نفحات القرآن المجلد 3

اشارة

سرشناسه : مكارم شيرازي ناصر، - 1305 عنوان و نام پديدآور : نفحات القرآن اسلوب جديد في التفسير الموضوعي للقرآن الكريم ناصر مكارم شيرازي بمساعده مجموعه من الفضلا مشخصات نشر : موسسه ابي صالح النشر و الثقافه [1377؟]. مشخصات ظاهري : ج 6 وضعيت فهرست نويسي : فهرستنويسي قبلي يادداشت : عربي مندرجات : ج 1. العلم و المعرفه في القران .-- ج 2. معرفه الله في القرآن .-- ج 3. .-- ج 4. معرفه صفات و جلال الله .-- ج 5، 6. المعاد في القرآن موضوع : تفاسير شيعه -- قرن 14 رده بندي كنگره : BP98/م7ن7 1377 رده بندي ديويي : 297/179 شماره كتابشناسي ملي : م 77-13711

المقدمة

الطرق إلى اللَّه ...:

كما ورد في بداية هذا الكتاب فإنّ هناك حبلًا ممتداً من أعماق قلب كل إنسان متصلًا باللَّه عزّوجل، فتنطلق في روضةِ روح كلِ انسانٍ انشودةٌ تعبر عن هذا الإرتباط، ولهذا السبب، ونظراً لكثرة النفوس الإنسانية، فإنّ الطرق إلى اللَّه لا حصر لها، ولكلّ إنسان نوع خاص به من الإدراك والشعور بالنسبة للَّه سبحانه وتعالى.

ولكن مع كل هذه الاختلافات فإنّ وجهة الجميع واحدة، العالم بأسره منقاد له، وينمو في أعماقِ روحِ كلِ إنسانٍ برعم من معرفة ذاته وصفاته، وتُزهر في قلب كل إنسانٍ زهرةٌ من أزهار معرفته.

ويرتفع دائماً من «الوادي الأيمن» نداءُ «إِنّى أَنا رَبُّكَ» ويدعو الفطرة السوية الكامنة في كل النفوس الإنسانية إليه بصوت: «فَاخْلَع نَعْليكَ إِنَّكَ بِالوَادِ المُقَدَّسِ طُوى . (طه/ 12) يأمر الجميع بأن يسيروا بكل خضوع وخشوع واحترام وحذر شديد في الوادي المقدّس.

ويوصي جميع بني آدم بأن يعملوا بوصيته مثلما عملت مريم عليها السلام عندما أوصاها بقوله:

«وَهزّى اليكِ بِجذْعِ النَّخْلةِ». (مريم/ 25)

فيهزّون الأغصان المثمرة لشجرة

التوحيد لتتساقط عليهم ثمرات الإيمان والمعرفة الطيبة.

وأن لا يخشون أبداً من نيران شرك النمروديين، وأن يكونوا إبراهيميين فيدخلونها بكل اطمئنان وهدوء ليطفئوا نيران الشرك المحرقة ويحيلونها إلى روضة للتوحيد.

وأن يركبوا في سفينة المعرفة المنجية كما ركبها نوح، ليُغرق كل الذين يدعون ويلهجون بغيره- حتّى الكنعانيين منهم-.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 6

وأن ينهالوا بالضرب على رأس «السامري» دون وجل، ويحرقوا بنار غضبهم المقدّسة عِجله الذهبي المنمَّق الذي يتسبب في جذب قلوب المتعلّقين بالدنيا ومحبّي الثروة واكتناز الذهب وينثروا رماده في بحر الفناء!

أجل فإنّ سالكي هذا الطريق يكرّرون ما قام به الأنبياء المرسلون في سيرهم الظاهري في هذا العالم من خلال سيرهم الباطني للوصول إلى الهدف والمراد وهو «معرفة اللَّه».

وفي نهاية المطاف يلبّون النداء الروحي لنبي الإسلام صلى الله عليه و آله: «قولوا لا إله إلّااللَّه تفلحوا»، فيقتربون من أعلى مقامات الفلاح والفوز من خلال ترديدهم لنغمة التوحيد الروحية السامية بجميع أجزاء وجودهم «حتّى الوريد والشريان».

فيخرجون بهذا السير والسلوك الإلهي من «دار الطبيعة» ليجدوا طريقهم إلى «دار الحقيقة» ومقام القرب الإلهي.

ولكن النقطة المهمّة تكمن في أنّ هذا الطريق يمتاز بكثرة المنحدرات والمرتفعات والمنعطفات التي تكمن في مسالكها شياطين الجنّ والإنس، الذين يبذلون الجهد الجهيد و «بزخرف القول» لحرف سالكي هذا الطريق عن مسيرتهم لأنّ إمامهم وزعيمهم إبليس أقسم بعزّة اللَّه وجلاله منذ البدء لإغواء بني آدم، ولعلمه بأنّه «رجيم» ومطرود من حضرته، فانّه يدعو الآخرين لاتباعه والاصطباغ بصبغته.

إنّ «الوسواس الخنّاس» هي صفة للشياطين الذين يضعون النقاب على وجوههم، كالغول الاسطوري في قصص العرب، يسيرون عدّة أيّام في جادة الصواب، وبعد أن يجذبوا مجموعة من الناس إلى صفوفهم، ينحرفون عن الصراط المستقيم، ويلقون بهم في الأودية السحيقة «للضالين»

و «المغضوب عليهم».

إذن ماذا ينبغي القيام به؟

وأين طريق النجاة؟

نفحات القرآن، ج 3، ص: 7

يا ترى، هل يمكن طي هذا الطريق بواسطة العقل المجرّد، على الرغم من أنّ العقل يعد وسيلة من الوسائل التي وهبها اللَّه تعالى للإنسان فهو نور من الأنوار الإلهيّة؟!

أم يجب ركوب أجنحة الوحي والصعود إلى سماء المعرفة، فنتجاوز ضوء الشمع والمصباح، ونمدُ أيدينا نحو الشمس المتلألئة، فنستمد العون من نورها للوصول إليه، لنحصل على الدليل من ذاته على ذاته؟

حيث إنّ مضمون حديث رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «مَنِ ابتَغى العِلْمَ في غيره (غير القرآن) أَضَلَّهُ اللَّه» «1»

، ينصّ على ذلك، وهل يوجد غيره، يعرفه حقّ معرفته ليتمكّن من تعريفه للآخرين؟

إنّ هذا الكتاب وهو المجلّد الثالث من التفسير الموضوعي ل «نفحات القرآن» هو عبارة عن جهدٍ متواضع في هذا المجال لمعرفة اللَّه في مختلف الطرق بتوجيه آيات القرآن المجيد، وتأييد حكم العقل بلسان النقل، وترسيخ اسس البرهان بآيات الوحي.

محرّم الحرام 1410 ه ق قم المقدّسة- الحوزة العلمية

مرداد 1368 ه ش- ناصر مكارم الشيرازي

__________________________________________________

(1) بحارالأنوار، ج 89، ص 27.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 9

براهين معرفة اللَّه

اشارة

1- برهان النظم (قد ذكر سابقاً)

2- برهان التغيّر والحركة

3- برهان الوجوب والإمكان (الغنى والفقر)

4- برهان العلة والمعلول

5- برهان الصدّيقين

6- الطريق الباطني لمعرفة الله (الفطرة)

نفحات القرآن، ج 3، ص: 11

تمهيد:

بالرغم من أنّ الطرق إلى اللَّه لا حصر ولا حدود لها- وكما يقول بعض العلماء: إنّ السبل إلى اللَّه هي بعدد الخلائق: «الطرق إلى اللَّه بعدد نفوس الخلائق» «1»

- إلّاأنّه توجد خمس طرق عقلية رئيسية وطريق فطري واحد لإثبات ذات اللَّه المقدّسة، والطرق العقلية هذه عبارة عن:

1- برهان النظم.

2- برهان الحركة.

3- برهان الوجوب والإمكان (الفقر والغنى).

4- طريق العلّة والمعلول.

5- برهان الصدّيقين.

والطريق السادس هو طريق (الفطرة) والسلوك (الباطن) والبحث في أعماق الروح الإنسانية، ومن الملاحظ أنّ القرآن الكريم قد استند إلى هذه الطرق أجمع، غير أنّ أشمل البراهين التي يطرحها للمعارضين هو (برهان النظم) الذي يثبت وجود ذلك المبدئ الأزلي وما يملكه من علم وقدرة، وذلك من خلال عرض عجائب الخلق والآثار البديعة والأنظمة العجيبة في عالم الوجود ولذا خُصّص أكثر الجزء الثاني من (نفحات القرآن) لشرح هذا البرهان وتبيان موارده- وشواهده في القرآن الكريم.

__________________________________________________

(1) نقله البعض بعبارة (عدد أنفاس الخلائق) ويعني أنّ كلّ نفس يتنفّسه الإنسان هو طريق اللَّه. ولكن هذه الجملة لم نجدها بصورة حديث في مصادرها بل وردت في كلمات العلماء.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 12

والآن نتابع سائر الطرق القرآنية لإثبات وجود اللَّه، ثمّ نتحدّث عن قضيّة الفطرة في ظلّ التوجيهات القرآنية.

هذه صورة إجمالية عن أبحاث هذا الجزء.

نؤكّد مرّة اخرى ونكرر بأنّ هذه الأبحاث لا تُقدّم كأبحاث فلسفية أو كلامية، بل كأبحاث في التفسير الموضوعي كما تقتضيه طبيعة الكتاب، أي أنّنا نسير في هديّ الآيات القرآنية ونستضي ء بتوجيهات هذا النور الإلهي، ولو

كانت ثمّة قضايا اخر فإنّا سوف نتحدّث عنها تحت عنوان (إيضاحات)، وأبحاثنا- في الحقيقة- لا تستوجب غير ذلك، لأنّها في غير هذه الحالة سوف تفقد أصالتها كأبحاث تفسيرية.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 13

2- برهان التغير والحركة

تمهيد:

إنَّ عالمنا الذي نعيش فيه هو في حالة تغيير وتغيّر دائم، فلا يبقى الوجود على حالة واحدة، وكلّ شي ء يعيش حالة من التغيّر والتغيير.

ويبدو أنّ نطاق حياة البشر والحيوانات والنباتات المقترنة بالتغيير والحركة أوسع وليس بوسع أحد أن ينكر هذا التغيير والتبدّل على صعيد نفس الإنسان أو على صعيد عالم المادّة، فالإنسان يواجه مشاهد مختلفة من هذا التغيير ليلًا ونهاراً، بل إنّ ظاهرتي (الليل والنهار) هما من أوضح النماذج عن التغيير والتبدّل في العالم.

هذه التغيّرات والتغييرات والحركات التي تحكم العالم تدلّ بوضوح على وجود مركز ثابت تنشأ منه، وكأنّ الجميع يدور حول هذا المركز الثابت على محيط دائرة.

والتغيير والحركة في الموجودات يعدان بمثابة شاهد على حدوث الموجودات، كما أنّ حدوثها دليل على وجود خالقها.

هذا الاستدلال- الذي سَيرِدُ شرحُهُ بالتفصيل مستقبلًا- ورد في الآيات القرآنية بلطافة خاصّة، وبهذه الإشارة نرجع إلى القرآن الكريم كي نقرأ هذه الآيات:

«وَكَذَلِكَ نُرِى إِبرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ وَلِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ* فَلَمَّا جَنَّ عَلَيهِ اللَّيلُ رَءَا كَوكَباً قَالَ هَذَا رَبِّى فَلَّمَا أَفَلَ قَالَ لَاأُحِبُّ الآفِلِينَ* فَلَمَّا رَءَا القَمَر بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبّى فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَّم يَهْدِنِى رَبِّى لَأَكُونَنَّ مِنَ القَومِ الضالِّينَ* فَلَمَّا رَءَا الشَّمسَ بَازِغةً قَالَ هَذَا رَبِّى هَذَا أَكبَرُ فَلمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَومِ إِنِّى بَرِى ءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ* إِنِّى وَجَّهتُ وَجْهِىَ لِلَّذِىْ فَطَرَ السَمَاواتِ والأَرضَ حَنيفاً وَمَا أَنا مِنَ المُشرِكِينَ».

(الأنعام/ 75- 79)

نفحات القرآن، ج 3، ص: 14

شرح المفرادت:

1- «أفل»: و (أفلت) مشتقة من مادة (افول) وتعني الإختفاء كما يقول جمع من اللغويين، ولكن (الراغب) في (المفردات) أكثر دقّة حيث يقول: الافول يعني اختفاء الأجسام النيّرة كالشمس والقمر، والصحيح هو ما يذهب إليه الراغب، لأنّ هذا المعنى هو المتبادر

من إطلاق هذا اللفظ، كما أنّه ذو معنى كنائي في بعض المجالات، فمثلًا يعبّر عن موت العالم ب (الافول)، وفي ذلك- في الحقيقة- تشبيه بالشمس أو النجم، والتعبير بالافول والغروب هو بهذا اللحاظ.

2- كلمةُ «بازغ» و (بازغة) مشتقةٌ من المصدر (بزوغ) بمعنى الشروق وانتشار النور، كما يذهب إليه الراغب في المفردات فيقول هو في الأصل يعني اخراج دم الحيوان بُغية العلاج ثمّ استعمل بمعنى الطلوع.

أمّا ابن منظور فانّه يقول في (لسان العرب): الأصل فيه بمعنى الفتق ويستعمل في موارد فتق العروق في الإنسان أو الحيوان من أجل العلاج وبما أنّ طلوع الفجر وأمثاله يشقّ ظلام الليل لذا استعمل هذا اللفظ في هذا المعنى.

3- «كوكب»: مشتقٌ من (وكب) أو (كوَب) وقد فسّره الكثير بمعنى (النجم)، ولكن الراغب في المفردات فسّره بمعنى (النجم عند الطلوع)، وعندما يفسّره البعض بمعنى كوكب (الزهرة) فهو من قبيل المصداق الواضح له، لأنّ كوكب الزهرة هو أشدّ النجوم تلألؤاً ولمعاناً.

كما يطلق هذا اللفظ أحياناً على الوسيم والجميل، أو الجزء المهمّ من كلّ شي ء، وعلى كبير القوم أيضاً، ولكنّها معانٍ مجازية في الظاهر.

أمّا «قمر»: وإن كان معروفاً، ولكن توجد هنا نقطة جديرة بالإلتفات وهي أنّ الكثير من اللغويين صرّحوا بأنَّ لفظ (القمر) يطلق في فترة تمتدّ من الليلة الثالثة وحتّى الليلتين الأخيرتين من الشهر، وعليه لا يطلق لفظ القمر في الليلتين الأوليين ولا في الليلتين الأخيرتين بل يطلق لفظ (الهلال)، لأنّ اللغويين يعتقدون بأنّ (القمر) و (القمار) من أصل

نفحات القرآن، ج 3، ص: 15

واحد ويعني الغلبة، وبما أنّ نور القمر في الليلة الثالثة يتغلّب على أنوار النجوم المجاورة، لذا أطلق عليه هذا اللفظ «1».

«شمس»: هذا اللفظ وإن كان له معنى معروف

ولكن من الجدير أن نذكر هذه الملاحظة وهي أنّ لفظ الشمس يطلق على الكوكب نفسه وعلى النور الساطع منه أيضاً.

وبما أنّ الشمس غير ثابتة في السماء وهي في حركة دائبة (بالنسبة لنا سكّان الأرض) لذا يطلق هذا الاصطلاح على الأشخاص الفوضويين والحيوانات الجموحة فتُعرف ب (الشَموس).

جمع الآيات وتفسيرها

إبراهيم عليه السلام يواجه عبدة الأصنام بمنطق قوي:

تحدثت الآية الاولى عن إراءة اللَّه سبحانه (ملكوت) السماوات والأرض لإبراهيم عليه السلام كي ينبعث اليقين في نفسه بمشاهدتها، وتتجدّد الحياة في إيمانه الفطري حيث تقول «وَكَذلِكَ نُرى ابرَاهِيمَ مَلَكوتَ السَّماوَاتِ والأَرضِ وَلِيَكُونَ مِنَ المُوقِنينَ» «2».

إنّ المقصود من (إراءة ملكوت السماوات والأرض) هو مشاهدة حكومة اللَّه ومالكيته لعالم الوجود بملاحظة الموجودات المتغيّرة في هذا العالم [لأنّ لفظ (ملكوت) مشتق من (ملك) بمعنى الحكومة والمالكية، وزيادة الواو والتاء للتأكيد] هذه الحاكمية المطلقة والمالكية المسلّمة للَّه على العالم جاءت بالتفصيل في الآيات اللاحقة، وهذه الآيات- في الحقيقة- جاءت على صورة البيان (الإجمالي) و (التفصيلي) وهو من الأساليب القرآنية المعروفة في بيان القضايا المهمّة، ففي البداية تذكر القضية بشكل مغلق كي يستعدّ السامع ثمّ تشرع بشرحها [التعبير بفاء التفريع في (فلمّا) إشارة واضحة إلى هذا الأمر].

__________________________________________________

(1) لسان العرب؛ مفردات الراغب؛ كتاب العين.

(2) يقول بعض المفسّرين بأنّ في تشبيه الآية إشارة إلى أنّنا كما أريناك- يانبي الإسلام- ملكوت السماوات والأرض فانّا قد أريناها إبراهيم أيضاً (و عليه ففي الآية جملة مقدّرة).

نفحات القرآن، ج 3، ص: 16

على أيّة حال فإنّ القرآن اعتمد تبيان هذا الإجمال في الآيات اللاحقة، فبدأ أوّلًا بالنجوم وبيّن استدلال إبراهيم عليه السلام في إبطال مذهب عبدة النجوم بهذا النحو: «فَلَمَّا جَنَّ عَلَيهِ اللَّيلُ رَءَا كَوكَباً قَالَ هذَا رَبِّى».

التعبير ب «رأى كوكباً» مع أنّ نجوماً كثيرة تظهر في الليل- فيه

إشارة إلى نجم كبير ولامع لفت نظره إليه، وبما أنّ كوكب (الزُهرة) يظهر أوّل الليل و (كوكب) يعني (النجم عند طلوعه) يتعزز بذلك التفسير الذي يميل إليه أغلب المفسّرين وهو أنّ النجم كان الزُهرة أو المشتري اللذين كانا يعتبران في العصور القديمة من الآلهة المعبودة عند المشركين، ويؤيد ذلك ما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام في إحدى الروايات بأنّ هذا النجم هو كوكب الزُهرة.

على كلّ حال فإنّ هذا النجم لم يدم طويلًا حتى أفل، فقال إبراهيم عليه السلام: «... لَااحِبُّ الآفِلينَ».

مرّة اخرى التفت إبراهيم إلى بزوغ (القمر) من وراء الافق فأضاء السماء والأرض بنوره الأخاذ والجميل فقال إبراهيم عليه السلام: «هَذَا رَبّى».

ولكن لم يدم طويلًا حتّى تعرّض القمر إلى مصير النجم واختفى وراء الافق وعادت السماء مظلمة، (عندئذ قال إبراهيم عليه السلام الذي كان يسعى للوصول إلى حقيقة وكنه المعبود:

«لَئِن لَّم يَهِدِنى رَبّى لَأَكُونَنَّ مِنَ القَومِ الضالِّينَ».

وبهذه الطريقة تبين أنّ سعي الإنسان لا يكفي للوصول إلى الحقّ، بل يجب أن يتعزز بالعون والعناية الإلهيّة وكي لا يكون من الضالّين، ومن المؤكّد أنّ هذا الإمداد والعون يشمل الذين يجهدون أنفسهم في ابتغاء الحقّ، وطلب معرفة اللَّه سبحانه وتعالى.

وأخيراً انتهى الليل، وأخذ الظلام يلم ستائره التي أسدلها على السماء، وبزغت الشمس فجأةً بوجهها النيّر المتلألئ من الشرق وألقت بأشعتها الذهبية على الجبال والصحاري، «فَلَمَّا رَءَا الشَّمسَ بَازِغةً قَالَ هَذَا رَبِّى هذا أَكبَرُ» «1».

__________________________________________________

(1) «الشمس» وإن كانت مؤنثاً مجازياً ويجب أن يشار إليها ب (هذه) ولكن نعلم أنّ قضيّة المذكر والمؤنث سهلة وهنا يمكن أن يكون (هذا) إشارة إلى (الموجود) أو (المشاهد).

نفحات القرآن، ج 3، ص: 17

ولكن بانتهاء النهار وسقوط الشمس في جوف الليل المظلم

واختفاء صورتها خلف حجاب الغروب، نادى إبراهيم عليه السلام: «يَاقَومِ إِنِّى بَرىِ ءٌ مِّمَّا تُشرِكُونَ».

لقد فهم إبراهيم عليه السلام من خلال مشاهدته لغروب الشمس وأفول النجم وغياب القمر، بأنّ كل ما رأى ما هي إلّامخلوقات خاضعة لقوانين الخلقة كالأفول والغروب والتغيير، وفهم بأنّ هناك قوّة خفية لا يعتريها التغيير والغروب والافول أبداً، وهذه القوة تتمثل بالذات الإلهيّة المقدّسة.

وقال: إنّي وَجّهتُ وجهي إلى مَن خلق السماوات والأرض، ولا أُذعن للشرك أبداً، إنّي موحّد كامل التوحيد وعابد وعبد مخلص: «إِنِّى وَجَّهتُ وَجهِىَ لِلذَّى فَطَرَ السَّمَاواتِ وَالأَرضَ حَنيفاً وَمَا أَنا مِنَ المُشرِكيِنَ».

هل وقعت الحوادث الثلاثة في ليلة واحدة أم في ليلتين؟

قال بعض المفسّرين- نظراً لعجزهم عن تصوّر وقوعها في ليلة واحدة- أو في ليلتين، فقد قالوا إنّ ظاهر الآيات يدل على أنّها تعاقبت في ليلة واحدة ونهار واحد وهذا ممكن تماماً، لأنّ كوكب الزهرة يظهر منتصف الشهر وبوضوح في أوّل الليل ثمّ يأفل سريعاً، ثمّ يظهر القمر بدراً من افق الشرق [والتعبير ب (بازغ) يدلّ على أنّ القمر كان بدراً أو قريباً منه وعندما يختفي القمر في افق الغروب لا تلبث الشمس حتّى تشرق، وبهذا الترتيب تكون الوقائع الثلاث قد حصلت في ليلة واحدة ونهار واحد.

وهذا الأمر ليس مهماً، المهم أن نعرف هو كيف يمكن لشخص مثل إبراهيم عليه السلام وبهذه المكانة العلمية والعرفانية ومع الأخذ بنظر الاعتبار عصمة ومقام الأنبياء وحتى قبل بعثتهم، أن يجرى على لسانه مثل هذا الكلام والذي يحمل في طياته شركاً ظاهراً؟

يمكن الإجابة عن هذا السؤال بطريقين:

الأوّل: بقرينة الآيات الواردة حيث يقول: «يَاقَومِ انّى بَرىِ ءٌ مَّمّا تُشرِكُونَ» يُفهم أنّه كان

نفحات القرآن، ج 3، ص: 18

في حالة التحدّث والكلام والجدال مع المشركين ونعلم أنّ

مدينة بابل كانت تضم عبدة النجوم والقمر والشمس.

إنَّ المعلّم الذكي والمتحدّث الماهر عندما يواجه المعارض اللجوج المعاند فلا يقابله بمعارضة عقيدته فوراً بل يماشيه فترة، وبتعبير آخر يتحرّك مع الموجة قليلًا ثمّ يركبها، وبهذا النحو يكون إبراهيم عليه السلام في بداية الأمر معهم ظاهراً لكي يريهم ضعف عقيدتهم ومنطقهم عند افول هذه الأجرام السماوية، وهذا الاسلوب في النقاش مؤثّر ونافذ ومقبول كثيراً ولا يتنافى مع ما لإبراهيم عليه السلام من مقام في التوحيد والمعرفة.

في رواية عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام في جوابه للمأمون الذي كان يعتقد بتعارض هذه الآيات مع عصمة الأنبياء أنّه قال: «... إنّ إبراهيم عليه السلام وقع إلى ثلاثة أصناف:

صنف يعبد الزهرة، وصنف يعبد القمر، وصنف يعبد الشمس ... وكان قوله هذا على الإنكار والإستخبار ...» «1».

والتفسير الآخر هو أنّ إبراهيم عليه السلام ألقى هذا الكلام بشكل فرضي، والمحقّقون يواجهون ذلك في الغالب عند التحقيق.

للإيضاح نقول: يتوصّل الإنسان تارةً إلى قضيّة ما عن طريق الاستدلال الوجداني والشواهد الفطرية ولكنّه يريد أن يجعلها في إطار البرهان العقلي، فيستعين بفرضيات مختلفة ويدرس مستلزمات كلّ فرضية حتّى يصل إلى ما يريد.

فمثلًا: يتوصّل المحقّق إلى أصالة الروح بوجدانه ويرغب في إقامة البرهان على ذلك فيفترض الروح مادّية أو أنّ المادّية من خواصها ثمّ يدرس اعراض المادّة وخواصها ومستلزماتها فيصل أخيراً إلى أنّ الماديّة (أو اعراض المادّة) لا تنسجم مع الظواهر الروحية فينفيها الواحدة تلو الاخرى حتّى يبلغ تجرّد الروح.

وإبراهيم عليه السلام أيضاً ولكي يسلك طريق التوحيد المنطقي والذي توصّل إليه بوضوح في أعماق روحه يفترض فرضيات مختلفة ويقول (هذا ربّي) و (هذا ربّي) ثمّ يصل إلى بطلان

__________________________________________________

(1) عيون أخبار الرضا عليه

السلام باختصار، بنقل من تفسير الميزان، ج 7، ص 214.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 19

هذه الاحتمالات بافولها وغروبها حتّى يقول أخيراً: «إِنّىِ وَجَّهتُ وَجهىَ لِلَّذى فَطَر السَمَاواتِ وَالأَرضَ» «1»

ويكمل توحيده المستدل.

ونلاحظ في بعض الروايات إشارات خفيفة إلى هذا المضمون، كما نقرأ عن الإمام الصادق عليه السلام في قوله تعالى: «كَانَ النَّاسُ أُمّةً وَاحدةً» الآية في حديث طويل ... وفي آخره يقول الراوي: قلت له: أفي ضلال كانوا قبل النبي أم على هدى؟

قال عليه السلام: «لم يكونوا على هدى بل كانوا على فطرة اللَّه التي فطرهم عليها لا تبديل لخلق اللَّه، ولم يكونوا ليهتدوا حتّى يهديهم اللَّه أما تسمع لقول إبراهيم عليه السلام: (لئن لم يهدني ربّي لأكوننّ من القوم الضالّين) أي ناسياً للميثاق» «2».

ولكن القرائن الموجودة في الآيات والروايات التي وردت عن الإمام الرضا عليه السلام في هذا المجال أكثر تلائماً مع التفسير الأوّل.

العلاقة بين الأفول والحدوث:

لقد استدلّ إبراهيم عليه السلام بافول الكواكب والشمس وغروبها على نفي الوهيتها، وقال بأنَّ هذه الموجودات لا يمكنها أن تكون آلهة للعالم، والكلام هنا كيف يمكن توضيح هذه العلاقة؟

توجد هنا آراء مختلفة:

1- (الأُفول) علامة التغيير، بل هو لون من التغيير، والتغيير دليل على نقص الموجود، لأنّ الموجود الكامل من كلّ جهاته لا تتَصوّر فيه الحركة ولا التغيير لأنّه لا يفقد شيئاً ولا

__________________________________________________

(1) وردت احتمالات اخرى في تفسير الآيات أعلاه منها الإستفهام الإستنكاري والإستفهام بقصد الإستهزاء وأمثاله، وخاصّة في تفسير التبيان وتفسير الفخر الرازي حيث أوردا احتمالات عديدة، ولكن لا ينسجم أي منها مع لحن الآية.

(2) تفسير نور الثقلين، ج 1، ص 736، ح 148.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 20

يكتسب شيئاً فهو الكمال المطلق، وعلى ذلك فإنّ الموجودات المتغيّرة

والمتحرّكة تكون ناقصة حتماً فهي إمّا تفقد كمالًا، أو أنّها تبحث عن كمال جديد، والموجود الناقص لا يمكن أن يكون واجب الوجود.

2- الموجود المقرون ب (الافول) معرّض للحوادث، وكلّ ما كان معرّضاً للحوادث لا يمكن أن يكون قديماً وأزليّاً وواجب الوجود لاستلزامه الجمع بين (الحدوث) و (الأزلية) وبين هاتين الظاهرتين حالة من التضاد.

3- كلّ حركة تحتاج إلى محرّك من الخارج، فإن كان ذلك المحرّك متحرّكاً فعلينا أن نبحث عن محرّك آخر حتّى نصل إلى وجود ليس فيه حركة مطلقاً.

4- الحركة- وخاصّة الحركة نحو الافول- دليل على أنّ عالم المادّة صائر إلى الفناء [وهو أصل الكهولة و (الأنتروبي) الذي سنشيرُ إليه وكلّ ما كان مصيره الفناء لا يكون أبديّاً حتماً، ومثل هذا الموجود لا يكون أزليّاً قطعاً، وبذلك لا يمكن أن يكون واجب الوجود.

إنَّ كلّ واحدة من هذه الاستدلالات التي ذكرت يمكن أن تكون لها القابلية على استدلال النبي إبراهيم عليه السلام بها، ويمكن أن يكون كلام إبراهيم إشارة طريفة إليها جميعاً.

ينقل (الفخر الرازي) عن بعض المحقّقين: أنّ استدلال إبراهيم من السمو والشمول ما يجعله مورداً لاستفادة الخاصّة والمتوسّطين والعوام.

أمّا الخاصّة فانّهم يفهمون حقيقة (الإمكان) من (الافول) وكلّ موجود ممكن هو بحاجة إلى خالق، وهذه السلسلة متّصلة حتّى تنتهي بالطاهر المنزّه من الإمكان ولا سبيل إلى ذاته، كما نقرأ في قوله تعالى «وأَنَّ إلَى رَبِّكَ المُنتَهَى . (النجم/ 42)

وأمّا المتوسّطون فانّهم يفهمون من الافول مطلق الحركة وأنّ كلّ متحرّك حادث وكلّ حادث محتاج إلى وجود القديم الأزلي، وأمّا العوام فانّهم يفهمون الغروب من الافول ويشاهدون الشمس والقمر والكواكب تمحى وتضمحل عند الغروب وتزول سلطتها وحكومتها، ومثل هذه الأشياء لا تصلح للُالوهية، إذن جملة: «لا احبُّ الآفِلِينَ»

كلام يستفيد منه (المقرّبون) و (أصحاب اليمين) و (أصحاب الشمال) وهذا أكمل وأوضح برهان «1».

__________________________________________________

(1) تفسير الكبير، ج 13، ص 52.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 21

ومن هنا يتّضح لماذا لم يستند إبراهيم عليه السلام إلى طلوع هذه الكواكب مع أنّ الطلوع والغروب كلاهما مصداقان للحركة؟ وذلك لأنّ ظاهرة الزوال والفناء وانقطاع الفيض والبركة يشاهد في الغروب تماماً في حين لا يشاهد ذلك في الطلوع.

وعليه فإنّ الفصاحة والبلاغة تقتضيان أن يكون الإعتماد على (الغروب) لكي تتوضّح القضيّة أكثر، وتكون مقبولة تماماً لدى جميع الطبقات، وهذه النقطة جديرة بالملاحظة أيضاً وهي أنّ الحركة- كما سيأتي- لها أنواع وأوضحها هي (الحركة في المكان) وقد استند إليها في الآية (الحركة المكانية هنا مقترنة بالحركة الكيفية، لأنّ كيفية النور في هذه الكواكب تتغيّر مع الحركة وتكون ضعيفة النور عند الغروب حتّى تختفي عن الأنظار).

يعتقد بعض الفلاسفة أنّ هذه الآية تتضمّن إشارة إلى برهان الحركة حيث يقول تعالى:

«وَتَرَى الجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدةً وهِىَ تَمرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذى أَتْقَنَ كُلَّ شَى ءٍ إِنَّهُ خَبيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ». (النمل/ 88)

فيقول اولئك بأنّ هذا التعبير ناظر إلى (الحركة الجوهرية) وهي الحركة التي تكون في ذات الأشياء وباطنها، الحركة التي تدلّ على أنّ عالم المادّة بأجمعه حادث ويحتاج إلى خالق [سيأتي شرح هذا الكلام في باب الإيضاحات بإذن اللَّه ولكن بناءً على أنّ الآية ناظرة إلى حقيقة (الحركة الجوهرية) فانّها لا تشير إلى الاستدلال التوحيدي ولا إلى الاستفادة من ظاهرة الحركة لإثبات وجود اللَّه (تأمّل جيّداً).

ويعتقد أغلب المفسّرين بأنّ هذه الآية ترتبط بأشراط الساعة (أشراط الساعة هي الأحداث المروّعة التي تحدث عند قيام القيامة وخاصّة تَحَرُّك الجبال وتلاشيها ثمّ صيرورتها غباراً كما جاء في

آيات عديدة من القرآن الكريم) «1».

__________________________________________________

(1) للمزيد من التفاصيل يمكن مراجعة التفسير الأمثل، ذيل الآية 88 من سورة النمل.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 22

ولكن كما قلنا في التفسير الأمثل: إنّ هذا المعنى لا ينسجم مع ظاهر الآية، لأنّ تلاشي الجبال قبيل قيام الساعة مروّع إلى درجة يجعل الإنسان يعيش وحشة عظيمة في حين تقول الآية بأنّك لا تعلم بحركة الجبال.

ولهذا نعتقد أنّ الآية تشير إلى حركة الجبال المواكبة لحركة الأرض في الدنيا وتشبيها بحركة السحاب، وجملة (ترى فيها إشارة إلى الوضع الموجود والتعبير ب «صُنْعَ اللَّهِ الَّذِى أَتْقَنَ كلَّ شَى ءٍ» وذيل الآية: «انَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ» كلاهما دليلان على أنّ الآية ترتبط بحركة الجبال في هذه الدنيا «1».

ويعتقد البعض الآخر بأنّ الآية 29 من سورة الرحمن: «يَسْئَلُهُ مَنْ فِى السَّماوَاتِ والأَرضِ كُلَّ يَومٍ هُوَ فِى شَأْنٍ» إشارة إلى مسألة الحركة الجوهرية التي يمكن عن طريقها الوصول إلى وجود اللَّه (عن طريق برهان الحركة).

ولكن دلالة هذه الآية على الدعوى المذكورة غير واضحة أيضاً، بل إنّ ظاهرها هو أنّ اللَّه يخلق كلّ يوم أمراً جديداً، خلقه دائم ومستمر، وهو يبتكر في كل زمان أمراً جديداً، ويقدّر كلّ يوم نعمة جديدة، وعمله هو الإستجابة لقضاء حوائج السائلين.

كما أنّ الظاهر من تعبير الآية وكذلك الروايات الواردة في تفسيرها هو ما ذكر أيضاً (تحدّثنا عن هذا الموضوع مفصّلًا في التفسير الأمثل) «2».

ويُستنتج من مجموع ما تقدّم أنّ أبرز الآيات الدالّة على برهان الحركة هي آيات إبراهيم عليه السلام التي استدلّ بها على نفي الوهية النجوم وذلك بافولها وغروبها واحتياجها إلى الخالق كذلك.

توضيحات

1- برهان الحركة ومقدّماته
اشارة

الفهم الصحيح لبرهان الحركة وكيفية استخدامه في مسألة إثبات وجود اللَّه يقتضي ملاحظة الامور التالية إجمالًا:

__________________________________________________

(1)

لاحظ التفاصيل في التفسير الأمثل، ذيل الآية 88، سورة النمل.

(2) التفسير الأمثل ذيل الآية 29 من سورة الرحمن.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 23

أ) تعريف الحركة.

ب) وجود الحركة.

ج) أركان الحركة.

د) المقولات التي تقع فيها الحركة.

أ) تعريف الحركة

ذكرت عدّة تعاريف للحركة، أوضحها التعريفان الآتيان.

1- خروج الشي ء من القوّة إلى الفعل بصورة تدريجية.

2- الزوال والحدوث المستمرّ.

عندما تتساقط قطرات المطر من السماء فالنتيجة هي إمّا أن ينبت نبات أو ينضج ثمر تدريجيّاً، وفي هذه الموارد كلّها يكون للجسم وضع فعلي كما أنّ له القابلية في ذات الوقت لاتّخاذ وضع آخر، وعندما يفقد الوضع الموجود تدريجيّاً ويتقبّل وضعاً جديداً (ما كان فيه بالقوّة يصبح فعليّاً) فإنّ ذلك الموجود وفق سلسلة من الزوال والحدوث المستمر يكون قد انتقل من حال إلى حال، غير أنّ هذا لا يعني أنّ الحركة مركّبة من أجزاء إسمها (السكون) أو أنّها مركّب من (الوجود) و (العدم) بل إنّ الحركة أمر واحد مستمر في الخارج وله أجزاء في التحليل العقلي.

ممّا قدمنا يمكن استنتاج أنّ الشي ء إذا كانت له فعلية تامّة ووجود مطلق فلا تتصوّر فيه الحركة، بل سيكون ذا ثبات تامّ، وبتعبير آخر أنّ الحركة تكون مقرونة بنوع من النقصان، وعليه لا توجد في ذات اللَّه سبحانه حركة على الإطلاق.

ب) وجود الحركة

لا نواجه مشكلة مهمّة في إثبات الوجود للحركة فذلك من الامور البديهيّة، حيث نلاحظ بامّ أعيننا وبوضوح ونحسّ بحواسنا الاخرى باستمرار وجود حركات في الخارج،

نفحات القرآن، ج 3، ص: 24

وعليه فإنّ أدلّة المنكرين لوجود الحركة ومنهم (الفيلسوف اليوناني ذنون وأتباعه) لا قيمة لها وأنّها تواجه أمراً بديهياً، وذلك لأنّنا لا يمكن أن نعتبر الماء الجاري في النهر، أو التفاجة التي تنضج في الشجرة تدريجيّاً، أو عندما نركب السيّارة ونسافر من مدينه إلى اخرى اموراً خيالية قد ابتلينا بها، وأنّها امور ذهنية وليست خارجية لأنّ هذا الأمر هو أشبه بإنكار البديهيات، ونحن في غنى عن الاستدلال لإثبات ذلك.

ولكن لا يمكن إنكار أنّ فهم

الحركة بدون قوّة حافظة أمر غير مقدور، لأنّ الحركة لا يمكن إدراكها بإحساس آني لأنّها أمر تدريجي.

ج) أركان الحركة

ذكر الفلاسفة ستّة أركان للحركة:

1- المبدأ 2- الغاية 3- المحرّك 4- المتحرّك 5- موضوع الحركة 6- زمن الحركة (ستعرف أنّ الزمان ليس سوى مقدار الحركة) وبتعبير آخر أنَّ الزمان وليد الحركة وليس والدها).

وسنرى أيضاً أنّ هذه الأركان الستّة تطابق نظرية شهيرة ذهب إليها الأقدمون وعليه فإنّا لا نحتاج موضوعاً للحركة بعد الإقرار بالحركة الجوهرية.

د) مجالات الحركة

كان الفلاسفة في السابق يعتقدون بأنّ الحركة تحدث في أربع مقولات من مجموع تسع مقولات عرضية هي «1».

1- الحركة في (المكان)، نظير حركة قطرات المطر وحركة السيارة في الطريق.

2- الحركة في (الكمية) نظير زيادة حجم النبات النامي.

__________________________________________________

(1) المقولات العرضية التسع هي: الكم، الكيف، الوضع، المتى الأين، أن يفعل، أن ينفعل، ملك، والإضافة وشروحها في محالّها.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 25

3- الحركة في (الوضع) نظير حركة الأرض حول نفسها.

4- الحركة في (الكيفية) نظير التغيّر التدريجي في لون وطعم ورائحة الفاكهة في الشجرة.

وكانوا يعتقدون بعدم وجود حركة في غير هذه الموضوعات الأربعة (غير ممكنة في جوهر الأشياء من باب أولى) فكان فلاسفة اليونان لا سيّما (ارسطو) وأتباعه وكذلك بعض الفلاسفة المسلمين ومنهم ابن سينا وآخرون يعتقدون باستحالة الحركة في الجوهر، وكما قلنا في البحث الماضي: إنّهم كانوا يتصوّرون أنّ ذات المتحرّك هي من أركان الحركة، ويعتقدون بأنّ الحركة لا مفهوم لها ما لم يوجد موجود ثابت يتعرّض للحركة.

ولكن صدر المتألّهين (الفيلسوف الإسلامي الشهير) قدّم نظرية جديدة وقال: بأنَّ الحركة في الجوهر ليست غير مستحيلة فحسب بل لا يمكن أن توجد حركة في الاعراض ما لم تكن مستندة إلى حركة في الجوهر.

وبتعبير آخر إنّ (الحركات العرضية) تنشأ من (الحركة في الجوهر)، قال صدر المتألّهين:

لماذا نفترض هنا أمراً ثابتاً؟ وما المانع من أن يكون

(الجوهر) متحرّكاً في ذاته؟ بمعنى أنّه يفقد نفسه باستمرار ويكتسب تشخيصاً جديداً.

هذا الموضوع يبدو عجيباً لأوّل مرّة- طبعاً- لأنّه يستلزم أن يكون (المتحرّك) مع (الحركة) شيئاً واحداً، وأن يكون الموجود نفسه سبباً لتحرّكه، لكنّه يقول: لو دقّقنا قليلًا لوجدنا أنّ الأمر ليس عجيباً فحسب بل هو أمر لازم وملفت للنظر أيضاً.

ويصُرّ صدر المتألّهين على أنّ أصل الحركة الجوهرية موجود في أقوال السلف ويذهب إلى أبعد من ذلك حيث يستعين بآيات قرآنية كشواهد على هذا الموضوع (كي لا تكون حداثة هذه النظرية سبباً لنزاع المعارضين كما هو الحال في أيّة نظرية جديدة).

ولو افترضنا أنّ هذه النظرية ليست جديدة، غير أنّ عرضها بهذه السعة يعتبرُ أمراً جديداً.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 26

2- أدلّة وجود الحركة الجوهرية

يعتقد صدر المتألّهين بأنّ الوجود على صورتين:

1- الوجود مستقرّ وثابت وعديم الحركة مطلقاً لا في ذاته أو صفاته.

2- الوجود سيّال ومتموّج في ذاته، أي أنّ السيلان جزء من ذاته وليس له سكون ولا قرار، وقد يلاحظ هذا الإضطراب الذاتي بوضوح في اضطراب الاعراض، وقد لا يلاحظ تغيّر في ظاهر الذات في حين تتجدّد في باطنها باستمرار.

وبتعبير آخر إنّ هذه الموجودات السيّالة لها وجود جديد في كلّ آن، وهي أشياء جديدة، ولكن هناك لون من الاتّصال بينها يجعلها تبدو كوجود واحد.

وقد ذكر المناصرون ل (الحركة الجوهرية) أدلّة لإثبات مرادهم، وإن لم يسمح المجال لبيان هذه القضايا، غير أنّنا نشير إلى ثلاثة أدلّة رئيسية هي:

1- من القاعدة القائلة (كلّ ما بالعرض ينتهي إلى ما بالذات)، هناك أصل عام وهو أنّ كلّ موجود استعار صفة من غيره وأنّها لابدّ أن تنتهي إلى مصدر تنشأ منه، وبدون ذلك سنواجه مشكلة (التسلسل)، أي أنّ الحرارة في الماء الحار مستعارة ولابدّ

لها أن تنتهي إلى النار التي تولّد الحرارة من ذاتها.

بناءً على هذا الأصل فإنّ الحركة التي نلاحظها في أعراض الجسم (نظير الكميّة والكيفية) لابدّ لنا أن نعرف أنّ هذه الحركة ناشئة من اضطراب الذات والباطن، فمثلًا: لو كانت التفاحة ثابتة في ذاتها ومستقرّة فكيف إذن يتغيّر لون أعراضها؟ هذه الحركة الظاهرية إذن تخبر عن حركة الداخل.

2- كلّ (معلول متغيّر) بحاجة إلى (علّة متغيّرة)، فلو جلسنا في ظلّ شجرة في بستان ولاحظنا التحرّك المستمرّ للظلّ فالواجب أن نعلم أنّ علّته وهي أشعة الشمس في حالة تحرّك، ومن هناك ندرك الحركة في ذات الجسم عن طريق الحركة في أعراضه.

3- الزمان دليل آخر على الحركة الجوهرية، لأننا نلاحظ جيّداً أنّ حوادث العالم لا تكون مجتمعة، فحوادث اليوم تتحقّق بعد حوادث أمس وقبل حوادث غد، وهذا أمر واقعي،

نفحات القرآن، ج 3، ص: 27

وهذا الاختلاف هو ما نطلق عليه عنوان تفاوت (الزمان).

من خلال نظرة سطحية وابتدائية للزمان فانّه يبدو واقعاً مستقلًا عن الموجودات ووعاء للحوادث، ولكن لو افترضنا- ولو للحظة واحدة- عدم وجود الموجودات المادية لوجدنا أنّ الزمان لا مفهوم له، وبتعبير أوضح (الزمان) (وليد المادة) أو (الزمان) هو (مقدار الحركة).

ومن جهة اخرى إذا اعتقدنا بأنّ الموضوعات التي تقع فيها الحركة تنحصر في الموضوعات الأربعة السابقة فانّه يعني أنّ الموجود الفاقد لهذه الحركات، أي لا يلحظ وجود للحركة في ظاهره، فإنّ هذا الموجود ينبغي أن لا يكون زمانياً، في حين أنّ وجداننا يحكم بأنّا نشعر بالزمان رغم عدم هذه الحركات الرباعية، وليس ذلك إلّالأنّ المادّة ذات حركة في ذاتها لكي تتقبّل أجزاء الزمان.

هذه هي أهمّ الأدلّة لدى أنصار الحركة الجوهرية وقد اعتمدنا الاختصار في عرضها.

وهناك سؤال لا يزال قائماً عند

البعض: كيف يمكن أن نتصوّر أنّ (المتحرّك) هو عين (الحركة) مع عدم وجود موضوع للحركة مطلقاً؟! وكيف يمكن التصديق بشي ء يكون تصوّره محل سؤال؟

والعجيب أنّ القائل بالحركة الجوهرية بنفسه تتملكه الحيرة أمام هذه المعضلة العويصة، وتتباين أقواله ممّا يدلّ على أنّ حلّها غير يسير «1».

وباختصار أنّ أبحاث الحركة الجوهرية بأجمعها تتفرّع عن قابلية تصوّر الحركة بدون موضوع، ويقول البعض: إنّ هذا أمر غير معقول، كما يعتقد البعض أنّ تصوّر هذا المعنى يقتضي إخلاء الذهن والإبتعاد عن المفاهيم التي يأنس الإنسان بها في مجال الحركة حتّى يتصوّر وجوداً هو عين الحركة والمتحرّك والحركة واحدة، كانت هذه خلاصة عن أبحاث الحركة.

__________________________________________________

(1) للمزيد من المعرفة حول هذا الأمر راجع كتاب الأسفار في بحث الحركة أو دروس المرحوم الشهيد مطهّري حول بحث الحركة في الأسفار، ج 1، ص 447.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 28

3- إثبات وجود اللَّه بواسطة برهان الحركة

لا شكّ في أنّ الحركة لا تنحصر في الحركة الجوهرية، ولذا لا يتحدّد برهان الحركة لإثبات ذات واجب الوجود ببحث الحركة الجوهرية، على الرغم من أنّ برهان الحركة- بعد الإيمان بالحركة الجوهرية- أكثر وضوحاً في معرفة اللَّه، ومن أجل ذلك نقول:

إنّ الحركة الجوهرية تقول بأنّ عالم المادّة بأسره عبارة عن حركة، أي أنّه في حالة حدوث وتجدّد متواصل، وله في كلّ آنٍ وجود جديد، وهذا الحدوث المستمرّ يثبت الإرتباط الدائم للعالم بمبدأ غير حادث، أي أنّه يثبت الأزلية والأبدية لواجب الوجود.

وبتعبير آخر: إنّ العالم في حال (صيرورة) دائمة لا (كينونة)، وليس ذلك في الأعراض فحسب بل هو متأصّل في أعماق ذاته، ولذا يكون محتاجاً إلى المبدأ باستمرار لكي يخلقه كلّ آن.

من خلال هذا البحث يمكن التوصّل إلى نتيجة ظريفة وهي أنّ خلق العالم لم

يحدث في البداية ثمّ انتهى، بل إنّ عملية الخلق مستمرة في كلّ آن، ولذا فإنّ حاجة العالم إلى علّة أزلية، أبدية لم تكن في البداية فقط، لأنّه في حالة حدوث وخلق مستمرّ وفي كلّ آن، وهذا المعنى كامن في أعماق مفهوم الحركة.

ولهذا فبواسطة الحركة الجوهرية يثبت حاجة العالم إلى واجب الوجود عند نشوئه وحاجته إليه في البقاء تبقى قائمة ومستمرة أيضاً، بل وكما ترى نظرية الحركة الجوهرية فانّه لا مفهوم للبقاء أصلًا والحدوث دائم، غير أنّه حدوث متواصل ومتسلسل ولهذا يطلق على الاتّصال مصطلح البقاء.

هنا يمكن أن نذكر تشبيهاً ناقصاً لكيفية ارتباط الأشياء بالمُبدى ء الأزلي للعالم وهو أنّ الموجودات في العالم تشبه المصابيح التي يتواصل وجودها من خلال ارتباطها بالمصدر الكهربائي، وبما أنّ النور يتجدّد في كلّ آن فانّه بحاجة إلى العلّة في كلّ آن والتعرّف على كيفية انبعاث النور في المصابيح يكفي لمعرفة حاجتها المستمرّة للمصدر المولّد للطاقة الكهربائية.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 29

صحيح أنّ (برهان الحركة) له علاقة ب (برهان الإمكان والوجوب) غير أنّه يُبحث بصورة مستقلّة من أجل الحصول على صورة جديدة عنه.

4- العالم متغيّر وكلّ متغيّر حادث

استند الكثير من المتكلّمين (علماء العقيدة) على هذا الدليل (دليل التغيّر) لإثبات وجود اللَّه دون ملاحظة نظرية الحركة الجوهرية لأنّ التغيّرات التي تشاهد في ظاهر الموجودات في العالم باستمرار تكفي لإثبات آرائهم.

و لتوضيح ذلك نقول: لا يبقى في عالم المادّة شي ء على حالة واحدة، فكلّ الأشياء- دون استثناء- في حالة تغيّر.

ومن جهة اخرى، أنّ التغيّر والحركة حادثان، وبما أنّ المادّة متعرّضة لهذه التغيّرات والتحوّلات دائماً فينبغي أن تكون حادثة أيضاً فمن غير الممكن أن تكون المادّة أزلية وتتعرّض للحدوث والتغير منذ الأزل لأنّ ذلك يستلزم اجتماع (الحدوث) و (الأزلية)

وهما متضادّان كما نعلم.

إنَّ هذا الاستدلال ومن خلال ملاحظة النظريات الجديدة بشأن المادّة يَرِدُ بصورة أوضح، فكلّ مادّة- وفق النظرية الفيزيائية الجديدة- تتركّب من ذرّات، والذرّة عبارة عن مجموعة من الحركات، وكلّ حركة حادثة، فالمادّة- إذن- والتي هي عبارة عن مجموعة حركات (الالكترونات) و (البروتونات) لا يمكن أن تكون أزلية، وبعبارة اخرى أنّ كلّ حركة لها بداية ونهاية، وكلّ ما له بداية ونهاية لا يكون أزلياً.

هذه المسألة جاءت بشكل ملفت للنظر في حديث عن الإمام الصادق عليه السلام في مناظرة مع (ابن أبي العوجاء) حيث قال له الإمام عليه السلام: اسأل ما شئت، فقال (ابن أبي العوجاء): ما الدليل على حدث الأجسام؟ فقال الإمام عليه السلام: «إنّي ما وجدت شيئاً صغيراً ولا كبيراً إلّاإذا ضُمّ إليه مثله صار أكبر، وفي ذلك زوال وانتقال عن الحالة الاولى، ولو كان قديماً ما زال

نفحات القرآن، ج 3، ص: 30

ولا حال، لأنّ الذي يزول ويحول يجوز أن يوجد ويبطل، فيكون بوجوده بعد عدمه دخول في الحدث، وفي كونه في الأزل دخوله في القدم، ولن تجتمع صفة الأزل والحدوث والقدم والعدم في شي ء واحد» «1».

