نفحات القرآن المجلد 7

اشارة

سرشناسه : مكارم شيرازي ناصر، - 1305 عنوان و نام پديدآور : نفحات القرآن اسلوب جديد في التفسير الموضوعي للقرآن الكريم ناصر مكارم شيرازي بمساعده مجموعه من الفضلا مشخصات نشر : موسسه ابي صالح النشر و الثقافه [1377؟]. مشخصات ظاهري : ج 6 وضعيت فهرست نويسي : فهرستنويسي قبلي يادداشت : عربي مندرجات : ج 1. العلم و المعرفه في القران .-- ج 2. معرفه الله في القرآن .-- ج 3. .-- ج 4. معرفه صفات و جلال الله .-- ج 5، 6. المعاد في القرآن موضوع : تفاسير شيعه -- قرن 14 رده بندي كنگره : BP98/م7ن7 1377 رده بندي ديويي : 297/179 شماره كتابشناسي ملي : م 77-13711

فلسفة بعثة الأنبياء عليهم السلام في التصور القرآني

اشارة

نفحات القرآن، ج 7، ص: 7

القرآن الكريم والهدف من إرسال الرسل عليهم السلام

تمهيد:

إنّ إرسال الرسل وإنزال الكتب، وبعبارة اخرى بعثة أنبياء اللَّه عليهم السلام ونزول الكتب السماوية، لها علاقة مباشرة بالنظرة الكونية للقرآن الكريم.

حينما يقول القرآن الكريم: «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونَ». (الذاريات/ 56)

وقال تعالى: «يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ». (الانشقاق/ 6)

إنّنا نستطيع أن نفهم أنّ الإنسان في طريقه الطويل المملوء بالمخاطر والمحفوف بالمخاوف، والذي يهدف من خلاله الوصول إلى الكمال المطلق، يعني السير للوصول إلى الذات الإلهيّة المقدّسة، فإنّه لا يستطيع أن يجتاز هذا الطريق دون الحاجة إلى القادة والموجهين الربانيين.

إنّ من مستلزمات تجاوز هذه المرحلة مرافقة الخضر، وما عدا ذلك تكون النتيجة الولوج في الظلمات والابتلاء بالتيه والحيرة والظلالة.

ومن هنا يعتبر الأنبياء عليهم السلام قادة الامم والكتب السماوية بمثابة «القوانين»، التي تأخذ بيد الإنسان لتوصله إلى غايته وتخرجه من الظلمات إلى النور.

وبعبارة اخرى، لا يمكن تصوّر الحياة الاجتماعية للإنسان مجرّدة عن هداية عالم الغيب والذات المقدّسة، لا في التقنين والتنفيذ، ولا في مجال ضمان العدالة الاجتماعية، فالأنبياء عليهم السلام في الواقع يمثّلون همزة الوصل بين عالمي الإنسانية والغيب.

بعد هذه الإشارة العابرة نعود إلى القرآن الكريم ولنتأمل خاشعين في الآيات الواردة في هذا المجال:

نفحات القرآن، ج 7، ص: 8

1- «هُوَ الَّذِى بَعَثَ فِى الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِى ضَلَالٍ مُبِينٍ» «1». (الجمعة/ 2)

2- «رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ». (البقرة/ 129)

3- «كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ». (البقرة/ 151)

4- «لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ

الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ». (الحديد/ 25)

5- «الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِىَّ الْأُمِّىَّ الَّذِى يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِى التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِى كَانَتْ عَلَيْهِمْ ... أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ».

(الأعراف/ 157)

6- «كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ». «2» (إبراهيم/ 1)

7- «وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ». «3» (الأنعام/ 48)

8- «رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ». «4»

(النساء/ 165)

9- «كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ

______________________________

(1) قريب من هذا المعنى جاء في سورة آل عمران، 164.

(2) قريب من هذا المعنى جاء أيضاً في الحديد، 57؛ والطلاق، 11؛ وإبراهيم، 5.

(3) قريب من هذا المعنى بخصوص جميع الأنبياء عليهم السلام جاء في البقرة، 213 والأنعام، 48 والكهف، 56 وآيات اخرى.

(4) قريب من هذا المعنى جاء في طه، 134؛ والقصص، 47.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 9

بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيَما اخْتَلَفُوا فِيهِ». (البقرة/ 213)

10- «هَذَا بَلَاغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ». (ابراهيم/ 52)

11- «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ».

(الانفال/ 24)

جمع الآيات و تفسيرها

أهداف وفلسفة بعثة الأنبياء:
1 و 2- التربية والتعليم

ورد في هذه الآيات عشر غايات لبعثة الأنبياء عليهم السلام:

ففي الآيتين الاولى والثانية إشارة إلى هدفين رئيسيين من أهداف البعثة وفلسفة إرسال الرسل عليهم السلام، ألا وهما «التربية والتعليم».

يقول تعالى في الآية الاولى «هُوَ الَّذِى بَعَثَ فِى الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ»، ونظراً إلى كون التلاوة لآيات الحقّ تعالى بمثابة المقدّمة بالنسبة للتزكية وتعليم الكتاب والحكمة ومحو آثار الضلالة

والشرك، يضيف تعالى قائلًا: «وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِى ضَلَالٍ مُبِينٍ».

صحيح أنّ الغاية الرئيسية من تلاوة الآيات وتعليم الكتاب والحكمة هو تزكية وتطهير الروح والبدن والفرد والمجتمع، وأن تعلم الكتاب والحكمة له دور الطريقية، وبمثابة مقدّمة بالنسبة إلى التزكية، لكنّها مع ذلك تقدّمت عليهما نظراً لأهميّتها.

في حين أنّنا نجد الآية الثانية من آيات بحثنا التي تتعرّض لدعاء إبراهيم عليه السلام في حقّ الامّة الإسلامية، تقوم بتقديم «تعليم الكتاب والحكمة» على «التزكية»، وتضع كلًا في مكانه الطبيعي له، حيث تقول: «رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ

نفحات القرآن، ج 7، ص: 10

الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ».

أجل، هذا هو طلب إبراهيم عليه السلام من اللَّه تعالى للُامّة الإسلامية واتّباع محمّد صلى الله عليه و آله، حيث أبان الهدف من بعثة هذا النبي العظيم (وسائر الأنبياء) بكلّ وضوح.

إنّ التأمّل في هاتين الآيتين يكشف عن نكات جديرة بالاعتبار:

أوّلًا: العبارة الواردة في الآية الاولى دليل على معرفة اللَّه تعالى من جهة، وعلى النبوّة الخاصّة لنبي الإسلام صلى الله عليه و آله من جهة اخرى، حيث تؤكّد الآية أنّ اللَّه تعالى هو الذي بعث نبيّاً بهذه الخصوصيات وهذا لا يتمّ إلّاعن طريق القدرة الإلهيّة فقط: «هُوَ الَّذِى بَعَثَ ...».

وكذلك تقول: إنّ النبي هو ذلك الشخص الذي ظهر من بين جماعة اميّين، لكنّه على الرغم من ذلك فقد أصبح معلّماً للمئات والآلاف، وأفاض على أتباعه العلم والحكمة حتّى ظهر من بينهم بعد فترة قصيرة أكابر العلماء الذين قاموا بتأسيس حضارة عظيمة مشرقة.

ثانياً: دار الحديث في كلتا الآيتين عن أربعة مواضيع وهي «تلاوة آيات اللَّه تعالى» و «تعليم الكتاب» و «تعليم الحكمة» وأخيراً «التزكية والتطهير

والتربية».

إنّ الحالة الطبيعية لهذه المواضيع الأربعة، هي كما اشير إليها، بأنّه يجب ابتداءً أن يتعرف ويستأنس سمع الإنسان بكلمات الحقّ تعالى ليدرك بعد ذلك مضمون الكتاب من أعماق هذه الكلمات، ثمّ يتعرّف بعد ذلك على الحكمة أي الأسرار الكامنة فيها، وأخيراً يُطهر وينقي الروح والجسم.

هذا الترتيب الطبيعي يُلاحظ في الآية المرتبطة بدعاء إبراهيم عليه السلام: لكن «التزكية» قد تقدّمت على «تعليم الكتاب والحكمة» كما جاء في قوله تعالى «لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِى ضَلَالٍ مُبِينٍ». (الجمعة/ 2) (آل عمران/ 164)

وذلك لكي تتبيّن هذه الحقيقة التي ترى أنّ الهدف الرئيس من كلّ هذه المقدّمات في تلك الآيات هو الطهارة والتقوى وتربية الإنسان ونمو المثل والقيم الأخلاقية والإنسانية.

ثالثاً: نظراً لتقدّم «التزكية» على «التعليم» في آيتين من القرآن الكريم وتأخّرها عنه في

نفحات القرآن، ج 7، ص: 11

آية واحدة، يرد هذا السؤال وهو: أي منهما يكون الأصل حقيقة والآخر فرع؟

الجواب عن هذا السؤال ليس بتلك الصعوبة كما تقدّمت الإشارة إلى ذلك لأنّ «العلم» له حيثية الطريقية المقدّمية، والهدف الرئيسي هو تربية الإنسان وتزكية النفس وتكامل الروح، وبعبارة اخرى إنّ تلاوة آيات القرآن الكريم وتعليم العلم والحكمة كلّها تهدف إلى هذا الهدف الأسمى، وبناءً على ذلك تعدّ كلّ هذه مقدّمة بالنسبة للتزكية التي تعتبر ذي المقدّمة، وما السبب وراء ذكر «التزكية» قبل «تعليم الكتاب والحكمة» في آيتين اخريين إلّالبيان دورها الخطير هذا.

فضلًا عن ذلك، فإنّ كلّ واحد من هذين الأمرين يترك أثره على صاحبه، أي إنّ الإنسان لا يسعى وراء العلم ما لم تتحقّق مرحلة تزكية النفس، وما لم يتحقّق

العلم فسوف لن تحصل المراحل العالية من التزكية، وبناءً على هذا ف «التعليم» و «التزكية» لهما أثران متقابلان، كما يحتمل أن يكون الغرض من تنوّع الآيات حول هذا الموضوع هو إلفات النظر إلى هذا الأمر.

وينبغي ألّا يخفى أنّ البعض من العلوم كالعلوم المرتبطة بالمعرفة بصورة عامّة ومعرفة اللَّه تعالى ونظائرها لها حيثية ذاتية وعينية، أو بعبارة اخرى فهي مطلوبة بالذات، في حين أنّ العلوم الاخرى ليس لها حيثية مقدمية، ولهذا يمكن أن يكون تنوّع الآيات الآنفة الذكر إشارة إلى هذه الملاحظة أيضاً.

رابعاً: حول الاختلاف المحتمل بين «الكتاب» و «الحكمة» يعتقد البعض بأنّ الكتاب إشارة إلى القرآن الكريم، والحكمة إلى الأحاديث والسنّة النبويّة الشريفة، أو أنّ «الكتاب» إشارة إلى مجموعة الأحكام والأوامر الإلهيّة و «الحكمة» إشارة إلى أسرار تلك الأحكام وفلسفتها، لأنّ الإحاطة بتلك الأسرار تزيد من عزم الإنسان على تنفيذها، كما أنّ هناك احتمالًا آخر وجيهاً أيضاً وهو إنّ ذكرهما معاً «الكتاب والحكمة» إشارة إلى مصدري المعرفة الرئيسيين أي «الوحي» و «العقل».

خامساً: لفظة «الامّيين» على حدّ قول الكثير من المفسّرين، إشارة إلى اولئك الذين لا يعرفون القراءة والكتابة ويجهلون العلم والمعرفة على الإطلاق، أي كأنّما ظلّوا كما ولدتهم امّهاتهم بالضبط لم يتغيّروا قيد أنملة أبداً.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 12

وظهور النبي الأكرم صلى الله عليه و آله بين قوم كهؤلاء هو دليل على عظمته وصدق دعوته.

لكن البعض من المفسّرين اعتبر لفظة «الامّيين» إشارة إلى أهل مكّة التي كانت تسمّى ب «امّ القرى»، وربّما قيل: إنّ المراد من «الامّيين» هم العرب وذلك لجهلهم بالقراءة والكتابة أيضاً.

لكن المعنى الأوّل أكثر تناسباً من تلك المعاني.

سادساً: إنّ التعبير ب «ضلال مبين» هو أفضل تعبير يعكس حالة عرب الجاهلية، فهم كانوا

في ضلال، وأي ضلال، إنّه ضلال مبين ظاهر بجميع أبعاده، ألم يكن وأد البنات وعبادة الأوثان والتعصّبات القبلية المقيتة والحروب الدائمة والإفتخار بالإغارة على الآخرين وأمثالها ضلالًا مبيناً؟

والآية الثالثة تشير أيضاً إلى مسألة التربية والتعليم التي حصلت عند المسلمين على يدي نبي الإسلام صلى الله عليه و آله مع هذا الفارق وهو التأكيد بصورة خاصّة على العلوم والمعارف التي يستحيل كسبها بدون بعثة النبي صلى الله عليه و آله، حيث تقول: «كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ».

وتفسير هذه الآية كسابقاتها، مع فارق وجود جملة في ذيلها تشير إلى أنّ نبي الإسلام صلى الله عليه و آله قد علّم الناس علوماً يستحيل الحصول عليها من دون الوحي، وهنا ينبغي ألّا يفوتنا التفاوت الواضح بين جملة «لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ» النافية لإمكانية التعلّم و «لَمْ تَعْلَمُوا» النافية للعلم.

قال في «روح المعاني» بعد الإلتفات إلى الجملة الأخيرة التي تشير إلى العلوم التي لا يمكن اكتسابها إلّاعن طريق الوحي: على هذا فالجملة المشار إليها هي من قبيل ذكر الخاص بعد العام «1».

______________________________

(1) تفسير روح المعاني، ج 2، ص 17.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 13

لكن المرحوم الشيخ الطوسي في «التبيان» والشيخ الطبرسي في «مجمع البيان» سبقاه في التوجّه إلى هذه الملاحظة وأشارا إليها بعبارة مختصرة واضحة.

إنّ كتابنا السماوي القرآن الكريم يحتوي في الحقيقة على قسمين من العلوم، فالقسم الأوّل هو من المعارف التي يمكن أن تكتسب عن طريق الاستدلال العقلي، وإن كان القرآن قد عرض هذا القسم بشكل أكمل وأكثر اطمئناناً من الاستدلال العقلي.

والقسم الآخر يستحيل اكتسابه بغير الوحي كما تقدّم، وهو الذي تمّ الاستناد إليه في الجملة الأخيرة (كالكثير من

الحقائق المرتبطة بعالم ما بعد الموت والقيامة)، أو التواريخ المعتبرة للأقوام والأنبياء عليهم السلام السابقين والتي ضاعت على مرّ الزمن، وكذلك العلوم والمعارف التي حجبت عن أنظار المفكّرين في ذلك الزمان على أقلّ تقدير.

3- إقامة القسط والعدل

تمّت الإشارة في الآية الرابعة بشكل عامّ إلى أحد الأغراض الرئيسية من بعثة الأنبياء عليهم السلام ألا وهو إقامة العدالة الاجتماعية، وأنّ نزول الكتاب والميزان بمثابة المقدّمة لذلك، يقول تعالى: «لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ».

لقد اشير في هذه الآية إلى ثلاثة امور باعتبارها مقدّمة لإقامة العدل، وهي «البيّنات» التي تعني الأدلّة كما لا يخفى، والمشتملة على المعاجز والأدلّة العقليّة على أحقّية دعوة الأنبياء عليهم السلام وأخبار السابقين منهم، و «الكتاب» الذي يشير إلى الكتب السماوية التي تحتوي على بيان المعارف والعقائد والأحكام والأخلاق، و «الميزان» الذي يعني القوانين المميّزة للخير من الشرّ والفضائل من الرذائل والحقّ من الباطل.

تمتّع أنبياء اللَّه عليهم السلام بهذه القوى الثلاث التي تمكّنهم من دفع البشريّة نحو إقرار العدالة، والملفت للنظر هنا هو عدم نسبة إقامة العدالة إلى الأنبياء، بل التصريح بأنّ المجتمعات

نفحات القرآن، ج 7، ص: 14

البشرية تنشأ على نوع من التربية يدفعها بالنتيجة إلى إقامة العدالة بنفسها! والمهمّ أيضاً هو ظهور هذه المسألة في المجتمع بصورة إراديّة لا قهرية.

والتعبير ب «الميزان» عن القوانين الإلهيّة إنّما هو لدورها المهمّ في المسائل الحقوقية المشابهة لدور الميزان في بيان وزن كلّ شي ء كما هو عليه، وإنهاء حالة الخلاف والنزاع القائمة، ونظراً لكون القوانين البشرية الوضعية صادرة من علم الإنسان الناقص فلا يمكن الإعتماد عليها ولا يمكنها أبداً تحقيق العدالة، بل ينحصر تحقّق هذا الأمر في القوانين الإلهيّة النابعة من علم اللَّه تعالى

اللانهائي الذي لا يخالطه الخطأ والإشتباه، ذلك العلم الذي تنسجم معه النفس المؤمنة وتركن إليه.

ويوجد أيضاً فريق لا يبالي بأيّ من هذه الامور، بل نراه يضع كلّ شي ء تحت قدميه حفاظاً على مصالحه الشخصية، فلابدّ من مقاومة هؤلاء بقوّة السلاح، وما جملة «وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد» المتمّمة لهذه الآية إلّاإشارة إلى هذا الفريق الذي لا يعرف سوى لغة السيف.

ومع أنّ البعض قد ذهب إلى أنّ التعبير ب «أنزلنا» يعني مجي ء الحديد (الصخور الحديديّة) إلى كرتنا الأرضية من الكواكب الاخرى لكن تعبير أنزلنا يأتي أحياناً في غير الحديد أيضاً فمثلًا في أنواع الحيوانات كما ورد قوله تعالى «وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ ...». (الزمر/ 6)

وجاءت أيضاً للألبسة التي تغطّي بدن الإنسان حيث قال تعالى «يَا بَنِى آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِى سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ». (الاعراف/ 26)

تبيّن هذه الآية أنّ المراد منه هو الخلقة والإبداع الإلهي في نفس الأرض، ونزول هذه الموهبة الإلهيّة من مقام الربوبية الشامخ إلى مقام الإنسان الداني، يعبر عنها بأنزلنا وبعثنا.

كما يُشاهد هذا التعبير أيضاً في المحاورات اليومية، فحينما تصدر أوامر أو تبعث هديّة من رئيس دولة مثلًا إلى مادونه يقال: إنّ هذه الأوامر أو الهديّة قد جاءت من المراتب العليا!

نفحات القرآن، ج 7، ص: 15

4- حريّة الإنسان

واشير في الآية الخامسة إلى بُعد آخر من أبعاد فلسفة بعثة الأنبياء عليهم السلام، ألا وهو نجاة الإنسان من مخالب الأسر والاستبداد، يقول تعالى: «الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِىَّ الْأُمِّىَّ الَّذِى يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِى التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِى كَانَتْ

عَلَيْهِمْ».

إنّ القرآن الكريم يقيم عدّة أدلّة على أحقيّة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله بذكره لهذه الأوصاف:

الأوّل: كونه اميّاً، فهل يمكن عرض كتاب كهذا أو علوم كهذه من قبل شخص لم يحضر حلقات الدرس.

والثاني: هو شهادة الأنبياء عليهم السلام السابقين على حقانية نبوته.

والثالث: إنسجام تعليماته مع أوامر العقل والوجدان (إذ يستحيل إيجاد مذهب ورسالة لها مثل هذا الإنسجام مع حكم العقل والوجدان، والدعوة إلى الإحسان والنهي عن السيّئات والتوجّه نحو الفضائل وترك الرذائل في محيط ملي ء بالخرافات والجهل والجاهلية والفظاظة).

والدليل الرابع: بيان حريّة الإنسان والسعي لإنقاذه من مخالب الأسر فطالما كبّل الحكّام الماديّون الإنسان بالأغلال والقيود لتقوية مكانتهم، وأجازوا أنواع العذاب في حقّه، بل قد سلبوا حرّيته باسم الحرية، ولم تكن هناك مدرسة تنادي بخلاص الإنسان من ظلم الطواغيت وتحريره سوى مدرسة الأنبياء عليهم السلام.

والجدير بالذكر هو أنّ كلمة «إصر» على وزن (مِصْر) التي تعني عقد الشي ء وحبسه وقهره على حدّ قول الراغب في مفرداته وقد فسّرها البعض بالحبس المؤكّد أيضاً، ثمّ استعملت في لوازم هذا المعنى «1» (مثل العهد والميثاق وثقل الذنوب والحبل الذي تربط به الخيام وأمثال ذلك) وجاءت هنا كناية عن أنواع القيود التي تُثقل كاهل الإنسان.

______________________________

(1) مفردات الراغب؛ ومقاييس اللغة؛ والتحقيق في كلمات القرآن الكريم.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 16

و «الأغلال» جمع «غل» وهي مشتقّة في الأصل من مادّة «غَلَلْ» المأخوذة من النفوذ التدريجي للأشياء كنفوذ الماء الجاري وسط الأشجار، ونظراً لكون «الغل» هي تلك الحلقة التي تحيط بالرقبة أو بها مع اليد والرجل مجتمعة فقد سمّيت «غلًا» وأحياناً يطلق عليها «الجامعة» لنفس ذلك الغرض أيضاً.

وأكثر ما استعمل القرآن الكريم هذه المفردة للتعبير عن «طوق العنق» ولذا قالوا: هي الأغلال التي

في أعناق الكفّار.

على أيّة حال، فقد وردت هنا كناية عن أغلال الأسر، والغريب إنّ الكثير من المفسّرين قد اعتبر «الإصر» و «الأغلال» إشارة إلى التكاليف الشاقّة التي فرضها اللَّه تعالى على اليهود، وإنّ نبي الإسلام صلى الله عليه و آله قد رفعها بشريعته السهلة السمحاء في حين أنّه لا يوجد أي دليل على هذا التقييد والتخصيص، إذ إنّ للآية مفهوم أوسع حيث شملت كافة أنواع الاثقال المعنوية وقيود الأسر:

قيود عبادة الأوثان والخرافات والعادات والتقاليد الخاطئة.

قيود الجهل والضياع.

قيود أنواع التفرقة والحياة الطبقية.

قيود القوانين الخاطئة.

وقيود الأسر والاستبداد في مخالب الطواغيت.

لقد أعاد نبي الإسلام صلى الله عليه و آله وسائر الأنبياء عليهم السلام الحرية الحقيقية إلى الإنسان وذلك برفعهم لهذه الأثقال وفكّهم لتلك القيود والأغلال عنه، فقد منحوه حريّة التفكير والتعبير عن الرأي والتأمّل والتحرّر من عبودية أهواء النفس، التحرّر من قبضة الحكّام الظالمين والتحرّر من شباك الشياطين والطواغيت والتحرّر من سيطرة الخرافات والأوهام وعبادة غير اللَّه تعالى.

ومن المسلّم أنّ عدم ارتياح الطواغيت لتحرّر الآخرين هو لرغبتهم في تسخيرهم لتحقيق أغراضهم الشخصية، ولا زالت- في عصرنا الحاضر الذي ينطلق فيه شعار حريّة

نفحات القرآن، ج 7، ص: 17

الإنسان في أقصى نقاط المعمورة- تفرض على الإنسان تلك القيود والأغلال والأثقال المضنية التي تعود إلى العصر الجاهلي وبعناوين ومصطلحات جديدة، فالقوى العظمى تسعى دائماً وبصورة علنية للسيطرة على الشعوب واسترقاقها وتسخيرها مستخدمة كافّة الوسائل العسكرية أو الإعلامية أو بنشر ألوان ونهب ثرواتها الفساد الأخلاقي، وقد بلغ ظهور هذا الأمر اليوم حدّاً يستحيل إنكاره بل لا يكاد يخلو منه التاريخ المعاصر في كافّة أرجاء المعمورة، وهي تسعى للقضاء على شعارات الحرية الجميلة.

أجل، فإنّ أحد الأهداف الرئيسية من بعثة الأنبياء عليهم السلام هو إنقاذ

الإنسان وتخليصه من أسر وقيود العبودية المقيتة.

5- النجاة من الظلمات

وذكر في الآية السادسة الهدف وراء البعثة ونزول القرآن المجيد وهو إخراج الناس من الظلمات إلى النور، يقول تعالى: «كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ».

و «الظلمات» نظراً لورودها بصيغة الجمع فانّها تمثل مفهوماً واسعاً وشاملًا لكلّ أنواع الظلمات: ظلمة الشرك والظلم والجهل وهوى النفس، وأنواع الحجب التي تسدل على قلب الإنسان وكذلك الظلمات التي تخيّم على المجتمعات.

فالهدف من نزول الكتب السماوية هو إنقاذ الإنسان من كلّ هذه الظلمات والأخذ بيده نحو نور التوحيد والتقوى والعدل والإنصاف والاخوّة و ...

والملفت للنظر هنا مجي ء «الظلمات» بصيغة الجمع و «النور» بصيغة المفرد، وذلك لأنّ طريق التوحيد والحقّ واحد لا يوجد طريق سواه، وهو ذلك الطريق المستقيم الذي يربط بين المبدأ والمعاد فهو يختلف عن طرق الضلال المتشعّبة، فنور الإيمان والتقوى هو أساس الوحدة والإتّحاد، أمّا ظلمات الشرك واتّباع الهوى والطغيان فهي السبب الأساس في الاختلاف والحيرة والضياع.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 18

وحَصْرُ بعض المفسّرين «الظلمات» ب «الشرك»، و «النور» ب «التوحيد» فقط لا يستند إلى دليل، إذ ليس ما ذهبوا إليه إلّاأحد المصاديق الواسعة للآية.

وبناءً على هذا فأحد أهداف البعثة هو نجاة الإنسان من الظلمات الفكرية والعقائدية والأخلاقية والعملية، وهدايته نحو النور والحياة الواقعية.

ويمكن أيضاً إيراد هذا الهدف في أهداف التربية والتعليم وإقامة العدل والحرّية، أو العكس، ولكن نظراً لورود كلّ هدف على حدة في القرآن الكريم، فقد راعينا عرضها بصورة مستقلّة أيضاً.

والنور والهداية لا يختصّان بالقرآن الكريم فحسب بل قد ورد تعبير «النور» في حقّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أيضاً في الآية «وَدَاعِياً إلَى اللّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً». (الأحزاب/

46)

والتعبير ب «الناس» بحسب ما ذهب إليه تفسير الميزان، هو لبيان أنّ الهدف من بعثة نبي الإسلام صلى الله عليه و آله هو لهداية عامّة الناس (في كلّ زمان ومكان ما دامت السماوات والأرضون) والتعبير ب «بإذن ربّهم» هو لبيان أنّ هداية الأنبياء عليهم السلام هي في الواقع جزء من «ربوبية الباري جلّت قدرته» وفي مساره الذي يرتضيه هو، انسجام الربوبية في عالم التشريع مع ربوبيته في عالم التكوين.

6- البشرى والإنذار

مع أنّ الترغيب بأنواع الهِبات والمكافئات الماديّة والمعنوية الإلهيّة والترهيب والانذار من العقاب الشديد النفسي والبدني هما الطريق إلى التربية والتعليم، والعامل المساعد للاخراج من الظلمات إلى النور، لكن نظراً لتركيز القرآن الكريم عليهما كثيراً يمكن اعتبارهما أحد أهداف بعثة الأنبياء عليهم السلام.

وفي الآية السابعة من آيات البحث تمّت الإشارة إلى هذا الأمر إذ قال تعالى: «وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ».

نفحات القرآن، ج 7، ص: 19

هذه الآية ونظائرها التي تعتبر «بشارة» و «إنذاراً» هي بمثابة برنامج رئيسي للأنبياء عليهم السلام، وتعدّ أيضاً ردّاً على اولئك الذين يعتبرون الأنبياء عليهم السلام آلهة ويرجون منهم إظهار كلّ أنواع القدرة الإلهيّة، وعلى اولئك الذين انكروا دعوتهم وخالفوهم في مسيرتهم إذ يؤكّد اللَّه تعالى أنّ وظيفة الأنبياء عليهم السلام هي البشرى والإنذار فقط، أمّا باقي الامور فهي موكولة إليه تعالى وأنّ الهداية مرتبطة بالناس أنفسهم كما في الآية: «فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ» «وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ» ففي الواقع يمكن حصر كلّ الدوافع الإنسانية في هاتين الجملتين المعروفتين: «جلب المنفعة» و «دفع الضرر»، (الأعمّ من المادية والمعنوية)، وقد ركّزت «البشارة» و «الإنذار» عليهما، كما أنّهما بمثابة الأساس الذي تعتمد عليه كلّ تربية

إلهيّة وبشرية مادية ومعنوية.

البشارة لا تكفي لوحدها وكذلك الإنذار، بل لابدّ من حاكميتهما معاً على حياة الإنسان وفي كلّ مراحل التربية منذ نعومة أظفاره حتّى الرمق الأخير، والذي يلتزم بإحداهما دون الاخرى سيفشل في برامجه، إذ كما أنّ التشويق يعدّ عاملًا محرّكاً، فكذلك التهديد يعدّ رادعاً قويّاً بالنسبة للمعاندين.

7- إتمام الحجّة

من الطبيعي إنّ فريقاً من الأنانيين والمتغطرسين المعاندين الذين يرون دعوة الأنبياء عليهم السلام مخالفة لأغراضهم الشخصيّة يمتنعون عن قبولها ويقفون منها موقفاً سلبياً، ولو أنّ اللَّه سبحانه وتعالى لم يبعث نبياً فمن الممكن أن يدعي هؤلاء ادّعاءات وحجج واهية، من بينها، أنّ اللَّه سبحانه وتعالى لو بعث نبياً لاستقبلناه بصدور رحبة ولآمنا برسالته وبما يقول، إلى غير ذلك من الادعاءات الكاذبة.

وعلى هذا الأساس فإنّ أحد أهداف بعثة الأنبياء هو إلقاء الحجة على هذه المجموعة على كافة المعاندين، وأنّ إلقاء الحجّة هذا، يمثل أولًا: العدل الإلهي بالشكل الواضح والدقيق.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 20

وثانياً: يقطع على أهل الكذب الطريق ويحول دون تقديمهم الحجج والادّعاءات الجوفاء، أو بتعبير علمي أدقّ فإنّ مسألة استحقاق الجزاء بالنسبة لهذه المجموعة تخرج من إطار «الاستعداد والقوة» إلى حَيّز «الفعلية».

ولذا قال تعالى: «رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ»، كما ورد نظير هذا المعنى في آيتين أخريين يتّحد مضمونهما في قوله تعالى:

«وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى . (طه/ 134)

وورد قريب من هذا المعنى في قوله تعالى: «وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ». (القصص/ 47)

8- رفع الاختلاف

المجتمعات البشرية كانت ولا تزال تعاني الأمرّين من الاختلاف وتحترق بناره، وتضيّع المزيد من القدرات والإمكانات الهائلة بسببه، تلك الإمكانات التي لو وضعت في مكانها المناسب لغدت الدنيا جنّة الفردوس.

ومن جهة اخرى فإنّه من المُسلّم أنّ الناس لا يستطيعون تسوية الاختلافات التي تقع بينهم، وذلك بسبب قصور ومحدودية علمهم بكل جوانب الحياة، بالإضافة إلى الأنانية والتكبر الذي يمنعهم

من الاذعان والركون إلى بعضهم البعض.

أمّا الأنبياء عليهم السلام الذين ينبع علمهم من بحر علم اللَّه تعالى اللامتناهي والذي لا يُقارَن بمستوى علم البشر، فإنّهم يتمكّنون من أداء دور فعّال في حلّ تلك الاختلافات وإزالتها.

صحيح أنّ عالم المادّيات هو عالم الحجب، إذ لا يمكن رفع الاختلافات كليّاً بين الناس بأيّ طريقة، ولكنّه من المؤكّد إمكان إزالتها نسبيّاً في ظلّ تعاليم الأنبياء عليهم السلام.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 21

ولذا أشارت الآية التاسعة من البحث إلى هذا الهدف، قال تعالى: «كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيَما اخْتَلَفُوا فِيهِ».

و «الامّة»: في الأصل على ما ذهب إليه الراغب في مفرداته تطلق على كلّ جماعة يجمعهم أمرٌ ما، إمّا أن يكون دين واحد أو زمان واحد أو مكان واحد، سواء كان ذلك الأمر الجامع قسريّاً أو اختياريّاً، وجمعها امم.

لكنّ هذه اللفظة وردت بمعنى العقيدة أيضاً: «بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ* وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِى قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ». (الزخرف/ 22- 23)

وأحياناً جاءت بمعنى نفس الزمان قوله تعالى «وَقَالَ الَّذِى نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ». (يوسف/ 45)

وكذلك قوله تعالى «وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ». (هود/ 8)

وفي الآية مورد البحث يبدو أنّ «الامّة» جاءت بمعنى الجماعة الواحدة.

لكن ما هي هذه الامّة الواحدة التي عاشت في بداية الخلقة يا ترى؟ وما هي عقيدتها؟ يوجد بين المفسّرين حديث طويل وعريض حول هذا

الموضوع، ولهم احتمالات عديدة في تفسير لفظ «الامّة» ومصيرها، وأهمّها ثلاثة احتمالات:

الأوّل: أنّها كانت امّة مهتدية، وكانت هدايتها نابعة من الفطرة الإلهيّة المودعة لديها، ثمّ اختلفت ذلك الاختلاف الناشي ء من علمها المحدود، وذلك لعجز أحكام الفطرة والمستقلات العقلية عن الأخذ بزمام الامور لوحدها، ومن هنا بعث اللَّه تعالى الأنبياء عليهم السلام إلى البشرية لتخليصها من مشكلة الاختلافات الناشئة من الجهل ومحدودية معرفتها.

فبعث اللَّه الأنبياء عليهم السلام ووضعوا حدّاً لهذه الاختلافات وبيّنوا الحقائق، لكنّه ظهر بعد ذلك اختلاف آخر نشأ من البخل والظلم والفساد، وهنا أيضاً شملت الألطاف الإلهيّة

نفحات القرآن، ج 7، ص: 22

المؤمنين المخلصين، فسلكوا الطريق إلى الحقّ مهتدين بنور إيمانهم وتقواهم إلى أن بلغوا الصراط المستقيم، بينما بقي الآخرون غارقين في ظلمات الاختلاف.

وطبقاً لهذا التفسير، فالامّة الواحدة التي ظهرت أوّلًا كانت على الحقّ، لكنّ محدودية إدراك العقل البشري كانت سبباً في الاختلافات، ثمّ أعلن الأنبياء عليهم السلام عن خاتمة هذه الاختلافات عن طريق الوحي المعصوم من الخطأ، لكنّ هوى النفس والميول والتكبّر والعجب كان السبب وراء بروز اختلافات جديدة، ولم ينج من هذه الاختلافات سوى المؤمنين الصالحين.

والدليل على هذا التفسير هو مضمون الآية التي تذكر نوعين من الاختلاف في الامّة، الاختلاف الذي كان السبب في بعثة الأنبياء عليهم السلام وذلك لرفعه، والاختلاف الذي ظهر بعد نزول الكتب السماوية والبيّنات، أمّا إصرار بعض المفسّرين على كون هذه الامّة الواحدة ضالّة منحرفة بمجموعها منذ البداية، لا ينسجم مع لحن الآية وفطرةِ الإنسان التوحيدية التي يصرّح بها القرآن (خصوصاً تلك الفطرة الملموسة عند الناس السذّج في أوّل الخلقة الذين لم تكن الميول والرغبات النفسانية قد هيمنت عليهم بشكل خطير بعد).

أمّا فيما يتعلّق بالعصر الذي استوعب المجتمع البشري الأوّل

الذي عبّر عنه القرآن ب «الامّة الواحدة»، فقد ذهب البعض إلى أنّه إشارة إلى الفترة ما قبل بعثة نوح عليه السلام وبعد هبوط آدم عليه السلام وبناءً على هذا ف «الامّة الواحدة» هي نفس تلك الامّه التي ظهرت منذ زمن تناسل ذرّية آدم عليه السلام، والتي كان الإيمان والتوحيد حاكمين عليها إلى أن اتّسعت فيها آثار الشرك يوماً بعد آخر، بسبب الجهل وقلّة المعرفة، ممّا هيّأ الأرضية المناسبة لرسالة نوح عليه السلام.

ومن الطبيعي أنّ استثناءً من قبيل وجود «قابيل» بين أولاد آدم عليه السلام لا يحول دون إطلاق كلمة «الامّة الواحدة» على مجموعة أولاده، وهناك احتمالات اخرى حول هذا الموضوع لا تفي بالغرض بحسب الظاهر.

على أيّة حال يستفاد من مجموع ما جاء حول تفسير الآية أعلاه أنّ أحد أهداف بعثة الأنبياء عليهم السلام هو رفع الاختلافات الناشئة من جهل الناس، ولا يخفى أيضاً أنّ الاختلافات

نفحات القرآن، ج 7، ص: 23

الناشئة من هوى النفس والعجب والتكبّر ستبقى ما بقي الإنسان بالرغم من أنّ الأنبياء عليهم السلام قد خفضوا من نسبتها بتعليماتهم القيّمة.

9- التذكير (بالنسبة للبديهيات والمستقلات العقليّة)

تمّت الإشارة في نفس هذه الآية إلى أنّ أحكام الأنبياء عليهم السلام وتعليماتهم تؤيّد أحكام العقل وتدعمها، وهذه بنفسها أحد أهداف بعثتهم.

وتوضيح ذلك: إنّ الإنسان يدرك الكثير من «حقائق» الكون وكذلك «ما ينبغي» و «ما لا ينبغي» بواسطة عقله، لكنّ هناك وساوس مزمنة كامنة في هذه الإدراكات العقلية، خصوصاً إشكالات السوفسطائيين أو الطوائف المنكرة للحسن والقبح العقليين وأمثالها التي تؤدّي إلى إضعاف العقل وبالتالي النظر إلى هذه الإدراكات والمستقلّات العقلية نظرة سلبية.

وهنا يستوجب اللطف الإلهي إرسال الأنبياء عليهم السلام ليؤكّدوا ضمن دعوتهم إلى اللَّه تعالى صحّة الإدراكات العقليّة وعلى أنّ الفتن الواقعية إنّما هي

من فعل العقل البشري، وذلك من خلال بياناتهم الصادرة من الوحي السماوي، ويقطعوا الطريق أمام الوساوس التي تعترض هذه الإدراكات.

هذا هو الذي عبّر عنه القرآن ب «التذكّر»، يقول تعالى في الآية مورد البحث: «هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ» والتعبير ب «الذكر» كثير جدّاً في القرآن، ومجموع ما ذكر إثنتان وخمسون مرّة في مختلف الآيات والتي تشير أغلبها إلى القرآن الكريم.

أمّا التعبير ب «ذكّر» (مخاطبة النبي بصيغة الأمر) فقد جاء في ستّة موارد، وتعبير «يتذكّر» في ثمانية موارد، و «تذكّرون» في سبعة عشر مورداً، و «يتذكّرون» في سبعة موارد، وما أكثر مشتقّات هذه المادّة في القرآن الكريم والتي تبيّن بمجموعها أنّ قسماً عظيماً من تعليمات الأنبياء عليهم السلام لها صبغة تذكّرية وإعادة المنسيّات إلى الأذهان على أقلّ تقدير.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 24

يستفاد من كلمات بعض أرباب اللغة أنّ «الذكر» لا يعني العلم والمعرفة، بل يعني «إعادة الإطّلاع على الشي ء»، يقول الراغب في مفرداته بعد مقارنته بين «الذكر» و «الحفظ»: «التفاوت بينهما هو أنّ الحفظ يقال اعتباراً بالإحراز، والذكر يقال اعتباراً بالإستحضار»، ثمّ يضيف قائلًا: الذكر ضربان: ذكر عن نسيان وذكر لا عن نسيان بل عن إدامة الحفظ.

وهذا التعبير يبيّن أنّ الذكر هو في كلّ الأحوال نوع من الإلتفات المستأنف للشي ء الذي كان ساكناً في الذهن سابقاً، سواء كان بعد النسيان أم لا، وقد ورد «الذِكر» بمعنيين أيضاً في «مقاييس اللغة»: الأوّل إشارة إلى الجنس المذكّر في قبال الجنس المؤنث، والثاني ما يقابل النسيان.

إنّ هذه التعابير القرآنية يمكنها أن تكون إشارة إلى ما ذكر أعلاه، وهو أنّ الإنسان يدرك سلسلة من الحقائق عن طريق العقل، كما ويحصل على القسم

الأعظم من (ما ينبغي) و (ما لا ينبغي) الذي يعدّ من المستقلّات العقلية كحسن أنواع الإحسان وقبح أنواع الظلم والفساد، لكنّ الشكّ والترديد يراود هذه البديهيات أحياناً بسبب وساوس الشياطين.

وهنا يأتي دور الأنبياء عليهم السلام لمساعدة الناس وتأييد هذه الإدراكات العقلية، إذ يبطلون مفعول هذه الوساوس، أو بعبارة اخرى يعيدون هذه الامور إلى الأذهان.

بعض الفلاسفة كأفلاطون وأتباعه يعتبرون العلوم الإنسانية ضرباً من الذكريات، ويعتقدون بأنّ الروح الإنسانية قبل نزولها إلى هذا العالم كانت تدرك كلّ هذه الحقائق ولكن حجب عالم المادّة تسبّبت في نسيانها «1» وبناءً على هذا فالتعلّم والتعليم سواء أكان عن طريق الأنبياء والرسل عليهم السلام أم عن طريق التجربة وشرح الاستاذ لا تخرج عن كونها ضرباً من التذكّر والتذكير ليس إلّا.

ومن البديهي عدم وجود دليل واضح يدعم هذا الإدّعاء بهذه السعة، بل الصحيح هو ما تقدّم أعلاه من أنّ قسماً من معلومات الإنسان تحصل عن طريق الفطرة أو العقل، وأحياناً

______________________________

(1) لمزيد من الإطّلاع راجع «سير حكمت در اروپا» ج 1 ص 23، مبحث فلسفة أفلاطون (بالفارسية).

نفحات القرآن، ج 7، ص: 25

تودع في زاوية النسيان والإهمال، أو تجد الوساوس طريقها إليها، فمهمة الأنبياء عليهم السلام حينئذ بالإضافة إلى تعليم الناس مسائل جديدة، من شأنها تقوية بنية مثل هذه الأحكام الواقعية و تنقيتها من الوساوس التي تخالطها.

كما يستفاد من الآية الآنفة الذِكر أنّ دور الأنبياء عليهم السلام يكمن في أربعة أمور، الأوّل: إبلاغ الدعوة الإلهيّة للبشرية جمعاء، والثاني: إتمام الحجّة، والثالث: الإنذار (والتبشير)، وأخيراً التعليم والتذكير وقد تمّت الإشارة إليها في الآيات السابقة أيضاً.

10- الدعوة إلى الحياة الإنسانية الطيبة

لقد أشارت الآية الحادية عشرة من آيات بحثنا هذا إلى نقطة اتفقت عليها الاهداف التي سبقت الاشارة إليها من بعثة الأنبياء،

وهي أنّ الأنبياء عليهم السلام دعوا أفراد البشر لكي يحيون حياة طيبة حقيقية وشاملة لكل متطلبات العيش.

قال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ».

وهذا التعبير هو أقصر وفي نفس الوقت أشمل تعبير ورد بحقّ دعوة نبي الإسلام صلى الله عليه و آله (ودعوة كافّة الأنبياء عليهم السلام) والذي يؤكّد على أنّ هدف البعثة هو الحياة في كافّة أبعادها:

الماديّة والمعنوية والثقافية والاقتصادية والسياسيّة والأخلاقية والاجتماعية.

مع أنّ الحياة في آيات القرآن قد وردت بمعنى الحياة النباتية في قوله تعالى «اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْىِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ». (الحديد/ 17)

وأحياناً الحياة الحيوانية في قوله تعالى «وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِى أَحْيَاهَا لُمحْىِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْ ءٍ قَدِيرٌ». (فصلت/ 39)

لكنّها وردت هنا بمعنى الحياة الإنسانية، قال تعالى (في بعض المؤمنين الذين آمنوا):

«أوَ مَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ ...». (الأنعام/ 122)

نفحات القرآن، ج 7، ص: 26

وبناءً على هذا فلو رأينا البعض يعتبر الآية المعنية ناظرة إلى «الجهاد» لوحده باعتباره العامل الاساسي في حياة الامم، أو «الإيمان باللَّه» أو العلم والمعرفة أو الحياة الاخروية، فهم في الواقع إنّما يحدّدونها في بعض مصاديقها فحسب، وإلّا فمفهومها أوسع وأشمل من هذه كلّها.

والملفت للنظر أنّ الحياة في هذه الآية قد فسّرت في الروايات «1» بمعنى ولاية علي بن أبي طالب عليه السلام، وهي في الحقيقة أحد مصاديقها الهامّة وذلك لأنّ ولايته عليه السلام هي السبب للدعوة إلى الإسلام في كافّة المجالات، فولايته دعوة إلى العلم والزهد والتقوى والإيثار والإخلاص.

ثمرة البحث:

بالإمكان إدغام واختصار الأهداف العشرة من بعثة الأنبياء والمذكورة سابقاً في ستة اهداف، وهي: «التعليم، تهذيب

النفوس، اقامة القسط والعدل، الحرية، اقامة الحجة ورفع الاختلافات»، ولكن بالنظر لأهميّة الموضوع فإنّ القرآن الكريم تناول كل واحدة منها على حدة، ونتيجة لذلك فإنّه يبدو واضحاً أنّه لولا الأنبياء واديانهم السماوية والتعاليم المقدسة التي جاءوا بها، ومنذ اليوم الأول لنشأة المجتمع الانساني، فأي مصير مظلم سوف ينتظر الانسانية؟

و في عصرنا الحاضر، أيّ عالم رهيب ومخوف سوف يصبح فيه عالم اليوم لو تنكر الانسان لتعاليم الأنبياء والتزم بالقيم الجوفاء البعيدة عن الرحمة والنورانية وجعلها بديلًا للقيم الإلهيّة التي جاء بها الأنبياء في دعواتهم وتعاليمهم، وكما هو متعارف اليوم في بعض دول العالم؟!

كما يمكن الإستنتاج من الشرح أعلاه أنّ الدين والمذهب على خلاف ما يراه الكثير من

______________________________

(1) تفسير نور الثقلين، ج 2، ص 141، ح 50 و 52.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 27

البسطاء وذوى النظر الضيق، أنّه لم يعد مسألة شخصية خاصّة، بل حقيقة لها وجودها ودورها الفاعل في كافّة أبعاد حياة الإنسان، وأنّها تضيف على كافّة شؤون الحياة صبغة إلهيّة وإنسانيّة.

إنّ الشعار الذي ترفعه اليوم كلّ القوى العظمى في العالم أي الدول التي يصطلح عليها بالمتطوّرة، هو الحفاظ على منافعها الخاصّة، فكل خطوة تخطوها تعلن بكلّ صراحة أنّها إنّما تخطوها لأجل المنافع الماديّة للدولة، وليس من الغريب أن يكون عالم كهذا بؤرة للأزمات ومركزاً للصراعات وأنواع الظلم والإعتداء، ونقض العهود والإستعمار واستغلال المستضعفين، وذلك لأنّ هدفهم الرئيسي هو حفظ المصالح الشخصيّة والوطنية لا حفظ المثل والقيم كالعدالة الاجتماعية وإقامة القسط والحرّية والأخلاق الإنسانية، إذ إنّ مثل هذه القيم لا توجد إلّابمعيّة دعوة الأنبياء عليهم السلام ولا غير.

توضيحات

1- فلسفة بعثة الأنبياء والرسل في الروايات الإسلامية

ما تقدّم في الآيات المذكورة حول اهداف بعثة الأنبياء عليهم السلام وعللها، قد تمّ ذكره في الروايات الإسلامية

أيضاً وبتعابير اخرى لا تخلو بنفسها من فائدة قصوى، وكنموذج على ذلك يمكن التأمّل في البعض من الروايات أدناه والتي تنظر كلّ واحدة منها إلى هدف واحد أو أكثر:

1- ورد في الحديث: عندما أعلن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله عن دعوته، جاء أشراف قريش إلى أبي طالب وقالوا له: ياأبا طالب، إنّ ابن أخيك يتّهمنا بالسفه ويطعن في آلهتنا ويفسد شبابنا ويحدث التفرقة بيننا لو كان يبغي مالًا لجعلناه أغنى رجال قريش أو جاهاً لأمّرناه علينا! فذهب أبو طالب إلى النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وأخبره بذلك، فقال صلى الله عليه و آله: «لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري ما أردته، ولكن كلمة يعطونيها يملكون بها العرب

نفحات القرآن، ج 7، ص: 28

وتدين بها العجم ويكونون ملوكاً في الجنّة.

فقال لهم أبو طالب ذلك، فقالوا: نعم، وعشر كلمات، فقال لهم رسول اللَّه: تشهدون أن لا إله إلّااللَّه وأنّي رسول اللَّه» «1».

هذا الحديث يكشف بكلّ وضوح أنّ قبول دعوة الأنبياء عليهم السلام يعدّ في الحقيقة نصراً في الدارين وعزّاً وحرّية وحياة راضية مرضيّة.

2- وفي حديث آخر عن هشام بن الحكم عن الإمام الصادق عليه السلام روي أنّه عليه السلام وفي معرض الردّ على سؤال أحد الكفّار والزنادقة حول الغرض من بعثة الأنبياء عليهم السلام قال: «إنّا لمّا أثبتنا أنّ لنا خالقاً صانعاً متعالياً عنّا وعن جميع ما خلق، وكان ذلك الصانع حكيماً متعالياً لم يجز أن يشاهده خلقه، ولا يلامسوه، فيباشرهم ويباشروه، ويحاجّهم ويحاجّوه ثبت أنّ له سفراء في خلقه يعبّرون عنه إلى خلقه وعباده ويدلّونهم على مصالحهم ومنافعهم وما به بقاؤهم وفي تركه فناؤهم» «2».

3- ورد في نهج البلاغة بيان جذّاب

لأميرالمؤمنين عليه السلام حول فلسفة بعثة الأنبياء عليهم السلام حيث يقول: «فبعث فيهم رسله، وواتر إليهم أنبياءَه، ليستأدوهم ميثاق فطرته، ويذكروهم منسيّ نعمته ويحتجّوا عليهم بالتبليغ، ويثيروا لهم دفائن العقول» «3».

4- وفي حديث آخر جاء عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه قال: «إنّما بعثت لُاتمّم صالح الأخلاق» «4»، وقريب من هذا المعنى ورد في حديث آخر عنه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «بعثت لُاتمّم مكارم الأخلاق» «5».

5- جاء عن الإمام علي عليه السلام في كتاب فروع الكافي أنّه خطب ذات مرّة فقال فيما قال: «أمّا بعد فإنّ اللَّه تبارك وتعالى بعث محمّداً صلى الله عليه و آله بالحقّ ليخرج عباده من عبادة عباده

______________________________

(1) تفسير نور الثقلين، ج 4، ص، 442، ح 7؛ وفي ترجمة علي بن إبراهيم ج 2 ص 228.

(2) اصول الكافي، ج 1 ص 168، كتاب الحجّة باب الاضطرار إلى حجّة، ح 1.

(3) نهج البلاغة، الخطبة 1.

(4) طبقات ابن سعد، ج 1، ص 192 (ط. بيروت).

(5) كنز العمّال، ج 11، ص 420، ح 31969.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 29

إلى عبادته ومن عهود عباده إلى عهوده، ومن طاعة عباده إلى طاعته، ومن ولاية عباده إلى ولايته، بشيراً ونذيراً وداعياً إلى اللَّه بإذنه وسراجاً منيراً» «1».

2- الغاية من إرسال الرسل في التصور العقلي
أ) عجز الإنسان عن التقنين الدقيق

هناك علاقة وثيقة وواضحة جدّاً بين بعثة الأنبياء عليهم السلام والهدف من خلق الإنسان، ولا يمكن لأحد الجمع بين الإيمان باللَّه وبين إنكار حكمته في كلّ الكون، خصوصاً خلقة الإنسان، بناءً على هذا فلابدّ من وجود هدف وراء خلق الإنسان، وليس هذا الهدف سوى تربية مخلوق كامل يشعّ منه نور من صفات جمال الحقّ وجلاله، ويليق بنيل القرب الإلهي.

ومن البديهي أنّ تربية موجود كهذا

بدون تخطيط دقيق ومسبق في كافّة أبعاد الحياة غير ممكن، هذا من جهة، ومن جهة اخرى فهذه البرامج ليست بتلك السهولة التي يمكن للإنسان الإحاطة بجميع أبعادها مستعيناً بعقله الناقص ولعدم تمكّن الجميع من التعامل مع الوحي الإلهي بصورة مباشرة.

ويُفهم من هذه المقدّمات التي اشير إلى كلّ منها بصورة مختصرة، بداهة أن يختار اللَّه تعالى نوّاباً من قبله ليحملوا مشعل الهداية الإلهيّة إلى المجتمع البشري ليخرجوه من الظلمات إلى النور، ومن النقص إلى الكمال، ومن الجهل إلى العلم، ومن الإنحراف إلى التقوى ومكارم الأخلاق، ولا يخفى أنّ عدم تحقّق بعثة الأنبياء يؤدّي إلى عبثية خلق الإنسان وانتفاء الغاية والهدف.

وحيث إنّ الإنسان مدني بالطبع يستأنس بالحياة الاجتماعية، فقد أودع اللَّه تعالى حبّ مثل هذه الحياة في باطنه ليقوده عن طريقها نحو الهدف الأسمى، إذ إنّ محدودية القوّة البدنية والفكرية للإنسان المنزوي لا يمكن إنكارها، فلو عاش لوحده بعيداً عن أفراد نوعه لما وجدت هناك حضارة ولا اختراع واكتشاف ولا علوم ومعارف، إذ إنّ اجتماع

______________________________

(1) فروع الكافي، ج 8، ص 386، ح 586.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 30

وتلاقح عقول وأفكار وتجارب بني الإنسان هي السبب وراء ظهور قوّة عظيمة وتوفير الأرضيّة المناسبة للحركة التكاملية في تمام الجوانب الماديّة والمعنوية وبسرعة خاطفة.

فلو عاش الإنسان على انفراد لبقي لحدّ الآن في العصر الحجري، ولما تعلّم القراءة والكتابة على أكبر الظنّ، فضلًا عن كلّ هذه العلوم والإختراعات والإكتشافات، وخلاصة القول هي أنّ أكبر إنجازين للإنسان هما حريّة التفكير، والتمتّع بالإبتكار والابداع والاختراع، فضلًا عن الرغبة في حياة اجتماعية في المرحلة المتقدّمة.

لكنّ من الواضح جدّاً أنّ الحياة الجماعية مع كلّ ما تحمله من بركات هي السبب من جهة اخرى وراء خلق

المشاكل والمصادمات والازمات وتعارض الأهواء الشخصية، وإنّ طيّ المسير التكاملي إنّما يتسنّى لذلك المجتمع الذي تشخّص فيه واجبات كلّ فرد وحقوقه، ومن هنا تظهر الحاجة إلى سنّ القوانين الاجتماعية وتنظيم حقوق أفراد المجتمع، فالقانون هو الذي يعيّن واجبات كلّ فرد بالضبط كما يعيّن حقوقه، وأخيراً يقدّم خطّة القضاء على المشاكل وحلّ الخصومات ويبيّن كيفيّة مواجهة التخلّفات والانحرافات.

وبناءً على هذا فالحياة الجماعية بدون القانون السليم والنظام الصحيح هي أسوأ من الحياة الفردية بعدّة مراتب، وذلك لزوال منافع المجتمع وبسبب التناقضات.

ولبّ الكلام يكمن في السؤال عن الطرف الذي يسنّ هذه القوانين، فهل هو الإنسان أم الخالق؟

ويمكن الإجابة عن هذا السؤال بتحليل مختصر: وهو أنّ المقنن الكامل يجب أن يتمتّع بالشروط أدناه ليتمكّن من سنّ أفضل قانون:

1- يجب قبل كلّ شي ء أن يكون المقنّن خبيراً بالإنسان عالماً بكلّ أسرار جسمه ونفسه وعواطفه وغرائزه وميوله وأهوائه وأمانيه وفطرته وإدراكاته العقليّة، وكذلك محيطاً بكلّ الاصول الحاكمة على الروابط التي تجمع الناس مع بعضهم البعض ليتمكّن على ضوئها من وضع قوانين تنسجم معها.

2- يجب أن يكون له علم تامّ بالماضي والمستقبل البعيدين، ليقف على جذور مسائل

نفحات القرآن، ج 7، ص: 31

اليوم المعقّدة من خلال الماضي، ويتمكّن من تقييم آثار قوانين اليوم على مستقبل الحياة البشرية، نظراً لاستحالة إمكانية حلّ مشاكل اليوم مع الجهل بجذورها الماضية، كما هو الحال تماماً في استحالة فائدة قوانين اليوم مع عدم الأخذ بنظر الإعتبار مضاعفاتها في الغد (تأمّل جيّداً).

3- المقنّن المناسب يجب أن يتمتّع ب «علم كامل» ليتمكّن عن طريق قوانينه من إخراج كلّ القابليات والإمكانات والاستعدادات الكامنة في داخل أفراد المجتمع إلى حيّز الوجود، ويُضفي الفعلية على ما هو كامن في طبيعة الإنسان بالإمكان والقوّة،

ويغذّي المجتمع بأكبر قدر ممكن من الإنجازات وبأقلّ ثمن يكلّف طبيعة الحياة الجماعية.

4- يجب أن تكون القوانين ذات جنبة واقعية لا خيالية، وتتمتع بضمان تنفيذها بشكل وافٍ من قبل مؤيّديها، وبعيدة عن التعقيد ليسهل على الجميع إدراكها.

5- المقنّن الحقيقي هو الذي لا يرتكب ذنباً وخطأً وسهواً، فضلًا عن ضرورة كونه رحيماً باولئك الذين تُسنّ لهم القوانين، وحازماً قوي الإرادة وشجاعاً في نفس الوقت.

6- المقنّن اللائق من ليست له مصلحة شخصية في ذلك المجتمع، لأنّها إنّما تشغل فكر المقنّن وتجلبه نحوها، إذ إنّه لو تمكّن على سبيل المثال من اجتناب آثارها الظاهرة للعيان لعجز عن الوقوف على آثارها المخفية بالتأكيد، وإنّ أكبر معضلة لعالم اليوم، والتي تسبّبت في خلق المواجهات والمشاحنات الدامية هي هذه القوانين التي تسنّ من قبل ما يصطلح عليهم بمفكّري كلّ مجتمع على حده، إذ كلّ واحد منهم لا يأخذ بنظر الاعتبار سوى منافعه الشخصية أو منافع أتباعه ووطنه، وبديهي أنّ مثل هذا التكبّر والأنانية وضيق النظر لا يحمل معه سوى زيادة في حدّة الصراعات والمواجهات.

وهل تتوفّر ياترى هذه الحيثيّات الستّ المتقدّمة في غير ذات الباري جلّت قدرته؟

الذي لا نهاية لعلمه بالماضي والمستقبل المحيط بجذور وأسرار كلّ شي ء وكلّ موضوع ونتائجه والذي لا يجد الخطأ والسهو والإشتباه طريقاً إلى ذاته المقدّسة.

وأخيراً هو الذي لا يحتاج لشي ء ولا لأحد لضمان منافعه.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 32

ومن هنا نستدلّ على نقص وعدم جدوى كلّ قانون غير قانون اللَّه تعالى، بل كلّ حكم دون حكمه تعالى زائل لا محالة ولا يمكن الاعتماد عليه، وحينما ندقّق النظر القويم نجد أنّ كلّ مشاكل الإنسان ومعضلاته نابعة من رغبته في سنّ قانون لنفسه اعتماداً على علمه المحدود، وبدوافع هوى النفس!

وهذا هو أحد الأدلّة العقليّة على لزوم بعثة الأنبياء عليهم السلام.

ب) التنسيق بين التكوين والتشريع

يمكن توضيح مسألة ضرورة بعثة الأنبياء عليهم السلام عن طريق منطق وبيان آخر وهو أنّ إلقاء نظرة واحدة على عالم الخلقة كافية لإدراك حقيقة أنّ خالق الكون ومن أجل إيصال كلّ موجود إلى كماله النسبي، قد وضع تحت تصرّفه كلّ ما يحتاجه وأزال عن طريقه كلّ الموانع، ولم يقتصر على اللوازم الضرورية لطي هذا الطريق، وإنّما منحه ما يحتمل كونه عاملًا مساعداً لبلوغ هذا الهدف وإن لم يكن ضرورياً، فالطائر الذي خلق ليطير مثلًا، نراه يتمتّع بهيكل يسهّل عمليه طيرانه من كافّة الجهات فضلًا عن أجنحته القويّة التي تكسبه قدرة عظيمة على التحليق عالياً.

وعندما منح الإنسان عينين لمشاهدة المناظر المختلفة، فلم يكتف بالأعضاء الضرورية التي تستحيل الرؤية بدونها، بل وضع تحت اختياره الكثير من الأعضاء التكميليّة إذ زوّد العين ب «الأهداب» للحؤول دون دخول ذرّات الغبار، ووضع في سقف الأجفان «غدداً دهنية» لتبقى رطبة دائماً وجهّز العيون ب «غدد دمعية» ليبقى سطح العين رطباً دائماً لئلّا تحدث حركة الأجفان أدنى جرح فيها، وأوجد «الحاجبين» كالسدّ فوق العينين لإكمال عملهما ولكي تمنع نزول العرق من الجبين عليهما، وزوّد كرة العين ب «عضلات» تمكّنها من الحركة إلى الجهات الستّ بحريّة.

كما أنّ بالإمكان الوقوف على الكثير من هذه النماذج في عالم الخليقة كلّه.

وهنا يرد هذا السؤال وهو أنّه هل يمكن للخالق الذي وضع كلّ هذه الوسائل المتطوّرة

نفحات القرآن، ج 7، ص: 33

تحت تصرّف الموجودات في عالم التكوين (الخلقة) أنّ يغضّ النظر عن إرسال الأنبياء عليهم السلام والدور المهمّ لهذه البعثة في طريق تكامل النوع البشري وتحقيق الهدف من حياته في كافّة أبعادها الماديّة والمعنوية كما تقدّم ويحرم المجتمع

الإنساني من هذه الموهبة العظيمة؟!

أشار الشيخ الرئيس ابن سينا في كتاب «الشفاء» إلى هذه الحقيقة بعبارة مختصرة وتمثيل رائع حيث قال:

«فحاجة الإنسان إلى هذا «بَعْثِ الرُّسُلِ» في أن يبقى نوع الإنسان ويتحصّل وجوده، أشدّ من الحاجة إلى انبات الشعر على الحاجبين وتقعير الأخمس من القدمين وأشياء اخرى من المنافع التي لا ضرورة فيها في البقاء ... فلا يجوز أن تكون العناية الأزلية وتقتضي تلك المنافع ولا تقتضي هذه التي هي اسّها» «1».

وقد بيّن هشام بن الحكم التلميذ المعروف للإمام الصادق عليه السلام هذا الاستدلال بشكل آخر ل «عمرو بن عبيد» العالم السنّي المعروف وقد سبق ابن سينا بذلك، ومن جملة ما ذكر في هذه المحاورة: «.. قلت:- لابدّ من القلب وإلّا لم تستيقن الجوارح؟ قال: نعم. فقلت له:

ياأبا مروان فاللَّه تبارك وتعالى لم يترك جوارحك حتّى جعل لها إماماً يصحّح لها الصحيح ويتيقّن به ما شكّ فيه، ويترك هذا الخلق كلّهم في حيرتهم وشكّهم واختلافهم، لا يقيم لهم إماماً يردّون إليه شكّهم وحيرتهم ويقيم لك إماماً لجوارحك تردّ إليه حيرتك وشكّك؟! قال: فسكت ولم يقل لي شيئاً» «2».

ج) التربية العلمية

الطريق الثالث الذي يمكننا أن نستفيد منه للحصول على تحليل منطقي لمسألة علّة إرسال الرسل، هو أن تربية الإنسان لها بعد علمي قبل أن يكون لها بعد وجانب عملي.

______________________________

(1) الشفاء، الإلهيات، المقال 10، الفصل 2، ص 441.

(2) اصول الكافي، ج 1، ص 169، كتاب الحجّة، باب الإضطرار إلى الحجّة، ح 3.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 34

والشرط في موفّقية المربّي في مهمّته أنّ يتمكّن من الظهور كقدوة متكاملة في تطبيق تعليماته من الناحية العملية فضلًا عن التربية اللازمة، وأن يعكس كلّ المسائل التربوية من خلال صفاته وأخلاقه وتصرّفاته، ولا

يمكن هذا إلّاأن ينتخب الأنبياء عليهم السلام من جنس البشر كقدوة حسنة، فيعكسوا صفات الإنسان الكامل وسلوكه من الناحية العملية ليقتدي بهم الناس، ويسيروا على خطاهم فيقطعوا هذا الطريق الملي ء بالعثرات والعقبات بقيادتهم.

وبعبارة اخرى: هناك في وجود الإنسان شي ء اسمه روحية «المحاكاة» أي أنّه ينجذب بصورة لا إرادية نحو ما يراه في أفراد جنسه، وهذا الإحساس طبعاً لا يبلغ مرتبة الدافع القهري بل هو بمثابة الأرضية المناسبة لحركة إرادية كما هو الحال في الظمأ فإنّه لا يجبر الإنسان العطشان على شرب الماء لكنّه يعدّ بمثابة الأرضية لذلك.

حينما يأتي الأنبياء عليهم السلام أو الأئمّة المعصومون عليهم السلام الذين هم من جنس البشر بالتعليمات الإلهيّة الجامعة إلى من يماثلهم ويطبّقون هذه التعليمات عمليّاً ويعكسون الفضائل الإنسانية بالتقوى والصدق يحصل باقي البشر على أرضية مناسبة لاكتساب مثل هذه الصفات.

ولذا فالقرآن الكريم يصرّح بضرورة كون النبي الأكرم صلى الله عليه و آله من جنس البشر، كما أنّه لو كان هنالك ملائكة يعيشون في الأرض لوجب ظهور أنبياء من جنسهم، وذلك ردّاً على اولئك الذين يصرّون قائلين لماذا لم يكن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله من جنس الملائكة أو لماذا لم يصطحبه ملك على أقلّ تقدير؟ يقول تعالى: «وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا* قُلْ لَو كَانَ فِى الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَسُولًا». (الإسراء/ 94- 95)

يبدو أنّ التعبير ب «ملائكة يمشون مطمئنين» لبيان هذه المسألة وهي أنّه حتّى لو كان هناك ملائكة يعيشون في الأرض متسالمين لبعثنا إليهم ملكاً من جنسهم كقائد يقودهم بالرغم من انعدام الخصومات فيما بينهم، نظراً إلى أنّ مهمّة الأنبياء

عليهم السلام لا تنحصر في إنهاء حالة التخاصم وإقامة القسط والعدالة الاجتماعية، بل تعدّ كلّ هذه مقدّمة لطيّ طريق

نفحات القرآن، ج 7، ص: 35

الكمالات المعنوية للتقرّب إلى اللَّه تعالى.

على أيّة حال فقد ورد ما يشبه هذا المعنى في لباس آخر كإجابة على تذرع المشركين، حيث قال تعالى: «وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ».

(الأنعام/ 9)

كما أنّ هناك ملاحظة جديرة بالإعتبار، وهي أنّ القرآن يؤكّد على كون نبي الإسلام صلى الله عليه و آله أو سائر الأنبياء عليهم السلام قدوة ومثالًا يقتدى به ويوصي الناس بضرورة الإقتداء بهم في برامجهم العملية، يقول تعالى: «لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ». (الأحزاب/ 21)

ويقول في موضع آخر: «قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِى إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ». (الممتحنة/ 4)

كما تكرّر نفس هذا المعنى في الآية السادسة من نفس هذه السورة.

على أيّة حال فمسألة التربية والتعليم عن طريق الإقتداء بالقادة الإلهيين مؤيّدة بالتحليل المنطقي والآيات القرآنية أيضاً.

3- اسلوب المخالفين

في قبال الأدلّة الكثيرة على لزوم إرسال الأنبياء عليهم السلام المتقدّمة، والتي نالت قبول الأكثرية القاطعة من العقلاء في العالم، نجد أنّ مذهب البراهمة «1» نفى ضرورة بعث الأنبياء عليهم السلام من الأساس، بل اعتبرها مستحيلة وغير معقولة، لاعتقاده بكفاية ما يعينه العقل للإنسان! وقد نقل الشهرستاني في كتاب «الملل والنحل» بعضاً من شبهاتهم حول هذا الموضوع وقال:

______________________________

(1) مذهب البراهمة هو من أقدم المذاهب المعروفة التي ظهرت في المشرق، ومركزه الأصلي «الهند»، قال الشهرستاني في كتاب «الملل والنحل»: هذا الاسم مأخوذ من اسم «براهام» مؤسس هذا المذهب، في حين أنّ «فريد وجدي» يقول في «دائرة المعارف»: إنّ هذا الاسم مشتقّ من اسم أحد آلهتهم الكبيرة أي «براهما»، والبراهمة وفضلًا عن إنكارهم

للنبوّة يعتقدون بنوع من التثليث أي الآلهة الثلاثة.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 36

أ) أنّ الذي يأتي به الرسول لم يخل من أحد أمرين: فإمّا أن يكون معقولًا وإمّا أن لا يكون معقولًا، فان كان معقولًا فقد كفانا العقل التامّ بإدراكه والوصول إليه، فأي حاجة لنا إلى الرسول؟ وإن لم يكن معقولًا فلا يكون مقبولًا، إذ قبول ما ليس بمعقول خروج عن حدّ الإنسانية ودخول في حدّ البهيميّة.

ب) قد دلّ العقل على أنّ اللَّه تعالى حكيم والحكيم لا يتعبّد الخلق إلّابما تدلّ عليه عقولهم، وقد دلّت الدلائل العقليّة على أنّ للعالم صانعاً عالماً قادراً حكيماً، وأنّه أنعم على عباده نعماً توجب الشكر، فننظر في آيات خلقه بعقولنا ونشكره بآلائه علينا ... وإذا عرفناه وشكرنا له استوجبنا ثوابه وإذا أنكرناه وكفرنا به استوجبنا عقابه فما بالنا نتّبع بشراً مثلنا؟!

ج) إنّ أكبر الكبائر في الرسالة اتّباع رجل هو مثلك في الصورة والنفس والعقل، يأكل ممّا تأكل ويشرب ممّا تشرب حتّى تكون بالنسبة إليه كجماد يتصرّف فيك رفعاً ووضعاً، أو كحيوان يصرفك أماماً وخلفاً، أو كعبد يتقدّم إليك أمراً ونهياً، فأي تفوّق له عليك؟ وأيّة فضيلة أوجبت استخدامك؟، وما دليله على صدق دعواه؟ وما فضل حديثه على غيره؟ ولو أنّهم جاؤا بأشياء تفوق العادة، فانّ هناك من يخبر عن المغيبات أيضاً.

د) قد دلّ العقل على أنّ للعالم صانعاً حكيماً، والحكيم لا يتعبّد الخلق بما يقبح في عقولهم، وقد جاء أصحاب الشرائع بمستقبحات من حكم العقل: كالإحرام والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار وأمثالها، فما فائدتها؟ لماذا حرّموا بعضاً من طعام الإنسان وحلّلوا ما يكون مضرّاً؟ «1».

الجواب:

يمكن الإجابة عن هذه الشبهات بسهوله:

أ) يجب ألّا ننسى أنّ معلوماتنا وإدراكاتنا العقليّة ما هي

إلّاقطرة من محيط عظيم

______________________________

(1) الملل والنحل، الشهرستاني، الباب 4، آراء الهند، الفصل 1- البراهمة- ص 250.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 37

وغيض من فيض بالنسبة إلى مجهولاتنا، وهذه الحقيقة يعترف بها جميع العلماء والمفكّرين سواءً من الإلهيين أو المادّيين.

فمن يقول إنّ رسالات الأنبياء عليهم السلام إمّا أن تكون موافقة لعقولنا أو مخالفة، فإنّه يفهم من كلامه أنّ العقل يدرك كلّ شي ء! لكنّ الأمر ليس كذلك، بل هناك شقّ ثالث أوسع من صاحبيه، وهو تلك الامور التي ليس لنا علم بها أصلًا ولا يمكننا نفيها ولا إثباتها، لكن حينما تثبت إجمالًا عن طريق الأدلّة التي سنشير إليها فيما بعد بأنّ الأنبياء عليهم السلام يتكلّمون نيابة عن اللَّه تعالى ويخبرون من علمه اللامحدود فإنّه سوف لن يبقى هناك مجال سوى قبولها والإذعان بصحّتها.

فإشكال البراهمة الأوّل يشبه قولنا بعدم لزوم التوجّه إلى الاستاذ والاستفادة من علمه وتجربته، لأنّ ما يقوله الاستاذ إمّا أن يكون موافقاً لعقل التلميذ أو لا، ففي الحالة الاولى لا حاجة للذهاب وفي الحالة الثانية لا يجب التسليم وقبول قول الاستاذ.

وبديهي أنّ هذا الكلام صبياني لا يخفى جوابه على أي مفكّر، فالاستاذ إنّما يعلّم التلميذ أشياء يعجز عقله عن نفيها أو إثباتها بالإضافة إلى ذلك فقد يلتبّس الأمر علينا فنقع في الشكّ والإضطراب أحياناً في مسائل عرفناها بصورة صحيحة فلا ندري هل فهمناها بصورة صحيحة أم لا؟

وبدون شكّ فانّنا سنطمئن ونتيقّن إذا ما أيّدها الأنبياء وصدّقوها، لذا فنحن محتاجون إلى الأنبياء في كلّ الامور سواء علمناها أم لم نعلمها، (فتأمّل).

ب) صحيح أنّنا نعرف اللَّه تعالى بالأدلّة العقليّة، وأنّ حكم العقل هو الذي يفرض علينا شكر نعمه، لكنّ هذا لا يكفي، فطريق السعادة والكمال الإنساني ملي ء بالعقبات

والمخاطر، ولابدّ من وجود أشخاص مجهّزين بالقدرة الإلهيّة والإمدادات الغيبية ليأخذوا بأيدينا عند اجتيازنا لهذه المخاطر.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 38

نحن لا نقتدي بإنسان مثلنا أبداً، بل بإنسان له اطّلاع واسع جدّاً، وعلمه متصل بعلم اللَّه اللامحدود عن طريق الوحي، واتّباع شخص كهذا منطقي جدّاً.

ج) ممّا تقدّم يتّضح الجواب على الإشكال الثالث أيضاً، إذ إنّ إطاعتنا لأوامر الأنبياء عليهم السلام والوقوف رهن إشارتهم لتقواهم التي لا مثيل لها والتي لمسناها فيهم.

نحن نضع أحياناً قلوبنا وعقولنا التي تعدّ أهمّ وأعزّ أعضائنا تحت تصرّف الجرّاح الذي نثق به، فينهال عليها بمبضعه، وحينما نوافق على تخديرنا من قبله ليفعل ما يريد، فهل يُعدّ هذا العمل حماقة؟

بديهي إنّه ليس كذلك، فعلم ومعرفة الطبيب الجرّاح من جهة، وحسن ظنّنا بعمله من جهة اخرى، يبعثان على التسليم له بلا قيد أو شرط، ولا يخفى أنّ الأنبياء عليهم السلام الإلهيين يفوقون الطبيب علماً وتقوى بكثير.

د) أي أمر غير منطقي يوجد في تعليمات الأنبياء عليهم السلام؟ فهل مراسم الحجّ والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمرات والإحرام هي خلاف العقل؟

إنّ تأمّلًا بسيطاً في فلسفة هذه الأعمال يكشف عن مدى حكمتها، وكيف أنّها تربّي الإنسان تربية صالحة.

فنحن نخرج عند الإحرام من حجاب عالم المادّة، ونترك كلّ الفوارق القوميّة والعرقية والطبقية جانباً ونقف كلّنا سواسية ونترك كلّ ما يشغل القلب جانباً ولو مؤقتاً، ونتفرّغ ل «معرفة وجودنا وخالقنا» في عالم معنوي خالص.

والجمرات الثلاث تمثّل الشيطان، إذ نرميه بالحصى سبع مرّات متعاقبة، وبهذا نعلن عن رفضنا واستيائنا من الاعمال والأفكار الشيطانية.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 39

وعند السعي بين الصفا والمروة نتذكّر سعي «هاجر» تلك المرأة الطاهرة المؤمنة وجهدها لنجاة وليدها «إسماعيل»، فنطوي المسافة بين الصفا والمروة عدّة مرّات.

وقصارى الكلام،

إنّ الأعمال التي ننجزها يعتبر كلّ واحد منها مثالًا لبرنامج تربوي مسبق، وعند الانتهاء نشعر بأنّنا قد حصلنا على شخصيّة جديدة ومعرفة جديدة عن اللَّه تعالى وعن نفوسنا، ذلك الإحساس الذي يحصل لكلّ إنسان بعد مراسم الحجّ.

إنّ تحريم الأنبياء عليهم السلام بعض المواد الغذائية والمشروبات مثل «الخمر» و «لحم الخنزير» إنّما للأضرار الكامنة فيها والتي غفل الناس عنها سابقاً ثمّ اطّعلوا عليها بالتدريج في هذا العصر، فنحن لا نعرف شيئاً حلّله الأنبياء عليهم السلام وتسبّب في ضرر الإنسان ماديّاً أو معنويّاً.

وخلاصة القول، إنّ هذه الإشكالات الأربعة للبراهمة قد نشأت عن جهلهم بالأنبياء عليهم السلام أو تعليماتهم من جهة وعدم معرفتهم لمدى قدرة العقل من جهة اخرى، وبهذا نصل إلى نهاية البحث حول فلسفة «البعثة».

نفحات القرآن، ج 7، ص: 41

الخصائص العامّة للأنبياء عليهم السلام

اشارة

نفحات القرآن، ج 7، ص: 43

الخصائص العامّة للأنبياء عليهم السلام

إنّ مهمّة هداية الخلق وتهذيب النفوس وتعليم الناس وتربيتهم وإقامة العدل وإزالة الاختلافات وتحرير الإنسان من مخالب الأسر مهمّة شاقّة وصعبة ممّا يجعلها تتطلّب استعداداً خاصّاً من الناحية الجسمية والروحية والعلمية والأخلاقية.

ولهذا السبب لا يتسنّى لأي إنسان تحمّل أعباء مثل هذه المسؤولية، إلّالمن حصل على القدرة على تهذيب النفس وبنائها من جهة والإمداد الإلهي من جهة اخرى، ومن البديهي أنّ الفرد العادي غير الناضج لا يتمكّن أبداً من تقبّل مثل هذه المهمّة الخطيرة.

والكلام هنا هو عن ماهيّة هذه الخصائص التي ينبغي توفّرها لدى كلّ نبي، ومن الطبيعي أنّ الأنبياء عليهم السلام واولي العزم وأصحاب الشرائع والسنن يجب أن يكون لهم النصيب الأوفى منها.

وهنا يسعفنا القرآن في ذكر هذه الخصائص فضلًا عن الأدلّة العقليّة، المتوفرة في هذا المجال.

بهذه الخلاصة نعود إلى القرآن لنمعن خاشعين في الآيات الواردة في هذا المجال:

1-

«وَاذْكُرْ فِى الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً». (مريم/ 41)

2- «وَاذْكُرْ فِى الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيّاً».

(مريم/ 54)

3- «إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ* إِنِّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ».

(الشعراء/ 106- 107)

4- «أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّى وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ». (الأعراف/ 68)

نفحات القرآن، ج 7، ص: 44

5- «وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ». (الشعراء/ 109)

6- «وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلّاً هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيَمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِى الُمحْسِنِينَ».

(الأنعام/ 84)

7- «الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً». (الأحزاب/ 39)

8- «قَالَ إِنِّى أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّى بَرِى ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ* مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِى جَمِيعاً ثُمَّ لَاتُنْظِرُونِ* إِنِّى تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّى وَرَبِّكُمْ». (هود/ 54- 56)

9- «وَاذْكُرْ فِى الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً وَكَانَ رَسُولًا نَبِيّاً». (مريم/ 51)

10- «فَبَما رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ».

