نفحات القرآن المجلد 4

اشارة

سرشناسه : مكارم شيرازي ناصر، - 1305 عنوان و نام پديدآور : نفحات القرآن اسلوب جديد في التفسير الموضوعي للقرآن الكريم ناصر مكارم شيرازي بمساعده مجموعه من الفضلا مشخصات نشر : موسسه ابي صالح النشر و الثقافه [1377؟]. مشخصات ظاهري : ج 6 وضعيت فهرست نويسي : فهرستنويسي قبلي يادداشت : عربي مندرجات : ج 1. العلم و المعرفه في القران .-- ج 2. معرفه الله في القرآن .-- ج 3. .-- ج 4. معرفه صفات و جلال الله .-- ج 5، 6. المعاد في القرآن موضوع : تفاسير شيعه -- قرن 14 رده بندي كنگره : BP98/م7ن7 1377 رده بندي ديويي : 297/179 شماره كتابشناسي ملي : م 77-13711

معرفة صفات جمال وجلال اللَّه سبحانه

اشارة

نفحات القرآن، ج 4، ص: 7

تمهيد:

هناك ثلاث مسائل تعترضنا لدى البحث عن معرفة اللَّه سبحانه وتعالى وهي: «البحث عن ذات اللَّه» و «إدراك وجود اللَّه» و «معرفة اللَّه».

ف (البحث عن ذات اللَّه) يشير إلى دوافع معرفة اللَّه.

و (ادراك وجود اللَّه) يشير إلى مسألة إثبات وجود اللَّه.

و (معرفة اللَّه) يعني البحث عن صفاته عزّ وجلّ.

وكمثالٍ بسيط فإنّه يُمكن تشبيه البشر بالعطاشى الذين يبحثون عن الماء في الصحراء، فبعد أن يعثروا على عين الماء فإنّهم يحاولون التعرُّف على صفات ذلك الماء الصافي.

«البحث عن ذات اللَّه»: أمرٌ فطري تدعمه وتقويه الدلائل العقلية، فكما أنّ العطاشى ينطلقون للبحث عن الماء بدافعٍ غريزي وآخر عقليِّ نابعٍ من استدلالهم على توقف حياتهم على شرب الماء، فكذلك الإنسان يبحث عن الكمال المطلق المتمثل بذات الباري سبحانه وتعالى، وذلك لأنّه «أي الإنسان» مجبول على عشق الكمال.

وكذلك بالنسبة إلى «إدراك وجود اللَّه»، فإنّه بسبب دلائله الواضحة، وبالأخص الدلائل النابعة من التفكُر بأسرار الخلق، فليس بالأمر العسير أو المعقد.

أمّا العسير والمعقّد فهو «معرفة اللَّه»، لأنّ نفس مخلوقات الطبيعة التي تُعد أفضل دليلٍ ومرشدٍ للإنسان في مسير إدراك وجود اللَّه، يُمكنُها أن تخدعه في سلوكه إلى (معرفة اللَّه)، وتجرّه إلى هاوية القياس والتشبيه الخطرة (كما سيأتي شرح ذلك فيما بعد).

ينبغي الإشارة إلى هذه النقطة أيضاً، وهي: أنّ صفات اللَّه هي عين ذاته غير متناهية وأسماؤهُ التي توضّح صفاته لا تُعد ولا تحصى أيضاً، لأنّ كل اسمٍ من أسمائه عزّ وجل يدلّ

نفحات القرآن، ج 4، ص: 8

على أحد كمالات ذاته المقدّسة، فذاته غير محدودة وكمالاته غير محدودة كذلك، ومن البديهي أنّ الصفات الكماليّة والأسماء التي تحكي عنها لا حصر لها أيضاً، لكن مع ذلك

فإنّ قسماً من هذه الأسماء والصفات تعدّ أصولًا، وما سواها فهو فرعٌ من تلك الاصول.

فمثلًا كون اللَّه سبحانه وتعالى «سميعاً» و «بصيراً»، فهذا يُعد فرعاً من علمه عزّ وجلّ، لأنّ المقصود هو اطلاعه على المسموعات والمشهودات لا امتلاكه للعين والاذن.

وكذلك كونه تعالى «أرحم الراحمين» و «أشدّ المعاقبين»، فهذه متفرّعة من حكمته، وذلك لأنّ الحكمة هي التي تقتضي أن يرسل رحمته في مكانٍ ونقمته في مكانٍ آخر.

طريقٌ مملوء بالورود والأشواك:

إنَّ من السهل معرفة اللَّه وإدراك وجوده عزّ وجلّ- وخاصةً عن طريق التفكُّر بعالم الوجود-، ولكن بقدر ما تكون معرفته تعالى سهلةً، فإنّ فهم وإدراك صفاته صعب للغاية، وذلك لأنّنا نمتلك في مرحلة إدراك وجود اللَّه أدلّة بعدد نجوم السماء وأوراق الأشجار وأنواع النباتات والحيوانات، بل بعدد خلايا كل نباتٍ وحيوان، وبعدد ذرات الكون، وكلّها تدل على أصل وجوده عزّ وجلّ.

وبما أنّ سلوك الطريق الصحيح المتمثّل بتنزيهه عزّ وجلّ عن صفات مخلوقاته وترك تشبيهه تعالى بمخلوقاته هو الشرط الأول في معرفة صفاته، فإنّ الأمر يصبح معقداً.

والدليل على ذلك واضحٌ أيضاً، فقد ترعرعنا في أحضان الطبيعة وتطبّعنا بطباعها، وكل ما رأيناه وسمعناه ينحصر في إطار الحوادث الطبيعيّة، وهذه الطبيعة بذاتها أعانتنا على معرفة اللَّه أيضاً.

ولكننا عندما نصل إلى بحث صفاته تعالى فإننا لا نجد حتّى صفة واحدة من صفاته يُمكن قياسها ومقارنتها بما رأيناه وسمعناه، وذلك لأنّ صفات المخلوقين ينقصها الكمال دائماً، وصفاته عزّ وجلّ منّزهة عن أي نقصٍ وهي عينُ الكمال.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 9

وعليه فإنّ نفس هذه الطبيعة التي تعتبر أفضل معينٍ ومرشدٍ لنا في طريق معرفة وإدراك وجوده تعالى فانّها تصبح أحياناً عائقاً لنا في طريق معرفة صفاته.

لذلك يجب علينا رعاية جوانب الاحتياط عند سلوك طريق

معرفة صفات اللَّه قدر الإمكان كي نكون في مأمنٍ من الوقوع في محذور التشبيه والقياس.

إنّ ما ذكرناه يمثل لمحة خاطفة، ولننطلق الآن إلى مطالعة الآيات النازلة في هذا المجال:

1- «وَللَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِى أَسْمَائِهِ».

(الاعراف/ 180)

2- «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَى ءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ». (الشورى 11)

3- «فَلَا تَضْرِبُوا للَّهِ الأَمثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَانتُمْ لَاتَعْلَمُونَ». (النحل/ 74)

4- «وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً احَدٌ». (الاخلاص/ 4)

5- «سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ». (الصافات/ 159)

6- «مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ انَّ اللَّهَ لَقَوِىٌ عَزِيزٌ». (الحج/ 74)

7- «يَعْلَمُ مَا بَينَ ايْديهِمْ وَمَا خَلْفَهُم وَلَا يُحيطُونَ بِهِ عِلْماً». (طه/ 110)

شرح المفردات:

«مَثَلْ»: في الأصل من مادة (المُثُول)، وهو بمعنى الوقوف باعتدال، ويُطلق على الصور التي تلتقط أو ترسم من شى ء معين اسمهُ (التمثال)، أي وكأنه بنفسه واقفٌ هناك، ويُطلق على أي شى ء مشابه لشى ءٍ آخر (مثال)، وأمّا الحديث الذي يشابه حديثاً آخر ويوضّحه فَيُطلق عليه كلمة (مَثَل).

وقال جماعة: إنّ الفرق بين (المماثل) و (المساوى) هو أنّ الأول يُطلق على الشيئين المتشابهين في الجنس، أمّا الثاني فيُطلق على الشيئين المتشابهين في الكميّة والحجم، لكنّهما قد يكونان متشابهين وقد يكونان مختلفين في الجنس.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 10

وقد وردت كلمة (مَثَلْ) بمعنى (الصفة)، وقد تُطلق أحياناً على الصفات الجذّابة والقصص العجيبة أيضاً، لذا فإنّ كلمة (أَمْثَل) تأتى بمعنى (نموذج).

و «المُثْلَة»: تعنى قطع بعض أعضاء بدن شخص لتعذيبه ومعاقبته، وبالواقع إنّ من يرتكب هذا العمل (التمثيل بالغير)، يقصد إفهام الآخرين وتحذيرهم من ملاقاة نفس هذه العقوبة في حال ارتكابهم (مِثْلَ) ما ارتكب هذا الشخص، لذا فقد وردت كلمة (مَثُلات) بمعنى (العقوبات)، العقوبات التي تصير عِبَراً للآخرين لكى لا يرتكبوا (مِثْلَ) أعمال الماضين

«1».

«كُفْو»: تعني الشباهة في المنزلة والمقام، و (المكافاة) أيضاً مأخوذة من نفس هذا المعنى لأنّها بمعنى المساواة والمقابلة بالمثل، (إكفاء) تأتي بمعنى قلب الإناء رأساً على عقب، أي وكأَنّ الظاهر والباطن يتشابهان.

وقد ورد في مقاييس اللغة بأنّ لهذه الكلمة معنيين، فأحياناً تأتي بمعنى (المساواة) بين شيئين، وأحياناً أُخرى بمعنى (التمايُل والإنحراف)، في حين نجد أنّ الراغب أرجعهما إلى معنىً واحد، وهو ما ذكرناه أعلاه.

«الصفة»: من مادة (وصف)، وهي في الأصل بمعنى ذكر محاسن ومحسّنات شي ء معين، ويُطلق على هذه الحالة كلمة (وصف).

وهي ذات معنىً أوسع فتُطلق على كل ألوان التوصيف الصالح والطالح.

يقول (إبن منظور) في (لسان العرب): (التوصيف) بمعنى (التزيين)، و (الصفة) تعني (الزينة).

وقد ورد نفس هذا المعنى في (مقاييس اللغة) أيضاً، لكنّه وكما ذكرنا أعلاه فقد استعملت بمعنى أوسع فيما بعد.

وقد يُطلق أحياناً على (الخادم) و (الخادمة) لفظ (الوصيف) و (الوصيفة)، وسبب ذلك هو أنّ الغلام أو الأمَة عندما كانا يُباعان ويُشتريان تُذكر صفاتهما ومزاياهما للزبائن.

__________________________________________________

(1) مفردات الراغب؛ مقاييس اللّغة؛ لسان العرب؛ ومجمع البحرين.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 11

جمع الآيات وتفسيرها

ليس كمثله شي ء:

تُشير الآية الاولى إلى حالة المشركين الذين كانوا يُحرّفون أسماء اللَّه التي كانت تبيّن صفاته، وتحذّرهم من هذا العمل: «وَللَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى أسماءٌ تعكس صفاته كما هي:

«فَادُعُوهُ بِهَا وَذَرُوْا الَّذينَ يُلْحِدُونَ فِى أَسْمائِهِ».

«إلحاد»: و (لَحْد) على وزن (مَهْدْ)، بمعنى الانحراف عن حد الإعتدال (الحد الوسط) إلى أحد الجانبين، وسمِّي (اللّحد) الذي يحفر في القبر بهذا الاسم لأنّه يُحفَرُ في أحد جانبي القبر لتوضع الجنازة فيه حتى لا يصلها التراب الذي يُهال على القبر «1».

وأمّا معنى «الالحاد في أسماء اللَّه تعالى في هذه الآية، فالكثير من المفسّرين يرون بأنّه ذو مفهومٍ

عام يشمل ثلاثة امور:

الأول: هو أنّ المشركين كانوا يشتقّون أسماء أصنامهم من أسماء اللَّه كاللات والعزّى ومناة التي كانوا يعتقدون بأنّها مشتقّة من كلمة اللَّه، والعزيز، والمنّان على الترتيب.

الثاني: هو أنّه ينبغي أن لا يُدعى اللَّه بالأسماء التي لا يرتضيها لذاته ولا تليق به عزّ وجلّ أو مشوبة بالنقائص والعيوب الخاصّة بالممكنات (المخلوقات) مثل كلمة أب التي أطلقها المسيحيّون على اللَّه تعالى

الثالث: أن لا يُسمّى اللَّه بالأسماء المبهمة.

وبتعبيرٍ آخر فإنّه لا يجوز تشبيه اللَّه بما سواه ولا تعطيل فهم صفاته ولا تسمية من سواه بأسمائه عزّ وجلّ.

كل ذلك يُشير بصورة واضحة إلى وجوب ملازمة جانب الاحتياط التام في بحث صفات اللَّه والحذر من تسميته ووصف ذاته المقدّسة بأسماء وصفات هي من شأن الموجودات الناقصة.

لذا فقد اعتقد الكثير من العلماء بأنّ أسماء اللَّه توقيفيّة، أي لا يُمكن وصفه وتسميته إلّا

__________________________________________________

(1) مقاييس اللغة؛ ومفردات الراغب.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 12

بالصفات والأسماء الواردة في الآيات والروايات المعتبرة فقط. (وسيأتي شرح هذا الكلام في قسم التوضيحات إن شاء اللَّه تعالى .

أمّا الآية الثانية فقد نفت ولاية وربوبية وألوهية من سواه، وأكدّت خالقيته للسموات والأرض.

قال تعالى «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَى ءٌ وَهُوَ السَّميعُ البَصيرُ».

ونظراً لكون كاف التشبيه في كلمة «كمثله» هي بذاتها تعني المثل فإنّها جاءت مع «مثله» للتأكيد (وقد عبّر عنها البعض بالحرف الزائد وهو يستعمل للتأكيد أيضاً).

على هذا يكون معنى الآية هو: ليس كمثله شي ء وما نعرفه وما لا نعرفه، فهو تعالى ليس له نظير من أي جهة، وذلك لأنّه وجود مستقل بذاته ولا نهاية له وغير محدودٍ من جميع الجهات، لا في علمه، ولا في قدرته، ولا في حياته، ولا في إرادته و .....

وأمّا ما سواه من

الموجودات فهي تابعة ومحدودة ومتناهية وناقصة. لذا لايوجد وجه شبه بين وجوده الذي يمثّل الكمال المطلق وبين النقصان المطلق (أي الموجودات الإمكانيّة)، فهو الغني المطلق، ومن سواه فقير ومحتاج في كلّ شي ء.

وما نقله بعض المفسّرين من أنّ نفي التشبيه الوارد في الآية أعلاه يختص بنفي التشبيه في الذات، أي ليس كذاته المقدّسة شي ء، ولا يشمل الصفات، من حيث وجود بعض صفاته كالعلم والقدرة و ... في الإنسان أيضاً فهو خطأ كبير، فإنّه سيأتي في بحث العلم والقدرة وغيرهما بأنّ مثل هذه الصفات ليس بينها وبين علمنا وقدرتنا أي لونٍ من الشبه، فإنّ اللَّه تعالى موجود، ونحن موجودون أيضاً، لكن الفرق شاسعٌ جدّاً بين الوجودين!؟ وهكذا صفاته وصفات مخلوقاته.

وعلى أيّة حال فهذا أصلٌ أساسيُّ في بحث معرفة اللَّه ومعرفة صفاته، وهو أن ننزّهه تعالى عن المثيل والشبيه ونُعِدّه أكبر من القياس والظن والوهم، وأن نلتفت إلى أنّ الأوصاف

نفحات القرآن، ج 4، ص: 13

التي نصفه بها يجب أن تكون خالية من كل عيبٍ ونقصٍ وعارضٍ مادي وجسمانيٍ وإمكاني.

جَلَّ المُهَيمِنُ أنْ تُدرَى حَقِيقَتُهُ مَنْ لالَهُ المِثْلُ لا تَضْرِبْ لَهُ مَثَلًا والآية الثالثة تُشير إلى نفس محتوى الآية الثانية بشكلٍ آخر، فبعد أن سفهت الآية آلهة الوثنيين التي لا تستطيع أن تهب للبشر أيّ رزقٍ في السموات والأرض قالت: «فَلَا تَضْرِبُوا للَّهِ الأَمثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَانتُمْ لَاتَعْلَمُونَ».

وبديهي فإنّ الوجود إذا كان واحداً متفرداً من جميع الجهات فانّه ليس له شبيه أو كفؤ لكي يكون له مثلًا.

ولقد جاء في بعض التفاسير بأنّ هذه الآية تُشير إلى قول مشركي الجاهلية وحتى بعض مشركي عصرنا الحاضر في أنّ اللَّه أكبر من أن نعبُدَهُ نحن، لذا فنحن يجب أن نعبد

موجودات من سنخنا وفي متناول أيدينا، فهو بالضبط كالملك الكبير العظيم الذي لا يستطيع عامة الناس الوصول إليه، لذا تراهم يقصدون وزراءه وخواصّه ومقرّبيه الذين يُمكن الوصول إليهم.

القرآن الكريم يقول: لا تضربوا للَّه مثلًا من قبيل هذه الأمثال، فهو أعزُّ وأجَلُّ من أن يشبه بالملك الضعيف، فهو موجودٌ في كل مكان، في قلوبكم وأقرب إليكم من أنفسكُم، علاوةً على ذلك فهو لا شبيه له ولا مثيل لكي يعكس وجوده فتعبدوه، فالأصنام وجميع المخلوقات الاخرى مثلكم مخلوقة وتابعة ومحتاجة إلى وجوده عزّ وجلّ.

ويُمكن أن تكون جملة: «إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَانتُمْ لَاتَعْلَمُونَ» إشارةً وتنبيهاً إلى أنّكم لا تعلمون كنه ذاته وصفاته، وضرب الأمثلة له ينبع من جهلكم هذا، فاللَّه تعالى يحذّركم من ترديد هذا الكلام.

ومن هنا يتّضح أنّ ما ورد في قوله تعالى: «اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالأَرضِ» (النور/ 35)

نفحات القرآن، ج 4، ص: 14

أو في قوله تعالى: «وَنَحنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِن حَبلِ الوَرِيدِ». (ق/ 16)

لا يتنافى أبداً مع عدم وجود مثل له سبحانه، وذلك لأنّ المراد هو نفي وجود مثل أو مثال حقيقي له، فهذه جميعاً أمثلة مجازيّة أنتُقيت لتقريب تلك الحقيقة، التي لا مثيل لها، في الأذهان.

لذا فقد قال تعالى في ذيل نفس هذه الآية: «وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَال لِلنَّاسِ».

(النور/ 35)

ليدركوا الحقائق طبعاً.

وفي الآية الرابعة من بحثنا وهي الآية الأخيرة من سورة التوحيد، نفى سبحانه وجود أي شبيه أو مثيل أو نظير أو كفؤ له حيث قال: «وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً احَدٌ».

نفى اللَّه تعالى عن ذاته أنواع الكثرة بقوله: (أحد)، ونفى النقص والمغلوبية بلفظ (الصمد)، ونفى المعلولية والعلّية ب «لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَد»، ونفى الأضداد والأنداد بقوله: «وَلَمْ يَكُن لَهُ كُفُواً أحَد».

وبهذا فقد نفى سبحانه عن ذاته

المقدّسة جميع صفات المخلوقات وعوارض الموجودات المختلفة وأي لونٍ من المحدوديّة والنقص والتغير والتحول، التي هي من عوارض الممكنات.

ولقد جاء في تفسير الفخر الرازي بأنّ الآية الأولى من سورة التوحيد نفى بها اللَّه تعالى عن ذاته أنواع الكثرة بقوله: «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحدٌ»، ونفت كلمة (صمد) النقص والمغلوبية، و: «لَمْ يَلِدْ وَلمْ يُولَدْ» المعلوليّة والعليّة: «وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوَاً أَحَدٌ» الأضداد والأمثال عن ذاته المقدّسة، وذلك لأنّ الكفؤ بمعنى النظير ويُمكن أن تشمل كلا المعنيين (المثل والضد) «1».

ويقول أيضاً: بأنّ الآية التي هي محلُّ بحثنا تُبطل مذهب المشركين حيث يزعمون بأنّ

__________________________________________________

(1) تفسير الكبير، ج 32، ص 185.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 15

الأصنام أكفاء له وشركاء، في الوقت الذي نفت الآيات التي سبقتها مذهب اليهود والنصارى الذين جعلوا له ولداً، ومذهب المجوس الذين كانوا يعتقدون بإلهين (إله النور وإله الظلام) «1».

وفي الآية الخامسة نواجه تعبيراً جديداً في هذا المجال، حيث قال تعالى: «سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ».

وبالرغم من أنّ هذه الجملة قد وردت بتفاوتٍ مختصر في ستِّ آياتٍ من القرآن الكريم «2» تنفي الولد والصاحبة للَّه تعالى أو تنفي الكفؤ والنضير من الأصنام- بقرينة الآيات التي سبقتها، لكنها في الواقع تحتوي على معنىً عميق يشمل كلّ ألوان التوصيف، لأنّ التوصيف الذي يصدر منّا عادة يكون شبيهاً لما في المخلوقات والممكنات، وآخر مايمكن أن نصفه به سبحانه هو أن نقول: (اللَّه أكبر من أن يوصف) وأعلى من الخيال والقياس والظن والوهم، وأعظم ممّا رأينا وسمعنا وقرأنا وكتبنا، أجل إنّه منزّهٌ عن الوصف.

ولو جئنا إلى الآية السادسة من بحثنا نلاحظ تعبيراً جديداً في هذا المجال أيضاً حيث يقول: «مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ» أي المشركون.

لأنّهم قد قاسوه بمخلوقاته

وجعلوا له شريكاً وكفؤاً في حين أنّه ليس له كفؤاً أحد.

ومن سواه ضعيفٌ ومغلوب، ونقل بعض المفسّرين بأنّ هذه الآية نزلت بخصوص جماعة من اليهود الذين كانوا يقولون بأنّ اللَّه عندما فرغ من خلق السموات والأرضين تعب! واستلقى على ظهره واستراح! ووضع احدى رجليه على الاخرى.

فنزلت هذه الآية فوبختهم وخطّأتهم لأنّهم لم يقدّروا اللَّه عزّ وجلّ حق قدره وشبّهوه بمخلوقاته.

ومع أنّ الآية المذكورة تنفي كلام المشركين (عبدة الأوثان) إلّاأنّها ذات مفهوم عميق

__________________________________________________

(1) تفسير الكبير، ج 32، ص 185.

(2) تفسير الكبير، ج 32، ص 185.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 16

وواضح، لذا فإنّ الإمام الصادق عليه السلام قال: «إنّ اللَّه لا يوصفُ وكيف يوصف وقد قال في كتابه: «إِنَّ اللَّهَ لَقَويٌ عَزيزٌ» فلا يُوصف بقدرٍ إلّاكان أعظم من ذلك» «1»

.

وكذلك فقد ورد في الخطبة 91 من نهج البلاغة:

«كَذَبَ العادِلُوْنَ بِكَ، إِذْ شَبَّهُوْكَ بأَصْنامِهِمِ، وَنَحَلُوْكَ حِلْيَةَ الْمخُلُوقينَ بِأَوْهامِهِم وَجَزَّأُوْكَ تَجْزِئَةَ المُجَسَّماتِ بِخَواطِرِهِمْ وَقَدَّرُوْكَ عَلَى الخِلْقَةِ المُخْتَلِفةِ الْقُوَى بِقَرائِحِ عُقُوْلِهِمْ» «2».

وفي الآية السابعة والأخيرة من بحثنا، نلاحظ أنّه تعالى قال ضمن إشارته إلى حال المجرمين والمذنبين يوم القيامة ومثولهم في محكمة العدل الإلهيّة الكبيرة: «يَعْلَمُ مَا بَينَ ايْديهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً».

لقد ذُكرت في تفسير هذه الآية عدا ما ذكرناه أعلاه احتمالات اخرى من جملتها هي أنّها تعني بأنّ اللَّه عليم بأعمالهم وجزائهم، لكنهم ليس لهم علم واطلاع كامل لا على أعمالهم ولا على جزائها وما أكثر ماتناسوه منها، لكن التفسير الأول أقرب- حسب نظرنا.

وعليه فإنّ هذه الآية تقول: بأنّ البشر عاجزون عن الاحاطة العلمية بكنه ذاته المقدّسة أو بكُنه صفاته، وذلك لأنّه أعلى وأعظم من ظنوننا وعقولنا، فكيف يمكن أن تحيط به

الخلائق، في حين أنّ هذه الاحاطة تستلزم محدوديته تعالى وهو منزّهٌ عن كل أنواعها!؟

نتيجة البحث:

يتبيّن ممّا ورد في الآيات أعلاه بأنّ صفات المخلوقين ليست لها أدنى شبه بصفات ربّ

__________________________________________________

(1) اصول الكافي، ج 1 (باب النهي عن الصفة بغير ماوصف به نفسه)، ح 81- لاحظوا أنّ الآية أعلاه قد وردت في ثلاث مواضع من القرآن الكريم هي: الأنعام، 91؛ الحج، 74؛ الزمر، 67، وفي موردين منها بحرف واو.

(2) نهج البلاغة، الخطبة 91 (خطبة الأشباح).

نفحات القرآن، ج 4، ص: 17

العالمين، وإنّ أي لون من قياسه بمن سواه يؤدّي إلى الضياع والضلال والسقوط في هاوية التشبيه.

فهو ليس كمثله شي ء.

وليس له كفؤٌ أو نظير.

ولا يسعه وصف.

ولا يستطيع أحد أن يُحيط به علماً.

وعليه يجب رعاية الاحتياط التام عند سلوك طريق معرفة صفاته.

أجل فإنّ كُنه وحقيقة صفاته لا تتجلّى لأحد، وما يُمكن أن يحصل عليه البشر هو العلم الإجمالي بها بشرط نفي المحدوديات الموجودة في صفات المخلوقين عنه، وصياغة مفهومٍ جديد في قالب هذه الألفاظ.

ونختم الكلام بحديثٍ منقولٍ عن أمير المؤمنين علي عليه السلام ورد في تفسير الآية الأخيرة:

سأل رجلٌ أمير المؤمنين عليه السلام عن تفسير هذه الآية فأجابه عليه السلام: «لا يُحيطُ الخَلائقُ بِاللَّهِ عَزَّوَجَلَّ عِلْماً إذْ هُو تَبارَكَ وَتَعالى جَعَلَ عَلَى أبْصارِ الْقُلُوبِ الغِطاءَ، فَلا فَهْمَ يَنالُهُ بِالْكَيْفِ، وَلا قَلْبَ يُثْبِتُهُ بِالْحُدُوْدِ، فَلا تَصِفْهُ إلّاكما وَصَفَ نَفْسَهُ، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيى ءٌ وَهُو السَّميعُ البَصيرُ ...» «1».

توضيحات

1- لا تشبيهٌ ولا تعطيل

لقد سلكت كلّ جماعةٍ طريقاً خاصّاً في البحث حول صفات اللَّه الذي يُعَدُّ من أعقد وأصعب مباحث معرفة اللَّه فوقعوا في ورطة الافراط والتفريط.

فالبعض قد غاصوا في دوّامة التعطيل إلى درجة أنّهم قالوا: إننا لا نفهم شيئا من صفات اللَّه تعالى سوى تلك المفاهيم السلبية، فمثلًا عندما نقول بأنّ اللَّه عالمٌ فإننا نفهم من ذلك

نفي

__________________________________________________

(1) تفسير نور الثقلين، ج 3، ص 394.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 18

الجهل عنه، وعندما نقول بأنّه قادر فإننان نفهم منه نزاهته عن العجز، أمّا ماهيّة علم اللَّه وقدرته فإننا لا نفهم عنها شيئاً على الاطلاق، وهذه العقيدة تُدعى بعقيدة التعطيل (أي تعطيل معرفة الصفات).

ومن جهةٍ اخرى فقد غار آخرون في دوّامة التشبيه لدرجة بحيث لم يكتفوا فقط بوصف اللَّه تعالى بصفات الماهيّات الممكنة فقط، بل جسّموه وذكروا له يداً ورجلًا ووجهاً وما شاكل ذلك، فقد أوجدوا في مخيّلتهم إلهاً كالإنسان بالضبط بجميع صفاته الظاهريّة والباطنية، إلهاً يمكن رؤيته ومشاهدته، وله مكان محدود وتعترضه حالات مختلفة! وبهذا فقد تورّطوا بأتعس أنواع الشرك.

ومن أجلِ أن نعلم إلى أيَّة درجةٍ سقطت هذه الجماعة في هاوية الكفر والشرك، يكفي أن نسمع المقالة المعروفة للمحقق الدوّاني بخصوص المشبّهة، حيث قال:

«اعتقد جماعة منهم بأنّ للَّه جسماً حقّاً، وهؤلاء بذاتهم ينقسمون إلى عدّة فئات، فئة تقول: إنّ جسمه مركّبٌ من لحمٍ ودم، وقالت فئة: بأنّه- تعالى نور لامع كسبيكة الفضة البيضاء! وطول قامته سبعة أشبار من أشباره!.

وقالت جماعة اخرى: بأنّه يشبه الإنسان، وهم ينقسمون إلى عدّة فئات، فئة اعتقدت بأنّه فتىً في ريعان شبابه لم ينبت الشعر في وجهه بعد، وشعر رأسه مجعّدٌ قصير: والفئة الاخرى اعتقدت بأنّه رجلٌ كهلٌ ذو لحية بيضاء سوداء وغيرها من قبيل هذه الخرافات» «1».

وممّا يُفهم من الآيات القرآنية، فإنّ كلا المعتقدين- التعطيل والتشبيه- باطلان، لأنّ القرآن دعا الناس إلى معرفة اللَّه من جهة، وعرّف ذاته وصفاته المقدّسة في العديد من الآيات الشريفة ممّا يدلّ على إمكانية معرفة اللَّه الإجمالية وبطلان معُتقد التعطيل.

ومن جهةٍ اخرى فقد نزّه القرآن الذات المقدّسة من أي شبيه ومثل

ونظير وكُف ء، ممّا يدلّ على بطلان مُعتقد التشبيه.

وعليه فالحق هو ذلك الطريق الدقيق الواقع بين هذين الأثنين. والذي يقول: بأنّ معرفة

__________________________________________________

(1) بحار الانوار، ج 3، ص 289.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 19

اللَّه الإجماليّة ليست ممكنة فقط بل لازمة أيضاً، أمّا معرفة اللَّه التفصيليّة، أي التوصل إلى حقيقة وكنه الصفات والذات الإلهيّة المقدّسة، والاحاطة العلميّة بها، فهي غير ممكنة.

2- لم لايصل العقل إلى كُنه ذاته وصفاته؟

لقد أشرنا سابقاً إلى دليل هذا الموضوع، ونذكره هنا بشي من التفصيل فنقول: إنّ النقطة الأساسيّة تكمن في نزاهة الذات الإلهيّة المقدّسة عن المحدودية من جهة، ومحدودّية عقولنا وعلومنا من جهة اخرى

فاللَّه عز وجل وجودٌ لا نهاية له من جميع الجهات (كما أثبتنا ذلك في البحوث السابقة)، فذاته كصفاته غير محدودة وغير متناهية، ومن جهةٍ اخرى فنحن محدودون، وجميع مايتعلق بنا من علمنا وقدرتنا وحياتنا والمكان والزمان الذي نعيش فيه، محدود أيضاً.

وعلى هذا فكيف يمكننا مع هذه المحدوديّة أن نحيط بذلك الوجود اللامحدود وصفاته؟ وكيف يستطيع علمنا المحدود أن يخبر عن ذلك الوجود اللامحدود؟

أجل، إنّه بإمكاننا في عالم الفكر والتفكُّر أن نلمح شبحاً من بعيد، ونشير إجمالًا إلى ذاته وصفاته، أمّا الوصول إلى كُنه ذاته وصفاته، أي الاحاطة التفصيلية به، فهي غير ممكنة بالنسبة لنا- هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى فإنّ الوجود اللامتناهي ليس له مثيل أو نظير من كل ناحية، وفرد لا كفؤ له، فلو كان له كفؤ أو نظير لكان كلاهما محدودين (ورد تفسير هذا المعنى بصورة كاملة في أبحاث التوحيد في المجلد الثالث من هذا التفسير).

فكيف يمكننا أن ندرك وجوداً لا نعرف له كفؤاً ولانظيراً أبداً؟، وكل ما نراه من الممكنات هو غيره، وصفاته تتفاوت تماماً عن صفات واجب الوجود «1».

__________________________________________________

(1)

إن لم يكُن عجباً فإننا لانستطيع أن نتصور حتى مفهوم (اللامتناهي) فإن قيل لنا كيف تستعملون كلمة (اللامتناهي) إذن؟ وتتحدثون عنها وعن أحكامها؟ فهل يمكن التصديق بدون التصوّر؟!

في الاجابة عن ذلك نقول: إننا أخذنا هذا المصطلح من كلمتين هما (لا) أي النفي والعدم و (متناهي) أي بمعنى (المحدود)، أي أن نتصور هاتين الكلمتين منفصلتين عن بعضهما (لا ومتناهي) اولًا ثم نركبهما مع بعضهما لنشير بهما إلى موجودٍ لايسعه الخيال والتصور فنحصل منها على معنى إجمالي (تأمل جيداً).

نفحات القرآن، ج 4، ص: 20

نحن لا نقول بأنّنا نجهل أصل وجوده- سبحانه- ولا نعرف شيئاً عن علمه وقدرته وإرادته وحياته، بل نقول بأنّ لدينا معرفة إجمالية عن جميع هذه الامور ولا يمكننا أن ندرك كُنهها وعمقها بتاتاً، وقد حارت عقول جميع عقلاء وحكماء العالم- دون استثناء- في هذا الطريق.

3- النهي عن التشبيه في الروايات الإسلاميّة

بما أنّ منزلق التشبيه الخطر يواجه جميع السائرين في طريق معرفة اللَّه، فإننا نجد تحذيرات كثيرة وردت في الروايات الإسلامية في هذا المجال مع العلم أنّ كنوزاً وفيرة من العلم والحكمة والإرشادات الدقيقة وردت في الأحاديث الشريفة المرويّة عن أهل البيت عليهم السلام بهذا الصدد، وكنموذج منها ننقل عدّة روايات من الكافي:

1- قال أمير المؤمنين في خطبة الأشباح:

«وَأشهدُ أنَّ من ساواكَ بِشَى ءٍ مِنْ خَلقكَ فقَدْ عَدلَ بِكَ، وَالعادلُ بِكَ كافِرٌ بِما تَنَزَّلَتْ بِهِ مُحْكَماتُ آياتِكَ، وَنَطَقَتْ عَنْهُ شَواهِدُ حُجَجِ بيِّناتكَ، وَإنّكَ أنتَ اللَّهُ الَّذي لَمْ تَتَناهَ في العُقُولِ فَتَكُونَ في مَهَبِّ فِكرها مُكيَّفاً، وَلا في رَويَّات خَواطِرها فَتَكُونَ مَحدُوداً مُصَرَّفا» «1».

2- ورد في الحديث الشريف عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام في هذا المجال توضيح جميل في جوابه لأحد المحدّثين باسم (أبو قرّة) عند سؤاله عن

التوحيد، حيث قال أبو قرّة للإمام: إنا روينا أنّ اللَّه عزّ وجلّ قسم الرؤية والكلام بين اثنين فقسم لموسى عليه السلام الكلام ولمحمد صلى الله عليه و آله الرؤية، فقال أبو الحسن عليه السلام: «فمن المبلغ عن اللَّه عزّ وجلّ إلى الثقلين الجن والأنس «لاتُدْرِكُهُ الأَبْصارُ وَهُو يُدرِكُ الأَبصارَ» «وَلا يُحِيطُونَ بِه عِلْماً» «وَلَيسَ

__________________________________________________

(1) نهج البلاغة، الخطبة 91.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 21

كَمِثلِه شَي ء» أليس محمداً صلى الله عليه و آله؟ قال: بلى قال: فكيف يجي رجل إلى الخلق جميعاً فيخبرهم أنّه جاء من عند اللَّه وأنّه يدعوهم إلى اللَّه بأمر اللَّه ويقول: «لَاتُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُو يُدرِكُ الأَبصَارَ» «وَلَا يُحِيطُونَ بِه عِلمَاً» «وَلَيسَ كَمِثلِه شَئ» ثم يقول: أنا رأيته بعيني، وأحطت به علماً وهو على صورة البشر، أمّا تستحيون، ماقدرت الزنادقة أن ترميه بهذا أن يكون ياتي عن اللَّه بشي، ثم ياتي بخلافه من وجه آخر!».

قال أبو قرّة: فانّه يقول: «وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةَ أُخْرَى فقال أبو الحسن عليه السلام: «إنّ بعد هذه الآية ما يدل على ماراى حيث قال: «مَا كَذَبَ الفُؤادُ ما راى يقول ما كذب فؤاد محمد صلى الله عليه و آله ما رأت عيناهُ، ثم أخبر بما راى فقال: لقد راى من آيات ربه الكبرى فآيات اللَّه عزّ وجلّ غير اللَّه: وقد قال: «وَلَا يُحِيطُونَ بِه عِلْماً»، فإذا رأته الأبصار فقد أحاطت به العِلمَ ووقعت المعرفة»، فقال ابو قرّة: فتكذِّبُ بالروايات؟ فقال أبو الحسن عليه السلام: «إذا كانت الروايات مخالفةً للقران كذَّبتُ بها وما أجمع المسلمون عليه أنّه لا يحاط به علمٌ ولا تدركه الأبصار، وليس كمثله شي ء» «1»

.

3- وفي هذا المحتوى ورد عن الإمام الصادق عليه السلام: «إنَّ اللَّهَ

عَظيمٌ رَفيعٌ لايَقدِرُ العِبادُ عَلَى صِفَتِهِ وَلا يَبْلُغُونَ كُنهَ عَظَمَتِهِ، لاتُدرِكُهُ الأبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصارَ وَهُو اللَّطيفُ الخَبيرُ» «2».

4- هل إنَّ أسماء اللَّه توقيفيّة؟

أشرنا سابقاً إلى أنّ أسماء اللَّه سبحانه وتعالى تحكي عن صفاته، وكما أنّ صفات اللَّه لا متناهية فإنّ أسماءه غير متناهية أيضاً، إلّاأنّه يُسْتَنْتَجُ من رواياتٍ كثيرة بأنّهُ لا يحق لاحدٍ أن يُسمّي ربّهُ ويصفه بشيٍ إلّاما ورد في الكتاب والسُّنّة (الأحاديث المعتبرة)، وسبب ذلك

__________________________________________________

(1) التوحيد للصدوق، ص 110 عن اصول الكافي.

(2) اصول الكافي، ج 1، ص 103.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 22

هو ماذكرناه في بحوثنا السابقة، وهو أنّ الكثير من الأسماء والأوصاف ممزوجة بمفاهيم تحكي عن نقائص المخلوقات ومحدوديتهم، واطلاق هذه الأسماء على اللَّه يبعدنا عن معرفته ويُلقي بنا في هاوية الشرك.

لذا فقد اشتهر بين العلماء بأنّ (أسماء اللَّه توقيفية) أي لا يجوز اطلاق اسم عليه دون إجازةٍ شرعيّة، لذا فهم لا يجوّزون دعوته بأسماء من قبيل، «العاقل»، «الفقيه»، «الطبيب»، «السّخي»، وذلك لأنّها لم ترِدْ في الآيات والروايات المعتبرة «1».

يقول المفسّر المرحوم العلّامة الطبرسي حول تفسير ذيل الآية 180 من سورة الأعراف: «تدل هذه الآية على أنّه لا يجوز لنا أن ندعو اللَّه سوى بالأسماء التي انتخبها لنفسه فقط» «2».

ولذلك أيضاً قال العلّامة المجلسي قدس سره: «لا يُسمّى اللَّه بالسخي بل يُسمّى بالجواد، وذلك لأنّ السخاوة في الأساس بمعنى الليونة، وهذه الكلمة (السخاء) تُطلق على الأسخياء من حيث أنّهم يلينون ازاء عرض الحوائج عليهم (والليونة والخشونة لا معنى لهما بخصوص اللَّه، بل هي من صفات المخلوقات» «3».

أمّا المرحوم العلّامة الطباطبائي في تفسير (الميزان) فإنّه لا يرى دليلًا في القرآن وفن التفسير على كون أسماء اللَّه توقيفية، والآية 180 من سورة الأعراف: «وَللَّهِ

الأَسماءُ الحُسنى ...» لا تدلّ على هذا المعنى ولكنه قدس سره لم يُبد رأياً فقهّياً في هذا المجال وأرجعه إلى الفقه، فأضاف قائلًا:

«الاحتياط يقتضي بالاقتصار على الأسماء التي وردت في الكتاب والسُنّة في مجال تسمية اللَّه سبحانه ولكن إذا كان القصد مجرّد توصيف وإطلاق لفظي دون تسمية فلا بأس» «4».

أمّا المرحوم الكليني في المجلّد الأول من أصول الكافي، فقد نقل روايات عديدة في

__________________________________________________

(1) تفسير الكبير، ج 15، ص 70، لكن بعضاً من هذه الصفات قد ورد في بعض الأدعية، وممنوعيتها غير ثابتة.

(2) مجمع البيان، ج 4، ص 503.

(3) بحار الأنوار، ج 4، ص 206.

(4) تفسير الميزان، ج 8 ص، 375 ذيل الآية 180 من سورة الأعراف.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 23

باب «النهي عن الصفة بغير ماوصف به نفسه تعالى يُسْتَنْتَجُ منها بأنّ أسماء اللَّه توقيفيّة.

من جملتها ماورد عن الإمام موسى بن جعفر عليه السلام قال: «إنَّ اللَّهَ أعلى وَأجَلُّ وَأعظَمُ مِنْ أن يُبلَغَ كُنهُ صِفَتِهِ، فصِفُوهُ بِما وَصفَ بِهِ نَفسهُ وَكُفُّوا عمّا سِوى ذلكَ» «1».

وورد في حديث آخر عن الإمام أبي الحسن عليه السلام في جوابه للمفضل عندما سأله عن بعض صفات اللَّه قال عليه السلام: «لا تجاوز ما في القرآن» «2»

.

وكذلك في الحديث الذي كتبه الإمام الصادق عليه السلام لبعض اصحابه «فاعلم رحمك اللَّه- أنّ المذهب الصحيح في التوحيد ما نزل به القرآن من صفات اللَّه عزّ وجلّ فانفِ عن اللَّه تعالى البطلان والتشبيه، فلا نفي ولا تشبيه، هو اللَّه الثابت الموجود تعالى اللَّه عمّا يصفه الواصفون ولا تعدوا القرآن فتضلوا بعد البيان» «3»

.

يُستنتج من هذه الروايات وأمثالها بأنّ تسمية اللَّه بغير ماورد في الكتاب والسُنّة فيه اشكال،

واستعمال أصل البراءة لإثبات جواز تسمية اللَّه بأسماء اخرى لا يخلو من الإشكال أيضاً، فالأحوط عدم استعمال أوصاف وأسماء اخرى غير الأوصاف والأسماء الثابتة في الشريعة المقدّسة.

ويُستدل أحياناً ببعض الآيات القرآنية أيضاً وثبات كون أسماء اللَّه توقيفيّة، كما ورد في قصّة نوح عليه السلام عندما خاطب سبحانه وتعالى المشركين حيث قال: «أَتُجَادِلُونَنِى فِى أَسماءٍ سَمَّيتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَّا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلطانٍ». (الأعراف/ 71)

وكذلك قال في سورة يوسف في قصّة نوح عليه السلام: «مَا تَعبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسمَاءً سَمَّيتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ». (يوسف/ 40)

ولكن دلالة هذه الآيات على المقصود لا تخلو من ضعف، لأنّ المراد منها نفي الشرك وعبادة الأصنام وتسمية الأصنام بالآلهة، فهي لا تدلّ على أنّ أسماء اللَّه توقيفية ولا يجوز

__________________________________________________

(1) اصول الكافي، ج 1، ص 12، ح 6.

(2) المصدر السابق، ح 7.

(3) المصدر السابق، ص 350، ح 6.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 24

تعديها.

وقد استدلوا أيضاً بأنّ التسمية فرعُ من المعرفة، والمعرفة فرعٌ من الإدراك. وبما أننا لا ندرك كنه ذاته وصفاته المقدّسة، فإنّ الطريق الوحيد لتسمية ذاته المقدّسة هو اللَّه سبحانه، وخلفاؤه.

ونختم هذا البحث بمجموعة من الأبيات الشعريّة التي وردت على شكل أرجوزة في كتاب معارف الأئمّة في هذا المجال حيث تقول:

وَالوَقفُ مَشهورٌ لدى الأصحابِ والعقل يَستَحسِنهُ في البابِ فإنَّمَا التَّوصيفُ فرعُ المَعرِفة وَالحقُّ في العِرفانِ ماقَد وَصَفَه وَدُونهُ لا يصدقُ التَّنزِيهُ بَلْ جُرئَةٌ لا يُومَنُ التَّشبيهُ وَيَلزَمُ القُولُ بِغيرِ العِلمِ مَعْ فَقدِ سُلطانٍ عَلَيهِ علمي «1» __________________________________________________

(1) معرفة الأئمّة، ص 743.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 25

أ سماء اللَّه الحسنى والاسم الأعظم

اشارة

نفحات القرآن، ج 4، ص: 27

تمهيد:

يُلاحظ في الآيات القرآنيّة والروايات الإسلاميّة تعبير تحت عنوان «الأسماء الحسنى ، وهذا العنوان جاء في القرآن بشكل مجمل لكنّه ورد في الروايات بشكل مفصّل، وهذه الأسماء تدل بأجمعها على صفاته، ونظراً لكون جميع أسمائه وصفاته حُسنى فإنّ انتخاب هذا العنوان يدلّ على امتياز هذه الأسماء.

ولكن من أين تنبع هذه الخصوصيّة؟ هذا ما سنوضحه بعد تفسير الآيات والروايات التي وردت في هذا المجال، فلنتوجه الآن إلى القرآن ونتأمل خاشعين في الآيات القرآنية الكريمة:

1- «وَللَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسنَى فَادعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلحِدُونَ فِى أَسْمَائِهِ».

(الاعراف/ 180)

2- «قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحمنَ أَيّاً مَّا تَدعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى .

(الاسراء/ 110)

3- «اللَّهُ لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى . (طه/ 8)

4- «هُوَ اللَّهُ الخَالِقُ البَارِئُ المُصَوِّرُ لَهُ الأَسمَاءُ الحُسْنَى . (الحشر/ 24)

جمع الآيات وتفسيرها

أسماء اللَّه الخاصّة:

لقد تقدم تفسير الآية الأولى في البحث السابق، وخلاصته أنّها حذّرت الناس من تحريف أسماء اللَّه حيث تقول: «وَللَّهِ الأَسمَاءُ الحُسنَى فَادعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذينَ يُلحِدُونَ في أَسمَائِهِ».

نفحات القرآن، ج 4، ص: 28

وأشارت الآية الثانية أيضاً إلى تعلل المشركين الذين كانوا يشكلون على رسول اللَّه في تسميته للَّه تعالى بأسماء متعددة وخاصة اسم الرحمن الذي كان غير مألوف عند العرب المشركين آنذاك، مع أنّه كان يدعوهم للتوحيد فالآية تقول: «قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحمنَ أَيّاً مَّا تَدعُوا فَلَهُ الأَسمَاءُ الحُسْنَى .

وصفت الآية الثالثة الباري بالخالقية والمالكيّة وتدبير عالم الوجود والعلم والاطلاع على الظاهر والباطن، حيث قالت: «اللَّهُ لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الأَسمَاءُ الحُسنَى .

أجَلْ فهو سبحانه بامتلاكه هذه الأسماء والصفات الحسنى التي لا نظير لها يليق لمقام الألوهيّة والربوبية ولا أحد يليق لهذا المقام سواه.

وأخيراً فقد وصفت الآية الرابعة والأخيرة- من بحثنا- ربّ العالمين

بأوصاف متعدّدة، بعد أن وصفته الآيات التي سبقتها بأكثر من عشرة أوصاف، فقال: «هُوَ اللَّهُ الخَالِقُ البَارِئُ المُصَوِّرُ لَهُ الأَسمَاءُ الحُسنَى .

وبعد ذلك وصفته بأوصاف مهمّة اخرى بلغ مجموعها ثمان عشرة صفة.

ونستنتج من مجموع هذه الآيات أنّ الأسماء الحسنى كناية عن صفات الجمال والجلال الخاصّة به سبحانه، والذي يعبر كل واحد منها عن كمالٍ متميز أو تنفي عنه سبحانه نقصاً معيّناً، وهي ليست تسمية بسيطة وعاديّة، وقد انعكست هذه الأسماء والصفات في مختلف الآيات القرآنيّة وصارت محل اعتماد.

ولننطلق الآن لبحث هذا الموضوع ونرى ما هي الأسماء الحسنى هل هي محدودة عددّياً؟ وإن كانت كذلك فكم عددها؟

نفحات القرآن، ج 4، ص: 29

توضيحات

1- ماهي حقيقة الأسماء الحسنى

وكما أشرنا سابقاًإلى أنّ جميع أسماء اللَّه حسنى لذا فإنّ هذا التعبير يشمل جميع الأسماء الإلهيّة، وكما ورد في سبب نزول الآية الثانية من بحثنا هذا (الآية 110 من سورة الإسراء)، فقد نُقِلَ بأنّها نزلت عندما سمع المشركون رسول اللَّه يقول: يا اللَّه يارحمن! فقالوا باستهزاء: إنّه ينهانا عن عبادة معبودين لكنّه انتخب لنفسه معبوداً آخر ... فنزلت هذه الآية في تلك اللحظة ودحضت ظن التعدد هذا، وقالت: بأنّ هذه أسماءٌ حسنى مختلفة تُشير بأجمعها إلى الذات الإلهيّة المقدّسة الواحدة.

لذا فإنّ هذه الأسماء بأجمعها تعبيرات مختلفة تحكي عن الكمالات اللامتناهية لتلك الذات المقدّسة الواحدة وقد عبّر عنها الشاعر بقوله:

عِبَاراتُنَا شَتّى وَحُسنُكَ وَاحِدٌ وَكُلٌّ إلى ذَاكَ الجَمالِ يُشيرُ ويُستنتج من العبارات التي وردت في آيات القرآن الكريم أنّ جميع أسمائه هي مفردات من أسمائه الحسنى «وَللَّهِ الأَسمَاءُ الحُسنَى فَادعُوهُ بِهَا»، (الآية الأولى من بحثنا).

والدليل على ذلك واضحٌ أيضاً، لأنّ أسماءه «عزّ وجلّ» إمّا تعبّر عن كمال ذاته (كالعالم والقادر) أو عن نزاهة تلك الذات

الأحديّة عن أي لونٍ من النقص (كالقدّوس) أو تحكي عن أفعاله التي تعكس فيض الوجود من جهاتٍ مختلفة (كالرحمن والرحيم والخالق والمدبّر والرازق).

وتعبير الآيات أعلاه، الذي يدلّ على الحصر، يُبيّن بأنّ الأسماء الحسنى خاصّة به تعالى لأنّ أسماءَه تُعبرّ عن كمالاته، وكما نعلم فإنّ واجب الوجود هو عين الكمال والكمال المطلق، لذا فالكمال الحقيقي من شأنه وخاص به وكلُّ ما سواه ممكن الوجود ومحض الحاجة والفقر.

وهنا يتبادر إلى الذهن السؤال التالي، وهو: أنَّ الروايات الشريفة ذكرت- كما سنشير إليه في البحث القادم- عدداً معيناً للأسماء الحسنى ممّا يشير إلى أن تعبير الأسماء

نفحات القرآن، ج 4، ص: 30

الحسنى لا يشمل جميع الأسماء الإلهيّة، بل يشمل قسماً منها، فما معنى ذلك؟

في الإجابة عن هذا السؤال نستطيع القول: إنّ السبب في ذكر عدد معيّن من الأسماء والصفات قد يكون لبيان أهميّتها لا انحصارها، مضافاً إلى أنّ الكثير من الأسماء الإلهيّة كما سيتضح في البحوث المقبلة تشبه الأغصان الأصليّة الرئيسة، والبقية تتشعبُ منها، فمثلًا نُلاحظ أن (الرازق) فرعٌ من صفة الربّ (أيّ المالك والمدبّر).

وهكذا حال بقيّةِ الأوصاف من قبيل (المحيي والمميت).

وبعيدٌ جدّاً أن تكون الأسماء الحسنى ذات مفهوم خاص في الشرع (أي لها حقيقة شرعيّة)، بل هي اصطلاح لغوي يشمل جميع الأسماء والأوصاف الإلهيّة.

وتعبير القرآن الكريم ب: «وَللَّهِ الأَسمَاءُ الحُسنَى فَادعُوهُ بِهَا» هو دعوة- في الحقيقة- إلى ترك الإلحاد وتحريف هذه الأسماء كتسمية الاصنام بأسماء اللَّه، أو دعوة إلى اجتناب تسمية اللَّه بالأسماء ذات المفاهيم الممزوجة بالنقائص والخاصّة بالمخلوقات. أو هو إشارة إلى عدم تنافي تعدد الأسماء الحسنى مع وحدانية ذاته المقدّسة أبداً، لأنّ تعدُّد الأسماء ناجمٌ عن قصر نظرتنا لإدراك ذلك الكمال المطلق، فأحياناً ننظر من زاوية اطلاعه

على كُلّ شي ء فنسميه (بالعالم) وأحياناً اخرى ننظر من زاوية قدرته على كلّ شي ء فنسميّه (بالقادر).

وعلى أيّة حال فإنّ جميع القرائن تدل على أنّ جميع الأسماء الالهيّة المقدّسة حسنى بالرغم من أنّ بعضها ذات أهميّة خاصّة.

2- عدد الأسماء الحسنى وتفسيرها

ذكرت روايات عديدة منقولة عن مصادر الشيعة وأهل السُّنّة أنّ عدد الأسماء الحسنى تسع وتسعون اسماً، ومن جملة هذه الروايات رواية مشهورة عن النبي صلى الله عليه و آله أنّه قال: «إنّ له

نفحات القرآن، ج 4، ص: 31

تسعاً وتسعين اسماً .. مِائة إلّاواحداً- من أحصاها دخل الجنّة، إنّه وترٌ يُحبُّ الوتر» «1»

.

وفي رواية اخرى منقولة في توحيد الصدوق بنفس هذا المضمون (مع اختلاف طفيف)، عن علي عليه السلام أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: «وَهيَ اللَّهُ، الألهُ، الواحِدُ، الأحدُ، الصَّمَدُ، الأَوَّلُ، الآخرُ، السَّميعُ، القَديرُ، القَاهِرُ، العَليُّ، الأَعلى البَاقي، البَديعُ، البَارئُ، الأكرَمُ، الظَاهِرُ، البَاطِنُ، الحَيُّ، الحَكيمُ، العَليمُ، الحَليمُ، الحَفيظُ، الحَقُّ، الحَسيبُ، الحَميدُ، الحَفيُّ، الرَّبُ، الرحمنُ، الرَّحيمُ، الذَارئُ، الرَّزاقُ، الرّقيبُ، الرؤوفُ، الرّائي، السَّلامُ، المُؤمِنُ، المُهيمنُ، العَزيزُ، الجَبَّارُ، المُتكبِرُ، السَّيِدُ، السُّبُّوحُ، الشَّهيدُ، الصَّادِقُ، الصَّانِعُ، الطَّاهِرُ، العَدلُ، العَفوُّ، الغفورُ، الغَنيُّ، الغِيَاثُ، الفَاطِرُ، الفَردُ، الفَتاحُ، الفَالِقُ، القَدِيمُ، المَلِكُ، القُدُوسُ، القَويُّ، القَريبُ، القَويمُ، القَابضُ، البَاسِطُ، قَاضي الحَاجَاتِ، المَجيدُ، المَولى المنَّانُ، المُحيطُ، المُبينُ، المُقيتُ، المُصوِّرُ، الكَريمُ، الكَبيرُ، الكَافي، كَاشف الضُّرِّ، الوِترُ، النُّورُ، الوهَّابُ، النَّاصرُ، الواسعُ، الودُودُ، الهَادِي، الواقي، الوكيلُ، الوارثُ، البَّرُّ، البَاعثُ، التوابُ، الجَليلُ، الجَوادُ، الخبيرُ، الخَالقُ، خَيرُ النَّاصِرينَ، الدّيانُ، الشَّكُورُ، العَظيمُ، اللَّطيفُ، الشَّافي» «2»

.

والجدير بالذكر هو أنّ إحصاء وعدِّ الأسماء الحسنى وتلفظها باللسان لايعني أن يكون سبباً في دخول الجنّة بدون حساب، بل بمعنى معرفة محتوى هذه الأسماء والإيمان بها فلابدّ أن يعرف الإنسان اللَّه بهذه الصفات الإلهيّة، فضلًا عن التخلق

بها، أي أن يشُّع في وجوده شعاع من علم اللَّه وقدرته ورحمته ورأفته وغيرها من الصفات، لأنّ التخلق بهذه الصفات الكمالية يلازم الإيمان بها.

وفي رواية اخرى في توحيد الصدوق عن الامام علي بن موسى الرضا عليه السلام عن آبائه عن علي بن أبي طالب عليه السلام أنّه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «للَّه عزّ وجلّ تسعٌ وتسعون اسماً، من

__________________________________________________

(1) تفسير الدر المنثور (ج 3، ص 147) عن صحيح البخاري ومسلم ومسند أحمد وسنن الترمذي وكتب اخرى.

(2) توحيد الصدوق، ص 194، (باب أسماء اللَّه تعالى)، ح 8، ونلفتُ الانتباه إلى أنّ عدد الأسماء المذكورة في الحديث أعلاه مِائة أسم ولكون لفظ الجلالة (اللَّه) جامعٌ لجميع هذه الصفات فإنّه لم يُحسب وصار عدد الأسماء الحسنى تسعاً وتسعين اسماً، وقد وضع البعض اسم الرائي بدل الرؤوف.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 32

دعا اللَّه بها استجاب له، ومن أحصاها دخل الجنّة».

يقول المرحوم الصدوق بعد ذكر هذه الرواية: «المقصود من احصائها هو الاحاطة بها ومعرفة معانيها لا عدّها «1».

والجدير بالذكر أنّ بعض الروايات ذكرت الأسماء الحسنى بأكثر من هذا العدد، حتى أنّ في بعض الأدعية كدعاء الجوشن الكبير قد بلغت الأسماء المقدّسة المذكورة فيها الألف، ولا تنافي بين هذه الروايات، لأنّه كما ذكرنا بأنّ التسع والتسعين المذكورة تُشير إلى الأسماء والصفات الأكثر أهميّة وخصوصية، وذكر المرحوم الصدوق «ره» في كتاب «التوحيد» شرحاً مفصلًا حول تفسير هذه الأسماء التسعة والتسعين، نذكرها هنا بصورة مختصرة لتكملة هذا البحث وزيادة المعرفة بحقيقة هذه الأسماء والصفات:

1- 2- «اللَّه واله»: أي (الجامع لجميع الكمالات)، وهو المستحق للعبادة، والذي لا يستحق العبادة إلّاهو.

3- 4- «الواحد الأحد»: أنّه واحد في ذاته ليس

له أجزاء ولا شبيه ولا نظير ولا مثيل.

5- «الصمد»: السيد والمصمود إليه أي المقصود في الحوائج، الغني عن كل موجود.

6- 7- «الأول والآخر»: أنّه الأول بغير ابتداء والآخر بغير انتهاء، وبعبارة اخرى الذات الازلية والأبدية.

8- «السميع»: المحيط بجميع المسموعات.

9- «البصير»: المحيط بجميع المبصرات.

10- «القدير»: القادر على كل شي ء.

11- «القاهر»: الذي انقاد له كل شي ء وخضع لأوامره.

12- «العلي»: ذو المنزلة والمقام العالي الرفيع.

13- «الأعلى : الغالب المنتصر، أو المتسلط على كل شي ء.

14- «الباقي»: الذات الباقية التي لا تفنى

15- «البديع»: أي مبدع ومحدث كل شي ء في عالم الوجود من غير مثال واحتذاء.

__________________________________________________

(1) توحيد الصدوق، ص 195، ح 9.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 33

16- «الباري ء»: باري ء البرايا أي خالق الخلائق.

17- «الاكرم»: بمعنى أكرم الكرماء.

18- «الظاهر»: وهو الظاهر بذاته وبآياته التي هي شواهد على قدرته وآثار حكمته وبينات حجته.

19- «الباطن»: الذي لا تحيط بكنه ذاته الأفكار والعقول.

20- «الحي»: الفعال المدبر. (ذي العلم والقدرة).

21- «الحكيم»: الذي تكون كافة أفعاله صحيحة وثابتة ومنزهة من الفساد.

22- «العليم»: العليمٌ بنفسه، العالم بالسرائر المطلعٌ على الضمائر الذي لا تخفى عليه خافية ولايعزب عنه مثقال ذرة في السماء والأرض.

23- «الحليم»: المُمهِل الصبور عمن عصاه، الذي لايعجل عليهم بعقوبته.

24- «الحفيظ»: الذي يحفظ المخلوقات ويصرف عنها البلاء.

25- «الحق»: معناه الصامد الدائم الثابت والمستحكم ذو الحقيقة والواقع.

«فهو الحقيقة المطلقة وماعداه مجازي».

26- «الحسيب»: المحصي لكل شي ء العالم به الذي لا يخفى عليه شي ء من أفعال عباده، والمحاسب والمكافي ء لهم على أعمالهم.

والكافي «واللَّه حسبي وحسبك، أي كافينا».

27- «الحميد»: وهو المحمود المستحق لكل حمد وثناء.

28- «الحفيّ»: العالم المُطلع أو أنّه اللطيف بالآخرين والمُحسن إليهم.

29- «الرب»: أي المالك والمدبر والمصلح.

30- «الرحمن»: معناه الواسع الرحمة الذي شُمِلَ عباده بالرزق والانعام

والرحمة.

31- «الرحيم»: الذي خصت رحمته المؤمنين وشملتهم.

32- «الذاري ءُ»: الخالق، يُقال: ذرأ اللَّه الخلق وبرأهم أي خلقهم.

33- «الرازق»: الشامل بالرزق كافة العباد، محسنهم ومسيئهم.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 34

34- «الرقيب»: أي الحافظ، ورقيب القوم، حارسهم.

35- «الرؤوف»: أي الرحيم العطوف، «وقد يرى البعض أنّ هناك اختلاف بين الرأفة والرحمة، فالرأفة شاملة للمطيعين، والرحمة شاملة للمذنبين».

36- «الرائي»: بمعنى المبصر والمطلع العالم.

37- «السّلام»: مصدر السلامة وينبوع فيض كل سلامة.

38- «المؤمن»: المحقق والمصدق وعده، والذي آياته وعلاماته وعجائب تدبيره ولطائف تقديره سبباً لإيمان القلوب والأفئدة بذاته المقدّسة، والذي آمن عباده من الظلم والجور، وأجار المؤمنين من العذاب.

39- «المهيمن»: الشاهد الناظر أو الأمين والحافظ لكل شي ء.

40- «الجبار»: أي القاهر الذي لايُنال، الذي تعجز الافكار عن بلوغ عظمته، والذي يصلح الامور بإرادته النافذة.

41- «المتكبر»: مأخوذ من الكبرياء، وهو اسم للتكبر والتعظم، فلا شي ء أكبر منه، ولا تليق الكبرياء إلّابه.

42- «السيد»: معناه العظيم الأعظم وهو الملك الواجب الطاعة.

43- «السبوح»: معناه المنزه له عن كل عيب ونقص ومالا ينبغي أن يوصف به «1».

44- «الشهيد»: أي الشاهد والحاضر في كل مكان صانعاً ومدبراً.

45- «الصادق»: معناه أنّه صادق في وعده لا يبخس ثواب من يفي بعهده.

46- «الصانع»: معناه أنّه صانع كل مصنوع وخالق كل مخلوق ومبدع كل بديع.

47- «الطاهر»: وهو المنزه عن الأشباه والأنداد والأضداد والأمثال والحدود لأنّ كل ما عداه حادث ومخلوق وعاجز من جميع الجهات.

48- «العدل»: القاضي وهو الحاكم بالعدل والحق المطلق.

49- «العفوّ»: مشتق من العفو، والعفو المحو كقوله تعالى «عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنَتْ لَهُمْ»

__________________________________________________

(1) لا يخفى أنّه ليس في كلام العرب لفظ على وزن فُعُّولٌ إلّاسُبُّوحٌ وقدوس، ومعناهما واحد.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 35

أي محا اللَّه عنك إذنك لهم، فهو تعالى يمحو

ذنوب عباده.

50- «الغفور»: أي الغافر والغفار وأصله في اللغة التغطية والستر.

51- «الغني»: الغني بنفسه غير محتاج لسواه والغني عن الاستعانة بالآلات والأدوات.

52- «الغياث»: معناه المغيث والمُنجد، سمي به توسعاً لأنّه مصدر.

53- «الفاطر»: الخالق، فطر الخلق أي خلقهم وابتدأ صنعة الأشياء وابتدعها فهو فاطرها أي خالقها ومبدعها من العدم.

54- «الفرد»: المتفرد بالربوبية والأمر دون خلقه ومعنى ثانٍ: أنّه الموجود المطلق لا موجود سواه.

55- «الفتّاح»: الحاكم ومنه قوله عز وجل في الآية 89 من سورة الأعراف: «وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ»، الذي يحل عُقد المكاره والمشاكل.

56- «الفالق»: مشتق من الفلق وهو الشق، فلق الحبّ والنوى فخرج النبات من أعماق الأرض، وأخرج الأجنة من بطون الامهات، وفلق الظلام فانبلج عنه الصبح المنير وخرق حُجب العدم بخلقه للموجودات.

57- «القديم»: وهو المتقدم للأشياء كلها بلا أول ولا نهاية.

58- «الَملِك»: أي مالك الملك قد مَلَكَ كل شي ء، الحاكم على الكون.

59- «القدّوس»: الطاهر، والتقديس، التطهير والتنزيه عن كل عيب أو نقص.

60- «القوي»: وهو المقتدر بلا معاناة ولا استعانة الذي لايحتاج إلى معين في أفعاله.

61- «القريب»: معناه المجيب فهو أقرب إلينا من كل شي ء، يسمع كلامنا ويجيب دعاءنا.

62- «القيّوم»: أي القائم بذاته الذي يقوم به غيره.

63- «القابض»: الذي يتوفى الأنفس يقال للميت: قبضه اللَّه إليه ومنه قوله عزّ وجلّ في الآيتان 45 و 46 من سورة الفرقان: «ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمسَ عَلَيهِ دَلِيلًا* ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبضاً يَسِيراً»، فالشمس لا تقبض بالبراجم واللَّه تبارك وتعالى قابضها ومطلقها، وهو تعالى الذي يقبض رزق شخص ويوسع رزق آخر حسب ما تقتضيه المصلحة.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 36

64- «الباسط»: يقابل القابض فهو المنعم المتفضّل الذي غمر الوجود بفيض رحمته، وقد بسط على عباده فضله واحسانه واسبغ عليهم نعمه.

65- «قاضي

الحاجات»: معناه مشتق من القضاء، ومعنى القضاء من اللَّه عزّ وجلّ على ثلاثة أوجه: فوجه منها الحكم والإلزام، والثاني الإخبار والثالث الاتمام كقولك قضى اللَّه حاجتي أي أتمّ حاجتي على ما سألته، وهنا يعني قضاء حاجات الخلق.

66- «المجيد»: أي الكريم العزيز، وصاحب المجد والعظمة.

67- «المولى : الناصر والمشرف.

68- «المنّان»: وهو المعطي المنعم، وواهب النعم.

69- «المحيط»: المحيط بالأشياء والعالم بها كلها.

70- «المبين»: البادية آثار قدرته في كل مكان، والظاهر حكمه في عالم «التشريع» و «التكوين».

71- «المقيت»: أي الحافظ والحارس والحامي.

72- «المصوّر»: اسم مشتق من التصوير يصور الصور في الأرحام كيف يشاء، الذي يهب للخلق صورهم.

73- «الكريم»: العزيز ومعنى ثانٍ أنّه الجواد المتفضّل.

74- «الكبير»: معناه السيد العظيم ويقال لسيد القوم كبيرهم والكبرياء اسم التكبر والعظمة.

75- «الكافي»: اسم مشتق من الكفاية، الكافي عباده وكل من توكل عليه كفاه ولا يلجئه إلى غيره.

76- «كاشف الضر»: المفرّج، دافع البلاء والهم والغم يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء.

77- «الوتر»: معناه الفرد وليس له نظير أو مماثل.

78- «النّور»: معناه المنير، كقوله تعالى في الآية 35 من سورة النور: «اللَّهُ نُورُ السَّماوَاتِ والْأَرْضِ» أي منير لهم وآمرهم وهاديهم.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 37

79- «الوهاب»: من الهبة، يهب لعباده ما يشاء ويمن عليهم بما يشاء.

80- «الناصر»: النصير، والنصرة حسن المعونة.

81- «الواسع»: أي الغني، والسعة الغنى فهو الواسع الغني عن كل شي ء.

82- «الودود»: معناه أنّه مودود ومحبوب، ويُقال: بل فعول بمعنى فاعل كقولك: غفور بمعنى غافر أي يود عباده الصالحين ويحبّهم والود والوداد مصدر المودة.

83- «الهادي»: ومعناه، المرشد عباده للحق والعدل، بل الهادي لكل موجود في عالم الخليقة وكل ذي عقل في عالم التشريع.

84- «الوفي»: معناه الذي يفى بعهده وميثاقه.

85- «الوكيل»: المتولي أي القائم بحفظنا ومعنى

ثانٍ أنّه المعتمد والملجأ.

86- «الوارث»: معناه أنّ كل من ملّكه اللَّه شيئاً يموت ويبقى ما كان في ملكه ولا يملكه إلّا اللَّه تبارك وتعالى

87- «البرّ»: الصادق، يقال: بربّ يمين فلان إذا صدقت وأبرها اللَّه أي أمضاها على الصدق، كما يعني المحسن الواهب.

88- «الباعث»: أي أنّه يبعث من في القبور ويحييهم يوم القيامة وينشرهم للجزاء ومنهم الأنبياء.

89- «التوّاب»: معناه أنّه يقبل التوبة ويعفو عن الحوبة إذا تاب منها العبد، يقال: تاب العبد إلى اللَّه عزّ وجلّ فهو تائب إليه وتاب اللَّه عليه أي قبل توبته فهو تواب عليه.

90- «الجليل»: السيّد، يقال لسيد القوم جليلهم وعظيمهم وجلّ جلال اللَّه فهو الجليل ذو الجلال والإكرام.

91- «الجواد»: المحسن المنعم الكثير الإنعام والاحسان.

92- «الخبير»: العالم المُطلع، يقال لي به خبر أي علم، فهو المطلع على بواطن الأمور والأسرار والاعلان.

93- «الخالق»: الخلّاق، والخلق في اللغة تقدير الشي ء، خلق الخلائق خلقاً؛ وخليقةً:

الخلق، والجمع الخلائق.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 38

94- «خير الناصرين»: معناه أنّه فاعل الخير إذا كثُر منه سميّ خيراً توسُّعاً، فنصرته خالية عن العيب والنقص ولا حد لها.

95- «الديّان»: وهو الذي يدين العباد ويجزيهم بأعمالهم، والدين الجزاء.

96- «الشكور»: معناه أنّه يشكر للعبد عمله وهو المحسن إلى عباده المنعم عليهم بأفضل النعم.

97- «العظيم»: السيّد ومعنى ثانٍ: أنّه يوصف بالعظمة لغلبته على الأشياء وقدرته عليها ومعنى ثالث: أنّه عظيم لأنّ ما سواه كلّه له ذليل خاضع فهو عظيم السلطان.

98- «اللطيف»: أي أنّه لطيف بعباده، بارٌ بهم منعمٌ عليهم ومعنى آخر أنّه لطيف في تدبيره وفعله.

99- «الشافي»: معناه معروف وهو من الشفاء الشافي من الأمراض والآلام والأوجاع «1».

كان هذا مجموع الأسماء التسعة والتسعين المُعبرُ عنها في الروايات الإسلاميّة بالأسماء الحسنى لكنّه وكما أشرنا سابقاً

فإنّ تعبير الروايات حول هذا الموضوع ليس واحداً.

ونذكّر مرّة اخرى بأنّ قسماً من هذه الصفات تعبرّ عن كمالات الذات الإلهيّة المقدّسة (صفات الجمال)، وقسماً آخر ينزّهُ ذاته المقدّسة عن أي نقص أو عيب (صفات الجلال) وقسمٌ كبير منها مشتقة من أفعاله (صفات الأفعال).

نضيف إلى ذلك أنّ قسماً من هذه الصفات متقاربة مع بعضها من حيث المعنى على الرغم من التفاوت الظريف والدقيق الموجود بينها في الغالب.

__________________________________________________

(1) توحيد الصدوق، ص 195- 217 (بالاضافة إلى تفاسير اخرى مستفادة من كتب اللغويين والمفسرين).

نفحات القرآن، ج 4، ص: 39

3- أي واحد منها اسم اللَّه الأعظم؟

تناسباً مع بحثنا حول الأسماء الحسنى نتكلم حول الاسم الأعظم أيضاً.

لقد ورد التأكيد في روايات كثيرة على موضوع «اسم اللَّه الأعظم»، ويستنتج منها أنّ من دعا اللَّه باسمه الأعظم استجاب له ولبّى حاجته، لذا فقد ورد في ذيل بعض هذه الروايات:

«والذي نفسي بيده لقد سئل اللَّه باسمه الأعظم الذي إذا سُئل به أعطاه وإذا دُعي به أجاب» «1»

. وتعابير اخرى من هذا القبيل، وكذلك فقد ورد في الروايات بأنّ (آصف بن برخيا)- وزير سليمان عليه السلام، الذي جاء بعرش بلقيس من اليمن إلى الشام بلمحة بصر، كان يعرف الاسم الأعظم «2»، وكذلك (بلعم بن باعورا) عالم وزاهد بني اسرائيل- الذي كان مستجاب الدعوة- كان يعرف الاسم الأعظم أيضاً «3».

وقد نقل العلّامة المجلسي روايات كثيرة حول الاسم الأعظم وأيّ الأسماء هو من بين أسماء اللَّه الحسنى لا مجال لذكرها هنا، فقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «اسم اللَّه الأعظم مقطّع في أمِّ الكتاب» «4».

وكذلك مانقل في بعض الروايات: عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «بسم اللَّه الرحمن الرحيم أقرب إلى اسم اللَّه الأعظم من سواد

العين إلى بياضها» «5».

وقد ذكرت الروايات وآيات قرآنية أسماء مقدّسة اخرى من أسماء اللَّه، والأسماء الحسنى يفوق بعضها البعض الآخر من حيث المعنى (ولزيادة الاطلاع راجع الجزء الثالث والتسعين من كتاب بحار الأنوار).

لكن محور البحث هنا يكمن في أنّ الاسم الأعظم هل هو كلمة، أم جملة، أم آية قرآنية معينة؟ وهل هذه التأثيرات والقدرة كامنة في الألفاظ والحروف بدون قيد أو شرط؟ أم أنّ

__________________________________________________

(1) بحار الانوار، ج 93، ص 225.

(2) سفينة البحار، ج 1، ص 23؛ وبحار الأنوار، ج 14، ص 113.

(3) بحار الانوار، ج 13، ص 377.

(4) بحار الانوار، ج 90، ص 223.

(5) بحار الأنوار، ج 75، ص 371.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 40

تأثيرها ينبع من صياغتها اللفظّية إضافة إلى حالات وشروط خاصّة بالشخص الذي يرفع يديه بالدعاء من حيث التقوى والطهارة، وحضور القلب، والتوجه الخالص للَّه، وقطع الأمل عمّن سواه، والتوكل الكامل على ذاته المقدّسة؟

أم أنّ الاسم الأعظم ليس من سنخ اللفظ؟ وما استعمال الألفاظ إلّاللإشارة إلى حقيقتها ومحتواها، وبتعبير آخر فإنّ مفاهيم هذه الألفاظ. يجب أن تنفذ إلى روح الإنسان فيتخلق بمعناها حتى يصل إلى مرحلة من الكمال بحيث يصير مستجاب الدعوة بل يمكنه- بالإضافة إلى ذلك- أن يتصرف في الموجودات التكوينية بإذن اللَّه.

من هذه الاحتمالات الثلاثة، يستبعد جدّاً أن يكون لهذه الحروف والألفاظ أثر بدون أن يكون لمحتواها ولأوصاف وحالات الشخص دخلٌ في الموضوع، ومع أنّه ورد في بعض القصص الخرافية التي نقلت شعراً ونثراً في بعض الكتب من أنّ عفريت الجن كان يستطيع الاستيلاء على عرش سليمان وأداء أعماله عن طريق معرفته بالاسم الأعظم!! فإنّ مثل هذا التصُّور عن اسم اللَّه الأعظم بعيد جدّاً عن

روح التعليمات الإسلامية، علاوة على هذا فإنّ نفس قصة (بلعم بن باعورا)، التي أخبرت عن أنّه فقد الاسم الأعظم بعد أن انحرف عن التقوى والطريق الصحيح، تدل على أنّ لهذا الاسم علاقة وثيقة جدّاً بأوصاف وحالات الداعي، لذا فالاحتمال الصحيح هو أحد التفسيرين الأخيرين أو كلاهما.

يقول العلّامة الطباطبائي رحمه الله في تفسير الميزان، بعد أن أشار إلى مسألة الاسم الأعظم:

«مع أنّ أسماء اللَّه عموماً واسمه الأعظم خصوصا مؤثرة في عالم الوجود وتعد وسائطاً وأسباباً لنزول الفيوضات في هذا العالم، إلّاأنّ تأثيرها منوط بحقائقها لا بنفس ألفاظها التي تدلّ عليها ولا بمعانيها المرسومة في الذهن» «1». وهذا الكلام يؤيد أيضاً صحة ما ذكرنا.

وتوجد نقطة جديرة بالالتفات أيضاً وهي أنّ هناك تعابير مختلفة للإسم الأعظم في روايات هذا الباب، وكل واحد منها حصر الاسم الأعظم بمعنى معيَّن.

فبعضها عدّت البسملة أقرب شي ء إلى الاسم الأعظم وبعضها حددت اسم اللَّه الأعظم

__________________________________________________

(1) تفسير الميزان، ج 8، ص 372.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 41

في ذكر هذه العبارات: «بسم اللَّه الرحمن الرحيم لا حول ولا قوّة إلّاباللَّه العلي العظيم» مائة مرّة بعد صلاة الصبح.

وبعضها الآخر في سورة «الحمد» و «التوحيد» و «آية الكرسي» و «القدر».

وبعضها في الآيات الست الأواخر من سورة الحشر.

وبالتالي فبعضها الأخر في: «قُلِ اللَّهمَّ مَالِكَ المُلكِ» إلى قوله: «وَتَرزُقُ مَن تَشَاءُ بِغَيرِ حِسَابٍ». (آل عمران/ 26- 27)

وغير هذه التعابير «1».

ويمكن أن يكون سبب هذا التفاوت هو تعدُّد الاسم الأعظم، أو تفاوت المقاصد، ولكن المهم في الوقت ذاته هو أنّ طهارة القلب، وخلوص النيّة، والتوجُّه إلى اللَّه، وقطع الأمل عمن سواه، والتخلُّق بهذه الصفات هي التي تخلق روح الاسم الأعظم.

__________________________________________________

(1) بحار الانوار، ج 93، ص 223؛

اصول الكافي، ج 1، ص 107.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 43

صفات اللَّه تعالى

اشارة

1- صفات ذات اللَّه

أ) صفات جمال اللَّه

ب) صفات جلال اللَّه

2- صفات فعل اللَّه

نفحات القرآن، ج 4، ص: 45

أقسام صفات اللَّه تعالى

كما هو المتعارف فإنّ صفات اللَّه سبحانه وتعالى تنقسم إلى قسمين:

«صفات الذات»، و «صفات الفعل».

وصفات الذات تنقسم إلى قسمين أيضاً: صفات الجمال، وصفات الجلال.

والمراد من صفات الجمال، الصفات الثابتة له تعالى كالعلم والقدرة والأزليّة والأبدية، لذا تُسمى «بالصفات الثبوتية». أمّا صفات الجلال فيُراد بها الصفات التي تتنزه ذاته المقدّسة عنها، كالجهل والعجز والجسمانية وما شاكل. لذا تُسمى ب «الصفات السلبية». وكلا النوعين يسميان بصفات الذات، وبغض النظر عن أفعاله سبحانه فهي قابلة الإدراك (أي يُمكن إدراكها).

ويقصد بصفات الفعل الصفات التي لها علاقة بأفعال اللَّه، أي لا تطلق عليه قبل صدور فعل منه، وبعد صدوره يُتصف بها كالخالق والرازق والمحيي والمميت.

ونؤكد مرّة اخرى بأنّ صفات ذاته وصفات فعله لامتناهية، لأنّ كمالاته غير متناهية، وكذلك أفعاله ومخلوقاته لامتناهية ولا محدودة أيضاً.

ولكن مع هذا فإنّ قسماً من هذه الصفات يُعدُّ أساساً لبقية الصفات، والصفات الأخيرة تعتبر فروعاً، وبالالتفات إلى هذه النقطة يمكن القول: بأنّ الصفات الخمس التالية تُعدُّ أصلًا لجميع الأسماء والصفات الإلهيّة المقدّسة، وما سواها تعدّ فروعاً لها، وهذه الصفات الخمس هي:

(الوحدانيّة، العلم، القدرة، الأزليّة، الأبديّة).

نفحات القرآن، ج 4، ص: 47

أ) صفات جمال اللَّه

اشارة

(العلم- القدرة- الأزليّة- الأبديّة)

ونظراً لما قلنا آنفاً، نحاول الآن شرح هذه الصفات الأساسيّة الخمس، وبما أننا شرحنا الوحدانيّة سابقاً فإننا سنتعرض إلى شرح الصفات الأربع المتبقيّة.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 49

1- علم اللَّه المطلق

تمهيد:

إنّ من أهم صفات اللَّه سبحانه وتعالى بعد التوحيد تتمثل في علمه اللامحدود وإحاطته بكافة أسرار عالم الوجود المترامي الأطراف، وذاته المقدّسة، فلا تخفى عليه خافية ولا شاردة ولا واردة ولا ذرة في هذا العالم الواسع.

لقد أحاط علمه- جلّ وعلا- بكل قطرة غيثٍ تنزل من السماء، وبكل زهرة تتفتح في أغصان الأشجار، وبكل حبّة في ظلمات الأرض، وبكل موجود وكائن حي يسبح في أعماق البحار العميقة المظلمة، وبكل شهاب يضي ء وينطفي في هذه السماء الواسعة، وبكل موجٍ يرتفع ويهدر على سطح المحيطات، وبكل نطفةٍ تنعقد في ظلمات الرحم، وبالتالي بكل فكرةٍ تخطر على بال أحد.

وعلمه بالأزل والأبدِ واحد، وإحاطته العلمية بملايين مليارات السنوات الماضية والمستقبلية كإحاطته بالحاضر، وبحضوره في كل مكانٍ وزمان فلم يبق للبعيد والقريب والماضي والحاضر والمستقبل معنىً، فجميعها متساوية لديه جلّ شأنه.

هذه هي الحقيقة التي تُنتقى من مجموع الآيات القرآنية، والتفكرّ بها له أثر كبير في عقائدنا وأعمالنا. وبعد هذه الإشارة نعود إلى القرآن الكريم لنتأمل خاشعين في الآيات القرآنية التالية:

1- «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَىْ ءٍ عَلِيمٌ». (البقرة/ 231)

2- «قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِى صُدُورِكُمْ أَو تُبدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِى السَّماواتِ وَمَا فِى الأَرضِ». (آل عمران/ 29)

3- «وَهُوَ اللَّهُ فِى السَّماواتِ وَفِى الأَرضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَاتَكْسِبُونَ».

(الانعام/ 3)

نفحات القرآن، ج 4، ص: 50

4- «وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لَايَعلَمُهَا إِلّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِى البَرِّ وَالبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلّا يَعلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِى ظُلُمَاتِ الأَرضِ وَلَا رَطْبٍ

وَلَا يَابِسٍ إِلّا فِى كِتَابٍ مُّبينٍ».

(الانعام/ 59)

5- «أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلّامُ الغُيُوبِ». (التوبة/ 78)

6- «وَمَا تَكُونُ فِى شَأنٍ وَمَا تَتلُوا مِنهُ مِنْ قُرآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلّا كُنَّا عَلَيكُمْ شُهُوداً إِذ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعزُبُ عَن رَّبِّكَ مِنْ مِّثقَالِ ذَرَّةٍ فِى الأَرضِ وَلَا فِى السَّمَاءِوَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلّا فِى كِتَابٍ مُّبينٍ». (يونس/ 61)

7- «يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِى الأَرضِ وَمَا يَخرُجُ مِنهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعرُجُ فيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ». (الحديد/ 4)

8- «أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ». (الملك/ 14)

9- «وَلَوْ أَنَّمَا فِى الأَرضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزيزٌ حَكِيمٌ». (لقمان/ 27)

10- «إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِى الْأَرحَامِ وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَّاذا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدرِى نَفسٌ بِأَىِّ أَرضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَليمٌ خَبيرٌ». (لقمان/ 34)

11- «وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ* وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِى السَّمَاءِ وَالأَرضِ إِلّا فِى كِتَابٍ مُّبينٍ». (النمل/ 74- 75)

12- «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الأَنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسوِسُ بِهِ نَفسُهُ وَنَحنُ أَقرَبُ إِلَيهِ مِنْ حَبلِ الوَرِيدِ». (ق/ 16)

شرح المفردات:

«العلم»: في الأصل بمعنى إدراك حقيقة شي ء معين، وهو على نوعين، إدراك ذات الشي، وإدراك صفات الشي ء، والأول يتعدّى إلى مفعولٍ واحد كقولك: (علِمْتُهُ)، والثاني يتعدّى إلى مفعولَين، كقوله تعالى «فَإِنْ عَلِمتُمُوهُنَّ مُؤمِناتٍ». (الممتحنة/ 10)

نفحات القرآن، ج 4، ص: 51

ومن جهةٍ اخرى فإنّ العلم على قسمين: لأنّه تارة يراد منه الجانب (النظري) وهو ما يرتبط بالمسائل الفكريّة والعقائديّة، وأحياناً اخرى الجانب (العملي) وهو ما يرتبط بالمسائل العمليّة كالعبادات

والمسائل الاجتماعيّة.

ومن جهة ثالثة أيضاً يُقسَّمُ العلم إلى قسمين: (عقلي) و (سمعي)، فالأول يُسْتحصل بالدليل العقلي، والثاني من لسان الوحي، وقد ورد في مقاييس اللغة بأنّ العلم في الأصل بمعنى ذلك الأثر الذي بواسطته يُعرف شي ء معين، لذا فقد وردت كلمة (التعليم) بمعنى وضع العلامات وكلمة (العَلَمْ) بمعنى الراية.

«علّام»:- على وزن جبّار- وعلّامة كلاهما تعنيان العالِم الغزير العلم.

و «العلَمْ»:- على وزن قَلمْ- ورد بمعنى الجبل الشاهق أيضاً، و (العَيْلَم) بمعنى البحر أو البئر الملي بالمياه، كان هذا مجمل ما قاله المحققون حول تفسير كلمة (العِلْم).

جمع الآيات وتفسيرها

اللَّه عز وجل عالم بكل شي ء:

بيّنت الآية الأولى بتعبيرٍ مختصر وذي معنى أنّ اللَّه بكل شي ء عليم، بدون استثناء، فقالت: «وَاعلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَىْ ءٍ عَلِيمٌ».

وقد تكرر هذا التعبير والتأكيد، في أكثر من عشر مّرات في السور القرآنية المختلفة، بنفس هذه العبارة أو بعبارات مشابهة لها، وهو يمثل أصلًا قرآنياً كلياً في وصف علم اللَّه.

إنّ هذه العبارة من هذه الآية- التي هي محلُّ بحثنا- قد وردت بعد أن ذكرت قسماً من حقوق النساء والأحكام الإلهيّة الخاصة بها، والتي ورد فيها تحذير لذوي الاغراض الخبيثة الذين يرومون استغلال هذه القوانين الإلهيّة بصورة سيئة، وقد بيّن القرآن هذه الجملة في آيات اخرى أيضاً بعد تذكيره بضرورة التزام التقوى أو أحكامٍ اخرى، أو ذكره لبعض الصفات الإلهيّة وما شاكل ذلك، كل هذا من أجل بيان هذه الحقيقة، وهي أنّ الأحكام التي

نفحات القرآن، ج 4، ص: 52

وضعها اللَّه حكيمة وذات مصالح وأغراض وفلسفة معينة من جهة، وأيضاً فإنّها تحذير لجميع المتخلفين عنها، الذين يعلم اللَّه أعمالهم ونيّاتهم من جهة اخرى والأثر التربوي لهذا الاعتقاد بالنسبة للإنسان واضحٌ، فمن البديهي أنّ الذي يعلم ويدرك بأنّ الأمر صادرٌ ممن

أحاط علمه بجميع أسرار الوجود وكل ما يحتاجه الإنسان، وكذلك يعلم أنّ من يراقبه عالم بكل شي ء، فمن البديهي أن لا يجيز لنفسه ارتكاب أدنى مخالفة.

يعلَمُ نيّاتكم:

تحدثت الآية الثانية عن اطلاع اللَّه سبحانه على نيّات البشر، وعلى أسرار جميع موجودات عالم الوجود، فقالت: «قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِى صُدُورِكُمْ أَو تُبدُوهُ يَعلَمْهُ اللَّهُ».

وكذلك: «وَيَعْلَمُ مَا فِى السَّماوَاتِ وَمَا فِى الأَرضِ».

فهذه الآية أيضاً تحذّر الناس من التهرّب من إنجاز وظائفهم ومسؤولياتهم باختلاق حُجج مختلفة (كحجة التقيّة التي ورد ذكرها في الآية التي سبقتها)، لأنّ الذي يحاسبهم لا يعلم أسرارهم التي يضمرونها في قلوبهم وما في صدورهم فحسب، بل يعلم جميع أسرار السموات والأرض.

ولقد ورد نفس هذا المفهوم والمعنى في سورة البقرة أيضاً، لكنّه- سبحانه- قال هناك:

«وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِى أنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ». (البقرة/ 284)

ومن المسُلم به هو أنّ المحاسبة فرع من العلم والاطلاع، وتعبير (صدور) الذي ورد في الآية السابقة بمعنى النفوس بقرينة هذه الآية، ثم أنّ وقوع القلب في الصدر، ووجود علاقة وثيقة بين ضربات هذا القلب وبين بقاء الإنسان على قيد الحياة، علاوة على أنّ أي تغيير نفسي يترك أثراً في القلب، كان استعمال القرآن الكريم في آياته لكلمة (القلب) كناية عن الروح والنفس.

وبتعبير آخر، فإنّ أي انفعال نفسي وروحي يقع للإنسان، من قبيل الميول والاغراض

نفحات القرآن، ج 4، ص: 53

الحب والبغض، الفرح والحزن، الخوف والهلع، الهدوء وراحة البال، الجهر والأسرار، سوف تكون له آثار مادية على القلب أولًا، ويكون لهذه الآثار ردود فعل من بينها زيادة أو قلّة ضربان القلب، هدوء القلب أو اضطرابه واختلال في ضغط الدم، كل ذلك استجابة للحالة الروحية التي يتعرض لها الإنسان.

وبغير ذلك

فمن البديهي أنّه لا القلب مركز الاحساسات الروحية ولا الصدر، ولا حتّى الدماغ، وجميع هذه الامور ترتبط بروح الإنسان التي ما وراء هذه الأعضاء ولهذا فقد قيل:

إنّ القلب قد يأتي بمعنى العقل أحياناً «1».

يعلم السر والجهر:

الآية الثالثة- علاوة على ما ورد في الآيات السابقة- تتعرض إلى مسألة علم اللَّه بأعمال الإنسان بشكل خاص، حيث قالت: «وَهُوَ اللَّهُ فِى السَّمواتِ وَفِى الأَرضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ».

وقد أوضح القسم الأول من الآية حضور اللَّه في كل نقطة من عالم الوجود، أمّا القسم الثاني فقد ذكر علمه سبحانه، والقسم الثالث إحاطته جلّ وعلا بأعمال الناس وهي بصورة عامّة انذار لجميع الناس «2».

ومن البديهي أنّ المقصود من حضوره- جلّ وعلا- في السموات والأرض لا يُراد منه الحضور المكاني، لأنّه ليس جسماً ليحل بمكان، فحضوره بمعنى الإحاطة الوجودية، فهو سبحانه قد أحاط بكُلّ شي ء علماً، وكل شي ء حاضر عنده.

وأمّا معنى قوله تعالى «ويعلم ما تكسبون»؟ فقد قال بعض المفسرين: بأنّه دليل على

__________________________________________________

(1) لزيادة التوضيح راجع التفسير الأمثل، ذيل الآية 7 من سورة البقرة.

(2) تفسير المنار، والمراغي، في ذيل الآية مورد البحث.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 54

اطلاع اللَّه على السر والجهر «1» (الباطن والظاهر)، وبتعبير آخر اطلاعه على النيات القلبية والأعمال الظاهرية، وقال الآخرون بأنّها إشارة إلى حالات وصفات روحية ومعنوية يبلغها الإنسان بأعماله، وعليه فهي ذات مفهوم جديد مغاير للسّر والجهر «2».

وقال آخرون أيضاً: «السّر هذا بمعنى النيّات والجهر بمعنى الحالات وما تكسبون بمعنى الأعمال» «3»

.

إنّ هذه التفاسير الثلاثة مناسبة كلها، ولكن من خلال تتبع موارد استعمال مادة «كسب» في القرآن الكريم، فإنّ التفسير الثالث يعتبر أقرب إلى الصواب.

وعنده مفاتح الغيب:

بيّنت الآية الرابعة سعة علم اللَّه اللامحدود بتعابير لطيفة اخرى مع ذكر شي ء من التفصيل، فقالت أولًا: «وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغَيبِ لَايَعلَمُهَا إِلَّا هُو».

ثم أشارت إلى جوانب من الغيب فقالت: «وَيَعْلَمُ مَا فِى البَرِّ وَالبَحْرِ» و: «وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعلَمُهَا

وَلَا حَبَّةٍ فِى ظُلُمَاتِ الأَرضِ»، حتى قال في كلمة شاملة ورائعة: «وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِى كِتَابٍ مُّبينٍ».

تُعدّ هذه الآية الشريفة من أشمل الآيات القرآنية التي تحدثت عن علم اللَّه اللامتناهي باسلوب دقيق جدّاً.

فابتدأت من علم الغيب إلى ما في البر وأعماق البحر وما تسقط من الأشجار من أوراق، ثم الحبات الخفية في ظلمات الأرض والبراري والجبال والأودية والغابات، التي تنتظر

__________________________________________________

(1) تفسير روح المعاني، ج 7، ص 79.

(2) تفسير الميزان، ج 7، ص 9.

(3) تفسير مجمع البيان، ج 4، ص 274.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 55

الغيث لتنبت، فعدتها جميعا ضمن دائرة علم اللَّه المطلق.

لو أمعنا النظر في مفاهيم هذه الآيات وتصورنا آلاف الملايين من الكائنات الحية الموجودة في البر والبحر بأنواعها العجيبة المذهلة. ولو تصورنا مجموع أشجار الكرة الأرضية مع جميع أوراقها وعدد مايسقط منها في كل يومٍ وكل ساعة وكل لحظة، والمكان الذي تسقط فيه، وكذلك لو تصورنا مجموع حبوب النباتات التي تنتقل على سطح الأرض- بواسطة البشر، والرياح وأنواع الحشرات والسيول وماشاكل ذلك- وتنتظر دورها في ظلمات الأرض للإنبات والنمو، وعلمنا بأنّ اللَّه سبحانه وتعالى قد أحاط علماً بجميع هذه الامور وبجميع مشخّصاتها وجزئياتها، لأدركنا سهولة إحاطته تعالى بأعمالنا.

لقد فسّرت روايات عديدة، منقولة عن أهل البيت عليهم السلام، «ظلمات الأرض» بالرحم و «الحبة» بمعنى الولد، و «الورقة» بمعنى الأجنة الساقطة، و «الرطب» بمعنى النطف التي تعيش و «اليابس» بمعنى النطف التي تموت وتجف.

وأشار بعض مفسّري أهل السنة كالآلوسي في كتابه (روح المعاني) إلى هذا الحديث بتعجب، واعتبره على خلاف ظاهر الآية.

صحيح أنّه وبالنظرة الاولى يبدو من ظاهر الآية أنّها تُشير إلى حبّات النباتات، لكن الحديث أعلاه أشار إلى مفاهيم

تستنبط من هذه الآية بالدلالة الالتزامية، لأنّه لا يوجد تفاوت جذري بين النطفة والحبّة، وهكذا بين باطن الأرض وظلمات الرحم، والعالم بالاولى هو عالم بالثانية بسهولة لأنّهما متشابهتان مع بعضهما «1».

وعلاوة على ذلك فإنّ أئمّة أهل البيت عليهم السلام كانوا يعلمون باطن القرآن كظاهره، وهذا التفسير يحتمل أن يكون جزءاً من الباطن.

وقد فسّر المفسرون الرطب واليابس بمعان كثيرة، منها أنّهم قالوا: بأنّ الرطب بمعنى الكائن الحي: واليابس بمعنى الميت، أو الرطب بمعنى المؤمن، واليابس بمعنى الكافر، أو الرطب بمعنى الكائن الحي، واليابس بمعنى الجماد، أو الرطب بمعنى العالم، واليابس بمعنى الجاهل «2».

__________________________________________________

(1) ورد في تفسير البرهان خمسة أحاديث في هذا المجال منقولة عن الإمام الصادق والكاظم والرضا عليهم السلام.

(2) تفسير روح البيان، ج 3، ص 44؛ و تفسير روح المعاني، ج 7، ص 149.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 56

لكن الظاهر أنّ هذا التعبير كناية عن العموم والشمول في عالم المادة، كما يستعمل أحياناً في التعابير اليومية التي تحتاج إلى هذا المعنى

إنّه علّام الغيوب:

تشير الآية الخامسة- بقرينة الآيات السابقة لها إلى المنافقين، فتقول: «أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ» و: «أَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الغُيُوبِ».

وتعبير «علّام الغيوب» تعبير جديد يمر علينا في هذه الآية، ونظراً لكون «علّام» صيغة من صيغ المبالغة ولفظ «الغيوب» لفظاً عاماً، فإنّه يشمل جميع خفيات عالم الوجود بأكمله وعالمي الطبيعة وما وراء الطبيعة.

واللطيف هو أنّ جميع الآيات القرآنية التي تناولناها في بحثنا لحد الآن حول علم اللَّه، وردت كتحذير للناس لكي يراقبوا أعمالهم وأقوالهم ونيّاتهم، أي أنّها أشارت إلى المسائل التربوية قبل كل شي ء.

«النجوى»: من نجوة و «نجاة» في الأصل بمعنى المكان المرتفع، ومن حيث إنّ الشخص إذا أراد

أن يحدث صاحبه بسرّ معين فانّه ينفرد به في مكان منعزل، فإنّ هذه الكلمة وردت هنا بمعنى الهمس في الاذن.

موجودٌ في كل مكان:

تحدثت الآية السادسة في البداية عن شهادة اللَّه على أعمال وأقوال وحالات الإنسان، ثم عن سعة علمه واحاطته بكل شي ء في الوجود، وفي الحقيقة فإنّ لهاتين المسألتين ارتباطاً لطيفاً مع بعضهما، قال سبحانه: «وَمَا تَكُونُ في شَأنٍ وَمَا تَتلُوامِنهُ مِنْ قُرآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيكُمْ شُهُوداً إِذ تُفيضُونَ فِيهِ» «1»

.

__________________________________________________

(1) ذكر المفسّرون ثلاثة احتمالات حول مرجع ضمير (منه): الأول أنّه يعود إلى (اللَّه) والثاني ضمير (الشأن) والثالث على (القرآن) لكننا نعتقد بأنّ الاحتمال الأول أقوى ويصير مفهوم الآية كالتالي: (وما تتلو أيّ قسمٍ من القرآن عن اللَّه عزوجل إلّا ....) والدليل على هذا التفسير هو الآية السابقة لهذه الآية والتي تقول: (ما معناه) (بأن ما كان ينسبه الكفار إلى اللَّه تعالى إنّما هو كذب وافتراء) فقالت هذه الآية: بأنّ نبي الإسلام منزّه عن القيام بمثل هذه الأعمال وأنّ جميع ما يخبر به هو من عند اللَّه.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 57

والجدير بالذكر هو أنّ المخاطب في الجملتين الأوليتين هو الرسول صلى الله عليه و آله، حيث أشارت إلى الشأن، (أي الحالات والأعمال المهمّة)، وتلاوة القرآن الكريم، أمّا المخاطب في الجملة الثالثة التي تحدثت عن مطلق الأعمال، فهم الناس بأجمعهم.

وعلى أيّة حال، بما أنّ المخاطب في بداية الآية هو الرسول صلى الله عليه و آله وفي الذيل هم جميع الناس، فانّها تدل على العموم والشمول.

وعلاوة على ذلك فهي تشمل حالات الإنسان وأقواله وأعماله (الاستناد إلى تعابير الشأن والتلاوة والعمل).

و «الشهود»: جمع «شاهد»، وهو بمعنى الحاضر والناظر والمراقب (واستعمال صيغة الجمع بخصوص الباري-

كما وضّحنا هذه المسألة كراراً- إنّما هو كناية عن عظمته وعلو مقامه سبحانه وتعالى ، ولهذا التعبير مفهوم أوسع من مفهوم العلم، وهو في الواقع يشير إلى حقيقة كون علم اللَّه علماً حضورياً، وسنشرح ذلك في قسم التوضيحات.

«تفيضون»: من «الافاضة» وهي في الأصل بمعنى امتلاء الإناء بالماء بحيث ينساب من حافته، وهذه الكلمة تستعمل بمعنى الشروع بالأعمال باقتدار أو بصورة جماعة، وقد وردت في هذه الآية بهذا المعنى أيضاً.

ثم أضاف سبحانه قائلا: «وَمَا يَعزُبُ عَنْ رَّبِّكَ مِنْ مِّثقَالِ ذَرَّةٍ فِى الأَرضِ وَلَا فِى السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أكْبَرَ إِلَّا فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ».

«يعزب»: من «العزوب»- على وزن «غروب»- وهو بمعنى البعد والانزواء والغيبة، وقال بعض اللغويين والمفسّرين: بأنّه بمعنى الابتعاد عن العائلة وفراق الأهل لتحصيل مرتع للمواشي، ويُطلق «عزبْ» و «عازب» على كل من يبقى بعيداً عن أهله، أو كل من لم

نفحات القرآن، ج 4، ص: 58

يتزوج أيضاً، وكذلك يُطلق على أي لون من الفراق والغيبة «1».

ويعد هذا التعبير في هذه الآية إشارة لطيفة إلى حضور جميع الأشياء بين يدي اللَّه، فحقيقة علم اللَّه هو هذا «العلم الحضوري، كما سنذكره فيما بعد.

وكما قلنا سابقاً فإنّ المقصود من «الكتاب المبين» هو علم اللَّه الذي يعبَّر عنه ب «اللوح المحفوظ» أيضاً، والمثقال معناه، «الوزن» و «الذرة» فسرت بعدة وجوه منها: الديدان الصغار والغبار الذي يلتصق باليد، وذرّات الغبار العالقة في الفضاء والتي تُرى عندما تدخل أشعة الشمس في الغرفة المظلمة، وأيا كان من هذه التعابير فإنّه كناية عن منتهى الصغر والدقة في الحجم وتلويح بسعة علم اللَّه سبحانه وتعالى

وهو معكم اينما كنتم:

في الآية السابعة نلاحظ نقطتين جديدتين في مجال علم اللَّه: «يَعْلَمُ مَا يَلِجُ

فِى الأَرضِ وَمَا يَخرُجُ مِنهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعرُجُ فِيهَا».

وعليه فهو يعلم بكل مايلجُ في الأرض من جميع بذور النباتات وقطرات الغيث وجذور الأشجار والمعادن والذخائر والكنوز والدفائن وأجساد الموتى وأنواع الحشرات التي تتخذ من أعماق الأرض بيوتاً لها.

وكذلك يعلم بكل النباتات التي تنبت في الأرض وتخرج منها، والكائنات الحيّة التي تخرج منها، والمعادن والكنوز التي تظهر، والمواد المنصهرة التي تخرج من بطون الأرض على صورة براكين، وعيون الماء الصافية أو المياه المعدنية الساخنة التي تنبع من الأرض، وأشعة الشمس الحيوية، وقطرات الغيث التي تسقط من السماء، والشُهُب والنيازك

__________________________________________________

(1) مقاييس اللغة؛ مفردات الراغب؛ لسان العرب.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 59

والحبّات التي تنقلها الرياح من مكان إلى آخر، وكذلك يعلم بما يعرج إلى السماء من الملائكة وأرواح الناس، وأنواع الطيور والغيوم التي تتكوّن من مياه المحيطات والبحار، وبالتالي فهو سبحانه قد أحاط علماً بأدعية وأعمال الناس التي تعرجُ إلى السماء.

ولو أمعنا النظر في هذه الحقيقة أي بأنواع الكائنات الموجودة في هذه العناوين الأربعة، لأدركنا عظمة وسعة علم اللَّه.

والنقطة الاخرى هي قوله سبحانه في نهاية الآية: «وَهُوَ مَعَكُمْ أيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصيرٌ».

فما أجمله وألطفه من تعبير؟ إنّه تعالى يقول: إن كان الحديث في بداية الآية عن علم اللَّه بمختلف الموجودات الأرضية والسماوية فإنّ هذا لا يعني أبداً أن تعبدوهُ بعيداً عنكم، فإنّه معكم أينما كنتم، وهو يرى أعمالكم، فإنّه لم يقل: «يعلم» بل قال: «بصير» وهذا دليل على الحضور والمشاهدة.

واللطيف في هذه الآية هو الاستعانة بمسألة علم اللَّه لتربية الإنسان أيضاً.

فمن جهة تقول- هذه الآية- للإنسان: إنّك لست وحيداً فهو تعالى معك أينما كنت، فتمنح بذلك لروحه السكينة، ولقلبه الصفاء،

ومن جهة اخرى تقول له: أنت بين يدي اللَّه والعالم كُله في قبضته فراقب أعمالك جيداً. وبهذا الترتيب تجعله دائماً بين الخوف والرجاء.

ومن البديهي فإنّ هذه المعيّة لا تعني الحضور المكاني بل هي إشارة إلى احاطة علم اللَّه بكل شي ء.

الخالق عليم بخلقه:

جاءت الآية الثامنة باستدلال واضح، ملموس لإثبات علم اللَّه المحيط بكل شي ء وبجملة مختصرة وغنية جدّاً، كما هو شأن القرآن الكريم- حيث قال تعالى «أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطيفُ الخَبيرُ» «1»

.

__________________________________________________

(1) يوجد احتمالان في معنى هذه الجملة في الآية الشريفة، الأول: أن تكون (من) فاعل ل (يعلم). والآخر: أن تكون (من) مفعولًا وفاعله ضمير مستتر يعود على (اللَّه). ففي الصورة الاولى يكون معنى الآية هكذا: «هل أنّ الخالق لا يعلم؟» وفي الصورة الثانية يكون المعنى «هل أنّ خالق الكائنات لا يعلم بها» والنتيجة واحدة بالرغم من أنّ الأول أقرب.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 60

لو أردنا أن نشرح هذا الدليل بشكل بسيط نقول: بأنّ نظام موجودات الكون يدلّ على أنّها- الموجودات- خلقت وفق خطة وأهداف معينة وبرنامج دقيق، وعليه فإنّ خالق هذه الموجودات يعلم بجميع أسرارها حتى قبل خلقها.

ولو التفتنا إلى مسألة ديمومة واستمرار خلق اللَّه، وأنّ جميع الممكنات مرتبطة مع واجب الوجود في الوجود وفي البقاء، وفيض الوجود يفيض من ذلك المبدأ الفيّاض على المخلوقات في كل آن، لأدركنا بأنّ علمه وإحاطته بجميع موجودات عالم الوجود دائم وسرمدي وفي كُل مكان وزمان، فتأمل.

والجدير بالالتفات هو أنّ الآية ابتدأت باستفهام استنكاري، فهي تطلب الإجابة من سامعها، أي أنّ الموضوع بدرجة من الوضوح بحيث إنّ كل من يراجع عقله ووجدانه يعلم أو يدرك بأنّ الخالق لأي شي ء خبير به حتماً «1».

و «لطيف»: من ماة «لطف»، وهو

هنا بمعنى خالق الموجودات اللطيفة والأشياء الظريفة والدقيقة جدّاً، أو بمعنى من أحاط بها علماً.

وقالوا أيضاً في معنى الخبير: بأنّه من يعلم بالأسرار الخفية، ووصفه تعالى بهاتين الصفتين تلويح عن علمه بأسرار الكون ورموزه الخفية.

والجدير بالملاحظة هو أنّ اللَّه قد خاطب الناس قبل هذه الآية فقال: «وَأَسِرُّوا قَوْلَكُم أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ». (الملك/ 3)

ثم طرح الاستدلال المذكور أعلاه لإثبات هذه القضية. وعليه فإنّ الاستناد إلى هذه الآية في الاستدلال على إثبات علم اللَّه سبحانه يدلّ على أثرها التربوي أيضاً.

يتّضح ممّا قِيل حول تفسير هذه الآية بأنّ مفهومها واسع جدّاً، وينبغي أن لا تحدد بعلم اللَّه بأعمال الناس ونيّاتهم وعقائدهم فحسب، بل هي في الحقيقة دليل كُلي ومنطقي على علم اللَّه، وقد جاءت لتوضيح جانب تربوي معين.

__________________________________________________

(1) الاستفهام الاستنكاري يعطي معنى النفي، ووجود لا النافية في الآية يصبح نفي النفي إثبات.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 61

ولو أنّ ما في الأرض من شجرة أقلام و ...:

تناولت الآية التاسعة مسألة سعة علم اللَّه سبحانه، حيث جسمت هذه المسألة أمام نظر الجميع بالأعداد والأرقام حيث قالت: «وَلَوْ أَنَّمَا فِى الأَرضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقلَامٌ وَالبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ».

