نفحات القرآن المجلد 5

اشارة

سرشناسه : مكارم شيرازي ناصر، - 1305 عنوان و نام پديدآور : نفحات القرآن اسلوب جديد في التفسير الموضوعي للقرآن الكريم ناصر مكارم شيرازي بمساعده مجموعه من الفضلا مشخصات نشر : موسسه ابي صالح النشر و الثقافه [1377؟]. مشخصات ظاهري : ج 6 وضعيت فهرست نويسي : فهرستنويسي قبلي يادداشت : عربي مندرجات : ج 1. العلم و المعرفه في القران .-- ج 2. معرفه الله في القرآن .-- ج 3. .-- ج 4. معرفه صفات و جلال الله .-- ج 5، 6. المعاد في القرآن موضوع : تفاسير شيعه -- قرن 14 رده بندي كنگره : BP98/م7ن7 1377 رده بندي ديويي : 297/179 شماره كتابشناسي ملي : م 77-13711

أهميّة بحث المعاد

اشارة

نفحات القرآن، ج 5، ص: 7

أهميّة بحث المعاد في المنظور القرآني

تمهيد:

لو ألقينا نظرة إجمالية على آيات القرآن المجيد لما وجدنا بحثاً يتصدّر جميع البحوث العقائدية للدين الإسلامي بعد بحث التوحيد، مثل بحث المعاد والحياة الآخرة وجزاء الأعمال والثواب والعقاب وإجراء العدالة.

إنّ وجود ما يقارب 1200 آية من مجموع آيات القرآن المجيد تهتم ببحث المعاد وهو ما يساوي ثلث آيات القرآن تقريباً، وما جاء من ذكر للمعاد في جميع صفحات القرآن تقريباً وبلا استثناء، وتكريس الكثير من السور الأخيرة في القرآن بأجمعها أو بغالبيّتها للمعاد ومقدماته وعلاماته ونتائجه، ما هي إلّاأدلة مؤيدة لهذا الادّعاء.

فالقرآن المجيد يتحدث عن عالم الآخرة في كلّ مقطعٍ تطرّق فيه لموضوع الإيمان باللَّه، وقد اقترن ذكر الموضوعين معاً في 30 آية تقريباً: «وَيُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَومِ الْاخِر» أو بتعبيرات مشابهة، وأشار لليوم الآخر أو في أكثر من 100 موضع ولم لا يكون كذلك؟ في حين أنّ:

1- كمال الإيمان باللَّه وحكمته وعدالته وقدرته لا يتمّ بدون الإيمان بالمعاد.

2- الإيمان بالمعاد يُعطي لحياة الإنسان قيمةً، ويُخرج الحياة الدنيا عن اللَّغو والعبثية.

3- الإيمان بالمعاد يخطّ طريقاً واضحاً لتكامل الحياة الإنسانية.

4- الإيمان بالمعاد يضمن تطبيق كلّ السنن الإلهيّة، وهو الدافع الرئيسي لتهذيب النفوس واحترام الحقوق والعمل بالواجبات وإيثار الشهداء وتضحية المضحين، وهو الذي يدفع الإنسان لمحاسبة نفسه.

5- الإيمان بالمعاد يُضعِف حبّ الدنيا التي هي رأس كل خطيئة، ويُخرِجُ الدنيا عن

نفحات القرآن، ج 5، ص: 8

كونها «هدفاً نهائياً» ويجعل منها «وسيلة» لنيل السعادة الأبدية، وكم الفارق شاسعٌ بين هذين المنظارين!

6- الإيمان بالمعاد يعطي للإنسان القوة لمواجهة الشدائد، ويحيل صورة

الموت المرعبة- التي تخطر على فكر الإنسان على هيئة كابوسٍ ثقيل وتسلبه راحته- من مفهوم الفناء والعدم إلى نافذة نحو عالم الخلود.

7- الكلام الفصل هو أنّ الإيمان بالمعاد- إضافةً إلى الإيمان بمبدأ عالم الوجود- يُعدّ الخط الفاصل بين الإلهيين والماديين.

بعد هذه الإشارة نعود إلى القرآن لنتأمل خاشعين في الآيات التالية:

1- «اللَّهُ لَاالهَ الَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ الى يَوْمِ القِيَامَةِ لَارَيْبَ فيهِ ومَنْ اصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً». (النساء/ 87)

2- «زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَّنْ يُبعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّى لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّئُونَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ». (التغابن/ 7)

3- «وَيَسْتَنْبِؤُنَكَ احَقٌ هُوَ قُلْ إِى وَرَبِّى انَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزينَ». (يونس/ 53)

4- «وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَاتَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّى لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ».

(سبأ/ 3)

5- «رَبَّنا انَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَارَيْبَ فيهِ انَّ اللَّهَ لايُخلِفُ المِيْعادَ».

(آل عمران/ 9)

6- «أَلا انَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي الساعَةِ لَفِى ضَلَالٍ بَعيدٍ». (الشورى 18)

7- «وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ولِقَاءِ الآخِرَةِ حَبِطَتْ اعْمَالُهُمْ هَلْ يُجزَونَ الَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ». (الاعراف/ 147)

8- «وَأَنَّ الَّذِينَ لَايُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ اعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً الِيماً». (الاسراء/ 10)

9- «وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُم لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَّاصِرِينَ». (الجاثية/ 34)

نفحات القرآن، ج 5، ص: 9

10- «وَانْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ ءَإِذَا كُنَّا تُرَاباً ءَانَّا لَفِى خَلْقٍ جَديدٍ اولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَاولئِكَ الْأَغْلَالُ فِي اعْنَاقِهِمْ وَاولئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ». (الرعد/ 5)

جمع الآيات وتفسيرها

التأكيد على المعاد:

لقد ذُكر المعاد والحياة بعد الموت بشكلٍ مؤكّد وبصور مختلفة في الآيات الآنفة الذكر، كل ذلك من أجل بيان الأهميّة البالغة التي يوليها القرآن لهذا الأمر.

الخطاب في الآية الاولى يؤكِّد على جمع البشر في ذلك اليوم الذي لا ريب فيه.

قال تعالى: «اللَّهُ لَاإِلهَ الَّا

هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَارَيْبَ فِيهِ»، ثم يبالغ بالتأكيد فيقول: «وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً».

إنّ بداية الآية ونهايتها وجميع إجزائها تؤكِّد على هذه المسألة، وتشكِّل مقياساً للأهميّة التي يكنّها القرآن لذلك الموضوع «1»، ومن الجدير بالذكر أنّ «الريب» يعني أساساً كما ورد في مقاييس اللّغة هو الشّك، أو الشّك، المشوب بالخوف والقلق، أمّا إطلاق كلمة ريب على «الحاجة» فذلك لأنّ المحتاج إلى شي ء عادةً يشك في الحصول على ذلك الشي ء فيكون شكّه مشوباً بالخوف من الحرمان!

وفي «فوارق اللغة» ذُكِرت عدّة فروق بين «الشك» و «الريب»، منها أنّ «الارتياب» شكٌ مشوب بالتهمة.

فمن المحتمل أن يكون السبب في استعمال القرآن الكريم لهذا الاصطلاح بشأن المعاد هو أنّ المعارضين لأمر المعاد كانوا بالإضافة إلى تظاهرهم بالشك في عقيدة المعاد يتّهمون النبي الأكرم صلى الله عليه و آله باختلاق تلك الامور.

__________________________________________________

(1) وهنالك آيات كثيرة اخرى في القرآن أيضاً تؤكّد جميعها على هذا الموضوع وهو أنّه لا شك في الرجعة، مثل آية 7 من سورة الحج؛ والآية 9، 25 من سورة آل عمران؛ والآية 12 من الانعام؛ والآية 21 من الكهف؛ والآية 59 من غافر؛ والآية 7 من الشورى والآية 26 و 33 من سورة الجاثية.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 10

ولكن يبقى هنالك سؤال يحتاج إلى الإجابة وهو: لِمَ اكتفى القرآن في هذه المواضع وفي مواضع مُشابهه بالمدّعى من دون ذكر دليلٍ عليه؟

وأسباب ذلك كثيرة؛ وأوّلها: إنّ أدلّة إثبات المعاد وردت في مواضع كثيرة من القرآن المجيد وبُحثت باستمرار، فلم يكن من الضرورة تكرارها في هذه الآية، وثانياً: كأنّ القرآن يريد أن يوضّح هذه الحقيقة وهو أنّ الشواهد على إثبات المعاد بلغت من الوضوح حداً بحيث لم تُبقِ مجالًا

للشّك أو التردد «1».

وفي الآية الثانية امِرَ النبي صلى الله عليه و آله بأن يُقسِم مؤكِّداً على أنّ هنالك قيامةً وحشراً ونشراً حيث قال تعالى: «زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَّنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّى لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّئُونَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسيرٌ».

نحن نعلم بأنّ القسم عادةً من الأعمال غير المحبذة، على الأخص عندما يكون القسم باللَّه تعالى من أجل هذا نهى القرآن الناس عنه في الآية الكريمة: «وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَ يْمَانِكُمْ». (البقرة/ 224)

ولكن أحياناً وعندما يكون الأمر مهماً جدّاً فإنّ القسم لدعم ذلك الأمر لا يكون غير مستحسن فحسب بل يكون لازماً.

وفي هذه الآية، علاوة على ذكر التأكيد في «لتبعثن» و «لتنبئُن» فإنّ الآية في آخرها تُصرِّح على أنّ هذا الأمر يسير على اللَّه، ولذلك فلا يجب أن ترتابوا أو تترددوا فيه «2».

__________________________________________________

(1) يجب الانتباه إلى «اللام» في «لَيجمعنكم» للقسم، ثم صاحبتها نون التوكيد الثقيلة، وبعد ذلك اكِّدَت بجملة «لاريب فيه» وأخيراً اشتدّ التأكيد بجملة: «ومن أصدق من اللَّه حديثاً». (ولكن لماذا تعدت «ليجمعنَّ» هنا ب «إلى ، مع أنّ القاعدة تقتضي التعدي ب «في»؟ فإنّ المفسرين اجابوا: إنّ السبب هو أنّ كلمة «ليجمعن» أتت بمعنى «ليحشرنَّ» التي تتعدى ب «إلى ، أو أن تكون «إلى هنا بمعنى «في».

(2) «زعْم» على وزن «طعم» في الأصل بمعنى الخطاب المحتمل كذبه أو المتيقّن من كذبه، وأحياناً تأتي بمعنى الظن الكاذب أيضاً من دون أن يكون هنالك أي خطاب، روى بعض المفسرين مثل الشيخ الطوسي في «التبيان» والقرطبي مؤلف كتاب «روح البيان» بأنّ «زعم» كناية عن الكذب.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 11

وفي الآية الثالثة طُرحت هذه المسألة على شكل استفسار ومحاورة تجري بين

النبي صلى الله عليه و آله والمشركين: «وَيَسْتَنْبِؤُنَكَ أَحَقٌ هُوَ»؟!

ويجب الالتفاف إلى أنّ «يستنبؤنك» من «النبأ» وهو «الخبر المهم».

قال «الراغب» في «المفردات» النبأ هو الإخبار النافع المصاحب للهول والعظمة لدى الإنسان الذي لديه علمٌ أو ظنٌ غالباً بذلك الإخبار، ومادام الخبر لايتصف بهذه الامور الثلاثة (الفائدة والعظمة والعلم) فإنّه لا يسمى «نبأ»، (بناءً على هذا فالخبر المشكوك أو قليل الأهميّة أو عديم الفائدة لايسمى «نبأ» وأما ما نراه في سورة النبأ من وصف النبأ ب «العظيم» فإنّه لشدّةِ التأكيد) وعندما يطلق على النبي الأكرم صلى الله عليه و آله ذلك فبسبب اتصاف ما أخبر به بهذه الصفات الثلاث أيضاً.

ثم يأمر اللَّه تعالى نبيّه صلى الله عليه و آله: «قُلْ اىْ وَرَبِّى إِنَّهُ لَحَقٌ»، والملفت للنظر هنا هواستعمال كلمة «الرب» في الآية الكريمة للاشارة إلى أن القيامة هي دوام ربوبية الخالق واستمرارها، وإنّ القيامة هي من مظاهر الربوبية، وسيأتي توضيح هذا الكلام عند البحث في أدلّة المعاد بإذن اللَّه.

وإزداد التأكيد شدّةً في آخر الآية في جملة: «وَمَا انْتُمْ بِمُعْجِزِينَ».

ويعتقد عدد من المفسرين بأنّ هذه الآية تشير إلى صدق القرآن أو نبوّة الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله، بينما تصِّرح الآية السابقة والآية اللاحقة لهذه الآية بوضوح أنّ المراد من النبا هو مسألة المعاد ومجازاة المذنبين في يوم القيامة التي طُرحت بعنوان أمرٍ واقعٍ لا شك فيه من خلال اضفاء أنواع التأكيدات عليها.

إنّ كلّاً من كلمة «إيْ»، والقسم «ربّي» و «إنَّ» و «اللام» في «لحقٌ»، ونفس كلمة «حق» وكون الجملة اسمية، وجملة «وما أنتم بمعجزين» هي تأكيدات لبيان أهميّة هذه المسألة.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 12

وفي الآية الرابعة طرحت هذه المسألة بشكل جديد فهي تنقل قول

الكافرين أولًا «وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَاتَأْتِينَا السَّاعَةُ».

ثم يأمر النبي الأكرم صلى الله عليه و آله: «قُلْ بَلَى وَرَبِّى لَتَأتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ».

من الممكن أن يكون ذكر «عالم الغيب» هو للالتفات إلى السبب الذي أدّى إلى إنكار المعاد من قِبَل الكافرين وذلك لأنّهم كانوا يقولون: مَن يقدِر على جمع الرفات المتناثرة في أكناف الأرض على شكل ذرات؟ ومن يقدر على إحصاء أعمال الإنسان التي بادت وانمحت ولم يبق منها أي أثر ليثاب ويعاقب عليها؟ يجيب القرآن هنا بجملة وجيزة، ويقول: اللَّه الذي يعلم الغيب ويعرف خفايا الإنسان يتكفّل بذلك.

ولكن لماذا اطلق اسم «الساعة» على القيامة في أحد اسمائها؟ لأنّ «الساعة» بتصريح أصحاب اللغة وضعت في الأصل للجزء الصغير من أجزاء الزمن أو بتعبيرٍ آخر هي اللحظة السريعة الانقضاء، وبما أنّ حساب العباد في يوم القيامة أو أصل قيام القيامة يتمّ بسرعة اطلق هذا الاسم على يوم القيامة «1».

ومن الجدير بالذكر أيضاً هو أنّ كلمة «ساعة» كما جاء في لسان العرب تطلق على لحظة انتهاء العالم المفاجئة وعلى قيام يوم القيامة معاً؛ لأنّ قيام يوم القيامة يكون مفاجئاً أيضاً.

وقسّم البعض «الساعة» إلى ثلاثة أنواع: «الساعة الكبرى و «الساعة الوسطى و «الساعة الصغرى .

فالساعة الكبرى هي يوم الحشر، والساعة الوسطى هي الموت المفاجى ء لقومٍ في أحد الأزمنة (مثل قوم نوح الذين غرقوا في وقت الفيضان) والساعة الصغرى هي ساعة الموت لكل إنسان «2».

__________________________________________________

(1) فعل «ساعَ» أتى بمعنى زوال، والزوال يحمل في طياته مفهوم سرعة الانقضاء، قال في المنار: ساعة في الأصل بمعنى الزمان القصير الذي يُعَّين بواسطته مقدار عملٍ معيّن حدث في خلال ذلك الوقت. (تفسير المنار، ج 7، ص 359).

(2) تاج العروس في شرح القاموس ومفردات

الراغب.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 13

وفي الآية الخامسة جاء هذا المعنى على لسان «الراسخين في العلم» فهؤلاء أيضاً خلال مناجاتهم مع اللَّه أكّدوا على أمر المعاد والحشر واعتبروه من أوضح الامور المسلّمة حين قالوا: «رَبَّنَا انَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَارَيْبَ فِيهِ».

ولشدّة التأكيد أضافت الآيةإلى ذلك: «انَّ اللَّهَ لَايُخْلِفُ المِيْعَادَ».

وفي هذه الآية أيضاً جاء عدد من التأكيدات مثل كلمة «إنّ» و «الجملة الاسمية» وجملة «لاريب فيه» وجملة «إِنّ اللَّه لا يخلف الميعاد».

إنكار المعاد هو عين الضَلال:

إلى هنا كان الكلام في التأكيدات على مسألة المعاد، ولكن الآيات الخمس المتبقية من آيات بحثنا تشتمل على تهديدات مختلفة وجِّهت إلى جاحدي الحشر والمعاد وكل آية لها تعبير خاص، ففي الآية السادسة مثلًا قال تعالى: «الا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفى ضَلَالٍ بَعْيدٍ».

«يمارون»: من «المراء» أو «المرية»، قال في «مقاييس اللغة» إنّها على معنيين:

الأول: شَدّ اليد على ثَدْي الحيوان لحلب اللبن، والمعنى.

الثاني: الصلابة والرصانة، لكن الراغب لم يذكر في المفردات إلّاالمعنى الأول.

ثم إنّ هذه الكلمة جاءت بمعنى الشك والترديد، وإن قال الراغب إنّ لها مفهوماً أضيق دائرةً من الشك (من المحتمل أنْ يكون السبب في ذلك هو أنّ «المرية» يُفهَمُ منها معنى الشك المقرون بالبحث والتحقيق، كما هو الحال في حالِب اللبن فإنّه يبذل جهداً لاستخراج اللبن من الثدي).

أمّا «المماراة» فهي بمعنى المجادلة في البحث والتعصب في الجدل أو أنّ كلّاً من الطرفين يريد أن يقرأ أفكار الطرف الآخر، أو كما قال صاحب المقاييس إنّ كِلا المعنيين يشتملان على الصلابة والتزمُّت في البحث، كما اشيرَ أعلاه بأنّ الصلابة هي أحد معاني المرية.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 14

ومن الجدير بالذكر أنّ استعمال «ضلالٍ بعيد» جاء في عشر آيات في القرآن المجيد، وكانت

أغلبها خطاباً للكفّار والمشركين وجاحدي المعاد، وهذا التعبير يبيَّن بوضوح بأنّ الضلال البعيد يختص بهذه المجموعة، وذلك لأنّ الإيمان باللَّه ويوم الحساب إنّ وجِدْ يجعل وجود الضلال سطحياً ويزيد من احتمال العودة إلى طريق الحق، بينما يقود جحد التوحيد والمعاد الإنسانَ ويجرُّه إلى آخر درجة من الضلال ويبعده عن صراط الهداية القويم إلى أدنى حد، أو بتعبيرٍ آخر إنّ الأدلّة على معرفة اللَّه وإثبات المعاد على حدٍ من الوضوح يجعلها تشابه الامور الحسيّة الملموسة، والذي يصاب بالضلال في هذين الأمرين فضلاله عظيم.

وفي الآية السابعة اشير إلى مسألة «حبط الأعمال» أي أعمال الجاحدين للمعاد في قوله تعالى «وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ولِقَاءِ الآخِرَةِ حَبِطَتْ اعْمَالُهُمْ هَلْ يُجزَونَ إِلّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ».

«الحبط»: في الأصل بمعنى البطلان أو التمّرض «1»، وفي تعبير الآيات والروايات جاء بمعنى محو ثواب الأعمال بسبب إرتكاب عدد من الذنوب.

وجاء في «لسان العرب» إنّ «الحبط» هو أن ينجز الإنسان عملًا ما ثم يُبطله.

ولعلماء علم الكلام نقاشٌ في مسألةِ هل يكون «الحبط» حاكماً دائماً في تأثير المعاصي والطاعات على بعضها الآخر أم لا؟ وسوف نتعرض بالبحث مفصلًا في هذه المسألة في محلها إن شاء اللَّه، ولكن لا يوجد على نحو القضية الجزئية شكٌ في صحة هذه المسألة، فإنّ بعض الامور مثل «الكفر» تكون سبباً في حبط ثواب جميع الأعمال الصالحة، فلو مات أحدٌ على الكفر فإنّ جميع أعماله الصالحة سوف تتلاشى كنثر الرماد في ريحٍ عاصفٍ، إنّ الآيات الآنفة الذكر تنسب هذا الاحباط لجاحدي الآيات الدالّة على إثبات اللَّه والمعاد، وهذا دليلٌ واضح على أهميّة المعاد في رأي القرآن المجيد.

__________________________________________________

(1) مقاييس اللغة مادة (حبط).

نفحات القرآن، ج 5، ص: 15

وفي الآية الثامنة هدّد القرآن بشكلٍ

صريح بتعذيب الذين لا يؤمنون بالآخرة عذاباً أليماً، قال تعالى «وَأَنَّ الَّذِينَ لَايُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ اعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً الِيماً».

فهو من جانب يقول: إنّ الجزاء مُعدٌ وجاهز كي لايظنّ أحد أنّ الجزاء وعد مؤجلٌ، ومن جانبٍ آخر يصف العذاب الإلهي ب «الأليم» وهذا الوصف من أجل المبالغة في بيان أهميّة الإيمان بالمعاد.

وكلمة «عذابٌ أليم» تكرر ذكرها في القرآن المجيد عشرات المرّات وفي آياتٍ مختلفة، وخوطِبَ بها الكفّار والمنافقون غالباً، ووردت أحياناً في تهديد من يقترف الذنوب الكبيرة مثل ترك الجهاد (سورة التوبة/ 39) والاجحاف عند القصاص (البقرة/ 178) أو اشاعة الفحشاء (النور/ 19) أو الظلم والعدوان (الزخرف/ 65) وما شابه ذلك من الكبائر.

وفي الآية التاسعة ذُكِرت ثلاث عقوبات أليمة للذين لا يبالون بيوم القيامة، قال تعالى:

«وَ قِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا». «وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ». «وَمَالَكُمْ مِنْ نَّاصِرِينَ».

إنّ الغفلة عن يوم القيامة أو نسيانه هو مصدر جميع أنواع الضلال في الواقع، كما جاء في القرآن! «.... إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ» «1».

(ص/ 26)

من الطبيعي أنّ اللَّه موجودٌ في كل مكان، وأنّ جميع الأشياء حاضرة بين يديه، ولا معنى لنسبة النسيان إليه، فالمراد من النسيان هنا هو أنّ اللَّه تعالى يحرم هؤلاء من رحمتة إلى أبعد الحدود بحيث يُتَصوَّر أنّه نسيهم!

__________________________________________________

(1) تفسير الميزان، ج 13، ص 50.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 16

وأخيراً ففي الآية العاشرة والأخيرة وعَدَ اللَّه عزّ وجلّ جاحدي المعاد بالخلود في النار وهَدَّدهم بالعذاب الدائم.

قال تعالى بعد أن وجّه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه و آله: «وانْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ ءَإِذَا كُنَّا تُرَاباً ءَإنَّا لَفِى حَلْقٍ جَدِيدٍ».

ثم يضيف إلى ذلك: «أُولئِكَ الَّذِينَ

كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْاغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ».

الحديث في بداية الآية عن تعجّب الكفّار، ثم يَعِدُّ هذا التعجب من غرائب الامور، أي هل هناك عجبٌ من هذا الأمر الواضح المُعزز بِكل هذه الأدلة؟ ويصورهم في نهاية الآية بصورة السجناء المكبَّلين بالأغلال والسلاسل في أعناقهم، وأي أغلال وأي سلاسل أكثر تقييداً من التعصب والجهل والهوى الذي يسلبهم كل أنواع حرية التفكّر إلى حدٍ تصبح فيه المسألة الواضحة كل الوضوح مدعاة لَعَجبِهم، وذلك لأنّها لا توافق هواهم وتقليدهم الأعمى

فيجب الالتفات إلى أنّ ظاهر الآية هو التقييد بالأغلال والسلاسل في الوقت الحاضر لا بعد ذلك في يوم القيامة، كما جاء في الشعر العربي: لَهُمْ عن الرُّشدِ أغلالٌ وأقيادُ، ولكن بعض المفسرين يرى أنّ الآية تشير إلى حالهم يوم القيامة ويعتقد بأنّ الأغلال والسلاسل ستوضع على أعناقهم في ذلك اليوم «1»، وذكر البعض الآخر كلا الاحتمالين «2» ولكنَّ عدداً من المفسرين يعتقد بأنّ الآية تشير إلى حالهم في الدنيا، كما صرح بذلك المرحوم العلّامة الطباطبائي في تفسير الميزان فإنّه قال: «وَأُولَئِكَ الْأَغلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ» إشارة إلى اللازم الثاني وهو الاخلاد إلى الأرض والركون إلى الهوى والتقيد بقيود الجهل وأغلال الجحد والإنكار «3».

ومن الواضح أنّ قيوداً وأغلالًا من هذا القبيل والتي يضعُها الإنسان في يديه ورجليه

__________________________________________________

(1) تفسير مجمع البيان ذيل الآية 5 من سورة الرعد؛ وتفسير القرطبي، ج 5، ص 3513.

(2) تفسير الكبير، ج 19، ص 9.

(3) تفسير الميزان، ج 11، ص 300.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 17

وعنقه سوف تظهر له يوم القيامة على صورة أغلال وسلاسل من نار، وسوف تَصُدّه عن الارتقاء إلى درجة القرب الإلهي.

نتيجة البحث:

يتّضح جيداً من مجموع

الآيات السابقة- وآيات اخرى سوف تُذكر في الأبحاث اللاحقة- مدى اهتمام القرآن المجيد بالإيمان بالمعاد، وكيف يَعُدُّهُ من أركان واسس الإيمان التي يسبب تركها الضلال البعيد والابتعاد عن الحق والخلود في النار والعذاب الأليم، ويُعدُّ إنكار المعاد دليلًا على فقدان حرية التفكير والتكبُّل بسلاسل الجهل والعناد.

وبالتأكيد فإنّ هذه الامور هي السبب في احتلال بحث المعاد المرتبة الثانية بعد بحوث التوحيد ومعرفة اللَّه بالنسبة لسعة البحوث في القرآن الكريم.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 19

أسماء المعاد في القرآن الكريم

اشارة

نفحات القرآن، ج 5، ص: 21

أسماء المعاد في القرآن الكريم

تمهيد:

ورد ذكر المعاد في القرآن المجيد في مئات من الآيات وبتعابير متنوعة، ويُعد كل تعبير من تلك التعابير بمثابة إشارةً إلى بعدٍ من أبعاد مفهوم المعاد، وتلك التعبيرات بمجموعها توضح عمق هذه المسألة وأهداف الحياة الآخرة.

وبما أنّ مطالعة عبارات القرآن المتنوعة للمعاد تفتح أمامنا آفاقاً جديدة في هذه المسألة العقائدية المهمّة، فإننا نتعرض لدراسة تلك العبارات.

وأهم العبارات القرآنية في هذه المسألة هي العبارات الثمانية التالية والتي تشكّل أساس الآيات الشريفة:

1- «قيام الساعة».

2- «إحياء الموتى».

3- «البعث».

4- «الحشر».

5- «النشر».

6- «المعاد».

7- «لقاء الرّب».

8- «الرجوع».

بعد هذه الإشارة نعود إلى القرآن لنمعن خاشعين في نماذج من التعبيرات الآنفة الذكر:

1- «وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الُمجرِمُونَ». (الروم/ 12)

نفحات القرآن، ج 5، ص: 22

2- «ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الحَقُّ وانَّهُ يُحْىِ الْمَوْتَى وَانَّهُ عَلَى كُلِّ شى ءٍ قَدِيرٌ». (الحج/ 6)

3- «وَانَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لّارَيْبَ فِيهَا وَانَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي القُبُورِ». (الحج/ 7)

4- «وَانَّ ربَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ انَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ». (الحجر/ 25)

5- «وَاللَّهُ الَّذِى ارْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ». (فاطر/ 9)

6- «كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ». (الاعراف/ 29)

7- «قَدْ خَسِرَ الّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهتَدِينَ». (يونس/ 45)

8- «كُلُّ نَفسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ ثُمَّ الَيْنَا تُرْجَعُونَ». (العنكبوت/ 57)

جمع الآيات وتفسيرها

1- القيامة

«القيامة»: هي أكثر العبارات شيوعاً عن المعاد وهي مأخوذة من مادّة «القيام»، وقد عبّر القرآن المجيد عن ذلك اليوم العظيم في 70 موردا بتعبير «يوم القيامة»، وفي بعض الآيات مثل الآية الاولى من آيات بحثنا ذكره بتعبير «يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ»، حيث قال تعالى: «وَيَوْمَ تَقُوُم السَّاعَةُ يُبْلِسُ الُمجْرِمُونَ» «1».

ومن الطبيعي أن ييأس المذنبون ويكتئبوا في ذلك اليوم ويلزموا جانب الصمت؛ لأنّهم يرون نتائج أعمالهم بعد أن لم

يبق أمامهم طريق لتدارك ما مضى يقول الفخر الرازي في تفسيره بعد أن يقسّم اليأس إلى نوعين:

«يوم تقوم الساعة يكون للمجرم يأس محير لا يأس هو احدى الراحتين، وهذا لأنّ الطمع إذا انقطع باليأس فإذا كان المرجو أمراً غير ضروري يستريح الطامع من الانتظار وإن

__________________________________________________

(1) «يبلس» من مادة «ابلاس»، قال الراغب: الابلاس هو الغم والهم الحاصل من شدّة اليأس والقنوط، وفسر البعض الابلاس باليأس بينما فسره البعض الآخر من المفسرين واللغويين بأنّه يعني السكوت الناشى ء من عدم وجود الادلّة. (المفردات؛ والصحاح؛ والتحقيق؛ وتفسير روح المعاني؛ وتفسير الميزان).

نفحات القرآن، ج 5، ص: 23

كان ضرورياً بالابقاء له ينفطر فؤاده أشدّ انفطار، ومثل هذا اليأس هو الابلاس» «1».

فأحياناً، يحلُّ اليأس في مواردٍ يحتاج الإنسان إلى مقصوده احتياجاً مبرماً، فمن البديهي في مثل هذه الموارد يكون اليأس سبباً للحيرة والضياع ومصَدراً للألم والغم القاتل، فكلمة «إبلاس» تستعمل في المعنى الثاني (بينما كلمة «يأس» ليست كذلك).

ثم إنّ القرآن الكريم يعبّر عن المعاد ايضا ب «يَوْمَ يَقُومُ الحِسَابُ». (إبراهيم/ 41)

وتارةً يقول: «يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ». (المطففين/ 6)

وتارة يذكره بعبارة: «يَوْمَ يَقُومُ الرُّوُحُ وَالْمَلَائِكَةُ». (النبأ/ 38)

وأخرى بعبارة: «وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ». (غافر/ 51)

بلى إنّ ذلك اليوم هو يوم القيامة، يوم قيام الساعة وقيام الحساب وقيام الناس وقيام الملائكة وقيام الأشهاد ويوم قيام كل شي ء.

والملفت للنظر هو أنّ التعبير بقيام الساعة له مفهوم خاص من بين هذه التعبيرات؛ لأنّ الساعة- كما قلنا سابقاً- تعني الجزء من الزمان فهل يعني هذا أنّ للزمان قيام؟ يعتقد البعض أنّ هذا التعبير يدلّ على أنّ يوم القيامة يمكن أن يُتَصوّر له التلبس بالقيام والنهوض كما هو الحال في الموجودات الحيّة (فتأمل).

2- احياء الموتى

احياء الأموات هو

عنوان آخر يُشاهد بشكل واسع في الآيات المختصة بالمعاد، وكما سيأتي- بإذن اللَّه- في بحث أدلّة المعاد أنّ عدداً كبيراً من هذه الأدلة تُوْكّد على هذا العنوان، وتُصّور إمكان الإحياء بعد الممات بطرق مختلفة.

__________________________________________________

(1) تفسير الكبير، ج 25، ص 101.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 24

ومن جملتها الآية التي هي مورد بحثنا، فبعد أن ذكر القرآن المجيد ثلاثة امور مهمّة هي (مسألة خلق الإنسان من التراب، والتطوّرات المختلفة للجنين، وإحياء الأرض بعد نزول الغيث) قال تعالى: «ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَانَّهُ يُحْىِ الْمَوْتَى وانَّهُ عَلَى كُلِّ شَى ءٍ قَدِيرٌ».

«الحق»: يعني الواقع والثبوت، والتعبير السابق- على حد قول «الميزان» يُشير إلى أنَّ اللَّه عزوجل هو عين الواقع لا أنّه وجودٌ له واقع، إنّه عين الثبوت والواقع، وبالاحرى أنَّ واقعية وثبوت كل شيّ في العالم مترشح من فيض وجوده «1».

وما يقابل الحق هو الباطل، فإنّه لا واقع ولا ثبوت له، بل هو خيالٌ وظنٌ باطل وسرابٌ لا غير.

والملفت للنظر في هذه الآية هو الامور الثلاثة المذكورة أعلاه (خلق آدم من التراب، وتطورات الجنين، واحياء الأرض الميّتة) فإنّها جاءت كدليل على إثبات المبدأ الأول أي إثبات أصل وجود اللَّه، وعلى إثبات المعاد وإثبات صفات اللَّه (مثل القدرة).

إنّ هذه التغيّيرات الواسعة والمهيمنة على كل موجودات العالم هي في الواقع دليل على وجود محورٍ ثابت في عالم الوجود، وهذا النظم العجيب الذي يُهيمن على الظواهر المختلفة هو دليلٌ على حكمة وقدرة ذلك المحور، وتدلّ كل هذه الامور بوضوح على إمكان الحياة بعد الموت.

وكما أشرنا سابقاً بأنّ تعبير «احياء الموتى ورد بشكل واسع في آيات المعاد، فإنّ هذا التعبير يدلّ بوضوح على كون المعاد جسمانيّاً، لا عودة الروح فحسب، بل

يعاد في الآخرة الجسم المتعلق بها أيضاً (ولكن على مستوىً أعلا وأرقى كما ستأتي الإشارة إليه لاحقاً) فلو كان المعاد بالروح فقط لما كان للحياة الآخرة مفهوم أصلًا، لأنّ الروح بعد انفصالها عن البدن تستمر في الحياة وتحافظ على بقائها.

3- البعث

ومن التعابير الاخرى التي وردت في آيات القرآن عن القيامة هو «البعث»، ففي الآية

__________________________________________________

(1) تفسير الميزان، ج 14، ص 378.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 25

اللاحقة لتلك الآية السابقة من سورة الحج من آيات البحث قال تعالى «وَانَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيبَ فِيهَا وَانَّ اللَّه يَبْعَثُ مَنْ فِي القُبُورِ».

لقد ورد هذا التعبير في القرآن بشكل واسع جدّاً فأحد أسماء القيامة هو «يوم البعث» (الروم/ 56)، أو «يوم يُبعثون» وجاء هذا التعبير في ست آيات من القرآن «1».

وهذا التعبير تكرر ذكره كثيراً حتى في أسئلة المشركين التي كانوا يسألونها من النبي الأكرم مثل: «ءَاذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً ءَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ» «2». (الصافات/ 16)

«البعث»: له مفهوم واسع في اللغة، فقد حمله البعض على أنّه بمعنى «الارسال» والبعض الآخر على أنّه بمعنى «الايصال»، وفّسره آخرون، ب «النشر» ولكن يظهر من موارد استعماله المختلفة أنّ له مفهوماً واحداً، إلّاأنّه يتغيّر تبعاً لمورد استعماله بما يناسبه، كارسال النبي صلى الله عليه و آله لابلاغ الرسالة، وبعث الجيش للجهاد، أو الإنسان النائم لأداء وظيفته، أو نشر الأموات للحساب، أو ارسال الحيوان للحركة «3».

والسبب في اطلاق هذا التعبير على القيامة للمناسبة الموجودة بين البعث وابتداء الحركة في الأموات الذين يخرجهم اللَّه من القبور، ومن ثم يبعثهم للحساب نحو محاكم القيامة، وبعدها نحو الجنّة أو النار، فكلّ واحد من هذه المراحل هو مصداق «للبعث».

ويلاحظ أنّ هناك تعبير آخر في آيات القرآن يقارب في

افُقِه مادة «البعث» وهو مادة «بَعْثَرة» (على وزن مَنْقَبَة).

ولم يأتِ هذا التعبير في القرآن إلّافي آيتين، الموضع الأول: «وَاذا القُبُورُ بُعْثِرَتْ». (الانفطار/ 4)

وفي الموضع الآخر هو الآية: «أَفَلَا يَعْلَمُ اذَا بُعثِرَ مَافِى القُبُورِ». (العاديات/ 9)

وبالرغم من أنّ ارباب اللغة فسّروا مادة «بعثرة» بالتقليب والنشر، لكنّ الراغب في المفردات احتمل أن تكون هذه الكلمة مركبة من كلمتي «بعث» واثيرت»، فتكون الاولى

__________________________________________________

(1) الأعراف، 14؛ الحجر، 16؛ المؤمنون، 100؛ الشعراء، 86؛ الصافات، 144؛ ص، 79.

(2) جاء هذا المعنى في الآيات التالية: الاسراء، 49 و 98؛ المؤمنون، 83؛ الواقعة، 47؛ الانعام، 29؛ المؤمنون، 37.

(3) المفردات للراغب؛ ومقاييس اللغة؛ والتحقيق في كلمات القرآن الكريم.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 26

بمعنى الانهاض، والثانية بمعنى النشر، ولذلك اشتملت هذه الكلمة «بعثرة» على المعنيين.

أمّا «البيضاوي» فإنّه نقل هذا المطلب بتعبير آخر وهو أنّ «بعثرة» مركبة من «بعث» و «رأى في «اثارة» «1».

4- الحَشْر

لقد ورد تعبير آخر عن القيامة في آيات عديدة من القرآن المجيد وهو «الحشر» كما جاء في آية بحثنا: «وَانَّ ربَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ انّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ».

«حكمته»: توجب أن لا ينتهي كل شي ء بموت الإنسان، وإلّا فإنّ الحياة الدنيا والنوم والأكل والشرب واللّبس لا قيمة لها حتى تكون الهدف من خلق الإنسان الرفيع المستوى ويكون الهدف من خلق هذا العالم الوسيع، «علمه» أيضاً يكون رافعاً للعقبات في أمر معاد العباد وحشرهم ونشرهم وحسابهم (جمع ذرات أبدانهم المنتشرة في التراب وكذلك جمع أعمالهم وأقوالهم)، وذلك لأنّه عالم بكل شي ء وقد أحصى كل شي ء.

التعبير ب «الحشر» عن القيامة استخدم فيما يقارب 30 مرّة في آيات القرآن المجيد وفي سورٍ مختلفة، وهذا المقدار من الاستعمال هو دليل على أهميّة الحشر في

القرآن.

«الحشر» في اللغة- نقلًا عن «مقاييس اللغة»- بمعنى الجمع المقارن للسَوق والقوْد، ويطلق أحياناً على كل جمع أيضاً، وعن «مفردات الراغب» بمعنى اخراج مجموعة من مقرّهم لساحة الحرب أو ما شابه ذلك، ولذا جاء في الروايات: «النّساءُ لا يُحشَرْنَ» أي لا يُسَقْنَ نحو سوح القتال.

وجاء في «التحقيق» إن مادة «حشر» تحمل في طياتها ثلاثة معانٍ: «البعث» و «السَوق» و «الجمع».

فحشرات الأرض تعني الدواب الصغيرة وسُميت بذلك لكثرتها وتحركها ولكونها منبوذة.

__________________________________________________

(1) تفسير البيضاوي ذيل الآية 4 من سورة الانفطار.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 27

واستُخدم هذا التعبير للمعاد ويوم القيامة لأنّ جميع البشر الذين عاشوا على مرّ التاريخ الإنساني سوف يجمعون في ذلك اليوم في مكانٍ واحد، ويساقون للحساب نحو محكمة العدل الإلهي، ثم يساقون نحو الجنّة أو النار.

علاوةً على هذا فإنّ ذرات بدن كل إنسان والتي انتشرت في مناطق مختلفة من الكرة الأرضية وحتى التي انتشرت أحياناً في البحر والفضاء فإنّها سوف تجمع في ذلك اليوم بأمر اللَّه، وتعاد الروح إليها، ولايقتصر الأمر على جمع الذرات فقط بل يشمل جمع الأعمال أيضاً، وعلى هذا فإنّ يوم القيامة هو يوم الجمع والحشر في ابعادٍ مختلفة.

بل يستفادُ أيضاً من الروايات الإسلامية أنّ الأمر لايختص بأهل الأرض فقط بل يجتمع معهم في هذا الأمر سكان السماوات أيضاً ولهذا السبب جاء في تفسير «يوم التلاق» الذي هو أحد اسماء القيامة الوارد في سورة غافر الآية 15 عن الإمام الصادق عليه السلام: «يوم يلتقي أهلُ السماء واهلُ الأرض» «1».

5- النشر

«النشر»: أو «النشور» هو تعبير آخر ليوم القيامة ورد في القرآن المجيد في آياتٍ متعددة، يُبيّن بُعداً آخراً من أبعاد حياة الإنسان بعد الموت، كما تشير إلى ذلك الآية

الخامسة من آيات بحثنا هذا: «وَاللَّهُ الَّذِى ارْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَاحيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ». (فاطر/ 9)

«النشر»: و «النشور» في الأصل- على ماقاله الراغب في المفردات- بمعنى التوسيع والبسط، كما هو المستعمل في بسط القماش وصفحات الورق والغمام والنِّعَم في تعبيرات الأحاديث.

ورد في «مقاييس اللغة»: النشر في الأصل «يدل على فتح شي ء وانتشاره».

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار، ج 7، ص 59، ح 5.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 28

ومن أجل هذا اطلق لفظ «النشر» على انتشار العطور الطيبة في الهواء.

واطلِق هذا التعبير على المعاد إما لِأجل انتشار البشر في نقاط مختلفة في محشرهم، كما اشير إلى ذلك في الآية المذكورة، أو لأجل انتشار كتب الأعمال، كما جاء في قوله تعالى «وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ». (التكوير/ 10)

وقد جاء في بعض الروايات عن الإمام الصادق عليه السلام: «إذا أراد اللَّه عزّ وجلّ أن يبعث الخلق أمطر السماء أربعين صباحاً فاجتمعت الأوصال ونبتت اللحوم» «1».

وبذلك تنشق الأرض ويخرج الموتى من تحت التراب (وكأن الأرض بمثابة الرحم لهم).

ونقرأ في حديث آخر أنّ شخصاً سأل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «كيف يحيي اللَّه الموتى؟ فقال ما مضمونه: هل مررت على أرضٍ يابسة لاماء فيها ولا كلأ، ثم مررت عليها مرّة أخرى وهي مخضرة؟ فقال السائل: نعم يا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فقال صلى الله عليه و آله: هكذا يُحيي اللَّه الموتى أو قال «هكذا الحشر» «2».

6- المعاد

عبّرت مجموعة اخرى من الآيات عن يوم القيامة ب «العود» ورجوع البشر، والمراد هنا هو العود إلى الحياة مرّة اخرى كما جاء في الآية السادسة من آيات بحثنا: «كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ».

وسنرى بإذن اللَّه- من

خلال البحث عن أدلة المعاد أنّ هذه الجملة أقصر وبنفس الوقت أوضح دليل على إمكان المعاد، إذ تجعل امكان الخلق ابتداءً دليلًا على إمكان الخلق مرّة أُخرى

__________________________________________________

(1) تفسير روح البيان، ج 7، ص 323 (باختصار)؛ وبحار الأنوار، ج 7، ص 33.

(2) تفسير روح البيان، ج 7، ص 323.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 29

ومن الملفت للنظر أنّ التعبير ب «العود» جاء على لسان المشركين وجاحدي المعاد أيضاً:

«فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِى فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَّرةٍ». (الاسراء/ 51)

والتعبير ب «المعاد» اخِذَ من هنا أيضاً، بالطبع أنّ هذا التعبير دليل واضح على مسألة المعاد الجسماني، وذلك لأنّ الروح لا معاد لها، بل إنّها تحافظ على بقائها حتى ما بعد الموت، والذي يعاد في يوم القيامة هي الحياة الجسمانية للجسم، حيث تحل الروح بالجسم ثانية.

والنقطة المهمّة التي تجب الإشارة إليها هي أنّ التشبيه هنا طبقاً للتفسير الوارد في آية بحثنا هذه هو تشبيه لأصل العود إلى الحياة (أتى بهذا التفسير المرحوم الطبرسي في أول كلامه عن هذه الآية، وورد هذا التفسير في روح البيان أيضاً).

ولكن عدداً من المفسرين من بينهم الفخر الرازي في «التفسير الكبير» والعلّامة الطباطبائي في «الميزان» وصاحب المنار في تفسيره وآخرون قالوا: إنّ التشبيه هنا بالنحو التالي، وهو أنّ اللَّه خلق الناس في البداية على فريقين: فريق مؤمن وفريق كافر (انتخب فريق طريق الهداية تحت ظل هداية الأنبياء، وانتخب الآخر طريق الضلالة تحت تأثير وساوس الشيطان) وفي يوم القيامة أيضاً يحشرهُم على شكل فريقين: فريق مؤمن سعيد وفريق كافر شقي مستشهدين بالآية التالية: «فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ».

(الاعراف/ 30)

والأعجب من ذلك هو أنّ الفخر الرازي جعل هذه الآية دليلًا على الجبر

في السعادة والشقاء الذاتيين!

بينما لو دقّقنا النظر في آيات القرآن الأخرى المشابهة لهذه الآية لوجدنا أنّ التشبيه إنّما هو في مسألة الهداية بعد الموت لا في الهداية والضلالة الحاصلين في الدنيا، جاء في قوله تعالى «اللَّهُ يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِليهِ تُرْجَعُونَ». (الروم/ 11)

وفي الآية (27) من نفس السورة قال تعالى «وَهُوَ الَّذِى يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ». (الروم/ 27)

وهناك آيات اخرى أيضاً تُعطي نفس هذا المعنى (سورة يونس/ 4، النمل/ 64، العنكبوت/ 19).

نفحات القرآن، ج 5، ص: 30

ومن الممكن أن يقال هنا أن تفسير الآية بمسألة السعادة والشقاء هو الوارد في التفسير المنقول عن علي بن إبراهيم عن أبي الجارود عن الإمام الباقر عليه السلام حيث قال: «خَلَقَهُمْ حِينَ خَلَقَهُمْ مؤمناً وكافراً وسعيداً وشقياً وكذلك يعودون يومَ القيامة مُهتدياً وضالًا ...» «1».

ولكن لا شك في كون هذا الحديث من المتشابه، وراوية «أبوالجارود» وهو «زياد بن المنذر» وهو مذموم بشدّة في كتب الرجال حتى أنّ البعض اطلقوا عليه اسم «سَرْحُوب» وهو أحد أسماء الشيطان وفي بعض الروايات عُدَّ كذاباً وكافراً، وينسبون إليه تأسيس الفرقة «الجارودية» المنحرفة وهي (فرقة من الزيدية).

وعلى هذا فالتفسير الأول هو الصحيح.

7- لقاء اللَّه

التعبير الآخر الذي ورد في آيات متعددة من القرآن الكريم والذي أشار إلى يوم القيامة و البحث، هو تعبير «لقاء اللَّه» و «لقاء الرب»، حيث نلاحظ هذا في الآية السابعة التي وردت في بحثنا هذا.

حيث قال تعالى: «قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ» «2».

والتعبير ب «لقاء اللَّه» و «لقاء الرب» الذي تكرر ذكره في آيات القرآن له معنىً عميق جدّاً، رغم أنّ عدداً من المفسرين قد مرّوا عليه مرور الكرام.

فقالوا حيناً: إنّ المراد من

«لقاء اللَّه» ملاقاة ملائكة اللَّه في يوم القيامة، وقالوا حيناً آخر:

إنّ المراد هو تلقي حسابه وجزاءه وثوابه.

وقالوا حيناً ثالثاً: إنّه بمعنى ملاقاة حكمه وأمره.

وعلى هذا الترتيب فإنّ كل واحد منهم جاء بكلمة لتقدير المعنى مع أننا نعلم بأنّ التقدير

__________________________________________________

(1) تفسير القمي، ج 1، ص 226؛ وتفسير نور الثقلين، ج 2، ص 18.

(2) جاء هذا التعبير أيضاً في آيات اخرى مثل: الانعام، 31 و 145؛ يونس، 7 و 11 و 15؛ الرعد، 2؛ الكهف، 105 و 110؛ الفرقان، 21؛ العنكبوت، 5 و 23؛ الروم، 8؛ السجدة، 23؛ فصلت، 54؛ السجدة، 10 و 20.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 31

خلاف الأصل وما لم يتوفر الدليل على التقدير فلا يجب الأخذ به.

وبناءً على هذه الحقيقة نعود إلى التفسير الأول، فممّا لا شك فيه أنّ ملاقاة الربّ ليست حسيّة، وذلك لأنّ الملاقاة الحسيّة تصدق في موارد الجسم الذي له مكان وزمان ولون وكيفيات اخرى على نحوٍ يمكن مشاهدتها بواسطة العين.

بل المراد هو المشاهدة الباطنية والملاقاة الروحية والمعنوية مع اللَّه، وذلك لأنّ الحُجُب تُرفع يوم القيامة، وتظهر آيات اللَّه في المحشر وجميع مشاهد ومواقف القيامة بنحوٍ يجعل الكافرين أيضاً يشاهدون اللَّه ويلاقونه ببصائر القلوب! (وإن كانت تلك اللقاءات متفاوتة كيفياً).

يقول المرحوم العلّامة الطباطبائي في تفسير الميزان: «ينبى ء أنّه تعالى هو الحق لا سترة عليه بوجه من الوجوه ولا على تقدير من التقادير فهو أبده البديهيات التي لا يتعلق بها جهل لكن البديهي ربما يغفل عنه فالعلم به تعالى هو ارتفاع الغفلة عنه الذي ربّما يعبر عنه بالعلم وهذا هو الذي يبدو لهم يوم القيامة فيعلمون أنّ اللَّه هو الحق المبين، كما أشار إلى ذلك الآية الكريمة: «وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ

هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ»» «1». (النور/ 25)

وفي حديث طويل أتى رجل إلى الإمام علي أمير المؤمنين عليه السلام وقال: حصل لي شك في القرآن المجيد!

قال له الإمام عليه السلام: «ثكلتك أمك وكيف شككت في كتاب اللَّه المنزل؟».

قال الرجل: إني وجدت الكتاب يكذِّبُ بعضهُ بعضاً ... ثم قال بعد طرحه عدَّة إشكالات:

يقول القرآن الكريم: «وُجُوهٌ يَومَئِذٍ نَّاضِرَةٌ* إِلَى رَبِّهَا نَاظِرةٌ»، ويقول في موضع آخر:

«لَّاتُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ»، فقال له الإمام عليه السلام: «اللقاء هنا ليس بالرُّؤية، بل اللِّقاءُ هنا بمعنى البعث فافهَمْ جميع ما في كتاب اللَّه من لقائهِ فانَّهُ يَعني بذلك البعث» «2».

وفي الحقيقة أنّ أمير المؤمنين عليه السلام يفسّر مسألة لقاء اللَّه تعالى بشي ء يكون اللَّه تعالى من

__________________________________________________

(1) تفسير الميزان، ج 15، ص 95 و ج 10، ص 69.

(2) توحيد الصدوق، ص 267 (مع التلخيص).

نفحات القرآن، ج 5، ص: 32

لوازمه، أجل، فيوم القيامة يوم زوال الحجب وظهور آيات الحق جلّ وعلا، وتجلّيه للقلوب، ومن تعبير الإمام هذا، يدرك كل شخص ما المقصود منه كلٌ حسب استعداده واختلاف مستواه، وكما قلنا سابقاً إنّ الشهود الباطني لأولياء اللَّه يوم القيامة يختلف كثيراً عن شهود الأفراد العاديين.

8- الرجوع إلى اللَّه

وأخيراً، ورد تعبيرٌ آخر بصورة واسعة (عشرات المرات) في الآيات القرآنية لوصف القيامة، وهو عبارة «الرجوع إلى اللَّه» أو عبارة «العود إلى اللَّه» ومشتقاتها ومن ضمنها الآية الأخيرة من آيات بحثنا، قال تعالى: «كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ».

التعبير بالرجوع والعود- كما قلنا- تكرر ذكره في الآيات فقد ورد أحياناً: «إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً». (المائدة/ 48)

وأحياناً خاطب به النفس المطمئنة والروح المتكاملة حيث قال تعالى «ارْجِعى إِلَى رَبِّكِ». (الفجر/ 28)

وأحياناً لبيان قدرة اللَّه يقول: «انَّهُ

عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ». (الطارق/ 8)

وأحياناً يقول نقلًا عن لسان المؤمنين: «إِنَّا للَّهِ وإِنَّا إِلَيْه رَاجِعُون». (البقرة/ 156)

ويقول أحياناً: «إِنَّ الَى رَبِّكَ الرُّجْعَى . (العلق/ 8)

هذه التعبيرات التي لها نظائر كثيرة في القرآن المجيد تُشير إلى أنّ القيامة والحشر في نظر القرآن هي نوع من الرجوع، ويتّضح من مفهوم تلك الكلمة أنّ الشي ء الذي يأتي من نقطةٍ ما، يعود إلى تلك النقطة.

وهناك سؤال يطرح نفسه وهو كيف ينطبق هذا المعنى على يوم القيامة؟ وبأيّ نحوٍ أتينا من عند اللَّه وكيف نرجع إليه؟!

للجواب عن هذا السؤال قدّر بعض المفسرين كلمة في الآية وقالوا: إنّ التقدير هو «إلى

نفحات القرآن، ج 5، ص: 33

حُكمه ترجعون» كما يقال أحياناً: «رَجَع امرُ القوم إلى الأمير».

ولكن هل من الصحيح أن نعتبر حذف مثل هذه الكلمة في جميع الآيات؟ وما هو الداعي أساساً للتقدير والقول بالحذف؟، بل إنّ هناك سبب خاص لهذا التعبير القرآني حتماً والذي يجب علينا البحث عنه من خلال سعينا المتواصل، ومن أجل الحصول على جواب لهذا السؤال علينا أن نعود إلى بداية خلق الإنسان.

خاطب تعالى الملائكة في القرآن بقوله: «فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى فَقَعُوا لَهُ سَاجِديِنَ». (الحجر/ 29)

ممّا لا شك فيه أنّه لا يُقصَد من الروح في الآية الروح التي انفصلت عن ذاته تعالى وذلك لأنّه واجب الوجود وأنّه بسيط وفاقد للأجزاء التركيبية في جميع الأبعاد، بل المقصود هو نفخ روحٍ منفصلة عن روح عظيمة، والتي هي من أشرف مخلوقات اللَّه، (وباصطلاح الحكماء إنّ هذه الإضافة هي «إضافة تشريفية»).

وعلى هذا فإنّ روح الإنسان الرفيعة سيقت من العالم العِلوي إلى العالم الترابي واتحدت بهذا التراب المظلم، كي ترقى إلى درجات الكمال ثم تنفصل عن التراب وتعود إلى

العالم العِلوي ثانية.

ومن الصحيح أنّ الجسم والروح كلاهما يعادان في يوم القيامة طبقاً لمبنى المعاد الجسماني، ولكن ينبغي الالتفات إلى أنّ الروح هناك لا تعود إلى الجسم بل الجسم هو الذي يعود إليها فيرتقي ويتكامل! ولذلك فإنّ الجسم الاخروي يخلو من النواقص والعاهات الجسمية التي حلت به في الدنيا، فتلف وفساد الأبدان والكهولة وقابلية الفناء والألم والمرض والتعب كلها تزول في ذلك اليوم (فتأمل).

ولتصوير مسألة حلول الروح في البدن ومن ثم العودة إلى العالم العِلوي فقد شبه بعض العلماء روح الإنسان بالغوّاص الذي يربط في رجله جسم ثقيل للغوص في أعماق البحر لاستخراج الجواهر الثمينة، فإنّه عندما يصل إلى قعر البحر ويجمع الجواهر يُلقي بذلك الجسم الثقيل من أجل العود إلى سطح البحر، وهذا هو معنى «الرجوع» (فتأمل).

نفحات القرآن، ج 5، ص: 34

النتيجة:

وخلاصة البحث أنّ يوم الحساب له مراحل ومواقف عبّر القرآن المجيد عن كلٍ منها بتعبير خاص.

فأولًا: جرى البحث عن «قيام الساعة» وتحولات العالم.

ثم يصل البحث إلى مرحلة «احياء الموتى .

بعد ذلك يبعثهم اللَّه وتبدأ مرحلة «البعث».

ثم يجمعهم، وهذه هي مرحلة «الحشر» وبعد ذلك يفرّقهم وهذه هي مرحلة «النشر».

ثم يعيدهم إليه وهذه هي مرحلة «المعاد».

ثم يسوقهم إلى لقائه وهذه هي مرحلة «لقاء اللَّه».

وأخيراً يتجهون نحو ذلك الوجود الّلامتناهي والكمال المطلق وهذه مرحلة «الرجوع» إلى الرّب.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 35

للقيامة سبعون عنواناً في القرآن

اشارة

نفحات القرآن، ج 5، ص: 37

للقيامة سبعون عنواناً في القرآن

تمهيد:

اشارة

بعد أن تعرضنا للتعبيرات العامة التي أوردناها في البحث الماضي نلاحظ أنّ القرآن انتخب «للمعاد» اسماءً كثيرةً تشير جميعها إلى جزئيات أوصاف ذلك اليوم العظيم، والمسألة الملفتة للنظر هي أنّ القرآن المجيد لا يعبّر عن القيامة بتعبير واحد وذلك بسبب ما يظهر في يوم القيامة من حوادث مختلفة ومتنوعة كثيرة، وكل واحد من تلك الأحداث تمثّل وجهاً وبعداً من أبعاد ذلك اليوم.

إنّ القرآن ومن أجل توضيح هذه الخصائص والمميزات، ذات الآثار التربوية العميقة استخدم أسماءً متنوعة؛ وذلك لإعطاء صورة دقيقة من خلال الآيات لذلك اليوم العظيم والأحداث المهيبة جدّاً.

ولا شك أنّ المقصود من «الاسم» هنا ليس هو «الاسم العَلَم الشخصي» بل ما هو أوسع معنىً والذي يشمل «الأسماء الوصفية» أيضاً، أي العناوين التي تعبّر عن صفات ذلك اليوم ومميزات تلك الحياة.

بعد هذه الإشارة نذهب لنتعرف على أسماء القيامة في القرآن، ونودّ أن نذكّر القّراء الكرام ثانيةً بهذه المسألة وهي أنّ التعمّق في هذه الأسماء له آثار تربوية عميقة وله تأثير كبير في تهذيب النفوس وإصلاح القلوب والدعوة إلى التقوى والردع عن ارتكاب السيئات في الصحوة والغفلة.

قال المرحوم «الفيض الكاشاني» في «المحجّة البيضاء»: «... تحت كل اسم من أسماء القيامة سرّ، وفي كلّ نعتٍ من نعوتها معنى، فاحرص على معرفة معانيها، ونحن الآن نجمع

نفحات القرآن، ج 5، ص: 38

لك أساميها ...». ثم ذكر مائة اسم ليوم القيامة «1».

ولم يأت ذكر هذه الأسماء جميعها في القرآن المجيد، بل استُخرجَ قسم منها من الأحاديث الشريفة، لذلك فهي خارجة

عن بحثنا التفسيري، ونحن لا نتابع فعلًا إلّااسماء القيامةالواردة في القرآن. هذا من جانب، ومن جانبٍ آخر فإنّ الأسماء التي ذكرها الفيض الكاشاني لم ترد لا في صريح القرآن ولا في صريح الأحاديث، بل هي استنباطات إجمالية من الكتاب والسنّة، لذا من الأفضل متابعة الأسماء التي صُرِّح بها في القرآن المجيد (وليس المهم أن تكون تلك الأسماء من الأسماء الخاصة التي لها عدد محدّد أو ممّا يقصد بها الوصف والبيان لخصوصيات ذلك اليوم).

ويمكن تقسيم تلك الأسماء إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول:
اشارة

الأسماء المركبة من كلمة «يوم» باضافة كلمة اخرى وهذه الاسماء تبيّن أحد أبعاد أو خصوصيات ذلك اليوم، وهي عبارة عن:

1- يوم القيامة

هذا الاسم هو من أشهر أسماء ذلك اليوم، وقد تكرر ذكره بالتحديد سبعين مرّة في القرآن المجيد، فمنها قوله تعالى: «وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَومِ الْقِيَامَةِ». (الأنبياء/ 47)

وللجواب عن سبب تسميِتِه بيوم القيامة فالقرآن نفسه يميط اللثام عن هذا السر فيقول: لأنّ ذلك اليوم هو: «يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ». (المطففين/ 6)

وهو يومٌ يقوم فيه أشرف ملائكة اللَّه الذي يسمى «الروح» مع سائر الملائكة، وفيه أيضاً

__________________________________________________

(1) المحجّة البيضاء، ج 8، ص 331.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 39

يقوم الشهود للشهادة على أعمال الناس: «وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشهَادُ». (غافر/ 51)

وأخيراً في ذلك اليوم يقوم الحساب: «يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ». (إبراهيم/ 41)

إنّ هذا الأمر من الامور المتَّبعة في المحاكم، فعند اعلان رأي المحكمة يقوم جميع الحاضرين من القضاة والمتهمين وغيرهم ثم يُعلَن الرأي النهائي، فهذا القيام لأجل احترام رأي المحكمة والخضوع أمامه.

وفضلًا عن هذا الأمر فإنّ الإنسان إذا أراد أن ينجز عملًا جاداً فإنّه يقوم حتى يتهياً لإنجازه، لذلك فإنّ مسألة «القيام» تدل على الإرادة الصلبة والتهيؤ والاحترام لانجاز مثل هذا العمل، ومن المحتمل إن تكرار كلمة «القيامة في القرآن المجيد هو لهذه العلّة».

بالإضافة إلى ذلك فإنّ قيام الموتى وخروجهم من القبور من أحد أسباب تلك التسمية.

جاء في حديث عن الإمام علي بن الحسين عليه السلام: «أشدُّ ساعات ابن آدم ثلاثُ ساعات:

الساعة التي يُعاين فيها ملك الموت، والساعة التي يقومُ فيها من قبره، والساعةُ التي يقفُ فيها بين يدي اللَّه تبارك وتعالى «1».

2- اليوم الآخر

اليوم الآخر هو الاسم الثاني، وهو مشهور ومعروف وورد بشكل واسع في القرآن المجيد مثل: «الدار الآخرة» و «اليوم الآخر» وجاء باختصار مثل «الآخرة» وقد تكرر ذكر هذه الأسماء مائة وأربعين مرّة في القرآن المجيد وفي سورٍ

مختلفة.

ورد في توضيح معنى البرّ، قوله تعالى «وَلَكِنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَومِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنّبِييِنَ». (البقرة/ 177)

وفي عبارة اخرى قال تعالى «تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَايُرِيدُونَ عُلُوّاً فى الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً». (القصص/ 83)

__________________________________________________

(1) بحارالانوار، ج 7، ص 105، ح 19.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 40

وفي تعبير آخر أيضاً قال تعالى: «وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُون». (البقرة/ 4)

أمّا التعبير ب «اليوم الآخر» أو «الدارُ الآخرة» أو «الآخرة» فيقع مقابل التعبير عن دار الدنيا ب «النشأة الاولى كما جاء في قوله تعالى «وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ».

(الواقعة/ 62)

وفي آية أخرى أيضاً: «وَلَلْآخِرَةُ خَيرٌ لَّكَ مِنَ الْاولَى . (الضحى/ 4)

قال فقهاء اللغة: إنّ «الآخِر» هو ما يقابل الاوّل، و «الآخَر» هو ما يقابل «الواحد».

قال المرحوم الطبرسي في مجمع البيان: سمّيت الآخرة بذلك لكونها بعد الدنيا، والدنيا من أجل دنوِّها من الناس سميت بالدنيا (من مادة دُنُو) وقال آخرون من أجل دنائتها وضعتها بالنسبة للآخرة «1».

وجاء في تفسير روح البيان وتفسير الفخر الرازي أيضاً ما يشابه ذلك «2».

وهذا التعبير يبيّن هذه الحقيقة، وهي أن مسير تكامل الإنسان يبدأ من هذا العالم ويستمر، وأنّ العالم الآخر هو نهاية هذا المسير، فالدنيا هي بمثابة منزل استراحة في وسط ذلك الطريق، والآخرة هي المقرّ النهائي والأبدي.

وهذا هو تحذير لجميع البشر كي لا يعتبروا الدنيا منزلًا للخلود وكي لا تتعلق بها قلوبهم ولا يعتبرونها الهدف الرئيسي ولا يبذلوا قصارى جهدهم للحصول على نعيمها، بل ليجعلوها ممرّاً للوصول إلى دار الآخرة.

3- يوم الحساب

«يوم الحساب»: أيضاً من الاسماء المشهورة للقيامة، وقد ورد في خمس آيات من القرآن الكريم، والسبب في هذه التسمية هو أنّ جميع أعمال الإنسان صغيرها أو كبيرها،

__________________________________________________

(1)

تفسير مجمع البيان، ج 1، ص 40.

(2) تفسير روح البيان، ج 1، ص 41؛ وتفسير الكبير، ج 2، ص 32.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 41

جزئية أو كلية، معنوية أو مادية، من أعمال الجوارح أو الجوانح، يشملها الحساب بدون استثناء في ذلك اليوم.

جاء في قوله تعالى على لسان موسى بن عمران عليه السلام: «وَقَالَ مُوسَى انِّى عُذتُ بِرَبِّى وَرَبِّكُمْ مِّنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَّايُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ». (غافر/ 27)

وعبّر عن ذلك تارةً ب «يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ». (إبراهيم/ 41)

ورد في مقاييس اللغة أربعة معان لمادة «حساب»: «العدُّ» و «الاكتفاء» و «الحسبان» بمعنى الوسادة الصغيرة و «احْسَب» أي الذي ابيضّ لون بشرته وسقط شعر رأسه إثرَ المرض.

وذكر عدد من أصحاب اللغة معانيَ أكثر للحساب، وقد بلغت سبعة معانٍ، منها الجزاء والعذاب «1».

ولكن الظاهر على ما يفهم إجمالًا من مفردات الراغب إنّ جميع تلك المعاني المذكورة تعود إلى معنىً واحد وهو المحاسبة، وإن استُعمل بمعنى الاكتفاء فهو يعني أنّ هناك محاسبة وصلت إلى حد الاكتفاء، وهكذا في الجزاء فإنّه يعني أنّ الجزاء يأتي بعد الحساب، والمعاني الاخرى أيضاً تعود إلى هذا المعنى بنحوٍ ما (فمثلًا، السبب في اطلاقه على نوع من الأمراض الجلدية هو تشبيهه بالمجازاة الإلهيّة التي تتم بعد الحساب، ومن المحتمل أنّ اطلاق حسبان على الوسادة الصغيرة لأنّ المحاسبين عند انجاز عملية الحساب يتَّكئون عليها).

على أيّة حال فإنّ الحساب الإلهي- الذي سيأتي توضيح كيفيته بعون اللَّه في أبحاث منازل الآخرة- من أبرز الأعمال التي تمارس يوم القيامة، وفي الواقع أنّ قيام يوم القيامة إنّما هو لأجل الحساب.

__________________________________________________

(1) نهاية ابن الأثير؛ ولسان العرب.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 42

4- يوم الدين

استعمل هذا الاسم أيضاً بشكل واسع في القرآن الكريم، وقد

بلغ عدد الآيات التي ورد فيها التعبير ب «يوم الدين» ثلاثة عشر آية، وأكثر ما يَرِدُ على الألسن هو ما جاء في سورة الحمد: «مَالِكِ يَومِ الدِّين».

يعتقد بعض أصحاب اللغة أنّ «دين في الأصل بمعنى الخضوع والطاعة والانقياد، وإذا اطلقت هذه الكلمة على معنى الجزاء فإنّه إمّا من أجل وجوب قبول الجزاء أو من أجل أنّ الجزاء من مخلفات الطاعة».

وفُسِّر يوم الدين أيضاً بمعنى يوم الحساب في بعض الروايات، وهو في الواقع من قبيل ذكر العلّة وارادة المعلول؛ وذلك لأنّ الحساب مقدمة للجزاء.

5- يوم الجمع

ورد هذا التعبير مرتين في القرآن المجيد، منها قال تعالى «يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ». (التغابن/ 9)

وأخرى «لِتُنذِرَ امَّ القُرَى وَمَنْ حَولَهَا وتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ». (الشورى/ 7)

وكيف لايكون ذلك اليوم يوم الجمع حيث إنّ جميع الاولين والآخرين وجميع الجن والانس وحتى الملائكة المقربين يجمعون في ذلك اليوم، ولم يُجْمَعوا لوحدهم فحسب بل يجمعون مع جميع أعمالهم، فيتأهبون للمثول امام محكمة العدل الإلهي.

وقد ورد هذا الاسم بصورة اخرى «ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ». (هود/ 103)

6- يوم الفصل

«يوم الفصل» (يوم الافتراق) هو اسم آخر من اسماء يوم القيامة، وقد تكرر ذكر هذا

نفحات القرآن، ج 5، ص: 43

الاسم في القرآن المجيد ست مرات «1»، قال تعالى «انَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً». (النبأ/ 17)

إنّ هذا التعبير عميق جدّاً يدلّ على الافتراق في ذلك اليوم العظيم مثل: افتراق الحق عن الباطل وافتراق صفوف المؤمنين والصالحين عن صفوف الكفار والمجرمين وافتراق الأخ عن أخيه والام والأب عن الأبناء وافتراق مصير الصالحين عن مصير (الطالحين) الفاسقين.

ويأتي هذا التعبير تارةً بمعنى يوم القضاء والتحكيم؛ ذلك لأنّ القاضي يفصل النزاع بحكمه، لذا أُطلِقَ «الفصل» على الحكم والقضاء لأنّه السبب في نهاية النزاع.

7- يوم الخروج

جاء هذا التعبير في آية واحدة من القرآن المجيد في سورة ق الآية 42 وذلك من خلال الإشارة إلى نفخ الصور الثاني، قال تعالى «ذَلِكَ يَوْمُ الْخُروجِ». (ق/ 42)

نعم، إنّه يوم الخروج من الموت إلى الحياة ومن عالم البرزخ إلى عالم الآخرة ومن الباطن إلى الظاهر ومن الخفاء إلى العلن!

وجاء هذا المعنى بصورة اخرى قال تعالى «يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ» «2». (المعارج/ 43)

ويدلُّ هذا التعبير على أنّ أحداث يوم القيامة في أوّل الأمر تمرُّ بسرعة هائلة، وفي نفس الوقت استُعمل هذا التعبير للطعن والاستهزاء بعبدة الأوثان الذين يعتبرون الأوثان من أهم الامور في حياتهم، وقد استقطبت الأوثان أكثر أصحاب العقول الناقصة، فقد وصلوا إلى حدٍ

__________________________________________________

(1) الصافات، 21؛ الدخان، 40؛ المرسلات، 13 و 14، 38؛ النبأ، 17.

(2) «سراع» جمع «سريع» (على وزن ظِراف وظريف) بمعنى الشخص أو الشي الذي يسير بسرعة. و «نُصُب» جمع «نصيب» و «نُصب» «نَصْب» على وزن (كَسْب) في الأصل بمعنى الشي الذي ينصب في مكانٍ ما،

لذا لم يطلق إلّاعلى المحل الذي يُنْصب فيه. قالوا إن الفرق بين النصب والصنم هو أنّ الصنم له شكل معيّن لكن النصب حجر خالٍ من أي صورة، وكانوا يعظمونه ويذبحون له القرابين.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 44

من الجهل جعلهم يعتبرون الهرولة نحو الأصنام من اوضح مصاديق «الاسراع» في العبادة، إذ كانوا يعدون بسرعة نحو الأوثان في أيّام الفرح أو أيّام العزاء أو عند العودة من السفر ومن هنا يظهر السّر المكنون في هذه الآية.

8- اليوم الموعود

ورد هذا التعبير مرّة واحدة في آية واحدة من القرآن أيضاً بصورة قَسَم عظيم حيث قال تعالى: «وَالْيَومِ الْمُوعُودِ»، (أى اليوم الذي هو موعد الجميع وقد وعد جميع الأنبياء بذلك).

(البروج/ 2)

وفسَّر بعض المفسرين اليوم الموعود على انَّه إشارة ليوم الخروج من القبور أو اليوم الذي يشفع فيه النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، ولكن المعنى الأول يشمل جميع هذه المعاني «1».

وورود هذا القَسَم في القرآن المجيد بعد القسم: «وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ»، هو إشارة إلى عظمة ذلك اليوم وأنّ عظمته كعظمة السماء، أو إشارة إلى أن خلق هذه السماء العظيمة وذلك النظام الدقيق المهيمن عليها لا يتمّ إلّامن أجل ذلك اليوم الموعود؛ ذلك لأنّ هذه الدنيا الفانية لوحدها لا تستحق مثل هذا النظام العظيم المترامي الأطراف.

ومهما يكن من أمر فقد ورد تعبير آخر يشابه هذا التعبير، قال تعالى «فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِى يُوعَدُونَ» «2». (الزخرف/ 83)

9- يوم الخلود

لم يرد هذا التعبير في آيات القرآن إلّامرّة واحدة في قوله تعالى: «أُدخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ

__________________________________________________

(1) تفسير روح المعاني، ج 30، ص 86.

(2) ورد ما يشابه هذا التعبير في الآية 43 من سورة المعارج؛ والآية 60 من سورة الذاريات أيضاً.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 45

يَوْمُ الْخُلُودِ». (ق/ 34)

ورد هذا التعبير بعد وصف «الجنّة» في آيات سورة ق، وإن دلّ على شي ء فإنّه يدلّ على خلود ودوام تلك النعمة الإلهيّة والمكافأة العظيمة وجميع نعمه تعالى التي وهبها للمحسنين إلى الأبد، وفي الحقيقة إنَّ يوم الخلود يبدأ من وقت الدخول إلى الجنّة.

وهذا التعبير يؤيد بوضوح ما قلناه مسبقاً وهو أنّ كلَّ واحد من أسماء وصفات القيامة يحمل في طياته إشارة إلى أحد أبعادها، والكلام هنا

عن الدوام الأبدي، ومن الطبيعي أنّ عذاب جهنم كذلك ولكن لم يعبّر القرآن ب «يوم الخلود» إلّافي هذا المورد، أمّا بشأن جهنم فيوجد تعبير مشابه آخر وهو «دار الخلد» قال تعالى «ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ». (فصلت/ 28)

10- يومٌ عظيم

ورد اطلاق وصف اليوم العظيم في آيات متعددة من القرآن المجيد، منها: قوله تعالى

«فوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَروُا مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ» «1». (مريم/ 37)

ومن الجدير بالذكر أنّ التعبير ب «عذاب يوم عظيم» جاء أيضاً في آيات القرآن في موارد العذاب الدنيوي المهيب، وبمجرد البحث في الآيات السابقة واللاحقة يمكن تمييزه عن عذاب يوم القيامة بسهولة.

على أيّة حال فإنّ نعت ذلك اليوم بالعظمة انّما جاء لأمورٍ مهمة كثيرة تحصل في ذلك اليوم العظيم مثل: المكافأة والمجازاة العظيمة، والقضاء والحساب العظيم، والحضور العظيم للمخلوقات في ذلك اليوم، وعظمة امتداد ذلك اليوم، وعظمة الخوف والرهبة والفزع، وهيبة المحشر والحساب، وفي عبارة مختصرة هي العظمة في جميع جوانبها.

__________________________________________________

(1) جاء أيضاً ما يشابه هذا التعبير في الآية 15، يونس؛ 15، الانعام؛ 59، الاعراف؛ 135، الشعراء؛ 21، الاحقاف؛ 13؛ الزمر؛ 5، المطففين.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 46

11- يوم الحسرة

ورد هذا التعبير في آية واحدة من القرآن وهو من التعبيرات التي تهز المشاعر عن يوم القيامة، فهو يوم الحسرة والأسف والندامة، قال تعالى: «وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذ قُضِىَ الْأَمْرُ وهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَايُؤْمِنُونَ». (مريم/ 39)

«الحسرة»: من مادة «حَسْر»، قال صاحب (المفردات) وصاحب (مقاييس اللغة) وعدد آخر من اللغويين: إنّها بمعنى الكشف، فمعنى حسرتُ عن الذراع كشفتُ عنها ورفعتُ عنها الكُم، ثم اطلقت كلمة حسرة على الغم والهم الحاصل من ضياع الفرص أو بعض الامور، فكأن حجاب الجهل يُرفع عن الإنسان فيكتشف اضرار الأعمال التي كان يمارسها وتظهر له الحقيقة على ما هي.

لكن البعض الآخر يعتبر الأصل في الحسر هو «الانسحاب»، ولكن الحقيقة أنّ الانسحاب من لوازم المعنى الأول، فعندما ينسحب ماء البحر إلى الخلف مثلًا فإنّ من الطبيعي أن

تظهر السواحل التي كان يغطيها الماء، أو عندما يسحب الإنسان كُمَّه إلى الخلف فإنّ ذراعه سوف تنكشف «1».

على أيّة حال فإنّ الحزن والأسف والندامة من لوازم مفهومه، وأنّ يوم القيامة هو يوم الهم والندامة والحسرة حقاً، لا للمذنبين فحسب بل للمحسنين أيضاً؛ ذلك لأنّهم عندما يشاهدون المكافآت الإلهيّة العظيمة فإنّهم يتأسفون على أنّهم لماذا لم يحسنوا أكثر ممّا احسنوا!؟

وقد صرّح بهذا عدد من المفسرين «2»، إلّاأنّ الفخر الرازي يقول: إنّ الحسرة لا تشمل أصحاب الجنّة بل تكون من نصيب المُسيئين فقط وذلك لعدم إمكان وجود أي غم أو هم في الجنّة «3».

__________________________________________________

(1) التحقيق، ج 2.

(2) تفسير مجمع البيان، ج 6، ص 515؛ وتفسير روح البيان، ج 5، ص 335؛ وتفسير روح المعاني، ج 16، ص 85.

(3) تفسير الكبير، ج 21، ص 221.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 47

ولكن يجب الاعتراف بأنّ غماً كهذا هو نوع من الكمال وليس منبعاً للعذاب الروحي، وبناءً على هذا فإنّ وجوده في الجنّة لامانع منه (فتأمل).

فإن كان التأسف والحسرة ممّا ينجبر في هذه الدنيا فإنّه لا مجال لذلك هناك، ولذا يجب أن يسمى ذلك اليوم بيوم الحسرة الحقيقية والحسرة الكبرى وقد جاء نفس هذا المعنى ولكن بصورة اخرى «انْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنبِ اللَّهِ» «1».

(الزمر/ 56)

12- يوم التغابن

ورد هذا التعبير في القرآن مرّة واحدة وذلك في قوله تعالي: «يَومَ يَجْمَعُكُمْ لِيَومِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ الْتَّغَابُنِ». (التغابن/ 9)

«التغابن»: من مادة «غَبْن» وهنا جاءت بمعنى انكشاف الغبن، أي يظهر في ذلك اليوم من هو المغبون «2».

قال المرحوم الطبرسي في مجمع البيان: «وهو تفاعل من الغبن وهو أخذ شر وترك خير أو العكس، فالمؤمن ترك

حظه من الدنيا واخذ حظه من الآخرة فترك ما هو شرّ له وأخذ ما هو خير له فكان غابناً، والكافر ترك حظه من الآخرة وأخذ حظه من الدنيا فترك الخير وأخذ الشر فكان مغبوناً، فيظهر في ذلك اليوم الغابن والمغبون».

وفي صحاح اللغة «الغبن» بمعنى الخدعة والمكر، والمغبون من وقع ضحية الخداع والمكر، وعندما تستخدم في موارد التفكّر والتعقّل فإنها تعني الضعف وعدم الاقتدار، لذا «غبين» جاءت بمعنى ضعيف الفكر.

على أيّة حال ففي يوم القيامة يكشف عن الحُجب وتظهر نتائج الأعمال والاعتقادات

__________________________________________________

(1) ورد أيضاً ما يشابه هذا المعنى في سورة الانعام الآية 31.

(2) مفردات الراغب.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 48

والنيّات، ويرى الإنسان نفسه بين كميّة عظيمة من نتائج وآثار أعماله، وهناك يُخبَر المسيئون عن خسارتهم وفشلهم وعن خداع ومكر الشيطان وعن ضياع رأس مالٍ عظيم وعن فقدانهم للسعادة الخالدة والوقوع في مخاطب العذاب الإلهي، وهذا هو الغبن الحقيقي.

13- يوم التناد

ورد هذا التعبير مرّة واحدة أيضاً في القرآن المجيد عندما كان مؤمن آل فرعون يحذّر الفراعنة من العذاب الإلهي الذي يحلُّ بهم في الدنيا والآخرة، قال تعالى «وَيَاقَوْمِ إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ». (غافر/ 32)

«التناد»: جاء في الأصل من «التنادي» حذفت ياؤه واضيفت الكسرة في آخره للدلالة على حذف الياء، وهو من مادة «نداء».

ذهب كثير من المفسرين إلى أنّ «يوم التناد» من أسماء القيامة «1»، وجاء كل منهم بدليل لاثبات مدّعاه.

قال بعضهم: إنّ الدليل عليه هو أنّ أصحاب النار ينادون أصحاب الجنّة كما في الآية الكريمة: «وَنَادى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَليْنَا مِنْ المَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ» فيجيبهم أهل الجنّة: «قَالُوا انَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ». (الاعراف/ 50)

نُقل هذا المعنى في

كتاب «معاني الأخبار» خلال حديث روي عن الإمام الصادق عليه السلام.

وقال آخرون: إنّ العلّة في هذه التسمية هي أنّ الناس في يوم الحشر ينادي بعضهم بعضاً يطلبون العون.

أو أنّ الملائكة تنادي الناس للحساب وينادي الناس الملائكة لطلب العون! أو لأنّ المؤمن عندما يرى صحيفة أعماله ينادي من شدة الفرح: «هَاؤُمُ اقْرَؤُا كِتَابِيَه». (الحاقة/ 19)

وينادي الكافر عندما يُعطى كتابه بيده من شدّة الفزع: «يَالَيْتَنِى لَمْ اوْتَ كِتَابِيَه».

__________________________________________________

(1) ادّعى الفخر الرازي في تفسيره (الكبير ج 27، ص 61) الإجماع واتفاق المفسرين على هذا القول.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 49

(الحاقة/ 25)

وهنالك وجوه اخرى ذكرت لهذه التسمية، ففي بعض التفاسير عدّوها ثمانية وجوه، ولكن بعضَ تلك الوجوه ضعيفة، ومن الممكن أنّ جميع هذه المعاني قد جُمعت في مفهوم الآية وذلك لعدم المنافاة.

14- يوم التلاقِ

ورد هذا التعبير مرّة واحدة في القرآن المجيد في قوله تعالي: «يُلْقِى الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ». (المؤمن/ 15)

المراد من لقاء الروح بقرينة الآيات الاخرى هو الوحي والكتب السماوية، كما جاء في خطابه تعالى للنبي الأكرم صلى الله عليه و آله في قرآن الكريم: «وَكَذلِكَ أَوْحَينَا الَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا».

(الشورى/ 52)

وعلى هذا الأساس فإنّ القرآن المجيد روحٌ نُفختْ في المجتمع الإنساني من قبل اللَّه عزّوجلّ!

قال الراغب في المفردات: سُمي القرآن روحاً لأنّه هو السبب في إيجاد الحياة المعنوية.

والهدف من لقاء هذه الروح هو الانذار من هول يوم التلاقي العظيم.

إنّ كل أنواع اللقاءات التي جُمعت في مفهوم الآية تحصل في ذلك اليوم، وإن أشار المفسرون إلى بعض زوايا تلك اللقاءات.

إنّه اليوم الذي يلتقي فيه العباد بربهم: «يَا ايُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ». (الانشقاق/ 6)

وهو اليوم الذي

يلتقي فيه الإنسان بملائكة الحساب والثواب والعقاب: «وَتَتَلقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ». (الأنبياء/ 103)

وهو اليوم الذي يلتقي فيه الإنسان بحساب الأعمال والأقوال: «إِنِّى ظَنَنتُ أَنِّى مُلَاقٍ

نفحات القرآن، ج 5، ص: 50

حِسَابِيَهْ». (الحاقة/ 20)

إنّه اليوم الذي يلتقي فيه الأولون والآخرون.

يوم تلاقي دعاة الحق ودعاة الباطل بأعوانهم.

يوم تلاقي الظالم والمظلوم.

يوم تلاقي أهل الجنّة وأهل النار!

نعم، إنّ الهدف الرئيس من بعث الأنبياء ونزول الكتب السماوية هو تحذير وانذار العباد من ذلك اليوم، يوم التلاقي العظيم وما أعجبه من مفهوم واسع ورهيب.

15- يومٌ ثقيل

وهذا الاسم أيضاً من الأسماء التي وردت مرّة واحدة في قوله تعالي: «إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوماً ثَقِيلًا». (الإنسان/ 27)

إنّ نعت ذلك اليوم بالثقيل هو وصف واسع وعميق المعنى ثقيل من حيث المحاسبة وثقيل من حيث المجازات وثقيل من حيث الفضائح وثقيل من حيث شدائد الحشر وثقل المسؤوليات وثقيل من حيث الذنوب التي تثقلُ كاهل المجرمين! وعبّر ب «يذرون وراءهم» مع أنّ القاعدة تقتضي أن يقال «أمامهم» وذلك من أجل الإشعار بأنّ المجرمين نسوا ذلك اليوم إلى حدٍ كأنّه تركوه وراءهم.

16- يومُ الآزفة

إنّ كل اسم من أسماء يوم القيامة يحمل في طياته خطاباً متميزاً، ومنها اسم «يوم الآزفة» الذي ورد مرّة واحدة في القرآن المجيد (التعبير ب «الازفة» ورد مرتين، ولكن «يوم الازفة» مرّة واحدة) قال تعالى «وَأَنْذِرهُمْ يَوْمَ الازِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ».

نفحات القرآن، ج 5، ص: 51

(المؤمن/ 18)

«الآزفة»: من مادة «ازَف» على وزن (صَدَف)، قال في مقاييس اللغة والمفردات ومصباح اللغة وكتب اخرى ازَف بمعنى اقترب، ولكن البعض الآخر قال إنّها بمعنى الاقتراب المشوب بضيق الوقت.

هذه التسمية تشير إلى هذه الحقيقة وهي أنّ موعد وقوع القيامة اقرب ممّا يتصوره الناس، كي لا يقول الغافلون لدينا متّسع من الوقت وأنّ يوم القيامة موعد مؤجل! فإنّه يوم قريب تصل القلوب فيه إلى الحناجر من شدّة الخوف وتبلغ الروح الحلقوم، إنّ الهمّ المشوب بالخوف في ذلك اليوم يخنق الناس.

نعم يجب التأهب في كل لحظة لمثل هذا اليوم.

وقد أشار القرآن الكريم وبتعبير آخر إلى نفس هذا المعنى في الآية الاولى من سورة الأنبياء: «اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِى غَفْلَةٍ مُّعِرضُونَ»، وهو إشارة إلى أنّ حساب يوم القيامة قريب جدّاً.

ولابدّ من الالتفات إلى أنّ

جملة (اقترب) فيها تأكيد للمعنى أكثر من (قرب) وهو إشارة إلى أنّ يوم الحساب قريب جدّاً.

فالقرآن الكريم- لقرب القيامة وحتمية وقوعها- أخبر عنها بصيغة الماضي في كثير من تعبيراته، مثل قوله تعالى «إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً* إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقرّاً وَمُقَاماً».

(الفرقان/ 65- 66)

وغيرها من الآيات الشريفة.

17- يومٌ عسير

ورد هذا التعبير مرّتين في القرآن المجيد في الآية الاولى: «فَذَلِكَ يَؤْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ».

(المدثر/ 9)

وفي الآية الثانية: «وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً». (الفرقان/ 26)

نفحات القرآن، ج 5، ص: 52

وورد هذا التعبير مرّة واحدة بلفظ «عَسِر» (على وزن خَشِن) قال تعالى «يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ» «1». (القمر/ 8)

من البديهي أن يكون ذلك اليوم منهِكاً ومؤلماً ومحزناً للكافرين، بنحوٍ ينهار فيه القوي منهم ويصبح عاجزاً ذليلًا منهك القوى

يقول الفخر الرازي في تفسيره: «عسرُ ذلك اليوم على الكافرين لأنّهم يناقشون في الحساب ويعطون كتبهم بشمائلهم وتسوَدّ وجوههم ويحشرون زرقاً وتتكلم جوارحهم فيفتضحون على رؤوس الاشهاد» «2».

وهذه إحدى مراحل صعوبات المحشر، والمراحل الاخرى أصعب واكبر بلاءً من تلك المرحلة عندما يساقون إلى جهنم ثم يرون أنواع العذاب ويقعون في نار الغضب الإلهي، فذلك اليوم ليس بيسيرٍ حتى على المؤمنين، إنّ حساب جميع الأعمال حتى إذا كان بمثقال ذرّة والعبور من تلك المسالك الصعبة أمرٌ عسيرٌ جدّاً.

18- يوم اليم

ورد هذا التعبير مرتين أيضاً في القرآن المجيد (وإن وردت كلمة «أليم» مجردةً عشرات المرات في وصف عذاب القيامة في سور مختلفة من القرآن الكريم).

إحداها في سورة هود نقلًا عن لسان النبي نوح عليه السلام عندما كان يخاطب قومه، قال تعالى:

«إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ». (هود/ 26)

والاخرى في سورة الزخرف عن لسان الوحي الإلهي: «فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ». (الزخرف/ 65)

إنّ وصف ذلك اليوم بالأليم ليس من حيث العذاب المؤلِم فحسب، بل علاوة على

__________________________________________________

(1) «عسير» و «عَسِر» كلاهما صفة مشبّهة.

(2) تفسير الكبير، ج 30، ص 197.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 53

هذا فإنّ ذلك اليوم هو مصدر الألم والعذاب من عدّة وجوه، من حيث

الفضيحة ومن حيث الندامة والحسرة القاتلة، ومن حيث أنواع الآلام الروحية الاخرى فمثلًا الإنسان الذي يرى الآخرين قد دخلوا الجنّة بواسطته في حين يجد نفسه من أهل النار، وأليم لعدم إمكان العودة ثانيةً وأليم لدوام العذاب في ذلك اليوم.

ومن الجدير بالذكر هو أنّ إحدى الآيتين السابقتين تحدثت عن المشركين والاخرى تحدثت عن الظالمين، ونحن نعلم بأنّ الشرك نوع من الظلم، وأنّ الظلم والاضطهاد أيضاً هو من دوافع الشرك على نوعيه الجليّ والخفيّ.

19- يومُ الوعيد

وردت هذه التسمية مرّة واحدة في القرآن المجيد بأجمعه حيث قال تعالى: «وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ». (ق/ 20)

ولا يخفى أنّ كلمة «وعيد» تكرر ذكرها في القرآن كثيراً، ولكن التعبير ب «يومُ الوعيد» لم يرد إلّافي مورد واحد.

كلمة «وعيد» اشتُقّت من مادة «وعد»، قال الراغب في المفردات: «وعد» تستعمل في موارد الخير والشر معاً، ولكن «وعيد» لا تستعمل إلّافي موارد الشر، ولذا فسّرَها «ابن منظور» في لسان العرب بالتهديد، وكلمة «ايعاد» جاءت بهذا المعنى أيضاً.

على أيّة حال فإنّ هذا التعبير إشارة عميقة إلى جميع أنواع عقوبات يوم القيامة، فهو إشارة إلى عقوبات المحشر وإلى محكمة العدل الإلهيّة وإلى عقوبات النار وجميع العقوبات الماديّة والمعنوية مثل الخزي أمام الناس والبعد عن فيض وقرب الرّب.

وللمفسرين أقوال في مسألة نفخ الصور التي وردت في هذه الآية، فهل هو نفخة الموت وانتهاء الحياة الدنيا، أم هي نفخة عودة الحياة وبداية الآخرة؟ ولكن جاء في الآية التالية لهذه الآية: «وَجَاءَت كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ». (ق/ 21)

وهذا دليل على أنّ المراد منها هو النفخ الثاني وهذا اليوم (يوم الوعيد) هو نفس ذلك

نفحات القرآن، ج 5، ص: 54

اليوم أيضاً «1».

20- اليوم الحق

ورد هذا التعبير مرّة واحدة أيضاً في القرآن المجيد، وقد عُبّر به عن يوم القيامة، قال تعالى: «ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ». (النبأ/ 39)

نعم إنّها حقيقة لا تنكر، وحقيقةٌ تعطي مفهوماً لفلسفة خلق كل ما في الدنيا، ولولا ذلك اليوم لما بقي هدف ومفهوم لخلق هذا العالم.

إنّ الدنيا في الواقع ليست أكثر من سراب، وهي «مجاز» وليست «حقيقة»، بل هي فناءٌ لابقاء، وموتٌ لا حياة، نعم إنّ حقيقة المفهوم الرئيسي للحياة يتجلى في يوم القيامة «وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِىَ الْحَيَوانُ». (العنكبوت/

64)

وأشار بعض المفسرين في تفسيرهم لحقانية ذلك اليوم إلى ثلاثة امور:

1- ذلك اليوم هو الحق وغيره باطل، وذلك لأنّ باطل أيّام الدنيا أكثر من حقها.

2- الحق بمعنى الوجود الثابت ولذا اطلقوا كلمة الحق على اللَّه تعالى لأنّهم قالوا باستحالة تصور الفناء له، ويوم القيامة كذلك أيضاً، وعلى هذا فإنّ القيامة حق.

3- إنّ ذلك اليوم يستحق اطلاق كلمة اليوم (بمعنى النهار) عليه وذلك لأنّ في ذلك اليوم المنير يُكشف عن الأسرار الخفية بينما تكون أحوال الخلق مجهولة ومكتومة في الدنيا (كما هو الحال في الليل) «2».

21- يومٌ مشهود

__________________________________________________

(1) رَجَّحَ هذا المعنى كثير من المفسرين مثل أبو الفتوح الرازي والعلّامة الطباطبائي والفخر الرازي والآلوسي في روح المعاني والمراغي في تفسيره عند تعليقه على تلك الآية.

(2) التفسير الكبير، ج 31، ص 25.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 55

ورد هذا الوصف مرّة واحدة أيضاً في القرآن المجيد وذكر ذلك اليوم بعد ذكر عذاب الآخرة، قال تعالى: «وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ». (هود/ 103)

ولا يكون ذلك اليوم مشهوداً من قبل الأولين والآخرين فحسب، بل سوف تشاهد في ذلك اليوم الأعمال والحساب ومحكمة العدل الإلهي ومكافآت وعقوبات الأعمال أيضاً.

وعن المرحوم الطبرسي في مجمع البيان والعلّامة الطباطبائي في الميزان أنّهم قالوا: إنّ هذه الآية تدل على أنّ الإنسان لايحضر لوحده ويشاهد ذلك اليوم بل إنّ الجن والملائكة أيضاً سوف يحضرون ويشهدون ذلك اليوم فإنّه يوم الجمع الشامل «1».

وقال القرطبي أيضاً إنّ سكان السموات يحضرون ويشهدون ذلك اليوم أيضاً.

ومن البديهي أنّ جميع الأيّام يمكن مشاهدتها، ولكن انتخاب هذا الوصف ليوم القيامة يقع تارةً من حيث الدلالة على حتمية وقوعه، واخرى للدلالة على أهميّة تلك الأحداث التي تقع في ذلك اليوم والحضور الشامل لسائر الخلق فيه.

22- يومٌ معلوم

ورد هذا التعبير مرّة واحدة أيضاً في القرآن الكريم في جواب استفسار الكفّار عن الحياة ما بعد الموت، قال تعالى: «قُلْ إِنَّ الْاوّلِينَ وَالْآخِرِينْ* لَمجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ».

(الواقعة/ 49- 50)

إنّ العلم بذلك اليوم يمكن أن يكون له مفهومان:

1- «العلم التفصيلي» أي العلم بذلك اليوم وتاريخ وقوعه الدقيق، ونحن نعلم بأنّ هذا العلم يختصُ باللَّه تعالى، ولا أحد يعلم بذلك حتى الأنبياء والمرسلين والملائكة المقربين، لكنّه ثابت ومقطوع به ومعلوم من جميع الجهات في علم اللَّه عزّ وجلّ.

2- «العلم الإجمالي» أي العلم بأنّنا سوف

نواجه جميعاً مثل هذا اليوم، فبما أنّ علمنا نابع من أعماق فطرتنا- كما سيأتي في الأبحاث اللاحقة إن شاءاللَّه- ومع وجود الدلائل المتعددة عن طريق العقل التي يمكن أن يحصل عليها العالم والعامي بالإجمال، وباضافة علم جميع الرسل والأنبياء، يكون ذلك اليوم يوماً معلوماً وحتمياً وضرورياً وإن لم يعلم

__________________________________________________

(1) تفسير الميزان، ج 11، ص 7؛ وتفسير مجمع البيان، ج 5، ص 191 ورجّح «المراغي» هذا القول في تفسيره أيضاً.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 56

أحد تاريخه بالدقة.

وأكثر المفسرين رجحوا المعنى الأول، لكن الأكثرية أخذوا بالمعنى الثاني واستدلوا على شمولية هذا العلم بكلمة «قُل» وذلك لأنّ مفهومها يتضمن تبليغ هذا الأمر للجميع «1».

لكن يمكن الجمع بين التفسيرين في مفهوم الآية أيضاً.

إنّ الخطاب الذي يوجهه الينا تعبير (يوم معلوم) هو أن نكون صادقين في تعاملنا مع هذا اليوم وأن نتأهب للقائه، وأن نعلم علم اليقين بأنّ القيامة على أيّة حال واقعة بجميع آثارها ونتائجها، وهذا العلم واليقين له أثر كبير في التربية.

23- يوماً عبوساً قمطريراً

ورد هذا التعبير مرّة واحدة أيضاً في القرآن المجيد في نقل خطاب «الأبرار» «2» عند قولهم: «إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً». (الانسان/ 10)

كلمة «عبوس» هي من صفات الإنسان وهذا ممّا لا يحتاج إلى تفسير، وتطلق هذه العبارة على الإنسان الذي تقطّب وجهه وكان حاله على غير مايرام، ووصف ذلك اليوم ب «عبوس» كناية حيّة عن وضع ذلك اليوم الرهيب المرعب، أي أنّ وقائع ذلك اليوم بلغت من الصعوبة والإيلام حدّاً كبيراً لا يكون الإنسان لوحده عبوساً في ذلك اليوم، بل كأن اليوم بنفسه عبوسٌ مقطّبٌ بشدّة!

و «القمطرير»: عند كثير من المفسرين بمعنى «الصعب الشديد» أو الإنسان العبوس السّيئ الخلق، وبناءً على هذا يكون

مفهومه قريباً من مفهوم العبوس، ثم إنّ هذه الكلمة مشتقة من مادة «قطر» على وزن (قفل) والميم زائدة فيها، وقيل إنّها مشتقه من مادة «قمطر» (عى وزن خنجر).

__________________________________________________

(1) تفسير الكبير، ج 29، ص 172.

(2) والمعلوم أنّ هذه السورة نزلت في بيان شأن الإمام علي وفاطمة والحسن والحسين (سلام اللَّه عليهم أجمعين) الذين هم في الركب الأول من «الأبرار والصالحين».