(آل عمران/ 159)

11- «وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِى قَالَ لَايَنَالُ عَهْدِى الظَّالِمِينَ». (البقرة/ 124)

جمع الآيات و تفسيرها

1- صدق الحديث

إن أوّل خصلة لكلّ نبي قبل كل شي ء هي صدق الحديث، وذلك لأنّه يخبر عن اللَّه تعالى، فمع عدم الإطمئنان بصدقه لا يمكن الإعتماد على كلامه، ولذا فقد أكّد القرآن على هذه المسألة عدّة مرّات، من جملتها أوّل آية من آيات بحثنا إذ يقول تعالى: «وَاذْكُرْ فِى الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً»، كما أنّ نفس هذا الوصف قد ورد بحقّ إدريس في سورة مريم، الآية 56 و يوسف في سورة يوسف الآية 46.

والملفت للنظر أنّ وصفه ب «الصدق» قد سبق وصفه ب «النبوّة» في

هذه الآية، وهذا

نفحات القرآن، ج 7، ص: 45

يبيّن أنّ أصل النبوّة إنّما يرتكز على الصدق، خصوصاً إنّ «صدّيقاً» هي صيغة مبالغة للصدق «1»، وتعني كثير الصدق أو الذي لا يكذب أبداً والذي يوافق قوله عمله، وبناءً على هذا فالأرضية المناسبة لتقبّل النبوّة المتوفّرة لدى جميع حملة الوحي الإلهي هي «الصدق المطلق» ليتمّ من خلاله إيصال أمر اللَّه تعالى إلى عباده بدون أيّة نقيصة.

طبعاً يمكن للناس اكتشاف هذه الخصلة في النبي الأكرم صلى الله عليه و آله من خلال تتبّع حياته السابقة كما هو الحال تماماً في أهالي مصر عندما عرّفوا يوسف ب «الصدّيق» وخاطبوه ب «يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ». (يوسف/ 46)

2- الالتزام بالعهود والمواثيق

الكلام في الآية الثانية عن الصدق أيضاً لكن لا في القول بل في العهود والمواثيق، واللطيف هنا أيضاً هو ورود هذه الخصلة قبل الوصف بالرسالة والنبوّة والتي تشير إلى صنعها الأرضية المناسبة لمنزلة النبوّة، لأنّ القسم الأعظم من دعوة الأنبياء عليهم السلام إنّما يرتكز على أساس الوعود التي تعطى للمستقبل، ولو لم يكن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله صادقاً في وعوده لانهارت أُسس دعوته، قال تعالى في ذلك: «وَاذْكُرْ فِى الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيّاً»، وبديهي إنّ من كان كاذباً في كلّ شي ء حتّى في وعوده لا يمكن أن يبلغ مقام الرسالة الشامخ وذلك لأنّ الشرط الأوّل لهذه المنزلة هو إيمان الناس بأقواله ووعوده واختبارهم لصدقه في كافّة الميادين.

ولذا فحتّى الأفراد المعدودون الذين لا يعتبرون مكانة «العصمة» شرطاً أساسيّاً للنبوّة في كافّة المجالات نراهم يعتبرون الصدق من بين الشروط.

وفيما يتعلّق بكون «إسماعيل عليه السلام» صادق الوعد، فقد جاء في الكثير من كتب التفسير

______________________________

(1) يقول الزمخشري: الصدّيق من صيغ المبالغة وتعني

الغاية في الصدق والتصديق بالآيات الإلهيّة (تفسير الكشّاف ج 3، ص 18).

نفحات القرآن، ج 7، ص: 46

والروايات أنّ اللَّه تعالى قد اعتبره «صادق الوعد» نظراً لعزمه على الوفاء بالوعد حتّى إنّه انتظر شخصاً كان قد وعده في مكان ما، لمدّة سنة كاملة وحينما جاء ذلك الشخص قال له إسماعيل: لقد كنت في انتظارك طيلة هذه المدّة! «1».

ولا يبعد أن يكون المراد من الإنتظار لمدّة سنة هو التردّد على ذلك المكان ومراقبته بين الحين والآخر لعودة ذلك الشخص لا المكوث هناك سنة كاملة تاركاً كلّ أعماله ومشاغله الحياتية.

لكن هل يا ترى إنّ إسماعيل هذا هو نفس «إسماعيل بن إبراهيم عليه السلام» المعروف أم «إسماعيل بن حزقيل» الذي هو من أنبياء بني إسرائيل، فهذا محلّ بحث، وقد اختار الكثير الإحتمال الأوّل، لكن تمّ التصريح بالإحتمال الثاني في البعض من الروايات الواردة في مصادر أهل البيت عليهم السلام، وذلك لوفاة إسماعيل في حياة أبيه إبراهيم طبقاً لبعض الروايات، وهذا لا يتلاءم والتعبير بالرسالة في حقّه، في حين أنّ القرآن يقول في الآية الآنفة الذكر:

«وكان رسولًا نبيّاً»، وما قيل: إنّه كان يمتلك رسالة من قبل أبيه لهداية قبيلة «جرهم» من سكنة مكّة لا يبدو مناسباً أيضاً لأنّ ظاهر الآية هو أنّ «إسماعيل» المذكور هنا كانت له رسالة إلهيّة لا رسالة من قبل إبراهيم عليه السلام.

علاوة على ذلك فلو كان المراد هو إسماعيل بن إبراهيم عليه السلام لكان من المناسب ذكره بعد إبراهيم عليه السلام في الآيات السابقة لا بعد موسى عليه السلام.

وعلى أيّة حال فلا أثر لهذا الكلام في بحثنا الذي يدور حول مسألة خصوصيات الأنبياء عليهم السلام.

3- الأمانة

إن منزلة النبوّة والرسالة هي مكانة تتطلب «الصدق» و «الأمانة»، الأمانة في نقل

الوحي

______________________________

(1) اصول الكافي، ج 2، ص 105، ح 7.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 47

وإيصاله إلى الناس والأمانة في حفظ الأسرار الإلهيّة، والصدق والأمانة يعودان في حقيقة الأمر إلى أصل واحد، غاية الأمر أنّ الصدق أمانة في الحديث والأمانة صدق في العمل! ولذا يقول القرآن في ثاني آية من آيات بحثنا: «كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ* إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ* إِنِّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ»، كما أنّ نفس هذا التعبير «إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ» قد ورد بحقّ كلّ من «هود» (الشعراء/ 125)، و «صالح» (الشعراء/ 143) و «لوط» (الشعراء/ 162) و «شعيب» (الشعراء/ 178) و «موسى» (الدخّان/ 18)، وممّا لا شكّ فيه هو أنّ هؤلاء الأنبياء عليهم السلام وغيرهم من الأنبياء الإلهيين كانوا قد أثبتوا أمانتهم للناس عمليّاً كما قرأنا عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه كان يلقّب ب «محمّد الصادق الأمين» من قبل خاصّة الناس وعامّتهم وذلك قبل نزول الوحي، ولذا كان صلى الله عليه و آله يستدلّ بسابقته هذه أمام المخالفين بأنّهم كيف لا يصدقون بإنذاره فيما يتعلّق بالوحي الإلهي مع علمهم وإقرارهم بصدقه وأمانته؟! «1».

والملفت هو أنّ القرآن قد وصف جبرئيل حامل الوحي الإلهي بهذا الوصف أيضاً حيث قال: «نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ* عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ». (الشعراء/ 193- 194)

وفي الحقيقة إن حملة الوحي، سواءً الملائكة الذين هم الواسطة في إبلاغ الوحي، أم الأنبياء أنفسهم أو الأئمّة ونواب المعصومين الذين أُنيطت بهم مسؤولية إبلاغ وحفظ الوحي الإلهي، هم أُمناء اللَّه في خلقه، ومن هنا فاننا نرى أن الامام علياً عليه السلام وباقي الأئمّة الاطهار عليهم السلام ينعتون بأمناء اللَّه في الزيارة المعروفة بزيارة «أمين اللَّه»، حيث ورد هذا

الخطاب: «السلام عليك يا أمين اللَّه في أرضه» وهو شاهد آخر على إثبات هذا الادعاء.

______________________________

(1) جاء في التواريخ في ذيل الآية «وَانْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ» أنّه صلى الله عليه و آله صعد إلى جبل الصفا بعد نزول هذه الآية ودعا كلًا من «بني عبدالمطلّب» و «بني عبد مناف» فلمّا اجتمعوا حوله قال لهم صلى الله عليه و آله، لو أخبرتكم بأنّ جيشاً عظيماً يتّجه نحوكم بمحاذاة هذا الجبل فهل ستصدقّونني أم لا؟ فقال الجميع: بلى! ما عرفنا فيك الكذب أبداً، فقال صلى الله عليه و آله: «إذن فاعلموا أنّي لكم نذير من العذاب الإلهي». (الكامل، ج 2، ص 60).

نفحات القرآن، ج 7، ص: 48

4- الرغبة والشفقة الفائقتان

إنّ الإنسان الذي يقود الناس ويتحمّل مسؤولية هدايتهم وتربيتهم كمعلّم صالح لهم هو ذلك الشخص الذي له رغبة شديدة بهذا العمل وفي قلبه شفقة على الناس، بل إنّه يعشقهم فلولا حبّ الأبوين لولدهما لما تحمّلا أبداً كلّ هذه المشاكل لرعايته وتربيته، ولولا حبّ الأنبياء عليهم السلام لهداية الناس لما تحملوا أبداً أعباء هذا العمل الذي يفوق طاقه الإنسان، ولما عرّضوا أنفسهم لأنواع المخاطر في هذا الطريق.

وقد أكّد القرآن مراراً على هذه المسألة كما ورد في الآية الرابعة من بحثنا، ونقلًا عن لسان «هود» نبي اللَّه تعالى حيث قال لقومه المعاندين المتعصّبين: «أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّى وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ».

ونفس هذا المعنى ورد بتعبير أدقّ في حقّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله حيث يواسيه تعالى ويقول: «فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً». (الكهف/ 6)

كما جاء نظير هذا المعنى أيضاً في قوله تعالى «لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوامُؤْمِنِينَ».

(الشعراء/ 3)

«ناصح» مأخوذة من مادّة «نصح» وتعني على حدّ قول الراغب

في مفرداته، تحرّي فعل أو قول فيه صلاح صاحبه (أي أنّه يشمل تحرّي الصلاح قولًا وفعلًا)، وقد جاء في القرآن أنّ نوحاً عليه السلام دعا قومه ألف سنة إلّاخمسين عاماً فتحمل أنواع المشقّة لتبليغهم رسالات ربه وهدايتهم وبالنتيجة لم يؤمن به خلال كلّ هذه المدّة إلّانفر قليل، (ذكرت التواريخ أنّ عددهم لم يتجاوز نيفاً وثمانين نفراً فقط)، وبعبارة علمية بسيطة فانّ نوحاً قد تحمّل مشقّة اثنتي عشرة سنة تقريباً لهداية كلّ واحد منهم على انفراد، وبديهي أنّ تحمّل مثل هذا التعب والمشقّة لا يتحقّق إلّافي ظلّ الرغبة والحب الشديدين لهداية الخلق.

5- الإخلاص والإيثار الكامل

من الصفات المهمّة للأنبياء عليهم السلام التي أكّد عليها القرآن هي عدم انتظارهم لأي نوع من

نفحات القرآن، ج 7، ص: 49

الأجر والمكافأة الماديّة في مقابل دعوتهم إلى اللَّه تعالى ودين الحقّ، فنقرأ مثلًا في الآية الخامسة من آيات بحثنا حول أوّل نبي من اولي العزم أي نوح عليه السلام: «وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ» كما أنّ هناك آيتين اخريين بنفس هذا المضمون قد وردتا في حقّ نوح عليه السلام أيضاً (هود/ 29) و (يونس/ 72).

وفي حقّ «هود» في موردين (هود/ 51) (الشعراء/ 127).

وفي حقّ «صالح» في آية واحدة (الشعراء/ 145).

وفي حقّ «لوط» في مورد واحد (الشعراء/ 164).

وفي حقّ «شعيب» في مورد واحد (الشعراء/ 180).

وأخيراً فقد تكرّر التأكيد على هذه المسألة في عدّة مواضع من القرآن في حقّ نبي الإسلام صلى الله عليه و آله: (الأنعام- 90) (سبأ- 47) (الفرقان- 57) (ص 86) «1».

على أيّة حال فإنّ تأكيد القرآن على مسألة أنّ أوّل كلام للأنبياء عليهم السلام الإلهيين هو عدم انتظارهم لأيّة مكافأة في مقابل جهودهم، وسلوكهم وأفعالهم تكشف عن

إمكانية التعرّف عليهم من خلال هذه الخصلة.

إنّهم عليهم السلام كانوا يقولون ذلك ويعكسونه من خلال سلوكهم وأفعالهم، في حين إنّ المدّعي زوراً ربّما يقول مثل قولهم لكنّه لا يلتزم به عمليّاً أبداً.

ويحتمل أنّ ملكة سبأ أرادت اختبار سليمان عليه السلام وهل أنّه نبي صادق أم ملك يبغي وراء تظاهره بالدعوة إلى اللَّه تعالى منافع ماديّة، فقالت: «وَإِنِّى مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ». (النمل/ 35)

فإذا وافق سليمان عليه السلام على الهدية وفرح بها لاتّضح أنّ له دافعاً ماديّاً، بينما النبي من

______________________________

(1) الجدير بالذكر هو أنّ القرآن الكريم يقول أحياناً في حقّ نبي الإسلام صلى الله عليه و آله: «قُلْ لَاأَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً» (الأنعام/ 90) ويقول أحياناً: «قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا» (الفرقان/ 57) وفي موضع آخر يقول: «قُلْ لَاأَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِى الْقُرْبَى». (الشورى 23) ولا يخفى أنّ هذه الآيات بمجموعها تبيّن أنّ مسألة مودّة ذوي القربى إنّما تعود فائدتها إلى الناس، وهذه في الواقع بمثابة ترعة تصبّ في خاتمة المطاف في نهر «الإمامة والولاية المنصوصة» التي عيّنها اللَّه تعالى لهداية الناس وللعمل بتعليمات نبيّ الإسلام صلى الله عليه و آله، وبالنتيجة فكلّ منفعة تجنى من هذا الطريق إنّما تصبّ في خير الناس ولأجلهم.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 50

نفحات القرآن ج 7 99

لا يهتمّ لزخرف الدنيا وزينتها ودافعه إلهي محض.

وعلى أيّة حال فإنّ تصريح القرآن بهذه النكتة في حقّ ستّة من أنبياء اللَّه عليهم السلام، والذين من بينهم إثنان من اولي العزم يثبت وجود هذه الحالة في كلّ الأنبياء عليهم السلام، ولا مناسبة لحصرها في خصوص هؤلاء الستّة فقط، بل إنّ

كل الأنبياء يتصفون بهذه الصفات.

6- البرّ والإحسان

من صفاتهم البارزة الاخرى هي الإحسان للصديق والعدو معاً، فلقد كانوا في الحقيقة مظهراً لصفات «الرحمن» و «الرحيم» والفضل والإحسان للجميع.

ولذا فقد نسب القرآن هذه الصفة إلى الكثير من الأنبياء عليهم السلام ومن جملة ذلك ما جاء في الآية السادسة من آيات بحثنا بعد الإشارة إلى «إسحاق» و «يعقوب» ولدي إبراهيم البارّين اللذين وهبهما اللَّه تعالى له في آخر عمره، وكذلك «نوح» و «داود» و «سليمان» و «أيّوب» و «يوسف» و «موسى» و «هارون» (عشيرة من الأنبياء العظام) من بينهم ثلاثة من اولي العزم يقول تعالى: «وكذلك نجزي المحسنين» أي أنّ إحدى الصفات البارزة التي كانت لديهم هي صفة «الإحسان».

كما ورد نفس هذا المعنى أيضاً على انفراد في آيات متعدّدة من جملتها: «سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِى الْعَالَمِينَ* إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى الُمحْسِنِينَ». (الصافات/ 79- 80)

و «سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ* كَذَلِكَ نَجْزِى الُمحْسِنِينَ». (الصافات/ 109- 110)

و «سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ* إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى الُمحْسِنِينَ». (الصافات/ 120- 121)

وأخيراً: «سَلَامٌ عَلَى إِل يَاسِينَ* إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى الُمحْسِنِينَ». (الصافات/ 130- 131)

وهذا التكرار في التأكيد هو خير شاهد على ما تقدّم أعلاه من ماهية المراد من البرّ و «الإحسان» الذي جاء في الكثير من الآيات، وللمفسّرين عبارات شتّى فالبعض منهم كالمرحوم الطبرسي قد فسّر «الإحسان» في الكثير من الموارد في «مجمع البيان» بمعنى

نفحات القرآن، ج 7، ص: 51

طاعة المولى جلّت قدرته بل قد صرّح أنّه لو حصل هذا المعنى أي مقام العبودية والطاعة للآخرين لشملتهم مثل هذه العنايات الخاصّة أيضاً!.

لكنّ البعض الآخر كصاحب تفسير «روح البيان» قد فسّر ذيل الآية الثمانين من سورة الصافات بمعنى الصبر والتحمّل أمام أذى العدو واعتدائه.

كما يحتمل أيضاً أنّ كلّ واحد من

الأنبياء عليهم السلام قد برز في أحد فروع البرّ والإحسان نظراً إلى أنّ كلّ الطاعات والأعمال الحسنة تندرج تحت عنوان «الإحسان»، الصبر والتحمّل، الطاعة والعبودية، العفو والمغفرة، وأمثالها.

7- عدم الخشية من غير اللَّه تعالى

نظراً لتمتّع الأنبياء عليهم السلام بمقام رفيع في معرفة اللَّه تعالى، فقد كانوا يدركون جيّداً أنّ اللَّه تعالى هو المنبع الرئيسي لكلّ خير وقوّة ولو أنّه تعالى دافع عن شخص لما تمكّن العالم بأسره من إلحاق الضرر به.

وثمرة هذه المعرفة هي الخوف من مخالفة أمر اللَّه تعالى وحده وعدم المبالاة بمن سواه كائناً من كان.

ولذا يقول تعالى في الآية السابعة من آيات بحثنا بعد أن أشار إلى عدد من الأنبياء عليهم السلام السابقين، «الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً».

إنّ هذه الخاصيّة منحت الأنبياء عليهم السلام قدرة فائقة باعتبارهم قادة إلهيين، ومنحتهم صموداً أمام الأعداء المعاندين بل هي في الواقع أحد أسباب موفّقيتهم.

وهنا يطرح هذا السؤال نفسه وهو: أنّ اللَّه تعالى خاطب نبي الإسلام صلى الله عليه و آله، في آيتين سابقتين على هذه الآية 37 في نفس سورة الأحزاب حول زواجه من زوجة زيد المطلقة وقال: «وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ»، أي أنّك تخاف غير اللَّه فيما يتعلّق بموضوع

نفحات القرآن، ج 7، ص: 52

زواجك من هذه المرأة باعتبار أنّ زيداً هو إبنك بالتبنّي لا حقيقة، ومن العار الزواج من زوجة الإبن بالتبنّي عند عرب الجاهلية، في حين أنّ الأنسب أن تخاف اللَّه تعالى.

فهذا التعبير يبيّن أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله على الرغم من كونه أفضل الأنبياء عليهم السلام كان يخاف غير اللَّه أيضاً في حين أنّ الآية تقول: «الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً

إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً». (الأحزاب/ 39)

فكيف يتمّ التوفيق بين هذين التعبيرين؟!

إنّ الإجابة عن هذا السؤال تتّضح من خلال ملاحظة واحدة، وقد ذكرناها في «التفسير الأمثل» وهي أنّ خوف نبي الإسلام صلى الله عليه و آله هنا لم يكن على شخصه بل كان يخشى في الواقع أن يكون إقدامه هذا على نقض عادة الجاهلية تلك (زواجه من زوجة زيد المطلّقة) سبباً في خدش مكانته وتزلزلها في أذهان عموم ذلك المجتمع باعتباره واحداً من الأنبياء عليهم السلام وبالتالي لا يتمكّن من تحقيق أهدافه الإلهيّة وإلّا فالإقدام على عمل كهذا وسط ذلك المجتمع الذي تغمره الامور العجيبة والغريبة لا أهميّة له أبداً من الناحية الشخصية مهما كان مخالفاً لفكر الناس وعاداتهم.

كما أنّ تقارب محلّ الآيتين من بعض يمكن أن يكون شاهداً آخر على هذا المدّعى أيضاً.

إذن فخوف النبي الأكرم صلى الله عليه و آله في هذه القضيّة هو مصداق للخوف الإلهي لا الشخصي (فتأمّل جيّداً).

8- التوكّل المطلق على اللَّه تعالى

إنّ الأنبياء عليهم السلام كانوا يُبعثون عادة بين أقوام قد غرقوا في الفساد الأخلاقي فضلًا عن الانحراف الفكري والعقائدي، ولذا كانت دعوتهم لإزالة هذه الآثار السيّئة تواجه بثورة عنيفة من قبل ذلك المجتمع حتّى أنّهم كانوا يتّخذون العزلة في بعض الأحيان، والذي كان يغذّيهم بالقوّة والمنعة لمواصلة تحقيق أهدافهم في مثل هذه الظروف هو مسألة التوكّل على

نفحات القرآن، ج 7، ص: 53

اللَّه، والتي نجد أحد مصاديقها في قصّة هود في الآية الثامنة من بحثنا:

إذ قال له قومه إنّك لم تأتنا بدليل واضح ولن نترك آلهتنا لكلامك هذا، بل لن نؤمن بك أصلًا، ونحن نعتقد بأنّ آلهتنا قد غضبت عليك وسلبتك لبك! لكنّه صمد بجرأة وقال: «إِنِّى أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّى بَرِى ءٌ مِمَّا

تُشْرِكُونَ* مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِى جَمِيعاً ثُمَّ لَاتُنْظِرُونِ* إِنِّى تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّى وَرَبِّكُمْ».

عندما يرى الإنسان شخصاً جاهلًا ومتعصباً، فيصاب بالذهول والفزع، فكيف به إذا أراد أن ينهض لمواجهة قوم منحرفين ويحملون كافة الصفات الرذيلة، وهو لا يملك العُدة والعدد ليتغلب بها عليهم؟! من البديهي إن عملًا كهذا لا يمكن تحققه إلّابواسطة المدد الإلهي، وهي القوة النابعة من التوكل، حيث أن التوكل لا يأتي إلّامن الايمان باللَّه سبحانه وتعالى المهيمن على كافة أرجاء العالم.

والملفت للنظر هو عدم اكتراث الأنبياء عليهم السلام لتهديدات أعدائهم وعدم إبراز أي رد فعل تجاههم، بل على العكس كانوا يحتقرون قدرتهم ويعرضونها للإستفهام ويفهمونهم بأنّهم لا يعيرون لكلّ ذلك المجتمع الوثني المعاند أي اهتمام يذكر، فهذا التوكّل المنقطع النظير هو أحد خصائص الأنبياء عليهم السلام.

9- الإخلاص المنقطع النظير

وصف «المخلص» ورد ذكره في القرآن مرّة واحدة فقط، وذلك في حقّ موسى بن عمران عليه السلام فقد وصفه بالإخلاص قبل وصفه بالرسالة والنبوّة، يقول تعالى: «وَاذْكُرْ فِى الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً وَكَانَ رَسُولًا نَبِيّاً».

لكن نظراً لما ورد على لسان الشيطان في آيتين من القرآن: «وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الُمخْلَصِينَ». (الحجر/ 39- 40) (ص/ 82- 83)

ولبداهة كون الأنبياء عليهم السلام من الذين يعجز الشيطان عن إغوائهم بأي حال من الأحوال

نفحات القرآن، ج 7، ص: 54

فيمكن استنتاج شمولية هذا الوصف لكلّ الأنبياء سواءً موسى عليه السلام أو غيره.

فما هو «الإخلاص»؟ إنّ الإخلاص منزلة رفيعة جدّاً يؤكّد عليها علماء الأخلاق والعرفان كثيراً وهو أن يعتبر الإنسان ذات الباري جلّت قدرته هي المؤثّر الحقيقي في عالم الوجود لا غير، وهذا نابع من المعرفة التامّة لتوحيد اللَّه تعالى، فيتوجّه العارف إلى اللَّه تعالى بخالص نيّته ويعتبر كلّ البواعث غير

الإلهيّة عبثاً، ويضع كلّ وجوده رهن من يملك كلّ شي ء، وأخيراً يرى كلّ ما سواه باطلًا فانياً.

إنّ عمليّة تهذيب الإنسان من شوائب الشرك والهوى والبواعث الوهمية، لها مرحلتان:

المرحلة الاولى: عن طريق تربية النفس على قدر طاقة الإنسان أي أنّه يرى نفسه بعد اجتيازه هذا الطريق بالجدّ والسعي الحثيثين في زمرة «المخلصين» (الذين قاموا بتنقية أنفسهم).

المرحلة الثانية: مرحلة تصفية الوجود الإنساني من الشوائب التي تخفى عليه لدقّتها، وهنا يأتي دور العنايات الإلهيّة لمساعدة العبد في التخلّص من تلك الشوائب والأخذ بيده إلى مرتبة المخلصين وهذه هي المنزلة الرفيعة لأنبياء اللَّه تعالى عليهم السلام وأوليائه وخاصّة عباده.

ولا يخفى أنّ آثار هذا الإخلاص تتجلّى بكلّ وضوح في أعمالهم كما يمكن إدراك بلوغهم لهذه المنزلة من خلال حسن أقوالهم وتصرّفاتهم بكلّ سهولة، وعلى أيّة حال فالإخلاص أحد الصفات البارزة لأنبياء اللَّه تعالى عليهم السلام.

10- اللين والمحبّة وحسن الخُلُق

إنّ مسؤولية الأنبياء عليهم السلام القيادية تفرض عليهم ضرورة مسايرة الناس، واللّين أمام غلظة وفظاظة الجهّال المتعصّبين قدر الإمكان، وبعبارة أدقّ: النفوذ في قلوب مختلف شرائح المجتمع عن طريق المحبّة، وهذه صفة اخرى من صفات الأنبياء عليهم السلام.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 55

يقول القرآن الكريم في الآية العاشرة من آيات البحث وخصوصاً فيما يتعلّق بنبي الإسلام صلى الله عليه و آله: «فَبَما رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ» و «الفظّ»: و «غليظ القلب» لهما نفس المعنى تقريباً وهو الشدّة والخشونة وقساوة القب، لكن البعض فرّق بينهما وقال: إنّ «الفظّ» يعني الخشن في القول، و «غليظ القلب» الخشن في الفعل. وذهب البعض الآخر إلى أنّ «فظّ» إشارة إلى الخشونة الظاهرية (الأعمّ من القول والفعل)، و «غليظ القلب» إشارة إلى الخشونة

الباطنية والقلبية والتي تعدّ المصدر الرئيسي لكلّ الخشونات.

والذي يقابل هذين الوصفين هو اللّين والمحبّة والهدوء قولًا وفعلًا ممّا يؤدّي إلى استقطاب طبقات الامّة بشكل عجيب.

ويرى محقّقو التاريخ أنّ وجود هذه الصفات في شخص نبي الإسلام صلى الله عليه و آله كان له أكبر الأثر في الإسراع من مهمّة نجاح وانتشار رسالته خصوصاً في أوساط مجتمع يدور فيه كلّ شي ء حول محور الخشونة الفعليّة كالقتل والإغارة فضلًا عن الخشونة في القول، ومن هنا فمن السهل الوقوف على الدور الفعّال لهذه الصفة الأخلاقية للنبي صلى الله عليه و آله.

وهناك الكثير من الشواهد حول هذا الموضوع في تاريخ حياة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، ولو تعرّضنا لها كلّها لخرجنا عن جوهر موضوع بحثنا لكثرتها، لكنّنا سنكتفي بنموذج واحد فقط:

ففي معركة احد التي وجّهت فيها أكبر ضربة لكيان الإسلام والمسلمين بسبب عدم التزام فريق ممّن كانوا جديدي العهد بالإسلام وهروب فريق آخر، فضلًا عن الجراح التي اثخن بها شخص النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وبشهادة الكثير من أقطاب الإسلام، نراه صلى الله عليه و آله بعد انتهاء المعركة حليماً مع المسلمين يكلّمهم بلسان طيّب ولم يبد أي غضب بل كان يدعو لهداية أعدائه المجرمين أيضاً.

كما أنّ تاريخ باقي الأنبياء عليهم السلام يعكس أيضاً تمتّعهم بهذه الفضيلة الإنسانية الخطيرة.

إنّ تصريح القرآن بأنّ «نوحاً» عليه السلام قد دعا قومه تسعمائة وخمسين سنة وأنّه استعان

نفحات القرآن، ج 7، ص: 56

بكلّ الطرق والوسائل لهدايتهم على حدّ قوله، إذ أنّه كان يدعوهم علناً أحياناً وأحياناً اخرى سِرّاً، ليلًا أو نهاراً، يذهب إلى بيوتهم أو يشاركهم في جلساتهم العامّة في بعض الأحيان، وإنّه لم يؤمن به طوال كلّ هذه المدّة إلّانفر

قليل، يعكس مدى مداراته لهؤلاء الوثنيين العاصين.

ولحن قوله تعالى الوارد في سورة نوح عليه السلام يبيّن بكلّ وضوح استخدامه اسلوب الترغيب، وأنّه لم يقدم على لعنهم والدعاء عليهم إلّابعد أن يئس تماماً منهم ومن ذرّيتهم.

إنّ الإنسان تصيبه الدهشة أحياناً عندما يرى ما لبعض الأنبياء من رأفة وحسن خُلق، فقد ورد عن «لوط» عليه السلام مثلًا في القرآن الكريم إنّه عرض بناته على قومه المذنبين للزواج منهنّ (بعد الإيمان) أملًا في أن يمنعهم من القيام بأعمالهم الشنيعة تلك.

وعلى أيّة حال فإنّنا كلّما تمعّنا أكثر في حياة هؤلاء العظام كلّما وقفنا على مميزات وصفات أخلاقية أكبر لهم.

11- الفوز في المحن الشاقّة

تعرّض الكثير من الأنبياء عليهم السلام خلال حياتهم لمختلف أنواع الإختبارات الشاقّة، وكانت صفاتهم البارزة هي تحمّل أنواع الشدائد، وعدم الغرور عند النصر، وباختصار الفوز في الإمتحانات الإلهيّة الصعبة.

فالنبي نوح عليه السلام في فترته التبليغيّة البالغة تسعمائة وخمسين سنة، وموسى عليه السلام خلال خدمته لشعيب في مدين وخلال فترة تحدّيه الطويلة لفرعون وفترة انحراف بني إسرائيل عن التوحيد والخروج على أوامره، وكذلك سائر الأنبياء مثل أيّوب وعيسى ولوط وشعيب وهود عليهم السلام وخصوصاً إبراهيم عليه السلام قد ابتلوا جميعاً في ميادين الإبتلاء هذه.

وقد جاء في الآية المعنية عن إبراهيم عليه السلام إنّه تعالى قد منحه مقام الإمامة المطلقة فضلًا عن مقام النبوّة وذلك بعد فوزه في الإختبار، قال تعالى: «وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ

نفحات القرآن، ج 7، ص: 57

فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً».

وبالرغم من أنّ الآية أعلاه قد أشارت إلى الإبتلاءات بشكل غامض، لكن وكما ذكر المفسّرون فانّ هذه «الكلمات» (أي الامور التي اختبر اللَّه تعالى بها إبراهيم) هي من قبيل الإستعداد لتقديم ولده قرباناً وأخذ زوجته وإبنه إسماعيل

إلى أرض مكّة القاحلة وإسكانهم فيها بأمر من اللَّه تعالى ووقوفه الشجاع أمام عبدة الأصنام والهجرة المقرونة بالحرمان إلى المناطق المؤهلة أكثر للإيمان وأمثالها.

ويرى بعض المفسّرين أنّ ابتلاءات إبراهيم عليه السلام قد بلغت الثلاثين مورداً «1»، لكن ما تقدّم هو أهمّها، فهو في الحقيقة قد وضع «حياته» و «أمواله» و «مكانته» و «زوجته» و «ولده» و «وطنه الذي كان قد ألفه» والتي تشكّل بمجموعها كيان الإنسان ووجوده في سبيل اللَّه تعالى وخرج من بودقة الإختبار نقيّاً.

وعلى الرغم من أنّ هناك حديثاً طويلًا للمفسّرين حول تفسير «الكلمات» إذ اعتبرها البعض إشارة إلى مناقشاته الحادّة مع عبدة النجوم والشمس والقمر وبينما اعتبرها آخرون إشارة إلى سلسلة من الأحكام الفرعية للدين، إلّاأنّ ما تقدّم هو أنسبها.

ثمرة البحث:

يمكن الإستنتاج ممّا تقدّم أنّ الأنبياء عليهم السلام يتمتّعون بحصيلة من- الصفات والمميزات الخاصّة من وجهة نظر القرآن، ولا نقول أنّ كلّ واحدة من هذه الصفات منحصرة بهم، أو أنّها

______________________________

(1) نقل كلّ من المرحوم الطبرسي في «مجمع البيان»؛ والآلوسي في «روح المعاني» والقرطبي في تفسيره أنّ هذه الخصال الثلاثين من شرائع الدين قد وردت في أربع سور من القرآن الكريم عشرة منها في سورة (التوبة/ 112) «التَائِبُونَ الْعَابِدُونَ ...» وعشرة في سورة (الأحزاب/ 35) «إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ ...» وعشرة في سورة (المؤمنون/ 1 و 2) «قَدْ أَفلَحَ المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ ...» أو في سورة «المعارج» «سأل سائل». لكن يجب الالتفات إلى أنّ الصفات الواردة في السور أعلاه، لا تبلغ الثلاثين صفة من معنى ولا تتجاوز الثلاثين من معنى آخر فضلًا عن أنّ تكرارها ممّا لا يمكن إنكاره، وبناءً على هذا فقبول العدد 30 لهذا الموضوع يبدو بعيداً بعض الشي ء.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 58

تعكس النبوّة

لوحدها، بل نقول بإمكان العثور عليها بمجموعها عند الأنبياء عليهم السلام، وبأنّ لها أثراً عميقاً للتعرّف عليهم لأنّ إحدى طرق معرفتهم كما سيأتي تفصيله هي جمع القرائن المختلفة والتي من جملتها «خصائصهم الخلقية».

نفحات القرآن، ج 7، ص: 59

شروط الرسالة

اشارة

نفحات القرآن، ج 7، ص: 61

التقوى والعصمة

تمهيد:

بالنظر لتحمّل الرسل وحملة الوحي الإلهي أهمّ وأخطر مسؤولية في عالم البشرية، وهي مسؤولية هداية الإنسان وتربية النفوس وتهذيبها وتنقيتها من كافّة الشوائب والممارسات اللاأخلاقية، بالإضافة إلى تطهير المجتمعات البشرية من أنواع الظلم والتعسّف، بطرق لا يمكنهم طيّها اعتماداً على العقل والفكر والمعلومات الخاصّة فحسب، بل لابدّ والحالة هذه من تمسّكهم بأعلى درجات «التقوى»، والتي نطلق عليها منزلة «العصمة» التي لا يمكن ضمان أهداف الرسالة بدونها.

ومن المؤكّد أنّ منزلة العصمة لا تعني «العصمة من الذنب والمعصية» فحسب، بل لها فرع آخر لا يقلّ أهميّة عنها، ألا وهو «العصمة من كلّ خطأ واشتباه وانحراف وضلال»، ولا يخفى أنّ تحقيق الهدف من البعثة مرهون بإمدادهم بالتأييدات الإلهيّة من هذه الناحية.

ولكلٍّ من هذين القسمين تشعّبات اخرى أيضاً: كالعصمة من الذنوب كبيرها وصغيرها، في فترة ما قبل النبوّة وبعدها والعصمة من الخيانة في تبليغ الوحي والرسالة و ...

كما يندرج في قسم العصمة من الخطأ أيضاً كلّ من «العصمة من الخطأ في تلقّي الوحي وإبلاغه»، والعصمة من الخطأ في القيام بالفرائض الدينيّة والأوامر الشرعية، وكذلك العصمة من الإنحراف في الامور الدنيوية والشخصية. وهناك سؤال يتبادر للذهن وهو: هل تعود مسألة عصمة الأنبياء في كلّ هذه الأبحاث إلى هذين القسمين؟ وما هو الدليل على ذلك على فرض الصحّة؟ وما هو الدليل على الاختلاف الحاصل بينهما لو وجد؟

نفحات القرآن، ج 7، ص: 62

هذه صورة عن مسألة عصمة الأنبياء اصولًا وفروعاً من الناحية المبدئية، والتي ينبغي بيانها في ظلّ الآيات القرآنية والأدلّة العقلية نظراً لأهميّتها الأساسية والمصيرية، وبهذه الإشارة الخاطفة نعود ثانيةً إلى القرآن ونتأمل خاشعين في الآيات الواردة في هذا المجال:

1- «وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ

إِنِّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِى قَالَ لَايَنَالُ عَهْدِى الظَّالِمِينَ». (البقرة/ 124)

2- «وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ». (الحشر/ 7)

3- «مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً».

(النساء/ 80)

4- «فَلَا وَرَبِّكَ لَايُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيَما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَايَجِدُوا فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً». (النساء/ 65)

5- «لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَنْ كَانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً». (الأحزاب/ 21)

6- «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً». (الأحزاب/ 33)

7- «قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الُمخْلَصِينَ». (ص/ 83- 82)

8- «وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِى الْأَيْدِى وَالْأَبْصَارِ* إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ* وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ». (ص/ 45- 47)

9- «أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ». (الأنعام/ 90)

10- «وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْىٌ يُوحَى . (النجم/ 3- 4)

نفحات القرآن، ج 7، ص: 63

جمع الآيات وتفسيرها

كيف يكون المذنبون دعاةً للتقوى؟

إنّ الآية الاولى من آيات بحثنا تكشف النقاب عن ثلاثة مواضيع:

الأوّل: الإبتلاءات الكبيرة التي أُبتلي بها إبراهيم من قبل اللَّه تعالى، والتي اجتازها بنجاح تامّ.

الثاني: المكافأة العظيمة التي نالها إبراهيم من اللَّه بعد هذا الاختبار، أي مقام الإمامة.

الثالث: طلب إبراهيم منح هذه الموهبة لبعض ذرّيته، وجواب اللَّه تعالى له بأنّ الظالمين من ذرّيته لن ينالوا هذا المقام الرفيع أبداً:

«وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِى قَالَ لَايَنَالُ عَهْدِى الظَّالِمِينَ».

أمّا فيما يتعلّق بالقسم الأوّل فقد تقدّم الكلام عنه بشكل وافٍ فيما مضى، كما أنّ هناك حديثاً طويلًا فيما يتعلّق بالقسم الثاني أي نيل مقام الإمامة الرفيع وماهيتها.

فهل أن الإمامة

تعني «النبوّة»؟ في حين أنّ هناك قرائن واضحة تدلّ على أنّ إبراهيم عليه السلام قد تطرّق لهذا الأمر بعد وصوله لمقام النبوّة، وفي أواخر سنيّ عمره، حينما كان له أولاده وذرّيته كإسماعيل وإسحاق، وعلى أمل امتداد ذرّيته هذه إلى الأجيال اللاحقة، ومن هنا فقد تمنّى لهم أيضاً مقام الإمامة، إذ إنّه وكما نعلم لم يرزق ولداً لمدّة مديدة، حتّى أنّه أخذته الدهشة حينما بشّره الملائكة الموكّلون بهلاك قوم لوط، هو وزوجته بولد كما تقرأ في قوله تعالى: «قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِى عَلَى أَنْ مَسَّنِىَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ* قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ». (الحجر/ 54- 55)

بل قد تعجّبت زوجته أيضاً لهذه البشرى واستغربت قائلة: «قَالَتْ يَا وَيْلَتى ءَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِى شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَى ءٌ عَجِيبٌ». (هود/ 72)

لكن الملائكة حذّرته من تبعة اليأس من رحمة اللَّه في كلّ الأحوال.

وبناءً على هذا فمن المستبعد جدّاً أن يكون المراد هو النبوّة، بل المراد هو الحكومة

نفحات القرآن، ج 7، ص: 64

الإلهيّة المطلقة على الأموال والأنفس وكلّ شؤون الحياة الإنسانية، أو الحكومة الظاهرية والباطنية على الأرواح والأنفس عن طريق التربية الظاهرية والباطنية لإيصال الناس إلى الكمال المطلوب بإذنه تعالى، وعدم الإقتصار على رسم الطريق فحسب، والذي يعدّ من مهام كلّ الأنبياء.

على أيّة حال فإنّه مقام يفوق النبوّة، ولم ينله إلّاالبعض من الأنبياء فقط.

وامّا فيما يتعلّق بالموضوع الثالث وهو طلب إبراهيم هذا المقام لبعض أولاده، وسماعه الجواب في الحال من أنّ هذا المقام هو نوع من التعهّد الإلهي لا يناله الظالمون، فالكلام فيه يدور حول المراد من «الظالم» معنىً ومفهوماً.

يجب معرفة ما المراد بالظالم؟ هل هو فقط ذلك الشخص الموصوف بهذه الصفة فعلًا؟

مع أنّه يستبعد جدّاً بل يستحيل أن يطلب إبراهيم

عليه السلام مثل هذا الطلب للظلمة من ذرّيته خصوصاً بعد اجتيازه لكلّ تلك الإختبارات الصعبة وشموله بمثل تلك العناية، هذا الشي ء غير معقول أبداً سواء كان هذا الظلم بمعني الكفر كما يصرّح بذلك القرآن الكريم: «إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ». (لقمان/ 13)

أو بمعناه الواسع الشامل لكل أنواع الفسق والفجور والمعصية.

وبناءً على هذا فالمراد ب «الظالم» هنا هو ذلك الشخص الموصوف بتلك الصفة ولو للحظة واحدة طول عمره مهما انقضى على تلك اللحظة من مدّة، فان مثل هذا المصداق بحاجة إلى بيان.

وفي الحقيقة إنّ اللَّه تعالى أراد ببيانه هذا إيقاف إبراهيم على هذه الحقيقة، وهي أنّ مقام الإمامة رفيع بدرجة لا يناله إلّااولئك الذين يليقون لهذه (النعمة) العظيمة المنزّهون عن كلّ أنواع الظلم والشرك والكفر والمعصية، وبعبارة اخرى، المعصومون.

ولذا يقول الفخر الرازي حين يصل إلى تفسير الآية المذكورة: «هذه الآية تدلّ على عصمة الأنبياء من وجهين:

الأوّل: إنّه قد ثبت أنّ المراد من هذه العصمة: الإمامة، ولا شكّ أنّ كلّ نبي إمام، فانّ الإمام هو الذي يؤتمّ به، والنبي أولى الناس بذلك، وإذا دلّت الآية على أنّ الإمام لا يكون فاسقاً،

نفحات القرآن، ج 7، ص: 65

فإنّها تدلّ على أنّ الرسول لا يجوز أن يكون فاسقاً فاعلًا للذنب والمعصية أولى.

الثاني: إنّ التعبير ب «عهدي» لو كان يشير إلى النبوّة فالقصد منه أن أحداً من الظلمة لا ينال مقام النبوّة، وأنّ النبي يجب أن يكون معصوماً، ولو كان يشير إلى الإمامة فدلالة الآية تامّة أيضاً، لأنّ كلّ نبي إمام نظراً لاقتداء الناس به (في كلّ الامور بلا قيد أو شرط)» «1».

مع أنّ كلام الرازي في تفسير الإمامة لم يف بالمطلوب (كما تقدّم)، لكن اعترافه الصريح فيما يتعلّق بالدلالة على لزوم عصمة

الأنبياء (والأئمّة) ملفت للنظر، والإشكال الوحيد الذي يمكن إيراده على هذا الاستدلال، هو أنّ عصمة الأئمّة هي المستوحاة من الآية المذكورة لا الأنبياء (الأئمّة بالمعنى المتقدّم).

لكن هذا الإشكال يمكن ردّه بالقول: إنّ طلب إبراهيم عليه السلام مع أنّه يدور حول مقام الإمامة، فلفظ «العهد» الوارد في جواب الباري جلّت قدرته: «لَايَنَالُ عَهْدِى الظَّالِمِينَ» تشمل كلًا من «الإمامة» و «النبوّة» معاً، لكون كلّ منهما عهداً إلهيّاً لبداهة شموله لهما كيفما فسّرناه، وموهبة كهذه لا تكون من نصيب الظالمين كما جاء في روح البيان أيضاً: «وفي الآية دليل على عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من الكبائر قبل البعثة وبعدها» «2».

في الآية الثانية يأمر اللَّه تعالى المؤمنين كافّة بالامتثال لأوامر النبي الأكرم صلى الله عليه و آله واجتناب ما ينهى عنه، ويحثهم على التقوى لأنّه تعالى شديد العقاب.

«وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ».

التأمّل في الآية يكشف عن أنّ المراد من: «وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ»، هو كلّ أوامر النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، باعتبار أنّ نواهيه هي الطرف المقابل: «وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا»، ومن هنا فقد صرّح الكثير من المفسّرين بعمومية مفاد الآية (كالطبرسي في مجمع البيان، أبي الفتوح

______________________________

(1) تفسير الكبير، ج 4، ص 48.

(2) تفسير روح البيان، ج 1، ص 338.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 66

الرازي في روح الجنان، القرطبي في تفسيره، والفخر الرازي في التفسير الكبير، بالإضافة إلى العديد من المفسّرين المعروفين أيضاً)؟

وطبقاً لهذه الآية يجب التسليم المطلق في مقابل أوامر النبي الأكرم صلى الله عليه و آله ونواهيه، ولا يمكن تصوّر التسليم والطاعة بلا قيد أو شرط لشخص غير المعصوم، إذ مع ارتكاب الخطأ أو المعصية والذنب

يجب على المؤمنين تنبيهه على ذلك أو نهيه عنه فضلًا عن حرمة التسليم له.

كما ورد نظير هذا المعنى أيضاً بصيغة اخرى في الآية الثالثة من آيات بحثنا حيث تقول كحكم مطلق: «مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً».

الملفت للنظر هو ما قاله الفخر الرازي في تفسيره: «إنّ هذه الآية هي من أقوى الأدلّة على عصمة نبي الإسلام في كلّ أوامره ونواهيه، وبأنّ كلّ ما يقوله هو عن اللَّه تعالى، لأنّه لو أخطأ في شي ء فلن تكون إطاعته إطاعة اللَّه تعالى، كما يجب أن يكون معصوماً في أفعاله أيضاً، لأنّ اللَّه تعالى قد أمر باتّباعه» (بشكل مطلق) «1».

و كذلك فقد جاء نظير هذا المعنى أيضاً بقالب آخر في الآية الرابعة من آيات بحثنا حيث تقول: «فَلَا وَرَبِّكَ لَايُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيَما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَايَجِدُوا فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً».

من الواضح أن هناك مجالًا للاعتراض أو عدم قبول حكم القاضي إذا قطعنا بخطئه، فلا يجب الانصياع لحكمه، في حين أننا يجب أن لا نشك طرفة عين في صوابية أحكام الرسول الاكرم ويجب أن نُسلم تسليماً مطلقاً ونرضى من الأعماق بما يقضي ويحكم به الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله من دون أن يساورنا الشك أو يدخل في نفوسنا الحرج، وما أكّدت عليه الآية أعلاه دليل واضح على معصوميته، ولذا يصرّح الفخر الرازي في ذيل هذه الآية بأنّها

______________________________

(1) تفسير الكبير، ج 10، ص 193.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 67

تدلّ على أنّ الأنبياء عليهم السلام معصومون من الخطأ في الفتاوى والأحكام، لأنّه تعالى أوجب الإنقياد لحكمهم وبالغ في ذلك الوجوب، وبيّن أنّه لابدّ من حصول ذلك الإنقياد في الظاهر وفي القلب،

وذلك ينفي صدور الخطأ عنهم «1».

صحيح أنّ الآية قد نزلت في تحكيم نبي الإسلام صلى الله عليه و آله، لكنّها توجب إطاعته في كلّ شي ء طبقاً للقرائن التي تحفّ بها، ولذا نقرأ في الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام:

«لو أنّ قوماً عبدوا اللَّه، فأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وصاموا شهر رمضان، وحجّوا البيت، ثمّ قالوا لشي ء صنعه رسول اللَّه ألا صنع خلاف ما صنع أو وجدوا من ذلك حرجاً في أنفسهم لكانوا مشركين! ثمّ تلا هذه الآية ...» «2».

واضح أنّ هذه الآية لا تختصّ بزمن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله فقط، بل هي قائمة إلى يوم القيامة، وقد أشار البعض من المفسّرين إلى ذلك أيضاً «3».

وبناءً على هذا فكلّ من خالف سنّة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله القطعيّة وأحكامه، أو وجد من ذلك حرجاً في نفسه أصبح مصداقاً لهذه الآية.

وبالجملة فالآيات الثلاث السابقة هي بصدد بيان حقيقة واحدة بعبارات شتّى، ألا وهي ضرورة التسليم المطلق أمام أوامر النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وأحكامه، ولا يتمّ هذا إلّابالقول بضرورة عصمته.

والغريب هو أنّ بعضاً من مفسّري أهل السنّة قد استدلّ بما جاء في صحيح مسلم أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله مرّ بقوم يلقّحون (النخل) فقال: «لو لم تفعلوا لصلح، قال: فخرج شيصاً (لم يثمر)، فمرّ بهم فقال: ما لنخلكم؟ قالوا: قلت كذا وكذا. قال: أنتم أعلم بأمر دنياكم» «4».

ومن هنا فقد قسّم البعض منهم أحاديث النبي الأكرم صلى الله عليه و آله إلى قسمين: ما يقوله عن اللَّه

______________________________

(1) تفسير الكبير، ج 10، ص 165.

(2) تفسير مجمع البيان، ج 3، ص 69.

(3) تفسير روح المعاني، ج 5، ص 65.

(4)

جاء في صحيح مسلم في هذا الموضوع ثلاثة أحاديث متّفقة مضموناً وبعبارات شتّى، (صحيح مسلم، ج 4، الباب 38 ص 1835، ح 139 و 141 باب وجوب امتثال ما قاله شرعاً دون ما ذكره صلى الله عليه و آله من معايش الدنيا على سبيل الرأي).

نفحات القرآن، ج 7، ص: 68

تعالى في المسائل الدينية والشرعية، وما يقول عن نفسه في امور الدنيا، فهو معصوم في الأوّل دون الثاني!!

لكننا لا نعتقد بصحة مثل هذه الاحاديث مطلقاً لانها من أجلى مصاديق الروايات المخالفة لكتاب اللَّه تعالى، لأنّ القرآن اعتبر كلام الرسول صلى الله عليه و آله وأحاديثه مقياساً وميزاناً، واعتبره عين الوحي، حيث ورد في قوله تعالى «وَما يَنطِقُ عَنِ الهوى . (النجم/ 3)

فكيف يمكن التصديق بأنّ نبيّاً بكلّ تلك العظمة يدعو الناس إلى شي ء من دون علم، بحيث يكون سبباً لدمار محاصيلهم ثمّ يتنازل عن كلامه هذا ويقول لهم: أنتم أدرى منّي بامور دنياكم، في حين أنّه وبلا شكّ يعدّ من أعلم وأذكى الناس وله اطّلاع واسع بامور من قبيل تأبير النخل و ... بل كيف يمكن لشخص يبدي رأيه رجماً بالغيب (والعياذ باللَّه) أن يكون رئيساً لحكومة إسلامية بتلك العظمة.

ولهذا السبب لا نستبعد كون مثل هذه الأحاديث من الموضوعات التي دبرها المنافقون وأعداء الإسلام، وأدخلوها بين طيّات الكتب الإسلامية للحطّ من عظمة ومنزلة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، وعلمه وعقله وتعريضه للشكّ والريبة والاستفهام.

إن عدم نقل هذا الحديث في الكثير من المصادر الإسلامية الاخرى، يعدّ بنفسه دليلًا على عدم اطمئنان علماء الإسلام بمثل هذه الأحاديث الواهية، والذي يدعو للعجب هو الاستشهادبها من قبل أشخاص ك «المراغي» وصاحب «المنار» في تفاسيرهم، في الوقت الذي يُشكلون

على الكثير من المسائل الاخرى.

على أيّة حال فتقسيم أقوال وافعال وتقريرات الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله إلى قسمين، يفتح الطريق أمام الذين في نفوسهم مرض، لتفسير ما يقوم به النبي الأكرم وفي شتّى المجالات الاجتماعية والحياتية والبشرية، والتشكيك به، ثم الاستفهام هل هو من القسم الأوّل أو الثاني؟

لذا- وكما سيأتي إن شاء اللَّه- لو وجد الخطأ والإشتباه طريقه إلى شي ء من كلام النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، لما بقي هناك مجال للاعتماد على كافّة أحاديثه، ولهذا نعتقد نحن بوجوب

نفحات القرآن، ج 7، ص: 69

عصمة الأنبياء والأئمّة من جميع الجهات.

الآية الخامسة تخاطب المسلمين وتقول لهم: «لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً».

«الاسوة»: لها معنيان: فهي تارة تعني الإصلاح والعلاج ومن هنا قيل للطبيب «آسي»، وتارة تعني «الغمّ والحزن».

يعتقد البعض أنّ هذه المفردة لو كانت «معتلًا واوياً» لكانت بالمعنى الأوّل، ولو كانت «معتلًا يائياً»، لكانت بالمعنى الثاني.

كما احتمل أيضاً عودة كلا المعنيين إلى معنى واحد باعتبار أنّ الغمّ والحزن والأسى إنّما يكون على ما فيه الصلاح والعلاج.

على أيّة حال فظاهر معنى الآية الخامسة هو الإقتداء والإقتفاء (باعتبار أنّ الإقتداء بالعظماء يعدّ من أفضل طرق الصلاح).

الملفت للنظر أنّ «الاسوة» ك «القدوة» لها معنىً مصدري وهو الإقتداء والمتابعة وليس معنىً وصفيّاً كما هو متداول اليوم، وبعبارة اخرى فالقرآن الكريم لا يقول: النبي الأكرم صلى الله عليه و آله قدوة لكم، بل يقول: في وجوده قدوة حسنة (تأمّل جيّداً).

التعبير ب «لقد» للتأكيد، وذكر «كان» إشارة إلى حقيقة كون النبي الأكرم صلى الله عليه و آله قدوة للمسلمين على مرّ الزمن.

مع أنّ المخاطب في هذه الآية (لكم)

يشمل كلّ المؤمنين، لكن جملة: «لِمَنْ كَانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً» تفيد أنّ الأشخاص الذين يتّصفون بهذه الأوصاف، وهي رجاء رحمة اللَّه واليوم الآخر والذكر الكثير للَّه تعالى، هم فقط اولئك الذين يتسنّى لهم الاستفادة من هذه القدوة الحسنة.

وبالرغم من أنّ هذه الآية ناظرة إلى استقامة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وشجاعته الخارقة في معركة الأحزاب: ولكن هذا لا يحدّد مفهوم الآية نظراً لإطلاقه وخلوّه من كلّ قيد أو شرط.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 70

الإجابة عن سؤال:

وهنا يتبادر في الذهن هذا السؤال وهو: هل يمكن الإقتداء المطلق بلا قيد أو شرط بمن لا يتمتّع بمقام العصمة؟! والجواب واضح وهو يمثل دليلًا وشاهداً على مسألة العصمة، إذن فالأمر بالإقتداء هذا خير دليل على حقيقة معصوميته، وإلّا لما جاز أن يكون قدوة في كلّ شي ء، ولكلّ شخص في أيّ زمان ومكان.

ومن هنا فالآية الآنفة الذكر متّفقة مع الآيات التي تأمر المؤمنين بإطاعة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله بلا قيد أو شرط (الآيات السابقة).

ربّما قيل: إنّ التعبير ب «الاسوة» قد جاء في القرآن في موضعين آخرين (الممتحنة/ 4 و 6) وأنّه شامل للمؤمنين الذين كانوا مع نبي عظيم كإبراهيم عليه السلام، بالإضافة إليه، بالرغم من عدم عصمتهم، يقول تعالى: «قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِى إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ». (الممتحنة/ 4)

لكنّ التدقيق في الآية المذكورة يكشف انحصار الإقتداء والتأسّي هنا في بُعد واحد فقط، ألا وهو مسألة البراءة من المشركين إذ إنّ هناك طائفة من المسلمين في عصر النبي الأكرم صلى الله عليه و آله حديثو عهد لم يستسيغوا التخلي عن أقربائهم

ومعارفهم من المشركين بسهولة، وهنا يقول القرآن: اقتدوا بإبراهيم وأصحابه فعندما أصبحوا موحدين أعلنوا عن استيائهم من المشركين والبراءة منهم.

كما أنّ الآية السادسة من هذه السورة تؤكّد على هذا الموضوع أيضاً، وبناءً على هذا فالخطاب لم يقصد منه مطلق الإقتداء والتأسّي بأصحاب إبراهيم عليه السلام (تأمّل جيّداً).

والمخاطب في الآية السادسة هم أهل بيت النبي الأكرم صلى الله عليه و آله إذ يقول تعالى: «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً».

جاء في مقاييس اللغة أنّ أصل «الرجس» هو «الإختلاط»، ثمّ أطلق على الأشياء النجسة لاختلاطها بشي ء آخر.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 71

لكن «الراغب» فسّر أصل الرجس في «مفرداته» بمعنى «الشي ء القذر» وقال: إنّه يكون على أربعة أوجه: إمّا من حيث الطبع، وإمّا من جهة العقل، وإمّا من جهة الشرع، وإمّا من كلّ ذلك.

وقد ذكر البعض مصاديق أو معانيَ عديدة ل «الرجس» كالذنب والشرك والحسد والبخل، والقذارة، النجس المختلط، الصديد والجراحة، الصياح الخارج عن الحدّ المتعارف، الشكّ، الكفر، اللعن، الرائحة الكريهة وأمثالها.

يبدو أنّ «الرجس» في هذه الآية ونظراً لإطلاقها، له معنى واسع شامل، لكلّ أنواع الذنب والشرك والبخل والحسد والفسوق الظاهري والباطني والأخلاق والعادات السيّئة التي تشمئز منها النفوس، والحقيقة أنّ أهل بيت النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وبإرادة من اللَّه تعالى كانوا مطهّرين من كلّ هذه الامور، ولا شكّ أنّ هذه الآية تثبت مسألة العصمة في شخص النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وأهل بيته (أمّا فيما يتعلّق بالمراد من أهل البيت ومن هم؟ فسيأتي الكلام عن ذلك إن شاء اللَّه تعالى)، إنّ إرادته تعالى لابدّ وأن تتحقّق، وإرادته في إذهاب الرجس عن هذه الاسرة لا يعني سوى «ضمان عصمتهم» مفهوماً،

لبداهة كون الشرك والذنب من أجلى مصاديق الرجس والقذارة، ولا شكّ أنّ نفي الرجس بشكل مطلق يشمل الذنوب أيضاً.

هل أنّ هذه الإرادة تشريعية أم تكوينية؟ وبعبارة اخرى، هل أنّ اللَّه تعالى أمر أهل البيت بعدم ارتكاب الذنوب والقبائح، أم أنّه تعالى أودع الطهارة في نفوسهم؟

بديهي أنّ المراد ليس المعنى الأوّل، نظراً لعدم انحصار الإرادة التشريعية (التكليف بأداء الواجبات وترك المحرّمات) باسرة النبي فقط، بل شمولها لكلّ الناس بلا استثناء في اجتناب الذنوب، في حين أنّ كلمة «إنّما» تدلّ على اختصاص وانحصار هذه الموهبة في أهل بيت النبي الأكرم صلى الله عليه و آله (تأمّل جيّداً).

وبناءً على هذا ف «الإرادة» هنا تنحصر بالإرادة التكوينية، لكن ليس بذلك المعنى الذي يستلزم القول بالجبر وأنّ أهل بيت النبي الأكرم صلى الله عليه و آله مجبرون على العصمة، لأنّ الأنبياء

نفحات القرآن، ج 7، ص: 72

والأئمّة- وكما سيأتي الحديث عن ذلك بالتفصيل- لا يذنبون مع قدرتهم على ارتكاب الذنب، حيث إنّ اللَّه تعالى قد منحهم سلسلة من المعارف والمبادي ء الفطرية التي تدعوهم إلى الطهارة، بالضبط مثل العاقل الذي تمنعه معرفته ومبادؤه الفطرية من خروجه إلى الزقاق عارياً كما خلقه اللَّه تعالى، مع بداهة قدرته على ذلك (سيأتي شرح وافٍ لهذا الموضوع في ذيل الآيات).

من هم أهل البيت؟

مع كون عبارة أهل البيت مطلقة، لكن المراد منها هم أهل بيت النبي الأكرم صلى الله عليه و آله بقرينة الآيات السابقة واللاحقة، واتّفاق علماء الإسلام والمفسّرين على ذلك.

المهمّ هنا هو مَنِ المراد من أهل البيت عليهم السلام، هل النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام (هذه الأنوار الخمسة المقدّسة) فقط، أم زوجات النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وباقي

أقربائه أيضاً؟

عموم علماء الشيعة والبعض من علماء السنّة أخذوا بالقول الأوّل، في حين ذهب الكثير من علماء أهل السنّه إلى القول الثاني «1».

ولأجل الوقوف على حقيقة المراد من أهل البيت في الآية الشريفة، لابدّ من التأمّل في الروايات الكثيرة المذكورة في ذيل هذه الآية عن الكثير من الصحابة عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله.

1- السيوطي في «الدرّ المنثور» الذي يُعدّ من أشهر كتب أحاديث تفسير القرآن عند أهل السنّة، ذكر حوالي عشرين حديثاً في ذيل هذه الآية، جاء في خمسة عشر منها أنّها نزلت في حقّ الخمسة أهل الكساء، أي: النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، واللطيف هنا هو انتهاء عشر من هذه الروايات الخمس إلى النبي الأكرم صلى الله عليه و آله

______________________________

(1) جاء في «في ظلال القرآن» أنّ التعبير بأهل البيت بشكل مطلق إشارة إلى أنّ البيت الحقيقي في العالم هو بيت النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، «مثلما أنّ هذا التعبير قد ورد بشكل مطلق في حقّ بيت اللَّه الحرام في البعض من آيات القرآن» وفي الواقع فانّ هذا التعبير هو نوع تكريم وتعظيم خاصّين لأهل بيت النبي الأكرم صلى الله عليه و آله.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 73

وكون رواتها هم امّ سلمة، أبو سعيد، عائشة، سعد، واصل بن أصقع، أبو سعيد الخدري، أنس، أبو الحمراء. (البعض من هذه الروايات ينتهي سندها إلى امّ سلمة زوجة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله).

في حين أنّ أربعة من هذه الأحاديث فقط تشير إلى أنّ الآيات ناظرة إلى زوجات النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، والملفت للنظر هو أنّ أيّاً من هذه الأحاديث الأربعة

لا ينتهي سنداً إلى النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، بل قد نقلت عن ابن عبّاس وعروة وآخرين كما شهدوا على ذلك بأنفسهم، فضلًا عن رائحة الوضع التي تشمّ منها، إذ قد ورد في أربعتها أنّ المراد من الآية زوجات النبي الأكرم صلى الله عليه و آله فقط! في حين أنّ الخطاب ب «كم» في جملة «لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ» و «وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً»، الوارد بصيغة المذكّر يبيّن أنّ هناك رجالًا مخاطبين في هذه الآية أيضاً، على خلاف الآيات السابقة النازلة في خصوص نساء النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، والتي استعمل فيها «نون النِسوة»، إذن فالحديث القائل بأنّ المراد هو زوجات النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، هو خلاف ظاهر القرآن ولا يمكن قبوله.

2- هناك العديد من الروايات في باب حديث الكساء بين طيّات المصادر الإسلامية (وخاصّة مصادر أهل السنّة) التي يستخلص منها هذا المعنى وهو أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، دعا عليّاً وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام (أو أنّهم حضروا عنده) وغطّاهم بردائه، وقال طبقاً لرواية عن جعفر الطيّار (ابن عمّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله) اللهمّ لكلّ نبي أهل وإنّ هؤلاء أهلي، فأنزل اللَّه تعالى: «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً»، وفي هذه الأثناء تقدّمت زينب زوجة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وقالت: ألا أدخل معكم؟ قال مكانك فإنّك على خير إن شاء اللَّه «1».

______________________________

(1) شواهد التنزيل للحسكاني، ج 2، ص 32، ح 673.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 74

هذا الحديث يصرّح بعدم دخول زوجات النبي الأكرم صلى الله عليه و آله في آية التطهير.

والأهمّ من هذا هو الحديث الوارد عن عائشة بنفس

هذا المعنى والذي تقول في خاتمته: فقلت: يارسول اللَّه ألست من أهلك؟ قال صلى الله عليه و آله: «إنّك لعلى خير، ولم يدخلني معهم» «1».

كما أنّ نفس هذا المعنى جاء في صحيح مسلم، غاية الأمر أنّ ذيل الحديث الذي يرتبط بطلب عائشة لم يرد فيه «2».

وورد نفس هذا المعنى في حديث آخر عن «امّ سلمة» وأنّها قالت في ذيله: يارسول اللَّه وأنا معهم؟! قال: إنّك على خير (لكنّك لست منهم) «3».

ونقل «الحاكم» نفس هذا المعنى بصراحة أكبر في «مستدرك الصحيحين» عن امّ سلمة أنّه صلى الله عليه و آله قال: «إنّك على خير وهؤلاء أهل بيتي» «4».

حديث امّ سلمة هذا ورد في الكثير من الكتب المعروفة، من جملتها ما جاء في «صحيح الترمذي» أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله حينما غطّى عليّاً وفاطمة والحسن والحسين بردائه وقال: «اللهمّ! هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، فقالت امّ سلمة: وأنا معهم يانبي اللَّه؟! فقال النبي صلى الله عليه و آله: أنت على مكانك وأنت على خير» (وإن لم تكوني في زمرة أهل البيت في هذه الآية) «5».

هذه التعابير تبيّن بمجموعها وبكلّ وضوح أنّ الآية لم تشمل أيّاً من زوجات النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، لا «امّ سلمة» ولا «عائشة» ولا سواهما، والذي يدعو للإستغراب هو إصرار البعض من مفسّري أهل السنّة على شمول هذه الآية لزوجات النبي الأكرم صلى الله عليه و آله مع عدم اكتراثهم بكلّ هذه الأحاديث المعروفة المعتبرة.

______________________________

(1) شواهد التنزيل للحسكانى، ج 2، ص 38، ح 683.

(2) صحيح مسلم، ج 4، ص 1883 (باب فضائل أهل بيت النبي) ح 61.

(3) ابن الأثير نقل هذا الحديث في اسد الغابة،

ج 3، ص 413.

(4) مستدرك الصحيحين، ج 2، ص 416 (ط. حيدر آباد دكن) نقلًا عن إحقاق الحقّ، ج 3، ص 518.

(5) صحيح الترمذي، ج 5، كتاب تفسير القرآن، الباب 34، ص 351، ح 320.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 75

والعجيب من الفخر الرازي المعروف بشروحه وتفصيلاته الوافية ودقّة ملاحظاته عند تناول آيات القرآن، هو مروره مرّ الكرام على هذه الآية التي يطول فيها الحديث من كافّة الأبعاد، وتفسيره لها لفظيّاً بسطرين أو ثلاثة لا غير؟!

لماذا يبتلى عالم بمثل هذا التعصّب الذي يغلق عليه أبواب الحقيقة مع ما تميّز به من قابلية واطّلاع واسع؟!

3- الملاحظة الاخرى هي أنّه: قد جاء في الكثير من الأحاديث، والتي اشير إلى البعض منها فيما تقدّم أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وبعد نزول هذه الآية كان ينادي لمدّة أربعين يوماً أو ستّة أشهر أو ثمانية أشهر أو أكثر من ذلك عند صلاة الفجر، أو كلّ الصلوات أو حين مروره ببيت فاطمة الزهراء عليها السلام: الصلاة يا أهل البيت إنّما يريد اللَّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً»، وجاء في البعض منها أنّه صلى الله عليه و آله كان يقول: «السلام عليكم ورحمة اللَّه وبركاته أهل البيت إنّما يريد اللَّه ...» «1».

التفاوت الملحوظ في هذه الروايات من الناحية الزمنية لا أهميّة له أصلًا، إذ من الممكن أنّ «أنساً» قد شهد هذا الموقف ستّة أشهر، وأبا سعيد الخدري ثمانية أشهر وغيرهما أكثر أو أقل، إذ في الواقع كلّ يذكر المدّة التي شهدها هو بنفسه دون أن ينفي ما زاد عليها.

ولكن على أيّة حال فهذه الرواية دليل واضح جدّاً على أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، كان يريد بيان

هذه الحقيقة لعموم المسلمين وترسيخها في أذهانهم، وهي أنّ هذه الأسرة فقط دون سواها هي أهل بيته في هذه الآية.

وإلقاؤه الرداء على هؤلاء النفر من أهل بيته وتشخيصه لهم به، وحجب الآخرين حتّى

______________________________

(1) جاء هذا الحديث في شواهد التنزيل عن أنس بن مالك، ج 2، ص 11، وعن أبو سعيد الخدري في نفس الجزء، ص 28 و 29، وفي الدرّ المنثور في ذيل الآية مورد البحث عن ابن عبّاس و أبو الحمراء.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 76

زوجاته من الدخول تحته إنّما هو لبيان أنّ مصاديق هذه الآية هم أهل الكساء فقط.

نحن لا ندري لو أنّ أحداً أراد تمييز أفراد معدودين من بين جمع كثير، ومخاطبتهم، بحيث لا يعترض عليه أهل الشبهات والحجج، ماذا ينبغي له أن يفعل؟ ألا يكفي لهذا الغرض إلقاء الرداء عليهم، أو مخاطبتهم عند المرور بالقرب من منازلهم لشهور متوالية!

ألا يثير الدهشة والعجب إهمال البعض لهذه الحقائق، والإصرار على توسيع دائرة تلك الفضيلة المهمّة المحدودة بالخمسة أهل الكساء لتشمل غيرهم؟

والملفت للنظر أنّ الحاكم الحسكاني من علماء أهل السنّة المعروفين، قد ذكر أكثر من مائة وثلاثين حديثاً! حول هذا الموضوع.

و «السيّد علوي بن ظاهر الحضرمي» يقول في كتاب «القول الفصل»: «حديث آية التطهير هو من الأحاديث المشهورة المتواترة التي تقبّلتها الامّة الإسلامية .. واعترف بصحّته سبعة عشر من كبار حفّاظ الحديث» «1».

آخر ما يتعلّق بهذا الموضوع، هو أنّ الكثير من الروايات الواردة بهذا الشأن مذكورة في كتاب «فضائل الخمسة من الصحاح الستّة» عن صحيح مسلم، صحيح الترمذي، تفسير الطبري، مستدرك الصحيحين، مسند الإمام أحمد، خصائص النسائي، تاريخ بغداد، مسند أبي داود، اسد الغابة، وكتب اخرى يمكن الرجوع إليها لمزيد من الإطّلاع والتعمّق ولإمكانية

الحكم بشأنها بشكل أفضل «2».

في الآية السابعة نطالع تعبيراً آخر يشير هو الآخر إلى مسألة عصمة الأنبياء أيضاً، وذلك حينما طرد الشيطان من رحمة اللَّه تعالى (وبدأت عداوته مع الإنسان)، إذ يقول: «قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الُمخْلَصِينَ».

______________________________

(1) هذه الأحاديث ذكرها في القول الفصل، ج 2، ص 10 إلى 92، (ص 82) فراجعها.

(2) فضائل الخمسة من الصحاح الستّة، ج 1، ص 270 إلى 289.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 77

هذا التعبير لا ينحصر بالآية المذكورة، بل قد ورد نفس هذا المعنى أيضاً بتفاوت ضئيل: «وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الُمخْلَصِينَ». (الحجر/ 39- 40)

و في الآية الثامنة نرى هذا المعنى أيضاً بشكل آخر حيث يحكي تعالى عن فريق من الأنبياء الكبار: «إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ».

وكما قلنا في خصائص الأنبياء عليهم السلام ف «المخلص» (بكسر اللام) هو الذي يسعى لتصفية قلبه وهي المرحلة الرفيعة من التقوى وطهارة القلب والمرحلة الأرفع والأسمى منها هي «المخلص» (بفتح اللام) وهو يختصّ باولئك الذين طهّرهم اللَّه تعالى من كلّ الشوائب والقبائح، نتيجة سعيهم المتواصل لتهذيب أنفسهم، ولهذا يرتبطون باللَّه تعالى بكلّ وجودهم، وبديهي أنّ الشيطان لا يجد إلى نفوسهم طريقاً أبداً، إذ لا مكان لغير اللَّه في قلوبهم ولذا لا يفكّرون بمن سواه ولا يتمنّون غير رضاه.

ومن المسلّم أنّ صفة كهذه ملازمة لمرتبة العصمة، وذلك لخروجهم عن دائرة طاعة الشيطان، وبالشكل الذي جعله لا يفكّر في صرفهم أبداً، كما أنّهم خالصون للَّه تعالى من ناحية الصفات النفسانية والميول والرغبات، ولهذا السبب لا تدنّسهم الخطيئة ولا يتّبعون الهوى.

ومن البديهي أنّ استثناء الشيطان للانبياء من بين بني آدم، وعدم السعي لإغوائهم، ليس لاحترام خاصّ يكنّه لهم باعتبارهم مخلصين، بل ليأسه وقنوطه ويقينه بعجزه

عن الوسوسة لهم.

و بالرغم من أنّ الآيات الآنفة الذكر لا تشير صراحة إلى الأنبياء أو الأئمّة المعصومين، لكن لفظة «المخلصين» وكيفما فسّرناها تخصّ الأنبياء وأوصياءهم، لعدم وجود أفضل منهم من بين عباد اللَّه، والملفت للنظر أنّ هذا التأييد الإلهي المانع من ارتكاب المعصية وهو السبب في العصمة، والذي يدور حول محور الإخلاص متجسّد في قصّة يوسف أيضاً، يقول

نفحات القرآن، ج 7، ص: 78

تعالى: «كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الُمخْلَصِينَ». (يوسف/ 24)

هذا التعبير يبيّن أنّ من يكون «مخلصاً» يتخلّص من ثورة هوى النفس وطغيانه، والوساوس الشيطانية ببركة الإمدادات الغيبية، وجملة «إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الُمخْلَصِينَ» هي من قبيل القياس منصوص العلّة، الذي يضفي العمومية على مفهوم الآية.

مفهوم عصمة الأنبياء في ظلّ الإخلاص يتّضح من خلال مقاومة يوسف عليه السلام، مع كونه شاباً أعزباً، وصموده أمام أمواج الخطيئة المتلاطمة التي أحاطت بزورق وجوده من كلّ حدبٍ وصوب، وفي ظروف حسّاسة تفوق المتعارف أمام الوساوس الكثيرة، التي أثارتها تلك المرأة الجذّابة، ولذا نجد أنّ لأقطاب المفسّرين عبارات تشير إلى مقام عصمة الأنبياء في ذيل الآيات المذكورة «1».

وفي الآية التاسعة خوطب نبي الإسلام صلى الله عليه و آله ضمن الحديث عن الأنبياء السابقين، كإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وموسى وعيسى، وفريق آخر من الأنبياء الكبار بقوله تعالى: «أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ» «2».

الملفت للنظر أنّها تأمر النبي الأكرم صلى الله عليه و آله بالإقتداء بهدايتهم بلا قيد أو شرط!، فهل يعقل عدم حصول اولئك الأنبياء عليهم السلام على مقام العصمة ثمّ يؤمر نبي الإسلام صلى الله عليه و آله بالإقتداء بهم بلا قيد أو شرط؟

وبعبارة اخرى: في الآية أعلاه تمّ التأكيد أوّلًا على الهداية الإلهيّة لهم، ثمّ

تمّ التفريع على ذلك بالقول: الآن وبعد أن شملتهم الهداية الإلهيّة اقتد بهداهم (تأمّل جيّداً).

ومن المسلّم أنّ المراد، بالهداية الإلهيّة هنا ليس رسم الطريق فحسب، لعدم اختصاصه بالأنبياء فقط بل لشموله لكلّ الناس حتّى الكفّار، وعليه فالهداية المذكورة هي نفس معنى الإيصال إلى المطلوب (وبلوغ المقصود) بعيداً عن أي خطأ وانحراف واشتباه ومعصية.

______________________________

(1) راجع تفسير مجمع البيان للطبرسي؛ تفسير جامع البيان للشيخ الطوسي؛ وتفسير الميزان للعلّامة الطباطبائي؛ تفسير روح البيان للقرطبي؛ وتفسير في ظلال القرآن لسيّد قطب في ذيل الآيات مورد البحث.

(2) يجب ألّا يفوتنا أنّ «الهاء» في لفظة «اقتده» ليست ضميراً بل هاء السكتة التي تلحق الكلام عند الوقوف على الحرف المتحرّك.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 79

يقول المرحوم العلّامة الطباطبائي في تفسير «الميزان»: إنّ هذه الآية خاصّة بالمعصومين.

بديهي أنّ المراد بهداية الأنبياء هي تلك الاصول والمعارف التي بلغوها بأنفسهم، مضافاً إلى اصول تعليماتهم العبادية والسياسية والأخلاقية والتربوية، ولا منافاة لهذا مع نسخ قسم من تفاصيل أحكام شريعتهم، كما أنّ تفسيرهم للهداية بمعنى الإيمان أو الصبر وأمثالهما إنّما هو لاقتناعهم بما ذكره البعض من المصاديق.

واعتقاد البعض بأنّ الآية منسوخة ليس في محلّه، يقوله تعالى «لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً» (المائدة/ 48)

وهذه لأنّ هداية الأنبياء التي تشكّل الاصول العامّة لتعاليمهم غير قابلة للتغيير، ولا تتأثّر بالتغيّرات الجزئية للشرائع الناتجة عن الظروف الزمانية والمكانية، ولذا يقول القرآن على لسان المؤمنين الحقيقيين: «لَانُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ».

(البقرة/ 285)

وخلاصة الكلام هي: أنّ الإقتداء بهُدى الأنبياء السابقين هو نوع من «التحقيق» لا «التقليد» كما يراه البعض، لأنّ التحقيق هو قبول الشي ء بالدليل، ومقام عصمة الأنبياء وصدقهم هو بمثابة الدليل على حقّانية ما يقولونه، ولذا فاستنباط صفات اللَّه تعالى أو تفصيلات

المعاد من القرآن، هو في الحقيقة نوع من التحقيق لا التقليد، وذلك لعدم انحصار الدليل بالعقل، بل هناك الدليل النقلي الثابت عن طريق الوحي والمقبول كالدليل العقلي (تأمّل جيّداً).

الآية العاشرة من آيات البحث إشارة إلى شخص النبي الأكرم صلى الله عليه و آله يقول تعالى: «وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْىٌ يُوحَى .

يستفاد من هذا التعبير بكلّ وضوح أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله لا يكذب ولا يخطأ في كلامه أبداً، ولا سبيل للضلال والإنحراف إليه: «مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى .

نفحات القرآن، ج 7، ص: 80

ولذا- وعلى حدّ قول بعض المفسّرين- يستفاد من هذه الآيات بما لا يدع مجالًا للشكّ، أنّ سنّة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله هي ك «الوحي المنزل» «1».

امّا إلى ماذا يعود الضمير «هو» في جملة «إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْىٌ يُوحَى ؟ الظاهر أنّه يعود على «النطق» المستفاد من جملة «ومَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى ، أي أنّ «كلامه وحي إلهي»، سواء أكان هذا الكلام آيات قرآنية أم أحكام ومواعظ وحكم، وأمثال ذلك، فكلّها تتمتّع بجذور إلهيّة.

وكما يستفاد من الآيات أعلاه أنّ المصدر الرئيسي للضلال والانحراف هو اتّباع هوى النفس، وأنّ من يسيطر على هوى نفسه بشكل تامّ لا يعصي اللَّه تعالى، لأنّ تقواه تحفّظه من الإنحراف لاقترانها بوضوح الرؤية في كافّة المراحل، وحين بلوغ المرحلة السامية، يصل وضوح الرؤية بدوره إلى مرحلة الكمال أيضاً، وبناءً على هذا لا يرتكب ذنباً ولا خطيئة (تأمّل جيّداً).