قد وردت في سورة الكهف آية مشابهة لهذه الآية مع فارق بسيط، فلنبدأ بالاحصاء هنا ولنتأمل قليلًا لنرى هل من الممكن أن نحصل على عشرات الأقلام من شجرة واحدة تكفي- الأقلام التي حصلنا عليها من عدد من الأشجار- لكتابة جميع علوم الإنسان المدونة في الآف الكتب منذ الآف السنين ولحد الآن؟ من المحتمل أننا نحتاج لحل هذه المعضلة إلى حوض من الحبر بحجم المسابح الصغيرة.

فلْنتصّور إذن المقدار الخيالي لجميع الغابات والأشجار في جميع البساتين، والكثير من البراري

والجبال ولْنتصور ملايين الأمتار المكعبة من مياه المحيطات والبحار، الذي يبلغ ثلاثة أرباع حجم الكرة الأرضية، بعمقه الكبير، ثم نضيف على هذا الرقم الخيالي سبعة أمثاله (هذا إذا اعتبرنا العدد 7 يدلّ على نفس العدد لا على قصد الكثرة) لنتج لنا رقما خيالياً عجيباً! فأي علم يحيط به؟

والأكثر من هذا أنّ القرآن الكريم يقول: إنّها جميعاً تنفد ولا تنفد كلمات اللَّه، فهل يوجد تعبير أقوى وأبلغ من هذا التعبير الدال على لامحدودية علم اللَّه؟ فذكر الأعداد والأرقام، وإضافة الأصفار إلى جانب عدد معين لا يمكنه أن يعكس عظمة ذلك العدد، فكأنّ الأعداد جامدة لا قيمة لها، لكن العدد الذي ورد في هذه الآية، كناية عن اللانهاية هو عدد محسوس وناطق وغني.

أمّا كلمة «البحر» فنظراً لكون الالف واللام الموجودة فيه تدلّ على العموم في مثل هذه الحالات، لذا فهي تعم جميع البحار الموجودة على سطح الأرض. وبغض النظر عن ذلك فإنّ جميع بحار الأرض متصلة مع بعضها، فهي تعتبر بحراً واحداً ويصحّ استعمال صيغة المفرد فيها.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 62

لذا فإنّ المقصود من «سبعة ابحر» هو إضافة سبعة أمثال جميع البحار الموجودة على سطح هذه الأرض إلى مقدارها الأصلي، و «كلمات اللَّه» علمه سبحانه، أو الموجودات التي أحاط بها علمه. ومن حيث إنّ علمه لامتناهٍ وجميع البحار والأشجار- الموجودة- متناهية، لذا من البديهي أن تكون عاجزة عن احصاء علمه.

واللطيف هو تعبيره سبحانه في الآية بكلمة «شجرة» بصيغة المفرد، و «أقلام» بصيغة الجمع للدلالة على إمكان صياغة الأقلام الكثيرة من ساق وجذع واحد.

وبالرغم من أنّ هناك احتمالين حول المقصود من العدد سبعة وهما: «العدد» و «الكثرة»، لكنّه يظهر من الآية بأنّ المقصود منه الكثرة لا العدد،

أي مهما أضيفت إليه أبحر اخرى أيضاً فإنّ كلمات اللَّه بالرغم من ذلك لانفاد لها.

والجملة الأخيرة من هذه الآية «إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» تؤكد هذه المسألة أيضاً، لأنّ اللَّه تعني قدرته اللامتناهية في الخلق والإيجاد، وحكمته أيضاً تدلّ على إحاطته علماً بدقائق وأسرار موجودات العالم.

والأخير حول هذه الآية هو أنّه نقل عن شأن نزولها بأنّ جماعة من اليهود قالوا: بأنّ اللَّه قد ذكر كل شي فى التوراة ولم يُبق شيئاً فقال الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله: مثل ما ورد في التوراة بالنسبة إلى كلام اللَّه كالقطرة من البحر، فنزلت هذه الآية وبيّنت سعة علم اللَّه.

وروي كذلك بأنّ هذه الآية نزلت عندما قال جماعة من الكفار: إنّ ما يأتي به محمد سينتهي قريباً، فردهم الرسول صلى الله عليه و آله: بأنّ هذا كلام اللَّه ولا نفاد له، فنزلت هذه الآية لتبيان هذا المعنى «1».

عنده مفاتح الغيب الخمسة:

لقد عرضت الآية العاشرة أيضاً قسما آخر من علم اللَّه تعالى وهو العلوم الغيبيّة المخصوصة بذاته المقدّسة، وأكدت بأنّ لا أحد يحيط بحقيقتها سواه، قال تعالى «إِنَّ اللَّهَ

__________________________________________________

(1) تفسير الكبير، ج 25، ص 117؛ و تفسير القرطبي، ج 8، ص 5158.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 63

عِندَهُ عِلمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِى الْأَرحَامِ». (من حيث نوع الجنس وما يتعلق به والسلامة، ومن حيث سائر الاستعدادات والقدرات الاخرى . «وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدرِى نَفسٌ بِأَيِّ أَرضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبيرٌ».

ما ذُكر في هذه الآية من علم اللَّه يعكس بوضوح موعد القيامة، لكن لحن الآية يدلّ على اختصاص علم الامور الأربعة المذكورة بعد هذا الأمر باللَّه سبحانه أيضاً، لأنّه لا يُرى تشابه بين هذه

المواضيع الخمسة سوى من حيث كونها علوماً خاصّة باللَّه سبحانه، علاوة على ماصرحت به الكثير من الروايات المنقولة من طرق الشيعة والسنة عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله والأئمّة المعصومين عليهم السلام، حول اختصاص هذه العلوم الخمسة بذاته المقدّسة جلّ وعلا، وكنموذج ننقل هنا حديثاً من تفسير (الدر المنثور) وآخر من تفسير «نور الثقلين»:

1- ورد في (الدر المنثور) عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: «ومفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلّا اللَّه، لايعلم ما في غدٍ إلّااللَّه، ولا متى تقوم الساعة إلّااللَّه، ولا يعلم ما في الأرحام إلّا اللَّه، ولا متى ينزل الغيث إلّااللَّه، وما تدري نفس بأي أرض تموت إلّااللَّه» «1»

.

2- ورد في (نور الثقلين) عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «ألا أخبركم بخمسة لم يُطْلع اللَّه عليها أحداً من خلقه؟ قلت: بلى قال: إنّ اللَّه عنده علم الساعة ويُنزلُ الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفسٌ ماذا تكسبُ غداً وما تدري نفسٌ بأي أرضٍ تموت إنّ اللَّهَ عليمٌ خبير» «2»

.

وقد وردت روايات كثيرة اخرى أيضاً في كتب الحديث حول هذا الموضوع «3».

الإجابة عن سؤالين:

السؤال الأول: كيف أنّ هذه العلوم الخمسة مختصة باللّه سبحانه وتعالى مع أنّه من الممكن تشخيص جنس الجنين (ذكر أم انثى بوسائل معينة؟ وإن لم تكن هذه المسألة

__________________________________________________

(1) تفسير درّ المنثور، ج 5، ص 169.

(2) تفسير نور الثقلين، ج 4، ص 218.

(3) للمزيد من الاطلاع يراجع تفسير درّ المنثور، ج 5، ص 169 وما بعدها؛ وتفسير نور الثقلين، ج 4، ص 218 وما بعدها؛ وتفسير البرهان ج 3، ص 280.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 64

قطعية لحد الآن، وكذلك نزول الغيث حيث يستنبأ

بنزوله قبل هطوله بقليل.

الجواب: الكلام لا يدور فقط حول جنس الجنين بل إنّ اللَّه سبحانه يعلم عدد الأجنة الموجودة في الأرحام، ووضعيتها واستعداداتها وأذواقها، ومواهبها، وقدراتها وضعفها وجميع خصوصياتها، وهكذا عن الغيث، فقد أحاط علمه بكمية الغيث ونوعيته وعدد قطراته ووزنها ومحل سقوطها. ولا أحد يمكنه أن يحيط علماً بهذه الأمور وبأي وسيلة كانت.

والشاهد على كلامنا هذا هو حديث ورد في نهج البلاغة حول تفسير هذه الآية:

«فَيَعْلَمُ اللَّهُ سُبْحانَهُ ما فِي الْارْحامِ مِنْ ذَكَرٍ او انْثى وَقَبيحٍ اوْ جَميلٍ وَسَخِيٍّ اوْ بَخيلٍ ...

فَهذا عِلْمُ الْغَيْبِ الَّذي لايَعْلَمُهُ احَدٌ الَّا اللَّهُ» «1».

تدلّ هذه العبارة بوضوح على أنّ المقصود هو العلم بجميع صفات الجنين الجسمية والروحية، لا جنس الجنين فقط.

السؤال الثاني: كيف يمكن الجمع بين هذه الآية والروايات الكثيرة التي وردت في تفسيرها وبين الروايات الكثيرة التي صرحت بأنّ الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله والأئمّة المعصومين عليهم السلام كانوا يُخبرون عن حوادث المستقبل، أو يوم وفاتهم، ومحل دفنهم، وسائر الامور المستقبلية، ألا يوجد تعارض بين هاتين المجموعتين؟ لأنّ الآية تقول: «وَمَا تَدرِى نَفسٌ مَّاذَا تَكسِبُ غَداً وَمَا تَدرِى نَفسٌ بِأَىِّ أَرضٍ تَمُوتُ»؟

الجواب: يمكن الإجابة عن هذا الإشكال بأنّ الفرق هو في الإجمال والتفصيل بتوضيح أن ما يخبر به أولياء اللَّه أو الملائكة عن حوادث المستقبل وعلم الغيب ليس إلّاعلماً إجماليّاً، فمثلًا يعلمون بأنّ الشخص الفلاني سيموت في الغد، أمّا العلم بساعة ولحظة وفاته وبقية خصائصها فهو مختص به سبحانه، فهذا علم تفصيلي وكلي وشامل، في حين أنّ علم أولياء اللَّه علم إجمالي وجزئي.

وقد أراد بعض المفسرين الرد على هذا الإشكال عن طريق العلم الذاتي والعرضي

__________________________________________________

(1) نهج البلاغة، الخطبة 128.

نفحات القرآن، ج 4،

ص: 65

فقالوا: إنّ علم اللَّه بهذه الامور ذاتي، وأنّ أولياء اللَّه لا يملكون لأنفسهم شيئاً، فعلمهم إنّما هو بتعليم اللَّه (أي أنّ علمهم عرضي).

لكن هذا الجواب لا يتناسب مع الكثير من الروايات المنقولة من طرق الشيعة والسنة في هذا المجال، بل وحتى لا يتطابق مع ظاهر الآية في ثلاثة موارد: أحدها انحصار علم الساعة به سبحانه، وكذلك ما تدري نفس ماذا تكسبُ غداً، وما تدري نفس بأي أرض تموت.

وكل شي ء في كتاب مبين:

أشارت الآية الحاديةُ عشرة إلى علم اللَّه بسرّ الإنسان وعلانيته، وغيب السموات والأرض، قال تعالى

«وَانَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ* وَمَا مِنْ غائِبَةٍ فِى السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ الَّا فِى كِتَابٍ مُّبيْنٍ».

وتعبيره سبحانه «ربك» إشارة لطيفة إلى هذه الحقيقة: فهل يمكن أن يكون المربي ومالك التدبير والتصرف لكل المخلوقات أن لا يحيط علماً بالحالات الباطنية والظاهرية لمن يربيه ومن هو تحت تصرفه؟ وهذه الربوبية هي بذاتها الدليل على علم اللَّه سبحانه وتعالى

«تكن» من مادة «كن» على وزن «جن». بمعنى الستارة وكل مايمكنه أن يحجب الأشياء، وقد وردت الصدور هنا كغطاء ساتر على الأسرار الباطنية، وكما أشرنا سابقاً فإنّ كلمتي الصدر والقلب قد وردتا في الكثير من التعبيرات القرآنية بمعنى الروح والعقل.

وكلمة «غائبة» إذا كانت ذات معنى وصفيّ فهي كناية عن الامور المحجوبة والخفية جدّاً. (لأنّ التاء المربوطة تأتي في مثل هذه الحالات للمبالغة كما في (علامة) «1».

__________________________________________________

(1) اعتقد بعض المفسرين كالزمخشري في كشافه بأنّ لهذه الكلمة معنى اسمياً لا وصفياً مثل (عاقبة)، و (ذبيحة)، ولو أنّه احتمل المعنى الوصفي أيضاً (تفسير الكشاف، ج 3، ص 382)، وذكر البعض الآخر كلا الاحتمالين للآية المذكورة.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 66

وقد وردت كلمة «مبين»

بمعنى واضح، وبمعنى موضَّح (لازم ومتعدي)، والمعنى الثاني هنا أقرب، أي أنّ اللوح المحفوظ أو لوح علم اللَّه مبين وكاشف للحقائق «1».

ونحن أقرب اليكم:

وفي الآية الثانية عشرة تعابير جديدة ولطيفة حول علم اللَّه، فقد طرحت فيها أيضاً مسألة علم اللَّه كتحذير لجميع الناس ليراقبوا أفكارهم ونيّاتهم، وماتكن صدورهم، قال تعالى «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ اقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيْدِ».

أشارت هذه الآية إلى قسمين من علم اللَّه تعالى

الأول: يعتمد على مسألة خلق الإنسان، أي كيف يمكن أن يجهل الخالق الحكيم فعله؟

خصوصاً وأنَّ خلقهُ مستمر وفيضه ينزل كُلَّ لحظة على جميع موجودات عالم الوجود، وبتشبيه ناقص، هو التيار الذي ينبعث من المولد الكهربائي ويزود المصابيح بالنور باستمرار.

والثاني: هو أنّه غير بعيد عن مخلوقاته، فهو أقرب إليهم من أنفسهم، لذا فحضوره الدائمي وقربه يعد دليلا آخر على إحاطته بجميع الامور.

وقد ذكرت في كتب التفسير واللغة تفاسير متعددة بخصوص كلمة «وريد» منها: أنّ (الراغب) فسره بمعنى الشريان الذي يتصل بالقلب والكبد، وقال جماعة: إنّه بمعنى وريد الرقبة.

وقال آخرون: إنّه بمعنى الوريد الذي يتصل بالفم أو تحت اللسان وفسره جماعة بأنّه بمعنى جميع الأوعية الدموية الموجودة في البدن. وبديهي فإنّ المعنى الأول (الشريان

__________________________________________________

(1) قال جماعة بأنّ «مبين» من مادّة «بيان» وهي في الأصل بمعنى الانكشاف والوضوح بعد الابهام والإجمال بوسيلة منفصلة لذا فهي تعطي معنى الانفصال ومعنى الوضوح معاً.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 67

الرئيسي الأبهر) أكثر تناسباً مع مفهوم الآية، لأنّه أراد أن يبيّن قرب اللَّه الشديد من الإنسان، وهذا المعنى أقرب خصوصاً مع ملاحظة وجود وريدين في الرقبة.

والتعبير بكلمة «حبل» يُشير أيضاً إلى أنّ المقصود ليس جميع أوردة البدن، بل الرئيسة منها،

وكما عبر البعض حيث قالوا: بأنّ المقصود هو الأوردة التي لها منزلة الأنهار لا الجداول.

وعلى أيّة حال فهذه الكلمة مشتقة من كلمة (ورود) أي بمعنى الوصول إلى الماء- التي لها تناسب واضح مع أوردة الدم.

ومن هنا يعبر عن الأزهار بالورد، أي الثمرة الاولى التي ترد من الشجرة «1».

«توسوس»: من الوسوسة والوسواس، وهو بمعنى الصوت الهادى ء الخارج من آلات الطرب، والنداء والصوت الخفي، والخواطر القلبية، والتصورات الفكرية الخاطفة، والأفكار غير المرغوبة «2».

وعلى أيِّ حال، فعندما يحيط اللَّه تعالى بالخواطر الفكرية الخاطفة، فإنّه لا يبقى مجالٌ للشك والترديد بأنّه سبحانه يحيط علماً بسائر أعمالنا وأفعالنا واعتقاداتنا. وتعبيره: ونحن أقرب إليه من حبل الوريد، إضافة إلى كونه تحذيرا، فهو ينزل علينا نوعا من السكينة الباعثة للأمل، ونور هذا الأمل هو الذي ملأ جميع أجزاء وجودنا.

أليس عجيباً أن يبتعد الإنسان من محبوبه بعد أن يعلم بأنّه أقرب إليه من نفسه؟ من الذي يقاسمنا ألم هذه المصيبة عندما يكون المحبوب قريباً من الإنسان ولكن الإنسان يحترق بنار الهجران؟

نحن أقرب قال من حبل الوريد أنت قد هاجرت عنه وتوغلّت بعيد أيّها المالي قوساً من نبال قَربُ الصيد وترمي للجبال!! وبضم الآيات القرآنية المذكورة إلى بعضها، يتضح بأنّ القرآن الكريم قد وضع برنامجاً دقيقاً واسعاً لتبيان علم اللَّه وإحاطته اللامحدودة بجميع الامور بذكر أدلة دقيقة ضمن عبارات مختلفة، وجعلها أساساً لتربية الإنسان في جميع الاحوال!

توضيحات

1- تأثير علم اللَّه في بُعدي العرفان والتربية

إنّ الأهميّة الخاصة التي أولاها القرآن الكريم لهذه المسألة تنبع أولًا من الدور المهم لمسألة علم اللَّه في بحث معرفة اللَّه، حيث تقرب الإنسان إلى ربّه وتعرفه به، وتجعله يراه في كل مكان، وأنّ معرفة اللَّه بدون معرفة جوانب علمه تعتبر ناقصة وضعيفة جدّاً.

ومن حيث

إنّ لجميع المعارف انعكاساً على أعمالنا وتصرّفاتنا الفردية والاجتماعية، وكون هذه المسألة تنبع من العلاقة الوثيقة بين (الأيديولوجية) و (النظرة العالمية) فإنّ لإدراك علم اللَّه اللامحدود آثاراً تربوية وهي كالتالي:

فمن جهة نجد أنّ الاعتقاد بوجود رقيب عليم عظيم له تأثير في ترغيب وردع الإنسان في انجاز أعماله، فعندما يقول سبحانه: «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ اقْرَبُ الَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ» وقوله: «وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَاتُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ» وقوله: «وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِى الْأَرْضِ وَلَا فِى السَّماءِ وَلَا أَصْغَرَ مِن ذلِكَ وَلَا أَكْبَرَ ...» وقوله «وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ ... وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِى ظُلَمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ»، أو قوله سبحانه:

«وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً». (الإسراء/ 17)

فإنّه تحذير شديد لجميع بني البشر وإشعار بالخوف والرجاء في كل مايصدر منهم من عمل.

ومن جهة آخرى فإنّ الاعتقاد بأنّ الناظر والرقيب علينا هو ولي نعمتنا، كأنّه يقول لنا:

__________________________________________________

(1) مفردات الراغب؛ ومقاييس اللغة؛ ولسان العرب؛ وتفسير الميزان؛ والفخر الرازي؛ والقرطبي؛ وفي ظلال القرآن وغيرها من التفاسير.

(2) «وسواس» اسم مصدري، و «الوسواس» بكسر الواو ذو معنى مصدري، وقد تأتي الكلمة (اسم فاعل) أي الشيطان، (لسان العرب).

نفحات القرآن، ج 4، ص: 69

«كيف تستعينون بنعم اللَّه وعطاياه على معصيته»؟!

ومن جانب ثالث فإنّ هذه المراقبة تُحيي بصيص الأمل في قلب الإنسان، ويشعر بعدم كونه وحيداً في مواجهة الحوادث، بل يشعر بأنّ الرقيب هو من يحيط علماً بجميع الكون ومشاكله وأسراره الباطنية والعلنية، وهو سبحانه وتعالى قدير ورحيم في نفس الوقت.

وهذه العقيدة ترفد الإنسان بالقوة والاستقامة في مواجهة المواقف الصعبة.

ومن جانبٍ

رابع فإنّ الالتفات إلى سعة علم اللَّه تعالى يدلنا على سعة وعظمة عالم الوجود، وعمق أسرار عالم الخلق والتكوين، وهذا بحدّ ذاته يمكن أن يكون دافعاً مهمّا نحو التطور العلمي.

2- الأدلة على علم اللَّه
اشارة

ذكر الفلاسفة والمتكلمون أدلّة عديدة لإثبات علم اللَّه بجميع الأمور، أهمها الأدلّة الثلاثة التالية: (والطريف هو أنّ الآيات المذكورة أشارت إلى جميع هذه الأدلة):

أ) برهان الخلق والنظم

إنّ النظام المذهل الموجود في هذا الكون، والقوانين الدقيقة التي تُسيِّر جميع ذرات الوجود، ابتداءً من الذرّة وانتهاءً بالمنظومات والكواكب السيّارة، وابتداءً من الموجودات المجهرية وانتهاء بالإنسان الذي هو أرقى نموذج في الخلق، ومن الأعشاب الاحادية الخلية التي تعيش في أعماق المحيطات، وحتى الأشجار العظيمة التي يبلغ طولها خمسين متراً!

وهكذا النظم المعقدة العجيبة التي تسيطر على روح الإنسان وقلبه، والتنوع المذهل الملحوظ في الكائنات الحية، من النباتات والحيوانات، والذي تبلغ أنواعها مئات الآلاف، فهذه جميعاً تدل على علم اللَّه اللامحدود.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 70

فهل يمكن أن يصنع أحد شيئا ويجهل أسراره؟

فخالق العين ونظام المخ المعقد، والمدارات الألكترونية العجيبة التي تدور حول نواة الذرّة، فهو عالم ومحيط بها جميعاً.

وعليه فكما يدلنا برهان النظم على وجود اللَّه فإنّه يثبت عدم محدودية علمه أيضاً.

ونظراً إلى أنّ مسألة الخلق أمرٌ مستمر ودائمي فإنّ الموجودات في حال «الصيرورة» المستمرة لا «الإيجاد» الأول فحسب، وأنّ ارتباطهم مع منشي الخلق لا يمكن أن يكون في البداية فقط، بل هو مستمر مع استمرار حياتهم ووجودهم، فسوف تثبت إحاطته العلمية بجميع الأشياء وفي كل حالٍ ومكان وزمان أيضاً.

ب) برهان الإمكان والوجوب

ثبت في بحوث معرفة اللَّه أن واجب الوجود هو اللَّه وحده سبحانه، وما سواه ممكن الوجود، وثبت أيضاً بأنّ الممكنات محتاجة وتابعة له في الوجود والبقاء معاً، وبتعبيرٍ آخر الجميع حاضر بين يديه، وهذا الحضور الدائمي دليلٌ على علمه بجميع الأمور، لأنّ العلم بحقيقة المعلوم ليست إلّاحضور ذات المعلوم عند العالم.

ج) برهان اللّاتناهي

بغض النظر عن مسألة العلّة والمعلول، فإنّ اللَّه سبحانه وتعالى وجود غير مُتناهٍ من جميع الجوانب، لذا لا يخلو منه مكانٌ أو زمان (مع أنّه لايحدّه مكان أو زمان)، لأننا لو افترضنا خلو مكان أو زمان من وجوده تعالى فقد حددناه.

لذا فعدم تناهيه يدلّ على حضوره وإحاطته بجميع الوجود، أو بتعبير آخر كُل شي ء ماثل بين يديه.

فهل يمكن أن يكون العلم غير هذا الحضور؟

وفي الحقيقة أنّ موانع العلم إمّا أن تكون حجب مادية، وإمّا بُعد المسافة، ونحن نعلم انتفاء هذه الامور عن ذات الباري.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 71

وكما أشرنا في بداية هذا البحث فإنّ في الآيات المذكورة أعلاه إشارات واضحة حول هذه الأدلة العقلية التي تعبّر عن متانة الدليل القرآني ومنطقه المتفوق، وقد أشرنا إليها ضمن تفسير الآيات.

3- إنّ علم اللَّه حضوريٌ

كما أنّ حقيقة العلم من البديهيات، وهذا المعنى من الواضحات أيضاً، حيث إننا نمتلك نوعين من العلم وهما مختلفان تماماً:

النوع الأول: نحن نعلم وندرك وجودنا، وإرادتنا، وميولنا، حُبّنا وبغضنا، مايدور في اذهاننا، بدون حاجة إلى أي وساطة، ونحيط علماً بأنفسنا، وأفكارنا وحالاتنا الروحية ماثلة بين أيدينا، ولا حجاب فيما بيننا وبينها. (ويدعى هذا النوع بالعلم الحضوري).

النوع الثاني: نحن نعلم بما يُحيط بنا من الموجودات أيضاً ولكن من المسلَّم به أنّ السماء والأرض والنجوم لا توجد في اعماق وجودنا وفي دخائل أرواحنا وأفكارنا، بل نفذت صورها إلى أذهاننا عن طريق آثارها، وفي الحقيقة أنّ ما عرفناه عنها هو تلك المفاهيم التي نفذت إلى أعماقنا، وهذا النوع من العلم يدعى بالعلم الحصولي.

وعلم اللَّه بجميع موجودات العالم من النوع الأول، لأنّه موجود في كل مكان، ويحيط بكل شي ء احاطة وجودية، ولا شي ء بعيد عنه سبحانه.

فهو سبحانه لا يحتاج إلى

الحواس وانعكاس صور الموجودات في الذهن، ولا إلى المفاهيم الذهنية أبداً، وعلمه بكل شي ء علم حضوري.

4- لا حصر ولانهاية لعلم اللَّه

إنّ محاولات الإنسان المستمرة لكشف أسرار الوجود، التي شغلته منذ اليوم الأول من

نفحات القرآن، ج 4، ص: 72

حياته. والتي لها وقعاً في قلبه قد اصطحبت معها كنوز من العلوم والمعارف التي يمكن أن ندرك أبعادها بمشاهدة ملايين الكتب الموجودة على رفوف المكتبات العالمية الكبيرة، والتي بلغ عدد الكتب في بعضها خمساً وعشرين مليون كتاب.

صحيح أنّ بعض هذه الكتب مكررة أو مترجمة عن بعضها الآخر، لكنه لاريب في احتوائها على حقائق كثيرة غير مكررة ناجمة عن المساعي الفكرية والتجريبية لكل المجتمع البشري على مدى التاريخ، بغض النظر عن العلوم التي بقيت في أذهان العلماء ودفنت معهم.

لكن جميع هذه العلوم بالنسبة إلى المجهولات بمنزلة القطرة من البحر أو الذرة من الجبل.

ويمكن بيان أسباب هذه المحدوديّة بالأمور التالية:

أ) محدوديّة قدرتنا الحسية، فنحن نستطيع إدراك قسم صغير من موجودات عالمنا الحسي فقط، كما أنّ قدرتنا على التحليل العقلي أيضاً ليست قادرة إلّاعلى إدراك قسم صغير من المسائل العقلية.

ب) إنّ عمر الإنسان بالنسبة إلى عمر عالم الوجود كساعةٍ واحدة لا أكثر.

ج) يعُدّ المحل الذي نعيش فيه أي الكرة الأرضية صغيراً ومحدوداً جدّاً بالمقارنة مع كواكب المجرات التي لا تعدّ ولا تحصى (ويقدِّر العلماء عدد النجوم الموجودة في مجرّتنا فقط بمئة ألف مليار كوكب، وقد بلغ عدد المجرات التي اكتشفها البشر بهذه الأجهزة البسيطة لحد الآن مليار مجرة!).

ومن هنا يُمكن إدراك سعة علم اللَّه، وما أجمل التعبير القرآني في هذا المجال: «وَلَوْ أَنَّمَا فِى الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ». (لقمان/ 27)

والأهم من كل ذلك هو

أنّ اللَّه تعالى عالم بذاته المقدّسة أيضاً، ولأنّ ذاته المقدّسة لامتناهية، فإنّ علمه بهذه الذات اللامتناهية لامتناهٍ أيضاً، ولا تستطيع الأعداد أو الأرقام أن تفصح عن عظمته.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 73

5- أسئلة مهمة حول علم اللَّه

هنالك أسئلة على شكل مناضرات بين الفلاسفة والمتكلمين حول علم اللَّه منذ قديم العصور، وقد اتسعت فيما بعد، وذلك لكون مسألة العلم بصورة عامّة ومسألة علم اللَّه بصورة خاصّة، معقّدة، وأهم هذه الاسئلة ما يلي:

1- كيف يمكن أن يحيط اللَّه علماً بذاته المقدّسة، في حين أنّ العالم والمعلوم يجب أن يكونا شيئين؟ فهل يوجد تفاوت بين علم اللَّه وذاته المقدّسة؟ وبعبارة اخرى هل يمكن أن يكون اللَّه عالماً ومعلوماً في نفس الوقت؟

الجواب: أولًا: إنّ هذا السؤال لا ينحصر بعلم اللَّه بذاته المقدّسة، فهو يجري حتى على علمنا بوجودنا، فنحن نعلم يقيناً بوجودنا وندرك بأننا موجودون، فهل يجب أن يكون العالم والمعلوم هنا شيئين أيضاً؟ في حين أننا لسنا بأكثر من شي ء واحدٍ، خصوصاً وإن علمنا بأنفسنا من النوع الحضوري أيضاً.

ثانياً: نورد هنا ما أجاب به العلّامة المرحوم (الخواجة نصير الدين الطوسي) على نفس هذا السؤال، قال: إنّه يكفي التغاير الاعتباري أي أنّ موجوداً واحداً من حيث كونه مبدعاً عاقلًا يستطيع أن يُدرك حضوره بذاته، فهو عالم، ومن حيث كونه حاضراً عند ذاته، يكون معلوماً، وبتعبير آخر ننظر إلى هذا الوجود الواحد من زاويتين: من زاوية إدراكه لذاته فنسميه عالماً، ومن زاوية أنّه مُدْرَك فنسميه معلوماً (فتأمل).

2- كيف يحيط اللَّه عِلْماً بموجودات العالم وهي في حالة تغيُّر دائم، فهل أنّ ذاته المقدّسة تتغير أيضاً!؟

الجواب: يصح هذا الإشكال فيما إذا كان علم اللَّه بالأشياء الخارجية كعلمنا حاصل عن طريق (إنعكاس صور الأشياء)، لأنّ تغيُّر هذه

الموجودات يؤدّي إلى تغيُّر هذه المفاهيم والصور لكن بما أن علم اللَّه علمٌ حضوريٌّ، وجميع الأشياء ماثلة بين يديه، فإنّ هذا الإشكال لا معنى له. لأنّ التغيُّر يحصل في موجودات هذا الكون فقط، لا في ذاته المقدَّسة

نفحات القرآن، ج 4، ص: 74

فوجودها ثابت ومحيط بها جميعاً والمتغيِّر هو الموجودات المحاطة، كما هو الحال فيما لو تحرك شخص مُعّين أمامنا فإنّ صورته سوف تقع على شبكية العين، وستتغير هذه الصورة بتغير حاله، فتتغير المفاهيم الذهنية الموجودة عنه في أذهاننا تبعاً للتغييرات، وكل هذا لسبب كون علمنا هنا انعكاساً للأشياء الخارجية فينا، فلو كان علمنا بالأشياء الخارجية علماً ناجماً من الاحاطة بجميعها، لما حصل أي نوع من التغير، بل لكان التغير فيها فقط (فتأمل).

3- كيف يحصل علم اللَّه بالجزئيات، مع أنّ الجزئيات متعددة ومتكثرة، وذاته المقدّسة واحدة لا تعرف التعدد؟

الجواب: إنّ هذا الخطأ أيضاً نجم عن مقايسة علم اللَّه بعلمنا الذي نحصل عليه عن طريق انتقال المفاهيم والصور الذهنية، في حين أنّ علمه بالموجودات ليس علماً حصولياً، بل حضوريٌّ، أي أنّ جميع الموجودات ماثلة بذاتها بين يديه عزّ وجلّ، وهو يحيط بها جميعاً دون الحاجة إلى مفاهيم أو صور ذهنية معينة «1».

4- كيف يمكن تصور علم اللَّه بالحوادث المستقبلية التي ليس لها وجود خارجي في الوقت الحاضر حتى تقع في دائرة علم اللَّه؟ فهل توجد لدى اللَّه مفاهيم وصور ذهنية عنها؟

مع تقدّسه سبحانه عن أن يكون له ذهن، أو أن يكون علمه حصولياً؟ إذن ما علينا إلّاأن نستسلم ونقول: بأنّه سبحانه لا يعلم بالحوادث المستقبلية! لأنّ العلم الحضوري منتفٍ بالنسبة إلى المعدوم، وبذلك يصبح العلم الحصولي للَّه تعالى أمر لا يمكن تصوره أيضاً.

على الرغم من أنّ هذا السؤال

والإشكال قد طرح حول العلم بالحوادث المستقبلية، إلّا أنّه يرد بنفسه حول الحوادث الماضية المعدومة أيضاً، لأنّ الحوادث الماضية لا وجود لها الآن، فصورة (فرعون) أو بني إسرائيل وأصحاب (موسى مثلًا لا وجود لها حالياً وقد تلاشت، كما أنّ تأريخها قد فات أيضاً، فنحن نستطيع الوقوف على الماضي بمجرّد أن

__________________________________________________

(1) الفرق الموجود بين هذه الإشكالات الثلاثة هو أنّ الأول يتعلق بتعدد العالم والمعلوم، والثاني بتغيّر الموجودات، والثالث بتكثرها.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 75

نستحضر في أذهاننا صوره فحسب، لأنّ علمنا علم حصولي يتحقق بواسطة المفاهيم والصور الذهنية فقط، وبما أنّ علم اللَّه علمٌ حضوري فهو لايعرف أي لون من الوساطة والمفاهيم، فكيف يمكن تصوُّر علمه بالحوادث الماضية؟

الجواب: يمكن الإجابة عن هذا السؤال والإشكال بثلاث طرق:

1- إنّ اللَّه محيط دائماً بذاته المقدّسة التي هي علّة جميع الكائنات، وهذا العلم الإجمالي بجميع حوادث وموجودات الوجود أزلي وأبدي (أي قبل الإيجاد وبعده).

وبتعبير آخر لو علمنا علل الأشياء، لاستطعنا أن نعلم نتائجها ومعلولاتها أيضاً، لأنّ كُل علّة تستبطن جميع كمالات معلولها وأكثر.

ويمكن شرح هذا الكلام بشكل أوضح كما يلي: إنّ الحوادث الماضية لم تنمح تماماً، فإنّ آثارها موجودة في طيّات الحوادث الآنية، وكذلك بالنسبة إلى الحوادث المستقبلية فهي غير منفصلة عن الحوادث الآنية، ولها علاقة معها، وعليه ف «الماضي» و «الحاضر» و «المستقبل» يشكلون معاً سلسلة شبيهة بالعلة والمعلول، بحيث لو اطّلعنا على كل واحدة منها بدقّة، لشاهدنا فيها الحلقات القبلية والبعدية لهذه السلسلة.

فمثلًا لو أحَطْتُ علماً وبدقّة بمناخ جميع الكرة الأرضية، وبكل مميزاته، وجزئياته، وعلله، ومعلولاته، وحركة الكرة الأرضية، ومسألة الفعل ورد الفعل، لاستطعتُ أن احيط علماً بوضعية المناخ قبل أو بعد ملايين السنين بصورة دقيقة. لأنّ

شواهد الماضي والمستقبل موجودة فعلًا، لا الشواهد الإجمالية بل تفصيلات الشواهد المنعكسة في جزئيات الحاضر.

فالحاضر يعكس الماضي، والمستقبل يعكس الحاضر، والاحاطة العلمية الكاملة بجزئيات الحاضر، معناها الإحاطة الكاملة بحوادث الماضي والمستقبل.

لذا فعندنا تكون حوادث الحاضر ماثلة بين يدي اللَّه تعالى بجميع خصوصياتها، فإنّها بمعنى مثول الماضي والمستقبل أيضاً بين يديه عزّ وجل.

فالحاضر مرآة للماضي والمستقبل، ويمكن مشاهدة جميع الحوادث الماضية والمستقبلية في مرآة الحاضر (فتأمل).

نفحات القرآن، ج 4، ص: 76

2- ويوجد طريق آخر للإجابة على هذا السؤال نوضحه بالمثال التالي: تصوروا أنّ شخصاً محبوساً في غرفة صغيرة لا يوجد فيها سوى نافذة صغيرة على الخارج، فعندما تمر قافلة من الإبل من أمام هذه النافذة، فإنّ هذا السجين سوف يشاهد رأس البعير أولًا، ثم رقبته، ثم سنامه، ثم أرجله، ثم ذنبه، وهكذا الحال بالنسبة لسائر الابل الاخرى فصغر النافذة هذه هو السبب في إيجاد حالات من الماضي والحاضر والمستقبل لدى الناظر السجين، لكن المسألة تختلف تماماً بالنسبة للواقف على سطح الغرفة وينظر إلى الصحراء نظرة شاملة، فهو يُشاهد جميع إبل القافلة في وقتٍ واحد.

ومن هنا يتضح أن إيجاد مفاهيم الماضي والحال والمستقبل ناجمة عن محدودية نظرة الإنسان، فما هو ماضٍ بالنسبة لنا كان مستقبلًا لأقوام قد سبقونا، وما هو مستقبل بالنسبة لنا الآن فهو ماضٍ بالنسبة لأقوامٍ ستأتي فيما بعد.

أمّا الذات الموجودة في كل مكان والتي أحاطت بالأزل والأبد، فإنّ الماضي والحاضر والمستقبل بالنسبه لها لا معنى له، فجميع حوادث الدهر ماثلة بين يديها (ولكن كل واحدة في موقعها الخاص)، وهي محيطة علماً بجميع الحوادث وموجودات العالم، سواءً بالماضي، وبالحاضر، وبالمستقبل بصورة متساوية.

ونحن نُقرّ طبعاً بأنّ تصّور هذه المسألة بالنسبة لنا نحن المحبوسين في سجن الزمان

والمكان، أمر صعب ومعقّد، ولكنه في نفس الوقت قابل للتدقيق والمطالعة.

3- الطريق الآخر الذي استند إليه الكثير من الفلاسفة، هو أنّ اللَّه تعالى عالم بذاته المقدّسة، وبما أنّ ذاته علّة جميع المخلوقات، فإنّ العلم بالعلّة سيكون سبباً للعلم بالمعلول، وبتعبير آخر فإنّ اللَّه تعالى جامع لجميع الكمالات الموجودة في جميع المخلوقات بأتم صورة، وما هو غير موجود في ذاته المقدّسة هو نقائص المخلوقات فقط.

اذن، فعلمه تعالى بذاته هو بالحقيقة علمه بجميع المخلوقات. (وهناك فرق دقيق بين هذا الطريق والطريق الأول يتّضح من خلال التأمل).

نفحات القرآن، ج 4، ص: 77

6- علم اللَّه في الروايات الإسلاميّة

وردت في الروايات الإسلامية تعابير لطيفة جدّاً، حول علم اللَّه منها ما جاء في نهج البلاغة، حيث يمكن الاستعانة بها لفهم البحوث بصورة أفضل، نذكر أدناه نماذج منها:

1- قول أمير المؤمنين علي عليه السلام في باب علم اللَّه:

«يَعْلَمُ عَجِيْجَ الوُحُوشِ في الفَلَواتِ، وَمَعاصِيَ العِبادِ في الخَلَواتِ، وَاختِلافَ النِّيْنانِ في البِحارِ الغامِراتِ، وَتلاطُمَ الماءِ بالرِّياحِ العاصفِاتِ» «1»

.

2- وقال عليه السلام في كلام آخر:

«عالِمٌ إِذْ لا مَعْلُوم، وَرَبٌّ إِذْ لا مَرْبُوبَ، وَقادِرٌ إِذْ لا مَقْدوُرَ» «2»

.

3- وقال عليه السلام أيضاً في كلام آخر:

«قَدْ عَلِمَ السَّرائِرَ، وَخَبَرَ الضَّمائِرَ لَهُ الاحاطَةُ بِكُلِّ شَي ءٍ، وَالْغَلَبةُ لِكُلِّ شَي ء» «3»

.

4- وفي الكافي في باب صفات الذات عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «لَمْ يَزَلِ اللَّهُ عزّ وَجلَّ رَبُّنا والعِلْم ذاتهُ ولا مَعْلُومَ ... فلَمَّا أَحدثَ الأشياء وكانَ المعلُومُ، وَقَع العِلْمُ منهُ عَلَى المعلُومِ» «4».

يحتمل أن يكون هذا التعبير إشارة إلى العلم الإجمالي السابق لحدوث الأشياء والعلم التفصيلي اللاحق لحدوثها.

5- وفي حديث آخر ورد أن أحد أصحاب الإمام الرضا عليه السلام كتب إليه رسالة يسأل فيها عن اللَّه عز وجل: «أكانَ

يعْلمُ الأشياءَ قَبْلَ أن خَلَق الأشْياءَ وَكَوَّنَها؟ أو لَمْ يَعْلَمْ ذلِكَ حَتّى خَلقَها وَأَرادَ خَلْقَها وَتكويْنَها؟ فَعَلِمَ ما خَلَقَ عِندَ ما خَلَقَ، وَما كَوَّنَ عِنَدما كَوَّنَ؟ فَوَقَّعَ بِخطِّةِ: لَمْ يَزَلِ اللَّهُ عالماً بالأشياءِ قَبلَ أَنْ يَخْلُقَ الأشياءَ كعِلْمِهِ بالأشياءِ بَعْدَ ما خَلَقَ الأشياءَ» «5».

__________________________________________________

(1) نهج البلاغة، الخطبة 198.

(2) المصدر السابق، الخطبة 152.

(3) المصدر السابق، الخطبة 86.

(4) اصول الكافي، ج 1، ص 107.

(5) المصدر السابق.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 78

إنّ كل واحد من التعابير الدقيقة والظريفة التي وردت في هذه الروايات يُعدُّ باباً من البحوث العلمية والمنطقية التي تدور حول مسألة علم اللَّه تعالى والتي ذكرناها سابقاً.

وقد بلغت الروايات الواردة في علم اللَّه من الكثرة بحيث لو جمعت لصارت كتاباً مستقلًا.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 79

أقسام علم اللَّه

أ و ب) إنّ اللَّه سميعٌ وبصير

تمهيد:

كما نعلم فإنّ صفات اللَّه عين ذاته، وذاته عين صفاته، وبتعبير آخر فإنّ اللَّه ذاتٌ كلها علم، وكلها قدرة، وكلها أزليّة وأبدية، أي هناك كمال مطلق غير متناهٍ جامع لجميع هذه الصفات.

وعليه فإنّ تفكيك الصفات تابع لمنظارنا وإدراكنا العقلي.

لذا فقد تكون احدى هذه الصفات الإلهيّة أحيانا ذات فروع كثيرة، وهذه الفروع أيضاً تكون تابعة لزاوية نظرنا كوصفه تعالى بصفتي «السميع» و «البصير»، واللتان تعتبران من الصفات الإلهيّة المعروفة التي تكرر ذكرها في القرآن الكريم عشرات المرات.

«السميع»: كناية عن علم اللَّه ب «المسموعات»، و «البصير» كناية عن علمه تعالى ب «المبصرات» من الحوادث والأشخاص والأعمال وغيرها.

وعندما تستعمل هذه الألفاظ بخصوص البشر فإنّها بصدد عضوي العين والاذن، لكنّها عندما تستعمل بخصوص الباري تعالى فإنّها تتجرد من هذه المفاهيم وتفيد حقيقة العلم بالمسموعات والمبصرات، وسنوضح ذلك في قسم التوضيحات إن شاء اللَّه تعالى.

بعد هذا التمهيد نعود إلى

القرآن الكريم لنتمعن في الآيات التالية:

1- «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْ ءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ». (الشورى 11)

2- «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْامَانَاتِ الَى اهْلِهَا وَاذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ انَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً». (النساء/ 58)

3- «لَّايُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ الَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً

نفحات القرآن، ج 4، ص: 80

عَلِيماً». (النساء/ 148)

4- «وَقَاتِلُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا انَّ اللَّهَ سَمِيْعٌ عَلِيمٌ». (البقرة/ 244)

5- «وَانِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِى إِلَىَّ رَبِّى انَّهُ سَميعٌ قَرَيبٌ». (سبأ/ 50)

6- «هُنَالِكَ دَعَا زَكَريَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لى مِنْ لَّدُنْكَ ذُرِّيَةً طَيِّبَةً انَّكَ سَمْيعُ الدُّعَاءِ». (آل عمران/ 38)

7- «وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا انَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ». (البقرة/ 233)

8- «إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبيرٌ بَصِيرٌ». (فاطر/ 31)

9- «فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ امْرِى إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ».

(غافر/ 44)

10- «اوَلَمْ يَرَوْا الَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ الَّا الرَّحْمنُ انَّهُ بِكُلِّ شَى ءٍ بَصِيرٌ» «1». (الملك/ 19)

شرح المفردات:

(سميع) من مادة «سَمْع» على وزن «مَنْع» وفي الأصل بمعنى القوّة السامعة التي بواسطتها يسمع الإنسان الأصوات (تأتي بمعنى المصدر، وتأتي بمعنى الاسم المصدري أيضاً)، وقد تُطلق هذه الكلمة على عضو السمع أي الأُذُن أحياناً.

واتّسع هذا المفهوم فشمل استعمالات اخرى، فهو يُطلق أيضاً على الإدراكات الباطنية

__________________________________________________

(1) الآيات أعلاه نماذج حول وصفي «السميع» و «البصير»، حيث إنّها تشتمل على نقاط كثيرة. كما أنّ هنالك آيات قرآنية كثيرة اخرى حول هذا الموضوع، سنشير إليها أدناه، أمّا تفسيرها فسيتضح من الآيات أعلاه:

البقرة، 181 و 224 و 227 و 256؛ آل عمران، 34 و 35 و 121؛ المائدة، 71؛ الأنعام، 13 و 115؛ الأنفال، 17 و 42 و 53

و 61؛ التوبة، 98 و 103؛ يونس، 65؛ الاسراء، 1؛ الأنبياء، 4؛ الحج، 61 و 75؛ النور، 21 و 60؛ لقمان، 28؛ غافر، 20 و 56؛ الصف، 36؛ الدخان، 6؛ الحجرات، 1؛ المجادلة، 1؛ النساء، 134 و 148؛ البقرة، 96 و 110 و 65؛ آل عمران، 15 و 20 و 156 و 163؛ الأنعام، 29 و 72؛ هود، 112؛ الاسراء، 17 و 30 و 96؛ سبأ، 11؛ فاطر، 45؛ فصلت، 40؛ الشورى 27؛ الحجرات، 18؛ الحديد، 4؛ الممتحنة، 2؛ التغابن، 2؛ الفرقان، 20؛ الأحزاب، 9؛ الفتح، 24؛ الانشقاق، 15.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 81

الروحيّة، واتّسع أكثر فاستُخدم للإشارة إلى إحاطة اللَّه الوجوديّة بجميع الأصوات.

وقد تستعمل هذه الكلمة بمعنى الفهم والإدراك أحياناً، كما ورد في الآية: «وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَايَسْمَعُونَ» «1»

. (الانفال/ 21)

«بصير»: من «بصر» (على وزن سَفَرْ) وتعني العين كما قال الراغب في مفرداته، وقد تأتي بمعنى حدّةُ النّظر أحياناً، لذا قد تستعمل بمعنى قوّة الإدراك والبصيرة الباطنيّة «البصر والبصيرة» أحياناً، كما ورد في قوله تعالى: «فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ».

(ق/ 22)

وقد ذكر «ابن منظور» في «لسان العرب» أيضاً نفس هذه المعاني لكلمة «بصر»، في حين نجد أن «صحاح اللغة» فسّرها بمعنى حاسّة النظر، وبمعنى العلم أيضاً، وفسّرها «المصباح» بمعنى النور الذي يُمكن للعين رؤية المبصرات عن طريقه.

لكنه يُستنتَجُ من مجموع كلمات أصحاب اللغة وموارد استعمال هذه الكلمة، أنّها تعني أولًا عضو النظر، ثم قوّة النظر، وبعدها استُعمِلَتْ بمعنى الإدراك الباطني والعلم، وفي خصوص الباري تعالى تُستعمل بمعنى إحاطته الوجودية بالمبصرات.

جمع الآيات وتفسيرها
هو السميع البصير:

بعد أن نفت الآية الأولى وجود المثل عن اللَّه تعالى وصفته بصفتي السميع والبصير: «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَى ءٌ وَهُوَ

السَّميعُ الْبَصِيرُ».

وواضح أنّ المقصود من «ليس كمثله شي ء» يشمل كلًا من ذاته وصفاته وأفعاله، لأنّ ذاته واجبة الوجود، وصفاته وأفعاله لامتناهية، وما اعتقده بعض المفسرين من أن نفي المثل والشبيه الوارد في هذه الآية يشمل الذات المقدّسة فقط ولا يشمل الصفات، محض اشتباه.

__________________________________________________

(1) مفردات الراغب؛ مقاييس اللغة؛ لسان العرب والتحقيق في كلمات القرآن الكريم.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 82

صحيح أنّ هنالك صفات كالعالم والقادر والسميع والبصير، تطلق على الخالق والمخلوق، لكنّه لا ريب في أنّ مفاهيمها متفاوتة في هاتين الحالتين. لذا فقد قال بعض المفسرين: إنّ الآية أعلاه تفيد الحصر، أي أنّ اللَّه تعالى هو السميع والبصير فقط، لأنّه تعالى سميع بكل ما تعنيه هذه الكلمة، وبصير كذلك، أي يعلم جميع المسموعات والمبصرات ولا أحد غيره مثله في هاتين الصفتين.

فالبشر وسائر الاحياء التي تمتلك عيوناً وآذاناً تدرك فقط أجزاء محدودة من الألوان والأصوات، وقد ثبت الآن علميّاً أنّ الامواج الصوتية التي تعجز اذن الإنسان والحيوانات عن سماعها تفوق بكثير ما يمكن إدراكه، وهكذا في مورد الألوان والمرئيات.

يعلم ما تعملون:

بعد أن أمر اللَّه سبحانه وتعالى عباده في الآية الثانية بأداء الأمانات إلى أهلها والحكم بين الناس بالعدل، وصف نفسه بهاتين الصفتين اللتين لهما علاقة وثيقة ولطيفة بالأمرين الواردين في بداية الآية حيث قال تعالى «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْامَانَاتِ الَى اهْلِهَا وَاذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ انْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ انَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ انَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً».

وكما نعلم فإنّ الأمانات الواردة في الآية ذات معنى واسع وعميق، وقد ورد في روايات أهل البيت عليهم السلام بأنّها تشمل حتى مسألة إمامة وقيادة الناس، فهي أمانات إلهيّة ويجب أن تودع عند أهلها «1».

وكذلك فإنّ تعبيره سبحانه

بكلمة (الناس) يشمل جميع البشر حتى من هم غير مسلمين، أي ينبغي رعاية اسس العدالة بين جميع بني البشر، ومعاملة الصديق والعدو، والغريب والقريب بالتساوي.

__________________________________________________

(1) وردت روايات كثيرة في هذا المجال، ولزيادة الاطّلاع راجع تفسير البرهان، ج 1، ص 380؛ وتفسير نور الثقلين، ج 1، ص 496.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 83

للبحث حول مسألتي الأمانة والعدالة، اللتين هما روح المجتمع الإنساني وروح الحكومة الإسلاميّة، محلٌّ آخر طبعاً، وسنتاول ذلك فيما بعد. الغرض هنا هو معرفة علاقة هاتين المسألتين بصفتي «السميع» و «البصير» المنسوبتين إلى اللَّه تعالى.

وهذه الجملة بالحقيقة هي تحذير لكل من يتولى منصباً رئاسياً، أو يأخذ على عاتقه حمل أمانة معينة، أو قضاءً وحكماً بين الناس، وهذا التحذير كأنّه يقول لنا: إعلموا بأنّ اللَّه تعالى رقيب عليكم يعلم ما تعملون، ويسمع ماتقولون، وهذا يثبت بأنّ لصفات اللَّه جانباً تربوياً بالإضافة إلى مسألة العقيدة.

بالإضافة إلى أنّه من المحتمل أن تكون هاتين الصفتين إشارة إلى نقطة اخرى، وهي أنّ مسألة أداء الأمانة والحكم بين الناس تحتاج إلى اذُنٍ سميعةٍ وعينٍ بصيرةٍ، فلا يمكن البتّ في الامور بدون سماع صوت المظلومين، ومعرفة حقيقة مظالمهم، والتمعُّن الكامل في هذه الأمور، ويجدر الإلتفات إلى أن فعل (كان) يدل على ملازمة هذه الصفات للذات الالهيّة المقدّسة، فهو سبحانه وتعالى سميعٌ بصيرٌ دائما وأبداً.

وما يجدر ذكره هو تقارن هاتين الصفتين (السميع والبصير) في مواضع اخرى أيضاً من القرآن.

والملفت للنظر هو تقدم صفة السميع على البصير في كل مواضع القرآن التي وردت فيها هاتان الصفتان سويّة، ولعلّ السّر في ذلك يكمن في كون القول يسبق العمل، وحيث إنّ هذه الآيات تهدف إلى تنمية الحالات التربوية للإنسان، فهي تريد أن تخاطب الإنسان

وتقول:

«ياأيّها الإنسان إنّ ربّك يسمع أقوالك ثم يرى أعمالك».

هو السميع والعليم:

دار الحديث في الآية الثالثة عن «السميع» و «العليم» حيث ذكرت المظلومين وسمحت لهم بالاعلان عن مظلوميتهم وفضح الظالمين، قال تعالى «لَّايُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ الَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً».

نفحات القرآن، ج 4، ص: 84

أمّا المقصود من «الجهر بالسوء»، فقد قال بعض المفسّرين: إنّه بمعنى لعن المظلوم للظالم، وفسّره البعض الآخر بالسّب والشتم، والبعض الآخر بمعنى الترافع إلى القاضي، أو بمعنى تعرية ظلم الظالمين أمام الناس في الغيبة والحضور.

«لكن مناسبة الحكم للموضوع» توجب إباحة هذه الأمور في مجال دفع الظلم، وكسب الرأي العام ضد الظالم فقط، لذا فمن الأفضل أن تنحصر مسألة سب وشتم الظالمين بالمجال الذي تكون عاملًا مساعداً للنهي عن المنكر ومحاربة الظلم والفساد.

وجملة «وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً» تصلح في أن تكون مستثنى كما تصلح أن تكون مستثنى منه أيضاً، أي أنّها تحذير للمغتابين الذين لم يتعرضوا للظلم، كما أنّها تحذير للمظلومين لئلا يتعدوا حدود اللَّه، ويراعوا العدل والانصاف.

والجدير بالذكر هو أنّ السبب في ذكر صفتي السميع والعليم يكمن في تحدث الآية عن الجهر بالسوء ودوافعه الذاتيّة الخفية، فقالت: بأنّ اللَّه يسمع هذا الكلام، وهو عليم بنيّات المظلومين الذين يجهرون بمظلوميتهم.

وأمّا ماقاله البعض: من أنّ مفهوم الآية هو جواز رد الشتم بالمثل، كما لو قال أحد لشخص: (أيّها الزاني)، يجوز لهذا الشخص أن يرد عليه بذلك، خطأ كبير. لأنّه يجب مواجهة ظلم الظالم بإحقاق الحق، لا بارتكاب ظُلمٍ آخر، ويجب النهي عن المنكر ودفع شر الظالم، لا ارتكاب منكرٍ آخر وإيجاد ظالمٍ آخر.

على أيّة حال، فإنّ هذه الآية تدلّ على رفض الإسلام الركون إلى الظالمين، بعكس مانسبه البعض

إلى السيّد المسيح عليه السلام من أنّه قال: «لو ضربك أحد على خدّك الأيمن، فقدم له خدَّك الايسر»!

جهادكم:

اللَّه يرى ويعلم، في الآية الرابعة نُلاحظ تعبيراً جديداً أيضاً، حيث أمرت الناس بالالتفات إلى هاتين الصفتين الإلهيتين (السميع والعليم)، قال تعالى «وَقَاتِلُوا فِى سَبْيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا انَّ اللَّهَ سَمِيْعٌ عَلِيمٌ».

نفحات القرآن، ج 4، ص: 85

والتعبير بعبارة «فِى سَبْيلِ اللَّهِ» تعبيرٌ لطيفٌ وغنيٌّ جدّاً، حيث وضَّح للجميع بأنّ الهدف من الجهاد الإسلامي ليس كسب السلطة الدنيوية واحتلال الدول- كما اتّهمنا به الكثير من مفكِّري الغرب، بل فتح الطرق إلى اللَّه- طرق الطهارة والتقوى والحق والعدالة-.

وجملة «وَاعْلَمُوا انَّ اللَّهَ سَمِيْعٌ عَلِيمٌ» تُحذِّر جميع المجاهدين المسلمين لكي يراقبوا أقوالهم ونيّاتهم، ويتجنبوا كُل مايُشوِّه المعنى السامي والجميل لكلمة: «فِى سَبْيلِ اللَّهِ»، وكذلك فإنّها تزيد من معنوياتهم عندما يثقون بأنّ اللَّه معهم أينما كانوا، ويعلم حالهم.

إنّه قريب منكم:

وفي الآية الخامسة يُطالعنا تعبير جديد، وهو اقتران مفهوم «السميع» مع مفهوم «البصير»، حيث قال سبحانه مخاطباً رسوله الكريم صلى الله عليه و آله: «وَانِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوْحِى إِلىَّ رَبِّى انَّهُ سَمِيعٌ قَريْبٌ».

وهذه الآية تشير إلى احتمال ضلال الرسول بدون الوحي الإلهي، وأنّ الذي يعصمه صلى الله عليه و آله من الخطأ ويهديه إلى الحق والصواب هو الوحي الإلهي، لا التفكُّر والاستدلال البشري المعرض للخطأ.

وقد ورد في بعض التفاسير بأنّ جماعة من المشركين قالوا للرسول الأعظم صلى الله عليه و آله: لقد ظللت يامحمد، لأنّك تركت دين أجدادك، فنزلت هذه الآية وأجابتهم عن لسان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: بأنّه لو كنت أعتمد على نفسي في هذا الأمر لكنتم محقين في اتهامكم لي بهذه الاتهامات، ولكن ارتباطي بالوحي الإلهي لا يبقي معنىً للضلال في هذه الحالة، وذلك لأنّه تعالى يعلم أسرار الغيب، (وهي العبارة التي وردت في الآيتين السابقتين)، وهو السميع

البصير (العبارة الواردة في الآيات الثلاث السابقة) وهو السميع القريب (هذه العبارة الواردة في ذيل هذه الآية المعنية في بحثنا هذا).

ويستنتج من هذه الآية أيضاً أنّ الاعتماد على النفس هو الذي يقود الإنسان إلى الضلال، وأنّ الاعتماد على القوة العقلية أيضاً لا يوصله إلى مكان معين، وأنّه يحتاج لبلوغ

نفحات القرآن، ج 4، ص: 86

مراده إلى الاستنارة بنور الوحي الإلهي.

والملاحظة الأخيرة هي أن قرب اللَّه منّا ليس كقرب بعضنا من بعض، بل هو أقرب إلينا من أنفسنا، كما سنبحث هذا في محلّه إن شاء اللَّه تعالى

إنّه سميع الدعاء:

طرحت الآية السادسة تعبيراً جديداً أيضاً، حيث وصفته تعالى بسميع الدعاء، فنقلت عن زكريا عليه السلام عندما رأى مقام ومنزلة مريم عليها السلام، فقال: «هُنَالِكَ دَعَا زَكَريَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لى مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَةً طَيِّبَةً انَّكَ سَمْيعُ الدُّعَاءِ» «1»

.

وبالرغم من أنّ السميع من السمع، لكنها في مثل هذه الحالات تعطي معنى السامع ومعنى المجيب. وذلك لأنّ من لم يستجب لنداء معين كأنّه لم يسمعه «2».

إنّه تعالى بصير:

أكدت الآية السابعة على مفهوم البصير بما يعمل الإنسان، والذي يُعد المحور الأساس للمسائل التربوية، قال تعالى «وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا انَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ».

وذكر هذه الجملة بعد إصدار سبعة أوامر حول رضاعة الأولاد، وحق الأولاد والأمهّات والمرضعات، ومسؤوليّة الوالد تجاههم، وبديهي أن فقدان التقوى هنا، وعدم خوف الإنسان من المراقبة الإلهيّة سوف يكون مانعاً من إيجاد علاقات اجتماعية سليمة داخل الأسرة لحفظ حقوق الجميع، وقد أثبتت التجارب صعوبة توطيد أسس الحق والعدالة في النظام الأسري باستعمال قوّة القانون والخوف والعقوبات، وأنّ السبيل الوحيد لذلك هو حلول روح التقوى والإيمان باللَّه سبحانه وتعالى وبأنّه بكل شي ء بصير.

__________________________________________________

(1) «الذرية» بمعنى الولد وتطلق على المفرد والجمع بلفظ واحد، لكنها اطلقت هنا واريد منها المفرد وذلك بقرينة «ولياً» التي جاءت في الآية 5 من هذه السورة.

(2) تفسير القرطبي، ج 2، ص 1314؛ و تفسير روح البيان، ج 2، ص 30؛ و تفسير روح المعاني، ج 3، ص 128 في ذيل الآية مورد البحث.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 87

إنّ اللَّه خبير بأحوال العباد:

يُلاحظ في الآية الثامنة تعبيراً جديداً أيضاً، وهو اقتران مفهومي الخبير والبصير مع بعضهما، فقد تحدثت الآية في بدايتها عن الوحي الإلهي، وانزال القرآن الكريم بعد الكتب السماوية السابقة له، ثم قال تعالى «انَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبيرٌ بَصِيرٌ».

إنّ هذه الجملة تشير إلى أنّ هذا الكتاب السماوي يتناغم مع وضعيّة البشر واحتياجاته في جميع المجالات، لأنّه نزل من لدن خبير بكل شي ء وبصير بكل حوائج الإنسان.

وقد فُسرت هذه الآية أيضاً بأنّها ردٌّ على إشكال من كانوا يعترضون على انزال القرآن على محمد صلى الله عليه و آله لكونه يتيماً وفقيراً، فقال تعالى بأنّه الخبير والبصير بعباده ويعلم أيّهم أكثر

استعداداً لتحمل عب ء الرسالة الشريفة. (ولا يمكن الاستدلال على هذا المعنى بقرينة الآية التي تلت هذه الآية) «1».

ولا بأس بالجمع بين التفسيرين.

وذهب بعض المفسّرين: إلى أنّ كلمة خبير هنا كناية عن الاحاطة بالأمور المعنوية والروحيّة، وبصير كناية عن الاحاطة بالامور الجسمانية، ولهذا السبب تقدمت كلمة الخبير على كلمة البصير.

وبالرغم من أنّ كلمة الخبير المشتقة من الخبر ذات معنىً واسع جدّاً يشمل كُلّ احاطة بظواهر الامور وبواطنها، إلّاأنّ اقترانها بصفة البصير يوحي إلى كونها كناية عن الاحاطة بباطن الأمور (وقد ذكر الراغب في مفرداته بأنّ أحد معاني هذه الكلمة هو العلم بباطن الأمور).

إنّه بصير بالمشاكل التي تواجه عباده:

ذكرت الآية التاسعة صفة البصير فقط، وأمّا ما جاء من أنّه بصير بعباده وحاجتهم إلى الامداد الإلهي. فهذا جاء نقلا لخطاب مؤمن آل فرعون الذي كان يكتم إيمانه عن آل

__________________________________________________

(1) التفسير الكبير، ج 27، ص 24؛ في تفسير روح البيان، ج 7، ص 346، فيه إشارة إلى هذا المطلب.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 88

فرعون وبذل النصح لقوم موسى عليه السلام عندما كانوا يخطّطون لقتله، وهدّدهم بالعذاب الإلهي وصرفهم عن هذا العمل فقال لهم: «فَسَتَذْكُرُونَ مَا اقُوْلُ لَكُمْ»، فإن حملتم كلامي هذا على التعاون مع موسى عليه السلام وقصدتم ايذائي فاني: «وَأُفَوِّضُ امْرِى الى اللَّهِ انَّ اللَّهَ بَصيرٌ بِالْعِبَادِ».

وبالتالي فقد نجّى اللَّه سبحانه هذا العبد المؤمن المجاهد من المؤامرات العديدة التي حِيكت ضدّه (والتي كان من جملتها التعذيب والاعدام).

وبالحقيقة، أنّ التذكير بكون اللَّه بصيراً بالعباد هنا إنّما هو كناية عن عدم تخلي مثل هذا الرب عن عباده المجاهدين المخلصين، وأنّ مثل هؤلاء العباد بإيمانهم بمثل هذا الرب سوف لا يهابون الصعاب، ومن هذه الجهة فقد أشارت الآية التي بعدها إلى نجاته من

مخالب الاعداء في ظل اللطف الإلهي.

وهذه المسألة جديرة بالذكر أيضاً، وهي الآصرة الوثيقة الموجودة بين كون اللَّه سبحانه بصيراً بعباده وبين تفويض الامور له، لأنّه كيف يمكن أن يدافع عن الإنسان من لا يعلم مشاكل الإنسان وحوائجه الظاهرية والباطنية؟ وبتعبير آخر فالتفويض بمعنى ثمرة الإيمان بكون اللَّه بصيراً بالعباد وأمورهم، والتفويض هنا طبعاً لا يعني أن يتقاعس الإنسان ويتكاسل أبداً، لأنّ هذا الكلام صدر من رجل مجاهدٍ جازف بحياته من أجل الدفاع عن موسى عليه السلام ورسالته، بل المقصود هو أداء التكليف ثم تفويض الأمر إلى اللَّه سبحانه وتعالى

الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافاتٍ:

وأخيراً نجد أنّ المسألة خرجت من دائرة اعمال العباد في الآية العاشرة والأخيرة من آيات البحث، حيث أشارت الآية إلى جميع عالم الوجود وكون اللَّه بصيراً بتنظيم قوانينه:

«اوَلَمْ يَرَوْا الَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ».

فمن الذي يُمسك هذه الأجسام الثقيلة في الجو التي تقاوم قانون الجاذبية، لساعات أو أسابيع أو أشهر؟ وقد تواصل بعض الطيور المهاجرة طيرانها لمدّة أسابيع وأشهر متواصلة

نفحات القرآن، ج 4، ص: 89

وبدون أدنى توقف: «مَا يُمْسِكُهُنَّ الَّا الرَّحْمنُ».

لماذا؟ ل «انَّهُ بِكُلِّ شَىْ ءٍ بَصِيرٌ».

فهو يعلم جميع القوانين التي تساعدها على الطيران باطمئنان وسكينه تامّة، لأنّه هو خالق هذه القوانين ومنظمها.

أجل، إنّه هو الرحمن الذي وسعت رحمته العامة جميع الوجود، وهو الذي منح هذه الطيور شكلًا مناسباً ووزناً مناسباً وأرجلًا وعيوناً وحواس مناسبة لكي تتمكن من التحليق في كبد السماء العالية.

والملفت هو أنّ اسلوب الطيران وكيفية ابتدائه وانتهائهِ متفاوت جدّاً لدى أنواع الطيور طبقاً لهيكلها واسلوب معيشتها والمحيط الذي تتواجد فيه، والأعجب من ذلك هو أن أنواعاً من الطائرات قد صُممت وصنعت لحد الآن بالاقتباس من أشكال وأجنحة الطيور المختلفة، وهذا هو تجلي معنى

الآية «انَّهُ بِكُلِّ شَىْ ءٍ بَصِيرٌ»، وإن لم يتجل لنا هذا المعنى بأن كنّا متطبعين على عجائب هذا العالم، فإنّ مشاهدة الطيور الجميلة العائمة في الفضاء بحركاتها الجذابة الماهرة التي تجذب إليها الانظار، كافية لإدراك قدرة وعلم هذا الخالق البصير.

نتيجة البحوث:

نستنتج من مجموع الآيات المذكورة أعلاه بأنّ اللَّه لايخفى عليه مثقال ذرة في السماء ولا في الأرض، والإيمان بهذه الحقيقة يحتمل أن يكون له تأثيرٌ بليغ في ايقاظ الإنسان وتربيته، لذا، فالآيات أعلاه أيضاً تدور غالباً حول محور المسائل الإنسانية التربوية.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 90

توضيحات
1- معنى كون اللَّه سميعاً بصيراً

إنّ جميع علماء الإسلام يذكرون اللَّه تعالى بصفات «السميع» و «البصير»، وذلك لتكرر ذكر هذه الصفات- كما نعلم- في القرآن الكريم.

ولكنهم اختلفوا في تأويلهما.

اعتقد المحققون بأنّ كون اللَّه سميعاً وبصيراً بحيث لا تتعدى قدرة احاطته وعلمه المسموعات والمرئيات، ولأنّ لهاتين الكلمتين مفهومان يستعملان للتعبير عن قوة سمعنا وبصرنا، فلذلك يتبادر إلى الذهن عضوا الأذن والعين، ولكن من البديهي أنّهما عندما تُستعملان لوصف الباري سبحانه وتعالى تتجّردان عن مفاهيم الآلات والأدوات والأعضاء الجسمانية، لأنّ ذاته المقدّسة أسمى وأجل من الجسم والجسمانيات.

وهذا ليس تعبيراً مجازياً طبعاً، وإن سمّيناه مجازياً فهو مجازي مافوق الحقيقة، لأنّه يعلم ويحيط بالمسموعات والمبصرات وهي ماثلة بين يديه تعالى بحيث يسبق ويفوق كل سمع وبصر، لذا فقد ورد وصفه تعالى في الأدعية باسمع السامعين وأبصر الناظرين.

لكن جماعة من قدماء المتكلمين اعتقدوا بأنّ صفتي السميع والبصير، تختلفان عن صفة «العلم»، وهؤلاء لابدّ لهم من الاعتقاد بأنّ صفتي السميع والبصير من الصفات الزائدة على ذات اللَّه، وهذا يعني الاقرار بتعدد الصفات الأزليّة، وهو نوع من الشرك، وإلّا فكون اللَّه سميعاً بصيراً لا يمكن أن يكون سوى علمه بالمسموعات والمرئيات.

2- السميع والبصير الواردة في نهج البلاغة والروايات

بحثت الروايات الإسلامية هذه الصفات الإلهيّة بشكل عميق ودقيق، ونتطرق هنا إلى ذكر نموذجٍ منها لتكملة البحث.

1- في خطبه لأمير المؤمنين علي عليه السلام قال:

نفحات القرآن، ج 4، ص: 91

«كُلُّ سَميعٍ غَيرَهُ يَصَمُّ عَنْ لَطيفِ الأَصواتِ، وَيُصِمُّهُ كَبِيرُها، وَيَذهَبُ عَنْهُ ما بَعُدَ مِنْها، وَكُلُّ بصَيرٍ غَيْرَهُ يَعْمَى عَنْ خَفِيِّ الأَلْوانِ وَلَطيفِ الْاجسامِ» «1»

.

2- وفي مكان آخر قال عليه السلام:

«والسَّمْيعِ لا بأداةٍ، والْبَصيرِ لا بِتَفْريقِ آلَةٍ» «2»

.

3- وفي خطبة آخرى قال:

«فاعِلٌ لا بَمعَنى الْحَركاتِ والالَة، بَصيرٌ اذْ لا مَنْظُورَ اليْهِ مِنْ خَلْقهِ» «3»

.

4- وورد

عن الإمام الصادق عليه السلام عندما سأله زنديق عن اللَّه عزّ وجلّ كيف أنّه سميع بصيرٌ قال:

«هوَ سميعٌ بصيرٌ، سَمِيعٌ بَغَيرِ جارِحَةٍ، وَبَصيرٌ بغَيْرِ آلةٍ، بل يسمع بنفسه ويبصر بنفسهِ ...» «4»

.

5- في البحار عن الإمام الصادق عليه السلام عن أحد أصحابه قال له: إنّ رجلًا ينتحل موالاتَكم أهل البيت يقول: إنّ اللَّه تبارك وتعالى لم يزل سميعاً بسمع، وبصيراً ببصر، وعليماً بعلم، وقادراً بقدرة.

قال: فغضب عليه السلام ثم قال:

«من قال ذلك ودان به فهو مشرك، وليس من ولايتنا على شي ء، إنّ اللَّه تبارك وتعالى ذاتٌ علّامةٌ سميعةٌ بصيرةٌ قادرةٌ» «5»

.

3- الأثر التربوي للإيمان بكون اللَّه سميعاً بصيراً

إنّ تأكيد القرآن على وصف الباري تعالى بهاتين الصفتين له آثار تربوية مهمّة، فهو يرفع

__________________________________________________

(1) نهج البلاغه، الخطبة 65.

(2) المصدر السابق، الخطبة 152.

(3) المصدر السابق، الخطبة 1.

(4) اصول الكافي، ج 1، ص 83، ح 1.

(5) بحار الأنوار، ج 4، ص 62 عن أمالي الصدوق وكذلك التوحيد.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 92

الوعي لدى المسلمين للوصول إلى معرفة اللَّه من جهة، ومن جهة اخرى يدعوهم جميعاً إلى التخلق بهذا الخلق الكريم والتشبه بهاتين الصفتين الإلهيتين، ومن جهة ثالثة يلقي في قلوب المؤمنين السكينة من حيث كون يد العناية والحماية الإلهيّة معهم في كل حال، ومن جهة رابعة تحذير للمؤمنين ليراقبوا أقوالهم وأعمالهم لأنّ اللَّه محيط بها علماً.

وقد أكّدت الروايات الإسلامية الشريفة أيضاً على هذه المسألة التربوية المهمة ومن جمله هذه الروايات.

1- ورد عن الإمام الصادق عليه السلام حديث يعض به أحد خواصه وهو (اسحاق بن عمار) قال عليه السلام: «يا اسحاق خَفِ اللَّه كأنّكَ تَراهُ وَانْ كُنْتَ لا تَراهُ فَانَّهُ يَراكَ، فان كُنتَ تَرَى أَنَّهُ لا يَراكَ فَقَدْ

كَفَرْتَ وإنِ كُنْتَ تَعُلَمُ أَنَهُ يَراكَ ثم برزْت له بالْمَعصِيَةِ فَقَدْ جَعَلْتَهُ مِنْ أَهْوَنِ النَاظِرينَ عَلَيْكَ» «1»

.

2- وفي حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام في تفسير الآية: «وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبّهِ جَنّتانِ» قال:

«مَنْ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ يَراهُ وَيَسْمَعُ ما يَقُوْلُ وَيَعْلَمُ ما يَعْمَلُ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، فَيَحْجُزُهُ ذلِكَ عَنِ الْقَبيحِ مِنَ الْأَعمالِ، فَذلِكَ الَّذي خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى «2».

3- وكذلك ماورد في تفسير (علي بن ابراهيم) عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «لما هَمّت به وهَمّ بها قامت إلى صنم في بيتها فألقت عليه ملاءة لها فقال لها يوسف: ما تعملين؟ قالت: ألقي على هذا الصنم ثوباً لا يرانا فاني استحي منه. فقال يوسف: فأنت تستحين من صنم لا يسمع ولا يبصر ولا استحي أنا من ربّي؟» «3»

.

4- ورد في تفسير روح البيان في ذيل الآية «وَافَوِّضُ امْرِى الَى اللَّهِ انَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ». (غافر/ 44)

__________________________________________________

(1) اصول الكافي، ج 2، ص 67، ح 2.

(2) اصول الكافي، ج 2، ص 7، ح 10 ذيل الحديث يفيد أنّ الإمام قال هذا الكلام في تفسير الآية «وأمّا من خاف مقام ربّه ونهى النفس عن الهوى .

(3) تفسير نور الثقلين، ج 2، ص 422.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 93

خرج بعض الأصحاب (رضي اللَّه عنهم) إلى الصحراء فطبخوا الطعام، فلما تهيأوا للأكل رأوا هنالك راعيا يرعى أغناماً فدعوه إلى الطعام، فقال الراعي: كلوا أنتم فانّي صائم. فقالوا له على سبيل الاختبار: كيف تصوم في مثل هذا اليوم الشديد الحرارة؟ فقال لهم: إنّ نار جهنم أشد حرّاً منه، فأعجبهم كلامه فقالوا له: بع لنا غنما من هذه الأغنام نعطك ثمنه مع

حصة من لحمه، فقال لهم: هذه الأغنام ليست لي وإنّما هي لسيدي ومالكي، فكيف أبيع لكم مال الغير؟ فقالوا له: قل لسيدك إنّه أكله الذئب أو ضاع: فقال: أين اللَّه!؟ فأعجبهم كلامه زيادة الاعجاب، ثم لما عادوا إلى المدينة اشتراه ابن مسعود من مالكه مع الأغنام فأعتقه، ووهب الأغنام له، وكان ابن مسعود يقول له في بعض الأحيان بطريقة الملاطفة: أين اللَّه «1».

وهنالك نماذج كثيرة من هذا القبيل، منقولة في التأريخ والروايات الإسلامية، تدلّ على الأثر التربوي البليغ النابع من الإيمان بعلم اللَّه وبتواجده في كل مكان، وبكونه سميعاً وبصيراً، في الحجز عن المعاصي والذنوب.

4- اللَّه المدرك

عدّ علماء العقائد صفة «المدرك» من احدى صفات اللَّه، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا المعنى حيث قال: «لَاتُدْرِكُهُ الْابْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْابْصَارَ وَهُوَ اللَّطيفُ الْخَبيرُ».

(الأنعام/ 103)

قال المتكلمون: إنّ المدرك بمعنى السميع والبصير، وعليه فهذه الكلمة تجمع كلتا الصفتين «2».

وقد قال الراغب في المفردات: بأنّ «الإدراك» معناه الوصول إلى نهاية الشي ء، لكن البعض فسروها بالمشاهدة العينية، والبعض الآخر قالوا: إنّها بمعنى المشاهدة ببصيرة القلب.

__________________________________________________

(1) تفسير روح البيان، ج 8، ص 188.

(2) شرح التجريد: «في أنّ اللَّه سميع بصير».

نفحات القرآن، ج 4، ص: 94

وفي الحقيقة فإنّه لا شي ء في اللغة يدلّ على أنّ معنى الإدراك هو الإدراك الحسّي، بل وكما قلنا فإنّ الإدراك معناه الوصول إلى نهاية الشي والاحاطة به، سواءً كان حسيّاً أم عقلياً، وما يثير العجب أكثر هو أنّه على الرغم من أنّ الآية المذكورة قالت وبعبارة صريحة:

«لا تدركه الأبصار» (سواء في الدنيا أم في الآخرة، وسواء في ذلك الرسول صلى الله عليه و آله في ليلة المعراج أم غيره) فمع ذلك أصرّ بعض المفسرين

على حمل الآية على خلاف معناها الظاهري، وقالوا: إنّه يمكن رؤية اللَّه في الآخرة على الأقل، وذكروا عدّة توجيهات في هذا المجال، وقد ذكر الفخر الرازي أربعة نماذج منها في تعليقه على هذه الآية «1»، جميعها ضعيفة جدّاً وتبعث على التأسف وتدلّ على ميل البعض في فرض آرائهم الباطلة على القرآن بأيّ ثمنٍ كان.

وسنبحث هذا الموضوع بتفصيل أكثر في شرح الصفات الإلهيّة السلبية إن شاء اللَّه تعالى وسوف نلاحظ عكس ذلك تماماً في روايات أهل البيت عليهم السلام حيث لم تكتفِ فقط بنفي قدرة الإنسان على رؤيته تعالى بل حتى نفت قدرة العقل البشري على إدراك كنه ذاته المقدّسة.

__________________________________________________

(1) تفسير الكبير، ج 13، ص 124.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 95

ج) إنّ اللَّه حكيم

تمهيد:

الجدير بالذكر هو أنّ القرآن الكريم وصف الذات الإلهيّة المقدّسة ب «الحكيم» في تسعين موضعاً!

وقد اقترنت في كثير من المواضع مع صفة «العزيز».

وأحياناً مع صفة «الخبير».

واخرى مع صفة «العليم».

واخرى مع صفة «الواسع».

وأحياناً مع صفة «التوّاب».

وأحياناً مع صفة «العلي».

وأحياناً اخرى مع صفة «الحميد».

وكما سنرى فيما بعد فإنّ كل واحدة من هذه الصفات تعطي مفهوماً أكمل وأشمل عندما تأتي مع صفة الحكيم.

وعلى أيّة حال فإنّ حكمة اللَّه ما هي إلّاعلمه واحاطته بتدبير الوجود ونظم الخلق.

بعد هذا التمهيد نمعن خاشعين في الآيات التالية:

1- «انَّ اللَّهَ عَزيْزٌ حَكيمٌ». (التوبه/ 71)

2- «وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ». (التوبه/ 106)

3- «كِتَابٌ احْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ». (هود/ 1)

4- «وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَانَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ». (النور/ 10)

نفحات القرآن، ج 4، ص: 96

5- «تَنْزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ». (فصلت/ 42)

6- «انَّهُ عَلِىٌّ حَكِيمٌ». (الشورى 51)

7- «وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعاً حَكِيماً» «1»

. (النساء/ 130)

شرح المفردات:

لفظ «حكيم»، كما ورد في كتاب «العين» للخليل بن أحمد الفراهيدي مأخوذ من مادة «الحكمة»، وهي تفيد معنى «العلم» و «الحلم» و «العدالة»، وحسب ماورد في مفردات الراغب، فإنّ «الحكيم» بمعنى المنع من شي ء لغرض إصلاحه، أمّا في مقاييس اللغة فقد فسر لفظ الحكيم بمعنى المنع من الظلم، وعلى هذا الأساس فإنّ عنان أو لجام الحيوان يسمى «حكمة» على وزن «صدمه»، وأيضاً يقال للعلم والمعرفة «حكمة»، لأنّها تمنع الشخص من القيام بالأعمال غير اللائقة.

ويقال أحياناً «للحكم» «حكومة»، وذلك لأنّ الحكومة تمنع الناس من القيام بالأعمال غير القانونية.

ورد في «لسان العرب»، أنّ «الحكم» تعني العلم والفقه والقضاء بالحق والعدل.

وقال صاحب «صحاح اللغة»: أنّ «الحكيم» هو الشخص الذي ينجز أعماله بصورة صحيحة وطبق اصول وأسس معينة أمّا في «النهاية» لابن الأثير،

وفي «لسان العرب» فقد ورد معنى «الحكمة» بانّه: معرفة أفضل الأشياء وأفضل الأساليب وبأحسن كيفية ويقال للشخص الذي ينجز أعماله بدقة واتقان، «حكيم»، «فنقول، إنّ فلان دلنا على أحسن مزرعة وبأقرب طريق، فهو حكيم، وكذلك بالنسبة للشخص الذي ينتج أفضل المنتجات بأفضل الطرق والأساليب، فهو حكيم أيضاً».

__________________________________________________

(1) وكما قلنا فلفظة «حكيم» قد وردت في آيات مختلفة من القرآن الكريم أكثر من تسيعن مرة، لكن الآيات أعلاه شاملة لمختلف التعابير حول هذا الموضوع.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 97

جمع الآيات وتفسيرها
قدرته مقرونة بحكمته:

الجدير بالذكر أنّ الصفات التي وصف اللَّه تعالى ذاته المقدّسة بها في ذيل الآيات القرآنية المذكورة لها علاقة وثيقة وخاصّة مع محتوى هذه الآيات، بحيث إنّ التدقيق في هذه المسألة يُرشد إلى نقاط مهمّة، ومع أخذ هذه الإلتفاتة بنظر الاعتبار نحاول تفسير الآيات المذكورة.

بعد أن ذكر سبحانه وتعالى في الآية الأولى قسماً من الواجبات الإسلامية حول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الصلاة وأداء الزكاة وما شاكل ذلك، وبعد التذكير بشمول رحمته عباده المطيعين، قال عزّ وجل: «انَّ اللَّهَ عَزِيْزٌ حَكِيمٌ».

«العزيز»: من «العزّة» أي عدم المغلوبية، والأصل في استعمالها هو في التعبير عن الأشياء الصلبة التي لا ينفذ فيها شي ء، وعليه فإنّ صفتي «عزيز وحكيم» هنا تدلان على قدرته وعلمه اللامتناهيان.

والجدير بالذكر هو أن هاتين الصفتين قد وردتا معاً في الكثير من الآيات القرآنية، وأكثر ماورد ذكرهما في الآيات التي تحدّثت حول تشريع الأحكام، وبعث الأنبياء، ونزول القرآن (كالآيات 129 و 209 و 228 من سورة البقرة، والآية 2 من سورتي الجاثية والأحقاف)، وذلك للتذكير بأنّ اللَّه تعالى قد فصّل جميع ما يحتاجه البشر بتشريع القوانين وإنزال القرآن بدّقة متناهية، لأنّه علاوةً على كونه حكيماً وعليماً،

فهو قادر على هذا العمل أيضاً.

وبتعبير آخر، إنّ أفضل القوانين يُشرعها من هو أعلم وأكثر اقتداراً من الجميع، وهو اللَّه ولا أحد غيره.

وما ذُكر في قسم من الآيات التي ختمت بصفتي «عزيز حكيم» عن خلق السماء والأرض، وتسبيح الكائنات لله تعالى أو تنظيم خلقة الجنين، وما شاكل ذلك (كالآية 1 من سورة الحديد، والآية 24 من سورة الحشر، والآية 6 من سورة آل عمران)، بمثابه كناية عن كون عالم التشريع ليس لوحده قائماً في ظلّ علم اللَّه تعالى وحكمته، بل إنّ عالم التكوين كذلك أيضاً.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 98

وفي قسم آخر من الآيات ورد الحديث عن أفعال اللَّه تعالى كالقيام بالقسط، وخلق المسيح عليه السلام، ونصر المؤمنين في القتال، وتأليف قلوب المؤمنين، وختمت بعبارة «عزيز حكيم» و هي (كالآيات 18، 62 و 126 من سورة آل عمران، والآية 63 من سورة الأنفال).

وهذه الآيات تشير إلى أنّ أفعال اللَّه تعالى أيضاً تتفرّع من علمه اللامحدود وقدرته المطلقة.

وأحياناً نجد أنّ بعض الآيات تتحدث عن الثواب والعقاب وتختتم ب (العزيز الحكيم) كما ورد في سورة (المائدة، 18)، كناية عن كون العطايا الإلهيّة أيضاً قائمة على أساس الحكمة والحساب الدقيق، وكذلك إشارة إلى قدرة اللَّه تعالى على تنفيذ ما وعد به عباده المؤمنين من العطايا العظيمة، وإلى عجز المجرمين عن الفرار من عقابه تعالى

وأخيراً فقد يكون تلازم هاتين الصفتين من أجل إضاءة بصيص الأمل في قلوب المؤمنين وتهدئة خواطرهم، ليدركوا بأنّهم ليسوا لوحدهم أبداً في الصعاب وعند مواجهة الأعداء، كما ورد في الآية الشريفة: «وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فِانَّ اللَّهَ عَزِيْزٌ حَكِيْمٌ».

(الأنفال/ 49)

وخلاصة الكلام فإنّ عزّة اللَّه تعالى وقدرته لاتبقي مجالًا لأي مانعٍ دون تنفيذ إرادته ومشيئته

سبحانه، فهو على كل شي ء قدير، فله تعالى القدرة على إدارة نظام التكوين ونظام التشريع، وعلى الدفاع عن أوليائه وأحبائه سبحانه.

ولكونه سبحانه حكيماً، فإنّه خبير بكل أسرار الوجود، وبمصالح الأمور ومفاسدها، وبحوائج عباده، واتصافه سبحانه وتعالى بهاتين الصفتين هو السر في تواجد أفضل الأنظمة في عالم الوجود.

جميع أفعاله تتسم بالحكمة:

وفي الآية الثانية يمر علينا التعبير القرآني الثاني في هذا المجال، حيث مزج علم اللَّه

نفحات القرآن، ج 4، ص: 99

تعالى مع حكمته، ووصفه بصفتي العليم والحكيم في آن واحد، وبعد أن تحدثت عن جماعة من المسلمين خلطوا عملًا صالحاً وآخر طالحاً، قال تعالى «وَءَاخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ».

إنّ اللَّه تعالى عليم يعلم هذه الجماعة جيداً، وحكيم من حيث معاملته كل فرد بما يستحقه، فتارة يرحم وتارة اخرى يعذّب، وبذلك يجعلهم بين الخوف والرجاء، وهذه الحالة تعد من العوامل التربوية للإنسان.

والواقع إنّ التعبير بكلمة «عليم» إشارة إلى إحاطته تعالى بالموضوع، و «حكيم» إشارة إلى إطلاعه على الحكم «1».

ومن البديهي أنّ كلًا من العذاب أو العفو الإلهي ليس من دون حساب، بل هو قائمٌ على اسس اللياقات العملية والأخلاقيّة والنيّات الذاتية للأفراد.

والجدير بالذكر هو أنّ بعض الآيات التي سبقت هذه الآية عن جماعة اخرى من الذين خلطوا الطاعات بالمعاصي، خُتمت بالوعد بالمغفرة: «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ»، وذلك من أجل التأكيد على تلك المغفرة، ويعتقد أنّ تلك الآيات تحدثت عن الذين تابوا من ذنوبهم حالًا وأصلحوا نفوسهم بعد اقتراف المعاصي مباشرةً، لكن الجماعة المذكورة في آية بحثنا لم تكن كذلك.

ويلاحظ في آيات كثيرة اخرى أيضاً بأنّ صفتي «عليم وحكيم» لهما علاقة وثيقة بمحتوى الآية في جميع تلك الآيات، لأنّ الكثير منها قد تحدثت

عن الأحكام والقوانين الإلهيّة التي لها علاقة واضحة بعلم اللَّه تعالى وحكمته. والبعض الآخر منها تحدثت عن القوانين التكوينية التي لا يمكن تشريعها أيضاً بدون العلم والحكمة.

وبعضها تحدثت عن التوبة والثواب والعقاب، والعدل في هذه الامور يحتاج إلى العلم والحكمة، العلم بأعمال ونيّات العباد، والحكمة في تقدير الثواب والعقاب حتماً.

__________________________________________________

(1) في تفسير الكبير، ج 16، ص 193؛ وتفسير روح المعاني، ج 11، ص 16، إشارة خفيفة إلى هذا المطلب.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 100

هو الحكيم الخبير:

ونلاحظ استعمال الآية الثالثة تعبيراً آخر وهو ذكر صفتي «الحكيم والخبير» في موضع واحد، قال تعالى «كِتَابٌ احْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ».

قال الزمخشري في كشّافه: «تشير هاتان الصفتان إلى فعلين إلهييّن ذكرتهما الآية في البداية، أي أنّ الآيات القرآنية محكمة ومتوازنة لأنّها صادرة من لدن حكيم، ومفصّلة لأنّها صادرة من لدن خبير وعليم بكل شي ء» «1».

حكيم لأنّه وضع طريقاً للرجعة:

في الآية الرابعة نلاحظ وجود تعبير قرآني جديد وهو اقتران صفة «الحكيم» بصفة «التوّاب»، قال تعالى «وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَانَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ».

وردت هذه الآية بعد مجموعة من الآيات المتعلقّة بمسألة اللّعان (وهو إذا اتهم رجل زوجته بالزنا- والخروج عن جادة العفاف ولم يكن لديه أربعة شهود على ادعائه: وجب أن يجلد ثمانين جلدة وفق قانون القذف، لكن القرآن أسقط عن الزوج هذا الحكم شريطة أن يحلف باللَّه خمساً كما ورد تفصيله في آيات سورة النور، لكن زوجته ستكون محل تهمة في هذه الحالة، وتدرء الاتهام عنها في حال أدائها اليمين الخماسي أيضاً، وفي هذه الحالة فسوف تحرم الزوجة على زوجها إلى الأبد.

بالالتفات إلى هذه المسألة يتضح أنّ علاقة صفتي «التواب» و «الحكيم» مع محتوى الآية وثيقة جدّاً، حيث وضع سبحانه وتعالى أمام الطرفين طريقاً للتوبة والرجوع، لكي يتمكن الذي افترى على صاحبه من العودة إلى مواصلة الحياة الزوجية وبتحمل عقوبة القذف، هذا من ناحية، ومن ناحية اخرى ونظراً لكون الزوجين أكثر اطلاعاً على بعضهما، ولِتعسُّر إقامة الدليل على مثل هذه المسائل الخاصة غالباً، فإنّ اللَّه تعالى قد صان حقوق

__________________________________________________

(1) تفسير الكشاف، ج 2، ص 377.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 101

الزوجين وحق أولادهما، وصان الزواج من أي لون من التلوث بالاستفادة من

سنة أحكام اللِّعان الحكيمة هذه).

هو الحكيم الحميد:

يلاحظ في الآية الخامسة اقتران صفة «الحكيم» بصفة «الحميد»، بعد أن بَّينت الآية عظمة القرآن الكريم، قال تعالى «لَّايَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيْلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ».

وردت تفاسير عديدة حول معنى كلمة «الباطل» وجملة «من بين يديه ومن خلفه»، لكن الظاهر هو أنّ «الباطل» يشمل كل مايُبطل ويسقط هذا الكتاب السماوي من الاعتبار، وجملة «من بين يديه ومن خلفه» كناية عن جميع الجهات، أي أنّ غبار البطلان لن يترسب على هذا الكتاب السماوي، لا من حيث اللفظ ولا من حيث المعنى سواء كان في الكتب السابقة أم المقالات اللاحقة.

والدليل على ذلك هو أنّه تنزيل من لدن ربّ حكيم يحيط بجميع أسرار خلق الإنسان والكون، والهدف منه هو الامتنان على الإنسان بأكبر النعم الإلهيّة، نعمة تستحق أعلى مراتب الحمد، لذا فقد وردت صفة الحميد بعد صفة الحكيم.

ولهذا لا يمكن أن نجد نقطة ضعف في مضمونه ولا في معاينه ولا تستبدل بمرور الزمان، أو يستطيع أحدٌ تحريفه أو تغيير محتوياته.

إنَّهُ علىٌّ حَكِيمٌ:

بعد أن أشارت الآية الخامسة إلى مسألة الوحي وارتباط الأنبياء مع الذات الإلهيّة المقدّسة بطرق مختلفة (الالهام القلبي، التكليم بايجاد أمواج صوتيّة أو إرسال الوحي)

نفحات القرآن، ج 4، ص: 102

قالت الآية السادسة: «إِنَّهُ عَلِىٌّ حَكِيمٌ».

إنَّ علوّه تعالى يستوجب أن لا يتصل مع عباده الذين هم موجودات جسمانية ومخلوقات إمكانية، إلّابالطرق التي ذكرناها، وحكمته تستوجب أن يفيض الوحي بالمعارف والتعاليم التي تعبّد طريق الإنسان إلى اللَّه تعالى

هنا تتضح الآصرة الوثيقة الموجودة بين هاتين الصفتين، ويتضح محتوى الآية.

الطلاق نابع من الحكمة الإلهيّة:

وبالتالي فالآية السابعة والأخيرة من بحثنا، بعد أن سمحت للزوج والزوجة بالطلاق عند فقدان الالفة، أمّلتهما بالحياة المستقبليّة لكي لا ييأسا ويسلكا طريق المعاصي. قال تعالى «وَانْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِّنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعاً حَكِيْماً».

فمن جهة يبشّرهما تعالى بالغنى من فضله وكرمه (وهذا يتناسب مع وصفه تعالى بالواسع)، ومن جهة اخرى فقد شرّع الطلاق وسمح للزوجين بالافتراق في حالات خاصّة (وهذا مقتضى حكمته سبحانه)، لأنّه لو لم يشرع قانون الطلاق- كما في القوانين المسيحية المشرَّعة في عصرنا الحاضر- لواجه الزوجان طريقاً مسدوداً في حالات الطلاق الضرورية، ولتورّطا بنارٍ محرقة لامفرّ منها، ولتهيأت الأرضية لوقوع كل ألوان الإنحرافات الأخلاقية والجرائم وتضييع حقوق الزوجين وأبنائهما.

نتيجة البحث:

يستنتج من مجموع الآيات المذكورة بوضوح أن حكمة اللَّه تعالى التي هي إحدى فروع علمه، تدل على أنّ الوجود بكل أبعاده قائم على أساس نظام وحساب دقيق وقوانين موزونة ومنسجمة، وأنّ أفعال اللَّه تعالى بكل أبعادها مقرونة بالحكمة، وهذا هو مايعبر عنه بالنظام الأحسن في بعض الأحيان.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 103

وهذا النظام الأحسن قد تجلى في عالم التشريع والتقنين والأحكام الشرعية، وفي طيات تشريع هذه القوانين والاحكام أسرارٌ وفلسفات لايعلمها إلّااللَّه الحكيم الذي أرانا قسماً منها أيضاً.

توضيحان
1- الأدلة على حكمة اللَّه تعالى

لم يكن اتصاف اللَّه تعالى بالحكمة مستنبطاً من عشرات الآيات القرآنية، التي وصفته بالحكيم فحسب، بل يمكن إثباته بالأدلة العقليّة أيضاً.

لأنّه وكما أشرنا سابقاً فإنّ صفة الحكيم تطلق على من يؤدّي افعاله بأفضل وجه، وأقرب طريق، ويتحرز عن أي عملٍ غير موزون وغير صالح. وبالحقيقة أنّ الحكمة تشمل الحالات العملية في الغالب، بينما نجد أنّ العلم يشمل الحالات النظرية.

لذا فإنّ جميع الأدلة التي تثبت علم اللَّه تعالى أثبتت حكمته أيضاً، ولكن يجدر الالتفات إلى التفاوت الموجود بين وصف الباري بالحكيم والإنسان بنفس هذه الصفة، فالأخير هو من تنسجم أعماله مع قوانين عالم الوجود، لكن قولنا: اللَّه حكيم، يعني الذي أوجد القوانين التي هي مصداق للنظام الأحسن، وبتعبير أدق: إنّ اللَّه تعالى هو الذي يقنن القانون ويشرِّعه ونحن نطبقه.

ومن جهة اخرى فإنّ نظرةً واحدةً إلى عالم الوجود- من المنظومات الشمسية والكواكب والنجوم، حتى مكوّنات الذرة، ومن الكائنات الحية الاحادية الخلية، وحتى الحيوانات العملاقة، والأشجار العظيمة- كافية لإدراك حكمة الخالق ومؤسس هذا البناء البديع.

إنّ جميع الكتب التي كتبت حول العلوم الطبيعية، والفيزياء، والكيمياء، والتشريع، وعلم الحيوان، والنبات، وعلم الفلك والنجوم، هي في الأساس تشرح حكمة اللَّه تعالى وكما قال

العلماء: إنّ جميع هذه العلوم هي في الواقع ورقة واحدة من كتاب أسرار عالم الوجود العظيم.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 104

وهذا بحد ذاته أفضل دليلٍ على حكمته سبحانه.

وبتعبير آخر: فكما أنّ برهان النظم يثبت وجود اللَّه سبحانه وتعالى فهو يثبت علمه وحكمته أيضاً.

والجدير بالذكر أنّ روايات كثيرة، ومن جملتها رواية «توحيد المفضل» المعروفة، تحتوي على إشارات قيِّمة كثيرة حول حكمة اللَّه تعالى في خلق الإنسان، والحيوان، والطيور، والأسماك، والسماء، والشمس والقمر والنجوم، والماء والنار، والمعادن، والنباتات، والأشجار، وغيرها، وقد وضَّحت بأجمعها ما قلناه.

2- الآثار التربويّة لمعرفة حكمة اللَّه تعالى

غالباً مايُنظر إلى صفات اللَّه تعالى من بعد «معرفة اللَّه»، وهذا صحيح في محله طبعاً، لكن القرآن الكريم استعمل هنا نقطة ظريفة اخرى وهي استعانته بهذه الصفات لتربية الإنسان في الغالب، والتي تجلت نماذج منها في الآيات التي ذكرناها، لذا يجب أن نعمل بهذا الكتاب الإلهي، ونتخذ من معرفة صفات اللَّه تعالى أساساً لتهذيب نفوسنا وتكامل عقولنا.

إنّ للإيمان بحكمة اللَّه تعالى انعكاسات وآثار تربوية في نفس الإنسان، وهذه الآثار هي كالتالي:

أ) الإيمان بحكمته تعالى يمكنه أن يترك آثاراً بليغة في التطورات العلمية للإنسان ومعرفته بأسرار عالم الوجود، ويزيد في سرعة العلم البشري بالسير إلى الأمام قُدُماً.

لأننا عندما نعلم أن صانع هذا البناء البديع العظيم معمار ماهر، وأودع كل موضع منه أسرار الحكمة، فإننا سوف لا ننظر إلى موجودات وحوادث هذا العالم بنظرة عادية، بل سوف نتعمق في كل ظاهرة كموضوع مهم، بحيث نتوصل إلى اكتشاف قانون الجاذبية العام المهم جداً، وقوانين مهمّة اخرى بمجرّد سقوط تفاحة من شجرة ما.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 105

ولا تعجب عند سماعك بأنّ (إنشتاين) كان يعتقد بأنّ العلماء والمكتشفين العظام كانوا جميعاً يؤمنون نوعاً ما بوجود المبدئ

العليم، وبحكمة الوجود، وهذا الأمر هو الذي كان يشجعهم على بذل مساعٍ أكبر.

ب) إنّ الاعتقاد بحكمة اللَّه تعالى في التشريع والتقنين يهوّن الصّعاب الموجودة في تعاليم تلك الشرائع، ويلتذ الإنسان في تحمل الشدائد في طريق امتثال أوامره سبحانه، لأنّه يدرك بأنّ جميع هذه البرامج والقوانين صادرة من ذلك الحكيم العظيم. فتجويزه سبحانه وتعالى دواءً مُراً مثلًا، إنّما هو لدور ذلك الدواء في شفاء الإنسان، وتشريعه لتكليف شاق معين، إنّما هو من أجل سعادة الإنسان وتكامله المترتبة عليه.

ج) إيمان الإنسان بهذه الصفة الإلهيّة يزيد من صبره وتحمله وقدرته، ومقاومته في مواجهة المصائب والحوادث المرة، وذلك لأنّه يدرك وجود حكمة معينة في كل واحدة منها، وهذا الاحساس يعينه في التغلب على المشاكل المذهلة، لأننا نعلم بأنّ الشرط الأول للتغلب على المشاكل هو التمتع بالمعنوية العالية، والتي لا تتحقق إلّافي ظل معرفة حكمة اللَّه تعالى

د) وكما نعلم أنّ افضل مقام مرموق يبلغه الإنسان هو وصوله إلى مقام القرب منه تعالى ولا يتحقق القرب منه سبحانه إلّابالتخلق بأخلاقه تعالى والاقتباس من نور صفاته.

والإيمان بحكمة اللَّه تعالى يدعو الإنسان إلى سلوك طريق العلم والحكمة والتخلق بالأخلاق الإلهيّة، ولعل هذا هو السر في تعبير القرآن عن الحكمة بعبارة (خيراً كثيراً) حيث قال: «وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ اوْتِىَ خَيْراً كَثِيراً». (البقرة/ 269)

ورد عن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام قوله: «الحكمة ضياء المعرفة وميراث التقوى وثمرة الصدق وما أنعم اللَّه على عبدٍ من عباده نعمة أنعم وأعظم وأرّفعَ وأجْزلَ وأبْهى من الحكمة» «1»

.

ونختم كلامنا هذا بكلام العلّامة المجلسي رحمه الله، والذي يوضح البحوث السابقة وخصوصاً البحث الأخير.

__________________________________________________

(1) بحار الانوار، ج 1، ص 215، ح 26.

نفحات القرآن، ج 4، ص:

106

فقد نقل العلامة المجلسي رحمه الله معنى الحكمة عن العلماء بأنّهم قالوا: الحكمة تحقيق العلم وإتقان العمل، وقيل: مايمنع من الجهل، وقيل: هي الإجابة في القول، وقيل: هي طاعة اللَّه، وقيل: هي الفقه في الدين، وقال ابن دريد: كل ما يؤدّي إلى مكرمة، أو يمنع من قبيح، وقيل: مايتضمن صلاح النشأتين «1».

__________________________________________________

(1) بحارالانوار، ج 1، ص 215، ح 26.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 107

د) إرادة اللَّه ومشيئته

تمهيد:

هناك آيات قرآنية كثيرة تحدثت عن إرادة اللَّه سبحانه سواءً في عالم الخلق والوجود، أو في تشريع القوانين والأحكام وتكاليف العباد ومصيرهم.

لا ريب في أن للَّه تعالى إرادتين، تكوينية وتشريعية، وظهور الحوادث المختلفة في أوقات مختلفة يُعد دليلًا واضحاً على إرادته في إيجاد موجود أو حادثة ما في يوم كذا، لا قبله ولا بعده.

وهكذا فإنّه تعالى أراد أن يؤدّي عباده الطاعة الفلانية ويتركوا المسائل الاخرى

لكن ماهو معنى وحقيقة إرادة اللَّه تعالى

تُعدّ هذه المسألة من أعقد المسائل الكلامية والعقائدية والفلسفية، ولكن بعد التحليل النهائي سنتوصل إلى أنّ إرادة اللَّه تعالى ومشيئته فرعٌ من فروع علمه سبحانه. أما كيف؟

فهذا ما سنعرفه بعد تتبع الآيات القرآنية التي وردت حول إرادته ومشيئته تعالى.

ولنتأمل خاشعين في الآيات الكريمة التالية:

1- «انَّمَا قَوْلُنَا لِشَى ءٍ اذَا ارَدْنَاهُ انْ نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ». (النحل/ 40)

2- «قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً انْ ارَادَ بِكُمْ ضَرًّا اوْ ارَادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً». (الفتح/ 11)

3- «وَنُرِيدُ انْ نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا في الْارْضِ وَنَجْعَلَهُمْ ائِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ».

(القصص/ 5)

4- «يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ». (البقرة/ 185)

نفحات القرآن، ج 4، ص: 108

5- «يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ انَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَى ءٍ قَديرٌ». (النور/

45)

6- «وَلَا تَقُولَنَّ لِشَى ءٍ إِنِّى فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً* الّا انْ يَشَاءَاللَّهُ». (الكهف/ 23/ 24)

7- «وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ انْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ الَّا وَحْيًا اوْ مِنْ وَرَاءِى حِجَابٍ اوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فيُوحِىَ بِاذْنِهِ مَا يَشَاءُ انَّهُ عَلىٌّ حَكيمٌ». «1» (الشورى 51)

شرح المفردات:

«الإرادة»: من مادّة (رَوْد) (على وزن مَوْج)، وهي في الأصل بمعنى التردُّد المصحوب بالهدوء لتحصيل شي ء، وتُطلق على الذي يبحث عن مرتع لرعي المواشي.

وكلمة «الإرادة» المأخوذة من هذا الأصل هي بالواقع مركّبة من ثلاثة عناصر: «إرادة الشي ء عن رغبة» و «مع الأصل في الوصول إليه» و «الأمر بفعله من قبله أو الآخرين» «2».

يعتقد الكثير من الغويين والمتكلمين أنّ «المشيئة» تعني «الإرادة»، لذا فقد قال الراغب في المفردات: يعتقد أكثر المتكلمين أنّ المشيئة تعني «الإرادة» تماماً، واعتقد البعض منهم أنّ المشيئة تعني إيجاد الشي ء والوصول إليه، ولو أنّها حلّت محل الإرادة في الاستعمالات المتعارفة، وعلى هذا تكون المشيئة بالنسبة إلى اللَّه سبحانه وتعالى بمعنى الإيجاد، وبالنسبة إلى الناس بمعنى الوصول إلى شي ء معين «3».

لكنه ورد في بعض كتب اللغة أنّ «المشيئة» غير «الإرادة»، فالمشيئة هي المَيْل الذي يحصل للإنسان بعد التصوُّر والتصديق، ثم يصل بعدها العزم والتصميم، ثم تتحقق الإرادة (وعليه فإنّ المشيئة) تُطلَقُ على المراحل الأولى و «الإرادة» على المرحلة الأخيرة وتتصل بالفعل «4».

__________________________________________________

(1) وهناك آيات اخرى تتضمن هذا المعنى وهي: المائدة، 17؛ الرعد، 11؛ الكهف، 82؛ الاحزاب، 17 و 33 و 38؛ الاسراء، 16؛ الانعام، 125؛ البقرة، 185؛ آل عمران، 176؛ النساء، 26 و 27 و 28؛ المائدة، 1 و 6 و 41؛ الانفال، 7؛ التوبة، 55؛ هود، 107؛ الحج، 14 و 16؛ فاطر، 10؛ البروج، 16.

(2) مفردات الراغب؛ مقاييس اللغة؛ لسان العرب.

(3) مفردات الراغب؛ ونهاية ابن الأثير؛ ومصباح اللغة؛ وصحاح اللغة؛ ولسان العرب؛ ومجمع البحرين.

(4) التحقيق في كلمات القرآن الكريم.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 109

وقد ورد في الروايات الإسلاميّة أيضاً أنّ «المشيئة» مرحلة قبل «الإرادة»، وسيأتي شرح ذلك في قسم التوضيحات إن شاء اللَّه.

جمع الآيات وتفسيرها
إرادته نافذة في كل شي ء:

أخبرت الآية الأولى بحقيقة عدم انفصال إرادة اللَّه تعالى عن وجود الأشياء، فبمجرّد قوله سبحانه للشي الذي يريده، كُنْ، فإنّه سيتحقق: «انَّمَا قَوْلُنَا لِشَى ءٍ اذَا ارَدْنَاهُ انْ نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ».

وطبعاً إنّ هذا الكلام لايعني وجود الحوادث والموجودات في لحظة واحدة، بل يعني وجودها وحدوثها وفق الإرادة الإلهيّة والأمر الإلهي بدون تقديم أو تأخير حتى ولو لحظة واحدة.

أي إذا أراد اللَّه تعالى أن يبقى جنين في بطن امه تسعة أشهر وتسعة أيام بالضبط، فإنّه سيولد في الموعد المحدَّد وبدون لحظة من التقديم أو التأخير، وهكذا إذا أراد سبحانه أن يمكث هذا الجنين أقل أو أكثر من هذه المدّة، وإذا أراد اللَّه إيجاد منظومة كالمنظومة الشمسية، أو عالم عظيم آخر كالعالم الحالي فإنّه سوف يوجد على الفور.

