ابعاد تأثير الإسلام في محيط ظهوره، ثم في العالم كله، وكل التاريخ البشري، هو موضوع يستحق الدقّة التي تجعله قرينة ساطعة من قرائن حقانيته، وأن شرحه وبيانه يتطلب وضع كتاب منفصل.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 273

5- ما هي الوسائل الكفيلة لبلوغ الهدف

كل فرد أو مجموعة مضطرون- من أجل الوصول إلى أهدافهم- إلى الاستفادة من وسائل معينة. واختبار هذه الوسائل يمكنه أن يساعد إلى حد بعيد في التعرف على اصالة وأحقية تلك المدرسة أو على تزويرها وخداعها.

وبديهي أنّ أولئك الذين يعتبرون الاستفادة من كل وسيلة- للوصول إلى أهدافهم- جائزة، ويجعلون أصل (الغاية تبرر الوسيلة)، أو (الغايات تبرر الوسائط) برنامجهم الأصلي هم بعيدون عن الاصالة.

أمّا أولئك الذين يستخدمون الوسائل المقدسة لنيل أهدافهم المقدّسة فهم يعطون الدليل على أحقيتهم، ويمكن تمييز مُدّعي النبوّة الصادقين من الكاذبين عن هذا الطريق.

الأشخاص الذين لا يعترفون بأي قيد أو شرط للوصول إلى أهدافهم ويعتبرون كل وسيلة مشروعة أو غير مشروعة مباحة والذين يعتبرون مفاهيم من قبيل العدالة والامانة والصدق والاحترام للقيم الإنسانية محترمة طالما أنّها تعينهم للوصول إلى أهدافهم وإلّا تركوها ونبذوها فمسلّماً أنّهم في مُدّعي النبوّة الكاذبين.

إنَّ الأنبياء الإلهيين هم أولئك الذين يحترمون الاصول الإنسانية حتى في حروبهم، ولا يعدلون عنها في الشدائد والمحن مطلقا، وعند انتصارهم لا يتجاوزون أصول العدالة، والعفو، والتسامح مع أعدائهم، وفي أوقات الخطر واحتمال عدم تحقيق النصر لا يلتجأون إلى الوسائل غير الإنسانية.

وإذا قسنا هذا الأصل الكلي مع حياة نبي الإسلام صلى الله عليه و آله والتفتنا إلى سلوكه مع الأعداء والأصدقاء، في اوقات تحقيق النصر أو عدم

تحقيقه، في الشدّة والرخاء، فسوف ندرك جيداً أنّه كان متّبعاً لقيم خاصة في اختيار وسائل الوصول إلى الهدف.

لم يلجأ النبيُّ صلى الله عليه و آله مطلقاً في لحظات الخطر إلى استخدام أساليب غير إنسانية، بل وراعى المسائل الأخلاقية الدقيقة حتى في ساحة القتال.

فعند انتصاره في (فتح مكة) أصدر (العفو العام) عن أخطر أعدائه، وصفح حتى عن القتلة ومجرمي الحرب.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 274

ولما سمع أحد قادة الجيش يعلن شعاراً ثأرياً ويقول:

(اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة، اليوم أذلّ اللَّه قريشاً) أمر فوراً بعزله وقال:

ليقولوا بدل هذا الشعار (القبيح وغير اللائق): (اليوم يومُ المرحمة ... اليوم أعزّ اللَّه قريشاً) «1».

وحتى حين وقف كبراء مكة صفاً ليروا حكم الرسول صلى الله عليه و آله بشأنهم (وكان الكثير من الناس يتوقعون أن يشدد الرسول ويقسو على هؤلاء الأعداء الحاقدين) التفت إليهم صلى الله عليه و آله وقال: «ما تظنون أنّي فاعلٌ بكم؟» قالوا: لا نظنُّ إلّاخيراً. فقال صلى الله عليه و آله: «أقول لكم ماقال يوسف لإخوته: «لَاتَثْرِيبَ عَلَيكُمُ اليَوْمَ يَغَفِرُ اللَّهُ لَكُم وَهُوَ أَرحَمُ الرَّاحِمِينَ». (يوسف/ 92)

اذْهَبُوا فأنتم الطلقاء».

وعندما قتل (خالد بن الوليد) أسرى بني خزيمة بدون سبب ووصل الخبر إلى نبي الإسلام صلى الله عليه و آله. تألم بشدّة وقال مرّتين أو ثلاث: «اللّهم إنّي أبرءُ إليك ممّا صنع خالد»، ثم أمر علياً عليه السلام أن يذهب مع مبلغ من المال إلى تلك القبيلة فيعطيهم دِيَة قتلاهم ويعوض ممتلكاتهم التي تضررت بالمال وأن يسعى في جلب رضاهم «2».

إنَّ هذه الامور لا يمكن مشاهدتها في حروب عالم اليوم، وحتى في مهد الحضارة الصناعية، فقد شهد العالم افضع مآسي الانتقام في نهاية الحرب العالمية الاولى والثانية، والجرائم التي

لا تُعدّ للجيوش المنتصرة.

والآن كيف اتصف النبي صلى الله عليه و آله بكل هذا العفو والرحمة بين قوم نصف متوحشين؟ هذا السؤال يجب أن يجيب عليه العقلاء والحكماء.

كان ورعه واجتنابه عن الأساليب اللإنسانية إلى درجة أنّه صلى الله عليه و آله، يرفضها حتى ولو تهيأت مقدماتها وأسبابها بصورة طبيعية، ومهما بدت في الظاهر أنّها مؤيدة له، ففي حادثة وفاة إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه و آله قيلَ: إنّ الشمس كسفت تزامنا مع هذه الواقعة، وقال بعض الناس: إنّها كرامة ومعجزة من قبل النبي صلى الله عليه و آله، وإنّ الشمس كسفت لوفاة إبراهيم.

______________________________

(1) نقلت هذه القضية بعبارات مختلفة في بحار الأنوار، ج 21، ص 105 و 130؛ وفي حبيب السير: ج 1، ص 288؛ وتفسير جامع البيان في ج 2، ص 334؛ وكامل ابن الأثير ج 2، ص 246.

(2) حبيب السير، ج 1، ص 389.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 275

لكن النبي صلى الله عليه و آله صعد المنبر وقال: «أيّها الناس إنّ الشمس والقمر آيتان من آيات اللَّه يجريان بأمره مطيعان له، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فاذا انكسفا أو أحدهما صلوا»، ثم نزل من المنبر فصلى بالناس صلاة الكسوف، فلما سلَّم قال: «ياعلي قم فجهز ابني» «1».

تشير هذه القصة إلى أنّ النبي صلى الله عليه و آله سارع إلى هذا العمل حتى قبل اجراء مراسم دفن ابنه إبراهيم كي يقضي على هذه الفكرة الخاطئة قبل شيوعها وإن كانت لصالحه ظاهراً ... إنّه لا يريد أن ينتفع من أساليب مغلوطة وغير مشروعة في التقدم لنيل أهدافه ومقاصده.

و على الرغم من أنّ الحديث قد طال حول هذا الموضوع، ولكن لابدّ في الختام من ذكر هذه

النقطة وهي: إنّ دقائق الامور التي جاءت في اداب الحرب في الإسلام وأكد عليها النبي صلى الله عليه و آله وأثبت عمليا التزامه بها هي شاهد آخر على الادّعاء الآنف الذكر.

فحينما كان الجيش الإسلامي يستعد للتحرك إلى أحد ميادين الجهاد، كان النبي صلى الله عليه و آله يبين لهم واجباتهم الحساسة بهذه العبارات: «سيروا بسم اللَّه وبالله وفي سبيل اللَّه وعلى ملة رسول اللَّه، لاتغلو، ولا تمثلوا ولا تغدروا ولا تقتلوا شيخاً فانياً ولا صبياً ولا امرأة ولا تقطعوا شجراً إلّاأن تضطروا إليه».

وفي حديث آخر: «... ولا تحرقوا النخل، ولا تغرقوه بالماء، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تحرقوا زرعاً لأنّكم لا تدرون لعلكم تحتاجون إليه ولا تعقروا من البهائم يؤكل لحمه إلّا ما لابدّ لكم من أكله» «2».

وكان النبي صلى الله عليه و آله ملتزماً بكل المبادئ الأخلاقية السامية إلى تلك الدرجة التي جعلته في معركة خيبر يرفض اقتراح من أشار عليه بقطع الماء عن اليهود المحاصرين لمدّة طويلة في داخل قلاع خيبر القوية، وأجابه صلى الله عليه و آله قائلًا: «إنني لا أقطع عنهم الماء أبداً».

وعندما قال له راعٍ لمواشي اليهود: إنني حاضر لأنّ أعطيك هذه المواشي كلها، رفض النبي صلى الله عليه و آله ذلك ونهاه أن يخون الأمانة التي أودعوها عنده «3».

______________________________

(1) بحار الأنوار، ج 22، ص 155، ح 13 (باب عدد أولاد النبي).

(2) جاء هذا الحديث في مصادر متعددة وبعبارات مختلفة، من جملتها كتاب الوسائل، ج 11، ص 43 باب آداب امراء السرايا وأصحابهم، ح 2 و 3.

(3) سيرة ابن هشام، ج 3 ص 344.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 276

6- إيمانه وتضحيته في سبيل هدفه

من القرائن الرئيسة الاخرى لمعرفة المدعين للنبوّة الصادقين من الكاذبين هو إيمانهم

بما يدّعونه وتضحيتهم وايثارهم في سبيله، ولأنّ المدعين الكاذبين مطّلعون على حقيقة الأمر فإنّهم بالطبع لا يضحون كثيرا في سبيل هدفهم، بالإضافة إلى أنّهم مستعدون للمساومة وتحريف مدعياتهم، في حين أنّ الصادقين منهم لا يُجوِّزون لأنفسهم أيّاً من ذلك.

صحيح أنّ هذا الأمر بمفرده غير كاف، ولكن يعتبر قرينة جيدة تضم إلى القرائن الاخرى

ولم ير في أيٍّ من كتب التاريخ أنّ نبي الإسلام صلى الله عليه و آله قد تراجع أو تنصل عن معتقداته، أو فرَّ من ميدان الجهاد، وحتى في معركة (احد) عندما وصلت الحرب إلى أقصى درجات الشدة وفرّ من ساحة المعركة أغلب الجيش (أو كله عدا علياً عليه السلام وبعض المخلصين والتجأوا إلى مكان ليضمنوا نجاتهم، هنالك حيث بقي النبي صلى الله عليه و آله صامداً في الميدان، محتملًا أذى الجراحات بسبب اصابته في جبهته وأسنانه ولم يبق له في الظاهر أي أمل في النجاة ولكنه ظل صامداً.

وفي قصة (مرض أبي طالب) وطلب قريش منه- التي قرأناها في بداية الجزء السابق- أن يعرض على النبي صلى الله عليه و آله أن يكفَّ عن محاربته لعبادة الأصنام، ويكف عن الدعوة إلى الإله الواحد الأحد، قال صلى الله عليه و آله: «لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره اللَّه أو أهلك فيه ماتركته» «1».

ونقرأ في قصة اخرى إنّ قريشاً جاءت للنبي صلى الله عليه و آله وأعطته وعداً بأنّ تضع تحت اختياره من المال مايجعله أغنى رجال مكة، وأن يُزوِّجوه أي امرأة يريدها، ويجعلوه عليهم سيداً، بشرط (أن يدع تسفية أصنامهم. وقالوا له: إذا لم تقبل فلدينا اقتراح آخر ينفعك وينفعنا وهو

______________________________

(1) تفسير جامع البيان، ج

2 ص 67.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 277

أن تعبد الهتنا مثل (اللات) و (العزى عاماً ونحن نعبدُ آلهتك عاماً لنرى ما تكون العاقبة)، وهنا نزلت سورة «يَاأَيُّها الكَافِرُونَ»، وردّ عليهم النبي صلى الله عليه و آله بالسلب «1».

وفي تفسير سورة طه (الآية الثانية) نقرأ: حينما كان النبي صلى الله عليه و آله- بعد نزول الوحي والقرآن- يتعبدُ كثيراً إلى حد تورّمت قدماه المباركتان، فنزلت الآية الآنفة لتمنعه من هذا العمل المُرهق، وقالت: «مَآانزَلنَا عَلَيكَ القُرآنَ لِتَشقَى . (طه/ 2)

وهذه دلالة على أنّه إلى أي حدٍّ كان مؤمناً بتعاليمه.

و (قصة المباهلة) ودعوة النبي صلى الله عليه و آله أعداءه- أن إذا كنتم تقولون حقا فتعالوا بأهلكم، ويطلب كل منا من اللَّه أن ينزل العذاب على الكاذب ويفضحه- هي دلالة اخرى على إيمانه الراسخ بدينه، لأنّه صلى الله عليه و آله أعلن استعداده التام لهذا الغرض، وتراجع مخالفوه لأنّهم غير مطمئنين بأحقيتهم في المباهلة.

وقد نقل مؤرخو الشرق والغرب قصصاً وحكايات كثيرة عن (صمود النبي صلى الله عليه و آله أمام الحوادث ومواجهته للمشاكل الكبرى التي يعجز الإنسان العادي عنها.

قال (غوستاف لوبون) المستشرق الفرنسي المعروف: إنّه لا يهرب من أي خطر، وفي نفس الوقت لا يلقي بنفسه إلى الخطر بدون دليل «2».

ويقول تلميذ تلك المدرسة العظيم أمير المؤمنين (عليه السلام بشأن أحوال النبي صلى الله عليه و آله في سوح القتال: «كنّا إذا احمر البأس ولقى القوم القوم اتقينا برسول اللَّه فما يكون أحدٌ أقرب إلى العدو منه» «3».

7- من هم المؤمنون به؟

عادة ما يجتذب الأفراد غير الصالحين حولهم أفراداً مثلهم، وهذه القاعدة وإن لم تكن دائمة ولكنها في الغالب هكذا.

______________________________

(1) تفسير جامع البيان، ج 2، ص 70.

(2) حضارة الإسلام والعرب، ص

119.

(3) بحار الأنوار، ج 16، ص 232، وبنفس المضمون مع بعض التفاوت في نهج البلاغة. الكلمات القصار، الكلمة 9.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 278

ويتضح ذلك من مطالعتنا للمثل المعروف: (إنّ المزور يُعرف من زائريه)، وعلة ذلك واضحة لأنّ أهل الدنيا ومنتهزي الفرص يتجهون دائماً إلى أولئك المهيئين للتساوم معهم، يعطونهم امتيازات ويأخذون منهم اخرى ليصلوا إلى مقاصدهم غير المشروعة.

وهذه المسألة خاصة تظهر أكثر وضوحا حول المقربين والخواص وحافظي أسرار ذلك الشخص، فاذا رأينا اخلاص خواص تلك المدرسة، وحملة أسرارها، وممن تثق بهم، أدركنا بالنهاية نزاهة وإيمان وصدق قائدها، وبالعكس، فاذا التفَّ حوله أفراد كذابون، نفعيون فسوف نفهم بأنّ الماء ينبع من منبع آسن.