نفحات القرآن، ج 5، ص: 57

على أيّة حال فإنّ التعبير المذكور يشير إلى أن أحداث ذلك اليوم تبلغ من الصعوبة والشدّة والألم درجة يجعل آثارها تظهر من بواطن الناس على وجوههم، ويسيطر الخوف والاضطراب على تمام وجودهم، وذلك لأنّ أحداً لا يعلم إلى أين ينتهي مصيره، والجميع ينتظرون الحساب وينتظرون لطف اللَّه.

قال بعض المفسرين في شدّة هذا اليوم: سبحان اللَّه ما أشدَّ اسم هذا اليوم وهو من اسمه أشد.

24- يوم البعث

ورد هذا التعبير مرّتين في القرآن المجيد وذلك في آية واحدة وهي: «وَقَالَ الَّذيِنَ اتُوا الْعِلمَ وَالإِيمانِ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِى كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَومِ الْبَعْثِ فَهذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَاتَعْلَمُونَ». (الروم/ 56)

من الواضح أنّ التعبير عن احياء الموتى ب «البعث» (والأفعال المشتقة منه) في آيات القرآن المجيد كثير جدّاً واستعمل استعمالًا واسع النطاق كما أشرنا إليه سابقاً، وكل تلك التعبيرات تبيّن هذه الحقيقة وهي أنّ ذلك اليوم يوم حياة الجميع بعد موتهم، وبما أنّنا أشرنا إليه بما فيه الكفاية في هذا الصدد فلا نرى ثَمّة حاجة إلى توضيح أكثر.

إلى هنا ينتهي القسم الأول: ومن خلال الأسماء والاوصاف والتعبيرات المختلفة التي وردت في هذا القسم تتجلى لنا بوضوح هذه الحقيقة وهي أنّ القرآن جاء لينبّه الناس من غفلتهم، ومن أجل تربيتهم وتعليمهم وهدايتهم إلى التكامل والسمو،

وكذلك من أجل عرض وتوضيح الصور المختلفة للمعاد، فقد انتخب للمعاد أسماءً متنوعة يشير كل واحد منها إلى بُعدٍ من أبعاد ووقائع ذلك اليوم وأحداثه العظيمة المزلزلة التي لا نظير لها، فكل واحد من هذه الأسماء، أو بتعبير آخر كل واحد من أوصاف ذلك اليوم يحمل في طياته خطاباً متميزاً

نفحات القرآن، ج 5، ص: 58

لجميع البشر وعلى مرّ القرون والعصور.

خطابٌ إذا ما اعتُبِرَ به فإنّه سيكون عاملًا مؤثراً في الردع عن الانحرافات والسيئات والخطايا والجرائم والمنكرات والمظالم.

إنّه خطاب يكشف البحث فيه بوضوح عن أبعاد فصاحة وبلاغة القرآن في الميادين المخلتفة وخصوصاً في المواضيع التربوية، وهو أفضل هادٍ لسالكي طريق الحق وللباحثين عن طريق القرب الإلهي (فتأمل).

القسم الثاني:
اشارة

والآن نبحث في قسم آخر من أسماء القيامة والتي لا تصف القيامة في كلمة واحدة بل من خلال جملة كاملة.

25- يومَ نطوي السماء كطيِّ السِّجلِّ للكُتُب

بعض هذه التعبيرات تتحدّث عن الوقائع التي تحدث في العالم عند ظهور مقدمات القيامة، والبعض الآخر يتعلق بأحوال البشر في ذلك اليوم، ويخبر قسم آخر عن انتهاء كل شي.

التعبير أعلاه هو من ضمن التعبيرات التي تتعلق ب «مقدمات القيامة» بعد الإشارة إلى عدد من مكافآت المحسنين وعقوبات المسيئين، قال تعالى «يَوْمَ نَطْوِى السَّمَاءَ كَطَىِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ». (الانبياء/ 104)

«السجل»: من مادة (سَجْل) على وزن (سَطْل) بمعنى الدلو الكبير المملوء بالماء، وقيل إنّه بمعنى «الجمع والادِّخار لأجْل الاراقة والنثر»، من أجل هذا اطلقوا كلمة «سَجْل» على الدلو الكبير، واطلقوا كلمة «سِجِلّ» (بكسر السين والجيم وتشديد اللام) على الصحائف

نفحات القرآن، ج 5، ص: 59

التي تكتب عليها المطالب وتطوى أحياناً كما كانت تطوى «الوثائق» في السابق، ويستعمل طي السجل في هذا المورد.

ويعتقد البعض أنّ السِجلّ بمعنى الملفّات التي تكتب وتحفظ فيها الدعاوى وامور اخرى مشابهة، لذا جاء التسجيل بمعنى التقرير والإثبات «1».

على أيّة حال فإنّ ظاهر الآية يشير إلى أنّ السماء كلها تطوى عندما يفنى العالم وتبدأ القيامة، فتصير بصورة قطعة واحدة كما كانت عليه في البداية، وهذا ممّا صرح به العلم الحديث، وهو أنّ العالم في البداية كان على شكل حزمة واحدة ثم دار حول نفسه بسرعة تحت تأثير علل خفية وتناثرت اجزاءه تحت تأثير القوة الطاردة عن المركز وهو الآن في حال الاتساع والانبساط ثم يعود ثانيةً وبسرعة إلى الانقباض والاتجاه نحو المركز، ثم أخيراً تعود الأجزاء إلى بعضها وتشكّل حزمة واحدة، وهذه هي نهاية

نظام هذا الكون.

ثم تبدأ حركة جديدة وتظهر سموات وأرض جديدة لعالم اخر، وعلى هذا المعنى فلا حاجة إلى تفسير الآية بالمعنى الكنائي، ولو أنّ كثيراً من المفسرين مالوا إليه، وربّما كان ذلك بسبب عدم وجود هذا التفسير في ذلك الزمان.

لكن انطواء السموات في أيّة صورةٍ كان، لا يعني فناءها المطلق وانعدام العالم المادي؛ وذلك لأنّ القرآن أشار في آياتٍ متعددة وبصراحة إلى أنّ الناس يخرجون من القبور وتعود الحياة إلى رفاتهم وتبقى الذرات الحاصلة من تفسخ أبدانهم وتجمع وتبدأ حياةً جديدة.

26- يوم تبدَّلُ الأرضُ غيرَ الأرضِ والسموات

من خلال ما قيل في البحث السابق بشأن القيامة يتضح معنى هذا التعبير القرآني أيضاً، هذا التعبير الذي ورد مرّة واحدة لا غير في القرآن المجيد، يدل على الانتقام الإلهي من الظالمين والمجرمين، قال تعالى: «يَوَم تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّموَاتُ».

__________________________________________________

(1) القاموس؛ والمفردات؛ والتحقيق وكتب اخرى

نفحات القرآن، ج 5، ص: 60

(ابراهيم/ 48)

في أول الأمر يُبَعثَر كل شي ء، ثم يضع باني عالم الوجود تصميماً جديداً، ويُبدعُ ارضاً وسماءً جديدة تكونان أرقى وأعلا مرتبةً من سابقتيهما حتى تليق بطبيعة يوم القيامة.

وللمفسرين نقاش حول المُبدَّل، هل هو ظاهر الأرض وصفتها أم هو ذاتها؟ فقال بعضهم: إن جميع الاجبال والغابات وغيرهاتُبدّل وتصبح الأرض مستوية بيضاء اللون كالفضة، وكأنما لم يُرقْ على تلك الأرض دم ولم يرتكب عليها ذنب قط، وتبدل السموات بذلك النحو أيضاً.

وقال البعض الآخر: إن هذه الأرض وهذه السماء تفنيان بالمرّة ويحلّ محلهما أرضٌ وسماءٌ جديدتان، لكن هذا الاحتمال- كما أشرنا سابقاً- لايتلائم مع الآيات القرآنية الاخرى التي تتحدث عن قبور الناس وعن تراب ابدانهم التي تبقى كما كانت عليه، فإن قيل إن تبديل الأرض هذا يتم بعد انتهاء الحياة البشرية، قلنا إنّ

هذا الكلام ينافي ذيل الآية، لأنّ ظاهرها يدل على ظهور وبروز الخلق بعد تبديل الأرض. حيث قال اللّه تعالى «وَبَرَزُوا لِلّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ». (إبراهيم/ 48)

27- يوم تمورُ السماءُ مَوراً

ورد هذا التعبير مرّة واحدة فقط في القرآن الكريم، وقد جاء بعد بيان وقوع العذاب الإلهي حيث لا مانع ولا دافع لوقوعه، قال تعالى: «إِنَّ عَذَابَ رَبِّك لَوَاقِعٌ* مَّالَهُ مِن دَافِعٍ* يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْراً* وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْراً». (الطور/ 7- 10)

«المور»: على وزن (موج) وله معانٍ مختلفة- على حد قول أصحاب اللغة-: حيث جاء بمعنى الحركة الدائرية وبمعنى الموج وبمعنى الحركة السريعة وبمعنى الذهاب والاياب وبمعنى الغبار الذي يذهب به الريح في كل جانب «1»، وأكثر المعاني مناسبةً هنا هو الحركة

__________________________________________________

(1) لسان العرب؛ ومفردات الراغب؛ وتفسير مجمع البيان، ج 9، ص 163؛ وتفسير روح البيان، ج 9، ص 189.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 61

السريعة.

فمن الممكن أن تكون هذه الحركة بياناً لتلك الحركة السريعة نحو مركز الكون التي تحدث عند انقباض أجزاء عالم المادّة كما أشرنا إليها في الصفحات السابقة، ومن الممكن أيضاً أن تكون بياناً لحركة العالم المستديرة في مسير انبساط وانقباض المجموعة الكونية.

وقال الفخر الرازي خلال تعليقه على هذه الآية: وقوله «وتسير الجبال» يُحتمل أن يكون بياناً لكيفيّة مور السماء، وذلك لأنّ الجبال إذا سارت وسير معها سكّانها يظهر أنّ السماء كالسيّارة إلى خلاف تلك الجهة كما يشاهده راكب السفينة، فانّه يرى الجبل الساكن متحرّكاً «1».

مفهوم هذا الكلام هو أنّ السموات ثابتة في الحقيقة ولكنّها تبدو للانظار متحركة، لكن هذا على خلاف ظاهر الآية.

28- يوم تشقَّقُ السماءُ بالغمام
29- يوم تشققُ الأرض عنهم سراعاً

هذان التعبيران عن يوم القيامة متشابهان في أحد أبعادهما.

ففي الآية الاولى قال تعالى: «وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمَامِ». (الفرقان/ 25)

وفي الآية الثانية قال تعالى: «يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً». (ق/ 44)

إنّ انشقاق الأرض من فوق الناس له مفهوم واضح وهو بيان لزلزال القيامة الذي يشق القبور ويحيى الناس بأمر

اللَّه ويخرجون بسرعة للحساب والجزاء.

أمّا تمزق السموات بالغمام فيمكن أن يكون بياناً للانفجارات الهائلة التي تحدث في الأجرام السماوية عند فناء الكون وأنّ الغمام الحاصل من هذه الانفجارات يملأ السماء (هذا على أنّ «الباء» في «بالغمام» باء الملابسة أي يلابس ويصطحب مع الغمام).

أو أنّ السموات أي «الأجرام السماوية» تتمزق بتأثير الغيوم التي تحمل أمواجاً قوية هائلة حاصلة من الانفجارات النووية أو غيرها (وفي هذه الحالة تكون الباء سببية) «2»- «3».

__________________________________________________

(1) تفسير الكبير، ج 28، ص 243.

(2) قال بعض المفسرين إنّ «الباء» بمعنى «عن» فيكون المعنى هو أن تتمزق وتتنحى عن واجهة السماء لكن هذا المعنى بعيد جدّاً.

(3) «الغمام» من مادة «غم» بمعنى الحجب، ومن حيث إنّ الغيوم تحجب السماء فإنّهم اطلقوا عليها «الغمام» ومن حيث إنّ الهم والحزن يملًا قلب الإنسان فإنّهم اطلقوا على ذلك الغم.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 62

قال المرحوم العلّامة الطباطبائي في تعليقهِ على هذه الآية: «ليس من البعيد أن يكون هذا الكلام كناية عن انكشاف غمة الجهل وبروز عالم السماء وهو من الغيب وبروز سكانها وهم الملائكة ونزولهم إلى العالم الأرضي موطن الإنسان» «1».

ولكن بما أنّ الحمل على الكناية يحتاج إلى قرينة ولا قرينة عليه في الآية فإنّ التفسير الأول يظهر على أنّه أكثر مناسبةً، وهكذا في الآية الثانية أيضاً فإنّ انشقاق الأرض يحمل المعنى الظاهري لا الكنائي والمعنوي.

والشاهد الآخر وجود الآيات الكثيرة في القرآن المجيد والتي تدل على حدوث تغيّرات وانقلابات شديدة في جميع شؤون عالم المادّة لا في السماء والأرض والجبال والبحار فقط.

30- يوم تكون السماء كالمُهل

هذا وصف آخر ليوم القيامة والتغيّرات الحادة التي تطرأ على العالم، وقد ورد هذا التعبير مرّة واحدة في القرآن حيث قال تعالى: «يَوْمَ

تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ». (المعارج/ 8)

و «مُهْل»: على وزن (قُفْل) فسروها تارة بمعنى المعادن المنصهرة، وتارةً بمعنى الثُقل أو الرسوبات التي تترسب في قعر إناء الزيت وأمثاله، وتارةً اخرى بمعنى الفضة المذابة وتارة بمعنى رسوبات الزيت «2»، هذا ولكن المعنى الأول أرجح عند إمعان النظر في آيات اخرى تحدثت عن وقائع يوم القيامة.

والمراد بالسماء هنا هو إمّا الأجرام السماوية أو واجهة السماء التي تصبح على هيئة

__________________________________________________

(1) تفسير الميزان، ج 15، ص 202.

(2) تفاسير مجمع البيان؛ الكبير؛ الميزان وتفاسير اخرى في التعليق على الآية.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 63

معدن منصهر بفعل انفجار الأجرام.

قال بعض المفسرين: من المحتمل أنّ عدداً كبيراً من الأجرام السماوية والتي هي حالياً على هيئة غازات مضغوطة تتبدل صورها يوم القيامة وتتحول إلى أشكال ذائبة، وهي الصورة الجديدة لتلك الغازات والتي تكون مقدمة لحدوث القيامة «1».

31- يوم ترجف الأرضُ والجبال

لوحظ هذا الوصف في آيتين من القرآن المجيد على تفاوت ضئيل بينهما في وصف يوم القيامة، وجاء هذا الوصف في الآية: «يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ والْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَّهِيلًا». (المزمل/ 14)

و كذلك قوله تعالى «يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ». (النازعات/ 6)

اليوم الذي تتعرض فيه كل الأرض للزلازل العنيفة وتَتحطّم الجبال بشدّة حتى تصبح أكواماً من الرّمل، فما هو حال الإنسان الضعيف المنهك في ذلك اليوم؟!

جميع تلك الامور تتعلق بالوقائع التي تؤدّي إلى فناء هذا العالم، ثم تبدأ مرحلة العالم الآخر، فالقرآن جمع بين هاتين المرحلتين ووضعهما في وصفٍ واحد.

فتارةً يبين ضعف الإنسان واخرى يُخبر عن التطورات الرهيبة عند فناء العالم وثالثة يصور تغيّرات العالم الممهِّدة لقيام القيامة، كل هذه التعبيرات جاءت من أجل تربية الإنسان وتشكّل انذاراً مؤكداً ومتواصلًا له.

إنّ «ترجف وراجفة» من مادة «رَجْف» بمعنى الاهتزاز الشديد ولذا

اطلق على البحر المائج «بحرٌ رَجّاف»، و «ارجاف» بمعنى بث الشائعات التي تهز المجتمع، و «اراجيف» تطلق على جذور الفتن والوقائع.

__________________________________________________

(1) تفسير في ظلال القرآن، ج 8، ص 278 و 279.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 64

وقد احتملوا لمعنى «الراجفة» في الآية السابقة معانٍ مختلفة منها الواقعة والصيحة الكبرى و ...، ولكن الآية الآخرى تشكّل قرينة على أنّها الأرض التي تُزَلزَل بشدّة في ذلك اليوم.

و «الكثيب»: بمعنى «الرمل المتراكم» والبعض حملها على معنى «التل الكبير من الرمل».

و «المهيل»: بمعنى الرمل الناعم جدّاً الذي يتطاير عند وضع القدم عليه، وإذا ما خُلّي جانبه انهال ما تبقّى منه، ولذا فسّره البعض بالرمل السيّال «1».

32- يوم يَسْمَعُونَ الصيحةَ بالحقِ
33- يَومَهُمُ الذي فيه يُصْعقون

التعبيران أعلاه، واللذان يتقاربان في الافق هما أيضاً وصفان آخران لذلك اليوم العظيم، ففي الآية الاولى «يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الخُرُوجِ». (ق/ 42)

نحن نعلم بأنّه عند انتهاء الدنيا وابتداء القيامة تطلق هنالك صيحتان على حد تعبير القرآن المجيد واللتان عبّر عنهما أحياناً ب «نفخ الصور» وهما: «الصيحة الاولى» وهي صيحة فناء العالم والموت الشامل، و «الصيحة الثانية» صيحة الحياة الجديدة والقيامة، والآية التي وردت أعلاه تدلّ على الصيحة الثانية وذلك بقرينة «ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ» التي جاءت في آخر الآية.

أمّا ما هي كيفية هذه «الصيحة العظيمة»؟ وبأي الوسائل يحدث هذا الصوت؟ وما هو تأثيره في احياء الموتى فإنّ هذه الامور لايعلم أحد تفاصيلها، بَيد أنّ القرآن أشار إليها إشارةً اجمالية، ولا عجب من جهلنا بها في هذا الزمان؛ وذلك لأنّ كل ما يتعلق بالقيامة يختلف اختلافاً تاماً عمّا في الدنيا، ومحفوف بهالة من الابهام، كما هو الحال في الجنين فإنّه

__________________________________________________

(1) مفردات الراغب؛ وتفسير مجمع البيان؛ وتفسير الكبير وتفاسير اخرى في

التعليق على آيات البحث.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 65

لا يمكن أن يُدرك حياة هذه الدنيا وإن كان بالفرض يمتلك قدرة فكرية عظيمة.

وفي الآية الثانية قال تعالى: «فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِى فِيهِ يُصْعَقُونَ».

(الطور/ 45)

«يصعقون»: من مادة «اصعاق» اشتقت في الأصل من «الصاعقة»، وبما أنّ الصاعقة لها صوت عظيم بالإضافة إلى أنّها مهلكة فقد فُسِّرت هذه الجملة بهذين المعنيين معاً، فإن كانت بمعنى الهلاك فتكون دليلًا على إرادة النفخة الاولى وفناء الكون، كما جاء في الآية:

«وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّموَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ». (الزمر/ 68)

وإن كانت كلمة (صعق) بمعنى الصوت فإنّها من الممكن أن تكون دليلًا على النفخة الاولى أو الثانية التي هي نفخة يوم القيامة، فعلى هذا تكون مرادفة للآية السابقة.

ورجّح كثير من المفسرين المعنى الأول، وفي نفس الوقت لم يهجروا المعنى الثاني «1».

وأمّا ما احتمله البعض من أنّ الآية تشير إلى هلاك مجموعة من المشركين في غزوة بدر فيبدو بعيداً جدّاً (بدليل الآية 68 من سورة الزمر التي مرّ ذكرها).

34- يوم يُنفخُ في الصور

ورد هذا التعبير أربع مرات في القرآن المجيد ففي الآية الاولى قال تعالى «وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ». (الانعام/ 73)

وفي الآية الثانية قال تعالى «يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الُمجرِمِينَ يَؤمَئِذٍ زُرْقاً».

(طه/ 102)

وفي الآية الثالثة قال تعالى: «وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّموَاتِ وَمَن فِى الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللَّهُ». (النمل/ 87)

وفي الآية الرابعة قال تعالى: «يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأتُونَ افْوَاجاً». (النبأ/ 18)

__________________________________________________

(1) تفسير مجمع البيان، ج 9، ص 169؛ وتفسير القرطبي، ج 9، ص 6247؛ وتفسير روح المعاني، ج 37، ص 34؛ وتفسير الميزان، ج 19، ص 23؛ وتفسير روح البيان، ج

9، ص 205.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 66

يتحدث القرآن المجيد- كما سيأتي في بحث «نفخ الصور» إن شاء اللَّه- عن نوعين من نفخ الصور: ففي النفخ الأول تموت جميع الاحياء الموجودة في الأرض والسماء، وفي النفخ الثاني والذي هو نفخة الحياة يحيا الجميع ويتأهبون للحساب والكتاب، لكن الآيات الاربع السابقة الذكر كلّها أو جلّها تتعلق بالنفخ الثاني أي نفخ الحياة في القيامة.

ومهما يكن من شي ء فإنّ هذا التصوير للقيامة من قبل القرآن يصور للانظار الوقائع العديدة التي تقع عند ذلك اليوم، وهذا التعبير هو أحد التعابير العديدة التي تحتوي على معنىً دقيق والتي تصوّر للضمائر وقائع ذلك اليوم الصعبة المرعبة فتنبّهها من غفلتها.

أمّا البحث عن معنى «الصور» ومفهوم «النفخ» والخصوصيات الاخرى فسوف نتناوله في محله إن شاء اللَّه، ولكن ولأجل الاطّلاع على محتوى هذا التعبير نتطرق لذكر الحديث النبوي الشريف الذي يذكر مجموعة من تلك الوقائع والذي ورد في تفسير الآية الرابعة من بحثنا هذا (الآية 18 من سورة النبأ):

قال «معاذ بن جبل» سألت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عن تفسير الآية: «يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً» فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «يامعاذ بن جبل سألت عن أمرٍ عظيم» ثم أرسل عينيه باكياً، ثم قال: «يحشر عشرة أصناف من أمتي أشتاتاً قد ميّزهم اللَّه تعالى من جماعات المسلمين، وبدلّ صورهم، فمنهم على صورة القردة وبعضهم على صورة الخنازير وبعضهم منكسون، أرجلهم أعَلاهم، ووجوههم يسحبون عليها، ....، ....، وبعضهم يمضغون ألسنتهم، فهي مُدلاة على صدورهم، يسيل القيح من أفواههم لعاباً، يتقذرهم أهل الجمع، ....، وبعضهم مصلبون على جذوع من نار، وبعضهم أشد نتناً من الجيف، وبعضهم ملبسون جلابيب سابغة من

القطران لاصقة بجلودهم؛ فامّا الذين على صورة القردة فالقَتَّات من الناس- يعني النمام- وأمّا الذين على صورة الخنازير، فأهل السحت والحرام والمَكس، وأمّا المنكسون رؤوسهم ووجوههم، فأكلة الربا، ....، ....، والذين يمضغون ألسنتهم: فالعلماء والقصاص الذين يخالف قولهم فعلهم، ...، والمصلبون على جذوع النار: فالسعاة بالناس إلى السلطان والذين هم أشد نتناً من الجيف فالذين يتمتعون بالشهوات واللذات ويمنعون حق اللَّه من أموالهم، والذين يلبسون الجلابيب: فأهل الكِبْر والفخر والخيلاء» «1» پ.

__________________________________________________

(1) ذكر هذا الحديث عدد كبير من المفسرين مثل أبي الفتوح الرازي والقرطبي وروح البيان وقد أوردنا الحديث باختصار.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 67

35- يومٌ كان مقدارُهُ خمسين الف سنةٍ

وصف القرآن المجيد وفي آيتين يوم القيامة بأنّه يومٌ طويل للغاية، قال اللَّه تعالى في أحد الآيتين: «تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ». (المعارج/ 4)

وقال في محلّ آخر: «يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ». (السجدة/ 5)

لا شك في أنّ الآية الاولى تختص ببيان يوم القيامة، والآيات التي أتت بعدها تتعرض لصفات القيامة ولعذاب المجرمين في ذلك اليوم وكذلك إلى أوصاف جهنم.

وقد اختلف المفسرون في مورد الآية الثانية فهناك عدة آراء «1» فالبعض قالوا: إنّها إشارة إلى المنحنى النزولي والصعودي للتدبير الالهي في هذه الدنيا، أو بتعبير آخر إشارة إلى مراحل التدبير الإلهي في هذا العالم والتي تتم كل مرحلة منها في مدّة الف عام على يد الملائكة المكلّفين بأمرٍ من اللَّه بإجراء هذا التدبير التكويني، ثم بعد انتهاء هذه المرحلة تبدأ مرحلة اخرى وهلمّ جرّا.

لكن بعد البحث في الآيات القرانية التي تحدثت عن انطواء السماء والأرض، وكذلك الروايات التي وردت في شرح هذه

الآية يفهم منها أنّها تتحدث عن يوم القيامة.

ولذا رجّح المرحوم العلّامة الطباطبائي في الميزان هذا التفسير أيضاً بعد أن ذكر عدّة احتمالات لهذه الآية «2».

لكن يبقى هنالك سؤال وهو كيف قُدِّر ذلك اليوم في الآية الاولى بخمسين الف سنة- من سنين الدنيا- وفي الآية الثانية بالف سنة؟

اجيبَ بوضوح عن هذا السؤال في حديثٍ نقله المرحوم الشيخ الطوسي في أماليه عن

__________________________________________________

(1) ذكر الآلوسي في تفسير روح المعاني، ج 21، ص 107 سبعة تفاسير للآية، أحدها هو القيامة.

(2) تفسير الميزان، ج 16، ص 261، وجاء نفس هذا المعنى أيضاً في تفسير ظلال القرآن ج 6، ص 511.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 68

الإمام الصادق عليه السلام، قال عليه السلام: «إنَّ في القيامة خمسين موقفاً؛ كُلُّ موقفٍ مثلُ الف سنةٍ ممّا تعدون ثم تلا هذه الآية: «فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ»».

والكلام في أنّ العددين (الف وخمسين الف) سنة هل جاءت هنا لبيان العدد أم للدلالة على الكثرة؟ فيه احتمالان، ولكن على أيّة حال فإنّ مضمون خطاب هذه الآية هو أنّ ذلك اليوم يومٌ صعبٌ جدّاً ومعضل، ولا يتيسر لأحد تجاوزه بسهولة، ويجب على الجميع أن يتأهبوا لمثل هذا اليوم الطويل الملي بالمخاطر.

وهناك أمرٌ يثير الاهتمام وهو أنّ اليوم (أي دوران الكواكب السماوية حول محورها دورة كاملة) يختلف تماماً من كوكب لآخر، فالكرة الأرضية تدور حول محورها في كل 24 ساعة دورة كاملة بينما تطول مدة الدوران الموضعي في القمر لمدّة شهر تقريباً (فالنهار فيه يبلغ اسبوعين والليل فيه يبلغ اسبوعين تقريباً) وهكذا الحال في الكواكب الشمسية الأخرى فكل منها له ليلٌ ونهار يختص به ويمتد زمانه بمقدار متميز، والآن في هذا الزمان من الممكن

أن تكون في عالم الوجود كواكب يمتد دورانها الموضعي إلى مئات أو الاف من السنين، بناءً على هذا فلا عجب من أن يكون امتداد كل يوم في القيامة يعادل خمسين الف سنة.

ونواصل التأكيد على أنّ هدف القرآن الرئيسي هو الجانب التربوي الكامن في مثل هذه التعبيرات.

القسم الثالث:
36- يومَ يكونُ الناسُ كالفراشِ المبثوث

كل ما قرأنا لحد الآن في وصف ذلك اليوم كان يتحدّث عن الوقائع المزلزلة التي تقع في مقدمة ذلك اليوم في عالم الدنيا وإن كل وصف يحمل في طياته خطاباً خاصاً، ففي الوصف الأخير طرحت مسألة طول وامتداد ذلك اليوم وهذا أيضاً يحمل انذاراً متميزاً.

والآن نذهب صوب الأوصاف التي تصوّر حال الناس في ذلك اليوم، ونلتفت إلى أنَ

نفحات القرآن، ج 5، ص: 69

تعبيراتٍ كل واحد منها أقوى تأثيراً من الآخر وكأنّها تأخذ بيد الإنسان وتسير به في اروقة المحشر وتعرفه على كل موضع منه فتجسّم له وقائع ذلك اليوم العظيم وكأنّه يراه بعينه المجردة.

في الوصف الذي نتناوله بالبحث والذي ورد مرّة واحدة في القرآن المجيد فقط حيث يصور وضع الناس المروع في ذلك اليوم بهذا النحو: «يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ».

(القارعة/ 4)

وجاء مثل هذا التعبير ولكن باختلاف ضئيل عندما قال تعالى «كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ».

(القمر/ 7)

وللمفسرين آراء مختلفة في سبب تشبيه الناس في ذلك اليوم بالفراش، ومن جمله ما قالوا هو أنّ السبب في هذا التشبيه هو كثرة الناس واضطرابهم وخوفهم وفرارهم في كل صوب وضعفهم وتخبّطهم.

ومن الممكن أيضاً أن تكون هذه المسألة من مكنونات التعبير المذكور أعلاه وهي أنّ الفراش عادةً يرمي بنفسه باتجاه نور الشمع والمصباح بصورة جنونية فيحترق، وأنّ المجرمين أيضاً في ذلك اليوم تعتريهم هذه الحالة عند مواجهتهم لنار جهنم، وكل هذا يدلّ

على الحيرة والضلال الشديد والاضطراب والرعب العظيم الحاصل في ذلك اليوم.

على أيّة حال فإنّه تعبير ناطق وتصوير واضح عن حالة الناس العجيبة الحاصلة في ذلك اليوم والتي عبّر عنها القرآن بتعبير وجيز، ويرى البعض أنّ السبب في دوران الفراشة حول النار حتى الاحتراق هو فقدانها للذاكرة، فإنّها تقترب من الشعلة وتحس بحرارتها فتهرب ولكنها تنسى بسرعة وتعود ثانيةً وتقترب من شعلة النار وتكرر هذا العمل حتى تلقي بنفسها في النار وتحترق.

وكذلك الحال بالنسبة للمسيئين والمجرمين، فمن شدّة الاضطراب والجزع كأنّهم يفقدون صوابهم ويلقون أنفسهم في النار كما تفعل الفراشات.

وذكر أهل اللغة والمفسرون معاني متعددة ل «الفراش»: فالبعض فسّره بمعنى الجراد الذي

نفحات القرآن، ج 5، ص: 70

ينتشر بكثافة في السماء، والبعض فسّرها بمعنى البعوض الذي يطير على شكل أفواج، ولكن أغلب المفسرين واللغويين فسروها بذلك المعنى وهو الفراش، على الأخص ما قاله «الخليل بن أحمد» في كتاب «العين» فإنّه قال: «الفراشُ التي تطيُر طالبةً للضوء» وقال في صحاح اللغة أيضاً: «الفراش» جمع «فراشة» تلك الحشرة الطائرة التي تطير وتقع في النار.

37- يوم تبلى السرائر
38- يوم هم بارزون

هذان الوصفان يبينان خلال تعبيرين اثنين حقيقة واحدة عن ذلك اليوم العظيم (وقد وردا في الآية 9 من سورة الطارق والآية 16 من سورة المؤمن)، ويقرران أمراً خطيراً إذا ما آمن به الناس كان له أثر عميق في تربيتهم.

ففي ذلك اليوم لا تخفى خافية؛ وذلك لارتفاع الاستار الطبيعية مثل الجبال والتلال، وتكون الأرض كما أشار إلى ذلك في الآية: «قَاعاً صَفْصَفاً»، (أي صافية خالية من المرتفعات). (طه/ 106)

ومن ناحية اخرى يخرج الناس من القبور وتُخرج الأرض ما في باطنها: «وَأَخْرَجَتِ الْارْضُ أَثْقَالَهَا». (الزلزال/ 2)

وثالثة، تنشر صحف أعمال الناس والامم ويُعلن عن محتواها أمام الملأ:

«وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ». (التكوير/ 10)

وتنطق الأيدي والأرجل وجميع الجوارح حتى الجلود، وتبدأ بالعويل واعلان الفضائح.

فالأرض والدهر كلها تنطق وشهداء الأعمال يشهدون على أعمال الناس، ففي ذلك اليوم يعلن أمام الملأ حتى عن نيّات الناس واعتقاداتهم فضلًا عن أعمالهم، إنّه يوم الفضيحة الكبرى للمسيئين ويوم الفخر العظيم للمحسنين حقاً.

ويجب الانتباه إلى أنّ «تُبلى من مادة «بلاء» بمعنى الامتحان وبما أنّ حقائق الأشياء تظهر عند الاختبار فقد فُسِّر البلاء هنا بمعنى الاتضاح.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 71

جاء في الحديث عن «معاذ بن جبل» أنّه قال: (سألت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وما هذه السرائر التي تبلى بها العباد في الآخرة، فقال: «سرائركم هي أعمالكم من الصلاة والصيام والزكاة والوضوء والغسل من الجنابة وكل مفروض لأنّ الأعمال كلها سرائر خفية فإن شاء قال الرجل صليت ولم يصل وإن شاء قال توضأت ولم يتوضأ، فذلك قوله يوم تبلى السرائر» «1».

والجدير بالذكر هو أنّ ما جاء في الحديث الشريف المذكور هو بيان أمثلة من هذه الحقيقة الكلية، وإلّا فإنّ الآية الشريفة تشتمل على جميع «العقائد» و «النيات» وأعمال الناس» سواء الحسن منها أم السي ء.

ومن هنا يظهر أنّ العناوين البراقة الكاذبة التي حصلت عليها الكثير من الشخصيات بواسطة التضليل والتستر في هذه الدنيا سوف تذهب هباءً بفعل زوابع المحشر وتحل محلها الفضيحة العظمى وما أروع من سقوط هؤلاء الأفراد وأصحاب الواقع السي المتلبسين بالظاهر الأنيق، من اوج العزّة والكرامة إلى قعر الذّلة والمهانة!

وما أحلى الكرامة التي حاز عليها المؤمنون المخلصون الذين لم يراؤوا وحافظوا على اخفاء ارتباطهم باللَّه في هذه الدنيا وما أجمل ظهورهم في ذلك اليوم وجلوسهم على عرش العزة والعظمة!

هذا هو النداء الذي يقدّم لنا الوصف المذكور

أعلاه وهو انذار لجميع الناس العالِم منهم والجاهل.

39- يوم ينظُرُ المرءُ ماقدَّمت يداه
40- يوم تجدُ كُلُّ نفسٍ ما عَمِلَت من خيرٍ مُحضراً وما عملت من سوءٍ

هذان التعبيران أيضاً يوضحان أحد الحقائق التي صُبَّت في قالبين، ويبينان حقيقة مهمّة اخرى لذلك اليوم تقصم الظهر وتزلزل القلوب وتجعل الإنسان يسرح في تأمّل عميق.

__________________________________________________

(1) تفسير مجمع البيان، ج 10، ص 471.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 72

ففي الآية الاولى قال تعالى: «يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرءُ مَاقَدَّمَتْ يَدَاهُ». (النبأ/ 40)

بما أنّ مسألة تصور الأعمال في ذلك اليوم العظيم ومشاهدة جميع الأعمال التي ارتكبها الإنسان في هذه الدنيا يُعتبر أمراً غير معقول لكثير من المفسرين فإنّهم فسّروا «ينظر» حيناً بمعنى «ينتظر»، وحيناً آخر بمعنى مشاهدة كتاب الأعمال أو مشاهدة ثوابها وعقابها.

والسبب الذي دفعهم إلى ذلك هو أنّ المفسرين في تلك العصور لم يمعنوا النظر في مسألة تجسّم الأعمال، وإلّا فما الضرورة لهذه التقديرات والتأويلات؛ وذلك لأنّ القرآن يقول: إنّ الإنسان سوف يشاهد بعينيه في ذلك اليوم كل ما ارتكب من قبل، أي أنّ نفس أعماله التي فنيت مادياً في الظاهر لم تفن في الواقع وسوف تبقى وتظهر للعيان بصورةٍ ما، وليس بالضرورة أن يراها جميع أهل المحشر، كما جاء نفس هذا المعنى أكثر وضوحاً في الآية: «وَ وَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً»! (الكهف/ 49)

وورد نفس هذا المعنى بجلاء في الآية الثانية أيضاً قال تعالى: «يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً».

(آل عمران/ 30)

وممّا يثير الاهتمام هنا هو ما قاله المرحوم «الطبرسي» في «مجمع البيان» في تعليقه على الآية الثانية، قال: «فأما أعمالهم فهي اعراض قد بطلت ولا يجوز عليها الاعادة، فيستحيل أن ترى محضرة»، لذا ذهب إلى تفسيرين آخرين أحدهما حضور كتب الأعمال، والثاني حضور

جزاء الأعمال من ثوابٍ وعقاب.

ولكن كما أشرنا في كتاب (التفسير الأمثل)، أنّ أعمال الإنسان هي نوعٌ من الطاقة مثل جميع أنواع الطاقة الموجودة في العالم، فإنّها لا تفنى أبداً بل تتغير اشكالها وهي باقية قطعاً.

وقلنا أيضاً بأنّ تحوّل «المادة إلى «طاقة» والطاقة» إلى «مادة» كلاهما أمر ممكن من الناحية العلمية، فعلى هذا لا مانع من بقاء أعمال الإنسان وتحولها في ذلك اليوم إلى مادة، وظهور كل واحد منها على هيئة مناسبة لحاله، وبناءً على هذا فإنّ الآيات المذكورة تُمثّل في الواقع جزءً من المعجزات العلمية للقرآن والتي لم تكن حين نزول القرآن معروفة لأحد،

نفحات القرآن، ج 5، ص: 73

وهذه الحقيقة اتضحت لنا بسبب الاكتشافات العلمية الحديثة.

وممّا يثير الاهتمام أيضاً أنّ الروايات الإسلامية تحدثت كثيراً أيضاً عن تجسم الأعمال في البرزخ والقيامة، ولكن لا يعلم علّة عدم اهتمام المفسرين السابقين بهذه الروايات، ومن المحتمل أن يكون السبب في ذلك هو اعتقادهم بأنّ الأعمال «اعراض» وبأنّها فانية وبأنّ إعادة المعدوم محال، بينما اتّضح لنا في هذا الزمان بطلان هذا الاستدلال كلياً (وسوف نقرأ في بحث تجسم الأعمال تفصيلًا أكثر في هذا المجال).

41- يوماً تتقلَّبُ فيه القلوب والأبصار
42- يوم تشخصُ فيه الأبصار

التعبيران المذكوران في الآيتين أعلاه واللذان يجمعهما شبه كبير يرفعان الستار عن أسرار اخرى من أسرار ذلك اليوم العظيم، ويحملان لجميع الناس نداءات جديدة.

ففي الآية الاولى قال تعالى «يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ والْابْصَارُ». (النور/ 37)

وفي الآية الثانية قال تعالى «إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ». (إبراهيم/ 42)

حلبة المحشر رهيبة من عدة جوانب: من جانب ما يستجد فيها من الوقائع الرهيبة التي تقع عند قيام القيامة، ومن جانب استعداد الملائكة مع حضور الاشهاد لمحاسبة العباد، ومن جانب نشر الصحف التي تحتوي على سائر أعمال الإنسان

التي ارتكبها خلال حياته صغيرها وكبيرها، ومن جانب اتضاح ملامح النار والعذاب الإلهي واستحالة العودة لإصلاح مافات وعدم وجود خليلٍ ومنقذ!

إنّ هذه الوقائع والتي يكفي كل واحد منها بوحده لقلب افئدة الناس، تقع جميعها في وقت واحد، تجعل الإنسان في حصار شديد ممّا يؤدّي به إلى أن يقلّب عينيه في كل جانب بدون إرادة ويتلفت إلى كل جانب باضطراب يطلب العون، وعلى حد تعبير القرآن أنّها تقلب الأبصار وأحياناً تقف عن الحركة نهائياً وتبقى الأجفان مفتوحة وكأن روح الإنسان فارقت جسده!

نفحات القرآن، ج 5، ص: 74

ومن الجدير بالذكر أنّ الآية الاولى تختص بالمؤمنين والآية الثانية بالظالمين، وهذا يدل بوضوح على أنّ الجميع من المحسنين والمسيئين سوف يستولي عليهم الرعب في ذلك اليوم المفزع، وذلك (لجهل الناس بعواقب أعمالهم بسبب الدقة والشدة في الحساب الإلهي فلا أحد يعلم بالضبط إلى اين ينتهي مصيره.

«تتقلب»: بمعنى انقلاب الشي ء رأساً على عقب وبمعنى التحوّل، وللمفسرين تعابير مختلفة في تفسير هذه الجملة تشير جميعها إلى الخوف والاضطراب الشديد الذي يهيمن على ظاهر وباطن الإنسان وعلى بصره وبصيرته.

«تَشْخَصُ»: من مادة «شخوص» بمعنى توقف العين والأجفان عن الحركة والتركيز بالنظر على نقطةٍ دون التفات.

والأصل في «شخوص» على وزن (خلوص) هو بمعنى القيام أو الخروج، و «الشخص» من حيث إنّه يبدو من بعيد على هيئة بارزة اطلق عليه كلمة شخص، وخروج الإنسان من محلٍ آخر يطلق عليه الشخوص أيضاً.

و «شاخص»: المشتق من نفس هذه المادة أيضاً بمعنى الجسم المرتفع الذي يستخدم لقياس الوقت وأمثال ذلك «1».

وبما أنّ عين الإنسان حين التعجب والتحديق كأنّها تريد أن تخرج من حدقتها فقد استعمل هذا التعبير في عدة موارد، بلى إنّ الناس في عرصة المحشر

يصبحون أُسارى الخوف بنحوٍ يجعل عيونهم تتوقف عن الحركة وتشخص وكأنّها تريد أن تخرج من حدقتها، وهذه الحالة تظهر لدى الإنسان أحياناً في حال الاحتضار.

ومن البديهي أن تكون هذه الحالات أشد بكثير عند المذنبين والمجرمين، ولذا جاء في القرآن المجيد: «وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِىَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا». (الأنبياء/ 97)

__________________________________________________

(1) مفردات الراغب؛ ومقاييس اللغة؛ والمصباح؛ والتحقيق في كلمات القرآن الكريم.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 75

43- يوم يتذكَّرُ الإنسان ما سعى

هذا التعبير أيضاً من التعبيرات التربوية التي وردت مرّة واحدة في القرآن المجيد، قال تعالى: «يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى . (النازعات/ 35)

هذا التذكّر والانتباه إمّا أن يحصل بسبب مشاهدة صحيفة الأعمال، وإمّا بسبب تجسم الأعمال، أو بسبب شهادة الجوارح أو الملائكة التي تشهد على الأعمال أمام اللَّه، أو بسبب ارتفاع الحجُب عن قلب وروح الإنسان وزوال ما يسبب الغفلة والنسيان.

ولذا تبرز جميع الحقائق المكنونة ويتذكّر الإنسان كل سعيه ومحاولاته، ولكن ياللحسرة فلا مجال أمامه لجبران الخطايا والتقصير والغفلة.

وجاء هذا التعبير بصورة اخرى في الآية «وَجِي ءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى ، ثم يضيف إلى ذلك: «يَقُولُ يَالَيْتَنِى قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى». (الفجر/ 23)

إنّه أسف وحسرة لا فائدة منها هناك أبداً سوى مضاعفة المعاناة والألم.

وكلمة «لحياتي» تثير الانتباه، وهي تدل على أنّ الحياة الحقيقية هي الحياة الآخرة، وأنّ الحياة الدنيا لا تستحق حتى اطلاق اسم الحياة عليها، وعلى حد تعبير القرآن ماهي إلّالهو ولعب.

والهدف هو انذار سائر بني الإنسان بأن يستفيدوا من الفرصة المتاحة أمامهم قبل الابتلاء بمثل هذا البلاء فالتذكّر في ذلك اليوم لا ينفع مثقال ذرّة.

44- يوم تأتي كُلُّ نفسٍ تُجادلُ عن نفسها

هذا التعبير يرسم صورة اخرى لذلك اليوم العظيم، قال تعالى «يَوْمَ تَأْتِى كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَّفْسِهَا». (النحل/ 111)

نعم إنّ الرعب والخوف من العذاب والعقاب الإلهي يسيطر على وجود الإنسان ممّا

نفحات القرآن، ج 5، ص: 76

يجعله ينسى أعزّ أحبائه، فهو لا يهتم بالأبناء ولا بالزوجة ولا بالوالدين ولا بأعز الأصدقاء، ولا يهتم إلّابانقاذ نفسه لا غير.

وجاء في الحديث الشريف: «كُلُّ احدٍ يقولُ يومَ القيامة نفسي نفسي من شدّة هول يوم القيامة سوى محمد صلى الله عليه و آله فإنّه يُسألُ في امته» «1».

45- يومَ يقومُ الناسُ لِرَبِّ العالمين

هذا التعبير في الواقع هو توضيح لاسم (القيامة) في قوله تعالى: «يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ العَالَمِينَ». (المطففين/ 6)

إنّه قيام يدل على جدّية الموقف في ذلك اليوم، ودليلٌ على الحضور في محكمة كبرى ودليل على خضوع جميع الأعمال للحساب.

ومن الجدير بالذكر أنّ القرآن المجيد أتى بهذا التعبير في سورة المطففين لتحذير وتنبيه الذين يبخسون الميزان، قال تعالى «أَلَا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ* لِيَوْمٍ عَظِيمٍ» ثم يضيف «يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَميِنَ». (المطففين/ 4- 5)

أي أنّهم لو كانوا على يقين بأنّ مثل هذا «الحضور» و «القيام» في يوم كهذا واقع حتماً لما ارتكبوا السيئات أبداً، ولكن للأسف أنّ حب الدنيا والغفلة والغرور وطول الأمل ظلل على أفكارهم وقلوبهم وأرواحهم ظِل الشؤم والظلام ممّا جعلهم يغفلون هذه الحقائق.

جاء في احدى الروايات «عن إبن عمر وهو من أصحاب الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم أنّه وعند قراءته لسورة المطففين: لمّا بلغ قوله «يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمينَ» بكى بكاءً شديداً أعجزه عن مواصلة القراءة» «2».

__________________________________________________

(1) تفسير القرطبي، ج 6، ص 3809.

(2) تفسير الكبير، ج 31 ص 90؛ تفسير القرطبي، ج 10،

ص 7046.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 77

46- يوم يقوم الاشهاد
47- يومَ يقوم الروحُ والملائكة صفاً

التعبيران المذكوران أعلاه يذكّران بجانب آخر من أبعاد ذلك اليوم العظيم ويتركان أثراً اخلاقياً كبيراً لدى الإنسان، ويشتملان على مناجاة تستهوي القلب والروح.

في التعبير الأول يصف ذلك اليوم ب «وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ». (المؤمن/ 51)

و «أشهاد»: جمع «شاهد» أو «شهيد» (مثل «أصحاب» التي هي جمع «صاحب»، و «اشراف» جمع «شريف») والأشهاد هنا هم شهود يوم القيامة، ويرى بعض المفسرين أنّ المراد من الأشهاد هم فقط الملائكة الذين يراقبون الأعمال، ويرى البعض الآخر أنّ المراد بهم الأنبياء عليهم السلام والمؤمنون جميعاً.

ويرى آخرون أنّ المراد منهم جميع ماذكر بالإضافة إلى الجوارح التي تشهد على أعمال الإنسان أيضاً، ولكن نظراً لوجود التعبير «يقوم» فإنّ هذا التفسير يبدو بعيد الاحتمال.

والتعبير ب «قيام» في مواردٍ كهذه هو بيان للوضع الخاص المتعارف عليه في المحاكم وهو قيام الشهود عند الادلاء بشهادتهم؛ وذلك تأكيداً لجدّهم وحزمهم في أداء الشهادة واحتراماً لرسمية ووضع المحكمة.

على أيّة حال فهو يومٌ لايكفي فيه شاهد واحد فحسب بل يشهد فيه شهود كثيرون في تلك المحكمة العظمى شهادة تكون مصدر عز وفخر للمؤمنين وتأتي بالخزي والذلة للمجرمين، شهادة تحيط بكل شي ء ولا يخفى على شهودها شي ء، شهادة لا يسع المجرمون انكارها أبداً وتكون مدعومة بالقرائن الكثيرة حتى لا يبقى أمامهم طريق إلّاالتسليم والاذعان.

ومن هنا ينبغي الامعان في المعاني التي يحملها هذا الوصف عن القيامة وإلى مدى ما بلغت من التأثير والجذابية.

وفي الآية الثانية عبّر عن ذلك اليوم ب «يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ والْمَلَائِكَةُ صَفاً». (النبأ/ 38)

بما أنّ «الصف» له معنىً مصدري ويستعمل في الجمع والمفرد على السواء، فقد رأى

نفحات القرآن، ج 5، ص: 78

جمع من المفسرين احتمال أن يكون المراد من الصف هو

بيان صفوف مختلف الملائكة، أو المراد منه صفّان على الأقل يستقر الروح في الصف الأول وفي الصف الثاني بقية الملائكة.

وفي الجواب عن ما هو المراد من «الروح» هنا؟ اختلفوا على أقوال عدّة بلغت الثمانية أقوال أو أكثر، ومن بين هذه التفاسير المشهورة:

1- الروح هو أحد ملائكة اللَّه المقربين، وهو أفضل من جميع الملائكة حتى جبرائيل عليه السلام، وهو الذي كان يرافق الأنبياء والأئمة المعصومين عليهم السلام.

2- المراد به هو جبرائيل الأمين حامل وحي اللَّه.

3- المراد به هو أرواح الموتى ولكن قبل إلحاقها بالأبدان.

4- المراد به هو مخلوق عظيم لا من صنف البشر ولا من صنف الملائكة.

5- المراد به هو القرآن المجيد، ومعنى قيامه هو ظهور آثاره في مشهد المحشر.

وقد استُدل على كلٍ من هذه التفاسير المذكورة ببعض آيات القرآن.

مع أنّ للروح معانٍ مختلفة في مختلف آيات القرآن، وأكثر هذه التفاسير قرباً للصحة كما يبدو هو التفسير الأول، وقد ورد هذا التفسير صريحاً في بعض روايات المعصومين عليهم السلام.

فعن علي بن إبراهيم باسناده عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «هو ملك أعظم من جبرائيل وميكائيل» «1».

وروي عن ابن عباس أيضاً بأنّه قال: أنّ النبي صلى الله عليه و آله قال: «الروح جند من جنود اللَّه ليسوا بملائكة لهم رؤوس وأيد وأرجل، ثم قرأ: «يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفّاً» قال: هؤلاء جند وهؤلاء جند» «2».

__________________________________________________

(1) تفسير مجمع البيان، ج 10، ص 427.

(2) تفسير القرطبي، ج 10، ص 6777.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 79

48- يومَ لا ينفعُ مالٌ ولا بنون
49- يوم لا بيعٌ فيه ولا خِلالٌ

ينعكس في هذين التعبيرين نداءان آخران متقاربان في الافق حول اوضاع ذلك اليوم العظيم، ففي التعبير الأول قال تعالى: «يَوْمَ لَايَنْفَعُ مَالٌ وَلَابَنُونَ* إِلَّا مَن أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ». (الشعراء/ 88- 89)

وفي

التعبير الثاني قال تعالى: «يَوْمٌ لَابَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ». (إبراهيم/ 31)

في الواقع أنّ رأسمال هذه الدنيا يتلخص في ثلاثة أشياء: المال والثروة، والأولاد الراشدون، والأصدقاء الأوفياء، لكن معضلات المحشر وابتلاءاته المهيبة لا يمكن الخلاص منها بالمال والثروة ولا بمعونة الأولاد ولا الأصدقاء، ولو افترضنا أنّ جميع أموال الإنسان تنقل إلى هناك وكان جميع الأولاد والأصدقاء إلى جانبه فهذا لا يحل حتى عقدة واحدة من مشاكله، وذلك لأنّ المقاييس والمعايير هناك شي ء آخر، والمنقذ في المحشر هو الإيمان والعمل الصالح والقلب السليم، القلب الخالي من أي شرك ورياء ولا يوجد فيه مكان لما سوى اللَّه.

أغلب المشكلات في هذه الدنيا يمكن حلّها عن طريق المال والثروة وتقديم الفدية والخسائر والرشوة وما شابه ذلك بصورةٍ مشروعة أو غير مشروعة، ويمكن حل كثير من المصاعب أيضاً بواسطة الجهود الإنسانية بالأخص الأولاد الطيبين والأصدقاء المخلصين، وبناءً على ذلك فإنّ أغلب مشاكل هذا العالم تُحل بهذه السبل، بينما لا يكون لهذه الامور أي تأثير هناك.

ولا شك في أنّ المراد من المال والأولاد هنا هو غير الأولاد الذين استخدموا في الطريق المؤدي إلى رضوان اللَّه، أو الأصدقاء الذين يمكنهم الشفاعة عند اللَّه، بل المراد هو أنّ هذه الامور لو نقلت إلى هناك بمجرّدها فهي لا تغني شيئاً.

ولذا جاء في قوله تعالى: «الْأَخِلّاءُ يومَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلّا الْمُتَّقِينَ»!

(الزخرف/ 67)

نفحات القرآن، ج 5، ص: 80

50- ... يوماً لا تجزى نفسٌ عن نفسٍ شيئاً
51- يوم لا تملكُ نفسٌ لنفسٍ شيئاً
52- يوم لا يجزى والدٌ عن ولده

أحد طرق الاخلاص من مخاطب العقوبات في هذه الدنيا هو أن يتقبل شخص التبعات التي تترتب على الآخر نيابة عنه ويؤدّي الغرامات المالية التي تحملها الشخص الآخر ويتقبل عقوبة ذنبه برحابة صدر وطيب نفس.

يبيّن القرآن الكريم في الآيات المذكورة أعلاه والتي هي من صفات يوم القيامة عدم

جواز إلقاء أوزار أعمال أحد على عاتق الآخرين مطلقاً، فالكل مسؤول عن أعماله وهو لوحده يتحمل جزاءها فيؤدّي ثمن ما اقترف من جرائم وذنوب.

ففي الآية الاولى التي وردت في القرآن المجيد مرتين قال تعالى: «وَاتَّقُوا يَوْماً لَاتَجْزِى نَفْسٌ عَنْ نَّفسٍ شَيْئاً». (البقرة/ 48- 123)

وجاء هذا المعنى باختلاف ضئيل في الآية الثانية، قال تعالى: «يَوْمَ لَاتَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً». (الانفطار/ 19)

وفي الآية الثالثة ركّز على مورد متميز فقال: «وَاخْشَوا يَوْماً لَّايَجْزِى وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً». (لقمان/ 33)

إنّ العلاقة بين الأب والأولاد تقوم على أساس «العاطفة والمحبّة»، وتقوم العلاقة بين الأولاد والأب على أساس «الاحترام والمحبّة»، وفي الواقع أنّ هاتين العلاقتين هما أقرب وأقوى الروابط العاطفية لدى الإنسان، ولكن رعب وخوف يوم القيامة يبلغ حداً من الهول العظيم ممّا يجعل هذه الروابط تتلاشى وتذوى وتبلغ حدّاً يؤدّي إلى أن لا يفكّر أحد إلّا بنفسه، دون غيره.

وأفادَ عدد من المفسرين في تفسير الآيات المذكورة بأنّ «لا تجزي» أتت بمعنى «لا تغني» «1».

__________________________________________________

(1) تفسير مجمع البيان، ج 1، ص 103؛ وتفسير الميزان، ج 16، ص 251؛ وتفسير روح البيان، ج 1، ص 127.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 81

قال «الراغب» في «المفردات»: الجزاء في الأصل بمعنى الاستغناء والاكتفاء، واطلقوا على الثواب والعقاب جزاء لأنّهما يكفيان لإصلاح العمل المرتكب، وجاء نفس هذا المعنى في مقاييس اللغة أيضاً.

ومن الجدير بالذكر أنّ الخطاب في الآيتين الاوليين موجّهٌ إلى بني اسرائيل الذين يضرب بهم المثل على مدى الدهور بالتعصّب العرقي والقومي، فالقرآن ينذرهم بقوله: أنتم الذين تحملون روح التعصب فيما بينكم فسوف تنسون كل شي ء في ذلك اليوم العظيم، كل شي ء إلّاأنفسكم.

والحقائق الناصعة التي تحملها هذه الآيات

لا تحتاج إلى توضيح؛ وذلك لأنّها تُثبتُ بوضوح أنّ أهوال يوم القيامة والوقائع الصعبة التي تقع في ذلك اليوم العظيم لا مثيل لها في هذه الدنيا، ففي هذه الدنيا يوجد الكثير ممن يضحّي للآخرين بنفسه من أجل الروابط العاطفية، ولكن هذا الأمر لا يَصْدُق في يوم القيامة على أحد.

53- يوم تبيضُّ وجُوهٌ وتسودُّ وجُوهٌ

هذا التعبير الذي جاء في مورد واحد من القرآن المجيد هو بيانٌ لبعدٍ آخر من أبعاد ذلك اليوم العظيم ويعكس صورة اخرى عن يوم المحشر، قال تعالى: «يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ». (آل عمران/ 106)

والوجوه المنيرة هي لأولئك الذين تنعّموا بنور الإيمان فيظهر هذا النور على وجوههم لأنّ يوم «القيامة هو يوم تبرز فيه السرائر» قال تعالى: «وَ أَمَا الَّذِين ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِى رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيَها خَالِدُونَ». (آل عمران/ 107)

أمّا أصحاب القلوب المظلمة الذين خَلَتْ قلوبهم من النور، والكفار والمجرمون الذين اسودّت قلوبهم فإنّ ظلمات باطنهم تخرج إلى ظاهرهم، ويُغمرون في عذاب اللَّه ويقال لهم:

«فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ». (آل عمران/ 106)

نفحات القرآن، ج 5، ص: 82

وهذا التعبير المذكور أعلاه انعكس بصورة اخرى في آيات القرآن المجيد أيضاً، ففي احدى الصور قال تعالى «كَأَنَّمَا اغْشِيَتْ وُجُوهُهُم قِطَعاً مِّنَ الَّيْلِ مُظلِماً». (يونس/ 27)

وجاء في صورة اخرى قال تعالى «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ* ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ». (عبس/ 38- 39)

وفي الثالثة: «وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ* تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ». (عبس/ 40- 41)

متى تَحِلُّ هذه الواقعة؟ ومتى تبيضُّ وجوهٌ وتسودُّ وجوهٌ اخرى

يرى البعض أنّ هذا سيقع عندما تتفرق الصفوف عن بعضها للورود إلى الجنّة أو الدخول إلى النار، ويرى البعض الآخر أنّ هذا سيقع عند مشاهدة صحائف الأعمال، ويرى آخرون إنّه سيقع عند الخروج من القبور أو عند الوقوف إزاء ميزان

العدل الإلهي.

ولكن بما أنّ ذلك اليوم هو يوم إبراز وظهور حقائق الأفراد والأعمال فإنّه يبدو أنّ وقوع هذا الأمر يتمّ في أول وهلة عند خروج الناس من القبور ويستمر فيما بعد.

من هم أصحاب الوجوه البيض ومن هم أصحاب الوجوه السود؟

للمفسرين في الجواب على ذلك احتمالات عديدة، وأحياناً حصروا ذلك في أشخاص محدودين، ولكن الظاهر أنّ جميع المؤمنين أصحاب العمل الصالح يكونون في صف أصحاب الوجوه المبيضة وجميع أهل الكفر والمجرمين في صف أصحاب الوجوه المسودّة.

وأخيراً أراد بعض المفسرين أن يحمل هذين التعبيرين على مفهومهما المجازي فقالوا البياض هو لبيان السرور والفرح والسواد لبيان الغم والهم «1».

ولكن لا يوجد هناك ضرورة لارتكاب مثل هذه المخالفة للظاهر، بل يجب حمل الآية على المعنى الحقيقي لها، فعندما يقول القرآن:

«يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيْهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ». (حديد/ 12)

فما الذي يثير العجب من أن تكون هناك وجوه بيض منيرة ووجوه سود مظلمة؟

__________________________________________________

(1) تفسير المراغي، ج 4، ص 25.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 83

وما أعظم خوف ذلك اليوم حقّاً! عندما يظهر ما في قلب الإنسان وروحه على وجهه، إنّه يوم الخزي العظيم لسود القلوب ويوم الكرامة الكبرى لبيض القلوب، ولهذا السبب يكون المؤمنون في ذلك اليوم موضع احترام وتكريم في المحشر ويكون الكافرون مورد لعنٍ وطرد!

54- ويخافون يوماً كان شرُّهُ مسطيراً

هذا التعبير جاء في موردٍ واحد من القرآن الكريم عند وصف الأبرار والمحسنين، قال تعالى: «وَيَخَافُونَ يَوْماً كَان شَرُّهُ مُسْتَطِيراً». (الإنسان/ 7)

«مستطير»: من مادة «طيران» وهي هنا بمعنى واسع ومذبذب، لذا فسّرها البعض بمعنى الشي الذي اتّسع بشكل خارق للعادة، واطلق هذا التعبير على الفجر عندما ينبسط في الافق فقالوا: «فجرٌ مستطيرٌ».

و «الشر»: جاء هنا بمعنى عذاب يوم القيامة، أو الخوف والرعب من ذلك

اليوم الذي ينتشرُ حتى يغطي جميع الأرض والسماء ممّا يجعل الملائكة أيضاً يتملَّكهُمُ الخوف، هناك يَتَمَلَّكُ الخوفُ الجميعَ لا المجرمين والمسيئين فحسب، بل حتى المؤمنين والمحسنين يتملّكهم الخوفُ وذلك لأنّهم لا يعلمون ما ينتهي إليه مصيرهم أو مآلهم.

والجدير بالذكر أنّه يُعتبرُ في الآية المذكورة الخوفُ من مثل هذا اليوم من الصفات الممدوحة والامور الايجابية في أخلاق الأبرار الطاهرين؛ وذلك لأنّ خوفاً كهذا يكون نابعاً من التقوى والتوجُّهِ إلى الطاعة المطلقة للخالق جلّ شأنهُ.

55- يوم يفرٌّ المرءُ من أخيه

التعبير أعلاه والذي ورد ذكره مرّة واحدة في القرآن المجيد هو تجسيم آخر بَيِّنٌ لمشهدِ يومِ القيامة، قال تعالى «يَوْمَ يَفِرٌّ الْمَرْءُ مِن أَخِيْهِ* وَأُمِّهِ وَأَبِيْهِ* وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيْهِ* لِكُلِ

نفحات القرآن، ج 5، ص: 84

إِمْرءٍ مِّنْهُمْ يَؤَمِئذٍ شَأنٌ يُغْنِيهِ». (عبس/ 34- 37)

من الطبيعي أن يكون أقرب وأحبّ الأفراد للإنسان هم الأخوة والأم والأب والزوجة والأولاد، ومن العجيب أنّ القرآن لم يقُلْ إِنَّ الإنسان في غفلة عن هؤلاء في ذلك اليوم بل قال: إنّه يفرُّ من الأُمِّ التي كان يحبها كثيراً أو الأب الذي يكُنٌّ له التقديرَ والاحترام ومن الزوجة التي كان يعشقها، والأولاد الذين كانوا ثمرة قلبه ونور عينيه! بلى إنّه يفرّ منهم جميعاً!

إنّ هؤلاء كانوا ملجأً له من مشاكل الدنيا، وسكناً له في المصائب الشدائد ولكن ما الذي يحدثُ هناك بحيث يفرّ منهم؟!

إن صيحة يوم البعث والذي عبر عنها القرآن الكريم ب «الصاخة» والتي وردت في الآية التي سبقت الآيات المذكورة في موضوع بحثنا، حيث وصفت هذه الصيحة بالعظمة بحيث تمزق عُرى كافة الأواصر، وهذا الصوت من الرهبة بحيث يدخل الرعب والرهبة على القلوب ويصم الآذان.

فلماذا يفرّ المرءُ؟

هل يفرّ خوفاً من الفضيحة أمام أقرب الخلق إليه؟

أو خوفاً من تبعات الذنوب التي

ارتكبها؟

أو يفرّ من حقوق الناس التي تثقل عاتقه؟ فمن المحتمل أن يطالبه هؤلاء بحقوقهم في ذلك اليوم الذي تكون فيه يد الإنسان خالية من كلّ شي ء!

أو لا هذا ولا ذاك بل إنّه يهرب من شدّة الخوف والرعب في المحشر حيث إنّ هذا الموقف يُرغمُ كلَّ إنسانٍ على الهرب أحبّته والاهتمام بنفسه ولا غير، كي يجد لها مخلصاً ممّا هي فيه.

إنّ كل واحد من هذه الامور الأربعة يكفي لوحده أن يكون مدعاة للهرب والخلاص فكيف الحال إذا اجتمعت معاً؟

جاء في الحديث الشريف إنّ أحد أقرباء النبي الأكرم صلى الله عليه و آله سأله عن: ثلاثة مواقف يوم القيامة لا يفكر أحد إلّابنفسه: 1- الميزان 2- الصراط 3- تطاير الكتب «1».

__________________________________________________

(1) تفسير البرهان، ج 4، ص 429، ح 1.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 85

56- يوماً يجعلُ الولدان شيباً

هذا التعبير الذي ورد ذكره في القرآن المجيد مرّة واحدة تصوير أو تجسيد آخر للوقائع المروّعة لذلك اليوم العظيم، فقد خاطب الكفار والمشركين فقال تعالى «فَكَيَفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفْرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً» «1»

- «2». (المزّمل/ 17)

إنّ هذا التعبير من أبلغ التعابير التي تميط اللثام عن الوقائع المرعبة لذلك اليوم كما تؤثِّر تلك الوقائع على عالم الطبيعة وعلى الجبال والصحراء وتجعلها هباء وتؤثر كذلك في هذا الإنسان الترابي بحيث الاضطراب والخوف والانقباض إلى درجة تشيبُ الولدانُ من هولها.

وحمل بعض المفسرين هذا التعبير على معناه الحقيقي أي أنّ آثار المشيب تظهر على الأطفال حقيقة وإن كانت الفاصلة الزمنية بين الطفولة والمشيب كبيرة، وجاءوا لإثبات ذلك بأدلة أيضاً، فإننا في هذه الدنيا نشاهد أفراداً يبيضُّ شعر رؤوسهم خلال عدّة أيّام أو حتى لعدّة ساعات من شدّة المصاب الذي يحلّ بهم، فإن كان بوسع أحداث

هذه الدنيا أن تؤثر مثل هذا التأثير على الإنسان فإنّ وقائع المحشر التي هي أشدّ وأصعب كثيراً ستؤثر مثل هذا التأثير لا محالة.

ولكنَّ جمعاً من المفسرين حملوه على المعنى المجازي لأنّ مثل هذه الكناية من الامور الشائعة على ألسنة العرب وغيرهم، فإنّهم من أجل بيان عظمة احدى الشدائد يقولون:

«شيبني هذا الأمر»!

وكلا التفسيرين وجيه بالنسبة لهذه الآية، أمّا ما قيل بأنّ مشيب الأطفال يحصل من طول ذلك اليوم فهذا بعيد، لأنّ هذه الآية مثل كثير من الآيات الاخرى المختصة بالقيامة ناظرة إلى الوقائع المروعة لذلك اليوم، والآيات السابقة لهذه الآية والتي تتحدث عن دَكِّ الجبال تصلح دليلًا مؤيداً لهذا القول.

__________________________________________________

(1) يرى جمع من المفسرين أنّ «يوماً» الذي جاء في الآية المذكورة أعلاه هو ظرف ل «يتّقون»، ولكن احُتمِل بأنّه «مفعول به» ليّتقون، ففي هذه الصورة قدّروا كلمة عذاب في الآية فتصبح الآية على هذا بهذه الصورة: فكيف تتقون إن كفرتم (عذاب) يوم يجعل الولدان شيباً.

(2) «شيب» على وزن (فِعْل) جمع «أشْيَب» بمعنى الشيخ المُسِن، ومادة شَيب على وزن (فَعْل) بمعنى تغيّر لون الشعر من الاسود إلى الابيض.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 86

57- هذا يومُ لا ينطقون

ورد ذكر هذا التعبير مرّة واحدة أيضاً في سورة المرسلات، قال تعالى «هذَا يَوْمُ لَايَنْطِقُونَ». (المرسلات/ 35)

هل يكون الفزع والخوف العظيم الحاصل في القيامة السبب في توقف ألسنتهم عن النطق كما هو الحال في الدنيا عندما تصيب الإنسان داهية تجعله لايستطيع الكلام؟!

أم لأنّهم لا يمتلكون خطاباً ولا عذراً وحجة؟! أم تتوقف الألسن عن التكلم بأمر اللَّه وتشهد الجوارح على أعمالهم؟ كما جاء في الآية الكريمة: «الْيَومَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ». (يس/ 65)

من الممكن أن تجتمع هذه

التفاسير الثلاثة معاً في الآية، وإن كان التفسير الثالث أكثر مناسبة، على أيّة حال فإنّ هذا لايمنع من أن يتكلّم الإنسان في بعض مواقف القيامة بأمر اللَّه، لأنّ القيامة لها مواقف مختلفة، وقد اتضح من خلال الآيات القرآنية أنّ المجرمين في بعض هذه المواقف يكونون صُمّاً بُكْماً لاينطقون وأنّهم في مواقف اخرى يتكلمون بأمر اللَّه.

58- يوَم يُكشَفُ عن ساقٍ ويُدْعَونَ إلى السٌّجودِ فلا يستطيعون

ونواجه هنا أيضاً من خلال هذا التعبير الدقيق والفريد من نوعه وجهاً عبوساً آخر لذلك اليوم العظيم، قال تعالى : «يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَونَ إِلَى السٌّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ». (القلم/ 42)

يرى الكثيرُ أو جمعٌ من المفسرين بأنّ التعبير: «يُكْشَفُ عَن سَاقٍ» هو كناية عن هولِ المطلعِ وشدّة الخوف والفزع، وذلك لأنّ الناس قديماً كانوا يرفعون الأكمام عن أذرعهم ويرفعون أذيال ثيابهم إلى المحزم تأهباً عند مواجهة الشدائد والحوادث وفي هذه الحالة تكون السيقان مكشوفة طبعاً.

ويرى بعضٌ من المفسرين أنّ هناك احتمالًا آخر في تفسير هذه الآية وهو إن «ساق»

نفحات القرآن، ج 5، ص: 87

بمعنى الأصل والأساس لكل شي ء (مثل ساق الشجرة)، وبناءً على هذا تكون جملة «يُكشَفُ عن ساقٍ» دليل على ظهور وبروز حقائق الأشياء في ذلك اليوم «1».

وعلى أي حال فإنّ الجميع يُدعون في ذلك اليوم المرعب للسجود أمام عظمة خالق الكون فيسجد المؤمنون، ومن المحتمل أن تكون هذه السجدة من بواعث اطمئنان القلب والروح، أما من تلوث قلبه بالكفر والذنوب فلا يستطيع السجود.

جاء في الحديث عن الإمام الرضا عليه السلام في قوله: «يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَونَ إِلَى السُّجُودِ» قال: «حجاب من نور يكشف فيقع المؤمنون سجداً وتدمج اصلاب المنافقين فلا يستطيعون السجود» «2».

وقال البعض إنّ المراد من «يَوْمَ يُكشَفُ عَن سَاقٍ» هو ظهور النور الإلهي.

59- يومَ لا ينفعُ الظالمين معذرتهم

هذا التعبير أيضاً يوضّح واقعة اخرى مؤلمة من وقائع ذلك اليوم، قال تعالى «يَوْمَ لَايَنْفَعُ الظَّالِميِنَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ». (غافر/ 52)

من المتعارف في هذه الدنيا اللجوء إلى الاعتذار وطلب المغفرة من أهل النجاة من مخالب العقوبات، لكنّ طبيعة يوم القيامة تكون على نحوٍ لا مجال فيه لعذر الظالمين، لأنّ ذلك اليوم وُضِع أساساً لجني

الأعمال لا لترميم الماضي الذي يعتبر نوعاًمن العمل.

في بعض الآيات السابقة اتضح لنا عدم الاذن لهم بالاعتذار في ذلك اليوم، وفي البعض الآخر من الآيات اتضح أنّهم وإن اعتذروا بألسنتهم إلّاأنّ ذلك الاعتذار أيضاً لا ينفعهم، فبناءً على هذا لا يبقى أمامهم إلّاطريق الاستسلام للغضب الإلهي وبئس المصير.

ويخاطب القرآن الكريم جميع الناس في هذا التعبير بأن يسارعوا لطلب العفو من اللَّه

__________________________________________________

(1) تفسير روح المعاني، ج 29، ص 35؛ تفسير القرطبي، ج 10، ص 6728.

(2) تفسير نور الثقلين، ج 5، ص 395، ح 49.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 88

لمحو آثار الذنوب فإنّ محوها غير ممكن إلّافي هذه الدنيا، ومحو آثار الظلم عن طريق أداء حق المظلومين، فيجب الاستفادة من هذه الفرصة وإلّا فإنّ في ذلك الموقف العظيم والمحكمة الكبرى لا ينفع الندم ولا الاعتذار ولا البكاء والعويل.

60- يومَ يعضُّ الظالمُ على يديه

هذا التعبير من التعبيرات الرهيبة أيضاً، وقد ورد ذكره مرّة واحدة في القرآن المجيد، قال تعالى «وَ يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِى اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا» ثم أعقبه تعالى «يَاوَيْلَتَى لَيْتَنِى لَمْ أَتَّخِذ فُلَاناً خَلِيلًا». (الفرقان/ 27- 28)

يعضُّ الإنسان أحياناً على أصابعه عند الندم للتأسُّفِ الشديد من الأعمال الماضية، ويعضُّ أحياناً على ظاهر كفّه أيضاً، وعندما يكون الندم والتحسّر شديداً جدّاً فإنّه يعضٌّ على كلتا يديه بالتناوب، وهذا أروعُ تعبير لبيان شدّة الندامة والأسف.

بلى إنّ الظالمين يعضّون على أيديهم في ذلك اليوم العظيم بصورة مستمرّة، لأننا نعلم بأنّ أحد أسماء ذلك اليوم هو: «يَوْمُ الْحَسْرَة». (مريم/ 39)

ولكن ما الفائدة من ذلك؟ هل أنّ إدماءَ الأيدي بالأسنان والذي هو نوع من الانتقام من النفس يصلح لحلّ المشكلة، أو لجلب الاطمئنان؟ أم يزيدُ من ألم الظالمين

ويجعل فضيحتهم اشنع؟!

جاء في تفسير «الميزان» إن «الظالم» في هذه الآية يشمل جميع الظالمين، كما أنّ «الرسول» أيضاً يشمل جميع الرُّسُل، (أي اللام فيهما للاستغراق) وإن كان الخطاب في هذه الآية موجهاً إلى ظالمي هذه الامة والمراد من الرسول هو رسول اللَّه محمد بن عبداللَّه صلى الله عليه و آله.

وقد ذكروا أسباباً مختلفة لنزول هذه الآية يطول تفصيلها، ولكننا نعتقد بأنّ أسباب النزول لا تحدد مفهوم الآيات «1».

__________________________________________________

(1) للاطلاع أكثر راجع التفسير الأمثل، ذيل الآية 28 من سورة الفرقان.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 89

61- يومَ يُعرَضُ الَّذِينَ كفروا على النّار
62- يوم تقلّبُ وجوهُهُم في النار

يلاحظ هنا أيضاً تعبيران متشابهان ومتقاربان لوصف مشهد ذلك اليوم العظيم: ففي التعبير الأول والذي ورد ذكره مرّتين قوله تعالى «وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ».

(الاحقاف/ 20- 34)

ففي الآية الاولى بعد ذكر هذا المقطع قال تعالى «أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَونَ عَذابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ».

وفي الآية الثانية قال تعالى «وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ».

لقد ورد التأكيد في الآية الاولى لبيان أنّ السبب يقع على الجانب العملي، أي تلك اللّذات اللامشروعة والاستفادة المحرمة من الهبات الإلهيّة، وفي الآية الثانية جاء التأكيد على الجانب الاعتقادي الذي يكون سبباً في هلاك أهل النار.

و من الملفت للنظر: إنّ بعض الآيات القرآنية تَذْكرُ بأنّ يوم القيامة يؤتى بالنار صوب المجرمين «وَجِئَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ». (الفجر/ 23)

ولكن في هذه الآية التي هي محلّ بحثنا ذُكِرَ بأنّ الكفار هم الذين يساقون تجاهَ النار، وكأنّما هنالك قوّة جذب بينهما، فتارة يؤتى بجهنم صوبهم وأخرى يؤتى بهم إلى النار! ليتجرّعوا العذاب.

وفي التعبير الثاني يُشار

إلى نوع آخر من أنواع العذاب المؤلم ليوم القيامة ويسمى ذلك اليوم باسم ذلك العذاب، قال تعالى «يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَالَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرّسولَا». (الاحزاب/ 66)

وللمفسرين اقوال عدّة في المراد من تقلّب الوجوه في ذلك اليوم، فتارةً قيل إنّ المراد من التقلّب هو تغيّر لون الوجوه، فتكون مصفرّة وذابلة وأُخرى تصير محمرّة كالنار وثالثة تسودُّ وتصبح كقطع الليل.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 90

وقال البعض منهم إنّ المراد من التقلّب هو تقليب الوجوه كما تقلب الأشياء على النّار للطهي من طرفٍ إلى آخر، فهكذا يُفعلُ بوجوه المجرمين أيضاً في ذلك اليوم العظيم.

وقيل إنّ المراد إلقاؤهم على وجوههم في النار، والحكمة من ذكر الوجوه هنا هو إنّ الوجوه أشرف أعضاء بدن الإنسان وأجلّها لديه.

وهناك احتمال آخر أيضاً وهو الجمع بين التفاسير الثلاثة في هذه الآية وإن كان التفسير الأول والثاني أقرب للصحة فعلى أيّة حال فإنّ الآية تُنبئُ عن الفاجعة الكبرى والعذاب العظيم الذي يواجهه المجرمون والكافرون والمعاندون يوم القيامة.

والخطاب الذي تحمله هذه الآية هو دعوة الناس إلى الاجتهاد في طاعة اللَّه ورسوله في الدنيا قبل حسرة ذلك اليوم العظيم وقولهم ياليتني ... والتي لا تعود عليهم بأيّة فائدة حينئذٍ؟ لماذا يرجّحون اليوم طاعة العباد الذين يتخلّقون بأخلاق الشيطان وطواغيت العصر على طاعة اللَّه؟ الأمر الذي يكون السبب الرئيسي في ندمهم يوم القيامة.

63- يومَ يُدَعُّونَ إلى نارِ جَهَنَّمَ دَعّا

هذا التعبير أيضاً له شبه كبير بالتعبيرات السابقة، قال تعالى «يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَّارِ جَهَنَّمَ دَعّاً». (الطور/ 13)

ثم يقال لهم: «هَذِهِ النَّارُ الَّتى كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ* أَفَسِحرٌ هَذَا أَمَ أَنْتُمْ لَاتُبْصِرُونَ».

(الطور/ 14- 15)

«يُدَعُّون»: من مادة «دَعّ» كما قال الراغب في المفردات بمعنى «الطرد الشديد»، فهذا التعبير يدلّ على

أنَّ نَفْسَ الأَخْذِ إلى جهنم أيضاً يكون مقروناً بالشدّة والفزع والخوف والاضطراب الشديد في يوم القيامة العظيم، إن تصوّر هذا التعبير يكفي لأنّ يرتعد الإنسان ويفكر في عاقبة أمره، ويوضح للإنسان عِظَمَ المصير الذي سوف يلاقيه.

وما أكثر التباين بين أصحاب جهنم وأصحاب الجنّة، حتى في كيفية انتقالهم إلى مقرّهم

نفحات القرآن، ج 5، ص: 91

النهائي! فقد جاء في القرآن الكريم عن كيفية انتقال أهل الجنّة إليها: «سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ». (النحل/ 32)

وجاء في موضع آخر بأنّ الملائكة تقول لهم: «سَلَامٌ عَلَيكُمْ بِمَا صَبَرتُم فَنِعْمَ عُقبى الدَّارِ». (الرعد/ 24)

64- يومَ نَبْطِشُ البَطْشةَ الكبرى
65- يومٌ لا مَرَدَّ لهُ من اللَّه

التعبير الأول تعبيرٌ مروّع عن ذلك اليوم العظيم، وذلك لأنّ اللَّه عزوجل بعظمته وقدرته الخالدة يهدد الكافرين والمجرمين بأشدّ اسلوب فيقول: «يَوْمَ نَبْطِشُ البَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ». (الدخان/ 16)

فكلما أمعَنَ الإنسان النظر في مفردات هذه الآية؟ كالتعبير ب «البطش» الذي يعني الأخذ بالقوة والمصحوب بالهجوم، والتعبير ب «الكبرى الذي هو دليل على قوة البطش أو عظمته، والتعبير ب «إنا منتقمون» الذي هو جملة اسمية وبنفس الوقت مؤكّد ب «إنّ» فسوف يرتعد له بدنه، لأنّ اللَّه الرحيم الغفور واللَّه القادر القاهر يهدد بمثل هذا التهديد.

قال جمع من المفسرين واحتمل آخرون أنَّ الآية تدلّ على العقاب الشديد الذي أصاب المشركين في غزوة بدر الكبرى لكنّ مفردات الآية تتناسب مع عذاب أكبر وأشدّ وأشمل، وهذا ممّا لا يصدق إلّاعلى عذاب الآخرة، بالإضافة إلى أنّ الآيات السابقة لها لا تناسب النزول في غزوة بدر الكبرى

وفي التعبير الثاني أشير إلى بُعد آخر من أبعاد ذلك اليوم، قال تعالى «يَوْمٌ لّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ». (الشورى 47)

فلا يوجد هناك سبيل لجبران الماضي ولا سبيل للعودة إلى هذه الدنيا لتدارك

ما فات.

ويرى بعض المفسرين أنّ هذه الجملة تدل على حتمية وقوع ذلك اليوم لأنّه تعالى قال:

نفحات القرآن، ج 5، ص: 92

«يَوْمٌ لّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ»، أي أنّه واقعٌ حتماً، فعلى هذا المعنى يكون مفهوم الآية قريباً من جملة «لا ريب فيه» التي وردت للتعبير عن يوم القيامة، لكنّ ذيل الآية: «مَالَكُمْ مِنْ مَلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَالَكُمْ مِن نَّكِيرٍ» يناسب التفسير الأول.

وهناك احتمال آخر هو أنّ المراد من الآية أنّ أحداً لايستطيع في ذلك اليوم مَنْعَ وايقاف العذاب الإلهي عنكم، وهذا المعنى يتناسب مع ذيل الآية.

فعلى أيّة حال فإنّ أيّ تفسيرٍ نرجّحه من بين هذه التفاسير فهو يحمل خطاباً بليغاً وشديداً.

66- يومَ يَدْعُ الدّاعِ إلى شيٍ نُكُرٍ

هذا التعبير الذي ورد ذكره في القرآن المجيد مرّة واحدة هو تعبير غامض ومُقزعٌ، وينبّه الإنسان إلى امور مهمّة فيما يتعلق بذلك اليوم، قال تعالى «يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَى ءٍ نُّكُرٍ». (القمر/ 6)

وللمفسّرين احتمالات عدّة في مسألة من هو «الداعي» فهل هو اللَّه؟ أم الملائكة المقربون؟ مثل جبرئيل، أو اسرافيل الذي يدعو الناس إلى القيامة بواسطة نفخ الصور، فلو أخذنا بنظر الاعتبار الآية الشريفه: «يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَستَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ». (الاسراء/ 52)

فإنّ المعنى الأول يكون مناسباً، وإن كانت الآيات اللاحقة أكثر تناسباً مع الملائكة وعمّال الحساب والجزاء.

ما هو المراد من «شي ء نُكُر»؟

هل يكمن هذا الشي ءُ في أنواع العذاب الرهيب التي لم تخطر على بال أحد من البشر؟

أم هو الحساب الدقيق للأعمال الذي لم يكن يتوقّعة أحد من قبل؟ أم هو مجموع هذين؟

فمهما يكن من شي ء فهو أمر رهيب ومُفزع وعسير ومؤلم.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 93

67- يوم يُسحبونَ في النّار على وجوههم

إنّ الانذار الشديد الذي يحتوي عليه هذا التعبير عن القيامة عجيبٌ حقاً، قال تعالى

«يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ». (القمر/ 48)

نحن نعلم بأنّ الوجه أشرف محل في الإنسان وفي نفس الوقت ألطف جزء من أعضاء البدن، ونعلم بأنّ كثيراً من الأجزاء المهمّة مثل العين والفم والأنف توجد في الوجه، ومن جانب آخر نعلم بأنّ نار جهنم أشد من نار الدنيا بكثير فإنّ نار الدنيا في مقابل تلك النار ضئيلة أو محدودة جدّاً.

تصوروا ماذا سيحدث إذا سُحبَ أحدٌ في النار على وجهه؟ بالإضافة إلى ذلك فإنّ هذا العمل دليل على شدّة التحقير لهؤلاء المستكبرين عُبّاد الذات، فعلى هذا يجتمع هناك العذاب الجسمي والعذاب الروحي في آنٍ واحد.

ويوجد هناك احتمالان في معنى «سَقَر» التي هي على وزن (سَفَر):

الاحتمال

الأول: هو أنّها نفس جهنم

الاحتمال الثاني: أنّ المراد منها قسم معّين من جهنم الذي هو مقرّ المتكبرين وذو حرارة عالية واحراقٍ شديد، والاحتمال الثاني تؤيده رواية الإمام الصادق عليه السلام، قال عليه السلام: «إنّ في جهنم لوادٍ للمتكبرين يقال له سقر شكا إلى اللَّه شدّة حره وسأله أن يأذن له أن يتنفس فأحرق جهنم» «1».

68- يوم نقول لجهنم هل امتلأتِ

هذا التعبير الذي ورد ذكره مرّة واحدة في القرآن المجيد يعتبر من جملة صفات يوم القيامة ومن التعبيرات التي تبعثُ على الرهبةِ والهلع أيضاً، ويشير إلى حجم النار الكبير وكثرة أصحاب جهنم، هذا المشهد يبعث الرعب والخوف في قلب كل إنسان لئلا يكون أحد

__________________________________________________

(1) تفسير الصافي، ج 5، ص 104- 105 في تعليقه على الآية.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 94

هؤلاء، قال تعالى «يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ». (ق/ 30)

ويوجد في تفسير هذه الآية رأيان: الأول هو أنّ الاستفهام هنا «استفهام إنكاري»، أي أنّ جهنم في الجواب عن هذا السؤال هل امتلأت؟ تقول بتعجب هل هناك زيادة على هذا؟

للدلالة على أنّه لم يبق فيها مكان فارغ.

والاحتمال الثاني أنّ الاستفهام «استفهام تقريبي»، أي هل هناك أفراد آخرون يردون جهنم؟ على هذا المعنى تكون النار دائماً في حالة البحث عن الظالمين المجرمين، ويشبه حالها حال الإنسان الشره الذي يطلب دائماً طعاماً كثيراً ولا يشبع من ذلك أبداً، ولا عجب أن لا تشبع النار من المذنبين الظالمين ولا تشبع الجنّة من الصالحين.

إلّا أنَّ بعض المفسرين أوردوا على هذا التفسير إشكالًا بأنّه لا يتناسب مع هذه الآية:

«لَأَمْلَئَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ اجْمَعِينَ». (السجدة/ 13)

وعلى هذا الأساس فلابدّ من الرجوع إلى التفسير الأول «1»، ولكن يمكن الجواب على هذا

الإشكال بأنّ الامتلاء له درجات، كما لو مُلى ء صحن من الطعام وأعطي لشخص فيطلبُ أن يُزادَ له فيه.

وفي مسألة كيفية الاستفسار من جهنم وجوابها قال البعض: إنّه سؤال من خزنة وحفظة جهنم وجوابهم، وقال البعض إنّ هذا الاستفسار والجواب هو بلسان الحال وقيل أيضاً إنّه يفهم من مجموع آيات القرآن وبعض الأخبار بأنّ جهنم موجود حىّ قادرة على النطق ونباءً على هذا فإنّه من الممكن تفسير الآية بنفس المعنى الظاهري لها «2».

وعلى أيّة حال فإنّ هذه الآية توحي بكثرة أصحاب النار وجدّية التهديد الإلهي لهم، وتنذر الجميع أن لا يكونوا من هذه الزمرة فيها فهذه التحذيراتُ من الممكن أن توقظ الإنسان وتجعله يراجع نفسه ويتوقف عن الاستمرار في ارتكاب الذنوب والخطايا.

__________________________________________________

(1) هذا الإشكال في تفسير الكبير، ج 28، ص 174؛ وتفسير روح المعاني ج 26، ص 17؛ وتفسير الميزان، ج 18 ص 384 نقلًا عن بعض المفسّرين.

(2) ذكر في تفسير روح البيان ج 9، ص 127، شواهد من الآيات والروايات لإثبات هذا المعنى

نفحات القرآن، ج 5، ص: 95

69- يومَ يقولُ المنافقون والمنافقات ...

هذا التعبير عن يوم القيامة ورد ذكره مرّة واحدة في القرآن المجيد في قال تعالى «يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ»، (أي ألقوا علينا نظرة حتى نستلهم من نوركم، أو أمهلونا حتى نستفيد من نوركم). (الحديد/ 13)

هذا والحال أنّ المؤمنين والمؤمنات يمرّون على الصراط بسرعة خاطفة وأشعة أنوارهم تسطع أمامهم وعن أيمانهم: «يَوْمَ تَرَى المُؤمِنيِنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ ...». (الحديد/ 12)

اما المنافقون فإنهم ينظرون إلى المؤمنين بحسرة ولهفة يطلبون حزمة أو قبضة من نور المؤمنين ولكنهم يجابون حينها «قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالَتمِسُوا نُوراً». (الحديد/

13)

إنّ القيامة وساحة المحشر ليستا محلًا لكسب النور، بل محل ذلك هو الدنيا فارجعوا إليها إن استطعتم واطلبوا النور والضياء لأنفسكم من مصباح الهداية المنير والعمل الصالح، فما أسوا حال المنافقين أصحاب القلوب الغلف والأفكارِ المظلمة! وما أجمل نورَ الإيمان والعملِ الصالح وما اعظمَ فحوى هذا الخطاب الذي تحمله لنا الآية الكريمة في بيانها لحال الفريقين معاً!

70- يومٌ لا ريب فيهِ

التعبير السبعون وهو الأخير في وصف يوم القيامة هو التعبير المذكور أعلاه الذي ورد ذكره مرّتين في سورة آل عمران، قال تعالى «رَبّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَومٍ لَّارَيْبَ فِيهِ».

(آل عمران/ 9)

وورد هذا التعبير في نفس هذه السورة أيضاً، قال تعالى «فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَّا رَيْبَ فِيهِ». (آل عمران/ 25)

وبما أننا تحدثنا في بحث «حتمية يوم القيامة في نظر القرآن الكريم»- بالقدر الكافي-

نفحات القرآن، ج 5، ص: 96

في موارد هذه الآيات (في هذا الجزء من الكتاب، فلانرى ضرورة لتكرار ذلك، لكننا نشير إلى مسألة واحدة فقط وهي أنّ حتمية وقوع ذلك اليوم وتحقق الوعود الإلهيّة فيه ليست من المسلمات والبديهيات في القرآن الكريم فحسب، بل هي كذلك عند جميع المؤمنين الراسخين في إيمانهم، فإنّهم يعترفون ويجمعون على أنَّ المقولاتِ السابقة ليوم القيامة تخبرُ عن وقائعِ ذلك اليوم العصيب، بينما يخبرُ هذا التعبير عن حتمية وقوعه بلا شكّ، وفي الواقع فهذا التعبير تأكيد لجميع تلك التعبيرات ولهذا انتخبنا هذا الوصف ليكون آخر حلقة تُذكر من سلسلة التعبيرات الواردة في يوم القيامة.

وهذه المسألة من المسائل الجديرة بالذكر لأنَّ المؤمنين عندما يتحدثون عن ذلك اليوم العظيم فإنّهم يأتون بالدليل عليه ودليلهم ماجاء في ذيل الآية الاولى «إِنَّ اللَّهَ لَايُخْلِفُ الْمِيعَادَ»، وهذا دليلٌ على حتمية وقوع ذلك اليوم وعدم إمكان الشك

فيه.

ثمرة البحث:

من خلال هذا البحث الواسع حول «أسماء القيامة في القرآن» اتضح لنا بأنّ «ليوم القيامة» في القرآن المجيد على الأقل «سبعون اسماً»، وبديهيِّ إن ما نريده من الاسم هنا ليس هو الاسم العلم بل جميع التعبيرات التي وردت في مورد اسم القيامة في القرآن الكريم التي ابتدأت بكلمة «يوم» (اسم توصيفي).

لكنّنا قسّمنا هذه الأسماء إلى مجموعتين إحداهما الأسماء التي احتوت على كلمة واحدة فقط للتعبير عن ذلك اليوم العظيم، مثل «يوم البعث ويوم القيامة ويوم الدين ويوم الحساب» البالغة أربعة وعشرين اسماً، والاخرى الأسماء التي وصفت يوم القيامة من خلال جملة واحدة (وهي بقية التعبيرات).

وهذه الأسماء والصفات السبعون غنية جدّاً بالمواضيع فهي تنظر إلى يوم القيامة من نوافذ وزوايا مختلفة، وقد كشفت عن جميع الوقائع التي تقع في ذلك اليوم العظيم من بدايته

نفحات القرآن، ج 5، ص: 97

التي هي إحياء الموتى حتى نهايته عندما يُساقُ أصحاب الجنّة إلى الجنّة وأصحاب النار إلى النار.

إنّ هذه الأسماء السبعين ترسم لنا لوحة عجيبة ورهيبة وواضحة وناطقة عن ذلك اليوم العظيم، وتتحدث عن كل ما يمكن أن يقال عنه، وتخبُر عن عاقبة جميع البشر في مواقف المحشر جميعاً.

إنّه ليس من المعقول أن يتأمل الإنسان في هذه الاسماء وينظر إليها نظرة موضوعية فلاتؤثر فيه الأثر التربوي العميق، فالهدف منها في الواقع هو ايقاظ الإنسان من خلال هذه التعبيرات التي صوّر كل واحد منها زاوية معينة من المعاد، فإنّها تدعوه إلى الخروج من الضلال إلى الهدى ومن الرجس إلى الطهارة، ومن حبّ الدنيا إلى الزهد فيها، ومن الفسق إلى التقوى ومن الظلمة إلى النور ومن الكفر إلى الإيمان ومن الشرك إلى التوحيد.

إنّ هذا القرآن كتاب هدايةٍ حقّاً، وما أعجب

سبله التربوية العالية.

ضَعُوا هذه الأسماء إلى جنب بعضها مرّة اخرى ومرّوا بها على نوافذ قلوبكم، وتأملوا في كل موردٍ وردت فيه، وماهي العواقب التي يصوّرها للإنسان؟ ثم استفيدوا منها في تربية أنفسكم.

اللّهم أعطنا إدراكاً وبصيرة نرى ذلك اليوم العظيم من جميع زواياه التي بينتها لنا في القرآن الكريم.

ونصغي لنداء هذه الآيات.

ونحفظ فحوى هذه الأسماء.

ووفِّقنا للتأهب لذلك اليوم العظيم آمين يا ربّ العالمين.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 99

الأدلة على المعاد

اشارة

نفحات القرآن، ج 5، ص: 101

أدلة إثبات المعاد

تمهيد:

نظراً للأهميّة الفائقة التي أولاها القرآن الكريم للمعاد في بعد المعارف الدينية ومن حيث التأثير التربوي لها في الآخرين معاً، فإنّه خصص آيات متعددة لبيان أدلة إثبات المعاد.

وهذه الأدلة في الواقع تنقسم إلى قسمين رئيسيين:

القسم الأول: الأدلة التي استدل بها على إثبات وقوع المعاد وإثبات وجود الحياة بعد الموت من طرق متعددة.

القسم الثاني: الأدلة التي تُمثل في الواقع جواباً على الإشكالات التي أوردها المخالفون، الذين يعتقدون باستحالة الحياة بعد الموت.

وادّعوا من خلال تعبيرات مختلفة «عدم إمكان» وقوعها.

لقد طرح القرآن المجيد في مقابل ذلك مجموعة من الأدلة «العقلية» و «الحسية التجريبية» واثبت لهم «إمكان المعاد الاخروي» ودحض ادّعاءهم.

إنّ الاسلوب الطبيعي للبحث يوجب علينا طبعاً أن نطرح أولًا أدلة «إمكان» المعاد، فنبتدئ بالإنطلاق من مرحلة «الجحود المطلق» إلى مرحلة «الإمكان المطلق»، بعد ذلك نطرح «أدلّة حتمية» على المعاد و «أدلة إثبات الوقوع» كي نتعرف من خلال ذلك وبصورة صحيحة ومنطقية على حقيقة المعاد ومراحله جميعها.

والملاحظة المهمّة التي يجب أن نؤكد عليها هنا: إنّ جميع مناظرات القرآن الكريم في مجال إمكان المعاد جاءت لاقناع منكري المعاد الجسماني، والقرآن الكريم يؤكدّ على

نفحات القرآن، ج 5، ص: 102

مسألة إعادة «الروح» و «الجسم» معاً في الدار الآخرة وأنّه امر ممكن بلا شك وذلك لأننا نشاهد في هذا العالم نماذج مختلفة لمصاديق ذلك.

على أيّة حال فإنّ الطرق التي يسلكها القرآن لإثبات ذلك كثيرة جدّاً ومتنوعة ويمكن تلخيصها في ستِّ طرق:

1- آيات الخلق الأول (خلق العالم والإنسان).

2- آيات شمول القدرة الإلهيّة.

3- آيات احياء

الأرض.

4- آيات تطور مراحل الجنين.

5- آيات عودة الطاقة.

6- آيات النماذج الحيّة والتأريخية للمعاد في هذه الدنيا.

ومن أجل التعرف على هوّيةِ المخالفين الذين يعنيهم القرآن الكريم وعلى مقصود الآيات في ذلك يجب قبل الدخول في البحث أن نطرح بعض الجوانبِ من منطق المخالفين الذي بينته آيات القرآن الكريم، ذلك المنطق الذي يطرحه المخالفون في يومنا هذا أحياناً ويؤكّدون عليه.

بعد هذا التوضيح نتوجه للبحث في أدلة (امكان المعاد) ونتحدث أولًا في تحديد منطق المخالفين ووجهة نظرهم فيه:

نفحات القرآن، ج 5، ص: 103

إمكان المعاد ومنطق المخالفين:

إشارة:

قلنا بأنّ القرآن المجيد من أجل تهيئة الأرضية الفكرية اللازمة لاستيعاب هذه المسأله يبدأ أولًا بالحديث عن «إمكان المعاد»، ويثبت ذلك بطرق مختلفة (الطرق الستّ)، بعد ذلك يبدأ بذكر أدلة «وقوع المعاد».

ويحتمل أن لا تكون هناك ضرورة للتنبيه على أنّ المخالفين للمعاد لا يمتلكون دليلًا معيناً لإثبات مقصدهم فهم عادةً يؤكّدون على مسألة استحالة الحياة بعد الموت بسبب عقليتهم الساذجة، حتى يعتبرون الاعتقاد بمسألة الحياة بعد الموت من علامات الجنون وكانوا يسخرون ممن يقول بذلك ويتهمونه بالافتراء على اللَّه.

بعد ذكر هذه المقدمة نعود إلى القرآن الكريم لنتأمل خاشعين في الآيات التالية:

1- «وَقَالُوا ءَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً ءَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً». (الاسراء/ 49- 98)

2- «وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ* أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ». (سبأ/ 7- 8)

3- «وَقَالُوا ءَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْارْضِ ءَإِنَّا لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ». (السجدة/ 10)

4- «وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا ءَإِذَا كُنّا تُرَاباً وَآبَاؤُنَا ءَإِنَّا لُمخْرَجُونَ* لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِن قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ». (النمل/ 67- 68)

5- «فَقَالَ الْكَافِرونَ هَذَا شَي ءٌ عَجِيبٌ* ءَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ

بعَيِدٌ».