5- حدوث العالم والقوانين العلمية الحديثة

لقد ثبت في البحوث العلمية الحديثة [خاصّة بحوث (الثرموديناميك) والقانون الثاني المعروف بقانون (الانتروبي) أو ما يسمى (بالكهولة) أو (الإضمحلال)] ثبت:

«أنّ الحرارة تنتقل من الأجسام الحارّة إلى الباردة دائماً ولا يحدث العكس بنفسه أبداً، و (الانتروبي) في الحقيقة هي نسبة الطاقة التي لا يمكن الانتفاع بها إلى الطاقة القابلة للإنتفاع، ومن ناحية ثانية نحنُ نعلم أنّ هذا الإنتقال والانتروبي في العالم في حالة تزايد، فلو كان العالم أزليّاً لكانت الحرارة في الأجسام كلّها متساوية منذ عصور قديمة ولم تبق طاقة نافعة وبالتالي لم

يتحقّق في العالم أي فعل أو تفاعل كيميائي، ولاستحالت الحياة على الأرض، لكنّنا نلاحظ بأنّ التفاعلات الكيميائية مستمرّة والحياة على الأرض ممكنة، ولذا فإنّ العلوم تثبت البداية للعالم- دونما قصد- وبهذا تثبت ضرورة وجود اللَّه نظراً إلى أنّ الحادث لا يحدث لوحده بل يحتاج إلى المحرّك الأوّل» «2».

والطريق الآخر الذي سلكوه لإثبات الحدوث للعالم هو التحقيق في الأجسام (المشعّة) (و هي أجسام لها ذرّات غير مستقرّة وفي حالة اضمحلال وزوال مستمرّ حتّى تتبدّل إلى ذرّات مستقرّة، ولها عدد ذرّي أكبر من 80! وتكون على شكل أجسام ثقيلة وغير مستقرّة، وفي حالة إشعاع ذرّي، وكأنّها تلقي بنفاياتها إلى الخارج حتّى تتحوّل إلى عناصر مستقرّة.

إنَّ وجود هذه العناصر في الطبيعة دليل على أنّ العالم حادث وذو تاريخ، وكما يقول

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار، ج 3، ص 46؛ اصول الكافي، ج 1، ص 77 باب حدوث العالم.

(2) كتاب إثبات وجود اللَّه، لادوارد لوثر كيسل، ص 55 (باختصار طفيف).

نفحات القرآن، ج 3، ص: 31

المفكّر الشهير (دونالد روبرت كار) والمتخصّص في (الكيمياء الحياتية) كاتب كتاب (الأرض) وهو كتاب يعيّن عمر الأرض بحساب كاربون الإشعاع الطبيعي: «لو كان العالم أزليّاً وأبديّاً لما وجدنا عنصراً مشعّاً وذلك لتبدلّه إلى عناصر مستقرّة» «1».

ونستنتج من ذلك أنّ العلوم الطبيعية تثبت حدوث العالم أيضاً بطرق مختلفة، ومن هنا تتّضح ضرورة وجود خالق أزلي أبدي لتفسير ظهور عالم الوجود.

وبتعبير أوضح: إنّ اضمحلال المادّة (الانتروبي) دليل على أنّ للعالم تاريخاً ينبى ء عن بداية حدوثه، فلو كان عالم المادّة أزليّاً لكان قد مضى عليه زمان غير محدود، ولكانت الحرارة فيه متساوية وانعدم النشاط فيه وتعرّض للفناء.

ويشبه هذا إذا وضعنا وعاءً مليئاً بالماء الحارّ في غرفة، فما دامت

الحرارة في الوعاء تختلف عن حرارة الجوّ فإنّ الهواء حوله يكون متحرّكاً باستمرار ويزداد حرارة ويتصاعد إلى الأعلى ويحلّ محلّه الهواء المجاور له وهذا يحدث حركة مستمرّة في الفضاء المجاور، وعندما تتساوى الحرارة في الغرفة فلن تكون أيّة حركة.

وهذا هو مصير العالم أخيراً، والحركة الموجودة حالياً دليل على عدم مرور زمان لا محدود عليه، أي أنّ له تاريخ ظهور وحدوث.

وهو يشبه الأواني المستطرقة المتصلة فإذا سكبنا الماء في أحدها فانّه سوف يتحرّك في الأواني كلّها حتّى يتساوى فيها وبذلك يحلّ السكون، ويقول العالم الفلكي (استونتر):

«قام العلم باحتساب أعمار الكثير من الأشياء مثل: عمر الأرض، والصخور الشهابية، والقمر والشمس، والمجرّة وأخيراً عمر الدنيا، والعمر اللازم- لتركيب العناصر المختلفة وتفكّكها- وظهر أنّ هذه الأعمار متقاربة وتقدّر ب 6000 مليون سنة منذ بداية حدوث العالم» «2».

__________________________________________________

(1) كتاب إثبات وجود اللَّه، لادوارد لوثر كيسل، ص 155.

(2) المصدر السابق، ص 160.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 32

وفي الختام نعود لنقول: إنّ حديث إبراهيم عليه السلام في الآيات المذكورة يستهدف مسألة إثبات وجود اللَّه عن طريق الحكم العقلي القائل بأنّ الشي ء المتغيّر لا يمكن أن يكون خالداً وإن كانت براهين اخرى للحركة كامنة في طيّات استدلال إبراهيم عليه السلام.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 33

3- برهان الوجوب والإمكان (الغنى والفقر)

تمهيد:

استدل الفلاسفة والمتكلّمون (علماء العقيدة) بأدلةٍ مختلفة لإثبات وجود اللَّه سبحانه، والبعض منها ذات اصول مشتركة، ومن هذه الأدلّة برهان (الوجوب والإمكان) وبرهان (العلّة والمعلول)، وستأتي تفصيلاتهما تباعاً بإذن اللَّه.

وبما أنّ هذه الاستدلالات تكون ذات شروح مختلفة لذا فإنّا نشير إليها بصورة مستقلّة مع الإشارة إلى اصولها المشتركة.

إن الأساس في برهان «الوجوب والامكان» أو «الغنى والفقر» يرتكز على مبدأ حاجة وفقر المخلوقات، فعندما ننظر إلى

أنفسنا وسائر الموجودات في العالم، نراها دائماً في حالة عوَزٍ وحاجة، فالحاجة إلى ماحولها يكاد يكون أمراً بديهياً.

إن الحاجة والفقر الشامل في هذا العالم يدل على وجود مصدر عظيم للغنى وعدم الحاجة، وهذا المصدر نطلق عليه لفظ الجلالة «اللَّه» سبحانه وتعالى «1».

وبعبارة اخرى إنّنا نجد كلّ موجود في هذا العالم تابع، ولا يمكن لهذه التبعية أن تكون إلى ما لا نهاية، والعالم عبارة عن مجموعة من التبعيات، ممّا يدلّ على وجود ذات مستقلّة قائمة بذاتها في هذا العالم تتبعه هذه (التبعيات) وتستند إليه.

بعد هذا التمهيد نرجع إلى القرآن الكريم لنتأمل خاشعين في الآيات التالية:

__________________________________________________

(1) التعبير ب «إنّ اللَّه غني حميد» وأمثاله جاء في عشر آيات قرآنية، في البقرة، 267؛ إبراهيم، 8؛ الحجّ، 64؛ لقمان، 12؛ لقمان، 26؛ الحديد، 24؛ الممتحنة، 6؛ التغابن، 6؛ النساء، 131؛ والآية أعلاه كما أنّ وصف اللَّه بالغنى ورد في آيات أكثر عدداً، وهذا التأكيد والتكرار القرآني في هذا الصدد يحكي أهميّة المضمون في هذا التعبير.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 34

1- «يَاايُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الغَنِىُّ الحَميِدُ». (فاطر/ 15)

2- «وَاللَّهُ الغَنِىُّ وأنتُمُ الفُقَرَاءُ». (محمّد/ 38)

3- «يَسْئَلُهُ مَنْ فِى السَّماوَاتِ وَالأَرضِ كُلَّ يَومٍ هُوَ فِى شَأْنٍ». (الرحمن/ 29)

شرح المفردات:

(فقراء) جمع (فقير)، وأصله كما يقول (الراغب) في (المفردات) هو الذي كسرت فقرات ظهره، وبما أنّ البؤساء يشبهون حال من تعرّض لكسر الفقرات لذا اطلق عليه هذا المصطلح.

كما أنّ (مسكين) مشتقّ من (السكون) ويعني العجز عن المشي ولذا اطلق على الفقراء المُعدمين، ولذا تطلق كلمة (فاقرة) على الحادثة أو المصيبة العظيمة التي من شأنها أن تهشّم الفقرات.

وقد ورد في (مجمع البحرين) بأنّ (فقير) يُطلق على الذي هو أفضل

حالًا من (المسكين)، ولذا قيل لرجل في الصحراء أفقير أنت؟ قال: لا واللَّه بل مسكين «1».

وعلى أيّ حال فانّهم ذكروا ل (الفقر) أربعة معانٍ هي:

1- الحاجة الضرورية التي تشمل جميع البشر بل كلّ الموجودات في العالم، والآية:

«يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ» يذهبون إلى أنّها تشير إلى ذلك.

2- الإحتياج إلى الحدّ الأدنى من مستلزمات الحياة، ويعتقدون أنّ الآية: «انَّما الصَدقاتِ للفُقَراء ...» تشير إلى ذلك.

3- فقر النفس والذي يعني الطمع، وقد عدَّهُ الحديث المعروف كفراً (كاد الفقرُ أن يكون كفراً) ويقابله غنى النفس.

4- الحاجة إلى اللَّه كما جاء في الحديث المعروف (اللّهم أغنني بالإفتقار إليك ولا تفقرني بالإستغناء عنك) «2».

__________________________________________________

(1) يذهب البعض إلى العكس في ذلك.

(2) مفردات الراغب، مادّة (فقر).

نفحات القرآن، ج 3، ص: 35

وقد جاء في كتاب (العين) كلمة (فُقْرة) على وزن (نُقرة) بمعنى الحفرة التي يوجدها الإنسان في الأرض من أجل غرس الشتلات، ومن الممكن أن يكون الأصل في (فقير) هو هذا المعنى وهو نشوء فجوة في حياته، ومن المحتمل أن يكون استعمال هذا اللفظ في العمود الفقري وذلك لوجود التقعّرات فيه.

«غِنى : من مادة (غِناء) وتعني عدم الإحتياج ويقابله الفقر، ولذا ذكروا له هذه الموارد الأربعة في استعمالاته:

1- الغنى بمعنى عدم الاحتياج إلى أي شي ء وهذا مختصّ في اللَّه سبحانه.

2- عدم النقص في مستلزمات الحياة.

3- الغنى وعدم احتياج النفس أي القناعة.

4- الاستغناء عن اللَّه وهذا المعنى محال، ولكن قد تخطر هذه الفكرة لدى بعض الناس وتكون سبباً للطغيان: «كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطغَى أَنْ رَّءَاهُ استَغنَى . (العلق/ 6- 7)

ويقول ابن منظور في (لسان العرب): (الغَناء) بالفتح: يعني المنفعة وغِناء بمعنى التطريب وغني (بلا مدّ) يعني الإستغناء وعدم الحاجة،

ومن الممكن أن يعتقد بوجود أصل مشترك بين هذه المعاني كلّها ويقول بأنّ الغناء يطلق عندما يرفع الإنسان صوته ويملأ به الجوّ كالأغنياء الذين لهم وفرة من المال والثروات!

حاجة الجميع إلى اللَّه:

الآية الاولى تخاطب جميع الناس وبدون استثناء: «يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الفُقَراءُ إلَى اللَّهِ»، إنّ (للفقر) هنا معانٍ واسعة وتشمل كلّ احتياج لأي شي ء في الوجود، فانّنا ومن أجل مواصلة حياتنا الماديّة بحاجة إلى ضوء الشمس، والماء، والهواء، وأنواع من الغذاء والملبس والمسكن.

ومن أجل بقاء الحياة في أجسامنا نحن بحاجة إلى الأجهزة الداخلية من قلب وعروق

نفحات القرآن، ج 3، ص: 36

وجهاز للتنفّس والمخ والأعصاب.

ونحتاج في الحياة المعنوية- من أجل أن نميّز الطريق السليم عن غيره ونعرف الحقّ من الباطل- إلى قوّة عاقلة، وأرقى من ذلك نحن بحاجة إلى القادة الإلهيين والكتب السماوية.

وبما أنّ منشأ كل هذه الامور يعود كله إلى اللَّه لذا فانّنا بحاجة إليه في وجودنا كلّه.

إنّ الشهيق والزفير في عملية التنفس يحدثان بتعاضد الآلاف من العوامل وبدونها لا يحدثان، وكلّ هذه العوامل هي هبات إلهيّة، ففي كلّ نفس هناك آلاف النعم، وينبغي الشكر على كلّ نعمة.

هذه الآية وإن كانت تقصد كلام الذين يستغربون من إصرار النبي صلى الله عليه و آله على عبادة اللَّه تعالى كما يذهب إلى ذلك بعض المفسّرين «1» ويقولون هل أنّ اللَّه بحاجة إلى عبادتنا؟

فيجيبهم القرآن: أنتم الفقراء إلى اللَّه وبعبادته تتكامل أرواحكم.

ولكن هذا الكلام لا يحدّد من سعة مفهوم الآية في جهاتها المختلفة، لأنّ قضيّة استغناء اللَّه واحتياجنا هي الأساس في حلّ الكثير من المشكلات.

وعلى أيّة حال فإنّ الفقر نافذ إلى أعماق ذات البشر أجمع، بل وكلّ الموجودات، ولا تقتصر الحاجة إليه في الرزق ومستلزمات الحياة فقط، بل إنّ وجودَها

يحتاج إلى فيضه في كلّ لحظة وآن (فلو تَوقَف لحظة تهدّمت الهياكل).

أجل، إنّ الغني في عالم الوجود هو الذات المقدّسة، ولمّا كان البشر- وهم تحفة عالم الخلق- بحاجة إليه في كلّ وجودهم فإنّ حال سائر الموجودات واضحة ولا تحتاج إلى بيان، ولذا فإنّ الآية تضيف في ذيلها: «وَاللَّهُ هُوَ الغَنىُّ الحَمِيدُ» وبملاحظة أنّ التعبير أعلاه يدلّ على الحصر- وفق القواعد الأدبية- فإنّ مفهومه ليس إلّاهذا، وهو إنّ الغني المطلق هو الذات المقدّسة للَّه سبحانه، ولو قسّمنا البشر إلى (فقير) و (غني) فإنّ هذا أمر نسبي غير حقيقي.

وبتعبير آخر، إنّ الموجودات كلّها فقيرة ومحتاجة، وإنّ ذات اللَّه المقدّسة تمثل الغنى

__________________________________________________

(1) تفسير الكبير؛ وتفسير روح المعاني في ذيل آية مورد البحث.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 37

والإستغناء، وهذا هو أوّل الكلام وآخره.

على هذا الأساس فإنّ اللَّه سبحانه لا يحتاج إلى عبادتنا وطاعتنا أبداً، كما لا يحتاج إلى مدح وثناء، بل إنّ طاعتنا وعبادتنا لهُ ومدحنا وثناءنا عليه هي جزء من احتياجنا إليه وسبب لتكاملنا المعنوي والروحي، حيث إنّنا كلّما اقتربنا من منبع النور فإنّا نزداد نوراً، وكلما اقتربنا من المصدر الفيّاض ذاك فإنّا نستفيد أكثر، وبتمثيل ناقص إنّنا كالنباتات والأشجار التي تستقبل نور الشمس دون أن تحتاج إليها الشمس.

إنّ فهم هذه الحقيقة يقدّم للبشر درساً في التوحيد حتّى لا يخضعوا إلّاإلى اللَّه ولا يُطأطئوا رؤوسهم ويستسلموا لغيره وأن يمدّوا يد الحاجة إليه لأنّهُ (غني وكريم ورحيم وودود).

إنّ الإنتباه إلى هذه الحقيقة له الأثر البالغ في تربية الإنسان، فمن جهة يخرجه من حالة الغرور وعبادة هوى النفس، ومن جهة اخرى يحرّره من جميع القيود ويجعله غنيّاً عن سواه، وبهذه الرؤية والفهم سوف لا يضيع في عالم الماديات، ويتوجّه

دائماً إلى مسبّب الأسباب.

وهنا لابدّ من الإلتفات إلى أمرين:

الأوّل: أنّ اللَّه هنا (في الآية) قد وُصف ب (الحميد) بعد وصفه ب (الغني)، وكما أشرنا أنّ هذا التعبير قد تكرّر في عشر آيات ممّا يدلّ على وجود نقطة مهمّة فيه- هي كما يحتمل-:

إنّ الكثير من الأغنياء يتّصفون بصفات ذميمة نظير الكبر والغرور والحرص والبخل، حتّى لو كان لدى أحد إخوانهم نعجة واحدة ولديهم 99 نعجة فانّهم سيصرّون على أن يسلبوه نعجته، إلى حدّ يتبادر في ذهن الكثير بأنّ لفظ (الغني) تعني الظلم والكبر والبخل، في حين أنّ اللَّه سبحانه في عين كونه غني فهو رحيم وعفو وغفور، ولذا هو أهل لكلّ مدح وثناء.

أجل، إنّ (الغني) الوحيد المُبرَّأ من كلّ عيب ونقص وذو الفضل واللطف والرحمة هي الذات المقدّسة.

الثاني: أنَّ المخاطبين في الآية هم البشر فقط: «يَاأَيُّهَا النَّاسُ» فلماذا لم تذكر الموجودات الاخرى في حين أنّها فقيرة إلى اللَّه أيضاً؟

نفحات القرآن، ج 3، ص: 38

قال الكثير من المفسّرين إنَّ ذلك ناشي من سعة حاجة الإنسان، فكلّما كان الموجود أكمل فانّه أكثر احتياجاً في مسيرته ويزداد شعوراً بالحاجة كما هو الحال في الإحتياج المادّي، فالطير يقنع بشي ء من الماء والحبّ والعشّ البسيط في حين لا يقتنع الإنسان بألوان الطعام واللباس والبيوت والقصور! «1».

والآية الثانية تحدثت عن (الإنفاق في سبيل اللَّه) وبخل البعض في الانفاق في سبيل اللَّه وانعكاس بخل البخلاء على أنفسهم لأنّهم محرومون من فيض اللَّه ورحمته اللامحدودة، فتقول: «وَاللَّهُ الغَنىُّ وأنتُمُ الفُقَراءُ».

قد يكون هذا التعبير من أجل رفع التصوّر بأنَّ اللَّه تعالى عندما يدعو الناس إلى الإنفاق في سبيل اللَّه فانّه محتاج إلى إنفاقهم، أو أنَّ هذه الجملة تتنافى مع الجملة التي وردت في آيات سابقة

حيث تقول: «ولا يَسئَلكُمُ أَموَالَكُم».

فتقول الآية: إنّ اللَّه غني على الإطلاق والجميع محتاجون إليه، فعندما يأمرهم بالإنفاق فليس ذلك لحاجته، بل لأنّهم هم المحتاجون، ويصلون إلى الكمال عن هذه الطرق ويتقرّبون إلى ذلك الوجود اللامحدود.

صحيح أنّ بداية الآية ترتبط ب (الفقر والغنى الماليين) وتنظر إلى الإنفاق في سبيل اللَّه، غير أنّ الإطلاق في ذيل الآية يعطي مفهوماً واسعاً، ففي الوقت الذي تعرّف اللَّه سبحانه بالغني المطلق فانّها تعتبر البشر محتاجين في كلّ وجودهم، وقد نفذ الفقر إلى أعماق ذواتهم ولهذا يمكن استخدامه للاستدلال في هذا البحث.

__________________________________________________

(1) انتبه بعض المفسّرين إلى هذه النقطة أيضاً وهي أنّ ذكر (الفقراء) بصورة معرفة (مع أنّ الخبر يكون نكرة عادةً فلو كان معرفة لما احتاج المخاطب إلى الخبر) هو للتنبيه والتذكير، أي أنّ المخاطب نفسه يعلم بأنّه فقير إلى اللَّه وهذا تذكير ليس إلّا، وقد جاء في علم البلاغة أيضاً أنّ المخاطب العالم الذي لا يعمل بعلمه يعتبر جاهلًا وينذر عن طريق الأخبار (تأمّل جيّداً).

نفحات القرآن، ج 3، ص: 39

على أيّ حال فإنّ من الملفت أنّه هو الذي تفضّل بالهبات كلّها ووهبها للعباد ثمّ يطلب منهم أن ينفقوا في سبيل اللَّه، وهذه مقدّمة لهباتٍ أكبر.

ولا ينحصر هذا في قضيّة الإنفاق فحسب، بل يجري في كلّ التكاليف وتعود بنتائجها على العباد أنفسهم.

وقد جاء هذا المضمون في آيات عديدة منها ما تضمّنته هذه الآية حيث نقرأ: «قُلْ مَا سَأَلتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُم إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلىَ اللَّهِ». (سبأ/ 47)

وكما جاء في قوله تعالى «وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّما يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ، إِنَّ اللَّهَ لَغَنِىٌ عَنِ العَالَمِينَ».

(العنكبوت/ 6)

والآية الثالثة والأخيرة من بحثنا تُصوِّر هذا المضمون (الفقر العامّ للموجودات والغنى المطلق لله) في حُلّة

جديدة وجميلة وتقول: «يَسئَلُهُ مَنْ فِى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ».

وكلّ يوم هو في شأن ومنح مواهب جديدة: «كُلَّ يَومٍ هُوَ في شَأْن».

وبملاحظة الفعل المضارع (يسأل) والذي يدلّ على الاستمرار، وملاحظة ما للآية من معنى واسع يشمل البشر جميعاً والملائكة وسكنة السماء والأرض (وباحتمال قوي يشمل كلّ الموجودات العاقلة وغير العاقلة، والتعبير ب (من) الذي يستعمل للعاقل هو للتغليب) وملاحظة أنّ الآية لم تذكر الموضوع المسؤول عنه فيدلّ ذلك على شمولية الآية، وسيكون مفهوم الآية هو أنَّ كلّ الموجودات في عالم الخليقة تستمدّ الفيض من مبدأ الفيض بلسان حالها بصورة دائمة ومستمرّة، (فيض الوجود ومتعلّقاته).

وليس هذا الطلب من ذات ممكن الوجود في حالة الحدوث فحسب، بل في البقاء أيضاً يكون محتاجاً إلى واجب الوجود وفي كلّ لحظة يطلب منه الوجود.

وقد ورد هذا المعنى بتعبير واحد تقريباً في تفسير (روح البيان) و (روح المعاني) حيث جاء فيهما «.. قاطبة ما يحتاجون إليه في ذواتهم ووجوداتهم حدوثاً وبقاءً وسائر أحوالهم

نفحات القرآن، ج 3، ص: 40

سؤالًا مستمرّاً بلسان المقال وبلسان الحال فانّهم كافّة من حيث حقائقهم الممكنة بمعزل عن استحقاق الوجود وما يتفرّع عليه من الكمالات بالمرّة بحيث لو انقطع ما بينهم من العناية الإلهيّة من العلائق لم يشمّوا رائحة الوجود أصلًا فهم في كلّ آن مستمرّون على الإستدعاء والسؤال» «1» من هنا يتّضح أنّ اعتقاد البعض بأنَّ السؤال يرتبط ب (الرزق) أو (الرحمة الإلهيّة) أو (متطلّبات الدين والدنيا) أو (العلم بعاقبة العمل وصلاح النفس وفسادها) فقط لا دليل عليه وإنْ اندرجت في المفهوم الواسع للآية.

توضيحات

1- برهان الوجوب والإمكان من الناحية الفلسفية

وهو من البراهين القابلة للفهم، حيث يمكن بيانه بلسان عامّة الناس، وكذلك بواسطة التعبيرات والاصطلاحات الفلسفية الخاصة، وبتعبير بسيط عندما نرجع إلى وجودنا نجد

أنَّ وجودنا برمّته في حالة احتياج ولا يؤَمن الاحتياج من الداخل، ومن أجل تأمين هذا الاحتياج يجب أن نمد الدنيا خارج وجودنا، وكما يقول المثل كلما ازداد الغنى ازدادت الحاجة فكلّما تضاعفت قوّة الإنسان في الظاهر (ماديّاً أو معنويّاً) توسّعت دائرة احتياجاته، فالطير في الصحراء يكتفي بقليل من الماء والحبّ وعشّ مؤلّف من بعض الأوراق، في حين تحتاج حياة سلطان مقتدر إلى آلاف الحاجات، وهكذا لوقارنا الحياة العلمية لمحقّق كبير بالنسبة لطالب مبتدى ء.

ومن خلال ملاحظة هذا الاحتياج وبإلهام باطني يدرك الإنسان أنّ لهذا العالم مُبدئاً غنيّاً يتّجه الجميع إليه لنيل حوائجهم وهو الذي نطلق عليه (اللَّه) تبارك وتعالى.

أمّا في العبارات الفلسفية وبحوث المتكلّمين فإنَّ الوجود يقسّم إلى قسمين: (ممكن) و (واجب).

__________________________________________________

(1) تفسير روح البيان، ج 9، ص 299؛ وتفسير روح المعاني، ج 27، ص 95.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 41

فواجب الوجود يكون وجوده ذاتياً، وذاته المقدّسة غير محتاجه إطلاقاً، في حين لا يملك الممكن في ذاته شيئاً فهو محتاج.

وبهذا يُعد احتياج الممكن إلى العلّة من القضايا البديهية والأوّلية والتي لا تحتاج إلى إقامة البرهان، ومن يتردّد في هذا الأمر فإنّ ذلك يعود إلى عدم الفهم الجيّد لمفهوم الممكن.

ثمّ يُطرح هذا السؤال: ما هو سبب احتياج الممكن إلى العلّة؟ هل السبب هو الوجود أو مسألة الحدوث؟ أي هل أنّ الأشياء تحتاج إلى العلّة بسبب كونها حادثة أو بسبب كونها موجودة؟ أو أنَّ الملاك الأصل وهو (الإمكان)؟ وبناء على هذا الدليل فإنّ الإحتياج إلى العلّة يجب أن لا يبحث في أصل وجود الشي ء أو في حدوثه، بل إنّ العلّة الأساسية هي الإمكان.

ولا ريب في أنّ الإجابة الصحيحة والدقيقة هي الإجابة الثالثة، لأنّنا إذا- بحثنا عن معنى

الإمكان وجدنا أنّ الإحتياج إلى العلّة متحقّق فيه، لأنّ- (الممكن) وجود (غير اقتضائي) أي أنّ ذاته لا تقتضي الوجود ولا العدم.

وبملاحظة هذا الإستواء الذاتي يكون في وجوده وعدمه بحاجة إلى عامل ولذا فإنّ الفلاسفة يقولون بأنَّ حاجة الممكن أوّلية، «حاجة ممكن الوجود إلى العلة أمرٌ بديهي».

ويُستنتج من ذلك أنّ حاجة الممكن إلى واجب الوجود لا تقتصر على ابتداء الوجود فحسب، بل هي ثابتة في مراحل البقاء كلّها لثبوت الإمكان في حقّ الممكن دائماً لذا فإنّ الحاجة إلى العلّة أمر باقٍ وثابت.

وللمثال على ذلك فانّنا حينما نمسك القلم ونحرّكه على قرطاس نجد أنّ حركة القلم تحتاج إلى محرّك من الخارج ويتمثّل في أصابعنا، فما دامت الحركة في اليد والأصابع فإنّ القلم يتحرّك كذلك، ويتوقّف بتوقّفها.

وأوضح من ذلك ما يوجد في أفعال أرواحنا، فحينما نعزم على العمل ببرنامج ما نجد أنّ الإرادة والعزم- وهما من فعل الروح- يرتبطان بها ويختفيان حال انقطاع هذا الارتباط.

إنّنا مرتبطون بوجود اللَّه كذلك وَهذا الوجود الإرتباطي لا يستقرّ لحظة واحدة بدون ذلك.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 42

ويقول الشاعر:

لم أسلم النفس للاسقام تبلغها إلّا لعلمي بأنّ الوصل يحييها نفس المحبّ على الآلام صابرةٌ لعلّ مسقمها يوماً يداويها قد يقال: إنّنا نشاهد البناء باقياً بعد موت بانيه فكيف إذن تستغني الأفعال عن الفاعل في بقائها؟

فنقول: إنّ ذلك يحصل بسبب حلول علّة محلّ علّة اخرى، ففي البداية تقوم يد البنّاء الماهر بوضع لبنة على لبنة اخرى ثمّ يبقى البناء مستقرّاً بفضل جاذبية الأرض وعوامل الإلتصاق من جصّ وإسمنت.

وباختصار، أنّ وجود (الممكن) وجود ارتباطي ولا يستمرّ دون الإتّكال على وجود مستقلّ، وعليه فإنّ تعريف معنى الوجود الإرتباطي كافٍ في التعرّف على الوجود المستقلّ دون الحاجة

إلى بحوث واسعة في «الدور والتسلسل» (تأمّل جيّداً).

يُستبطن في مفهوم الوجود الإرتباطي والتبعي معنى الإستناد إلى واجب الوجود فهل للوجود الإرتباطي معنى دون الوجود المستقلّ؟

2- برهان الغنى والفقر في الروايات الإسلامية

نقرأ في دعاء الإمام الحسين عليه السلام يوم عرفة- وهو من أعمق وأثرى الأدعية الواردة عن المعصومين:- خاصّة في بحث التوحيد إذ يقول عليه السلام:

«كيف يُستدلّ عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك؟ أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتّى يكون هو المُظهِر لك؟» «1».

ونقرأ في موضع آخر من الدعاء نفسه:

«إلهي أنا الفقير في غناي فكيف لا أكون فقيراً في فقري؟!».

__________________________________________________

(1) يستفاد من هذه الجملة في (برهان الصدّيقين) أيضاً فيشار إليها في بحثه إن شاء اللَّه.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 43

ونجد في حديث نبوي: «الفقر فخري وبه أفتخر» «1».

إنّ أحد التفسيرات المعروفة لهذه الرواية هو الشعور بالفقر الذاتي تجاه اللَّه سبحانه وهو الداعي إلى الفخر، وليس الفقر هنا بمعنى ضنك المعيشة والإفتقار إلى المخلوق وهو ممّا تذمّه الروايات، كالحديث الذي ينصّ:

«كاد الفقر أن يكون كفراً» «2».

ولذا نقرأ عنه عليه السلام في حديث آخر: «اللهمّ أغنني بالإفتقار إليك ولا تفقرني بالإستغناء عنك» «3».

كانت لقلبي أهواءٌ مفرغة فاستجمعت إذ رأتك العين أهوائي تركت للناس دنياهم ودينهم شغلًا بذكرك ياديني ودنيائي __________________________________________________

(1) بحار الأنوار، ج 69، ص 55؛ وتفسير روح البيان، ج 7، ص 334.

(2) بحار الأنوار، ج 69، ص 30.

(3) سفينة البحار، ج 2، ص 378؛ وتفسير روح البيان، ج 7، ص 334.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 45

4- برهان العلّة والمعلول

تمهيد:

لا شكّ أنّ العالم الذي نعيش فيه يشتمل على مجموعة من العلل والمعلولات، والعلّية هي من أوضح القوانين في هذا العالم.

كما لا شكّ في أنّنا والأرض التي نعيش عليها لم نكن موجودين بصورة دائمة بل انّنا معلولون لعلّة اخرى، فهل لهذه السلسلة من العلل والمعلولات أن تستمرّ بلا نهاية وتبقى

في حالة تسلسل؟ وبعبارة اخرى أتكون كلّ علّة معلولة لعلّة اخرى ولا تنتهي في موضع ما؟

إنّها قضيّة لا يتقبّلها أي وجدان، فكيف يمكن لأصفارٍ توضع جنباً إلى جنب وإلى ما لا نهاية من أن تكوّن رقماً ما؟ (المقصود من الصفر هو الموجود الذي لا وجود له من ذاته بل وجوده مكتسب من علّته)، وكيف يمكن أن يصطف الفقراء- والمعوزون إلى ما لا نهاية ثمّ يحصل منهم وجود غني؟!

يجب الإذعان- إذن- إلى أنّ هذه السلسلة من العلل والمعلولات تنتهي بوجود، وهذا الوجود هو علّة غير معلول حيث ينبع الوجود من ذاته، وبتعبير أدقّ هو عين الوجود اللامتناهي وواجب الوجود.

إنّه أوضح دليل على إثبات الوجود الأزلي والأبدي للَّه سبحانه.

والملاحظ أنّ الاستدلالات الاخرى لإثبات وجود اللَّه تنتهي كذلك ببرهان (العلّة والمعلول) وبدونه تكون ناقصة.

بعد هذا التمهيد نمعن خاشعين في الآيات القرآنية التالية:

نفحات القرآن، ج 3، ص: 46

1- «أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيرِ شَى ءٍ أَمْ هُمُ الخَالِقُونَ». (الطور/ 35)

2- «أَمْ خَلَقُوا السَّماوَاتِ والأَرضَ بَلْ لَّايُوقِنُونَ». (الطور/ 36)

3- «أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيرُ اللَّهِ سُبحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشرِكُونَ». (الطور/ 43)

شرح المفردات:

«خلقوا»: من (الخلق) ويعني في الأصل: التقدير المباشر، وبما أنّ صُنع وإيجاد شي ء غير موجود في الماضي، وليس له أصل ومادّة يكون صُنعاً وإيجاداً بكل معنى الكلمة، لذا اطلقت هذه المفردة على الإبداع والإيجاد.

كما تستعمل هذه الكلمة في عملية إيجاد شي ء من شي ء آخر نظيره:

«خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ نُّطفَةٍ». (النحل/ 4)

من البديهي أنّ (الخلق) بمعنى (الإبداع والإيجاد من العدم) مختصّ باللَّه، ولذا ينفي هذه القدرة عن غيره حيث يقول تعالى:

«أَفَمَنْ يَخلُقُ كَمَنْ لَايَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ». (النحل/ 17)

في حين يصدق المعنى الثاني (وهو إيجاد شي ء من شي ء آخر والتقدير له)، على غير

اللَّه تعالى، ناظرة إلى هذا المعنى: «فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحسَنُ الخالِقِينَ». (المؤمنون/ 14)

وقد تستعمل هذه الكلمة بمعنى الكذب أيضاً، ولعلّ ذلك لما يختلقه من أشياء لا واقع ولا وجود لها.

وقد ذكروا ل (الخلق) أصلين في مقاييس اللغة أحدهما: التقدير، وثانيهما: الليونة والنعومة، ولذا يطلق على الصخرة الملساء (الصخرة الخلقاء) كما يطلق فعل (خَلقَ) على الأشياء القديمة حينما تكون ملساء نتيجة لتعاقب الأزمنة عليها.

أمّا (الأخلاق) والتي تعني الصفات والسجايا الإنسانية الثابتة فانّها مشتقّة من المعنى الأول وهو التقدير (لأنّها تحدّد أبعاد الشخصية والروح الإنسانية وقدرها).

نفحات القرآن، ج 3، ص: 47

جمع الآيات وتفسيرها

استجواب عجيب!

لقد جاءت الآيات المذكورة أعلاه ضمن تسع آيات في سورة (الطور)، ووردت في نطاق 11 سؤال على صورة الإستفهام الإستنكاري.

وهذه الآيات تضع الإنسان أمام مجموعة من الأسئلة المتسلسلة العجيبة ثمّ تسدّ عليه طريق الفرار كي يذعن للحقّ.

وتتابع هذه الأسئلة الأحد عشر ثلاثة أهداف مهمّة هي:

إثبات التوحيد، المعاد، ورسالة نبي الإسلام، غير أنّ الأساس فيها يتمحور حول توحيد الخالق المعبود.

الآية الاولى من الآيات الثلاث التي تقدّمت تقول: «أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيرِ شَى ءٍ أَمْ هُمُ الخَالِقُونَ».

وبعبارة اخرى: إنّ كلّ إنسان لا شكّ في أنّه مخلوق وحادث ولا يخرج من ثلاث حالات: امّا مخلوق من دون علّة أو هو علّة وجوده أو أنّ علّته هو الوجود الأزلي والأبدي وهو اللَّه سبحانه.

وبما أنّ الاحتمالين الأوّل والثاني لا يتوافقان مع العقل والوجدان فالاحتمال الثالث هو الثابت حتماً، ولذا ذكر الإحتمالين الأوّل والثاني بصيغة «الإستفهام الإستنكاري»، وحينما ينفيهما العقل والوجدان، يثبت الاحتمال الثالث لا محالة.

هذا جوهر الاستدلال الشهير ب (العلّة والمعلول) حيث يعرض في جملتين قصيرتين ومركّزَتَيْنِ ذات معنى واسع.

وقد يبرز هنا احتمال رابع وهو أن يكون الإنسان معلولًا لعلّة اخرى وهذه العلّة

معلولة لعلّة اخرى وهكذا تستمرّ هذه السلسلة إلى ما لا نهاية.

وهذا الاحتمال يبرز لدى الفلاسفة عادةً وليس لعامّة الناس، ولعلّ الآية لم تذكره لهذا السبب.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 48

على أيّة حال فإنّ هذا الاحتمال واضح البطلان أيضاً، لاستحالة (تسلسل العلل والمعلولات) منطقياً ووجداناً، وسيأتي إيضاح ذلك بإذن اللَّه.

وقد ذكر الكثير من المفسّرين تفسيرات اخرى للآية، ترتبط بصورة أساسية بالهدف من الخلق وإن كانت بعبارات مختلفة وتفاسير متعدّدة، حيث يقولون بأنّ المراد هو أنّ البشر لم يخلقوا دونما تكليف وأمر ونهي وثواب وعقاب، ويعتبرونها نظير قوله تعالى: «أَفَحَسِبتُم أَنَّما خَلَقْنَاكُم عَبَثاً» «1». (المؤمنون/ 115)

ولكن بملاحظة ذيل الآية يضمحل هذا الإحتمال تماماً لأنّه تعالى يقول: «أَمْ هُمُ الخَالِقُونَ»، وهذا التعبير يدلّ على أنّ الجملة الاولى ناظرة إلى سبب الخلقة وعلّة ظهور الإنسان لا الغاية من خلقه، وبعبارة اخرى أنّ الآية تلاحظ العلّة الفاعلية لا الغائية.

الآية الثانية تُشير إلى خلق السماوات وتعيد استدلال العلّة والمعلول هذا في مورد خلق السماوات والأرض وتقول: «أَمْ خَلَقُوا السَماواتِ وَالأَرضَ».

ويعني هذا أنّ السماوات والأرض حادثة دون شكّ لتعرّضها إلى الحوادث باستمرار وحدوث أنواع التغييرات عليها وكلّ شي ء معرض للتغيير لا يمكن أن يكون أزلياً.

في هذه الحالة يجري السؤال عن خالق السماوات والأرض فهل هي خلقت نفسها؟ أو لا خالق لها أبداً وقد وجدت صدفة؟ أم أنّ خالقها هو البشر؟ وبما أنّ الإجابة عن هذه الأسئلة بالنفي، يعلم أنّ لها خالقاً ليس مخلوقاً بل هو أزلي أبدي.

والملاحظ أنّ من بين هذه الاحتمالات يتوجّه الاستفهام الإنكاري إلى احتمال خالقية الإنسان للسماوات والأرضين فقط، وذلك لان الاحتمالات الاخرى وردت في الآيات السابقة، وعدم التكرار هو مقتضى الفصاحة والبلاغة.

__________________________________________________

(1) تفسير مجمع البيان؛ تفسير الكبير؛

تفسير القرطبي؛ تفسير الميزان؛ تفسير روح المعاني وتفسير روح البيان؛ حيث ذكروا هذا المعنى كمعنى رئيس في الآية أو كاحتمال.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 49

من هنا فإنّ الآيتين أعلاه أقامتا برهان العلّة والمعلول في الآفاق والأنفس، وعليه فإنّ الآية الثانية تشهد كذلك على أنّ الحديث يدور حول العلّة الفاعلية لا الغائية.

في الختام تشير هذه الآية إلى هذه الحقيقة وهي أنّ القضايا في هذا الصدد واضحة، ولكن العيب هو أنّهم لا يستعدّون للإيمان واليقين: «بَل لا يوقِنُون».

أجل، إنّ الحقّ بيّن، بَيدَ أنّهم معاندون وأعداءٌ للحقّ.

وفي الحقيقة فإنّ هذه الجملة تشابه ما ورد في قوله تعالى

«وَفِى خَلقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِّقَومٍ يُوقِنُونَ». (الجاثية/ 4)

أو تشابه ما ورد في قوله تعالى «وَفِى الأَرضِ آيَاتٌ لِّلمُوقِنِينَ». (الذاريات/ 20)

وواضح أنّ اولئك لو كانوا من الموقنين لما احتاجوا إلى الآيات، وعليه فإنّ الحديث يدور حول الذين لا يقين لديهم ولكنّهم على استعداد لقبوله.

وذهب جمع من المفسّرين إلى أنّ المقصود هو أنّ اولئك لا يقولون بأنّهم خلقوا السماوات والأرض، بل يعتقدون بأنّ اللَّه هو الخالق، نظير ما جاء في قوله تعالى «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّماوَاتِ والأَرضَ لَيقُولُنَّ اللَّهُ» «1». (لقمان/ 25)

بيد أنّ هذا التفسير يبدو بعيداً.

والأضعف من هذا الاحتمال هو ما يقوله الذين يعتقدون أنّ معنى الآية هو: «أنّهم لا يقين لهم بما يقولون وهو أنّ اللَّه خالق السماوات والأرض» وهو اليقين الذي يدعوهم إلى العبودية والطاعة.

ويتّضح خطأ هذا التفسير من أنّ الآيات هذه لم تطرح قضيّة خلق اللَّه للسماوات والأرض، فكيف يمكن أن تكون هذه الجملة إشارة إليها؟ «2»

وأخيراً تقول الآية الثالثة كاستنتاج دون ذكر للاستدلال: «أَمْ لَهُم إِلهٌ غَيرُ اللَّهِ سُبحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ».

__________________________________________________

(1) أقرّ

الزمخشري هذا التفسير في الكشّاف وقد احتمله الفخر الرازي في الكبير وجمع آخر من المفسّرين.

(2) جاءت عبارة «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَماواتِ والأَرضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ» في العنكبوت، 61؛ الزمر، 38؛ الزخرف، 9 و 87؛ لقمان، 25.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 50

إنّه في الحقيقة استدلال على توحيد المعبود، أي عندما يكون هو الخالق للعالم فإنّ العبادة يجب أن تقتصر عليه أيضاً لا على غيره، كالأصنام والشمس والقمر والنجوم وغيرها.

وكما أسلفنا فإنّ هناك سبعة أسئلة اخرى إضافة إلى هذه الأسئلة الثلاثة الواردة على صورة الاستفهام الإنكاري في آيات ثلاث ترتبط بقضيّة النبوّة وامور اخرى لا حاجة لذكرها في هذا البحث التوحيدي «1».

توضيحان

1- برهان العلّة والمعلول في الفلسفة والكلام
اشارة

1- برهان العلّة والمعلول في الفلسفة والكلام

يعدّ هذا البرهان من أقدم وأشهر الإستدلالات على إثبات وجود اللَّه ابتداءً من فلاسفة اليونان القدماء ومنهم ارسطو الذي عاش في القرن الرابع قبل الميلاد وحتّى يومنا هذا حيث كانوا يستندون إليه، وكما أشرنا من قبل فإنّ أغلب الأدلّة على التوحيد تعتبر غير تامة إذا لم تستند إلى برهان العليّة.

ولكي تتوضّح قواعد هذا الاستدلال، ينبغي ملاحظة عدّة امور:

1- تعريف أصل العلّية

(العلّية) هي العلاقة الوجودية بين شيئين بشكل يكون أحدهما تبعاً للآخر، ومن يرى أنّ علاقة العلّية عبارة عن ظهور حادثين على التعاقب فإنّ هذا التعريف يكون ناقصاً، فصحيح أنّ المعلول يحدث بعد علّته ولكن ذلك لا يكفي لتوضيح مفهوم العلّية، بل لابدّ أن يكون هذا الأمر ناشئاً من العلاقة بينهما ومن تبعية الوجود الثاني إلى الوجود الأوّل.

__________________________________________________

(1) للمزيد من الإيضاح راجع التفسير الأمثل ذيل الآية 35 من سورة الطور.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 51

2- شمولية قانون العلّية وسعة تطبيقاتها

طبقاً لما يقوله بعض المحقّقين، كان قانون العلّة والمعلول أوّل قضيّة شغلت الفكر البشري من بين القضايا الفلسفية ماضياً وحاضراً ودفعت البشر للتفكير من أجل اكتشاف ألغاز الوجود، وأهمّ دافع للتفكير لدى الإنسان الذي يمتلك القدرة على التفكير هو فهم قانون (العلّة والمعلول العامّ) الذي يثبت أنّ لكلّ حادثة علّة وهو السبب في تبادر مفهوم (لماذا) في الذهن البشري، ولو لم يتعرّف الذهن البشري على مفهوم العلّة والمعلول العامّ ولم يذعن لقانون العلّية لم يكن ليخطر في ذهنه مفهوم (لماذا)؟ «1»

هذه ال (لماذا) هي الأساس لكلّ العلوم والأفكار البشرية والتي دفعت الإنسان للبحث عن الجذور والنتائج لهذا العالم وحوادثه المختلفة.

وبعبارة اخرى: إنّ جميع العلوم البشرية انعكاس لقانون العلّية، ولو سُلب هذا القانون من البشر فإنّ هذه العلوم سوف تفقد كل محتوياتها.

وكذلك لو فقدنا قانون (العلّية) فإنّ (الفلسفة) أيضاً سوف تتزعزع بكلّ فروعها، وعليه فإنّ العلوم والأفكار والفلسفة مبنيّة على هذا القانون.

3- جذور معرفة قانون العلّية

كيف توصّل الإنسان إلى قانون العلّية؟

للإجابة عن هذا السؤال لابدّ أن نرجع إلى الوراء لنستقري ءَ حياتنا في الصغر، عندما ينضج عقل الإنسان وتكتمل قابلية التمييز لديه، فالطفل عندما يمدّ يده إلى النار فيحسّ بألم الإحتراق، وعندما يعيد هذا العمل ويتكرر الإحساس نفسه يتيقّن شيئاً فشيئاً بوجود علاقة بين أمرين (مسّ النار والشعور بألم الإحتراق).

وهكذا حينما يحس بالعطش ويشرب الماء فانّه يشعر بالراحة وزوال العطش ويتكرّر هذا العمل حتّى يتيقّن بوجود علاقة بين العطش وشرب الماء، وعندما تتكرّر هذه التجارب

__________________________________________________

(1) أصول الفلسفة، ج 3، ص 175 (اقتباس واختصار).

نفحات القرآن، ج 3، ص: 52

في مجالات كثيرة وموضوعات مختلفة يتيقّن بأنّ لكلّ حادثة علّة وبهذا يكتشف قانون العلّية بشكله العادي البسيط، وبتقدم عمره وبواسطة التجارب

التي يمرّ بها سواء على صعيد الحياة الاعتيادية أو على صعيد العلوم والأفكار- سيدرك سعة هذا القانون وقوّته أكثر فأكثر (كما يصل إلى هذا المبدأ وهو أنّ لكلّ حادثة علّة عن طريق الفلسفة).

نحن لا نقول بأنّ تعاقب حادثين يعني العلّية بل نقول إنّ القضيّة لابدّ من تكرارها حتّى يتّضح وجود علاقة بينهما، وأنّ الثاني تابع للأوّل.

والظاهر أنّ القائلين: إنّ قانون العلّية خاضع للتجربة. يذهبون إلى أنّ الإنسان يتوصّل إلى الجذور والاصول عن طريق التجربة والحسّ ومن ثمّ يكتشف علاقة العلّية من خلال (التحليل العقلي)، وهو في الحقيقة يتوصل إلى مقدّمة من خلال (الحسّ) واخرى من خلال (العقل) وذلك لأنّ القوانين الكلّية توجد في العقل بصورة بديهية، ودور الحسّ هو إدراك الموضوعات المتفرقة ثمّ يقوم العقل بجمعها فيتوصّل إلى النتائج.

ويتصوّر البعض أنّ مبدأ العلّية- هو عبارة عن علم حصولي- يستحصل من العلم الحضوري (النفس) بالنسبة إلى (أفعال النفس).

وفي توضيح كلامهم هذا يقولون أنّ الروح الإنسانية تحسّ بامور في أعماقها تابعة لها وقائمة بها كالتصوّر والأفكار والإرادات والقرارات .. هذه كلّها أفعال الروح الإنسانية ومعلولة لها، ومن خلال العلاقة بين هذه الأفعال والروح يمكن أن نكتشف قانون العلّية، ثمّ يستندون في ذلك إلى قول لإبن سينا حيث يقول: «فإنّا ما لم نثبت وجود الأسباب لمسبّبات من الامور بإثبات أنّ لوجودها تعلّقاً بما يتقدّمها في الوجود، لم يلزم عند العقل وجود السبب المطلق، وأنّ ههنا سبباً ما، وأمّا الحسّ فلا يؤدّي إلّاإلى الموافاة وليس إذا توافى شيئان وجب أن يكون أحدهما سبباً للآخر ... «1».

ولا شكّ في أنّ هذا خطأ كبير ومن المستبعد أن يقصد ابن سينا هذا المعنى لأنّ هذه التحليلات بشأن الروح وأفعالها هي من اختصاص

الفلاسفة لا عموم الناس، في حين أنّ

__________________________________________________

(1) الشفاء، الفصل 1، مقالة الإلهيات الاولى، ص 8.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 53

عامّة الناس يعرفون قانون العلّية حتّى الأطفال منهم، ولا شكّ في أنّ ذلك حصل لهم من خلال التجارب الخارجية والحسّية كما أسلفنا، غير أنّ العقل ما لم يحلّل هذه التجارب وما لم يجعل من القضايا الجزئية أمراً عامّاً، فنحن لا ندرك (قانون العلّية)، وعليه فإنّ الأساس في معرفة هذا القانون هو التجربة إضافة إلى العقل، ولعلّ ابن سينا يقصد ذلك ولا يمكن قبول غيره، بَيدَ أنّا لا ننكر أنّ الفلاسفة والعلماء يسهل عليهم معرفة العلّية من خلال الأفعال النفسية كما يمكن ذلك عن طريق الحسّ.

كما أنّ ثمّة طريق استدلال واضح يوصل إلى هذا الأمر، وهو أنّنا لو أنكرنا قانون العلّية وجب أن لا يكون شي ء شرطاً لشي ء، وسوف ينشأ كلّ شي ء من أي شي ء، بل يجب رفض مناهج الاستدلالات العقلية أيضاً، وللوصول إلى نتيجة منطقية- مثلًا- يجب أن لا نستفيد من أدلّة خاصّة، بل إنّنا نصل من كلّ مقدّمة إلى أيّة نتيجة نتوخّاها، وهذا ما لا يتقبّله أي عاقل قطعاً.

ينبغي إذن أن نذعن بعلاقة العلّية في الخارج وفي الامور العقلية.

4- أقسام العلّة

العلّة لها مفهوم واسع وأقسام عديدة:

العلّة التامّة وتعني أنّ الشي ء إذا وجد فإنّ معلوله سوف يوجد مباشرة.

والعلّة الناقصة وتعني أنّ الشي ء يحتاج- في وصوله إلى المعلول- انضمام امور اخرى، كما تقسّم العلّة إلى (العلّة الفاعلية) و (الغائية) و (المادّية) و (الصورية) وهذه تقسيمات مشهورة يمكن إيضاحها بمثال بسيط:

لو لاحظنا ملابسنا التي نرتديها لوجدناها لكي توجد يجب توفّر المادّة (كالقطن والصوف) ثمّ تحويلها إلى قماش مناسب ثمّ تباشرها يد الخيّاط لخياطتها، ومن الأكيد أنّ الخيّاط

يصنع اللباس لهدف خاصّ وهو الإنتفاع منه.

تعتبر المادّة الأصلية هي (العلّة المادّية) والصورة التي اعطيت لها هي (العلّة الصورية)

نفحات القرآن، ج 3، ص: 54

والذي جعلها على صورة اللباس هو (العلّة الفاعلية) والدافع لهذا الشي ء هو (العلّة الغائية).

ومن المعلوم أنّنا استندنا في برهان (العلّة والمعلول) الذي نتابعه إلى العلّة الفاعلية وخاصّة العلّة التامّة.

2- إيضاح برهان العلّية

بعد اتّضاح هذه المقدّمات نرجع إلى أصل برهان العلّية.

إنّ برهان العلّة والمعلول في الحقيقة مبني على أساسين هما:

1- أنّ العالم الذي نعيش فيه (حادث) و (ممكن الوجود).

2- كلّ موجود حادث وممكن الوجود يجب أن ينتهي إلى واجب الوجود، وبعبارة اخرى يجب أن تنتهي الوجودات الإرتباطية إلى الوجود المستقل.

وقد تكلّمنا بما فيه الكفاية عن المقدّمة الاولى وهي حدوث العالم، يبقى أن نثبت الآن المقدّمة الثانية:

إنّها قضيّة واضحة وحتّى المادّيون والمنكرون لوجود اللَّه يقرّون بها، بَيدَ أنّهم يقولون: إنّ (المادّة) لها وجود أزلي وأبدي ومستقلّ بالذات، لكن هذا الكلام باطل استناداً إلى الأدلّة التي تثبت استحالة أزلية المادّة وأبديتها وقد أشرنا إلى ذلك.