والآن لنلقي نظرة على الخلّص وحملة الأسرار والتلاميذ الأصليين لمدرسة نبيّ الإسلام صلى الله عليه و آله ... أفراداً مثل (علي بن أبي طالب)، وفي مراحل لاحقة أفراداً مثل (سلمان) و (أبو ذر) و (المقداد) و (عمار بن ياسر) و (صهيب) و (بلال) وأضرابهم، فنرى كل واحد منهم كان نموذجا للتقوى والفضيلة والإيمان والمعرفة والزهد.

ونموذج آخر من هؤلاء الأفراد هم (أصحاب الصفة) المهاجرون الأبرار الذين هجروا كل ما يملكون في مكة، والتحقوا بصفوف أصحاب النبي صلى الله عليه و آله وكانوا يعيشون في أسوأ الأوضاع الاقتصادية.

أو مجموعة السبعين شخصاً الذين توجهوا إلى منطقة (نجد) لنشر الإسلام، ثم تجرعوا كأس الشهادة كلهم في هذا السبيل، وكانوا يقضون الليل بالعبادة، والنهار بجمع الحطب ليضعوا ما تجود به أيديهم باختيار أصحاب الصفة أولئك «1».

وكان من بين خلص أصحابه أفرادٌ يعيشون في مستويات دنيا من حيث الموقع الاجتماعي، والجوانب المادية والظاهرية، ولكن النبي صلى الله عليه و آله كان يكرمهم لمميزاتهم المعنوية ويقدمهم على الآخرين، إلى ذلك الحد

الذي سبب اعتراض مخالفيه الشديد وجاءه عدد من أعيانهم وكان عنده أفرادٌ من أمثال سلمان، وصهيب، وأبي ذر، وعمار، وخباب،

______________________________

(1) منتهى الآمال- وقائع السنة الهجرية الرابعة- وجاء نفس المعنى مع بعض الاختلاف في تاريخ الكامل لابن الاثير، ج 2، ص 171.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 279

ونظرائهم من المعوزين والفقراء، وحينما وقعت أعينهم على هذا المشهد قالوا بغرور وتكبر: (لو نحيت عن هؤلاء روائح صنانهم ... جلسنا نحن إليك وأخذنا عنك فلا يمنعنا من الدخول عليك إلّاهؤلاء).

وهنا نزلت الآية الكريمة: «وَاصبِر نَفسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدعُونَ رَبّهُم بِالغَدَاةِ وَالعَشِىّ). (الكهف/ 28)

وأُمرَ النبي صلى الله عليه و آله بأنّ يكون دوماً مع هذه الزمرة الحفاة من أصحاب القلوب الطاهرة، وأن لا يمد عينيه إلى الأُبَّهة الظاهرية للأثرياء الأنانيين «1».

وفي الآية التي بعدها تَردُ كلمات حادة وموجعة على ما يطلبه المستكبرون فتقول: «وَقُلِ الحَقُّ مِن رَبِّكُم فَمَن شَآءَ فَليُؤمِنْ وَمَنْ شَآءَ فَليَكفُرْ انَّا أَعْتَدنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً احَاطَ بِهِم سُرَادِقُها». (الكهف/ 29)

وهذا البيان الصريح والقاطع يثبت بشكل جيد أنّ الإسلام عن أي طبقة يدافع؟ وما هي الطبقات التي تحتل الصفوف المتقدمة فيه؟

ويعتبر القرآن الكريم التفاف الأفراد المؤمنين المخلصين والأبرار حول النبي الأكرم صلى الله عليه و آله بأنّه واحد من شواهد حقانيته صلى الله عليه و آله إذ يقول: «افَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنهُ». (هود/ 17)

ولكنّ أكثر المفسرين يعتقدون بأنّ (البينة) هي نفس القرآن والمعجزات، وأنّ المقصود ب (الشاهد) هم الاتباع المضحون المؤمنون المخلصون أنفسهم.

ومن البديهي أنَّ إيمان شخصٍ كعلي عليه السلام بما يتصف به من المميزات العلمية والمعنوية والأخلاقية التي اتضحت في (نهج البلاغة) يمكن أن يكون شاهداً ناطقاً على حقانية النبي صلى الله عليه و

آله.

______________________________

(1) نقل هذه القصة الكثير من المفسرين والمؤرخين بعبارات مختلفة، تفسير مجمع البيان والقرطبي في ذيل الآية 28 من سورة الكهف.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 280

8- التطور السريع

إنّ التطور السريع، والتقدم الخارق لدين ما، وإيجاده لتحول عظيم وواسع، يمكنه أن يشكل قرينة اخرى على أصالته وحقانيته، لأنّ تأثيراً كهذا يكون ممكناً فقط إذا كانت قواعد هذا الدين مستندة إلى فطرة الحياة وواقعياتها، ومنطبقة مع قوانين الخلق والإبداع، أي نفس القوانين المتحكمة بحياة البشر.

فالقانون غير الفطري، وغير المنسجم مع التركيب النفسي والبدني للإنسان، يتقدم بصعوبة بالغة، وإذا تقدم فبسبب استخدام عوامل سلطوية مشددة، فمثلًا في بداية دعوة الشيوعية لنفسها كان لها تقدم سريع ومثير، ولكننا نعرف جميعاً أنّ ذلك تمّ باللجوء إلى استخدام القوّة وسفك الدماء والدكتاتورية الشديدة، في حين أنّ التقدم الفكري السريع والعميق إذا جرى في عمق أفكار المجتمع كان دلالة على أصالته، ونحن نعلم بأنّ الإسلام قد انتشر في مناطق شاسعة في القرون الاولى من ظهوره بدون أن تطأها أقدام حتى جندي مسلم واحد.

على كل حال إنّ الانتشار السريع للإسلام في ظاهر المجتمع البشري وباطنه، وبمناطق شاسعة من هذا العالم، وذلك في خلال برهة زمنية قصيرة أيضاً، ليس بالشي ء الذي يبقى خافياً على أحد، والمثير أنّ هذا الدين ظهر في منطقة نصف متوحشة، وبسط نفوذه على كل العالم المتمدن في ذلك الزمان وفي مدّة وجيزة.

وهذا النفوذ السريع والشامل لازال يشكل لغزاً مُحيّراً للمؤرخين الكبار من غير المسلمين، وكنموذج على ذلك:

1- عندما يصل مؤلفو كتاب (حضارة الغرب ومرتكزاتها في الشرق) وهم ثلاثة من العلماء الغربيين المعروفين- إلى فصل ظهور وانتشار الإسلام، يعترفون بصراحة قائلين: «كل المحاولات التي جرت لمعرفة الإسلام وانتشاره السريع- إلى الحد الذي استطاع

أن يبسط ظلاله على القسم الأعظم من العالم المتحضر آنئذٍ في أقل من قرن- وعلى الرغم من كل التفسيرات والتحليلات التي وردت عن هذه الحقبة التاريخية فلا زالت هذه القضية باقية على شكل لغز من الألغاز» «1».

______________________________

(1) حضارة الغرب ومرتكزاتها في الشرق، فصل ظهور الإسلام وانتشاره.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 281

2- كتبت السيدة (فاغلري) العالمة الاوربية المعروفة كتاباً بعنوان (انتشار الإسلام السريع) يمكن اعتباره شاهداً آخر على هذه المسألة، إذ اعتبرت الانتشار السريع للإسلام بأنّه أمر اعجازي، كما أنّ القرآن كتابٌ اعجازىٌّ لا يمكن أبداً لمحمد صلى الله عليه و آله العربي الامي أن يبتدعه.

3- وعبَّر باحث ايطالي في أحد فصول كتابه عن تاريخ الرياضيات حول (الرياضيات عند المسلمين) بأنّها احدى معجزات العرب.

واعتبر أنّ ما أحدثه الإسلام سريعا وعميقاً إلى درجة يعجز المنطق والتعبير العادي عن تفسيره.

ثم يضيف: «إنّ ما ينسبه البعض من المسلمين للمشيئة والقدرة الربانية في ظهور الإسلام وثقافته ... هو في الحقيقة دلالة على أنّ أصل تطور الحضارة البشرية هذا كان غير متلائم مع موازين إمكانات ومقتضيات تلك الأزمنة إلى الحد الذي جعلهم لم يستطيعوا أن يجدوا له تفسيرا سوى مشيئة اللَّه وتقديره» «1».

4- يقول الكاتب الانجليزي الشهير (برنارد شو) في أحد كتبه حول عظمة نبي الإسلام صلى الله عليه و آله: «إنني أنظر دائماً إلى دين محمد صلى الله عليه و آله باحترام كبير، لأنّه يتمتع بحركة وطراوة عجيبة، وأعتقد بأنّ الإسلام هو الدين الوحيد الذي يتطابق مع أدوار الحياة المختلفة، ويتلائم مع كل عصر وزمان ... نحن ننظر إلى القرآن ككتاب لمحمد صلى الله عليه و آله بنفس التعظيم والثقة التي ينظر فيها المسلمون له ويعتبرونه كتاب اللَّه» «2».

5- يتنبأ هذا

العالم الانجليزي (برنارد شو) في مقال عن جاذبية الإسلام وانتشاره ويقول: «إنّ الإسلام وبما يمتلكه من نفوذ معنوي يزيد باضطراد من اتباعه خاصةً في البلدان الاوربية» «3».

______________________________

(1) قاموس دارسي الشؤون الإسلامية الأجانب، ج 1، ص 60، تأليف حسين عبد اللهي خوروش (باللغة الفارسية).

(2) المصدر السابق، ج 1، ص 74.

(3) المصدر السابق، ج 2، ص 505.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 282

وإذا أردنا جمع شهادات المؤرخين المسلمين وغير المسلمين حول هذا الموضوع فإنّها تشكل كتابا ضخماً، لذا نكتفي بهذا المقدار:

1- الأخلاق والصفات الخاصة الاخرى لنبي الإسلام صلى الله عليه و آله بذاتها شاهد معبر على أنّه يبتغي هدفاً مقدساً، وينفذ مهمّة إلهية، ولم تلاحظ أي علامة من علامات المدعين الكاذبين ومنتهزي الفرص المنتفعين في أخلاقياته.

وأشارت كل كتب التاريخ تقريباً- سواء التواريخ التي كتبها المسلمون أو غير المسلمين- إلى قضية نزاهته وأمانته وإلى ذلك الحد الذي يعرف فيه كل الناس هذه الصفات حتى في الجاهلية ويلقبونه ب (الأمين)، بل وبعد ظهور الإسلام كذلك كان معارضوه وأعداؤه يودعونه أماناتهم، ولهذا السبب عندما أراد النبي صلى الله عليه و آله الهجرة إلى المدينة بعد مضي (13) عاماً من ظهور الإسلام أمر علياً عليه السلام أن يبقى في مكة ليعيد للناس أماناتهم ثم يهاجر إلى المدينة.

ومن المناسب أن نتأمل في هذا الحديث عن لسان الآخرين، لنرى ما لدى أولئك الذين هم غرباء عنه في الظاهر من شهادات صريحة عن هذا الموضوع:

ينقل عن كتاب (الاعتذار إلى محمد صلى الله عليه و آله) للانجليزي (جان ديفن بورت) قوله: «بلا شك إذا لم نأت به «محمد» كواحد من نوادر العالم وكأطهر نابغة استطاع الكون تربيتهم حتى الآن، فيجب أن نعتبرهُ من أعظم البشر، والشخصية الوحيدة

التي يمكن لقارة آسيا أن تفتخر بوجود هكذا ابن لها» «1».

2- في كتاب (محمد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله) نقلًا عن كتاب (الإسلام من وجهة نظر فولتير) أن (نابليون) قال منتقداً (مسرحية فولتير) التي وردت فيها اهانات لساحة الرسول صلى الله عليه و آله: «إنّ فولتير خان التاريخ والوجدان الإنساني لأنّه أنكر السجايا السامية لمحمد صلى الله عليه و آله، وصور هذا الرجل العظيم الذي سلط نوراً إلهياً على وجوه العاملين، على صورة موجود آخر» «2».

3- وصدفة أنّ (فولتير) نفسه غير رأيه بهذه المسرحية المهينة أواخر عمره واعترف

______________________________

(1) عذر التقصير إلى ساحة محمد والقرآن، ص 14 (فارسي).

(2) محمد رسول اللَّه، ص 142.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 283

صراحة بالقول: «يوجد في محمد شي ء يدفع الجميع لاحترامه، وأنني أسأت كثيراً بحق محمد» «1».

4- جاء في كتاب (دائرة المعارف البريطانية) في ذيل كلمة (القرآن): «يعتبر محمد من بين الرجال والشخصيات الدينية العظيمة في العالم، أكثر الشخصيات توفيقا وظفراً، وكانت رسالته مرادفة للنجاح والانتصار» «2».

5- يقول الفرنسي (غوستاف لوبون) مؤلف الكتاب المعروف (حضارة الإسلام والعرب): «إنّ بساطة ووضوح اصول العقائد الإسلامية بالإضافة إلى التعامل مع الناس بالعدل والاحسان الذي طبع وجه الدين الإسلامي بطابعه المنير صار سبباً في أن يبسط نفوذه على وجه الأرض كلها».

6- يقول (لامارتين) الشاعر الفرنسي المعروف بعد بيان مفصل في مدح نبي الإسلام صلى الله عليه و آله: «هذا هو محمد الذي لو أردنا أن نزنَ عظمته بأي ميزان فإننا سوف نضطر للقول: بأنّه ما من رجل في العالم أعظم من محمد» «3».

7- طبيب وكاتب لبناني مسيحي معروف اعتبر في أشعاره التي نظمها عن (نبي الإسلام) صلى الله عليه و آله بأنّه أفضل

مدبر وحكيم وعالم، ورب للكرم والكلام، ورجل العقل والسياسة، وبطل ميدان المعارك، ووصفه بصفات ليس لها نظير «4».

8- مع أنّ البعض من مؤرخي الغرب المغرضين والمنتفعين حاولوا أن يعطوا صورة عن نبي الإسلام صلى الله عليه و آله مخالفة للواقع، ولكن الرد عليهم هو نفس الرد الذي كتبه أحد من باحثيهم باسم (يوحنا واكنبرت) الذي انتقد في كتابه (محمد والإسلام) الكتاب المتعصبين والمغرضين الذين كتبوا عن نبي الإسلام صلى الله عليه و آله خلافاً للحقيقة، يقول: «بالقدر الذي يعود فيه الشخص إلى الحقائق المعتبرة تاريخياً، والمصادر الموثقة والصحيحة التي كتبت عن أقوال

______________________________

(1) محمد رسول اللّه، ص 143.

(2) دائرة المعارف البريطانية، مادة (قرآن).

(3) نقلًا عن كتاب (تاريخ تركيا) حسب كتاب (قاموس دارسي الشؤون الإسلامية، الاجانب) ص 61 (فارسي).

(4) قاموس دارسي الشؤون الإسلامية الاجانب، ص 534 (فارسي).

نفحات القرآن، ج 8، ص: 284

وأفعال وحالات محمد فسوف يبدو في نظره شاتمو هذا النبي أمثال (ماركس) و (برايدر) وسائر هؤلاء الأشخاص توافه وحقراء وضعفاء جدّاً» «1».

ملخص القول: ليس أصدقاؤه واتباعه فحسب، بل ومخالفوه والبعيدون عنه تحدثوا عن صفاته وسجاياه وملكاته الأخلاقية الفاضلة، وبرامج حياته الشخصية والاجتماعية القيمة بالقدر الذي لو جمعت أقوالهم هذه لشكلت عدة كتب كبيرة.