(ق/ 2- 3)

6- «أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتٌّم وَكُنتُم تُرَاباً وعِظَاماً أَنَّكُمْ مُّخرَجُونَ* هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ

نفحات القرآن، ج 5، ص: 104

لِمَا تُوعَدُونَ* إِنْ هِىَ إِلّا حَيَاتُنَا الدٌّنيَا نَمُوتُ ونَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ».

(المؤمنون/ 35- 37)

7- «إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ* إِنْ هِىَ إِلّا مَوتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحنُ بِمُنشَرِينَ» «1».

(الدخان/ 34- 35)

جمع الآيات وتفسيرها

هل يستحيل التراب إلى إنسان مرّة اخرى !

هذه الآيات وإن كانت ذات مضامين مشتركة إلّاأنّ هناك تفاوتاً في تعبيراتها ومحتوياتها وتحتاج إلى الدقّة وإلامعان.

ففي الآية الاولى إشارة إلى مقولة مشركي العرب، قال تعالى «وَقَالُوا ءَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً ءَانَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً».

كيف يمكن للإنسان بعد أن يتفسخ لحمه ويصبح تراباً ثم تندرس عظامه وتصبح رميماً ورفاتاً أن تجمع ثانياً ثم تلبس ثوب الحياة من جديد فأين العظام الرميمة والمتلاشية من الإنسان الحيّ المتحرك القوي؟!

«رُفات»: من مادة «رَفْت» (على وزن فَعْل) بمعنى حطام، وعدّ البعض «الالتواء» من معانيه أيضاً، وقال البعض إنّ «الرفات» بمعنى الذرات العتيقة المتفسخة وهي الحالة التي تحصل للعظام بعد أن تمضي عليها سنون متمادية وهذه التفسيرات جميعها كثيرة الشبه ببعضها «2».

وما فسّره البعض- نقلًا عن روح المعاني- بأنّه بمعنى التراب أو الغبار أو ما اصبح دقيقاً إِثْرَ الدّقِّ الكثير فهو في الواقع بيان لبعض مصاديقه.

__________________________________________________

(1) يوجد في هذا المجال آيات متعددة اخرى متقاربة الافق مع هذه الآيات المذكورة مثلًا ما جاء في سورة الواقعة الآية 47 و 48؛ وفي سورة الصافات الآية 53؛ وسورة يس الآية 78 و ...

(2) مفردات الراغب ومقاييس اللغة والتحقيق وتفسير روح المعاني.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 105

الإنسان العاقل لا يتحدث بمثل هذا!

والآية الثانية تصور الأسلوب الخشن، المعاندَ والأكثر غروراً للمشركين في قوله تعالى

«وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ* أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً» (لانّه يدعّي أنّ هذا الخبر من اللَّه) «أَمْ بِهِ جِنَّةٌ» (فكلامه كلام المجانين) (والعياذُ باللَّه).

هكذا كان يتصور هؤلاء بأنّ أخبار النبي الأكرم صلى الله عليه و آله عن المعاد الجسماني ناتج عن أحد أمرين فكانوا يقولون: إمّا أن يكون هذا الرجُل

عاقلًا وفطناً لكنّه من أجل الطموحات الشخصيّة نَسَبَ هذه الامور إلى اللَّه كذباً كي يجمع الناس حوله، وإمّا أن لا يكون لديه غرض شخصي ولكنّه (والعياذ باللَّه) اصيب بالجنون! وإلّا فإنّ العاقل لا يمكن أن يقول بأنّ العظام البالية والتراب المنثور الذي ركبت ذرّاته أمواج الرياح وذهبت في كل صوب أن تجتمع يوماً وتحيى من جديد!

إنّ هؤلاء الحمقى المغرورين الذين لم يذكروا النبي إلّابعنوان «رجُل» وبصيغة نكرة قد نسوا نشأتهم الاولى بالمرّة وخيّمتْ على بصائرهم حُجب الجهل فمنعتهم من مشاهدة مصاديق المعاد في حياتهم اليومية، وسوف نتطرق للبحث في هذا المجال بإذن اللَّه بعد ذكر هذه الآيات.

و «مُزِّقْتُم»: من مادة «تمزيق» بمعنى الشّق والتقطيع، وجاءتَ هنا للدلالة على تحلل الإنسان وتناثرِ عناصره واختلاطها بالتراب والماء والهواء.

وفي الآية الثالثة نجد تعبيراً جديداً في هذا المجال، قال تعالى «وَقَالُوا ءإِذَا ضَلَلْنَا فِى الْأَرْضِ ءَإِنَّا لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ».

التعبير بالضلال في الأرض يكون تارةً للدلالة على تحول أعضاء جسم الإنسان إلى تراب بحيث تكون كالارض، وتارةً اخرى للدلالة على تشتتها في مناطق متوارية من العالم على نحوٍ لا يمكن تمييزها أبداً.

بهذا الأسلوب كانوا يريدون أن يثبتوا بأنّ عودةً كهذه أَمرٌ محال جدّاً! بينما قد تحقق

نفحات القرآن، ج 5، ص: 106

نفس هذا الأمر في بداية خلق الإنسان، فإنّ العناصر المنبثقةَ في عالم الطبيعة اجتمعت بقدرة اللَّه ووجد منها الإنسان (والوقوع أفضل دليل على الإمكان).

إنّها أساطير فحسب:

ورد ذكر هذا الإدّعاء في الآية الرابعة مع بعض الإضافات الاخرى قال تعالى «وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا ءَإِذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَاؤنَا ءَإِنَّا لُمخْرَجُونَ* لَقَدْ وُعِدْنَا هذَا نَحْنُ وَآبَاؤنَا مِن قَبْلُ إِنْ هذَا إِلّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ» «1».

يفهم من هذا التعبير أنّ مسألة المعاد وبالتحديد المعاد الجسماني لم

تكن من مختصات القرآن والشريعة الإسلامية فحسب، بل ممّا أخبر عنه الأنبياء المتقدمون أيضاً، ولكن للأسباب التي سوف نذكرها لاحقاً- إن شاء اللَّه- لم يخضع متكبِّرو الامم للحق أبداً، وكانوا يعتبرونه أمراً خرافياً واسطورياً بعيداً عن العقل والمنطق، فالآية الشريفة ذكرت أنّ هؤلاء تمسّكوا بأمرين لانكار المعاد:

الأول: أنّ عودة الحياة للتراب تبدو أمراً مستبعداً.

والثاني: بما أنّ جميع الأنبياء السابقين وعدوا الامم السالفة ولم يتحقق وعدهم أبداً، فهذا دليلٌ على أنّ هذا الأمر اسطورة وخرافة لا غير، (وكأنّهم يتوقعون بأنّ القيامة يجب أن تتحقق على الفور وإلّا فهي كذب وافتراء).

__________________________________________________

(1) «اساطير» جمع «اسطورة» ويرى بعض اللغويين أنّها جمع «أسطار» وهي بدورها جمع «سطر» بمعنى الشي المدوّن كذباً، وقال البعض أيضاً: بما أنّ «اسطورة» من الصّيغ «المزيد فيها» فإنّها تدل على زيادة في السطر المعهود، ولذا اعتبروها بمعنى «السطر المنّمق»، ومهما يكن من أمر فإنّ الاسطورة بمعنى المقولة الباطلة الخرافية التي لا أصل لها. (مقاييس اللغة- المفردات- مصباح اللغة- التحقيق).

نفحات القرآن، ج 5، ص: 107

وفي الآية الخامسة يَردُ تعبير آخر عن ذلك الإنكار والاستبعاد، قال تعالى «فَقَالَ الْكَافِرُونَ هذَا شَى ءٌ عَجِيبٌ* ءَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ» «1».

فهم في مبتدأ مقولتهم يعتبرون ذلك أمراً «عجيباً»، وفي ذيل مقولتهم يعتبرونه «بعيداً» ولكنهم لم يفكّروا بخلقهم وإن هذا الأمر «العجيب والبعيد» قد تحقق بوضوح في خلقهم الأول، بل كما سوف يأتي لاحقاً بأنّ مسألة المعاد وتجدد الحياة من الامور التي شاهدناها ونشاهدها دائماً في هذه الدنيا، فكيف يكون هذا الأمر عجيباً وبعيداً؟

وفي الآية السادسة نرى المخالفين يكررون هذا اللون من الانكار ولكن بأُسلوبٍ آخر، فكانوا يقولون لقرنائهم وأقربائهم مشكّكين متخذين أسلوب الاشاعة والاثارة: «أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتٌّم

وَكُنْتُمْ تُرَاباً وعِظَاماً أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ* هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ».

ثم إنّ هؤلاء الحمقى لايخالون أنّ هناك حاجة للاستدلال فيقولون بِتَعَسُّفٍ: «إِنْ هِىَ إِلّا حَيَاتُنَا الدٌّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِيَن».

وهذا من أشد تعبيرات المنكرين المعاندين في مجال إنكار المعاد، وذلك من دون أن يفكروا في فلسفة خلق الإنسان وأنّه هل من الممكن أن تكون هذه الحياة القصيرة المليئة بالمصائب والمشاكل الهدف والغرض الرئيسي من خلق الإنسان؟ ومن دون أن يفكّروا بفلسفة الأوامر الإلهيّة وأنّه هل من الممكن أن يعامل اللَّه العادل، الصالحين والطالحين على حدٍ سواء؟ وأن لا يفرّق بينهم لا في الدنيا ولا في الآخرة، ومن دون أن يفكّروا بنشأتهم الاولى حين كانوا في البداية تراباً وعناصر متفرّقة.

قد يكون تقدم كلمة التراب على العظام في الآية الكريمة- مع أنّ بدن الإنسان يتحول إلى عظام رميمة أولًا ثم يكون تراباً- وذلك للإشارة بالتراب إلى اللحم الذي يصبح تراباً

__________________________________________________

(1) بعض المفسرين لا يرون فرقاً بين «رَجْع» و «رجوع» (مثل صاحب الميزان) بينما يعتقد البعض الآخر بأنّ «رَجْع» استعمل متعدياً و «رجوع» لازم (تفسير روح البيان، ج 9، ص 103) وجاء في تفسير فخر الرازي أيضاً الفرق بين هذين التعبيرين، ولكن الآية تحتمل كلا المعنيين (تفسير الكبير، ج 28، ص 152).

نفحات القرآن، ج 5، ص: 108

قبل العظام، أو الذكر له بالتراب على الأجداد والماضين الذين تحولت أبدانهم إلى تراب تماماً، وللدلالة بالعظام إلى الأباء والامهات الذين فارقوا الحياة قريباً، أو لأنّ عودة الحياة إلى التراب أبعد إلى التصديق من عودته إلى العظام، لذا تقدمت كلمة التراب، وفي كل الأحوال فيه بيان لشدّة معارضتهم لهذه المسأله.

إن هي إلّاحياة واحدة وموتة واحدة:

وفي الآية السابعة والاخيرة نلاحظُ تعبيراً جديداً أيضاً، وهو إن مشركي العرب

ومنكري المعاد من دون أن يتحدّثوا عن الرفات والتراب وأمثال هذه الامور، ادّعوا بدون دليل: «إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ* إِن هِىَ إِلّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحنُ بِمُنْشَرِينَ».

الأمر العجيب في هذه الآية أنّ هؤلاء قالوا إن هي إلّاموتتنا الاولى فلماذا اتوا بهذا التعبير بينما كان عليهم أن يقولوا: إن هي إلّاحياتنا الاولى

وقد أجاب المفسرون عن هذا السؤال بأجوبة مختلفة، ولكن الجواب الأكثر مناسبة أن يقال إنّهم كانوا يقصدون من كلامهم هذا إنّه لا يوجد بعد هذه الحياة إلّاالموت ولا شي ء يحدث بعد الموت، أيْ لا يوجد هناك حياة اخرى

وآخر الكلام في هذه الآية قال الزمخشري بعد أن طرح هذا الإشكال في الكشاف: إنّه قيل لهم إنّكم تموتون موتة تتعقبها حياة، كما تقدّمتكم موتة قد تعقبتها حياة، وذلك قوله عزوجل: «وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ». (البقرة/ 28)

فقالوا: «إِنْ هِىَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى يريدون: ما الموتة التي من شأنها أن يتعقبها حياة إلّا الموتة الاولى دون الموتة الثانية وما الصفة التي تصفون بها الموتة من تعقب الحياة لها إلّا للموتة الاولى خاصة «1».

لكنّ التكلف واضح على هذا التفسير، والتفسير الأول هو المناسب (فتأمل).

__________________________________________________

(1) تفسير الكشاف، ج 4، ص 279 في ذيل الآية مورد البحث.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 109

السؤال الآخر الذي طرح في مورد هذه الآية إنّ كل «أول» يجب أن يكون له «ثانٍ» فعلى هذا كيف يمكن أن لا يتلو «الموت الأول» «موت ثانٍ»؟

والجواب على هذا السؤال واضح، وهو أنّه ليس من الضروري أن يكون لكل أولٍ ثانٍ، فمثلًا لو نذر الإنسان على نفسه أن يسمّي أوّل ابنٍ يهبه اللَّه له «محمداً»، فمن الممكن أن لا يهب اللَّه له إلّاذلك الابن، أو أن

ينذر للَّه على نفسه أن يهدي أوّل كتاب يؤلفه إلى أبيه، ومن الممكن أن لا يؤلّف كتاباً غيره، ونحن نعلم أيضاً أنَّ أحد أسماء اللَّه تعالى هو الأول مع أنّه لايوجد هناك إلهٌ ثان.

نتيجة البحث:

تعرفنا من خلال الآيات السبع المذكورة والآيات الاخرى المقاربة لها على منطق منكري المعاد وبالأخص اولئك الذين عاصروا نزول القرآن، ويمكن تلخيص اقوالهم في مجال إنكار المعاد الجسماني غالباً في عدّة جمل ادّعائية:

كيف يمكن للعظام الرميم أن تلبس ثوب الحياة من جديد؟

كيف يمكن لِلَحْمِنا وعظامنا التي تحولت إلى تراب وتفرقت عناصرها في كل صوب وتحللت واختلطت بالأرض وتلاشت أن تجمع ثانية وتدبَّ فيها الحياة من جديد؟ أليس هذا افتراء على اللَّه أو من علائم الجنون؟!

لا يوجد هناك غير هذه الحياة الدنيا وهذا الموت، فهل قام أحد من مرقده كي نصدق هذا الادّعاء؟ إنّ هذا الإدعاء لا أساس له وهو أمرٌ عجيب وغير ممكن فلا يمكن تصديقه!

إنّ هؤلاء المنكرين الغرورين الذين لم يتأملوا حتى في خلقهم الأول، ولم يعوا نماذج الحياة بعد الموت التي يشاهدونها باستمرار في حياتهم، وهؤلاء الذين يعتمدون على الادّعاءات الواهية، لا شي ء إلّامن أجل العناد والحميّة لا يختصون بذلك الزمان فحسب ولا بأيّ زمانٍ معيّن، فنحن في هذه الأيّام أيضاً نسمع مثل هذه الأقاويل على لسان أفراد آخرين من الذين حشروا أنفسهم بين الفلاسفة والعلماء.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 110

وعلى أيّة حال فإنّ القرآن المجيد أجاب عن هذه الادّعاءات بكل قوّة كما سوف يأتي ذلك في البحوث القادمة، فهي إجابات لجميع فرق منكري المعاد وعلى جميع المستويات العلمية، ومن الممكن أن تقنع هذه الأجوبة حتى اولئك الذين لم يمتلكوا شيئاً من العلم، ولكن على شرط أن يكونوا من طلّاب

الحقيقة.

والآن نستمع لبيانات القرآن في مجال أدلة إمكان المعاد.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 111

أدلة إمكان المعاد

اشارة

1- الخلق الأول

2- القدرة الإلهيّة المطلقة

3- آيات احياء الأرض

4- التطورات الجنينية

5- المعاد في عالم الطاقة

نفحات القرآن، ج 5، ص: 113

1- الخلق الأول

تمهيد:

لقد وردت طرق كثيرة لإثبات إمكان المعاد في القرآن المجيد جميعها على شكل استدلالات منطقية، فصوّرها القرآن بتعابير راقية جدّاً.

ويمكن تلخيص ما جاء في القرآن- كما أشرنا سابقاً- إلى ستة مواضيع:

1- الخلق الأول.

2- شمول القدرة الإلهيّة.

3- تكرر حدوث الموت والحياة في عالم النباتات.

4- التطورات الجنينية.

5- اعادة الطاقة.

6- النماذج الحيّة لوقوع المعاد.

إنّ القرآن الكريم أوردَ آيات متعددة لكلٍ من العناوين المذكورة، والتدبر في هذه الآيات لايوصلنا إلى إثبات إمكان المعاد فحسب، بل ويدلّنا على مواضيع مهمّة اخرى أيضاً.

بعد هذه الإشارة الوجيزة نعود إلى القرآن المجيد فنمعن النظر خاشعين في القسم الأول من الآيات المتعلقة بالخلق الأول:

1- «وَضَرَبَ لَنَا مَثلًا وَنَسِىَ خَلقَهُ قَالَ مَن يُحىِ العِظَامَ وَهِىَ رَمْيِمٌ* قُلْ يُحيِيهَا الَّذِى انشَأَهَا اوَّلَ مَرّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ». (يس/ 78- 79)

2- «افَعَيِينَا بِالخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّن خَلقٍ جَدِيدٍ». (ق/ 15)

3- «وَهُوَ الَّذِى يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهوَنُ عَلَيْهِ». (الروم/ 27)

نفحات القرآن، ج 5، ص: 114

4- «اوَلَمْ يَرَوَا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الخَلقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ».

(العنكبوت/ 19)

5- «كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ». (الاعراف/ 29)

جمع الآيات وتفسيرها
من يحيي العظام وهي رميم؟!

تبدأ الآية الاولى بسرد القصة المعروفة للرجل المشرك و هو إمَّا «ابَي بن خلف» أو «العاص بن وائل» أو «اميّة بن خلف» الذي جاء يحمل بيده عظماً رميماً وهو يقول سأذهب وأخاصم محمداً صلى الله عليه و آله بهذا الدليل القاطع! وابطلُ ما جاء به عن المعاد!

فذهب إلى النبي صلى الله عليه و آله ونادى قائلًا: «من الذي يحيي هذا العظم الرميم؟» ومن يصدق هذه الدعوى ومن المحتمل أنّهُ من أجل التأكيد على خطابه سحق جزءاً من ذلك العظم ونثره على الأرض: «قَالَ مَنْ يُحْىِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ».

وبعد

وقوع تلك الحادثة خاطب القرآن النبي صلى الله عليه و آله (في خمس آيات) وأمره أن يجيب على هذا الرجل وأمثاله بقوّة ومن طرق متعددة إحداها الإشارة إلى الخلق الأول وقد بينها القرآن بعبارة وجيزة ولطيفة جدّاً، قال تعالى: «ونَسِىَ خَلْقَهُ»!

ثم قام تعالى بشرحها فقال: «قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِى أَنْشَأَهَا اوَّلَ مَرَّةٍ» فإن كنت تتصور أنّ العظام بعد أن تبلى وتنشر كل ذرّة منها في ناحية فإعادة جميع الأوصاف الاولى إليها أمرٌ محال حيث لا يوجد أحدٌ يحيط بها علماً، فإنك في ضلالٍ بعيد، لأنّ اللَّه تعالى الذي خلق كل شي ء: «وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ».

و «انشأها»: من مادة «انشاء» بمعنى الإيجاد والهداية وهي هنا كأنّها إشارة لهذه الحقيقة وهي أنّ الذي خلقها في البداية من لا شي ء فإنّه من الأَولى أن يتمكن من خلقها مرّة اخرى من التراب.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 115

وهناك احتمالان في المراد من نسيان الخلق في هذه الآية، الاحتمال الأول: إنّ الإنسان نسيَ خلقه الأول الذي بدأ من نطفة حقيرة وقطرة ماءٍ مهين ثم بدأ يتردّدُ ويشكك بقدرة اللَّه على الإحياء الجديد.

والاحتمال الثاني: إنّ هذه الآية تشير إلى خلق آدم من التراب، وكأنّها تريد أن تقول: ألم نخلق الإنسان من تراب في بادئ الأمر؟ فكيف يكون من المحال تكرار هذا الأمر؟ وذلك لأنّ «حكم الأمثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد».

ومن اليديهي أنّ «النسيان» هنا إمّا جاء بمعنى النسيان الحقيقي الواقعي أو تنزيل الشخصِ منزلة الناسي وإن لم يكن في الواقع كذلك، وذلك لأنّه لم يعمل وفق علمه بل اتّخذ موقفَ المُنكِرِ «1».

وفي الآية الثانية أشير إلى هذه الحقيقة ببيانٍ آخر، فقد قال تعالى في جواب منكري المعاد: «أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ»؟ حتى نعجز

عن خلقه مرّة اخرى

ثم يضيف تعالى إنّ هؤلاء لم يشكوا في قدرة اللَّه تعالى على الخلق الأول، بل ترددوا وشككوا بالاحياء المجدد بسبب غفلتهم ونسيانهم أو بسبب تعصبهم وعنادهم أو أنّهم اعتادوا على ما يشاهدونه في حياتهم أنّهم لم يروا أحداً خرج من قبره حياً بعد موته: «بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّن خَلْقٍ جَدِيدٍ».

وهكذا ورّطوا أنفسهم في تناقضٍ واضح لايجدون له مخرجاً أبداً.

«عيينا»: من مادة «عَيّ» تأتي أحياناً بمعنى العجز وعدم القدرة وأحياناً بمعنى التعب والألم، وقد جاءت هنا على المعنى الأول، أي أننا لم نعجز عن الخلق الأول.

والمراد من «الخلق الأول» إمّا الإيجاد الأول لكل إنسان أو يختص بخلق آدم، وأمّا ما احتمله بعض المفسرين من أنّ المراد من الخلق الأول هو خلق عالم الوجود فإنّه لا يتناسب مع بحثنا.

__________________________________________________

(1) جاء هذان الاحتمالان في تفسير روح المعاني، ج 23، ص 50.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 116

و «لبس»: على وزن «حَبْس» في الأصل بمعنى ستر الشي ء واللباس سُمّيَ بذلك لأنّه يستر ويغطّي البدن، أمّا الراغب فإنّه يرى أنّه يستعمل في الامور المعنوية أيضاً، فيدلّ على ستر الحقائق، وفي الآية المعنية جاءَ هذا المعنى أي أنّ أمر المعاد هو حقيقة التبست عليهم.

وفي الآية الثالثة نلاحظ تعبيراً آخر في هذا المجال، هو إجراء المقارنة بين «مبدأ» الحياة و «المعاد»، قال تعالى «وَهُوَ الَّذِى يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ».

فسّر عدد من المفسيرين جملة «يبدأ» على أنّها تدل على الماضي، أيْ أنّ اللَّه تعالى بدأ الخلق، لكن ماهو المانع من تفسير «يبدأ» بمعناه الحقيقي بما أنّه فعل مضارع؟ وبما أنّ الفعل المضارع يدل على الاستمرار فيكون معنى الآية هنا: «إنّ اللَّه يخلق ويعيد على

الدوام» أي أنّ عالم الوجود هو عبارة عن تكرار الحياة والموت واستمرار المبدأ والمعاد، فعلى هذا الأساس لا يمكن الشك في إمكان وقوع المعاد.

فعالمنا يموت ويحيى ويخلق من جديد باستمرار، ومن هنا تكون الإعادة إلى حياة جديدة أمراً غير مستغرب، فيكون هذا جواباً دقيقاً وجميلًا للجاحدين.

و جملة «و هو أهون عليه» تُبين هذا المفهوم، وهو: أنّه لايوجد في قاموس القدرة الإلهيّة المطلقة واللامحدودة أي معنى للسهل والصعب فكل شي ء لديه سهل يسير، ولا فرق بين قلع جبل من أعظم جبال العالم من مكانه وبين رفع قشة صغيرة، وخلق منظومة شمسية وخلق ذرة من تراب، لأنّ السهل والصعب في مقابل القدرة الإلهيّة لا معنى له، طبعاً بالنسبة لنا أصحاب القدرة المحدودة، فإنّ رفع حجر صغير أمر سهل أمّا رفع حجر كبير يعد من المصاعب.

فما هو المراد من قوله «أهونُ»؟ هل هناك شي ء صعب عليه وآخر أهون منه مع أنّ قدرته واحدة بالنسبة لجميع الأشياء؟

وقد أجاب المفسّرون عن هذا السؤال بعدّة أجوبة فقالوا: إنّ أفضل جواب هو أنّ هذا

نفحات القرآن، ج 5، ص: 117

الخطاب ذكره اللَّه تعالى من أجل استئناس العباد بهذا المنظار وهذا المنطق، لأنّ من ينجز عملًا يكون عليه إنجاز ذلك العمل في المرّة الثانية أهون، وإن كانت جميع الأشياء متساوية بالنسبة للقادر المتعال.

واجيب تارةً أخرى إنَّ «أهون» لم تأتِ هنا بصيغة افعل التفضيل، بل أتت بمعنى «هين» أي سهل.

وقد أتوا بتفسيرات اخرى أعرضنا عن ذكرها لعدم مناسبتها المقام.

على أيّة حال فإنّ مفهوم سهل وأسهل يصدق على الناس، وإن كل شي ء بالنسبة لقدرة اللَّه سبحانه السر مدية متساوٍ، ولا يوجد هنالك اسهل أو أصعب بالنسبة له تعالى

والآية الرابعة تحمل مضمون الآية السابقة بنحو آخر،

وماهي في الحقيقة إلّاتفسير وتوضيح لما جاء في تلك الآية، حيث قال تعالى «اوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعُيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ» «1».

والإتيانُ بصيغة المضارع «يبدأ» و «يعيد» من المحتمل أن يكون تأكيداً لما جاء في الآية المذكورة سابقاً من أنّ اللَّه يُبدئ ويعيد الخلق على الدوام وبصورة مستمرّة فيتجدد العالم ويتغير ويتكرر وقوع الإيجاد والمعاد في كل آنٍ وخاصة عندما اتى بهذا التعبير: اوَلَم يروا ... الذي يشير إلى أنّ مشاهدة هذا الايجاد المستمر والاعادة المتكررة أمر ممكن لجميع الناس.

ويوجد هناك احتمالٌ أخر هو أنّ «يُعيدُ» بيان للمعاد الحاصل في يوم القيامة لا غير، ففي هذه الحالة يكون معنى الآية بهذا النحو: أولم يروا كيف يُبدئ اللَّه الخلق؟ فإنّ المُبدئ للخلق يمكنه أن يعيده مرّة اخرى

__________________________________________________

(1) يجب الانتباه إلى أنّ يُبْدي (من باب الأفعال) وَيبْدأ (من الثلاثي المجرد) كلاهما لهما معنىً واحد وهو ابداء واظهار الشي ء.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 118

وجملة «إنّ ذلك على اللَّه يسير» تشير إلى أنّ كل شي ء سهل ويسير على اللَّه تعالى ومن الممكن أن تكون دليلًا للذين فسّروا «أهون» بمعنى «هيّن» في الآية السابقة.

على أيّة حال فإنّ جميع منكري المعاد يرون بأعينهم كيف تنبت النباتات في الأرض الميتة؟، وكيف يضع البشر أقدامهم في عالم الوجود؟ وكيف تورق وتثمر الأشجار من جذع يابس؟ وكيف تتكرر عملية الخلق والايجاد في هذا العالم في كل آن؟

فهل تكون هذه الاعادة لجميع الموجودات أمراً عسيراً على خالقها؟ مع أنّ الإيجاد والاعادة كلاهما واحد بالنسبة لشمول قدرته، ووجود الشي أفضل دليلٍ على إمكانه؟

وقد بيّن سبحانه في الآية الخامسة الأخيرة لُبّ المطلب من خلال تعبير وجيز ومختصر جدّاً، حيث قال تعالى:

«كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ». (الأعراف/ 29)

إنّ هذه العبارة في الحقيقة أقصر تعبير واوضح استدلال للقرآن الكريم في مجال إمكان المعاد، فإنّه قاس إمكان الحياة الثانية على إمكان الحياة الاولى وهذا قياس منطقي لقضية عقلية، أمّا اولئك الذين يعتبرون مثل هذه الآيات دليلًا على جواز القياس في الأحكام التعبدية فإنّهم قد وقعوا في خطأ فاحش، لأنّ القياس لا يجوز إعماله إلّاإذا كان دليل الحكم الأول وعلته وحكمته واضحاً مبيناً، ويجب أن تكون هذه العلة موجودة في الحكم الثاني أيضاً، كما هو الحال في الآية المذكورة، في بحث المعاد وغيرها من الامور، لأننا نعلم بأنّ المؤثر في الخلق الأول هو القدرة الإلهيّة، وهذا الأمر بنفسه يكون مؤثراً في الخلق المستأنف، أمّا بالنسبة للقياس في الأحكام الفرعية التي لم تتضح عللها ولم يُصّرح عنها في ذلك الدليل فإنّه لا قيمة له، وذلك لأنّه قياس ظنّي وتخميني لا يقيني وعقلي.

على أيّة حال فإنّ التفسير المذكور أعلاه واضح جدّاً إذا ما استعنّا بالآيات الاخرى التي وردت في هذا المجال، ولكن العجيب تفسير بعض المفسرين من أنّ المراد من هذه الآية هو: كما بدأكم أول الأمر وخلق منكم السعداء والأشقياء والكفار والمؤمنين فإنّه سوف يعيدكم في الآخرة على تلك الحال «1».

__________________________________________________

(1) ذكر الفخر الرازي هذا التفسير واعتبره أحد الاحتمالين في تفسيير هذه الآية (تفسير الكبير، ج 14، ص 58).

نفحات القرآن، ج 5، ص: 119

ومن المحتمل أن يكون السبب في هذا التفسير هو أنّ البعض أرادوا عن هذا الطريق أن يجدوا دليلًا لتعزيز عقيدتهم الباطلة في مسألة الجبر، بينما لم يكن الحديث في هذه الآية إلّا عن أصل خلقة الإنسان وإيجاده، ثم اعادته إلى حياة جديدة، ولم تأتِ حتى إشارة واحدة للسعادة والشقاء

الجبري في هذه الآية ولم يرد فيها شي ء عن ذاتية الكفر والإيمان.

ثمرة البحث:

اتضح جيداً من خلال هذه الآيات أنّ السبب الرئيسي في إنكار المعاد من قبل المنكرين هو غفلتهم وعدم توجههم للخلق الأول لهذا العالم والإنسان، وذلك لأنّهم لو تمعّنوا قليلًا في ذلك الأمر لحصلوا على الجواب المطلوب.

فهل من الممكن أن يكون (الخلق الأول للإنسان من التراب أمراً يسيراً بينما لا تكون إعادته كذلك)؟!

توضيح
اليوم الذي خلق فيه الإنسان:

يقول العلماء إنّ الكرة الأرضية بعد انفصالها عن الشمس قبل خمسة مليارات عام تقريباً كانت على شكل كتلة من نار، وبمرور عدّة مليارات من السنين أخذت درجة حرارتها بالانخفاض تدريجياً، ثم تحولت الغيوم التي كانت تحيط بالأرض بكثافة إلى أمطار، وتلك الأمطار التي كانت تهطل بغزارة على الأرض كانت تغلي لشدّة حرارة الأرض وتتبخّر ثانياً فتتحول إلى غيوم مرّة اخرى واستمرت هذه العملية واستمر معها انخفاض درجة حرارة الأرض.

بعد ذلك بدأت إنسيابيّة المياه إلى المناطق المنخفضة من الأرض وكوّنت البحار والمحيطات، ولم يكن آنذاك للحياة أثر.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 120

ولم يكن للنبات أثر.

ولم يخفق طائر بجناحه أو يغرّد.

ولم يتحرك في تلك المحيطات العظيمة أيُّ موجودٍ حي.

وذلك لأنّ محيط الكرة الارضية لم يزل حاراً للغاية ممّا لم يفسح المجال لظهور الحياة عليها.

ثم أخذت درجة الحرارة بالإنخفاض أكثر فاكثر حتى ظهرت بقدرة اللَّه اوّلُ براعم الحياة في البحار والصحاري ثم ظهرت بعد ذلك موجودات حيّة كثيرة وأخيراً خلق الإنسان.

وبناءً على هذا لا يوجد أيّ شك في أنّ الإنسان خلق من التراب ثم يعود إليه فما المانع في أن يعاد ثانياً من التراب؟!

إنّ استئناس الإنسان بهذه الحياة وقصر نظرته وحُجب العناد والتعصب الفكري أحياناً تمنع الإنسان من أن يرى هذه الحقائق الواضحة وأن يصدق أو يعترف بها.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 121

2- القدرة الإلهيّة المطلقة

تمهيد:

الطريق الآخر لإثبات امكان اعادة الخلق مرة أُخرى في يوم القيامة هو ثبوت القدرة الإلهيّة غير المحدودة.

لأنّ البحث عن المعاد يأتي بعد إثبات أصل التوحيد وقبوله والتصديق بالصفات الثبوتية والاخرى السلبية للحق تعالى نحن نعلم بأنّ أحد صفاته الثبوتية هي «القدرة المطلقة» وهيمنته على كل شي ء، وأنّ أفضل طريق لإثبات قدرته هي التمعن في عظمه

عالم الخلق، بالإضافة إلى أنّ واجب الوجود له وجود غير محدود فمن الطبيعي أن تكون قدرته غير محدودة أيضاً.

إنّ سعة السماواتِ وعظمة المنظومات السماوية وعظمة المجرّات وكثرة الكواكب المحورية والسيارات التي تدور حولها وتنوّع المخلوقات الحيّة من نباتات وحيوانات والأعمال الدقيقة العجيبة التي تؤدّيها الخلايا الحيّة ومكوّنات الذرّة، كل هذه الامور دليل على القدرة اللامتناهية للَّه تعالى

فعند الاعتقاد بهذه الامور وتصديقها لا يبقى مورد للشكِّ والترديد في من هو القادر على إحياء العظام الرميم؟ أو كيف يمكن للتراب المنتشر أنْ يُجمعَ ويلبس ثوب الحياة؟!

لقد كانت هذه نبذة مختصرة عن المواضيع التي سنبحثها في هذا الباب، وقد اشير إلى هذه المواضيع في آيات متعددة من القرآن الكريم، وقبل أن نعطي توضيحاً أكثر نتأمل أولًا في هذه الآيات خاشعين:

1- «لَخَلْقُ السَّموَاتِ وَالْارْضِ اكبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ اكْثَرَ النَّاسِ لَايَعلَمُونَ». (المؤمن/ 57)

نفحات القرآن، ج 5، ص: 122

2- «أَوَلَمْ يَرَوا انَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَ السَّموَاتِ وَالْارْضَ قَادِرٌ عَلَى ان يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ اجَلًا لّارَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلّا كُفُوراً». (الاسراء/ 99)

3- «اوَلَمْ يَرَوا أَنَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَ السَّموَاتِ وَالارْضَ وَلَم يَعْىَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى ان يُحْيِىَ المَوْتَى بَلَى انَّهُ عَلَى كُلِّ شَى ءٍ قَدِيرٌ». (الاحقاف/ 33)

4- «اوَلَيْسَ الَّذِى خَلَقَ السَّموَاتِ وَالْارْضَ بِقَادِرٍ عَلَى انْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ». (يس/ 81)

5- «قُلْ سِيرُوا فِي الْارْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَى ءٍ قَدِيرٌ» «1». (العنكبوت/ 20)

جمع الآيات وتفسيرها
إنّه على كل شي ءٍ قدير:

في الآية الاولى يقيس اللَّه تعالى إحياء الموتى بخلق السموات والأرض، قال تعالى

«لَخَلْقُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ اكْثَرَ النَّاسِ لَايَعْلَمُونَ».

فحتماً يكون قادراً على إعادة الإنسان الذي خلقه أولًا، فهذا برهان

جلي في إفادة هذا الأمر.

قال الفخر الرازي في تفسيره لهذه الآية: وكان من حقهم أن يقروا بأنّهُ القادر على خلق السماواتِ والأرض ... فقد ظهر بهذا المثال أنّ هؤلاء الكفار يجادلون في آيات اللَّه بغير سلطان ولا حجّة، بل بمجرد الحسد والجهل والكبر والتعصب «2».

وصَرّح آخرون مثل «الطبرسي» في مجمع البيان و «القرطبي» و «روح البيان» بأنّ هذه الآية خوطب بها منكرو المعاد وهي تقول: من قدر على خلق السماوات والأرض

__________________________________________________

(1) أشير إلى هذا المعنى في آيات اخرى أيضاً مثل الآية 9 من سورة الشورى والآية 2 من الحديد.

(2) تفسير الكبير، ج 27، ص 79.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 123

واختراعهما مع عظمهما وكثرة أجزائهما يقدر على إعادة خلق البشر «1».

والإتيان بجملة: «وَلَكِنَّ اكْثَرَ النَّاسِ لَايَعْلَمُونَ» كما قال كثير من المفسّرين: ليس بمعنى أنّهم في الواقع لا يعلمون بأنّ «خلق السماواتِ بتلك الدقّة والعظمة أرقى من اعادة خلق الإنسان»، بل قد نُزِّلوا منزلة الجاهل في هذه الامور لأنّهم غفلوا عنها ولم يفكّروا ويُمْعِنوا فيها وذلك لتعصبهم واتباعهم الهوى فضلوا في أمر المعاد «2».

والعجيب هنا هو أنّ في تلك العصور لم تكتشف بعدُ عظمة السماواتِ كما هو الحال في عصرنا الحاضر، والقليل من الناس كان له اطلاع آنذاك على الأسرار العظيمة التي كُشفت عن طريق التقدم العلمي في العصور الحديثة، وكانوا لا يعلمون منها إلّاظاهرها، لكنّ القرآن الكريم المترشح من علم اللَّه اللامحدود رفع الحجاب عن تلك الأسرار.

وهناك ملاحظة هي: أنّ اللام في «لخلق» هي «لام الابتداء» ظاهراً وقد جاءت هنا للتأكيد.

وفي الآية الثانية وبعد أن نقل كلام المنكرين الذين انكروا إعادة خلق الإنسان بعد استحالة عظامه وصيرورتها تراباً، قال تعالى «أَوَلَمْ يَرَوا انَّ

اللَّهَ الَّذِى خَلَقَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ».

التعبير ب «مثل» هنا من الممكن أن يكون للدلالة على خلق البشر ثانياً، لأنّ خلقهم يكون كالسابق، ومن الممكن أيضاً أن يكون للدلالة على أنّ اللَّه تعالى قادرٌ على خلق آخرين من البشر من جديد كما خلق هؤلاء، فكأنّه يقول عندما يكون اللَّه قادر على خلق هؤلاء فإنّه قادرٌ على خلق غيرهم.

وهناك احتمال آخر هو أنّ الأبدان المخلوقة من جديد مهماكانت فهي ليست عينَ تلك الأبدان السابقة، وذلك لأنّ مادّتها الاولى تعود مع كيفية وهيئة جديدة غير تلك

__________________________________________________

(1) تفسير الطبرسي، ج 8، ص 529؛ وتفسير القرطبي ج 8، ص 5769؛ وتفسير روح البيان ج 8، ص 199.

(2) تفاسير مجمع البيان؛ الكشاف؛ وروح المعاني ذيل الآية مورد البحث.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 124

الصورة السابقة، فمن أجل هذا عبّر القرآن ب «مثل»، ولكن روح الإنسان هي تلك الروح، فبعد أن تتعلّقَ بالبدن تحافظ على وحدة شخصيتها السابقة واللاحقة، بناءً على هذا فإنّ الناس بعد إعادتهم يكونون عينهم من ناحية، ومثلهم من ناحية اخرى (فتأمّل).

ثم يجيب في ذيل الآية عن سؤال آخر للمنكرين، فأولئكَ كانوا يقولون: إذا كانت القيامة حق فَلِمَ لا تقع، قال تعالى في جوابهم: «وَجَعَلَ لَهُمْ اجَلًا لَّارَيْبَ فِيهِ».

وبتعبير آخر إنّه تعالى مع الحفاظ على كامل قدرته عيّن وقت قيام القيامة بالدقّة حيث ستقع في ذلك الزمان المعيّن من دون أيّ تأخير.

«فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلّاكُفُوراً» لأنّ هوى النفس والتعصب والعداء للحق أرخى على أفكارهم حُجبه وسدوله.

وفي الآية الثالثة ورد نفس هذا المعنى بتعبير آخر، قال تعالى «اوَلَمْ يَرَوا أَنَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْىَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى انْ يُحْيِىَ الْمَوتَى بَلَى

إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَى ءٍ قَدِيرٌ».

عبارةُ «اوَلَمْ يروا» المراد منها المشاهدة بعين البصيرة والعقل، لذلك فسَّرها المفسرون بمعنى أولم يعلموا، والبعض الآخر فسّرها بمعنى العلم والاطلاع المصحوبِ بالدقّة والتمعّن.

و «يَعْيَ»: من مادة «عَيّ» بمعنى العجز وعدم القدرة على المشي عند الإنسان، واستعملت أيضاً للدلالة على شمول العجز وعدم القدرة على إنجاز عملٍ ما، أو العجز عن بيان أمرٍ ما عن طريق التحدّث للآخرين، و «داءٌ عيّاء» المرض الذي لاعلاج له سُمّي بذلك لأنّه متعب ومسبب للعجز.

وفسّر بعضهم «العي» ب «الجهل» ولكن هذا المعنى لا يناسب هذه الآية.

ومن البديهي أن يُتَصَوّرَ العجزُ وعدم القدرة في الأشخاص الذين تكون قدرتهم محدودة، ولكن هذا غير مُتَصَوَّرٍ بالنسبة للَّه تعالى الذي لا حدَّ لقدرته، فالعجز والتعب لا معنى لهما في هذا المورد.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 125

وعلى أيّة حال فإنّه من الممكن أن يكون هذا التعبير بياناً لخرافاتِ اليهود الذين كانوا يقولون: إنّ اللَّه بعد أن خلق السماواتِ والأرضَ عَييَ وتعب! فخصَّصَ يوم السبت للاستراحة ومنذُ ذلك الحين أصبح هذا الأمر سنّةً لهم.

وسخافة هذا القول من الوضوح إلى درجة أنّه لايستحقُّ أيَّ بحث.

وفي الآية الرابعة ومن خلال أجوبةٍ متعددة لمنكري المعاد وللشخص الذي جاء عند الرسول صلى الله عليه و آله يحمل العظم الرميم الذي قال: «مَن يُحْىِ الْعِظَامَ وَهِىَ رَمِيمٌ»، قال تعالى

«اوَلَيْسَ الَّذِى خَلَقَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى انْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ العَلِيمُ».

وعندما يكون الحديث عن السماوات فَمِنَ البديهي أن يراد منها جميع ما تحتوية من سيارات ونجوم ومجرّات، ونحن نعلم بأنّ الاكتشافات الأخيرة لعلماء الفلك تنصُّ على أنّ منظومتنا الشمسية تقع ضمن مجرّة درب التّبّانة المعروفة، وقالوا: إنّ هذه المجرّة تحتوي على عدد من النجوم

يبلغ مائة مليار نجمة! والشمس التي نراها إحدى النجوم المتوسطة الحجم لتلك المجرّة!

وقالوا أيضاً: إنّ التلسكوبات العملاقة تمكنت حتى الآن من اكتشاف مايقارب المليار مجرّة!

فلو ضربنا هذه الأعداد ببعضها لحصلنا إجمالًا على رقم هائل من تلك الأَجرام السماوية، مع العلم أنّ هذه الارقام هي ما توصَّل إليه علم البشر لحد الآن ومن الممكن أن نكتشف في الأزمنةِ القادمة عوالم اخرى كثيرة ممّا يَجعلُ ما اكتشف الآن بالنسبة لها شيئاً قليلًا لايُعتدُّ به، كل هذا كان بالنسبة للحديث عن السماء، أمّا عندما يكون الحديث عن الأرض فإنّه يشمل جميع أَسرارها وعجائبها أيضاً.

فهل يعجزُ ويكلُّ خالق هذا العالم العظيم العجيب الذي يحتوي على نظام دقيق أن يُعيد خلق الإنسان ثانياً؟!

والتعبير ب «خلّاق» (اي كثير الخلق) من الممكن أن يكون للدلالة على أنَّ اللَّه تعالى في

نفحات القرآن، ج 5، ص: 126

حالة إيجاد الخلق على الدوام، وفي حالة خلق موجودات جديدة في كل يوم، وكذلك في حالةِ إفناء وإعدام مخلوقاتٍ اخرى في كل يوم، من أجل هذا استخدمت كلمة «خلّاق» بصيغة المبالغة.

ومن الممكن أيضاً أن يكون التعبير ب «عليم» للدلالة على أنّ جمع ذرّات البشر الذين يموتون ويصبحون تراباً وينتشر ترابهم في كل مكان ليس بأمرٍ صعب على اللَّه العالم المطّلع على كل شي ء، كما أنّه ليس من الصعب أيضاً محاسبتهم على أعمالهم التي ارتكبوها طيلة حياتهم (يجب الالفتات إلى أنّ «عليم» صفة مشبّهة، وبما أنّها جاءت مقارنة لصيغة المبالغة خلّاق فإنّها هنا تفيد التأكيد).

الآية الخامسة والأخيرة في هذا المجال تضع أمام منكري المعاد دليلًا حسياً وتجريبيّاً.

قال تعالى مخاطباً الرسول صلى الله عليه و آله: «قُلَ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ

إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَئ قَدِيرٌ». و «السير في الأرض»: يزيد الإنسان علماً بمعرفة نشأة وظهور الحياة على الكرة الأرضية، وذلك لأنّ الموجودات الحيّة التي وجدت منذ ظهور الحياة على هذا الكوكب بقيت آثارها في طيات القشرة الأرضية، والعلماء في هذا اليوم- عن طريق مطالعة تلك الآثار- توصَّلوا إلى كشف الكثير من أسرار خلق الموجودات الحيّة.

ومن الممكن أيضاً أن يكون الهدف من السير في الأرض كشفَ أسرار تكوّن الكرة الأرضية الذي يتم عن طريق فحصِ الطبقات المختلفة للأرض والعناصر المختلفة الموجودة فيها.

ومن الممكن كذلك أن يكون دليلًا على الخلق الذي يتكرر وقوعه في كل يوم على الكرة الأرضية، ففي كل يوم تظهر إلى الوجود موجودات حيّة كثيرة وتغيب عن الانظار موجودات اخرى

نفحات القرآن، ج 5، ص: 127

فكيف يعجز عن إحياءِ الموتى الهٌ قادر على الإتيان بخلقٍ كهذا وتطورات كهذه؟ وهكذا اعتُبرتْ قدرة الحق المطلقة دليلًا على إثبات إمكان إحياء الإنسان ثانياً.

ولكن يبقى هناك احتمال أيضاً هو أنّ الآية المذكورة دليل على النشأة الأولى للإنسان، وقياس عقلي لإثبات الخلق المستأنف على الخلق الأول، ففي هذه الصورة تكون الآية في عداد الآيات المذكورة سابقاً، وعلى أيّ تقدير تكون دليلًا على نفس المدّعى

يبقى هناك تساؤل وهو: كيف أمر القرآن الكريم البشر بالسير في الأرض لاكتشاف أسرار ظهور الحياة عليها، مع أنّ بداية ظهور الحياة على هذه المعمورة تعود إلى مليارات خلت من السنين ولا يمكن مشاهدتها في هذا اليوم؟ والجواب عن هذا التساؤل يتضح بصورة جليّةٍ من خلال التفسير الذي ذكرناه لهذه الآية آنفاً، فقد ذكرنا فيما سبق ثلاثة أجوبة عن هذا التساؤل «فتأمل».

والجدير بالذكر التعبير عن المعاد هنا ب «النشأة الآخرة» و «نشأة» كما قال

الراغب: هي بمعنى إيجاد وتربية الشي، وهذا يدلّ على أنّ في يوم القيامة يوجد خلق جديد وتربية جديدة أيضاً.

ثمرة البحث:

هذا القسم من الآيات بمثابة تذكُّر لمنكري المعاد، لعلهم يعون قدرة اللَّه المطلقة، فتقول لهم: فإن لم تؤمنوا فألقوا بنظرة فاحصة على عالم خلق السماوات والنجوم الثابتة والكواكب السيارة والمجرات والمنظومات السماوية، ثم انظروا إلى الأرض ولما تحتويه من عجائب وأسرار وإلى النظام المهيمن عليهما جميعاً.

فهل في ذلك شك بعد مشاهدة كل هذه الدلائل؟ وهل يمكنكم أن تنكروا قدرة اللَّه المطلقة؟! فإن آمنتم بقدرته المطلقة فكيف تشكّون في مسألة المعاد وإحياء الموتى وتعتبرون ذلك من الامور العجيبة التي لايمكن التصديق بها؟!

نفحات القرآن، ج 5، ص: 129

3- آيات إحياء الأرض

إشارة:

الإحياء بعد الموت الحاصل في عالم النباتات يمثل ظاهرة اخرى من ظواهر المعاد التي أشار إليها القرآن المجيد مرّات متعدّدة، وقد رسم منها لوحة جميلة لاثبات هذا الأمر ووضعها امام أنظار الجميع.

فهذه الظاهرة يتكرر حدوثها في كل عام أمام الملأ، ونحن نشاهد ذلك مراراً بعدد السنين التي نعيشها في هذه الدنيا.

القانون السائد بالنسبة للحياة والموت هو نظام موحد في كل زمان ومكان، فإن كان احياء الإنسان بعد موته وتحوله إلى تراب من المستحيلات فكيف يَتُمُ إحياء النباتات التي تموت وتتفسّخ مرّة اخرى !

وما بال هذه الأرض الميتة تهتز وتربو بعد نزول المطر وتلبس ثوب الحياة وتخرج النباتات من أعماقها وتنمو وتُظِهرُ ازهارها وتبتسم ورودها؟ إن كل مشاهد الحياة تدل على أنَّ هناك حشراً وحياةً جديدة.

إنّ القرآن الكريم لَفتَ أنظار جميع البشر لهذا الأمر، والآيات الآتية من أهم النماذج لذلك، فلنمعن فيها خاشعين:

1- «وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكاً فَانبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الحَصِيدِ* وَالنَّخلَ بَاسِقاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ* رِّزقاً لِّلْعِبَادِ وَاحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيتاً كَذَلِكَ الخُرُوجُ». (ق/ 9- 11)

2- «يُخرِجُ الحَىَّ مِنَ المَيِّتِ ويُخرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَىِّ وَيُحىِ الْأَرْضَ بَعْدَ

مَوتِهَا وَكَذَلِكَ تُخرَجُونَ». (الروم/ 19)

نفحات القرآن، ج 5، ص: 130

3- «فَانْظُرْ الَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيفَ يُحىِ الارْضَ بَعْدَ مَوتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لُمحْىِ الْمَوتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَئٍ قَدِيرٌ». (الروم/ 50)

4- «وَ تَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلنَا عَلَيْهَا المَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوجٍ بَهِيجٍ* ذَلِكَ بِانَّ اللَّهَ هُوَ الحَقٌّ وَأَنَّهُ يُحْىِ المَوْتَى وَانَّهُ عَلَى كُلِّ شَى ءٍ قَدِيرٌ». (الحج/ 5- 6)

5- «وَ مِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْارْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلنَا عَلَيْهَا المَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبتْ إِنَّ الَّذِى أَحيَاهَا لُمحىِ المَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَىٍ ء قَدِيرٌ». (فصلت/ 39)

6- «وَاللَّهُ الَّذِى أَرسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَاحْيَينَا بِهِ الَارْضَ بَعْدَ مَوتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ». (فاطر/ 9)

7- «وَهُوَ الَّذِى يُرسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَىْ رَحمَتِهِ حَتَّى إِذَا اقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالًا سُقنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلنَا بِهِ المَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ».

(الاعراف/ 57)

جمع الآيات وتفسيرها
هل رأيتم كيف تحيى الأرضُ الميتةُ؟ فهكذا النشور!

لقد اهتم القرآن الكريم في الآية الاولى من هذا البحث بشرحِ جذورِ الحياةِ الرئيسيةِ أيْ قطراتِ المطر، قال تعالى: «وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مَّبَارَكاً فَانْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الحَصِيدِ».

أشار القرآن الكريم بهذه الآية إلى جميع بساتين الفواكه ومزارع الغلّات والبقول «1».

ثم أشارَ إلى النخيل الباسقات التي تحمل ثمراً كثيراً وهذا النوع من النخيل يعتبر من أرقى واكمل أنواع النخيل، فأضاف تعالى «وَالنَّخْلَ بَاسِقاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ» «2».

__________________________________________________

(1) يجب الالتفات إلى أنّ المراد من «حب الحصيد» الحبوب القابلة للحصد (و «حصيد» بمعنى «محصود»).

(2) «باسقات» جمع «باسق» أي المرتفع.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 131

والجدير بالذكر أنّه ذكر النخيل الباسقات من جهة أنّها خُلقتْ ونشأتْ من تلك الأرض الميتة، وتلك البذور الصغيرة التي نمت وأصبحت بهذه الهيئة العجيبة.

ومن ناحية

اخرى أشار إلى ثمارها المتراصة التي تحملها في ارتفاع شاهق، تلك الثمار اللذيذة المغذية «الحيوية»، تحتوي على أنواع من المواد الضرورية التي يحتاج إليها جسم الإنسان «1».

وأخيراً نصل إلى هذه النتيجة وهي:، إنّ الهدف من هذا أنّ اللَّه سبحانه يهب (رزقاً للعباد)، «وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيِتاً» «2» «ك مقدمه لك الخرو عيد مبارك».

إنّ هذه الآية تكشف عن حقيقة وهي أنَّ خروج الإنسان يوم القيامة تابع لتلك القوانين المهيمنة على النباتات والبذور والأشجار بفواكهها المتنوعة، ذلك الأمر الذي نشاهده كل عام بأعيننا، ولكن بما أننا اعتدنا على ذلك فإننا نعتبره أمراً عادياً، وبما أننا لم نشاهد عودة البشر إلى الحياة بأعيننا فإنّ البعض يعتقد بأنّ ذلك امر غير معقول وأحياناً يعتقد بأنّه من المحالات، مع أنّ النظام المهيمن على الأمرين واحد.

وفي الآية الثانية طُرحت نفس المسألة ولكنْ بتعبيرٍ آخر، قال تعالى «يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الحَىِّ».

إنّ الفاصلة الزمانية التي ترونها بين الحياة والموت لا تكون امراً يُعتنى به بالنسبة للذات المقدّسة الإلهيّة، فهو على الدوام يُخرجُ الحىَّ من الميّت وبالعكس، (يجب الانتباه إلى أن «يخرج» فعل مضارع وهو يدل على الاستمرارية، أي أنّ هذا العمل مستمر ودائم) على هذا فإنّ منظر نهاية هذا العالم الذي هو عبارة عن خروج الموت من باطن الحياة، وكذلك منظر

__________________________________________________

(1) «الطلع» هو اسم ثمار النخيل في بدء ظهورها، و «نضيد» بمعنى متراكم، ومن الغرائب هو أنّ الأشجار نادراً ما تحتوي على فواكه عنقودية الشكل والأكثر غرابه من ذلك أنّ عناقيد ثمار النخيل ثقيلة.

(2) جاء هنا بالصفة «ميتاً» بصيغة المذكر مع أنّ الموصوف «بلدة» مؤنث والسر في ذلك هو أن «بلدة» هنا جاءت بمعنى المكان.

نفحات القرآن،

ج 5، ص: 132

المعاد الذي هو عبارة عن خروج الحياة من باطن الموت امرٌ مستمر ويتكرر وقوعُه أمام أعيننا دائماً ولو على مستوىً محدود، فما المانع من أن تموت جميع الموجودات الحيّة مرّةً واحدة ويُعاد البشر إلى حياة جديدة في يوم الحشر؟ أيْ أنْ يتحقّقَ قانونُ تبديل الموت بالحياة والحياة بالموت بصورة أوسع وأشمل ممّا عليه حالياً.

وأمّا بالنسبة لعروض الموت على الحياة فإنّه أمرٌ بديهي وواضح لدى الجميع، ولكن بما أنّ عروض الحياة بعد الموت يخفى على البعض ويحتاج إلى شي ء من التأمل فقد قال تعالى في ذيل الآية: «وَيُحْىِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوتِهَا وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ».

وجملة «كذلك تُخرجون» تشير بوضوح إلى هذه الحقيقة وهي أنّه لا يوجد هناك ايّ تفاوت بين القيامة الصغيرة التي تحدث في عالم النباتات والأرض الميتة وبين تلك القيامة الكبرى الشاملة.

وبمجرّد أن يتأمل الإنسان قليلًا في هذا الموضوع فإنّه سوف تزول عنه كل ظنونه الخاطئة والوساوس الشيطانية التي تنتابه في أمر المعاد.

إنّ في كل لحظة تمرُّ على هذا العالم الوسيع تنفلق فيها الآلافُ المؤلفة من البذور وتخرج منها براعم جديدة للحياة، وفي كل لحظة تبدأ أرض واسعةٌ بالحياة بعد أن كانت ميتة، إنّها سُنّة اللَّه السرمدية والتي تُوحي بها الآية الثالثة وبعد بيان كيفية تكوّن الأمطار بعد تسيير الرياح وتراكم الغمام على بعضها، قال تعالى: «فَانْظُرْ الَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحىِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوتِهَا»، «إِنَّ ذَلِكَ لُمحىِ الْمَوتَى ، نعم إنّه: «عَلَى كُلِّ شَى ءٍ قَدِيرٌ». و «آثار»: جمع «أَثَر»، قال في «مقاييس اللغة»: إن الأَثَرَ له ثلاثةُ معانٍ، الشي الذي له سابق، والذكر الباقي بعد الموت، وما بقي من رسم الشي، لكن بعض علماء اللغة حَصَروا معنى الأثر في المعنى الثالث، وذلك

لأنّ المعنيين الأولين ناتجان عن الآثار الباقية من أجل الفضيلة وعوامل علوّ الشأن.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 133

والمراد من «رحمة اللَّه» هنا هو المطر الواهب للحياة الذي يعتبر نموذجاً حياً وبيِّناً للرحمة الإلهيّة التي تتجلّى آثارها في كل مكان، فهو يحيي الأرض الميتة ويفيض بالحياة على القلوب الميّتة ويهب النشاط والحياة للهواء الملوّث الميِّت وأخيراً يجود بنور الحياة على جسم الإنسان.

واستعمال كلمة «ذلك» في الآية للإشارة إلى اللَّه تعالى في حين أنّه يستعمل للإشارة إلى البعيد للدلالة على عظمة مقامه وعلى أنّه لا تدركه العقول والأبصار.

والإِتيانُ ب «أنّ» التي تفيد التوكيد و «اللام» في «لَمُحيي» الذي يفيد التوكيد أيضاً بالإضافة إلى «الجملة الإسمية» التي تفيد التوكيد كذلك، كل هذا من أجل إثبات حقيقة إنّ الذي يحيي الأرض الميتة عن طريق إنزال مطرِ رحمتِهِ باستمرار بإمكانه أن يُحييَ أمواتَ البشر وبعيدَ لهم الحياة من جديد.

واستعمال كلمة «انظر» تجلب الانتباه من جهة أنّها تشير إلى أنّ مسألة المعاد أمرٌ حسيّ مشاهد، ظاهرٌ للعيان دائماً، فكيف تُنكرون ذلك أو تتخذونه سخريّاً؟!

وفي الآية الرابعة بعد أنْ ذكر المراحل التكاملية للنطفة في الرحم وبعد ذِكْرِ تطوراتِ الجنين بانّها دليل واضح على مسألة إمكان المعاد، ينتقل إلى الحديث عن بذورِ النباتات التي تنمو في أعماق الأرض، قال تعالى «وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً» «1».

«فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الَماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلّ زَوجٍ بَهِيجٍ».

إنّ القرآن المجيد كتاب عجيب حقاً، فإنّه عندما يريد أن يؤكّد على احدى الحقائق ويرسخها في الأذهان ويكرر ذكرها يصورها بألوان مختلفة، فيشعر الإنسان عند سماع تلك

__________________________________________________

(1) «هامدة» من مادة «همود» قال الراغب في المفردات: الهمود في الأصل بمعنى انطفاء النار (وذهاب حرارتها ونورها)، لكنّ عدداً من

أصحاب اللغة والمفسرين ذكروا لها معاني اخرى أيضاً، ومن جملة معانيها: الجفاف، والسكوت، والموت، وصيرورة الشي بالياً عتيقاً، وهذه المعاني جميعها يمكن أن تنطبق على هذه الآية، فالأرض تموت وتخمد وتطفأ في فصل الشتاء، بينما تدبّ الروح فيها وتأخذ بالحركة في فصل الربيع وكأنّها تصرخ!

نفحات القرآن، ج 5، ص: 134

الحقيقة كأنّه يواجِهُ حقيقةً غيرَ التي سمعها سابقاً ويجد نفسه أمام صورة جديدة من صور تلك الحقيقة، فلا يصبح تكرارها مملًّا أو غير نافعٍ له، فالإنسان يتلقّى دروساً جديدة باستمرار، ونحن نشاهد في مسألة احياء الأرض الميتة في الآيات المعنيّة بالبحث نموذجاً لذلك.

ومن الجدير بالذكر أنّ القرآن الكريم في هذه الآية التي عطفها على مسألة التطورات الجنينية يؤكد على أنّ حياة الإنسان والحيوان والنبات تقع جميعها تحت مقولة واحدة، وكل نموذج نراه ونلمسه في هذه الثلاثة، يكون دليلًا على إمكان المعاد لغيرها من المخلوقات، فالتعبيرُ ب «ترى كالتعبير ب «انظر» في الآية السابقة وكلاهما للتأكيدِ على أنّ قيامة النباتات أمرٌ محسوس ومشاهد.

و «اهتزّت»: من مادة «اهتزاز» المشتقّة من «هزّ» بمعنى الحركة الشديدة، وفسّرها البعض بمعنى الحركة الجميلة الجذّابة، وقد جاءت هنا للدّلالِة على التغيرات الجميلة والحركات المختلفة التي تحصل بفعل نمو أنواع النباتات التي تظهر على سطح التربة.

و «رَبَتْ»: من مادة «ربوّ» وجاءت هنا بمعنى نموّ الأرض لا نمو النباتات، والمراد من نمو الأرض هنا هو بروز اجزاء من التربة بفعل خروج النباتات وتوغّل الجذور وظهور سيقان النباتات، أمّا الذين فسّروا هذه الجملة بأنّها تدلّ على نموّ النباتات فإنّهم في الحقيقة غفلوا عن مفاد الجملة المتأخرة عنها، لأنّه تعالى يقول: «وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلّ زَوجٍ بَهِيجٍ».

وتحمل الآية الخامسة في طيّاتها نفس محتويات الآية السابقة ولكنّها تختلف عنها بعدّة

أمور: أولًا أنّها اعتبرت احياء الأرض الميتة دليلًا على أصل التوحيد بالإضافة إلى دلالتها على المعاد، قال تعالى «وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ»، (إِنَّ الَّذِى أَحيَاهَا لُمحْىِ الْمَوتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شىٍ ء قَدِيرٌ».

وثانياً عبّرت عن الأرض الميتة ب «الخاشعة»، قال في «الميزان» هي الأرض القاحلة،

نفحات القرآن، ج 5، ص: 135

وقد شبّهها هنا بالفقير الذليل المسكين الذي لا يمتلك شيئاً، ثم شبّهها بعد نزول المطر بالذي أُوتيَ مالًا كثيراً ولبس أفضل الثياب، حيثُ يمشي بنشاط مرتفعَ الرأس مستقيماً تبدو آثار النعمة على وجهه «1».

وهناك أمرٌ آخر يمكن أن نستخلصه من هذا التعبير وهو درس من دروس الأخلاق، فكما أنّ الأرض الخاشعة الخاضعة تشملها رحمةُ اللَّه فتحصل على كل آثار البركات والنمو والنشاط، فإنّ عباد اللَّه الخاشعين والخاضعين تنالهم رحمة اللَّه الواسعة أيضاً، وتنمو في نفوسهم براعم العلم والإيمان والتقوى

و وردت هذه المسألة في الآية السادسة بتعبير جديد من خلال بيان كيفية نزول المطرِ، قال تعالى «وَ اللَّهُ الَّذِى أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَاحْيَينَا بِهِ الْارضَ بَعْدَ مَوتِهَا»، «كَذَلِكَ النُّشُورُ».

وهذِهِ الآية في الحقيقة من أدلة إثبات المُبدئ تعالى أيضاً، أي إثبات الذات الإلهيّة المقدّسة، وفي نفس الوقت تستعمل دليلًا على المعاد، فهو يشير في البداية إلى الآيات والبراهين الدالة على وجوده تعالى عن طريق بيان النظام الدقيق المهيمن على حركة الرياح والسحاب وسقي الأرض الميتة وإحيائها، وأخيراً يشير إلى دليلٍ حيّ وعميق المعنى لإثبات المعاد.

وجملةُ «كذلك النشور» بالإضافة إلى أنّها تشبّه إحياء الإنسان بإحياء الأرض الميّتة، إلّا أنّها من الممكن أن تكون دليلًا على سوق الأرواح إلى الأبدان في يوم القيامة ويساق التراب المنتشر فيُجمع

وتحلّ فيه الروح، كما هو الحال في سوق الرياح للسُحُبِ وجمعها إلى بعضها كي تتلاقح وتهطل ثمارها التي هي عبارة عن قطرات المطر.

وفي الحديث الشريف أنّ أحد أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله سأله قائلًا: كيف يحيي اللَّهُ

__________________________________________________

(1) تفسير الميزان، ج 17، ص 419.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 136

الموتى وما آيةُ ذلك في خلقه؟ فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «أمَا مَرَرْتَ بوادِيْ أهلِكَ مُمْحِلًا ثمَّ مَرَرْتَ بهِ يهتزُّ خَضِراً؟» «1» فقال الصحابي: بلى يارسول اللَّه: فقال صلى الله عليه و آله: «فكذلك يُحيي اللَّهُ الموتى وتلك آيتُهُ في خلقه» «2».

وفي الآية السابعة والأخيرة تحدّث سبحانه أيضاً عن إرسال الرياح واعتبرها تُبشِّر عن نزول مطر رحمته، قال تعالى «وَهُوَ الَّذِى يُرسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَانْزَلْنَا بِهِ المَاءَ» «3».

وبعد ذلك مباشرةً قال تعالى: «فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرون».

وجملةُ «لعلّكم تذكّرون» جاءت للدلالة على أنّ اللَّه يريكم هذه المشاهد في هذه الدنيا كي يثبت لكم وجوده تعالى من ناحية، ومن ناحية اخرى يُثبتَ لكم أنّ هناك معاداً وقيامة في العالم الآخر.

والعجيب ما جاء في الحديث المنقول عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، حيث قال: «ثمَّ يُرسلُ اللَّهُ مَطَراً كأنّهُ الطَّلٌّ فتنبُتُ مِنهُ أجسادُ الناس، ثم يُقال: يا أيٌّها الناسُ هَلُمُّوا إلى ربِّكُمْ، وقفوهُم إنّهم مسئولون» «4».

ويُستفاد من أقوال بعض المفّسرين إنّ ذلك المطر ليس كالمطر المعتاد، بل له شبه بماء النطفة التي يتكوّنُ الإنسان منها! ويستمرّ هطول هذا المطر مدّة أربعين يوماً، فيؤثّر في أجزاء الإنسان الميّتة بشكل عجيب وينفخُ فيها الروح.

__________________________________________________

(1) «ممحل» من

مادة «مَحل» على وزن «نخل» ويعني سَنة الجفاف وانقطاع الأمطار، وموت النباتات، مجمع البحرين، مادة (محل).

(2) تفسير القرطبي وتفسير روح البيان في ذيل الآية مورد البحث.

(3) يجب الانتباه إلى أنّ «سحاب» تفيد الجمع من جهة المفهوم لذلك جاءت الصفة «ثقال» بصيغة الجمع، لكنّها من جهة اللفظ مفردة لذلك جاء الضمير في «سقناه» مفرداً.

(4) تفسير القرطبي، ج 4، ص 2667.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 137

جواب عن سؤال:

أَعطى القرآن المجيد في الآيات المذكورة آنفاً جواباً قاطعاً لمنكري المعاد وذلك عن طريق مثال حسيّ واضح، وجعل «الشاهد» دليلًا على «الغائب» و «اليوم» دليلًا على «الغد».

وذلك لأنّ الأرض الميّتة تحيى في كل عام مرّة أو مرّتين أو أكثر بفعل هطول مطر الرحمة الإلهيّة، بل يمكن القول بأنّ هذا الأمر يتكرر وقوعه في كلّ يوم في العالم، فينبت في كل يوم نبتٌ جديد في الأرض الميتة، وتظهر في كل يوم ظاهرة المعاد أمام نظر الإنسان.

ومن هنا يُطرح هذا السؤال: إنّ العلماء المعاصرين اتفقوا على أنّ جميع التجارب أعطت نتيجة واحدة هي أنّ الموجودات الحيّة لا تولد إلّامن موجودات حية اخرى فإن لم توجدْ في الأرض بذور نباتية فسوف لن يكون نزول المطر مؤثراً أبداً.

ومن ناحية اخرى إنّ البذور تتكوّن من قسمين، وأحد هذين القسمين والذي يعتبر القسم الأكبر من البذرة يشكّل المادّة الغذائية فيها، والقسم الآخر أي القسم الأصغر من البذرة عبارة عن خليّة حيّة، وهذه الخلية إذا توفرت لها الظروف المساعدة (على الأخص الماء) فإنّها سوف تنمو وتترعرع بواسطة التغذّي على المادة الغذائية الموجودة في البذرة والموادّ الموجودة في التربة، فإذا ماعُدمت هذه الخلية الحية فإنّه من المستحيل أن تحيى الأرضُ الميّتة.

وجوابنا عن ذلك هو: إنّ هذا

ممّا لا شكّ فيه، وهو كما تقولون وإنّ تلك الخليّة الحيّة الصغيرة تتغذى على الأجزاء الميّتة التي تمتصها من التربة وتحولها إلى جسم حيّ وموجود حيّ (فتأمل).

وبتعبير آخر: إنّ النخلة التي يصل وزنها أحياناً إلى طن واحد كانت في البداية خليّة صغيرة تأخذ مكانها في النواة، ووزنها لا يتعدّى المليغرام الواحد، ثم بعد ذلك امتصّت ما يقارب الطنّ الواحد من الموادّ الميّتة الموجودة في التربة والماء والهواء التي تعتبر جميعها موجودات غير حيّة، فأعطت الحياة لجميع هذه الموجودات، وهذا في الواقع هو معنى

نفحات القرآن، ج 5، ص: 138

تبديل الأرض الميّتة إلى موجودات حيّة.

والجدير بالذكر أنّ القرآن الكريم يقول: تُحيى الأرض الميّتة (ولا يقول تُحيى الأشجار والبذور الميّتة، لأنّ هذه لم تمُت بالكامل) أي أنّ هذه الأرض الميّتة أصبحت جزءاً من بدن النباتات والشجر ثم تبدّلت إلى خلايا حيّة.

ومن البديهي إنّنا لو امعَنّا النظر في ظهور الحياة على الكرة الأرضية لصار الأمر أكثر وضوحاً، لأنّ الأرض بعد انفصالها عن الشمس كانت كتلة من النار ولم يوجد أيّ موجود حي في ذلك الحين طبعاً، ولكن بعد أن بردت الأرض وأصبحت مستعدة لاستقبال الموجودات الحيّة وهطلت الأمطار بغزارة عليها فبردت الأرض بفعل هطول المطر أكثر وأعدّها ذلك المطر لاستقبال الحياة فظهرتْ آنذاك أول براعم الحياة النباتية التي لم يكتشف لحدّ الآن سرّ ظهورها، وبقي هذا السرّ مخفياً عن العلماء وكأنّ ظهورها من تلك الموادّ الميّتة التي تحتوي عليها التربة، وبهذا النحوِ غمرت الحياة تلك الموجودات الميّتة (فتأمل جيّداً).

نفحات القرآن، ج 5، ص: 139

4- التطورات الجنينية

تمهيد:

الطريقة الاخرى التي اتبعها القرآن في إثبات إمكان المعاد بالاستفادة من آيات متعددة هي طريقة التغييرات التي تطرأ على «النطفة» مند استقرارها في عالم

«الرحم» العجيب والغامض حتى مرحلة الولادة، وكل مرحلة من هذه المراحل في الحقيقة هي حياة جديدة ونموذج من نماذج المعاد! فالمراحل الكيفية لهذه التطورات كثيرة جدّاً، ممّا تثيرُ مطالعتها ومشاهدتها تعجّبَ الإنسان وتجعله يغرق في التمعّن في كيفية هذا التحول العجيب الذي يطرأ على النطفة الحقيرة في هذه المدّة الوجيزة.

من هنا تعتبر هذه التحولات العجيبة التي لا تتوقف في أي وقت دليلًا على وجود باري هذا العالم القادر، الذي أوجد جميع هذه العجائب في ظلمات الرحم الثالث، ومن ناحية اخرى فإنّ هذه التحولات لها شَبَهٌ كبير بمسألة الحياة بعد الموت، والقرآن المجيد في كلا الأمرين (التوحيد والمعاد) يعتمد على هذه الآيات والدلالات، وحقاً إنّ مثل هذه الظاهرة تستحق أن يُعتمدَ عليها بهذا الشكل.

بعد هذه الإشارة نعود إلى القرآن المجيد ونمعن خاشعين في الآيات التي وردت في هذا المجال:

1- «يَا ايٌّهَا النَّاسُ إِنْ كُنتُمْ فِي رَيبٍ مِّنَ البَعْثِ فَانَّا خَلَقنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِن عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرٌّ فِي الْارْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى اجَلٍ مُّسَمّىً ثُمَّ نُخرِجُكُمْ طِفْلًا ...* ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الحَقٌّ وَانَّهُ يُحىِ المَوْتى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْ ءٍ قَدِيرٌ». (الحج/ 5- 6)

نفحات القرآن، ج 5، ص: 140

2- «الَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِىٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنهُ الزَّوجَينِ الذَّكَرَ وَالانثَى الَيسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلى انْ يُحْيِىَ الْمَوْتَى . (القيامة/ 37- 40)

3- «وَانَّهُ خَلَقَ الزَّوجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْانثَى مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى وَأَنَّ عَلَيهِ النَّشْأَةَ الاخْرَى . (النجم/ 45- 47)

4- «قُتِلَ الْانسَانُ مَا اكفَرَهُ* مِنْ أَىِّ شَىْ ءٍ خَلَقَهُ* مِن نُطفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ* ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ* ثُمَّ أَمَاتَهُ فَاقبَرَهُ* ثُمَّ إِذَا شَاءَ انْشَرَهُ». (عبس/

17- 22)

5- «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ* ثُمَّ جَعَلنَاهُ نُطفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ* ثُمَّ خَلَقْنَا النٌّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا العَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَونَا العِظَامَ لَحمَاً ثُمَّ أَنشَأنَاهُ خَلقَاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ احْسَنُ الخَالِقِينَ* ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعدَ ذَلِكَ لَمَيِّتونَ* ثُمَّ إِنَّكُم يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبعَثُونَ». (المؤمنون/ 12- 16)

جمع الآيات وتفسيرها
إن شككتم بأمر القيامة فانظروا إلى الجنين!

فالآية الاولى في هذا الباب هي نداء لجميع البشر، البشر الذين لا يحدّهم زمان ولا مكان، قال تعالى «يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثَ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبيِّن لَكُمْ».

فهو يشير إلى أربع مراحل من خلق الإنسان (وهي مرحلة التراب، ثم النطفة، ومن بعدها العلقة، ثم المضغة، وكل مرحلة هي بنفسها تعتبر عالماً عجيباً وصعب المنال).

ثم يواصل البيان فيقول تعالى «وَنُقِرٌّ فِي الْأَرْحَامِ مَانَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَّمىً»، وأخيراً وبعد سلوك هذا الطريق الوعر «ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا».

بعد ذلك يبيّن المراحل المختلفة لحياة الإنسان في هذه الدنيا، ثم يلتفت إلى عالم النبات ويأتي بمثال آخر من امثلة استقرار البذور النباتية في باطن الأرض ويشير إلى إحياء

نفحات القرآن، ج 5، ص: 141

الأرض الميّتة بواسطة المطر فيضيف تعالى قائلًا: «ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْىِ الْمَوْتَى وأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شى ءٍ قَدِيرٌ».

فهو يسلّط الأضواء على البعد التوحيدي لهذه الظواهر المهمّة للوجود حيناً، ويُسَلِّطُ الأضواء على بُعد المعاد حيناً آخر.

وفي هذه الآية توجد إشارات دقيقة ولطيفة تساعدنا على التوصّل إلى هذه الغايات وهي:

1- مع أنّ منكري المعاد يقطعون بنفي المعاد إلّاأنّ القرآن يخاطبهم بالقول: «إن كنتم في ريبٍ ...» وهنا يدل على أنّه لا يوجد هناك أيّ دليل على إنكار هذه الحقيقة، وأكثر ما هنالك هو أنّكم

من الممكن أن ترتابوا في أمر المعاد، ومن الواضح أنّ المرتاب ما عليه إلّاالفحص والتحقيق لا الانكار!.

والجدير بالذكر هنا أنّ «ريب» جاءت بصورة النكرة، وفي هذه الموارد تأتي لبيان حقارة الأمر، أيْ إنَّ شكّكم في هذا المجال هو شكٌّ سقيم ولايُعتدُّ به أيضاً، لأنّ أدلةَ المعادِ نشاهدها جليّة التردّد.

2- قد يكون شروع الآية بالحديث عن خلق الإنسان من التراب إشارة إلى خلق آدم عليه السلام أو جميع الناس منه، لأنّ أصل المواد التي تشكل القسم المهم من جسم الإنسان من التراب، وعلى أيّة حال فإنّ خلق الإنسان من تراب دليل واضح على إمكان إحياء الموتى

3- الحديث في هذه الآية كان أولًا عن خلق الإنسان من التراب، وبعد ذلك تحدثت الآية عن مسألة «البلوغ الجسمي والروحي» ثم عن «الكهولة والمشيب» فيصبح عدد تلك المراحل المختلفة سبع مراحل، وإنْ كان هدفنا هو المراحل الخمس الاولى التي تمثل كل واحدة منها حياة جديدة وولادة جديدة ومنظر من المعاد.

4- وجملة «لنبيّن لكم» يمكن حملها على محملين، فمن الممكن أن يكون المراد من البيان هو بيان علم وقدرة الخالق ومسألة التوحيد، كما أنّه من الممكن أن يكون المراد هو بيان مسألة المعاد أي الحياة بعد الموت.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 142

5- والظريف في الأمر هو أنّ كافة التحولات الهائلة والعجيبة التي تحدث في مرحلة الحياة الجنينية، حيث إنّ الفترة التي تمربها النطفة، تلك الذرة الصغيرة حتى تصل إلى مرحلة الإنسان الكامل، تمثل فترة قصيرة تساوي التسعة أشهر، ففي هذه الفترة تحدث أمور عجيبة وغريبة، لو سطرناها في كتاب فإنّ الوقت اللازم لقراءة هذا الكتاب يستغرق زماناً أطول من تسعة أشهر، فأمام هذه الآيات والعلامات الواضحة، هل يمكن لأحد أن

يفسح مجالًا للشك والريبة في مسألة إمكان المعاد؟!

وفي الآية الثانية جي بنفس هذا المعنى ولكنها أَتَتْ بنحوٍ آخر وهي في الحقيقة بيانٌ لما جاء في بداية سورة القيامة في قوله تعالى «أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أنْ لنْ نَّجمَعَ عِظَامَهُ»؟!

فإنّه تعالى يتحدّاهم ويقول لهم ماذا تظنون؟ «الَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنىٍ يُمنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوجَينِ الذَّكَرَ وَالْانْثَى . «أَلَيسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى انْ يُحْيِىَ الْمَوْتَى .

فهو يكتفي في هذه الآية بذكر أربع مراحل لتطورات الجنين فقط: مرحلة النطفة، فالعلقة، فتسوية الأعضاء، وظهور جنس الجنين ذكراً هو أم انثى

و «النطفة»: على ماقاله بعض أصحاب اللغة هي بمعنى الماء الصافي، ولهذا اطلقوا كلمة نَطَفَ» على اللؤلؤ «1».

لكنّ البعض فسّروها بمعنى الكميّة القليلة من ماء، أو ما تبقّى من الماء في الأناء «2».

وصرّح البعض الآخر أيضاً بأنّ النطفة هي بمعنى الماء الصافي، قليلهُ أم كثيرهُ «3».

والبعض الآخر اعتبر هذه المعاني كلّها جزءً من معاني النطفة ولكنّ الفرق هو أنّ «النُّطْفَة» بمعنى الماء الصافي أو الماء القليل و «النُّطفَة» بمعنى اللؤلؤ.

__________________________________________________

(1) مقاييس اللّغة ومفردات الراغب.

(2) لسان العرب.

(3) قاموس اللّغة ومجمع البحرين ولسان العرب.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 143

ومن الجدير بالذكر أنّه طبقاً للتحقيقات التي اجراها مؤخراً بعض العلماء هو أنّ هذا الماء القليل الذي يسمى «بالنطفة» مركّب من مياه مختلفة تترشّح من غدد مختلفة في الجسم، فقسمٌ منه يترشّح من البيضتين اللتين تحتويان على مادّة «الاسبرماتوزوئيد»، وقسمٌ منه يترشّح من أكياس البَيْض التي توجد بالقرب من غدّة «البروستات»، القسم الثالث يترشّح من نفس غدّة «البروستات» فيستمدّ شكله الظاهري ورائحته الخاصّة من تلك الغدّة والقسم الرابع يترشّح من غدد «الكوبر» وغدد «الليترة» اللتين تقعان

جنب مجاري الادرار.

وهذه المياه الخمسة تختلط مع بعضها بنسب دقيقة ومبرمجة وتشكّل مادّة الحياة، ومكتشف هذه المعلومات عالم فرنسي شُغف بحب القرآن والإسلام وكتب كتاباً في هذا المجال، ويعتقد هذا العالم بأنّ كلمة «امشاج» (أي مختلط) التي ورد ذكرها في القرآن كان محتواها خفياً على الناس والعلماء. أقتبست هذه العبارات من كتاب (المقايسة بين التوراة، والانجيل والقرآن والعلم) تأليف الدكتور بوكاري وترجمة المهندس ذبيح اللَّه دبير (ص 271).

وعلى أيّة حال فإنّ اطلاق هذه العبارة على الماء الذّي يتدفّق من الرجل عند ممارسته العملية الجنسية هو من أجل التناسب الواضح الموجود بينها وبين المعنى الرئيسي.

و «مَنيّ»: من مادة «مَنْي» (على وزن مَنْعْ) وهي بمعنى تعيين العاقبة والتقدير، لذلك أطلقُوا «المنيّة» على الموت و «الأُمنيّة» على الآمال، والسبب في اطلاق هذه الكلمة على الماء الذي يخرج من صلب الرجل لأنّه قُدّر له أن يكون إنساناً «1».

بناءً على هذا يكون مفهوم جملة: «أَلَمَ يَكُ نُطْفَةً مِنّ مَّنىٍّ يُمْنَى هو: ألمْ يكن الإنسان في بدايته ماءً مهيناً قُدِّر أن يُخلق الإنسانُ منه «2»؟

إنّ كل مرحلة من المراحل الأربعِ التي بينتها هذه الآية نموذج واشعاع جديد من الحياة الدنيا والحياة بعد الموت، ومن الممكن أن تكون كل مرحلة دليلًا واضحاً على قدرة الخالق

__________________________________________________

(1) تاجُ العروس في شرح القاموس.

(2) لكنّ عدداً من المفسرين لم يفسروا «يُمنى بمعنى التقدير، بل فسّروها بمعنى تدفّق ذلك الماء في الرحم. على أيّة حال فإنّ «من» هنا بيانية لا تبعيضية.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 144

من جهة، ودليلًا على إمكان مسألة المعاد والحياة بعد الموت من جهة اخرى على الخصوص في مجال تعيين جنس النطفة من ذكرٍ أو أُنثى

إنّ المسائل المتعلّقة بعلم الجنين

من أعقد وأعجب المسائل، والقانون المهيمن على هذا العلم لم يتضح لحدّ الآن حتى لدى الحاذقين من العلماء، وكل ما لدينا من العلم أنّ مسألة تشخيص جنس الجنين في رحم الام غير ممكن أبداً، ولا يتميّز إلّابعد وصول الجنين إلى المراحل النهائية من الحمل، ونحن نعلم أيضاً بوجود قوانين دقيقة تهيمن على تلك الأُمور، هذه القوانين التي توجد التعادل والتقارب بين تعداد كلٍّ من الجنسين، لكنّ جزئيات وتفاصيل تلك الامور ظلّت مخفية وراء حجاب الابهام.

فلو افترضنا أنّ في كل عشر ولادات تسع منها إناث وواحد منها ذكر أو بالعكس، فسوف يحدث اختلال عجيب وفوضى مخيفة وصراع رهيب في المجتمع الإنساني!

وفي الآية الثالثة بعد أن بيّن اللَّه تعالى قدرته، قال: «وَانَّهُ خَلَقَ الزَّوجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْانْثَى مِنْ نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشأَةَ الْأُخْرَى .

فالقرآن وإن لم يصرّح بهذه الحقيقة وأنّه يمكن أن نتوصل إلى إثبات النشأة الآخرة عن طريق المقايسة بينها وبين تطورات الجنين، إلّاأنّه يمكننا عن طريق ارتباط الآيات فيما بينها أن نجعل الأمر الأول دليلًا وشاهداً على الأمر الثاني كما انتبه إلى ذلك بعض المفسرين أيضاً «1».

و «النشأة الآخرة»: بمعنى «الايجاد الآخر» والمراد منه برأي الأكثرية الساحقة من المفسرين «الحياة الاخرى لكنّ البعض أصرَّ على أنّ المراد منه مرحلة نفخ الروح في الجنين وجعلوا آية: «فَكَسَونَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ». (المؤمنون/ 14) دليلًا على مدّعاهم الآنف.

__________________________________________________

(1) تفسير في ظلال القرآن، ج 7، ص 631.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 145

لكن عند مراجعة هذا التعبير: «قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِى ءُ النَشْأَةَ الْآخِرةَ». (العنكبوت/ 20)

و ما شابه هذا التعبير في آيات اخرى من القرآن يتضح لنا جليّاً أنّ

المراد من النشأة الآخرة يوم القيامة، حيث قال تعالى: «وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّروُنَ».

(الواقعة/ 62)

وفي الآية الرابعة وردت هذه الحقيقة أيضاً وبشكل آخر وبصورة اجمل واوجز واوضح، قال تعالى «قُتِلَ الْإِنسَانُ مَااكْفَرَهُ* مِنْ أَىِّ شَى ءٍ خَلَقَهُ* مِنْ نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدّرَهُ* ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ* ثُمَّ أَمَاتَهُ فَاقبَرَهُ* ثُمَّ إذا شَاء أَنْشَرَهُ».

أشارت هذه الآيات أولًا إلى خلق الإنسان من نطفة، ثم أشارت إلى تكامل الجنين إشارة مبهمة، بعد ذلك أشارت إلى مسألة الموت، ثم إلى الحياة بعد الموت، أمّا العلاقة والرابطة الموجودة بين هذه المسائل فهي إمكان الاستدلال بكل واحد من هذه الامور على إثبات الأمر الآخر.

وهنا توجد عدّة امور تجلب الانتباه:

1- إنّ جملة «خلقهُ فقدّره» جملة عميقة المغزى فقد صُبّت فيها جميع مراحل تطورات الجنين في مرحلة الحمل، فالتقدير في أصل وجوده، وفي أعضاء بدنه، وفي تركيب أجزائه، وفي احتياجاته المتعددة وفي الفواصل الزمانية المختلفة التي عليه أن يقطعها للوصول إلى مراحل تكامله، إنّ اللَّه تعالى قدّر كل ذلك له، ووضع له نظاماً متقناً.

بناءً على هذا جي ء بجملة «خلقه» للدلالة على المرحلة الاولى لخلق الإنسان من النطفة وبجملة «قدّرهُ» للدلالة على جميع المراحل التي تلي فيما بعد.

2- وجملة «ثُمَّ السَبِيلَ يَسّرَهُ» أيضاً من الجمل العميقة المغزى ومن الجمل الجذّابة التي يمكن أن تكون دليلًا على الامور الآتية:

تسهيل طريقِ الولادة أمامه بعد خوض مراحل التكامل، فالجنين الذي يكون رأسه إلى

نفحات القرآن، ج 5، ص: 146

الأعلى في حالته الطبيعية يتغيّر وضعه فجأة ويتدلّى رأسه إلى الأسفل، وذلك لإعداده للولادة الطبيعية وفي نفس الوقت ترتخي عضلات الأُمِّ الموجودة في طريق الولادة وتتهيأ لوضع هذا المولود، ثم يحصل ضغط على الجنين من جميع أنحاء الرحم كي يتيسّر

عليه طريق الخروج من الرحم، بعد ذلك يتمزّقُ فجأة الكيس المملوء بالماء الذي كان يسبح فيه الجنين أيّام الحمل العاديّة فيترطّب مسير الخروج المعدّ للمولود، وخلاصة الكلام إنّ جميع الأمور تُعدّ وتتيسرُ له من أجل دخوله إلى دنيا جديدة.

ومن جهة اخرى أودعه اللَّه العقل وأنواع الغرائز، وكلّ واحد من هذه الامور يفتح أمامه طريق الحياة.

ومن ناحية اخرى أرسل إليه الرسل والكتب السماوية كي يتيسر له سبيل الطاعة وعبادة اللَّه وطريق سعادته.

إضافة إلى ذلك دلّ هذا التعبير على أنّ الإنسان خُلِقَ مريداً ومختاراً في تصرفه، لأنّه تعالى لم يقل وسلكناه السبيل بل قال يّسرنا له السبيل، فهو مختارٌ في سلوكه.

وفي الآية الخامسة والأخيرة إشارة إلى مراحل تكامل الجنين أيضاً بصورٍ مفصّله، بل جاء هنا بتفاصيل أكثر ممّا جاء في جميع الآيات التي تحدثت عن ذلك، فتعرضت هذه المرّة إلى جزئيات دقيقة، قال تعالى «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ* ثُمَّ جَعَلْنَاه نُطفَةً في قَرَارٍ مَّكِينٍ (الرحم)* ثُمَّ خَلَقْنَا النٌّطْفَةَ عَلَقَهً (دم متخثر) فَخَلَقْنَا العَلَقَةَ مُضْغَةً (تَشْبَهُ اللحم الممضوغ) فَخَلَقْنَا المُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَونَا العِظَامَ لَحْماً».

وبعد أن بيّن المراحل الخمس (النطفة والعَلَقةَ والمضغة والعظام واللحم) أشارَ إلى امرٍ آخر والذي يعتبر من أهمّ المراحل وهو مرحلة نفخ الروح الإنسانية، فقال تعالى «ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ» «فَتَبَارَكَ اللَّهُ احْسَنُ الْخَالِقِينَ».

وجملة «فكسونا العظام لحماً» لم تُذكر ضمن مراحل تكامل الجنين إلّافي هذه الآية

نفحات القرآن، ج 5، ص: 147

التي كشفت الستار عن أهميّة خلق العظام.

ولقد ثبت حديثاً بأنّ العظام لا تكون هيكلًا لحفظ استقامة البدن وحفظ أعضاء الإنسان فحسب، بل إنّ في عهدتها أَهمَّ الوظائفِ الحياتية والبايلوجية للبدن.

فالعظام تحتوي على جميع ما يحتاجه الجسم من قبيل الفسفور والكالسيوم والاملاح الاخرى

التي تنظم الأعمال الحياتية لجسم الإنسان وضربات القلب وتقويم حركة العضلات، والأهمُّ من ذلك أنّ العظام تُقدِّم للجسم ما يحتاجه من كريات الدّم الحمر والبيض طيلة عمر الإنسان! ويكفينا أن نعلم بأنّ في الدقيقة الواحدة تموت مايقارب 180 مليون كرية حمراء وأنّ العظام تملأ الفراغ الحاصل من موت هذه الكريات بواسطة كريات جديدة ونشطة! «1».

والجدير بالذكر أنّ بعض المفسرين قالوا: ثبت حديثاً أنَّ أوّل ما يظهر في الجنين هي خلايا العظام، ثم خلايا اللحم، وهذه الحقيقة رفع القرآن الستار عنها قبل أربعة عشر قرناً عندما لم يكن لأحد علم بها «2».

والتعبير ب «الكسوة» عن اللحم هو تعبير جميل وجذّاب، فالملابس تُجمِّل جسم الإنسان وفي نفس الوقت تحفظه من اضرار مختلفة، والعضلات كذلك فلو عُدِمَت وبقيت العظام لوحدها فما أقبح منظرها! ومن ناحية اخرى إنّ العظام تتأثّر بأدنى ضغط يرد عليها من أىّ جانب وتصاب بعطبٍ كبير جرّاءَ ذلك، والذي يحفظ العظام تلك الكسوة التي هي العضلات.

وهذا التعبير: «ثُمَّ أَنْشَأنَاهُ خَلْقاً آخَرَ» الذي ورد ذكره بعد مرحلة تكامل الجنين لم يأتِ إلّا في هذه الآية من القرآن، وهذا البيان العجيب وإن كان قد ذُكِرَ سابقاً إلّاأنّه يختلف كثيراً عن ذلك، ذلك لأنّه سمّي هنا «خلقاً آخر»، حيثُ يرى أكثر المفسرين أنّ هذه الجملة جاءت للدلالة على خلق الروح، لأنّنا نعلم بأنّ الجنين من يومه الأول وحتى يبلغ ما يقارب

__________________________________________________

(1) قرآن برفراز اعصار، ص 187.

(2) تفسير في ظلال القرآن، ج 6، ص 16.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 148

الشهر الرابع من الحمل أكثر ما يشبه النبات، فهو ينمو بسرعة من غير أن يمتلك أيّ حسٍ أو حركة، ثم تبدأ الأعضاء المُعَدّة لإدراك الحقائق بالظهور تدريجاً وهذا

التحول المفاجي (الذي يشبه الطفرة) ظلّ مبهماً على جميع العلماء ولا يعلم مايطرأ على الجنين حينما ينتقل من مرحلة إلى اخرى إلّااللَّه العالم القادر.

على أيّة حال فإنّ اجتياز هذه المراحل خلال هذه المدّة الوجيزة دليل على عظمة مُبدئ عالم الوجود الذي هو اللَّه احسن الخالقين، وفي نفس الوقت دليل على إثبات وقوع الحياة بعد الموت التي اشير إليها في ذيل تلك الآيات.

ثمرة البحث:

من خلال الآيات المذكورة التي صورت مراحل تكامل الجنين ووضعتها أمام انظار الإنسان الذي من طبيعته أن يكون باحثاً عن الحقيقة، أجيب منكري المعاد بوضوح، وهذه المراحل في الواقع تُعْتَبَرُ كل واحدة منها حياةً جديدة ومظهراً من مظاهر المعاد، ويكفي التمعّن في مرحلة واحدة من هذه المراحل في إثبات هذه الحقيقة.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 149

5- المعاد في عالم الطاقة

تمهيد:

عندما تموت الكائنات الحية في هذا العالم المترامي الاطراف تُخَلِّف وراءها دائماً بقايا وآثاراً، لكن بالنسبة لتبدد الطاقة فالأمرُ عجيب، لأنّها في الظاهر عندما تتلاشى تفنى كلياً فلا يبقى لها أيّ اثر، فلو لاحظنا الشمس كمثال لكلامنا هذا لوجدنا ضوءها وحرارتها هما عبارة عن طاقة تبعثها نحو كرتنا الأرضية والسيارات الاخرى التابعة للمنظومة الشمسية، وبعد انحسار الإشعاع تفنى تلك الطاقة ولايبقى لها ايّ أثر، وإذا لم يستمر مصدر الإشعاع أي الشمس على إرسال الأشعة، فإنّه سوف لن يبقى أثر للنور والضوء وتفنى الحرارة.

لكنّ العلم الحديث أثبت بأنّ الطاقة أيضاً لا تفنى بالكامل، بل تَكمُن وتتحوّل من حالة إلى اخرى وعندما تتوفر الظروف المناسبة فإنّها تعود ثانياً وتُبعث من جديد بصورة عظيمة.

المثير للدّهشه هو أنّ القرآن المجيد من أجل إثبات مسألة إمكان المعاد يعتمد على هذه المسألة، ويتخذ من تحوُّل الطاقة الضوئيِة والحرارية في هذا العالم دليلًا على القيامة العظمى الحاصلة للبشر في العالم الآخر.

وبعد هذه الإشارة الوجيزة نذهب إلى آيات القرآن ونتأمل فيها خاشعين كي تتّضحَ لنا تلك الحقيقة:

1- «قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِى أَنشَأَهَا اوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ* الَّذِى جَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنتُمْ مِّنهُ تُوقِدُونَ». (يس/ 79- 80)

2- «افَرَأَيتُمُ النَّارَ الَّتِى تُورُونَ* ءَأَنتُم أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا امْ نَحْنُ المُنشِئُونَ* نَحنُ جَعَلنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِّلمُقوِينَ». (الواقعة/

71- 73)

نفحات القرآن، ج 5، ص: 150

جمع الآيات وتفسيرها
استئناف عَوْدِ الطاقة يتجدد امام انظارنا!

في آواخر سورة «يس» هناك بحوث جامعة ومتنوّعة وعميقة في مجال المعاد، واحد هذه البحوث الحبث عن معاد الطاقة.

لقد أجاب القرآن على شبهة من كانوا يتعجّبون من إمكان اعادة العظم الرميم إلى الحياة بِعِدّة أجوبة، فقال تعالى «قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِى أَنَشَأَهَا اوَّل مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ».

وهذا القسم من الأجوبةِ يتعلّق بمقايسة المعاد بالنشأة الاولى التي بحثناها سابقاً.

ثم يضيف تعالى بعد ذلك: «الَّذِى جَعَلَ لَكُم مّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِّنهُ تُوقِدُونَ».

ومن البديهيِّ أن يكون هذا البيان دليلًا على مسألة المعاد وأن يكون جواباً آخر لمنكري المعاد.

ولكن كيف يكون ذلك، وبأيّ بيانٍ يتمّ؟

للمفسرين عدّة آراء في هذا المجال هي:

1- الكثير من المفسرين اعتبروا هذه الآية إشارة إلى الشجرتين المشهورتين لدى العرب وهما «مَرْخ» و «عَفار» وكان العرب يستخدِمونهما لإيقاد النار بدلًا من الكبريت المستخدم في عصرنا الحاضر، فكانوا يضربون الخَشَبَتينِ ببعضهما بشدّة ليحصلوا منها على قدحة أو شرارة ليتمكّنوا بواسطتها من ايقاد النار، وفي الحقيقة كانوا يستخدمون ذلك بدلًا عن حجر القدحة الذي كان يُستخدم في العصور الغابرة.