ولتوضيح هذه المقدّمة من المناسب أن نقول: مع الإقرار بأنّ العالم حادث فسنواجه خمسة افتراضات لا سادس لها:

فإمّا أن يوجد العالم بدون علّة، أو أن يكون هو علّة لوجوده، أو أن يكون معلوله علّة له، أو أن يكون العالم معلولًا لعلّة وهي معلولة لعلّة اخرى وهكذا إلى ما لا نهاية.

أو أن نقرّ بأنّ كلّ هذه الموجودات الحادثة مستندة إلى موجود أزلي أبدي فوق المادّة، وهذه السلسلة من العلل والمعلولات تنتهي أخيراً إلى (واجب الوجود).

الفرضية الاولى: وهي حدوث العالم بدون علّة وتسمّى بفرضية (الصدفة) وهي فرضية

نفحات القرآن، ج 3، ص: 55

باطلة، لأنّ الحادث إن لم يحتج إلى علّة فإنّ كلّ موجود يجب أن يوجد

في كلّ زمان وأي ظرف، في حين نرى بوضوح أنّ الأمر ليس كذلك، حيث يحتاج كلّ حادث لحدوثه إلى توفّر الشرائط والظروف الخاصّة.

وهكذا بطلان الفرضية الثانية وهي (أن يكون الشي ء نفسه علّة لوجوده) يعتبر أمراً بديهياً، لأنّ العلّة يجب أن تكون قبل المعلول ولو كان الشي ء علّة لنفسه فلابدّ أن يكون موجوداً قبل وجوده ممّا يستلزم اجتماع (الوجود) و (العدم) وهو ما يطلق عليه بالمصطلح العلمي (الدور).

وهكذا بالنسبة لبطلان الفرضية الثالثة، حيث يكون معلول الشي ء علّة لوجوده، وهو أمر واضح لا يحتاج إلى توضيح.

وأمّا بطلان الفرضية الرابعة التي تعني استمرار سلسلة العلل والمعلولات إلى ما لا نهاية فانّه بحاجة إلى إيضاح: (التسلسل) يعني استمرار سلسلة العلل والمعلولات إلى ما لا نهاية وهذا باطل عقلًا لأنّ كلّ معلول يحتاج إلى علّة، ولو إستمرّت هذه السلسلة إلى ما لا نهاية ولم تنته بواجب الوجود فانّه يعني أنّ مجموعة من ذوات الحاجة غير محتاجة، في حين أنّ ما لا نهاية من الفقراء والمحتاجين محتاجون حتماً.

فلو تراكمت ما لا نهاية من الظلمات لا تتحوّل إلى (نور)، وما لا نهاية من (الجهل) لا يكون (علماً)، وما لا نهاية من (الأصفار) لا يكون (رقماً).

لابدّ إذن من انتهاء سلسلة العلل والمعلولات إلى موجود يحتاج شيئاً آخر .. وجود مستقلّ وغني، وجوده من ذاته، وبعبارة أصحّ أن يكون عين الوجود والوجود المطلق.

وممّا ذكر نستنتج أنّ وجود الممكنات والحوادث في العالم لابدّ أن ينتهي بوجود واجب أزلي نسمّيه (اللَّه) سبحانه وتعالى.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 57

5- برهان الصدّيقين

تمهيد:

برهان الصدّيقين من أدلّة إثبات وجود اللَّه بالاستفادة من القرآن الكريم والروايات، والذي اهتمّ به العلماء والفلاسفة الإسلاميون، وكما يبدو من إسمه أنّه ليس دليلًا عامّاً بل يختصّ

بالذين يحظون بمعلومات وفهم أوسع في العقيدة والفلسفة، ولهم قسط وافر من الذوق ودقّة الملاحظة.

دليل يتّصف بالتعقيد قليلًا وفي الوقت نفسه لطيف وجميل ومربٍّ للروح.

ومحور هذا الدليل أنّنا بدلًا من دراسة المخلوقات من أجل معرفة اللَّه، نتوجّه للتدبّر في ذاته المقدّسة للوصول إلى ذاته، وكما يقتضيه الدعاء: «يامن دلّ على ذاته بذاته» نتّخذ منه تعالى طريقاً للوصول إليه، وكلّ ما في هذا البرهان من تعقيد وظرافة ناشي ء عن كيفية إمكان اتّحاد الدليل والإدّعاء.

القضية هي أنّ في هذا العالم وجوداً فنبادر بتحليل أصل هذا الوجود ومن خلال تحليل دقيق نصل إلى أنّ أصل الوجود يجب أن يكون واجباً.

هذه إشارة سريعة ولو أنّها غير كافية حيث سنتكلم عن ذلك بالتفصيل ونعود الآن إلى القرآن لنمعن خاشعين في الآيات التالية:

1- «أَوَ لَمْ يَكفِ بِرَبِّكَ انَّهُ عَلَى كُلِّ شَى ءٍ شَهيدٌ». (فصّلت/ 53)

2- «شَهِدَ اللَّهُ انَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالمَلَائِكَةُ وَأُوْلُوا العِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لَاإلهَ إِلَّا هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ». (آل عمران/ 18)

نفحات القرآن، ج 3، ص: 58

3- «وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحيْطٌ». (البروج/ 20)

5- «هُوَ الْأوَّلُ وَالآخِرُ والظَّاهِرُ والباطنُ وَهُوَ بكُلِّ شَى ءٍ عَليمٌ». (الحديد/ 3)

6- «اللَّهُ نُورُ السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ» «1». (النور/ 35)

شرح المفردات:

«شهيد»: مشتق من (شهود) وهو في الأصل- كما يقول الراغب في المفردات- بمعنى (الحضور المقرون بالمشاهدة) سواء كان ذلك بالعين الباصرة أو بعين القلب، وقد يعني (الحضور) مجرّداً عن مفهوم المشاهدة بَيدَ أنّ استعمال (شهود) بمعنى الحضور، و (الشهادة) بمعنى الحضور المقرون بالمشاهدة أولى.

وقد وردت في (مقاييس اللغة) ثلاثة اصول في معنى (الشهادة) هي: الحضور والعلم والإعلام للآخرين، وإطلاق (شهيد) على من يقتل في طريقه هو لحضور ملائكة الرحمة عليه، أو بسبب حضوره في ساحة الجهاد، أو

بسبب مشاهدة النعم العظيمة التي أعدّها اللَّه له، أو بسبب حضوره بين يدي اللَّه.

وقد جاء في كتاب العين أنّ (الشّهْد) يعني (العسل) قبل استخراجه من الشمع وهو المعنى الذي اتّخذه صاحب الكتاب الأصل الأوّل لهذه المادّة، فهل يرى ذلك هو الأصل اللغوي؟ وفي هذه الحالة ما هو وجه العلاقة بما نحن فيه؟ إنّه لم يذكر توضيحاً لذلك «2».

(محيط) ومصدرها (الإحاطة) وتعني الضمّ ويستفاد من بعض الكتب اللغوية بأنّ الإحاطة على نوعين:

إحداهما: تكون في الأجسام ولذا يطلق على البناء المحيط بمكان (حائط).

وثانيهما: (الإحاطة المعنوية) وتعني الحفظ والحراسة أو العلم والإطّلاع على شي ء ما.

وقد تستعمل هذه المفردة بمعنى الإمتناع من شي ء، وكأنّ الإنسان محاط من كلّ جهة

__________________________________________________

(1) هناك آيات قرآنية اخرى تحمل نفس هذا المضمون من جملتها سورة الحجّ، 17 وسبأ، 47 والمجادلة، 6 والبروج، 9 والنساء، 33 والأحزاب، 55.

(2) المفردات، لسان العرب، مقاييس اللغة، كتاب العين.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 59

لئلّا يصل إلى ذلك الشي ء، وكلمة (الإحتياط) تستعمل في المجالات التي يحاول الإنسان فيها أن يعمل عملًا يصونه من الخطأ والإشتباه والمعصية والمخالفة.

وقد ورد في (مقاييس اللغة) أنّ الأصل في هذه المفردة هو من مادّة (حوْط) ويعني دوران شي ء حول شي ء آخر.

كما أنّ كلمة (محيط) يمكن أن تكون بمعنى الإحاطة الوجودية أو إحاطة القدرة والعلم «1».

«نور»: يعني الأشعّة المنتشرة التي تعين العين على النظر وهو على نوعين:

مادّي وهو النور الذي تبصره العيون المجرّدة، ومعنوي وهو النور الذي تراه عين البصيرة كنور العقل ونور القرآن، وقد جاء إطلاق (نائرة) على الفتنة وذلك لانتشارها واتّساعها.

والأقرب أنّ هذه المفردة تعني في أصلها الضياء المحسوس، ثمّ استعملت في الامور المعنوية كالإيمان والعلم والعقل والقرآن حتّى ذات

اللَّه المقدّسة.

«نار»: هي من هذا الأصل أيضاً ويقترنان في كثير من الموارد.

وكلمة (منارة) تعني الموضع المتّخذ لإشعال الشموع، أو لأجل نشر نور المعنويات الذي يبثّه (الأذان) إلى مختلف الجهات.

«نَوْر»: ويطلق على براعم الأشجار وخاصّة البيض منها لما فيها من نور خاصّ منذ ظهورها.

جمع الآيات وتفسيرها

القرآن وبرهان الصدّيقين: «2»

تقول الآية الاولى التي وردت في هذا البحث بعد الإشارة إلى آيات الآفاق والأنفس

__________________________________________________

(1) التحقيق في كلمات القرآن، المفردات، مقاييس اللغة، ولسان العرب.

(2) قال البعض: إنّ تسمية هذا البرهان ب (برهان الصدّيقين) لأنّ صدّيق هو صيغة مبالغة ويعني كثير الصدق. صحيح أنّ الأدلّة الاخرى التي أوردناها لإثبات وجود اللَّه صادقة بَيدَ أنّ هذا البرهان أشدّ صدقاً نظراً إلى أنّا نصل في البرهان من ذات اللَّه سبحانه وتعالى إلى اللَّه ولا نسمح لغيره في هذا الطريق.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 60

الدالة على حقانية وجود اللَّه سبحانه وتعالى: «أَوَ لَمْ يَكفِ بِرَبِّكَ انَّهُ عَلَى كُلِّ شَى ءٍ شَهِيدٌ».

يمكن أن تكون كلمة (شهيد) هنا بمعنى الشاهد أوالحاضر والمراقب، أو تعني كلا المعنيين وذلك لصدقهما في اللَّه سبحانه، والآية المذكورة أعلاه مطلقة من هذه الجهة.

واستناداً إلى هذا التفسير يكفي لإثبات ذاته المقدّسة أن يكون شاهداً وحاضراً في كلّ مكان، فكلّ موجود ممكن نجد إلى جانبه ذات واجب الوجود، وحيثما نظرنا كان الوجود المطلق ظاهراً، وكلّ ما وقع عليه نظرنا وجدنا وجهه فيه، ونحسّ بخضوع العظماء لعظمته، وهو مصداق حديث أميرالمؤمنين عليه السلام: «ما رأيت شيئاً إلّاورأيت اللَّه قبله وبعده ومعه» «1».

وفي تفسير الميزان أنّ (شهيد) تعني (مشهود) وبذلك يكون معنى الآية:

«أو لم يكف في تبيّن الحقّ كون ربّك مشهوداً على كلّ شي ء إذ ما من شي ء إلّاوهو فقير من جميع جهاته

إليه متعلّق به وهو تعالى قائم به قاهر فوقه فهو تعالى معلوم لكلّ شي ء وإن لم يعرفه بعض الأشياء» «2».

ونتيجة هذا التفسير هو إثبات وجود اللَّه من الآية أعلاه أيضاً، ولكن عن طريق برهان الغنى والفقر.

يقول الفخر الرازي: «أو لم تكفهم هذه الدلائل الكثيرة التي أوضحها اللَّه تعالى وقرّرها، الدالّة على التوحيد والتنزيه ...» «3» (وعلى هذا فالآية ناظرة إلى إثبات وجود اللَّه عن طريق برهان النظم).

ويرى بعض المفسّرين أنّ الآية ناظرة إلى قضيّة إثبات المعاد حيث يقولون:

«أو لم يكف بربّك أنّه شاهد على كلّ شي ء، ممّا يفعله العبد وفي هذا كفاية لمحكمة يوم الجزاء» «4».

__________________________________________________

(1) يعتقد الكثير من المفسّرين بأنّ الباء في «بربّك» زائدة وتفيد التأكيد، وقد حلّت (ربّك) محلّ الفاعل، وجملة «على كلّ شي ء شهيد» هي بدل منه والجملة تعني (أو لم يكفهم أنّ ربّك على كلّ شي ء شهيد).

(2) تفسير الميزان، ج 17، ص 405.

(3) تفسير الكبير، ج 27، ص 140.

(4) تفسير القرطبي، ج 8، ص 5819.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 61

ويعتقد البعض الآخر أنّ الآية ناظرة إلى حقّانية القرآن الكريم، ونبوّة الرسل، ويقولون:

«أولم يكف ربّك شاهداً أنّ القرآن من عند اللَّه» «1».

ويبدو أنّ التفاسير الثلاثة الاولى من بين التفاسير الخمسة هذه والتي ترى أنّ الآية ناظرة إلى قضيّة التوحيد وإثبات وجود اللَّه هي أكثر صحّة، ويبدو التفسير الأوّل منها أكثر انسجاماً مع معاني الألفاظ الواردة في الآية، وبذلك يكون شاهداً على (برهان الصدّيقين).

وننهي هذا الكلام بحديث معتبر للإمام الصادق عليه السلام.

عن منصور بن حازم قال: قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام: إنّي ناظرت قوماً فقلت لهم: إنّ اللَّه جلّ جلاله أجلّ وأعزّ وأكرم من أن يُعرف بخلقه

بل العباد يُعرفون باللَّه، فقال: «رحمك اللَّه» «2».

ومن الطبيعي أنّ هذا الكلام لا يتنافى أبداً مع استخدام برهان النظم وأدلّة التوحيد وعظمة اللَّه في موجودات العالم، في الحقيقة فإنّ برهان النظم في مستوى، وهذا البرهان (برهان الصدّيقين) هو في مستوى أعلى وأرفع.

بزوغ الشمس دليل عليها:

في الآية الثانية يدور الحديث حول شهادة اللَّه سبحانه على وحدانيته ثمّ شهادة الملائكة والعلماء حيث تقول: «شَهِدَ اللَّهُ انَّهُ لَاإِله إِلَّا هُوَ وَالمَلَائِكَةُ وَاولُوا العِلْمِ»، وتضيف: أنّ ذلك يكون مع قيام اللَّه سبحانه بالعدل وإدارة العالم على محور العدل: «قَائِمَاً بِالقِسطِ».

وبما أنّ القيام بالقسط والعدل يحتاج إلى أصلين هما: القدرة والعلم لكي تتحدّد موازين العدل بالعلم أوّلًا وتطبّق بالقدرة ثانياً، أضافت الآية في ذيلها: «لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ».

والمراد من شهادة الملائكة واولو العلم واضح، ولكن ما هو المراد من شهادة اللَّه؟

هناك خلاف بين المفسّرين، حيث اعتقد البعض أنّ المراد هو الشهادة (الفعلية)

__________________________________________________

(1) راجع تفسير مجمع البيان، ج 9، ص 20.

(2) اصول الكافي، ج 1، ص 86، باب أنّه لا يعرف إلّابه، ح 3.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 62

و (القولية) أي أنّه شهد على وحدانيته بعرض آيات عظمته في عالم الوجود وفي الآفاق وفي الأنفس من جهة، وكذلك من خلال آيات التوحيد النازلة في الكتب السماوية من جهة اخرى.

في حين ذكر بعض المفسرين الشهادة القولية وحدها، وذكر بعض آخر الشهادة الفعلية، بيد أنّ مفهوم الآية يتضمّن- بالتأكيد- شهادة أعلى وأرفع من هذه، بل هي أهمّ مصداق للشهادة وهي أنّ ذاته شاهدة على ذاته كمصداق لما ورد: «يامن دلّ على ذاته بذاته» انّه سبحانه أفضل دليل على وجوده وهو الهدف الذي يقصده برهان الصدّيقين.

ولا مانع من اجتماع المعاني الثلاثة (الشهادة الذاتية

والفعلية والقولية) في مفهوم الآية.

وقد استنتج البعض من عبارة (قائماً بالقسط) بأنّ آيات العدل والنظم والتقدير في عالم المخلوقات هي مصداق بيّن لشهادته سبحانه وتعالى على وحدانيته، وهو استدلال جيّد (ولا ضير في انفصال الملائكة عن (اولو العلم) كما يشير تفسير الميزان إلى هذا المعنى)، كما لا يمنع من عمومية الآية وسعة مفهومها وشمول ما قلنا.

وكما ذكرنا من قبل فإنّ القائم بالعدل يحتاج إلى العلم والقدرة، وهاتان الصفتان موجودتان في ذاته المقدّسة واتّصاف الباري ب (العزيز الحكيم) في ذيل الآية إشارة إلى هذا المعنى الدقيق.

إحاطة الوجود الإلهي:

الآية الثالثة- بعد الإشارة إلى الجيوش الجرّارة التي واجهت أنبياء اللَّه وحاربتهم وذكر نموذجين متميزين أحدهما في العصور القديمة وهم (قوم ثمود) وثانيهما في العصور المتأخّرة وهم (قوم فرعون): «بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِى تَكْذِيب».

التعبير ب (في)- ويستعمل عادةً لبيان الظرف والمظروف- تعبير جميل وفيه إشارة إلى أنّ الكفّار غارقون في تكذيب الحقائق، والمراد من الكفّار هم الكفّار المعاندون في عصر

نفحات القرآن، ج 3، ص: 63

النبي الأكرم صلى الله عليه و آله الذين كانوا ينكرون وحدانية اللَّه سبحانه ونبوّة رسول الإسلام صلى الله عليه و آله والمعاد كذلك، ولا يستبعد أن تشمل الآية هؤلاء جميعاً، لأنّ قوم فرعون وثمود الذين ذُكروا من قبل كانوا كذلك، كما أنّ استعمال (تكذيب) على صورة نكرة والذي يدلُ في مثل هذه الحوادث على الأهميّة والعظمة هو شاهد آخر على هذا المعنى.

ثمّ تقول الآية: «وَاللَّهُ مِن وَرَآئِهِم مُّحِيطٌ».

التعبير ب (ورائهم) إشارة إلى أنّهم محاطون من كلّ جهة، واللَّه محيط من كلّ جهة وجانب، وقد وقع كلام بين المفسّرين بشأن المراد من (الإحاطة الإلهيّة) حيث احتمل البعض أنّها إحاطة اللَّه العلمية على أعمالهم، واعتقد البعض الآخر أنّها

إحاطة القدرة حيث الجميع في قبضته، وليس لهم القدرة على الفرار من عقابه، وذهب البعض الآخر إلى أنّها الإحاطة العلمية، وإحاطة القدرة معاً.

بيدا أنّ مفهوم الآية أوسع ممّا ذكر حيث يشمل إحاطته الوجودية أيضاً، نعم، للَّه تعالى إحاطة وجودية لجميع الممكنات والكائنات، وليست هذه الإحاطة- طبعاً- من قبيل إحاطة الظرف بالمظروف (كإحاطة الحائط بالبيت) وليست من قبيل إحاطة الكلّ بالجزء، بل هي (الإحاطة القيومية)، أي أنّه سبحانه وجود مستقلّ وقائم بالذات والموجودات الاخرى قائمة به وتابعة له.

وهذا المعنى يفتح الطريق أمام برهان الصدّيقين في مسألة إثبات وجود اللَّه، وسنقدّم شرحاً لذلك في المستقبل.

هو الأوّل والآخر:

تقول الآية الرابعة- وهي من الآيات الاولى من سورة الحديد وفيها ذكر لصفات اللَّه سبحانه بشكل عميق وواسع: «هُوَ الأَوَّلُ وَالاخِرُ والظَّاهِرُ والبَاطِنُ وهُوَ بِكُلِّ شَى ءٍ عَليمٌ».

إنّ هذه الصفات الخمس التي اجتمعت في الآية بيان جلي لذاته المقدّسة اللامتناهية.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 64

هو (الأوّل) أي هو الأزلي دون أن تكون له بداية، وهو (الآخر) أي الأبدي الذي لا نهاية له، وهو (الظاهر) أي البيّن دون أن يكون خافياً على أحد، وهو (الباطن) أي أنّ ذاته ليست ظاهرة لأحد (لعدم قدرة الموجودات المحدودة كالإنسان على إدراك الحقيقة اللامتناهية) دون أن يكون محجوباً عن عباده.

ولذا فانّه سبحانه عالم بكلّ شي ء لأنّه موجود في البداية، وسوف يبقى حتّى النهاية وحاضر في ظاهر العالم وباطنه.

وهناك تفسيرات متعدّدة ذكرها المفسّرون في تفسير الصفات الأربع: (الأوّل) و (الآخر) و (الظاهر) و (الباطن) إلّاأنّها غير متنافية ويمكن جمعها في مفهوم الآية.

فتارةً قالوا: إنّه الأوّل قبل وجود أي شي ء وهو الآخر بعد هلاك كلّ شي ء، ودلائل وجوده ظاهرة ولا يمكن إدراك باطن ذاته.

وتارةً قالوا: هو الأوّل ببرِّه حيث هدانا، والآخر

بعفوه حيث يقبل التوبة، والظاهر بإحسانه وتوفيقه عند طاعته والباطن في ستر عيوب العباد عند المعصية (الأوّل ببرّه إذ هداك والآخر بعفوه إذْ قبل توبتك، والظاهر بإحسانه وتوفيقه إذا أطعته، والباطن بستره إذا عصيته) «1» وقد ورد أنّ النبي صلى الله عليه و آله كان يقول في دعائه: «اللهمّ أنت الأوّل فليس قبلك شي ء، وأنت الآخر فليس بعدك شي ء، وأنت الظاهر فليس فوقك شي ء وأنت الباطن فليس دونك شي ء» «2».

على أيّة حال، فإنّ الآية الكريمة أعلاه، في عين إثباتها بطلان أفكار الصوفية في استقلالية الخالق عن المخلوق والمخلوق عن الخالق، فإنّها تبيّن حقيقة وهي أنّ الذات الإلهيّة المقدّسة مطلقة ولا نهاية ولا حدود لها.

أي هو وجود بلا عدم، ولو أنّا تدبّرنا حقيقة الوجود جيّداً ونزهناه من العدم فسوف نصل إلى ذاته المقدّسة، وهذا جوهر برهان الصدّيقين وروحه.

__________________________________________________

(1) راجع تفاسير مجمع البيان؛ الميزان؛ الكبير؛ روح البيان.

(2) تفسير القرطبي، ج 9، ص 6406.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 65

ومن البديهي أنّ الموجود المحدود يكون موضعه إمّا في البداية أو النهاية، وإمّا في ظاهر الأشياء أو باطنها، واتّصاف اللَّه سبحانه بأنّه الأوّل والآخر والظاهر والباطن هو لكونه وجوداً غير متناه ولا محدود.

هو نور العالم:

في الآية الخامسة والأخيرة نقرأ في جملة قصيرة وغزيرة المعنى:

«اللَّهُ نُورُ السَماوَاتِ وَالأَرض».

ويعقّب هذه العبارة تشبيه جميل وجذّاب لهذا النور الإلهي يشكّل ميداناً واسعاً لبحوث المفسّرين الأعلام للقرآن، وبما أنّ الشاهد في هذا البحث هو العبارة الاولى، فإنّا نشرع بتبيانها وشرحها:

من الطرق الهامّة في تفهيم الحقائق المعقّدة هو استعمال التشبيهات البليغة بغية تقريب الحقائق العلمية إلى الذهن بضرب الأمثلة الحسّية، وهنا قد استفيد من هذه الطريقة (وإن كانت الأمثلة بشأن اللَّه تعالى ناقصة لعدم

وجود مثيل لذاته) ولإدراك حقيقة هذا المثال لابدّ من التدبّر في معنى النور وصفاته وخصائصه وبركاته، ولا ريب في أنّ النور من أجمل الموجودات المادية وألطفها وأكثرها بركة، وتنتشر منه البركات والجمال في عالم المادّة.

فنور الشمس منبع الحياة والسرّ في بقاء الموجودات الحيّة والعنصر الفاعل في نمو النبات والزهور وجميع الأحياء.

النور هو المصدر الأساس للطاقات، نظير حركة الرياح، وهطول الأمطار، والعنصر الأساس في وجود المحروقات (البترول والفحم الحجري) ولو تبدّل نور الشمس إلى ظلام فسوف تتوقّف كلّ حركة في العالم.

والنور واسطة لمشاهدة الموجودات المختلفة والمظهر لها، هذا وانّ حركة الأمواج والذرّات الضوئية هي أسرع الحركات المتصوّرة في عالم المادّة، حيث تبلغ سرعتها (300 ألف كم) في الثانية، وهذا يعني أنّ النور في طرفه عين يدور حول الأرض سبع مرّات.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 66

وأخيراً فإنّ نور الشمس أفضل عامل على تلطيف البيئة والقضاء على مختلف أنواع الجراثيم الضارّة وإزالة الموانع عن طريق الحياة البشرية، وبملاحظة هذه الخصائص التي يتّصف بها النور المحسوس يتّضح عمق تشبيه ذات اللَّه المقدّسة بالنور.

نعم، إنّ وجوده تعالى هو النور الذي يظهر الوجودات ويحفظها، ومنه تنبع الحياة المعنوية والمادية، ويصدر كلّ جمال في العالم، وكلّ حركة نحو الكمال تنبع من وجوده المقدّس، وكلّ هداية تتحقّق برعايته.

وهو الذي يرفع الموانع عن طريق عباده، وهو الهادي للإنسان في طريق الكمال والقرب لذاته، وبكلمة واحدة كلّ ما في العالم قائم بذاته المقدّسة.

وهناك سؤال يطرح نفسه وهو: هل النور الذي يُظهر الأشياء يحتاج إلى مظهر؟ وهل الموجودات التي يُظهرها النور تكون أكثر ظهوراً من النور نفسه لتكون معرفة له؟

وبتعبير أدق: ما هي الوسيلة التي يمكن مشاهدة النور بها غير النور نفسه؟ وهذا هو الأساس في

برهان الصدّيقين.

وقد ذكر المفسّرون عدّة احتمالات في تفسير هذه الآية لا تنافي بينها، نظير الموارد الكثيرة الاخرى، ويمكن الجمع بينها، أي أنّ كلّ مفسّر منهم لاحظ- في الحقيقة- الآية من زاوية معيّنة.

وقد قال الكثير بأنّ جملة: «اللَّهُ نُورُ السَمَاواتِ وَالأَرض» تعني (المنوّر للسماوات والأرض).

وقد فسّرها البعض الآخر ب (الهادي لمن في السماوات والأرض) تبعاً للرواية التي وردت عن الإمام الرضا عليه السلام في هذا الشأن حيث قال:

«هادٍ لأهل الأرض» أو «هادٍ لأهل السماوات وهادٍ لأهل الأرض» «1».

وفسّرها البعض الآخر بمعنى الطاهر المنزَّه من كلّ عيب في جميع السماوات والأرض.

وفسرها آخرون بمعنى المُدبر لشؤون السماوات والأرض.

__________________________________________________

(1) تفسير البرهان، ج 3، ص 133، ح 1 و 2؛ وتفسير نور الثقلين، ج 3، ص 603.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 67

وفُسّرت بمعنى الإضاءة بواسطة الشمس والقمر والنجوم، وبواسطة الأنبياء والملائكة والعلماء والمفكّرين.

وفسّرها بعض بمعنى المنظّم للعالم العلوي والسفلي.

وفُسّرت بمعنى المفيض بالجمال على الكونين.

وفُسّرت بمعنى خالق السماوات والأرض.

وكما أسلفنا فإنّ هذه المعاني موجودة في الآية الكريمة: «اللَّهُ نُورُ السَّمَاواتِ وَالأَرض»، بل إنّ الآية تنطق بما هو أعلى وأوسع، حيث إنّ النور نيّر ذاتاً وهو الدليل على وجوده ولا يحتاج إلى مظهر آخر، لأنّ الآخرين ظاهرون بأجمعهم ببركته وكما قال العرفاء:

«كفى بك جهلًا بأن تهجر الشمس الساطعة وتبحث في الوديان بنور الشمع، واعلم بأنّ الكون طرّاً من شعاع الحقّ».

توضيحان

1- برهان الصدّيقين في الروايات الإسلامية والأدعية

هناك طريق آخر لمعرفة ذات اللَّه المقدّسة أقصر وأدقّ من البحث في موجودات العالم، وهو معرفة الذات المقدّسة بذاتها، أي الوصول منه إليه، وقد ورد هذا المضمون بشكل واسع في الروايات الإسلامية وأدعية المعصومين ويشكّل هذا المضمون جوهر برهان الصدّيقين.

ولا نقول أنّ لا يمكن التعرّف على ذاته عن طريق

الموجودات في العالم، كما لا نقول بأنّ آيات (الآفاق والأنفس) ليست علائم على علمه وقدرته وعظمته فإنّ هذا المعنى جلي في القرآن كلّه، ولكن نقول إنّ ثمّة طريق أرقى وأعلى وألطف وهو البحث في أصل الوجود والوصول إليه عن طريق ذاته المقدّسة، وهذا الطريق هو طريق الخواص والعرفاء الحقيقيين غالباً، فمثلًا:

1- نقرأ في دعاء الصباح الشهير: «يامن دلّ على ذاته بذاته وتنزّه عن مجانسة مخلوقاته».

نفحات القرآن، ج 3، ص: 68

2- ونقرأ في دعاء أبي حمزة الثمالي المعروف: «بك عرفتك وأنت دللتني عليك».

3- وقد ورد في دعاء عرفة أيضاً: «كيف يستدلّ عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك، أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتّى يكون هو المُظهِر لك»)؟!

4- وورد في الدعاء نفسه: «متى غبت- حتّى تحتاج إلى دليل يدلّ عليك، ومتى بعدت- حتّى تكون الآثار هي التي توصل إليك، عميت عين لا تراك عليها رقيباً».

5- وقد ورد في حديث أنّ أحد أصحاب الإمام الصادق عليه السلام وإسمه منصور بن حازم قال له: إنّي دخلت في مناظرة- مع جماعة وقلت لهم: «إنّ اللَّه أجل وأكرم من أن يُعرف بخلقه بل العباد يعرفون باللَّه»، فقال له الإمام الصادق عليه السلام مصدّقاً إيّاه: «رحمك اللَّه» «1».

6- وقد ورد في حديث عن الإمام أمير المؤمنين قوله: «اعرفوا اللَّه باللَّه، والرسول بالرسالة، واولي الأمر بالأمر بالمعروف والعدل والإحسان» «2».

7- وفي حديث آخر عن أمير المؤمنين عليه السلام حينما سأله أحدهم: بم عرفت ربّك؟

فأجاب: «بما عرّفني نفسه» «3».

أجل، إنّه معرّف ذاته (شروق الشمس دليل على الشمس) وذاته المقدّسة دليل ذاته دون الحاجة إلى معرّف، وخفاؤه على البعض بسبب شدّة ظهوره، كالنور الذي لا يقدر الإنسان على النظر إليه لو تجاوز

حدّه، وكما قيل:

نور وجهك الحاجب عن ظهورك.

2- إيضاح برهان الصدّيقين

من المناسب أن نفصّل هذا البرهان كما يراه الفلاسفة الإسلاميون، وبسبب تعقيد البحث

__________________________________________________

(1) أصول الكافي، ج 1، ص 86، باب أنّه لا يعرف إلّابه، ح 3.

(2) المصدر السابق، ص 85، باب انّه لا يعرف إلّابه، ح 1.

(3) المصدر السابق، ح 2.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 69

فإنّا سوف نبيّنه قدر الإمكان بتعبيرات واضحة دون استعمال الإصطلاحات الفلسفية.

ويجب الانتباه قبل كلّ شي ء إلى أنّ مزايا برهان الصدّيقين تتمثّل في عدم التطرّق إلى الدور والتسلسل أو معرفة المؤثّر من خلال الأثر، ومن المخلوق إلى الخالق، ومن الممكن إلى الواجب في إثبات وجود اللَّه، بل هو تحليل للوجود نفسه وحقيقة الوجود، وبذلك نصل إليه من خلال ذاته، وهذا هو المهمّ (وان لوحظ وجود خلط في عبارات البعض بين هذا الاستدلال واستدلال الوجوب والإمكان وبرهان العلّة والمعلول- كما بيّناه في السابق- ووضعوا بعضها موضع البعض الآخر) «1».

وقد ذكرت تعاريف مختلفة لبرهان الصدّيقين منها: (تقدير صدر المتألّهين في الأسفار، ثمّ المحقّق السبزواري في حاشية الأسفار، ثمّ المرحوم العلّامة الطباطبائي في نهاية الحكمة وغيرهم في كتب اخرى)، والبيان الأوضح والأنسب دون الرجوع إلى استعمال برهان الوجوب والإمكان، والعلّة والمعلول وبدون الاستناد إلى مسألة الدور والتسلسل أن يقال:

إنّ حقيقة الوجود هي (العينية) في الخارج، وبتعبير آخر هي (الواقعية) وعدم قبول العدم، لأنّ كلّ شي ء لا يتقبّل ضدّه، وبما أنّ (العدم) ضدّ (الوجود) فحقيقة الوجود- إذن- ترفض العدم.

ومن هنا نستنتج أنّ (الوجود) ذاتاً هو (واجب الوجود) أي أزلي أبدي، وبتعبير أخر إنّ التدبّر في حقيقة (الوجود) يرشدنا إلى أنّ (العدم) لا ينفذ إليه أبداً، وكلّ ما لا يطاله العدم فانّه واجب الوجود (فتأمّل

جيّداً).

وأمّا صدر المتألّهين- وهو من السابقين إلى هذا الاستدلال- فيقول: «واعلم أنّ الطرق إلى اللَّه كثيرة لأنّه ذو فضائل وجهات كثيرة، «ولكلٍّ وجهةٍ هو مولّيها» لكن بعضها أوثق وأشرف وأنور من بعض، وأشدّ البراهين وأشرفها إليه هو الذي لا يكون في الوسط في البرهان غيره بالحقيقة، فيكون الطريق إلى المقصود هو عين المقصود وهو سبيل

__________________________________________________

(1) راجع نهاية الحكمة، ص 268، وشرح مختصر المنظومة ص 8 و 9 للشهيد المطهّري.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 70

(الصدّيقين) الذين يستشهدون به (تعالى) عليه، ثمّ يستشهدون بذاته على صفاته وبصفاته على أفعاله، واحداً بعد واحد، وغير هؤلاء (كالمتكلّمين، والطبيعيين وغيرهم) يتوسّلون إلى معرفته (تعالى) وصفاته بواسطة إعتبار أمر آخر غيره (كالإمكان للمهيّة، والحدوث للخلق، والحركة للجسم، أو غير ذلك) وهي أيضاً دلائل على ذاته، وشواهد على صفاته، لكن هذا المنهج أحكم وأشرف.

وقد اشير في الكتاب الإلهي إلى تلك الطرق بقوله (تعالى): «سَنُرِيهِم آيَاتِنَا فِى الافَاقِ وَفِى أَنفُسِهِم حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُم أَنَّهُ الحَقُّ» وإلى هذه الطريقة بقوله (تعالى): «أَوَ لَم يَكفِ بِرَبِّكَ انَّهُ عَلَى كُلِّ شَى ءٍ شَهِيدٌ».

ثمّ يضيف: وذلك لأنّ الربّانيين ينظرون إلى الوجود، ويحقّقونه ويعلمون أنّه أصل كلّ شي ء، ثمّ يصلون بالنظر إليه إلى أنّه بحسب أصل حقيقته واجب الوجود، وأمّا الإمكان والحاجة والمعلولية وغير ذلك فإنّما تلحقه لا لأجل حقيقته بما هي حقيقته، بل لأجل نقائص وأعدام خارجة عن أصل حقيقته» «1».

وباختصار عند ملاحظة الوجود الحقيقي نجد أنّه لا يجتمع مع العدم أبداً، ولا يسمح للعدم أن يتطرّق إليه وذلك لأنّ الوجود والعدم متقابلان، وهكذا إذا لاحظنا العدم فإنّا نجده يطرد الوجود عن ذاته، وعليه فإنّ حقيقة الوجود واجبة الوجود، والعدم ممتنع الوجود.

والإشكال المهمّ الذي يتبادر

إلى الذهن والذي بادر صدر المتألّهين للإجابة عنه في الأسفار هو أنّ كلّ موجود- وفق هذا الاستدلال- يجب أن يكون واجب الوجود، لأنّ هذا الاستدلال يجري في كلّ مورد في حين نرى أنّ الممكنات حادثة وليست أزلية ولا أبدية ولا واجبة الوجود.

الإجابة: لابدّ من الإلتفات إلى هذه النقطة وهي أنّ الوجودات الممكنة ليست وجودات أصيلة، بل هي وجودات محدودة ومصحوبة بالعدم وهذا العدم ناشي ء من محدوديتها، وما

__________________________________________________

(1) راجع الأسفار، ج 1، ص 15 (بتلخيص يسير)، كما ورد نظير هذا المعنى في حاشية الأسفار للمحقّق السبزواري، ج 8، ص 14.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 71

يقال: إنّ الوجودات الممكنة تتركّب من شيئين فانّه يعني أنّ الوجودات الممكنة فيها نوع من العدم بسبب محدوديتها، وعليه فإنّ الوجود الممكن ليس وجوداً أصيلًا وحقيقيّاً، لأنّ حقيقية الوجود هي عين الواقعية ولا سبيل لأي قيد أو شرط ونقصان إليها، ولهذا يكون الوجود الأصيل واجب الوجود حتماً.

ونؤكد- بأنّ الوصول إلى حقيقة هذا الاستدلال- بالرغم من هذه الإيضاحات- يحتاج إلى رياضة فكرية ودقّة وتعمّق كبير (فتأمل جيّداً).

نفحات القرآن، ج 3، ص: 73

6- الطريق الباطني لمعرفة اللَّه (الفطرة)

تمهيد:

(الإدراكات العقلية)- كما نعلم- تشكّل جزءً من المضمون الروحي لدى الإنسان، أي أنّ الإنسان لا يصل إلى كلّ شي ء عن طريق الدليل العقلي، بل إنّ المتطلّبات والمكتسبات الفطرية الغريزية تشكّل جزءً مهمّاً من المحتوى الروحي فيه، حتّى أنّ الأساس في الكثير من الأدلّة العقلية قائم على هذه المكتسبات الفطرية، في حين تنشأ المتطلّبات والمكتسبات في الحيوانات عن طريق الغريزة فقط.

وفي الحقيقة فإنّ الذين قاموا بتحديد الإنسان بالبعد العقلي لم يعرفوا تمام الأبعاد الوجودية للإنسان.

ومن المتّفق عليه أنّ طريق الباطن من الطرق المهمة في مسألة (معرفة اللَّه) التي لها طرق لا تحصى،

والإنسان هنا يسلك أقصر الطرق، فبدلًا من (المعرفة) يصل إلى (الوجدان)، ومن (التفكير) إلى (الرؤية)، وبدلًا من إعداد (المقدّمات) يصل إلى ذي المقدّمات.

إنّه طريق عظيم، مثير للنشاط والحيوية ومريح.

وقد اعتمدت آيات قرآنية عديدة على هذا المعنى وجاءت بتعابير جميلة.

بعد هذا التمهيد نتأمل خاشعين في الآيات الآتية:

1- «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَاتَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أكْثَرَ النّاسِ لَايَعْلَمُونَ». (الروم/ 30)

2- «وَإذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهمُ مُّنِيبِينَ إِلَيهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ بِرَبِّهمْ يُشْرِكُونَ». (الروم/ 33)

نفحات القرآن، ج 3، ص: 74

3- «فَإِذَا رَكِبُوا فِى الفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البَرِّ إِذَا هُمْ يُشِركُونَ». (العنكبوت/ 65)

4- «هُوَ الَّذِى يُسَيِّرُكُمْ فِى البَرِّ وَالبَحْرِ حَتّى إِذَا كُنْتُم فى الفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ برِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْهَا رِيحٌ عاصِفٌ وَجَاءَهُمُ المَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيْطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكونَنَّ مِنَ الشَّاكِرينَ* فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِى الأَرْضِ بِغَيرِ الحَقِّ». (يونس/ 22- 23)

5- «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ والأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العَزِيزُ العَليمُ».

(الزخرف/ 9)

6- «وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤفَكُونَ». (الزخرف/ 87)

7- «وَلَئِنْ سأَلْتَهمُ مَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ والأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمسَ والقَمرَ لَيقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنّى يُؤْفَكُونَ». (العنكبوت/ 61)

8- «قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِّنَ السَّماءِ والأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمعَ والأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الحَىَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحىِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ».

(يونس/ 31)

9- «قُلْ لِّمَنِ الأَرضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُم تَعلَمُونَ* سَيَقُولُونَ للَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ* قُلْ مَنْ رَّبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ* سَيَقُولُونَ للَّهِ قُلْ أَفَلَا

تَتَّقُونَ* قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلكُوتُ كُلِّ شَى ءٍ وَهُوَ يُجيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنْتُم تَعْلَمُونَ* سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ». (المؤمنون/ 84- 89)

10- «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنى آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ ألَسْتُ بِرَبِّكُم قَالُوا بَلى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَومَ القِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذَا غَافِلِينَ». (الأعراف/ 172)

شرح المفردات:

«الفطرة»: من مادة (فَطْر) وتعني- كما أسلفنا- شق الشي ء طولياً، ثمّ أطلق على كلّ شق،

نفحات القرآن، ج 3، ص: 75

والشقّ ربّما يكون للتخريب وربّما للإصلاح ولذا يستعمل للمعنيين.

وبما أنّ (الخلق) بمثابة كشف حجاب ظلمات العدم، فيكون أحد المعاني المهمّة لهذه المفردة هو الإيجاد والخلق، ولنفس السبب يعطي معنى الإبداع والإختراع أيضاً.

ويطلق لفظ (الإفطار) على تناول الغذاء بعد أذان المغرب أو إبطال الصوم، فالصوم يُعد حالة متصله ومستمرة وعند تناول المفطر فإنّ هذه الحالة تُقطع أو تُهدم، ولهذا سميت حالة إبطال أو قطع الصوم بالإفطار.

كما يستعمل هذا اللفظ في إنبات النباتات أيضاً وذلك لانفطار الأرض أثناء خروج النباتات منها، كما يطلق على عملية استخراج اللبن من الضرع باصبعين، فكأنّه ينشقّ ويخرج منه اللبن.

نقل عن ابن عبّاس قوله: لم أعرف معنى (فاطر السماوات والأرض) جيّداً حتّى جاء إليّ رجلان أعرابيان يتنازعان على بئر، فقال أحدهما لإثبات ملكيته:

أنا فطرتها بمعنى (أنا حفرتها)، هنا أدركت أنّ (الفطر) يعني الإيجاد والإبتداء في الشي ء.

ويطلق على البثور التي تظهر في وجوه الشباب من البنين والبنات اسم (تقاطير) أو (تفاطير) «1».

وإذا ما لاحظنا اعتبار بعض اللغويين مفردة (فطرة) بمعنى الدين والشرع إنّما هو لوجودها في خلقة الإنسان منذ البداية كما سيأتي.

جمع الآيات وتفسيرها

الخلق الثابت والراسخ:

الآية الاولى التي تصرّح بأنّ (الدين) هو أمر فطري وتخاطب النبي صلى الله عليه و آله: «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً» «2».

__________________________________________________

(1) لسان العرب؛ مفردات الراغب؛ نهاية ابن الأثير؛ ومجمع البحرين.

(2) «حنيف» من «حنف» ويعني كلّ ميل أو انحراف، وجاء بمعنى الميل من الضلال إلى الهدى ومن الباطل إلى الحقّ والتعبير ب (وجه) هنا كناية عن الذات، لأنّ الوجه أهمّ عضو في الجسم وتقع فيه الحواس الهامّه كحاسّة البصر والسمع

والذوق والشمّ.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 76

ومن أجل التعليل أو التشجيع على هذا الأمر تقول الآية بعد ذلك: «فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا» «1».

وبما أنّ الإنسجام والتنسيق بين (التشريع) و (التكوين) يعتبر من المسلمات حيث لا يمكن وجود أمر متأصّل في خلق الإنسان غير منسجم مع سلوكه، فيمكن أن يكون هذا التعبير دليلًا على وجوب العمل بأصل التوحيد ونفي كلّ شرك.

وللمزيد من التأكيد تقول الآية بعد ذلك: «لَاتَبْديلَ لِخَلْقِ اللَّهِ».

وهذا يعني أنّ ما يتجذّر في أعماق الوجود الإنساني يستمرّ كأصل ثابت وراسخ- وسوف يتضح لنا بأنّ لهذه الجملة معنى غزير واعجازي، حيث تشير الدراسات الحديثة التي يجريها المفكّرون إلى أنّ العلاقات الدينية هي من أشدّ العلاقات الإنسانية تجذّراً ورسوخاً وبقاءً على مر التاريخ.

بيد أنّ فئة جاهلة وغافلة تقوم بإفساد هذه الفطرة الطاهرة بالشرك، ولذا فإن القرآن يؤكد على المحافظة عليها بذكر كلمة (حنيفاً) «2».

وللمزيد من التأكيد تضيف الآية: «ذلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ».

كلمة «قيّم» من مادة (قيام) واستقامة بمعنى الثابت والراسخ والمستقيم كما جاءت بمعنى القائم بشؤون المعاد والمعاش في الإنسان «3».

وبما أنّ الكثير من الناس يغفلون عن هذه الحقيقة ويبتلون بأنواع من عبادة الأصنام، لذا فقد ورد في آخر الآية قوله سبحانه وتعالى: «وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَايَعْلَمُونَ»، والجدير بالذكر أنّ الفطرة التي جاءت في الآية لا تشمل التوحيد فقط بل تشمل الدين بجميع أُصوله وفروعه وسنتطرّق إلى هذا البحث الظريف إن شاء اللَّه تعالى.

__________________________________________________

(1) توجد أقوال كثيرة حول تعليل النصب في (فطرة اللَّه) ومنها أنّها بتقدير (اتّبع) و (الزم).

(2) يقول بعض المفسّرين بأنّ «لا» في «لَاتَبدِيلَ لِخَلقِ اللَّهِ» نافية وتعطي معنى النهي (راجع تفاسير مجمع البيان والميزان وروح الجنان) ولكن كما قلنا فإنّ

النفي أنسب وأجمل (فتأمّل جيّداً).

(3) مفردات الراغب وكتب لغوية اخرى.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 77

عند مواجهة الأزمات:

في الآيات الثانية والثالثة والرابعة التي يدور البحث حولها (وبتعابير مختلفة) هناك إشارة إلى قضيّة عامّة وهي أنّ الإنسان حينما يواجه الصعوبات والبلاء الشديد ويعجز عن استخدام الوسائل الطبيعية يلجأ إلى فطرته الأصيلة فيشرق في أعماق قلبه نور المعرفة الإلهيّة بعد اختفائه، ويتذكّر مبدأ العلم والقدرة الذي لا نظير له والذي يسهل عليه حلّ المشكلات كلّها.

ورد في قسم من الآية قوله: «وَاذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا ربَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيهِ».

ولكن بعد انتهاء الأزمة وهبوب رياح الرحمة، فإنّ مجموعة منهم يعودون إلى شركهم «ثُمَّ إِذَا اذاقَهُم مِّنهُ رَحمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنهُمْ بِربِّهمْ يُشرِكُونَ».

وفي موضع آخر يذكر هذا المعنى مقروناً بذكر مصداق واضح من الصعاب والمشكلات حيث تقول الآية: «فَاذَا رَكِبُوا فِى الفُلكِ» «وأحاطت بهم الأمواج العظيمة والأعاصير المخيفة وامتلأت قلوبهم رعباً وهلعاً» «دَعَوُا اللَّهَ مُخلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُم إِلَى البَرِّ إِذَا هُم يُشرِكُونَ».

وقد أشارت آية اخرى إلى اخطار البحر هذه، بصورة جميلة اخرى حيث تقول بأنّ اللَّه هو الذي يُسيّركم في الصحارى والبحار وعندما تركبون السفينة وتحرّككم الرياح الطيّبة الهادئة إلى أهدافكم والجميع يغمرهم الفرح والسرور، وفجأة تهبّ الأعاصير ويهيج البحر وتأتي الأمواج من كلّ جهة فتهدد الراكبين في السفينة حتّى يروا الموت بأعينهم وينتابهم اليأس من الحياة يتذكّرون اللَّه فيدعونه مخلصين ويعاهدونه على أن يكونوا شاكرين له إذا نجّاهم من الهلاك (شكراً مصحوباً بالمعرفة):

«هُوَ الَّذِى يُسَيِّرُكُم فِى البَرّ وَالبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُم فِى الفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِريحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجاءَهُم المَوجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا انَّهُم احِيطَ بِهِم دَعَوُا اللَّه مُخلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِن

أَنجَيتَنَا مِن هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ».

ولكن هؤلاء عندما ينجّيهم اللَّه من الأخطار الموحشة ويوصلهم إلى ساحل الأمان

نفحات القرآن، ج 3، ص: 78

ينسون عهدهم مع اللَّه فيشرعون مرّة اخرى بالظلم بدون حقّ فيسلكون طريق الشرك وهو من أعظم الظلم ويظلمون الذين تحت أيديهم مغرورين بالنعمة التي هم فيها: «فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبغُونَ فِى الْأَرضِ بِغَيرِ الحَقِّ».

كما يلاحظ هذا المعنى في آيتين اخريين، ففي موضع تقول الآية:

«فَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا اوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ».

(الزمر/ 49)

وفي موضع آخر تقول الآية: «وَإذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ». (يونس/ 12)

هذه الآيات الخمس مع أنّها تقصد حقيقة واحدة، بَيدَ أنّ كلّ آية تتمتّع بخصوصية ولطافة ولحن خاصّ، ففي بعضها ذكر لأنواع الأضرار والمشكلات والأذى والتي تشمل أنواع الأمراض والبلاء والقحط والآفات والمشكلات.

وفي البعض الآخر إشارة إلى أخطار البحر فقط (من قبيل الأعاصير والأمواج ودوران المياه والحيوانات الخطرة الموجودة في أعماقه والضلال عن الطريق وأمثالها).

وفي الأخرى تركيز على أخطار الأعاصير والأمواج.

وفي آية اخرى حديث عن عودة الإنسان للسير في طريق الشرك.

وفي آية اخرى ذكر لطريق البغي والظلم الذي له مفهوم أوسع من الشرك.

وفي آية اخرى إشارة إلى أنّهم يعتبرون المشاكل ناشئة من اللَّه أمّا النعم فانّها منهم، ونقرأ في آية، أنّهم يشركون بأجمعهم، وتذكر آية اخرى فئة منهم، وذلك لاختلاف المجتمعات البشرية قسم من الفئة الاولى وبعضها قسم من الفئة الثانية.

وتقول آية اخرى: إنّهم يعاهدون اللَّه عند البلاء عهداً ينسونه عند استقرار الأوضاع وزوال البلاء، وفي آية اخرى يكون الحديث عن الدعاء والطلب من اللَّه تعالى.

وتقول

آية اخرى: إنّهم إذا أصابهم شي ء من الضرر (التعبير ب «مسّ» فيه إشارة إلى هذا المعنى)، ولكن في آية اخرى أنّهم عندما ينتابهم اليأس من الحياة يقبلون على اللَّه، ولعلّ هذا

نفحات القرآن، ج 3، ص: 79

الاختلاف إشارة إلى مختلف أفراد البشر حيث يكون البعض من القسم الأوّل والبعض الآخر من القسم الثاني.

وقد ذكرت كلمة (الإخلاص) في الكثير من الآيات، حيث تشير إلى رفض كلّ معبود سوى اللَّه الواحد، وتدلّ على أنّهم حين الدعة والراحة يعبدون اللَّه أيضاً، ولكنّهم يجعلون للَّه أنداداً سرعان ما ينسونهم عند ارتفاع الأمواج العاتية أو الأعاصير الموحشة، ويغمر نور التوحيد والوحدانية قلوبهم ويضي ء وجودهم.

ورد في تفسير «روح البيان» بأنّ عبدة الأوثان وفي أثناء رحلاتهم البحرية (حيث كانت رحلاتهم محفوفة بالمخاطر، باعتبار أنّ السفر عن طريق البحر مملوء بالحوادث وفي ذلك الزمان أكثر خطراً بالنسبة لعصرنا الحاضر وذلك لافتقارهم للمعدات البحرية المتطورة).

فكانوا يحملون معهم الأصنام، وعند هبوب الأعاصير العنيفة فانّهم كانوا يلقون أصنامهم في البحر ويستغيثون بأصوات عاليه، ياربّ! ياربّ! «1».