ثمرة البحث:

ممّا لاشك فيه أن الآيات السابقة لا تتماثل ولا تتشابه في بيان كيفيّة وأبعاد عصمة الأنبياء، فبعضها يعتبرها عصمة من الذنب أو الصيانة من الخطأ فقط، والآخر يعتبرها عموميّة وشموليّة لكلّ

الامور، والبعض تحدثت عن نبي الإسلام صلى الله عليه و آله، والبعض الآخر عن الأنبياء السابقين، بعضها وصفت العصمة بعصمة القول، بينما البعض الآخر اعتبرتها شاملة للفعل أيضاً.

لكنّ مجموع هذه الآيات يثبت هذه الحقيقة، وهي: أنّ الأنبياء منزّهون معصومون من أي ذنب أو خطأ، كما أنّ عصمة أهل بيت النبي الأكرم صلى الله عليه و آله الثابتة بالآيات المذكورة، هي ممّا لا يخفى وهو ما كنّا بصدده.

______________________________

(1) يقول القرطبي في تفسيره، ج 9، ص 6255 وفيها أيضاً دلالة على أنّ السنّة كالوحي المنزل في العمل.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 81

تنزيه الأنبياء عليهم السلام

اشارة

نفحات القرآن، ج 7، ص: 83

تنزيه الأنبياء

اشارة

إن أوّل ما نتناوله في هذا البحث التعابير الواردة في آيات القرآن المجيد، التي توهم لأوّل وهلة أنّها دليل على صدور ذنب أو خطأ من اولئك الأنبياء العظماء في بعض الأحيان.

سنذكر فيما يلي أهمّ الآيات التي تحدّثت حول هذا الموضوع، طبقاً للترتيب التأريخي للأنبياء عليهم السلام.

1- آدم عليه السلام

نقرأ في القرآن الكريم: «وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى . (طه/ 121)

وكذلك في قوله تعالى «وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِىَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً».

(طه/ 115)

لقد نسبت الآية الاولى العصيان والغي إلى آدم، والثانية نسبت إليه النسيان وعدم العزم مع أنّ هذا لا يتناسب مع عصمة الأنبياء وبعيد عنهم كلّ البعد.

الجواب:

هنالك أبحاث متنوّعة للمفسّرين منذ قديم الأيّام وإلى الآن حول الإجابة عن هذا السؤال، لقد ذهب بعض المفسرين- ودون الأخذ بنظر الاعتبار الأدلة العقلية والنقلية- إلى أنّ ما صدر من آدم عليه السلام يُعدُّ من الذنوب الكبيرة، إلّاأنّه يرتبط بالفترة التي سبقت نُبوّته.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 84

وبعضهم حمل هذه المعصية على كونها من الذنوب الصغيرة ولم يعرها أية اهمية.

وبالرغم من الآيات الواردة والمتعلقة بعصمة الأنبياء والمنزلة الرفيعة التي أولاها اللَّه سبحانه وتعالى لهم، وبالأخص لآدم عليه السلام، حيث جعله خليفتهُ وحجّته، إلّاأنّهم لم يذعنوا لمثل هذه الادلة ولم يسلِّموا لها، بل أخذ كل واحد منهم يبتكر حلًا ويذهب مذهباً للخروج من هذه المعضلة، ومن بين هذه التفاسير يمكن الركون إلى ثلاثة آراء باعتبارها الطريق الامثل لحل هذا الاشكال وهي:

أ) كان نهي آدم نهيّاً إختبارياً- مع الأخذ بنظر الاعتبار أنّ آدم كان قد خلق للعيش في الأرض لا الجنّة، وأنّ فترة وجوده في الجنّة كانت فترة اختبار لا تكليف، إذن فأوامر اللَّه ونواهيه هناك كانت لغرض إعداد آدم، بحيث

يتلاءم وحوادث المستقبل فيما يتعلّق بالواجب والحرام.

وبناءً على هذا فقد خالف آدم أمراً إختبارياً فقط لا أمراً واجباً قطعيّاً.

في حديث للإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام وفي معرض ردّه على «علي بن محمّد بن الجهم»، الذي يعدّ من متكلّمي ذلك العصر المعروفين، وكان يعتقد بعدم عصمة الأنبياء استناداً إلى بعض ظواهر الآيات القرآنية، قال عليه السلام له: «ويحك ياعلي اتّق اللَّه ولا تنسب إلى أنبياء اللَّه الفواحش ولا تتأوّل كتاب اللَّه برأيك فإنّ اللَّه عزّوجلّ يقول: «وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ» ثمّ أضاف قائلًا: أمّا قول اللَّه عزّوجلّ في آدم عليه السلام: «وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ، فانّ اللَّه عزّوجلّ خلق آدم حجّته في أرضه وخليفته في بلاده، لم يخلقه للجنّة وكانت المعصية من آدم في الجنّة لا في الأرض، (والجنّة لم تكن دار تكليف بل دار اختبار) لتتمّ مقادير أمر اللَّه عزّوجلّ، فلمّا اهبط إلى الأرض وجعل حجّة اللَّه وخليفته عصم بقوله عزّوجلّ: «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ»» «1».

ب) كان نهي آدم نهياً إرشادياً- يعتقد جمع من المفسرين أنّ أوامر الأنبياء ونواهيهم ومن جملتهم آدم عليه السلام والتي لم تطبّق، كانت ذات جانب إرشادي، مثل أمر الطبيب للمريض

______________________________

(1) بحار الأنوار، ج 11، ص 72.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 85

بتناول الدواء الفلاني، والاجتناب عن الطعام الفلاني غير المناسب، فمتى ما خالف المريض أمر الطبيب فسيضرّ نفسه، لعدم اكتراثه بإرشاد الطبيب وتعليماته.

فمن الممكن هنا عصيان أمر الطبيب ومخالفته، ولكن من المسلّم أنّ هذا سيكون على حساب صحّة المريض، ولا يعني الإستهانة بمقام الطبيب أبداً، وهكذا فقد قال اللَّه تعالى لآدم: لا تأكل من هذه «الشجرة» وإلّا فستطرد من الجنّة

ونعيمها، وتلاقي المشقّة والعذاب: «فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى* إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى وَأَنَّكَ لَاتَظْمَؤُا فِيهَا وَلَا تَضْحَى . (طه/ 117- 119)

وبناءً على هذا فقد خالف آدم نهياً إرشادياً، لا أمراً إلهيّاً واجباً، فواجه المصاعب، كما أنّ التعبير ب «العصيان» لا يخدش في عصمة آدم أبداً، لو أخذنا بنظر الاعتبار القرائن الموجودة في سائر الآيات.

ومن هنا يتّضح أيضاً تفسير جملة «فغوى» في ذيل نفس هذه الآية، وأنّ المراد منها هو حرمانه من نعيم الجنّة، لا «الغواية» التي تعني التصرّفات المنبثقة عن الإعتقادات الخاطئة، أو الامور التي تحول دون بلوغ الإنسان لمراده، وعلى أيّة حال فلو أنّ آدم لم يخالف هذا النهي الإرشادي لمكث في الجنّة فترة أطول.

ج) كان تركاً للأولى هذا الجواب له مؤيّدون أكثر ليس هنا فقط، بل في كلّ الموارد التي ينسب فيها الذنب إلى الأنبياء فإنّها تفسّر بهذه الطريقة.

توضيح ذلك: الذنب والمعصية على نوعين: مطلق، ونسبي، والمراد بالقسم الأوّل هو كلّ تلك الذنوب التي تعدّ ذنباً حين صدورها من أي شخص ولا استثناء فيها أبداً، كأكل المال الحرام والظلم والزنا والكذب.

امّا الذنب النسبي فهو ذلك الذنب الذي يعدّ تصرّفاً غير مرغوب فيه قياساً بمقام وشخصية ومعرفة الأشخاص، وما أكثر ما يعد صدور هذا الشي ء من الآخرين فضيلة فضلًا عن عدم اعتباره عيباً.

فمثلًا الصلاة المناسبة لشخص امّي لا تليق أبداً بعالم عارف له تاريخ علمي طويل، أو

نفحات القرآن، ج 7، ص: 86

أنّ تبرّعاً متواضعاً من عامل بسيط يكلّفه اجرة يومه لمشروع خيري عام كبناء مدرسة أو مستشفى أو مسجد يعدّ في نفسه عملًا خيّراً بل إيثاراً كبيراً، في حين أنّه لو

تبرّع أحد الأثرياء المعروفين بنفس هذا المبلغ، لتعرّض للذمّ والإتّهام بضعف الهمّة والبخل وهذا هو مصداق القول المعروف بين العلماء والفضلاء إنّ: «حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين».

وبناءً على هذا فما يصدر من الأنبياء يسمّى عصياناً لعدم لياقته بمنزلتهم الرفيعة وإيمانهم ومعرفتهم، قد يكون عين «الطاعة» حين صدوره عن غيرهم، فأداء الصلاة بقليل من حضور القلب يعدّ للشخص العادي فضيلة بينما يعدّ ذنباً بالنسبة للنبي أو الإمام (ذنب نسبي لا مطلق).

كلّ التعابير حول معصية الأنبياء وذنوبهم سواء فيما يتعلّق بآدم أو بخاتم الأنبياء عليهما السلام، والتي تلاحظ في الآيات والروايات، يمكن أن تكون إشارة إلى نفس هذا المعنى.

كما ويعبّر أحياناً عن هذا المعنى ب «ترك الأولى»، والمراد به ذلك العمل الذي يكون تركه أولى من فعله، هذا العمل الذي يمكن أن يكون من «المكروهات» أو «المباحات» بل وحتّى «المستحبّات» أيضاً، فالطواف المستحبّ مثلًا، ومع كونه عملًا حسناً مقبولًا، لكن تركه والسعي وراء قضاء حاجة المؤمن أولى وأفضل «كما جاء في الروايات».

الآن لو أنّ أحداً لم يقدم على قضاء حاجة المؤمن، وذهب بدل ذلك للطواف حول بيت اللَّه تعالى، فقد ترك الأولى مع إتيانه بعمل مستحبّ بذاته، ولا يليق هذا الشي ء بأولياء اللَّه وأنبيائه وأئمّة الهدى عليهم السلام، وتوهّم البعض بأنّ ترك الأولى يطلق على الموارد المكروهة فقط، إلّاأنّ هذا الوهم في غير محلّه بل هو خطأ محض. (فتأمّل).

على أيّة حال فمقولة الذنب النسبي وتحت عنوان ترك الأولى يمكن أن يكون جواباً حسناً لكلّ الأسئلة التي تثار حول الآيات والروايات التي نسب فيها الذنب إلى المعصومين.

الملفت للنظر أنّ التعبير ب «المعصية» فيما يتعلّق ب «ترك المستحبّات» قد ورد في الروايات الإسلامية أيضاً، من جملتها الحديث المعتبر عن الإمام

الباقر عليه السلام في حديثه

نفحات القرآن، ج 7، ص: 87

عن النوافل اليومية قال: «إنّما هذا كلّه تطوّع وليس بمفروض إنّ تارك الفريضة كافر وإنّ تارك هذا ليس بكافر ولكنّها معصية» «1».

كما أنّ معنى «العصيان» لغويّاً وكما ذكره الراغب في مفرداته، هو كلّ خروج عن دائرة الطاعة (سواء أكانت هذه الطاعة في الأوامر الوجوبية أو الإستحبابية) «2».

سؤال: يمكن أن يقال هنا: صحيح أنّ للعصيان والذنب مفهوماً واسعاً بحيث يشمل أحياناً ترك المستحبّ والأولى أيضاً، وأنّه يتفاوت بتفاوت الأشخاص، لكن ما هي الحكمة من تكرار اللَّه تعالى التعبير بالمعصية بحقّ أنبيائه المكرّمين في آيات القرآن المجيد؟

جواب هذا السؤال ذكر في حديث لطيف نقله المرحوم الطبرسي في كتاب الإحتجاج عن أمير المؤمنين عليه السلام، وهو حديث طويل جاء في فقرة منه أنّ زنديقاً قال: إنّي أجد اللَّه قد شهر هفوات أنبيائه مثل «وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (فما الحكمة من هذا؟).

فقال الإمام عليه السلام: «وأمّا هفوات الأنبياء عليهم السلام وما بيّنه اللَّه في كتابه و ... فانّ ذلك من أدلّ الدلائل على حكمة اللَّه عزّوجلّ الباهرة وقدرته القاهرة، لأنّه علم أنّ براهين الأنبياء تكبر في صدور اممهم، وأنّ منهم من يتّخذ بعضهم إلهاً، كالذي كان من النصارى في ابن مريم، فذكرها دلالة على تخلّفهم عن الكمال الذي تفرّد به عزّوجلّ» (ولئلّا يراود فكر الوهيتهم ذهن أحد أبداً) «3».

ثمرة البحث:

ما جاء عن آدم وكذلك سائر الأنبياء من أنّهم ارتكبوا الذنب والمعصية، له ثلاثة أجوبة رئيسية تفي بالمطلوب مجتمعة أو منفردة، ولا منافاة بينها في نفس الوقت، أي أنّ هذه التعابير يمكن أن تُشير إلى ترك الأوامر الإختبارية والإرشادية وكذلك ترك الأولى، هذا

______________________________

(1) تهذيب الأحكام (طبقاً لما نقله تفسير نور

الثقلين، ج 3، ص 404، ح 165).

(2) مفردات الراغب، مادّة (عصى).

(3) تفسير نور الثقلين، ج 3، ص 303، ح 173.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 88

بالنسبة لآدم، امّا سائر الأنبياء فيمكن أن تنظر إلى القسمين الأخيرين، أي ترك الأوامر الإرشادية وترك الأولى (تأمّل جيّداً).

2- نوح عليه السلام

تقرأ في قصّة نوح عليه السلام: أنّه حينما بدأ الطوفان بسبب الأمطار الغزيرة المنهمرة من السماء، والمياه المتدفّقة من باطن الأرض، لم تمض مدّة طويلة حتّى أحاط الماء بكلّ مكان، وأنّ نوحاً وأصحابه ركبوا السفينة، وتعرّض إبنه للغرق لتمرّده على أمر أبيه، وعدم إيمانه الذي يعدّ شرطاً لركوب السفينة، فنظر نوح إلى السماء وقال: «رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ». (هود/ 45)

أي قد وعدتني بإنقاذ أهلي، فعاتب اللَّه سبحانه نوح على الفور بخطاب قال فيه: «إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهلِكَ». (هود/ 46)

فَلِمَ تطلب ما ليس لك به علم؟! فاعتذر نوح وقال: «قَالَ رَبِّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِى وَتَرْحَمْنِى أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ». (هود/ 47)

في هذه الآية يعتذر نوح عليه السلام عن طلبه ما ليس له به علم، ويطلب من اللَّه تعالى العفو والرحمة والمغفرة، كما ويقول أيضاً: إن لم تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين.

السؤال هو: كيف تتلاءم هذه المواضيع الثلاثة ومقام عصمة الأنبياء؟

الجواب: يجب أوّلًا التدقيق في نوع الخطأ الذي ارتكبه نوح؟ هل كان ذنباً، أم تصرّفاً في حدّ ترك الأولى؟ طبعاً كان اللَّه تعالى قد حذّر نوحاً من مغبّة الشفاعة للظالمين (المشركين) لأنّهم مغرقون، قال تعالى: «وَلَا تُخَاطِبْنِى فِى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ». (هود/ 37)

ولكن هل أنّ نوحاً كان يعلم بأنّ ابنه من زمرة الكفّار؟، إذ من الممكن وكما احتمله بعض المفسّرين

أنّ الولد كان يخفي حاله عن أبيه، وما أكثر اولئك الأبناء الذين نسمع عنهم أو نراهم يتظاهرون أمام آبائهم بالصلاح، في حين ينتهجون نهجاً آخر في غيابهم.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 89

مضافاً إلى ذلك، وطبقاً للآية «قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ» «1». (هود/ 40)

فقد كان نوح يتصوّر أنّ إبنه سيكون من أهل النجاة، إعتماداً على الوعد الإلهي، ولذا طلب من اللَّه تعالى ذلك في الآيات مورد البحث: «وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِى مِنْ أَهْلِى وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ». (هود/ 45)

في هذه الحادثة لا نشاهد أي مصداق للذنب والمعصية من نوح سوى ترك الأولى، إذ كان ينبغي عليه أن يتحقّق أكثر في حال ولده قبل أن يطلب من اللَّه تعالى نجاته، كما أنّ تعبير نوح بالنسبة لولده حين ناداه وقال له: «يَا بُنَىَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ» (هود/ 42) ولم يقل (من الكافرين) قرينة على أنّ نوحاً لم يكن يعتبر ولده من الكافرين بل معهم.

كما قال البعض أيضاً: إنّ نوحاً كان يعلم بكفر إبنه، لكن حبّه الشديد له (بالإضافة إلى حالة الإضطراب التي أحاطت به عند حدوث الطوفان، والتي كانت تفوق العادة) كان السبب وراء تجاهل نوح لوضع إبنه ولو مؤقتاً للجوء إلى اللَّه تعالى لإنقاذه، لكنّه انتبه بعد الإنذار الإلهي واعتذر لتركه الأولى.

3- إبراهيم عليه السلام

هناك تعابير تبدو عند تفسيرها لأوّل وهلة وكأنّها نوع من الذنب، وردت حول هذا النبي العظيم الذي يتميّز بمكانة خاصّة حتّى من بين الأنبياء عليهم السلام، من حيث الإيمان والإخلاص والإيثار والشجاعة والصبر والإستقامة، نقر أ في القرآن الكريم أنّه القي القبض عليه بعد تحطيمه للأصنام وَمَثُلَ في المحكمة

فسألوه: «قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ»؟

(الانبياء/ 62- 63)

فأجاب: «بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ».

______________________________

(1) يمكن أن يكون هذا التعبير إشارة إلى الآية 37 من نفس سورة هود «عدّة آيات قبل الآية مورد البحث» حيث يقول تعالى: «وَلَا تُخَاطِبْنِى فِى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ» وأنّ واحداً من أجلى مصاديقها يتحقق في زوجة نوح التي التحقت بالكفّار وأنّ نوحاً بدوره لم يتعرّض للحديث عن نجاتها أبداً.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 90

وهنا يرد إشكال وهو: كيف نسب ابراهيم عليه السلام عمله هذا إلى كبير الأصنام، أليس هذا كذباً؟!

وفي نفس هذه الحادثة وعندما طلب منه المشركون الخروج معهم خارج المدينة للإحتفال بعيد الأصنام، إعتذر من الذهاب معهم بقوله: «إِنِّى سَقِيمٌ». (الصافات/ 89)

ومع أنّه لم يكن مريضاً، فكيف يتناسب هذا الكلام مع منزلة عصمته؟ كما نقرأ في القرآن الكريم أنّ إبراهيم يصرّح بأنّه يتمنّى غفران ذنوبه ويقول: «وَالَّذِى أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدِّينِ». (الشعراء/ 82)

ألم يكن هذا الإعتراف دليلًا على صدور الذنب من ذلك النبي العظيم؟

كما وأشكلوا عليه أيضاً أنّه عليه السلام لماذا اتفق موقفه مع عبدة النجوم والقمر والشمس بالرغم من إيمانه الخالص المنزه من أي شائبة من شوائب الشرك حيث قال بمقولتهم «هَذَا رَبِّى». (الأنعام/ 76 و 77 و 78)

هذه هي المواضع الأربعة الواردة في القرآن المجيد والتي أثار كلّ واحد منها بدوره جدلًا حول منزلة وعصمة إبراهيم وتنزيهه من الذنب والمعصية.

الجواب:

ذكر كبار المفسّرين ورواة الحديث ادلة ومواضيع جمّة للإجابة عن هذه الإستفسارات الأربعة، ولكن بعض تلك المطالب ليس لها أسانيد معتبرة، والجواب الذي سنذكره هنا هو أنسب تلك الأجوبة وأكثرها اعتماداً:

أمّا فيما يتعلّق بالسؤال الأوّل، فإنّ إبراهيم لم يقل: إنّ كبير الأصنام

قد فعل هذا، إنّما قال:

«بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ».

هذه العبارة يمكن أن تكون من باب «القضيّة الشرطية»، أي أنّ إبراهيم قد نسب هذا العمل إلى كبيرهم بشرط نطقهم، ولا يخفى عدم وجوب الكذب في هذه القضيّة الشرطية.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 91

هذا هو نفس ما نقل عن الإمام الصادق عليه السلام في حديث أنّه قال: «ما فعله كبيرهم وما كذب إبراهيم، وحينما استفسر السائل عن كيفية ذلك؟ قال عليه السلام قال إبراهيم: (فاسألوهم إن كانوا ينطقون فكبيرهم فعل، وإن لم ينطقوا فلم يفعل كبيرهم شيئاً، فما نطقوا وما كذب إبراهيم)» «1».

كما أنّ نسبة إبراهيم عليه السلام هذا العمل إلى كبير الأصنام إنّما جاء من باب الكناية، التي هي أفضل من التصريح، فلقد أراد أن يوقف عبدة الأصنام على خرافة عقائدهم عن هذا الطريق، ويفهمهم أنّ هذه الأحجار والأخشاب الجامدة عاجزة حتّى عن التفوّه ولو بجملة واحدة وأنّها محتاجة إلى عبدتها، فكيف يمكنها والحالة هذه من حلّ مشاكلهم؟

وبعبارة اخرى، فالكذب إنّما يكون فيما لو لم تكن هناك قرائن تدلّ على أنّ المقصود كناية، وهنا تشير كلّ القرائن إلى أنّ إبراهيم لم يكن جدّياً في كلامه هذا، بل كان يسخر من أفكارهم، وما أكثر أمثال هذه التعابير في المحاورات اليومية، كما لو فرض وقوع سرقة ما في محيط محدود يقطن فيه أشخاص معينين، وعند التحقيق ينفي كلّ منهم هذا الإتّهام عن نفسه، فيقول المحقّق، أنت لم تفعل هذا وذاك لم يفعله و ... حتماً قامت به ملائكة السماء! وبديهي أنّ هذا الكلام لا يعتبر كذباً، بل الهدف منه هو تكذيب أقوالهم الواهية التي لا أساس لها.

هناك احتمال ثالث أيضاً، وهو أنّ جملة «بل فعله» مطلقة،

وهي في الواقع إشارة إلى تحليل منطقي مطابق لعقائد الوثنيين، وهو أنّه: ألا تعتقدون أنّ حادثة تحدث داخل المعبد لا يمكن أن تكون بفعل من خارج المعبد، وذلك لهيمنة الأصنام على كلّ شي ء وكلّ فرد، ومهما كان فهو داخل المعبد، وحيث إنّ كبير الأصنام أكثرهم قوّة ومنعة، بالإضافة إلى وجود الفأس في عنقه (يقال أنّ إبراهيم وضع الفأس على رقبته)، فضلًا عن كونه الصنم الوحيد الذي لم يلحق به أي أذى.

إذن بناءً على هذا فالقرائن تشير إلى أنّه من فعل كبيرهم، وهذا نظير التحاليل التي

______________________________

(1) تفسير نور الثقلين ج 3، ص 434، ح 84؛ بحار الأنوار، ج 11، ص 76، ح 4 (باب عصمة الأنبياء).

نفحات القرآن، ج 7، ص: 92

يستخدمها المحقّقون لمعرفة الجاني عن طريق تتبّع آثاره وبصمات أصابعه، حينما يدخلون في محيط قد وقعت فيه جريمة، وكما قلنا فإنّ هذا التحليل كان مطابقاً لعقائد الوثنيين لغرض إدانتهم بما يعتقدون.

وفيما يتعلّق بالآية الثانية فلا دليل أصلًا على أنّ إبراهيم عليه السلام لم يكن مريضاً حقّاً، فهناك علّة في بدنه، غاية الأمر أنّها لم تكن بتلك الخطورة التي تقعده عن نشاطه البدني بالمرّة، وتستفحل عليه بحيث تمنعه حتّى عن تحطيم الأصنام، وما أكثر المرضى المشغولين بأعمالهم طول النهار، خصوصاً تلك التي تبعث على ترسيخ العقيدة كتحطيم الأصنام لبطل التوحيد إبراهيم! هذا أوّلًا.

وثانياً مع أنّ «السُقم» و «السَقم» هو المرض المختصّ بالبدن، لكنّه قد يكون في النفس أيضاً كما صرّح به البعض من أصحاب اللغة، وبديهي أنّ روح إبراهيم كانت متعبة وكالمريضة في ذلك الجو الملي ء بالشرك، إذن فقوله انّي سقيم إشارة إلى الجانب النفسي.

ثمّ إنّ الأمراض النفسية حين تشتدّ وطئتها تظهر مضاعفاتها السلبية حتّى على البدن

أيضاً، وقد أصبحت هذه المسألة اليوم من المسلّمات، والقرآن الكريم أيضاً يخاطب النبي الأكرم صلى الله عليه و آله: «فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً».

(الكهف/ 6)

كما أنّ بعض المفسّرين قال: إنّ لإبراهيم عليه السلام مرضاً (كالحمى المزمنة) ينتابه بين الفينة والاخرى، وأنّ مراده من جملة، (إنّي سقيم) هو اقتراب زمن هذا المرض فانا معذور من مرافقتكم، كما أنّ الجملة التي قبلها: «فَنَظَرَ نَظْرَةً فِى النُّجُومِ» (الصافات/ 88) دليل على هذا المدّعى، لأنّ النظر إلى النجوم إنّما يكون لحساب الوقت أي للوقوف على زمن ظهور ذلك المرض.

وفيما يتعلّق بالآية الثالثة، فالجواب هو نفس ما تقدّم تفصيله في الآيات المتعلّقة بآدم عليه السلام، وهو أنّ مراد إبراهيم من «الخطيئة» هو «الذنب النسبي» و «ترك الأولى» و «حسنات الأبرار سيّئات المقربين» «1».

______________________________

(1) مع أنّ «الخطيئة» مأخوذة من مادّة «الخطأ» والتي تعني في الأصل الزلّات الصادرة من الإنسان لكنّها اتّسعت تدريجيّاً لتطلق على كلّ ذنب يشمل العمد وغيره، واستعمالها في الذنب غير العمد واسع جدّاً، لكن «الإثم» يطلق على الذنوب العمدية، وهو يعني في الأصل: الشي ء الذي يثني الإنسان عن عزمه، وحيث إنّ الذنب يحول دون بلوغ الإنسان للمنزلة الرفيعة ويمنع عنه الكثير من الخيرات والبركات فقد سمّى «إثماً».

نفحات القرآن، ج 7، ص: 93

لكن ما هو «ترك الأولى» بالنسبة لإبراهيم ياترى؟ قال البعض: إنّ المراد به هو كلّ تلك الحالات التي تتسبّب في غفلة الإنسان عن اللَّه تعالى بأي نحو كان، كالإشتغال بشؤون الحياة مثل الأكل والشرب وأمثالها التي يعتبرها أولياء اللَّه ذنباً لغفلتهم عن اللَّه تعالى ولو بهذه الدرجة «1».

وفيما يتعلّق بالآية الرابعة، أي إشارة إبراهيم إلى النجم والقمر والشمس، ووصفه إيّاها «هذا ربّي»

فللمفسّرين فيه أقوال وآراء كثيرة أيضاً، أقواها أن نقول: إنّ إبراهيم كان في مقام الحوار والاستدلال مع المشركين من عبدة النجم والقمر والشمس (بقرينة الآيتين اللتين تحفّان بهذه الآية، واللتين تتعرّضان لحوار إبراهيم واحتجاجه على الوثنيين).

وبناءً على هذا فقد وقف إبراهيم عليه السلام بوجه هذه المجاميع الثلاث كلّ على حدة، إذ وافقهم على آرائهم في أوّل الأمر، وعلى سبيل الفرض لحين أُفول هذه الكواكب السماوية لكي يتبيّن لهم خطأهم، بالضبط مثلما نواجه القائلين بسكون الأرض وحركة الشمس حول الأرض فنقول لهم حسناً، كما تقولون، لكن هل تعلمون أيّة دائرة عظيمة يستلزمها كلامكم هذا لكي تتمكن الشمس التي تفصلها عن الأرض تلك المسافة البعيدة، وأي سرعة عظيمة تحتاج للدوران حول الأرض دورةً كاملة كلّ 24 ساعة، وثبوت هذه السرعة لمثل هذا الجرم السماوي من المستحيلات، إذن، يتّضح من ذلك بطلان فرضيتكم، (فتأمّل جيّداً).

هذا هو أحد أفضل الطرق التي يمكن استخدامها لإبطال نظريات الخصم، أي الوقوف معه أوّلًا، وموافقته (على سبيل الفرض)، دون إثارة روح التعصب والعناد عنده، ثمّ إيقافه على نتائجها الباطلة، كما قال البعض أيضاً: إنّ استخدام جملة «هذا ربّي» أمام هؤلاء القوم كان بمثابة «استفهام»، ذلك الإستفهام الذي يعدّ مقدّمة لإبطال نظرياتهم عند غروب وافول تلك الكواكب.

______________________________

(1) تفسير الميزان، ج 15، ص 285.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 94

أمّا القول: إنّ إبراهيم عليه السلام قد نطق بهذه الجمل للتحقيق بنفسه ولا مانع من قبول الإنسان لمختلف الآراء مبدئيّاً واختبارها، فلا يبدو صحيحاً لأنّ جملة: «يَا قَوْمِ إِنِّى بَرِى ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ» (الانعام/ 78) دليل على أنّه كان بمثابة الإحتجاج على هؤلاء المشركين لا التحقيق بنفسه.

وقول البعض تأييداً لهذا الإدّعاء: إنّ إبراهيم لم ير السماء إلى تلك اللحظة

بصورة جيّدة، لأنّ والدته كانت قد خبأته في غار خارج المدينة خوفاً من عيون نمرود، فيبدو كلاماً بعيداً جدّاً، إذ كيف يعقل أن يبقى إبراهيم في الغار طوال سنين عديدة منذ طفولته وحتّى ريعان شبابه ولا يخرج منه ولو لمرّة واحدة، لا ليلًا ولا نهاراً؟! هذا الكلام أقرب إلى الاسطورة من الواقع «1».

فضلًا عن أنّ هذه الآيات قد وردت على الفور، بعد الآية التي تتعرّض للحوار الجدّي لإبراهيم مع آزر حول مسألة تسفيه اعتقاده بالأصنام، أي أنّ إبراهيم عليه السلام كان قد بلغ مقام التوحيد الرفيع واليقين الراسخ قبل ذلك، وأنّ اللَّه تعالى كان قد أطلعه على ملكوت السماوات، وقد بدأ إبراهيم عليه السلام بعده بدعوة الآخرين لا التحقيق لنفسه.

الملاحظة الجديره بالاهتمام هي: إنّ إبراهيم ولبيان بطلان ربوبية هذه الكواكب الثلاثة، أورد دليلًا يعدّ من أدقّ البراهين الفلسفية، في الوقت الذي يسهل على الجميع استيعابه، فيقول في هذا الدليل: إنّ «الربّ» يجب أن يبقى على اتّصال دائم بمخلوقاته، وبناءً على هذا فالموجود الذي يغرب فينقطع نوره وبركاته لساعات طوال، لا يمكن أن يكون ربّاً لهذه الموجودات.

فضلًا عن أنّ الشروق والغروب المستمرين لهذه الأجرام السماوية، دليل على خضوعها لقانون ما، وكيف يتسنّى للموجود الواقع في قبضة القوانين الكونية، والطبيعية أن يكون

______________________________

(1) وقد جاء ذلك في عيون أخبار الرضا عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام أنّ إبراهيم خرج من مخبئه والتقى بثلاث طوائف من المشركين (تفسير نور الثقلين، ج 1، ص 735).

يعدّ في ذاته دليلًا على خلاف هذا الإدّعاء فضلًا عن دعمه له «تأمّل جيّداً».

نفحات القرآن، ج 7، ص: 95

حاكماً على هذا العالم وخالقاً له؟!

بالإضافة إلى أنّ «الحركة» بذاتها موجود «حادث»، وبناءً على هذا فالشي ء

المتحرّك مخلوق وحادث حتماً، ومثل هذا لا يمكن أن يكون موجوداً أزليّاً أبديّاً (هذا هو نفس الشي ء الوارد في البراهين الفلسفية تحت عنوان «العالم متغيّر» و «كلّ متغيّر حادث»).

وبناءً على هذا فقد كان لحوار إبراهيم ثلاثة مفاهيم مختلفة ومثيرة، ولا يمكن الإستغناء عنها لإبطال الوهية النجم والقمر والشمس.

4- يوسف عليه السلام

امّا في شأن النبي يوسف عليه السلام فنحن نواجه بعض الآيات التي تبدو لأوّل وهلة غير منسجمه مع منزلة عصمته، من أهمّها ماجاء في القرآن الكريم: «وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَآ بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الُمخْلَصِينَ».

(يوسف/ 24)

إذ يتصوّر القارى ء في البداية أنّ هذه الآية تجعل من يوسف شريكاً لزليخا في قصد المعصية.

الجواب:

يكفي التمعّن في نصّ هذه الآية لرفع هذا الالتباس، لأنّ القرآن يقول: «لَوْلَا أَنْ رَآ بُرْهَانَ رَبِّهِ» ومفهوم هذا الكلام هو بالضبط أنّه لم يقصد المعصية لأنّه رأى برهان ربّه.

ما هو المراد بهذا البرهان؟ (علماً أنّ البرهان يعني كلّ دليل قوي ومحكم يتبنّى بيان الحقيقة وإيضاحها، وهو مأخوذ من مادّة «بره» التي تعني: إبيضّ).

للمفسّرين هنا احتمالات متعدّدة، أفضلها هو القول: إنّ المراد من برهان الربّ، هو

نفحات القرآن، ج 7، ص: 96

اطّلاعه على أسماء اللَّه تعالى وصفاته وكونه تعالى عالماً قادراً سميعاً بصيراً.

أو بعبارة اخرى: المراد بالبرهان هو الإمدادات الإلهيّة، والتأييدات الربّانية التي تسرع لنجدة المؤمنين والمتّقين في اللحظات الحرجة والمصيرية، إذ تمدّهم بالقوّة أمام جنود الشيطان ووساوس النفس.

الدليل على هذا الكلام هو ما جاء في آخر الآية حيث يقول تعالى: «كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الُمخْلَصِينَ».

يتّضح من هذا الكلام أنّ عباد اللَّه المخلصين مشمولون بالألطاف والعنايات الإلهيّة الخاصّة، في مثل هذه اللحظات الحسّاسة، والتي هي

في الواقع ثمن إيمانهم الخالص وأعمالهم الطاهرة.

وهنا نقل بعض الغافلين خرافات تحت عنوان «الروايات» لا تكاد تخرج عن حدّ الإسرائيليات، وذهبوا بيوسف ظلماً إلى حافّة الهاوية والإقدام على ذلك العمل الفاحش إلى أنّ منعه جبرئيل من هذا العمل بضربه على صدره! أو رؤيته لشبح أبيه يعقوب وهو يعضّ على يديه لهذا العمل!.

وهذا كلام لا علاقة له بالقرآن مطلقاً، وخرافات لا تستحقّ الإجابة عنها، وذيل الآية التي تعتبره من عباد اللَّه المخلصين خير دليل على بطلان مثل هذه الإحتمالات القبيحة، وذلك طبقاً لآيات القرآن التي تصرح بأن لا سبيل للشيطان إلى عباد اللَّه المخلصين.

أما الاشكال الثاني الذي اثير حول يوسف عليه السلام ومقام عصمته فهو ما ورد في الآية السبعين من سورة يوسف عليه السلام، والتي جاء فيها أنّه حينما شدّ رحال اخوته وضع السقاية، أي الاناء الذي يشرب فيه أو المكيال الذي يكيل فيه في رحل أخيه، ثمّ أذّن مؤذّن: «فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِى رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ».

(يوسف/ 70)

فهل يجوز أن يقوم الإنسان بعمل ما، ويتّهم بريئاً وخاصّة إذا كان ذلك البري ء أخاه؟

وهل يعقل أنّ المؤذّن قد نسب هذه النسبة (نسبة السرقة) إلى اخوة يوسف بدون علم يوسف، واطّلاعه؟ ولماذا رضي النبي المعصوم باتّهام الأبرياء بمثل هذه التهمة؟!

نفحات القرآن، ج 7، ص: 97

وحاولوا أحياناً توسيع دائرة الإشكال فقالوا: لماذا لم يكشف يوسف عليه السلام النقاب عمّا جرى له بسرعة ليطّلع اخوته على حقيقة الأمر وليوصلوا خبر حياته وعظمة مكانته إلى أبيه الشيخ؟، ليطمئن ويتخلّص من ألم الفراق الذي أضناه كثيراً، فهل أنّ مثل هذا التصرّف يتناسب مع الوضع الذي كان يعيشه ذلك الأب المسنّ؟ ثمّ ما هي عقوبة السارق

في ذلك الزمن ليبقى أخو يوسف عندهم كرهينة بتهمة السرقة؟ هل كان هذا حكماً إلهيّاً، أم سنّة أهل مصر الخرافية؟ لو كانت سنّة أهل مصر، فلماذا وافق يوسف على تطبيق هذا الحكم الجائر بحقّ أخيه؟

الجواب:

من الممكن العثور على أجوبة هذه الأسئلة بشكل واضح، من خلال الآيات الواردة في سورة يوسف وقرائن اخرى.

أوّلًا: يبدو حسب الظاهر أنّ هذا الأمر قد تمّ بموافقة «بنيامين نفسه» (الأخ الأصغرليوسف)، إذ إنّ آيات هذه السورة تشهد كاملًا على أنّ يوسف قد عرّف نفسه لبنيامين قبل ذلك، فعلم بنيامين أنّ هذه الخطّة قد وضعها يوسف للإحتفاظ به عنده فوافق على هذه الخطة.

ثانياً: إنّ القائل: «إنّكم لسارقون» مجهول؟ غاية ما نعرفه عنه أنّه كان من حاشية يوسف عليه السلام، وحينما وجدوا الوعاء المخصوص داخل متاع أحد اخوة يوسف تيقّنوا من كونه هو السارق، وبديهي أنّ ارتكاب عمل ما من قبل أحد الأفراد في مجموعة واحدة، يُعرِّض كلّ أعضاء تلك المجموعة لخطاب: إنّكم قمتم بهذا العمل.

على أيّة حال فهذا الكلام والتشخيص إنّما يتعلّق بحاشية يوسف ولاعلاقة له به، بل الشي ء الوحيد الذي قام به يوسف هو وضع الوعاء في رحل أخيه لإثارة ذلك الإتّهام، الذي كان السبب وراء خلاص وراحة أخيه الذي وافق على ذلك، كما تقدّم.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 98

ثالثاً: هذا المخطّط بمجموعه سواء فيما يتعلّق بالاخوّة أو الأب، كان إتماماً لاختبار إلهي لهم، وبعبارة اخرى كان يوسف طبقاً للأمر الإلهي الذي تلقّاه عن طريق الوحي سبباً لإختبار مقاومة يعقوب مقابل فقد ولده الثاني الذي كان ولهاناً بحبّه، ولتتمّ من خلال ذلك دائرة تكامله ومكافأته وثوابه، كما تمّ هنا وضع الاخوّة ثانية في بودقة الاختبار، لمعرفة مدى استعدادهم للوفاء بالعهد الذي عقدوه

مع أبيهم في عدم ترك «بنيامين» وحيداً؟

وليُعرف من جهة اخرى الأشخاص الذين قالوا: «إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ». (يوسف/ 77)

وأراد اخوته من هذا الكلام يوسف عليه السلام.

الخلاصة: إنّ قصّة يوسف عليه السلام مليئة بالإختبارات، سواء فيما يتعلّق بيوسف، أو أبيه، أو اخوته، وفي الآية أدناه إشارة إلى هذا القول:

«كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِى دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ». (يوسف/ 76)

كما أنّ هذا التعبير يكشف النقاب عن السؤال الأخير أيضاً ويجيب عنه، وهو أنّ تطبيق خطّة «عبودية السارق» كان أمراً إلهيّاً إلى يوسف (لإكمال الإمتحان المذكور) في خصوص هذا المورد «تأمّل جيّداً»، وبناءً على هذا فلا نجد في البين إشكالًا يمكن توجيهه إلى هذا النبي العظيم فيما يتعلّق بمنزلة العصمة.

5- موسى عليه السلام

هنالك آيات قرآنية في مختلف السور مرتبطة بمنزلة عصمة موسى عليه السلام، وقد تعرّضت للإستفهام أيضاً:

نقرأ في الآية 16 من سورة القصص، أنّ موسى عليه السلام وبعد صراعه مع أحد أعدائه (أتباع فرعون)، الذي كان في شجار مع رجل من بني إسرائيل، وتوجيه ضربة قاضية إليه أردته

نفحات القرآن، ج 7، ص: 99

قتيلًا، توجّه إلى اللَّه تعالى وقال: «قَالَ رَبِّ إِنِّى ظَلَمْتُ نَفْسِى فَاغْفِرْ لِى فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ».

يا تُرى «ألم يكن التعبير بأنّي ظلمت نفسي وطلب العفو والمغفرة من اللَّه تعالى، دليلًا على ارتكاب الذنب»؟

ثمّ إنّه ورد في الآية التي قبلها أنّ موسى وبعد قتله لعدوّه قال: «هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ».

(القصص/ 15)

وبعد هذه الحادثة وحينما بلغ موسى مرتبة النبوّة، وجاء إلى فرعون يدعوه إلى اللَّه، عاتبه فرعون وقال: «وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِى فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ* قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ». (الشعراء/ 19-

20)

صحيح أنّ موسى لم يكن قد بلغ مرتبة النبوّة في ذلك الوقت، ولكن نظراً لضرورة تمتّع الأنبياء بدرجة العصمة حتّى قبل النبوّة، فالتعبير ب «الضالّين» يبدو غير مناسب هنا بعض الشي ء.

الجواب:

أوّلًا، وقبل كلّ شي ء يجب البحث في ماهية هذا القتل الذي لم يكن بقصد وسبق إصرار، وهو ممّا يصطلح عليه بقتل الخطأ، هل كان جائزاً أم لا؟!

لا شكّ أنّ هذا العمل لم يكن معصية، مع الأخذ بنظر الإعتبار ذلك الموقف المعادي الذي كان يتّخذه قوم فرعون الظالمين من بني إسرائيل، حتّى أنّهم كانوا يذبحون أبناءهم الرضّع ويأخذون بناتهم للخدمة، بل كانوا قد أذاقوهم أقسى أنواع الظلم والعذاب، حتّى أصبحوا مصداقاً للتعبير القرآني: «مفسد في الأرض»، خصوصاً أنّ موسى كان في مقام نصرة المظلوم والدفاع عنه، إذن فجواز قتل هذا الفرعوني الظالم هو ممّا لا شكّ فيه على أقلّ تقدير، فكيف يمكن الخدش في درجة عصمة موسى في مثل هذه الحال.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 100

نفحات القرآن ج 7 149

إذن، فالذي يحتمل كونه مخالفاً للوجدان يكمن حتماً في ترك الأولى المتجسّد في كيفية تصرّف موسى (لا أصل تصرّفه).

ويبدو أنّ مراد موسى عليه السلام من: «ظلمت نفسي» هو الوقوع في المشقّة، باعتبار أنّ قتله لأحد الأقباط ليس بتلك السهولة التي يتناساها أتباع فرعون، ولا يخفى أنّ ترك الأولى يعني العمل المباح ذاتاً، إلّاأنّه يَحرم صاحبه من العمل الأفضل.

وجملة: «هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ» إشارة إلى أصل نزاع القبطي والسبتي (الفرعوني والاسرائيلي)، أي أنّ نزاعهم الأعمى التافه هذا هو من عمل الشيطان.

إذن، فطلب المغفرة من اللَّه إنّما هو لتركه الأولى، وقد ورد نظيره في القرآن الكريم بحقّ آدم وحواء أيضاً، حيث انّهما قد أوقعا نفسيهما في المشقّة وذلك بتركهما

للأولى، وأكلهما من الشجرة الممنوعة، فطلبوا المغفرة لذلك «قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ». (الأعراف/ 23)

امّا التعبير ب «الضالّين» المأخوذ من مادّة «الضلال» التي تعني في الأصل ترك الطريق السوي، فله معنى واسع ولا ينحصر بمعنى الإعراض عن الدين والحقّ فقط، بل يصدق بحقّ شخص كموسى عليه السلام الذي عرض حياته للخطر بقتله لذلك الفرعوني أيضاً، وبعبارة اخرى فقد ترك طريق السلامة، وسلك طريق ذات الشوكة، ولذا لم يتمكّن من البقاء في مصر بعد تلك الحادثة فغدى مشرّداً في البوادي والجبال إلى أن وصل أرض «مدين»، وشملته الألطاف الإلهيّة في خاتمة المطاف، حيث عاش هناك ولعدّة سنين وتربى على يد شعيب عليه السلام، وتهيّأ لتحمّل مسؤولية الرسالة.

لا يخفى أنّ البعض يعتقد بأنّ معنى «الضلال» هنا هو عدم الإطّلاع، أي لم أعلم بأنّ تلك الضربة ستقضي على الرجل، وبناءً على هذا فالقتل المذكور يعد مصداقاً لقتل الخطأ لا العمد، لكن المعنى الأوّل يبدو أنسب، رغم أنّ فرعون قد يفهم من كلام موسى عليه السلام شيئاً آخر، ولذا اقتنع بذلك ولم يعلّق عليه بشي ء.

ثانياً في الآية 143 من سورة الأعراف تستوقفنا هذه الحادثة، وهي أنّ موسى عليه السلام

نفحات القرآن، ج 7، ص: 101

طلب من اللَّه تعالى أن ينظر إليه ببصره وسمع الجواب: إنّك لن تراني أبداً!

«وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِى» وفي هذه الأثناء جاءه الأمر بالنظر إلى الجبل: «انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِى فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ». (الأعراف/ 143)

من هنا يقال:

أوّلًا: لماذا طلب موسى مثل

هذا الطلب من اللَّه تعالى مع كونه يتمتع بمنزلة رفيعة في المعرفة والإيمان؟

ثانياً: لابدّ وأن صدرت منه مخالفة ليبتلى بالصعقة ويغمى عليه؟

ثالثاً: جملة «تُبت إليك» تظهر أنّه تاب من عمل سي ء قام به.

و للمفسّرين هنا أجوبة متنوّعة أيضاً، أجلاها هي: إنّ آيات القرآن تبيّن بكلّ وضوح أنّ ذلك الطلب لم يصدر من موسى عليه السلام، بل من بني إسرائيل الذين ألحّوا عليه ليُريهم اللَّه تعالى:

«وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ».

(البقرة/ 55)

بل الآيات الاخرى أيضاً تبيّن أنّ موسى كان مأموراً بأخذ جمع من أشراف بني إسرائيل معه إلى جبل الطور لتكرار طلبهم هناك «حتّى يقفوا على الجواب بشكل عملي»، ويشير الى ما تقدّم ما أطلق على هذه الحادثة، اسم «ميقاتنا» في الآية الآنفة الذكر وكذلك في الآية «وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّاىَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِىَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِى مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ». (الأعراف/ 155)

وبناءً على هذا فما قاله موسى عليه السلام كان بأمر وتكليف من اللَّه تعالى، كما أنّه ليس لنزول الصاعقة أيّة صفة جزائية، بل كان الهدف إيقاف عامّة بني إسرائيل على هذه الحقيقة، وليبين لهم بأنهم عاجزون عن رؤية شرارة صغيرة من قدرته تعالى بحيث تسقطون على الأرض

نفحات القرآن، ج 7، ص: 102

فيغمى على البعض منكم ويصعق البعض الآخر، فكيف والحالة هذه تطلبون رؤية ذاته تعالى بعظمتها؟

أمّا جملة «انّي تُبت» فقد كانت من جانب بني إسرائيل، كما أنّ جملة «رَبِّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ» كانت من قبلهم أيضاً.

يستفاد من عدّة آيات من

سورة الكهف أنّ موسى عليه السلام ابتلي بالنسيان، فهو تارةً يقول:

«فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِى الْبَحْرِ سَرَباً». (الكهف/ 61)

إذن فلقد وجد النسيان طريقه إليهما.

وفي آيتين بعدها ينقل عن صاحب موسى عليه السلام: «فَإِنِّى نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ». (الكهف/ 63)

فلو كان صاحبه وهو يوشع بن نون- كما هو معروف بين أقطاب المفسّرين- وكان في تلك الحالة نبيّاً، فسيثبت جواز النسيان للأنبياء.

كما نقرأ في عدّة آيات بعدها وعلى لسان موسى عليه السلام، أنّه حينما التقى بذلك الرجل الإلهي «الخضر» تعهّد بألّا يسأله عن أسرار ما قام به إلى أن يبيّنها هو بنفسه، لكن موسى عليه السلام نسي ذلك في أوّل مرّة، ولذا اعترض على الخضر لخرقه تلك السفينة السالمة، وحينما ذكّره الخضر بالعهد قال: «قَالَ لَاتُؤَاخِذْنِى بِمَا نَسِيتُ». (الكهف/ 73)

كما تكرّر هذا الشي ء ثانية وثالثة أيضاً.

ألّا يستفاد من مجموع هذه الآيات إمكان نسبة النسيان للأنبياء؟! أوليس الصيانه عن ارتكاب الخطأ والنسيان أحد فروع العصمة؟

الجواب:

لقد سلك المفسّرون طرقاً شتّى للإجابة عن هذا السؤال: إذ قال البعض: إنّ «النسيان» يعني تارةً ترك الشي ء وإن لم يكن منسياً، كما نقرأ في قصّة آدم: «وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِىَ ...». (طه/ 115)

نفحات القرآن، ج 7، ص: 103

من المسلّم أنّ آدم لم ينس العهد الإلهي فيما يتعلّق بالإجتناب عن الأكل من الشجرة الممنوعة، لكن نظراً لعدم اهتمامه بذلك العهد فقد عبّر عنه بالنسيان.

وقال البعض أيضاً: إنّ «الناسي» هو في الحقيقة صاحب موسى عليه السلام وليس موسى عليه السلام، والناسي لم يكن نبيّاً، إذ لم يثبت ذلك فيما لو اقتصرنا على الآيات القرآنية على أقلّ تقدير، فنحن نقرأ في الآيات مورد البحث أنّ صاحب

موسى عليه السلام قد شاهد سقوط الحوت في الماء واستعادتها للحياة والحركة، وقرّر إخبار موسى عليه السلام بذلك لكنّه نسي، إذن فالناسي هو صاحب موسى لا غيره باعتباره الشاهد الوحيد لهذه الحادثة، والنسبة إليهما في جملة «نسيا» هي من قبيل نسبة عمل الفرد إلى الجماعة وهي شائعة الإستعمال.

ولو قيل: كيف يعقل إيداع مسألة بكلّ هذه الأهميّة في زاوية النسيان؟ لقلنا: إنّ صاحب موسى عليه السلام كان قد شاهد معجزات أهمّ من هذه، فضلًا عن كونهما في هذا السفر يطلبان هدفاً أهمّ، فنسيان الحوت بسبب هذا الهدف لا يدعو للعجب.

ونسبة النسيان إلى الشيطان، قد تكون لوجود علاقة بين حادثة إحياء السمكة ومسألة العثور على ذلك الرجل العالم، الذي كان من المقرّر أن يستفيد موسى عليه السلام من علمه، وحيث إنّ عمل الشيطان هو الإغواء والحؤول دون بلوغ بني الإنسان أهدافهم المقدّسة، أو تأخيرهم عنها على أقلّ تقدير، فقد قذف النسيان في ذهن «صاحب موسى».

جاء في بعض الروايات عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله ما مضمونه: إنّ موسى كان نائماً حين انسابت الحوت وسقطت في البحر وذهبت في سبيلها، وأنّ صاحبه «الذي كان يشاهد هذا الموقف» لم يرغب في إيقاظه وإخباره بذلك، كما أنّه نسي أن يخبره بعد استيقاظه أيضاً ولذلك فقد واصلوا مسيرهم يوماً وليلة آخرين، ثمّ تذكّر هذا الرجل الحادثة وقصّها على موسى عليه السلام فاضطرّا للرجوع إلى مكانهما الأوّل، الذي سقطت فيه السمكة في الماء «1».

كما قال البعض أيضاً: إنّ الأنبياء معصومون من النسيان المرتبط بدعوتهم، دون ما له علاقة بأمر عادي يومي، فالنسيان أمر عادي لا يرتبط من قريب أو بعيد، بمسألة الوحي

______________________________

(1) تفسير المراغي، ج 15، ص 174.

نفحات القرآن،

ج 7، ص: 104

والنبوّة والتربية والتعليم والتبليغ، بل إنّ عدم ترابطهما أمر واضح للجميع ولا يخدش هذا في مقام عصمة الأنبياء، والنسيان الوارد في الآيات المذكورة هو من هذا القبيل.

يقول العالم الكبير المرحوم السيّد المرتضى رحمه الله: إنّ هناك ثلاثة أوجه فيما يتعلّق بقول موسى للخضر: «لَاتُؤَاخِذْنِى بِمَا نَسِيتُ»:

الأوّل: النسيان بمعناه الحقيقي المتعارف، ولا عجب أن ينسى موسى مثل هذا العهد خلال هذه الفترة القصيرة، لانشغاله فكريّاً (بمسائل أهمّ).

الثاني: أنّ مراده هو أن لا تؤاخذني على ما تركته (أي أنّ موسى كان قد ترك العهد عمداً، ومعلوم أنّه كان مشروطاً، أي لو شئت البقاء معي فلا تسألني حتّى اوضّح لك بنفسي).

الثالث: مراد موسى هو أن لا تؤاخذني على عمل شبيه بالنسيان.

ثمّ يضيف قائلًا: ولا إشكال لو حملنا الجملة على النسيان غير الحقيقي، وإلّا لو حملناه على النسيان الحقيقي فتعليله أنّ النسيان بهذا المعنى لا يجوز بحقّ الأنبياء، في بيان الامور الإلهيّة، أو التشريعية، أو الخارجة عن المتعارف، ولا مانع لما خرج عن نطاق هذه الدائرة، كما لو نسي النبي طعامه، أو شرابه لكن لا بتلك الدرجة والتكرار الزائدين عن الحدّ لاستحالة مثل هذا الشي ء في حقّه.

الآية الاخرى المتعلّقة بأعمال هذا النبي العظيم والتي دار حولها النقاش وردت في قوله تعالى: «وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِى مِنْ بَعْدِى أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِى وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِى فَلَا تُشْمِتْ بِىَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ* قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِى وَلِأَخِى وَأَدْخِلْنَا فِى رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ».

(الأعراف/ 150- 151)

وهنا ترد عدة علامات للإستفهام:

أوّلًا: لماذا ألقى موسى بالألواح المكتوب فيها احكام اللَّه وآيات التوراة

على الأرض؟

ثانياً: لماذا أبدى ردّ الفعل الشديد تجاه أخيه الذي لم يكن قد ارتكب إثماً؟

نفحات القرآن، ج 7، ص: 105

ثالثا: لماذا طلب العفو والمغفرة لنفسه ولأخيه؟!

لكن لو تأمّلنا في تلك الحادثة التي واجهها هذا النبي العظيم بعد رجوعه من ميقات ربّه، لسلَّمنا بصحة وضرورة تصرفه هذا.

فلقد قضى موسى سنوات طويلة مليئة بالمشقّة، لزرع بذرة «التوحيد» في قلوب «بني إسرائيل» القاسية، وذهب إلى مكان الوحي لميقات ربّه حينما نبتت تلك البذرة على أمل نموّها، لكنّه حينما رجع لاحظ أنّ كل جهوده ذهبت أدراج الرياح وقد استسلم الأكثرية الساحقة من بني إسرائيل لوساوس «السامري» وسجدوا للعجل! فضلًا عن إحاطة فتنة الوثنية والشرك بكلّ شي ء وانطفاء نور الإيمان والتوحيد.

وهنا استغرب موسى كثيراً وغضب غضباً شديداً، وكان غضبه للَّه طبعاً، هذا من جهة.

ومن جهة اخرى كان لابدّ له من مواجهة ماحدث بشدة، حيث تعدّ أقسى حادثة في حياة موسى عليه السلام، وذلك ليقف بنو إسرائيل على خطورة الموقف وقبح عملهم، وبالنتيجة تزال كلّ آثار الشرك والوثنية من قلوبهم، وإلّا لاحتمل بقاء آثار الشرك في قلوبهم وقلوب الأجيال القادمة أيضاً، فليس المهمّ هنا مسألة احترام إنسان أو بعض الألواح المقدّسة، بل المهمّ هو مسألة التوحيد وخطورة انحراف قوم بأكملهم.

كان ينبغي لموسى عليه السلام التعبير عن غضبه الكامن في نفسه، وإظهار قبح هذا العمل للجميع، وذلك ما كان ميسوراً إلّابإبداء ردّ فعل عنيف، ولذا عاتب أخاه هارون بشدّة حتّى أنّه جرّه من رأسه بعد أن ألقى الألواح جانباً، بل صرخ في الواقع من أعماق وجوده، حتّى تردّد صداه بين بني إسرائيل ليقول بعضهم لبعض: ما أقبح عبادة العجل يا ترى! بحيث يتعامل موسى عليه السلام بكلّ هذه الخشونة مع أخيه؟ وعلى فرض أنّ

مثل هذا التصرّف لا يليق بشأن هارون عليه السلام (مع أنّ علاقة الاخوّة بين الأخوين تنفي مثل هذا الشي ء) فإنّه وبسبب التأثير الاجتماعي العميق له لم يجد موسى عليه السلام بدّاً من فعله.

كما أنّ نفس هذا الهدف كان وراء إلقاء الألواح، بالرغم من اعتقاد البعض بأنّ لفظة «الإلقاء» هنا تعني الوضع على الأرض والذهاب وراء عمل ما، ولذا لم تنته المسألة عند هذا الحدّ، بل كان ذلك القرار الشديد على بني إسرائيل بسبب ارتداد ذلك الفريق بالشكل

نفحات القرآن، ج 7، ص: 106

الذي جاء في ذيل الآية 54 من سورة البقرة.

كما واجه مؤسّس الوثنية بين بني إسرائيل، أي: «السامري» ذلك العقاب الشديد أيضاً، خلاصة القول هي أنّ ردّ الفعل العنيف كان يرمي إلى أهدافٍ عظيمة، ولم يكن خالياً من الإشكال فحسب، بل كان واجباً أيضاً في مثل تلك الظروف (تأمّل جيّداً).

6- داود عليه السلام

هناك آيات في القرآن الكريم تشير إلى أنّ نبي اللَّه العظيم داود عليه السلام قد استغفر ربّه لعمل قام به، وأنّ اللَّه تعالى قد غفر له وذلك قوله: «وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ* فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ». (ص/ 24- 25)

ألم يكن استغفار داود والعفو عنه من قبل اللَّه سبحانه وتعالى دليلًا على صدور الذنب منه؟ وهل يتلاءم هذا ومقام عصمته؟

للحصول على جواب هذا السؤال لابدّ من الرجوع إلى القرآن، والبحث قبل كلّ شي ء عن العمل الذي يرتبط به هذا الإبتلاء وتلك المغفرة.

تحكي الآيات التي سبقت آيات بحثنا أنّ خصمين تسوّرا محراب داود عليه السلام، ودخلا عليه على حين غرّة، ففزع لدخولهما المفاجي ء عليه: «إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَاتَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ

فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ* إِنَّ هَذَا أَخِى لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِىَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِى فِى الْخِطَابِ». (ص/ 22- 23)

فقال داود بدون تحقيق أو استفسار: «قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ ...». (ص/ 24)

هذه هي القصّة التي ذكرت في آيات القرآن بأكملها بلا زيادة أو نقصان.

هناك تفاسير مقبولة قدّمت تفسيراً مقنعاً لهذه الآيات، كما أنّ هناك روايات موضوعة

نفحات القرآن، ج 7، ص: 107

وردت في بعض الكتب، تعرّضت لمعاني هذه الآيات بشكل مسي ء ومشوّه.

أمّا ما يتّفق ومحتوى الآيات المذكورة، فهو القول: إنّ الشي ء الوحيد الذي صدر من داود عليه السلام كان فقط تركه للأولى وذلك بتسرّعه في القضاء، لكن لا بتلك السرعة التي تكون على خلاف «واجبات» موازين القضاء، إذ «يستحبّ» للقاضي التمعّن أكثر ما يمكن، فلو ترك الأكثر واكتفى بالحدّ الأوسط أو الأقل فقد ترك الأولى، وهذا ما فعله داود، فقد قضى بظلم الأخ لأخيه الفقير، وربّما كان السبب وراء هذا التسرّع هو ذعره من دخولهما المفاجي ء عليه في خلوته، فضلًا عن أنّ اجحافاً كهذا من قبل أخ لأخيه يبعث على الأسف والشفقة.

صحيح أنّ داود عليه السلام أصغى لادّعاء طرف واحد فقط، لكن سكوت الطرف الآخر وعدم التفوّه بأي كلام، أو اعتراض يعدّ في نفسه دليلًا على اعترافه، وعلى أيّة حال فمن آداب مجلس القضاء أن يطلب القاضي توضيحاً أكثر من الطرف المقابل وهذا ما لم يفعله داود.

وما استغفار داود إلّالتركه الأولى، وقد تقبّل اللَّه تعالى توبته وغفر له.

وهو أفضل دليل على عدم صدور أي ذنب عن داود عليه السلام، والجملة الواردة

في ذيل نفس هذه الآيات: «وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ» تشير إلى ذلك، كما أنّ هناك أوصافاً أخرى كثيرة في حقّه قد وردت في الآيات السابقة، ونُعت بتلك المنزلة الرفيعة عند اللَّه تعالى بحيث غدت سيرته نموذجاً لنبي الإسلام صلى الله عليه و آله يقتدى به، ولا شكّ أنّ هذا المعنى لا يتناسب مع العصيان والذنب أبداً.

حينما يصرّح القرآن في ذيل هذه الآيات ويقول: «يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِى الْأَرْضِ ...». (ص/ 26)

يتبيّن بكلّ وضوح أنّ خليفة اللَّه لا يذنب، ومسألة ردعه من اتّباع هوى النفس إنّما هي بمثابة الأمر ولا تدلّ على ارتكاب معصية، ومن هنا يتّضح مدى تفاهة تلك القصّة التي أبرزتها التوراة بشكل مُشوَّه، وبالغت في تضخيمها أكثر من الوضع الطبيعي، وربطت هذه القضيّة بحادثة مختلقة وهي عشق داود عليه السلام لزوجة أحد ضبّاط جيشه وهيامه في حبّها،

نفحات القرآن، ج 7، ص: 108

والتدبير لقتله في خاتمة المطاف وأخذ زوجته.

تشتمل التوراة التي حُرِّفت عن مواضعها على بعض العبارات التي تبيّن مدى فضاعة هذه القصّة، والتي لا تسمح عفّة القلم ومنزلة الأنبياء عليهم السلام «1» بذكرها.

هذه القصص الموضوعة، والعبارات البذيئة تعدّ بنفسها أفضل دليل على تحريف التوراة الحالية.

من الطبيعي أنّ مثل هذا التحريف ليس غريباً بالنسبة لمحقّقي تاريخ التوراة على مدى آلاف السنين، لكنّ العجب إنّما هو من كيفية إقدام بعض المفسّرين المسلمين على نقل تلك الخرافات القبيحة في كتبهم، في الوقت الذي نقرأ في رواية عن علي أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: «لا اوتى برجل يزعم أنّ داود تزوّج امرأة أُوريا إلّاجلدته حدّين حدّاً للنبوّة وحدّاً للإسلام» «2».

كما احتمل البعض كون هذه الحادثة إشارة إلى أنّ داود عليه السلام لم يأسف

لنبأ مقتل اوريا في ميدان القتال كأسفه على غيره، وذلك لرغبته في الزواج من امرأته بعد مصرعه، ولكن من دون (اتّفاق مسبق) حول الموضوع.

لكن وكما أشار المرحوم السيّد المرتضى أيضاً، فانّ هذه التصرّفات وإن لم تعدّ ذنباً لكنّها ممّا تشمئزّ منها النفوس، ومعلوم أنّه لا ينبغي للأنبياء والأئمّة القيام بمثلها «3».

كما احتمل بعض المفسّرين أنّ العادة في ذلك الزمان كانت جارية على عدم تزويج المرأة الأيّم أبداً، وأنّ داوداً قد تزوّج زوجة اوريا بعد موته لتحطيم هذه السنّة الخاطئة.

لكنّ هذا التفسير أيضاً لا يتناسب بدوره مع ظاهر الآيات التي تبيّن صدور ترك الأولى من داود، لأنّ تحطيم هذه السنّة الخاطئة يعدّ واجباً فضلًا عن عدم كونه تركاً للأولى، إلّاأن

______________________________

(1) لمزيد من الإطلاع راجع الكتاب الثاني ل «اسموئيل» (من كتب التوراة) الفصل الحادي عشر، الجملة الثانية إلى السابعة والعشرين، ثمّ نقدها وتحقيقها من التفسير الأمثل ذيل الآيات 21 إلى 25 من سورة ص.

(2) تفسير مجمع البيان، ذيل الآيات من سورة ص، كما ذكر الفخر الرازي نفس هذا الموضوع بعبارة اخرى.

(3) تنزيه الأنبياء، ص 91 و 92.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 109

يقال: إنّ هذا العمل كان سبب العناء الروحي لُاوريا، كما جاء في إحدى الروايات «1».

لكن التفسير الأوّل هو الأنسب من بين هذه التفاسير.

7- سليمان عليه السلام

وهناك أيضاً آية في القرآن الكريم وردت بحقّ هذا النبي العظيم، تبيّن أنّه قد طلب العفو من ربّه واستغفره على بعض الأعمال التي صدرت منه، (وأنّ اللَّه تعالى قد قبل توبته).

يقول القرآن حول هذا الموضوع: «وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيَمانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ* قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِى وَهَبْ لِى مُلْكاً لَايَنْبَغِى لِاحَدٍ مِنْ بَعْدِى إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ* فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ ...». (ص/

34- 36)

و لنرى ما هو هذا الإختبار؟ ولمن يعود هذا الجسد الجامد الذي القي على كُرسيّه؟ فهذا ما لم يتعرّض القرآن لبيانه، لكن هناك تفاسير إسلامية تناولت هذه الحادثة، وروايات تعرضت لها، كما أنّ الرواة الذين وجدوا في هذا الموضوع أرضاً خصبة لهم فحاكوا حوله أساطير وهمية لا أساس لها، ونسبوا إلى هذا النبي العظيم ما لا يتناسب حتّى مع المنطق والعقل السليمين، فضلًا عن منزلة العصمة والنبوّة، ومن جملة ذلك اسطورة شنيعة وملفّقة تدّعي ضياع خاتم سليمان، واختطافه من قبل أحد الشياطين وجلوسه على عرش سليمان ثمّ استلامه للحكم، (وذلك لوجود علاقة بين الخاتم والحكومة والتسلّط على الإنس والجنّ طبقاً لهذه الاسطورة)، وهذه الاسطورة المذكورة في بعض الكتب بكلّ جدّية واعتقاد، والتي تبدو حسب الظاهر من خرافات الاسرائيليات الممتدّة جذورها إلى «التلمود» كتاب اليهود، (وهو عبارة عن مجموعة روايات في تفسير قوانين موسى)، والتي يصعب التفوّه بها أو نقلها لوقاحتها.

______________________________

(1) عيون أخبار الرضا، ج 1، الباب 14، ص 154.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 110

والذي يبدو صحيحاً من بين التفاسير والذي اشير إليه في الروايات الإسلامية، تفسيران:

الأوّل: أنّ سليمان عليه السلام كان يتمنّى أن يكون له أبناء شجعان وأكفاء ليديروا حكومته من بعده، ويعينوه في حياته على إدارة البلاد والنظام والجيش، ولذلك قال في إحدى الليالي: لقد صممت على مقاربة العديد من نسائي على أمل أن ارزق بأولاد أكفاء، لكنّه لم يقل: (إن شاء اللَّه)، فبسبب ترك الأولى هذا لم يرزق من زوجاته سوى طفل ناقص الخلقة كالجثّة الهامدة حيث ألقوه على كرسيّه.

جاء في حديث عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله: «والذي نفس محمّد بيده لو قال إن شاء اللَّه لجاهدوا في سبيل اللَّه فرساناً!»

«1».

وهنا انتبه سليمان عليه السلام إلى أنّه ترك الأولى فتاب لذلك وعفى اللَّه تعالى عنه.

الثاني: أنّ المراد من جملة: «أَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً» هو أنّ سليمان قد مرض مرضاً شديداً حتّى عاد كالجثّة الهامدة فوق كرسيّه، فكان ذلك ابتلاءً إلهيّاً، ثمّ استعاد عافيته وشفى، وهو المراد من كلمة «أناب» في الآية.

طبقاً لهذا التفسير الوارد في تفاسير الكثير من أقطاب المفسّرين تكون جملة: «أَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً»، بمعنى: «القيناه على كرسيه جسداً» وهي خلاف ظاهر الآية بطبيعة الحال.

فضلًا عن عدم وضوح ما هو ترك الأولى الصادر من سليمان عليه السلام على أثر هذا المرض ليستغفر ربّه؟ إلّاأن يقال: إنّ الإنسان يرتكب تركاً للأولى في حالاته المختلفة بشكل عامّ وحال مرضه بشكل خاصّ، وأنّ سليمان قد استغفر ربّه لمثل هذه الحالات، لكنّ هذا الجواب مبهم وغير مقنع.

الموضوع الآخر الذي اثير حول هذا النبي العظيم، هو الجملة التي تلي نفس هذه الآية وهي قوله: «وَهَبْ لِى مُلْكاً لَايَنْبَغِى لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِى».

فهل يتلاءم، هذا الطلب مع الروح السامية والنظرة البعيدة والزهد المنقطع النظير

______________________________

(1) ذكر البخاري هذا الحديث في صحيحه، كما ذكرته بعض التفاسير ومن جملتها روح البيان؛ وفي ظلال القرآن في ذيل الآيات مورد البحث.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 111

الذي يتمتّع به الأنبياء المعصومون عليهم السلام؟ ألا يُشمُ من هذا الكلام رائحة البخل ياترى؟

ورغم أنّ الحديث يدور هنا حول عصمة الأنبياء عليهم السلام، لكن على أيّة حال فالنقائص الأخلاقية الاخرى خصوصاً تلك التي تشمئزّ منها النفوس لا تتناسب مع درجاتهم ومنزلتهم الرفيعة.

وقد أجاب المرحوم السيّد المرتضى في «تنزيه الأنبياء» والمحقّق الطبرسي في «مجمع البيان» وباقي المفسّرين عن هذا السؤال في تفاسيرهم بأجوبة متعدّدة «1»، والأجوبة أدناه تعدّ أنسبها:

إنّ سليمان عليه

السلام طلب من اللَّه تعالى أن تكون له معجزة خاصّة، كما أنّ لكلّ نبي معجزته الخاصّة، وكانت معجزته هي الحكم الذي لا مثيل له، الحكم على الإنس والجنّ وعلى الرياح والسحاب و ...، فوهبه اللَّه مثل هذه المعجزة، حكومة واسعة تتصف بالإعجاز في مختلف الجوانب، ومن البديهي أنّ طلباً كهذا لا يعدّ عيباً ونقصاً للنبي.

والجواب الآخر هو: إحساس سليمان بالإذن لمثل هذا الطلب عن طريق الوحي، أو بعبارة اخرى: أنّ اللَّه تعالى شاء أن يتجسّد شعاع من قدرته وحاكميته عن طريق أحد أنبيائه العظام، فوجد سبحانه سليمانَ صالحاً لهذا الغرض فأجازه لمثل هذا الطلب، فطلب سليمان بدوره تلك المعجزة، فوهبه اللَّه تلك الحكومة العجيبة التي لا مثيل لها، والتي لم ولن يكون لها نظيرٌ في العالم، ومن المسلّم أنّه حينما يجد اللَّهُ أحداً صالحاً لعمل ما، ويجيزه في ذلك، لا يبقى هناك أدنى مجال للشكّ والترديد والإشكال.

الدليل على هذا الكلام هو ما ورد عن سيرة سليمان من أنّه كان زاهداً جدّاً في حياته، كما نقرأ في حديث عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه قال حول هذا الموضوع: «كان يأكل الشعير ويطعم الناس الحُوَّاري! «2» وكان لباسه الشَعر وكان إذا جنّه الليل شدّ يده إلى عنقه فلا يزال قائماً يصلّي حتّى الصباح!» «3».

______________________________

(1) تنزيه الأنبياء، ص 97 و 98؛ تفسير مجمع البيان، ج 8، ص 476.

(2) الحواري (بالحاء المضمومة والواو المشدّدة) هو «الطحين الأبيض».

(3) سفينة البحار، مادّة (الزهد)، وتفاسير اخرى.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 112

وهناك تفسير لطيف حول هذا الموضوع في حديث عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام وذلك حينما سئل عن تفسير الآية: «رَبِّ اغْفِرْ لِى وَهَبْ لِى مُلْكاً لَايَنْبَغِى لِأَحَدٍ

مِنْ بَعْدِى» قال عليه السلام: «الملك ملكان ملك مأخوذ بالغلبة والجور وإجبار الناس، وملك مأخوذ من قبل اللَّه تعالى، كملك آل إبراهيم وملك طالوت وذي القرنين، فقال سليمان (وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي) أن يقول إنّه مأخوذ بالغلبة والجور وإجبار الناس، فسخّر اللَّه عزّوجلّ له الريح ... وسخّر اللَّه عزّوجلّ له الشياطين ... وعلّم منطق الطير، ومكّن في الأرض، فعلم الناسُ في وقته وبعده أنّ ملكه لا يشبه ملك الملوك المختارين من قبل الناس، والمالكين بالغلبة والجور» «1».

والمراد من هذا الحديث هو أنّ سليمان عليه السلام لم يطلب حكماً محدوداً، بل حكماً لا مجال فيه للقيل والقال والإتّهام بالزور والظلم، ولذا فقد مزج اللَّه هذه الحكومة بالمعجزات العجيبة لإثبات كونها من عنده تعالى، لا من الناس ولا عن طريق الظلم والغلبة «2».

الجواب الثالث: ما أُثير حول مقام عصمة سليمان عليه السلام هو ما جاء في نفس الآيات السابقة حيث يقول تعالى: «إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِىِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ* (الخيل الأصيلة)- فَقَالَ إِنِّى أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّى (إنّي أحبّ هذه الجياد في سبيل اللَّه ومن أجل الجهاد، فبقي ينظر إليها ..) حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ* رُدُّوهَا عَلَىَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (يمسح عليها لأنّها لائقة للقتال)». (ص/ 31- 33)

طبقاً للمعنى المتقدّم الذي تبيّن من هذه الآيات، لا يبدو هناك أي إشكال في عمل سليمان عليه السلام هذا، فهو يعتدّ بقدرته العسكرية ويلتذّ بالتطلّع إلى الجياد المهيأة للجهاد، ويأمر بردّها عليه ثانية لاعتزازه بها، وهذه التصرّفات كلّها تبدو بشكل عام معقولة ومنطقية وإلهية.

لكن البعض فسّر هذه الآية بشكل آخر واعتبرها كبداية للإشكال على سليمان، وقال:

______________________________

(1) تفسير نور الثقلين، ج 4، ص 459، ح 56.

(2)

وبناءً على هذا التفسير فهناك جملة مقدرة في الآية تقديرها: وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي أن يقول ليس من عند اللَّه.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 113

إنّ الضمير في كلتا جملتي «توارت» و «ردوها» يعود إلى الشمس التي لم ترد في العبارة، والتي يمكن استنتاجها من التعبير ب «العشي» الوارد في الآية، وطبقاً لهذا التفسير فقد ذهل سليمان بالنظر إلى هذه الجياد، إلى أن غابت الشمس وتوارت وراء الحجب، فغضب لذلك كثيراً لفوات صلاة العصر عليه، وحينئذ طلب من الملائكة إعادة الشمس ثمّ توضّأ وصلّى، وأنّ جملة «فطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ» إشارة إلى وضوئه.

كما ذهب البعض إلى أبعد من هذا أيضاً، وقال: إنّ المراد من هذه الجملة هو: أنّه أعطى أمراً بقطع أعناق الجياد وقوائمها، باعتبارها السبب وراء غفلته عن ذكر اللَّه (العذر الذي هو أقبح من الفعل)، والقول: إنّه ذبحها ووزّع لحومها في سبيل اللَّه يبدو عجيباً أيضاً، لأنّ جياداً بتلك القيمة والخاصيّة التي تلفت نظره إليها حتّى يذهل لذلك لا ينبغي ذبحها كالأبقار والأغنام، إذ لو أراد إنفاقها لوجب إعطاؤها للآخرين وهي على قيد الحياة، ولا يخفى على أحد سقم هذه التفاسير، وذلك لأنّ:

1- لو كانت هذه الجملة «فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ» إشارة إلى وضوئه، فليس لديه سوى رقبة واحدة، والتعبير ب «الأعناق» بصيغة الجمع مما يكون، كما أنّ لديه ساقَيْن، والتعبير ب (السوق) بصيغة الجمع يكون لا معنى له أيضاً، ومَن قالَ إنَّ الوضوء كانَ بالمَسْح؟ لا معنى له.

ولو كانت بمعنى قطع أعناق وقوائم الجياد، فهو عمل غير منطقي جدّاً، لا يقدم عليه حتّى الفرد العاقل العادي فكيف بنبي عظيم كسليمان عليه السلام، إذ لا ذنب لها، بل لو كان هناك

ذنب فهو منه حينما انشغل بالنظر إليها.

أكثر ما يمكن أن يقال هنا هو أن يهبها للآخرين لتبقى بعيدة عنه ولا تشغله بنفسها، ولا داعي للقتل أبداً؟!

2- لم يرد في هذا الحوار كلام عن «الشمس»، والاستدلال عليها عن طريق «العشي» بعيد جدّاً، لأنّ أقرب ما يعود إليه الضمير هنا هو «الخير» الذي يعني هنا «الجياد» بكلّ تأكيد، كما لم يرد شي ء عن الملائكة أيضاً ليكونوا من مخاطبي سليمان، فضلًا عن أنّ هذا التعبير الذي وجهه سليمان إلى الملائكة تشمّ منه رائحة صيغة الأمر، ويبدو مستبعداً جدّاً لعدم لياقته وشأن الملائكة.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 114

3- لو قبلنا هذا التفسير على سبيل الفرض، لأمكن القول: إنّ الصلاة التي أدّاها قضاءً كانت صلاة مندوبة، قد فاتت سليمان وأنّها كانت قبل غروب الشمس، فكيف يثبت كونها صلاة واجبة؟ وأساساً كيف يثبت كون الفائت هي الصلاة؟! ربّما كانت أذكاراً خاصّة يؤدّيها سليمان قبل الغروب، وقال بعض المفسّرين أيضاً: إنّ «ذِكر رَبّي» لو كان يعني الصلاة الواجبة، وأنّ سليمان عليه السلام كان قد غفل عنها لانشغاله بالجياد استعداداً للجهاد، فلن يرد عليه إشكال أبداً، لأنّ نفس عمل سليمان هذا يعدّ عبادة عظيمة قد أغفلته عن عبادة اخرى.

لكن هذا التفسير أيضاً يبدو بعيداً، نظراً للأهميّة الخاصّة التي تتمتّع بها الصلاة، والصحيح هو ما قيل أوّلًا.

8- يونس عليه السلام

وهناك آية في القرآن الكريم حول هذا النبي العظيم أيضاً، حيث تبيّن أنّه اعترف أمام اللَّه تعالى بالظلم ثمّ طلب العفو والمغفرة وأنّ اللَّه استجاب دعاءه وغفر له بعد اختبار طويل، يقول تعالى: «وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِى الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّى كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ» ثمّ يضيف

قائلًا: «فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِى الْمُؤْمِنِينَ». (الأنبياء/ 87- 88)

وهنا يثار هذا السؤال وهو: كيف يتناسب وضع يونس في صفوف الظلمة مع منزلة عصمته، ولمن ظلم؟، وما هي نوعية الظلم؟ ثمّ أنّ يونس عليه السلام على من غضب؟ ولماذا ظنّ أنّ اللَّه لن يضيّق عليه؟ ألا يمكن لهذه الجهات الثلاث مجتمعة أن تكون بمثابة علامة إستفهام على مسألة عصمته؟

ورد نفس هذا المعنى بشكل غامض في القرآن الكريم: «فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ* لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ* فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ». (القلم/ 48- 50)

كما يستفاد من هذا التعبير أيضاً أنّه كان قد تسرّع في أمره وأشرف على الهلاك لولا أن أسعفه لطفه تعالى.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 115

ونفس هذا المعنى تكرّر أيضاً في سورة الصافات، وذلك بعد الإشارة إلى قصّة هربه من قومه وركوبه في السفينة، وإلقاء القرعة ثمّ إلقائه في فم حوت عظيم، يقول تعالى: «فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ* لَلَبِثَ فِى بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ». (الصافات/ 143- 144)

ما هو الذنب الذي اقترفه ليسجن في بطن الحوت، ويلبث فيه مدّة مديدة لولا تسبيحه للَّه تعالى؟، خلاصة القول: إنّ قصّة يونس عليه السلام التي جاءت في ثلاث سور من القرآن الكريم (الأنبياء، القلم، الصافات) وبعبارات مختلفة تثير استفهامات شتّى حول مقام عصمة هذا النبي العظيم وتستدعي جواباً منطقيّاً.