فالقرآن يقول: إنّ الذي يقدر على أن يُخرج النار من تلك الخشبتين الخضراوينِ بإمكانه أن يحيي الموتى فمن يتمكّن من جمع النار مع الماء كيف لا يتمكّن من خلق الحياة بعد الموت؟ ألا يشبه التضادُّ بين «الحياة» و «الموت» التضادَّ بين الماء والنار؟

2- وتَجَاوزَ آخرون هذا الحدَّ فقالوا: إنّ خاصيّة ايقاد النار لا تنحصر بخشب تلك الشجرتين (مَرْخ وعفار)، بل تعمّ جميع أشجار العالم، ولكنّها تشتدُّ في أخشاب تلك

نفحات القرآن، ج 5، ص: 151

الشجرتين، لذا جاء في المثل العربى: «في كُلِّ شجرٍ نار»!

فخلاصة الكلام أنّ أخشابَ الأشجار عندما تصطدم

ببعضها بقوّة تخرج منها شرارة من النار، وهذا الأمر يصدق حتى في أخشاب الأشجار الطريّة! وبسبب هذه الظاهرة تَحدُثُ حرائقُ هائلة ومرعبة في الغابات من دون أن يكون للإنسان ايُّ تدخّل فيها.

وهذه الحرائق تحدث بفعل الرياح الشديدة التي تضرب أغصان الأشجار ببعضها بشدّة فَتَسْقُطُ شراراتُها أحياناً على أوراق الشجر الجافّة فتحرقها، ثم تتسع بعد ذلك رقعةُ النار بسبب هبوب الرياح، فنرى فجأةً التهام النار لمناطق شاسعة من الغابات.

وأمّا تفسير هذه الظاهرة من وجهة نظر العلم الحديث فهي جليّة وواضحة، لأننا نعلم بأنّ الأشجار ليست الوحيدة التي تولّد شرارة من النارعند ارتطامها ببعضها بقوّة بل تتولّدُ شرارة كهربائية من ارتطام كل جسمين ببعضهما، وهذه النار موجودةٌ في جميع ذَرّاتِ العالم المادّي حتى في باطن الأشجار الخضراء.

إنّه أمرٌ عجيبٌ حقّاً، فما القدرة التي تخلط النار في الماء؟ ومن أصلح فيما بين هذين العدوّين اللّدودين اللّذينِ عرّفهما القدماء بأنّ طبع أحدهما بارد رطب والآخر حارٌ جاف؟

فهل يكون الإصلاح بين الموت والحياة أمرٌ عسير على هذه القدرة؟ أو هل يصعب على القدرة أن تجعل أحدهما في مكان الآخر؟!

وبتعبير آخر: هل يمكن لأحد أن يجمع النار والماء في مكان واحد بحيث لا يُطفي الماءُ النارَ ولا تُحرقُ النارُ الشجرَ، وهل يكون إحياء الشجر اليابس مرّة اخرى أمراً عسيراً؟!

3- وهناك تفسير آخر لهذه الآية قد خفي على المفسّرين السابقين، لكنّه أصبح واضحاً لنا بعد تطور العلم الحديث، ومن المحتمل أن يكون أنسب التفاسير، وهو: إنّ الأشجار خلال فترة حياتها تمتصُّ ضوءَ وحرارة الشمس باستمرار وتَدَّخِرُهُما في باطنها، وعندما نُحرِق الخشب الجافَّ تنبعث الحرارة والضوءُ اللتان امتصّتهما الشجرة في مدّة طويلة وتنفدُ في مدّة وجيزة ونستفيد نحن منهما، أي أنّ الطاقة الخاملة

تعودُ في هذه القيامةِ وتُظهِرُ وجودها، فبناءً على ذلك نحن نرى منظر المعاد أمام أعيننا إذا أجّجْنا ناراً!

نفحات القرآن، ج 5، ص: 152

وتوضيح ذلك: إنّ «السليلوز» يشكّل المادّة الرئيسية للأشجار، وهو مركب من «الكاربون» و «الاوكسجين» و «الهيدروجين».

فالنباتات تحصل على الاوكسجين والهيدروجين من الماء، وتحصل على الكاربون من الهواء، أي أنّها تأخذ ثاني أو كسيد الكاربون الذي هو عبارة عن تركيب من الاوكسجين والكاربون وتحلل ذلك المركب فتحتفظ بالكاربون وتُطِلق الاوكسجين، ثم تصنع الخشب بواسطة تركيب الكاربون مع الماء.

ومن الجدير بالذكر هنا بناءً على القواعد المتّبعة في علم الكيمياء إنّ الكثير من التركيبات الكيميائية لا تتمّ إلّاعند توفر نوع من أنواع الطاقة، والأشجار أيضاً تّتبع هذا القانون وتستخدم ضوءَ وحرارة الشمس في انجاز التركيبات الكيميائية (فتأمّل).

على هذا فالأشجار عندما تنمو وتكبر وتقوى سيقانها يوماً بعد يوم فإنّها تدّخر كميّة كبيرة من الطاقة الشمسية في داخلها، تلك هي الضوءُ والحرارة التي تظهر عند احتراق الخشب، فنفس تلك الطاقة المدّخرة التي قد كَمُنت في الظاهر تعودُ مّرة اخرى من خلال معادٍ موزون ودقيق.

والدليل الذي يؤيد هذا التفسير هو التعبير الوارد في القرآن لبيان هذه الامور وهو جملة:

«فإذا أنتم منه توقدون».

ولنرَ ما المراد من كلمة «وقود» لغوياً؟

بناءً على تصريح أكثر كتب اللغة أنّ «الوقود» بمعنى الحطب أو الشي المحترق «1».

بينما اطلقوا على الأشياء التي تُوجِدُ القدحةَ اسم «الزَنْد» أو «الزناد»، قال في المقاييس:

«الزند» في الأصل بمعنى زند اليد، وأُطلِق على القدحة أو الشرارة للملازمة الموجودة سابقاً بين زند اليد والآلات التي كانت تستخدم قديماً في اشعال النار.

و «القَدْح»: استُعمل أيضاً في هذا المجال، لكنّ الأمر المهمّ تأكيد القرآن على ذكر الوقود لا «الزند» أو القَدْح، بينما

فات القدماء الانتباه إلى هذه المسألة، وفسّروا الآية على أنّ المراد

__________________________________________________

(1) مفردات الراغب؛ ولسان العرب؛ ومقاييس اللّغة.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 153

منها هو القدْح، لكنَّ ماجاء في تفسيرنا الثالث ينطبقُ تماماً مع التعبير ب «الوقود» (فتأمّل).

والسؤال الوحيد الذي لم يُجَبْ عنه إنّ الخشب الذي يستخدم في الحرق يكون جافاً، بينما عبّر عنه القرآن ب «الشجر الاخضر».

هناك جوابان لهذا السؤال: الأول إنّ الخشب الاخضر قابل للاحتراق أيضاً وإنَّ إحراقه أصعب من إحراق الخشب الجاف، جاء في المثل المشهور: إذا اشتعلت النار فسوف تحرق الأخضر واليابس معاً للإشارة إلى هذا الأمر.

ولو تجاوزنا هذا، فهنالك مسألة مهمّة هي إنّ الأشجار الخضراء هي الوحيدة التي يمكنها أن تجذب وتدّخِر ضوءَ وحرارة الشمس، ويحتمل أن يكون القرآن في صدد بيان هذه المسألة العلمية الدقيقة، لأنّ الأشجار عندما تجفّ تتوقف فيها عملية جذب الكاربون نهائياً، ولا تدّخر الطاقة الشمسية بأي نحوٍ كان.

على أيّة حال فإنّ الآية المذكورة تعتبر من الآيات الرائعة في مجال إثبات المعاد، وإنّ كلّ واحد من هذه التفسيرات الثلاثة يجسِّم منظر المعاد أمام الانظار، ولايوجد أيّ مانع في أن تكون هذه التفسيرات الثلاثة مجموعة في مفهوم هذه الآية، فهذه التفسيرات منها ما يختصّ بالعوامّ من الناس، ومنها مايختصّ بالخواصّ منهم، ومنها مايختصّ بخواصّ الخواصّ، وبعضها يختصّ بالناس الذين عاشوا في العصور الغابرة، وبعضها يختصّ بالناس المعاصرين، ومن المحتمل أن تكون هنالك تفسيرات أعمق وأدقّ لعلماء المستقبل في هذه الآية.

والآية الثانية من آيات سورة الواقعة، والتي يختصّ قسم كبير من آياتها بأدلّة المعاد والقيامة، على الأخصّ ماجاء في الآية 57 فيما بعد في جوابِ منكري المعاد (المسائل السبع) الذين ذُكرتْ ادّعاءاتُهم في نفس هذه السورة في الآية 47 حيث

كان كلّ واحد من تلك الأجوبة دليلًا على مسألة المعاد بنفسه «1».

__________________________________________________

(1) ذكرت هذه الأدلة السبعة في تفسير الامثل، ذيل الآية 57 من سورة الواقعة.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 154

والآية التي يدور بحثنا حولها تعتبر في الواقع الدليل السابع والأخير، قال تعالى

«أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِى تُورُونَ «1»* ءَأَنْتُمْ أَنْشَأتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ* نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ «2»». (الواقعة/ 73- 71)

وفي تفسير معنى المراد من شجرة النار هنا، يوجد تفسيران رئيسيّان:

الأول: إنّ المراد من شجرة النار الشجرتان المعروفتان «مَرْخ» و «عَفار» اللتان كانتا تُستخدمان لدى العرب في ايجاد القدحة، حيث كانتا تُستخدمان بدلًا عن «الكبريت» لإشعال النار.

والثاني: إنّ المراد منها جميع الأشجار لأنّها لها قابلية توفير الحطب والوقود «3».

وللمفسِّرين آراء في معنى المراد من «تذكرة»، فعدد منهم يرى أنَّ المراد منها التذكّر بنار جهنم عند رؤية نار الدنيا، ففي هذه الصورة تصلح هذه الآية لأنّ تكون دليلًا لإثبات المعاد.

والرأي الثاني هو أنّ المراد منها التذكير بأمر المعاد، وذلك لأنّ الذي يقدر على أن يودع النار المحرقة في قلب الشجر الأخضر فإنّه لا يعجز عن ارجاع الحرارة الغريزية لبدن الأموات، والذي يقدر على جمع الضِّدَّينِ كالماء والنار فإنّه بطريق أولى يمكنه أن يجمع بين الموت والحياة على التوالي، أي إيجادهما الواحد بعد الآخر.

أو بتعبير آخر كيف لايتمكّن مَن يُعيد الطاقة الكامنة والضوءَ والحرارة مِن أن يهب حياة جديدة للأموات من بني الإنسان؟

والتفسير الأخير هو أكثر تناسباً مع آيات هذه السورة التي تتصدى للاجابة عن شبهات منكري المعاد طبعاً، كما إنَّ الجمع بين هذه التفاسير ممكن أيضاً.

__________________________________________________

(1) «تورون» من مادة «ايراء» بمعنى اشعال النار، قال الراغب في المفردات: ايراء في الأصل بمعنى الستر

والتغشية، لذا اطلق على ما في الخلف «وراء» وبما أنّ النار تكمن في الحطب أو في القدحة اطلق العرب كلمة «ورى أو «ايراء» على اخراجها من مخبئها.

(2) «المقوين» من مادّة «قِواء» (على وزن كِتاب) بمعنى الصحراء القاحلة، وتطلق على المسافرين الذين يقطعون الصحارى من دون متاع أيضاً.

(3) ورد هذان التفسيران في تفسير روح المعاني، ج 27، ص 129؛ وفي تفسير الكبير، ج 29، ص 184 في ذيل الآيات مورد البحث.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 155

والتعبير ب «متاعاً للمقوين» هو تلميح لفوائد وأهميّة النار في حياة الإنسان ذلك لأنّ المفسرين وأصحاب اللغة ذكروا معانيَ متعددة ل «المقوين» هي:

أولًا: ماذكرناه آنفاً أنّها من مادة «قواء» على وزن (كتاب) بمعنى الصحراء القاحلة، بناءً على هذا يصبح مصداق «المقوين» هم الذين يقتحمون الصحارى القاحلة، وهؤلاء يحتاجون بشدّة إلى الحطب والخشب الجاف لإيقاد النار، أمّا احتياجهم لخشب القدْح فلا يخفى على أحد.

ومن البديهي أنّ الإنسان يحتاج إلى ذلك في المدن أيضاً، ولكن بما أنّ إيقاد النار في المدن أمرٌ يسير، لأنّ الذي يريد أن يوقد ناراً يمكنه أن يستفيد في ذلك من نار الآخرين، بالإضافة إلى ذلك لايشكّل عدم وجود النار في المدينة خطراً جسيماً على الإنسان، بينما تعدّ النار بالنسبة لقاطعي الصحراء أمراً مصيرياً بسبب الحاجة إلى إعداد الطعام ودفع البرد والاستنارة.

والرأي الآخر أنّ المراد من «المقوين» هم الفقراء، وعُدّ هذا من أحد معانيها في اللغة، ومن المحتمل أن يكون السبب في ذلك أنّ سُكّانَ الصحراء فقراء في الغالب، وقد ذكرنا أنَّ «قواء» بمعنى الصحراء القاحلة، وأنّ احتياج الجميع للنار امر بديهي إلّاأنّ احتياج الفقراء لها اشدّ من غيرهم، ذلك لأنّ النار تأخذ مكان الملابس أحياناً بالنسبة

لهم.

وقال البعض أيضاً: إنّ «المقوين» بمعنى «الاقوياء»! لأنّ الكلمة المذكورة من الكلمات التي لها معانٍ متضادّة، فيحتمل أن تكون من مادّة القوة والقدرة.

ففي هذه الحالة تكون للدلالة على استخدام الاغنياء للنار بكثرة، على الأخص في دنيانا هذا اليوم، فإنّ الحرارة والنار كلٌّ منهما المحور الرئيسي الذي تدور عليه عجلات الصناعة والمحركات، فإذا ما نَفَدَ الوقود الذي تعتبر الأشجار والنباتات المنبع الرئيسي له (سواء كان بصورة مباشرة كالخشب والفحم الحجري أو غير مباشرة كالبترول) فإنّ عجلات الحضارة البشريّة سوف تتوقف عن الحركة، وتذهب الثروات أدراج الرياح، فلا تطفأ شعلة الحضارة فحسب بل سوف تطفأ شعلة حياة جميع البشر.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 157

النماذج التاريخية الحيّة للمعاد

تمهيد:
اشارة

بالإضافة إلى ما ذُكر في البحوث السابقة حول أدلّة إمكان المعاد فإنّ القرآن المجيد يشير إلى عدد من النماذج التأريخية الحيّة للمعاد من خلال آيات مُتَعَدّدة، وكلّ هذه النماذج مصاديق واقعيّة للحياة بعد الموت، ويمكن الاستعانة بها على إثبات إمكانية المعاد، والنماذجُ عبارة عن:

1- قصة النبي عُزير عليه السلام الذي وُهِبَ الحياة بعد موته بمائة عام.

2- قصة إبراهيم عليه السلام واحياء الطيور الأربعة.

3- قصة أصحاب الكهف.

4- قصة قتيل بني اسرائيل وقصة البقرة.

من البديهي إن الاستدلال بهذه الحوادث التاريخية يتوقف على الاطمئنان بصحة وقوعها، وبما أنّ منكري المعاد يعتقدون بصحة وقوع أغلب هذه الحوادث أو على الأقل كانت مدوّنة في كتبهم التاريخية وكانت مشهورة بين الناس، فإنّ القرآن المجيد يستدلّ بها.

بعد هذه الإشارة نعود إلى القرآن ونمعن خاشعين في القسم الأول من هذه الآيات المتعلّقة بقصة عُزير عليه السلام

1- قصة حياة عُزير عليه السلام بعد موته

تحدّث القرآن الكريم عن هذه القصّة العجيبة في أواخر سورة البقرة من خلال آية واحدة تعتبر في الواقع دليلًا تاريخياً لدحض ادّعاءات منكري المعاد، قال تعالى

نفحات القرآن، ج 5، ص: 158

«أَوْ كَالَّذِى مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْىِ هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شى ءٍ قَدِيرٌ» «1». (البقرة/ 259)

وتوجد هنا عدّة امور تحتاج إلى الدقّة والتّأَمُّلِ:

1- من كان هذا الرجُل؟ وأين تقع هذه القرية؟ (يجب الالتفات إلى أنّ المراد من القرية هنا التجمّع السكاني

سواء أكان قرية أو مدينة).

فالقرآن لم يوضح ذلك، والمستفاد من سياقِ الآية أنّه رجلٌ أُوحيَ إليه، أيْ كان من أحد انبياء اللَّه لكنّ المفسّرين وبالاستناد إلى الروايات الواردة في هذا المجال يذكرون اسمه بالتعيين، ففى كثير من الروايات وعبارات المفسرين ذُكر أن اسمه «عُزير» نبيّ بني اسرائيل المعروف، وذكر آخرون بأنّ اسمه «الخضر» وآخرون، قالوا إن اسمه «اشْعيا» «2».

وأياً كان فانّه لايؤثر على معنى ومحتوى الآية، أمّا ما احتمله البعض من أنّه كان رجلًا غير مؤمن وقد شك في أمر المعاد فإنّ هذا كلام مردود، لأنّ الآية تدلّ بجلاء على أنّ الوحي نزل على هذا الرجل.

أمّا «القرية» فهي «بيت المقدس» طبقاً لما جاء في الروايات، وهذه الحادثة التي وقعت بعد هدم بيت المقدس على يد «نبو خذ نصّر».

2- هل أنّ هذا الرجل المؤمن (أياً كان) قد مات حقاً أم ذهب في سباتٍ عميق؟ ظاهر الآية يدلّ على أنّه مات حقاً وعاد إلى الحياة مرّة اخرى بإذن اللَّه بعد أن مضى على موته مائة عام، وأكثر المفسرين يعتقدون بهذا الرأي، والبعضُ منهم فَسَّرَ «الموتَ» في هذه الآية

__________________________________________________

(1) جملة (أو كالّذي مَرّ ...) طبقاً لتصريح كثير من المفسرين هي عطف على الآية التي قبلها «الم تر إلى الذي حاجَّ إبراهيم ...» بناءً على هذا يكون معنى هذه الجملة كالتالي «الَم ترَ إلى الذي مَرّ على قريةٍ ...».

(2) تفاسير البرهان؛ نور الثقلين؛ مجمع البيان؛ روح المعاني؛ روح البيان؛ والكبير والقرطبي في ذيل الآية مورد البحث.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 159

بالنوم العميق المشابه للموت، كما هوَ الحال في نوم بعض الحيوانات التي تغط في سبات عميق في فصل الشتاء وتخرج من سباتها في فصل الربيع فتبدأ بالحركة.

وفي

مثل هذا النوم تكون النشاطات الحيوية بطيئة إلى حَدٍّ ما ويقلّ ماتحتاجه من طاقة بكثير عمّا كان عليه في حالاتها العادية، لكنّه لايُطْفِي ءُ البصيصَ من الحياة على أيّة حال.

وقد رجّح هذا الاحتمال (اي احتمال السبات) صاحب «المنار» و «المراغي» وصاحب «أعلام القرآن» حتى أنّه ذكر في أعلام القرآن أنَّ المراد من «مائة عام» ليس من الضروري أن يكون مائة سنة! بل من المحتمل أن يراد منها مائة يوم أو مائة ساعة!!

إنّ بعض المثقفين الذين يصعب عليهم تصديق هذه الامور الخارقة للعادة، فإنّهم كلّما شاهدوا شيئاً من هذا القبيل سعوا للإتيان بالتبريرات والمغالطات بينما لا توجد أي ضرورة لهذا التكلّف أبداً.

إنّ القرآن المجيد والروايات الصحيحة وباختصار كل محتويات المذاهب السماوية مليئة بهذه الامور الخارقة للنواميس الطبيعية التي لايمكن إنكارها ولا السعي في تبريرها، فإننا لو آمنّا بقدرة اللَّه تعالى على الإتيان بمثل هذه الخوارق لكان التصديق بمثل هذه الأمور أمراً يسيراً، وكل ما في الأمر أنْ نبتعد عن المبالغة، وعن تجاوز الحدود، وأَلّا ننسب كل امر إلى الاعجاز أو خرق النواميس الطبيعية.

و حتّى بالنسبة للعلماء الماديين، هُناك امور خارقة لا يمكن تفسيرها بالأساليب العلمية المعروفة فما هو الداعي لتحريف أيّة ظاهرة خارقة للعادة بمجرّد العجز عن كشف سرّها.

والقضية المذكورة، وبغض النظر عن الرجل المؤمن المذكور فيها والذي مات وبُعث من جديد وبغض النظر عن الهدف منها وهو الرغبة في تقديم مثال لاحياء الموتى يوم القيامة، تشير إلى حماره أيضاً، وقد أخبر القرآن بأنّه قد مات وتلاشت عظامه، لأنّ الآية صريحة في جمع العظام بإذن اللَّه وتغطيتها باللحم ثم نفخ الحياة فيها، فهل يجب تعليل كلّ ذلك؟

3- وأمّا ما يتعلق بالمدينة التي وقعت فيها تلك القصة فإنّ أغلب

المفسرين يعتقدون بأنّها وقعت في بيت المقدس بعد أن هُدمت على يد «نبو خذنصّر» وخُربت عن آخرها وقد عبّر عنها القرآن ب «خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا» أي بعد تهديم سقوفها وتخريب جدرانها

نفحات القرآن، ج 5، ص: 160

ومساواتها بالأرض؟ وقيل هي قرية مجاورة لبيت المقدس.

أمّا ما يتعلق بحديث ذلك الرجل المؤمن مع نفسه فانّه لم يكن بسبب الإنكار ولا التعّجب والشك بل أراد أن يشاهد احياء الموتى بأم عينيه كي يطمئن قلبه كما أراد إبراهيم عليه السلام ذلك في القصة التي سوف نذكرها عمّا قريب.

ومن الممكن أيضاً أن يكون طلبه هذا من أجل أن يقدم دليلًا مقنعاً للمنكرين والمشككين، لأنّه في بعض الأحيان لا تكفي الاستدلالات العقلية ولا حتى نداء الفطرة والوجدان في اقناع بعض الناس، فهم يصّرون على مشاهدة النماذج الحيّة لكي يأخذ الاستدلال طابع الحس وتزول جميع الوساوس عن قلوبهم ونفوسهم.

4- وأمّا ما يتعلق بنوع طعامه وشرابه فإنّ القرآن لم يصِّرح بشي ء عنه، ولكن يظهر من جملة: «لَمْ يَتَسَنَّهْ» التي هي من مادّة «سَنَه» والتي يفهم منها عدم فساد الطعام والشراب على الرغم من مرور سنين طويلة انّهما كانا من الأغذية والأشربة التي لا تفسد بمرور الزمان، وقيل بأنّ الطعام الذي كان يحمله هو «التين» و «العنب» والشراب هو «عصير الفواكه» أو «الحليب».

والملاحظ هنا أنّ اللَّه تعالى ومن أجل اظهار قدرته، حفظ المواد السريعة الفساد من التلف، بينما ترك حماره الذي يقاوم الفساد عادةً عرضةً للفساد، وبهذا أصبح دليلًا على المكوث مائة سنة ودليلًا آخر على إمكان الحياة بعد الموت، وذلك من أجل أن يشاهد الرجل المؤمن تلك الحقيقة بامِّ عينيه في كلا الأمرين (وجود نفسه ووجود حماره بعد الموت).

5- عبارة: «وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنّاسِ» تدلّ

على أنّ الفائدة المرجوّة من هذه الحادثة لا تختص بذلك الرجل المؤمن لوحده، بل لتكون عبرة نافعة لجميع الناس، لأنّ الناس قد عرفوا «عُزير عليه السلام» بالقرائن المختلفة، وتيقنوا من أنّه قد مات وبُعث ثانية بعد مرور مائة عام على موته، فإن كان الجيل المعاصر لحياة عزير قد مات وفنى فإنَّ الجيل الجديد عرفوا حقيقة الأمر بواسطة المعلومات التي حصلوا عليها من آبائهم.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 161

2- إبراهيم عليه السلام والمعاد
اشارة

إنَّ قصّة إبراهيم عليه السلام و «الطيور الأربعة» تعتبر من النماذج التاريخية الحيّة التي استدل بها القرآن الكريم على قضية المعاد، وقد ورد ذكر هذه القصة بعد ذكر قصة عزير عليه السلام مباشرة، قال تعالى

«وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنى كَيْفَ تُحْىِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبى قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَّ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِيْنَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ انَّ اللَّهَ عَزيزٌ حَكِيمٌ». (سورة البقرة/ 260)

لو أمعنّا النظر في ظاهر الآية بعيداً عن أي حكم مسبق وبعيداً عن تأثير آراء ونظرات الآخرين نراها تدلّ بوضوح على أنّ إبراهيم عليه السلام كان يريد أن يرى كيفية احياء الموتى ليطمئن قلبه، فأُمِرَ أن يمارس عملياً نموذجاً حيّاً لاحياء الموتى بإذن اللَّه، وهو أن يجعل أجساد الطيور الأربعة بعد ذبحها وسحقها كالعجين ثم يجعل عدّة أجزاء من العجين على عدّة جبال وبعد أن يدعو هذه الأجزاء إليه تصبح طيوراً أربعة كما كانت بإذن اللَّه وتُعاد إليها الحياة من جديد.

كما أنّ السبب الذي أشار إليه الكثير من المفسرين في شأن نزول هذه الآية الشريفة يؤيد هذا المدعى فقد مرّ إبراهيم عليه السلام على ساحل البحر فوجد جيفة نصفها في

الماء والنصف الآخر على الساحل تأكل منها حيوانات البحر من جانب والطيور من جانب آخر، فأثر هذا المنظر في نفسه عليه السلام وغرق في التفكير في كيفية جمع أجزاء هذا الجسد وإحيائه من جديد بعد أن صار جزءاً من حيوانات كثيرة اخرى

إنَّ إبراهيم عليه السلام كان مؤمناً بالمعاد وكل مايرتبط به لأنّه نبي وله ارتباط مع الوحي وكان إيمانه أعمق من الإيمان الحاصل عن طريق الاستدلال العقلي، لكنّهُ كان يبغي شاهداً حسياً في هذا المجال ولهذا جسَّد له اللَّه هذا المشهد كي يتجسّد أمامه المعاد الجسماني بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى وليشاهده بأمّ عينيه كي يطمئن قلبه.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 162

وهنا ينبغي أن نشير إلى عدّة امور:

أولًا: إنّ جملة: «فَصُرْهُنَّ» كما صّرح بذلك بعض اللغويين وعدد من المفسيرين هي من مادّة «صور» على وزن (قول) بمعنى التقطيع والتمزيق، وهي دليل على أنّ إبراهيم عليه السلام أمر بأن يذبح تلك الطيور الأربعة ثم يقطعها ويخلط أجزائها.

لكنّ بعض اللغويين فسروها بمعنى التعويد والتربية (على الأخص عندما تتعدى ب «إلى ) ومن أجل هذا أكّد بعض المفسرين الذين يسمّون أنفسهم بذوي الأفكار النيّرة على أنّ إبراهيم عليه السلام لم يقطع تلك الطيور أبداً، بل أمر بأن تعود تلك الطيور إليه وبعد أن تأنس به يضع كل واحد منها على جبل ثم يناديها كي تسعى إليه جميعاً فيحصل من خلال هذا العمل على دليل لإحياء الموتى ولكي يعلم أنّ إحياء الموتى على اللَّه يبلغ من السهولة ما يبلغه نداء إبراهيم عليه السلام لتلك الطيور ومجيئها إليه بمجرّد أن يناديها «1».

و قد فات هؤلاء أنّ إبراهيم عليه السلام أراد مشاهدة إحياء الموتى وأنّ اللَّه تعالى استجاب دعوته من هذا الباب كي

يطمئن قلبه، فلو كانت المسألة تُحلّ بتربية الطيور وإتيانها بعد دعوتها لما تحقق ما أراده إبراهيم عليه السلام من مشاهدة إحياء الموتى ولما اطمئن قلبه بذلك، بل لا علاقة لهذا الأمر بما طلبه إبراهيم عليه السلام فإنّ مثل هذا الجواب لمثل هذا الطلب قبيح وغير لائق لو صدر من الفرد العادي، فكيف يصدر ذلك من اللَّه تعالى وبالأخص عندما يرد في كلام فصيح ككلام القرآن ...؟

ثانيا: الظاهر أن تفسير كلمة «جزء» باطلاقها على كلِّ واحد من الطيور الأربعة، غير مناسب أبداً.

ثالثاً: إنّ سبب نزول هذه الآية الشريفة والوارد في روايات متعددة لا يتناسب مع هذا المعنى بل صرحت جميعها بالحقيقة التالية، وهي أنّ إبراهيم عليه السلام أخذ أربعة من الطير فذبحها وخلط أوصالها ببعضها ثم قسّمها حصصاً فوضع كلٍ منها على جبل «2».

__________________________________________________

(1) وهذا التفسير في الأساس مقتبس من أحد المفسرين المعروف باسم (أبومسلم) وقد نقل عنه هذا التفسير في «المنار» ودافع عنه وأيّده (ج 3 ص 56).

(2) للاطلاع أكثر على هذه الروايات راجع تفسير نور الثقلين، ج 1، ص 275- 282؛ وتفسير الدّر المنثور، ج 1، ص 335.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 163

واما جملة «فصرهن» فهي لا تؤثر في محتوى الآية إن كانت بمعنى التقطيع أو بمعنى التعود، لأنّ الآية- على أية حال- جاءت لتوضيح كيفية إحياء الموتى بإذن اللَّه.

وكما قلنا آنفاً إنّ السبب الرئيسي في نزوع هؤلاء إلى مثل هذه التفاسير هو عدم استيعابهم للمعجزات الخارقة للنواميس الطبيعية، ولإرضاء المدافعين عن العقيدة المادية ولذلك ورطوا أنفسهم في هذه المتاهات، بينما تعتبر هذه الخوارق ووقوع المعجزات من البديهيات لدى جميع الأديان، ونحن في عالم الطبيعة نشاهد الكثير من هذه الخوارق التي عجز

عن تفسيرها العلم الحديث (فتأمل).

2- والمعروف من أنواع الطيور الأربعة هي: الطاووس والديك والحمام والغراب، وكلّ واحد من هذه الطيور يحمل صفات متميزّة وقد شبّهوا حركات الإنسان بحركات هذه الطيور، فالطاووس هو مظهر الكبرياء والرياء، والديك هو مظهر الشره الجنسي، والحمام هو مظهر اللهو واللعب، والغراب هو مظهر الآمال البعيدة المنال!

وجاء في كثير من التفاسير احتمالات اخرى أيضاً منها: أنّ تلك الطيور هي الهدهد والبوم والقصر والنسر «1».

ومن البديهي أنّ خصوصيات تلك الطيور المذكورة لا علاقة لها بأصل المسألة، غاية مانعلم هو أنّ أنواع الطيور كانت مختلفة وهذا الإختلاف جاء من أجل الحكاية عن اختلاط تراب البشر مع بعضه.

أمّا عدد الجبال التي وضع إبراهيم عليه السلام عليها أجزاء تلك الطيور فهي عشرة طبقاً لما ذُكر في الروايات ويحتمل أن يكون وقوع هذه الحادثة بعد ذهاب إبراهيم عليه السلام إلى الشام، لأنّ أرض بابل خالية من الجبال.

3- قصة أصحاب الكهف

ورد محتوى هذه القصة في سورة الكهف خلال أربع عشرة آية، وجاء في بعضها:

__________________________________________________

(1) تفاسير مجمع البيان والقرطبي والكبير ونور الثقلين في ذيل الآية مورد البحث.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 164

«وَكَذلِكَ اعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَارَيْبَ فِيَها». (الكهف/ 21)

نستفيد بوضوح من هذا التعبير بأنّ أحد الأهداف المتوخّاة من هذا السبات العجيب والطويل الذي له شبه كبير بالموت هو أنّ هذه الحادثة تعتبر درساً لجاحدي المعاد أو للذين ينتابهم الشك والترديد في هذا المجال.

ويعين على ذلك بالخصوص مااستنبطوه من جملة: «اذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ»، من أنّ الناس اختلفوا في ذلك الزمان في مسألة المعاد (المعاد الجسماني) فالمخالفون كانوا يسعون لمحو آثار قصة أصحاب الكهف كي يسلبوا هذا البرهان القاطع من أيدي المؤمنين بالمعاد

(لقد احتملوا في تفسير هذه الجملة احتمالات جمّة، وماقلناه هو أحد هذه الاحتمالات).

وقد ذكر الفخر الرازي في تفسيره خمس احتمالات اخرى في تفسير هذه العبارة، منها الاختلاف في عدد أصحاب الكهف، ومنها الاختلاف في أسمائهم أو في مدّة نومهم وفي مسألة المعبد الذي شُيّد بالقرب من الغار هل كان على غرار معابد المشركين أو معابد الموحّدين «1».

فالآيات الواردة في هذه السورة من القرآن صرحت بوضوح بأنّ مدّة نومهم امتدّت إلى ثلاثمائة وتسع سنين: «وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِيْنَ وَازْدَادُوا تِسْعاً». (الكهف/ 25)

إنّ نوماً عميقاً كهذا يشبه الموت، والنهوض بعده أشبه بالحياة بعد الموت بلا شك، لذا فهو يصلح أن يكون نموذجاً حياً للمعاد من وجهة نظر التاريخ.

توضيحات
اشارة

هناك حديث طويل يدور حول هذه القصة، إلّاأنّ ما يتعلق بموضوع بحثنا هو عدّة امور:

__________________________________________________

(1) التفسير الكبير، ج 31، ص 105.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 165

1- ملخص الحادثة

إنّ ما جاء في القرآن المجيد والروايات المستفيضة في هذا المجال هو مايلي: كان هناك ملك ظالم يدعى «دقيانوس» وقيل إنّ اسمه «دسيوس» وكان متسلطاً على شعب وثني حوالي الفترة مابين القرن الأول إلى القرن الثالث الميلادي، وكانت عاصمة البلاد تدعى «أفسوس»، وكان لهذا الملك عدّة وزراء قد بانت لهم سخافة الوثنية من خلال أحد الحوادث فرجّحوا التحرر من قيود هذه الخرافات على الاحتفاظ بمناصبهم، فهجروا ديارهم سرّاً من دون أن يعينوا هدفاً لمسيرهم، وأخيراً عثروا على غارٍ فاختبؤا فيه فالقى اللَّه عليهم نوماً عميقاً يثير العجب حتى إذا استيقضوا من نومهم العميق هذا تساءلوا في ما بينهم فظنّوا أنّهم لبثوا في نومهم يوماً أو بعض يوم ولكن مظاهر وسمات أطراف الغار كانت تُنبيُ عن شيٍ آخر لذا تسرب الشك إليهم.

ولكونهم جياعاً بعثوا أحدهم إلى المدينة ليأتيهم بالطعام سرّاً، لكّن المسكوكات النقدية كشفت سرّهم وساعد في ذلك أكثر تصرفاتهم وعاداتهم غير المألوفة لدى الناس في ذلك العصر، بالإضافة إلى أنّ قصة تواري عدد من الشبّان من أصحاب المناصب الرفيعة عن الأنظار كانت متداولة بين الناس في تاريخهم المعاصر، فاتحدت جميع هذه الشواهد للدلالة على أنّ هؤلاءهم الذين تواروا عن الأنظار في تلك الفترة!

فسمع الملأ بهذا الخبر والتفوا حولهم، لكن اولئك الشبان عادوا إلى كهفهم وتواروا إلى الأبد فبنى الناس هناك معبداً لتخليد ذكراهم.

2- قصة أصحاب الكهف في كتب التاريخ

هل ورد ذكر لهذه القصة في كتاب آخر غير القرآن أم لا؟ وهل ذكر في التوراة والانجيل الحاليين شيئاً عنها؟

إنّ الجواب عن السؤال الأول بنعم، أمّا الجواب عن السؤال الثاني فهو لا.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 166

لأنّ وقوع هذه الحادثة كما ذكر المؤرخون- يتعلق بالفترة التي تلت ميلاد المسيح عليه السلام، وقد

صرّح البعض بأنّ وقوع هذه الحادثة حصل في الفترة مابين عام 249- 251 ميلادي، فعلى هذا لا يمكن أن تكون مذكورة في التوراة والانجيل، نلاحظ ماورد في كتاب أعلام القرآن:

«إنّ خلاصة ما نقله المؤرخون الاوربيون عن قصة أصحاب الكهف هو: في عصر دكيوس (249 م- 251 م) الذي كان يسوم المسيحيين سوء العذاب، هرب سبعة شبان من النبلاء ولجأوا إلى غار، فأمر دكيوس أن يغلقوا فوهة الغار ببناء جدار عليه ليهلكوا جوعاً وعطشاً، لكن هؤلاء السبعة غرقوا في نومٍ عميق، وبعد مرور 157 عام استيقظوا من نومهم في عصر الملك «تيوذر الثاني» ويطلق المؤرخون الاوربيون على هؤلاء اسم النيام السبعة في أفسوس».

وجاء في فصل آخر من هذا الكتاب: إنّ أول من سرد هذه القصة هو «جاك» في القرن الخامس الميلادي، وهو من سكنة «ساروك» الذي كان يرأس الكنيسة في سوريا خلال رسالة كتبت بالسريانية، وترجم هذه الرسالة من السريانية إلى اللاتينية شخص يدعى «غوغويوس» وانتخب لها اسم «جلال الشهداء» «1».

لقد احتلت هذه القصة مقاماً متميزاً في التاريخ الإسلامي والادب الشرقي والغربي، وتمكنت هذه القصة من وضع بصماتها على الادب «الروسي» و «الحبشي» أيضاً «2».

بناءً على هذا فإنّ القرآن الكريم لم ينفرد بذكر هذه الحادثة، بل ورد ذكرها في الكتب التأريخية الاخرى

3- مكان الغار

المشهورة أنّ الغار يقع بالقرب من مدينة «افسوس» أحد مدن آسيا الصغرى (تركيا

__________________________________________________

(1) أعلام القرآن، ص 171- 172.

(2) المصدر السابق، ص 181.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 167

الحالية التي تشتمل على قسم من بلاد الروم الشرقية القديمة)، بالقرب من نهر «كايستر» الواقع على بعد ما يقارب أربعين ميلًا إلى جنوب شرق «أزمير» «1».

وقد كسبت مدينة «افسوس» شهرتها العالمية من المعبد ومجمع

الأصنام الشهير «اوطاميس» الذي يعتبر من عجائب الدنيا السبع «2».

لكنّ البعض يرى بأنّ غار أصحاب الكهف يقع في موضعٍ بالقرب من الشام يدعى «طرطوس» «3».

ويوجد حالياً موضعٌ بالقرب من دمشق يزوره الناس اشتهر باسم غار أصحاب الكهف.

لكنّ الرأي الأول أشهر.

4- قصة أصحاب الكهف في تصور العلم الحديث

هل يمكن للإنسان أن يعمرّ ولعدّة قرون ويتساوى لديه أن يكون في حالة اليقظة أم في حالة النوم؟

ولو سلّمنا بامكانية ذلك في اليقظة فإنّ المعضلة تزداد تعقيداً في حالة النوم، لأنّ هذا يعني أنّ الإنسان يمكنه البقاء حيّاً من دون أن يتناول طعاماً أو ماءً، بينما يحتمل أن يحتاج الإنسان خلال هذه المدّة وفي الظروف العادية إلى أكثر من مائة طن من الغذاء ومائة الف ليتر من الماء!

هذه هي التساؤلات التي طرحها العلم حول هذه الحادثة، ويحتمل أن تكون هذه التساؤلات هي السبب في سلوك طريق الجحود من قِبَل لم يجدوا جواباً لها، واعتبروا هذه القصة «اسطورة» من الأساطير.

لكنّ البحوث الأخيرة للعلماء من ناحية، والاكتشافات التي وصلت الينا عن

__________________________________________________

(1) فرهنگ قصص القرآن، ص 351.

(2) القاموس المقدّس، ص 87.

(3) دائرة المعارف، دهخدا، مادة (أصحاب الكهف).

نفحات القرآن، ج 5، ص: 168

الموجودات الحيّة من ناحية اخرى تؤكّد على إنكار هذا الأمر ليس بهذه البساطة.

ومن أجل أن نتعرف إجمالًا على المنهج العلمي للعلماء المعاصرين في هذا المجال نُلقي نظرة خاطفة على الصحف العلمية التي نشرت حديثاً:

جاء في إحدى هذه الصحف في موضوع تحت عنوان هل (ينتصر الإنسان على الموت)؟

في عام 1930 سعى عالم الاحياء الشهير «متالينكف» لأن يثبت بأنّ الحياة الخالدة موجودة بالقوة في نفس الطبيعة، وأنّ مهمة العلم هي أن يصل إلى كشف أسرار الحياة الخالدة.

فهو يقول: إنّ الاحياء البسيطة مثل أحاديات الخلايا لا

تموت في الواقع، لأنّها تبقى حيّة إلى مالا نهاية عن طريق انشطار الخليّة الحيّة ... فلماذا نستغرب أن تكون هناك موجودات حيّة مركّبة من ملايين من الخلايا الخالدة وأنّ علينا نحن العلماء أن نتوصل إلى كشف أسرارها.

وجاء في فصل آخر من هذه المقالة موضوع بعنوان (نوم ستمائة عام) مايلي: مثل هذه الأفكار كانت تقوى يوماً بعد آخر حتى جاء البروفسور «ايتنجر» فصاغها بصيغة علمية، قال ايتنجر: بإمكاننا الآن أن نتحدث عن الحياة الخالدة بلا تردد، لأنّ الحياة الخالدة ثبتت امكانيتها نظرياً، وقد بلغنا من التقنية ما يساعدنا على تحقيق ذلك عملياً.

ثم تحدّث عن استمرار الحياة بواسطة التجميد فأضاف: عندما تنخفض درجة حرارة الجسم بشدّة فإنّ سير الحياة يبطأ حتى كأنّه يتحرر من قيود الزمان، وعندما يقترب انخفاض درجة حرارة جسمنا من «الصفر المطلق»، (الصفر المطلق/ (270) درجة سانتيغراد تحت الصفر في المحرار المئوي!) فإنّ مقدار الحرارة الكافي لاستمرار الحياة لمدة ثانية واحدة في الظروف الاعتيادية يكفي حينئذٍ لادامة الحياة عدة قرون!

ثم تحدّث عن جزيئات الملح البلورية الشكل التي تحتوي في داخلها على خلايا متحجرة من البكتريا والعائدة لعصور مضت قبل مائة مليون عام، وقد هيأ هذا العالم لها

نفحات القرآن، ج 5، ص: 169

الظروف الملائمة فعادت إلى الحياة ثانية وبدأت بالتكاثر (وهذا في الحقيقة يعني أنّ تلك البكتريا نهضت من رقادها بعد مائة مليون عام) وبعد هذه التجربة قام هذا العالم بجمع بلورات الملح من جميع أرجاء العالم ومن مناطق مضى عليها ستمائة مليون عام! فهيّأ لها الظروف الملائمة ورأى ببالغ العجب بأنّ هذه المتحجرات انبعثت من نومها العميق! وبهذا سجّل رقماً قياسياً آخر «ستمائة مليون عام» لحياة هذه الموجودات الحيّة المجهرية!

وهذا العالم يرى أنّ هذا

الأمر يمكن أن ينطبق على الإنسان أيضاً من وجهة نظر العلم (وهذا الإنجماد يحصل خلال اللحظة التي تسبق الموت طبقاً لظروف معينة بحيث تصان اجهزة البدن من حدوث أيّ تلف) «1».

إنّنا لا نرى أنّ أصحاب الكهف كانوا منجمدين، بل نقول بالتحديد إنّ النوم العميق يؤدّي إلى بطء فعالية أجهزة الجسم إلى ادنى حدّ ومن المحتمل في هذه الحالة أن تكفي الطاقة المخزونة لديه لإدامة الحياة عدّة قرون، لأنّ نوماً كهذا ليس أمراً معتاداً وقد تحقق بإذن اللَّه وفي ظروف خاصة غير طبيعية.

يقول القرآن الكريم إنّ نور الشمس لم يمسّهم أبداً: «وَتَرى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَّزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الَيمِيْنِ وَاذَا غَرَبَتْ تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ». (الكهف/ 17)

أمّا مسألة السبات (لو تتبعنا حياة كثير من الحيوانات لوجدنا أنّها تغرق في سبات عميق طيلة الشتاء) في عصرنا الحاضر من الامور البديهية، ففي هذا النوع من الرقاد تتوقف الحياة في الأجسام تقريباً ولا يبقى إلّابصيص منها، فضربات القلب تهبط إلى حدٍ وكأنّه قد توقف عن العمل، ويمكن تشبيه جسم الحيوان في هذه الحالة بأفران ضخمة لم يبق فيها بعد خمود نارها إلّاشعلة صغيرة، وممّا لا ريب فيه هو أنّ مقدار الوقود الذي تحتاجه الافران لحرقه في يوم واحد قد تتغذّى عليه تلك الشعلة الصغيرة مئات السنين.

إنّ العلماء يرون أنّ السبات لا يختص بالحيوانات التي لا تتناسب درجة حرارة أبدانها مع درجة حرارة محيطها بل يحصل السبات لدى الحيوانات ذات درجة الحرارة الثابتة

__________________________________________________

(1) مجلة (دانستنيها) تشرين الثاني- 1982، العدد 80.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 170

أيضاً، ففي مرحلة السبات تصبح الفعاليّات الحياتية بطيئة كثيراً وتتغذى تلك الحيوانات على الشحم الذي تدّخرة في أجسامها «1».

وليس غرضنا هنا التعرض لكيفية نوم أصحاب

الكهف، بل الغرض الرئيسي هو بيان أمرين:

الأول: هو أنّ نومهم بنحو الإجمال لم يكن نوماً طبيعياً، على الأخص لو استندنا إلى ماقاله القرآن: «لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً». (الكهف/ 18)

والأمر الثاني: هو أنّ القوانين الحاكمة على النوم المعتاد لا تنطبق على هذا النوع من النوم، فمن المحتمل في هذا النمط من النوم أن تبلغ مسألة استهلاك الطاقة في البدن من الانخفاض حدّاً ينتفي معها موضوع التغذية كلياً.

5- قصة هزيمة بني اسرائيل

النموذج الآخر الذي ذكره القرآن الكريم هو القصّة الواردة في سورة البقرة بخصوص مجموعة مؤلفة من آلاف الأشخاص فرّوا حذر الموت وهجروا ديارهم، لكن فرارهم هذا لم ينقذهم، فوقعوا في مخالب الموت بإذن اللَّه، وبعد ذلك احياهم اللَّه مرّة اخرى قال تعالى

«الَمْ تَرَ الَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ الُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ». (البقرة/ 243)

ادّعى المفسرون بأنّ هؤلاء كانوا فريقاً من بني اسرائيل فرّوا من ديارهم خوفاً من الملاريا أو الطاعون، لكنّهم ما برحوا حتى ماتوا بذلك الوباء فمرّ أحد انبياء بني اسرائيل ويدعى «حزقيل» ودعا اللَّه عزوجل أن يمنّ عليهم بالحياة، فأحياهم اللَّه ليكونوا دليلًا على احياء الموتى (في مقابل جاحدي المعاد).

وجاء في بعض الروايات أنّ هؤلاء كانوا يسكنون احدى مدن الشام وكان الطاعون

__________________________________________________

(1) دائرة المعارف «فرهنگ نامه» مادّة (زمستان خوابي).

نفحات القرآن، ج 5، ص: 171

يصيبهم بين الحين والآخر، فكلّما بان لهم أثر الوباء غادر المدينة أثرياؤهم وبقي الفقراء فريسة للهلاك فيموت منهم الكثير، أمّا الفارّون فإنّهم غالباً ما ينجون.

بعد ذلك قرروا أن يهاجروا جميعاً بمجرد ظهور آثار الطاعون وهكذا خرجوا فراراً من الموت.

إلّا أنّه لم ينج أحد منهم وماتوا جميعاً بأمر اللَّه «1».

إنّ

الآية المذكورة لم تشر إلى أنّ الغرض من احيائهم هو اجراء مشهد المعاد في الدنيا، لكن بعض الروايات الواردة في هذه الحادثة صرّحت بذلك «2».

ونواجه هنا مرّة اخرى تفسيراً منحرفاً لبعض المفسرين الذين يصطلح عليهم بالمثقفين ونحن نعلم بأنّ فهم مثل هذه الحوادث ذات الأبعاد الاعجازية صعب على أفراد من هذا القبيل لذا فإنّهم رفضوا بالمرة حكاية وقوع هذه الحادثة بالشكل الوارد في ظاهر القرآن الكريم واعتبروا بيان تلك الحادثة مجرّد مثال لحياة وموت الامم الذي يعتبر كناية عن النصر والهزيمة.

فقالوا: إنّ الآية المذكورة تخبر عن جماعة من الناس فقدوا سيادتهم واستقلالهم كلياً فأصبحوا كامّة ميتة، ثم نهضوا من نومهم وشمروا عن سواعدهم وحصلوا على استقلالهم وسيادتهم بما مَنَّ اللَّه عليهم «3».

لكننا نعلم بأنّ مثل هذه التفاسير والآراء إذا دخلت إطار القرآن الكريم فإنّ كثيراً من حقائقه سوف تكون عرضة للانكار، وحينئذٍ يستطيع كل شخص أن يفسّر الآيات الشريفة بتفسيرات ملائمة لميوله ورغباته ويصبح القرآن الذي يعتبر هادياً ومسيّراً للناس وسيلة لدعم أفكار وميول هذا وذاك! فيكون تابعاً بدلًا عن أن يكون متبوعاً.

وعندما تنهى الروايات بشدّة عن التفسير بالرأي، وتُشبهُ من يفسر القرآن برأيه بالذي يهوي من السماء إلى الأرض، فالمراد منه مثل هذا التفسير المنحرف الخارج عن الضوابط والقواعد السليمة لفهم القرآن.

__________________________________________________

(1) تفسير مجمع البيان؛ وتفسير الكبير؛ وتفسير نورالثقلين في تعليقهم على ذيل الآية مورد البحث.

(2) تفسير مجمع البيان، ج 1، ص 347.

(3) تفسير المنار، ج 2، ص 458.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 172

فإن أراد هؤلاء- بهذه التفاسير- اقناع الماديين، فإنّهم لن يقتنعوا بها، وإن أرادوا نفى وقوع الظواهر الخارقة للقوانين الطبيعية فهذا ممّا لا يرتضيه المؤمنون ولا المخالفون أيضاً.

قصة قتيل بني اسرائيل:

الحدث الأخير

الذي ورد ذكره في القرآن المجيد كمثال ملموس لإحياء الموتى في هذه الدنيا هو القصة المتعلقة بفئة من بني اسرائيل.

في هذه القصة يُقتل أحد الشخصيات البارزة منهم غيلةً، فيقع بينهم شجار عنيف من أجل العثور على القاتل، فكل قبيلة منهم تتهم القبيلة الاخرى بارتكاب القتل، وخوفا من اتساع رقعة النزاع بينهم بما يهدد بخطر جسيم، لذا فانّهم ذهبوا إلى موسى عليه السلام راجين منه الحل، فما كان من موسى عليه السلام إلّاأن حل هذه المعضلة بواسطة الاستعانة بألطاف اللَّه تعالى عن طريق معجزة آمن بها الجميع.

فقد أمرهم بذبح بقرة لكن ذبحها لم يتم بسهولة طبعاً، فقد عاد إليه المتذرعون من بني اسرائيل كراراً للسؤال عن اوصاف تلك البقرة وأخّروا انجاز ذلك العمل بهذه الأسئلة التافهة الفارغة، وأخيراً ذبحوا بقرة تحمل أوصاف معيّنة وضربوا القتيل بجزء منها فعاد مدّة وجيزة إلى الحياة وكشف عن قاتله.

وجاء في القرآن الكريم في القسم الأخير من هذه القصة قوله تعالى: «وَاذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا (فتنازعتم فيها) وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكتُمُونَ* فَقُلْنَا اضْرِبُوه بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحىِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيْكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعقِلُونَ». (البقرة/ 72- 73)

والعجيب في هذه القصة هو أنّ الضرب بقطعة من جسم «ميت» بجسد «ميت آخر» يؤدّي إلى إحيائه لإحقاق الحقيقة!، فما هي العلاقة بين هذين الأمرين؟ وما هو المؤثر في ذلك؟ بديهي أنّ هذا من الأسرار الإلهيّة التي لا يعلمها أحد إلّاذاته المقدّسة، فهو لا يوضّح أكثر من ذلك بل يقتصر على الاستدلال بهذا وهو أنّ إحياء الموتى في عالم الآخرة أمر يسير

نفحات القرآن، ج 5، ص: 173

بالنسبة لقدرته، فلا توجد هناك ضرورة لأنّ يولد «الموجود الحي» من موجود حيّ آخر، بل يمكن أن تنبعث شرارة

الحياة من تلاقي عضوين ميتين!

وجملة: «كَذلِكَ يُحىِ اللَّهُ المَوْتَى تدلّ بوضوح على هذه الحقيقة وهو أنّ القتيل في هذه القصة قد عادت له الحياة واصبح نموذجاً محسوساً للدلالة على بعث البشر بعد موتهم.

ونواجه هنا أيضاً بعض الكُتّاب من أمثال مؤلف «المنار» الذي يصرّ على حمل جملة تامة الوضوح على خلاف ظاهرها من دون وجود أي قرينة عقلية أو لفظية على ذلك، ومن دون أن تكون هناك أي ضرورة.

قال صاحب المنار: «يحتمل وجود سنّة لديهم وهي أنّهم كانوا إذا وجدوا قتيلًا بالقرب من أحد المدن ولم يعثروا على قاتله كان كل واحد منهم يغسل يده خلال طقوس معيّنة ليبرأ من القتل، وكل من يمتنع من أداء ذلك فإنّهم يعتبرونه هو القاتل، والمراد من احياء الموتى هنا هو حقن الدماء التي كانت تراق بسبب هذه الاختلافات أي أنّ اللَّه حقن الدماء بواسطة هذا التشريع!» «1».

وكما أشرنا إلى ذلك سابقاً فإنّ هذه التفاسير هي نوع من التلاعب بالالفاظ تحط من شأن «كلام اللَّه» وتفسح المجال لأنّ نستدل بكل الآيات على كل شي ء وأن نحمل الألفاظ على الكناية والمجاز من دون وجود أي قرينة، ومن غير أي مبرر لهذا العمل، لأنّ المتدينين في كل الأحوال يؤمنون بالمعجزات والخوارق؟ فما هي الضرورة لهذا التكليف.

ونضيف أيضاً: إنّ انتخاب البقرة للذبح يحتمل أن يكون من أجل تقديم قربانٍ للَّه تعالى

أمّا مايتعلق بدوافع ارتكاب هذه الجريمة، فقد جاء في الروايات أنّ شاباً قتل عمَّه من أجل الحصول على أمواله (أو من أجل أن يتزوج منه ابنته) على هذا يكون سبب تلك الجناية هو حب المال أو النساء (هذه هي الدوافع الرئيسية لارتكاب جرائم القتل في العالم)، وتحتوي هذه الحادثة العجيبة وعلى الأخص تفاصيلها-

على بنود تربوية كثيرة اعرضنا عن ذكرها لخروجها عن دائرة موضوع بحث المعاد ومن أجل الاطلاع راجع تفسير

__________________________________________________

(1) تفسير المنار، ج 1، ص 351.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 174

الامثل ذيل الآية 55 و 56 من سورة البقرة. «1»

كانت هذه هي النماذج المتعددة المحسوسة من إحياء الموتى التي ذكرها القرآن المجيد وبهذا الحديث ينتهي بحث إمكان المعاد، ونتوجه إلى بحث الأدلة العقلية لوقوع المعاد.

__________________________________________________

(1) جاءت في سورة البقرة إشارة إلى نموذج آخر من مشاهد الحياة المستأنفة بعد الموت عندما رافق وجهاء بني اسرائيل موسى عليه السلام إلى جبل الطور وطلبوا منه أن يروا اللَّه فأصابت الجبل صاعقة اندك لها الجبل وصُعِقَ موسى عليه السلام ومات بنو اسرائيل، ثم بعثهم اللَّه لعلهم يشكرون «ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرونَ».

(البقرة/ 56)

بما أنّ هذه الآية لم تأت من أجل إثبات المعاد، فلذلك لم نجعلها من ضمن آيات البحث، وعلى الاخص بعدما احتمل عدد من المفسرين أنّ بني اسرائيل لم يموتوا عندما شاهدوا الصاعقة، بل اغمي عليهم، وفسر آخر الموت هنا بمعنى الجهل والبعث بمعنى العلم (ذكر الآلوسي هذين التفسيرين في روح المعاني نقلًا عن بعض المفسرين، ج 1 ص 239) وإن كانت هذه التفاسير على خلاف ظاهر الآية وغير مقبولة.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 175

دلائل وقوع المعاد

اشارة

1- برهان الفطرة

2- برهان الحكمة

3- برهان العدالة

4- برهان الغاية والحركة

5- برهان الرحمة

6- برهان الوحدة

7- برهان خلود الروح

نفحات القرآن، ج 5، ص: 177

دلائل وقوع المعاد

تمهيد:

يوجد في القرآن الكريم أدلة منطقية وعقلية متعددة لإثبات المعاد، فهو يصرّح بها حيناً ويلمح إليها حيناً آخر، وبعبارة اخرى أنّ القرآن من خلال تلميحاته وإشاراته ارشد المسلمين إلى تتبع هذه الأدلة والبراهين.

فالقرآن المجيد لم يعتمد في الامور الاعتقادية على التعبد والكلام غير المستند، بل ارشد إلى الأدلة العقلية، لذا فقد تشكل الآية القصيرة أحياناً جسراً للوصول إلى دليل عقلي مهم، ولدينا في مباحث التوحيد نماذج عديدة من هذا القبيل وسوف نلاحظ ذلك في مباحث المعاد أيضاً- بإذن اللَّه- من خلال بحثنا هذا.

والأدلة الصريحة والتلميحية الرئيسية في القرآن المجيد هي سبعة براهين:

1- برهان الفطرة.

2- برهان الحكمة.

3- برهان العدالة.

4- برهان الغاية والحركة.

5- برهان الرحمة.

6- برهان الوحدة.

7- برهان خلود الروح.

وسوف نتناول بالشرح كل واحد من هذه البراهين السبعة:

نفحات القرآن، ج 5، ص: 179

1- برهان الفطرة

اشارة

المراد من برهان الفطرة هنا (كما هو المراد من الاستدال بالفطرة في جميع الموارد) هو أنّ الإنسان يرى في أعماقه عقيدة وإيماناً بحقيقةٍ ما، ويشعر من خلال الإيمان بوجود عالم الآخرة والقيامة والعدالة الإلهيّة.

ولا ريب أنّ هذا المعنى يمكن توضيحه وبيانه بعدّة طرق، وبعد شرح آيات القرآن المجيد سوف نتعرض لهذا الأمر في فصل التوضيحات، والآن لنتأمل خاشعين في الآيات الكريمة التالية:

1- «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّيْنِ حَنِيْفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَاتَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذْلَكَ الَّدِيْنُ الْقَيّمُ». (الروم/ 30)

2- «لَااقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ* وَلَاأُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ* ايَحْسَبُ الْانسَانُ ألَّنْ نَّجْمَعَ عِظَامَهُ». (القيامة/ 1- 3)

جمع الآيات وتفسيرها

المعاد يكمن في أعماق الروح:

قد يحتمل البعض بأنّ الآية الاولى المذكورة أعلاه لا تشير إلّاإلى الفطرة التي تهدي إلى معرفة اللَّه، لكن التعمق في الآية يهدي إلى أنّ موضوع دلالتها عام، وأنّها تعتبر الدين كله فطرياً، بمعنى جميع الاصول الاعتقادية، بل حتى عموم فروع الدين فطرية وأنّ الأحكام الشرعية موجودة في أعماق الفطرة بصورة إجمالية.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 180

قال تعالى «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّيْنَ حَنِيْفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَاتَبْديلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الَّدِيْنُ الْقَيّمُ وَلكِنَّ اكْثَرَ النَّاسِ لَايَعْلَمُون».

وهكذا نلاحظ أنّ كلمة «دين» قد تكرر ذكرها مرتين في الآية، وليس ذلك إلّالأجل الدلالة على جميع الحقائق الدينية، وهو سبحانه وتعالى يؤكد بالقول: «فطرة اللَّه» ثم يضيف إلى ذلك: «لا تبديل لخلق اللَّه» ويؤكد ثالثاً، على هذه المسألة ويقول: «ذلك الدين القيم».

وبهذا يستخدم التأكيد ثلاث مرات على أنّ الدين امر فطري بالنسبة للإنسان «1».

ويستفاد من مجموع ماورد في هذه الآية أنّ مسألة معرفة اللَّه ليست هي القضية الوحيدة التي فطر اللَّه الإنسان عليها، بل إنّ الاعتقاد بالقيامة ومحكمة العدل الإلهيّة كذلك.

والجدير بالذكر هو أنّ

الروايات التي وردت في تفسير هذه الآية قد أشارت إلى هذا المعنى أيضاً.

جاء في الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه عندما سُئل عن معنى الفطرة في هذه الآية، أجاب: هي الإسلام «2».

وجاء في الدر المنثور نقلًا عن النبي صلى الله عليه و آله أنّه قال: فطرة اللَّه التي فطر الناس عليها: دين اللَّه «3».

وجاء في حديث مشهور روي من طرق الشيعة والسنة عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال:

«مامن مولود إلّايولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه وينصرانه ويُمجسانه ...» «4».

__________________________________________________

(1) «حنيف» بمعنى خالص أو لا يوجد فيه أي منعطف نحو الضلالة، والأصل في الاستعمال هو «الميل» إلّاأنّها جاءت هنا بمعنى الانعطاف نحو الحق، و «الفطرة» من مادّة «فطر» على وزن (سَطَرَ) بمعنى الشقّ، وبما أنّ الإنشاء والخلق كأنّه شق لحجاب العدم فقد استخدمت هذه الكلمة في الخلق والإنشاء، و «قيّم» بمعنى ثابت وذو استقامة.

(2) تفسير نور الثقلين، ج 4، ص 184، ح 54.

(3) تفسير در المنثور، ج 5، ص 155.

(4) تفسير در المنثور، ج 5، ص 155؛ وتفسير جامع الجوامع في تعليقه على الآية المعنية؛ وكذلك في تفسير الميزان، ج 21، ص 188.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 181

وفي الآية الثانية اقسم تعالى بأمرين: «لَاأُقْسِمُ بِيَومِ الْقِيَامَةِ* وَلَا اقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ».

يرى البعض أنّ «لا» تحمل معنى النفي في هذه الآية، فيكون مفهومها هو أنني لا اقسم بهذين الأمرين، والغرض من ذلك هو التأكيد، كما لو نقل لأحد: أنا لا أقسم بحياتك من أجل بيان أنّ حياتك أرقى من أن ينالها قسمي.

لكن أكثر المفسرين يرى أنّ «لا» زائدة جاءت من أجل التأكيد، فبناءً على هذا أقسم اللَّه ب «يوم

القيامة» كما أنّه أقسم ب «النفس اللوامة» أيضاً.

و «النفس اللوامة»: هي وجدان الإنسان وضميره الذي يلومه على ارتكاب الذنوب، وكلمّا كانت الخطيئة أكبر كان توبيخ الضمير وعذاب الوجدان أشدّ، وقد يقدم بعض الناس على الانتحار من أجل الخلاص من العذاب الحاصل من ارتكاب الذنوب العظيمة أو الجرائم البشعة، وقد سمع أو رأى أكثرنا بهذا الأمر بالنسبة للقتلة الذين ارتكبوا جرائم عظيمة أو الذين اقترفوا ذنوباً كبيرة.

وذكر هذين الأمرين (يوم القيامة النفس اللوامة) مقترنين بعنوان موضوعين عظيمين وقيّمين يستحقان القسم بهما إنّما هو من أجل الدلالة على الرابطة الموجودة بينهما ... فيوم القيامة هو المحكمة الإلهيّة الكبرى و «النفس اللوامة» هي محكمة مصغرة وقيامة تستقر في أعماق روح كل إنسان، أو بتعبير آخر كأنّ هذا التقارن يقول بلسان الحال كيف تشكّون في محكمة يوم القيامة وأنتم تشاهدون في أعماقكم نموذجاً مصغراً منه؟ إنّكم تلمسون ذلك كثيراً فعندما تعملون عملًا صالحاً تمتلئون نشاطاً وبهجة، فهذه السكينة وارتياح الضمير هو ثواب تمنحه أيّاكم روحكم، وعندما تقترفون ذنباً تألمون وتنهال عليكم سياط الضمير من أعماقكم، فهذا العذاب هو عقاب تعيّنه لكم محكمة الضمير!.

فإن كانت هناك محكمة في أعماق كل واحد منكم فكيف لا توجد هناك محكمة الهية عظيمة على مستوى الكون العظيم؟!

وممّا يجلب الانتباه هو القسم بنفس يوم القيامة لإثبات يوم القيامة، فكأنّه يقول: قسماً بيوم القيامة إنّ القيامة حق «1».

__________________________________________________

(1) يجب الالتفات إلى أنّ «ماجاء القسم من أجله» محذوف في الآية، والدليل عليه في الجملة اللاحقة فيكون التقدير «لتبعثن يوم القيامة».

نفحات القرآن، ج 5، ص: 182

وهنا يطرح السؤال الثاني نفسه وهو: إن كان هذا القسم موجّه للمؤمنين فلا داعي له هنا، وإن كان موجه للمنكرين فكيف يقسم

بما لا يؤمنون به؟!

وللتخلص من هذه المعضلة قدّر بعض المفسرين كلمة «ربّ» وقالوا إنّ التقدير هو اقسم بربّ القيامة بأنّ القيامة واقعة «1».

واحتمل أيضاً أنّ هذا القسم جاء تأكيداً للذين يؤمنون بأصل يوم القيامة إلّاأنّهم يشككون في تفاصيلها، فالقرآن يقسم بأصل يوم القيامة لإثبات التفاصيل التي وردت بعد القسم في الآية.

وهناك تفسير آخر يحتمل أن يكون افضل من التفسيرين السابقين، وهو: إنّ القرآن أشار بذلك إلى أنّ الاعتقاد بيوم القيامة بلغ من البداهة حداً كبيراً حتى أنّه يُقسم به في مقابل المعاندين، وبتعبير آخر أنّه استعان بفطرتهم على دحض آرائهم.

وأمّا بالنسبة ل «النفس اللوامة» فللمفسرين أقوال كثيرة فيها حتى نقل أحدهم ستة تفسيرات لها، منها: إنّها للدلالة على النفس المؤمنة التي تلوم نفسها حين التقصير.

ومنها: أنّها للدلالة على النفس الكافرة التي تلوم نفسها يوم القيامة عندما تشاهد أعمالها.

ومنها: أنّها ذات مفهوم اشمل من المؤمن والكافر.

ومنها: أنّها إشارة إلى آدم عليه السلام بعد طرده من الجنّة.

لكنّ المناسب للمقام ووجود القسم الدال على السموّ، والشرف للاقتران بيوم القيامة هو أنّ النفس اللوامة هي نفوس المؤمنين الذين لم يبلغوا بعد حدّ الكمال.

توضيح ذلك: إنّ النفوس الإنسانية على ثلاثة أنواع: فنوع من النفوس «مظلمة» لا ترى قيمة للقسم ولا تبدو عليها آثار السير نحو الكمال ولا التنبيه من الغفلة ولا تحمل شيئاً من آثار يوم القيامة، فهؤلاء هم أصحاب «النفوس الأمارة» النفوس التي تأمرهم دوماً بالإساءة واقتراف الخطايا.

وهناك نفوس أخرى «نصف نورانية» تسير نحو الكمال على منهج الحق، وهذه النفوس

__________________________________________________

(1) تفسير الكبير، ج 30، ص 216.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 183

كلما ارتكبت خطيئة بمقتضى الحيثية المظلمة فإنّها تصحو من غفلتها بفعل نور الإيمان وتبدأ بلوم نفسها وتوبيخها ...

ذلك اللّوم الذي يصبح سبيلًا لنيل الكمال، وهي نفس رفيعة ونموذج مصغّر من مشاهد القيامة والتي تُدعى ب «النفس اللوامة».

وثالثاً النفوس النورانية تماماً، فكلها «نور وصفاء» فقد تجاوزت النفس اللّوامة إلى مرحلة الاطمئنان والسكينة فجاءها خطاب: «يَاايَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَةُ» وقد أمرت بالرجوع إلى منبع الكمال المطلق بخطاب «ارْجِعِى» فدخلت في روضة عباد اللَّه الصالحين فهي:

«رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً».

وقصارى الكلام في تفسير هذه الآية وكيفية دلالتها على المراد هو إنّ هذا التقارن بين القسمين مع الأخذ بنظر الاعتبار فصاحة القرآن وبلاغته لا يمكن أن يكون مصادفة، بل يجب أن تكون هناك علاقة بين يوم القيامة وبين النفس اللّوامة، وهذه النسبة هي أنّ كل إنسان (إن لم تنحرف فطرته بفعل التربية الخاطئة) له وجدانٌ يؤنبهُ عند ركوب الخطايا ويستحسن فعله للخير.

وهذا الوجدان الشخصي الذي هو عبارة عن محكمة صغيرة تستقر في روح الإنسان، دليل على ضرورة وجود ضمير كبير لهذا العالم العظيم يحاكم ويلوم المجرمين ويعاقبهم، وما هذا الضمير الكبير إلّايوم القيامة.

توضيح

المعاد يتجلى في الفطرة

إنَّ المسائل الفطرية وإن كانت إدراكية لا استدلالية، واضحة ومرئية لا مسموعة، بل يجب على كلّ شخص البحث عنها في أعماقه ليعثر عليها، ولكن مع ذلك ومن أجل مساعدة الجميع في البحث وسماع صوت الوجدان بسهولة، ومن أجل قراءة كتاب الفطرة بتأنّي، وكذلك للحصول على بيان مُقنع للتحدث به أمام المعاندين فإنّ التوضيحات التالية تعتبر ضرورية:

نفحات القرآن، ج 5، ص: 184

1- إذا كنّا خلقنا للفناء فما معنى حبّ البقاء؟

لا يمكن لأحد أن ينكر هذه الحقيقة وهي فراره الدائم من الموت الذي يعتبره «العدم»، وحُبه لطول العمر، بل حبّه للخلود.

إنّ السعي من أجل البقاء والسعي من أجل الحصول على «إكسير الشباب» والسعي للحصول على «ماء الحياة» الذي

ذكرت له نماذج في طيّات كتب تاريخ البشرية ومساعي العلماء وأشعار الشعراء كلها بسبب حب البقاء عند الإنسان كما أنّ حب الإنسان لأبنائه يعتبر امتداداً لحياته وهو دليل على الحب الغريزي للبقاء أيضاً.

فلو كنّا مخلوقين من أجل الفناء فإنّ وجود هذه الغريزة لدينا يكون عبثاً، ولا يكون في الحقيقة إلّاحباً مضراً لاهدف من وجوده، فكيف يضيف الخالق الحكيم إلى وجودنا مثل هذا الأمر المضر الزائد: (يرجى الالتفات إلى أنّ بحث المعاد يأتي بعد إثبات بحوث التوحيد والإيمان بالذات المقدّسة الإلهيّة).

في الواقع أنّ وجود الغريزة في الإنسان يدل على وجود طريق لاشباعها وتلبية متطلّباتها، فالعطش دليل على وجود الماء، والجوع دليل على وجود الغذاء، وحب الجنس الآخر دليل على وجوده، فإن يكن الأمر كذلك فهو لا يتلائم مع حكمته تعالى

بناءً على هذا يعتبر حبّ البقاء المغروس في فطرة الإنسان دليلًا واضحاً على الحياة الخالدة.

وللعالم المعروف المرحوم الفيض الكاشاني حديث ظريف في هذا المجال، فقد قال:

«كيف تفنى الروح الإنسانية وقد اودع في طبيعتها حبّ الوجود والبقاء بمقتضى حركته كما أنّه اودع في نفس الإنسان بغض العدم والفناء؟! بينما قد ثبت استحالة البقاء والخلود في هذا العالم، فإن لم يكن هناك عالم آخر ينتقل إليه الإنسان فإنّ هذه المسألة الغريزية الارتكازية التي اودعها اللَّه في فطرة الإنسان، أي حبّ البقاء الدائم والحياة الخالدة سوف تصبح عبثاً، والخالق الحكيم قد تنزّه عن اللغو والعبث» «1».

__________________________________________________

(1) علم اليقين، المرحوم الفيض الكاشاني، ج 2، ص 837.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 185

أو على حدّ تعبير أحد العلماء المعاصرين: إن تعطّش البشر لحياة خالدة بلغ من السعة والقوة بما لا يمكن معه القبول بأنّ مثل هذه الآمال لا تتحقق.

2- إن

لم يكن المعاد أمراً فطرياً فلماذا لا يزول الاعتقاد به من نفس الإنسان على مرّ العصور؟

إنّ عادات وتقاليد الشعوب في تغيير دائم، فالثقافة بصورة عامّة تابعة للتغيير، فلا يبقى شي ء ثابت على مرّ العصور من دون أن يتأثر بمسار الزمان إلّاامور تأصلت جذورها في أعماق الفطرة.

وبناءً على هذا التوضيح فإنّ فصل المسائل الفطرية عن الامور المعتادة أمرٌ عسير، وبتعبير آخر فإنّ كل شي ء يحافظ على بقائه على مرّ التأريخ (وإن اختلفت مظاهره) يمثّل بقاؤه أفضل دليل على كونه أمراً فطرياً، وما قلناه يصدق تماماً على مسألة اهتمام الإنسان بالحياة بعد الموت (فتأمل).

يقول علماء النفس المعاصرون: إنّ العقائد الدينية، والتي تعتبر مسألة الاعتقاد بالمعاد واحدة منها، رافقت الإنسان على الدوام حتى في عصور ماقبل التاريخ.

وكمثال على ذلك ننقل كلام «صاموئيل كنيغ» الذي ورد ذكره في كتاب علم الاجتماع، قال: «العقائد الدينية لا تختصّ بعالمنا المعاصر فحسب، بل ثبت من خلال التحقيقات التاريخية الموثّقة بأنّ المجتمع البشري القديم كانت لديه نوع من العقائد الدينية، فالأسلاف البشرية القديمة، أو ما يسمى بانسان (النياندرتال) كان لهم دين أيضاً لأنّهم كانوا يدفنون أمواتهم تحت التراب بصورة خاصّة، ويدفنون معهم الآلات التي كانوا يستخدمونها في أعمالهم خلال حياتهم، وقد أثبتوا بسلوكهم هذا بأنّ هناك عالماً آخر» «1».

إنّ التجذر العميق للعقائد الدينية لدى بني الإنسان يعد بحد ذاته دليلًا على أنّ العقائد

__________________________________________________

(1) جامعة شناسى «علم الاجتماع»، ص 192.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 186

الدينية امور فطرية.

3- هل يعقل أن توجد في أعماقنا محكمة صغيرة بينما لا توجد في هذا الكون الكبير محكمة عادلة؟

إنّ وجود الوجدان الأخلاقي أو بتعبير آخر وجود محكمة الضمير أمرٌ محسوس لدى الجميع، فكل إنسان يطير فرحاً ويشعر بالرضا العميق

عندما يقدم خدمةً إنسانية عظيمة وينقذ مجموعة من المظلومين والمحرومين، وكل من يقترن بجريمة فيقع فريسة في مخالب الاضطراب ويشعر بآلام عميقة، (إنّ الحديث هنا لايشمل المجرمين المدمنين على الاجرام الذين مسخت فطرتهم بسبب تكرار ارتكابهم للذنوب، بل الحديث عن سائر الناس).

فيتضح حينئذٍ أنّ الاعتقاد بالمعاد يكمن في أعماق فطرة البشر من دون حاجة إلى استدلال آخر لإثباته مع توفر ما لايُحصى من الأدلة العقلية لإثباته.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 187

2- برهان الحكمة

تمهيد:

لو ألقينا نظرة اجمالية على عالم الوجود لرأينا أنّ كل المخلوقات لم تخلق إلّالغرضٍ معين موافق للحكمة وخاضع لقوانين ومسارات محدّدة.

ثم لنلقي نظرة على حياة الإنسان ولنفترض بأنّ «الموت» هو نهاية كل شي ء بالنسبة له، فبقاء الإنسان لمدّة معينة مع ما يواجهه من صعوبات مع تناول مقدار من الغذاء والماء ثم يموت وينتهي كل شي ء سيكون عبثاً وبلا هدف، ومن البديهي فإنّ شيئاً كهذا لا يمكن أن يعتبر هدفاً من خلق الإنسان، كما أنّه لا يمكن أبداً أن يتلائم أمر كهذا مع حكمة الخالق الحكيم.

وقد جاء هذا المعنى بصورة حية وملموسة في آيات القرآن المجيد فلنتفكّر فيما جاء في هذا المجال من آياتٍ قرآنية كريمة:

1- «أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَانَّكُمْ الَيْنَا لَاتُرْجَعُونَ». (المؤمنون/ 115)

2- «وَمَا خَلَقْنَا السَّموَاتِ والْارْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا الّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ» «1».

(الحجر/ 85)

3- «أَيَحْسَبُ الْانْسَانُ انْ يُتْرَكَ سُدىً ... أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِىَ الْمَوْتَى .

(القيامة/ 36- 40)

__________________________________________________

(1) وهناك آيات اخرى في القرآن المجيد مثل الآية 27 من سورة ص؛ الآية 38 من سورة الدخان؛ والآية 191 من سورة آل عمران حيث تحدثت أيضاً عن أهداف الخلق، ولكن بما أنّها لم تُشر بصراحة لمسألة المعاد ومحكمة

القيامة فقد اعرضنا عن ذكرها ولم نجعلها ضمن الآيات المذكورة أعلاه.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 188

جمع الآيات وتفسيرها

الحياة بلا معاد لامعنى لها:

أشار القرآن المجيد إلى أوضح أدلة المعاد من خلال جملة قصيرة نافذة المعنى قال تعالى «أَفَحَسِبْتُمْ أنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَانَّكُمْ الَيْنَا لَاتُرْجَعُونَ».

أي: إنْ لم تكن هناك قيامة وكانت حياتكم تتلخّص في هذه الأيّام المعدودة، لكانت حياتكم عبثاً ولم يكن لها أيّ قيمة، والحياة الخالدة هي التي تعطي لحياتكم معنىً في هذه الدنيا وتخرجها من دائرة العبث وتجعلها متسقة مع الحكمة الإلهيّة.

ولأجل هذا ختم تعالى هذه الآية بقوله: «فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ». (طه/ 114)

فوجوده حقّ من جميع الجهات، ولا يجد الباطل منفذاً إليه، وإنَّ العبث واللاهدفية أمرٌ باطل، والحق لايتلائم مع الباطل.

و «عبث»: على حدّ قول صاحب مقاييس اللغة وصاحب «المفردات»: في الأصل بمعنى الشوب والخلط، ثم أطلقت على الامور غير الهادفة والتي لا تحمل أىَّ هدف صحيح.

وقال في «لسان العرب»: هي بمعنى اللعب، وإن عدّوا الخلط من معانيها، واطلقت اجمالًا على الأعمال غير الهادفة والباطلة والخالية من الأغراض العقلائية، ولاشي ء من هذه المعاني يصدق على خلق الإنسان.

وقد ورد نفس هذا المعنى في الآية الثانية وبقالب آخر، قال تعالى «وَمَا خَلَقْنَا السَّموَاتِ والَارْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا الّا بِالْحَقِّ»، ثم أضاف على الفور: «وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ».

من المحتمل أن يكون ذكره لهاتين العبارتين مقترنتين دليلًا على هذا الأمر فإن كان الهدف من خلق هذا العالم العظيم مع كل ما فيه من العجائب والبركات والنعم وكل هذه الأسرار الخفية من أجل عدّة أيّام من الحياة المادية الدنيويّة فحسب، فهو أمرٌ باطل ولا يتلائم مع الحق إذن، فالحياة الاخرى تعطي معنى وحقانية لهذه الحياة.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 189

ففي الآية السابقة كان الحديث يدور حول «سلب

العبث» من خلق الإنسان، وفي هذه الآية يدور الحديث حول «حقّانية» خلق كلّ العالم، وكلاهما يرميان نحو هدف واحد، وهو إنّ الحياة الدنيا إذا ماجردت عن الحياة الآخرة فإنّها سوف تكون أمراً باطلًا لاغرض منه وخالياً من كل معنى وهذا ممّا لا يصدر عن الحكيم أبداً.

وجاء في تفسير الميزان: إنّ المراد من الحق في هذه الآية هو ما قابل اللعب والباطل، والدليل على ذلك هو جملة «وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ»، وتفسير «الحق» بمعنى «العدل والانصاف» غير صحيح «1».

والجدير بالالتفات هو أنّ اللَّه تعالى أمر رسوله بالعفو والصفح ... ذلك الصفح الجميل الخالص الذي لا يشوبه حتى اللوم والعتاب، قال تعالى «فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الجَميِلَ».

(الحجر/ 85)

ومن المحتمل أن يكون هذا التعبير إشارة إلى هذا المعنى وهو: يا أيّها النبي بما أنّ الهدف من الخلق هو تربية البشر وإعدادهم لمرحلة الآخرة، فعليك أن تراعي جميع اسس التربية التي يعتبر الصفح والعفو والرأفة واللين من ضمنها، وبالأخص مراعاة ذلك مع الجهلة والمتعصبين.

ومن الجدير بالذكر أيضاً أنّ مفهوم الآية الاولى هو إن لم تكن هناك آخرة فإنّ خلق الإنسان يكون «من العبث»، ومفهوم الآية، الثانية (طبقاً للتفسير المذكور أعلاه) هو: إن لم تكن هناك آخرة فإنّ خلق كل العالم يكون باطلًا وعبثاً، فمن المحتمل أن يكون السبب في ذلك هو بيان سمو ثمرة الخلق وهي الإنسان وسمو شجرة الخلق وهي العالم، فإن لم تكن هناك حياة خالدة تتمثل في الآخرة فسوف يكون خلق «الثمرة» و «الشجرة» كلاهما أمراً عبثاً وغير هادف.

والمراد من تعبير «ما بينهما» شمول جميع أصناف الملائكة وكذلك النور والحرارة والسحاب والهواء وأنواع الغازات، بل تشمل في أحد أبعادها اصناف الموجودات التي تعيش على وجه الأرض من البشر وجميع

أنواع الحيوانات الاخرى والنباتات.

__________________________________________________

(1) تفسير الميزان، ج 12، ص 199.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 190

وفي الآية الثالثة والأخيرة أشار تعالى إلى الهدف من خلق الإنسان، وأوضح العلاقة التي تربطه بالمعاد، قال تعالى «أَيَحْسَبُ الْانْسَانُ انْ يُتْرَكَ سُدىً»، ثم أشار إلى خلق الإنسان من ماءٍ مهين (النطفة) وأشار إلى مراحل تكامله في الرحم فأضاف: «أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِىَ الْمَوْتَى .

وبهذا يتّضح أنّ الهدف من خلق الإنسان لا يحصل إذا جُرد من الحياة الآخرة.

فإنَّ فعل الخالق الحكيم لا يخلو من الهدف وهذا أمرٌ بديهي، ومن البديهي أيضاً أنّ النفع الحاصل من أفعاله لايعود إليه بفائدة، وذلك لأنّه غير محدود وغني بالذات من جميع الجهات، إذن فلا يعود النفع إلّالعباده، ولكن هل من الممكن أن تكون هذه الحياة القصيرة المشوبة بأنواع المصائب هي الهدف من هذا الخلق العظيم؟ كلّا طبعاً.

لذا لا يبقى أمامنا طريق إلّاالقبول بثبوت الآخرة واعتبارها هي الهدف من هذا المسير التكاملي للإنسان.

و «سُدىً»: على وزن (هُدى)- نقلًا عن كتاب «التحقيق»: في الأصل بمعنى التحرك العبثي الخالي عن الفكر والتدبير والبرمجة الصحيحة، من أجل هذا اطلقوا على الجِمال التي تجول في الصحراء من دون راع «إبل سُدى ، وقيل: إنّ «سَدى» على وزن (وَفا) وقد اطلقت على قطرات الندى التي تتساقط ليلًا، لأنّها لا تتساقط بنظم معيّن، واطلقوا «سدى على ما مُدّ من خيوط القماش قبل أن تُحاك بالكامل، لأنّه قبل الحياكة يكون مهملًا وغير مفيد.

وقصارى القول هو: إنّ الآية تقول- من خلال استفهام إنكاري- أيمكن أن يترك الإنسان مع كل هذه الاستعدادات والطاقات الفكرية والجسمية والإمكانات المختلفة بدون أن يوضع له برنامجٌ معينٌ؟ ثم تستنتج من كل ذلك مسألة حتمية التكاليف والمسؤولية ثم

حتمية وجود المعاد.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 191

توضيح

هل يمكن للعاقل أن يعتبر الأيّام المعدودة من هذه الحياة هي الهدف من الخلق؟

إنّ ممّا لا ريب فيه أنّ العالم الذي نعيش فيه عظيم جدّاً ودقيق ومنظم، فالكرة الأرضية هي إحدى كواكب المنظومة الشمسية، ثم المنظومة الشمسية بدورها تعتبر أحد اجزاء المجرّة، ومجرّتنا أيضاً واحدة من المجرّات اللامتناهية في العدد الموجودة في هذا العالم.

جاء في كتاب (جولة في أعماق العالم) لمؤلفه البروفسور «كارل فليسيس» الذي يسافر إلى أطراف هذا الكون الفسيح عبر أجنحة الخيال:

«إنّ هذه المجموعات الضخمة التي تدور حول محورها تسبح في الفضاء بفواصل عظيمة جدّاً ممّا يجعل تصورها أمراً عسيراً.

فكل واحدة من هذه المجرّات تتألف من عدّة ملياردات من النجوم، والمسافة الفاصلة بين هذه النجوم تبلغ من العظمة حداً، أحياناً يحتاج النور (مع مالديه من سرعة هائلة) لاجتياز هذه الفواصل الموجودة بين نجمتين متقابلتين واقعتين في محيط تلك المجرّة إلى مئات السنين من الزمان» «1».

وإذا أضفنا لهذا الكلام هذه الجملة وهي: إنّ علماء الفلك المعاصرين توصلوا من خلال تحقيقاتهم إلى أنّ ما تحتويه مجرّتنا من النجوم يقارب مائة مليارد نجمة على الأقل، وما توصل إليه العلم الحديث هو اكتشاف ألف مليون مجرّة في هذا العالم،- هذا من ناحية العظمة-.

وأمّا من ناحية الدقّة الموجودة في كل جزء من أجزاء هذا العالم فإننا إذا قارنّا الدقّة الموجودة في خلية واحدة بالدقّة الموجودة في مدينة صناعية كبيرة بجميع ما تحتويه من مصانع فسوف يمكننا حينذاك تصور هذه الدقّة.

ومن بين المخلوقات يعتبر الإنسان أكمل الموجودات التي نعرفها على أقل تقدير، لما فيه من نظام خاص للروح وللجسم، ولاحتوائه على العجائب والدقة والظرافة، فإذا كانت

__________________________________________________

(1) جولة في أعماق العالم، ص 8.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 192

جوهرة عالم الخلق (أي الإنسان)

هي عبارة عن عيشه لأيامٍ معدودة في هذا العالم لقضاء حياته في دور الطفولة والضعف حيناً وفي دور الشيخوخة والعجز حيناً آخر وتتأرجح به أمواج الشباب مدّة وفي مدّة اخرى يكون سالماً وأخرى مريضاً ويقضي أكثر مدّة حياته في توفير متطلباته الحياتية التي تتلخص في «الغذاء والنوم» ثم في نهاية المطاف يموت ويفنى فياله من أمر قبيح وبعيد عن الحكمة، فإننا عندما نقول: إنّ اللَّه حكيم فهذا يعني أنّ جميع أفعاله مطابقة للحكمة، أوَ ليس من الحكمة أن تكون جميع أفعاله ذات أهداف واضحة ومبرمجة؟ وهل يجوز أن يكون هدفه جلب النفع لنفسه مع أنّه غني من جميع الجهات ولديه جميع الكمالات من غير أن تكون محدودة بحد، فإن كان النفع من أفعاله لا يعود على العباد فمن البديهي أن لا تكون تلك الحياة الماديّة المحدودة في هذه الدنيا هي الهدف الرئيسي من هذا الخلق العظيم، تلك الحياة التي ينطفى ء بصيصها في طرفة عين.

أليس مثل هذا كمثل المهندس الذي يصنع محركاً صناعياً عظيماً ودقيقاً خلال سنين متمادية فيحطمه فور تشغيله والانتهاء منه؟ فهل هذا من الحكمة؟

ألا يشبه هذا الأمر أن نقوم بتربية طفلٍ في رحمٍ صناعي وبذل جهود مضنية في سبيل ذلك حتى يوشك على الاكتمال ويستعد للحياة فنعمد إلى قتله!

إنّ الماديين الذين لا يؤمنون باللَّه والمعاد، يرون أنّ الحياة غير هادفة وأنّها خالية من أيّ مفهوم، وهم محقيّن في ذلك بهذه النظرة! لأنّ الحياة عند تجريدها عن المعاد تصبح غير هادفة وعديمة المعنى

لذا فإنّ من آمن باللَّه وحكمته ليس له إلّاالإقرار بأنّ حياة الإنسان لا تنتهي بالموت، وإنّ هذا العالم يشبه رحم الأم الذي يحمل الإنسان ويُعده للخروج إلى عالم آخر، ومن البديهي

أنّ الحياة داخل رحم الأم لا تُعتبر الهدف النهائي، بل تُعتبر مقدمة لحياة اخرى أوسع.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 193

3- برهان العدالة

تمهيد:

إنّنا نعلم بأنّ «العدل» أحد صفات الباري تعالى تلك العدالة التي يدل عليها كل جزء من أجزاء عالم الوجود كالسماء والأرض، ووجود الإنسان وضربات قلبه وجريان دمه في عروقه ... إلخ، وذلك لأنّه: «بِالعَدْلِ قَامَتِ السَّمواتُ وَاْلَارْضُ» «1».

فهل يمكن أن يُستثنى الإنسان من هذا العالم الواسع؟ ولا تشمله العدالة المهيمنة على هذا العالم؟

ومن ناحية اخرى إنّ التأريخ البشري والأحداث المعاصرة أثبتت بوضوح أنّ إحقاق حق المظلومين ومعاقبة الظالمين لا يتمّ بصورة كاملة في هذا العالم وليس بالإمكان حتّى مشاهدة ذلك إلا بنحو «القضية الجزئية» إذن بمقتضى العدالة الحاكمة على هذا العالم والتي تعتبر جزءاً من عدالة اللَّه تعالى يجب أن يكون هناك يوم لمحاسبة أعمال جميع البشر بدّقة متناهية ومن دون أي استثناء، وذلك اليوم هو الذي نطلق عليه اسم (القيامة).

بعد هذه الإشارة نعود إلى القرآن المجيد لنتأمل خاشعين في الآيات الشريفة التالية:

1- «افَنَجْعَلُ الْمُسْلِميْنَ كَالُمجْرِمِيْنَ* مَالَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ». (القلم/ 35- 36)

2- «امْ نَجْعَلُ الَّذِيْنَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِديِنَ فِي الارْضِ امْ نَجْعَلُ المُتَّقِيْنَ كَالْفُجَّارِ». (ص/ 28)

3- «امْ حَسِبَ الَّذِيْنَ اجْتَرَحُوا السَّيّئَاتِ انْ نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِيْنَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ* وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالارْضَ بِاْلحَقِّ وَلِتُجزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَايُظْلَمُونَ» «2». (الجاثية/ 21- 22)

__________________________________________________

(1) تفسير الصافي، ذيل الآية 7 من سورة الرحمن.

(2) وقد استدلوا في هذا المجال بآيات اخرى أيضاً مثل: سورة يس، 59؛ الزلزال، 7 و 8؛ الانبياء، 47، ولكن بما أنّ دلالاتها غامضة فقد أعرضنا عن ذكرها.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 194

جمع الآيات وتفسيرها

العدالة لا تتحقق بدون القيامة:

قال تعالى في الآية الاولى بعد أن أشار إلى ثواب المتقين العظيم في سورة القلم:

«افَنَجْعَلُ الْمُسْلِميْنَ كَالُمجْرِمِيْنَ».

فهل من الصحيح المساواة بين هذين

الفريقين؟ وهل تقتضيى العدالة ذلك؟ ثم أضاف وقال: «مَالَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ».

لا يمكن للعاقل القبول بأنّ عاقبة المسلم والمجرم، والمطيع والعاصي، والعادل والظالم تكون واحدة، أو أن ينسب هذا الأمر إلى اللَّه الذي راعى الدقة والعدالة في جميع افعاله.

وهناك احتمالان للمفسّرين في تفسير هذه الآية:

الاحتمال الأول: إنّ هذه الآية تشير إلى مسألة المعاد، لأننا نرى المسلم والمجرم متساويين غالباً في هذه الدنيا، بل قد يحصل المجرم على امتيازات لا مشروعة في هذه الدنيا أكثر ممّا يحصل عليه المسلم، إذن يجب أن يتفوق «المسلم» على «المجرم» في الآخرة، لأنّها من مقتضيات العدالة.

الاحتمال الثاني: إنّ هذه الآية أتت جواباً لقوم مشركين كانوا يقولون: لو كانت هناك قيامة فإنّنا سوف نتمتع بظروف حسنة كما نحن عليه في هذه الدنيا كما يقال: (السَنَة الجيدة تعرف من ربيعِها) فأجابهم القرآن: هل من الممكن أن يساوي اللَّه العادل بين المسلمين والمجرمين؟

ولا يوجد هناك منافاة بين هذين التفسيرين على الظاهر، بل يمكن حمل مفهوم الآية كلا المعنيين، وتبقى هناك ملاحظة وهي أنّ هذه الآية الشريفة تثبت حكم العقل بالحسن والقبح والإدراكات العقلية الاخرى بقطع النظر عن تأييد الشرع لذلك، (فتأمل).

والملفت للنظر أنّ الفخر الرازي في بداية حديثه عدّ هذه الآية من أدلة ما نقل عن مذاهب أهل السنّة أنّه يجوز للَّه أن يُدخل العاصين الجنّة وأن يُدخل المطيعين النار، «الحسن والقبح العقليين» قال: ويقبح بحكم العقل طبقاً للآية ولكن بما أنّ الرازي من

نفحات القرآن، ج 5، ص: 195

الأشاعرة ومن منكري الحسن والقبح العقليين فقد أجاب: إنّ إنكار هذه المساواة من باب الفضل والاحسان الإلهي لا من باب أنّ لأحدٍ حقّاً عليه تعالى «1».

إنّ ضعف هذا الرأي لايحتاج إلى دليل فقد أمرهم القرآن بصراحة بأن

يُحكِّموا العقل في هذه الموارد ثم خاطبهم بخطاب مقرون باللوم والتوبيخ في قوله: «مَالَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ»؟

أي أنّ هذا الرأي لا يليق بالإنسان العادل، وهذا دليل واضح على إثبات حاكمية العقل والمنطق في مثل هذه الامور.

وفي الآية الثانية تابع القرآن الكريم هذا المعنى بصراحة أكثر وبصورة أوسع، قال تعالى

«امْ نَجْعَلُ المُتَّقِيْنَ كَالْفُجَّارِ».

والملاحظة النظرية هنا هو أنّ الآية السابقة لهذه الآية وضّحت الهدف من خلق السماء والأرض وما بينهما في قوله تعالى: «وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالارْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا». (ص/ 27)

إنّ خلق السماء والأرض بالحق من ناحية وعدم المساواة بين المؤمنين الصالحين والمفسدين الفجّار من ناحية اخرى يقتضي أن تكون هناك قيامة ومحكمة عادلة، وبهذا اندمج «برهان الحكمة» وبرهان العدالة في هاتين الآيتين.

أجل إنّ من ينكر المعاد هو الذي يشك في حكمة اللَّه وعدالته معاً، لأنّه لا يبقى في هذه الحالة هدف يليق بخلق الدنيا ولا يبقى هناك ما يميز المطيعين من الفاسقين.

ومن الجدير بالذكر هو أنّ «المفسدين» في هذه الآية يقابلهم «المؤمنون الصالحون» وإن «الفجار» يقابلهم «المتّقون» وهذه المقابلة إشارة لطيفة إلى هذه الحقيقة وهي أنّ الإنسان إذا فقد الإيمان والعمل الصالح فإنّه سوف يكون في زمرة المفسدين شاء ذلك أم أبى وإذا ما فقد التقوى أي القوة الرادعة عن ارتكاب الذنوب فسيقع في زمرة الفجار.

__________________________________________________

(1) تفسير الكبير، ج 30، ص 92.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 196

و «الفجّار»: من مادة «فجر» بمعنى الشق الوسيع، وكأنّ الفجور شق لحجاب الدين والطاعة.

وقد تحدثت هذه الآية بوضوح عن حاكمية العقل وحجيّة الإدراكات العقلية في مجال الحسن والقبح، وهي دليل واضح لإثبات أنّ العقل يدرك بعض الحسن وبعض القبح قبل أن يصل إليه حكم الشرع، والعجيب هو أنّ

الفخر الرازي- في هذه الآية- سلم بهذا الأمر ضمنياً، بينما أنكره في الآية السابقة! «1».

وهذا يعني أنّ الإنسان إذا راجع وجدانه فسوف ترتقع عنه حجب التعصب ويعترف في قرارة نفسه بهذا الواقع.

وفي الآية الثالثة ورد نفس هذا المعنى ولكن في قالب آخر، قال تعالى «امْ حَسِبَ الَّذِيْنَ اجْتَرَحُوا السَّيّئَاتِ انْ نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِيْنَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيْاهُمْ وَمَماتُهُمْ».

إنّ هذا لا يمت إلى عدالة اللَّه بصلة، وصدور أمر كهذا عنه قبيح وهو محال: «سَاءَ مَا يَحْكُموُنَ»، فهل يمكن أن يتساوى الحسن والقبح أو الطهارة والرجس أو الصالح والطالح أو المؤمن والفاسق أو الظلمات والنور ... إنّ هذا لأمر محال.

أمّا في ما هو المراد من (سواء محياهم مماتهم)؟ فقد احتمل المفسرون في تفسيرها عدّة احتمالات!

فقالوا تارة: إنّ المراد من الحياة والموت في هذه الآية هو الحياة والموت في دار الدنيا، وذلك لأنّ الإيمان والعمل الصالح له آثار إيجابية على كيان الإنسان فهو ينير القلب وينير الفكر مضافاً إلى أنّ المؤمن ينال هداية اللَّه ونصره وحمايته، بينما لا يكون الأمر كذلك في حالة الكفر والعصيان، فإنّ الكفر يخيم بظلامه على القلب والروح ويحرم الإنسان من المدد الإلهي.

__________________________________________________

(1) التفسير الكبير، ج 26، ص 201.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 197

وقالوا تارةً اخرى إنّ هذه الآية تشير إلى الموت في هذه الدنيا للانتقال إلى الآخرة، أي ان الفريق الأول يعتبر مصداقاً لهذه الآية: «الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ المَلَائِكَةُ طَيِّبِيْنَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ». (النحل/ 32)

بينما يعتبر المذنبون مصداقاً لهذه الآية: «فَكَيْفَ اذَا تَوَفَّتْهُمُ المَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وَجُوْهَهُمْ وَادْبَارَهُمْ». (محمد/ 27)

وهناك احتمالات اخرى لا تستحق الذكر في تفسير هذه الآية، لكن الجمع بين التفسيرين المذكورين سهل، وإن كانت الآية التالية لها تتناسب مع التفسير

الثاني، لأنّه تعالى قال: «وَخَلَقَ اللَّهُ السَّموَاتِ وَالارْضَ بِالْحَقِّ». «وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسبَتْ وَهُمْ لَايُظْلَمُونَ» «1».