والأعجب أنّهم كانوا يسمعون من النبي صلى الله عليه و آله جميع الأدلّة المنطقية الناصعة، لكنّهم لم يؤمنوا، في حين كانوا يقبلون على اللَّه بكلّ وجودهم عندما يتعرضون للبلاء الشديد، وهذا ممّا يشير إلى أنّ طريق الفطرة أسمح وأيسر للكثير من الناس من الطرق الاخرى.

والجديرُ بالذكر أنّ القرآن الكريم يحذّر الذين يستجيبون لنداء الفطرة عند الشدة وينسونه عند الرخاء، ويلفت أنظارهم ببيان جميل بقوله: «أَفَأَمِنْتُم أَنْ يَخسِفَ بِكُمْ جانِبَ البَرِّ أَوْ يُرسِلَ عَلَيكُمْ حَاصِباً ثُمَّ لَاتَجِدُوا لكُمْ وَكيلًا» «2».

هل هناك إلهان أحدهما للبحر والآخر للبرّ؟! أم أنّ اللَّه قادرٌ في البحر ولا قدرة له في البرّ؟! إنّ اللَّه قادر على أن يأمر

الأرض بأن تبتلع كل ما موجود عليها في لحظة واحدة وبواسطة زلزال واحد «3».

__________________________________________________

(1) روح البيان، ج 6، ص 493.

(2) الإسراء، 68.

(3) قبل عدّة سنوات وقع زلزال في شمال أفريقيا وفيه ابتلعت الأرض قرية كاملة ولم يعثروا حتّى على خرائبها!

نفحات القرآن، ج 3، ص: 80

وقد حدث مراراً أن تهب الأعاصير وتحمل الحصى والرمال إلى السماء وتلقيها في نقاط اخرى، وقد تطمر تحتها قافلة بأكملها.

اللَّه الذي يأمر الأمواج في البحار- إذن- قادر على أن يتّخذ من الأعاصير والزلازل في الصحارى جنوداً يهلك بهم الفاسدين.

ويتبع هذه الآية جواب آخر حيث يقول:

«أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعيْدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرى فَيُرسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مِّنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً». (الإسراء/ 69)

أي أنّكم تظنّون أنّ هذه هي رحلتكم البحرية الأخيرة؟ إنّه خطأ كبير.

إقرار المشركين:

وتتضمّن الآية الخامسة حتّى التاسعة من آيات البحث حديثاً حول هذا المضمون:

«وَلَئِنْ سَأَلتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالأَرضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العَزِيزُ العَليمُ».

وأيضاً: «وَلَئِنْ سَأَلتَهُمْ مَّنْ خَلَقَهُم لَيَقُولُنَّ اللَّهُ».

وأيضاً: «قُلْ مَنْ يَرزُقُكُمْ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرضِ أَمَّنْ يَملِكُ السَّمعَ وَالأَبصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ».

ولو سألت عبدة الأوثان- عن خلق كلّ فرد من المخلوقات وكيفية تدبير امورها فانّهم يقرّون بأنّ اللَّه وحده هو الخالق والمدبّر!!

إنّ هذه الآيات القرآنية وأمثالها «1» من الشواهد الحيّة على التوحيد الفطري، ومن الممكن أن تكون هذه الإجابة المتناسقة نتيجة للاستدلال العقلي أيضاً وذلك عن طريق برهان النظم، ولكن بملاحظة أنّ المشركين العرب اناسٌ امّيون وبعيدون عن العلم والفكر والاستدلال، فإنّ هذا التناسق في الإجابة يدلّ على أنّها كانت تنبع من فطرتهم وهم في ذلك

__________________________________________________

(1)

العنكبوت، 63؛ لقمان، 25؛ الزمر، 38.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 81

سواء وبدون استثناء، وإلّا فإنّ الاستدلالات العقلية مهما كانت واضحة فانّها لا يمكن أن تكون شاملة وعامّة إلى هذه الدرجة وخاصّة بين جماعة بعيدة عن العلم والفكر.

من هنا فإنّا نعتقد أنّ الآيات الخمس أو أمثالها تشكّل أدلّة على التوحيد الفطري.

ولذا يقول صاحب تفسير «روح البيان» في ذيل الآية 9 من سورة الزخرف:

«وفي الآية إشارة إلى أنّ في جبلة الإنسان معرفة للَّه مركوزة» «1».

وفي تفسير «الفخر الرازي» في ذيل الآية 87 من سورة الزخرف عرض لهذا المضمون على صورة سؤال وجواب فيقول: «ظنّ قوم أنّ هذه الآية وأمثالها في القرآن تدلّ على أنّ القوم مضطرون إلى الإعتراف بوجود الإله للعالم، وقوم إبراهيم قالوا: «وَانَّا لَفِى شَكٍّ مِّمَّا تَدعُونَنَا إِلَيهِ». (ابراهيم/ 9)

فيقال لهم: لا نسلّم أنّ قوم فرعون كانوا منكرين لوجود الإله، والدليل على قولنا، قوله تعالى: «وَجَحَدُوا بِهَا واستَيقَنَتْهَا أَنفُسُهُم ظُلماً وَعُلُواُ». (النمل/ 14)

وجاء في قوله تعالى حيث قال موسى عليه السلام لفرعون: «لَقَد عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاواتِ وَالأَرضِ بَصَائِرَ». (الاسراء/ 102)

فالقراءة بفتح التاء في علمت تدلّ على أنّ فرعون كان عارفاً باللَّه، وأمّا قوم إبراهيم عليه السلام حيث قالوا: «وَإِنَّا لَفِى شَكٍّ مِّمَّا تَدعُونَنَا إِلَيهِ» فهو مصروف إلى إثبات القيامة وإثبات التكاليف وإثبات النبوّة» «2».

وفي التعبير ب (لقد علمت ....) إشارة واضحة إلى هذا المعنى.

والطريف أنَّ آيتين من هذه الآيات تذكران في النهاية بعد أخذ الإقرار من الكفّار والمشركين بأنَّ اللَّه هو الخالق للإنسان والأرض والسماوات: «فَأَنِّى يُؤفَكُونَ» «3».

وبناء الجملة للمجهول إشارةٌ إلى أنَّ ذواتهم تسير في طريق الفطرة، غير أنَّ أسباباً خارجية وهي (شياطين الجنّ والإنس)، وأسباباً داخلية وهي (أهواء النفس

والعصبية

__________________________________________________

(1) تفسير روح البيان، ج 8، ص 353، ذيل الآية 87 من سورة الزخرف إشارة إلى هذا المعنى أيضاً.

(2) التفسير الكبير، ج 8، ص 399، ج 27، ص 233.

(3) «تؤفكون» مشتق من «الإفك» ويعني الإرجاع والحرف ولذا يطلق «الإفك» على الكذب أيضاً كما تطلق «المؤتفكات» على الرياح المعارضة.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 82

الجاهلية) تحرفهم عن الحقّ رغم تجذّره في أعماق فطرتهم.

في حين جاء التعبير في موضع آخر ب «فَأَنّى تُسحَرُونَ» بصيغة المبني للمجهول، وهي عبارة تطلق على من يتّبع أمراً دون إرادة.

ويوجد احتمال آخر في تفسير هذه الآيات وهو أنَّهم كانوا يقولون بأنَّ رسول الإسلام صلى الله عليه و آله يريد أنْ يحرفنا عن طريق الحقّ أو أنّه ساحر قد سحرنا، فردّ عليهم القرآن: مع أنّكم تُقرّون بأنَّ اللَّه هو خالق السماء والأرض والشمس والقمر والبشر، وهو المدبّر لهذا الكون فكيف يحرفكم أو يسحركم من يدعوكم إلى عبادته ونبذ عبادة غيره؟ أي عقل يحكم بهذا؟!

إنّ الكثير من المفسّرين ومنهم (الطبرسي في مجمع البيان والعلّامة الطباطبائي في الميزان والفخر الرازي في التفسير الكبير والآلوسي في روح المعاني والقرطبي في تفسيره) اختاروا التفسير الأوّل ولو أنّ التفسير الثاني غير بعيد عن مفهوم الآية.

عهد عالم الذرّ:

الآية العاشرة والأخيرة في هذا البحث تذكر تعبيراً آخر بصياغة جديدة حول التوحيد الفطري ولا نظير لها في الآيات القرآنية الاخرى، وبسبب المحتوى المعقّد لهذه الآية دارت حولها أحاديث مطوّلة بين العلماء والمفسّرين والمتكلّمين وأرباب الحديث، نورد- بصورة إجمالية- آراءهم المختلفة ثمّ رأينا المختار بعد الفراغ من تفسيرها.

تقول الآية الكريمة: «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنى آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيتَهم وَأَشْهَدَهُم عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِربِّكُمْ» فقالوا جميعاً: «بَلى شَهِدنَا» وتُضيفُ الآية بأنَّ

اللَّه تعالى فعل ذلك لئلّا يقولوا يوم القيامة إنّا غفلنا عن هذا الأمر (وهو التوحيد ومعرفة اللَّه): «أَنْ تَقُولوا يَومَ القِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ» أو تتشبّثوا بحجّة (التقليد) بدلًا عن حجّة (الغفلة) وتقولوا:

«إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبلُ وَكُنَّا ذُرِّيَةً مِّنْ بَعْدِهِمْ أَفتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَل المُبطِلُونَ».

(الأعراف/ 173)

نفحات القرآن، ج 3، ص: 83

هذه الآيات تكشف عن حقائق بصورة إجمالية، منها:

1- أنّ اللَّه تعالى أظهر جميع ذرّية آدم إلى يوم القيامة في مرحلة واحدة من الخلق.

2- أنّ اللَّه سبحانه أشهدهم على أنفسهم وأخذ الإقرار منهم بربوبيته.

3- الهدف من أخذ الإقرار والإعتراف والشهادة لأمرين:

أوّلًا: عدم السماح للمشركين لادّعاء الغفلة والجهل عن حقيقة التوحيد ووحدانية اللَّه يوم القيامة.

وثانياً: منعهم من اتّخاذ التقليد لآبائهم ذريعة لارتكاب المعاصي.

وأهمّ سؤال يُطرح هنا هو: متى وقع هذا (الظهور)؟ وبأيّة صورة تمّ ذلك؟ وما المراد من (عالم الذرّ)؟ وكيف تحقّق هذا الأمر؟ للأجابة عن هذا السؤال هناك ستّة آراء على الأقل، وقد أيّد كلَّ واحد منها جماعة من المفكّرين الإسلاميين:

1- طريق المحدّثين وأهل الظاهر، حيث يقولون: إنّ المراد هو ما ورد في بعض الأحاديث من أنّ ذريّة آدم بأجمعهم قد خرجوا من ظهره على شكل ذرّات دقيقة وملأت الفضاء وكانت تتمتّع بالعقل والإحساس والقدرة على النطق، فخاطبهم اللَّه عزّوجلّ وسألهم: (ألست بربّكم؟) فقالوا جميعاً: (بَلى ؛ وبذلك أخذ العهد الأوّل على التوحيد، وكان بنو الإنسان بأنفسهم شاهدين على ذلك «1».

2- المراد من عالم الذرّ وتفسير الآية أعلاه هو الذرّات الاولى لوجود الإنسان، أي النطفة التي انتقلت من ظهور الآباء إلى أرحام الامّهات وتبدّلت في المراحل الجنينية إلى صورة إنسان كامل تدريجياً، وقد أعطاها اللَّه عزّوجلّ في ذلك الحال القوى والقابليات المختلفة

كي تدرك حقيقة التوحيد ومنهاج الحقّ، وقد جعل هذه الفطرة التوحيدية ملتحمة بوجوده.

__________________________________________________

(1) يقول العلّامة المجلسي رحمه الله في شرح أصول الكافي (مرآة العقول، ج 7، ص 38) عن هذه الحقيقة: (طريقة المحدّثين والمتورّعين فانّهم يقولون نؤمن بظاهرها ولا نخوض فيها، ولا نطرق فيها التوجيه والتأويل)؛ والفخر الرازي ينسب ذلك إلى المفسّرين والمحدّثين تفسير الكبير، ج 15، ص 46.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 84

يذهب إلى هذا التفسير جمع من المفسّرين كصاحب تفسير (المنار) و (في ظلال القرآن) ونقلوا ذلك عن الكثير من المفسّرين «1».

وبهذا يكون (عالم الذرّ) هو عالم الجنين ويكون السؤال والجواب بلسان الحال لا القال؛ ولهذا الأمر شواهد ونظائر كثيرة وردت في كلمات العرب وغيرهم؛ كما نقل السيّد المرتضى في كلامه عن بعض الحكماء حيث يقول: «سَل الأرض من شقّ أنهارك وغرس أشجارك وجنى ثمارك؟ فإنْ لم تُجبك حواراً أجابتك اعتباراً».

هذاالقول يشابه ما ذكره جمع من المفسّرين حول الحمد والتسبيح اللذين يعمّان موجودات العالم حتّى الجمادات أيضاً.

3- المراد من (عالم الذرّ) هو (عالم الأرواح) ويعني ذلك أنّ اللَّه عزّوجلّ خلق في البداية أرواح البشر قبل أجسادهم، وخاطبها وأخذ الإقرار منها على وحدانيته.

وقد استخلص هذا التفسير من بعض الروايات كما سنشير إليه.

والجدير ذكره أنَّ كلمة (ذرّية) في آية البحث مشتقّةٌ من (ذرّ) وهي تعني ذرّات الغبار الدقيقة، أو النمل الدقيق أو أجزاء النطفة أو من (ذرْو) ويعني التفريق أو من (ذرْء) ويعني الخلق.

بناءً على ذلك لا نسلّم بأنّ الأصل في (ذرّية) هو (ذرّ) بمعنى الأجزاء الدقيقة (فتأمّل جيّداً).

4- إنَّ هذا السؤال والجواب وقع بين جمع من البشر وبين اللَّه عزّوجلّ بواسطة الأنبياء وبلسان القال حيث استمع جمع من البشر إلى أدلّة التوحيد- بعد

ولادتهم وإكتمال عقولهم- من الأنبياء واستجابوا لها وقالوا (بلى).

فإنْ قيل إنّ (ذريّة) مشتقّة من (ذرّ) وتعني الاجسام الصغيرة جدّاً فلا تنجسم مع هذا المعنى فيردّ أصحاب هذا القول: بأنَّ أحد المعاني المعروفة ل (ذريّة) هو الأبناء- صغاراً وكباراً- وأنّ إطلاق (ذريّة) على العقلاء والبالغين في القرآن الكريم ليس بالقليل.

__________________________________________________

(1) تفسير المنار، ج 9، ص 387 (تعبيره ينسجم مع القول الخامس)؛ تفسير في ظلال القرآن، ج 3، ص 671.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 85

وقد ذكر السيّد المرتضى رحمه الله هذا التفسير- في بعض كلماته- على شكل احتمال في إيضاح الآية المذكورة، كما أنّ أبا الفتوح الرازي قد أورد هذا التفسير كاحتمال في تفسيره إضافةً إلى وجود إشارة إلى ذلك في تفسير الفخر الرازي في ذيل الآية «1».

5- أنّ هذا السؤال والجواب هو مع البشر بأجمعهم بلسان الحال وذلك بعد البلوغ والكمال والعقل، فكلّ إنسان يقرّ بعد اكتمال عقله ومشاهدته لآيات اللَّه في الآفاق والأنفس بوحدانية اللَّه بلسان حاله، وكأنّ اللَّه عزّوجلّ يسألهم بإرائة هذه الآيات: «ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ»؟

فيجيبون بلسان الحال: «بلى ، وأمّا الحديث بلسان القال فإنّ له شواهد ونظائر كثيرة.

وهذا التفسير ينقله الشيخ الطوسي رحمه الله في التبيان عن البلخي والرمّاني «2».

6- وهو التفسير الذي اختاره العلّامة الطباطبائي رحمه الله في «الميزان»: بعد أن ذهب إلى استحالة أن يكون للبشر وجود مستقل سابقاً مقروناً بالحياة والعقل والشعور وقد أخذ اللَّه منهم العهد على وحدانيته ثمّ أعادهم إلى حالتهم السابقة كي يجتازوا مسيرتهم الطبيعية، وبذلك يأتون إلى الدنيا مرّتين فقال:

وأثبت بقوله: «إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ* فَسُبحَانَ الَّذِى بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَى ءٍ». (يس/ 82- 83)

وقوله: «وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمحٍ بِالبَصَرِ».

(القمر/ 50)

إنّ هذا الوجود التدريجي للأشياء ومنها الإنسان هو أمر من اللَّه يفيضه على الشي ء ويلقيه إليه بكلمة (كن) إفاضة دفعية والقاء غير تدريجي، فلوجود هذه الأشياء وجهان، وجه إلى الدنيا وحكمه أن يحصل بالخروج من القوّة إلى الفعل تدريجاً، ومن العدم إلى الوجود شيئاً فشيئاً ويظهر ناقصاً ثمّ لا يزال يتكامل حتّى يفنى ويرجع إلى ربّه، ووجه إلى اللَّه سبحانه وهو بحسب هذا الوجه امور تدريجية وكلّ ما لها فهو لها في أوّل وجودها من غير أن تحتمل قوّة تسوقها إلى الفعل ... وبعبارة اخرى: أنّ الموجودات لها نوعان من

__________________________________________________

(1) تفسير روح الجنان، ج 5، ص 326.

(2) تفسير التبيان، ج 5، ص 27 (وفي تفسير المنار ج 9، ص 386 تعبير يقرب من هذا المعنى).

نفحات القرآن، ج 3، ص: 86

الوجود، الأوّل: الوجود الجمعي عند اللَّه تعالى والذي يعبّر عنه القرآن الكريم بالملكوت، والآخر: الوجودات المتناثرة التي تظهر تدريجياً بمرور الزمان.

وبهذا تكون حياة الإنسان في الدنيا مسبوقة بحياة إنسانية اخرى لا يكون فيها أحد محجوباً عن اللَّه تعالى، وقد شاهده هناك كلُّ موجود بالشهود الباطني وأقرّ بربوبيته.

ثمّ يضيف رحمه الله: لو دقّقنا في الآيات الآنفة الذكر لرأينا أنّها تشير إلى هذا المعنى.

بعد اتّضاح التفاسير الستّة بصورة إجمالية نشرع بدراستها ونقدها:

القول الأوّل هو أضعف الأقوال لدى الكثير من المحقّقين، ووجّهوا إليه أغلب الإشكالات، حيث أشكل عليه الطبرسي في «مجمع البيان» والسيّد المرتضى- كما نقله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول- كما أنّ الفخر الرازي أورد 12 إشكالًا على هذا القول! غير أنّ بعضها ليس جديراً بالإهتمام وبعضها مكرّر أو قابل للإندماج مع غيره، وبصورة عامّة تتوجّه خمسة إشكالات إلى هذا القول:

أ) إنَّ

هذا التفسير لا ينسجم مع كلمة (بني آدم) أبداً، وكذلك مع ضمائر الجمع في الآية، وكلّها تتحدّث عن بني آدم لا آدم نفسه، كما لا يتطابق مع لفظة «ظهور» جمع «ظهر»، والخلاصة هي أنّ الآية تقول: إنّ «الذرّية» ظهرت من ظهور «بني آدم» لا من ظهر «آدم»، في حين أنّ الروايات تدور حول نفس آدم.

ب) لو صحّ أخذ مثل هذا العهد الصريح في عالم سابق لهذا العالم فكيف يعقل نسيان ذلك من قبل البشر بأجمعهم؟! وهذا النسيان العام دليل على استبعاد هذا التفسير، لأنّ المستفاد من الآيات القرآنية هو أنّ البشر لا ينسون حوادث الدنيا حين تقوم الساعة ولهم حوار بشأنها غالباً، فهل الفاصل الزمني بين عالم الذرّ والدنيا هو أكثر من الفترة بين الدنيا والآخرة؟

ج) لو سلّمنا- فرضاً- بأنّ هذا النسيان العام يمكن تبريره بالنسبة لعالم الذرّ، ولكن النتيجة هي علّية هذا العهد، لأنّه يكون مؤثّراً حينما يتذكّره الناس، أمّا ما ينساه كافّة البشر

نفحات القرآن، ج 3، ص: 87

فانّه يفقد تأثيره التربوي ولا ينفع في إلقاء الحجّة وسدّ باب الاعذار.

د) يستفاد من قوله تعالى: «رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَينِ وأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ». (المؤمنون/ 11)

إنّ للبشر موتتين وحياتين (حيث كانوا موجودات ميتة فأحييت ثمّ يموتون ثمّ يحيون يوم القيامة) في حين يكون لهم- وفق هذا التفسير- أكثر من موتتين وحياتين: (موت وحياة في عالم الذرّ وموتان وحياتان آخران).

ه) يستلزم هذا التفسير (التناسخ)، لأنّا نعلم بأنّ التناسخ ليس إلّاحلول روح واحدة في جسمين أو أكثر، وطبقاً لهذا التفسير فإنّ الروح الاولى تعلّقت أوّلًا بالذرّات الدقيقة جدّاً والتي خرجت من ظهر آدم ثمّ خرجت لتتعلّق بالأجسام الحاضرة، وهذا هو عين التناسخ.

وبطلان التناسخ هو من المسلّمات في الدين، ولذا فإنّ الشيخ

المفيد رحمه الله في كتابه «جواب المسائل السروية» عندما يذكر التفسير أعلاه مقروناً ببعض الروايات يضيف: «هذه أخبار القائلين بالتناسخ وفيه جمعوا بين الحقّ والباطل» «1».

وقد ورد هذا الكلام بنفسه في كلام شيخ المفسّرين الطبرسي رحمه الله «2».

وسنلاحظ بإذن اللَّه لدى مطالعة أخبار عالم الذرّ أنّ الأخبار الدالّة على هذا التفسير معارضة بأخبار اخرى.

وأمّا القول الثاني الذي يتحدّث عن خلق فطرة التوحيد والقابلية الخاصّة لمعرفة اللَّه في عالم الرحم فإنّه أقلّ الأقوال إشكالًا، والإشكال الوحيد الذي أورده عليه هو أنّ ظاهر الآية المبحوث عنها هو أنّ السؤال والجواب جاء بلسان القال لا الحال، وهو ضرب من التشبيه والمجاز، مضافاً إلى أنّ جملة (أخذ) دليل على أنّ هذا الأمر قد أخذ في الماضي، في حين

__________________________________________________

(1) مرآة العقول، ج 7، ص 41.

(2) تفسير مجمع البيان، ج 4، ص 497.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 88

أنّ فطرة التوحيد للأجنّة هي أمر مستمرّ ويتحقّق في كلّ زمان، والإشكالان يمكن الإجابة عليهما وذلك لعدم مانعية حمل هذا الكلام على لسان الحال مع القرينة، وقد كثر ذلك في اللغة العربية نثراً وشعراً و ...، والإشكالات المهمّة التي ترد على التفسير الأوّل قرينة واضحة على هذا التفسير، والفعل الماضي قد يستعمل في الاستمرار أيضاً، وهذا- طبعاً- يحتاج إلى قرينة أيضاً، وهذه القرينة موجودة في موضوع البحث «1».

أمّا التفسير الثالث القائل بأنّ المراد هو: سؤال الأرواح فانّه لا ينسجم مع آية البحث أبداً، لأنّ الآية تتحدّث عن أخذ الذرّية من ظهور بني آدم ولا يرتبط هذا بقضيّة الأرواح.

وأمّا التفسير الرابع القائل بأنّ السؤال والجواب كان بهذا اللسان الطبيعي ويرتبط بمجموعة من البشر قد سئلوا بعد إبلاغهم بواسطة الأنبياء عن مسألة التوحيد

وأجابوا بالإيجاب عليه، فإنّ عليه إشكالات رئيسية منها:

إنّ الآية تتحدّث عن جميع البشر لا مجموعة صغيرة منهم آمنوا بالأنبياء أوّلًا ثمّ كفروا، مضافاً إلى أنّ ظاهر الآية هو كون السؤال من قِبَلِ اللَّه لا من قبل الأنبياء.

ولا يصحّ ما يظنّه البعض من أنّ جملة: «إنّما أشرَك آباؤُنا من قَبْل» دليل على أنّ الآية تقصد المجموعة التي أشرك آباؤها، لأنّ الآية تذكر عذرين غير موجّهين للكفّار، الأوّل هو الغفلة والثاني التقليد للآباء المشركين.

ويمكن أن يكون كلّ عذر لمجموعة خاصّة وأنّهما معطوفان بكلمة (أو).

وأمّا التفسير الخامس فإنّه يشابه التفسير الثاني من جهات مع وجود فارق وهو: أنّ التفسير الثاني يتحدّث عن الفطرة القلبية، بينما يتحدّث التفسير الخامس عن فطرة العقل وكما أسلفنا فإنّ هذا التفسير قد مال إليه كثير من المفسّرين الأعلام.

وأمّا التفسير السادس الذي ورد في «تفسير الميزان» فإنّه يواجه إشكالَيْن كبيرين:

الأوّل: هو إثبات عالمين (عالم جمعي وعالم تفصيلي) ولا دليل واضح لهما حسب ما ورد من البيان.

__________________________________________________

(1) شوهدت هذه العبارة كثيراً في الآيات القرآنية: فاطر، 44؛ الشورى، 51؛ الفتح، 11؛ الفتح، 19.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 89

والثاني: أنّ تطبيق الآية على هذا العالم (بافتراض ثبوته) يبدو بعيداً جدّاً ولا يسلم أصل القضيّة وفرعها من الإيراد.

حصيلة البحث عن عالم الذرّ:

نصل ممّا ذُكر إلى هذه النتيجة وهي: أنّ التفسير الثاني والخامس- بعد الدراسة الدقيقة- هما أقلّ التفاسير إشكالًا، وامّا الإشكال الوارد في أنّه يخالف الظاهر في بعض الجهات فإنّه يمكن التغاضي عنه مع توفّر القرينة والنظائر الكثيرة لذلك في اللغة العربية وغيرها، ولذا فإنّ الكثير من المفسّرين المشهورين وعلماء العقائد والكلام قد اختاروهما، كما تتضمّن الروايات إشارات واضحة إلى هذا المضمون وسيأتي ذلك في البحث المقبل بإذن اللَّه.

وباختصار: إنّ

أغلب المحقّقين يعتقدون بأنّ هذا السؤال والجواب الإلهي قد تمّ مع جميع البشر وبلسان الحال لا القال، أو عن طريق الإستعداد الفطري المودع في الجنين أو عن طريق الإستعداد العقلي الذي أوجده فيهم بعد البلوغ والكمال العقلي، أحدهما يتحدّث عن الفطرة القلبية (دون الحاجة إلى استدلال) والثاني يتحدّث عن الفطرة العقلية التي تعتبر معرفة اللَّه من البديهيات العقلية، حيث إنّ دلائله من الوضوح ما يجعل كافّة البشر يدركون ذلك، صحيح أنّ مجموعة من البشر ينكرون ذلك بلسان القال ويؤيّدون الماديّة، ولكنّا حينما نحلّل كلامهم نراهم يجعلون للمادّة والطبيعة نوعاً من العقل والإحساس، وبعبارة اخرى أنّهم أطلقوا كلمة (الطبيعة) على (اللَّه)، ونعتقد أنّ الإشارة إلى الفطرة القلبية هي الأنسب (فتأمّل جيّداً).

توضيحات

1- (عالم الذرّ) في الروايات الإسلامية

إنَّ المصادر الإسلامية (السنيّة والشيعية) تتضمّن روايات جمّة عن (عالم الذرّ) تبدو

نفحات القرآن، ج 3، ص: 90

وكأنّها روايات متواترة، فمثلًا يتضمّن تفسير نور الثقلين 30 رواية، وتفسير البرهان 37 رواية ولعلّها تتجاوز الأربعين في مجموعها (مع حذف المكرّرات)، كما يتضمّن تفسير (الدرّ المنثور) روايات عديدة، ممّا يشير إلى أنّ مضامين الروايات لا تنحصر في مذهب إسلامي خاصّ.

غير أنّ كثيراً منها منقولة عن راوٍ واحد ولذا يشملها حكم الخبر الواحد (يلاحظ أنّ كثيراً منها مروي عن زرارة، وعدداً منها عن أبي بصير، وبعضاً منها عن جابر، كما تلاحظ روايات عن عبداللَّه بن سنان وصالح بن سهل) وبهذا فإنّ العدد الحقيقي للروايات ينخفض بشكل ملحوظ.

هذا وإنّ مضامين هذه الروايات متباينة تماماً فبعضها يتّفق مع التفسير الثاني القائل بأنّ هذا العهد عهد فطري ويرجع إلى إيداع المعرفة الفطرية في الإنسان نظير الرواية التي ينقلها عبداللَّه بن سنان عن الإمام الصادق عليه السلام: «قال: سألته عن قول اللَّه عزّوجلّ

«فطرة اللَّه التي فطر الناس عليها» ما تلك الفطرة؟، قال: هي الإسلام، فطرهم اللَّه حين أخذ ميثاقهم على التوحيد، قال «أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ» وفيه المؤمن والكافر» «1».

وكما تلاحظ فإنّ الحديث يتضمّن بياناً عن الإرتباط الوثيق بين آية (الفطرة) وآية (عالم الذرّ)، وقد روى زرارة هذا المعنى بعبارة اخرى عن الإمام الصادق عليه السلام، فإنّه عندما سأل الإمام عليه السلام عن تفسير الآية «وإذ أخذ ربّك ...» أجابه عليه السلام: «ثبتت المعرفة في قلوبهم ونسوا الموقف، ويذكرونه يوماً، ولولا ذلك لم يدر أحد من خالقه ومن رازقه؟» «2».

في حين أنّ بعضاً آخر من الروايات يتّفق مع التفسير الأوّل حيث تذكر أنّ ذرّية آدم خرجوا من ظهره على صورة ذرّات، وقد أخذ اللَّه هذا العهد منهم بلسان القال، كالروايات التي وردت في تفسير البرهان المرقّمة ب 3، 4، 8، 11، 29 (وقد روى زرارة هذه الروايات عن الإمام الباقر عليه السلام وهي- في الحقيقة- رواية واحدة).

__________________________________________________

(1) تفسير البرهان، ج 2، ص 47، ح 7؛ و تفسير نور الثقلين، ج 2، ص 95، ح 345.

(2) تفسير البرهان، ج 2، ص 48، ح 15.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 91

وقد ورد هذا المعنى في تفسير الدرّ المنثور عن ابن عبّاس بطرق متعدّدة ولكن يطول ذكرها وهي ذات مضمون واحد في الحقيقة وتتلخّص في حديث واحد عن ابن عبّاس وليس عن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله، وفي كتب اخرى نقل هذا المعنى بطرق اخرى.

والإشكال المهمّ الذي يرد على هذه الأحاديث هو أنّها مخالفة لظاهر وصريح كتاب اللَّه لأنّها تقول بأجمعها: أنّ ذرّية آدم خرجت من ظهر آدم على صورة ذرّات، في حين يقول القرآن الكريم بأنّ الذرّات هذه

خرجت من ظهور بني آدم: «مِنْ بَنى آدمَ مِن ظهورِهِم ذُريَّتَهم».

وإضافة إلى ذلك فإنّ ثمّة إشكالات عديدة اخرى ترد على مضامين هذه الأحاديث تمّت الإشارة إليها وتجعلها في المجموع في عداد الأحاديث الضعيفة.

والمجموعة الثالثة من الأحاديث مبهمة وتلائم التفاسير المختلفة، مثل الحديث الذي يرويه أبو بصير عن الإمام الصادق عليه السلام حيث سأله: كيف أجابوا وهم ذرّ؟! فقال عليه السلام: «جعل اللَّه فيهم ما إذا سألهم أجابوه، يعني في الميثاق» «1».

وهناك مجموعة رابعة من الأحاديث تقول بأنّ هذا السؤال والجواب قد جريا مع أرواح البشر، وهذا يوافق التفسير الثالث فقط، كرواية المفضّل بن عمر عن الإمام الصادق عليه السلام حيث قال: «قال اللَّه عزّوجلّ لجمع أرواح (بني آدم) ألست بربّكم؟ قالوا: بلى «2».

كما يستفاد من مجموعة روائية خامسة أنّ اللَّه سبحانه أوقف الأرواح البشرية في ذلك اليوم على نفس الهيئة التي تخلق عليها وأخذ منها العهد «3».

بناءً على ما ذكر وبملاحظة التعارض بين هذه الروايات وضعف السند في كثير منها، لا يمكن الإعتماد عليها كمستمسك معتبر أبداً، والأفضل كما يقول العلماء العظام هو أن نترك

__________________________________________________

(1) تفسير البرهان، ج 2، ص 49، ح 22.

(2) المصدر السابق، ح 20.

(3) تفسير درّ المنثور، ج 3، ص 142.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 92

في مثل هذه الموارد الحكم بشأنها وندع العلم بها إلى أهلها «1».

نبقى والآية أعلاه وما يستفاد منها بمعونة القرائن المختلفة، وكما أشرنا فإنّ التفسير الثاني- كما يبدو- هو الأنسب من بين التفاسير الستّة المذكورة للآية، وهو التفسير الذي يعتبر عالم الذرّ منسجماً مع فطرة المعرفة الإلهيّة والإسلام، وعليه فإنّ ذرّات النطفة منذ خروجها من ظهور الآباء واستقرارها في أرحام الامّهات تكون قد استقرّ

فيها نور المعرفة والتوحيد والقانون الإلهي على صورة قابلية ذاتية.

2- فطرة العقل أم القلب؟

الحصيلة من كلمات العلماء في بحث فطرية المعرفة الإلهيّة هي أنّهم سلكوا طريقين، فبعض اعتبر الفطرة هنا بمعنى الاستدلال العقلي الواضح، وهو أنّ كلّ إنسان بعد اكتمال عقله وملاحظته لنظام عالم الوجود وبعض الأسرار في الخلق ينتقل إلى هذه الحقيقة فوراً وهي استحالة نشوء هذا النظام البديع ذي الأسرار العجيبة من مبدأ فاقد للعقل والإحساس، وعليه فإنّ الفطرة تعني: (العقل الفطري) الذي يكفيه استدلال واضح للوصول إلى الحقيقة ولا يحتاج إلى استاذ أو معلّم، كما يحكم الإنسان بأنّ (الكلّ أكبر من الجزء) حيث أدركه باستدلال عقلي واضح وهكذا عندما يقول بأنّ (المساويين لشي ء متساويان).

من هنا نلاحظ أنّ علماء المنطق يقسّمون بديهيات المنطق إلى ستّة أقسام:

الأوّليات، المشاهدات، التجريبيات، المتواترات، الحدسيات، الفطريات، وقالوا في تعريف (الفطريات): بأنّها القضايا التي لا يصدق بها العقل بمجرد تصوّرها بل يحتاج إلى حدّ أوسط وهو حاضر لدى الذهن دائماً، وللفطرة معنى آخر وهو أصحّ وأفضل في البحوث

__________________________________________________

(1) للمزيد من المعلومات عن الروايات المرتبطة بعالم الذرّ يمكن مراجعة الكتب الخمسة الآتية: بحار الأنوار، ج 3، ص 277؛ مرآة العقول، ج 7، ص 36؛ تفسير البرهان، ج 2، ص 46؛ تفسير نور الثقلين، ج 2، ص 93؛ وتفسير درّ المنثور، ج 3، ص 141، وما بعدها.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 93

المعنية وهو: إدراك الحقائق من دون الحاجة إلى أي استدلال (معقّد أو بسيط) ويتفهّمها بوضوح ويتقبّلها، فهو حينما يشاهد- مثلًا- باقة من الورد الجميل ذات عطر زكيّ يقرّ بجمالها، دونما حاجة إلى إقامة الدليل أبداً، ويقول بأنّها جميلة حقّاً ولا تحتاج إلى دليل.

والفهم الفطري في مجال المعرفة الإلهيّة من هذا القبيل،

فالإنسان حينما يتدبّر من أعماق روحه يبصر نور الحقّ ويسمع نداءه بقلبه، يدعوه إلى مبدأ العلم والقدرة التي لا مثيل لها في عالم الوجود، مبدأ الكمال المطلق ومطلق الكمال، وهو في الفهم الوجداني- كما في جمال الورد- لا يشعر بحاجة إلى إقامة الدليل.

3- شواهد حيّة على فطرية الإيمان باللَّه
اشارة

ربّما يقال بأنّ هذه كلّها ادّعاءات ولا سبيل لإثبات مثل هذه الفطرة في المعرفة الإلهيّة، فمن الممكن أن أدّعي بأنّي أشعر بهذا الإحساس في قلبي أي من أعماق روحي، ولكن كيف أقنع شخصاً يرفض هذا الكلام؟ لدينا شواهد كثيرة بإمكانها إثبات فطرية المعرفة الإلهيّة بشكل واضح جدّاً، بنحو يفحم المنكرين، ويمكن تلخيصها في أقسام خمسة:

أ) الحقائق التاريخية

إنّ الحقائق التاريخية التي تمّت دراستها من قِبَل أقدم المؤرّخين في العالم تدلّ على عدم وجود دين لدى الأقوام السابقة، بل كان كلّ قوم يؤمنون بمبدأ العلم والقدرة في عالم الوجود ويعبدونه، ولو سلّمنا بوجود حالات نادرة في هذا الأمر، فإنّ هذه القضية لا تضرّ بالأصل العام الذي يحكم بأنّ المجتمعات البشرية كلّها كانت دائماً على طريق عبادة اللَّه (كل قاعدة كليّة لها استثناءات نادرة).

المؤرّخ الغربي الشهير (ويل ديورانت) في كتابه (قصة الحضارة) يُقرّ بهذه الحقيقة بعد الإشارة إلى بعض الموارد في الإلحاد الديني ويقول: «إلى جانب هذه القضايا التي ذكرناها فإنّ الإلحاط الديني من الحالات النادرة، وهذا الإعتقاد القديم بأنّ التديّن حالة بشرية عامّة يتطابق مع الحقيقة ...».

نفحات القرآن، ج 3، ص: 94

«تعتبر هذه القضيّة من القضايا التاريخية والنفسية الأساسية لدى الفيلسوف، فهو لا يقول بأنّ الأديان مملوءة باللغو والباطل بل يلتفت إلى هذه الحقيقة وهي أنّ الدين كان مع التاريخ منذ أقدم العصور» «1».

ويقول في تعبير آخر بهذا الشأن: «أين تكمن التقوى التي لا تفارق قلب الإنسان أبداً؟» «2».

كما يقول في كتابه (دروس التاريخ) وبتعبير ساخط ومتألّم: «للدين مائة روح، كلّما تقتله فإنّه يسترجع الحياة مرّة اخرى!» «3».

ولو كان الإيمان باللَّه والدين ناشئاً عن تقليد أو تلقين أو دعاية من قبل الآخرين لما كان عاماً وشاملًا بهذا

الحجم ولما استمرّ طيلة التاريخ، وهذا أفضل دليل على أنّه أمر فطري.

ب) الآثار التاريخية

إنَّ الآثار المتبقّية من عصور ما قبل التاريخ (أي ما قبل اختراع الخطّ وكتابة أحوال الإنسان) تدلّ على أنّ البشر ما قبل التاريخ كانوا يعتقدون بالدين ويؤمنون باللَّه والمعاد والحياة بعد الموت، بدليل أنّهم كانوا يدفنون الأشياء التي يحبّونها معهم كي يستفيدوا منها بعد الموت! كما أنّ تحنيط أجساد الأموات حفظاً لها من الإندثار، وبناء المقابر نظير (أهرام مصر) لتبقى أزماناً متمادية دليل على إيمان الأسلاف بالمبدأ والمعاد.

صحيح أنّ هذه الأعمال تدلّ على اقتران إيمانهم الديني بخرافات كثيرة إلّاأنّها دليل على أنّ الإيمان الديني في مراحل ما قبل التاريخ لا يمكن إنكاره.

ج) الدراسات النفسية واكتشافات علماء النفس

إنّ الأبعاد الروحية للإنسان وميوله الأساسية هي أيضاً دليل واضح على فطرية العقائد

__________________________________________________

(1) قصة الحضارة، ويل ديورانت، ج 1، ص 87.

(2) المصدر السابق، ص 89.

(3) الفطرة للشهيد المطهّري، ص 153.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 95

الدينية، وهي أربعة ميولات سامية وأصيلة عبّر عنها بعض علماء النفس بأنّها الأبعاد الأربعة لروح الإنسان وتشمل: (1- حبّ العلم، 2- حبّ الجمال، 3- حبّ الخير، 4- حبّ الدين) وتمثّل شاهداً حيّاً على هذا الأمر «1».

وقد اعتبرها بعض العلماء خمسة أبعاد هي: (1- مقولة البحث عن الحقيقة، 2- مقولة الخير الأخلاقية، 3- مقولة الجمال، 4- مقولة الإبداع، 5- مقولة العشق والعبادة) «2».

ويبدو أنّ مقولة الإبداع لا تنفكّ عن مقولة البحث عن الحقيقة.

على أيّة حال فإنّ حبّ العلم يوجِد في الإنسان ميلًا شديداً نحو العلم وفهم أسرار عالم الوجود، وهذا الإحساس يشمل الامور المؤثّرة وغيرها في حياته.

ونريد أن نعلم كيف كانت الدنيا قبل مليار عام وكيف ستكون بعد مليار عام؟ دون أن تكون لهذه الامور في فهمها على الحياة الفردية والاجتماعية تأثيرات عملية، فهذا الحسّ هو السبب

في ظهور العلوم والمعارف.

إنَّ الجمال الذي يشعر به كلّ إنسان في أعماقه هو الذي يدفعه إلى الإبداع وهو المصدر الأساس لكلّ الفنون.

وإنَّ حبّ الخير هو السبب في ظهور الأخلاق والإلتزام في الإنسان تجاه المبادي ء من قبيل العدل، الحرية، الصدق، وأمثالها، ومن الممكن أن لا يلتزم كثير بهذه المبادي ء عمليّاً غير أنّه لا ريب في ارتياح قلوبهم لها.

البعد الرابع لروح الإنسان والمعبّر عنه أحياناً بالميل نحو الكمال المطلق أو البعد المقدّس والإلهي هو الذي يدفع الإنسان نحو الدين، وهو يؤمن بوجود ذلك المُبدي ء العظيم بدون حاجة إلى دليل خاصّ، ويمكن أن يقترن هذا الإيمان الديني بألوان من الخرافات وينتهي بعبارة الأصنام والشمس والقمر، غير أنّ بحثنا يدور حول الأساس فيه.

__________________________________________________

(1) راجع مقالة (كوونتايم) في كتاب (الحسّ الديني أو البعد الرابع لروح الإنسان).

(2) الفطرة، للشهيد المطهّري، ص 64.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 96

د) فشل الدعاية ضدّ الدّين

نحن نعلم بأنّ دعايات شديدة لا مثيل لها من حيث السعة شُنّت ضدّ الدين في القرون الأخيرة وخاصّة في الغرب بالاستفادة من الأساليب والوسائل المختلفة.

وكانت بداياتها في مرحلة النهضة العلمية في اوربا (رنسانس) وفيها تحرّرت المحافل العلمية والسياسية من ضغوط الكنيسة وطغى التيار المعارض للدين (كان الدين المسيحي هو السائد وقتئذٍ في اوربا) إلى درجة تُطرح فيها الأفكار الملحدة في كلّ مكان واستغلَّوا مكانة الفلاسفة وعلماء العلوم الطبيعية بشكل خاصّ لرفض الاسس الدينية كلّها حتّى فقدت الكنيسة مكانتها المرموقة، وانعزل رجال الدين في اوربا وأصبح الإيمان بوجود اللَّه والمعجزات والمعاد والكتب السماوية في عداد الخرافات.

وغدا من المسلّمات لدى كثير منهم أنَّ البشرية مرّت بمراحل أربع هي: (مرحلة الأساطير، مرحلة الدين، مرحلة الفلسفة، ومرحلة العلم) وحسب هذا التقسيم يكون الدين قد انقرض في

مرحلة سابقة!

والعجيب أنّ كتب علم الإجتماع الحديثة التي تمثّل الصورة المتكاملة لعلم الإجتماع السائد آنذاك تفترض هذه القضيّة من المسلّمات، وهي أنّ الدين يمثل عاملًا طبيعيّاً يتردّد بين الجهل والخوف والمتطلّبات الاجتماعية والامور الاقتصادية، فهناك اختلاف بصددها!

صحيح أنّ السلطة الدينية الحاكمة (أي الكنيسة) في القرون الوسطى هي التي يجب أن تدفع الثمن بسبب استبدادها وظلمها وتعاملها السيّ مع الناس بصورة عامّة وعلماء الطبيعة بصورة خاصّة، إضافةً إلى اهتمام الكنيسة بالشكليات والمظاهر وبالامور التي لا تستحقّ الإهتمام ونسيان المحرومين من طبقات المجتمع، لكن العيب في هذا الأمر هو أنّ الكلام لم يكن عن البابا والكنيسة فحسب بل عن المذاهب في العالم كلّها.

وقد دخل (الشيوعيون) كغيرهم الميدان ليقضوا على الدين بكلّ ما يمتلكون من قوّة، وسخّروا جميع الأجهزة الإعلامية وأفكار فلاسفتهم من أجل ذلك وسَعَوْا سعيهم لإظهار الدين وكأنّه افيون الشعوب!

نفحات القرآن، ج 3، ص: 97

بيد أنّا نشهد أنّ هذه التيارات العاتية ضدّ الدين لم توفّق لاجتثاث الجذور الدينية المغروسة في القلوب والقضاء على النشاط الديني، وها نحن اليوم نرى بامّ أعيننا انتشار الوعي الديني بشكل واسع من جديد حتّى في البلدان الشيوعية، والأخبار التي تتناقلها وسائل الإعلام تحكي عن الرعب المتزايد الذي يعيشه الحكّام في هذه المناطق إزاء الميول الدينية وخاصّة الإسلامية، كما نلاحظ في الأقطار الشيوعية- التي تبذل محاولات يائسة وفاشلة للقضاء على الدين- ظهور حركات تطالب بانتشار الدين.

هذه الحقائق تدلّ بصورة واضحة على تجذّر الدين في أعماق (الفطرة) البشرية، وبذلك استطاع أن يواجه التيارات الإعلامية المعارضة العاتية ولولاها لانقرض تماماً.

ه) التجارب الشخصية في الأزمات

إنَّ أغلب الناس جرّبوا هذه الحقيقة في حياتهم وهي: أنّ الإنسان حينما يواجه مشكلات قاتلة، وشدائد الحياة الصعبة، ويُبتلى بدوّامات البلاء وحينما توصد بوجهه

الأبواب ويبلغ السيل الزبى، ففي هذه اللحظات المضطربة يورق أمل في أعماق روحه، فيتجه إلى اللَّه سبحانه القادر على حلّ المشكلات كلّها فيتعلّق به ويستمدّ العون منه.

ولا يستثنى من ذلك حتّى الأشخاص الذين ليس لديهم ميول دينية حيث تصدر منهم ردود فعل روحية عند تعرّضهم للأمراض الخطرة والهزائم الماحقة وهذه شواهد على الحقيقة التي تتحدّث عنها الآيات القرآنية السابقة حول فطرية المعرفة الإلهيّة.

نعم، في زوايا قلب الإنسان وأعماق روحه نداء لطيف ملي ء بالرحمة وقوي وبيّن يدعوه إلى الحقيقة الكبرى، وهي (اللَّه) القادر والمتعالي والعالم، وبحثنا يدور حول الإيمان بتلك الحقيقة لا عن تسميتها.

و) شهادة العلماء على فطرية الدين

ليست قضيّة فطرة (معرفة اللَّه) قضيّة مطروحة في القرآن الكريم والروايات الإسلامية

نفحات القرآن، ج 3، ص: 98

فحسب، بل إنّ كلمات العلماء والفلاسفة من غير المسلمين والشعراء عامرة بها:

فمثلًا، يقول اينشتاين في حديث طويل: «إنّ العقيدة والدين موجودان في الجميع دون استثناء ... إنّي اسمّيه (الشعور الديني للخلق) .. في هذا الدين يشعر الإنسان الصغير بآمال وأهداف البشرية العظيمة والجلال الكامن خلف هذه القضايا والظواهر، إنّه يرى وجوده كسجن، وكأنّه يريد التحرّر من سجن الجسم ليدرك الوجود كلّه كحقيقة واحدة» «1».

ويقول العالم الشهير باسكال:

«للقلب أدلّة لا يدركها العقل» «2».

ويقول ويليم جيمز:

«إنّي أقرّ تماماً بأنّ القلب هو المصدر للحياة الدينية، كما اقرّ بأنّ القواعد الفلسفية تشابه موضوعاً مترجماً كُتب نصّه بلغة اخرى» «3».

ويقول ماكس مولر:

«لقد خضع أسلافنا للَّه في عصور لم يكونوا قادرين فيها حتّى على إطلاق اسم على اللَّه» «4».

وهو القائل في موضع آخر: «خلافاً لما تقوله النظرية الشهيرة بأنّ الدين ظهر أوّلًا بعبادة الطبيعة والأشياء والأصنام ثمّ وصل إلى عبادة اللَّه الواحد، فلقد أثبت علم الآثار بأنّ عبادة اللَّه الواحد

كانت سائدة منذ أقدم الأيّام» «5».

ويقول المؤرّخ الشهير (بلوتارك):

«لو لاحظتم العالم فإنّكم ستجدون أماكن كثيرة لا عمران فيها ولا علم وصناعة وسياسة ودولة، ولكنّكم لا تجدون موضعاً ليس فيه اللَّه» «6».

__________________________________________________

(1) العالم الذي أراه، ص 53 (بتلخيص).

(2) مسيرة الحكمة في اوربا، ج 2، ص 14.

(3) المصدر السابق، ص 321.

(4) مقدّمة الدعاء، ص 31.

(5) الفطرة للشهيد المطهّري، ص 148.

(6) مقدّمة الدعاء، ص 31.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 99

ويقول صموئيل كينغ في كتاب (علم الإجتماع): «كان لجميع المجتمعات البشرية لون من الدين وإن قام علماء الأنساب والرحالة والمبشّرون (المسيحيون) الأوائل بذكر أسماء مجموعات لا تدين بدين أو مذهب، ولكن أقوالهم- كما عُلم فيما بعد- لم يكن لها أساس من الصحّة فأحكامهم ناشئة فقط من ظنّهم بأنّ أديان اولئك يجب أن تشابه ديننا» «1».

ونختم هذا البحث بكلام ل (ويل ديورانت) المؤرّخ المعاصر الشهير حيث قال: «إن لم نتصوّر للأديان جذوراً في عصر ما قبل التاريخ، فإنّنا لا يمكن أن نتعرّف على حقيقتها في التاريخ» «2».

4- الفطرة في الروايات الإسلامية

إنّ قضيّة فطرية التوحيد في العبادة بشكل خاصّ، أو الدين والمذهب بصورة عامّة، أمر فطري ذو انعكاس كبير في الروايات الإسلامية بالرغم من اختلاف التعبير فيها، ففي بعضها عرض لقضيّة التوحيد وتوحيد العبادة كأمر فطري كما في الحديث الآتي، حيث سأل أحد أصحاب الإمام الصادق عليه السلام- وهو علاء بن فضيل- عن الآية الكريمة: «فطرتَ اللَّهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا»، فأجاب عليه السلام: «التوحيد» «3».

كما ورد هذا المضمون في أحاديث عديدة اخرى «4».

وفي القسم الآخر من هذه الأحاديث اعتبرت (معرفة اللَّه) أمراً فطرياً، كالحديث الذي يرويه زرارة عن الإمام الباقر عليه السلام حينما سأله عن تفسير

الآية: « «حُنَفاءَ للَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ»:

أهي الفطرة التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق اللَّه؟ قال عليه السلام: فطرهم اللَّه على المعرفة».

__________________________________________________

(1) علم الإجتماع لصموئيل كينغ، ص 191.

(2) قصّة الحضارة، ج 1، ص 88.

(3) بحار الأنوار، ج 3، ص 277، ح 4.

(4) المصدر السابق، ح 5، 6، 8، 10.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 100

وقال: قال رسول اللَّه عليه السلام: كلّ مولود يولد على الفطرة يعني على المعرفة بأنّ اللَّه عزّوجلّ خالقه» «1».

وقد ورد هذا المضمون أيضاً في أحاديث اخرى «2».

وبعض الروايات تعرّف (الاصول الإسلامية) كلّها أمراً فطرياً، كما نقرأ في الحديث النبوي الشريف: «كلّ مولود يولد على الفطرة حتّى يكون أبواه هما اللذان يهوّدانه وينصّرانه» «3».

وقد نقلت النصوص الشيعية والسنّية هذا الحديث بكثرة وهو من الأحاديث الشهيرة جدّاً.

ويلاحظ نظير هذا المضمون في روايات اخرى وفيها تأكيد على قضيّة التوحيد ونبوّة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله وولاية علي عليه السلام «4».

وختاماً فإنّ بعض الروايات تؤكّد على قضيّة الولاية، كما نقرأ الحديث الذي يرويه أبو بصير عن الإمام الباقر عليه السلام في آية البحث حيث عبّر عن المقصود في الآية بأنّه: «الولاية» «5».