والتعبير بكلمة (كن) أيضاً إنّما جاء بسبب عجز اللفظ عن بيان المعنى أي أنّه تعبير كنائي وإلّا فلا توجد فاصلة بين إرادة اللَّه تعالى وتحقق الشي ء المراد.

والعجيب هو أن بعض المفسّرين القدماء فسّروا كلمة (كن) كأمر صادر من اللَّه تعالى فواجهوا هذا السؤال: مَن هو المخاطب؟ أيمكن مخاطبة العدم؟

وعليه اضطروا لتوجيه مخاطبة العدم، أو القول بوجود المعدومات، أو الاستدلال بالآية على كون كلام اللَّه تعالى قديماً.

في حين أنّ هذا الكلام كلّه خاطي، وتشير القرائن إلى كون هذه الجملة كناية عن عدم وجود فاصلة بين إرادة اللَّه وتحقق الشي المراد.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 110

وبالحقيقة فإنّ الآية

قد تحدثت عن إرادة اللَّه تعالى وإيجاد الأشياء لا غير، وكما سنعلم فإنّ إرادة اللَّه تعالى تكون على معنيين، فمن جهة تكون عين ذاته، ومن جهة اخرى تكون عين فعله أيضاً، (فتأمل جيداً).

وقد ورد شي ء من هذا القبيل في الآيات: 117 من سورة البقرة، 82 من سورة يس، 59 و 47 من سورة آل عمران، 35 من سورة مريم، 68 من سورة غافر.

ويجدر الالتفات إلى أن بعض الآيات المذكورة قد نزلت بخصوص منكري المعاد لتذكيرهم بعدم وجود شي ء يصعب على الإرادة الإلهيّة إيجاده. (كالآية 82 من سورة يس، والآية المذكورة في بحثنا).

وبعضها نزلت بخصوص خلق آدم عليه السلام من التراب (كالآية 59 من سورة آل عمران).

أو خلق المسيح من دون أب (كالآية 47 من سورة آل عمران، والآية 35 من سورة مريم).

أو بخصوص الابداع في خلق السموات والأرض (كالآية 117 من سورة البقرة).

لا شي ء يحول بينه وبين إرادته تعالى

تحدثت الآية الثانية عن إرادة اللَّه في الثواب والعقاب ومصير الناس، وأشارت إلى هذه الحقيقة التي تفصح عن عدم وجود شي ء يمنعه عن إمضاء إرادته بخصوص مكافأة ومعاقبة عباده، قال تعالى «قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً انْ ارَادَ بِكُمْ ضَرًّا اوْ ارَادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً».

إنّ سبب تقاعسكم عن الجهاد هو إمّا لتوقي الحوادث المؤلمة لكم ولأهليكم، وإمّا للحصول على منافع مادية وحفظ الأموال، وجميع هذه الامور ترتبط بإرادة اللَّه ومشيئته، ولا أحد يملك لكم من اللَّه شيئاً.

إنّ رسوخ هذه العقيدة في قلب الإنسان يؤدّي إلى ممارسته الأوامر الإلهيّة من دون الخوف من ضرر معين أو فوت منفعة وما شاكل ذلك، لأنّ مقاليد جميع هذه الامور بيده تعالى

نفحات القرآن، ج 4، ص: 111

وعليه يتضح لنا

أثر الإيمان بالإرادة والمشيئة الإلهيّة على أعمال الإنسان واستعداده لأداء التكاليف الإلهيّة.

وعلى أيّة حال فالحديث هنا يدور حول الإرادة التكوينية أيضاً.

إرادته سبحانه في نُصرة المستضعفين:

تحدثت الآية الثالثة عن أثر الإرادة الإلهيّة في مصير الأقوام، وأنارت بصيص الأمل في نفوس الامم المظلومة، قال تعالى «وَنُرِيدُ انْ نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِى الْارْضِ وَنَجْعَلَهُمْ ائِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ».

إنّ التعبير بالفعل المضارع «نريد» الذي يدل على الاستمرار هو للدلالة على ديمومة وخلود هذه السُنة الإلهيّة المتمثلة بتسلط المستضعفين وسيطرتهم على زمام الامور في الأرض واندحار الطواغيت المستكبرين.

ولكن يجب الالتفات إلى أنّ الآية قد تحدثت عن «المستضعفين» لا «الضعفاء»، أي عن الذين يجاهدون ويقاتلون دوماً؛ وقد استضعِفوا من قبل أعدائهم لا عن الذين استسلموا للذلة والضعف.

وبضم هذه الآية إلى الآية من سورة الأنبياء: «أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِىَ الصَّالِحُونَ»، نستنتج بأنّ المستضعفين هم اولئك الصالحون المؤمنون المجاهدون.

ويجب الالتفات إلى أنّ كلمة (نمنُّ) مشتقة من أصل (منّ) وهو في الأساس بمعنى الوزن الثقيل، ثم اطلق على النّعم ذات الأهميّة، واستعمال هذا التعبير بخصوص الباري عزّ وجل يدل على اعطائه عزّ وجلّ للنعم الثقيلة العظيمة بدون عوض، أمّا عندما يستعمل بخصوص العباد فهو يعني التذكير بالنعم بقصد المنّ.

وطبعاً هنالك بحوث كثيرة حول هذه السنّة الإلهيّة، أي حكومة المستضعفين، وسنذكرها في محلها إن شاء اللَّه تعالى والجدير بالذكر هنا هو أنّ للإيمان بإرادة اللَّه التكونية أثراً تربوياً عميقاً يلهم المؤمنين الصالحين القوة والأمل والاقتدار، ويزيدهم في مواجهة الظالمين رسوخاً وقوة.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 112

يريد اللَّه بكم اليسر:

تحدثت الآية الرابعة عن إرادة اللَّه تعالى التشريعية، والتي وردت في مواضع عديدة من القرآن، أي إرادته في التقنين، فبعد الحديث عن فريضة الصيام في شهر رمضان واستثناء المسافرين والمرضى من هذا الحكم، قال تعالى «يُريْدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُريدُ بِكُمُ الْعُسْرَ».

وتعدّ هذه الآية من الآيات التي نفت التكاليف التي لاتطاق و

«التكاليف الشاقة» في نفس الوقت، وماقاله الفخر الرازي في عدم دلالة ذيل الآية على العموم اشتباه محض، لأنّ الألف واللام الواردة في كلمتي «اليسر» و «العسر» للجنس، تدل في مثل هذه الحالات على العموم.

ويمكن طبعاً أن يكون هنالك استثناءات معينة في هذا القانون، كبقية القوانين الاخرى مثل الأمر بالجهاد وماشاكله، فالجهاد ضدّ الخنوع والذل تحت سلطة الأعداء، يُعدّ من مصاديق اليسر أيضاً لا العسر.

فبعد أن ذكر سبحانه وتعالى نوعين من الأحكام الإلهيّة في الآية الاولى من سورة المائدة، في مجال الالتزام بجميع العقود والمواثيق، وحليّة أكل لحوم المواشي حيث قال:

«إنّ اللَّهَ يَحكُمُ ما يُريدُ» وهذا التعبير يوضح شمول الإرادة الإلهيّة التشريعية لكل الأشياء.

وبخصوص جزاء الأعمال، نلاحظ أنّه تعالى بعد أن ذكر دخول المؤمنين الصالحين الجنّة، قال: «انَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُريدُ». (الحج/ 14)

وبديهي أنّ شمولية إرادة اللَّه في التشريع، وفي الأثابة والمعاقبة، وهكذا في عالم الوجود، لا تعني انفصال إرادته عن حكمته سبحانه، أو أن يكون خلقه أو محاكمته أو إثابته بدون حكمة ومصلحة.

إنّ اللَّه يخلق مايشاء:

تحدثت الآية الخامسة عن المشيئة الإلهيّة وشمولها لكافة مخلوقات عالم الوجود

نفحات القرآن، ج 4، ص: 113

(المشيئة الإلهيّة العامة التكوينية)، قال تعالى «يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ انَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَى ءٍ قَديرٌ».

وردت هذه الجملة في القرآن الكريم بعد أن أشار تعالى إلى خلق مختلف أنواع الدواب من ماء، فمنهم من يمشي على بطنه، ومنهم من يمشي على رجلين، ومنهم من يمشي على أربع، ونحن نعلم بأنّ تنوع الاحياء بلغ من الكثرة والتشعب بحيث يتجاوز عدد أنواع الحشرات التي درسها العلماء عدّة ملايين، وهكذا بالنسبة لأنواع النباتات بتركيباتها وخصائصها المتفاوتة، فإنّ أنواعها بلغت مئات الآلاف، ممّا تدل بأجمعها على سعة مفهوم

الآية المذكورة أعلاه.

والجدير بالذكر أنّ هنالك أنواعاً جديدة من الأحياء تكتشف بمرور الزمان لم تكن موجودة سابقاً، أي أنّ إيجاد وخلق الحيوانات والنباتات لايتعطل حتى ولا لحظة واحدة! وأساساً أنّ تنوع الظواهر يعدُّ دليلًا على إرادة ومشيئة المظهر المبدي، لأنّ الصانع العديم الإرادة يخلق اموراً متساوية ومتشابهة، بينما كلما حلت الإرادة في موضع اصطحبت معها التنوع «1».

المشيئة الإلهيّة:

والآية السادسة تحدثت عن المشيئة الإلهيّة أيضاً، والحديث هذه المرّة يدور حول مصير العباد وأعمالهم، فالتفت عزّ وجلّ بالخطاب إلى رسوله الكريم صلى الله عليه و آله بقوله: «وَلَا تَقُولَنَّ لِشَى ءٍ إِنِّى فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً* الَّا انْ يَشَاءَ اللَّهُ». أي عندما تتحدث عن عزمك بالقيام بعملٍ مافي المستقبل فتوكل على المشيئة الإلهيّة دائماً وقل: «إن شاء اللَّه». وهذه الجملة تدلّ على تقدم مشيئة اللَّه على بقية المشيئات وعدم وقوع أي شي ء دون مشيئته سبحانه.

وواضح أنّ هذا الكلام لايشير أدنى إشارة إلى مسألة الجبر، بل يشير إلى غلبة المشيئة

__________________________________________________

(1) أشار القرطبي في تفسيره ج 7، ص 474 إلى هذا الموضوع.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 114

الإلهيّة التي لايستطيع أيّ فرد بلوغ هدفه بدونها، وما الحرية التي منحها اللَّه للإنسان إلّا لاختباره وتربيته والعروج به في سُلم الكمال، وحرية الإرادة الإنسانية لا تعني سلب القدرة الإلهيّة.

إضافة إلى هذا فإنّ إرادة ومشيئة الإنسان هي احدى عوامل وصوله وبلوغه أهدافه، وهنالك مئات من العوامل الاخرى خارجة عن قدرته، ولا ترتبط إلّاباللّه تعالى

ومن هنا فإنّ أدب الكلام والخضوع للأمر الواقع يفرض على الإنسان أن لا ينسى عبارة: «إن شاء اللَّه» في برامجه الخاصّة أبداً.

وجاء التأكيد هنا أيضاً على أثر «المعرفة» على أعمال الإنسان، فإيمانه بالإرتباط بالمشيئة الإلهيّة يجعله يشعر دائماً بالفقر إلى

اللَّه وعدم الاستقلال عنه سبحانه، فلا يصيبه الغرور أبداً، ولا يركب مركب الأنانية، ويزيده استقامة وصلابة في مواجهة الصعاب والمشاكل، وينقذه من الوقوع في مخالب اليأس والقنوط لأنّه يعلم أنّ مشيئة اللَّه أكبر من كلَ شي ء.

الوحي والمشيئة الإلهيّة:

وأخيراً تحدثت الآية السابعة والأخيرة من بحثنا عن المشيئة الإلهيّة التشريعية وبصورة ظريفة، ومن الضروري الالتفات إلى أنّ القرآن الكريم قد استعمل كلمة (الإرادة) في التكوين والتشريع بكثرة، لكن استعمل كلمة (المشيئة) في المسائل التكوينية عادةً، وقد استعملها في مجال التشريع والتقنين بندرة ممّا يدلّ على شمول مفهوم المشيئة للجانب التكويني بصورة أكثر). قال تعالى «وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ انْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ الَّا (بثلاثة طرق) وَحْياً اوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ (كما تحدث مع موسى في جبل طور، والحجاب هنا بمعنى حجاب المادة) اوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فيُوحِىَ بِاذْنِهِ مَا يَشَاءُ انَّهُ عَلىٌّ حَكيمٌ»، فسموّه يقتضي أن لا يُرى أو يكلمه بشر، وحكمته تقتضي أن يرسل الرسل لهداية الخلق، ويرتبط برسله بالطرق الثلاثة المذكورة في الآية أعلاه.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 115

يستنتج من مجموع الآيات المذكورة بأنّ إرادة اللَّه سبحانه التكوينية والتشريعية تشمل جميع الممكنات، كل ماتقتضيه حكمته.

وإن كان للانسان إرادة لعمل شي ء معين فانّما هي بإذن اللَّه.

ولا شي ء يمنع عن تحقق إرادته سبحانه، ومشيئته غير منفصلة عن خلق الأشياء.

ومصيرنا جميعاً بيده سبحانه، فالخير والفائدة والسعادة كلها هي فيض من وجوده عزّ وجل.

فبالاعتماد على إرادة اللَّه ومشيئته تهون علينا الحوادث الصعبة.

هذا ماتفيضه علينا هذه الصفات الإلهيّة من معطيات.

توضيحات
1- الدلائل العقلية على الإرادة الإلهيّة

عندما ننظر إلى عالم التكوين نجد أن في كل يوم يحدث أمر جديد، ولكل موجود ظاهرة وتاريخ معين، بل العالم بذاته يمثل مجموعة من الظواهر والحوادث.

وهنا يطرح هذا السؤال: بما أنّ اللَّه عالم لأنّه علة العلل لجميع الكائنات، فهو قديم وأزلي، إذن كيف يمكن أن يوجد كل موجود في زمان معين أو أن تقع كل حادثة في زمان معين؟

والجواب على هذا السؤال هو أنّ اللَّه فاعلٌ غير مجبور، بل فاعلٌ

لما يريد ومايشاء، وما انفصال الكرة الأرضية عن الشمس قبل خمسة ملياردات سنة مثلًا، أو ظهور الأحياء على سطح الكرة الأرضية قبل عدة ملايين من السنين، أو دخول الإنسان إلى عالم الوجود قبل آلاف السنين، إلّاامتثالًا لإرادته المتميزة سبحانه.

وخلاصة الكلام هو أنّ وجود بعض الممكنات وعدم وجود بعضها الآخر، أو حدوثها في موعدٍ محددٍ (مع أنّ اللَّه قادرٌ على كلّ شي ء بصورة متساوية) يدلّ على اتصاف ذاته المقدّسة بصفة اخرى غير القدرة، وهي الإرادة والمشيئة الإلهيّة.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 116

2- مامعنى إرادة اللَّه سبحانه؟

لا شك في عدم إمكانية مقايسة مفهوم إرادة الإنسان بالإرادة الإلهيّة، لأنّ الإنسان يتصور الفعل في البداية (مثل شرب الماء)، ثم فوائده، ثم يعتقد بفوائده، ثم يشتاق ويرغب إلى القيام بذلك الفعل، فعندما يصل شوقه هذا مراحله النهائية يصدر أوامره إلى العضلات، فيتحرك الإنسان لانجاز هذا العمل.

لكننا نعلم أنّ كل هذه المفاهيم (التصور والاعتقاد، والشوق والامور وحركة العضلات) لا معنى لها بخصوص الباري، لأنّها جميعاً حادثة، فأين إرادته منها إذن؟

من أجل هذا ذهب علماء الكلام والفلاسفة المسلمون- صوب مفهوم يتناسب مع الوجود البسيط المجرد، وبنفس الوقت يتناسب مع أي نوع من أنواع التعبير الحاصل لدى اللَّه تعالى فقالوا: إنّ إرادة اللَّه تعالى على نوعين:

1- الإرادة الذاتية.

2- الإرادة الفعلية.

1- الإرادة الإلهيّة الذاتية: هي علمه بالنظام الاصلح لعالم التكوين، وعلمه بخير وصلاح العباد في الأحكام والقوانين الشرعية.

إنّه يعلم أيّ نظامٍ أفضل وأصلح لعالم الوجود، ويعلم أفضل الأوقات المناسبة لايجاد الموجودات، وهذا العلم منبع تحقق الموجودات وحدوث الظواهر في الأزمنة المختلفة.

وكذلك فانّه سبحانه وتعالى يعلم مصلحة عباده الكامنة في هذه القوانين والأحكام، وأنّ روح هذه القوانين والأحكام هي علمه بالمصالح والمفاسد.

2- إرادته الفعلية عين الايجاد وتعدّ من

صفاته الفعلية لذا فإنّ إرادته في خلق السموات والأرض هي عين حدوثها، وإرادته في فرض الصلاة هي عين وجوبها وفي تحريم الكذب هي عين حرمته.

وخلاصة الكلام هي أنّ إرادة اللَّه الذاتية عين علمه، وعين ذاته، لذلك اعتبرناها من فروع العلم وإرادته الفعلية عين الإيجاد والتحقق.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 117

وسيتضح الموضوع بصورة أفضل عند نقل بعض الأحاديث الشريفة الواردة في هذا المجال، إن شاء اللَّه تعالى

3- الإرادة الإلهيّة التكوينية والتشريعية

كما ذكرنا آنفاً بأنّ المقصود من الإرادة التكوينية هي الإرادة التي يفيض منها وجود جميع الكائنات والموجودات، أو بتعبير آخر عين إيجادها جميعاً.

أمّا الإرادة التشريعية فهي الإرادة التي تفيض منها جميع الأوامر والنواهي الإلهيّة، وجميع الأحكام والقوانين الشرعية، وبتعبير آخر عين هذه الأحكام والقوانين.

ومن خلال متابعة الآيات القرآنية يتضح بأنّ كلمة (إرادة) مستعملة بكلا المعنيين بشكل واسع، في حين نجد أنّ (المشيئة) مستعملة في مجال الخلق والتكوين في الغالب، أمّا في مجال التشريع فيندر مجيئها، ممّا يدل على كون (المشيئة) أقرب إلى مفهوم التكوين.

4- الإرادة الالهيّة في الروايات الإسلامية

وردت في روايات أهل البيت ايضاحات كثيرة في هذا المجال، نذكر مجموعة منها كنموذج:

1- ورد في توحيد الصدوق و «عيون اخبار الرضا» عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام جوابه عن سؤال حول إرادة اللَّه تعالى في خلقه أنّه قال: «الإرادة من المخلوق الضمير وما يبدو له بعد ذلك من الفعل، وأمّا من اللَّه عز وجل فارادته احداثه لا غير ذلك لأنّه لا يُروّي ولا يهمّ ولا يتفكر، وهذه الصفات منفية عنه، وهي من صفات الخلق، فارادة اللَّه هي الفعل لا غير ذلك. يقول له كن فيكون بلا لفظ، ولا نطقٍ بلسان، ولا همةٍ ولا تفكر ولا كيفٍ لذلك، كما أنّه بلا كيف» «1».

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار، ج 4، ص 137، ح 4.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 118

وقد أورد هذا الحديث الشريف المرحوم الكليني في «اصول الكافي» «1». ومن الواضح أنّ هذا الحديث يشير إلى إرادة اللَّه الفعلية وأمّا الإرادة الذاتية فهي علمه بالنظام الأحسن كما مر بيانه.

2- وقد ورد أيضاً في هذا الكتاب عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام أنّه قال:

«المشيئة والإرادة من صفات الأفعال، فمن

زعم أنّ اللَّه تعالى لم يزل مريداً شائياً فليس بموحد» «2»

.

ومن الواضح أيضاً أنّ هذا الحديث ناظر إلى الإرادة الفعلية، التي تقدم بيانها، فعندما ينفي «الإرادة الازلية» فالمقصود هو نفي مقالة من يقول: إن الإرادة زائدة على الذات وإنّها أزلية، فيكون مفهومها تعدد الوجود الازلي إلى اثنين أو أكثر، وهذا المعنى لا يتلائم مع التوحيد.

أمّا الإرادة الذاتية التي هي عين العلم، والعلم بدوره عين الذات المقدّسة فهو عين التوحيد لا الشرك «فتأمل جيداً».

3- ورد في كتاب الكافي حديث عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام جاء فيه: «قال اللَّه: يا ابن آدم بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء وبقوتي أدّيت فرائضي، وبنعمتي قويت على معصيتي جعلتك سميعاً بصيراً قوياً ما أصابك من حسنةٍ فمن اللَّه، وما أصابك من سيئة فمن نفسك» «3»

.

وهذا الحديث ناظر إلى الإرادة التكوينية للَّه تعالى المتعلقة باختيار وحرية إرادة الإنسان والتي جعلت الإنسان حاكماً على مقدراته، غاية الأمر أنّ الإنسان يُسي ء الاستفادة منها في بعض الاحيان، ويستعمل نعم اللَّه تعالى في معصيته، وهذا من عمل الإنسان نفسه، أمّا حسن الاستفادة من نعم اللَّه تعالى فهو من توفيق اللَّه ومعونته لعبده.

__________________________________________________

(1) اصول الكافي، ج 1، ص 109 باب الإرادة أنّها من صفات الفعل وسائر صفات الفعل، ح 3.

(2) توحيد الصدوق، ص 337 باب المشيئة والإرادة، ح 5.

(3) اصول الكافي، ج 1، ص 152 باب المشيئة والإرادة، ح 6.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 119

4- القدرة الإلهيّة المطلقة

تمهيد:

يعتبر موضوع القدرة الإلهيّة من أهم مباحث صفات الكمال والجمال الإلهيّة بعد بحث العلم، تلك القدرة اللامحدودة من كل ناحية والشاملة لجميع الممكنات والملازمة للإرادة والمشيئة، فهو سبحانه وتعالى يفعل مايريد ويمحو مايشاء في

أى وقت وزمان.

والوجود بأكمله بمظاهره العظيمة المذهلة وبدقائقه الظريفة، يدلُّ على القدرة الإلهيّة المطلقة.

وللدخول في صُلب الموضوع ينبغي طي المراحل التالية:

1- دلائل القدرة الإلهيّة المطلقة.

2- اللَّه فاعل ومختار.

3- رأى الذين أشكلوا على تعميم القدرة الإلهيّة.

4- عدم شمول القدرة الإلهيّة للمستحيلات.

لندخل الآن في بحث الموضوع الأول ونتمعن خاشعين في الآيات القرآنية الشريفة:

1- «تَبَارَكَ الَّذى بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَى ءٍ قَديرٌ». (الملك/ 1)

2- «اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ سَبْعَ سَمَاواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا انَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَى ءٍ قَديرٌ». (الطلاق/ 12)

3- «لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِى وَيُميْتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَى ءٍقَديرٌ». (الحديد/ 2)

4- «... يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ». (الروم/ 54)

5- «للَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَى ءٍ قَدِيرٌ».

(المائده/ 120)

نفحات القرآن، ج 4، ص: 120

6- «اوَلَمْ يَرَوا انَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى انْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ».

(الاسراء/ 99)

7- «اوَلَمْ يَرَوا انَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْىَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى انْ يُحْىَ الْمَوْتى بَلَى انَّهُ عَلَى كُلِّ شَى ءٍ قَديرٌ». (الاحقاف/ 33)

8- «فَلا اقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ». (المعارج/ 40)

9- «وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شِى ءٍ فِى السَّمَاواتِ وَلَا فِى الْأَرْضِ انَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً» «1»

. (فاطر/ 44)

10- «قُلْ انَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ». (آل عمران/ 73)

شرح المفردات:

لفظ «قدير»: من مادّة «قدرة»، بمعنى من يفعل كل مايريده بمقتضى حكمته، لا أقل ولا أكثر من ذلك، لذا فإنّ هذه الصفة لا يوصف بها إلّااللَّه تعالى وأساساً إنّ صفة القدرة المطلقة لا يجوز استعمالها إلّافي وصف قدرة اللَّه تعالى وكُلّما اسْتُعمِلَتْ مع غيره فإنّها ينبغي أن تكون محدودة ومقيّدة، لأنّ غيره لوكان قادراً من

جهة معينة فهو عاجزٌ من جهةٍ اخرى «2».

__________________________________________________

(1) يجب الالتفات إلى أنّ صفة (القدير) وردت في القرآن المجيد (45) مرة تقريبا بالنسبة إلى اللَّه تعالى، فتارة بشكل: «إنّ اللَّه على كل شي ء قدير.»

وتارة: «واللَّه على كل شى قدير»،

وتارة: «انك على كل شى قدير»،

وتارة: «وهو على كل شى قدير»،

وتارة: «وان اللَّه على نصرهم لقدير»،

وتارة: «وهو على جمعهم إذا يشاء قدير. وتعابير اخرى.

وقد وردت كلمة «القادر» سبع مرات، ويلاحظ أيضاً في بعض الآيات «قادرون» و «قادرين» بالنسبة إلى اللَّه تعالى، وكذلك ورد نفى العجز عن اللَّه تعالى والقدرة الواسعة له عز وجل والمأخوذة من مادة «القدرة والعجز والسعة» وهي مذكورة في معاجم اللغة، وما ذكر من الآيات العشر إنّما هي تعابير جامعة للاقسام الثلاثة.

(2) مفردات الراغب، مادة (قدر).

نفحات القرآن، ج 4، ص: 121

وأصل هذه الكلمة مأخوذ من «قَدْر» وهو بمعنى مقياس شي ء وكُنهه ونهايته، والسّر في استعمال هذه الكلمة بخصوص الباري تعالى هو فعله كل مايريد وبأي مقدار كان، واعطائه عبادَه أي مقدارٍ يريده هو سبحانه «1».

و «قدير»: و «قادر» كلاهما صفتان من صفات اللَّه سبحانه، وهما مأخوذان في الأصل من «التقدير» في الكميّة، و «قادر» اسم فاعل، و «قدير» صفة مشبّهة بالفعل أو صيغة مبالغة، و «المقتدر» أبلغ منها «2».

«يُعجِزُه»: في الأصل من مادّة «عَجُزْ» «بضم الجيم»، وهي بمعنى ذيل الشي ء و (عَجْز) على وزن «حَبْس» بمعنى التأخُّر عن شي ء معين والوقوع في متابعة عملٍ ما، وتأتي أيضاً بمعنى القصور والعجز عن أداء عملٍ ما في مقابل القدرة على ذلك العمل، و «مُعْجِز» بمعنى الشخص أو الشي ء الذي يُعجز الأخرين، وإطلاق كلمة «عجوز» على المرأة المُسِنّة إنّما هو لعجزها وقصورها (ومن خلالِ تتبع

مصادر اللغة المعروفة كمقاييس اللغة ومفردات الراغب نجد أنّ هذه الكلمة تُستعمل بخصوص النساء المُسِنّات فحسب) «3».

«واسع»: من مادّة «سعة»، و «وَسْع» وهي بمعنى السعة في مُقابل الضيق وتُسْتعمل بخصوص الأمكنة والحالات والأفعال، لذا يُطلق على القدرة والتمكّن والإيجاد «الوُسعة».

أمّا سعة اللَّه تعالى فهي إما أن تكون نابعة من سعة رزقه ورحمته التي وسعت كُلّ شي ء، أو من إحاطته تعالى بكل شي ءٍ علماً، أو من إحاطته الوجوديّة بجميع الأشياء، يعني كثير العطايا وكثير العلم أيضاً. و «الواسع» كما ورد تعبير ال «موسع» أيضاً في القرآن الكريم بخصوص الباري، والذي فسرّه بعض أرباب اللغة أيضاً بمعنى القادر والغني «4».

وهنالك تفسير آخر لهذه الكلمة يخرج عن موضوع هذا البحث «5».

__________________________________________________

(1) مقاييس اللغة، مادة (قدر).

(2) لسان العرب، مادة (قدر).

(3) مقاييس اللغة؛ مفردات الراغب؛ ولسان العرب.

(4) المصادر السابقة.

(5) راجع التفسير الأمثل، ذيل الآية 47 من سورة الذاريات.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 122

جمع الآيات وتفسيرها

إنّهُ عَلى كُلِّ شي ءٍ قَدير:

بعد أنّ أشارت الآية الاولى إلى الملك الإلهي الأبدي وتسلطه تعالى على جميع عالم الوجود، أكدت على قدرته المطلقة: «تَبَارَكَ الَّذِى بِيَدِه الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَى ءٍ قَديرٌ».

(الملك/ 1)

«تبارك»: من مادة (برك) وهي في الأساس بمعنى صدر البعير، لذا عندما يضع البعير صدره على الأرض يُقال: (برك البعير)، وهذه الكلمة جاءت هنا بمعنى البقاء وعدم الزوال.

ويُطلق على النعمة الدائمة الباقية (النعمة المباركة)، واطلاق هذه الصفة على الذات الإلهيّة المقدّسة لازليتها وأبديتها.

وجملة: «بيده الملك» تُفيد الحصر، أي أنّ الملك ومُقّدرات عالم الوجود بيده تعالى فقط.

وجملة: (وهو على كل شي ءٍ قدير) ذات مفهوم واسع وعميق جدّاً، فهي تعني أن القدرة الإلهيّة تشمل جميع مايمكن أن يكون في عالم الإمكان.

والجدير بالذكر أنّ

هذه الكلمة (شي ء) تُطلق على المعدوم بالقياس لإمكانية وجوده، لذا فقولنا بأنّ اللَّه قادر على الشي الفلاني المعدوم فعلًا، يعني قدرته تعالى على إيجاده، وإلّا فالقدرة على المعدوم لا معنى لها.

ويستعمل الإنسان مفهوم القدرة في دائرة محدودة خاصّة، نظراً لحياته المحدودة وافقه الفكري الضيّق ووقوعه في أسر الظروف التي تطبّع عليها، في حين نجد أنّ الآية أعلاه قد كسرت جميع هذه القيود وبّينت امتداد وشمول قدرة الباري إلى ما وراء هذه القيود والظروف، والشي الوحيد الخارج عن دائرة القدرة الالهيّة هو الامور المستحيلة فقط، وذلك لأنّها بذاتها لا تقبل الوجود، ولا يصح عادة استعمال لفظة القدرة بشأنها.

وقد تقدم في البحث اللغوي أنّ كلمة (قدير) ولكونها صفة مشبّهة أو من صيغ المبالغة،

نفحات القرآن، ج 4، ص: 123

فهي تفيد المبالغة وذات مفهوم أوسع من مفهوم (قادر)، ولعلّ هذا هو السر في استعمال أغلب الآيات القرآنية لهذه الكلمة عند وصف القدرة الإلهيّة.

لذا فقد تحدثت الآيات التي تلت هذه الآية عن خلق الإنسان، والموت والحياة، وخلق السموات السبع، والنجوم، ودفع الشياطين والتي تعتبر كل منها نموذجاً من عجائب عالم الوجود.

الهدف من خلق الكون هو معرفة قدرته سبحانه:

بعد أن ذكرت الآية الثانية خلق السموات والأرض، بيّنت أنّ الهدف الأصلي من جميع ذلك هو إطلاع العباد على سعة قدرة اللَّه وعلمه سبحانه: «اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا انَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَى ءٍ قَديرٌ». (الطلاق/ 12)

وعليه فإنّ خلق السموات العريضة والأرضين الواسعة، والتدبير الدائم والمستمر الموجود فيما بينها، يُعتبر بحد ذاته أفضل دليلٍ على عموميّة وشموليّة القدرة الإلهيّة لكل شي ء، لأنّ هذه المجموعة المتنوعة تحتوي على كل ألوان الممكنات.

وهناك بحوث كثيرة حول معنى السموات السبع، والأرضين السبع، ذكرناها في التفسير الأمثل «1».

بيده الحياة والموت:

أمّا الآية الثالثة، فعلاوة على طرحها مسألة اختصاص تلك السموات والأرض بالباري تعالى، ذكرت استمرار ظاهرتي حياة وموت الموجودات كواحدة من أدلة قدرته سبحانه:

__________________________________________________

(1) راجع التفسير الأمثل ذيل الآية 12 من سورة الطلاق.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 124

«لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِى وَيُميْتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَى ءٍ قَديرٌ». (الحديد/ 2)

إنّ مسألة إيجاد الحياة والموت معقّدة وعجيبة إلى درجة أنّ القدرة عليها تعتبر دليلا" على اطلاق وعموميّة القدرة الإلهيّة.

أجَل، هذه هي المسألة التي حارت فيها عقول العلماء، وحاروا في معرفة القوانين المتحكمة بها لعلهم يتمكّنون من خلق خلية حيّة من الجمادات وبالإستعانة بوسائل معينة، فى الوقت الذي نجد أنّهم توصّلوا إلى أسرار معقدة جدّاً من قبيل (غزو الفضاء والصناعات العظيمة وصناعة العقول الألكترونية الدقيقة).

أجَل، فمن حولنا يوجد مئات الألوف بل الملايين من أنواع الكائنات الحيّة التي يَحارُ البشر آلاف السنين في فهم أسرار تركيب إحداها!

ألا تدل هذه الخلائق العجيبة على أنّ قدرة الباري مطلقة وغير محدوده؟!

تطورات الحياة دليلُ على قدرته تعالى:

تطرقت الآية الرابعة إلى هذه المسألة من طريقٍ آخر، وضمن ذكرها لحالات الإنسان المختلفة، وانتقاله من حالٍ إلى آخر بإذن اللَّه تعالى وذكرها لخلق مختلف المخلوقات، فقد بيّنت عموميّة القدرة والعلم الإلهي: «اللَّهُ الَّذِى خَلَقَكُمْ مِّنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَليمُ الْقَديرُ». (الروم/ 54)

حقاً، إنّ ملاحظة تطوّرات الجنين ومراحل حياة الإنسان المختلفة ومنحني قدرته التصاعدي والتنازلي الذي يبدأ من نطفة ويصل في قمة المنحني إلى إنسان قوي ومتفكّر وذكي ذي قدرة على تخيّل وإنجاز مسائل كثيرة، ثم ينزل حتّى يصير موجوداً عاجزاً حتى أعجز من الطفل أحياناً من حيث القدرة الجسميّة والفكريّة، وملاحظة جميع هذه

التحوّلات السريعة العجيبة، يوحي ويحكي عن قدرته تعالى على كل شي ء.

لذا نجد أنّ القرآن الكريم ومن أجل إثبات عموميّة العلم الإلهي والقدرة الإلهيّة، قد دعا

نفحات القرآن، ج 4، ص: 125

الإنسان للتفكّر في السموات العلى تارةً، وللتفكر في وجوده الشخصي والتحوّلات العظيمة التي تُلازمه منذ انعقاد النطفة إلى حين الموت تارةً أُخرى.

وتعبيره بعبارة (خلقكُم من ضعفٍ) بدرجة من المتانة حتى كأنّ الإنسان مخلوق من مادتي الضعف والعجز! والحق كذلك، فنطفة الإنسان بدرجة من الضعف بحيث تفنى لأدنى سبب.

ولكن أرجع البصر وانظر إلى حقيقة ذلك الموجود القوي الذي ينشأ من هذه النطفة الحقيرة، ويطوي آفاق السماء والأرض، ولا يقنع بحدّ معينٍ من القدرة والتطوّر العلمي والصناعي، وعندما يطوي المرحلة التنازلية من منحني القدرة، يعود إلى نفس ذلك الضعف البدائي!

إنّ كلَّ هذا يدل على قدرة ذلك الخالق الحكيم اللامحدودة.

المالكية والقدرة:

وفى الآية الخامسة يُلاحظ بعد ذكرها مالكيّة وحاكميّة الباري على السموات والأرض وما فيهنّ، بيّنت أنّه سبحانه على كُلّ شي ءٍ قدير:

«للَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَى ءٍ قَدِيرٌ». (المائدة/ 120)

وبديهي أنّ سبب هذه الحاكميّة والمالكية هو خالقيته تعالى، وقطعاً أنّ من خلق جميع هذه المخلوقات المتنوّعة هو على كُلّ شي ء قدير، وبالحقيقة أنّ صدر الآية دليلٌ على ذيلها.

ويحتمل أن يكون هذا التعبير لقطع أمل المشركين بالأصنام وهدايتهم إلى الباري، ليعلموا أنّ مقدَّرات جميع الأمور ومقاليدها بيده تعالى، أو لنفي ودحض عقيدة المسيحيين فى تأليه عيسى عليه السلام، والتي ورد ذكرها في الآيات السابقة لهذه الآية من نفس السورة.

وعلى أيّة حال فهو أساس لقلع جذور الشرك بجميع أشكاله.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 126

ويجدر الإلتفات إلى أنّ كلمة (مِلك)- بكسر الميم- تعني سلطة الإنسان على شي ء معين،

و (مُلك)- بضم الميم- تعني التحكُّم بنظام اجتماعي معين، وبتعبيرٍ آخر فالمصطلح الأول له حالة فردية والثاني له حالة اجتماعية وهو نفس ما يَرِدُ في تعابيرنا اليومية عندما نعبّر عنه ب (المالك) و (الحاكم).

قدرته تعالى على اعادة الخَلق:

أشارت الآية السادسة إلى مسألة (المعاد) وقدرة الباري على إحياء الموتى في الآخرة، لتكون ردّاً على من شكّكوا في المعاد الجسماني وورد ذكرهم في الآية السابقة لهذه الآية في قوله تعالى: «ذَلِكَ جَزَاؤُهُم بِأَنَّهُم كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا ءَإِذَا كُنَّا عِظَامَاً وَرُفَاتاً ءَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً» فأجابهم القرآن في قوله تعالى: «اوَلَمْ يَرَوا انَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى انْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ». (الاسراء/ 98- 99)

جملة (أو لم يَرَوا) بمعنى (أولم يعلموا؟) باعتبار أنّ المقصود من الرؤية المذكورة فيها هو الرؤية القلبية، ومصدر هذا العلم والإطلاع هو نفس تلك القاعدة العقلية التي تقول:

(حكم الأمثال فيما يجوز وفيما لايجوز واحد)، أي أنّ الموضوعات المتشابهة لها حكم واحد دائماً، فإن كان أحدها ممكناً فانّه يسري على سائر الموضوعات فتكون ممكنة جميعاً، وإن كان محالًا فالجميع محال.

قدرته تعالى على إحياء الموتى:

بعد أن أشارت الآية السابعة إلى قدرة اللَّه تعالى على إحياء الموتى في عالم الآخرة، ذكرت هذا المعنى بتعبير آخر حيث قال تعالى: «اوَلَمْ يَرَوا انَّ اللَّهَ الَّذى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْىَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى انْ يُحْىَ الْمَوْتى بَلَى انَّهُ عَلَى كُلِّ شَى ءٍ قَدِيرٌ» «1». (الأحقاف/ 33)

__________________________________________________

(1) «يعي» من مادة «عي» بمعنى العجز عن أداء عمل ما، وتطلق هذه اللفظة على حالة العجز عن الكلام أيضاً.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 127

أكدت هذه الآية أيضاً على أنّ خلق السموات والأرض بعظمتها وتنوّعها دليلٌ على قدرة الباري على إحياء الموتى من جهة، وقدرته على كل شي ء من جهةٍ اخرى، لأنّ جميع ما يمكننا تصوّره إنما هي نماذج في عالم الوجود. والموت والحياة، وكذلك الكائنات المجهرية والمخلوقات العظيمة جدّاً بكل أبعادها ومن كل شكلٍ ولونٍ ونوع وجنس، فخلقها من قبل الباري تعالى،

يُعد أفضل دليل على شمولية وهيمنة القدرة الإلهيّة.

قدرته تعالى على تبديل الأقوام:

ذكرت الآية الثامنة مسألة القدرة الإلهيّة بقَسَم إلهي عميق المغزى، قال تعالى: «فَلَا اقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ». (المعارج/ 40)

قد يُشكِل ذوي الملاحظة السطحية ويقولون: كيف يصح إثبات القدرة الإلهيّة بقَسمِهِ سبحانه؟ ويتضح الجواب عن هذا السؤال من محتوى القسَم (ربّ المشارق والمغارب)، لأّن (المشارق والمغارب) إشارة غنيّة جدّاً إلى خلق العالم العظيم بنظامه الدقيق، ففي كلّ يوم تشرق الشمس من مشرق جديد وتغرب في مغربٍ جديد، واستمرار هذه العملية على مدى ملايين السنين، وخلق الشمس بعظمتها هذه، وخلق الكرة الأرضية بكل أسرارها، والنظام الدقيق الذي يتحكم في حركتهما، لَخَيْر دليلٍ على شمول القدرة الإلهيّة لكُلّ شي ء، ومنها تبديل جماعة من الكفار المعاندين بأُناسٍ خيرٍ منهم.

هذا فيما إذا فسّرنا القَسَم الوارد في هذه الآية بأنّهُ يتعلِّق بمشارق الأرض ومغاربها طبعاً، أمّا إذا فسّرناه بمشارق ومغارب الكرات والمنظومات الشمسيّة الفضائية، لاتضح سعة معناه بصورة أفضل.

والنكتة اللطيفة في أنّ اللَّه تعالى يُقسم نيابة عنهم برب المشارق والمغارب بأنّه قادر على تبديل الأقوام بآخرين خيرٍ منهم، هي التنبيه إلى أنّ القادر على إخفاء هذه الشمس العظيمة في افق المغرب وإظهارها في اليوم التالي من مشرقٍ جديد، لَقادر على تبديل هؤلاء القوم بخيرٍ منهم.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 128

وما كان اللَّه ليعجزه من شي ء:

طرحت الآية التاسعة مسألة عموميّة القدرة الإلهيّة في بُعدين:

الأول: نفي كل ألوان العجز عنه سبحانه، والثاني: قدرته على كُلّ شي ءليكون المعاندون على بصيرةٍ من أمرهم من هذه الناحية، قال تعالى: «وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شِى ءٍ في السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ انَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً». (فاطر/ 44)

وفى هذه الآية لا نجد استدلالًا صريحاً على قدرة اللَّه تعالى في أيّ من جملتي هذه الآية، لكن الإشارة الإجمالية إلى السموات والأرض

والنظام الدقيق الموجود فيهنّ، بمثابة دليل على علم اللَّه سبحانه وقدرته المطلقة.

والهدف من ذكر هذا الموضوع في الآية الشريفة وبقرينة صدر الآية، هو تحذير المشركين، والمعاندين والظالمين، وإعلامهم بأن سلب قوتهم وقدرتهم لَيَسير جدّاً على اللَّه تعالى كما حصل في الأمم السابقة.

وتجدر الإشارة أيضاً إلى أن منشأ العجز عن شي ءٍ إمّا الجهل الذي يسلب من الشخص القدرة على مواجهة الحوادث، وإمّا الضعف وعدم القدرة، أَما العالم القادر فلا يغفل عن الحوادث ولا يعجز عن مواجهتها.

هو الوهاب القدير:

وبالتالي فقد طرحت الآية العاشرة والأخيرة من بحثنا نفس هذا المعنى بشكل آخر، وبدون أن تذكر مصطلح القدرة أو تنفي العجز عن اللَّه تعالى، قال سبحانه: «قُلْ انَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ». (آل عمران/ 73)

مع أنّ أكثر المفسّرين قالوا: إنّ كلمة (واسع) هنا تُشير إلى سعة الرحمة الإلهيّة، أو سعة قدرته، أو كرمه ووجوده سبحانه، ولكن من المسلَّم أن تفسيراً كهذا يحتاج إلى تقدير شي ءمحذوف، في حين أنّ الحذف والتقدير على خلاف القاعدة ولا يصح بدون قرينة.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 129

فظاهر الآية يوحي أنّها تتحدث عن سعة وجود الباري تعالى، وطبعاً أنّ سعة وجوده تضمُّ كافّة هذه المعاني والمفاهيم، من قدرته المطلقه ورحمته الواسعة وكرمه اللامحدود.

لذا قال الفخر الرازي في تفسيره: لأنّ كونه واسعاً يدل على كمال القدرة، وكونه عليماً على كمال العلم، فيصح منه لمكان القدرة أن يتفضل على أي عبد شاء بأي تفضل شاء، ويصح منه لمكان كمال العلم أن لا يكون شي ء من أفعاله إلّاعلى وجه الحكمة والصواب «1».

نتيجة البحث:

يُمكن الاستنتاج من مجموع الآيات السابقة أنّ القدرة الإلهيّة لا تعرف أيّ لونٍ من التحديد والتحجيم، وخلق السموات والأرض وأنواع الموجودات وخصوصاً مسألة الحياة والموت، خيرُ دليلٍ على هذا المفهوم.

والغاية من تأكيد الآيات القرآنية على هذه المسألة هي إثبات المعاد والحياة بعد الموت تارةً، ولتحذير المغرورين الأنانيين تارةً اخرى، وكذلك لزرع الاطمئنان في قلوب الصالحين والمؤمنين ليسألوه حلّ مشاكلهم ويلتجئوا إليه في امورهم، ويخشونه ولا يخشون أحداً غيره.

توضيح

الأدلة على القدرة الإلهيّة المطلقة:

هنالك أدلة مختلفة لاثبات هذه المسألة بعضها علمية، والاخرى فلسفيّة:

1- الدليل العلمي: (والمقصود من العلم هنا هو العلوم التجريبية): عندما نجلس في بيتنا ونفكّر في محيطنا المحدود الضيّق فقط، نجد أنّ الدنيا صغيرة وبسيطة. ولكن لو خرجنا من هذه الدائرة الضيّقة وذهبنا إلى الغابات والمزارع والحقول، وقمم الجبال

__________________________________________________

(1) التفسير الكبير، ج 8، ص 105.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 130

الشاهقة، وأعماق البحار الواسعة، ولو طرنا بأجنحة الخيال وتصورنا عظمة الفضاء والكواكب السيارة، ثم نزلنا وتوغّلنا في أعماق الذرّة وأسرارها لَتجسَّمت لنا عظمة الوجود العجيب.

فهنالك آلاف الأنواع من النباتات المختلفة في التركيب بصورة تامّة ولها خواص متنوعة، ابتداءً من النباتات المجهريّة السابحة في أمواج البحار، وانتهاءً بالأشجار التي يبلغ طولها خمسين متراً أو أكثر! ومن قصب السُّكر الحلو وحتى الحنظل المُر، ومن العقاقير الحياتية المودعة في أوراقها وأزهارها وجذورها إلى أنواع السموم القاتلة.

وكذلك ملايين الأنواع من الحيوانات والحشرات والأحياء التي تبلغ من الصِغر أحياناً بحيث لا يمكن رؤيتها بالعين المجرّدة، ومن الكبر أحياناً اخرى بحيث يتعدى طول بعضها الثلاثين متراً (كبعض الحيتان التي تعتبر اكبر الحيوانات على الأرض).

وقد بلغ وزن القلب لدى بعضها ألف كيلو غرام! في حين أنّه أصغر من حبّة الحمّص في البعض الآخر.

وبعضها بدرجة من الخفّة

بحيث تحلّق في جو السماء بسرعة، وبعضها الآخر أقوى من الفولاذ بحيث تتحمل ضغط الماء العظيم في أعماق البحار.

وهنالك نجوم متفاوتة مع بعضها من حيث الكبر والصغر، والبعد والقرب، والوزن وسرعة الحركة وبقية الصفات الاخرى، وكل واحدة ذات عالمٍ خاص.

وكذلك تركيب الخلايا والذرّات ونظامها العجيب المذهل، فكل واحدة منها تُجسّمُ لنا عالماً جديداً.

والألطف من جميع ذلك هو أنّ جميع هذه الموجودات العجيبة الموجودة في عالم الوجود مركّبة من أصلٍ واحد، والكائنات الحيّة مركّبة جميعها من الخلايا الصغيرة، وكل عالم المادة مركب من وحدات صغيرة تُدعى الذرّة!

إنّ هذا التنوع البسيط والمحكَم في نفس الوقت الذي نراه في الكتاب التكويني يشبه بالضبط ذلك النوع الملحوظ في الكتاب التدويني أي (القرآن الكريم)، فكل تلك

نفحات القرآن، ج 4، ص: 131

المحتويات والمعارف الإلهيّة العظيمة مصبوبة في قالب ألفاظٍ مركّبة من هذه الحروف الأبجدّية البسيطة!

ومن مطالعة مجموع هذه المسائل، نتوصل إلى أن مُبدي عالم الوجود ذو قدرة لامحدودة، ولا يعجزه شي ء في السموات ولا في الأرض.

2- برهان الوجوب والامكان (برهان فلسفي): عرفنا في بحث إثبات وجود اللَّه أنّ الوجود لا يتعدى إحدى حالتَين: إما مستقلّ بالذات ويُدعى (واجب الوجود)، أو محتاج إلى غيره ويدعى (ممكن الوجود).

وكذلك ثبت في بحث التوحيد ووحدة الذات الإلهيّة المقدّسة بأنّ (واجب الوجود) في هذا العالم واحد لا أكثر، وكل ما سواه (ممكن الوجود)، وجميع الممكنات محتاجة إليه تعالى لا في بداية إيجادها فحسب، بل في بقائها واستمرارها. وهذا بحد ذاته مظهر وبرهان على قدرة اللَّه على كل شي ء (فتأمل جيداً).

3- برهان سعة الوجود (برهان فلسفي): من المؤكد أنّ سبب عجزنا عن إنجاز عملٍ معين هو نقصنا، فمثلا لو عجزنا عن زراعة أرض معينة فالسبب في ذلك

إمّا لكون مساحة الأرض أكبر من قدرتنا وطاقاتنا، أو لعدم امتلاكنا الوسائل اللازمة لزراعتها، أو لأنّ الأرض سبخة وليس بمقدورنا تحويلها إلى أرض زراعيّة.

لذا فلو كانت قدرتنا على الزراعة مطلقة، وكانت الأرض بالنسبة لنا صالحة للزراعة مهما كانت مساحتها، وكنّا في غنىً عن الوسائل الزراعية لاستطعنا زراعة أي أرضٍ وبدون استثناء.

لذا فأي مشكلة تحدث في طريقنا هي في الواقع تنبع من محدودية وجودنا.

اذن، كيف يُمكن أن يعجز الوجود المطلق من كل ناحية عن شي ء معيّن!؟ وبتعبيرٍ آ خر إنّ اللَّه سبحانه حاضر في كل مكان وبيده مقدّرات جميع الأمور، لذا فهو قادر على ازالة كافّة الموانع، وهذا دليل قدرته على كل شي ء.

4- اللَّه قادر مختار: كما أشرنا سابقاً إلى أنّ المقصود بالقدرة الإلهيّة هي القدرة المقرونة مع الاختيار.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 132

وقد استدل الفلاسفة وعلماء الكلام على كون اللَّه تعالى فاعلًا مختاراً بأنّ الفاعل على نوعين: إمّا (مخيّر)، وإمّا (مُسيَّر) كتأثير الشمس في المنظومة الشمسيّة وموجوداتها.

فلو قلنا: إنّ خالق العالم فاعل مسيّر، لوجب التسليم بأحد الأمرين: إمّا بأنّ الوجود قديم، وإمّا بأنّ الذات الإلهيّة حادثة، لأنّ الفاعل المسيَّر لا ينفصل عن فعله أبداً.

أمّا كون هذا العالم أزلي فغير ممكن، لأننا عرفنا دلائل حدوث العالم في بحث وجود اللَّه سبحانه.

والقول بحدوث الذات الإلهيّة المقدّسة يستلزم إنكار وجوده تعالى، لأنّها لو كانت حادثة لاحتاجت إلى علّة، إذن فهو ليس بواجب الوجود والحالة هذه.

وبتعبير آخر لو كانت خالقية الباري كأشعة الشمس لاستلزم أن يكون هذا الكون قديماً وازلياً، لأنّ إرسال الشمس لأشعتها لا إراديّ وهو ملازم لوجودها دائماً وأبداً.

لذا نستنتج بأنّ اللَّه تعالى فاعل مختار، وأنّ ذاته المقدّسة أزلية وفعله حادث، وكلما أراد شيئاً يتحقق بدون فاصلة

زمنية.

سؤال: من المعلوم أنّ كلمة الفاعل المختار تعني المريد، ونعلم أنّ الإرادة كيفيّة نفسانية تَعرض على صاحبها، وهذا المفهوم يتعارض مع حقيقة ذات الباري تعالى، لأنّ ذاته لا تقع محلًا للحوادث، فكيف نفسّر إرادة اللَّه تعالى؟

الجواب: بالرجوع إلى ما ذكرناه في بحث الإرادة الإلهيّة (في ذيل صفة علم اللَّه تعالى يتضح جواب هذا السؤال، وهو عدم إمكانية تطبيق ومقايسة مفهوم الإرادة الذي نجده في أنفسنا مع مفهومها بالنسبة للذات الإلهيّة، كما هو الحال في صفة العلم، فالعلم الحصولي الموجود فينا والحادث بالنسبة لنا لا معنى له أبداً بخصوص الذات الإلهيّة المقدّسة.

والإرادة الإلهيّة الذاتية- كما شرحنا ذلك سابقاً تتشعَّب من علمه سبحانه، وهي عبارة عن (علمه بالنظام التكويني الأحسن) الذي هو علّة خلق الأشياء والأحداث الواقعة في الأزمنة المختلفة.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 133

إذن إرادته أزليّة وآثارها تدريجيّة (تمعّن بدقة).

ولزيادة الإطلاع حول هذا الموضوع، وحول التفاوت الموجود بين الإرادة الإلهيّة «الذاتية» و «الفعلية» راجع بحث الإرادة في نفس هذا الجزء.

5- المخالفون لشمول القدرة الإلهيّة: في نفس الوقت الذي أقرّ بعض الفلاسفة والمتكلمين بالقدرة الإلهيّة بدون أي مناقشة، نجدهم قد توقفوا في مسألة عموميّتها- بسبب مواجهتهم لبعض الإشكالات التي عجزوا عن حلّها، ومن جملة هؤلاء:

1- الفلاسفة والمتكلمين المجوس: ومن المعلوم أنهم قسّموا جميع موجودات العالم إلى مجموعتين: (الخير) و (الشر)، واعتقدوا بأنّ لكل واحدة منها خالقاً خاصاً، فخالق الخير لا يُمكن أن يخلق الشّر، والعكس صحيح، لذا فقد اعتقدوا بتعدُّد المبدي: إله الخير (يزدان)، وإله الشّر (أهريمن)، بَيدَ أن خطأهم الفادح ناجم من تقسيم الموجودات منذ البداية إلى مجموعتي الخير والشر، لأنّ التحقيقات الدقيقة تُشير إلى عدم وجود (الشر المطلق) في عالم الوجود، بل مانسميّه نحن بالشر

قد يكون ذا جنبة عدميّة كالفقر والجهل، فالأول بمعنى عدم المال والثروة، والثاني بمعنى عدم العلم، ونحن نعلم بأنّ العدم ليس شيئاً يحتاج إلى خالق.

وأمّا ما كان ذا جنبة نسبية كلسعة الحشرات التي تعتبر شرّاً بالنسبة للشخص الملسوع فهي في الحقيقة وسيلة دفاعية بالنسبة للحشرات اللاسعة، وتعتبر خيراً لأنّها وسيلة لتأمين بقائها.

علاوة على أنّ الكثير من الأمور الوجوديّة نعتبرها شرّاً بسبب جهلنا لأسرارها، لذا وبعد حصول التطور العلمي واكتشاف أسرارها نُقرُّ بضرورتها، كالعواصف الثلجية الباردة التي تقضي على الكثير من الآفات النباتية، أو الحّر الشديد الذي يؤدّي إلى نمو أنواع النباتات وتبخُّر كمياتِ كبيرة من مياه البحار الذي يؤدّي بالتالي إلى هطول الأمطار المفيدة وما شاكل ذلك. لذا فعندما ننزع نظارات الشّر عن أنظارنا، وننظر إلى الوجود بنظرة خير ينتفي موضوع هذه العقيدة الثنوية، وهناك توضيحات أوسع حول هذا الموضوع سنطرحها في

نفحات القرآن، ج 4، ص: 134

بحث العدل الإلهي إن شاء اللَّه تعالى

2- المفوّضة: قالت هذه الجماعة: إنّ اللَّه سبحانه ليست له قدرة على أعمالنا، أو بعبارة اخرى: إنّ أفعال الإنسان خارجة عن دائرة قدرته تعالى، وإلّا لزم (الجبر)، لأنّ أفعال الإنسان لو كانت في دائرة القدرة الإلهيّة لحصل التضاد، حيث يحتمل أن يريد اللَّه تعالى فعلًا معيناً، ويريد عبادُهُ غير ذلك!.

وخطأ هذه الجماعة ينشأ من اعتقادهم بأنّ قدرة اللَّه تعالى على أفعالنا تتعارض مع قدرتنا على أساس أنّهما في عرض واحد، غافلين عن أن هاتين القدرتين تقعان في طول واحد.

توضيح ذلك: إنّ اللَّه تعالى قد خلق البشر ومنحهم الحريّة والقدرة على اتخاذ القرار، وقادر على سلبها منهم متى شاء، لذا فانّه سبحانه هو الذي أراد أن يكونوا فاعلين مختارين، وعليه فإنّ أفعالهم

غير خارجة عن دائرة قدرته، لأنّ هذه الحريّة من عطائه ومتطابقة مع إرادته ومشيئته سبحانه.

وسيأتي توضيح أكثر حول هذا الموضوع في بحث الجبر والتفويض.

3- إعتقد بعض أهل السُّنة: (جماعة النَظّام) بأنّ اللَّه تعالى غير قادر على فعل القبيح، لأنّ الأفعال القبيحة إمّا أن تكون بسبب الجهل، وإمّا بسبب الحاجات الكاذبة، وبما أنّ اللَّه تعالى منزّه عن الجهل والحاجة، لذا فهو غير قادر على فعل القبيح أبداً!

والخطأ الذي وقعت فيه هذه الجماعة ينشأ من عدم تمييزهم بين (الإمكان الذاتي) و (الإمكان الوقوعي).

توضيح ذلك: إنّ بعض الأمور مستحيلة ذاتاً كاجتماع الضدين، أو النقيضين، وهو الجمع بين الوجود والعدم في حالة واحدة، ويُطلق على هذا النوع بالمستحيل الذاتي.

أمّا الأمور غير المستحيلة ذاتاً لكنها لا تصدر من حكيمٍ كالباري تعالى مثل الظلم والفساد والأفعال القبيحة الأُخرى، فيطلق عليها بالمستحيل الوقوعي.

ومن المسلّم به هو أنّ اللَّه تعالى قادر على الظلم لكن حكمته تمنعه من ذلك.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 135

وقد يصدق هذا الكلام بخصوصنا أحياناً، فنحن نستطيع أن نلقي بأنفسنا في النار، أو نضع جذوة من النار في أفواهنا، أو عيوننا، ولسنا بعاجزين عن القيام بهذا الفعل، لكننا لانقوم به أبداً، لأنّ عقولنا لا تسمح لنا بمثل ذلك، فهذا مستحيل وقوعي لا ذاتي.

4- اعتقد بعض الفلاسفة: بأنّ الذات الإلهيّة المقدّسة، ولكونها واحدة من كل ناحية ولا تقبل الكثرة والتعدُّد، فلا يصدر منها سوى مخلوق مجرّد واحد رفيع جدّاً سموه «العقل الأول»، واستندوا في معتقدهم هذا على القاعدة المعروفة التي تقول «الواحِدُ لا يصدُر منه إلّا الواحد».

لذا فهم يقولون: إنّ المخلوق الإلهي الوحيد هو ذلك الموجود المجرّد الأول، لذا ومن حيث إنّ «العقل الأول» ذو جهات متعددة (له وجود من جهة،

وماهيّة من جهةٍ اخرى، ذاتاً «ممكن الوجود» من جهة، و «واجب الوجود» بالعرض من جهة اخرى)، فبسبب جهات الكثرة هذه، نشأت منه معلولات مختلفة، لذا فمنشأ الكثرة في عالم الوجود هي الكثرة الموجودة في العقل الأول والمراتب البعدية حاصلة منه.

وقد اعتمدوا لإثبات القاعدة أعلاه على مسألة «السنخيّة بين العلّة والمعلول»، وقالوا:

لولا ضرورة السنخيّة بين العلّة والمعلول، لأمكن أن يكون كل موجودٍ علّةً لأي معلول، لكن لزوم السنخيّة يحول دون هذا الأمر، وعندما نقر بوجوب السنخيّة بين العلّة والمعلول، يجب علينا أن نقر بأنّ العلّة الواحدة من كل ناحية تستلزم أن لا يكون لها أكثر من معلولٍ واحد. (تأمّل جيّداً) «1».

ويُمكن الرد على هؤلاء بعّدة طرق:

أ) على فرض صحة هذا الاستدلال، فإنّه لا يُفهم منه محدوديّة القدرة الإلهيّة، بل هو على كُلّ شي ء قدير، لكن قدرته بالنسبة «للعقل الأول» بدون واسطة، وبالنسبة للموجودات الاخرى مع وجود واسطة، وكلاهما يعتبران في حدود المقدور، فما الفرق بين أن يُباشر الإنسان عملًا معيناً بيده، أو بوسيلة وأداة معينة من صنعه؟ فالفعل فعله في كلتا الحالتين.

__________________________________________________

(1) تلخيص من نهاية الحكمة، ص 166.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 136

ب) ما قيل بخصوص قاعدة (الواحد لا يصدر منه إلّاالواحد) لا يصح تطبيقه على الفاعل المختار بنظر بعض المحققين.

لذا فقد طرح المرحوم «العلّامة الحُلي رحمه الله» هذه المسألة في «كشف المراد» بشكل أمر بديهي وقال: «المؤثّر إن كان مختاراً جاز أن يتكثّر أثره مع وحدته، وإن كان موجباً فذهب الأكثر إلى استحالة تكثُّر معلوله» «1».

وعليه فقد جعل (الفاعل الموجَب) مركز بحثه لا (الفاعل المختار)، ثم نقل استدلال القائلين بوحدة الأثر في الفاعل الموجب ورَدّهُ «2».

والحقيقة أنّه لا يوجد أي دليل على شمول القاعدة المذكورة

للفاعل المختار، فهو مجرّد ادعاء محض.

ج) بغض النظر عن جميع ذلك فإنّ قانون «السنخيّة بين العلّة والمعلول» محل إشكال حتّى في غير الفاعل المختار، لأنّه لو كان المراد من السنخية هو السنخّية والتشابه من جميع الجهات، فهو مستحيل التحقق بين «واجب الوجود» و «ممكن الوجود»، فالممكنات مهما تكن فهي متباينة مع واجب الوجود في جهات كثيرة، فلو اشترطنا السنخيّة التامّة وفي جميع الجهات، فكيف يمكن أن يخلق وجود غير مادي موجودات ماديّة؟

ولو كان المراد منها السنخيّة الإجماليّة، فهي متحققة بين الخالق والموجودات المتكثّرة والمتعددة، لأنّها جميعاً تشترك في الوجود والكمال النوعي الذي يُعَدُّ قطرةً من بحر كمال اللَّه اللامحدود.

د) علاوة على جميع ما ذكرنا يُمكن القول: إنّ الكون نسخ واحدٌ لا أكثر على الرغم من احتوائه ظاهراً على موجودات متعددة ومتكثّرة، وبتعبيرٍ آخر، فإنّ عالم التكوين كبحر عظيم لامحدود توجد على سطحه أمواج، وهذه الأمواج والتعرجات بمثابة تلك الموجودات المتعددة والمتكثّرة، والمقصود هنا عالم الوجود، لا الذات الإلهيّة المقدّسة.

__________________________________________________

(1) كشف المراد، ص 84.

(2) المصدر السابق.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 137

وباختصار فإننا لو أمعنا النظر لعلمنا بأنّ مجموع عالم الوجود موجود واحد متصل ومترابط، وعلى الرغم من كل تنوعاته وكثرة قوانينه المؤثرة فيه فهو واحد، وهذا الموجود الواحد يفيض من الوجود الإلهي الواحد، وهذا المخلوق الواحد له خالق واحد.

والبعض الآخر الذين شكّكوا في شمول القدرة الإلهيّة قالوا: لو افترضنا أنّ اللَّه تعالى على كل شي ء قدير، لواجهنا تعارضاً في بعض الحالات لا نستطيع حلّه.

فمثلًا تساءَل البعض: هل يستطيع اللَّه تعالى أن يخلق موجوداً مثله!؟ فإن قلتم: نعم، لكان تعدد الآلهة ممكناً! وإن قلتم: لا، فقدرته محدودة!.

أو يتساءل: هل يقدر اللَّه تعالى أن يُدخل جميع

هذا العالم الواسع، وبجميع كراته وكواكبه في بيضة، من غير أن يصغر العالم أو تكبرُ البيضة؟! فإن قلتم: بلى، فغير مقبول، وإن قلتم: لا، فقد أقررتم بعجزه- سبحانه-.

أو: هل يستطيع اللَّه تعالى أن يخلق موجوداً لا يقدر على إفنائه!؟ أيَّما الطريقين انتخبتم فقد أقررتم بعجزه، والكثير من هذه الأسئلة.

إنّ مصدر اشتباه هؤلاء هو عدم إلمامهم بالمسائل الفلسفية، وغفلتهم عن هذه الحقيقة الواضحة، وهو أنّه عندما يدور الحديث حول «القدرة»، فمعناه القدرة على الامور الممكنة، لأنّ القدرة لا تشمل المستحيلات لأنّها لا شي ء.

توضيح ذلك: إنّ معنى تساؤلنا عن اقتدار اللَّه تعالى على شي ء معين أحياناً، هو كون ذلك الشي من الممكنات، وقصدنا إكساؤه حُلة الوجود بالقدرة الإلهيّة، أمّا لو كان ذلك الشي مستحيلًا ذاتاً فإن تساؤلنا عن إمكانية إيجاده غير صحيح بتاتاً، ولا معنى له أبداً.

وهذا مايُسمَّى بالسؤال المتناقض.

كأن يكون لدينا عشرون برتقالة ونريد توزيعها على أربعين شخصاً، بحيث يحصل كل واحدٍ منهم على واحدة!؟ فهل يُمكن ذلك؟

فالسؤال المطروح متناقض بحدّ ذاته وغير صحيح، لأنّ قولنا عشرون برتقالة يعني أنّها ليست أربعيناً، وقولنا: إنّ أربعين شخصاً يحصل كل واحدٍ منهم على برتقالة، معناه وجود

نفحات القرآن، ج 4، ص: 138

أربعين برتقالة، ممّا يلزم تحقق العددين عشرين وأربعين في نفس الكمية من البرتقال وفي آنٍ واحد! وبديهي أنّه لا يوجد إنسان عاقل يتفوّه بمثل هذا الكلام.

وبعد التحقيق في جميع الأسئلة التي ذكرناها يتضح أنّها من هذا القبيل، أي أنّها متناقضة وغير مقبولة، لذا ينتفي جوابها.

فمثلًا عندما نقول: هل يستطيع اللَّه تعالى أن يخلق إلهاً آخر مثله؟ معناه أنّ ذلك الإله غير مخلوق، فيصبح السؤال متناقضاً، لأنّه سؤال عن خلق شي ء لا يُمكن أن يكون مخلوقاً، وبمجرّد أن يخلق اللَّه

سبحانه شيئاً فهو مخلوق، ولا يمكن أن يكون إلهاً.

وهكذا عندما يُقال: هل يستطيع اللَّه تعالى أن يُدخل الدنيا في مكان صغير من غير أن تصغر الدنيا أو يكبر ذلك المكان، فمعناه أن يكون العالم صغيراً وكبيراً جدّاً في آنٍ واحد، وهذا شي ء متناقض.

واللطيف أنّ رجُلًا سأل أمير المؤمنين عليه السلام نفس هذا السؤال: «هل يقدر ربُّك أن يُدخل الدُّنيا في بيضة من غير أن تصُغر أو تكبر البيضة»؟ فأجابه الإمام عليه السلام: «إنّ اللَّه تبارك وتعالى لا يُنسب إلى العجز والذي سألتني لا يكون» «1».

وما نجده في الرواية المنقولة عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام عندما يجيب على هذا السؤال فيقول عليه السلام: «نعم وقد جعلها في عينك وهي أقلُّ من البيضة» «2»

، فهو في الحقيقة جواب إقناعيّ، وذلك لأنّ السائل لم يكن ذا قدرةٍ على تحليل مثل هذه المسائل، وقد أجابه الإمام عليه السلام بهذه الطريقة مراعاةً لحاله من الفهم، وإلّا فالجواب الأصلي على هذا السؤال هو نفس ماورد في كلام أمير المؤمنين عليه السلام.

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار، ج 4، ص 143، ح 10.

(2) المصدر السابق.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 139

3 و 4- أزليّة وأبديّة اللَّه تعالى

تمهيد:

يعتقد جميع من يؤمن بوجود اللَّه تعالى بأزليته وأبديته سبحانه، وهاتان الصفتان عين بعضهما، لأنّ الوجود الأزلي لا يمكن أن يكون ذا عمرٍ وزمانٍ محدود، وإلّا لما كان أزليّاً، وعندما يكون الوجود غير محدد بزمان فذلك يعني أبديته أيضاً.

وبتعبيرٍ آخر، إنّ جميع الأدلّة الموجودة على إثبات وجود اللَّه تعالى تدل بصورة مباشرة أو غير مباشرة على كونه سبحانه وتعالى واجب الوجود.

وبديهي أنّ واجب الوجود الذي وجوده عين ذاته لابدّ وأن يكون أزلياً وأبدياً، فالممكنات هي الحادثة، أي أنّها لم تكن

في زمان معين ثم وُجدت وستفنى بعد مدّة، وواجب الوجود منزّه عن الحدوث كليّاً.

بعد هذا التمهيد نعود إلى القرآن الكريم لنتأمل في الآيات المباركة التالية ونصغي إليها بأسماع قلوبنا:

1- «هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَى ءٍ عَلِيمٌ». (الحديد/ 3)

2- «كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ* ويَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُوالْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ». (الرحمن/ 26- 27)

3- «وَاللَّهُ خَيْرٌ وَابْقَى . (طه/ 73)

4- «كُلُّ شَى ءٍ هَالِكٌ الَّا وَجْهَهُ». (القصص/ 88)

جمع الآيات وتفسيرها

يُلاحَظ في بداية سورة الحديد «آيات ستّ» اجتمعت فيها الكثير من الصفات الإلهيّة

نفحات القرآن، ج 4، ص: 140

وبتعابير غنيّة وعميقة، لذا فقد ورد في بعض الأحاديث الإسلامية المنقولة عن الإمام علي بن الحسين عليه السلام، أنَّهُ سُئِلَ عن التوحيد فقال: «إنّ اللَّه عزّ وجلّ علم أنّه يكون في آخر الزمان أقوام متعمقون، فأنزل اللَّه تعالى: سورة «قل هواللَّه أحد»، والآيات من سورة الحديد إلى قوله: «وهو عليم بذات الصدور» «1»

.

والآية التي يدور بحثنا حولها هي إحدى الآيات الست المذكورة.

قال تعالى: «هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَى ءٍ عَلِيمٌ».

اختلف المفسرون حول المقصود من (الأول) و (الآخر)، ولكن تعابيرهم قريبة من بعضها:

فقد قال البعض: هو الأول من غير ابتداء، والآخر من غير انتهاء.

وقال البعض الآخر: هو الأول في التكوين، والآخر في اعطاء الرزق.

وقال جماعة: هو أوّلُ الأولين، وآخر الآخرين.

وقال آخرون: هو الأول بأزليته، والآخر بأبديته.

وقال البعض الآخر: هو الأول بالخير والإحسان، والآخر بالعفو والمغفرة «2».

ولكن على أيّة حال فإنّ مفهوم الآية واضح، والمقصود من الأول هو كونه أزلياً، ومن الآخر هو كونه أبديّاً، لذا فقد ورد في نهج البلاغة: «لم يزل أوّلًا قبل الأشياء بلا أوليّة، وآخراً بعد الأشياء بلا نهاية» «3».

وكذلك ورد في خطبة الأشباح: «الأول الذي لم يكن له

قبلُ فيكون شي ء قبلهُ والآخر الذي ليس له بَعدُ فيكون شي ء بعدَهُ» «4».

وفي حديثٍ نبوي أنّه صلى الله عليه و آله قال: «اللهم أنت الأول فليس قبلك شي ء، وأنت الآخر فليس بعدك شي ء» «5».

__________________________________________________

(1) اصول الكافي، ج 1، ص 91 باب النسبة، ح 3.

(2) تفسير مجمع البيان، ج 9، ص 230.

(3) نهج البلاغة؛ عن تفسير نور الثقلَين، ج 5، ص 237. ويحتمل أن يكون في بعض النسخ الخطية.

(4) نهج البلاغة، الخطبة 91.

(5) تفسير القرطبي، ج 9، ص 6406.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 141

وقال بعض المفسّرين: إنّ (الأول) و (الآخر) يشمل كل زمان، و (الظاهر) و (الباطن) يشمل جميع حقيقة المكان، لذا فالآية المذكورة كناية عن حضور اللَّه تعالى الدائمي في كل مكانٍ وزمان «1».

وواضح أن تعبير «الزمان» وما شاكل في العبارات المذكورة هو لضيق البيان، وإلّا فاللَّه سبحانه فوق الزمان والمكان.

وفي الآية الثانية وبالرغم من أنّ الحديث عن فناء سكّان الأرض، لكنّها بالحقيقة لاتنحصر بأهل الأرض فقط، يقول تبارك وتعالى: «كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ* ويَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُوالْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ».

صحيح أنّ التعبير بعبارة (من عليها) إشارة إلى الموجودات العاقلة من الجن والإنس، لكنّه وكما احتمل بعض المفسّرينَ لا يستبعد أن يكون المقصود منها جميع الكائنات الحّية الأرضية (من باب التغليب)، وعلى أيّة حال فالهدف الأساس من الأية هو بيان فناء جميع الموجودات وبقاء الذات الإلهيّة المقدّسة.

ولو أنّ (وَجه) في اللغة يعني قرص الوجه، لكنّه في مثل هذه الحالات يعني الوجود والذات.

ولا يُستبَعد أن يكون التعبير بعبارة «ذو الجَلال والإكْرام» إشارة إلى الصفات الإلهيّة السلبيّة والثبوتية، لأنّ (ذو الجلال) تحكي عن الصفات السلبية، بمعنى أنّ اللَّه تعالى أجَلُّ وأعْلى من أن يوصف

بها، و (الإكرام) إشارة إلى الصفات المُظهرة لكمال الشي، وهي الصفات الإلهيّة الثبوتيّة، كعلم اللَّه وقدرته.

أجَل، إنّ الإله صاحب الجمال والجلال باقٍ دائماً، ومن سواه فانٍ.

__________________________________________________

(1) تفسير في ظلال القرآن، ج 7، ص 718.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 142

والجدير بالذكر هو كون الآية من «سورة الرحمن» التي يفيض محتواها بذكر النّعَم الإلهيّة المختلفة، فهل إنّ مسألة فناء وموت الكائنات الحّية هي أيضاً من جملة النّعَم الإلهيّة!؟

نعم، إنّها من النعم، لأنّها من جهة تخلع عن الإنسان لباس الشرك وتدعوه إلى التوحيد الخالص وتُفهمه بأنّ المستحق للعبادة والإلوهية هو ذات «ذو الجلال والإكرام» الباقية فقط، لا الموجودات الفانية الزائلة. ومن جهة أُخرى تحذّر الإنسان ليستفيد من ساعات عمره بأفضل وجهٍ وأكمله.

ومن جهةٍ ثالثة تُعزّي الإنسان وتُصبّره لكي يقف أمام مصائب ومشكلات الدهر التي تواجهه في الحياة الدنيا من حيث كونها زائلة أيضاً، ومن جهةٍ أُخرى فإنّ هذا الفناء مقدمة للبقاء وطريق الخلاص من سجن هذه الدنيا والإنتقال إلى عالم الآخرة ونعيمها الذي لا يزول.

أمّا الآية الثالثة فقد وردت في ذيل قصّة إيمان سحرة فرعون وتهديد فرعون لهم بالقتل، وهي ذات مفهومٍ عميقٍ وواسع، حيث نقلت كلام اولئك السحرة الذين آمنوا وقالوا لفرعون:

«إِنَّا آمَنَّا بِرَبَّنا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرهْتَنَا عَليهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى .

«البقاء المطلق»: يعني الأبدية، وكما قُلنا سابقاً فإنّ «الأبديّة» لا تنفصل عن الأزليّة أيضاً.

ومن المسلَّم به أنّ أبديّة ذاته المقدّسة ملازمة لأبدية لطفه وإنعامه، لذا فقد علم اولئك السحرة الذين آمنوا بوجوب ترجيح هذه النعمة الخالدة على النِعمِ الفرعونية الحقيرة الزائلة.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 143

بعد أن أبطلت الآية الرابعة والأخيرة من بحثنا كل ألوان الشرك، فنّدت ماسواه من

المعبودات، حيث قالت: «كُلُّ شَىْ ءٍ هالِكٌ إلّاوَجْهَهُ».

وهذه الجملة بالحقيقة هي بمنزلة الدليل على الحكم السابق، لأنّ الموجودات الفانية الزائلة لا تليق بالالوهيّة والعبادة، والوجود الوحيد الذي يليق بهذا المقام هو الباقي والقائم دائماً فقط.

وقد قُلنا: إنّ (الوجه) في اللغة يعني قرص الوجه، لكنها تستعمل في بعض الأحيان أيضاً بمعنى (الذات)- كما هو في بحثنا هذا، وما فسّره البعض بمعنى الدين أو العمل الصالح وما شاكله لا دليل عليه، إلّاأن يُؤّل بمعنى الذات الإلهيّة المقدّسة.

وعلى أيّة حال، فإنّ هذه الآية دليل واضح على أبديّة الذات الإلهيّة المقدّسة، ونعلم جميعاً أنّ الأبدية غير مفصولة عن الأزليّة.

والموجودات الاخرى من الأموال، الثروات، والمقامات والسموات والأرض، جميعها في زمرة الممكنات ولا تفنى وتهلك في النهاية فحسب، بل هي فانية وهالكة حتى في حالها الحاضر، لأنّها لاتملك في ذاتها شيئاً، ولولا الذات الإلهيّة المقدّسة التي تفيض عليها بالوجود لحظةً بعد اخرى، لفنت وهلكت.

ويظهر أنّ (الفناء) هُنا بمعنى موت الموجودات الحّية، أو بمعنى تلاشي الموجودات الاخرى، وعليه فلا تضاد بينها وبين الآيات التي تقول: بأنّ تُراب الإنسان يبقى ليصير مصدراً لحياته في الآخرة، أو التي تقول: بأنّ أجزاء الأرض والجبال تبقى بعد أن تتلاشى لينشأ منها عالم جديد.

ويرد هنا السؤال التالي وهو: يُستَنتَج من الآيات القرآنية أنّ كلًا من الجنّة والنار موجودتان حاليّاً ومُعَدّتان، حيث قال تعالى بخصوص الجنّة: «أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ».

(آل عمران/ 133)

وقال بخصوص النار: «أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ». (آل عمران/ 131)

أفهل تفنيان في النهاية أيضاً؟

وفي الجواب على هذا السؤال، قيل: إنّه لا تنافي بين عموميّة الآية أعلاه مع استثناء

نفحات القرآن، ج 4، ص: 144

بعض الموارد الخاصّة التي تحصل بإرادة اللَّه تعالى أيضاً! «1».

علاوةً على ذلك وكما قلنا سابقاً: إنّ الموجودات الإمكانية هي

فانية في حال وجودهاأيضاً، لأنّ بقاءَها قائم ببقاء اللَّه سبحانه. (تأمل جيداً).

يتّضح من مجموع ماذكرناه أنّ القرآن الكريم وضّح مسألة أزليّة وأبديّة وجود اللَّه تعالى بصورة تامّة، على الرغم من عدم استعماله كلمتي (الأبد) و (الأزل)، لكنّه استعمل تعابير من قبيل (الأول) و (الآخر) و (الباقي) و (عدم الفناء والهلاك) والتي تُفصح عن مفهومي الأزليّة والأبديّة.

واللطيف أن البعض قالوا: إنّ كلمة (أزل) مأخوذة من جملة (لا يزال)، والتي هي بالأصل مأخوذة من مادّة (زوال)، أي التحُّول والتغيُّر، ولعلّ هذا هو السّر في عدم استعمالها في الآيات القرآنية، بل استُعملَت كلمة (أوَّل) بدلًا عنها، والتي لها مفهوم أوضح وأبقى.

و (الأبد) في اللغة أيضاً بمعنى (الزمن الطويل) ولا تُعطي مفهوم (الآخر)، لذا فما ذُكرَ في القرآن الكريم بخصوص اللَّه سبحانه (الأول والآخر والباقي وغير الفاني) أبلغ من كلمة (الأزل) وكلمة (الأبد) من كل ناحية، ولو أنّ هاتين الكلمتين قد وصلتا مرحلة الوضوح في عصرنا وزماننا الحاضر على أثر كثرة استعمالهما في هذين المفهومَين.

توضيحات

1- النظرة الفلسفية لأزلية وأبديّة اللَّه تعالى

لقد ذكرنا سابقاً بانّه لا يوجد أحد من المؤمنين يُنكِر أزليّة وجود اللَّه عزّ وجلّ وأبديته، لأنّه لو لم يكُن أزليّاً لاستلزم أن يكون حادثاً، وإن كان حادثاً لاحتاج إلى علّة اخرى،

__________________________________________________

(1) تفسير الكبير، ج 25، ص 24.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 145

لاستحالة وجود المعلول بدون علة. وإذا آمنّا بأزليته سبحانه فإنّها مصحوبة أيضاً بأبديته، لأنّ الوجود الأزلي لامحدود حتماً، ووجود كهذا سيكون أبديّاً بالطبع، مضافاً إلى ذلك فإنّ نفس التفكر في حقيقة وجود اللَّه تعالى يوصل إلى هاتين الصفتين بسهولة، لأنّ دلائل إثبات وجود اللَّه تفيد كونه (واجب الوجود)، ونعلم أنّ واجب الوجود لا يُمكن أن يكون منفصلًا عن الوجود أبداً، أو

بعبارة أصح، الوجود عين ذاته، ولم يُعطَ له من الخارج ليُؤخذ منه في زمانٍ ما، ووجود كهذا كان منذ الأزل وسيبقى إلى الأبد.

وقد تُجمع هاتان الصفتان في صفة واحدة هي (السرمديّة)، لأنّ الوجود السرمدي هو الوجود الذي لا بداية له ولا نهاية كما قال بعض أرباب اللغة.

وما قاله بعض ذوي الأفكار الضيقة من إمكانية تصُّور ذات تكون وجوداً واجب الوجود في زمانٍ، وغير واجب للوجود في زمان آخر، إنّما هو كلام واهٍ جدّاً ولا أساس له، ويدل على عدم فهمهم معنى (واجب الوجود) بصورة صحيحة، لأنّه وكما قُلنا سابقاً: فإنّ واجب الوجود هو عين الوجود، فكيف يُمكن أن ينفصل عن الوجود!؟

وكذلك مانُقِلَ عن بعض الأشاعرة من اعتقادهم بأنّ صفة البقاء والأبديّة زائدة على الذات الإلهيّة المقدّسة، إنما يدل على عدم دقّتهم في معنى ومفهوم واجب الوجود.

2- أزلية اللَّه تعالى وأبديته في الروايات الإسلاميّة

هنالك خُطب عديدة في نهج البلاغة أكّدت على هذا المعنى، وكمثال على ذلك:

نقرأ في الخطبة 163: «ليس لأوليته ابتداءٌ، ولا لأزليته انقضاءٌ».

وجاء في الخطبة 185: «مُستشهدٌ بحدوث الأشياء على أزليته».

كما نقرأ في نفس الخطبة: «واحدٌ لا بعدد، ودائمٌ لا بأمد».

وجاء في اصول الكافي في فصل «معاني أسماء اللَّه» في تفسير «هو الأول والآخر» عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «هو الأول قبل كل شي ء وهو الآخر على مالم يزل ولا تختلف

نفحات القرآن، ج 4، ص: 146

عليه الصفات والأسماء، كما تختلف على غيره» «1».

وجاء في حديث آخر عن نفس الإمام عليه السلام في تفسير وصف «الأول»: «الأول لا عن أوّل قبله، ولا عن بدءٍ سبقه، والآخر لا عن نهاية ... ولم يزل ولا يزول بلا بدءٍ ولا نهاية» «2».

3- الإجابة عن سؤال

يرد هذا السؤال عادةً في مباحث معرفة اللَّه تعالى ومن قِبَل الأفراد قليلي الخبرة وهو:

أنتم تقولون: إنّ لكل شي ء خالقاً ومبدعاً، إذن فمن خلق اللَّه عز وجل؟

والعجيب هو أنّ بعض فلاسفة الغرب طرحوا هذه الأسئلة أيضاً، وهي علامة على مقدار تصورهم السطحي في المباحث الفلسفيّة وتفكيرهم البدائي.

يقول الفيلسوف الإنجليزي الشهير (برتراندراسل) في كتابه (لِمَ لا أكون مسيحيّاً؟):

«كنت اعتقد باللَّه في شبابي، وكنت أعتقد ببرهان علّة العلل كأفضل دليلٍ عليه، وهو أنّ كل ما نراه في الوجود ذو علّة معينة، ولو تتبّعنا سلسلة العلل لانتهت بالعلّة الأولى، وهي مانُسميّه باللَّه.

لكنني تراجعت عن هذه العقيدة بالمرّة فيما بعد، لأنني فكرت بأنّه لو كان لكلّ شي ء علّة وخالق، لوجب أن يكون للَّه علة وخالق أيضاً» «3».

لكننا لا نعتقد بأنّ أحداً له أدنى اطلاع على المسائل الفلسفية الخاصّة بمباحث معرفة اللَّه تعالى وما وراء الطبيعة، يحار في الإجابة عن

هذا السؤال، فالمسألة واضحة جدّاً، فعندما نقول: إنّ لكل شي ءٍ خالقاً وموجداً، نقصد (كُلّ شي ء حادثٍ وممكن الوجود)، لذا

__________________________________________________

(1) اصول الكافي، ج 1 ص 115 (باب معاني الأسماء) ح 5.

(2) المصدر السابق، ص 116، ح 6.

(3) برتراند راسل، في كتابه (لِمَ لَم أكُن مسيحيّاً).

نفحات القرآن، ج 4، ص: 147

فهذه القاعدة الكليّة صادقة فقط بخصوص الأشياء التي لم تكُن من قبل وحدثت فيما بعد، لا بخصوص واجب الوجود الذي كان موجوداً منذ الأزل وسيبقى إلى الأبد، فوجود أزليٌّ لا يحتاج إلى خالق، لكي نسأل عن خالقه!؟ فهو قائم بذاته ولم يكن معدوماً من قبلُ أبداً، لكي يحتاج إلى علّة وجوديّة.

وبتعبيرٍ آخر: إنّ وجوده من ذاته لا مِن خارج ذاته، وهو لم يكُن مخلوقاً، هذا من جهة، ومن جهةٍ أُخرى كان من الأفضل ل (برتراندراسل) ومؤيّديه أن يسألوا أنفسهم هذا السؤال:

لو كان للَّه خالقٌ فسيرد نفس هذا الإشكال مع الخالق المفترض، وهو: من خلق ذلك الخالق!؟ ولو تكررت هذه المسألة وافترضنا أنّ لكلّ خالق خالقاً لأدى ذلك إلى التسلسل، وبطلانه من الواضحات، ولو توصَّلنا إلى وجودٍ يكون وجوده من ذاته ولا يحتاج إلى موجدٍ وخالق آخر (أي واجب الوجود)، فذلك هو اللَّه رب العالمين.

ويُمكن توضيح هذه المسألة ببيانٍ آخر وهو: إننا لو لم نكن من المؤمنين على سبيل الفرض وكُنّا نؤيّد عقيدة المادييّن، لواجهنا نفس هذا السؤال، فبتصديقنا قانون العليّة في الطبيعة، وأنّ كلّ شي ء في العالم معلول لآخر، سيرد هذا السؤال الذي واجهه المؤمنون باللَّه تعالى وهو: لو كانت جميع الأشياء معلولة للمادّة فما هي العلّة التي أوجدت المادة إذن؟

وسيضطّرون أيضاً للقول: إنّ المادة أزليّة، وكانت موجودة منذ الأزل، وستبقى إلى الأبد، ولا تحتاج

إلى علّة وجوديّة، وبتعبيرٍ آخر هي (واجب الوجود).

وعلى هذا الأساس نُلاحظ أنّ جميع فلاسفة العالم سواء الإلهيين منهم أو المادييّن يؤمنون بوجودٍ أزليٍّ واحدٍ، وجودٍ لا يحتاج إلى خالقٍ ومُوجد، بل كان موجوداً منذ الأزل.

والتفاوت الوحيد هو أنّ الماديين يعتقدون بأنّ العلّة الاولى فاقدة للعلم والمعرفة والعقل والشعور، ويعتقدون بأنّها جسم ولها زمان ومكان. لكن المؤمنين يعتقدون بأنّ العلّة الاولى ذات علمٍ وإرادة وهدف، وهو اللَّه تعالى وينزّهونه عن الجسميّة والزمان والمكان، بل يعتقدون بأنّه فوق الزمان والمكان.

وجميع الأدلة التي أوردناها سابقاً في بحوث معرفهّ اللَّه تعالى تؤيد هذه الحقيقة، وهي

نفحات القرآن، ج 4، ص: 148

أنّ المبُدي ء الأول لهذا العالَم ذو علم واطلاعٍ غير محدود.

وعليه فقد أخطأ (راسل) في تصوره بأنّه يستطيع التهُّرب من مخالب هذا السؤال بترك زمرة المؤمنين والإلتحاق بالمادّيين، لأنّ هذا السؤال ملازم له دائماً، حيث إنّ الماديين يعتقدون أيضاً بقانون العليّة ويقولون: إنّ لكل حادثة علّة معينة.

إذن، فالطريق الوحيد في حلِّ هذه المشكلة هو إدراك الفرق جيداً بين (الحادث) و (الأزلي)، وبين (ممكن الوجود) و (واجب الوجود)، لكي نعلم أنّ الذي يحتاج إلى خالقٍ هو الموجودات الحادثة والممكنة، أي أنّ كل مخلوقٍ يحتاج إلى خالق، وما ليس بمخلوق فلا يحتاج إلى خالق.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 149

اللَّه الحي القيّوم

تمهيد:

وردت صفتي «الحي» و «القيوم» كراراً في الآيات القرآنية والروايات الإسلامية في وصف الباري عزوجل، فحياته خالدة وثابتة، وهو قائم بذاته وكل شي ء قائم به.

ولكن من البديهي أنّ كلمة الحياة بالنسبة للباري ذات مفهومٍ يختلف عن المفهوم الذي يصدق علينا والكائنات الحيّة الاخرى، لأنّ حياتنا تُعرف عن طريق آثار معينة من قبيل التنفُّس، دقات القلب، الاحساس والحركة، النمو والتناسل وما شاكل ذلك، في حين

أنّها جميعاً لا معنى لها بالنسبة إلى اللَّه سبحانه وتعالى.

إذن، علينا أن نبحث عن مفهوم ومعنى الحياة بالنسبة إلى اللَّه عزّ وجلّ.

ومن المُسَلَّم أنّها حياة أسمى وأرفع من الحياة الماديّة، وسنتطرق إلى شرحها بعد تفسير الآيات إن شاء اللَّه تعالى.

بعد هذا التمهيد المختصر نتوجّه إلى القرآن الكريم ونمعن خاشعين في الآيات التالية بأسماع قلوبنا:

1- «اللَّهُ لَاإلَهَ إِلَّا هُوَ الحَىُّ القَيُّومُ». (البقرة/ 255)

2- «اللَّهُ لَاإِلَهَ إِلَّا هُو الحىُّ القَيُّومُ». (آل عمران/ 2)

3- «وَعَنَتِ الوُجُوهُ لِلْحَىِّ القَيُّومِ وَقَد خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلماً». (طه/ 111)

4- «وَتَوكَّلْ عَلَى الحَىِّ الَّذِى لَايَمُوتُ». (الفرقان/ 58)

5- «هُوَ الحَىُّ لَاإِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخلِصِينَ لَهُ الدِّينَ». (غافر/ 65)

نفحات القرآن، ج 4، ص: 150

شرح المفردات:

«حي»: من مادّة «حياة»، وكما قال صاحب مقاييس اللغة: فإنّ هذه المادّة بالأصل ذات معنيَين، أحدهما (الحياة) في مقابل الموت، والآخر (الحياء) في مقابل الوقاحة وعدم الخجل.

ولكن بعض محققي اللغة أرجعوها إلى أصلٍ واحد، فقالوا: إنّ الحياء والإستحياء أيضاً نوع من طلب الحياة والسلامة في مقابل الوقاحة وعدم الخجل والذي يُعتبَر نوعاً من فقدان الحياة والسلامة.

وعلى أيّة حال، فكلمة (الحياة) ذات معنىً واسع، فقد تُستعمل بخصوص الأرض والنباتات مثل: «وَ يُحْىِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا». (الروم/ 19)

وقد تُستعمل بخصوص الحيوانات كقول إبراهيم عليه السلام: «رَبّ أَرِنى كَيْفَ تُحْىِ اْلمَوْتى . (البقرة/ 260)

أو قد تستعمل للإنسان، مثل: «وَهُوَ الَّذِى أَحْيَاكُمْ». (الحج/ 66)

أو بخصوص مُطلق الحياة والممات مثل: «يُخْرِجُ الحَىَّ مِنَ المَيِّتِ». (الروم/ 19)

أو بخصوص الحياة المعنويّة مثل: «استَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحيِيكُم ...».

(الأنفال/ 24)

وأحياناً تُستعمل بخصوص الحياة الأخرويّة مثل: «وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِىَ الحَيَوَانُ..».

(العنكبوت/ 64)

والأسمى من الجميع استعمالها بخصوص الباري جلّ وعلا، كما هو في الآيات السابقة،

وسنرى أن الحياة الحقيقية والأزليّة والأبديّة والقائمة والثابتة التي لا يشوبها أي لونٍ من ألوان الموت والهلاك هي حياة اللَّه عزّ وجلّ فقط.

«قيّوم»: صيغة مبالغة من مادة «قيام»، والقيام يعني الوقوف، أو التصميم، والمعنى الثاني يعود على المعنى الأول، لأنّ الإنسان عندما يُصمم على فعلٍ معين ينهض للقيام به، لذا فقد استُعمِلت هذه الكلمة بمعنى التصميم.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 151

واعتقد البعض أن كلمة (قيوم) تُعطي معنى القائم، والحافظ، والمدير، والمدبّر، لأنّه يؤمّن للأفراد أو بقية الموجودات الاخرى مايقّومُهم.

وعندما تُستعمل هذه الكلمة بخصوص الباري تعالى فإنّها تعني من يقوم بأمر المخلوقات وأرزاقهم وأعمارهم وحياتهم وموتهم، ويُدبّر أمورهم المختلفة، ويؤمّن احتياجاتهم.

وقد فسّرها البعض بمعنى القائم بالذات ومقوّم الموجودات الاخرى، والذي لا يتفاوت مع المعنى السابق تفاوتاً ملحوظاً «1».

جمع الآيات وتفسيرها

اللَّه قائم بذاته والإنسان قائم باللَّه:

يُلاحظ في الايتين الأولى والثانية أنّهما- وضمن إشارتهما إلى وحدانية اللَّه تعالى- تحدثتا عن حياة الباري وقيمومته، قال تعالى: «أَللَّهُ لَاإِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَىُّ القَيُّومُ».

وكما أشرنا سابقاً فإنّ حياة الباري تتفاوت كُلياً عن حياة الإنسان والحيوان والنبات، فحياته حياة حقيقية لأنّها عين ذاته، لا عارضة ولا مؤقتة.

حياته بمعنى العلم والقدرة (نفس الصفتَين اللتين شرحناهما في البحوث السابقة)، لأنّهما العلامة الأصيلة للحياة.

فهو ليس قائم بذاته فحسب، بل إنّ قيام الموجودات الاخرى ومربوبيتها وتدبير جميع أمورها بيده سبحانه.

وخلاصة الكلام، إنّ حياته ليس لها أدنى شَبه بحياة سائر الموجودات الحيّة، حياته (ذاتيّة)، (أزليّة)، (أبديّة) (ثابتة) و (خالية من كل ألوان النقص والمحدوديّة)، حياته تدل على إحاطته العلمية بكلّ شي ء، وقدرته على كل شي ء.

__________________________________________________

(1) مقاييس اللغة؛ مفردات الراغب؛ لسان العرب.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 152

أمّا الآية الثالثة، فبعد أن أشارت إلى يوم القيامة قالت: «وَعَنَتِ الوُجُوُهُ لِلْحَىّ اْلقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ

مَنْ حَمَلَ ظُلْماً».

«عَنت»: من مادّة (عَنْوة) وقد وردت بمعنى الخضوع والذلة، لذلك يُطلق على الأسير «عاني»، لأنّه ذليل وخاضع بيد الآسِر.

وقد نُسب الخضوع والذل هنا للوجوه، لأنّ الوجه أشرف عضو في الإنسان، علاوة على أَنّ ردود الفعل النفسيّة ومن جملتها الخضوع تظهر على وجه الإنسان قبل كلّ شي ء.

والتأكيد على صفتي (الحي) و (القيوم) في مسائل عالم الآخرة يُعَدُّ إشارةً لطيفةً إلى هذه الحقيقة، وهي أنّ حياة اللَّه تعالى الخالدة وقيمومته الشاملة ستظهر وتتجلّى في ذلك اليوم بصورة أفضل، وسيتجلّى أيضاً ضعف الإنسان وعجزه واحتياجه للذات الإلهيّة المقدّسة بصورة أوضح. لأنّ جميع الناس قد بُعثوا بعد موتهم وقد يظهر عليهم العجز والضعف والحاجة إلى لطف اللَّه تعالى في تلك المحكمة الإلهيّة العظيمة.

وأمّا الآية الرابعة فقد وصفت الباري سبحانه وتعالى بالوجود الحي الذي لا يموت أبداً، وأمرت الرسول بالتوكُّل عليه حيث قالت: «وَتَوَكّلْ عَلَى الحَىِّ الَّذِى لَايَمُوتُ».

وبديهي أنّ الإنسان المؤمن بامتلاكه لهذا الأساس المتين سوف لا يخشى من أي أحد، ولا يهاب، أو يستوحش من أي حادثة.

يتّضح هُنا أنّ هذه الآية مع أنّها تبيّن أصلًا عقائدياً، فهي ذات مردودات أخلاقية وعمليّة في نفس الوقت، وتقوّي أُسس التوكُّل في روح الإنسان وقلبه.

وفي الآية الخامسة والأخيرة نلاحظ انعكاس نفس هذا المعنى والمفهوم بمردودات عمليّة وأخلاقيّة أُخرى، قال تعالى: «هُوَ الْحَيُّ لَاإِلَهَ إِلّا هُوَ»، ولأنّه كذلك «فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ».

نفحات القرآن، ج 4، ص: 153

يظهر من لحن الآية- كما قال الفخر الرازي في تفسيره أنّها تُفيد الحصر «1»، أي أنّ الحي حقيقةً هو اللَّه وحده، وإن كان للآخرين حياة فهي زائلة ومقرونة بالموت التدريجي، ولذلك ليست لهم اللياقة للُالوهية والمعبوديّة، ومن هنا يتضح ضرورة الإخلاص له في الدين والعبادة

ونفي كل أنواع الشرك عنه.

يستفاد من مجموع الآيات المذكورة أنّ وصف اللَّه عزّ وجلّ بالحياة الباقية لا يُقصد منه الحياة المشوبة بالموت والهلاك والفناء أو التغيُّر، بل هي الحياة الملازمة لقيامه بذاته وقيام الموجودات الاخرى به، الحياة التي تشع على المخلوقات، وتلهم التوكُّل والإخلاص، وبالنتيجة حياة تعطي درساً في التوحيد وتنفي كل ألوان الشرك.

توضيحان

1- حقيقة الحياة

إنّ تقسيم الموجودات إلى قِسمين، موجودات حيّة وموجودات ميّتة، تقسيم يفهمه كُلّ واحدٍ من الناس مهما كان مستواه من الفهم والشعور، لأنّه يرى بعينيه التفاوت الموجود بين الموجودات الحية والميتة، ومع ذلك فقد عجز أذكى العلماء عن الإجابة عن هذا السؤال: ما هي حقيقة الحياة؟ فهم يقرّون أنّ الحياة ظاهرة معقدة جدّاً وذات أسرارٍ لم يتوصل العلم والعقل البشري إلى أعماقها لحد الآن!

لذا يُعَدُّ خلق موجودٍ حيٍ (وحتى خلية واحدة بسيطة لها أبسط صور الحياة) عملًا شاقّاً ومعقّداً جدّاً بالنسبة للإنسان، وقد طالع العلماء سنوات عديدة في هذا المجال ولا يزالون عاجزين عن القيام بذلك، وعلى فرض أنّهم سيستطيعون يوماً ما وبإلاستعانة بوسائل وطرق طبيعية مختلفة خلق خلية حيّة من موادٍ طبيعيّة ميتة فسيواجهون العجز أيضاً في

__________________________________________________

(1) تفسير الميزان، ج 17، ص 366؛ وتفسير الكبير، ج 27، ص 84.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 154

إدراك تنوع الحياة وكيفية ظهور الصور المختلفة لها.

ويُمكن القول باختصار: إنّ مُظهِر الحياة بصورها المختلفة ذو علمٍ لا محدود وقدرةٍ مطلقة، ويُعَدُّ ظهور أنواع الكائنات الحيّة أوضح دليلٍ على علم اللَّه عزّ وجلّ وقدرته العظيمة.

وكما تقدم فإنّ الحياة لها عدّة أقسام، ابتداءً من حياة النبات وحتى حياة الإنسان فصاعداً، وهذه الحياة المتنوعة لها آثار مختلفة أيضاً.

وعندما يصل العلماء إلى حياة الإنسان يقولون: هي الحالة المقرونة بالعلم

والشعور والقدرة والفعاليّة.

ومن الواضح إنّ علمنا وقدرتنا لا تمثل حقيقة الحياة، بل هي من مستلزماتها، لذا قد يكون الإنسان حياً من دون علمٍ وقدرةٍ.

ومن المسَّلم أنّ حياة الإنسان والتي هي من عوارض الجسم، لا يمكن تصورها للباري جل وعلا.

والتصور المقبول عن حياة الباري تعالى هو العلم اللا محدود وقدرته على كل شي ء، وبهما يمكن إثبات أعلى مفهومٍ للحياة له عزّ وجلّ.

2- الأدلة على حياته سبحانه

أ) اعتبر عامّة علماء الإسلام صفة الحياة من الصفات الإلهيّة المُسلمة، ووصفوه سبحانه بالحي القيّوم. وكما عرفنا آنفاً فإنّ الآيات القرآنية أكّدت هذا المعنى والمفهوم كِراراً بالرغم من أن للمفسرين تعابير مختلفة في تصوير حياة اللَّه سبحانه وتعالى.

وأكثرها وضوحاً ومقبوليّةً هو ماذكرناه آنفاً من كون حياة الباري تعني إحاطته بكل شي ءٍ علماً، واقتداره على فعل كُلّ شي ء، وإلّا فالحس والحركة ودقّات القلب والتنفُّس والتفكُّر وأمثال ذلك لا مفهوم لها بالنسبة إلى اللَّه عزّ وجلّ.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 155

ومن هنا يتضح الدليل على أنّه عز وجل حيٌّ وقيوم، لأنّه عندما يكون علم الإنسان المحدود وقدرته الحقيرة دليلًا على حياة الإنسان، فكيف بمن يكون علمه غير محدود وقدرته مطلقة؟ فلابدّ وأن تكون حياته أسمى وأكمل من غيره، بل الحياة عين ذاته.

ب) علاوةً على هذا، فهو سبحانه خالق الحياة، فهل يُمكن أن يكون واهب الشي ء مفتقر إليه!؟

وأمّا قيموميته التي قالوا في تفسيرها: (هو القائم بذاته المقوّم لغيره)، فهي أيضاً من صفاته الملازمة لوجوب وجوده وخالقيته وربوبيته سبحانه.

وقد عدّ البعض مسألة حفظ سائر الموجودات وإعطائهم جميع حاجاتهم ضمن مفهوم «القيّوم»، ولكنها لا تزيد على ما قُلناه بطبيعة الحال.

يقول المرحوم العلّامة «الطباطبائي» في تفسير «الميزان»: «اسم القيوم أمُّ الأسماء الاضافية الثابتة له تعالى جميعاً (صفات الفعل) وهي الأسماء

التي تدل على معان خارجة عن الذات بوجه، كالخالق والرازق والمبدأ والمعيد والمحيي والمميت والغفور والرحيم والودود وغيرها» «1»

.

وعليه يُعتبر ذِكر (ياحىُّ ياقيّوم) من الأذكار الإلهيّة الجامعة، لأنّ صفة (الحي) هي الأساس لجميع صفات الذات أي العلم والقُدرة، و (القيّوم) تضم جميع صفات الفعل.

نختم هذا الكلام بحديثٍ غني عن أمير المؤمنين علي عليه السلام حيث قال: «لمّا كان يوم بدرٍ جئتُ أنظر مايصنع النبيُّ فإذا هو ساجد يقول ياحيّ ياقيوم فتردّدتُ مرّاتٍ وهو على حاله لايزيد على ذلك إلى أن فتح اللَّه له» «2»

.

ومن هذا الحديث نفهم الآثار المفيدة والمباركة لهذا الذكر الشريف لذا قال أمير المؤمنين عليه السلام في الخطبة 160 من نهج البلاغة: «فلسنا نعلَمُ كُنه عظمتك إلّاإنّا نعلَمُ أَنّك حيُّ قيوم لا تأخذُكَ سِنَةٌ ولا نوم».

__________________________________________________

(1) تفسير الميزان، ج 2، ص 348.

(2) تفسير روح البيان، ج 1، ص 400، في ذيل آية الكرسي الآية 255 من سورة البقرة.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 157

ب) صفات الجلال للَّه سبحانه وتعالى (الصفات السلبيّة)

اشارة

نفحات القرآن، ج 4، ص: 159

تمهيد:

اشارة

يُعبَّر عن الصفات السلبيّة ب «صفات الجلال» عادةً، لأنّ اللَّه سبحانه (أجَلّ) من أن يوصف بمثل هذه الصفات التي تُعبّر جميعها عن وجود النقائص والعيوب.

وهذه الصفات تقع في مقابل «صفات الجمال» التي تدعى ب «الصفات الثبوتية» وتحكي عن جمال ومحاسن الذات الإلهيّة المقدّسة.

وبعبارة اخرى يمكن القول: بأنّ جميع الصفات السلبية مجموعة في هذه الجملة وهي (إنّ اللَّه مقدّس ومنزّه عن كل ألوان العيوب والنقائص وعوارض وصفات الممكنات).

وقد بُحثت أقسام مهمّة من هذه الصفات في علم الكلام بالإستلهام من الآيات القرآنية، منها:

إنّه تعالى ليس «مُركّباً».

ليس له جسم.

لا يُرى.

لا يسعه مكان أو زمان.

منزّه عن كل ألوان الفقر والحاجة.

ذاته ليست محلًا للحوادث والعوارض والتغيُّر والتحوُّل أبداً.

وصفاته عين ذاته لا زائدة عليها.

وعليه ينبغي من جهة طرح مسألة (صفات الجلال) بشكل كلّي وشامل، ومن جهةٍ أُخرى التحقيق في الصفات الحساسة بتفصيل أكثر.

بعد هذا التمهيد نتوجه إلى القرآن الكريم ونتأمل خاشعين في الآيات التالية:

نفحات القرآن، ج 4، ص: 160

1- «يُسَبِّحُ للَّهِ مَا فِى السَّماوَاتِ وَمَا فِى الأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ العَزِيزِ الْحَكيمِ».

(الجمعة/ 1)

2- «هُوَ اللَّهُ الَّذِى لَاإِلَهَ إِلَّا هُوَ المَلِكُ القُدُّوُسُ». (الحشر/ 23)

3- «سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ». (المؤمنون/ 91)

4- «سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ». «1»

(الصافّات/ 180)

شرح المفردات:

«القدوس»: صيغة مبالغة من مادّة «قدس»، وهي في الأصل بمعنى النزاهة والطّهارة، وكما قال صاحب (مقاييس اللغة): فإنّ سبب إطلاق هذه الصفة على اللَّه عزّ وجلّ هو لقداسة ونزاهة ذاته عن الأضداد والأكفّاء والصاحبة والولد.

ويُستنتج من كلام الراغب في (المفردات)، وابن منظور في (لسان العرب)، أنّ هذه الكلمة تُستعمل عادةً للتنزيه الإلهي أو لتطهير عباده، وحتى صاحب مقاييس اللغة يقول:

في الأغلب أنّ هذه الكلمة من المصطلحات الإسلاميّة الخاصّة.

وسُميت أرض (القادسيّة) بهذا الاسم

لأنّ إبراهيم الخليل عليه السلام دعا اللَّه عزّ وجلّ لتطهيرها وتقديسها.

ومن الجدير بالذكر أنّ الراغب يعتقد بأنّ هذه الكلمة تُستعمل فقط بخصوص التطهير المعنوي لا التطهير الظاهري وإزالة الخبائث.

وتقديس العباد للَّه تعالى بأن ينزهوه من كلِّ نقصٍ وعيبٍ.

و أمّا (التسبيح) وكما يقول بعض أرباب اللغة: فذو معنَيين:

الأول: النفي، وقد ورد في الآيات القرآنية بمعنى نفي كل ألوان العيوب والنقائص عن اللَّه تعالى.

__________________________________________________

(1) ورد هذا التعبير وكذلك تعبير الآية التي قبلها في ستة موارد في القرآن الكريم، حيث ينزه اللَّه تعالى عما يصفه به المشركون والجاهلون (الانعام، 100؛ الأنبياء، 22؛ المؤمنون، 91؛ الصافات، 159، و 180، الزخرف 82) ومضافاً إلى الآيات التي تشتمل على عنوان (تسبيح اللَّه) فكلها توضح مقصودنا، وقد ذكرنا منها نماذج مختلفة أعلاه.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 161

والثاني: بمعنى السباحة والتحرُّك السريع في الماء، (من مادّة سبح وسباحة).