وبما أنّ الحديث عن العدالة الإلهيّة وحقانية خلق السموات والأرض وعن ثواب وعقاب كل إنسان على قدر عمله من ناحية، ومن ناحية اخرى وكما قلنا سابقاً- إنّ هذا الأمر لا يتمّ في الدنيا بصورة شاملة، إذن يجب أن تكون هناك حياة اخرى بعد الموت لإقامة العدالة وإحقاق الحق.

توضيح

العدل هو النظام الحاكم على الخلق:

إنّ كل من لديه إلمامٌ بسيط بالعلوم الطبيعية بإمكانه أن يلاحظ أنّ جميع الكائنات في هذا العالم تخضع لنظم وقوانين معيّنة، ودقّة هذه القوانين جعلت علماء الطبيعة يدوّنون فيها الكتب طبقاً لهذه المعادلات الدقيقة، ففي مجال الرحلات الفضائية مثلا نجد العلماء قد نظموا جميع برامجهم العلمية الدقيقة بالاعتماد على هذه القوانين الطبيعية.

__________________________________________________

(1) قال الزمخشري في تفسير الكشاف، ج 4، ص 290»: جملة «ولتجزى» معطوفه على قوله «بالحق»، لأنّها تحمل معنى التعليل (بناءً على هذا يكون مفهوم الآية بهذا النحو: خلق اللَّه السموات والأرض ليحق الحق ولتجزى ...) ثم قال ويحتمل أن تكون معطوفة على جملة محذوفة فيكون التقدير: خلق اللَّه السموات والأرض بالحق ليدل بها على قدرته وتجزى كل نفسٍ.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 198

وبتعبير آخر: إنّ كل ما تقع عليه أنظارنا يخضع للنظم والعدالة، وقد شملت هذه القوانين كل شي ء ابتداءً بالمنظومات الشمسية وانتهاءً بأصغر ذرة.

ومن ناحية اخرى لا يمكن استثناء الإنسان من قانون العدالة السائد بمشيئة اللَّه على جميع عالم الوجود، ولا يتسنى له عدم الانسجام مع أجزاء الكون الاخرى لأنّ هذا الاستثناء إن وجد يكون من دون مرجح، وبهذا ستوقِن من وجود محكمة أُعُدّت للإنسان أيضاً يحضر فيها جميع البشر ليتقاسموا حصصهم من العدالة الشاملة لكل عالم

الوجود.

كان علماء العقائد في السابق يستدلون بهذا الدليل لإثبات مسألة المعاد، وكانوا يحتجّون بأمثلة من مظالم البشر التي انتهت في هذه الدنيا من دون تحكيم العدالة فيها، فالتاريخ يحفل بكثير من الظلمة الذين عاشوا مرفهين طيلة حياتهم حتى غادروا الدنيا، ومظلومين ظلّوا يعانون الظلم والعذاب حتى لفظوا أنفاسهم الأخيرة.

فهل من الممكن أن يرضى اللَّه العادل بهذه الامور؟ ألا تتنافى هذه المشاهد وعدالته؟

وهكذا يصل العلماء إلى هذه النتيجة بسهولة وهي ضرورة وجود عالم آخر لتطبيق العدالة الإلهيّة في خصوص البشر، وفي إطار مبدأ الآية القرآنية: «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ* وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَراً يَرَهُ». (الزلزلة/ 7- 8)

وبناء على هذا فإنّ القيامة تعتبر الموضع الذي يتجلّى فيه العدل الإلهي، وهناك يجاب عن جميع هذه الاستفهامات.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 199

4- برهان الغاية والحركة

تمهيد:

ممّا لا شك فيه أنّ الإنسان قد خلق لهدفٍ معين، خلافاً لما يتصوره الماديون أنَّ خلق العالم ليس له هدف ولا غاية، فالرؤية الكونية للإلهيين ترى وجود هدف من خلق الإنسان وأنّه خلال سعيه وحركته التكاملية يسير نحو هذا الهدف.

فإن كانت الحياة تنتهي بالموت فمن البديهي أن لا يصل الإنسان إلى هذا الهدف، أو بتعبير آخر: إنّ حياة الإنسان يجب أن تستمر وتمتد إلى ما بعد الموت كي يصل الإنسان إلى التكامل اللائق به وليحصد هناك ما زرعه في هذه المزرعة.

وقصارى القول: إنّ قبول وجود هدفٍ من الخلق لا يجتمع وإنكار المعاد، فإنّنا لو جرّدنا ارتباط حياة الإنسان عن عالم ما بعد الموت فإنّ كل الامور تأخذ طابع الابهام وترتدي لباس الغموض.

وبهذه الإشارة نعود إلى القرآن لنمعن خاشعين في الآيات الكريمة التالية:

1- «يَا أَيُّهَا الانْسَانُ إِنِّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيْهِ». (الانشقاق/ 6)

2- «وَمَنْ

تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ». (فاطر/ 18)

3- «إِنا لِلَّهِ وَانَّا الَيْهِ رَاجِعُونَ». (البقرة/ 156)

4- «الَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ». (القيامة/ 12)

5- «الَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ» «1». (القيامة/ 30)

__________________________________________________

(1) هناك آيات اخرى متعددة في القرآن تتناسب مع الآيات المذكورة أعلاه ترى أنّ الكل يرجع إلى اللَّه مثل: العلق، 8؛ المؤمنون، 108؛ الانعام، 108، الأنبياء، 93؛ الجاثية، 15.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 200

جمع الآيات وتفسيرها

الجميع يسير نحو اللَّه:

وجّه تعالى خطابه في الآية الاولى إلى جميع البشر فقال: «يَا أَيُّهَا الانْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ الى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيْهِ».

و «كدح»: على وزن (مَدْح)- على حدّ قول عدد من المفسرين- وهو في الأصل بمعنى الخدش الوارد على الجلد، لذا اطلقت هذه الكلمة على السعي وبذل الجهد لأنّه يؤثر على الروح والبدن «1».

وجاء في مفردات الراغب: إنّ الكدح بمعنى السعي المشوب بالمعاناة والتعب.

ولكن جاء في الميزان: بما أنّ «كدح» تعدت ب «إلى فهي تعني السير والحركة (ولا تضاد طبعاً بين هذين المعنيين) «2».

ومن مجموع ما تقدم نستنتج أنّ القرآن المجيد شبَّه البشر بقافلة بدأت مسيرها من نقطة العدم فوضعت أقدامها في أقليم الوجود، ثم اتّجهت من هناك نحو الربّ كي تصل إلى لقائه، ويشير إلى هذا المعنى التعبير ب «وَإِنَّ الَى رَبَّكَ الْمُنتَهى». (النجم/ 42)

من الممكن أن ينحرف فريق عن هذا المسير ولا ينالوا لقاء اللَّه أبداً، لكن الأساس في خلق الإنسان هو الوصول إلى هذا الهدف.

و «لقاء اللَّه»:- كما أشرنا سابقاً- يعني مشاهدة الرّب مشاهدة قلبية والوصول إلى مقام الشهود القلبي الذي يصل إليه الإنسان عن طريق سيره التكاملي، وهو من أهم مقامات القرب إلى اللَّه.

وفي الآية الثانية تحدث سبحانه عن الطهارة والتقوى وتزكية البشر التي يعود نفعها عليهم جميعاً، قال تعالى «وَمَنْ

تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ». ثم يضيف: «وَالَى اللَّهِ الْمَصيرُ».

والجملة الأخيرة جاءت للدلالة على أنّ الصالحين والطاهرين إن لم يدركوا كل

__________________________________________________

(1) تفاسير الكشاف؛ وروح المعاني؛ والكبير، في تعليقهم على الآية مورد البحث.

(2) تفسير الميزان، ج 20، ص 360.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 201

مقوّمات التقوى والنزاهة فإنّهم سوف يعودون إلى اللَّه وسوف يرون نتائج أعمالهم في دار البقاء.

على أيّة حال فإنّ جملة «وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ» هي تقرير لهذه الحقيقة وهي أنّ سير الإنسان التكاملي لا ينتهي بالموت وسوف يستمر حتى يلاقي اللَّه.

قال المفسر الكبير المرحوم الطبرسي في تفسير الآية الثالثه من آيات بحثنا: «قالوا إنّا للَّه» هذا إقرار بالعبودية أي نحن عبيد اللَّه وملكه «وإنّا إليه راجعون» هذا إقرار بالبعث والنشور، أي نحن إلى حكم اللَّه نصير، ولهذا قال أمير المؤمنين عليه السلام: «إنّ قولنا «إِنَّا لِلَّهِ» إقرارٌ على أنفسنا بالملك، وقولنا «وَإِنَّا الَيه رَاجِعُونَ» إقرارٌ على أنفسنا بالهلك» «1».

ومن الجدير بالذكر إنّ القرآن المجيد ذكر هذه العبارة بعنوان كأفضل ما يقوله الصابرون عند حلول المصائب بهم ... فهي عبارة تزيل الهم عن الإنسان عند حلول المصائب وتوقظ قلبه وروحه عند مواجهة الصعاب وتطرد وساوس الشيطان عن روح الإنسان في تلك اللحظات الحساسة، وذلك لأنّه يعترف من ناحية بأنّه وجميع ما يملك ملك للَّه، فهو الذي يعطي النعم وهو الذي يسلبها، وقد قال بعض المفسرين في مجال سلب النعم: بما أنّ الكريم لا يسلب ما وهب فإنّ سلبه يعتبر ادخار ذلك لموضع افضل، وهذا بعينه يعتبر مواساة لمن حلت به المصيبة.

ومن ناحية اخرى فإنّه عندما يعترف بالرجوع إليه فإنّ هذا التعبير هو مواساة اخرى لأنّه يعني الرجوع إلى مركز فيضه ولطفه ورحمته والرجوع نحو

دار الخلد وموعد اللقاء مع اللَّه.

لذا قال البعض: إنّ هذه العبارة من المواهب الإلهيّة العظيمة التي منَّ بها اللَّه على هذه الامة كي يستعينوا بها في المصائب، وكم من فرقٍ شاسع بين هذه الآية وبين كلام نبي اللَّه يعقوب عليه السلام الذي قال عندما فقد يوسف عليه السلام: «وَقالَ يا اسَفَى عَلى يُوْسُفَ». (يوسف/ 84) أجل إنّ جملة الاسترجاع هذه لم تكن نازلة حينذاك.

__________________________________________________

(1) تفسير مجمع البيان، ج 1، ص 238، وقد وردت هذه العبارة أيضاً في نهج البلاغة، الكلمات القصار، الكلمة 99.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 202

وعلى أيّة حال فإنّ هذه العبارة هي عصارة التوحيد الكامل والمعاد والتوكل على الذات المقدسة الإلهيّة في جميع الاحوال وفي كل زمان «1».

وفي الآية الرابعة تجلّت هذه الحقيقة بلباس جديد بعد أن أشار تعالى في الآية التي سبقتها إلى الأحداث العجيبة التي يواجهها العالم عند تأهبه للقيامة، قال تعالى «الَى رَبِّكَ يَوْمَئذٍ الْمُسْتَقَرُّ».

وأشار بذلك إلى أنّ الدنيا ليست مقراً، وأنّ جميع العلائم تدل على أنّ الدنيا هي دار فناء وعدم، وتغيير وزوال، وعلى هذا فمن البديهي أن لا تكون الدنيا هي الهدف الرئيسي من السير التكاملي للإنسان، إذا لابدّ أن يكون مقر الإنسان في عالم آخر.

لكن بعض المفسرين قدّروا كلمة محذوفة وقالوا: المراد هو «إلى حكم ربّك» أي إلى حكم ربّك يومئذٍ المستقر فبحكم اللَّه يقوم العدل ويتحقق أو بحكم اللَّه يستقر فريقٌ في الجنّة وفريقٌ في النار.

ولكن بما أنّ التقدير خلاف القاعدة، بالإضافة إلى أنّه لاضرورة له هنا فإنّنا لا نرى دليلا واضحاً لمثل هذه التفاسير.

وفي الآية الخامسة والأخيرة ورد ما ذكر في الآية السابقة بتعبير جديد بعد أن أشار إلى حالات المحتضر ولحظات الاحتضار وطيّ

سجل حياة الإنسان، قال تعالى «الَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ».

و «المساق»: مصدر ميمي بمعنى «السوق» وهذا يدل على أنّ جهة سير البشر التكاملي

__________________________________________________

(1) من خلال هذا التفسير يتضح تفسير الآيات المتشابهة لهذه مثل: المائدة، 105؛ العلق، 8؛ الانعام، 36؛ الغاشية، 25.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 203

يكون نحو اللَّه أي نحو الكمال المطلق والكمال اللامتناهي.

وهنا أيضاً قدّر البعض كلمة «حكم» أو «جزاء» وقالوا: المراد هو سوق الجميع نحو حكم اللَّه وجزائه، ولكن وكما أشرنا في تفسير الآية السابقة فإننا لا نرى أية ضرورة لمثل هذه التقديرات، فالتحرك يكون نحو اللَّه تعالى

وفي بعض آيات القرآن أشير أيضاً إلى أنّ الذات المقدسة الإلهيّة هي منتهى السير التكاملي والهدف النهائي، قال تعالى «وَأنَّ الى رَبِّكَ الْمُنتَهى . (النجم/ 42)

وهذا دليل آخر على الحقيقة المذكورة.

توضيح

نهاية المطاف:

ينصب التأكيد في الآيات المذكورة على (رجوع جميع البشر إلى اللَّه) ... ذلك الأمر الذي يمكن إثباته بواسطة العقل أيضاً، لأنّ المجتمع البشري يشبه القافلة التي بدأت مسيرها من نقطة العدم المظلمة واتّجهت نحو النور المطلق، وهذا المسير يتمّ تحت ظل الربوبية وبإذنها (يجب الالتفات إلى أنّ هذه البحوث تأتي بعد قبول مبدأ التوحيد والصفات الإلهيّة).

وكلمة «الرب» الواردة في هذه الآيات تدلّ على أنّ هذه الحركة تكون تحت ظل ربوبية اللَّه تعالى وبصورة دقيقة.

ومن ناحية اخرى لو كان الموت نقطة النهاية للحركة فانّها ستكون حركة غير هادفة ولا مقر لها، وبتعبير آخر تعتبر حركة عشوائية، بينما يكون السير الإلهي ذا هدف مناسب يسير نحوه يقيناً.

فلو تأمّلنا جيداً لوجدنا أنّ كل حركة تكاملية تسير بغية الوصول إلى مرحلة أعلى ونحو نقطة وجودية أرقى هي الذات الإلهيّة المقدّسة، بناءً على هذا فإنّ جميع هذه التحركات تستهدف الوصول

إليه، ومادام الهدف النهائي لم يتحقق بعد فسوف لن يهدأ الإنسان ولا يقر

نفحات القرآن، ج 5، ص: 204

له قرار إلّابعد بلوغ جوار اللَّه وحتى يصل إلى مقام شهود الذات المقدّسة في زمرة المقرّبين، (فتأمل).

وهذا الحديث في جميع أبعاده يدل على أنّ السير التصاعدي للإنسان لا يتوقف بالموت، بل يستمر في العالم الآخر أيضاً، بناءً على هذا فإنّ وجود الحركة والهدف يعتبر بحد ذاته دليلًا ملموساً على مسألة الحياة بعد الموت.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 205

5- برهان الرحمة

تمهيد:

«الرحمة»: من صفات اللَّه الواضحة والمعروفة، ومن البديهي أنّ الرحمة تعني اعطاء الفيض والنعم لمن له القابلية والاستعداد لاستيعابها.

وبما أنّ الإنسان له كيان خاص وله روحٌ ولجت بدنه ببركة النفخة الإلهيّة فهو يمتلك الاستعداد للخلود وبلوغ الكمالات الرفيعة، لذا فإنّ اللَّه الموصوف بصفات الرحمن والرحيم لا يمكن أن يمنع النسان من هذا الفيض وهذه الرحمة، ولن يقطع عنه فيضه ورحمته بسبب موته.

وهذا ما نسمّيه ب «برهان الرحمة» بعد هذا نعود إلى القرآن ونتأمل خاشعين في هذه الآية المباركة:

«قُلْ لِّمَنْ مَّا فِي السَّموَاتِ وَالْارْضِ قُل لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ لَارَيْبَ فِيهِ». (الانعام/ 12)

جمع الآيات وتفسيرها

تنقسم هذه الآية في الحقيقة إلى أربعة أقسام: ففي القسم الأول ابتدأ سبحانه وتعالى بالاستفهام مخاطباً الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله فقال: «قُلْ لِّمَنْ مَّا فِي السَّموَاتِ وَالْارْضِ»، ثم أضاف بلا فاصلة: «قُل لِلَّهِ» أيْ إنَّ أمراً كهذا لا يحتاج إلى مناقشة واستدلال.

وفي القسم الثاني قال تعالى «كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ» (كي يشمل برحمته الواسعة ولطفه وعنايته اللامتناهية جميع العباد).

نفحات القرآن، ج 5، ص: 206

وفي القسم الثالث يُوَجِّهُ الأنظار نحو مسألة المعاد فيقول تعالى «لَيَجْمَعَنَّكُمْ الَى يَومِ القِيَامَةِ لا رَيبَ فِيهِ».

وفي القسم الرابع يلفت النظر إلى هذه النتيجة: «الَّذِيْنَ خَسِرُوا انْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمنُونَ».

ويرى عدد من المفسرين بالنسبة إلى الرابطة التي تربط هذه الأقسام الأربعة مع بعضها بأنّ القسم الأول يختص بأمر التوحيد، والقسم الآخر بالمعاد (أو بالنبوّة والمعاد معاً) لبيان أبعاد اصول الدين الرئيسية «1».

لكنّ المرحوم العلّامة الطباطبائي يرى بأنّ الآية بِرمّتها تختصّ ببيان أمر المعاد، وهذا التفسير أقرب إلى الصّحّة، ولتوضيحه نقول:

إنّ اللَّه تعالى بيّن في القسم الأول من الآية مالكيته وحاكميته

على عالم الوجود من خلال طرح سؤالٍ واحدٍ والإجابة عليه، فهو يوضَّح ذلك الأمر بواسطة سؤالٍ ينبع جوابُهُ من صميم الفطرة والروح حتى أنّ المشركين أيضاً يخفضون جناحهم له كما لو قال الأب لولده:

ألم اوفِّر لك جميع متطلبات طلب العلم والارتقاء؟ ومن دون أن ينتظر الجواب يقول: لقد فَعَلْتُ وذلك حقاً).

وبهذا يثبت أنّه لا يوجد في عالم الوجود أي شي ء يمكنه الوقوف أمام إرادة الحق تعالى وأوامره.

ثم يضيف: إنّ اللَّه القادر كتب على نفسه الرحمة، وكيف لا يكتب ذلك على نفسه عندما يكون مصدراً للفيض الذي لا يتخَّللُهُ بخلٌ ولا ينقصه العطاء الدائم شيئاً.

فهل الرحمة إلّااعطاء النعم لمن يستحقّها ويليق بها؟ وهل هي إلّاايصال كل موجودٍ إلى كماله المطلوب وفقاً لاستعداده؟

وبعد أن أثبت هاتين المقدمتين (أيْ أنّ اللَّه العالم منبع الرحمة من جهة، ومن جهة اخرى لا يمكن أن يمنع فيضه ورحمته أيُّ مانع) ذكر النتيجة في الجملة الثالثة

__________________________________________________

(1) تفسير الكبير، ج 12، ص 164؛ وتفسير القرطبي، ج 4، ص 2392.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 207

«لَيَجْمَعَنَّكُمْ الَى يَوْمِ القِيَامَةِ لَارَيْبَ فيهِ» لأنّ الموت انْ كان نهاية الإنسان فهذا يعني أنّ الإنسان لم يصل إلى الكمال المطلوب فيبقى استعداده للحياة الخالدة من دون اشباع أو يعني عدم وصول الرحمة الإلهيّة إليه لوجود مانع، ولكن بما أنّ المانع غير موجود وأنّ وصول رحمته أمرٌ حتمي فإنّ الوصول إلى الحياة الخالدة في الدار الآخرة ومجاورة الحق للبشر أمرٌ لا شك فيه.

ومن الطبيعي أنّ بعض الناس يفقدون استعدادهم الخاص لنيل الحياة الخالدة ويكونون في عداد الخاسرين، لذلك نراهم لا يؤمنون بالمعاد.

بناءً على هذا فإنّ «برهان الرحمة» الذي يعتبر عصارة هذه الآية هو برهان منطقي ذو استدلال تام، وبرهان

آخر غير برهان العدالة وبرهان الحكمة، (فتأمل).

وقد يُطرح هذا السؤال: بما أنّ القيامة تعتبر رحمةً لبعض البشر ونقمة على البعض الآخر، فكيف يمكن التوفيق بين هذا المعنى وبين الرحمة الإلهيّة؟

والجواب عن هذا السؤال جاء في ذيل الآية تلميحاً إلى أنّ اللَّه تعالى مَنَّ على جميع البشر باستعداد نيل الرحمة ووضع بين أيديهم السبل المعدّةَ للوصول إليه، فلو أضاع فريق من البشر هذا العطاء على الرغم من امتلاكهم العقل وعلى الرغم من وصول تعاليم الوحي إليهم- فسوف يكونون السبب في خروجهم عن دائرة الرحمة ولا تنزل اللائمة إلّاعليهم!

وكل هبات اللَّه تعالى من هذا القبيل، ففريق يستمتعون بها وفريق يستبقون في ضياعها ويصبح هذا الأمر حاجزاً أمام وصول الفيض والرحمة الإلهيّة للفريق الآخر، ومن الجدير بالذكر إنّ جملة ليجمعنكم ... جاءت مقرونة ب «لام القسم) و «نون التوكيد الثقيلة» معاً وبجملة «لا ريب فيه» التي تأتي جميعها للتوكيد، فهي مؤكدة بثلاثةِ توكيدات في آنٍ واحد، وهذا لأَجْلِ الدلالة على أنّ وقوع القيامة بالنظر إلى الرحمة الإلهيّة أمرٌ حتمي من جميع الأبعاد.

وبما أنّ ما قدّمناه من التوضيح يكفي لاثبات هذا البرهان فإننا لا نرى حاجة لذكر توضيحات أكثر في هذا المجال.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 209

6- برهان الوحدة

تمهيد:

إنّ وجود الاختلاف في الآراء والأفكار من مميزات الحياة الدنيا، حتى أنّ أصحاب المذهب الواحد غالباً ما ينقسمون إلى فرقٍ متعددة ذات عقائد مختلفة.

وهذا الاختلاف ينتقل أحياناً من المجتمع الكبير إلى الاسَر، وترى كل واحد من أعضاء الاسرة يحمل عقيدة معيّنة ويدافع عن فكر معين.

لا شك أنّ كل إنسان يتألّم لوجود هذه الاختلافات في هذه الدنيا، ويتمنى الجميع أن يأتي اليوم الذي تقلع فيه جذور جميع هذه الاختلافات.

ومن البديهي إنّ الذي خلق

الإنسان من أجل التكامل والهداية سوف لن يحرمه من نيل هذه الأماني بمقتضى مقام ربوبيته، وبما أنّ هذا الهدف لم يتحقق في هذه الدنيا- للأسباب التي سوف نطرحها فيما بعد وللشواهد الدالة على هذا المعنى أيضاً، فإنّ رفع الاختلافات والوصول إلى الوحدة سوف يتحقق في الدار الآخرة.

فالقرآن المجيد أكّد كثيراً على هذا الأمر، وهناك أكثر من عشر آيات في القرآن تشير إلى هذا الموضوع وهو أنّ إزالة الاختلافات لا تتمُّ إلّافي الدار الآخرة، وإنّ اللَّه تعالى سوف ينجز هذا الأمر.

بعد هذه الإشارة نعود إلى القرآن لنتمعن خاشعين في الآيات الكريمة الآتية:

1- «وَاقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ ايْمَانِهِمْ لَايَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً وَلكِنَّ اكْثَرَ النَّاسِ لَايَعْلَمُونَ* لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِى يَخْتَلِفُونَ فِيْهِ». (النحل/ 38- 39)

2- «ثُمَّ الى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ». (الانعام/ 164)

نفحات القرآن، ج 5، ص: 210

3- «انَّ رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ فِيَما كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ». (يونس/ 93)

4- «اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيَما كُنْتُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ». (الحج/ 69)

5- «انَّ الَّذِيْنَ آمَنُوا وَالِّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ والنَّصَارى وَالَمجُوْسَ وَالَّذِيْنَ اشْرَكُوا انَّ اللَّهِ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ انَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَى ءٍ شَهيدٌ» «1». (الحج/ 17)

جمع الآيات وتفسيرها

متى تُحلّ هذه الاختلافات؟

بدأت الآية الاولى بنقل قَسَمَ منكري المعاد الذي ورد في نفي تحقق الدار الآخرة، قال تعالى «وَاقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ ايْمَانِهمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ».

ثم يجيب تعالى بهذا الجواب: «بَلَى وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً وَلكِنَّ اكْثَرَ النَّاسِ لَايَعْلَمُونَ».

بعد ذلك يبيّن الهدف من البعث فيقول تعالى «لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِى يَخْتَلِفُونَ فِيْهِ».

وبهذا يتّضحُ بأنّ «رفع الاختلافات والعودة إلى الاتحاد هو أحد أهداف المعاد» وذلك لأنّ طبيعة هذه الدنيا التي تحتوي على أنواع الحجب لا تسمح بزوال هذه الاختلافات، ولكن

بما أنّ يوم القيامة يوم رفع الحجب وكشف الغطاء وكشف الأسرار والسرائر فإنّه سوف يتضح كل شئ في ذلك اليوم وبذلك ينتهي الاختلاف.

فالمؤمنون يرسخ إيمانهم ويصلون إلى مقام عين اليقين، والكافرون واتباع المذاهب الباطلة يعترفون بخطئهم ويرجعون إلى الحق.

__________________________________________________

(1) وهناك آيات اخرى في القرآن يشبه مضمونها الآيات المذكورة مثل: آل عمران، 55؛ المائدة، 48؛ النحل، 124؛ البقرة، 113؛ الزمر، 3؛ الجاثية، 17؛ الحج، 69؛ الدخان، 40؛ النبأ، 17؛ المرسلات، 13 و 14؛ والسجدة، 25.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 211

وفي الآية الثانية ورد نفس هذا المعنى ولكن بأسلوب آخر، فبعد أن أبطل ربوبية آلهة المشركين وذكر بأنّ كل إنسان رهين عمله وأن المذنب لا يحمل اصره غيرُهُ، قال تعالى «ثُمَّ الَى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ».

فالآية الاولى تتحدث عن بيان الاختلاف وهذه الآية اخبرت عن ذلك الاختلاف فالإخبار في الواقع تعليل لما جاء في الآية الاولى وذلك لأنّ الإخبار الإلهي في يوم القيامة يعتبر المصوِّرَ الرئيسي لبيان الحقائق، أو يكون «التبيين» متعلقاً بالامور المرئية و «الإنباء» متعلقاً بالامور المسموعة.

وفي الآية الثالثة طُرِحَتْ مسألةُ الحكم والقضاء الإلهي فيما اختلف فيه الناس يوم القيامة، قال تعالى «انَّ رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ فيَما كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ».

ومن البديهي أنّ اللَّه تعالى عندما يحكم بينهم بنفسه في ذلك اليوم فسوف تزول الاختلافات وتتضح الحقائق كما هي.

وهذه الآية إمّا أن تكون إشارةً لاختلاف بني اسرائيل فيما بينهم في العصور الغابرة أو أنّها تشير إلى اختلافهم الذي ظهر في عصر الرسالة ونزول القرآن بسبب علائم ظهور الإسلام وعلائم النبي الأكرم صلى الله عليه و آله التي آمن بها فريق منهم وجحدها آخرون حفظاً لمصالحهم الشخصية.

وقد تكون إشارةً لاختلافهم الذي

وقع في عصر موسى عليه السلام بعد نجاتهم من مخالب الفراعنة ومشاهدتهم هذه المعجزة العظيمة، أو إشارةً إلى اختلافهم الذي حصل عند ذهاب موسى عليه السلام إلى جبل الطور وظهور السامري بعجله.

وبالرغم من أنّ أكثر المفسرين رجّحوا الاحتمال الأول إلّاأنّ الآيات المتقدمة على هذه الآية ترجّح الاحتمال الثاني «1»، كما أنّ الجمع بين التفاسير الثلاثة ممكن أيضاً.

__________________________________________________

(1) وقد تبنى التفسير الأول الفخر الرازي في تفسير الكبير وتفسير القرطبي والمرحوم الطبرسي في تفسير مجمع البيان، لكنّ تفسير صاحب الميزان أكثر انسجاماً مع التفسير الثاني.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 212

وعلى أيّة حال يرى بعض المفسرين المشهورين أنَّ الاختلافات من هذا القبيل لا يمكن القضاء عليها في الدار الدنيا، ولا تنتهي إلّافي الآخرة عندما يقضي اللَّه عزَّوجل بين الناس ويُميَّزُ الحقُ من الباطل والصادقُ من الكاذب «1».

وفي الآية الرابعة ورد التعبير بالحكم، بعد الإشارة إلى نبذة من اختلافات بني اسرائيل قال تعالى «اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيَما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ».

ولمعرفة الأمر الذي اختلف فيه اليهود يستفاد من بداية الآية حيث إنّهم اختلفوا في يوم السبت الذي يعتبر يوم العطلة الاسبوعية لليهود (واختلافهم في حكم الصيد في ذلك اليوم هل هو حرام أو حلال على الرغم من أنّ نبيّهم عليه السلام قد حرّم عليهم ذلك، أو كان الاختلاف في ترجيح ذلك اليوم على يوم الجمعة أو ماشابه ذلك).

إنّ تأريخ بني اسرائيل يشهد على أنّهم كانوا بؤرة للخلاف والتشتت على العكس تماماً من تاريخهم المعاصر، فهم اليوم أصبحوا يداً واحدة بسبب بعض الأحداث التي هددّت مصيرهم لاسيما مجابهتُهم لمسلمي العالم.

وفي الآية الخامسة والاخيرة جاء مجموع ماورد في الآيات السابقة لكن بصورة اجمالية وعامّة وتحت عنوان آخر، فهي تشير

إلى الاختلافات الواسعة الحاصلة بين المؤمنين وأصناف من الكفّار، قال تعالى «انَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ والنَّصَارى وَالَمجُوْسَ وَالَّذِينَ اشْرَكُوا انَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ انَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْ ءٍ شَهيدٌ».

والجدير بالذكر إنّ «يوم الفصل» أحد الأسماء المعروفة ليوم القيامة، قال تعالى «إِنَ

__________________________________________________

(1) التفسير الكبير، ج 17، ص 159.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 213

يَوْمَ الفَصْلِ كَانَ مِيْقَاتاً». (النبأ/ 17)

وورد نفس التعبير عن يوم القيامة في آيات متعددة اخرى من آيات القرآن أيضاً.

و «الفصل»: في الأصل بمعنى افتراق شيئين عن بعضهما،: ولهذا اطلق على يوم القيامة يوم الفصل، لأنّ الحق يُفْصَلُ عن الباطل في ذلك اليوم وترفع جميع الاختلافات بواسطة القضاء الإلهي وبهذا يُفْصَلُ الصالحون والطاهرون عن الطالحين والأرجاس.

قال المرحوم الطبرسي في «مجمع البيان»: «سوف تبيَّضُ هناك وجوه أصحابِ الحقِّ وتمتلئ بالنور وتسودّ وجوه أهل الباطل ويعمّها الظلام» «1».

فهل يبقى داعٍ للاختلاف بين الحق والباطل عند ظهور مثل هذه العلائم البيِّنة؟

أشارت هذه الآية إلى ستة أديان كانت سائدة في عصر نزول القرآن وكانت تمثّل الاديان الرئيسية آنذاك، قال تعالى الذين آمنو (المسلمون) واليهود والصابئة (وهم اتباع يحيى عليه السلام إلّاأنّهم انحرفوا عن رسالته فأطلقوا عليهم اسم عبدة النجوم) والنصارى (المسيحيون) والمجوس (الزرادشتيون) والمشركين وعبدة الاوثان، ثم قال تعالى «إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ ...».

فإذا كان الإنسان في هذه الدنيا بحاجة إلى الاستدلال والمنطق من أجل المتمييز بين أهل الحق وأهل الباطل فهو في ذلك اليوم يستغني عن كل ذلك فإذا كان المصداق العيان فما الحاجة للبيان لأنّ لون الوجوه يدل على سرائر أصحابها!

توضيح

من خلال الآيات الخمس المذكورة وذكر خمسة عناوين مختلفة: «الانباء» و «التبيين» و «الحكم» و «القضاء» و «الفصل» اتضحت الحقيقة

بأفضل أساليب البيان وأنّ يوم القيامة يوم انتهاء الاختلافات ويوم تجلّي الحقائق وفرز الحق عن الباطل ويوم الحكم والقضاء النهائى.

__________________________________________________

(1) تفسير مجمع البيان، ج 7، ص 76.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 214

وكيف لا يكون الأمر كذلك ويوم القيامة يوم البروز ويوم الظهور: «وَبَرَزُوا لِلّهِ الْوَاحِدِ القَهَّار». (إبراهيم/ 48)

ويوم رفع الحُجب وكشف الغطاء: «فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ». (ق/ 22)

إنّ الطبيعة المظلمة لعالم الدنيا أو التي يمتزج فيها النور بالظلمة لا تفسح المجال لظهور الحقائق على ماهِيَّتِها، كالليل بالضبط، فالإنسان مهما يبذل جُهْدَهُ لكشف الحقائق بواسطة المصابيح إلّاأنّ قسماً كبيراً منها يبقى في دائرة الظلام، أمّا القيامة فهي تشبه سطوعَ الشمس التي تكشف بأشعتها كل شي ء.

من الممكن أن يكتشف فريقٌ طريقهم في الظلام إلّاأنّ فريقاً آخر يضلُّ عن الطريق، كما أنّه من الممكن للَّذينَ سلكوا طريقاً ما أن يصفه كل واحد منهم بوصفٍ يتناسب مع منظاره الخاصّ، وهناك مثال معروف في توضيح هذا الأمر وهو إنّ عدداً من الأشخاص الذين لم يشاهدوا الفيل من قبل دخلوا في غرفة مظلمة فيها ذلك الحيوان، ثم لمس كلّ واحد منهم عضواً من أعضاء الفيل، ولمّا خرجوا أخذ كل واحد منهم يصف ذلك الحيوان فوصفوه بصفات متناقضة، فالذي لمس رجل الفيل وصفه بأنّه يشبه العمود! ومن لمس خرطوم الفيل وصفه بأنّه انبوب كبير، والثالث الذي لمس صدر الفيل وصفه بأنّه يشبه السقف، ولكن عندما أُخرج الفيل من الظلام بانت الحقيقة لهم ورُفعت تلك التناقضات وعلم الجميع أنَّ وصفهم كان قاصراً!

فالإنسان- وكما أشرنا سابقاً- لديه الاستعداد التامُّ للخروج من خضم أمواج الاختلافات وأن يضع قدمه في عالم اليقين وعدم الاختلاف، ومن البديهي أنّ اللَّه تعالى الذي خلق الإنسان سوف

لن يحرمه من هذا الفيض.

فالاختلاف يسلب الطمأنينة وهو مِنْ موانع الوصول إلى التكامل، والسبب في نفوذ الشكّ إلى جذور المعتقدات في بعض الأحيان، بناءً على هذا علينا السعي لبلوغ المرحلة التي تنتهي فيها هذه المؤثّراتُ السلبية.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 215

ومن الطبيعي أنّ الأنبياء والأوصياء عليهم السلام وضّحوا الحقائق على قدر ما تسمح به طبيعة الحياة الدنيا بالاعتماد على الكتب السماوية، ولكن هؤلاء لم يكونوا إلّاكمثل المصابيح التي تنير الطريق للإنسان، لذا يَحلُّ الاختلافُ محلَ الإتحادِ بمجرّد غياب ذلك النور عنهم، قال تعالى في قرآنه المجيد: «وَمَا انْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذى اخْتَلَفُوا فِيْهِ». (النحل/ 64)

وقال تعالى في موضع آخر: «فَمَا اختَلَفُوا الّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ». (الجاثية/ 17)

وهذا دليل على أنّ الأنبياء عليهم السلام قد سعوا في إزالة الاختلاف الموجود بين الناس إلّاأنّه لم ينته كلياً.

إنّ حبّ المادّياتِ وجموح الشهوات والبغضاء والعداوة في هذه الدنيا هي الأسس الحاكمة على الناس وهذه الامور هي اعظم الحجب، وما لم ترفع لا يستطيعُ الإنسان أن يتقدم خطوة صوب الوحدة، لكنّ هذه الحجب سوف تفنى وتحترق جميعها فتنكشف الحقائق على ما هي عليه يوم القيامة.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 217

7- برهان خلود الروح

تمهيد:

تَعَرَّضَ الكثير من الفلاسفة في بحث المعاد لمسألة خلود الروح واعتبروها من الأدلة الحيّة في هذا المجال.

وممّا لا شك فيه إنّ الاعتقاد ببقاء الروح يعبّد لنا طريق الوصول إلى إثبات المعاد والحياة الآخرة، ولكنَّ هذا لايعني أَنَّ من لا يعتقد بخلود الروح لا يمكنه الإيمان بالمعاد، بل يمكن إثبات المعاد من دون أن يكون لمسألةِ بقاء الروح أي أثر في ذلك.

ومن المحتمل أن يكون هذا سبب عدم تأكيد القرآن على مسألة بقاء الروح، وبتعبير آخر

إنّ القرآن لا يعتقد بأَنَّ هناك صلة ورابطة بين مسألة خلود الروح وبين المعاد- كما سنرى ، ولكن لا يخفى أنّ إثبات مسألة المعاد بالاعتماد على مسألة خلود الروح تكون اوضح وايسرَ كما أنّه لا يمكن إنكار الإشارات الظريفة واللطيفة التي وردت في مسألة خلود الروح في القرآن المجيد، لذا مِنَ المناسب أن نلقي نظرة إجمالية على مسألة خلود الروح من دون التوغُّلِ في أعماق هذه المسألة، لأنّ البحوث المتعلقة بالروح بحوث واسعة ولها ميدان عريض وتحتاج لوحدها إلى تأليف كتاب مستقل أو عدّة كتب لبحثها بصورة مستقلّة.

نعود بعد هذه المقدمة إلى القرآن المجيد ونستمع خاشعين إلى الآيات الآتية:

1- «وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبيلِ اللَّهِ امْوَاتاً بَلْ احْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ».

(آل عمران/ 169)

2- «وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللَّهِ امْوَاتٌ بَلْ احْيَاءٌ وَلكِنْ لَاتَشْعُرونَ».

(البقرة/ 154)

نفحات القرآن، ج 5، ص: 218

3- «النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ ادْخِلُوا آلَ فِرعَونَ اشَدَّ العَذَابِ». (المؤمن/ 46)

4- «قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَّلَكُ المَوْتِ الَّذِى وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ الَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ». (السجدة/ 11)

5- «اللَّهُ يَتَوَفَّى الانْفُسَ حِينَ مَوتِهَا وَالَّتى لَمْ تَمُتْ في مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِى قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وُيُرْسِلُ الْاخرى الَى اجَلٍ مُّسمَّىً انَّ في ذلِكَ لَايَاتٍ لِّقَومٍ يَتَفَكَّرُونَ» «1».

(الزمر/ 42)

جمع الآيات وتفسيرها

استقلالية الروح:

دار الحديث في الآية الاولى حول الشهداء. فقد كان هناك عدد من ضعفاء الإيمان يتألَّمون لهؤلاء الشهداء لأنّهم ماتوا ودفنوا وحرموا من كل شي ء، لقد خاطب القرآن في هذه المناسبة الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله (كي يتّعضَ الآخرون) قال تعالى «وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا في سَبيلِ اللَّهِ امْوَاتاً بَلْ احيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ».

وبهذا غيّر نظرة الناس حول الموت تغييراً جذرياً وبالأخصَّ نظرتهم

إلى «موت الشهداء الذين قتلوا في سبيل اللَّه»، وأبان لهم أنّ هؤلاء يرقدون في جوار رحمة اللَّه ويملأ وجودَهم الفرحُ وينادون الآخرين بأنّهم لاخوف عليهم ولاهم يحزنون.

فهذا التعبير الحي الواضح يدل بجلاء على أنّ الروح خالدة وأنّ الشهداء احياء في عالمٍ أرقى واعلى بكثير من هذا العالم.

فإذا كانت حياة الإنسان تفنى بالموت إلى الأبد تصبح هذه التعبيرات مبهمة وغير مفهومة حتى في مجال اطلاقها على الشهداء، ولن تكون سوى حفنة من المجازات اللغوية لا غير.

__________________________________________________

(1) هناك آيات عديدة في القرآن المجيد تعبّر عن الموت بالتوفّي، وهذه دلالة لطيفة على مسألة خلود الروح، مثل: النساء، 97؛ الانعام، 61؛ النحل، 27 و 32 و 70؛ يونس، 46؛ الرعد، 40؛ غافر، 67 و 77؛ الانفال، 50؛ الاعراف، 37؛ الحج، 5.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 219

أمّا الذين لم يتمكنوا من إدراك مغزى ومفهوم هذه الآية فقد اتبعوا رأي ضعاف الإيمان الذين عاصروا الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله وفسّروا هذه التعبيرات بمعنى خلود اسم الشهداء وخلود معتقدهم! أو ما شابه ذلك، بينما تُبطِلُ الآيةُ مثلَ هذه النظريات قطعاً، وقد أكّدت على أنَّ للشهداءِ حياة خالدة، ومن البديهي أن لا تكون هذه الحياة حياةً جسمانية وماديّة لأنّ أجساد الشهداء الداميةَ قد دُفنت تحت التراب، فلن يبقى أمامنا إذن إلّاأن نعتبرها حياةً تختصّ بالروح عن طريق خلودها في البرزخ.

وعلى الرغم من اصرار البعض- على حدّ قول صاحب الميزان على أنّ الآية نزلت في حق شهداء بدر (و على رأي البعض أنّها تتعلق بشهداء أحد) إلّاأنّ البديهه تفترض أنّ الآية ذاتُ مفهوم واسع وشامل، يشمل جميع الشهداء دون أيّ استثناء، بالإضافة إلى أنّها لا تنفي الانطباق على غير الشهداء أيضاً.

وعلى

أيّة حال فإنّ لهجة الخطاب في هذه الآية والآيات التاليه لها تَدلُ على خلود أرواح الشهداء والتنعّمِ بالرزق المعنوي عند ربّهم وسرورهم الحاصل من نيلهم تلك النعم وذلك الفضل الإلهي، وهذه الآيات تبطل جميع الآراء والتفسيرات المنحرفة.

عن الشهداء في سبيل اللَّه أيضاً:

ورد نفس هذا المعنى في الآية الثانية من آيات البحث بتعبيرٍ آخر، والفرق بينهما أنّ الآية الاولى نزلت في شهداء احد والآية الثانية نزلت في شهداء بدر، إلّاأنّ محتواهما يدل على العموم والشمول، وهناك فرق آخر بينهما هو أنّ الخطاب في الآية الاولى كان موجَّهاً للنبي الأكرم صلى الله عليه و آله أمّا في هذه الآية فقد وجَّههُ تعالى لعامة المسلمين، قال تعالى «وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ في سَبيلِ اللَّهِ امْوَاتٌ بَلْ احْيَاءٌ وَلكِنْ لَاتَشْعُرُونَ».

فعلى الرغم من احتواء الآية الاولى على تأكيدات أكثر على مسألة الحياة الروحية للشهداء من خلال ضمّها إلى الآيات الاخرى إلّاأنّ الآية الثانية بدورها تعبّر عن ذلك

نفحات القرآن، ج 5، ص: 220

المفهوم أيضاً على الأخص في قولِهِ تعالى «بَلْ احْيَاءٌ وَلكِنْ لَاتَشْعُرُونَ».

وفي هذه الآية أيضاً تُواجِهُنا أقوالٌ لبعض قاصرى التفكير الذين يرون أنَّ الحياة في هذه الآية تعني الهداية أو بقاء اسماء الشهداء حيّة أو بقاء معتقدهم، وهكذا اعتبروا استخدم عبارة احياء عند ربّهم يرزقون من باب المجاز وانحرفوا في تفسيرهم وهم لا يملكون أيّ دليل لدعم ادّعاءاتهم.

وكأنَّ هؤلاء المفسرين لم ينتبهوا لكلمات هاتين الآيتين أبداً وإنّ الشهداء بالإضافة إلى وصفهم بأنّهم احياء فقد ذُكر بأنهم يرزقون ويفرحون ويتمتّعون بأنواع النعم الإلهيّة ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وخاصة في قوله تعالى ولكنْ لا تشعرون!

فلو كان المراد خلود اسمهم أو معتقدهم أو احياءهم يوم القيامة لما كان اطلاق أيّ واحد من هذه التعبيرات

المذكورة بحقهم صحيحاً.

وبهذا شيّد القرآن أساس بحث خلود الروح وبدأه بذكر خلود حياة الشهداء.

عذاب آل فرعون في البرزخ:

تَحَدَّثَتْ الآية الثالثة عن عاقبة طائفة ظالمة وهي «طائفة آل فرعون» وصوّرتْ حالها في البرزخ في قبال حال الشهداء، فهي تصفها بعد الموت على هذا النحو: «النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ ادْخِلُوا آلَ فِرعَونَ اشَدَّ العَذَابِ».

إنّ ممّا لا شك فيه أنّ النار التي يُعرض عليها آل فرعون في الصباح والمساء نار البرزخ، وذلك لأنهم ماتوا ولم تقم القيامة حتى الآن، بالإضافة إلى ذلك فإنّ القيامة ليس فيها صباح ومساء بل هم في اشد العذاب على مرّ الزمان (كما يشهد على ذلك ماجاء في ذيل الآية).

وهذا التعبير شاهد حيّ وملموس آخر على خلود الروح، لأنّ ما يعرض على جهنم صباحاً ومساءً إن لم يكن الروح فما هو إذن؟ هل هو الجسد المجرّد عن الروح الذي أصبح تراباً؟ كلّا طبعاً، لأنّ هذا لا يتأثر أبداً، إذن يجب أن تبقى ارواحهم خالدة حيّة كي يعرضوا

نفحات القرآن، ج 5، ص: 221

على العذاب غدواً وعشياً في عالم البرزخ.

ويحتمل أن يكون السبب في استخدام كلمتي «الغدوّ» و «العشيّ» في الآية الشريفة أنّ هذين الوقتين من الأوقات التي كان الطواغيت يتجهون خلالها ويبرزون سطوتهم ومن الأوقات التي يستغلّونها في اللهو والبذخ.

وأمّا التعبير ب «يُعرضون» فإنّه لايعني دخولهم النار وهذا ممّا لا شك فيه، وهو غير ما اريد في ذيل الآية، ومن المحتمل أنّ المراد منه الدلالة على اقتراب النار منهم، فهم يقتربون من النار في عالم البرزخ ويلجونها يوم القيامة!.

لقد استدل الكثير من المفسرين بهذه الآية على عذاب القبر أو البرزخ «1»، ومن البديهي أنّ عذاب القبر (أو البرزخ) لا معنى له من دون خلود

الروح.

جاء في الحديث المروي عن الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله أنّه قال: «إنّ أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنّة فمن الجنّة وإن كان من أهل النار فمن النار يقال هذا مقعدك حين يبعثك اللَّه يوم القيامة» «2».

وهذا الحديث يشير إلى أنّ الثواب والعقاب البرزخي لا يختص بالشهداء وآل فرعون بل يشمل الجميع.

قبض الأرواح!

وفي الآية الرابعة (والآيات المشابهة لها) نلاحظُ تعبيراً آخرَ في هذا المجال، قال تعالى «قُلْ يَتَوفَّاكُمْ مَّلَكُ المَوْتِ الَّذِى وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ الَى رَبِكُمْ تُرْجَعُونَ».

والتعبير الجديد واللطيف في هذه الآية «يتوفاكم» من مادة «التوفّي» على وزن (الترقّي).

قال الراغب في المفردات «وافي» في الأصل بمعنى وصول الشي ء إلى الكمال، بناءً

__________________________________________________

(1) تفسير مجمع البيان، ج 7، ص 525؛ تفسير الكبير، ج 37، ص 73؛ تفسير القرطبي، ج 8، ص 5763؛ تفسيرالميزان، ج 17، ص 354.

(2) نقل هذا الحديث صاحب مجمع البيان عن صحيح البخاري ومسلم (ج 7 و 8، ص 526).

نفحات القرآن، ج 5، ص: 222

على هذا فإنّ «التوفّي» يكون بمعنى أخذ الشي بصورة كاملة وهذا التعبير يدل بوضوح على هذه الحقيقة وهي أنّ الموت لا يعني الفناء أبداً، بل نوع تام من أنواع القبض، والأخذ أخذ روح الإنسان بصورة تامّة، دليلٌ واضح وملموس على أنّ روح الإنسان لا تفنى بعد «التوفّي» (أي الأخذ الكامل) لها.

ومن الجدير بالذكر أنّ هذه الآية وردت في الجواب عن تساؤل منكري المعاد، وقد نُقل عنهم في الآية السابقة قولهم: «وَقَالُوا ءَاذَا ضَلَلْنَا فِي الْارْضِ ءَإِنَّا لَفِى خَلْقٍ جَدِيْدٍ».

فأجابهم تعالى في هذه الآية: «أنّكم لستم أجساداً فحسب كي تضلوا بعد الموت، بل إنّ الروح هي الأصل في وجودكم والتي

تتوفاها الملائكة، وسوف تُعادُون وتحشرون يوم القيامة (بالجسم والروح معاً) وكما قلنا آنفاً: إنّ هذا التعبير قد تكرر ذكره في آيات متعددة في القرآن وقد اكّد عليه كثيراً».

إنّ خطاب الآيات القرآنية فيه ارشاد للاثبات بعدم النظر إلى الموت من منظارٍ مادّي أبداً، فالمادّيّون يعتقدون بأنّ الموت نهاية الطريق بالنسبة للإنسان وينادون دائماً بهذا الشِعار: «انْ هِىَ الّا حَيَاتُنَا الدُّنيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا» بينما لا يكون الموت إلّاعبارة عن الانتقال من «الحياة الدنيئة» إلى «الحياة الراقية» ويتم ذلك الانتقال بواسطة ملائكة اللَّه.

وفي بعض الموارد نسب اللَّه التوفّي إلى نفسه: قال تعالى «اللَّهُ يَتَوَفَّى الْانْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا». (الزمر/ 42)

وقال من موضعٍ آخر: «وَلكِنْ اعْبُدُ اللَّهَ الَّذِى يَتَوفَّاكُمْ». (يونس/ 104)

ومن البديهي أن لا يوجد هناك تناقض بين تعبيرات القرآن الثلاثة المذكورة (التوفي من قبل اللَّه والتوفي بواسطه ملك الموت والتوفّي بواسطة الملائكة)، لأنّ هؤلاء جميعهم يطيعون أمر اللَّه، واللَّه عزّ وجلّ هو الفاعل الحقيقي، كما أنّ الملائكة التي تتوفّى الأرواح لهم رئيس أيضاً الذي يسمى بملك الموت وسائر الملائكة الموكلين بقبض الأرواح يعتبرون مسيّرين من قبل هذا المَلك.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 223

وفي الآية الخامسة والاخيرة ورد هذا المعنى نفسه مع مقارنة وضع الإنسان عند النوم مع وضعه عند الموت، وقد عبّر ب «التوفّى» عن كلتا الحالتين، قال تعالى «اللَّهُ يَتَوَفَّى الانْفُسَ حينَ مَوْتِهَا وَالَّتِى لَمْ تَمُتْ في مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتى قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وُيُرْسِلُ الْاخْرَى الَى اجَلٍ مُسمَّىً انَّ فِي ذلِكَ لَايَاتٍ لِقَومٍ يَتَفَكَّرُونَ».

و «انفس»: جمع «نفس» بمعنى الروح، والمراد من الروح هنا الروح الإنسانية ويستفاد من الآية المذكورة إنّ روح الإنسان تقبض في كلتا الحالتين، حالة الموت وحالة النوم، مع فارق واحد أنّ التوفي في حالة النوم

غير تام حيث تعود الروح ثانية إلى الجسد، أمّا في حالة الموت فلا عودة لها، (وهناك طبعاً من ينتقل من حالة النوم إلى الموت مباشرة ولا يستيقظ من نومه أبداً، وقد أشارت الآية المذكورة لهذه الحالة أيضاً).

وعلى حد تعبير بعض المفسرين: «إنّ للروح ثلاث حالات، فتارةً يشع نورها على ظاهر البدن وباطنه، واخرى على الظاهر فقط، وثالثة، ينقطع اشعاعها عن الظاهر والباطن معاً.

فالحالة الاولى حالة اليقظه، والثانية حالة النوم، والثالثة حالة الموت» «1».

ولمزيد من الايضاح يجب الالتفات إلى هذه الحقيقة وهي أنّ الإنسان له ثلاثة أنواع من الحياة.

«الحياة النباتية» وهذا يعني أنّ خلايا البدن تتغذى وتنمو وتتكاثر (كما هو الحال في النباتات).

«الحياة الحيوانية» التي تشتمل على الحس والحركة، والحركة هنا تشمل الحركة الارادية كالمشي وحركة اليد والرجل أو الحركات غير الارادية كضربات القلب وغيرها من الحركات.

«الحياة الإنسانية» التي تختص بالإدراكات الرفيعة التي يمتلكها الإنسان والتي تتعلق بالإرادة وتحليل المسائل المختلفة والابداع والابتكار والشعور بالمسؤولية.

وممّا لا شك فيه أنّ النوعين الأول والثاني من أنواع الحياة لا يُسلب من الإنسان في

__________________________________________________

(1) التفسير الكبير، ج 26، ص 284.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 224

حالة النوم، والنوع الثالث الوحيد الذي يخرج عن اختيار الإنسان في تلك الحالة.

وممّا يجدر ذكره أنّ هذه الآية تفيد بأنّ النوم «موت مخفف» أو بتعبير آخر إنّ الموت «نموذج كامل من النوم» كما يُفهم أيضاً بأنّ الإنسان مركب من الروح والجسد وأنّ الجسد مادّي والروح جوهر لا يخضع للقوانين المادّية:

ومن خلال ماتقدم يمكن التوصل إلى معرفة نبذة من أسرار الأحلام والرؤيا وما يدركه الإنسان من حقائق جديدة في تلك الحالة، لأنّ روح الإنسان في حالة النوم تنفصل عن الجسد وتنجز فعّالياتها

بحريّة أكثر، إذن فهي تَحوم في عوالم جديدة.

جاء في الحديث عن أمير المؤمنين علي عليه السلام: «إنّ الروح يخرجُ عند النوم، ويبقى شعاعه في الجسد، فلذلك يرى الرؤيا، فإذا انتبه عادَ روحُهُ إلى جسده بأسرع من لحظة!» «1».

وعلى أيّة حال فإنّ هذه الآيات لا تفسر إلّابمسألة بقاء الروح، وذلك لأنّ توفّي الشي ء أي أخذه بصورة تامة عند الموت لايصدق على التوفّي الجسدي، فالحياة النباتية والحيوانية تفْنى بواسطة الموت ولا يبقى منها شي ء فلايمكن أن تكون مصداقاً لعنوان «التوفّي»، فبناءً على هذا تكون النتيجة أنّ المراد من التوفي توفي الروح الإنسانية التي تعتبر العامل الرئيسي في حياة الإنسان.

توضيحات

1- خلود الروح

إنّ مسألة خلود الروح لها علاقة وثيقة بمسألة استقلالها وأصالتها، لأنّ الروح إن كانت مستقلة فيحتمل أن تبقى على حالها بعد الموت، لكنّها لو كانت تابعة لقوانين المادة وكانت تشبه في خواصها المادة فإنها سوف تفنى تبعاً لفناء الجسم (كما هو الحال في حركة عقارب

__________________________________________________

(1) تفسير روح البيان، ج 8، ص 115.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 225

الساعة التي تتبع في وجودها وعدمها نفس الساعة).

لذا علينا وقبل كل شي ء أن نبحث في هذه القاعدة هل أنّ روح الإنسان جوهر مستقل أم شي ء مشابه للخواص الفيزيائية والكيميائية التي تمتلكها خلايا المخ التي تفنى تبعاً لفناء المخ، كما هو الحال في الروح الحيوانية والنباتية التي هي عبارة عن التغذية والنمو والتكاثر والحس والحركة؟

إنّ ممّا لا شك فيه أنّ التغذية والنمو والتكاثر لا تبقى بعد فناء الجسم وكذلك تنعدم فيه الحركة والحس (فتأمل).

ولكن لدينا أدلة كثيرة تثبت أنّ الروح الإنسانية لا تشبه الروح النباتية والحيوانية، بل هي حقيقة مستقلة تتعلق بالبدن تارة وتنفصل عنه اخرى

من هنا ننطلق لبحث الأدلة

العقلية التي أتى بها الفلاسفة لإثبات أصالة الروح واستقلالها أولًا، وبعد ذلك نشرع بذكر أدلة المنكرين أي الماديين ثم نشرعُ بنقد تلك الأدلة.

ومع أنّ مجرد إثبات خلود الروح لا يُثبت جميع ما نريد إثباته في مباحث المعاد- كما أشرنا إلى ذلك سابقاً- (لوجود قسم كبير من مسائل المعاد يرتبط بجانب المعاد الجسماني) إلّا أنّه يُمهّد امامنا نصف الطريق على الأقل ويكبح جماح المنكرين.

2- هل الروح مستقلة عن البدن؟

يشهد تاريخ العلم والحضارة البشرية على أنّ الروح وهيئتها وخواصّها الغريبة كانت موضع اهتمام العلماء دائماً.

وقد ساهم واحد منهم بجهوده ليكشف بُعداً من أبعاد دائرة الروح التي تعتبر لغز الالغاز وسر الخفايا ولهذا السبب كانت آراء العلماء في مجال الروح متنوعة وكثيرة جدّاً.

ورغم أنّ أرواحنا أقرب الينا من كل شي ء في هذا العالم، إلّاأنّه قد لا تتمكن جميع علومنا المعاصرة- بل حتى علوم اللاحقين لعصرنا- أن تكتشف جيمع أسرار الروح، وليس

نفحات القرآن، ج 5، ص: 226

هذا من الامور الغريبة لأنّ جوهر الروح يختلف كثيراً عمّا أنسناه من عالم المادّة، ولاعجب في إخفاقنا في الاطلاع على أسرار وكنه هذا المخلوق العجيب الذي لا يخضع لقوانين المادّة.

ولكن هذا- على أيّة حال- لايمنعنا من مشاهدة ظل الروح بواسطة منظار العقل الثاقب ولا يمنعنا من التعرف على مجمل القوانين المهيمنة عليها.

وأهم ما ينبغي لنا معرفته هنا مسألة أصالة واستقلال الروح، وعلينا أن نثبت ذلك في مقابل رأي الماديين الذين يرون أنّ الروح أمرٌ ماديّ وأنّها من افرازات خلايا المخ والخلايا العصبية ولا شي ء وراء ذلك!

ونحن نتعرض بدورنا لهذا البحث هنا ونمعن النظر فيه، لأنّ بحث «خلود الروح» و «مسألة التجرد الكامل أو التجرد البرزخي» تعتمد على هذا الأمر.

إلّا أنّه قبل الولوج في هذا البحث نرى

من الضروري ذكر هذه الملاحظة وهي أن تعلق الروح ببدن الإنسان ليس من قبيل حلول الهواء في المنطاد مثلًا- كما يعتقد البعض- بل هو نوع من الارتباط القائم على اساس هيمنة الروح على البدن في التصرف والتدبير، وقد شبّه بعضهم هذه الرابطة بالعلاقة الموجودة بين «اللفظ» و «المعنى وسوف تتضح هذه المسألة بجلاء خلال بحث مسألة استقلال الروح فلنعُد إلى صلب البحث.

ممّا لا شك فيه أنّ الإنسان يختلف عن الجمادات كالحجر والخشب، لأنّنا نشعر في قرارة أنفسنا بأنّنا نختلف عن سائر الموجودات غير الحية، بل حتى عن النباتات، فنحن بإمكاننا أن نفهم شيئاً أو نتصور شيئاً أو نريد شيئاً ونمتلك إرادة ونحب ونبغض و ...، أمّا بالنسبة للجمادات والنباتات فهي لا تمتلك شيئاً من هذه الأحاسيس، إذن هناك شي ء أساسي نتميز به عن هذه الموجودات، ذلك الشي ء هو ما نسمّيه الروح.

لا أحد ينكر أصل وجود «الروح» و «النفس» أبداً، لا الماديون ولا غيرهم ولهذا فالجميع يعتقد بأنّ علم النفس (السيكولوجي) وعلم التحليل النفسي (البيسكاناليزي) من العلوم الثابتة، وهذان العلمان على الرغم من كونهما في مرحلة النشوء وفي المراحل

نفحات القرآن، ج 5، ص: 227

البدائية إلّاأنّهما من العلوم التي تُدرس في الجامعات الكبيرة في العالم ويتابع تطورهما الاساتذة والمحققون، وكما سنلاحظ فإنّ «الروح» و «النفس» هما حقيقتان غير منفصلتين عن بعضهما بل تمثلان حقيقة واحدة لمراحل مختلفة.

وسوف نطلق اسم «النفس» في المجالات التي تتعلق بارتباط الروح بالجسم والتأثيرات المتبادلة كما نطلق اسم «الروح» عند الحديث عن الروح المستقلة عن الجسم.

وقصارى الكلام هو عدم وجود من ينكر امتلاكنا روحاً ونفساً، فمن هنا علينا أن نحدد دائرة النزاع المحتدم بين «الماديين» و «الميتافيزيقيين».

ولتحديد دائرة النزاع نقول: إنّ العلماء

الالهيين والفلاسفة الميتافيزيقيين يرون أنَّ الإنسان بالإضافة إلى امتلاكه لجسم مادي يمتلك جوهراً آخر غير مادّي، والجسم يتلقى أوامره من ذلك الجوهر بصورة مباشرة.

وبعبارة اخرى إنّ الروح من الحقائق المتعلقة بعالم ما وراء الطبيعة وتختلف عن عالم المادة من ناحية وجودها ونشاطها معاً ورغم ارتباطها الدائم بعالم المادة إلّاأنّها ليست مادة ولا تملك صفات المادة!

والرأي المقابل لهذا هو رأي الماديين حيث يقولون: إنّ كياننا خالٍ من وجود شي ء مستقل عن المادّة يسمى ب «الروح» أو ايّ اسم آخر وما كياننا إلّاهذا الجسم المادّي والآثار الفيزيائية والكيميائية المختصة به فنحن لدينا جهاز نسميه «المخ والأعصاب» وهو ينجز لنا قسماً كبيراً من أعمالنا الحياتية وهذا الجهاز مادّي كسائر أجهزة البدن الاخرى ويخضع في نشاطاته لقوانين المادة.

فالإنسان لديه مثلًا غدد تحت اللسان تسمى «الغدد اللعابية» وهذه الغدد تمارس أفعالًا فيزيائية وكيميائية في آن واحد، فعندما يدخل الطعام الفم تمارس هذه الغدد نشاطاتها بصورة ذاتية لا إرادية، وتضخ من الماء الكميّة اللازمة لمضغ الطعام بصورة دقيقة، فالغذاء الجاف يحصل على ما يكفيه من الماء من هذه الغدد وكذلك الغذاء الرطب، فكل واحد منهما

نفحات القرآن، ج 5، ص: 228

يحصل على ما يناسبه من كميّة الماء لا أكثر ولا أقل!.

والأغذية الحامضة بالخصوص تثير هذه الغدد لفرز كميّات أكبر من الماء إذا كان تركيز الحموضة كبيراً فيها، وذلك من أجل خفض نسبة الحموضة كي لا تؤثر على جدار المعدة والجهاز الهضمي.

وبعد بلع الطعام تتعطل هذه الغدد عن العمل وإذا اختلّ نظام هذه الغدد لساعة من الزمان فإمّا أن يجف الفم فلا يتمكن الإنسان من بلع الطعام، أو يسيل اللعاب بصورة مستمرة من الفم!.

وهذه هي المهمّةُ «الفيزيائية» لهذه الغدد، لكننا نعلم أنّ المهمّة

الأكثر أهميّة لهذه الغدد هي الافرازات الكيميائية، فاللعاب يحتوي على مواد مختلفة تتفاعل مع الغذاء لهضمه ولتسهيل عمل المعدة في هضمه.

فالماديون يقولون: إنّ الجهاز الهضمي والمخ يشبهان في عملهما النشاطات الفيزيائية والكيميائية للغدد اللعابية، (التي تسمّى النشاطات (الفيزياكيميائية) التي نسميها «مظاهر الروح» أو «الروح».

فهولاء يقولون: عندما يمارس الإنسان عملية التفكير تشع من المخ مجموعة خاصة من الأمواج الالكترونية، وهذه الأمواج في عصرنا الحاضر تُسجل على شريط من الورق بواسطة أجهزة معيَّنة متوفرة في المستشفيات وبالأخص في المصحات المعدّة لعلاج الأمراض النفسية، ويواكب الأطباء مطالعة هذه الأمواج المسجلة على الشريط لتشخيص الأمراض النفسية التي يعاني منها المرضى لغرض علاجها، وهذه هي النشاطات الفيزيائية للمخ.

وبالإضافة إلى هذه النشاطات تحدث في خلايا المخ تفاعلات كيميائية عند ممارسة التفكير أو عند حدوث الانفعالات النفسية.

وبناءً على هذا ليست الروح والمظاهر الروحية إلّاتلك النشاطات الفيزيائية أو تلك التغييرات الكيميائية لا غير.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 229

وتوصل هؤلاء من خلال هذا البحث إلى النتائج الآتية:

1- كما أنّ أفعال الغدد اللعابية وآثارها المختلفة لا توجد قبل وجود البدن وتفنى بفنائه، فكذلك الحال في الروح التي توجد مع وجود المخ والجهاز العصبي وتفنى بفنائهما!.

2- إنّ الروح من مختصات الجسم، فهي مادّية وليس لها بعدٌ ميتافيزيقي.

3- إنّ الروح تخضع لجميع القوانين التي تتحكم بالجسم.

4- لا يمكن وجود الروح بصورة مستقله عن الجسم أو أن تستقل عنه.

3- أدلة الماديين على عدم استقلالية الروح
اشارة

وقد ذكر الماديون عدّة أدلة لإثبات زعمهم بأنّ الروح والفكر وسائر الظواهر الروحية الاخرى إنّما هي امور مادّية،: أي أنّها من الخواص الفيزيائية والكيميائية للخلايا العصبية وخلايا المخ، وهي كما يلى:

1- «نحن نرى بوضوح أنّ مجموعة من الآثار الروحية تعطّل بمجرّد أصابه قسم من المخ أو مجموعة من الخلايا

العصبية» «1».

فمثلًا شوهد عند قطع قسم معين من مخ الطير- كما أثبتت التجربة- أنّ هذا الحيوان لا يموت بل يفقد قسماً كبيراً من معلوماته، فعندما يوضع الغذاء في فمه فإنّه يبلع الغذاء ويهضمه ولكن عندما توضع الحبوب أمامه فإنّه لا يتناولها ولا يهتم لها ويظل على هذا الحال حتى يموت جوعاً!.

وكذلك الحال عند عطب قسمٍ من خلايا المخ عقب اصابتة بضربة أو مرض معين، والإنسان يفقد قسماً من ذاكرته بفعل هذه الأسباب.

فقد ذكرت احدى الصحف أنّ شاباً معلماً فقد ذاكرته إثر ضربة شديدة اصابت دماغه في حادثة اصطدام، وأصبح لا يعرف أحداً من أقربائه حتى أنّه لم يعرف امّه واخته! وعندما

__________________________________________________

(1) البيسكولوجيا، الدكتور أراني، ص 23.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 230

أخذوه إلى الدار التي ولد وترعرع فيها لم يُبد أي انفعال وأنكر أن يكون قد رأى أو دخل هذه الدار سابقاً!

فهذه الامور ونظائرها تدل على أنّ هناك علاقة وثيقة بين «عمل خلايا المخ» وبين «الظواهر الروحيّة».

2- «عندما يفكّر الإنسان تحدث تغييرات مادّية على سطح الدماغ، حيث يفرز فسفوراً أكثر ممّا يفرزه في حالة عدم التفكير، ويحتاج بذلك إلى غذاء أكثر، وعندما ينام الإنسان ولا يمارس الذهن عملية التفكير فإنّه يحتاج إلى غذاء أقل، وهذا دليل واضح على أنّ آثار الفكر مادّية» «1».

3- أثبتت التجارب أنّ وزن المخ عند المفكرين غالباً ما يكون أكثر من الحدّ المتوسط لوزن المخ عند الآخرين (الحد المتوسط لوزن المخ عند الرجال 1400 غرام تقريباً، والحدّ المتوسط عند النساء أقل من ذلك) وهذا دليل آخر على كون الروح مادّية.

4- إذا كان التفكير والظواهر الروحية دليلًا على وجود روح مستقلة فهذا يعني أنّ الحيوانات لها روح مستقلة كذلك، لأنّ الحيوانات لها

إدراك محدود أيضاً!.

وخلاصة القول في رأي هؤلاء إنّنا لا نشعر بوجود روح مستقلة لدينا، بالإضافة إلى أنّ علم النفس الحديث قد أكّد على صحة هذهِ النظرية أيضاً.

ومن خلال هذه الأدلة يخرجون بالنتيجة الآتية: إنّ تطور علم الفسلجة المستمر توصل إلى وجود علاقة وثيقة وجليّة بين الظواهر الروحيّة وخلايا المخ.

النقاط المبهمة في هذا الاستدلال:

إنّ الخطأ الفضيع الذي ابتليَ به الماديون كان نتيجة لاستنادهم على هذا النمط من الأدلة وخلطهم بين «آلة الفعل» وبين «فاعل الفعل».

__________________________________________________

(1) بشر از نظر مادّي، الدكتور أراني، ص 2.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 231

ولبيان كيفية خلطهم بين الآلة والفاعل والتباس الأمر عليهم نضرب مثالًا لتقريب هذا الموضوع إلى الأذهان.

لقد طرأ تطور كبير على علم الفلك منذ عصر «غاليلو» فقد تمكن العالم الايطالي غاليلو بمساعدة رجل يمتهن صناعة النظارات من صنع تلسكوب صغير وقد غمر الفرح كيانه إثر هذا الانجاز، وعند المساء كان غاليلو يشاهد النجوم بواسطة ذلك التلسكوب الصغير فظهرت أمامه أعاجيب لم يرها أحدٌ من قبل، وعندما علم غاليلو بأنّه توصل إلى كشف سر عظيم، اعتبرَ أنّ في ذلك اليوم حصل الإنسان على مفتاح كشف أسرار العالم العلوي!.

فالإنسان قبل اكتشاف التلسكوب كان كالفراشة العاجزة عن رؤية ما حولها باستثناء أغصان معدودة من أغصان الأشجار المحيطة بها، ولكنّه عندما أمسك بالتلسكوب بيده صار بإمكانه مشاهدة عالم كبير من الأشجار الموجودة حوله في غابة الكون العظيم.

ثم استمرَّ هذا الاكتشاف والتكامل حتى صنعت التلسكوبات الفلكية العظيمة التي بلغ قطر عدساتها عدّة أمتار، وقد نصبت هذه التلسكوبات على مناطق مرتفعة بعيداً عن الهواء الملوث.

واستطاعت هذه التلسكوبات التي تبلغ من الضخامة أحياناً بحجم بناء متعدد الطوابق أن تيسّر للإنسان مشاهدة حقائق كثيرة في العالم العلوي لم يسبق له

أنّ شاهد منها بعينه المجردة بنسبة واحد من الألف.

هذا ما توصل إليه الإنسان حتى عصرنا الحاضر، فإذا تطورت التقنية وتمكن الإنسان من صنع تلسكوبات يبلغ قطر عدساتها مائة متر واصبحت ملحقاتها تملأ رقعة من الأرض بسعة مدينة كاملة فإلى أي مدى سيصل الإنسان في اكتشافاته في مثل هذه الحالة؟!

وهنا يتبادر هذا السؤال إلى الاذهان: إذا ما فقدنا هذه التلسكوبات فإننا سوف نفقد قسماً كبيراً من معلوماتنا ومشاهداتنا الفلكية قطعاً، ولكن يا ترى من المشاهد الحقيقي؟

فهل هو التلسكوب أم الإنسان؟! وهل يعتبر التلسكوب هو الناظر الحقيقي أم هو آلة ننظر نحن من خلالها؟!

نفحات القرآن، ج 5، ص: 232

فأمّا بالنسبة للمخ فإنّه لا أحد ينكر أنّ التفكر والامور الاخرى لا تحصل من دون توفّر الخلايا العصبية، ولكن السؤال هو: هل المخ آلة تستخدمها الروح لانجاز فعاليتها أم هو نفس الروح؟!

وخلاصة الكلام: إنّ جميع الأدلة التي جاء بها الماديون هنا لا تثبت إلّاشيئاً واحداً وهو وجود علاقة بين خلايا المخ وإدراكات الإنسان لا غير، ولكنّها لا تثبت لنا بأنّ المخ هو الفاعل الرئيسي للإدراك، (فتأمّل).

ومن هنا يتضح أنّ السبب في عدم إدراك الجسد الميت هو انقطاع اتصاله بالروح، وليس السبب فناء الروح، كما هو الحال بالضبط بالنسبة للباخرة أو الطائرة التي تفقد اتصالها اللاسلكي بالقاعدة، فالباخرة لم تفن ولم يفن الرّبان والطاقم أيضاً ولكنهم مع ذلك غير قادرين على الاتصال بالساحل وكل مافي الأمر أنّهم فقدوا وسيلة الاتصال بالقاعدة.

4- أدلة أنصار نظرية استقلال الروح
أ) خصوصية كشف الواقع (اي الاطلاع على العالم الخارجي)
اشارة

إنّ أوّل سؤال يمكن أن يطرح على الماديين هو: إذا كانت خواص المخ «الفيزياكيميائية» نفس الأفكار والظواهر الروحية فينبغي أن لا يكون هناك «فرق مهم» بين عمل المخ وبين عمل المعدة أو الكلية أو الكبد مثلًا، لأنّ عمل المعدة

«مثلًا» يتمثل في مجموعة من النشاطات الفيزيائية والكيميائية، فالمعدة بواسطة حركاتها الخاصة وضخ الافرازات الحامضية تهضم الغذاء وتعدّه لعملية الامتصاص، وهكذا الحال في واجبات اللعاب الذي تقدم ذكره فهي مركزٌ من أعمال فيزيائية واخرى كيميائية، لكننا نرى بالوجدان بأنّ أعمال الروح تختلف عن جميع هذه الأعمال.

فجميع أعمال أجهزة الجسم لها شبه ببعضها البعض إلّا «المخ» فهو لا يشبه في أفعاله أيّ واحدة من تلك الأجهزة لأنّ أجهزة الجسم ترتبط بالامور الداخلية للجسم بينما ترتبط الظواهر الروحية بالخارج أي أنّها تخبرنا عمّا هو خارج وجودنا.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 233

ولتوضيح ذلك يجب الالتفات إلى النقاط الآتية:

اولًا: هل يوجد هناك عالمٌ وواقعٌ خارج وجودنا أم لا؟

بالطبع إنّ وجود العالم الخارجي يُعد من الامور البديهية، أمّا المثاليون فقد انكروا وجود عالمٍ خارجٍ عن وجودنا وقالوا إنّ كل ما نراه إنّما هو «نحن» و «تصوراتنا»، ولا يوجد هناك عالم خارجي، والعالم الخارجي ماهو إلِّاصور خالية من المحتوى تشبه الصور التي نراها في المنام عند الرؤيا فليس وجود العالم الخارجي إلّاكوجود تلك الصور لا غير، وقد اخطأ هؤلاء في اعتقادهم هذا، وافضل دليل على ذلك إيمانهم بالواقع أثناء عملهم، فكل ما يحملونه من نظريات مثالية ينسونها بمجرّد أن يخرجوا من مكتبة أفكارهم ويضعوا اقدامهم في شوارع وأزقّة محيطهم الاجتماعي المعتاد، ويتعاملون مع كل شي ء على أساس الواقعية!.

ثانياً: هل للإنسان علمٌ بالعالم الخارجي أم لا؟

والجواب عن هذا السؤال بالإيجاب أيضاً، وذلك لأنّنا نمتلك تصوّراتٍ كثيرة عن عالم الخارج ولدينا معلومات جمّة عن الموجودات المحيطة بنا أو عن المناطق النائية.

وهنا نواجه هذا السؤال وهو: هل تحضر الموجودات الخارجية بأعيانها في ذواتنا؟

وبالطبع فإنّ الجواب بالنفي، فالذي يحضر في ذواتنا صور تلك الموجودات، ونصل إلى إدراك الحقائق الخارجية بالاستفادة

من خصوصية «معادلات كشف الواقع» الموجودة لدى الإنسان.

إنّ معادلات كشف الواقع، لايمكن أن تكون مجرد خواص فيزياكيميائية بالنسبة للمخ، وحتى لوكانت هذه الخواص نابعة حقاً من تأثرنا بالعالم الخارجي وناتجة عنه، إلّاأنّ تأثيرها يشبه تأثير الغذاء على معدة الإنسان، فهل تتمكن المعدة من الحصول على معلومات عن الغذاء بواسطة ممارستها الأفعال الفيزيائية والكيميائية عليه؟ إذن كيف يتمكن ذهننا من إدراك العالمِ الخارجي؟!

وبتعبير آخر: إنّ العلم بالموجوداتِ الخارجية والعينية لا يحصل إلّابواسطة حلول هذه

نفحات القرآن، ج 5، ص: 234

الموجودات في وعاءٍ خاص، مع أنّ خلايا المخ لا يمكنها أن تكون وعاءً ملائماً لهذه الموجودات بل تتأثر بها خلايا المخ فقط، والتأثر هذا يشبه تأثر سائر أجهزة الجسم بالمؤثرات الخارجية، ونحن ندرك ذلك بوضوح.

فإذا كان علمنا بالموجودات الخارجية يحصل بمجرد التأثّر بأيّ نحوٍ كان فهذا يستلزم حصول الإنسان على العلم عن طريق معدته أو لسانه أيضاً، وهذا غير ممكنٍ بالبداهة.

فالخلاصة: إنّ الوضع الاستثنائي لإدراكاتنا يدل على أنّ هناك حقيقة خفيّة لا تخضع مطلقاً للقوانين الفيزيائية والكيميائية أي يجب علينا أن نرضخ أمام هذه الحقيقة وهي إنّ هناك جوهراً آخر في ذواتنا وهو ما نطلق عليه اسم الروح يكون السبب في إدراك الحقائق (فتأمل).

ب) وحدة شخصية الإنسان
اشارة

الدليل الآخر الذي يمكن التعويل عليه في مسألة استقلال الروح مسألة اتحاد شخصية الإنسان طوال عمره.

وتوضيح ذلك: إنّنا لو شككنا في أيّ شي ء فإننا لا نشك في أننا «موجودون».

و «أنا موجود» ولا أشك أبداً في وجودي، كما أنّ علمي بوجودي من نوع «العلم الحضوري» لا «العلم الحصولى» أي أنني حاضر لدى نفسي ولم أنفصل عنها.

على أيّة حال فإنّ علمنا بأنفسنا من أوضح المعلومات لدينا، وهذا الأمر لا يحتاج إلى إقامة البرهان، أمّا بالنسبة

للاستدلال المعروف الذي أتى به الفيلسوف الفرنسي الشهير ديكارت لإثبات وجوده وهو: «أنا افكر إذن أنا موجود» فهو استدلال غير صحيح وغير مجدي، لأنّه اعترف بوجود نفسه مرّتين قبل أن يثبت وجودها! فمّرة عندما قال «أنا» واخرى عندما قال «افكر»، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى فإنّ ال «أنا» لها وحدة واحدة لا تتبدل من بداية العمر حتى نهايته، ف «أنا

نفحات القرآن، ج 5، ص: 235

اليوم» عين «أنا الأمس» ونفس «أنا قبل عشرين عاماً»، «فأنا منذ الطفولة حتى اليوم لم أتغير» فأنا كنتُ ذلك الشخص وسأبقى ذلك الشخص حتى نهاية المطاف، ومن البديهي أنني تعلمت واصبحت مثقفاً وتكاملت وسوف أتكامل لكنني لم أتحول إلى شخص آخر، لذا فإنّ جميع الناس يعتبرونني شخصاً واحداً من البداية حتى النهاية فأنا لا أحمل إلّااسماً واحداً وهوية شخصية واحدة.

فلنرى الآن ما هذا الموجود الواحد الذي يرافقنا طيلة حياتنا، فهل هو خلايا جسمنا أم مجموع خلايا المخ وفعالياتها؟ لا شي ء من هذا طبعاً، لأنّ هذه الأشياء تتبدّل عدّة مرات خلال فترة حياتنا ففي كل سبعِ سنين تقريباً تتبدّل جميع خلايا البدن، لأنّنا نعلم بأنّ الملايين من الخلايا تموت في كل يوم وليلة وتحلّ محلها ملايين اخرى كما هو الحال في البناء الذي يستبدل حجراً بالتدريج ويوضع مكانه حجر جديد، فهذا البناء سوف يتبدّل كليّاً بعد فترة من الزمن حتى لوكان ذلك التغيير خافياً على الناس أو كالمسبح الكبير الذي يدخله الماء من أحد جهاته بصورة بطيئة ويخرج من الجهة الاخرى بمقدار مايدخل فيه من ماء جديد، فمن البديهي أن يتبدّل جميع ماء المسبح بعد مدّة من الزمان، حتى لو غفل الناس عن ذلك التغيير ولم يدركوه.

وبصورة عامة فإنّ كل موجود لا

يحافظ على بقائه إلّابواسطة الطعام ويستهلك ذلك الطعام بصورة تدريجية فهو يحتاج إلى «الترميم» و «التبديل».

بناءً على هذا فالإنسان البالغ من العمر سبعين عاماً تكون جميع خلايا جسمه قد تبدّلت مايقارب العشر مرات، لذا فإننا لو اعتبرنا الإنسان ذلك الجسم والمخ والجهاز العصبي والخواص الفيزياكيميائية فإنّ «أنا» ذلك الشخص البالغ من العمر سبعين عاماً قد تبدلت عشر مرات وأنّني غير ذلك الشخص السابق، مع أنّ هذا الكلام مرفوض بالوجدان.

ومن هنا يتضح أنّ هناك حقيقة واحدة ثابتة في جميع مراحل حياة الإنسان، وهذه الحقيقة غير تلك الأجزاء الماديّة وليست متغيرة وهي التي تمثّل أساس وجودنا وتعتبر العامل الرئيسي في إيجاد وحدة الشخصية.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 236

خطأ ينبغي اجتنابه:

يتصور البعض أنّ خلايا المخ لا تتبدّل أبداً، ويقولون: إننا قرأنا في كتب الفسلجة أنّ عدد خلايا المخ لا يتبدّل من بداية العمر وحتى نهايته، أي أنّ عددها لا يزيد ولا ينقص أبداً، وكل مافي الأمر أنّها تنمو ويكبر حجمها لكنّها لا تتكاثر، لذا فإنّها لو اصيبت بعطب فلن ترمم. بناءً على هذا فنحن نمتلك شيئاً ثابتاً هو مجموع خلايا المخ، وهذه الخلايا هي التي تحفظ لنا وحدة الشخصية.

إلّا أنّ هذا التصور يُعتبر خطأً فادحاً، لأنّ هؤلاء خلطوا بين أمرين، فما توصل إليه العلم الحديث هو إنّ عدد خلايا المخ، ثابت من بداية الحياة حتى نهايتها فهو لا يزيد ولا ينقص، لا أنّ أجزاء هذه الخلايا لا تتبدّل، لأننا قلنا إنّ خلايا البدن تتغذى باستمرار وتفقد الأجزاء القديمة وتحل محلها أجزاء جديدة دائماً، كما هو الحال في المسبح الذي يدخله الماء من أحد جهاته بالتدريج ويخرج من الجهة الاخرى وتتبدّل بعد فترة من الزمان جميع محتوياته على الرغم من

ثبات مقدار كميّة الماء في المسبح، بناءً على هذا فإنّ خلايا المخ تتبدّل أيضاً «1».

ج) عدم مطابقة الكبير للصغير
اشارة

تصوروا أننا نجلس بالقرب من بحرٍ جميل تطفو على أمواجه عدد من القوارب الصغيرة وتعوم فيه باخرة عظيمة والشمس تغرب من أحد جوانبه والقمر يطلع من الجانب الآخر وبعض الطيور المائية في حالة ذهاب وإياب إلى ماء هذا البحر، وبالقرب من البحر جبل شامخ ذو قمةٍ سامقة.

وهنا نغلق أعيننا لعدّة لحظات ونتخيّل كل ما رأيناه في أذهاننا من الجبل العظيم والبحر

__________________________________________________

(1) أتى في كتب علم وظائف الأعضاء هذه المسألة أيضاً، يُراجُع على سبيل المثال كتاب الهورمونات، ص 11، وكتاب علم وظائف اعضاء الحيوان، ص 32 تأليف الدكتور محمود بهزاد وزملاؤه.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 237

الوسيع والباخرة الكبيرة، فكل هذه الصور تتجسد في أذهاننا وكأنّ هناك لوحة كبيرة رُسمت في أذهاننا أو في أعماق أرواحنا.

وهناك سؤال يطرح نفسه وهو: أين تستقر هذه الصور الكبيرة؟ فهل تتمكن خلايا الدماغ البالغة في الصغر أن تحتوي هذه الصور العملاقة؟ كلا طبعاً، اذن يجب أن يكون هناك قسم آخر من وجودنا لا يخضع لقوانين المادّة يبلغ من السعة مبلغاً يجعله يتمكّن من احتواء جميع هذه الصور.

هل يتمكن الإنسان من تشييد بناءٍ تبلغ مساحته 500 متر في أرض مساحتها عدّة أمتار؟! كلّا طبعاً، لأنّ الموجود الكبير لايمكنه أن ينطبق على الموجود الصغير مع حفظ حجمه الكبير، لأنّ من مستلزمات المطابقة إمّا أن يكون الظرف والمظروف متساويين في الحجم وإمّا أن ينطبق الموجود الكبير على الصغير في حالة صنع نموذجٍ مصغرٍ منه.

ومهما يكن من شي ء يبقى هذا السؤال بلا جواب وهو كيف نتمكن من استيعاب صور كبيرة جدّاً في خلايا أدمغتنا الصغيرة؟

فنحن نتمكن من تصور محيط

الكرة الأرضية الذي يبلغ طوله أربعين مليون متر ونتمكن من تصور الشمس التي تعادل حجم الأرض بمليون وثلاثمائة ألف مرّة، وهكذا يمكننا أن نتصور المجرّات التي تعادل حجم الشمس بملايين المرات، فمثل هذه الصور لا يمكنها أن تستقر في خلايا الدماغ الصغيرة طبقاً لقانون «عدم مطابقة الجسم الكبير للجسم الصغير»، إذن يجب أن نعترف بوجود شي ء غير هذا الجسم يحتوي هذه الصورة الكبيرة.

تساؤل:

من الممكن أن يقال: إنّ الصور الذهنية تشبه «الميكروفلم» أو «الخرائط الجغرافية» التي يدّون في إحدى زواياها مقياس الرسم الذي هو عبارة عن أعداد كسرية مثل: 11000000 أو 11000000000 والتي تدل على مقياس نسبة التصغير، فإذا أردنا الحصول على المساحة الواقعية علينا أن نكبر تلك الخارطة بذلك المقياس، وقد شاهدنا أيضاً الكثير من

نفحات القرآن، ج 5، ص: 238

صور البواخر العظيمة التي لا يمكن من خلال تلك الصورة أن ندرك حجمها الحقيقي فهم من أجل اظهار حجمها الحقيقي يضعون على متنها إنساناً ثم يلتقطون لها صورة كي نتمكن من خلال مقارنة حجم الإنسان في الصورة من معرفة حجمها الحقيقي.

فالصور التي نحملها في أذهاننا صغيرة جدّاً أيضاً وقد صغرت طبقاً لمقاييس معيّنة، فإذا ماكبّرنا تلك الصور وفقاً لتلك المقاييس فسنحصل على تلك الصور بحجمها الحقيقي ومن البديهي إنّ هذه الصور الصغيرة تستقر بنحوٍ ما في خلايا الدماغ، (فتأمل).

الجواب:

نحن نواجه هنا مسألة مهمة هي إنّ الميكروفلم يُكبّر عادةً بواسطة المكبرات ثم يعرض على العارضات، ويمكننا أنْ نتصور الحجم الواقعي في أذهاننا للخارطة الجغرافية بواسطة إجراء عملية الضرب، وهنا يطرح هذا السؤال: أين تقع هذه العارضة الكبيرة التي يُعرض عليها الميكروفلم الذهني الذي كُبّر عدّة أضعاف؟ فهل العارضة الكبيرة هي نفس خلايا المخ؟

وبعبارة أوضح: إنّ

الموجود الخارجي في مثال الميكروفلم والخارطة الجغرافية هو الأفلام والخرائط الصغيرة، أمّا الموجود الذهني منها فهو الصور التي تطابق حجم الموجودات الخارجية لتلك الصور، ومن الطبيعي أن تحتاج تلك الصور المطابقة للواقع إلى مكان مطابق لحجمها، ونحن نعلم بأنّ خلايا الدماغ لا تتمكن من احتواء تلك الصور العظيمة.

وخلاصة الكلام: إننا نتصور تلك الصور في أذهاننا بحجمها الخارجي وإنّ هذه الصور الكبيرة لايمكنها أن تستقر في خلايا المخ الصغيرة، إذن فنحن نحتاج إلى مكان مناسب لها لذا فإننا نُدرك أنّ هناك وجوداً حقيقياً غير هذه الخلايا نسمّيه (الروح).

نفحات القرآن، ج 5، ص: 239

د) الظواهر الروحية لا تتلائم مع الكيفيات الماديّة

الدليل الآخر الذي يمكن أن نثبت من خلاله استقلال الروح وكونها غير مادّية هو: إنّنا نشعر بالوجدان بأنّ الظواهر الروحية وخواص الروح وكيفياتها لا تشبه بأيّ نحو خواص وكيفيات الموجودات المادّية، وذلك لما يلي:

اولًا: إنّ الموجودات المادّية تخضع لقيد «الزمان» وتمتاز بالتدرج.

ثانياً: تتلاشى بمرور الزمان.

ثالثاً: قابلة للتحلل إلى أجزاء متعددة.

أمّا الظواهر الذهنية فلا تتصف بهذه الخصوصيات والآثار، فالمناظر التي انطبعت في ذهننا في مرحلة الطفولة مثلًا لا تتلاشى ولا تبلى بمرور الزمان وتحافظ على كيفيتها طول هذه المدّة، على الرغم من تلاشي خلايا المخ إلّاأنّ صورة البيت الذي انطبع في الذهن قبل عشرين سنة لا تفنى وتبقى تحافظ على نوعٍ من الثبات الذي هو من خصوصيات عالم ما وراء الطبيعة.

إنّ روح الإنسان تملك قوّة ابداع عجيبة في مجال خلق الصور، ومن دون أي تأمّل يمكنها أن تخلق أيّ صورة شاءت، كخلق صور الكواكب السيّارة والمجّرات أو صور الموجودات الأرضية كالبحار والجبال وأمثالها، ولا تتصف الموجودات الماديّة بشي ء من هذا القبيل، بل يعتبر هذا دليلًا على أنّها موجود غير مادي.

وبالإضافة إلى هذا فإننا نعلم

مثلًا بأنّ 2+ 2/ 4 وهذا بديهي، ونتمكن أيضاً من تحليل طرفي المعادلة أي أن نحلل العدد اثنين أو العدد أربعة، ولكن لا يمكننا أن نحلل هذه «المساواة» أي أن نقول: إنّ المساواة تنقسم إلى قسمين يختلف أحدهما عن الآخر، لأنّ التساوي عبارة عن مفهوم وهو غير قابل للتحليل والتجزئة، فهو إمّا أن يكون موجوداً وإمّا أن لا يكون موجوداً ولكن لا يمكن تقسيمه أبداً.

فالمفهوم لا يقبل القسمة ومن أجل هذا لايمكن أن يكون مادياً، لأنّه لو كان مادياً لقبل الانقسام، ولهذا السبب أيضاً لا يمكن أن تكون الروح مادية لأنّها تعتبر الظرف الذي يحوي هذه المفاهيم غير المادية، إذن فالروح اسمى من المادة، (فتأمل) «1».

__________________________________________________

(1) راجع تفسير الأمثل، الآية 85 من سورة الاسراء.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 240

5- هل النفس مجردّة؟

هل الروح مستقلة ولا غير؟ وهل يمكنها البقاء بعد موت الجسم وفنائه؟ أم لها حالة التجرّد عن المادة والاستقلال معاً؟ أي أنّها تفتقد خصوصيات المادة التي هي عبارة عن تقيدها بالزمان والمكان والتركيب.

لقد ذهب جمع من الفلاسفة إلى أنّ الروح مجرّدة ولا معنى لاحتوائها على كيفيات مادية، واستدلوا على ذلك ببعض الأدلة السابقة التي اقيمت على فرضية استقلال الروح.

والبعض الآخر يرى أنّ الروح مادّية لكنها مكوّنه من مادة شفافة وبتعبير آخر إنّهم يرون أنّ الروح «نصف مجرّدة» أي مجرّدة عن المادة الكثيفة والعناصر المادية.

فنحن نعلم مثلًا بأنّ النور جسم، ولا فرق في ذلك في كونه على شكل أمواج أو ذرات «فوتونية»، ولكن ممّا لا شك فيه هو عدم خضوعه للقوانين التي تخضع لها الأجسام العادية، لذا فهو يخترق الأجسام الشفافة ولا فرق بالنسبة له بين الفراغ وغيره.

فهل أنّ روح الإنسان شبيهة بهذا حقاً؟ أم هي

مجرّدة تماماً وأرقى من المادة بشقيها الكثيف والشفاف.

وبما أنّ إثبات مسألة تجرّد الروح أو إثبات كونها مادة شفافة هي من الأبواب غير المجدية في بحوث المعاد وبما أنّ المهم بالنسبة لنا هو استقلال الروح وبقاؤها بعد فناء الجسم، فإننا نعرض عن ذكر مزيد من التفاصيل في هذا المجال ونوكل ذلك لعلم الفلسفة، وكل ما يمكن أن نقوله هنا هو: إنّ الروح مستقلة سواء كانت مجرّدة أم كانت جسماً مادياً شفافاً وهي تبقى بعد فناء الجسم المؤلف من عناصر مادّية وتحافظ على حيويتها، وهذه هي الخطوة الاولى نحو عالم ما بعد الموت، (فتأمّل).

نفحات القرآن، ج 5، ص: 241

المعاد الجسماني

اشارة

نفحات القرآن، ج 5، ص: 243

المعاد الجسماني

تمهيد:

هل يختص المعاد بالجانب الروحي فقط؟ أي هل ينفصل الإنسان بعد موته عن جسمه إلى الابد فيتفسخ جسمه ويفنى ولا يتعلق خلوده في الدار الآخرة إلّابالروح؟ أم تتحقق مسألة المعاد بكلا الجانبين فيعاد الجسم والروح معاً ويتحدان مرة اخرى هناك؟ أم لا يعاد إلّا الجسم لوحده لأنّ الروح ماهي إلّاآثار الجسم ومتعلقاته؟

أم يعاد الجسم والروح معاً، ولكن الجسم الذي يُعاد هناك هو غير الجسم المادّي المؤلف من العناصر المادية بل هو جسم شفاف أرقى من الجسم الموجود في الدنيا فيكون المعاد ذا حيثية «روحية» وحيثية «نصف جسمية»؟

إنّ لكل واحدة من هذه النظريات الأربعِ المذكورة أنصاراً كثيرين، لكنّ ما يستفاد من القرآن والذي دلت عليه مئاتُ الآيات هو أنّ المعاد يتمّ بالروح والجسم معاً (وبهذا الجسم المادي) وبما أنّ اعادة الروح من الامور البديهية لدى العلماء والفلاسفه فقد عبّروا عن المعاد ب «المعاد الجسماني» مع أنّ مرادهم من ذلك هو «المعاد الجسماني والروحي».

بعد هذه الإشارة المختصرة نعود إلى القرآن المجيد لنمعن خاشعين في الآيات التي تحدثت عن المعاد الجسماني:

ونظراً لكثرة هذه الآيات فقد قسمناها إلى «تسع مجموعات» واخترنا من كل مجموعة عدّة نماذج وهي كما يلي:

نفحات القرآن، ج 5، ص: 244

المجموعة الاولى

اشارة

وهي الآيات التي تجيب على اعتراضات منكري المعاد الذين كانوا كثيراً ما يسألون النبي الأكرم صلى الله عليه و آله: كيف نحيى ثانيةً بعد أن نصبح تراباً وعظاماً رميمة؟ فتقول لهم هذه الآيات إنّ اللَّه قادرٌ على أن يحيي العظام المتفسخة وأن يُلبسها ثوب الحياة (أجل إنّه يحيي هذه الأجسام المؤلفة من العناصر المادية)، ومن هذه الآيات مايلي:

1- «وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِىَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْىِ العِظَامَ وَهِىَ رَمِيمٌ* قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِى انْشَأَهَا اوَّلَ مَرَّةٍ

وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ». (يس/ 78- 79)

2- «ايَحْسَبُ الْانْسَانُ الَّنْ نَّجْمَعَ عِظَامَهُ* بَلَى قَادِرِينَ عَلَى انْ نُّسَوِّىَ بَنَانَهُ».

(القيامة/ 3- 4)

3- «ايَعِدُكُمْ انَّكُمْ اذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَاباً وَعِظَاماً انَّكُمْ مُّخْرَجُوْنَ* هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوْعَدُونَ». (المؤمنون/ 35- 36)

4- «وَكَانُوا يَقولُونَ ءَاذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً ءَانَّا لَمَبْعُوثُونَ* اوَ آبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ* قُلْ إِنَّ الْاوَّلِينَ وَالأَخِرينَ* لَمجْمُوعُونَ الَى مِيقَاتِ يَومٍ مَّعْلُومٍ». (الواقعة/ 47- 50)

5- «ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِانَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا ءَاذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً ءَانَّا لَمَبعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيْداً» «1». (الاسراء/ 98)

جمع الآيات وتفسيرها

كيف تحيى العظام البالية؟

بما أننا تعرضنا لتفسير الآيات المذكورة وبحثناها في المواضيع السابقة فسوف نكتفي بالتركيز على بحث أجزاء منها تتعلق ببحثنا هذا:

__________________________________________________

(1) وهناك آيات متعددة اخرى أيضاً وردت في القرآن المجيد ولكن بسبب مشاكلتها في المضمون مع الآيات المذكورة اكتفينا بذكر الآيات أعلاه.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 245

فالآية الاولى تجيب بصراحة عن هذا السؤال وتقول: «يُحْيِيهَا الَّذِى انْشَأَهَا اوَّلَ مَرَّةٍ».

وجملة «يُحييها» تدل على احياء الأجسام بكل وضوح، ولو لم يكن في القرآن الكريم إلّا هذا التعبير لكان وافياً في إثبات هذه المسألة، مع أنّنا ذكرنا آنفاً بأنّ هناك مئآت الآيات التي وردت للدلالة على إعادة الأجسام.