الجواب:

صحيح أنّ التعابير المختلفة للآيات المذكورة تبيّن أنّ ذنباً ما قد صدر من يونس عليه السلام، فالتعبير ب «الظالم» و «المليم» (يأتي أحياناً بمعنى ملامة النفس، أو القيام بعمل يستوجب ملامة الآخرين لفاعله، لأنّ لفظة «المليم» قد فسّرت بكلا المعنيين)، وكذلك التعبير بأنّ يونس عليه

السلام: «فلَوْلا أَنّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ* لَلَبِثَ فِى بَطْنِهِ الى يَوْمِ يُبْعَثُونَ»، والتعبير ب «فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ» وتعبير «لَاتَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ»، الذي يأمر نبي الإسلام صلى الله عليه و آله: بأن لا يكون كيونس عليه السلام، وكذلك تعبير: «لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ»، كلّ هذه التعابير تبيّن وقوع شي ء ممّا لا ينبغي وقوعه.

لكن القرائن تشير إلى أنّ هذا العمل المخالف لم يكن سوى ترك الأولى، لأنّ اللَّه تعالى وفي نفس هذه الآيات قد تحدّث عن يونس كنبي مرسل، موضع العناية الإلهيّة الخاصّة، وفي سورة (الأنعام/ 86) يعتبره اللَّه تعالى من الأنبياء العظام الذين فضّلهم على العالمين، كما يعتبره في عداد الأنبياء عظيمي الشأن كإبراهيم ونوح وإسماعيل وعيسى عليهم السلام، وذلك في سورة (النساء/ 163).

امّا ما هو ترك الأولى هذا؟ فهناك احتمالات متنوّعة، يمكن لكلّ واحد منها منفرداً

نفحات القرآن، ج 7، ص: 116

فضلًا عن مجموعها، أن يكون دليلًا على ترك الأولى فقط، من جملتها: أنّه تسرّع في ترك قومه إذ كان الأجدر به أن يصبر أكثر، أو أنّه تعجّل بالدعاء عليهم، أو أنّه كان ينبغي عليه انتظار الأمر الإلهي حين خروجه من بين قومه حتى ولو كان قد يئس من هدايتهم على ما يبدو.

ولا يخفى أنّ أيّاً من هذه الامور لا يعدّ ذنباً، لكنّها لو لم تكن لكان أفضل، وبناءً على هذا فقد استحقّ العتاب والملامة، والتعبير ب «الظلم» أو «الإبتلاء بالعقاب الإلهي» إنّما هو من باب «حَسَناتُ الابْرارِ سَيِئاتُ الْمُقَرَّبينَ»، والذي تقدّم الكلام عنه مفصّلًا عند البحث عن ترك آدم عليه السلام للأولى، كما يحتمل أيضاً تصوّره بأنّ اللَّه تعالى لن يضيق عليه «فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ»، أنّ

تصوّره هذا كان بمثابة ترك الأولى، وذلك لأنّ تمتّع الأنبياء عليهم السلام بمستوى عالٍ من الإيمان يفرض عليهم العيش دائماً بين الخوف والرجاء لا اعتبار أنفسهم في أمان من العقاب الإلهي، أو القنوط من رحمته.

أمّا التعبير ب «مغاضباً» فواضح أنّه يعني الغضب على أعمال قومه المذنبين، لا الغضب على اللَّه تعالى! كما ذهب إليه بعض المغفّلين، لأنّ هذا ليس فقط متنافياً مع مقام الأنبياء، بل لا يتناسب وأدنى حدّ من الإيمان أيضاً لأنّ ما يقابل الغضب على اللَّه هو الكفر باللَّه.

وعبارة «مغاضباً لربّه» الواردة في الروايات أو كلمات بعض أقطاب أهل التفسير إنّما تعني «مُغَاضِباً لَاجْلِ رَبِّهِ» أي أنّه غضب لأجل اللَّه تعالى نتيجة أعمال قومه.

ومن هنا يتّضح سبب مكوثه في سجن مظلم تتوالى ظلماته الواحدة بعد الأخرى (ظلمة بطن الحوت، ظلمة البحر، وظلمة الليالي)؟ وسبب عزمه على التضرّع والإستغفار وطلب العفو، بتلك العبارات الموزونة المتينة: «لَاإِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّى كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ».

الملفت للنظر هو ما جاء في البعض من الروايات، أنّ الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام قال: «حينما كان يونس في خلوته في بطن الحوت متوجّهاً بكلّ وجوده إلى العبادة مستجيراً باللَّه تعالى وحده، اعتبر نفسه من الظالمين لأنّه لم يأت بعبادة خالصة كهذه من قبل، فقال أن

نفحات القرآن، ج 7، ص: 117

لا إله إلّاأنت سبحانك انّي كنت من الظالمين، بتركي مثل هذه العبادة التي فرغْتَني لها في بطن الحوت، فقبل اللَّه تعالى منه ذلك، وقال عزّوجلّ: «فلولا أنّه كان من المسبّحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون»» «1».

امّا فيما يتعلّق بتفسير الآيات المتعلّقة ب «يونس» عليه السلام وما هو ذلك الحوت الذي تمكّن من الإحتفاظ به في بطنه؟ وكيف يمكن

للإنسان البقاء حيّاً مدّة طويلة بلا ماء أو طعام أو هواء؟ وكيف يمكن لذلك الإنسان ألّا يذوب ويهضم في المعدة الواسعة للحيوان؟ واسئلة أُخرى من هذا القبيل، فالكلام عنها خارج عن موضوع بحث العصمة، ومن أراد الوقوف على أجوبة هذه الأسئلة يمكنه الرجوع إلى «التفسير الأمثل»، الأجزاء 13 و 19 و 24 في تفسير الآيات التي تتحدّث عن يونس عليه السلام.

9- نبي الإسلام صلى الله عليه و آله

هناك آيات قرآنية مختلفة تثير التساؤلات حول مسألة عصمة نبي الإسلام صلى الله عليه و آله، فيما يلي أهمّها:

أ) «إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً* لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً». (الفتح/ 1- 2)

بما أنّ كلمة «الذنب» تعني المعصية، إذن فكيف ينسجم هذا المعنى مع العصمة والمنزلة الرفيعة لهذا النبي العظيم؟

للمفسّرين أبحاث كثيرة وآراء متنوّعة في معرض إجابتهم عن هذا السؤال، من جملتها:

إنّ المراد هو ترك الأولى ليس إلّا، والذي لا يتنافى أبداً مع مقام العصمة، إذ إنّ الإنسان حينما يرجّح المهمّ على الأهمّ والحسن على الأحسن يقال له: لقد «ترك الأولى». (تأمّل جيّداً)، إذ إنّه وفضلًا عن عدم ارتكابه لذنب فقد أدّى مستحبّاً أيضاً، غاية ما في الأمر أنّه كان هناك مستحبّ أقوى ممّا أدّاه، وإطلاق الذنب والمعصية على مثل هذا العمل إنّما هو لعلو

______________________________

(1) تفسير نور الثقلين، ج 3، ص 450، ح 137.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 118

مقامه إذ كما قلنا: «حسنات الابرار سيئات المقربين».

الآخر هو أنّ المراد بالذنب هو معصية الامّة (وبناءً على هذا ففي الآية شي ء مقدّر وهو كلمة «الامّة»)، أي (من ذنب امّتك ..).

وقول ثالث يشير إلى أنّ المراد به الذنوب التي ارتكبت في حقّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله،

(إذ إنّ للذنب معنىً مصدريّاً يضاف أحياناً إلى الفاعل واخرى إلى المفعول)، ومن المسلّم أنّ الأعداء لم يتمكّنوا من تكرار ارتكاب نفس تلك المظالم والذنوب، التي ارتكبوها في حقّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله قبل فتح مكّة.

لكن ما عدا التفاسير الثلاثة المتقدّمة وتفاسير اخرى أهملناها لعدم أهميّتها، فلدينا تفسير أنسب وأكثر انسجاماً مع مضمون ومحتوى الآيات المذكورة والقرائن الموجودة فيها، وذلك من جهات شتّى، كما ويتلاءم مع روايات المعصومين عليهم السلام أيضاً:

توضيح ذلك: لغرض فهم معنى الآية يجب التركيز على التعابير السابقة واللاحقة لها، بالإضافة إلى التعابير التي تتضمّنها الآيات نفسها، إذ تمّ التصريح في هذه الآية بوجود علاقة بين «الفتح» المذكور وغفران هذه الذنوب، يقول تعالى: إنّ الهدف من هذا «الفتح المبين» (صلح الحديبية أو فتح مكّة على حدّ قول البعض) هو أن يغفر اللَّه ذنوبك السابقة واللاحقة.

علاوة على هذا، فغفران الذنوب السابقة معلوم، امّا الذنوب التي لم ترتكب بعد فكيف تشملها المغفرة الإلهيّة، ألا يفهم من هذا الكلام إعطاء الضوء الأخضر بجواز ارتكاب أي ذنب في المستقبل؟ فهل هذا الأمر منطقي ومعقول؟!

من خلال التدقيق في هاتين الملاحظتين يمكننا إدراك المفهوم الواقعي للآية، وهو أنّ من الطبيعي عند حدوث ثورة إلهيّة فسوف يتعرّض ذوو المصالح اللامشروعة للخطر بسببها، ومنهم المؤيّدون للعادات الخرافية، والمتعصّبون بلا دليل، والمتحجّرون الجامدون الذين يجدون عقائدهم الخاطئة مهددة بالخطر والزوال، فسوف يقفون في وجه تلك الثورة بكلّ قوّة، ونراهم ينسبون إليها كلّ ما هو مُشين، لغرض إجهاضها وإخمادها، فيصطنعون

نفحات القرآن، ج 7، ص: 119

ضدّها الأكاذيب، ويلصقون بها التّهم، وينسبون لقائدها شتّى الرذائل، من جملتها أنّه قد أحدث الفرقة وشقّ وحدة الصفّ، وأهان المقدّسات، ولا يرمي سوى الوصول إلى

السلطة والحكومة واستعباد الناس ونيل المنزلة والثروة، وأنّه آلة بيد الآخرين ومنفذ لأهداف الأجانب!! فلو لم يحالف النجاح هذه الثورة، فانّ هذه التّهم تتعاظم شيئاً فشيئاً بدل انحسارها وتوقّفها، وبديهي أنّ فشلها يعدّ بمثابة الدليل على صدق هذه الإدّعاءات.

لكن حينما انتصرت الثورة بلطف الرعاية الإلهيّة، وتم القضاء على العادات الخرافية، وتلاشت المصالح الشخصية اللامشروعة، واتّضحت حقّانية دعوة ذلك القائد السماوي، فسرعان ما تبدّدت كلّ تلك الإساءات التي نُسبت إليه والإتّهامات الباطلة سواء المتعلّقة منها بالماضي أو التي كان من المقرّر طرحها في المستقبل، وحلّ الندم والاسف محلّ التهجّمات والإتّهامات الزائفة، وخسِئ حتّى المنافقون الذين أعمى اللَّه أبصارهم، والمتعصّبون الذين يعاندون ولا يؤمنون، لأنّهم أيقنوا بالفشل أمام هذه الحقيقة.

ولذا يقول تعالى للنبي صلى الله عليه و آله «إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً* لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ» (أي ممّا كانوا يعدّونه ذنباً وممّا سيرمونك من تهمة الذنب) «1».

ومن هنا يتّضح السبب وراء نسبة هذا الغفران إلى اللَّه، باعتباره هو الذي هيّأ مقدّمات هذا الغفران، والتي هي عبارة عن نفس ذلك «الفتح المبين».

والملفت هنا هو انّنا نجد هذا المطلب متجسّداً بكلّ وضوح في حديث عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام في كتاب «عيون أخبار الرضا»، حيث قال عند ردّه على سؤال المأمون عن كيفية تناسب هذه الآية مع درجة عصمة الأنبياء: «لم يكن أحد عند مشركي مكّة أعظم ذنباً من رسول اللَّه، ثمّ يضيف موضّحاً ذلك قائلًا: وحيث إنّهم كانوا يعبدون ثلاثمائة وستّون صنماً، فحينما دعاهم النبي صلى الله عليه و آله إلى التوحيد شقّ عليهم ذلك كثيراً وقالوا باستغراب، هل تستبدل كلّ آلهتنا بإله واحد؟ ياللعجب؟! كما أضاف قائلًا: (فلمّا

فتح اللَّه

______________________________

(1) «غفر» و «غفران» و «مغفرة» تعني في الأصل ستر الشي ء وتغطيته على حدّ قول صاحب مقاييس اللغة، ومن هنا اطلق على غفران الذنوب أيضاً.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 120

تعالى على نبيّه مكّة قال له يامحمّد إنّا فتحنا لك فتحاً مبيناً ليغفر لك اللَّه ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر عند مشركي أهل مكّة، بدعائك توحيد اللَّه فيما تقدّم وما تأخّر لأنّ مشركي مكّة أسلم بعضهم وخرج بعضهم عن مكّة، ومن بقي منهم لم يقدر على إنكار التوحيد إذ دعا الناس إليه فصار ذنبه عندهم في ذلك مغفوراً بظهوره عليهم).

فحينما سمع المأمون هذا التفسير قال: للَّه درّك ياأبا الحسن! «1».

كما ورد نفس هذا المعنى بعبارات اخرى في حديث عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام، رواه السيّد ابن طاووس في كتاب «سعد السعود»، وهو: أنّ قريشاً وأهل مكّة قد نسبوا الكثير من الذنوب إلى نبي الإسلام صلى الله عليه و آله قبل الهجرة وبعدها، وحينما تمّ فتح مكّة وتعامل النبي الأكرم صلى الله عليه و آله بتلك الرأفة مع أعدائه المعاندين، غضّوا الطرف عن كلّ تلك الذنوب التي كانوا قد نسبوها إليه «2».

وأخيراً يقول القرآن: «وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً».

واضح أنّ نعمة اللَّه قد اكتملت ليس فقط بالنسبة للنبي، بل لكلّ المجتمعات الإسلامية عن طريق هذا الفتح العظيم، فلقد خسر أعداء الإسلام وإلى الأبد، بينما مهّد الطريق لمسير النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، وكافّة المسلمين لتقدّم أكبر.

ب) نقرأ في آية أخرى أنّ اللَّه يخاطب النبي الأكرم صلى الله عليه و آله قائلًا: «عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ».

أو ليس التعبير ب «العفو» من جهة و «العتاب

والملامة»، والإستغفار عن سبب ترخيصه لهم من جهة أخرى، دليلًا على أنّ سماح النبي لبعض المنافقين بعدم الإشتراك في القتال كان عملًا مخالفاً؟ هل تتلاءم هذه الآية مع درجة عصمة هذا النبي العظيم؟

______________________________

(1) تفسير نور الثقلين، ج 5، ص 56، ح 18.

(2) المصدر السابق، ح 17 بتلخيص واقتباس.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 121

اللطيف هو أنّ اللَّه أشار في هذه الآية إلى العفو أوّلًا ثمّ يأتي العتاب، لكن البعض من المغفّلين تناول هذا الموضوع بشكل مسي ء حتّى اعتبر الآية دليلًا على صدور الذنوب من النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، دون الإلتفات إلى لطف هذا البيان الإلهي الذي أشرنا إليه! من جملتهم «الزمخشري» في «الكشّاف» حيث قال في تفسير هذه الآية: «جملة عفا اللَّه عنك كناية عن الجناية لأنّ العفو مرادف لها ومعناه: أخطأت وبئس ما فعلت» «1».

لكنّه لو تأمّل أكثر في محتوى الآية وصدرها وذيلها، والتعابير الواردة فيها لأدرك أنّ كلمة العفو والعتاب إنّما هي في الحقيقة لبيان سوء معاملة المنافقين للنبي صلى الله عليه و آله، وتوجيه الكلام إليه صلى الله عليه و آله إنّما هو نوع من التعبير الكنائي اللطيف لبيان واقعة خطيرة.

وتوضيح ذلك: يخاطب الإنسان أحياناً أحد أصدقائه ويعاتبه لأنّه لم يَدَع الشخصَ الفلانيَّ يُفتَضَح وتُبيّن حقيقتُه للناس! في حين أنّ هذا العتاب والخطاب يعدّ مقدّمة لانتقاد شخص ثالث في حقيقة الأمر.

ويمكن توضيح هذا الموضوع بضرب مثال بسيط: لو فرضنا أنّ أحداً أراد أن يوجه صفعة إلى إبنك البري ء، فمنعه أحد أصدقائك، فمع انّك لم تنزعج من تصرف صديقك بطبيعة الحال، لكن أحياناً ولغرض إثبات سوء سريرة ذلك الشخص، تلتفت إلى صديقك وتقول له معاتباً: لماذا لم تدعه يصفع إبني حتّى يتعرّف

الناس على قساوة قلبه، هذا الخطاب الذي هو على صيغة العتاب والملامة، هو في الواقع كناية بليغة عن قساوة ذلك الظالم.

جاء في بعض التعابير الواردة عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام في تفسير هذه الآية:

هذا ممّا نزل «اياك اعنى واسمعى ياجارة» خاطب اللَّه تعالى بذلك نبيه، واراد به امته «2».

يحتمل أن يكون هذا الكلام إشارة إلى نفس ذلك المطلب المتقدّم أعلاه، والدليل على هذا الأمر هو الصلاحية التي اعطيت للنبي صلى الله عليه و آله في الآيات القرآنية الأخرى، وذلك بالسماح لمن شاء من المؤمنين بالتفرّغ لمشاغلهم الشخصية، وعدم الإشتراك في بعض

______________________________

(1) تفسير الكشّاف، ج 2، ص 274.

(2) تفسير البرهان، ج 2، ص 130، ح 1.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 122

الأعمال الهامّة، فيما لو طلبوا ذلك وكان فيه صلاح: «فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ». (النور/ 62)

وبناءً على هذا فلا مانع من سماح النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، لبعض المنافقين بعدم الإشتراك في المعركة، خصوصاً وأنّ إشتراكهم لن يحلّ للمسلمين أيّة مشكلة، هذا إن لم يخلق لهم مزيداً من المتاعب.

من مجموع هذه الإعتبارات يمكن إدراك أنّ التفسير الأخير يناسب الآية المتقدّمة، إذ لا وجود لما يخدش مقام العصمة فيها.

ج) الآية الأخرى التي نزلت في مسألة زواج نبي الإسلام صلى الله عليه و آله من مطلّقة إبنه بالتبنّي (زيد)، أثارت استفهاماً لدى البعض أيضاً.

هذه الآية تقول بصراحة: كلّما حدث خلاف بين زيد وزوجته، كان النبي يحثّ زيداً على عدم طلاقها، ويكرّر عليه ذلك، ولكن حينما لم تؤثّر هذه التوصيات، وطلّق زيد زوجته تزوّجها النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، ليحطّم تلك العادة الجاهلية البغيضة التي كانت

تعتبر زوجة (الإبن بالتبنّي) حراماً على الإنسان، كزوجة الإبن الحقيقي، هذا من جهة.

وليعيد من جهة أخرى إلى (زينب) حيثيتها واعتبارها، لأنّها حفيدة عبدالمطلّب وابنة عمّة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله ومن أُسرة معروفة، وكانت قد تزوّجت زيداً العبد المعتق امتثالًا لأمر النبي الأكرم صلى الله عليه و آله بذلك، ومن المسلّم أنّ زواجاً كهذا كان صعباً عليها وكان هذا الفراق أصعب. (تأمّل جيّداً).

وهنا يقول القرآن: «وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِى أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِى فِى نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَىْ لَايَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِى أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا». (الأحزاب/ 37)

نفحات القرآن، ج 7، ص: 123

وهنا فُسِحَ المجال لبعض المغفّلين وأحياناً المغرضين لنسج مجموعة من الأساطير الكاذبة، وفرضها على القرآن ونسبتها إلى نبي الإسلام صلى الله عليه و آله «1».

المهمّ لدينا هنا وما ينبغي توضيحه جملتان وردتا في الآية السابقة، وإلّا فالأساطير الخرافية التي لا أثرلها في القرآن، ليست شيئاً يستحقّ التحقيق فيه والردّ عليه.

جاء في إحدى الجمل: «وَتُخْفِى فِى نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ».

كما نقرأ في الجملة الثانية: «وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ».

ألا تتنافى هاتان الجملتان مع مقام عصمة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله؟

مفهوم الجملة الاولى يبدو مبهماً، لكن الذين يحوكون الأساطير ربطوا بها مطالب كثيرة، وقدّموها كلقمة سائغة لأعداء الإسلام حتّى يتّهموا النبي الأكرم صلى الله عليه و آله (والعياذ باللَّه) بعشقه لزوجة زيد.

في حين أنّ نفس الآية تكذب هذا الإدّعاء، إذ تقول: إنّك أوصيت زيداً مراراً بعدم طلاق زوجته (لا يفوتك أنّ جملة «إذ تقول» هي

بصيغة المضارع الدالّ على الإستمرار)، ولو كانت المسألة كما توهّمها الأعداء لوافق النبي الأكرم صلى الله عليه و آله على الطلاق بكلّ رحابة صدر، أو لاختار السكوت على أقلّ تقدير، فكيف يعقل أن ينهاه عن ذلك والحالة هذه.

امّا فيما يتعلّق بالجملة الثانية فقد قالوا: بأيّ دليل يخاف النبي الأكرم صلى الله عليه و آله من الناس، واللَّه أحقّ أن يخافه ويخشاه؟

بالرغم من الإحتمالات الكثيرة التي اعطيت لتفسير هذه الآية، خصوصاً هاتين الجملتين، حتّى أنّ بعض المفسّرين المعروفين تورّط في الإشتباه، فمجرّد إمعان النظر في متن نفس الآية (خصوصاً الجمل السابقة واللاحقة لهاتين الجملتين) يُدرك المرء وضوح وجلاء مفهوم الآية، امّا لو لوحظت لوحدها مجرّدة عمّا يحيط بها فما أكثر الإبهامات التي ستحفّ بها.

______________________________

(1) لمن أراد مزيداً من الإطلاع على هذه القصص الموضوعة ونقدها، الرجوع إلى التفسير الأمثل، ذيل الآية مورد البحث.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 124

لو أخذنا الآية جملة جملة، وفسّرناها لكان معناها كما يلي أنعم اللَّه بالإيمان على «زيد» ابن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله بالتبنّي (الذي كان سابقاً عبداً للنبي صلى الله عليه و آله ثمّ أعتقه، وتبناه لذكائه ودرايته)، كما أنعم عليه النبي الأكرم صلى الله عليه و آله إذ أعتقه واعتبره كولده، وزَوَّجه ابنة عمّته التي كانت لها شخصيّة مرموقة في المجتمع، هذا هو مفهوم جملة «أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ».

كما يستفاد من الجملة الثانية وقوع سوء التفاهم بين زيد وزوجته حتّى جال في ذهنه طلاقها، وأنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله كان يحثّه على عدم الطلاق، ويدعوه للورع والتقوى: «أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ».

كان النبي الأكرم صلى الله عليه و آله هنا أمام محذورين: فهو من جهة

يفكر في أنّه لو انتهى الأمر بالطلاق لوجب عليه أن يتزوّجها، لِينهي كلم الناس السيّ الذي سيلحق بإبنة عمّته زينب، باعتبار أنّ العبد المعتق أيضاً لم يرض بها فطلّقها، ومن جهة أخرى كان يخشى الناس خصوصاً المنافقين، الذين كانوا يتربّصون به الدوائر والذرائع ليعيروه بهذا الأمر من جهتين:

الاولى تجاوزه لاحدى عادات عرب الجاهلية المتأصّلة، والتي كانت تعتبر زوجة الإبن بالتبنّي كزوجة الإبن الحقيقي وأنّ الزواج منها هو كالزواج من تلك.

الثاني: إعتقادهم بأنّ الزواج من مطلّقة العبد المعتق هو دون شأن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، وأنّه انتقاص من مكانته.

لكن شاء اللَّه أن يتحقّق هذا الزواج بعد ذلك الفراق؟ وأن تتحطّم تلك العادة السيّئة، كما جاء في ذيل الآية: «لِكَىْ لَايَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِى أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً».

وبناءً على هذا، فالذي كان النبي الأكرم صلى الله عليه و آله يخفيه في قلبه، وأعلنه اللَّه في خاتمة المطاف هو الزواج من زوجة زيد في حالة إصراره على طلاقها.

والذي كان يخشاه النبي الأكرم صلى الله عليه و آله هو ردّ الفعل نتيجة لقضائه على احدى عادات الجاهلية، كذلك زواجه من امرأة دون شأنه صلى الله عليه و آله، واستمرّ خوفه ما دام الأمر الإلهي القطعي

نفحات القرآن، ج 7، ص: 125

لم يصدر بحقّه، لكن بعد صدوره بلزوم زواجه منها وتحطيمه لكلتا العادتين الخاطئتين، بل حتّى أنّ صيغة عقد زواجه أجراها اللَّه تعالى كما في متن الآية: «زَوَّجْنَاكَهَا»، لم يبق هناك بعد ذلك أي مجال لخوفه وتردّده بالنسبة لهذه المسألة.

اللطيف هو التأكيد على هذه المسألة في الآية التي بعدها أيضاً: قال تعالى: «مَا كَانَ عَلَى النَّبِىِّ مِنْ حَرَجٍ فِيَما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ

فِى الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً».

هذه الآية تشير بصراحة إلى أن ما قام به النبي الأكرم صلى الله عليه و آله هنا، كان فريضة إلهية وسنّة كانت في الأوّلين أيضاً، وأمراً إلهيّاً مقدّراً ينبغي وقوعه.

بديهي أنّ هذه المسألة لو كانت نابعة عن رغبة شخصية، لما كان لهذه التعابير النازلة بشأنها أي معنى يذكر، لكن لا الأعداء المغرضون يصغون لمثل هذه الحقائق، ولا البعض من رواة القصص المغفّلين الذين يرجّحون الأساطير المفتعلة الصاخبة في مثل هذه الحوادث على الحقائق.

لكن ولحسن الحظّ فانّ تعابير القرآن هنا كافية وواضحة جدّاً، والملفت للنظر هو ما نقرأه في حديث نقله «القرطبي» المفسّر المعروف من أهل السنّة عن الإمام علي بن الحسين عليه السلام حيث يقول: «إنّ النبي صلى الله عليه و آله كان قد أوحى اللَّه تعالى إليه أنّ زيداً يطلّق زينب، ويتزوّجها النبي صلى الله عليه و آله، فلمّا اشتكى زيد للنبي صلى الله عليه و آله خُلُق زينب، وأنّها لا تطيعه، وأعلن أنّه يريد طلاقها، قال له رسول اللَّه صلى الله عليه و آله على جهة الأدب والوصيّة: (اتّق اللَّه في قولك وأمسك عليك زوجك)، وهو يعلم أنّه سيفارقها ويتزوّجها، وهذا هو الذي أخفى في نفسه، ولم يرد أن يأمره بالطلاق لما علم أنّه سيتزوّجها، وخشى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أن يلحقه قول من الناس في أنّ يتزوّج زينب بعد زيد، وهو مولاه وقد أمره بطلاقها، فعاتبه اللَّه تعالى على هذا القدر من أن يخشى الناس لشي ء قد أباحه اللَّه له، بأن قال (أمسك) مع علمه بأنّه يطلّق، واعلمه أنّ اللَّه أحقّ بالخشية أي في كلّ حال».

ثمّ يضيف (القرطبي) قائلًا: «قال

علماؤنا رحمة اللَّه عليهم وهذا القول أحسن ما قيل في

نفحات القرآن، ج 7، ص: 126

تأويل هذه الآية، وهو الذي عليه أهل التحقيق من المفسّرين والعلماء الراسخين».

ثمّ يتابع كلامه هذا قائلًا: «يقول الترمذي في نوادر الوصول (وضمن الإشارة إلى هذا الحديث) بأنّ علي بن الحسين قد جاء بهذا من خزانة العلم جوهراً من الجواهر ودرّاً ثميناً من الدرر ...» «1».

د) الآية الأخرى التي تثير الاستفهام حول النبي الأكرم صلى الله عليه و آله هي قوله تعالى: «وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِى آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ». (الانعام/ 68)

السؤال هو: لو تمكّن الشيطان من النفوذ إلى روح النبي الطاهرة وأنساه الحكم الإلهي بعدم مجالسة أهل الباطل، فكيف يمكن أن يكون معصوماً من الخطأ؟ وبعبارة أخرى أنّه يفتقد أحد فرعي «العصمة» وهو الصون من السهو والخطأ والنسيان، ألا تخدش الآية أعلاه في عصمة الرسول صلى الله عليه و آله؟

الجواب:

التأمّل في الآية التي تليها يبيّن بكلّ وضوح أنّ الحديث وإن كان حسب الظاهر موجّهاً إلى النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، لكنّ المراد في الواقع هو أصحابه، وأنّهم لو ابتلوا بالنسيان وشاركوا في المجالس الملوثة بالذنوب، واستهزأ الكفّار بمقدساتهم فيجب عليهم ترك ومغادرة ذلك المكان فوراً، وذلك لكي يلتفتوا إلى أنفسهم، وهذا في الحقيقة من قبيل المثل العربي المعروف: «ايَّاكَ اعْنِى وَاسْمَعِى يَاجَارَةٌ».

إذ انّنا نقرأ في الآية التي تليها: «وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَىْ ءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ». (الأنعام/ 69)

______________________________

(1) تفسير القرطبي، ج 8، ص 5272، ذيل الآيات مورد البحث.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 127

وكما نلاحظ فالكلام في هذه الآية يخصّ المتّقين، والمقصود

منه عامّة المسلمين لا شخص النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، وهذه الآية تكمل بحث الآية السابقة عليها.

نظير هذه الأبحاث يشاهد في الكثير من الحوارات اليومية أيضاً وفي آداب مختلف اللغات، والتي توجّه الكلام إلى شخص معيّن وتقصد شخصاً غيره.

من جملتها ما نشاهده في القرآن الكريم وذلك عند التوصية في حقّ الأبوين:

«وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيماً». (الاسراء/ 23)

واضح أنّ الضمير في «ربّك» يعودإلى النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، في حين أنّ خطاب «ألّا تعبدوا» موجّه إلى كافّة المؤمنين (لوروده بصيغة الجمع)، ثمّ أنّه في جملة: «إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ»، وإلى آخر الآية، فالضمائر كلّها مفردة والمخاطب فيها هو النبي الأكرم صلى الله عليه و آله مع علمنا بأنّه صلى الله عليه و آله كان قد فقد أبويه لسنين طويلة قبل النبوّة، وبناءً على هذا فمثل هذه الأوامر حول احترام الأبوين التي تخاطب النبي الأكرم صلى الله عليه و آله إنّما هي من قبيل المتقدّم: «ايَّاكَ اعْنِي وَاسْمَعِي يَاجَارَة».

وما ذهب إليه جمع من مفسّري أهل السنّة، من عدم المانع من كون النبي الأكرم صلى الله عليه و آله هو المخاطب في الآية مورد البحث، وجواز مثل هذا النسيان في حقّه، لا يبدو صحيحاً، حيث إنّ مورد آية النسيان هو أحكام اللَّه تعالى، وهل يصحّ أن ينسى النبي الأكرم صلى الله عليه و آله الأحكام الإلهيّة، وأي اعتماد واطمئنان بعد ذلك في كلامه عن الوحي الذي هو أساس دعوته والحالة هذه؟!

ه) البعض من آيات سورة «الضحى» هي من جملة الآيات التي تدعونا، نحن الذين

نعتقد بلزوم عصمة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله منذ ولادته، للإستفسار، يقول تعالى: «أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى* وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى* وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى». (الضحى/ 6- 8)

للمفسّرين آراء مختلفة حول تفسير هذه الآية وبيان محتواها: فالقليل منهم فسّر الآية بمعنى الكفر والضلال، بل حتّى أنّ بعض المفسّرين الغافلين الذين يجهلون أدلّة العصمة

نفحات القرآن، ج 7، ص: 128

قالوا: إنّ نبي الإسلام صلى الله عليه و آله كان على دين قومه (الوثنية) أربعين سنة إلى أن هداه اللَّه.

لكن كلّ مفسّري «الشيعة» وجمهور مفسّري «السنّة» (كما اعترف بذلك الفخر الرازي) لم يقبلوا مثل هذا التفسير، بل متّفقون بالجملة على أنّ نبي الإسلام صلى الله عليه و آله لم يكفر طوال عمره، ولو لحظة واحدة ولم يشرك أبداً.

ولهؤلاء المفسّرين آراء عديدة حول تفسير الآية وقد بلغ عددها عشرين تفسيراً، جمعها الفخر الرازي في ذيل الآية مورد البحث، ومن التفاسير التي تلفت النظر وتتسق مع مضمون الآية وسائر آيات القرآن هي التفاسير التالية:

1- مع الإلتفات إلى الآيتين السابقة واللاحقة لها واللتين تشيران إلى فترة طفولته صلى الله عليه و آله وشبابه، أي الإشارة إلى أنّك أيّها النبي الأكرم صلى الله عليه و آله قد تعرضت للضياع في تلك الفترة (مراراً) وتعرّضت حياتك للخطر (تارةً حينما جاءت بك امّك من مرضعتك «حليمة السعدية» وذلك بعد انقضاء فترة رضاعك إلى مكّة لتسلّمك إلى عبدالمطلّب فضعت في الوادي، وتارةً أخرى بين أودية مكّة حين كنت في كفالة عبدالمطلّب، وثالثة حينما كنت متّجهاً مع عمّك أبي طالب في قافلة إلى الشام، إذ ضللت الطريق في ليلة حالكة الظلام، وانقطع عنك رفاق طريقك)، فهداك اللَّه في كلّ هذه الموارد وأعادك إلى أحضان جدّك أو عمّك

الحنونين.

الدليل على هذا التفسير هو إشارة الآية التي سبقتها إلى مسألة يُتم النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، واللاحقة لها المشيرة إلى فقره المادّي، «الضلالة» و «الهداية» اللتين توسطتا هاتين الآيتين، هما تلك الهداية والضلالة الماديّة والجسمية، وإلّا فثبوت الهداية المعنوية بين هذين الأمرين المادّيين لا يبدو مناسباً كثيراً (تأمّل جيّداً).

2- المراد من الضلالة والهداية هو الإطّلاع وعدمه، على الأسرار النبوية وقوانين الإسلام ومعارف القرآن، أي أنّك لم تكن مطّلعاً أبداً على هذه الامور، بل قذف اللَّه هذا النور في قلبك لتهدي به الناس.

الدليل على هذا الإدّعاء هو آيات أخرى من القرآن، من جملتها الآية التي تقول: «مَا

نفحات القرآن، ج 7، ص: 129

كُنْتَ تَدْرِى مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِى بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا».

(الشورى/ 52)

بديهي أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وقبل بلوغه لمقام النبوّة والرسالة كان يفتقر إلى هذا الفيض الإلهي، أي مقام الرسالة والمعارف القرآنية رغم كونه موحّداً، فأخذ اللَّه بيده وهداه وبلغ به هذا المقام.

التعبير «نَهْدِى بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا» في هذه الآية يبيّن أنّ المراد من الهداية هنا هو نفس الهداية إلى الإسلام.

ونقرأ في ثالث آية من سورة يوسف أيضاً:

«نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ».

مع أنّ هذا التفسير قد أعطى الهداية والضلالة مفهومهما المعنوي الذي يتفاوت وكما قلنا مع الآية السابقة واللاحقة عليهما، لكنّه يعدّ قرينة لما ذكرنا مع الأخذ بنظر الاعتبار بأنّ الْقُرآن يُفَسِّرُ بَعْضُهُ بَعْضَاً، التفاتاً إلى الآيات الأخرى.

3- المراد من «الضالّ» هنا هو «الضياع بين قومه وأهله من الناحية الشخصية» وذلك كما نقرأ في حديث عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه

السلام أنّه قال: « «وَوَجَدَكَ ضَالّاً»، أي ضالّة في قوم لا يعرفون فضلك فهداهم إليك» «1».

و تفسير هذا المعنى جاء بتعبير آخر في تفسير نور الثقلين عن عيون أخبار الرضا عليه السلام «2».

إطلاق لفظة «الضالّ» و «الضالّة» على هذا المعنى شي ء طبيعي، كما جاء في الحديث:

«الحكمة ضالّة المؤمن» «3».

إذن فهناك تفاسير مقبولة عديدة لهذه الآية لا تتنافى ومقام العصمة.

______________________________

(1) تفسير مجمع البيان، ج 10، ص 506.

(2) تفسير نور الثقلين، ج 5، ص 596.

(3) نهج البلاغة، الكلمات القصار، الكلمة 80.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 130

10- الأنبياء السابقون بشكل عامّ

هناك تعبير في القرآن الكريم حول عامّة الأنبياء يثير الاستفهام حول مسألة العصمة، وذلك حينما يقول تعالى: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِىٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِى أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِى الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ».

(الحجّ/ 52)

وهنا ربّما يطرح هذا السؤال، وهو أنّه كيف يكون الأنبياء معصومين في حين أنّ قلوبهم- طبقاً للآية أعلاه- معرّضة للإغواء الشيطاني؟!

اسطورتا الآيات الشيطانية والغرانيق:

ذكروا حول هذا الموضوع قصّة عرفت ب «قصّة الغرانيق»، هذه القصّة تقول: إنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله كان مشغولًا بقراءة سورة «النجم» أمام المشركين، فوصل إلى هذه الآية:

«أَفَرَأَيْتُمْ اللَّاتَ وَالْعُزَّى* وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى» وفي هذه الأثناء أجرى الشيطان على لسانه هاتين الجملتين: «تِلْكَ الْغَرانِيْقُ الْعُلى وَانَّ شَفاعَتُهُنَّ لَتُرْتَجى «1» فابتهج المشركون لسماعهم هاتين الجملتين، وقالوا: لم يذكر «محمّد» آلهتنا بخير إلى الآن أبداً، فسجد النبي وسجدوا معه أيضاً في تلك الحال، بعد ذلك تفرّق مشركو قريش فرحين، فلم يمض وقت حتّى نزل جبرائيل وأخبر النبي قائلًا: إنّي لم آتِك بهاتين الجملتين أبداً!، إنّه من القاء الشيطان!! ونزل بالآية: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِىٍّ ...» كما حذّر النبي والمؤمنين أيضاً من هذا الشي ء «2».

مع هذا الحديث تكون عصمة الأنبياء حتّى في تلقّي الوحي، معرّضة للخطر والإعتماد عليها غير ثابت.

______________________________

(1) «الغرانيق» جمع «غرنوق» نوع من الطيور المائية البيضاء أو السوداء اللون ... كما جاءت بمعاني أخرى أيضاً (نقلًا عن قاموس اللغة).

(2) ذكر معظم المفسّرون هذا الحديث بتفاوت ضئيل وانتقدوه.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 131

الجواب:

في البداية يجب فصل نصّ الآية عن الروايات الموضوعة التي حيكت حولها ولننظر إلى ما تقول، ثمّ نتعرّض لنقد وتحقيق الروايات:

من المحقّق أنّ

هذه الآية وبقطع النظر عن الهوامش المصطنعة، لا تخدش عصمة الأنبياء فحسب، بل تعدّ من الأدلّة على عصمتهم أيضاً: إذ يقول: حينما يتمنّى الأنبياء امنية صالحة ( «الامنية» تطلق على كلّ أنواع الأمل والرجاء، لكنّها هنا تعني البعد الايجابي البنّاء لتحقيق أهداف الأنبياء، لأنّها لو لم تكن ذات بعد إيجابي لما ألقى فيها الشيطان إلقاءاته)، كان الشيطان ينقض عليهم ويلقي القاءاته لكن اللَّه كان يبطلها على الفور، ويحكم آياته قبل أن تترك تلك الوساوس أثرها السي ء على إرادة الأنبياء وتصرّفاتهم.

(لا يخفى أنّ «الفاء» في (فينسخ اللَّه) إشارة إلى الترتيب المتصل، أي أنّ اللَّه كان ينسخ ويزيل القاءات الشيطان مباشرة)، الدليل على هذا الكلام هو آيات القرآن الأخرى التي تقول بصراحة: «وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا». (الإسراء/ 74)

نظراً إلى أنّ الآية (73): «وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِىَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا» من نفس سورة الإسراء والتي سبقت هذه الآية، تبيّن أنّ الكفّار والمشركين كانوا يسعون بوساوسهم إلى حرف النبي الأكرم صلى الله عليه و آله عن الوحي السماوي، فيتّضح أنّ اللَّه تعالى لم يدع لهم المجال أبداً ليفلحوا بوساوسهم تلك (تأمّل جيّداً).

كما نقرأ أيضاً: «وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْ ءٍ». (النساء/ 113)

هذه كلّها تبيّن أنّ اللَّه قد حفظ نبي الإسلام من كلّ أنواع الإنحراف ولم يفسح المجال أبداً بمنّه وفضله من نفوذ وساوس شياطين الإنس والجنّ إليه.

هذا كلّه فيما لو حملنا «الامنية» على «الغاية» أو «الخطّة» أو «الشروع» (لأنّ جذور هذه الكلمة الأصيلة تعود إلى «التقدير والتصوّر والفرض»).

لكن لو حملنا «الامنية» على التلاوة، كما احتمله معظم

المفسّرين، بل وحتّى استشهدوا

نفحات القرآن، ج 7، ص: 132

ببعض أشعار «حسّان بن ثابت» لإثبات هذا المدّعى «1».

كما أنّ الفخر الرازي قال في تفسيره: فالحاصل من هذا البحث أنّ الامنية إمّا القراءة وإمّا الخاطر «2».

ففي هذه الصورة سيكون مفهوم الآية هو أنّ الأنبياء الإلهيين، عندما كانوا يقرأون آيات اللَّه ومواعظه أمام الكفّار والمشركين كان الشياطين يلقون وساوسهم وسمومهم بين ثنايا كلماتهم لإغفال الناس، بالضبط كما طبّقوا هذا الشي ء في حقّ نبي الإسلام صلى الله عليه و آله أيضاً، أي كما نقرأ في قوله تعالى «وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَاتَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ». (فصلت/ 26)

طبقاً لهذا المعنى يتّضح مفهوم الآية التي بعدها أيضاً والتي تقول: «لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِى الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ». (الحجّ/ 53)

كما أنّ من المتعارف اليوم أيضاً أنّه حينما يشرع مصلحو المجتمعات البشرية، بإلقاء خطبهم البنّاءة وسط جمهور من الناس يسعى المنحرفون الذين في قلوبهم مرض، إلى محو آثار تلك الخطب بالقيل والقال والشعارات الفارغة والتعابير الشيطانية التافهة.

وهذا في الحقيقة اختبار لأفراد المجتمع، وهنا ينحرف المرضى القاسية قلوبهم عن طريق الحقّ، في حين يزداد إيمان المؤمنين شيئاً فشيئاً بحقّانية الأنبياء، والتمسّك بدعوتهم «وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ».

لكن تفسير الآية طبقاً للمعنى الأخير لا يخلو من إشكال، لأنّ الإلقاءات الشيطانية في نفوس الأنبياء عليهم السلام مهما كانت تنسخ وتزال بالإمدادات الإلهيّة على الفور، لكنّها لا يمكنها

______________________________

(1) الشعر هو هذا:

تمنّى كتاب اللَّه أوّل ليلةوآخرها لاقى حمام المقادر

جاء تمنّى الكتاب بمعنى تلاوة الكتاب في «تاج العروس» القاموس وكذلك في متن «القاموس»، ثمّ ينقل الزهري أنّ «الامنية» تطلق على التلاوة لكن القارى ء كلّما انتهى

بآية رحمة تمنّاها، وكلّما وصل إلى آية منها ذكر للعذاب تمنّى النجاة منه. لكن صاحب «مقاييس اللغة» يعتقد أنّ إطلاق هذه اللفظة على التلاوة إنّما هو لأجل وجود نوع من القياس ووضع كلّ آية في مكانها.

(2) تفسير الكبير، ج 23، ص 51.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 133

أن تكون أساساً لاختبار المنافقين والذين في قلوبهم مرض لبداهة عدم تحقّق وجود خارجي لهذه الوساوس، إنّما هي القاءات عابرة في نفوس الأنبياء.

إلّا أن يقال بأنّ المراد هو أنّه حينما يريد الأنبياء الإلهيون تجسيد (امنياتهم وخططهم) وتنفيذها في الخارج، يشرع الشياطين بتحطيمها وإلقاء السموم والوساوس عليها، وهنا تتجسّد ساحة الإختبار الساخنة، وطبقاً لهذا البيان فالإنسجام والإرتباط بين الآيات الثلاث (الحجّ/ 52 و 53 و 54) محفوظ وقائم.

العجيب أنّ بعض المفسّرين ذكروا للآية الاولى احتمالات وتفاسير مختلفة دون الحفاظ على انسجامها مع الآيتين اللتين تليانها (تأمّل جيّداً).

على أيّة حال نستنتج من مجموع ما تقدم عدم وجود ما ينفي مسألة عصمة الأنبياء من الخطأ والانحراف في الآية مورد البحث، بل هي على العكس من ذلك تؤكّد على هذه المسألة لأنّها تقول إنّ اللَّه يحفظ أنبياءه من القاءات الشيطان حين تلقّي الوحي أو التصميم على إنجاز أعمال أخرى.

والآن يجب أن نلتفت إلى الروايات والأساطير التي ذكرت في هذا القسم، والتي دفعت بالبعض من شياطين الإنس في الأونة الأخيرة إلى تأليف كتاب «الآيات الشيطانية»، أملًا في إيجاد الفتنة وإلقاء السموم والشبهات حول سيرة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، لنعرف ما قيمة مثل هذه الروايات والأساطير؟

نقد الروايات المرتبطة بأسطورة الغرانيق:

كما تقدّم القول إنّ الآيات السابقة لا تحتوي على ما يتنافى وعصمة الأنبياء، بل هي على العكس دليل على عصمتهم، لكن هناك قضايا عجيبة جدّاً يمكن مشاهدتها

في الروايات المذكورة في بعض مصادر أهل السنّة من الدرجة الثانية والتي ينبغي التحقيق فيها على انفراد، هذه الروايات التي ذكرناها في بداية البحث، منقولة تارةً عن ابن عبّاس وأخرى

نفحات القرآن، ج 7، ص: 134

عن سعيد بن جبير وثالثة عن البعض من الصحابة أو التابعين «1».

مع أنّ هذه الروايات لم تشاهد في أي مصدر لأتباع مذهب أهل البيت عليهم السلام، كما أنّه لا وجود لها أيضاً في كتب الصحاح الستّة على حدّ قول بعض علماء أهل السنّة، حتّى أنّ المراغي يقول في تفسيره: «وقد دسّ بعض الزنادقة في تفسير هذه الآية أحاديث مكذوبة لم ترد في كتاب من كتب السنّة الصحيحة، وأصول الدين تكذبها، والعقل السليم يرشد إلى بطلانها ... ويجب على كلّ العلماء طرحها وراء ظهورهم، ولا يضيعوا في تأويلها وتخريجها، ولا سيّما بعد أن نصّ الثقات من المحدّثين على وضعها وكذبها» «2».

كما ونقرأ نفس هذا المعنى بشكل آخر في تفسير «الجواهر» ل «الطنطاوي» حيث يقول: «هذه الأحاديث لم تذكر في أي واحد من كتب الصحاح الستّة مثل موطأ مالك، صحيح البخاري، صحيح مسلم، جامع الترمذي، سنن ابن داود، وسنن النسائي» «3».

ولذا لم يذكره كتاب «تيسير الوصول لجامع الأصول» الجامع للروايات التفسيرية للكتب الستّة، وذلك عند تفسيره لآيات سورة النجم. ومن هنا فليس من اللائق الإهتمام بهذا الحديث أو حتّى التحدّث به، فضلًا عن التعليق عليه أو ردّه ... هذا الحديث كذب واضح!» «4».

من الأدلّة التي يذكرها «الفخر الرازي» على كون هذا الحديث من الموضوعات قوله:

«وأيضاً فقد روى البخاري في صحيحه أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله قرأ سورة النجم وسجد فيها المسلمون والمشركون والإنس والجنّ، وليس فيه حديث «الغرانيق»، وروي هذا

الحديث من طرق كثيرة وليس فيها حديث الغرانيق بتاتاً» «5».

ولم يقتصر الأمر على المفسّرين الذين ذكرناهم، بل هناك أفراد آخرون أيضاً مثل

______________________________

(1) لمزيد من الإطّلاع على طرق هذه الروايات عند أهل السنّة يمكن الرجوع إلى تفسير درّ المنثور، ج 4، ص 366- 368 ذيل الآية 52 من سورة الحجّ.

(2) تفسير المراغي، ج 17، ص 130، ذيل الآيات مورد البحث.

(3) يجب الإلتفات إلى أنّ سنن ابن ماجه هي من الصحاح الستّة لا موطأ مالك.

(4) تفسير الجواهر، ج 6، ص 46.

(5) تفسير الكبير، ج 23، ص 50.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 135

«القرطبي» في تفسير «الجامع» وسيّد قطب في تفسيره «في ظلال القرآن» وغيرهما وعموم كبار مفسّري الشيعة أيضاً، حيث اعتبروا هذه الرواية من الخرافات والموضوعات ونسبوها إلى أعداء الإسلام.

ومع كلّ هذا فلا عجب أن يضع أعداء الإسلام خصوصاً المستشرقون الحاقدون الأموال الطائلة في خدمة نشر هذه الرواية ويقومون بالعمل عليها بكلّ جديّة، وقد رأينا في الأونة الأخيرة كيف أنّهم شجّعوا كاتباً شيطانياً لتأليف كتاب تحت عنوان «الآيات الشيطانية»، حيث إنّه استفاد من عبارات ركيكة جدّاً ومن خلال قصّة خيالية لم يقتصر على هتك مقدّسات الإسلام ووضعها في معرض الشكّ والترديد فحسب، بل أهان الأنبياء العظام الذين تكنّ لهم كلّ الأديان السماوية الاحترام أيضاً (مثل إبراهيم على نبيّنا وآله وعليه السلام).

وليس عجيباً أيضاً أن يترجم النصّ الانكليزي لهذا الكتاب إلى مختلف اللغات وبسرعة خيالية، ويوزّع في كلّ أنحاء العالم، وحينما أصدر الإمام الخميني قدس سره فتواه التأريخية بارتداد كاتب هذا الكتاب أي «سلمان رشدي» ولزوم قتله، بادرت الدول الاستعمارية وأعداء الإسلام إلى حمايته بشكل منقطع النظير. هذه الحركة العجيبة أثبتت أنّ هناك من يقف وراء سلمان رشدي وأنّ

المسألة هي أكبر من مجرّد تأليف كتاب معادٍ للإسلام، وأنّها في الواقع خطّة مدروسة من قبل الغرب المستعمر والصهيونية لضرب الإسلام من خلال وقوفهم معه بكلّ حزم.

لكن الصمود القوي للإمام الخميني قدس سره في فتواه، واستمرار نهجه من قبل نوّابه، وما نالته تلك الفتوى من القبول والترحاب من قبل غالبية الشعوب المسلمة في العالم خيّب آمال المفتعلين، بل لا زال مؤلّف هذا الكتاب وإلى لحظة تدويننا لهذا البحث يعيش متخفياً في محلّ مجهول بالكامل، تحت رقابة مشدّدة من قبل الدول الاستعمارية، ويبدو أنّه مضطرّ للعيش هكذا إلى آخر لحظات حياته إن لم يقتل على أيدي نفس تلك الدول، فيما لو أرادت غسل ذلك العار الذي لحق بها نتيجة دفاعها عنه.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 136

وبناءً على هذا فالدافع ل «وضع» هذه الرواية المزورة سيكون هو السبب في بقائها أيضاً، وبعبارة اخرى هناك محاولة من قبل أعداء الإسلام كانت قد بدأت في السابق، ثمّ واصلت مسيرها بعد الف سنة أو أكثر مدعومة من قبل طائفة أخرى وبصورة مكثفة.

ومن هنا فلا حاجة لنقل التبريرات التي اثيرت بشأن هذا الحديث كالتي وردت في تفسير «روح المعاني» بشكل موسّع، أو في تفاسير أخرى بشكل مركّز.

وكما أكد كبار علماء الإسلام فان الحديث الذي يكون أساسه خاوياً فإنّه لا يستحق أن يعطى اهمية في تفسيره أو تسليط الأضواء عليه.

لكن هناك بعض الملاحظات ينبغي ذكرها لتوضيح المطلب ليس إلّاوهي:

1- الصراع المرير لنبي الإسلام صلى الله عليه و آله ورفض المساومة مع عبدة الأصنام والأوثان عند بدء الدعوة وإلى آخر عمره، وهو أمر لا يخفى على أحد من الأعداء والأصدقاء، وأهمّ شي ء لم يساوم عليه أبداً ولم يتصالح أو يزيغ عنه هو هذا الموضوع،

فكيف يمكن والحالة هذه أن يمدح أصنام المشركين بهذه الأوصاف ويذكرها بخير؟

وقد أكدت التعاليم الإسلامية أنّ الذنب الوحيد الذي لم يغفر أبداً هو الشرك وعبادة الأوثان، ولذا اعتبر مسألة ضرب أماكن عبادة الأصنام واجبة على كلّ مكلّف مهما كلفه الأمر، كما أنّ القرآن من ألفه إلى يائه شاهد على ذلك ويشكل بنفسه قرينة واضحة على وضع حديث الغرانيق الذي ذكر فيه تمجيد ومدح الأوثان والوثنية.

2- فضلًا عن أنّ الذين وضعوا اسطورة الغرانيق لم يلتفتوا إلى هذا الموضوع وهو أنّ مروراً بسيطاً على آيات سورة النجم يبطل هذه الخرافة، ويثبت عدم وجود الإنسجام بين مدح وتمجيد الأوثان في جملة «تلك الغرانيق العلى، وأنّ شفاعتهنّ لترتجى» وبين الآيات التي تحفّ بها، إذ قد صرّح في بداية نفس هذه السورة بأنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله لم ينطق عن هوى النفس أبداً وأنّ كلّ ما يقوله بالنسبة لعقائد وقوانين الإسلام إنّما هو من الوحي الإلهي «وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْىٌ يُوحَى». (النجم/ 3- 4)

وتصرّح الآيات بأنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله لم ينحرف أبداً عن طريق الحقّ «مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى».

نفحات القرآن، ج 7، ص: 137

وأي ضلال وانحراف أعظم من يأتي بحديث عن الشرك والثناء على الأصنام بين آيات التوحيد؟ وأي منطق أسوء من أن يضيف كلام الشيطان (تلك الغرانيق العلى) إلى كلام اللَّه تبعاً للهوى.

والمثير هنا أنّ الآيات التي تتلوها تذمّ الأصنام والمشركين وتقول «إِنْ هِىَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ». (النجم/ 23)

أي عاقل يصدّق أنّ شخصاً رزيناً حكيماً وفي مقام النبوّة وإبلاغ الوحي، يمدح الأصنام في

الجملة السابقة ويذمّها بشدّة وعنف في جملتين بعدها؟! كيف يمكن توجيه هذا التناقض الصارخ بين الجملتين تباعاً؟

ومن هنا يجب الإعتراف بأنّ الإنسجام القائم بين آيات القرآن هو بشكل يرفض كلّ شبهة تضاف إليها من قبل المعاندين والمغرضين، ويثبت كونها جملة غريبة وإضافة غير متجانسة وأنّها ليست في محلّها، هذا هو المصير الذي ابتلي به حديث الغرانيق بين طيّات آيات سورة النجم.

وهنا يبقى سؤال واحد، وهو البحث عن السرّ وراء كلّ هذه الشهرة، التي لاقاها موضوع تافه لا أساس له كهذا؟

جواب هذا السؤال ليس بتلك الصعوبة أيضاً، إذ إنّ الفضل في شهرة هذا الحديث يعود بالدرجة الاولى إلى مساعي الأعداء والمرضى، الذين يظنّون أنّهم قد عثروا على اداة جديدة للطعن في مقام عصمة نبي الإسلام واصالة القرآن، وبناءً على هذا التحليل يتّضح شهرته بين الأعداء وهو ممّا لا يخفى، امّا شهرته بين المؤرخّين الإسلاميين المسلمين فعلى حدّ قول بعض علماء الإسلام، ناتج من كون هؤلاء المؤرخّين يبحثون عن كلّ ما هو مثير وغريب وفريد من نوعه وإن كان يفتقر إلى الاصالة التأريخيّة لدرجه بين طيّات كتبهم، ليزيدوا من جاذبيتها قدر المستطاع، ونظراً لكون قصّة كأسطورة الغرانيق حادثة غريبة تنسب إلى حياة نبي الإسلام صلى الله عليه و آله فلم تخلُ منها كتبهم التأريخية، بل وحتّى الروائية منها

نفحات القرآن، ج 7، ص: 138

بغضّ النظر عن ضعف أسانيدها وتفاهة محتواها. كما أنّ البعض أيضاً قد ذكرها للنقد والتحليل.

ثمرة البحث:

يتّضح من مجموع ما مرّ أنّ آيات القرآن تشكّل دليلًا واضحاً يؤكّد على عصمة الأنبياء، فضلًا عن خلوّها عما يتنافى وتلك المنزلة الرفيعة.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 139

أقوال وآراء حول عصمة الأنبياء عليهم السلام

اشارة

نفحات القرآن، ج 7، ص: 141

أقوال وآراء حول عصمة الأنبياء عليهم السلام

مسألة تنزيه الأنبياء من الذنب والخطأ يتفق عليها أغلب المسلمين، بل وحتى أصحاب الملل والشرائع الاخرى لكن هناك اختلافات كثيرة وآراء وأقوالًا متنوّعة فيما يتعلّق بخصوصياتها، قد تناولتها كتب العقائد والتفسير، والحديث بالشرح والتفصيل.

المرحوم العلّامة الحلّي في كتابه «نهج الحقّ وكشف الصدق» «1» وكذلك هو وكل من شرح «تجريد العقائد» في شرح كلام الخواجة الطوسي «ويجب في النبي العصمة»، وكذلك «ابن أبي الحديد» في شرح نهج البلاغة «2»، حيث تناولوا كلّهم هذه الأقوال بشكل مطوّل، لكن المرحوم «العلّامة المجلسي» قام بشرح وترتيب هذا البحث بشكل أفضل من غيره، وهو ما سنذكر خلاصته أدناه على أمل الإحاطة بكل الأقوال المتعلقة بهذه المسألة، (إضافات وضعناها بين قوسين تخللت كلام هذا المحقّق العظيم).

يقول في بحث عصمة الأنبياء عليهم السلام:

اعلم أنّ الاختلاف الواقع في هذا الباب بين علماء الفريقين يرجع إلى أربعة أقسام:

أحدها، ما يقع في باب العقائد. وثانيها، ما يقع في التبليغ. وثالثها، ما يقع في الأحكام والفتيا.

ورابعها، في أفعالهم وسيرهم عليهم السلام. وأمّا الكفر والضلال في الإعتقاد، فقد أجمعت الامّة على عصمتهم عنهما قبل النبوّة وبعدها، غير أنّ الأزارقة من الخوارج جوّزوا عليهم الذنب.

وكلّ ذنب عندهم كفر، فلزمهم تجويز الكفر عليهم، بل يحكى عنهم أنّهم قالوا: يجوز أن

______________________________

(1) دلائل الصدوق، ج 1، ص 368.

(2) شرح نهج البلاغة لإبن ابي الحديد، ج 7، ص 7- 20.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 142

يبعث اللَّه نبيّاً علم أنّه يكفر بعد نبوّته! (لكن ضعف هذا الكلام هو بدرجة لا يمكن اعتباره ضمن أقوال العلماء المتقدّمين، وكذلك تعبير بعض مفسّري أهل السنّة في ذيل الآية:

«وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى». (الضحى/ 7)

وذيل الآية: «مَا كُنْتَ تَدْرِى مَا الْكِتَابُ وَلَا

الْإِيمَانُ». (الشورى/ 52)

وذيل الآية: «وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ». (الشرح/ 2)

والآية: «قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ». (البقرة/ 131)

يبيّن أنّ البعض منهم يقول بجواز مسألة الكفر والشرك قبل النبوّة، لكن- وكما قلنا- لا يمكن اعتبار هذا الكلام من أقوال علماء الإسلام).

وامّا النوع الثاني وهو ما يتعلّق بالتبليغ فقد اتّفقت الامّة، بل جميع أرباب الملل والشرائع على وجوب عصمتهم عن الكذب والتحريف، فيما يتعلّق بالتبليغ عمداً أو سهواً إلّا «القاضي أبو بكر الباقلاني»، فإنّه جوّز ما كان من ذلك على سبيل النسيان وفلتات اللسان، (هذا القول نادر بدرجة بحيث لا يعتبر شيئاً في مقابل القول بالإجماع).

أمّا النوع الثالث وهو ما يتعلّق بالفتيا فأجمعوا على أنّه لا يجوز خطأهم فيها عمداً وسهواً، إلّاشرذمة قليلة من العامّة (التي خرقت هذا الإجماع، والتي لا يعتدّ بها أيضاً) (ينقل ابن أبي الحديد هنا عن الكرامية والحشوية «1» بأنّهم لم يقتصروا على القول بجواز الخطأ فقط في هذا القسم، بل استدلّوا باسطورة الغرانيق الموضوعة لإثبات هذا المقصود بالنسبة للنبي الأكرم صلى الله عليه و آله «والعياذ باللَّه»).

وامّا النوع الرابع وهو أفعالهم، فقد اختلفوا فيها على خمسة أقوال:

1- مذهب الشيعة الإمامية وهو أنّه لا يصدر عنهم الذنوب الصغيرة أو الكبيرة ولا العمد والنسيان والخطأ في التأويل ولا للإسهاء من اللَّه سبحانه، ولم يخالف فيه (وفي مورد واحد فقط) إلّاالشيخ الصدوق وشيخه محمّد بن الحسن بن الوليد فانّهما جوّزا الإسهاء لا السهو،

______________________________

(1) «الكرامية» هم أتباع محمّد بن كرام الذي ظهر في القرن الثالث وقال بالتجسيم، و «الحشوية» (بفتح الشين أوسكونها) طائفة من المعتزلة الذين ذهبوا وراء ظواهر القرآن وقالوا بالتجسيم، وقال البعض إنّ هذه الفرقة الضالّة شاركت أوّلًا في درس الحسن البصري، وحينما سمع الحسن منهم كلاماً

يخالف الإسلام أمر بإخراجهم.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 143

الذي يكون من الشيطان وكذا القول في الأئمّة الطاهرين عليهم السلام.

2- أنّه لا يجوز عليهم فعل الكبائر، ويجوز عليهم فعل الصغائر إلّاالصغائر التي تشمئز منها النفوس، وكلّ ما ينسب فاعله إلى الدناءة والضعّة، وهذا قول أكثر المعتزلة «1».

3- أنّه لا يجوز أن يأتوا بصغيرة ولا كبيرة بشكل عمد، لكن يجوز على سبيل الخطأ أو السهو، وهو قول «أبي علي الجبائي» أحد متكلّمي المعتزلة ومن أقطابهم «2».

4- أنّه لا يقع منهم الذنب إلّاسهواً اوخطأً، لكنّهم مسؤولون عما يقع منهم سهواً، وإن كان موضوعاً عن أممهم، لقوّة معرفتهم وعلو رتبتهم وكثرة دلائلهم، وأنّهم يقدرون من التحفّظ على ما لا يقدر عليه غيرهم .. وهو قول النظام «3» (الذي هو من علماء المعتزلة المعروفين في عهد بني العبّاس) وجعفر بن مبشّر ومن تبعهما.

5- أنّه يجوز عليهم الكبائر والصغائر عمداً وسهواً وخطأً، وهو قول «الحشوية» (الاخباريين من أهل السنّة، لكن لا يُعلم في الوقت الحاضر أحد منهم مؤيّد لهذا المذهب) وكثير من أصحاب الحديث من العامّة.

ثمّ يضيف المرحوم «العلّامة المجلسي» قائلًا:

ثمّ اختلفوا في وقت عصمة الأنبياء على ثلاثة أقوال.

الأوّل: إنّهم معصومون منذ ولادتهم إلى أن يلقوا اللَّه سبحانه، وهو مذهب أصحابنا الإمامية.

الثاني: إنّ عصمتهم تبدأ من حين بلوغهم، ولا يجوز عليهم الكفر والكبيرة قبل النبوّة، وهو مذهب كثير من المعتزلة.

الثالث: إنّ عصمتهم تبدأ من وقت «النبوّة»، وأمّا قبل ذلك فيجوز صدور المعصية عنهم،

______________________________

(1) «المعتزلة» أتباع «واصل بن عطاء» الذي هو من تلاميذ الحسن البصري ثمّ أعلن عن مخالفته إيّاه واعتزله، ولذا عرف أصحابه بالمعتزلة ولهم مؤيّدون كثيرون بين أهل السنّة.

(2) «جبا» كان إسماً لإحدى مناطق خوزستان.

(3) إسمه «إبراهيم بن سيّار» ولقّب ب

«النظام» لأنّه كان يمتهن حرفة ترتيب الأختام وبيعها في سوق البصرة، أو لأنّه كان يتحدّث بشكل منظّم.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 144

وهو قول أكثر «الأشاعرة» ومنهم الفخر الرازي، وبه قال «أبو هذيل» «وأبو علي الجبائي» من المعتزلة «1».

والملفت للنظر أنّ المصدر الرئيس لهذه الأقوال المتفرقة يعود بالدرجة الاولى إلى عاملين كما يبدو:

1- عدم وضوح البعض من ظواهر آيات القرآن التي يشمّ منها للوهلة الاولى نفي العصمة في بعض امورهم، في حين أنّ التدقيق في هذه الآيات، وتفسيرها على ضوء آيات القرآن الاخرى ينفي هذا التوهّم بالمرّة، ولكن نظراً لأنّ أهل الظاهر والجمود لم يكلّفوا أنفسهم عناء التحقيق والتدقيق فقد ابتلوا بمثل هذه العقائد.

2- فريق اعتبر بعض افراده الأدلّة العقليّة دخيلة في هذه المسألة، وفسّر آيات القرآن أفضل من صاحبه، كلّ اعتمد أحد الأقوال المتقدّمة، نظراً لتوهّمهم بأنّ الهدف من البعثة إنّما يتحقّق بالعصمة بعد النبوّة، أو العصمة في خصوص نطاق دائرة التبليغ، أو من الذنوب الكبيرة.

لكن الحقّ هو أنّ الأنبياء معصومون بشكل عامّ من الذنوب العمدية وغيرها، كبيرة كانت أم صغيرة، قبل «البلوغ» و «النبوّة» أم بعدها، وكذلك من الخطأ سواء أكان في العقيدة، أو تبليغ النبوّة وأداء الرسالة، أو بيان الأحكام أو غيرها.

هذه هي عقيدة علماء الشيعة، عقيدة أصحابنا في تنزيه الأنبياء والأئمّة عليهم السلام من كلّ ذنب ودناءة ومنقصة قبل النبوّة وبعدها، ودليلهم على ذلك روايات أئمّة الهدى عليهم السلام الثابتة قطعاً عن طريق إجماع الأصحاب، والروايات المتظافرة، حتّى صار ذلك من قبيل الضروريات في مذهب الإمامية» (انتهى كلام العلّامة المجلسي) «2».

ومع هذا فمن المثير للعجب ما ينسبه بعض أعداء الشيعة لهذا المذهب بما يتنفّرون منه في كلماتهم، كقولهم مثلًا: إنّ الشيعة يجوّزون تظاهر الأنبياء

بالكفر تقيّة خوفاً على حياتهم!

______________________________

(1) بحار الأنوار، ج 11، ص 89- 91.

(2) المصدر السابق، 91.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 145

ثمّ إنّهم انهالوا على هذه العقيدة بكلّ عنف! «1».

في حين أنّه لم يقُل أي من علماء الشيعة أي شي ء حول هذا الموضوع، وكم كان مناسباً لو أنّ هذا القائل ذكر ولو اسم شخص واحد، أو كتاباً واحداً على أقلّ تقدير تذكر فيه مثل هذه العقيدة، وحسب قول المرحوم «العلّامة المظفّر» إنّ هذا الكلام كذب جلي، وربّما يكون السبب وراء هذه النسبة هو جعل عقيدة الشيعة في التقيّة محوراً لاستنباطهم الخاطي ء، فمع أنّ إظهار الكفر بل وحتّى ما دونه غير جائز للأنبياء أبداً، مهما تعرّضت حياتهم المقدّسة للخطر في هذا الطريق، وغدت قرباناً للدين والعقيدة.

لكن التقية العملية، كالتي ظهرت من نبي الإسلام صلى الله عليه و آله في مسألة الهجرة، حين خروجه من مكّة سرّاً حتّى وصل المدينة فلا محذور فيها، ولا ربط لهذا بما قالوه.

الأدلّة العقليّة على عصمة الأنبياء عليهم السلام:

اشارة

ذكر أقطاب علماء الكلام أدلّة كثيرة على لزوم عصمة الأنبياء عن طريق العقل، والتي يمكن دمج البعض منها في البعض الآخر، واستبدال الضعيفة منها بالقوية، بحيث ينتج من مجموعها، أدلّة أربعة تستحقّ القبول والذكر:

1- العوامل الداخلية- النفسية-

بتحليل مختصر يمكن القول بسيطرة العوامل المانعة عن الذنب على العوامل الدافعة إليه في نفوس الأنبياء.

بيان ذلك: للذنوب التي يقترفها الأنسان عوامل ومصادر شتّى لكنّها تعود بالدرجة الاولى إلى عاملين مهمين:

1- الجهل وعدم تصور سوء عاقبة الأمر.

2- سيطرة الشهوات والأهواء بشكل، بحيث يستسلم لها العلم والعقل مع قدرتهما على إدراك الآثار السيّئة للذنوب.

______________________________

(1) الشيخ روزبهان في كتاب إبطال الباطل، طبقاً لما نقله في كتاب دلائل الصدوق، ج 1، ص 369.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 146

فالشخص الذي تتلوث يداه بدماء ضحيّة بريئة مثلًا، أو يختار طريق السرقة والسقوط والرشوة، أو يبتلى بلعب القمار وشرب الخمور وتعاطي المواد المخدّرة، لا يخرج عن أحد حالين: إمّا أنّه لا يعلم بمفاسد هذه الأمور بشكل تامّ، أو أنّه عالم بها إلّاأنّه لا يستطيع الصمود أمام ثورة الشهوات والأهواء وعنفوانهما.

وبناءً على هذا فالعلم والإطّلاع لوحدهما غير كافيين للردع عمّا هو غير مرغوب فيه، بل لابدّ- إلى جانب ذلك- من التسلّط على النفس والأهواء.

إن الثمرة التي يمكن أن نجنيها من هذا البحث هي أنّ الإنسان لو كان له اطّلاع كافٍ بقباحة عمل ما، وتسلّط كامل على نفسه وميوله، فيستحيل صدور هذا العمل منه (المراد هنا بطبيعة الحال هو المحال العادي لا العقلي كاجتماع الضدّين) (تأمّل جيّداً).

ويمكن بيان هذه الحقيقة ببعض الأمثلة، وهي أنّ الكثير منّا يمتلك حالة شبيهة بالعصمة في قبال البعض من الذنوب، (أمام البعض منها فقط) مثلًا، لا نجد بيننا من يوافق على الخروج إلى الأزقّة عارياً

في وضح النهار، ولو صادف أن قام أحدنا بمثل هذا العمل فسوف نقطع بزوال عقله ورشده، وإلّا فيستحيل الإقدام على هذا الشي ء مع وجود العقل والوعي.

شرب مياه المجاري القذرة والملوّثة حرام قطعاً، فهل ياترى يوجد بيننا عاقل يُقدم على عمل كهذا؟

الطبيب الماهر المتبحّر في أسرار علم الطب وخطورة أنواع الأمراض المعدية، لا يوافق أبداً على شرب غسالة ملابس المرضى المبتلين بالأمراض والأوبئة المعدية.

وبهذا يمكن القول باختصار: إنّ لنا حصانة ومناعة أمام مثل هذه الأعمال القبيحة، وذلك لوقوفنا عن كثب على مفاسدها، بل إنّ قوّة عقولنا ومعارفنا وإيماننا ستحطّم تلك الميول والرغبات، لو حاولت في يوم ما إيقاعنا في مخالب مثل هذه الأمور، إذن فلو وجد هناك من له اطّلاع كاطّلاعنا على قبح الذنوب والمعاصي، فمن المسلّم أنّه سيتجنّبها بجديّة.

وبعبارة أخرى، إنّ الدوافع نحو المعصية- أعمّ من الجهل أو غلبة الشهوات والأهواء- وقد انتهت وتلاشت في وجود الأنبياء والأئمّة المعصومين في ظلّ علمهم ومعرفتهم وتقواهم.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 147

ولا يخفى أنّ الأنبياء- وبفضل ارتباطهم بعالم الغيب وبحر علم الباري اللامتناهي- لهم إحاطة كافية بحجم مفاسد الذنوب، وقبح مثل هذه الأعمال وفلسفة النهي عنها، ومن جهة أخرى فنفس هذا الإرتباط الذي يكون على مستوى الشهود ومشاهدة عالم الغيب، يخلق فيهم حالة من التقوى بحيث تعدّ رادعاً قويّاً أمام دوافع تلك الأهواء والميول.

خلاصة القول هي: إنّ الوقوف على دوافع المعصية من جهة، وعلى مستوى معرفة وتقوى الأنبياء الناتج من ارتباطهم بعالم الغيب من جهة أخرى، يدعونا للتصديق بحصانتهم وابتعادهم عن كلّ أنواع المعصية.

ورد في رواية عن أمير المؤمنين عليه السلام الإشارة باختصار، مع دلالة تامّة إلى الملاحظة الأولى، حيث يقول: «قرنت الحكمة بالعصمة» «1».

مع أنّ العصمة هنا قد

جاءت بمعناها العام، أي كلّ أنواع الحصانة من المعصية وفي كلّ مراحلها، لكنّها على أيّة حال تعدّ شاهداً على مرادنا.

وجاء في حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال «المعصوم هو الممتنع باللَّه من جميع المحارم، وقد قال اللَّه تبارك وتعالى ومن يعتصم باللَّه فقد هدي إلى صراط مستقيم» «2».

و يمكن أن يكون هذا الحديث إشارة إلى الملاحظة الثانية أو كلتيهما، كما ورد نفس هذا المعنى في حديث هشام بن الحكم بشكل أوفى، فعن ابن أبي عمير- الذي يعدّ من كبار أصحاب الإمام الصادق عليه السلام- أنّه قال: «ما سمعت ولا استفدت من هشام بن الحكم في طول صحبتي إيّاه شيئاً أحسن من هذا الكلام في صفة عصمة الإمام، فانّي سألته يوماً عن الإمام أهو معصوم؟ قال نعم، قلت له: فما صفة العصمة فيه؟ وبأي شي ء تُعرف؟ قال:

إنّ جميع الذنوب لها أربعة أوجه لا خامس لها: الحرص والحسد والغضب والشهوة، فهذه منتفية عنه. ثمّ أضاف قائلًا:

______________________________

(1) غرر الحكم.

(2) بحار الأنوار، ج 5، ص 194، ح 6؛ والآية من آل عمران 101.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 148

لا يجوز أن يكون حريصاً على هذه الدنيا وهي تحت خاتمه، لأنّه خازن المسلمين فعلى ماذا يحرص؟

ولا يجوز أن يكون حسوداً لأنّ الإنسان إنّما يحسد من هو فوقه وليس فوقه أحد، فكيف يحسد من هو دونه.

ولا يجوز أن يغضب لشي ء من أمور الدنيا، إلّاأن يكون غضبه للَّه عزّوجلّ ...

ولا يجوز أن يتّبع الشهوات ويؤثر الدنيا على الآخرة، لأنّ اللَّه عزّوجلّ حبّب إليه الآخرة، كما حبّب إلينا الدنيا فهو ينظر إلى الآخرة كما ننظر إلى الدنيا، فهل رأيت أحداً ترك وجهاً حسناً لوجه قبيح؟ وطعاماً طيّباً لطعام مرّ؟ وثوباً ليّناً لثوب خشن؟!

ونعمة دائمة باقية لدنيا زائلة فانية؟» «1».

مع أنّ «هشام بن الحكم» لم ينسب هذا الحوار إلى أئمّة أهل البيت عليهم السلام مباشرة، لكن نظراً لكونه من ألمع تلاميذ الإمام الصادق عليه السلام، وتصريحه قائلًا: «كلّ ما عندي فهو من الإمام الصادق عليه السلام»، فيبدو أنّه قد استلهم تحليله اللطيف والمنطقي هذا، والذي يمكن أن يكون أحد الأدلّة العقلية على مسألة عصمة الأنبياء والأئمّة، من إمامه الإمام الصادق عليه السلام.

2- دليل الإعتماد

من الواضح أنّ الهدف من بعثة الأنبياء هو هداية البشرية على ضوء التعاليم الإلهيّة، هذا الهدف الذي يمكن ضمانه حيث لا يبقى هناك أدنى مجال للشكّ والترديد، يساور الناس فيما يتعلّق بأقوالهم وأفعالهم، بشكل بحيث يعتبرون كلامهم كلام اللَّه، وتعاليمهم تعاليم إلهية، حتّى يتقبّلوها قلباً وقالباً ويسلّموا لها تسليماً ويعتمدوا عليها.

ومن البديهي أنّ احتمال الكذب، وتحريف الحقائق والخطأ والإشتباه سيجد طريقه إلى كلماتهم إن لم يكونوا معصومين عن «الذنب» و «المعصية»، وبالتالي يسلب الاعتماد عليهم

______________________________

(1) بحار الأنوار، ج 25، ص 192، ح 1.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 149

حتّى لو كانوا أناساً طيبين، لأنّ فقدان منزلة العصمة يستلزم احتمال تعلقهم في يوم ما بالمظاهر المادية ومغرياتها، أو أن يرتكبوا الخطأ والزلل من حيث لا يشعرون وبلا سبب يذكر.

هذا الاحتمال يبعث على التشويش الفكري لأتباعهم على الدوام، كما أنّه سيكون أساساً للشكّ والريبة، فضلًا عن بقاء مسألة «إتمام الحجّة» ناقصة أيضاً، نظراً لوجود ذريعة بيد المخالفين على الدوام مفادها أنّ سبب عدم اتّباعهم لتعاليم النبي يكمن في احتمال صدور الخطأ والزلل (لا سمح اللَّه) منه.

خلاصة القول: إنّ رأس المال الحقيقي للنبوّة هو كسب ثقة طلّاب الحقيقة، ولا يتحقق هذا المعنى بفقدان منزلة العصمة والصيانة من الذنب والخطأ.

ويمكن القول:

أنّ الناس عموماً إنّما يتّبعون العلماء الأتقياء، ويأخذون منهم أحكام دينهم ويثقون بهم، مع علمهم بعدم عصمتهم من الذنب والخطأ.

لكن ينبغي الإلتفات إلى أنّ أصل الدين يختلف عن فروعه وجزئياته، ويمكن إرساء أصل الدين وأساسه على الشكّ أو الظنّ، ولا يمكن قبول الوحي الإلهي مقروناً بالاحتمال والشكّ والترديد، في حين أنّ احتمال الخطأ والإشتباه في الفروع والجزئيات لا يؤثّر في أساس العقيدة، إذن فلابدّ من القول هناك بالعصمة والإكتفاء بالعدالة هنا، وذلك لإمكان غضّ الطرف عن احتمال الخطأ في هذه الجهة، دون الخطأ والإشتباه في الوحي وإبلاغ الرسالة، حيث لا يمكن غض البصر والتسامح في هذا المورد، كما يثار هنا سؤال آخر أيضاً وهو أنّ آخر شي ء يمكن أن يستفاد من هذا الدليل هو تنزيههم من الخطأ والكذب والتحريف في تبليغ الرسالة، لكن هذا الدليل قاصر عن شمول كافّة الذنوب والمعاصي.