ولكن يُمكن إرجاع كلا هذين المعنيَين إلى أصل واحدٍ وهو الحركة السريعة، سواءً في طريق العبادة والتعبُّد، وتنزيه وتقديس اللَّه تعالى عن كل عيبٍ ونقص، أو في الحركة السريعة في الماء، أو الهواء، أو على الأرض. لأنّ الحركة تقرّب الإنسان من شي ء وتُبعّده عن شي ءٍ آخر.

ففي الموقع الذي تعني فيه التنزيه عن العيب تأخذ جانب الابتعاد، وفي الموقع الذي تأتي فيه بمعنى السباحة وشق الماء والهواء تأخذ جانب التحُّرك «1».

جمع الآيات وتفسيرها

كل الخلائق تسج للَّه:

الآية الأولى من بحثنا واردة في تسبيح عامّة موجودات العالم، وهذا ما أكدته الكثير من الآيات القرآنية بتعابير مختلفة، ويُعتبر هذا البحث من البحوث القرآنية الطريفة جدّاً، قال تعالى: «يُسَبِّحُ للَّهِ مَا فِى السَّماوَاتِ وَمَا فِى الأَرْضِ المَلِكِ القُدُّوسِ العَزِيزِ الحَكْيِمِ».

فَلِسان حال الكون وأسراره المذهلة تحكي عن علم اللَّه تعالى اللامحدود وقدرته اللامتناهية وكماله المطلق، والجميع

يقدسون اللَّه عزّ وجلّ وينزّهونه وينفون عن ذاته المقدّسة كُلّ عيبٍ ونقص، لأنّ كل من ينظر إلى هذه الموجودات بدقّة يقف على عظمة خالقها ومديرها ومدبّرها.

ويعتقد جماعة من المحققين أيضاً أنّ موجودات العالم المختلفة تُسبح اللَّه تعالى حقيقة، وبلسان القال لا بلسان الحال فقط، لأنّ لكل نوعٍ منها حصّة من الإدراك والشعور والكيفية الخاصة لتقديس الباري تعالى، وما المانع في تحقُّق كلا الأمرين (لسان الحال والقال) في بيان هذه الحقيقة؟

لذا فإنّ كلمتي (يُسبّح) و (القدوس) في هذه الآية الشريفة تُعّدان كلاهما إشارة لطيفة

__________________________________________________

(1) مقاييس اللغة؛ مفردات الراغب؛ مصباح اللغة؛ لسان العرب؛ والتحقيق في كلمات القرآن الكريم مادّة (سبح).

نفحات القرآن، ج 4، ص: 162

إلى جميع صفات اللَّه تعالى السلبيّة، وهي من الأمور التي يشترك في ذكرها جميع موجودات عالم الوجود.

واستعمال صيغة الفعل المضارع المستمر في فعل (يُسبّح) يدل على استمرار وديموميّة هذا الأمر، منذ بدء الخلق وسيبقى حتى النهاية، ويجب أن يكون كذلك، لأنّ وجود الأفعال يُبيّن دائماً صفات الفاعل.

والطريف أنّ هذه الآية هي الآية الاولى من سورة الجمعة، وتُعدُّ مقدّمة لبيان فريضة صلاة الجمعة العباديّة السياسيّة. لأنّها تلفت أذهان الناس إلى كون مسألة العبادة والتقديس للَّه سبحانه برنامجاً عاماً ومستمراً من قبل جميع ذرات الوجود، وتحثهم على الإنضمام معها في هذا الذّكر، ومواكبة أمواج الوجود في هذا البرنامج المقدس، والخضوع لساحة الباري الحاكم القدوس والقادر الحكيم «1».

وفي الآية الثانية تجلّى هذا الكلام بلباسٍ آخر، فضمن تأكيدها على توحيد اللَّه تعالى وبيانها لبعض صفاته وأسمائه الحسنى، وصفته بصفة (القدّوس) المبينّة لجميع الصفات السلبيّة، قال تعالى: «هُوَ اللَّهُ الَّذِى لَاإِلَهَ إِلَّا هُوَ المَلِكُ القُدُّوسُ».

وكما أشرنا في شرح مفردات الآيات فإنّ (القدّوس) صيغة مبالغة للقداسة، وتعني منتهى

نزاهة الذات والصفات والأفعال والأحكام الإلهيّة من كلّ عيبٍ ونقص، وهي تعبير مختصر وغني جامع لجميع الصفات السلبيّة.

فهو ليس منزّه عن وجود نقصٍ في ذاته فحسب، بل إنّ إيجادَه وخَلقه وتكوينَه وتشريعَهُ منزّهٌ عن أي عيب ونقص أيضاً، لأنّها جميعاً تنبع من ذلك الكمال المطلق، ومن فيوضاته وإفاضاته سبحانه، وجميعها ذات صبغة إلهيّة، وجميعها كاملة.

__________________________________________________

(1) أوردنا في التفسير الامثل بحوثاً عديدة حول عموم التسبيح لموجودات العالم وبيان كيفية هذه المسألة المهمّة. راجع ذيل الآية 44 من سورة الإسراء، وذيل الآية 141 من سورة النور.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 163

أمّا الآية الثالثة، فبعد أن نَفت أيّ ولدٍ وكُفْ ءٍ عن الذات الإلهيّة المقدّسة قالت: «سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ».

وقد وردت هذه الجملة في آيات عديدة من القرآن الكريم، وجاءت لتنفي أيّ شريكٍ وكفْ ءٍ أو صاحبةٍ وولدٍ عن اللَّه عزّ وجلّ كما كان يعتقد ذوو الأفكار الضيقة، ولها معنىً واسع يشمل كل وصفٍ لا يليق بذاته وصفاته وأفعاله وأحكامه، بل يشمل كل وصفنا له أيضاً، لأننا وجميع المخلوقات الاخرى وبسبب اتصافنا بالنقصان والمحدودية، عاجزون عن فهم كنه صفاته، لذا نعجز عن شرحها في الوقت الذي نعرف صفاته المقدّسة بصورة إجماليّة.

وعليه فهو منزّه عن كل وصفنا لهُ ومنزّه عمّا يصف الواصفون: «سُبْحَانَ اللَّهِ عَمّا يَصِفُونَ».

وبذلك نجد في بعض الروايات الواردة عن الإمام الصادق عليه السلام وضمن بيانه المذهب الصحيح في التوحيد أنّه عليه السلام قال: «تعالى اللَّه عما يصفه الواصفون» «1».

ثم أكّد عليه السلام في ذيل نفس هذا الحديث على عدم التجاوز في وصف الباري عن الصفات التي وردت في القرآن الكريم.

وفي الآية الرابعة والأخيرة من بحثنا قال تعالى- وبكلامٍ مطلقٍ ومجرّدٍ عن أيّ قيدٍ وشرط-: «سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ

العزِّةِ عَمَّا يَصِفُونَ».

وكما قلنا: فإنّ هذا التعبير يُمكن أن يكون إشارة إلى تنزيه اللَّه عزّ وجلّ عمّا وصفه به ذوو الأفكار الضيّقة، فأحياناً يتخذون من المسيح ولداً له، وأحياناً اخرى يتخذون من الملائكة بناتٍ له! وأحياناً كانوا يعتقدون بوجود صلة قرابة بينه وبين الجن، وأحياناً كانوا يُعرّفون الأصنام كشركاء وأكفّاء له أو شفعاء عنده، وأحياناً كانوا يصفونه بأوصاف الأجسام المادّية.

__________________________________________________

(1) اصول الكافي، ج 1، ص 100، باب النهي عن الصفة بغير ماوصف به نفسه، ح 1.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 164

وبعبارة اخرى إنّ هذه الآية الشريفة تنفي عنه جميع هذه الأوهام الخاطئة وتبطلها.

ويمكن أن يكون المقصود هو تنزيهه سبحانه عن كل وصف صادر من أي أحدٍ، لأنّ البشر لا يقدر على إدراك كُنه صفاته، كما أنّه عاجز عن إدراك كنه ذاته.

ويتضح من مجموع هذه الآيات أنّ الذات الإلهيّة منزّهة عن أي صفةٍ تحمل أقل درجة من النقصان، أو أدنى عيب.

ومعرفتنا بالصفات الثبوتية الإلهيّة إنّما هي بقدر طاقاتنا وقدرتنا لا بقدر مايليق بالذات الإلهيّة المقدّسة.

وهذا التنزيه مضافاً إلى شموله لذات الباري وصفاته، فإنّه يشمل أحكامه وتشريعاته أيضاً، فكُلُّها منزّهة عن النقصان والعيب، لأنّها نابعة من ذاتٍ هي عين الكمال والكمال المُطلَق.

توضيح

«التشبيه» من أعظم الذنوب!

إنّ تنزيه وتقديس الباري تعالى عن صفات المخلوقين المشوبة بالنقائص دائماً، هو ماأكدّنا عليه كِراراً، وهو ما حثّتْ عليه الأحاديث الإسلاميّة بصورةٍ مستمرة، لأنّه لا يُمكن التوصُّل إلى حقيقة معرفة اللَّه تعالى بدونه، أو بتعبيرٍ آخر سيكون التوحيد مقترناً مع الشرك.

ومن جهةٍ اخرى فإنّ فصل الصفات «الثبوتية» عن «السلبية» يحصل في افق أذهاننا فقط، وإلّا فالذات الإلهيّة المقدّسة حقيقة واحدة، فقد ننظر إليها من زاوية الوجود فنرى كماله المطلق، وعلمه المطلق، وقدرته المطلقة سبحانه،

وأحياناً من زاوية نزاهتها عن الحاجة والنقص، فنراها منزّهة عن الجهل والعجز، وكل ألوان النقصان.

لذا فعدم معرفة الصفات السلبيّة يؤدّي إلى عدم معرفة الصفات الثبوتيّة، ونقصان المعرفة في مرحلة يؤدّي إلى نقصانها في مرحلةٍ اخرى.

وفي هذا المجال لابدّ لنا من التوجه إلى بعض الإشارات الواردة في الأحاديث الإسلامية التالية:

نفحات القرآن، ج 4، ص: 165

1- قال أمير المؤمنين علي عليه السلام في بداية خُطبةٍ له: «لايَشْغَلُهُ شَأْنٌ وَلا يُغَيّرُهُ زَمانٌ وَلا يَحْويهِ مَكانٌ وَلا يَصِفهُ لِسانٌ» «1».

2- وقال عليه السلام في خطبةٍ اخرى ضمن إشارته إلى عجز الإنسان عن فهم المسائل المرتبطة بالحياة والموت: «كَيْفَ يَصِفُ إلهَهُ مَنْ يَعْجَزُ عَنْ صِفَةِ مَخْلُوقٍ مِثلِهِ؟» «2».

3- وورد في حديثٍ أنّ رجُلًا من أصحاب الإمام الصادق عليه السلام سأل الإمامَ عليه السلام: أخبرني أي الأعمال أفضل؟ فأجابه عليه السلام: «تَوْحِيدُكَ لِربّكَ» فسأل الرجل: «فما أعظم الذنوب»؟

فقال عليه السلام: «تشبيهك لخالقك!» «3».

4- وورد في حديثٍ آخر عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «إنّ اللَّه تبارك وتعالى لا يوصف بزمانٍ ولا مكانٍ ولا حركةٍ ولا انتقال ولا سكون بل هو خالق الزمان والمكان والحركة والسكون والإنتقال، تعالى عمّا يقول الظّالمون علوّاً كبيراً» «4».

5- وورد أيضاً في حديثٍ آخر عن أمير المؤمنين عليه السلام في تفسير صفة (الصمد) أنّه قال:

«تأويل الصَّمدِ لا إسم ولا جسم ولا مثلَ ولا شبه ولا صورة ولا تمثالَ ولا حدَّ ولا حدود ولا موضعَ ولا مكان ولا كيف ولا أينَ ولا هنا ولا ثمةَ ولا ملأ ولا خلأ، ولا قيام ولا قُعود، ولاسكون ولا حركة، ولا ظلماني ولا نوراني، ولا روحاني ولا نفساني ولا يخلو منه موضع ولا يسعهُ موضعٌ ولا على لون، ولا على

خطرِ قلْبٍ، ولا على شمِّ رائحة، منفيٌ عنه هذه الأشياء» «5».

ولا يخفى أنّ المقصود من نفي الاسم عن اللَّه سبحانه هو نفي أسماء المخلوقات.

وبهذه المعرفة الإجمالية التي حصلنا عليها عن الصفات السلبيّة ننطلق إلى معرفتها بالتفصيل.

__________________________________________________

(1) نهج البلاغة، الخطبة 178.

(2) المصدر السابق، الخطبة 112.

(3) بحار الأنوار، ج 3 ص 287.

(4) المصدر السابق، ص 309، ح 1.

(5) المصدر السابق، ص 230، ح 21.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 167

1 و 2- نفي الرؤية والجسميّة

تمهيد:

مر علينا قسم من الصفات السلبية في مباحث التوحيد ضمن بيان وحدانية الذات الإلهيّة وبساطة وجوده تعالى، ونفي الجزئية والتشبيه عنه.

إنّ الموضوع الأكثر أهميّة في هذا البحث والذي صار معرضاً للنقاش والجدل على مرِّ تاريخ علم الكلام، هو المسائل التي سنطرحها في هذا الفصل.

ومنها: إنّ اللَّه عزّ وجلّ ليس له جسم ولا يمكن رؤيته، ولا يسعه محل ومكان، وهذه الصفات السلبيّة الثلاثة متلازمة، أي لو كان مرئياً لاستلزم أن يكون له جسمٌ ومكانٌ، وإن لم يكن له مكان لم يكن جسماً حتماً، ولم يكن مرئياً بطريق أولى

وإدراك هذاالمفهوم وهو أن اللَّه تعالى لا يُمكن أن يكون من سنخ الأجسام- بإلالتفات إلى دلائل معرفة اللَّه تعالى لا يُعدُّ مسألةً معقّدة، ولكن، وبسبب بحث ذوي الأفكار الضيقة، واولئك الذين لم تخرج عقولهم عن إطار الحس فيبحثون غالباً عن إله جسمانيّ، كان لعقيدة جسمانية اللَّه مؤيدون في الأقوام الماضية، وحتى من قبل جماعة من المسلمين «القشريين المتحجرّين».

لذا فقد أكّد القرآن الكريم على مسألة نفي الجسميّة والمكان والجهة عن اللَّه سبحانه وتعالى.

بهذا التمهيد. ننطلق إلى القرآن الكريم لنتأمل خاشعين في الآيات القرآنية التالية:

1- «لَّاتُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ». (الأنعام/ 103)

2- «وَلَمَّا جَآءَ مُوْسَى

لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِى أَنْظُرْ الَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِى وَلَكِنِ

نفحات القرآن، ج 4، ص: 168

انْظُرْ إِلى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِى فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوْسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤمِنِينَ».

(الأعراف/ 143)

3- «يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابَاً مِّنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوْسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنَ بَعْدِ مَاجَاءَتْهُمُ البَيِّناتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مُّبِيناً». (النساء/ 153)

4- «وَقَالَ الَّذيِنَ لَايَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَو نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسَتْكبَرُوا فِى أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوّاً كَبِيراً». (الفرقان/ 21)

جمع الآيات وتفسيرها

العين لا تُطيق مشاهدة جماله:

ورد في الآية الأولى من البحث بصراحة: «لَاتُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ»، ثم تضيف: «وَهُوَ الْلَّطِيفُ الْخَبِيرُ».

وعليه فإنّ هذه الآية تنفي كل إمكانيةٍ لرؤيته تعالى سواء في هذا العالَم أَم في العالَم الآخر.

وبديهي أنّ المقصود من معنى (لا تدركه الأبصار) هو عدم قدرة البشر على رؤيته بواسطة العين، وجَلّيٌ أيضاً أنّ كلمة (الأبصار) وردت بصيغة الجمع هنا من أجل التعميم والشمول لتشمل أي عينٍ مهما كانت قدرتها البصريّة شديدة.

وبالرغم من الصراحة التامة الموجودة في تعبير هذه الآية في بيان المقصود، نُلاحظ أنّ «الفخر الرازي» ومؤيديه استدلّوا بهذه الآية على إمكانية رؤية اللَّه، وتشبثوا لإثبات هذا المدّعى بتعابير واهية ومضحكة.

فقد قال الفخر الرازي في بعض كلامه في ذيل الآية أعلاه: «استدل أصحابنا بهذه الآية لإثبات إمكانية رؤية اللَّه يوم القيامة بطرق متعددة منها!!

نفحات القرآن، ج 4، ص: 169

1- إنّ قول القرآن الكريم (لا تدركهُ الابصار) يفيد المدح وثبت أنّ ذلك إنّما يفيد المدح لو كان صحيح الرؤية، وهذا يدل على أنّ قوله تعالى:

(ولا تدركهُ الابصار) يفيد كونه تعالى جائز الرؤية، وتمام التحقيق فيه أنّ الشي إذا كان في نفسه بحيث تمتنع رؤيته، فحينئذٍ لا يلزم من عدم رؤيته مدح وتعظيم للشي.

وبعدما ثبتت إمكانية رؤية اللَّه يجب التسليم بأنّ هذه المسألة تحدث في يوم القيامة! لأنّه ليس لدينا سوى رأيين حول هذه المسألة:

الأول: جواز الرؤية مع أنّ المؤمنين لا يرونه ولا تجوز رؤيته مطلقا فأمّا القول بأنّه تعالى تجوز رؤيته مع أنّه لا يراه أحد من المؤمنين فهو قول لم يقل به أحد من الامة فكان باطلًا.

فثبت بما ذكرنا أن هذه الآية تدل على أنّه تعالى جائز الرؤية في ذاته.

الثاني: لا يرى بالعين وإنّما يرى بحاسة سادسة يخلقها اللَّه تعالى يوم القيامة.

الثالث: قوله: (لا تُدركه الأبصار) يفيد أنّه لا يراه جميع الأبصار فهذا بعينه سلب العموم ولا يفيد عموم السلب» «1».

كان ذلك قسماً من استدلالاته بصورة ملخصة وموجزة، والحق أنّه يَبعث على الأسف في أن يحوك مفسّر مثلهُ ويخلط المسائل مع بعضها بصورة محيّرة، على الرغم من قدرته الفكريّة، عندما يتورط في أسر التعصُّبات الطائفيّة ويستدلُّ من دليلٍ واضحٍ على ضدّه!

ونحن لا نرغب أبداً في ذكر مثل هذه التعابير بشأن أي أحدٍ، ولكن لو شاع هذا الاسلوب، أي أن يتشبث الإنسان لإثبات مطلبٍ معين بأمورٍ تدل بالضبط على عكس ذلك المطلب، ويستدل بكل شي ء لإثبات كل شي ء لتعرضت الحقائق للاندثار والضياع، ولأمكن إيجاد استدلالٍ قرآنيٍّ لأي موضوع، ولذا كان لابدّ لنّا من الحديث بهذه الطريقة، ولزيادة توضيح هذا البحث نتطرق إلى رد تلك الاستدلالات الثلاثة المذكورة أعلاه.

أولًا: إننا نمدح اللَّه تعالى بصفات سلبية كثيرةٍ وجميعها محال بشأنه، كقولنا بأنّ اللَّه لايفنى ولا يهلك أبداً «كُلُّ شَى ءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ»،

ومن المُسَلَّم به أنّ هلاك واجب الوجود

__________________________________________________

(1) تفسير الكبير، ج 13، ص 125 و 126.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 170

محال، فهل يُمكن أن يستدل أحد بها على إمكانية هلاك وفناء اللَّه تعالى؟ بحجة أنّه لو كان محالًا لما صحّ مدحه بعدم الهلاك كما يدّعي: فهل يتفوّه عاقل بمثل هذا!؟

وكذلك مدح القرآن للَّه تعالى بتنزيهه عن الأب والصاحبة والولد والشريك: «أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ». (الأنعام/ 101)

وقال سبحانه: «لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ». (التوحيد/ 3)

وعلى هذا الأساس فإنّ جميع الصفات السلبية أمور محالة بشأن اللَّه تعالى، لأنّها من صفات الممكنات، واللَّه واجب الوجود.

ثانياً: لايوجد في الآية المذكورة أي إشارة إلى الحاسة السادسة وما شاكلها، ولا تدخل في إطار أيٍّ من المفاهيم المعروفة الموجودة في كتب الأصول، إذن فليس اثبات الشي بمعنى نفي غيره، ولا نفي الشي ء يثبت شيئاً آخر، وعليه فإذا قالت الآية: «لا تدركه الأبصار» فليس مفهومها: إمكانية رؤية اللَّه بواسطةٍ اخرى!

علاوةً على ذلك فما هو المقصود من الحاسة السادسة؟

فإن كان المقصود منها المشاهدة القلبيّة والرؤية بعين العقل فلا أحد يُنكرها، ولا علاقة لها بالرؤية البصريّة، وإن كان المقصود شيئاً آخر فينبغي توضيحه وتشخيصه ليُمكن بحثه، لأنّ التكلّم في موضوعٍ مبهمٍ وغير مفهومٍ يعتبر لغواً.

ثالثاً: إنّ قول الآية: «لا تدركه الأبصار» معناه عدم قدرة أي بصرٍ على رؤيته، وهو من قبيل (العموم الإفرادي)، ويمر علينا مثل هذا التعبير في كلامنا اليومي بكثرة، كقولنا لا تطوله الأيدي، أو: لا يعرف الناس قَدرَهُ، أي، أيّ يدٍ وأيّ إنسان.

كما ورد في بعض الأدعية: «كلّت الألسُنُ عن غاية صفته، والعقول عن كُنه معرفته» «1»

.

وكذلك نقرأ في نهج البلاغة: «وأعجز الألسُنَ عن تلخيص

صفته» «2».

والحاصل أنّ دلالة الآية على عدم امكان الرؤية واضح جدّاً ولا يمكن باي سفسطة اتخاذها دليلًا على إمكان الرؤية.

__________________________________________________

(1) دعاء يوم الأثنين للإمام السجاد عليه السلام.

(2) نهج البلاغة، الخطبة 165.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 171

ياموسى ارنا اللَّه جهرة!

تحدثت الآية الثانية عن القصة المعروفة لبني إسرائيل الذين ألحّوا على موسى عليه السلام ليريهم اللَّه تعالى، فأخذهم موسى بأمرٍ من الباري عزّ وجلّ إلى جبل (طور) ليحصلوا على جواب ماسألوا، فحدثت هناك حادثة عجيبة انكشفت فيها جميع الحقائق المرتبطة بهذا الموضوع.

قال تعالى: «وَلَمَّا جَآءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ». فسمع موسى عليه السلام هذا الجواب الجلي الواضح من ربّه: «قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي».

فنظر موسى عليه السلام وسبعون رجُلا" من بني اسرائيل، الذين كانوا معه إلى الجبل فتجلّى اللَّه للجبل: «فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً».

وكذلك الحال بالنسبة لمن معه من بني اسرائيل: «فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُؤمِنِينَ».

ولتكملة تفسير هذه الآية ينبغي الإجابة هنا عن عدّة أسئلة:

الأول: إذا كانت مشاهدة جمال اللَّه مُحالةً (كما يُستنتج من عبارة «لَنْ تَرَانِي» فَلِمَ سأل موسى ربّه الرؤية مع أنّه كان رسولا"؟

يُمكن الإجابة عن هذا السؤال بسهولة وذلك بالإستعانة بآياتٍ قرآنيةٍ اخرى، وهو: إنّ هذا السؤال صدر من جُهلاء بني إسرائيل الذين كانوا يُشكلون الأغلبية، كما نجد في القرآن الكريم أنّ موسى عليه السلام قال بعد هذه الحادثة مخاطباً ربّه: «أَتُهلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا»؟

(الأعراف/ 155)

فيُستنتج من هذا التعبير أنّ هذا السؤال لم يصدر من موسى عليه السلام، بل قد تعرض لضغوط أجبرته على طرح سؤال أولئك الجهلاء ليحصل لهم

على جواب من ربّه وكذلك لألقاء الحجة عليهم.

ويستفاد بوضوح من قوله تعالى «يَسْأَلُك أَهْلُ الكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِم كِتَابَاً مِّن السَّمَاءِ

نفحات القرآن، ج 4، ص: 172

فَقَد سَأَلُوا مُوسَى أَكبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهرَةً فَأَخَذَتهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلمِهِم».

(النساء/ 153)

و قال أيضاً: «وَإِذْ قُلتُم يَا مُوسَى لَن نُّؤمِنَ لَكَ حَتّى نَرَى اللَّهَ جَهرَةً فَأَخَذَتكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُم تَنْظُرُونَ». (البقرة/ 55)

إنّ تعنت سفهاء بني اسرائيل هو الذي دفعهم لتوجيه مثل هذا السؤال إلى موسى عليه السلام وكان عليه السلام قام بنقل سؤالهم فقط، ليسمعوا الجواب الإلهي الرادع.

وإن أصّر أمثال الفخر الرازي على كون هذا السؤال قد صدر من موسى عليه السلام فاستفاد منه الفخر الرازي إمكانية رؤية اللَّه تعالى البصريّة، حيث يقول: «وإلّا لما سأل رسول عظيم كموسى عليه السلام مثل هذا السؤال»، فهو إصرار في غير محلّه، وقد أبطلته الآيات أعلاه بوضوح.

عجيب حقّاً، فبالرغم من أن الآية الشريفة تصرح: (لن تراني) وكون (لن) أداة للنفي الأبدي، أي إنّك لن تراني أبداً، وعدّت الآية هذا السؤال من قبل بني إسرائيل تعدّياً ووقاحةً، وأنذرت بالصاعقة عقاباً عليه، مع كلّ ذلك نجد أنّ جماعة من المتعصبين يُصرون على عدم دلالة الآية بأي شكلٍ على نفي رؤية اللَّه، بل بالعكس!

ويجب الإعتراف أنّ آفة التعصُّب آفة عجيبة بامكانها أن تحط حتى من مستوى عالمٍ كبير إذا أُصيب بها وتجعله يتوسل بأدلة غير منطقية وبعيدة عن العقل والصواب.

والنقطة الاخرى: هي أنّ المقصود من التجلي الإلهي في هذه الآية هي (الصاعقة) بذاتها، والتي تُعد مخلوقاً من المخلوقات، وشُعاعاً من الأفعال الإلهيّة، وهي كناية عن أنّكم إذا لم تقدروا على رؤية الصاعقة التي تُعد شرارة صغيرة في هذا الوجود العظيم وما لها من تأثير عليكم،

حيث تكون مصحوبة بالهول والرعب، فهي قادرة على أن تصرعكم جميعاً، وتدكّ الجبل، وتزلزل الأرض. فكيف تُريدون رؤية الذات الإلهيّة المنقطعة النظير؟!

والحقيقة إنّ التجلي الإلهي كان إجابةً وعقوبةً لهم في نفس الوقت!

وآخر الكلام هو: لماذا طلب موسى عليه السلام التوبة من الباري بعد أن أفاق؟

إنّ هذا الطلب يُمكن أن يحملَ على احتمالين:

الأول: كما أنّ طلب موسى عليه السلام الرؤية كان نيابةً عن بني اسرائيل فإنّ طلبه التوبة من

نفحات القرآن، ج 4، ص: 173

الباري كان نيابةً عن قومه أيضاً.

الثاني: أنّ موسى عليه السلام كان يخشى من أنّ هذا المقدار من (النيابة عن بني اسرائيل) يُمكن أن يؤثر سلبياً على إيمانه وقدسية اعتقاده، لذا فانّه أعلن توبته وإيمانه لتسمو قداسته قدر الإمكان.

وكذلك نجد أنّ الفخر الرازي غرق في دوّامة تعصُّبه أيضاً، ولم ينكر دلالة الآية على استحالة رؤية اللَّه تعالى فحسب، بل أصّر في قوله على أنّ جوانب عديدة من الآية تدل على إمكانية الرؤية! ثمّ أدرج أموراً لا تستحق صرف الوقت لعرضها من جهة، ولا هي أهلًا للإجابة عليها من جهةٍ أُخرى؟ وقد لاحظتم نماذج منها في تفسيره للآية الماضية.

ويتضح تفسير الآية الثالثة من خلال تفسير الآية الثانية، ولزيادة التوضيح نضيف: إنّ اللَّه سبحانه وتعالى عَّد طلب بني اسرائيل الذين قالوا لموسى عليه السلام: «أَرِنَا اللَّهُ جَهْرَةً» ذنباً عظيماً وظلماً فاحشاً؟ وإنّه الذنب الذي أعقبه نزول العذاب الإلهي، لذا قال اللَّه تعالى: «يَسأَلُكَ أَهْلُ الكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيهِم كِتَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَقَد سَأَلُوا مُوسَى أَكبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ».

ماذا ارتكب اليهود من ظلم في هذا المجال؟ إنّهم اعتبروا ربّهم العظيم بمستوى موجودٍ جسماني مادّي، وطلبوا مشاهدته.

وبسبب اساءتهم الأدب في اعتبارهم هذا

أخذتهم الصاعقة لتكون عقوبةً وعبرةً لهم في نفس الوقت، وليعلموا أنّهم عندما لا يقدرون على مشاهدة هذا المخلوق الإلهي الصغير الذي لا يساوي أكثر من شرارةٍ في عالم الوجود العظيم، فكيف يُريدون مشاهدة خالق الشمس والقمر والنجوم وعالم الوجود!؟

إنّ هذه المسألة يستطيع كل واحدٍ أن يتوصل إليها بدون أن يطالع ويُحقق في قرائن الآية.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 174

وما ورد في بعض كلام (الأشاعرة) أنّ هذا التوبيخ والعقاب الذي نزل بهم كان بسبب طلبهم هذا الشي من اللَّه تعالى في الدنيا، مع كون الآخرة هي محل المشاهدة! «1» يُعدُّ كلاماً ضعيفاً جدّاً.

لأنّ التفاوت الموجود بين الدنيا والآخرة في مثل هذه الموارد موضوع لا يستحق التوبيخ والعقاب، ولحن الآية يدل على أنّهم قد ارتكبوا إساءة فظيعة تجاه ساحة القدس الإلهيّة، وهي وصفهم الذات الإلهيّة بصفة لا تليق به سبحانه، بل هي خاصّة بالممكنات، وإنّهم سلكوا طريق الشرك.

وأمّا ماهو مقصود أهل الكتاب بطلبهم إنزال كتاب من السماء عليهم؟ فهناك تفاسير متعددة:

قيل: إنّ مقصودهم هو الإستهانة بالقرآن، وسألوا الرسول أن يُنّزل عليهم ألواحاً كالألواح التي نزلت على موسى عليه السلام.

وقيل: إنّهم كانوا يريدون كتاباً خاصّاً بهم أو برؤسائهم وكبرائهم!

وقيل أيضاً: إنّهم كانوا يريدون كتاباً خاصّاً من اللَّه تعالى يدعوهم إلى الإيمان بالرسول الأكرم صلى الله عليه و آله.

وأيّا كان من هذه المعاني فإنّه يدل على عنادهم والحاحهم وعدم تسليمهم للحق، وبديهي أنّ مثل هذا الطلب يستحق التوبيخ والعقوبة.

عدم امكانية رؤية اللَّه!

وأمّا الآية الرابعة والأخيرة فقد وبّخت وبشدة اولئك الذين سألوا الرؤية.

قال تعالى: «وَقَالَ الَّذِينَ لَايَرجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا المَلَائِكَةُ أَو نَرَى رَبَّنَا». إنّ استكبارهم وعدم إيمانهم بالمعاد كان وراء طلبهم هذين الأمرين، ثم يضيف تعالى: «لَقَدِ

__________________________________________________

(1) تفسير الكبير،

ذيل الآية 55 من سورة البقرة.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 175

استَكبَرُوا فِى أَنفُسِهمِ وَعَتَو عُتوّاً كَبِيراً».

فهم قد سألوا أحد أمرين: إمّا نزول الملائكة عليهم أو رؤية اللَّه عزّ وجلّ، والمقصود من الملائكة هو ملك الوحي جبرائيل، أي أن ينزل عليهم بصورة مباشرة بدلا" من رسول الإسلام محمّد صلى الله عليه و آله، أو أن ينزل عليهم ليشهد على صدق الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله!

وقد نزل الجواب القرآني على شطرين أيضاً، والذي يُعتقد بأنّ الأول يخص سؤال نزول الملائكة فيقول: «لَقَدِ استكبَرُوا فِى أَنفُسِهِم» بسؤالهم هذا.

والشطر الثاني يخص سؤال رؤية اللَّه حيث قال: «وَعَتَوْ عُتُوّاً كَبِيراً».

وأيُّ عتّوٍ أكبر من مقارنة الذات الإلهيّة الفريدة بالأجسام الماديّة والموجودات الممكنة الوجود، وجعلها عُرضةً للزمان والمكان والعوارض الجسمانيّة؟

ويشير لحن الآية بوضوح إلى عدم إمكانية رؤية اللَّه عزّ وجلّ، لأنّه لو كان ممكناً لما كان هنالك خلل وإشكال في سؤالهم ذاك.

النتيجة:

يُستفاد من مجموع الآيات المذكورة عدم إمكانية رؤية اللَّه عز وجل بأي شكل، على خلاف عقيدة البعض الذين يقولون: إنّ مراد هذه الآيات هو الحياة الدنيا ولا يشمل الآخرة).

فالآيات التي ذُكرت ذات مفهومٍ واسع وعميق يشمل كلا الحياتَين، ولحنها يدل على استحالة تحقق هذا الأمر، والمحال محال في كليهما. (فتأمل جيداً).

توضيحات

1- لماذا تستحيل رؤية اللَّه تعالى؟

إنّ الدلائل العقليّة الواردة في الآيات الآنفة الذكر أثبتت بأنّ المرئيّ أو المُشاهَدَ لابدّ انْ يحدد بمكان وزمان وجهة، وهذه الامور غير ممكنة بشأن الباري سبحانه. لأننا نعلم بأنّ

نفحات القرآن، ج 4، ص: 176

لكل جسمٍ أجزاء، علاوةً على خضوع جميع الأجسام للتغيُّر والتحوُّل، وكونها ذات عوارض كاللون والحجم والأبعاد.

في حين أنّ واجب الوجود ليس لَهُ جزء، وغير خاضع للتغيُّر والتحول؟ ولا يقع محلًا للحوادث، ولا يعترضُه شي ء، فجميعها من صفات الممكنات.

قال بعض مؤيدي عقيدة إمكانية الرؤية في مقابل هذا الاستدلال: (ليس لدينا أي دليلٍ على كون الرؤية البصرية مخصوصة بالأجسام؟ فما المانع في أن تُرى الأمور غير الماديّة بالعين؟ وخاصةً إذا ما تغيرت القدرة البصريّة وصارت بمستوى أقوى ممّا هي عليه الآن؟

إنّ بُطلان هذا الكلام بيّن، لأنّ الرؤية البصريّة ذات حالة ماديّة، وهذا الأمر المادي يتعلق بالأمور الماديّة حتماً، وليس من المعقول أن يرى الإنسان ما وراء المادّة بالوسائل الماديّة.

يقول العلامة الطباطبائي رحمه الله حول هذه المسألة في تفسير الميزان: «الرؤية البصرية سواءً كانت على هذه الصفة التي هي عليها اليوم أو تحولت إلى أيّ صفة اخرى، هي معها مادية طبيعية متعلقة بقدر وشكل ولون وضوء تعملها أداة مادية طبيعية فانّها مستحيلة التعلق باللَّه سبحانه في الدنيا والآخرة» «1».

علاوةً على هذا فالآيات القرآنية صرحت: «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْ ءٌ». (الشورى/ الآية 11)

لذا فهو ليس له

شبهٌ بالأجسام الماديّة؟ وليس شيئاً مادياً يمكن مشاهدته، فلا يحدّه مكان ولا زمان، ولا يمكن الإشارة إليه بشكل محسوس.

2- منطق القائلين بامكانية الرؤية

انقسم المسلمون في مسألة رؤية اللَّه إلى ثلاث طوائف:

الطائفة الأولى: التي انضمّ إليها الفلاسفة والمحققون العظام، حيث تعتقد بأنّ رؤية اللَّه أمر محال مطلقاً.

__________________________________________________

(1) تفسير الميزان، ج 8، ص 269.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 177

الطائفة الثانية: وهم المجسّمون الذين يعتقدون بأنّ للَّه جسماً، وعليه يُمكن رؤيته.

الطائفة الثالثة: وهم جماعة (أبو الحسن الأشعري) «1»: أحد متكلمي القرن الثالث، ولهم كلام عجيب حول هذه المسألة، فهم يقولون: «بالرغم من أنّ اللَّه عزّ وجلّ مجرّد عن الجسميّة والمادّة ولكن يُمكن رؤيته، وهذه الرؤية تتحقق في الآخرة فقط، لا في الدنيا، فهنالك يرى المؤمنون اللَّه تعالى بالعين المجردة!».

يقول (فاضل القوشچي) في (شرح تجريد العقائد للشيخ الطوسي): «اعتقد الأشاعرة بإمكانية رؤية اللَّه، فالمؤمنون يرونه في الجنّة؟ لكنها رؤية منزهة عن المقابلة وخالية من الجهة والمكان.

ثم أضاف: اتفق جميع القائلين باستحالة الرؤية البصريّة على أنّ الانكشاف العلمي التام ممكن (إمكانية رؤيته تعالى بعين العقل والقلب)، هذا من جهة، ومن جهةٍ اخرى اتفق القائلون بامكانية الرؤية البصرية أيضاً على استحالة تشكُّل صورة الباري تعالى في عين الإنسان، أو رؤيته بواسطة الاشعة الخارجة من العين» «2».

ويجدر الأنتباه إلى وجود رأيين بين الفلاسفة الماضين حول حقيقة الرؤية، فجماعة كانوا يؤيدّون خروج الشعاع ويقولون: الرؤية هي خروج شعاعٍ من عين الإنسان ووصوله إلى الشي ء المرئي فيراه الإنسان).

وجماعة آخرون اعتقدوا بأنّ حقيقة الرؤية هي تشكل صورة المرئي في العين، ونحن نعلم أنّ علماء العلوم الطبيعيّة اليوم يؤيدون النظريّة الثانية، وأثبتوها بأدلّةٍ حسيّة وقالوا:

(إنّ تركيب العين من هذه الناحية يشبه بالضبط آلة التصوير، فلابدّ أن ينعكس النور

__________________________________________________

(1) كان اسمه على بن اسماعيل، ويرجع نسبه إلى أبي موسى الأشعري، ولدَ في البصرة عام 260 أو 270، وفي البداية كان يميل إلى مباني مذهب المعتزلة، ثم عدل إلى مذهب اللَّه ومخلوقية القرآن، وابتدع مذهباً جديداً في أصول الدين كان أقرب إلى ذهن العامة وأكثر استحساناً من قبل المتعصبين، لذا فقد اعتنق الكثير مذهبه، وسلك طريقه جمع من العلماء كالغزالي وأبي بكر الباقلاني والفخر الرازي والشهرستاني وأبي اسحاق الشيرازي وقام بترويج عقائده بعض أرباب السلطة الذين اتخذوا من الدين وسيلةً لنيل مآربهم السياسيّة أمثال الأيوبيين في مصر والشام والموحدين في المغرب. (دائرة المعارف، أبو الحسن الأشعري- بتلخيص بسيط).

(2) شرح القوشچي، ص 435 و 436.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 178

الخارجي عن الجسم المرئي ليدخل العين أو آلة التصوير فتطبع صورتهُ على شبكيّة العين أو فلم التصوير).

والعجيب أنّ الأشاعرة في مقابل هذا الكلام- وهو عدم إمكانية أي واحدٍ من المعنيَين المذكورين للرؤية بالنسبة إلى اللَّه عزّ وجلّ المجرّد عن المادة- يقولون: لا تنحصر الرؤية بهذه الأمور، خصوصاً عندما يدور الكلام حول رؤية الأمور الغيبيّة أو الغائبة!

فيمكن أن يرى الأعمى الأشياء التي تبعد عنه بفاصلة مكانية كبيرة، فمثلا" يُمكن أن يرى عمارات الأندلس من هذه النقطة من العالَم!!

تدل هذه التعابير بوضوح على المغالطة اللفظية التي يستعملها هؤلاء، واعتبارهم للرؤية مفهوماً مغايراً لما هو موجود في العرف واللغة.

فانْ كان مقصودهم من الرؤية، الرؤية بعين القلب (البصيرة) والإدراك العقلي، فهذا مااتفق عليه جميع العلماء ولا حاجة للجدال والمناقشة فيه.

وإن كان مقصودهم هو الرؤية بالعين الظاهريّة، فهو لا يتحقق سوى بانعكاس نور الأجسام على شبكية العين.

وإن كان هناك نوع ثالث من الرؤية، فهو ادّعاءٌ مبهم، وغير معقول، وغير قابل للتصوّر،

نعلم أنّ التصديق بلا تصوُّ ر أمر محال.

ويظهر أن الأشاعرة تخلّوا عن ادّعائهم تدريجياً عندما عجزوا عن الإتيان بدليلٍ واقعي، واقتصروا على استعمال لفظ الرؤية فقط من دون أن يكون لها مفهومٌ غير المشاهدة بعين العقل، لأننا عندما نقول: إنّ رؤية اللَّه مجرّدة عن المكان والجهة وانعكاس صورة المرئي في العين، وأنّ مثل هذه الرؤية قد تتحقق حتى عند الأعمى أيضاً، فإنّها لا تعني سوى الرؤية الباطنية والقلبية.

والاغرب من ذلك هو أنّ البعض منهم قد جعلوا المسألة أكثر غموضاً فقالوا: إنّ اللَّه يهب للمؤمنين حاسة سادسةً يوم القيامة ليتمكّنوا من رؤيته بها!

وبغض النظر عن كون التعبير بالحاسة السادسة تعبيراً مبهماً وغامضاً، فإنّه لا يحل

نفحات القرآن، ج 4، ص: 179

مشكلة المشاهدة والرؤية، ولا يصحُّ استعمال لفظ الرؤية هنا سوى بالمعنى المجازي.

والسبب الذي أدى بالأشاعرة وأمثالهم إلى الاعتقاد بمسألة رؤية اللَّه يوم القيامة هو التقيُّد ببعض الروايات التي يوهم ظاهِرُها بشي ءٍ من هذا القبيل، وسنتعرض لها في البحث الذي يلي هذا البحث إن شاء اللَّه.

3- الروايات الدالّة على انتفاء رؤية اللَّه

هنالك روايات وردت في نهج البلاغة، وكذلك سائر مصادر علوم أهل البيت عليهم السلام تُصرّح بانتفاء رؤية اللَّه تعالى بالعين الظاهريّة، وتتخذ من الرؤية بعين البصيرة بديلًا لها، نذكر قسماً منها كنموذج:

1- نقرأ في الرواية المعروفة الواردة في نهج البلاغة؟

وقد سأله ذعلب اليماني فقال: هل رأيت ربك ياأمير المؤمنين؟ فقال عليه السلام: «أفأعبد مالا أرى » فقال: وكيف تراه؟ فقال عليه السلام: «لا تدركه (تراه) العيون بمشاهدة العيان، ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان» «1»

.

2- ورد في رواية: إنّ أبا هاشم الجعفري سأل الإمام الباقر عليه السلام، وكان من أصحابه عليه السلام عن تفسير قوله تعالى: «لا تدركه الأبصار وهو يدرك الابصار»؟

فقال: «يا أبا هاشم أوهام القلوب أدقُّ من أبصار العيون، أنت قد تدرك بوهمك السند والهند والبلدان التي لم تدخلها، ولا تدركها ببصرك، وأوهام القلوب لا تدركه فكيف أبصار العيون؟!» «2»

.

3- ونقرأ في حديث آخر أن أحد الخوارج سأل الإمام الباقر عليه السلام: أيّ شي ءٍ تعبدُ؟ قال:

«اللَّه تعالى»، قال: رأيته؟ قال: «بل لم تره العيون بمشاهدة الأبصار ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان، لا يعرف بالقياس ولا يُدرك بالحواس ولا يُشبَّه بالناس؛ موصوف بالآيات،

__________________________________________________

(1) نهج البلاغة، الخطبة 179.

(2) اصول الكافي، ج 1، ص 99، (باب في ابطال الرؤية) ح 11.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 180

معروف بالعلامات لا يجوز في حكمه؛ ذلك اللَّه، لا إله إلّاهو»؛ قال: فخرج الرجل وهو يقول: «اللَّه أعلم حيث يجعل رسالته» «1».

4- في حديث آخر نقل جواب الإمام الحسن العسكري عليه السلام عن سؤال: كيف يعبد العبدُ ربّهُ وهو لا يراه؟ فوقَّع «2» عليه السلام: «يا أبا يوسف جَلَّ سيدي ومولاي والمنعم عليَّ وعلى آبائي أن يُرى . قال (الراوي): وسألته هل رأى رسول صلى الله عليه و آله ربّه؟ فوقَّع عليه السلام: «إنّ اللَّه تبارك وتعالى أرى رسوله بقلبه من نور عظمته ماأحبّ» «3».

5- في حديث آخر عن عاصم بن حميد، قال: ذاكرت أبا عبد اللَّه عليه السلام فيما يروون من الرؤية (أهل السنة)، فقال: «الشمسُ جزءٌ من سبعين جزءاً من نور الكرسي، والكرسي جزء من سبعين جزءاً من نور العرش، والعرش جزء من سبعين جزءاً من نور الحجاب، والحجاب جزء من سبعين جزءاً من نور الستر، فإن كانوا صادقين فليملأوا أعينهُمْ من الشمس ليست دونها سحاب» «4»

.

فالعرش، والكرسي، والحجاب، والستر، كِناية عن العوالم الغيبيّة الإلهيّة المختلفة، أي

أنّ الشمس بعظمتها هي إحدى موجودات عالم الوجود، والإنسان الذي لايقدر أن يرى هذا الموجود الصغير بعينه كيف يقدر على مشاهدة ذات الباري المقدّسة؟ وهذا بالحقيقة شبيه ماورد في سورة الأعراف في قصة موسى عليه السلام، وبني اسرائيل، ودك الجبل بالصاعقة، وعدم قدرة بني اسرائيل على مشاهدة هذه الشرارة الصغيرة من عالم الوجود.

6- في حديث آخر عن صفوان بن يحيى قال: سألني أبو قرّة المحدّث أن أدخلهُ على أبي الحسن الرضا عليه السلام فاستأذنته في ذلك فأذن لي، فدخل عليه فسأله عن الحلال والحرام .... حتى بلغ سؤاله التوحيد، فقال أبو قرّة: إنّا روينا أنّ اللَّه عزّ وجلّ قسم الرؤية والكلام بين اثنين، فقسم لموسى عليه السلام الكلام ولمحمد صلى الله عليه و آله الرؤية، فقال أبو الحسن عليه السلام: «فمن المبلغُ

__________________________________________________

(1) اصول الكافي، ج 1، ص 99، ح 5.

(2) فوقَّعَ، أي كتب.

(3) توحيد الصدوق، ص 108، ح 2.

(4) توحيد الصدوق، ص 108، ح 3؛ وأصول الكافي، ج 1، ص 98.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 181

عن اللَّه عزّ وجلّ إلى الثقلين الجن والانس «لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار» «ولا يحيطون به علماً» «وليس كمثله شي ءٌ» أليس محمد صلى الله عليه و آله» قال: بلى قال: «فكيف يجى ءُ رجلٌ إلى الخلق جميعاً فيخبرهم أنّه جاء من عند اللَّه وأنّه يدعوهم إلى اللَّه بأمر اللَّه ويقول «لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار» «ولا يحيطون به علماً» «وليس كمثله شي ءٌ» ثم يقول: أنا رأيته بعيني، وأحطتُ به علماً وهو على صورة البشر، أمّا تستحيون؟ ما قدرت الزنادقة أن ترميه بهذا أن يكون يأتي عن اللَّه بشي ءٍ، ثم يأتي بخلافه من وجه آخر»

«1»

.

إنّ الأحاديث الواردة حول هذا الموضوع كثيرة، فقد ذكر المرحوم العلّامة المجلسي في بحار الأنوار حوالي 34 حديثاً، والمرحوم الصدوق في كتاب التوحيد 24 حديثاً، والمرحوم الكليني في اصول الكافي 12 حديثاً، وكلهاتدل على خلوص وطهارة المذهب التوحيدي لأهل بيت الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله، الذي انتشر بين المسلمين، وما ذكرنا أعلاه يُعدُّ جانباً منه، والذي يفنّد خرافة (رؤية اللَّه) بالعين الظاهريّة «2».

خلاصة الكلام هو أنّ بطلان مسألة (رؤية اللَّه) بالعين الظاهرية أمربَيّن وواضح من حيث الدليل العقلي، وكذلك من خلال القرآن والروايات الإسلاميّة الصحيحة.

والآن نتوجه إلى شبهات القائلين بإمكان الرؤية وأجوبتها:

4- أدلّة القائلين بالرؤية الظاهريّة

وكما أشرنا فيما مضى، فإنّ هناك جماعة من علماء أهل السُّنّة الماضين وحتى المعاصرين المؤيدين لمسألة الرؤية، يصرحون أحياناً بإمكانية رؤية اللَّه بالعين الظاهرية هذه، ولكن لا في الدنيا، بل في الآخرة! وأحياناً اخرى يؤوّلون ذلك بقولهم: (إنّ اللَّه يُرى في الآخرة بواسطة الحاسة السادسة التي يخلقها لعباده المؤمنين، أو بعينٍ غير هذه العين

__________________________________________________

(1) توحيد الصدوق، ص 111، ح 9.

(2) راجع بحار الأنوار، ج 4 ص 26؛ و توحيد الصدوق، ص 107- 122؛ وأصول الكافي، ج 1، ص 95- 99.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 182

والتي يمتلكها حتى الأعمى.

ويظهر أنّ الشي ء الأساس الذي قادهم إلى التسليم بهذا المعتَقد والإشتباه في تفسير الرؤية وتوجيه كلامهم بتوجيهات عجيبة، هو الروايات الواردة في كُتُبهم عن الرسول محمد صلى الله عليه و آله، بالدرجة الاولى، وبالدرجة الثانية هو ظواهر بعض الآيات القرآنية التي لم تفسَّر بصورة صحيحة.

1- ورد في الحديث عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «إنّكم سترون ربّكم كما ترون هذا القمر لاتُضامّون في رؤيته» «1»

.

2- وفي حديث آخر عن

ابي هريرة أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله سأل أصحابه: «تضامّون في رؤية القمر ليلة البدر؟ فقالوا: كلّا أيّ اننا نرى القمر بدون أن نزدحم في رؤيته».

فقال صلى الله عليه و آله: «كذلِكَ لا تُضامُّونَ في رؤيةِ ربّكم يومَ القيامة» «2».

3- وفي رواية اخرى في نفس هذا الكتاب عن «ابو رزين» عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال:

«ضحك ربُّنا من قنوط عباده وقُرب غيرهِ.

فقال الراوي: فسألته هل يضحك ربُّنا يارسول اللَّه؟

فقال: نعم، فقلت: لن نعدم من ربٍّ يضحك خيراً» «3».

4- وفي حديث آخر عن «أبو عاصم العباداني» ... عن جابر بن عبد اللَّه، عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «بينا أهلُ الجنّة في نعيمهم إذ سطع لهم نور فرفعوا رؤوسهم فإذا الربّ قد أشرفَ عليهم من فوقهم فقال: السلام عليكم يا أهل الجنّة! قال وذلك قول اللَّه سلامٌ قولًا من ربٍّ رحيم، فينظر إليهم وينظرون إليه» «4».

بعد أن نقل ابن ماجه الحديث المذكورة نقل عن السيوطي في مصباح الزجاجة كلاماً

__________________________________________________

(1) سنن ابن ماجه، ج 1 (المقدمة- الباب 13، ح 177) نلاحظ في مجمع البحرين (تَضامَّ القوم أي انضمّ بعضهم إلى بعض).

(2) المصدر السابق، ح 178.

(3) المصدر السابق، ص 64، ح 181.

(4) المصدر السابق، ص 65، ح 184.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 183

يدل على عدم الوثوق بأحاديث أبي عاصم العباداني.

وقد ورد الحديث الأول أيضاً في صحيح البخاري، الذي يُعَدُّ من أشهر مصادر الحديث لدى أهل السُّنّة، عن (جريربن عبداللَّه) في كتاب (مواقيت الصلاة) في بابين مختلفين مع اختلافٍ بسيط «1».

وقد نُقلَ بصراحة في قسم تفسير الآيات من المجلّد السادس لصحيح البخاري أيضاً

مسألة رؤية اللَّه يوم القيامة «2».

5- يُلاحظ في كتاب الصلاة من «صحيح مسلم» وجود عدّة روايات منقولة عن «أبي هريرة» حول نزول اللَّه تبارك وتعالى كلّ ليلة إلى السماء الدنيا، من جملتها عن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه قال: «ينزل اللَّه إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يمضى ثلث الليل الأوّل ...» «3».

مع أنّ هذه الرواية لا تتحدث عن مسألة الرؤية لكنّها تشتمل على مسألة تجسيم اللَّه عزّ وجلّ، ونسب العوارض إليه أيضاً، كالمكان والحركة والنزول والصعود!

إنّ هذه الروايات- ومع الاسف- قد وردت مراراً في مصادرهم الشهيرة التي ذكرنا قسماً منها أعلاه، وبما أنّها تخالف صراحة الآيات القرآنية التي تقول «لا تدركهُ الأبصار» و «قَالَ لَن تَراني» ومخالفة لحكم العقل أيضاً فيجب أن تُهمل، وإن لم يُعثر لها على تفسير وتوجيه واضح، فيجب القول: إنّها روايات مجهولة ونسبت إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله).

والعجيب، أنّ أكثر هذه الروايات منقولة عن طريق أبي هريرة المشكوك في أمره من عدّة جوانب.

وكما نقلنا في رواية الإمام الرضا عليه السلام: كيف يُمكن لأجير أن يُبلّغ عن اللَّه عبارات صريحة تقول بعدم إمكانية رؤية اللَّه أبداً، ثم يدّعي بأنّ المؤمنين يَرون اللَّه في القيامة، أو بأنّ اللَّه ينزل إلى السماء الدنيا كُلّ ليلة؟ وهذا تضادٌّ غير ممكن، إضافة إلى هذا، فالروايات

__________________________________________________

(1) صحيح البخاري، ج 1، ص 145 و 150.

(2) المصدر السابق، ج 6، ص 56 تفسير سورة النساء.

(3) صحيح مسلم، ج 2، ص 175، كتاب صلاة المسافرين، (باب الترغيب في الدعاء).

نفحات القرآن، ج 4، ص: 184

الآنفة الذكر كما تقول بامكانية رؤية اللَّه، تُصرح أيضاً بجسمانية اللَّه، وتنسِبُ إليه الصعود والنزول والضحك

والقهقهة، وهذا شي ء لا يتقَبلهُ حتى الأشاعرة الذين يعتقدون بالرؤية، وذلك لأنّهم يقولون بصراحةٍ: إنّ رؤية اللَّه لاتعني تجسيمه، وهذا شاهد آخر على كون هذه الروايات موضوعة.

وكذلك ماورد في (سنن ابن ماجة) عن عبد اللَّه بن عمر أنّه سمعَ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال:

«يُدنى المؤمن من ربّه يوم القيامة حتّى يضع عليه كنفَه ...» «1».

فلو لم تُحمل هذه التعابير على المعاني المجازيّة والكنائيّة، فهي حتماً تدلُّ على مجهولية هذه الروايات التي تجعل للَّه ذراعاً وصدراً وجناحاً، وبواسطتها تُعرض الأفكار المنحطّة للقائلين بالجسميّة، في قالب أحاديث مَجعولة.

والأعجب من ذلك وهو جود جماعة لحدّ الآن يؤيدون مسألة رؤية اللَّه، وذلك بسبب تقيدُّهم بمثل هذه الروايات المبتدَعة.

في حين أنّ مذهب أهل البيت عليه السلام قد نفى هذه العقيدة مطلقاً لأنّها مرفوضة من قِبل العقل والآيات القرآنية.

ومن بين الآيات الشريفة التي يستند عليها القائلون بالرؤية هي «وُجُوُهٌ يَومَئِذٍ نَّاضِرَةٌ* إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ». (القيامة/ 22- 23)

في حين أنّ كلمة (ناظرة) المشتقة من مادة (نظر) تأتي بمعنى المشاهدة، وبمعنى الإنتظار، وعلى أيّة حال يجب أن توضع هذه الآية إلى جنب الآيات القرآنية الاخرى التي تقول «لا تدركه الأبصار» وأن تُفسَّر هذه المتشابهة بتلك المحكمة.

وتستعمل هذه التعابير الكنائيّة بكثرة، كقولنا: (فُلان ينظر إليك فقط، أو عينه عليك) أي يتوقع منك المحبّة واللطف والرأفة، فأصحاب الجنّة أيضاً ينظرون يوم القيامة إلى ربّهم ويرجون منه اللطف والرحمة.

والملفت أنّ تقدُّم الجار والمجرور في جملة «إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ» يعطي معنى الحصر (أي

__________________________________________________

(1) سنن ابن ماجة، ج 1، ص 65، المقدمة، ح 183- كنف على وزن هدف، له معانٍ عديدة من جملتها الذراع، الصدر، الجناح، الجانب، والظل.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 185

إنّها

ناظرة إلى ربّها فقط)، في حين أنّهم يُشاهدون أنواع نِعَمِ الجنّة بأعيُنهم، كالأشجار والأنهر والثمار والحور العين وغير ذلك بنفس الوقت، ممّا يدلّ بحد ذاته على أن هذه النظرة إليه تعالى والمختصّة بذاته المقدّسة، هي انتظار كرمه وعفوه.

والاحتمال الآخر الوارد في تفسير الآية، هو أَنَّ المقصود من النظرة هي الشهود الباطني، والرؤية الصريحة بعين القلب والبصيرة، والخالية من كل ألوان الشّك والترديد.

والحديث النبوي المنقول عن أنس بن مالك يُعدُّ خير دليلٍ على هذا الإدعاء وهو:

«ينظرون إلى ربّهم بلا كيفيّة ولا حد محدود ولا صفةٍ معلومة» «1».

ومن المُسلَّم أنّه لو كان المقصود من الرؤية هو الرؤية البصريّة الظاهريّة فهي مستحيلة بدون وجود كيفيّة وصفة معلومة.

يقول العلّامة الكبير المرحوم (السيد شرف الدين) في كتاب (كلمة حول الرؤية)- بعد أن تطرّق إلى الأحاديث التي نقلها محدثو أهل السُّنّة بخصوص رؤية اللَّه يوم القيامة-: (إنّهم بحملهم هذه الروايات على الصحّة اضطرّوا إلى سلوك الطريق الذي سلكه القائلون بجسمانية اللَّه، الطريق المخالف للعقل والنقل، في حين أنّه لا هذه الأحاديث صحيحة، ولا ماورد فيها شي ء يقبله العقل والشرع، ولكن كثرتها أدّت بهم إلى تعطيل حكم العقل، وحتّى إلى تطبيق آيات من القرآن الكريم معها.

إنّه عمل غير متوقَّع، إِنَّا للَّهِ وإِنَّا إِلَيهِ رَاجِعُونَ!.

ثم تطرّق إلى آية: «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ* إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ»، وأضاف قائلا": التعبير بكلمة (نظر) خصوصاً عندما تتعدى ب (إلى) لا يعني الرؤية والمشاهدة أبداً، بل يعني صرف النظر إلى شي ء حتى وإن لم يكن مرئيّاً، كما صرّح بذلك أرباب اللغة، مضافاً إلى ذلك وورد في القرآن الكريم: «وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيكَ وَهُمْ لَايُبصِرُونَ» (الأعراف/ 198)

والذي يتبادر إلى الذهن من الآية أعلاه هو ذلك الانتظار للفضل الإلهي يوم القيامة، (وكما

أشرنا سابقاً) فإنّ استعمال هذه الكلمة بهذا المعنى والمفهوم يُعَدُّ حقيقةً لا مجازاً،

__________________________________________________

(1) تفسير الميزان، ج 20 ص 204.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 186

وهي ملحوظة في الأشعار والكلمات اليوميّة التي تمر علينا كقول الشاعر:

وجوه ناظرات يوم بدرٍ إلى الرحمن تنتظر الخلاصا ويقول الشاعر الآخر:

إنّي إليك لِما وعدتَ لناظر نظر الفقير إلى الغني الموسر ثم أضاف قائلًا: إنّي أتعجّب من هؤلاء الأخوة كيف استدلوا بهذه الآية على إمكانية رؤية اللَّه وحصولها، وغاب عنهم معناها الظاهري؟ في حين أنّهم عندما يَصِلون إلى الآيات المشابهة لهذه الآية يؤوّلونها، كالآية: «الرَّحمَنُ عَلَى العَرشِ استَوَى . (طه/ 5)

و «يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيدِيهِمْ» (الفتح/ 10)

ولا يحملون هذه الآيات على معنى جسمانية اللَّه والمكان والحركة، بل يعتبرون الأولى بمعنى سلطة اللَّه الربوبيّة على العرش، والثانية كناية عن قدرته الفائقة جلّ وعلا.

ولا يُعلَم سبب هجرهم للمعنى الجلي لجملة «إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) واندفاعهم نحو مسألة الرؤية.

مضافاً إلى ذلك فيُمكن أن تكون هذه الآية كناية عن الرؤية بعين البصيرة، كما ورد في كلام أمير المؤمنين علي عليه السلام عندما قال: «لو كُشِفَ ليَ الغطاء ماازددتُ يقيناً». أو يقول في موضعٍ آخر: «أَوَ أعبُدُ ربّاً لم أرهُ»؟ ثم صرّح قائلا": «لا تراه العيون بمشاهدة العيان ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان».

أو ماورد في كلام ولده الإمام سيد الشهداء الحسين عليه السلام في دعاء عرفة مخاطباً ربّه:

«عميت عين لا تراك عليها رقيباً»! «1».

والآية الاخرى التي استندوا عليها لإثبات مقصودهم هي «كَلَّا إِنَّهُم عَن رَّبِّهِم يَوْمَئِذٍ لَمحَجُوبُونَ». (المطففين/ 15)

ويستفيدون منها كون المؤمنين غير محجوبين عن الرؤية، ويرون ربّهم حتماً.

ولكن كما أنّ كلمة (حجاب) تُستعمل للحجاب الظاهري، فكذلك تستعمل للحجاب

__________________________________________________

(1) كلمة حول الرؤية، ص

48- 53 باختصار.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 187

المعنوي أيضاً، والمقصود في هذه الآية هو المعنى الثاني لا الأول، وذلك بقرينة الآية التي سبقتها حيث تقول: «كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ» (المطففين/ 14)

إنّ المقصود هنا من الرَّين هو الرَّين المعنوي لا الظاهري.

والشاهد الآخر هو الآية الخامسة من سورة فُصّلت التي تخبر عن قول الكفار: «وَمِنْ بَيْنِنَا وَ بَيْنِكَ حِجَابٌ». ومن المُسلَّم أنّ الحجاب الذي كان بين الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله والكفّار لم يكُن حجاباً ظاهرياً.

وفي قوله تعالى: «جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَايُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَاباً مَّسْتُوراً».

(الاسراء/ 45)

وعليه فإنّ الكفّار محرومون من اللقاء المعنوي مع ذلك المحبوب، وذلك لوجود الحجاب بينهم وبين اللَّه تعالى، والآية الثالثة التي استعانوا بها لإثبات مقصودهم هي: «أَنَّهمْ مُّلاقُوا رَبِّهِمْ». (البقرة/ 46)

وقالوا: إنّ الملاقاة تعني المشاهدة.

في حين أنّ الآيات القرآنية تدل بوضوح على أنّ اللقاء يوم القيامة بأي مفهومٍ كان لا يخص المؤمنين، بل يتساوى فيه المؤمن والكافر، بينما نجد أنّهم يعتقدون بأنّ رؤية اللَّه في القيامة خاصّة بالمؤمنين فقط، والدليل على عمومية اللقاء ما ورد في قوله تعالى:

«يَاايُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدحًا فَمُلَاقِيهِ». (الانشقاق/ 6)

إذن فالمخاطَب في هذه الآية جميع الناس. و كما ورد في قوله تعالى: «فَأَعْقَبَهُم نِفَاقًا فِى قُلُوبِهِم إِلَى يَومِ يَلْقَونَهُ بِمَا أَخلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوه وَبِمَا كَانُوا يَكذِبُونَ». (التوبة/ 77)

فهذه الآية خاصّة بالمنافقين، وفي نفس الوقت فانّها تثبت أنّ لهم لقاء اللَّه، وعلى هذا يتضح أنّ لقاء اللَّه، بأيّ مفهومٍ كان، يشمل كلًا من المؤمنين والكافرين، في حين أنّهم يعتقدون باختصاص هذا الموضوع بالمؤمنين.

والجدير بالذكر أنّ كلمة (لقاء) في الأصل اللغوي بمعنى حدوث تماس بين شيئين، لا بمعنى

الرؤية والمشاهدة، ونحن نعلم باستحالة تحقق هذا الأمر بخصوص الباري تعالى،

نفحات القرآن، ج 4، ص: 188

والأشاعرة أيضاً لا يقولون بذلك، لذا يجب أن يُحمَل على المعنى الكنائي.

وما يُستفاد من الآيات القرآنية المختلفة هو أن (يوم لقاء اللَّه)، كناية عن يوم القيامة الذي سيلقى الناس فيه الجزاء والحساب والقصاص الإلهي، لذا فقد ورد في آيات متعددة بدلا" عن (لقاءاللَّه): «لِقاءَ يَومِهِم هَذَا». (الأعراف/ 51)

أو «لِقاءَ يَومِكُم هذا». (السجدة/ 14) (الجاثية/ 34)

وورد التعبير عنه في آيات اخرى بملاقاة يوم الحساب ويؤوّل باللقاء مثل: «انِّى ظَنَنْتُ أَنِّى مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ». (الحاقّة/ 20)

لهذا فقد حمل الكثير من أرباب اللغة آيات لقاء اللَّه على هذا المعنى.

يقول الراغب في المفردات: «ملاقاة اللَّه عزّ وجل عبارة عن القيامة».

وكذلك يقول إبن الأثير في النهاية: «المراد بلقاء اللَّه المسير إلى دار الآخرة».

وقد نقل ابن منظور في لسان العرب نفس هذا المعنى أيضاً.

ويُلاحظ نفس هذا المعنى في الروايات أيضاً، كما ورد في الحديث النبوي أنّه صلى الله عليه و آله قال:

«من حلف على يمينٍ ليقتطع بها مال امرءٍ مسلم لَقِيَ اللَّه وهو عليه غضبان» «1».

والظاهر أنّ التعبير عن القيامة ب (يوم لقاء اللَّه) ينبع من هذا المعنى، وهو: أنّ الإنسان- في ذلك اليوم- يشعر بالأمر الإلهي في كل مكان، في الحساب، في عرصة المحشر، في الجنّة والنار، ويتجلّى وجود اللَّه عزّ وجلّ للجميع، بحيث يراه المؤمن والكافر بعين القلب والبصيرة.

والعجب هو استدلال الأشاعرة بآياتٍ أُخرى لا تدلّ على مقصودهم أدنى دلالة ممّا يؤيد أنّهم مصرّون على تحميل الآيات القرآنية على آرائهم، كالآية: «لِّلَّذِينَ أَحسَنُوا الحُسنَى وَزِيَادَةٌ». (يونس/ 26)

فقالوا: إنّ المقصود من (زيادة) رؤية اللَّه!!

في حين عدم وجود أدنى إشارة في هذه الآية الشريفة على هذا

المفهوم، بل إنّ الآية

__________________________________________________

(1) تفسير الكبير، ج 3، ص 51، ذيل الآية 46 من سورة البقرة.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 189

تشير إلى نفس ذلك الشي الذي ورد بهذا المضمون حيث قال تعالى: «مَنْ جَاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالَهَا». (الانعام/ 6)

وكذلك استدلوا بالآية: «لَهُم مَّايَشَاؤُنَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ». (ق/ 35)

فقالوا: إنّ المقصود من (لدينا مزيد) هو رؤية الخالق! في حين أننا لا نرى أدنى إشارة إلى هذا المفهوم.

وخلاصة الكلام هو أنّ مسألة رؤية اللَّه،- علاوة على كونها مخالفة للدليل القطعي العقلي والنقلي- كانت تستلزم جسمانية اللَّه (إلّاأن يكون المقصود منها الرؤية بعين القلب والباطن فلا أحد يُناقش في ذلك).

ولا يوجد دليل روائي أو قرآني عليها، والأمر الوحيد هو استعانتهم بالمتشابهات لتصديق معتقدهم هذا، في حين أنّ القرآن أمرنا بمطابقة وتفسير المتشابهات بالمحكمات.

وإنّ قسماً من الروايات المنقولة في كتب هؤلاء القوم بخصوص هذا الموضوع، هي روايات تتنافى مع حكم العقل والقرآن، ونحن مأمورون بتركها وعدم الإهتمام بها.

وقد انتقد المرحوم العلّامة السيّد شرف الدين بدوره اسناد هذه الأحاديث أيضاً في كتابه القيّم «كلمة حول الرؤية» وأثبت بأنّها موضوعة (ولزيادة التوضيح راجع الكتاب المذكور) «1».

فما أقبح عصرنا الحاضر إذ يوجد فيه من لا يزالون يؤيدون خرافة (رؤية اللَّه بالعين الظاهرية في القيامة)، على الرغم من كون البحوث العقائدية فيه تدور حول محور الأدلّة العقليّة، وقد اتضحت المسألة بصورة كافية من خلال آيات القرآن.

__________________________________________________

(1) كلمة حول الرؤية، ص 67- 80.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 190

5- اللَّه عزّ وجلّ ليس جسماً

هناك جماعة بين المسلمين وغير المسلمين تدعى ب (المجسّمة)، والتي تعتقد بجسمانية اللَّه، وتنسب إليه جميع عوارض الأجسام، وقد نُقلَت عنهم مطالب مُضحكة ومُخجلَة في نفس الوقت، إلى درجة أنّ الشهرستاني في كتاب

«الملل والنحل» ينقل عنهم أنّهم يقولون حتى بإمكانية لمس اللَّه، ومصافحته ومعانقته، من قبل المسلمين الخُلَّص!! حتى أنّه نُقِلَ عن (داود الجواربي)، الذي كان من القائلين بهذا المذهب، أنّه قال: «اعفوني من الفرج واللحية واسألوني عمّا وراء ذلك، فمعبودي جسم ودم ولحم، وله جوارح وأعضاء، من يدٍ ورجلٍ، ورأس، ولسان، وعينين، وأذنَين، ومع ذلك فهو جسم لا كالأجسام وليس كمثله شي ء، ولحم لا كاللحوم!».

وكذلك نُقل عنه أيضاً بأنّه كان يقول: «إنّه «1» أجوف من أعلاه إلى صدره، مصمت ما سوى ذلك، وإنّ له وفرة سوداء «2» وله شعر قط «3»).

ويذكر (المحقق الدواني) عنهم عجائب اخرى فيقول: «إنّهم طوائف مختلفة، فبعضهم يقول: إنّه (عزّ وجلّ) مركب من لحم ودم!!

ويقول البعض الآخر: إنّه نور متلالي كصحيفة بيضاء طوله سبعة أشبار من أشباره هو!

ويقول البعض: إنّه شاب أمرد ذو شعرٍ مجعّد!

والبعض يقولون: إنّه بشكل شيخ كبير لون شعر رأسه ولحيته سوداء بيضاء» «4».

إنّ هذا الكلام غير العقلائي يشير بوضوح إلى مقدار ما تحمله هذه الطائفة من انحطاط فكري، فعبّروا عن اللَّه تعالى بتعابير لا تصدر حتى من الأطفال الصغار، ولم يخجلوا من ذكر هذه الأمور.

طبعاً لا يمكن التصديق الآن بوجود أحد من المسلمين أو غير المسلمين يحمل مثل هذه الاعتقادات.

__________________________________________________

(1) الملل والنحل، ج 1، ص 96- 97.

(2) «الوفرة» (بفتح وسكون) شعر الرأس إذا وصل إلى شحمة الاذن.

(3) «شعر قط» (بالفتح والتشديد) و «قطط» (الفتحتين) وقيل قصير كثير الجعودة، حسن التجاعيد.

(4) بحار الأنوار، ج 3، ص 289.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 191

وبما أنّ كلّ إفراطٍ يتبعه تفريط، فقد ظهر في مقابل هؤلاء جماعة احترزوا عن التشبيه إلى درجة أنّهم كانوا يقولون: إذا حرّك أحد يديه

أثناء قراءة آية «خَلَقْتُ بِيَديَّ» وجب قطع يديه! أو إذا أشار باصبعيه عند قراءة هذه الرواية الواردة عن النبي صلى الله عليه و آله أنّه قال: «قلبُ المؤمن بين إصبعَين من أصابع الرحمن». وجب قطع كلا إصبعيه»! «1».

وعلى أيّة حال يظهر أنّ هذه العقائد السخيفة الركيكة بخصوص جسميّة اللَّه تعالى تنبع من أحد أمرين:

الأول: الأنس المفرط بعالم المادّة والمحسوسات، الأنس المصحوب بالسّذاجة والجهل الذي لا يسمح للأنسان تقبَّل شي ء غير المادّة، الأنس الذي يؤدّي إلى مقايسة اللَّه عزّ وجلّ بالانسان وصفاته.

الثاني: التعابير الكنائية والمجازيّة الملحوظة في القرآن الكريم والروايات الإسلامية، حيث يمكن أن يتوهّم السُّذَّج منها الجسميّة.

ولكن بالإلتفات إلى نقطة واحدة يتّضح بأنّ قبول فكرة الجسميّة بالنسبة للَّه تعالى يُساوي نفي إلوهيته، ونفي وجوب وجوده، لأنّ كُلّ جسمٍ يتشكل من أجزاء، ولابدّ له من لزوم المكان والزمان، وكونه معرضاً للحوادث والتغيُّرات ويتجه دائماً نحو الهلاك والفناء، وتكفي كل واحدةٍ من هذه الصفات لنفي إلوهية اللَّه ووجوب وجوده.

مضافاً إلى ذلك أنّه لو كان جسماً لكان له شبيه ومثيل، ونحن نعلم أنّ آيات متعددة من القرآن الكريم نفت عن اللَّه تعالى أى شبيهٍ أو مثيل.

ونختم هذا الكلام بحديثٍ منقول عن الإمام الكاظم عليه السلام: «ذكر عنده قوم زعموا أنّ اللَّه تبارك وتعالى ينزل إلى السماء الدنيا؟ فقال: إنّ اللَّه لا ينزل ولا يحتاج إلى أن ينزل، إنّما منظره في القرب والبعد سواء) ....، ولم يحتج إلى شي ء بل يُحتاج إليه، أمّا قول الواصفين:

إنّه ينزل تبارك وتعالى عن ذلك فإنّما يقول ذلك من ينسبه إلى نقص أو زيادة، وكل متحرك محتاج إلى من يحرّكه أو يتحرك به فمن ظن باللَّه الظنون فقد هلك وأهلك، فاحذروا في

__________________________________________________

(1) الملل

والنحل، ج 1، ص 97.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 192

صفاته من أن تقفوا له على حدّ من نقص أو زيادة، أو تحريك أو تحرك، أو زوال أو استنزال، أو نهوض أو قعود فإنّ اللَّه عزّ وجلّ عن صفة الواصفين ونعت الناعتين وتوّهم المتوهمين» «1»

.

وهناك روايات كثيرة في هذا المجال ولكن وضوح الموضوع يغنينا عن التوغُّل في البحث «2».

والعجب من إصرار بعض أرباب الملل والنحل على نسب مسألة الاعتقاد بجسمانية اللَّه تعالى إلى الشيعة اتباع مذهب أهل البيت عليه السلام، لكن مطالعة كُتب الشيعة تشير بوضوح إلى انهم بلغوا القمّة في تنزيه اللَّه تعالى عن الجسمانية، وأي صفةٍ من صفات الأجسام وعوارضها، لذا فقد قال الإمام الرضا عليه السلام: «إنّه ليس منّا من زعم أن اللَّه عزّ وجلّ جسم ونحن منه بُراء في الدنيا والآخرة» «3».

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار، ج 3، ص 311، ح 5 باختصار.

(2) لزيادة الأطلاع على روايات هذا الموضوع راجع توحيد الصدوق، ص 97- 104- باب أنّه عزّ وجلّ ليس بجسمٍ ولا صورةٍ (فهنالك عشرون رواية منقولة حول هذا الموضوع 205).

(3) توحيد الصدوق، نفس الباب السابق، ح 20.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 193

3- ليس له محل وهو موجود في كُلّ مكان

تمهيد:

ليس من اليسير على أفرادٍ يعيشون دائماً في أسر عالم المادة وقد جبلوا على هذا التفكير ولم يتجاوز نطاق تفكيرهم هذا الحد أن يتصوروا وجوداً مجرّداً من المادة.

ولكن وكما قُلنا في بداية بحث الصفات الإلهيّة، فإنّ أول خطوة في طريق معرفته هي تنزيهه عن صفات مخلوقاته، خاصةً عن صفات الموجودات الماديّة من قبيل الزمان، المكان، التغيُّر، والحركة.

ومن هنا يبدو واضحاً أنّ من لوازم معرفة اللَّه معرفة حقيقية هو تنزيهه عن المكان والمحل.

فمن البديهي أنّ الاتصاف بالمحل ملازم للقول

بالتجسيم، وقد عرفنا في البحوث السابقة أنّ اللَّه عزّ وجلّ ليس بجسم ولا يتصف بصفات الأجسام، ولايحيطهُ مكان ولا يسعه زمان، وفي نفس الوقت يحيط بجميع الأمكنة والأزمنة!

بهذا التمهيد نتوجه إلى القرآن الكريم لنتأمل في الآيات التالية بأسماع قلوبنا:

1- «وَللَّهِ المَشرِقُ وَالْمَغرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ انَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ».

(البقرة/ 115)

2- «وَهُوَ الَّذِى فِى السَّمَاءِ إِلهٌ وَفِى الأَرضِ الَهٌ وَهُوَ الحَكِيمُ العَلِيمُ». (الزخرف/ 84)

3- «وَهُوَ مَعَكُم أَينَ مَا كُنتُم وَاللَّهُ بِمَا تَعمَلُونَ بَصِيرٌ». (الحديد/ 4)

4- «مَا يَكُونُ مِن نَّجْوى ثَلَاثَةٍ إِلّا هُوَ رَابِعُهُم وَلَا خَمسَةٍ إِلّا هُوَ سَادِسُهُم وَلَا أَدنى مِن ذَلِكَ وَلَا اكْثَرَ إِلّا هُوَ مَعَهُمْ أَينَ مَا كَانُوا». (المجادلة/ 7)

نفحات القرآن، ج 4، ص: 194

5- «وَلَقَدْ خَلَقنَا الإِنسَانَ وَنَعلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفسُهُ ونَحنُ أَقرَبُ إِلَيهِ مِن حَبلِ الوَرِيدِ». (ق/ 16)

6- «هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَى ءٍ عَلِيمٌ». (الحديد/ 3)

7- «وَأَنْتُم حِينَئذٍ تَنظُرُونَ* وَنَحنُ أَقرَبُ إِلَيهِ مِنكُم وَلَكِن لّاتُبصِرُونَ» «1».

(الواقعة/ 84- 85)

جمع الآيات وتفسيرها

أينما تُولوا فثم وجه اللَّه:

حاول اليهود بعد مسألة تغيير القبلة (من بيت المقدس نحو الكعبة) إلى إيجاد شُبهة في إذهان المسلمين من خلال هذه المسألة، واعتبار تغيير القبلة دليلا" على عدم ثبات الرسول محمد صلى الله عليه و آله على رسالته، فنزلت الآية الأولى من بحثنا وبيّنت: «وَللَّهِ الْمَشرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ».

فهو حاضر في كُلّ مكان وبكل شي ءٍ عليم، لذا فأينما تولّوا فثمّ وجهه، وإمّا الغرض من التوجه نحو القبلة فهو لتمركز توجُّه المؤمنين إلى أنّ اللَّه عزّ وجلّ له محل خاص او جهة معينّة وهي القبلة، فوجوده واسع إلى درجة كونه حاضراً ورقيباً في كل مكان، وفي نفس الوقت ليس له محل

أو مكان خاص!

وطبعاً ليس المقصود من كلمتي المشرق والمغرب في الآية المذكورة الجهتَين الجُغرافيّتَين، بل هو تعبير كنائي عن جميع العالم، كما أننا عندما نريد أن نقول: إنّ أعداء علي عليه السلام حاولوا إخفاء فضائله، وشيعته أخفوها أيضاً خوفاً من أعدائه، ومع ذلك فإنّ فضائله ملأت العالم، نقول: (إنّ فضائله ملأت الشرق والغرب!).

وعلى أيّة حال فإنّ تَعبير «فَأَيْنَما تَوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ» هو تعبير حيّ وواضح على عدم إحاطة المكان باللَّه تعالى.

__________________________________________________

(1) ماذُكِر أعلاه هو قسم مجمل من هذه الآيات، وتوجد آيات قرآنية مشابهة للتي ذكرناها كالآية 20 من سورة البروج؛ والآية 3 من سورة الأنعام.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 195

لأنّ التواجد في كل مكان إمّا يعني امتلاك الموجود أبعاداً واسعةً وأجزاءً كثيرة تملأ المكان، وكل جُزءٍ منه موجود في جهة معينة، ونحن نعلم باستحالة هذا المعنى بالنسبة إلى اللَّه تعالى، لأنّه سبحانه ليس له أجزاء، وقول القرآن: (هو معكم) لايعني أنّ جزءاً من وجود اللَّه تعالى هناك (فتأمل جيداً).

أو يعني عدم إحاطة المكان به، أي هو فوق الزمان المكان، وطبعاً مثل هذا الوجود تتساوى فيه جميع الأمكنة والأزمنة ولا معنى للبعد والقرب عنده.

والملاحظة المهمّة هنا هي أنّ التعبير بعبارة (وجه اللَّه) تعني في القرآن الذات الإلهيّة المقدّسة.

ولكون (الوجه) أشرف أعضاء الإنسان ويحتوي على أهم حواسّه، فإنّ هذه الكلمة تُستعمل كناية عن (الذات)، ولكن بعض المفسّرين فسّروها بمعنى الرضا الإلهي، أو الثواب الإلهي، أو القبلة، ولا نعتقد بصحة أيٍّ من هذه المعاني.

قال تعالى في الآية الثانية- ضمن ردّه على المشركين والذين جعلوا له ولداً، وتنزيه ذاته المقدّسة عن هذه الصفات: «وَهُوَ الَّذِى فِى السَّمَاءِ إِلهٌ وَفِى الأَرضِ إِلهٌ وَهُوَ الحَكِيمُ العَلِيمُ».

إنّ إلوهيّة اللَّه تعالى

لا تخص جهة معينة، أو مكاناً خاصاً، ومساحة إلوهيته وسعت كُلّ مكان، وبسبب وجوده في كل مكان فهو بكُلّ شي ءٍ عليم وخبير، وأفعاله حكيمة، بل إنّ هذا التعبير يشير إلى أن (العليم) و (الحكيم) الوحيد في عالم الوجود هو اللَّه سبحانه، لأنّ علم وحكمة من سواه قاصرة وناقصة ومشوبة بالجهل.

ولكنّ المشركين على مدى التاريخ قالوا: إنّ لكل واحدة من موجودات العالم إلهاً وربّاً:

إله السماء، إله الأرض، إله البحر، إله البر، إله الحرب وإله السلام، وما شاكل ذلك، والآية أعلاه تنفي جميع هذه المعتقدات الباطلة، وتؤكّد على ربوبيّة اللَّه الواحد الأحد على جميع عالم الوجود.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 196

قال بعض المفسّرين: إنّ هذه الآية خير دليلٍ على هذا الموضوع، وهو عدم تواجد اللَّه في السماء، لأنّه يقول: «فِى السَّمَاءِ إِلهٌ وَفِى الأَرضِ الهٌ» ويعني أنّ نسبة وجوده في السماء وفي الأرض متساوية، وبما أنّ الأرض لا تعتبر مكاناً له، فكذلك السماء أيضاً «1».

وقال البعض الآخر من المفسّرين: إنّ مقصود هذه الآية هو أنّه معبود في السماء وفي الأرض، فالملائكة تعبده في السماء وفي الأرض تسجد له موجوداتها.

وفي حديثٍ ظريف ورد أنّ أحد زنادقة عصر الإمام الصادق عليه السلام وهو «أبو شاكر الديصاني» قال لهشام بن الحكم: إنّ في القرآن آية هي قولنا. قلت: وما هي؟ فقال: «وَهُوَ الَّذِى فِى السَّمَاءِ الهٌ وَفِى الأَرضِ الهٌ»، فلم أدر بما أجيبه! فحججت فخبرت أبا عبد اللَّه عليه السلام فقال: هذا كلام زنديق خبيث إذا رجعت إليه فقل: ما إسمك بالكوفة فانّه يقول: فلان، فقل له: ما اسمك بالبصرة؟ فانّه يقول: فلان، فقل كذلك اللَّه ربّنا في السماء إلهٌ، وفي الأرض إله، وفي البحار إله وفي القفار إله، وفي

كل مكان إله، قال: فقدمت فأتيت أبا شاكر فأخبرته فقال: هذه نقلت من الحجاز «2».

إنّ هذا التعبير يُعَدُّ إشارةً إلى أنّ اللَّه تعالى لا مكان له من جهة، وحضوره في كل مكان من جهة اخرى، كقولنا: (إثنان زائد اثنين يساوي أربعة)، فإنّ هذه المعادلة الرياضية كما أنّها في الأرض، كذلك فانّها في السماء وفي جميع المجرّات، وفي نفس الوقت ليس لهذه المعادلة الرياضيّة محلٌّ معين، فيمكن أن نقول: بانّها في كل مكان وليس لها مكان في آنٍ واحد.

و هو معكم أينما كنتم!

تقول الآية الثالثة بصراحة «وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُم». ولأنّه كذلك فهو بما تعملون بصير: «وَاللَّه بَمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ».

__________________________________________________

(1) تفسير الكبير، ج 27، ص 232.

(2) تفسير نور الثقلين، ج 4، ص 617، ح 98.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 197

يُشير هذا التعبير بوضوح إلى أنّه جلّ وعلا لا مكان له، أو بتعبير آخر، هو فوق الزمان والمكان، ولهذا فهو حاضر في كُلّ مكان وقد أحاط بكُلّ شي ءٍ علماً.

قال بعض المفسرّين- كما ورد في تفسير (روح المعاني): يجب تأويل هذه الآية وحملها على المعنى المجازي والقول بأنّ المقصود منها هو: (علمهُ بنا لا ذاته المقدّسة).

وهؤلاء غافلون عن أن علم اللَّه تعالى علم حضوري، لا كعلمنا الذي يتم عن طريق تصوير الأشياء في الذهن، والعلم الحضوري معناه حضور كل شي ءٍ بين يديه، وبحضور ذاته في كل مكان فهي تحيط بها جميعاً «1».

وقال بعض المفسرين في تفسير هذه الآية: كل ممكن فوجوده من الواجب، فاذن وصول الماهية الممكنة إلى وجودها بواسطة فيض الواجب الحق ذلك الوجود لتلك الماهية فالحق سبحانه هو المتوسط بين كل ماهيه وبين وجودها، فهو إلى كل ماهية أقرب من وجود تلك الماهية «2».

وقد ورد في

تفسير الميزان أنّ هذه المعيّة نابعة من إحاطته بكم، فلا تغيبون عنه اينما كنتم، وفي أيّ زمان عشتم، وفي أيّ حال فرضتم، فذكر عموم الامكنة «أيْنَ مَا كنتم» لأنّ الاعرف في مفارقة شي ء شيئاً، وغيبته عنه أن يتوسل إلى ذلك بتغيير المكان، وإلّا فنسبته تعالى إلى الأمكنة والأزمنة والأحوال سواء «3».

ولكن من لم يستطيعوا فهم إحاطة اللَّه الوجوديّة بجميع الممكنات بصورة صحيحة، حملوا هذه الآية على المعنى المجازي فقالوا: إنّ المراد من معيّة اللَّه للموجودات، هو شمول علمه وقدرته وحاكميته عليهم «4».

__________________________________________________

(1) ورد توضيح أكثر حول علم اللَّه في بحث علم اللَّه في نفس هذا المجلد.

(2) تفسير الكبير، ج 29، ص 214.

(3) تفسير الميزان، ج 19، ص 167.

(4) تفسير القرطبي، ج 9، ص 6407، ويُلاحظ وجود معنى قريب من هذا التفسير في تفسير روح الجنان ج 11، ص 38، وقد نُقلَ أيضاً في تفسير الكبير، ج 29، ص 215، عن المتكلمين بأنّ هذه المعيّة إمّا من جهة العلم أو من جهة الحفظ والحراسة.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 198

أمّا الآية الرابعة فقد أشارت إلى مسألة النجوى فقالت: «مَا يَكُونُ مِن نَّجوَى ثَلَاثَةٍ إلّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُم وَلَا أَدنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَينَ مَا كَانُوا».

«النجوى»: في الأصل بمعنى المكان المرتفع المنعزِل عمّا حوله لارتفاعه، ولكون إذا أراد شخص أن يُسِرَّ شيئاً لصاحبه يأخذه إلى معزل عن الناس. فإنّ كلمة نجوى استُعملت بمعنى الهمس في الأُذن.

يعتقد البعض بوجوب وجود ثلاثة أشخاص أو أكثر لتحقُّق معنى (النجوى)، وإن كانا إثنين يُطلق على هذا العمل (إ سرار)، لكن هذه المسألة لم تثبت، خصوصاً أنّ كلمة نجوى وردت

في آيات سورة المجادلة للتعبير عن الذين كانوا يناجون الرسول صلى الله عليه و آله بصورة انفراديّة.

وللمفسرين بيانات متعددة بسبب ذكر ثلاثة وخمسة أشخاص بالخصوص وعدم ذكر الأربعة التي تقع بين الثلاثة والخمسة، أقواها هو أنّه لو ذُكرَ الأربعة أشخاص لتكرر العدد (أربعة) في الجملة الأولى والثانية، وهو ينافي البلاغة والفصاحة (سوى في حالات خاصّة)، مضافاً إلى ذلك فإنّ قوله تعالى في نهاية الآية: «وَلَا أَدنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكثَرَ» سيشمل مالم يُذكر بين هذين العددين، وعليه يشملُ ماقبل العدد ثلاثة (أي إثنين) وما بعده (أي أربعة)، وكذلك الأكثر من الخمسة، وهذه نقطة اخرى تدلّ على فصاحة هذه الآية، وعلى أن تعبير (نجوى) يشمل الشخصين أيضاً.

وقال البعض الآخر: إنّ الآية أعلاه تتحدث عن حادثتين قام بها المنافقون اشترك في الاولى ثلاثة أشخاص، وخمسة أشخاص في الثانية.

وعلى أيّة حال فإنّ المراد من المعيّة (معيّة اللَّه لعباده في نجواهم) هو نفس الإحاطة الوجوديّة المشار إليها في الآية السابقة، والعجب من بعض المفسّرين الذين أيدوا هذا المفهوم في الآية السابقة، لكنهم فسّروا المعيّة هنا بمعنى الاحاطة العلميّة، ولعل ذلك بسبب تحدُّث الآية في البداية عن سعة علم اللَّه وشموله جميع ما في السموات والأرض: «أَلَم تَرَ

نفحات القرآن، ج 4، ص: 199

أَنَّ اللَّه يَعْلَمُ مَا فِى السَّماوَاتِ وَمَا فِى الأَرضِ». (المجادلة/ 7)

ولكن من البديهي أنّ إحاطة اللَّه الوجوديّة بكلّ شي ء هي عين إحاطته العلمية، لأنّه وكما أشرنا سابقاً فإن علم اللَّه علم حضوري، ولازمهُ حضوره عزّ وجلّ في كل مكان (فتأمل جيداً).

نلاحظ نفس هذا المفهوم في الآية الخامسة وبتعبيرٍ جديد، حيث قال تعالى: «وَلَقَد خَلَقنَا الإِنسَانَ وَنَعلَمُ مَاتُوَسوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحنُ أَقرَبُ إِلَيهِ مِن حَبلِ الوَرِيدِ».

تُطلق كلمة (وريد) على أي

نوعٍ من أنواع عروق البدن، لكن الكثير من المفسّرين فسّروها بمعنى الوريدين الرئيسين الموجودَين في جانبي الرقبة، وفسرها جماعة بمعنى الوريد الرئيس المتصل بالقلب.

ولكن عندما نضيف كلمة (حبل) إلى كلمة (وريد) فلا يراد منه الأوردة الصغيرة والعاديّة الموجودة في البدن، بل يُقصد به أحد الأوردة الكبيرة والمعروفة في البدن، وقد ورد كلا التفسيرين في تفسير ذيل هذه الآية في كلام المفسّرين وأرباب اللغة «1».

لكن المناسب لهذه الآية هنا، هو الوريد الرئيس في القلب لأنّه ورد أيضاً في الآية:

من سورة الأنفال: «وَاعلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرءِ وَقَلبِهِ». (الأنفال/ 24)

وكلا الآيتين كناية عن منتهى قُرب اللَّه تعالى لجميع عباده، لأننا لو اعتبرنا قلب الإنسان مركز وجوده، لما كان هنالك شي ء أقرب إليه من وريد القلب، فالقرآن يريد أن يقول:

(ونحن أقرب إليه حتّى من هذا أيضاً).

وعلاوةً على هذا فإنّ الآية قد تحدثت في البداية عن علم اللَّه بما توسوس به نفس الإنسان، ممّا يتناسب مع القلب لا الرقبة.

على أيّة حال، إنّ هذه المسألة تصوّر عموم المكان للَّه تعالى بأفضل وجه، لأنّها تقول:

__________________________________________________

(1) التحقيق، مفردات الراغب، مجمع البحرين، لسان العرب، تفسير الميزان والقرطبي وغيرها.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 200

إنّه تعالى أقرب إلى كل إنسان من وريد قلبه، إذن فهو حاضر في كل مكان، حتّى في أرواحنا وقلوبنا، ومن الواضح أن وجوداً كهذا هو فوق المكان، لأنّ الشي الواحد لا يمُكن أن يكون بجميع وجوده في مكانات متعددة، إلّاأن يكون ذا أعضاءٍ يشغل كل واحدٍ منها مكاناً معيناً.

وقد ورد نفس هذا المفهوم في الآية السادسة والأخيرة من بحثنا والذي يخصُّ المحتضرين الذين أشرفوا على نهاية حياتهم، قال تعالى: «وَأَنتُم حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ* وَنَحنُ أَقرَبُ إِلَيهِ مِنكُم وَلَكِن لَّاتُبصِرُونَ».

فيقول نحن

نعلم جيداً بما يجري في باطن ذلك المحتضِر، وأي غوغاء قائمة في عمق وجوده! هل هو سرور لتحرُّره من سجن البدن وانطلاقه إلى رياض الجنّة، أم هموم لمشاهدته العقوبات الإلهيّة بسبب أعماله الظلامية التي ارتكبها؟!

لكنكم لا ترون أي واحدةٍ من هذه المسائل ولا تعرفونها.

وقد حمل بعض المفسرين- الذين لم يدركوا مفهوم القرب الإلهي من الإنسان بصورة صحيحة،- هذه الآية على المعنى المجازي، فقالوا: إنّ ملائكة الموت أقرب إليه منكم ولكنكم لا تبصرونهم.

ولكن بالإلتفات إلى كون هذا التعبير وأمثاله- كما عرفنا ذلك في الآيات السابقة- لاينحصر بالشخص المحتضِر، حيث شمل جميع الناس بتعابير مختلفة، فقد اتضحَ بُطلان هذا التفسير.

وتأكيد الآية على قرب اللَّه تعالى من المحتضِر فقط، دلالة على أنّ الكلام يدور حول هذا الموضوع، وبصورة عامّة فإنّ هذه الآية تُعَدُّ دليلا" واضحاً آخر على انعدام المكان بالنسبة إلى اللَّه تعالى.

نتيجة البحث:

يتضح جلّياً من مجموع الآيات الآنفة الذكر أنّها تتطرق إلى حقيقة واحدة بتعابير متنوّعة، وهي أنّ اللَّه موجود في كل مكان، ويُشرف على الكون، في الوقت الذي ليس له

نفحات القرآن، ج 4، ص: 201

مكان معين يحدّه، وأن وجوده فوق الزمان والمكان، ولكون جميع الموجودات تستمد وجودها من وجوده، ولا تستغني عنه أبداً، فإنّه تعالى يُحيط بجميع موجودات العالَم إحاطة وجوديّة، هي عين إحاطته الربوبية والقيّوميّة. (فتأمل جيداً).

توضيحات

1- اللَّه عز وجل فوق المكان والزمان

للفلاسفة بحوث عديدة حول حقيقة (المكان) و (الزمان)، وبالرغم من أنّ هذا الموضوع من المواضيع التي تلازمنا دائماً إلّاأنّ معرفة حقيقتهما لا تزال من المشكلات حتى بالنسبة للفلاسفة! وهذه من العجائب.

فقد اعتقد جماعة بأنّ المكان- والذي يعطي معنى الفضاء، أو هو بُعد خاص تسبح فيه الأجسام،- موجود مخلوق قبل الجسم، وكُلّ جسم بحاجة إليه.

وقال آخرون: إنّ الفضاء الخالي من كُلّ شي ء ليس إلّاوهمٌ وخيالٌ، وبالأساس، فإنّ عدم وجود الجسم يعني عدم وجود المكان، وبتعبيرٍ آخر: المكان يوجد بعد الجسم لا قبله، ويُنتزَع من مقايسة جسمَين مع بعضهما، وكيفية استقرارهما، وليس من المناسب هنا انتقاد هاتين النظريتين الفلسفيتين وتحليلهما، بل يجب القول: إنّ المكان بأي واحدٍ من هَذين المفهومين، محال بالنسبة إلى اللَّه عزّ وجلّ.

لأنّه لايمكن أن يكون هناك موجود قبل اللَّه، وفق التفسير الأول، القائل: إنّ (المكان موجود يسبق وجود الجسم)، وإذا قطعنا بأنّ الاجسام تحتاج إلى مكان، فهل يُمكن أن يحتاج واجب الوجود الغني عن الوجود إلى شي ءٍ آخر؟

وعليه يتضح استحالة تحقق مفهوم المكان طبق التفسير الأول بخصوص الباري الغني عن كلّ شي ء والمنشى ء لجميع الوجودات، وأمّا وفق التفسير الثاني فهو يستلزم وجود النظير الكفؤ للَّه تعالى ليُقاس به، ويُنتزع المكان من قياس هذين الإثنين مع بعضهما،

في حين أننا عرفنا في مباحث التوحيد أنّه تعالى ليس له كفؤ ابداً.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 202

ومن جهة اخرى، لا يمكن تصور المكان بدون محدوديّة، لأنّه ينبغي تصور جسمين بصورة منفصلة عن بعضهما ليتّضح مفهوم المكان من مقايسَتهما مع بعضهما، لذا يقول هؤلاء الفلاسفة: إنّ كُلّ العالم ليس له مكان لأنّه لا يوجد شي ء خارج عنه ليُقاس به، أمّا المكان فلأجزاء العالم فقط.

ومن جهةٍثالثة إذا كان للَّه مكان لاستلزم أن يكون له أعضاء وأجزاء، لأنّ ذرات الجسم- بالقياس مع بعضها- تمتلك أمكنة مختلفة، كأن تكون إحداها في الأعلى والاخرى في الأسفل، إحداها في جهة اليمين والاخرى في جهة اليسار، وإذا اعتقدنا بتركيب اللَّه تعالى فستبرز مسألة حاجته إلى هذه الأجزاء والتي لاتتناسب مع وجوب وجوده.

ونفس هذا البحث يرد في مفهوم الزمان، فالذين يعتقدون بأنّ الزمان ظرف مخلوق قبل الأشياء، والأشياء الماديّة تدخله بعد الخلق والتكوُّن وتحتاج إليه، وبتعبيرٍ آخر: الزمان حقيقة مستقلّة سيّالة مخلوقة قبل جميع الأشياء الماديّة، ويُمكن أن يكون موجوداً حتّى بعد فنائها، في هذه الحالة يتّضح عدم إحاطة الزمان باللَّه تعالى، لأنّه يستلزم الحاجة إلى شي ء وهو الغني عن كُلّ شي ء.

وإن اعتقدنا،- طبقاً لنظرية الفلاسفة المتأخرين،- بأنّه وليد حركة أشياء العالَم أو الحركة الجوهريّة للأشياء، فإنّه محال بشأن الباري، لأنّه وجود كامل وغير محدود من كل ناحية، ووجود كهذا لا يمكن تصور الحركة بشأنه (أي لا مفهوم لها)، إذن لا يسعه الزمان.

2- لا يحلُّ اللَّه في شي ء

يعتقد جماعة من المسيحيين بأن اللَّه تعالى قد حل في المسيح عليه السلام، واعتقد جماعة من المتصوّفة بمثل ذلك في أقطابهم، إذ قالوا إنّ اللَّه تعالى قد حلَّ في وجودهم.

وكما قال العلّامة المرحوم الحلّي رحمه الله في (كشف المُراد): «لا

ريب في سخافة وزيف هذه العقيدة، لأنّ ما يُمكن تصوُّره من الحلول هو: أنّ يحل موجود قائم في موجودٍ آخر- كقولنا:

حلّ العطر في الورد- وهذا المعنى لا يُمكن تَصوره بخصوص اللَّه، لأنّه يسْتلزم اشغال حيزّ

نفحات القرآن، ج 4، ص: 203

من المكان والحاجة إليه، وهو أمر محال بالنسبة لواجب الوجود، والذين يعتقدون بحلول اللَّه في شي ء سيتورطون بنوع من الشرك، وهم خارجون عن سلك الموحدين» «1».

3- معنى حضور اللَّه تعالى في كُلّ مكان!

يُمكن أن يتصور البعض حضور اللَّه سبحانه في كل مكان كوجود قوة الجاذبّية أو وجود الأثير وهي موجات مفترضة ليس لها وزن ولا لون تملأ الوجود بأكمله وموجودة حتى في الفراغ)، في حين أن جميع هذه الامور هي من قبيل الوجود في مكان، أي وجود قسم من أمواج الجاذبية أو امواج الأثير في كل زاوية من زوايا العالَمْ، وهذا الموضوع يَستلزم: وجود الأجزاء المركّبة من ناحيه، والحاجة إلى المكان من ناحيةٍ اخرى

في حين أنّ مفهوم وجود اللَّه سبحانه في كل مكان هو أنّه تعالى فوق المكان، لذا فلا معنى للبعد والقرب عنده، وإذا أردنا أن نتصّور مثالًا- مع أنّه لا يفي بالغرض- حول هذا المفهوم، يجب أن نشبه حضوره بحضور المعادلات العلميّة، والمسائل العقليّة في كُلّ مكان، كقولنا: الكل أكبر من الجزء، واستحالة اجتماع النقيضين، و 2* 2/ 4.

وتصدق مثل هذه الأمور في الكرة الأرضية، وفي كوكب القمر، وفي كوكب المريخ، وفي ما وراء المجّرات، فالكل أكبر من الجزء في جميع هذه الأمكنة، واجتماع النقيضين محال فيها أيضاً، في حين أنّه لا يوجد مكان ومحل معين لهما.

ومن الأهميّة بمكان الالتفات إلى هذه الصفة الإلهيّة: وهي مثول العالم بأكمله بين يدي اللَّه سبحانه له تأثير تربويٌ عميق في نفس الإنسان،

فكيف يُمكن أن يكون لأحدٍ إيمانٌ بمثل هذا الأمر ويرى حضور مولاه العظيم الحكيم وولي نعمته، ويسلك طريق الخطايا ويلوّث نفسه بالذنوب المشينة ويعصي أوامره!؟

واللطيف هو أن الآيات التي ذكرناها بخصوص حضور اللَّه تعالى في كل مكان، تؤكّد

__________________________________________________

(1) كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد للعلّامة الحلي، ص 227.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 204

غالباً على نفس هذا الأثر التربوي، لذلك فقد ورد في بعضها: «وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ»، وفي البعض الأخر: «وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ».

فليس الحضور الإلهي خارج وجودنا فقط، فهو تعالى موجودٌ في نفوسنا وقلوبنا وأعماق أرواحنا أيضاً، كما قال مولى المتقين علي عليه السلام، في وصف اللَّه عز وجل «الباطن لكل خفيّة، والحاضر لكُلّ سريرة، العالمُ بما تكنُّ الصدور وما تخون العيون» «1».

وقال عليه السلام في خطبةٍ أخرى «فاتقوا اللَّه الذي أنتم بعينه، ونواصيكُم بيده، وتقلبكم في قبضته، إن أسررتُم علمهُ، وإن أعلنتم كتبَهُ» «2».

4- لماذا نرفع أيدينا إلى السماء أثناء الدعاء؟

غالباً ما يُطرح هذا السؤال من قبل عامّة النّاس وهو: إذا لم يكن للَّه تعالى مكانٌ معيّنٌ فلماذا ننظر إلى السماء أثناء الدعاء؟ ونرفع أيدينا نحو السماء؟ فهل هو سبحانه موجودٌ في السماء «والعياذ باللَّه»؟

وقد طُرح هذا السؤال في زمان الأئمّة المعصومين عليهم السلام أيضاً، فقد روى «هشام بن الحكم» أنّ زنديقاً دخل على الإمام الصادق عليه السلام وسأله عن آية «الرحمن على العرش استوى .

فأجابه الإمام عليه السلام موضحّاً: «.... ونفينا أن يكون العرش أو الكرسي حاوياً له، وأن يكون عزّ وجلّ محتاجاً إلى شي ء مما خلق، بل خلقه محتاجون إليه».

فقال السائل: إذن، لا فرق في أن ترفعوا أيديكم أثناء الدعاء إلى السماء أو تنزلوها إلى الأرض!

فقال الإمام عليه السلام: «ذلك في علمه واحاطته وقدرته سواء، ولكنه

عزَّ وجلّ أمر أولياءه

__________________________________________________

(1) نهج البلاغة، الخطبة 132.

(2) المصدر السابق، الخطبة 183.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 205

وعباده برفع أيديهم إلى السماء نحو العرش، لأنّه جعله معدن الرزق، فثبتنا ما ثبته القرآن والأخبار عن الرسول صلى الله عليه و آله حيث قال: ارفعوا أيديكم إلى اللَّه عزّ وجلّ، وهذا يجمع عليه فرق الأمة كلها» «1».

ورد في الخصال عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، في حديثٍ آخر أنّه قال: «إذا فرغ أحدكم من الصلوة فليرفع يديه إلى السماء، ولينصبّ في الدعاء. فقال ابن سبأ: ياأمير المؤمنين أليس اللَّه عز وجلّ في كل مكان؟ قال: بلى قال: فلم يرفع يديه إلى السماء؟ فقال: أو ما تقرأ: «وفي السماء رزقكم وما توعدون» فمن أين تطلب الرزق إلّامن موضع الرزق وما وعد اللَّه عزّ وجلّ في السماء» «2».

وطبقاً لما جاء في هذه الروايات فإنّ أغلب أرزاق الناس تنزل من السماء، (فالمطر الذي يُحيي الأرض الميتة ينزلُ من السماء، ونور الشمس الذي يُعَدُّ منبعاً للحياة، يشعُ من السماء، والهواء الذي يُعد العامل المهم الثالث للحياة، موجود في السماء، فإنّ السماء عُرفَتْ كمعدنٍ للبركات والأرزاق الإلهيّة، وتُرفَعُ الأيدي نحوها عند الدعاء طلباً ورجاءً من خالق ومالك كل تلك الأرزاق في حل المعضلات.

ويُستنتج من بعض الأخبار أيضاً أنّ هذا المفهوم لاينحصر بالمسلمين فقط، بل كان موجوداً في بقية الأُمم كذلك، كما نقل المرحوم (الفيض الكاشاني) في كتاب المحجّة البيضاء عن (مالك بن دينار) أنّه قال: أصاب الناس من بني اسرائيل قحط، فخرجوا مراراً فأوحى اللَّه تعالى إلى نبيّهم أن أخبرهم: «إنّما تخرجون إليَّ بأبدان نجسه، وترفعون إليَّ اكفّاً قد سفكتم بها الدماء، وملأتم بطونكم من الحرام الآن قد اشتد غضبي

عليكم ولن تزدادوا منّي إلّابعداً» «3».

ويستنتج من بعض الروايات وجود فلسفة اخرى لهذا العمل وهو إظهار الخضوع

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار، ج 3، ص 330؛ توحيد الصدوق، ج 1، ص 248، الباب 36.

(2) بحار الأنوار، ج 90، ص 308، ح 7، وقد ورد الحديثان السابقان في تفسير نور الثقلين، ج 5، ص 124- 125.

(3) المحجة البيضاء، ج 2، ص 298.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 206

والتذَلُّل للباري، لأنّ الإنسان يرفع يديه حينما يظهر خضوعه واستسلامه لشخص أو شي ء معين.

وفي حديثٍ للإمام الباقر عليه السلام في تفسير آية «فما استكانوا لربّهم وما يتضرّعون».

فقال عليه السلام: «الاستكانة هو الخضوع، والتضرع هو رفع اليدين والتضرع بهما» «1».

5- نفي المكانية عن اللَّه في الروايات الإسلامية

طُرحت هذه المسألة بشكل واسعٍ في الروايات الإسلاميّة في: أصول الكافي، بحار الأنوار، نهج البلاغة، توحيد الصدوق، وغيرها، وذِكْرُها جميعاً لا يتناسب مع طريقة اختصار الكتاب، لذا نكتفي بنفحات منها:

1- عن أبي عبد اللَّه الصادق عليه السلام أنّه قال: «إنّ اللَّه تبارك وتعالى لا يوصف بزمان، ولا مكان، ولا حركة، ولا انتقال، ولا سكون؛ بل هو خالق الزمان والمكان والحركة والسكون والانتقال، تعالى اللَّه عما يقول الظالمون علواً كبيراً» «2».

2- وجاء في حديث آخر أنّ أمير المؤمنين عليه السلام سمع رجلًا يقول: «والذي احتجب بسبع طباق؛ فعلاه بالدرّه، ثم قال له: ياويلك إنّ اللَّه أجلَّ من أن يحتجب عن شي ء، أو يحتجب عنه شي ء سبحان الذي لا يحويه مكان، ولا يخفى عليه شي ء في الأرض ولا في السماء؛ فقال الرجل: أفأكفّر عن يميني ياأمير المؤمنين؟ قال: لا لم تحلف باللَّه فيلزمك الكفارة، وإنّما حلفت بغيره» «3».