وممّا تجدر الإشارة إليه هو أنّ الآية المذكورة تؤكّد على احياء نفس هذا «الجسم المؤلف من العناصر المادية»، لا جسم آخر مشابه له أو جسم برزخي ونصف مادي.

والآية الثانية ابطلت ادّعاء اولئك الذين يرون أنّ اللَّه لا يعيد عظام الإنسان فقالت بكل وضوح: إننا لا نعجز عن إعادة الإنسان مرّة اخرى «بَلَى قَادِرِينَ عَلَى انْ نُّسَوِّىَ بَنَانَهُ».

ووضوح هذه الآية في الدلالة على المعاد الجسماني ممّا لا يشوبُهُ أيّ ريب.

وأشارت الآية الثالثة إلى مجادلة قوم «1» ثمود لنبيهم صالح، إذ قالوا في محاورتهم وهم

يقرّعون نبيّهم: «ايَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ اذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَاباً وَعِظَاماً انَّكُمْ مُّخْرَجُوْنَ* هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوْعَدُونَ».

فهذه التعبيرات تشير إلى أنّ نبي هؤلاء القوم وهو صالح أو هود عليه السلام كان يعدهم بأنّ أجسامهم سوف تعاد يوم القيامة، إلّاأنّهم عارضوه بشدّة وأخيراً ابتلاهم اللَّه بعذاب شديد واهلكهم عن آخرهم بسبب تكذيبهم (كما دل على ذلك ما ورد في هذه الآيات من سورة الحج).

وفي الآية الرابعة كان الحديث عن «أصحاب الشمال» وقد كرر القرآن ذكر هذا المعنى فقال: «وَكَانُوا يَقُولُونَ ءَاذَا مِتْنا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً ءَانَّا لَمَبعُوثُونَ».

وهذا الذم العنيف في الواقع جاء دفاعاً عن هذه الحقيقة وهي أنّ العظام التي أصبحت تراباً سوف تلبس ثوب الحياة ثانية.

والآية الخامسة والاخيرة تحدثت عن جميع الكفار أيضاً، قال تعالى: «ذَلِكَ جَزَاوُهُمْ

__________________________________________________

(1) لم يصرّح في الآية المذكورة باسم القوم أو اسم نبيهم، فالبعض يرى أنّ هؤلاء هم قوم ثمود (قوم صالح) والبعض الآخر يرى أنّهم قوم عاد (قوم هود)، ولكن بالالتفات إلى نوع العذاب (وهو الصيحة) الذي ذكرت في ذيل الآية فإنّه من المناسب أن يكونوا هم قوم ثمود.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 246

بِانَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا ءَاذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً ءَانَّا لَمَبعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً».

ويستفاد من هذه الآية بالإضافة إلى ماتقدم بأنّ منكري المعاد الجسماني هم من أصحاب النار، وهذا دليل آخر لإثبات المدّعى

ومن خلال الآيات المذكورة نصل بسهولة إلى هذه النتيجة وهي إن الجسم بعد فنائه يعود إلى الحياة مرّة اخرى

المجموعة الثانية:

اشارة

وهذه المجموعة هي عبارة عن الآيات التي صرّحت بخروج البشر من القبور يوم القيامة، فالقبور هي محل رقود الأجسام وهذا واضح من دون الحاجة إلى دليل، وهذا التعبير دليل واضح آخر على المعاد الجسماني.

وقد ورد هذا النوع

من الآيات في القرآن بكثرة أيضاً إلّاأننا نكتفي بذكر نماذج منها:

1- «وَانَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَارَيْبَ فِيهَا وَانَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي القُبُورِ» «1». (الحج/ 7)

2- «وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَاذَا هُمْ مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ» «2». (يس/ 51)

3- «قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَّرْقَدِنَا هذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ المُرْسَلُونَ».

(يس/ 52)

جمع الآيات وتفسيرها

كيف يُبعث من في القبور؟

طُرحت الآيات المذكورة أعلاه تحت ثلاثة عناوين (الخروج من القبور والأجداث

__________________________________________________

(1) جاء نفس المضمون في سورة الانفطار الآية 4 والعاديات الآية 9.

(2) ورد هذا المعنى في آيتين أُخريين من القرآن الكريم (المعارج 43؛ والقمر 7).

نفحات القرآن، ج 5، ص: 247

والمرقد) وإذا شفعناها بالآيات المشابهة لأصبح عددها سبع آيات، وكل هذه الآيات تبحث بوضوح في مسألة المعاد الجسماني.

ففي الآية الاولى قال تعالى «وَانَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَارَيْبَ فِيهَا وَانَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي القُبُورِ».

وممّا لا شك فيه هو أنّ ما يَرْقُد في القبور هي أجسام البشر، وهذا التعبير يشير إلى أنّ ما يُحيى هو ذلك الجسم المادي.

وورد التعبير ب «الأجداث» في الآية الثانية بدلًا من القبور، و «الأجداث» جمع «جَدَث» (على وزن قَفَصْ) بمعنى القبر، قال بعض اللغويين إن «جدث» لغة «أهل تهامة» أمّا «أهل نجد» فإنّهم يستعملون كلمة «جدف» بدلًا عن «جدث».

على أيّة حال فإنّ هذا التعبير لا يدلّ إلّاعلى المعاد الجسماني، وذلك لأنّ القبور تضم في باطنها أجساد البشر أو عظامهم البالية وترابهم، وخروج الناس من القبور يوم القيامة هو دليلٌ حيّ على احياء تلك الأجساد.

وفي الآية الثالثة نواجه تعبيراً ثالثاً هو مسألة بعث الأموات من «مرقدهم»، ويتمّ ذلك بهذا النحو وهو إنّ مجموعة من الكفار عندما يبعثون من مرقدهم ويرون أنّهم عادوا للحياة وقامت القيامة يضجون بالصياح والعويل

ويقولون: «يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَّرْقَدِنَا هذَا». و «مرقد» من مادّة «رقود» و «رقاد» بمعنى النوم ليلًا أو نهاراً، ويرى بعض اللغويين أنّه يختص بالنوم ليلًا، وقيل أيضاً إنّه في الأصل بمعنى الاستقرار والنوم عند نزول البلايا المعضلات (أي النوم المُسكِّن) لذا استُخدم في المكث عند معالجة المعضلات أيضاً.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 248

بناءً على هذا ف «المرقد» بمعنى المقر ومحل الاستراحة ومحل النوم، واطلق على القبر من أجل أنّ الميت يتحرر من الابتلاءات النازلة في هذه الدنيا وكأنّه يغرق في القبر في نومٍ مُسكّن ومُهدى ء «1».

واستعمال هذا التعبير بشأن القبور لوجود شبه كبير بين النوم والموت، من أجل هذا قالوا النوم أخُ الموت.

وقال البعض: إنّ هدف المنكرين من استعمال هذا التعبير هو أنّهم أرادوا بذلك أن يظهروا شكهم مرّة اخرى ولسان حالهم يقول هل كنّا نياماً فاستيقظنا أم كُنّا أمواتاً فعدنا للحياة؟! ولكن لا يلبثون حتى يجيبوا عن سؤالهم هذا ويعترفوا بالحق قائلين: «هَذا مَا وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ المُرْسَلُونَ».

فهؤلاء ومن خلال وصفهم اللَّه ب «الرحمن» كأنّهم يريدون التمسك بالرحمة الإلهيّة بالإضافة إلى اعترافهم بخطئهم لعلهم يصلحون ماضيهم الأسود بسلوكهم هذا الطريق.

ومهما يكن من شي ء فإنّ هذا التعبير دليل آخر على صحّة المعاد الجسماني، وذلك لأنّ المعاد إن كان بالروح فإنّ ذكر «المرقد» لا يكون له أيّ معنى

المجموعة الثالثة:

اشارة

وهي الآيات التي تتحدث عن خلق الإنسان من التراب وعودته إلى التراب ثانياً وحشره مرّة اخرى منه، مثل:

1- «مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً اخْرَى . (طه/ 55)

2- «وَاللَّهُ انْبَتَكُمْ مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً* ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ اخْراجاً».

(نوح/ 17- 18)

3- «قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ». (الاعراف/ 25)

__________________________________________________

(1) مقاييس اللغة؛ وصحاح

اللغة؛ والتحقيق في كلمات القرآن مادة (رقد).

نفحات القرآن، ج 5، ص: 249

جمع الآيات وتفسيرها

من التراب نخرجكم تارة اخرى

تخللت الآية الاولى قصة موسى وفرعون، لكن الخطاب كان من قبل اللَّه تعالى عندما أشار إلى الأرض في الآيات السابقة، قال تعالى «مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً اخْرَى .

فنحن جميعاً خُلقنا من التراب، إمّا لأننا خلقنا من آدم وآدم من تراب، وإمّا من أجل أنّ جميع الأغذية (من نباتات أو حيوانات تتغذى على النباتات) التي ينشأ منها لحمنا وجلدنا وعظامنا، قد خُلقت من التراب فمن البديهي أن نعودَ جميعاً إلى التراب ونُبعث ثانيةً من التراب، وهذا دليل واضح على إثبات المعاد الجسماني، وهذا التعبير، بالإضافة إلى كونه جواباً لمن يقول بعدم إمكان تحقق المعاد بعد تحلل الأجسام وتحولها إلى تراب، وجواباً لمن غفلوا عن كونهم خلقوا من التراب، فهو انذارٌ لجميع الطغاة والمستكبرين المتغطرسين أمثال فرعون وأعوانه لاعلامهم بأنّهم كانوا في بداية الأمر تراباً وسوف يعودون إلى التراب ويخرجون تارةً اخرى من التراب ويُحضرون في محكمة العدل الإلهيّة.

إن أدنى تأمّل في مراحل وجود الإنسان يكفي لتحطيم غروره واحياء روح التواضع والتسليم أمام الحق في أعماقه.

والآية الثانية جاءت على لسان النبي نوح عليه السلام حيث شبّه الإنسان بالنبات الذي ينبت في التراب، قال تعالى «وَاللَّهُ انْبَتَكُمْ مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتاً* ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا ويُخْرِجُكُمْ اخْراجاً» «1».

إنّ استعمال «الإنبات» في مورد الإنسان تعبير لطيف جدّاً، والمراد منه هو لفت الأنظار

__________________________________________________

(1) تقتضي القاعدة في هذه الآيات بوجوب استخدام كلمة «انباتاً» التي هي مصدر لفعل «أنبتكم» لكن بعض المفسرين يرى أنّ هناك تقديراً في الآية على النحو التالي: «أنبتكم من الأرض فنبتكم نباتاً- أو- أنبتكم من الأرض انبات النبات» (تفاسير الكبير؛ وروح الجنان؛ والميزان).

نفحات القرآن، ج 5،

ص: 250

إلى التشابه الكبير بين القوانين السائدة على الحياة النباتية وعلى الحياة الإنسانية، بالإضافة إلى أنّ اللَّه تعالى لا يُعتبر معلماً للإنسان فحسب، بل هو كالفلاح الذي يزرع البذور في الجوّ الملائم ويستمر في سقيها ومداراتها حتى تُخرجُ ثمرها وهو الاستعداد الذي يكمن فيها!

إننا نعلم بأنّ النباتات التي تستحق الحياة هي النباتات التي تنبت وتنمو كي تعطي ثمراً وظلًا وتساهم في تنقية الهواء، فإن لم تكن كذلك فهي لا تنفع إلّافي استعمالها حطباً، وهكذا الحال في الإنسان، قال الشاعر الفارسي:

لتُحرق الأشجار غير المثمرة هذا جزاء لِلذي لا ينفع! وعلى أيّة حال فإنّ هذه الآية تدل بوضوح على تحقق المعاد الجسماني، وذلك لأنّها تقول: سوف تعودون إلى التراب وتبعثون منه، فأنتم في بداية الأمر كنتم تراباً وسوف تُبعثون مرّة اخرى من التراب.

وتحدثت الآية الثالثة عن آدم وحواء ونسلهم، قال تعالى «قَال فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوْتُوْنَ وَمِنْهَا تُخْرَجُوْنَ».

وجملة: «وَمِنْهَا تُخْرَجُوْنَ» دليل واضح على تحقق المعاد الجسماني من وجهة نظر القرآن المجيد، ولا يمكن بأيّ وجه أن تدل على معاد الروح فقط أو على المعاد النصف جسماني (أي بالجسم البرزخي).

كما أنّ هذا التعبير يشير أيضاً إلى أنّ مسألة المعاد الجسماني كانت مطروحة على طاولة البحث منذ بداية خلق آدم عليه السلام ولا يختصُّ طرح هذه المسألة بعصر ظهور الإسلام ونزول القرآن المجيد.

المجموعة الرابعة:

اشارة

وهي الآيات التي تُشبِّه بعث الإنسان مرّة اخرى بحياة الأرضِ بعد موتها، مثل:

نفحات القرآن، ج 5، ص: 251

1- «وَاللَّهُ الَّذى أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ الَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَاحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذلِكَ النُّشُورُ». (فاطر/ 9)

2- «وَاحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الخُرُوجُ». (ق/ 11)

جمع الآيات وتفسيرها

المعاد يشبه إحياء الأرض بعد موتها

لقد تعرضنا في هذه الآيات في البحوث السابقة لمناسبات اخرى وهنا نتعرض لبحثها من زاوية اخرى وهي أنّ القرآن المجيد شبّه نشور الناس بحياة الأرض عند نزول المطر فقال: «كَذلِكَ النُّشُوْرُ». وقال في موردٍ آخر: «كَذلِكَ الخُرُوجُ».

فهذه التعبيرات والتعبيرات المشابهة لها تتطرق للمعاد الجسماني، وذلك لأنّ الجسم المادي إذا لم يتلبس بالحياة مرّة اخرى فإنّه سوف لن يكون له ايّ شبه بالأرض التي تحيى بعد موتها، لأنّ معاد الروح بمعنى بقاءها بعد موت الجسم، فما هو العامل المشترك بين احيائها واحياء الأرض ليكون التشبيه صحيحاً؟!

وكما أشرنا آنفاً فإنّ القرآن يحتوي على آيات اخرى تحمل نفس هذه المضمون أيضاً وردت بعبارات وصورٍ مختلفة تدل جميعها على تحقق المعاد الجسماني.

المجموعة الخامسة:

اشارة

وهي الآيات التي تشير إلى شدّة مخالفة اعداء نبي الإسلام صلى الله عليه و آله أو سائر الأنبياء في مسألة المعاد، اولئك الذين كانوا يرون أنّ الاعتقاد بمسألة الاحياء بعد الموت ضربٌ من الجنون (والعياذ باللَّه) وكانوا يعدّونه من الامور العجبية غير المألوفة.

فلو كان النبي الأكرم صلى الله عليه و آله يدعو الناس للتصديق بمسألة تحقق المعاد بالروح فقط لما كان هذا من العجائب طبعاً، وذلك لأنّ عرب الجاهلية كانوا يعتقدون ببقاء الروح ولم يكن بقاء الروح آنذاك أمراً عجيباً.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 252

وبالإضافة إلى ذلك تشير هذه الآيات إلى أن تعجب هؤلاء نابع من عدم تصديقهم بإمكانيّة جمع أجزاء الإنسان التي تحللت في التراب.

فلنتأمل الآن بهذه الآيات:

1- «وَقَالَ الَّذينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ اذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفْى خَلْقٍ جَديدٍ* افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً امْ بِهِ جِنَّةٌ». (سبأ/ 7- 8)

2- «إِنْ هُوَ إِلّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً ومَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤمِنينَ».

(المؤمنون/ 38)

جمع الآيات وتفسيرها

هل يمكن أن نُخلقُ من التراب ثانية؟

قد تعرضنا سابقاً لتفسير هذه الآيات أيضاً، لكننا هنا ننظرإليها من زاوية اخرى جديدة، وكل مافي الأمر أنّ المشركين الذين عاصروا النبي صلى الله عليه و آله والذين هبّوا لمعارضته قالوا: لقد ظهر رجلٌ يدّعي بأنّكم سوف تُبعثون مرّة اخرى بعد أن تتحولوا إلى تراب وينتشر ترابكم في كلِّ صوب، ثم يصفون هذا الادّعاء بالافتراء على اللَّه وأن قائله أصابه مسٌ من الجنون، أي أنّه إنْ لم يكن مجنوناً فقد افترى على اللَّه كذباً كي يخدع الناس بذلك، وإلّا فإنّه تحدّث بهذا بسبب ما أصابه من الجنون!

وفي الآية الثانية نواجه نفس هذا المعنى أيضاً، فهذه الآية تتحدّث عمّا جاءَ على لسان قوم ثمود عند مقابلتهم لنبيّهم صالح، فعندما تحدّث لهم النبي صالح عليه السلام عن المعاد غضبوا عليه وعدّوا ذلك نوعاً من الافتراء والكذب على اللَّه!.

لقد كانت جميع هذه الاعتراضات التي جُوبه بها نبي الإسلام صلى الله عليه و آله أو النبي صالح عليه السلام أو سائر الأنبياء منبثقة من دعوة الأنبياء الناس للتصديق بتحقق المعاد الجسماني، فإنْ لم يكن الأمر كذلك فما معنى هذه الاعتراضات الشديدة، فهذه الامور تعتبر أدلة اخرى ممّا ورد في القرآن المجيد لإثبات تحقق المعاد الجسماني.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 253

المجموعة السادسة:

اشارة

وهي الآيات التي تحدثت عن أنواع النعم الماديّة في الجنّة كالفواكه والأنهار والأرائك وأنواع الشراب وأنواع الملابس الفاخرة والظل وأنواع الأشجار وعن جميع الملاذ الجسمية الاخرى وعدد ما ورد في القرآن من هذه الآيات ممّا لا يحصى

ومن البديهي عدم إمكانية حمل جميع معانيها على المجاز فنصرف الألفاظ عن معناها الحقيقي من دون ايّ قرينة، فرغم اختلاف هذه الفواكه والأشربة والملابس والأطعمة الموجودة في الجنّة عن أمثالها في الدنيا

وبالرغم من أننا اسارى هذه الدنيا المحدودة وأننا لا نتمكن من درك تلك الآفاق بصورة مُثلى إلّاأنّ هذه النعم مهما كانت كيفياتها فهي نعم مادية ولا يكون ذكرها مناسباً إلّامن أجل تحقق المعاد الجسماني.

بالإضافة إلى عدم انحصار نعم الجنّة بالنعم المادية وأنّ هناك نعماً ومواهب معنوية وروحية لا مثيل لها أيضاً إلّاأنّ هذه النعم لا تتنافى مع وجود النعم المادية.

وبتعبير آخر: بما أنّ المعاد يتحقق بالجسم والروح معاً فإنّ نعم الجنّة لها حيثية مادية وروحية معاً، بناءً على هذا لايصح أن نحصرها في البعد الروحي ونغض النظر عن جميع هذه الآيات الواضحة.

أمّا بالنسبة لعدد هذه الآيات فإنّه قد يبلغ المئات، وما نذكره من نماذج فيما يلي هو من سورة واحدة من القرآن المجيد وهي سورة الرحمن فمن أراد تفصيلًا أكثر عليه تتّبع باقي الآيات في مواضع اخرى من القرآن:

1- «وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ». (الرحمن/ 46)

2- «ذَوَاتَا افْنانٍ». (الرحمن/ 48)

3- «فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ». (الرحمن/ 50)

4- «فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ». (الرحمن/ 52)

5- «مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ اسْتَبْرَقٍ». (الرحمن/ 54)

6- «وَجَنَى الجَنَّتَيْنِ دَانٍ». (الرحمن/ 54)

نفحات القرآن، ج 5، ص: 254

7- «ومِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ». (الرحمن/ 62)

8- «فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ». (الرحمن/ 66)

9- «فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ». (الرحمن/ 68)

10- «فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ». (الرحمن/ 70)

11- «حُوْرٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الخِيَامِ». (الرحمن/ 72)

12- «لَمْ يَطْمِثْهُنَّ انْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ». (الرحمن/ 74)

13- «متَّكِئيْنَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرىٍّ حِسانٍ». (الرحمن/ 76)

جمع الآيات وتفسيرها

نِعَم الجنّة المادية دليلٌ على تحقق المعاد الجسماني

كما لاحَظْتمُ فإنّ سورة الرحمن لوحدها والتي تعتبر من قصار السور تقريباً قد احتوت على اثني عشر نوعاً من نعم الجنّة المادية على الأقل، وهذه الأنواع هي: بساتين الجنّة والأشجار المثمرة المتنوعة والفواكة المختلفة التي تدنو من أهل الجنّة ليسهل قطفها، وفرش الجنّة

المصنوعة من قماش ناعم وجميل والزوجات الباكرات اللواتي يشبهن الياقوت والمرجان لشدّة جمالهن والعيون الجارية والحور المستورات في خيام الجنّة والأرائك المزينّة بأنواع الأقمشة الجميلة التي يتكئ عليها أهل الجنّة وما شابه هذه النعم.

وقد ورد في القرآن ذكر نماذج اخرى أيضاً في سور اخرى كثيرة جدّاً كأنّهار الجنّة التي تحتوي على أشربة مختلفة والأواني المختلفة التي يستخدمها أهل الجنّة وغرف الجنّة وأرائكها التي يتكئون عليها متقابلين يتسامرون.

فقد ورد ذكر هذه النعم الماديّة في الآيات بصورة متتالية أحياناً وهذا النحو من ذكر الآيات لا يُبقي أي مجال للشك والتردد في أنّها نعم ماديّة فلنتأمل بالإضافة إلى ماسبق في عدّة آيات قصيرة وجميلة من سورة «الغاشية»:

نفحات القرآن، ج 5، ص: 255

«وُجُوهٌ يَوْمِئِذٍ نَّاعِمَةٌ». (الغاشية/ 8)

«فِى جَنَّةٍ عَالِيَةٍ». (الغاشية/ 10)

«فِيْهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ». (الغاشية/ 12)

«فِيْهَا سُرُرٌ مَّرْفُوْعَةٌ». (الغاشية/ 13)

«وَاكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ». (الغاشية/ 14)

«وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ». (الغاشية/ 15)

«وَزَرابِىُّ مَبْثُوتَةٌ». (الغاشية/ 16)

ففي هذه السورة التي بلغ عدد آياتها ستاً وعشرين آية قد اختصت سبع آيات منها بالمعاد الجسماني ونعم الجنّة المختلفة، فإذا أردنا احصاء جميع آيات القرآن التي اختصت بهذا المبحث فإننا بهذا تحصل على عدد كبير من هذه الآيات.

ومن الضروري هنا أيضاً أنْ نوضّح أمرين:

1- إنّ نِعَم الجنّة لا تقتصر على النعم الماديّة فحسب، بل تحتوي على نعم روحية ومعنوية كثيرة أيضاً- سوف نتطرق لبحثها باذن اللَّه في محلها المناسب-، ولكن هل من الممكن أساساً أن يوفِّر اللَّه تعالى جميع هذه النعم المادية لتنعّم الجسم بها من دون أن يوفّر النعم والمواهب الملائمة للروح التي تعتبر الجزء الرئيسي في وجود الإنسان والتي هي أرقى وافضل من الجسم من جميع النواحي؟ كلّا طبعاً، لكنّ عدم ذكر هذه النعم هو

لسبب قصور الألفاظ عن بيانها وشرحها ولعدم امكان دركها إلّاعن طريق الوصول إليها، من أجل هذا لم يأت شرحها في القرآن المجيد، ولكن رغم ذلك فقد وردت عدّة تعابير غامضة ومختصرة وجذّابة في هذا المجال لبيان عمق وعظمة هذه النعم، وسوف نتحدث عنها بالتفصيل في بحثٍ مستقل.

2- إنّ البعض تجرأ في تاويل جميع هذه الآيات بجسارة وحملها على مفاهيم خارجة عن دلالة ظاهر ألفاظها وعدّها كناية عن النعم المعنوية، لكنّ القواعد المعروفة في باب الألفاظ لا تسمح لنا أبداً بأن نرتكب مثل هذا العمل، فإذا ما سمحنا لأنفسنا باستخدام هذه

نفحات القرآن، ج 5، ص: 256

التأويلات فإنّه سوف لن يبقى هناك أيّ معنىً لحجيَّةِ الظواهر وسوف تخرج الألفاظ عن كونها وسيلة لنقل المفاهيم وتفقد أصالتها وأهميّتها بالمرّة، وهذا العمل نوع من التجرّي على اللَّه والقرآن المجيد.

المجموعة السابعة:

اشارة

وهي الآيات التي تحدّثت عن جزاء المجرمين وعقابهم يوم القيامة، وهذه العقوبات لها حيثية مادّية، فإذا كان المعاد بالروح فقط فإنّه يجب أن نحمل جميع هذه التعبيرات على معانيها المجازية، وهو عملٌ غير مسموح به أبداً.

وهنايجب أن نذكّر ثانية بأنّ عقوبات يوم القيامة على نوعين: عقوبات معنوية وعقوبات مادية، وقد ورد ذكر كلا النوعين في آيات القرآن رغم تركيز القرآن على ذكر العقوبات المادية، وذلك لما أشرنا إليه في البحث السابق.

أمّا بالنسبة لعدد هذه الآيات فهو كثير جدّاً، ولنمعن فيما يلي بنماذج منها:

1- «وَاصْحَابُ الشِّمَالِ مَا اصْحَابُ الشِّمَالِ* فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ* وَظِلٍّ مِّنْ يَحْمُومٍ* لَا بَارِدٍ وَلَاكَريمٍ». (الواقعة/ 41- 44)

2- «يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوْبُهُم وَظُهُورُهُم».

(التوبة/ 35)

3- «... وَقَالُوا لَاتَنْفِرُوا في الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ اشَدُّ حرّاً لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ».

(التوبة/ 81)

4- «...

كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ امَعَاءَهُمْ». (محمد/ 15)

5- «يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ». (القمر/ 48)

6- «تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً* تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ* لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ الّا مِنْ ضَرِيعٍ* لَّايُسْمِنُ وَلَا يُغْنِى مِنْ جُوعٍ». (الغاشية/ 4- 7)

نفحات القرآن، ج 5، ص: 257

7- «انَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ* طَعَامُ الْاثِيم* كَالمُهْلِ يَغْلِى فِي البُطُونِ* كَغَلْىِ الْحَمِيْمِ». (الدخان/ 43- 46)

جمع الآيات وتفسيرها

دليل آخر على كون العذاب المادي في جهنم

يتضح الجانب الذي يخص بحثنا في تفسير هذه الآيات بشكل كامل، بدون حاجة للاطالة فيه لأنّ الآيات تحدثت عن نار جهنم التي يسحب المجرمون فيها على وجوههم.

وفيها نار وقودها كنوز الدراهم والدنانير التي لم تدفع الحقوق الإلهيّة منها فتحمى وتكوى بها جباه أصحابها وجنوبهم وظهورهم.

وكذلك ورد فيها الحديث عن الرياح ذات السموم القاتلة، وماء الحميم، وظلل من النار التي تنتظر المجرمين.

وكذلك جاء الحديث فيها عن الوجوه التي ترد جهنم وعن العيون الآنية التي يسقون منها ولا طعام لهم فيها إلّاالضريع.

وتحدثت عن شجرة الزقوم التي هي طعام المذنبين وكذلك عن الشراب الحميم الذي هو كالمهل يغلي في البطون.

هذه الشواهد كلها وما شابهها دلائل واضحه على المعاد الجسماني.

المجموعة الثامنة:

اشارة

وهي الآيات التي تتحدث عن اعضاء جسم الإنسان مثل اليد، والرجل، والعين، والاذن، واللسان، والوجه والجلد، وجميعها تدل على المعاد الجسماني.

ومثل هذه الآيات كثيرة في القرآن الكريم وسنلقي النظر على النماذج التالية.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 258

1- «اليَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى افْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا ايْدِيْهِمْ وَتَشْهَدُ ارْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ». (يس/ 65)

2- «حَتّى اذَا مَا جَاؤُهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأبْصَارُهُمْ وَجُلُوْدُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ».

(فصلت/ 20)

3- «وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُّمْ عَلَيْنا قَالُوا انْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِى انْطَقَ كُلَّ شَىْ ءٍ».

(فصلت/ 21)

4- «فَامَّا مَنْ اوتِىَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَه ... وَامَّا مَنْ اوتِىَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُوْلُ يَالَيْتَنى لَمْ اوْتَ كِتَابِيَه». (الحاقّة/ 19- 25)

5- «وُجُوْهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرةٌ* ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ* وَوُجُوةٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ* تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ». (عبس/ 38- 41)

جمع الآيات وتفسيرها

تكلُّم اعضاء الجسم دليل ملموس آخر

بما أنّنا سنتعرّض لتفسير هذه الآيات في مباحث اخرى مثل بحث شهود يوم القيامة وبحث كُتب الأعمال فإننا هنا نتعرض لتفسيرها بصورة إجمالية ولا نبحثها إلّامن بُعدٍ واحد وهو (كيفية دلالتها على المعاد الجسماني).

فالآية الاولى تحدثت عن ختم الأفواه وتوقف اللسان عن النطق بصورة مؤقتة وتكلّم الأيدي والأرجل للادلاء بالشهادة على الأعمال التي ارتكبها الإنسان في الدنيا.

ومن البديهي أنّ هذه المسألة لا تنسجم سوى مع المعاد الجسماني، لأنّ المعاد إنْ كان ذا بعد روحي فقط لما كان هناك أيدٍ وأرجُل ولما كان هناك لسان وفم ولا أىّ نوع من التكلم.

وتحدثت الآيتان الثانية والثالثة عن شهادة الأذن والعين والجلد في يوم القيامة على الأعمال التي ارتكبها الإنسان.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 259

وإدلاء تلك الأعضاء بالشهادة قد يكون بواسطة اعطائها القدرة على النطق أو بلسان الحال، وذلك لأنّ الاذن والعين واليد والرجل والجلد تُسجِّلُ الأعمال في داخلها وتحتفظ بها وتظهر آثارها في

يوم القيامة الذي هو «يوم البروز» (سوف يأتي شرح هذه المطالب- باذن اللَّه- في بحث أشهاد يوم القيامة).

وتحدثت الآية الرابعة عن الذّين يأتون يوم القيامة وهم يحملون كتاب أعمالهم بيدهم اليمنى (للدلالة على موفقيتهم وطهارتهم وفوزهم) فيدعون الناس في المحشر بكل فخر واعتزاز لمطالعة كتب أعمالهم! وأمّا الذين يحملون كتب أعمالهم بيدهم اليسرى للدلالة على سوء أعمالهم فإنّهم ينادون بأعلى أصواتهم: ليتنا لم نؤت هذه الكتب!

والحديث هنا لم يقتصر على أعضاء البدن المختلفة فحسب بل قد أشير إلى اليد اليسرى واليمنى أيضاً.

وفي الآية الخامسة كان الحديث عن وجوه الصالحين المشرقة ووجوه الطالحين والمذنبين المغبرة المظلمة، وهذه الامور تدلّ أيضاً على أنّ المعاد يتحقق بإعادة الجسم.

وبالإضافة إلى ماتقدّم من نماذج هناك آيات كثيرة اخرى في القرآن تحدثت عن الأغلال والسلاسل التي تثقل اعنان المذنبين كما جاء في (سورة إبراهيم/ 43) و (الإنسان/ 4).

وهناك آيات اخرى تحدثت عن ظواهر تعرض على الجسم كضحك المؤمنين: «فَالْيَومَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الكُفَّارِ يضْحَكُونَ». (المطففين/ 34)

كما أشير في بعض الآيات إلى يوم القيامة بأنّه يوم رهيب تشخص فيه الأبصار من شدّة الخوف وتقف الاعناق عن الحركة وتبقى الوجوه مرتفعة نحو الأعلى ولا يرتد طرفهم وتبقى عيونهم مفتوحة من شدّة الخوف والرعب: «انَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَومٍ تَشْخَصُ فِيهِ الابْصَارُ* مُهْطِعِينَ مُقْنِعِى رُؤُسِهِمْ لَايَرتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ». (إبراهيم/ 42- 43)

وتحدثت بعضها عن عضّ الظالمين ايديهم حسرةً على مافاتهم: «وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ». (الفرقان/ 27)

وأمثال هذه الآيات.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 260

فهل يمكن أن تُحمل جميع هذه الآيات على الكناية والمجاز من دون أيّ دليلٍ واضح، وأن نضرب القواعد المسلّمة في استعمال الألفاظ عرض الحائط؟!

المجموعة التاسعة:

اشارة

وهي الآيات التي أشارت إلى نماذج عينية من تحقق المعاد

على مرّ التاريخ كقصة إبراهيم مع الطيور وقصة عزير أو أرمينيا عليه السلام وكقصة أصحاب الكهف وأحداث قتيل بني اسرائيل التي مرّ شرحها بالتفصيل تحت عنوان «النماذج العينية والتاريخية لتحقق المعاد» «1».

فجميع هذه النماذج تدلّ بوضوح على أنّ المعاد لا يختص بالجانب الروحي فحسب، بل تهتم بالجانب الماديّ أيضاً، وإنّ استفسار الناس والأنبياء عن مسألة المعاد يدور حول محور الحيثية المادية للمعاد وإراءة تلك النماذج لم يتمّ إلّامن أجل إثبات الجانب المادّي للمعاد.

وبما أننا تعرضنا بالتفصيل لبيان هذه الآيات فإننا لا نرى ضرورة في إعادة شرحها هنا.

ثمرة البحث:

بالاعتماد على المجموعات التسع من آيات القرآن المجيد التي تحدثت عن المعاد الجسماني بكل وضوح وطرحت تلك المسألة بطرق مختلفة وببيانات متنوعة لن يبقى أي مجال للشك في أنّ مسألة تحقق المعاد الجسماني (بمحاذاة المعاد الروحي) هي من الامور القطعية الحدوث من وجهة نظر القرآن المجيد وهذه المجموعات هي:

1- الآيات التي تحدثت عن إعادة العظام الرميم إلى الحياة مرّة اخرى

__________________________________________________

(1) راجع الصفحة 157 من هذا الكتاب.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 261

2- الآيات التي تحدثت عن بعث من في القبور.

3- الآيات التي تحدثت عن خلق الإنسان من التراب وإنّه سوف يعود إليه ثم يبعث منه مرّة اخرى

4- الآيات التي شبّهت احياء الموتى باحياء الأرض الميتة.

5- الآيات التي تحدثت عن مواقف اعداء الإسلام الصارمة ازاء مسألة تحقق المعاد (على الرغم من أنّ أكثر هؤلاء كانوا يؤمنون بمعاد الروح إلّاأنّهم كانوا يتعجبون من تحقق المعاد الجسماني).

6- الآيات التي تحدثت عن أنواع النعم المادية في الجنّة.

7- الآيات التي تحدثت عن أنواع العقوبات المادية في نار جهنم.

8- الآيات التي تحدثت عن اعضاء جسم الإنسان وما يطرأ عليها يوم القيامة كالعين

والاذن واليد والرجل والوجه والعنق، وأخيراً الآيات التي أشارتْ إلى نماذج عينية من تَحقّق المعاد.

ونظراً لصراحة وكثرة تلك الآيات يجب الاعتراف بأنّ المعاد الجسماني هو من الضروريات من وجهة نظر القرآن المجيد، أمّا اولئك الذين يبحثون عن طريق آخر فإنّهم غرباء عن القرآن وتعاليمه.

من هنا نّتجه لذكر توضيحات هذا البحث، لنذكر الأدلة التي اقيمت على إثبات المعاد الجسماني ثم نذكر ما أورده المخالفون بقالب منطقي ونتعرض لنقد تلك الايرادات.

توضيح

المعاد الجسماني في مقياس العقل:

هل يمكن إثبات المعاد بهذا الجسم المادّي المؤلف من العناصر المادية عن طريق العقل أم لا؟

يرى البعض عدم وجود دليل عقلي مقنع لاثبات هذه المسألة كما أنّه لا يوجد دليل على

نفحات القرآن، ج 5، ص: 262

نفيها أيضاً، وبما أننا لانمتلك دليلًا على استحالة ذلك فإننا نكتفي في هذا المجال بأدلة كتاب اللَّه والسنّة من دون تأويل ظواهرهما «1» وبتعبير آخر إنّ دليل العقل يعجز عن إثبات هذه المسألة فعندما يتمكن الدليل العقلي من إثبات ذلك فإنّه لا يبقى أمامنا سوى التسليم للدليل النقلي.

هذا بالإضافة إلى مايراه البعض من أنّ المعاد الجسماني مطابق للدليل العقلي ويقولون بأنّ روح الإنسان تنمو بموازاة نمو البدن وترتقي معه إلى الكمال. لذا فإنّه توجد هناك رابطة وثيقة بين «الروح» و «البدن» فتؤثّر حالات كلٍّ منهما في الآخر، فالآلام الجسمية تؤثّر على الروح كما أنّ الآلام الروحية تؤثّر على الجسم أيضاً، فالسكينة وراحة البال في كلٍّ منهما له تأثير إيجابي على الآخر بصورة تامة.

على هذا فإنّ الروح والجسم رفيقان حميمان ينشآن وينموان معاً.

ولا شك في أنّ الموت يقطع هذا الارتباط بصورة مؤقتة، ولكن من أجل إقامة العدالة الإلهيّة والوصول إلى العقاب والثواب التام يجب أن تعاد تلك الرابطة على مستوى ارقى

كي يتم لقاء الروح برفيقها الحميم ليتمكن من التحرك ونيل المواهب المعنوية والمادية التي اعدت لها في الآخرة أو تحمّل العذاب إن كانت تستحق العقاب.

وقصارى القول إنّ إعادة كل واحد من هذين الاثنين بمفرده يعني وجود نقص في المعاد وكمال المعاد لا يتمّ إلّاعن طريق إعادتهما معاً.

ورغم أنّ الروح هي التي تتلقى العقاب أو الثواب واللذة أو الألم لكننا نعلم جيداً بأنّ الكثير من هذه الآلام والملاذ تتلقاها الروح عن طريق الجسم، فإذا عُدِم الجسم فإنّ قسماً كبيراً من هذه الملاذ أو الآلام لن يبقى لها أيّ تأثير.

بناءً على هذا فالعقل يقول: يجب أن يقترن هذان ببعضهما في الآخرة كما كانا مقترنين في الدنيا، وذلك لأنّ كل واحد منهما يعتبر ناقصاً لوحده (فتأمل).

__________________________________________________

(1) قال المرحوم العلّامة المجلسي في بحار الأنوار: إنّ المعاد الجسماني هو من المسائل المتفق عليها بين الأديان ويعدُّ من ضروريات الدين، ومن أنكر ذلك فقد خرج عن الإسلام. فالآيات صريحة الدلالة على ذلك ولا تقبل التأويل كما أنّ الأخبار متواترة في هذا المجال ولا تقبل الانكار (بحار الأنوار، ج 7، ص 47).

نفحات القرآن، ج 5، ص: 263

شبهات جاحدي المعاد الجسماني

اشارة

لنرى هنا ما هو السبب الذي دعا عدداً من الفلاسفة وغيرهم لانكار مسألة المعاد الجسماني؟ وما هي العوامل التي دفعتهم لقبول هذا الاعتقاد؟

ومن خلال تتبع كلماتهم يُلاحظُ بأنّ «العوامل الثمانية» التالية هي السبب في مخالفتهم لهذا الاعتقاد:

1- استحالة إعادة المعدوم.

2- شبهة الآكل والمأكول.

3- معضلة تبدّل خلايا الجسم طيلة عمر الإنسان.

4- شّحة العناصر الترابية على قشرة الأرض.

5- إذا ما تحقق المعاد الجسماني على الكرة الأرضية فسوف تظهر معضلة اخرى وهي شحّه المكان.

6- كيف يحصل الجسم الذي من صفاته الفناء على حياة خالدة؟

7- لا يمكن الجمع بين

عودة الأرواح والأجسام.

8- نحن نعلم بأنّ جسم الإنسان يتبدّل عدّة مرّات طول فترة حياته، فهل تعود إليه جميع تلك المكونات عند المعاد أم لا يعود إلّابعضها؟

ولنبدأ ببحث كل واحد من هذه الإشكالات المذكورة:

1- استحالة «اعادة المعدوم»

إنّ عدداً من علماء العقائد نقلوا البحث في مسألة المعادِ إلى بحث إعادة المعدوم وقالوا:

نفحات القرآن، ج 5، ص: 264

بما أنّ جسم الإنسان يفنى عن آخره فإنّ إعادته يوم القيامة من قبيل إعادة المعدوم، ونحن نعلم باستحالة إعادة المعدوم، فمن هنا تصبح مسألة المعاد الجسماني أمراً معضلًا.

ولكننا لو أمعنّا النظر في هذه المسألة لتبيّن بأنّ إعادة المعدوم بتلك الصورة ليس بمحال، ويتضح أيضاً بأنّ المعاد ليس من قبيل إعادة المعدوم.

توضيح ذلك: لقد استدل الفلاسفة بأدلة متعددة على استحالة إعادة المعدوم، حتى أنّهم يرون بأنّ استحالة إعادة المعدوم إلى الوجود من الامور البديهية، وذلك لأنّ إعادة الشي ء يجب أن تكون إعادة من جميع الجهات، ومن البديهي أنّ الشي ء الذي كان موجوداً بالأمس يستحيل أن يعاد اليوم بجميع خصوصياته، وذلك لأنّ «وجوده بالأمس» هو من أحد خصوصياته فكيف يمكن أن نجمع بين اليوم والأمس في آن واحد؟ هذا عين التناقض.

ولكن إذا ما صرفنا «النظر عن هذه الخصوصية بالذات فإنّه لا يبقى أي مانع من إعادة عين الموجود الأول بجميع خصوصياته باستثناء خصوصية الزمان. ومن البديهي أنّ الموجود الجديد لا يكون عين الموجود السابق بالدقّة التامّة بل هو مثله، بهذا يعود النزاع في مسألة استحالة أو عدم استحالة المعدوم إلى نزاع لفظي، فالمنكرون يقولون باستحالة إعادة جميع الحيثيات، بينما يقول المؤيدون بإمكان الإعادة بجميع الحيثيات «باستثناء الزمان».

وممّا لا شك فيه أنّ أنصار تحقق المعاد الجسماني لا يعتقدون بإعادة نفس الموجود المقيد بالزمان الماضي، بل بإعادة

الشي في زمانٍ آخر فهو عين الموجود السابق من جهة ومثله من جهة اخرى (فتأمل).

وإذا ما تجاوزنا ذلك لا يُعتبر المعاد من مصاديق إعادة المعدوم، وذلك لأنّ الروح لا تفنى وتبقى بعينها، وبالرغم من اضمحلال الجسم وتفرّقه فهو «لا يفنى أيضاً، بل يتحوّل إلى تراب، وكل ما في الأمر أنّه يفقد شكله الظاهري فيعاد إليه يوم القيامة شكله السابق. فإذا كان المراد من إعادة المعدوم إعادة الصورة فحسب فإنّ ما يعاد يوم القيامة هو صورة مشابهة للصورة السابقة، لكنّ بقاء الروح مع وحدة مادة الجسم هما العامل الرئيسي لحفظ وحدة

نفحات القرآن، ج 5، ص: 265

شخصية الإنسان، لذا يمكننا القول: إنّ الإنسان هو نفس الإنسان السابق، لأنّ روحه عين تلك الروح ومادة جسمه عين تلك المادّة والفارق الوحيد هو إنّ صورة الجسم تشبه الصورة السابقة لا عينها، ومن المحتمل أن يكون التعبير ب «مثل» كما في قوله تعالى: «اوَ لَيْسَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْارْضَ بِقَادِرٍ عَلَى انْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ»؟! يشير إلى هذا المعنى (يس/ 81)

والطريف هو ما روي عن الإمام الصادق عليه السلام في تفسير هذه الآية: «كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوْداً غَيْرَهَا لَيَذُوقُوا الْعَذَابَ». (النساء/ 56)

في جوابه عليه السلام عن سؤال «ابن أبي العوجاء» عندما سأل الإمام عليه السلام: ماذنبُ الغير؟ (أي الجلود الاخرى ، فأجابه الإمام عليه السلام: «هى وهى غيرها». فطلب ابن أبي العوجاء توضيحاً أكثر وقال: اضرب لي مثلًا في هذا المجال ممّا اعتدناه في هذه الدنيا! قال الإمام عليه السلام:

«أرأيت لو أنّ رجُلًا أخذ لبنةً فكسّرها ثم ردّها في ملبنها، فهي هي وهي غيرها!» «1».

2- شبهة الآكل والمأكول

اشارة

إنّ شبهة «الاكل والمأكول» هي مسألة اخرى من المسائل التي طرحت على طاولة البحث وهي في

الحقيقة من أكثر معضلات مباحث المعاد الجسماني من ناحية التعقيد.

و توضيح ذلك: يتفق في بعض الأحيان أن تحل بعض أجزاء بدنِ أحد الناس في بدن شخص آخر، إمّا بصورة مباشرة كما يحصل ذلك عند حصول المجاعات حيث يتغذى بعض الناس على لحوم البشر، وإمّا بصورة غير مباشرة كما لو تحللت اجزاء الإنسان وتحولت إلى تراب فتتغذى النباتات من ذلك الجسم فيأتي إنسان آخر ويتغذى من تلك النباتات (كالخضر والحبوب والفواكه)، أو أن يتغذى أحد الحيوانات على تلك النباتات فيأكل الإنسان الآخر لحم تلك الحيوانات، كما أنّه من الممكن أن تتحلل بعض أجزاء جسم

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار، ج 7، ص 38، ح 6، وقد جاء نفس هذا المعنى في حديث آخر بصورة مختصرة (المصدر السابق، ص 39، ح 7) وقد ورد ذكر الحديث المذكور في نور الثقلين أيضاً في التعليق على الآية 56 من سورة النساء.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 266

الإنسان وتتحوّل إلى بخار وغازات فيستنشقها إنسان آخر فتحلُّ في جسمه.

ومن الممكن أيضاً أن تحل جميع أجزاء بدنِ الإنسان في بدن إنسان آخر بالتدريج.

من هنا يُطرح هذا السؤال وهو: بأيِّ جسم تختص هذه الأجزاء عندما تعود الروح إلى البدن؟ فإن كانت مختصة بالجسم الأول فالأجسام الاخرى تكون حينئذٍ ناقصة وإذا مااختصت بالأجسام الاخرى فسوف لن يبقى للجسم الأول شي ء، وبالإضافة إلى هذا من المحتمل، أن يكون أحد الشخصين صالحاً والآخر مذنباً فما مصير هذه الأجزاء في هذه الحالة؟

كما يستفاد أيضاً من سبب نزول الآية 26 من سورة البقرة في قصة إبراهيم عليه السلام والطيور الأربعة أنّ سؤال إبراهيم عليه السلام كان منحصراً في مجال المعاد الجسماني وشبهة الآكل والمأكول، وذلك لأنّ الحيوان الميت الذي شاهده

إبراهيم عليه السلام على ساحل البحر كان قسم منه في ماء البحر وكانت تتغذى عليه حيوانات البحر وكان القسم الآخر على اليابسة وكانت تأكُلُ منه الحيوانات البرية، وهذا المشهد هو الذي جعل إبراهيم عليه السلام يغرق في التفكير ثم عرض طلبه على اللَّه لمشاهدة كيفية إعادة الحياة للموتى

الجواب:

قد اجيب عن هذا الإشكال القديم بأجوبة مختلفة، وأشهر هذه الأجوبة هو التمسك بعدم فناء «الأجزاء الأصلية».

قال أنصار هذه النظرية: إنّ جسم الإنسان مركب من أجزاء أصلية وغير أصلية، فالأجزاءُ الأصلية هي التي لا تعرض عليها الزيادة ولا النقصان، وغير الأصلية ما تعرض عليها الزيادة والنقصان باستمرار.

فالأجزاء الأصلية تحافظ على بقائها بعد موت الإنسان وإذا ما تحولت إلى تراب فإنّ ذلك التراب لن يحل في جسم موجودٍ آخر، وفي يوم القيامة تنمو هذه الأجزاء فيتكون منها

نفحات القرآن، ج 5، ص: 267

جسم الإنسان ثم تحلّ فيها الروح.

وقد دعموا هذه النظرية بذكر عدّة روايات والتي منها: ما رواه مصدق بن صدقة عن عمار بن موسى عن الإمام الصادق حيث سئل عليه السلام عن الميت يبلى جسده، قال: «نعم حتى لا يبقى لحم ولا عظم إلّاطينته التي خلق منها فانّها لا تبلى، تبقى في القبر مستديرة حتى يخلق منها كما خلق أول مرّة» «1».

وجاء في رواية اخرى مرسلة عن الإمام الصادق عليه السلام أيضاً في قصة ذبح بقرة بني اسرائيل أنّه قال: «فأخذوا قطعةً وهي عَجْبُ الذنوب الذي منهُ خلِقَ ابنُ آدم، وعليه يُركبُ إذا اريدَ خلقاً جديداً فَضربوه بها» «2».

الجدير بالذكر أنّ الرواية الثانية ضعيفة السند لأنّها مرسلة، أمّا الرواية الاولى فهي ضعيفة أيضاً لحصول الاختلاف بين علماء الرجال في «عمرو بن سعيد» بالإضافة إلى أنّ هذه الروايات مخالفة

لظاهر القرآن- كما سيأتي شرحه-، لذا فلا يمكن التعويل عليها.

ومهما يكن من شي ء فإنّ العلوم التجريبية الحديثة أبطلت هذا الرأي من الأساس فهي لا ترى أي فرقٍ بين أجزاء الجسم وترى أنّ جميع أجزاء جسم الإنسان تتحول إلى تراب ومن الممكن أن تحلّ جميعها في أجسام أفرادٍ آخرين.

وقد أثبتت التجارب خلاف ما يعتقده أنصار نظرية الأجزاء الأصلية من أنّ الحلقة الأخيرة من العمود الفقري التي تسمى «عجبُ الذنب» هي الجزء الأصلي من أجزاء البدن وأنّها لا تفنى بمرور الزمان وكثيراً ما شاهدنا تبدّل جميع أجزاء البدن إلى رماد عند نشوب الحرائق كما أننا لم نشاهد أىّ فرق بين أجزاء الرماد المتخلف منها أيضاً.

وحتى لو تجاوزنا ذلك فإنّ النظرية المذكورة لا توافق ظاهر القرآن، لأنّ القرآن عندما أجاب عن إشكال الأعرابي الذي كان يحمل بيده عظماً رميماً قال: «قَالَ مَنْ يُحْىِ الْعِظَامَ وَهِىَ رَمِيمٌ* قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِى انْشأَهَا اوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ». (يس/ 78- 79)

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار، ج 7، ص 43، ح 21.

(2) المصدر السابق، ح 19.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 268

فإنّه من المستبعد جدّاً أنّ الأعرابي كان يحمل الحلقة الأخيرة من العمود الفقري عندما سأل عن ذلك.

كما يستفاد أيضاً من ظاهر قصة إبراهيم عليه السلام مع الطيور الأربعة أنّ الأجزاء المتفرّقة تعود جميعها إلى ما كانت عليه سابقاً.

وعلى أيّة حال لا يمكن الاعتماد على جواب هذه النظرية نظراً لما توصل إليه العلم الحديث، ونظراً للاستناد إلى آيات القرآن الواردة في هذا المجال، كما أنّه لا يمكن الاعتماد على خبر الواحد لإثبات هذه النظرية.

وقد سلك آخرون للردّ على «شبهة الآكل والمأكول» طريقاً آخرَ فقالوا: ليس من الضروري أن تعاد نفس الأجزاء السابقة

لجسم الإنسان، لأنّ شخصية الإنسان تكمن في الروح، وإذا ما حلّت الروح في جسمٍ ما فسوف يكون ذلك المركب عين الإنسان السابق، على هذا سوف لن يمس وحدة شخصية الإنسان أيّ ضرر بسبب التحولات التي طرأت على الجسم بسبب طول المدّة وتبدّل الأجزاء بأجزاء اخرى

بناءً على هذا فلا يوجد هناك مانع من أن يخلق اللَّه جسماً آخر لتحل فيه الروح، فتتنعم الروح بواسطة هذا الجسم بنعم الجنّة أو تتعذب بواسطته بعقوبات النار، فنحن نعلم بأنّ اللذة والألم يتعلقان بالروح وما الجسم إلّاواسطة لا أكثر!

لكنّ هذا الجواب غير صحيح أيضاً، لمعارضته ظاهر كثير من الآيات القرآنية، وقد مرّ علينا في البحوث السابقة تصريح القرآن بأنّ عين تلك العظام المتفسخة تخرج يوم القيامة من عين تلك القبور التي دُفِنت فيها، لا أنّ اللَّه يخلق جسماً آخر لتحلّ فيه الروح. بناءً على هذا فالجواب المذكور يفتقد القيمة العلمية أيضاً.

الجواب النهائي لشبهة الآكل والمأكول:

إنّ الجواب المتين الذي أُجيب به عن هذه الشبهة يحتاج إلى ذكر عدّة مقدمات:

نفحات القرآن، ج 5، ص: 269

1- نحن نعلم بأنّ أجزاء بدن الإنسان منذ مراحل الطفولة وحتى نهاية العمر تتبدّل عدّة مرات، وهذا التبدّل يشمل خلايا المخ أيضاً على الرغم من أنّ البعض يرى أنّ عددها ثابت إلّا أنّ محتواها متغيّر، وذلك لأنها تحتاج إلى «التغذية» من جهة و «تتحلل» وتتفسخ من جهة اخرى وهذان الأمران هما السبب في تبدّل محتوياتها بأكملها على مرّ الزمان.

والخلاصة: إنّه بمرور سبع سنين تقريباً لا يبقى أيّ أثر لخلايا الجسم السابقة وتحلّ محلّها خلايا جديدة.

ولكن يجب الالتفات إلى أنّ الخلايا السابقة عندما تموت تعطي جميع ما تحمله من صفات وخواص وآثار للخلايا الجديدة، لذا فإنّ خصوصيات جسم الإنسان من لون

وشكل ومواصفات جسمية اخرى تبقى ثابتة على مرّ الزمان، وهذا لا يتمّ إلّابانتقال صفات الخلايا القديمة إلى الخلايا الجديدة، (فتأمّل).

بناءً على هذا سوف تحمل أجزاء جسم الإنسان الأخيرة- عند الموت والتي سوف تتحول إلى تراب- جميع الصفات التي كان يتصف بها الإنسان طوال عمره وفي طياتها تاريخ ناطق بجميع فعاليات جسم الإنسان التي أدّاها خلال فترة حياته!

2- رغم كون الروح هي الأساس في تحقق شخصية الإنسان ولكن يجب الالتفات إلى أنّ الروح تنمو وتتكامل بموازاة نمو وتكامل الجسم، وإن كلًا منهما له تأثير متبادل على الآخر، وبما أنّ الجسمين المستقلين عن بعضهما لا يوجد بينهما شبه من جميع الجهات فإنّ الروحين المستقلّتين لا تتشابهان أيضاً بصورة تامّة، لذا لا يمكن لأيّ روح ممارسة نشاطاتها بصورة تامة بدون الجسم الذي نمت وتكاملت بموازاته، على هذا يجب أن يعاد يوم القيامة عين ذلك الجسم الذي كانت تحلّ فيه تلك الروح لتمارس نشاطها بعد حلولها بذلك الجسم على مستوى أرقى لتتمتع بنتائج الأعمال التي ارتكبها.

3- كل خليّة من خلايا الجسم تحمل جميع خصوصيات ذلك الجسم، فلو تمكنّا من تربية ايّ خلية من خلايا الجسم وتنميتها لتتحوّل إلى إنسان كامل فإنّ ذلك الإنسان الجديد سوف يحمل جميع الخصوصيات التي كانت تحملها تلك الخلية والتي ورثتها من الإنسان السابق، (فتأمّل).

نفحات القرآن، ج 5، ص: 270

أوَلَم يكن الإنسان في يومه الأول خلية واحدة؟ فتلك النطفة كانت عبارة عن خلية واحدة كانت تحمل جميع صفات ذلك الإنسان ونمت بالتدريج عن طريق الانشطار إلى خليتين ثم إلى اربع وهكذا حتى تكوّنت منها جميع خلايا بدن الإنسان. بناءً على هذا فإنّ كل خلية من خلايا الإنسان هي فرعٌ من تلك الخلية الاولى ولو أنّها

نمت وتكاملت مثل سابقتها لأصبحت إنساناً يشبه الإنسان السابق ويحمل صفاته من جميع الجهات.

4- يُستفاد من آيات القرآن في مجال المعاد الجسماني أنّ جسم الإنسان الاخير الذي تحول إلى تراب في القبر يحيى بأمر اللَّه ويُعدّ للجزاء.

ويؤيد هذا المعنى الآيات العديدة التي أشرنا إليها سابقاً في مجال المعاد الجسماني.

5- لا يمكن لجسمٍ ما أن يحلّ بجسم آخر بصورة تامّة، وبتعبير آخر لا يمكن أن يصبح الجسم الثاني عين الجسم الأول، بل قد يشكل الجسم الأول قسماً من الجسم الثاني، وذلك لأنّ هذا الأمر لا يتمّ إلّابوجود الجسم الثاني أولًا كي يتحول الجسم الأول- أو قسم منه- إلى جزءٍ من الجسم الثاني عن طريق التجزئة.

بناءً على هذا لا يوجد أيّ مانع من حلول جسم بصورة كاملة في جسم ثانٍ ويصبح «جزءاً» منه، ولكن المستحيل أن يصبح «جميع» أجزاء الجسم الثاني، كما يُحتمل حلول أجسام متعددة في جسم آخر لكنها لا يمكن أن تصبح جميع أجزائه، (فتأمل).

وبعد طرح هذه المقدّمات الخمس نتجه للجواب الرئيسي في الرد على شبهة الآكل والمأكول:

يقول القرآن بكل وضوح: إنّ مكونات جسم الإنسان التي يمتلكها عند الموت هي التي تبعث يوم القيامة، بناءً على هذا فلو حلّت هذه الأجزاء بعد تحولها إلى تراب في جسم إنسان آخر فإنّها سوف تعاد إلى صاحبها الأول يوم القيامة، لكن قد تقولون إنّ جسم الإنسان الثاني سيصبح ناقصاً لأنّه فقد قسماً من مكوناته. إلّاأنّهُ من الأفضل أن يقال إنّ جسم

نفحات القرآن، ج 5، ص: 271

الإنسان الثاني سوف يضمر (لا أن يكون ناقصاً) لأنّ أجزاء جسم الإنسان الأول بعد أن تغذّى عليها الإنسان الثاني قد انتشرت في جميع أعضاء بدنه لا أنّها حلت في مكانٍ معينٍ من

بدنه (لأنّ الغذاء الذي يتناوله الإنسان يوزّع على جميع أعضاء البدن)، بناءً على هذا فإنّه من الممكن أن يفقد الإنسان الذي وزنه سبعون كيلو غرام مثلًا نصف وزنه أو أن يفقد جميع مكوناته باستثناء كيلو غرام واحد منها أو حتى أقل من ذلك ولا يبقى منه إلّاجسم صغير بحجم جسمه الذي ولد به أو بحجم جسمه عندما كان جنيناً!.

ومع ذلك فإننا لا نواجه أيّة مشكلة، وذلك لأنّ الجسم الصغير يحمل في طياته جميع خصوصيات ذلك الجسم الكبير، فإذا ما نما فسوف يعود عين ذلك الجسم الكبير.

فالمولود في يومه الأول لا يمتلك إلّاجسماً صغيراً وقبل ذلك أي عندما كان جنيناً كان جسمه أصغر من ذلك فنما وكبُر حتى اصبح يحمل صفات الإنسان الكامل من دون أن تتبدّل شخصيته ويتحول إلى شخص آخر.

والسؤال الوحيد الذي ظل من دون اجابة هو: ما هو مصير الأجزاء التي أصبحت جزءً لجسمين أو عدّة أجسام إذا كان أحد صاحبيها مطيعاً والآخر مذنباً؟

والجواب عن هذا السؤال أمرٌ يسيرٌ أيضاً، لأنّه كما أشرنا سابقاً فإنّ الثواب والعقاب في الحقيقة يتعلقان بالروح، والدليل على ذلك هو عندما ينقطع الارتباط الموجود بين الروح والجسم بسبب فقدان الوعي بعد ممارسة عملية التخدير فإننا نرى أنّ الروح لا تتأثّر عند استخدام المَشرط الحاد حتى لو قطّع الجسم إرباً.

وبتعبير آخر: إنّ الثواب والعقاب واللذة والألم لا يختصان بالجسم بل ليس الجسم إلّا واسطة لإيصال آثار الثواب والعقاب واللذة والألم إلى روح الإنسان.

بهذا يتضح أنّ المعاد الجسماني- طبقاً لظاهر الآيات- يتحقق بعين هذا الجسم المؤلف من العناصر المادية، وحتى لو فرضنا أنّ شبهة الآكل والمأكول ترد على هذا الاستدلال فإنها سوف لن تخدش فيه أيضاً.

ومن الجدير بالذكر أنّ بعض

منكري المعاد الجسماني سعوا إلى تغطية حقيقة آرائهم في

نفحات القرآن، ج 5، ص: 272

الأوساط الإسلامية لتبرير جحودهم الواضح مخالفة للآيات القرانية وجاءوا بتعبيرات في مجال المعاد الجسماني تدل في الواقع على أنّ المعاد يتحقق بالروح فقط أو بالروح مع جسم مادي غير هذا الجسم.

فتمسكوا أحياناً بالجسم النوعي وقالوا: إنّ شخصية الإنسان تتمثل بروحه وهذه الروح إذا ما تعلقت بجسمٍ ما فسوف تشكل نفس ذلك الشخص.

وقالوا أحياناً بإعادة الجسم البرزخي أي الجسم النوراني اللطيف.

وتارةً قالوا: إنّ شيئية الشي ووجوده يكمنان في صورته لا في مادته، فحيثُما وُجِدَتْ الصورة وُجِدَ ذلك الشي، وإنّ روح الإنسان هي قوام هذه الصورة، بناءً على هذا فأينما وُجِدَتْ روح الإنسان فسوف تتحقق شيئيته ووجوده.

لكن هذه التعبيرات جميعها لا تتلائم مع تعبيرات القرآن الواردة في مجال المعاد الجسماني، والسبب في سلوك هؤلاء هذا الطريق هو ولعهم بكلام بعض الفلاسفة وعجزهم عن حلّ معضلة شبهة الآكل والمأكول، وهذا ممّا لا يليق بالعالم المسلم الذي يتمسك بتعاليم القرآن.

3- شحّة العناصر الترابية على سطح الأرض

هناك مسألة اخرى شغلت أذهان البعض واصبحت تمثّل معضلة من معضلات المعاد الجسماني هي مسألة شحّة العناصر الترابية على سطح الأرض.

توضيح ذلك: إننا إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار عدد البشر الذين وضعوا أقدامهم على الكرة الأرضية على مرّ التاريخ وكذلك البشر الذين يلونهم إلى يوم القيامة مع علمنا بأنّ هؤلاء جميعاً سوف يتحولون إلى كميّة هائلة من التراب فإنّه من الصعب جدّاً أن يكفي تراب الكرة الأرضية لإعادة هؤلاء جميعاً يوم القيامة إلّاأن نقول: إنّ البشر يبعثون يوم القيامة بحجم الدُّمى لكنّ هذا غير معقول أيضاً، وعلى أيّة حال فإنّ إعادة هؤلاء البشر بهذه المواصفات تشبه عملية صنع ملايين السيارات مثلًا من كمّية من الحديد

لا تزيد على الألف طن.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 273

الجواب:

ألم يكن من الأفضل لهؤلاء الذين يطرحون مثل هذه الإشكالات أن يُتعبوا أنفسهم قليلًا قبل طرحها وأن يأتوا بقلم وورق لإجراء احصاء بسيط في هذا المجال ليجدوا أنّ هذه الإشكالات لا أساس لها من الصحة؟

إنّ الماء يشكّل 65 خ إلى 70 خ من جسم كل إنسان. على هذا لا يشكل التراب إلّا مايقارب 30 خ من وزن الإنسان، فلو فرضنا أنّ التراب يشكّل كلّ وزن الجسم فيا ترى كم هو وزن كميّة من التراب مقدار حجمها متر مكعب واحد؟ إنّه لا يزيد على طنين أو ثلاثة اطنان!، فلو كان الوزن المتوسط لكل إنسان يبلغ ستين كيلو غرام فسوف يكفي كل متر مكعب واحد من التراب لخلق أربعين إنساناً تقريباً.

وطبقاً لهذه الاحصائية فإنّ الكيلومتر المكعب الواحد من التراب الذي هو عبارة عن «مليار متر مكعب» يكفي لخلق ما يقارب ثمانية اضعاف سكّان الأرض الحاليين، وبما أنّ عدد سكان الكرة الأرضية كان قليلًا جدّاً بالنسبة لسكان الأرض الحاليين فإنّه من المحتمل أن لا يزيد عدد جميع البشر الذين وطأوا الأرض على أربعين مليار نسمة.

وكل هذه الحسابات تدور حول كيلومتر مكعب واحد من التراب الذي هو كقطرة في بحر بالنسبة لحجم الكرة الأرضية، فإذا ما أجرينا هذه الحسابات على مائة كيلومتر مكعب أو ألف كيلومتر مكعب من التراب وهي نسبة ضئيلة جدّاً من حجم كل الكرة الارضية فإننا سوف نحصل على أرقام هائلة جدّاً وسوف تتضح لنا حقيقة الأمر بكل سهولة.

فبعد أن أجرينا هذه الاحصائيات على التراب تعالوا لنجري الاحصاءات في هذا المجال من زاوية الزمان.

فنقول: كم هو العمر المتوسط لحياة الإنسان؟ أو بتعبير آخر: كم عمر الجيل الواحد

من البشر؟

من المحتمل أن يكون عمر الجيل الواحد ما يقارب الخمسين سنة أو أقل أو أكثر من ذلك بقليل.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 274

بناءً على هذا يكفي الكيلومتر المكعب الواحد من التراب لخلق ثمانية أجيال أي يكفي لخلقهم لمدّة أربعة قرون تقريباً (هذا لو فرضنا أنّ عدد نفوس الأجيال السابقة بعدد نفوس الجيل الحالي، ومن البديهي أنّة لم يكن كذلك).

على هذا فكل ألفين وخمسمائة كيلومتر مكعب من التراب تكفي لخلق هذا العدد من البشر لمدّة مقدارها مليون سنة، ولخلقهم لمدّة أربعة ملايين سنة نحتاج لعشرة الآف كيلومتر مكعّب من التراب فقط.

ونحن على يقين بعدم وجود أيّة نظرية تُقدِّرُ عمر البشر على الكرة الأرضية بأكثر من أربعة ملايين سنة، لكننا لا نعلم كم هي مدّة الفترة الزمانية الفاصلة بين وقتنا الحاضر وبين نهاية الحياة على الأرض.

لذا فإننا لو أجرينا هذا الاحصاء بأي نحو كان فلن يمثّل التراب المتخلّف من جميع البشر على مرّ التاريخ إلّاكمية ضئيلة جدّاً لا تقدّر بأكثر من رقعة صغيرة من الأرض تبلغ مساحتها الف كيلومتر مكعب لا أكثر في بلد صغير.

هذا بالإضافة إلى أنّ احصاءاتنا كانت جميعها بحسابات الحد الأعلى لأننا لم نتقيّد بقيد، فلم نعر أيّة أهميّة للماء الموجود في جسم الإنسان ولم نخفِّض من عدد سكّان الأرض في الأجيال السابقة وهو قليل جدّاً بالنسبة لعدد نفوس الجيل الحالى، كما أنّنا اطلقنا العنان في حساب السنين الباقية من عمر الحياة على الأرض.

وقصارى القول: إنّ الادّعاء بعدم كفاية تراب الأرض لإعادة الأجسام يوم القيامة لا يصدر إلّاممن لا يعرفون العمليات الحسابية الأربع! أي الذين يتكلمون بغير حساب ويرجمون بالغيب!

4- هل تسع مساحة الأرض لحشر جميع البشر؟

لقد شغلت هذه المعضلة أذهان الكثيرين أيضاً وهي إذا كان المعاد يتحقق بالجسم

نفحات القرآن، ج 5، ص: 275

ويشمل جميع البشر الذين وطأوا الأرض منذ ظهور الحياة عليها حتى نهايتها فلن تسعهم مساحة سطح الأرض، وخلاصة مايمكن أن يقال: إنّنا إذا تمكنا من حل جميع المعضلات في مجال المعاد الجسماني فسوف تبقى معضلة شحة المكان على قوتها، وذلك لأنّ بعض المناطق من الكرة الأرضية تضيق حالياً من تحمل سكانها الذين يعيشون عليها، وقد حذّر الخبراء المتخصصون من مغبّة استمرار النمو السكاني على هذا السياق وقالوا: إنّ تزايد السكان إذا مااستمر على هذا المنوال فسوف تضيق الأرض بسكانها خلال فترة وجيزة.

وهنا يُطرح هذا السؤال: ماذا سيحدث إذا بُعث جميع البشر السابقين واللاحقين على هذه الكرة الأرضية؟!

فلو كان المعاد يتحقق بالروح فقط فإننا لن نواجه مثل هذه المعضلة من ناحية المكان، لأنّ الأرواح غير متميزة فهي لا تحتاج إلى مكان ولا تتميز بمكان.

الجواب:

لقد فات الذين طرحوا هذا الإشكال أنّ القرآن قد صرّح في آياته المختصة بالمعاد بأنّ المعاد لا يتحقق على الكرة الأرضية بصورتها الحالية، بل سوف تتبدّل بغيرها، قال تعالى «يَوْمَ تُبَدَّلُ الْارْضُ غَيْرَ الارضِ وَالسَّموَاتُ». (إبراهيم/ 48)

وجاء في القرآن أيضاً أنّ عَرض الجنّة يسع السماوات والأرض، قال تعالى «سَابِقُوا الَى مَغْفِرَةٍ مِّنْ رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرضِ السَمَاءِ وَالارضِ». (الحديد/ 21)

يستفاد من هذه الآيات وعدد من الآيات الاخرى أنَّ هنالك احتمالين:

وهما: إمّا أن تتسع الأرض ويصبح حجمها بحجم السماوات والأرض فتضم فيها الجّنة والنار وجميع البشر، وإمّا أن ينتقل الناس يوم القيامة من الكرة الأرضية إلى مكان آخر.

وفي كلتا الحالتين ترتفع مشكلة شحة المكان في مجال المعاد الجسماني لجميع البشر ولا تبقى هناك مشكلة في اسكان أهل الجنّة وأهل النار ... هذه المشكلة التي شغلت اذهان «ذوي اللجاج والعناد»!.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 276

5- كيف يتلائم الجسم الذي من صفاته الفناء مع الخلود؟

الإشكال الآخر الذي طرح في مسألة المعاد الجسماني هو أنّ الآخرة هي دار الخلد، والآيات التي صرحت بهذا الخلود دليل واضح على الخلود يوم القيامة، بينما نرى بالوجدان أنّ الجسم المادي- على أيّة حال- يبلى ويندرس، وفي نهاية المطاف يصل إلى الفناء.

فإذا ما تحقق المعاد بالجسم فسوف يحصل التضاد وهو نفوذ «الفناء»، في عالم «البقاء»، وسوف يخلد الجسم الذي من طبعه الفناء.

وقد طرح هذا الإشكال المرحوم العلّامة الطباطبائي في شرح تجريد الاعتقاد بالنحو التالي: إن التناهي والمحدودية هي من ملازمات الجسم، والقول بخلود نعم أهل الجنّة يستلزم عدم المحدودية وعدم التناهي «1».

الجواب:

ليس من الصعب أيضاً الإجابة عن هذا السؤال، لأنّه لا خلاف في كون الفناء والاستحالة والتفسخ من طبيعة الأجسام، لكن هذا يتمّ في حالة عدم وجود الدعم المستمر من الخارج، فإذا ما شمل الدعم الالهي حال الجسم فإنّه من الممكن أن يحافظ على طراوته على الدوام وأن يبقى في حالة تجدد دائم.

وهذا يشبه حال الشجرة التي ترمم خلاياها المتفسخة وتبدّلها بخلايا جديدة لتبقى طرية وجديدة على الدوام وذلك عن طريق تغذيتها المستمرّة على نوع خاص من الغذاء، وهذا غير مستحيل.

وبتعبير آخر: إنّ مقتضى الذات شي ء ومقتضى العوامل الخارجة عن الذات شي ء آخر، والحديث يدور هنا عن خلايا الجسم التي من طبيعتها أن لا تعمِّر طويلًا أو التي تحصل على

__________________________________________________

(1) شرح التجريد، ص 322.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 277

عمر غير محدود بواسطة الترميم الحاصل من الخارج وعن طريق المدد الإلهي، تخلد وتحافظ على بقائها. و هناك مثال من القرآن المجيد يمكن أن يكون دليلًا على ما قلناه، وهو طول عمر النبيّ (نوح) عليه السلام حيثُ لبثَ في قومه

ألفَ سنة إلّاخمسين فيما عدا عمره قبل تكليفه بالنبوّة، و معنى ذلك أنّ اللّه تعالى قد جعلَ خلايا جسمه عليه السلام تتجدّد بالحياة دون أن تتفسّح وينالها الموت بينما جميع خلايا أجسام الناس تتفسّخ وتموت بعدَ عُمرٍ يناهز المائة سنة أو أقلّ أو أكثر وذلك لعدم تتدخّل المدد الإلهي في تجديد حياة خلايا أجسامهم.

وخلاصةُ القول: إنّ القادر على خلق الإنسان ولم يكن شيئاً مذكوراً، والقادر على إحياء الموتى أليسَ بقادرٍ على جعل خلايا جسم الانسان في حيوية متجدّدة ونشاطٍ دائمٍ وحياةٍ خالدةٍ أبداً في دار الخُلد؟!

وعندما طرح المرحوم العلّامة الحلّي إشكال هؤلاء، بالنحو المذكور لم يكترث به وقال:

إنّ هذه ليست بأدلة بل استبعادات لا غير «1»! أي ماهي إلّاظنون غير مبرهنة منطقياً.

6- هل يمكن الجمع بين (معاد) الأجسام والأرواح؟

يُتصور أحياناً بأنّ الجمع بين إعادة الأجسام والأرواح- وهو رأى القائلين بالمعاد الجسماني- أمرٌ عسير، وذلك للزوم وجود الثواب المعنوي والمادي ووجود اللذات بنوعيها لمكافأة الروح والجسم معاً، مع أننا نعلم بأنّ الإنسان إذا ما غرق في عظمة أنوار العالم القدسي فإنّه لا يمكن أن يعير أيّة أهميّة للملاذ المادية، وكذلك الحال إذا ما غرق في الملاذ الماديّة فإنّه لا يمكنه التفرغ لنيل الملاذ المعنوية، وقصارى القول إنّ مقتضى المَعادَين متضاديّن فيما بينهما ولا يمكن الجمع بينهما!

__________________________________________________

(1) شرح التجريد، ص 322.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 278

الجواب:

إنّ هذا الإشكال ضعيف جدّاً، لأنّ الروح إذا ماكانت تمتلك القدرة الكافية فسيُتاح لها التنعم بالملاذ المادية في نفس الوقت الذي هي مستغرقة في الأنوار الإلهيّة كما كان الأنبياء والأولياء عليهم السلام.

قال المرحوم العلّامة المجلسي في بحار الأنوار: «إن السبب في انصراف الإنسان عن المادّيات عندما يشتغل بالمعنويات وبالعكس هو ضعف روح الإنسان في الدنيا لكنه بعد

الموت وبعد أن يصله المدد من العالم القدسي ويطهر من الدنس فإنّ روحه تشتد وتقوى فيتمكن آنذاك من الجمع بين الاشتغال بالماديات والمعنويات معاً» «1».

و على أيّة حال فهذا الإشكال أيضاً غير مستند إلى دليل منطقي وهو شبه دليل وما هو إلّا استبعادٌ لا غير.

7- ايّ جسمٍ يُعادُ يوم القيامة؟

والإشكال الأخير الذي يمكن طرحه هنا هو ما أشرنا إليه سابقاً من أنّ العلم الحديث أثبت أنّ جسم الإنسان في حالة تبدّل وتغيّر دائم، فالخلايا تندرس بالتدريج ويحل محلها خلايا اخرى وبعد مرور سبع سنين تقريباً تتبدّل جميع خلايا الإنسان وتحل محلها خلايا جديدة، كما هو الحال في الحوض الكبير الذي يدخله الماء من أحد جوانبه ويخرج من جانب آخر، ومن الطبيعي أن يتبدل جميع مائهِ بعد فترة.

بناءً على هذا فإذا ما عمّر جسم الإنسان سبعين سنة فإنّه يتبدل عشر مرات، فهل تعاد جميع هذه الأجسام العشرة يوم القيامة ويعاد الإنسان بحجم العمالقة؟! أم لا يعاد إلّابحجم جسم واحد منها؟ وإن قيل: إنّ أحد هذه الأجسام يعاد يوم القيامة فأيّها سوف يعاد؟ وما هو النصاب في هذا الترجيح؟

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار، ج 7، ص 50.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 279

الجواب:

إنّ هذا السؤال استبعاد أيضاً، فما المانع من أن تعاد جميع هذه الأجسام؟ لكن الحق هو إعادة الجسم الأخير فقط، لأنّ القرآن يقول: «يبعث من في القبور» وتحيى العظام الرميمة والتراب، وهذا لا يعني إلّاإعادة الجسم الأخير.

أمّا ما هو المناطُ في ترجيج هذا الجسم على الأجسام الاخرى فالمناط أنّ هذا الجسم يحمل جميع صفات وخصوصيات تلك الأجسام، وذلك لأنّ الخلايا التي تتخلّى عن محلها تعطي بالإضافة إلى ذلك جميع صفاتها للخلايا الجديدة التي تحل محلها، بناءً على هذا فالجسم الأخير يحمل

في طياته عصارة جميع الأعمال والأوصاف السابقة، وإذا ما توفر المنظار الثاقب الذي يكشف الحقائق لأمكن مطالعة جميع سوابق الإنسان من خلال بصمات خاصيّة جسمه الأخير.

ومن البديهي أن لا يتنافى هذا أبداً مع حشر المؤمنين والصالحين على هيئة شباب يمتلئُون بالحيوية، وهذا يشبه عملية جمع تراب اللبنة البالية ووضعها في قالب جديد لتصبح لبنة جديدة.

ثمرة البحث:

توصلنا من خلال ما مّر من البحوث إلى هذه النتيجة، وهي أننا لا نواجه في بحث المعاد مشكلة عصيبة، وما عَدَّهُ البعض من المشاكل في الغالب ناتجٌ عن عدم إعمال الدقّة الكافية خصوصاً في هذه المسألة، ولا يستحق أى من هذه الإشكالات السبعة الذكر إلّاإشكال الآكل والمأكول، أمّا بقية الإشكالات فهي جزئية تتضح الإجابة عنها بمجرّد إعمال شي ء من الدقّة.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 281

المعاد في الحضارات السالفة

تمهيد:

كان لعقيدة المعاد صدىً واسع لدى الأمم السابقة ويلاحظ تجسّد آثار هذه العقيدة بكل وضوح في نفوس الشعوب التي عاشت في العصور الغابرة أي في قرون ماقبل التاريخ ممّا لايبقي أي شك في أنّ أولئك كانوا يحملون اعتقاداً راسخاً بوجود العالم الآخر.

وعندما ندخل في مرحلة ما بعد التاريخ نلاحظ أيضاً أنّ جميع الشعوب والأقوام تقريباً يؤمنون بمسألة المعاد على الرغم من اختلاف ثقافاتهم.

وقبل الخوض في مطالعة هذا الأمر عن طريق مشاهدة أسانيد ووثائق المؤرخين نعود إلى القرآن لنرى مايقوله في هذا المجال:

أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة أيضاً وهي أنّ الاعتقاد بمسألة المعاد والحياة بعد الموت كانت مطروحة منذ خلق آدم عليه السلام، حتّى أنّ ابليس كان يعترف بذلك، وبعد آدم عليه السلام كان الأنبياء أيضاً- الذين كانت مهمتهم هداية الشعوب- يدعون الناس إلى الإيمان بهذه المسألة (مسألة الحياة بعد الموت وحياة الآخرة)، وقد أدّت دعوة الأنبياء إلى أن تصبح هذه المسألة من المسائل المألوفة لدى الناس.

كما أنّنا نُقِرُّ بأنّ هذه المسألة وما يتعلق بها من المعارف التي نزلت عن طريق الوحي قد وردت على لسان النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أيضاً وبصورة أوسع ممّا كانت عليه سابقاً، لذا فإنّ قسماً مهماً من آيات القرآن المجيد تصدت لشرح

مسألة المعاد بجميع فروعها وتفاصيلها.

بعد هذا التمهيد نعود إلى القرآن لنتأمل خاشعين في نماذج من الآيات المختصة بهذا المجال:

نفحات القرآن، ج 5، ص: 282

1- «قَالَ انْظِرْنى الَى يَومِ يُبْعَثُونَ». (الاعراف/ 14)

2- «قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ». (الاعراف/ 25)

3- «إِنّى ارِيدُ أَنْ تَبُوأَ بِإِثْمِى وَاثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ اصْحَابِ النَّارِ». (المائدة/ 29)

4- «ايَعِدُكُمْ انَّكُمْ اذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَاباً وَعِظَاماً انَّكُمْ مُّخْرَجُونَ». (المؤمنون/ 35)

5- «وَلَا تُخزِنِى يَوْمَ يُبْعَثُونَ* يَومَ لَايَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ». (الشعراء/ 87- 88)

6- «وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الجَنَّةَ الّا مَنْ كَانَ هُوداً أوْ نَصَارى . (البقرة/ 111)

7- «وَالسَّلَامُ عَلَىَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ ابْعَثُ حَيّاً». (مريم/ 33)

8- «وَ الَى مَديَنَ اخَاهُمْ شُعَيباً فَقَالَ يَاقَومِ اعبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا اليَوْمَ الآخِرَ».

(العنكبوت/ 36)

9- «... انِّى تَرَكْتُ مِلَّةَ قَومٍ لَّايُؤمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ* وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِى ابْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ». (يوسف/ 37- 38)

10- «لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ انْ هَذَا الّا اسَاطِيْرُ الْأَوَّلِينَ». (النمل/ 68)

جمع الآيات وتفسيرها

الاعتقاد بالمعاد خلال العصور المختلفة:

الآيات المذكورة أعلاه يرتبط كل منها بأحد العصور.

فالآية الاولى تشير إلى قصة «ابليس» بعد طرده من الجنّة، فبدلًا من التوبة إلى اللَّه من فعله الشنيع تمادى في العناد بسبب وقوعه في شراك الغرور والأنانية، وكان هذا طلبه من اللَّه تعالى «قَالَ انْظِرْنى الَى يَومِ يُبْعثُونَ».

وطلبه هذا لم يكن من أجل التوبة أو أن يعمل صالحاً، بل من أجل أن يكمن لآدم وذريّته ليصدهم عن الصراط القويم لكي يطفئ نار غضبه الجهنمية وحسده.

ويتّضح من خلال هذه الآية أنّ مسأله القيامة كانت موضع الاهتمام منذ البداية،

نفحات القرآن، ج 5، ص: 283

فالشيطان كان يعلم علم اليقين بحتمية وقوع مثل هذا اليوم.

أمّا طلب الشيطان فإنّه لم يتلق الجواب بالصورة التي أرادها، قال

تعالى «فَإِنَّكَ مِنَ المُنْظَرِينَ* الَى يَوْمِ الْوَقْتِ المَعْلُومِ». (الحجر/ 37- 38)

وفسّر البعض هذا اليوم باليوم الذي تنتهي فيه الحياة الدنيا والذي يرفع فيه التكليف، وفسره آخرون باليوم الذي يظهر فيه المهدي الموعود (عج).

وهناك احتمال أيضاً جاء في كلمات بعض المفسرين وهو أنّ المراد من اليوم المعلوم يوم القيامة، لكن هذا الاحتمال بعيد جدّاً، وذلك لأنّه لا يوافق ظاهر آيات القرآن ولاينسجم مع الروايات الواردة في تفسير هذه الآية «1».

وقد طرحت عدّة أسئلة في هذا المجال وبالصورة التالية:

1- لماذا أمهل اللَّهُ إبليس لينفذ خطته المشؤومة لإغواء الناس؟!

الجواب: إنّ إمهال إبليس كأصل وجوده وهو زاوية من زوايا الامتحانات الإلهيّة التي أعدّها للبشر، ففي ظل تلك الامتحانات يصل أولياء اللَّه إلى الكمال ويفترق عنهم اولئك الذين لم يخلص إيمانهم.

2- ألا يعني إعطاء الوعد لإبليس باستمرار الحياة حتى انتهاء العالم يشجعه على الاستمرار في ارتكاب أعماله وعدم الكف عنها إلّاعندما يشعر بانتهاء عمره فيتوب إلى اللَّه تعالى

الجواب: إنّ الطريق الذي سلكه إبليس لا يسمح له بالعودة، وتحت تأثير حالة الطغيان الشديدة تصبح هذه الصفه من طبائعه الثانوية، ولايمكن العودة في مثل هذه الحالة.

3- لماذا يطلب الشيطان البقاء إلى يوم القيامة مع أنّ أهدافه تتحقق ببقائه إلى الفترة التي تنتهي بها حياة البشر؟

الجواب: جاء في تفسير الميزان: إنّ إبليس كان يتمنى أن يستمر بإغوائه للبشر في عالم

__________________________________________________

(1) تفسير نور الثقلين، ج 3، ص 13.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 284

البرزخ أيضاً، أي المدّة الفاصلة بين انتهاء الدنيا وقيام يوم القيامة «1»!.

4- كيف يتوقع إبليس أن تستجاب دعوته مع أنّه يعلم بأنّه طرد من ساحة الرحمة الإلهيّة؟

الجواب: قال المرحوم الطبرسي في مجمع البيان: «إنّ ابليس كان متيقناً بأنّ فضل

اللَّه وكرمه يتسع لشمول المذنبين والمطرودين أيضاً» «2».

وجاء في احدى الروايات أيضاً إنّ استجابة دعاء إبليس كانت بإزاء العبادات التي أدّاها قبل ذلك.

وفي الآية الثانية التي تتعلق بقصة هبوط آدم عليه السلام وزوجه حواء من الجنّة إلى الأرض وطرد إبليس من مقام القرب الإلهي، قال تعالى «قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ».

وهذه التعبيرات تشير إلى أنّ المقصود من الاخراج لا يختص بحشر البشر فحسب، بل يشمل حشر الجن أيضاً والذين كان الشيطان من زمرتهم، وتدلّ على أنّ هذا الأمر كان يعتبر من الامور البديهية منذ اليوم الأول، أمّا ما احتمله البعض في تفاسيرهم أنّ المخاطب في هذه الآية هم آدم وحواء عليهما السلام وذرّيتهما فحسب فلا يؤيده دليل واضح.

ويدل هذا التعبير بوضوح على أنّ الأرض هي مبدأ حياة الإنسان ومحل موته ومحل بعثه معاً «3».

__________________________________________________

(1) تفسير الميزان، ج 8، ص 28.

(2) تفسير مجمع البيان، ج 4، ص 403.

(3) جاء شبيه هذا المعنى في مسألة هبوط آدم والإشارة إلى مسألة الحشر في سورة طه، الآية 123 و 124.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 285

وتحدثت الآية الثالثة عن ابناء آدم «هابيل» و «قابيل» عندما تقبّل اللَّه قربان هابيل بسبب إخلاصه ولم يتقبّل قربان قابيل لعدم اخلاصه فيه، فتأججت نار الحسد في قلب قابيل وهدد أخاه بالقتل، فقال هابيل إن قصدت قتلي فإنني لن أفعل ذلك لأنني أخاف اللَّه، ثم أضاف: «انَّى ارِيدُ انْ تَبُوأَ بِاثْمى وَاثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ اصْحَابِ النَّارِ».

وهذا يدل على أنّ مسألة المعاد كانت من الامور البديهية لدى أولاد آدم منذ ذلك الزمان، لذا هدد هابيل أخاه قابيل بعذاب اللَّه في الدار الآخرة.

و «بَوَأَ، تبوءَ» من مادة «بواء»، قال الراغب في المفردات:

هي في الأصل بمعنى السطح الصقيل، وتقابلها «نبوة» التي بمعنى السطح غير الصقيل، لذا عندما يقال بوّأتُ مكاناً فهذا يعني ساويت له سطح المكان.

وتأتي هذه الكلمة أحياناً بمعنى الإقامة وملازمة المكان أيضاً، لأنّ الإنسان إذا ما أراد أن يقيم في مكانٍ ما فإنّه ينظم سطحه ويساويه، وقد فسروا هذه الآية بهذا المعنى أيضاً.

لكن صاحب «المصباح المنير» فسّرها بمعنى الاعتراف وحمل العب ء الكبير، أمّا صاحب المقاييس فقد ذكر لها معنيين هما: عودة الشيئين، وتساوي الشيئين.

وقال صاحب كتاب «التحقيق»، إنّ الأصل فيها هو (السفول) والانحطاط، وعدّ جميع المعاني الاخرى من المجاز واعتبرها من لوازم المعنى الحقيقي، وطبقاً لهذا المعنى يصبح مفهوم الآية المعنية بالبحث: إنّي اريد أن تسقط من ساحة الرحمة الإلهيّة بإثمك وإثمي.

وتتبع موارد استعمال هذه الكلمة في القرآن المجيد والمصادر الاخرى يؤيد ماذكره صاحب المقاييس من أنّ هذه الكلمة لها مفهومان وكلا المفهومين ينطبقان على الآية المعنية، فطبقاً للمعنى الأول تصبح الآية بهذا المعنى «إنّي اريد أن تعود (إلى اللَّه) وأنت تحمل إثمك وإثمي»، وطبقاً للمعنى الثاني تصبح بهذا المعنى «إنّك تعدّ مكاناً لنفسك بارتكابك هذا الإثم وحملك إثمي».

وهنا يطرح هذا السؤال المهم: ما هو المراد من ذنب هابيل الذي قُتِلَ على يد أخيه حتى يثقل كاهل أخيه؟ وكيف يمكن قبول هذا الحديث أساساً مع أنّ الآية تقول: «الَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ

نفحات القرآن، ج 5، ص: 286

وِزْرَ اخْرَى . (النجم/ 38)

سلك مشاهير المفسرين عدّة طرق تحتاج أغلبها إلى التقدير في الآية وقالوا: إنّ المراد من إثمي هو إثم قتلي.

لكن المناسب عدم التقدير، والمراد في الآية هو: إنّك إن عملت بتهديدك هذا وقتلتني فإنّك سوف تحمل ثقل جميع ما ارتكبته أنا من إثم، وذلك لأنّك يجب أن

تدفع غرامة قتلي يوم القيامة وبما أنّك لم تعمل صالحاً في الدنيا فعليك أن تحمل عب ءَ ذنوبي غرامة فعلك!

وقد روي عن الإمام الباقر عليه السلام في تفسير هذه الآية ما يؤيد هذا المعنى قال عليه السلام: «من قتل مؤمناً متعمداً أثبت اللَّه على قاتله جميع الذنوب وبرئ المقتول منها، وذلك قول اللَّه عزوجل: «انِّى ارِيدُ أَنْ تَبُوأَ بِإثْمى وَإِثمِكَ فَتَكُونَ مِنْ اصْحَابِ النَّارِ»» «1».

وروي عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله ما يعزز هذا المعنى (وإن لم تكن الرواية واردة في تفسير هذه الآية)، قال صلى الله عليه و آله: «يؤتى يوم القيامة بالظالم والمظلوم فيؤخذ من حساب الظالم فتراهُ في حسنات المظلوم، حتى يُنتصف، فإن لم تكن له حسنات اخذ من سيئات المظلوم فتطرح عليه» «2».

والآية الرابعة تشير إلى عصر نوح عليه السلام، فقد نقل القرآن دعوته على لسان الكافرين والجاحدين، قال تعالى: «ايَعِدُكُمْ انَّكُمْ اذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَاباً وَعِظَاماً انَّكُمْ مُّخْرَجُونَ».

ويدل هذا التعبير بوضوح على أنّ نوح عليه السلام قد طرح على هؤلاء مسألة المعاد وبالأخص المعاد الجسماني- وقد ملأت دعوته آذان جميع المخالفين، وبسبب انحطاطهم الفكري بهتوا لماجاءهم وقالوا محدثين بعضهم البعض: «هَيهَاتَ هَيهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ».

ويستفاد بوضوح من الآيات الواردة في سورة نوحٍ أيضاً أنّ نوحاً عليه السلام حاول رفع

__________________________________________________

(1) تفسير نور الثقلين، ج 1، ص 613، ح 133.

(2) تفسير القرطبي، ج 3، ص 2134.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 287

الشبهات والخوف وعدم الاطمئنان الذي جثم على أذهانهم بسبب طرح مسألة المعاد فعمد إلى تشبيه حياة البشر بحياة النباتات ليوضح لهم الأمر، قال تعالى عن لسان نوح: «وَاللَّهُ انبَتَكُمْ مِنَ الْارْضِ نَبَاتاً* ثُمَّ يُعيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ اخْرَاجاً». (نوح/ 17-

18)

ويتّضح ممّا تقدم أنّ المعاد كان معروفاً لدى قوم نوح عليه السلام بالاسلوب المشابه لُاسلوب نبي الإسلام صلى الله عليه و آله الذي استخدمه مع مشركي مكة أيضاً، ونوح صلى الله عليه و آله كان أول الأنبياء من اولى العزم وكان صاحب شريعة.

وتحدثت الآية الخامسة عن «إبراهيم عليه السلام» وإيمانه بمسألة المعاد، فقد بينت هذه الآية جانباً من ادعية إبراهيم عليه السلام عندما عاش الآلام بسب المعارضة الشديدة التي تلقّاها من كفّار عصره، قال تعالى عن لسان إبراهيم عليه السلام: «وَلَا تُخْزِنِى يَوْمَ يُبْعَثُونَ* يَوْمَ لَايَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ».

وقال في الآية التي سبقت هذه الآية بآيتين: «وَاجْعَلْنِى مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعيمِ».

فالادعية المذكورة أعلاه تشير بوضوح إلى أنّ إبراهيم عليه السلام يخاف الخزي يوم القيامة مع مالديه من مقام عظيم لأنّه كان من أعظم الأنبياء من اولي العزم.

ومن الممكن أن يعتبر البعض هذا التعبير عن أنّه رشاد للاخرين وتعليم لغير المعصومين، وذلك لأنّ المعصوم لا يخزى يوم القيامة، لكن البعض لهم تعبير لطيف في هذا المجال وهو أنّهم قالوا: «حسنات الابرار سيئات المقربين» فالأعمال الصالحة العادية لا تلائم مقام الأنبياء والمعصومين، وكذلك الحال بالنسبة للمقربين فإنّهم إن حشروا يوم القيامة مع «الابرار» وهو مقام أدنى من مقام المقربين فهو خزى بالنسبة لهم، وذلك لأنّه يتوقع من كل شخص عمل يتناسب معه، كما أنّ لكل شخص مقامه المناسب!.

وتحدثت الآية السادسة عن عقيدة «اليهود والنصارى» في المعاد، قال تعالى «وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الجَنَّةَ الَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَو نَصَارى .

نفحات القرآن، ج 5، ص: 288

أجل إنّهم كانوا يعتقدون بأنّهم أرقى الأمم وأنّ الجنّة خصصت لهم ولم يعبهوا بغيرهم حتى لوكانوا مؤمنين.

فأجابهم القرآن اولًا فقال: «تِلكَ أَمَانِيُّهُمْ» أي آمال

بعيدة عن الواقع ولن تتحقق أبداً.

ثم وجّه الخطاب إلى النبي الأكرم صلى الله عليه و آله فقال: «قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ انْ كُنْتُمْ صَادِقينَ».

(البقرة/ 111)

أي أعطونى دليلًا عقلياً يدعم هذا التخصيص وبأي دليل خصص اللطف الإلهي بكم وحرم الآخرين منه؟ فهل من الممكن أساساً أن يتسق هذا التمييز مع العدالة الإلهيّة وأن يحرم المؤمنون المحسنون كما تزعمون؟

إن كانوا يدّعون بأنّ دينهم لن يمسخ إلى الأبد فلماذا حكموا على الامم السابقة التي كانت تتبع أنبياء السلف ويعملون بتكاليفهم بهذا الحكم؟ إنّ كل هذا يدل على أنّ هؤلاء في تخصيصهم الجنّة بهم لم يتبعوا إلّاأوهامهم النابعة من أنانيتهم.

والجدير بالذكر إنّ «أماني» جمع «امنية» وهي بمعنى الأمل (وقد صرح عدد من المفسرين بأنّ الأماني بمعنى الآمال التي يستحيل تحققها).

بناءً على هذا ف «أماني» بمعنى الآمال وتحمل معنى الجمع، بينما لا يشكل تخصص الجنّة إلّا «أمل واحد». وللاجابة على ذلك قال بعض المفسرين: إنّ الأمل الواحد هذا تتبعه آمال اخرى أيضاً وهي الخلاص من العذاب الإلهي وخوف المحشر وعُسر الحساب ومسائل اخرى من هذا القبيل.

وقال آخرون: إنّ الأمل كلما كبُر يصبح بحكم «الآمال»، وهذا تعبير لطيف يشير إلى مدى بعد هؤلاء عن الواقع!.

وهناك احتمال آخر أيضاً وهو إنّ السبب في عدّها آمالًا هو وجود هذا الأمل في قلب كل واحد منهم، أو أن يكون الواحد منهم تمنى ذلك كثيراً، لذا جي ء بصيغة الجمع للدلالة على أنّ هذا التوهم لا ينحصر بفرد معيّن منهم أو بمرحلة معينة، بل هو أمرٌ له طابع العموم والدوام.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 289

ومهما يكن من شي ء فإنّ هذه الآية تدل بوضوح على وجود الاعتقاد بالمعاد لدى اليهود والنصارى

وفي الآية السابعة نلاحظ تعرّض «المسيح» عليه

السلام لذكر المعاد عندما تكلم في المهد بإذن اللَّه تعالى فقال في بعض كلامه: «وَالسَّلَامُ عَلَىَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ ابْعَثُ حَيّاً».

والسبب في اختيار هذه الأيّام الثلاثة (يوم الولادة ويوم الموت ويوم البعث) هو خطورتها ودورها المهم في تقرير المصير، وبتعبير آخر أنّ كل يوم من هذه الأيّام الثلاثة يشكل بداية لفصل جديد في مسار الإنسان وتعتبر السلامة امرٌ مهم فيها ولا تتيسر إلّابلطف من اللَّه، فطلب المسيح عليه السلام أن يمن اللَّه بلطفه عليه في هذه الأيّام الثلاثة.

بالإضافة إلى ذلك فقد وجّه نداءه بنفي الوهيته ومذ كان في المهد وصرّح بأنّه كسائِر عباد اللَّه بعثه اللَّه للناس جميعاً.

وجاء في الآية 15 من نفس هذه السورة ذِكر هذا الموضوع عند الحديث عن النبي يحيى عليه السلام، لكن الفرق بينهما هو كون الخطاب هنا صدر عن المسيح عليه السلام والخطاب هناك عن اللَّه تعالى

جاء في الحديث عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام: «إنّ أوحش ما يكون هذا الخلق في ثلاثة مواطن: يوم ولد من بطن امه فيرى الدنيا ويوم يموت فيعاين الآخرة وأهلها ويوم يبعث حياً فيرى أحكاماً لم يرها في دار الدنيا».

ثم تعرّض الإمام لذكر الآيات المتعلقة بالنبي يحيى والمسيح عليهما السلام الواردة في هذا المجال «1».