وواضح أنّ هذه التفاسير لا تتنافى فيما بينها أبداً، فالاصول الدينية- في الحقيقة- توجد في الفطرة البشرية بصورة مركّزة، غير أنّ بعض الروايات تشير إليها كلّها وبعضها الآخر يشير إلى قسم منها.

وفي الحقيقة فإنّ فطرة التوحيد لا يمكن أن تنفصل عن اصول العقيدة لأنّ اللَّه الحكيم لم يخلق العباد عبثاً، ومن البديهي أنّه وضع تكاليف ومناهج لتكامل العباد يجب إبلاغها عن طريق الرسل، ويحفظها أوصياؤهم وتنفذ عن طريق الولاية وتشكيل الحكومة الإسلامية وتظهر نتائجها في عالم الآخرة.

__________________________________________________

(1) بحار

الانوار، ج 3، ص 279، ح 11.

(2) المصدر السابق، ح 12، 13.

(3) غوالي اللآلي، طبقاً لبحار الأنوار، ج 3، ص 281، ح 22.

(4) بحار الأنوار، ج 2، ص 277، 278، 280، ح 3، 9، 18.

(5) المصدر السابق، ح 2.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 101

وباختصار فإنّ في متناول أيدينا روايات كثيرة حول فطرة التوحيد والإسلام وللمزيد يمكن مراجعة مصادر اخرى مثل:

تفسير البرهان الجزء 2، صفحة 46 وما بعدها.

مرآة العقول الجزء 7، صفحة 54 وما بعدها.

تفسير نور الثقلين الجزء 4، صفحة 181 وما بعدها.

تفسير الدرّ المنثور الجزء 3، صفحة 142 وما بعدها.

بحار الأنوار الجزء 3، صفحة 276 وما بعدها.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 103

وحدانية الذات المقدّسة «أهمّ أصل في معرفة اللَّه»

اشارة

نفحات القرآن، ج 3، ص: 105

تمهيد:

توصّلنا فيما سبق من أبحاث إلى إثبات وجود اللَّه سبحانه بطرق مختلفة (خمسة أدلّة عقلية رئيسة) إضافةً إلى طريق الفطرة الذاتية.

الآن وبعد الإيمان بأصل وجوده سبحانه فإنّ البحث يدور حول معرفته، والموضوع المهمّ فيه هو بحث التوحيد والوحدانية، لأنّه من جهة يعتبر أصلًا لبقية الصفات، ومن جهة اخرى يشكّل الأساس في كلّ الأديان السماوية خصوصاً القرآن حتّى أنّ أغلب ما تتضمّنه هذه الكتب السماوية بصدد وجود اللَّه تدور حول محور هذا البحث، إلى الحدّ الذي ظنّ فيه البعض بأنّ القرآن لا يتحدّث عن (أصل وجود اللَّه) بل إنّه يتحدّث عن توحيده والاستدلال على ذلك، وهذا الكلام مبالغ فيه.

ومن جهة ثالثة تُستمدّ جميع العقائد الإسلامية والأحكام والقوانين والامور الاجتماعية والأخلاقية والعبادية من هذا الأصل، لذلك أولى القرآن الكريم اهتمامه الخاصّ لقضيّة (التوحيد والشرك) وعكس القرآن برمّته النظرية الإسلامية بهذا الصدد، بل يمكن القول بعدم وجود موضوع حَظِيَ بهذه الدرجة من الإهتمام في القرآن الكريم مثلما حظي بها ذلك الموضوع.

كما أنّ قضيّة التوحيد ومحاربة الشرك لم تكن محوراً أساسياً في حركة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله فحسب، بل وفي حركة سائر الأنبياء عليهم السلام.

بهذا التمهيد نطّلع أوّلًا على عِظم معصية الشرك في القرآن المجيد، ثمّ نذكر الأدلّة القرآنية المختلفة على إثبات حقيقة التوحيد وبطلان الشرك.

في البدية نتأمل خاشعين في الآيات الآتية:

نفحات القرآن، ج 3، ص: 106

1- «إِنَّ اللَّهَ لَايَغفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افتَرى إِثْماً عَظيماً». (النساء/ 48)

2- «إِنَّ اللَّهَ لَايَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيداً». (النساء/ 116)

3- «وَلَقَد اوحِىَ

إلَيْكَ وَإِلى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْركْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ». (الزمر/ 65)

4- «وَإذْ قَالَ لُقْمانُ لِابنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يابُنَىَّ لَاتُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ».

(لقمان/ 13)

5- «وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيرُ أَوْ تَهْوِى بِهِ الرِّيحُ فِى مَكانٍ سَحِيقٍ». (الحجّ/ 31)

6- «قُلْ تَعالَوا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيئاً». (الأنعام/ 151)

7- «إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيهِ الجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظّالِمينَ مِنْ أَنْصارٍ». (المائدة/ 72)

8- «يَاأَيُّها الّذِينَ آمَنُوا إِنَّما الْمُشرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحرَامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا ...». (التوبة/ 28)

9- «وَأَذانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِى ءٌ مِّنَ المُشْرِكِينَ وَرَسُولُه ...». (التوبة/ 3)

10- «الزَّانِى لَايَنْكِحُ إِلَّا زَانِيةً أَوْ مُشْرِكةً وَالزَّانِيَةُ لَايَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ ..». (النور/ 3)

11- «قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وإِلَيهِ مَآبِ».

(الرعد/ 36)

12- «وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ إِنِّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ* أَن لَّاتَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنّى

نفحات القرآن، ج 3، ص: 107

أَخَافُ عَلَيكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ» «1». (هود/ 25- 26)

13- «قُلْ إنَّما يُوحَى إِلَىَّ أَنَّمَا إِلهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنتُمْ مُّسلِمُونَ». (الأنبياء/ 108)

14- «قَدْ كانَتْ لَكُمْ اسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِى إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَومِهِمْ إِنَّا بُرَءؤُا مِنْكُم وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ العَدَاوَةُ وَالبَغْضَاءُ أَبداً حَتّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ ..». (الممتحنة/ 4)

شرح المفردات:

«شِرك»: ذُكر لها في مقاييس اللغة معنيان:

الأوّل: هو التعاون والمقارنة والشركة ويقابله الإنفراد.

والثاني: هو الشي ء المستقيم والممتدّ.

والمعروف من مشتقّات هذه المفردة هو المعنى الأوّل، وللمعنى الثاني مصطلحات خاصّة منها (شِراك) للحذاء، و (شَرَك) الطرق الضيّقة المستقيمة التي

تتفرّع من الطريق العام أو بمعنى القسم الأوسط من الطريق المستقيم، كما يعني الفخّ الذي ينصبه الصيّاد.

ويُصرّ بعض اللغويين على إرجاع المعنيين إلى المعنى الأوّل، إلّاأنّه لا يخلو من تكلّف، كما لا دليل يدعو للإصرار على ذلك «2».

وقد استُعمل (الشرك) في القرآن الكريم عادةً بمعنى الإعتقاد بوجود ندٍّ للَّه سبحانه والتوافق على وجود المثيل والشريك في الذات أو الصفات أو الخلق والتدبير أو المماثل له

__________________________________________________

(1) جاء هذا المضمون في آيات قرآنية اخرى مثل هود، 2؛ الإسراء، 23؛ يس، 60؛ فصّلت، 14؛ إضافة إلى آيات عديدة اخرى عبارات مختلفة تتعلّق بأهميّة التوحيد وقبح الشرك بجميع صوره وأشكاله، لو جمعت وفسّرت لتألّف منها كتاب كبير، وما ورد أعلاه هي النماذج المهمّة منها.

(2) راجع كتاب (التحقيق في كلمات القرآن الكريم)، صحيح أنّ أغلب الكلمات المشتركة ترجع إلى مصدر واحد ولكن لا يمكن القول أنّ ذلك يصدق في جميع الموارد، فقد تضع طائفتان كلمة واحدة لمعنيين متباينين دون أن تعلم إحداهما بالاخرى.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 108

في العبودية.

يقول الراغب في المفردات: الشرك في الدين ضربان:

أحدهما: الشرك العظيم وهو إثبات شريك للَّه تعالى وذلك أعظم كفر.

والثاني: الشرك الصغير وهو مراعاة غير اللَّه في بعض الامور وهو الرياء والنفاق «1».

«واحد»: مشتقّ من (وحدة) ويعني في الأصل- كما يقول الراغب في المفردات-: الشي ء الذي لا جزء له، ثمّ اتّسع استعماله حتّى أخذ يطلق على كلّ شي ء يتّصف بالوحدانية، ويضيف:

فالواحد لفظ مشترك يستعمل على ستّة أوجه: 1- ما كان واحد في الجنس أو في النوع كقولنا الإنسان والفرس واحد في الجنس وزيد وعمرو واحد في النوع.

2- ما كان واحداً بالاتّصال إمّا من حيث الحلقة كقولك شخص واحد وإمّا من حيث الصناعة

كقولك حرفة واحدة.

3- ما كان واحداً لعدم نظيره.

4- ما كان واحداً لامتناع التجزّي.

5- لمبدأ العدد كقولك واحد إثنان.

6- لمبدأ الخطّ كقولك النقطة الواحدة وإذا وصف اللَّه تعالى بالواحد فمعناه هو الذي لا يصحّ عليه التجزّي ولا التكثّر «2».

«وأحد وصف مأخوذ من الوحدة كالواحد، غير أنّ الأحد إنّما يطلق على ما لا يقبل الكثرة لا خارجاً ولا ذهناً ولذلك لا يقبل العدّ، ولا يدخل في العدد بخلاف الواحد فإنّ كلّ واحد له ثانٍ وثالثٌ إمّا خارجاً أو ذهناً [ك] قولك: ما جاءني من القوم أحد، فإنّك تنفي به مجي ء إثنين منهم وأكثر كما تنفي مجي ء واحد منهم بخلاف ما لو قلت: ما جاءني واحد منهم فإنّك إنّما تنفي به مجي ء واحد منهم بالعدد ولا ينافيه مجي ء إثنين منهم أو أكثر ...» «3».

__________________________________________________

(1) مفردات الراغب، ص 261 مادّة (شرك)، لسان العرب؛ التحقيق؛ مقاييس اللغة؛ جمهرة اللغة وكتب اخرى.

(2) مفردات الراغب، ص 551 مادّة (واحد)؛ لسان العرب؛ التحقيق؛ مقاييس اللغة؛ جمهرة اللغة وكتب اخرى.

(3) تفسير الميزان، ج 20، ص 387.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 109

واحتمل بعضٌ أنّ (أحد) يقابل المركب و (واحد) يقابل المتعدّد، غير أنّ المستفاد من موارد الاستعمال في القرآن أنّهما بمعنى واحد، وسنفصّل ذلك في المستقبل بإذن اللَّه.

جمع الآيات وتفسيرها

الذنب الذي لا يُغتفر:

تصرّح آية البحث الاولى بأنّ الشرك هو الذنب الوحيد الذي لا يغتفر حيث تقول: «إِنَّ اللَّهَ لَايَغفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ».

ومفهوم هذه العبارة هو أنّ جميع الذنوب الكبيرة والمظالم والجرائم والقبائح لو وضعت في كفّة ميزان ووضعَ الشرك في الكفّة الاخرى لرجّحت كفّة الشرك.

ولذا يقول ذيل الآية من أجل التأكيد أو إقامة الدليل: «ومَنْ يُشرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى

إِثْماً عَظِيماً».

ويعتقد بعض المفسّرين أنّ الآية نزلت في اليهود (بقرينة الآيات التي بعدها) حيث اتّحد بعضهم مع المشركين العرب وكانوا يقدّسون أصنامهم ويعتقدون- في الوقت ذاته- أنّهم من أهل النجاة!

ولو سلّمنا بسبب النزول هذا فإنّه لا يضيق دائرة مفهومها.

وقال بعض: إنّ الآية نزلت في جمع من المشركين (كوحشي قاتل حمزة عمّ النبي، وأمثاله) وقد ندموا على ما فعلوا بعد مدّة وكتبوا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «إنّا قد ندمنا على الذي صنعناه وليس يمنعنا عن الإسلام إلّاإذا سمعناك تقول وأنت بمكّة: «وَالَّذِينَ لَايَدعُونَ مَعَ اللَّهِ الهاً آخَرَ وَلَا يَقتُلُونَ النَّفسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ ...». (الفرقان/ 68)

وقد دعونا مع اللَّه إلهاً آخر وقتلنا النفس التي حرّم اللَّه وزنينا فلولا هذه لاتّبعناك فنزلت هذه الآية: «إِلَّا مَن تَابَ وعَمِلَ عَملًا صَالِحاً ...». (الفرقان/ 69)

فبعث بهم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إلى وحشي وأصحابه، فلمّا قرؤوها كتبوا إليه: إنّ هذا شرط شديد نخاف أن لا نعمل عملًا صالحاً فلا نكون من أهل هذه الآية فنزلت: «إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ ...» فبعث بها إليهم فقرأوها فبعثوا إليه: إنّا نخاف أن لا نكون من أهل مشيئته فنزلت:

نفحات القرآن، ج 3، ص: 110

«قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَاتَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ». (الزمر/ 53)

فبعث بها إليهم فلمّا قرأوها دخل هو وأصحابه في الإسلام ورجعوا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقبل منهم ...» «1».

على أيّة حال فإنّ الآية كما يقول كثير من المفسّرين- هي إحدى الآيات القرآنية التي تبعث روح الأمل حيث تقول: إنَّ الإنسان إذا خرج من الدنيا بإيمانه

فإنّه سوف لا ييأس من رحمة اللَّه، ولكن إذا خرج بلا إيمان أي في حالة شرك فإنّه لا سبيل له إلى النجاة.

الآية الثانية تتحدّث عن مضمون الآية السابقة ذاته مع فارق هو أنّها تقول في ذيلها:

«وَمَنْ يُشرِك بِاللَّه فَقَد ضَلَّ ضَلالًا بَعيداً»، والكلام في الآية السابقة دار حول الإثم العظيم وأمّا هنا فهو يدور حول الضلال البعيد، وهذان أمران متلازمان إذ أنّ الذنب كلّما كان أعظم فإنّه يبعّد الإنسان أكثر ويزيده ضلالًا.

والآية السابقة لاحظت الجانب العلمي والعقائدي من الشرك وهنا لاحظت الآثار العملية له، ومن الأكيد أنّ هذه الآثار تنشأ من تلك الجذور.

الآية الثالثة تحمل أوضح التعابير وأقساها عن عاقبة الشرك والانحراف عن التوحيد حيث تخاطب النبي الأكرم صلى الله عليه و آله: «لقد اوحِىَ اليكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِن أَشْركتَ لَيَحبطنَّ عَملُكَ وَلَتَكُوننَّ مِنَ الخاسِرينَ».

ومن الثابت أنّ رسول الإسلام صلى الله عليه و آله وكلّ نبي من الأنبياء، لم يسلكوا- لعصمتهم- طريق الشرك أبداً، إلّاأنّ الآية ومن أجل بيان أهميّة المسألة ولكي يحسب الآخرون حسابهم

__________________________________________________

(1) تفسير مجمع البيان، ج 3، ص 56.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 111

قامت ببيان أخطار الشرك بهذه الدرجة من الحزم.

واستناداً إلى هذه الآية فلو أفنى الإنسان حياته في العبادة وعبودية اللَّه ومارس الأعمال الصالحة ولكنّه أشرك في آخر عمره لحظةً واحدة ومات بتلك الحالة فإنّ أعماله سوف تُحبط، فالشرك بمنزلة صاعقة محرقة تَلتَهم حصيلة عمره وتصيّره رماداً، وكما أشار القرآن الكريم في الآية 18 من سورة إبراهيم إلى أنّه رماد اشتدّت به الريح في يوم عاصف.

«ليحبطن»: من (حبط) وأصله (حَبَط) ويطلق على الحيوان حينما يأكل الكلأ حتّى ينتفخ فيمرض ثمّ يموت، ثمّ استعمل في الأعمال

الكثيرة ذات المظهر الجميل ولكن باطنها فاسد وتؤول إلى الفناء «1».

وقد جاء نظير ذلك في (لسان العرب) و (مصباح اللغة)، غير أنّ لسان العرب ذكر أنّ أحد معاني (إحباط) هو جفاف ماء البئر وعدم توقّفه.

وفي (مقاييس اللغة) أنّ الأصل في معناه هو (البطلان) أو (الألم) كما أنّ (حبط) يطلق كذلك على الجرح بعد شفائه.

على أيّة حال فإنّ هذه المفردة في آية البحث والكثير من الآيات والروايات تعني محق ثواب الأعمال الصالحة وزوال آثارها الإيجابية.

وهناك أبحاث حول حقيقة حبط الأعمال وكيفيته ولكن لا مجال لبيانها.

أعظم الظلم:

نقرأ في الآية الرابعة تعبيراً مهولًا حول الشرك على لسان لقمان حينما كان يعِظ إبنه بقوله: «يَابُنىَّ لَاتُشرِكْ بِاللَّه انَّ الشِّرْكَ لَظلمٌ عَظِيمٌ».

ولقمان وإن لم يكن نبيّاً- كما هو المشهور- إلّاأنّه كان رجلًا حكيماً ومفكّراً للَّه وقد أيّد القرآن علمه وحكمته وجعل كلامه في عرض كلام اللَّه عزّوجلّ، وبالتأكيد أنّ مثل هذا

__________________________________________________

(1) مفردات الراغب، مادّة (حبط).

نفحات القرآن، ج 3، ص: 112

الرجل بعلمه وحكمته وإحساسه بمنتهى المسؤولية تجاه إبنه فإنّه يقدّم له أخلص النصائح والمواعظ.

النصيحة الاولى من النصائح العشر التي ينقلها القرآن الكريم عن هذا الرجل الحكيم لابنه هي النصيحة بالإحتراز المطلق من الشرك، ممّا يدلّل على أنّ الأساس في بناء الفرد والإصلاحات الفردية والاجتماعية والأخلاقية كلّها، هو مقارعة الشرك بكلّ أشكاله وصوره، وسيكون لنا كلام- بإذن اللَّه- في بيان العلاقة بين الشرك وبين هذه القضايا.

وقد احتمل البعض أنّ ابن لقمان كان مشركاً فنهاه أبوه ولكن- كما يقول بعض المفسّرين-: يمكن أن يكون الكلام على شكل تحذير وذلك لأهميّة القضيّة نظير ما ورد في الآية السابقة من تحذيرٍ إلهيٍّ للأنبياء.

والتعبير ب (ظلم عظيم) ذو مضمون كبير، فالظلم في الأصل يعني كلّ انحراف

عن الحقّ ووضع الشي ء في غير محلّه، وأسوأ أنواع الظلم هو الظلم الذي يكون بحقّ اللَّه، عباده ونفسه، وهكذا الشرك.

فأي ظلم وانحراف أشدّ من جعلهم موجودات لا قيمة لها بمستوى خالق السماوات والأرض وجميع الموجودات؟ وأي ظلم أشدّ على عباد اللَّه من انحرافهم عن جادّة التوحيد النورانية إلى ظلمات الشرك؟ وأي ظلم أشدّ على النفس من أن يؤجّج الإنسان ناراً ليحرق فيها حصيلة أعماله الصالحة ويُحوّلها إلى رماد؟!

السقوط الموحش:

تصرّح الآية الخامسة بعد أنْ أمَرت المسلمين بأن يكونوا موحّدين مخلصين وأن يتركوا طريق الضلالة والشرك ومن خلال تشبيه ذي معنى كبير: «وَمَنْ يُشرِك بِاللَّه فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيرُ أَوْ تَهوِى بِهِ الرِّيحُ فِى مَكانٍ سَحِيقٍ» «1».

__________________________________________________

(1) «تخطف» من «خطف» وهو الاستلاب بسرعة و (سحيق) من (سحق) وهو طحن الشي ء وقد تعطي هذه المفردة معنى (الملابس البالية) أو (المكان البعيد) والأخير هو الأنسب في مورد الآية من غيره.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 113

وقد شبّهت الآية (الإيمان) ب (السماء العالية) و (الشرك) ب (السقوط من هذه السماء) [لاحظوا أنّ (خرّ) كما يقول اللغويون: يعني السقوط المقرون بضجّة وليس المجرّد منها!].

وليس هذا السقوط سقوطاً بسيطاً بل مكتنف بخطرين عظيمين هما:

أنّ الساقط إمّا أن يكون فريسة للطيور الكاسرة أو يتلاشى بسبب هبوب الرياح العاصفة التي تقذفه في مكان بعيد عن الماء والمناطق المسكونة.

وهذه العبارات المخيفة توضّح الأبعاد الخطيرة والكبيرة للشرك.

وهذه الطيور في الحقيقة هي الصفات القبيحة الباطنية أو الفئات المنحرفة في الخارج والتي تنصب الكمين لتجذب من ينحرف عن جادّة التوحيد، و (الريح) هي تلك الشياطين الذين عبرت عنهم تعالى: «أَلَم تَرَ أَنّا ارسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الكَافِرينَ تَؤُّزُهُم أَزّاً».

(مريم/ 83)

حيث تتجه نحو المشركين وتضع السلاسل في

رقابهم وتسحبهم إلى كلّ جانب، أو أنّها العواصف الاجتماعية العاتية والفتن السياسية والفكرية والأخلاقية التي لا يصمد أمامها إلّا من ثبتت قدماه في طريق التوحيد.

في الآية السادسة يُؤمر النبي صلى الله عليه و آله بتبيان المحرّمات للناس وفي مقدّمتها الشرك حيث تقول: «قُلْ تَعالَوا اتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكمْ عَلَيكُمْ ...» «1».

ثمّ تذكر أوامر إلهيّة عشرة عرفت ب (أوامر النبي العشرة)؛ وأوّلها هو الدعوة إلى التوحيد حيث تقول: «الّا تُشرِكُوا بِهِ شَيئاً» راجع التفسير الأمثل للإطّلاع على الشروح والأوامر التسعة المتبقّية في ذيل هذه الآيات.

__________________________________________________

(1) «تعالوا» من «علو» ويعني أن يقف شخص على مرتفع ثمّ يدعو الآخرين إليه (أي أصعدوا) ثمّ توسّع استعماله وشمل كلّ دعوة (تفسير المنار، ج 8، ص 183) ومن الممكن أن يكون المراد في هذه الدعوات الإلهيّة هو المعنى الأصلي حيث يريد النبي أن يصعد بالناس إلى مستوى أرفع وأسمى.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 114

الجنّة محرَّمة على المشركين:

الآية السابعة تشير بتعبير جديد إلى خطر الشرك، حيث تنقل عن السيّد المسيح عليه السلام خطابه إلى بني اسرائيل: «إِنَّهُ مَنْ يُشرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَليهِ الجَنّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ».

وفي الجملة الاولى يلاحظ ذكر لفظ الجلالة كما يلاحظ تكرارها في الجملة الثانية:

«فَقَد حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيهِ الجنّةَ»، وهي تقتضي استعمال الضمير، وذلك للتأكيد على أهميّة المسألة.

وتضيف الآية في ذيلها: «وَمَا لِلظّالِمينَ منْ أَنصارٍ».

وهذا دليل آخر على ظلم المشركين وليس لأحد الجرأة في الدفاع عنهم يوم القيامة.

اللَّه بري ء من المشركين:

نواجه في الآية الثامنة قضيّة جديدة بهذا الصدد حيث تخاطب المؤمنين: «يَاايُّها الَّذِينَ آمَنوا انَّما المُشْرِكُونَ نَجَسٌ» ثمّ تقول: «فَلَا يَقرَبوا المَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعدَ عَامِهِم هَذَا».

وتتضمّن الآية التأكيد على عدّة جهات:

الأول: أنّها استعملت (إنّما) والتي تدلّ على الحصر، ومفهومها أنّ المشركين ليسوا إلّا موجودات فاسدة ونجسة وفي ذلك أكبر تأكيد ومبالغة،

والثاني: أنّ (نَجَسْ) يتضمّن معنى المصدر، أي أنّ المشركين هم عين النجاسة! كما يقال فلان عين العدل، وهذا غاية في المبالغة «1».

والثالث: أنّها لم تقل: «فلا يُدْخُلُوا المَسجِدَ الحَرامَ» بل «فلا يقربوا» بمعنى أنّ المشركين من القذارة ما يخشى على هذا المكان المقدّس أن يتعرّض لها عند اقترابهم منه!

__________________________________________________

(1) «نَجسْ» مصدر و «نجِس» صفة وهذه الكلمة كما يقول الراغب في المفردات:

النجاسة: القذارة وذلك ضربان: ضرب يدرك بالحاسّة وضرب يدرك بالبصيرة (المفردات مادّة (نجس)، ص 503) وفي التفسير مجمع البيان، ج 5، ص 20 كلّ مستقذر نجس، يقال: رجل نجس وامرأة نجس، المجمع.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 115

في الآية التاسعة التي نزلت- مع مجموعة من الآيات في السنة التاسعة للهجرة- بصفتها إعلاناً عامّاً، نلاحظ إشارة إلى نقطة اخرى امر أميرالمؤمنين عليه السلام بتلاوتها على الناس في مواسم الحجّ: «وَاذَانٌ

مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكبرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِى ءٌ مِّنَ المُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ» «1».

والتعبير بالبراءة من قبل اللَّه ورسوله من المشركين بوصفه إعلاناً عامّاً في أكثر أيّام الحجّ حساسية دليل على النفور من المشركين وبيان لضخامة معصية الشرك بأجلى صوره.

ونلاحظ في الآية العاشرة تعبيراً جديداً، حيث اعتبرت المشرك والمشركة في عرض الزاني وقال: «الزَّانِى لَايَنْكِحُ إِلَّا زَانِيةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَايَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ ...».

وهذا التعبير سواء كان لبيان حكم شرعي وإلهي وهو حرمة الزواج من أهل الزنا والشرك أو كان إشارة إلى واقع خارجي وهو أنّ القذر يتبع القذر دائماً، والطيور على أمثالها تقع فهو شاهد بليغ على قبح معصية الشرك، لأنّها اعتبرت المشركين كالملوّثين بالزنا والفاقدين للقيم الخُلُقية والسجايا الإنسانية.

والحديث الوارد عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله: «لا يزني الزاني حِينَ يزني وهوَ مؤمنٌ ولا يَسرقُ السارقُ حين يسرقُ وهو مؤمنٌ فإنّه إذا فعلَ ذلك خُلِعَ عنهُ الإيمانُ كَخَلع القَميص» «2»

، وهناك شاهد آخر على العلاقة بين هذين، وسيأتي شرحُهُ بإذن اللَّه.

__________________________________________________

(1) فسّر الكثير من المفسّرين (يوم الحجّ الأكبر) بعيد الأضحى وهو أهمّ أيّام الحجّ، والروايات الواردة عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام وأبناء السنّة تؤيّد هذا المعنى، في حين فسّره بعضهم بيوم عرفة وبعضهم الآخر بمجموع أيّام الحجّ التي يطلق عليها (الحجّ الأكبر) وتقابل العمرة وهي (الحجّ الأصغر)، وقد خصّصها آخرون بسنة نزول الآية حيث شارك المسلمون والمشركون في مراسم الحجّ في تلك السنة، وواضح أنّ التفسير الأوّل هو الأرجح من هذه الاحتمالات الأربعة.

(2) تفسير نور الثقلين، ج 3، ص 571، ح 20.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 116

ومن الواضح أنّ زواج المؤمنين من المشركين باطل وحرام،

وأمّا الزواج بأهل الزنا فإنّ بعضاً يرى بأنّهم إن اشتهروا به ولم يتوبوا كان الزواج بهم باطلًا أيضاً.

والأحاديث العديدة التي نقلت عن النبي صلى الله عليه و آله والإمام الباقر عليه السلام والإمام الصادق عليه السلام شاهد آخر على هذا المعنى.

وقد كتب بعض المفسّرين في شأن نزول هذه الآية ما يلي: أنّ رجلًا من المسلمين استأذن النبي صلى الله عليه و آله في أن يتزوّج (امّ مهزول) وهي إمرأة كانت تسافح ولها راية على بابها تعرف بها، فنزلت الآية «1».

الآية الحادية عشرة بيّنت أهميّة التوحيد وقبح الشرك ولكن بتعبير آخر، حيث وجهت أمراً إلى النبي الأكرم صلى الله عليه و آله «قُل انَّما امِرْتُ انْ اعْبُدَ اللَّهَ وَلَا اشْرِكَ بِهِ».

والتعبير ب (إنّما) الدالّة على الحصر عادةً دليل على أنّ دعوة النبي صلى الله عليه و آله تتلخّص في قضيّة التوحيد ورفض الشرك «2»، وهو الحقّ، لأنّ التوحيد قوام التعليمات السماوية كلّها، كما أنّ الشرك هو أساس الوساوس الشيطانية كلّها.

وتؤكّد الآية في ذيلها تأكيداً مضاعفاً: «إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيهِ مَآبِ».

الآية الثانية عشرة تتحدّث عن النبي نوح عليه السلام وهو أوّل الأنبياء من اولي العزم حيث جعل الأساس في دعوته هو الدعوة إلى التوحيد ورفض الشرك، والملاحظ أنّ هذا التعبير ورد أيضاً عن الكثير من الأنبياء، قال تعالى: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ إِنِّى لَكُمْ نَذيرٌ

__________________________________________________

(1) تفسير مجمع البيان، ج 7، ص 125.

(2) ولو افترضنا هذا الحصر حصراً إضافياً فإنّه يدلّ أيضاً على أنّ العبودية كلّها تتلخّص في العبودية للَّه (فتأمّل جيّداً).

نفحات القرآن، ج 3، ص: 117

مُّبِينٌ» وتضيف: «أَن لَّاتَعْبُدوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ».

وتكرار هذا الكلام من قبل الأنبياء من لدن نوح وحتّى

رسول الإسلام الأكرم صلى الله عليه و آله دليل على أنّ السنام الأعلى في دعوة الأنبياء، هو قضيّة التوحيد ومقارعة الشرك وهو القاسم المشترك بين الديانات السماوية، ولذا نقرأ في قوله تعالى: «قُل يَا أهْلَ الكِتَابِ تَعَالوا إِلَى كَلِمةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنا وَبَينَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشرِكَ بهِ شَيْئاً وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّنْ دُونِ اللَّهِ». (آل عمران/ 64)

وهذا أصل ثابت لم يتغيّر بمرور الزمان ولم يكن أمراً وقتياً، بل هو الأساس الثابت في الديانات السماوية كلّها، وكلّ ما يتعرّض له أهل الديانات المختلفة من مآسٍ، ناشي ء من الانحراف عن هذا الأصل.

وفي الآية الثالثة عشرة تعبير جديد عن هذا المعنى وتلخّص دعوة الأنبياء عليهم السلام باستخدام الأداة (إنّما) الدالّة على الحصر في قضيّة التوحيد حيث تقول: «قُلْ انَّمَا يُوحى اليَّ انّمَا الهُكُم إِلهٌ وَاحِدٌ فَهَل انتُم مُّسلِمُونَ».

إبراهيم عليه السلام الأسوة الحسنة في مقارعة الشرك:

الآية الرابعة عشرة تذكر هذا المضمون في قالب جميل آخر حيث تعرّف النبي إبراهيم عليه السلام المقدام والمكسِّر للأصنام بالقدوة في الدفاع عن قضيّة التوحيد ومحاربة الشرك محاربة لا هوادة فيها حيث قالت: «قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ»، ثمّ تقدّم توضيحاً عن الاسوة الحسنة هذه بقوله تعالى: «إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ ...»، وأضافت- للتأكيد المكرر- «كَفَرْنَا بِكُمْ ...».

نفحات القرآن، ج 3، ص: 118

إنّ الكفر بالأشخاص يعني إعلان البراءة منهم، لأنّ هذه المفردة (الكفر) ذات معانٍ خمسة حسب الروايات الإسلامية، أحدها كفر البراءة، ولم تكتفِ بذلك بل أضافت: «وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ العَدَاوَةُ وَالبَغضَاءُ أَبداً حَتّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وحدَهُ».

وإنّ هذه التعابير (البراءة أوّلًا ثمّ إعلانها ثمّ الإعلان عن العداوة الدائمة) لشاهد صريح على صلابة الموحّدين

تجاه القذرين الملوثين بالشرك وعبادة الأوثان، وحينما نلاحظ أنّ القرآن يذكر كلام النبي إبراهيم عليه السلام وأتباعه كقدوة للمسلمين فإنّ ذلك يعني أنّ الإسلام لا يعرف أيّة مهادنة بين التوحيد والشرك في أيّة مرحلة.

ومن التعمّق في تعبير الآية تنكشف الأهمّية البالغة لهذه القضيّة، فالتعبير ب (قومهم) دليل على أنّ غالبية القوم هم من عبدة الأصنام وأنّ الموحّدين قليلون، ويبدو أنّ هذا الحوار جرى في (بابل)، التي هي مركز عبدة الأصنام في ظلّ سلطة الطاغية (النمرود)، ولم تعمد هذه المجموعة الصغيرة المؤمنة إلى مسايرة الوضع السائد، ولم تعمل بالتقيّة تجاه المشركين في مسألة التوحيد.

ففي جانب تقول: «إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ».

و في جانب آخر: «كَفَرْنَا بِكُمْ ...».

و في ثالث: (نتبرّأ مِن أصنامكم).

ومن جهة: (انّا نعتبركم أعداءً لنا).

و من أخرى: (إنّا نُكِنُّ لكم العداء).

وفي كلّ جملة من الآية تعبير جديد عن عدم المداهنة والمسالمة.

والفرق بين (العداوة) و (البغضاء)- كما هو المستفاد من كلمات اللغويين- هو أنّ (العداوة) لها جانب عملي في الغالب، أمّا (البغضاء) فلها جانب قلبي، وإن استعمل كلّ منهما مكان الآخر.

وبهذا أعلنوا أنّهم بُراءٌ من الشرك بكلّ وجودهم وصامدون أمامه مهما كانت الظروف، وينبغي أن يكون ذلك اسوة حسنة لكلّ المؤمنين في العصور كلّها.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 119

و «الاسوة»: تعني في الأصل- كما ورد في (مقاييس اللغة): العلاج والإصلاح، ولذا يطلق على الطبيب (آسي).

و «أسى : تعني الغمّ والحزن، ومن المحتمل أن يكون بسبب اقتران علاج المريض والجريح- عادةً- بالغمّ والوجع، ومن ثمّ استعملت بمعنى الإتّباع والمتابعة نظراً لاستدعاء العلاج وإصلاح المتتابَعيْن.

إلّا أنّ الراغب في مفرداته يعبّر عن المعنى الأصلي ل (اسوة) قائلًا بالاتّباع في الصالحات أو السيّئات «1».

يتّضح من الآيات الأربع عشرة المتقدمة والتي كثرت

نظائرها في القرآن الكريم أنّ قضيّة التوحيد والشرك هي القضيّة المركزية والمهمّة في نظر القرآن بشكل لا تجوز معه أيّة مداهنة أو مهادنة أو محاباة مع الشرك والمشركين، ولابدّ من اجتثاث جذور الشرك بجميع صوره، فإنّ تحقّق ذلك عن طريق التعليم الثقافي والمنطق والاستدلال فهو وإلّا فإنّ الواجب هو الحزم العملي تجاهه.

إنّ التوحيد رأس مال المؤمن والبضاعة المرموقة في سوق القيامة، والشرك ذنب لا يغتفر، والمشرك موجود قذر يجب التبرّء منه كلّياً حتّى يعدل عن انحرافه ويعود إلى الإيمان.

توضيح

لماذا هذا الإهتمام الكبير بقضيّة التوحيد والشرك؟

نحن نعلم بصورة إجمالية إنّ للإسلام بل والديانات السماوية كلّها حسّاسية غير

__________________________________________________

(1) يعتقد البعض أنّ (أسى يستعمل كفعل ناقص واوي ويائي، فإن كان ناقصاً يائياً فإنّه يعني الحزن والغمّ، ولذا تطلق المأساة على الفاجعة العظيمة، ولو كان ناقصاً واوياً فهو يعني المعالجة والإصلاح.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 120

اعتيادية تجاه الشرك، غير أنّ الدليل على ذلك ليس واضحاً للكثير، ويمكن تقديم أربعة أدلّة أساسية على هذه الحساسية والإهتمام بقضيّة التوحيد والشرك المصيرية:

1- التوحيد هو الأساس لمعرفة صفات اللَّه ولا يمكن إدراك الصفات دون ملاحظة أصل التوحيد، لأنّ وحدانيته- كما سيأتي توضيحها- تنشأ من لا محدوديته، والوجود جامع لكلّ الكمالات وخالٍ من كلّ عيب ونقص، والحقيقة أنّنا لو عرفناه بتوحيده الحقيقي فسوف نعرف صفاته كلّها، بَيدَ أنّ الإعتقاد بالشرك هو الذي يصدّنا عن ذلك.

2- فروع التوحيد تبلغ عالم الوجود ذات اللَّه المقدّسة، حيث أنّ عالم الوجود واحد وهو متّصل الأجزاء وتحتاج معرفته الصحيحة إلى دراسة أجزائه مجتمعة، ولو تصوّرنا موجودات العالم كوجودات متفرّقة فإنّا سوف نخطى ء كثيراً في معرفة العالم وإذا سألنا أنفسنا: من أين تلقّينا هذا الدرس، وهو أنّ عالم الوجود كتلة واحدة؟

الجواب: من وحدانية اللَّه،

لأنّ وحدة اللَّه دليل على وحدة العالم، ووحدة العالم دليل على وحدته تعالى: «مَا تَرَى فِى خَلْقِ الرَّحْمنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ». (الملك/ 3)

3- إنّ أهمّ العناصر التي تبعث على تطوّر العالم الإنساني وتكامله هو وحدة المجتمع البشري، فالاختلاف والتفرّق- كان وسيبقى- هو العامل على الدمار والضعف والتخلّف، في حين يشكل الإتّحاد والوحدة الحجر الأساس للقوّة والإقتدار والعمران والبناء.

إنّ الإيمان باللَّه بمثابة حلقة الوصل التي تؤلّف بين الملايين من البشر وتزيل الفوارق العنصرية والجغرافية والقومية واللغوية.

إنّ سبب الانحراف عن أصل التوحيد والإيمان جَعَل كلّ قبيلة عربية في زمن الجاهلية تعبد صنماً يختلف عن أصنام القبائل الاخرى وهم في غاية الضعف والانحطاط، فجاء الإسلام وحطّم الأصنام وربط القلوب بحبل التوحيد في فترة قصيرة وصنع منها مجتمعاً قويّاً ومتطوراً ذا حكومة امتدّت لتشمل العالم فضلًا عن الجزيرة العربية.

4- التربية على الأخلاق والقيم الإنسانية تتوفّر في ظلّ التوحيد أيضاً لأنّ الأساس في

نفحات القرآن، ج 3، ص: 121

الأخلاق الفاضلة هو الإخلاص وتنزيه القلب من الشرك، والأساس هو جعل الدوافع العملية دوافع إلهية فقط، أي التحرّك من أجله فقط والجهاد في سبيله والسير نحوه والإحتراز من أي دافع آخر.

فالتوحيد هو الذي يعلم الإنسان درس الإخلاص في النيّة، درس مقارعة كلّ رياء وشرك، ومحاربة هوى النفس والجاه والدنيا والشيطان.

وبهذا ترى كلًا من التوحيد والشرك يترك تأثيره العميق على العقائد والأعمال والنيّات والأخلاق في الفرد والمجتمع.

ولذا وجّه الإسلام إهتماماته تجاه هذه القضيّة، وهنا نختم البحث بحديثين:

في حديث عن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه قال لعبداللَّه بن مسعود: «يا ابن مسعود: إيّاك أن تشرك باللَّه طرفة عين، وإن نشرت بالمنشار أو قطّعت، أو سلِبت أو

احرِقت بالنار» «1».

وفي هذا الحديث الشريف تبرز الأهميّة القصوى للتوحيد.

وفي حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام: «انّ بني اميّة أطلقوا للناس تعليم الإيمان ولم يطلقوا تعليم الشرك لكي إذا حملوهم عليه لم يعرفوه» «2».

وهذا الحديث شاهد واضح على أنّ الشرك يمكن أن يكون وسيلة هدّامة سياسياً واجتماعياً بيد فئة ظالمة، وفي المقابل يمكن أنْ يقوم الإيمان بالتوحيد وفروعه باجتثاث جذور هؤلاء الظالمين.

نتطرّق في بحث التوحيد لمهمّتين:

الاولى: أنّ ذات اللَّه لا تتركّب من أجزاء (خارجية أو عقلية).

والثانية: هي أنّ ذاته لا شبيه لها ولا مثيل، لذا فهو واحد من كلّ جهة.

ونجد في القرآن أدلّة في هذا المجال منها:

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار، ج 74، ص 107.

(2) أصول الكافي، ج 2، ص 415، ح 1.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 123

دلائل التوحيد

اشارة

1- شهادة الفطرة على وحدانية اللَّه (عزّ وجلّ)

2- تناسق العالم

3- دليل صرف الوجود

4- دليل الفيض والهداية

نفحات القرآن، ج 3، ص: 125

1- شهادة الفطرة على وحدانية اللَّه (عزّ وجلّ)

تمهيد:

ذكرنا في مستهلّ هذا الجزء وفي بحث «استخدام برهان الفطرة في مسألة معرفة اللَّه» أنّ هذا البرهان يمكن أن يكون نافعاً ومرشداً في البحث عن صفات اللَّه، بل وفي مسألة النبوّة والمعاد، ولهذا لنا عهد عملي مع هذا البرهان حيث نراجعه في أغلب المباحث.

وفي بحث وحدانية ذات اللَّه وصفاته يمكن أن يكون هذا البرهان مفيداً، أي أنّنا وفي أعماق الروح والقلب لا نسمع نداء وجوده فحسب بل لا يوجد في أعماق الروح نداء آخر.

فعندما تبلغ المشكلات والإبتلاءات ذروتها وحينما توصد أبواب عالم الأسباب أمامنا يقرع أسماعنا هدير التوحيد في أعماق وجودنا ويدعونا إلى (المبدأ الواحد) ذي القدرة التي تفوق المشكلات وتتجاوز عالم الأسباب كلّه.

وهناك آيات قرآنية عديدة تشير إلى هذا المضمون، وبما أنّنا ذكرنا بعض هذه الآيات بصورة مفصّلة في بحث (إثبات وجود اللَّه) فسنشير إليها هنا باختصار ونمعن خاشعين في عدد من الآيات:

1- «فَإِذَا رَكِبُوا فِى الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البِرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ». (العنكبوت/ 65)

2- «وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذاقَهُمْ مِّنْهُ رَحْمةً إِذا فَريقٌ مِّنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ». (الروم/ 3)

3- «قُلْ أَرَأَيْتَكُم إِنْ اتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ اتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ

نفحات القرآن، ج 3، ص: 126

صَادِقِينَ* بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيهِ ان شَاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ».

(الأنعام/ 40- 41)

4- «وَمَا بِكُمْ مِّنْ نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ* ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُرَّ عَنْكُمْ اذَا فَرِيقٌ مِّنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ». (النحل/ 53- 54)

5- «قُلْ

مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِّنْ ظُلُماتِ البَرِّ والبَحرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وخُفْيَةً لَّئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ* قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِّنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ».

(الأنعام/ 63- 64)

جمع الآيات وتفسيرها

حينما يشرق نور التوحيد:

بما أنّ تفسير الآية الاولى والثانية قد مرَّ في مقدّمة الكتاب خلال بحث الاستدلال على معرفة اللَّه عن طريق الفطرة فإنّا نذكرهما باختصار.

الآية الاولى تتحدّث عن أشخاص يدعون اللَّه سبحانه باخلاص عند ركوب السفينة، والآية الثانية تطرح القضيّة بصورة عامّة وتتحدّث عن أشخاص يدعون اللَّه عند مواجهة ضَنَك الحياة وتحيط بهم أمواج المشكلات فيتركون الأصنام التي نحتوها ويَلجأون إلى ظلال لطفه، ولكن بعد إذاقتهم حلاوة رحمته تسلك جماعة منهم طريق الشرك مرّة اخرى، ومن الملاحظ أنّ في الآيتين تركيزاً على الإخلاص والإنابة حيث يتمسّك بهما أغلب الناس عند هبوب عواصف الأحداث إضافةً إلى التركيز على حالة الرجوع إلى الشرك لدى جماعة كبيرة بعد سكون هذه العواصف.

وبهذا يشير القرآن الكريم إلى أنّ معرفة اللَّه من مكنونات الفطرة الإنسانية وهكذا التوحيد في العبادة، ويعتبر الشرك ظاهرة تنشأ من الحياة المترفة، ومن خلال دراسة سطحية وعابرة لعالم الأسباب، وعند تغيّر الظروف الإعتيادية للحياة وظهور عدم فاعلية عالم الأسباب يقوم الإنسان بقطع أمله منها وتبرز فطرة عبادة الواحد من وراء سحب العادات المعاشة والغفلة.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 127

إنّ هذه الآيات تبلَّغ نداء الفطرة إلى الغافلين من بني الإنسان عن طريق واضح وتوصل الإنسان إلى حيث لا يوجد صخب عالم الأسباب ولا الغرق في لذّات الحياة.

نعم في مثل هذه البيئة الطبيعية والهادئة يسمع نداء الوجدان الذي يلقّنه درس معرفة اللَّه وعبادة الواحد ولكن هذا النداء يضعف ويعجز عن بلوغ الأسماع حينما يمتلي ء الجوّ بصخب اللذّات الماديّة وعالم الأسباب.

هذه الآيات الشريفة

تمسك بيد الإنسان تارةً وتلقي به في وسط الأمواج العاتية وتمسك بيده تارةً اخرى لتودعه خلف قضبان السجن وميدان الأمراض المستعصية وطرق مسدودة تبعث اليأس في الحياة، مكان تخمد فيه أصوات الشياطين من الجنّ والإنس ويسمع فيه نداء الوجدان والفطرة فقط، ما أجمل وأروع هذا النداء وهذا الصوت!

الآية الثالثة تخاطب المشركين وتدعوهم إلى فطرة عبادة الواحد، وبتعبير آخر تقول:

«قُلْ أَرَأَيْتَكُم إِنْ اتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ اتَتْكُمُ السَّاعَةُ اغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقينَ».

والمراد من عذاب اللَّه هو عذاب الدنيا والمراد من (أتتكم الساعة) هو ظهور أشراط الساعة (وهي علامات نهاية العالم الموحشة جدّاً وابتداء يوم القيامة) التي أخبر عنها القرآن الكريم في آيات عديدة واعتبرتها مقرونة بالخوف والوحشة الشديدَين.

إنّ الكثير من المشركين- طبعاً- لم يؤمنوا بالقيامة وأشراط الساعة غير أنّهم كان بوسعهم تصديق نزول العذاب الإلهي وذلك بملاحظة الآثار التي خلّفتها الامم السابقة في أطراف الحجاز والجزيرة العربية، وهذا هو أحد أساليب الفصاحة حيث يبيّن القائل قضيّة صادقة لا يتقبّلها المخاطب مقرونة بما يقبله في عبارة واحدة كي يثبتا معاً.

ولا ينتظر القرآن ليستمع إجابتهم عن هذا السؤال بل يجيب عنه بما ينبغي عليهم بيانه ويقول: «بَل إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيهِ ان شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ».

وقد أسلفنا أنّ الكثير من المفسّرين فسّر جملة (أرأيتكم) بمعنى (أخبروني)، ولكن

نفحات القرآن، ج 3، ص: 128

الظاهر هو الإحتفاظ بالمعنى الرئيس للجملة وتفسيرهم هذا يلازمه (المعنى الرئيس للجملة هو: هل شاهدتم؟ هل فكّرتم؟) «1».

على أيّة حال فإنّ القرآن في هذه الآيات يُلزم المشركين بأعمالهم ويحاججهم بها.

اللجوء إلى اللَّه في الشدائد:

الآية الرابعة تطرح هذه القضيّة في قالب جميل آخر فتقول: «وَمَا بِكُمْ مِنْ نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ»، فماذا صنعت لكم الأصنام ومعبوداتكم

المزيّفة؟ وأي رزق بَسَطتهُ لكم وأيّة هدية وهبتها لكم؟

هذه الأصنام التي تحتاج إليكم في صنعها وبقائها (حيث يجب أن تنحتوها وتحافظوا عليها) أيّة بركة وموهبة وهبتها لكم؟

وتضيف الآية: «ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُرُّ فَإِلَيهِ تَجْئَرُونَ».

«تجأرون»: من مادّة (جُئار) وتعني في الأصل أصوات الوحوش والحيوانات في الصحارى دون اختيار منها عندما تحس بالألم، ثمّ استعملت كناية عن الأنين والإستغاثة والصرخة التي تصدر من الإنسان حينما يواجه المشكلات.

يقول الراغب في مفرداته:

ومن الواضح أنّ الإنسان يرجع إلى فطرته في هذه الحالة وتتكسّر القيود والسلاسل المفتعلة وتنهار الأبنية الوهمية ويبقى الإنسان مع فطرته، الإنسان ووجدانه الصريح ويتّجه صوب نقطة واحدة، نعم نقطة واحدة نسمّيها (اللَّه) عزّوجلّ.

انتبهوا إلى جملة (إليه تجئرون) فهي تتضمّن معنى الحصر والدلالة على الوحدانية، أي أنّكم تتوسّلون إليه فقط وتطلبون منه حلّ مشاكلكم.

وتضيف: «ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ»، وفي التعبير

__________________________________________________

(1) الاولى تعني الرؤية بالعين المجرّدة والثانية تعني الرؤية القلبية.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 129

ب (فريق) إشارة إلى أنّ فريقاً آخر سيغيّر مسيرته بعد هذا الحادث حقّاً، وتبدأ صفحة جديدة في حياته ويستبدل الشرك بالتوحيد في العبادة، وهذا هو أحد الحِكَم في وجود الآفات والإبتلاءات والأوجاع والآلام التي يكرهها البشر وفيها إيقاظ لفريق وتربيتهم «1».

«ضُرّ»: و (ضَرّ) لهما معنى واحد كما يعتقد بعض اللغويين، ومفهومهما هو كلّ ما ينافي النفع، وقد فسّر بعض الأوّل بمعنى سوء الحال، والثاني بمعنى الضرر.

ويقول الراغب في المفردات:

«الضُرّ»: سوء الحال إمّا في نفسه لقلّة العلم والفضل والعفّة، وإمّا في بدنه لمرض أو نقص وإمّا في حالة ظاهرة من قلّة مال وجاه «2».

على كلّ حال فهذا اللفظ مضمون واسع حيث يشمل المصائب والأمراض والنقائص والآلام.

وينبغي

ملاحظة هذه النقطة وهي أنّ (الكشف)- كما جاء في لسان العرب- تعني رفع الحجاب عن الشي ء المستور، ويلازمه ظهور ذلك الشي ء ثمّ استعمل في رفع الغمّ والحزن والإبتلاءات وكأنّ هذه الامور تمثّل حجباً على روح الإنسان وجسمه وتُرفع من قبل الإنسان وغيره.

النور الوهّاج في الظلمات:

في الآية الخامسة والأخيرة التي نبحثها نلاحظ أنّ محتوى الآيات السابقة نفسه ولكن في اطار جديد وجميل حيث تقول: «قُلْ مَنْ يُنجِّيكُمْ مِّنْ ظُلُماتِ البَرِّ والبَحرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً»، في هذه الحالة تنأى عنكم المعبودات المزيّفة وتلجأون إلى لطف اللَّه وحده وتقولون: «لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ».

__________________________________________________

(1) احتمال البعض من أنّ «من» في «فريق منكم» بيانية لا تبيعية بعيد جدّاً ويخالف ما ورد في الآية 32 من سورة لقمان (فلمّا نجّاهم إلى البرّ فمنهم مقتصد) راجع تفسير روح المعاني ذيل هذه الآية.

(2) لسان العرب؛ مجمع البحرين؛ مفردات الراغب.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 130

والتعبير ب «ظلمات البرّ والبحر» تعبير جميل يمكن أن يكون إشارة إلى الظلام الظاهري الذي يحدث في الليل أو عند هبوب الأعاصير والرياح المحملة بالغبار وعند ظهور السحب السوداء في السماء، وهذا الظلام مرعب ومخيف وخاصّة إذا كان في البحر والصحراء، أو حصول الخوف من هجوم الحيوانات الوحشية في الصحراء.

ويمكن أن يكون له- كما ذكر ذلك بعض المفسّرين- معنى كنائي فيشمل المشكلات والشدائد والآلام «1».

كما يحتمل تضمّن الآية الظلامين: الظلام الظاهري الذي يفرض الوحشة على الإنسان والظلام المعنوي الموحش المؤلم أيضاً، وعلى كلّ حال فإنّ هذه الآلام تحصل في السفر غالباً، والآية تقصد هذا المعنى أيضاً.