من مجموع هذه القرائن العشر التي كان لنا في كل منها إشارة عابرة، يمكن أن نستنتج بأنّه كان نبيّاً صادقاً ورسولًا حقيقياً ومبعوثاً من اللَّه العظيم، ولا يوجد في ذلك أدنى شك أو تردد وحتى لو غضضنا النظر عن كل معجزاته وخوارق العادات التي جاء بها.

هذا الدليل يعتبر كافياً لوحده، بل وكما أشرنا سابقاً أيضاً أنّ هذا الدليل بالنسبة للعلماء أسمى وأعلى من المعجزات.

______________________________

(1) محمد من وجهة نظر الآخرين، نقلًا عن قاموس دارسي الشؤون

الإسلامية، الاجانب، ج 1، ص 164 (فارسي).

نفحات القرآن، ج 8، ص: 285

الطريق الثالث: البشارات والإشارات

اشارة

نفحات القرآن، ج 8، ص: 287

الطريق الثالث: البشارات والإشارات

تمهيد:

الدليل الثالث، وهو من الأدلة التي يمكن إقامتها لتصديق أقوال نبيّ الإسلام صلى الله عليه و آله هي البشارات والإشارات التي جاءت في (الكتب السماوية السابقة)، وبالرغم من أنّ الكثير من هذه البشارات قد غطتها سحب من التعصب وتم حذفها أو تغييرها وتزويرها من كثرة التحريفات التي جرت على الكتب السماوية السابقة، ولكن لازالت إشارات كثيرة عن هذا الموضوع تبدو للناظر في نفس كتب الديانات الاخرى الموجودة بين أيدينا اليوم.

وتشير القرائن إلى أنّ هذه الإشارات والدلالات كانت في متناول اليد في بداية ظهور الإسلام أكثر من الوقت الحاضر بالشكل الذي كان القرآن الكريم يستند إليها مكرراً ويدعو (اليهود) و (النصارى) للتدقيق فيها، وبلا شك إذا لم يكن ذلك موجوداً، فلا يمكن للقرآن أن يعتمد على تلك الإشارات بهذه الصراحة.

وهناك نقطة تثير الانتباه، فكما صرحت الكثير من كتب التاريخ أنّ مجي ء مجموعة من اليهود إلى أرض المدينة كان بدافع البشارات التي قرأوها في كتبهم عن ظهور نبي الإسلام صلى الله عليه و آله، وأنّ الشوق وتمني إدراك زمان ظهوره هو الذي أجبرهم على ترك ديارهم والجلاء عن أوطانهم وسكنوا المدينة، وإلّا فإنّ بيئة الحجاز عموماً والمدينة خاصةً ليس فيها مايجذب للحياة المادية من قبيل التجارة أو الزراعة أو تربية المواشي حتى يختاروها وطنا لهم.

كانوا يعتبرون أنفسهم أكثر أهلية من الآخرين في قبول الدين الذي كانوا ينتظرونه،

نفحات القرآن، ج 8، ص: 288

ولكن بعد ظهور الإسلام وتعرض مصالحهم غير المشروعة للخطر. غيّر قسمٌ منهم شكل القضية، وهبوا في النهاية لمواجهة النبي صلى الله عليه و آله، ولا مجال للتعجب والاستغراب هنا لأننا نشاهد مثل هذا في علاقات الكثير من الأصدقاء والروابط

الودية لمجموعة من المتحابين.

بهذه الإشارة نعود إلى القرآن الكريم، ونتابع الآيات التي تشير إلى هذا المعنى وتوبخ اليهود والنصارى بسبب عدم توجههم لها:

1- «الَّذِينَ آتَيَنَاهُمُ الكِتَابَ يَعرِفُونَهُ كَمَا يَعرِفُونَ ابنَاءَهُمْ». (البقرة/ 146) (الأنعام/ 20)

2- «الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِىَّ الامىَّ الَّذِى يَجِدُونَهُ مَكتُوبًا عِندَهُم فِى التَّورَاةِ وَالإَنِجِيلِ». (الأعراف/ 157)

3- «وَاذْ قَالَ عِيسَى ابنُ مَريَمَ يَابَنى اسرَائِيلَ انِّى رَسُولُ اللَّهِ الَيكُم مُّصَدِّقاً لِمَا بَينَ يَدَيَّ مِنَ التَّورَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِى مِنْ بَعدِى اسمُهُ احمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالبَيَّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ». (الصف/ 6)

4- «وَلَمَّا جَاءَهُم كِتَابٌ مِّنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُم وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَستَفتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّاعَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعَنةُ اللَّهِ عَلَى الكَافِرِينَ». (البقرة/ 89)

5- «وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُم وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشتَرُوا بِآيَاتِى ثَمَناً قَلِيلًا وَايَّاىَ فَاتَّقُونِ* وَلَاتَلبِسُوا الحَقَّ بِالبَاطِلِ وَتَكتُمُوا الحَقَّ وَأَنتُم تَعلَمُونَ».

(البقرة/ 41- 42)

إنّهم يعرفونه جيداً:

أول آية جاءت في سورتين من القرآن الكريم تقول:

«الَّذِينَ آتيَنَاهُمُ الكِتَابَ يَعرِفُونَهُ كَمَا يَعرِفُونَ أَبنَاءَهُمُ» أي أنّهم ليسوا مطلعين على أصل ظهوره ودعوته فحسب، بل ويعرفون أيضاً إشاراته وخصوصياته وجزئياته، ويقول تعالى في ذيل الآية التي جاءت في سورة البقرة: «وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنهُم لَيَكتُمُونَ الحَقَّ وَهُم يَعلَمُونَ». (البقرة/ 146)

نفحات القرآن، ج 8، ص: 289

وينقل عن (عبد اللَّه بن سلام)- الذي يعد من علماء اليهود الكبار ثم أعتنق الإسلام- (أنا أعلم به مني بابني) «1».

وجاء في رواية اخرى أنّ النبي صلى الله عليه و آله عندما جاء إلى المدينة قال (عمر) لعبد اللَّه بن سلام: إنّ اللَّه أنزل آية على نبيّه تقول: إنّ أهل الكتاب يعرفون كما يعرفونه أبناءهم، فما هي هذه المعرفة؟، فقال عبد اللَّه بن سلام: «إننا نعرفه بصفاته التي

بينها اللَّه، وعندما نراه فيكم نشخصه من بينكم كما يشخص أحدنا ابنه عندما يراه بين الأولاد» «2».

والتفسير المشهور للآية والذي ينطبق جيداً مع ظاهرها هو هذا التفسير الذي بيّناه، ولكن تمّ عرض احتمالين آخرين في تفسير الآية وهما:

الأول: إنّ الضمير في (يعرفونه) يعود إلى (الاطلاع على النبوة).

والثاني: إلى (مسألة القبلة)، وبناءً على ذلك فإنّ الأول هو إشارة لاطلاع ومعرفة أهل الكتاب بمسألة (النبوّة)، أمّا الثاني فهو إشارة لمعرفتهم بأمر (تغيير القبلة) عند المسلمين من (بيت المقدس) إلى (الكعبة). وكلا الاحتمالين ضعيفان جدّاً.

في الآية الثانية- ورد ذكر تسعة أوصاف من صفات النبي صلى الله عليه و آله التي هي في الواقع دلائل على حقانيته من زوايا مختلفة- بعضها إشارة إلى المضمون الرفيع لدعوته وبرامجه، وبعضها إشارة إلى قرائن اخرى مثل أمّيته وعدم تعليمه، وشفقته ورحمته، وأمثال ذلك، وتستند في قسم آخر من هذه الدلائل إلى مسألة أوصافه وعلاماته وسماته في الكتب السماوية السابقة (التوراة والانجيل)- يقول تعالى

«الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الَرّسُولَ النَّبِىَّ الأُمِّيَّ الَّذِى يَجِدُونَهُ مَكتُوباً عِندَهُم في التَّورَاةِ وَالإِنجِيلِ ... اولَئِكَ هُمُ المُفلِحُونَ».

______________________________

(1) التفسير الكبير للفخر الرازي؛ وتفسير المنار في ذيل الآية مورد البحث.

(2) تفسير روح المعاني، ج 7، ص 103؛ وتفسير مجمع البيان، ج 3، ص 282؛ وتفسير روح البيان، ج 3، ص 18.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 290

ومع عدم ذكر اسم النبي صلى الله عليه و آله في هذه الآية صراحة ولكن الأوصاف التي ذكرتها ترمي بوضوح إلى أنّ المقصود هو نفسه.

فكيف يمكن القبول بأنّ القرآن يتحدث مع اليهود والنصارى بهذه الصراحة، ويخبرهم بوجود دلائل وعلامات النبي صلى الله عليه و آله في كتبهم ولكن هذه المسألة لا تطابق الحقيقة وأنّهم يسكتون؟ ويقينا إذا لم

تكن هذه الإشارات والعلامات موجودة في كتبهم فإنّهم سيتخذونها حجة وذريعة مهمة ضد النبي صلى الله عليه و آله، ولصرّحوا بها في كل مكان، وإذا كان ذلك قد حصل لنقله التاريخ لنا.

وبناءً على هذا فعلى الأقل أنّ سكوتهم يعتبر دليلًا ساطعاً على وجود هذه القرائن والأوصاف في كتبهم، وعلاوة على ذلك على حد قول الفخر الرازي: إذا لم تكن لهذا الأمر حقيقة واقعية لكان موجباًلنفرة اليهود والنصارى من الإسلام، والشخص العاقل لا يقدم مطلقا على ما يوجب تنفر الناس (خاصةً في مجال الدعوة) «1»، وكما سيمر علينا لاحقاً فإنّ قسماً من هذه الدلائل والإشارات موجودٌ حتى في كتبهم المحرّفة الحالية.

والملفت للنظر هو أنّ القرآن لايقول: (يجدون علائمه ودلائله)، بل يقول: (يجدونه)، أي يجدون نفس ذلك النبي صلى الله عليه و آله في التوراة والانجيل، وهذا التعبير الذي يعني حضور النبي صلى الله عليه و آله في كتبهم هو تأكيد على منتهى وضوح هذا الأمر.

وفي البعض من الروايات الإسلامية جاء في ذيل الآية: إنّ بعض المسلمين سألوا شخصين من المطلعين على التوراة كلًا على حدة وأنّهما ذكرا أوصاف النبي صلى الله عليه و آله بدقة متطابقة «2».

______________________________

(1) تفسير الكبير، ج 15، ص 23.

(2) تفسير القرطبي، ج 4 ص 2735 (الملخّص).

نفحات القرآن، ج 8، ص: 291

في الآية الثالثة نقرأ عن لسان عيسى بن مريم أنّه أعطى البشارة أمام بني اسرائيل «وَاذْ قَالَ عِيسَى ابنُ مَريَمَ يَابنَىِ اسرَائِيلَ انَّى رَسُولُ اللهِ اليَكُم مُّصَدِّقاً لِمَا بَينَ يَدَىَّ مِنَ التَّورَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَاتى مِن بَعدِى اسمُهُ احمَدُ»، ويقول في نهاية الآية: «فَلَمَّا جَاءَهُم بالبَيَّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحرٌ مُبِّينٌ».

والمثير للاهتمام هو أنّ القرآن ينقل أقوال هؤلاء في مخالفتهم ومعارضتهم للمعجزات واتهامهم عيسى

عليه السلام بالسحر، ولكنه لم يتحدث عن معارضتهم حول إخبار (المسيح عليه السلام) بمسألة مجي ء (أحمد صلى الله عليه و آله)، وهذا دليل واضح على أنّهم لاينكرون هذا الخبر.

في الآية الرابعة نواجه نقطة جديدة تقول: «وَلَمَّا جَآءَهُم كِتَابٌ مِّن عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّما مَعَهُم وَكَانُوا مِن قَبلُ يَستَفِتحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّاعَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الكَافِرِينَ».

إنَّ هذه الآية جاءت لتشير إلى السبب الذي استوجب نزولها من أن (اليهود) هاجروا من أرضهم وديارهم إلى المدينة لرؤيتهم علامات نبي الإسلام صلى الله عليه و آله التي في كتبهم، ولأنّهم قرأوا فيها أنّ محل هجرة هذا النبي صلى الله عليه و آله بين جبلي (عير) و (احد)- وهما جبلان على طرفي المدينة، ولهذا فقد جاءوا وسكنوا المدينة وكتبوا حتى لإخوانهم بإننا وجدنا الأرض الموعودة فتعالوا إلينا.

فقال أولئك الذين ليسوا بعيدين جدّاً عنها: إنّه لا تفصلنا فاصلة كبيرة عن تلك المنطقة وحين يهاجر إليها النبي الموعود نلتحق بكم! وعندما يصطدمون مع سكان المدينة الأصليين من قبيلتي (الأوس) و (الخزرج) يقولون: «نحن في ظل النبي الجديد سوف ننتصر عليكم» «1».

______________________________

(1) اقتباس عن سبب النزول الذي جاء في الدر المنثور من تفاسير أهل السنة. وتفسير العياشي عن الإمام الصادق (عليه السلام) (وذكره الكثير من مفسري الشيعة وأهل السنة أيضاً في ذيل الآية المذكورة)- ومع أنّ البعض من المفسرين مثل الفخر الرازي اعطوا احتمالات متعددة لعبارة (وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا) ولكن أغلبها ترجع إلى نفس المعنى الذي ذكر أعلاه.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 292

ولكنهم للأسف عندما ظهر هذا النبي الأكرم صلى الله عليه و آله نهضوا لمخالفته، لأنّهم لم يروه ملبياً لميولهم وأهدافهم غير المشروعة.

وهذه كلها

تدلل على أنّ مسألة ظهور نبي الإسلام صلى الله عليه و آله جاءت واضحة في كتبهم إلى حدٍ ما.

النقطة الجديرة بالتأمل أن عبارة «مصدقٌ لما معهم» أو مايشابهها من تعبير وردت في القرآن الكريم أكثر من عشر مرات، وليس مفهومها أنّ النبي صلى الله عليه و آله يؤيد كتبهم السماوية مع ما حدث فيها من تحريف)، بل المقصود أنّ أوصاف النبي صلى الله عليه و آله موافقة ومتطابقة مع العلامات والإشارات التي في أيديهم، وبتعبير آخر أنّ للنبي صلى الله عليه و آله وكتابه السماوي نفس الأوصاف التي كانوا يعرفونها من قبل بالضبط وكان في الحقيقة تصديقاً لكتبهم السماوية من ناحية تطابقها تماماً مع صفاته صلى الله عليه و آله.

وبهذا الترتيب تعتبر كل الآيات التي جاء فيها هذا التعبير في زمرة الآيات التي نحن بصددها في هذا البحث.

وختاماً فإنّ الآية الأخيرة- التي تخاطب اليهود حول الموضوع- ضمن تأكيدها على وجوب الإيمان بالكتاب السماوي للنبي صلى الله عليه و آله الذي يتطابق ومالديهم من علامات، تقول:

«وآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِمَّا مَعَكُم وَلَاتَكُونُوا اوَّلَ كَافِرٍ بِهِ».