3- وورد في حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام: «إنّ سليمان بن مهران سأله

هل يجوز أن نقول: إنّ اللَّه عزّ وجلّ في مكان؟ فقال: سبحان اللَّه وتعالى عن ذلك إنّه لو كان في مكان لكان مُحْدَثاً، لأنّ الكائن في مكان محتاج إلى المكان والاحتياج من صفات المحدث لا من صفات القديم» «4».

__________________________________________________

(1) أصول الكافي، ج 2، ص 479 (باب الرغبة والرجعة) ح 2.

(2) بحار الأنوار، ج 3، ص 309.

(3) المصدر السابق، ج 3، ص 310.

(4) التوحيد للصدوق، ص 178، ح 11.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 207

4- سُئل أمير المؤمنين عليه السلام: «أين كان ربّنا قبل أن يخلق سماءً وأرضاً؟ فقال عليه السلام: (اين) سؤال عن مكان، وكان اللَّه ولا مكان» «1».

5- وجاء في حديث عن الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام أنّه قال: «إنّ اللَّه تبارك وتعالى كان لم يزل بلا زمان ولا مكان وهو الآن كما كان، لا يخلو منه مكان ولايشغل به مكان، ولا يحل في مكان، ما يكون من نجوى ثلاثة إلّاهو رابعهم ولا خمسة إلّاوهو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلّاهو معهم اينما كانوا ليس بينه وبين خلقه حجاب غير خلقه، احتجب بغير حجاب محجوب، واستتر بغير ستر مستور لا إله إلّاهو الكبير المتعال» «2».

تدل هذه الأحاديث بمنتهى الوضوح على أنّ كل مَن سأل الأئمّة المعصومين عليهم السلام عن مكان اللَّه، سمع رداً سلبياً وتعابير متناغمة، غنية صريحة، وواضحة تدفع كل ابهام في هذا المجال عن قلوب المشتاقين.

6- ورد في (الإرشاد) و (الاحتجاج): «أنّ اثنين من أحبار اليهود دخلا المدينة وسألا عن الخليفة، فأرشِدا إلى أبي بكر، فلمّا نظرا إليه قالا: ليس هذا صاحبنا، ثم قالا له: ما قرابتك من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال:

إنّي رجل من عشيرته، وهو زوج ابنتي عائشة، قالا: هل غير هذا؟ قال: لا، قالا: ليست هذه بقرابة، قالا: فأخبرنا أين ربّك؟ قال فوق سبع سموات، قالا: هل غير هذا؟ قال: لا، قالا: دُلّنا على من هو أعلم منك؟ فانّك أنت لست بالرجل الذي نجد صفته في التوراة أنّه وصي هذا النبي وخليفته! قال: فتغيّظ من قولهما وهمّ بهما، ثم أرشدهماإلى عمر، وذلك أنّه عرف من عمر أنّهما إن استقبلاه بشي ء بطش بهما، فلما أتياه قالا: ما قرابتك من هذا النبي؟ قال: أنا من عشيرته، وهو زوج ابنتي حفصة، قالا: هل غير هذا؟ قال: لا، قالا: ليست هذه بقرابة، وليست هذه الصفة التي نجدها في التوراة! ثم قالا:

فاين ربك؟ قال: فوق سبع سموات، قالا: هل غير هذا؟ قال: لا، قالا: دُلّنا على من هو أعلم منك؟ فأرشدهما إلى علي عليه السلام، فلما جاءاه فنظرا إليه قال أحدهما لصاحبه: إنّه الرجل

__________________________________________________

(1) توحيد الصدوق، ص 175، ح 4.

(2) المصدر السابق، ص 178، ح 12.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 208

الذي نجد صفته في التوراة: أنّه وصي هذا النبي وخليفته وزوج ابنته وأبو السبطين والقائم بالحق من بعده، ثم قالا لعلي عليه السلام: أيّها الرجل ما قرابتك من رسول اللَّه؟ قال: هو أخي، وأنا وارثه ووصيه وأول من آمن به وأنا زوج ابنته فاطمة، قالا له: هذه القرابة الفاخرة والمنزلة القريبة، وهذه الصفة التي نجدها في التوارة ثم قالا له: فاين ربّك عزّ وجلّ؟ قال لهما علي عليه السلام: إن شئتما أنبأتكما بالذي كان على عهد نبيّكما موسى عليه السلام وإن شئتما انبئتكما بالذي كان على عهد نبيّنا محمد صلى الله عليه و آله، قالا: أنبئنا

بالذي كان على عهد نبيّنا موسى عليه السلام؟ قال علي عليه السلام: أقبل أربعة أملاك: ملك من المشرق، وملك من المغرب، وملك من السماء، وملك من الأرض، فقال صاحب المشرق لصاحب المغرب: من أين أقبلت؟ قال: أقبلت من عند ربّي، وقال صاحب المغرب لصاحب المشرق: من أين أقبلت؟ قال: أقبلت من عند ربي، وقال النازل من السماء للخارج من الأرض: من أين أقبلت؟ قال: أقبلت من عند ربي، وقال الخارج من الأرض للنازل من السماء: من أين أقبلت؟ قال: أقبلت من عند ربي، فهذا ماكان على عهد نبيّكما موسى عليه السلام .... قال اليهوديان: ما منع صاحبيك أن يكونا جعلاك في موضعك الذي أنت أهله؟! فوالذي أنزل التوراة على موسى أنّك لأنت الخليفة حقاً نجد صفتك في كتبنا ونقرأُه في كنائسنا، وأنّك لأحق لهذا الأمر وأولى به ممن قد غلبك عليه، فقال علي عليه السلام: قدّما واخّرا وحسابهما على اللَّه عزّ وجلّ يوقفان ويُسألان» «1».

7- نختتم هذا البحث بجُمل واضحة من نهج البلاغة عن أمير المؤمنين الإمام علي عليه السلام:

قال عليه السلام في الخطبة 178 من نهج البلاغة: «لا يغيّره زمان، ولا يحويه مكان، ولا يصفه لسان».

وقال عليه السلام في الخطبة 186 من نهج البلاغه: «وإنّ اللَّه سبحانه يعود بعد فناء الدنيا وحده، لا شي ء معه، كما كان قبل ابتدائها .... بلا وقت ولا مكان ولا حين ولا زمان».

وفي الخطبة 49 من نهج البلاغة قال عليه السلام: «سبق في العلو فلا شي ء أعلى منه، وقرب في الدنو فلا شي ء أقرب منه، فلا استعلاؤُه باعده عن شي ء من خلقه، ولا قربه ساواهم في المكان به».

__________________________________________________

(1) كتاب التوحيد للصدوق، ص 180، ح 15.

نفحات القرآن، ج 4،

ص: 209

هذا هو ما وصلنا من المنطق الصحيح والمعارف الحقة لأهل البيت عليهم السلام حول اللَّه سبحانه وتعالى.

6- تبريرات المخالفين

أثبت تاريخ العقائد الإسلاميّة بأنّ المنحرفين عن أصول الدين المعروفة كانوا يسْتعينون بالآيات المتشابهة لإثبات مقاصدهم دون أن يلتفتوا إلى القانون الذي طرحهُ القرآن في هذا المجال، وهو تفسير المتشابهات في ظل المحكمات.

وقد لجأ القائلون بوجود مكان للَّه تعالى، والقائلون بوجود جسم له أيضاً إلى بعض الآيات المتشابهات واعتبروها كافيةً لإثبات ادّعائهم بصورة منفصلة عن بقية الآيات القرآنية، إليكم أهمها:

1- «الرَّحْمَنُ عَلى العَرشِ اسْتَوَى . (طه/ 5)

تصور هؤلاء بأنّ (العرش) سريرٌ في أعلى السموات، يجلس اللَّه عليه، ويصدر أوامره إلى الملائكة!

فهم يتغافلون عن أنّ هذا تعبيرٌ كنائي يُستعمل في الكثير من العبارات المتداولة، وهو كناية عن السلطة والقدرة.

ويجدر التوضيح بأنّ الملوك القدماء كانوا يمتلكون نوعين من العرش:

الأول: مرتفع يطلق عليه العرب إسم (العرش)، يجلس عليه الملك في الأيام الخاصّة ذات الطابع الرسمي.

والثاني: منخفض، يأتي إليه الملك كل يوم ويجلس عليه في الحالات الطبيعية ليمارس عمله ويصدر أحكامه وأوامره ويدبّر أمور البلاد، ويُطلق عليه العرب (الكرسي).

واستُعملت كلمتا (العرش) و (الكرسي) رويداً رويداً كرمزين وكنايتين عن السلطة، وهذا المفهوم واضح في التعابير التالية:

نفحات القرآن، ج 4، ص: 210

يقال: نَحَّوا الشخص الفلاني عن عرشه أي سُلبَت سلطتُهُ. أو فلانٌ فُلَّ عرشُهُ، أي انتهت حكومته، أو إنَّ الحادثة الفلانية هزَّتْ أركان عرشِ فلان أي زلزلت سلطتهُ، ومن قبيل هذه التعابير.

وَعليه فعرش اللَّه معناه العالم العلوي، وكرسيُّهُ معناه العالم السفلي، أو إنّ العرش إشارة إلى عالم ما وراء الطبيعة والمجرّدات، والكرسي إشارة إلى عالم المادّة، والشاهد على هذا الكلام آية: «وَسِعَ كُرسِيُّهُ السَّمَواتِ وَالأَرضَ». (البقرة/ 255)

فعندما يكون كُرسي اللَّه قد وسع جميع السموات

والأرض فإنّه يعني أنّ عرشه ما وراء السموات والأرض، أي ما وراء عالم الطبيعة «1».

بناءً على ذلك فحينما يُقال: الرحمن على العرش استوى، فالمقصود منه أنّ حاكميته، ومالكيته، وسلطته شملت العالم العلوي بوسعه، والعالم السفلي بتمامه.

وهذا الأمر واضحٌ جدّاً، ويُمكن للآيات القرآنية التي تنفي وجود مكان للَّه (وأوردناها في بداية الكلام)، أن تكون خير دليلٍ على تفسير هذا الأمر.

ورد في تفسير الميزان أنّ الآية التي تلت هذه الآية (طه/ 6) تقول: «لَهُ مَا فِى السَّماوَاتِ وَمَا فِى الأَرضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحتَ الثَّرَى ، وهي قرينة واضحة لتفسيرها «2».

وردَّ الفخر الرازي في تفسيره على استدلال المشبِّهة، بهذه الآية على جلوس اللَّه على عرشه، بعشر أدلة عقليّة ونقليّة، من جملتها: إنّ اللَّه كان موجوداً قبل خَلق العرش أو أي مكانٍ آخر، فهو لم يكُن محتاجاً إلى المكان منذ الأزل، فكيف يُمكن أن يحتاج إلى مكان بعد خلق العرش؟!

والآخر هو: لو أنّ اللَّه تعالى جالسٌ على عرشه وفقاً لتصور هذه الجماعة لاستلزم أن يكون جزء من وجوده الكائن على يمين العرش غير الجزء الموجود على يساره! ولاستلزم

__________________________________________________

(1) لما كان الاستواء على العرش وهو سرير الملك ممّا يردف الملك، جعلوه كنايةً عن الملك فقالوا: استوى فلان على العرش يريدون مُلك وإن لم يقعد على السرير البتة، الكشاف ج 3، ص 52.

(2) تفسير الميزان، ج 14، ص 131.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 211

التركيب، والأخير يحتاج إلى الأجزاء بدوره، (وهذا محال).

والآخر هو قول القرآن عن إبراهيم عليه السلام: «لَآأُحِبُّ الآفِلِينَ». (الأنعام/ 76)

يُشير إلى حضوره تعالى في كل مكان، فلو كان جالساً على عرشه للزم أن يكون غائباً ومختفياً دائماً، وهذا عين الأفول!

ومن جهةٍ اخرى يشير القرآن الكريم

في الآية 17 من سورة الحاقّة إلى حملة العرش من الملائكة، وبناءً على معتَقد جماعة (المشبّهة) يستلزم أن يكون اللَّه بحاجة إلى ملائكة العرش ليحفظوه! في حين أنّ اللَّه على كل شي ءٍ حفيظ.

علاوةً على كون جميع آيات التوحيد ونفي التشبيه من المحكمات، ونحن نعلم بأنّ ما يلزم التوحيد ونفي الكفؤ عنه تعالى هو نفي الجزئية عنه بكل ألوانها، وهذا لايتناسب مع استقراره في مكان معين .... (ودلائل اخرى) «1».

ومن جملة الآيات التي استعان بها هؤلاء الجماعة، هي الآية 22 من سورة الفجر، فبعد أن شرح سبحانه حوادث نهاية الدنيا وقيام القيامة قال: «وَجَاءَ رَبُّكَ وَالمَلَكُ صَفًّا صَفًّا».

طبعاً، كما قال أكثر المفسّرين: إنّ المقصود من الآية هو مجي الأمر الإلهي لمحاسبة الناس، أو حلول آيات عظمته، لأنّ هذه الآيات والدلائل عظيمة لدرجة بحيث وكأنّ مجيئها يُعبّر عن مجي الذات الإلهيّة المقدّسة وتجلو كل أنواع الريب والشك من القلوب «2».

من هنا فقد ورد بصريح العبارة في الآيات التي قرأناها سابقاً أنّ اللَّه موجود في كل مكان، ولا يخلو مكانٌ من ذاته المقدّسة، ولا يسعه مكان في نفس الوقت: «وَهُوَ مَعَكُم أَيْنَ مَا كُنْتُم».

مع هذا فكيف يُمكن أن ينتقل من محلٍ لآخر، كما استنتج (جماعة المشبهّة) من ظاهر كلمة (جاء) منها: «وَهُوَ مَعَكُم أَيْنَ مَا كُنتُم». (الحديد/ 4)

ومنها: «وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيهِ مِن حَبلِ الوَرِيدِ». (ق/ 16)

__________________________________________________

(1) تفسير الكبير، ج 22، ص 5.

(2) تفاسير، مجمع البيان، الميزان، القرطبي، روح الجنان وغيرها.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 212

ومنها: «فَأَينَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجهُ اللَّهِ». (البقرة/ 115)

ومنها: «هُوَ الَّذِى فِى السَّمَاءِ الَهٌ وَفِى الأَرضِ إِلَهٌ». (الزخرف/ 84)

كيف يُتصوَّر انتقالُه من مكانٍ لآخر؟

علاوةً على أنّ التغيير، والزوال، والغروب، والأفول، والحاجة إلى المكان،

تعتبر من لوازم الانتقال.

والشاهد على هذا التفسير، قوله تعالى: «هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ المَلَائِكةُ أَو يَأتِىَ أَمرُ رَبِّكَ». (أي الموت أو العذاب الإلهي). (النحل/ 33)

ولكن تُلاحظ تعابير من هذا القبيل في بعض الآيات القرآنية أيضاً مثل: «إِلَيهِ يَصعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ». (فاطر/ 10)

و: «تَعْرُجُ المَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيهِ». (المعارج/ 4)

و: «لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَآؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقوَى مِنكُم». (الحج/ 37)

ومن المسلَّم به أنّ جميع هذه التعابير تُشير إلى الصعود المعنوي، والعروج الروحي، والقرب الباطني، بقرائن نفس الآيات، لأنّ العمل ليس بالشي ء الذي يصعد إلى السموات الظاهريّة، وكذلك التقوى ليس لها عروج جِسْمانيّ، (تأمل جيداً).

لكن الذين لاينتبهون إلى هذه الحقائق ويتقيّدون بالألفاظ فقط يسلكون طريق الخرافات ظنّاً بأنّهم يرون الحقيقة.

وقد وردت تعابير في بعض الآيات أيضاً تبيّن في الواقع عقيدة الكافرين، لكن الجهلاء اتخذوها مبرراً للقول بوجود جسمٍ ومكانٍ للَّه تعالى من دون الإنتباه إلى ذلك، فمثلًا نقرأ في قوله تعالى: «هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن يَأتِيهُمُ اللَّهُ فِى ظُلَلٍ مِّنَ الغَمَامِ وَالمَلَائِكَةُ». (البقرة/ 210)

(ماأسخفه من مُعتقَد وتصورٍ ساذجٍ).

وعليه فإنّ الإستفهام الموجود في الآية هو بالحقيقة استفهامٌ إستنكاري، أي عدم إمكانية تحققُ مثل هذا الشي ء «1».

__________________________________________________

(1) فسّر بعض المفسّرين الاستفهام الموجود في الآية بأنّه استفهام تحذيري، وقدّروا كلمة (أمر) محذوفة كما مرّ في بعض الآيات السابقة، وقالوا: إنّ على هذه الجماعة من الكفار أن ينتظروا مجي أمر اللَّه بالعذاب ومجي ملائكة الحساب لمحاسبتهم.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 213

وخلاصة الكلام هو أنّ وضوح تفسير مثل هذه الآيات موقوف على قليل من الدقّة، والرجوع إلى الآيات المحكمات بالنسبة إلى نفي الجسم، والمكان، والزمان للَّه سبحانه وتعالى، فلا يبقى محلٌ للاشتباه والشك والريب.

7- المتصوّفة ومسألة الحلول

قال العلّامة الحلّي رحمه الله في

كتاب نهج الحق: «إنّ إتحاد اللَّه مع غيره بحيث يصيران شيئاً واحداً باطل، بل وبطلانه يُعَدُّ من البديهيات،، ثم أضاف قائلًا: رفض جماعة من متصوفة أهل السُّنة هذه الحقيقة وقالوا: إنّ اللَّه يتحد مع بدن العرفاء ويصيرا شيئاً واحداً!! وحتى قال بعضهم: اللَّه عين الموجودات وكل موجودٍ هو اللَّه، إشارة إلى مسألة وحدة الوجود المصداقيّة، ثم قال: هذا عين الكفر والإلحاد، والحمد للَّه الذي أبعدنا عن أصحاب هذه العقائد الباطلة ببركة الإلتزام بمذهب أئمة أهل البيت عليهم السلام.

وقال في بحث الحلول: من المسائل المسلَّم بها أنّ أيّ موجودٍ يريد أن يحلّ في آخر يحتاج إلى مكان، ولأنّ اللَّه واجب الوجود ولا يحتاج إلى شي ء، إذن فحلوله في الأشياء مُحال.

ثم أضاف قائلًا: «رفض متصوفة أهل السُّنَة هذه المسألة واعتقدوا بإمكانية حلول اللَّه في بدن العرفاء»، ثمَّ ذمَّ هذه الجماعة بشدة وقال: ولقد شاهدتُ جماعة من الصوفية في حضرة الإمام الحسين عليه السلام وقد صلّوا صلاة المغرب سوى شخصٍ واحدٍ منهم كان جالساً لم يُصلِّ، ثم صلّوا بعد ساعةٍ صلاة العشاء سوى ذلك الشخص الذي ظلّ جالساً!.

فسألتُ بعضهم عن ترك صلاة ذلك الشخص فقال: ما حاجة هذا إلى الصلاة وقد وصل! أَفهل يجوز أن يجْعلَ بينه وبين اللَّه تعالى حاجباً؟ فقلتُ: لا، فقال: الصلاة حاجب بين العبد وربّه!» «1».

__________________________________________________

(1) نهج الحق، ص 58 و 59.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 214

وقد ورد نفس هذا المفهوم في مقدمة الدفتر الخامس لكتاب المثنوي بنحوٍ آخر، يقول:

«يصح ذلك إذا بلغت المقصود، لذا فقد قالوا: لوظهرت الحقائق بطلت الشرائع!، وشبّه الشريعة بعلم الكيمياء (العلم الذي يمكن بواسطته استخلاص الذهب من النحاس) فقال:

ماحاجة الذهب الأصيل، أو الذهب المستخلَص إلى علم الكيمياء!؟ فكما

قالوا: طلب الدليل بعد الوصول إلى المدلول قبيح!» «1».

وقد نُقلَ عن (صاحب المواقف) في كتاب (دلائل الصدق) في شرح (نهج الحق) قوله بأنّ نفي (الحلول) و (الإتحاد) ثلاث طوائف، واعتبر بعضَ المتصوّفة من الجماعة الثانية وقال: إنّ كلامهم متذبذب بين الحلول والإتحاد (يُقصد بالحلول نفوذ اللَّه في الأشياء ويُقصد بالإتحاد الوحدة بينه وبين الأشياء).

ثم أضاف قائلًا: رأيتُ بعض (المتصوّفة الوجوديين) يُنكرون الحلول والإتحاد، ويقولون: توحي هاتان الكلمتان بمغايرة اللَّه للمخلوقين، ونحن لا نؤمن بذلك! فنحن نقول:

(ليس في دار الوجود غيره ديّار)!!

وهنا يقول صاحب المواقف: إنّ هذا العذر أقبح من الذنب «2».

وبالطبع فإنّ للمتصوفة الكثير من قبيل هذا الكلام الذي لا يتناسب مع الموازين ومنطق العقل، ولا مع منطق الشرع.

وعلى أيّة حال فإنّ الأتحاد الحقيقي بين شيئين محالٌ، كما ورد في كلام المرحوم العلّامة، لأنّ هذا الكلام عين التّضاد، فكيف يُمكن لشيئين أن يصيرا شيئاً واحداً، إضافةً إلى ذلك فلو اعتقد أحدٌ باتحاد اللَّه مع جميع المخلوقات أو خواص العرفاء والواصلين، لاستلزم أن يتصف بصفات الممكنات كالزمان، والمكان، والتغيُّر، وما شاكل ذلك.

وأمّا بخصوص (الحلول)، أي نفوذ اللَّه في الأشياء، فيستلزم خضوعه للمكان، وهذا

__________________________________________________

(1) دفتر المثنوي الخامس، ص 818.

(2) دلائل الصدوق، ج 1، ص 137.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 215

شي ءٌ لا يتناسب أبداً مع وجوب وجود اللَّه سبحانه وتعالى «1».

والخلاصة أنّ الصوفيين يعتقدون بعدم إمكانية إثبات مثل هذه الإدّعاءات بالأدلة العقليّة، وغالباً ما يفصلون طريقهم عن طريق العقل، ويستعينون بسلسلة من المسائل الذوقيّة الخياليّة التي يسمّونها (طريق القلب)، ومن المسلم به أنّه لايُمكن التوقُّع ممن يرفض منطق العقل سوى هذا الكلام المتناقض.

ولذلك فقد ابتعد عنهم كبار العلماء وطردوهم دائماً وفي جميع العصور.

فالقرآن الكريم يستند

في الكثير من آياته إلى العقل والبرهان ويعدّهما طريقاً لمعرفة اللَّه.

وبهذا الكلام، وبالبحوث التي أوردناها بصدد (نفي الشريك والشبه)، و (نفي الصفات الزائدة عن الذات الإلهيّة المقدّسة)، نصل إلى نهاية بحث (صفات جلال اللَّه) بصورة كليّة وأساسيّة، وقد اتضحت لنا جزئياته في ظل الأصول التي ذُكرت، بصورة جيدة.

ولنبحث الآن صفات الفعل الإلهي بعونه تعالى.

__________________________________________________

(1) يجدر الأنتباه إلى أنّ نفس هذا المفهوم بخصوص بُطلان الحلول والإتحاد قد ورد في شرح تجريد العقائد للعلّامة الحلّي باستدلالٍ مفصَّل. (كشف المراد، ص 227، باب أنّه تعالى ليس بحالّ في غيره ونفي الإتّحاد عنه).

نفحات القرآن، ج 4، ص: 217

2- صفات فعل اللَّه

اشارة

نفحات القرآن، ج 4، ص: 219

تمهيد:

اشارة

يُعد تقسيم صفات اللَّه إلى صفات الذات وصفات الفعل من أشهر تقسيمات بحث الصفات، وقد ذكرنا ذلك سابقاً.

ف (صفات الذات) وهي الصفات التي هي نفس الذات الإلهيّة المقدّسة كانت ثابتة للَّه حتى قبل صدور الأفعال منه تعالى، كأزليته وأبديته وعلمه وسلطانه.

أمّا (صفات الفعل) فهي الصفات التي تُطلق عليه بملاحظة صدور فعل معين من ذاته المقدّسة كالخالق والرازق، فمن المسلَّم أنّ هذه الصفة لم تكن لتُطلَق عليه قبل أن يخلق مخلوقاً ويرزقه، وبالطبع فقد كانت له القدرة على الخلق والرزق، إلّاأنّ صفة الخالق والرازق لم تكن تصدق عليه.

وعليه فصفات الفعل حادثة، وهي ليست نفس ذات اللَّه طبعاً، وبالحقيقة هي مفاهيم موجودة في أذهاننا.

فما هو موجودٌ في الخارج هو الذات الإلهيّة المقدّسة والأفعال الإلهيّة، وعندما نلاحظ صدور هذه الأفعال من الذات المقدّسة ننتزع هذه الصفات في أذهاننا- بتعبير علمائنا الكبار- ونقول هو الخالق والرازق والمحيي والمميت، (وسنوضح ذلك فيما بعد).

ولأنّ أفعال اللَّه غير محدودة، فإنّ صفاته الفعلية غير محدودة كذلك. أمّا أهم الصفات الفعليّة التي وصف القرآن الكريم الذات الإلهيّة المقدّسة بها والتي لها آثار تربوية عميقة جدّاً على حياة البشر علاوةً على اكمال معرفتهم باللَّه، وكلٌّ منها تهدي الإنسان وتعينه على سلوك مراحل تكامل الصفات الإنسانية، هي مايلي: 1- الخالق، 2- الخلّاق، 3- أحسن الخالقين، 4- الفاطر، 5- البارئ، 6- الفالق، 7- البديع، 8- المصور، 9- المالك، 10- الملك، 11- الحاكم، 12- الحكيم، 13- الرب، 14- الولي، 15- الوالي، 16- المولى

نفحات القرآن، ج 4، ص: 220

17- الحافظ، 18- الحفيظ، 19- الرقيب، 20- المهيمن، 21- الرازق، 22- الرزاق، 23- الكريم، 24- الحميد، 25- الفتاح، 26- الرحمن، 27- الرحيم، 28- ارحم

الراحمين، 29- الودود، 30- الرؤوف، 31- اللطيف، 32- الحفيّ، 33- الغافر، 34- الغفور، 35- الغفار، 36- العفو، 37- التوّاب، 38- الجبار، 39- الشكور، 40- الشاكر، 41- الشفيع، 42- الوكيل، 43- الكافي، 44- الحسيب، 45- سريع الحساب، 46- اسرع الحاسبين، 47- سريع العقاب، 48- شديد العقاب، 49- النصير، 50- نعم النصير، 51- خير الناصرين، 52- القاهر، 53- القهار، 54- الغالب، 55- السلام، 56- المؤمن، 57- المحي، 58- الشهيد، 59- الهادي و 60- الخير.

ويجدر الإنتباه أيضاً إلى هذه المسألة وهي: إنّ الصفات الستّين المذكورة أعلاه والتي وردت في الآيات القرآنية المختلفة ذات مفاهيم قريبة من بعضها، لذا سنبحث كل مجموعة متقاربة في فصلٍ خاصٍ.

وهنالك بعض الصفات أيضاً ذات مفهومَيْن متفاوتَيْن، تبعاً لإرجاعها إلى (صفات الذات) و (صفات الفعل) كما سنتطرّق إلى ذلك في قسم التوضيحات إن شاء اللَّه.

1- الخالق 2- الخلّاق 3- أحسن الخالقين
اشارة

وردت هذه الصفات في آيات قرآنية عديدة وفي حالات مختلفة:

1- «قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شى ءٍ». (الرعد/ 16)

فالآية أعلاه تشير إلى خلق جميع موجودات عالم الوجود.

2- «إِنِّى خَالِقُ بَشَراً مِّن طِينٍ». (ص/ 71)

تُشير هذه الآية إلى خلق الإنسان- الذي يعتبر أفضل مافي عالم الوجود- من موجودٍ حقير كالطين.

3- «هُوَ اللَّهُ الخَالِقُ البَارِئُ». (الحشر/ 24)

نفحات القرآن، ج 4، ص: 221

استُعملت صفة الخالقية هنا بصورتها المطلقة، ولم يُذكرْ أي اسمٍ من المخلوقات.

4- «إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الخَلَّاقُ العَلِيمُ». (الحجر/ 86)

أشارت الآية إلى الخلق الإلهي الواسع والمتنوّع.

5- «ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحسَنُ الخَالِقِينَ». (المؤمنون/ 14)

وهنا اشارةٌ إلى أهم وأرفع مخلوقات اللَّه، أي الإنسان، وذلك في مرحلة نفخ الروح، لذا فقد وُصِفَ الباري هنا بصفة أحسن الخالقين.

توضيح وبلاغ:

إنّ كلمة (الخالق) مشتقة من مادّة (خَلْق) وهي في الأصل بمعنى (القياس المباشر) و (الإيجاد والإبداع لأول مرّة) «1».

وأرجعها بعض أرباب اللغة إلى أصليْن: الأول هو المعنى الذي ذكرناه أعلاه، والثاني هو بمعنى الإستواء والتسطُّح «2».

قال في مقاييس اللغة: وأمّا الأصل الثاني فصخرة خلقاء أي ملساء ويقال: اخلولق السحاب أي استوى

ولكن لا يُسْتبعد صدور المعنيين من أصل واحد، وهو القياس والتنظيم والإبداع.

وعلى أيّة حال فالفرق شاسعٌ مابين تعبير الخالقية الذي قد يُستعمل أحياناً بالنسبة إلى العباد، وبين تعبير الخالقية الذي يُستعمل بالنسبة إلى اللَّه تعالى، والمشمول أيضاً بتعبير أحسن الخالقين، بل يصدق تعبير (الخلق) بمعناه الحقيقي بالنسبة إلى اللَّه فقط الذي يوجِدُ الموجودات من العدم دون وجود أي أثر مُسبَق، في حين لو ابتدع الإنسان أثراً صناعيّاً أو فنيّاً أو معمارياً فإنّما هو نتيجة تركيب ومزج مواد مختلفة مأخوذة من عالم الطبيعة،

__________________________________________________

(1) مفردات الراغب الأصفهاني.

(2) مقاييس اللغة.

نفحات القرآن،

ج 4، ص: 222

فيصنعها بأشكال كان قد رآها من قَبْل في عالم الوجود (أو يركّبُ أشكالًا مختلفةً سويةً)، وعليه، فلا المادّة من ابداعه ولا شكلها.

ويجب الإلتفات إلى كون صفة (الخالق) أو (الخلاق) من أوسع صفات الفعل الإلهي، والتي تشمل جميع عالم الوجود بأكمله، ومظهرهُ السماء والأرض وعالم المادّة وما وراء المادّة.

وخلقُ اللَّه يُعدُّ من أعظم الآيات الدالّة على وجوده، لأننا أينما نحط رحالنا نشاهد نماذج من خلقه ومخلوقاته التي تدل على وجوده.

ولذلك فكلُ واحدةٍ من الصفات الإلهيّة تحمل في معناها بلاغاً للناس، وهذا أحد الأهداف المهمّة من طرحها في القرآن الكريم الذي هو كتاب معرفة وتربية، إذ تقول هذه الصفة للإنسان: إنّ آثار الموجودات دليلٌ على وجود اللَّه، كأن تخترع أو تصنع شيئاً من الآثار العلميّة والاجتماعيّة وما شاكلها. فإن لم تترك أثراً من عندك فإنّك لا تمتلك أي شَبهٍ مع تلك الذات الإلهيّة الفريدة، ولم تتخلق بأخلاقه، ولم تتوفق لسلوك طريق القرب منه تعالى.

حاول أنت أيضاً أن تصنع آثاراً وتسْتنير بهذه الصفة الإلهيّة البارزة.

4- الفاطر 5- الباري 6- الخالق 7- البديع 8- المصوّر

إنّ الصفات الخمس المذكورة أعلاه هي بالحقيقة مشابهة لصفة (الخالق)، لكنها ممزوجة مع مفاهيم ومعانٍ ومسائل جديدة، لنتمعن خاشعين في الآيات التالية:

1- «فَاطِرَ السَّماوَاتِ وَالْأَرْضِ». «1» (يوسف/ 101)

__________________________________________________

(1) ورد هذا التعبير في ست آياتٍ من القرآن الكريم: الأنعام، 4؛ إبراهيم، 10؛ فاطر، 1؛ الزمر، 46؛ الشورى، 11؛ والآية الواردة في البحث.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 223

2- «هُوَ اللَّهُ الخَالِقُ البَارِئُ الْمُصَوّرُ». «1» (الحشر/ 24)

3- «إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الحَبِّ وَالنَّوَى . (الأنعام/ 95)

4- «فَالِقُ الْإِصْبَاحِ». (الأنعام/ 96)

5- «بَدِيعُ السَّماوَاتِ وَالْأَرْضِ». «2» (الأنعام/ 101)

توضيح وبلاغ:

إنّ كلمة (فاطر) مشتقة من مادّة (فَطْر) (على وزن سَتْر)، وتعني الإنفطار أو (الإنفطار الطولي)، كما ورد في الآية: «إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ». (الانفطار/ 1)

وقد وردت هذه الكلمة أيضاً بمعنى حَلْب الشاة، وإفطار الصوم، وابتداع وإيجاد شي ء لأول مرّة وقد يُراد بها انفطارُ حجابِ ظلماتِ العدم ودخول الموجودِ إلى عالمِ الوجود.

وجاءت كلمةُ (الباري) من مادّة (بُرء) على وزن (قُفل) وهي في الأصل بمعنى الشفاء من مرض أو التخلُّص من الأمور غير المرضية، وأُطلقت فيما بعد على الخالق الذي يوجِد الأشياء دون نقيصة أو خلل وبصورة موزونة تماماً.

ويعتبرها البعض بأنّها مشتقّة من مادّة (بَرْي) أي بري الخشب، ومن الواضح أنّ المقصود من بري الخشب هو صقله وتعديله وموازنة أضلاعه، وهذا مايصدق تماماً بالنسبة إلى الخالق الحكيم لأنّه يخلق كُلّ شي ء بصورة موزونة.

وصرح البعض الآخر أيضاً بأنّ (الباري) معناها مَن يُوجِد الأشياء دون أن يكون لها نمودجٌ سابقٌ.

و (الفالق) من مادّة (فلْق) على وزن (خلق) ومعناه: فلقُ الشي وفصلُ جزءٍ عن آخر، ويستعمل هذا التعبير في فلق النباتات (إنباتها) إذ ينفلق قشرُ بذورها ونواها بأمر الباري

__________________________________________________

(1) ورد هذا الوصف في الآية 54 من

سورة البقرة أيضاً.

(2) ورد نفس هذا التعبير في الآية 117 من سورة البقرة.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 224

تعالى على الرغم من استحكامها وسُمكها، وتخرجُ براعم لطيفة وظريفة جدّاً من ذلك الخفاء!

وبالحقيقة أنّ انفلاق بذور النباتات أثناء تفتحها يُعدُّ من أدق وأجمل لحظات وجود النبات وتشبه بالضبط لحظة خروج الإنسان من بطن أُمّه، وهذه اللحظة الحساسة تُعد من عجائب قدرة اللَّه، إنّها لحظة التحوُّل والتغيُّر الشكلي والانتقال من عالمٍ إلى عالمٍ آخر.

ماهذه القوة التي تمنح هذا البرعم الظريف جدّاً القوة على اختراق جدار النواة المحكم ليبرز منتصباً من ذلك المهد، ويخرج من ظلمات رحم أمّه إلى عالم الظهور؟!

وكلمة (بديع) من مادة (بدع) على وزن (منع)، وكما أشرنا سابقاً فهي بالأصل بمعنى إيجاد الشي ء دون وجود نموذج سابقٍ، لذا يُطلق على البئر المحفور حديثاً (بديع)، وعلى الأعمال والسُّنن التي لا سابقة لها (بدعة).

وعندما تُستعمل هذه الكلمة بالنسبة إلى الباري فإنّها تعني إيجاد الشي دون الحاجة إلى الآلات والمكان والزمان، وهي تصدق فقط بحقه سبحانه.

وكلمة (بديع) صفة مشبّهة تدلّ على ثبوت واستمرار هذه الصفة لتلك الذات المقدّسة «1».

وجاءت كلمة (مصوّر) من مادّة (صورة)، بمعنى رسم وشكل الشي ء، وجمعها (صُوَر) وهي على نوعين: (الصورة المحسوسة) كصورة الإنسان والحيوانات والموجودات الماديّة الاخرى، و (الصورة المعقولة) وهي التصورات العقليّة والفكريّة والمفاهيم الخاصّة بكل شي ء.

وتستعمل كلمة (المصوّر) بخصوص الباري سبحانه وتعالى عندما يُراد الإشارة إلى الصور التي وهبها للموجودات المختلفة.

إلّاأنّ بعض أرباب اللغة يعتقد بأنّ هذه الكلمة تعني في لغة العرب التغيير والتحوير، (والصورة) بمعنى (الشكل والهيئة)، مأخوذة من الأصل العبري (صوراه).

__________________________________________________

(1) المفردات؛ لسان العرب؛ التحقيق؛ ومقاييس اللغة (وقد ذُكر في مقاييس اللغة مفهوم آخر لها وهو الإنقطاع والتعب).

نفحات

القرآن، ج 4، ص: 225

توضيح وبلاغ:

يُستْنتج جيداً من مجموع ما ذُكرَ أنّ صفات (الفاطر)، (الباري)، (البديع) تشير جميعاً إلى خلق الشي ء بلا أيِّ سابقةٍ إلّاأنّ هذا المعنى أكثر وضوحاً وبياناً في بعض الكلمات، وأقلُ بياناً في بعضها الآخر، وعلى أيّة حال فهو يدلّ على أهميّة هذه النقطة وهي خلقِ اللَّه بالقياس مع مايقوم به بعض بني البشر، والتي قد يُطلق عليها مصطلح (الخلق) مجازاً، علاوةً على سعتها الخارقة، وعدم محدوديتها من حيث كون المادّة والشكل في جميع مخلوقات اللَّه غير مسبوقة بحدث مُسْبق.

لذلك لا يُمكن قياسها إطلاقاً مع تغيير الأشكال التي يُمارسها الإنسان في مواد هذا العالَم والمسبوقة بعمل مُسبق.

بل إنّ كلمة (الخلق) بمفهومها الحقيقي لاتصدق أبداً بالنسبة لأعمال البشر.

نقل المرحوم الكفعمي في المصباح عن الغزالي حول تفسير الأسماء الحسنى، بأنّ البعض اعتقد بأنَّ ألفاظ (الخالق) و (الباري) و (المصور) ألفاظ مترادفة، وتعني جميعها (الخلق) و (الإبداع) في حين أنّها ليست كذلك، بل الأشياء المخلوقة من العدم ذات ثلاث مراحل: (التقدير) و (الإيجاد) و (التصوير)، ثم ضرب مثلًا حول هذا المفهوم فقال:

يلزم، لإحداث عمارة مرموقة، أن يرسم خارطتها مهندسٌ قدير، ثم يُشيدها البنّاء، وبعد ذلك يزّينها الصبّاغ وأرباب النقوش الماهرون.

وعلى هذا فكلمة (الخالق) تُشير إلى المعنى الأول، في حين أنّ (الباري) تُشير إلى المعنى الثاني و (المصوّر) إلى المعنى الثالث «1».

وعلى أيّة حال فالبلاغ الذي تحملهُ هذه الصفات الإلهيّة في طيّاتها يشبه مابيّناه في الصفات السابقة، إضافةً إلى الخصوصيّات الموجودة في صفات بحثنا هذه.

__________________________________________________

(1) مصباح الكفعمي، ص 319.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 226

9- المالك 10- الملك 11- الحاكم 12- الحكيم 13- الرّب

إنّ لهذه الصفات الإلهيّة الفعليّة الأربع مفهوماً واسعاً جدّاً يشمل جميع الموجودات في العالم، وتأتي بعد الخلق والإيجاد من حيث التسلسل المنطقي، لذا فقد صمّمنا أن

نبحثها بعد أن بَحثْنا خلق اللَّه، بعدَ أن نمعن خاشعين في الآيات التالية.

1- «قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلكِ». (آل عمران/ 26)

2- «مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ» «1». (الحمد/ 4) 3- «فَتعَالَى اللَّهُ المَلِكُ الحَقُّ» «2». (طه/ 114)

4- «.... وَهُوَ خَيرُ الحَاكِمِينَ» «3». (الأعراف/ 87)

5- «قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبغِى رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَىْ ءٍ» «4». (الأنعام/ 164)

6- «فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» «5». (البقرة/ 209)

توضيح وبلاغ:

إنّ كلمة (مَلِكْ) و (مالِك) و (مَليك) جميعها مشتقّة من مادّة (مُلك)، وكما قال صاحب مقاييس اللغة: فهي تدل بالأصل على القوّة والسلطة، أُطلقت هذه الصفات على الأثرياء والحكام والسلاطين لتَمتُّعِهم بالقوّة والسلطة.

يقول الراغب في مفرداته: تُطلقْ كلمة (مَلكْ) على الذي يتصرف في عامة الناس عن طريق الأمر والنهي.

وتطلق كلمة (ملِك) عادةً في الملكية السياسيّة، و (مالك) في المسائل الماليّة، وقال

__________________________________________________

(1) تكررت كلمة مالك ثلاث مرّات فقط في القرآن، إثنتان منها تخص الباري تعالى ومرّة تخص (مالكاً) مَلكَ النار.

(2) وردت كلمة «ملك» في القرآن أحدى عشرة مرّةً، خمس منها في وصف اللَّه (طه، 114؛ المؤمنون، 116؛ الحشر، 23؛ الجمعة، 1؛ الناس، 2).

(3) وردت هذه الكلمة في القرآن الكريم خمس مرّات فقط جميعها في وصف الباري تعالى، (الأعراف، 87؛ يونس، 109؛ هود، 45؛ يوسف، 80؛ التين، 8).

(4) تكررت كلمة «رب» في القرآن الكريم أكثر من تسْعمائة مرّة وهذا يدل على الأهميّة الفائقة لهذه الصفة الإلهيّة!.

(5) تكررت هذه الكلمة في القرآن لمئة مرّة تقريباً، أغلبها لوصف اللَّه سبحانه وتعالى.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 227

البعض: بأنّ (الملك) اشمل من (المالك) لأنّ مالك الشي ء حاكمٌ وملكٌ عليه، ولكن ليس كلّ مالك يكونٌ ملكاً «1».

وقال البعضُ أيضاً: إنّ (المالكَ) مخيرٌّ ليعمل مايشاء في

ملكه: في حين أنّ (الملِكَ) لا يمتلك مطلق الخيار في تصرُّفاته.

علاوةً على عدم استطاعة المملوك التمرُّد على مالكية مالكه، في حين أنّ الرعيّة يستطيعون الخروج على حكومة حاكمهم (مَلكِهم) «2»

.

بالطبع عندما تُستعمل هاتان الكلمتان كصفتين للَّه فانّما يُراد منهما الإشارة إلى المصداق الأتم والأكمل، وبكلمة واحدة الأشارة إلى مصداقهما الوحيد وهو اللَّه تعالى لذلك فحينما يصلُ المرحوم (الكفعمي)- في كتاب (المصباح)- إلى كلمة (مَلِك) يقول: هو التام الملك، الجامع لأصناف المملوكات، وله مطلق التصرف والأمر والنهي فيما يريد من مأموريه، هو الغني عن جميع الموجودات في ذاته وصفاته، وتحتاج إليه جميع الموجودات في ذاتها وصفاتها «3».

وتجدر الإشارة إلى هذه النقطة أيضاً، وهي: أنّ المالكية والحاكمية وليدة الخلق، ولأنّ (الخالق) بمعناه الحقيقي في عالم الوجود هو اللَّه وحده (فالمالك الأصلي) هو أيضاً، وإطلاق كلمة (مالك) و (ملك) على غيره له صبغة كنائية من هذه الناحية.

و (الحاكم) من مادّة (حكم) طبقاً لما قاله صاحب مقاييس اللغة: وهي في الأصل بمعنى (المنع)، وقبل كل شي ء (المنع من الظلم)، وإنّما يُسمى (الحكيم) بهذا الاسم لامتلاكه قوة رادعة تحجبه عن الخطايا والمعاصي.

والسّر في وصف اللَّه بهذه الصفة هو منعه ونهيه جميع الموجودات عن الأعمال السيئة سواءً في عالم التكوين أَمْ في عالم التشريع.

وتُعتبر كلمة (حكيم) من صفات الذات من حيث حكايتها عن علم اللَّه، ومن صفات

__________________________________________________

(1) تفسير مجمع البيان، ج 1، ص 23.

(2) نقل هذا الاختلاف بين مصطلح (المَلك) و (المالك) الفخر الرازي في تفسيره، ج 1، ص 237، عن بعض المصادر.

(3) مصباح الكفعمي، ص 318.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 228

الفعل من حيث إشارتها إلى خلق موجودات الوجود على أساس تنظيمٍ وترتيبٍ خاص، وتشريع القوانين وفق مصالح

كاملة ومُتقنة.

وقد ورد في كتاب التحقيق: أنّ الفرق بين (الحاكم) و (الحكيم) و (الحكم) ينشأ من الاختلافات الموجودة بين مشتّقات هذه الكلمات، فالحكيم تعني من هو ثابت الحُكم والحاكم هو من يَصدُرُ منه الحُكم، والحَكم ذو معنى مشابهٍ مع ثباتٍ أكثر.

يقول ابن الأثير في النهاية: (الحَكم) و (الحكيم) في أسماء اللَّه تعني (الحاكم)، ثم ذكر لها عدة معانٍ: منها الذي يوجد الأشياء بأحسن وجه، والذي يعلم بأفضل الأشياء على أفضل وجه، والذي يمنع عن الأعمال السيئة- وخاصةً الظُّلم-.

وكما أشرنا سابقاً فإنّ كلمة (ربّ) ذات مفهوم أصلي واحد، وسلسلة من اللوازم والأغصان والأوراق (الفروع)، لهذا فهي لها حالاتُ استعمالٍ كثيرة.

فكما ورد في المفردات فإنّ مفهومها الأصلي هو (التربية) والسَّوْق نحو الكمال، ولأنّ هذا العمل رافقته مفاهيمُ اخرى، كالإصلاح، والتدبير، والمالكيّة، والحكومة، والسيادة، والتعليم، والتغذية، فإنّها تُطلق أيضاً على أي واحدٍ من هذه المفاهيم.

وقد ورد في (لسان العرب) أنّ كلمة (الرب) علاوةً على إطلاقها على الذات الإلهيّة المقدّسة، فإنّها تأتي أيضاً بمعنى: المالك، السيّد، المدبّر، المربيّ، القيّم، والمنعم.

وقد ورد في مصباح الكفعمي أيضاً أنّ كلمة (رب) تعني في الأصل التربية والسوق التدريجي نحو الكمال، ثم استُعمل هذا المعنى المصدري للمبالغة في المعنى الوصفي.

وبعد ذلك ذكر لها أربعة آراء حول مفهومها الأصلي هي: المالك، السيّد، المدبّر، والمربي، واستعان بأمثلةٍ منها: ربّ الدار: «أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِى رَبَّهُ خَمْراً». (يوسف/ 41)

و (ربانيون) و (ربائب)- أي ابن الزوجة من رجُلٍ آخر-.

والذي نستخلصه ممّا تقدم أنّ كل هذه المعاني لها علاقة بمفهوم «التربية».

اتضح من مجموع ما ورد أعلاه أن هذه الصفات الخمس (الملك) و (المالك)، و (الحاكم)،

نفحات القرآن، ج 4، ص: 229

و (الحكيم) و (الرب)، التي هي بأجمعها صفات فعليّة ماعدا «الحكيم» التي

يُمكن اعتبارها من صفات الفعل وصفات الذات أيضاً (كالعالِم). وهي ذات مفاهيم قريبة من بعضها ومتلازمة مع بعضها تقريباً ولا تنفصل (ربوبية اللَّه) عن (ملكه) و (حكمه) وقد امتزجت مالكيته وحاكميته مع ربوبيته.

إنّ الإيمان والتفكير بهذه الصفات بمثابة إشارات وتجليات لها آثار تربوية كبيرة على نفس الإنسان بالطبع بعد التعرف على المعنى الحقيقى لهذه الصفات والتي، تخص الذات الإلهيّة المقدّسة، فإيماني بمالكية اللَّه يبعث على الشعور بأني أمينٌ على اموالي وينبغي عليَّ التصرُّف فيها وفق أوامر مالكها الأصلي.

والإيمان بحاكميّة اللَّه يمنعني من الخضوع لسلطة الظالمين والطواغيت.

والإيمان بربوبية اللَّه يمنعني عمن سواه، واعتبرُ جميع العالم من نفحاته، وآراه منقاداً لأوامره تعالى، وبالتالي فإنّ هذا الإيمان يمنعني من السقوط في دوامة عبوديّة المخلوقات.

14- الولي 15- الوالي 16- المولى 17- الحافظ 18- الحفيظ 19- الرقيب 20- المهيمن

إنّ الصفات المذكورة أعلاه ذات مفاهيم مهمّة ومتقاربة وجميعها من صفات الفعل، لذا فقد بحثناها في محلٍّ واحد ليتضح ويكتمل تفسيرها في ظل بعضها البعض، وفي الواقع أنّ هذه المجموعة هي من الصفات الخالقيّة والربوبيّة.

وقد أشار القرآن الكريم إلى جميع هذه الصفات (حيث ذُكرت أحيانا مرّة واحدة وأحياناً اخرى عدّة مرّات) والآن لنتأمل خاشعين في الآيات التالية:

1- «أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَولِيَاءَ فاللَّهُ هُوَ الوَلِىُّ». (الشورى 9)

2- «وَمَالَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ». (الرعد/ 11)

3- «بَلِ اللَّهُ مَولَاكُم». (آل عمران/ 150)

نفحات القرآن، ج 4، ص: 230

4- «فَاللَّهُ خَيرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرحَمُ الرَّاحِمِينَ». (يوسف/ 64)

5- «إِنَّ رَبِّى عَلَى كُلِّ شَىْ ءٍ حَفِيظٌ». (هود/ 57)

6- «وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْ ءٍ رَّقِيبًا». (الأحزاب/ 52)

7- «هُوَ اللَّهُ الَّذِى لَاإِلَهَ إِلَّا هُوَ المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلَامُ المُؤمِنُ المُهَيمِنُ». (الحشر/ 23)

توضيح وبلاغ:

«الولي»: من (الولاء)، بالأصل بمعنى استقرار شيئين إلى جوار بعضهما، وتأتي بمعنى القرب، سواءً من حيث المكان أم القرابة النسبيّة، أم من حيث الدين والصداقة والنّصرة والإعتقاد.

هذا ماصرّح به الراغب في مفرداته، وأضاف: (الوِلاية) بكسر الواو تعني المساعدة والنصرة (والوَلاية) بفتح الواو تعني تدبير الأمور «1».

وقد اعتبر صاحب مقاييس اللغة أيضاً أنّ أصل هذه الكلمة يعود إلى مفهوم القرب، وفسّر صاحب كتاب لسان العرب أيضاً كلمة (ولي) بمعنى الناصر والمتولّى لُامور العالم والخلائق.

وعلى أيّة حال، فلهذه الكلمة معانٍ كثيرة، لكنها عندما تُستعمل بخصوص اللَّه تعالى لا ريب في أنّها تعني الولاية وتدبير أمور العالم ونصرة العباد ومؤازرتهم.

وكلمة (مَولى) مشتقّة أيضاً من هذه المادّة، وذُكرِت لها معان كثيرة تعود جميعها إلى الأصل الذي ذكرناه أعلاه (وهو القرب).

وقد ذكر المرحوم العلّامة الأميني رحمه الله- لهذه الكلمة- سبعاً وعشرين معنىً مختلفاً

__________________________________________________

(1) ذكر المرحوم الكفعمي

في المصباح عكس هذا، وكذلك ابن الأثير في النهاية، فقد ذكر أنّ الولاية تعني تصدّي إدارة الأمور، والوَلاية بمعنى النصرة والمساعدة، ولا يُستبعد أن يكون هنالك خطأ في نقل كتاب المفردات.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 231

مستخلصاً من كتب اللغة وموارد استعمالها «1».

وكذلك فقد ذكر ابنُ الأثير في النهاية ستة عشر معنىً لها.

وصرّح في إحدى عباراته: بأنّ (مولى) تعني (ولي)، واستشهد في ذلك بقول عمر لعلي عليه السلام: (أصبحت مولى كل مؤمن).

وأضاف قائلًا: قال جماعة بأنّ سبب هذا الأمر هو قول أُسامة لعلي عليه السلام: أنت لستَ بمولاي! بل مولاي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فسمع الرسول هذا الكلام فقال: «من كنت مولاه فعليٌّ مولاه» «2».

ومما ذكرناه يتّضح أنّ معنى كلمة (والي) أيضاً والتي هي اسم فاعل من هذه المادة.

لهذا فاللَّه (وليٌ) و (مولى) و (والي) في نفس الوقت، فهو مدبّر أمورنا ومخيَّرٌ فيها وحاكمنا وناصرنا، وهكذا شأنه مع بقية موجودات عالم الوجود.

وكلمة (حافظ) مشتقّة من مادّة (حفظ) وهي ذات معنى مشهور وواضح، وهو الحفظ، وقال الراغب: إنّها تعني رعاية ومراقبة شي ء معين، لذلك يُطلق على حالة كظم الغضب (حفيظة) لأنّها تستلزم أن يهتم الإنسان بمراقبة نفسه.

وقد ورد تعبير جامع حول هذا المجال في كتاب التحقيق:

وتعطي كلمة حفظ معانيَ مختلفة تبعاً لاختلاف الموارد والموضوعات على الرغم من كون أصلها واحد، فقد يُقال: حفِظَ المال، أي من التلف، وحفِظَ الأمانة، أي من الخيانة، وحفِظَ الصلاة، أي من الفوت، وحفِظَ فلاناً، أي رعاه، وحفظ يمينه وعهده، أي من مخالفته، وحفظ الأمر الفلاني، أي أودعه في ذهنه (بحيث لاينساه) ... «3».

__________________________________________________

(1) من معانيها رب، عم وأولاد العم، ولد، ابن الأخت، مطلق سراح العبد، مالك، تابع، المنعم

عليه، شريك، زوج، صاحب، جار، ضيف، زوج البنت، قريب، مُنعم، عقيد، ولي، أولى، سيد، صديق، ناصر، المتصرف في الأمور، مدبّر الأمور. الغدير، ج 1، ص 362.

(2) نهاية ابن الأثير، ج 5، ص 228، مادّة (ولي).

(3) التحقيق في كلمات القرآن الكريم، مادّة (حفظ).

نفحات القرآن، ج 4، ص: 232

ومن هنا يتضح معنى كلمة (حافظ) أيضاً، وتعتبر كلمة (حفيظ) التي هي صفة مشبهة أبلغ معنىً وأكثر ثباتاًمن كلمة (حافظ) التي هي اسم فاعل.

وعلى أيّة حال، فعندما تختص هذه الصفة باللَّه تعالى فإنّها تُعطي معنىً واسعاً يشمل حفظ اللَّه ورعايته لجميع الموجودات الماديّة والمعنويّة، والسماوات والأرض، وكذلك حفظ أعمال العباد، والشرائع والكتب السماوية، وحفظ الأنبياء والأئمّة المعصومين من المزالق (الخطايا)، وحفظ أي عهدٍ عاهد به عباده.

وعليه فإنّ (حافظية) اللَّه و (حفيظيته) تشمل مفاهيم اخرى (كالقيمومية).

ولولا الحفظ الإلهي لما بقي في السماء والأرض موجودٌ على قيد الحياة لحظة واحدة، كما ورد في الآية: «وَهُوَ القَاهِرُ فَوقَ عِبَادِهِ وَيُرسِلُ عَلَيكُم حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ المَوتُ تَوَفَّتهُ رُسُلُنَا وَهُم لَايُفَرِّطُونَ». (الأنعام/ 61)

يتضح من هذه الآية أنّ اللَّه قد أمر الملائكة بحفظ الناس من الحوادث والبلايا حتى وصول الأجل المعيَّن.

وقد ورد شبيهٌ لهذا المعنى في قوله تعالى: «لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَينِ يَدَيهِ وَمِن خَلفِهِ يَحفَظُونَهُ مِن أَمرِ اللَّهِ». (الرعد/ 11)

ونظيرهُ ما جاء عن أمير المؤمنين علي عليه السلام في نهج البلاغة: «إِنَّ مع كل إنسانٍ ملكين يحفظانه فإذا جاء القدر خليّا بَينَهُ وبَينَهُ» «1».

وقد ورد في سورة الإنفطار أيضاً مايخص الملائكة المكلَّفين بحفظ وتسجيل أعمال العباد، قال تعالى: «وَإِنَّ عَلَيْكُم لَحَافِظِينَ* كِرَاماً كَاتِبِينَ* يَعلَمُونَ مَاتَفعَلُونَ».

(الإنفطار/ 10- 12)

وعليه فإنّ حفظ اللَّه، بالمعنى الواسع للكلمة، يتحقق عن طريق علمه وقدرته سبحانه

من جهة، وعن طريق الملائكة المكلَّفين بإداء هذه المهمّة من جهةٍ اخرى.

وكلمة (رقيب) كما ورد في المفردات هي بالأصل مشتقّة من مادّة (رقبة) أي العنق، وأُطلقت فيما بعد على المحافظين والمراقبين، إمّا لكونهم يحفظون رقبة مَنْ يرعونَهُ

__________________________________________________

(1) نهج البلاغة، القصار الكلمات، الكلمة 201.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 233

ويحمونه (لأنّ الرقبة من أهم أعضاء البدن فإنّها تُعدّ كناية عن كل وجود الإنسان)، وإمّا لأنّهم يمدّون رقابهم وينظرون إلى ماحولهم بحذرٍ تحسُّباً من المخاطر، لذلك يُطلق على المحل الذي يقف فيه مثل هؤلاء الأفراد (المرقَبْ) «1»

.

إلّاأنّه ذُكر في بعض كتب اللغة عكس هذا المفهوم، أي أنّ المفهوم الأصلي لهذه الكلمة هو الحراسة والإشراف على الشي ء، وإنّما سمي العنق (بالرقبة) لأنّه يُستعان بحركاتها عند الحراسة والمراقبة بواسطة العين والأذن «2».

وقد ورد في كتاب (العين) بأنّ أصل هذه الكلمة يعني (الإنتظار)، وفي كتاب مقاييس اللغةبأنه يعني (الإستطالة برعاية شي ء وحراسته).

وعلى أيّة حال فعندما تختصّ هذه الصفة بالباري تعالى فإنّها تعني الحافظ الذي لا يخفى عليه شي ء.

ومن الطبيعي أنّ رعاية اللَّه وحفظه لما في الوجود، وجميع العباد، وأعمالهم، تكون بواسطة وجوده في كل مكان، فلا حاجةَ له إلى نظرٍ أو مدّ رقبةٍ، ولا ما شاكل ذلك من عوارض الموجودات الماديّة.

ووردت كلمة (مهيمن) في موضعين من القرآن الكريم، الأول في الآية 23 من سورة الحشر، كصفة للَّه، والتي ذكرناها أعلاه، والثاني في الآية 48 من سورة المائدة، كصفة للقرآن الكريم.

وهناك رأيان حول أصل هذه الكلمة، يتمثل الأول باعتقاد جماعة بأنّها مأخوذة من مادّة (هَيْمَنَ) أي بمعنى الرعاية والحفظ، لكن الكثير من أرباب اللغة يعتقدون بأنّها مشتقة من مادّة (إيمان) التي تبدلت همزتها إلى هاء، وتعني الواهب للسكينة والأمان، وعندما

تختصُّ هذه الكلمة بالباري تعالى فانّها تأتي بمعنى الحفيظ.

__________________________________________________

(1) المصباح المنير للفيومي.

(2) التحقيق في كلمات القرآن الكريم.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 234

وفسّرها البعض بمعنى الشاهد والناظر أو القيّوم بأمور الخلائق «1».

وقد ورد في مصباح الكفعمي عن بعض العلماء- حول تفسير هذه الكلمة-: إنّها تعني الحافظ لأعمال العباد ومقدرات أعمارهم وأرزاقهم «2»، ولكن كما قلنا: إنّ لهذه الكلمة معنىً أوسعَ.

من مجموع ما ذكرناه في تفسير هذه الصفات السبع، التي لها مفاهيم متقاربة أو متلاصقة مع بعضها، تتجلى أمامنا صفحة اخرى من المعارف وصفات الفعل الإلهيّة، صفحة ذات آثار تربويّة ثمينةٍ وقيمّة جدّاً.

إنّها تدعو الناس إلى فعل الخيرات واجتناب أي لونٍ من القبائح والسيئات، وذلك لأنّهم يعلمون بأنّ اللَّه يراهم حيثما كانوا، وتطمئنهم إزاء الحوادث الصعبة، لأنّهم يعلمون بأنّ اللَّه هو الحافظ.

لهذا فإننا نقول: إنّ ذكر الصفات الإلهيّة في القرآن الكريم ذو هدفين اساسيين: أحدهما رفع مستوى معرفة الإنسان بربّه، والآخر تربيته في مختلف الجوانب.

21- الرازق 22- الرزّاق 23- الكريم 24- الحميد 25- الفتّاح

إنّ لهذه الصفات الخمس- المذكورة أعلاه- مفاهيم متقاربة ومتلازمة مع بعضها، وتحكي جميعها عن تأمين أرزاق بني البشر، بل حتى جميع الكائنات الحية، وتدل على أنّ

__________________________________________________

(1) لسان العرب، مقاييس اللغة، ونهاية ابن الأثير. وقد نُقل في بعض التفاسير عن أبي عبيدة أحد علماء اللغة بأنّه قال: يوجد في كلام العرب خمسة أسماء فقط على هذا الوزن هي: (المهيمن) (المبيطر)، (المسيطر)، (المبيقر)، و (المخيمر) ... عن تفسير روح الجنان.

(2) مصباح الكفعمي، ص 318.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 235

المتولي لأمر خلق الموجودات يلتزم تأمين مايديم حياتها أيضاً، وأنّ آثار نعمته الوفيرة وسعت كل شي ء، ورحمته اللامتناهية شملت الجميع.

وعلى ضوء تلك المفاهيم نُمعن خاشعين في الآيات التالية:

1- «وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ

خَيرُ الرَّازِقِينَ». (الحج/ 58)

2- «إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو القُوَّةِ المَتِينُ». (الذاريات/ 58)

3- «يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَاغَرَّكَ بِرَبِّكَ الكَرِيمِ» «1». (الإنفطار/ 6)

4- «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِىٌّ حَمِيدٌ» «2». (البقرة/ 267)

5- «وَهُوَ الفَتَّاحُ العَلِيمُ». (سبأ/ 26)

توضيح وبلاغ:

جاءت كلمة (رزّاق) و (رازق) من مادّة (رزق)، وفي الأصل بمعنى العطاء المستمر وفي أوقات معيّنة، سواءً كان دنيوياً أم أخروياً ومعنوياً، وقد يطلق الرزق أحياناً على (النصيب والربح).

وقال البعض أيضاً: إنّ (الرزق) في الأصل بمعنى (الإنعام والعطاء) الخاص المناسب لحال الفرد وحاجته، لتستمر حياته ومعيشته، وهنا يفترق مفهوم الرزق عن مفهوم (الإحسان) و (الإنعام) و (العطاء) و (الربح والنصيب) و (الإنفاق) «3».

والجدير بالذكر أنّ التعبير الفارسي المقابل لكلمة (رزق) وهو (روزي) يعطي مفهوم الإنعام والعطاء اليومي وفي أوقات معينة ليشمل جميع الأشخاص.

ولا يخفى أنّ الرزق الحقيقي هو الأشياء التي يحصل عليها الإنسان بالطرق المحللة، وأمّا ما يحصل عليه من الطرق المحرّمة فهو بالحقيقة رزقٌ كاذب.

__________________________________________________

(1) يجدر الانتباه إلى أنّ كلمة «كريم» قد وردت في سبعةٍ وعشرين موضعاً من القرآن الكريم، لكنها ذُكرت كصفة للباري في موارد محدودة جدّاً.

(2) وردت كلمة حميد في سبعين موضعاً من القرآن، مصحوبة غالباً بكلمة غني وذكرتا كصفتين من الصفات الإلهيّة.

(3) مفردات الراغب، مقاييس اللغة، والتحقيق في كلمات القرآن الكريم.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 236

يُستنتج ممّا ذكرناه أنّ الرزق يأتي بالمرحلة التي تلي الخلق وإيجاد الإنسان، ويرتبط باستمرار حياته الماديّة والمعنوية، ولذا اعتبر البعض أنّ أصل وجود الإنسان أو قواه وامكانياته جزء من الرزق (كالمرحوم الكفعمي في المصباح حيث يقول: إن رزق اللَّه يعني بانّه خلق الأرزاق والمرتزقين)، وهذا في الحقيقة نوعٌ من المجاز والاتساع في المعنى الحقيقي.

وعلى أيّة حال فإنّ وصف

الباري في الآيات المذكورة بصفة: (خير الرازقين) يشير إلى الأبعاد المختلفة التالية:

فالبعد الأول: إنّ أي شي ء يعطيه الباري إنّما هو من عنده، وكل ما يمنحه الآخرون فهو ليس منهم، بل هم واسطة لانتقال الأرزاق.

البعد الثاني: إنّه سبحانه يُعطي كُلّ شي ء من أنواع النعم الماديّة والمعنوية والروحية، الدنيوية والأخرويّة، الظاهريّة والباطنية، العلنية والخفيّة و ....، في حين أنّ كل شي ء يعطيه الآخرون محدودٌ من جميع النواحي.

والبعد الثالث: إنّه تعالى يأخذ بنظر الاعتبار حاجة العباد عند تقدير أرزاقهم ويرزقهم بما يُناسب حالهم، لأنّه عليم باسرار المرتزقين الظاهريّة والباطنيّة، ونعلمُ أنّ الآخرين ليسوا كذلك.

والبعد الرابع: إنّه الرّزاق الذي لا تنفد خزائنه أبداً لأنّ خزائن كل الأشياء بيده: «وَإِنْ مِّن شَي ءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ». (الحجر/ 21)

وفي حين يتصف الآخرون بالمحدوديّة التّامّة من هذه الجهة.

أمّا البعد الخامس: إنّه الرازق الذي يتناول من مائدته الصديق والعدو، وجميعهم يتزوّدون من نعمته بمقتضى كونه الرحمن والرحيم.

لكن الآخرين لا يفكرون سوى بأصدقائهم وأقربائهم.

والبعد السادس: إنّه لا ينتظر لقاء عطائه وإنعامه جزاءاً ولا شكوراً، لأنّه غني من كل ناحية، لكن الآخرين ينتظرون ألف لونٍ من قبيل ذلك.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 237

أمّا البعد السابع: فهو أنّ رزقه بدرجة من السعة والشمول بحيث يبدأ منذ لحظة انعقاد النطفة في عالم الرحم، ويستمر طيلة مرحلة وجود الجنين في بطن أُمّه، وبعد الولادة من خلال حليبها وحنانها أيضاً، حتّى لحظات الموت الأخيرة، فهل من رازقٍ يُناظره؟ أجَلْ هذا سر قوله سبحانه (خير الرازقين).

واللطيف هو ماورد في روايات عديدة منقولة عن أهل البيت عليهم السلام حول تفسير الآية الشريفة التالية: «ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَومَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ». (التكاثر/ 8)

(إنّ اللَّه أجلّ من أن يسأل الناس يوم القيامة عن مأكلهم ومشربهم،

فهذا فضله على عباده ولن يسألهم عنه بل عن (العقائد الحقّة) ومن جملتها (نعمة الولاية) «1».

وعليه فقد عكست لنا هذه الرواية معنىً آخر من معاني (خير الرازقين) لأنّه سبحانه- طبق ماجاء في الحديث- لايسأل عن هذه الأرزاق!

أمّا السّر من اطلاق كلمة (الرزاق) على الباري تعالى، ثم (ذو القوة المتين) فهو لأنّ كلمة (الرزّاق) صيغة من صيغ المبالغة، وترمز إلى أنواع الأرزاق التي يهبها اللَّه المنان لجميع المرتزقين، لذا لا تليق هذه الكلمة إلّابشأنه، بل وكما أشرنا سابقاً من أنّ سواه لايُمكن أن يكون (رازقاً) ناهيك عن أن يكون رزّاقاً.

لأنّ اولئك لايملكون شيئاً ليمنحوه للغير، بل يمكنهم أن يكونوا واسطةً لإيصال الأرزاق إلى الآخرين.

وكلمةُ (متين) تعني المحكم، وأخذت من مادّة (مَتْن) التي هي في الأصل تعني العضلتين

__________________________________________________

(1) واليك نماذج من تلك الاحاديث:

أ) عن أبي خالد الكابلي قال: دخلت على أبي جعفر عليه السلام فدعا بالغداء فأكلت منه طعاماً ما اكلت طعاماً قط اطيب منه ولا الطف فلما فرغنا من الطعام قال: ياابا خالد كيف رأيت طعامك او قال طعامنا؟ قلت: جعلت فداك ما اكلت طعاماً أطيب منه قط ولا أنظف ولكن ذكرت الآية في كتاب اللَّه عزّ وجل «ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَومَئِذٍ عَنْ النَّعِيمِ» فقال أبو جعفر عليه السلام: «إنّما يسئلكم عمّا أنتم عليه من الحق».

ب) عن الإمام جعفر بن محمد عليه السلام أنّه قال: «ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ» واللَّه ماهو الطعام والشراب ولكن ولايتنا أهل البيت.

تفسير البرهان، ج 4، ص 502، ح 4، 5، 6، 7، 8، 9، 11، 12، 13.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 238

القويتين الموجودتين على جانبي العمود الفقري اللتين تقويّان ظَهر الإنسان وتجعلانه مستعداً لممارسة الأعمال الثقيلة، لذا فقد وردت

بمعنى منتهى القدرة والقوّة.

ووصفُ الباري بهاتين الصفتين يرمز إلى قدرته التامّة على إيصال الرزق إلى عباده أينما وحيثما كانوا، ولا يحتاج إلى شي ء.

إنّ التمعُّن في هذه الصفات الإلهيّة الخاصّة يمنح المؤمنين السكينة، ويُغنيهم عن السير في الطرق المحّرمة لتحصيل أرزاقهم، بل يحثهم على طلب الرزق الحلال، إيماناً بلطفه سبحانه.

كلمة (كريم) مأخوذة من مادّة (كَرَم) والتي تعني: الشرف والقيمة الذاتية أو الأخلاقية- حسب رأي مقاييس اللغة- لذا يطلق على الغيوم الممطرة (كريمة) وعلى الأرض المنتجة الخصبة (مكرمة).

ويقول الراغب أيضاً: إذا كانت كلمة (كرم) صفة للإنسان فإنّها تعني الأخلاق والأفعال الحميدة التي تبدر منه، وإذا كانت صفة للَّه فإنّها تعني الإحسان والإنعام العلني الواضح.

وللمفسّرين تعابير مختلفة حول تفسير كلمة (كريم) عندما تأتي كصفة للَّه سبحانه وتعالى.

فقد قال جماعة: إنّ كلمة (كريم) تعني الواهب الذي لايفعل إلّاالإحسان، ولا يقصد من وراء ذلك الحصول على أي ربح.

وقال جماعة آخرون: (الكريم) هو من يقبل القليل ويجزي إزاءه بالكثير.

وقال بعضهم: (الكريم) هو الذي لا ينفذُ عطائه أبداً.

وقال آخرون أيضاً: (الكريم) هو من يعطي مايجب عليه وما لا يجب.

ولا يوجد دليل خاص حول ترجيح أيّ من هذه التفاسير، ولكن بما أنّ كرم اللَّه أكملُ أنواع الكرم، فإنّه يشتمل على جميع هذه المفاهيم وغيرها.

ويجدُر الإنتباه إلى هذه المسألة أيضاً وهي أنّ هذه الكلمة قد وردت في القرآن الكريم على عدّة وجوه، فأحياناً كصفة للرزق مثل: «وَرِزْقٌ كَرِيمٌ». (الأنفال/ 4)

نفحات القرآن، ج 4، ص: 239

وأحيانا كصفة للملائكة مثل: «مَلَكٌ كَرِيمٌ». (يوسف/ 31)

وأحياناً كصفة للعرش مثل «رَبُّ العَرشِ الكَرِيمِ». (المؤمنون/ 116)

وأحياناً كصفة للقرآن مثل: «إِنَّهُ لَقُرآنٌ كَرِيمٌ». (الواقعة/ 77)

ولكل واحدة من هذه الأمور نوع من (الكرامة) والقيمة السامية.

واشتقت كلمة (حميد) من مادّة (حمد) وتعني الثناء، وبعكسها الذم

والتوبيخ، لذا (فالحميد) هنا يأتي بمعنى (المحمود)، ويرمز إلى استحقاق اللَّه لكل أنواع الثناء، الثناء على ذاته المقدّسة المنقطعة النظير، الثناء على صفاته وأسمائه، الثناء على أفعاله وأعماله الحميدة، وبالنهاية الثناء على كل تلك المواهب والأرزاق المادية والمعنوية المتنوعة التي وهبها لجميع عباده.

قال المرحوم الكفعمي في مصباحه: (الحميد) هو من يستحق الثناء على أفعاله في السراء والضرّاء والأفراح والأحزان «1».

وقال ابن الأثير في النهاية: (الحميد) كصفة من صفات الخالق تعني المستحق للحمد والثناء في جميع الأحوال وأضاف قائلًا:

مفهوما (الحمد) و (الشكر) متقاربان من بعضهما، ولو أنّ الحمد أكثر عموماً، لأنّ الحمد يشمل كُلًّا من الصفات الذاتية والعطايا والمواهب، في حين أنّ الشكر يشمل المواهب والعطايا فقط لا الصفات.

وعلى أيّة حال، فإنّ تعبير (الحمد) كما قلنا: ذو مفهومٍ واسعٍ يشمل الثناء على كل من الذات والصفات والأفعال.

ويجدر الإنتباه إلى أنّ كلمة (حميد) قد تكررت في ستة عشر موضعاً من القرآن، وغالباً مارافقتها صفة (الغني) أو (العزيز)، ولعل السبب في ذلك هو كون الأثرياء والأقوياء يقودهم غرورهم في الغالب إلى ممارسة الأفعال غير المتّزنة والذميمة التي هي محل للمذمّة والتوبيخ، أمّا اللَّه سبحانه ففي نفس الوقت الذي نجده غنيّاً وعزيزاً، لا يصدر منه سوى

__________________________________________________

(1) مصباح الكفعمي، ص 327.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 240

الأفعال المحمودة، ولا يوجد من بين صفات جماله وكماله أي صفةٍ ذميمة، إذن فهو (حميد) من كل ناحية ويستحق الثناء.

وجاءت كلمة (الفتاح) من مادّة (فتح)، كما قال الراغب في المفردات وابن فارس في مقاييس اللغة: إنّها تعني بالأصل فتح كلِّ مغلقٍ سواء فتح بابٍ أم حل مشاكل اخرى.

لذلك يُطلق مصطلح (الفتح) على النصر، لأنّه يحل مشكلة الحرب، ويُطلق على الحكم أيضاً، لأنّه يحل

النزاع.

ولهذا التعبير معنىً واسعٌ جدّاً عندما يُعبَّر به عن الخالق جلَّ وعلا، فهو يشمل كل من فتح الأبواب المسدودة، وحل جميع معضلات العباد المعنويّة والماديّة، والحكم بالحق، والحكم الفصل.

قال المرحوم الكفعمي في مصباحه: (الفتّاح) معناه الحاكم بين عباده، وفتح الحاكم بين خصمين إذا قضى بينهما، وأيضاً، الذي يفتح أبواب الرزق والرحمة لعباده، وهو الذي بعنايته ينفتح كل مغلق «1».

والأثر التربوي الناجم عن التمعُّن بهذه الصفة الإلهيّة واضحٌ جدّاً، فمن يعتقد بأنّ اللَّه وحده هو الحاكم، ويعتقد بأنّ حل المشاكل وفتح الأبواب المغلقة يسير عليه سبحانه، لا يهاب حجم المشاكل وصعوبتها أبداً، ولا تتراكم على قلبه ذرات غبار اليأس والقنوط، ولا يكف عن الجدّ والإجتهاد المصحوبين بالإيمان بالنصر بلطفه سبحانه.

و يجدر الانتباه إلى أنّ كلمة (الفتّاح) لم تتكرر أكثر من مرّة في القرآن وقد رافقتها صفة (العليم) وهذا يوضح صلتها بصفة (الفتّاح)، وذلك لأنّ حل المشاكل وفتح عُقَد المعضلات يحتاج إلى علم وفير، فالعليم بكل شي ء هو الذي يستطيع حل جميع المشاكل، وإذا ماأردت- أيّها الإنسان- أن تحل مشكلة في حياتك أو حياة الآخرين فعليك أن تحيط بها علماً بالمستوى المطلوب!

ولعل وصف الباري بصفة (خير الفاتحين)، في الآية الشريفة عن لسان قوم شُعيب: «رَبَّنَا

__________________________________________________

(1) مصباح الكفعمي، ص 321.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 241

افتَحْ بَينَنَا وَبَينَ قَومِنَا بِالحَقِّ وَأَنتَ خَيرُ الفَاتحينَ». (الأعراف/ 89)

يعود إلى التأكيد على هذا المفهوم أيضاً، لأنّ الفاتحين الجهلاء لا يمكنهم دائماً أداء أفعالهم بشكل لائق، لذا فخير الفاتحين هو الفتّاح العليم بكل شي ء وفي جميع الأحوال.

26- الرحمن 27- الرحيم 28- أرحم الراحمين 29- الودود 30- الرؤوف 31- اللطيف 32- الحفيّ

تُعد صفتا (الرحمن) و (الرحيم) من جملة صفات الفعل الإلهيّة التي ترد على الألسن دائماً، وتتكرر بأستمرار في كل صلاة، وبداية السور القرآنية، بل وفي بداية

كل عمل فهي تُنبيُ عن لطف الباري ورحمته اللامحدودة تجاه عباده، بل تجاه جميع الموجودات وهي رمز كونه أرحم الراحمين.

ومن مستلزمات هذا المفهوم ودُّهُ ومحبته ولطفه وعنايته ورأفته، وقد تكررت هذه الصفات السبع كثيراً في الآيات القرآنية، فلنتأمل خاشعين في نماذج منها:

1- «قُلِ ادْعُوااللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحمنَ أَيّاً مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى «1».

(الإسراء/ 110)

2- «إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُم رَحِيماً». «2»

(النساء/ 29)

3- «وَأَنتَ أَرحَمُ الرَّاحِمِينَ». «3»

(الأعراف/ 151)

4- «وَهُوَ الغَفُورُ الوَدُودُ». (البروج/ 14)

__________________________________________________

(1) تكررت كلمة «رحمن» في 56 موضعاً من القرآن- عدا البسملة- مما يدل على اهتمام القرآن البليغ بهذه الصفة.

(2) تكررت كلمة «رحيم» في 114 موضعاً من القرآن- عدا البسملة- مما يحكي أيضاً عن اهميتها البليغة.

(3) وردت كلمة الراحمين أربع مرّات في القرآن الكريم، أحياناً بنحو الخطاب كما ورد في الآية أعلاه، وأحياناً كضمير غائب مثل «وهو أرحم الراحمين». (يوسف/ 64/ 92).

نفحات القرآن، ج 4، ص: 242

5- «إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ». «1»

(البقرة/ 143)

6- «... وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ». «2»

(الأنعام/ 103)

7- «... إِنَّهُ كَانَ بِى حَفِيًّا». «3»

(مريم/ 47)

توضيح وبلاغ:

بحثنا مفهوم كلمتي (الرحمن) و (الرحيم) في المجلّد الأول من هذا التفسير بصورة مفصّلة، ولا حاجة إلى التكرار، ونكتفي هنا بالقول: إنّ كلتيهما مأخوذتان من مادّة (الرحمة).

ومعروف بين العلماء أنّ صفة (الرحمن) ترمز إلى الرحمة الإلهيّة العامّة التي تشمل الموالي والمعادي، والمؤمن والكافر، والمحسن والمسي، (كأنواع النعم والمواهب الإلهيّة العامّة التي ينتفع منها جميع العباد).

و (الرحيم): ترمز إلى (الرحمة الخاصّة) الإلهيّة التي خص بها عباده المؤمنين وجعلها من نصيب المحسنين والمتقين.

وأمّا عبارة (أرحم الراحمين) فإنّها استُعملت كصفة من الصفات الإلهيّة، لأنّ شعاعاً من رحمته قد دخل في قلوب عباده

أيضاً، فالوالدان رحيمان وعطوفان على وِلدهما، والكثير من الناس يكنّون في قلوبهم الرحمة والمحبة تجاه أصدقائهم وأحبائهم، إلّاأنّ هؤلاء جميعهم يمثّلون شعاعاً ضعيفاً من رحمة اللَّه، بل في الحقيقة إنّ جميع هذه الرحمات مجازيّة، ورحمة اللَّه هي الرحمة الحقيقيّة، لأنّ ذاته المقدّسة غنيّة عن كُلّ شي ء، في حين أنّ المحبّة والرحمة الموجودة فيما بين الناس غالباً ماتنبع من تأثيرهم في مصير بعضهم وحاجتهم إلى بعضهم.

__________________________________________________

(1) وردت كلمة «رؤوف» في أربعة عشر موضعاً من القرآن مصحوبة في أغلبها بصفة الرحمة كما هو الحال في الآية المذكورة أعلاه، وأحياناً في عبارة (رؤوف بالعباد).

(2) وردت كلمة «لطيف» في سبعة مواضع من القرآن استُعملت في جميعها كصفة للَّه سبحانه.

(3) وردت كلمة «حفي» في موضعين فقط من القرآن وفي واحدٍ منهما فقط كصفة للَّه سبحانه وتعالى (وهو الآية أعلاه).

نفحات القرآن، ج 4، ص: 243

علاوةً على هذا، فإنّ رحمة غيره محدودة في أُطرٍ خاصّة، إلّارحمته فهي غير محدودة من كل ناحية.

يُستنتج بشكلٍ إجماليٍّ من موارد استعمال هذه الصفة التي وردت في أربع آيات قرآنية، أنّها استعملت في الحالات التي وصلت بها المشكلة حدّها الأقصى، فقد وردت هذه الصفة في قصة النبي أيوبَ عليه السلام بعد تحمُّله كل تلك الخطوب المنهكة، وفي قصّة يوسف عليه السلام عندما كان أخوته بمنتهى القسوة «قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيهِ إِلّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَ هُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ». (يوسف/ 64)

أو بعد معرفتهم أخاهم يوسف إذ خجلوا وندموا كثيراً على مافعلوا «قَالَ لَاتَثْرِيبَ عَلَيكُمُ اليَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرحَمُ الرَّاحِمِينَ». (يوسف/ 92)

و ما ورد في قصة موسى عليه السلام عندما رجع إلى قومه ورآهم يعبدون العجل وعاتبَ أخاه هارون «قَالَ

رَبِّ اغْفِرْ لِى وَلِأَخِى وأَدْخِلْنَافِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحمُ الرَّاحِمِينَ».

(الأعراف/ 151)

ومن هنا يتضح لزوم الإعتصام بهذه الصفة الإلهيّة الملهمة للأمل والرجاء، في الظروف العصيبة، والأحداث المعقدّة جدّاً والأليمة، والتفيؤ بظل رحمته، علاوةً على لزوم السعي لكي نكون مظهراً لهذه الصفة الإلهيّة وبعث شعاع منها في وجودنا على الأقل.

الرحمة الإلهيّة الواسعة في الأحاديث الإسلاميّة:

لسعة رحمة اللَّه انعكاسات واسعة في الأحاديث الإسلامية، والنماذج التالية تحكي عن هذه الحقيقة:

1- في حديث عن أمير المؤمنين علي عليه السلام قال: «اللَّه رحيم بعباده، ومن رحمته أنّه خلق مائة رحمة واحدة في الخلق كلهم فبها يتراحم الناس، وترحم الوالدة ولدها .... فإذا كان يوم

نفحات القرآن، ج 4، ص: 244

القيامة أضاف هذه الرحمة الواحدة إلى تسع وتسعين رحمة فيرحم بها امة محمد صلى الله عليه و آله» «1»

.

2- في حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «إذا كان يوم القيامة نشر اللَّه تعالى رحمته حتى يطمع ابليس في رحمته» «2».

3- قيل لعلي بن الحسين عليه السلام يوماً أنّ الحسن البصري قال: ليس العجب ممن هلك كيف هلك إنّما العجب ممن نجا كيف نجا فقال عليه السلام: «ليس العجب ممن نجا كيف نجا، وإنّما العجب ممن هلك كيف هلك مع سعة رحمة اللَّه» «3».

إلهي لا يعزّ على كرمك اللامتناهي أن تشملنا بزاوية من رحمتك الواسعة هذه.

و كلمة (ودود) مشتقة من مادّة (وُدّ)- بضم الواو- التي هي في الأصل بمعنى حب الشي ء وتمنّي وجوده، لذا تستعمل في كلا المعنييْن (المحبة والتمنّي).

هذا ماورد في المفردات ومقاييس اللغة، لكن لسان العرب ذكرها بمعنى المحبّة فقط، في حين أنّ موارد استعمالها في القرآن الكريم تدل بوضوح على أنّها استُعملت في معنى التمنّي والمحبّة أيضاً.

وعلى أيّة حال فإنّ هذه

الكلمة صيغة من صيغ المبالغة وتعني الشخص الكثير المحبة، واللطيف أنّ هذه الصفة قد وردت في القرآن الكريم مصحوبةً بصفة الغفور مرّة، وبصفة الرحيم مرّة اخرى، وكلاهما تتأكدان بصفة (الودود).

يقول المرحوم الكفعمي في مصباحه: عندما تستعمل كلمة (ودود) كصفة من الصفات الإلهيّة، فإنّها تعني من يحب عباده فيرضى عنهم ويتقبل أعمالهم ... أو بمعنى مَنْ يلقي حب عبده في قلوب الآخرين حيث قال: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا» «4»

. (مريم/ 96)

__________________________________________________

(1) مستدرك سفينة النجاة نمازي شاهرودي، ج 4، ص 135.

(2) بحارالأنوار، ج 7، ص 287، (باب ما يظهر من رحمته تعالى في القيامة).

(3) سفينة البحار، ج 1 ص 517.

(4) مصباح الكفعمي، ص 325.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 245

«الودود»: (الودود) فعول بمعنى (مفعول) كما يقال: هيوب بمعنى مهيب، يراد به أنّه مودود ومحبوب، ويقال: بل فعول بمعنى فاعل كقولك: غفور بمعنى غافر، أيّ يود عباده الصالحين ويحبهم، والود والوداد مصدره المودة، وفلان ودّك ووديدك أيّ حبّك وحبيبك «1».

واحتمل بعض أرباب اللغة كذلك أنّ كلمة (ودود) هنا تُعطي مفهوم اسم المفعول، وترمز إلى محبوبيّة اللَّه من قبل عباده المؤمنين «2».

لكننا نعتقد بأنّ المعنيين الثاني والثالث ضعيفان، ويظهر من موارد استعمال هذه الكلمة أنّ معناها الدقيق هو (المحبّة والتمني) الذي ذكرناه.

ومن البديهي اختلاف مفهوم المحبّة الإلهيّة مع مفهوم المحبة الإنسانية، فالمحبّة في الإنسان نوعٌ من التوجّه القلبي والرغبة الروحية، في حين أنّ اللَّه ليس له قلبٌ ولا روح، لهذا فإنّ محبته لعباده تأتي بمعنى فعله لما يُسبب خير البشر وسعادتهم، وتدل على لطفه وعنايته.

ويظهر أنّ السبب في تفسير البعض كلمة (ودود) كإسم مفعول هو أنّهم لاحظوا بأنّ المحبّة بمعنى

اسم الفاعل لا تليق بشأن الباري، لأنّها من عوارض الموجودات الإمكانية.

لكنها عندما تختصّ بالباري تعالى فانّما يُقصد منها آثارها الخارجيّة، وليس هذا هو المكان الوحيد الذي يستوجب هذا المعنى والتفسير، بل هنالك الكثير من الصفات والأفعال الإلهيّة من هذا القبيل بالضبط، كقولنا: إنّ اللَّه يغضب على المذنبين، أي يتصرف معهم تصرُّف الغضبان، وإلّا فالغضب الذي يُعطي معنى الهياج والاضطراب في نفس الإنسان لا يصدق أن يكون في الباري تعالى أبداً.

وعلى أيّة حال فإنّ الإيمان بهذه الصفة الإلهيّة له أثره التربوي العميق (كما هو الحال في بقية الصفات)، لأنّ محبّة اللَّه لعباده تؤدّي إلى إيجاد محبة العباد له، فالمحبّة الحقيقيّة لا تكون من طرفٍ واحد أبداً.

وعندما تدخل محبته في قلوب عباده ويعشقونه سيسيرون باتجاه رضاه، لأنّ العاشق يخطو وفق ما يرتضيه معشوقه دائماً.

__________________________________________________

(1) توحيد الصدوق، ص 214.

(2) مجمع البحرين، مادّة (ود)؛ توحيد الصدوق، ص 214.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 246

وجاءت كلمة (رؤوف) من مادّة (رأفة) وتعني (الرحمة)- حسب قول الراغب الإصفهاني- والجدير بالذكر أنّ تسعة حالات من الإحدى عشرة حالة التي وردت فيها هذه الصفة الإلهيّة في القرآن الكريم رافقتها صفة (الرحيم) «1»

، لذا فإنّ صِفَتيْ (رحيم) و (رؤوف) توكّدان مفهوم بعضهما البعض.

وهنالك جدال بين المفسّرين والمتكلّمين حول الاختلاف الموجود بين صفتي (رؤوف) و (رحيم)؟ فاعتقد البعض منهم بأنهما تعطيان مفهوماً واحداً، وعليه فإنّ ذكرهما إلى جنب بعضهما ذو صبغة تأكيد على الرحمة الإلهيّة اللامتناهية.

في حين وضَعَ البعضُ الآخر- كابن الأثير في نهايته- فرقاً بينهما، وهو: إنّ الرأفة مرحلة أدقّ وأسمى من الرحمة، ولا تستعمل أبداً في المسائل الرديئة، لكن الرحمة تستعمل في المسائل المكروهة التي توجد من ورائها مصلحة معينة (فقد يُمكن أن

يُقال: إنّ الرحمة التي يحملها فلان دفعت به إلى قطع إصبعه المتعفّن وقايةً من سريان العفونة إلى بقية أعضاء بدنه، لكنه لا يصح استعمال تعبير «الرأفة» هنا) «2».

يقول المرحوم الكفعمي في مصباحه حول تفسير هذه الكلمة: (قال البعض: إنّ الرأفة مرحلة أسمى من الرحمة، في حين اعتقد البعض الآخر بأنّ دائرتها أكثر محدوديّة من دائرة الرحمة).

يقول المفسّر الكبير المرحوم الطبرسي في ذيل الآية 128 من سورة التوبة: يعتقد البعض بأنّ صفتي (رؤوف) و (رحيم) لهما مفهوم واحد، ماعدا كون الرأفة مرحلة أقوى من الرحمة، في حين قال جماعة آخرون: (تستعمل كلمة (رؤوف) في المطيعين و (رحيم) في المذنبين، ثم نقل عن بعض العلماء السالفين قولهم إنّ اللَّه لم يجمع بين هاتين الصفتين بحقِ أيٍّ من أنبيائه، لكنّه فعل ذلك كرامةً لنبيِّ الإسلام محمد صلى الله عليه و آله حيث وصفه في هذه الآية: «بِالمُؤمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ»، وكذلك وصف ذاته جلّ وعلا حيث قال: «إِنَّ اللَّه بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ». «3»

(البقرة/ 143)

__________________________________________________

(1) البقرة، 143؛ التوبة، 117؛ التوبة، 128؛ النحل، 7 و 47؛ الحج، 65؛ النور، 20؛ الحديد، 9؛ الحشر، 10.

(2) نهاية ابن الأثير، مادّة (رأف)، ونفس هذه المادّة في (لسان العرب) و (مجمع البحرين).

(3) تفسير مجمع البيان، ج 5، ص 86.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 247

قال الطبرسي في مجمع البيان في ذيل الآية: «بِالمُؤمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ». (التوبة/ 128)

قيل: هما واحد، والرأفة شدّة الرحمة، وقيل: رؤوف بالمطيعين منهم، رحيم بالمذنبين، وقيل: رؤوف بأقربائه، رحيم بأوليائه، رؤوف لمن رآه، رحيم بمن لم يره، وقال بعض السلف: لم يجمع اللَّه سبحانه لأحد من الأنبياء بين اسمين من اسمائه إلّاالنبي صلى الله عليه و آله فإنّه قال:

بالمؤمنين

رؤوف رحيم.

وكذلك نلاحظ هنا ما لهذه الصفة الإلهيّة من الأثر التربوي والبلاغ الخاص في قلوب المؤمنين، لأننا نرى بأنّ اللَّه رؤوف رحيم، ورسوله صلى الله عليه و آله رؤوف رحيم أيضاً، لذا يجب أن يكون شيعتهم ومحبّوهم رؤوفين رحماء أيضاً، وينعكس على وجودهم شعاعٌ من الرحمة الإلهيّة العامة والخاصة.

تكررت كلمة «لطيف» سبع مرّات في القرآن الكريم، وقد وردت كصفة من صفات اللَّه في جميع هذه الموارد وغالباً مااقترنت بصفة (خبير) «1»

. ووردت لوحدها في موضعين فقط «2».

وعلى أيّة حال فإنّ هذه الكلمة مشتقة من مادّة (لطف)، وتعني: العمل الظريف والدقيق والمحبّة والحنان، وتُطلق أيضاً على كلّ من الموجودات الصغيرة اللينّة، والحركات الظريفة، والقيام بالأعمال الدقيقة، والأمور التي لاتدركها حواس الإنسان.

وعندما تختصّ هذه الصفة بالباري تعالى فإنّها تعطي معنى الرفق والمداراة الإلهيّة بينه وبين عباده، وتوفيقهم وحفظهم من المشاكل «3».

يقول ابن الأثير في تفسير هذه الكلمة: اللطيف من يجمع بين (الرفق في العمل) و (العلم بدقائق المنافع وإيصالها إلى أصحابها).

ويقول المرحوم الكفعمي رحمه الله في (المصباح): «إنّ دعوة الباري، في المشكلات، بهذه

__________________________________________________

(1) الأنعام، 103؛ الحج، 63؛ لقمان، 16؛ الملك، 14؛ الأحزاب، 34.

(2) يوسف، 100؛ الشورى، 19.

(3) مفردات الراغب الأصفهاني ولسان العرب، مادّة (لطف).

نفحات القرآن، ج 4، ص: 248

الصفة له أثر عميق في رفع وإزالة المنغّصات» «1».

وقد فسّر المرحوم العلّامة الصدوق رحمه الله، في كتاب التوحيد، هذه الصفة الإلهيّة كمايلي:

«إنّه لطيفٌ بعباده، يُحسنُ إليهم، ويُنعم عليهم، ثم أضاف قائلًا: اللطف هو نفس الإحسان والعزّة، ثم ذكر الحديث الشهير الذي يقول: «إنّ معنى اللطيف إنّه هو الخالق للخلقِ اللطيف» كما أنّه سمي) «العظيم لأنّه الخالق للخلق العظيم».

ومن الممكن الجمع بين كل هذه المعاني

في مفهوم كلمة (لطيف) الواسع.

أمّا السّر من اقتران صفة (اللطيف) ب (الخبير) في أغلب الآيات القرآنية فهو أنّ صفة (الخبير)- طبقاً لما قاله بعض المحققين تشير إلى الإطلاع العميق والعلم والإحاطة الدقيقة بالحقائق، ممّا يتناسب مع مفهوم صفة (اللطيف).

إنّ البلاغ والأثر التربوي الذي يتركه الإيمان بهذه الصفة واضح جدّاً لأنّه يؤمل الإنسان بالألطاف الإلهيّة الخفيّة والجليّة من جهة، ومن جهةٍ اخرى يحث بني البشر للتلطف والترحّم على بعضهم البعض، ومن جهة ثالثة يدفعهم إلى الاطلاع على مخلوقات اللَّه الظريفة جدّاً والتفكُّر فيها، ولكل واحدٍ من هذه الأمور الثلاثة أثر بليغ في تربية الناس.

وكلمة (حفيّ) مشتقة من مادّة (حفاء) على وزن (سمَاء) ومن مادّة (حَفا) على وزن (جَفا) ولها عدّة معانٍ ذكرتها مصادر اللغة، من جملتها: سير الإنسان حافي القدمين، والإلحاح في السؤال، العلم والإطلاع على شي ء، الإلحاح في عمل الخير.

وقال جماعة أيضاً: إنّها تعطي معنى ترقق جلد القدم، وكعب الحذاء، وحافر الجواد، بسبب كثرة السير «2».

إلّا أنّه ليس مستبعداً أن يكون الأصل الحقيقي لكل هذه المعاني هو الالحاح في السير بشكل يصبح جلد القدم أو الحذاء رقيقاً أو مُستهلكاً، ثم استعملت في حالة الالحاح والمبالغة في كل شي ء من قبيل: الالحاح في السؤال عن شي ء ما بقصد الاطلاع، والالحاح في طلب علم الخير.

__________________________________________________

(1) مصباح الكفعمي، ص 322.

(2) مفردات الراغب؛ لسان العرب؛ مقاييس اللغة؛ نهاية ابن الأثير؛ تاج العروس؛ وكتاب العين.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 249

ووردت هذه الكلمة في القرآن في ثلاثة موارد، الأول في مورد الإلحاح في السؤال، كما في قوله تعالى «إِن يَسْأَلكُمُوهَا فَيُحفِكُم تَبخَلُوا»!. (محمد/ 37)

وفي مورد العلم والمعرفة كما في قوله تعالى «يَسْأَلونَكَ كَأَنَّكَ حَفِىٌّ عَنْهَا».

(الأعراف/ 187)

وفي مورد الإلحاح

في عمل الخير كما في الآية: «سَلَامٌ عَلَيكَ سَأَستَغفِرُ لَكَ رَبِّى إِنَّهُ كَانَ بِى حَفِيًّا». (مريم/ 47)

وعلى أيّة حال فعندما تختصّ هذه الكلمة بالباري تعالى فإنّها يُمكن أن تعطى معنى العالم والخبير، وفي هذه الحالة تكون من صفات الذات وليس الفعل، وربّما تأتي بمعنى منتهى الإحسان والمحبّة أيضاً، فتُعد في هذه الحالة من صفات الفعل الإلهي.

وبالمناسبة فانّها وردت في القرآن كصفة مرّة واحدة فقط، وبمعنى منتهى الإحسان والمحبّة والتي وردت في قصة إبراهيم وعمّه التي ذكرناها سابقاً.

ويتضح البلاغ التربوي الذي تحمله هذه الصفة الإلهيّة في طياتها، بقرينة ما ذكرناه في الصفات المشابهة لها، وذلك لأنّها تحيي بصيص الأمل في قلوب العباد وتقربهم نحوه- سبحانه- من جهة، ومن جهة اخرى تعطي درساً في الإحسان والمحبّة والحنان.

33- الغافر 34- الغفور 35- الغفّار 36- العفوّ 37- التوّاب 38- الجبّار

يُعد الغفران والرحمة الإلهيّة وعفو الباري عن المذنبين وقبول توبتهم، أصول مجموعة من صفات فعل اللَّه التي أوردنا ستة نماذج منها أعلاه.

وقد وردت هذه الصفات الإلهيّة في آيات قرآنية عديدة سنطلع عليها بعد أن نتأمل خاشعين في الآيات التالية:

1- «غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوبِ». «1»

(غافر/ 3)

__________________________________________________

(1) وردت هذه الصفة في آية واحدة من القرآن الكريم.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 250

2- «إِنَّ اللَّهَ غَفورٌ رَّحِيمٌ». «1»

(البقرة/ 173)

3- «... أَلَا هُوَ العَزِيزُ الغَفَّارُ». «2»

(الزمر/ 5)

4- «... إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ». «3»

(الحج/ 60)

5- «... إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ». «4»

(البقرة/ 37)

6- «... المُهَيْمِنُ العَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ». «5»

(الحشر/ 23)

توضيح وبلاغ:

اشتقت كلمة (غافر) و (غفور) و (غفّار) من مادّة (غَفْر) وهي بالأصل تعني (التغطية)، و بخاصية تغطية الشي ء عن التلوُّث، وكلمة (غفير) تعني الذائبة أو الظفيرة الطويلة التي تغطّي الرقبة، و (مغفر) تعني الخوذة التي تستعمل لتغطية الرأس في القتال.

وهذه الكلمة عندما تختصّ باللَّه سبحانه فإنّها تعني المغفرة وستر الذنب، ولكن (غافر) اسم فاعل، و (غفور) و (غفّار) من صيغ المبالغة.

وقال جماعة: عندما تستعمل كلمة (غفور) كصفة من الصفات الإلهيّة فإنّها تعني الساتر على عباده بغطاء رحمته، وقد ورد هذا التعبير أيضاً في كلام بعض العلماء وهو: أُطلقت صفة (غفار) على اللَّه لأنّه يستر ذنوب عباده بمغفرته متى ما أذنب العبد ورجع إليه بالتوبة «6».

وكلمة (عفوّ) مشتقّة من مادّة (عَفْو) وكما قال ابن منظور في (لسان العرب) وابن أثير في

__________________________________________________

(1) تكررت صفة «غفور» في القرآن 91 مرّة، واقترنت بصفة «رحيم» في أغلب الموارد كما في الآية أعلاه.

(2) وردت صفة «غفار» في القرآن أربع مرّاتٍ فقط، اقترنت في ثلاثٍ منها بصفة «عزيز» كما

في الآية المذكورة أعلاه (ص، 66؛ الزمر، 5؛ غافر، 42) ووردت لوحدها في موضعين فقط (طه، 82؛ نوح، 10).

(3) وردت هذه الصفة في القرآن خمس مرّات اقترنت في أربعٍ منها بصفة غفور (الحج- 60، المجادلة، 2؛ النساء، 43 و 99)، وفي واحدٍ منها فقط بصفة (قدير) (النساء، 149).

(4) استعملت كلمة «تواب» في القرآن الكريم في أحد عشر مرّةً كصفة من صفات اللَّه واقترنت جميعها بصفة (رحيم) عدا موردين منها وفي موردٍ بصفة (حكيم) (النور، 10)، ولوحدها في موردٍ واحدٍ فقط (النصر، 3).

(5) وردت كلمة «متكبّر» في القرآن ثمان مرّات، وكصفة من صفات الباري في موضعٍ واحدٍ فقط.

(6) مصباح الكفعمي ص 320؛ توحيد الصدوق ص 208؛ مفردات الراغب؛ لسان العرب؛ مقاييس اللغة، مادّة (غفر).

نفحات القرآن، ج 4، ص: 251

(النهاية): هي بالأصل تعني المحو، لكن الراغب في مفرداته اعتقد بأنّ هذا المعنى ليس أصل الكلمة، بل أصلها الأساسي هو (القصد لأخذ الشي ء)، لذا تُطلق على الرياح العاصفة التي تسبب الدمار أو الذهاب بالأشياء المختلفة، وإن أُطلقت (عفوّ) على (المَحو) فلأنّه نوعٌ من القصد لأخذ شي ء معين.

وأُطلقت كلمة (عفوّ) على نمو النبات لأنّه يشق التراب ويظهر.

وقد ذُكر في مقاييس اللغة اصلان لهذه الكلمة هما: ترك الشي ء أو طلبه، ثم أرجع بقية المعاني إلى هذين المفهومين، ومن جملتها (العفو) بمعنى المحو والإبادة، و (العفاء) بمعنى التراب المتروك.

وعلى أيّة حال عندما تستعمل هذه الكلمة بخصوص الباري تعالى فإنّها تُعطي معنى غفران الذنوب، ومحو آثار المعصية، وترك المعاقبة عليها، لكن بما أنّ (عفوّ) صيغة مبالغة فإنّها تعني (كثير العفو) «1»

.

وسبب التأكيد على هذه الصفة الإلهيّة هو أنّه تعالى لولا عفوه لما نجا أحدٌ من تبعات الذنوب،

قال أمير المؤمنين علي عليه السلام: «اللهم احملني على عفوك ولا تحملني على عدلك» «2».

وفي وصيةٍ له عليه السلام لمالك الأشتر: «ولا غنى بك عن عفوه ورحمته» «3»

.

إنّ عفو اللَّه من السعة بحيث لا يحدّه شي ء، والشي ء الوحيد الذي استثناه القرآن منه هو الشرك، لذا فقد ورد حديث عن الإمام الحسن العسكري أنّه عليه السلام قال: «إنّ اللَّه ليعفو يوم القيامةِ عفواً يُحيط على العباد حتى يقول أهل الشرك واللَّه ربّنا ماكُنّا مشركين» «4».

ومن جهةٍ اخرى فإنّه تعالى يلقّن عباده درس العفو والصفح، ويوصيهم بالعفو عن بعضهم مهما أمكنهم، راجين بذلك من اللَّه أن يعفو عن ذنوبهم.

__________________________________________________

(1) «عُفوّ» على وزن «فعول» أُدغم واواْها.

(2) نهج البلاغة، الخطبة 227.

(3) المصدر السابق، الكتاب 53.

(4) بحار الأنوار، ج 6، ص 6، ح 12، الباب 19 عفو اللَّه.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 252

وقد ورد في حديثٍ نبوي تعبيرٌ عجيب يبيّن أهميّة العفو، قال صلى الله عليه و آله: «إنّه يُنادي منادٍ يوم القيامة من كان له على اللَّه أجرٌ فليقم، فلا يقوم إلّاالعافون، ألم تسمعوا قوله تعالى «فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ»» «1». (الشورى 40)

طبعاً أنّ العفو ليس مسألة أخلاقية فقط، بل هو مسألة اجتماعية مهمّة، لأنّه لو بُني مجتمع معين على أساس الإنتقام وسفك الدماء لحل الجدال والنزاع الذي يحدث بينهم ولما عُرف طعمٌ للعزّة والسكينة أبداً، لذا فقد ورد في حديثٍ نبويّ، أنّه صلى الله عليه و آله قال: «عليكم بالعفو فإنّ العفو لا يزيد العبد إلّاعزّاً» «2»

.

و اصطلاح (توّاب) هي صيغة مبالغةٍ مشتقة من مادّة (توبة) و (التوبة)- حسب رأي مقاييس اللغة- تعني (العودة والرجوع)، وتستعمل عادةً في مجال (الرجوع عن الذنب)،

كما ورد ذلك في لسان العرب.

لكن للراغب الإصفهاني تعبير آخر في المفردات حول تفسير هذه الكلمة، وهو: (التوبة) ترك الذنب بأفضل وجهٍ ممكن، وقسّم الإعتذار ثلاثة أقسام:

الأول: هو أن يقول أحد: (إنني لم أرتكب هذا الذنب أبداً)، الثاني: أن يقول: (قد فعلت ذلك ولكنْ بدليل كذا وكذا أي يُبرر فعلته)، والثالث: أن يقول: (فعلت وأسأت ولن أفعل هذا فيما بعد) فمعنى التوبة هذا (أي الوجه الثالث) ولا رابع لها.

وعلى أيّة حال، فعندما تختصّ هذه الصفة باللَّه تعالى فإنّها تعني إمّا قبول توبة العباد، أو توفيقهم إلى التوبة، كما قال المرحوم الكفعمي في مصباحه.

والجدير بالإنتباه أنّ كلمة (توبة) في القرآن الكريم عندما تُنسب إلى العباد تتعدّى بحرف (إلى) مثل: «تُوبُوا إِلَى اللَّهِ». (التحريم/ 8)

وعندما تُنسب إلى اللَّه تتعدى عادة بحرف الجر (على).

وهذا التفاوت في التعبير يشير ظاهراً إلى نقطة لطيفة وهي: أنّ التوبة على أيّة حال تعني

__________________________________________________

(1) سفينة البحار، ج 2، ص 208.

(2) اصول الكافي، ج 2، ص 108، باب العفو، ح 5.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 253

الرجوع من الذنب، ولكن رجوع العباد من الذنب يتحقق بترك الذنب والإعتذار، أمّا رجوع اللَّه فيتحقق بإرجاعه لهم اللطف والرحمة اللتين منعهما عنهم بسبب اقترافهم ذلك الذنب المعيّن، ولأنّ الرجوع هنايخص مقاماً عالياً وسامياً عُبّر عنه بكلمة (على) التي تستعمل في موارد العلو عادةً.

وذكر هذه الصفة (توّاب) بشكل صيغة مبالغة يشير أيضاً إلى هذه النقطة وهي: لو أذنب العبد وتاب مرّة أو مرّات، ثم تراجع عن توبته فلا ييأس من عفو اللَّه ورحمته لأنّه تعالى توّاب أي (كثير التوبة).

والأثر التربوي للتوبة غير خافٍ على أحد، لأنّه لو كانت أبواب التوبة مغلقة في وجه العباد لكفى ذنب

واحد لإقناطهم من اللطف الإلهي، والرمي بهم في دوّامة ذنوبٍ أكبر، أمّا عندما يُشاهدون هذا الباب مفتوحاً أمامهم، وبحر الرحمة الإلهيّة واسعاً (بحكم كونه تعالى توّاباً)، فسيندفعون إلى الرجوع من ذنوبهم وإصلاح وجبران ماصدر منهم، ويُعَدُّ هذا بحد ذاته سُلَّماً للتكامل الإنساني.

ومن جهةٍ اخرى فانّها تعطي الناس هذا الدرس وهو أن لا يتشددوا تجاه أخطاء أصحابهم، ويفتحوا أمامهم طريق العودة والإصلاح، ويعطوا لغيرهم مايؤملونه من ربّهم، أي العفو.

والتعابير الواردة في الروايات الإسلاميّة بصدد التوبة من الظرافة والجمال بحيث تجذب الإنسان إلى مثل هذا الخالق التوّاب، وتوقدُ في قلبه جذوةَ العشق الإلهي.

ورد في حديث عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: «إنّ اللَّه تعالى أشدُّ فرحاً بتوبة عبده مِنْ رجُلٍ أضَلَّ راحلَتَهُ وزادَهُ في ليلةٍ ظلماءَ فَوجَدَها» «1».