والتعبير ب «تضرّعاً وخفية» تعبير جميل أيضاً لأنّ (التضرّع) يعني الدعاء والطلب الصريح وإظهار التذلّل «2»، في حين تشير (خفية) إلى الدعاء

الكامن في أعماق القلب، ويحتمل أن يقصد التعبيران الحالتين في الإنسان، حيث يدعو اللَّه في قلبه حينما تبدو ظلمات المشكلات، وعندما يُبتلى بمشكلات عويصة وكبيرة يقوم بإظهار ما في قلبه ويتضرّع إلى اللَّه ويلتمسه.

ومن المحتمل أن يقصد هذا التعبير حالات الفئات المختلفة، فبعضها تدعو اللَّه جهاراً في مثل هذه الأحوال وبعضها تدعوه خفاءً وكأنّها تشعر بالخجل أمام الأصنام! أو من الناس الذين عرفوا أنّها تعبد الأصنام فلماذا لا تلجأ إلى الأصنام في المشكلات؟! على كلّ حال فإنّها ترجع إلى فطرتها في مثل هذه الأحوال وتستضي ء قلوبها بنور التوحيد وعبادة الواحد، وترفض كلّ ما سواه وتنسى كلّ ما يذكرها به وتستيقن بأنّ الأصنام ليست أهلًا، وعبارة الأصنام لا فائدة فيها ولا سبيل إلّاالتوحيد.

في مثل هذه الأحوال تعاهد اللَّه وتنذر وتتعهّد بأنّه إذا نجاها من هذه الشدائد والآلام

__________________________________________________

(1) تفسير الميزان، ج 7، ص 136؛ وتفسير في ظلال القرآن، ج 3، ص 269.

(2) مفردات الراغب: تضرّع، أظهر الضراعة.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 131

وأذاقها حلاوة اللطف والرحمة فإنّها ستبقى شاكرة ومدينة ورهينةً للطفه، ولكنّها بعد الخلاص من المضائق تنسى- في الغالب- كلّ عهودها وتعهّداتها، كما يشير إلى ذلك ذيل الآية: «قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِّنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ» «1».

وكما ذكرنا فإنّ هذه الحالة هي حالة أغلب المشركين، وأمَّا الفئة التي لها قابلية أكبر فإنّها تتيقّظ بصورة دائمة وتبصر طريقها وتهجر الشرك.

من مجموع الآيات التي ذكرت تظهر هذه الحقيقة وهي: أنّ القرآن الكريم لا يعدّ غريزة المعرفة الإلهيّة في الإنسان أمراً فطريّاً وحسب بل يعتبر الإيمان بوحدانيته من الامور الفطرية أيضاً، وبما أنّ الفطرة الأصيلة في الإنسان تتعرّض في الغالب إلى حجاب الرسوم والعادات والأفكار

المنحرفة والتعاليم المغلوطة فينبغي انتظار تلك الساعة التي تزول فيها هذه الحجب، من هنا فإنّ القرآن يشير إلى لحظات حسّاسة في حياة الإنسان وذلك عندما تزول الحجب بواسطة عواصف الأحداث ويبقى الإنسان وفطرته وصريح وجدانه فيدعو حينئذٍ ربّه لوحده ويزول عنه ما سواه، ويدلّ هذا جيّداً على أنَّ عبادة الواحد والتوحيد مستودعة في أعماق روحه، وفي هذا المجال مرّت بحوث تكميلية اخرى في أوّل الكتاب في بحث الفطرة والمعرفة الإلهيّة.

__________________________________________________

(1) «الكرب» يعني الغمّ والهمّ الشديد.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 133

2- تناسُق العالم

تمهيد:

من السبل التي سلكها علماء العقيدة والفلسفة في سيرهم وسلوكهم من أجل القرب من ذات اللَّه المقدّسة هي دراسة عالم الوجود الذي هو عبارة عن مجموعة متناسقة وكتلة مترابطة، هذا الاتحاد والتناسق ينبئان عن وحدانية الخالق، ولذا اطلق على هذا الدليل (برهان الوحدة والتناسق) وقد يُطرح هذا البرهان بصورة اخرى حيث يقال: إذا كانت هناك إرادتان تحكمان عالم الوجود، ولو كان في عالم الخليقة تدبيران لظهر الفساد واللانظام حتماً، وبما أنّ هذا الأمر- عدم النظم والفساد غير موجود- يمثل دليلًا على وحدة الخالق والمدير والمدبّر لعالم الخليقة، ولذا اطلق على الاستدلال عنوان (برهان التمانع).

من هنا فإنّ برهان (الوحدة والتناسق) و (برهان التمانع) متّحدان جوهراً ومحتوىً ولكن لهما تعبيران، وبعبارة أدقّ: أنّهما ينظران إلى قضيّة واحدة ولكن من زاويتين، فنحن نصل تارةً عن طريق وحدة العالم إلى وحدة المُبدى ء، واخرى من طريق عدم الفساد الناشي ء من الإرادتين، وفي الحقيقة إنّنا ننظر من الأعلى إلى الأسفل تارةً واخرى من الأسفل إلى الأعلى.

وعلى كلّ حال فإنّه من أفضل دلائل التوحيد التي استندت إليها الآيات القرآنية.

بهذا التمهيد نرجع إلى القرآن الكريم لنتأمل خاشعين في الآيات التالية:

1- «مَا تَرى

فِى خَلْقِ الرَّحمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ البَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ* ثُمَّ ارْجِعِ البَصَرَ كَرَّتَينِ يَنقَلِبْ الَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وهُوَ حَسِيرٌ». (الملك/ 3- 4)

نفحات القرآن، ج 3، ص: 134

2- «أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِّنَ الأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ* لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ العَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ». (الأنبياء/ 21- 22)

3- «مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كانَ مَعَهُ مِن إِلهٍ إذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ». (المؤمنون/ 91)

شرح المفردات:

«فُطور»: من (فَطْر) على وزن سَطْر وهي في الأصل: الفتق، وقد فسّره البعض كالراغب في المفردات بالشقّ طولًا ومن ثمّ أطلق على كلّ إبداع وإيجاد وخلق، لما فيه من انشقاق حجاب العدم وإبداع الشي ء وإيجاده أو اختراعه كما يطلق هذا اللفظ على عملية استخراج الحليب من الغنم باصبعين، وكذلك على هدم الصيام (وقد وردت إيضاحات أكثر حول ذلك في بداية هذا الجزء في بحث برهان الفطرة في موضوع معرفة اللَّه).

«إله»: يعني- كما يقول اللغويون- المعبود، وقالوا باشتقاقه من (إلاهة) بمعنى العبادة وقد ذكرنا آراء الكثير منهم في الهامش «1».

وقد استعمل هذا المعنى في مواضع كثيرة من (القرآن الكريم)، كما نقرأ في قصّة بني اسرائيل عندما شاهدوا جماعة يعبدون الأصنام فقالوا لموسى: «يامُوسى اجْعَلْ لَّنَا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهةٌ». (الأعراف/ 138)

وقد جاء في قصّة السامري: «وَانظُرْ إِلَى إلهِكَ الَّذِى ظَلْتَ عَلَيهِ عَاكِفاً لَّنُحْرِّقنَّهُ».

(طه/ 97)

__________________________________________________

(1) مصباح اللغة، «ألَهَ، لَهُ، آلِهة» على وزن «تعب» يعني عبد عبادة، تألّه (تعبّد) والإله، (المعبود)، وقد ورد في (صحاح اللغة) هذا المعنى مع فارق بسيط، ويقول الراغب في المفردات (اله)، جعلوه إسماً لكلّ معبود لهم و (اله فلان يأله): (عبد)،

ويقول صاحب لسان العرب: (الاله) كلّ ما اتّخذ من دونه معبوداً، وفي التحقيق في كلمات القرآن الكريم، ورد بعد ذكر كلمات جمع من اللغويين (فظهر من هذه الكلمات أنّ الاله بمعنى العبادة)، وقد ورد في مجمع البحرين، «الآلهة»: الأصنام سُمّوا بذلك لاعتقادهم بأنّ العبادة تحقّ لها، وجاء في كتاب العين للخليل بن أحمد أيضاً (التألّه): التعبّد، وقد جاء هذا المعنى صريحاً في قاموس اللغة، (وعلى ذلك فإنّ عقيدة أهل اللغة قاطبة هي أنّ الإله تعني المعبود).

نفحات القرآن، ج 3، ص: 135

وباختصار فإنّ أرباب اللغة قاطبة وجمع كبير من المفسّرين اعتبروا (اله) بمعنى المعبود وهو الغالب في موارد استعماله، وحينما نلاحظ أنّ (اله) قد استعمل في بعض الحالات بمعنى الخالق أو المدبّر لعالم الوجود فهو لوجود ملازمة- في بعض الحالات- بين هذه المعاني وبين المعبود، ولا يكون الاستعمال في بعض الموارد دليلًا على الحقيقة أبداً، وخاصّة مع تصريح اللغويين على خلاف ذلك، وموارد الاستعمال شاهدة على ذلك أيضاً.

ويمكن القول: أنّ جملة (لا إله إلّااللَّه) لا تنسجم مع هذا المعنى وذلك لوجود معبودات غير اللَّه الواحد بين العرب والأقوام الاخرى، ولكن الإجابة على هذا السؤال واضحة لأنّ المراد هو المعبود الحقّ لا المعبودات بالباطل، أي: لا معبود حقّاً غير (اللَّه)، والأصنام ليست أهلًا للعبادة، وقرائن هذا المعنى موجودة في هذه الجملة، كقولنا: لا علم إلّاما نفع.

هناك ملاحظة جديرة بالتدقيق وهي أنّ البعض اعتبر (إله) من (وله) وتعني (تحيّر) وفيها إشارة إلى الذات التي تحيّرت فيها العقول، بَيدَ أنّ المشهور بين اللغويين هو المعنى الأوّل أي أنّه من مادّة (ألَهَ) بمعنى العبادة.

وقد توضح ممّا ذكرنا أنّ إصرار البعض على أنّ (اله) لا يعني (معبود) غير مقبول أبداً.

جمع الآيات وتفسيرها

مظاهر التنسيق:

تقول

الآية الاولى بعد الإشارة إلى خلق السماوات: «مَا تَرى فى خَلْقِ الرَّحمنِ مِنْ تَفاوُتٍ».

إنَّ هذا العالم الواسع بكلّ ما يتضمّنه من عظمة فهو متناسق ومنسجم ومترابط ومتّحد ومنظّم، وإنّ وجود الاختلاف في اللون والشكل والوزن وسائر الكيفيات الظاهرية والباطنية أو الكمّية أمر طبيعي جدّاً، ولكن الشي ء الذي لا وجود له هو عدم التناسق واللانظم والاختلال.

ولذا تقول الآية في ذيلها: «فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ» والمراد من «فَارْجِعِ

نفحات القرآن، ج 3، ص: 136

البَصَر» هو النظر الدقيق والعميق، والمخاطب في هذه الآية وإن كان هو النبي الأكرم صلى الله عليه و آله ولكن من الواضح أنّ المراد هم البشر جميعاً، وتضيف الآية: «ثمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتين يَنْقَلِبْ الَيْكَ البَصرُ خَاسِئاً وهُوَ حَسِيرٌ» «1».

بهذا الاسلوب يقوم القرآن الكريم وبتعابير مختلفة بدعوة البشر إلى النظر في عالم الوجود ولا يكتفي بالدعوة بل يرغبهم ويحرّكهم ويحرّضهم على هذا العمل، كي يعلموا أنّهم لا يجدون خللًا أو نقصاً فيه، وعندما لا يرون ذلك فسوف يتعرّفون على حقيقة توحيد المُبدى ء والوحدانية ويردّدون جملة (لا إله إلّااللَّه) قلباً ولساناً.

هناك نقطة جديرة بالإهتمام وهي أنّ (نفي الاختلاف) من بين الموجودات في العالم والذي ورد في الآية أعلاه يعني حسب اعتقاد البعض: نفي العيب والنقص، وقد فسّره البعض بمعنى نفي عدم الإنسجام، وفسّره آخرون بنفي الإضطراب والتزعزع، وبعض بنفي الإعوجاج، وبعض بنفي التناقض، في حين أنّ الآية لها مفهوم واسع يشمل كلّ هذه المعاني (هذه المفردة مشتقّة من (فوت) لأنّ المتفاوتين يفقد كلّ منهما الصفات المختصّة بالآخر).

تعدد الآلهة:

الآية الثانية تعرض هذا المضمون في إطارٍ آخر وصورةٍ اخرى حيث تقول: «أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ» «2».

وفي التعبير ب «من الأرض» إشارة لطيفة

وهي أنّهم (أي المشركون) كانوا يصنعون

__________________________________________________

(1) «ارجع البصر» كناية عن النظر المتكرّر والمقرون بالدقّة والإهتمام، و (خاسي ء) من (خسئاً) ويعني الانقباض والإنغلاق المقرون بالذلّة ويمكن أن يكون هنا كناية عن الحرمان والفشل، و (حسير) من (حسر) ويعني الضعف وافتقاد القدرة وتعني في الأصل: الاختفاء، وبما أنّ الشي ء إذا ضعف فإنّه يتجرّد عن قدرته وطاقته وقد استعمل هذا اللفظ بمعنى الضعف.

(2) لفظ (أم) في الآية- كما يقول جمع من المفسّرين- منقطعة وتعني (بل)، في حين اعتقد البعض بأنّها بمعنى هل الإستفهامية، وبما أنّ المشركين لم يدّعوا أنّ الأصنام خالقة، كان بمعنى الإستفهام الإنكاري أكثر مناسبة.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 137

آلهتهم من الحجر والخشب والمعادن وهي موجودات أرضية، فهل بإمكان هذه الموجودات أن تكون خالقة للسماوات الواسعة وأن تكون الحاكمة والمدبّرة والمديره لها؟!

ثمّ تضيف الآية في مقام الاستدلال على بطلان عقيدتهم: «لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا».

«فساد»: يعني في الأصل- كما يقول الراغب في المفردات: خروج الشي ء عن حدّ الإعتدال كثيراً أم قليلًا، في الروح أو الجسم أو الأشياء الاخرى في العالم، ويقابله (الصلاح).

و (الفساد) هنا يعني الدمار والخراب واللانظام والهرج والمرج ....

وتضيف الآية في آخرها- كاستنتاج: «فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ العَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ».

وخلاصة الاستدلال هي: لو تعدّد المدير والمدبّر والخالق والحاكم والمتصرّف في هذا العالم فإنّ العالم لا يمكن أن يتّسم بالنظام والتناسق، وذلك لانتهاء التعدّد في الآلهة إلى تعدّد التدبير والتصرّف، وبذلك يختلّ عالم الوجود ويتعرّض للفساد والدمار حيث يريد كلّ واحد منهما تطبيق نظام العالم على مشيئته وإرادته.

وهنا يرد هذا الإشكال المعروف وهو: ما المانع من تعاضد الآلهة الحكمية فيما بينها لإيجاد نظام واحد منسجم؟ والإجابة على ذلك ستأتي في

الإيضاحات بإذن اللَّه.

الآية الثالثة والأخيرة التي نبحثها تقدّم هذا البرهان في إطار جديد حيث تقول: «مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ».

ولو كان كذلك فإنّ كلّ إله ينفرد بمخلوقاته الخاصّة ويفرض عليها تدبيره وتصرّفه الخاصّ، وسوف تكون الأنظمة المختلفة والقوانين اللامنسجمة هي الحاكمة على العالم، وسيكون هو السبب في وانهيار الوحدة والتعادل في العالم: «إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِمَا خَلَقَ».

ويكفي هذا الدليل على إثبات وحدانيته تعالى حيث يتألّف من المقدّمتين المشار إليهما سالفاً وهما: إنَّ عالم الوجود منظم ومترابط الأجزاء وتحكمه قوانين معيّنة (هذا من جهة)

نفحات القرآن، ج 3، ص: 138

ولو كان في العالم خالقان ومدبّران ومتصرّفان لحصل الخلل وعمّت الفوضى نتيجة لتعدّد مراكز القرار والتدبير والتصرّف (من جهة ثانية).

والآية تشير في ذيلها إلى أمر آخر بقولها: «وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ».

ويعدّ هذا سبباً في اختلال النظام في العالم واتّصافه بالفوضى وعدم الإنسجام.

وهنا- أيضاً- يثار هذا الإشكال في الأذهان وهو: أنّ هذه الآلهة الحكيمة بإمكانها أن تنسّق برامجها فيما بينها بشكل لا يعرّض وحدة العالم إلى الإختلال وفقد النظام، وسيأتي- كما أسلفنا- الجواب على هذا الإشكال في البحوث القادمة.

وتستنتج الآية الكريمة أخيراً من هذين الدليلين حيث تقول في ذيلها: «سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصفُونَ».

توضيحات

1- النظرة العلمية لوحدة عالم الخلق

عندما نلاحظ هذا العالم الواسع نراه على شكل موجودات متفرّقة: الشمس، القمر، السماء، النجوم الثابتة والمتحرّكة، الإنسان، الحيوانات، أنواع النباتات والعناصر المختلفة، ولكن بعد قليل من الدقّة والدراسة نجد أنّ ذرّات هذا العالم مترابطة ومتّصلة الأجزاء حتّى تبدو وكأنّها شي ء واحد، وكلّما تعمّقت دراستنا وتركّزت إزددنا إيماناً بهذا التنسيق والإتّحاد للأسباب التالية:

1- إنّ أجرام المجموعة الشمسية مترابطة فيما بينها إلى حدّ تكون فيه كاسرة واحدة كما هي عليه نظريات العلماء

التي تعتقد أنّها كانت في البداية شيئاً واحداً متّصل الأجزاء ثمّ انفصلت تدريجيّاً وبقيت مترابطة حتّى بعد افتراقها.

وتقول الأبحاث الفلكية في هذا المجال: إنّ مجموعتنا الشمسية غير مستقلّة أيضاً، حيث إنّها جزء من مجرّة كبيرة تشكّل مع المجرّات الاخرى مجموعة واحدة يعمل فيها

نفحات القرآن، ج 3، ص: 139

قانون الجاذبية حيث يجعلها كسلسلة مترابطة الحلقات كما يعتقد العلماء بأنّ هذه المجرّات كانت بأجمعها شيئاً واحداً متّصلًا فانفصلت أجزاؤها تدريجاً.

2- الأجسام المختلفة والمتباينة تماماً تتركّب- كما يبدو بالتحليل النهائي لها- من عدد من العناصر المعيّنة وهي تلك- الموجودات البسيطة التي اكتشف منها أكثر من 100 عنصر لحدّ الآن، وهذه العناصر رغم اختلافها الشديد في الظاهر نراها عند تحليلها إلى أجزاء صغيرة- أي الذرّة- أنّها متشابهة والفارق فيها هو عدد الألكترونات والبروتونات.

3- من العجيب أن يكون النظام الحاكم على هذه الذرّة هو الحاكم على العالم الواسع أي المجموعات والمجرّات أيضاً حيث تجمع قوّة الجذب والطرد هذه السيارات في مجموعة واحدة أو الالكترونات في ذرّة واحدة وفي مدارات خاصّة تدور حول النواة الأصلية دون أن تنفصل عن بعضها أو تتجاذب فيما بينها.

4- الكائنات في الأرض وإن بدت لنا متنوّعة، كما في الألوان التي نشاهدها شديدة الاختلاف فيما بينها إلّاأنّنا وبالتحليل النهائي نصل إلى أنّ كلّ الألوان ترجع إلى أمواج تختلف في شدّة ذبذبتها وطول أمواجها وقصرها.

5- إنّنا نسمع أصواتاً مختلفة تماماً، ولكن علم الفيزياء الحديث يقول: بأنّ هذه الأصوات كلّها، الجميلة منها والقبيحة، الخفيفة والصاخبة ترجع إلى مُبدى ء واحد هو عبارة عن أمواج خاصّة تنشأ هذه الأنواع من اختلاف الذبذبة فيها.

6- للأحياء أنواع كثيرة جدّاً، فالحشرات وحدها لها مئات الآلاف من الأنواع، والنباتات لها أنواع تفوق ذلك، غير أنّ

علماء النبات والحيوان يقولون: إنّها مركّبة من مادّة واحدة، ومؤلّفة من الخلايا التي يحكمها نظام واحد، ولذا تجرّب الأدوية التي يراد معرفة درجة تأثيرها في الإنسان على الحيوانات أوّلًا في الغالب.

7- توصّل العلماء من خلال تحليل النور المنبعث من الكواكب البعيدة والقريبة إلى هذه النتيجة وهي: أنّ العناصر التي تتركّب منها الكواكب السماوية تشابه الأجزاء التي تتركّب منها كرتنا الأرضية، وهذا يعني وجود تناسق عجيب حاكم على مجموعة الأجرام والنجوم في الكون.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 140

8- القوانين المختلفة التي تحكم الكون مثل، قانون الجاذبية، وسرعة النور، وقانون الحركة وأمثالها توجد بنفسها في كلّ مكان وتتبع منهجاً واحداً، ولذا فإنّ العلماء وبإجراء تجارب على نموذج واحد أو عدّة نماذج في الأرض اكتشفوا قانوناً شاملًا يحكم عالم الوجود كلّه، كما نجد أنّ «نيوتن» اكتشف قانون الجاذبية الساري في كلّ المجموعات والمجرّات من رؤية تفاحة تسقط من شجرة!

وباختصار، كما قرأنا في الآية الاولى من آيات هذا البحث، أنّنا لا نرى أي اختلاف في خلق الرحمن ولا فطور أو خلل، وكلّما تقدّم العلم والفكر البشري كلّما تجلّت عظمة هذه الآية وعمقها أكثر فأكثر، وهذا التناسق والوحدة دليل واضح على وحدة الخالق للعالم.

2- إيضاح برهان التمانع
اشارة

إنَّ برهان التمانع الذي يعبّر عنه ب (برهان الممانعة) أو (برهان الوحدة والتناسق) يتألّف من مقدّمتين:

الاولى: الإنسجام والوحدة والتناسق في عالم الخلق الذي تقدّم بحثه.

الثانية: لو كانت القوى الحاكمة على هذا الكون قوّتين أو أكثر فإنّ ذلك سيؤدّي إلى حدوث الاختلاف والإختلال، وبما أنّنا لا نلاحظ أي اختلال أو عدم تعادل في هذا الكون والقوانين الحاكمة فيه، ندرك أنّها تنشأ من مُبدى ء واحد وأنّها مخلوقة ومدبّرة ومنظّمة من خالق واحد.

الآية الاولى من بين الآيات السابقة تشير

في الحقيقة إلى المقدّمة الاولى، والآية الثانية والثالثة تشيران إلى المقدّمة الثانية، ولذا قد يطلق على هذا البرهان: (برهان الوحدة والتناسق) بالنظر إلى المقدّمة الاولى.

وقد يعبّر عنه ب (برهان التمانع) بالنظر إلى المقدّمة الثانية، وبناءً على ذلك فإنّهما يرجعان إلى دليل واحد، غير أنّ النظر إليه يتمّ من زاويتين مختلفتين.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 141

الإجابة عن سؤالين:

السؤال الأوّل: إنَّ هذا السؤال يُطرَحُ من قبل الكثير وهو أنّ تعدّد المبدأ لا يكون سبباً لاختلال النظام دائماً فإنّا نشاهد مجموعات تطبّق برنامجاً صحيحاً ومتناسقاً بنجاح وذلك بالتشاور فيما بينها، فلو افترضنا أنّ للعالم آلهة فإنّ التعدّد هذا يكون منشأ للفساد في العالم حين وقوع النزاع فيما بينها، ولكن إذا أقررنا أنّها حكيمة وواعية فإنّها تدبّر امور الكون بنظام خاصّ وبتعاون فيما بينها حتماً.

الجواب: هذا السؤال والإشكال وإن كان ملفتاً للنظر ابتداءً ولكنّه يتّضح بعد التدقيق أنّه ناشي ء من عدم ملاحظة مفهوم (التعدّد).

وللتوضيح نقول: إنّنا عندما نقول آلهة متعدّدة فإنّها تعني أنّها ليست واحدة من كلّ جهة، فلو كانت واحدة من جميع الجهات فإنّها تكون ذات وجود واحد، وبعبارة اخرى: أينما وجد التعدّد والإثنينية وجب أن نقرّ بوجود اختلاف في الأمر، وإلّا فإنّه من المستحيل أن يكون الموجودان واحداً من جميع الجهات.

ومن جهة اخرى يوجد (تناسب) و (سنخية) بين (الفعل) و (الفاعل) دائماً، فكلّ فعل يكون من آثار فاعله ويتّصف بلونه- شِئنا أم أبينا- وبهذا يستحيل أن يصدر فعلان من فاعلين ثمّ يكونان واحداً من جميع الجهات، كما يستحيل أن يكون الفاعلان متساويين من حيث الإرادة والعمل، واختلافهما في الوجود يترك أثره على إرادتهما وعملهما حتماً.

النتيجة هي أنّه لا يمكن أن يصدر نظام واحد وخال من الإثنينية من مبدأ

متعدّد.

وأمّا ما يقال عن الأعمال الجماعية فلابدّ أن نلتفت إلى أنّ هذه الأعمال وإن اتّصفت بنظام نسبي إلّاأنّها لا تتّصف بنظام حقيقي ومطلق حيث يتنازل المتشاورون عن بعض آرائهم ورغباتهم للتعاون فيما بينهم لا أنّ رغباتهم وآراءهم واحدة دائماً، إضافة إلى أنّ الأنظمة القائمة على الشورى قليلًا ما تعمل بصورة متّفقة، بل إنّها تتّبع النسبة الغالبة عادةً وهذا دليل على صحّة ما ندّعيه.

إضافةً إلى أنّ هذه الغالبية لا تكون أشخاصاً ثابتين دائماً بل متغيّرين، فتارةً تكون

نفحات القرآن، ج 3، ص: 142

الغالبية أربعة أشخاص من سبعة أشخاص، وتارة أحد هؤلاء مع ثلاثة آخرين، وبما أنّ الغالبية متغيّرة فلا يمكن إذن أن تكون أعمالها واحدة.

بهذه الأدلّة الثلاثة تتّصف هذه الأنظمة القائمة على الشورى بشي ء من عدم الانسجام ولكنّها بسبب القناعة بالنظام النسبي يقال أنّها منظمة! لكنّنا لا نرى في عالم الوجود نظاماً نسبياً بل نظاماً واحداً وانسجاماً كاملًا وتامّاً.

وبعبارة اخرى: لو افترضنا وجود مبدأين للكون فإنّهما إمّا متساويان من جميع الجهات (فهما إذن واحد) أو مختلفان ومتباينان من جميع الجهات (حينئذٍ يكون تقابل في خلقهما وتدبيرهما) ولو كانا متشابيهن من بعض الجهات ومختلفين في البعض الآخر فإنّ هذا الاختلاف والتمايز سوف يترك أثره على أفعالهما لأنّ الفعل انعكاس لوجود الفاعل وظلّ وجوده.

السؤال الثاني: ويطرح هنا سؤال ثانٍ بملاحظة جملة (ولعلا بعضهم على بعض) التي جاءت في الآيات المذكورة وهو: كيف يمكن وقوع النزاع بين آلهة يفترض أنّها حكيمة؟

ويميل بعضها للتغلّب على البعض الآخر؟ ولماذا يفترضهما المفسّرون كسلطانين أنانيين في زمن واحد يتنازعان بصورة دائمة لتضارب المصالح؟

الجواب: ينشأ هذا السؤال من أنّهم تصوّروا أنّ الاختلاف بين المبدأين يجب أن ينشأ من هوى النفس والأنانية دائماً، في حين

يمكن أن ينشأ الاختلاف من الاختلاف في التشخيص والقرار والإرادة بين شخصين مهما كانا.

ويلزم أن نكرّر هذه الحقيقة ونؤكّد عليها وهي: أنّنا حينما نفترض وجود مبدأين للكون فإنّ الإثنينية تعني أنّهما وجودان مختلفان من بعض الجهات حتماً وإلّا فإنّ وجودهما واحد، وبهذا لا يمكن أن يكون فعلهما واحداً وعليه فإنّ هذا الإله يجعل تكامل الكون ونظامه وتدبيره الصحيح في شي ء في حين يجعل الثاني النظام والتكامل في شي ء آخر، ومن الخطأ الكبير أن يتصوّر أنّهما كاملان من جميع الجهات، فإنّ افتراض الإثنينية يعني

نفحات القرآن، ج 3، ص: 143

افتقاد كلّ واحد منهما كمالات الآخر المختّصة به، فلا يتصوّر لهما حينئذٍ الكمال المطلق، بل إنّ نقصانهما النسبي حتمي، فلا عجب في أن يختلفا في العمل والإرادة والقدرة، ورغبة كلّ واحد في إدارة الكون وفق ما يراه فيضاً كاملًا.

3- برهان الوحدة والتمانع في الروايات الإسلامية

لقد ورد الدليل أعلاه بشكل واضح ومختصر في الروايات الإسلامية، حيث جاء في حديث أنّ هشام بن الحكم سأل الإمام الصادق عليه السلام: ما الدليل على أنّ اللَّه واحد؟

فأجاب الإمام عليه السلام: «اتّصال التدبير وتمام الصنع كما قال اللَّه عزّوجلّ: لو كان فيهما آلهة إلّا اللَّه لَفَسدتا» «1».

وفي حديث آخر نقله الكليني رحمه الله في الكافي عن هشام أنّ الإمام الصادق عليه السلام قال في مسألة التوحيد جواباً للرجل الزنديق: «لمّا رأينا الخلق منتظماً والفلك جارياً والتدبير واحداً والليل والنهار والشمس والقمر دلّ صحّة الأمر والتدبير وائتلاف الأمر على أنّ المدبّر واحد» «2».

__________________________________________________

(1) تفسير البرهان، ج 3، ص 55، ح 2.

(2) المصدر السابق، ح 1.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 145

3- دليل صرف الوجود

تمهيد:

إنَّ اللَّه سبحانه وتعالى يمثل وجوداً لا نهاية له من كلّ جهة- كما سيأتي شرحه لاحقاً- ومن المؤكّد أنّ مثل هذا الوجود لا سبيل للإثنينية إليه، فمن غير الممكن وجود موجودين لا نهائيين، لأنّ الحديث إذا كان عن الإثنينية فإنّ كلّ واحد يكون فاقداً للوجود الثاني وبتعبير آخر أنّنا نصل إلى حدّ ينتهي فيه الوجود الأوّل ويبدأ وجود الثاني، وعليه فإنّ الوجود الأوّل محدود وهكذا الوجود الثاني لأنّ كلّ واحد يكون ذا بداية ونهاية، ولنوضّح هذه القضيّة بمثال:

شخصان يملك كلّ واحد منهما بستاناً، ومن الطبيعي والحتمي أنّ لكلّ بستان حدوداً معينة، ولو فرضنا أنّ مساحة البستان الأوّل تشمل كلّ الأرض فأين تكون مساحة البستان الثاني؟ إذن، سيكون أمامنا بستان واحد في الأرض.

وعليه فإنّ الحديث عن اللامحدود يعني الحديث عن الوحدة.

والمراد من برهان (صرف الوجود) هو أنّ اللَّه سبحانه وجود مطلق ومجرّد عن القيد والشرط وغير محدود، ولا يفترض الثاني له أبداً.

بهذا التمهيد نتوجّه

إلى القرآن الكريم ونستمع خاشعين إلى الآيات التالية:

1- «شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ وَالمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا العِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لَاإِلَهَ إِلَّا هُوَ العَزيزُ الحَكِيمُ». (آل عمران/ 18)

2- «لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالأَرْضِ يُحْىِ وَيُميتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَى ءٍ قَدْيرٌ* هُوَ الأَوّلُ

نفحات القرآن، ج 3، ص: 146

والآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَى ءٍ عَلِيمٌ». (الحديد/ 2- 3)

3- «يَاصَاحِبَي السِّجنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفرِّقُونَ خَيرٌ أَمِ اللَّهُ الوَاحِدُ القَهَّارُ». (يوسف/ 39)

جمع الآيات وتفسيرها

اللَّه شاهد على وحدانية ذاته:

تمّ تفسير آية البحث الاولى في مباحث (برهان الصدّيقين) السالفة ونمرّ عليها هنا باختصار.

إنَّ مضمون هذه الآية هو أنّ اللَّه عزّوجلّ يشهد على وحدانيته وكذلك الملائكة والعلماء (كلّ واحد بشكل): «شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ وَالمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ».

ومن علامات وحدانية ذاته المقدّسة هي حاكمية النظم والعدل على الكون، ولعلّ الآية تشير إلى هذا الجانب في ذيلها: «قَائِماً بالْقِسْطِ» ثمّ تستند إلى وحدانية ذاته المقدّسة مرّة اخرى وتقول: «لَاإِلَهَ إِلَّا هُوَ العَزيزُ الحَكيمُ».

ومن البديهي أنْ لو كانت ثمّة آلهة تحكم الكون، فإنّ منطقة كلّ إله لا تكون في اختيار الثاني، وبتعبير آخر يكون كلّ واحد فاقداً لقدرة الثاني، وهذا لا ينسجم اتّصافه ب (العزيز).

كما أنّ حكمته التي تحكم العالم آية اخرى على وحدانيته، فلو تعدّدت الأكوان كانت نهايتها الفساد والدمار.

أمّا كيفية شهادة الملائكة بوحدانية اللَّه عزّوجلّ فإنّها واضحة، ولكن هناك كلام بين المفسّرين حول كيفية شهادة اللَّه على وحدانية ذاته، فبعض يقول: المراد هو الشهادة اللفظية التي وردت في آيات قرآنية مختلفة، وبعض يقول: إنّ آثار وحدانيته ظاهرة في عالم الوجود في الآفاق والأنفس لأنّ النظام الوحد هو الحاكم على الجميع وهذا هو معنى شهادة اللَّه على وحدانيته.

إنَّ كلّ ذلك صحيح، ولكن تضاف إليها شهادة اخرى وتستحقّ التفصيل فيها

وهي أنّ ذاته المقدّسة بنحو يأبى التعدّد، وجود لا نهاية له، والوجود اللانهائي واحد فقط، فذاته إذن دليل

نفحات القرآن، ج 3، ص: 147

على وحدانية ذاته (فتأمّل جيّداً).

ولا منافاة- طبعاً- بين التفسيرات الثلاثة ويمكن أن تكمن في مفهوم الآية، وعليه فإنّ إصرار بعض المفسّرين مثل صاحب (الميزان) في أنّ تفسير الآية ينحصر في المعنى الأوّل (الشهادة اللفظية) مع ملاحظة إطلاق لفظ الآية ممّا لا يوجد دليل واضح عليه.

أمّا السبب في تكرار جملة (لا إله إلّااللَّه) في الآية، فالظاهر هو أنّ الأولى بمثابة المقدّمة، والثانية النتيجة، ولعلّ في الرواية التي وردت في تفسير القرطبي (المفسّر السنّي المعروف) عن الإمام الصادق عليه السلام إشارة إلى هذا المعنى حيث يقول فيها: الاولى وصف وتوحيد، والثانية رسم وتعليم يعني «قولوا لا إله إلّااللَّه العزيز الحكيم» «1».

هو الأوّل والآخر والظاهر والباطن:

الآية الثانية وهي من الآيات الاولى من سورة الحديد- ونعلم أنّ هذه الآيات تتضمّن بياناً دقيقاً وظريفاً عن صفات اللَّه الجمالية والجلالية لذوي الأفكار الثاقبة، كما يستفاد من الحديث الوارد عن الإمام علي بن الحسين عليه السلام- يقول عزّ وجلّ: «لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالأَرْضِ» «2»

ولذلك فإنّ الحياة والموت في قبضته أيضاً: «يُحْى وَيُميتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَى ءٍ قَدْيرٌ».

وعليه فإنّ المدير والمدبّر لهذا الكون هو ذاته المقدّسة فقط.

وفي ذيل الآية توجد قضيّة يمكن أن تكون دليلًا على التوحيد في مالكيته وحاكميته وتدبيره حيث تقول: «هُوَ الأَوّلُ والآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلّ شَى ءٍ عَليمٌ».

في هذه الآية بيان لخمس صفات من صفاته المقدّسة وتدلّ بمجموعها على أنّ ذاته المقدّسة لا نهاية لها، فهو أوّل كلّ شي ء، وآخر كلّ شي ء، وهو الموجود في الظاهر والباطن،

__________________________________________________

(1) تفسير القرطبي، ج 2، ص 1285.

(2) لاحظ أنّ في

تقديم (له) إشارة إلى الحصر، ويعني أنّ ملك السماوات والأرض منحصر في ذاته المقدّسة.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 148

وله الحضور العلمي في كلّ مكان، وأنّ مثل هذا الموجد لا يتصوّر أنْ يكون له ثانٍ، فلو كان الإله الثاني موجوداً فإنّه يعني أنّ الإثنين محدودان وذلك لانتهاء كلّ واحد عندما يصل إلى الآخر، ويبدأ الثاني.

إذن عدم محدوديته دليل على وحدانيته.

يقول الفخر الرازي في تفسيره: استدلّ الكثير من العلماء على إثبات وحدانيته بعبارة:

(هو الأوّل) «1».

وقد كثر الكلام حول مفهوم (الأوّل والآخر والظاهر والباطن) وستأتي لاحقاً أبحاث الصفات الثبوتية بإذن اللَّه، وينبغي أن نذكر هنا هذه النقطة وهي: أنّ الأوّل في الموجودات المحدودة لا يمكن أن يكون آخراً وما كان آخراً لا يكون أوّلًا، كما أنّ الوجود الظاهر لا يكون باطناً، والوجود الباطن لا يكون ظاهراً، وعندما يكون الحديث عن اللامحدود فإنّ هذه المفاهيم تكون مجتمعة فيه.

الآية الثالثة والأخيرة التي وردت في بحثنا تتحدّث عن لسان يوسف عليه السلام عندما فسّر للسجينين معه مناميهما بعد أن طلبا التفسير منه وتشير إلى أنّ يوسف عليه السلام عرج من كلامه عن الحلم وتفسيره إلى البحث عن التوحيد الذي يتضمّن أصل السعادات برمّتها وقال لهما:

«يَاصَاحِبَى السِّجنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيرٌ أَمِ اللَّهُ الوَاحِدُ القَهّارُ».

والملاحظ أنّ صفة (قهّار) قد تكرّرت في القرآن الكريم ستّ مرّات «2» وقد وردت في كلّ مورد بعد الصفة (واحد) ممّا يدلّ على وجود علاقة بينهما وأنّ قاهريته دليل على وحدانيته (فتأمّل جيّداً).

قام يوسف عليه السلام بطرح المسألة أوّلًا على وجدانيهما، وبما أنّ حقيقة التوحيد- كما أشرنا سالفاً- كامنة في أعماق الفطرة الإنسانية فقد أقام المحكمة بين يدي الوجدان وسأل:

__________________________________________________

(1) تفسير الكبير، ج 29، ص 213

(وجاء هذا المضمون في تفسير روح البيان، ج 9، ص 347 أيضاً).

(2) الرعد، 16؛ إبراهيم، 48؛ ص، 65؛ الزمر، 4؛ غافر، 16 وآية البحث.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 149

أأرباب متفرّقون، إله البحر، إله الصحراء، إله الأرض، إله السماء، إله الماء، إله النار، وهكذا الملائكة والجنّ والفراعنة والأصنام الحجرية والخشبية والمعدنية التي تعبدونها خير أم اللَّه الواحد المهيمن على كلّ شي ء؟ وكلمة (قهّار) صيغة مبالغة من (القهر) ويعني كما يقول الراغب في المفردات: الغلبة وإذلال الطرف المقابل، ولكن هذا اللفظ يستعمل في كلّ واحد من هذين المعنيين (الغلبة والإذلال) مستقلًا، وكما يقول الطبرسي رحمه الله في مجمع البيان:

«القاهر هو القادر الذي لا يمتنع عليه شي ء» «1»، من هنا تتّضح العلاقة بين صفة الوحدة والقاهرية، فحينما نذعن بقدرته الغالبة على كلّ شي ء أي أنّها غير محدودة فإنّنا لا نتصوّر له ثانياً، لأنّ كلّ ما سواه مغلوب له ومقهور، ولذلك لا يمكن أن يكون ما سواه واجب الوجود وغير محدود (فتأمّل جيّداً).

توضيحات

1- إنّه حقيقة لا متناهية

القضيّة الاولى والأكثر أهمّية في باب (صفات اللَّه) الواجب إثباتها لإيضاح مسألة التوحيد وصفات اللَّه الاخرى كالعلم والقدرة وأمثالها هي أنّ ذاته المقدّسة لا متناهية، فإن ثبتت هذه القضيّة وفُهمت جيّداً تيسّر الطريق إلى جميع الصفات الجمالية والجلالية (الصفات الثبوتية والسلبية).

ولإثبات هذا الأمر وهو أنّه تعالى وجود لا نهاية له، لابدّ من ملاحظة النقاط التالية:

أ) محدودية الوجود تعني التقارب مع (العدم) فلولا العدم لا يستقرّ مفهوم للمحدودية، فعندما نقول: إنّ عمر فلان محدود فإنّه يعني أنّ عمره سينتهي إلى العدم ومقرون بالعدم، وهكذا بالنسبة لمحدودية القدرة أو العلم وأمثالها.

ب) الوجود ضدّ العدم ولو كان الشي ء مقتضياً للوجود ذاتاً فإنّه لا يقتضي العدم أبداً.

ج) ثبت

في برهان العلّة والمعلول أنّ سلسلة العلّة والمعلول في هذا الكتاب يجب أن

__________________________________________________

(1) تفسير مجمع البيان، ج 5، ص 403.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 150

تنتهي إلى نقطة ثابتة وأزلية نسمّيها واجب الوجود، أي وجوده ناشي ء من أعماق ذاته لا خارجها، وعليه تكون العلّة الاولى للكون تقتضي الوجود ذاتاً.

أعِد قراءة هذه المقدّمات الثلاث بدقّة وفكّر فيها جيّداً، فسوف يتّضح أنّ واجب الوجود إذا تحدّد فإنّه يجب أن يكون من الخارج، لأنّ المحدودية طبق هذه المقدّمات تعني الاقتران بالعدم، والشي ء المقتضي للوجود ذاته لا يقتضي العدم أبداً، ولو اتّصف بالمحدودية فإنّه راجع إلى عامل خارجي، ويستلزم هذا القول أنّه ليس واجب الوجود لأنّه مخلوق لغيره من حيث حدّه الوجودي ومعلول لغيره.

وبعبارة اخرى: لدينا واجب الوجود دون شكّ (لأنّ البحث في التوحيد والوحدانية بعد إثبات واجب الوجود) فإن كان واجب الوجود غير محدود فمدّعانا ثابت، وإن كان محدوداً فإنّ هذه المحدودية ليست مقتضى ذاته أبداً، لاقتضاء ذاته الوجود دون اقتران بالعدم، فلابدّ من فرضه عليه من الخارج، ومفهوم هذا الكلام هو وجود علّة خارج ذاته وهو معلول تلك العلّة، وبهذا الحال لا يكون واجب الوجود، والنتيجة هي أنّه وجود غير محدود من كلّ جهة.

2- الحقيقة اللامتناهية واحدة قطعاً

ثبت في البحث السابق أنّ اللَّه عزّ وجلّ وجود غير محدود وغير متناهٍ، وهنا نقول: أنّ مثل هذه الحقيقة تأبى الإثنينية ولا تكون إلّاواحدة لما قلنا مراراً أنّه لا يمكن تصوّر شيئين غير محدودين أبداً، حيث تقترن الإثنينية بالمحدودية دائماً وهذا أمر واضح لأنّ تصوّر الوجودين ممكن حينما يكون كلّ وجود منفصلًا عن الآخر، فكلّ واحد ينتهي عند الوصول إلى الثاني ويبدأ الآخر.

واختبار هذا الأمر يسير، تصوّر على سبيل المثال ضوءاً غير

مقيّد أو مشروط بزمان أو مكان أو سعة أو مصدر وغير محدود من أيّة جهة، فهل يمكنك أن تتصوّر ضوءاً ثانياً مثيلًا له؟! فبالتأكيد سيكون الجواب: كلّا، لأنَّ كلّ ما تتصوّره هو الأوّل إلّاأن تضيف إليه شرطاً أو قيداً وتقول: الضوء هنا أو هناك من هذا المصدر أو ذاك.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 151

وبعبارة اخرى عندما نقول: يوجد ضوءان في الخارج فإنّه إمّا بملاحظة زمانيهما أو مكانيهما أو مصدريهما أو شدّة نوريهما، ولو تجرّدا من كلّ قيد أو شرط فإنّهما سيكونان واحداً قطعاً (فتأمّل جيّداً).

ولعلّ الآية الكريمة التي تقول: «وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ الَهاً آخَرَ لَابُرهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّه لَايُفلِحُ الكَافِرُونَ». (المؤمنون/ 117)

تشير إلى هذا المعنى حيث لا يمكن الاستدلال على وجود ندٍّ للَّه سبحانه أبداً، فكيف يمكن الاستدلال على أمرٍ لا يمكن تصوّره؟

3- دليل صرف الوجود في الأحاديث الإسلامية

إنَّ البرهان المذكور نقل بقول جميل في رواية عن الإمام السجّاد عليه السلام حيث قال: «إنّ اللَّه لا يوصف بمحدودية، عظُم ربّنا عن الصفة وكيف يوصف بمحدودية من لا يُحد» «1».

ونقرأ في حديث آخر عن الإمام الرضا عليه السلام: «هو أجلّ من أن تدركه الأبصار أو يحيط به وهم أو يضبطه عقل» فسأل سائل: فما حدّه؟ فقال عليه السلام: «إنّه لا يحدّ، قال: لِمَ؟ قال عليه السلام:

لأنّ كلّ محدود متناه إلى حدّ، فإذا احتمل التحديد احتمل الزيادة، وإذا احتمل الزيادة احتمل النقصان، فهو غير محدود، ولا متزايد ولا متجزّى ء ولا متوهّم» «2».

__________________________________________________

(1) اصول الكافي، ج 1، ص 100، باب النهي عن الصفة، ح 2.

(2) بحار الأنوار، ج 3، ص 15، ح 1.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 153

4- دليل الفيض والهداية

اشارة

(دعوة الأنبياء جميعاً إلى اللَّه الواحد)

تمهيد:

إنَّ اللَّه سبحانه وجود كامل، ومثل هذا الوجود يكون مصدراً للفيض على الموجودات وكمالها، فهل يعقل أنَّ مصدر الكمال يحرمُ الموجودات الاخرى من فيضه ولا يعرّفهم- على الأقل- نفسه؟ مع أنّ هذه المعرفة سبب لرقيّهم وكمالهم يدفعهم نحو ذلك الوجود الكامل والفيّاض.

وعلى ضوء هذا البيان يتّضح أنّه لو كان هناك عدّة آلهة لوجب أن يكون لكلّ إله منهم رسل، وأن يعرّف نفسه إلى مخلوقاته، وأن يشملهم بفيضه التكويني والتشريعي.

والنتيجة هي: أنّنا لو وجدنا أنّ الرسل بأجمعهم يخبرون عن إله واحد، لاتّضح أنّ غيره لا وجود له.

بهذا التمهيد نرجع إلى القرآن الكريم ونمعن خاشعين في الآيات الكريمة التالية:

1- «وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِى إِلَيهِ أَنَّهُ لَاإِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ».

(الأنبياء/ 25)

2- «وَاسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ».

(الزخرف/ 45)

3- «قُلْ أَرأَيْتُمْ مَّا تَدْعُونَ مِنْ دوُنِ اللَّهِ أَرُونِى مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِى السَّماواتِ ائْتُونِى بِكِتابٍ مِّنْ قَبلِ هذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُم صَادِقينَ». (الأحقاف/ 4)

نفحات القرآن، ج 3، ص: 154

جمع الآيات وتفسيرها

دعوة الأنبياء العامّة إلى اللَّه الواحد:

إنَّ الآية الاولى في بحثنا هذا تشير إلى تاريخ الماضين من الأنبياء وتقول: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِى إِلَيهِ أَنَّهُ لَاإِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ».

أجل فإنّ الأنبياء عليهم السلام جميعاً كانوا ينادون بالتوحيد ويدعون الناس إلى اللَّه الواحد ويشهد تاريخهم بهذا الأمر، فكيف يعقل أن يكون للشرك حقيقة وجميع الأنبياء يدعون إلى التوحيد؟!

فهل كان هناك إله آخر ولكنّه لم يعرّف نفسه؟ أو أنّ الرسل قصّروا في إبلاغ أمره؟ والعقل السليم لا يُقرّ بقول من هذه الأقوال.

وكما يقول بعض المفسّرين: يقوم القرآن الكريم في آيات هذه السورة (الأنبياء) بالاستدلال العقلي

أوّلًا لإثبات التوحيد: «لَو كَانَ فِيهِمَا آلهةٌ إِلَّا اللَّهُ ...»، ثمّ بالدليل النقلي (آية البحث) حيث دعا جميع الأنبياء الماضين إلى التوحيد «1».

أمّا الآية الثانية فهي: تطرح هذا المضمون في إطار آخر حيث تخاطب النبي الأكرم صلى الله عليه و آله (المراد هم الناس طبعاً) وتقول: «وَاسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ منْ رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحمنِ آلِهَةً يُعْبَدوُنَ».

وقد احتمل المفسّرون عدّة احتمالات في كيفية أمر الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله بأن يسأل الأنبياء السابقين مع عدم حضور أحدهم في عصره، فقد قال البعض: إنّ المراد هو السؤال من الامم السابقة كي تثبت القضيّة عن طريق الخبر المتواتر، فالامم حتّى التي تعتقد بالتثليث وأمثاله، عندما تسأل عن ذلك فإنّها تعلن عن اعتقادها بالتوحيد وتعبِّر عن ذلك ب (التثليث في الوحدة).

__________________________________________________

(1) تفسير القرطبي، ج 6، ص 4320.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 155

وهذه الآية تعطي- في الحقيقة- مفهوم الآية التالية حيث خاطبه تعالى بقولِهِ: «فَاسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَأُونَ الكِتَابَ مِن قَبلِكَ». (يونس/ 94)

وقد احتمل هذا أيضاً وهو: أنّ المراد هو مراجعة كتبهم المتبقّية في اممهم، فإنّ استخراج القضايا منها بمثابة السؤال عن اولئك الأنبياء.

وقال جماعة أيضاً: إنّ المراد هو سؤال النبي صلى الله عليه و آله من أرواح الأنبياء عليهم السلام السابقين ليلة المعراج بل في غير ليلة المعراج، لأنّ روح نبي الإسلام صلى الله عليه و آله من العظمة ما لا يعيقها البعد الزمني والمكاني فكان بإمكانه أن يتّصل بأرواح الأنبياء السابقين.

وبما أنّ الهدف الرئيس من الآية هو الاستدلال أمام المشركين، فقد كان المعنى الأوّل والثاني هو المناسب وذلك لأنّ الإرتباط المعنوي للنبي الأكرم صلى الله عليه و آله مع أرواح الأنبياء السابقين لم

يتقبّله المشركون وكان مفيداً للنبي صلى الله عليه و آله نفسه، وإنّا نعلم أنّ إيمان النبي بالتوحيد كان بدرجة لا يحتاج فيها إلى طرح مثل هذا السؤال نفسه.

والتفسير الثالث يمكن أن يكون من التفسير الباطني للآية وقد تضمّنت روايات متعدّدة الإشارة إلى ذلك «1».

على كلّ حال فإنّ المراد هو أنّ دعوة نبي الإسلام صلى الله عليه و آله إلى التوحيد ليس أمراً جديداً أو عجيباً بل أمر قد اتّفق عليه جميع الأنبياء الإلهيين وهذا بنفسه دليل واضح على قضيّة التوحيد.

والاستناد إلى الاسم المقدّس (الرحمن) في هذه الآية إشارة إلى أنّ من يستحقّ العبودية هو الإله الذي تشمل رحمته العامّة حتّى الكافرين المشركين والبشر جميعاً، فكيف يمكنهم أن يتركوا ولي نعمتهم الذي غمرهم إحسانه ويتوجّهوا إلى الأصنام الخاوية؟

هل تمتلكون دليلًا على الشرك؟!

إنَّ الآية الثالثة والأخيرة ضَمَّت الدليل النقلي المذكور إلى جانب دليل عقلي آخر إذ

__________________________________________________

(1) تفسير البرهان، ج 4، ص 147؛ تفسير نور الثقلين، ج 4، ص 606- 607.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 156

تقول: «قُلْ أَرأَيتُم مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِى مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِى السَّماواتِ».

فلو كانت تلك المعبودات معبودات حقيقيّة فإنّها ينبغي أن تكون مبدأً للفيض، وعلى الأقل أن تخلق قسماً من الأرض وتساهم في خلق السماوات، فهل يعقل أن يكون الإله فاقداً للفيض؟

ومن جهة اخرى: أي نبي دعا الناس إلى آلهة متعدّدة؟: «ائتُونِى بِكِتَابٍ مِنْ قَبلِ هذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُم صادِقينَ».