لكن الإنصاف هو اشتراك معظم الذنوب باسس مشتركة، فالكذب والإتّهام والسرقة والإبتلاء بشرب الخمر ولعب القمار والسقوط الأخلاقي، نابعة من اتباع هوى النفس واتّباع الشهوات وحبّ الدنيا، فكيف يمكن ألا يكذب أبداً من يبتلى بأنواع المعاصي؟

وعلى فرض وجود مثل هذا الشخص ولو نادراً، فإنّه لن يفلح مع ذلك في كسب ثقة

نفحات القرآن، ج 7، ص: 150

نفحات القرآن ج 7 199

الناس، إذ سيقولون كيف يمكن الإعتماد على كلام الشخص الفلاني الخائن والظالم والمنحرف؟ لأنّ الفصل في هذه المسائل وعلى فرض إمكانه في الواقع مرفوض عند عامّة الناس (تأمّل جيّداً).

فكيف يمكن لشخص يخطي ء في امور الحياة اليومية أن يكون مورد اعتماد في إبلاغ الوحي الإلهي؟ وسيقول الناس حتماً: إنّه ربّما ابتُلي عند إبلاغ الوحي بنفس تلك الإشتباهات التي يقع بها في حياته الشخصية.

خلاصة القول أنّ مسألة تجزئة

وفصل الأخطاء والذنوب مرفوضة عند السواد الأعظم من الناس، وأنّ من يرتكب ذنباً أو خطأً لا يمكن أن يكون مورد اعتماد في تبليغ الوحي (تأمّل جيّداً).

3- مخالفة الغاية وعدم تحقق أهداف البعثة

من المسلّم أنّ الشخص العاقل الحكيم لا يقدم أبداً على عمل يخالف هدفه وغايته، وإلّا فلا يصح أن ينعت بالحكمة والوعي، هذا من جهة.

ومن جهة أخرى، فنحن نعلم أنّ اللَّه عزّوجلّ قد أرسل أنبياءه لهداية العباد وتربيتهم، فلو لم يكونوا معصومين عن الذنب والمعصية لأضلّوا الناس بدل هدايتهم، وهذا هو الجانب المنافي للهدف من بعثة الأنبياء بالضبط.

بالإضافة إلى أنّ الدور الرئيسي في تربية الناس، إنّما يعود للبرامج العملية للأنبياء، لأنّ كيفية تصرّف المربّين وصفاتهم وحالاتهم تعدّ النموذج الأمثل لمن يتبعهم ويتولّاهم، وإنّ الأدلّة العقليّة والخطب الحماسية والبيان الجيّد مهما كان لها دور مهم في توعية الناس، إلّا أنّها لا تعدّ شيئاً أمام النماذج العملية، خصوصاً لو ظهر هناك تضادّ بين القول والفعل، وبين النظرية والتطبيق، فانّ حالة من الشلل ستسري إلى تلك البيانات والنداءات وتعدم تأثيرها!

ومن هنا ينبغي أن يكون الأنبياء عليهم السلام قدوة حسنة للناس في كافّة أبعاد الحياة، وأن تنعكس دروسهم الدينية للناس من خلال تصرّفاتهم.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 151

ولو كانوا أفراداً مثقلين بالذنوب، مبتلين بالكذب والخيانة والظلم واتّباع أهوائهم لفقدوا اعتبارهم تماماً، ولاصبح الهدف من بعثتهم غير مجدٍ ولا مفيدٍ.

كيف يعقل أن يضع اللَّه هذا المنصب الخطير الذي يعدّ أسمى منصب ديني ومعنوي واجتماعي، في عهدة شخص قد تمكنت منه الذنوب ووقع في أسر الهوى والشهوات، ولم يسيطر على نفسه؟ هل يمكن لشخص كهذا ياترى أن يكون قائداً ربّانياً وروحياً للناس؟!

وهنا يجب الإذعان بأنّ هذا الهدف الحسّاس لا يمكن ضمان القيام به، إلّافي حالة تنزيههم عن

كلّ أنواع الذنوب صغيرها وكبيرها، بل مطلق الخطأ والإشتباه.

ولذا نقرأ في حديث عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام أنّه قال في وصف الإمام عليه السلام:

«هو معصوم مؤيّد موفّق مسدّد قد أمن الخطايا والزلل والعثار يخصّه اللَّه بذلك ليكون حجّته على عباده وشاهده على خلقه» «1».

4- لا يمكن الإغراء بالجهل والتشجيع على الخطأ

بديهي أنّ اللَّه تعالى ولغرض هداية عباده لا يقدم على أدنى شي ء يكون سبباً في انحرافهم وركونهم للباطل وسلوكهم سُبل الضلال لأنّ صدور عمل كهذا من أي كان فهو قبيح فكيف بذاته تعالى؟

لو وضع اللَّه أسرار النبوّة- الشاملة للاعجاز والأدلّة العلمية- تحت تصرف غير المعصوم، أي في خدمة من يحتمل كذبه وخطأه وارتكابه للمعاصي، فقد أوقع عباده في الضلال، وهذا بالضبط يشبه قيام شخص معروف بانتخاب شخص مخادع منحرف وكيلًا عنه، أليس هذا العمل قبيحاً؟

كيف نحتمل صدور مثل هذا العمل من اللَّه تعالى، أن يضع المعجزات وأسرار النبوّة بيد شخص مذنب كذاب منحرف وعاصٍ؟!

______________________________

(1) اصول الكافي، ج 1، ص 203، باب النادر الجامع في فضل الإمام وصفاته، ح 1.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 152

وقد صرح القرآن بكلّ جلاء بهذا الموضوع قائلًا: «وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ* لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ* ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ» (أى فلا أحد منكم يقدر على منعنا من ذلك أو الدفاع عنه). (الحاقة/ 44- 46)

هذه الآيات تؤكّد على نفس الحقيقة التي تمّت الإشارة إليها، وهي أنّ من يمتلك الآيات والحجج الإلهيّة والمجهّز بسلاح الإعجاز القوي، فقد وعده اللَّه تعالى بقوله، لو انحرف حتّى للحظة واحدة عن المسير الإلهي، فلن يمهله اللَّه تعالى، بل سيضربه في أخطر نقطة من بدنه أي شريان قلبه ويقضي عليه، وفيما عدا ذلك فانّ اللَّه هو السبب وراء إضلال الناس وإغرائهم بالجهل،

وهذا بنفسه يعدّ دليلًا صارخاً على مسألة العصمة.

ومع أنّ مسألة الخطأ خارجة عن إرادة الإنسان فلا يمكن معاقبة أحد على الأخطاء التي يستحيل اجتنابها، ولكن بما أنّ هفوة النبي وخطأه يترك نفس الأثر الذي يتركه افتراؤه على اللَّه، أي يكون السبب وراء إضلال خلق اللَّه، إذن يمكن الاستفادة من مضمون هذه الآية أنّ النبي مصون من مثل هذا الخطأ أيضاً.

وكدليل على ذلك نقرأ هذا الحديث عن علي بن موسى الرضا عليه السلام حيث قال للمأمون:

«من دين الإمامية، لا يفرض اللَّه طاعة من يعلم أنّه يضلّهم ويغويهم، ولا يختار لرسالته ولا يصطفي من عباده من يعلم أنّه يكفر به وبعبادته، ويعبد الشيطان دونه» «1».

و نقرأ في حديث آخر عن الإمام علي عليه السلام أنّه قال:

«إنّ اللَّه إنّما أمر بطاعة رسوله لأنّه معصوم مطهّر لا يأمر بمعصية اللَّه وإنّما أمر بطاعة اولي الأمر لأنّهم معصومون مطهّرون لا يأمرون بمعصية اللَّه، فهم اولو الأمر، والطاعة لهم مفروضة من اللَّه ومن رسوله، لا طاعة لأحد سواهم» «2».

______________________________

(1) بحار الأنوار، ج 11، ص 76، ح 3، باب عصمة الأنبياء.

(2) من كتاب بحرالمناقب المخطوط ص 100 طبقاً لما نقله صاحب إحقاق الحقّ، ج 13، ص 78.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 153

5- عدم أهلية غير المعصوم لتلقّي الوحي

إنّ كلّ مأمورية- كما نعلم تتطلّب في نفسها استعداداً وأهلية مناسبتين لها، وأنّه يستحيل أن يقوم بأدائها على أتمّ وجه من لا أهلية ولا قابلية له عليها، كما نعلم أيضاً أنّ أنبياء اللَّه يتلقّون كلام اللَّه عن طريق الوحي، وهو ذلك النداء الملي ء بالنور والمعنوية، والمتضمّن لكلّ درجات الإيمان والتقوى ويبلغونه للناس. ومن البداهة أنّ التلقّي لمثل هذا الوحي ينبغي أن يكون منزّهاً طاهراً، بدرجة بحيث يتمكّن من الإتّصال بعالم ما وراء

الطبيعة، وذات الباري الطاهرة المنزّهة من كلّ عيب ونقص، واستلام الرسالة المشحونة بالطهارة والتقوى ..

كيف يستطيع الملوّث بالذنوب صاحب القلب المظلم أن يجد الطريق إلى عالم النور؟

كيف يصير القلب الملي ء بالشهوات والأهواء مهبطاً للوحي الإلهي ومحلًا للعلم الربّاني؟

هل يُعقل تحقّق هذا المعنى بدون وجود التجانس والسنخية بينهما؟

ثمّ أنّ وكيل كلّ شخص إنّما يعكس وجود موكّله وصفة من صفاته، ولذا لا يسمح مرجع ديني كبير لنفسه أبداً بانتخاب وكلائه من بين الأفراد المشبوهين، ولو اتّفق وفعل ذلك لعابه الناس كلّهم، واعتبروا تصرّفه هذا قبيحاً، ولخرجوا على أمره أيضاً.

فهل يمكن أن ينتخب اللَّه الذي هو مصدر القدسيّة والتقوى والطهارة، وخليفته من بين المذنبين، ويوكل هذه المسؤولية العظيمة لغير المعصوم؟

نرى أنّ القرآن وفي معرض إجابته على المشركين حينما صرّحوا: «قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِىَ رُسُلُ اللَّهِ». يقول: «اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ». (الأنعام/ 124)

6- أدلّة اخرى

ذكر بعض من العلماء العظام أدلّة أخرى في هذا الباب لها صبغة فرعية وتعود أحياناً إلى الأدلّة المتقدّمة، من جملتها:

1- أنّه لو صدر عن النبي ذنب لزم اجتماع الضدّين، أي صدور أمرين متضادّين، الأول

نفحات القرآن، ج 7، ص: 154

وجوب الامتثال له في كلّ شي ء من جهة، ووجوب مخالفته عند الخطأ من جهة أخرى، ونعلم باستحالة صدور أمرين متضادّين من اللَّه الحكيم.

2- لو أقدم النبي على المعصية لوجب أن يكون مردود الشهادة، لأنّ شهادة الفاسق وأخباره غير مقبولة، فكيف يمكنه والحالة هذه أن يكون شاهداً على الوحي الإلهي في الدنيا أو على الأمم يوم القيامة؟!

3- لو صدر من الأنبياء ذنب فهذا يعني أنّ منزلتهم أقلّ من عصاة الأمّة، إذ إنّ مقام النبوّة في غاية الرفعة والسمو، فارتكابهم للمعاصي، والإعراض عن أوامر ربّهم

ونواهيه من أجل لذّة فانية أقبح وأشنع من عصيان هؤلاء، وهذا ما لا يقرّه عاقل.

4- أنّهم لو كانوا يأمرون الناس بصالح الأعمال واجتناب قبيحها، ولم يلتزموا هم بذلك لدخلوا تحت قوله تعالى: «أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَونَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ». (البقرة/ 44)

وهو غير معقول.

5- لو صدر عن النبي ذنب صار مصداقاً للظالم (ظلم الآخرين أو ظلم نفسه) ولجاز لعنه، إذ يقول القرآن: «أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ». (هود/ 18)

فكيف يمكن لعن النبي؟ وهل يتناسب هذا مع مقام نبوّته؟

6- أنّ القرآن الكريم صرّح بأنّ الشيطان أقسم بعزّة اللَّه تعالى على إغواء جميع الناس، إلّا المخلَصين: «فَبِعزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الُمخْلَصِينَ». (ص/ 82- 83)

فلو صدر من النبي ذنب لوجب أن يكون من حزب الشيطان، مع بداهة كونه من المخلَصين.

هذه الأدلّة الستّة قويّة ومتينة، وبالرغم من أنّها ترجع إلى الأدلّة الرئيسية المتقدّمة، لكنّها فروع يانعة من تلك الأصول المعطاءة.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 155

أسئلة متعدّدة:

اشارة

هنالك عدّة أسئلة مطروحة في بحث عصمة الأنبياء والأئمّة عليهم السلام نشير إلى أهمّها:

1- هل لعصمة الأنبياء صفة «جبريّة»؟

الكثير من الأشخاص حينما يقرأون بحث عصمة الأنبياء، يتبادر إلى أذهانهم فوراً هذا السؤال وهو أنّ مقام العصمة موهبة إلهيّة مفروضة على الأنبياء والأئمّة، وكلّ من نال هذه «الموهبة» فقد حُفظ من المعصية والخطأ، ومن هنا فلن تعد معصوميتهم فضيلة وفخراً، لكونها أمراً إلهيّاً مفروضاً كما تقدّم.

وبناء على هذا فارتكاب الخطأ مع وجود مقام العصمة مستحيل، وواضح أنّه لا فضيلة في ترك المحال، فعدم ظلمنا مثلًا للناس الذين سيأتون بعد مائة عام أو الذين عاشوا قبل مائة عام لا يعدّ لنا فضيلة وفخراً، لأنّ أداء مثل هذا العمل بالنسبة لنا محال!

الجواب:

بالرغم من أنّ هذا الإشكال لا يتعرّض إلى عصمة الأنبياء عليهم السلام، بل إلى كونها فضيلة أم لا، مع ذلك فالتمعّن في عدّة ملاحظات يمكن أن يزيح الستار عن الغموض المحيط بهذا السؤال:

1- إنّ الذين يثيرون هذا الإشكال لا يلتفتون إلى جذور عصمة الأنبياء عليهم السلام، بل يتصوّرون أنّ مقام العصمة مثلًا هو كالمناعة من بعض الأمراض والتي تحصل للإنسان عن طريق بعض اللقاحات، فكلّ من يلقّح بمثل هذا اللقاح لن يبتلى بذلك المرض شاء أم أبى.

لكنّنا عرفنا في الأبحاث السابقة أنّ مصونية المعصومين من المعاصي نابعة من مقام معرفتهم وعلمهم وتقواهم، بالضبط كاجتنابنا لقسم من الذنوب لعلمنا وإحاطتنا بسلبياتها، كعدم الخروج إلى الزقاق عراةً، وهكذا بالنسبة لمن له اطّلاع تامّ بالآثار السلبية للمواد المخدّرة ويعلم بأنّ الإدمان عليها يتسبّب في موت تدريجي بطي ء، فسوف يتجنب تعاطيها.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 156

فمن المسلّم أنّ تركه هذا يعدّ فضيلة حتّى لو كان الدافع له على تركها هو علمه بمفاسدها، وذلك لقدرته على استعمالها،

إذ لا إجبار في البين.

ولهذا السبب نسعى لرفع مستوى معرفة وتقوى الأفراد عن طريق التربية والتعليم، لنضمن ابتعادهم عن الذنوب الكبيرة والأعمال الشنيعة على أقل تقدير.

أفلا يعدّ ترك البعض لقسم من هذه الأعمال نتيجة للتربية والتعليم فضيلة؟!

وبعبارة أخرى إنّ ترك الأنبياء للذنوب محال عادي لا عقلي، ونعلم بعدم المنافاة بين المحال العادي وبين الإختيار، وكمثال على المحال العادي هو: أن يصطحب عالم جليل معه خمراً إلى المسجد ويشربه بين صفوف الجماعة، فهذا محال عادي لا عقلي كما لا يخفى.

خلاصة القول: إنّ المستوى الرفيع للإيمان ومعرفة الأنبياء عليهم السلام والذي يعدّ بنفسه فضيلة وافتخاراً، هو السبب في فضيلة أخرى، ألا وهي مقام العصمة (تأمّل جيّداً).

ولو قيل من أين لهم هذا الإيمان وتلك المعرفة؟، لقلنا من الألطاف الإلهيّة، إلّاأنّها لا تعطى لأي شخص اعتباطاً، بل لوجود الأهلية الكامنة فيهم، بالضبط كما يقول القرآن الكريم بالنسبة لإبراهيم الخليل إنّه لم يبلغ مقام الإمامة إلّابعد اجتيازه للإمتحانات الإلهيّة الخطيرة: «وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً». (البقرة/ 124)

أي أنّ إبراهيم وبعد طيّه لهذه المراحل بمحض إرادته واختياره، نال تلك الموهبة الإلهيّة العظيمة.

وكما يقول تعالى بالنسبة ليوسف عليه السلام: «وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِى الُمحْسِنِينَ». (يوسف/ 22)

وذلك بعد تكامله البدني والروحي واستعداده لتلقّي الوحي.

إنّ جملة «وَكَذَلِكَ نَجْزِى الُمحْسِنِينَ» تعدّ شاهداً قويّاً على مرادنا، إذ يقول القرآن: إنّ أعمال يوسف الإيجابية ولياقته هي التي هيّأته لتلك الموهبة الإلهيّة العظيمة، كما أنّ هناك

نفحات القرآن، ج 7، ص: 157

تعابير توضّح هذه الحقيقة بالنسبة لموسى عليه السلام حيث يقول القرآن: «وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِى أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى». «1» (طه/ 40)

ومن الواضح وجود

مؤهلات وقابليات كامنة في نفوس هؤلاء العظماء، لكن تنميتها وتقويتها ليس فيه صفة إجبارية مطلقاً، بل إنّهم قد قطعوا هذا الطريق بمحض اختيارهم وإرادتهم، وما أكثر اولئك الذين يتمتّعون بالقابليات لكنّهم مع ذلك لا يسعون لتطويرها ورفع مستواها، هذا من جهة.

ومن جهة أخرى، فتمتّع الأنبياء عليهم السلام بمثل هذه المواهب، قد وضع بالمقابل في اعناقهم مسؤوليات خطيرة، وبعبارة أخرى إنّ اللَّه تعالى إنّما يهب الشخص قدرة وطاقة بحيث تتناسب والمسؤولية التي يضعها على عاتقه، ثمّ يختبره في أداء وظيفته.

2- الجواب الآخر لهذا السؤال هو أنّه ومع فرض كون الأنبياء منزهين من ارتكاب أي ذنب وخطأ، بالعناية الإلهيّة اجبارياً لغرض كسب ثقة الخلق، وليكونوا مشعلًا ينير الطريق لهدايتهم، فلا زال الطريق في «ترك الأولى» أي العمل الذي لا يتناسب وشأنهم مع عدم كونه معصية، مفتوحاً أمامهم بالرغم من كلّ ذلك.

ففضيلتهم تعود إلى عدم تركهم حتّى للأولى مع كونه اختيارياً بالنسبة إليهم، وتعرّض البعض من الأنبياء للخطاب والعتاب الإلهي الشديد اللهجة والإبتلاء بالحرمان في بعض الأحيان، إنّما هو لاحتمال تركهم للأولى نادراً، وأيّة فضيلة أسمى من اجتنابهم لترك الأولى طاعة لأوامر الحقّ؟

إنّ فخر الأنبياء يكمن في تحمّلهم للمسؤولية بحجم هذه المواهب، واجتنابهم حتّى لترك الأولى، ولو حدث أن صدر منهم ترك للأولى استثناءً فسرعان ما يبادرون إلى جبران ذلك.

______________________________

(1) جملة «ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى» فسّرت أحياناً بالإستعداد لتلقّي الوصيّة وأحياناً أخرى بالمعنى الزماني أي أنّه ولغرض تلقّي الرسالة كان من المقدّر أن تأتي إلى هنا.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 158

2- هل تنسجم العصمة مع التقيّة؟

يقال أحياناً: كيف يمكن أن يكون الأنبياء والأئمّة معصومين مع جواز التقيّة لهم، وجواز الكذب وأمثاله في مقام التقيّة، أليست تلك ذنوباً؟ فلو جازت التقيّة لهم

لاستحالت عصمتهم من الذنب والمعصية.

الجواب:

يجب الإلتفات إلى ملاحظتين دقيقتين:

1- الشبهة الخطيرة التي راودت البعض من المغفّلين حول «التقيّة» والتي غدت مصدراً لشبهات جمّة أخرى، هي توهّمهم بأنّ «التقيّة» تعني إبداء موقف الضعف أمام الآخرين، واسدال الستار على الحقائق، وانحصار مؤيّديها في أتباع المذهب الشيعي فقط.

في حين أنّ «التقيّة» بمعناها الحقيقي قانون عقلائي معروف وواضح يتّبعه كلّ العقلاء في الوقت المناسب، وهي في الحقيقة نوع من التكتيك لمحاربة العدو أو مواجهة الأحداث الخطيرة.

بيان ذلك: هناك أحداث في تاريخ الجهاد الديني والاجتماعي والسياسي، يتعرّض أتباع الحقّ ومذهبهم للخطر فيما لو قاوموا بشكل علني، ومن هنا نرى أنّ وجه الصراع يتغيّر وتستبدل المقاومة المباشرة بغير المباشرة والعلنية بالسرّية، والهدف هو توجيه «ضربات أكثر» للعدو ب «خسائر أقل»، وبعبارة أخرى الحدّ من ضياع القوى، وهذا النوع من الصراع والعمل السرّي ليس سوى «التقيّة» ولكن بأسلوب آخر.

إنّ النشاط السرّي مقابل العدو يعتبر في كلّ حروب العالم على طول التاريخ (خصوصاً اليوم) من أهمّ أصول المقاومة، الخطط الحربية كلّها سرّية، كلّ ملابس الجنود وأنواع العتاد والسلاح بعيدة عن أنظار العدو، وهذه كلّها صور أخرى من «التقية».

لو وقع أحد الضبّاط الكبار في أسر العدو، واحتمل أن يستفيد العدو كثيراً من معلوماته،

نفحات القرآن، ج 7، ص: 159

لوجب عليه كتمان أمره وعدم إخبار العدو بالحقيقة، بل لو تمكّن من إغوائهم بعباراته لوجب ذلك، وهذه أيضاً من أوجه التقيّة.

لِمَ نذهب بعيداً، ففي صدر الإسلام حين كان المسلمون يشكّلون الأقلّية، كانوا يكتمون عقائدهم حين وقوعهم في قبضة العدو، لئلّا تذهب الطاقات سدى، فالكل قد سمع قصّة عمّار وأبيه، كما أنّ القرآن أجاز هذه المسألة في العديد من الآيات «1».

ومؤمن آل فرعون الذي وردت قصّته بالتفصيل في القرآن

كمثال على ذلك، حيث استخدم أسلوب التقيّة، وعبّر عنه القرآن صراحةً ب «رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ». (غافر/ 28)

ولا يجيز أي عاقل أن يكشف المجاهدون عن أنفسهم في مثل هذه الظروف الحسّاسة وهم قلّة، لئلّا يتعرّف عليهم العدو بسهولة ويقضي عليهم.

اللطيف هو أنّ «التقيّة» قد اعتبرت بمثابة الدرع الواقي بالنسبة للمؤمن في الروايات الإسلامية، كما ورد ذلك عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «التقيّة ترس المؤمن» «2».

فلو أنّ أحداً لجأ إلى مكان منيع في ساحة المعركة ليقي نفسه من ضربات العدو، هل يعدّ مرتكباً لعمل مخالف ياترى؟!

ومن هنا يتّضح أنّه كلّما ابتلي أحد بموارد التقيّة وكتم أمره وعقيدته التي يؤمن بها لمصلحة أهمّ، أو تحدّث على خلافها، فهو فضلًا عن عدم ارتكابه للذنب يكون عاملًا بالمباح أو الواجب، وشأن ذلك شأن الكذب لإصلاح ذات البين، أو لإنقاذ حياة مؤمن.

واللطيف هو أنّ القرطبي المفسّر السنّي المعروف، وفي ذيل الآية (106) من سورة النحل حينما يصل إلى مبحث «التقيّة» يقول: «يعتقد كلّ علماء الإسلام أنّه لو أجبر أحد على التفوّه بعبارات الكفر خوفاً على حياته، فلا حرج عليه في ذلك مع اطمئنان قلبه بالإيمان، ولا تبّين منه زوجته، ولا يحكم بأحكام الكفر» وبعد تعرّضه لقول ضعيف حول

______________________________

(1) راجع (آل عمران/ 28) و (النحل/ 106).

(2) وسائل الشيعة، ج 11، ح 6، من الباب 24 من أبواب الأمر بالمعروف ص 461.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 160

الإرتداد الظاهري لشخص كهذا يقول: «هذا كلام ينفيه الكتاب والسنّة والقرآن وحديث النبي الأكرم صلى الله عليه و آله».

طبعاً الأنبياء عليهم السلام في موقع لا يسمح لهم بالتقيّة أبداً، أي إنّهم لا يكتمون حقائق الدين بأيّ ثمن، ولا يقولون خلاف الواقع

في هذا الطريق، وإلّا لبقيت حقائق دعوتهم خفيّة، ولزال الإعتماد على كلامهم، ولفقد إخبارهم عن الوحي السماوي اعتباره، لكنّهم لو ابتلوا بمشاكل شخصية فيحتمل كتمانها من قبلهم، وقد اختفى النبي الأكرم صلى الله عليه و آله في غار ثور أثناء هجرته من مكّة إلى المدينة وسلك الأودية والبوادي، وسار ليلًا واختفى نهاراً لئلّا يعثر عليه العدو وتتعرّض حياته المباركة للخطر، هذه كلّها كانت تقية ولا معصية في ذلك كلّه، كما إنّه لم يصدر منه صلى الله عليه و آله ما يخالف الحقّ.

وبهذا نكون قد وصلنا إلى خاتمة مبحث عصمة الأنبياء عليهم السلام.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 161

المنزلة العلمية للأنبياء عليهم السلام

اشارة

نفحات القرآن، ج 7، ص: 163

المنزلة العلمية للأنبياء عليهم السلام

لا شكّ أنّ قادة المجتمعات البشرية عموماً، والقادة الإلهيين خصوصاً ينبغي لهم أن يتمتّعوا بقسط وافر من العلم والمعرفة، وفي شتّى المجالات، وبما أنّ دائرة رسالة الأنبياء عليهم السلام تشمل بدن الإنسان وروحه، وبعبارة أخرى إنّها تسع جميع البشر في دنياهم وآخرتهم، فلابدّ لهم من معلومات جمّة لا تشوبها شائبة الخطأ والسهو، لكي لا يقودوا الناس إلى طرق الضلال تحت عنوان نيابتهم عن اللَّه، وليثق بهم عباد اللَّه ولا ينحرفوا.

ولهذا السبب فقد جهزهم اللَّه وقبل كلّ شي ء بسلاح العلم والمعرفة، كما شهدت بذلك آيات القرآن الكريم، فالآيات أدناه دليل واضح على هذا المعنى ابتداءً بآدم وانتهاءً بالخاتم.

1- لقد وهب اللَّه آدم عليه السلام علماً ومعرفة حتّى أنّ الملائكة بمقامهم العلمي وإحاطتهم بأمور العالم قد سجدوا له:

«وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِى بِأسْمِاءِ هَؤُلَاء إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ* قَالُوا سُبْحَانَكَ لَاعِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ* قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأسْمِائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأسْمِائِهِمْ قَالَ أَلَمْ

أَقُلْ لَكُمْ إِنِّى أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ». (البقرة/ 31- 33)

ولغرض إكمال هذا البحث لابدّ لنا من معرفة أمور:

نفحات القرآن، ج 7، ص: 164

ما هو علم الأسماء؟

للمفسّرين كلام طويل حول ماهية علم الأسماء هذا، الذي يعدّ من أعظم المواهب الإلهيّة لآدم عليه السلام، والمنشأ لفضيلته وافتخاره ولياقته لتسلّم مقام الخلافة الإلهيّة.

فتارة قيل: إنّ المراد به هو علم اللغات، في حين أنّ معرفة مجموعة من اللغات لا يمكن أن تكون المنشأ لفضيلة كهذه، فضلًا عن عدم تناسب هذا المعنى مع التعبير الوارد في هذه الآيات، لأنّ التعبير ب: «غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ» يبيّن عودة هذا العلم إلى أسرار السماوات والأرضين الخفيّة، التي بقيت خافية عن أنظار الملائكة.

وقالوا تارةً اخرى إنّ المراد هو أسماء حجج اللَّه، خصوصاً الأئمّة المعصومين الذين كانت أرواحهم مخلوقة من قبل، وقد ورد مثل هذا التفسير في بعض الروايات.

لكن من المسلّم أنّ مثل هذه الروايات ليست أكثر من إشارة إلى البعض من المصاديق المهمّة لهذا العنوان الكلّي، كما عليه أسلوب الروايات التفسيرية، لا أنّ «علم الأسماء» يختصّ بها.

لكن الكثير من المفسّرين قالوا: إنّ المراد من «الاسم» هنا هو «المسمّى»، أي أنّ اللَّه علّم آدم كلّ العلوم المرتبطة بالأرض والسماء، وأنواع الصناعات واستخراج المعادن وغرس الأشجار وخواصها ومنافعها، (أو أنّه تعالى وضعها في كيانه ووجوده بشكل مركّز).

وعلى هذا فقد تعرّف آدم على كلّ أسرار العالم، وهيّأ الأرضية لذرّيته للإحاطة بكلّ هذه الأسرار. فأيّة فضيلة أسمى وأرفع من التمتّع بمثل هذا العلم، وكذلك جعل القابلية على نيله في متناول أولاده أيضاً.

ولذا نقرأ في حديث الإمام الصادق عليه السلام حو تفسير هذه الآية قال: «الأرضين والجبال والشعاب والأودية ثمّ نظر إلى بساط تحته فقال

هذا البساط ممّا علمه» «1»، (وباختصار كلّ موجودات العالم).

هذا التعبير يبيّن أنّ آدم عليه السلام كان عالماً بكلّ هذه العلوم.

______________________________

(1) تفسير مجمع البيان، ج 1، ص 76.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 165

وهناك كلام للمرحوم «العلّامة الطباطبائي» في «الميزان» حاصله: «أوّلًا يستفاد من تعابير الآية أنّ هذه «الأسماء» سلسلة أمور غائبة عن العالم السماوي والأرضي، خارج محيط الكون، ولها مفهوم عام واسع أشير إليه بلفظة «كلّها» كما أنّ الضمير «هم» بصيغة الجمع، مشعر بأنّ كلّ هذه الأسماء كانت موجودات حيّة عاقلة مستورة في عالم الغيب»، ثمّ يضيف قائلًا: «وإذا تأمّلت هذه الجهات أعني عموم الأسماء، وكون مسمّياتها لها حياة وعلم، وكونها غيب السموات والأرض، قضيت بانطباقها بالضرورة على ما أشير إليه في قوله تبارك وتعالى: «وَإِنْ مِنْ شَىْ ءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ».

(الحجر/ 21)

وأخيراً يقول العلّامة: «فتحصّل أنّ هؤلاء الذين عرضهم اللَّه على الملائكة موجودات عالية محفوظة عند اللَّه، محجوبة بحجب الغيب، أنزل اللَّه كلّ اسم في العالم بخيرها وبركتها، واشتقّ كلّ ما في السموات والأرض من نورها وبهائها» «1».

على أيّة حال فقد كان «علم الأسماء» علماً واسعاً محيطاً بكلّ الحقائق المهمّة لهذا العالم.

2- يقول اللَّه تعالى حول موسى بن عمران عليه السلام:

«وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِى الُمحْسِنِينَ». (القصص/ 14)

3- ويقول عن داود عليه السلام:

«وَقَتَلَ دَاوُدُ (الذي كان في ذلك الزمان فتى في ريعان الشباب) جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ». (البقرة/ 251)

4- ويقول عن داود وسليمان عليهما السلام:

______________________________

(1) تفسير الميزان، ج 1 ذيل الآيات مورد البحث، يمكن أن يكون مراد العلّامة من هذا الكلام المجمل شيئاً شبيهاً بالمثل الافلاطونية أو العقول العشرة.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 166

«وَكُلًّا آتَيْنَا

حُكْماً وَعِلْماً». (الأنبياء/ 79)

5- ويقول عن النبي لوط عليه السلام:

«وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً». (الأنبياء/ 74)

6- كما يكرّر نفس هذا المعنى في حقّ يوسف عليه السلام إذ يقول:

«وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً». (يوسف/ 22)

و لابدّ من الإلتفات هنا إلى هذه النكتة، وهي أنّ لفظة «علماً» قد وردت في هذه الآيات بصيغة «النكرة» وذلك لبيان العظمة التي لا نعرف لها حدّاً وحدوداً.

البعض فسّر لفظة ال «حكم» في هذه الآيات بمعنى مقام «القضاء» والبعض فسّرها بمعنى مقام «النبوّة»، وحملها البعض الآخر على معنى العلم الخاصّ الذي يساعد الإنسان على تمييز الحقّ من الباطل، وبعبارة أخرى أن المراد هو العقل والفهم والقدرة على القضاء الصحيح، والفصل بين الحقّ والباطل «1»، لكن بالنتيجة يمكن لكلّ واحدة من هذه المعاني أن تكون شاهداً على المراد.

7- ويقول حول السيّد المسيح عليه السلام:

«وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ». (المائدة/ 110)

8- ويقول حول نبي الإسلام صلى الله عليه و آله:

«وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً». (النساء/ 113)

9- وفي موضع آخر وبعد الإشارة إلى فريق من الأنبياء العظام، أي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ونوح وداود وسليمان وأيّوب ويوسف وموسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس واسماعيل واليسع ويونس ولوط يقول:

«أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ». (الأنعام/ 89)

وبناءً على هذا فقد وهب اللَّه ثلاثة امتيازات مهمّة لهؤلاء الأنبياء العظام الثمانية عشر،

______________________________

(1) راجع تفسير مجمع البيان، ج 5، ص 222، ذيل الآية 22 من سورة يوسف.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 167

لكنّها لم تكن تختصّ بهم فقط بل كانت شاملة لكلّ الأنبياء الإلهيين ببداهة الحال، وهي:

«الكتاب السماوي» و «الحكم» و «النبوّة»، طبعاً ينبغي ألّا يفهم من هذا الكلام أنّ كلّ واحد

منهم كان يمتلك كتاباً مستقلًا، بل إنّ فريقاً منهم كان قد اوحي إليه كتاب، وفريقاً آخر كان حافظاً لكتب السلف.

10- هناك تعبير بليغ آخر يشاهد في آيات القرآن حول هذا الموضوع بالنسبة للنبي الأكرم صلى الله عليه و آله، وخلفائه المعصومين، وهو تعبير «الرَّاسِخُونَ فِى الْعِلْمِ» حيث يقول القرآن، وبعد تقسيمه للآيات القرآنية إلى «المحكمات» (الآيات الصريحة والواضحة) و «المتشابهات» (الآيات التي ليست كذلك):

«وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ (أي المتشابهات) إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِى الْعِلْمِ، (ونظراً لفهمهم أسرار آيات القرآن) يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الْأَلْبَابِ».

(آل عمران/ 7)

ومعلوم أنّ هناك حديثاً مفصّلًا بين المفسّرين حول تفسير هذه الآية، وأنّه هل يجب الوقوف بعد لفظ الجلالة «اللَّه» وفصل جملة «وَالرَّاسِخُونَ فِى الْعِلْمِ»، ليفهم منها أنّ الراسخين في العلم يؤمنون إجمالًا بالآيات المتشابهة وإن لم يكن لهم إلمام كافٍ بها، أم أنّ جملة «الراسخون في العلم» معطوفة على لفظ الجلالة «اللَّه» ليفهم منها أنّ كلًا من اللَّه وكذلك الراسخين في العلم لهم اطّلاع بتأويل هذه الآيات، وقد اخترنا في التفسير الأمثل الشقّ الثاني، وذكرنا هناك أربعة أدلّة على مدّعانا «1».

على أيّة حال فعبارة «الراسخون في العلم» تدلّ على أنّ لهؤلاء القادة العظام سهماً وافراً من العلم، لأنّ لفظة «الرسوخ» وعلى حدّ قول صاحب المفردات تعني ثبات الشي ء متمكّناً، وأنّ الراسخ في العلم هو المحقّق به الذي لا تعترضه شبهة.

فنستنتج من مجموع هذه الآيات بكلّ وضوح، أنّ للأنبياء الإلهيين حصّة كبيرة من العلوم والمعارف.

______________________________

(1) يرجى مراجعة التفسير الأمثل، ذيل الآية مورد البحث.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 168

توضيحان

1- حدود علم الأنبياء عليهم السلام

لا شكّ في ضرورة تمتّع الأنبياء عليهم السلام بمعرفة تامّة بكلّ أصول الدين وفروعه، وما يرتبط بالمعارف الإلهيّة،

والأحكام، والأخلاق وأسباب سعادة الإنسان وشقائه، وطرق نجاته وهدايته، وذلك لاستلزام مهمّة إبلاغ هذه الأمور، ونيل أهداف النبوّة السامية لمثل هذه العلوم. ومن البديهي عدم إحاطتهم التامّة بهذه الأمور يحول دون تحقّق المقصود، وحسب التعبير المعروف، فهذه المسائل من القضايا التي تكون قياساتها معها.

كما يجب أن يكون لهم إلمام بالمسائل التنفيذية والامور المرتبطة بإدارة المجتمع، وتشكيل الحكومة الإلهيّة ومسائل من هذا القبيل، وذلك لأنّ للأنبياء مقام الولاية فضلًا عن جانب التربية والتعليم، ولو لم نتمكّن من تعميم حكم هذه المسألة على كلّ الأنبياء عليهم السلام، فهذا المقام ممّا يمكن إثباته لكبار الأنبياء على أقلّ تقدير، فإبراهيم كان إماماً وقائداً للناس، وكان كلّ من سليمان وداود وموسى بن عمران ويوسف متصدّياً للحكومة عمليّاً، كما أنّ نوحاً كان شبيهاً برئيس الحكومة وذلك في ظروف خاصّة بعد مسألة الطوفان، والأوضح من الكلّ هو مقام ولاية وحكومة نبي الإسلام صلى الله عليه و آله الذي شكّل حكومة إلهية كاملة بكافّة أبعادها.

إنّ ضرورة تمتّعهم بالمعلومات الكافية لإدارة هذه الحكومات هو ممّا لا يخفى، لأنّ أي خطأ واشتباه منهم في أمر الحكومة سيترك أثراً سلبيّاً في مسألة دعوتهم إلى اللَّه، وعلى العكس فالقيادة الصحيحة للحكومة ستكون السبب في نجاحهم في هذه المهمّة.

ويمكن إثبات هذين القسمين من العلوم والمعارف- الدينية والحكومية بالدليل العقلي، باعتبار عدم ضمان الهدف من البعثة لو لم يكن للأنبياء اطّلاع عليهما.

لكن هل يلزم عقلًا أن يكون الأنبياء والأئمّة المعصومون مطّلعين على العلوم الأخرى، التي لا ترتبط بأهدافهم مباشرةً؟ مثلًا هل يجب أن يكون لهم اطّلاع بعلم الطبّ والرياضيات والأعشاب والنجوم والهيئة وسائر العلوم؟

نفحات القرآن، ج 7، ص: 169

بعبارة أخرى هل يلزم أن يكون لهم إلمام بكافّة العلوم على مستوى

إلمام الأخصائي وما فوقه- الدكتوراه وما فوق ذلك- لا مجرّد المعلومات العامّة التي يحتاجها كلّ قائد؟

يعتقد البعض بعدم وجود أدلّة عقلية على إثبات مثل هذه العلوم الكثيرة للأنبياء، مهما تمّ الإستشهاد بالآيات والروايات كأدلّة نقلية على اتّساع دائرة علومهم في شتّى المجالات.

وبعبارة أخرى: فعلوم الأنبياء عليهم السلام الضرورية لهم هي ما تمّت الإشارة إليها طبقاً للأدلّة العقلية، لكن عند الاستدلال بالأدلّة النقلية تتّسع مسألة علومهم بشكل أكبر ولا مانع من عدم لزوم هذه العلوم لهم عقلًا، لأنّ الأدلّة النقلية تثبت لهم هذه العلوم من باب الفضيلة والكمال، نظراً لإمكان هذه العلوم من إضفاء عظمة أكبر عليهم، ومن الإسراع في تقبّل الناس لدعوتهم.

2- القرآن والعلوم الأخرى للأنبياء عليهم السلام

ومن جهة أخرى فلا يمكن إنكار هذه الحقيقة وهي ارتفاع الحجب عن قلوب الأنبياء، بسبب سمو نفوسهم وتهذيبهم الكامل للنفس وتصفية قلوبهم من الشوائب، وأنّ هذه المعرفة وان لم تكن ضمن شروط النبوّة لكنّها تعتبر ضرورية في سلّم الكمال كما لا يخفى.

وبعبارة أخرى، فان مسألة نقض الغرض شي ء، ومسألة قدرة نفوس وعقول الأنبياء يمثل شيئاً آخر، ولو أنّنا عجزنا عن إثبات ما زاد عمّا له علاقة بعالم الشريعة والتربية وإدارة المجتمع الإنساني، فبالإمكان إثباته بالطريق الثاني.

ويمكن لآيات القرأن أن تكون دليلًا حسناً على هذه المسألة أيضاً، إذ قد تمّت الإشارة في القرآن، بالإضافة إلى مسألة الأسماء التي وهبت لآدم والتي اتّسع نطاقها بما يفوق الحدّ- كما علمنا- إلى موارد أخرى من علوم مختلف الأنبياء الإلهيين، والتي لا تبدو حسب الظاهر لازمة لمسألة التشريع وبيان أحكام الدين، لكنّها تعدّ الأساس لكمالها. لاحظ الآيات الآتية المرتبطة بهذا الموضوع.

1- نقرأ عن داود عليه السلام: «وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ». (الأنبياء/ 80)

نفحات

القرآن، ج 7، ص: 170

ال «لبوس» يعني في الأصل كلّ أنواع الألبسة، لكنّه استعمل هنا في خصوص ملابس المعركة كالدرع مثلًا، ولكن بعض أرباب اللغة كابن منظور في لسان العرب وبعض المفسّرين كالمرحوم الطبرسي في مجمع البيان قالوا في ذيل هذه الآية: كلّ أنواع السلاح (الأسلحة الهجومية والدفاعية)، إذ إنّه يصدق بحقّها استعمالها للدفاع في الحروب التي اشير إليها في الآية وإن كانت ظاهرة في الدرع كما هو واضح.

ذكر بعض المفسّرين أنّهم وقبل داود عليه السلام كانوا يربطون بأبدانهم صفحات حديدية رقيقة لوقاية أنفسهم من ضربات الأعداء، (وأنّ هذا العمل كان شاقّاً وصعباً للغاية، وأنّ أوّل من صنع الدرع من الحلقات الصغيرة المرتبطة ببعضها البعض هو نبي اللَّه داود الذي خطر على باله هذا الشي ء بإلهام إلهي «1».

وقد ورد نفس هذا المعنى بتعبير أشمل في موضع آخر إذ يقول تعالى: «وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ* أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِى السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً». (سبأ/ 10- 11)

«السابغات» جمع «سابغ» الذي يعني الدرع الكامل العريض بالضبط، كما أنّ «إسباغ النعمة» يعني وفورها و «إسباغ الوضوء» يعني كثرة ماء الوضوء.

«السرد» يعني في الأصل غزل الأشياء الخشنة، وقد ورد في جملة «وقدّر في السرد» الأمر برعاية الأحجام الملائمة لحلقات الدرع وكيفية غزلها.

وبهذا تبيّن أنّ اللَّه قد ألآن له الحديد بالإضافة إلى تعليمه لفنون غزل الدرع الكامل.

هل كان الحديد يلين في يد داود كالشمع؟ أم أنّ اللَّه قد علّمه طريقة إذابة الحديد وصناعة القضبان الحديدية الدقيقة والمتينة؟ وبعبارة أخرى هل يمكن أن يكون لين الحديد في يده معجزة إلهية، أم أنّ اللَّه علّمه الأسلوب الخاصّ لإذابة الحديد، والذي لم يكن معروفاً حينذاك؟ أيّاً كان فقد علّم اللَّه داود كيفية صناعة القضبان المناسبة واستبدالها

بحلقات الدرع القويّة ونسجها، وكانت نتيجة ذلك هي صناعة ثوب يسهل ارتداؤه مع مرونة حركته، طبقاً لحركات بدن الإنسان وأعضائه، لا كصفحات الحديد القويّة التي يتعذر

______________________________

(1) تفسير روح المعاني، ج 11، ص 21؛ و تفسير في ظلال القرآن، ج 5، ص 552.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 171

تطويعها والتي تقيّد المقاتلين فتجعلهم وكأنّهم في قفص.

وهنا ملاحظة لابدّ وأن تؤخذ بنظر الإعتبار وهي أنّ داود عليه السلام حينما كان يلين الحديد بيديه كان يرجّح صناعة المعدّات الدفاعية على الهجومية كالسيف مثلًا.

على أيّة حال فمع أنّ عدم الإلمام بصناعة آلية دفاعية مهمّة ومصيرية، في حروب ذلك الزمان لم يكن بتلك الأهميّة، بحيث يحدث خللًا في دعوة النبي الدينية، لكن اللَّه علّمه هذه الصنعة وبقيت رائجة بين الناس.

2- نقرأ فيما يتعلّق بسليمان عليه السلام: «وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَىْ ءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ». (النمل/ 16)

هذا في الواقع جزء من العلم العظيم الذي وهبه اللَّه لداود وسليمان، والذي جاء في الآية السابقة: «وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً».

بديهي أنّ الإطّلاع على منطق الطير (محاورات الطيور) بأي معنىً كان ليس من شروط النبوّة، وفي نفس الوقت فالقرآن يصرّح بأنّ اللَّه تعالى كان قد وهب سليمان عليه السلام علماً كهذا، بل أشار أيضاً في آيتين لاحقتين إلى معرفة سليمان بمنطق النمل: «حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ الَّنمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا الَّنمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَايَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ* فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وَعَلَى وَالِدَىَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ». (النمل/ 18- 19)

وكما نقرأ حوار سليمان مع الهدهد في الآيات اللاحقة كذلك: «وَتَفَقَّدَ

الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِىَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ ...». (النمل/ 20- 28)

مع أنّ هناك أبحاثاً كثيرة تبحث في تفسير هذه الآيات، أنّه هل لهذه الطيور كالهدهد والحشرات كالنمل ذلك المستوى من العقل والشعور، بحيث تدرك مفاهيم الكلمات

نفحات القرآن، ج 7، ص: 172

والجمل وتتحدّث بشكل منطقي؟ وهل أنّ اسلوب محاوراتها يتمّ بالألفاظ أم من خلال حركات تعكس المراد؟ (ذكرنا ذلك مفصّلًا في التفسير الأمثل) «1».

لكن تفسير هذه الآيات أيّاً كان فلن يؤثّر على الهدف الذي نبغيه هنا، لأنّ المراد هو وجود سلسلة من المعلومات التي تخرق العادة عند الأنبياء، وعدم وجودها عند الناس العاديين، مع عدم كونها من شروط النبوّة في نفس الوقت.

3- وحول يوسف عليه السلام جاء في العديد من الآيات أنّ له علماً خارقاً للعادة في تفسير الأحلام.

ففي أحد المواضع يبشّره أبوه يعقوب عليه السلام بأنّ اللَّه سيختارك ويعلّمك من تفسير الأحلام:

«وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ». (يوسف/ 6)

وفي موضع آخر حينما يدور الحديث حول مجي ء يوسف عليه السلام إلى قصر عزيز مصر يقول القرآن الكريم: «وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ». (يوسف/ 21)

ويتحدّث في موضع آخر عن تفسير يوسف عليه السلام لرؤيا السجينين، وقوله لهما: «ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِى رَبِّى». (يوسف/ 37)

وأخيراً حينما يدور الحديث عن ابتهال يوسف عليه السلام ومناجاته لخالقه بعد تصدّيه لمقام الحكومة، ولقائه بأبيه وامّه واخوته، يقول القرآن الكريم على لسان يوسف عليه السلام: «رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِى مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِى مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ». (يوسف/ 101)

مع أنّ البعض من المفسّرين قد ذكروا احتمالًا آخر غير تفسير الأحلام فيما يتعلّق بعبارة «تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ» وقالوا: إنّ المراد هو تعليمه أسرار الكتب الإلهيّة ودقائق سنن

______________________________

(1) راجع التفسير الأمثل، ذيل الآيات

مورد البحث.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 173

الأنبياء عليهم السلام «1»، لكن ومع الأخذ بنظر الإعتبار مجموع الآيات الأربع أعلاه ولفظة «التأويل» التي تتلاءم كثيراً مع تفسير الأحلام، بالإضافة إلى قرائن اخرى يكون المراد هو نفس علم تفسير الأحلام وهو مختار الكثير من المفسّرين أيضاً «2».

ومع أنّ علم تفسير الأحلام لم يحض بتلك الأهميّة عند البعض، لكنّه يعدّ من الحقائق، وذلك للشواهد والقرائن العينية الكثيرة التي تحفّ بهذا الموضوع، كما أنّ بإمكانه كشف اللثام عن بعض الغوامض لمن له إلمام به. وقد تناولنا هذا الموضوع بالشرح والتفصيل في التفسير الأمثل ذيل الآية السادسة سورة يوسف عليه السلام.

كما أنّ القرآن قد أيّد صحّة ذلك أيضاً وذكر لذلك مثالًا عجيباً، وبيّن أنّ مستقبل بلاد كبيرة كمصر قد تغيّر عن طريق تفسير يوسف عليه السلام للرؤيا بصورة دقيقة، كما أنّ نفس هذا التغيّر قد ترك أثره في مستقبل يوسف عليه السلام أيضاً وأوصله إلى أرفع المناصب الحكومية في مصر.

و لا شكّ أنّ علم تفسير الأحلام بنظر المنطق العقلي ليس بذلك الشي ء الذي ترتكز عليه اسس الرسالة، لكن مع ذلك فقد وهب اللَّه قسطاً وافراً منه ليوسف عليه السلام.

4- وحول موسى عليه السلام أيضاً يشاهد هذا المعنى بوضوح في القرآن، حيث أن قصّة «الخضر» و «موسى» وبذلك التفصيل الرائع والبليغ، الذي جاء في سورة الكهف (وان لم يصرّح القرآن باسم الخضر) تبيّن وجود علوم لدى الخضر كانت غائبة عن ذهن موسى، وأنّه جاء إلى «الخضر» ليتعلّم قسماً منها.

______________________________

(1) تفسير روح المعاني ج 12، ص 186، نقل هذا التفسير عن البعض من المفسّرين كما أنّ المفسّر الكبيرالطبرسي ذكر ذلك كأحد الأقوال في ج 5، ص 210، ذيل الآية السادسة من سورة يوسف.

(2)

تفسير مجمع البيان ذيل الآية 101؛ وتفسير روح المعاني ذيل الآية 21؛ وتفسير القرطبي ذيل الآية 6؛ وتفسير روح البيان ذيل الآية 6؛ وأخيراً تفسير في ظلال القرآن ذيل الآية 101 من سورة يوسف.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 174

هذه العلوم ليست اموراً مرتبطة بالشريعة وأصول الدين وفروعه، بل هي حقائق مرتبطة بتكوين الإنسان وحياته، مثل تلك السفينة التي كانت لفريق من المستضعفين، والتي خرقها الخضر ليحول دون غصبها من قبل الملك الظالم، أو الشاب الذي قتله الخضر لأنّه سوف يكون سبباً في انحراف أبويه المؤمنين مستقبلًا، أو الجدار الذي كاد ينقضّ حيث قام الخضر بترميمه حفاظاً على كنز الأيتام الموجود تحته.

فالخضر كان يسعى دائماً بأسلوبه الخاصّ لمساعدة المظلومين والمؤمنين، في حين كان تصرّفه هذا بنظر موسى خاطئاً وغير مطابق للموازين الشرعية، وذلك بسبب عدم اطلاعه على بعض الحقائق التي كانت محجوبة عنه، ولذا كان يغضب كثيراً حتّى أنّه نسي أكثر من مرّة عهده الذي أعطاه للخضر، بعدم الإعتراض على ما يفعله قبل بيانها واعترض عليه بشدّة، ثمّ اعتذر منه بعد التفاته إلى ذلك.

هذه القصّة بكلّ نكاتها اللطيفة تؤكّد على حقيقة أنّ موسى عليه السلام كان بصدد تعلّم مثل هذه العلوم من الخضر عليه السلام بأمر من اللَّه، في حين أنّ هذه العلوم لم يكن لها دخل في مسألة إبلاغ النبوّة، بل تعتبر سبباً في تكاملها لأنّها تعني التعمّق في المسائل بشكل أكبر.

ولو اعتبرنا الخضر نبيّاً (نظراً لوجود الخلاف بين المفسّرين والمحدّثين حول نبوّته) فسنصل إلى هذه النتيجة أيضاً وهي أنّ هناك علوماً لدى الخضر وراء علوم الشريعة، وبديهي أنّ اطّلاع الأنبياء عليهم السلام على هذه الحقائق يعني أنّ اللَّه تعالى قد جهّزهم بعلوم كثيرة، لتكون لهم

قدرة أكبر على هداية الخلق ورسم الطريق لنيل المطلوب، وإن كانت هذه العلوم بعيدة كلّ البعد عن الشروط القطعية للنبوّة.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 175

مصادر علم الأنبياء عليهم السلام

نفحات القرآن، ج 7، ص: 177

مصادر علم الأنبياء عليهم السلام

1- يتلقّى أنبياء اللَّه عليهم السلام حقائق علومهم بالدرجة الاولى عن طريق الوحي، الذي ينزل عليهم أحياناً عن طريق «ملك الوحي»، كما نقرأ ذلك في الآية (192- 195) من سورة الشعراء: «وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ* نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ* عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ* بِلِسَانٍ عَرَبِىٍّ مُّبِينٍ»، أو عن طرق أخرى، فهناك أنواع وطرق متعدّدة للوحي وسيأتي تفصيلها في محلّه إن شاء اللَّه.

2- الطريق الآخر لعلوم الأنبياء عليهم السلام هو الإرتباط الروحي والمعنوي بعالم الغيب، فلقد جعل اللَّه تعالى حقيقة أبصارهم قويّة بدرجة أنّها اخترقت حجب عالم الغيب لتجد سبيلها إلى ما وراء ذلك، كما يقول تعالى بالنسبة لإبراهيم الخليل عليه السلام: «وَكَذَلِكَ نُرِى إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ». (الأنعام/ 75)

أجل فقد كانت لهم معرفة بعالم «الملكوت»، فضلًا عن معرفتهم بعالم «الملك»، وقد تلقّوا الكثير من علومهم عن طريق المشاهدة النفسية والباطنية للملكوت، وبعبارة أخرى فإدراكاتهم وأبصارهم هي غير تلك الظاهرية التي عندنا، وقد توصّلوا عن طريقها إلى حقائق كثيرة.

3- الطريق الثالث هو السير ومشاهدة الآفاق الذي عرض للبعض من الأنبياء بأمر من اللَّه عزّوجلّ، حيث اطّلعوا عن هذا الطريق على العوالم المختلفة لهذا الكون، بالضبط كما حدث ذلك لنبي الإسلام صلى الله عليه و آله في مسألة المعراج، يقول القرآن:

«سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِى

نفحات القرآن، ج 7، ص: 178

بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ». (الاسراء/ 1)

كان هذا في الواقع

القسم الأوّل من المعراج، امّا القسم الثاني فهو الذي يبدأ من المسجد الأقصى باتّجاه السماوات، والذي أشير إليه في آيات سورة النجم إذ يقول تعالى: «لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى». (النجم/ 18)

وهو مضافاً إلى هذه الآيات الشريفة التي تذكر المعراج بشكل مجمل، نجد أنّ الأحاديث الإسلامية قد ذكرته بشكل تفصيلي، إذ يتبيّن من مجموعها بكلّ وضوح الحجم العظيم من المعلومات التي حصل عليها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، من ذلك السفر الليلي السماوي وهو المعراج.

وكذلك الأنوار البهيّة التي أشرقت على قلبه، فرفعت مقامه العلمي ممّا هو عليه إلى أعلى علّيين.

4- الطريق الرابع وهو المستفاد من عدّة آيات في القرآن بأنّ هناك حقيقة باسم «روح القدس» كان برفقة الأنبياء يؤيّدهم ويقوّيهم ويرشدهم في مسيرهم.

وردت لفظة «روح القدس» في القرآن المجيد أربع مرّات، مرّة في حقّ عيسى وأخرى في حقّ نبي الإسلام صلى الله عليه و آله. يقول القرآن في حقّ السيّد المسيح عليه السلام «وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ». (البقرة/ 87)

وحول تكلّم عيسى عليه السلام في المهد يقول: «إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِى الْمَهْدِ وَكَهْلًا». (المائدة/ 110)

ونقرأ عن نبي الإسلام صلى الله عليه و آله: «قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ». (النحل/ 102)

لقد ذكر المفسّرون معنيين لكلمة «روح القدس»، أحدهما أنّه ملك الوحي جبرئيل عليه السلام.

والآخر هو القوّة الغيبية المجهولة التي ترافق الأنبياء عليهم السلام، فالآية المرتبطة بنبي الإسلام صلى الله عليه و آله تناسب المعنى الأوّل، والآيات المرتبطة بالسيّد المسيح تناسب المعنى الثاني، فهو الذي أيّد المسيح عليه السلام في تكلّمه بالمهد أو في إحيائه للموتى.

هذا الروح المقدّس والطاهر، كان المنبع لإلهامات عظيمة للأنبياء عليهم السلام،

بل وحتّى

نفحات القرآن، ج 7، ص: 179

يستفاد من بعض تعابير الروايات أنّ روح القدس يرافق الأفراد المؤمنين أيضاً (طبقاً لسلسلة مراتب الإيمان)، وهو الذي يؤيّد الخطباء الصالحين والشعراء المؤمنين في خطبهم وقطعهم النثرية وقصائدهم العملاقة، كما يمدّ المؤمنين الحقيقيين بالعزم على اتّخاذ التصاميم المصيرية.

ويبدو في الكثير من الروايات أنّ روح القدس حقيقة عند الأنبياء والأئمّة المعصومين عليهم السلام، وأنّهم قد أدركوا بواسطته الكثير من الحقائق، من جملتها ما جاء في الكثير من الروايات أنّ الأئمّة المعصومين عليهم السلام كانوا يستمدّون العون من روح القدس عند القضاء والإفتاء.

هذا التعبير ورد بحقّ «حسّان بن ثابت» حيث قال له النبي الأكرم صلى الله عليه و آله: «لن يزال معك روح القدس ما ذببت عنّا» (سفينة البحار، مادّة كميت).

كما جاء في حقّ الكميت شاعر أهل البيت عليهم السلام المعروف، من أنّ الإمام الباقر عليه السلام قال له: «لا تزال مؤيّداً بروح القدس» «1»، وورد نظير هذا المعنى في حقّ دعبل الخزاعي أيضاً، وذلك عندما ألقى القصيدة المعروفة «مدارس آيات» في مجلس الإمام الرضا عليه السلام، وحينما وصل إلى هذا البيت حول ظهور المهدي عليه السلام:

خروج إمام لا محالة واقع يقوم على اسم اللَّه والبركات!

بكى الإمام الرضا عليه السلام كثيراً ثمّ قال: يادعبل نطق روح القدس على لسانك، هل تعلم من هذا الإمام؟ قال دعبل: كلّا، لا أعلم سوى ما سمعته من أنّ إماماً منكم سيظهر ويملأ الأرض قسطاً وعدلًا. فأيّد الإمام الرضا عليه السلام كلامه وتحدّث بشي ء من التفصيل عن ظهور المهدي، باعتباره الخليفة الثاني عشر للرسول صلى الله عليه و آله (الغدير الجزء 2 الصفحة 355).

وفي حديث عن الإمام الصادق عليه السلام نقرأ أنّ أحد أصحابه سأله: تسألون

عن الشي ء فلا يكون عندكم علمه؟! قال الإمام عليه السلام: «ربّما كان ذلك!».

قال الراوي: كيف تصنعون؟

______________________________

(1) الغدير، ج 2، ص 202، حالات الكميت.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 180

قال الإمام عليه السلام: «تلقّانا به روح القدس؟» «1» (بمعنى لقينا).

نقرأ في حديث آخر: أنّ أحد أصحاب الإمام الباقر عليه السلام قال: سألته عن علم العالم (المراد به النبي والإمام المعصوم).

فقال عليه السلام: «يا جابر إنّ في الأنبياء والأوصياء خمسة أرواح: روح القدس، وروح الإيمان ... فبروح القدس ياجابر عرفوا ما تحت العرش إلى ما تحت الثرى» «2».

كما ورد في رواية أخرى عن الإمام الباقر عليه السلام أيضاً حول تفسير الآية: «وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا ...» أنّه عليه السلام قال: «منذ أنزل اللَّه ذلك الروح على نبيّه ما صعد إلى السماء وإنّه لفينا» «3».

هذا التعبير يبيّن أنّ الروح الذي يشكّل أحد المنابع الرئيسية لعلوم ومعارف النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، والأئمّة المعصومين عليهم السلام ليس جبرئيل، وأنّه حقيقة كامنة في وجودهم قد انتقل من النبي الأكرم صلى الله عليه و آله إليهم واحداً بعد الآخر.

5- الطريق الخامس لمنابع علومهم هو العقل الخارق والذي أودعه اللَّه عزّوجلّ عند الأنبياء وأوصيائهم المعصومين عليهم السلام، نظراً لإمكانية إدراك الكثير من الحقائق عن طريقه، عقل ومعرفة الناس العاديين يضي ء شعاعاً خاصّاً في حين أنّ عقول الأنبياء والأوصياء لها امتداد واسع جدّاً، وهذا هو السبب في كشفهم لحقائق لا يدركها الآخرون.

لذا نقرأ في قصّة ليلة المبيت (الليلة التي هاجر فيها النبي سرّاً من مكّة إلى المدينة وترك عليّاً عليه السلام في فراشه) أنّه: حينما اقتحم أشراف قريش المنزل عند الفجر، ووجدوا عليّاً عليه السلام في فراش النبي الأكرم صلى الله

عليه و آله، صاحوا: أين محمّد؟

قال عليه السلام: أجعلتموني عليه رقيباً؟ ألستم قلتم نخرجه من بلادنا؟ فقد خرج عنكم، وهنا قال «سراقة بن مالك المخزومي»: الآن حيث لا يوجد محمّد صلى الله عليه و آله فلا تتركوا عليّاً عليه السلام

______________________________

(1) بحار الأنوار، ج 25، كتاب الإمامة، ص 56، ح 19، كما ورد نفس هذا المضمون في، ح 18 و 20 و 21 و 22 و 23 أيضاً.

(2) المصدر السابق، ص 55، ح 15، كما ورد نفس هذا المعنى بتفاوت ضئيل في الأحاديث 14 و 25 و 26.

(3) المصدر السابق، ص 61، ح 37.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 181

وأريحوا العالم من وجوده، قال أبو لهب: كفّوا عنه، فهو مخدوع من محمّد وقد أفدى نفسه له.

حينئذ التفت علي عليه السلام إلى أبي جهل وقال: «ياأبا جهل بل اللَّه قد أعطاني من العقل ما لو قسّم على جميع حمقاء الدنيا ومجانينها لصاروا به عقلاء، ومن القوّة ما لو قسّم على جميع ضعفاء الدنيا لصاروا به أقوياء، ومن الشجاعة ما لو قسّم على جميع جبناء الدنيا لصاروا به شجعاناً، ومن الحلم ما لو قسّم على جميع سفهاء الدنيا لصاروا به حلماء» «1».

فحينما يتمتّع علي عليه السلام بهذه المرتبة من العقل والمعرفة فمن المسلّم أن يتمتّع النبي الأكرم صلى الله عليه و آله بمثل هذه الموهبة العظيمة بطريق أولى.

كما أنّ حياة الأنبياء تبيّن أنّ لهم من العقل والمعرفة ما يخرق العادة، وهذا بنفسه هو أحد المنابع المهمّة لعلومهم ومعارفهم.

6- الطريق السادس والمصدر الأخير هو العلوم التي ورثوها خلفاً عن سلف، ولدينا أدلّة كثيرة على أنّ الأنبياء عليهم السلام قد نقلوا علومهم ومعارفهم إلى الأنبياء الآخرين أو إلى أوصيائهم وأورثوها إيّاهم.

قال

فريق من المفسّرين في تفسير الآية: «وَوَرِثَ سُلَيْمانُ دَاوُدَ». (النمل/ 16)

إنّ «الإرث» هنا يعني إرث علم ومعرفة ذلك النبي، أو أنّه يعني مطلق التوارث الشامل للعلم والمعرفة أيضاً.

كما أنّ بعض المفسّرين اعتبر توارث العلم في قصّة زكريا عند تفسير الآية 6 من سورة مريم: «يَرِثُنِى وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ» داخلًا في المفهوم الجامع للآية «2».

كما نقرأ في العديد من الروايات: أنّ العلوم التي وهبها اللَّه لآدم (علم الأسماء) لم تغب عن الوجود، بل ورثها أولاده المنتجبون!

من جملتها ما نقرأه في رواية عن الإمام الباقر عليه السلام: «إنّ العلم الذي نزل مع آدم لم يرفع

______________________________

(1) بحار الأنوار، ج 19، ص 83.

(2) من جملتهم الآلوسي في تفسير روح المعاني؛ والسيّد قطب في تفسيره في ظلال القرآن.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 182

والعلم يتوارث، وكان علي عالم هذه الامّة، وأنّه لم يهلك منّا عالم قطّ إلّاخلّفه من أهله من علم علمه أو ما شاء اللَّه» «1».

وفي حديث آخر عن الإمام الباقر عليه السلام نقرأ أنّه قال: «أما إنّ محمّداً صلى الله عليه و آله ورث علم من كان قبله من الأنبياء والمرسلين» «2».

كانت هذه المصادر الستّة بمجموعها السبب وراء اطّلاع الأنبياء الإلهيين، ليس فقط على المسائل المرتبطة بمعارف الدين وأحكام الشريعة، بل وكذلك على العلوم والمعارف الأخرى الأعمّ من كونها ذات تأثير مباشر في أداء مهمّة الرسالة، أو غير مباشر في تكميل أهداف النبوّة (تأمّل جيّداً).

______________________________

(1) أصول الكافي، ج 1، ص 222، (باب أنّ الأئمّة عليهم السلام ورثة العلم) ح 2، كما ورد نفس هذا المعنى في ح 4 و 5 و 8 من نفس ذلك الباب، وبنفس هذا المنوال الحديث المتظافر المنقول عن أئمّة أهل البيت بأسانيد مختلفة.

(2)

المصدر السابق، ص 224 (باب أنّ الأئمّة ورثوا علم النبي)، ح 2.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 183

الأنبياء عليهم السلام وعلم الغيب

اشارة

نفحات القرآن، ج 7، ص: 185

تمهيد:

لفظة «الغيب» تقابل «الشهود»، والشهود يطلق على الموارد التي يكون فيها الشي ء قابلًا للإحساس والمشاهدة، وبهذا فالغيب يطلق على كلّ الامور الخافية عن شعور الإنسان، ولذا ورد في البعض من الآيات القرآنية تعبير «الإيمان بالغيب» عند التطرّق للإيمان باللَّه واليوم الآخر: «الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ». (البقرة/ 3)

وفي موضع آخر يصف القرآن المتّقين: «الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ». (الأنبياء/ 49)

بل وحتّى يمكن أن يعدّ الشي ء واضحاً محسوساً لفرد وغير محسوس لآخر وذلك لعدم حضوره في ذلك المكان حيث يطلق «الغيب» على ذلك أيضاً، كما نقرأ في قصّة يوسف عليه السلام أنّ امرأة عزيز مصر حينما اعترفت بطهارة يوسف في غيابه أضافت قائلة: «ذَلِكَ لِيَعْلَمَ (يوسف) أَنِّى لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ». (يوسف/ 52)

بعد هذا يدور الكلام حول الأنبياء الإلهيين وهل أنّهم مطّلعون على أسرار الغيب والامور الخافية عن حواس الإنسان (الشاملة للمحسوس غير الحاضر، أو غير المحسوس أصلًا) أم أنّ علم الغيب يختصّ بذاته تعالى، وأنّه لا سبيل لسواه إليه أبداً؟

تبدو آيات القرآن وللوهلة الاولى وكأنّها على قسمين متفاوتين: القسم الأوّل يعتبر علم الغيب خاصّاً به تعالى، والقسم الآخر يقول بإمكانه لغيره أيضاً، ولغرض الإجابة على السؤال أعلاه لابدّ من مراجعة هذه الآيات أوّلًا، ثمّ التطرّق لكيفية الجمع بينها.

أمّا بالنسبة للقسم الأوّل فالآيات الآتية ملفتة للنظر:

نفحات القرآن، ج 7، ص: 186

1- «وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَايَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ». (الأنعام/ 59)

2- «فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ للَّهِ». (يونس/ 20)

3- «قُلْ لَايَعْلَمُ مَنْ فِى السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ». (النمل/ 65)

4- «قُلْ لَاأَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ». (الأنعام/ 50)

5- «وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِىَ السُّوءُ». (الأعراف/ 188)

6- «عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ».

(الأنعام/ 73)

جمع الآيات و تفسيرها

اعتبر علم الغيب في هذا القسم من الآيات التي وردت بتعابير شتّى خاصّاً باللَّه تعالى وأنّه لا سبيل لغيره إليه.

قال تعالى في الآية الاولى: «وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَايَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ».

إنّ تقديم ظرف المكان (عنده) في أوّل الآية دليل على الإنحصار، وكذا ذيل الآية الذي يصرّح قائلًا: لا يعلمها إلّاهو.

المفاتح جمع «مِفْتَح» (على وزن مِنْجل) بمعنى المفتاح، وجمع «مَفْتَح» (على وزن دفتر) بمعنى الخزانة ومحلّ حفظ الأشياء «1»، وقد ذكر المفسّرون كلا المعنيين للآية، إذ قالوا تارةً: إنّ كلّ خزائن الغيب عند اللَّه، واخرى كلّ مفاتيح الغيب، لكن نتيجة كليهما واحدة وإن اختلفت العبارات.

وقد اعتبرها بعض المفسّرين، واستناداً إلى ما جاء في صحيح البخاري في تفسير الآية، إشارة إلى الامور الخمسة الواردة في آخر سورة لقمان، لكن لايخفى أنّ مفهوم الآية أوسع من ذلك بكثير، بحيث يشمل كل خزائن الغيب ومفاتيحه.

ويبدو أنّ ما جاء في الرواية حول آخر سورة لقمان كان بياناً لمصاديق جليّة له، ولذا أشار في ذيل الآية مورد البحث إلى كلّ الأوراق الساقطة من الأشجار، والحبوب في باطن

______________________________

(1) تفسير الكبير، ج 13، ص 8، ذيل الآية مورد البحث.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 187

الأرض، وكلّ رطب ويابس في عالم الوجود، واعتبرها ثابتة في اللوح المحفوظ، لوح علم الباري تعالى.

وفي الآية الثانية كان الخطاب موجّهاً إلى نبي الإسلام صلى الله عليه و آله: «فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ للَّهِ».

وكان هذا في معرض الجواب عن سؤال المشركين الذين يتحججون على النبي الأكرم صلى الله عليه و آله بإظهار المعجزات (المعجزات التي كانوا يقترحونها هم بأنفسهم من باب الإصرار والعناد للتذرّع بها متى ما مشاءوا)، وبناءً على هذا فالقرآن يقول للنبي صلى الله عليه و آله: تخلى

عن مسؤولية مثل هذه الامور، إنّها من أسرار الغيب التي لا يعلمها إلّااللَّه، ومتى ما شاء فسيصدر أمره، فلا تستسلم أبداً لرغبات المتذرّعين الحمقى

ونفس هذا المعنى جاء في ثالث آية وبتعبير آخر، حيث إنّ اللَّه تعالى يعلّم نبيّه صلى الله عليه و آله ماذا يقول لأهل الحجج الذين يصرّون على السؤال عن موعد يوم القيامة، فيأمره أن يقول لهم: إنّ هذا من أسرار الغيب وأنّه لا أحد في السماوات والأرض يعلم الغيب، وموعد يوم القيامة ومتى يكون البعث؟: «قُلْ لَايَعْلَمُ مَنْ فِى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ».

صحيح أنّ مورد نزول هذه الآية هو يوم القيامة، لكن مفهومها أوسع بل شامل لكلّ الغيوب.

وفي رابع آية يأمر اللَّه نبيّه بصراحة: «قُلْ لَاأَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ ... إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَىَّ».

نفحات القرآن، ج 7، ص: 188

هذا الكلام أيضاً كان ردّاً على المشركين المعاندين، الذين يطلبون منه كلّ يوم معجزة ثمّ لم يقتنعوا حتّى بمشاهدتها، كما كانوا يطلبون منه أن يطلعهم على أسرار الغيب.

واعلم جيّداً أنّ جملة «إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَىَّ» الواردة في ذيل الآية هي إحدى المفاتيح لحلّ غوامض علم الأنبياء عليهم السلام، والتي سنتكلّم عنها بالتفصيل ان شاء اللَّه.

كما ورد نظير هذا المعنى وبتفاوت ضئيل في الآية: «وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ». (هود/ 31)

هذا التفاوت هو أنّ الاولى كانت على لسان نبي الإسلام صلى الله عليه و آله والثانية على لسان نوح عليه السلام.

و نلاحظ في الآية الخامسة تعبيراً جديداً حول هذا الموضوع، حيث يؤمر النبي بنفي علم الغيب عن نفسه باستدلال لطيف، إذ يأمره تعالى: «قُلْ لَاأَمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعاً وَلَا

ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِىَ السُّوءُ».

مع أنّ هذه الآية قد جاءت بعد الآية التي تتحدّث عن موعد يوم القيامة، وانحصار علمه باللَّه تعالى، لكن مفهومها واستدلالها أوسع كثيراً.

ومن البديهي أنّ الكثير من المنافع التي تفوت الإنسان أو الأضرار التي تلحق به ناشئة من عدم وقوفه على عاقبة الامور وأسرار الغيب، ولو كان له اطّلاع عليها لتجنّب شرّها ولجلب لنفسه خيرها، فعجزه عن ذلك دليل على عدم اطّلاعه على أسرار الغيب.

في سادس آية يعتبر علم الغيب إحدى الصفات الخاصّة باللَّه تعالى حيث يقول: «عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ».

هذا التعبير الذي ورد في عدّة آيات من القرآن «1» باعتباره إحدى الصفات البارزة للَّه

______________________________

(1) الأنعام، 73؛ التوبة، 94 و 105؛ الرعد، 9؛ المؤمنون، 92؛ السجدة، 6؛ الزمر، 46؛ الحشر، 22؛ الجمعة، 8؛ التغابن، 18.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 189

تعالى، يبيّن أنّ اللَّه وحده هو المحيط بغيب وشهود الكون، حيث إنّها ذكرت كصفة خاصّة وفي مقام الحصر، فيستفاد منها أنّ غيره تعالى حتّى الأنبياء لم يكونوا مصاديق ل «عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ».

ومع أنّ المفسّرين قد ذكروا عدّة احتمالات لتفسير هذه الآية، إذ فسّرها بعضهم ب «عالم السِّرِّ والعَلانِيةِ»، والبعض الآخر ب «ما كان وما يكون»، وثالث ب «العالم بالدنيا والآخرة»، ورابع ب «العالم بما هو ظاهر لخلقه وما هو خفي عنهم» «1»، لكن من الواضح أنّ كلّ هذه قد وردت حول معنى الآية بصيغة الجمع، لأنّ كلمتي «الغيب» و «الشهادة» اللتين تعنيان هنا العموم، والمذكورتين ب (الف ولام الجنس)، شاملة لكلّ الغيوب والشهود الأعمّ من السابقة واللاحقة، الدنيا والآخرة، السرّ وأخفى، السماوات والأرض، الماديات والمجردات.

ومع أنّ هذا التعبير في الآيات العشر المشار إليها،

قد ذكر في كلّ مناسبة لغرض معيّن، وأنّ القرآن استنتج من كلّ مورد نتيجة، لكن مفهومه في كلّها واحد، وهو الإحاطة العلمية للَّه بأسرار الغيب والشهادة الخاصّة بذاته المقدّسة.

النتيجة:

يمكن الإستنتاج بوضوح من مجموع العبارات الستّ أعلاه والتي تكرّر بعضها في القرآن أنّ علم الغيب والإحاطة بالأسرار الغامضة خاصّ بذاته تعالى.

والآن نذهب وراء القسم الثاني من الآيات والتي تعطي الأنبياء عليهم السلام سهماً من علم الغيب، إذ ينبغي التحقيق فيها جيّداً ليتّضح الدليل على عدم تضادّها مع آيات القسم الأوّل

______________________________

(1) تفسير القرطبي، ج 9، ص 6524، ذيل الآية 22 من سورة الحشر.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 190

المخفية بين ثنايا نفس هذه الآيات:

1- «عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً* إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً* لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَىْ ءٍ عَدَداً». (الجنّ/ 26- 28)

2- «وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِى مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ».

(آل عمران/ 179)

3- «وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِى بُيُوتِكُمْ». (آل عمران/ 49)

جمع الآيات وتفسيرها

وصف اللَّه في أوّل آية بأنّه: «عَالِمُ الْغَيْبِ» المطلق، أي المطلع على كلّ الأسرار الخفيّة، يقول تعالى: «عَالِمُ الْغَيْبِ» ثمّ يستثني قائلًا: «إِلَّا مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ».

أي أنّ اللَّه يطلع مثل هؤلاء الرسل على ما شاء من أسرار الغيب، وبناءً على هذا فهم بأنفسهم لا يعلمون شيئاً عن الغيب، لكنّهم يطّلعون عليه بتعليم إلهي.

ثمّ يضيف: «فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (ليحفظه من كلّ انحراف)».

هذا التعبير دليل على مقام عصمة الأنبياء، وكذلك تأكيد على علمهم بأسرار الغيب.

هذا طبعاً في حالة كون «رَصَداً» بمعنى «المراقب» أو «المراقبين» من الملائكة الإلهيين، لكن هناك تفاسير اخرى أيضاً لهذه الجملة، من جملتها أنّ المراد ب «رصداً» هو الطرق التي رسمها للماضين، أو الذين سيأتون في المستقبل و (جملة «مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ» إشارة إلى

الحوادث السابقة و «وَمِنْ خَلْفِهِ» إشارة إلى الحوادث اللاحقة).

وقيل أحياناً إنّه إشارة إلى الحفظة من الملائكة الذين يحفظون الأنبياء من شرّ الأعداء «1».

______________________________

(1) يجب ألّا يفوتنا أنّ «الرصد» يعني في الأصل المراقب الذي يكمن في موضع ليراقب الأحداث عن كثب أي الإستعداد للترقّب وربّما كان إطلاق هذه اللفظة على الطريق لنفس هذا السبب، وإلّا فأصلها هو ما قيل أعلاه طبقاً لقول صاحب مقاييس اللغة؛ والراغب في المفردات.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 191

لكن على أيّة حال فلا شكّ في دلالة الآية على اطّلاع الأنبياء على أسرار الغيب عن طريق التلقين الإلهي.

أمّا فيما يتعلّق بجملة «لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا ...»، التي جاءت بعد هذه الآية، وكيفية ارتباطها بالآية التي قبلها، فللمفسّرين احتمالات كثيرة معظمها على خلاف ظاهر الآية، وتؤدّي إلى انعدام الإنسجام بين الضمائر، بل وحتّى بين الجمل في الآية.

والذي يبدو أقرب إلى الصواب هو أنّ الضمائر في «لِيَعْلَمَ» و «أَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ» و «أَحْصَى كُلَّ شَىْ ءٍ عَدَداً» عائدة كلّها إلى لفظ الجلالة «اللَّه»، وأنّ الضمير في «أَبْلَغُوا» إمّا إشارة إلى الأنبياء أو إلى الملائكة الإلهيين المأمورين بإبلاغ الوحي، وبناءً على هذا فمفهوم الآية بمجموعها هو: «إنّ الهدف من تعليم أسرار الغيب أو مراقبة الملائكة لكي يعلم اللَّه أنّ رسله قد أبلغوا رسالات ربّهم، وأنّه تعالى قد أحاط بما لديهم وأحصى كلّ شي ء عدداً».