وفي حديثٍ آخرَ عن النبي صلى الله عليه و آله وصف به التوبة بأنّها أحبُّ الأعمال إلى اللَّه تعالى حيث قال: «وليس شي ء أحبُّ إلى اللَّه من مؤمنٍ تائبٍ أو مؤمنةٍ تائبة» «2».

__________________________________________________

(1) أصول الكافي، ج 2، ص 435 باب التوبة، ح 8.

(2) مستدرك الكلام البحار، ج 6، ص 21، باب التوبة وأنواعها، ح 15.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 254

واشتقت كلمة «جبّار» من مادّة (جبر) ومعناها الأصلي- كما قال الراغب-: إصلاح الشي ء بضرب من القهر، ولهذا فقد تستعمل هذه الكلمة أحياناً بمعنى الإصلاح، كقول الذي يُصلح العظم: «جبرتُ العظم»، وورد في الدعاء المأثور: «ياجابرالعظم الكسير».

وأحياناً تستعمل بمعنى القهر والغلبة، وكما قال صاحب مقاييس اللغة: هو جنس من العظمة والعلو والاستقامة، يقال: نخلة جبّاره للتي طالت وخرجت عن متناول اليد.

«الجَبْر»: يعني إرغام الشخص على فعلٍ معينٍ، وهي مأخوذة أيضاً من أصل القهر والغلبة.

وعلى أيّة حال، فعندما تُستعمل

كلمة (جبّار) بخصوص الباري سبحانه فإنّها تعني- كما قال المرحوم الصدوق في كتاب التوحيد: «القاهر الذي لا يُنال، وله التجبر والجبروت أيّ التعظّم والعظمة» «1»، أو يعني الذي جبر مفاقر الخلق وكفاهم أسباب المعاش والرزق. كما ذكر ذلك المرحوم الكفعمي في «مصباحه» ضمن ذكره لمعانٍ اخرى «2».

وكذلك جابر الكسر، والقنوط، والندم الحاصل من اقتراف الذنوب.

قال المرحوم الطبرسي في «مجمع البيان»: «لا يستحق أن يوصف به على هذا الاطلاق إلّا اللَّه تعالى فإن وصف به العباد فانّما يوضع اللفظ في غير موضعه ويكون ذماً (لأنّها تحكي عن حب الرئاسة والتكبُّر والظلم والفساد)».

إنّ هذه الصفة الإلهيّة ترشدنا من جهة إلى عظمة وعلو المقام الإلهي، ومن جهة اخرى إلى رحمته وعطفه وعنايته في جبر الكسر والحرمان والذنوب.

39- الشكور 40- الشاكر 41- الشفيع 42- الوكيل 43- الكافي

__________________________________________________

(1) توحيد الصدوق، ص 206.

(2) مصباح الكفعمي، ص 319.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 255

إنّ الصفات الخمس المذكورة أعلاه من صفات الفعل أيضاً، وهي مجموعة من الصفات المبينة لأنواع النّعَم والمواهب الإلهيّة، وحماية ودفاع الباري تعالى عن عباده، لهذا يُلاحظ وجود ترابُط وثيق فيمابينها، ولهذا السبب أوردناها هنا في مجموعة واحدة.

لنعود إلى القرآن الكريم ونمعن خاشعين في الآيات التالية:

1- «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ». «1»

(الشورى 23)

2- «فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ». «2»

(البقرة/ 158)

3- «لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِىٌّ وَلَا شَفِيعٌ». «3»

(الأنعام/ 51)

4- «وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْ ءٍ وَكِيْلٌ». «4»

(الأنعام/ 102)

5- «أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ». «5»

(الزمر/ 36)

جمع الآيات وتفسيرها

إنّ كلمتي (شاكر) و (شكور) مشتقتان من مادّة (شُكر) وهي تعني- كما جاءَ في (فروق اللغة)- الإعتراف بالنعمة من باب تعظيم المنعم، وقال صاحب (مصباح اللغة): الشكر هو الإعتراف بالنعمة واداء الطاعة وترك المعصية، لهذا فقد يحصل أحياناً باللسان وأحياناً اخرى بالعمل. وقال الراغب في مفرداته: إنَّ معناه الأصلي هو «تصوّر النعمة وإظهارها»، ويقابله (الكفر) و (الكفران): وهو نسيان النعمة وسَترُها، ويُطلق تعبير (الشكور) على الحيوان الذي يُطهِرُ آثار عناية واهتمام صاحبه من خلال السمنة، ثم قسّم الشكر إلى ثلاثة

__________________________________________________

(1) وردت كلمة «شكور» في تسعة مواضع من القرآن، أربعة منها كصفة للباري (فاطر، 30 و 34؛ الشورى 23؛ التغابن، 17).

(2) وردت كلمة «شاكر» في أربعة مواضع من القرآن، إثنان منها فقط كصفة للَّه سبحانه (البقرة، 158؛ النساء، 147).

(3) وردت كلمة «شفيع» في خمسة مواضع من القرآن، في ثلاثة منها فقط كصفة للباري سبحانه (الأنعام، 51 و 70؛ السجدة، 4).

(4) وردت كلمة «وكيل» في أربعة وعشرين موضعاً من القرآن، وفي بعض هذه المواضع فقط

كصفة للباري مثل: (آل عمران، 173؛ هود، 12؛ يوسف، 66؛ القصص، 28؛ النساء، 81 و 109؛ و ...).

(5) وردت كلمة «كافي» في موضعٍ واحدٍ فقط من القرآن الكريم وهو المذكور أعلاه.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 256

أقسام: الشكر القلبي، الشكر اللساني، والشكر العملي.

ولهذه الكلمة عدّة معان في حالة استعمالها في ما يخص الباري تعالى منها:

إنّه يتقبّل القليل من الطاعة ويعطي الكثير من الثواب، أو الذي يُعطي جزيل النعم ويرضى بما قلَ من الشّكْر. وهو في الحقيقة يعني المجازاة والمكافأة على العمل، ولكن ليس بمقدار العمل بل بمقدار لطف الخالق تعالى

واعتقد البعضُ كالمرحوم الكفعمي في «المصباح» والمرحوم الصدوق في «التوحيد» بأنّ كلمة (الشُّكر) عندما تُستعمل بخصوص الباري تعالى تكون ذات صفةٍ مجازيّة.

ولكن لو قلنا بأنّ معناها اللغوي هو ما ورد في كتاب (العين) أي (معرفة الإحسان)، لصدق استعمالها الحقيقي بالنسبة إلى الباري تعالى

إنّ الوحي الإلهي الذي بين لنا هذه الصفة الإلهيّة يدعونا من جهة إلى معرفة الحق تعالى الذي هو من العظمة بحيث يكافى ء بالثواب الجزيل على أقل الأعمال الحسنة، فيتشكر بهذه الطريقة من عباده، ومعرفة هذه الحقيقة من قبل العباد يُعد حافزاً مهماً باتجاه عمل البر و الخير، ومن جهة أُخرى تعلمنا كيفية رد جميل وإحسان الآخرين، وأن لا يقتصر الرد على مقابلة ما قدّمه الآخرون لنا بالمثل، بل يتعدى رد الجميل إلى مضاعفة الاحسان والبر.

وقد ورد في الدعاء المأثور عن الإمام الصادق عليه السلام: «يا مَنْ يشكُرُ اليسيَر ويعفو عَنِ الكثيرِ وهُوَ الغفورُ الرحيم، إغفرْ ليَ الذنوبَ التي ذهبتْ لذّتُها وبقيتْ تَبعتُها» «1».

كما ورد عنه عليه السلام أنّه كُتبَ في التوراة: «اشكرْ على مَنْ أنعَمَ عليك، وأَنْعِمْ على مَنْ شَكَرَكْ» «2».

اشتقت كلمة

(شفيع) من مادّة (شفع) على وزن نفع- التي هي في الأصل تعني ضم شي ءٍ إلى آخر للحصول على نتيجة مطلوبة، وفي مقابلها (وَتر). ويقال للشاة التي يرافقها وليدها في التنقُّل: (شافع)، ويُستعمل مصطلح حق الشفعة بخصوص شريكين باع أحدهما حصته

__________________________________________________

(1) اصول الكافي، ج 2، ص 589، باب الدعوات الموجزات، ح 28.

(2) سفينة البحار، ج 1، ص 711، مادة (شكر)؛ وأصول الكافي ج 2، ص 94، باب الشكر، ح 3.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 257

لرجُلٍ ثالث، لكن شريكه يريد شراء الحصّة التي باعها للشخص الثالث بنفس المبلغ، ليضم حصّة شريكه إلى حصته بهذه الطريقة.

ويُطلق على العين الحولاء (شافعة) أيضاً، لأنّها ترى الواحد إثنين، وقد وردت هذه الكلمة بمعنى المعين والمساعد أيضاً «1».

واستُعملت كلمة (الشفاعة) في مورد «طلب العفو عن ذنب شخصٍ من قبل فردٍ ذي شخصيّة مرموقة»، وكأنّ الشخص المحترم- صاحب المقام- يقف إلى جوار المذنب ليتلطف صاحب الحق على المذنب ويرقّ له.

والشفاعة في القرآن ذات بحوث واسعة، وسنبحثها بصورة مفصّلة في سلسلة مباحث التفسير الموضوعي إن شاء اللَّه «2»، وما نبحثه هنا هو انتخاب هذه الصفة كواحدة من الصفات الإلهيّة.

وعلى أيّة حال فإنّ إطلاق كلمة (شفيع) على اللَّه سبحانه، وخاصة في يوم القيامة، يشتقّ من سلطته المطلقة، وعدم قدرة أي أحدٍ على فعل شي ءٍ دون إذنه سبحانه، وحتى شفاعة الشفعاء كالأنبياء والأئمة والملائكة والمؤمنين المخلصين فانّها لا تُقبَل إلّا بإذنه: «مَن ذَا الَّذِى يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ». (البقرة/ 255)

ولهذا السبب خاطب سبحانه رسوله الكريم في الآية: «قُل للَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَّهُ مُلكُ السَّماوَاتِ وَالأَرضِ». (الزمر/ 44)

ولأنّه سبحانه يُعطي إذن الشفاعة، فالشفيع الواقعي هو تعالى وكأنهّ سبحانه يشفع عند ذاته المقدّسة لعبادِهِ المذنبين،

وهذه أسمى مراتب العظمة.

وقال جماعة أيضاً: إنّ سبب إطلاق اسم شفع او (شفيع) على اللَّه سبحانه هو حضوره مع عباده في كل مكان، حيث قال: «مَا يَكُونُ مِن نَّجوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُم» «3»

.

(المجادلة/ 7)

__________________________________________________

(1) مصباح اللغة، مقاييس اللغة، لسان العرب، نهاية ابن الأثير، التحقيق في كلمات القرآن الكريم، وكتاب العين.

(2) هنالك بحث مفصّل حول هذه المسألة في التفسير الأمثل، ذيل الآية 48 من سورة البقرة.

(3) مصباح الكفعمي، ص 344، قاموس اللغة مادّة (شفع).

نفحات القرآن، ج 4، ص: 258

لكننا نستبعد هذا المعنى لأنّ كلمة الشفيع تُعطي في مفهومها نوعاً من المساعدة والحماية والتكامل والتربية.

وتجدر الإشارة إلى وجود نوعين من الشفاعة: «تكوينيّة وتشريعيّة»، فالشفاعة التشريعيّة هي ما عُرف من شفاعة شخصٍ وجيه عند صاحب حقٍّ لتخليص مذنبٍ من عقوبة معيّنة، وأمّا الشفاعة التكوينيّة فهي ربوبيّة اللَّه على الموجودات وسوقهم نحو التكامل وفق قوانين الخلق والتكوين.

وما توحي لنا هذه الصفة من بلاغٍ تربوي: هو الإنتباه إلى هذه الحقيقة، وهي عدم جواز القنوط من لطف اللَّه وعفوهِ ورحمته، لأنّه يشفع عند ذاته المقدّسة لعباده أيضاً، ويأمر الأنبياء والملائكة والأئمّة أيضاً ليشفعوا لمذنبي الأمم (طبعاً في المحل اللائق للشفاعة).

ومن المعلوم أنّ الإنتباه إلى هذه المسألة له أثر عميق في المنع من تكرار الذنب لكي يبقى الأمل في الشفاعة، وتبقى قابليته لنيلها محفوظة. هذا من جهة، ومن جهةٍ اخرى أنّها تعلّم العباد ليتأسّوا بذلك أيضاً ويشفعوا للنادمين والمحرومين والضعفاء.

وقد ورد في الحديث الشريف «إشفعوا تؤجروا» «1»

.

أمّا كلمة (وكيل) فهي مشتقّة من مادّة (وَكْل)- على وزن وصل- وهي في الأصل تعني الإعتماد على الآخرين، ولكون لازمَ هذا المعنى الضعف والعجز في بعض الجوانب فقد أُطلقت كلمة (وكل)

على الضعفاء والعاجزين، ويُطْلق (وكال) على الدواب التي تسير دائماً في مؤخّرة القافلة أوالقطيع، وكأنّها تعتمد في المسير على غيرها «2».

وطبقاً لذلك فإنّ «وكيل» من يعتمد عليه، ويلتجأ إليه الإنسان في حل مشاكله.

وعليه عندما تستعمل هذه الكلمة بخصوص الباري تعالى كما قال المرحوم الصدوق في كتاب التوحيد: «فإنّها تعني حافظنا وحامينا ومعتمدنا وملجأنا، نحن وجميع موجودات عالم الوجود» «3».

__________________________________________________

(1) تفسير مجمع البيان، ج 3، ص 84، ذيل الآية 85 من سورة النساء.

(2) مقاييس اللغة؛ مفردات الراغب؛ ولسان العرب.

(3) توحيد الصدوق، ص 215.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 259

قال المرحوم الكفعمي في المصباح: «بأنّها تعني من وُكِلَتْ إليه جميع أمورنا» «1». وما قاله البعض في تفسيرها بتكفُّل الرزق هو في الواقع تبيان مصداقٍ واحدٍ، وإلّا فهي ليست محدودة بالرزق فقط.

يقول الزبيدي في تاج العروس في شرح القاموس: (التوكُّل) هو إظهار العجز والإتّكاء على الغير، هذا من حيث اللغة، وأمّا عند أصحاب الحقيقة، فهو الأعتماد على ما عند اللَّه واليأس ممّا في أيدي النّاس، «المتوكّل على اللَّه» يُطلق على من يعتقد بأنّ اللَّه يكفيه رزقه وجميع أموره، يتكّل على اللَّه وحده لا على غيره «2».

يُستنتج من الآيات القرآنية بوضوح أن توكّل المؤمنين على اللَّه وحده من شؤون التوحيد، لأنّ كلّ شي ءٍ وكلَّ أمرٍ يرجع إليه، كما ورد في قوله تعالى: «وَإِلَيهِ يُرجَعُ الأَمرُ كُلُّهُ فَاعْبُدهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيهِ». (هود/ 123)

وكذا في قوله تعالى «وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُتَوَكِّلُونَ». (إبراهيم/ 12)

لِمَ لا نتوكّل عليه ونعتمد عليه في جميع أمورنا وهو العزيز الرحيم!؟ قال تعالى «وَتَوَكَّل عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ». (الشعراء/ 217)

إنّ البلاغ الذي تعطينا إيّاه هذه الصفة الإلهيّة هو أنّها توصينا بعدم الضياع في عالم الماديّات وعدم الإنخداع بالقدرات

الماديّة الظاهريّة، وعدم الاعتماد والإتّكال على المخلوقات الضعيفة العاجزة، بل التوكُّل فقط على الذات الإلهيّة المقدّسة، والإستعانة به سبحانه فقط والوثوق به والخضوع لحضرته جلّ وعلا فقط.

ومن جهةٍ اخرى علينا أن نسعى ونبذل ما في وسْعنا لنكون عوناً للآخرين من باب التخلّق بأخلاق اللَّه، ونحاول حل مشاكلهم تقرّباً إلى اللَّه تعالى

وقد ورد في حديثٍ عن الإمام علي عليه السلام أنّه قال: «التوكُّل على اللَّه نجاة من كُلّ سوء وحرزٌ من كُلّ عدو» «3».

__________________________________________________

(1) مصباح الكفعمي، ص 326.

(2) تاج العروس، مادّة (وكل).

(3) بحار الأنوار، ج 75، ص 79، باب ما جُمع من جوامع الكلم، ح 56،.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 260

أمّا كلمة (كافي) فهي مأخوذة من مادّة (كفاية) طبقاً لما جاء في مقاييس اللغة ولسان العرب- وهي تعني الإقدام على عملٍ معيّن والتمكُّن منه، ولكن الراغب يقول في مفرداته: (الكفاية) هي رفع حاجةٍ والوصول إلى المقصود، و (كُفية)- على وزن كنية- تعني الغذاء الكافي، و (كفيّ)- على وزن (خفيّ)- تعني المطرالذي يحلُّ مشكلة الجفاف «1».

وعندما تُستعمل هذه الكلمة بخصوص اللَّه سبحانه فإنّها تعني المدير لأمور عباده وحلّال مشاكلهم والمبلّغ- من يتوكّل عليه- مناه دون أن يكله إلى غيره.

وقد مرّ علينا في الدعاء: (يا كافى المهمّات) أو مثله (يَا كَافِى مِن كُلِّ شَى ء).

إنّ مفهوم هذه الصفة الإلهيّة ذو جانبين، فمن جهة يزيل سُحُب اليأس والقنوط المظلمة عن سماء روح الإنسان، ويمنع من استسلام وركوع الإنسان لعظمة حجم المشاكل، لأنّه (أيّ الإنسان المؤمن) يعلم أنّ معبوده يُدعى بالكافي ويكفيه ما يهمّه من أموره ومشكلاته، قال تعالى «أَلَيسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبدَهُ!؟». (الزمر/ 36)

ومن جهة اخرى، ومن باب التخلُّق بأخلاق اللَّه، يلهمه الجدّ والاجتهاد في كفاية

الضعفاء والمحرومين أمورهم مهما أمكنه، ويعكس شعاعاً من أنوار الصفات الإلهيّة في نفسه في هذا المجال.

44- الحسيب 45- سريع الحساب 46- أسرع الحاسبين 47- سريع العقاب 48- شديدُ العقاب

تشير الصفات الخمس المذكورة أعلاه، والتي هي من صفات الفعل، إلى مسألتي الحساب والعقاب بصورة عامّة، وتُعدُّ تحذيراً للعباد ليُراقبوا أعمالهم خشية اقتراف الذنوب والتخلُّف عن أداء الوظائف والتعدّي على حقوق الآخرين، ولا ينسوا في حالات الضعف

__________________________________________________

(1) تاج العروس في شرح القاموس، مادّة (كفيّ).

نفحات القرآن، ج 4، ص: 261

والقدرة، والفقر والغنى حقيقة كونهم دائماً بين يدي اللَّه الحسيب، سريع العقاب، وشديد العقاب، وقد وردت هذه الصفات الإلهيّة في آيات قرآنية عديدة، لنتأمل في قسم منها خاشعين:

1- «وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا» «1». (النساء/ 6)

2- «وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ» «2». (البقرة/ 202)

3- «وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ» «3». (الأنعام/ 62)

4- «إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ». «4»

(الأنعام/ 165)

5- «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ» «5». (البقرة/ 196)

جمع الآيات وتفسيرها

كلمة (حسيب) مشتقّة من مادّة (حساب)، وقد ذُكر في مقاييس اللغة عدّة معانٍ لها هي:

العدّ، الكفاية، و (حسبان) تعني نوع من الوسائد الصغيرة، و (أحسَبْ) تعني مرض جلدي، لكنّ كتاب التحقيق أرجع جميع هذه المعاني إلى معنىً واحد وهو البحث للإطلاع على حال شي ءٍ معيّن والتحقيق عنه، ولكون العدّ وسيلة لتحقُّق هذا المعنى كما أنّ الكفاية من لوازمه ونتائجه، فإنّها استُعملتْ في هذا المجال أيضاً.

__________________________________________________

(1) وردت كلمة «حسيب» في أربعة مواضع من القرآن الكريم، في ثلاثةٍ منها كصفة للباري تعالى (النساء، 6 و 86؛ الأحزاب، 39) وفي موضعٍ واحد كصفة من صفات الإنسان في يوم القيامة عندما يُعطى كتابه بيده. (الاسراء، 14).

(2) وردت هذه الصفة في ثمانية مواضع من القرآن الكريم ممّا يدلّ دليلًا واضحاً على أهميتها (سورة البقرة، 202؛ سورة آل عمران، 19 و 199؛ سورة المائدة، 4؛ سورة الرعد، 41؛ سورة ابراهيم، 51؛ سورة النور، 39؛ سورة

غافر، 17).

(3) وردت هذه الصفة في موضعٍ واحد فقط من القرآن الكريم وهو المذكور أعلاه.

(4) وردت هذه الصفة في موضعين من القرآن الكريم هما: الآية المذكورة أعلاه والآية 167 من سورة الأعراف.

(5) تكررت هذه الصفة أربع عشرة مرّة في القرآن مما يُعدّ دليلًا على أهميتها (سورة البقرة، 211 و 196؛ سورة آل عمران، 11؛ سورة المائدة، 2 و 98؛ سورة الأنفال، 133، 25، 48 و 52؛ سورة الرعد، 6؛ سورة غافر، 3 و 22؛ سورة الحشر، 4 و 7).

نفحات القرآن، ج 4، ص: 262

فكلمة (حسب) على وزن نسبْ، تعني كون الآباء والأجداد ذوي شخصيّات ومقامات يُمكن ذكرها! وكذا (احتساب المصيبة) فإنّها تعني احتساب المصيبة على اللَّه وطلب ثوابه.

«حُسبان»: على وزن (غفران) وتعني الصاعقة والعذاب، لأنّها العقوبة التي يلقاها بعض الأقوام بعد حساب أعمالهم.

وعلى أيّة حال، عندما تُستعمل كلمة (حسيب) بخصوص الباري سبحانه- كما قال المرحوم الصدوق رحمه الله- فإنّها تعطي أحد المعاني الثلاثة التالية: الذي أحصى كُلٍ شي ءٍ في الوجود وهو عليم وخبير به، والذي يتولّى محاسبة العباد في القيامة ومجازاتهم، والذي يكفي أمور العباد «1».

ولكن يُفهم من الآيات القرآنية أنّ هذه الكلمة تعني «تولّي الحساب» لأنّها جاءت بهذا المعنى على الأقل في ثلاثة مواضع من المواضع الأربعة المذكورة في القرآن الكريم.

ومن هنا يتضح أنّ كلمة (حسيب) متقاربة مع صفتي (سريع العقاب)، و (أسرع الحاسبين)

وللمفسرين آراء مختلفة حول سبب اتصاف الباري بصفة (أسرع الحاسبين).

يقول القرطبي في تفسيره: (لأنّه لا تحتاج محاسبته إلى أي نوعٍ من التفكُّر) «2».

ويقول الألوسي في روح المعاني: لأنّه سبحانه يحاسب جميع الخلق بأسرع وقتٍ دون أن تشغله محاسبة فردٍ عن محاسبة غيره «3».

وقد أورد المرحوم الطبرسي نفس

هذا المعنى في مجمع البيان «4».

وقد وردت تعابير ظريفة حول هذا الموضوع في الأحاديث الإسلامية أيضاً، فقد نُقِلَ عن أمير المؤمنين علي عليه السلام أنّه قال: «معناه انه يحاسب الخلق دفعة كما يرزقهم دفعة» «5».

__________________________________________________

(1) توحيد الصدوق، ص 202، ووردت هذه المعاني الثلاثة في كتاب مصباح الكفعمي أيضاً، ص 324.

(2) تفسير القرطبي، ج 4، ص 2443.

(3) تفسير روح المعاني، ج 7، ص 154.

(4) تفسير مجمع البيان، ج 2، ص 298، ذيل الآية 202 من سورة البقرة.

(5) المصدر السابق.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 263

وفي حديثٍ آخر: «إنّه تعالى يُحاسب الخلائق كلّهم في مقدار لمح البصر» «1».

وورد في حديث آخر: «إنّه سُبحانه يُحاسب جميع عباده على مقدار حلب شاة» «2».

وقد اورد المفسرون الآخرون أيضاً نفس هذه التعابير تقريباً ولكن الحق أنّ أي واحدٍ منها لا يمكنه تبيان عمق الكلمات المذكورة، والحقيقة يجب القول: إنَّ اللَّه لا يحتاج إلى حساب لأنّ جميع أعمال العباد ماثلة بين يديه في آنٍ واحد.

والظريف هو ما توصّلت إليه العقول الألكترونية المصنوعة التي تستطيع القيام بمئات الملايين أو الملياردات من الحسابات الرياضيّة في ثانية واحدة أو عدّة ثوان، ممّا يدل على عمق ما توصلت إليه سرعة الحساب في عصرنا الحالي!

ففي الوقت الذي يستطيع البشر- بكل ضعفه ونقائصه- التوصُّل إلى هذه السرعة الحسابية، فلا توجد حاجة إذن إلى توضيح (إثبات) سرعة حساب القادر العلي الذي قدرته غير محدودة وعلمه غير متناهٍ.

وكما أشرنا في التفسير الأمثل أيضاً، أنّ آثار أعمال الإنسان ستبقى وتتضاعف وتصير بذاتها خير وسيلة للحساب، وهي على وجه التشبيه كالمعامل التي تحتوي مكائنها على عدّادات لإحصاء عدد دورات الماكنة أو كالسيّارات التي يتصاعد العدد الذي يعدّه عدّاد

المسافة الموجود فيها كلما قطعت مسافة أكبر، فلا توجد حاجة إلى الحساب لمعرفة معدّل عمل مكائن ذلك المعمل أو المسافة التي قطعتها هذه السيّارة، فكل شي ءٍ واضح ومُهَيأ.

لهذا يجب أنْ ندرك إن علمَ اللَّه اللامحدود وأنّ ديمومة حضور الباري في كل مكانٍ من عالم الوجود من جهة، وبقاء آثار الأعمال وتراكمها من جهةٍ اخرى سيؤدّي إلى تسريع حساب الخلائق كلّها كلمح البصر.

إنَّ التعليمات التي تحملها هذه الصفات الإلهيّة (حسيب، سريع الحساب، أسرع الحاسبين) هو أنّها تحذّر جميع الناس من تناسي أبسط الذنوب وأصغرها، وتجعلهم على

__________________________________________________

(1) تفسير مجمع البيان، ج 2، ص 298، ذيل الآية 202 من سورة البقرة.

(2) تفسير مجمع البيان، ج 3، ص 313 وروح المعاني، ج 7، ص 154.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 264

يقين بأنّ الذي يحاسبهم هو مَنْ لا تخفى عليه ذرّة من أعمال الناس الصالحة والطالحة، وَأن النسيان لا يجدي نفعاً في محوها، وسيُنهي تعالى حساب جميع هذه الأعمال يوم القيامة بلمحة بصر، هذا من جهة، ومن جهةٍ اخرى تلقّن الناس درس المحاسبة في جميع أمور الحياة، ليحسبوا لكل عملٍ وكل شي ءٍ وكل أمرٍ من حياتهم حسابه دون أن يتركوه سُدىً.

أمّا كلمة «عقاب» فهي مشتقّة من مادّة (عَقِب) على وزن (خَشِن) المستعملة بمعنى كعب القدم، وأُطلقت فيما بعد على مؤخّرة كلّ شي ء، ولكن ذُكر لها في مقاييس اللغة معنيان:

الأول تعاقب شي ء مع آخر، والثاني: المرتفع والشدّة والصعوبة (لذا وردت عقَبَة بمعنى منعطف).

وإنّما أُطِلقَ على عقوبات الأعمال (عقاب) لكونه عذاباً يصيب الإنسان عقب ارتكابه الأعمال السيئة.

وكذلك يُطلق على الأولاد والأحفاد (أعقاب) لأنّهم يأتون عقب الأب والجد، ويطلقون على الطير المعروف اسم العقاب لأنّه يعقب فريستهُ بسرعة.

وعلى أيّة حال فإنّ

وصف الباري بصفة (شديد العقاب) لا يعني أبداً أن يتجاوز عقابُهُ على مقتضى أصول العدالة بل لكون مجازاته وعقوباته دنيويّة وأخرويّة، جسمية وروحيّة، ولا يأمن منها أي أحد من المجرمين، ولا تقوى أيّة قدرةٍ على التصدي لها.

فقد يُهلك اللَّه قريةً ظالمة في لحظةٍ واحدةٍ أحياناً، فيمطر حجارة على الأشرار، وأحياناً يأمر أمواج البحر لتغرق فرعون وجنده والمتغطرسين في زمن قصير لتحيلهم طعاماً لأسماك البحر.

وأحياناً يأمر الريح العاصفة لتهلك الظالمين وتذري قصورهم في الفضاء وترمي بها في نقاطٍ نائية.

وأحياناً يُرسلُ طيراً أبابيل لترمي أصحاب الفيل بحجارةٍ من سجّيل وتُهلكهم وتجعلهم كعصفٍ مأكول لتمنعهم من التقدم لهدم الكعبة.

وبالتالي يأمر اللَّه تعالى السماء لتمطر مطراً غزيراً ويأمر عيون الأرض لتتفجّر بالماء فيغطي سطح الأرض سيلٌ عظيم ولا يُبقي عليها إلّاسفينة النجاة للأطهار المحسنين!

أجلْ إنّه شديد العقاب في المحل المناسب، وهذه الصفة تُعدُّ تحذيراً لكل الذين

نفحات القرآن، ج 4، ص: 265

يستهينون بمعصية الباري ويرتكبون ما شاؤوا من الذنوب دون أن يتفكّروا في عواقبها، مستغلين لطف الباري وكرمه.

أجل إنّه «أرحم الراحمين» ولكن في موضع العفو والرحمة، وأشد المعاقبين في موضع النكال والنقمة!

اللهم عاملنا بلطفك ورحمتك، وخلّصنا من أسر عذابك، فنحن نُقرّ لك بذنوبنا، ونعتذر إلى جنابك من تقصيرنا.

49- نصير 50- نعم النصير 51- خير الناصرين

لا شك أنّ قدرة الإنسان المحدودة غير قادرة على حلّ المشاكل اللامتناهية، ولولا عناية الباري في عالم التكوين والتشريع، لما وصل- الإنسان- إلى مقصوده ولَضَلّ الهدف العظيم الذي خُلِقَ من أجله، وهو التكامل والتقرّب من اللَّه، في هذا العالَم المتلاطم.

فاللَّه العظيم هو الذي يعين الإنسان ويمدّه بعنايته عن طريق القوانين التكوينيّة والتشريعية وإمداده الظاهر والخفيّ، ويأخذ بيده إلى حيث بلوغ الهدف المنشود متجنّباً طرق الحياة الملتوية.

لنمعن خاشعين في الآيات التالية الواردة

في هذا المجال:

1- «وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا» «1». (النساء/ 45)

2- «وَاعتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَولَاكُم فَنِعمَ المَولَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ» «2». (الحج/ 78)

3- «بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُم وَهُوَ خَيرُ النَّاصِرِينَ» «3». (آل عمران/ 150)

__________________________________________________

(1) وردت كلمة «نصير» في أربعة وعشرين موضعاً من القرآن، وفي عدّة مواضع منها فقط كصفة للَّه، مثل (النساء، 45؛ الفرقان، 31؛ البقرة، 107).

(2) وردت صفة نعم النصير في موضعين من القرآن وفي كليهما وردت كصفة للَّه، أحدهما الآية المذكورة أعلاه والاخر الآية 40 من سورة الانفال.

(3) وردت صفة «خير الناصرين» مرّة واحدة فقط في القرآن وهي كصفة للباري تعالى

نفحات القرآن، ج 4، ص: 266

جمع الآيات وتفسيرها

كلمة (نصير) و (ناصر) من مادّة (نصر) على وزن (عصر) وهي بالأصل تعني عمل الخير وإعطائه- كما قال صاحب مقاييس اللغة-، أمّا الراغب الاصفهاني فقد قال: إنّها تعني المعونة، وقال صاحب كتاب لسان العرب بأنّها تعني معونة المظلوم، وجميع هذه التفاسير تعود إلى معنىً واحدٍ تقريباً.

وأحياناً يُطلق على المطر (نصر)، وعلى الأرض التي تعرّضت للأمطار (منصورة)، وعلى مسير ومجاري المياه (نواصر)، وكلّ ذلك بسبب الإمدادات التي توصلها الأمطار للموجودات الحيّة.

وهذه الكلمة عندما تستعمل كصفة من الصفات الإلهيّة فإنّها ترمز إلى الامداد الإلهي اللامتناهي الذي يمدّ به سبحانه عباده.

فالنطفة تنتهل من منهل الامداد الإلهي منذ اللحظة الأولى لدخولها الرحم، وتُحاط من كل جانب بالنصر الإلهي عن طريق القوانين التكوينية، وتقضي بعنايته سبحانه مراحل التكامل بسرعة، حتى تنتهي من مرحلة الجنين ويأتي الإذن الإلهي في الولادة.

ولا تَزال يد العناية الإلهيّة محيطةً به وترعاه كرعاية الأم التي توفّر له الحليب ذلك الغذاء الكامل الشامل لأنواع مواهب الحياة، فكل هذه الأمور أشعةٌ وأنوارٌ من ألوان النصرة الإلهيّة في

هذه اللحظات الحسّاسة.

وعندما يبلغ هذا الإنسان ويخضع للقوانين الإلهيّة التشريعيّة يضع يده في يد الأنبياء ويُظلّه اللَّهُ بظلّ الوحي والكتب السماوية.

وهو- أي الإنسان- مُهدَّدٌ طيلة حياته بالموانع والآفات من جهة، والشياطين والأهواء النفسانية من جهةٍ اخرى، فلولا نصرة (خير الناصرين) لما نجا أحدٌ من هذه المخاطر العظيمة.

والتفكّر بهذه الحقيقة يُلْهم الإنسان الأمل من جهة، ويكشف عن سماء روحه سُحب اليأس والقنوط المظلمة في مواجهة المشاكل طيلة حياته، ويثبت أقدامه ويقوي عزمه

نفحات القرآن، ج 4، ص: 267

وإرادته ويجعل قراراته حدّية قوية لطيِّ طريق التربية والتكامل.

ومن جهة اخرى فإنّ (التخلق بأخلاق اللَّه) يعلّمه هذه الحقيقة، وهي أن يكون للمظلومين عوناً، وللمحرومين ناصراً ونصيراً.

52- القاهر 53- القهّار 54- الغالب

أشرنا فيما مضى إلى أنّ بعض الصفات الإلهيّة يمكن أن تكون ذات بعدين، ذاتي وفعلي ولكن بمفهومَيْن.

ويُمكن أن تكون صفتا (القاهر) و (القهّار) من هذا القبيل، فلو اعتبرناها مرادفة لصفتي (قادر) و (قدير) لصارت من صفات الذات، أمّا لو حُمِلَتْ على مفهوم القهر والغلبة الفعلية الخارجيّة لصارت من صفات الفعل.

وعلى أيّة حال فإنّ قدرته غير متناهية ومن جميع الجوانب فهو قاهر وغالب لكل شي ء بالطبع، ومسيطر على جميع الأمور، لا مانع يحول دون مشيئته، ولا يصعب عليه أيّ أمرٍ.

وقد وردت هذه الصفات الإلهيّة الثلاث في الآيات القرآنية، فلنتأمل خاشعين في الآيات التالية:

1- «وَهُوَ القَاهِرُ فَوقَ عِبَادِهِ». «1»

(الانعام/ 18)

2- «ءَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيرٌ أَمِ اللَّهُ الوَاحِدُ القَهَّارُ». «2»

(يوسف/ 39)

3- «وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمرِهِ وَلَكِنَّ أَكثَرَ النَّاسِ لَايَعلَمُونَ». «3»

(يوسف/ 21)

__________________________________________________

(1) وردت كلمة «قاهر» في موضعين من القرآن الكريم (الانعام، 18 و 61).

(2) وردت كلمة «قهّار» في ستة مواضع من القرآن الكريم جميعها كصفة من صفات الباري. (يوسف، 39؛ الرعد، 16؛ ابراهيم،

48؛ ص، 65؛ الزمر، 4؛ غافر، 16).

(3) وردت كلمة «غالب» في ثلاثة مواضع من القرآن الكريم، ولكن في موضعٍ واحدٍ منها فقط كصفة للَّه سبحانه، وتكررت كلمة (غالبون)- بصيغة الجمع- ست مرّات.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 268

جمع الآيات وتفسيرها

كلمة (قاهر) و (قهّار) من مادّة (قهر)، وهي بالأصل- كما جاء في (مقاييس اللغة)- تأتي بمعنى الغلبة والتفوُّق، لذا يُطلق على الصخور القويّة (قهقر)، وقال الراغب في مفرداته: إنّ (القهر) معناه النصر المصحوب بإذلال الطرف المقابل، لذلك تستخدم في كلا المعنيَيْن، وقال الخليل بن أحمد في كتاب العين: (القهر) معناه الغلبة والتسلُّط على أحد أو شي ء معيَّنْ، وجاء بهذا المعنى في «لسان العرب» و «تاج العروس».

وعندما تُستعمل كلمة (قاهر) و (قهّار) بخصوص اللَّه سبحانه وتعالى فإنّها تأتي بمعنى التغلُّب على جميع الجبابرة، والتسلُّط على جميع المخلوقات، وعجزها جميعاً إزاء إرادته وأمره عزّ وجلّ، بحيث لايستطيع أي موجودٍ أن يحول دون مشيئته وإرادته، ولكن لكون (قهّار) من صيغ المبالغة فإنّها تعطي نفس هذا المفهوم وتبيّنه بتوكيدٍ أكثر.

والبلاغ الذي تحمله هاتان الصفتان الإلهيتان في طيّاتهما للمؤمنين، هو أنّهما تحذّران المؤمنين من غرور النفس والظلم والشعور بالتسلُّط والغلبة، لأنّ غرور السلطة كان مصدر الكثير من التعاسة وحالات الفشل على مدى التاريخ، بل يجب عليهم أن يعتبروا أنفسهم خاضعين لإرادة اللَّه، ويعتقدوا بأنّ ليس لقدرتهم أدنى تأثير على الإرادة الإلهيّة، ولا ريب من أنّ الإنتباه إلى قاهرية وقهّارية اللَّه يمكنها أن تصدّ الإنسان عن التهوّر عند الغلبة.

أمّا كلمة (غالب) فهي من مادّة (غلبة) وتأتي بنفس معنى القهر، وتدل على القوة والشدّة والغلبة، لهذا يُطلق على الأفراد المتمرّدين (أغلب)، و (مغلّب) وتعني المنتصر على عدوّه «1».

ولكون مفهوم (غالب) يشبه مفهوم (قاهر)، فإنّ هذه

الصفة الإلهيّة تعطي نفس البلاغ السابق أيضاً للعباد وأهل المعرفة والسلوك.

والظريف بالأمر هو أنّ الأديان المذكورة عندما تتحدث عن قاهرية وغلبة اللَّه على جميع الأشياء تختم بالعبارة التالية: «وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَايَعلَمُونَ».

أجل لأنهم لايعلمون بأنّ زمام عالم الوجود بيد اللَّه تعالى !

__________________________________________________

(1) مقاييس اللغة؛ ومفردات الراغب؛ ولسان العرب.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 269

أجلْ إنَّ أمر اللَّه تعالى نافذ، فالماء والهواء والتراب كلّها مُسلمة لأوامره تعالى ولأنّهم لا يلتفتون إلى هذه الحقيقة يتيهون في عالم الأسباب فيفرحون إذا ما كانت الأسباب مساعدة ويقنطون بخلافها، في حين لو كان لهم إيمان بغلبة الباري وقاهريته لما دبَّ اليأس في قلوبهم أبداً، ولما غرّتهم الإنتصارات أيضاً.

وبالمناسبة، إنّ الآية المذكورة تحدّثت عن يوسف عليه السلام الذي أراد إخوته أن يقتلوه ولكنهم ألقوه في غيابة الجبّ، آملين أنْ يخلُوَ لهم وجه أبيهم (أي حبّه)، لكن اللَّه جعل كيدهم سبباً في وصوله إلى السلطة!

أجل، إنّ من إحدى أشكال قاهرية اللَّه، هي أن يجعل وسائل غلبة ونجاة الإنسان على يد عدوّه في أكثر الأحيان، وهذه هي الحقيقة التي يجهلها أغلب الناس ولا يعلمونها.

55- السلام 56- المؤمن

إنَّ صفة (السلام) هي اسمٌ آخر من أسماء اللَّه الحسنى التي لها معنيان، فعلى أساسٍ تعتبر من صفات الذات، وعلى أساسٍ آخر تُعدُ من صفات الفعل، فإذا كانت صفة (السلام) بمعنى السلامة من أي لونٍ من العيوب والنقائص والآفات- فهي من صفات الذات (الصفات السلبيّة) وهي تناظر صفة (القدّوس) تقريباً، أمّا لو كانت بمعنى سلامة الناس من ناحيته تعالى وتركه لأي لونٍ من ظلم العباد ورعايته للعدل والإنصاف معهم- لصارت من صفات الفعل.

أجل، إنّه سلامٌ لدرجة بحيث لايستوحش أو يهاب سالكو طريق قربه من صدور ظلمٍ أو إجحافٍ من ناحيته

سبحانه، علاوةً على ذلك، فهو المؤمن الذي يمنح أحبائه السكينة والأمان، وقد وردت هذه الصفة في موضعٍ واحدٍ فقط من القرآن الكريم وهو قوله تعالى

«هُوَ اللَّهُ الَّذِى لَآإِلَهَ إِلَّا هُوَ المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلَامُ المُؤمِنُ». (الحشر/ 23)

نفحات القرآن، ج 4، ص: 270

جمع الآيات وتفسيرها

إنْ كلمة (سلام) ذات مفهومٍ مصدري، وأحياناً يستعمل هذا المصدر كصفة، فمعناه في الحالة الأولى كما ورد في مقاييس اللغة- (الصحّة والعافية)، وإنّما سمّي (الإسلام) بهذا الاسم لأنّه يمنع الإنسان من معصية الحق ومخالفته، يُحفِّزه على الإنقياد والطاعة، وكذلك سمّيت (التحية) سلاماً لأنّها دعاء للسلامة.

وتستعمل كلمة (سلام) بمعنى (الصلح) أيضاً، لأنّه سلامٌ من الحرب وسفك الدماء، ويُسمى المبلغ الذي يُدفع كمقدمة لشراء شي ء (سَلَم) لعدم امتناع المشتري عن دفع المبلغ المذكور على الرغم من عدم استلامه ذلك الشي ء الذي اشتراه، وسمّي السُّلَّمُ بهذا الاسم لكونه الوسيلة التي يصعد وينزل بها الإنسان من المكان المرتفع بسلام.

وعلى أيّة حال، عندما تُستعمل هذه الكلمة كصفة من صفات الباري تعالى تكون ذات معانٍ مختلفة:

فقد قال البعض: إنّها تعني المنزّه عن كل عيبٍ ونقصٍ وفناءٍ وعدمٍ يصيب المخلوقات «1».

وقال البعض الآخر: إنّها تعني الذي يواجهك بسلام دون أن يؤذيك «2».

وقال آخرون: إنّها تعني الوجود الذي يفيض على الآخرين بالسلامة والسكينة والأمان «3».

ولكن لايوجد أي دليل على تحديد هذه الصفة وحصرها بأحد المعاني المذكورة، بل إنّها ذات مفهومٍ أوسع وأشمل بحيث يضم جميع هذه المعاني، فهو سالمٌ من أي عيبٍ ونقص، وسالمٌ من الفناء والعدم، وَسالمٌ من الظلم والجور على عباده، وهو واهب السلامة.

وبلاغ هذه الصفة هو أنّها تمنح الإنسان المؤمن الشعور بالأمن والإطمئنان من العدل الإلهي، ويدفع به إلى الاحتراز من الاعمال التي تمسّ سلامة روحه وبدنه،

هذا من جهة،

__________________________________________________

(1) مقاييس اللغة، مصباح الكفعمي، لسان العرب، مجمع البحرين.

(2) تفسير الميزان، ج 19، ص 256.

(3) مصباح الكفعمي، ص 318؛ وفي ظلال القرآن، ج 8، ص 50.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 271

ومن جهةٍ اخرى فإنَّ التخلق بهذه الصفة الإلهيّة يقول للإنسان: كُن بحيث يسلم من لسانك وبدنك جميع الناس وكن ذا صُلحٍ وصفاءٍ معهم جميعاً.

أمّا كلمة (مؤمن) فهي مأخوذة من مادّة (أمن)، كما قال صاحب مقاييس اللغة، وهي ذات مَعْنَيين متقاربَيْن من بعضهما: أحدهما هو الأمانة في مقابل الخيانة التي تبعث على سكون القلب، والآخر هو التصديق بشي ءٍ معين.

ولكن لم يذكر الراغب في مفرداته سوى معنىً واحد وهو سكون النفس وزوال الإضطراب والخوف، ولكون قبول الأصول العقائدية يمنح الإنسان السكينة والأمان فإنّه سُمّي بمصطلح (الإيمان)، وقولنا آمين بعد الدعاء معناه: «اللّهم صدِّق ذلك وحقِّقْه»، لذا فقد فسّروه بمعنى طلب الاستجابة، وكذلك يُسمَّى البعير المطمئِنٌ النشِطُ الذي لايَزِلُّ (أمون).

وعلى أيّة حال، عندما تستعمل هذه الكلمة كأسم من أسماء اللَّه وندعوه ب «المؤمن» فإنّها تعني من يمنح أولياءه وأحباءه الأمان ويترحم عليهم بالإيمان، وقال البعض: إنّه تعالى يدعى بهذا الاسم لأنّه أوّل من آمن بذاته المقدّسة وصدّقها.

وقد احتمل الفخر الرازي، في تفسيره، هذا الإحتمال أيضاً وهو أنّ وصف الباري بصفة المؤمن معناه المصدّق رسُلَهُ بإعطائهم المعاجز «1». وقد قال المرحوم الكفعمي في مصباحه:

«يحتمل أن يكون مفهومها من يُصدّق وعوده التي وعد عباده بها، ويحققها»، ثم نقل حديثاً عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «سُمّي سُبحانه مؤمناً لأنّه يؤمّنُ عذابَهُ مَنْ أطاعه»، وقال البعض الآخر من المفسّرين: «المؤمن مَنْ يؤمّنُ ظلمه وجوره عباده» «2»، وقد ذُكرَ لها في تفسير «روح البيان» معنىً

جامعٌ يضم أغلب المعاني المذكورة أعلاه وهو: المؤمن والذي لا يتحقق أي أمانٍ وسكينة إلّامن عنده.

وقد ذكر المرحوم الصدوق في كتاب التوحيد ثلاثة معانٍ لها: «من يحقق وعوده، ومن

__________________________________________________

(1) تفسير الكبير، ج 29، ص 293.

(2) تفسير القرطبي، ج 9، ص 6525 (ذكر هذا المعنى كأحد الاحتمالات).

نفحات القرآن، ج 4، ص: 272

يعلم عباده حقيقة الإيمان عن طريق آياته ودلائله، ومن يؤمّن ظلمه وجوره عباده» «1».

ولكن الحق هو أنّ مفهوم (المؤمن) لايتحدد بأي واحدٍ من هذه المعاني، بل لها معنىً جامعٌ يشتمل على جميع ما ذكرناه، واستعمال كلمة (مؤمن)، كصفة من صفات اللَّه، في هذا المعنى الشامل لايستوجب استعمال اللفظ في معانٍ مختلفة، لأنّها شاملة بما فيه الكفاية (علاوةً على عدم وجود مانع من استعمال لفظ مشترك في معانٍ متعددة).

لذلك فهو (المؤمن)، لأنّه يؤمن عباده المؤمنين من عدّة نواحٍ، وأيضاً لأنّه يوجِدُ روح الإيمان في قلوب عباده عن طريق إراءتهم آياته في الافاق وفي أنفسهم، علاوةً على أنّه يصدّق ويؤيّد رُسله عن طريق إظهار المعجزات، وكذلك لأنّه يفي بما وَعَدَ به عباده من الثواب والعقاب.

أمّا البلاغ الذي تحمله هذه الصفة الإلهيّة في طيّاتها فهو أنّها تبيّن عظمة مقام (المؤمن)، لأنّ هذا الاسم هو أحد أسماء اللَّه، هذا من جهة، ومن جهة اخرى إنّ الإنسان المؤمن يحسّ بالأمن والسكينة في ظلّ هذه الصفة لأنّها مصدر جميع أنواع الأمان.

ومن جهة ثالثة أنّ الإنسان المؤمن في حال التخلق بهذه الصفة الإلهيّة، يسعى لمشاركة الآخرين في هذا الأمان فيأمَنُ الناس من لسانه ويده وفكره أيضاً!.

لذا فقد ورد في حديثٍ عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «المؤمن من آمن جارُهُ بوائقه».

وقال أيضاً: «المؤمن الذي يأتمنهُ المسلمون على أموالهم

وأنفسهم» «2».

57- المحيي

تُعد مسألة الحياة من أبرز آيات اللَّه في عالم الوجود، فالحق أنّ الكائنات الحيّة أعقد

__________________________________________________

(1) توحيد الصدوق، ص 205 (باب أسماء اللَّه تعالى .

(2) كلا الحديثين عن توحيد الصدوق، ص 205، والحديث الأول ورد أيضاً في أصول الكافي، ج 2، ص 668 (باب حق الجوار، ح 12).

نفحات القرآن، ج 4، ص: 273

وأعجب آثار عظمته (جلّ وعلا)، لهذا فقد استند إليها القرآن كثيراً في مباحث التوحيد وذكر اللَّهَ سبحانه وتعالى باسم (محيي الموتى .

مع أنّ كلمة (محيي) لم ترد في القرآن سوى مرّتيْن: «إِنَّ ذَلِكَ لُمحْىِ المَوتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَى ءٍ قَدِيرٌ». «1»

(الروم/ 50)

وهي كما تُلاحظون تتحدّث عن إحياء الموتى لكن مشتقاتها وردت تكراراً في آيات عديدة من القرآن حول حياة وموت النباتات، الحيوانات، البشر، وتعتبر من أهم صفات الفعل الإلهي.

جمع الآيات وتفسيرها

إنَّ كلمة (محيي) مشتقة من مادّة (حياة) التي لها معنيان- كما ذُكر ذلك في مقاييس اللغة:

الأوّل: بمعنى الحياة أي ضد الموت، والثاني: بمعنى الحياء أي ضد الوقاحة والتهور.

ولكن بعض المحققين أرجعوا المعنى الثاني إلى المعنى الأوّل وقالوا: الحياء أو الخجل بمعنى انقباض النفس إزاء الرذائل من آثار الكائن الحي، أو بتعبيرٍ آخر الحياء هو حفظ النفس من الضعف والنقصان والعيب والسوء.

والجدير بالذكر هو أنّ (حي) أحد أسماء المطر، لأنّه مادّة حياة الأرض، ويطلق أيضاً على القبيلة اسم (حي) لأنّها تحتوي على حياة اجتماعية، ويُطلق على الأفعى الكبيرة (حيّة) أيضاً لأنّها تتمتع بكامل صور الحياة ولها قابليّة كبيرة على الانتقال والتحرّك «2».

وقد ذكر الراغب في مفرداته ستّة مصاديق للحياة هي:

1- الحياة النباتية، 2- الحياة الحيوانية، 3- الحياة العقلية للإنسان، 4- الحياة العاطفية (زوال الهم وحصول النشاط واللّذة)، 5- الحياة الأخرويّة الخالدة، 6- الحياة

التي هي إحدى صفات اللَّه (وتعتبر أكمل وأتم أنواع الحياة أي كمال العلم والقدرة).

__________________________________________________

(1) (الموضع الثاني) سورة فصلت الآية 39: «إِنَّ الَّذِى أَحيَاهَا لَمُحْىِ المَوتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَى ءٍ قَدِيرٌ».

(2) مقاييس اللغة؛ المفردات؛ لسان العرب؛ نهاية ابن الأثير؛ والتحقيق في كلمات القرآن الكريم.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 274

ويمكن تصور أنواع اخرى من الحياة، ومن جملتها الحياة المعنوية أي الإيمان، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا المعنى في آياتٍ عديدة.

وعلى أيّة حال فقد تجلّت صفة «المحيي» في اللَّه سبحانه وتعالى من عدّة جهات: في عالم النبات حيث نلاحظ أنّ الكرة الأرضية مغطّاة من أقصاها إلى أقصاها بأنواعٍ مختلفة من الأشجار، الأزهار، الأعشاب الصغيرة والكبيرة، المائية والبرّية، في الغابات وفي الصحراء، الطبيّة والغذائية، بحيث إنّ التدقيق في تنوّعها وعجائبها يهدي الإنسان إلى ذلك المُبدى ء العظيم لعالم الوجود.

وأمّا في عالم الحيوان فقد خلق سبحانه أنواع وأقسام الأحياء المائية والبرّية، الطيور، الحشرات، الحيوانات الوحشية والأليفة، الأحياء المجهرية والعملاقة، وبالتالي الإنسان الذي يعدّ النموذج الأتم للحياة.

ومن البديهي أنّه كلّما ازدادت الحياة تعقيداً ازدادت أسرارها وصارت أكثر دهشة، وهذا في الحال الذي لا يزال أصل حقيقة الحياة وكيفية خروج الحي من الميت مجهولة، ولم تزل مساعي وجهود آلاف العلماء الفطاحل فاشلة في طريق حلّ هذا اللغز.

وعندما نجتاز هذه المرحلة، تبدأ مرحلة الحياة المعنوية الروحانية التي وضع اللَّه أُسُسَها عن طريق الوحي وانزال الكتب السماوية وإرسال الأنبياء والرسُل، كما قال سبحانه: «أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحيَينَاهُ». (الأنعام/ 122)

وقوله تعالى: «مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَو أُنثَى وَهُوَ مُؤمِنٌ فَلَنُحيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً». (النحل/ 97)

وقد أشارت الآيات القرآنية وأكّدت مراراً على هذا النوع من الإحياء الإلهي.

والأعلى من هذه المرحلة أيضاً، هو مرحلة الإحياء

الأخروية، حيث يحيي سبحانه العظام وهي رميم، يُحييها حياةً خالدة لا تعرف بعدها أي لونٍ من الموت.

وعلى هذا الترتيب يكون اتّصاف الباري بصفة الحياة (المحيي) في الدنيا والآخرة مصدراً لأهم وأوسع مظاهر خلقه، وأمّا بلاغ هذه الصفة الإلهيّة، فمن جهة الانتباه إلى هذه

نفحات القرآن، ج 4، ص: 275

الحقيقة، وهي كونه سبحانه (منبع) كل ألوان الحياة، لذا يجب أن نتوجّه إليه سبحانه في حفظ الحياة الظاهرية والحياة الباطنية، ونطلب منه الحياة، لأنّهُ مُحيي كلَّ شي ء.

ومن جهة اخرى إنّ التخلّق بهذه الصفة يُعَدُّ مصدراً لاعانة الحياة المادية والمعنوية للبشر، ولتخليص عباد اللَّه من الموت، ولمحاولة هدايتهم إلى اللَّه وأعمال الخير.

58- الشهيد

تُعد صفة (شهيد) من الصفات التي لها معانٍ مختلفة، وهي من صفات الذات طبقاً لبعض هذه المعاني (لأنّ أحد هذه المعاني هو «العلم المصحوب بالحضور والشهود»، فهي فرعٌ من صفة العلم في هذه الحالة).

وإذا كانت بمعنى الشهادة على أعمال العباد فتُحتَسبْ من صفات الفعل، وذكرها هنا أيضاً وفق هذا المعنى ولنمعن خاشعين في الآيتين التاليتين:-

1- «وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعمَلُونَ». (آل عمران/ 98)

2- «قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَينِى وَبَينَكُم». (الأنعام/ 19)

جمع الآيات وتفسيرها

«شهيد»: من مادّة (شهود وشهادة)، وهي بالأصل- كما ورد في مقاييس اللغة- تعني «الحضور» و «العلم» و «الإعلام»، والشهادة تستلزم كلًّا من العلم والحضور والإعلام.

لكن الراغب قال في مفرداته: إنّ هذه الكلمة تعني الحضور المقارن للمشاهدة سواءً بالعين الظاهرة أم بعين القلب.

و (مشاهد الحج) هي الأمكنة المقدّسة التي يحضر فيها المؤمنون والملائكة.

ويُسمّى المقتول في سبيل اللَّه (شهيداً) إمّا لحضور ملائكة الرحمة عنده، أو لمشاهدته

نفحات القرآن، ج 4، ص: 276

النّعم العظيمة التي أُعدّت له، أو لحضوره بين يديّ اللَّه، أو لكون جهاده في سبيل الشهادة بالحق، أو لسقوطه على الأرض، لأنّ إحدى أسماء الأرض (شاهدة).

ويُسمّى يوم الجمعة أيضاً (شاهداً) لأنّه يشهد اجتماع المسلمين، ويُسمّى يوم عرفة (مشهوداً) لحضور حجّاج بيت اللَّه الحرام فيه.

وعلى أيّة حال، إنّ اطلاق هذه الصفة على الذات الإلهيّة المقدّسة إمّا بسبب حضوره في كل مكان، أو لشهادته على جميع أعمال العباد «1».

والبلاغ الذي تحمله هذه الصفة الإلهيّة إلى الجميع هو أنّها تلفتهم إلى حضوره جل وعلا في كُلّ مكان، واطّلاعه على أعمال العباد، فليس الملائكة وكتبة الأعمال فقط، ولا أعضاء بدن الإنسان والزمان والمكان الذي يعيش فيه يشهدون أعماله، بل الأدهى من ذلك كُلّه هو شهادة الذات الإلهيّة المقدّسة، ومن

المسلَّم به هو أنّ الالتفات إلى هذه الحقيقة والإيمان بها له أثر بليغ في أن يصلحَ الإنسانُ أعماله وحركاته.

أجَلْ، إنّ الإيمان باللَّه سبحانه وتعالى ومعرفة صفاته يُعَدُّ من أهم وسائل تربيتنا.

59- الهادي

الهداية كُلّها من عند اللَّه، سواءً كانت من حيث التكوين وقوانين الخَلْق، أمْ من ناحية التشريع والتعليم والتربية والأحكام الشرعيّة.

فهو الذي يرعى النطفة الحقيرة ويهديها في مراحل تكامل الجنين ويصنع منها إنساناً عظيماً.

وهو الذي يأخذ بأيدي العباد ويخلّصهم من وادي الضلال ويهديهم إلى جادّة الهداية

__________________________________________________

(1) يقول ابن منظور في لسان العرب والزبيدي في شرح القاموس: «الشهيد» من بين أسماء اللَّه يعني الأمين في شهادته، وقال البعض: الشهيد: هو مَنْ لا يخفى عن علمه شي ء، والشهيد معناه الحاضر (طبعاً لا بمعنى الحضور (المكاني) بل بمعنى الإحاطة الوجودية.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 277

عن طريق إنزال الوحي وبعث الأنبياء والرسُلْ، لذا ندعوه في كُلّ صلاة ونقول: «إِهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ» ... (سورة الحمد)، وثبت أقدامنا، و ... لأنّه هو الهادي، ولنتأمل خاشعين في الآيات التالية:

وُصِف اللَّه سبحانه بصفة «الهادي» مرتين فقط في القرآن هما:

1- «وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَ نَصِيراً». (الفرقان/ 31)

2- «وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّستَقِيمٍ» «1». (الحج/ 54)

جمع الآيات وتفسيرها

إنَّ كلمة (هادي) مشتقة من مادّة (هداية)، وتأتي بالأصل بمعنى الدلالة والإرشاد المصحوب باللطف، وسُميّت (الهديّة) بهذا الأسم لهذا السبب أيضاً، هذا ما ذكره الراغب في مفرداته، أمّا في «مقاييس اللغة» فقد ذكر لها معنيَيْن هما: الإرشاد، وإرسال الهديّة، ولو أنّ الرأي الأول الذي يُرجِع كلا المعنيين إلى أصلٍ واحد أكثر تناسباً من غيره.

ويُطلق في العربية على اليوم (هادي) أيضاً، لأنّه وسيلة لاهتداء الناس، ويُطلق على العصا التي يهتدي بها العمي (هادية)، وتُسمّى الحيوانات التي تسير في مقدّمة القطيع (هوادي) وكذا رقاب الخيول.

ويُطلق على البعير والنياق التي يُؤتى بها إلى بيت اللَّه كقرابين (هَدْي)- على وزن سَعْي- لأنّها هدايا المؤمنين إلى بيت اللَّه الحرام «2».

وعلى أيّة

حال، عندما تستعمل هذه الكلمة كصفة من صفات الفعل الإلهي فإنّها تدلّ على مسألة هدايته في جميع شؤون الحياة الماديّة والمعنوية، الظاهرية والباطنية، التكوينية والتشريعية.

__________________________________________________

(1) وردت كلمة «هادي»- وأحياناً بلفظ (هادِ)- في عشرة مواضع من القرآن الكريم في اثنتين منها فقط كصفة للباري تعالى

(2) كتاب العين؛ مفردات الراغب؛ مقاييس اللغة؛ تاج العروس؛ لسان العرب؛ مجمع البحرين مادّه (هدى .

نفحات القرآن، ج 4، ص: 278

إنَّ اللَّه الذي غطّت أمواج هدايته جميع مَنْ في الوجود، لو حُرِمْنا من هدايتِهِ التكوينيّة والتشريعيّة لحظة لضلَلْنا وهلكنا.

وقد ذُكِرَ في المفردات للهداية أربع مراحل (بالاستشهاد بالآيات القرآنية).

1- الهداية العامّة التي تشمل جميع المكلّفين، وهي نوعٌ من (الهداية التكوينية) والتي تشمل العقل، والذكاء، والمعلومات الفطرية والضرورية، وهي ماوردت في الآية 50 من سورة طه: «رَبُّنَا الَّذِى أَعطَى كُلَّ شَى ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى .

2- الهداية التي تتحقق بواسطة أنبياء اللَّه ورسُله والكتب السماويّة (الهداية التشريعية)، وقد أشارت إليها الآية 24 من سورة السجدة: «وَجَعَلنَا مِنهُم أَئِمَّةً يَهدُونَ بِأَمْرِنَا».

3- الهداية بمعنى (التوفيق) الخاصّ بجماعةٍ من العباد، وقد أشارت القرآن اى هذا المعنى في قوله تعالى «وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى». (محمد/ 17)

4- الهداية الأخروية إلى الجنّة (أي بمعنى الثواب الإلهي)، كما ورد عن لسان أهل الجنّة: «الحَمدُ لِلَّهِ الَّذِى هَدَانَا لِهَذَا». (الأعراف/ 43)

وهذه المراحل الأربع المتتالية، فإن لم تحصل الأولى لن تحصل الثانية وإن لم تحصل الثانية، لن تحصل الثالثة، وهكذا ....

وأخيراً، إنّ البلاغ الذي تحمله هذه الصفة الإلهيّة في طيّاتها هو إنّها تقول لنا من جهة: أنّ كل ما في الوجود مسخّرٌ بأمر اللَّه لهدايتكم، وعليكم أنتم أن تستعينوا بهذه السُبُل، وتلبّوا هذا النداء الإلهي، وتطووا هذه المرحلة بالطاعة التكوينية والتشريعيّة

لتنجوا من الظلمات والضلال.

ومن جهةٍ اخرى: إنّ التخلق بهذه الصفة الإلهيّة يوجب على أي واحدٍ منّا أنْ يسعى لهداية الآخرين، ويُعين أبناء نوعه، ويسلك بهم مراحل الكمال المختلفة ليوصلهم إلى الهدف المنشود (بيت القصيد)، أي معرفة اللَّه وتجلّي أسمائه وصفاته.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 279

60- خَيْر

تستعمل كلمة (خير) أحياناً بمعنى (حَسنْ) وفي الكثير من الأحيان بمعنى (أحسن)، وقد وردت في عشرة مواضع من القرآن الكريم بهذا المعنى الأخير، مضافةً إلى صفات اخرى، وسنطالع ذلك في الآيات القادمة.

«الخير»: مساوٍ للوجود، والوجود مساوٍ للخيْر، ولكون وجود اللَّه وجوداً مطلقاً لا محدوداً فهو أحسن (خير) الوجود، أجل هو «خير الحاكمين» وخير الرازقين وخير النّاصرين ....

وجميع هذه الصفات من صفات الفعل الإلهي، وقد جمعناها هنا في مكانٍ واحد لنختتم بحثنا بخير.

ولنتأمل خاشعين في الآيات التالية:

1- «وَأَنتَ خَيرُ الرَّاحِمِينَ». (المؤمنون/ 109)

لأنّ رحمتك العامّة والخاصّة شملت الجميع، خصوصاً عبادك المؤمنين.

2- «وَهُوَ خَيرُ الحَاكِمِينَ». (الأعراف/ 87)

3- «وَهُوَ خَيرُ الفَاصِلِينَ». (الأنعام/ 57)

4- «وَأَنتَ خَيرُ الفَاتِحِينَ». (الأعراف/ 89)

5- «وَاللَّهُ خَيرُ الرَّازِقِينَ». (الجمعة/ 11)

6- «بَلِ اللَّهُ مَولَاكُم وَهُوَ خَيرُ النَّاصِرِينَ». (آل عمران/ 150)

7- «فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيرُ الغَافِرِينَ». (الأعراف/ 155)

8- «وَقُل رَّبِّ أَنزِلنِى مُنزَلًا مُّبَارَكًا وَأَنتَ خَيرُ المُنزِلِينَ». (المؤمنون/ 29)

9- «وَيَمكُرُونَ وَيَمكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيرُ المَاكِرِينَ». (الأنفال/ 30)

10- «رَبِّ لَاتَذَرنِى فَرْداً وَأَنتَ خَيرُ الوَارِثِينَ» «1». (الأنبياء/ 89)

__________________________________________________

(1) يُلاحظ في القرآن الكريم وجود بعض التعابير الاخرى الحاوية على كلمة (خير) وكصفة من الصفات الإلهيّة، مع أنّ المضاف إليه العائد لم يُذكر بصيغة الجمع، وهو في موردٍ واحد فقط: «فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَ هُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ» (يوسف/ 64).

نفحات القرآن، ج 4، ص: 280

جمع الآيات وتفسيرها

إنَّ كلمة (خير) وفق المشهور بين أرباب اللغة والنحويين هي من (أفعل التفضيل)، وقد كانت بالأصل (أَخْيَرْ)- على وزن أفضل- فحُذفت همزتها وانتقلت الفتحة إلى الخاء فصارت (خَيرْ).

وطبقاً لما قاله الراغب في مفرداته فإنَّ كلمة (خَيرْ) تعني الشي ء المفضّل لدى الجميع، كالعقل، والعدل، والفضيلة، والأشياء المفيدة، وضدّه (شرّ)، ثم قسّم (خير) إلى نوعين:

الخير المطلق الذي يميل

إليه الجميع، كالجنّة، والخير النسبي المفيد بالنسبة لبعض الأفراد كالمال الذي قد يصير منشأً لسعادة البعض، وتعاسة البعض الآخر!

ولكن ذُكِرَ في مقاييس اللغة بأنّ معناه الأصلي هو: (الرغبة إلى شي ء معيّن)، ثم أُطلق على «الأشياء المحبّبة»، وفي مقابله (شَر)، وقد فسّره بعض أرباب اللغة أيضاً بمعنى الكَرَم والإنعام، في حين اقتنع البعض الآخر بأنّ الخير هو النقطة المقابلة (المعاكسة) للشّر.

وأحياناً استُعمِلَتْ هذه الكلمة بمعنى خاص (مثلًا بمعنى المال، أو هو نهر في الجنّة ينبع من عين الكوثر، أو المنازل الخاصّة في الجنّة)، وكلمة (خَيار) أو (اختيار) المشتقّة من هذه الكلمة تعني انتخاب الشي ء الأفضل.

وعندما تُطلق هذه الكلمة على الذات الإلهيّة المقدّسة فَلها حالتان: فأحياناً تكون مطلقة ومجرّدة عن أيّ قيدٍ أو شرطٍ، مثل قوله تعالى «وَاللَّهُ خَيرٌ وَأَبقى . (طه/ 73)

هذا ماقاله سَحَرَة فرعون بعد أن آمنوا بموسى عليه السلام.

ففي هذه الحالة تعني الأفضليّة من جميع الجهات، وفي الواقع، ليس هناك خير مطلق في عالم الوجود سوى اللَّه سبحانه وتعالى فهو الأفضل والأحسن والأشرف وجوداً من جميع النواحي، وأحياناً اخرى تُطلق هذه الكلمة على الذات الإلهيّة المقدّسة بعد أن تُضاف إلى شي ء كالأسماء المقدّسة المذكورة في الآيات العشر.

وفي جميع هذه الموارد ذُكِرَ اللَّه في القياس مع الآخرين، وطبعاً أنّ هذا القياس من قسم من الجهات فقط وإلّا فالذات الإلهيّة المقدّسة لاتُقاس أبداً مع سائر الموجودات.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 281

فوصفت الآية الأولى اللَّه سبحانه ب «خَيرُ الرَّاحِمِينَ»، لأنّ رحمته لا متناهية وتشمل المحب والمبغض، الصالح والطالح، فرحمته العامّة شملت الجميع، ورحمته الخاصّة خصّ بها عباده المؤمنين، وهو على أيّة حال لايريد منهم أي جزاءٍ أو ردٍ للجميل.

وقد وُصِفَ الباري في الآية الثانية بصفة «خَيرُ الحَاكِمِينَ»،

لأنّ ما يحكم به الآخرون مقرون بأنواع الأخطاء والانحرافات الناتجة عن الميول الشخصيّة والطائفيّة، أو الأهواء المادية، لكنّ حُكمه جلّ وعلا منزّهٌ عن أي خطأ وأي إفراطٍ وتفريط، وأي ميلٍ إلى الباطل، لأنّ علمه غير محدود وهو غنيٌّ عن العالمين.

وقد ذُكِرَ في الآية الثالثة باسم «خَيرُ الفَاصِلِينَ»، لأنّ الناس لو أرادوا أن يميّزوا الحق من الباطل فإمّا أن يقعوا في الكثير من الإشتباهات ولا يميّزوا بينهما بصورة صحيحة، وإمّا أنْ يلتبس عليهم التمييز بين الحق والباطل بسبب جهلهم، أو يخلطوا بينهما بسبب تحكيم أهوائهم النفسانيّة.

أمّا الذي يعلم السرّ وما تخفي الصدور، وأحاط بكل شي ءٍ علماً فلا معنى عنده سبحانه لكل هذه الأمور، فهو خير الفاصلين.

علاوةً على هذا فقد يشخّص الإنسان الحق من الباطل بصورة جيّدة لكنّه عاجزٌ عن إعمال علمه ومعرفته، ولكن اللَّه تعالى هو القادر الأزلي الوحيد الذي يستطيع إعمال علمه في كُلّ حال.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 282

والآية الرابعة تحدّثت عن «خَيرُ الْفَاتِحِينَ»، وكلمة (فاتح) مشتقّة من مادّة (فتح)، فإن كانت بمعنى الحكم والقضاء فإنَّ مفهومها يعني «اللَّه خير الحاكمين»، وقد ذكرنا سبب ذلك فيما مضى وإن كانت (فتح) بمعنى فتح كل شي ءٍ مغلق، لكان سبحانه وتعالى أيضاً «خير الفاتحين»، لأنّه لايصعُب شي ء مقابل قدرته، وإن كان المقصود منها فتح أبواب الرحمة فهو ذو رحمةٍ وسعت كل شي ء في الوجود، في حين لو كانت هنالك رحمة في الموجودات الاخرى فهي محدودة وجزئيّة.

وبالحقيقة أنّ لكلمة (فتح) معاني كثيرة جدّاً تعود جميعها إلى أصل الفتح المطلق، فأحياناً فتح أبواب العلم والرحمة، وأحياناً حلّ عقدة النزاع بين شخصين، أو فتح (حل) عقدة الحرب، ويظهر أنّ تعبير «خَيْرُ الْفَاتِحِينَ» ذو معنىً واسعٍ جدّاً يشتمل على جميع هذه

المعاني والمفاهيم.

وقد وصفت الآية الخامسة الباري تعالى بصفة «خَيْرُ الرَّازِقِينَ»، فالأرزاق التي يعطيها البعض لغيرهم (إنّ أمكن أن نسميّها بهذا الأسم) مشوبة بنقائص عديدة: محدودة، سريعة الزوال، لايُؤمَّل مُستقبلها، وأحياناً تعقبها المنّة والأذى الجسماني أو الروحاني، وأحياناً مصحوبة بالتحقير أو توقُّع ردّ الجميل.

في حين أنّ الأرزاق الإلهيّة لا تعرف الحدود، ولا يُخشى عليها من الزوال، ولا فيها أدنى شي ء من المنّة والأذى وانتظار ردّ الجميل، بل هي تشمل حال الإنسان أو غيره منذ لحظة انعقاده كنطفة تكوينة في رحم امّه، وحتّى آخر لحظات حياته، وتشمل حال المستحقين والمؤهلين لها في يوم القيامة أيضاً، وبمستوىً أعلى وأسمى

نقل أحد المفسّرين حكاية عن أحد خلفاء بغداد مع (بهلول) تعكس المباحث الواردة بصورة لطيفة.

يقول: قال خليفة بغداد لبهلول: تعال أُعطِكَ رزقك كل يوم لأُريحك من التفكير في طلب الرزق، فأجابه بهلول قائلًا: لولا بعض النقاط السلبيّة في عملك لقَبِلْت! أولًا: إنّك لا تعرف ما احتاجه، ثانياً: إنّك لا تعرف وقت حاجتي، ثالثاً: ولا تعلم مقدارها، رابعاً: قد

نفحات القرآن، ج 4، ص: 283

تغضب عليَّ ذات يومٍ فتسترجعها منّي، لكنَّ اللَّه الذي يرزقني منزّهٌ عن جميع هذه النقائص والعيوب ويرزقني حتى في اليوم الذي أعصيه فيه! «1».

وكم يكون رائعاً لو أضاف بهلول هذه الجملة أيضاً: من يضمن بقاءك في السلطة إلى الغد حتى تقدر على رزقي أو رزق الآخرين؟

نختتم هذا الكلام بحديثٍ مبارك منقول عن أمير المؤمنين الإمام علي عليه السلام، حيث قال في بداية خطبة الأشباح:

«الحمد للَّه الذي لا يَفِرُهُ المنع والجمود ولا يُكديه الإعطاء والجود، إذْ كلّ معطٍ منتقصٌ سواه، وكلّ مانعٍ مذمومٌ ما خلاه، وهو المنّان بفوائد النّعم، وعوائد المزيد والقِسَمْ، عيالُهُ الخلائق، ضمِنَ أرزاقهم وقدّر أقواتهم

ونهج سبيل الراغبين إليه والطالبين ما لديه، وليس بما سُئِلَ بأجود منه بما لم يُسألْ» «2».

وفي الآية السادسة وُصِقت ذاته المقدّسة بصفة «خير الناصرين»، لأنّ الناصر الحقيقي هو من يقدر على النصرة ضدّ كلّ عدوّ، وفي أي مكان وزمان، وفي أي ظرف، هو الناصرُ الذي لا يُغلَبُ أبداً، ولا تستطيع أيّةُ قدرة من الوقوف ضدَّه، إضافةً إلى ذلك فهو يحيط علماً بجميع مؤامرات الأعداء، ونقاط ضعف من يحتمي بهم، وبغض النظر عن جميع هذا، فهو سبحانه لاينتظر ردّاً للجميل الذي يصنعه (النصرة).

ونحن نعلم أنّ هذه الصفات لم تجتمع إلّافي الذات الإلهيّة المقدّسة، في حين نلاحظ أنّ الناصرين الآخرين فاقدون لهذه الصفات.

علاوةً على جميع ذلك فإن استطاع أحدٌ ما أن ينصُرَ آخر فنصرتُه محدودة بدار الدنيا فقط، أمّا اللَّه سبحانه وتعالى فهو الناصر الوحيد الذي يقدر على النصرة الدنيوية والاخروية.

__________________________________________________

(1) تفسير روح البيان، ج 9، ص 528.

(2) نهج البلاغة، الخطبة 91.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 284

أمّا الآية السابعة فقد وُصِفَ فيها الباري بصفة «خَيْرُ الغَافِرِينَ»، يقول الفخر الرازي حول هذا الموضوع: «إنّ سبب وصفه تعالى بهذه الصفة هو لكون الآخرين إِنْ غفروا ذنباً إمّا لكسب مدح وثناء الناس، أو للحصول على الثواب الإلهي الجزيل، أو لدفع قساوة القلب، وخلاصة الكلام إنّ عفو وغفران الناس لبعضهم إمّا لكسب منفعةٍ، أو لدفع ضررٍ ما، في حين أنّ الغفران الإلهي ليس كذلك أبداً، بل هو نابعٌ من فضله وكرمه لا غير» «1». وعلاوةً على هذا فإنّ حقوق الناس على بعضهم حقيرة جدّاً بالقياس مع الحقوق الإلهيّة، وعفوهم في هذه الحقوق الحقيرة قليلٌ جدّاً أيضاً، والوحيد الذي يتجاوز عن عظيم الحقوق والخطايا، ورحمته ومغفرته غير مشروطةٍ بشي ء هو

اللَّه سبحانه وتعالى لذا هو «خَيرُ الغَافِرِينَ».

أضف إلى ذلك أنّه تعالى لايغفر ذنوب عباده فقط، بل ويستر عليهم أيضاً ليحفظ كرامتهم في الدنيا والآخرة، ولا يُفتضحون أمامَ الخلائق، بل وأحياناً يُبدّل سيئاتهم حسنات شريطة أن لا يخرقوا جميع الحجب، وأن يكون لديهم استعداد قليل لتقبّل كل هذا اللطف والإحسان.

إنَّ معرفة سبب نزول الآية المذكورة، التي تحكي عن بني إسرائيل وارتكابهم أحد أكبر الذنوب وهو طلبهم رؤية اللَّه بالعين الظاهرية كشرط مُسْبَق لإيمانهم به، يُبيّن عمق مفهوم هذه الصفة الإلهيّة أي (خير الغافرين).

ووُصِفَ الباري في الآية الثامنة بصفة: «خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ».

فبعد أن أشارت الآية إلى قصّة نوح والطوفان العظيم الذي أصاب قومه، ذكرت دعاء نوح عليه السلام بعد أن هدأ الطوفان ورست سفينته: «ربِّ انزلني مُنزلًا مباركاً وأنت خير المنزلين».

ويُمكن أن تكون كلمة «منزل» اسم مكان أي (مَنزِلًا) أو مصدر ميمي بمعنى (النزول والهبوط).

وعلى أيّة حال: فمن الواضح أنّ النزول من السفينة في تلك الظروف العصيبة، وبالنظر

__________________________________________________

(1) تفسير الكبير، ج 15، ص 20.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 285

لعدم وجود بيت ولا مظلَّة ولا قوت ولا غذاء لايُمكن أن يتحقق سوى في ظل لطف اللَّه «خَيرُ الْمُنْزِلِينَ»، ويُنجيهم من المخاطر التي كانت تهدّدهم بعد رسوِّ السفينة.

وكذلك تتسبب قدرة اللَّه اللامحدودة وعلمه بحاجات ضيوفه في أن يكون «خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ».

وتحدثت الآية التاسعة عن المكر الإلهي الفريد إزاء مؤامرات المنحرفين والظالمين ووصفته جلّ وعلا بصفة «خَيْرُ الْمَاكِرِينَ».

فكلمة (ماكر) مشتقةٌ من مادّة «مكر»، وكما قال الراغب: إنّها تعني بالأصل صرف الغير عن الوصول إلى المقصود عن طريق المكر والحيلة، وهو على قسمين: ممدوح، وهو ما كان الهدف منه الوصول إلى مقصودٍ حَسن، ومذموم: وهو ما كان هدفه قبيحاً.

ومن هنا يتّضح أنَّ

ما يختلج في أذهاننا حول اقتران كلمة (مكر) دائماً بنوع من الشرّ والفساد ليس صحيحاً، كما هو الحال في كلمة (حيلة) التي لها مفاهيم مشتركة عديدة بالرغم من تداعي المفهوم السلبي منها إلى أذهان عامّة النّاس.

يقول القرطبي في تفسيره: (المكر) معناه (التدبير الخفي في داء عمل معيّن).

ولكن يُسْتنتج من بعض كلام أرباب اللغة أنّهم يعتقدون باقتران كلمة المكر بنوع من المذمّة، لذا فهم يقولون «إنّ هذه الكلمة ذات معنى مجازي عندما تستعمل بخصوص الباري تعالى ، ولكن تعميم مفهوم (المكر) كما يُلاحظ عند الكثير من المفسّرين والمتكلمين، يبدو أصحّ بنظرنا.

وعلى أيّة حال فإنّ السرّ في وصفه تعالى بصفة «خَيرُ المَاكِرِينَ» إمّا لكون قدرته على المكر والحيلة أكبر ممن سواه، أو لأنّ (مكر) من سواه يُحتمل فيه الخير والشرّ، لكن المكر الإلهي ممدوح دائماً.

وقد ذكر الزبيدي في شرح القاموس عدّة معانٍ للمكر، عندما يُنسَبُ إلى اللَّه سبحانه

نفحات القرآن، ج 4، ص: 286

وتعالى منْ جُملتها: إنزال البلاء على العدو لا على الصديق والعقوبات الاستدراجيّة أي الإنعام مقابل الأعمال السيئة (ليحسب) الشخص المسي ء أنّه يُحسن صنعاً، ثمَّ يعاقبه بعدها، والثالث: مجازاة العباد على أعمالهم «1».

وعلى أيّة حال فإنّ المكر الصحيح هو ما يصدر عن العالِم بعواقب الأمور وحقائق الأشياء الماضية والمستقبلية، إضافةً إلى قدرته المطلقة على القيام بتدبيره، ولكون هاتين الصفتين (العلم والقدرة اللامحدودتين) منحصرتين بذات الباري جلّ وعلا فهو «خير الماكرين».

والظريف هو أنّ وصف الباري بصفة «خَيرُ المَاكِرِينَ» قد ورد فقط في موضعين من القرآن الكريم، أحدهما في قصّة الهجرة التي تُعدّ من أهم مراحل حياة الرسول الأكرم محمّد صلى الله عليه و آله في قوله تعالى «وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثبِتُوكَ أَو يَقتُلُوكَ أَو

يُخرِجُوكَ وَيَمكُرُونَ وَيَمكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيرُ المَاكِرِينَ». (الأنفال/ 30)

وكما نعلم فإنّ مؤامرة قريش على قتل الرسول صلى الله عليه و آله زادت من عزيمته وقوّت من إرادته على الهجرة، الهجرة التي صارت سبباً في حدوث أكبر التحوّلات في تاريخ الإسلام وانتشار الحكومة الإسلامية في أنحاء العالَمِ، وهنا يتّضح غلبة المكر الإلهي.

والآخر في المؤامرات المشتركة التي حاكها اليهود والنصارى في محاربة الإسلام والرسول الأكرم صلى الله عليه و آله- الآية 54 من سورة آل عمران- والتي كانت من أخطر المؤامرات، لكن اللَّه سبحانه قد أبطلها جميعاً.

وأخيراً فقد وُصِفَ الباري تعالى في الآية العاشرة والأخيرة بصفة: «خَيرُ الْوَارِثِينَ».

وهذه الصفة وردت مرّة واحدة فقط في القرآن الكريم عن قول زكريّا عليه السلام، في حين يُلاحَظ تكرار وصف الباري بصفة «وارث».

والسّر من وراء وصف الباري بهذه الصفة واضح تماماً لأنّه الوحيد الذي يبقى ويدوم ويرث العالمين، وأمّا سواه من الوارثين فسيكونون موروثين يوماً ما.

__________________________________________________

(1) تاج العروس في شرح القاموس، مادّة (مكر).

نفحات القرآن، ج 4، ص: 287

علاوة على هذا فإنّ ما يرثه الورثة العاديّون محدود وهم بحاجةٍ إليه، إضافةً إلى بخلهم في صرفه غالباً، لذا يُلاحَظُ حصول الكثير من المشاكل والنزاعات بين الأقرباء من أجل أموالٍ ورثوها، أمّا اللَّه تعالى وهو الوارث النهائي للجميع فهو غير محتاج، ولا يوجد حدّ لصفته هذه، ولا طريق للبخل إلى وجوده فهو «خَيرُ الوَارِثِينَ».

وكما قال «الآلوسي» في «روح المعاني»: «إنَّ هذه الصفة تُشير إلى بقاء الذات الإلهيّة المقدّسة، وفناء جميع الأشياء» «1».

وتعتبر طبعاً من صفات الذات إذا كانت تشير فقط إلى مسألة البقاء (أي أبدية وجوده المقدّس)، ومن صفات الفعل إذا كانت تشير إلى مفهوم تملُّك مايبقى من الآخرين (فتأمل).

اللَّه خير من كل شي ء:

كما لاحظنا في

الآيات العشر التي ذكرناها، فقد وُصِفَ اللَّه سبحانه وتعالى بصفات: «خير الراحمين والحاكمين والرازقين والناصرين و ...».

فهل يُمكن قياس الباري مع غيره!؟ (نظراً إلى كون كلمة (خير) في مثل هذه الموارد ذات صيغة تفصيليّة).

هناك جوابان عن هذا السؤال:

الأول: إنَّ كلمة (خير) تفقد مفهومها التفصيلي في مثل هذه الموارد، وتعطي معنى الكثرة، وعليه فالصفات أعلاه تُشير إلى رحمة اللَّه الواسعة، وحكومته الواسعة، ورزقه الوفير، ونُصرته اللامحدودة، دون أن يكون هنالك قياس في الموضوع، «ما للترابُ وربّ الأرباب»؟ «2» __________________________________________________

(1) تفسير روح المعاني، ج 17، ص 180.

(2) يقول المرحوم الكفعمي في مصباحه حول تفسير «خير الناصرين»: «معناه كثرةُ تكرار النّصر منه كما قيل خير الراحمين لكثرة رحمته» (المصباح، ص 346).

- ورد نفس هذا المعنى في توحيد الصدوق مع فارقٍ قليل. (توحيد الصدوق، ص 216).

نفحات القرآن، ج 4، ص: 288

الثاني: إنَّ هذه الصفات لها مفهوم تفضيل وقياس، لكنّه قياسٌ صوريٌّ وظاهري كما هو الحال في «أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ»، والحقيقة فقد اعتُبِرَ الذين هم واسطة لإيصال الأرزاق إلى غيرهم «رازقين»، وحُملت الرحمات الجزئيّة الصادرة من البشر على حساب «الرحمة»، وهكذا بخصوص النصرة والحاكميّة والغفران، ومن قبيل هذه التعابير ليست قليلة في القرآن الكريم (انتخب المرحوم العلّامة المجلسي في بحار الأنوار التفسير الثاني) «1».

وبتعبيرٍ آخر: (من الناحية الفلسفية) فإنّ الوجود الحقيقي المستقل القائم بذاته هو الذات الإلهيّة المقدّسة، وما سواه عدم، وجود ظاهري، كسراب الماء، لذا فإنّ الموجودات الممكنة لا هي خالقة ولا ناصرة ولا راحمة ولا رازقة، فجميع هذه الأمور تخص تلك الذات المقدّسة الفريدة، ومن سواه يأكلون من فتات مائدة إحسانه جل وعلا، لذا فقد قيل:

«ليس في الدار غيره ديّار!».

ولكن من حيث التحليل العادي المتعارف فإنّ

الممكنات لها وجودها الخاص أيضاً، ورحمتها ونصرتها وقدرتها وحاكميتها الخاصّة، وورود مثل هذه التعابير في القرآن الكريم إنّما هو من باب تكليم الناس بلسانهم: «وَمَا أَرسَلنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَومِهِ».

(ابراهيم/ 4)

جمع الآيات وتفسيرها
1- العالَم مظهرٌ لصفاته وأسمائه

من المتعارف عليه أنّ عالَم الوجود محلُّ بروز وظهور الصفات الإلهيّة، وهذه المسألة واضحة تماماً خصوصاً بالإلتفات إلى صفات الفعل، لأنّ جميع ما نشاهده في هذا العالَم من الخلق والتكوين مظهر لخالقيته سبحانه وتعالى

وجميع ما نشاهده من الرحمة الماديّة والمعنويّة مظهرٌ لرحمانيته.

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار، ج 4، ص 207 (يقول: الخير بمعنى التفضيل ولا حاجة إلى ما تكلّفه).

نفحات القرآن، ج 4، ص: 289

وكل تدبير في هذا العالم يدلّ على ربوبيته، وجميع الأرزاق الظاهريّة والباطنيّة هي مظاهر لرازقيته سبحانه.

وكما أشرنا سابقاً، ونظراً لكون صفات الفعل مشتقّة من أفعاله جلّ وعلا، وأفعاله لا تعدّ ولا تحصى فإنّ صفاته الفعلية لا تعدّ ولا تحصى أيضاً.

وقد ذكرنا في البحوث السابقة ستين صفة من أهم (صفات الفعل) الواردة في القرآن الكريم، والتي تتشعّب من كلٍّ منها صفات اخرى، وتطرّقنا إلى تفسيرها وتحليلها.

إنَّ الانتباه إلى هذه الصفات لا يُعرفنا بالأفعال الإلهيّة فحسب، بل إنّ معرفة أفعاله تؤدّي إلى تخلّقنا بها وتربية نفوسنا وتهذيب أرواحنا، (فتأمّل).

وينبغي التذكير بهذه المسألة أيضاً وهي أنّ بعض الصفات الإلهيّة لا ريب في انتسابها إلى صفات الذات (مثل عالِم) وبعضها إلى صفات الفعل (كالرازق والخالق)، وبعضها الآخر ذات جانبين؛ ذاتية من ناحية، وفعليّة من ناحية اخرى كالقيّوم مثلًا فإن فُسّرت بمعنى (القائم بالذات) صارت من صفات الذات، وان فُسّرت بمعنى (مقوّم الموجودات) صارت من صفات الفعل.

2- الصفات الاخرى التي تعتبر من زمرة الصفات الفعليّة

هنالك أفعال في القرآن الكريم تنسب إلى اللَّه تعالى دون ذكر مصطلحها الوصفي، وقد ذكرها علماء العقائد بعنوان صفات الفعل أو أسماء اللَّه الحسنى ولأنّهُ كان من المقرّر أن نبحث في مباحثنا الصفات المذكورة في القرآن الكريم فقط، لذا لم نتطرّق إليها ضمن الأسماء والصفات التي ذكرناها، في الوقت الذي

نعتقد بوجوب الإشارة إلى أهمها هنا، ومن جملتها (متكلّم) و (صادق).

نفحات القرآن، ج 4، ص: 291

أ) اللَّه المتكلّم

تمهيد:

لم يُصرّح القرآن الكريم بصفة «المتكلّم» لكنّه ذكر الفعل الدال عليها: «وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكلِيًما». (النساء/ 164)

ولذا عُرِفَ موسى عليه السلام بأنّه (كليم اللَّه).

علاوةً على هذا فقد ورد في القرآن الكريم تعبير (كلام اللَّه) في ثلاثة مواضع «1»، وتعبير (كلامي) في موضعٍ واحد «2».

ويُلاحظ أيضاً تعبير (كلمة ربّك) أو (كلمة اللَّه) في موارد عديدة.

يُمكن الإستنتاج من مجموع هذه الموارد بأنّ صفة (متكلِّم) هي من إحدى صفات اللَّه سبحانه وتعالى

وكما قال «القوشچي» في «شرح تجريد العقائد»:

«إنَّ وصف اللَّه بصفة (المتكلّم) لا ينحصر بالمسلمين فقط، بل إنّ جميع أرباب الملك والمذاهب يعتقدون بكلام اللَّه بالرغم من اختلاف وجهات نظرهم في تفسير معنى كلام اللَّه وتكلّمه سبحانه».

جمع الآيات وتفسيرها
1- ما المقصود من كلام اللَّه؟

هنالك اختلاف شديد بين المسلمين حول تفسير معنى كلام اللَّه، وفسّرته كل طائفة

__________________________________________________

(1) البقرة، الآية 75؛ التوبة، الآية 6؛ الفتح، الآية 15.

(2) الأعراف، 144.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 292

بشكل معيَّن: فقد قال جماعة من الحنابلة: إنَّ كلام اللَّه مركّب من الحروف والأصوات القديمة والقائمة بذاته المقدّسة، ثم أصرّوا على هذا الكلام التافه إلى الحدّ الذي قالوا: إنّ جلد القرآن أيضاً قديم وأزلي ناهيك عن رسوم حروفه.

وقالت جماعة اخرى: إنّ كلام اللَّه معناه تلك الحروف والأصوات، وهي أمور حادثة وقائمة بالذات الإلهيّة المقدّسة في نفس الوقت، وتفاهة كلام هؤلاء ليس بأقلّ من الحنابلة.

وذهبت طائفة ثالثة إلى أنّ كلام اللَّه معناه تلك الحروف والأصوات، وهي حادثة وغير قائمة بذاته المقدّسة، بل هي من زمرة مخلوقاته التي أوجدها اللَّه في وجود جبرائيل أو الرسول محمّد صلى الله عليه و آله، أو شجرة موسى عليه السلام.

وقالت جماعة رابعة وهم «الاشاعرة»: إِنَّ كلام اللَّه ليس من سنخ الأصوات والحروف، بل هو مفاهيمٌ

قائمة بذاته ويسّمونه (كلام نفسي)، ويعتقدون بكونه قديماً «1»، وحتى كانوا يعتقدون بكفر من يعتقد بحدوث كلام اللَّه (أي القرآن) (وأوجبوا قتله!) «2».

وقد شهدت القرون الأولى من تاريخ الإسلام نزاعات شديدة ودمويّة حول (كلام اللَّه) وكونه حادثاً أو قديماً، ووصلت الحالة إلى تكفير بعضهم الآخر، نزاعات وقفنا اليوم على بطلانها، ويمكننا القول وبجرأة: إنّها كانت من سياسة حكومات ذلك الوقت لتخدير الشعب المُسلمِ والعمل بسياسة (فرّق تسُدْ).

2- الإستنتاج النهائي

على أيّة حال فهنا توجَدُ مطالب عديدة، جميعها واضحة، ونعتقد بأن لا محلّ للمناقشة فيها.

1- إنّ اللَّه قادرٌ على إحداث أمواج صوتية في الفضاء، وإيصالها إلى مسامع أنبيائه

__________________________________________________

(1) شرح تجريد العقائد للقوشچي، ص 417.

(2) الملل والنحل للشهرستاني، ج 1، ص 106.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 293

ورسله لإبلاغهم بهذه الطريقة، كما ذكر القرآن حول تكليم اللَّه موسى بن عمران عليه السلام في الوادي (الأيمن)؛ حيث أوجد اللَّه في تلك الشجرة المباركة الخاصّة أصواتاً دعا موسى بواسطتها إليه.

2- (التكلَّم) بمعنى التحدُّث باللسان وعن طريق الأوتار الصوتيّة، من عوارض الأجسام، ولا معنى له بخصوص اللَّه المنزّه عن الجسمانيّة، سوى ماذكرناه من إيجاد أمواج صوتية في الأجسام.

3- القرآن الكريم الذي في متناول أيدينا هو عين هذه الألفاظ والحروف التي قد تظهر في قالب الكلام أحياناً، وفي قالب الكتابة أحياناً اخرى، ولا ريب في أنّ كليهما من الحوادث، وما قاله البعض من كون هذه الألفاظ والحروف قديمة أو وجوب الاعتقاد حتى بقدم جلد القرآن وأزليته، خرافات لاتستحق أن نبحثها.

ويبدو أنّ الذين اعتقدوا بِقِدَم كلام اللَّه، كان منشأ اعتقادهم هو ذكر القرآن الكريم (التكلُّم) كإحدى صفات اللَّه، ومن هنا سمي القرآن بكلام اللَّه، هذا من جهة، ومن جهةٍ اخرى هو كون

وجود اللَّه أزلياً، إذن فصفاته يجب أن تكون أزلية أيضاً، ومنه استنتجوا بأنّ كلام اللَّه أزليٌّ أيضاً.

إنَّ هؤلاء وبسبب ضعف إدراكهم وقلّة معلوماتهم لم يستطيعوا التمييز بين (صفات الذات) و (صفات الفعل)، فصفات ذاته أزليّة (كالعلم والقدرة)، أمّا الصفات التي ينتزعها عقلنا بسبب صدور أفعال معينة من قِبَلِهِ جلّ وعلا، فهي أمور حادثة، لأنّ هذه الصفات غير قائمة بالذات الإلهيّة، بل هي مفاهيم عقليّة منتزعة تحصل من ملاحظة أفعاله.

وبتعبيرٍ آخر لا شك من وجود أفعال إلهيّة حادثة كخلق السموات والأرض، وخلق آدم، ومسألة الرزق، وغفران ذنوب العباد، وإرسال الأنبياء والرسُل، وعندما يُشاهد العقل صدور هذه الأفعال من جهته ينتزع منها صفات للَّه سبحانه (كالخالقيّة والرازقية والغفارية)، ومن المسلَّم به أنّ هذه الصفات لم تكن تصدق على اللَّه قبل أن يخلق موجوداً أو يعطيه رزقاً أو يشمله بمغفرته، (طبعاً كان قادراً على هذه الأمور، لكن الحديث لا يدور حول القدرة بل حول صدور عين هذه الأفعال).

نفحات القرآن، ج 4، ص: 294

وبناءً على هذا فإنّ هذه الصفات التي تُدعى (صفات الفعل) تختلف عن (صفات الذات) القائمة بالذات الإلهيّة المقدّسة، بل هي عين ذاته، وعدم فهم هذه الحقيقة من قبل المعتقدين بقِدَم كلام اللَّه وأزليته جرّهم إلى معتقدات مُضحكة كقدم جلد القرآن.

4- اضطرّ جماعة من الأشاعرة، ممن كانوا يُدركون هذه المسائل، إلى طرح مسألة (الكلام النفسي)، الكلام الذي يُمكن أن يكون قديماً وقائماً بذات اللَّه، وقد تمسّك هؤلاء لإثبات هذا المطلب بالآية القرآنية التالية التي تتحدّث عن جماعة من المنافقين:

«وَيَقُولُونَ فِى أَنفُسِهِم لَولَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ». (المجادلة/ 8)

أو بالشعر المعروف عن (الأخطل) أحد شعراء العصر الأموي:

إنّ الكلام لَفي الفؤاد وإنّما جُعِلَ اللسان على الفؤاد دليلًا وأرادوا

بهذا التخلُّص من التّضادّ الموجود بين حدوث كلام اللَّه وقِدَم صفاته.

ولكنهم تورّطوا بهذا في مشكلةٍ أكبر، وهي أنْ لو كان المقصود من الكلام النفسي هو (تصوير الألفاظ والجمل وإمرارها من الذهن والفكر)، فإنّ هذه الأمور لا معنى لها بخصوص اللَّه تعالى لأنّ ذاته المقدّسة ليست محلًّا لمثل هذه العوارض الجسمانيّة.

وإن كان المقصود منه علم اللَّه الأزلي بمحتوى القرآن الكريم، فلا ريب في أنّه تعالى قد أحاط علماً بجميع هذه الأمور منذ الأزل، ولكن في هذه الحالة يعود الكلام النفسي إلى علم اللَّه ولن يكون صفة مُستقلّة.

والخلاصة هي أنّ محتوى الكتب السماويّة كانت في علم اللَّه دائماً (منذ الأزل)، وهذا الشي ء لا يخرج عن صفة (العلم) وأمّا عين الألفاظ والحروف فلا ريب من كونها حادثة، ولا يوجد هنا شي ء ثالث تحت عنوان (الكلام النفسي) ليكون قديماً ومغايراً لصفة (علم اللَّه).

إنَّ هذه الأمور واضحة كلها، لكنّه ومع الأسف الشديد فقد سوّدت النزاعات حول كون كلام اللَّه قديماً أم حادثاً، صفحات كثيرة من تاريخ الإسلام، وسببت حوادث دامية.

فأحياناً مالت الحكومات إلى جماعة المعتزلة (كبعض خلفاء بني العباس)، فأجبرت الجميع على الاعتقاد بحدوث كلام اللَّه، وضربوا أعناق البعض بسبب عدم اعترافهم بذلك.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 295

وفي المقابل، كان الكثير من حكّام بني العبّاس يميلون إلى الأشاعرة، ويضربون أعناق القائلين بحدوث كلام اللَّه، في حين أننا اليوم نعلم بأنّ كل هذه الأمور كانت ألاعيب سياسيّة ظهرت بشكل مسائل عقائدية، وكان الحكّام الجبابرة آنذاك يلعبون بمعتقدات المسلمين من أجل بلوغ مقاصدهم المشؤومة ومواصلة تسلُّطهم على رقاب الناس.

3- (التكلُّم) في الروايات الإسلامية

نواصل هذا الكلام برواية منقولة عن الإمام الصادق عليه السلام، نقلها الشيخ الطوسي رحمه الله في (الأمالي) عن أبي بصير عن الإمام الصادق

عليه السلام أنّه قال:

«لم يزل اللَّه جلّ اسمه عالماً بذاته، ولا معلوم، ولم يزل قادراً بذاته ولا مقدور، قلتُ:

جُعِلْتُ فداك: فلم يزل متكلّماً؟ قال: الكلامُ محدث، كان اللَّه عزّوجلّ ليس بمتكلّم ثمّ أحدث الكلام» «1».

وقد نقل المرحوم الكليني قدس سره نفس هذا الحديث في الكافي مع تفاوُتٍ بسيط، حيث ورد في ذيله بصراحة:

«إنَّ الكلام صفةٌ مُحدَثة ليستْ بأزليّة، كان اللَّه عزّوجلّ ولا متكلّم» «2».

تُبيّن هذه العبارات بوضوح الفرق الموجود بين (صفات الذات) و (صفات الفعل)، صفات الذات التي كانت منذ الأزل كالعلم والقدرة، ولا تحتاج (في تحقُّقها) إلى وجود المخلوقات، أمّا (صفات الفعل) فهي صفات خارجة عن الذات الإلهيّة وقد انتزعها العقل عند صدور الأفعال من قِبَلِ اللَّه تعالى ومنسوبة إليه (كالخالقيّة والرازقيّة)، وصفة (التكلُّم) من هذا القبيل أيضاً لأنّها نوع من الفعل والحركة، ونحن نعلم بأن ليس للحركة طريقٌ إلى الذات الإلهيّة المقدّسة.

__________________________________________________

(1) بحارالأنوار، ج 4، ص 68، الباب 1، ح 11،.

(2) أصول الكافي، ج 1، ص 107 (باب صفات الذات).

نفحات القرآن، ج 4، ص: 297

ب) اللَّه عزّ وجلّ صادق

تمهيد:

بعد وصف الباري تعالى بصفة التكلُّم تتوجّه الأنظار إلى هذه الصفة وهي: «صدق اللَّه» في كلامه.

إنّ هذه الصفة، التي تعد من أهم الصفات الفعليّة، تشكل العمود الأساس في الوثوق بدعوات الأنبياء، لأنّه- نعوذ باللَّه- لو كان يُمكن تصور صدور الكذب عنه جلّ وعلا لما بقيت هنالك ثقة لا بمسألة الوحي، ولا بالوعود الأخرويّة، ولا بالأخبار التي تتحدث عن المعارف الدينيّة، أو عن عوامل سعادة البشر وشقاوتهم، وبتعبيرٍ آخر فإنّ أسس المسائل الدينيّة تنهار بصورة تامّة بنفي هذه الصفة.

ومن هنا يتضح مدى تأثير الإيمان بصدق اللَّه في فهم حقائق الدين.

ولعل هذا هو السّر من ملاحظة

وصف الباري في آيات قرآنية عديدة بالصادق وبتعابير متنوعة ومختلفة تماماً، ومن زوايا متنوّعة.

بعد هذا التمهيد نعود إلى القرآن لنمعن خاشعين في الآيات القرآنية التالية:

1- «وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً». (النساء/ 87)

2- «وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا». (النساء/ 122)

3- «وَلَقَد صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ». (آل عمران/ 152)

4- «قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ» «1». (الأحزاب/ 22)

__________________________________________________

(1) وقد وردت نفس هذه المفاهيم في آيات قرآنية اخرى (كالذاريات، 5؛ الأنعام، 115؛ الزمر، 74؛ الفتح، 27؛ وكذا ورد تعبير «إنّا لصادقون» في الآية 146 من سورة الأنعام؛ والآية 64 من سورة الحجر).

نفحات القرآن، ج 4، ص: 298

شرح المفردات:

إشتقتْ كلمة «صادق» من مادّة «صدق»، وكما قال الراغب: إنّها ضدّ الكذب، وبالأصل من أوصاف الكلام والأخبار، فأحياناً صادقة وأحياناً كاذبة، وأحياناً تُستعمل عرضاً في الإستفهام والأمر والدعاء أيضاً، كأنّ يقول أحد: (أَفُلان في الدار) أي إنّه يقصد بأنّه لا يدري بوجود فلان في الدار أو عدم وجوده، (لذا فقد نقول أحياناً: إنّه يكذب، فهو يعلم بوجود فلان في الدار).

وَحقيقة الصدق هي تطابُق الحديث مع الأعتقاد والواقع، لذا فلو تحدّث أحد طبق الواقع ولكن خلاف ما يعتَقِدُ به فهو كاذب، كقول المنافقين لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ»، فقال تعالى ردّاً عليهم: «وَاللَّهُ يَشهَدُ إِنَّ المُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ». (المنافقون/ 1)

وقد يُستعمل الكذب والصدق في مورد الأفعال والأعمال أيضاً، فمن يؤدّي أعماله وفق وظيفته الواجبة يُدعى صادقاً، وإذا عمل على خلافها يُدعى كاذباً، فمثلًا يُقال لِمَن يؤدّي حق الحرب والقتال: (صدق في القتال) وإن لم يفعل يُقال (كذب في القتال)، وآية: «لَقَد صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالحَقِّ»، التي نزلت بشأن تحقق رؤيا الرسول صلى الله

عليه و آله بخصوص فتح مكة ودخول المسلمين المسجد الحرام منتصرين، نموذج على هذا المطلب «1».

و كلمة «صدقة» التي تُستعمل بخصوص الأموال التي يبذلها الإنسان في سبيل اللَّه بقصد القربة، إنّما سُميت بهذا الاسم لأنّ الإنسان يُصدّق بواسطتها إخلاصه بعمله، وكذلك تسمية المهر «صداق» لأنّه دليل عمليٌّ على صدق الزوج إزاء زوجته.

ولكن ما قاله الراغب حول عناصر الصدق الأساسيّة، ووجوب مطابقة الكلام للواقع، واعتقاد المتكلّم، محل اختلاف شديد بين العلماء، فاعتقد البعض منهم كفاية تطابُقه مع المُعتَقد فقط، واشترط البعض الآخر تطابُقه مع الواقع فقط، ولا محل هنا لشرح ذلك.

هذا في حين اعتقد (ابن فارس) في (مقاييس اللغة» بأنّ أصل «الصدق) هو القوّة الموجودة في شي ء وإنّما سُمي الكلام المطابق للواقع صدقاً بسبب قوّته، لذا يُسمّى الرمح

__________________________________________________

(1) المفردات، مادة (صدق)، باختصار.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 299

القوي (رُمح صَدق)، ومهر المرأة (صداق) لأنّه حق مفروض وذو قوّة.

ولكننا نعتقد بأنّ ما ورد في مفردات الراغب حول أصل هذه الكلمة أصَحّ.

و لسائر أرباب اللغة نفس هذا الرأي أيضاً، ويُنقلُ في (شرح القاموس) عن (الخليل) أنّه قال: (الصدق) معناه: الكمال من كل شي ء، وأضاف قائلًا: إنّ إطلاق (صَدق) على الأشياء المستوية القويّة (كالرمح القوي) ينشأ من معنى الجَودة والقوّة (الصلابة)، أي مايُقال بخصوص صلابته وجودته يُطابق الحقيقة، وإذا كان ال (صدق) يعني الصلابة والقوّة لأُطلق على كل شي ءٍ قوي (صدق)، في حين أنّه ليس كذلك.

«صدّيق»: معناه كثير الصدق أو من لا يكذب أبداً أو استحالة صدور الكذب منه لأنّه اعتاد على الصدق، أو مَن يصدق في كُلٍّ من الإعتقاد والقول والعمل، (كل هذا لكون كلمة صدّيق من صيغ المبالغة والتي يُمكن أن تكون في إحدى الأمور

المختلفة المذكورة أعلاه).

ويُستعمل تعبير «لسان صدق» بخصوص الشخص الصالح من جميع النواحي، وإن مُدِحَ وأُثنيَ عليه فهو عين الواقع.

وعلى أيّة حال، فإنَّ وصف الباري بالصادق ينشأ من جهات متعددة: من جهة صدقه في أخباره، وفي وعوده بإثابة المحسنين ومعاقبة المسيئين.

ومن جهة تنفيذه لجميع ما صرّح به في القرآن الكريم، وسيأتي شرحه في تفسير آيات البحث.

جمع الآيات وتفسيرها

تحدثت الآيتان الأولى والثانية حول أنّ اللَّه سبحانه وتعالى أصدق كل شي ء حيث قال تعالى وباستفهامٍ استنكاري: «وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً» و «وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا» «1».

__________________________________________________

(1) قيل وقول: مصدر.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 300

وقد اعتقد بعض المفسّرين بأنّ التعبير بكلمة (أصدق) يخص الكميّة فقط (أي مَن هو أكثر صدقاً في الموارد)، لا الكيفيّة، لأنّ الكلام الصادق هو ما طابق الواقع وإلّا فهو كذب، ولا يُمكن تصوُّر الزيادة والنقصان في كيفيته «1».

ولكن الحق هو إمكانية تصوُّر درجات مختلفة للصدق من حيث الكيفيّة، وهو عندما يكون الواقع ذا أبعاد مختلفة، فمن المسلَّم أنّ المتكلّم الذي يُطابق كلامه الواقع في جميع الأبعاد يُعتَبر أصدق ممن يُطابق كلامه الواقع في أبعاد مُعينَّة.

فمثلًا عندما يُشبّهُ مؤمنٌ (بسلمان الفارسي)، والآخر يُشبَّهُ (بأبي ذر)، فمن المسلَّم أن أصدقهما هو من أخذ بنظر الإعتبار في تشببهه أبعاداً أكثر.