وهذا التعبير يشير إلى أنّ الأنبياء عليهم السلام أجمعوا على التوحيد، وهذا الإجماع أو الاتّفاق دليل واضح على القضيّة، وبهذا يكون كتاب الخلق دليلًا على التوحيد وكذلك كتب الأنبياء السابقين.

«أثارة من علم»: من مادّة (أثر) ولهذا اللفظ-

كما في (مقاييس اللغة)- ثلاثة معانٍ:

التقديم، الذكر وأثر الشي ء.

وقد ورد هذا المضمون في تفسير الفخر الرازي ولكن بتعبير آخر حيث ينقل المعاني الثلاثة ل (اثار) «1».

توضيحات

1- الفيض والهداية في الروايات الإسلامية

ورد (برهان الهداية والفيض) في الروايات الإسلامية إلى جانب القرآن الكريم، فقد تحدّث الإمام علي عليه السلام في وصيّته المعروفة إلى الإمام الحسن عليه السلام عن هذا البرهان ببيان جميل وواضح حيث قال: «واعلم يابني أنّه لو كان لربّك شريك لأتتك رسله، ولرأيت آثار ملكه وسلطانه، ولعرفت أفعاله وصفاته ولكنّه إله واحد كما وصف نفسه» «2».

__________________________________________________

(1) التحقيق في كلمات القرآن الكريم، مادّة (أثر).

(2) نهج البلاغة، الرسالة 31.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 157

توضيحه: إنّ اللَّه حكيم، والإله الحكيم له آثار الهداية والفيض حتماً، في عالم التكوين والخلق وفي عالم التشرع والدين، فكيف يمكن أن يوجد إله آخر ولا نرى آثار صنعه في ساحة الوجود ولا نشاهد علامة من رسله؟ وهذا لا ينسجم مع حكمته أبداً لأنّ في ذلك حرمان البشر من معرفته وعظمته وقدرته.

ثمّ إنّ دعوة الأنبياء المرسلين من قبل اللَّه جميعاً لا تنسجم مع فرض وجود إلهين، فهل يعقل أن يطرح الإله الذي يرسل الأنبياء قضيّة غير صحيحة ويدعو إلى التوحيد كذباً؟! فهذا لا ينسجم مع حكمته أيضاً.

ولا ينحصر طريق إثبات وحدانية اللَّه في هذا الدليل فقط لوجود أدلّة اخرى أشرنا إليها سابقاً، أمّا إجماع الأنبياء عليهم السلام واتّفاقهم على الدعوة إلى اللَّه الواحد فهو يُعدّ دليلًا مستقلًا.

2- برهان التركّب

ذكر الفلاسفة وعلماء الكلام دليلًا خامساً على إثبات وحدانية ذات اللَّه المقدّسة ولم نعثر على آية قرآنية تصرّح بذلك، ولذا نورده على شكل إيضاح في ختام هذا البحث وخلاصته:

لو كان للَّه مثيلٌ فهما متشابهان من حيث الوجود ولكنَّ إثنينيتهما توجب أن تكون لكلّ واحد منهما خصوصيات، وبهذا يكون كلّ واحد مركّباً من جزأين، (ما به الاشتراك) و (ما به الإمتياز) وحينئذ لابدّ أن نذعن بأنّ كلّ

واحد منهما محتاج إلى أجزائه، لأنّ المركّب لا يكون بدون اجزائه، ولو كان محتاجاً فإنّه لا يكون واجب الوجود، لأنّ واجب الوجود والمُبدى ء الأوّل للكون غني عن كلّ شي ء.

فهو إذن لا مثيل له كما أنّه لا اجزاء له، ولو كان له مثيلٌ فإنّه سيكون ذا اجزاء قطعاً، فهو إذن وجود بسيط من كلّ جهة ولا شريك ولا مثل له من كلّ جهة.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 158

3- التوحيد والأدلّة النقلية

إنَّ الأدلّة الخمسة المذكورة هي أدلّة عقليّة لإثبات وحدانية ذات اللَّه المقدّسة، ويمكن هنا الاستفادة من الدليل النقلي أيضاً، لأنّه بعد إثبات وجود اللَّه وإثبات نبوّة رسول الإسلام صلى الله عليه و آله وصدق دعوته، فإنّ ما جاء في هذا الكتاب السماوي (أي القرآن الكريم) هو تبيان للحقائق التي لا تُنكر، هو رسول صادق ومعصوم ومبعوث من قبل اللَّه الحكيم والصادق، ومثل هذا الإنسان لا يقول قضيّة خاطئة.

من هنا يمكن الإستعانة بآيات القرآن التوحيدية لإثبات وحدانية ذات اللَّه المقدّسة، والقرآن الكريم زاخر بهذه الآيات، بل إنّ أي موضوع لم يتكرّر بتعابير مختلفة مثل هذا الموضوع ولم يتأكّد صفة من صفات اللَّه إلى هذا الحدّ.

يقول المرحوم العلّامة المجلسي قدس سره في بحار الأنوار لدى استدلاله بهذا الدليل.

من الواضح أنّ وجود الدليل النقلي لا يتعارض مع الاستدلالات العقلية (الأدلّة السمعية من الكتاب والسنّة وهي أكثر من أن تحصى ولا محذور في التمسّك بالأدلّة السمعية في باب التوحيد وهذه هي المعتمد عليها عندي) «1».

خاصّة وأنّ الأدلّة العقلية المذكورة لها جذور في الكتاب والسنّة الشريفة.

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار، ج 3، ص 234.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 159

مصادر الشرك الهامّة

اشارة

1- إتّباع الأوهام

2- اتّباع الحواس

3- المصالح الوهميّة

4 و 5- عاملي التقليد والاستعمار

نفحات القرآن، ج 3، ص: 161

1- إتّباع الأوهام

تمهيد:

بما أنّ الفطرة الإنسانية- كما أسلفنا في بداية بحث التوحيد- قد نشأت على التوحيد والوحدانية، كما أنّ الأدلّة العقلية والنقلية الواضحة تعزّر هذه الفكرة، فإنّ هذا السؤال يطرح نفسه وهو: ما السبب في أن ينبت الشرك وينمو كالشوك في طريق معرفة اللَّه لدى الإنسان؟

وما هي جذور هذا الانحراف الكبير أو الانحراف الفكري الأكبر لدى الإنسان؟

من خلال دراسة تاريخ الأنبياء عليهم السلام والاقوام البشرية المختلفة وادّعاءات عبدة الأوثان على مرّ التاريخ نستطيع كشف الستار عن الجذور الأساسية للشرك، ومن المُسلّم أن معرفة مصادر وجذور الشرك ستكون عاملًا مساعداً ومؤثراً في مواجهة هذه الآفة الكبرى لأنّ معرفة أسباب أي مرض تكون كفيلة بعلاج ذلك المرض.

وبهذا التمهيد نراجع القرآن الكريم لنتأمل الآيات التالية:

1- «وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ الهاً آخَرَ لَابُرهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ انَّهُ لَايُفْلِحُ الكَافِرُونَ». (المؤمنون/ 117)

2- «مَا تَعْبدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيتُمُوهَا أَنْتُم وَآبَاؤُكُم مَّا أَنْزَلَ اللَّهُ بِها منْ سُلْطَانٍ إِنِ الحُكمُ إِلَّا للَّهِ أمَرَ أَلَّا تَعْبُدوا إِلَّا إيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ القَيَّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ». (يوسف/ 40)

3- «وَيَعْبدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَم يُنَزِّلْ بهِ سُلْطاناً ومَا لَيْسَ لَهُمْ بهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمينَ مِنْ نَّصِيرٍ». (الحجّ/ 71)

نفحات القرآن، ج 3، ص: 162

4- «أَلَا إِنَّ للَّهِ مَنْ فِى السَّماواتِ وَمَنْ فِى الْأَرْضِ وَما يَتّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ». (يونس/ 66)

5- «وَمَا يَتَّبِعُ أَكثَرُهُمْ إِلَّا ظَنّاً إِنَّ الظَّنَّ لَايُغْنِى مِنَ الحَقِّ شَيئاً إِنَّ اللَّهَ عَليمٌ بِمَا يَفعَلُونَ».

(يونس/ 36)

6- «إِنْ هِىَ إِلَّا أَسْماءٌ

سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُم وَآباؤُكُمْ مَّا أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَنَّ وَما تَهوى الأَنْفُسُ». (النجم/ 23)

7- «أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُم هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَّعِىَ وذِكْرُ مَنْ قَبْلِى بَل أَكْثَرُهُمْ لَايَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ». (الأنبياء/ 24)

شرح المفردات:

«الظنّ»: يعني- كما يقول الراغب في المفردات-: الحالة الحاصلة من ملاحظة علامة شي ء، فإنّ قوى صار علماً وإن كان ضعيفاً فإنّه لا يتجاوز حدّ الوهم، وأمّا ابن منظور فإنّه يقول في لسان العرب: يستعمل الظنّ بمعنى الشكّ واليقين كليهما إلّاأنّه ليس اليقين الحاصل بالنظر بل بالتدبّر، وأمّا الحاصل عن طريق المشاهدة فإنّه يطلق عليه ب (العلم).

ويقول ابن الأثير في النهاية: إنّ الظنّ يستعمل تارةً بمعنى العلم واخرى بمعنى الشكّ وتارةً بمعنى التهمة.

وقد استعمل هذا اللفظ في آيات البحث بمعنى الأوهام الواهية وعديمة الأساس (الآيات نفسها تتضمّن قرائن على هذا المعنى وستتمّ الإشارة إليها).

«خرْص»: على وزن (غرْس) يعني كما يقول صاحب (صحاح اللغة) تخمين وزن التمر الذي يحصل من رطب النخيل، كما أورد الراغب هذا المضمون في مفرداته.

ثمّ أطلق على كلّ حدس وتخمين وبما أنّهما لا يصيبان دائماً، فإنّه استعمل بمعنى الكذب أيضاً، وهذا اللفظ يطلق في الأساس على كلّ ظنّ لا أساس راسخ له.

كما أنّ هناك معانٍ اخرى لمشتقّاته مثل (الرمح) (الحلقة) و (الحوض الكبير الذي يكون

نفحات القرآن، ج 3، ص: 163

على ساحل النهر ويدخل فيه ماؤه ويرجع منه) ولا يبعد أن ترجع هذه المعاني كلّها إلى الجذر نفسه حيث يقترن التخمين والظنّ بالتزلزل وعدم الثبات ويتّصف الرمح والحلقة والحوض الخاصّ المذكور بهذا الوصف «1».

«برهان»: هو الدليل القطعي المحكم وجاء أيضاً بمعنى الدليل والإيضاح، ويقول الراغب في المفردات: البرهان يعني

البرهان المحكم، ويعتقد البعض أنّه مشتقّ من (بَرَهْ) ويعني الإبيضاض، ثمّ اطلق على كلّ كلام واضح وصريح ليس فيه أي إبهام، أو الامور الواضحة التي لا خفاء فيها «2».

وما ورد في الحديث: (الصدقة برهان) لعلَّة لما للإنفاق في سبيل اللَّه من دلالة على صحّة إيمان الإنسان.

«سلطان»: ويعني في الأصل- كما في مقاييس اللغة- القوّة والقدرة المصحوبة بالغلبة وبما أنّ الاستدلال القوي يكون سبباً لتغلّب الإنسان على طرفه المقابل فإنّ لفظ (سلطان) اطلق على الدليل المحكم أيضاً.

«سليط»: ورد تارةً بمعنى الرجل الفصيح، واخرى بمعنى الإنسان المزعج والبذي ء اللسان و (سليطة) الذي يستعمل في النساء يحمل على هذا المعنى الأخير وكلّها مشتقّة من مادّة (سلطة).

جمع الآيات وتفسيرها

الغور في عالم الأوهام!

تؤكّد الآية الشريفة الاولى- من خلال الإشارة إلى عقوبة المشركين- على حقيقة أنّ

__________________________________________________

(1) التحقيق في كلمات القرآن الكريم، مادّة (خرص).

(2) التحقيق في كلمات القرآن الكريم والكلمات التي نلاحظها مثل (برهن، يبرهن) أو الوصف (مبرهن) فإنّه لون من الإشتقاق الإنتزاعي نظير كلمة (سلطان) المشتقّة من سلْط (سلطن يسلطن).

نفحات القرآن، ج 3، ص: 164

(الشرك) ليس له أي دليل أو برهان وعليه يكون وليداً للظنون والأوهام فتقول: «وَمَنْ يَدعُ مَعَ اللَّهِ الهاً آخَرَ لَابُرهَانَ لَهُ بِه فَإِنَّمَا حِسابُهُ عِندَ رَبِّهِ انَّهُ لا يُفْلِحُ الكافِرُونَ».

ومن الملاحظ أنّ عقوبة المشركين هنا غير موضّحة بل تقول الآية: «حِسابُه عِندَ رَبِّهِ» وهو أكبر تهديد، لأنّ العظيم والقاهر هو المحاسب فيكون عقابه شديداً قطعاً وعبارة (لا برهان له) تفيد- في الواقع- هذا الأمر وهو: أنّ الشرك لا يدلّ عليه أي دليل سواء كان عقليّاً أو نقليّاً ولا تنسجم الفطرة معه ولا المنطق، بل كلّما أمعنّا النظر في هذه القضيّة ظهر بطلانها أكثر.

والتعبير ب «لا

يُفْلِحُ الكافِرُونَ» شامل ينفي كلَّ فلاح عن الكافرين في الحياة المادية والمعنوية، في الدنيا والآخرة، ويؤيّد هذه الدعوى مشاهدتنا اليومية للذين لا يؤمنون.

أسماء بلا عناوين:

طرحت الآية الثانية هذا المضمون في إطار جميل آخر وتقول عن لسان يوسف عليه السلام وهو يخاطب صاحبيه في السجن: «مَا تَعْبدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيتُمُوهَا أَنْتُم وآباؤُكُم» والشاهد على ذلك هو أنّها «مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِها منْ سُلْطانٍ»، فلو كانت حقائق لقام عليها الدليل العقلي والنقلي، فمن المحال أن يفقد الدليلَ أمرٌ بهذه الدرجة من الأهميّة (وهو وجود الشريك للَّه عزّ وجلّ)، وعدم الدليل هذا دليل على العدم!

من هنا تستنتج الآية في الخاتمة: «إنِ الحُكمُ إِلَّا للَّه» و «أَمَرَ ألَّا تَعْبُدوا إِلَّا إِيَّاهُ» و «ذَلِكَ الدِّينُ القَيَّمُ وَلكِنَّ أَكْثَر النَّاسِ لَايَعْلَمُونَ».

وكلّ جملة- في الحقيقة- في هذه الآية بمثابة دليل على نفي الشرك، حيث تقول من جهة: إنّ اللَّه لم ينزل أي دليل على وجود آلهتكم، وتقول من جهة اخرى: إنّ حاكمية العالم وتدبيره مختصّ به حيث تلاحظ علامات الوحدة في التدبير في كلّ مكان.

وتقول من جهة ثالثة: إنّه أمر بعبادة الإله الواحد، فهل يعقل أن يأمر الإله الحكيم بأمر كاذب؟

نفحات القرآن، ج 3، ص: 165

وفي الختام فإنَّ الآية تعتبر الشرك ناشئاً من الجهل.

ونقل بعض المفسّرين بأنّ عبدة الأصنام كانوا يعتقدون بأنّ اللَّه هو النور الأعظم، ويعتقدون بأنَّ الملائكة أنوار صغيرة، وأمّا الأصنام في الأرض فإنّها مظهر للأنوار السماوية تلك ويطلقون عليها (المعبود) وبذلك تكون معبوداتهم أسماءً بدون مسمّى «1».

ولو تغافلنا عن هذا المعنى أيضاً وسلّمنا بأنّ الأصنام هي الآلهة لديهم لا مظاهر لها فإنّها كانت أسماء دون مسمّيات أيضاً، وذلك لعدم وجود أثر من آثار الالوهية في هذه الأحجار والأخشاب الجامدة.

وقد

تضمَّنت الآية الثالثة محتوىً شبيهاً لما في الآية السابقة حيث تقول في ذمّ عبدة الأوثان: «وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَم يُنَزِّلْ بهِ سُلْطاناً».

وهو في الحقيقة نفي لوجود دليل نقلي، وتضيف الآية: «ومَا لَيْسَ لَهُمْ بهِ عِلْمٌ»، وفي ذلك إشارة إلى نفي لوجود دليل عقلي.

وتقول الآية في الخاتمة: «وَما لِلظّالِمينَ مِنْ نَصِيرٍ».

فلا معين لهم على دفع عذاب اللَّه ولا رشد لهم في طريق الهداية ولا ينصرهم الدليل العقلي (ويمكن أن تجتمع التفسيرات الثلاثة في مفهوم الآية).

الاستناد إلى الحدس والتخمين:

تحدّثت الآية الرابعة في أوّلها عن مالكية اللَّه لجميع مَن في السماوات والأرض حيث تقول: «أَلَا إِنَّ للَّهِ مَنْ فِى السَّماواتِ وَمَنْ فِى الأَرْضِ».

وهذا التعبير يمكن أن يكون إشارة إلى عقيدة المشركين الذين أقرّوا بأنّ المالك والحاكم الأصلي هو اللَّه، ومع ذلك فإنّهم كانوا يعبدون الأصنام، كما يمكن أن يكون إشارة إلى أنّ النظام الواحد لعالم الوجود دليل على أنّ المدبّر الواحد هو الحاكم عليه.

ثمّ تضيف: «وَمَا يَتَّبِعُ الّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ».

__________________________________________________

(1) التفسير الكبير، ج 18، ص 141.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 166

بل إنّهم يتّبعون أوهامهم وظنونهم فقط: «إِنْ يَتَّبعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ» «1».

«يخرصون»:- كما اشير سالفاً- مشتقّ من (خرْص) ويأتي بمعنى (التخمين) و (الكذب) لأنّ التخمين لا يصيب في أكثر الموارد، وآية البحث تحتمل المعنيين.

وقد ورد هذا المضمون وبفارق يسير في الآية الخامسة التي تقول بعد ذكر انحراف عبدة الأوهام: «وَما يَتَّبِعُ أَكثَرُهُمْ إِلَّا ظَناً إنَّ الظَنَّ لَايُغنِى مِنَ الحقِّ شَيئاً»، ثمّ تهدّد هؤلاء الظانين بتعبير ذي معنى كبير: «إِنَّ اللَّهَ عَليمٌ بِما يَفْعَلُونَ».

أجل، إنّ الظنّ والوهم كالسهم في الظلام، لا يمكن أن نصيب به الهدف، ولو أصاب الهدف أحيانا فإنّه

يكون محض صدفة، من دون معرفة للهدف.

«الظنّ»: في اللغة يشمل كلّ ظنّ ووهم، وإن أطلق أحياناً على اليقين أيضاً إلّاأنّ المراد في آية البحث هو المعنى الأوّل.

ومن الملاحظ إنّ اتّباع الظنّ ينسب إلى أكثرهم لا إلى جميعهم، وقد لفت هذا المعنى نظر الكثير من المفسّرين.

فقال البعض إنّ (أكثر) هنا تعني الجميع (ولم يقم على هذا التفسير دليل).

ومن الأفضل: أن يقال إنّ الآية تقصد الغالبية الجاهلة التي تتأثّر بالأوهام الخاطئة وتتعرّض للشرك، وتقابلها الفئة القليلة من رؤوس الضلال الذين يدعون الناس إلى الضلال «2» على علمٍ منهم، والأمل في الهداية موجود طبعاً في الفئة الاولى فقط والخطاب موجه اليهم.

كما احتمل البعض أنّ في (أكثر) إشارة إلى جماعة تتبع الظنّ والوهم طيلة حياتها ومن جملتها (الشرك) فهي تطفو فوق أمواج من الأوهام وحجب الظلام والخيال «3».

__________________________________________________

(1) وفقاً لهذا التفسير تكون (ما) في «وما يتبع» نافية وفاعل (يتبع) هو (الذين) ومفعول (شركاء) أي أنّ المشركين لا يتّبعون في الحقيقة شريكاً للَّه تعالى (لأنّ اللَّه لا شريك له وهؤلاء الشركاء من صنع الأوهام)، ولكن احتمل جمع من المفسّرين بأنّ (ما) هنا إستفهامية فيكون معنى الجملة هو: أي شي ء يتّبعونه من دون اللَّه ويجعلونه شريكاً له؟ فهل هناك إلّاالظنّ؟ (النتيجة في الإثنين واحدة تقريباً). راجع تفسير مجمع البيان؛ وتفسير الكبير؛ والقرطبي؛ وتفسير الكشّاف؛ وروح المعاني في ذيل آية البحث وقد احتمل البعض أنّ (ما) هنا موصولة إلّاأنّه يبدو بعيداً.

(2) ورد ما يشابه هذا المضمون في تفسير روح البيان، ج 4، ص 45؛ وتفسير روح المعاني، ج 11، ص 103.

(3) وقد ورد هذا الاحتمال أيضاً في تفسير روح المعاني.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 167

الآية السادسة تُشبه الآية الثانية

في مضمونها من جهات، حيث تقول: «إِنْ هِىَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُم وَآبَاؤُكُمْ مَّا أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ» وهذه الجملة توضّح هيمنة روح التقليد الأعمى على المشركين حيث اتّبعوا أسلافهم بعيون وآذان مغلقة ثمّ تضيف: «إِنْ يَتَّبعُونَ إِلَّا الظَنَّ وَمَا تَهوى الأَنْفُسُ».

والملاحظة الجديدة هنا هي عطف (هوى النفس) على (الظنّ) وهو تعبير كثير المعنى وفيه إشارة إلى أنَّ هذه الظنون الواهية تنشأ من هوى النفس الذي يجعل من الباطل حقّاً في منظارهم، فهم إذن يعبدون أهواء أنفسهم في الواقع والأصنام الاخرى وليدة لها!

وعليه يكون مصدر الانحراف والضلال لديهم في الواقع أمرين: عدم الاستناد إلى اليقين من الناحية العقلية والعقائدية والتمسّك بالظنون والإنصراف عن فطرة التوحيد الصحيحة من الناحية العاطفية والإستناد إلى هوى النفس.

وهذه النقطة جديرة بالإهتمام أيضاً وهي أنَّ (يتّبعون) و (تهوى فعلان مضارعان، ويعني ذلك أنّ هؤلاء يستمرّ اتباعهم للظنّ وهوى النفس ويتلونون كلّ يوم بلون جديد!

والملاحظ إنّ أوّل الآية تخاطب المشركين وآخرها تذكرهم باستخدامه ضمير الغائب (التفات من المخاطب إلى الغائب) وفي ذلك إشارة إلى أنّهم لا شأن لهم حتّى يستحقّون الخطاب.

أظهرت الآية السابعة والأخيرة الحقيقة نفسها ولكن في إطار جديد حيث تقول: «أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِه آلِهَةً» «قُلْ هَاتُوا بُرْهانَكُم».

ولعدم امتلاككم دليلًا واضحاً وموجّهاً على الشرك فإنّكم مدانون.

ثمّ تقوم الآية بتوضيح الدليل على بطلان عقيدتهم وتقول: «هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِىَ وذِكْرُ مَنْ قَبْلِى» «1».

والتعبير ب (ذكْر) بدلًا عن الكتب السماوية إشارة إلى أنّ جميع هذه الكتب عامل تذكير

__________________________________________________

(1) في هذه الآية استدلال بالدليل النقلي في حين استدلّ في الآيتين السابقتين بالدليل العقلي وبرهان التمانع (تدبّر).

نفحات القرآن، ج 3، ص: 168

ووعي، وقد ذكر بعض المفسّرين معاني اخرى لكلمة «ذكر» ولكنّها لا

تبدو مناسبة.

وقد أكدّ ذيل الآية مرّة اخرى على هذا المضمون حيث يقول: «بَلْ أَكثرُهُمْ لَايَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُّعْرِضُونَ»، وإن كانت هناك فئة قليلة تدرك القضايا، إلّاأنّها لا تظهر الحقّ لإحساسها بالخطر على مصالحها اللامشروعة.

ويمكن الإستنتاج جيّداً من مجموع الآيات الواردة بأنّ الشرك وعبادة واتخاذ آلهة من دون اللَّه ليس له دليل عقلي ولا برهان نقلي، ومن المحال أن تكون مثل هذه القضيّة المهمّة موجودة ولا يوجد لها دليل عقلي أو نقلي، وعليه فإنّ فقدان الدليل هذا، دليل قاطع على بطلانه.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 169

2- اتّباع الحواس

تمهيد:

عندما يولد الإنسان في هذا الكون فإنّه يرى المحسوسات ويميل إليها ويتّخذها أساساً لمعلوماته، وعندما يسمو في فكره وعلمه فإنّه يتعرّف تدريجياً على القضايا العقلية والفكرية.

إنّ البعض وبسبب التخلف الثقافي فإن إدراكهم يتوقف على مرحلة الحس، فلا يمكنهم أن يفكروا أو يؤمنوا بشي ء سوى المحسوسات، فهم يتوقعون بأنّ اللَّه وجود حسي، فيمكنهم أن يرونه أو يلمسونه! وهذا التوجه يمثل عاملًا مهماً في توجههم لعبادة الأصنام والآلهة المحسوسة، وعلى مرّ التاريخ.

وبهذه الإشارة نتوجّه إلى القرآن الكريم لنمعن خاشعين في الآيات التالية:

1- «وَقَالَ الَّذِينَ لَايَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَولَا انزِلَ عَلَينَا الملائكَةُ أَو نَرَى رَبَّنا لَقَدِ استَكْبَرُوا فِى أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوّاً كَبِيراً». (الفرقان/ 21)

2- «يَسئَلُكَ أهْلُ الكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَليهِمْ كِتاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالوا أَرِنَا اللَّهَ جَهَرةً فَأخَذَتْهُمُ الصَّاعِقةُ بِظُلْمِهِم ثُمَّ اتَّخَذُوا العِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جاءتْهُمُ البَيّنَاتُ فَعَفَونَا عَنْ ذلِكَ وآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مُّبِيناً». (النساء/ 153)

3- «وَقَال فِرعَونُ يَاأَيُّهَا المَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيرِى فَأَوْقِدْ لِى يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فاجْعَلْ لِّى صَرْحاً لَّعلّى أَطَّلعُ إِلَى إِلهِ مُوسى وَانِّى لَأَظُنُّهُ مِنَ الكَاذِبِينَ».

(القصص/ 38)

نفحات

القرآن، ج 3، ص: 170

4- «وَقَالُوا لَنْ نُّؤمِنَ لَكَ حَتَّى تَفجُرَ لَنَا مِنَ الأَرضِ يَنْبُوعاً* ... أَو تُسقِطَ السَّمَاءَ كَما زَعَمْتَ عَلَينا كِسَفاً أَو تَأتِىَ بِاللَّهِ والمَلَائِكةِ قَبِيلًا». (الإسراء/ 90- 92)

5- «هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأتَيهُمُ اللَّهُ فِى ظُلَلٍ مِّنَ الغَمَامِ والمَلائِكَةُ وقُضِىَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ». (البقرة/ 210)

جمع الآيات وتفسيرها

لماذا لا نرى اللَّه؟

إنَّ الآية الاولى نقلت ما قالَهُ الكفّار والمشركون والذي يشير بوضوح إلى امنيتهم في أن يكون اللَّه مثلهم ذا جسم ويمكن النظر إليه حيث تقول: «وَقَالَ الَّذِينَ لَايَرجُونَ لِقَاءَنَا لَولَا أُنزِلَ عَلَينَا المَلَائِكَةُ أَو نَرَى رَبَّنَا».

إنّهم طالبوا برؤية ملائكة الوحي أوّلًا، ثمّ سوّلَتْ لهم أمانيهم أن يطالبوا برؤية اللَّه، ويبدو أنّهم لا يقرّون بالإله المجرّد وغير المحسوس، والظاهر أنّ هذا الكلام كان لرؤوس الشرك وعبدة الأصنام وقد علموا بالحقيقة إلّاأنّه ومن أجل إغفال عامّة الناس الذين يرون كلّ شي ء في إطار الحسّ قاموا بطرح هذا الكلام أمام النبي الأكرم صلى الله عليه و آله لكي يهزموهُ حسب زعمهم ولذا وصفهم القرآن الكريم بأنّهم قوم لا يؤمنون بالقيامة ولا يشعرون بالمسؤولية، ولهذا تقول الآية في ذيلها: «لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِى أَنْفُسِهِم وَعَتَو عُتَوّاً كَبِيراً». وقد ذكر المفسّرون للآية 27 من هذه السورة الفرقان سبباً للنزول يدلّ على أنّ هذه الآيات نزلت في جمع من أئمّة الشرك في قريش.

وذيل الآية يشير أيضاً إلى أنّ مصدر هذه الادّعاءات الضخمة والخاطئة هو ابتلاؤهم بالكبر والغرور أوّلًا وسلوك طريق (العتو) وهو التمرّد المصحوب بالعناد واللجاجة في أمر اللَّه ثانياً، ولم يختصّ بذلك العرب فحسب، بل ما زال جمع من علماء عصرنا المغرورين والمتمرّدين المادّيين الذين يعتقدون أنّ كلّ شي ء يجب إجراء التجربة عليه ورؤيته في المختبر وبالوسائل الحسيّة، ويقولون: إنّنا لا نؤمن

باللَّه حتّى نراه جهرة، وبهذا تكون

نفحات القرآن، ج 3، ص: 171

المجموعتان محصورتين في إطار الحسّ، في حين تكون العوالم الخارجة عن الحسّ أوسع بكثير من عالم الحسّ.

طلبوا ذلك من موسى !

تتحدّث الآية الثانية أوّلًا عن حجج اليهود وتقول: «يَسْئَلُكَ اهلُ الكِتَابِ ان تُنَزِّلَ عَلَيهِم كِتاباً مِّنَ السَّمَاءِ». قال جماعة في تفسيرها أنّ مرادهم كان بأن ينزل عليهم كتاباً مخطوطاً على قراطيس معلومة من السماء ليشاهدوه بعيونهم ويلمسوه بأيديهم «1».

وقالت جماعة اخرى: إنّ مرادهم هو لماذا لم ينزل جميع القرآن مرّة واحدة على النبي صلى الله عليه و آله؟! والقرآن يجيبهم: لا عجب من هذا الطلب الخاوي لهؤلاء المعاندين اللجوجين بعد مشاهدة المعجزات والقرائن التي تصدّق دعوة نبي الإسلام صلى الله عليه و آله: «فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى اكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهرَةً»! وبسبب هذا الطلب الخاطئ: «فَأَخَذَتهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلمِهِم».

أجل، إنّهم ظلموا أنفسهم وراحوا يتعلّلون، وحبسوا عقولهم في إطار الحسّ ولم يسمحوا لها بالتجرّد من هذا النطاق الضيّق إلى افق عالم ما وراء الطبيعة، ولهذا أنزلت عليهم صاعقة من السماء وأهلكتهم غير أنّ اللطف الإلهي ودعاء موسى عليه السلام قد أدركهم أخيراً وواصلوا حياتهم مرّة اخرى، والعجيب أنّ هذا الحدث العجيب لم يوقظهم، حيث مالوا إلى السامري في اقتراحه بعبادة العجل! ونقرأ في الآية: «ثُمَّ اتَّخَذُوا العِجلَ مِن بَعدِ مَا جَاءَتهمُ البَيِّناتُ»، وكأنّهم لم يُؤمنوا إلّابالإله المحسوس، ولم تقوَ أرواحهم على العروج إلى عالم ما وراء الطبيعة.

ومرّة اخرى شملهم اللطف الإلهي حيث تقول الآية في ذيلها: «فَعَفَونَا عَن ذَلِكَ وآتَينَا مُوسَى سُلطَاناً مُّبِيناً».

__________________________________________________

(1) وقد وافق على هذا صاحب التفسير في ظلال القرآن، ج 2، ص 583 وقد نقله الفخر الرازي ويبدو تفسيراً مناسباً وإن لم يتعارض

مع التفسير الثاني.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 172

والمراد من (سلطان مبين) هنا هي الحكومة التي أعطاها اللَّه عزّوجلّ لموسى عليه السلام فقد غلب المعارضين من الناحية الظاهرية ومن الناحية المنطقية والاستدلالية، ويعتقد بعض المفسّرين كالطبرسي في مجمع البيان بأنّ النصر هنا من الناحية المنطقية فقط «1».

دعني أرى اللَّه في السماء!

في الآية الثالثة مقالة تفوّه بها فرعون في هذا الشأن، وهي توضّح أفكار الشعب المصري آنئذ، فقد ألقى هذه المقالة في عصر كان لإسم موسى وانتصاره على السحرة صداه في مصر بأسرها، ولمّا شعر فرعون بخيبة أمل شديدة رأى أن يعمل شيئاً يصرف به أنظار الناس عن موسى عليه السلام ومعجزاته: «وَقَالَ فِرعَونُ يَاأَيُّهَا المَلَأُ مَا عَلِمتُ لَكُم مِّن إِلَهٍ غَيرِى» «2»

، ولذا أرى أنّ دعوة موسى إلى ربّ السماء والأرض خاطئة، وبما أنّي من أهل التحقيق، فقد خطر ببالي شي ء يظهر به صدق موسى أو كذبه، قم ياهامان: «فَاوقِدْ لِى يَاهَامَانَ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِّى صَرْحاً لَّعلّى أَطَّلعُ إِلَى إِلَهِ مُوسى «3»

، «وَإِنِّى لَأَظُنُّهُ مِنَ الكَاذِبِينَ».

ولا شكّ أنّ فرعون كان شديد المكر والدهاء وهو يدرك هذه القضايا الواضحة وهي أنّه ليس إلهاً، وأنّ مايقصده موسى من إله السماء، هو خالقه لا أنّ اللَّه يسكن السماء حقيقة، ولو تجاوزنا هذا الأمر وافترضنا أنّ اللَّه يسكن السماء فإنّه لا يمكن الوصول إليه ببناء برج عالٍ، فمنظر السماء من على قمم الجبال في العالم هو المنظر الذي يشاهد من فوق سطح الأرض، ولم تخف هذه القضايا على فرعون.

ولكن فرعون كان يفكّر في مخطّط آخر وأراد صرف الرأي العامّ الذي مال إلى موسى بشدّة وذلك بطرح هذه القضيّة المثيرة، كما أرادَ أن يشغل مجموعة من الناس ولمدّة طويلة

__________________________________________________

(1) تفسير مجمع البيان، ج

3، ص 134.

(2) يقول اللغويون في تفسير «ملأ»: يطلق هذا اللفظ على جماعة قد اجتمعوا على عقيدة واحدة وظاهرهم يملأالعيون (من مادّة ملأ) ومن هنا يستعمل هذا اللفظ بمعنى أشراف القوم ورؤسائهم وحواشي الملوك أيضاً.

(3) «صرح»: في الأصل تعني الخلو من الشوائب ثمّ تطلق على القصور والبيوت العالية والجميلة لأنّها بلغت من الكمال في بنائها إلى درجة لا يوجد فيها عيب أو نقص.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 173

ببناء برج عالٍ جدّاً، وفي النهاية يصعد إلى أعلى البرج ليحرّك نفسه ويقول: إنّي بحثت عن إله موسى عليه السلام في السماء فلم أجد له أثراً!

إنَّ هذه القضيّة توضّح أمراً مهمّاً وهو إنّ مستوى التفكير العامّ في مصر كان بسيطاً إلى حدّ أنّهم لم يكونوا ليصدقوا إلّابإلهٍ محسوس، وبالتالي يصدقون فرعون بادّعائه الالوهية وتوقّعوا أن يكون إله موسى جسماً في أعالي السماء! وفي مثل هذه الأجواء تشيع روح الصنمية وعبادة الأصنام قطعاً!

الآية الرابعة تنقل أقوال المشركين واحتجاجاتهم المتنوّعة والغريبة حيث طرح كلّ واحد اقتراحاً على النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وتمسّك بحجّة معيّنة حيث تقول الآية: «وَقَالُوا لَن نُّؤمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرضِ يَنبُوعاً» «1»

، وقد تمسّك البعض الآخر بحجج اخرى وقالوا أخيراً: «أَو تُسقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَينَا كِسَفاً أَو تَأتِىَ بِاللَّهِ وَالمَلَائِكَةِ قَبِيلًا» «2».

والمطالبة الأخيرة توضّح جيّداً أنّهم تصوّروا أنّ اللَّه والملائكة ذوو أجسامٍ وموجودات جسمانية، ولم يتحمّلوا تصوّر وجود خارج عن إطار عالم الجسم والطبيعة، ويعتقد بعض المفسّرين بأنّ مرادهم من الإتيان بالملائكة هو أن تأتي لتعيّن اللَّه! «3» أو تشهد على الوهيته، وتشير هذه كلّها إلى المستوى الفكري المتخلف لُاولئك القوم المعاندين.

أيتوقّعون أن يأتي اللَّه إليهم!

تحدّثت الآية الخامسة والأخيرة عن الكفّار

والمشركين وأفكارهم المنحطّة فتقول:

__________________________________________________

(1) «ينبوع» من «نبع» وتعني عين الماء.

(2) فسّرت كلمة «قبيل» تارةً بمعنى «المقابل»، وتارةً بمعنى الكفيل والشاهد، وتارةً بمعنى الجماعة والفئة، ويمكن الموافقة على المعاني الثلاثة في مورد الآية أعلاه.

(3) تفسير في ظلال القرآن، ج 5، ص 359.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 174

«هل يَنْظُرُونَ إِلَّا أنْ يَأتِيَهُمُ اللَّهُ فى ظُلَلٍ مِنَ الغَمامِ والمَلائِكَةُ» «1».

وقد اضطرب المفسّرون بشدّة في تفسير هذه الآية، فقد عدّها بعضهم من متشابهات القرآن فيلزم تفسيرها في ضوء المحكمات «2»، وقد ذكر البعض سبعة تفاسير لها «3».

وكان تصوّرهم عن مضمون الآية هو أنّه سيأتي اليوم الذي يأتي فيه اللَّه والملائكة في ظلّ الغيوم، ولا ينسجم هذا المعنى قطعاً مع ما يستفاد من آيات القرآن الصريحة في أنّه ليس بجسم ولا يمكن مشاهدته ولذا يجب تأويله.

في حين أنّ مضمون الآية شي ء أخر، والمراد منه هو الإستفهام الإنكاري ويشبه قولنا للذين يتماهلون في تحصيل العلم: أتتوقّع أن يُجعل العلم لقمة سائغة توضع في فمك؟! إن هذا التوقع ليس في محلّه.

إنَّ الآية أعلاه تقول أيضاً: هل أنّهم يتوقّعون أن يأتي اللَّه والملائكة للقائهم ويقفون أمامهم ويشهدون لهم؟! إنّه توقّع خاطئ وفي غير محلّه، فليس اللَّه بجسم ولا مكان ولا رواح أو مجي ء له، وبهذا ليس في الآية- كما نلاحظ- مشكلة خاصّة حتّى تحتاج إلى تأويل وتفسير معقّد أو أن تحسب من المتشابهات.

وتقول الآية في آخرها مهدّدة هذه الفئة المعاندة بالعقاب الشديد: «وَقُضِىَ الْأَمرُ»، وكان العذاب متحقّق الآن، ولذا جاءت بصيغة الفعل الماضي ثمّ تقول: «وَإِلَى اللَّهِ تُرجَعُ الامُورُ»، وليس لأحد القدرة على مواجهته وليس لأحد أن يقاوم أمره، وإذا تعلّقت مشيئته بعقوبة جماعة فكأنّها متحقّقة.

هل يتعلّق هذا التهديد

بيوم القيامة أو الدنيا أم الإثنين معاً؟ لا يبعد أن يتعلّق بالإثنين، لأنّ الآية ذات مفهوم واسع ولا يوجد دليل على تحديده بعذاب الدنيا أو الآخرة.

يتّضح ممّا أوردناه في تفسير الآيات المذكورة بأنّ الميل إلى الحسّ وتأثيره في تكوين

__________________________________________________

(1) يقول الفخر الرازي في التفسير الكبير: ج 5، ص 212 اتّفق المفسّرون على أنّ أحد معاني (النظر) هو الانتظار.

(2) تفسير الميزان، ج 2، ص 105.

(3) تفسير الكبير، ج 5، ص 213- 216.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 175

عقيدة الشرك والانحراف عن محور التوحيد طيلة تاريخ الأنبياء والامم السالفة ممّا لا يمكن إنكاره، وأنّ الأقوام المتخلّفة فكرياً وثقافياً، أو بقيت متخلّفة بفعل إعلام الطغاة، قد اعتقدوا أنّ الوجود منحصر في المحسوسات وتنتهي الفطرة الإلهيّة بالإله المحسوس وهذا هو أحد العوامل المهمّة في نشوء عقيدة الشرك في التاريخ.

توضيح

لماذا ألِفوا عالم الحسّ؟!

من الواضح أنّ اصول المعلومات لدى الإنسان بأجمعها تستمدّ من المحسوسات أوّلًا، لأنّ الإنسان حينما يفتح عينيه يلاحظ عالم المادّة ويتعرّف على عالم المحسوسات والطريق الموصل إلى ما وراء الحسّ، بل وتصوّر الوجود المجرّد عن الزمان والمكان والمادّة يتمّ بعد الدراسة والتحليل في المسائل الفكرية والعقلية والروحانية، فلا غرو إذن أن تكون عبادة الأصنام مذهباً للُامم المتخلّفة.

فمن جهة يعلو نداء عبادة اللَّه من باطن فطرتهم وتدعوهم قوى المعرفة الإلهيّة إليه، ومن جهة اخرى وبسبب مغلوبيتهم أمام عالم الحسّ والمادّة تصعُب عليهم معرفة اللَّه المجرّد عن الزمان والمكان والمادّة، ولذلك فإنّهم يسيرون في طريق الشرك ويشفون ظمأ أرواحهم بالآلهة الخيالية بصورة كاذبة.

وبما أنّ مجموعة من خدمة معبد الأصنام بل الكثير من الحكّام الطغاة ينتفعون من هذا الأمر فإنّهم يرغبون فيه، وفي النهاية يصبح كدينٍ رسمي للبلاد.

ومن العجيب أن

تترسّب هذه الأفكار أحياناً في أعماق الكثير من عباد اللَّه الحقيقيين، وللمثال على ذلك أنَّ بعض الناس يقول في قَسَمه: قسماً باللَّه الذي هو في السماء!! ويتصوّرون أنّنا حينما نرفع أيدينا إلى السماء حين الدعاء أنّ ذلك إشارة إلى اللَّه وأنّه يجلس على كرسي الإقتدار وقد اجتمعت الملائكة من حوله!

نفحات القرآن، ج 3، ص: 176

إنَّ هؤلاء غافلون حقّاً، فليس اللَّه في السماء وليس في رفع اليد في الدعاء إشارة إلى مركزه، بل إنّ رفع اليد يعني التسليم والإضطرار، أو كما ورد في بعض الروايات إنّ السبب هو نزول النعم الإلهيّة من السماء، فالمطر وضوء الشمس- وهما العمدة في حياة كلّ موجود حي- مصدرهما من السماء والتوجّه إلى السماء توجّه إلى الخالق العظيم لهذه النعم.

وعلى كلّ حال، ما لم ينضج الإنسان فكرياً يصعب زوال آثار الشرك عنه، فبنو اسرائيل الذين تربّوا في مدرسة التوحيد سنين طوال عند نبي من اولي العزم موسى عليه السلام وشاهدوا آثار عظمته بأعينهم عند نجاتهم من قبضة الفراعنة واجتيازهم النيل، وبمجرّد مرورهم على عبدة الأصنام وملاحظتهم الأصنام رجعوا وطالبوا موسى عليه السلام بأن يجعل لهم صنماً، فواجههم موسى بردّ فعل شديد وندموا على مقالتهم، ولم يمض وقت طويل عندما توجّه موسى عليه السلام إلى جبل الطور بصورة مؤقتة لكي يأخذ الألواح وأحكام الشريعة حتّى استغلّ السامري هذه الغيبة ليصنع لهم صنماً ودعا بني اسرائيل لعبادته، فترك أكثرهم طريق التوحيد وركعوا لعجل السامري وبقيت فئة قليلة مع أخ موسى (هارون) ملتزمةً بنهج التوحيد وهذا يشير إلى أنّ القادة السائرين في طريق التوحيد وخصوصاً أمام الأقوام المتخلّفة التي ترعرعت في أجواء الشرك يواجهون مشكلات كبيرة، وغسل آثار الشرك أساساً من القلوب ليس باليسير

ويحتاج إلى تربية فكرية وتربية ثقافية صحيحة.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 177

3- المصالح الوهمية

تمهيد:

إنَّ الوهم أساس الشرك، وكلّما ازدادت قوّة الوهم والخيال ونشطت لدى الإنسان اتَّسَعَ افق اعتقاده في الأصنام وبركاتها وآثارها إلى حدّ يضع الموجودات الفاقدة للشعور والعقل، الموجودات الجامدة والتافهة والمصنوعة من الحجر والخشب على جناح الوهم والخيال ويطير بها بشكل ينسب لها كلّ قدرة ويتذلّل لها كي ينعم ببركتها! أجل، إنّ المصالح الوهمية في الأصنام عامل آخر من عوامل الشرك على مرّ التاريخ، وبهذا التمهيد نتأمل خاشعين في الآيات القرآنية التالية:

1- «وَيَعبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَايَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ ويَقُولُونَ هؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَايَعلَمُ فِى السَّماواتِ وَلَا فِى الأَرضِ سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ». (يونس/ 18)

2- «وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ». (يس/ 74)

3- «وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً». (مريم/ 81)

4- «أَلَا للَّهِ الدِّينُ الخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحكُمُ بَينَهُمْ فِى مَا هُمْ فِيهِ يَختَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهدِى مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ». (الزمر/ 3)

شرح المفردات:

«شفعاء»: جمع (شفيع) من (الشفْع) ويعني كما يقول صاحب (مصباح اللغة): ضمّ شي ء

نفحات القرآن، ج 3، ص: 178

إلى شي ء آخر وكما يقول صاحب المفردات: يعني ضمّ شي ء إلى مثيله، وأمّا صاحب (مقاييس اللغة) فإنّه يذهب إلى أنّ أصله هو المقارنة بين شيئين.

هذه التعابير تعود كلّها إلى معنى واحد تقريباً ومن ثمّ أطلق على حالة انضمام شخص قوي ومكين إلى شخص أضعف من أجل إنقاذه وإعانته، وقد ورد بهذا المعنى في آية البحث هذه وكثير من الآيات القرآنية، كما جاء عدد (الشفع) بمعنى (زوج) في قبالة (الوتر) بمعنى الفرد.

«زُلفى : من (الزلْف) ويعني في الأصل القرب والمنزلة والدرجة كما يطلق

هذا اللفظ على الخطوة لما للخطوات من تقريب للهدف، وقد استعمل في آيات البحث بمعنى القرب المعنوي الذي توخّاه المشركون من عبادة الأصنام إلّاأنّ بعض المحقّقين يعتقد بأنّ (زُلفى أكمل من معنى القرب فهي المرتبة العالية من معنى القرب في الحقيقة «1»، ولكنّه رأي بعيد كما يبدو عند ملاحظة موارد الاستعمال، ويطلق هذا اللفظ على الساعات الاولى من الليل كما في قوله تعالى: «أَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَىِ النَّهَارِ وَزُلفاً مِّنَ اللَّيلِ». (هود/ 114)

جمع الآيات وتفسيرها

الأصنام شفعاؤنا؟!

تشير آية البحث الاولى إلى إحدى المعتقدات المعروفة لدى المشركين في الأصنام حيث تقول الآية: «وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَايَضُرُّهُم وَلَا يَنفَعُهُم وَيَقُولُونَ هؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ».

الكلام في أنّ هؤلاء كيف اعتقدوا بأنّ هذه الموجودات الجامدة لها الشفاعة عند اللَّه؟

للإجابة على السؤال قال بعض العلماء: إنّ المشركين كانوا يعتقدون أنّ عبادة الأصنام بمنزلة عبادة اللَّه ووسيلة للتقرّب إليه، وقد ظهر هذا الإعتقاد من طرق مختلفة.

وكانت فئة تقول: لسنا أهلًا لعبادة اللَّه دون واسطة، لأنّه عظيم جدّاً ولذا نعبد الأصنام

__________________________________________________

(1) التحقق في كلمات القرآن الكريم.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 179

كمظهر وصورة عن الملائكة لكي تقرّبنا إلى اللَّه، بينما قالت فئة اخرى بأنّ الأصنام هي القبلة لنا لدى عبادة اللَّه كما يستقبل المسلمون القبلة عند العبادة، وقد اعتقدت فئة اخرى بأنّ كلّ صنم يقترن به شيطان وكلّ من يعبد الصنم ويؤدّي حقّ عبادته فإنّ ذلك الشيطان يلبّي حوائجه بأمر اللَّه وإن لم يعبده فإنّ الشيطان يسي ء إليه «1»، وإلى ما شاكل من هذه الخرافات والأوهام.

وتشير الآية الثانية إلى عقيدة اخرى عند المشركين حيث تقول: «وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهةً لَعَلَّهُم يُنصَرُونَ»، وذلك من أجل أن تبادر إلى حلّ مشاكلهم وإعانتهم في الإبتلاءات

والحروب والأمراض، وتدفع عنهم خطر الجوع والقحط والجفاف، وتدافع عنهم في الآخرة؛ ويا له من خطأ فادح!؟ فإنّ القضيّة كانت معكوسة حيث يهرعون لإنقاذ أصنامهم من الأخطار ويحفظونها من الأعداء والناهبين! كما نقرأ في قصّة إبراهيم عليه السلام: «قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُم إِن كُنتُم فَاعِلِينَ». (الأنبياء/ 68)

إنَّ اعتقادهم بأنَّ الأصنام تحميهم وتعينهم لم يكن سوى خيال ووهم قطعاً، ولهذا الإعتقاد سببٌ في الإنحطاط الفكري والتخلّف الثقافي، وهذا الأمر هو أحد مصادر الشرك على مرّ التاريخ.

وقد طرحت الآية الثالثة هذا المضمون بشكل آخر حيث تقول: «وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهةً لِّيَكُونُوا لَهُم عِزّاً»، وليس المراد من العزّة هو السمعة، بل اكتساب القوّة والنصر والشفاعة من عند اللَّه، وكان هذا أيضاً وليداً لتوهّمهم، ولذا نلاحظ في هذه الآية من سورة مريم نفسها بأن حُجب الأوهام حينما تزول ويتنبّهُ العقل فإنّ المشركين يدركون خطأهم الفظيع وسرعان ما ينكرون عبادة الأصنام وينقمون عليها، كما ورد بإنّ المشركين يقولون يوم القيامة: «وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشرِكِينَ». (الأنعام/ 23)

__________________________________________________

(1) بلوغ الإرب، ج 2، ص 197.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 180

وأخيراً فإنّ الآية الرابعة والأخيرة بعد الإعلان عن: «أَلَا للَّهِ الدِّينُ الخَالِصُ» فهي تهدّد المشركين وتضيف: «وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعبُدُهُم إِلَّا لِيُقرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلفَى انَّ اللَّهَ يَحكُمُ بَينَهُم فِى مَا هُمْ فيه يَخْتِلِفونَ إِنّ اللَّهَ لَايَهدِى مَن هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ» «1».

توضيحات

1- منشأ الإعتقاد بالشفاعة

يعجب كلّ عاقل عندما يواجه قضيّة الشرك لأوّل مرّة، فكيف يمكن أن يخضع إنسان عاقل ذو شعور لتمثال حجري أو خشبي قام بصنعه بيده؟ فلو كان يمتلك قليلًا من العقل لكانَ هذا غير مقبول لديه، ولو عرفنا أسباب ذلك لوجدنا أنّ القضيّة ليست بسيطة كما نرى،

فإنّ مجموعة من الأوهام والسفسطة والخيال والعادات طُرحت كأدلّة عقلية وخدعت المشركين.

يقول الفخر الرازي في ذيل تفسير الآية 18 من سورة يونس:

فيمن قالوا في الأصنام هؤلاء شفعاؤنا عند اللَّه وذكروا فيه أقوالًا كثيرة.

1- إنّ قسماً من عبدة الأوثان اعتقدوا أنّ المدبّر لشؤون أقليم من أقاليم العالم، روح معيّن من أرواح عالم الأفلاك، ولأنّهم لا يصلون إلى تلك الروح صنعوا لها صنماً معيّناً واشتغلوا بعبادته، وكلّ قصدهم هو عبادة تلك الروح، ثمّ اعتقدوا أنّ تلك الروح عبد للإله الأعظم ومشتغل بعبوديته.

2- والقسم الآخر كانوا يعبدون الكواكب وزعموا أنّ الكواكب هي التي لها أهلية عبودية اللَّه تعالى، ثمّ لمّا رأوا أنّها تطلع وتغرب وضعوا لها أصناماً معيّنة واشتغلوا بعبادتها وغرضهم عبادة تلك الكواكب.