طبعاً ليس المراد من جملة «لِيَعْلَمَ» أنّه لم يكن يعلم شيئاً ثمّ علم، بل المراد هو التحقّق العيني لعلم اللَّه والذي يُعبَّر عنه بالعلم الفعلي، أي أنّ الهدف كان حصول علم اللَّه حول إبلاغ الرسالة وتجسّده خارجاً.

فالنتيجة هي أنّ علم الأنبياء عليهم السلام بأسرار الغيب عن طريق اللَّه تعالى أو الملائكة، يكون السبب وراء إكمال

إبلاغ الرسالة وتحكيم اسس النبوّة (تأمّل جيّداً).

والآية الثانية وبعد نفيها لاطّلاع عامّة الناس على الغيب استثنت الأنبياء عليهم السلام، يقول تعالى: «وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِى مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ».

مع أنّه لم تبد هناك إشارة صريحة في هذه الآية إلى مسألة اطّلاع الأنبياء عليهم السلام على أسرار الغيب للوهلة الاولى، لكن نظراً لكون جملة «ولكِنَّ اللَّهَ ...» مشعرة بالإستدراك والإستثناء، فسيكون مفهوم الآية هو أنّه ينتخب فريقاً من الرسل ويعلّمهم من أسرار الغيب «1».

______________________________

(1) جمهور المفسّرين اتّخذوا هذا المعنى في تفسير الآية، لكن البعض ذكر احتمالات واهية لتلك الآية لا علاقة لها بمسألة اطّلاع الأنبياء على علم الغيب، وسبب النزول الذي ورد في البعض من التفاسير مثل روح المعاني شاهد على ذلك التفسير المشهور أيضاً.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 192

صحيح أنّ بداية الآية إشارة إلى الحوادث التي ميّزت صفوف المنافقين عن فريق المؤمنين، وفضحت ما يكنّونه في قلوبهم، لكن من الواضح أنّ شأن النزول هذا لا يحدّد المفهوم الكلّي للآية، لأنّ الكلام إنّما هو عن عدم اطّلاع عامّة الناس على الغيب، واطّلاع الأنبياء على ذلك التعليم الإلهي.

كما ويستفاد من هذه الجملة أنّ الإطّلاع على الغيب مقام رفيع يمنح للأنبياء الإلهيين فقط، وهو في الواقع مكمّل لبرامجهم وسبب لتحقّق أهدافهم (تأمّل جيّداً).

وهنا يرد سؤالان:

1- إنّ هذه المرتبة لا تنحصر بالأنبياء والأئمّة المعصومين عليهم السلام فحسب، بل أن بعض الصلحاء ذوي القلوب النورانية الذين بلغوا درجات سامية من الشهود، مطّلعون على زاوية من أسرار الغيب، فكيف يتلاءم هذا الشي ء مع النفي المطلق لاطّلاع عامّة الناس على أسرار الغيب الواردةِ في الآية الآنفة الذكر؟

الجواب:

نظراً لكون هذا الإطّلاع محدوداً غير ذي شأن قياساً باطّلاع الأنبياء عليهم

السلام، فلم يؤخذ في الآية بنظر الإعتبار، وبعبارة اخرى أنّ المراد هو نفي المعرفة الواسعة عن أسرار الغيب، وهو ما يصدق في حقّ غير الأنبياء عليهم السلام.

كما يحتمل أيضاً أن يكون لهاتين الآيتين مفهوم واسع بحيث يشمل كلًا من الأنبياء وكذلك الملائكة وأصحاب الكشوف والشهود، الذين بلغوا مقاماً عالياً عن طريق المجاهدات النفسية والرياضات المشروعة وإرشادات المعصومين، لأنّهم إنّما يحصلون على معارفهم عن طريق الإرتباط بالأنبياء والأئمّة أو الملائكة، وبناءً على هذا فانّ اللَّه يضع

نفحات القرآن، ج 7، ص: 193

علم غيبه عند أنبيائه فقط ثمّ يستعين الآخرون بهم، أي بالضبط مثلما أنّ «مريم» مثلًا، أو امرأة إبراهيم «سارة» اطّلعتا عن طريق الملائكة الإلهيين على البعض من أسرار الغيب فيما يتعلّق بولادة عيسى أو إسحاق ويعقوب عليهم السلام.

كما ويحتمل أيضاً كون العلوم العينية على ثلاثة أقسام: قسم منها خاصّ بذاته تعالى، لم يطّلع عليها سواه حتّى الأنبياء المرسلين والملائكة المقرّبين (كالعلم بزمان قيام الساعة وأمثالها).

الثاني: العلوم الغيبية الخاصّة التي يودعها اللَّه عند المعصومين (الأنبياء والأئمّة والملائكة المقرّبين)، والقسم الثالث: العلوم التي يودعها عند فريق من الأتقياء الذين يبلغون مقام الشهود، وتزال الحجب عن قلوبهم كما ورد عن بعض أصحاب النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وأصحاب أئمّة الهدى عليهم السلام، مثل سلمان وأبي ذرّ وميثم التمّار ورشيد الهجري وأمثالهم، أو ما نقل في عصرنا عن فريق من العلماء المتقدّمين أو المتأخّرين، وبالإمكان إطلاق اسم «خاصّ الخاصّ» على القسم الأوّل و «الخاصّ» على الثاني و «العام» على الثالث.

ويمكن أن تكون العبارات من قبيل «فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ» إشارة إلى نفس هذا المعنى، لأنّ لفظة «غيبه» لها دلالة على الأسرار الغيبية الخاصّة.

2- إنّه فضلًا عمّا قيل عن

الصلحاء من أرباب الكشف والشهود، فلقد سمعنا مراراً وتكراراً أنّ فريقاً من الكهنة في العصر الجاهلي، أو المرتاضين في عصرنا، الذين لم يكونوا من أهل الإيمان والتقوى، يخبرون أحياناً عن أسرار الغيب أو الامور الخافية عن أنظار الناس، ويتوقّعون اموراً تحدث بعد ذلك، أليس هذا منافياً لما قيل آنفاً حول تفسير الآيات؟

لكن الإلتفات إلى نكتة واحدة يكشف الإجابة عن هذا السؤال، وهي إنّ توقّعات المرتاضين وإخبارات الكهنة الغيبية لم تكن أبداً إخبارات يمكن الإعتماد عليها، فضلًا عن عدم خلوّها من الإشتباه بأي حال من الأحوال، فقد تصدق أحياناً وقد تكون كاذبة أحياناً اخرى، وهناك أمثلة كثيرة جدّاً عليها، وبناءً على هذا فلا يمكن أبداً اعتبار هذه الأخبار والمعلومات من علم الغيب، بل إنّهم يعترفون بأنفسهم أحياناً بأنّ هذه الأخبار هي تلقين

نفحات القرآن، ج 7، ص: 194

الشياطين الذين لا يصدقون القول معهم أبداً!

وبعبارة اخرى أنّ هناك أشباحاً تتراءى في افق أذهانهم بسبب رياضتهم، فيفسّرون هذه الأشباح من عندهم، لتقع تارةً صحيحة واخرى خاطئة، مثل الأحلام التي يراها الناس، والتي تكون تفاسيرهم لها صحيحة أحياناً واخرى غير صحيحة.

هذه المعلومات والمواضيع الخاطئة والتي يخالطها الشكّ لا يمكنها أبداً أن تعدّ من علم الغيب، أو أن تخدش في تفسير الآية.

اما في الآية الثالثة فيدور الكلام عن معرفة المسيح عليه السلام بأسرار الغيب، وإظهاره لها صراحةً كمعجزة، وقوله لمن شكّ في دعوته: «... أَنِّى قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّى أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْىِ الْمَوْتَى ...». (آل عمران/ 49)

ثمّ يضيف قائلًا: «وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِى بُيُوتِكُمْ».

وبهذا فلقد وضع مسألة خلق الطائر الحي من الطين، ومعالجة المرضى

الذين يستحيل علاجهم، وإحياء الموتى، إلى جانب الإخبار عن أسرار الغيب واعتبرها جميعاً أدلّة على نبوّته.

وبديهي أنّ الطعام الذي يأكله الناس، أو الذي يدّخرونه في بيوتهم يتعلّق بحياتهم الشخصية، فليس للآخرين اطّلاع عليه عادةً، فاطّلاع أحد على هذه الجزئيات، والحالة هذه دليل على اطّلاعه على الغيب.

قال بعض المفسّرين إنّ هذين الموردين هما مجرّد مثال، ولا يمكن أن تتحدّد بهما معرفة المسيح عليه السلام أبداً، فقد كان يعلم الكثير من أسرار الغيب.

مضافاً إلى ما قيل، فهناك العديد من آيات القرآن تعدّ مصداقاً جليّاً لإطّلاع نبي الإسلام صلى الله عليه و آله على بعض أحداث المستقبل، والتي تعتبر من أسرار الغيب، كالآيات الاولى

نفحات القرآن، ج 7، ص: 195

من سورة الروم: «غُلِبَتِ الرُّومُ* فِى أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِّنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ* فِى بِضْعِ سِنِينَ». (الروم/ 2- 4)

ومن الواضح أنّ الإخبار عن انتصار دولة مغلوبة على أمرها في المستقبل القريب (خلال بضع سنين) وبكلّ هذه الصراحة والثقة، ليس بالشي ء الذي يمكن الإحاطة به بالطرق الإعتيادية، ولهذا فهو مصداق بارز لعلم الغيب.

وفي موضع آخر يخاطب القرآن الكريم المسلمين «لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ». (الفتح/ 27)

وكان هذا الكلام في وقت أحكم فيه المشركون سيطرتهم على مكّة، وقويت شوكتهم بدرجة بحيث تمكّنوا من فرض شروط صلح الحديبية على النبي الأكرم صلى الله عليه و آله بحسب الظاهر، إذن فالإخبار عن النصر السريع للمسلمين عليهم بشكل يمكنهم من إزالة أكبر عقبة تعترض طريقتهم، ودخول مكّة بكل اطمئنان لم يكن سوى إخبار غيبي.

وفي موضع آخر حينما علم النبي الأكرم صلى الله عليه و آله بأنّ إحدى زوجاته قد أطلعت الاخريات سرّاً على أمر كان أودعه عندها، سألته قائلة: «مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا».

قال صلى

الله عليه و آله: «نَبَّأَنِىَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ». (التحريم/ 3)

وكذلك حينما أخفى فريق من المنافقين أعمالهم الشنيعة، وجاءوا بأعذار واهية لغرض عدم الإشتراك في غزوة تبوك، قال لهم الرسول: «لَاتَعْتَذِرُوا لَنْ نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ». (التوبة/ 94)

كما يخبر تعالى في موضع آخر عن حتمية هزيمة المشركين صراحةً، مع أنّهم كانوا بكامل قوّتهم، حيث يقول: «أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنْتَصِرٌ».

ويضيف على الفور: «سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ». (القمر/ 44- 45)

لا شكّ أنّ المسلمين كانوا قلّة قليلة حين نزول هذه الآيات والعدوّ في أوج القدرة والغطرسة، وتوقّع مثل هذا النصر المؤزّر والسريع غير ممكن بالطرق الإعتيادية، ولكن لم يمض وقت حتّى وجّهوا ضربة قاصمة إلى العدو في أوّل حرب طاحنة معه، أي في معركة

نفحات القرآن، ج 7، ص: 196

(بدر) ثمّ توالت الإنتصارات الواحدة تلو الاخرى، وأصبحت كلّ الجزيرة العربية تحت راية الإسلام خلال فترة قصيرة.

ونظير هذا المعنى جاء في قوله تعالى: «قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ* وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ». (التوبة/ 14- 15)

وورد نفس هذا المعنى في القرآن الكريم حيث يخاطب أصحاب النبي الأكرم صلى الله عليه و آله ويقول: «وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَايُنْصَرُونَ». (آل عمران/ 111)

كلّ التعابير التي في هذه الآيات تخبر بشكل قاطع عن انتصار المسلمين وهزيمة الأعداء، ذلك الإخبار الذي لم يكن يصدّق به أحد في ذلك الزمان.

ونفس هذا المعنى ورد بقالب آخر في سورة القصص الآية 85، عندما اضطرّ الرسول صلى الله عليه و آله إلى ترك أرض مكّة المقدّسة، نتيجة للضغط الشديد الذي تعرض له من قبل المشركين، الذين كانوا بكامل قدرتهم في ذلك الوقت حيث نزلت الآية: «إِنَّ الَّذِى فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى

مَعَادٍ».

هذه البشارة القطعية في تلك الفترة العصيبة حين كان المسلمون أضعف ما يكونون بحسب الظاهر لم تكن سوى خبر غيبي.

وفي آية اخرى حينما كان يستبشر الأعداء بانقراض ذرّية النبي، وعدم وجود من يحافظ على دينه باعتبار انحصار عقبه في ابنته فاطمة الزهراء عليها السلام فقط، وقالوا: إنّ «محمّداً أبتر»، نزلت سورة الكوثر وبشّرت النبي الأكرم صلى الله عليه و آله بخبر حتمي بأنّنا أعطيناك خيراً كثيراً ... وأنّ عدوّك هو الأبتر الذي لا عقب له بكلّ تأكيد: «إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ... إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ».

واليوم نجد أنّ نسل ذلك العظيم قد انتشر عن طريق ابنته فاطمة الزهراء عليها السلام في كلّ أرجاء المعمورة، وظهر منهم الكثير من القادة الذين وظّفوا أنفسهم لخدمة الإسلام طيلة عمرهم.

في حين أنّ من كان يؤذي النبي ويعيره صلى الله عليه و آله بذلك وهم (مشركو قريش)، قد اضمّحلوا ولم يبق لهم اليوم أثر يذكر، ولو بقي شي ء على سبيل الفرض فهو غير معروف. وبهذا فقد

نفحات القرآن، ج 7، ص: 197

أمسى كلّ واحد منهم أبتراً، والنبي الأكرم صلى الله عليه و آله ذا نسل عظيم.

ونلاحظ في قوله تعالى ملاحظة اخرى تعدّ من إخبارات القرآن الغيبية، حيث قال:

«وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَاتَعْلَمُونَ». (النحل/ 8)

مع أنّ الكثير من المفسّرين يعتبرون جملة «وَيَخْلُقُ مَا لَاتَعْلَمُونَ» إشارة إلى الحيوانات التي ستخلق مستقبلًا، أو التي ستؤلف عند الإنسان، أو كلّ الأشياء الضرورية التي سيخلقها اللَّه في المستقبل سواء الحيوانات أم غيرها، ولكن إدراك مفهوم هذه الجملة بالنسبة لنا نحن الذين نعيش في عصر التكنلوجيا المتطورة يعد أمراً يسيراً- كما أشار إلى ذلك بعض المفسّرين المتأخّرين كالمراغي والسيّد قطب في تفسير «فى ظلال القرآن»،

بل هو إخبار القرآن عن عصرنا، ولا منافاة بين عبارة (يخلق) مع اختراعها من قبل الإنسان، إذ إنّ عمل الإنسان ليس سوى تركيب المواد التي خلقها اللَّه تعالى، هذا أوّلًا.

وثانياً: إنّ إبتكار الإنسان في صنع هذه الوسائل ناتج من الإستعداد الذي وهبه اللَّه تعالى له! كلّ هذه الآيات تبيّن أنّ اللَّه قد وضع بعضاً من العلم الغيبي تحت تصرّف نبيّه صلى الله عليه و آله.

الثمرة من مجموع آيات علم الغيب:

أوضحنا إلى الآن طائفتين من الآيات التي تتحدّث عن علم الغيب، طائفة تنفي علم الغيب عن الأنبياء عليهم السلام على الإطلاق والاخرى تُثبِتُهُ. وحينما نضعهما إلى جانب بعضهما البعض، ونجمع بينهما ندرك مفهومهما الأصلي النهائي (وهذا ما يمكن أداؤه عن طريق التفسير الموضوعي بسهولة) وهو الطريق الأوّل للجمع بينهما.

أجل، يستفاد من مجموع هذه الآيات بوضوح أنّ علم الغيب بإطلاقه وبلا قيد أو شرط مختصّ ب «الذات» المقدّسة فحسب.

هو المحيط بكلّ عالم الغيب والشهود، وهذا العلم قائم بذاته المقدّسة غير منفكّ عنها أبداً.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 198

أمّا الآخرون (كالأنبياء والأئمّة المعصومين والملائكة) فالطريق الوحيد لاطّلاعهم على علم الغيب هو الالهام الإلهي فحسب.

وبعبارة اخرى أنّ أشهر طريق للجمع بين هذه الآيات هو القول: إنّ المراد باختصاص علم الغيب باللَّه تعالى هو «العلم الذاتي الإستقلالي»، ولذا فلا اطّلاع لأحد غيره على أسرار الغيب مستقلًا، بل لابدّ أن يكون منه تعالى وعن طريق تعليمه ولطفه وعنايته، وهذا في الواقع له «ميزة غير استقلالية».

الأدلّة على الجمع بين الآيات المذكورة كثيرة يمكن الإحاطة بها بالتحقيق والتدقيق فيها ثانية.

كما أنّ الأحاديث الشريفة أيضاً تشير إشارة لطيفة إلى هذا الأمر:

منها: ما ورد في نهج البلاغة أنّ عليّاً عليه السلام خلال حديثه للإخبار عن وقائع المستقبل (وتوقّعه لهجوم المغول

على الدول الإسلامية) قال: كأنّي أراهم قوماً كأنّ وجوههم المجان المطرّقة ... فقال أحد أصحابه: لقد أعطيت ياأمير المؤمنين علم الغيب.

فابتسم عليه السلام وقال: ليس هو بعلم غيب، وإنّما هو تعلّم من ذي علم (أي من النبي الأكرم صلى الله عليه و آله) «1».

الطريق الثاني: للجمع بين هذين القسمين من الآيات هو القول: إنّ علم الغيب الذي يختصّ باللَّه هو الإطّلاع على اللوح المحفوظ، الذي يتحقّق كلّ ما فيه بلا زيادة ولا نقيصة لا محالة، (وهو في الواقع علم بالعلل التامّة للأشياء التي لا تنفكّ أبداً عن معلولاتها).

وأمّا الأنبياء والأئمّة المعصومون عليهم السلام فلهم اطّلاع على لوح المحو والإثبات القابل للتبديل والتغيير، لأنّه علم ب «العلل الناقصة» لا «العلل التامّة».

وبعبارة اخرى: إنّ من المحتمل أن تتواجد هناك موانع تعترضها وتغيّرها، أو تغيب شروط تكاملها، كما جاء في حديث عن الإمام علي بن الحسين عليه السلام أنّه قال: «لولا آية في كتاب اللَّه لحدثتكم بما كان وما يكون إلى يوم القيامة! فقلت له: أيّة آية؟ فقال: قول اللَّه:

______________________________

(1) نهج البلاغة، الخطبة 128.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 199

يمحو اللَّه ما يشاء ويثبت وعنده امّ الكتاب» (أي اللوح المحفوظ)» «1».

الطريق الثالث: للجمع بين هذه الآيات هو القول بانقسام أسرار الغيب إلى قسمين:

أحدهما يختصّ به تعالى ولا يعرفه أحد سواه، والآخر هو الذي يعلّمه لأنبيائه وأوليائه، كما جاء في نهج البلاغة ذيل الخطبة المتقدّمة أنّه عليه السلام قال: «وَانَّما عِلْمُ الغَيبِ عِلْمُ الساعَةِ وَما عَدَّدَهُ اللَّه سُبْحانَهُ بِقَولِهِ: إنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِلُ الْغَيث (آخر آية من سورة لقمان)، (لا اطّلاع لأحد على كمّه وكيفه وجزئياته وإن كان أصل نزوله قابلًا للإحتمال) وَيَعْلَمُ ما فِي الأرْحام (لم يكن اطّلاعه

على جنسيته وهل أنّه ذكر أو انثى فحسب، بل على كلّ القابليات والمميّزات التي تكمن في جسمه وروحه) وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَدَاً وَما تَدري نَفْسٌ بِاىِّ ارضٍ تَمُوتُ» (المراد هو العلم التفصيلي بهذه الامور).

ثمّ يضيف في خاتمة هذا الكلام: «فيعلم اللَّه سبحانه ما في الأرحام من ذكر أو انثى وقبيح أو جميل، وسخي أو بخيل، وشقي أو سعيد، ومن يكون في النار حطباً، أو في الجنان للنبيين مرافقاً، فهذا علم الغيب الذي لا يعلمه أحد إلّااللَّه، وما سوى ذلك فعلم عَلَّمه اللَّه نبيّه فعلَّمنيه، ودعا لي بأن يَعِيَهُ صدري، وتضطَمُّ عليه جوانحي» «2».

وعلى هذا فالذي يختصّ بالذات المقدّسة هو العلم بكلّ خصوصيات وتفاصيل الأجنّة الروحية والبدنية.

نفس هذا الكلام يمكن تطبيقه على نزول المطر وأعمال الإنسان أو مكان موته والذي لا يعلم جزئياته إلّااللَّه تعالى.

الطريق الرابع للجمع بين هذه الآيات هو التفريق بين «العلم الفعلي» و «العلم الشأني والإستعدادي»، إذ لا يخفى شي ء عن علمه اللامحدود، في حين أنّ الكثير من أسرار الغيب يمكن أن تغيب عن الأنبياء والأولياء فعلًا، لكن اللَّه يعلمهم ذلك متى ما أرادوا (طبعاً هذه

______________________________

(1) تفسير نور الثقلين، ج 2، ص 512، ح 170.

(2) نهج البلاغة، الخطبة 128.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 200

نفحات القرآن ج 7 249

الإرادة لا تتحقّق إلّابإذنه تعالى ورضاه (تأمّل جيّداً).

هذا المطلب يشابه حالة كون كلّ الأسرار العسكرية لدولة ما مدوّنة في كتاب ضخم محفوظ عند شخص أو أشخاص منتخبين من قبل الدولة بحيث يمكنهم الإطّلاع عليه بإذن من القائد العام للقوات المسلحة، فالقائد هنا له إحاطة تامّة بهذا الكتاب كما ويمكن للآخرين أيضاً الإطّلاع عليه متى شاؤا (على فرض كون مراجعتهم للكتاب مرهونة بإذن القائد

وإجازته طبعاً).

الدليل على هذا الكلام هو الروايات التي جمعها المرحوم الكليني في كتاب الكافي في فصل تحت عنوان «إنّ الأئمّة إذا شاؤا أن يعلموا علموا» «1».

نستنتج من مجموع ما قيل أنّ للأنبياء والأولياء اطّلاعاً على عالم الغيب بلا شكّ، كما ويمكن استخلاص طرق الجمع بين الروايات المرتبطة بعلم الغيب بأربعة:

1- العلم الذاتي المستقلّ خاصّ باللَّه، وعلم الأنبياء والأولياء يرتبط به تبعاً.

2- العلم التفصيلي هو من شأنه تعالى، والعلم الإجمالي من شأن الأولياء والأنبياء.

3- العلم باللوح المحفوظ خاصّ باللَّه، والعلم بلوح المحو والإثبات من شأن الأنبياء والأولياء عليهم السلام.

4- العلم الفعلي خاصّ باللَّه، والعلم بالقوّة من شأن الأنبياء والأولياء.

روايات علم الغيب:

إنّ لمسألة «علم الغيب» بالنسبة إلى الأنبياء والأولياء عليهم السلام بحثاً موسّعاً في الروايات الإسلامية أيضاً، وقد ذكرت كلّ الفرق الإسلامية نماذج كثيرة عن علم الغيب فيما يرتبط

______________________________

(1) اصول الكافي، ج 1، ص 258.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 201

بالنبي الأكرم صلى الله عليه و آله، أو أئمّتهم وقادتهم، ونسبة مسألة علم الغيب إلى الشيعة من قبل بعض المغفّلين، أو القول بأنّهم يعتبرون أئمّة أهل البيت عليهم السلام شركاء مع اللَّه في هذه الصفة، هو اشتباه عظيم لا يمكن جبرانه، لأنّه:

أوّلًا: لا يرى أي أحدٍ من علماء الشيعة أي إنسان لا نبي الإسلام صلى الله عليه و آله ولا الأئمّة عليهم السلام نظراء لله تعالى بأيّة صفة أبداً، واعتقادهم بعلمهم بالغيب إنّما هو من باب «تعلّم من ذي علم» (الأئمّة من النبي والنبي من اللَّه العظيم).

وبعبارة اخرى، كما أنّ كلّ ما لدينا هو من عند اللَّه وانّنا محتاجون إليه ومتعلّقون به في كافّة شؤون حياتنا، فكذلك علم غيب النبي الأكرم صلى الله عليه و آله والأئمّة عليهم السلام إنّما

هو من عند اللَّه ومرتبط بعلمه.

ثانياً: اطّلاع الأنبياء والأولياء عليهم السلام على الغيب مسألة واردة بشكل كبير في الروايات أيضاً، فضلًا عن الآيات القرآنية، وحسبنا ما في كتب أهل السنّة من أنّ لبعض الصحابة وغيرهم فضلًا عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، اطّلاع على كلّ أسرار الغيب أو جلّها!

ويكفي هنا ذكر خلاصة البحث التحقيقي الذي ذكره العلّامة الأميني في كتابه «الغدير» الجزء 5، (بالإضافة إلى التطرّق لبعض الروايات الاخرى إكمالًا للبحث):

1- جاء في الكثير من المصادر المعروفة لأهل السنّة أنّ «حذيفة» قال: «إنّ النبي صلى الله عليه و آله علّمني علم ما كان وما يكون إلى يوم القيامة «1».

2- وجاء في حديث آخر عن «حذيفة» أيضاً أنّه قال: «واللَّه انّي لأعلم الناس بكلّ فتنة هي كائنة فيما بيني وبين الساعة» «2».

3- نقرأ في حديث آخر في صحيح مسلم أنّ أبا زيد أي «عمرو بن أخطب» قال: صلّى النبي الأكرم صلى الله عليه و آله صلاة الصبح، ثمّ ارتقى المنبر وخطب خطبة دامت إلى الظهر ثمّ صلّى الظهر وصعد المنبر إلى صلاة العصر ثمّ نزل وصلّى العصر وصعد المنبر ثانية وخطب إلى

______________________________

(1) صحيح مسلم (كتاب الفتن باب إخبار النبي الأكرم صلى الله عليه و آله فيما يكون إلى قيام الساعة)، مسند أحمد، ج 5، ص 386 وكتب اخرى.

(2) مسند أحمد، ج 5، ص 388.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 202

غروب الشمس، «فأخبرنا بما كان وبما هو كائن فأعلمنا أحفظنا» «1».

ثمّ يذكر أحاديث أخرى متعرّضة لمسائل الغيب في بعض الأحيان عن بعض من الصحابة وأمثالهم، من جملتها قوله: وذكر الخطيب البغدادي في تأريخه عن أبي الحسن المالكي قال: كنت أصحب- محمّد بن إسماعيل- سنين كثيرة، ورأيت

له من كرامات اللَّه تعالى ما يكثر ذكره، إنّه قال لي قبل وفاته بثمانية أيّام، إنّي أموت يوم الخميس المغرب فادفنّي يوم الجمعة قبل الصلاة ... قال أبو الحسن: فنسيته إلى يوم الجمعة فلقيني من خبّرني بموته، فخرجت لأحضر جنازته فوجدت الناس راجعين، فسألتهم لِمَ رجعوا فذكروا أنّه يدفن بعد الصلاة، فبادرت ولم ألتفت إلى قولهم فوجدت الجنازة قد اخرجت للدفن قبل الصلاة!

ثمّ يضيف العلّامة الأميني رحمه الله: توجد في طي كتب الحفّاظ ومعاجم أعلام القوم قضايا جمّة في اناس كثيرين، عدّوها لهم فضلًا وكرامة تنبي ء عن علمهم بالغيب وبما تخفي الصدور ولا يراها أحد منهم شركاً وهو ما يدعو للعجب «2».

كما نشاهد مسائل علم الغيب في روايات أهل البيت عليهم السلام بكثافة أيضاً، من جملتها الباب الذي عقده المرحوم العلّامة المجلسي في «بحار الأنوار» الجزء 26 حول هذا الموضوع، وجاء بالعشرات من الروايات حول اطّلاع الأئمّة المعصومين عليهم السلام على علم الغيب، من جملتها الرواية التي وردت بتعابير شتّى، ومن مختلف الطرق من أنّ الإمام الصادق عليه السلام قال: «أترى من جعله اللَّه حجّة على خلقه يخفى عليه شي ء من أمورهم؟».

ونقرأ عبارة اخرى لهذا الإمام نفسه عليه السلام: «أنّ اللَّه أحكم وأكرم وأجلّ وأعلم من أن يكون احتجّ على عباده بحجّة ثمّ يغيّب عنه شيئاً من امورهم» «3».

كما نجد في نهج البلاغة أيضاً على العديد من الجمل التي تخبر عن الإطّلاع الواسع

______________________________

(1) صحيح مسلم، ج 4، ص 2217 (باب إخبار النبي فيما يكون إلى قيام الساعة من كتاب الفتن) يتبيّن من هذا الحديث أنّه صلى الله عليه و آله كان مشغولًا ببيان إخبار الغيب لأصحابه يوماً بأكمله من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.

(2)

الغدير، ج 5، ص 59- 62 (باختصار) وورد الحديث الأخير في تاريخ بغداد، ج 2، ص 49.

(3) بحار الأنوار، ج 16، ص 137- 154.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 203

لعلي عليه السلام على علم الغيب، لكن وكما قال هو بنفسه في الخطبة 128 فهذه ليست علم غيب (إستقلالي ذاتي)، بل هي تعلّم من ذي علم (أي نبي الإسلام صلى الله عليه و آله الذي تعلّم هو بدوره من اللَّه تعالى).

هذه الإخبارات الغيبية جاءت في عدّة خطب من جملتها الخطبة 13 حول أحداث البصرة القادمة.

وفي الخطبة 47 حول مستقبل الكوفة.

وفي الخطبة 57 حول بعض سلاطين بني اميّة.

وفي الخطبة 59 حول عدد قتلى الخوارج وأصحابه ومريديه في معركة النهروان وذلك قبل نشوبها.

وفي الخطبة 116 حول ظهور الحجّاج وجناياته العجيبة البشعة في المستقبل.

وفي الخطبة 128 حول الفتن العظيمة التي ستقع في البصرة (فتنة صاحب الزنج أو الأتراك والمغول).

وفي الخطبة 138 حول أحداث الشام في المستقبل.

وفي الخطبة 158 حول الجرائم الفجيعة لبني اميّة.

وفي الحكمة 369 يتعرّض لحوادث آخر الزمان.

واللطيف هنا هو اتّكاؤه في الكثير من هذه الموارد على الجزئيات، وعدم اقتناعه أبداً بذكر الكليّات التي ربّما تخطر على ذهن المتأمّل الفطن غير المعصوم أيضاً، ويتّضح جيّداً أنّ كلّ هذه الأخبار نابعة من الإطّلاع على علم الغيب.

ونذكر هنا ما جاء في الخطبة 59 حول خوارج النهروان كمثال على ذلك، قال:

«مصارعهم دون النطفة! واللَّه لا يفلت منهم عشرة ولا يهلك منكم عشرة»!.

وفي الخطبة 60 حينما قالوا لعلي عليه السلام، لقد اضمحلّ الخوارج وانقرضوا، قال: كلّا! واللَّه إنّهم نُطفٌ في أصلاب الرجال وقرارات النساء، كلّما نَجَمَ منهم قرنٌ قطع، حتّى يكون آخرهم لصوصاً سلابين!

فأشار عليه السلام هنا إلى مسألة إخماد نار الخوارج خلال مختلف

الأنظمة وعاقبة أمرهم

نفحات القرآن، ج 7، ص: 204

أيضاً، وعلى حدّ قول ابن أبي الحديد «وهكذا وقع وصحّ إخباره عليه السلام أيضاً أنّه سيكون آخرهم لصوصاً سلّابين، فانّ دعوة الخوارج اضمحلّت، ورجالها فنيت، حتّى أفضى الأمر إلى أن صار خَلفَهُم قطّاع طرق، متظاهرين بالفسوق والفساد في الأرض».

ثمّ تعرّض بعد ذلك لمقاطع مختلفة من تأريخهم بالتفصيل، وخروج بعضهم في أيّام الخلفاء والقضاء عليهم «1».

وزبدة الكلام هي أنّ مسألة العلم بأسرار الغيب سواء فيما يتعلّق بالماضي أو المستقبل أو حتّى الامور الخافية عن الأنظار في الوقت الحاضر، ليست بذلك الشي ء الذي يمكن إنكاره من وجهة نظر القرآن، والأحاديث الإسلامية وتواريخ الأنبياء والأولياء عليهم السلام.

وهذه المسألة من الوضوح بحيث إنّهم عدّوا اشتمال القرآن على الأخبار الغيبية أحد وجوه إعجازه، وقد اشير في كتب إعجاز القرآن إلى تلك الموارد على الأعمّ الأغلب، كما تعرّضنا نحن أيضاً في التفسير الأمثل إلى الموارد ذات العلاقة بهذا القسم في ذيل كلّ آية، ألم يكن القرآن بمثابة تعاليم إلهيّة لنبي الإسلام صلى الله عليه و آله؟ فما هو الفرق بين تعليمه عن طريق القرآن أو غيره؟!

حدود علم الغيب وكيفيته:

لا كلام في مسألة اطّلاع الأنبياء والأئمّة المعصومين عليهم السلام على علم الغيب عن طريق التعليم الإلهي، وقد تقدّمت أدلّتها مفصّلة في الأبحاث السابقة.

لكنّ هناك كلاماً مطوّلًا حول كيفية هذا العلم ومساحته، وهذه المسألة تعدّ من أعقد المسائل التي تواجه الباحث في مثل هذه الأبحاث، وقد وردت بحقّها أخبار متفاوتة، كما وتلاحظ هنالك آراء متنوّعة من قبل العلماء أيضاً، ومجموع هذه الإحتمالات الأساسية في هذه المسألة كالتالي:

1- إنّهم يرون كلّ شي ء «بالفعل» باستثناء القسم الخاصّ بالذات المقدّسة، كالعلوم

______________________________

(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ج 5، ص

73.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 205

الخمسة الواردة في آخر سورة لقمان والتي تمّت الإشارة إليها سابقاً، وكالعلم بكنه ذات الباري جلّت قدرته وكنه أسمائه وصفاته.

الدليل على هذا الكلام هو الروايات المتظافرة التي تقول صراحة: إنّ للأئمّة «علم ما يكون وما هو كائن حتّى تقوم الساعة»، ومن البديهي أنّ للنبي ذلك العلم بطريق أولى.

المرحوم الكليني وفي اصول الكافي ذكر باباً تحت عنوان: «إنّ الأئمّة عليهم السلام يعلمون علم ما كان وما يكون وأنّه لا يخفى عليهم شي ء» «1».

2- إنّهم يعلمون كلّ هذه الامور لكن «بالقوّة» لا «بالفعل»، أي أنّهم كلّما شاؤا أن يعلموا شيئاً من أسرار الغيب ألهمهم اللَّه به، أو أنّهم يمتلكون قواعد واصول يستندون عليها للإطّلاع على كلّ أسرار الغيب، أو أنّ معهم كتباً يطّلعون على أسرار الغيب من خلال التأمّل فيها، أو أنّهم يعلمون بهذه الأسرار كلّما شاء اللَّه ذلك، أي كلّما منحهم حالة البسط اصطلاحاً، في حين أنّ هذه العلوم تختفي عند عودة المشيئة وحصول حالة القبض كما يصطلح على ذلك.

الدليل على هذا القول (في الحالة الاولى) هو الروايات القائلة: إنّ الأئمّة والقادة المعصومين إذا أرادوا أن يعلموا شيئاً علموه، وقد عقد المرحوم الكليني في اصول الكافي باباً حول هذا الموضوع تحت عنوان: «إنّ الأئمّة إذا شاؤا أن يعلموا علموا» «2».

هذا البيان يحلّ الكثير من المشاكل المتعلّقة بعلم الأنبياء والأئمّة أيضاً، من جملتها أنّه لماذا شرب الإمام الحسن عليه السلام مثلًا من ماء الجرّة المسموم؟ وتناول الإمام الثامن عليه السلام العنب أو الرمّان المسموم؟ لماذا انتخبوا فلاناً المناسب للقضاء أو القيادة؟ ولماذا كان يعقوب قلقاً إلى ذلك الحدّ على إبنه؟ مع أنّ ابنه كان يتدرّج في المناصب الحسّاسة، ثمّ استبدل الفراق إلى الوصال

في خاتمة المطاف، لماذا ...، ولماذا ...؟

______________________________

(1) أصول الكافي، ج 1، ص 25 (ذكر المرحوم الكليني في هذا الباب ست روايات) كما أنّ المرحوم العلّامة المجلسي قد تعرّض لشرح هذه الروايات في مرآة العقول، ج 3، من ص 129- 134.

(2) المصدر السابق، ص 258 (ذكرت في هذا الباب ثلاث روايات بنفس هذا المضمون) كما أشار إليها المرحوم العلّامة المجلسي في مرآة العقول، ج 3، ص 118.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 206

يمكن القول أنّهم وفي كلّ هذه الموارد لو شاؤا أن يعلموا لعلموا، لكنّهم كانوا يعلمون أنّ اللَّه لم يجز لهم الإطّلاع إمّا اختباراً أو لمصالح اخرى.

و يمكن توضيح هذه المسألة بذكر هذا المثال: لو أعطى أحد رسالة حاوية على أسماء أشخاص أو مناصبهم أو على حقائق سرّية اخرى، لشخص آخر فبإمكان ذلك الشخص الإطّلاع على هذه الحقائق بمجرّد فتح الرسالة، لكن حيث إنّها لم تفتح بعد فليس له اطّلاع على محتواها، كما أنّ الشخص الرئيسي الذي أعطاه الرسالة كان قد خوّله فتح الرسالة متى شاء.

3- المراد من اطّلاع المعصومين على علم الغيب هو الإطّلاع على كلّ المسائل ذات العلاقة بهداية البشرية بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وبناءً على هذا فهم مطّلعون بالفعل على كلّ المعارف والأحكام، وتواريخ الأنبياء ومسائل الخلق والحوادث السابقة واللاحقة إلى كلّ ما يرتبط بهداية الناس، لكن ليس من الضروري القول بما هو خارج عن نطاق هذه الدائرة في حقّهم.

الروايات المتعدّدة التي أشرنا إليها والقائلة: «إنّ اللَّه أحكم وأكرم وأجلّ وأعظم وأعدل من أن يحتجّ بحجّة (للخلق) ثمّ يغيّب عنه شيئاً من امورهم» «1».

ونقرأ في حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «من زعم أنّ اللَّه يحتجّ بعبد في بلاده (بين

خلقه) ثمّ يَستُر عنه جميع ما يحتاج إليه فقد افترى على اللَّه!» «2».

هذه كلّها إشارة إلى العلوم الضرورية لهداية الخلق.

4- إنّهم مطّلعون على كلّ أسرار الغيب، لكنّ اطّلاعهم هذا مبتنٍ على اصول كلّية، فهم يعلمون بكلّيات كافّة الامور، في حين أنّ العلم بكلّيات العالم وجزئياته كلّها خاصة بذاته تعالى.

هذا الكلام في الواقع يشبه ما ورد في روايات متعدّدة من أنّ عليّاً عليه السلام قال: «إنّ

______________________________

(1) بحار الأنوار، ج 26، ص 138، ح 5 (ورد هذا الحديث قبل عدّة صفحات بتفاوت ضئيل).

(2) المصدر السابق، ص 139، ح 8.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 207

رسول اللَّه صلى الله عليه و آله علّمني الف باب من الحلال والحرام وممّا كان وممّا يكون إلى يوم القيامة، كلّ باب منها يفتح الف باب فذلك الف الف باب» «1».

العدد (الف) في هذا الحديث سواء كان للعدد أو كناية عن الكثرة فهو دليل على الكثرة، التي تفوق الحدّ لأبواب العلم التي علّمه إيّاها النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، وكذلك إشارة إلى اشتمال هذه الأبواب على سلسلة من الاصول الكلّية التي تطلّ عليها مئات بل آلاف الأبواب الاخرى.

والملاحظة الجديرة بالإعتبار هي أنّ الحديث، (إذا شاؤا أن يعلموا علموا) يمكن أن يكون إشارة إلى نفس هذا المعنى وهو أنّهم إذا شاؤا أن يعلموا بعضاً من الجزئيات، لراجعوا الاصول الكلّية التي علّمهم إيّاها اللَّه تعالى أو النبي الأكرم صلى الله عليه و آله واطّلعوا عليها.

5- إنّ علمهم يكون بكلّ حقائق العالم لكن من خلال «لوح المحو والإثبات»، في حين علم اللَّه بكلّ الحقائق هو من خلال «اللوح المحفوظ».

بيان ذلك: حوادث الكون لها مرحلتان: المرحلة القطعيّة التي لا سبيل لأي تغيير إليها، أي أنّ حادثة ما بكلّ

أسبابها وعللها حاضرة عند العالم، وحيث إنّه مطّلع على كلّ أسبابها وعللها وموانعها وعلاقتها بالماضي والمستقبل، فهو يعلمها قطعاً ويخبر عنها بجدّية، وقد تمّ التعبير عن هذه المرحلة على لسان الآيات والروايات ب «امّ الكتاب» أو «اللوح المحفوظ».

والمرحلة الاخرى هي «المرحلة غير القطعية» أو بعبارة اخرى «المرحلة المشروطة»، فالشخص العالم مطّلع على علل الحوادث في هذه المرحلة، لكن من الممكن عدم وضوح كلّ شروطها وموانعها لديه، ولذا لا يمكنه البتّ في وقوع الحوادث إنّما يمكنه ذلك مشروطاً، وهذا ما تمّ التعبير عنه على لسان الآيات والروايات ب «لوح المحو والإثبات».

الاختلاف بين علم اللَّه وعلوم الأنبياء والأولياء هو نفس الاختلاف بين هاتين

______________________________

(1) المرحوم العلّامة المجلسي عقد في المجلّد الأربعين باباً تحت نفس هذا العنوان (إنّ النبي صلى الله عليه و آله علّمه الف باب) وذكر 82 حديثاً حول هذا الموضوع والذي ذكرناه أعلاه هو الحديث السادس (بحار الأنوار، ج 40، ص 130).

نفحات القرآن، ج 7، ص: 208

المرحلتين، أي أنّه وفضلًا عن كون أحدهما ذاتياً ومستقلًا دون الآخر فانّ لأحدهما صفة القطع والبتّ دون صاحبه.

6- آخر كلام ونظرية يمكن بيانها فيما يتعلّق بكيفية اطّلاع الأنبياء والأولياء عليهم السلام على أسرار الغيب، هو القول باطّلاعهم عليها إجمالًا، لكن ما هي مساحة ذلك ياترى؟ فلا نعلم ذلك بالدقّة، وما نعلمه فقط هو أنّ اللَّه العالِم يعلّمهم كلّما وجد في ذلك مصلحة وضرورة، لكن كيف؟ وكم؟ فهذا ما لا نعلمه.

كانت هذه هي الطرق الستّة التي يمكن ذكرها للإجابة عن مسألة كيفية اطّلاع الأنبياء والأولياء عليهم السلام على أسرار الغيب وحدود ذلك.

ونظراً إلى أنّ البحث حول كلّ الجزئيات المرتبطة بعلم الغيب قد أفرد في كتاب مستقلّ، فضلًا عن أنّ هدفنا الرئيس

من عرض هذه المباحث شي ء آخر (وهو رفع التضادّ الذي ربّما يتوهّمه بعض المغفّلين بين الآيات المرتبطة بعلم الغيب) فسنوكل مزيداً من الشرح والتفصيل حول هذا الموضوع، واختيار النظرية الأقوى من بين هذه النظريات إلى بحثه الخاصّ به.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 209

إثبات علم القادة الإلهيين عن طريق العقل

اشارة

نفحات القرآن، ج 7، ص: 211

إثبات علم القادة الإلهيين عن طريق العقل

كان الكلام لحدّ الآن عن الآيات والروايات التي أثبتت مسألة إمكان علم الغيب للأنبياء والأئمّة المعصومين عليهم السلام، لكن علاوة على ذلك فهناك طريق آخر أيضاً لإثبات هذا المعنى وهو عن طريق العقل، حيث إنّ هؤلاء العظماء لا يستطيعون أداء وظيفتهم على أتمّ وجه في حالة عدم اطّلاعهم على أسرار الغيب أو بعض منها.

بيان ذلك: نحن نعلم أنّ دائرة وظيفتهم واسعة جدّاً، سواء من الناحية الزمانية أو المكانية، خصوصاً فيما يتعلّق بمسألة رسالة نبي الإسلام صلى الله عليه و آله وإمامة الأئمّة عليهم السلام إذ هي «عالمية» و «خالدة»، أي أنّها شاملة لكلّ بقاع العالم ومحيطة بكلّ الأزمنة إلى قيام الساعة.

فهل يمكن لمحافظ مدينة ما مثلًا أن يؤدّي دوره في تلك المحافظة دون الوقوف على أوضاع أهاليها، وإمكانات المنطقة وامتيازاتهم ومحرومياتهم؟ من البديهي أنّه غير قادر على ذلك.

ومع هذا فكيف يمكن لرسول مرسل إلى البشرية جمعاء، وإلى يوم القيامة تبليغ رسالته دون الإطّلاع على وضع العالم إلى آخر يوم من مهمّته؟!

بديهي أنّهم لا يتمكّنون من الإحاطة بكلّ الأعصار والقرون، أو الإطّلاع على الأقوام والطوائف عن طريق العلوم الإعتيادية، إذن فلا سبيل لهم إلى ذلك سوى علم الغيب (بالتعليم الإلهي).

علاوة على ذلك فمساحة دائرة مسؤوليتهم لا تنحصر بالظواهر فحسب إنّما تمتدّ لتشمل ظاهر المجتمع، وباطنه وجوهر الإنسان ومظهره أيضاً، واتّساع المسؤولية هذه يستلزم

بدوره الإطّلاع على أسرار أفراد المجتمع الباطنية أيضاً، وهذا هو نفس ذلك الذي ورد في

نفحات القرآن، ج 7، ص: 212

روايات متعدّدة بشكل استدلال عقلي، لا حكم تعبّدي (تأمّل جيّداً).

يقول الإمام الصادق عليه السلام- على سبيل المثال- لأحد الرواة باسم «عبدالعزيز الصائغ» في حديث أشرنا إليه سابقاً: «أترى أنّ اللَّه استرعى راعياً (على عباده) واستخلف خليفة عليهم يحجب عنه شيئاً من امورهم» «1»؟!

كما ورد نفس هذا المعنى بتعبير أوضح في حديث إبراهيم بن عمر أنّه قال، قال الإمام الصادق عليه السلام: «من زعم أنّ اللَّه يحتجّ بعبد في بلاده ثمّ يستر عنه جميع ما يحتاج إليه فقد افترى على اللَّه» «2».

العلوم الأخرى للأنبياء في القرآن المجيد:

اشارة

يستفاد بوضوح من آيات قرآنية مختلفة أنّ لبعض الأنبياء الإلهيين فضلًا عن العلوم ذات العلاقة بهداية الخلق وتربيتهم والحفاظ على نظام المجتمع البشري وبلوغ الأهداف النهائية للخلق، علوماً أخرى أيضاً، من جملتها الموارد أدناه:

1- تعلّم موسى من الخضر

ورد في سورة الكهف 23 آية تمّ من خلالها بيان قصّة موسى عليه السلام بعبارات لطيفة جدّاً وموزونة، وتعلّمه من عبد للَّه لم يذكر القرآن إسمه لكنّه في الحقيقة هو «الخضر» كما هو المتعارف (الكهف/ 60- 82).

هذه الحادثة تبيّن بوضوح أنّ موسى عليه السلام قد ذهب وراء ذلك المعلّم الإلهي طبقاً للعنوان الذي كان لديه، ليستفيد من العلوم التي تعلّمها من اللَّه، ولذلك فحينما وصل إليه بعد جُهدٍ جهيد قال: «هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً». (الكهف/ 66)

______________________________

(1) بصائر الدرجات طبقاً لما نقله صاحب بحار الأنوار، ج 26، ص 137، ح 2.

(2) المصدر السابق، ص 139، الرواية الثامنة.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 213

فوافق الخضر على ذلك ورافقه موسى عليه السلام بدوره، ثمّ إنّه واجه ثلاث حوادث مؤلمة وغير مألوفة بحسب الظاهر (وذلك لعدم إحاطته بها)، الاولى خرق السفينة التي تعود إلى فريق من الطبقة المسحوقة، والتي كانت تعدّ مصدراً لمعيشتهم، الثانية قتل الشاب، والثالثة إقامة الجدار الذي يريد أن ينقضّ، مع عدم وجود أي دليل لها ظاهراً.

وفي كلّ مرّة كان يتصاعد اعتراض موسى عليه السلام وذلك لتعرّض أحكام شرعية مهمّة في هذه الحوادث الثلاث لخطر الزوال والإضمحلال، ففي أوّل حادثة تمّ التعدي على حرمة أموال الناس من قبل الخضر، وفي الثانية أُنتهكت حرمة حياة الناس، وفي الثالثة صدر منه تصرّف غير مسؤول بحسب الظاهر، وذلك ببنائه للجدار الذي كان مشرفاً على السقوط بلا أخذ أجر عليه أو دليل على لزوم إعادة

بنائه.

وأخيراً بَيَّنَ له الخضر أسرار هذه الامور الغامضة ليقف على فلسفتها وحكمتها، وتبين أنّه لو لم يخرق السفينة لأخذها ملك غاصب ولتدهورت أحوال أصحابها، ولو لم يُقتل ذلك الشاب المرتدّ لاحتمل أن يُضِّلّ أبويه المؤمنين، وأنّه كان هناك كنز خفي تحت ذلك الجدار ليتيمين وكان أبوهما صالحاً، وأراد اللَّه الحفاظ على كنزهما عن هذا الطريق إلى أن يبلغا أشدّهما ويستخرجا كنزهما للاستفادة منه، ومع أنّ موسى المأمور بظاهر الشريعة لم يتمكّن من البقاء أكثر من هذا مع الخضر الذي كانت له وظائف اخرى أيضاً وأنّه انفصل عنه طبقاً للعهد الذي أخذه على نفسه، لكنّه توصّل من خلال هذه القصّة بشكل عامّ إلى أنّ الكثير من الحوادث التي لها ظاهر مؤلم تعدّ أسباباً لليمن والبركة في جوهرها، فضلًا عن وقوفه على العلم التفصيلي لهذه القصص الثلاث، وانّنا لعلمنا المحدود نتوهّمها في غير محلّها في حين أنّ وقوفنا على حقيقة الأمر يدفعنا لاقتفاء أثره وإدراكه بكلّ سرور.

كانت هذه علوماً تعلّمها موسى من الخضر إلى جانب علم الشريعة، والأسمى منها هو الخضر الذي يعدّ من الأنبياء الإلهيين عظيمي الشأن، والذي كان له اطّلاع واسع على هذه الامور «1».

______________________________

(1) لمزيد من التوضيح فيما يتعلّق بهذه الآيات وجزئيات هذه القصّة، راجع التفسير الأمثل، ذيل الآيات 60- 82 من سورة الكهف.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 214

2- اطّلاع داود على إعداد وسيلة دفاعية

تمّ البحث في سورتين من القرآن المجيد حول اختراع الدرع المناسب، الذي كان يعدّ وسيلة دفاعية مهمّة لحروب الأزمنة الغابرة، وذلك من قبل داود النبي الإلهي العظيم الشأن.

يقول تعالى في أحد المواضع: «وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ». (الأنبياء/ 80)

يتّضح جيّداً من هذه الآية أنّ إبداع هذه الوسيلة الدفاعية قد تمّ في

عهد داود عليه السلام وبتعليم ربّاني، في حين انّنا نعلم بعدم ضرورة أن يكون نبي إلهي مبتكراً لمثل هذا الموضوع.

كما ونقرأ في قوله تعالى «وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ* أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِى السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّى بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ». (سبأ/ 10- 11)

لا شكّ أنّ هذا الأمر يكشف عن أنّ إقدام داود عليه السلام على صنع شي ء فريد من نوعه، كان بأمر إلهي وأنّه تعالى هو الذي علّمه كيفية الصنع وسبل تليين الحديد، سواء كانت لهذه المسألة صفة إعجاز أم تعليم إلهي بالاستفادة من المعدّات والأسباب، وعلى أيّة حال فابتكار هذا الأمر (صنع الحلقات الدقيقة والقويّة لغرض نسج الدرع في ذلك الزمان، بحيث لا يعيق حركة المقاتل، كما ويسهل ارتداؤه بالإضافة إلى مقاومته لضربات وأسنّة السهام والسيوف والرماح في نفس الوقت) كان عملًا شاقّاً ومعقّداً للغاية، ولم تكن أهميّته في ذلك العصر أدنى من إبداع الأسلحة المتطوّرة في عالم اليوم.

كما ويحتمل أن تكون الآية 15 من سورة النمل إشارة إلى نفس علم ومعرفة داود بصناعة هذه الوسيلة الدفاعية أيضاً، أو أن تكون مضافة إلى العلوم الأولى حيث يقول تعالى: «وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً». «1»

لقد تناولنا هذا البحث فيما سبق أيضاً- بمناسبة أخرى-.

______________________________

(1) ورد هذا الاحتمال في تفسير القرطبي، ج 7، ص 4879 ذيل الآية مورد البحث.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 215

3- معرفة يوسف بتفسير الاحلام

هل بإمكان الرؤيا إزالة الستار عن حوادث المستقبل والكشف عن المسائل؟

لو كان الجواب «نعم»، فأي رؤيا هذه، وهل تنطق الأحلام صراحةً أم كنايةً، أو تكون صريحة تارةً وكنائية أخرى؟ وفي الحالة الثانية فمن أولئك الذين يجيدون لغة كناية الرؤيا، ومن بيده هذا العلم؟

وأساساً ما هي حقيقة الرؤيا؟ وكيف ترتسم في روح الإنسان وذهنه؟

هذه هي

الأسئلة المعقّدة التي تتطلّب الإجابة عنها الخوض في أبحاث مطوّلة ومفصّلة، وخارجة عن موضوع بحثنا في نفس الوقت «1».

إنّ من المسلّم به في الأبحاث القرآنية أنّ بإمكان الرؤيا الدلالة على الأحداث كناية أو صراحة، وقد أشار القرآن إلى سبع أحلام صادقة في سور مختلفة بالإمكان الوقوف عليها في «رسالة القرآن»، المجلّد الأوّل في مبحث مصادر المعرفة (المصدر السادس- الكشف والشهود) «2».

إنّ بعضاً من هذه الأحلام كان كنائيّاً (مثل حلم عزيز مصر) وبعضها صريحاً مثل حلم نبي الإسلام صلى الله عليه و آله حول دخول المسلمين إلى المسجد الحرام، وأداء مراسم الحجّ.

ويصرّح القرآن في سورة يوسف بأنّنا علّمنا يوسف هذا العلم، ونقرأ في قوله تعالى:

«وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ». (يوسف/ 6)

و قال أيضاً: «وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ». (يوسف/ 21)

ثمّ تجسّدت نماذج من تفسير يوسف للأحلام، بما فيها الرؤيا التي قصها كلّ من السجينين عليه، ورؤيا ملك مصر، والتي تحكي كلّها عن إحاطته الكاملة بعلم تعبير الاحلام.

بديهي أنّ عدم اطّلاع الأنبياء عليهم السلام على تعبير الأحلام لا يخدش في نبوّتهم، لكن

______________________________

(1) ورد هناك في التفسير الأمثل، في الآيات المرتبطة بيوسف عليه السلام، بحث مفصّل نوعاً ما حول هذا الموضوع، وان كان بيانه بالكامل يحتلّ كتاباً مستقلًا لوحده.

(2) لمزيد من الايضاح راجعوا الى ج 1، ص 212 من هذا التفسير.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 216

بإمكان هذا العلم أن يلعب دوراً فعّالًا في الإسراع من عجلة تطوّر مأموريتهم، وإضفاء المزيد من التقدّم على خططهم.

4- العلم بمنطق الطير

تمّت الإشارة في القرآن الكريم إلى نوع آخر من العلم والمعرفة بالنسبة لسليمان عليه السلام، والذي يبدو لأوّل وهلة أمراً عجيباً، ألا وهو مسألة القدرة على مخاطبة الطيور وفهم حوارها، ونقرأ في قوله

تعالى «وَوَرِثَ سُلَيْمانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ». (النحل/ 16)

الكلام هنا طويل:

هل حقّاً تتكلّم الحيوانات؟ كيف يكون حديثها؟ هل بهذه الأصوات المتنوّعة التي تنبعث منها في مختلف الحالات، أم أنّ هناك كيفية خاصّة أخرى؟

لا شكّ أنّ للطيور أصواتاً متفاوتة وبحسب الظروف المختلفة، كالغضب والرضا والجوع والعطش والمرض والضجر، وأنّ بإمكان من لهم أدنى اطّلاع على حالها إدراك مرادها.

لكن من المستبعد أن تكون الآية أعلاه وأمثالها ناظرة إلى هذا المعنى، إذ إنّها تحكي عن مطالب أدقّ وأهمّ، فالبحث هو عن تفاهمها وتخاطبها مع الإنسان، والحديث هو عن سلسلة من المفاهيم العالية والراقية.

مع احتمال إقدام البعض على حمل هذه الآيات وأمثالها على الكنايات أو لغة الأساطير، توهّماً منهم باستحالة مثل هذا الشي ء للحيوانات، فامتلاك سليمان عليه السلام للمعجزة واطّلاعه على العلوم الإلهيّة الخاصّة لا يستبعد أبداً.

وهناك سؤال وهو: هل أنّ للحيوانات مثل هذا الفهم والشعور لتتحدّث مثلًا عن عبادة ملكة سبأ للشمس من دون اللَّه؟

التمعّن في أسرار حياة الطيور، والمطالب العجيبة التي ينقلها العلماء فيما يتعلّق بذهنها

نفحات القرآن، ج 7، ص: 217

ومهارتها ودقّتها، يكشف عن سقم وسطحية افتراض تجرّد الحيوانات خصوصاً الطيور من الشعور.

إنّ أبحاث العلماء تشير إلى أنّ للكثير من الحيوانات القدرة على تحديد الظروف الجويّة، حتّى قبل حدوثها بعدّة أشهر، في حين أنّ الإنسان ومع كلّ الأجهزة التي يستعين بها يعجز أحياناً عن مثل ذلك، ولو لساعات قليلة قبل ذلك.

أغلب الحيوانات تعلم بالزلازل قبل وقوعها وتبدي ردّ فعلها لذلك، في الوقت الذي تعجز فيه أجهزة رصد الزلازل عن تخمين ولو مقدّماتها.

غرائب حياة النحل واقتفائها العجيب للمناطق التي تكثر فيها الزهور، ونشاطات النمل العجيبة وتطوّرها المعقّد، ومعرفة الطيور المهاجرة بوضع الطرق حين تطوي

أحياناً المسافة بين القطبين الشمالي والجنوبي للكرة الأرضية، واطّلاع البعض من الطيور على أحوال فراخها قبل تفقيسها، وتوقّعها الدقيق لاحتياجاتها مع عدم امتلاكها لتجربة سابقة، وأمور أخرى من هذا القبيل والتي ذكرت في الكتب المعتبرة والمستندة في هذه الأيّام، تشير بمجموعها إلى أنّ لا غرابة في تمتّع الحيوانات بنوع من الحوار فيما بينها، مع تمكّنها من التحدّث مع من له اطّلاع على أبجديات لغتها، وخلق رابطة ما معه.

الكثير من آيات القرآن تدلّل على أنّ للحيوانات شعوراً وإدراكاً على خلاف ما يتوهّمه البسطاء، بل بلغ الحدّ بالبعض إلى الإعتقاد بأنّ لكلّ ذرّات الكون بما فيها الجمادات نوعاً من الشعور، ومن هنا فقد اعتبروا عموم تسبيحها مقروناً بالشعور.

هذه المواضيع تعود بطبيعة الحال إلى بحوث أخرى ذكرناها في محلّها، امّا الذي ينبغي الإلتفات إليه هنا فهو مسألة اطّلاع البعض من الأنبياء على «منطق الطير»، وتحدّث قسم من الحيوانات معهم، والتي لا تعدّ علماً ضرورياً لأداء الرسالة بل باعثاً على كمال النبوّة.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 219

طرق معرفة سفراء اللَّه

اشارة

1- الاعجاز

2- التحقيق في مضمون دعوة الأنبياء عليهم السلام

3- جمع القرائن

4- شهادة الأنبياء السابقين

نفحات القرآن، ج 7، ص: 221

طرق معرفة سفراء اللَّه

تمهيد:

اشارة

لا شكّ أنّ أيّ ادّعاء لا يمكن قبوله إذا لم يكن معززاً بدليل، خصوصاً الإدّعاء الخطير جدّاً وهو ادّعاء النبوّة مثلًا، وبالأخصّ بعد معرفتنا للكثير من الأشخاص وعلى امتداد التاريخ ممّن ادّعوا السفارة و النبوّة، و رسالة هداية الخلق من قبل اللَّه زوراً وبهتاناً، بهدف إضلال البسطاء من الناس، فادّعوا أنّهم مرسلون من قبل اللَّه لتحقيق أهدافهم المشؤومة وضمان طموحاتهم اللامشروعة، وقد وُفّقوا بعض الشي ء في كسب بعض المغفلين نحوهم.

وبناءً على هذا فلابدّ من وجود مقاييس يمكن من خلالها تمييز الأنبياء الإلهيين من المدّعين الكذّابين، وبعد مطالعة هذا الموضوع بدقّة تنكشف أمامنا أربعة طرق:

1- «الإعجاز» و هو القيام بأمور خارقة للعادة و خارجة عن قدرة الإنسان، مرفقة بدعوى النبوّة.

2- التحقيق في مضمون دعواتهم والتي يمكن أن تكون لوحدها في بعض الأحيان دليلًا على صدقهم وحقّانيتهم، وقد يكون هذا الطريق أكثر قبولًا وثقة لدى العلماء حتّى من المعجزة.

3- جمع القرائن التي تحوم حول مدعي النبوّة، وسوابقه وسلوكه ومحيطه والذين آمنوا به، بالإضافة إلى الطرق التي يسلكها لنشر دعوته، و ما إلى ذلك.

وكثيراً ما يحدث أن تدفع هذه القرائن مجتمعة للإيمان برسالته وصدق دعوته دون حاجة إلى اللجوء إلى شي ء آخر.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 222

4- شهادة الانبياء السابقين التشخيص عن طريق الأخبار وتزكية الأنبياء السابقين، أي أنّه يمكن لأخبار من اتّضح أنّه نبي أن تكون دليلًا وعاملًا مساعداً لمن يأتي بعدهم.

على أيّة حال فالشي ء المسلّم به هو عدم إمكان قبول أي دعوى بلا دليل مقنع، وقد عاتب القرآن مراراً وكراراً أولئك الذين يدّعون

أو يتّبعون بلا علم ولا دليل.

ومن البديهي أنّ أشخاصاً كهؤلاء سيكونون في مهب ريح اللوم والعتاب على الدوام، وعلى حدّ قول بعض الفلاسفة: «من يقبل كلاماً بلا دليل لا يستحقّ إسم الإنسان».

كما أنّ القرآن يعتبر أمثال هؤلاء الأشخاص أي الذين يتبعون الهوى بلا علم ولا دليل من أضلّ الناس إذ يقول: «وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِّنَ اللَّهِ». (القصص/ 50)

وفي موضع آخر يقول بصراحة لمن يدّعي دعوىً فيما يتعلّق بالتوحيد أو النبوّة: «هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ». (البقرة/ 111) (النمل/ 64)

كما يقول في موضع آخر: «وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ». (الإسراء/ 36)

وأخيراً فقد اعتبر أولئك الذين يتكلّمون بغير علم من أكثر الناس كذباً وافتراءً وظلماً، يقول اللَّه تعالى: «فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ».

(الأنعام/ 144)

بعد هذه المقدّمة الخاطفة يأتي دور كلّ واحد من هذه الطرق الأربعة ونبدأ بمسألة «الإعجاز».

نفحات القرآن، ج 7، ص: 223

1- الاعجاز

اشارة

وينبغي الإلتفات إلى أنّ القرآن لا يعبّر بالإعجاز أو المعجزة في هذه المسألة، بل يستعمل وبشكل رئيسي ثلاثة تعابير أخرى وهي: «آية» و «بيّنة» و «برهان»، والآن لنمعن خاشعين في الآيات الواردة في هذا المجال:

1- «قَالَ (فرعون) إِنْ كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ* فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ* وَنَزَعَ يَدَهُ (من جيبه) فَإِذَا هِىَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ».

(الأعراف/ 106- 108)

2- «وَرَسُولًا إِلَى بَنِى إِسْرَائِيلَ أَنِّى قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّى أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْىِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِى بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنينَ». (آل عمران/ 49)

3- «وَقَالُوا مَهْمَا

تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ* فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ». (الأعراف/ 132- 133)

4- «وَإِلَى (قوم) ثَمُودَ (أرسلنا) أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً ...». (الأعراف/ 73)

5- «قَالَ (نوح) يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَّبِّى وَآتَانِى رَحْمَةً مِّنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ (فهل تنكرون دعوتي ثانية) أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ». (هود/ 28)

نفحات القرآن، ج 7، ص: 224

6- «وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ ...* اسْلُكْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ... فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإِيهِ». (القصص/ 31- 32)

7- «قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَايَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً». (الإسراء/ 88)

جمع الآيات وتفسيرها
الإعجاز، أوّل دليل على النبوّة:

كما تمّت الإشارة سابقاً فانّ لفظة ال «معجزة» لم ترد في القرآن بالمعنى المصطلح عليه اليوم أبداً، بل إنّ ألفاظاً أخرى من قبيل «آية» و «بيّنة» و «برهان» قد حلّت محلّها، وعلى الرغم من إطلاق هذه الألفاظ الثلاثة في القرآن على معاني أخرى أيضاً، فانّ «المعجزة» أحد معانيها.

الآيات المختارة المذكورة هي من أجلى الآيات التي تتحدّث عن المعجزة بالاستفادة من هذه الألفاظ الثلاثة، بالإضافة إلى بعض الآيات الأخرى التي تعكس مفهوم ضعف الإنسان وعجزه عن مقابلة بعض ما يقوم به الأنبياء من بعض الممارسات الخارقة للنواميس الطبيعية بالمثل، بالرغم من خلوّها من كلّ واحدة من هذه الألفاظ الثلاثة، وبالنتيجة فهي تثبت استعانة الأنبياء ب «الإعجاز» للتدليل على حقّانيتهم من جهة، ومطالبة الناس ب «المعجزة» من جهة أخرى.

ورد في الآية الاولى «قَالَ إِنْ كُنتَ جِئْتَ

بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ* فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ* وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِىَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ».

إذ نرى هنا أنّ فرعون قد اعتبر المطالبة ب «آية» أي «معجزة» حقّاً مشروعاً له، ومن المعلوم أنّ موسى قد وافق بدوره على هذا الطلب برحابة صدر، وجاء بنموذجين من معجزاته.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 225

وبهذا فهذه الآيات تعتبر الأمور الخارقة للعادة (المشروطة) تمثل الطريق لمعرفة الأنبياء عليهم السلام.

هذه الآيات لم تقل أبداً أنّ هذا الشي ء قد تجسّم أمام أنظار فرعون، بل تحكي عن حقيقة متحقّقة ألا وهي استبدال العصا بثعبان رهيب، وبياض يد موسى حينما أخرجها من جيبه، كما أنّ التعبير بال «مبين» إشارة إلى نفس هذا الشي ء أيضاً.

يحتمل أن يكون السبب وراء اختيار هاتين المعجزتين يعود إلى امتلاك إحداهما ميزة الإرهاب للمستكبرين والمعاندين وتهديدهم، والأخرى ميزة الترغيب لإيمان المؤمنين، على أمل أن يمتزج «اللين» ب «الشدّة» ليقدما معاً دواءً شافياً للعباد.

و في الآية الثانية تمّت الإشارة بقوّة إلى معجزات السيّد المسيح، وتمّ التعبير عنها بال «آية»، وكان ذلك في وقت بشّرت فيه مريم عليها السلام بولادة المسيح عليه السلام، إذ قال تعالى: «وَرَسُولًا إِلَى بَنِى إِسْرَائِيلَ أَنِّى قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّى أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْىِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِى بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنينَ».

وقد تمّ في هذه الآية ذكر مجموعة من معجزات السيّد المسيح: خلق الطير من الطين، وإبراء الأكمه والأبرص الذي يستحيل علاجه، وإحياء الموتى، والتي تمّت كلّها بإذن اللَّه بالإضافة إلى الإطّلاع على الأمور الخفيّة وأسرار الغيب.

لم تكن معجزة المسيح لتنحصر

بهذه المعاجز الأربع فحسب، إذ إنّ هناك خوارق أخرى للعادات قد نقلت عنه في القرآن الكريم، من جملتها تكلّمه في المهد، ونزول مائدة من السماء على الحوارين بدعائه.

والمعروف هو أنّ اختيار اللَّه لقسم من هذه المعجزات للمسيح عليه السلام، إنّما كان بسبب انتشار العلوم الطبيّة وتطوّرها في ذلك الزمان، وحاجة الناس الماسة إلى مهنة الطبابة نظراً

نفحات القرآن، ج 7، ص: 226

لشيوع الأمراض آنذاك، فوضع اللَّه هذه المعجزات الخاصّة تحت تصرّف المسيح، ليتعرّف به العالم وغيره ويستسلم له ولتتجلّى عظمة إعجازه بشكل أكبر «1».

هذه الملاحظة أيضاً جديرة بالاعتبار وهي وجود نوع من التنسيق بين هذه المعجزات الماديّة، وبين البرامج المعنوية والتربوية للسيّد المسيح: فلقد ربى بدعوته هذه أناساً متفتّحين على أفكار ومعارف جديدة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، شفاء المرضى الذين يستحيل علاجهم على يديه، وإحياء ضحايا وادي الضلال وهداهم، ومسح بأسرار الغيب وأنوار المعرفة على القلوب، وبهذا كانت تلك المعجزات الماديّة متناسبة مع هذه الأهداف المعنوية.

صحيح أنّ «المعجزة» يجب أن تكون عملًا خارقاً للعادة بحيث يعجز الكلّ عن الإتيان بمثله، لكن اللَّه الحكيم الذي يتصرّف بحكمة، قد اختار المعجزات طبقاً لبرنامج مدروس.

هذه الملاحظة أيضاً جديرة بالتأمّل والتفحّص وهي أنّ التعبير ب «إذن اللَّه» قد تكرّر مرّتين في هذه الآية، لئلّا يضل الجهّال في وادي الشرك أو يبالغوا في درجة النبي إلى مرتبة الغلو، خصوصاً وأنّ كيفية خلق عيسى كانت بشكل يساعد على تهيئة الأرضية المناسبة للغلو في أفكار قصيري النظر، ولذا فقد تمّ التأكيد مراراً على إذن اللَّه وأمره لئلّا يذهب بهم خيالهم إلى اتّصافه واقعاً بصفات الربوبية، وكون هذه الأعمال صادرة منه بنفسه، بل ليعلموا أنّها جميعاً من عند اللَّه.

الآية الثالثة تبيّن بوضوح أنّ

موسى عليه السلام قد جاء للفراعنة بالعديد من خوارق العادة، (أو بعبارة أخرى بالآيات المفصّلات)، لكن الملأ من آل فرعون لم يؤمنوا بحجّة كون ذلك «سحراً»، يقول تعالى: «وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ* فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ».

______________________________

(1) وردت هذه الملاحظة في حديث عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام (بحار الأنوار، ج 11، ص 70).

نفحات القرآن، ج 7، ص: 227

هذه الحوادث العجيبة وغير المتوقّعة كانت لها صفتي التأديب والإعجاز معاً.

كما أنّ الآيات اللاحقة لها تبيّن أيضاً أنّهم كانوا يلجأون إلى موسى عند الشدائد، ويرجون منه الطلب من اللَّه برفع «البلاء» ويعدونه لئن كشفت عنّا الرجز لنؤمننّ لك، ولكن حينما كان يكشف عنهم الرجز ينكثون عهدهم، إلى أن استحقّوا أخيراً «عذاب الإستئصال» واجتُثُّوا عن بكرة أبيهم.

صحيح أنّ الفراعنة وبني إسرائيل كانوا يعيشون معاً، لكن لا يخفى أنّ الفراعنة كانوا هم المستهدفين بهذه البلايا، فتلك قصورهم الفخمة تطلّ على طرفي النيل، بينما منازل بني إسرائيل تقع في مناطق نائية، ولذا ذهب الطوفان والفيضان بقصور الفراعنة.

كما دمّر الجراد والآفات الزراعية مزارعهم الواسعة، وحصلت زيادة مطّردة ومفاجئة في تكاثر الضفادع لتخرج من النيل وتدخل في كلّ جزئيات حياة الفراعنة، بل لم تترك حتّى غرف نومهم وموائد طعامهم وأوانيهم بالإضافة إلى تحمّلهم لخسائر فادحة جدّاً حينما تلوّن نهر النيل بالدم.

لكن هذه البلايا أو بعبارة أخرى «المعجزات المنبّهة» التي ورد شرحها في التوراة الحالي، في «سفر الخروج» الفصل السابع إلى العاشر، لم توقظهم أبداً.

ويحتمل أن يكون اختيار هذه المعجزات الخمس ناظراً إلى إحاطة العذاب الإلهي بكافّة شؤون حياتهم، فالطوفان قلب قصورهم رأساً على عقب، والجراد

دمّر بساتينهم، و «القمّل» ذهب بزراعتهم، والضفادع سلبتهم راحة بالهم وسكينتهم، وإستبدال ماء النيل بالدم حرمهم ماء شربهم!

وهناك إشارة مختصرة في الآية الرابعة إلى معجزة نبي آخر وهو النبي صالح عليه السلام، حيث تعبّر عنها ب «البيّنة»، وكذلك ال «آية»، يقول تعالى:

«وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ

نفحات القرآن، ج 7، ص: 228

مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً ...».

«الناقة»: تعني في الأصل أُنثى البعير، وقد أشير في القرآن إلى ناقة صالح بهذه اللفظة أكثر من مرّة، والتي كانت ناقة إستثنائية بلا شكّ، وذلك في كيفية خروجها بالإضافة إلى بقيّة الحالات والصفات التي يكون الخوض في جزئياتها خارجاً عن موضوع هذا البحث، إذ لا نعلم أكثر من عدم كونها ناقة عادية، ولذلك يعتبرها بمثابة البيّنة و الآية ولغرض الوقوف على أهميّة هذه المعجزة فقد تمّ التعبير عنها في الآية المذكورة ب «ناقة اللَّه».

لماذا اختار اللَّه هذه المعجزة من بين كلّ المعجزات لصالح عليه السلام؟ قال البعض: كان ذلك استجابة لطلب القوم لمثل هذه الناقة.

نقرأ في إحدى الروايات: «حينما بُعث صالح بالنبوّة بين قوم ثمود الذين كان لهم سبعون صنماً يعبدونها، لبث فيهم مدّة طويلة يدعوهم وينصحهم، لكنّهم لم يجيبوه إلى خير، فقال لهم ذات يوم: أنا أعرض عليكم أمرين، إن شئتم فاسألوني حتّى أسأل إلهي فيجيبكم فيما تسألون، وإن شئتم سألت آلهتكم فان أجابوني خرجت عنكم، فقد شنئتكم وشنئتموني، فقالوا قد أنصفت!

فتواعدوا ليوم يخرجون فيه، فخرجوا بأصنامهم إلى عيدهم وأكلوا وشربوا فلمّا فرغوا، دعوه فقالوا ياصالح سل فسألها فلم تجبه، فقال: لا أرى آلهتكم تجيبني فاسألوني حتّى أسأل إلهي فيجيبكم الساعة، فقالوا ياصالح! اخرج لنا من

هذه الصخرة (وأشاروا إلى صخرة منفردة) ناقة مخترجة جوفاء وبراء فان فعلت صدّقناك وآمنا بك، ففعل صالح ذلك ولم يؤمنوا» «1».

الكلام في الآية الخامسة هو عن «البيّنة» أيضاً، وقد ذكرت هنا «بيّنة نوح» تلك البيّنة التي يراد منها «معجزة ظاهرة»، إذ نراه يعقّب على كلام مشركي القوم حينما قالوا: «بل

______________________________

(1) تفسير مجمع البيان، ج 4، ص 441 (بتلخيص).

نفحات القرآن، ج 7، ص: 229

نظنّكم كاذبين»، بالقول: «قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَّبِّى وَآتَانِى رَحْمَةً مِّنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ (تعصّباً وعناداً) أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ» «1».

قال الكثير من المفسّرين أنّ «البيّنة» تعني هنا المعجزة، وعلى الرغم من المنقول عن ابن عبّاس أنّ المراد بالبيّنة هو الدليل المنطقي الجليّ، لكن نظراً للتعبير ب «من ربّي» ولكون هذه البيّنة قد اقيمت في مقابل تكذيب نوح وأتباعه، فلا يمكن أن يفهم منها سوى المعجزة، وربّما كان مراد ابن عبّاس من الدليل الواضح نفس المعجزة أيضاً.

ونلاحظ في الآية السادسة تعبيراً آخر حول هذا الموضوع ألا وهو «البرهان»، إشارة إلى معجزتي موسى المعروفتين واللتين وردتا في الآيات السابقة، أي استبدال العصا بثعبان عظيم، وبياض اليد، يقول تعالى: «فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإِيهِ».

و «البرهان»: وعلى حدّ قول الراغب في المفردات يعني الدليل المحكم، وقد اعتبره البعض مصدراً لمادّة «بَرَهَ- يَبْرَهُ» إذا ابيضّ، وإطلاق هذه المفردة على الأدلّة المحكمة من باب بيانه للمطلب، وتوضيحه له، أو لأنّه يبعث على افتخار المتكلّم، أو أنّه إشارة إلى الكلام الواضح الذي يعتريه الإبهام.

وفي «لسان العرب» فسّر البرهان بمعنى الدليل الواضح الذي يميّز الحقّ عن الباطل، ومن هنا فسّر المفسّرون لفظة «برهانان» في ذيل الآية بمعنى الدليلين الجليين «2».

لكن صاحب كتاب «التحقيق»

يعتقد بأنّ استعمال لفظة البرهان بمعنى الدليل اصطلاح منطقي خارج عن دائرة اللغة، وأنّ معناه هو ذلك الكلام الواضح الخالي من الإبهام، أو الموضوع الواضح تماماً.

على أيّة حال، ففي الآية أعلاه قد استعملت هذه اللفظة في التعبير عن المعجزة، التي تعدّ دليلًا جليّاً وواضحاً على صدق مدّعي النبوّة، أي النبي موسى عليه السلام هنا.

______________________________

(1) جملة «أنلزمكموها» هي بمثابة الجزاء للقضيّة الشرطية «إن كنت».

(2) تفسير الكبير، ج 24، ص 238.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 230

وفي الآية السابعة والأخيرة من الآيات التي وردت في البحث لم يكن التعبير بال «آية» أو ال «بيّنة» أو ال «برهان»، بل بمصداق من المصاديق البارزة جدّاً للمعجزة، وبعد ذلك تمّ التصريح بالقول: «قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَايَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً».

الهدف لا يكمن في الخوض في بحث «إعجاز القرآن» لأنّ هذا البحث قد جاء في ذيل هذه الآية في المجلّد الثاني عشر من «التفسير الأمثل»، كما سيأتي أيضاً في المجلّد القادم من نفحات القرآن، بشرح أوفى، إنّما الهدف هو بيان حقيقة كون المعجزة هي إحدى الطرق القطعية لمعرفة الأنبياء عليهم السلام.

ولذا نقرأ في ذيل آية أخرى دعوة القرآن المخالفين للإتيان بعشر سور مثل سور القرآن:

«فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ». (هود/ 14)

ثمرة البحث:

يمكن الإستنتاج بوضوح من مجموع ما تقدّم، أنّ المعجزة لم تكن بنظر القرآن أحد الأدلّة الرئيسيّة لإثبات نبوّة نبي الإسلام صلى الله عليه و آله فحسب، بل لنبوّة سائر الأنبياء أيضاً.

لكن ينبغي الإلتفات إلى أنّ هناك آيات قرآنية تعدّ بمثابة العلّة لمنكري المعجزة، والتي سنتكلّم عنها بالتفصيل في قسم التوضيحات.