وعلى أيّة حال فقد أشارت الآية المذكورة بوضوح إلى أنّ مسألة المعاد كانت من الامور البديهية لدى الأقوام السالفة ممّا جعل المسيح يتحدّث عنها وهو في المهد.

إلى هنا تحدثنا بصورة موجزة عن موضوع المعاد في شريعة أربعة أنبياء من «اولي العزم»، وإذا ما أضفنا الآيات الكثيرة الواردة في موضوع المعاد في شريعة نبي الإسلام صلى الله عليه و آله فسوف يختتم الحديث عن المعاد في

خمس شرائع.

__________________________________________________

(1) تفسير نور الثقلين، ج 3، ص 335، ح 75.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 290

كما لاحظنا هذا الموضوع أيضاً لدى الأنبياء «غير أولى العزم» في الأحداث التي مرت على آدم عليه السلام وماتعلق بها مثل قصة أولاد آدم وقصة إبليس.

ولا بأس هنا من الاطلاع على هذا الموضوع من خلال ما جاء على لسان سائر الأنبياء عليهم السلام:

عندما بُعث شعيب عليه السلام الذي كان يعيش في فترة حياة موسى عليه السلام إلى مدينة (مدين) (مدينة تقع جنوب غرب الاردن اسمها الحالي (معان) وتقع شرق خليج العقبة) قال لقومه:

«فَقَالَ يَا قَومِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَاتَعْثَوا فِي الْارَضِ مُفسِدِينَ». (العنكبوت/ 36)

لقد أكّد شعيب عليه السلام في بداية دعوته على مبدأين أساسيين تعتمد عليهما جميع الأديان هما «المبدأ» و «المعاد» ودعا الناس للإيمان بهما.

والمراد من رجاء اليوم الآخر هو رجاء نيل الثواب الإلهي في ذلك اليوم، أو أن يكون معنى الرجاء هنا بمعنى الإيمان والاعتقاد بذلك اليوم.

والآية التاسعة تتحدث عن حوار «يوسف عليه السلام» مع صاحبيه في السجن، قال تعالى عن لسان يوسف: «... انِّى تَرَكْتُ مِلَّةَ قَومٍ لَايُؤمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخرَةِ هُمْ كَافِرُونَ».

والسبب في استعماله لهذا التعبير هو أنّ مشركي ذلك الزمان عبدة الأصنام كانوا يعتقدون باللَّه إلّاأنّهم كانوا يعتقدون بأنّ المعاد والجزاء يحصلان بواسطة التناسخ، فهؤلاء كانوا يعتقدون بأنّ روح الإنسان بعد الموت تحل في جسم إنسان آخر في هذه الدنيا وتتلقى ثوابها وعقابها خلال الحياة الجديدة، لكنّ دين التوحيد يرفض عقيدة التناسخ وعودة الأرواح في هذه الدنيا كما أنّه يرفض عقيدة الشرك أيضاً، لذا عدّهم يوسف مشركين وجاحدين للمعاد «1».

و «الملّة»: في الأصل بمعنى (الدين) والفرق بين الملّة والدين هو أنّ

الدين يضاف إلى اللَّه وإلى الأشخاص معاً، فيقال دين اللَّه أو دين محمد صلى الله عليه و آله بينما تضاف الملّة عادة إلى الأنبياء

__________________________________________________

(1) تفسير الميزان ج 11، ص 189.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 291

(أو إلى الأقوام الذين بُعث فيهم النبيون أو مدّعو النبوة) فيقال ملّة إبراهيم وأمثال ذلك «1» ولا يقال «ملّة اللَّه».

والمراد من القوم الذين ذكرهم يوسف عليه السلام هم عزيز مصر وزوجته زليخا وتابعوهم وهم شعب مصر بصورة عامّة، فهؤلاء لم يكن لديهم اعتقاد صائب لا بالمبدأ ولا بالمعاد.

وعلى أيّة حال فإن دلّ هذا على شي ء فإنّه يدل على أنّ المعاد كان يشكل أحد الركنين الأساسيين في دين يوسف عليه السلام أيضاً، وقد أشار إلى هذين الركنين معاً في السجن عند محاورته للسجناء.

ومن الجدير بالذكر أنّ يوسف عليه السلام قال بعد هذا الحديث: «وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِى ابْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ»، وهذا يدلّ على أنّ المبدأ والمعاد كانا ركنين ثابتين في جميع الاديان الإلهيّة السابقة.

وتحدثت الآية العاشرة والأخيرة من آيات بحثنا عن خطاب «مشركي مكة» عند معارضتهم دعوة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله حين دعاهم للإيمان بالمعاد، فبعد اظهارهم التعجب من عودة الإنسان إلى الحياة بعد تحوله إلى تراب قالوا: «لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِن قَبْلُ انْ هَذَا الَّا اسَاطِيْرُ الْاوَّلينَ».

ويشير هذا التعبير بوضوح إلى أنّ الدعوة إلى الإيمان بالمعاد كانت حاصلة من قبل الإنسان منذ القدم إلى الحد الذي عدّها المشركون من (أساطير الأولين)!.

و «اساطير»: جمع «اسطار». واسطار جمع «سطر» بمعنى الصف من الأشجار أو الكلمات وغيرها، ف «أساطير» جمع الجمع وتستعمل بمعنى الروايات المنقولة عن الأقوام السالفة، وبما أنّ روايات السالفين كانت تضج بالخرافات فقد استعملوا هذا

التعبير عادةً في مجال «الخرافات».

__________________________________________________

(1) مفردات الراغب، مادة (ملّة).

نفحات القرآن، ج 5، ص: 292

وقال البعض: إنّ «أساطير» جمع «اسطورة» و «اسطارة» و «اسطير» ووجود الزيادة على المصدر الثلاثي دليلٌ على الإضافة في المعنى فيكون المعنى الأصلي هو السطر الطبيعي والمعنى الاضافي هو الأسطر المزيّفة والكاذبة «1».

ثمرة البحث:

يستفاد من خلال الآيات المذكورة وكذلك الآيات الكثيرة المشابهة لها في القرآن المجيد أنّ مسألة المعاد قد طرحت منذ وطأ آدم عليه السلام الأرض وأنّ جميع الأنبياء دعوا الناس للإيمان بها، خلافاً لزعم المغفلين الذين يرون أنّ الحديث عن الإيمان بيوم القيامة طرح مؤخراً من قبل المؤمنين.

بل يستفاد من آيات متعددة من القرآن أنّ اللَّه أيضاً يحاجج المجرمين بمسألة المعاد يوم القيامة، قال تعالى «يَا مَعْشَرَ الجِنِّ وَالْانْسِ الَمْ يَأتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ ايَاتِى وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا». (الانعام/ 130)

فهذه الآية تدل بوضوح على أنّ انبياء اللَّه دعوا جميع الجن والانس للإيمان بالمعاد.

وجاء هذا المعنى في آية اخرى نقلًا عن لسان خزنة جهنم عند محاورتهم أصحاب النار: «وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا الَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا». (الزمر/ 71)

واللطيف أنّ أصحاب النار يعترفون جميعاً بهذا المعنى أيضاً، كما يدل على ذلك ماجاء في تتمة هذه الآية: «قَالُوا بَلَى .

بناءً على هذا فالقرآن يرى أنّ مسألة المعاد تشكل العمود الفقري في دعوة الأنبياء، وان الدعوة للإيمان بالمعاد بدأت منذ خلق آدم عليه السلام واستمرت على مرّ العصور بواسطة دعوة الأنبياء وأنّ جميع الشعوب قد تعرّفت على هذا الموضوع.

والآن ننتقل إلى بحث الأسانيد التاريخية وتقارير العلماء الواردة في هذا المجال.

__________________________________________________

(1) التحقيق في كلمات القرآن الكريم.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 293

توضيحات

1- المعاد لدى شعوب ما قبل التاريخ

نحن نعلم بأنّ حياة البشرية تقسّم إلى مرحلتين: مرحلة ما بعد اختراع الكتابة عندما تمكن الإنسان من تدوين شي ء من نفسه وسمّيت هذه المرحلة بمرحلة التاريخ، ومرحلة ماقبل اختراع الكتابة، فمن الطبيعي أنّ الإنسان لم يكن في هذه المرحلة قادراً على تدوين شي ءٍ ممّا كان يدور حوله كي يصبح له

تاريخ مدوّن، وأطلق على هذه المرحلة اسم مرحلة ما قبل التاريخ.

لكن عدم اختراع الكتابة في تلك العصور لم يكن حائلًا أبداً أمام معرفتنا لأوضاع تلك الشعوب، وذلك لأنّ ما خلّفوه من آثار تحت التراب وفي المغارات وغيرها كثير جدّاً ممّا يسهّل الكشف عن مجهولات كثيرة في اسلوب معيشتهم.

فالعلماء ما زالوا مستمرين في التنقيب في مختلف أنحاء العالم عن الآلات المختلفه التي كان الإنسان يستخدمها في تلك الفترة وما زالوا ينقّبون عن بيوتهم وقراهم التي كانوا يسكنونها، كي يطالعوها بدقّة بعد العثور عليها ليدوّنوا ما يكتشفونه من عاداتهم وتقاليدهم وثقافتهم فيتوصلوا عن هذا الطريق إلى معرفة طقوسهم وعقائدهم الدينية أيضاً.

يقول عالم الاجتماع الشهير «صاموئيل كينغ» في كتابه: «إنّ أسلاف الإنسان الحالي (الذين عُثر على آثارهم خلال التنقيب) أي «النياندرتال» كانوا يمارسون طقوساً دينية، والدليل على ذلك هو دفنهم أمواتهم بطريقة خاصة ودفنهم آلاتِ عملهم معهم وهذا ما يكشف عن عقيدتهم بوجود عالم آخر» «1».

ونحن نعلم بأنّ نسل النياندرتال يتعلق بعصورمضت عليها عشرات الآلاف من السنين في زمانٍ لم تخترع فيه الكتابة ولم تدخل مرحلة التاريخ البشري.

إنّ عملهم هذا كان خرافياً وهذا ممّا لا شك فيه، لأننا نعلم بأنّ آلات العمل لا تنفع الإنسان في الآخرة، لكنّ المحفّز لعملهم هذا هو الإيمان بالحياة بعد الموت كان واقعاً متجسداً بينهم.

__________________________________________________

(1) علم الاجتماع، ساموئيل كينغ، ج 1، ص 291.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 294

وجاء في كتاب دائرة معارف القرن العشرين نقلًا عن كتاب «اصول علم الاجتماع» لمؤلفه «هربرت اسبينسر»: «إنّ الإنسان القديم وبسبب عدم قدرتهم على التفكير العميق كانوا يتصورون وضع الحياة في الآخرة على قدر عقولهم، لذا كانوا يحملون اعتقادات عجيبة وغريبة عن جزئيات تلك الحياة تشوبها

الخرافات أحياناً، فالكثير منهم وعلى الرغم من اعترافهم بالحياة الآخرة كانوا يعتقدون بأنّ تلك الحياة تختص بمن مات موتاً طبيعياً، وكان البعض منهم يعتقد بأنّ تلك الحياة خاصة بالابطال والأقوياء. فقسم من هؤلاء كان يدفن مع الميت سلاحه، كما كانوا يدفنون الأدوات المنزلية مع النساء ووسائل اللعب مع الأطفال (كي ينتفعوا بها عندما يبعثون ثانياً!).

كما كانوا يدفنون أحياناً جميع ما يمتلك الميت من حيوانات معه، ويدفنون معه أحياناً شيئاً من حبوب الذرة والحبوب الاخرى لكي يستفيد منها في زراعته في الآخرة!.

كما كانوا يتجاوزون ذلك أحياناً فيدفنون مع الميت نساءه وغلمانه وبعض أعوانه المقربين كي يتسامر معهم في الآخرة! حتى وصل الحد في بعض مناطق المكسيك وأمريكا إلى قتل كاهنٍ (ودفنه) مع أصحاب النفوذ ليشاوروه في الامور الدينية والمعنوية في الآخرة!!.

كما كانوا يقتلون مهرّجه ويدفنونه معه أيضاً ليلهي سيده في الآخرة بحركاته وما يقصّه عليه من الطرائف.

فعدد الذين يقتلون ليدفنوا مع الشخصيات يتناسب مع حجم شخصية ومكانة ذلك الرجل، وقد ذكر أحد المؤرخين: أنّ عدد ضحايا بعض هؤلاء الأموات يصل إلى مائتي شخص!

وفي بعض الأحيان عندما كان يتوفى أحد الأبناء الأعزاء كانوا يقتلون امّه وعمّته وجدّته فيدفنونهن معه كي يكنَّ إلى جواره في الآخرة» «1».

ممّا لا شك فيه هو أنّ هذه الخرافات المرعبة كانت وليدة أفكار تلك الشعوب المنحطة

__________________________________________________

(1) دائرة المعارف قرن بيستم، ج 1، ص 90- 94 (باختصار).

نفحات القرآن، ج 5، ص: 295

فكرياً، لكن كل تلك الأحداث تتحد في دلالتها على شي ء واحد وهو أنّ الاعتقاد بعالم ماوراء الموت كان ذا جذور عميقة لدى الإنسان القديم.

وجاء أيضاً في كتاب «تاريخ الحضارات العام» أنّ أجساد الموتى كانت تدفن باهتمام خاص ومراسم خاصة منذ مراحل ما

قبل التاريخ وحتى نهاية التاريخ القديم، وكثيراً ما كانوا يدفنون مع الأموات الأدوات المنزلية أو اشكال غريبة اخرى وكان ذووهم يهدونهم الهدايا، وهذه العادات والتقاليد إن دلت على شي ء فإنها تدل على إيمانهم بالحياة الآخرة «1».

2- المعاد في ضمير شعوب ما بعد التاريخ

اشارة

تدلّ الوثائق التاريخية على أنّ الشعوب التي كانت تعيش في مناطق مختلفة من العالم كانت تشترك مع الشعوب الأُخرى في هذه العقيدة، وغالباً ما كانت المجتمعات تؤمنُ بِعقيدة راسخة في مسألة الحياة بعد الموت، وَتُولي اهتماماً كبيراً بإقامة تلك الشعائر بالرغم من إدخالهم عليها بعض الخرافات، ونحاولُ أنْ نلقي نظرةً على بعض المعتقدات لدى المجتمعات القديمة.

أ) المعاد لدى المصريين القُد ماء

جاء في كتاب تاريخ «آلبر ماله» في هذا المجال: «كان المصريون يعتقدون بأنّ أرواح الموتى تخرج من القبور، وتمثل بين يدي الربِّ العظيم «آزيريس».

وعندما تُقاد الروح لتمتثل أمام أحكم الحاكمين فانَّ «آزيريس» يأخذ قلب الشخص ويضعُهُ في ميزان الحقيقة ليزنه، فُترسل الروح الطاهرة إلى بستان لا يسع تصور الإنسانِ خيراتهِ ...

__________________________________________________

(1) تاريخ الحضارات العام، ج 1، ص 99.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 296

وكانوا يضعون إلى جوار كلٍ من الأموات سِفراً يُعينه ويَهديه في سَفرهِ إلى ذلك العالم، وذلك السِفر العجيب يحتوي على جُمل ينبغي على الميّت أن يقولها أمام الإله العظيم «آزيريس» كي تبرأ ذمّته، وهذه الجُمل هي:

إنّ العظمة تليق بك أيّها المتعال! إله الحقيقة والعدالة!

إنني لم اراوغ مع الناس الذين كنت أعيش معهم، ولم اضجّر امرأة عجوزاً ولم أكذب في محكمة، ولم أدنّس نفسي بالحيل وتلفيق الحقائق.

إنني لم احمّل العامل أكثر ممّا يطيق من عمل في يوم واحد، ولم أتماهل في انجاز وظائفي، ولم اتّخذ من التواني موضعاً، ولم أرضَ بهتك المقدسات ولم أنمَّ على عبدٍ لدى سيده، ولم أُلقِ برزق احدٍ إلى القطط! ولم أقتل، ولم أسرق لفائف وأمتعة الموتى «1».

إنني لم اغتصب أرض أحد ولم أصد عن رضع الأطفال، ولم أُوقِفْ جريان نهرٍ، إنني طاهر طاهر! ...

أيّها القضاة! افسحوا المجال أمام هذا المرحوم فاليوم يوم الحساب،

وهذا لم يقترف ذنباً ولم يكذب ولم يُسْ، إنّه نصر الحق والانصاف في حياته، فكان الناس يحمدون أفعاله وقد أرضى الإله، إنّه أطعم الجياع وقدّم القرابين في سبيل الإله ومدّ الموتى بالغذاء، أنّ فمه طاهر ويديه طاهرتان أيضاً.

قال المؤرخ المذكور (آلبر ماله) في نقد هذا الكلام: يلاحظ بوضوح من خلال هذه العبارات كيفية تصنيف المصريين للذنوب الكبيرة والحسنات والمستحبّات «2».

ويجب أن نضيف إلى هذا الكلام أَن هذه العبارات تدل أيضاً على أنّ هؤلاء كانوا يؤمنون بالحساب الإلهي بالإضافة إلى إيمانهم بتمحيص الأعمال وإيمانهم بوجود الجنان، كما يجب أن نضيف إلى هذا أَنّ هذه الأعمال أشبه ما تكون بتلقين الميّت لدى المسلمين، وتشير إلى تطهير السلوك من دنس جميع الذنوب، هذا بالإضافة إلى قياس حجم الذنوب بالنسبة إلى بعضها البعض.

__________________________________________________

(1) المراد من لفائف الموتى ظاهراً هو القماش الذي يلف على أجسام الموتى لتحنيطهم، وكان ذا قيمة عالية، أمّا الأمتعة فهي الغذاء الذي كانوا يدفنونه مع الموتى على أمل أن ينفعهم في حياتهم بعد الموت.

(2) «آلبر ماله» تاريخ ملل شرق ويونان، ج 1، ص 74.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 297

وعلى أيّ حال فالمصريون بناءً على ما جاء في تاريخهم، كان لهم اعتقاد راسخ بمسألة الحياة بعد الموت على الرغم من نفوذ خرافات كثيرة فيها، ومن جملة معتقداتهم هو وضعهم الأدوات التي كانوا يستخدمونها في حياتهم والأمتعة، ووضعهم صور وتماثيل ورسوم الموتى في القبور، لاعتقادهم بأنّ هذه الصور والرسوم يمكنها أن تحل محل الموتى

ففي بعض المقابر عثر على صورة مزرعة وفي بعضها عثر على صورة تُصوّر كيفية عمل الرغيف، وفي بعضها عثر على صورة تحتوي على منظر ذبح بقرة، واخرى تحتوي على منظر تقديم اللحم المشوي

الموضوع في الآنية للضيوف «1»، كما أنّ تحنيط الموتى وبناء القبور الرصينة مثل الأهرام، كلها تصب في هذا الميدان، والهدف منها هو حفظ أجساد الموتى من التفسخ إلى يوم القيامة، كي تتمكن مِن الحصول بسهولة على وسائل العيش بعد أن تحل فيها الروح (لذا) كانوا يضعون أنواع المأكولات وتماثيل الطبّاخين والخبّازين، وأنواع الأسلحة والجواهر في القبور إلى جوار الأجساد، ولمّا كانت هذه القبور عادةً عرضة لعبث الحيوانات الوحشية، أو عرضة لحملات اللصوص لما يوجد فيها من جواهر فقد بادر أصحاب النفوذ والأثرياء إلى بناء الأهرام، أو بناء الأبنية الرفيعة على القبور واطلقوا عليها اسم «پيرموس» أي «مرتفع» «2».

ب) «البابليون»

إنَّ البابليين أيضاً كانوا مِن أصحاب الحضارات القديمة، وتدل الآثار الباقية من حضارتهم على أنّهم كانوا يدفنون أجساد الموتى في قبور على شكل غرف مُسقّفة تحت الأرض، وبالرغم من عدم تحنيطهم الموتى إلّاأنّهم كانوا يُلبسونهم الملابس الفاخرة بعد غسلهم، وكانوا يصبغون وجنات الموتى بالألوان ويكحّلون أجفانهم باللون الأسود! وكانوا

__________________________________________________

(1) قصة الحضارة، ول ديورانت، ج 2، ص 71.

(2) المصدر السابق، ص 71.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 298

يضعون الخواتم في أصابعهم، أمّا بالنسبة للنساء فإنّهم كانوا يدفنون معهنَّ حِقاق الطيب والمشط ودقيق وزيوت التجميل، كي يحتفظن بطيب الرائحة وطراوتهنَّ وجمالهنَّ في العالم الآخر «1»!

ج) «السومريون»

يعتبر السومريون من أصحاب الحضارات السالفة، الذين كانوا يقطنون جنوب العراق، قال المؤرخ «ول ديورانت»: كان السومريون يدفنون الأمتعة والآلات مع الأموات.

وقال في هذا المجال أيضاً: إنّ السومريين كانوا يدفنون الأمتعة وآلات العمل مع الموتى فإنّ من الممكن أن نفترض بأنّهم كانوا يعتقدون بالدار الآخرة «2».

د) «الزرادشت»

إِنَّ الزرادشت الذين كانوا يقطنون ايران، كالشعوب الاخرى يعتقدون بعودة الحياة بعد الموت، بل قد ذكروا لهذه المسألة جزئيات أكثر ممّا ذكرتهُ الشعوب الاخرى فهؤلاء لديهم عبارات حول الجنّة والنار والصراط، حتّى أنّهم كانوا يصنفون أهل النار على دَرَكات تشبه إلى حد كبير المعتقدات المعاصرة.

وعلى حدّ قول «ول ديورانت» إنّهم كانوا يعتقدون بالآخرة و «جهنم» و «محلّ التطهير» (الاعراف) ويعتقدون بوجود الجنّة، كما انّهم يعتقدون بأنّ الأرواح عليها أن تجتاز الصراط، لتمييز الأرواح الخبيثة عن الأرواح الطيّبة فتهبط الأرواح المنزّهة بعد عبور الصراط إلى أرض «السرور»، ليخلدوا إلى جوار «اهورامازدا» في النعيم والسعادة، بينما لا

__________________________________________________

(1) قصة الحضارة، ول ديورانت، ج 2، ص 222.

(2) المصدر السابق، ص 30.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 299

تتمكّن الأرواح الخبيثة من عبور الصراط فتهوي في حفر النار، فالأرواح التي ارتكبت ذنوباً أكثر خلال حياتها تسقط في حفرٍ أعمق من حفر جهنم! «1».

وكما لاحظتم أَنّ هؤلاء كانت لديهم تفصيلات أكثر من غيرهم في مسألة الحياة بعد الموت.

ه) «الصينيون»

والصينيون أيضاً كانوا يؤمنون بوجود الحياة الاخرى في طيّات معتقداتهم، قال «ول ديورانت» في هذا المجال: إنّ عقائد هؤلاء الدينية كانت مليئة بتمني الوصول إلى الآلهة والجنّة، وكانوا يعتبرون الإله «أميتبها» حاكم الجنّة (من المحتمل أن يكون الإله هنا هو المَلَك) «2».

وجاء في مصدر آخر: إنَّ الصينيين كانوا يعتقدون بأنّ الذين يموتون موتاً طبيعياً إذا ما كانوا صالحين، فسوف تسمو أرواحهم وتصل إلى مراحل راقية بالتدريج من خلال تقديم الهدايا والقرابين، وأخيراً يتحولون إلى آلِهة (ملائكة) «3».

و) «اليابانيون»

واليابانيون أيضاً كانوا يشتركون في هذه العقيدة مع الشعوب الاخرى فعندما وصلت الديانة البوذية إلى اليابان كانت مُلَبَّدةً بغيوم من التشاؤم، ولكن سرعان ما تغيرَّتْ تحت السماء اليابانية وأصبحت لها آلِهة حفظة (ملائكة حفظة)، وطقوس جذّابة وجنّة آمنة، ولا يخفى أَن هذه الديانة كانت تؤمن بوجود جهنم والوحوش الخرافية أيضاً «4».

__________________________________________________

(1) قصة الحضارة، ول ديورانت، ج 2، ص 430.

(2) المصدر السابق، ج 4، ص 261.

(3) اسلام وعقائد وآراء بشرى، ص 158.

(4) قصة الحضارة، ول ديورانت، ج 5، ص 35.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 300

ز) «اليونانيُّون»

أظهَرَ اليونانيُّون (الاغريق) اعتقادهم بالحياة بعد الموت بصور مختلفة، فمن جملتها إنّهم كانوا يدفنون مع الموتى بعضاً من الامتعة ووسائل التنظيف ليكونوا سعداء تحت التراب، كما كانوا يدفنون معهم تماثيل فخارية صغيرة بهيئة النساء كي تحافظ عليهم وتسلِّيهم في الدار الآخرة «1».

ح) «الرومان»

وللرومان أيضاً تعابير مختلفة في هذا المجال. ف «الاتروريون» الذين هم احدى الفرق القديمة والذين حكموا روما، كان من أهم اعتقاداتهم هو أنّ الميّت يحشر في المحكمة الإلهيّة تحت الأرض طبقاً للصورة التي تنقش على قبره، ويمهل في آخر لحظات المحاكمة للدفاع عن أعماله التي ارتكبها في حياته، فإن لم يتمكن من الدفاع عن نفسه فسوف يبتلى بأنواع العذاب ... وهؤلاء أيضاً كانوا يدفنون الموتى أحياناً في قبور تشبه البيوت يحفرونها في الصخور، وكانوا يضعون مع الميت جميع ما يتعلق به من أدوات كالملابس والمزهريات والأسلحة والمجوهرات والمرآة وأدوات التجميل «2».

وكان المؤرخ اليوناني «بلوتارخُس» الذي كان يعيش في الفترة مابين (50- 120) ميلادي، الذي الّف كتبه في العقائد وسير مشاهير اليونان كان يعتقد بوجوب الإيمان بخلود الإنسان وبأنّ الجنّة محل الثواب، وأنّ البرزخ محل التطهير، وجهنم محل العقاب «3».

__________________________________________________

(1) يونان القديم، ج 2، ص 18.

(2) تاريخ تمدّن، ول ديورانت، ج 3، ص 9 (قيصر ومسيح).

(3) المصدر السابق، ج 3، ص 571.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 301

3- الاعتقاد بالمعاد في كتب اليهود «1»

إنّ ممّا لا شك فيه هو أنّ النصارى واليهود كانوا يؤمنون بعالم ما بعد الموت، وقد اشير إلى هذه المسألة كثيراً في كتب «العهد الجديد» والأناجيل الكثيرة، بالرغم من قلّة الإشارة إليها في كتب «العهد القديم» أي كتب اليهود.

ومن «المحتمل» أن يكون السبب في وجود هذا الفرق، هو حب اليهود المفرط للحياة الماديّة، والذي أشار إليه تاريخهم بوضوح ممّا يجعل الاعتقاد بالمعاد يزاحم برامجهم، لذلك عندما كانوا يحرفون كتبهم المأثورة كانوا يثبتون كلّ ما شاهدوه يتحدّث عن الامور المادّية في الحياة بنحو أفضل وأبرز ممّا ذكر، لكنهم كانوا يحذفون كلّ ما كانوا يواجهونه من حديث حول القيامة

وعقوبة عبدة الدنيا والظلمة!

وقد وصفهم القرآن المجيد بهذا الوصف أيضاً، قال تعالى «وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ». (البقرة/ 96)

ولكن بالرغم من جميع هذه الاحتمالات التي نشاهدها في كتب العهد القديم بالنسبة لمسألة المعاد، فإننا نواجه عبارات واضحة الدلالة على الاعتقاد بمثل هذا العالم والتي منها:

1- جاء في كتاب «النبي أشعيا»: «سوف تحيا أمواتك وسوف تبعث أجسادي» «2».

2- وجاء في الكتاب الأول ل «صومائيل» مايلي: «إنّ اللَّه يميتُ ويحيي ويُدخِلُ القبور ويبعث» «3».

__________________________________________________

(1) تشتمل كتب اليهود المقدسة والتي تسمى بالعهد القديم على 39 كتاباً، خمسة منها اسفار التوراة الخمسة، وسبعة عشر كتاباً منها تسمى بمدوّنات المؤرخين وكما هو ظاهر من اسمها فهي تحمل في طياتها ما دوّنه المؤرخون حول سِيَر الملوك والحكّام وغيرهم، أمّا الكتب السبعة عشر الاخرى والتي، تسمى بمدوّنات الأنبياء فهي تتألف من شرح سِيَر الأنبياء وكلماتهم القصار ونصائحهم ومناجاتهم، وأمّا بالنسبة لكتب المسيح المقدسة (العهد الجديد) فمجموعها سبعة وعشرون كتاباً لا غير، فالاناجيل الاربعة دوّنت على يد تلاميذ المسيح أو تلاميذ تلاميذه وأثنان وعشرون كتاباً منها هي رسائل (بولص) وسائر رموز الدين المسيحي الذين بعثوا للتبشير إلى مناطق مختلفة، وآخرها كتاب الرؤيا (ليوحنا) الذي شرح فيه مشافهاته الغيبية.

(2) كتاب أشعيا، باب 26، جملة 19.

(3) كتاب صاموئيل الأول، باب 2، ج 6.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 302

3- وجاء في سفر المزامير ل «داود»: «بما أنني أسير تحت ظل الموت دائماً فإني سوف لن أخاف السوء، لأنّك معي، وسوف تتبعني الرحمة والاحسان في كل لحظات عمري، وسوف أسكن بيت اللَّه إلى الأبد «1».

بهذا أشار كل من الأنبياء «صاموئيل» و «اشعيا» و «داود» إلى القيامة

بإشارات بارزة، بالرغم من أنّ هذه الأحاديث وأمثالها لم يتلقّها اليهود بقناعة، ومن المحتمل أن يكون هذا هو السبب في حذفهم لعبارات كثيرة اخرى في هذا المجال.

قال بعض المؤرخين في معرض ذكره لنبذة من عقائد اليهود: «إنّ هؤلاء كانوا يعتقدون بأنّ الأموات سوف يبعثون أخيراً (وتحل فيهم الروح من جديد) ... فيأتي المنقذ على الفور، وبعد انتصاره يجتمع المحسنون جميعاً ويلتحق بهم (حتى من كان في القبور فيحشرون في الجنّة التي هي مقرّه الأبدي» «2».

وقد أشار هذا الكاتب في محل آخر إلى العقيدة الزرادشتية فقال: «سوف يبعث الأموات؛ وتحل الروح في أجسادهم، ويعود التنفس إلى صدورهم فيتخلّص العالم المادي من الكهولة والموت والتفسخ والانقراض، ويبقى على هذه الحالة إلى الأبد».

4- القيامة من وجهة نظر الأناجيل

وكما أشرنا سابقاً إلى أنَّ مسألة الحياة بعد الموت قد ذكرت بوضوح أكثر في أناجيل النصارى فمن جملة ذلك:

جاء في انجيل «مَتّى الذي هو من أقدم الأناجيل: «عندما يَمْتَثِلُ ابن آدم بين يدي الأب مع ملائكته، حينئذٍ يجازى كل على قدر عمله» «3».

__________________________________________________

(1) مزامير داود، مزبور 23، جملة 4 إلى 6.

(2) تاريخ تمدن، ول ديورانت، ج 3، ص 637 (باختصار).

(3) انجيل متّى باب 16، جملة 27.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 303

وجاء في انجيل «يوحنا» مايلي:

«... تأتي تلك الساعة فيستمع جميع من في القبور نداءها فيخرجون جميعاً، فمن عمل صالحاً يذهب إلى قيامة الحياة، ومن عمل سيئاً يذهب إلى قيامة الجزاء» (المراد من قيامة الحياة ظاهراً هي الحياة في النعيم الإلهي التي هي ثواب الصالحين، والمراد من قيامة الجزاء هو مجازاة المذنبين طبقاً لمقتضى قضاء العدل الإلهي) «1».

ثمرة البحث:

من خلال البحوث المذكورة يمكننا بكل وضوح الوصول إلى هذه النتيجة وهي: إنّ الاعتقاد بالحياة بعد الموت في نظر مؤَرِّخي الأديان وغيرها هو من أقدم المعتقدات لدى الأقوام المختلفة للبشر بل هو أقدم من اختراع الخط وتدوين التاريخ أيضاً، وإنَّ جميع الأقوام والشعوب كان لديهم نوعٌ من هذه الاعتقادات التي لم تؤثّر فيها لا القومية ولا الجنس ولا اللغة ولا الخصوصية الجغرافية، بل هي عقيدة شمولية حملها البشر على مرّ التاريخ وقبل تدوينه.

وطبقاً لما جاء مفصلًا في بحث كون المعاد فطرياً، فإنّ شمولية هذه العقيدة نابعة من كونها ذات جذور فطرية، فهي ذاتية وليست من الامور الطارئة على البشر من الخارج، كي تتطوّر بمرور الزمان أو بتطور الشعوب.

__________________________________________________

(1) انجيل يوحناً، الباب 5، جملة 28 و 29 (اقتباس من ترجمة «وليام غلن» طبع المجتمع

البريطاني للترجمة الاجنبية للكتب المقدسة سنة 1878).

نفحات القرآن، ج 5، ص: 305

الإيمان بالمعاد وعلاقته بالتربية

تمهيد:

إنّ ممّا لا شك فيه هو أنّ الإيمان بالمعاد له تأثير بالغ على أعمال البشر، فأعمال الإنسان أساساً، ما هي إلّاانعكاسات لعقائده، أو بتعبير آخر إنّ سلوك كل إنسان له علاقة وثيقة بنظرته الكونية.

فمن يعتقد بأنّ جميع أعماله بلا استثناء، سوف تناقش قريباً في محكمة يتّسم قضاؤها بالعلم بجميع الامور، وأنّه لا تنفع في تبديل حكمهم شفاعة الآخرين أو الرشوة، وأنّه لا مجال لدخول التعديلات على احكامها الصادرة، التي سوف يثاب أو يعاقب وفق مفادها، بل من ناحية اخرى إنَّ من يعتقد بأنّ أعماله محفوظة على الدوام وتتسم بصبغة الخلود، وأنّها سوف تحشر معه في الآخرة لتعيين مصيره من ناحية الفخر أو الذّلة، والطمأنينة أو العذاب، وبأنّها تجرّه إلى السعادة الخالدة أو العذاب الأبدي، فإنّه من البديهي أن لا يسعى مثل هذا لإصلاح نفسه فحسب، بل يصبح حذراً جدّاً في ممارسة سلوكه وأعماله المختلفة ويتمعن فيها كثيراً، كما هو الحال في العالم المطّلع على خواص العقاقير الطبيّة النافعة والسموم القاتلة، فإنّ هذا يسعى لتجنيد جميع طاقاته للحصول على العقاقير النافعة، كما أنّه يحذر كل الحذر من السموم القاتلة، فهذه المسألة تصدق على موارد الاعتقاد بالحياة بعد الموت ومحكمة القيامة.

بعد هذه الإشارة نعود إلى القرآن لنتأمل خاشعين في الآيات التالية الواردة في هذا المجال:

نفحات القرآن، ج 5، ص: 306

1- «فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيعْمَلْ عَمَلًا صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً».

(الكهف/ 110)

2- «وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً* إِنَّمَا نُطعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُريدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُوراً* إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً».

(الانسان/ 8- 10)

3- «وَمَالِىَ لَاأَعبُدُ الِّذى

فَطَرَنِى وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ». (يس/ 22)

4- «قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُّلَاقُوا اللَّهِ كَمْ مِّنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثيرةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ». (البقرة/ 249)

5- «قَالُوا لَنْ نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالَّذِى فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضي هَذِهِ الحَياةَ الدُّنْيَا* إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغفِرَلَنَا خَطَايَانَا». (طه/ 72- 73)

6- «فِى جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ* عَنِ الُمجْرِمِينَ* مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ* قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ المُصَلِّينَ ... وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَومِ الدِّينِ». (المدثر/ 40- 46)

7- «وَيَلٌ لِّلْمُطَفِّفينَ ... الَا يَظُنُّ اولَئِكَ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ* لِيَومٍ عَظِيمٍ».

(المطففين/ 1- 4- 5)

8- «إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَايُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَومِ الآخِرِ». (التوبة/ 45)

9- «أَرَأَيتَ الَّذِى يُكَذِّبُ بِالدِّينِ* فَذلِكَ الَّذِى يَدُعُّ اليَتِيمَ». (الماعون/ 1- 2)

10- «بَلْ يُريدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ* يَسْئَلُ أَيَّانَ يَومُ القِيَامَةِ». (القيامة/ 5- 6)

11- «إِنَّ الَّذِينَ لَايُؤمِنُونَ بِالآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ». (النمل/ 4)

12- «وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَايُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَاباً مَّستُوراً* وَجَعَلْنَا عَلَى قُلوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِى آذَانِهِمْ وَقْراً». (الاسراء/ 45- 46)

نفحات القرآن، ج 5، ص: 307

جمع الآيات وتفسيرها

الإيمان بالمعاد هو المحفِّز على عمل الصالحات:

لقد عكست لنا الآية الاولى الرابطة الوثيقة بين الإيمان بالآخرة والعمل الصالح، قال تعالى «فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لَقَاءَ رَبِّهِ فَلْيعْمَلْ عَمَلًا صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً».

فالايمان بالآخرة طبقاً لمفاد هذه الآية يمكنه في الواقع أن يؤثّر في الإنسان من جهتين، الاولى هي حثّه على العمل الصالح، والاخرى على الإخلاص في العبودية. والظريف هو أنّ هذه الآية اطلقت على يوم القيامة عنوان «لقاء اللَّه»، ونحن نعلم بأنّ هذا اللقاء المعنوي والشهود الباطني هو قمّة التكامل بالنسبة للبشر، وتذكّر ذلك اليوم بإمكانه أن يوجد دوافعاً للاخلاص الكامل والعمل الصالح. (وقد اصطلحوا على هذا بتعليق الحكم على وصف

مشعر بالعلية).

وهذه الملاحظة أيضاً جديرة بالإهتمام، وهي أنّ التطرّق إلى رجاء المعاد بدل اليقين به، إشارة إلى أنّ مسألة المعاد، بدرجه بحيث إنّه حتى الرجاء بتحقُّقِهِ يكفي لوحده لكي يكون منبعاً لمثل هذه الآثار «1».

وبالإضافة إلى ذلك فإنّ الإتيان بصيغة المضارع «يَرْجُو» التي تدل على الاستمرارية، ثم الإتيان بعدها بالأمر بالعمل الصالح والإخلاص بصورة مطلقة، كل ذلك من أجل الدلالة على أنّ ذلك الرجاء وهذا العمل مقترنان ويحاذيان بعضهما على الدوام.

كما يمكن الكشف عن هذه المسألة الظريفة من هذه الآية أيضاً وهي أنّ القرآن شبّه العباد بالمسافرين الّذين يعودون ليلاقوا محبوبهم بعد انصرام مدّة الفراق، ومن البديهي أنّه يجب عليهم بأن يأتوا معهم بهدايا وأن يتصرّفوا بما يليق بهذا اللقاء كي لا يقفوا خجلين بين يدي الحبيب.

جاء في بعض التفاسير في سبب نزول هذه الآية: إنّ رجلًا أتى النبي صلى الله عليه و آله وقال: إنني أحب الجهاد في سبيل اللَّه ولكنّي أحبُّ أن أبرز ما لديّ من مفاخر أمام الآخرين، فنزلت هذه

__________________________________________________

(1) تفسير الميزان، ج 13، ص 406.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 308

الآية (وأكّدت على الإخلاص في العمل).

وجاء في رواية اخرى في سبب نزول هذه الآية أَنّ رجلًا أتى النبي صلى الله عليه و آله فقال:

يارسول اللَّه إنّي أتصدق وأصل الرحم ولا أصنع ذلك إلّاللَّه تعالى فيذكر ذلك مني وأحمد عليه فيسّرني ذلك وأعجب به، فسكت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ولم يقل شيئاً، فأنزل اللَّه تعالى

«فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيعْمَلْ عَمَلًا صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً» «1».

إنّ هذه الروايات الواردة في سبب نزول الآية تدل بوضوح على أنّ الإخلاص التام يعتبر اساس العبادة والعمل الصالح ...

الإخلاص الذي لا يشوبه شي ء من الرياء ولا يحتوي على ايّ نوع من أنواع الشرك.

والآية الثانية تتحدّث عن القصة المعروفة وهي نذر اهل بيت النبي الأكرم صلى الله عليه و آله صيام ثلاثة أيّام واهداؤه طعام الافطار إلى «المسكين» و «اليتيم» و «الأسير»، وهذه الآية تشير بوضوح إلى هذه الحقيقة وهي أنّ هذا الايثار الذي لا مثيل له ينبع من الإيمان بالمعاد، قال تعالى «وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً* إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَانُريدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَاشُكُوراً* إِنا نَخَافُ مِنْ رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً» «2».

أجل إنّ من يخاف اللَّه ويخاف يوم الجزاء، لا ينفق ممّا فَضَل عن حاجته فحسب، بل ينفق ممّا هو بأمسّ الحاجة إليه وذلك في سبيل الحبيب الذي لا مثيل له، هذا بالإضافة إلى أنّه ينفقه بإخلاص تام، ولا ينفقه من أجل الحصول على مكافأة أو اظهار الشكر على لسان من أحسَن إليهم، وهذا انّما يدل على أنّ الإيمان بذلك اليوم العظيم هو محفّز قوي لعمل

__________________________________________________

(1) تفسير القرطبي، ج 6، ص 4109.

(2) «عبوس» بمعنى متقطّب الوجه و «قمطرير» بمعنى صعب وشديد، وتشبيه يوم القيامة بالإنسان العبوس هو تعبير لطيف يصوّر ما لذلك اليوم من رعب وخوف شديدين، ثم إنّ كلمة «قمطرير» على رأي البعض مشتقة من مادة «قَمْطَر» وعلى رأي البعض الآخر هي من مادة «قُطر» (على وزن قُفل)، ولكن المشهور هو الرأي الأول. الدهر آية 7- 9.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 309

الصالحات والإخلاص في النيّة.

وممّا يجدر بالذكر هنا هو أنّ الآية السابقة تحدثت عن تأثير الرجاء والأمل بتحقق القيامة، على الإخلاص وعمل الصالحات، وفي الآية الثانية جاء الحديث عن تأثير الخوف من ذلك اليوم، فعند الجمع

يتشكَّلُ لدينا ركنان اساسيان للحثّ على العمل الصالح والإخلاص وهما (الرجاء والخوف).

والآية الثالثة تنقل ما جاء على لسان رجلٍ مؤمن نهض في انطاكيا للدفاع عن مبعوثي المسيح عليه السلام، وليهدي أهل تلك المنطقة للسير على خطى اولئك السفراء، إنّ هذا الرجل كان يقول خلال دعوته للناس وكما قال تعالى «وَمَالِىَ لَاأَعبُدُ الَّذِى فَطَرَنِى وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ».

فهو في الحقيقة ذكر خلال دعوته دليلين على وجوب العبودية للرب وهما:

أولًا: لأنّه خلقنا وأنّ وجودنا وعلمنا وقدرتنا كلّها منه.

وثانياً: أنّه هناك دنيا اخرى أمامنا سوف يلحق بها الجميع، ويمتثلُ الكل بين يدي اللَّه تعالى ومحكمته العادلة.

والملفتُ للنظر هو أنّه نسب الخلق واعطاء المواهب إلى نفسه، أمّا بالنسبة للمعاد والقيامة فقد نسبها إليهم، وهذا يدلّ على أنّ المورد الأول يتضمّن شكره للنعمة، والمورد الثاني يتضمن تهديد المخالفين من عذاب اللَّه يوم القيامة.

الإيمان بالمعاد وتأثيره على الثبات:

وفي الآية الرابعة جاء الحديث عن تأثير الإيمان بالمعاد في الثبات والصمود أمام الأعداء في سوح الجهاد، وهي تنقل ما جاء على لسان قوم من مؤمني بني اسرائيل الذين

نفحات القرآن، ج 5، ص: 310

رافقوا «طالوت» (قائد الجند الّذي نُصِّب من قبل الباري تعالى في حربهم مع «جالوت» الملك الظالم، وبعد خوضهم لامتحان صعب تخلّف فريق منهم ولم يبقَ في ساحة القتال إلّا عدد ضئيل، ثم إنّ هذا العدد الضئيل انقسم بدوره إلى قسمين، فقسم منهم استحوذَ عليهم الخوف والهلع فقالوا: «قَالُوا لَاطَاقَةَ لَنَا اليَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ». (البقرة/ 249)

وفي قبال هذا القسم، قسم آخر كانوا يعلمون بأنّهم ملاقو اللَّه حيث قالوا: «قَال الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثيرةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرينَ».

والتعبير ب «يظنون»- على رأي كثير من المفسرين- وَرَدَ هنا بمعنى

«اليقين بقيام يوم القيامة» وهو كذلك؛ لأنّ هذا الحديث صدر عن الذين خاضوا مختلف أنواع الامتحانات، ثم دخلوا ساحة الجهاد بإيمان راسخ.

ولا يخفى أنّ «الظنَّ» بمعنى الاعتقاد الناشى ء من الأدلة والشواهد، وكلّما كانت الأدلة قوية، فإنّه سوف ينتهي إلى العلم وكلّما ضعفت شواهده فإنّه لايتجاوز حدّ الوهم.

وقال بعض المفسرين أيضاً: إنّ الظن هنا لا يصل حدّ العلم، لكن «لقاء اللَّه» لم يأتِ هنا بمعنى القيامة، بل جاء بمعنى الشهادة في سبيل اللَّه، أي أنّ هذا الحديث كان صادراً عن الذين كانوا يظنّون بأنهم سوف ينالون وسام الشهادة الرفيع.

لكنّ هذا المعنى بعيد جدّاً، وذلك لأنّه لا يتناسب مع «غلبة الفئة القليلة على الفئة الكثيرة»، بالإضافة إلى أنّ «لقاء اللَّه» الذي ذُكِر في آيات القرآن يدل عادةً على القيامة لا على الموت أو الشهادة.

وعلى أيّة حال فمن البديهي أنّ الذين يؤمنون بالقيامة لا يعتبرون الموت نهاية الحياة أبداً، بل يعتبرونه بداية حياة أرقى فمثل هؤلاء لا يخافون الموت بل يذهبون لاستقباله بكل شجاعة وشهامة.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 311

والآية الخامسة تتضمّن ما جاء على لسان سحرة فرعون عندما آمنوا بموسى عليه السلام، بعد أن هددهم فرعون بالعذاب الأليم والتقتيل، قال تعالى نقلًا عن لسانهم: «فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِى هَذِهِ الحَيَاةَ الدُّنْيَا* إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيرٌ وَأَبْقَى .

إنّ الإيمان بالقيامة وعدم الإكتراث بقيمة الحياة الدنيا، دفع بالسحرةِ الفراعنة أن يمارسوا أقوى درجات الإيثار والتضحية، فقد صرفوا أنظارهم عن جميع ما أعدّه لهم فرعون من الهدايا، وصرفوا أنظارهم عن جميع الماديّات وذهبوا لاستقبال القتل والتنكيل، و وقفوا بكل صلابة أمام استفزازات ذلك الطاغية الجبّار، وشربوا شهد الشهادة بكل

شجاعة.

أجل عندما يبرق الإيمان بالمعاد في القلوب، فإنّه يؤجج النّار فيها بنحوٍ لا ينفع معه أيّ تهديد، فيفقد كل شيٍ أهميته في نظر الإنسان إلّااللَّه ولقاء الآخرة ونعيمها الخالد.

إنّ هذا الإيمان القوي المتقد بدّلَ السحرة الذين كانوا بالأمس عبيد الدنيا وكانوا أذلة متملقين بدّلهم اليوم وحولهم إلى رجال أقوياء وشجعان صامدين «1».

والتعبير ب «الحَيَاةَ الدُّنْيَا» هو دليل على إيمانهم بالحياة الآخرة الخالدة السامية، والآيات التي تتلو هذه الآية أيضاً قد صرحت بوضوح أكثر على إيمان هؤلاء بالدار الآخرة ومحكمة العدل الإلهي، والجنّة والسعير والدرجات المختلفة لأصحاب الجنّة وأنواع النعم الخالدة في الجنّة.

إنكار المعاد هو السبب الرئيسي لاقتحام الفجور:

اشير في الآيات الخمس السابقة إلى الآثار الإيجابية للإيمان بالمعاد والحياة بعد الموت

__________________________________________________

(1) ذُكِرَ في تفسير جمله «والذي فطرنا» احتمالان الأول أنّ الجملة تدل على القسم- كما ذكرنا في تفسيرها أعلاه- والثاني أنّ الجملة معطوفة على جملة سابقة، ففي هذه الحالة يصبح المعنى بهذا النحو: «قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات وعلى الذي فطرنا» لكنّ المعنى الأول أقرب على الأخص إذا أخذنا بنظر الاعتبار أنّ السحرة في عدّة آيات كانوا يقسمون بعزّة فرعون، وهنا أقسموا بخالق جميع البشر!.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 312

في أبعاد مختلفة وحيثيات متعددة، وابتداءً من الآية السادسة فما بَعدها اشير إلى الآثار السلبية لعدم الإيمان بالمعاد.

ففي الآية السادسة قال تعالى «فِى جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ* عَنِ الُمجْرِمِينَ* مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ» «1».

فينادي أصحاب السعير ليبّينوا أسباب دخولهم النار ويلخصونها في أربعة عوامل هي:

ترك الصلاة، وترك اطعام المساكين، ومعاشرة أهل الباطل، وأخيراً التكذيب بيوم الجزاء على الدوام، قال تعالى بلسان حالهم «قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ المُصَلِّينَ* وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ المِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الخَائِضِينَ* وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَومِ الدَّينِ».

إنَّ

هذه الآيات تدلَّ بوضوح على أنّ أحد عوامل السقوط في احضان جهنّم، وَالعامل الأساس المؤدّي إليها هو إنكار يوم الجزاء، الذي يجعل من الإنسان موجوداً غير مكترثٍ ولا مسؤول وفاقد للتقوى والإيمان.

والجدير بالذكر هو أنّ المتسائلين لم يسألوهم: لماذا ألقاكم اللَّه في النار؟ بل كان سؤالهم: ما هو السبب الذي أدّى إلى دخولكم النار؟، وذلك لتوضيح القانون الطبيعي الذي يربط «المنكرات والعقائد السيئة» ب «دخول جهنّم».

وممّا يجدر الإشارة إليه أيضاً هو أنّ العامل الأول من هذه العوامل الأربعة، هو ترك الارتباط باللَّه (الصلاة)، والثاني هو ترك الارتباط بالضعفاء (اطعام المساكين)، والثالث هو معاشرة أهل الباطل (الخوض مع الخائضين)، والرابع هو عدم الإيمان بالقيامة.

والتأكيد على «يَومِ الدِّينِ» (يوم الإدانة) من بين أسماء القيامة هو للدلالة على هذه الحقيقة وهي أنّ المحرّك الرئيسي نحو الإيمان والعمل الصالح هو الاعتقاد بأنّ يومَ القيامة هو يوم الإدانة والجزاء.

__________________________________________________

(1) «سَقَر» على وزن «سَفَر» في الأصل من مادة «سَقْر» على وزن «فَقْر» وهي بمعنى التبدّل والذوبان إثر حرارة الشمس، وعدّ البعض (مثل صاحب مقاييس اللغة) من معانيها الاحراق والاحتراق أيضاً، وفي «صحاح اللغة» عدّها من أسماء النار، وعلى أيّة حال فإنّ انتخاب هذا الاسم لجهنم هو من أجل أنّ جميع المعاني مجموعة فيها، وجاء في كتاب «التحقيق» أَنّ سقر هي نفس النار لا محلّها كما هو الحال في جهنم.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 313

وتحدثت الآية السابعة عن «المطففين» (الذين ينقصون الكيل)، قال تعالى «وَيَلٌ لِّلْمُطَفِّفينَ ... الا يَظُنُّ اولَئِكَ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ* لِيَومٍ عَظِيمٍ* يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ العَالَمينَ».

ومن المحتمل هنا أن يكون الظن بمعنى اليقين، أو بمعنى الظن بالمعنى الثاني، والهدف هو التأكيد على هذا الواقع وهو أنّ يوم الجزاء

يبلغ من الأهميّة والعظمة، ممّا يجعل من يظن وقوعه يحرص على عدم ارتكاب المعصية فضلًا عن أن يكون متيقناً.

لكن الكثير من المفسرين انتخبوا المعنى الأول أيضاً، كما جاء في بعض الآيات السابقة مثل الآية 249 من سورة البقرة، وقد أكّدت الروايات على هذا المعنى أيضاً «1».

على أَىِّ حال فإنّنا إن فسّرنا الظنّ باليقين أو بالظن الذي هو أقل درجةً من اليقين، ففي كلا الحالتين تعتبر الآية دليلًا على أنّ الإيمان بالقيامة له أثر احترازي مهم، في ترك الظلم والكف عن غصب حقوق الناس وأمثال ذلك.

فكلما قطع أحدٌ، أو حتّى لو احتمل أنّ هناك محكمة عظيمة، يُحاسَبُ فيها على الأعمال الصالحة أو الطالحة حتى لو كان مقدارها «مثقال ذرة»، وينالُ جزاءه على كل عمل، وأنّه لا مفر له من الامتثال أمام تلك المحكمة، فمن البديهي أن يراقب الشخص أعماله في هذه الدنيا، وإيمانه هذا واعتقاده سوف يؤثّر في تربيته.

ومن الطبيعي أنّه ليس المراد هنا بأنّ كل من ينقص الكيل، أو يرتكب ذنباً آخر لا يؤمن بالمعاد وهو كافر، بل المراد هو أنّ هؤلاء إمّا أن يكون إيمانهم ضعيفاً جدّاً أو أن يكونوا غافلين، وإلّا فكيف يؤمن الإنسان إيماناً راسخاً بمثل هذا اليوم ويبتلى بالغفلة أيضاً ويغرق بمثل هذه الذنوب.

لو آمنوا بالمعاد لما ارتكبوا الذنوب:

تحدثت الآية الثامنة عن الذين تقاعسوا عن الاشتراك في الجهاد عندما صدر الأمر بهذه

__________________________________________________

(1) ورد في احدى الأحاديث المروية عن أمير المؤمنين علي عليه السلام أنّه قال: «الظنّ ظنان: ظنُّ شكٍّ وظنُّ يقين، فما كان من أمرِ المعاد من الظنّ فهو ظنُّ يقين وما كان من أمرِ الدنيا فهو على الشك». (تفسير نور الثقلين، ج 5، ص 528، ح 6) كما جاء في عبارة الراغب

أيضاً إنّ (ظنّ) في اللغة تستعمل في كلا الموردين.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 314

الفريضة الإلهيّة، فهؤلاء كانوا يذهبون إلى النبي الأكرم صلى الله عليه و آله ويتحجّجون بحجج واهية، ليحرجوا النبي صلى الله عليه و آله حتّى يأذن لهم بعدم الذهاب إلى سوح القتال، وبهذا كانوا يريدون أن يتخلَّصوا من ثقل هذه الفريضة المهمّة، من دون أن يكونوا في الظاهر قد ارتكبوا معصية!

قال تعالى «لَايَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَانْفُسِهِمْ». (التوبة/ 44)

بل عندما يأتي الأمر بالجهاد يذهبون نحو ميادين القتال بكل اشتياق ورغبة، فهل يحتاج القيام بالواجب إلى الاذن؟

ثم يضيف: «إِنَّمَا يَسْتَأذِنُكَ الَّذِينَ لَايُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَاليَومِ الآخِرِ».

وهذا لا ينحصر طبعاً بفريضة الجهاد، فالمؤمنون الذين لديهم اعتقاد بالمعاد، يتسلحون بعزم راسخ وإرادة قوية لا تتزلزل في جميع المجالات، عند انجازهم للتكاليف الإلهيّة الموكلة إليهم، لكن عديمي الإيمان والذين ضعف إيمانهم وتزلزل، وبالأخص المنافقون يسعون دائماً للتخلص من عب ء التكاليف، مع أنّهم في نفس الوقت يحاولون أن يظهروا بمظهر من يلتزم بالموازين الشرعية وأنّ الشرع قد استثناهم من هذا المجال، ويالها من علامة حسنة للتمييز بين المؤمنين والمنافقين الذين يضمرون الكفر!.

وتحدّثت الآية التاسعة عن الذين يتعاملون بعنف مع الأيتام بسبب عدم إيمانهم بيوم الدين، والذين لا يشجعون الآخرين على اطعام المساكين، قال تعالى «أَرَأَيتَ الَّذِى يُكَذِّبُ بِالدِّينِ* فَذلِكَ الَّذِى يَدُعُّ اليَتِيمَ* وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ».

وكلمةُ «يدعّ» مشتقة من مادة «دعّ» (على وزن سدّ) وهي في الأصل بمعنى الطرد المقرون بالغلظة، وكلمة «يحُضُّ» مشتقة من مادة «حضّ» وهي بمعنى تشجيع الآخرين على القيام بعملٍ ما، وبما أنّهما جاءتا في الآية المذكورة بصيغة المضارع فهما تدلان على الاستمرار، و «طعام» بمعنى «إطعام».

وبما أنّ «الفاء»

في «فذلك» في الآية المذكورة «للسببية» فهذا يدل بوضوح على أنّ

نفحات القرآن، ج 5، ص: 315

إنكار يوم الجزاء هو المنبع الرئيسي لهذه الأعمال السيئة والمشؤومة، فهو لا يحرم الأيتام فحسب، بل يمنعهم بغلظة وشدّة، ولا يكف نفسه عن اطعام المساكين فحسب، بل يدفع الآخرين أيضاً على الكف عن اطعامهم، ويقف حائلًا دون تصدّق الآخرين عَليهم، وذلك لأنّه لا يخاف عاقبة سوء أعماله.

إنّه لا يؤمن بمحكمة العدل الإلهيّة ولا يؤمن بالحساب والثواب والعقاب، فهو لا يعتقد إلّا بالحياة الدنيوية المحدودة والامور المادية فقط، لذا فهو مشغوف بحبها ولا يفكّر بسواها.

وجملة «أَرأَيتَ» مأخوذة من مادة «الرؤية»، ويحتمل دلالتها على الشهود العيني أو على الشهود اللّبي، وهي بمعنى العلم والمعرفة، وعلى أيّة حال فالآية تفيد هذا المعنى وهو:

إنّك إنْ لم تعرف من ينكر يوم الجزاء فهم يحملون علائم واضحة، إحداها أنّهم قساة القلوب ولا يرحمون اليتيم، والاخرى أنّهم لا يَعبأون بحال المعدمين، فبهذه الصفات السيّئة يمكنك تمييزهم بوضوح، وتلمسُ حقيقة غيابِ الإيمان بالمعاد في وجودهم.

وقد ذكر المفسرون أسباباً عديدة في نزول هذه الآيات، منها: إنّ هذه الآيات نزلت في شأن (أبو سفيان)، فإنّه كان يذبح في كل اسبوع إثنين من الابل (لكنّه كان يحتفظ بها لنفسه وذويه)، فجاءه في أحد الأيّام فقير يطلب منه شيئاً، فدفعه أبوسفيان بعصاه إلى الخلف (فنزلت هذه الآية إِثر تلك الحادثة).

ونقل الفخر الرازي عن «الماوردي» أَنّ هذه الآية نزلت في شأن (أبوجهل)، فأبو جهل كانت له وصاية على أحد الأيتام، فجاءه اليتيم وهو عريان، وطلب من أبي جهل أن يمدّه بشي من أمواله، لكن أبا جهل طرد اليتيم بعنف، فقال وجهاء قريش لليتيم اليائس: اطلب من محمد أن يذهبَ إلى أبي جهل

فيشفع لك عنده، وكانوا يريدون بذلك الاستهزاء والسخرية، فتوجَّهَ الطفل إلى النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وهو لا يعلم الهدف من كلام وجهاء قريش، وطلب من النبي صلى الله عليه و آله أن يشفع له عند أبي جهل، وكان من عادة النبي صلى الله عليه و آله أن لا يردّ طلب محتاج أَبداً، فقام صلى الله عليه و آله فاصطحب الطفل وذهب إلى أبي جهل، وعندما وقع نظر أبي جهل على النبي صلى الله عليه و آله رحّب به (وقد ملأ وجوده العجب)، ثم أعطى اليتيم مالًا كثيراً، بعد ذلك وجَّهَ

نفحات القرآن، ج 5، ص: 316

وجهاء قريش اللوم لأبي جهل على فعله، وقالوا له أملكك حبُ محمدٍ يا أبا جهل؟ فقال كلًا واللَّه إنّ حبّه لم يدخل قلبي، لكنني شاهدتُ حراباً على يمينه وشماله فخفت إنْ لم البِّ دعوته أن تمزقني تلك الحراب «1»!.

وعلى أيّة حال فإنّ دلالة الآية على تأثير الإيمان بالمعاد على سلوك الإنسان ظاهر بكل وضوح.

وفي الآية العاشرة طُرِحت نفس هذه المسألة أي العلاقة بين «الإيمان بالحياة بعد الموت والحساب والجزاء والقيامة» وبين «أعمال الإنسان في هذه الدنيا والمسائل المتعلّقة بالتربية» ولكن بنحوٍ آخر، قال تعالى «بَلْ يُريدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ* يَسْئَلُ أَيَّانَ يَومُ القِيَامَةِ».

وَهل يمكن للإنسان الذي يؤمن بعظمة اللَّه، وقدرته على خلق جميع هذه الأجرام السماوية والمجرّات والعوالم العجيبة، أن ينكر قدرته على احياء الموتى !

بناءً على هذا لا يكون الهدف من انكار هذا الإنسان إلّاالتحرر من القيود من أجل اشباع جميع غرائزه، وليبسط يديه في الظلم وهتك حدود العدالة وارتكاب الذنوب، أنّه يريد أن يخدع نَفسهُ بهذا الاسلوب حتى تصل به القناعة المزيّفة بأُسلوبه هذا حدّاً

يجعله يخلق الاعذار والتبريرات لإخفاء قباحة أعماله عن أنظار الناس، إنّه يريد أن يحطّم السدّ العظيم الذي أوجده الإيمان بالمعاد للمنع من ارتكاب أي نوع من المعصية، وهذا الأمر لا يختص بالزمان الماضي، فاليوم كالأمس أيضاً.

لهذا ذُكِر في البحوث المتعلّقة بالدوافع نحو التمايل إلى الماديّة وإنكار المبدأ والمعاد، أنّ إحدى تلك الدوافع هو الهروب من عِب ءِ المسؤوليات وتجاوز السنن الإلهيّة وخداع الوجدان الإنساني.

__________________________________________________

(1) تفسير الكبير، ج 32، ص 111؛ وتفسير روح البيان، ج 10، ص 522.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 317

والمراد من «الإنسان» في هذه الآية هو نفس ذلك الإنسان الذي جاء الحديث عنه في بداية سورة الدهر، ذلك الإنسان الذي انكر القيامة، وكان يظن بانّ اللَّه لا يقدر على جمع العظام الرميم واحيائها مرةً أخرى والفرق هنا- كما ورد في تفسير «الميزان»- عدم استخدام الضمير واستبداله بالاسم الظاهر (كلمة الإنسان)، وهذا في الواقع هو من أحد أشكال اللوم والتحقير وكأنّه قال: كيف لمن حصل على مقام الإنسانية أن يسلك هذا الطريق الخاطي ء «1».

أمّا استعمال صيغة المضارع في (يُريدُ- يفجُرَ) التي تستعمل عادة للدلالة على الاستمرارية، فقد جاء هنا للدلالة على هذه الحقيقة وهي أنّ الإنسان انانيٌّ ويحبّ الذات على الدوام ويريد الاستمرار على المضيّ في فجوره.

و «فجور»: من مادة «فجر» بمعنى تمزُّق الشي ء بشدّة، وبما أنّ الذنب يسبب خرق حُجب التديّن لذا استخدمت هذه الكلمة في هذا المورد «2».

وأمّا كلمة «أمام» (على وزن مقام) فهي في الأصل بمعنى الجهة الإمامية وهي تقابل «الخلف» وبتعبير آخر إنّ «أمام» بمعنى ما يقابل وجه الإنسان، وبما أنّ الجهة المقابلة لوجه الإنسان ذات أهميّة بالغة بالنسبة له، لذا استخدمت هذه الكلمة هنا (لأنّ مادة «أمّ» بمعنى «قصدَ»).

لكنّه

من الواضح أنّ استخدام هذا التعبير هنا هو من أجل الدلالة على مستقبل العمر، وهي ظرف مكان- على حدّ تعبير بعض المفسرين- وقد استخدمت للدلالة على ظرف الزمان من باب الكناية «3»، والمراد هنا في الحقيقة هو أنّ الإنسان المتصف ذاتاً بحبّ الذات، يتّخذ من إنكار المعاد ذريعة لكسب الحرية في ارتكاب الذنوب خلال فترة حياته.

أمّا ما احتمله البعض أنّ «أمام» للدلالة على القيامة فإنّه بعيد جدّاً؛ وذلك لأنّها لا تتلاءم مع مادة الفجور، بالإضافة إلى أنّ هذا المعنى يقطع صلة الترابط الموجود بين الآيات.

__________________________________________________

(1) تفسير الميزان، ج 20، ص 190.

(2) مفردات الراغب مادة (فجر).

(3) تفسير روح البيان، ج 10، ص 245، وقد أخذ أيضاً بهذا المعنى صاحب الميزان، ج 20، ص 190.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 318

الإيمان بالمعاد وعلاقته بالرؤية الواقعية:

طرحت هذه المسألة بشكل جديد في الآية الحادية عشرة، حيث قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ لَايُؤمِنُونَ بِالآخِرَةِ زَيَّنَا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ».

وكما اشتهر لدى علماء الأدب وعلماء علم اصول الفقه أنّ هذا هو من باب تعليق الحكم على الوصف، وهوَ يُشعِرُ بعلّية الوصف للحكم، بناء على هذا إنْ كانت الآية تنسب تزيين الأعمال إلى عدم الإيمان بالآخرة فيكون مفهومها هو: عندما يفقد الإنسان الإيمان بالآخرة فإنّه سوف يبتلى بهذه العاقبة، (فتأمّل).

كما يمكننا الحصول على هذه النتيجة أيضاً بإعمال شي ء من التحليل وهي: إنّ الإِيمان بالآخرة بمعنى الإيمان بوجود محكمة عادلة يباشر الباري تعالى فيها القضاء، وإنّ الشهود هم الملائكة، وإنّ الكذب والاحتيال والشفاعة والرشوة لا تنفع هناك، فالايمان بوجود هذه المحكمة يبعث الإنسان على التدقيق في أعماله، ويجعله ينظر إليها من منظار الواقع.

أمّا بالنسبة لمن يبتعد عن هذه الحقيقة ويشعر بأنّه حرّ أمام الفوارق الموجودة

بين المفاهيم من حسنها وسيئها، فإنّ ذلك يؤدّي بالإنسان الأناني إلى الإتيان بالاعذار والتبريرات لخداع نفسه وخداع الآخرين في اضفاء صبغة التقوى والصلاح على شهواته الجموحة، واظهار السيئات بمظهر جميل ممّا يؤدّي به في النهاية إلى الوقوع في أحضان الحيرة والضياع، (وهذا يستفاد من فاء التفريع التي تدلّ على السببية) وهذا من أخطر النتائج المترتبة على إنكار المحكمة الإلهيّة العظمى

ومن الجدير بالالتفات هنا هو أنّ تزيين الأعمال نُسبَ إلى اللَّه، بينما اسند ذلك إلى الشيطان وحب الهوى في آيات اخرى من القرآن المجيد (في ثمانية موارد)، كما ورد بصيغة المبني للمجهول «زُيّن» في آيات عديدة اخرى (في عشرة موارد)، وإذا ما تأمّلنا في ذلك لوجدنا أَنها تشير إلى حقيقة واحدة هي:

إذا اسند التزيين إلى اللَّه فذلك لأنّ اللَّه هو مسببب الأسباب، لأنّ كل ما للمخلوقات من أفعال تنتهي أخيراً إلى اللَّه، أو بتعبير آخر إنّ اللَّه جعل هذا الأثر مترتباً على إنكار يوم القيامة

نفحات القرآن، ج 5، ص: 319

أو على تكرار أعمال السوء، كي تظهر هذه الأعمال بمظهر حسن في نظر الإنسان وتُسْلَبُ منه قوّة التمييز بين الحسن والقبيح.

أمّا إذا اسند التزيين إلى حب الهوى أو إلى الشيطان فذلك لأنّ هذين هما العلّة القريبة والمباشرة في تزيين الأعمال السيئة.

وأمّا لو اسند التزيين إلى الفاعل المجهول فذلك للدلالة على أنّ طبيعة إنكار القيامة أو الاصرار على ارتكاب السيئات، تقتضي اعتياد الإنسان على تلك الأعمال أولًا، ثم تصبح تلك الأعمال محبوبة لديه وتلبس ثوب الحسن في نظره.

ومن البديهي أنّ تزيين الأعمال يجّر وراءه الضياع الدائم والحيرة المستمرّة في وادي الضلالة والانحراف؛ وذلك لأنّ الإنسان لا يكف عن ممارسةِ عمل ما إلّاإذا ما وجده سيئاً وَيُلحق به

الأذى

ويتضح ممّا قلناه أعلاه أنّ من فسّر الآية بأنّ اللَّه يُزيّن أعمال هؤلاء في نظرهم، فيصيبهم الغرور فيبتلون بالضياع، أنّ تفسيره غير مناسب، ومن المحتمل إنّ هؤلاء اتجهوا إلى هذا التفسير بسبب عدم تمكنهم من حل مغزى ما جاء في الآية من نسبة التزيين إلى اللَّه، ففسروها بهذا التفسير المخالف للظاهر.

وفي الآية الثانية عشرة والأخيرة من الآيات المعنية بالبحث توجّه تعالى بالخطاب إلى النبي صلى الله عليه و آله فقال: «وَإِذَا قَرَأْتَ القُرَآنَ جَعَلْنْا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَايُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَاباً مَّستُوراً»، ثم اضاف تعالى «وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِى آذَانِهِمْ وَقْراً».

وهنا أيضاً نواجه مسألة «تعليق الحكم على الوصف» أي أننا نرى أنّ مسألة وجود الحجب المعنوية بين النبي صلى الله عليه و آله والمشركين وإسدال الحجب على القلوب وانسداد آذانهم تَرَتّبتَ على وصفهم بعدم الإيمان بالآخرة، وهذا يدل بوضوح على أنّ عدم الإيمان بالمحكمة الكبرى يؤدّي إلى ظهور هذه الحجب والابتعاد عن إدراك الواقع، ودليل ذلك

نفحات القرآن، ج 5، ص: 320

واضح وهو: إنّ عدم الاكتراث بالحساب وجزاء الأعمال يؤدّي بالإنسان إلى ركوب مركب الغرور والأنانية والعناد والتعصّب وعبادة الهوى ففي مثل هذه الحالة كيف يتمكّن من أن يرى الحقائق كما هي ويؤمن بها.

فهل يوجد حجاب أسوأُ من حجاب الهوى وهل يوجد مركب أسوأُ من مركب الأنانية والغرور؟

قال بعض المفسّرين: إنّ المراد من «الحجاب المستور» هو حجاب وجدار غير مرئي كان يحجب النبي الأكرم صلى الله عليه و آله عن أنظار المشركين، حين تلاوته للقرآن كي لا يرونه ليكف عنه أذاهم، وقد روي في سبب نزول الآية ما يشابه ذلك أيضاً.

لكنّ ظاهر الآية ينافي هذا التفسير؛ وذلك لأنّ ظاهرها يدل على أنّ

هذا الحجاب يمنع من فهم وإدراك الحقائق واللطائف القرآنية، بناءً على هذا يجب القبول بأنّ المراد من هذا «الحجاب المستور» هو تلك الحجب المعنوية، التي تمنع عيون وآذان وقلوب المشركين عبّاد الهوى الأنانيين المتعصبين من إدراك وفهم المعارف القرآنية السامية.

وهذا هو ما أشارت إليه الآيات المتعددة، والذي بحثناه مفصلًا في الجزء الأول من هذا الكتاب تحت عنوان «حُجُب المعرفة» «1».

وجاء في ما يقارب هذا المعنى أيضاً في قوله تعالى «فَالَّذِينَ لَايُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُّنكِرَةٌ وَهُمْ مُّستَكْبِرُونَ». (النحل/ 22)

فهنا اشير أيضاً إلى أنّ «عدم الإيمان بالآخرة» هو من عوامل «إنكار الحق والمكابرة».

ثمرة البحث:

اتّضح من خلال ما جاء في الآيات الإثنتي عشرة الآنفة الذكر (والآيات المشابهة) أنّ

__________________________________________________

(1) وصف «الحجاب» ب «مستور» يستخدم أحياناً في معناه الظاهري، أي «الحجاب اللامرئي» وأحياناً قيل: إِنّ اسم المفعول هنا جاء بمعنى اسم الفاعل فمستور هنا جاء بمعنى ساتر.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 321

الإيمان بالآخرة (محكمة العدل الإلهي في الدار الآخرة)، تارةً يبعث على الصحوة والانتباه والتقوى وتهذيب النفس والخوف من ارتكاب الذنوب أو ممارسة الظلم والاستبداد، وتارةً يكون عدم الإيمان بها سبباً في ابتعاد الإنسان عن الحقائق، وسبباً في استكباره على الحق وانغماسِهِ في بحر المفاسد والذنوب.

وبهذا يتضح بكل جلاء تأثير الإيمان الراسخ بالمعاد على تربية البشر من وجهة نظر القرآن المجيد.

توضيحات

1- الآثار الإيجابية العميقة للإيمان بالقيامة

إنّ «المراقبة والمحاسبة» هما عاملان مهمّان في التربية. ومن أحد معاني المراقبة هو أن يعلم الإنسان بأنّ هناك من يراقبه وهو يخضع لرقابته في جميع الأحوال، بل يعلم بأنّ جميع أسراره الخفية أيضاً تخضع لرقابته.

فالالتفات إلى هذا الحقيقة يجعل الإنسان في حالة انذار دائم، كما أنّ الالتفات إلى «المحاسبة» وإلى أنّ جميع أعماله الصغير منها والكبير والحسن منها والسي ء، سوف يخضع للحساب وسوف تجازى الأعمال بعدالة على قدرها، ممّا يؤدّي إلى أن لا يرى الإنسان نفسه مطلق العنان في إنجاز أعماله وإلى أن لا يهملها ويعدّها صغيرة، وكلّما كانت قوّة الرقابة والحساب دقيقة كلّما دقق الإنسان أكثر في إنجاز أعماله.

ففي زماننا الحاضر تخضع بعض الطرق الخارجية في بعض البلدان للمراقبة بواسطة الكاميرات الخفية، ويراقب شرطة المرور تلك الطرق وهم جالسون في مراكز المراقبة بكلّ دقّة، وتتمُّ ملاحقة سائقي السيارات المخالفين لقوانين المرور بواسطة اعلام مراكز المراقبة (بواسطة المرسلات اللاسلكية) النقاط المستقرّة في بوابات تلك الطرق أو الدوريات المتجوّلة

لايقاف تلك السيارات وتغريم سائقيها.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 322

فهذه المراقبة وتلك الغرامات تؤدّي إلى استقرار نظام المرور حتّى في الطرق الخارجية.

فإذا كانت المراقبة والمحاسبة من قبل الإنسان غير المعصوم من الوقوع في الخطأ لها هذا الأثر، فإنّ أثر الإيمانِ بمراقبة اللَّه الدائمة، الذي يعلم أسرار ما يكن الإنسان وما يعلن، والإيمان بمحكمة العدل التي تحاسب على ما مقداره «مثقال ذرّة» والتي لا تنفع معها الشفاعة، فإنّ عمق تأثير هذا الإيمان واضح من دون الحاجة إلى البرهان.

ومن الواضح أَنّ هذا الأمر يتبدّل من صورة أفعال متفرّقة إلى عادة دائمة ومن عادة إلى ملكة، وتتحوّل الحقيقة التي يطلق عليها اسم «الوجدان الاخلاقي» و «التقوى الإلهيّة» في قلب الإنسان إلى إيمانٍ راسخ.

إنّ الغاية الاساسية من وجود المحاكم والعقوبات المطبقة وكذلك المكافآت والمدح السائد هي إيجاد الاستقرار وهيمنة القانون وتربية الإنسان، والفرق بين المحاكم الموجودة في هذه الدنيا وبين المحكمة الإلهيّة هو أنّ هذه المحاكم يمكن استئناف الأحكام الصادرة عنها، وغالباً ما تخضع أحكامها لتأثير الوساطة والرشوة، بالإضافة إلى نقص القوانين المتّبعة فيها والاستثناءات والأحكام الفرعية، وإمكان الإتيان بأدلّة كاذبة تؤدّي في أكثر الموارد إلى خلاص المجرمين من مخالب العدالة، أو أحياناً إلى تأخير صدور الحكم إلى سنين عديدة بسبب الاستفادة من الروتين، لكنّ محكمة القيامة لا تحتوي على أيّ شي ء من هذه النواقص، بل كما سنشير لاحقاً فإنّ المكافآت والعقوبات هناك تشبه إلى حدٍّ كبير الآثار والخواص الطبيعية للأشياء، فهل يمكن تبديل آثار الدواء النافع إلى آثار سمٍ قاتل عن طريق الإتيان بأدلّة كاذبة واستخدام الوساطة والرشوة؟!

إنّ ممّا لا شك فيه هو أنّ الإيمان بمثل هذه المحكمة له أثر في تربية وتطهير الإنسان يفوق كثيراً آثار المحاكم

الدنيوية.

ومن ناحية اخرى فإنّ الإيمان بهذه المحكمة يؤجج روح الايثار والتضحية في قلب الإنسان، وذلك لقاعدة: «مَا عِندَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ». (النحل/ 96)

فهذه الدنيا ممرٌّ ودنيا فانية، بينما سوف يبقى ما ذُخِر لذلك العالم مستقراً وخالداً، فأيّ

نفحات القرآن، ج 5، ص: 323

عاقل يتردد في شراء «المواهب الجمّة»، بل المواهب التي لا تنضب ب «المتاع القليل»؟ من أجل هذا يمكن للإيمان بالمعاد أن يصبح منبعاً لجميع أنواع الإنفاق والإيثار والتضحية.

و من ناحية ثالثة فإنّ هذا الإيمان يعطي الإنسان روح الشجاعة والشهامة والصبر والاستقامة، فمن يخاف الموت يقول: «إِنْ هِىَ إِلّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا». (الانعام/ 21)

أمّا من لا يخاف من الموت يعتقد بأنّ «الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِىَ الْحَيَوانُ». (العنكبوت/ 64)

وكيف يبخل في بذل روحه وماله، أو أن يخاف كثرة صفوف الاعداء مَنْ يعتقد بأنّ الشهادة في سبيل اللَّه هي بوّابة للدخول في رحمة الحق تعالى والوصول إلى مقام القرب منه وَنيْل هبات الجنّة التي لا يسعها الوصف؟!

وما شاهدناه في حروب صدر الإسلام والحرب المفروضة الأخيرة من صمود المقاتلين الشجعان الذي لم يسبق له مثيل، ومن شجاعة خارقة وانتصارهم على الأعداء بالرغم من كثرة عددهم وعدّتهم فإنّ السرّ في ذلك يكمن في أنّ الإيمان بالمعاد هو الّذي صنع منهم اناساً آخرين ... اناساً لا يخافون الموت أبداً، ويعتبرون الشهادة في سبيل اللَّه مِن أرقى المفاخر.

وقصارى القول: إنّنا كلّما أمعنّا النظر أكثر في هذه الرابطة (علاقة الإيمان بالمعاد بتربية الإنسان)، فإننا سوف نكتشف أهميّتها بصورة أوضح، وكما كررنا القول كثيراً فإنّ تأكيد القرآن على هذه المسألة في آيات عديدة لا تحصى هو في الأساس من أجل هذا الأمر.

ومن المحتمل أن يقال: إِنّ ما قلتموه هو بيان للعلاقة الموجودة

بين «العمل» و «الإيمان» لا العلاقة الموجودة بين «الأخلاق» والإيمان.

لكننا قد أشرنا آنفاً أيضاً إلى أنّ «العمل» إثْرَ التكرار يتحوّل بالتدريج إلى «حالة» ثم تتحوّل الحالة إلى «عادة» وأخيراً تتحوّل العادة إلى «ملكة اخلاقية»!.

2- الآثار التربوية للمعاد من وجهة نظر الروايات

إنّ هذا الموضوع لم يذكر في آيات القرآن فحسب، بل له صدىً واسعٌ في الروايات

نفحات القرآن، ج 5، ص: 324

أيضاً، وقد وضَّحت الروايات العلاقة الوثيقة والجذرية والدائمة الموجودة بين هذين الموضوعين، ونذكر فيما يلي نموذجاً من هذه الروايات:

1- قال على عليه السلام في نهج البلاغة: «واللَّهِ لأَنْ أَبيتَ على حَسَكِ السَّعْدان مُسَهَّداً، أو اجَرُّ في الأَغلالِ مُصفداً، أَحَبُّ الىَّ من أَنْ القى اللَّه ورسوله يوم القيامة ظالماً لبعض العباد وغاصباً لشي ءٍ من الحطام» «1».

وذكر عليه السلام بعد هذه الجُمَل قصة أخيه «عقيل» المعروفة، إذْ لجأ إليه أخوه من شدّة ما أصابه من الفقر والفاقة فطلب منه أن يعطيه أكثر ممّا يستحقّه من بيت المال خلافاً لما تقتضيه العدالة الإسلامية.

لكنّ الإمام عليه السلام وضع قطعة من الحديد في النار وبعد أن احمرّ لونها قرّبها من يد أخيه فضجّ أخوه بالعويل، فقال له الإمام عليه السلام: «كيف تصرخ من ألم هذه النار التي هي العوبة يُلهى بها؟ وتجرّني إلى نارٍ أججها الجبار لغضبه وانتقامه» «2»!

يلاحظ من خلال هذه الكلمات قوّة الإيمان بالمعاد وتأثيرها في الحثّ على إقامة العدالة والوقوف أمام جميع الانحرافات، وهي نموذج حيّ عن تجلّي الإيمان بالقيامة ومحكمة العدل الإلهي في أعمال الإنسان.

2- وَرُوِي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: «من أَيقنَ بالخلف جاد بالعطية» «3».

وهذه الرواية تدل بوضوح على أنّ الإيمان بالمعاد يجعل الإنسان متصفاً بالجود والسخاء.

3- وجاء في غرر الحكم نقلًا عن الإمام علي عليه السلام في

عبارة صريحة أنّه قال: «اجعل هَمّك لمعادك تصلُح» «4».

4- وجاء في ملحمة كربلاء وعاشوراء أنّ الحسين عليه السلام جمع أصحابه يوم عاشوراء وقام

__________________________________________________

(1) نهج البلاغة، الخطبة 224.

(2) نهج البلاغة، الخطبة 224. (باختصار).

(3) بحار الأنوار، ج 74، ص 385؛ نهج البلاغة، الكلمات القصار، الكلمة 138.

(4) غرر الحكم؛ ميزان الحكمة، ج 1، ص 37، ح 133.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 325

خطيباً فيهم فقال: «صبراً بني الكرام فما الموت إلّاقنطرةٌ تعبُرُ بكُمْ عن البؤس والضَّراء إلى الجنان الواسعة والنعيم الدائمة، فأيَّكُم يكرهُ أن ينتقل مِنْ سجنٍ إلى قصرٍ»؟

والّذي دعا الإمام لإلقاء خطابه هذا هو أنّه كان كلّما اشتدّ حصار الأعداء عليه وعلى أصحابه وكلّما حَمِيَ الوطيس كان وجهه أكثر اشراقاً ونفسهُ أكثر اطمئناناً، هنا قال أصحابه لبعضهم الآخر: «انظروا إليه إنّه لا يبالي بالموت»!

فسمع الإمام هذا منهم فالقى عليهم الخطاب المذكور، ثم أضاف إليه قوله: روى أبي عن جدي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «إنّ الدُّنيا سجنُ المؤمن وجنّةُ الكافر، والموت جسرُ هؤلاء إلى جنانهم وجسر هؤلاء إلى جحيمهم ما كذِبتُ ولا كُذِّبت» «1».

فالسّر في ملحمة عاشوراء وشجاعة الإمام الحسين عليه السلام وأصحابه، التي لم يكن لها مثيل والتي سُجِّلت في التاريخ بأحرفٍ من ذهب لامعه، يجب أن نبحث عنه في هذا الميدان أيْ الإيمان الراسخ لهؤلاء بالمعاد والحياة الآخرة الخالدة.

5- إنّ تأثير الإيمان بالمعاد في إصلاح الأعمال بلغ من الوضوح حداً جعل أمير المؤمنين علياً عليه السلام يتعجّب ممن يؤمن بالآخرة ولا يسعى في إصلاح أعماله، قال عليه السلام:

«عجبتُ لِمَنْ يَعلمُ أنّ للأعمال جزاءً كيف لا يُحسنُ عَملَهُ» «2».

6- ونختتم كلامنا هذا بحديثٍ عميق المغزى عن مؤسس

الإسلام النبي الأكرم صلى الله عليه و آله:

عند حديثه صلى الله عليه و آله عن علامات أهل اليقين قال صلى الله عليه و آله: «ومن علائمه أنّه: أيقن بأنّ الجنّة حقٌ فاشتاق إليها، وأيقن بأنّ النار حقٌ فظَهَر سعيهُ للنجاة منها، وأيقن بأنّ الحسابَ حقٌ فحاسَبَ نفسهُ» «3».

إنّ الروايات المَرويّة في هذا المجال كثيرة جدّاً وما ذكرناه هنا ما هو إلّاقليل منها، وتتفق جميعها على أنّ الإيمان بالدار الآخرة له أثر عميق في تربية الإنسان.

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار، ج 44، ص 297 (باب فضل الشهداء معه وعلّة عدم مبالاتهم بالقتل)، ونقل المرحوم الصدوق هذا الحديث في كتاب «معاني الإخبار» عن علي بن الحسين عليه السلام في باب «معنى الموت» ص 288.

(2) غرر الحكم، ج 2، ص 495.

(3) تحف العقول، ص 23.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 326

3- الإيمان بالمعاد وعلاقته باطمئنان النفس

إنّ الاعتقاد بالحياة بعد الموت يؤثّر في تهذيب النفس وإخلاص القلوب وسموّ الأخلاق وطهارة الأعمال وله أثر كبير في إصلاح حال الإنسان في هذه الدنيا أيضاً.

كلنا يعلم أنّ القلق هو خطر يهدد حياة الإنسان، فيُحوِّل حلاوة العيش إلى مرارة لا تطاق، ويصاب الإنسان بالانهيار العصبي جراء القلق الذي يسيطر عليه.

القلق الناشي ء من ماضي الإنسان واضاعة الفرص والآلام التي حلّت في ساحته، والقلق بشأن المستقبل ونهاية الحياة وفقدان الأصدقاء والأقارب والاولاد والمال والثروات والقوى الجسميّة والروحيّة ... والقلق الناشي ء من الأحداث التي لم تكن بالحسبان والتي تعصف بالإنسان فتحطّم استقراره.

لذا قال العلماء أصحاب الخبرة: إنّ البشر في زماننا الحاضر وَبالرغم مِن تطوّر الطّب والجراحة وفي نفس الوقت الذي قُضيَ فيه على الكثير من الأمراض، حتّى أنّ قسماً منها قد تلاشت واجتثت من جذورها، إلّاأنّ الإنسان مازال يعاني من

الأمراض النفسية أكثر ممّا كان عليه في السابق، لذا فإننا نرى أنّ الاحصاءات تدل على أنّ هذه الأمراض في تزايد مستمر يوماً بعد يوم.

حتّى قال أحد أساتذة علم الاجتماع في جامعة پرينستون الاستاذ «دونالد لايت»:

«يعيش في أميركا لوحدها حالياً ما يقارب خمسة وعشرين مليون فرداً! أقْدَمُوا على الانتحار خلال حياتهم مرّة واحدة على الأقل، ولم يكن لجميع المساعي التي بذلت في هذا المجال من قبل لجان مكافحة الانتحار أثر يعتد به، وهؤلاء يقدمون على هذه الأعمال بسبب اليأس وشعورهم بتفاهة الحياة، وبسبب الوحدة وعدم ثقتهم بالدنيا والاضطراب والتشويش الناشي ء من تدهور المجتمع، وهذا الأمر لا يمكن معالجته بالسبل المذكورة أعلاه» «1».

بالرغم من أنّ عصرنا الحاضر في أحد أبعاده هو عصر راحة الإنسان فقد انخفض مقدار

__________________________________________________

(1) غربت غرب، ص 18 (باختصار).

نفحات القرآن، ج 5، ص: 327

ساعات العمل عمّا كان عليه سابقاً، وازيحت الاعباء التي كانت تثقل كاهل الإنسان وأُلقي ثقلها على كاهل عجلات المصانع العظيمة، وفي المنازل أيضاً تحملت الآلات الكهربائية أعباء القيام بالأعمال الصعبة فأصبحت المنازل أكثر تطوراً وعدّة، والوسائط النقلية أكثر فائدة، فالسفر الذي كان في الماضي يعتبر قطعة من الجحيم أصبح اليوم من أسباب الرّاحة واللهو، وأخيراً أدْخَلَت وسائل اللهو الحديثة والجيّدة على حياته لوناً جديداً.

فعلى غرار هذا التطوّر فإنّه يُتوقّع أن يعيش الإنسان في عصرنا الحاضر وهو يتمتع بهدوءٍ تام، وصحّة تامة من الناحية البدنية والروحية معاً، لكننا نرى بوضوح أَنّ الاضطراب والقلق ينتابانه أكثر ممّا كان عليه سابقاً.

والأسباب الرئيسية في هذا الأمر هي الشعور بتفاهة الحياة وعدم كونها هادفة، والشعور بعدم وجود ملجأ عند حلول المعضلات المدمّرة ورسم صورة مرعبة للموت والتشاؤم القاتل، والخوف من المستقبل المجهول للعالم وللحياة

الشخصية، وممّا لا شك فيه هو أنّ الإيمان بالآخرة، والحياة الخالدة فيها التي تكتنفها العدالة والطمأنينة بإمكانه أن يُنهي كل هذا القلق.

قال البروفسور المعروف «يونغ»: إنّ ثلثي المرضى الذين قدموا اليّ من جميع انحاء العالم للعلاج هم أفراد مثقفون وموفقون في حياتهم لكنّهم يعانون من مرضٍ خطير وهو الشعور بتفاهة الحياة، والسبب في ذلك هو أنّ إنسان القرن العشرين بسبب التقدّم التقني وقصور الرؤية والتعصّب، فقد الدين فعاد يبحث عن هويته ومالم يعثر على دين فإنّه سوف لن يهدأ، «وذلك لأنّ فقدان الدين يؤدّي إلى تفاهة الحياة وفقدانها لمفهومها» «1»!

وهنا نلجأ إلى القرآن ونطلب منه العون: ففي سورة يونس نلاحظ إشارة لطيفة في هذا المجال في قوله تعالى «الَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَاخَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَاهُمْ يَحْزَنُونَ ...* لَهُمُ البُشرَى فِى الحَيَاةِ الدُّنيَا وَفى الاخِرَةِ». (يونس/ 62- 64)

أجل إنّ هؤلاء تعلّقت قلوبهم باللَّه والتحقوا بركب الأولياء في هذا الوجود، واعتبروا

__________________________________________________

(1) معاد از نظر روح وجسم، ج 1، ص 44.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 328

الدنيا قنطرة للوصول إلى حياة الآخرة الخالدة، لذا فهم لا يشعرون بالوحدة ولا بتفاهة الحياة.

وإلى هنا ننهي الحديث عن الآثار المختلفة الماديّه والمعنوية للإيمان بالقيامة، على حياة الأفراد والمجتمعات بالرغم من وجود بحوث كثيرة لم نَتَحَدَّثْ عنها هنا.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 329

المدخل إلى عالم البقاء

اشارة

1- الموت

2- البرزخ

نفحات القرآن، ج 5، ص: 331

1- الموت

تمهيد:

بالرغم من أنّ اسم الموت مرعب جدّاً ومهيب في نظر الكثيرين، إلّاأنّه لا يتّصف بذلك في نظرية المعرفة الإسلامية، وذلك لأنّ الموت جسر عبور نحو العالم الآخر، بل ويعدّ الموت في الحقيقة ولادة جديدة.

ويحتمل أن يكون بكاء المولودِ الشديد عند الولادة وذلك لأنّه يحتمل الفناء، بالرغم من كونه قد خرج إلى عالمٍ أوسع بكثير من بطن الام.

وفي نفس الوقت لا يكون العبور من هذه البوّابة محبوباً لدى الجميع، بل لا يستحسنه إلّا الذين يصطحبون الزاد والعدّة الكافية لهذا السفر الصعب، لذا فليس من العجيب أن يسيطر الخوف والهلع من الموت على قلوب المسيئين والمجرمين- حتّى لو كانوا يؤمنون بالحياة بعد الموت-.

فهذه النظرة للموت تمنح الإنسان القدرة على الجهاد والإيثار والتضحية، ولا يصبح ذليلًا وحقيراً بسبب الخوف من الموت من جهة، ومن جهة اخرى يكون تحذيراً للبشر من الابتلاء بارتكاب الذنوب، ومن العوامل المؤثّرة في تربيتهم.

إنّ القرآن المجيد أكّد على هذه المسألة كثيراً وشرح هذا الحديث المهم الذي يبتلى به جميع البشر من دون استثناء من خلال تعابير مختلفة وقال كُلّ ما يمكن أن يقال حوله.

بعد هذه الإشارة نعود إلى القرآن لنمعن في الآيات الواردةِ في هذا المجال خاشعين.

(يجب الالتفات إلى أنّ كل آية من هذه الآيات تسلّط الأضواء على أحد أبعاد هذا الموضوع):

نفحات القرآن، ج 5، ص: 332

1- «كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّونَ أُجُوْرَكُم يَوْمَ القِيَامَةِ». (آل عمران/ 185)

2- «اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِيْنَ مَوْتِهَا وَالَّتِى لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِى قَضَى عَلَيْهَا المَوْتَ وُيُرسِلُ الْاخْرى إِلَى أَجَلٍ مُّسَمّىً». (الزمر/ 42)

3- «قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَّلَكُ المَوْتِ الَّذِى وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ». (السجدة/

11)

4- «الَّذِينَ تَتَوفَّاهُمُ المَلَائِكَةُ ظَالِمى أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَاكُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ». (النحل/ 28)

5- «الَّذِينَ تَتَوفَّاهُمُ المَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ». (النحل/ 32)

6- «قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْليَاءُ للَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا المَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقينَ* وَلَا يَتَمَنَّونَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَالِمينَ».

(الجمعة/ 6- 7)

7- «تَبَارَكَ الَّذى بيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَى ءٍ قَدِيرٌ* الَّذِى خلَقَ المَوْتَ والحَيَاتَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ العَزِيزُ الغَفُورُ». (المُلك/ 1- 2)

8- «وَجَاءَتْ سَكَرَةُ المَوْتِ بِالحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ». (ق/ 19)

9- «كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِىَ* وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ* وَظَنَّ أَنَّهُ الفِرَاقُ* وَالتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ* إلَى رَبِّكَ يَومَئذٍ الْمَسَاقُ». (القيامة/ 26- 30)

10- «حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ* لَعَلِّى أَعْمَلُ صَالِحاً فِيَما تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا». (المؤمنون/ 99- 100)

جمع الآيات وتفسيرها

1- الموت قانون شمولي

تحدثت الآية الاولى عن شمولية قانون الموت، الذي هو نهاية جميع البشر وجميع

نفحات القرآن، ج 5، ص: 333

الموجودات الحيّة، بل هو أمرٌ حتّى بالنسبة للموجودات غير الحيّة، قال تعالى «كُلُّ نَفسٍ ذَائقَةُ المَوتِ».

وقد ورد هذا التعبير في ثلاث آيات في القرآن المجيد «1»، والسبب في تكرار هذا الأمر هو التأكيد على حتمية الموت، هذا بالإضافة إلى تحذير جميع البشر كي لا يغفلوا عن حتميّة هذه العاقبة.

ولمّا كان الموت هو نافذة نحو عالم البقاء، فقد اضاف تعالى على الفور: «وَإِنَّمَا تُوَفَّونَ اجُوْرَكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ»، وذلك للدلالة على أنّ الدنيا دار عملٍ ولا حساب ولا جزاء وإنّ الآخرة دار حساب وجزاء ولا عمل.

وعلى الرغم من وجود إثابة محدودة في عالم الدنيا وعالم البرزخ، لكنْ من البديهي

هو أنّ لا يتمّ الحصول على الأجر والثواب الكامل إلّافي الدار الآخرة.

وهناك احتمال آخر أيضاً وهو أنّ التعبير المذكور أعلاه يدلّ على أنّ المنقذ الوحيد للإنسان يوم القيامة هو أعماله الصالحة فقط، لأنّ المال والجاه والمنصب والأولاد والعشيرة لا تعالج حتّى معضله واحدة من معضلات الإنسان، وهذا التعبير يشبه ما جاء في سورة الشعراء: «يَومَ لَايَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلبٍ سَلِيمٍ». (الشعراء/ 89)

لكنّ التفسير الأوّل أقرب للصحة، وقد انتخبه الكثير من المفسرين.

إنّ الإنسان يمكنه أساساً أن يشك في كل شي ء، إلّاأنّه لايمكنه أن يشك في تحقق الموت، إنّ جميع أهل السماء والأرض سوف يموتون وسوف يبتلع الموت جميع الموجودات الحيّة، فالجميع من دون أيّ استثناء لهم اجلٌ ونهاية معينة لا تتأخّر عن موعدها لحظة واحدة، أمّا بالنسبة لدعاء الناس لبعضهم أو لحكّامهم بالخلود فما هو إلّا مجاملة خالية من أيّ محتوى فأيّ خلودٍ هذا؟ وأَيُّ بقاء؟ إنّ الأنبياء جميعاً مرّوا بهذه المرحلة، والجميع من دون استثناء عبروا هذا الممر.

ويستفاد من هذه الآية بالإضافة إلى ذلك، أولًا: أنّ روح الإنسان لا تموت بموته، وذلك

__________________________________________________

(1) آل عمران، 185؛ الأنبياء، 35؛ العنكبوت، 57.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 334

لأنّ الآية تقول: «كُلُّ نَفْسٍ ذَائَقَةُ المَوتِ»، ومعنى الذوق هو أنّ الروح باقية فتدرك الموت وتتذوّقه، ويستفاد منها ثانياً: أنّ الروح هي غير الجسد، وذلك لأنّها تبقى بعد موت الجسد.

جاء في إحدى الروايات لمّا نزلت الآية الشريفة «كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ». (الرحمن/ 26) قالت الملائكة: «مات أهلُ الأرض» وعندما نزلت الآية الشريفة «كُلُّ نَفْسٍ ذَائَقَةُ المَوتِ» قالت الملائكة: «متنا نحن أيضاً» «1».

بالرغم من أنّ كلمة «النفس» اطلقت أحياناً على اللَّه كما جاء في حديث عيسى

عليه السلام عندما كان بين يدي اللَّه حيث قال: «وَلَاأعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ». (المائدة/ 116)

لكنّ التعبير ب «كل نفس» في الآية المذكورة يراد منه المخلوقات لا الخالق.

2- حقيقة الموت

يعتبر كثير من الناس الموت فناءً وعدماً ونهاية كلّ شي ء، لذا فهم يخافون الموت ويهابونه بشدّة، بينما يفسّر القرآن المجيد حقيقة الموت ب «التوفّي» (أي قبض واستلام روح الإنسان من قِبَلِ الخالق) أو بتعبير آخر هو انتقال من عالم حقيرٍ إلى عالم كبير وَسامٍ)، قال تعالى في الآية الثانية: «اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حينَ مَوْتِهَا» «2».