واللَّه أصدق حديثاً ممن سواه، إنّما هو كذلك، لكون منشأ الكذب إمّا من الجهل وعدم معرفة الواقع، أو من الضعف والعجز والحاجة، ولكون ذاته المقدّسة منزّهة عن جميع هذه الصفات، فهو أصدق حديثاً.

وتحدثت الآيتان الثالثة والرابعة عن صدق اللَّه في وعوده، لكن الآية الثالثة تحدثت عن الوعد الإلهي حول النصر على الأعداء في معركة أُحد، حيث انتصر المسلمون في البداية طبق هذا الوعد، لكن تثاقل وعصيان جماعة

منهم أدت إلى انكسارهم في نهاية الأمر، قال تعالى: «وَلَقْدَ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ»، ولكن اختلافكم وتماهلكم وعصيانكم في نهاية الأمر أدّى إلى انكساركم، والتقصير إنّما جاء من عندكم، ولم يخلف اللَّهُ وعدَهُ.

وكان هذا ردّاً على من كانوا يعتقدون بأنّ هزيمتهم في معركة أُحد، هي خلاف للوعد الإلهي.

أمّا الآية الرابعة فقد تحدثت عن لسان حال المؤمنين حول واقعة الأحزاب، حيث إنّهم عندما وقفوا أمام جيش الأحزاب قالوا: «هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَ صَدَقَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ».

__________________________________________________

(1) تفسير روح المعاني، ج 5، ص 95، ذيل الآية 87 من سورة النساء.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 301

والكلام هنا يدور حول كُلّ مَن صدق اللَّه وصدق رسوله الذي: «وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى إنْ هُوَ إِلَّا وَحْىٌ يُوحَى ، وقوله قول اللَّه، ووعده وعد اللَّه أيضاً.

وهنالك عدّة احتمالات حول ما وعد به اللَّه ورسوله المؤمنين وتحقق عند مشاهدتهم جيش الأحزاب: الأول: إنّ الرسول صلى الله عليه و آله كان قد قال لهم: ستقصدكم جيوش الأحزاب بعد تسعة أو عشرة أيّام، فعندما حضرت جيوش الأحزاب في الموعد المقرر قال المؤمنون قولهم هذا: «هَذَا مَا وَعَدَنا اللَّه وَرَسُولُه» «1». (النجم/ 3- 4)

و الأمر الآخر هو أنّه تعالى قال مُخاطباً المسلمين: «أَمْ حَسِبتُم أَن تَدخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصرَ اللَّهِ قَرِيبٌ». (البقرة/ 214)

وجدوا أنفسهم مقابل ذلك الجيش العظيم عرفوا تحقق الوعد الإلهي وإشرافهم على دخول امتحانٍ عظيم «2».

وقال البعض أيضاً: إنَّ الرسول صلى الله عليه و آله كان قد بشّر المؤمنين بالنصر بعد محاصرتهم من قبل جيش الأحزاب، وانتشار الإسلام في أرجاء

العالم وسقوط قصور (الحيرة) و (المدائن) و (كسرى في أيدي المسلمين فيما بعد.

فعندما رأى المسلمون القسم الأول من هذا الوعد فرحوا وقالوا: أبشروا بالنصر النهائي «3».

توضيح

دلائل صدق اللَّه:

قال علماء العقائد: إنَّ جميع المسلمين يتفقون على مسألة صدق اللَّه، لكن الأشاعرة

__________________________________________________

(1) تفسير روح المعاني، ج 21، ص 151.

(2) تفسير الميزان، ج 16، ص 306، وقد ورد نفس هذا التفسير في تفسير الكبير بشكل مختصر.

(3) تفسير القرطبي، ج 8، ص 5239.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 302

الذين لا يعتقدون (بالحسن والقُبح) يعجزون عن إثبات هذه المسألة، لأنّه لا ينفع معهم الدليل العقلي، والدليل النقلي ينفع في بحثنا هذا، لأنّهم إن يستندوا على الآيات القرآنيّة الدّالة على صدق اللَّه يجر الكلام حتى يصلَ إلى هذه الآيات. وبعبارة اخرى فإنّ الاستدلال بالآيات يستلزم الدور (تأمل جيداً).

وهنا يعجزون عن الجواب وإثبات مدّعاهم.

وبما أنَّ مسألة الحسُن والقُبح العقليّين- بغض النظر عن التعصّب والأذواق المنحرفة- من المُسَلَّمات، فإنّ أفضل طريق لإثبات صدق اللَّه هو هذه المسألة.

يُعد الكذب، حتى من قِبَلِ الإنسان العادي، من أقبح الأعمال، بل يعتبر بؤرة أغلب القبائح، ودليلًا بارزاً على انحطاط الشخصيّة، فمن المسلَّم به قُبح مثل هذا العمل من كلّ ناحية بالنسبة إلى الباري تعالى، أي أن يكذب سبحانه أو يَعِدَ كذباً- معاذ اللَّه.

وإن احتمل أحد مثل هذا الإحتمال اللامعقول بالنسبة إلى الذات الإلهيّة المقدّسة لتهدمت جميع مباني معتقداته، لأنّ القسم الرئيس من هذه المباني مأخوذ عن الوحي، وَلَو وُجد احتمال الكذب ومخالفة الواقع إليه سبيلًا، لما بقيت هنالك ثقة بالوحي، والأخبار الإلهيّة، والوعد والوعيد، ولتزلزلت جميع المعتقدات الدينية وتعرضت للعدم، وهذه المسألة من الوضوح بحيث لا تحتاج إلى توضيح.

وقد أشرنا سابقاً إلى أنّ عوامل الكذب أي

(الجهل) و (الحاجة) ليس لها إلى ذات الباري من سبيل، وهذا بحد ذاته دليلُ آخر.

آخر الكلام حول الصفات الإلهيّة:

لا ريب أنّ لبحث صفات اللَّه طابعاً عقائدياً، والهدف منه هو تكميل المعارف الإلهيّة، ولكن ينبغي أن لا يُغفلَ عن أثره التربوي في تكامل النفوس الإنسانية، وغالباً ما كان هذا هو هدف القرآن من طرح هذه الصفات.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 303

فعندما نصف اللَّه بالذات الكاملة، وبأنّه سبحانه أمل جميع العباد، وتبذل جميع الجهود والمساعي من أجل التقرُّب منه، وإليه تنتهي جميع الخطوط التكاملية، فإنّ من الواضح أنّ هذا البحث يقول للإنسان بكل صراحة وجزم: (إنّك ستنتصر وتنجح في جهودك ومساعيك، وستبلغ السعادة عندما تستطيع أن توهِّج نوراً في قلبك من صفات الجلال والجمال الإلهيّة تلك).

أو بتعبير آخر، فإنّك تصير مظهراً لأسماء اللَّه وصفاته وتطغى عليك صبغته، وتصير روحك ونفسك مرآةً لأسمائه، ومظهراً لصفات جلاله وجماله.

وأن تحاول التشبُّه به من حيث العلم، القدرة، الإرادة والمشيئة، المديريّة والربوبيّة، والرحمانيّة والرحيميّة، و ...، ولو بمقدار قليل.

ويُلاحظ وجود إشارت لطيفة إلى هذه المسألة التربويّة المهمّة وردت في الأحاديث الإسلامية، ومن جُملتها ما ورد في (تنبيه الخواطر) عن الرسول الأكرم محمّد صلى الله عليه و آله أنّه قال:

«جعل اللَّه سبحانه وتعالى مكارم الأخلاق صلةً بينَهُ وبين عباده فحسبُ أحدكم أن يتمسك بخلقٍ متّصلٍ باللَّه» «1».

وفي حديثٍ آخر عنه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «تخلّقوا بأخلاق اللَّه» «2».

__________________________________________________

(1) تنبه الخواطر، ص 2 و 3، طبق ماورد في ميزان الحكمة، ج 3، ص 149.

(2) زبدة المعارف في أصول العقائد، ص 87، المحقق اللاهيجي.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 305

العدل الإلهي

اشارة

نفحات القرآن، ج 4، ص:

307

تمهيد:

إنّ لصفة (العدالة) خصوصيات خاصّة من بين صفات الفعل الإلهي، ممّا حدى بعلماء العقائد إلى بحثها بالتفصيل وبصورة مستقلّة، إلى الدرجة التي نلاحظ استقلالها من بين أصول الدين، وأنّها ذُكِرَت كأحد أصول الدين العقائدية الخمسة، في حين أنّها لا تتفاوت عن بقية الصفات حسب الظاهر، وينبغي دمجها في مباحث معرفة اللَّه، في بحث (الأسماء والصفات).

إنّ شرح هذه الخصوصيّات قبل البحث حول أصل المسألة غير ممكن، لذا سوف نوكله إلى ما بعد، ونكتفي هنا بالقول: إنَّ لمسألة العدل الإلهي علاقة بأصل الإيمان بوجود اللَّه من جهة، وبمسألة المعاد من جهةٍ اخرى، وبمسألة النبّوة من جهةٍ ثالثة، وبمسائل من قبيل، الثواب والعقاب، الجبر والتفويض، التوحيد والثنويّة، فلسفة الأحكام، وغيرها، من جهة رابعة، لذا فقد يُمكن أن يُغيّر الإعتقاد بهذا الأصل أو نفيهُ شكل جميع المعارف والعقائد الدينيّة.

إضافةً إلى هذا فإنّ أثر العدل الإلهي في المجتمع البشري، في مسألة العدالة الاجتماعية، والعدالة الأخلاقية والمسائل التربويّة، غير قابل للإنكار.

وبسبب المسائل التي ذكرناها أعلاه، فإننا أيضاً نبحث هذه الصفة على حِدة وأكثر تفصيلًا، ولكن، وكما يستوجب اسلوب التفسير الموضوعي، ينبغي علينا قبل كلّ شي ء أن نتعرض إلى الآيات القرآنية الواردة في هذا المجال، لنستنير بها في طريق حل المشاكل المعقّدة لهذه المسألة المهمّة، بعد هذا التمهيد نمعن خاشعين في الآيات القرآنية التالية.

1- «إِنَّ اللَّهَ لَايَظْلِمُ النَّاسَ شَيئاً وَلَكنَّ النَّاسَ انفُسَهُم يَظلِمُونَ». (يونس/ 44)

2- «وَلَا يَظلِمُ رَبُّكَ احَداً». (الكهف/ 49)

نفحات القرآن، ج 4، ص: 308

3- «فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظلِمَهُم وَلَكِن كَانُوا انفُسَهُمْ يَظلِمُونَ».

(التوبة/ 70) (الروم/ 9)

4- «فَاليَومَ لَاتُظلَمُ نَفسٌ شَيئاً وَلَا تُجزَونَ إِلّا مَا كُنتُم تَعمَلوُنَ». (يس/ 54)

5- «وَمَا تُنْفِقُوا مِن خَيرٍ ... يُوَفَّ الَيكُم وَانتُم لَاتُظلَمُونَ». (البقرة/ 272)

6-

«بَلِ اللَّهُ يُزَكِّى مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظلَمُونَ فَتِيلًا». (النساء/ 49)

7- «وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلماً لِّلعَالَمِينَ». (آل عمران/ 108)

8- «شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَاإِلَهَ إِلّا هُوَ وَالمَلائِكَةُ وَأُولُوا العِلمِ قَائِماً بِالقِسطِ».

(آل عمران/ 18)

9- «انَّهُ يَبدَؤُا الخَلقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجزِىَ الَّذِينَ آمنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالقِسطِ».

(يونس/ 4)

10- «وَنَضَعُ المَوَازِينَ القِسطَ لِيَومِ القِيَامَةِ فَلَا تُظلَمُ نَفسٌ شَيئاً».

(الأنبياء/ 47)

11- «وَمَا رَبُّكَ بِظَلّامِ لِّلعَبِيدِ». (فصلت/ 46)

12- «ام نَجعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالمُفسِدِينَ فِى الأَرضِ أَم نَجعَلُ المُتَّقِينَ كَالفُجَّارِ». «1»

(ص/ 28)

شرح المفردات:

إِنَّ كلمة (ظلم)- كما ورد في مقاييس اللغة- في الأصل ذات معنيين مُتفاوتَين: أحدهما (الظُلمة)، والآخر: (وضع الشي ء في غير محلّه)، وفي مقابله (العدل) وهو وضع الشي ء في محلّه المناسب.

__________________________________________________

(1) وردت آيات قرآنية كثيرة اخرى بصدد هذا المجال، وقد انتخبنا من الآيات ذات المضمون الواحد ولكن بعبارتين متفاوتتين، ونموذجاً من الآيات ذات العبارات المتشابهة، من جملتها الآيات التالية: «النساء، 40 و 77؛ العنكبوت، 40؛ الأنفال، 60؛ البقرة، 281 (إضافة إلى أربع عشرة آيةً تحتوي كل منها على تعبير «لا يُظلمون»، وتشير بدون استثناء إلى نفي الظلم عن اللَّه تعالى ويونس، 47 و 54.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 309

و يُحتَملُ أن يعود كلا المعنيين إلى أصلٍ واحد لأنّ الظلم (ضد العدالة) سبب الظُّلمة أينما كان، ولعل هذا هو السبب الذي دفع بالراغب في مفرداته، إلى اعتبار (الظُّلمة) أصل هذه الكلمة.

وقد وردت في لسان العرب أنّ أصل الظُّلم هو: «الجور والتجاوُز عن الحد)، وأضاف في تعبير آخر: الظلم معناه: (الانحراف عن الحد المتوسط).

طبعاً: إنّ هذه المعاني الثلاثة للظلم أي (وضع الشي ء في غير محله) و (التجاوز عن الحد) و (الانحراف عن الحد المتوسّط)، تعود إلى أصل واحد).

وقد قسّم بعض العلماء

الظلمَ إلى ثلاثة أقسام: ظلم الإنسان ربَّهُ، وأظهر مصاديقه الكفر والشرك والنفاق، وظلم الإنسان الآخرين، وظُلمه نفسَهُ، وذكروا لكلٍّ منها شواهد قرآنية، ولكن من زاوية معينة نرى أنّ الأقسام الثلاثة تعود إلى أصل ظُلم النفس، لأنّ الإنسان منذ اللحظة الأولى من تصميمه على الظلم يوجّه الضربة الأولى إلى نفسه، كما قال تعالى: «وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُوا انفُسَهُم يَظلِمُونَ». (الأعراف/ 160)

وضّد الظلم (العدل)، وقد ذكروا له معنيَين متضادّين هما:

الأول: هو معناه المعروف أي وضع الشي ء في محلّه المناسب، ولهذا المفهوم الواسع مصاديق كثيرة من جملتها العدالد بمعنى الإعتدال، العدالة بمعنى رعاية المساواة ونفي كل ألوان (التمييز)، العدالة بمعنى رعاية حقوق الآخرين، والعدالة بمعنى رعاية الحقوق والإستحقاقات، وأخيراً العدالة بمعنى التزكية والتطهير.

وإن استعملها القرآن الكريم أحياناً بمعنى الشرك فسببه أن المشرك يتخذ للَّه ندّاً وعديلًا، قال تعالى في الآية الأولى من سورة الأنعام: «ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِهِم يَعْدِلُونَ».

الثاني: كما ورد في المقاييس: هو الإعوجاج والانحراف.

وقال بعض أرباب اللغة: إنّه يعني الظلم (أي) أنّ العدل من الألفاظ التي لها معنيان متضادّان، لذا يُطلق على الانحراف عن شي ء (عدول).

وكلمة (قسط) في الأصل تعني الحصّة والنصيب العادل، ولذلك فإنّها قد تأتي أحياناً

نفحات القرآن، ج 4، ص: 310

بمعنى (العدالة)، وهو عندما يُعطى نصيب كل واحد بالعدل، وأحياناً اخرى تأتي بمعنى (الظلم)، وهو عندما يُسلب منه نصيبه العادل.

ويُستعمل الأول عادةًبصيغة (افعال)، لذا فقد سُمي اللَّه باسم (المُقسِط)، والثاني بلفظة (قِسط) (من الثلاثي المجرّد) لذا فالقاسط يعني (الظالِم)، قال تعالى «وَ أَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً ...». «1»

(الجن/ 15)

وكذلك قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقسِطِينَ ...». (المائدة/ 42)

ويجدر ذكر هذه المسألة أيضاً وهي أنّ كلمتي (القسط) و (العدل) كلمتان قد تُستعملان أحياناً بصورة

منفصلة وبمفهومَين متقابلين مع بعضهما تقريباً، ولكن تستعملان أحياناً اخرى في موضعٍ واحد، كالحديث الشهير المنقول عن مصادر الشيعة وأهل السُّنة.

عن الرسول صلى الله عليه و آله أنّه قال: «لو لم يبق من الدنيا إلّايوم واحد لطوّل اللَّه ذلك اليوم حتى يخرح رجل من وُلدي فيملأها عَدلًا وقسِطاً كما مُلِئَت جَوراً وظُلما» «2».

فقد ذُكرَ (العدل) و (القسط) إلى جوار بعضهما في هذه الرواية، كما هو حال كلمتي (الجور) و (الظلم).

وحول ماهية التفاوت الموجود بين هذين التعبيرين؟

يُمكن القول: إنّ (القسط)- كما ذكرنا هذا في تفسير مفهومه اللغوي- معناه التقسيم العادل وضدّه (التمييز)، وعليه فإنّ القسط معناه اعطاء كل ذي حقٍّ حقه لا غير.

لكن العدالة ضدّ الجور والتجاوز على حقوق الآخرين، كأن يغصب أحد حقَّ الغَير ويستولي عليه، ونحن نعلم بأنّ العدالة الكاملة في المجتمع البشري تتحقق عندما لا يكون هنالك تجاوز من قبل أحد على حقوق الآخرين، ولا يُعطى حق أحدٍ لغيره.

ويُستنتج (تباينٌ) آخر أيضاً من التعبير الوارد في بعض الأحاديث وهو كون العدالة

__________________________________________________

(1) لسان العرب، مفردات الراغب؛ مقاييس اللغة؛ ومجمع البحرين.

(2) منتخب الأثر، ص 247؛ وقد نُقل في هذا الكتاب 123 حديثاً بهذا المضمون (مع تفاوتٍ قليل)، وقد ورد هذا المضمون أيضاً في كتاب نور الأبصار للكاتب محمد الشبلنجي، من خلال روايات متعددة، ص 187- 189.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 311

تخص الحكم والقضاء والقسط يخصّ تقسيم الحقوق، وقد ورد في لسان العرب نقلًا عن بعض الأحاديث «إذا حكموا عدلوا وإذا قسّموا أقسطوا» «1».

ويُحتمل أيضاً أن يكون العدل ذا مفهومٍ أوسع وأعمق من القسط، لأنّ القسط يُستعمل بخصوص التقسيم، والعدل يُستعمل فيه وفي موارد اخرى.

جمع الآيات وتفسيرها

إنّ اللَّه لا يظلم أحداً:

الجدير بالانتباه هو استعمال القرآن الكريم كلمة (العدل) في

المواضع المتعلّقة بوظيفة العباد، وعدم استعماله هذه الكلمة بخصوص الباري تعالى وبالمقابل يلاحظ تعبير (نفي الظلم) عن اللَّه بكثرة، وتعبير إقامة اللَّه القسط ليس بقليلٍ أيضاً.

وأمّا ترك استعمال كلمة (عدل) بخصوص الذات الإلهيّة المقدّسة فيُحتملُ أن يكون سببه هو ما أشرنا إليه سابقاً وهو كون كلمة (العدل) قد تُعطي معنى (الشرك) أحياناً، (أي اتخاذ الكفوء والند للَّه تعالى ، فما أراد سبحانه أن يُستعملَ هذا اللفظ المشترك بخصوص ذاته المقدّسة!

وعلى أيّة حال فقد قال تعالى في الآية الأولى من البحث: «إِنَّ اللَّهَ لَايَظْلِمُ النَّاسَ شَيئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ انْفُسَهُم يَظلِمُونَ».

يُمكن أن يكون هذا التعبير إشارة إلى الكلام الذي ورد في الآيات التي سبقتها، من قوله تعالى: «وَمِنهُم مَّنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيكَ أَفَأَنتَ تُسمِعُ الصُّمَّ وَلَو كَانُوا لَايَعقِلُونَ* وَمِنهُم مَّنْ يَنظُرُ إِلَيكَ أَفَأَنتَ تَهدِى العُمْىَ وَلَو كَانُوا لَايُبصِرُونَ* إِنَّ اللَّهَ لَايَظلِمُ النَّاسَ شَيئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ انفُسَهُم يَظلِمُونَ».

وبتعبير آخر: إنّها سنّةٌ إلهيّة أن لو لم تُستعمل الأبصار والأسماع السليمة في الأتجاه

__________________________________________________

(1) لسان العرب، ج 7، مادة (قسط).

نفحات القرآن، ج 4، ص: 312

المخلوقة من أجله لفقدت قدراتها، لذا فلو لم ينتبه أحدٌ إلى مثل هذه الحالة لكان قد ظلم نفسه بنفسه، لا مظلوماً من قبل اللَّه تعالى.

وقد أيدّ الكثير من المفسّرين هذا التفسير، ولكن العجب من ترك البعض الآخر منهم (كالفخر الرازي) هذا المطلب الواضح وانصياعهم لعصبيّتهم المذهبية في مسألة العدالة، فقالوا: (لأنّ كل ما في الوجود ملكٌ له، فكل ما يعمله ليس بظلمٍ).

في حين أنّ الآية تشير بدقّة إلى خلاف هذا المطلب، فظاهر الآية يُفهم منه انتفاء تصوُّر الظلم بشأنه جلّ وعلا، بل إنّه لن يظلم أحداً في نفس الوقت الذي يقدر فيه على ذلك.

ومن قبيل هذا التعبير

كثير، فلو قيل: إِنّ الطبيب الفلاني، لم يُعالج المريض الفلاني فإنّه يعني، أَنّه كان قادراً على علاجه، لكنّه لم يفعل، فلا يُقال أبداً: إِنّ الأُميّ الفلاني لم يُعالج فلاناً من الناس.

أمّا الآية الثانية فقد أشارت إلى هذا المعنى بتعبيرٍ آخر، حيث قالت: «وَلَا يَظْلِمُ رَبِّكَ أَحَداً» ويُمكن أن يكون ذكر تعبير (رب) إشارة إلى رعايته تعالى للإنسان بالتربية والتكامل، لا الظلم والجور الذي يؤدّي إلى النقصان والتخلُّف (الذي هو خلاف اصول الربوبيّة).

وقد ذكرت هذه الجملة بعد بيان حال المجرمين في القيامة، عندما يرون كُتبهم فيقولون:

«يَاوَيْلَتَنَا مَال هَذَا الكِتَابِ لَايُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَ وَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً». (الكهف/ 41)

لذا فإنّهم هم الذين ظلموا أنفسهم لا اللَّه سبحانه وتعالى، وتتضح مسألة انتفاء الظلم عن اللَّه سبحانه وتعالى نهائياً من خلال تصريحِهِ تعالى في القرآن بتجسُّم أعمالهم هناك (أي يوم القيامة).

نفحات القرآن، ج 4، ص: 313

وأشارت الآية الثالثة إلى العذاب الدنيوي الذي أصابَ ستةً من الأقوام السالفة بسبب طغيانهم وظُلمهم وعنادهم «1»، قال تعالى «فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا انفُسَهُمْ يَظلِمُونَ».

لقد منَّ اللَّه عليهم بالعقل والفهم والمعرفة، وأرسل إليهم الأنبياء والكتب السماويّة الواحد تلوَ الآخر، وحذّرهم مِراراً، فعندما لم ينفع معهم أي واحدٍ من هذه الأمور، أنزل عليهم العذاب وأهلكهم، فمنهم من أغرقه بالماء، ومنهم بالريح العاصفة، ومنهم بالزلزلة، ومنهم من أخذته الصيحة.

وهذا الكلام تحذيرٌ ضمنيٌّ للأقوام الحاليّة، والطغاة، والمتمردين العصاة، ليكونوا على وجل لئلّا يحطّموا أنفسهم بأيديهم ويُحرقوا حاصل حياتهم بنار أعمالهم.

وجملة: «فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ»، التي اجتمع فيها الفعل الماضي (كان) والمضارع (ليظلمهم)، تشير إلى نفي ظلم اللَّه لأي أحدٍ وفي أيٍّ من الأزمنة الماضية، واستمرار هذه الصفة والسُّنة الإلهيّة وثباتها وعدم

كونها أمراً مقطعيّاً مؤقتاً وعابراً.

أمّا الآية الرابعة فقد أشارت إلى الجزاء الأخرويّ وأحوال يوم القيامة، حيث قال تعالى:

«فَاليَومَ لَاتُظلَمُ نَفسٌ شَيئاً وَلَا تُجزَونَ إِلَّا مَا كُنتُم تَعمَلُونَ».

مع أنّ فعل (تُظلَمُ) في هذه الآية قد ذُكِرَ بصيغة المجهول، لكنّه من الواضح أنّ الحاكم الوحيد في محكمة القيامة هو اللَّه سبحانه وتعالى، إذن يُعتبر نفي الظُّلم في هذه الآية نفياً للظلم عن ساحة قُدسه تعالى وعليه فإنّه لا يرتضي الظُّلم لأحد لا في الدنيا ولا في الآخرة، إنّها أعمال الناس التي سوف تتجسّم أمامهم هناك وترافقهم، فإن كانت صالحة منحتهم اللّذة والنشاط والبهجة، وإن كانت طالحة صارت سبب عذابهم وأذاهم، لذا قال سبحانه: «وَلَا تُجزَونَ إِلَّا مَا كُنتُم تَعمَلُونَ».

__________________________________________________

(1) قوم نوحٍ وعادٍ وثمودَ وقوم ابراهيم وقوم شعيب وقوم لوط.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 314

وقالت الآية الخامسة بصراحة- والتي وردت بخصوص حالة خاصّة وهي الأنِفاق- «وَمَا تُنفِقُوا مِن خَيرٍ ... يُوَفَّ الَيكُمْ وَانتُم لَاتُظلَمُونَ».

فسّر جماعة من المفسّرين (الظلم) هنا بمعنى النقصان، (أي لا تُنقَصون)، ولكن يبدو بأنّ (الظلم) هنا له نفس ذلك المعنى الواسع على الرغم من كون مصداقه هنا النقصان الكمّي أو الكيفي.

والملفت للإنتباه هو أنّ- كما لوّح به صدر الآية، وصرّح به شأن النزول- هذه الآية نزلت بخصوص الإنفاق حتى على فقراء الكفّار، فشوّق القرآن جميع المسلمين لينفقوا عليهم أيضاً عند حاجتهم، إنّهم غير مسؤولين عن إيمان الكفّار، فهدايتهم وتوفيقهم للإسلام بيد اللَّه، فليطمئن المسلمون بأنّ كل انفاقٍ خالص لمساعدة الفقراء الحقيقيين سيوفّى إلى المُنفقين يوماً ما ويعود إلى حوزتهم.

أمّا في الدنيا فلأنّه (أي الإنفاق) يؤمّنُ ويحفظ أموالهم، حيث عندما يضغط الفقر على طائفة من المجتمع فستسودهُ الفوضى، وينعدم الأمن في المجتمع، وستتعرض الأموال

للتلف ليست لوحدها فقط، بل الأرواح أيضاً.

أمّا في الآخرة فانهم سيحصلون على أضعافه المضاعفة من الرحمة الإلهيّة والثواب العظيم.

وبالمناسبة إنّ هذا التعبير يُعَدُّ ترغيباً للمُنفقين لإنفاق أفضل مقدار ونوعٍ من أموالهم في سبيل اللَّه، لأنّه سيوفَّى إليهم، فهل يُحبّ أحدٌ أن يسترجع ثياباً رثّةً أو أموالًا غثة؟ إذن يجب أن لا يكون سعيه الوحيد هو إنفاق أمواله الحقيرة في سبيل اللَّه.

وتحدثت الآية السادسة عن الذين كانوا يزكّون أنفسهم ويعتقدون بأفضليتهم على من سواهم، كاليهود الذين قالوا: نحن أبناء اللَّه، وكانوا يعتقدون بأنّ اللَّه يغفر في الليل ما يرتكبونه من الخطايا في النهار، ويغفر في النهار ما يرتكبونه من الخطايا في الليل! أو

نفحات القرآن، ج 4، ص: 315

النصارى الذين كانوا يعتقدون لأنفسهم من قبيل هذه الأمور (حول شأن نزول هذه الآية، أشار الكثير من المفسّرين إلى إدعاءات هاتين الفئتين).

فالقرآن يقول (إنّ هذه التزكية الناشئة من التعصُّب والعُجب والغرور، لا قيمة لها، إنّما القيمة في تزكية اللَّه من يشاء من عباده)، قال تعالى: «بِلِ اللَّهُ يُزَكّى مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظلَمُونَ فَتِيلًا».

أجَل، إنّ علمه بجميع وجود الإنسان، ظاهره وباطنه، خلقه وطبعه، أعماله السريّة والعلنية، يؤدّي إلى أن تكون تزكيته لفردٍ ما حقانية، أي لا أقل ولا أكثر من اللازم، في حين أنّ تزكية الآخرين مشوبة بالجهل في أبعاد مختلفة، ومصحوبة بأنواع الحب والبغض والغفلة والغرور.

وعليه فانَّ الكلام في هذه الآية يدور فقط حول الظلم وتجاوز الحد بالنسبة إلى تزكية الأشخاص من قِبلِ اللَّه سبحانه وتعالى، ولكن يُحتمل أيضاً أن تكون هذه الجملة إشارة إلى الذنب الكبير الذي كان يرتكبه المزكّون أنفسهم بسبب عجبهم، لأنّهم كانوا يعتقدون بخصوصيّتهم عن غيرهم واستحقاقهم لكل ألوان الكرم الإلهي.

فالقرآن يقول: إنّ من وراء

هذا الكلام عقوبة ثقيلة ولكن لا ظُلم فيها.

ولكن يبدو أنّ التفسير الأول أقرب إلى المعنى.

أمّا مادّة (فتْل) على وزن (قتل) فهي تعني البرم، لذا فإنّ (فتيل) يعني الحبل المبروم، وتُطلق عادةً على ذلك (الخيط) الرقيق الموجود في شق نواة التمر، وهو كناية عن الشي ء القليل جدّاً.

ويُلاحظ في الآية السابعة نفس هذا المعنى بتعبيرٍ جديد، فإن كانت الآيات الاخرى قد نفت ظلم اللَّه لعباده، فهذه الآية نفت ظلمه للعالمين جميعاً، فليس فقط لا يظلم، بل حتى لا تتعلق إرادته بالظلم، قال سبحانه: «وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلماً لِّلعَالَمِينَ».

نفحات القرآن، ج 4، ص: 316

ولو اعتبرنا كلمة (عالمين) جمع عاقل، لشملت جميع الموجودات العاقلة في الوجود، من الناس، والجن والملائكة، وإن حملناها على (التغليب) لشملت جميع موجودات عالم الوجود، من العاقلة وغير العاقلة، ومن الحيّة وغير الحيّة (الجمادات)، ولأثبتت العدل الإلهي بخصوصها جميعاً (أي وضع كل شي ء في محلّه المناسب).

والتعبير بكلمة (ظُلماً) وبصيغة المفرد النكرة وسبقه بالنفي، إنّما هو من أجل التعميم، ويشمل أدنى وأقلَّ ظُلمٍ وجَور.

وقد ورد في تفسير الميزان أَنّ التعبير بكلمة (العالمين) يُشير إلى هذه الحقيقة، وهو:

انعكاس أثر الظلم في جميع العالم بأي مقدارٍ كان ومن أي إنسان صَدَر. (لأنّ العالم وحدة مترابطة) «1».

والجدير بالإلتفات هو أنّ جماعةً من العلماء توسّلوا بهذه الآية لإبطال مذهب الجبر وما يتفرع منه، فقالوا: إذا كانت أعمال العباد من فعل اللَّه وصادرة من ذاته المقدّسة، لا ستوجب أن يكون ظلمهم بعضهم أو أنفسهم من فعله تعالى، ولكن الآية المذكورة أعلاه عندما نفت أي ظُلمٍ من قبل اللَّه للعالمين فإنّها تدلّ على انتفاء كون هذه المظالم من فعله تعالى، بل هي من أنفسهم، لأنّها لو كانت من فِعله لتعلقت بها الإرادة

الإلهيّة، وقوله: «وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلماً» يدّل على نزاهة ذاته المقدّسة عن هذه المظالم.

والعجيب هو أنّ الفخر الرازي قد نقل هذا الكلام في تفسيره من دون أن يكون له جواب عنه، على الرغم من تعارُضه مع عقيدته حول الجبر والتفويض «2».

وعلى أيّة حال، إنّ هذه الآية لها صيغة تعميمية من ثلاث جهات: (العالمين) و (الظلم) و (الإرادة) وتُعَدُّ من أجمع آيات نفي الظلم عن اللَّه تعالى.

__________________________________________________

(1) تفسير الميزان، ج 3، ص 1414 (مع شي ءٍ من الإقتباس).

(2) تفسير الكبير، ج 8، ص 174.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 317

أمّا الآية الثامنة فعلى خلاف الآيات السابقة، التي كانت تتحدث عن نفي الظلم، أكّدت إثبات القِسط والعدل كسُنّة دائميّة وأبديّة، قال تعالى: «شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَاإِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالمَلَائِكَةُ وَأُولُوا العِلمِ قَائِماً بِالقِسطِ».

والجدير بالإنتباه هو كون العدالة الإلهيّة من أحد شروط (الشهادة)، وعدالته شرطٌ لمنع عباده عن أي انحرافٍ عن طريق الحق، وتمّ التأكيد هنا على عدالة اللَّه لتكميل شهادته، وهذه العدالة تثبت بوضوح بنظرةٍ عميقةٍ واحدة إلى عالم الوجود، لأننا نرى كُلّ شي ءٍ في محلّه، ونشاهد منتهى الدقة والإستحكام في النظام الموجود في الوجود، وإذا لاحظنا وجود بعض العيوب في بعض حوادث وأشياء العالم، فإنّها تتضح لنا شيئاً فشيئاً بزيادة التدقيق والتطور العلمي، وإن بقيت حالات نادرة في قيد الإبهام، فإننا وبأخذنا بنظر الاعتبار الحوادث المكتشَفة في العالَم، سنعلم بأنّ سبب بقاء إبهامها هو جهلنا وقلّة علمنا.

ومن جهةٍ اخرى، إنّ عدالة اللَّه دليل أيضاً على وحدانيته، لأنّه لو كان هنالك خالقٌ وحاكمٌ في الوجود سواه لأدّى إلى حدوث اختلاف في التدبير والفساد بالنتيجة، وعليه فإنّ النظم الموجودة، ووحدة التدبير خيرُ دليلٍ على وحدانيتة.

وبهذا فإنّ وحدانيته تدل

على عدله، وعدله يدل على وحدانيته، وهذا مطلب ظريف يُستحصَلُ من الآية أعلاه «1».

والظريف (هو استدلال الزمخشري في الكشاف بهذه الآية على نفي الجبر، لأنّ الجبر يتنافى مع عدالة اللَّه).

وهذا مطلب واضح سنتطرق إليه في البحوث القادمة إن شاء اللَّه، فأي ظُلمٍ أكبر من أن يجبر شخصٌ أحداً على فعلٍ معين ثم يؤاخذه عليه ويعاقبه؟

لكن الفخر الرازي، وانطلاقاً من تعصُّبه الخاص حول هذه المسألة، تهجمّ بشّدة على صاحب الكشّاف ووصفه عدّة مرّات بالمسكين أو بغير المحيط بجميع رموز العلم، وتوسّل بالإشكال الشهير المعروف (بعلم اللَّه) في مسألة الجبر، وهو إن لم يعصِ المذنبون ولم

__________________________________________________

(1) تفسير الميزان، ج 3، ص 119 (مع شي ء من الأقتباس).

نفحات القرآن، ج 4، ص: 318

يرتكبوا الذنوب الموجودة في علم اللَّه منذ الأزل، لصار علم اللَّه جهلًا! «1»

في حين أنّ الرد على هذا الإشكال من البساطة والوضوح بحيث يعلمه جميع من لهم أدنى اطلاع حول مسألة الجبر والتفويض، وسيأتي شرحه في البحوث القادمة إن شاء اللَّه تعالى.

وأمّا الآية التاسعة فقد أشارت أيضاً إلى مسألة عدالة اللَّه في القيامة في مسألة الثواب والعقاب، وأكّدت على كلمة (القِسط)، قال تعالى: «إِنَّهُ يَبدَؤُا الخَلقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجزِىَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالقِسطِ».

وهذه الآية بالواقع تشير إلى كُلٍّ من الدليل العقلي على إمكان المعاد، ودليل وقوعه، أمّا إمكانه فلأنّ مَنْ بدَء الخلق قادر قطعاً على إعادته وإحيائه من جديد.

أمّا وقوعه، فلو لم يكُن (المعاد) لما تحقق القسط والعدل، فهنالك الكثير من المحسنين ممن لم يحصلوا في هذه الدنيا على ثواب عملهم، ومن المسيئين الذين لم يذوقوا- في هذه الحياة الدنيا- قصاص أعمالهم، فلولا المعاد لما تحقق العدل والقِسْط.

والجدير بالإنتباه هو أَنّ الآية قد أشارت

في نهايتها إلى العذاب الأليم الذي سيلقاه الكافرون في الآخرة: «وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُم شَرَابٌ مِّن حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكفُرُونَ».

(يونس/ 4)

دون أن تتطرّق إلى مسألة القسط والعدل، والسبب في هذا هو أنّ إجراء القسط والعدل في جزاء الكافرين واضح من قرينة بداية الآية، علاوةً على كون جملة: «بما كانوا يكفرون» دليلًا واضحاً على كون ما يلقونه من العذاب جزاء ولقاء ما كانوا يعملون، وكأنّ المقصود من ذكر (القسط) بعد جزاء الصالحين هو بيان كونه الهدف الأصلي للخلق والإيجاد، وما يوم القيامة والحساب إلّالأجلهم وله حالة تبعيّة تخصّ الآخرين.

واحتمل بعض المفسّرين حول تفسير هذه الآية أنّ القسط هنا يخص أعمال المؤمنين،

__________________________________________________

(1) تفسير الكبير، 7، ص 206.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 319

أي: إنّ اللَّه سيجزي المؤمنين في يوم القيامة لقيامهم بالعدل والقسط الذي يقتضيه الإيمان «1».

لكن المفسّر هذا لم ينتبه إلى هذه الحقيقة وهي كون (العمل الصالح) يتماشى مع أُسس العدالة، ولا تحتاج إلى قيدٍ أو شرط، إلّاأن يكون ذا حالة تأكيديّة، ونحن نعلم بأنّ حمل الكلام على التأكيد خلاف الظاهر ويحتاج إلى قرينة.

وأشارت الآية العاشرة إلى نفس هذا المعنى مع وجود هذا التفاوت، وهو بَيانها القسط والعدل كصفتين لموازين الأعمال، ونحن نعلم بأنّ مُقيم هذه الموازين هو اللَّه العادل، إذن لابدّ من التسليم بأنّها من صفات ذاته المقدّسة.

والتفاوت الآخر في هذه الآية عن الآية السابقة هو كون مفهوم هذه الآية عامّاً، ويشمل كلًا من المؤمن والكافر، لأنّ (ميزان القسط) لا يزن إلّاقِسْطاً وعدلًا، ولا يظلمُ أحداً. قال تعالى: «وَنَضَعُ المَوَازِينَ القِسطَ لِيَومِ القِيَامَةِ فَلَا تُظلَمُ نَفسٌ شَيئاً».

والظريف هو وصفه تعالى هذه الموازين (بالقسط)- (العدل بالمعنى المصدري)- وقوله:

إنّ هذه الموازين عين العدل، ممّا يعكس

نهاية التأكيد كقولنا: (زيدٌ عدلٌ)، أي أنّه عين العدل، فعليه لا حاجة في هذه الآية إلى التقدير.

وسيأتي هذا المطلب في المجلد الخامس من هذا التفسير في بحوث المعاد إن شاء اللَّه، وهو كون المقصود من (الميزان) هنا شيئاً مماثلًا للموازين الماديّة ليصير مجالًا لطرح هذا الإشكال، وهو كون أعمال الإنسان ليست ذات وزنٍ يُذكَرُ، فكيف يمكن وزنها بهذه الموازين؟ فنضطر إلى القول كما قال الفخر الرازي: إنّ المقصود منها وزن كتب الأعمال!

أو الحسنات تتجسّم بشكل جواهر بيضاء نورانية! والسيئات تتجسّم بشكل جواهر سوداء ظلمانية! «2»

__________________________________________________

(1) تفسير المنار، ج 11، ص 299.

(2) تفسير الكبير، ج 22، ص 176.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 320

بل المقصود من (الموازين) هو وسيلة القياس، وكما نعلم أنّ وسيلة قياس كل شي ءٍ تتناسب مع ماهية ذلك الشي ء، كقياس الوزن، قياس الحرارة، وقياس ضغط الدم، و ...، لذا فإنّ وسيلة قياس الأعمال أيضاً هي تلك المعايير الخاصّة التي تُقاس بواسطتها، كما ورد في زيارة أمير المؤمنين عليه السلام: «السلام على ميزان الأعمال!».

أجل، إنّ الإنسان الكامل ميزان قياس أعمال مختلَف الأفراد، لأنّ وزن كُل انسانٍ يُعادل نظيره!

والظريف هو ما ورد في بعض التفاسير بأَنّ داود عليه السلام طلب من اللَّه أن يُريه (ميزان الأعمال)، فعندما رآه صُعِقَ! فلمّا أفاق قال: إلهي ميزانٌ بهذه العظمة!؟ مَنْ ذا الذي يقدر أن يملأ كفّته بالحسنات؟ فقال سبحانه وتعالى مخاطباً إيّاه: «يا داود إِذَا رَضِيتُ عَن عَبدِي مَلأَتها بِتَمرةٍ!».

(أجل إنّ المعيار هناك هو نوعيّة العمل لا كميّته) «1».

ما اللَّه بظلّامٍ:

استعملت الآية الحادية عشر مصطلح (ظلّام) الذي هو من صيَغِ المبالغة، ويعني كثير الظلم، قال تعالى: «وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامِ لِّلعَبِيدِ».

ذكر القرآن هذه الجملة بعد أن أخبر بأنّ

كل انسانٍ مرتَهَنٌ بعمله، إن عمل صالحاً فلنفسه و إن أساء فعليها، وإن تورّط الناس بعواقب مشؤومة فبما كسبت أيديهم، وأنّ اللَّه ليس بظالمٍ لهم.

ونفي صفة (ظلّام)- كثير الظلم- عن اللَّه تعالى- مع كونه لا يظلم أحداً أدنى شي ء- فيه كلام، فقد قال البعض: إنّ صدور (ادنى شي ء من الظلم) ممن يعلم بقباحته وليس له أي حاجةٍ إليه، يُعَدُّ ظُلماً عظيماً «2».

__________________________________________________

(1) تفسير الكبير، ج 22، ص 176.

(2) تفسير مجمع البيان، ج 9، ص 18.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 321

ويُحتمل أيضاً أن يؤدّي ترابط عالم الوجود، وبالأخص حياة البشر، مع بعضه إلى أنّه لو افترضنا صدور ظلمٍ معينٍ من ذاته المقدّسة بشأن أحدٍ ما، لسَرى إلى الآخرين واتخذ صفة (ظلّام).

كيف يُمكن أن يوصف اللَّه، المنزّه عن كل عيبٍ ونقصٍ، والموصوف بجميع صفات الجمال والجلال، بصفة (الظلّام)؟

والتفسير الرابع هنا، والذي يَبدو أفضل من جميع هذه التفاسير، والمشار إليه في بعض الروايات الواردة عن المعصومين عليهم السلام، هو أنّ الآية المذكورة- ونظراً لما ورد في صدرها- تُبطل عقيدة الجبر: فتقول: «مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا». (فصلت/ 46)

فعليه الجميع مفوّضون في ممارسة الأعمال، وإذا أجبرهم اللَّه على ارتكاب الذنوب وآخذهم عليها لكان ظلّاماً قطعاً، ولأنّ اللَّه ليس بظلّامٍ للعبيد فهو لا يجبرهم على ارتكاب القبائح ويؤاخذهم عليها فيما بعد.

ورد في حديثٍ عن الإمام الرّضا عليه السلام أنّه سُئِلَ من قِبَل أحد أصحابه: هل يجبر اللَّه عباده على الذنب؟ فأجابه عليه السلام: «لا، بل خيّرهم وأمهلهم ليتوبوا»، فسأله كذلك: فهل يكلّفهم ما لا يُطيقونه؟ فقال الإمام عليه السلام: «كيف يفعل ذلك وهو يقول: «وَمَا رَبِّكَ بِظَلَّامِ لِّلعَبِيدِ»».

(لاحظوا أنّ الإعتقاد بالجبر يوجب التكليف بما

لا يُطاق، لأنّ العبد المجبور على المعصية، لا طاقة له على الترك، في حين أنّ اللَّه قد فرض عليه تركها) «1».

والجدير بالإلتفات هو أنّ كلمة (ظلّام) قد وردت. خمس مرّات في القرآن الكريم أربعٌ منها بخصوص مسألة حريّة إرادة العباد «2».

__________________________________________________

(1) تفسير نور الثقلين، ج 4، ص 555، ح 71.

(2) وردت عبارة «وما ربك بظلام للعبيد»، في آل عمران، 182؛ و فصلت، 46 والتي يدور البحث حولها و الانفال، 151.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 322

كيف يُمكن أن يُساوي بين المحسن والمُسي ء؟

أشارت الآية الأخيرة الثانية عشر من بحثنا إلى نفس هذه الحقيقة من خلال تعبير ظريف آخر، دون أن تُصرّح بكلمة العدل، أو القسط، أو مصطلحات نفي الظلم، وما شاكل ذلك.

قال تعالى: «ام نَجعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالمُفسِدِينَ فِى الأَرضِ أَم نَجعَلُ المُتَّقِينَ كَالفُجَّارِ».

إنّ هذا الاستفهام هو نوعٌ من الاستفهام الإستنكاري، أي: إنّ مثل هذا الشي ء غير مُمكن، لأنّ المساواة بين المصلح والمفسد، والمتقي والفاجر، ظلمٌ فاحش، واللَّه العادل لا يفعل ذلك أبداً.

وإن كانت المسألة كما اعتقد البعض من الجهلاء، في كون العالَم ملكاً للَّه والعباد عباده، وكل ما يفعله بحقّهم هو عين العدالة، لفقدت الآية أعلاه معناها.

ويجدر الإلتفات إلى أنّ الآية أعلاه قد عرضت المسألة على الوجدان البشري الحي، وخاطبته بصيغة الاستفهام الإستنكاري: (فهل يُمكن أن يفعل اللَّه هذا؟).

وقد أشارت هذه الآية بصورة ضمنية إلى مسألة المعاد، لأنّه لو لم يَكن هناك معاد لتساوى المصلح والمفسد، ففي الدار الدنيا يُمكن أن لا يلقى أيٌ منهم جزاء عمله، وهذا ممّا لا يتلائم مع عدله تعالى إذن يجب أن يكون هنالك يومٌ للحساب لتحقق أسس العدالة.

ثمرة البحث:

نستنتج من مجموع الآيات التي ذكرناها أنَّ الذات الإلهيّة المقدّسة منزّهة عن الظلم والجور بكل أشكاله، وبكل مقاديره، قليله أمْ كثيره، في الدنيا أَمْ في الآخرة، وبحق أيّ أحدٍ كان.

إنّه تعالى لا يظلم أحداً بصورة مباشرة وغير مباشرة، ولا يعمل عملًا يؤدّي (ولو بمئات

نفحات القرآن، ج 4، ص: 323

الوسائط) إلى ظلم أحد، وهذه المسألة طُرِحَتْ في الآيات المختلفة الآنفة الذكر بتعابير وعبارات متنوعة.

وهنالك بحوث كثيرة حول هذه المسألة، سواءً من الناحيّة الفلسفيّة والكلاميّة والعقائديّة، أو من الناحية الروائيّة، أو التاريخيّة، ونتطرق إليها في البحوث القادمة.

توضيحات

1- مسألة العدل الإلهي لدى المذاهب والفرق الإسلامية

تشير القرائن إلى وجود مخالفين ومؤيدين للعدل الإلهي من بين الفلاسفة وعامة الناس منذ أقدم العصور، وبشكل ملحوظ. وتأييد العدل نشأ من كونه من صفات الكمال وعدم تجرّد اللَّه الذي هو منبع كُلّ الكمالات منه أبداً.

وانصار نفي هذه الصفة نشأ تصورهم هذا من وجود قسم من العيوب الظاهرية، والآفات، والبلايا، والمصائب التي تبدو ولأول وهلة على الأقل متنافية مع مسألة العدل الإلهي.

لكن هذه المسألة اتخذت طابعاً آخر بين المسلمين، فجماعة منهم يدعون (بالأشاعرة) خالفوا هذه الأصل الديني لا من حيث إنكارهم عدالة اللَّه، بل من حيث كونه تعالى مالك الوجود، وعدم تحقُّق صفة الظلم من قِبَلِهِ، فكل شي ءٍ يفعله هو عين العدالة (حتى معاقبة جميع المحسنين وإثابة جميع المسيئين)!

إنّ الدافع الأساس للاتجاه نحو هذا النوع من التفكير هو الوقوع في أسرالتفكير بمسألة الجبر وعدم التفويض من جهة، لأنّ الأشاعرة من المؤيدين المتعصبين لمسألة «الجبر وعدم تفويض العباد في أفعالهم».

ومن جهةٍ اخرى وحسب ما صرّحت به الآيات القرآنية، وطبقاً لضرورة الدين الإسلامي فإنّ اللَّه يدخل المحسنين الجنّة والمسيئين النار.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 324

وهنا واجهوا هذا الإشكال وهو: إذا كان

الإنسان مجبراً على أفعاله فما معنى الثواب والعقاب على هذه الأعمال الإجبارية وغير الإختياريّة؟ وكيف يتناسب هذا مع عدالة اللَّه سبحانه؟ لذا فقد اضطرّوا إلى إنكار مسألة العدالة الإلهيّة بالشكل الذي ذكرناه آنفاً.

ومن جهةٍ ثالثة أنّهم كانوا يعتقدون بأنّ إنكار العدل الإلهي نوعٌ من التوحيد الكامل، وكانوا يظنّون الوصول إلى مرحلة التوحيد العليا إذا ما اعتقدوا بأنّ اللَّه فوق مسألة العدل والظلم.

وفي مقابل هذه الجماعة كانت تقف جماعة (المعتزلة) الذين كانوا يعتقدون بأنّ العدل الإلهي من أهم المسائل العقائدية، وبإمكانية تصوُّر كل من العدل والظلم بالنسبة إلى اللَّه تعالى، لكن اللَّه لا يظلم أبداً، والعدالة بمعنى الكلمة موجودة فيه.

أمّا الشيعة ومعتنقو مذهب أهل البيت عليهم السلام فإنّهم وقفوا في زمرة مؤيدي العدل الإلهي، لذا يُطلق عليهم وعلى المعتزله اسم (العدليّة).

إنّ الأهميّة التي يوليها شيعة أهل البيت عليهم السلام لمسألة العدل الإلهي من العمق بحيث اعتقدوا بأنّ (العدل) و (الإمامة) رُكنان أساسيّان في مذهبهم، في مقابل (التوحيد) و (النبّوة) و (المعاد) التي تُعد الأركان الأساسيّة الثلاثة للدين الإسلامي.

وسنلاحظ في البحوث القادمة إن شاءاللَّه أنَّ إنكار مسألة العدل الإلهي قَدْ يُؤدّي أحياناً إلى إنكار علم اللَّه أو قدرته، ويؤثّر على الصفات الإلهيّة الاخرى أيضاً، لهذا فقد عُرفَ (العدل) كصفة مرتبطة ببقيّة الصفات.

ولعل هذا هو دليل ما ورد في الرواية التي مفادها أنَّ رجلًا دَخَلَ على الإمام الصادق عليه السلام فقال له: «إنَّ أساس الدين التوحيد والعدل» وأضاف قائلًا: «اودُّ أن تُبيّن لي شيئاً في هذا المجال يسْهلُ حفظهُ».

فقال الإمام عليه السلام: «أمّا التوحيد فأن لا تجوّز على ربّك ما جاز عليك، وأمّا العدل فأن لا تنسَبَ إلى خالقك ما لامك عليه» «1».

__________________________________________________

(1) بحارالأنوار، ج 5، ص

17، الباب 1، ح 23.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 325

إنَّ هذا الجواب المُتْقَنَ جدّاً هو بالواقع دليلٌ على (التوحيد) و (العدل) ملخصٌ في عبارات موجزة، لأنّ صفات الممكنات لا يُمكن أن تكون صفات للَّهِ الذي هو واجب الوجود لأنّ هذه الصفات مقرونة بالنقص والمحدوديّة، في حين أنّه جلّ وعلا كاملٌ وغير محدودٍ من كل الجهات، وكذا كيف يُمكن أن يُؤاخذنا اللَّه على أفعالٍ تنسبُ إليه ونحن نقوم بها.

ولكن على أيّة حال، فإنّ جواب الإمام عليه السلام هذا يدلُّ على تأييده عليه السلام لكلام الراوي: «إنّ أساس الدين التوحيد والعدل».

وقد جمع أمير المؤمنين علي عليه السلام هذين الركنين في عبارته المختصرة والمفيدة جدّاً، وشرح حقيقة التوحيد والعدل باسلوبٍ رائعٍ جدّاً، حيث قال: «التوحيد أن لا تتوهمه والعدل أن لا تتهمه). (فما تحيط به الأوهام محدود ومخلوق واللَّه تعالى أكبر من ذلك). (والعدل أن لا تتهمه يعني أن لا تنسب إليه ما كسبت يداك من قبائح الأعمال) «1».

2- الأدلّة العقليّة على مسألة العدل الإلهي

اعتقد أغلب علماء المسلمين بأنّ هذه المسألة من ناحية البعد العقلي هي فرعٌ من مسألة (الحُسن والقُبح)، لذا يتوجب علينا هنا متابعة هذه المسألة، وذكرنا عصارة منها هنا:

كان الأشاعرة (جماعة أبو الحسن الأشعري المدعو علي بن اسماعيل والذي كان من متكلمي أواخر القرن الثالث وأوائل القرن الرابع الهجري) يُنكرون (الحسن والقبح) العقليين بالمرّة، ويقولون: إنّ عقلنا ليس بقادر لوحده على إدراك الصالح والطالح، والحسن والقبيح من الأشياء، ومعيار معرفتهما هو الشرع.

فما يستحسنه الشرع فهو حَسنٌ، وما يستقبحه فهو قبيح، حتى الأمور التي نعتقد اليوم

__________________________________________________

(1) نهج البلاغة، الكلمات القصار، الكلمة 470.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 326

بحُسْنها وقُبحها، فإذا قال الشرع خلاف ما نعتقد لقلنا مثل قوله، حتى وإن سُئِلوا:

هل يُدرك العقل حُسْن العدالة والإحسان، وقبح الظلم والبخل، وقتل الأبرياء؟ لقالوا: لا! فيجب الإستعانة فقط بتوجيهات الأنبياء وأولياءِ اللَّه.

وفي مقابل هؤلاء يقف (المعتزلة) و (الشيعة) الذين يعتقدون باستقلال العقل في إدراك الحسن والقبح، فمثلًا يعتبرون حُسن الإحسان، وقبح الظلم من بديهيات حكم العقل.

طبعاً إنّهم لا يقولون: إنّ العقل قادرٌ على إدراك جميع المحاسن والمساوي، لأنّ إدراكه محدود على أيّة حال، بل يقولون: إنّ العقل يدرك القسم الواضح جدّاً منها، ويُعدّونها من المستَقلات العقليّة.

ذكر (فاضل القوشچي) ثلاثة معانٍ للحسن والقبح:

1- (صفة الكمال والنقص)، كقولنا: الِعلمُ حسنٌ، والجهل قبيحٌ، لأنّ العلم يمنح صاحبه الكمال، والجهل يخلّف النقصان.

2- الحسن بمعنى (التنسيق مع المقصود)، والقبح بمعنى (عدم التنسيق مع المقصود).

هذا هو ما يُعبَّر عنه أحياناً ب (المصلحة) أو (المفسدة) فنقول: العمل الفلاني حسن ومن ورائه مصلحة، أي يُقربنا أو يقرب المجتمع الإنساني من أهدافه، أو الأمر الفلاني فيه مفسدة وقبيح، لأنّه يُبعدنا عن الأهداف الأساسيّة، سواءٌ كانت هذه الأهداف ماديّة أو معنويّة.

3- الحسن بمعنى (الأمور المستحقّة للثناء والثواب الإلهي)، والقبح بمعنى (الأمور المستحقة للتوبيخ والعقاب).

ثم أضاف قائلًا: وموضع الشجار والنزاع بين الأشاعرة والمعتزلة هو هذا المعنى الثالث «1» «2».

ولكن الحق هو أنّ هذه المعاني الثلاثة غير منفصلة عن بعضها، لأنّ الثواب والثناء يعود إلى الأفعال والأعمال التي فيها مصلحة معينة، وتقرّب الإنسان إلى مراحل الكمال طبعاً،

__________________________________________________

(1) شرح تجريد القوشچي، ص 441.

(2) هنالك معنى رابعٌ للحسن والقبح والذي هو خارج عن بحثنا، وهو الحسن بمعنى موافقة الطبع (الوجه الجميل) والقبيح بمعنى منافرة الطبع.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 327

كما هو حال الصفات الكمالية كالعلم الذي يُقرّب الإنسان من هذه الأهداف.

وعليه فإنّ هذه المعاني الثلاثة لازمة وملزومة ببعضها، وإن

فرّق «فاضل القوشچي» بينها فإنّما هو لتعبيد الطريق للإجابة على استدلالات جماعة (الحسن والقبح العقليين)، فمثلًا يَرُدُ على استدلالهم هذا عندما يقولون: (نحن ندرك حسن الإحسان وقبح الظلم بحكم ضرورة الوجدان). فيقول: إنّ هذا الكلام صحيحٌ بالمعنى الأول والثاني، وغير صحيح بالمعنى الثالث.

لذا يُمكن القول في تعريف (الحسن والقبح) بأنّ الأفعال الحسنة هي الأفعال التي تقرّب الفرد أو المجتمع البشري من الكمال المطلوب، أو تربّي فيه الصفات الكماليّة، وتقرّبه من الأهداف التكاملية، ومثل هذه الأعمال فيها مصلحة طبعاً ومحببة من قبل اللَّه سبحانه وتعالى وتستحق الثواب، وعكسها الأفعال القبيحة.

الآن وبعد أن عرفنا معنى (الحسن والقبح) والأراء المختلفة حول عقلانيتهما وعدم عقلانيتهما، لننظر أيّاً منهما أحق من صاحبه.

لا ريب في أنّ الذهن الفارغ من تأثيرات هذا وذاك يعتقد إجمالًا بعقلانية الحسن والقبح، ويبدو أنّ المنكرين كانوا قد خضعوا لتأثيرات مسائل اخرى أدّت بهم إلى الوصول إلى هذه النتيجة (كالطريق المسدود الذي وصل إليه دعاة مسألة الجبر والتفويض التي أشرنا إليها سابقاً)، والدليل على إثبات هذا الموضوع إجمالًا أمران:

أ) عندما نُراجع وجداننا نلاحظ أَنَّهُ حتى على فرض عدم ارسال اللَّه أيّ رسولٍ أو نبي، تبقى مسائل الظلم والجور وإراقة دماء الأبرياء وسلب الأموال، وحرق بيوت الأبرياء ونقض العهود وإثابة المسي ء، من القبائح، وبالعكس، فالإحسان، التضحية، الفداء، السخاء، مساعدة الضعفاء، الدفاع عن المضلومين، حسن وذو قيمة.

فنحن نعتقد بأنّ هذه الأعمال- التي ذكرناها أخيراً- ناشئة من صفات الكمال، وباتّجاه أهداف المجتمع البشري وتستحق الثناء والثواب، في حين أنّنا نعتبر أعمال المجموعة الأولى ناشئة من النقص، وتؤدّي إلى الدمار والفساد الفردي والاجتماعي وتستحق التوبيخ والعقاب.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 328

لذا فإنّ جميع العقلاء، حتى اولئك الذين لا يدينون بشريعة أو

دين معين وينكرون جميع الأديان، يعترفون بهذه الأمور، ويؤسسون نظامهم الاجتماعي (ولو في الظاهر) وفقها، ويعتبرون أي نغمةٍ مخالفةٍ قد تظهر من زاويةٍ معينة، بأنّها حتماً ناشئة من (الأخطاء) أو نوع من النزاع اللفظي واللعب بالألفاظ.

فأي عقلٍ يسْمح بأن نقتل جميع المحسنين والصالحين ونلقي بهم في البحر، ونفتح أبواب السجون أمام الجناة والأشقياء ونمنحهم الحريّة ونسلّمهم مقاليد الأمور؟!

ب) إن أنكرنا مسألة الحسن والقبح لتزلزلت أسس جميع الأديان والشرائع السماويّة، ولما أمكن إثبات أي دين، لأنّ من يُنكر الحسن والقبح عليه أن يقبل بكذب الوعود الإلهيّة التي أعطاها اللَّه في جميع الأديان، وإن كان اللَّه قد قال: إنّ الجنّة مأوى المحسنين، والنار مثوى المسيئين، فما المانع لو كان الأمر بعكس ذلك!؟

وكذّب اللَّه (العياذ باللَّه) في جميع هذه المسائل، ولا قباحة في الكذب!!

وكذا ما المانع من أن يجعل اللَّه المعاجز في تصرّف الكذّابين؟ ليخدعوا عباده ويحرفوهم عن الطريق الصحيح!

وعليه فلا تبقى هنالك ثقة بالمعاجز، ولا بما يأتي به وحي السماء، إلّاأن نقبل بقباحة هذه الأمور، ونزاهة اللَّه عن فعل القبيح، فتقوى الأسس الشرعيّة وتصير المعجزة دليلًا على النبوة، ويصير الوحي دليلًا على بيان الحقائق.

3- ملاحظتان مهمتان

1- تنقسم الأفعال الإنسانية إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: هي التي يسهل إِدراك حسنها وقبحها للجميع، أو التي تُعَدُّ اصطلاحاً من (المستقلّات العقليّة)، ولا تتغير أيضاً بتغيُّر الظروف (كحسن الإحسان وقبح الظلم.).

والقسم الثاني: هي التي يسهل على الجميع إدراك حسنها وقُبحها، لكنها تتأثر بالظروف

نفحات القرآن، ج 4، ص: 329

المختلفة، كقولنا بحسن الصدق وقبح الكذب، في حين أنّنا نعلم بأنّ الكذب المصلحي ليس قبيحاً في بعض الأحيان، لا سيما إذا كان للمحافظة على أهداف أهم وأسمى (كإصلاح ذات البين)، وبعكسه الصدق الذي يؤدّي إلى

الفساد وسفك الدماء والاختلاف، فهو قبيح ومذموم.

أمّا القسم الثالث: فهي الأفعال التي ليس لحسنها وقُبحها صيغة ضروريّة، بل نظريّة، فالبعض يقولون بحسنها وغيرهم يقولون بقبحها، أو يسكتون بتاتاً عن تشخيص حسنها وقُبحها، فلا سبيل في مثل هذه الموارد سوى اللجوء إلى أحضان الوحي.

ومن خلال ملاحظة الأقسام الثلاثة، تتضح أجوبة الكثير من الإشتباهات حول مسألة الحسن والقبح، التي وقع فيها البعض.

2- يعتقد البعض بأنّ إتفاق العقلاء في تعريف الحسن والقبح وتشخيص موارده ومصاديقه هو شرطٌ. وقالوا: الحسن هو ما اتفق العقلاء على مدح فاعله، والقبح هو ما اتفق العقلاء على ذمّ فاعله، في حين أنّ هذا التعريف خطأ، فإنّ اتفاق العقلاء يكون في أمرٍ يتعلّق بالقوانين الوضعية المصطلح عليها بالتشريعية، كما لو اتفق جميع العقلاء على قبول أصل المالكيّة (بالرغم من اختلافهم في حدّها وحدودها ومصاديقها)، أمّا الأمور التي تخلو من الأبعاد التشريعيّة ولها أبعادٌ عينية وتكوينية، فإنّ المعيار فيها هو إدراك أي إنسان.

فهل ينتظر أحدٌ اتفاق العقلاء في تشخيص جمال زهرة معينة، أو قصيدة طويلة رائعة!؟

وكذا في مسألة إدراك جمال وقبح الإحسان والظلم، فلا توجد أي حاجة إلى انتظار اتفاق العقلاء وحكمهم العام، هذا هو ما ندركه بصراحة الوجدان.، كسائر إدراكاتنا بخصوص القبائح والمحاسن.

طبعاً إنّ من الممكن أن تَتفِقَ عقيدة الأفراد في تشخيص الحسن والقبح في بعض الموارد، وتختلف في موارد اخرى، لكن هذا لا ينحصر بمسألة (الحسن والقبح) فقط، بل يُلاحظ في جميع الأمور التي يحكم بها العقل أيضاً.

ومن الممكن أن يتفق جميع العقلاء على قبول استدلالٍ عقلّي ءٍ معين، ويختلفوا في

نفحات القرآن، ج 4، ص: 330

آخر، فمن قَبِلَ ذلك الاستدلال وتيقن من صحته لا ينتظر موافقة الآخرين أبداً، وإن قال أحدٌ خلاف ذلك

لخطّأه، لا أنْ يتراجع عن عقيدته.

وخلاصة الكلام هو أنّ الحسن والقبح عقليان لا عقلائيان، والفرق شاسعٌ بين هذين الأمريْن، فدائرة أحدهما تشمل الحقائق الخارجيّة، والاخرى تشمل العقود القانونية.

وَنختتم هذا الكلام بجملة قصيرة حول أصل مسألة الحسن والقبح وهي: إنّ منكري هذه المسألة شأنهم شأن منكري الكثير من المسائل العقليّة الاخرى- فهم عادةً يُنكرونها باللسان أو عندما يتعرضون لضغط المسائل الاخرى التي لا يجدون لها حلّاً- فيتكلّمون بمثل هذا الكلام، وإلّا فهم من مؤيدى هذه العقيدة بعملهم، فلو وجّه إليهم أحدٌ صفعة قوية، أو أهان كرامتهم في المجتمع دون مبرر، أو قتل أبناءهم أمام أعينهم، لما تردّدوا حتى لحظة واحدة في توبيخه وذمّه ولجوّزوا لأنفسهم معاقبته!؟ سواءً كان هنالك قانون أو شريعة نازلة من قبل اللَّه أمْ لم تكن.

4- الرجوع إلى أدلّة العدل الإلهي

بعد اتضاح مسألة الحسن والقبح، نعود إلى أصل الكلام، أي: الأدلة العقليّة على العدل الإلهي، ويوجد هنا دليلان مهمّان يُمكن إرجاع الأدلّة الاخرى إليهما.

الدليل الأول: ومصدره نفس نظرية الحسن والقبح تلك، فالظلم قبيح، واللَّه الحكيم لا يفعل القبيح أبداً، والظالم يستحق التوبيخ والملامة، ومُسَلَّمٌ أنّ وجوداً كاملًا لا يفعل شيئاً من هذا القبيل ليستحق اللوم والتوبيخ.

والعدل عكس ذلك، فهو دليل كمال الوجود وحكمته، والوجود الكامل من كل ناحية، والمنزّه عن كل عيبٍ ونقص لن يتخلى عن مثل هذا الشي ء.

وهذا الدليل بقدرٍ من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى شرحٍ وتفصيلٍ أكثر، فهل يحتمل أحدٌ أن يلقي اللَّه جميع الأنبياء والأبرار والصالحين في نار جهنم، ويرسل جميع أشقياء وظالمي العالم إلى الجنّة؟!

نفحات القرآن، ج 4، ص: 331

أفَسَقِمَ الأفراد حتى أنكروا كل حقيقة، أم اضطرّ الذين وقعوا في حصار مسائل اخرى (كمسألة الجبر والتفويض)، إلى إنكار مثل هذه الأمور؟

الدليل الثاني:

يُمكن تلخيص منابع الظلم في عدّة أمور من خلال تحليل واضح:

وينشأ الظلم أحياناً من (احتياج الإنسان)، وعوضاً من أن يصل الظالم إلى مقصوده ويسدّ حاجته ببذل الجهود والمساعي الصحيحة، يسعى لتأمين حوائجه عن طريق غصب حقوق الآخرين.

وأحياناً ينشأ من (الجهل) وعدم الإطّلاع، فالظلم لا يعلم الحق ولا يدرى ماذا يصنع وأي ذنبٍ يرتكب!

وأحياناً ينشأ الظلم من (عبادة الهوى) و (الأنانية)، لأنّ الظالم يعجز عن الوصول إلى مقصوده، ولا يستطيع أن يضبط نفسه أمام فقدان الشي ء فيلتجى ء إلى الظلم.

وأحياناً ينشأ الظلم من (دافع الإنتقام) و (الحقد)، فينتقم الإنسان أضعاف ما لاقاه من الظلم.

وقد يكون الظلم صادراً من الضعف والعجز، فحين يعجز الظالم من تحقيق أهدافه ولا يتمكن من السيطرة على نفسه، يلتجى ء إلى ظلم الآخرين.

وأحياناً قد ينبع الظلم من (الحَسد)، فالحسود الذي يُعاني من نواقص معينة، ولا يستطيع أن يشاهد غيره منعّماً ومرفّهاً فينازعه ليسلب منه النعمة بالظلم والجور، وما شاكل هذه العوامل والدوافع التي تحكي جميعها عن وجود نوع من النقصان والإنحطاط.

اذن، فكيف يُمكن في هذه الحالة أن يصدر الظلم والجور من الوجود الذي هو عين الكمال المطلق، في حين أنّه منزّةٌ عن الحاجة والجهل والضعف والأنانية والغرور والحقد والانتقام، ولا يوجد من هُو أكمل منه ليحسده، ولا يستطيع أحد أن يسلب منه الكمال لكي يدفعه ذلك إلى الإنتقام؟

فهل يصدر شي ء من مثل هذا الرب سوى الخير والعدل والرأفة والرحمة؟

وإن يعاقب الظالمين فبما كسبت أيديهم، فما هو بحاجة إلى معاقبتهم، ولا ذنب المذنبين يمس ساحة كبريائه.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 332

والظريف هو أنّ القرآن الكريم قد استعان بالوجدان البشري العام حول هذا الموضوع، وطلب منهم أن يحكموا بأنفسهم في هذه المسألة، خلاف ما يعتقده الأشاعرة

من كون الحسن والقبح ذا أبعادٍ شرعيّة فقط لا وجدانية.

يقول تعالى: «أَفَنَجْعَلُ المُسلِمِينَ كَالُمجرِمِينَ* مَالَكُم كَيفَ تَحكُمُونَ». (القلم/ 35- 36)

لاحظوا أنّ القرآن الكريم قد بين هذا الكلام بعد ذكره عظيم ثواب المتقين، ممّا يدل بوضوح على اعتراف القرآن الكامل بمسألة تحكيم العقل في موضوع العدل والظلم، حيث شجب الظلم واستحسن العدل، بحكم العقل.

5- العدل في الروايات الإسلاميّة

أولت الروايات الإسلاميّة أهميّة كبيرة إلى معرفة العدل الإلهي، ومسائل كثيرة اخرى تتشعّب منه، بشكل بحيث يتضح من مجموعها أن مسألة العدل الإلهي كانت أمراً أذعن له الجميع، وتعتبر من الامور الفطرية والضرورية في وجدان بني البشر.

1- عن أميرالمؤمنين عليه السلام قال: «ارتفع عن ظُلمِ عبادهِ، وقام بالقسط في خلقه، وعدَلَ عليهمْ في حُكمهِ» «1».

2- وقال عليه السلام في موضعٍ آخر: «واشهدُ أنّهُ عَدلٌ وحَكمٌ فَصْلٌ» «2».

3- وقال أيضاً: «الّذي عَظُمَ حِلمُهُ فعَفى وعَدَلَ في كلِّ ما قضى «3».

4- وفي حديثٍ نبويٍ شهير أنّه صلى الله عليه و آله قال: «بِالعَدلِ قَامَتِ السَّمَواتِ وَالأَرضِ» «4».

ومن الواضح أنّ العدالة مستعملة هنا بمعناها الواسع وتعني: «وضع كل شي ء في موضعه»، وتشمل كلًا من العدالة مع العباد، والعدالة والنظم في مجموعة عالم الوجود.

5- وفي حديثٍ نقله المرحوم العلّامة المجلسي قدس سره في بحار الأنوار، حول وصف

__________________________________________________

(1) نهج البلاغه، الخطبة 185، ص 428.

(2) المصدر السابق، الخطبة 214.

(3) المصدر السابق، الخطبة 191.

(4) تفسير الصافي، ذيل الآية 9 من سورة الرحمن.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 333

الباري، عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «هو نورٌ ليس فيه ظُلمة، وصدق ليس فيه كذب، وعدل ليس فيه جور، وحق ليس فيه باطل» «1».

6- ورد في صحيح الترمذي: «هُو اللَّهُ ... العدلُ اللّطيفُ» «2».

7- ورد في كتاب

الخمس من صحيح البخاري أنّ النبي صلى الله عليه و آله ضمن ردّه على رجل جسور شكّك بعدالته، قال: «فمَن يَعدلُ إذا لَم يَعدل اللَّهُ وَرسُولُهُ» «3».

8- ورد في الدعاء الخامس والأربعين من الصحيفة السجادية أنّ الإمام السّجاد عليه السلام كان يناجي ربّه ويقول: «وَعَفوكَ تَفضّلٌ وَعُقوبَتِكَ عَدلٌ».

9- يُلاحظ وجود تعابير في الكثير من الروايات المنقولة عن مصادر الشيعة وأهل السُّنة حول المسائل المتعلقة ببطلان الجبر، والعقوبات الإلهيّة، تدل على اتفاق الجميع القطعي على مسألة العدل الإلهي، وأنّه كان مُرتَكزَ الإستدلالات، ومن جملتها (أنّ أحد أصحاب الإمام الصادق عليه السلام سأل الإمامَ عليه السلام وقال: أيجبر اللَّه عباده على أعمالهم؟ فاجابه الإمام عليه السلام:

«اللَّه أعدل من أن يجبر عبداً على فعلٍ ثم يعذّبه عليه» «4».

10- وفي حديثٍ نبوي منقول من مسند أحمد بن حنبل أنّه صلى الله عليه و آله قال: «من أذنب في الدنيا ذنباً فعوقب عليه فاللَّه أعدل من أن يُثنّي عقوبته على عبده» «5».

11- عن الإمام الرضا عليه السلام في توضيح «أمرٌ بين أمرين»، (نفي الجبر والتفويض)، في إجابته عن سؤال أحد أصحابه: هل فوّض اللَّه الأمور إلى عباده؟ فقال عليه السلام: «اللَّه أعزّ من ذلك» (أي أعزّ من أن يترك تدبير أمور العالَمِ أو عباده كُليّاً ويكله إليهم)، فسأله: فهل أجبرهم على المعاصي؟ فقال عليه السلام: «اللَّه أعدل وأحكم من ذلك»، (أي أنّ هذا العمل يتنافى نهائياً مع عدل اللَّه وحكمته) «6».

__________________________________________________

(1) بحارالانوار، ج 3، ص 306، الباب 13، ح 44.

(2) المعجم المفهرس لالفاظ الحديث النبوي، ج 4، ص 155.

(3) المصدر السابق، ص 152.

(4) بحارالأنوار، ج 5، ص 51، ح 83.

(5) مسند أحمد بن حنبل،

ج 1، ص 99.

(6) اصول الكافي، ج 1، ص 157، باب الجبر والقدر، ح 3.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 334

12- وأخيراً نختتم هذا البحث بمقتطفات من الأدعية المأثورة عن الأئمّة المعصومين عليهم السلام:

ورد في دعاءٍ يُقرأ بعد الفراغ من صلاة الليل: «وقد علمت يا إلهي أنّه ليس في نقمتك عجلة ولا في حكمك ظُلم، وإنّما يعجل من يخاف الفوت، وإنّما يحتاج إلى الظلم الضعيف، وقد تعاليت يا إلهي عن ذلك علوّاً كبيراً» «1».

إنّ الروايات والأحاديث الموجودة في هذا المجال كثيرة، وما نقلناه يُعدُّ مقتطفاً من نماذج هذه الروايات المختلفة.

6- أدلّة منكري العدل الإلهي

قُلنا فيما مضى: إنّ منكري مسألة العدل الالهي قد تعرّضوا لضغوط مسائل اخرى جرّتهم إلى سلوك هذا الطريق، وهي إجمالًا ما يلي:

1- إنكار المستقلّات العقليّة- إنّهم يقولون: إنّ العقل لا يميزبين الحسن والقبيح، بدون حكم الشرع، فالحسن والقبح، الصالح والطالح، الواجب وغير الواجب جميعها تُؤخَذُ من الشرع وتصلنا عن طريق الوحي، حتى الحكم بحسن العدالة وقبح الظلم، فلا شي ء يُدرَكُ عن طريق العقل!

2- الوجود بأكمله ملك للَّه- وهو حاكم وولي وصاحب كل شي ء، وبإمكانه أن يفعل في ملكه ما يشاء، ولا يحق لأحدٍ أن يسأله حول ذلك، وفعله عين العدالة حتى وإن عاقب المحسنين أو أثاب المسيئين.

يقول الشهرستاني في (الملل والنحل): كان ابوالحسن الأشعري يعتقد ويقول: (إنّ اللَّه غير ملزم بفعل شي ءٍ معينٍ يفرضه العقل، لا الصالح ولا الأصلح ولا اللطف .. ثم أضاف: إنّ

__________________________________________________

(1) مصباح المتهجد للشيخ الطوسي، ص 173 تعقيبات صلاة الليل.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 335

اللَّه غير ملزمٍ بأصل التكليف لأنّه لا ينفعه ولا يدفع عنه ضرراً، فهو بامكانه أن يُجازي عباده إمّا الثواب وإمّا العقاب، وبإمكانه أن يشملهم بعفوه،

وبأنواع الثواب والنعم من دون أي سبب، فلطفه تمام الفضل وعقابه وعذابه تمام العقل، لا يُسئل عمّا يفعل وهم يُسئلون) «1».

3- إنّهم يقولون: لا يُمكن وضع معيار ومقياس معين لأفعال اللَّه، وبتعبيرٍ آخر، لا تعني عدالة اللَّه التزامه بقوانين تدعى: (قوانين العدل)، بل تعني: أنّه تعالى عين العدل وما يفعله عين العدالة، فالعدل ليس بمقياسٍ لتشخيص فعل اللَّه، بل إنّ فعل اللَّه ميزان ومقياس للعدل:

فلو أدخل جميع جُناة العالم الجنّة فهو عين العدالة، وكذا لو ألقى جميع المحسنين، والطاهرين، والأئمّة، والأنبياء المعصومين في النار فهو عين العدالة أيضاً!

4- يعتقد الأشاعرة بأنّ الإنسان غير مخيّر أبداً في أعماله، وكل ما يفعله فإنّما هو بارادة اللَّه!

وعندما واجهوا هذا السؤال وهو: كيف يُمكن أن يُصدّق العقل بأنّ اللَّه يجبرنا على المعصية ثم يؤاخذنا عليها؟ حيث إنّ هذا أمرٌ يُنافي عدالته تعالى.

ومن أجل الرد على هذا الإشكال أنكروا مسألة العدل والظلم وقالوا: (كل ما يفعل فهو عين العدل، ولا يحق لأحدٍ أن يسأله عمّا يفعل).

5- يُمكن أن يكون اتجاه بعضهم إلى نظرية نفي العدالة ناتجاً عن وقوفهم حائرين أمامَ هذا السؤال الذي يرتبط بالمسائل المتعلقة بالمعاد، والعذاب، ومجازاة الكافرين، وهو: كيف يُمكن أن يخلد في نار الغضب الإلهي مَنْ أذنب وكفر وأشرك بربّه خمسين سنةً مثلًا؟ وكيف يتماشى هذا مع أصل العدل؟!

ولأنّه لم يكُن لديهم جواب على هذا السؤال فقد أنكروا أصل مسألة العدل.

6- إنّ شك البعض الآخر منهم في هذه المسألة ناشى ءٌ من مشاهدتهم بعض النقائص الظاهرية، من قبيل الآفات، والبلايا، والعواصف والزلازل، وحوادث اخرى من هذا القبيل، وكذا الأمراض، الاحباطات، وحالات الفشل في حياة البشر، ولأنّهم باتوا عاجزين عن تفسير هذه الأمور الفلسفيّة، فقد سلكوا طريق إنكار

العدالة.

__________________________________________________

(1) الملل والنحل، ص 102.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 336

كانت هذه مجموعة من الأمور التي تشكّل دوافع وأُسسَ مذهب منكري العدل في الماضي والحاضر.

نقد وتحليل

لنتطرّق الآن إلى نقد وتحليل هذه الإشكالات:

1- أمّا فيما يخصُّ الدليل الأول فقد تحدثنا بما فيه الكفاية عن كون إنكار العدل يقود إلى إنكار المستقلّات العقليّة، ويلزم أن نؤكّد من جديد بأنّ منكري الحسن والقبح، لا ينكرون هذا المعنى أبداً من الناحية العمليّة، فما يقولونه لا يتجاوز ألسنتهم وحواراتهم ونقاشاتهم، وأمّا لو وجّه أحدٌ صفعةً إلى أحد أطفالهم الصغار، أو أحْرقَ دارهم من دون مبرّر، لا ستقبحوا هذا العمل، ولما تردّدوا في التسليم بقبحه عن طريق تشخيص الوجدان، وسيحكمون قطعاً بوجوب معاقبة هذا الشخص، ولما صبروا أبداً لينظروا إلى كون قباحة هذا العمل وردت في آية أو رواية أمْ لا.

ولو أصابهم الجوع والعطش في الصحراء، وجاءهم أحدٌ بالماء أو الغذاء، أو حمل مريضهم على كتفه عدّة كيلومترات ليوصله إلى المستشفى، وينجيه من الموت المحتَّمِ، لما تردد أحدٌ منهم في حُسن هذا العمل والثناء على فاعله، ولما قالوا: أمهلونا لنرى فيما إذا كانت الروايات والآيات قد مدحته وشكرته ومجّدته أم لا!

ويوجد الكثير من قبيل هذه البحوث في المباحث العقلية وهو أن يتعرض أفراد مُعَيَّنون لضغوط مسائل جانبيّة فينكرون حقائق معينة بألسنتهم، في حين أنّهم يؤمنون بها تماماً من الناحية العمليّة (كالسوفسطائيين الذين ينكرون الوجود الخارجي لجميع الأشياء، لكنهم عملًا يجتنبون النار ويذهبون لتناول الماء عند العطش).

علاوةً على هذا فإنّ قبول المستقلّات العقليّة هو العمود الأساس في قبول نبوّة الأنبياء، وبدونها لا يمكن تصديق كلام أي نبي، ولما كانت معجزاتهم دليلًا على صدقهم، لأنّ بإنكار

نفحات القرآن، ج 4، ص: 337

المستقلّات العقليّة لا يُسْتبعْدُ احتمال افترائهم، وظهور المعجزات على

أَيدي دعاة الباطل.

2- إنّ مسألة مالكية اللَّه لجميع عالم الوجود وجميع ذرّات وجودنا ليست مطلباً خافياً على أحد، ولكن المالكيّة ليست دليلًا على صدور تصرّفات غير حكيمة منه، أي أنّ صفة المالكية تقترن بالحكمة، فلا يُمكن التصديق بأحدها وإنكار الاخرى.

من الممكن أن يدّخر شخصٌ أموالًا من أتعابه المشروعة خلال سنوات طويلة ويكون مالكها، لكنه لا يحق له أن يحرقها بأكملها، لأنّ العقل يحكم بقباحة هذا العمل، حتى وإن صدر من مالكه.

كذلك اللَّه الحكيم أيضاً، فلا يفعل مثل ذلك، كأن يُهلك كل ما في الوجود، أو يحرقه من دون سبب، أو كما قال الأشاعرة: يُلقي جميع الأنبياء والصالحين والطاهرين في أعماق نار جهنّم، ويدخل الأشقياء والأشرار في الجنان العُلى، فهذا العمل قبيح وينافي الحكمة، حتى وإن صدر من المالك.

إذن، فالمالكية ليسَتْ دليلًا على حسن جميع أفعال المالك، سواءً كان حقيقياً وتكوينياً أي اللَّه، أَمْ صوريّاً وظاهريّاً كالبشر.

إنَّ الأشاعرة يعتقدون بأنّه: لو آمنّا بكون اللَّه (فعّالًا لما يشاء) بسبب مالكيته، وكلامهم هذا يعني إلغاء لحكمة اللَّه.

ومن المسلمات أنّ الإله غير الحكيم ليس لأقواله اعتبار، ولا لوعوده ثقة، لأنّه من الممكن أن تكون أقواله فاقدة المحتوى، ومغايرة للواقع. «سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً».

3- إنّ قولهم: إنّ اللَّه فوق الحسن والقبح ولا يُمكن قياس أفعاله بهذه الضوابط- بل هو سبحانه المعيار والمحور في تعيين الضوابط- ليس إلّامغالطة ولا أكثر، وهو موضوع متناقض معروض بزيٍّ جميل، فهذا الكلام يخص القوانين التكوينية، وقد استُعمِلَ خطأً في مجال القوانين التشريعيّة.

ويجدر التوضيح في عدم وجود قوانين قبل الخلق والتكوين الإلهي، وبخلق الأشياء،

نفحات القرآن، ج 4، ص: 338

المقارن للنظام والحساب، ظهرت مسألة التقنين، فمثلًا قبل خلق المجرّات، لم يكن هناك قانون الجاذبية

لكي يستعمله اللَّه في خلقه، ولكن انبثق بعد خلق المجرّات، وبتعبيرٍ آخر: إنّ قانون الجاذبية خُلقَ بعد خلق المجرّات مباشرةً.

ويصدُق هذا الكلام بخصوص جميع قوانين عالم الخلق والتكوين.

أمّا بالنسبة إلى القوانين التشريعيّة، فالمسألة ذات طابعٍ آخر، لأنّ اللَّه عندما خلق الإنسان، الذي يُعد النموذج الأتم للخلق، لكي يسير في طريق التكامل، وأودع فيه جميع وسائل الوصول إلى الكمال، فمن المُسَلَّم لزوم تناسب قوانينه التشريعيّة مع هذا الهدف، أي أن تكون القوانين بشكل تسوق الإنسان نحو الكمال، وإلّا لتنافت مع حكمة اللَّه.

أفيمكن أن تتناقض وتتضاد أفعال الحكيم؟!

فالظلم سبب فساد وسقوط وتأخُّر العالم، والعدل سبب تكامله وارتقائه، وما اللَّه بظالم ولا بمخرّب قواعد تكامل الإنسان.

وبتعبيرٍ آخر فإنّ أفعال اللَّه التشريعيّة تنبع من أفعاله التكوينيّة، ومن هنا ينشأ الحسن والقبح بالضبط، لا أن يكون اللَّه خاضعاً لقانونٍ آخر، بل إنّ جميع القوانين الموجودة هي قوانينه في عالم الدين والشريعة متناغمة مع قوانينه في عالم الوجود، وإلّا لكان ناقضاً لقوانينه بذاته، وهذا ليس من فعل الحكيم.

وقول البعض: (إنّ اللَّه لا يخضع لحكم العقل، ولا يُمكن للعقل أن يفرض عليه شيئاً معيناً) يُعَدُّ مغالطة صبيانية، لأنّ وظيفة العقل هي الإدراك لا تعيين الوظيفة، أي التفكّر والفهم لا التقنين والتشريع.

فالعقل يقول: إنني أفهم أَنَّ الحكيم لا يفعل الأفعال المتناقضة والمتضادة، أفهم أَنّ اللَّه لا ينتقض وعده، وأفهم أنّ الموجود الكامل من جميع النواحي لا يظلم، أي لا يضع الشي ء في غير محلّه المناسب.

إنّ كل هذه الأمور هي من إدراك وفهم العقل، لا تعيين التكليف والوظيفة للَّه تعالى، لذا فكما يدرك العقل أَنّ 2+ 2/ 4، كذلك يدرك أَنّ الحكمة تتنافى مع نقض الغرض، فاللَّه

نفحات القرآن، ج 4، ص: 339

الحكيم الذي خلق

الوجود من أجل الصلاح والكمال لن يدفع به نحو الإنحطاط والفساد، فلم يقنّن العقل بأنّ 2+ 2/ 4، إنّما هو فقط من إدراكه.

وكذا الحال في مسائل الحسن والقبح التي تعود جذورها إلى المسائل التكوينيّة، فدور العقل فيها هو إدراك الحسن والقبح فقط لاالتقنين، (فتأمل).

ولا يخفى أنّ العقل يحاول إدراك الموجودات والمعدمات، الواجبات وغير الواجبات، وهو ذو بعد إرشادي، بالضبط كأوامر الطبيب، فعندما يُدرك الطبيب ضرر غذاءٍ ما للمريض يقول له: يجب عليك أن تتجنب تناول هذا الغذاء، فكلمة (يجب) هذه ليست قانوناً تترتب على تركه عقوبة معينة، بل هي مجرّد إرشاد وتوجيه لا غير، وإن لم يعمل ذلك المريض بموجبه فإنّه سوف لن يؤدّي سوى إلى ضرره (ولكن من الواضح أنّ أوامر العقل الإرشادية ليس لها علاقة بساحة القدس الإلهيّة).

وخلاصة الكلام هو أنّ دور العقل بالنسبة إلى الأفعال الإلهيّة هو فهم الحقائق، لا تعيين تكليف للَّه تعالى ليُقال: إنَّ اللَّه أكبر من أن تعيّن عقولنا له تلكيفاً معيناً.

4- يجب أن لا يَصير الاعتقاد بمسألة الجبر منشأً لإنكار العدالة والظلم- صحيح أنّ الأخطاء تؤدّي إلى أخطاء، اخرى دائماً، والزلات تصدر من زلات اخرى، ولكن ينبغي عدم الإصرار على الأخطاء بحيث يؤدّي إلى إنكار الواضحات.

لا ريب في أنّ مسألة (العدل الإلهي) أو (حسن العدل) و (قبح الظلم) أوضح من مسألة حريّة إرادة الإنسان، وعلى فرض عدم وضوح مسألة الجبر والتفويض بالنسبة للبعض فإنّها لا تكون دليلًا لإنكار مسألة العدل.

لقد واجه (الجبريّون) هذه المعضلة دائماً، وهي كيف يُمكن التصديق بأنّ اللَّه يجبر عباده على المعاصي ثم يؤاخذهم عليها؟ وهذا يتنافى مع عدالته!

هذا دليلٌ منطقيٌ واضح، لكن الجبريين وبدلًا من أن يقوموا بتصحيح آرائهم في مسألة الجبر، ذهبوا إلى إنكار

العدل الإلهي أو قالوا: كل ما يصدر منه عين العدل حتى معاقبة المجبرين.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 340

إنّ الصورة التي رسمها هؤلاء في أذهانهم عن اللَّه عجيبة ورهيبة حقاً، اللَّه الذي من الممكن أن يُلقي جميع الأنبياء، والمرسلين، والملائكة المقرّبين، والشهداء، والصديقين في قعر جهنّم، ويُدخل جميع الأشقياء والظالمين، وأشرار التاريخ البشري، والشياطين في أعلى عليين في الجنّة، اللَّه الذي يجبر جماعة على المعصية وجماعة اخرى على الطاعة، دون مبرّر، ثم يثيب المحسن ويعاقب المسي ء، والحال أنّه لا يوجد أي تفاوت بين حقيقة حالهم!

ومن المسلَّم به أنّ هذه الصورة القبيحة والموحشة تُبعّد الناس عن اللَّه وتغلق باب معرفة اللَّه، وستؤدّي إلى نشوء كل ألوان القبائح والمظالم في المجتمع البشري، وتُظهر الدين بمظهر الأفيون والفساد والفوضى، وتُسبب سوء الظن تجاه جميع عالم الوجود.

وخلاصة الكلام هو أنّ الإصرار على مسألة الجبر يجب ألّا يؤدّي إلى إنكار العدل، بل بالعكس، يجب أن يؤدّي إلى وضوح مسألة العدل الإلهي إلى تجديد نظر الجبريين في عقيدة الجبر.

وما أكثر المسائل البديهية الواضحة التي اختفت خلف حجب الإنكار بسبب الإصرار والعناد في إثبات بعض المسائل النظرية غير الواقعيّة.

5- ذكرنا سابقاً أنَّ إشكالات بحوث المعاد قد تؤدّي أحياناً إلى التشكيك في مسألة العدل الإلهي، فعندما يدور الكلام حول مسألة خلود جماعة من المذنبين في النار يُطرَحُ هذا السؤال: كم كان مجموع عمر هذه الجماعة؟ 50 سنة، 70 سنة، أو مائة سنة، فالعدالة تفرض تَساوي الذنب والعقوبة، فما معنى العذاب الأبدي مقابل هذا العمر القصير إذن؟

لكن وكما قُلنا يجب التفكير بأسلوب منطقي لحل المسائل في مثل هذه الإشكالات، وبالمناسبة فإنّ حل إشكال الخلود له طرق واضحة، لأنّ الإشكال أعلاه ينشأ من خطأ قياس العقوبات

الإلهيّة- التي هي نتيجة أعمال نفس الإنسان- مع العقوبات الوضعيّة.

ويجدر توضيح ما يبدو من الآيات والروايات والشواهد العقلية أنّ العقوبات الأخروية لها شَبهٌ كبير بالآثار الطبيعيّة لأعمال الإنسان الدنيوية، فمثلًا أنّ مَنْ يُفرط في تناول

نفحات القرآن، ج 4، ص: 341

المشروبات الكحولية يُصَبْ بقرحة المعدة، وضعف القلب والأعصاب، ويُمكن أن تُرافقه هذه الأمراض طيلة عمره أحياناً.

فلو قال أحدٌ الآن: أمِنَ العدل أن يُعاني مَنْ تعاطى المشروبات الكحولية شهراً واحداً مِنْ قرحة المعدة واضطراب القلب والأعصاب طيلة عمره!؟

في الرّد على ذلك يُقال له: هذا ما قدّمت يداه، وليست هذه الأمراض عقوبة وضعيّة، لاسيّما وأنّ هذا الشخص قد نُهي عن هذا العمل وذُكّرَ بهذه العواقب الإلهيّة.

فلو كان لهذا الشخص عمرٌ خالدٌ في دار الدنيا، لوجب أن يُعاني من هذه الأمراض إلى الأبد، دون أن يمسّ موضوعه مسألة العدل الإلهي (تأمل جيداً).

وكذا الحال بالنسبة إلى مسألة الخلود في النار، فأعمال الإنسان لا تمحى أبداً، بل تبقى وتترك آثاراً في جسمهِ وروحه أيضاً، وهذه الآثار سترافق الإنسان في جميع العوالِم، وسينال العذاب والاذى بسببها إن كانت طالحة، وسنتطرق إلى تفصيل هذه المسألة بصورة أكثر في بحوث المعاد إن شاء اللَّه تعالى.

6- إنَّ مشكلة حوادث الحياة الأليمة: كالآفات والبلايا والعواصف والزلازل والآلام والمتاعب وحالات الفشل والاحباط لا تتنافى مع أصل العدل، وتحتاج إلى توضيح نذكره أدناه:

إنّ لكلّ واحدة من هذه الأمور فلسفة تتضح بقليل من الدقّة، فعندها يُصدّق الإنسان بكون هذه الأمور في اتجاه العدل الإلهي لابعكسه.

ويُلاحظُ وجود مسائل في حياة الإنسان لا نجد لها تفسيراً واضحاً في بادي ء الأمر، وقد يتزلزل إيمان البعض بالعدل الإلهي أحياناً، أو باثبات وجود اللَّه أحياناً اخرى عندما يواجهون مثل هذه المسائل من دون

أن يبذلوا جهوداً لزيادة المطالعة أو التدقيق فيها.

وتُشير القرائن المختلفة إلى وجود هذا النوع من التفكير بين بعض الفلاسفة منذ قديم الزمان.

بل وكان موجوداً عند بعض الأدباء نوعاً ما أيضاً، وقد أنشد بعضهم أبياتاً من الشعر

نفحات القرآن، ج 4، ص: 342

العربي والفارسي في هذا الخصوص، ظهر من خلالها شكهم في هذه المسألة أو إنكارهم لها.

ويُمكن تلخيص الظواهر غير المحبذة بعدّة نقاط:

1- الفرق في القابليات: تختلف درجة الذكاء من إنسان لآخر، فمنهم من يتمتع بذكاء خارق، ومنهم ذو ذكاء متوسط، وبعضهم أقلّ مستوى من الطرفين، وهذا التفاوت موجودٌ أيضاً في القوى الجسمانية، وكذلك الحال بالنسبة لظاهر الناس، فمنهم القبيح، ومنهم الحسن، وهكذا التفاوت في اقتناء الثروات والأموال فهو موجودٌ أيضاً.

2- النقائص والعيوب: إنَّ أغلبية الناس يولدون سالمين، في حين يُعاني البعض من نقص عضوٍ معين، وهذا النقص يجعلُهُ يعيش في أزمةٍ نفسيةٍ حادّة طيلة حياته.

3- الإنكسارات والهزائم: إنّ الحياة الإنسانية مفعمة دائماً بأنواع المشاكل المُنهكة، كالأمراض، حالات الفشل، الاحباطات، وما شاكل ذلك، فكيف يرتضي عدل اللَّه أن يُعاني الأنسان من هذه الأمور، وتتحول حلاوة الحياة في فمه إلى حنظل؟

4- الحوادث المُّرة: تحدث في حياة الإنسان حوادث طبيعيّة مفجعة ينتج عنها هلاك الحرث والنسل، فَمَن الذي لم يسمع بدمار وضحايا الزلازل، والعواصف، وسنوات الجفاف والمجاعات؟ وعند حلول هكذا كوارث مُدمرّه يُطرَحُ هذا السؤال عادةً: أو لَمْ تكن جميع العوامل والأسباب الطبيعيّة منقادة لأمر اللَّه تعالى؟

وإذا كان كذلك ألمْ يكنْ الماء والهواء والنار من جنوده تعالى، ويُطيعون ما يأمرهم به؟ ألا تتنافى مثل هذه الأمور مع أصل العدل والحكمة الإلهيّة؟ إِنَّ الإجابة عن مسألة الحوادث المُرّة هي:

إنّنا نعترف بأنّ الإنسان المؤمن عندما يواجه مِنْ قَبيلِ هذه الأسئلة يقع

في ضيق، إلى الدرجة التي لا يَسلَمُ البعض من هذا المنزلق، وربّما يقع في هاوية الكفر والإنكار.

لكن الظريف في هذا الأمر هو أنّنا كُلّما تفكّرنا ودَرسْنا جوانب هذه المسألة أكثر، توصلنا إلى آفاقٍ أكثر وضوحاً.

بالضبط كالمسافرين الراكبين في القطار الذي يجتاز نفقاً مُظلماً حيث يتملكهم القلق

نفحات القرآن، ج 4، ص: 343

والإضطراب، ولكن بتقدم القطار إلى الأمام يلوح بصيص نورٍ شيئاً فشيئاً، ثم يتّسع مع استمرار التقدم، حتى يتلاشى ظلام النفق تماماً بخروج القطار.

وعلى أيّة حال هنالك جوابان إجماليّان في مقابل هذه الأسئلة المحيّرة، مال البعض إلى الجواب الأول، والبعض الأخر إلى الثاني، وجماعة إلى كليهما.

والمهم هو أنْ نعزّز الأجوبة بإيضاحات جديدة، والاستعانة بالآيات القرآنية أيضاً بشكل يتناسب مع البحث التفسيري.

الجواب الإجمالي المختصر

بمراجعة النقاط التالية نحصل على جواب واضح وقصير لجميع هذه الأسئلة، والذي يُمكن أن يُخرجنا من هذا المأزق:

لا ريب في كون ما نعلمه من المجهولات قليلًا جدّاً، وما نعلمه عن أسرار الخلق والوجود بالقياس إلى ما نجهله منها كقطرةٍ من بحرٍ عظيم.

هذه حقيقة اعترف بها جميع العلماء الإلهيين والمادييّن، لذا، فإنّ جميع وجهات نظرنا تجاه حوادث هذا العالَمِ تقع في حدود دائرة معلوماتنا وليست مُطلقة بتاتاً.

فإذا عجزنا عن معرفة أسرار هبوب العواصف، أو حدوث الزلازل فإننا لا نستطيع أن نتّهم مُسببّها بشي ء، فهل نحن متيقّنون من عدم وجود أثر إيجابي من الدمار الناشي ء عن العاصفة أو الزلزلة يطغى على سلبيات هذا الدمار؟

كُنّا في الماضي نُعِدُّ الكثير من المسائل من الآفات والبلايا، لكننا اليوم وفي ظل التطورات العلمية وكشف أسرار جديدة عن الكون نعتقد بفائدتها، فمثلًا كان الرأي السائد في السابق هو أنْ بكاء الأطفال المواليد لا ينجم إلّاعن ألمٍ أو أذى لا غَيْر، في

حين يُقال اليوم بأنّه لولا هذا البكاء لكان من المحتمل أن يفقد هذا المولود سلامته بالمرّة، وأنّ البكاء خير رياضةٍ لبدنه، فهو ينشّط الجهاز التنفّسي ويُسرّع جريان الدم في عروقه، ويُغذي جميع ألياف البدن، ويقوّي عضلات اليدين والرجلين والصدر والبطن، علاوةً على طرده الرطوبة

نفحات القرآن، ج 4، ص: 344

الزائدة الموجودة في دماغه والتي يُمكن أن تُحدث التهابات معينة فيه.

وما إلى ذلك من قبيل هذه النماذج.

ومن جهةٍ اخرى، إنّنا نقف على النظام الدقيق المدهش الحاكم على أغلب الموجودات، عندما ننظر إلى عالم الوجود، وقد ذكرنا شرحه بصورة تامّة في بحوث معرفه اللَّه، وليس لهذا النظام من تفسير سوى وجود عقلٍ كُلّيٍ وعلم غير محدود في ما وراءه.

علاوةً على ذلك، فإنّنا في البحوث المنطقية في مجال صفات اللَّه، توصّلْنا إلى أنّه تعالى لا يحتاج إلى أي أحد وهو بكل شي ء عليم، لذا فذاته المقدّسة منزّهة عن الظلم الناشي ء من الجهل والعجز، فما المبرر في أن يظلم أصغر عباده؟

إذن، إنّ ما نعتقد بكونه ظُلماً أو خلافاً للعدل ناجمٌ قطعاً عن محدوديّة اطلاعنا وعلمنا.

وبتعبيرٍ أوضح: كما يحتوي القرآن الكريم (كتاب التدوين) على آيات محكمات وأُخر متشابهات، أي أنّ أغلب الآيات مجملة لا تخلو من الإبهام لوحدها، فعلّمنا القرآن هنا اسلوباً منطقياً لحل ابهام واجمال المتشابهات، وأمرنا بالاستعانة بالمحكمات في تفسير وتحليل المتشابهات، وأمرنا بالمقارنة فيما بينها لدفع جميع الإشكالات.

وتوجد في (كتاب التكوين) أي عالم الكائنات- آيات محكمات كثيرة أيضاً، وهي النُّظم والقوانين المفيدة الحاكمة فيه، وإلى جنب هذه المحكمات يُلاحظُ وجود بعض المتشابهات كالزلازل والعواصف، التي تحدث أحياناً، وبغض النظر عن بعض المشوّهين للحقائق الذين يشكّلون نسبة ضئيلة بين الناس فانَّ الإنسان العاقل والمدرك يؤمن بأنَّ لهذه الآيات التكوينية

الواضحة مسائل وحسابات معينة، مع أنّنا نجهلها بسبب محدودية علمنا.

فلو أُعطينا كتاباً ضخماً (يحتوي على ألف صفحةٍ مثلًا) مليئاً بالعناوين البديعة، والبحوث الغنيّة، والحقائق القيّمة الواضحة، لكنّنا تحيّرنا في تفسير عدّة جُملٍ منه لأنَّ فيها شيئاً من الإبهام والإجمال، فهل من الصحيح أن ننفي علم ومعرفة ومنطق الكاتب بسبب بعض العبارات التي لا نُدرك تفسيرَها؟ بل بالعكس فبالنظر إلى كثرة المطالب العلمية في الكتاب سنعترف بعجزنا عن تفسير تلك العبارات المعدودة.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 345

إذا وجدنا عمارة عظيمة تجلّى فيها رونقُ الفن المعماري بكل أشكاله، وصادفنا جانباً صغيراً منها لم نستطع أن نفهم فلسفته، فهل نخطّي ء المعمار؟ أم أنفسنا؟ لا سيّما إذا عرفنا من القرائن الأُخرى مهارة معمار تلك البناية وكماله العلمي، وصفو وصدق نيّته أيضاً.

وخلاصة القول: هو أنّنا لو ألقينا نظرة على هذه الحوادث الخاصّة، بل ولو نظرنا إليها إلى جانب مجموعة نظام العالَم، وحَكَمْنا حُكماً شموليّاً لتوصلنا مجملًا إلى هذه النتيجة وهي:

إنّ هذه الأمور ذات أسرار خاصّة أيضاً، بالرغم من جهلنا، ويُحتمل انكشاف قسم منها بمرور الزمان وتطوّر العلم، كما انكشف قسمٌ منها لحد الآن، وفي نفس الوقت يُحتمل أن يبقى قسمٌ آخر منها مستوراً عنّا إلى الأبد، لكننا مع ذلك نعلم بأنّ في جميع هذه الأمور أسراراً خفيّة.

القرآن والجواب الإجمالي على مسألة الآفات والبلايا:

إنّ القرآن الكريم الذي يُري الطريق ويُعين في الوصول إلى المقصود في جميع المسائل الفكريّة، له إشارات كثيرة أيضاً في هذا المجال من جملتها:

1- قال تعالى في موضعٍ: «وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ العِلمِ إِلَّا قَلِيلًا». (الأسراء/ 85)

فاحذروا أن تحاولوا بعلمكم المحدود أن تُنظّروا في كُلّ شي ء، وتتصوروا بجهلكم بأسرار الحوادث عدم وجود تلك الأسرار.

2- بعد أن أشار تعالى في سورة النساء إلى قسمٍ من

الاختلافات التي قد تحدث بين الزوجَيْن، أمر الرجال بحسن معاملة النساء فقال: «فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكرَهُوا شَيئاً وَيَجعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيراً كَثِيراً». (النساء/ 19)

وقد ورد نفس هذا المفهوم بتعبيرٍ آخر، بالنسبة إلى الجهاد في سورة البقرة، كقوله تعالى:

«كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيئاً وَهُوَ خَيْرٌلَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَاتَعلَمُونَ». (البقرة/ 216)

نفحات القرآن، ج 4، ص: 346

مع أنّ الآية الاولى تخص المعاشرة الزوجيّة، والآية الثانية تخصُّ الجهاد المسلّح ضد العدو، لكن ما ورد في نهايتهما قانون كُلّيٌّ حيث يقول: إنّ محدودية علمكم في الكثير من الموارد تحول دون تمييزكم الخير والشّر، وعليه لا يُمكن النظر فقط إلى ظاهر الحوادث والقضاء بشأنها، فمن المسلَّمِ أن الحوادث البشريّة المُرّة تقع في دائرة هذا القانون الكلّي أيضاً.

3- إنّ قصة الخضر وموسى عليهما السلام التي وردت في سورة الكهف والتي تُعدُّ من القصص القرآنية الغنيّة الرامية إلى أهداف متعددة، تشير بوضوح إلى بحثنا، والتي يُمكن القول: إنّ أحد ألاهداف الأساسية من طرحها هو هذه المسألة وهي: عندما يصدر فعلٌ معينٌ من حكيم، يجب عدم الحكم بظاهره والقضاء بشأنه استناداً إلى ذلك، فما أكثر الحالات التي يبدو فيها ظاهر العمل قبيحاً، لكنّه يحتوي في باطنه على أسرار عميقة.

فمثلًا خرق سفينة المساكين المستضعفين التي كانت تشكّل مصدر عيشهم (رزقهم) المحدود، أو قتل الغلام الذي كان يبدو بريئاً ولم يرتكب جرماً وخيانةً ظاهراً، أو إقامة الجدار الذي أو شك على الانهيار بدون ثمن، في قرية البخلاء الذين أبْوا أن يضيّفوا (موسى وصاحبه عليهما السلام) كانت جميعها أعمالًا يُعد كلٌّ منها أقبح من الآخر.

ولهذا السبب كان موسى عليه السلام يعترض كُلّما

ارتكب الخضر عليه السلام أحد هذه الأعمال ويقول له: لِمَ فعلت هذا!؟

ففى الموقف الأول قال له: «أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهلَهَا لَقَد جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً». «1» (الكهف/ 71)

وفي الموقف الثاني استنكر قائلًا: «أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيرِ نَفسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً».

(الكهف/ 74)

وفي الموقف الثالث أراد مِنَ الخضر عليه السلام أن يتقاضى أجراً مقابل عمله «قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً». (الكهف/ 77)

__________________________________________________

(1) «إمر» على وزن «بِئْر» تُطلق على العمل المهم والعجيب، أو المبغوض والقبيح جدّاً.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 347

وكان يبدو لموسى عليه السلام أنَّ العمل الأول اتلاف مال الغير، والثاني اتلاف النفوس، والثالث اتلاف الحق الخاص.

ولكن عندما كشف (الخضر عليه السلام)، ذلك العالم الكبير الذي كان يُعَدُّ في هذه الواقعة بمنزلة استاذ ومعلّم لموسى عليه السلام، حجباً عن أسرار عمله تأسف موسى عليه السلام على استعجاله في القضاء بشأن تلك الأمور، لأنّه عرف أنّ من وراء ظاهر هذا العمل القبيح أسراراً خفيّة تعود بالمصلحة للمستضعفين في النهاية!

فخرق السفينة وإعابتها المؤقتة حال دون غصبها من قبل سلطانٍ جبّارٍ غاصبٍ كان يغصب جميع السفن السليمة.