توضيحات
1- ما هي حقيقة الإعجاز

لفظة الإعجاز والمعجزة وكما أشرنا سابقاً لم ترد في القرآن بالمعنى المصطلح عليه اليوم، بل قد تمّت الإستعانة بتعابير أخرى في هذا المجال، وقد تقدّم شرحها في الآيات التي مرّ ذكرها، فالبحث هنا ليس بحثاً لغوياً، إذ الهدف هو بيان حقيقة الإعجاز والمعجزة، لكن لا

نفحات القرآن، ج 7، ص: 231

بأس بإشارة خاطفة قبل ذلك إلى المفهوم اللغوي للفظة «الإعجاز»، ليتّضح السبب الذي دفع العلماء والأكابر إلى انتخاب هذه المفردة لخصوص هذا المعنى.

مع أنّ هناك معنيين قد ذكرا في مقاييس اللغة لأصل «الإعجاز» أي «العجز» وهما:

«الضعف» و «عقب كلّ شي ء»، لكن الراغب أرجع هذين المعنيين في المفردات إلى معنى واحد، واعتبر المعنى الأصلي هو «عقب كلّ شي ء»، وقد ترد بمعنى «الضعف» نظراً لتبعية الأفراد الضعفاء للآخرين، وحيث إنّ معجزات الأنبياء هي من القوّة بحيث يعجز الآخرون عن التصدّي لها ومقابلتها بالمثل، فقد اطلقت لفظة المعجزة عليها.

على أيّة حال ف «المعجزة» في التعريف الذي ذكره لها علماء العقائد، عبارة عن ذلك الشي ء الجامع للشروط الثلاثة أدناه:

1- العمل الخارق للعادة والخارج كليّاً عن طاقة النوع البشري، والذي يعجز عن الإتيان بمثله حتّى أكبر نوابغ العالم.

2- أن تكون مرافقة لدعوى النبوّة أو الإمامة من قبل اللَّه، وبعبارة أخرى أن تكون بمثابة الدليل على حقّانية مدّعي الرسالة والإمامة.

3- أن تكون بلسان «التحدّي» أي الدعوة للمعارضة والمقابلة بالمثل، وبعبارة أخرى أن يتحدّى

مدّعي النبوّة أو الإمامة أولئك الذين ينكرون كونها من عند اللَّه، الإتيان بمثلها، بالضبط كما عرض القرآن هذا الأمر أكثر من مرّة فيما يتعلّق بإعجاز هذا الكتاب السماوي، وقد مرّ بنا مثال ذلك في الآيات السابقة.

وممّا تقدّم أعلاه يمكن استنتاج الأمور التالية:

أ) المعجزة مستندة على القدرة الإلهيّة

ولا يمكن قياسها بأعمال نوابغ العالم، والإكتشافات العلمية العجيبة، إذ يحتمل مثلًا وجود طفل ذكي لم يتجاوز عمره السبع سنين، ومع ذلك نراه يخطب خطبة عصماء، فهذا

نفحات القرآن، ج 7، ص: 232

نوع من النبوغ، ولذا يحتمل العثور على طفل آخر مثله أيضاً، أمّا الطفل الرضيع فمن غير الممكن (عادةً) أن ينطق بفصاحة ليقول كما نقرأ بالنسبة للمسيح: «قَالَ إِنِّى عَبْدُ اللَّهِ آتَانِىَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِى نَبِيّاً». (مريم/ 30)

أو أنّ من الممكن لعالمٍ إختصار فترة نضوج فاكهة ما من سبع سنين مثلًا إلى عدّة أشهر، وذلك باكتشاف علمي جديد وأدوية خاصّة، فمن الواضح أنّ هذا العالم قد جاء باكتشاف عظيم، لكن من المحتمل أن يأتي مكتشف ونابغة آخر بعمل مشابه له أيضاً، امّا لو تحوّلت شجرة يابسة إلى مثمرة في لحظة واحدة (وكانت ترافقها دعوى النبوّة والتحدّي) فهي معجزة إلهية.

ب) المعجزة لا تعني عمل المستحيل عقلًا

(سواء كان محالًا ذاتياً كاجتماع النقيضين والضدّين في مكان واحد وزمان واحد، أو محالًا بالغير كالأمر الذي ينتهي وجوده في خاتمة المطاف إلى محال عقلي) لأنّه غير ممكن بحكم العقل، أو بعبارة أخرى هو خارج عن دائرة القدرة، أي أنّ استعمال كلمة «القدرة» في حقّها لا معنى له أصلًا، مثل أن يريد أحد الأنبياء أن يكون الشي ء موجوداً وغير موجود في آن واحد، أو أن يضع صخرة عظيمة داخل بيضة دون أن تصغر الصخرةٌ أو تكبر البيضة،

مثل هذه القضايا إنّما تزرع التضادّ في داخلها بنفسها، أي أنّها في حقيقتها قضيّة خاطئة، ومفهومها في الحقيقة هو أن يريد الإنسان شيئاً ولا يريده (تأمّل جيّداً).

وبناءً على هذا فالمحالات العقليّة لا محلّ لها لا في بحث الإعجاز، ولا حتّى في أي بحث آخر، بل الذي يمكن عرضه هو المحال العادي فحسب، وبهذا فالمعجزة محال عادي لا غير.

أي أنّ مثل هذا الشي ء لا يمكن تحقّقه طبقاً للتسلسل الطبيعي لقانون العلّة والمعلول، واستناداً إلى الأسباب والشروط العادية والطاقة البشرية، لكن لا مانع من تحقّقه أبداً بالقدرة الإلهيّة كالأمثلة المذكورة آنفاً.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 233

ج) المعجزة لا تعني تحطيم قانون العلّية

قد يتوهّم البعض أنّنا وبقبولنا للمعجزات يجب أن نضرب أصل العلّية عرض الحائط، وان نسلّم بإمكان صدور المعلول بلا علّة، إلّاأنّ هذا المعنى غير مقبول لدى أي عالم ومفكّر.

ومن الواضح أنّ أصل العلّية لا ينحصر في الأصول البديهية للعلوم البشرية، بل يمتدّ ليعدّ في الفلسفة أيضاً من المسائل البديهية، وذلك لعدم إمكان وجود أيّة حادثة بلا علّية، والقائلون بالمعجزة لا ينكرون هذا الأصل البديهي والمسلّم به.

وبناءً على هذا فللمعجزات علل وأسباب حتماً خلافاً لهذا التوهّم، ويحتمل أن تكون هذه العلّة أمراً ميتافيزيقيّاً أي ما وراء عالم الطبيعة (وذلك لعدم انحصار الوجود بعالم المادّة والطبيعة فقط)، بل يمكن أن تكون علّة طبيعية إلّاأنّها غير مكتشفة، أي تلك العلّة التي يستحيل لأفراد البشر إدراكها دون الإتّكاء على علم وقدرة الخالق، وبهذا فكلّما وصل إنسان ما لهذا العامل الطبيعي والمجهول في نفس الوقت، لاستنتجنا اتّكاءه على قدرة إلهية.

ومعجزات الأنبياء عليهم السلام يمكن أن تكون من النوع الأوّل أو الثاني، وذلك لتساويهما في إثبات ارتباطهم باللَّه.

وقد اعتمد القرآن في موارد كثيرة

على قانون العلّية وتقبّله كأصل مسلّم به، سواء فيما يتعلّق بعالم الطبيعة والخلقة أو بحياة الإنسان الاجتماعية أو حتّى بالحياة الشخصية لكلّ فرد، وهناك ما لا يعدّ ولا يحصى من الآيات الشريفة حول هذا الموضوع، وطبقاً لهذا فلا يمكن القول بأنّ المعجزات معاليل بلا علّة.

د) المعجزة لا تزلزل أُسس التوحيد ومعرفة اللَّه

قد يتوهّم البعض ويقول: لقد عرفنا اللَّه من خلال نظام عالم الخلقة الثابت، فلو أمكن زلزلة هذا النظام عن طريق المعجزات، لتزلزل أساس التوحيد ومعرفة اللَّه، إنّكم تريدون

نفحات القرآن، ج 7، ص: 234

إثبات النبوّة بواسطة المعجزات، وفاتكم انّكم إنّما تهدمون بذلك أساس التوحيد.

وعلى حدّ قول البعض الآخر: إنّ النظام الإلهي ليس العوبة بيد المتلاعبين، يحرّكونه كيفما شاءوا وأمثال ذلك.

والحقيقة أنّ الذين يدّعون بمثل هذا هم من المتغرّبين المادّيين، الذين توهّموا أنّ إنكارهم للمعجزات هذا، سيلفت أنظار المفكّرين الغربيين إليهم، حتّى المادّيين منهم، مع كون هذا الكلام خطأ محض بسبب:

أوّلًا: كما تقدّم سابقاً أنّه لا شكّ لأحد في «أصالة» و «عمومية» قانون العلّية، كما أنّ تفسير المعجزة ب «المعلول بلا علّة» خطأ فادح، وغياب مسير العلل العادية استثناءً بمثال محدود واحد أو أكثر، لا يخدش في نظام الكون أبداً، لأنّ ما يتجسّد أمامنا كلّ ساعة من الآلاف المؤلّفة من مصاديقه لا يمكن أن يتزلزل بحالة استثنائية تحدث بالسنة مرّة مثلًا فضلًا عن كون حصول ذلك الاستثناء لإثبات هدف أكبر، نعم لو حدثت كلّ يوم آلاف الآلاف من المعاجز لكان هناك مجال لتردّد البعض في أصل وجود نظام الكون.

ثانياً: لم يدّع أحد أنّ نظام اللَّه هو ألعوبة، أو أنّ الأنبياء عليهم السلام يتصرّفون به كما يحلو لهم، بل الذي نقوله هو أنّ الأنبياء عليهم السلام

إنّما يظهرون أمراً خارقاً للعادة بأمر من اللَّه، ليثبتوا ارتباطهم بعالم ما وراء الطبيعة، مع اكتفائهم بالحدّ الأدنى من المعاجز، وعدم استعدادهم لتقبّل المعجزات المقترحة (المعجزات التي تقترح من قبل ذوي الحجج والشكوك الباطلة).

وهناك العديد من الآيات القرآنية التي تشير إلى هذا المعنى، والتي سنتكلّم عنها بالتفصيل إن شاء اللَّه عند عرضنا لمنطق «المخالفين للمعجزات».

ه) فرق المعجزة عن النبوغ

لقد اتّضح عدم وجود أي شبه بين المعجزة وعمل النوابغ، إذ إنّ المعجزة هي العمل الخارج أساساً عن قدرة الإنسان، في حين من الممكن أن يظهر أمام كلّ نابغة شخص مثله

نفحات القرآن، ج 7، ص: 235

ليقابله بالمثل، فضلًا عن أنّ أعمال النوابغ محدودة بحدود معيّنة على الدوام، فأحدهم يبرز مثلًا في الأدبيات والآخر في الفنّ والثالث في الرياضيات والرابع في الصناعة و ...، امّا إعجاز الأنبياء عليهم السلام فلا يحدّه إطار معيّن.

وبعبارة اخرى فأهل النبوغ إنّما يؤدّون ما يعلمون لا ما يطلبه الناس منهم، في حين أنّ معجزات الأنبياء تتمّ طبقاً لمراد الناس (وهم أتباع الحقيقة طبعاً، لا من يبحث عن الحجج والذرائع).

بالإضافة إلى قيام النوابغ عادةً بتنمية قدراتهم الباطنية عن طريق التربية والتعليم، وعجزهم عن أداء أي شي ء مع غياب التعلّم المستمرّ والتمرين المتواصل، في حين أنّ هذا لا يصدق في حقّ الأنبياء عليهم السلام.

و) هل أنّ المعجزات عمل إلهي أو نتيجة قوّة نفوس الأنبياء؟

طبقاً لما قلناه سابقاً، فالأمور الصادرة من النبوغ أو إرادة الإنسان القويّة أو النفوس السامية، هي أمور محدّدة ومشخّصة، وبالإمكان العثور على نظير ذلك الشي ء عند باقي البشر، في حين أنّ المعجزات غير محدودة وغير قابلة للمعارضة، كما أنّه لا يمكن العثور على أمثالها في غير الأنبياء والأئمّة عليهم السلام.

أمّا حديثنا

فيدور حول المعجزة، وهل أنّها من عند اللَّه وأنّ دور الأنبياء يقتصر على الدعاء والطلب فحسب، أم أنّ اللَّه يمنح نفوس الأنبياء وإرادتهم قوّةً تمكّنهم من أداء هذه الأعمال الخارقة للعادة بإذنه تعالى؟

لا شكّ أنّ بعضاً من المعجزات كالقرآن المجيد هو عمل اللَّه وكلامه، والحديث هنا عن معجزات أخرى كمعجزة عصا موسى عليه السلام واليد البيضاء، ومعجزات المسيح عليه السلام فيما يتعلّق بإحياء الموتى وشفاء المرضى.

وكلا الاحتمالين ممكنان بنظر العقل، أي أنّه لا مانع أبداً في أن تتحقّق المعجزة من قبل

نفحات القرآن، ج 7، ص: 236

اللَّه ودعاء النبي وطلبه، أو أن يمنح اللَّه مثل هذه القدرة لنفوس الأنبياء، ولا منافاة لأي منهما مع أصل التوحيد وإسناد المعجزات إلى اللَّه.

كما أنّ هناك اختلافاً بين ظواهر آيات القرآن أيضاً، يقول تعالى فيما يتعلّق بإحياء الموتى من قبل المسيح عليه السلام: «وَأُحْىِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ» إذ إنّه نسب إحياء الموتى هنا إلى نفسه.

في حين أنّه يقول تعالى فيما يتعلّق بخلق الطير: «فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ». (آل عمران/ 49)

فالاولى تبيّن أنّ بعضاً من المعجزات يكون من عمل الأنبياء عليهم السلام بأمر من اللَّه، والثانية تدلّ على أنّ البعض الآخر هو من عمل اللَّه، وكما قلنا فكلاهما يعودان في خاتمة المطاف إلى الإرادة الإلهيّة ولا منافاة لأي منهما أبداً مع أصل التوحيد.

فهل أنّ الدواء الشافي بإذن اللَّه يتنافى وأصل التوحيد؟

من البديهي أنّه لا مانع أبداً في أن تؤثر إرادة شخص النبي الأكرم صلى الله عليه و آله في إحياء الموتى وشفاء المرضى بإذن اللَّه، وقد فات المصرّين على نفي هذا المعنى، تلك الحقيقة وهي أنّ تأثير كلّ شي ء إنّما هو بإذن اللَّه وهذا هو عين التوحيد.

2- العلاقة بين الإعجاز والنبوّة

هناك كلام بين العلماء

فيما يتعلّق بكيفية دلالة المعجزة على نبوّة صاحبها، أي كيف نثبت أنّ المعارف والقوانين والأحكام التي جاء بها هي وحي إلهي؟:

قال البعض: إنّ دلالة المعجزة على هذا المعنى هي دلالة عقلية، في حين رجّح الكثير منهم كونها دلالة وضعية.

بيان ذلك: قد يُتصوّر أحياناً أداء عمل خارق للعادة لا يمكنه أساساً أن يكون دليلًا على صدق مدّعي النبوّة، إذ لا مانع من قيام شخص بمعجزة ما مع عدم كونه نبيّاً، فلو أنّ أحداً

نفحات القرآن، ج 7، ص: 237

كان خطّاطاً ماهراً، فهل يدلّ هذا على ضرورة كونه عالماً متبحّراً أيضاً؟!

لكن هناك ملاحظة لم ينتبه لها أصحاب هذا الكلام، ألا وهي أنّ الأمر الخارق للعادة الصادر من العلماء المتبحّرين لا يُعدّ معجزة والذي يفوق قدرة الإنسان، أي المستند على خصوص القوّة الإلهيّة.

هل يمكن أن يضع اللَّه أمراً خارقاً للعادة، خارجاً عن عهدة البشر، تحت تصرّف مدّع كذّاب ليُضلّ عباده؟ هل ينسجم هذا المعنى مع حكمة اللَّه؟ هذا يشبه تماماً ادّعاء أحد بأنّي وكيل للشخص الفلاني إليكم، ويستدلّ على ذلك بالخاتم الخاصّ الذي في يده، والذي يعود إلى ذلك الشخص، مع علم صاحب الخاتم بذلك.

لا شكّ في كون هذا الأمر دليلًا على قبوله ورضاه، وإلّا فمن المستحيل أن يسكت على عمل كهذا.

وهذا هو ما بيّنه القرآن فيما يتعلّق بنبي الإسلام صلى الله عليه و آله في الآيات: «وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ* لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالَيمِينِ* ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ». (الحاقّة/ 44- 46)

إشارة إلى أنّ نبي الإسلام صلى الله عليه و آله ومع امتلاكه لتلك المعجزات، لو انحرف عن الحقّ ونسب إلى اللَّه كلاماً مخالفاً، لاستلزمت الحكمة الإلهيّة عدم إمهاله ولو لحظة واحدة ولأهلكته في الحال.

من الطبيعي أنّ المدّعين للنبوّة كذباً

كانوا ولا زالوا كثيرين في العالم، ولا داعي لأن يهلك اللَّه أحداً لمجرّد ادّعائه النبوّة كذباً، هذا الكلام إنّما يصدق في حقّ اولئك الذين لديهم معجزة، إذ إنّهم لو كذّبوا على اللَّه لما أمهلهم أبداً باعتباره اغراء بالجهل.

الجواب الآخر عن هذا السؤال هو أنّ الأنبياء عليهم السلام كانوا يدّعون أنّ الرسالة إنّما تعطى لهم عن طريق الوحي، سواء كان الوحي نازلًا عليهم مباشرةً، أو عن طريق نزول الملائكة، أيّاً كان فهو أمر خارق للعادة غير مشابه لإدراكات الإنسان الإعتيادية، وحتماً فانّ هناك نوعاً من السيطرة على عالم ما وراء الطبيعة في نفوس الأنبياء.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 238

ومن هنا كان المخالفون يستشكلون على الأنبياء بأنّكم بشر مثلنا فكيف تمكنتم من الإرتباط بما وراء الطبيعة؟ ولذا فقد توسّلوا بالمعجزات لإثبات تفاوتهم مع الآخرين «1».

ومع أنّ كلا الجوابين مناسبان وفي نفس الوقت لا تنافي بينهما، فالأوّل يبدو وكأنّه أوضح من الثاني.

3- الاختلاف بين معجزات الأنبياء عليهم السلام

من المعلوم أنّ معجزات الأنبياء الإلهيين كانت متفاوتة ومتنوّعة كثيراً، فهل ياترى أنّ هذا الأمر كان من قبيل الصدفة؟ أم أنّ هناك فلسفة ما وراء ذلك.

إنّ احتمال الصدفة بعيد جدّاً، والظاهر هو أنّ اللَّه الحكيم قد وضع معجزات الأنبياء بشكل بحيث تترك كلّ واحدة منها أكبر الأثر، قياساً بالظروف الزمانية والمكانية لكلّ نبي على حده.

فمثلًا حينما نجد أنّ القرآن يُعتبر أكبر معجزة لنبي الإسلام صلى الله عليه و آله، فانّ ذلك بسبب:

أوّلًا: أنّ نبي الإسلام صلى الله عليه و آله مبعوث إلى كلّ البشرية وإلى أبد الدهر، ومن هنا فلابدّ والحالة هذه أن يأتي بمعجزة خالدة لا تفقد دورها بمرور الأيّام.

ثانياً: أنّه صلى الله عليه و آله كان اميّاً، فمجيئه بمثل كتاب القرآن يعدّ من أرفع مراتب

الإعجاز.

ثالثاً: إنحطاط المستوى الفكري لبيئة الجاهلية مع رفعة مضامين القرآن، وهذا قرينة واضحة اخرى.

مضافاً إلى ذلك نجد أنّ أدبيات العرب وعلى اختلاف أفكارهم ومعارفهم كانت في ذلك الزمان قد بلغت الذروة، إذ كان لهم شعراء فحول وخطباء يضرب بهم المثل، وبالإمكان الوقوف على نماذج منها في الشعر الجاهلي. فحينما يستسلم مثل هؤلاء أمام فصاحة وبلاغة القرآن، تتجلّى هذه المعجزة بشكل أوضح.

______________________________

(1) تفسير الميزان، ج 1، ص 86، ذيل الآية 23 من سورة البقرة (باقتباس).

نفحات القرآن، ج 7، ص: 239

وهكذا بالنسبة لمعجزة سليمان عليه السلام في مسألة تسخير الرياح والشياطين، ومعرفة منطق الطير كانت متناسبة مع اتّساع رقعة ملكه وحكومته، نظراً لتجاوز حدود مملكته لعالم البشرية.

هذا الكلام يمكننا استنتاجه بوضوح من قول الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام في معرض جوابه عن سؤال «ابن السكيت» (العالم المعروف بأدبيات العرب).

حينما سأل «ابن السكيت»: لماذا بعث اللَّه موسى بن عمران بيده البيضاء والعصا وآلة السحر، وبعث عيسى بالطب، وبعث محمّداً صلى الله عليه و آله بالكلام والخطب؟

قال الإمام عليه السلام: «إنّ اللَّه تبارك وتعالى لمّا بعث موسى كان الغالب على أهل عصره السحر، فآتاهم من عند اللَّه بما لم يكن في وسع القوم مثله، وبما أبطل به سحرهم وأثبت به الحجّة عليهم.

وأنّ اللَّه بعث عيسى في وقت ظهرت فيه العاهات واحتاج الناس إلى الطب، فآتاهم من عند اللَّه بما لم يكن عندهم مثله، إذ أحيى لهم الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص بإذن اللَّه، وأثبت به الحجّة عليهم، (طبعاً كانت مهنة الطب والطبابة رائجة كثيراً).

وإنّ اللَّه بعث محمّداً صلى الله عليه و آله في وقت كان الغالب على أهل عصره الخطب والكلام، فآتاهم من كتاب اللَّه ومواعظه وأحكامه ما أبطل

به قولهم، وأثبت الحجّة عليهم.

فحينما سمع ابن السكيت هذا الكلام قال: «تاللَّه ما رأيت مثل اليوم قطّ» أو (تاللَّه ما رأيت مثلك اليوم قطّ)» «1».

4- السحر لا يضاهي المعجزة

وهنا يرد سؤال مهمّ آخر كان قد تجسّد في كلمات العلماء منذ قديم الأيّام، وهو أنّه كثيراً ما يشاهد أنّ أشخاصاً حتّى من الكفّار قد نالوا قسطاً من خوارق العادات نتيجة للرياضات

______________________________

(1) بحار الأنوار، ج 11، ص 70 (باب علّة المعجزة، ح 1).

نفحات القرآن، ج 7، ص: 240

الشاقّة ومقاومة ميول النفس والتمارين الصعبة للغاية، وبالخصوص بين مرتاضي الهند، وهناك نماذج مختلفة منها في كتب العلماء والصحف اليومية، وهي بكثرة بحيث لا يمكن إنكارها، بل إنّ أصعب الناس تصديقاً حينما يرى هذه المواقف يذعن بإمكان صدور الامور الخارقة للعادة من أفراد لا يمتّون للدين بصلة.

والآن يثار هذا السؤال: وهو أنّه كيف يمكننا التمييز بين خوارق العادات هذه وبين معجزات الأنبياء؟ ولو كان هناك تفاوتاً بينهما فما هو؟ ألا يحتمل أن تكون معجزة النبي من قبيل خوارق العادات لدى المرتاضين أيضاً؟

الجواب: ينبغي أوّلًا تقديم تعريف مختصر عن «السحر» فهناك أبحاث موسّعة عن ماهية السحر وتاريخ ظهوره، إذ من الصعب تحديده بتأريخ معيّن، لكن يمكن القول: إنّ السحر يعني في الأصل كلّ أمر لا يعرف مصدره، ويطلقونه عادةً على الامور الخارقة للعادة التي تتمّ بطرق معيّنة، والهدف منه هو إغفال الناس وخداعهم.

كما ويتوسّلون أحياناً بالعوامل التلقينية أي إنّهم يعكسون أمام أنظار العوام مسائل لا حقيقة لها، بالتلقينات القويّة والمؤثّرة، ويستفيدون أحياناً من المهارة والخدعة، وهي ما يصطلح عليها ب «الشعوذة»، وهكذا يشغلون الناظر بأشياء معيّنة ثمّ يحرّكون الأشياء عن مواضعها بسرعة ومهارة بحيث لا يلتفت إليها الناظر بل يظنّها خرقاً للعادة.

كما ويستعينون أحياناً

بالخواصّ الفيزيائية والكيميائية المجهولة لبعض الأجسام، أو الامور المرتبطة بكيفية صدور النور من زوايا مختلفة، بحيث يرى الناظر أمامه اموراً خارقة للعادة لا يعلم بأسرارها.

وأخيراً تلك الامور الخارقة للعادة عن طريق الإرتباط بالأرواح والإستعانة بالشياطين، وهذه كلّها تندرج تحت المفهوم اللغوي الجامع لكلمة «السحر».

كما يمكن اعتبار أعمال المرتاضين التي يؤدّونها عن طريق التمارين الشاقّة، وتمركز القوى الروحية والبدنية ضرباً من «السحر» أيضاً، وإن كانت تعدّ أحياناً خرقاً للعادة في قبال السحر.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 241

على أيّة حال فأداء هذه الامور من قبل البعض لا يمكن إنكاره، لكن الشي ء المهمّ هو الوقوف على مميّزات كلّ من «المعجزات» و «السحر وخرق المرتاضين للعادات»، ليتبيّن الفرق بينهما بالكامل.

وهنا نواجه بعض الاختلافات البارزة:

1- المعجزة مستندة على القوّة الإلهيّة في حين أنّ سحر السحرة وخرق المرتاضين للعادات ينبعان من القوّة البشرية، ولذا فالمعجزات عظيمة جدّاً وغير محدودة، بعكس السحر وخرق العادات المحدودين.

وبعبارة اخرى، فالسحرة والمرتاضون على استعداد لأداء تلك الامور التي تمرّنوا عليها لا غير، دون التي تقترح عليهم، ولم يحدث إلى الآن أن عَبَّرَ السحرة أو المرتاضون عن استعدادهم لأداء ما يشير إليه الآخرون، وذلك لِتدُرّب كلّ واحد منهم على نوع معيّن.

صحيح أنّ الأنبياء عليهم السلام كانوا يبادرون إلى إظهار المعجزات حتّى قبل أن يطالبهم بها الناس، (كالقرآن بالنسبة لنبي الإسلام صلى الله عليه و آله، ومعجزة عصا موسى ويده البيضاء، وإحياء المسيح للموتى) لكنّهم مع ذلك لم يعجزوا عن إجابة إقتراحات الامم عليهم، كمسألة شقّ القمر، أو رفع الفتن والبلايا عن الفراعنة، أو نزول مائدة سماوية للحواريين، وأمثال ذلك (طبعاً على شرط كون ذلك بدافع الكشف عن الحقيقة لا التعنّت).

ولذا نجد في قصّة موسى عليه السلام أنّ الفراعنة

طلبوا منه مزيداً من الوقت لجمع السحرة وترتيب مقدّمات العمل، وذلك تحت عنوان: «فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفّاً». (طه/ 64) في حين أنّ موسى كان في غنىً عن مثل هذه المقدّمات، كما أنّه لم يطلب منهم اعطائه الفرصة للتفكير في كيفية مقاومة السحرة، حتّى بعد اطّلاعه على سحرهم، وذلك لاعتماده على القدرة الإلهيّة واعتماد السحرة على القدرة البشرية المحدودة.

ومن هنا فالخرق البشري للعادات قابل للمواجهة والمقابلة بالمثل، وبإمكان الآخرين الإتيان بمثله، ولنفس هذا السبب أيضاً لا يجرؤ من يأتي بهذا العمل على «التحدّي» أي الدعوة للمقابلة والإدّعاء بعجز الكلّ عن أداء ما يؤدّيه، في حين أنّ المعجزات كانت مرفقة

نفحات القرآن، ج 7، ص: 242

بالتحدّي دائماً، وذلك لعجز أي إنسان عن الإتيان بمثلها أبداً (إعتماداً على القوّة البشرية)، فقد أمر اللَّه تعالى نبيّ الإسلام صلى الله عليه و آله أن يجيبهم بهذه الآية: «قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَايَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ...». (الإسراء/ 88)

ومن هنا أيضاً فسرعان ما تقهر الخوارق البشرية أمام المعجزات، ولا يستطيع السحر الوقوف امام المعجزة أبداً لعجزه عنها، بالضبط كعجز أي إنسان عن الوقوف أمام الخالق.

المثال الواضح لهذه المسألة في القرآن الكريم قصّة موسى وفرعون، إذ إنّهم جمعوا كلّ السحرة من مختلف اصقاع مصر، وأخذوا قسطاً وافراً من الوقت لترتيب مقدّمات إبداء السحر، وقاموا برسم الخطط لذلك، لكنّهم ما لبثوا أن تقهقروا في لحظة واحدة أمام إعجاز موسى وأضحى سحرهم كسراب بقيعة.

2- نظراً لكون المعجزات من قبل اللَّه فهي غنية عن التدريب والتعليم الخاصّين، في حين أنّ السحر ورياضات المرتاضين مسبوقة دائماً بنوع من التدريب والتمارين المستمرّة، إلى درجة أنّ التلميذ لو لم يتقن تعليمات استاذه لاحتمل عجزه

عن أداء ذلك أمام الناس وافتضاحه في خاتمة المطاف.

وبعبارة اخرى يمكن للمعجزة أن تتحقّق في لحظة واحدة وبدون أيّة مقدّمات، في حين أنّ الخوارق الاخرى للعادات عبارة عن تلك الامور التدريجية التي تحصل الإحاطة بها والسيطرة عليها بمرور الأيّام، بل السنوات والتي لا يمكنها الظهور بشكل دفعي فجائي أبداً.

وقد تمّت الإشارة في قصّة موسى وفرعون إلى هذه المسألة أيضاً، حيث يتّهم فرعون السحرة بكونهم تلامذة موسى عليه السلام، وأنّه استاذهم الذي أطلعهم على أسرار السحر: «إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِى عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ». (طه/ 71)

ومن هنا يحدث أحياناً أن يستغرق السحرة عدّة أشهر وسنين في تعليم تلاميذهم وتدريبهم.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 243

3- أحوال صاحب المعجزة دليل على صدقه، الطريق الآخر لتمييز المعجزات عن خوارق العادات البشرية هو المقارنة بين حالات أصحابها، فأصحاب المعجزات مبعوثون من قبل اللَّه لهداية الناس، ولذا نراهم متّصفين بأوصاف تتناسب ودورهم هذا، في حين أنّ السحرة والكهنة والمرتاضين لا يهدفون إلى هداية الناس، ولا يتكفّلون بمتابعة مثل هذه الأهداف، بل ينحصر هدفهم عادةً في واحد من الامور الثلاثة التالية:

1- إستغفال البسطاء من الناس.

2- كسب الشهرة بين عامّة الناس.

3- المكاسب المادّية التي تجنى عن طريق إشغال الناس وإلهائهم.

وحينما ينزل هذان الفريقان (الأنبياء، والسحرة وأمثالهم) إلى الميدان لا يتمكّنون أبداً من كتمان امنياتهم وأهدافهم مدّة طويلة، بالضبط كما طلب السحرة وقبل نزولهم للميدان أجراً عظيماً من فرعون، وقد وافق على ذلك: «قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ* قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ». (الأعراف/ 113- 114)

في حين أنّ الأنبياء يكرّرون دائماً القول: «وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ». (الشعراء/ 109) (وقد ورد هذا التعبير في حقّ الكثير من الأنبياء في العديد من الآيات).

ووقوف السحرة في خدمة

فرعون يكفي بنفسه للتمييز بين «السحر» و «المعجزة».

ولا يخفى أنّ حقيقة الإنسان لابدّ وأن تنعكس من خلال تصرّفاته، وإن أجاد في كتمان أفكاره وأهدافه.

خلاصة القول هي أنّ الوقوف على بدايات حياة أمثال هؤلاء الأشخاص وكيفية استفادتهم من خرقهم للعادات التي يؤدّونها، مع الأخذ بنظر الإعتبار مكانة أمثالهم بين مختلف شرائح المجتمع، بالإضافة إلى نوعية تصرّفاتهم وأخلاقهم، يمكنها بمجموعها أن تكون دليلًا حسناً لتمييز «السحر» عن «المعجزة»، ومع غض النظر عن موارد الأخلاق الاخرى التي ذكرت، نجد أنّ من السهل تشخيص المعجزات عن السحر وبقيّة خوارق العادات من خلال هذا السبيل.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 244

وقد أشار القرآن إلى هذه الحقيقة بتعابير دقيقة، إذ يقول في موضع: «قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَايُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ». (يونس/ 81)

أجل فالسحرة أشخاص مفسدون ذوو أعمال باطلة، ومن الواضح أنّ أعمالًا كهذه لا يمكنها أبداً أن تكون لها حيثية إيجابية في المجتمع.

وفي موضع آخر حينما يخاطب اللَّه تعالى موسى يقول: «لَاتَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى» ثمّ يضيف: «وَأَلْقِ مَا فِى يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى». (طه/ 68- 69)

نعم، فعمل الساحر مكر وخديعة، ولابدّ لميوله النفسية أن تتلاءم وعمله هذا، إنّهم أشخاص متقلّبون مخادعون، كما يسهل تشخيصهم بسرعة من خلال صفاتهم وتصرّفاتهم، في حين أنّ إخلاص وصدق وصفاء الأنبياء عليهم السلام دليل مقرون بإعجازهم أضفى عليهم المزيد من الجلاء والوضوح «1».

5- منطق منكري الإعجاز

يتشبّث منكرو الإعجاز في بعض الأحيان بدلائل عقلية ظاهرية، وقد ذكرنا فيما سبق نماذج لها وأجبنا عليها، كما تمسّك البعض أيضاً بقسم من آيات القرآن ظنّاً منه بنفيها لمسألة معجزة الأنبياء، خصوصاً معجزة نبي الإسلام صلى الله عليه

و آله، أو إنكارها للمعجزات من غير القرآن، وأهمّ الآيات التي تمسّكوا بها أو التي يحتمل البحث فيها هي الآيات التالية:

1- نقرأ في سورة الإسراء: «وَقَالُوا لَنْ نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً* أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيراً* أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً (قطعاً) أَوْ تَأْتِىَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا* أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِى السَّمَاءِ وَلَنْ نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّى (من هذا

______________________________

(1) ورد نظير هذا المعنى في سورة يونس الآية 77.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 245

الكلام الفارغ) هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا». (الإسراء/ 90- 93)

وكما نلاحظ فنبي الإسلام صلى الله عليه و آله لم يستجب أبداً لواحدة من خوارق العادات والمعجزات التي طلبها هذا الفريق من مشركي قريش، بل اقتصر جوابه على القول: «سُبْحَانَ رَبِّى هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا».

2- كما ونقرأ في نفس هذه السورة: «وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُّرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ». (الإسراء/ 59)

إذ إنّ هذه الآية أيضاً تبين أنّ اللَّه لم يعط المعجزة لنبي الإسلام صلى الله عليه و آله وذلك لأجل تكذيب الأوّلين بالآيات الإلهيّة!

3- وجاء في سورة هود: «فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْ ءٍ وَكِيلٌ». (هود/ 12)

هذه الآية كالاولى أيضاً التي تقول في قبال طلب الكفّار: «إنّما أنت نذير».

4- وجاء في سورة الرعد أيضاً: «وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَّبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ». (الرعد/ 7)

ألا تصرّح هذه الآيات بعدم استجابة النبي الأكرم صلى

الله عليه و آله لطلباتهم بشأن الاتيان بالمعجزة؟

5- ونقرأ في سورة الأنعام أيضاً: «وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَايَعْلَمُونَ». (الأنعام/ 37)

يقول المفسّر الكبير المرحوم أمين الإسلام الطبرسي في ذيل هذه الآية: وقد اعترض جمعٌ من الملاحدة على المسلمين بهذه الآية فقالوا: إنّها تدلّ على أنّ اللَّه تعالى لم يُنَزّلْ على محمّدٍ آية، إذ لو نزّلها لذكرها عند سؤال المشركين إيّاها (ثمّ يتعرّض بعد ذلك للردّ على هذه الشبهة وهو ما سنشير إليه فيما بعد).

يتّضح من كلام هذا المحقّق أنّ مثل هذه الوساوس حول المعجزات كانت منذ قديم الأيّام، ولم تقتصر على عصرنا هذا.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 246

كما أنّ هنالك عدّة روايات ذكرت حول هذا الموضوع، لكن ضعف استدلالها دفعنا لغضّ الطرف عنها.

الجواب:

الإلتفات إلى بعض الملاحظات يكفي لتوضيح تفسير هذه الآيات، كما ويضع نهاية لهذه الحجج أيضاً.

1- من الواضح أنّ أيّاً من هذه الآيات لا ينفي المعجزات بشكل مطلق، وعلى فرض دلالتها على ما توهّمه المستدلّون فهي لا تتعدّى أكثر من نفي المعجزة عن نبي الإسلام فحسب، فضلًا عن بداهة عدم نفيها لمعجزة القرآن، وذلك لأنّ الكثير من آيات القرآن قد اعتبرت هذا الكتاب السماوي معجزة خالدة، كما ودعت كلّ المخالفين للمنازلة، لكنّهم عجزوا عن مقابلتها، فأيّة معجزة أكبر وأرفع من دعوة الإنس والجن للمقابلة وعجزهم عن ذلك «1».

وبناءً على هذا فعلى فرض صحّة كلّ هذه الإستدلالات ستنحصر معجزة نبي الإسلام صلى الله عليه و آله بالقرآن المجيد، وهذه المسألة (وعلى فرض صحّتها) لا تخدش في مسألة نبوّة نبي الإسلام صلى الله عليه و آله، كما أنّها لن تخدم مخالفي النبوّة بأي وجه.

آيات القرآن

مليئة بمعجزات الأنبياء السابقين وخرقهم للعادات، وبهذا فمعجزاتهم هي ممّا لا يمكن إنكاره، امّا فيما يتعلّق بنبي الإسلام صلى الله عليه و آله فانّها تصرّح بإعجاز القرآن، وهكذا لن يبقى سوى نفي باقي المعجزات عن نبي الإسلام صلى الله عليه و آله، وهذا على فرض صحته لا يؤثّر في المسائل الإعتقادية باعتباره مسألة فرعية وتأريخية لا غير.

2- لسان هذه الآيات يكشف عن أنّ الهدف ليس نفي المعجزات الحقيقية بل الإقتراحية.

بيان ذلك: إنّ الواجب على كلّ الأنبياء هو إثبات صدق دعواهم عن طريق المعجزات أو

______________________________

(1) راجع الآيات يونس، 38 وهود، 13 والإسراء، 88.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 247

طرق اخرى، وبناءً على هذا فكلّما جاءوا بالمعجزة بما فيه الكفاية لم يبق هناك دافع يدفعهم لإظهار المزيد من المعجزات، إذ إنّ مهمّة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله لم تكن خرق العادة فقط، ليجلس في زاوية ويقترح عليه كلّ شخص معجزة طبقاً لهواه، ثمّ ليقترح اخرى بعد مشاهدتها لو طاب له ذلك ويعبث بقوانين الخلقة، وبعد كلّ هذا أيضاً فإمّا أن يذعن لدعوة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أو يرفضها لو لم يرغب فيها.

وبعبارة اخرى، فالنبي مكلّف بإبداء المعجزات لطالبي الحقّ، بما يكفي لإقامة الحجّة وليس مسؤولًا أبداً للإستجابة للمعجزات الإقتراحية التي يثيرها المتذرّعون طبقاً لأهوائهم، لا لتحقيق الحقّ، بل للحصول على منفذ يخلصهم من الحقيقة.

الإقتراحات التي ذكرت في أوّل آية دليل واضح على هذا الموضوع، فهم من جهة قد طلبوا سبع معجزات! مع أنّ واحدة تكفي للباحث عن الحقيقة.

وطلبوا من جهة اخرى معجزات يكمن فيها فناؤهم، إذ قالوا مثلًا: «أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً»، ومن الواضح أنّ طالب الحقيقة لا يطلب تلك المعجزة

التي فيها فناؤه أبداً، إذ الهدف من المعجزة هو الإيمان لا الموت والفناء.

ومن جهة ثالثة فقد طلبوا المحال، كاقتراحهم مثلًا نزول اللَّه والملائكة عليهم: «أَوْ تَأْتِىَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا»، وعدم وجود اللَّه في مكان معيّن ليتركه ويأتي إلى هؤلاء المتعلّلين هو ممّا لا يخفى.

ومن جهة رابعة نراهم يصرّحون بعد طلبهم للمعجزة المقترحة بأنّهم لا يؤمنون به، حتّى تؤدّي العمل الفلاني الآخر أيضاً: «أَوْ تَرْقَى فِى السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً (من اللَّه) نَقْرَؤُهُ».

ومع الأخذ بنظر الإعتبار لما تقدّم نفهم بوضوح أنّ هدفهم لم يكن سوى المعجزات الإقتراحية، وليس هناك أي نبي يستجيب لمثل هذه الطلبات.

اللطيف هو ما نقرأُهُ في الكثير من الحوادث التأريخية المرتبطة بعصر ظهور الأنبياء، خصوصاً نبي الإسلام صلى الله عليه و آله أنّ الكفّاروبعد مشاهدتهم للمعجزات نراهم يتوسّلون بذريعة

نفحات القرآن، ج 7، ص: 248

كونها سحراً، تهرّباً من المسؤولية وتحاشياً للرضوخ لها، وهو ما قام به بالضبط فرعون وأتباعه أيضاً في قبال موسى عليه السلام، حيث إنّهم وحتّى بعد مشاهدتهم لغلبة موسى عليه السلام بمفرده على كلّ اولئك السحرة الماهرين المرتاضين وإيمان السحرة به، والذي يدلّ بما لا يدع مجالًا للشكّ على إعجاز موسى عليه السلام، واعتماده على القدرة الإلهيّة، لم يتنازلوا عن كلامهم أيضاً، بل قالوا:

«إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمْ الَّذِى عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ». (طه/ 70)

وكذلك يقول: «وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَىْ ءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ (ليجبرهم على الإيمان)». (الأنعام/ 111)

وكذلك يقول: «وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَايُؤْمِنُوا بِهَا». (الأنعام/ 25)

كما يصرّح وفي معرض الردّ على طلبهم لمعجزات مختلفة، بالقول: «أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ». (العنكبوت/ 51)

مفهوم هذا الكلام هو أنّ المعجزة

يجب أن تهدف إلى إثبات حقّانية دعوة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وأنّ هذا الكتاب السماوي «القرآن» هو أفضل دليل ومعجزة، فما الداعي بعد كلّ هذا للإصرار على المزيد من المعجزات الواحدة تلو الاخرى؟

3- لا شكّ أنّ المعجزات هي من عند اللَّه في الواقع، وأنّ كلّ ما يملكه الأنبياء منها إنّما هو بإذن اللَّه وأمره، لكن ربّما يخطر على ذهن البعض أحياناً تصوّر بأنّ الأنبياء عليهم السلام، قد أصبحوا فيما يتعلّق بالمعجزات مصداقاً ل «فعّال لما يشاء»، وأنّهم يفعلون كلّ ما يريدونه، وهذا ما ساعد على اتّساع رقعة الغلو في الأنبياء عليهم السلام ودفع بالكثير إلى اعتبارهم كالإله، ولهذا السبب لم يستجب الرسل والأنبياء عليهم السلام الإلهيّون لما يقترح عليهم من المعجزات، بل قالوا: إنّ هذا ليس من شأننا، إنّما هو منوط بإذن اللَّه وأمره ويجب أن نعرف ما هي إرادته.

الدليل على هذا الكلام هو ما نقرأه في قوله تعالى «وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِىَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ». (الرعد/ 38)

كما ورد نفس هذا المعنى بوضوح في قوله تعالى: «وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ

نفحات القرآن، ج 7، ص: 249

جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَايُؤْمِنُونَ».

(الانعام/ 109)

هذه الآية تكشف عن إلحاحهم في طلب المعجزات من جهة، وارتباط المعجزات بإرادة اللَّه المطلقه من جهة اخرى.

آخر ما يتعلّق بهذا الموضوع هو أنّ القرآن قد ذكر الكثير من معجزات الأنبياء السابقين وخرقهم للعادات، ومن البديهي أنّ نبي الإسلام صلى الله عليه و آله لم يتمكّن أبداً من ذكر هذه المعجزات في كتابه السماوي، ويكشف الستار عن بعضها عن طريق الوحي الإلهي، لو لم يعكس هو بنفسه جزءاً منها

في وقت يعتبر نفسه خاتم الأنبياء وأفضلهم، وكون دينه دينَ الخلود وأفضل الأديان.

كيف يقتنع الناس بامتلاك باقي الأنبياء عليهم السلام لكلّ تلك المعجزات دون نبي الإسلام صلى الله عليه و آله، مع كلّ ما يتمتّع به من منزلة وعظمة؟

هذا التحليل يبيّن أنّ لنبي الإسلام صلى الله عليه و آله بالإضافة إلى القرآن معجزات اخرى كثيرة، لم تكن أقلّ أهميّة من معجزات سالف الأنبياء عليهم السلام، وهناك أيضاً آيات قرآنية تشهد على هذا الموضوع ستأتي في محلّها إن شاء اللَّه، وبناءً على هذا فالإصرار على نفي باقي المعجزات من قبل بعض المغفّلين لا يبدو صحيحاً بأي وجه.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 251

نفحات القرآن ج 7 299

2- التحقيق في مضمون دعوة الأنبياء عليهم السلام

إحدى الطرق الاخرى لمعرفة الأنبياء الإلهيين عليهم السلام هي التحقيق فيما تتضمّنه دعواتهم، أي مجموعة المعارف والأحكام والقوانين، والبرامج الإنسانية والأخلاقية البنّاءة التي يدعون إليها.

وسنتكلّم عن هذه المسألة بالتفصيل في بحث النبوّة الخاصّة، أي إثبات نبوّة نبي الإسلام صلى الله عليه و آله كمثال على ذلك، إذ حينما نتأمّل في تعاليمه بدقّه نجدها وبالرغم من ظهوره في محيط يفتقر إلى كلّ أنواع الحضارة الإنسانية بين قوم نصف متوحشين غارقين في الخرافات والعادات الجاهلية، تمزّقهم الخلافات الكثيرة والعقائد السخيفة والكثير من الأحقاد والعداوات، نعم، وبالرغم من كلّ ذلك نجد أنّ تعاليم الدين الاسلامي عبارة عن مجموعة من العقائد التوحيدية الخالصة الحاوية على أفضل المعلومات عن اللَّه وصفاته الجلالية والجمالية، والعديد من تواريخ الأنبياء عليهم السلام المذكورة بما يتناسب ورفعة منزلتهم بالإضافة إلى الأحكام والقوانين المتضمّنة للعدالة الاجتماعية، والبرامج العارية عن أوهام الخرافات والأخلاق والقيم التي تعدّ بحقّ متمّمة لمكارم الأخلاق، ونظير هذه المسائل هو ما سنتطرق لشرحه مستدلّين بالآيات والروايات.

فهل بالإمكان

ظهور مثل هذه التعاليم في مثل تلك البيئة ومن إنسان امّي؟ أليس هذا بنفسه خير دليل على صدق من جاء بها؟

ويكفي صدق نظير هذا المعنى لوحده في حقّ كلّ واحد من الأنبياء والأئمّة عليهم السلام للتدليل على صدقهم أيضاً، وبعبارة اخرى: هل هناك معجزة أكبر من ظهور مثل تلك التعاليم من البشر؟ إنّ استحالة هذه المسألة بدون إمداد إلهي لا تخفى على أحد، فهي المعجزة بعينها.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 252

بل التحقيق في مضمون دعوة الأنبياء ونكاتها الدقيقة، وروعة إرشاداتهم يعدّ أحياناً عند أهل النظر والمعرفة أرفع درجة من المعجزات من قبيل شقّ القمر وإحياء الموتى وإشفاء المرضى، وإن كانت المعجزات المادية والحسيّة أهمّ عند عامّة الناس، وسنكتفي بهذه الخلاصة حول هذا البحث، ونترقّب شرحه في مكان آخر.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 253

3- جمع القرائن

اشارة

المراد ب «جمع القرائن» الذي نطرحه هنا باعتباره أحد أدلّة النبوّة هو كون دعوة كلّ نبي مقرونة بسلسلة من الاوضاع الزمانية والمكانية، والحيثيات الاخرى المحيطة بحياته الخاصّة والعامّة، فتشكّل بمجموعها عاملًا قويّاً يدلّل على صدق مدّعي النبوّة (مع قطع النظر عن مضمون دينه والذي تمّت الإشارة إليه سابقاً).

وهذا هو ما يستفاد منه اليوم في المحافل القضائية، للكشف عن الحقيقة عند عدم وجود الشهود وعدم إقرار أو اعتراف المتّهم، بل يتيقّن القاضي من سلسلة القرائن التي تحفّ بالواقعة ببراءة المتّهم أو إدانته، وقد تفوق هذه القرائن بمجموعها الإقرار وشهادة الشهود من حيث الأهميّة في بعض الأحيان، نظراً لإمكان الإقرار بدافع المصلحة الشخصية كالإعتراف بالجريمة لتبرئة ساحة المجرم الحقيقي في قبال ثورة كبيرة يحصل عليها المتهم غير الواقعى سرّاً، أو أن يكون في الظاهر من ذوي الصلاح، أما سرائرهم فملوّثة، في حين أنّه لو تمّ جمع

القرائن بشكل صحيح وكانت بالقدر الذي يعتدّ به القاضي لكان لها دور أكبر.

فوقوع حادثة قتل مثلًا في مكان ما مع إنكار المتّهم أو المتّهمين وعدم وجود البينة، يدفع بالقاضي الفطن إلى الخوض في جمع القرائن وتسليط الضوء على امور من قبيل:

نوع العلاقة التي تربط المتّهمين بالمقتول وهل هي قائمة على الصداقة أم العداوة؟

مكان وقوع الحادثة ومميّزاته ومدى انسجامه مع المتّهمين.

وكذلك زمان وقوع الحادثة والمكان الذي كان فيه المتّهم حينها (وما هو الدليل على ذلك).

نفحات القرآن، ج 7، ص: 254

كيفية القتل ونوعية السلاح الذي استخدم في القتل، مع مقارنته بالسلاح الذي شوهد أحياناً عند المتّهم.

روحية المتّهم وسوابقه:

ومن القرائن ردود فعل المتّهم حين مشاهدة ثياب المقتول الملوّثة بالدماء أو باقي آثار الجريمة، وإفادات الجيران وتردّد المتّهمين هناك وامور اخرى من هذا القبيل.

والتحقيق في بعض الامور الاخرى قد يدفع بالقاضي أحياناً للبتّ بانتفاء العلاقة بين المتّهم والجريمة، منها السيرة الحسنة وعدم تناقض الأجوبة وامور اخرى وبذلك يكشف عن براءة المتّهم أو كونه المجرم الحقيقي، وبإمكان القاضي إصدار حكمه النهائي على أساس يقينه وعلمه الحاصل من هذه المقدّمات التي هي أقرب إلى الحسّ.

هذا النوع من الاستدلال لا يختصّ بالمسائل القضائية، بل كثيراً ما يستند إليه العلماء لحلّ المشاكل التأريخية والاجتماعية العالقة، وحتّى فرضيات العلوم الطبيعية، بل أن دور هذا الاسلوب لا يمكن إنكاره خصوصاً فيما يتعلّق بالمسائل السياسية التي تبقى جذورها- ولأسباب لا تستحقّ التعليق- غامضة على الأعمّ الأغلب.

كما ويمكن غالباً التعرّف عن هذا الطريق على الأنبياء الصادقين، وتمييزهم عن غيرهم فيما يتعلّق بالمدّعين للنبوّة، إذ ينبغي هنا مثلًا الإلتفات إلى الامور التالية:

1- ما هو وضع البيئة والاصول العقائدية والأخلاقية الحاكمة عليها، وهويّة القوم الذين ينتمي إليهم؟

2- زمان الدعوة ووضع العالم

آنذاك، وماهيّة الظروف المهيمنة على محيط حياة مدّعي النبوّة في ذلك الزمان.

3- الخصوصيات الأخلاقية والصفات والروحيات وسيرته من حيث التقوى والورع والأمانة.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 255

4- هل الأفراد الذين اتّبعوه متّصفون بالصدق والذكاء أم أنّهم سفهاء لا تقوى لهم؟

5- مدى إيمانه بادّعائه وحجم تضحيته وإيثاره.

6- الطرق التي يسلكها للتعجيل بتحقيق أهدافه وهل هي مشروعة، أم ظالمة وغير منطقية؟

7- ما هو ردّ فعله فيما يتعلّق بالقبائح أو خرافات المجتمع، وهل أنّه يخطّط لإصلاح المجتمع أم يساوم مع مفاسد المجتمع طمعاً في كرسي الحكم؟

8- مدى حبّه للدنيا والمظاهر المادية والمال والمقام؟

9- ما هو موقفه من الأعداء لحظة الإنتصار، وهل يتصرّف مع معارضيه بعدالة أم لا؟

10- هل تدور شعاراته مدار المصلحة الشخصية، أم أنّه يسير دائماً على اصول ثابتة بقدم راسخة؟ وقرائن اخرى.

جميع هذه القرائن التي تحفّ بحياة المدّعي العامّة والخاصّة (مع قطع النظر عن مضمون دعوته، تكون أحياناً بمثابة المشعل الوضّاء الذي يكشف عن صدقه أو كذبه بكلّ وضوح دونما حاجة إلى معجزة أو دليل)، بل وأحياناً يُعتبر توفّر بعض ما تقدّم ذكره دليلًا قاطعاً على إثبات هذا المقصود، وسنتناول هذا البحث بالتفصيل في مبحث النبوّة الخاصّة لنبي الإسلام صلى الله عليه و آله إن شاء اللَّه.

والملفت للنظر هو ما نقرأُهُ في العديد من الروايات في التواريخ الإسلامية عن اعتناق أشخاص لدين اللَّه، لمجرّد الوقوف على عدد من هذه القرائن، بل إنّ عدداً من الأعداء اللَّدودين غيّروا مواقفهم وعادوا أصدقاء حميمين نتيجة ذلك، ولو تمّ جمع هذه الروايات لظهر منها بحث موسّع ولطيف، يعكس نور الإيمان الذي سطع من القلوب المؤمنة لمجرّد اطّلاعها على هذه القرائن دون البحث عن أيّة معجزة.

إرشادات القرآن حول هذين الدليلين:

إنّ لآيات القرآن الكريم تعابير لطيفة

حول الدليلين الأخيرين (جمع القرائن، والتحقيق

نفحات القرآن، ج 7، ص: 256

في مضمون الدعوة) أو على الأقل هناك إشارات بليغة إليهما من جملتها:

1- نقرأ في قوله تعالى «الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِىَّ الْأُمِّىَّ الَّذِى يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِى التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِى كَانَتْ عَلَيْهِمْ ...».

(الأعراف/ 157)

تشير هذه الآية إلى أحد الأدلّة اللاحقة أي شهادة الأنبياء السابقين من جهة، وإلى عظمة مضمون دعوة ذلك النبي من جهة اخرى، وتذكر من جهة ثالثة قسماً من صفاته كشاهد على حقّانيته.

ولا شكّ أنّ الدعاة غير الإلهيين إنّما يهدفون إلى كبت طاقات الامة واستثمارها واستعمارها بدل السعي لتحريرها.

إنّهم لا يؤيّدون أبداً الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وهل يعقل صدور كلّ هذه المعارف الرفيعة والأحكام والقوانين والأوامر المدروسة من شخص جاهل ياترى؟

2- تمّت الإشارة إلى خمسة أوصاف من صفات النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، والتي يمكنها أن تشهد على صدق دعوته، يقول تعالى: «لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ». (التوبة/ 128)

3- تمّت الإشارة في سورة (الكهف/ 6) إلى حرص النبي الأكرم صلى الله عليه و آله الشديد على هداية المؤمنين، والذي يعدّ بنفسه دليلًا ناطقاً على إيمانه بهذا الدين الإلهي: «فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً» «1». (الكهف/ 6)

4- تمّ التأكيد على أنّ النبي الأكرم كان امّياً، لما في ذلك من دور في إزالة حالة الشكّ والتردّد التي تثار حول نبوّته، يقول تعالى: «وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ». (العنكبوت/ 48)

______________________________

(1) وورد نظير هذا المعنى في سورة

(الشعراء/ 3).

نفحات القرآن، ج 7، ص: 257

5- وفي الآية التي بعدها تمّت الإشارة إلى المبشّرين بهذا الدين والمؤمنين به، يقول تعالى: «بَلْ هُوَ (القرآن) آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِى صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ». (العنكبوت/ 49)

لا شكّ أنّ تأكيد علماء الامّة ومفكّريها على شي ء ما، يمكنه أن يكون دليلًا وقرينة على حقّانيته.

6- كثيراً ما نقرأ في آيات القرآن عند وصفها للأنبياء الإلهيين ونبي الإسلام صلى الله عليه و آله أنّهم لم يطلبوا أجراً أبداً، ولم يفكّروا في العطايا الماديّة وأنّهم بقوا على عهدهم هذا طول عمرهم، في حين أنّ المدّعي كذباً لهذا الأمر سيكون ادّعاؤه بلا شكّ لُامور ماديّة.

من جملتها ما نقرأه في قوله تعالى «اتَّبِعُوا مَنْ لَايَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُّهْتَدُونَ» (وآثار التقوى والنزاهة ظاهرة عليهم). (يس/ 21)

7- كما نجد في أكثر آيات القرآن الطبقات المسحوقة والمستضعفة، كانت في الصفّ الأوّل من الذين آمنوا بالأنبياء الإلهيين، وهذا ما كان يطعن به الأثرياء المتكبّرون غالباً.

ومن جملتها ما نقرأه في القرآن الكريم حينما استشكل فريق من الأغنياء على نبي الإسلام صلى الله عليه و آله حول هذا الموضوع إذ أمره القرآن بعدم التخلّي عن هذه الثلّة المؤمنة المستضعفة أبداً:

«وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِىِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً* وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَّبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ...». (الكهف/ 28- 29)

ولا شكّ أنّ المصلحة المادية تدفع بالمدّعين كذباً، وعبدة الدنيا للإلتفاف حول أهل الثراء على طول الخطّ.

بل نقرأ في قسم من الآيات الشريفة أنّ هذه الطبقة المستكبرة اعتبرت المؤمنين المستضعفين طبقة المجتمع السفلى، التي لم تثبت وجودها وعبّرت عنها

ب «الأراذل»، والتدقيق في آيات القرآن يكشف عن أنّ الكثير منها تشير إلى هذا الدليل والذي قبله.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 259

4- شهادة الأنبياء السابقين

الطريق الآخر الذي يمكن من خلاله تمييز الأنبياء عليهم السلام عن المدّعين كذباً هو إخبار الأنبياء السابقين القطعية الصريحة بالنسبة للأنبياء اللاحقين، باستثناء أوّل نبي إذ لا يمكن التعرّف عليه عن هذا الطريق بل لابدّ من الرجوع إلى أحد الطرق الثلاثة التي تقدّم شرحها وهي (الإعجاز، والتحقيق في مضمون الدعوة، وجمع القرائن).

وهذا الطريق ليس بتلك السهولة التي توهّمها بعض النفعيين بالرغم من كونه أسهل من سابقيه، ولغرض الحصول على نتيجة قطعية غير قابلة للإنكار هنا ينبغي مراعاة الشروط الأربعة التالية:

1- إثبات «نبوّة» النبي السابق الذي يخبر عمّن يأتي بعده ويذكر صفاته، بالدليل القطعي الذي لا يقبل الإنكار، ولا يعتدّ بإخباره وشهادته هذه إلّابعد إحراز نبوّته بشكل تامّ مسلّم به.

2- صدور هذا الخبر عن النبي السابق يجب أن يكون قطعيّاً، وعلى هذا فلا يعتدّ بالأخبار الضعيفة والمشكوكة من أي مصدر كانت، بل لا يعتدّ حتّى بأخبار الكتب المعتبرة لو لم تبلغ مرتبة القطع واليقين.

3- دلالة هذا الخبر يجب أن تكون صريحة قطعية غير قابلة للاحتمال، إذ من الخطأ التمسّك بأحد شقّي الإحتمال والتكلّف بتطبيقه على نبوّة المدّعي الجديد بتفاسير وتوجيهات، بل وحتّى «تحريفات» في بعض الأحيان، لأنّ هدف النبي السابق من إخباره هذا إنّما هو الكشف عن حقيقة خطيرة تقرّر مصير المستقبل، وتوقف أصحابه على هويّة النبي الجديد، وليس اللعب بالألغاز لإسدال الستار على «السرّ المكتوم»، إذ الصراحة في

نفحات القرآن، ج 7، ص: 260

موقف كهذا حاكمة على الكناية بكلّ تأكيد، وذلك لسدّ الباب أمام المتذرّعين ومثيري الفتن.

وقد تمسّك بعض مبتدعي الدين المحترفين بتأويلات وتخريجات عجيبة

بالنسبة للكتب السماوية، وبلغ بهم الحدّ إلى التوسّل بحسابات ال «ابجد»! وحسابات العرّافين وأمثالها.

كيف يفكّرون ياترى؟ فالنبوّة التي ينبغي أن تكون مشعلًا لهداية البشرية ليست شيئاً محظوراً مبهماً كأسرار الكيميائيين القدماء لتتمّ عن طريق حسابات الأبجد «الصغير» و «الكبير» خوفاً من وقوعها في غير محلّها.

4- يجب أن تنطبق العلامات التي جاءت في أقوال الأنبياء السابقين بالكامل على حالة المدّعي الجديد، لا أن نتصرّف فيها بمل ء الفراغات وحذف الإضافات التي نتصوّرها، لأنّ ذلك يعني بالتأكيد خداعنا لأنفسنا، إذ إنّ نبيّاً كهذا إنّما هو مرسل من قبل «أفكارنا الشيطانية» لا من قبل اللَّه تعالى!

لو تمّ جمع هذه الجهات الأربع الواردة في أخبار النبي السابق لأمكن التعرّف من خلالها على مقام نبوّة المدّعي الجديد ولو غاب أحدهما لاعتلَّت النتيجة.

وعلى أيّة حال فقد تمّت الإشارة إلى هذه المسألة في موردين قرآنيين على أقلّ تقدير، وقد اكتفينا في هذا البحث الكلّي (النبوّة العامّة) بشرح مختصر على أمل تفصيل ذلك في «النبوّة الخاصّة»:

1- حول بشارة المسيح عليه السلام بالنسبة لظهور نبي الإسلام صلى الله عليه و آله نقرأ في الآية: «وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِى إِسْرَائِيلَ إِنِّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَىَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِى مِنْ بَعْدِى اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ».

(الصف/ 6)

لا يخفى وجود هذه البشارة (أو البشارات) حتّى في أناجيل اليوم المحرّفة، وهو ما سنوكل البحث فيه وكذا فيما يتعلّق بكون الإسم «أحمد» من أسمائه الشريفة صلى الله عليه و آله إلى

نفحات القرآن، ج 7، ص: 261

جانب الاسم «محمّد» (مدعوماً بالشواهد والقرائن) إلى المستقبل.

2- بشارة التوراة (أو التوراة والإنجيل) بظهور نبي الإسلام صلى الله عليه و آله والتي تعرّضت

لها عدّة آيات قرآنية، هي من الوضوح عند ذكرها لصفاته وكأنّه صلى الله عليه و آله يعيش بين ظهرانيهم يعرفونه كأحد أبنائهم.

بل جاء في التواريخ أنّ هجرة اليهود من الشام وفلسطين إلى المدينة والإستقرار فيها إنّما كان لأجل تلك البشارات التي وجدوها في كتبهم حول ظهور النبي (هذا الموضوع ورد بالتفصيل في التفسير الأمثل ذيل الآية 89 من سورة البقرة) «1»، وعلى الرغم من كون الكثير منهم من المبلّغين لنبي الإسلام صلى الله عليه و آله لكنّهم سرعان ما انقلبوا على أعقابهم وامتنعوا عن الإيمان به بعد ظهوره، نظراً لتعرّض مصالحهم الشخصية للخطر، وقد لامهم القرآن على ذلك.

من الآيات التي تشير إلى هذا المعنى ما جاءت في قوله تعالى: «الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ»!

(البقرة/ 146)

وورد نفس هذا المعنى في قوله تعالى «الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ»! (الأنعام/ 20)

وجاء هذا المعنى بصراحة أجلى حيث قال تعالى «الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِىَّ الْأُمِّىَّ الَّذِى يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِى التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ». (الأعراف/ 157)

كما أنّ أحد الاحتمالات الواردة في تفسير الآيات القائلة بتصديق القرآن، والكتب «السابقة» هو أنّ المراد من «التصديق» هو انطباق القرآن وصفات النبي الأكرم صلى الله عليه و آله على تلك العلامات التي جاءت في تلك الكتب «2».

كما وأشارت الروايات الإسلامية إلى بشارة الأنبياء السابقين باللاحقين، إذ نقرأ في أوّل

______________________________

(1) التفسير الأمثل، ذيل الآية مورد البحث.

(2) لمزيد من الإطّلاع راجع التفسير الأمثل ذيل الآية 49 سورة البقرة.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 262

خطبة من خطب نهج البلاغة: «مِن سابقٍ سُمِّىَ له من بعده، أو غابر عَرَّفَهُ مَن قَبْلَهُ».

هذا التعبير الذي كشف النقاب عن طرفي القضيّة

يعدّ من أبلغ التعابير حول هذا الموضوع، كما تمّ التصريح بهذا الأمر في حديث مفصّل عن الإمام الباقر عليه السلام إذ يقول: (وبَشَّرَ آدَمُ بِنُوح».

وقال في مكان آخر: «وبَشَّرَ نُوحٌ ساماً بِهُودٍ».

وجاء عنه عليه السلام في موضع آخر: «فَلَمّا نَزَلَتِ التَورَاةُ عَلى مُوسى بَشَّرَ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله ... فَلَم تَزَلْ الأنبِياءُ تُبَشِّرُ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله حَتّى بَعَثَ اللَّهُ تَبارَك وتَعالى المَسِيحَ عيسَى بنَ مَرْيَمَ فَبَشَّرَ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله» «1».

______________________________

(1) شرح نهج البلاغة للخوئي، ج 2، ص 138- 141.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 263

مسألة الوحي

اشارة

نفحات القرآن، ج 7، ص: 265

«كيفية الإرتباط بعالم الغيب»

تمهيد:

لا شكّ أنّ للأنبياء الإلهيين ارتباطاً بعالم الغيب وما وراء الطبيعة، وبعبارة اخرى، أنّ لهم علاقة خاصّة باللَّه تعالى، وقد استلهموا عن هذا الطريق التعاليم الخاصّة والأحكام والقوانين الإلهيّة وبلّغوها الامم.

لكن كيف كانت هذه الرابطة ياترى؟ فهذه مسألة في غاية التعقيد، ومن السهل الإطّلاع عليها إجمالًا في حين تعدّ الإحاطة بها تفصيلًا في غاية الصعوبة، لاستحالة إدراكها بالدقّة من قبل من يفتقر لهذه العلاقة، بالضبط كإحساس البصير منذ ولادته بامتلاك الآخرين لحسّ إضافي، يطّلعون من خلاله على كلّ الموجودات المحيطة بهم ولامتدادات واسعة، كما ويدركون من خلالها مختلف الألوان والأنوار، أمّا ما هو هذا الحسّ، وما هي حقيقة «اللون» و «النور»؟ فهذا ما لا يمكن إدراكه أبداً.

إذن فالذي سيعرض في مبحث الوحي وحقيقته لا يتعدّى سوى الحصول على العلم الإجمالي بخواص الوحي، مع الإجابة عن الأسئلة التي ستثار هنا، ومن هنا لا ينبغي مطالبة هذه المباحث بالكشف عن «كنه» الوحي، لاستحالة ذلك لغير الأنبياء عليهم السلام بالضبط كالمثال المتقدّم أعلاه.

في المجلّد الأوّل من هذا التفسير «نفحات القرآن» وعند شرح خامس مصدر من مصادر المعرفة تحدّثنا بالتفصيل عن مسألة الوحي، وكشفنا النقاب عمّا يرتبط به من معارف قدر المستطاع، ولذا فقد اكتفينا بذكر موجز لمبحث الوحي، مع إضافات جديدة على ما قيل هناك، وسنوكل توضيح باقي المسائل إلى ذلك البحث، وبهذه الخلاصة نعود إلى

نفحات القرآن، ج 7، ص: 266

القرآن ونتأمل خاشعين في الآيات التالية الواردة في هذا المجال:

1- «وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِىَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ». (الشورى/ 51)

2- «نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ* عَلَى قَلْبِكَ». (الشعراء/ 193- 194)

3- «وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا

إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى». (هود/ 69)

4- «قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّى أَرَى فِى الْمَنَامِ أَنِّى أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِى إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ». (الصافات/ 102)

5- «فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِىَ مِنْ شَاطِى ءِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِى الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّى أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ». (القصص/ 30)

جمع الآيات وتفسيرها

طرق الإرتباط بعالم الغيب:

تمّ في هذه الآيات بيان مختلف الطرق التي اتّصل الأنبياء الإلهيون عن طريقها بعالم الغيب وما وراء الطبيعة بصورة إجمالية، والتي تبلغ أربعة أو خمسة طرق:

في الآية الاولى اشير إلى ثلاثة طرق، يقول المرحوم الطبرسي في تفسير هذه الآية:

«ليس لأحد من البشر أن يكلّمه اللَّه إلّاأن يوحي إليه وحياً كداود الذي أوحى في صدره الزبور، أو يكلّمه من وراء حجاب مثل موسى أو يرسل رسولًا كجبرائيل إلى محمّد صلى الله عليه و آله ليبلّغه أمرَه».

فهذا الإرتباط إنّما يكون أحياناً عن طريق الإلقاء في القلب، واخرى عن طريق الأمواج الصوتية التي يسمعها النبي من الخارج، وثالثة عن طريق نزول الملك الموكّل بالوحي.

أصل «الوحي» الإشارة السريعة، وذلك يكون بالكلام على سبيل الرمز أو بالصوت المجرّد عن التركيب اللغوي، وتارةً بالإشارة أو الكتابة.

هذا ما ذكره «الراغب» في «المفردات»، لكن «ابن فارس» في «المقاييس» يرى

نفحات القرآن، ج 7، ص: 267

معناه الأصلي إلقاء علم ما بشكل خفي أو علني على شخص آخر.

ذكر «ابن منظور» أهمّ معاني هذه اللفظة واعتبرها الرسالة والإلهام والكلام من غير معاينة، والإلقاء في الروع، كما ذكر معظم أرباب اللغة هذه المعاني بزيادة أو نقيصة، ولكنّ الخليل بن أحمد ذكر معناه في كتاب (العين) بأنّه الكتابة والتدوين!

أمّا في اصطلاح أهل الشرع فيطلق على إبلاغ الرسائل الإلهيّة من قبل اللَّه إلى الأنبياء عليهم السلام، وإن كانت

دائرة استعماله في القرآن أوسع من هذا المعنى كثيراً، وشاملة لكلّ أنواع الإلقاء للعلم المرموز، ولذا استعمل في مورد الغرائز أو العلوم التي استودعت عند بعض الحيوانات كالنحل مثل: «وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ». (النحل/ 68)

ويقول فيما يتعلّق بما ألقاه اللَّه على قلب امّ موسى بالنسبة لولدها: «وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى». (القصص/ 7)

إذ قد تمّ التعبير عن الإلهام الإلهي لها بالوحي مع عدم كونها نبيّاً قطعاً، كما أنّ يوسف لم يكن في طفولته نبيّاً ومع ذلك يقول القرآن في حقّه: «وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ (اخوتك) بِأَمْرِهِمْ هَذَا (التخطيط لقتلك)».

كذلك استعملت هذه المفردة فيما يتعلّق بوساوس الشياطين الخفية إلى أتباعهم قوله تعالى: «وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِىٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ». (الأنعام/ 112)

واستعملت الأوامر الإلهيّة الغامضة فيما يتعلق بالجمادات كالأرض قوله تعالى: «بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا». (الزلزال/ 5)

جملة «من وراء حجاب» تعني أنّ اللَّه كان يخاطب نبيّه بأمواج صوتية خاصّة خافية على الآخرين أو أنّ نبيّه كان يسمع الخطاب دون مشاهدة مصدره، بالضبط كالكلام الذي يطرق السمع من وراء الستار.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 268

ودار الحديث في ثاني آية عن نزول ملك الوحي وإتيانه بالقرآن للنبي صلى الله عليه و آله، يقول تعالى:

«وَإِنَّهُ (القرآن) لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ* نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ* عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ».

الملفت للنظر هو أنّ ملك الوحي قد تمّ وصفه بوصفين «الروح» أي عين الحياة و «الأمين» إشارة إلى الأمانة التي هي أهمّ شرط للرسالة والتبليغ.

يستفاد جيّداً من مختلف الآيات والروايات أنّ ملك الوحي المأمور بإبلاغ الرسالة إلى نبي الإسلام كان اسمه جبرائيل، في حين أنّه يظهر من ثالث آية من

الآيات مورد البحث، أنّ الملائكة ب «صيغة الجمع» كانوا أحياناً يؤمرون بإبلاغ الوحي الإلهي إلى الأنبياء، يقول تعالى: «وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَاماً قَالَ سَلَامٌ».

البشارة التي كان يحملها هذا الفريق من الملائكة هي البشارة بولادة إسماعيل وإسحاق، إذ إنّ إبراهيم عليه السلام كان قد قضى كثيراً من عمره محروماً من الولد مع تمنّيه الذرّية لحمل لوائه.

كما كانت هنالك وظيفة اخرى للملائكة ذكرت في الآيات التي بعدها، إلى جانب وظيفتهم الاولى في إبلاغ إبراهيم بالبشارة الإلهيّة ألا وهي تدمير مدينة قوم لوط وقلبها رأساً على عقب.

هنالك نوع آخر من أنواع الوحي ذكر في رابع آية وهو الرسالة التي كانت تصل إلى النبي عن طريق الرؤيا، وهي «رؤيا صادقة» لا تتفاوت مع حالة اليقظة، يقول تعالى: «قَالَ يَا بُنَىَّ إِنِّى أَرَى فِى الْمَنَامِ أَنِّى أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ».

ونقرأ في الآيات التي بعدها أنّ إبراهيم عليه السلام استعدّ لتنفيذ هذا الأمر، ولا يخفى أنّ هذه الرؤيا لو كانت مثل الرؤيا العادية لما أقدم إبراهيم عليه السلام على ذبح ابنه أبداً وهذا يكشف عن كونها وحياً إلهياً قطعيّاً.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 269

كما يصدق نفس هذا المعنى في حقّ نبي الإسلام صلى الله عليه و آله فيما يتعلّق بالبشارة التي بشّر بها في (الحلم) من دخول المسلمين إلى المسجد الحرام، وأدائهم لمناسك الحجّ بكلّ أمان:

«لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ». (الفتح/ 27)

التعبير ب «صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا» يدلّ بوضوح على كون هذا الحلم حلماً إلهياً أي نوعاً من أنواع الوحي.

في خامس وآخر آية من الآيات مورد البحث تمّت الإشارة إلى إحدى طرق

ارتباط الأنبياء بمبدأ عالم الوجود، والتي اشير إليها كناية في أوّل آية أيضاً بالتعبير (من وراء حجاب) يقول تعالى: «فَلَمَّا أَتَاهَا (حينما أتى موسى النار التي رآها بجانب الطور) نُودِىَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِى الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّى أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ».

أجل فلقد سمع موسى عليه السلام كلام اللَّه مباشرة، وطبقاً لبعض الروايات «1» يقول موسى: «لقد سمعت كلام ربّي بجميع جوارحي، ولم أسمعه من جهة واحدة من جهاتي».

هذا الكلام سمعه موسى عليه السلام من كلّ الجهات وبكافّة جوارحه (لا الاذنين فقط)، ومثل هذا الإرتباط على حدّ قول الطبرسي في مجمع البيان يعدّ من أفضل منازل الأنبياء وأرفع أنواع ارتباطهم بمبدأ عالم الوجود.

و لا شكّ أنّ اللَّه لم يكن جسماً وليس له سائر العوارض الجسمانية واللسان والأمواج الصوتية، لكنّه يتمكّن من إيصال مشيئته إلى سمع خواصّ عباده بالأمواج الصوتية التي يوجدها، ولغرض العلم بكونه من كلام اللَّه ينبغي أن يكون محفوفاً بالقرائن لنفي أي احتمال آخر عنه، وهذه القرائن كانت موجودة في قصّة موسى عليه السلام وسائر الأنبياء عليهم السلام.

هذه القرائن يمكنها أن تكون رؤية النار من الشجرة الخضراء أو سماع الصوت من كافّة

______________________________

(1) تفسير القرطبي، ج 13، ص 283؛ تفسير مجمع البيان، ج 4 ص 251.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 270

الجهات، مع الإحساس بكونه صادراً من الشجرة أو سماعه بكلّ أعضاء بدنه، أو على حدّ قول البعض: اتّحاد صوت كلّ الكون بهذا الصوت، أو مضموناً خاصّاً غير ممكن من غير اللَّه، أو قرائن اخرى. يستفاد من سور (طه/ 11)، و (النمل/ 8) أنّ هناك كلاماً آخر أيضاً قيل لموسى عليه السلام في هذه اللحظة إذ نقرأ في سورة طه: «نُودِىَ

يَامُوسَى* إِنِّى أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً».

ونقرأ في قوله تعالى «نُودِىَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِى النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا»! (النحل/ 8)

على أيّة حال فمن مجموع الآيات أعلاه انعكست أشكال مختلفة من ارتباط الأنبياء بمبدأ عالم الوجود.

إنّ عجز الأدلّة العقلية عن حلّ جزئيات هذه المسألة هو ممّا لا يخفى، لانحصار وظيفتها في بيان لزوم إرسال الرسل، وإنزال الكتب المستلزمة لارتباط الأنبياء بعالم الغيب، ومن هنا فينبغي الرجوع إلى الأدلّة النقلية للوقوف على جزئياتها.

توضيحان

1- أقسام الوحي وكيفيته في الروايات الإسلامية

مع خروج مسألة الوحي عن دائرة حسّ الإنسان الإعتيادي، وامتلاكنا لعلم إجمالي عنه دون العلم التفصيلي كما قلنا، فهنالك توضيحات أكثر في الروايات الإسلامية حول هذا الموضوع نشير فيما يلي إلى بعضها:

1- نقرأ في حديث عن الإمام علي عليه السلام أنّه ذكر تفاسير وأقسام متعدّدة للوحي:

الأوّل: «وحي النبوّة والرسالة» الوارد في الآية الشريفة: «إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ...». (النساء/ 163)

الثاني: «الوحي الإلهامي» الوارد في الآية: «وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِى مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ». (النحل/ 68)

الثالث: «الوحي بالإشارة» كما قال اللَّه عن زكريا: «فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الِمحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّاً». (مريم/ 11)

نفحات القرآن، ج 7، ص: 271

الرابع: «الوحي التقديري» كما يقول تعالى: «وَأَوْحَى فِى كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا». (فصلت/ 12)

الخامس: «الوحي الأمري» كما نقرأ عن الحوارين: «وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِى وَبِرَسُولِى». (المائدة/ 111)

السادس: «الوحي الكاذب» بالشكل الذي يخبر اللَّه تعالى به عن الشياطين: «يُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً». (الأنعام/ 112)

السابع: «الوحي الإخباري» كما يقول تعالى عن فريق من الأنبياء: «وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ ...». «1» (الأنبياء/ 73).

2- يستفاد من

بعض الروايات أنّ حالة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله كانت طبيعية عند نزول جبرائيل بالوحي عليه، في حين كان صلى الله عليه و آله يحسّ بضيق شديد عندما يكون الارتباط مباشراً، بل ربّما يغشى عليه كما ورد في توحيد الصدوق عن الإمام الصادق عليه السلام حينما سألوه: «الغشية التي كانت تصيب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إذا نزل عليه الوحي؟ قال ذلك إذا لم يكن بينه وبين اللَّه أحدٌ، ذاك إذا تجلّى اللَّه له» «2».