ثم من أجل أن يذكر نموذجاً للموت في هذه الدنيا أضاف تعالى «وَالَّتِى لَمْ تَمُتْ فى مَنَامِهَا»، «فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا المَوتَ» أي التي لن تصحو من نومها بعد ذلك أبداً «وُيُرسِلُ الاخْرَى أي التي يجب أن تستمرّ في حياتها «إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً».

إنّ هدف القرآن هو بيان هذه الحقيقة وهي: كما أنّ روحَ الإنسان لا تفنى في عالم النوم، بل يضعف ارتباطها بالبدن بصورة مؤقتة، ومن أجل هذا يمكنها التجوّل في عوالم مختلفة، فإنّها لا تفنى أيضاً بالموت، بل تتحرر وتتجوّل في عوالم كبيرة اخرى

__________________________________________________

(1) التفسير الكبير، ج 9، ص 125.

(2) الضمير في «موتها» وإن كان يعود للانفس في الظاهر لكنّه في الواقع يدلّ على موت الابدان، وذلك لأنّ البدن هو الذي يموت لا الروح، وكذلك الحال في ضمير «منامها».

نفحات القرآن، ج 5، ص: 335

و «يتوفّى : من مادة «وفى وهي في الأصل بمعنى الكمال، لذا اطلقوا على الدّرهم الكامل «درهماً وافياً» (أي الكامل من حيث الوزن ومقدار الفضة) على هذا يكون التوفّي بمعنى القبض التام، وبما أنّ القابض هو اللَّه فإنّ هذه الجملة تدل على أنّ الإنسان سوف يضع قدمه

في عالم أعلى وأرقى

إنّ هذه النظرة إلى الموت تغيِّرُ كثيراً من المعادلات والمفاهيم، ومن أجل هذا عرّفوه ببوّابة العبور إلى عالم البقاء.

ومن الجدير بالذكر هو أنّ الآية المذكورة تحذِّر الناس لأنّها تعتبُر «النوم» مساوياً «للموت» وكأنّها تقول: كيف تغفلون عن الموت وهو يأتيكم في كل يومٍ وليلة وأنتم تلمسونه بأيديكم؟! إنّكم في حالة النوم تنفصلون عن هذا العالم وتفارقون حياتكم ومنصبكم ووجودكم بصورة مؤقتة، فالموت أيضاً هو عبارة عن نوم خالد كما أنّ النوم هو عبارة عن موت مؤقت، ومن المحتمل أن تكون الجملة الاخيرة في هذه الآية: «إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَومٍ يَتَفَكَّرُونَ» ناظرة إلى جميع هذه الحيثيات.

3- ملائكة الموت

بالرغم من أنّ الآية السابقة أسندت قبض الأرواح إلى اللَّه، لكنّه يستفاد من آيات اخرى من القرآن إسناد هذا العمل إلى الملائكة، ففي الآية الثالثة من آيات البحث وُجِّه الخطاب إلى النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وامِر بأن يجيب على إنكار المشركين للمعاد بقوله تعالى «قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَّلَكُ المَوْتِ الَّذى وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ».

ومن الجدير بالذّكر هو أنّ الآية هنا تحدّثت عن ملك الموت، الملك الذي اوكِلت إليه هذه المهمّة، بينما لاحظنا في الآية السابقة إسناد القبض إلى اللَّه، وفي الآية اسند القبض إلى مجموعة من الملائكة: «الَّذِيَنَ تَتَوفَّاهُمُ المَلَائِكَةُ». (الزمر/ 42)

كما أسند القبض إلى الرّسُل: «تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا». (الانعام/ 61)

نفحات القرآن، ج 5، ص: 336

إنّنا إذا ما تمعّنا بشيٍ من الدقّة في الآيات المذكورة لا تّضح لنا عدم وجود أيّ تضاد في هذه المسألة، وذلك لأنّ المتوفّي الرئيسي هو اللَّه تعالى ثمَّ تناط مهمّة قبض الأرواح ب «ملك الموت الكبير» (عزرائيل عليه السلام) الذي اوكلت إليه هذه المهمّة وهو بدوره ينجز

هذا العمل أيضاً بواسطة «مجموعة من الملائكة» والرُسل الذين هم نفس أولئك الملائكة.

إنّ الأحداث المهمّة في هذا العالم تنجز أساساً بواسطة الملائكة الَّذين لا هدف لهم إلّا الطاعة للَّه والعمل بأوامره، والموت الذّي هو أحد هذه الأحداث المهمّة في هذا العالم لايستثنى من هذا القانون.

وجملة: «ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ» تدلّ على أنّ الموت مقدّمة العودة نحو الحق في مرحلة السير الصعودي، كما أنّ الولادة هي نافذة نحو عالم الفناء والسير النزولي لروح الإنسان، والتعبير ب «ثمّ» من المحتمل أن يكون إشارة لوجود البرزخ.

4 و 5- حال المؤمنين والظالمين عند سكرات الموت

إنّ حال المؤمنين والمحسنين لا يشبه حال الظالمين والمذنبين عند حلول الموت في ساحتهم، أو بتعبير آخر إنّ نتائج أعمالهم وعقائدهم تظهر بالتدريج في تلك اللحظة، و «الآية الرابعة والخامسة» لهما دلالة عميقة على هذه الحقيقة.

قال تعالى «الَّذِينَ تَتَوفَّاهُمُ المَلَائِكَةُ ظَالِمى أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ»، وتدلّ هذه الكلمات على أنّهم لم يخضعوا بالكامل، فهم لا يعلمون بأنّ هذا الانكار لا معنى له أمام اللَّه الّذي يعلم الغيب وأمام الشهود من الملائكة، لذا أضاف تعالى في ذيل الآية: «بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ». ثمّ وجّه الأمر إليهم فقال: «فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدينَ فِيهَا».

ومّما تقدّم يظهر أَنّ اعلان التسليم بالنسبة لهؤلاء هنا هو بمعنى اظهار التوحيد والتسليم للحق (كما يرى عدد من المفسرين) ولكن بما أنّ جوّ الدنيا لم يفارقهم بعد ولم يَتعرَّفوا على

نفحات القرآن، ج 5، ص: 337

القوانين المهيمنة على مراحل ما بعد الموت فإنّهم ينكرون ما عملوا من سوءٍ ويتوسّلون بالكذب، لكنّهم سرعان ما يتضح لهم أَنّ الكذب لا ينفع هناك!

وهناك احتمالان في هل أنّ المراد من «جهنم» هنا هو جهنم عالم البرزخ أم جهنم يوم

القيامة؟ والذّي يتلاءم مع سكرات الموت هو الدخول في جهنم البرزخ، لكنّ التعبير بالخلود يصلح لأنّ يكون قرينة على أنّ المراد هو جهنّم القيامة، إلّاإذا قيل: إِنّ المراد هنا هو دخول أبواب جهنّم في عالم البرزخ لا دخول نفس جهنّم، والخلود هنا هو صفة للكافرين عند دخولهم البرزخ لا عند دخولهم أبواب البرزخ.

وتعبير: «بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ»، يحتمل أن يكون صادراً عن ملائكة الموت لتحذير الكافرين فكأنهم يقولون: لا تسعوا عبثاً في الانكار فإنّه غير نافع لأنّ علم اللَّه الواسع سوف يرفع الستار عن أعمالكم.

وعلى أيّة حال فإنّ هذه الآية تشبه ما جاء في سورة محمد: «فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ المَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ». (محمّد/ 27)

بلى سوف تستقبلهم الملائكة بالضرب على وجوههم وأدبارهم، ومن المحتمل أن يكون إقرارهم بالتوحيد والحقّ هو من أجل مشاهدة هذه المشاهد لا من أجل الإخلاص.

وفي قبال هذا المشهد هناك ملائكة الرّحمة التي تأتي لقبض أرواح المؤمنين، قال تعالى في الآية الثانية: «الَّذِينَ تَتَوفَّاهُمُ المَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ».

وفي الواقع لا يمكن أن تكون مكافأة الطهارة والتقوى إلّابمثل هذا وهو أن تستقبلهم ملائكة اللَّه بالسلام والترحاب، وتدعوهم لدخول الجنّة ... تلك الدعوة التي يغمرها اللطف والمحبّة والاحترام!

وهنا أيضاً قد يراد من الجنّة جنّه البرزخ كما يحتمل أن يكون المراد جنّة القيامة وجنّة البرزخ تعتبر من أبوابها.

على أيّة حال فإنّ هذا من أحد أبعاد الموت الذي هو بالنسبة للصالحين يختلف تماماً عمّا هو عليه بالنسبة للمذنبين.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 338

6- علّة الخوف من الموت

إنّ صورة الموت مرعبة لدى الناس عادةً، والسبب في ذلك يكمن في أمرين، فهو إمّا أن يكون باعتبار الموت نهاية كلّ شي ء أي يساوي

معنى الفناء، وإمّا أن يكون بسبب التلوّث بارتكاب الذنوب وحب الدنيا الشديد، فلماذا يخاف الموت من يعتبره ولادة جديدة وبداية انتقال إلى عالم اوسع وحياة أرقى ومن يحمل في جعبته كميّة هائلة من الأعمال الصالحة إعداداً لسفره والذي ليس للدنيا في قلبه موضعٌ يعتنى به؟ وقد أشار تعالى في الآية السادسة إشارة لطيفة لهذا الأمر، قال تعالى «قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَولِيَاءُ للَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا المَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ» ثم يضيف «وَلَا يَتَمَنَّونَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْديْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ».

وممّا يجدر بالالتفات هنا هو أنّ المخاطب في هذه الآية هم اليهود، والسببب في ذلك على مايبدو أمران:

الأول: هو أنّ اليهود يعتبرون أنفسهم شعب اللَّه المختار دائماً- حتّى في يومنا هذا- ويتصورون أنّهم يمتازون عن الآخرين بصفات خيالية، فهم يعتبرون أنفسهم أبناء اللَّه المختار تارةً! وأحياناً إنّهم أولياؤه وأحبّاؤه: «وَقَالَتِ اليَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أبْنَاءُ اللَّهِ وَأحِبّاؤُهُ». (المائدة/ 18)

واخرى، يقولون: لن تمسنا النار أبداً مهما ارتكبنا من الذنوب إلّاأيّاماً معدودة: «وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إلّاأَيَّاماً مَّعْدُودَةً». (البقرة/ 80)

فيجيبهم القرآن: إنْ كنتم صادقين في عقيدتكم هذه فلِمَ تخافون الموت بهذه الشدّة إذن؟

فهل يخاف الخليل من لقاء خليله؟ وهل يكون الانتقال من السجن إلى جنّة عامرة خضراء أمراً مخيفاً؟!

و جاء ما يشبه هذا المعنى في قوله تعالى «قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِندَ اللَّهِ خَالِصَةً مِّنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا المَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقينَ»! (البقرة/ 94)

والثاني: هو أنّهم كانوا يعبدون الدنيا وتعلّقت قلوبهم بعالمِ المادّة، هذا بالإضافة إلى

نفحات القرآن، ج 5، ص: 339

ارتكابهم الذنوب الكثيرة وتلوث أيديهم بدماء الابرياء، لذا فهم يخافون الموت بشدّة.

لذا قال تعالى «وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ». (البقرة/

96)

وقال أيضاً: «وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ». (البقرة/ 95)

وَعلى هذا الأساس فقد بيّن القرآن المجيد علل الخوف من الموت بوضوح كما أنّه هدى إلى طرق الخلاص من هذا الخوف والهلع الّذي يعمُّ الجميع، ويرى بعض المفسِّرين أَنّ الآية المذكورة أعلاه والتي نزلت في شأن اليهود هي نوع مباهلة والتي هي إحدي طرق مقارعة الكذّابين، وهي تستخدم في إثبات صدق الدّعوة، وهي أن يَطلبَ المدّعي من اللَّه أن يُخْزِيَهُ إنْ كان كاذباً (فإذا كانت شروط المباهلة متوفّرة فإنها تكون مؤثّرة).

والدليل على هذا التفسير هو ما جاء في الروايات أنّ الكذابين أي (اليهود) لو كانوا تمنّوا الموت أمام النبي صلى الله عليه و آله لَغصّوا بريقهم وماتوا!

جاء في الحديث الشريف: «والذّي نفسي بيده لا يقولها احَدٌ منكم إلّاغُصَّ بريقه» «1».

7- الغاية من الموت والحياة

إنّ حياة الإنسان محدودة على أيّة حال، والموت يرافق كل حياة، وأوّل سؤال يُطرح هنا هو: ما هي الغاية من الحياة والموت؟

وقد تحدّث القرآن المجيد في الآية «السابعة» من آيات البحث عن هذا الأمر فقال:

«تَبَارَكَ الَّذى بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَى ءٍ قَدِيرٌ* الَّذِى خلَقَ المَوْتَ والحَيَاتَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ العَزيزُ الغَفُورُ».

فالقرآن هنا يبيّن أولًا أنّ خلق الموت والحياة هما من دلائل قدرته الواسعة، ثم يضيف إلى ذلك: إنّ الهدف من هذا الخلق هو امتحان لأحسنِ الأعمال .. امتحان يهدف إلى تربية البشر وهدايتهم إلى منزلة القرب الإلهي.

__________________________________________________

(1) تفسير روح المعاني، ج 28، ص 85؛ وتفسير المراغي، ج 28، ص 100.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 340

ويستفاد من هذه الآية عدّة امور:

أولًا: إنّ الموت والحياة كلاهما مخلوقان، فإذا كان الموت بمعنى الفناء والعدم المطلق فإنّ كونه مخلوقاً سوف لا يكون ذا معنىً، والسبب

في ذلك هو أنّ الموت عبارة عن الانتقال من عالم إلى عالم آخر، لذا فهو أمرٌ وجوديٌ وبالامكان خلقه.

ثانياً: إنّ ذِكْرَ الموت قبل الحياة إمّا أن يكون للدلالة على موت الدنيا وحياة عالم الآخرة، وإمّا أن يكون للدلالة على المرحلة التي كان فيها الإنسان تراباً، فتعتبر الحياة بمعنى الخلق من التراب، وإمّا أن يدلّ على كليهما معاً.

ثالثاً: قد عُرِّفت الدنيا بأنّها ساحة اختبار .. ساحةٌ لانتخاب «أفضل الأفراد من حيث العمل»، ومن البديهي أنَّ شهادة النجاح في هذا الامتحان تُمنَح في الدار الآخرة.

رابعاً: إنّ المقياس الذي يعيّن قيمة الإنسان لدى اللَّه تعالى هو العمل الصالح، ومن البديهي أيضاً أنّ الأعمال الصالحة تنبع من العقائد المخلصة والقلب المؤمن والنّية الخالصة، وذلك لأنّ العمل يكون دائماً انعكاساً لهذه الامور.

ومن المحتمل أن يكون هذا هو دليل النبي الأكرم صلى الله عليه و آله عند تفسير جملة «أَحْسَنُ عَمَلًا» في أحد الأحاديث المروية عنه، قال صلى الله عليه و آله في تفسيرها: «أتَمُّكُمْ عَقْلًا وَأشَدُّكُمْ للَّهِ خَوْفاً وَأَحْسَنُكُمْ فيَما أمَرَ اللَّهُ بِهِ وَنَهى عَنْهُ نَظَراً، وَإنْ كَانَ أقَلُّكُمْ تَطَوُّعاً» «1».

فمن هنا يتضح أَنّ التفسيرات المختلفة التي فُسِّرت بها «أحْسَنُ عَمَلًا» مثل: تفسيرها بالأعمال الخالصة أو الأكثر عقلًا أو الأكثر زهداً أو الأكثر ذِكراً للموت أو الأكثر تأهّباً لسفر الآخرة، يتضح أنّها مترابطة مع بعضها البعض، ولا تعتبر تفسيرات مختلفة، وذلك لأنّ هذه التفسيرات كالسيقان والأوراق والجذور والجذع والفواكه للشجرة الواحدة.

خامساً: إنّ القيمة الواقعية تختصّ ب «جوهر الأعمال» لا ب «كمِّها وحجمها»، فرُبَّ عملٍ صغيرٍ ذِي كيفية عالية من جهة الإخلاص والإيمان والمعرفة فاقَ أعمالًا كثيرة، لذا جاء في احدى الروايات عن الإمام الصادق عليه السلام في تفسير أنّه «أحْسَنُ

عَمَلًا» قال: «لَيْس يَعْني أكثَرُ

__________________________________________________

(1) تفسير مجمع البيان، ج 10، ص 322.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 341

عَمَلًا وَلكِنْ أصْوَبُكُمْ عَمَلًا» «1».

سادساً: إنّ الأفعال الإلهيّة هادفة ويصطلح عليها بأنّها «معللة بالاغراض»، على خلاف مايراه المغفَّلون من أنّ أفعال اللَّه غير هادفة.

سابعاً: ومن أجل احتمال أن يشعر الإنسان بالوحدة والعجز في ساحة الاختبار العظيمة، أو أن يُهيمن عليه اليأس بسبب العثرات وصف اللَّه نفسه في ذيل الآية بالعزيز الغفور وذلك للقضاء على هذه المخاوف، فالآية تقول للإنسان: إنّك لست وحيداً، فلا تخف من رهبة الاختبار، وليكن قلبك مع اللَّه، فإنّ عثرت فالجأْ إلى عفو اللَّه وغفرانه.

8 و 9- مقدمات الموت وسكراته

يستفاد من مضامين آيات القرآن أَنّ الموت تصاحبُهُ شدائد ومخاوف محيّرة، لذا قال تعالى في الآية الثامنة من آيات البحث: «وَجَاءَتْ سَكْرَةُ المَوْتِ بِالحَقِّ» فيقال للإنسان في هذه الاثناء: «ذلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ».

وكلمة «سَكْرَة» مأخوذة من مادة «سُكر» وهي- على حدّ قول اللغويين- حالة تَحُولُ بين الإنسان وعقله، وغالباً ما تستخدم في موارد شرب الخمر، وقد استخدمت تارةً في الحالات الناجمة عن شدّة الغضب أو الحالات الناجمة عن شدّة الحبّ الملتهب.

ولكن جاء في «مقاييس اللغة» إنّ الأصل في هذه المادة بمعنى «الحيرة». كما فسّرها آخرون ب «الشدّة»، والظاهر هو أنّ جميع هذه المعاني تعود إلى معنىً واحد وإن كانت التعبيرات مختلفة.

إنّ ظهور حالة تشبه حالة السُكر عند الإحتضار إمّا أن تكون بسبب طبيعة الانتقال من عالم إلى عالم آخر مجهول من جهات مختلفة، كما هو الحال في حالة الاضطراب عند المولود عندما ينتقل من عالم الجنين إلى عالم الدنيا، وإمّا أنْ يكون بسبب أجواء ما بعد

__________________________________________________

(1) اصول الكافي، ج 2، ص 16، (باب الإخلاص) ح 4.

نفحات القرآن،

ج 5، ص: 342

الموت ومواجهة تتائج الأعمال والخوف من العاقبة، وإمّا أن يكون بسبب فراق الدنيا والأقارب والامور التي تعلق قلبه بها.

ويستفاد من الروايات أنّ الأنبياء والالهيين الذين لم تتعلق قلوبهم بحب الدنيا ولم يخافوا العاقبة، والذين يمتازون بطمأنينة متميّزة بسبب ذلك، إنّ هؤلاء أيضاً لهم نصيب من هذه المعضلات والشدائد التي تنزل في هذه اللحظة، كما جاء في ذكر حالات النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه عند آخر لحظات عمره المبارك، كان يضع يده في إناءٍ فيه ماء ويمسح بيده على وجهه ويقول «لا اله إلّااللَّه»، ثم يقول: «إنّ للموتِ سكرات» «1».

وَرُوِي عن على عليه السلام أيضاً أنّه قال: «إنّ للموت غَمَراتٍ هي أفظع من أن تستغرِق بصفةٍ أو تعتدل على عقول أهل الدنيا» «2».

ولو وضعنا كل هذا في جهة، فمن جهة اخرى يستفاد من الآيات أمرٌ آخر أيضاً وهو أنّ انفصال الروح عن الجسد يتّم بصورة تدريجية، وهذا «بنفسه يزيد من الهلع»، فإنْ كان الانفصال فورياً ويتم خلال لحظة واحدة لكان تحمّله أسهل.

وقد جاء في الآية التاسعة من آيات البحث قوله تعالى «كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ* وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ* وَظَنَّ أَنَّهُ الفِرَاقُ* وَالتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ* إِلَى رَبِّكَ يَومَئذٍ الْمَسَاقُ».

وجاء نفس هذا المعنى في قوله تعالى «فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الحُلْقُومَ* وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ». (الواقعة/ 83- 84)

و «تراقى»: جمع «ترقوة» وهي العظام التي تحيط بأطراف الرقبة، ووصول الروح إلى الحلقوم هو كناية عن اللحظات الأخيرة من العمر، ويحتمل توقف الأعضاء البعيدة عن القلب والمخ عند انفصال الروح قبل الأعضاء الاخرى

وجملة «التفت الساق بالساق» من المحتمل أن تكون للدلالة على ما ذُكر (ففي تفسير مجمع البيان جعل توقف السيقان عن العمل من أحد تفاسير

هذه الجملة).

__________________________________________________

(1) تفسير روح البيان، ج 9، ص 118.

(2) غرر الحكم.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 343

هذا بالإضافة إلى أنّ وصول الروح الحلقوم هو تعبير آخر عن هذا المعنى ومن البديهي أنَّ جهاز التنفس يقف عن العمل عندما تصل الروح الحلقوم، وعندما يقف جهاز التنفس عن العمل يسبب فقدان الاوكسجين والاختناق ووقوف المخ عن العمل.

ففي هذه اللحظات يضطرب الحاضرون عند المحتضر ويصيبهم الجزع والفزع، ويبذلون قصارى جهدهم لإعادة الروح، إلّاأنّ مساعيهم تذهب هباءً، وبعد لحظات ينقطع المحتضر عن هذه الدنيا إلى الأبد، فيستقرّ جسده جانباً وكأنّه لم يكن واحداً من أهل هذه الدنيا.

والعجيب هو أنّ العبور من هذه المراحل التي تطول مدّتها تارةً وتمرّ بسرعة تارةً اخرى هو امرٌ حتميّ يعمّ الجميع، فالملوك والجبابرة الظلمة سوف يموتون، كما سوف يموت المستضعفون والمظلومون كذلك، بل تكون لحظات الموت بالنسبة للجبابرة والظلمة أشدّ ألماً، وذلك لأنّ فراق الاموال والمناصب التي بذلوا أعمارهم للحصول عليها يكون صعبا وغضّ النظر عنها بالنسبة للذين تعلقت قلوبهم بالدنيا المادية أمرٌ عسير.

10- تمنّى العودة والإصلاح

بعد اجتياز لحظات الموت، وبعد فراق الدنيا عندما تفتح العيون في البرزخ ويشاهد الإنسان بعض الأسرار التي كانت محتجبة خلف ستار الغيب، ويرى نتائج أعماله بأمّ عينيه ويرى خُلُوَّ يديهِ من الحسنات وتراكُمَ الذنوبِ الثقيلةِ يُثقِلُ كاهِلهُ، فإنّه يندم بشدّه على ما فعل في الماضي ويفكّر في إصلاح ما اقترفه، هنا يلتفت إلى الملائكة الذين قبضوا روحه ويتوسّل إلى اللَّه- كما جاء في الآية العاشرة من آيات البحث- ويضج بالعويل ويطلب من اللَّه العودة إلى دار الدنيا، قال تعالى: «حَتّى اذَا جَاءَ احَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ* لَعَلِّى اعْمَلُ صَالِحاً فِيَما تَرَكْتُ».

لكن السنن الإلهيّة لا تسمح لأحدٍ بهذا، فلا

الصالحون يتمكنون من العودة لإضافة

نفحات القرآن، ج 5، ص: 344

الصالحات إلى أعمالهم، ولا المسيئون يمكنهم العودة للتوبة والإصلاح، لذا يجاب عن هذا الطلب بحزم ويقال له: «كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هَوُ قَائِلُهَا».

إنّ جميع المجرمين عندما يقعون بقبضة المُقتَصِّ يتوسلون بمثل هذه الأساليب، ولكن غالباً ما يعودون إلى تكرار أعمالهم فور ارتفاع أمواج البلاء عنهم.

وممّا يجلب الإنتباه هنا هو أنّ المخاطب في كلمة «ربِّ»، هو الذات المقدّسة الإلهيّة، لكن المخاطب في «ارجعون» جاء بصيغة الجمع.

يرى المفسرون: أنّ هذا إِمّا من أجل التعظيم لمقام الحق تعالى وإمّا أن يكون المخاطب في الواقع هم الملائكة الذين يأتون أفواجاً لقبض الأرواح.

كما أنّ هذا المعنى محتمل أيضاً وهو أنّهم يتوسلون بساحة اللطف الإلهي أولًا، ثم يلتفتون إلى الملائكة يطلبون منهم العودة «1».

وجاء ما يشابه هذا المعنى أيضاً في قوله تعالى: «وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّنْ قَبْلِ انْ يَأْتِىَ احَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولُ رَبِّ لَوْلَا اخَّرتَنِى الَى اجَلٍ قَريبٍ فَاصَّدَّقَ وَاكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ».

(المنافقون/ 10)

وقد اجيبوا هنا بجواب سلبي أيضاً في ذيل الآية، وبصورة اخرى قال تعالى: «وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً اذَا جَاءَ اجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ». (المنافقون/ 11)

كما يستفاد من الآية 28 من سورة الأنعام أيضاً أنّ المجرمين يتحدّثون بهذا الحديث عندما يعرضون على جهنّم، وبما أنّ ذلك خارج عن موضوع البحث فإننا نعرض عن ذكره هنا.

ثمرة البحث:

اشارة

إِتضحت بجلاء وجهة نظر القرآن الكريم في مسألة الموت من أبعادها المختلفة، من

__________________________________________________

(1) واحتمل صاحب تفسير الميزان هذا الاحتمال أيضاً وهو أنّ ضمير الجمع يدل على الجمع في الفعل لا على الجمع في الفاعل، فكانّ المحتضر يريد أن يقول «إرجع، ارجع» عدّة مرات فيأتي بكلمة ارجعوا بدلًا عن التكرار. (تفسير الميزان ج

15، ص 71) ولكن من البديهي لو جاز هذا في اللغة لكان قليلًا جدّاً.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 345

مجموع ما جاء في الآيات والعناوين العشرة المذكورة.

وممّا يجدر بالالتفات هو أنّ القرآن سلّط الاضواء في جميع هذه الموارد على الآثار التربوية منها، وذلك لأنّ القرآن كتابٌ تربوي كامل، فهو يعني بالجانب التربوي عند ذكر اصول وفروع الدين، والمسائل الاجتماعية والتاريخية وغيرها، أي أنّه يطرح الواقع بكلّ وضوح ويستخدمه للسيطرة على النفس الجموح، في الدعوة نحو التقوى والورع وسلوك الطريق المؤدي إلى مرضاة اللَّه بظرافة ودّقة، فما أجمل وألطف ظرافة ودقّة القرآن في جميع هذه المجالات!

1- الموت هو مدخل عالم البقاء

إنّ ما جاء في البحوث المذكورة آنفاً مُعَزَّزاً بالآيات القرآنية، غالباً ما يستدلّ عليه بالطرق المنطقية الصالحة للاستدلال (باستثناء ما يرتبط بالعوالم الغيبية التي لا نمتلك طريقاً للوصول إليها، فقد رفع القرآن الستار عنها).

إنّ ممّا لا شك فيه هو أنّ نظرة الإلهيين والمؤمنين إلى المعاد والموت تختلف عن نظرة الماديين والمنكرين للمعاد اختلاف السماء عن الأرض، وهذان المنظاران هما اللذان يؤثران في حياة الأفراد والمجتمعات البشرية، ويميزان هذين الفريقين عن بعضهما.

فالماديون يعتبرون الموت عالماً مظلماً ومعتماً جدّاً .. عالماً ينتهي معه كل شي ء، وتختتم به جميع آمال ومساعي وجهود البشر، وَعلى هذا الأساس فإنّه ليس من العجب أن يخاف الإنسان المادي من الموت وينتابه الوهن، وتتبدل لديه حلاوة تلك التصورات عن الحياة إلى ما هو أكثر مرارةً من السم.

وليس من العجيب أن لا يقدموا على الإيثار والتضحية وإذا أقدموا على عملٍ كهذا فبتأثير ضغوط من قبل الآخرين أو بتأثير الضغوط الاجتماعية، وذلك لأنّه لا يوجد بعد الإيثار شي ء يحل محلّه، أو بتعبير آخر إنّ الإيثار سوف لا يكون الهدف الأساسي لهؤلاء.

وليس

من العجيب أن يعدّ هؤلاء الحياة أمراً تافهاً خالياً من المحتوى وذلك لأنّ الموت

نفحات القرآن، ج 5، ص: 346

إنْ كان نهاية لكل شي ء فإنّ الحياة الدنيا والتي هي عبارة عن تكرار مجموعة من الأعمال الدنيئة، كالأكل والنوم والكسب والاستهلاك لا يمكن أن تعتبر «هدفاً سامياً» لإرواء الروح الإنسانية، لذا فإنّ أفراداً يقدمون على الانتحار ويعتبرون ذلك اختياراً صحيحاً لانهاء هذا «التكرار والمكررات التافهة»! فهم يعتبرون ذلك عين العقل والمنطق، ويعتبرون استمرار حياتهم حماقة وذلّة وبلادة!

بينما يرى الإلهييون الذين يؤمنون بالمعاد، الموت أشبه ما يكون بتولّد الجنين من بطن امّه.

فالجنين يموت في الواقع، أي فقد الحياة في بطن الأم، لكنّه بعد الولادة يضع قدمه في عالم أوسع وأفسح، وإذا ما قيس بالمحيط الضيق والمظلم في بطن الأم، الذي يعدُ عالماً مملوءً بالنعم والجمال.

فالموت هو ولادة اخرى أيضاً، والإنسان بواسطة الموت يخرج من محيط هذه الحياة الضيق إلى عالم أكثر اتساعاً.

ومن البديهي هو أنّ الجنين لو كان يعلم اين سيضع قدمه بعد الولادة لظل يعدّ اللحظات للخروج، ولما خاف أبداً من ذلك اليوم، ولما عد حياةَ الأجنّةِ حياةً تافهة، ولما عزّ عليه الإيثار في سبيل الخروج.

وقصارى القول إنّ نظرة الإنسان للموت باعتباره «باباً ينفذ منه إلى عالم البقاء» تغيّر لون حياته وتمنحها لوناً جديداً وتعطيها مفهوماً يسكن إليه القلب وتخرجه من الحيرة والكآبة والشعور بالتفاهة واللاهدفية التي تقصم آلامها الظهر.

2- لماذا نخاف الموت؟

اتّضح ممّا قلناه آنفاً: أنّ الخوف من الموت لا معنى له بالنسبة لمن يؤمن بالمعاد، ويستثنى من ذلك من كانت صحيفة أعماله سوداء ومظلمة، الذين يخافون العقوبات الإلهيّة

نفحات القرآن، ج 5، ص: 347

التي سوف يُبْتَلَوْنَ بها في الدار الآخرة، وبتعبير آخر: إنّ من يخاف الموت هم

ثلاث فرق:

الفرقة الاولى: وهم من يعتبرون الموت أمراً يساوي الفناء والعدم، فالعدم مرعب، والفقر والمرض والضعف والعجز هي من عوامل الرعب،؟ لأنّها بمعنى عدم الثروة وعدم السلامة وعدم التمكّن وعدم القدرة، فالإنسان هو من سنخ الوجود، والوجود يأنس بالوجود كما يأنس الحديد بالمغناطيس، لكنّه لا يسانخ العدم ولا يأنس به، فما عليه إلّاأن يهرب منه.

لكننا إذا اعتبرنا الموت سُلَّماً للصعود إلى «وجودٍ أرقى وكنّا نعتبر العالم الذي يلي الموت لا يقاس بهذا العالم من جهة السّعة والنعيم، وكنّا نعدّ الدنيا سجناً والموت بمثابة التحرر من هذا السجن، وإذا شبّهنا الحياة بالقفص بالنسبة إلى طائر والموت بانفتاح هذا القفص وتحليق الطائر، فسوف لن يصبح الموت أمراً مرعباً، بل سوف يكون في بعض الموارد محبوباً ومستساغاً، قال أحد الحكماء:

مُتْ أيها الحكيمُ واقلع عن مثل هذه الحياة فإنّك إن مُتَّ فسوف تخلد فيسافر طائر روحك إلى العُلا عندما تحررها من أسرِ الطمع وقال شاعر آخر:

انني طائر جنّة الملكوت، ولستُ من عالم التراب لقد صنعوا من جسمي قفصاً قصير الامد إنّ أسعد الأيّام هو ذلك اليوم الذي أطير به نحو الحبيب فترفّ جناحايَ بأمل الوصول إلى دياره وأخيراً يستقبل شاعر آخر الموت بصدرٍ رحب، فيدعوه إليه قائلًا:

إن كان الموت إنساناً لقلت له أقبل إليّ لأضّمه إلى صدري بشوق شديد كما أحصل منه على روحٍ خالدة ويحصل منّي على جنَّةٍ خلقة ومن الواضح هو أنّ تصوراً كهذا عن مسألة الموت يطرد الخوف والهلع عن الإنسان، كما أننا لا نقول إنّه ينتحر، لأنّ هذه الحياة هي وسيلة لجمع رأسمال أكثر ولكسب الزاد وتهيئة الراحلة للإعداد للسفر نحو ذلك العالم، بل نقول: إنّه يبسط جناحيه عندما ينفصل منها، ويذهب

إلى استقبال شيٍ يمدّه بحياة جديدة بكل شهامة وشجاعة.

الفرقة الثانية: وهم الذين يؤمنون بالحياة بعد الموت لا يعتبرون الموت فناءً وعدماً أبداً، لكنهم بسبب اسوداد صحائفهم يهربون من الموت، لخوفهم من العقوبات التي ستحل بهم بعده، والتي اعدّت لهم في المحشر، فهم يهربون منها كما يهرب المجرمون الذين يتمنون دائماً تأجيل يوم المحاكمة، والبقاء في السجن من دون محاكمة!

ومن حق هؤلاء أيضاً أن يخافوا من الموت، فالخلاص من السجن بنفسه أمرٌ حسن، ولكنّه ليس كذلك بالنسبة لمن يخرجُ من السجن إلى خشبة الاعدام.

الفرقة الثالثة: وما يجدر بالالتفات أيضاً هو أنّ حبّ الدنيا والتعلّق بها والحبّ الشديد للمال والمنصب والمظاهر الاخرى تجعل الإنسان يخاف الموت .. الموت الذي يُخرج جميع هذه الامور من قبضته.

أمّا بالنسبة لِمنْ لا يعتبرون الموت فناءً ولم تسودّ صحائف أعمالهم، ولم تربطهم بالدنيا المادية جميع العلائق، فلا داعي لأن يخاف هؤلاء الموت حتّى لو كان بأقّل درجات الخوف.

3- أسباب الخوف من الموت في نظر الروايات

ذكرت الروايات في مجال الخوف من الموت والفزع منه مسائل لطيفة أيضاً وهذه المسائل تتّسم بالاسلوب التربوي، وهي كما يلي:

1- سأل رجلٌ الإمام الحسن المجتبى عليه السلام فقال: يا ابن رسول اللَّه! ما بالُنا نكره الموت ولا نحبٌّهُ؟ فقال عليه السلام: «إِنّكُم أخربتُم آخرتكم وعمرّتم دنياكم، وأنتم تكرهون النَّقلة من

نفحات القرآن، ج 5، ص: 349

العمران إلى الخراب» «1».

2- قال الإمام الصادق عليه السلام: جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه و آله وسأل: مالي لا احبُّ الموت؟ فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «أَلَكَ مالٌ؟» فقال الرجل: بلى فقال صلى الله عليه و آله: «فقدّمته؟» فقال الرجل كلّا، فقال صلى الله عليه و آله: «فمن ثمَّ لا تحبٌّ الموت» «2».

3-

وجاء في رواية اخرى عن الإمام الهادي عليه السلام (علي بن محمد) أنّه ذهب لعيادة أحد أصحابه فوجده يطيل البكاء ويتضجّر من الموت، فقال له الإمام عليه السلام: «يا عبد اللَّه تخافُ مِنَ الموت لأنّك لا تعرفه، ثمّ شبّه الإمام عليه السلام الموت بحمّامٍ نظيف يدخله الإنسان الوسخ فيغتسل، ويلقي جميع همومه وآلامه فيعمّه السرور والفرح» «3».

4- قال الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام: «لمّا اشتدَّ الأمرُ بالحسين بن علي بن أبي طالب ... كان الحسين وبعضُ من معه تُشْرِقُ ألوانهم وتهدأ جوارحهم وتسكن نفوسُهُم، فقال بعضهم لبعضٍ: انظروا إليه أنّ لا يبالي بالموت» «4»!

إنّ هذه الأحاديث التي وردت في بيان أسباب الخوف من الموت، بدرجة من الوضوح بقدر الكفاية ولا نرى هناك ضرورة لشرحها.

__________________________________________________

(1) بحارالأنوار، ج 6، ص 120، ح 18.

(2) المصدر السابق 9.

(3) معاني الإخبار، ص 290، ح 9 (باب في معنى الموت).

(4) المصدر السابق، ح 3.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 351

2- البرزخ

تمهيد:

«البرزخ»: هو الشي ء الحائل بين شيئين، ثم توسّع هذا المعنى واطلق على كلّ ما يحول بين الشيئين أو بين المرحلتين «1».

والمراد من «البرزخ» هنا هو العالم الذي يتوسط بين الدنيا وعالم الآخرة، أي أنّ الروح بعد انفصالها عن الجسم وقبل عودتها إليه ثانيةً يوم القيامة سوف تبقى في عالم يتوسط العالمين ويطلق عليه اسم البرزخ.

والأدلة الرئيسية التي يمكن بواسطتها إثبات وجود عالم البرزخ هي الأدلة النقلية (الآيات والروايات) وإنْ كان بالإمكان إثبات هذه المسألة بالسبل العقلية أو الحسيّة (عن طريق احضار الروح) أيضاً.

وبالرغم من عدم تعرّض القرآن بكثرة لذكر مسألة البرزخ ومروره عليها مرّ الكرام، إلّا أنّه في نفس الوقت له تصريحات وتعابير واضحة

في هذا المجال وردت خلال آيات متعددة، والتي يمكنها أن تبيّن لنا القوانين العامّة المتعلقة بعالم البرزخ.

بعد هذه الإشارة نعود إلى القرآن لنمعن خاشعين في الآيات الواردة في هذا المجال:

1- «حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ* لَعَلِّى اعْمَلُ صَالِحاً فِيَما تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ». (المؤمنون/ 99- 100)

__________________________________________________

(1) جاء في الآية 20 من سورة الرحمن حول البحر الذي يضم ماءً عذباً وماءً أجاجاً في آن واحد: بينهما برزخٌ لا يبغيان.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 352

2- «وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوْا فِي سَبِيلَ اللَّهِ امْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ* فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ». (آل عمران/ 169- 170)

3- «وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللَّهِ امْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلكِنْ لَاتَشْعُرُونَ».

(البقرة/ 154)

4- «النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِّياً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ ادْخِلُوْا آلَ فِرْعَوْنَ اشَدَّ الْعَذَابِ* وَإذْ يَتَحَاجٌّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِّنَ النَّارِ». (المؤمن/ 46- 47)

5- «مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ اغْرِقُوْا فَأُدْخِلُوا نَاراً فَلَمْ يَجِدُوْا لَهُمْ مِّنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَاراً». (نوح/ 25)

6- «قِيْلَ ادْخُلِ الجَنَّةَ قَالَ يَالَيْتَ قَوْمِىِ يَعْلَمُونَ* بِمَا غَفَرَ لِى رَبِّى وَجَعَلَنِى مِنَ الْمُكْرَمِينَ». (يس/ 26- 27)

7- «وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الُمجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ».

(الروم/ 55)

8- «قَالُوْا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيتَنَا اثْنَتَينِ فَاْعتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّنْ سَبِيلٍ». (المؤمن/ 11)

جمع الآيات وتفسيرها

ماهية البرزخ وخصوصياته:

تحدثت الآية الاولى عن وضع الكفّار والظلمة والمجرمين، قال تعالى: «حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ* لَعَلِّى اعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ»، ولكنّه سرعان

ما يواجه بجواب سلبي مدعوم بالأدلة والبراهين فيقال له: «كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا» ثم

نفحات القرآن، ج 5، ص: 353

يضاف إلى الجواب: «وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ».

فبداية الآية تشير إلى المنزل الأول أي «الموت» وذيلها يشير إلى المنزل الثاني أي «البرزخ».

وبالرغم من اصرار البعض على تفسيرهم البرزخ هنا بمعنى الحائل الذي يحول بين الإنسان ودرجات الجنّة العُليا، إلّاأنّ جملة «إلى يوم يبعثون» تعتبر قرينة واضحة، على أنّ عالم البرزخ هو مرحلة تسبق يوم القيامة، وتقع بعد الموت.

كما فسّر البعض البرزخ أنّه بمعنى المانع الذّي يحول بين الإنسان والعودة إلى الدنيا، لكنّ هذا المعنى أيضاً لا يتلاءم مع ذيل الآية وهو التصريح ببقاء هذا البرزخ إلى يوم القيامة، وبهذا أثبتت الآية المذكورة بوضوح وجود عالم يتوسط بين الدنيا والآخرة.

وكلمة «وراء» تأتي أحياناً بمعنى «الخلف» وأحياناً اخرى بمعنى «الأمام»، وذلك لأنّ هذه الكلمة من مادة (ورى على وزن (سعى وهي بمعنى الاخفاء، فمن يقف إلى أحد جانبي الجدار مثلًا يعدّ الطرف الآخر الذي يخفى عليه «وراء» بالنسبة له، بناء على هذا فالإنسان في أيّ جهة كان من الجدار يعدّ الطرف المقابل له «وراء» بالنسبة له «1».

جاء في الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام: «اتخوَّف عليكم من البرزخ». «2» فسأله الراوي: ما البرزخ؟

فقال عليه السلام: «القبرُ منذ حينَ موتهِ إلى يوم القيامة» «3».

وجاء في حديث آخر عن الإمام علي بن الحسين عليه السلام أنّه قال: «إنّ القبر روضةٌ من رياض الجنّة، أو حفرةٌ من حُفَر النيران» «4».

__________________________________________________

(1) مفردات الراغب، مادة (ورى .

(2) منازل الآخرة، ص 161.

(3) تفسير البرهان، ج 3، ص 120، ح 2 و 1.

(4) المصدر السابق.

نفحات القرآن، ج 5، ص:

354

وفي الآية الثالثة توجّه تعالى بالخطاب إلى جميع المؤمنين وقال بوضوح: «وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ في سَبِيلِ اللَّهِ امْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلكِنْ لَاتَشْعُرُونَ».

فكلا هاتين الآيتين هما من الأدلة الواضحة على وجود عالم البرزخ (وإن كان الحديث يقتصر على ذكر الشهداء)، وذلك لأنّهما تحدثتا عن حياة الشهداء بل حتى عن رزقهم واستقرارهم عند ربّهم.

والعجيب هو أنّ بعض المفسرين ومن دون أن يلتفتوا إلى العبارات الواردة في الآيات اللاحقة لها والتي تتحدّث جميعها عن حياة الشهداء (الحياة بالمعنى الواقعي لهذه الكلمة) حملوا الحياة هنا على معناها المجازي، مثل بقاء أسمائهم وآثارهم، أو بقاء هدايتهم وطاعتهم ومذهبهم، أو بعثهم من القبور واحيائهم يوم القيامة!

فهل غفلوا عن وصف القرآن لهم بأنّهم عند ربّهم؟

أم غفلوا عن إرزاقهم؟

أم غفلوا عن وصفهم فرحين بما آتاهم اللَّه من فضله ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون؟

فكيف تتلائم جميع هذه التعابير مع المعنى المجازي؟

هذا بالإضافة إلى قوله تعالى بل احياءٌ ولكن لا تشعرون، فإنْ كان معنى الحياة هو بقاء الاسم والمنصب والهداية والمذهب فإنّ هذه الامور قابلة للإدراك.

والظاهر هو أنّ هؤلاء المفسرين لم يتمكّنوا من إدراك حياة البرزخ بدقّة، فتوسّلوا بالخرافات بعد ما غابت عنهم الحقيقة، لكنّ الرازي صرّح في تفسيره بالقول: إنّ أكثر المفسرين على أنّ الحياة هنا هي الحياة الواقعية «1».

وعلى الرغم من ذكر المرحوم الطبرسي في مجمع البيان لاربعة تفاسير للآية، إلّاأنّه رجّح التفسير الأول الذّي فسّر الحياة في هذه الآية بالحياة الحقيقية، واعتبره هو الصحيح من بينها «2».

__________________________________________________

(1) تفسير الكبير، ج 4، ص 135.

(2) تفسير مجمع البيان، ج 1 و 2، ص 236.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 355

وهناك روايات كثيرة في هذا المجال طبعاً سوف نُشير إليها لاحقاً- إن

شاءاللَّه-.

ومن العجائب الاخرى هو ما نُقل في تفسير «الميزان» عن بعض المفسرين الّذين اعتبروا الآية مختصة ب «شهداء بدر» وادّعوا بأنّها لا تشمل جميع الشهداء! (يجب الالتفات إلى أنّ المفسرين صرّحوا بأنّ الآية الاولى نزلت في شهداء احُد والثانية في شهداء بدر «1»، ولكن على أيّة حال فإنّ أسباب النزول لا تحّد من مفهوم الآيات مهما كان المورد، فالآية إذن تشمل جميع الشهداء بصورة مطلقة).

وما يلفت الانتباه هو أنّ المرحوم العلّامة الطباطبائي بعد أن نقل هذا التفسير أضاف: «إنّ بعض المفسرين فسّروا الآية السابقة لهذه الآية (أي الآية 153 من سورة البقرة) الّتي تأمر بالاستعانة بالصبر» «2».

ولكن على أيّة حال فإنّ الآية تحدّثت عن الشهداء فقط، إلّاأنّها لم تنفِ غيرهم، من هنا يطرح هذا السؤال وهو: إن كانت حياة البرزخ تعمّ جميع البشر فما هو فضل الشهداء على الآخرين؟!

والجواب على هذا السؤال واضح، وهو أَنّ فضلهم على غيرهم هو في كيفية حياتهم ..

الحياة في جوار رحمة اللَّه والتنعّم بأنواع النعم والرزق الإلهي، لكنّ حياة البرزخ للآخرين لا تشتمل على هذه البركات طبعاً.

أمّا الآية الرابعة فهي في الواقع تمثّل النقطة المقابلة لما جاء في آيات الشهداء، وذلك لأنها تتحدّث عن عذاب «آل فرعون» في البرزخ، قال تعالى: «وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ»، ثم يُبيّن ماهية هذا العذاب بقوله: «النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِّياً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ ادْخِلُوْا آلَ فِرْعَوْنَ اشَدَّ الْعَذَابِ»، ومِنَ الواضح هو إنَّ النّار التي ذُكرت في

__________________________________________________

(1) وقال البعض أيضاً: إنّ الآية المتعلقة بسورة آل عمران نزلت في شهداء بدر بينما نزلت الآية المتعلقة بسورةالبقرة في شهداء بدر واحد معاً.

(2) تفسير الميزان، ج 1، ص 352.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 356

الآية

وَالتي يُعرض عليها آل فرعون صباحاً ومساءً هي نار البرزخ، وذلك لأنّ ذيل الآية تحدّث عن عذابهم يوم القيامة بصورة مستقلة، لذا فقد فسّر أغلب المفسرين هذه الآية بأنّها تشير إلى عالم البرزخ وعذاب القبر.

ومن الجدير بالالتفات هو أنَّ الآية عندما تحدّثت عن عذاب البرزخ لآل فرعون قالت:

«النّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِّياً»، لكنها عندما تحدثت عن عذابهم في الآخرة قالت:

«ادْخِلُوْا آلَ فِرْعَوْنَ اشَدَّ الْعَذَابِ».

ويستفاد من اختلاف هذين التعبيرين (العرض والادخال) بأنّ المراد من النار هي نفس نار البرزخ، إلّاأنّهم في البرزخ يشاهدونها عن بُعد فيعمّ القلق والهم وجودهم، لكنهم يشاهدونها يوم القيامة عن قرب بواسطة الدخول فيها، فهذه العقوبات تحلّ بهم في البرزخ صباحاً ومساءً، بينما تكون مستمرة ومن دون انقطاع في يوم القيامة.

وقد رُوِيَ عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله في هذا المجال ما يؤيد هذا المعنى بكلّ وضوح، قال صلى الله عليه و آله: «إنَّ أَحَدَكُمْ إذا ماتَ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ فانْ كانَ مِنْ أهْلِ الْجَنَّةِ، فَمِنْ الجَنَّةِ وَإنْ كانَ مِنْ أهْلِ النارِ فَمِنَ النّارِ، يُقالُ هذا مَقْعَدُكَ حِيْنَ يَبْعَثُكَ اللَّهُ يَوْمَ القِيامَةِ» «1».

ويستفاد من هذه الروايات أنّ الأمر لا يختصّ بآل فرعون، بل يشمل الجميع.

وهل يعذب أو ينعّم أهل البرزخ عن طريق المشاهدة لجهنم أو الجنّة فقط؟ أم يكون لهذين تأثيرٌ مادّيٌ عليهم أيضاً؟ كما لو مرّ الإنسان بالقرب من حفرة من النّار فإنّ النار تحرق وجهه، أو إذا مرّ بالقرب من بستان عامرة خضراء فيدبّ النشاط فيه أثر نسيمها المنعش العطر، أم يثاب أو يعاقب بكلا الوجهين؟ (الروحي والجسمي، والمراد هنا هو الجسم المثالي طبعاً).

الاحتمال الثالث أقوى (فتأمّل).

كما يجدر الالتفات إلى هذه المسألة أيضاً وهي

أنّ ظاهر الآية يدل على أنّ آل فرعون

__________________________________________________

(1) رُوِيَ هذا الحديث في مجمع البيان، ج 7 و 8، ص 6 عن صحيح البخاري ومسلم في تفسير ذيل الآية مورد البحث.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 357

يعرضون على النار، لكن بعض المفسرين قالوا: إِنّ هذا كناية عن عكس ذلك الأمر، أي أنّ النار هي التي تعرض عليهم، كما هو الحال في «عرضتُ الناقة على الحوض» المراد منه عرض الماء على الناقة. (وما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه و آله يؤيّد هذا المعنى أيضاً، وذلك لأنّه صلى الله عليه و آله قال: «إذا ماتَ عُرضَ عليه مقعُدهُ من الجنّة أو من النار بالغداة والعشيّ».

وتحدّثت الآية الخامسة عن «مؤمن إل يس» (الرجل المؤمن الذّي ورد ذكر قصته في سورة «يس»، فقد نهض هذه الرجل لدعم رُسُل المسيح عليه السلام الذين بعثوا إلى مدينة «انطاكية» ودعا الناس ونصحهم باتباع هؤلاء الرُسُل، لكن هؤلاء القوم المعاندين الفّجار لم يكتفوا بعدم الاكتراث بنصحه فحسب، بل ثاروا عليه وقتلوه). قال تعالى: «قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَالَيْتَ قَوْمِى يَعْلَمُونَ* بِمَا غَفَرَ لِى رَبِّى وَجَعَلَنِى مِنَ الْمُكْرَمِينَ».

ومن الواضح هو أنّ هذه الجنّة ليست هي جنّة القيامة، بل هي جنّة البرزخ، لأنّ مؤمن إل يس تمنّى هنا لو كان قومه الذين هم في هذه الدنيا يعلمون بعاقبته، ويعلمون بما غفر له ربّه وجعله من المكرمين!

قال المرحوم الطبرسي في «مجمع البيان»: «إنّ هذه الآية تشير إلى نَعِم القبر (البرزخ)، لأنّ مؤمن إل يس قال هذا عندما كان قومه احياءً، فإذا امكننا تصوّر وجود النعيم في القبر، فإنّ تصوّر العذاب سوف يكون ممكناً أيضاً» «1».

وجاء في كثير من التفاسير أن هذا الرجل المؤمن

يدعى ب «حبيب النّجار» والسبب في اطلاق «مؤمن إل يس» عليه في بعض الروايات «2» فالظاهر هو لأنّهُ كان رجلًا مؤمناً بالإضافة إلى ذكره في سورة «يس»، لذا قال البعض: إِنّ «إل» هنا زائدة والمراد هو «مؤمن يس» «3».

__________________________________________________

(1) تفسير مجمع البيان، ج 7 و 8، ص 421.

(2) تفسير الميزان، ج 17، ص 76 نقلًا عن تفسير در المنثور.

(3) تفسير روح الجنان، ج 9، ص 270 (تعليقة المرحوم العلّامة الشعراني).

نفحات القرآن، ج 5، ص: 358

والآية السادسة تصف وضع المجرمين يوم القيامة، قال تعالى: «وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الُمجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ»، ثم يضيف: «كَذلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ».

وعلى الرغم من أنّ هذه الآية لم تتحدث عن محل اللبث، إلّاأنّ الآية اللاحقة أشارت إلى أنّ المراد من محل اللبث هو البرزخ، لأنها تقول: «وَقَالَ الَّذِينَ اوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فىِ كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ البَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ البَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَاتَعْلَمُونَ».

وهذا التعبير يشير إلى أنّ مكث هؤلاء يطول أمده إلى يوم القيامة، ولا يصح هذا إلّافي البرزخ.

وقد انتخب هذا التفسير عدد كبير من المفسرين الكبار، وهو أنّ الآية تشير إلى حياة البرزخ، لكنّ البعض الآخر يرون أنّ الآية تشير إلى اللبث الحاصل في الدنيا، الذي يراه المجرم قصيراً جدّاً كانصرام ساعة، وادّعى بعضهم بأنّ هذه الآية تدل على هذا المطلب، وهو ما جاء في قوله تعالى: «كَانَّهُّمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلّا عَشِيَّةً اوْ ضُحَاهَا»!

(النازعات/ 46)

لكن لا يوجد في هذه الآية أيّ دليل واضح على أنّ المراد من اللبث هو اللبث في الدنيا، بل يحتمل أيضاً دلالتها على أنّ اللبث هو في عالم البرزخ.

وإذا تجاوزنا ذلك فإنّنا لا يمكننا أن نفسّر الآية

إلّابدلالتها على «البرزخ»، وذلك بالاستناد إلى ما ذكرته الآية من أنّ يوم القيامة هو اليوم الذي ينتهي فيه اللبث.

وهنا يطرح هذا السؤال نفسه وهو: لماذا يُعدّ هؤلاء الزمان الطويل لعالم البرزخ قصيراً وقليلًا؟

ويتضح الجواب على هذا السؤال من خلال ذكر مقدمة، وهي: عندما يُوعد الإنسان بوعد جميل وشيّق، فإنّ نار الشوق للوصول إلى تلك اللحظة سوف تستعر في قلبه، فتمر الساعات والدقائق عليه ببطءٍ شديد، فتمرّ عليه الساعة كأنّها أيّام أو سنين، وعلى العكس من ذلك عندما يتوعّد العقاب الشديد فإنّه يودّ لو تتوقف عجلات الزمان، لكنْ تمرُّ عليه الأيّام والشهور بسرعة في نظره وكأنّها لحظات أو دقائق لا أكثر، وهذا هو حال المجرمين

نفحات القرآن، ج 5، ص: 359

يوم القيامة!

وبالرغم من أنّ العذاب الإلهي لا يتخطّاهم في عالم البرزخ، لكن اين عذاب البرزخ من عذاب يوم القيامة؟!

ويوجد احتمال آخر أيضاً وهو أن يعتبر البرزخ كالنوم بالنسبة للبعض بعد ابتداء عذاب القبر، ومن البديهي أن لا يعلم هؤلاء مقدار مدّة لبثهم عندما تقوم القيامة، التي هي بمنزلة النهوض من النوم.

وبما أنّ جميع الحقائق لا تنكشف أسرارها للإنسان في البرزخ، فلا عجب من خفاء هذه الامور عليهم، لكنّه مِنَ الطبيعي أن تنكشف أسرار الحقائق بجلاء يوم القيامة الذي هو «يوم البروز».

وفي الآية السابعة من آيات البحث جاء ما يرد على لسان الكفار عند مثولهم بين يدي اللَّه يوم القيامة، قال تعالى: «قَالُوْا رَبَّنَا امَتَّنَا اثْنَتَينِ وأَحْيَيتَنَا اثْنَتَينِ فَاْعتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّنْ سَبِيلٍ».

تدل هذه الآية على وجود عالم البرزخ من جهة أنّ تصوّر إماتَتَيْنِ وإحياءَيْنِ غيرُ ممكنٍ، إلّا إذا سلّمنا بوجود عالم البرزخ، وهما الموت في هذه الدنيا ثم حياة البرزخ ثم الحياة في عالم

الآخرة.

وهذا من أجل أنّ جميع البشر وحتّى الملائكة والجِنّ وأرواح الأموات التي هي على هيئة أجسام مثالية في عالم البرزخ يموتون جميعاً عند انتهاء هذا العالم، أي عند نفخ الصور بمقتضى قوله تعالى: «فَصَعِقَ مَنْ في السَّمَاوَاتِ وَمَنْ في الأَرْضِ». (الزمر/ 68)

ولا يبقى حىٌّ موجوداً في ذلك اليوم سوى اللَّه تعالى إذن، هناك موت بعد حياة البرزخ أيضاً.

وأمّا حياة عالم الدنيا فهي خارجة عن المراد، وذلك لأنّ الآية الشريفة تحدثت عن

نفحات القرآن، ج 5، ص: 360

حياتين بعد الموت، لا عن حياة الدنيا بعد الموت.

لكن البعض احتمل أن يكون المراد من الموت الأول هو ما قبل وجود الإنسان في الدنيا، أي عندما كان تراباً، بناءً على هذا الاحتمال سوف تكون الحياة الدنيا هي الحياة الاولى أيضاً، والموت الثاني هو الموت الحاصل عند انتهاء هذا العالم، والحياة الثانية هي حياة يوم القيامة، فيكون هذا شبيه ما جاء في قوله تعالى: «كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ». (البقرة/ 28)

لكنّه من الواضح هو أنّ التعبير ب «الموت الأول» على هذا التفسير يكون صحيحاً، إلّاأنّ التعبير ب «الإماته» غير صحيح، وبتعبير آخر فإنّ الإنسان عندما كان تراباً فهو ميّت لا أنّ اللَّه اماته، لأنّ الإماتة يجب أن تكون بعد الحياة، بناءً على هذا لا ينطبق تعبير الآية إلّاعلى التفسير الأول (أي على وجود عالم البرزخ)، إلّاإذا اعتبرنا الإماتة جاءت هنا بمعناها المجازي، لكن هذا لا يجوز عند غياب القرينة.

كما استدل بعض المفسرين بهذه الآية على حياة القبر أيضاً .. تلك الحياة التي تنتهي بعد مدّة وجيزة بالموت (وفي الواقع أنّ هذه الحياة هي أيضاً من أنواع الحياة المؤقتة في البرزخ).

وهناك كلام بين

العلماء في كيفية الحياة في القبر، فهل هي حياة بالجسم المادّي أم بالجسم المثالي في عالم البرزخ؟ أم بجسم خليط من المادة والمثال؟ وسوف نتحدّث لاحقاً عن هذا الموضوع بإذن اللَّه.

ثمرة البحث:

اتّضح إلى حدٍ كبير من خلال الآيات السبع المذكورة وجهة نظر القرآن المجيد حول عالم البرزخ (العالم الذي توسّط بين هذه الدنيا وعالم الآخرة).

ولو فرضنا وجود الخلاف في بعض هذه الآيات، فإنّ وضوح البعض الآخر منها (كالآيات الاولى سوف لن يبقي أيَّ مجالٍ للشك والترديد.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 361

هذا بالإضافة إلى أنّ استعمال «التوفّي» (قبض الأرواح) في الموت في آيات متعددة من القرآن، يعتبر دليلًا ملموساً وواضحاً على وجود عالم البرزخ. وكل ما هنالك هو عدم ذكر الكثير من جزئيات عالم البرزخ، ولم يُشَرْ إلّاإلى أصل وجود هذا العالم مع شي ء من مكافآت المحسنين وعقوبات المسيئين، ولكن الروايات أشارت إلى تفاصيل كثيرة في هذا المجال وسوف نتعرّض إلى ذكر قسم منها.

توضيحات

1- البرزخ في الأحاديث الشريفة

ورد ذكر عالم البرزخ في الأحاديث الشريفة بصورة واسعة جدّاً، وقد بلغ حجم هذه الروايات من الكثرة ممّا جعل المرحوم الخواجة الطوسي أن يعدّها في كتابه تجريد الاعتقاد من المتواترات، في قوله «وعذابُ القبر واقعٌ بالإمكان وتواتر السمع بوقوعه».

ونشير هنا إلى نماذج واضحة من هذه الروايات:

1- جاء في الحديث: «القبرُ إمّا روضةٌ من رياض الجنّة أو حفرةٌ من حفر النيران».

رواه «الترمذي» في «صحيحه» عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، كما رواه المرحوم «العلامة المجلسي» في «بحار الأنوار» في موضعٍ عن أمير المؤمنين علي عليه السلام وفي موضع آخر عن الإمام علي بن الحسين عليه السلام «1».

2- وجاء في المشهور عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله: أنّه عندما ألقوا بأجساد قتلى مشركي مكّه، الذين قتلوا في غزوة بدر في أحد الآبار وقف صلى الله عليه و آله: على البئر وقال: «يا أهل القَليب هل وجدتُم ما وعَدَ ربُّكُم حقاً؟ فإنّي

وجدتُ ما وعدني ربّي حقاً. قالوا، يا رسول اللَّه هل يسمعون؟ قال ما أنتم بأسمعَ لما أقول منهم: ولكنَّ اليوم لا يجيبون» «2»!

__________________________________________________

(1) صحيح الترمذي، ج 4، كتاب صفة القيامة، باب 26، ح 2460؛ بحار الأنوار، ج 6، ص 218، و ص 214.

(2) كنز العمال، ج 10، ص 377، ح 29876. والقليب: بمعنى البئر.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 362

ورويَ هذا المضمون بتعابير اخرى في روايات متعددة، منها ما جاء في الحديث: نادى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عدداً من المشركين بأسمائهم وقال: يا اباجهل يا عتبة يا شيبة يا أُميّة! هل وجدتُم ما وعد ربُّكم حقاً؟ فإنّي وجدتُ ما وعدني ربّي حقّاً، فقال عُمَرُ: يا رسول اللَّه أما تُكلِّم من أجسادٍ لا أرواح فيها؟ فقال: «والّذي نفسي بيده ما أنتم باسمع لِما اقولُ منهُم غير انّهم لا يستطيعون جواباً» «1»!

إنّ هذه الأحاديث لا تدل على وجود عالم البرزخ فحسب بل تدل على وجود نوع من الحياة بعد موت الجسم، بل وتدلّ على أنّهم لهم نوع من الارتباط بهذا العالم أيضاً، فهم يسمعون بعض الحديث على الأقل.

3- جاء في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين علي عليه السلام: أنّه عندما عاد من حرب صفين وقف على مقبرة تقع خلف باب الكوفة وتحدث إلى الأموات بهذه الكلمات: «أنتم لنا فرطٌ سابقٌ ونحن لكم تبعٌ لاحقٌ، أمّا الدورُ فقد سُكِنَت وأمّا الأزواج فقد نُكِحَت وأمّا الأموالُ فقد قُسِّمَت، هذا خبرُ ما عندنا فما خبرُ ما عندكم»؟

والتفت إلى أصحابه وقال: «أمّا لو اذِن لهم في الكلام لأخبروكم أنّ خير الزاد التقوى «2».

وهذا الحديث أيضاً يدلّ على أنّه بالإضافة إلى أنّ عالم البرزخ يتحقق بالنسبة للأموات فإنّ

للموتى نوعاً من الارتباط مع هذا العالم أيضاً.

4- وهناك خطب متعددة في نهج البلاغه أيضاً تحدثت عن البرزخ بوضوح، فقد جاء في إحدى خطبه عليه السلام حيث ذكر الإمام عدداً من السابقين وقال: «اولئِكم سلفُ غايتكُم ...

سلكوا في بطون البرزخ سبيلًا» «3».

وجاء في خطبة اخرى عنه عليه السلام عندما كان يصف «أهل الذكر»: «فكأنّما قطعوا الدٌّنيا إلى الآخرة وهم فيها، فشاهدوا ما وراء ذلك، فكأنّما اطلعوا عيوب أهل البرزخ في طول الاقامة

__________________________________________________

(1) كنز العمال، ج 10، ص 376، ح 29874.

(2) نهج البلاغة، الكلمات القصار، الكلمة 130.

(3) المصدر السابق، الخطبة رقم 221.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 363

فيه» «1».

5- وجاء في الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «واللَّه ما أخاف عليكُم إلّا البرزخ». (اراد بهذا أن يشير إلى أنّ المؤمنين تشملهم شفاعة النبي صلى الله عليه و آله، والأئمّة المعصومين عليهم السلام يوم القيامة، لكنّ محاسبة البرزخ تختلف) «2».

6- وَرُوي عن الإمام الصادق عليه السلام أيضاً أنّه قال: «البرزخُ القبرُ، وهو الثواب والعقاب بين الدٌّنيا والآخرة» «3».

7- وفي الدر المنثور عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «حينما تقبض روحُ المؤمن يستقبله عبادُ اللَّه الذين شملتهم رحمتهُ ويقولون: أهلًا بك أيها الضيف الجديد، استرح لأنك تعبت كثيراً، ثم يسألونه عن بعض معارفهم واصدقائهم، وحينما يلتفتون إلى أن بعضهم قد فارق الحياة قبل هذا الضيف الجديد، يقولون (إنّاللَّه وإنا إليه راجعون)، لقد أخذوهُ إلى الجحيم»، (ولذا لا أثر له هنا) «4».

8- وهناك روايات كثيرة تشير إلى فرح أرواح المؤمنين إثر أعمال الخلف الصالحة، ومن جملة هذه الروايات ما روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «إِنّ الميّت ليفرحُ بالترحٌّم

عليه والاستغفار له كما يفرحُ الحيّ بالهدية» «5».

وروي هذا المضمون عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله حيث قال: «إِنّ هدايا الأحياءِ للأمواتِ الدّعاء والاستغفار» «6».

9- وروي في حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «مَنْ أَنكَرَ ثلاثة أشياء فليس

__________________________________________________

(1) المصدر السابق، الخطبة رقم 222.

(2) تفسير نور الثقلين، ج 3، ص 553، ح 120.

(3) المصدر السابق، ح 122.

(4) تفسير الميزان، ج 20، ص 494 نقلًا عن الدّر المنثور (باختصار).

(5) المحجّة البيضاء، ج 8، ص 297.

(6) المصدر السابق، ص 291.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 364

من شيعتنا: المعراج والمساءلة في القبر والشفاعة» «1».

ومن الواضح هو أنّ السؤال في القبر من عالم البرزخ.

10- ونختتم هذه الروايات بحديثٍ روي عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في كنز العمّال، (بالرغم من كثرة الأحاديث وتواترها في هذا المجال)، فقد ذكر النبي صلى الله عليه و آله شهداء احد وقال: «أيٌّها الناسُ زوروهُم وأتوهم وسلِّموا عليهم، فوالذّي نفسي بيده لا يُسلِّمُ عليهم مُسلمٌ إلى يوم القيامة إلّاردّوا عليه السلام» «2».

وقد تضمّن هذا الكتاب أحاديث متعددة اخرى في هذا المجال.

من هنا يتضح أيضاً مدى جهل من ينكر زيارة أهل القبور ويعدّهم جمادات لجهلهم بالاحاديث الشريفة ومدى بعدهم عن تعاليم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.

إنّ جميع الروايات التي تحدثت عن سؤال وضغطة القبر، والروايات التي تخبر الإنسان عن نتا ئج أعماله الحسنة منها والسيئة بعد الموت، والروايات التي تتحدّث عن ارتباط الأرواح بذويهم والإطلاع على أوضاعهم، والروايات التي تتحدّث عن ليلة المعراج ولقاء النبي صلى الله عليه و آله بالرسل والأنبياء، إنّ جميع هذه الروايات تدلّ أساساً على وجود عالم

البرزخ، فإذا لم نتصّور عالماً كهذا فإنّ جميع هذه الروايات وأمثالها ستصبح مبهمة.

2- البرزخ في ميزان العقل والحس

بالإضافة إلى وضوح ما دلت عليه الآيات والروايات المذكورة على إثبات وجود عالم يتوسط الدنيا والآخرة، فإنّ هذا الأمر يمكن إثباته عن طريق العقل والحس أيضاً، وذلك لأنّ جميع الأدلة التي دلت على وجود الروح وخلودها مستقلة عن البدن تدلّ على وجود عالم البرزخ، لأنّها دلت على عدم فناء الروح بموت الجسم، وذلك لأنّها ليست من عوارض الجسم حتى تفنى بفنائه، بل هي جوهر مستقل يمكنها الحفاظ على بقائها من دون بقاء

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار، ج 6، ص 223.

(2) كنز العمّال، ج 10، ص 382، ح 29896.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 365

الجسم أيضاً، والاعتراف بهذا يساوي الاعتراف بعالم البرزخ، وذلك لأنّ الحديث هنا هو عن أصل وجود عالم البرزخ، لا عن كونه روحياً.

وبالإضافة إلى هذا فإنّ إحضار الروح يدلّ بوضوح على أنّ الأرواح بعد انفصالها عن الأجسام تستقر في عالمٍ خاص بها، وتحافظ على بقائها وتتصف بسعة الإدراك هناك، حتّى أنّها تبوح بشي ءٍمن علمها عن طريق اتصالها بالناس الموجودين في هذا العالم.

إنّ الذين تلقّوا نداءات من الأرواح هم كثيرون، وكذلك الذين ادّعوا بأنّهم شاهدوا الروح في «قالب مثالي»، ونحن لا نقول: إنّ جميع هذه الادعاءات صحيحة، وذلك لأنّ الكذابين والمحتالين المنحرفين كثيراً ما استغلوا هذه المسألة لتمرير اغراضهم، لكن هذا لا يدعو إلى الانكار، والشك في صحة هذا الموضوع المدعوم بالتجربة والعلم، وذلك لكثرة ما أخبر به الثقات عن نتائج تجاربهم في هذا المجال، ولكثرة ما كتبه العلماء الكبار والمجامع العلمية في هذا الميدان، ممّا لا يبقي محلًا للانكار في أصل المسألة، وقد بلغت من الكثره ما لو حاولنا ذكر زاوية

منها لطال الحديث عنها كثيراً «1».

بناءً على هذا يمكننا عن هذا الطريق أيضاً، أن نثبت وجود عالم البرزخ.

3- قبسات من عالم البرزخ

بغضّ النظر عن الاختلاف الموجود بين العلماء المسلمين في التفاصيل الجزئية لعالم البرزخ، فإنّهم اتفقوا جميعاً على أصل وجود مثل هذا العالم سوى عدد قليل لا يعتدّ به.

والسبب في ذلك، هو وجود الآيات القرآنية والروايات الكثيرة، التي دلّت على ذلك، وقد تحدثت تلك الآيات بصراحة عن وضع الإنسان بعد الموت، والثواب والعقاب، وارتباط أهل القبور بهذا العالم، وأمثال ذلك (وقد ذكرنا هذا المطلب آنفاً).

بناءً على هذا فلا يوجد هناك اختلاف في أصل وجود عالم البرزخ، والمهم هنا هو الاطلاع على صورة حياة البرزخ، وقد طرح العلماء تصورات مختلفة في هذا الميدان

__________________________________________________

(1) راجع كتابنا «عود أرواح وارتباط أرواح» لكسب توضيحات أكثر.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 366

أوضحها ما كان ينسجم مع ما جاء في الروايات وهو:

إنّ روح الإنسان بعد انتهاء الحياة الدنيا تحلّ في جسمٍ لطيف يفتقد الكثير من اعراض الجسم المادّية، ولكن لِشَبَهِ هذا الجسم بالمادة اطلق عليه اسم «الجسم المثالي» أو «القالب المثالي» وقيل: إنّه ليس مجرّداً بتمام الأبعاد وليس مادياً كذلك، بل له نوع من «التجرد البرزخي». (فتأمل).

ولكن بما أنّ إدراك حقيقة حياة عالم الآخرة غير ممكن بالنسبة لنا نحن اسارى عالم المادة، فالاطلاع الكامل على عالم البرزخ لا يكون ممكناً أيضاً، وذلك لأنّ عالم البرزخ هو أعلى مرتبة من هذا العالم، وبتعبير آخر: إنّ عالم البرزخ عالمٌ محيط بهذا العالم لا محاط.

ولكن- على حدّ قول بعض العلماء-: يمكننا تشبيهه بعالم الرؤيا، فالروح الإنسانية في الأحلام الصادقة تتجوّل في نقاط مختلفة، بواسطة القالب المثالي وتشاهد المناظر وتتلذذ بالنعم، كما أنّها أحياناً تشاهد المشاهد المرعبة

فتتضجّر بشدّة، وتصرخ وتصحو من نومها.

وتؤكّد صحّة هذه الحقيقة قوله تعالى «اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتى لَمْ تَمُتْ في مَنَامِهَا». (الزمر/ 42)

قال المرحوم العلامة المجلسي في بحار الأنوار: «إنّ تشبيه عالم البرزخ بحالة النوم والرؤيا كثيراً ما ورد في الإخبار.

ثم يضيف: كما يحتمل أن يكون للنفوس القوية العالية اجسامٌ مثاليةٌ متعددة، لذا فإنّ ما ورد من الروايات على أنّ الأئمة يحضرون عند كلّ من يحتضر من الناس، سوف لا يحتاج إلى التأويل والتكلّف في تفسيرها». (فتأمّل) «1».

كما أنّ البعض يعتقد بأنّ القالب المثالي موجود في جسم كلّ إنسان، لكنّه ينفصل عن الجسم بعد الموت ويبدأ حياته في البرزخ، فالروح في عملية التنويم المغناطيسي تتجوّل وتذهب إلى مناطق مختلفة، وتمارس كثيراً من الفعاليات، والأكثر من ذلك أنّ بعض الأرواح القوية تتمكن من السفر إلى مناطق بعيدة في عالم اليقظة أيضاً فتطّلع على أسرار

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار، ج 6، ص 271.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 367

تلك المناطق، وهذه الفعاليات تنجز بواسطة القالب المثالي أيضاً.

وقصارى القول هو أنّ الجسم المثالي يشابه هذا الجسم المادي- كما هو ظاهر من اسمه ولكنّ هذه المادة ليست مادة كثيفة ولا تتشكل من العناصر المادية، بل هو جسم لطيف نوراني لا يحتوي على العناصر المادية المعروفة في هذا العالم المادي.

وقد اشتبه الأمر على البعض هنا، ومن المحتمل أن تكون هذه الشبهة هي السبب في انكارهم للجسم المثالي، والشبهة التي وقعوا فيها هي اعتقادهم بأنّ وجود جسمٍ كهذا سوف يؤدّي إلى الاعتقاد بمسألة «التناسخ»، وذلك لأنّ التناسخ ما هو إلّاعبارة عن انتقال الروح إلى أجسام متعددة.

لكننا إذا سلّمنا بوجود القالب المثالي في باطن هذا الجسم المادي، فسوف لن نقع في محذور انتقال الروح إلى

جسمٍ آخر، وسوف لن يبقى محلٌّ لمحذور التناسخ.

هذا بالإضافة إلى ما قاله «الشيخ البهائي» إنّ «التناسخ الذي أجمع المسلمون على بطلانه هو عبارة عن انتقال الروح بعد فناء الجسم إلى أجسام اخرى في نفس هذه الدنيا، وأمّا ما يتعلّق بحلول الأرواح في أجسام مثالية في عالم البرزخ وبقائها حتى انتهاء أمد البرزخ لتنتقل بعد ذلك إلى الأجسام الاولى يوم القيامة، فإنّه لا يمتٌّ بأيّ صلة لمسألة التناسخ» «1».

ونقل المرحوم «الكليني» في «فروع الكافي» عدّة روايات تحدثت عن الجسم المثالي بكل وضوح، منها: ما جاء في الصحيح عن الإمام الصادق عليه السلام عندما سأله أحد أصحابه قائلًا: يرى بعض الناس أنَّ أرواح المؤمنين تُجعل في حوصلة طيور خضر تحيط بالعرش!! فقال عليه السلام: «لا، المؤمن أكرمُ على اللَّه من أن يجعل رُوحهُ في حوصلة طير، ولكن في أبدانِ كأبدانهم» «2».

وجاء في حديث آخر عنه عليه السلام أيضاً: «فإذا قبضهُ اللَّهُ عزّ وجلّ صيّر تلك الرّوح في قالبٍ

__________________________________________________

(1) نقل هذا الكلام العلامة المجلسي عن المرحوم الشيخ البهائي في بحار الأنوار، ج 6، ص 277.

(2) فروع الكافي، ج 3، ص 244 (باب آخر في أرواح المؤمنين)، ح 1.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 368

كقالبه في الدنيا» «1».

وجاء في حديث آخر عن الصادق عليه السلام: عندما سُئل عن أرواح المؤمنين، أجاب: «في حُجُراتٍ في الجنّة يأكلونَ من طعامها ويشربون من شرابها، ويقولون رَبّنا أقِم الساعة لنا، وأنجز لنا ما وعدتنا» «2».

ومن الواضح هو أنّ المراد من الجنّة هنا هي جنّة البرزخ التي هي أدنى بكثير من جنّة القيامة، لذا يتمنى المؤمن قيام القيامة، هذا بالإضافة إلى أنّ وجودهم في البرزخ المكاني يدل على حلول أرواحهم في القالب

المثالي، وذلك لأنّها فارقت أجسامَ هذه الدنيا.

4- خصوصيات عالم البرزخ
اشارة

إنّ القرآن المجيد لم يتعرّض كثيراً لذكر هذه الخصوصيات، وكلّ ما تعرّض له هو: أَنّ هناك برزخاً وأنّ فيه فريقاً يتنعّم بنعم اللَّه وفريقاً آخر في العذاب، ولكن ماهي التفاصيل؟

فإنّها لم تبيّن، ومن المحتمل أن يكون السبب في ذلك هو أنّ سيرة القرآن هي بيان الاصول العامة وترك التفاصيل للسنّة.

أمّا ما بينته السنّة في هذا المجال فهو ما يلي:

أ) سؤال القبر

دلّت روايات عديدة على أنّ الإنسان عندما يوضع في القبر يأتي إليه اثنان من ملائكة اللَّه، فيسألانه عن اصول دينه، التوحيد والنبوة والإمامة، كما أنّ بعض الروايات أشارت إلى أنّه يُسأل حتى عن كيفية قضاء عمره من جوانب عدّة، كالسؤال عن سُبل كسبه للمال وانفاقه إيّاه، فإنْ كان من المؤمنين الصادقين فإنّه سوف يجيب عمّا سُئل بسهولة، وتغمره الرحمة

__________________________________________________

(1) المصدر السابق، ح 6.

(2) فروع الكافي، ج 3، ص 244 (باب آخر في أرواح المؤمنين)، ح 4.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 369

الإلهيّة واللطف، وإن لم يكن كذلك فإنّه سوف يفشل في الإجابة ويغرق في عذاب البرزخ الأليم.

وقد اطلِق على هذين الملكين في بعض الروايات اسم «ناكر» و «نكير» وفي بعضها الآخر اسم «منكر» و «نكير» «1».

روي عن الإمام علي بن الحسين عليه السلام أنّه كان يعظ الناس في كلّ جمعة في مسجد الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله بهذه الموعظة: «أيٌّها الناسُ اتقوا اللَّه واعلموا أنّكم إليه ترجعون ...»، حتّى حفظ الناس ذلك ودوّنوه.

ثم يشير في قسم آخر من كلماته الشريفة والنافذة إلى الأعماق، إلى حضور الملكين (منكر ونكير) للسؤال في القبور فيقول عليه السلام: «أَلا وأنّ أوَّل ما يسألانك عن ربّك الذّي كنت تعبُدهُ وعن نبيّك الذّي ارسل اليك وعن دينك الذي كنت

تُدينُ به وعن كتابك الذي كُنت تتلوه وعن إمامك الذي كنت تتولّاه، ثم عن عُمرك فيما أفنيته ومالك من اين اكتسبته وفيما أتلفته، فخُذ حذرك وانظُرْ لنفسك واعِدَّ للجواب قبل الامتحان والمساءلة والاختبار، فإن تكُ مؤمناً تقياً عارفاً بدينك متبعاً للصادقين، موالياً لأولياء اللَّه لقاك اللَّه حُجّتك وانطق لسانك بالصواب فأحسنت الجواب فبُشِّرتَ بالجنّة والرضوان من اللَّه، والخيرات الحسان، واستقبلتك الملائكة بالرَّوح والرَّيحان، وإن لمْ تكُن كذلك تلَجْلَجَ لسانُك ودحضَتْ حُجّتك، وعميت عن الجواب، وبُشِّرتَ بالنار واستقبلتك ملائكة العذاب بنزل من حميم وتصلية جحيم» «2»! ...

وهنا يطرح هذا السؤال وهو: هل يتوجّه السؤال هناك إلى الروح التي هي في القالب المثالي والبرزخي أم إلى نفس الجسم المادّي على نحوٍ تعود الروح إلى الجسم المادي بصورة مؤقتة (ومن البديهي أننا لا نقصد عودة الروح بصورة تامة، بل على قدر ما يمكنه من

__________________________________________________

(1) ورد ذكر الاسم الأول في كتاب اصول الكافي، ج 2، ص 633، ح 26 (باب النوادر) والاسم الثاني في كتاب بحار الأنوار، ج 6، ص 222 و 223 ح 22 و 24.

(2) بحار الأنوار، ج 6، ص 223، ح 24. وهناك روايات عديدة في هذا المجال فإن أردت كسب معلومات أكثر عليك بمراجعة نفس الجزء من بحار الأنوار وكذلك مراجعة تفسير البرهان، ج 2، من ص 312، فما فوق (في تفسير ذيل الآية 27 من سورة إبراهيم) والمحجّه البيضاء، ج 8، ص 309 فما فوق.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 370

الاجابة) فتوجّه إليه الأسئلة؟ وَما يستفاد من مضمون بعض الروايات هو، أنّ الروح ترتبط وتتعلق بنفس هذا الجسم المادّي بنوعٍ من التعلّق على قدر ما يتمكن الميت من فهم الاسئلة، والإجابة عليها

«1».

لكنّ المرحوم العلّامة المجلسي في تحقيقه حول أحاديث هذا الباب، قال في إحدى عباراته: «فالمراد بالقبر في أكثر الإخبار ما يكونُ الروحُ فيه في عالم البرزخ» «2».

وهناك مسألة اخرى يجدر الالتفات إليها وهي طبقاً لما جاء من قرائن في الروايات يتضح أنّ أسئلة وأجوبة القبر هي ليست اسئلة وأجوبة عادية يتمكن الإنسان من الإجابة عليها بما يحلو له، بل هي أسئلة تنبع اجاباتها من أعماق روح الإنسان، ومن صحيح معتقداته، ولا يؤثر تلقين الأموات إلّافي إثارتها لا أنّه يؤثّر في الإجابة بصورة مستقلة، فالجواب كأنّه ينبع من عمق التكوين والحقيقة الكامنة في الباطن

ب) ضغطة القبر

هذه المسألة هي من المسائل التي ورد ذكرها في أحاديث كثيرة أيضاً، كما يستفاد من الروايات أيضاً؛ أنّ ضغطة القبر تشمل الجميع بدون استثناء، كلّ ما هنالك أنّها تكون شديدة على البعض وتكون من عقوبات الأعمال، وتكون أقّل شدّة على البعض الآخر وتعتبر كفّارة للذنوب؟

جاء في الحديث الشريف عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله عند دفن الصحابي المعروف (سعد بن معاذ) أنّه قال: «إنّه ليس من مؤمنٍ إلّاوله ضمّةٌ» «3».

وفي رواية اخرى عن الإمام الصادق عليه السلام عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «ضغطة القبر للمؤمن كفارةٌ لما كان منه من تضييع النّعم» «4».

__________________________________________________

(1) تفسير البرهان، ج 2، ص 314، ح 9، في ذيل الآية 27 من سورة إبراهيم.

(2) بحار الأنوار، ج 6، ص 271.

(3) المصدر السابق، ح 16 و 19.

(4) المصدر السابق.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 371

لكن يستفاد من رواية اخرى أنّ المؤمنين لا تمسّهم ضغطة القبر أبداً، وأنّ ضغطة القبر التي حلت بسعد بن معاذ هي من أجل سوء

خلقه مع اهله، جاء في هذه الرواية: «إِنّهُ كانَ في خُلُقِهِ معَ أَهْلِهِ سوءٌ» «1».

لذا جاء في بعض الأخبار أَنّ الذين يمارسون بعض الأعمال الصالحة (مثل حج بيت اللَّه عدّة مرات، أو المواظبة على قراءة بعض سور القرآن، أو بعض الأذكار) ينجون من ضغطة القبر «2».

وعلى أيّة حال فإنّ ضغطة القبر هي اوّل العقوبات في عالم البرزخ، ولكن هل تنزل ضغطة القبر على هذا الجسم المادي ثم تنتقل منه إلى الروح (سبب العلاقة الموجودة بين هذا الجسم والروح على أيّة حال)، أم تنزل على ذلك الجسم المثالي؟ للإجابة عن هذا السؤال يأتي نفس الرأيين السابقين أيضاً، ولكن بما أنّ الدخول في التفاصيل الجزئية لا ثمرة منه، لذا نمّر عليها مرّ الكرام، ونقتصر في القول على أنّ أصل وجود ضغطة القبر هي من المسلّمات، وذلك طبقاً لمفاد كثير من الروايات «3»، وقد جاء في إحداها عند الجواب عن سؤالهم: إنّ من علّق بخشبة الصَلب عدّة أيّام كيف تناله ضغطة القبر؟، قال الإمام الصادق عليه السلام: «إنّ ربّ الأرض هو ربُّ الهواء فيوحي اللَّه عزّوجلّ إلى الهواء فيضغطه ضغطةً اشدّ من ضغطة القبر» «4».

ج) عن أيّ الامور يُسأل؟

تدل الأخبار الكثيرة الواردة في موضوع سؤال القبر، على أنّ أسئلة القبر توجّه إلى

__________________________________________________

(1) المصدر السابق، ح 14.

(2) لكسب معلومات أكثر راجع سفينة البحار، ج 2، ص 367 مادة (قبر).

(3) كالروايات القائلة: إنّ «القبر إما روضة من رياض الجنّة أو حفرة من حفر النيران» التي أشرنا إليها سابقاً، فإنّها يحتمل أن تكون دليلًا على أنّ ضغطة القبر تنزل على القالب المثالي والروح وذلك لأنّ القبر المادي لا يتحول إلى جنّة أو حفرة من النار.

(4) بحار الأنوار، ج 6،

ص 266، ح 112.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 372

فريقين هما: الفريق الذّي محّضَ الإيمان محضاً، والفريق الذّي محّض الكفر محضاً، أمّا المستضعفون الذين هم لا لهؤلاء ولا لهؤلاء فإنّ السؤال منهم يُرجأ إلى يوم القيامة.

جاء في الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «لا يُسألُ في القبر إلّامن محضَ الإيمان محضاً أو محضَ الكفر محضاً والآخرون يلهون عنهم» «1».

وجاء نفس هذا المعنى في حديث آخر عن الإمام الباقر عليه السلام عندما سأله أحد أصحابه:

مَن المسؤولون في قبورهم؟ فأجابه الإمام عليه السلام: «مَنْ محّضَ الإيمان ومن محّضَ الكفر».

فسأله الراوي: وما حال بقيّة الناس؟

فأجابه الإمام عليه السلام «يُلهى عنهم».

فسأله الراوي: وعن أيّ شي ء يُسأَلون؟

فقال الإمام عليه السلام: «عن الحُجّة القائمة بين أظهركم» «2».

يظن البعض بأنّ السؤال لا يكون إلّاعن العقيدة لا عن الأعمال، واعتبروا جملة «من محضَ الكفر ومن محضَ الإيمان» (جاراً ومجروراً» لا «صلةً وموصولًا» فيكون مفهومها في هذه الحالة: «لا يُسألُ إلّاعن الإيمان الخالص والكفر الخالص».

ولكن نظراً إلى أنّ الروايتين المذكورتين تحدثت عن الأفراد بوضوح «لا عن الأعمال» إذن لا يكون التفسير الثانى مناسباً، هذا بالإضافة إلى ما جاء في رواية علي بن الحسين عليه السلام التي ورد ذكرها سابقاً وهو أنّ السؤال هناك يشمل ساعات العمر وسبل كسب المال أيضاً.

د) ارتباط الروح بهذا العالم

يوجد في هذا المجال روايات متعددة أيضاً تشير إلى أنّ الروح عندما تنتقل إلى عالم البرزخ لا تنفصل عن الدنيا بالمرّة، بل تطلّ عليها بين الحين والآخر.

وفي المجلد الثالث من كتاب الكافي يوجد هناك باب تحت عنوان «إنّ الميّت يزور أهله»، قد ذكر فيه خمس روايات تدلّ على أنّ المؤمنين، وغير المؤمنين أيضاً يزورون

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار، ج 6، ص 260؛ اصول

الكافي، ج 3، ص 235 (باب المسألة في القبر، ح 1).

(2) اصول الكافي، ج 3، ص 337، ح 8.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 373

أهلهم بين الحين والآخر، قال الصادق عليه السلام: «إنّ المؤمن ليزورُ أهلَهُ فيرى ما يحبُّ ويُسترُ عنه ما يكره، وإنّ الكافر ليزورُ أهلَهُ فيرى ما يكرهُ ويُستَرُ عنه ما يحبُّ» «1».

وقال العلماء الذين تمكنوا من الاتصال بالأرواح بالطرق العلمية الخاضعة للتجربة: إنّ أرواح البشر بعد موتهم لا تنفصل عن هذا العالم كلياً، بل لديهم معلومات معيّنة عن هذا العالم، كما أنّ الاتصال بهم ممكن أيضاً (ويوجد في هذا المجال تجارب وقصص كثيرة، يخرجنا ذكرها عن صلب الموضوع).

ه) انتفاع الأرواح بأعمال الآخرين الصالحة

وهناك أمرٌ آخر تجدر الإشارة إليه وهو وجود روايات كثيرة وردت في مصادر إسلامية مختلفة، دلّت على أنّ عمل الخيرات لأرواح الأموات تصل إليهم على شكل هدايا، وهذا الأمر يدل من أحد جهاته على وجود عالم البرزخ، ومن جهة اخرى على ارتباط الأرواح بهذا العالم.

جاء في الحديث عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام: «ما من عبدٍ زار قبر مؤمنٍ فقرأَ عليه انّا انزلناه في ليلة القدر سبع مرّات إلّاغفرَ اللَّه له ولصاحب القبر» «2».

بل يستفاد من بعض الروايات: «أنّ المسيح عليه السلام مرّ على أحد القبور فوجد صاحبه في العذاب، وعندما مرّ في العام المقبل عليه وجده في النعيم، فعندما سأل من اللَّه عن ذلك خوطب بأنّ السبب في هذا هو فعل خيرٍ ادّاه ابنٌ مؤمن له، وهو اصلاحه لاحد الطرق وإيواؤهُ يتيماً» «3».

كما يستفاد من روايات متعددة أيضاً أنّ من سنَّ سنّة حسنة، أو سنّة سيئة فله ثوابها أو عليه وزرها، كما أنّ الحسنات الجارية تصل بركاتها إليه على الدوام «4».

__________________________________________________

(1) المصدر السابق، ص 230، ح 1.

(2) المحجّة البيضاء، ج 8، ص 290.

(3) بحار الأنوار، ج 6، ص 220، ح 15.

(4) راجع ما جاء في الروايات المتعلقة بالسنّة الحسنه والسنّة السيئة في بحار الأنوار، ج 68 (طبعة الوفاء- بيروت) ص 257 باب 73.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 374

وجاء في الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «ستٌّ خصال ينتفع بها المؤمن من بعد موته: ولدٌ صالح يستغفر له، ومصحفٌ يقرأُ فيه، وقليب يحفره، وغرسٌ يغرسه، وصدقة ماءٍ يُجريه، وسُنّةٌ حسنةٌ يؤخذ بها بعده» «1».

5- هل يمرّ الجميع في مرحلة البرزخ؟

هل يعلم جميع من يفارق الدنيا وينتقل إلى عالم البرزخ بما يدور حولهم؟ أم أَنَّ فريقاً منهم يقضون حياتهم في البرزخ، وهم لا يعلمون بما يدور من حولهم فهم كالنيام، فينهضون من نومهم يوم القيامة، فيتصورون مرور ألف عام عليهم وكأنّه ساعة؟

يستفاد المعنى الثاني من قوله تعالى: «وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقسِمُ الُمجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ». (الروم/ 55)

وهذا يتمّ طبعاً في حالة تفسيرنا للآية على أنّ عالم الدنيا أو عالم البرزخ لا يعدّ شيئاً في مقابل القيامة، (فتأمّل).

ولكن بعض الآيات التي تحدثت عن البرزخ ظاهرها الاطلاق والعموم، مثل الآية التي في شأن الكفّار ظاهراً، قال تعالى: «وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ». (المؤمنون/ 100) (إلّا إذا قيل: إنّ الآية السابقة خاصة، وهذه عامّة فتقيد الأخيرة بها).

كما تكرر ذكر هذا المعنى في الروايات أيضاً وهو أنّ سؤال القبر يختص بفريقين فقط:

«وهم من محّض الإيمان محضاً أو محّض الكفر محضاً، أمّا الباقون فيلهى عنهم».

وقد ورد ذكر هذه الروايات في البحث السابق، ولمزيدٍ من الاطلاع على هذه الروايات راجع المجلد السادس من بحار الأنوار الصفحة 260، الأحاديث رقم 97-

100.

أمّا بالنسبة لعبارة «يُلهى عنهم» فليس مفهومها عدم شمول البرزخ لهم، بل تدل على عدم توجّه الأسئلة لهم في القبر، على عكس ما جاء في روايات ضغطة القبر فهي تشمل الجميع باستثناء بعض أولياء اللَّه (وقد مرّ ذكر الروايات المتعلقة بهذا البحث).

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار، ج 6، ص 293، باب 10، ح 1.

نفحات القرآن، ج 5، ص: 375

6- الغاية من وجود البرزخ

اتّضحت بجلاء الغاية من الحياة الدنيا، وهي كونها محل ابتلاء وتعليم وتربية وكسب الكمالات العلمية والعملية للإعداد للآخرة، فالدنيا في نظر الروايات وبعض الآيات القرآنية هي مزرعة ومكسب ومدرسة وهي ساحة إعداد، أو بتعبير آخر هي بمنزلة «عالم الجنين» بالنسبة لعالم الآخرة.

والآخرة هي منبع الأنوار الإلهيّة ومحكمة الحق الكبرى ومحل حساب الأعمال ومنزل القرب والرحمة الإلهيّة.

ويبقى هنا سؤال يجب الإجابة عنه وهو: ما هي الغاية من وجود «البرزخ»؟

وللإجابة عن هذا السؤال يمكن أن يقال: إنّ الغاية من توسط البرزخ بين الدنيا والآخرة، هي نفس الغاية المتوخاة من كل مرحلة متوسطة اخرى وذلك لأنّ الانتقال من محيطٍ إلى محيطٍ آخر يختلفان تمام الاختلاف مع بعضهما، وسوف لن يَتَحَمّل إلّابوجود مرحلة متوسطة تحمل بعض خصوصيات المرحلة الاولى مع بعض خصوصيات المرحلة الثانية معاً.

هذا بالإضافة إلى أنّ يوم القيامة بالنسبة لجميع البشر يتحقق في يوم واحد، وذلك لوجوب تبدّل الأرض والسماء لإيجاد عالم جديد، وحياة جديدة للبشر في ذلك العالم الجديد، لذا فإنّه لا يوجد أيّ سبيل آخر لتحقق ذلك إلّابتوسط البرزخ بين الدنيا والآخرة، وانتقال الأرواح بعد انفصالها من الجسم المادي إلى البرزخ لتبقى هناك حتّى انتهاء الدنيا، وبعد انتهاء الدنيا وقيام القيامة يحشر الجميع معاً، وذلك لعدم إمكان تخصيص قيامة مستقلّة لكل إنسان، وذلك لأنّ القيامة لا تتحقق

إلّابعد فناء الدنيا وتبدّل الأرض بغير الأرض والسماء بغير السماء.

بالإضافة إلى ذلك فقد دلّت بعض الروايات على إصلاح بعض النواقص العلمية والتربوية للمؤمنين في البرزخ، وعلى الرغم من أنّ البرزخ لم يُعدّ لعمل الصالحات، لكن ما المانع من أن يكون هناك مَوضعٌ لا رتقاء المعرفة والعلم؟

نفحات القرآن، ج 5، ص: 376

جاء في الحديث عن الإمام موسى بن جعفر عليه السلام: «مَن ماتَ من أوليائنا وشيعتنا ولم يُحسن القَرآن عُلِّم في قبره ليرفع اللَّه به من درجته، فإنّ درجات الجنّة على قدر آيات القرآن، يقال له اقرأ وارق، فيقرأ ثمَّ يرقى «1».

ملاحظة:

كنّا نود أن نجمع كل مباحث «المعاد في القرآن» في مجلد واحد كي يسهل تناولها، لكننا عند العمل وجدنا أنّ البحوث بلغت من السعة ما يقارب التسعمائة إلى الالف صفحة (مع الاختصار!) وأنّ جمعها في مجلد واحد أمر عسير، لذا لم نرَبداً من وضع البحوث المتعلقة بكليات «المعاد» في مجلد والبحوث المتعلقة «بخصوصيات المعاد» في مجلد آخر، على أمل أداء حق جميع البحوث على قدر الإمكان.

اللّهم! إننا نعلم بأنّ أمامنا سفراً طويلًا ومليئاً بالمخاطر وبأننا لم نعدّ أنفسنا له، فوفقنا لاعداد أنفسنا إعداداً أكمل وأسرع.

ياربّ! إنّ عبدك المخلص علي عليه السلام كان يذرف الدموع ويقول: آهٍ من قلة الزاد وبعد السفر، فكيف بنا وقد خلت أيدينا من الزاد، فإننا لا نرجو إلّالطفك الدائم.

لكننا نعلم ياربّ بأنّ كل ما لدينا من العلم هو أنّ هناك عالماً أسمى وأرقى وراء هذا العالم المحدود الضيّق المظلم .. عالماً تشع عليه أنوارك على الدوام، وأنّ آثار قدرتك وعظمتك فيه أكثر وضوحاً واشعاعاً، وهو يبشّرنا بلقائك المعنوي الذي حرمنا منه في هذه الدنيا، ويدعونا إلى المأدبة الكبرى ويبشّرنا بالجلوس

على خوان «مالا عين رأت ولا اذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر»، فلا تحرمنا من ذلك يا عظيم!

انتهى المجلد الخامس

من التفسير الموضوعي «نفحات القرآن» في

13/ 10/ 1369 ه. ش

16/ ج 2/ 1411 ه. ق

__________________________________________________

(1) اصول الكافي، ج 2، ص 106، باب فضل حامل القرآن، ح 10.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.