أي أنّ عبدة الأوثان من العرب إذا كفروا به فلا عجبَ في ذلك، بل العجب كل العجب هو أن تنكروه أنتم وتكفروا به، لأنّ المتوقع منكم أن تكونوا أولّ المؤمنين به، وإلّا ألستم الذين هجرتم مدنكم ودياركم وجئتم إلى المدينة شوقاً للقائه أوَ لَم تعدوا الأيّام والليالي انتظاراً لظهوره؟ ... إذن لِمَ تنعكس القضية وتكونون أنتم أوّل الكافرين به؟!

نفحات القرآن، ج 8، ص: 293

ثم تشير الآية إلى الباعث ل «تغيير أسلوبهم» هذا وتقول لهم: لا تكتموا الحقائق من أجل المنافع المادية: «وَلَا تَشتَرُوا بِآيَاتِى ثَمَناً قَلِيلًا وَايَّاىَ فَاتَّقُونِ».

و هذه إشارة إلى أنّ أيَّ

ثمن يأخذونه مقابل ذلك فهو لا شي ء، حتى ولو كان العالم كله، ولكنكم يا أصحاب الهمم الدنية، من أجل مصالحكم المادية التافهة (أحياناً من أجل ضيافة سنوية) كتمتم الآيات التي تحمل علامات وأوصاف النبي صلى الله عليه و آله.

ثم تقول الآية تأكيداً للمراد: «وَلَا تَلبِسُوا الحَقَّ بِالبَاطِلِ وَتَكتُمُوا الحَقَّ وأَنتُم تَعلَمُونَ».

وفي الحقيقة فإنّ اليهود ارتكبوا عدّة مخالفات في هذا المجال:

الاولى: إنّهم تعاهدوا على أن يكونوا أول المؤمنين بالنبي صلى الله عليه و آله في حين كانوا أول الكافرين به.

الثانية: إنّهم لبسوا الحق بالباطل حتى يطمسوا وجهه ويوقعوا الناس في المتاهات.

الثالثة: إنّهم كتموا الحق وهم يعلمون بأنّه حق واشتروا بالآيات الإلهيّة ثمناً قليلًا.

وهناك في القرآن الكريم آيات متعددة اخرى بنفس المعنى (أي تحكي عن «كتمان الحقائق» من قبل اليهود) والظاهر أنّ تلك الآيات كلها تشير إلى نفس مسألة كتمان آيات النبوة.

ويستفاد من مجموع ماجاء في الآيات الآنفة بأنّ اوصاف وعلامات نبي الإسلام صلى الله عليه و آله وحتى اسمه المبارك قد وردت في الكتب السابقة، وقدمت بشارات وإشارات كثيرة بالنسبة لظهوره.

ونتجه الآن صوب كتب العهدين الموجودة في متناول أيدينا (التوراة والانجيل)، لنبحث في نماذج من هذه العلامات والإشارات:

التبشير بظهور النبي صلى الله عليه و آله في الكتب السماوية:

كما أشرنا من قبل، فإننا نجد في كتب اليهود والنصارى الموجودة اليوم علامات ذلك

نفحات القرآن، ج 8، ص: 294

النبي العظيم، ولكن قبل ظهوره كانت توجد يقيناً مسائل كثيرة طمست في ظلمات الكتمان على أثر عدم انسجامها مع التعصبات العمياء الصماء أو متطلبات مصالح زعمائهم.

وحول (بشارات العهدين) كتبت مؤلفات متعددة، أو خصصت لها أقسام من بعض الكتب، لا يسعنا ذكرها في هذه العجالة، ونكتفي ببعض النماذج البارزة:

تمّ التأكيد في ثلاثة موارد من «انجيل يوحنا» على لفظة (فارقليط) أو (فارقليطا)

والتي تعني في العربية ب (المُعزّي).

ونقرأ في مورد منها: «وسأطلب من الأب أن يعطيكم معزياً آخر (فارقليطا)، يبقى معكم الى الأبد» «1».

وجاء في مورد آخر: «ومتى جاء المعزي الذي أرسله إليكم الأب، روح الحق المنبثق من الأب، فهو يشهد لي» «2».

وفي الباب التالي له: «صدقوني، من الخير لكم أن أذهب، فإنْ كنت لا أذهب لا يجييئكم المعزي أما إذا ذهبت فارسله إليكم» «3».

ممّا يجلب الانتباه أنّ الفخر الرازي ينقل في الجزء (29) من تفسيره صفحة (313) عن الأناجيل الموجودة في عصره (انجيل يوحنا- الباب 14): (وأنا أطلب لكم إلى أبي حتى يمنحكم ويؤتيكم الفارقليط حتى يكون معكم إلى الأبد). وهذا عين ماذكرناه أعلاه ولكن بالتصريح بلفظة (فارقليط)، ويذكر نفس المعنى بالتصريح بلفظة (فارقليط) أيضاً في الباب 15 و 16 منه.

إنّ (فارقليط) التي تلفظ باللغة اليونانية (بريكلتوس) أو (براقليتوس) فسرها الكثير من المسيحيين بمعنى (المُعَزّي) أو (روح القدس)، ولكن جمعاً منهم ذكر أنّ معناها (كثير الحمد) وهو مايتطابق تماماً مع اسم أحمد ومع الآية التي تقول: «وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِى مِن بَعْدِى اسْمُهُ احْمَدُ». (الصف/ 6)

______________________________

(1) انجيل يوحنا، الباب 14، الجملة 16.

(2) المصدر السابق، الباب 15، الجملة 26.

(3) المصدر السابق، الباب 16، الجملة 7.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 295

وإنّ مايتضح من المطالعة الدقيقة لجذور هذه الكلمة هو أن (فارقليط) كلمة يونانية الأصل، وأنّ جذرها (بريقلتوس) ومعناه (كثير الحمد) التبس عليهم مع (براقليتوس) التي تعني (المُعَزّي).

ينقل السيد حسينيان مؤلف كتاب (السراج) «1» في بداية كراسه الصغير والملي ء بالمضامين، عين المتن اللاتيني لإنجيل يوحنا عن كتاب باسم (الأناجيل) من تأليف «لامينيه»- طبع باريس- والموجود حالياً في مكتبة مجلس الشورى الإسلامي:

مايدلل جيداً على أنّ كلمة (فارقليط) وردت هناك على صورة (بِرِكليت)-

التي تعني بالعربية (أحمد) وبالفارسية (كثير الحمد) وليس بصورة بَرَكليت (باراكليت) التي تعني (المُعَزّي) «2»، ولكن للاسف حُذف التعبير الأول فيما بعد من متون الأناجيل وحلَّ محلّه التعبير الثاني.

ويضيف أيضاً: «إنّ قدماء النصارى فهموا من لفظ «براكليت» اسماً خاصاً لشخص، لأنّ في التراجم السريانية جاء عين اللفظ «أي فارقليط»، وفي التراجم العبرانية الموجودة لدي ورأيتها شخصياً «فرقليط». ولأنّهم يعتبرونه اسم إنسان «معين»، والترجمات العبرانية والسريانية عند المسيحيين لها كمال الأهميّة والاعتبار» «3».

وفي الواقع فإنّ مفردات من قبيل (محمدٍ) و (علي) و (حسن) و (حسين) وأمثالها لا يمكن مطلقا ترجمتها عند ترجمة العبارات، فمثلًا: بدل جملة (جاء علي) لايقول الفارسي أبداً:

(بلند مرتبه آمد) بل يقول (علي آمد)، ولكن المؤسف أنّ العلماء المسيحيين في الأزمان المتأخرة، ومن أجل محو علامة نبوة نبي الإسلام صلى الله عليه و آله هذه أبدلوا أولًا: لفظة (بركليت) ب- (باراكليت).

وثانياً: اخرجوها من صورتها كاسم علم إلى معنىَّ وصفيٍّ وقالوا بدلها «المُعَزّي» (فتأمل).

______________________________

(1) (چراغ)- فارسي.

(2) كتاب جراغ، ص 1.

(3) المصدر السابق، ص 6.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 296

يتضح من هذا الكلام أنّ اللفظة الأصلية إذا كانت (بريقليتوس) فإنّ معناها (كثير الحمد) ومن غير المستبعد التباسها مع (براقليتوس)، وطبعاً أنّ احتمالات التعمد في هذا التفسير كثيرة جدّاً.

يقول المرحوم (العلّامة الشعراني) في كتابه «نثر طوبى : «رأيت في أحد قواميس اللغة اليوناينة أنّ «فارقليط» ترجم معناها ب «كثير الحمد» أي من تتناقله الألسن ويذكر بالخير.

ثم يضيف: إنّ قواميس اللغة اليونانية باللغة الانجليزية، والقواميس الفرنسية موجودة في كل مكان و (يمكنكم مراجعتها ولكن) يعتبرها المسيحيون مصحفة ومحرفة.

ويترجمونها بمعنى (المعزي) وقد كتبنا نحن رسالة مستقلة في هذا الباب» «1».

ونطالع في كتاب قاموس مفردات القرآن «2» تأليف الدكتور قريب: «أنّ

المستفاد من الروايات هو أنّ الأنبياء العظام كل بنوبته قد بشروا في كتبهم بحضرة نبي الإسلام صلى الله عليه و آله ثم ينقل عن الكثير من المصادر الإسلامية أنّ اسمه في الانجيل «الفارقليطا» التي يكون معناها (أحمد)» «3».

وفيما عدا ذلك ففي تعبيرات الانجيل نفسه توجد جمل تشير إلى أنّ هذه الكلمة وبأي تعبير تكون فهي تتحدث عن نبي يظهر ويبقى دينه خالداً.

فجملة (وسأطلب من الأب أن يعطيكم معزياً آخر يبقى معكم إلى الأبد) «4» دليل واضح على أنّ المقصود من (المعزي) هو نبي دينه أبدي وخالد.

ويقول هناك: «ومتى جاء المعزي الذي ارسله اليكم الأب، روح الحق المنبثق من الاب، فهو يشهد لي» «5».

وواضح أنّ هذا المعزي هو نبي وليس روح القدس. وتكمنُ في تعاليمه كل الحقائق ولن يبق شي ء يستحق القول.

______________________________

(1) نثر طوبى ج 1، ص 197.

(2) فرهنك لغات قرآن (فارسي).

(3) فرهنك لغات قرآن (فارسي)، ج 1، ص 351.

(4) انجيل يوحنا، الباب 14، الباب 16

(5) المصدر السابق، جملة 26.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 297

وعلى أيّة حال فلا مجال لأي شك أو ترديد بأنّ كلمة (أحمد) أو مفردات من قبيلها كانت موجودة في الأناجيل المتوفرة في زمن النبي صلى الله عليه و آله، وإلّا فإنّ الآية السادسة من سورة الصف ستكون في مظان الاعتراض الشديد من قبلهم ولأصبحتْ حجةً قوية لهم في محاربة الإسلام. في حين لم ينقل لنا التاريخ الإسلامي مثل هذا الشي ء.

وبناء على ذلك يبدو أنّ البعض من علماء المسيحية حينما رأوا أن مواقعهم معرضة للخطر اتخذوا قرارهم بتحريف وتبديل تلك المعاني إلى معانٍ اخرى وحتى يمكن مشاهدة نفس الاسم المقدّس للنبي صلى الله عليه و آله في بعض كتب المسيحيين التي كانت موجودة لقرون بعد

ظهوره صلى الله عليه و آله في زوايا العالم المختلفة.

والشاهد على هذا الكلام بيان مثير لأحد العلماء المسيحيين الذين أعلنوا إسلامهم في كتابه (أنيس الاعلام) وهو كتاب تحقيقي فريد أزاح الستار عن هذا الجانب.

وباعتباره كان بنفسه أحد القساوسة المسيحيين المعروفين وأنهى دراسته عند كبار علماء المسيحية ووصل إلى مقام كبير في نظرهم، يشرح في مقدمة كتابه المذكور قصة اسلامه العجيبة بهذا الشكل، يقول: «بعد تنقيب كثير وجهود خارقة وجولات في المدن المختلفة وصلت إلى قسيس رفيع المستوى كان ممتازاً من ناحية الزهد والتقوى. ويعود إليه أبناء الطائفة (الكاثوليكية) من ملوك وغيرهم بأسئلتهم الدينية، وقد درست عنده فترة مذاهب النصارى المختلفة، وكان عنده تلامذة كثيرون ولكن كان له تعلق خاص بي من دونهم وكانت مفاتيح المنزل كلها بيدي إلّامفتاح واحد لأحد الخزائن كان يحتفظ به عنده.

في تلك الأثناء أحس القسيس المذكور يوماً بوعكة صحية، فقال لي: قل للتلاميذ أنني لا طاقة لي على التدريس، وعندما جئت للطلبة وجدتهم مشغولين بالبحث والنقاش الذي انجر إلى معنى لفظة (فارقليطا) في السريانية و (بريكلتوس) باللغة اليونانية ... وقد امتد جدالهم وطال، وبدا لكل واحد منهم رأيٌ ... بعد أن عدتُ إلى الاستاذ سألني: ما بحثتم اليوم؟ فقدمت له تقريراً عن اختلافهم في لفظ (فارقليطا) ... قال: وأنت أي الأقوال انتخبت؟

نفحات القرآن، ج 8، ص: 298

قلت: انتخبت ما اختاره فلان مُفسِّر.

فقال القس: ما قصّرت ولكن الحق والواقع يخالف كل هذه الأقوال، لأنّ الحقيقة لايعلمها (إلّا الراسخون في العلم) وقليل من هؤلاء أيضاً من يعرفها، فألححت عليه أن يقول لي معناها، فبكى بشدّة وقال: إنني لا أبخل عليك بأي شي ء ... إن في تعلم معنى الاسم أثراً عظيماً ولكن بمجرّد شيوعه سيقتلوننا

أنا وأنت وإذا عاهدتني بأنّ لا تقول لأحد سأبيّن لك المعنى ... فأقسمت له بكل المقدّسات أن لا أبوح باسمه، عندئذ قال: إنّ هذا الاسم هو من أسماء (نبي المسلمين) ومعناه (أحمد) و (محمد):

ثم أعطاني مفتاح تلك الغرفة الصغيرة وقال: افتح باب الصندوق الفلاني. وآتني بكذا وكذا كتاب، فجلبت الكتابين له وكانا مكتوبين بالخط اليوناني والسرياني قبل ظهور نبي الإسلام، على الجلد.

وقد ترجم لفظ (فارقليطا) في كلا الكتابين بمعنى (أحمد) و (محمد)، ثم اضاف الاستاذ قائلًا: لم يكن عند علماء النصارى أي اختلاف قبل ظهور نبي الإسلام بأنّ (فارقليطا) تعني (أحمد ومحمد) ولكن بعد أن ظهر محمد أوَّلوا اللفظة واخترعوا لها معنىً آخر من أجل الابقاء على رئاستهم ومنافعهم المادية، وقطعاً أنّ هذا المعنى لم يقصده صاحب الانجيل.

فسألته: ما تقول عن (دين النصارى ؟ قال: نسخَ بمجي ء الدين الإسلامي وكرر هذا اللفظ ثلاث مرات، فقلت: في هذا الزمان ما هو طريق النجاة والصراط المستقيم ...؟ قال:

أنّه منحصر في اتّباع محمد صلى الله عليه و آله.

قلت: وهل أنّ تابعيه من أهل النجاة؟ قال: أي واللَّه (كررها ثلاثا) ...