3- الآخر هو أنّ جبرائيل حينما كان ينزل عليه صلى الله عليه و آله كان ينزل بأدب ووقار، كما جاء في حديث عن الإمام الصّادق عليه السلام: (كان جبرائيل إذا أتى النبيَ قعد بين يديه قِعْدَةَ العبيد، وكان لا يدخل حتّى يستأذنه) «3».

4- يستفاد من روايات اخرى أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله قد تعرّف على جبرائيل بتوفيق إلهي كما جاء في حديث عن الإمام الصّادق عليه السلام أنّه قال: «ما عَلِمَ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّ جبرائيل من قبل اللَّه إلّابالتوفيق» «4».

______________________________

(1) بحار الأنوار، ج 18، ص 252.

(2) توحيد الصدوق طبقاً لما نقله بحار الأنوار، ج 18، ص 256، ح 5.

(3) علل الشرائع طبقاً لما نقله بحار الأنوار، ج 18، ص 256.

(4) بحار الأنوار، ج 18، ص 256.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 272

5- وهنالك تفسير ملفت للنظر لمسألة غشية النبي الأكرم صلى الله عليه و آله عند نزول الوحي عليه، في حديث عن ابن عبّاس إذ يقول: «كان النبي إذا نزل عليه الوحي وجد منه ألماً شديداً ويتصدّع رأسُه ويجد ثقلًا، وذلك قوله إنّا سنلقي عليك قولًا ثقيلًا، وسمعت أنّه نزل جبرئيل

على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ستّين ألف مرّةٍ».

2- الوحي في كلمات الفلاسفة المتقدّمين والمتأخّرين

فات الكثير من الفلاسفة القدماء والمعاصرين هذه الملاحظة وهي كون مسألة الوحي ارتباطاً خاصّاً للأنبياء بعالم ما وراء الطبيعة، وانحصار علمنا به بالإجمال دون التفصيل، إذ انّنا لا نرى سوى شبحٍ من بعيد، ونتيقّن بوجوده دون العلم بحقيقة ماهيّته.

ومن هنا فقد سعوا للوصول إلى حقيقة الوحي، لكنّهم اصطدموا بطريق مسدود بطبيعة الحال.

وهنا نتعرّض لنقد وتحليل نظريتين أو فرضيتين على الأصحّ للفلاسفة المتقدّمين والمتأخّرين حول هذا الموضوع لتتضح الحقيقة أعلاه:

النظرية الاولى: الفلاسفة القدماء كانوا يعتقدون أنّ حقيقة الوحي هي ارتباط الإنسان ب «العقل الفعّال»!

بيان ذلك: إنّهم يعتقدون بالأفلاك التسعة البطليموسية وبوجود النفس المجرّدة لكلّ واحدة من تلك الأفلاك (أي ما يماثل الروح بالنسبة لأبداننا)! كما أضافوا: إنّ «النفوس» الفلكية تستلهم من موجودات مجرّدة تدعى «العقول»، وبهذا فقد قالوا ب «تسعة عقول» لتلك الأفلاك التسعة، واعتقدوا وراء ذلك ب «العقل العاشر» أو «العقل الفعّال» باعتباره المصدر لكلّ المعلومات.

كما كانوا يعتقدون من جهة اخرى بضرورة إفاضة العقل الفعّال على النفوس الإنسانية وأرواحها لتدرك الحقائق وتضفي الفاعلية على قابلياتها، ويعتقدون بكون

نفحات القرآن، ج 7، ص: 273

النسبة بين قوّة الروح الإنسانية وشدّة اتّصالها بالعقل الفعّال الذي هو مصدر العلوم طردية.

واستنتجوا من هذه المقدّمات أنّ اتّصال أرواح الأنبياء بالعقل الفعّال ولشدّة قوّتها يفوق العادة، ولهذا السبب تمكّنت من استلام معلوماتها الكليّة (صورها) من العقل الفعّال في أغلب الأحيان، ونظراً لحدّة «قواهم التخيلية» التي يدركون بواسطتها «الصور الجزئية» ولتبعيّتها للقوّة العقلية في نفس الوقت، فقد تمكّنت من إعطاء صور محسوسة مناسبة لتلك «الصور الكليّة» التي استلموها من العقل الفعّال، لتتجسّد في افق أذهانهم متلبسة بلباس الحسّ.

فمثلًا لو كانت تلك الحقائق الكليّة

من قبيل المعاني والمعارف والأحكام فبإمكانهم سماعها على شكل ألفاظ موزونة جدّاً، وفي غاية البلاغة والفصاحة على لسان شخص في غاية الكمال، ونظراً لكمال هيمنة قواهم التخيلية على الحسّ المشترك (الحسّ الذي يدركون من خلاله صور المحسوسات) فبإمكانها إضفاء صبغة «الحسّية» على هذه الصور «الذهنية»، وتمكين النبي من مشاهدة ذلك الشخص على هيئة ملك ببصره وسماع ألفاظه باذنيه! (تأمّل جيّداً).

إنتقادات

هذه الفرضية قابلة للنقد من عدّة جهات:

أوّلًا- إبتناؤها على «الأفلاك البطليموسية التسعة» و «العقول العشرة» التي أبطل أحدها بشكل قاطع، ولم يوجد أي دليل لإثبات الآخر، وبديهي أنّ فرضية كهذه لا يمكن قبولها أو تقييمها.

ثانياً- هذه الفرضية ليست سوى محاولة للاهتداء إلى الطريق لحل مسألة خارجة عن نطاق أفكارنا، والإحاطة بها تفصيلًا، (بالضبط كرغبة المكفوف للوقوف على حقيقة النور والألوان عن طريق الفرضيات التي ينسجها مستعيناً بحواسّه) إذ من الواضح أنّ فرضيّة كهذه لا يمكنها أن تلاقي النجاح أبداً.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 274

ثالثاً- لا تتناسب هذه الفرضية بأي وجه مع الآيات القرآنية التي تتحدث عن الوحي، لأنّ الأخيرة تقول بصراحة: الوحي نوع من الإرتباط باللَّه، لا بالعقل الفعّال و لا عن طريق الإلهام بالقلب أو بواسطة ملك الوحي (الملك الذي هو وجود واقعي يظهر أمامه لا أنّه متولّد من القوّة التخيلية أو تأثير الحسّ المشترك)، أو أنّه يسمع تلك الأمواج الصوتية التي أوجدها اللَّه في جسم ما بأُذنيه لا أنّ للأصوات صبغة خيالية ومتولّدة من تأثير القوّة التخيلية أو الحسّ المشترك.

وبناءً على هذا فالفرضية أعلاه مردودة عقلًا ونقلًا.

النظرية الثانية- فسّر بعض الفلاسفة المعاصرين الوحي كأحد مظاهر الشعور الباطني.

يقول فريد وجدي في «دائرة معارف القرن العشرين» في مادّة «الوحي»: كان الغربيون إلى القرن السادس عشر كجميع

الامم المتديّنة يقولون بالوحي، لأنّ كتبهم مشحونة بأخبار الأنبياء فلمّا جاء العلم الجديد الذي فسر كل ظاهرةٍ تفسيراً مادياً، ذهبت الفلسفة الغربية إلى أنّ مسألة الوحي من بقايا الخرافات القديمة، وغالت حتّى أنكرت الخالق والروح معاً.

لكن بحلول القرن التاسع عشر الميلادي تغيّرت وجهة النظر في المسائل الروحانية وظهرت إلى الوجود ثانية مسألة الوحي، إذ أعاد فريق من العلماء البحث فيها على قاعدة العلم التجريبي، فتوصّلوا إلى نتائج وإن كانت غير ما قرّره علماء الدين الإسلاميون، إلّاأنّها خطوة كبيرة في سبيل إثبات أمر عظيم كان قد نسب إلى عالم الخرافة»، ثمّ يضيف قائلًا: إنّ المؤيّدين لمسألة الروح والمظاهر الروحية دوّنوا إلى الآن (زمن تأليف دائرة المعارف) خمسين مجلّداً ضخماً حول المطالب أعلاه، وتمّ حلّ الكثير من المسائل الروحانية بها من جملتها مسألة الوحي «1»!

هذا نموذج من كلمات العلماء حول هذه المسألة إذ الكلام حولها كثير، ولكن بالإمكان بيان خلاصة كلامهم كما يلي:

______________________________

(1) دائرة معارف القرن العشرين، مادّة (الوحي).

نفحات القرآن، ج 7، ص: 275

إنّهم اكتشفوا أنّ للإنسان شعوراً وإدراكاً وراء شعوره وإدراكه الظاهري، أطلقوا عليه اسم الشعور الباطن أو الوجدان الخفي واعتبروا القسم الأعظم من شعور الإنسان كامناً فيه، حتّى أنّهم شبّهوه أحياناً بالثلوج الطافية في مياه المحيطات، والتي لا يخرج منها فوق الماء إلّا عشرها في حين تبقى تسعة أعشارها تحته.

لقد اعتبروا الوحي نوع «تجلّ للشعور الباطني»، ونظراً لكون الأنبياء رجالًا يفوقون العادة، فمن الطبيعي أن يتمتّعوا بشعور باطني أقوى، وتجلّ يفوق العادة في أهميّته، وهو نفس ما كان يطلق عليه القدماء اسم الوحي!

كما ذهب البعض أحياناً أكثر من هذا وقالوا: إنّ أفكار وعلوم ورغبات النبي، تخلّق له إلهامات وتطلّ من خلال شعوره الباطني ووجدانه الخفي

على تخيّله الرفيع! بل وتترك أثراً حتّى في نظراته فيرى الملك أمامه ويسمع كلامه «1»!

نقد وتحليل:

هذه الفرضية التي قال بها فريق من الفلاسفة المتقدّمين تماثل الاولى، من حيث افتقارها للسند الكافي والدليل والشاهد، ومصدرها هو نفس ما أشرنا إليه، أي إنّهم يريدون قياس مسألة خارجة عن نطاق أفكارنا بعمقها ومحتواها بالمقاييس المتداولة، ومن المسلّم أنّ هذا الأمر محال وغاية لا يبلغها مفكّر أبداً.

وحينما نذعن بمحدودية المعلومات دون المجهولات، يجب أن نقبل هذه الحقيقة أيضاً وهي أنّ للأنبياء الواقعيين نوعاً من الإرتباط بعالم ما وراء الطبيعة، لا يمكن شرحه وتفصيله بحواسنا الفعلية وإدراكاتنا الإعتيادية.

على أيّة حال فلهذه الفرضية جذور مشتركة مع نظرية الفلاسفة القدماء من جملتها:

1- الوحي يمثل نوعاً من الإرتباط الخاص بعالم ما وراء الطبيعة، غير مغاير للروابط الفكرية والعقلية لسائر الأفراد!

______________________________

(1) الوحي المحمّدي، الطبعة 2، ص 24.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 276

2- مصدر الوحي هو نبوغ الأنبياء وسموهم الروحي.

3- الوحي لا يمثل وجود مجهول روحاني مستقلّ عن وجودنا يطلق عليه رسول الوحي أو الملك الإلهي، بل منشأه هو الشعور الباطني والإتّصال بالعقل الفعّال الذي يترك أثره في عالم الخيال، ثمّ في إحساس النبي فيرى مظاهر الوحي ويسمعها!

لا شكّ أنّ مثل هذه التحليلات لا تتلاءم أبداً مع ما جاء به الأنبياء وما يستفاد من آيات القرآن من جهة، ومع الدليل العقلي الذي ذكرناه سابقاً من جهة اخرى.

فضلًا عن افتقارها كلّها للسند والدليل، وأساساً ما هو السروراء إعجاب بعض العلماء بعلومهم ومعارفهم المحدودة إلى هذا الحدّ الذي دفعهم لتفسير وتحليل كلّ أسرار الكون بهذه الحصيلة من العلوم والإكتشافات، هذا الأمر يشبه قيام النحلة بتفسير وتحليل أنواع رموز الكامبيوترات والسفن الفضائية والأقمار الصناعية بمعلوماتها المحدودة، فهل نعطيها مثل

هذه المكانة ياترى؟

مؤلّف تفسير المنار وبعد نقله لهذه النظرية عن فريق من الفلاسفة الماديين، وبعبارات شبيهة للتي ذكرناها أعلاه، يضيف قائلًا: «لقد سرى هذا الإشتباه إلى الكثير من المسلمين الغارقين في الشكّ والترديد، الذين يقلّدون العلماء المادّيين (بأبصار وآذان مقفلة) أو يقتنعون بتفاسيرهم، ثمّ يتعرّض بعد ذلك لنقد مثل هذه الأفكار بالشرح والتفصيل» «1».

وبهذا نكون قد وصلنا لخاتمة البحث المختصر الذي اعددناه حول مسألة الوحي، إذ وكما قلنا سابقاً فلقد شرحنا هذا الموضوع شرحاً وافياً في «نفحات القرآن» «المجلّد الأوّل» في مبحث «مصادر المعرفة» (المصدر الخامس).

______________________________

(1) تفسير المنار، ج 11، ص 163.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 277

الاصول العامّة لدعوة الأنبياء عليهم السلام

اشارة

نفحات القرآن، ج 7، ص: 279

الاصول العامّة لدعوة الأنبياء

تمهيد:

من النكات المهمّة في مباحث النبوّة العامّة هي الاهتمام بالاصول العامّة لدعوة الأنبياء التي تحظى بإنسجام خاصّ، والتي تعكس النشاط الذي تقوم به هذه السلسلة الجليلة لأنبياء اللَّه بين البشرية، كقافلة عظيمة متّحدة.

وبعبارة اخرى: يمكن تشبيههم باللجنة العلمية للجامعة التي تقوم بتعليم الطلبة وفق برمجة دقيقة، اعتباراً من المرحلة الاولى وإلى الأخيرة بشكل منسجم صفّاً بعد صف.

ومن خلال مطالعة هذه الاصول العامّة تتجلى هذه الحقيقة المتكرّرة في القرآن، وهي أنّه «لا تفاوت بين أنبياء اللَّه، كما لا ينبغي التفريق بينهم».

و مِنَ المسلَّم أنّه لا منافاة لهذا الإنسجام مع نسخ الأديان بعضها للبعض الآخر أبداً، بالضبط كاستبدال المناهج الدراسية للجامعة في كل سنة، إذ إنّ كتب السنة الاولى لا تصلح للثانية، وهذه لا تصلح للثالثة و ... مع أنّ اصولها العامّة منسجمة مع بعضها في نفس الوقت، فكذلك لا منافاة لهذه المسألة مع تفاوت درجات الأنبياء لأجل تفاوت مسؤولياتهم.

هذا الإنسجام في الاصول العامّة يؤكّد من جهة على الخطوط الأساسيّة للأديان الإلهيّة ويوقفنا عليها، كما ويوضّح حقّانية دعوتهم من جهة اخرى، إذ إنّ الساسة الدنيويّون ينفي خلفهم سلفهم طبقاً للآية: «كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا». (الأعراف/ 38)

وباعتبار أنّ إحدى مميّزات الطواغيت هي حالة التضادّ القائمة بينهم على طول الخطّ.

كما ويمكن لهذه المسألة من جهة ثالثة أن تكون معياراً لمعرفة حقيقة الأنبياء، من

نفحات القرآن، ج 7، ص: 280

المدّعين كذباً، لأنّ انسجامهم وتوافقهم مع الأنبياء المعروفين السابقين سيكون كقرينة لها دورها المهم.

وبهذه الخلاصة نعود لنتأمل خاشعين في الآيات القرآنية التالية الواردة في هذا المجال:

1- «لَانُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ» (ولا تدفعنا التعصّبات العرقية والمصالح الشخصية لقبول فريق ورفض الآخر). (البقرة/ 136)

2- «إِنَّا

أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ (أنبياء بني إسرائيل) وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً». (النساء/ 163)

3- «وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِى إِلَيْهِ أَنَّهُ لَاإِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ».

(الأنبياء/ 25)

4- «قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِى اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِّنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً». (إبراهيم/ 10)

5- «يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِى وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا». (الأنعام/ 130)

6- «وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ».

(النساء/ 131)

7- «لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ».

(الحديد/ 25)

8- «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا (بنبي الإسلام) وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ». (البقرة/ 62)

9- «مَا كَانَ عَلَى النَّبِىِّ مِنْ حَرَجٍ فِيَما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِى الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً». (الأحزاب/ 38)

نفحات القرآن، ج 7، ص: 281

10- «لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِى الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَايُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا* مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا* سُنَّةَ اللَّهِ فِى الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا». (الأحزاب/ 60- 62)

11- «وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ». (الأنبياء/ 73)

12- «وَلَقَدْ كَتَبْنا فِى الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ انَّ الارْضَ يَرِثُها عِبادِىَ الصَّالِحُونَ».

(الأنبياء/ 105)

13- «كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيَما اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ

مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِى مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ». (البقرة/ 213)

14- «فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِى الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ». (هود/ 116)

15- «إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ». (آل عمران/ 19)

جمع الآيات وتفسيرها

وحدة المسير لدى الأنبياء جميعاً:

1- الكلام في أوّل آية هو عن الأمر الذي أصدره اللَّه إلى المسلمين كافةً بالقول لمخالفيهم: إنّنا آمنا باللَّه وما أنزل إلينا وما انزل إلى الأنبياء السابقين، كإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وموسى وعيسى «لَانُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ» وورد نفس هذا المضمون في آيتين اخريين من القرآن الكريم: «آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَانُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ». (البقرة/ 285)

نفحات القرآن، ج 7، ص: 282

وقوله تعالى: «وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً». (النساء/ 152)

وبهذا فهي تؤكّد على أنّ المؤمنين الحقيقيين هم الذين لا يفرّقون بين الأنبياء الإلهيين، ويؤمنون بكلّ تعاليمهم، وهذا خير دليل على اتّحاد الاصول العامّة لتعاليمهم.

ولِمَ لا يكونون كذلك وقد بعثوا كلّهم من قبل اللَّه، وتساوت أدوارهم، كما أنّ اصول المعارف الإلهيّة وسعادة البشرية واحدة في كلّ مكان، إذ ليست بذلك الشي ء الذي يتغيّر بتغيّر جزئياته على مرّ الأيّام.

بالضبط كحاجة الإنسان إلى الطعام والملبس والمسكن والصحّة والنظافة والتربية والتعليم، إذ إنّ اصول هذه الامور ثابتة لا تقبل التغيير، في حين أنّ جزئياتها هي في تحوّل وتغيّر، أي، إنّ في حالة تكامل بعبارة اخرى.

لابدّ من القول: إنّ هذه الآية وطبقاً لسبب نزولها كانت ردّاً

على اليهود والنصارى، حيث كان ينفي أحدهما الآخر ويعتبر نبيّه هو الأفضل وكتابه هو الأقدس (مع إهمالهم للآخرين)، فجاء دور المسلمين للتعبير بصراحة باستحالة التفريق بين أنبياء اللَّه.

على أيّة حال فهذا يعدّ توضيحاً مجملًا لوحدة الاصول العامّة لدعوة الأنبياء، والآن نعود إلى بقيّة الآيات التي تؤكّد على كلّ واحد من هذه الاصول.

2- مسألة الوحي هي واحدة من هذه الاصول والتي عرضت في ثاني آية من الآيات مورد البحث، يقول تعالى: «إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ (أنبياء بني إسرائيل) وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً* رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ».

وعلى هذا فالكلّ يشير إلى الوحي والإرتباط بعالم الغيب، والكلّ يخطو في مسيرة إبلاغ الدعوة الإلهيّة وإتمام الحجّة على الناس، لم يقل أحد منهم شيئاً من عنده، والهدف النهائي للكلّ واحد.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 283

3- أصل التوحيد ونفي الشرك هو أحد أهمّ اصول دعوة الأنبياء، وبشهادة آيات مختلفة من القرآن، فالتوحيد هو كلامهم الأوّل حين بعثتهم، التوحيد في كافّة الأبعاد خصوصاً في العبادة.

و الآية الثالثة من البحث تدور حول هذا الموضوع باعتباره أصلًا عاماً في دعوة الأنبياء، يقول تعالى: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِى إِلَيْهِ أَنَّهُ لَاإِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ».

وورد هذا المعنى بتأكيد أكبر في قوله تعالى «وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ». (النحل/ 36)

وعلى هذا فمقاومة الطواغيت وتخصيص العبادة للَّه كانا يتصدّران قائمة تعاليم كلّ الأنبياء، باعتبار كون الإنسان أسيراً ما دام في عبادة الطاغوت، وحرّاً حيث ما يعبد اللَّه وحده، اللَّه الذي هو مصدر كلّ القيم

السامية وصاحب الأسماء والصفات الحسنى.

الملفت للنظر هو أنّ «الطَّاغُوتَ» صيغة مبالغة للطغيان الذي يعني التعدّي وتجاوز الحدّ، ومن هنا تطلق لفظة الطاغوت على الشيطان والوثن والحاكم الجبّار والمتكبّر والمستكبر، وكلّ طريق ينتهي إلى غير الحقّ، هذه المفردة وعلى حدّ قول الراغب في المفردات التي تستعمل في المفرد والجمع كليهما (كما وتجمع في نفس الوقت على صيغة «طواغيت». وفسّر لسان العرب لفظة ال «طاغوت» بمعنى الشيطان وأئمّة الضلال والإنحراف «1».

على أيّة حال فإحدى علامات الأنبياء الحقيقيين هي الدعوة للتوحيد، واجتناب كلّ الطواغيت، في حين أنّ المدعين كذباً يدعون الناس للشرك وعبادة الأوثان، بل وحتّى إلى عبادتهم أحياناً كفرعون، هذا النحو من النظرة السلبية للطاغوت- كما قيل في محلّه- له أثره في كافّة شؤون الإنسان، خاصّة في فكّ يديه ورجليه من قيود الرقّ والعبودية ودعوته للإتّحاد والعزّة والتحرّر.

______________________________

(1) العجيب هو أنّ المرحوم العلّامة الطباطبائي في تفسير الميزان، ج 12، ص 242، قد اعتبر هذه اللفظة مصدراً، مع أنّها تستعمل بالمعنى الوصفي في كلّ المواضع، خصوصاً الموارد الثمانية الواردة في القرآن إذ إنّها أفادت المعنى الوصفي على الأعمّ الأغلب.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 284

4- التأكيد على نظام الكون للتعرّف من خلاله على اللَّه هو أحد الاصول العامّة لدعوة هؤلاء الرجال الإلهيين، كما نقرأ في الآية الرابعة من آيات بحثنا: «قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِى اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ (مع كلّ هذه العظمة والنظام في الكون والأسرار الكامنة) يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً» (لتطووا طريق معرفة اللَّه وتبلغوا الكمال اللازم).

أي هل يبقى هناك مجال للشكّ في وجود اللَّه مع الأخذ بنظر الاعتبار كلّ أسرار خلق السماوات والأرض، وأنواع الابداعات التي تحتويها والأسرار التي يتمّ كشفها يوماً بعد

آخر نتيجة تطوّر العلوم والمعارف؟

صحيح أنّ معرفة الإنسان بأسرار خلق السماوات والأرض كانت في قديم الزمان بسيطة، لكن نفس ذلك النظام البسيط الحاصل للإنسان بدقّة متواضعة يكفي لإثبات وجود الخالق، أمّا اليوم حيث تمّ فلق الخليّة وانشطار الذرّة والجزي ء، والوقوف على الكثير من أسرارها فالتأمّل في إحدى الذرّات كافٍ ليبعث نور معرفة اللَّه في القلوب، ويتحقّق هذا في البيت الشعري المعروف باللغة الفارسية والذي مضمونه:

قلب كلّ ذرّة حين فتحه تجد نوره يشعّ فيه

وقريب من هذا المعنى نجده في البيت الشعري المعروف والمنسوب للإمام علي عليه السلام:

أتزعم أنّك جرم صغيروفيك انطوى العالم الأكبر

5- التأكيد على مسألة المعاد باعتباره أصل آخر من اصول دعوتهم كما يقول تعالى في الآية الخامسة من آيات بحثنا: «يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِى وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا».

هذا الكلام سواء كان صادراً من اللَّه أم الملائكة فلا فرق في ذلك، إذ المهمّ أنّه يعكس قيام كلّ الأنبياء والمرسلين بتحذير الناس من هول يوم القيامة واشتراكهم في هذا الأصل الأساسي.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 285

وهل ياترى أرسل إليهم رسُلًا من «الجنّ» (كما يبدو من كلمة «منكم») أم أنّ كلّ الرسل الإلهيين كانوا من الإنس؟ هناك نقاش بين المفسّرين، وإن ذهب معظمهم إلى الاحتمال الثاني باعتبار أنّ ما جاء في الآية السابقة إنّما هو من باب التغليب اصطلاحاً، ومع ذلك لا مانع من قيام الأنبياء والرسل الإلهيين بتكليف رسل ووكلاء لهم من جنسهم لدعوتهم كما يستفاد ذلك من قوله تعالى

«وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِىَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ». (الأحقاف/ 29)

6- الدعوة للتقوى: وهي أيضاً من الاصول العامّة لدعوتهم عليهم

السلام، وذلك لاستحالة ضمان الهدف النهائي من خلق البشر ونظام حياته الفردية والاجتماعية بدونها، نقرأ في سادس آية من البحث: «وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ».

وهذا التعبير إلى حدّ يشمل كلّ الكتب السماوية السابقة، وبناءً على هذا فالوصيّة بالتقوى، أي، حفظ النفس وتجنّب الذنوب وعدم الخروج عن طاعة اللَّه، كان ولا يزال من الاصول المشتركة للأديان السماوية.

كما نعلم أنّ للتقوى فروعاً كثيرة، التقوى في العمل والحديث والتفكّر والنيّة والعزم، كما أنّ للتقوى العملية فروعاً متعدّدة أيضاً، التقوى الأخلاقية والاجتماعية والسياسية، والخلاصة هي أنّ للتقوى مفهوماً واسعاً يقابل كلّ إهمال وتسيّب في كافّة الامور، ولذا جاء في تفسير القرطبي عن بعض الفضلاء العرفاء أنّ هذه الآية هي بمثابة القطب من الرحى وأنّ كلّ الآيات القرآنية تدور حولها «1».

______________________________

(1) تفسير القرطبي، ج 3، ص 1978.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 286

7- الدعوة إلى العدالة الاجتماعية هي أصل آخر من هذه الاصول الأساسية، وقد وردت بصراحة في الآية السابعة، يقول تعالى: «لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ».

ولِمَ لمْ يكن كذلك حين يستحيل على المجتمع البشري بلوغ أهدافه النهائية أي التكامل المعنوي مع غياب إقامة القسط والعدالة الاجتماعية؟

الملفت للنظر هو قوله: إنّ الهدف من إرسال الرسل والبيّنات والكتاب والميزان هو قيام الناس بالقسط والعدل مباشرة مع تنفيذه، لا أن يفرض عليهم ذلك فرضاً، أجل فضمان هذا الهدف مرهون ببلوغ المجتمع البشري مرحلة إقامة القسط والعدل وتنفيذه بذاته.

وحول المراد من «البيّنات والكتاب والميزان» هناك أبحاث كثيرة للمفسّرين، أقواها كما يبدو أنّ «للبيّنات» معنىً واسعاً شاملًا لكلّ المعجزات وأنواع الأدلّة العقلية التي تقام لإثبات النبوّة، و «الكتاب» إشارة إلى مجموع تعاليمهم، وامّا «الميزان»

فيعني معايير قياس الحقّ من الباطل، أو القوانين والمقرّرات التي يصل بها الحقّ إلى أهله.

وهذه كلّها وسائل لبلوغ العدالة الاجتماعية وإقامة القسط والتي تكون بدورها مقدّمة لتوفير الأرضية المناسبة لتربية الإنسان وتعليمه وتكامله «1».

8- أهميّة «الإيمان» و «العمل الصالح» كقيم أساسية لإنقاذ البشرية هي أيضاً من الاصول المشتركة لتعاليم الأنبياء، نقرأ في ثامن آية من البحث:

«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ».

جاء في أحد التفاسير المعروفة: إنّ أهل النجاة هم المسلمون الذين آمنوا بنبي الإسلام صلى الله عليه و آله، وثبتوا على إيمانهم وعملوا صالحاً وكذا الذين عاشوا قبل ظهور نبي الإسلام صلى الله عليه و آله وآمنوا بالأديان السماوية وعملوا صالحاً.

طبقاً لهذا التفسير ف «الإيمان» و «العمل الصالح» كانا كأصلين عامّين في برامج كلّ الأديان الإلهيّة لغرض نجاة الإنسان.

______________________________

(1) لمزيد من الإطّلاع حول هذا الموضوع راجع التفسير الأمثل ذيل الآية مورد البحث.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 287

وهناك طبعاً تفاسير اخرى لهذه الآية بإمكانك الإطّلاع عليها بالرجوع إلى التفسير الأمثل ذيل الآية 62 من سورة البقرة.

9- القضاء على «السنن الخاطئة» التي تتسبّب في انحراف المجتمعات البشرية وتأخّرها يعدّ أيضاً من الاصول العامّة لدعوة الأنبياء.

في تاسع آية من البحث وضمن الإشارة إلى مسألة زواج النبي الأكرم صلى الله عليه و آله من مطلّقة إبنه بالتبنّي والتي نزلت لازالة إحدى العادات الجاهلية (حيث كانوا يعتبرون الإبن بالتبنّي كالإبن الحقيقي) يقول تعالى: «مَا كَانَ عَلَى النَّبِىِّ مِنْ حَرَجٍ فِيَما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِى الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً».

حول ماهيّة هذه السنّة التي كانت جارية في الأقوام

السابقة والتي عطف اللَّه عليها مسؤولية النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، قال فريق من المفسّرين: المراد بها هو السنّة الإلهيّة في رفع الموانع من الاستفادة من اللذائذ المحلّلة، أو سُنّة تعدّد الزوجات التي كانت جارية في الامم السابقة أيضاً «1».

في حين أنّ هناك أدلّة واضحة في الآيات التي تحفّ بهذه الآية تشهد على أنّ هذه السنّة كانت ترتبط بإبلاغ رسالة إلهية لا تيسير اللذائذ المحلّلة، كما نقرأ في الآية التي بعدها:

«الَّذِينَ (الأنبياء السابقون) يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ».

لكن أنسبها كما يبدو هو أنّ هذه الرسالة الإلهيّة ليست سوى «القضاء على السنن الخاطئة» فحسب.

كما نقرأ في الآيات التي قبلها: «وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ» كما يصرّح بعد هذه الآية: «لِكَىْ لَايَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِى أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً».

(الأحزاب/ 37)

______________________________

(1) تفسير مجمع البيان، ج 7، ص 361؛ تفسير الكبير، ج 25، ص 13؛ تفسير القرطبي، ج 8، ص 5277؛ وتفسير روح المعاني، ج 22، ص 25.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 288

هذه القرائن بمجموعها تشهد بوضوح على أنّ المراد من هذه السنّة الخالدة للأنبياء السابقين هو إزالة السنن الخاطئة والخرافية تلك.

ولِمَ لا؟! وأحد أهداف بعثة الأنبياء هو تخليص الناس من مخالب مثل هذه السنن الباطلة، لتحلّ محلّها السنن الإلهيّة.

10- مقاومة المنافقين بشدّة وعدم الرضوخ لهم هي إحدى الاصول الاخرى لتعاليم الأنبياء الثابتة، كما جاء في نفس هذه الآية وبعد الإشارة إلى أعمال المنافقين القبيحة المتعمَّدة في المجتمع الإسلامي، والتهديد بأنّ هؤلاء المنافقين الكذّابين، والذين في قلوبهم مرضٌ والذين يشيعون الأباطيل لو لم ينتهوا عن غيّهم ويرجعوا عن مواصلة أعمالهم العدوانية، لجعلناك تثور عليهم وتطردهم من كلّ مكان وتمزّقهم شرّ

ممزّق: «سُنَّةَ اللَّهِ فِى الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا». (الأحزاب/ 62)

صرّح معظم المفسّرين بأنّ المراد من هذه السنّة هي نفس مجاهدة المنافقين والأفراد المضرّين الذين لا ينتهون عن أعمالهم الشنيعة في المجتمعات البشرية وعن عدائهم للأنبياء والمؤمنين «1».

11- اصول العبادات والأعمال الحسنة: كانت أيضاً من ضمن التعاليم المشتركة لهؤلاء القادة الحقيقيين كما يقول تعالى في الآية الحادية عشرة من البحث، وضمن الإشارة إلى فريق من الأنبياء العظام: «وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ».

إشارة إلى أنّه وفضلًا عن مقام النبوّة والرسالة اللذين يتطلّبان استلام الوحي وإبلاغه

______________________________

(1) راجع تفاسير مجمع البيان؛ والمراغي؛ والكبير؛ والقرطبي؛ وروح البيان، ذيل الآيات مورد البحث.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 289

للناس، كانت الإمامة أي القيادة الشاملة لكل الابعاد الجسمانية والروحانية، الظاهرية والباطنية للناس ضمن مسؤوليتهم، وكان دورهم في هذه المرحلة هو «الهداية بأمر اللَّه» أي الإيصال إلى المطلوب وبلوغ المراد، وضمن هذه المرحلة أوحى اللَّه إليهم فعل الخيرات والعبادات.

و مع أنّ إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة تعدّان من الخيرات والأفعال الحسنة، فقد تمّ التأكيد عليهما بالخصوص نظراً لأهميّتهما.

حول المراد من «الوحي» هنا في جملة «أَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ»، فقد اعتبره أكثر المفسّرين بمعنى «الوحي التشريعي»، أي إنَّ أنواع الأعمال الحسنة وضعناها ضمن برامجهم الدينية «1»، لكن البعض الآخر فسّره بمعنى «الوحي التكويني» أي انّنا منحناهم التوفيق لأداء هذه الأعمال بلهفة وأيّدناهم بروح القدس ليؤدّوها على أتمّ وجه.

12- حكومة الصالحين: وبشكل عامّ فقد كانت حكومة «العدل الإلهي» مندرجة أيضاً ضمن برامج الأنبياء، سواء وفّقوا في إقامتها أم أعاقتهم ظروفهم وأوضاعهم الخاصّة عن ذلك.

في الآية الثانية عشرة من البحث إشارة لطيفة إلى هذا المعنى، يقول تعالى:

«وَلَقَدْ كَتَبْنا فِى الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ (التوراة) انَّ الارْضَ يَرِثُها عِبادِىَ الصّالِحُونَ».

المرحوم الطبرسي في مجمع البيان ذكر ثلاثة أقوال في تفسير «الزبور» و «الذكر»:

1- «الزبور» يعني كلّ كتب الأنبياء و «الذكر» يعني اللوح المحفوظ، أي أنّ هذا الحكم جاء أوّلًا في اللوح المحفوظ ثمّ في كلّ كتب الأنبياء.

2- «الزبور» يعني الكتب النازلة بعد التوراة و «الذكر» إشارة إلى التوراة.

______________________________

(1) طبقاً لهذا التفسير فللآية محذوف تقديره: وأوحينا إليهم الأمر بفعل الخيرات.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 290

3- «الزبور» يعني زبور داود و «الذكر» يعني التوراة «1».

على أيّة حال فالآية تبيّن أنّ هذا كان حكماً عامّاً وسنّة إلهيّة دائمة، تقوم بتوجيه تعاليم الأنبياء نحو تأسيس حكومة الصالحين والطاهرين في الكرة الأرضية، وقد وفّق البعض منهم أحياناً في تشكيل نموذج لها، وطبقاً للروايات المتواترة فسيتجسّد مصداقها الكامل عند ظهور المهدي (أرواحنا فداه).

ومن البداهة أيضاً أنّ ضمان أهداف أديان الأنبياء الإلهيين مرهون بتشكيل مثل هذه الحكومة، إذ أثبتت التجارب أنّ الأحكام الإلهيّة لا يمكن تطبيقها بالكامل عن طريق الوصايا والنصائح والحِكَم فقط، بل لابدّ من استثمار كلّ طاقات الحكومة وفي كافّة الأبعاد، مع وضع الإنسان منذ لحظة ولادته وإلى وفاته تحت إشراف التعاليم السماوية.

التعبير ب «عبادي الصالحون» تعبير جامع وبليغ جدّاً، شامل لكلّ المؤهلات من حيث «الإيمان» و «العلم» و «التقوى» و «الإدارة والتدبير»، أجل، فمثل هؤلاء الأشخاص يمكنهم أن يكونوا وارثي حكومة السماء في الأرض.

13- الدعوة إلى الوحدة: الاختلاف أكبر عامل لفساد المجتمع وضياع الطاقات الماديّة والمعنوية لكلّ قوم وشعب، ومن هنا فأحد الأهداف الرئيسيّة للأنبياء وبرامجهم العامّة هو محاربة الاختلافات، كما نقرأ في الآية الثالثة عشرة من البحث حيث يقول تعالى:

«كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً (ثمّ ظهر الاختلاف فيما

بينهم) فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيَما اخْتَلَفُوا فِيهِ» (و ليقضوا على تلك الخلافات).

ومع هذا فقد أشعل فريق نار الفتنة وشقّ الكلمة، بل اختلفوا حتّى في الحقائق النازلة في الكتب السماوية: «وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً

______________________________

(1) تفسير مجمع البيان، ج 7، ص 66، ووردت نفس هذه المعاني الثلاثة في تفسير القرطبي.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 291

بَيْنَهُمْ».

لكن: «فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِى مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ».

وبناءً على هذا فقد ظهر هنالك نوعان من الاختلاف بين الامم، الاختلاف الأوّل قبل ظهور الأنبياء والناشي ء من اختلاط العلوم البشرية بأنواع الأخطاء والجهل والإشتباه في تشخيص الحقائق، ففرّق الأنبياء بين الحقّ والباطل ووضعوا نهاية لتلك الخلافات مدعومين بالوحي.

الاختلاف الذي كان بعد ظهور الأنبياء، والناشي ء من البغي والظلم والحسد وعبادة النفس، حيث قام فريق بتفسير ثمرة تعاليم الأنبياء طبقاً لميولهم ومصالحهم وحرّفوا الحقائق وفقاً لأهوائهم، فلم ينج من عاقبة هذه الاختلافات سوى المؤمنين الحقيقيين نظراً لعدم إمكان إزالة هذه الاختلافات إلّافي ظلّ الإيمان والتقوى.

ومن هنا يتّضح الجواب عن سؤال يثار حول هذه الآية وهو أنّه: لو كان مجي ء الأنبياء هو من أجل حلّ الخلافات العقائدية والفكرية والاجتماعية، فلماذا واصلت هذه الاختلافات مسيرها بعدهم أيضاً؟

الآية المذكورة تقول بوجود التفاوت بين هذين الاختلافين، فالأوّل نابع من الجهل والغفلة وعدم الإطّلاع وقد زال ببعثة الأنبياء، امّا الآخر فقد كان متضمّناً لدوافع كالبغي والظلم والعناد والغرور حتّى دفع بالبعض إلى مواصلة طريق الفرقة عن قصد، حتّى بعد أن تبيّن لهم الحقّ، وفي الواقع فقد كان الاختلاف الأوّل نابعاً من قصور الناس والثاني من تقصيرهم.

على

أيّة حال يستفاد من الآية الآنفة الذكر أنّ الدعوة إلى الوحدة ومحاربة الاختلاف وفي أبعاد ومجالات مختلفة كانت من بين الاصول العامّة لمسؤولية الأنبياء.

14- الدعوة إلى الإصلاح والنهي عن الفساد: تعدّ أيضاً من البرامج الرئيسيّة لدعوة

نفحات القرآن، ج 7، ص: 292

الأنبياء، وبعبارة اخرى فالأديان الإلهيّة وبالإضافة إلى المسائل الشخصية، كانت ترقب عن كثب وضع المجتمع أيضاً وتدعو الكلّ للمشاركة في إصلاحه ومحاربة الفساد.

ولذا تُشَمٌّ من الآية «الرابعة عشرة» من بحثنا حالة من الإعتراض العامّ على الأقوام السابقة التي ابتليت بالعذاب الإلهي، حيث يقول تعالى: «فَلَوْلَا كَانَ مِنْ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنْ الْفَسَادِ فِى الْأَرْضِ (لم يكن العلماء في الامم التي قبلكم متصدّين للحكم ولذا شاع بينها الفساد واستحقّت عذابنا) إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ».

«اولوا بقيّة» أي «أصحاب إرث وثبات»، وحيث إنّ الإنسان يدّخر عادة الأشياء النفيسة ويحتفظ بها، فقد ورد هذا التعبير بحقّ اولئك الذين يمتلكون ثروة نفيسة أي أصحاب العلم والشخصية والقدرة والنفوذ، ومثل هؤلاء هم الذين يتمكّنون من الوقوف بوجه الفساد ويساعدون على بقاء الامم.

على أيّة حال يتبيّن من هذا التعبير أنّ التكليف بالأمر بالمعروف، ومحاربة الفساد خصوصاً على مستوى العلماء وأصحاب القدرة والنفوذ، كان موجوداً في كلّ الأديان الإلهيّة، وأنّ الكثير من الامم قد استحقّ العقاب الإلهي نتيجة الانحراف عن هذه المهمّة.

15- التسليم لأمر الحقّ تعالى: الأصل الآخر الموجود في كلّ الأديان، والحاكم عليها هو أصل التسليم المطلق لأمر اللَّه، لذا نقرأ في آخر آية من البحث: «إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ».

أجل فروح وجوهر كلّ الأديان تعبر عن الحق وعن أمر الخالق وتمثل القوانين الإلهيّة وجميع الحقائق، ونظراً لكون دين نبي الإسلام صلى الله عليه و آله من أفضل الأديان

الإلهيّة فقد اختير له اسم الإسلام وإلّا فبالإمكان إطلاقه على كلّ الأديان السماوية.

وبناءً على هذا فالآية لا تعني أنّ دين نبيّنا هو الإسلام (وان كان هذا هو الواقع)، بل المراد أنّ الإسلام كان الدين الحقيقي في كلّ العصور، لأنّ التسليم أمام العقيدة الواقعية في

نفحات القرآن، ج 7، ص: 293

مقام العمل بالأحكام الإلهيّة كان موجوداً في كلّ الأديان الإلهيّة، وبناءً على هذا فالأديان الإلهيّة وإن كانت قد بدأت بأبسط أشكالها إلى أن انتهت بأكملها إلى دين محمّد صلى الله عليه و آله، لكن روحها كلّها واحدة ألا وهي التسليم المطلق المشار إليه أعلاه، ولا تباين أبداً بينها من هذه الناحية.

كما يقول تعالى في مكان آخر: «وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ (والتسليم لأمر اللَّه) دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى الْآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ». (آل عمران/ 85)

ثمرة البحث:

هذه الاصول الخمسة عشر هي من أهمّ الاصول المشتركة بين كلّ الأديان الإلهيّة، وبعبارة اخرى فانّها تشكّل العمود الفقري لكلّ المذاهب السماوية وجميع تعاليم الأنبياء، كما أنّ بالإمكان تشخيص الأديان الحقيقية من المذاهب المختلقة والإنحرافية عن طريقها.

كما أنّ التدقيق فيها يعكس من جهة اخرى تلك القيم السامية لتعاليم الأنبياء وعلى مرّ القرون والأعصار، بالإضافة إلى كونها لوحدها من الأدلّة على صدق دعوتهم وحقّانية دينهم.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 295

الأنبياء عليهم السلام في القرآن المجيد

اشارة

نفحات القرآن، ج 7، ص: 297

الأنبياء في القرآن المجيد

تمهيد:

اشارة

سيتمّ في هذا البحث الإجابة عن عدّة أسئلة مهمّة تدور حول أنبياء اللَّه ورسله:

1- عدد الأنبياء في القرآن.

2- الأنبياء اولوا العزم في القرآن.

3- الكتب السماوية للأنبياء.

4- الفرق بين الرسول والنبي.

5- لماذا ظهر الأنبياء الكبار من منطقة خاصّة؟

6- تكامل الأديان.

القرآن هو محور كلّ هذه الأبحاث بطبيعة الحال، وعلى أساس التفسير الموضوعي، أي أنّه سيتمّ البحث في هذه الجهات على ضوء القرآن أوّلًا، ومن ثمّ نبحث على حدة باقي المسائل المستفادة من الروايات الإسلامية، والتواريخ والأدلّة العقلية، لتتّضح مختلف أبعاد هذه المباحث.

1- عدد الأنبياء في القرآن:

لنتمعن في آيات القرآن الكريم خاشعين:

نقرأ في قوله تعالى «وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَّنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ». (المؤمن/ 78)

يتّضح من هذه الآية عدم مجي ء أسماء فريق من الأنبياء والرسل الإلهيين في القرآن

نفحات القرآن، ج 7، ص: 298

المجيد (على الأقل في السور النازلة قبل سورة المؤمن) «1»، وأنّ عددهم يزيد على المذكور في القرآن.

نظير هذا المعنى ورد أيضاً في قوله تعالى «وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً» «2». (النساء/ 164)

طبعاً لم يتّضح عدد انبياء اللَّه ورسله من خلال تعرّض آيات القرآن لذكر العدد، لكن يستفاد من بعض الآيات أنّ عددهم كان كبيراً جدّاً، كما نقرأ في القرآن الكريم حيث يقول تعالى «إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ». (فاطر/ 24)

مع الأخذ بنظر الإعتبار عنواني «بَشيراً» و «نَذيراً»، الواردين في حقّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله في صدر الآية، يتّضح أنّ المراد من كلمة «نذير»، في ذيل الآية هم انبياء اللَّه ورسله أيضاً، كما يستفاد من عموم مفهوم الآية أنّ هناك نبيّاً إلهيّاً

كان قد ظهر بين كلّ امّة من الامم فيما مضى وأنّه قام بتحذيرهم. وتفسير بعض المفسّرين لكلمة «نذير» هنا بالمعنى الأوسع الشامل لكلّ الفقهاء والعلماء الذين ينذرون الناس ويحذّرونهم، يخالف ظاهر الآية بطبيعة الحال.

وبهذا يتّضح جيّداً أنّ عدد الأنبياء من وجهة نظر القرآن عدد هائل!

سؤال:

وهنا يرد هذا السؤال وهو: كيف يُمكن الجمع بين مضمون الآية أعلاه وبعض الآيات القرآنية التي تخاطب نبي الإسلام صلى الله عليه و آله بالقول: «وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِّنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَّذِيرٍ». (سبأ/ 44)

وكذا في قوله تعالى: «تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ* لِتُنذِرَ قَوْماً مَا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ» «3». (يس/ 5- 6)

______________________________

(1) سورة المؤمن وطبقاً لقولٍ: هي السورة السابعة والخمسون النازلة على النبي صلى الله عليه و آله.

(2) سورة النساء طبقاً لروايةٍ: هي السورة الثانية والتسعون النازلة على النبي صلى الله عليه و آله.

(3) ذهب معظم المفسّرين إلى أنّ «ما» في جملة «مَا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ» «نافية، لجملة «فَهُمْ غَافِلُونَ»، والآية الثالثة من سورة السجدة: «لِتُنذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ»، خير شاهد على هذا المدّعى، في حين اعتبر البعض الآخر «ما» موصولة أو مصدرية، لكن كلا هذين الإحتمالين ضعيفان حسب الظاهر، والذي قيل إنّما على أساس المعنى الأوّل.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 299

الجواب:

الظاهر أنّ المراد من ال «نذير» في هذه الآيات هم الأنبياء العظام خصوصاً الأنبياء اولي العزم، الذين شاعت سمعتهم في كل مكان، وإلّا فهناك حجّة إلهية في كلّ زمان للمشتاقين والطالبين طبقاً لمختلف الأدلّة العقلية والنقلية التي بحوزتنا، ولو اعتبرت الفترة ما بين المسيح عليه السلام ونبي الإسلام صلى الله عليه و آله فترة ركود وجمود، فإنّما هي بسبب عدم ظهور نبي عظيم

ومشهور، لا عدم وجود حجّة إلهية مطلقاً.

ولذا يقول الإمام علي عليه السلام حول هذا الأمر: «إنّ اللَّه بعث محمّداً صلى الله عليه و آله وليس أحد من العرب يقرأُ كتاباً ولا يدّعي نبوّة» «1».

على أيّة حال يستفاد من مجموع ما قيل أنّ عدد انبياء اللَّه ورسله وعلى طول التاريخ كان كبيراً جدّاً، وأنّ القرآن لم يشخّص لهم رقماً بالخصوص.

عدد الأنبياء الذين صرّح القرآن بأسمائهم يبلغ 26 نبيّاً فقط وهم عبارة عن: آدم، نوح، إدريس، صالح، هود، إبراهيم، إسماعيل، إسحاق، يوسف، لوط، يعقوب، موسى، هارون، شعيب، زكريا، يحيى، عيسى، داود، سليمان، إلياس، اليسع، ذو الكفل، أيّوب، يونس، عزير، ومحمّد (صلوات اللَّه وسلامه عليهم أجمعين).

وجاء في سورة الانعام اسم ثمانية عشر منهم، يقول تعالى: «وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَّشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ* وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًاّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِى الُمحْسِنِينَ* وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ* وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلّاً فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ». (الأنعام/ 83- 86)

وجاء في سورة الأنبياء اسم كلّ من إدريس وذا الكفل: «وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ». (الأنبياء/ 85)

______________________________

(1) نهج البلاغة، الخطبة 33 و 104.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 300

نفحات القرآن ج 8 5

واشير في سورة هود إلى إثنين آخرين منهم (هود وصالح): «وَيَا قَوْمِ لَايَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِى أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ». (هود/ 89)

واشير في سورة العنكبوت إلى شعيب: «وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً». (العنكبوت/ 36)

واشير في سورة التوبة إلى عُزَير: «وَقَالَتْ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ». (التوبة/ 30)

ونقرأ في سورة آل عمران: «إِنَّ اللَّهَ

اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ». (آل عمران/ 33)

أخيراً وفي آخر آية من سورة الفتح، ورد اسم خاتم الأنبياء صلى الله عليه و آله: «محمّد رسول اللَّه».

وهذا هو مجموع اولئك العظماء الستّة والعشرين في مقاطع خاصّة من آيات القرآن.

لكن علاوة على هذا فهنالك 26 نبيّاً عظيماً آخر اشير إليهم في القرآن دون التعرّض لذكر أسمائهم مثل: اشموئيل «1» الذي اشير إليه في سورة البقرة تحت عنوان: «وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ ...». (البقرة/ 247)

ويوشع الذي اشير إليه في سورة الكهف تحت عنوان: «وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ ...». (الكهف/ 6)

إذ يعتقد الكثير من المفسّرين أنّ المراد به هنا هو يوشع بن نون.

و «أرميا» الذي ذكر في سورة البقرة تحت عنوان: «أَوْ كَالَّذِى مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ ...».

(البقرة/ 259)

وإن اعتبره البعض «عُزير» أو الخضر، لكنّه ورد في رواية الإمام الباقر عليه السلام باسم «أرميا».

«الخضر» الذي جاء في آيات متعدّدة من سورة الكهف من جملتها الآية (65) تحت عنوان: «عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا»، وإن لم يرد إسمه صريحاً في هذه الآيات، لكن طبقاً للمشهور فهو أيضاً من أنبياء اللَّه ورسله، وهنالك قرائن متعدّدة على ذلك في آيات من سورة الكهف.

كما يستفاد من قوله تعالى أنّ الوحي كان ينزل على «أسباط بني إسرائيل»، حيث يقول تعالى: «وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ». (النساء/ 163)

______________________________

(1) قال البعض أنّ إسمه «يوشع»، وذهب غيرهم إلى أنّه «شمعون»، لكن المشهور بين المفسّرين هو نفس «اشموئيل» (تفسير مجمع البيان، ج 1 و 2، ص 350).

نفحات القرآن، ج 7، ص: 301

«الأسباط»: جمع سبط على وزن (قِسْط) تعني هنا قبائل بني إسرائيل التي كان لكلّ واحدة منها نبيّاً، خلاصة القول هي أنّ عدد الأنبياء الذين أشار اللَّه

إلى قصصهم وحياتهم في القرآن يتجاوز ال 26 نبيّاً، لاختصاص هذا العدد بمن صرّح القرآن بأسمائهم فقط.

1- عدد الأنبياء في الأحاديث والروايات الإسلامية:

هناك في الروايات الإسلامية بحث واسع حول عدد الأنبياء والرسل، من جملتها ما جاء في رواية مشهورة أنّ عددهم هو 124 ألفاً، كما بلغ عددهم في بعضها 8 آلاف نبي فقط أربعة آلاف منهم من بني إسرائيل وأربعة آلاف من غيرهم «1».

جاء في حديث عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله قال: «خلق اللَّه عزّوجلّ مائة الف نبي وأربعة وعشرين الف نبي، أنا أكرمهم على اللَّه ولا فخر (لأنّ ذلك من لطف اللَّه)، وخلق اللَّه عزّوجلّ مائة الف وصي وأربعة وعشرين الف وصي، فعلي أكرمهم على اللَّه وأفضلهم» «2».

ونقرأ في حديث آخر للنبي الأكرم صلى الله عليه و آله، عن أبي ذرّ رحمه الله، قلتُ: يارسول اللَّه كم النبيّون؟، قال: «مائة ألف وأربعة وعشرون ألف نبيّ. قلت كم المرسلون منهم؟ قال ثلاث مائة وثلاثة عشر جمّاً غفيراً» «3».

وفي حديث آخر ينقل الإمام الباقر عليه السلام عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه قال: «كان عدد جميع الأنبياء مائة ألف نبي وأربعة وعشرين الف نبي، خمسة منهم اولوا العزم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمّد» «4».

2- الأنبياء اولوا العزم في القرآن

تمّت الإشارة في القرآن المجيد إلى الأنبياء اولوالعزم وذلك. حين كان الخطاب موجّهاً

______________________________

(1) تفسير نور الثقلين، ج 4، ص 537.

(2) بحار الأنوار، ج 11، ص 30، ح 21.

(3) المصدر السابق، ص 32، ح 24.

(4) المصدر السابق، ص 41، ح 43.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 302

إلى نبي الإسلام صلى الله عليه و آله: «فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ

وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ».

(الاحقاف/ 35)

للمفسرين كلام طويل عن هويّة اولي العزم من الأنبياء وهناك احتمالات وتفاسير متعدّدة حول هذا الموضوع يفتقر معظمها إلى الدليل.

ومن جملتها:

1- الأنبياء كلّهم اولوالعزم لتمتّعهم بعزم راسخ وإرادة قويّة! لكن هذا التفسير إنّما يصحّ حينما تكون «مِنْ» في جملة «من الرسل» بمعنى البيان في حين أنّ ظاهر الآية يدلّ على كونها تبعيضية، وقد نقل المرحوم الطبرسي في مجمع البيان هذا الكلام عن أكثر المفسّرين «1».

2- الأنبياء اولوا العزم 313 نبيّاً، كما جاء في الدرّ المنثور عن جابر بن حيّان (مرسلًا) أنّه قال: «بلغني أنّ اولي العزم من الرسل كانوا ثلاث مائة وثلاثة عشر».

3- ويقول البعض بأنّهم اولئك الثمانية عشر نبيّاً المذكورة أسماؤهم في الآيات 83- 86 في سورة الأنعام «2».

4- أنّهم اولئك الأنبياء الذين تحمّلوا مزيداً من الصبر أمام أذى أقوامهم، وواجهوا كثيراً من الشدائد والمشاكل، وهم تسعة: نوح، إبراهيم، إسماعيل، يعقوب، يوسف، أيّوب، موسى، داود، عيسى عليهم السلام «3».

لكن من الواضح أنّ الأنبياء الذين صمدوا أمام المشاكل والمصاعب لم ينحصروا بهؤلاء، إذ الكثير منهم ذاق مشاكل ومصاعب أقسى وأمرّ، فضلًا عن عدم كون الإبتلاء بالمشاكل دليلًا على كونهم من اولي العزم.

5- أنّهم كانوا أنبياءَ صبروا أمام أذى الأعداء، وهم ستّة: نوح وإبراهيم وإسحاق (إسماعيل) ويعقوب ويوسف وأيّوب.

______________________________

(1) تفسير مجمع البيان، ج 9 و 10، ص 94.

(2) تفسير روح البيان نقل هذا التفسير عن الحسن بن الفضل، ج 26، ص 31.

(3) المصدر السابق.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 303

لكن وكما قلنا فالأنبياء الصابرون لا ينحصرون بهؤلاء، بل إنّ أنبياء مثل لوط ويحيى وجرجيس وأمثالهم تحمّلوا ضغوطاً وأذىً كثيراً.

6- أنّهم كانوا أنبياء مأمورين بالجهاد ومحاربة الأعداء إعلاءً لدين اللَّه، وكانوا ستّة: نوح وهود وصالح وموسى

وداود وسليمان.

سقم هذا التفسير واضح أيضاً إذ لم يقاتل الأعداء كلّ هؤلاء الستّة كما لم يتخلّ عن القتال غيرهم مطلقاً «1»!

7- أفضل تفسير ورد حول اولي العزم في القرآن المجيد هو أنّهم أنبياء جاءوا بشريعة جديدة، وكانوا أربعة من السابقين (نوح وإبراهيم وموسى وعيسى) حيث يكتملون بنبي الإسلام صلى الله عليه و آله خمسة، والتعبير ب (اولو العزم) إنّما هو لأجل أنّ الأنبياء أصحاب الشريعة الجديدة تقع على عاتقهم مسؤولية خطيرة، وبالتالي يحتاجون إلى العزم والإرادة لأدائها، هذا المعنى نقل من حديث عن «الإمامين الباقر والصادق» عليهما السلام.

المرحوم الطبرسي نقل هذا القول في مجمع البيان عن ابن عبّاس، كما جاء هذا التفسير في «روح المعاني» عن الإمامين العظيمين الباقر والصادق عليهما السلام، وكذا عن ابن عبّاس، كما ينقل عن المفسّر المعروف السيوطي أنّ هذا من أصحّ الأقوال، وينقل عن بعض العظام من العلماء أنّ الأسماء المقدّسة لهؤلاء الأنبياء الخمسة قد ذكرت ضمن هذا البيت الشعري:

اولوالعزم نوحٌ والخليل الممجَّدُوموسى وعيسى والحبيب محمّد صلى الله عليه و آله «2»

3- الكتب السماوية للأنبياء

بديهي أنّ لكلّ واحد من الأنبياء اولي العزم (طبقاً للتفسير الأخير الذي ذكرناه) كتاباً سماوياً حيث إنّ اسم البعض منها معروف بالكامل، فالقرآن المجيد هو الكتاب السماوي

______________________________

(1) هذه الأقوال والتفاسير نقلت بشكل رئيسي من تفاسير مجمع البيان؛ وروح المعاني؛ والدرّ المنثور ذيل الآية 35 من سورة الأحقاف.

(2) تفسير روح المعاني، ج 26، ص 32. نفحات القرآن، ج 7، ص: 304

لنبي الإسلام صلى الله عليه و آله والإنجيل كتاب المسيح عليه السلام والتوراة كتاب موسى عليه السلام.

لكن ما هو اسم الكتاب السماوي لنوح وإبراهيم؟ بالإمكان الإستنتاج من الآية 19 من سورة الأعلى (صحف إبراهيم وموسى) أنّ اسم كتاب

إبراهيم هو ال «صحف»، بالضبط كما ذكروا اسم ال «صحف» لكتاب نوح أيضاً.

كما ورد اسم البعض من الكتب الاخرى في القرآن من جملتها ال «زبور» الذي أنزله اللَّه على داود «وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً». (النساء/ 163)

و الظاهر أنّ الإسم الآخر للزبور هو المزامير (جمع مزمور أي الأشعار الروحية بالصوت الجذاب).

«الزبُور»: لم يكن كتاباً سماوياً حاوياً على الأحكام والشريعة الجديدة.

وبعبارة اخرى فالكتب السماوية النازلة على الأنبياء على ضربين:

1- الكتب السماوية الحاوية على الأحكام التشريعية الجديدة، والتي تعلن عن دين جديد كالكتب الخمسة النازلة على الأنبياء الخمسة اولي العزم.

2- الكتب الخالية من الأحكام الجديدة، المشتملة على النصائح والمواعظ والوصايا والأدعية والمناجاة، كتاب «الزبور» أو الكتاب المنسوب ل «إدريس» عليه السلام هو من هذا القبيل.

نختم هذا البحث برواية عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله:

يقول أبو ذرّ: قلت يارسول اللَّه كم الأنبياء؟ فقال: «مائة الف نبي وأربعة وعشرون الفاً.

قلت كم المرسلون منهم؟ قال: ثلاثمائة وثلاثة عشر».

ثمّ يضيف قائلًا: فسألته: كم أنزل اللَّه من الكتب السماوية؟ قال: «104 كتب، 10 كتب على آدم و 50 كتاباً على شيث و 30 كتاباً على إدريس و 10 كتب على إبراهيم (التي يبلغ مجموعها مائة كتاب) والتوراة والإنجيل والزبور والفرقان» «1».

______________________________

(1) تفسير مجمع البيان، ج 10، ص 476.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 305

4- الفرق بين الرسول والنبي

«نبي» من مادّة «نبأ» بمعنى «الرسالة» أو «الرسالة المهمّة»، وإنّما يطلق «النبي» على الأنبياء الإلهيين، نظراً لإيصالهم رسالة اللَّه إلى الخلق، وقيل أحياناً إنّ هذه المفردة مأخوذة من مادّة «نَبْوَة» (على وزن حمزة) بمعنى الرفعة والسمو، وإطلاق هذه المفردة على الأنبياء إنّما هو لعلو مقامهم ومرتبتهم.

«رسول» هي في الأصل من مادّة «رِسْل» (على وزن فِعْل) التي أصلها الحركة بتؤدة وسكينة

على حدّ قول الراغب في المفردات، وحيث إنّ المبعوثين من قبل اللَّه مأمورون بمعاملة الناس بهدوء وسكينة فقد اطلقت لفظة «رسول» عليهم، لكن لكلمة «الرسول» معنىً واسعاً شاملًا لكلّ من الملائكة وكذلك الأنبياء الإلهيين، وقد استعمل كلا المعنيين في القرآن بشكل مكثّف.

على أيّة حال فاستعمال كلّ من لفظتي «نبي» و «رسول» ومشتقّاتهما كثير جدّاً في القرآن، وحول الفرق بينهما أي من الذي يسمّى نبيّاً ومن يسمّى رسولًا؟ فالحديث طويل.

جاء في روايات متعدّدة منقولة عن أهل البيت عليهم السلام أنّهم قالوا في معرض الإجابة عن السؤال عن الفرق بينهما: «النبيُ الذي يرى في منامه (ويستلم الوحي الإلهي عن هذا الطريق) ويسمع الصوت (صوت الملك) ولا يعاين الملك، والرسول الذي يسمع الصوت، ويرى في المنام، ويعاين الملك» «1».

كما يعتقد البعض أنّ «النبي» هو الذي يستلم الوحي، سواء كان مكلّفاً بإبلاغه أم لا، لكن لو سألوه فسيجيب حتماً، أمّا الرسول فهو صاحب شريعة، ومأمور بإبلاغها دون انتظار للسؤال أو الطلب.

وبعبارة اخرى ف «النبي» هو كالطبيب الماهر الذي يقابل المرضى في عيادته، فهو لا

______________________________

(1) هذا هو الحديث الذي نقله المرحوم الكليني عن زرارة عن الإمام الباقر عليه السلام اصول الكافي، ج 1 ص 176 كما نقل نفس هذا المضمون في رواية اخرى عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام (بتغيير بسيط)، وورد نفس هذا المضمون في روايتين اخريين إحداهما عن الإمام الباقر والاخرى عن كلا الإمامين (الباقر والصّادق عليهما السلام) في اصول الكافي بتفاوت بسيط، المصدر السابق، ص 176 و 177.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 306

يذهب وراء المرضى، امّا لو راجعه أحدهم فلن يقصّر في علاجه، امّا الرسول فهو كالطبيب السيّار الذي يطوي المدن والقرى والجبال والسهول والصحارى

ويتوجّه إلى كلّ مكان ليتعرّف على المرضى ويشرع في علاجهم، إذ هو في الحقيقة عين نابعة يسعى معينها وراء العطاشى، وليس كمخزن الماء الذي يبحث عنه الظمئان!

الجمع بين هذا المعنى والذي سبقه هو في غاية السهولة، إذ كلّما كانت المسؤولية أكبر كلّما كان استلام الوحي أوضح- وبعبارة اخرى فهناك تناسب طردي بين حجم المسؤولية وبين وضوح استلام الوحي- فالنبي يرى في المنام فقط أو يسمع صوت المَلَك، أمّا الرسول فيعاين المَلَك في اليقظة أيضاً.

كما اعتبر البعض الرسل أصحاب شريعة جديدة امّا الأنبياء فليس من الضروري أن تكون لهم شريعة.

التأمّل في آيات القرآن يبيّن أنّ مقامي «النبوّة» و «الرسالة» قد جمعا في كثير من الموارد في شخص واحد، مثل نبي الإسلام صلى الله عليه و آله الذي اعطي له كلّ من عنواني النبي وكذلك الرسول في الآيات القرآنية «1».

وكذلك الكثير من الأنبياء الإلهيين الآخرين كانوا يتمتّعون بمقامي النبوّة والرسالة، (وبناءً على هذا فالذين يقولون بوجود نسبة العموم والخصوص المطلق بينهما، إنّما ينطلقون من هذه الآيات).

لكنّهما ظهرا في بعض الآيات كمعنيين متقابلين وكأنّهما مفهومان متغايران، كما جاء ذلك في قوله تعالى: «مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِىٍّ ...». (الحجّ/ 52)

إذ يجب أن يكون الرسول والحالة هذه مكلّفاً بالسعي لإبلاغ الرسالة الإلهيّة إلى الخلق

______________________________

(1) نقرأ في سورة (الأعراف/ 157) حول نبي الإسلام: «الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِىَّ الْأُمِّىَّ»، وجاء في سورة (الأحزاب/ 45): «يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً»، ونقرأ في سورة (مريم/ 51) حول موسى: «وَاذْكُرْ فِى الْكِتَابِ مُوسى إِنَّهُ كَانَ مُخلَصاً وَكَانَ رَسُولًا نَبِيّاً» وفي نفس السورة الآية 54 حول إسماعيل: «وَاذْكُرْ فِى الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيّاً

...»، إذ يبدو من هذه الآيات أنّ كلا هذين المفهومين قد جمعا في شخص واحد.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 307

والإنذار والبشارة دون «النبي».

نستنتج من هذا البيان أنّ لكلّ من هاتين المفردتين معنيين إثنين، تجتمعان في أحدهما وتتقابلان في الآخر.

5- لماذا ظهر الأنبياء الكبار من منطقة خاصّة؟

يثار أحياناً السؤال عن ظهور الأنبياء اولي العزم أصحاب الشريعة والكتاب السماوي من الشرق الأوسط طبقاً لصريح تواريخهم، فقد ظهر نوح عليه السلام في أرض العراق «1»، وكان مركز دعوة إبراهيم عليه السلام العراق والشام كما سافر إلى مصر والحجاز.

وظهر موسى عليه السلام في مصر ثمّ جاء إلى فلسطين، وكان مركز ولادة وظهور ودعوة المسيح عليه السلام الشام وفلسطين، وظهر نبي الإسلام صلى الله عليه و آله في الحجاز.

كما عاش الأنبياء الآخرون غالباً في هذه المناطق وبشكلٍ بحيث يمكن القول: إنّ منطقة الشرق الأوسط كانت مركزاً لظهور الأنبياء في العالم!

فما هو السبب وراء ظهور كلّ اولئك الأنبياء من هذه المنطقة من العالم بالذات؟ وهل ياترى كانت المناطق الاخرى في غنىً عن بعثة الأنبياء أو قبولهم؟

الجواب:

لدى التأمّل في كيفية نشوء المجتمعات البشرية وظهور حضارتها لا يبقي هناك إبهام في هذه المسألة يبعث على التساؤل والاستفهام، إذ إنّ أقطاب مؤرّخي العالم يصرّحون بأنّ الشرق (خصوصاً الشرق الأوسط) كان مهداً للحضارة الإنسانية، وأنّ المنطقة التي يطلق

______________________________

(1) نقرأ في حديث عن الإمام الصّادق عليه السلام أنّه قال: «كانت الكوفة ومسجدها في زمن نوح عليه السلام وكان منزل نوح وقومه في قرية على متن الفرات ممّا يلي غربي الكوفة» (تفسير العياشي، تفسير سورة هود، ح 19).

نفحات القرآن، ج 7، ص: 308

عليها اسم الهلال الخصيب (الهلال الخصيب إشارة إلى المنطقة التي تبدأ من وادي النيل وتمتدّ إلى مصبّ دجلة والفرات وشطّ العرب، وتظهر في

الخارطة على شكل هلال كبير) هي مهد الحضارات العظيمة في العالم.

حضارة مصر القديمة التي تعدّ أقدم حضارة عرفتها البشرية، وحضارة بابل في العراق وحضارة اليمن في جنوب الحجاز، وكذلك حضارة ايران والشامات، كلّها نماذج للحضارات البشرية المعروفة.

والآثار التاريخية الباقية في هذه المناطق والكتابات الحجرية، كلّها شواهد حيّة على هذا المدّعى.

إنّ عودة الحضارة الإنسانية في هذه المناطق إلى سبعة آلاف سنة أو أكثر من جهة، والملازمة الشديدة بين الحضارة البشرية وبين ظهور الأنبياء الكبار، نظراً للحاجة الماسّة للناس المتحضّرين إلى الأديان الإلهيّة أكثر من غيرهم، ضماناً للقوانين الحقوقية والاجتماعية، وتفجيراً لطاقات فطرتهم الإلهيّة، مع الحدّ من الإعتداءات والمفاسد من جهة اخرى، دفعتنا للقول بأنّ حاجة إنسان اليوم إلى الدين خصوصاً في الدول الصناعية المتطوّرة هي أكبر من أي زمان آخر.

الأقوام المتوحشّة أو البعيدة عن ألوان المدنية ليس لها ذلك الإستعداد لتقبّل الأديان، بل ليس لها القدرة على نشرها على فرض تقبّلها لها.

لكن حينما يظهر الدين في المراكز المتحضّرة لا يلبث أن يمدّ بجذوره ليشمل باقي النقاط، وذلك لاستمرارية تردّد الآخرين على مثل هذه المناطق، أملًا في حلّ مشاكلهم فضلًا عن تمركز وسائل الدعاية والإعلام فيها أكثر من غيرها.

يمكن أن يقال: إذن فلماذا ظهر الإسلام الذي هو أكبر الأديان السماوية في منطقة متأخّرة حضارياً؟

وللاجابة عن هذا السؤال نقول: لو دقّقنا النظر في الخارطة الجغرافية لرأينا أنّ هذه المنطقة المتأخّرة أي «مكّة» كانت في الواقع همزة وصل بين آثار خمس حضارات كبيرة

نفحات القرآن، ج 7، ص: 309

وعريقة، بل هي بمثابة مركز الدائرة بالنسبة لتلك الحضارات.

ففي الشمال حضارة الروم الشرقية والشامات، وفي الشمال الشرقي حضارة ايران والكلدانيين والآشوريين، وفي الجنوب حضارة اليمن، وفي الغرب حضارة مصر القديمة.

ولنفس هذا السبب بالضبط

وضع الإسلام وضمن مرحلة انتشاره واتّساعه كلّ امتدادات هذه الحضارات الخمس تحت سيطرته وصهرها في بودقته حيث أخذ إيجابياتها وألغى سلبيّاتها، كما أضاف إليها مسائل عقائدية وعملية مهمّة حتّى أشرقت شمس الحضارة الإسلامية على كلّ هذه المناطق من أقصاها إلى أقصاها.

الخلاصة هي أنّه ومع الأخذ بنظر الإعتبار لما ذكرناه سابقاً يتّضح السبب وراء بعث اللَّه الحكيم لأنبيائه العظام من منطقة الشرق الأوسط، ولماذا كان مشرق الأرض قاعدة لانطلاق الأديان الإلهيّة الكبيرة؟

6- تكامل الأديان
مقدمة: تاريخ الانبياء جزء من تاريخ الاديان

تعرّض القرآن وفي آيات عديدة لبيان تاريخ الأنبياء ومن هنا سمّيت الكثير من سور القرآن بأسماء الأنبياء العظام أو أسماء اممهم، حتّى أنّ تاريخ نبي عظيم مثل موسى بن عمران عليه السلام تمّ التعرّض له في عدّة سور ومن مختلف الأبعاد.

بديهي أنّ ذكر هذه التواريخ وبهذه الكثافة ليس لقضاء الوقت أبداً، بل لأجل أنّ الكثير من مميّزات الأديان السماوية والأفكار والأخلاق الدينية والمعارف الإلهيّة، يمكنها أن تتجسّد بشكل حي بين ثنايا هذه التواريخ وأن تنعكس أمثلتها الحيّة من خلالها.

من هنا يمكن القول ومن أجل التعرّف على مسألة النبوّة، والحقائق المتعلّقة بأنبياء اللَّه و رسله، ينبغي التحقيق في تواريخهم بدقّة، أو بعبارة اخرى فانّ التحقيق في تاريخ الأنبياء يعدّ قسماً من تاريخ الأديان والمسائل المتعلّقة بالنبوّة.

و لا شكّ في أنّ هذا التحقيق يمكنه أن يكمل ما ورد في مختلف فصول هذا الكتاب، بل

نفحات القرآن، ج 7، ص: 310

وأن يجسّد المسائل العلمية المعقّدة أمام الأنظار.

لكن نظراً لسعة الأبحاث المتعلّقة بتاريخ الأنبياء في القرآن المجيد، بحيث تتطلب تخصيص العديد من المجلّدات لذلك، فسنتجنّب الخوض فيها فعلًا، وسنعرض إلى «تاريخ الأنبياء في القرآن المجيد بشكل موضوعي» عند إتاحة الفرصة إن شاء اللَّه، وهو بحث مفيد وجذّاب.

كما قيل في

الأبحاث المتقدّمة، فاصول الأديان السماوية إنّما وجدت واحدة، والتفاوت إنّما يكمن في الفروع والجزئيات فقط.

نفس هذا الأمر يثير الاستفسارات التالية: لماذا ظهر الأنبياء اولوالعزم واحداً بعد الآخر بين المجتمعات البشرية بكتب وأديان جديدة؟ وما الحاجة إلى الأديان الجديدة مع وجود الأديان السابقة، حينما تكون الاصول واحدة؟! ولماذا يعلن أخيراً عن الخاتمية بحيث إنّ البشرية لا تحتاج بعد ذلك إلى نبي جديد أو دين جديد؟!

الإجابة عن هذا الاستفسارات تتّضح من خلال التمعّن في مضمون الأديان الإلهيّة، صحيح أنّهم جميعاً قد جعلوا من التوحيد أساساً للدين، لكن من البديهي أنّ إدراك الأقوام البدائية لهذه المسألة لم يكن كإدراك الذين واجهوا المسألة بعدهم بآلاف السنين.

أو بعبارة اخرى فالجزئيات المتعلّقة بالتوحيد في الذات والأفعال وفي العبادة والخالقية والحاكمية ليست بذلك الشي ء الذي يتناسب والمستوى الفكري للأقوام الاولى، إذ كانوا يقتنعون بمفاهيم بسيطة وإجمالية عن مسألة التوحيد، ولم يخوضوا أبداً في هذه الجزئيات المعقّدة.

وهذا الشي ء نفسه يمكن أن يقال بالنسبة للمسائل الاخرى المتعلّقة ب «المعاد» و «منزلة الأنبياء» وأوصافهم، وكذلك الجزئيات المتعلّقة ب «العبادات»، إذ كلّما زادت معرفة أهل الأرض بهذه المسائل، ونَمَتْ القابليات جيلًا بعد جيل تمّ تعليمهم المزيد من الجزئيات.

فضلًا عن أنّ التطوّر الحضاري كان قد عقّد الحياة البشرية يوماً بعد آخر، وهذا التعقيد

نفحات القرآن، ج 7، ص: 311

استلزم بدوره سنّ قوانين جديدة لحلّ المشاكل الناتجة عن ذلك، ولذا ظهر الأنبياء للوجود واحداً بعد الآخر من أجل إنقاذ الناس وحل مشاكلهم.

هذه المسألة يمكن بيانها بشكل أفضل من خلال هذا المثال: خذ بنظر الإعتبار المراحل الدراسية للأطفال والفتيان والشباب، بدءاً بالمرحلة الإبتدائية والمتوسطة وانتهاءً بالمرحلة الجامعية، ومرحلة التخصُّص، إذ العلوم المختلفة التي تدرّس في هذه المراحل ثابتة تقريباً، لكنّها مختلفة

بحسب المستويات، فالطلبة كلّهم يدرسون الرياضيات مثلًا، ابتداءً بطلبة المدارس الإبتدائية ومروراً بطلبة الإعداديات وانتهاءً برسالة الدكتوراه في الرياضيات، في حين أنّ مستوياتها متفاوتة كثيراً، إذ كلّما زاد استعداد الطالب كلّما ارتفع مستوى الدروس أكثر، ومن هنا تأتي المراحل الدراسية الخمس (الإبتدائية والمتوسطة والإعدادية والجامعية والدكتوراه).

والأديان الخمسة التي بعثها اللَّه للبشرية شبيهة بعض الشي ء بهذه المراحل، نوح عليه السلام كان مسؤولًا عن تربية وتعليم الناس في أوّل مرحلة، إبراهيم عليه السلام في المرحلة الاخرى وكذلك موسى وعيسى كان كلّ واحد منهم معلّماً واستاذاً لإحدى هذه المراحل، لتصل النوبة إلى آخر مرحلة، ويتكفّل خاتم الأنبياء محمّد صلى الله عليه و آله بالتعليم فيها.

ومن هنا يتّضح الجواب عن السؤال الثاني الذي كان يدور حول كيفية إمكان تكامل الأديان في منطقة واحدة والإعلان عن خاتميتها؟!

الدليل واضح، إذ كما أنّ الإنسان يصل في مراحله الدراسية إلى ما يطلق عليه ب «التخرّج»، أو بعبارة اخرى أنّه يصل إلى المستوى الذي يكون قد استلم فيه الاصول العامّة والنهائية من معلّمه، بحيث يتمكّن لوحدِهِ من حلّ المسائل المستحدثة في ظلّ تلك العموميّات.

فنبي الإسلام صلى الله عليه و آله أيضاً قد جاء بتعاليم واصول تُحلّ عن طريقها كافّة المشاكل المستقبلية، كما يمكن للمسلمين مواصلة طريق تكاملهم في ظلّ تلك الاصول والتعاليم، والقرآن المجيد ذلك الكتاب الذي يكشف التمعّن فيه عن حقائق جديدة متناسبة مع متطلّبات كلّ عصر.

نفحات القرآن، ج 7، ص: 312

هذا الكلام لا يعني أنّ إنسان عصرنا قد بلغ مرتبة تغنيه عن الأنبياء كما يتوهّمه بعض المغفّلين، بل على العكس فهو يعني أنّ اصول تعاليم خاتم الأنبياء صلى الله عليه و آله واسعة جامعة وبشكل بحيث يمكن من خلالها التغلّب على مشاكل

العصر ومسائله.

ولابدّ انّك تسأل لماذا لم تعط هذه الاصول لنوح عليه السلام من البداية؟ نقول في جواب هذا السؤال: وذلك لنفس السبب الذي لم تدرّس دروس مرحلة الدكتوراه في المرحلة الإبتدائية وذلك لعدم وجود القابلية والاستعداد لتقبّلها.

وسيأتي إن شاء اللَّه شرح أوفى لهذه المسألة في بحث الخاتمية من مباحث النبوّة الخاصّة.

وهنا تصل المباحث الكليّة للنبوّة (النبوّة العامّة)، نهايتها شاكرين اللَّه على هذا التوفيق.

ربّنا! اجعلنا من التابعين الحقيقيين الخُلَّص المخلصين لأنبيائك العظام.

إلهنا: أيقظ امم العالم الغافلة من سباتها

العميق لتجتاز بسلوكها طريق الأنبياء والأولياء

مشاكل الحياة الجمّة وتنال سعادة الدارين ولتتيقّن

بأنّ طي هذا الطريق مرهون باتّباع الوحي والإيمان

باللَّه والأنبياء.

الهنا: وفّقنا لنشر تعاليم الإسلام، وخاتم

الأنبياء التي تنبض بالنشاط والحيوية في كلّ أرجاء

المعمورة بوسائل الإتّصال المتطوّرة لنروي ظمأ

العطاشى بزلال تعاليمهم

آمين ياربّ العالمين والحمد للَّه أوّلًا وآخراً.

الحادي عشر من شهر صفر 1413

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.