وبقتل ذلك الشاب غير المؤمن والكافر الظالم (الذي كان مستحقّاً لمثل هذه العقوبة حسب القوانين الإلهيّة) قد خلّص أبويه المؤمنَيْن من الخطر.

وبترميمه ذلك الجدار الذي كان مُشرفاً على الإنهيار كان قد حفِظَ كنزاً لطفلَيْن يتيميْن، والذي كان يُعدُّ إرثاً خلّفه لهما أبوهما المؤمن ليستفيدا من أوان بلوغهما سنَّ الرشد.

كان الخضر عليه السلام إنساناً عاقلًا حكيماً ولكنه بالقياس إلى علم اللَّه وحكمته لا يُساوي شيئاً مذكوراً، وكانت أعماله في الظاهر بدرجة من القباحة بحيث لا يُمكن في بادي ء الأمر توجيهها بأي بيان، وكان هذا هو السبب في استنكار موسى واعتراضه عليها، لكن أسرارها

الإنسانية والمنطقيّة انكشفت تماماً بتوضيحٍ قصير ومختصر من قبل الخضر عليه السلام، واقتنع بها موسى عليه السلام بصورة تامّة.

يمكن الاستفادة من هذا البيان القرآني كقانون كُلّي، والإستنارة به لمعرفة حقائق الأمور الظاهرية التي قد نشاهدها أحياناً في عالم الوجود، واعتباره جواباً إجمالياً لنستيقن بالأسرار الخفية المحتمل وجودها من وراء هذه الظواهر.

4- وتُلاحظ إشارة اخرى إلى هذا الموضوع في قصّة قارون، ذلك الرجل الثري والأناني الظالم من بني اسرائيل، في الموضع الذي استعرض قارون يوماً ما كان يملكه من الثروات الطائلة والنفيسة (من الخيول والغلمان والإماء والمجوهرات الذهبية) أمام أنظار

نفحات القرآن، ج 4، ص: 348

بني اسرائيل، فدُهشَ جماعة من الأفراد ذوي النظرة الظاهرية، من هذا المشهد بحيث قالوا:

«يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِىَ قَارُونُ». (القصص/ 79)

ولكن في اليوم التالي الذي خُسفت فيه الأرض بقارون وأمواله وتبيّن بأنّ من وراء ذلك الجمال الظاهري قبحٌ باطني وعقوبة أليمة، قالوا مستوحشين: «لَوْلَا أَن مِّنَّ اللَّهُ عَلَينَا لَخَسَفَ بِنَا». (القصص/ 82)

علاوة على ما تحمله هذه القصّة من التجليات التربويّة فإنّها تُشير إلى هذه المسألة وهي: استحالة إمكانية القضاء بشأن أمرٍ معينٍ خيراً كان أو شرّاً على أساس ظواهر الأمور.

فأحياناً ما يراه الإنسان خيراً في الظاهر فانّه شرٌفي باطنه بحيث لو عرف نتائجه لولى منه فراراً. ومن قبيل هذه الحوادث تُعَدّ الأرضيّات المنطقية للجواب الإجمالي على الأسئلة المطروحة في داخل روح الإنسان.

5- في المسائل المتعلّقة بالوصيّة في القرآن الكريم، بعد أن أشار تعالى إلى إرث الطبقة الأولى (الأبناء والوالديْن) قال: «آبَائُكُمْ وَأَبْنَائُكُمْ لَاتَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقرَبُ لَكُم نَفعاً». (النساء/ 11)

مع كون الأب والأم والولد اقرب إلى الإنسان ممن سواهم، ويقضي أغلب سنين عمره معهم، إلّاأنّ القرآن يقول: أنتم لا تدرون أيّاً من آبائكم وأبنائكم

أقرب لكم نفعاً، وأيّهم صاحب الدور في حياتكم، لذا لم يوكل أمر تعيين حصّة الارث إليكم.

فالإنسان الذي لا تسمح له محدودية علمه في أن يحكم حكماً قطعياً في مثل هذه المسائل كيف يُمكنه أن يحكم سَلفاً على حدَثٍ ينتج عنه الألم في الظاهر بأنّها مسألة غير موزونة في عالم الخلق؟

خلاصة الكلام هو أنّ الأدلّة العقلية بل والآيات القرآنيه أيضاً تدل بوضوح على هذا الجواب الإجمالي الكلّي حول الأسئلة المطروحة أعلاه، وعلى الأقل إنّها قد منعت الإنسان من القضاء القطعي بشأن الأمور، وحثّته على التريُّث والتفكُّر بصورة أكثر.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 349

الحوادث الأليمة في الروايات الإسلامية:

وردت في المصادر الإسلاميّة روايات كثيرة عن المعصومين عليهم السلام حول بحث الرضا والتسليم، وبالرغم من كونها تُشير إلى بحثٍ أخلاقيّ واسع، فهي تحتوي أيضاً على أشارات حول بحثنا، ومن جملتها ماروي عن الإمام علي عليه السلام أنّه قال: «إنّ اللَّه سبحانه وتعالى يُجري الأمور على ما يقتضيه لا على ما ترتضيه» «1».

أي لا تقلقوا من كون الشي ء خلافاً لرغبتكم ورضاكم، فهنالك أسرار ومصالح لا تعلمون بها.

وفي حديثٍ آخر عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «إنّ أعلم الناس باللَّه أرضاهم بقضاء اللَّه» «2».

أجَلْ، إنّ الذي يؤمن بعلم اللَّه وحكمته ولطفه ورحمته وإحاطته بهذه الأمور، على يقين بأنّ (كل ما يأتي منه خير) ولو أنّه لم يدرك أسرارها بدقّة.

وفي حديثٍ آخر عن أميرالمؤمنين علي عليه السلام: «أجدر الأشياء بصدق الإيمان الرضا والتسليم» «3».

أي أنّ أوضح أثرٍ على صدق الإيمان بعلم اللَّه وحكمته ورحمته هو التسليم لإرادته التكوينيّة والتشريعيّة. لا تسليماً عن كراهة، بل عن رضىً، لأنّ المُسلم يعلم بأنّ كل ما يصدر من اللَّه تعالى يحتوي في طيّاته على حكمة خفيّة.

تحذير!!

طبعاً إنّ هذا الكلام لا يعني أبداً أن نحتسب مصائبنا وعدم الموفقيه والفشل و ... التي تحصل بما كسبت أيدينا، على القضاء الإلهي ونُسلّم ونرضى بها.

__________________________________________________

(1) غرر الحكم، الفصل 9، الحكمة 56.

(2) بحار الأنوار، ج 68، ص 144، ح 42.

(3) غرر الحكم.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 350

ولا يعني أيضاً أن نتقاعس عن التصدّي للآفات والحوادث والمشاكل، لأنّ بروز هذه الحوادث ناتج من أعمالنا وتعود نتائجها علينا في هذه الحالة، ولا يُمكن احتسابها على الإرادة الإلهيّة، لأنّه إن أوجد الألم فهو قد خلق العلاج أيضاً.

فإذا قصّرنا في مثل هذه الحالات فإننا ليس

لم نبلغ مقام الرضا والتسليم فقط، بل نتحمل مسؤولية أمام اللَّه سبحانه وتعالى، لأننا بتقصيرنا نكون قد ألقينا بأنفسنا في التهلكة، وسيأتي شرح مفصل بخصوص هذا الكلام في بحث الرضا والتسليم إن شاءاللَّه تعالى.

الجواب التفصيلي عن الحوادث الأليمة

1- فلسفة التفاوت

غالباً ما يُشتبه بين (التفاوت) و (التبعيض) ويأخذ الثاني الذي له صفة سلبية مكان الأول الذي له صفة إيجابية في الكثير من المواقع.

ولزيادة التوضيح: يُقصد من (التبعيض) هو أن نُفرّقَ بين موجودين يحملان نفس الشروط تماماً، مثلًا أن نُعطي أحد العامليْن اللذيْن أنجزا عملًا متشابهاً أجراً ضعف أجر الآخر، أو نعاقب أحدهما نصف عقوبة الآخر إذا ارتكبا عملًا قبيحاً، وهما يحملان نفس الشروط أيضاً، أو أن نعفو عن أحدهما تماماً ونعاقب الآخر أشَدّ العقاب.

ولكن إذا كانت الأعمال الإيجابية والسلبية متفاوته مع بعضها أو اختلف الفاعلون عن بعضهم، لكان التفريق فيما بينهم عين العدالة.

هذا من حيث الثواب والعقاب، أمّا من حيث الخلق والتكوين فإنّ عالم الخلق مجموعة من الموجودات المتفاوتة تماماً، لأنّ لكلٍ منها وظيفتها الخاصّة، ويلزم تناغم الخلق والوسائل والإستعدادات معها.

ومن خلال نظرة إلى أعضاء بدن الإنسان نُشاهد أنّ بعض خلايا البدن بدرجة من الظرافة بحيث يختل نظامها لأقل ضربة، أو حتّى هبوب نسيم معين، أو انبعاث نور شديد،

نفحات القرآن، ج 4، ص: 351

(كشبكيّة العين) لذا نجد أنّها موضوعة في محفظة قوية جدّاً لكي تكون بعيدة تماماً عن ساحة الحوادث، وهذه الخلقة اللطيفة والظريفة جدّاً، إنّما هي بسبب الواجب الحسّاس جدّاً الملقى على عاتقها وهو (التصوير المستمر للمشاهد المختلفة من مسافات بعيدة وقريبة وفي أجواء متفاوتة).

وهنالك خلايا صلبة ومحكمة ومقاومة جدّاً، كخلايا عظام كعب القدم، أو عظام الساق التي علاوةً على تحمّلها جميع وزن البدن، يجب أن تكون مُقاومة للضربات

القوية والصدمات.

فلا يُمكن إذن لأي عاقل أن يعترض على تفاوت بُنية هذيْن العضويْن؟ أو يعترض على عدم خلق جميع خلايا البدن بنفس ظرافة خلايا شبكيّة العين، أو بنفس صلابة خلايا الساق، أو القدم، أو بنفس سُمك جلد كعب القدم؟

ويُمكن إجراء نفس هذه الحسابات بخصوص أعضاء شجرة أزهار صغيرة مع شجرة كبيرة ابتداءً من جذورها القويّة، إلى سيقانها، وأغصانها الصغيرة والكبيرة، وبالتالي أوراقها مع أوراق الأزهار والشعيرات الصغيرة الدقيقة الموجودة في داخل كُلّ زهرة.

ولو أمعنّا النظر جيّداً لوجدنا أنّ أقسام المجتمع البشري تشبه تماماً أعضاء بدن الإنسان أو شجيرة أزهار صغيرة وشجرة كبيرة.

فصنع النظام الأحسن يفرض وجود التفاوت في استعدادات وأذواق أفراد المجتمع وبنائهم الروحاني والجسماني، ليتناسب كُلُّ واحدٍ منهم مع الواجب الذي يُلقيه نظام الخلق على عاتقه ويتمكّن منه، وإلّا لتبعثر كُلّ شي ء، ولما كان هنالك نظامٌ أحسن، ولصار الوجود كالشجرة التي جميعها جذور أو سيقان أو أوراق فقط، ومن قبيل هذه الشجرة لا تستطيع أن تواصل الحياة لأكثر من فترة قصيرة، وإن كانت قادرة فلا فائدة منها.

فلا يُمكن أن يتساوى تركيب وجود الأم، التي يجب أن تكون كتلة من العواطف لتقوى على تحمل كل مشقّات حفظ وتربية الأولاد، مع تركيب وجود الأب، الذي يجب أن يُمارس عمله دائماً في قلب المجتمع، لأنّ العكس معناه إمّا تلاشي دور الأمومة أو تعطيل دور الأبّوة.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 352

وكذا لا يُمكن أن يتساوى تركيب أعصاب جرّاح للقلب مع اعصاب شاعرٍ دقيق النظر، أو عالمٍ في الرياضيات مع مهندسٍ زراعي، أو كلاهما مع عامل صناعاتٍ ثقيلة، وهؤلاء الثلاثة مع جندي أو ضابطٍ عسكري، وهؤلاء الأربعة مع قاضٍ مُعيَّنْ، لأنّ لكل واحدٍ منهم وظيفته الخاصّة في المجتمع وله ذوق

واستعداد وبناء جسماني روحاني خاص مناسب لذلك.

وهذا المطلب بدرجة من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى زيادة في التوضيح، وبالأساس أنّ من إحدى دلائل عظمة اللَّه هي هذا التقسيم الدقيق للأذواق والاستعدادت التي تُشكّل جميعها مجموعة متعادلة ومتوازنة كلٌّ في محله الخاص!

وخلاصة الكلام هي أنّ البشر ليس كالأواني المتشابهة التي تُصنع في معملٍ واحد، ولجميعها فائدة واحدة، فلو كان كذلك لما استطاعوا العيش مع بعضهم حتى يوماً واحداً، فالمهم في حياة البشر وجميع عالم الخلق هو العدالة لا المساواة، ووضع كل شي ءٍ في محلّه لا التشابه.

وللقرآن الكريم إشارات غنيّة في هذا المجال، حيث قال في موضعٍ: «وَرَفَعنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيّاً». (الزخرف/ 32)

«سُخريّاً»: مشتقة من مادّة (تسْخير)، ومفهوم الآية هو: إنّ تفاوت درجات الناس تؤدّي إلى تسخير بعضهم بعضاً، أو تدفع بهم إلى التعاون المتقابل، فالمريض مُسَخّرٌ للطبيب والطبيب مُسخّر للمعمار في حوائج اخرىْ، أو الفلاح مسخّر للتاجر، لأنّ لكل واحدٍ منهم أفضليّة على الآخر من جهة معينة، وهذه بذاتها تُوجِد (الخدمات المتقابلة) أو (التسخير) وفق التعبير القرآني.

وقد اتفق أغلب المفسّرين الإسلاميين من الشيعة والسُّنة على تفسير الآية بهذا الشكل، أي كون المقصود من (سُخريّاً) هنا هو التسخير في الخدمات المتقابلة «1».

__________________________________________________

(1) تفسير مجمع البيان، ج 9، ص 46؛ تفسير الميزان، ج 18، ص 104؛ القرطبي، ج 9، ص 5903؛ تفسير الكبير، ج 27، ص 209؛ تفسير روح المعاني، ج 25، ص 72؛ تفسير المراغي، ج 25، ص 85.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 353

والقول بأنّ المقصود من (سُخريّاً) هو (الإستهزاء) احتمالٌ ضعيفٌ جدّاً طُرح في بعض التفاسير بعنوان رأي غير مقبول.

ونُلاحظ في موضعٍ آخر: «وَرَفَعَ بَعضَكُم فَوقَ بَعضٍ دَرَجاتٍ لِّيَبلُوَكُم فِى

مَا آتَاكُمْ». (الأنعام/ 165)

ونظراً إلى عدم كون هدف الإمتحان الإلهي معرفة حقيقة الأشخاص واكتشاف الأمور الخفيّة، لأنّ اللَّه محيط بكل شي ءٍ علماً، بل المقصود منه تربية البشر في البلاء والإمتحان ليخلُصوا ويقوى تحملهم، وبتعبيرٍ آخر: إنّه وسيلة لتكاملهم، لذا فالآية تقول: إنَّ هذا سبب التكامل (المادي والمعنوي).

وهناك نموذجٌ آخر: هو ما جاء في الآيات التي تُشير إلى تفاوت واختلاف نصيب الناس من الأرزاق، فغالباً ما يَسأل بعض الأفراد: لِمَ هذا غنيٌّ وذاك فقير؟ والقرآن يُجيب عن هذا السؤال بصورة إجمالية من خلال الآيات المختلفة ويقول: إنّ تقسيم الرزق بين العباد يجري وفق حسابٍ دقيق وبرنامج منظّم مفعم بالأسرار، ولو أنّ الناس لا يعلمونه، كما ورد في سورة الإسراء: «إِنَّ رَبَّكَ يَبسُطُ الرِّزقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقدِرُ إِنَّه كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً».

(الاسراء/ 30)

طبعاً يجب عدم خلط التفاوت الإلهي الواقعي والطبيعي مع التفاوت الوضعي الناشى ء عن الإستثمار والاستعمار، واحتسابها جميعاً على إرادة اللَّه، فالمسألة تتخذ طابعاً آخر في هذه الحالة وتخرج بشكل تفسيرٍ انحرافي وتؤدّي إلى التخلُّف الأقتصادي والاجتماعي، والقرآن مخالف جدّاً للنوع الثاني، بل ويُحاربه أيضاً.

ويُلاحظ في الروايات الإسلامية وجود إشارت غنيّة بشأن هذا المطلب، كقول علي عليه السلام:

«لا يزال الناس بخير ما تفاوتوا فإذا استووا هلكوا» «1».

__________________________________________________

(1) منتهى الأمال، ج 2، ص 229.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 354

2- المشاكل هي من صنع الإنسان!

اشارة

يُصاب الإنسان في حياته بمصائب كثيرة هي بالواقع من صنعه هو، ولكن الكثير من الأفراد ولأجل تبرئة أنفسهم، والتغاضي عن تقصيرهم، واهمالهم اللذين ينتج عنهما حدوث المشاكل، نراهم يحتسبونها على قضاء اللَّه وقدره، ويوجهون التقصير إلى المشيئة الإلهيّة، وبعدها يشكّكون في عدالة اللَّه أحياناً، في حين أنّنا لو دقّقنا جيّداً لوجدنا أنّ الكثير من الحوادث

الأليمة، والفشل، والمصائب التي يعاني منها الناس، هي بما كسبت أيديهم، وأنّ الفرد أو المجتمع هو العامل الأصلي والمقصّر الحقيقي فيها، مع أنّهم يُبرّئون أنفسهم ظاهرياً.

والمصائب التي تصيب الناس بسبب تعسّف الحكومات الظالمة والمستبدة، هي من هذا القبيل عادةً، لأنّ الظلمة والجبابرة افرادٌ معدودون، وسكوت الناس حيال جرائمهم البشعة وتعاون بعض الناس معهم هو السبب الذي يكسبهم القدرة والقوّة للتسلُّط على رقاب الناس، وخلق المشاكل الكثيرة لهم.

والكثير من الأمراض مَنشأُها هوى النفس، والكثير من الاحباط وحالات الفشل تنبع من ترك المطالعة والإستشارة المطلوبة، وعاملها الأساسي أنانية واستبداد الإنسان برأيه.

وسبب الكثير من حالات الفشل التقاعس وترك الجهاد والسعي.

وكانت الفوضى دائماً سبب الفاقة والاختلاف، والفرقة سبب المصيبة والبلاء.

والعجب هو أنّ كثيراً من الناس نَسُوا علاقة العلّة بالمعلول واحتسبوا جميع الأمور على الخالق!

علاوةً على هذا فإنّ من المصائب التي تلاحظ في المجتمعات البشريّة ناتجة من ظلمهم لبعضهم، أو ظلم جماعةٍ لجماعةٍ اخرى، فمثلًا إذا سمعنا بأنّ هنالك خمسين مليون انسان تقريباً في عصرنا الحاضر يموتون جوعاً، أو بإصابة أكثر من هذا العدد بأنواع الأمراض بسبب سوء التغذية، فإنّه لا يعني بأنّ سببه هو أنّ اللَّه قد حرمهم من لطفه، بل سببه هو سوء استغلال جماعة اخرى من أبناء الدنيا للحرية الإلهيّة، وقيامهم بغصب حقوق الآخرين.

فصار استعمار واستثمار هذه الجماعة.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 355

إنّ الأمراض والموت الناشي ء من الجوع، يحصل في الوقت الذي تلقي الكثير من الدول الثريّة- الغافلة عن ذكر اللَّه- كثيراً من المواد الغذائيّة في البحر، أو يلقونها في المزابل، ويُعانون من أنواع الأمراض الناشئة من الإفراط في الشبع.

وكذا إذا رأينا أنّ أطفالًا يُعانون من أمراضٍ أو نقص أعضاء معينة بسبب ذنوب آبائهم وأمهاتهم الذين أسرفوا

في تناول المشروبات الكحولية أو سوء التغذية وما شاكل ذلك، فهو ظُلمٌ صادرٌ من آباء أو أمهات هؤلاء الأطفال أو مسؤولي مجتمعهم بحقّهم، وبالضبط كأن يأخُذ أبٌ خنجراً ويفقأ به عين طفله الرضيع، أو كذبح الأطفال من قبل الجبابرة كفرعون مثلًا.

حينئذٍ لا يُمكن احتساب أي عملٍ من هذه الأعمال على فعل اللَّه، بل جميعها ممّا كسبت يد الإنسان ذاته، والتي أعدّها الإنسان لنفسه أو للآخرين.

القرآن والمصائب الذاتية الصنع:

1- يُلاحَظُ وجود آيات قرآنية كثيرة توضح بصراحة علاقة قسم عظيم من المصائب بأعمال الإنسان السيئة، إلى الحدّ الذي يُلاحظ فيه أنّ تعبير بعض الآيات جاء بصيغةٍ عموميّة تشمل جميع المصائب: قال تعالى: «مَّا أَصَابَكَ مِن حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِئَةٍ فَمِن نَّفسِكَ». (النساء/ 79)

والظريف هو أنّ المخاطب في هذه الآية هو شخص الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله، لتأكيد وبيان أهميّة الموضوع، فعندما يكون الرسول صلى الله عليه و آله مُخاطباً بهكذا أسلوب يتضّح أنّ التكليف واقعٌ على الأخرين حتماً، وإلّا فمن المعلوم أن الرسول الأكرم محمّد صلى الله عليه و آله لا يفعل فعلًا يُوْدي إلى ابتلائه بمصيبةٍ من نفسه.

ونَسْب (الحسنات) إلى اللَّه إنّما هو لأنّ اللَّه قد وضع جميع إمكاناتها تحت تصرُّف الإنسان، ونَسْب (السيئات) إلى الإنسان إنّما هو لأنّها تحرف هذه الإمكانات عن الأهداف

نفحات القرآن، ج 4، ص: 356

التي خلقها اللَّه لأجلها، وإلّا فمن حيث كونه مسبّب الأسباب يُمكن نَسْبُها إليه جميعاً.

ولعل هذا هو السبب في نَسْب بعض الآيات القرآنية جميع الأعمال إلى اللَّه، لذا فإنّ التفاوت الموجود انّما هو بسبب تفاوت جهات البحث وزوايا النظر، (تأمل جيداً).

ولا يُمكن إنكار كون الكثير من الحوادث الأليمة الموجودة في حياة الإنسان من صنع نفس

الإنسان، فمثلًا إنَّ سبب الكثير من الأمراض هو عدم الاهتمام بأصول الصحّة وقواعدها، أو الإفراط في تناول الغذاء إلى حد التخمة، أو عدم التدقيق في النظافة، أو الإنزواء وعدم التحُّرك، أو عدم الإحتراز من المناطق الملوثة أو الأفراد الملوثين. ولو راعى الإنسان الأسُس والقوانين التي وضعها اللَّه في عالم الخلق والتكوين لما أُصيب بها.

ولكن مع هذا لايُمكن انكار كون قسم من الأمراض التي تُصيب الناس ذات عوامل خارجة عن قدرتهم، كالتغيُّر المفاجي ء في حالات الطقس التي تحصل خلافاً لمقتضى طبيعة الفصل، فيُصابُ البعض بمختلف الأمراض.

ويُمكن ملاحظة نفس هذا التقسيم بخصوص بقيّة المصائب والحوادث الاخرى، لذا فإنّنا نقول: بالرغم من كون صيغة الآية الآنفة الذكر عامّة لكن مقصودها الأصلي أغلب الموارد.

ولأنّ (الفخر الرازي) لم يستطع حل هذه المعضلة، فقد فسّر (السيئة) الواردة في الآية بمعنى (المعصية) في الوقت الذي نجد بأنه معنىً غير متزّن جدّاً، لأنّ مفهوم الآية سيصير كالتالي (ما أصابك من معصيةٍ فمن نفسك)، وهذا الشي ء من قبيل توضيح الواضحات، وعليه فإنّ تعبير (سيئة) له مفهوم عام.

2- وفي موضعٍ آخر اعتبر الفساد الذي يظهر في البر والبحر كنتيجة لأعمال الناس، حيث قال: «ظَهَرَ الفَسَادُ فِى البَرِّ وَالبَحرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيدِى النَّاسِ». (الروم/ 41)

ونظراً لكون الفساد المذكور في الآية معرّف بألف لام التعريف ويفيد العموم، فإنّه يدل على كون الفساد الذي يظهر في البر والبحر من صُنع الإنسان، وتشير إلى المفاسد الاجتماعية.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 357

ويُضيف قائلًا في تكملة الآية: «لِيُذِيقَهُم بَعضَ الَّذِى عَمِلُوا لَعَلَّهُم يَرجِعُونَ».

اعتقد بعض المفسرين بأنّ هذه الآية تُشير إلى العقوبات والمجازاة الإلهيّة التي تصيب الناس بسبب (أعمالهم السيئة)، ولكن يبدو أن صدر الآية يُشير إلى وجود نوع من الرابطة التكوينيّة

فيما بين (الفساد) و (الذنب)، وذيل الآية يُصدّق هذا المعنى أيضاً، لأنّه لم تُذكر كلمة (عقوبة) فيها، بل: «لِيُذِيقَهُم بَعضَ الَّذِى عَمِلُوا» لا (جزاء الذي عملوا)، ويُمكن أن يكون سبب استعمال كلمة «بعض» هو إبطال اللَّه مفعول بعض هذه النتائج الطبيعيّة بلطفه ورحمته.

وعلى أيّة حال فإنّ الآية أعلاه تدلّ على أنّ المفاسد الاجتماعية: كانعدام الأمن، الحروب، تسلُّط الظالمين، ابتلاء المظلومين، وأمثال ذلك وليدة عمل الإنسان نفسه، ويجب أن لا تُحتَسب أبداً على الخالق ويُشكّك بالعدل الإلهي بسببها. (تأمل جيّداً).

3- يُفهم من آيات أُخرى أن سبب تغيّر النعم الإلهيّة هو تغيُّر أحوال الناس، حيث قال تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لَايُغَيِّرُ مَا بِقَومٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم». (الرعد/ 11)

وقد بين نفس هذا المطلب في موضعٍ آخر مستعملًا كلمة (النعمة) بصريح العبارة، حيث قال تعالى: «ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَم يكُ مُغيِّراً نِّعمَةً أَنعَمَهَا عَلَى قَومٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم». (الأنفال/ 53)

وبتعبيرٍ آخر أوضح: إنّ الفيض والرحمة الإلهيّة عامّة وواسعة، لكنها تُقسَّمُ بين الناس وفق الإستعدادت والاستحقاقات، فإن استفادوا من النعم بصورة صحيحة كانت دائمية أبديّة، وإن صارت وسيلةً للطغيان والظلم والجور والغرور والكفر، فلا ريب في أنّها تكون بلاءً، وهذا تأكيدٌ على أنَّ الكثير من المصائب التي تصيب الإنسان هي مِمّا كسبت يداه.

4- وفي موردٍ آخر، وضمن الإشارة إلى ضيق صدور الناس، أشارت الآية التالية إشارةً لطيفة إلى العلاقة بين (المصائب) و (أعمال الناس).

قال تعالى: «وَإِذَا أَذقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيدِيهِمْ إِذَا هُم يَقنَطُونَ». (الروم/ 36)

نفحات القرآن، ج 4، ص: 358

إنّ أكثر المفسّرين اعتقدوا بأنّ مثل هذه الآيات تُشير إلى العذاب الإلهيّ، ولكن يبدو من ظاهر الآيات أنّ المصائب ناتجة عن أعمال الإنسان

نفسه، وبتعبيرٍ آخر ذُكرت الأعمال بعنوان (سبب)، والمصائب بعنوان (مُسبّب).

وإن حصلت هنا عقوبة معينة فهي كأثر طبيعي للعمل، وانعكاس عن أفعال وتصرُّفات الناس، ولا يوجد دليل واضح على تأويل كلمة العقوبة والعذاب في جميع هذه الموارد، كما ورد ذلك في كلام أغلب المفسّرين.

3- مصائب العقوبات الإلهيّة

إنّ البعض الآخر من المصائب التي تُصيب الإنسان عبارة عن عقوبات إلهيّة تصدرُ منه تعالى وفق استحقاق الأفراد، وهي تخص الأفراد الذين ارتكبوا ذنوباً إما كثيرةً وكبيرةً جدّاً، بحيث تستوجب العذاب الدنيوي والعذاب الأخروي، وإمّا طفيفة بحيث تُمحى بالعذاب الدنيوي فقط، وهو بالواقع نوع من اللطف الإلهي بحق هؤلاء الأفراد.

ويُحتمل أن تكون هناك فاصلة زمنية بين (الذنب) و (العقوبة) لكن العلاقة محفوظة، وأحياناً أُخرى تنزل العقوبة مباشرة ويكون الحساب سريعاً.

وتفاوت هذا البحث عن البحث السابق هو أننا تحدّثنا في البحث السابق عن الأثر الطبيعي للأعمال، وفي هذا البحث عن العقوبة الإلهيّة.

وعلى أيّة حال فإنّه لا يُمكن للمؤمنين والمعتقدين بالعدل الإلهي إنكار وجود هذه المسألة، وهي تحقُّق العقوبة الإلهيّة الدنيويّة بحق فئة معينة على الأقل، ولكن يُمكن أن تكون تلك المصيبة بالنسبة للذين يجهلون سببها عجيبة وأليمة.

وصفحات التاريخ تُخبر عن حال الذين ارتكبوا جنايات فجيعة عند الاقتدار، وكان مصيرهم أنْ هلكوا بعقوبات أليمة ومصائب موجعة، بحيث لا يكفي كتاب أو عدّة كتب لذكرها بالتفصيل.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 359

وغالباً ما رأينا بأمّ أعيُننا في حياتنا اليوميّة نماذج من هذه المسألة بحيث لا يبقى لنا مجال للشّك في وجود هذه العلاقة والآصرة بصورة إجمالية.

والقرآن المجيد أيضاً علاوةً على إشارته إلى هذه المسألة كأصل كُلّي، فقد وضع إصبعاً على مواضع خاصّة أيضاً، وأشار إلى الأقوام الذين ذاقوا أشدّ العذاب كعقوبة دنيويّة، وإليكم أدناه نماذج من

كلا القسمين:

1- «وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَريَةً كَانَت آمِنَةً مُّطمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الجُوعِ وَالخَوفِ بِمَا كَانُوا يَصنَعُونَ». (النحل/ 112)

إنَّ هذه الحادثة سواء كانت تُشير إلى مصير جماعة من بني إسرائيل، أو الى قوم سبأ، أو كانت مثلًا عامّاً- وردت كل من هذه الاحتمالات في كلام المفسّرين- فإنّها شاهدٌ حي على موضوع بحثنا، وتوضح وجود العلاقة فيما بين الذنب وقسم من المصائب.

فلو دخل جماعة مدينةً معينة أثناء إصابتها بالقحط، والخوف، والبلاء، دون أن يعرفوا ماضيها، لكان من الممكن أن يتعجبّوا، ويستوحشوا، ويسألوا أنفسهم قائلين: كيف يُمكن أن تتناسب كل هذه التعاسة والبلاء مع عدالة اللَّه سبحانه!؟

ولكنهم عندما يطّلعون على ماضيها يُقرّون بعدالة الجزاء، وأحياناً يرونَهُ أقل من الإستحقاق.

2- بخصوص (فئات) من الأمم السابقة أُصيبت كل فئةٍ منها بعقوبة معينة بسبب ما ارتكبت من الذنوب.

قال تعالى: «فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنهُمْ مَّن أَرْسَلنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهم مَّن أَخَذَتْهُ الصَّيحَةُ وَمِنْهُمْ مَّن خَسَفْنا بِهِ الأَرضَ وَمِنهُم مَّن أَغْرَقنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُم يَظْلِمُونَ». (العنكبوت/ 40)

ووِفقاً لهذه السنّة فقد أصاب قومَ عادٍ حاصبٌ هدّم منازلهم، وهلكَ قومُ ثمود بالصاعقة، وخسفت الأرض بقارون، وغرِقَ فرعون ووزيره هامان في البحر، فإنّ هذا البلاء المتنوع لا يُنافي أصل العدل الإلهي فقط، بل يعتبر عين العدالة لأنّ الجميع كانوا مستحقّين لذلك.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 360

وقد نقلت بعض التفاسير قصّة لطيفة في تفسير ذيل الآية (90/ يونس) بخصوص فرعون تُعدُّ شاهداً حيّاً على موضوع بحثنا، وهي: دخل جبرائيل عليه السلام على فرعون ذات يومٍ بهيئة إنسان واشتكى إليه قائلًا: يا صاحب الجلالة! كان لي غلامٌ على سائر عبيدي، وسلّمته مفاتح كنوزي، فعاداني وعادى

من يُحبّني وأحبَّ أعدائي، وقربّهم إليه، فاقض أنت بشأنه وعيّن عقوبته!

فقال فرعون: لو كان هذا غُلامي لأغرقته في البحر!

فقال جبرئيل عليه السلام: اكتب لي هذا الأمر (الحكم) يا صاحب الجلالة (لكي استفيد من خطّك)، فأمر فرعون باحضار دواةٍ وقلم وورقٍ فكتب: (إنني أحكم على العبد الذي يتمرّد على مولاه ويكفر بأنعُمِهِ بأن يُقتلَ غرقاً).

(انتهت هذه الحادثة) وعندما أوشك فرعون وجنوده على الغرق في البحر، ظهر إليه جبرئيل وأراه خَطّهُ وقال له: «هذا ما حكمت بنفسك» «1».

والجدير بالذكر هو أنّه لو كان أحدٌ حاضراً في هذه الأقوام عند نزول البلاء كالعاصفة والصاعقة، والسيل، والزلزلة، من دون أن يعرف شيئاً عن ماضيهم، ويرى بأُمّ عينيه الدمار الناجم عن السيل وكيفيّة تهدُّم المنازل على رؤوس أصحابها بسبب العواصف، وكيف تحوّل الصاعقة كُلّ شي ءٍ إلى رماد في لحظة واحدة، لتعجب ودُهِش ولأمكن أن يُشكّك في مسألة العدل الإلهي في عالم الوجود.

ولكن لو اطّلع على الحوادث السابقة وأعمال تلك الأقوام الماضية لزال شكّهُ.

وهذه فلسفة قسم من الآفات والبلايا (وسبب قولنا- قسمٌ- هو وجود فلسفة خاصّة لكل قسم من أقسام البلاء).

3- أشار القرآن الكريم في سورة سبأ إلى قصّة مفصّلة وغنيّة وموقظة بشأن قوم من اليمن ذوي تمدُّنٍ ملحوظ، وكان هذا التمدُّن ناتجاً عن وجود سدٍّ عظيم مُحْدَثٍ بين الجبال يحصر مياه البراري والجبال ليوزعها بتنظيمٍ دقيق على المزارع والحقول، فصارت أرضاً خصبةً مليئة بالنعم الإلهيّة (جنّة).

__________________________________________________

(1) تفسير روح البيان، ج 4، ص 77.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 361

اضافةً إلى ذلك فقد ساد الأمن فيها، وابتعدت عنها الآفات والبلايا والجفاف والمجاعة والخوف والوحشة، وحتى قيل: إنّ الحشرات المؤذية قد هجرت تلك الديار أيضاً.

ولكن لم تمض مدّة قليلة حتى أُصيبوا

بغرور النعمة وغفلة الرفاه، فطغوا وكفروا بالنعمة في عدّة جوانب.

قال تعالى في هذا المجال: «فَأَعْرَضُوا فَأَرسَلنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ العَرِمِ وَبَدَّلنَاهُمْ بِجَنَّتَيهِمْ جَنَّتَينِ ذَوَاتَىْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَى ءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ* ذَلِكَ جَزَينَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَل نُجَازِى إِلَّا الكَفُورَ». «1»

(سبأ/ 16- 17)

العجيب هو ماورد في بعض الروايات بأنّ مقدّمات انهيار ذلك السدّ الترابي العظيم قد حدثت مُسْبقاً من قِبل الفئران البريّة التي نفذت في السد وأحدثت فيه ثقباً كان يتّسع لحظةً بلحظة على أثر جريان الماء منه.

أجَلْ، إنَّ سيلًا عظيماً متشكّلًا بالحقيقة من قطرات المطر، وفعل عدد من الفئران البريّة قد أفنى حضارةً عظيمة، وأهلك القوم الطغاة المتجبرين.

ومن قبيل هذه الحوادث حوادثٌ كثيرة توضّح علاقة قسم من البلايا مع أعمال الإنسان وعقوبته، بحيث لو جُمعت لصارت كتاباً عظيماً.

وخلاصة الكلام وَوِفقاً للاستدلالات العقلية والمنطقية، وآيات قرآنية كثيرة، ووِفقاً للروايات والتأريخ، فإنّه لا يُمكن إنكار كون قِسم ملحوظ من المصائب والبلايا النازلة بالظالمين والطواغيت ذات صيغة جزائية، بالرغم من عدم إدراك الجهلاء والغافلين العلاقة بين العلة والمعلول هذه.

ومُسَلَّماً أنّ اللَّه لم يكن ليظلمهم في مثل هذه الموارد بل كانوا أنفسهم يظلمون، كما قال تعالى: «ذَلِكَ مِن أَنبَاءِ القُرَى نَقُصُّهُ عَلَيكَ مِنهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ* وَمَا ظَلَمنَاهُمْ وَلَكِن ظَلَمُوا أَنفُسَهُم». (هود/ 100- 101)

__________________________________________________

(1) ورد تفسير هذه الآيآت وشرح هذه القصة في التفسير الامثل ذيل الآية المذكورة من سورة السبأ.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 362

العلاقة بين الذنوب والبلاء في الروايات الإسلاميّة:

ما ذكرناه آنفاً ملحوظٌ أيضاً في الروايات الإسلاميّة بشكل واسع بحيث إنّ قِسماً ملحوظاً على الأقل من المصائب والبلايا التي تُصيب المجتمعات الإنسانية ذات صيغة جزائية وقصاص للذنوب: وكنموذج على ذلك:

1- عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «إن اللَّه تعالى إذا غضب على

أمّةٍ، ثم لم يُنزل بها العذاب أغلى أسعارها وقصّر أعمارها ولم تربح تجارتها ولم تغزُر أنهارها ولم تُزكّ ثمارها وسلّط عليها شرارها وحبس عليها أمطارها» «1».

2- ورد في حديثٍ آخر عن الإمام الرضا عليه السلام أنّه قال: «كُلّما احدث العباد من الذنوب ما لم يكونوا يعلمون أحدث لهم من البلاء ما لم يكونوا يعرفون» «2».

3- في رواية اخرى عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «من يموت بالذنوب أكثر ممّن يموت بالآجال، ومن يعيش بالإحسان أكثر ممّن يعيش بالأعمار» «3».

4- وعنه أيضاً عليه السلام: «إنّ الرجُل ليُذنب الذنب فيُحرمُ صلاة الليل وإنّ عمل الشّر أسرع في صاحبه من السكّين في اللحم!» «4».

يُمكن لهذه الأحاديث أن تكون شاهداً على هذا البحث أو البحث السابق بخصوص العلاقة الطبيعيّة بين الذنب والحوادث المُّرة، (تأمل جيداً).

5- عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: «وجدنا في كتاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله (الروايات النبويّة» أنّه قال: «إذا ظهر الزنا من بعدي كثر موت الفجأة، وإذا طفّف المكيال والميزان أخذهم اللَّه بالسنين والنقص، وإذا منعوا الزكاة منعت الأرض بركتها من الزرع والثمار والمعادن كُلّها، وإذا جاروا في الأحكام تعاونوا على الظلم والعدوان، وإذا نقضوا العهد سلط اللَّه عليهم عدّوهم، وإذا قطعوا الأرحام جُعلت الأموال في أيدي الأشرار، وإذا لم يأمروا بالمعروف ولم

__________________________________________________

(1) بحارالأنوار، ج 70، ص 353.

(2) المصدر السابق، ج 7، ص 345.

(3) المصدر السابق، ص 354.

(4) المصدر السابق، ص 358، ح 74.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 363

ينهُوا عن المنكر، ولم يتّبعوا الأخيار من أهل بيتي، سلط اللَّه عليهم شرارهم، فيدعوا خيارهم فلا يُستجاب لهم!» «1».

6- نُقِلَ- في تفسير سورة نوح عليه السلام- حديث

لطيف في هذا المجال عن أمير المؤمنين علي عليه السلام: نقل القلانسي وهو (أحد كبار علماء أهل السُّنّة) في تفسيره أنّ رجُلًا جاء إلى علي عليه السلام وقال له: يا أمير المؤمنين! أذنبتُ كثيراً من الذنوب وسوّدت بها صحيفة أعمالي فادعو ليغفر لي ربّي، فقال عليه السلام: «عليك بالاستغفار».

وجاءه رجلٌ آخر وقال: أصاب مزارعي الجفاف بسبب قلة المياه فادعو اللَّه ليُنزّل الغيث، فقال عليه السلام: «عليك بالاستغفار».

وجاءه آخر وقال: أنا رجل فقير وقد أنهكني الفقر فادعو اللَّه ليمنَّ عليٍّ من عميم لطفه، فقال له: «عليك بالاستغفار».

وجاءه رابعٌ وقال: لي ثروة طائلة ولكن لا ذريّة لي فادعو اللَّه سبحانه وتعالى ليهب لي ذريّة، فقال له: «عليك بالاستغفار!».

وقام إليه آخر وقال: يا سيّد الوصيين، إنّ بستاني شحيح الثمار، فادعو اللَّه ليبارك فيها، فقال عليه السلام: «عليك بالاستغفار».

وقال آخر: يا علي! جفّت عيون المياه في أرضنا، وشحّت فروع الأنهار، وحلّ بنا القحط، فأسألك الدعاء يا سيدي، فقال عليه السلام: «عليك بالاستغفار!».

يقول ابن عبّاس: كنت حاضراً عند أمير المؤمنين عليه السلام فقلت له: يا أمير المؤمنين سألوك أسئلة مختلفة وأجبتهم جواباً واحداً (ووصفت دواءً واحداً لجميع هؤلاء المرضى وهو الاستغفار!) فقال عليه السلام: «يا ابن عمّي! أولَمْ تسمع هذه الآيات (عن لسان نوح عليه السلام) التي تقول: «فَقُلتُ اسْتَغفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً* يُرسِلِ السَّمَاءَ عَلَيكُمْ مِّدرَاراً* وَيُمِددكُم بِأَموَالٍ وَبَنِينَ وَيَجعَل لَّكُم جَنَّاتٍ وَيَجعَل لَّكُم أَنهَاراً» ...» «2».

__________________________________________________

(1) اصول الكافي، ج 2، ص 374، ح 2.

(2) تفسير منهج الصادقين، ج 10، ص 119، في تفسير الآية 12 في سورة نوح. (مع شي ء من الإختصار).

نفحات القرآن، ج 4، ص: 364

وقد نقل جمعٌ من المفسّرين الحديث المذكور عن الحسن

البصري، وإن كان منقولًا عنه حقّاً، فإنّه على الأقوى قد سمعه عن أميرالمؤمنين على عليه السلام مباشرةً لأنّه استفاض من نور الإمام عليه السلام كثيراً.

إنّ الروايات المذكورة والروايات الكثيرة الاخرى المنقولة في التواريخ وكتب الأخبار تُعدُّ من أفضل الشواهد على وجود علاقة بين قسم من المصائب مع الذنوب والمعاصي (طبعاً إنّ قِسماً من هذه الروايات يشير إلى الأثر الوضعي للأعمال، وقسماً آخر يُشير إلى العقوبات الإلهيّة وبعضها الآخر يحمل كلا المعنيين).

4- المصائب الموقظة

لا ريب أنّ لقسْمٍ من الحوادث المزعجة أثراً ايجابياً في تمزيق حُجب الغرور، وإيقاظ الإنسان من نوم الغفلة، وتخليصه من مخالب عبادة الهوى والتشبُّث بالرأي، وتُعتبر الكثير منها منعطفاً في حياة الأفراد ذوي الإستعداد للهداية.

فوفرة النعمة، وقدرة السلطة، والعافية قد تغُر الإنسان لدرجة بحيث ينسى نفسه بالمرّة، فيعتقد بكونه مصدراً لجميع المواهب، وبأفضليته على الآخرين، وكأنّه يتصّور خلود الحياة فيتبدّل في هذا الحال إلى موجودٍ خطير، ظالمٍ، أناني، عنيد وعابث، ويستمر على هذه الصفات مالم يُصادف مشكلة في حياته، فيخسر حياته ويخسر الآخرين.

فهاهنا تخرج يد العناية الإلهيّة من كُمّ رحمانية الباري لُتعين الإنسان، فتحدث مصيبة عظيمة ثقيلة، كأن يفقد أحد أعزّائه، أو يفشل في مساعيه وجهوده، أو تهدم زلزلةٌ قصر آماله، أو تُحرق صاعقةٌ قِسماً من أمواله.

فيتعرّض لوخزة قد توقظه فيدخُل في عالم التفكير، ويعود من التَيْه والضياع فيخطو في جادّة الصواب.

وقد لاحظنا المطبّات الإصطناعية التي توضع في الطرق المستوية بهدف الحد مِن نوم

نفحات القرآن، ج 4، ص: 365

قادة السيارات والحيلولة دون سقوطهم في المزالق.

وقسم من المصائب بمثابة المطبّات في طريق حياة الإنسان التي تهز كيانه بقوّة لتمنعه من نوم الغفلة الذي يؤدّي إلى هلاكه.

ويُمكن أن يصدُق هذا الكلام بخصوص الإنسان، أو مجتمع

معين، أو جميع المجتمعات البشريّة، ويُعطي فلسفة قيّمة لقسم من حوادث الحياة الأليمة.

ولقد وصل الإنسان اليوم، في ظل التقدم الصناعي، إلى درجة من القدرة بحيث سخّر السماء والأرض وكشفت أجهزته الفضائية الستر عن أسرار أبعد سيّارات المنظومة الشمسيّة أيضاً، وحصل منها على أخبار عجيبة مذهلة.

وضجّت أصداء العقول الألكترونية، بحيث صار تركيب أعضاء الإنسان عملًا بسيطاً.

ويُحتمل أن تؤدّي مجموعة هذه الظواهر إلى اغترار الكثير من العلماء، لكنهم عندما يَرون بقاء مرض السرطان يفتك بالناس بالرغم من كثافة جهود آلاف بل ملايين العلماء المبذولة على مدى التاريخ، أو مرض (الأيدز) الحديث الظهور الذي ينشأ من مكروب أو فيروس صغير جدّاً وقد حيّر الجميع وأرعبهم- والجدير بالاشارة إلى أنّ هذا المرض يأخذ قرابين من الدول الصناعية المتقدمة أكثر من غيرها- سيتعّرضون لهزّه فكريّة عنيفة، وسينتبهون لحظة إلى ضعف وعجز هذا الإنسان القوي مقابل عظمة الكون وخالقه.

ولا يُمكن إنكار أَنّ قِسْماً عظيماً من سكّان العالم لايعتبرون من هذه الحوادث أبداً، ولا يعيرون لها اهتماماً، بل يستمرون في مواصلة سلوكهم المنحرف، ويبقون منغمسين في عالَم الخيال، ولكن من المُسَلَّم أن قِسْماً منهم يعتبرون بها ويتوجهون إلى إصلاح أنفسهم. وهذه فلسفة مهمّة جديرة بالملاحظة.

ولا يلتبس الأمر عليك فإنّنا لا نقصد بأنّ جميع المصائب والحوادث الأليمة من هذا القبيل، ولا نُقر بوجوب الاستسلام أمام الحوادث والتقاعُس عن مكافحة المشاكل والمصائب، بل نقول: إنّ قِسْماً من الحوادث مُرّة لدرجة بحيث إنّ الإنسان لا يستطيع التكهُّن بها ولا يستطيع مواجهتها، وقسم من هذا النوع يدخل في موضوع بحثنا وفي زمرة المصائب الموقظة والحوادث الأليمة المنبّهة.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 366

القرآن والمصائب الموقظة:

نعود الآن إلى القرآن لنتأمل في ما يقول في هذا الخصوص، حتى يتسنى لنا

وضع الدليل العقلي على محك البيان النقلي لنؤيده بواسطته.

ولكون القرآن كتاباً تربوياً عظيماً، ولارتباط موضوع بحثنا بالمسائل التربوية ارتباطاً وثيقاً جدّاً فقد تحدّث القرآن كثيراً حول هذه المسألة وبتعابير متنوعة ومختلفة من جملتها:

1- «وَمَا أَرسَلنَا فِى قَريَةٍ مِّن نَّبىٍّ إِلَّا أَخَذنَا أَهلَهَا بِالبَأسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُم يَضَّرَّعُونَ». «1» «2»

(الأعراف/ 94)

يُستنتَجُ من هذه الآية بوضوح أنّ الإيقاظ والتنبيه هو أحد أهداف الحوادث المزعجة التي كانت تُصيب الأقوام الغارقة في بحار الذنوب، وكان سِرّ مقارنة هذه الحوادث مع دعوات الأنبياء هو تهيأة الأرضية الخصبة لقبول دعواتهم، وتناغم (التكوين) مع (التشريع) يقّوي تأثير مواعظهم.

2- «ظَهَرَ الفَسَادُ فِى البَرِّ وَالبَحرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيدِى النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعضَ الَّذِى عَمِلُوا لَعَلَّهُم يَرجِعُون». (الروم/ 41)

يُمكن الإستفادة من هذه الآية في بُعدَين مُختلِفين هما:

بُعد البلايا الذاتية (التي يُسببها الإنسان بنفسه) وبُعد البلايا والمصائب الموقِظة، وتوضِّحُ تناغُمَ هذا القسم من المصائب والحوادث غير المطلوبة، مع المسائل التربويّة وبرامج التكامل الإلهيّة.

3- «وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ العَذَابِ الأَدْنى دُونَ العَذَابِ الأَكبَرِ لَعَلَّهُم يَرجِعُونَ». (السجدة/ 21)

إنَّ تعبير (العذاب الأدنى) ذو مفهومٍ واسع يشمل أغلب الاحتمالات التي ذكرها المفسّرون، كُلًّا على حِدة، (المصائب والآلام والمتاعب، الاضرار الماليّة، الجفاف، القحط

__________________________________________________

(1) وردت آية مماثلة لهذه الآية في سورة الأنعام، الآية 42.

(2) «يضّرّعون» من مادّة «تضرّع» وتعني الخضوع والطلب المصحوب بالتواضع (و هي بالأصل مأخوذة من مادّة ضرع وتعني نزول الحليب في الثدي).

نفحات القرآن، ج 4، ص: 367

والجوع، الهزائم في الحروب، وما شاكل ذلك).

ولكنّ ما ورد في كلام بعض المفسّرين من احتمال كون المقصود من العذاب الأدنى هو عذاب القبر لا يتناسب مع ظاهر الآية، لأنّ جملة لعلّهم يرجعون تُحدّد هدف هذا العذاب (العودة والرجوع) ممّا لا يتناسب مع عذاب القبر

(تأمل جيداً) «1».

وبخصوص آل فرعون ورد ما يلي:

4- «وَلَقَد أَخَذنَا آلَ فِرعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقصٍ مِّنَ الَّثمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ».

(الأعراف/ 130)

بالرغم من أنّ هذه الآية خاصّة بآل فرعون، إلّاأنّنا نعلم عدم اختلافهم عن بقية الأقوام بإصابتهم بمشاكل مُنهكة ليسْتيقظوا وينزلوا من مركَب الغرور، ويعودوا إلى طريق الحق.

والظريف هو أنّ بعض الآيات المذكورة قد ذكرت هدف هذه المسألة (التذكّر)، وبعضَها الآخر (التضرُّع)، وبعضَها (الرجوع والعودة) والتي هي بالحقيقة تُشكل المراتب المختلفة والمنظمة للرجوع إلى اللَّه، فأولًا يتذكّر الإنسان، ثم يتضرّع إلى اللَّه، ويرجع إليه منيباً مستغفراً.

أو بتعبيرٍ آخر فالمرحلة الأولى (الفكر) والمرحلة الثانية (الذكر) والمرحلة الثالثة (العمل)، ومن قبيل هذه النقاط تُعطي بلاغاً جديداً من هذا الكتاب السماوي عندما تُقارَنُ الآيات القرآنية مع بعضها وتُفَسَّرُ بصورة موضوعيّة.

طبعاً كما أشار التأريخ وكما صرّح القرآن أيضاً فإنّ الكثير من الأقوام المنحرفة السالفة لم تُبدِ رد فعل إيجابي إزاء هذه المصائب والعذاب، واستمرّت في غيّها حتى هلكت بالعذاب الإلهي النهائي، كما ورد في الآية: «وَلَقَد أَخَذنَاهُم بِالعَذَابِ فَمَا استَكَانُوا لِرَبِّهِم وَمَا يَتَضَرَّعُونَ». (المؤمنون/ 76)

__________________________________________________

(1) ورد نظير هذا المعنى في سورة الاعراف، الآية 168؛ سورة الزخرف، الآية 48.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 368

مع هذا فقد كان هنالك أقوامٌ أبدَوْا ردود فعل ايجابية إزاء مثل هذه الحوادث، أو خرج من بين هذه الأقوام العنيدة افرادٌ اعتبروا واهتدَوْا، لذا كانت مثل هذه المصائب عامل ايقاظ للبعض، وعاملَ إتمام الحجّة للبعض الآخر.

الحوادث الموقظة في الروايات الإسلاميّة:

يُلاحظ في الروايات الإسلامية أيضاً وجود تعابير واضحة تحكي عن العلاقة بين بعض مصائب ومشاكل الحياة، والمسائل التربويّة، وتؤيد ما استنتجناه عن طريق العقل والآيات القرآنيّة، مثل:

1- ورد في إحدى خُطَب نهج البلاغة عن أميرالمؤمنين علي عليه السلام أنّه قال: «إنّ اللَّه يبتلي عبادَهُ عند الأعمال السيّئة بنقص الثمرات

وحبس البركات وإغلاق خزائن الخيرات ليتوب تائبٌ، ويُقْلعَ مُقلعٌ ويتذكّر متذكّرٌ ويزدجر مُزدجرٌ!» «1».

2- وعنه عليه السلام: «إنّ البلاء للظالم أدب، وللمؤمن امتحان وللأنبياء درجة وللأولياء كرامة!» «2».

3- وفي حديثٍ عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «المؤمنُ لا يمضي عليه أربعون ليلة إلّا عرض له أمر يُحزنه يذّكر به» «3».

4- وعنه عليه السلام: «إذا أراد اللَّه عزّوجل بعبدٍ خيراً فأذنب ذنباً تبعَهُ بنقمة فيُذكّره الإستغفار، وإذا أراد اللَّه بعبدٍ شرّاً فأذنب ذنباً تبعَهُ بنعمة ليُنسيهُ الإستغفار، ويتمادى به، وهو قول اللَّه عزّوجل: «سنستدرجهم من حيث لايعلمون» بالنِعَمِ عِنْدَ المعاصي!» «4».

5- نختتم هذا البحث بحديثٍ آخر عن الإمام علي عليه السلام: «إذا رأيت اللَّه سُبحانه يُتابع عليك البلاء فقد أيقظك، وإذا رأيت اللَّه سُبحانه يُتابع عليك النعم مع المعاصي فهو استدراجٌ لك» «5».

__________________________________________________

(1) نهج البلاغة، الخطبة 143.

(2) بحارالأنوار، ج 64، ص 235، ح 54.

(3) المصدر السابق، ص 211، ح 14.

(4) اصول الكافي، ج 2، ص 452 باب الاستدراج، ح 1.

(5) غررالحكم، عن (ميزان الحكمة) ج 1، ص 489.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 369

5- الإبتلاء عن طريق المشاكل

نحن نعلم تفاوت الابتلاء الإلهي عن الإبتلاء البشري بصورة تامّة، فالناس يمتحنون شخصاً أو شيئاً لتتوضّح لهم بعض المجهولات، وتتبيَّنَ قيمة وقابلية واستعداد ذلك الشخص أو ذلك الشي ء خلال الإمتحان.

لكن اللَّه لا يخفى عليه شي ءٌ في جميع عالم الوجود، في الأرض والسماء وما وراء السموات، وفي داخل وخارج الأشياء لكي يعرفه عن طريق الإمتحان.

إذن لِمَ وكيف يمتحن!؟

إنّ للإبتلاء الإلهي صيغة تربويّة، إنّ الذهب عندما يلقى في النار فمن أجل تهذيبه وتنقيته من الشوائب أو عندما يُدرّبُ الجنود بالأعمال الشاقّة على تمرين المقاومة والإستقامة فمن أجل رفع مستوى لياقتهم

البدنية، فالابتلاء الإلهي مثلهُ مثلُ هذه الحالات بالضبط. فهي تزيد من تحمُّل ومعرفة ونقاء البشر، وبكلمة واحدة، إنّ الإبتلاء وسيلة لتكامُل وتربية روح الإنسان وجسمه.

لذا فلا عجب من كون قسم من مصائب ومشاكل الحياة في هذا الصدد من الامتحان والاختبار، (نكرر بأنّ قسماً من المصائب داخلة في هذا النوع وليس جميعها).

لا يوجد شَعْب في العالَم تمكّن من التقدُّم والرقي في الميادين الصناعية والعسكرية والعلميّة دون أن يتعّرض لضغوط معيّنة، وكما قال الفيلسوف والمفسّر التاريخي المعروف (تو اين بي):

الحضارات اللامعة التي ظهرت في العالم كان سبب ظهورها هو تعرّض شعبٍ لهجوم شديد من قبل عدّوٍ خارجي (فاستعمل ذلك الشعب جميع قدراته واستعداداته واستعان بمُدّخراته في مواجهة ذلك العدو).

فالقادة الذين يخوضون الحروب يمتازون بالعظمة والقوة والصبر، والتجّار الذين يمرّون بأزمات اقتصادية شديدة يتعلمون تجارب قيّمة، والسياسيّون الذين يجتازون أزمات مختلفة سيكونون أقوياء ومقتدرين.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 370

وتزداد صلابة الثوريين في السجون وتحت التعذيب، لا نقول بوجوب دخولهم السجن، بل نقول بأنّ السجن يزيدهم قوّةً وصلابة.

أعتقد بأنّ علاقة مشاكل ومصائب الحياة مع تربية وتكامل الإنسان قد اتضحت بهذه الأمثلة والتحليلات، وطبعاً لا ينبغي هنا حساب (المصائب الذاتية)، وما ذكرناه لم يكُن عُذراً من أجل ترك مواجهة المشاكل والمصائب.

القرآن والإبتلاءات العصيبة:

نعود الآن إلى القرآن الكريم مرّةً اخرى لنرى ما لهذه المسألة من أصداء في الآيات القرآنية:

1- «وَنَبلُوكُم بِالشَّرِ وَالخَيرِ فِتنَةً وَإِلَينَا تُرجَعُونَ». (الأنبياء/ 35)

إنَّ كلمتي (الشر) و (الخير) هنا ذواتا معنىً واسع يشمل أنواع المصائب والأمراض والمشاكل والإبتلاء والفقر والفاقة، وكذا أنواع الإنتصارات والصحّة والعافية والغنى وما شاكل ذلك.

ويجدر الإلتفات إلى تقدُّم ذكر (الشر) على (الخير) في الموارد الامتحانية التي يواجهها الإنسان، لأنّ الإمتحان بالبلاء أصعب وأعقدُ (ينبغي الانتباه

إلى أنّ هذه الشرور ذات صيغة نسبيّة).

وجملة (وإلينا تُرجعون) المذكورة في ذيل الآية تُعد إشارة لطيفة إلى حقيقة كون الدنيا دار ابتلاء واختبار لا دار مقرٍ وخلود.

وعلى أيّة حال تُعد الآية دليلًا واضحاً على كون قسم من المصائب والآلام ذات صبغة ابتلاء وامتحان لتمحّص صبر الإنسان، كما هو الحال في كون قسم من النّعمِ امتحانية أيضاً لمعرفة مقدار شُكره إزاء النعم الإلهيّة.

2- «وَلَنَبلُوَنَّكُم بِشَى ءٍ مِّنَ الخَوفِ وَالجُوعِ وَنَقصٍ مِّنَ الأَموَالِ وَالأَنفُسِ وَالَّثمَرَاتِ وَبَشِّرِ

نفحات القرآن، ج 4، ص: 371

الصَّابِرِينَ». (البقرة/ 155)

ذكرت هذه الآية خمسة أنواع من مصائب ومشاكل الحياة كخمس موادٍّ من مواد الامتحان الإلهي، ففي المقدّمة يأتي (الخوف)، والذي هو أهم من الجميع، ثم (الجوع): ثم (نقصٍ من الأموال) ثم (الأنفس) ثم (الثمرات).

ويجدر التذكير إلى كون ذيل الآية يدل على أنّ هذا الإبتلاء يرفع من مستوى قوّة مقاومة تحمُّل الإنسان، ويزيده صلابةً وهو يمرّ بهذه الحالات العصيبة (يجدر الإنتباه إلى أنّ تعبير (نقص الثمرات) قد فُسّرَ بمعنى فقد الأولاد الذين هم ثمرات قلب الإنسان، ويُمكن أن يكون ذا تفسيرٍ واسع يشمل كلا المعنييْن، وكذلك فُسّرَ (نقص الأنفس) بمعنى المرض أيضاً).

وفي الحقيقة إنّ من أهم مواهب الحياة هي: الأمْن والأنفس والأموال ومنابع الإنتاج، واللَّه سبحانه وتعالى يمتحن الإنسان بواسطة الآفات التي تُصيب هذه الأمور ليتضح مقدار صبره وتحمّله.

والتعبير بكلمة (شي ء) يُعدُّ شاهداً حيّاً على هذا المعنى وهو عدم كون جميع حالات الخوف والجوع ونقص الأنفس ذات صيغة إمتحانية إلهيّة، بل إنّ قسماً منها فقط من هذا النوع، ومن المسلّم به أنّ الابتلاء لا يشمل أبداً المصائب الذاتية والناشئة من الجهل والتقاعُس والتهاون، وهذه الآية يجب أن لا يتخذها البعض حُجّةً لترك الجهاد والسعي، والتوجُّه إلى الكسل

والخمول.

3- «وَأَمَّا إِذَا مَا ابتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيهِ رِزقَهُ فَيَقُولُ رَبِّى أَهَانَنِ». (الفجر/ 16)

من المُسلَّم به أنّ هذه الآية تخص الذين يُبدون ضعفاً وخمولًا في ساحة الإمتحان وبمستوىً من ضيق التحمَّل، بحيث إذا نزلت عليهم نعمةٌ أصابهم الغرور، وبمجرّد أن تصيبهم مصيبة معينة يأخذهم اليأس والقنوط، ولكن على أيّة حال، تعتبر هذه الآية دليلًا واضحاً على كون قسم من مشاكل الحياة ذات فلسفة إمتحانية.

4- «هُنَالِكَ ابتُلِىَ المُؤمِنُونَ وَزُلزِلُوا زِلزَالًا شَدِيداً». (الأحزاب/ 11)

تشير هذه الآية إلى واقعة الأحزاب التي كانت واحدةً من أعظم ميادين الإمتحان الإلهي

نفحات القرآن، ج 4، ص: 372

لمسلمي صدر الإسلام، ففي ذلك اليوم الذي هجم جيش الأحزاب الجرّار على المدينة من الأعلى والأسفل، وحاصر جمع المسلمين القليلين عدداً، وزاد الطين بلّة إشاعات منافقي الداخل، فتعقدّت الأمور من كل ناحية، إلى الحد الذي قال القرآن في وصفه: «وَبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَنَاجِرَ». (الأحزاب/ 10)

يقول القرآن: إنّ هذه المصيبة والعاصفة الشديدة التي زلزلت جماعة من المؤمنين كانت مظهراً من الإمتحان الإلهي ...، وهذه الآية تأكيد آخر على ما ذكرناه.

يُلاحظ في الروايات الإسلامية أيضاً وجود إشارات واضحة إلى هذه الحقيقة، وهي كون قسم من المصائب والبلايا ذات صيغة إمتحانية:

1- ورد في الحديث الذي نقلناه سابقاً بمناسبة اخرى عن على عليه السلام: «إنّ البلاء للظالم أدب، وللمؤمن امتحان» «1».

2- قال الإمام علي عليه السلام في إحدى خُطبه في وصف الأنبياء: «قد اختبرهم اللَّه بالمخمصة وابتلاهم بالمجهَدَة وامتحنهم بالمخاوف، ومحضهم بالمكاره» «2».

3- وذكر عليه السلام من قبيل هذا الكلام بالنسبة لعامة الناس بتعابير اخرى في نفس الخطبة:

«ولكن اللَّه يختبر عباده بأنواع الشدائد ويتعبّدهم بأنواع المجاهد ويبتليهم بضروب المكاره» «3».

__________________________________________________

(1) بحارالأنوار، ج 64، ص 235، ح 54.

(2) نهج البلاغة،

الخطبة 192 (القاصعة).

(3) المصدر السابق.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 373

6- معرفة النعم في المصائب

لايُمكن لأحدٍ أن ينكر هذه الحقيقة، وهي عدم معرفة الإنسان قيمة النعمة عندما يكون غارقاً فيها، ولا يلتذ بها، ولا يؤدّي شكرها، وأحياناً قد لا ينتبه إلى أصل وجودها!

فلو لم يمرض الإنسان أبداً لما عرف نعمة السلامة بكل مالها من أهميّة وعظمة، وكموهبة إلهية عظيمة.

ولو لم تهتزّ الأرض أحياناً لما عُرف قدر هذا السكون العجيب الذي يسودها طيلة السّنة ويدور في ظلّه كل شي ء حول محوره.

ولا تعرف حقيقة الظلمة والنور إلّاإلى جنب بعضهما، وإن لم تهيّج عواصف الحوادث بحر افكار الإنسان أحياناً لما فهِمَ قدْر ساعات الهدوء والسكون.

أو بتعبيرٍ أدق إنّ بعض المشاكل بمثابة ظل نور الحياة الذي لا يمكن للإنسان أن يرى شيئاً بدونه، يقول العلماء اليوم: بأنّه (لو وُضعَ جسمٌ كرويٌّ وسُلّطَ عليه نورٌ متساوٍ من جميع الجهات لما أمكن رؤيته!):

إنّ وعورة سطح الجسم واختلاف زوايا انعكاس النور هي التي تُمكّن الإنسان من رؤية الجسم، وكذا النعم الإلهيّة بالضبط، فلو كانت على وتيرةٍ واحدة وبصورة دائميّة لما أمكن معرفتها.

ومن حيث كون اللَّه قد خلق هذه المواهب العظيمة متاعاً للإنسان من جهة، ووسيلة للتقرب إليه من جهةٍ اخرى (عن طريق شكر النعمة)، فمن المنطقي جدّاً أن يقبضها ويبسطها أحياناً ليتحقق الهدفان أعلاه.

ويُلاحظ وجود إشارات ظريفة وغنية في الآيات القرآنية إلى هذه الحقيقة- ولو بصورة غير صريحة- والتي تُبّين قدْر النّعمِ بالقياس مع لحظات سلبها، ومن جُملتها:

1- «قُل مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ البَرِّ وَالبَحرِ تَدعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئْن أَنجَانَا مِن هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ». (الأنعام/ 63)

أجَلْ، لم يكن هؤلاء ليعرفوا قدر النور والأمن قَبلَ أن يُبتلوا بظلمات البر والبحر

نفحات القرآن، ج 4، ص: 374

الرهيبة،

ولكنهم عندما يُسْلَبون هذه النعمة سيذكرون مُبدئها ويعلنون عن إستعدادهم للشكر.

2- «وَلَئِن أَذَقنَاهُ نَعَماءَ بَعدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِئَاتُ عَنِّى إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ». (هود/ 10)

وتأكيد القرآن على إذاقة النعماء بعد الضرّاء هدفه تبيان قدر النعمة بصورة جيدة ليرفع بالعباد إلى الشُّكر، ولو أنّ جماعة من المغرورين والمُعجبين بأنفسهم فسّروه بشكل آخر.

3- «وَاذكُرُوا نِعمَتَ اللَّهِ عَلَيكُم إِذْ كُنتُم أَعدَآءً فَأَلَّفَ بَينَ قُلُوبِكُم فَأَصبَحتُم بِنِعْمتِهِ إِخوَاناً». (آل عمران/ 103)

إنّ القرآن الكريم ومن أجل أن يُبيّن في هذه الآية قدر نعمة الإتحاد وتأليف القلوب قارنها بالوقت الذي كانت هذه النعمة مسلوبة نهائياً، وعندما كانت نار الفرقة والنفاق تلتهمُ كُلّ شي ء، وذكّر المسلمين بمعرفة هاتين الحالتين بالقياس إلى بعضهما ليعرفوا قدر هذه النعمة الإلهيّة الحقيقي.

ويُلاحظ وجود بعض الإشارات إلى هذا القسم من المصائب والآلام في الروايات الإسلامية أيضاً، ومن جملتها: ماورد في حديث المفضّل عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «إنّ هذه الآفات وإن كانت تنالُ الصالح والطالح جميعاً، فإنّ اللَّه جعل ذلك صلاحاً للصنفين كليهما، أمّا الصالحون فإنّ الذي يُصيبهم من هذا يردُّهم (يذكّرهم) نعم ربّهم عندهم في سالف أيامهم، فيحدوهم ذلك على الشكر والصبر، وأمّا الطالحون فإنّ مثل هذا إذا نالهم كسر شرتهم وردعهم عن المعاصي والفواحش» «1».

7- موقع الخير والشّر في عالم الوجود
اشارة

ذكرنا فيما مضى أن من جملة المسائل التي أوجدت التشكيك في مسألة عدالة الخالق

__________________________________________________

(1) بحارالأنوار، ج 3، ص 139.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 375

إزاء إشكال البعض هي التركيب الثنائي للعالم من (الخير) و (الشر)، بحيث يتعدّى الإشكال أحياناً إلى أبعد من مسألة العدالة ليبلغ حد التشكيك في أصل وجود الخالق.

تُعد هذه المسألة من المباحث الفلسفية والكلاميّة التي توحي للإنسان بنوع من الظُّلمة والإبهام عندما يدخلها، لكنه كُلّما

تعمّق فيها بتأنٍّ، ودقق أكثر في تحليلها، ظهرت أمامه آفاق جديدة واضحة، إلى أن يُحسَّ في قلبه بالسكينة اللازمة، بعدما يحصل على الحل النهائي لمسألة الخير والشر.

وبهذه المناسبة ولحل هذه القضية، نجد من الضروري الإلتفات إلى النقاط الموجزة التالية:

1- ما معنى الخير والشّر؟

(الخير) هو كل ما يتناغم مع وجودنا ويُسبب تكامله وتقدمّه، و (الشر) هو كل مالا يتناغم معه، ويُسبب الإنحطاط والتخلّف، ومن هنا يتضح جيدّاً بأنّ الخير والشر ذوا صبغة نسبّية، فيُمكن أن يكون أمرٌ ما خيراً لنا وشرّاً للأخرين، أو خيراً لجميع الناس، وشراً بالنسبة لنوع من الحيوانات.

كأن تظهر في السماء غيومٌ، فتمطر السماء، وتنمو مزارعٌ وتتلقّح أشجارٌ معينة، ولكن نفس هذه الأمطار تُسبّب سيلًا في نقطةٍ اخرى وتؤدّي إلى الدمار، أو يتهدّم عش طائرٍ بقطرات بسيطة من المطر، في حين أنّها تُلطف لنا الجو.

فكل جماعة هنا تنظر إلى هذه الظاهرة بمقياسِ وجودها ومنافعها الخاصّة، وتُسمّيها خيراً أو شرّاً.

فإبرة الحشرات، ومخالب وقواطع الحيوانات المفترسة خيرٌ بالنسبة لها لأنّها وسيلة دفاعية أو للحصول على الصيد والغذاء، ولكن قد تكون شرّاً بالنسبة لنا نحن البشر.

من هذا البيان يُمكن الإستنتاج جيداً أنّه ليس من السهل الحكم على كون الحادثة المعينة شرّاً، فيجب أن نأخذ بنظر الاعتبار مجموع آثارها في مجموع المحيطات، بل في

نفحات القرآن، ج 4، ص: 376

مجموع الأزمنة من الحال والمستقبل، أو جذورها الماضية، لكي نتمكن من القول: إنّ أضرارها أكثر من منافعها مثلًا ويجب التصديق بأنّ هذا الحكم ليس سهلًا.

ومن جهةٍ اخرى يُمكن تقسيم الخير والشر إلى مايلي:

أ) الخير المطلق. ب) الشر المطلق. ج) الخير والشر النسبيان.

الخير المطلق: هو الخير الخالي من أي صِفة سلبيّة، وضدّه الشّر المطلق الذي ليس له أي صفة إيجابية، ونادراً

ما يوجد مصداق لهذين النوعين، فغالباً ما نواجه أشياء أو حوادث أو ظواهر مركّبة من صيغٍ إيجابية وسلبيّة، فما فيها صفحات إيجابية أكثر تُسمى خيراً، وما فيها حالات سلبيّه أكثر تُسمى شرّاً، وإذا تعادلت حالات الخير والشّر فيها فهي لا خير ولا شر.

طبعاً يجب الالتفات إلى أنّ حالات الخير والشّر متفاوتة بين الأفراد والأقوام، والمهم هو وجوب الأخذ بنظر الاعتبار في الحكم النهائي مجموع آثار تلك الظاهرة في جميع العالَمِ وفي جميع الأزمنة والأمكنة.

ومن وُجهة نظر المؤمن يُمكن وجود قسمين فقط من هذه الأقسام (الخير المحض) أو (الأكثر خيراً) أو (الشر المحض) أو (الأكثر شرّاً) أو (ما تساوى خيره وشرّه) فيستحيل وجودها، نظراً لكون اللَّه تعالى حكيم لأنّ صدور هذه الأقسام الثلاثة من (الحكيم المطلق) قبيح وغير مُمكن.

2- هل للشرور حالة عدميّة؟

عُرِف بين الفلاسفة والعلماء أن (الشّر) يعود في النهاية إلى (أمرٍ عدمي)، (أو إلى أمر وجودى يؤدّي إلى العدم)، ولعل أول من صرّح بهذا الرأي هو (أفلاطون) والذي وصف الشّر بالعدم.

وعليه فضدّه، أي الخير، لايحكي إلّاعن الوجود، وكلما كان الوجود أوسع وأكمل كان

نفحات القرآن، ج 4، ص: 377

منبعاً لخيرٍ أكثر، إلى أن يصل إلى الوجود الإلهي المطلق اللامحدود الذي هو عين الخير المحض، ومصدر جميع الخيرات والبركات.

وعادةً مايلتجئون إلى هذا المثال البسيط لتوضيح عدميّة الشّر وهو: أننا نقول: (ذبح إنسانٍ بري ء شرٌّ)، ولكن لنرى ما هو الشر هنا؟ هل هو قوة ذراع القاتل، أم قاطعية السكّين وجودة عملها، أم تأثُّر رقبة المقتول وظرافتها التي يستطيع الإنسان بواسطتها ممارسة كل أنواع الحركة (حركات الرقبة)؟ فمن المسلّم به أنّ أيّاً من هذه الأمور ليست بشرٍّ ونقص، فالشّر هنا هو انفصال أجزاء الرقبة والأوداج والعظام عن بعضها، ونحن نعلم

بأنّ الإنفصال ليس إلّاأمراً عدميّاً.

وكذا قد يؤدّي أمر وجودي أحياناً- كغذاءٍ مسموم- إلى الموت، الذي هو أمر عدمي، لذا فهو شر، أو يؤدّي مكروب معين، الذي هو أمر وجودي، إلى الاصابة بمرض معين، ونحن نعلم بأنّ الموت ليس سوى انعدام الحياة، والمرض ليس إلّافقد السلامة.

ومن هنا يتضح للجميع جواب هذا السؤال وهو: (من خلق الشرور)؟

لأنّه عندما تكون الشرور أموراً عدميّة لايصح أساساً تصوّر وجودها أو موجدها.

نعم، يُمكن أحياناً أن تكون الأمور المسببّة للعدم أموراً وجودية (كالغذاء المسموم)، ولكن وكما قلنا لو تساوى خيرها وشرها أو غلب شرها أو كان شرها مطلقاً فإنّه لا يُمكن أن تلبس خلعة الوجود.

ويجدر التركيز في هذه النقطة أيضاً وهي: تساوي (الشر المطلق) مع (العدم المطلق) الذي ليس له وجود خارجي بتاتاً، لأنّ العدم المطلق نقيض الوجود.

أمّا (الشر النسبي) (الشي ء الذي يُعد خيراً من جهة وشّراً من جهة ثانية) فله حصة من الوجود طبعاً، أو بتعبيرٍ آخر: فهو خليط من الوجود والعدم، ولكن كما قلنا فإنَّ قسماً واحداً من الشّر النسبي يتماشى مع حكمة اللَّه وهو الشي ء الذي تغلب عليه حالة الخير، (تأمل جيداً).

نفحات القرآن، ج 4، ص: 378

3- الخيرات التي تأتي من الشرور

نظراً لنسبية الخير والشّر، والتأثير المتقابل للأشياء في بعضها الآخر: كثيراً ما يتفق أن تصير الحوادث والظواهر التي تُعدُّ شروراً في الظاهر منبعاً لخيرات وبركات مختلفة.

فكثير من حالات الحرمان تصير سبباً في تفتحُّ الإستعدادات والجهود العظيمة، لأنّ الإنسان على أيّة حال ينتفض ويُجنّد جميع ما يمتلكه في باطن وجوده للحصول على ما يصبوا إليه، وهذه المسألة بالذات ستصير سبباً في القفزات العلمية والاجتماعيّة.

وكثيرٌ من حالات الحرمان صارت سبباً للوصول إلى اختراعات كبيرة، وكثير من حالات النقصان صارت مقدمة للتوصل إلى منابع مهمّة

جديدة.

فالأشجار التي تنمو في المناطق الصخريّة، والنباتات البريّة التي تنمو بالرغم من افتقارها لكثير من مُسببّات النمو، فهي أصلب عوداً، وأقوى وقوداً من النباتات التي تنمو على ضفاف الأنهار بعدّة أضعاف، والبشر يخضعون لهذا القانون أيضاً.

والبدو الذين يواجهون أنواع المشاكل دائماً، ويصارعون أنواع الحيوانات الوحشيّة، يتّصفون بالشجاعة والقوّة وشدّة التحمُّل، في حين نجد سكّان المدن الذين يتمتعون بالنّعم الوفيرة والأمان نجدهم ضعفاء بالقياس إلى البدو.

وللقرآن الكريم بيان لطيف في هذا الخصوص حيث يقول: «فَإِنَّ مَعَ العُسْر يُسْراً* إِنَّ مَعَ العُسرِ يُسراً». (ألم الشرح/ 5- 6)

يجدر الإشارة إلى أن تلازُم هذين الأمرين بدرجة من القوّة والقرب بحيث وكأنّهما متجاوران، كما يُستنتجُ من كلمة (مع).

وهذه المسألة أيضاً جديرة بالإنتباه وهي كون (العسر) معرفاً بالف لام التعريف، وتعبير (يسر) مذكور بصيغة النكرة، والمقصود منه تبيان العظمة أي مع العسر يسرٌ عظيم.

يعتقد بعض المؤرخين بأنّ سيل المشاكل كان من أحد العوامل المهمّة لتقدُّم المسلمين الأوائل السريع، حيث ترعرع المسلمون في وسط تلك المشاكل، وصاروا في ظلّها مجاهدين أقوياء ومقتدرين، في حين كان من أحد عوامل تراجع وتخلُّف المسلمين في

نفحات القرآن، ج 4، ص: 379

القرون المتأخرة هو العيش المرفّه، والتلذذ بأنواع النعم، والركون إلى الدعة.

ونختتم هذا الكلام بعدّة جملٍ مقتطفة من آراء العلماء العظام حول هذا الأمر.

يقول أحد الكتّاب الغربيين: «لا اعتقد بوجوب تحملُّ كل فرد لمصيبة معينة، ولكن أعلم بكون المصيبة مفيدة في الغالب بل ضروريّة، ولكن شريطة أن يُتقن كل فرد كيفية مواجهة المشاكل، وأن يعتبر هذا العمل من الأعمال الأساسية والمفيدة» «1».

وهذا التعبير دقيقٌ جدّاً، وهو عدم لزوم استقبال الإنسان للمصائب، أو الجلوس إزاءها مكتوف اليدين، وعدم مكافحة عوامل المصيبة، ولكن مع هذا يجب عدم نسيان

إمكانية تحويل قسم من المصائب اللا إرادية، التي نعجز عن مواجهتها، إلى عوامل بنّاءة في حياتنا.

يقول الفيلسوف والطبيب الفرنسي المعروف (ألكيس كارل) في كتابه (الإنسان ذلك المجهول): «غالباً ما ينزوي أبناء الأثرياء، الذين قضّوا عُمراً بالثروة والنعمة وكانوا مقتدرين في كل الجوانب، عن العمل اتّكالًا على ثروة آبائهم، ويخلقون في أنفسهم أسباب الضعف وسحق قواهم واستعداداتهم الخلّاقة» «2».

وبالعكس فهناك كثير من الذين يترعرع أبناؤهم وسطَ خضم من المشاكل، فإنّهم يحققون انتصارات ملحوظة ونجاحاً كبيراً.

نختتم هذا الكلام بكلامٍ لأميرالمؤمنين علي عليه السلام.

قال عليه السلام في الكتاب الخامس والأربعين من نهج البلاغة في الإجابة عن سوالٍ وُجّه إليه وهو: كيفية قدرته عليه السلام على مبارزة شجعان العرب بالرغم من تناوُلِهِ أغذية بسيطة جدّاً؟!

«ألا وإنّ الشجرة البريّة أصلب عوداً، والرواتع الخضِرة أرقّ جلوداً، والنباتات العِزْية أقوى وقوداً وأبطأ خموداً».

4- الخير والشّر في القرآن الكريم

للخير والشر معنىً واسع في القرآن الكريم يشمل مصاديق متنوعة وأفراداً متفاوتين.

__________________________________________________

(1) سرّ النجاح.

(2) الإنسان ذلك المجهول، ص 152.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 380

ورد الخير في القرآن بمعنى (المال) (البقرة/ 180) وبمعنى (العلم) (البقرة/ 269)، وبمعنى (الجهاد) (النساء/ 19)، وبمعنى (الأعمال الصالحة) (النساء/ 149)، وبمعنى (الإيمان) (الأنفال 23)، وبمعنى (القرآن) (النحل/ 30).

وبمعانٍ أُخرى أيضاً مثل (الناس الأخيار)، (الظن الحسن) (الولد الصالح)، (البستان والزرع) وما شاكل ذلك.

ويجدر الإلتفات إلى أنّ هذه الكلمة قد ذُكرت في القرآن 176 مرّة بصيغة المفرد و 12 مرّة بصيغة الجمع، في حين نجد أنّ الشر مذكور 30 مرّة فقط بصيغتي المفرد والجمع!

وكلمة (شر) المضادّة لكلمة (خير) وردت بمعنى البلاء والمصيبة، العذاب، أنواع المكاره والشدائد، وجميع أنواع الوسوسة والفساد.

والمسألة الاخرى التي يلزم الإلتفات إليها هي أنّ القرآن قد اعتبر (الشّر) من مخلوقات اللَّه

في قوله تعالى «مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ». (الغلق/ 2)

ويتبادر إلى الأذهان هنا سؤالان:

الأول: كيف يتناسب هذا التعبير مع عدميّة الشرور؟

والثاني: قول القرآن في آيةٍ اخرى: «الَّذِى أَحسَنَ كُلّ شى ءٍ خَلَقَهُ». (السجدة/ 7)

فكيف تتناسب هاتان الآيتان مع بعضهما؟ وبتعبيرٍ آخر: يظهر من الآية الثانية أنّ كل ما في الوجود ويصدق عليه تعبير (شي ء) ومن مخلوقات اللَّه فهو حَسن، في حين أنّ الآية الأولى تأمر بالإستعاذة من (شرّ ما خلق).

وفي الإجابة عن السؤال الأول يجب القول: إنّ الآية المذكورة لم تعتبر أي مخلوقٍ شرّاً، بل تقول بإمكانية صيرورة بعض المخلوقات سبباً للشّر، أي بأن تعدم كمالًا، أو تغصب حقّاً، أو تُبعثر نظماً معيناً، لذا يبقى الشّر بنفس مفهومه العدمي الذي يُمكن أن يتحقق من قبل الناس الأشرار أو الشياطين. (تأمل جيداً).

ويُحتملُ أيضاً أن يكون قصد الآية هو الشّر النسبي لا المطلق، أو الشّر الغالب كأنياب الأفعى التي هي وسيلة دفاعيّة بالنسبة لها، ووسيلة شر بالنسبة للإنسان (أحياناً)، فالإنسان يعوذ باللَّه من قبيل هذه الموجودات.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 381

وقد فسّر بعض المفسّرين (الشّر) هنا بمعنى: الشياطين أو جهنّم، أو أنواع الحيوانات المؤذية، أو الناس والشياطين الأشرار، وأنواع الأمراض والآلام والمتاعب والقحط والبلايا.

ولكن كما ذكرنا فإنّ الآية ذات مفهوم عام، ونحن نعلم بأنّ أي واحدة من هذه الأمور ليست شرّاً مطلقاً أو شراً غالباً، كما شرحنا ذلك في البحوث السابقة، ولكن يُمكن أن تصير سبباً للشّر، فيعوذ الإنسان باللَّه من شرّها.

ومن هنا يتضح جواب السؤال الثاني أيضاً وهو أنّ جميع ما خلق الباري سبحانه خيراً، «إما مطلقاً أو غالباً»، وما نُسميه نحن بالشّر إما هو ذو صبغة عدميّة لا يسعه مفهوم الخلق، وإمّا ذو صبغة نسبيةّ أو

من الأمور الوجوديّة التي تُسبب العدم، كالسموم القاتلة التي لها استعمالات طبيّة كثيرة أيضاً في نفس الوقت.

وبهذا تتضح جميع التعابير القرآنية في الخير والشّر، ويتضح ردّ الإشكالات الاخرى المختلفة المطروحة في هذا المجال، ومن جملتها الإشكالات التي نقلها الفخر الرازي عن بعض الملحدين والماديين وتركها دون جواب.

5- الخير والشّر في الروايات الإسلاميّة

وردت هاتان الكلمتان في الروايات الإسلامية الواردة عن الرسول صلى الله عليه و آله، والأئمّة المعصومين عليه السلام، بشكل واسع وفي صَيغٍ مُختلفة.

ما يتناسب مع موضوع بحثنا أولًا هو تصريح الكثير من الروايات بكون الخير والشر مخلوقين إلهيّين، من جملتها:

ورد عن الإمام الباقر، عليه السلام: «إنّ اللَّه يقول أنا اللَّه لا إله إلّاأنا، خالق الخير والشّر، وهما خلقان من خلقي ...» «1».

وقد ورد نفس هذا المعنى في حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام، حيث قال: «إنّي أنا

__________________________________________________

(1) بحارالانوار، ج 5، ص 160، ح 20.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 382

اللَّه لاإله إلّاأنا، خلقت الخلق، وخلقت الخير وأجريته على يدي من أُحبّ، فطوبى لمن أجريته على يديه، وأنا اللَّه لا إله إلّاأنا، خلقت الخلق وخلقت الشّر وأجريته على يدي من أريده، فويلُ لمن أجريتهُ على يديه» «1».

وعن الإمام الصادق عليه السلام، أيضاً: «الخير والشّر كُلّه من اللَّه» «2»

وهنالك أحاديث عديدة اخرى في المصادر الإسلامية، وذكرها بأجمعها يخرجنا عن صُلب الموضوع «3».

وقد طُرحَتْ أسئلة مختلفة بصدد هذه الأحاديث أهمها السؤال التالي:

أولًا: إذا كان الشر أمراً عدميّاً فكيف عُبّر عنه بالخلق هنا؟

يمُكن العثور على جواب هذا السؤال في البحوث السابقة، وهو كثيراً ما يحدث أن تُطلق لفظه الشّر على الأمور الوجوديّة التي تُسبب العدم، كأنواع المكروبات والمواد السّامة والأسلحة المخرّبة والتي تعتبر جميعها أموراً وجودية لكنها مصدر «الأمراض» و

«الموت» و «الخراب»، التي هي أمور عدميّة، «دقق جيّداً».

علاوةً على هذا فإنّه يُحتمل أن يكون التعبير الوارد يشير إلى الشرور النسبية ذات الصبغة الوجوديّة والتي يغلب خيرها على الرغم من تركها أثاراً سلبيّة لبعض الأفراد.

يقول العلّامة المرحوم المجلسي (رضوان اللَّه تعالى عليه) في «مرآة العقول» عن المحقق الشيخ الطوسي، في شرح أمثال هذه الروايات: المقصود من الشّر هو الأمور التي لا تناسب طبع الإنسان على الرغم من وجود مصلحة معينة فيها.

ثم أضاف في توضيحه عن كلام المحقق: «للشر معنيان».

1- الشي ء الذي يخالف الطبع ولا يتناسب معه كالحيوانات المؤذية.

2- الشي ء المؤدي إلى الفساد وليس فيه مصلحة ما.

وما يُنفى عن اللَّه سبحانه هو الشّر بالمعنى الثاني لا الأول، ثم أضاف قائلًا: يعتقد

__________________________________________________

(1) اصول الكافي، ج 1، ص 154، باب الخير والشر، ح 1.

(2) بحارالانوار، ج 5، ص 161، ح 21.

(3) لزيادة الإطلاع راجع المجلد الأول من اصول الكافي: باب الخير والشر، والمجلد الثاني من كتاب الدعاء: باب ما يمجد به الرب، الحديث الأول والثانى، ص 515 و 516، وبحارالانوار، ج 5، باب السعادة والشقاوة.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 383

الفلاسفة بأنّ الأمور على خمسة أنواع: الأشياء التامّة الخير والتي يُستلزم صدورها من اللَّه عزّوجل، والأشياء التامّة الشر التي يستحيل صدورها من اللَّه عزّوجل، والأشياء التي يغلب خيرها وهي ضرورية الصدور من اللَّه أيضاً، والأشياء الغالبة الشّر أو التي تساوى خيرها وشرّها، فكلاهما لا يصدران من اللَّه تعالى وما نراه من الحيوانات المؤذية في عالمنا فانَّ فوائده الوجوديّة أكثر من شره، «ولذلك خُلقوا» «1»

. لذا يُحتمل أن يكون المقصود من خلق الشّر من قبل اللَّه تعالى هو الأمور التي فيها نسبة من الشّر، لكن خيرها

غالب في المجموع.

والسؤال الآخر المطروح بصدد هذه الرواية هو: أنّ الرواية تقول بأنّ اللَّه يجري الخير والشّر على يد فئات مُختلفة من الناس، أفلا تُعطي هذه المسألة رائحة الجبر؟ وكيف يمكن للخالق الحكيم أن يجعل أفراداً وسيلة للشرّ والفساد؟ والجواب على هذا السؤال أيضاً، بالنظر لما مضى سابقاً، ليس بأمر مُعقّد، لأنّ هذه التعابير تُشير إلى التوحيد الأفعالي الإلهي، أي أنّ ذاته منتهى كُلّ شي ء ولكن اللَّه قد منح الإنسان حرّية الإرادة وخيارها ومكّنه من أسباب الخير والشّر والصلاح والفساد ليبتليه، فالبشر هم الذين يُصمِّمون التصميم النهائي في انتخاب نوع الطريق، ونوع البرنامج السلوكي، ومُسلّماً أنّ اللَّه يجري أنواع الخير على يد الذين ينتهجون طريق الإيمان والعمل الصالح.

ومن هنا يتضح تفسير الآيات التي تقول: «فَمَن يَعمَلْ مِثقَالَ ذَرَّةٍ خَيراً يَرَهُ* وَمَن يَعمَلْ مِثقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ». (الزلزال/ 7- 8)

وخلاصة الكلام هو أنّ الشر بمفهومه العدمي ليس بمخلوقٍ إلهيّ، وما هو مخلوق شيئان:

1- الأمور الوجوديّة الأصل لكنها أسباب الأمور العدميّة، وقد ذكرنا أمثلتها.

2- الأمور التي خيرها يغلب شرّها، أو بتعبير أخر شرها نِسْبي، كالكثير من سموم الحيوانات التي تؤدي إلى موت وهلاك الإنسان في حالات معينة، لكنها وكما نعلم مادّة صناعة الكثير من العقاقير الشافية من جهة اخرى، ويوجد في مراكز صناعة الأدوية أقسام لحفظ الثعابين الخطرة وذلك للاستفادة من سمومها، علاوةً على هذا فإنّ أنياب وسُمّ هذه

__________________________________________________

(1) مرآة العقول، ج 2، ص 171، باب الخير والشر، ح 1.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 384

الحيوانات هي وسيلتها الدفاعية لمواجهة الأعداء، أو جمع الغذاء من أجل البقاء.

وكذا المكروبات المعروفة بالشّر هي امور وجوديّة، فبالإضافة إلى آثارها السلبية فانَّ لها أثاراً إيجابية أيضاً، وتعمل الكثير من هذه

الموجودات المجهرّية على تفسيخ أجساد الموتى وجثث الحيوانات، ولولاها لما مضت إلّامدّة وجيزة حتْى تمتلى ء الأرض بالأجساد المتعفّنة وتتلّوث بسببها، وَلَحَلَّ الدمار الشديد بالبيئة الإنسانية.

وأيضاً تعمل مجموعة منها على إحداث افعال وانفعالات معينة داخل التربة لتهيّأها للزرع.

وحتى المكروبات المؤذية المسببة للأمراض فإنّ هجماتها المستمرة على بدن الأنسان، عن طريق الغذاء والماء والهواء، تُنشّط جميع خلاياه وتجعلها في حالة دفاعية دائماً وتكون سبباً في اقتدارها، إلى الدرجة التي يعتقد البعض بأنّه لو لم تكن هذه المكروبات الهجوميّة لكان بدن الإنسان ضعيفاً جدّاً ولكان أطول إنسان لا يتجاوز طول قامته الثمانين سنتمتراً!

والسؤال الأخير المطروح بصدد خلق الشّر هو: لم لا تنحصر مخلوقات اللَّه بالخير المحض؟ وتوجد أشياء غالبة الخير، فمثلًا نجد أنّ النار مادّة حارقة ينتج منها الكثير من شؤون الحضارة الإنسانية، والمواد الحياتية والأشياء المفيدة، لكنها أحياناً قد تُحرق أفراداً، أو تحول بيتاً بأكمله إلى رماد بسبب سوء استخدامها.

ولكن يجب الإنتباه في مثل هذه الموارد إلى أنّها لو جُرّدت عن صيغة الشّر فقدت محتواها، أي أن لا يخلق اللَّه ناراً، لأنّ النار التي تُحرق أحياناً ولا تُحرق أحياناً اخرى ليست بنار.

وبتعبير آخر: يحتوي عالم المادّة بطبيعته على مثل هذه النقائص إلى جنب كمالاته، وإذا كان من المقرر حذف هذه النقائص لصار معناه نقض خلق عالم المادّة أساساً، «أي أن لا يُخلَقْ»، في حين أنّه ذو خيرٍ غالب وكمال نسْبي، وخلقه عين الحكمة (تأمل جيداً).

نفحات القرآن، ج 4، ص: 385

«سؤالان مُهمّان عن العدل الإلهي»

في نهاية هذه المباحث بقي هنالك سؤالان جديران بالإهتمام والإلتفات:

1- لماذا طُرِحَ العدل كواحد من أصول الدين؟

كما نعلم ووفق تقسيم الصفات الإلهيّة، تقع صفة العدل في قسم الصفات الفعلية، وتُعتبر واحدة منها، لأنهّا صفة للفعل الإلهي، ويخطر هنا السؤال الثاني: لأي الخصوصّيات فُصلتْ هذه الصفة عن سائر الصفات، وأخذت مكانها كأصل مُستقل من أصول الدين الخمسة؛ وأحياناً توصف مع، «الإمامة»، كأصلين خاصّين في المذهب الشيعي؟

للاجابة عن هذا السؤال يجب الإلتفات إلى عدّة أمور:

1- الظرف الزماني لهذه المسألة، التي مرّت علينا في بداية البحوث من ناحية أصل ظهورها التاريخي هي من أوضح أسباب انفصال هذه الصفة عن بقية الصفات الإلهيّة.

لأنّه كما ذكرنا فقد شهد القرن الأول الهجري نزاعاً شديداً بين علماء العقائد الإسلاميّة، حيث كان في أحد طرفيه جماعة الأشاعرة الذين كانوا يعتقدون بعدم إمكانية وصف الأفعال الإلهيّة بالعدل والظلم، فهي فوق هذه الأمور، وكل ما يصدر من اللَّه هو عين العدل، حتى وإن أدخل جميع الأنبياء في النار، وجميع الأشقياء في الجنّة؛ وكان طرفه الأخر جماعة الشيعة وجماعة المعتزلة، «جماعة كانت تعتبر العقل كأحد المصادر الإسلاميّة»، الذين كانوا يقولون ويعتقدون بحكمة اللَّه وعدله وعدم صدور شي ء منه خلاف ذلك، فلن يثيب الظالم ولن يعاقب المظلوم، وعقلنا يدرك الحسن والقبيح بمقدار واسع، ولا يصدر من اللَّه العادل والحكيم إلّاالفعل الحسن.

وكما لاحظنا فإنّ كثيراً من الآيات القرآنية أيدت هذه الحقيقة أيضاً.

وأدّى هذا الإختلاف إلى ظهور جماعة عُرفت باسم «العدلية»، وعُرف أصل العدل، وأصل الإمامة كأصلين خاصّين في المذهب الشيعي.

2- علاوةً على هذا، فإنّ الكثير من صفات الفعل الإلهي تعود بالحقيقة إلى أصل العدل،

نفحات القرآن، ج 4، ص: 386

فمثلًا حكمة اللَّه ورازقيته ورحمانيته ورحيميته جميعاً واقعة في ظلّ عدالته، وبالأساس إنّ العدالة بمفهومها الحقيقي الواسع،

أي وضع كل شي ء في موضعه المناسب، تشمل جميع الصفات الفعلية، والأهم من الجميع هو أنّ مسألة «المعاد»، و «مالكية اللَّه ليوم الدين»، تنشأ بالحقيقة من عدالته سبحانه، وهذه الخصوصّية تستلزم الإلتفات إلى هذا الأصل بصورة مستقلّة.

3- للعدل مفهوم واسع بحيث يشمل كُلًّا من العدالة العقائديّة، والعدالة الأخلاقية، والعدالة الاجتماعيّة، وبذلك سينعكس من مسألة العدل الإلهي نورٌ على الملكيات الأخلاقية الإنسانية، وعلى كافة القوانين الاجتماعيّة، وكم لائقٌ بمثل هذا الاصل العقائدي الذي له مثل هذا الانعكاس الواسع أن يُعرّف كأحد أركان الإسلام، ولو أنّنا لم نعثر في المصادر الإسلامية على آية أو رواية تدل بوضوح على صدور هذا الإنتخاب من قبل الأئمّة المعصومين عليهم السلام، ويبدو انه انتخاب صادرٌ من قبل علماء الكلام والعقائد، ولكن الدافع الأساسي له هو التأكيد والإهتمام الكثير الذي أولته الآيات والروايات لهذه المسألة بشكل كُلّي «1».

2- هل تتعارض هذه الأمور مع العدل الإلهي؟

يلاحظ وجود مواضيع مختلفة في القرآن والروايات الإسلاميّة تبدو بأنّها غير متناغمة مع مسألة العدل الإلهي من الناحية الإسلامية أحياناً، ومن وجهة نظر بعض العلماء أحياناً اخرى، مثل:

1- مسألة الشفاعة.

2- مسألة الجبر والتفويض.

3- مسألة القضاء والقدر.

4- تفاوت تقسيم الأرزاق، ووجود الغنى والفقر معاً في المجتمات الإنسانية.

__________________________________________________

(1) ورد تأييد ضمني فقط لهذا الكلام في الرواية المنقولة عن الإمام الصادق عليه السلام عندما سأله رجل: «إنّ أساس الدين التوحيد والعدل» وطلب منه توضيحاً أكثر حول ذلك. (راجع بحار الأنوار، ج 5، ص 17).

نفحات القرآن، ج 4، ص: 387

ومن المسلّم أنّ لكل واحدة من هذه المسائل من حيث الماهيّة والمحتوى بحثاً خاصاً ومفصلًا سنتطرق إليها جميعاً في محلّها الخاص، ولكن يتوجّب هنا فقط أن نبحثها من ناحية عدم وجود تضاد فيما بينها وبين مسألة العدل الإلهي.

أمّا

بالنسبة للشفاعة فالذين يعتقدون بأنّ الشفاعة معناها أن يشفع النبي صلى الله عليه و آله، أو إمام معصوم عليه السلام، أو ملك مقرب في دخول مذنب معين الجنّة، في حين من المقرر أن يدخل نظيره في الذنب والظروف النار، يحق لهم أن يعتقدوا بتضاد مثل هذه الشفاعة مع أصل العدل.

ولكن نظراً لكون الشفاعة تخص الذين أبدوا من ناحيتهم لياقة خاصّة في هذا المجال، وحازوا على حق شفاعة الشافعين بالأعمال الصالحة، بحيث صار وعد الشفاعة من الناحية العملية درساً تربوياً لإصلاح المذنبين وسوقهم نحو الصراط المستقيم أو مانعاً لهم على الأقل من زيادة التلوث بالذنوب، يتضح جيداً عدم انتفاء مسألة الشفاعة مع عدالة اللَّه وحكمته، بل تؤكّدها كذلك «1».

وأمّا مسألة «الجبر والتفويض»، فالذي يتنافي مع العدل هو مسألة «الجبر»، فإمّا أن نقول بالجبر وننكر العدالة، وإمّا الاقرار «بالعدل» وترك «الجبر» وكما لاحظتم في البحوث السابقة فقد اضطرّ المعتقدون بالجبر إلى مسألة العدالة، وهذه إحدى أكبر الإشكالات على مذهبهم.

نكرر بأن ليس الهدف هو طرح مسألة الجبر والتفويض ودلائل بُطلان الجبر، فلها محل أخر خاص بها، والهدف الوحيد هنا هو النظر إليها بمنظار مسألة العدالة لنرى هل يمكن أن يُجبر أحدٌ على ذنبٍ معين ثم يُعاقبُ عليه، فمن الواضح أنّ هذا السؤال يجاب عنه بالنفي، وأمّا بالنسبة إلى مسألة «القضاء والقدر» و «مصير الإنسان» بالشكل الذي سيمر علينا في بحث القضاء والقدر، فإنّ المفهوم الواقعي والمنطقي «للقضاء والقدر»، ليس بمعنى التقدير المُسبق لمصير الإنسان، من حيث السعادة والشقاء، والطاعة والمعصية، بشكل إجباري

__________________________________________________

(1) لزيادة الإطلاع راجع التفسير الأمثل، ذيل الآيتين 47 و 48 من سورة البقرة.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 388

وحتمي وغير قابل للتغيير، فليست هذه المسألة

بأكثر من خرافة، أي حمل بعض الجهلاء مسألة «القضاء والقدر الإلهي»، على هذا المعنى فالقضاء والقدر الإلهي يشير من جهة إلى قانون العلية، أي أنّ اللَّه قدّر نجاح وتوفيق الساعين العاملين، وأفشل الكسالى والخاملين «ووجود بعض الإستثناءات المحدودة لا تُلغي كُليّة هذه المسألة».

وكذا تعلق القضاء والقدر الإلهي بعمل الإنسان بأن يسعد المطيعون، ويشقى العاصون ويهزم الذين يَسلكون طريق الفرقة والاختلاف.

والقضاء والقدر الإلهي هكذا دائماً، ومن المُسلّم تناغمه الكامل مع مسألة العدل الإلهي إن فُسّر بهذا الشكل، وإن حملناه على ما فسّره بعض الجهلاء فسوف يتنافى مع العدل الإلهي، وليس هنالك طريق لحل هذه المعضلة «1».

وأمّا مسألة تفاوت الناس من حيث الفقر والغنى فهي أيضاً مسألة من قبيل القضاء والقدر الإلهي المشروط، أي أنّ الأفراد أو الشعوب المثابرة، المنظمة، والمتحدة أغنى من الأفراد والشعوب الكسولة العديمة النظم والإتحاد عادة، ونحن نلاحظ نماذج عينية لها في مجتمعنا والمجتمعات العالمية، ولا يُمكن للموارد الاستثنائنة أن تُلغي هذا الأصل الكلّي.

أجل، فهنالك موارد أيضاً يفرض الفقر فيها على فرد أو مجتمع معين من الخارج، ويؤدّي الاستعمار والاستثمار من قبل جماعة إلى فقر واستضعاف جماعة اخرى، وهذه المسألة أيضاً لا تفسح المجال للتشكيك بمسألة العدل الإلهي، فلا ريب في أنّ اللَّه قد منح الإنسان الحرّية، لأنّه تعالى لو لم يفعل لما أمكن سلوك طريق التكامل تحت ظروف الجبر، ولا ريب أيضاً في قيام جماعة باستغلال هذه المسألة بصورة سيئة، وطبعاً سينتصر اللَّه للمظلوم من الظالم، ولكن إذا كان من المقرر أن تؤدّي الإستغلالات السيئة إلى سلب اللَّه الناس الحرّية بصورة تامّة لتعطلت قافلة السير التكاملي الإنساني، هذا من جهة ومن جهة اخرى، إن سوء استغلال العباد لنعمة الحرية لا

تخدش عدالة اللَّه أصلًا «2».

__________________________________________________

(1) ولتمام التوضيح حول مسألة القضاء والقدر والمصير راجع كتاب دوافع ظهور المذاهب، ص 17- 41، والتفسير الامثل ذيل الآية 49 من سورة القمر.

(2) ورد توضيح أكثر حول هذا البحث في نفحات القرآن، ج 2، ص 290- 294.

نفحات القرآن، ج 4، ص: 389

آخر الكلام حول مسألة العدل الإلهي: انعكاس العدل الإلهي في «الأخلاق» و «العمل».

فقد أشرنا سابقاً إلى عدم انفصال «المسائل العقائدية» عن «المسائل العلميّة» في الإسلام، وإلى كون التفكّر بالصفات الإلهيّة يؤدّي إلى تفتُّح بصيرة الإنسان، وربطها بذلك الكمال المطلق، والسعي للتقرب إليه تعالى بالسير الظاهري والباطني، وهذا القرب سيؤدّي بالنتيجة إلى تخلق الإنسان بالأخلاق الإلهيّة، وانعكاس صفاته تعالى في أخلاقه واعماله.

لذا فكلما تقرب الإنسان إليه أكثر، تأصلت هذه الصفات فيه أكثر، لا سيما في مسألة العدل الإلهي، «سواءً أفسّرنا العدالة بمفهومها الواسع أي وضع كل شي ء في محلّه المناسب، أم بمعنى أداء الحقوق ومحاربة كل ألوان التبعيض والإجحاف»، فهذه العقيدة تترك أثراً في الفرد المسلم والمجتمعات الإسلامية، وتدعوهم نحو إدارة الأعمال بصورة صحيحة، ورفع راية العدل ليس فقط في المجتمعات الإسلاميّة، بل في العالم أجمع.

ومسألة العدالة في الإسلام بدرجة من الأهميّة بحيث لا يحول دونها شي ء، فلا أثر للحب والعداوة والقرابة والأرحام، البعد والقرب فيها وأي انحراف عنها يُعدّ اتباعاً للهوى كما ورد في قوله تعالى «يَادَاوُدُ إِنَّا جَعَلنَاكَ خَلِيفَةً فِى الأَرضِ فَاحكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ» (ص/ 26)

قوله تعالى: «وَلَا يَجْرِمَنَّكُم شَنَئَانُ قَومٍ عَلَى أَلَّا تَعدِلُوا». (المائدة/ 8)

وهذا الموضوع بدرجة من الأهميّة بحيث لو لم يتيسّرْ تطبيق العدالة بالطرق السلميّة لجاز تعبئة المظلومين ودعوتهم إلى الثورة العامة من

جهة، ومقاتلة الظالم للدفاع عن حقهم من جهة اخرى، كما ورد في الآية: «وَمَا لَكُم لَاتُقاتِلُونَ فِى سِبيلِ اللَّهِ وَالمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرّجَالِ وَالنّسَاءِ وِالوِلْدانِ». (النساء/ 75)

نفحات القرآن، ج 4، ص: 390

نختم هذا البحث بعدة روايات موثوقة تزين خاتمة هذا المجلّد:

1- قال الإمام علي عليه السلام في كلامٍ مختصرٍ وبتعبيرٍ لطيف غني: «العدل حياة» «1» 2- في حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «العدل أحلى من الماء يُصيبه الظّمآن» «2».

3- وعن الإمام علي عليه السلام أيضاً: «جعل اللَّه العدل قواماً للأنام وتنزيهاً من المظالم والاثام وتسنية للاسلام».

4- وعنه عليه السلام أيضاً: «العدل رأس الإيمان وجماع الاحسان وأعلى مراتب الإيمان».

وأخيراً ورد تعبير سامٍ عن نبي الإسلام محمد صلى الله عليه و آله: «عدل ساعة خيرٌ من عبادة سبعين سنة، قيام ليلها وصيامُ نهارها، وجورُ ساعة أشدّ وأعظم عند اللَّه من معاصي ستين سنة».

اللّهمّ! أنر قلوبنا بنور معرفة ذاتك، وصفات جمالك وجلالك، لكي لا نعبد سواك، ولا نسلك إلّاسبيلك.

اللّهمّ! نَوِّر أرواحنا وقلوبنا بعشق جمالك لتصطبغ أعمالنا وأخلاقنا بصبغتك وتقترن بها «صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنَ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً». (البقرة/ 138)

اللّهمّ! هب لنا تقوىً مقرونة بالإيمان بأسمائك الحسنى تصوننا عن الإفتراق عن خط العدالة، وسلوك خط الانحراف، ولو بمقدار رأس إبرة.

آمين ربّ العالمين

15- ربيع الثاني- 141

__________________________________________________

(1) غررالحكم نقل عنه ميزان الحكمة، ج 6، ص 81.

(2) بحارالانوار، ج 72، ص 36، ح 32، وقد نقل نفس هذا المضمون بشكل آخر عنه عليه السلام حيث قال: «العدل أحلى من الشهد، وألين من الزبد، وأطيب ريحاً من المسك».

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.