ثم بكى الاستاذ وبكيت أنا أيضاً، وقال: إذا كنت تريد الآخرة والنجاة فيجب أن تقبل دين الحق ... وسوف أدعو لك دائماً، بشرط أن تشهد لي يوم القيامة بأنني كنت مسلماً في الباطن ومن أتباع حضرة محمد صلى الله عليه و آله ... وليس من شك اليوم أنّ «دين الإسلام» هو دين اللَّه على وجه الأرض ...» «1».

______________________________

(1) اقتباس مع قليل من الاختصار عن (الهداية الثانية) مقدمة كتاب أنيس الاعلام.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 299

وكما تلاحظون فإنّ علماء أهل الكتاب- وفق هذا السند- فسروا وبرروا اسم وعلامات النبي صلى الله عليه

و آله بعد ظهوره بشكل آخر من أجل مصالحهم الشخصية.

سؤال:

يطرح هنا سؤال وهو: إنّ الاسم المعروف للنبي صلى الله عليه و آله (محمد) في حين سمي في الآية 6 من سورة «الصف» باسم (أحمد)، وهاتان المفردتان وإن لم تختلفا كثيراً في دلالتهما على معنى ومفهوم (محمود) ولكنهما في الظاهر اسمان مختلفان. وبناءً على ذلك إذا كانت (فارقليطا) تعني (محمود)، فإنّها تنسجم مع كليهما، ولكن تعبير القرآن ب (أحمد) لاينسجم مع الاسم المعروف للنبي صلى الله عليه و آله.

الجواب:

ستتضح الاجابة جيداً عن هذا السؤال ببيان بعض النقاط:

1- جاء في التواريخ بأنّ للنبي صلى الله عليه و آله منذ طفولته اسمين، وحتى أنّ الناس كانت تخاطبه بكليهما. أحدهما: (محمد) والآخر (أحمد)، والأول: اختاره له جده (عبد المطلب).

والثاني: أُمه (آمنة)، وقد ذكر هذا الموضوع بالتفصيل في السيرة الحلبية.

2- من بين الذين ينادونه مراراً بهذا الاسم، عمه (أبو طالب)، وفي أيدينا اليوم كتاب بعنوان (ديوان أبي طالب) نشاهد فيه قصائد كثيرة ذَكرت النبي صلى الله عليه و آله بعنوان (أحمد) مثل:

أرادوا قتل «أحمد» ظالموهم وليس بقتلهم فيهم زعيم

وإن كان «أحمد» قد جاءهم بحق ولم يأتهم بالكذب «1»

وفي غير (ديوان أبي طالب) نقلت عنه أشعار في هذا المجال مثل:

لقد أكرم اللَّه النبي محمداًفأكرم خلق اللَّه في الناس أحمد «2»

______________________________

(1) ديوان أبي طالب، ص 25 و 26.

(2) تاريخ ابن عساكر، ج 1، ص 275.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 300

نفحات القرآن ج 8 325

3- ويرى هذا التعبير أيضاً في أشعار (حسان بن ثابت) الشاعر المعروف في عصر النبي صلى الله عليه و آله:

ومفجعة قد شفها فقد أحمدفَظَلَّت لآلاءِ الرسولِ تعدد

والأشعار التي جاء فيها اسم (أحمد) بدلًا من محمد سواءً في

ديوان أبي طالب أو غيره كثيرة جدّاً ولا مجال لنقلها كلها هنا. ونختم هذا البحث ببيتين آخرين لابن أبي طالب (علي عليه السلام) حيث يقول:

أتامرني بالصبر في نصر «أحمد»وواللَّه ماقلتُ الذي قلتُ جازعاً

سأسعى لوجه اللَّه في نصر «أحمد»نبي الهدى المحمود طفلًا ويافعا «1»

4- نقرأ في الروايات التي جاءت تتحدث عن مسألة المعراج أنّ اللَّه خاطب النبي صلى الله عليه و آله في ليلة المعراج مرات باسم (أحمد) وربّما من هنا اشتهر بأنّ اسمه في السماء (أحمد) وفي الأرض (محمد).

وجاء أيضاً في حديث عن الإمام الباقر عليه السلام أنّ للنبي صلى الله عليه و آله عشرة أسماء جاءت خمسة منها في القرآن وهي: (محمد) و (أحمد) و (عبد اللَّه) و (يس) و (ن) «2».

5- عندما تلى النبي صلى الله عليه و آله الآيات المذكورة (آيات سورة الصف) لأهل المدينة ومكة وسمعها أهل الكتاب أيضاً، لم يعترض أي واحد من المشركين وأهل الكتاب بأنّ (الانجيل) بشر بمجي ء (أحمد) بينما اسمك (محمد). وسكوتهم هذا دليل على اشتهار هذا الاسم في ذلك المحيط، لأنّه إذا حدث مثل هذا الاعتراض لكان قد نُقل إلينا. مع أنّ اعتراضات الأعداء وحتى في الموارد الجارحة جدّاً مثبتة في التاريخ.

نستخلص من مجموع هذا البحث أنّ اسم (أحمد) كان من الأسماء المعروفة لنبي الإسلام صلى الله عليه و آله لدى أهل الكتاب.

______________________________

(1) الغدير، ج 7، ص 358.

(2) المصدر السابق.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 301

نشاهد بشارة اخرى في سفر التكوين والظهور في (التوراة) في الفصل السابع، لا يمكن تطبيق علاماتها إلّاعلى النبي صلى الله عليه و آله.

ففي الجمل من 17 إلى 20 نطالع: «وقال إبراهيم للرّب ياليت إسماعيل يعيش أمامك ...

فقال اللَّه سمعت دعاءَك في حق إسماعيل

وها أنا اباركه وأكثر نسله وسيلد منه اثنا عشر رئيساً وسنجعله امّةً عظيمة» «1».

وفي كتاب (أنيس الأعلام) ينقل متن جمل التوراة المكتوبة باللغة العربية ويكتب ترجمتها على هذا الشكل: «... وأثمره وأعظمه ب «مادماد» والاثنا عشر إماماً الذي سيكون من نسله وسنجعله امّةً عظيمة» «2».

ثم يضيف: «أنّ (مادماد) هو نفس (محمد صلى الله عليه و آله بالعبرانية».

ومع الالتفات إلى أنّ النبي هو من نسل اسماعيل، وجاء في البشارة المذكورة بأنّه سيكون امّة عظيمة ويخرج منه (اثنى عشر سيداً وإماماً) سيتضح عدم وجود أي مصداق لها سوى شخص النبي صلى الله عليه و آله، وإذ ألحقنا بها لفظة (مادماد) التي وردت في النص العبري- وإن لم يأتوا بها في الترجمة من العربية إلى الفارسية- ستتضح أكثر وأكثر.

إن قيل بأنّ هؤلاء (الاثنى عشر سيداً وإماماً) وكذلك الامّة العظيمة إشارة إلى (موسى عليه السلام) و (أسباط بني اسرائيل الاثني عشر) ففي الحقيقة أّن اللَّه بشر إبراهيم بظهور موسى عليه السلام، ويكون الجواب عن ذلك واضحاً لأنّ موسى عليه السلام وأسباط بني اسرائيل هم من نسل إسحاق، في حين أنّ العبارة الآنفة تعرفهم على أنّهم من أبناء إسماعيل ولا يمكن أن يكون لها مصداقٌ إلّانبي الإسلام صلى الله عليه و آله.

ج) جاء في سفر التكوين (التوراة)- الباب 49 رقم 10: «ولن تؤخذ عصى السلطنة من يهودا حتى يأتي شيلوه الذي ستجتمع حوله الامم» «3».

وظاهر هذه العبارة هو أنّ حكم (يهودا) وتسلط بني اسرائيل سيستمر حتى ظهور (شيلوه) وتجتمع الامم حوله.

______________________________

(1) سفر التكوين، الفصل 7.

(2) أنيس الأعلام، ج 5، ص 69.

(3) سفر ظهور التوراة، باب 49، رقم 10.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 302

أمّا من هو وما هو المقصود ب (شيلوه)، فإنّ

مؤلفي اليهود والنصارى قدموا احتمالات كثيرة كان أغلبها لا تتسق مع العبارة المذكورة بأي وجه، ومن جملتها أن (شيلوه) تعني مكاناً للاستراحة أو مدينة في شمال «بيت ايل» أو محلًا يسمونه الآن (سيلون)، والمسلَّم فيه أنّ التعبير بمجيئه واجتماع الامم حوله هو إشارة إلى شخص وليس إشارة إلى مكان أو محل.

و (مستر هاكس) الأميركي مؤلف كتاب (القاموس المقدس) ضمن عَدِّهِ للمعاني المختلفة لهذه المفردة ذكر معنى (مرسل) التي تنطبق على لفظة رسول أو رسول اللَّه.

والشي ء الوحيد الذي يمكن أن يقال هو أنّ بشارة التوراة هذه هي إشارة لظهور (المسيح عليه السلام) كما قالوا ولكن حسب قول فخر الإسلام في (أنيس الأعلام): إنّ هذا الاحتمال غير صحيح لأنّ المسيح عليه السلام هو من أبناء (يهودا) من جهة الأم.

وبناءً على ذلك فإنّ حاكميته تعتبر امتداداً لحاكمية يهودا، وفي هذه الحالة لم يبق من مصداق لها سوى نبي الإسلام صلى الله عليه و آله المرسل من اللَّه الذي تزاح بظهوره حكومة (آل يهودا) خصوصاً في المدينة وخيبر والشامات والكثير من المناطق الاخرى «1».

طبعاً ذكرت بشارات متعددة اخرى أيضاً في كتب العهدين يطول شرحها وأنّ البعض منها قابل للقدح والتجريح، والذين يرغبون بالبحث والتحقيق أكثر في هذا الموضوع يمكنهم الرجوع إلى كتب (أنيس الأعلام) و (بشارات العهدين) و (البشارات والمقارنات).

______________________________

(1) أنيس الأعلام، ج 5، ص 73.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 303

الخاتمية في القرآن الكريم

اشارة

نفحات القرآن، ج 8، ص: 305

الخاتمية في القرآن الكريم

تمهيد:

مسألة (الخاتمية) وأنّ نبي الإسلام صلى الله عليه و آله هو آخر الأنبياء الإلهيين من المسائل التي يعتقد بها كل المسلمين من أي فرقة أو مذهب كانوا، ولا يعرفها العلماء فحسب بل كل أفراد المسلمين أيضاً ويعتبرونها من (ضروريات الإسلام) التي يتوصل إليها أي أحد بسرعة مهما قلت معاشرته لأتباع هذه المدرسة وهي أنّهم يعتبرون النبي الأكرم صلى الله عليه و آله هو آخر الأنبياء الإلهيين.

ومصدر هذا الاعتقاد يعود إلى (القرآن الكريم) و (الروايات الإسلامية) لأنّ هذه المسألة ليست بالشي ء الذي يمكن إثباتها بالأدلة العقلية فقط، ويقيناً بعد قبولهم للقرآن الكريم بصفته كتاباً سماوياً، ونبي الإسلام صلى الله عليه و آله كونه رسولًا لله، يمكن الاعتماد على قولهم بهذا الصدد.

لهذا السبب نتوجه أولًا إلى الآيات القرآنية، ثم نتطرق إلى الشواهد التاريخية والروايات الإسلامية، ونختتمها ببعض الشبهات التي ألقاها مخالفو الإسلام حول خاتمية النبي صلى الله عليه و آله:

وردت الآية الرئيسية التي تشهد على هذا المعنى في قوله تعالى «مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ ابَا احَدٍ مِّن رِجَالِكُم وَلكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِّييِنَ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَى ءٍ عَلِيماً».

(الأحزاب/ 40)

وذكر العلماء آيات متعددة اخرى حول الموضوع إذا لم نقبل دلالتها القطعية فعلى أقل

نفحات القرآن، ج 8، ص: 306

تقدير إنّها تحتوى على إشارات مثل:

1- «انَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكرِ لَمَّا جَآءَهُم وَانَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ* لَّايَاْتِيهِ البَاطلُ مِن بَيْنِ يَدَيهِ وَلَا مِن خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِّن حَكِيمٍ حَمِيدٍ». (فصلت/ 41- 42)

2- «تَبَارَكَ الَّذِى نَزَّلَ الفُرقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلعَالَمِينَ نَذِيراً». (الفرقان/ 1)

3- «وَاوحِىَ الَىَّ هَذَا القُرآنُ لِانذِرَكُم بِهِ وَمَنْ بَلَغَ». (الأنعام/ 19)

4- «وَمَا ارْسَلْنَاكَ الَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً». (سبأ/ 28)

5- «قُلْ يَا ايُّهَا النَّاسُ

انِّى رَسُولُ اللَّهِ الَيْكُم جَمِيعَاً». (الأعراف/ 158)

6- «انْ هُوَ الَّا ذِكرى لِلعَالَمِينَ». (الأنعام/ 90)

7- «وَمَا ارْسَلْنَاكَ الَّا رَحْمَةً لِلّعَالَمِينَ». (الأنبياء/ 107)

جمع الآيات وتفسيرها

الآية الاولى التي وردت في بحثنا، وهي الآية 40 من سورة الأحزاب والتي أشارت قصة «زيد»، وهو ابن الرسول صلى الله عليه و آله بالتبني، حيث إنّ الرسول صلى الله عليه و آله تزوج من زوجته التي طلقها، وذلك من أجل القضاء على احدى السنن الخاطئة التي كانت متداولة آنذاك والتي تقضي بعدم الزواج من زوجات أدعيائهم بعد الطلاق ولكي لا تبقى بعد زواجها من غير زوج.

والجدير بالذكر هو أنّ زواج زيد من هذه المرأة كان بواسطة الرسول صلى الله عليه و آله، وقد طلقها لعدم انسجامهما.

وقد نفت الآية الكريمة القرابة النَسبيّة بين زيد والرسول الأكرم صلى الله عليه و آله حيث قال: «وَمَا كَانَ مُحَمدٌ أبَا أَحَدٍ مِن رِّجَالِكُمْ»، ثم أضافت: «وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِييِنَ».

حيث تُثْبت لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله الرابطة الروحية والمعنوية المتأتية من مقام النبوة والخاتمية، أي أنّه ليس أباكم الجسدي، بل هو أبوكم الروحي، وأبو كل الأجيال اللاحقة حتى نهاية الدنيا، وإذا نقل في بعض الروايات عن النبي صلى الله عليه و آله قوله: «أنا وعلي أبوا هذه

نفحات القرآن، ج 8، ص: 307

الامّة» فهو أيضاً إشارة إلى نفس الابوة الروحية التي تنبع من التعليم والتربية والقيادة.

ويجب الالتفات إلى أنّ للنبي الأكرم صلى الله عليه و آله عدة أولاد نسبيين بأسماء (القاسم)، (الطيب)، (الطاهر)، و (إبراهيم) ورحلوا جميعهم عن هذا العالم قبل البلوغ. ولهذا السبب لم تسميهم الآية (رجالًا) «1».

ضمنا هناك رابطة اخرى بين مسألة ختم النبوة وعدم وجود الولد وهي أن أولاد الأنبياء كانوا أنبياء أيضاً،

ولأنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله لا ابن له بلغ مبلغ الرجال لم يبق أي مجال للتوهم بأن سيكون بعده نبي آخر، وعلى هذا فإنّ فقدان الولد هي إشارة إلى ختم النبوة.

ويقول في آخر الآية «وكان اللَّه بكل شي ء عليماً».

ووضع تحت تصرف هذا النبي الخاتم ماكان لازماً من معارف وعلوم ومسائل الاصول والفروع.

وقد ابدي الاحتمال في ربط بداية الآية بنهايتها، ففى بدايتها نفى عن النبي صلى الله عليه و آله ابُوَّته الجسمية لُامته، ولذا سيظهر هذا السؤال وهو: إذا كان بهذا الشكل فلماذا لا يحق لُامّته أن يتزوجوا زوجات النبي صلى الله عليه و آله من بعده؟ وفي الجواب على ذلك يقول: «إنّه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بالإضافة إلى كونه خاتم أنبيائه وأفضلهم، ولهذا السبب فإنّ حفظ حرمته واجب وترك الزواج من أزواجه بعد وفاته هو جزءٌ من هذه الحرمة» «2».

مفهوم خاتم النبيين:

مع أنّ معنى (خاتم) واضح جدّاً- لأنّ مادة ختم في كافة معاجم اللغة العربية تعني انهاء شي ء- ولكن قسماً من وساوس المنحرفين تستوجب تقديم توضيحات أكثر بشأنها، يقول «ابن فارس»، أحد علماء اللغة المعروفين في القرن الرابع الهجري، في «معجم مقاييس اللغة: «ختم، لها معنىً أصليٌّ واحدٌ لا أكثر وهو الوصول إلى نهاية الشي ء. وأن قولهم (ختم)

______________________________

(1) تفسير القرطبي؛ وتفسير الميزان، ذيل الآية مورد البحث.

(2) تفسير القرطبي، ذيل الآية مورد البحث.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 308

عندما يضعون ختما (مهرا) على شي ء فهو من هذا الباب، لأنّهم دائماً بعد انهاء شي ء ما يضعون ختما أو مهراً عليه».

ويقول (الخليل بن أحمد) وهو من أقدم المؤلفين والمحققين في لغة العرب والذي عاش في القرن الثاني للهجرة في زمن الأئمّة المعصومين عليهم السلام عن معنى

خاتِمْ وخاتَمْ: «خاتِم كل شي ء هو نهايته وآخرته. وخاتَم تعني الختم «المهر» الذي يضعونه على الطين»، وذلك عند اتمام الرسالة وطيها ومن أجل أن لا يفتحها الغرباء يلصقون قطعة لينة من الطين على محل ربطها ثم يختمون فوقها بحيث لايبقى أي طريق لفتحها إلّابكسر الختم.

وذهب سائر أصحاب اللغة أيضاًإلى هذا المعنى نفسه، وفسروا (خاتم) بمعنى الشي ء الذي يؤدّي إلى النهاية أو الختم الذي يضعونه في النهاية.

وفي كتاب (التحقيق) الذي يعد تحقيقاً جامعاً في مصادر اللغة المهمّة بعد أن ينقل أقوال كبار اللغويين العرب يقول: «المتحقق أنّ لهذه المادة جذرٌ واحد وهو في مقابل «بدء». أي اكمال شي ء وايصاله إلى آخره ونهايته» «1».

وكذلك المفسرون الإسلاميون من أقدمهم وحتى معاصريهم لم يخرجوا جميعهم عن أن معنى (خاتم النبيين) في الآية المذكورة هو آخر الأنبياء.

ويقول المفسر المعروف (محمد بن جرير الطبري) الذي عاش في القرن الثالث في تفسيره الذي يعتبر من أقدم التفاسير في ذيل الآية آنفة الذكر: و «خاتم النبيين الذي ختم النبوة فختم عليها فلا تفتح لاحد بعده إلى قيام الساعة» «2».

ويقول المرحوم (الشيخ الطوسي) وهو من عظماء الفقه والتفسير، وعاش في القرن الخامس في كتابه المشهور (البيان) بعد أن يذكر (خاتم النبيين): «أي آخرهم لأنّه لا نبي بعده الى يوم القيامة» «3».

وكذلك المفسر الكبير (الطبرسي) الذي عاش بعده بقرن واحد جاء بنفس المعنى أيضاً وشرحه «4».

______________________________

(1) التحقيق، مادة (ختم).

(2) تفسير جامع البيان، ج 22، ص 12.

(3) تفسير البيان، ج 8، ص 314.

(4) تفسير مجمع البيان، ج 7 و 8، ص 362.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 309

يقول (أبو الفتوح الرازي) الذي يعدّ من المفسرين رفيعي الشأن في القرن السادس وكتب تفسيره باللغة الفارسية في تعبير جذّاب في

ذيل كلمة (خاتم النبيين): «وآخر الأنبياء حتى تظن أنّه ختم النبوة، وبنبوته ختم باب بعث الأنبياء» «1».

ويقول كذلك المفسر السني الشهير (الفخر الرازي) والذي يعدّ من مفسري القرن السادس الهجري المعروفين بعد كلمة (خاتم النبيين): «مفهومها أن لا نبي بعده، وشريعته تامة بحيث لم يبق شي ء لم يذكر» «2».

وسار بقية المفسرين قرناً بعد قرن على نفس المعنى حتى وصل إلى المفسرين المعاصرين.

والشي ء الملفت للنظر هو أنّ مادة ختم ومشتقاتها- الآية المذكورة- استخدمت في القرآن الكريم في سبعة موارد جاءت كلها وبدون استثناء بمعنى الاتمام أو انهاء الشي ء أو الختم الذي يضربونه أسفل الرسائل، وهذا بذاته يدلل على أنّ الآية موضوع البحث ليس لها اي مفهوم سوى أنّ النبي صلى الله عليه و آله هو خاتم سلسلة الأنبياء، والختم الذي وضع على نهاية سجل الرسالات.

وكذلك جاء في (نهج البلاغة) والروايات الإسلامية نفس المعنى بشكل عام، وسوف يشار إلى قسم منها في نهاية هذا البحث.

الاجابة عن بعض الاسئلة:

1- يقال أحياناً: إنّ (خاتم) تعني الزينة. وبناء عليه فإنّ مفهوم الآية هو أنّ النبي صلى الله عليه و آله كان زينة لكل الأنبياء وليس خاتمهم.

لكن يجب الالتفات إلى أنّ (خاتم) لم تأت أبداً بمعنى الزينة وإنّما بمعنى (الخاتم الذي له

______________________________

(1) تفسير الكبير، ج 9، ص 162.

(2) تفسير الكبير، ج 25، ص 214.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 310

فصٌ ويوضع في الأصابع) وأن هذا التعبير غير لائق تماماً أن يقال: إنّ النبي صلى الله عليه و آله هو خاتم أصابع النبيين، ثم إنّنا قلنا: إنّ المعنى الأصلي ل (خاتم) لم يكن أبداً (خاتم الاصبع) وإنّما الختم الذي يختمون به عند الانتهاء من الرسائل أو البرامج أو الكتب. وانطلاقاً من أن وضع الختم يكون

في (الختام) والنهاية. فإنّ اسم (خاتم) يطلق على الواسطة التي تختم بها الرسالة. (لاحظوا أنّ كلمة «خاتم» بفتح التاء معناها «مايختم به» أي الشي ء الذي يختمون به).

وما يثير الاهتمام هو أنّ الختم الأصلي للأشخاص في عصر نزول القرآن والقرون التالية له، كان على الخواتيم التي يحملونها على أصابعهم وبواسطتها كانوا يختمون رسائلهم، ولهذا السبب جاء في سيرة النبي صلى الله عليه و آله «أنّ خاتم رسول اللَّه كان من فضة نقشه محمد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله» «1».

وجاء في بعض التواريخ أنّ من جملة وقائع السنة السادسة للهجرة أنّهم «عرضوا على النبي صلى الله عليه و آله بأنّك تراسل زعماء البلدان والملوك وأنّهم لا يقرأون الرسائل التي لاختم عليها.

لهذا السبب اختار النبي صلى الله عليه و آله خاتماً لاصبعه حتى يختم به الرسائل» «2».

وجاء في كتاب (الطبقات الكبرى) أيضاً أنّ النبي صلى الله عليه و آله عندما قرر أن ينشر دعوته ويكاتب الملوك والسلاطين في العالم أمر فصنعوا له خاتماً كتب عليه (محمد رسول اللَّه) وكان يختم به رسائله «3».

بهذا البيان يتضح أنّ كلمة (خاتم) وإن كانت تطلق على خواتيم الزينة أيضاً ولكن في زمان نزول القرآن وما بعده كان يطلق على الخواتيم التي يختمون بها رسائلهم أو يختمون بها على محل ربط الرسائل بعد طيها واغلاقها.

والنقطة الملفتة للنظر هي أنّ نفس المعنى استخدم في آيات متعددة من القرآن الكريم،

______________________________

(1) سنن البيهقي، ج 10، ص 128؛ وفروع الكافي: ج 6، ص 473- باب نقش الخواتيم، ح 1، (كان نقش خاتم النبي محمد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله).

(2) سفينة البحار، ج 1، ص 376.

(3) الطبقات الكبرى، ج 1، ص 258.

نفحات القرآن، ج 8، ص:

311

فيقول حول مجموعة من الكفار: «خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهمِ وَعَلَى سَمْعِهِم». (البقرة/ 7)

ويقول عن يوم القيامة: «اليَومَ نَخِتمُ عَلَى افْوَاهِهِم». (يس/ 65)

وعلى كل حال فإنّ أقل اطلاع على معانى هذه المفردة في الأدب العربي وجذورها الأصلية وموارد استعمالها يثبت بوضوح أنّ كلمة (خاتم النبيين) ليس لها أي معنى سوى معنى متمم عدة الأنبياء وخاتمهم.

السؤال الثاني:

الايراد الواهي الآخر طرح من قبل البعض من عديمي الخبرة وهو أنّ القرآن الكريم يقول: إنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله (خاتم النبيين) ولم يقل (خاتم الرسل) ومن الممكن أنّ سلسلة الأنبياء تنتهي بظهوره ولكن سلسلة الرسل، لانهاية لها.

الجواب:

صحيح أنّ (النبي) معناه كل نبي يوحى إليه من قبل اللَّه تعالى سواءً كان مكلفاً بالتبليغ أم لا، عنده كتاب سماوي أم لا. ولكن (الرسول) هو نبي مكلف بالبلاغ. وبتعبير آخر، أنّ كل نبي رسول ولكن ليس كل رسول نبي.

بهذا البيان تكون الاجابة عن السؤال المذكور واضحة تماماً، فعندما يكون شخص ما خاتماً للانبياء فبطريق أولى يكون خاتماً للرسل أيضاً، لأنّه كما قلنا قبل قليل: إنّ كل رسول هو نبي- لأنّ مرحلة الرسالة أشمل من النبوة-.

وهذا الكلام يشبه بالضبط قولنا إنّ فلاناً خرج من منطقة الحجاز. فبالتأكيد أنّ ذلك الشخص خرج من مكة أيضاً، أمّا إذا نقول إنّ فلانا ليس في مكة. فمن الممكن أن يكون في نقطة اخرى من الحجاز.

وبناء على هذا إذا كان النبي صلى الله عليه و آله خاتم المرسلين كان ممكناً أن لا يكون خاتماً للأنبياء.

ولكن حينما تقول الآية أنّه خاتم النبيين فمن المسلم به أن يكون خاتما للمرسلين كذلك.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 312

في قسم آخر من الآيات المذكورة هناك تعبيرات يعتبرها الكثير من العلماء دليلًا ساطعاً

على مسألة الخاتمية. وإذا افترضنا عدم قبول دلالتها الصريحة. فلا أقل من أن تكون قرائن وشواهد على هذه المسألة:

نقرأ في أول آية من هذا القسم: «انَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذَّكرِ لَمَّا جَاءَهُم وَانَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ* لَّا يَاتِيهِ البَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِن خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِّن حَكِيمٍ حَمِيدٍ».

و «الباطل»: في هذه الآية معناه الشي ء الذي يبطل أو ينسخ، وعليه فإنّ مثل هذا الكتاب سيكون خالداً وأبدياً، وهذا بنفسه دليل على خاتمية الدين الذي يعود له هذا الكتاب، كما هو دليل على عدم تحريف القرآن أيضاً.

وقد يقال: إنّ (الباطل) في اللغة لا يعني (المبطل) إذن كيف فسرتم الآية بهذا الشكل؟

فنقول: علاوة على أنّ الكثير من المفسرين ذكروا أنّ أحد معاني الباطل هنا هو المبطل «1» فأصولًا عندما يقول (لا يأتيه الباطل) فإنّ مفهومها أنّ الباطل لا يمكنه أن يعيقه أو يعطله خصوصاً وأنّه قال قبلها: (وأنّه لكتاب عزيز) التي تدل على بقائه وثباته.

وفي الآية التالية يقول: «تَبَارَكَ الَّذِى نَزَّلَ الفُرقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلعَالَمِينَ نَذِيراً».

ولفظة (عالمين) التي تشمل كل سكان العالم بالرغم من عدم تقييدها بأي قيد فهي تعم أبناء كل الأعصار حتى نهاية الدنيا.

وهي ليست غير محدودة من ناحية المكان فحسب، بل وحتى من ناحية الزمان أيضاً، وتشمل حتى الآتين، ولهذا السبب اعتبرها الكثير من المفسرين دليلًا على عالمية الدين الإسلامي أولًا وعلى خلوده ثانياً «2».

والنقطة الملفتة للنظر أيضاً أنّ كلمة (عالمين) اخذت من مادة (علم) التي تشمل كل

______________________________

(1) مثل المرحوم الشيخ الطوسي في تفسير البيان؛ والطبرسي في تفسير مجمع البيان؛ والعلّامة الطباطبائي في تفسير الميزان؛ والآلوسي في تفسير روح المعاني وكذلك بعض المفسرين الاخرين (ذيل الآية مورد البحث).

(2) تفسير الكبير، ج 24، ص 45؛ وتفسير

القرطبي، ج 7، ص 4718؛ وتفسير روح البيان، ج 6، ص 188.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 313

الموجودات التي يحتويها علم الإنسان وحتى السماوات والأرض، ولكن بمراعاة كلمة الانذار التي وردت في الآية فإنّ مفهومها يكون هنا محصوراً بالمكلفين في العالم.

على أيّة حال، يكون الاستدلال على الآية الثالثة بنفس الطريقة أيضاً، لأنّ الرسول صلى الله عليه و آله يقول وفق هذه الآية: «وَأُوحِىَ الَىَّ هَذَا القُرآنُ لِانذِرَكُم بِهِ وَمَنْ بَلَغَ».

فسعة مفهوم (ومن بلغ) غير خافٍ على أحد ويكون شاملا لكل بني الإنسان إلى نهاية العالم، وهو دليل على عالمية الإسلام وديمومته وخلوده.

ويصرح (الطبرسي) رحمه اللَّه في مجمع البيان- ذيل الآية المذكورة- بأنّ (من بلغه القرآن إلى يوم القيامة) مشمولون بهذه الآية «1».

وكذلك الكثير من المفسرين القدماء والمحدثين بينوا صراحة في ذيل هذه الآية أنّها دلالة على مسألة (الخاتمية) ومن جملة هؤلاء (أبو الفتوح الرازي) من علماء القرن الثالث للهجرة وصاحب تفسير (روح البيان) والعلّامة الطباطبائي في (الميزان) وغيرهم.

ودلالة الآيات (4 و 5 و 6 و 7) مورد البحث تكون أيضاً بنفس الطريق لأنّ تعبير (كافة للناس) الذي جاء في الآية الرابعة يشمل عموم الناس. وفي الآية الخامسة «انَّى رَسُولُ اللَّهِ الَيكُم» والآية السادسة أيضاً استندت إلى العالمين الذي هو مفهوم واسع من جهة الزمان والمكان.

ومجموع هذه الآيات يمكن أن يكون تأييداً وتأكيداً آخر على مسألة (خاتمية نبي الإسلام صلى الله عليه و آله) و (خلود القرآن).

وذكر بعض من الكتاب والمؤلفين آيات اخرى بهذا الصدد صرفنا النظر عن ذكرها لأنّ دلالتها غير كافية كما يبدو للناظر.

______________________________

(1) تفسير مجمع البيان، ج 3 و 4، ص 282.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 314

الخاتمية في الروايات الإسلامية:

كما اشير من قبل إلى أنّ الاعتقاد بخلود الإسلام

وديمويته من الامور التي اتفق عليها كل العلماء والمفكرين المسلمين، بل وتعتبر من ضروريات هذا الدين ومصدر هذه العقيدة- وبالإضافة إلى الآيات القرآنية- هناك روايات لا تحصى وصلتنا عن النبي صلى الله عليه و آله وبقية الأئمّة المعصومين عليهم السلام بما يشكل مجموعها كتاباً كاملًا، وسنشير إلى قسمٍ منها في هذا الملخص كنموذج.

1- الروايات العديدة حول ختم سلسلة الأنبياء والتي جاءت على لسان النبي صلى الله عليه و آله وهذه الروايات بذاتها تشكل باباً واسعاً جدّاً، ومن جملة الأحاديث في هذا الباب الروايات التالية:

أ) في الحديث المشهور الذي نقلته الكثير من مصادر الحديث والتفاسير عن النبي صلى الله عليه و آله والذي يقول فيه:

«مثلي ومثلُ الأنبياء كمثلِ رجلٍ بنى داراً فأتمها وأكملها إلّاموضع لبنةٍ فجعل الناسُ يدخلونها ويتعجبون منها ويقولون: لولا موضع اللبنة، قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فأنا موضع اللبنة جئت فختمت الأنبياء» «1».

ونقل نفس الحديث بطريق آخر جاء في آخره: «فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين) «2».

ونفس المعنى نقل بطرق متعددة «3».

وفي تفسير (مجمع البيان) جاء هذا الحديث بهذه الصورة: يقول: نقل في حديث صحيح عن جابر بن عبد اللَّه الأنصاري عن النبي صلى الله عليه و آله أنّه قال: «إنّما مثلي في الأنبياء كمثل رجلٍ بنى داراً فأكملها وحسنها إلّاموضع لبنة، فكان من دخلها فنظر إليها قال: ماأحسنها إلّاموضع هذه اللبنة، قال صلى الله عليه و آله: فأنا موضع اللبنة ختم بي الأنبياء» ثم يقول: هذا الحديث نقل في

______________________________

(1) صحيح مسلم، ج 4، ص 1791.

(2) المصدر السابق.

(3) المصدر السابق.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 315

(صحيح البخاري) و (صحيح مسلم) «1».

وجاء أيضاً في مسند (أحمد بن حنبل) و (الترمذي) و (النسائي) وكثير

من كتب الحديث والتفاسير الاخرى وهو من الأحاديث المعروفة جدّاً والمشهورة.

والعلّامة الطباطبائي بعد أن يذكر هذا الحديث يقول: «نفس هذا المعنى نقله أيضاً غير البخاري ومسلم مثل: الترمذي والنسائي وأحمد وابن مردويه عن غير جابر» «2».

ب) وجاء في (نهج البلاغة) أيضاً التصريح بمسألة خاتمية نبي الإسلام صلى الله عليه و آله في خطب متعددة. ونقرأ في الخطبة 173: «أمين وحيه وخاتم رسله».

وفي الخطبة 133: «ختم به الوحي».

وفي الخطبة 72 بعد أن يصليّ علىّ عليه السلام ويسلم على النبي صلى الله عليه و آله يصفه هكذا: «الخاتم لما سبق والفاتح لما انغلق».

وفي الخطبة 87 يخاطب الناس قائلًا: «أيّها الناس خذوها عن خاتم النبيين ...».

ويقول في الخطبة الاولى من نهج البلاغة: «بعث اللَّه سبحانه محمداً صلى الله عليه و آله لانجاز عدته واتمام نبوته».

والمثير للاهتمام أنّه عند التدقيق الواسع الذي جرى على 110 أجزاء من كتاب (بحار الأنوار) بواسطة أجهزة الكومبيوتر تبيّن أنّ كلمة (خاتم النبيين) أو (خاتم الرسل) و (خاتم الأنبياء) وردت في أكثر من 300 موضع من الكتاب (من الجزء الثاني وحتى الجزء 110) والقسم الأعظم منها في روايات الأئمّة المعصومين عليهم السلام والقليل منها في تفاسير العلّامة المجلسي وأمثاله. وتبيّن بوضوح ما تحظى به مسألة ختم النبوة بنبي الإسلام صلى الله عليه و آله في أوساط المسلمين في كل عصر وزمان من شهرة وشيوع واسعين «3».

______________________________

(1) تفسير مجمع البيان، ج 7 و 8، ص 362.

(2) تفسير الميزان، ج 16، ص 327. ذيل الآية مورد البحث.

(3) نتقدم بالشكر إلى المركز الكومبيرتري للحوزة العلمية في قم الذي قدم هذه الموارد التي جاءت في 23 صفحة من الحجم الكبير إلى مركز تفسير رسالة القرآن.

نفحات القرآن، ج 8، ص:

316

وجاء في كتب أهل السنة كرارا لفظ (خاتم النبيين) و (خاتم الأنبياء) «1».

ج) حديث (المنزلة) المعروف- الذي ورد في الكثير من كتب الشيعة وأهل السنة المعروفة بخصوص علي عليه السلام ويعتبر من أشهر الأحاديث النبوية المتواترة- دليلً واضح على هذا المعنى. لأنّ النبي صلى الله عليه و آله كان يريد التوجه مع جيشه إلى (معركة تبوك) فخلف مكانه في المدينة علياً عليه السلام وقال له: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلّاأنّه لا نبي بعدي» «2».

والنقطة المثيرة للاهتمام أيضاً هي أنّ هذه الجملة لم يقلها النبي صلى الله عليه و آله في واقعة (معركة تبوك) فقط، بل وصرح بها في مواضع اخرى أيضاً، وعلى الأقل أنّها سمعت منه صلى الله عليه و آله ستّ مرات في غير (غزوة تبوك):

أولًا: في يوم (المؤاخاة الاولى .

ثانياً: في يوم (المؤاخاة الثانية).

ثالثاً: أثناء تعزية النبي صلى الله عليه و آله ل (ام سليم) عندما استشهد أبوها وأخوها.

رابعاً: في الحديث الذي ينقله (ابن عباس) عن (عمر) بهذا الخصوص.

خامساً: في الحديث الذي جرى أثناء المنازعة على كفالة بنت (حمزة سيد الشهداء).

سادساً: في الحديث الذي ورد عن سد الأبواب التي على المسجد إلّاباب بيت علي عليه السلام وبيت النبي صلى الله عليه و آله «3».

وهذا الحديث يثبت بوضوح أنّ ما من نبي سيأتي بعد نبي الإسلام صلى الله عليه و آله وأنّ هذه المسألة اعتبرت جزءا من الواضحات منذ نفس عصر ظهور النبي الإسلام صلى الله عليه و آله.

د) ورد في أحاديث متعددة أنّ الأحكام الإسلامية باقية وقائمة إلى نهاية العالم. وهذا

______________________________

(1) يراجع المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي مادة، (ختم).

(2) الملفت أنّ هذا الحديث نقل عن 170 طريقاً- مائة منها عن طرق

أهل السنّة وسبعون طريقاً من طرق أهل البيت عليهم السلام- ومن جملة الكتب التي نقل فيها هذا الحديث: صحيح مسلم؛ صحيح البخاري؛ سنن ابن ماجه؛ مستدرك الحاكم؛ مسند أحمد بن حنبل؛ ذخائر العقبى؛ الصواعق المحرقة؛ كنز العمال؛ ينابيع المودة وغيرها. (للاسيتضاح أكثر ارجعوا إلى «المراجعات» المراجعة 28).

(3) للاطلاع أكثر ارجعوا إلى (تفسير نمونة «فارسي») ذيل الآية 42 من سورة الأعراف والمراجعات (المراجعة 32).

نفحات القرآن، ج 8، ص: 317

الأمر لايستقيم إلّاب (خاتمية نبي الإسلام صلى الله عليه و آله لأنّ مجي ء نبي جديد آخر سينسخ قسماً من أحكام النبي الذي سبقه على الأقل.

ومن جملتها نقرأ في اصول الكافي: «حلال محمد حلالٌ أبداً إلى يوم القيامة وحرامهُ حرامٌ أبداً إلى يوم القيامة. لا يكون غيره ولا يجي ء غيره» «1».

وجاء نفس المعنى في مكان آخر إذ يقول الإمام الصادق عليه السلام بعد أن ذكر الأنبياء: «حتى جاء محمد صلى الله عليه و آله فجاء بالقرآن وبشريعته ومنهاجه، فحلاله حلال إلى يوم القيامة وحرامهُ حرامٌ إلى يوم القيامة» «2».

ثم إنّه يتضح من هذا الخبر المشهور أنّه ليس النبي صلى الله عليه و آله (خاتم الأنبياء) فحسب، بل وأنّ دينه ومجموع تعاليمه وأحكامه خالدة وأبدية ولا تتعرض لاي تغيير، وأنّ أولئك الذين يتصورون- بقبولهم مسألة الخاتمية- أنّهم يستطيعون بأفكارهم إيجاد تغييرات في تعاليم الإسلام وأحكامه مخطئون جدّاً، لأنّ الأحاديث آنفة الذكر تقول إنّ خلود نبوّته ملازماً لخلود تعاليمه وأحكامه.

ونقل (العلّامة المجلسي) رحمه اللَّه هذا الحديث أيضاً في الكثير من مجلدات بحار الأنوار «3».

ه) في آخر خطبة (حجة الوداع) الشهيرة وهي نفس الخطبة التي بينها النبي صلى الله عليه و آله للناس بعنوان وصيته الجامعة في آخر حجة وآخر سنة من عمره

الشريف جاءت مسألة (الخاتمية) صريحة.

إذ يقول: «ألا فليبلغ شاهدكم غائبكم لا نبي بعدي ولا امّةً بعدكم» ثم رفع يديه المباركتين إلى السماء- بعد أن انتهى من تبيين كل وصاياه- حتى بان بياض أبطيه وقال:

«اللّهم اشهد أنّي قد بلغت» «4».

______________________________

(1) اصول الكافي، ج 1، ص 58، ح 19.

(2) اصول الكافي، ج 2، ص 17، ح 2.

(3) بحار الأنوار، ج 2، ص 260، ح 17.

(4) بحار الأنوار، ج 21، ص 381 نقلًا عن الخصال ج 2، ص 84.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 318

و) وجاء في حديث معروف اخر عن النبي صلى الله عليه و آله أنّه قال: «إنّ الرسالة والنبوة قد انقطعت فلا رسول بعدي ولا نبي» «1».

وهذا الحديث بالخصوص ملفت للنظر من جهة أنّه اغلق الطريق أمام مختلقي الذرائع الذين يقولون: إنّه (خاتم الأنبياء) وليس (خاتم الرسل).

ز) ننهي هذه الروايات بحديث آخر عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقد جاء في كتاب (اسد الغابة):

«أنّ (العباس بن عبد المطلب) عم النبي كان يطلب منه صلى الله عليه و آله أن يأذن له بالهجرة من مكة إلى المدينة حتى يلحق به (حسب بعض الروايات أنّ العباس كان من المؤمنين الذين يكتمون إيمانهم وبقي في مكة باذن من النبي صلى الله عليه و آله يكتب له أخبار المشركين ويلجأ إليه المسلمون، وعندما قويت شوكة الإسلام طلب العباس من النبي صلى الله عليه و آله أن يأذن له بالهجرة، ولكن النبي صلى الله عليه و آله قال له: «لا تعجل بهذا الأمر»)، ومتن هذه الرواية يشير إلى هذا الأمر:

«ياعمّ أقم مكانك الذي أنت به فإنّ اللَّه تعالى يختم بك الهجرة كما ختم بي النبوة».

ثم جاء إلى النبي صلى الله

عليه و آله في المدينة قبل (فتح مكة) وهاجر ورافقه في فتح مكة، وبفتح مكة انتهت الهجرة- لأنّ هذه المدينة أصبحت بعد فتح مكة دار إسلام وليس دار كفر يهاجر منها إلى المدينة» «2».

وبناءً على ذلك كان (العباس) هو آخر من هاجر من مكة إلى المدينة إذ بعده فتحت مكة وانتهت الهجرة. وكتب البعض أنّ (العباس) الذي كان في طريق هجرته إلى المدينة مع زوجته وأبنائه التقى بالنبي صلى الله عليه و آله في أحد المنازل وسط الطريق عندما كان صلى الله عليه و آله في طريقه ل (فتح مكة) فانضم إليه وقال له صلى الله عليه و آله: «وهجرتك آخر الهجرة كما أنّ نبوتي آخر النبوة» «3».

ويبلغ مجموع الأحاديث التي ذكرت تحت هذه العناوين السبعة التي ذكرنا الآف الأحاديث التي تدل بوضوح كلها على أنّ مسألة خاتمية نبي الإسلام صلى الله عليه و آله كانت منذ البداية

______________________________

(1) سنن الترمذي، ج 3، ص 364.

(2) اسد الغابة، ج 3، ص 110.

(3) عيون الاخبار لابن قتيبة، ج 1، ص 5.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 319

من المسائل الواضحة والبديهية.

والنقطة الملفتة للنظر أيضاً أنّ كل واحد من الأئمّة المعصومين الأربعة عشرة عليهم السلام وصلنا عنه حديث أو أحاديث عن (الخاتمية) «1».

والبعض من الكُتّاب قسموا هذه الأحاديث إلى عشرين قسماً «2».

توضيحات

1- هل أنّ السير التكاملي للإنسان ينسجم مع مسألة الخاتمية؟

أول سؤال يمكن أن يطرح في هذا البحث هو: هل يمكن للمجتمع الإنساني أن يتوقف؟

أو هل ل (السير التكاملي للبشر) حدً وحدود؟ أولا نرى بأعيُننا أنّ الناس هم اليوم في مرحلة أعلى من العلم والمعرفة والثقافة نسبة إلى السابق؟

إذن بهذه الحالة كيف تختم النبوات بالكلية ويحرم الإنسان في سيره التكاملي هذا من الأنبياء الجدد؟

الجواب:

إنّ الاجابة عن هذا السؤال تتضح بالالتفات

إلى نقطة واحدة وهي أنّ الإنسان أحياناً يصل إلى مرحلة من النبوغ الفكري والثقافي تمكنه من مواصلة سيره بالاستفادة المستمرة من الاصول والتعاليم التي وضعها باختياره النبي الخاتم بشكل جامع بدون أن يحتاج إلى شريعة جديدة.

وهذا بالضبط مايشبه إنساناً يحتاج في كل مرحلة من المراحل الدراسية المختلفة إلى معلم ومُربٍّ جديد حتى ينهي المراحل الاخرى أما عندما يصل إلى مرحلة (الدكتوراه) أو (الاجتهاد) ويصبح صاحب رأي في علم أو علوم متعددة، ينقطع عن ادامة تحصيلاته عند

______________________________

(1) للاطلاع أكثر راجعوا كتاب الخاتمية من وجهة نظر القرآن والحديث والعقل.

(2) للاطلاع أكثر راجعوا كتاب خاتمية آخر الأنبياء صلى الله عليه و آله من ص 39 إلى ص 41.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 320

استاذ جديد، ويكتفي بالاعتماد على ماتعلمه من اساتذته القدامى وخصوصاً الاستاذ الأخير وينشغل بالبحث والتحقيق والمطالعة والتدقيق ويواصل مسيره التكاملي.

وبتعبير آخر صار يضع الحلول للمشاكل التي تعترض طريقه اعتماداً على تلك الاصول الكلية وما حصل عليه من آخر اساتذته، وبناء على ذلك فلا حاجة لأن يظهر دائماًللوجود دين وتعاليم جديدة بمرور الزمان (تأملوا).

أو بعبارة اخرى إنّ الأنبياء السابقين- ومن اجل أن يتمكن الإنسان من متابعة سيره نحو التكامل في هذا الطريق الملي ء بالمنعطفات والصعود والانحدار وضع- كل واحد منهم على حدة- تحت تصرفه جزءاً من خارطة هذا المسير حتى أصبح مؤهلًا لأنّ يتلقى خارطة المسير عامة وجامعة وكامله والتي وضعها اللَّه تعالى من خلال آخر الأنبياء:.

ومن البديهي إذا تلقى الخارطة الكاملة والجامعة فسوف لن يحتاج إلى خارطة اخرى وهذا في الحقيقة بيان لنفس التعبير الذي ورد في أحاديث (الخاتمية) واعتبرت فيه نبي الإسلام صلى الله عليه و آله هو آخر لبنة أو واضع آخر لبنة في بناء

ذلك القصر الجميل والمتين للرسالة.

كل ما ذكرنا له علاقة بعدم الحاجة إلى دين أو تعاليم جديدة، أما مسألة القيادة والامامة التي هي نفس الاشراف الكلي على تطبيق هذه الاصول والقوانين وإعانة المتخلفين عن المسيرة فهي مسألة اخرى لايستغني عنها الإنسان في أي وقت من الأوقات، ولهذا السبب فإنّ اتمام سلسلة النبوّة لا تعني مطلقاً اتمام سلسلة الإمامة، لأنّ تبيين وتوضيح تلك الاصول والتحقق الخارجي لها غير ممكنة بدون الاستفادة من وجود قائد إلهي معصوم.

2- هل أنّ القوانين الثابتة تتماشى مع احتياجات الإنسان المتغيرة؟

فيما عدا مسألة السير التكاملي للبشر التي طرحت في السؤال الأول هناك سؤال آخر وهو: إننا نعلم أنّ مقتضيات الزمان والمكان مختلفة من وقت لآخر، أو بتعبير آخر أنّ الإنسان دائماً في حالة تغيير، في حين أنّ شريعة خاتم الأنبياء لها قوانين ثابتة، فهل

نفحات القرآن، ج 8، ص: 321

باستطاعة هذه (القوانين الثابتة) تلبية احتياجات (الإنسان المتغيرة) على طول الزمن ...؟

يمكن الاجابة عن هذا السؤال أيضاً بالالتفات إلى النقطة التالية:

إذا كان لكل القوانين الإسلامية صفة (الجزئية) وتعين لكل موضوع حكماً محدداً وجزئياً فإنّ هذا السؤال يكون في محله، أمّا إذا عرفنا أنّ في التعاليم الإسلامية توجد سلسلة من (الاصول العامة) الواسعة جدّاً والتي بإمكانها مسايرة الاحتياجات المتغيرة وتلبيتها فلا يبقى أي مجال لمثل هذا الإشكال.

مثلًا: بمرور الزمان تظهر سلسلة من المعاهدات والعقود والاتفاقيات الجديدة والعلاقات الحقوقية بين الناس لم تكن موجودة في عصر نزول القرآن أبداً، كما هو الحال في مايسمى اليوم ب (التأمين) ففي ذلك الزمان لا يوجد بتاتاً شي ء يسمى (التأمين) وفروعه المتعددة، «1» أو أنواع الشركات في عصرنا وزماننا هذا والتي تظهر للوجود حسب مقتضيات الوقت الحاضر، ولكن مع هذا فإنّ لدينا في الإسلام قانوناً عاماً جاء في بداية

سورة المائدة عنوانه (وجوب الوفاء بالعهد والعقد) يقول: «يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوفُوا بِالعَقُودِ». وكل تلك المعاهدات والعقود يمكن وضعها تحت غطاء ذلك القانون.

وطبعاً جاءت قيود وشروط بصورة عامة أيضاً على هذا الأصل الكلي في الإسلام يجب مراعاتها.

وبناءً على هذا فإنّ (القانون العام) ثابت وإن كانت مصاديقه في حالة تغيير، وكل يوم يمكن أن يظهر مصداق جديد.

والمثال الآخر: إنّ لدينا في الإسلام قانوناً بديهياً باسم (قانون لا ضرر) الذي يمكن بواسطته الحد من كل حكم يشكل ضرراً على المجتمع الإسلامي، وعن طريق هذا القانون تسد الكثير من احتياجاته.

وبغض النظر عن هذا فإنّ مسألة (لزوم حفظ نظام المجتمع) و (وجوب تقديم الواجب)

______________________________

(1) طبعا توجد في الإسلام موضوعات شبيهة بالتأمين وفي حدود خاصة مثل مسألة (ضمان الجريرة) ولكن كماقلنا إنّها شبيهة بهذه القضية فقط.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 322

ومسألة (تقديم الأهم على المهم) يمكنها في مجالات واسعة جدّاً أن تكون حلالة للمشاكل.

بالإضافة إلى كل ماورد فإنّ الصلاحيات الممنوحة للحكومة الإسلامية عن طريق (ولاية الفقيه) تعطيها إمكانيات واسعة لحل المشكلات في إطار الاصول الكلية للإسلام.

وطبعاً أنّ بيان كل واحد من هذه الامور بالخصوص عند الالتفات إلى فتح باب الاجتهاد (الاجتهاد معناه استنباط الأحكام الإلهيّة من المصادر الإسلامية) يحتاج إلى تحقيق كثير يبعدنا القيام به عن هدفنا، ولكن مع هذا فإنّ ما أوردناه هنا إشارة بامكانها أن تشكل اجابة عن الاشكال آنف الذكر.

3- هل يجب حرمان الإنسان من فيض الارتباط بعالم الغيب؟

السؤال الاخر هو: إنّ (نزول الوحي) والارتباط مع عالم الغيب وما وراء الطبيعة إضافة إلى كونه هبة ومبعث افتخار لعالم البشرية، يعد نافذة أمل لكل المؤمنين الصادقين، إذن لا يعتبر قطع طريق الارتباط هذا وغلق نافذة الأمل هذه حرماناً عظيماً للإنسان الذي عاش بعد وفاة النبي الخاتم؟

والجواب عن

هذا السؤال يتضح أيضاً بالالتفات إلى مايلي:

أولًا: إنّ الوحي والارتباط مع عالم الغيب هو وسيلة لإدراك الحقائق، وعندما يقال كل مايراد قوله وتتضح كل الاحتياجات إلى يوم القيامة في الاصول الكلية والتعليمات الجامعة للنبي الخاتم، فإنّ قطع هذا الارتباط لا يسبب أي مشكلة.

ثانياً: إنّ الذي قُطع للأبد بعد ختم النبوة هو (الوحي لشريعة جديدة أو لتكميل شريعة سابقة)، وليس كل نوع من الارتباط بما وراء عالم الطبيعة، لأنّ الإئمّة عليهم السلام لهم ارتباط بعالم الغيب وكذلك المؤمنين الصادقين الذين ينالون مقام (الكشف) و (الشهود) على أثر ازاحتهم للحجب عن قلوبهم بعد تهذيب نفوسهم.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 323

يقول الفيلسوف المعروف (صدر المتألهين الشيرازي) في كتاب (مفاتيح الغيب): « (الوحي) يعني نزول الملك بقصد مهمّة النبوة حتى وإن كانت منقطعة لأنّه بحكم «أكملت لكم دينكم» كان ما يجب أن يصل إلى نوع البشر عن هذا الطريق قد وصل، أما باب الالهام والاشراق فلم يغلق ولن يغلق أبداً ولا يمكن أن يغلق هذا الطريق» «1».

واصولًا أنّ هذا الارتباط نتيجة لارتقاء النفس وتنقية الروح وصفاء الباطن ولا علاقة له بمسألة الرسالة والنبوّة.

وبناء على هذا ففي أي زمان تحصل مقدماته وشرائطه فسوف تتمّ هذه الرابطة المعنوية ولم يحرم نوع البشر أبداً من هذا الفيض الإلهي العظيم ولن يحرم.

4- هل تنسجم هذه الآيات مع مسألة الخاتمية؟

إنّ مجموعة من مبتدعي الأديان في عصرنا، من أجل أن يعبدوا الطريق أمام مدعياتهم حول النبوة، لم يجدوا أي حل أمامهم سوى التوجه لمسألة (الخاتمية) التي هي من بديهيات وضروريات الدين الإسلامي ووضعها تحت الاستفهام. وكما هو اسلوب أصحاب القلوب المريضة تناولوا بعض الآيات القرآنية التي وجدوها قابلة للتحريف والانسجام مع مقاصدهم وتشبثوا بها لنفي (الخاتمية)، وكان البعض منها غريباً عن مسألة الخاتمية

إلى حد لا تستحق حتى طرحها، ونذكر هنا قسمين فقط من تلك التي يمكن طرحها إلى حد ما والتي استندوا إليها أكثر:

1- يقولون: إنّ الآيات لا تنفي إمكانية ظهور أنبياء آخرين. لأنّها تقول: «يَابَنِى آدَمَ امَّا يَأْتيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيكُم آيَاتِى فَمَنِ اتَّقَى وَاصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيهِم وَلَا هُم يَحزَنُونَ». (الأعراف/ 35)

إنّهم يقولون: بالالتفات إلى أنّ جملتي (يأتينكم) و (يقصون عليكم) هما فعلان

______________________________

(1) مفاتيح الغيب، ص 13.

نفحات القرآن، ج 8، ص: 324

مضارعان، إذن فإنّ الآية تدلل على امكانية بعث أنبياء آخرين في المستقبل، وفي هذه الحالة يكون اتباعهم واجباً.

أمّا إذا التفتنا إلى نقطة واحدة سيكون الجواب عن هذا الكلام واضحاً، وهي: إذا عدنا إلى ما قبل هذه الآيات ودققنا فيها من 11 إلى 34 من تلك السورة سنرى أنّ كل هذه المباحث هي حول (خلق آدم) من تراب ثم إصدار الأوامر للملائكة بالسجود لآدم، ثم اسكانه في الجنّة وطرده وزوجته منها لتركهم الأولى، ثم هبوطهم إلى الأرض وأوامر اللَّه لعموم بني آدم عليه السلام.

وبعبارة اخرى أنّ المخاطب في هذه الآيات ليس المسلمين فحسب. بل شرائح المجتمع الإنساني كافّة وكل أبناء آدم ولا شك، فقد جاء لبني آدم أنبياء ورسل كثيرون ذكرت أسماء بعضهم في القرآن الكريم وسجلت كتب التواريخ اسماء البعض الآخر.

ولكن هؤلاء الذين أرادوا الانتفاع من هذه الآية أنكروا الخاتمية من أجل مقاصدهم ومهدوا السبيل أمام مدعي النبوة الكاذبين. وقطعوا تماماً ارتباط الآية بماضيها وصوروها على أنّها خطاب للمسلمين وخرجوا بنتيجة تقول: إنّ على المسلمين أن ينتظروا ظهور نبي جديد.

والملفت للنظر هو أنّ خطاب (يابني آدم) تكرر عدّة مرات قبل هذه الآية في نفس سلسلة الآيات، في الآيات 26 و 27 و 31،

فالآية 26 تأتي مباشرة بعد قصة هبوط آدم عليه السلام إلى الأرض والآية 27 تأتي بعدها ثم جاءت الآية 31، وفي المرحلة الرابعة تأتي الآية مورد البحث.

والمثير أيضاً أنّ خطاب (يابني آدم) غير موجود في أي خطاب من القرآن إلّافي هذه الآيات الأربع، ويكون الخطاب للمسلمين عادة ب «ياأيها الذين آمنوا» الذي جاء على نفس الصورة في أكثر من ثمانين موضعاً من القرآن، وأحياناً جاء خطاب أكثر عمومية هو:

«ياأيها الناس».

والشاهد الآخر على هذا المدّعى الآية التي نقرأ فيها نفس المضمون بعد مسألة هبوط

نفحات القرآن، ج 8، ص: 325

آدم عليه السلام إلى الأرض. تقول: «قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَاْتيَنَّكُم مِّنىِّ هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَاىَ فَلَا خَوفٌ عَلَيهِم وَلَا هُم يَحْزَنُونَ». (البقرة/ 38)

ومعنى اتيان (الهدى هنا هو نفس معنى (اتيان الرسل).

وجاء المضمون نفسه في الآية 123 من سورة طه، وما يلفت النظر بالخصوص فيها هو أنّ المخاطب في البداية (آدم) و (حواء) وجملة (اهبطا) جاءت بصورة التثنية- ولكن في جملة «إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِّنِّى هُدىً» فالمخاطب جمع يشمل بني آدم بلا شك، لأنّ الشيطان لاحَظَّ له من الهداية الإلهيّة مطلقاً، وبناءً عليه لا يمكن أن يكون ضمن المخاطبين في هذه المجموعة، لأنّه بعد الخطاب يقول: «وَانَّ عَلَيكَ لَعَنتِى إلَى يَومِ الدِّينِ». (ص/ 78)

أي الذي صدر عقب عناده الشديد حيث لم يبق أي أمل بهدايته، ومعلوم أنّ آدم وحواء شخصان، إذن فالمخاطب هما وبَنوهما.

وهنا نصل إلى ختام الجزء الثامن من تفسير (نفحات القرآن)- مجموعة بحوث النبوة الخاصة- والحمد للَّه ربّ العالمين.

إلهي! نور قلوبنا دائماً بنور القرآن وسنة النبي صلى الله عليه و آله وأبنائه المعصومين عليهم السلام.

إلهي! مُنَّ علينا بتوفيق إصلاح أنفسنا في ظل هذه التعليمات المنجية.

ربنا! أزح من دربنا

العقبات واهدنا إلى ما يوجب رضاك.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.