3- أمّا القسم الثالث، فقد وضعوا طلاسم معينة على تلك الأصنام وأخذوا يتقرّبون إلى

__________________________________________________

(1) قال كثير من المفسّرين بأنّ «والذين» مبتدأ وخبره «إنّ اللَّه يحكم بينهم» وجملة «ما نعبدهم» فيها محذوف هو بمنزلة الحال والتقدير «قائلين ما نعبدهم ...».

نفحات القرآن، ج 3، ص: 181

الأصنام بواسطة هذه الطلاسم «والطلسم: نوع من السحر، ويقول بعض المفسرين أنّ «الطلسم» عبارة عن أشكال ورسومات يعتقدون بأنّها تُمثل سلطات سماوية اختلطت مع الأرض، وأصبحت مصدراً لآثار عجيبة وغريبة! وهذه النقوش مفضلة على أشياء مختلفة، حيث يعتقدون بأنّها وسيلة لدفع الموجودات المؤذية وإبعاد أذاها عنهم» «1»

4- والبعض منهم صنعوا هذه الأصنام والأوثان على صور أنبيائهم وأكابرهم وزعموا أنّهم متى ما اشتغلوا بعبادة هذه التماثيل فإنّ اولئك الأكابر يكونون شفعاء لهم عند اللَّه تعالى.

5- وآخرون اعتقدوا أنّ الإله نور عظيم وأنّ الملائكة أنوار فوضعوا على صور الإله الأكبر الصنم الأكبر وعلى صور الملائكة صوراً اخرى.

6- لعلّ من بين عبدة الاصنام

طائفة من الحلولية حيث يعتقدون أنّ اللَّه يحل في الأجسام الشريفة ولذلك فانّهم دأبوا على عبادة هذه الاجسام «2».

و يقول مفسّر آخر: إنّ أوّل ما عُبِدت الأصنام في قوم نوح عليه السلام وذلك أنّ آدم كان له خمسة أولاد صلحاء وهم «ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر» فمات «ود» فحزن الناس عليه حزناً شديداً فاجتمعوا حول قبره في أرض بابل لا يكادون يفارقونه فلمّا رأى إبليس ذلك جاء إليهم في صورة إنسان وقال لهم: هل تريدون أن أصنع لكم ما إن نظرتم إليه ذكرتموه؟ قالوا: نعم، فصنع لهم تمثالًا.

وهكذا كلّما مات واحد من أبناء آدم صنعوا له تمثالًا وسمّوه بإسمه، وبتقادم الزمان وبنسيان الأجيال أعاد الشيطان قائلًا: إنّ أجدادكم كانوا يعبدون هذه الأصنام فاعبدوها، فأرسل اللَّه إليهم نوحاً عليه السلام فنهاهم عن عبادتهم فلم يجيبوه لذلك ... «3».

__________________________________________________

(1) دائرة المعارف دهخدا ج 32، ودائرة المعارف مصاحب، ج 2، مادة (طلسم).

(2) التفسير الكبير، ج 17، ص 600 (مع الإختصار اليسير).

(3) تفسير روح البيان، ج 4، ص 26 (باختصار).

نفحات القرآن، ج 3، ص: 182

2- تاريخ عبادة الأصنام والأوثان

إنّ أوّل من أقام عبادة الأصنام بين العرب هو عمرو بن لُحَي من قبيلة خزاعة، فقد خرج من مكّة إلى الشام في بعض اموره فلمّا قدم مآب من أرض البلقاء رآهم يعبدون الأصنام فقال لهم: ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدون؟ قالوا له: هذه أصنام نعبدها، نستمطرها فتمطرنا ونستنصرها فتنصرنا؛ فقال لهم: أفلا تعطونني منها صنماً فأسير به إلى أرض العرب فيعبدوه؟ فأعطوه صنماً يقال له (هُبل)، فقدم به مكّة فنصبه، وأمر الناس بعبادته وتعظيمه وكانت هناك صخرة يلي عليها السويق للحجّاج رجل من ثقيف وكانت تسمّى صخرة اللات، مات الرجل

فقال لهم عمرو: إنّه لم يمت ولكن دخل في الصخرة وأمرهم بعبادتها ... «1».

ونقل بعض آخر، إنّ ظهور عبادة الأصنام ابتدأته جماعة كانت تنزّه اللَّه إلى درجة لم تسمح لهم بعبادته ولذا صنعت صنماً أجلّ للتقرّب إليه! أو أنّها اعتقدت إنّ الإله عندما يخفى عن الحسّ والعقل فعبادته غير ممكنة، ولذا يجب التقرّب إليه من خلال المحسوسات!

وقال بعض المؤرّخين:

«ويزعمون أن أوّل ما كانت عبادة الحجارة في بني إسماعيل إنّه كان لا يظعن من مكّة ظاعن منهم، حتّى ضاقت عليهم، والتمسوا الفسح في البلاد إلّاحمل معه حجراً من حجارة الحرم تعظيماً للحرم فحيثما نزلوا وضعوه فطافوا به كطوافهم بالكعبة حتّى سلخ ذلك بهم إلى أن كانوا يعبدون ما استحسنوا من الحجارة وأعجبهم «2» حتّى خلق الخُلوف ...».

كما ورد في تفسير الميزان:

وقد كان عبدة الأصنام يعبدون الأصنام ليتقرّبوا بعبادتها إلى أربابها وبأربابها إلى ربّ

__________________________________________________

(1) تفسير روح البيان، ج 4، ص 26 (مع اختصار يسير) وقد ذكر العلّامة المجلسي في بحار الأنوار، ج 3، ص 248 بعد الروايات: 1، 7، 8 قصّة ظهور الشرك في قوم نوح هذا وقد ورد في (بلوغ الإرب ج 2، ص 200) قصّة عمرو بن لحي وهديته الخبيثة التي جاء بها من الشام كما نقل ابن هشام في السيرة النبوية ج 1، ص 78. موضوعاً قريباً من هذا المضمون.

(2) سيرة ابن هشام، ج 1، ص 79.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 183

الأرباب وهو اللَّه سبحانه ويقولون: «إنّنا على ما بنا من ألواث البشرية الماديّة وقذارات الذنوب والآثام لا سبيل إلى ربّ الأرباب لطهارة ساحته وقدسها ولا نسبة بينها وبينه.

فمن الواجب أن نتقرّب إليه بأحبّ خلائقه إليه وهم أرباب الأصنام الذين

فوّض اللَّه إليهم أمر تدبير خلقه، ونتقرّب إليهم بأصنامهم وتماثيلهم وإنّما نعبد الأصنام لتكون شفعاء لنا عند اللَّه لتجلب إلينا الخير وتدفع عنا الشرّ فتقع العبادة للأصنام حقيقة، والشفاعة لأربابها وربّما نسبت إليها» «1».

وبهذا ألبسوا معتقداتهم الخاطئة والخرافية ثوباً منطقياً في الظاهر، وظهر الضلال على صورة الهدى واحتلّت وساوس الشيطان مواقع المنطق والبرهان.

3- عوامل اخرى للشرك وعبادة الأصنام

في الحقيقة أنّ الشرك وعبادة الأصنام قضيّة معقّدة وليس وراءها عامل واحد كسائر القضايا الاجتماعية المعقّدة، بل هناك عوامل مختلفة تعاضدت على حدوثها.

فمثلًا نجد أنّ أقواماً عبدوا الشمس والقمر والكواكب وهناك جماعة عبدت النار، وجماعات عبدت الأنهار الكبيرة كالنيل في مصر، والكنج في الهند، ويعني ذلك أنّ كلّ ما فيه الخير والبركة، يكون مقدّساً، وكانت تتضاعف قدسيتها تدريجياً إلى حدّ اعتبارها آلهة!

وبتعبير آخر: كانوا يتيهون في عالم الأسباب وينسون اللَّه وهو (مسبّب الأسباب)، لافتقادهم البصيرة النافذة التي تجتاز الأسباب لتصل إلى خالق الأسباب وانتهى هذا بهم إلى عبادة الأصنام.

__________________________________________________

(1) تفسير الميزان، ج 10، ص 27 ذيل الآية 18 من سورة يونس.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 185

4 و 5- عاملي التقليد والاستعمار

تمهيد:

لا شكّ في أنّ عامل التقليد من العوامل المؤثّرة في توارث عبادة الأصنام جيلًا بعد جيل بل وانتشارها في العالم، ويستند القرآن الكريم إلى ذلك مراراً ويطرحه تحت عنوان الدليل الوحيد الذي يتمسّك به مشركو العرب.

إنّ العيش في أجواء الشرك واحترام الأجداد والأسلاف والتأثّر بالتلقين في مرحلة الطفولة قد تعاضدت فيما بينها على إبراز عمل خرافي وخاوٍ تماماً وهو عبادة مجموعة من الأحجار والأخشاب الفاقدة لكلّ شي ء بشكل منطقي ووجيه بل ومقدّس.

وبهذا التمهيد نراجع القرآن الكريم لنتأمل خاشعين في الآيات التالية:

1- «بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثارِهِم مُّهْتَدُونَ* وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِى قَريَةٍ مِّنْ نَّذيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آباءَنَا عَلَى امَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُّقتَدُونَ». (الزخرف/ 22- 23)

2- «قَالُوا نَعبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ* قَالَ هَلْ يَسمَعُونَكُمْ إِذ تَدعُونَ* أَو يَنْفَعُونَكُم أو يَضُرُّونَ* قَالُوا بَلْ وجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ». (الشعراء/ 71- 74)

3- «قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيهِ آبَاءَنَا وَتكُونَ

لَكُمَا الكِبْرِيَاءُ فِى الأَرْضِ ومَا نَحنُ لَكُمَا بِمُؤمِنِينَ». (يونس/ 78)

4- «وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيهِ آبَاءَنَا أَوَلوْ كَانَ آباؤُهُمْ لَايَعقِلُونَ شَيئاً ولَا يَهتَدُونَ». (البقرة/ 170)

نفحات القرآن، ج 3، ص: 186

5- «وَإِذَا تُتْلَى عَلَيهِم آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُم عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ» «1». (سورة سبأ/ 43)

شرح المفردات:

«صنم»: كما يقول الراغب في المفردات: تمثال من فضّة أو نحاس أو خشب يعبدونه ويتقرّبون به إلى اللَّه، وفي (لسان العرب): هذا اللفظ أخذ في أصله من (شَمَنْ) وهي كلمة فارسية أو آرامية أو عبرية «2».

وتعتقد جماعة من اللغويين أنّ الفرق بين (الصنم) و (الوثن) هو أنّ صنم يطلق على أصنام لها شكل وصورة خاصّة ولو لم يكن لها شكل وصورة خاصّة اطلق عليه (وثن).

«أب»: ويعني الوالد ويطلق أحياناً على السبب في حدوث شي ء أو (يقوم باصلاحه أو إظهاره) إلّاأنّ هذه المعاني لها خصائص كنائية في الظاهر، وقد جاء في (مقاييس اللغة): إنّ هذا اللفظ يدلّ في أصله على التربية والتغذية وبما أنّ الوالد يغذّي الإبن فقد أطلق عليه هذا اللفظ.

ونقرأ في «كلّيات أبي اللقاء» إنّ أصحاب الشرائع السابقة كانوا يطلقون (أب) على اللَّه لأنّه السبب الأوّل للخلق، ثمّ اعتقد الجهلاء والغافلون بأنّ (أب) هنا تعني الولادة (وبذلك سلكوا طريق الكفر).

وفي كتاب (التحقيق في كلمات القرآن الكريم) وبعد اعتبار الأصل في هذه المادّة هو التربية والتغذية ورد: بلحاظ هذا المفهوم أنّ للأب مصاديق كثيرة مثل اللَّه المتعالي، الوالد، النبي، المعلّم، الجدّ، العم وغيرها (ولذا فإنّ «أب» له مفهوم أوسع من معنى الوالد).

__________________________________________________

(1) وهناك آيات عديدة تتضمّن مضمون هذه الآيات نشير إلى مواضعها: الأعراف،

70 و 173؛ إبراهيم، 10.

(2) ورد لفظ «شمن» في المصادر الفارسية بمعنى عابد الصنم (راجع دائرة معارف دهخدا وقاموس معين وغياث اللغة).

نفحات القرآن، ج 3، ص: 187

جمع الآيات وتفسيرها

عبادة الأصنام دين أجدادنا!

إعتقدت طائفة من مشركي العرب أنّ الملائكة بنات اللَّه وعكفت على عبادتها، والآية الاولى في هذا البحث تردّ على هذا الفكر الجاهلي من جوانب مختلفة فتخاطبهم تارةً: إنّكم تفرحون بالوليد إذا كان ذكراً ولكن تحزنون إذا كان أُنثى فكيف تنسبون إلى اللَّه البنات؟ (هذا الجواب يناسب طبعاً- درجة فهمهم وأفكارهم) وتذكر تارةً اخرى حججهم الواهية لهذه العبادة وتردّهم وتصل إلى هذا الدليل أخيراً: «بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى امَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثارِهِم مُّهتَدُونَ» «1»

ولكن القرآن يخاطب النبي الأكرم صلى الله عليه و آله مباشرةً ويقول: إنّ التقليد الأعمى هذا والإتّباع اللامشروط واللامقيّد يمثّل عقيدة سلفية وهذه الأعذار الواهية التي لا أساس لها لا تنحصر في مشركي العرب فحسب بل: «وَكَذَلِكَ مَا أَرسَلْنَا مِنْ قَبلِكَ فِى قَريَةٍ مِّن نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُترَفُوهَا إِنَّا وَجَدنَا آبَاءَنَا عَلَى امَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقتَدُونَ».

وبذلك أشاروا إلى أنّ أحد العوامل الرئيسة في إنتشار خرافة الشرك جيلًا بعد جيل هو التقليد الأعمى واللامشروط واللامقيّد والتحجير على العقل والإدراك وعدم بذل جهود في التحقيق والتدبّر والإستسلام أمام خرافات الأسلاف.

والاستناد إلى عنوان (مترفون) كما يقول بعض المفسّرين فيه إشارة إلى أنّ التشبّث بالدنيا والإستمتاع باللذائذ المادّية والمتنوّعة والكسل أو الجزع من جهود التحقيق والاستدلال هو السبب لهذا التقليد الأعمى القبيح، فلو أنّهم تخلّصوا من هذا الحجاب المظلم لم يصعب عليهم رؤية وجه الحقيقة، ولهذا يقول النبي الكريم صلى الله عليه و آله: «حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة» «2».

__________________________________________________

(1) «امّة» في الآية- كما

يعتقد جمع من المفسّرين- عبارة عن المنهج المتّفق عليه لدى طائفة وقد فسّرها بعض المفسّرين بمعنى الجماعة والفئة، والمعنى الأوّل هو المشهور وإن وردت (امّة) في آيات اخرى بمعنى الجماعة وقد تأتي بمعنى المدّة الزمنية.

(2) التفسير الكبير، ج 27، ص 206، كما توجد إشارة إلى هذا الأمر في تفسير روح البيان وتفسير الميزان في ذيل آية البحث.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 188

والجدير ذكره أنّ ذيل الآية الاولى تنقل عنهم قولهم: «إِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهتَدُونَ» وقولهم في ذيل الآية الثانية «إِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقتَدُونَ» وهذا الاختلاف في التعبير قد يكون من قبيل (العلّة والمعلول) بمعنى أنّهم ادّعوا إنّنا إنّما نقتدي بأسلافنا لأنّ ذلك هو طريق الهدى والوصول إلى الحقّ!

على كلّ حال فإنّ القرآن الكريم في طول هذه الآيات يرد على هذا الفكر الباطل بشكل منطقي جميل ومحكم وينقل عن الأنبياء السابقين قولهم للمشركين المقلّدين الخرافيين:

«قَالَ أَوَلَو جِئتُكُم بِأَهدَى مِمَّا وَجَدتُّم عَلَيهِ آبَاءَكُم قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلتُم بِهِ كَافِرُونَ». (الزخرف/ 24)

وللتقليد- كما سنبيّن- أنواع وأقسام، فبعضه منطقي ويكون سبباً لانتقال العلوم من جيل إلى جيل آخر، وبعضه خرافة وحمق وسبب لانتقال الخرافات والقبائح ولكلّ ذلك علامات سوف نشير إليها لاحقاً.

الآية الثانية من مجموعة الآيات المتعلّقة بمواجهة إبراهيم عليه السلام مع عبدة الأصنام في بابل حيث سألهم بمنطقه الرصين الصريح: ما تعبدون؟ فكان جوابهم: «قَالُوا نَعبُدُ أَصنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ».

وبهذه الكلمات لم يقرّوا بالشرك فحسب بل راحوا يتفاخرون ويتباهون به، وقد سدّ إبراهيم عليه السلام الطريق عليهم من خلال سؤال واحد: «قَالَ هَلْ يَسمَعُونَكُم إذْ تَدعُونَ أَو يَنفَعُونَكُم أَو يَضُرُّونَ»، أي أنّها (الأصنام) إن لم تنفع ولم تضرّ فلابدّ من أن تسمع نداء عبّادها على الأقل وإلّا

لا معنى لعبادتها.

ولكن اولئك الذين لم يجرأوا على الادّعاء بأنّ الأصنام الحجرية والخشبية تسمع دعاءهم وتضرّعهم، كما أنّهم لم يمتلكوا دليلًا على إثبات ضرّها ونفعها لتبرير عملهم، اضطرّوا للتمسّك بأسلافهم والتشبّث بالتقليد الأعمى وقالوا: «بَلْ وَجَدْنَا آباءَنَا كَذَلِكَ يَفعَلُونَ».

نفحات القرآن، ج 3، ص: 189

وهذا الجواب وإن كان مخجلًا إلّاأنّهم لم يملكوا شيئاً ليقدّموه.

وفي طول هذه الآيات يردّهم إبراهيم عليه السلام بمنطق رصين: «قَالَ أَفَرَأَيتُم مَّا كُنتُم تَعبُدُونَ* أَنتُم وآباؤكُمُ الْأَقْدَمُونَ* فَإِنَّهُم عَدُوٌ لِّى إِلَّا رَبَّ العَالَمِينَ* الَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ* وَالَّذِى هُوَ يُطعِمُنِى ويَسقِينِ* وَاذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشفِينِ* وَالَّذِى يُمِيتُنِى ثُمَّ يُحيِينِ* وَالَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَومَ الدِّينِ». (الشعراء/ 75- 82)

أي أنّه أهل للعبادة فهو المبدى ء لكلّ الخيرات والبركات، لا تلك الموجودات الخاوية والفاقدة للقيمة.

وتنقلُ الآية الثالثة كلاماً لقوم فرعون وفيها انعكاس لهذا المضمون بشكل آخر حيث تقول: «قَالُوا اجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيهِ آبَاءَنَا وَتَكونَ لَكُمَا الكِبْرِيَاءُ فِى الْأَرْضِ» «1»

وعليه «وَمَا نَحنُ لَكُمَا بِمُؤمِنِينَ».

انّهم استندوا- في الحقيقة- إلى هذه النقطة فقط لإثبات صحّة مسلكهم وقداسته وهي أنّ هذا هو طريق الأسلاف ودينهم وعادتهم، ولكي يتّهموا موسى وهارون بأنّهما يتآمران قالوا: إنّكما تبغيان الحكومة عن طريق الدعوة إلى التوحيد وهدم الشرك وعبادة الأصنام من أساسها ولا نسمح بذلك! ويبدو أنّ هذا الكلام القي من قبل زبانية فرعون حيث عارضوا دعوة موسى وهارون للتوحيد بطريقين شيطانيين:

أحدهما: هو إثارة العواطف لدى عامّة الناس الجاهلين وذلك بالتحذير من أنّ دين أسلافهم في خطر، والآخر: هو إثارة سوء الظنّ فيهم بوصف دعوة موسى وهارون أنّها تجري وفق مخطّط مسبق للوصول إلى الحكم وإلّا فإنّها لا واقعية لها.

وقد استخدم هؤلاء الجبابرة والطغاة هذين الطريقين لاستغفال الناس ومواصلة

حكمهم

__________________________________________________

(1) «لتلفتنا» من «لفت» وهو الصرف عن الشي ء أو الإلفات إلى الشي ء لو تعدّت ب (من) فإنّها تعني الإنصراف و ب (إلى) فإنّها تعني (التوجّه).

نفحات القرآن، ج 3، ص: 190

الاستبدادي، كما يلاحظ في الآية حيث جاء التعبير أكثر صراحة: «قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخرِجَاكُم مِّنْ أَرضِكُم بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ المُثلَى . (طه/ 63)

الجواب الدائم للمشركين:

إنّ الآية الرابعة تنقل هذا المضمون على صورة إجابة دائمة من قبل مشركي مكّة حيث تقول: «وَاذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما انزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلفَينَا عَلَيهِ آبَاءَنَا».

وهذا في الحقيقة هو منطق كلّ معاند لجوج حيث يتوسّل بالتقليد حينما يعجز عن كلّ شي ء، التقليد الأعمى للأسلاف الضالّين والجاهلين والتفاخر بذلك دون امتلاك أي جواب تجاه الأدلّة المحكمة التي أقامها الأنبياء لإثبات حقّانية دعوتهم وبطلان الشرك وعبادة الأصنام.

والقرآن الكريم يردّ هذا المنطق بجملة قصيرة واحدة حيث تقول في طول هذه الآية بشكل سؤال: «أَوَلَو كَانَ آباؤُهُم لَايعقِلُونَ شَيئاً ولَا يَهتَدُونَ» «1».

أي أنّ تقليدهم لو كان كتقليد الجاهل للعالم لكان مقبولًا، ولكنّه ليس كذلك بل هو تقليد جاهلٍ لجاهلٍ آخر، واتّباع ضالٍ لضالٍ آخر، فمثلهم كالأعمى الذي يقوده أعمى آخر.

إنّ هذه الآية وما سبقها من آيات تتحدّث- كما يفهم من سياقها- عن مشركي العرب، وما احتمله بعض المفسّرين من انّها تقصد اليهود وما ورد عن ابن عباس بشأن سبب نزولها يُعد أمراً بعيداً.

__________________________________________________

(1) في الآية جملة مقدّرة معناها: «أيتّبعون ما ألفوا عليه آباءهم في كلّ حال وفي كلّ شي ء ولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون».

نفحات القرآن، ج 3، ص: 191

تحدّثت الآية الخامسة والأخيرة عن مشركي العرب أيضاً حيث كانوا: «وإِذَا تُتْلَى عَلَيهِم آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا

مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُم عَمَّا كَانَ يَعبُدُ آبَاؤُكُمْ».

والملفت للنظر أنّ القرآن الكريم يقول: إنّهم كانوا يواجهون (الآيات البيّنات) بمنطق (التقليد) والاستهزاء بالنبي الأكرم صلى الله عليه و آله فكانو يدعونه بكلمة «رجل» ولكي يستميلوا عامّة الناس إليهم يخاطبونهم ب (أسلافكم) بدلًا من (أسلافنا) ليثيروا عصبيتهم في مواجهة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله.

ومن مجموع هذه الآيات نستنتج أنّ ظاهرة التقليد الأعمى تعدّ من العوامل المؤثّرة في تناقل الإعتقاد بالصنم في العصور والقرون السالفة، ولم يكن الرسول الكريم صلى الله عليه و آله الوحيد من الأنبياء الذي تعرض لهذا الاسلوب عندما صدع بدعوته ونهض لمقارعة الشرك وعبادة الأصنام، فقد واجهه قومه بحجة تقليد الآباء والأجداد ومن سلفوا، وقد جاء هذا المعنى في الآية 43 من سورة سبأ والآية 22 من سورة الزخرف بل إنّ أنبياءً ورسلًا أمثال موسى عليه السلام، كما ورد في الآية 78 من سورة يونس وابراهيم عليه السلام، وكما ورد في الآيات 70 إلى 74 من سورة الشعراء وهود عليه السلام، وكما ورد في الآية 70 من سورة الاعراف وصالح عليه السلام، وكما ورد في الآية 62 من سورة هود تعرضوا إلى مثل ما تعرض له الرسول صلى الله عليه و آله حيث واجههم أقوامهم بحجة تقليد الاسلاف والسير على عاداتهم التي ألفوها منهم.

وهذه الحجة الواهية والمزيفة تثار في أوساط جميع الأقوام وعلى مرّ العصور، فعبدة الأصنام وفي كافة انحاء العالم ومن أجل مواجهة الأنبياء والرسل وحملة راية التوحيد، فانهم يثيرون مثل هذه الحجة الجاهله، وقد أشارت الآية 23 من سورة الزخرف إلى هذا المعنى

ومن الواضح أنّ التقليد الأعمى لم يكن العامل الأوّل لظهور الشرك، بل يشكّل عاملًا

لاستمراره وانتقاله من جماعة إلى اخرى ومن جيل إلى جيل.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 192

توضيحات

1- التقليد، عامل للتقدّم أم للإنحطاط؟

ممّا لا شكّ فيه أنّ التقليد إذا تمثّل في اتّباع وإقتباس عديمي الاطلاع من العلماء فإنّه عامل على إيجاد حركة تكاملية في المجتمعات البشرية وأساساً نجد أنّ العلوم والأفكار والآداب والعادات البنّاءة، كما أنّ الشؤون التربوية والإنسانية قد انتقلت من جيل إلى جيل عبر هذا الطريق.

إنّ الأطفال يكتسبون جلّ معلوماتهم من المجتمع عن هذا الطريق تقريباً، كما أنّ الصناعات والحِرف والفنون تتوسّع وتتكامل بهذا الطريق أيضاً، ولولا روح التقليد الإيجابية والبنّاءة لم تحدث هذه الحركة التكاملية أبداً.

إنّ تقليد «الجاهل للجاهل» أو «العالم للجاهل» يكون سبباً لشيوع الفساد والانحراف والاخلاق الفاسدة، والخرافات، والانحرافات الفكرية من قوم إلى قوم أو جيل إلى جيل، ومثل ذلك كمثل الماء الصافي والذي يمثل عصب الحياة، فإذا ما تلوث بالأمراض والميكروبات فسوف يصبح وسيلة لانتشار الميكروبات والأمراض والأوبئة.

وكثيراً ما ينشأ التقليد من الكسل والتعصّب، فالذين لا يتحمّلون جهود التحقيق لما فيهم من كسل يقبلون على التقليد، والمعاندون المتعصّبون الذين لا يهتمون للبحث عن نقاط القوّة لدى الأقوام الاخرى والإذعان لها، يألفون نقاط الضعف الموجودة في مجموعتهم، وقد كان هذا النمط من التقليد الأعمى والمتعصّب والرجعي هو العامل المهمّ لشيوع الشرك وعبادة الأصنام على مرّ التاريخ «1».

2- تزيين الشياطين وهوى النفس

يستفاد من الآيات القرآنية أنّ (اتّباع الهوى) كان من عوامل الشرك أيضاً، كما نقرأ في

__________________________________________________

(1) هناك بحوث حول أنواع التقليد وشرائط التقليد الإيجابي ودوافع التقليد الأعمى وشرحت كلمة (تقليد) في الجزء الأوّل من هذا التفسير في موضوع (حجاب التقليد)، ج 1، ص 273.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 193

قصّة السامري جوابه حينما سأله موسى عليه السلام عن الدافع لعمله بأنّه لاحظ اموراً لم يلاحظها غيره فقال: أخذت بعض آثار الرسول وألقيتها خارجاً وأقبلت على

الشرك: «وَكَذَلِكَ سَوّلتْ لِى نَفسى».

كما يستفاد من الآيات القرآنية أنّ تزيين الشيطان ووساوسه هي العوامل الممهّدة للشرك أو استمرارها، كما نقرأ في قصّة ملكة سبأ أنّ الهدهد عندما أخبر سليمان عليه السلام عن شرك قوم سبأ قال: «وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمسِ مِنْ دُونِ اللَّه وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ اعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَايَهتَدُونَ». (النمل/ 24)

وما ينبغي ملاحظته هو أنّ هوى النفس ووساوس الشيطان تظهر في إطار العوامل السابقة كعبادة الأوهام (التقليد الأعمى) (العصبية اللجوجة) ولذا لم نورد هنا عامل هوى النفس كعامل مستقل.

3- عامل الاستضعاف والاستعمار الفكري

يعتبر الشرك وعبادة الأصنام من الوسائل التي استخدمها المستكبرون والمستعمرون بشكل دائم لأنّه:

أوّلًا: إنّ البسطاء من الناس يُعتبرون وسائل طيّعة للمستكبرين، ولذا يكون التحرّك الاستعماري دائماً باتّجاه الجهل والغفلة في أوساط المستضعفين، ويسعى باستمرار إلى صدّ الناس عن الوعي واليقظة والعلم والفكر وغلق أي نافذة للتحقيق في وجوههم وإغراقهم في التقليد الأعمى الذي ينشأ منه الجهل المطبق كما يقول القرآن عن فرعون:

«فَاسْتَخَفَّ قَومَهُ فَأَطَاعُوهُ». (الزخرف/ 54)

وبما أنّ الشرك قائم على عبادة الأوهام والظنون فإنّه عامل مؤثّر في استغفال الجماهير، وهو أداة نافعة لتحقيق أهداف المستكبرين.

ثانياً: يعتبر الشرك عاملًا من عوامل الاختلاف والتفرّق فيوعِز لكلّ قوم بأن يتّخذوا

نفحات القرآن، ج 3، ص: 194

معبوداً لهم، فيدفع مجموعة لعبادة الشمس، ومجموعة لعبادة القمر، ويشغل مجموعة ب (هبل)، ومجموعة ب (اللات) و (العزّى)، حتّى انقسم المجتمع العربي الصغير في الجزيرة إلى مئات المجموعات بسبب عبادة الأصنام المختلفة، على عكس التوحيد الذي يمثّل حلقة الوصل بين القلوب ورابطاً وثيقاً بين الأفكار.

ونعلم أيضاً أنّ الاختلاف ما دام قائماً فإنّ المستعمرين في راحة بال، وأنّ مقولة (فرّق تسد) تُعدّ من أقدم المبادئ الاستعمارية، فلا عجب في أن يكون

الفراعنة ونمرود وأبو سفيان وأمثالهم من أنصار الشرك وعبادة الأصنام.

ثالثاً: يهدف المستكبرون دائماً إلى أن يخضع الناس لهم وكأنّهم آلهة ويتلقّون أوامرهم كأوامر مقدّسة لا نقاش فيها.

ومن الواضح أنّ من يسجد للحجر والخشب يكون أكثر تقبّلًا للآلهة البشرية، ولذا أخذ فرعون ينادي في مصر (أنا ربّكم الأعلى) واعتبر نفسه أعلى من الآلهة كلّها.

بناءً على هذه الجوانب الثلاثة فلا عجب أن تتواكب الأفكار الاستعمارية مع الشرك وعبادة الأصنام، وأن يكون خطّ الأنبياء الذي يمثّل خطّ القضاء على الاستعمار والاستضعاف هو خطّ التوحيد واليقظة والوعي، لنتذكّر مرّة اخرى الحديث المروي عن الإمام الصادق عليه السلام الذي قال فيه: «إنّ بني اميّة أطلقوا للناس تعليم الإيمان ولم يطلقوا تعليم الشرك لكي إذا حملوهم عليه لم يعرفوه» «1».

إنّ هذا المضمون وان لم يصرّح به في الآيات القرآنية إلّاأنّه اشير إليه كما نقرأ في الآية:

«وَلَو تَرى اذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِم يَرجِعُ بَعضُهُم إِلَى بَعضٍ القَولَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَولَا انتُم لَكُنَّا مُؤمِنِينَ». (سبأ/ 3)

4- كلمة أخيرة حول عوامل الشرك

من خلال البحوث التي أوردناها تتّضح هذه الحقيقة وهي: إنّ الشرك وعبادة الأصنام

__________________________________________________

(1) اصول الكافي، ج 2، ص 415.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 195

كسائر الظواهر الاجتماعية لا تنشأ من عامل واحد بل توجد عوامل مختلفة تعاضدت على ايجاده، من بينها.

الميل إلى المحسوسات والإستئناس بها والمطالبة بإله محسوس.

واللجوء إلى الأوهام في المجتمعات المتخلّفة (الظنّ بتأثير الأصنام في الشفاعة والعزّة والنصر والتقرّب إلى اللَّه والظنّ بعدم إمكانية عبادة اللَّه بصورة مباشرة ووجوب استخدام الوسائط والظنّ بقداسة التماثيل المصنوعة على هيئة الأنبياء والصلحاء وأوهام اخرى).

وهكذا التقليد الأعمى للأسلاف وعدم الإستعداد للتحقيق في قضيّة المعرفة الإلهيّة.

كذلك استغلال المستكبرين والمستعمرين للميل إلى الشرك وعبادة الأصنام

للوصول إلى أهدافهم الشيطانية، واستغفال الناس كانت عوامل مختلفة سبّبت نشوء فكرة الشرك أو استمراره وبقاءه على طول التاريخ.

وقد واجهت هذه التيارات المنحرفة القويّة خطّ الأنبياء الذي يدعو البشر من جهة إلى التحرّر من إطار الحسّ وإدراك ما وراء الطبيعة، ومن جهة اخرى يدعوهم إلى عبادة اللَّه مباشرةً والخضوع بين يدي ربّ الكون كلِّه واللجوء إلى ذاته المقدّسة في كلّ حال والقضاء على الأوهام.

ومن جهة ثالثة يدعو لكسر طوق التقليد الأعمى والإقبال على البحث في عالم الوجود ومعرفة الآيات الإلهيّة في الآفاق والأنفس.

ومن جهة رابعة يدعو عالم البشرية إلى الوحدة وتحطيم الأصنام المفرِّقة والتحرّر من نير الإستغلال والاستعمار والغفلة والاستضعاف.

هذه هي الخطوط العامّة للكفر والإيمان والشرك والتوحيد.

ونختم هذا الكلام بما أورده العلّامة الطباطبائي رحمه الله في تفسير الميزان في ذيل الآيات 36- 49 من سورة هود تحت عنوان (كيف وُجِدَ الشرك): «اتّضح من الفصل المتقدّم أنّ الإنسان في مزلّةٍ من تجسيم الامور المعنوية وسبك غير المحسوس في قالب المحسوس بالتمثيل والتصوير وهو مع ذلك مفطور للخضوع أمام أي قوّة فائقة قاهرة والإعتناء بشأنها،

نفحات القرآن، ج 3، ص: 196

ولذا كانت روح الشرك والوثنية سارية في المجتمع الإنساني سراية تكاد لا تقبل التحرّز والإجتناب في المجتمعات الراقية الحاضرة وحتّى في المجتمعات المبنية على أساس رفض الدين، فترى فيها من النُّصب وتماثيل الرجال وتعظيمها واحترامها والمبالغة في الخضوع لها ما يمثّل لك وثنية العهود الاولى والإنسان الأوّلي، على أنّ اليوم من الوثنية على ظهر الأرض ما يبلغ مئات الملايين قاطنين في شرقها وغربها.

ومن هنا يتأيّد بحسب الاعتبار أن تكون الوثنية مبتدئة بين الناس باتّخاذ تماثيل الرجال العظماء ونصب أصنامهم وخاصّة بعد الموت ليكون في ذلك ذكرى لهم، وكان

ربّ البيت في الرومان واليونانيين القدماء- على ما يذكره التاريخ- يُعبد في بيته، فإذا مات اتّخذ له صنم يعبده أهل بيته، وكان كثير من الملوك والعظماء معبودين في أقوامهم، وقد ذكر القرآن الكريم منهم نمرود الملك المعاصر لإبراهيم عليه السلام ... وهو ذا يوجد في بيوت الأصنام الموجودة اليوم، وكذا بين الآثار العتيقة المحفوظة عنهم أصنام كثير من عظماء رجال الدين كبوذا وأصنام كثير من البراهمة وغيرهم، واتّخاذهم الموتى وعبادتهم لها من الشواهد على أنّهم كانوا يرون أنّهم لا يبطلون بالموت وإنّ أرواحهم باقية بعده، لها من العناية والأثر ما كان في حال حياتهم بل هي بعد الموت أقوى وجوداً وأنفذ إرادةً وأشدّ تأثيراً من شوب المادّة ونجت من التأثيرات الجسمانية والإنفعالات الجرمانية، وكان فرعون موسى يعبد أصناماً له وهو إله معبود في قومه: «وَقَالَ المَلَأُ مِنْ قَومِ فِرعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وقَومَهُ لِيُفسِدُوا فِى الأرضِ وَيَذَرَكَ وآلِهَتَكَ»» «1».

وما جاء في هذا البحث هو بعض عوامل الشرك، ولا بأس من الإشارة أخيراً إلى نقطة تثير العجب ذكرها المؤرّخ الغربي الشهير (ويل ديورانت) في كتابه التاريخي (قصّة الحضارة) وأيّده الكثير من الذين سافروا إلى خارج البلاد في هذا العصر بملاحظاتهم في تلك البلدان وهو وجود أصنام كثيرة صنعت على صورة الأجهزة التناسلية للذكر والانثى! حيث تعبد من قبل مجموعة كبيرة!

__________________________________________________

(1) تفسير الميزان، ج 10، ص 275- 277 (مع التلخيص).

نفحات القرآن، ج 3، ص: 197

ويكتب: لَعلَّ (القمر) هو أوّل شي ء كانت له أولوية العبادة، فقد كان الإله المحبوب لدى النساء وعبدنه حامياً لهنّ، واعتقدن بأنّ للقمر حكومة على الأنواء الجوّية وينزل هذا الجرم السماوي المطر والثلوج، حتّى أنّ الضفادع- كما في الأساطير- تتضرّع إليه كي ينزل المطر.

وبعد

التفصيل في هذا المجال وفي عبادة الشمس والأرض والجبال والبحار يضيف: بما أنّ الإنسان الأوّل لم يدرك أنّ حقيقة انعقاد نطفة الإنسان من (الحيمن) و (البويضة)، فلذلك كانوا يعتقدون بأنّ المبدأ الوحيد في وجود البشر هو هذا الموجود العجيب أي (الآلة التناسلية لدى الرجل والمرأة) اعتقدوا وجود روح عجيبة فيهما هي المبدأ لهذا الأثر العجيب، وهذا الأمر كان سبباً في الإعتقاد التدريجي بإلُوهيتهما وتحوّلهم إلى عبَدة لتماثيل الآلة التناسلية!!

والأعجب أنّه يكتب: قلّما نجد قوماً لا يعبدون هذا الصنم بشكل ما! «1».

وكما أشرنا فإنّ عبادة الأصنام لا تزال منتشرة في الهند واليابان في الوقت الحاضر.

ومن هنا يتّضح جيّداً أنّ الإنسان إذا انحرف عن تعليمات الأنبياء: سيقع في مستنقعات متعفّنة وسيرتكب أعمالًا مضحكة ومخجلة.

أمّا الموحّدون ذوو الدين الحقّ والقلب السليم فعليهم أن يشكروا اللَّه كثيراً على تحرّرهم بفضل تعليمات الأنبياء من التلوّث بالشرك والسقوط في هذه الأودية الموحشة.

__________________________________________________

(1) تاريخ ويل ديورانت، ج 1، ص 95 (مع التلخيص).

نفحات القرآن، ج 3، ص: 199

أقسام التوحيد

اشارة

1 و 2- توحيد الذات والصفات

3- توحيد العبادة

4- توحيد الأفعال

نفحات القرآن، ج 3، ص: 201

التقسيمات الأساسية:

قرأنا في البحوث السابقة أنّ الأساس في دعوة جميع الأنبياء والكتب السماوية كما يشهد بذلك القرآن الكريم- هو التوحيد- وقد شرحنا الأدلّة عليه من القرآن والمنطق العقلي، وقد آن الأوان هنا لمراجعة الأبعاد المختلفة والفروع المتنوّعة والغنية للتوحيد، ومن هنا تتجلّى أهميّة هذه المسألة.

ومن المعروف لدى علماء العقائد أنّ التوحيد ذو اقسام أساسية أربعة:

1- توحيد الذات (ذات اللَّه واحدة ولا مثيل لها).

2- توحيد الصفات (صفات اللَّه عزّوجلّ ترجع كلّها إلى حقيقة واحدة هي ذاته).

3- توحيد العبادة (تليق العبادة بذاته المقدّسة فقط).

4- توحيد الأفعال (هو المبدى ء لكلّ خلق ونظام الكون وكلّ حركة وفعل في هذا العالم ولا مؤثّر في الوجود إلّااللَّه سبحانه ولا يتنافى هذا مع اختيار الإنسان أبداً وتوحيد الأفعال له فروع اخرى أهمّها:

1- توحيد الخالقية (الخلق منه فقط).

2- توحيد الربوبية (تدبير الكون إليه فقط).

3- توحيد المالكية والحاكمية التكوينية.

4- توحيد الحاكمية التشريعية والتقنينية.

5- توحيد الطاعة (تجب طاعة أوامره فقط أو أوامر الذين أمر بطاعتهم) ولا شكّ في أنّ أفعال اللَّه لا تنحصر في ما ذكر، ولذا فإنّ فروع توحيد الأفعال لا تنحصر فيما ذكر ولكن هذه الفروع الخمسة هي الفروع الرئيسة.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 202

وضروري أن نذكر بأنّ التوحيد يمكن تقسيمه من جهة إلى قسمين: التوحيد (الخاص) والتوحيد (العام).

التوحيد الخاصّ: هو فروع التوحيد التي اشير إليها بصورة إجمالية.

أمّا التوحيد العام فهو عبارة عن:

1- التوحيد في النبوّة (فجميع الأنبياء: تابعوا هدفاً واحداً وكان لهم منهج أساسي واحد، ولذا لا نفرّق بينهم من حيث الدعوة والمهمّة): «لا نُفرِّقُ بَينَ أَحَدٍ مِّنْ رُسُلِهِ».

2- التوحيد في المعاد (يحشر جميع البشر في

يوم واحد ويحضرون محكمة واحدة).

3- التوحيد في الإمامة (مبدأ الأئمّة واحد ويسعون وراء حقيقة واحدة وهم نور واحد).

4- التوحيد في النظم والعدل (القانون الإلهي واحد بالنسبة لجميع البشر).

5- التوحيد في المجتمع البشري (الجميع عباد اللَّه ومن أب واحد وامّ واحدة لا يختلفون باختلاف اللون والعنصر واللسان وأمثالها ويشكّلون مجتمعاً واحداً).

وبهذه المقدّمة نراجع الآيات القرآنية ونبحث حول كلّ فرع من هذه الفروع بصورة مستقلّة.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 203

1 و 2- توحيد الذات والصفات

تمهيد:

المراد من توحيد الذات- حيثما كان الحديث عنه- هو أنّ ذات اللَّه المقدّسة لا شبيه ولا نظير لها، وهي واحدة لا مثيل لها من أيّ جهة.

وبما أنّ الأبحاث السابقة كانت تدور- عادةً- حول محور توحيد الذات وقد اقيمت أدلّة مختلفة لإثبات التوحيد والآيات القرآنية التي تمّ تفسيرها كانت تقصد التوحيد بهذا المضمون، لذا ننصرف عن تكرار البحث بصددها ونتابع التفسير الدقيق لمعنى توحيد الذات، فنتأمل خاشعين أوّلًا في الآيات الآتية:

1- «لَيسَ كَمِثْلِهِ شَىْ ءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ». (الشورى/ 11)

2- «لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ ومَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا الَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَّمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ». (المائدة/ 73)

3- «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ* اللَّهُ الصَّمَدُ* لَم يَلِدْ وَلَم يُولَدْ* وَلَم يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ».

(التوحيد/ 1- 4)

جمع الآيات وتفسيرها

يامن تعالى عن الخيال والقياس والظنّ والوهم:

تفسّر الآية الاولى توحيد الذات في جملة واحدة تفسيراً بليغاً ورصيناً غني المعنى حيث تقول «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ».

نفحات القرآن، ج 3، ص: 204

ومثل هذا الشي ء- بالتأكيد- يكون أعلى من الخيال والقياس والظنّ والوهم، وليس بمقدورنا تصوّر ذاته، لأنّ الأشياء الممكن تصوّرها هي التي لاحظنا أمثالها أو تحصّلت بعد التركّب والتجزئة، أمّا الشي ء الذي ليس له أي مثيل فلا يتناوله الوهم والعقل أبداً، ومعرفتنا تكون بمقدار أنّه موجود ونرى أفعاله وآثاره في عالم الوجود الواسع، ومن هذه الأوصاف ندرك صفاته إجمالياً، ولكن ليس بمقدور حتّى الأنبياء المرسلين والملائكة المقرّبين أن يدركوا حقيقة ذاته.

والإقرار بهذه الحقيقة هو آخر مرحلة في سلّم معرفة الإنسان لله عزّوجلّ والحديث المعروف: «ما عرفناك حقّ معرفتك» «1»

المروي عن النبي صلى الله عليه و آله بيان لذروة العرفان البشري باللَّه عزّوجلّ.

والدليل على ذلك واضح لأنّه كما ذكر في بحث

أدلّة التوحيد هو وجود لا متناهٍ ولا نهاية له من كلّ جهة، وكلّ ما سواه محدود ومتناهٍ من كلّ جهة، ولذا لا يمكن قياسه إلى غيره، وبما أنّ وجودنا وعقولنا وأفكارنا محدودة فإنّا لا نصل إلى كُنه تلك الحقيقة اللامحدودة أبداً.

استناداً إلى هذا التفسير فإنّ (الكاف) في (ليس كمثله شي ء) تكون زائدة وللتأكيد «2»، أي لا يوجد شي ء شبيه له أبداً، نعم يمكن أن يفيض سبحانه من وجوده وعلمه وقدرته في عالم الممكنات ولكن مخلوقاته الممكنة ليست مثله أبداً.

ولكن بعض المفسّرين لم يعتبر (الكاف) زائدة وقالوا: مفهوم الآية هو (لا يوجد مثيل للَّه) أي أنّ (مثل) هنا تعني (الذات) كما نقول: مثلك لا يسلك هذا الطريق المعوج، أي لا ينبغي لك أن تفعل هذا.

وقال البعض أيضاً: إنّ (مثل) هنا بمعنى الصفات، أي لا يوجد موجود يتّصف بأوصاف اللَّه.

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار، ج 3، ص 14.

(2) جاء في تفسير روح المعاني: إنّ بعض المفسّرين اعتبر (مثل) زائدة ولكن أشكل عليه أبو حيّان وقال: الإسم لايكون زائداً في اللغة العربية أبداً.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 205

وواضح أنّ نتيجة هذه التفاسير الثلاثة في بحثنا تكون واحدة وإن كانت تبحث الموضوع من طرق متباينة.

والجدير ذكره هو أنّنا نقرأ في حديث أنّ رجلًا جاء إلى الرسول صلى الله عليه و آله وسأل: ما رأسُ العلمِ؟ فأجابَ صلى الله عليه و آله: «معرفة اللَّهِ حقَّ معرفته وأضاف: أن تعرفه بلا مثال ولا شبه وتعرفه إلهاً واحداً خالقاً قادراً أوّلًا وآخِراً وظاهراً وباطناً، لا كفو له ولا مثل له فذاك معرفة اللَّه حقّ معرفته» «1»

ومن الواضح أنّ (حقّ معرفته) هذه نسبية وإلّا- كما قلنا- لا يعرفه على ما هو عليه

أحد.

في الآية الثانية يعتبر القرآن الكريم القائلين بأنّ اللَّه ثالث أقنوم من الأقانيم الثلاثة «2» كفّاراً: «لَقَد كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا انَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ».

وينبغي الإلتفات إلى أنّ الآية لم تقل: إنّ الذين يعتقدون بالآلهة الثلاثة كفّار، بل قالت:

(إنّ الذين يعتبرون اللَّه أقنوماً ثالثاً أو ذاتاً ثالثة كفّار)، وقد سلك المفسّرون في فهم مضمون الآية مسالك مختلفة.

فقال بعضهم: إنّ المراد هم الذين يعتقدون أنّ اللَّه جوهر واحد في الذوات الثلاثة (الأب) و (الإبن) و (روح القدس)، ويقولون: إنّه واحد في عين تعدّده، كما أنّ لفظ الشمس يشمل قرص الشمس ونورها وحرارتها والثلاثة واحدة «3».

وبعبارة اخرى: المراد هو عقيدة (التوحيد في التثليث) القائلة بأنّ اللَّه في عين كونه ثلاثة يكون واحداً (وهذا كلام غير معقول طبعاً لأنّ العدد «ثلاثة» لا يساوي «واحداً» أبداً، إلّاأن يكون أحدهما مجازياً والآخر حقيقيّاً).

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار، ج 3، ص 14.

(2) «الأقنوم» بمعنى الأصل والذات وجمعه أقانيم، وهو تعبير يطلقه النصارى على الآلهة الثلاثة في مسألة التثليث.

(3) تفسير الكبير، ج 12، ص 60.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 206

وقد جاء في تفسير القرطبي: إن الآية تشير إلى فرق النصارى من الملكية (أو الملكانية) والنسطورية واليعقوبية لأنّهم يقولون: أب وابن وروح القدس إله واحد «1».

ولكن الظاهر أنّه خطأ لأنّهم نسبوا هذه العقيدة إلى جميع النصارى في القول بالتثليث والتوحيد معاً.

والعلّامة الطباطبائي رحمه الله يقول: إنّ ثالث ثلاثة يعني أنّ كل واحد من هذه الثلاثة: (الأب والإبن وروح القدس، هو إله ينطبق على كلّ واحد منها وهي ثلاث ذوات وفي الوقت نفسه ذات واحدة) «2».

ولكن الآية تتحدّث في الظاهر عن غير هذا كلّه، فالكلام يدور حول الاعتقاد بأنّ اللَّه ذات ثالثة كفر،

أي ليس الإعتقاد بالآلهة الثلاثة موجباً للكفر بل جعل اللَّه تعالى في عرض الموجودات الاخرى واعتباره الثالث من الذوات الثلاثة، وبعبارة اخرى اعتبار (الوحدة العددية) له موجب للكفر (فتأمّل جيّداً).

وقد ورد بيان هذا المعنى بشكل لطيف في حديث عن أمير المؤمنين عليه السلام حيث نقرأ بأنّ أعرابياً جاء إلى أمير المؤمنين في يوم حرب الجمل فقال: ياأمير المؤمنين أتقول: إنّ اللَّه واحد؟

فحمل الناس عليه وقالوا: ياأعرابي أما ترى ما فيه أمير المؤمنين من تقسّم القلب؟ فقال أمير المؤمنين عليه السلام: دعوه فإنّ الذي يريده الأعرابي هو الذي نريده من القوم؛ ثمّ قال:

«ياأعرابي إنّ القول في أنّ اللَّه واحد على أربعة أقسام، فوجهان منها لا يجوزان على اللَّه عزّوجلّ، ووجهان يثبتان فيه، فأمّا اللذان لا يجوزان عليه فقول القائل: واحد يقصد به باب الأعداد فهذا ما لا يجوز، لأنّ ما لا ثاني له لا يدخل في باب الأعداد أما ترى أنّه كفر من قال إنّه ثالث ثلاثة؛ وقول القائل: هو واحد من الناس يريد به النوع من الجنس فهذا ما لا

__________________________________________________

(1) تفسير القرطبي، ج 44، ص 2246، وقد جاء هذا المعنى أيضاً في تفاسير اخرى مثل روح البيان والمنار في ذيل آية البحث.

(2) تفسير الميزان، ج 6، ص 73.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 207

يجوز لأنّه تشبيه وجلّ ربّنا وتعالى عن ذلك وأمّا الوجهان اللذان يثبتان فيه فقول القائل: هو واحد ليس له في الأشياء شبه كذلك ربّنا؛ وقول القائل: إنّه عزّوجلّ أحديُّ المعنى يعنى به أنّه لا ينقسم في وجود ولا عقل ولا وهم كذلك ربّنا عزّ وجلّ» «1».

القسم الثالث والأخير عبارة عن سورة التوحيد التي ترسم وحدانية اللَّه بأروع الصور وتتضمّن كلاماً

جامعاً ينفي تثليث النصارى والثنوية (عبادة الإثنين) لدى المجوس وشرك المشركين، فتقول أوّلًا: «قُل هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ»، وهو تعبير يدلّ على أنّ أسئلة مختلفة قد طُرحت على نبي الإسلام صلى الله عليه و آله حول المعبود الذي يدعوهم إليه، فامر أن يشرح لهم جميعاً حقيقة التوحيد بهذه الجمل القصيرة المركّزة المعنى.

«أحد»: وأصلها (وَحَد) من (وحدة) إستبدلت الواو فيها بالهمزة ولذا يعتبر الكثير أنّ (أحد) و (واحد) بمعنى واحد، وقد اشير إلى هذا المضمون في بعض الروايات وكلاهما إشارة إلى الذات التي لا مثيل لها «2».

وقد فرّق البعض بين (أحد) و (واحد)، فقالوا تارةً: إنّ (أحد) من الصفات المختصّة باللَّه لأنّه لا يطلق على الإنسان وغيره، أمّا (واحد) فانّه ليس كذلك.

وقالوا تارة اخرى: إنّ (واحد) يستعمل في الإثبات والنفي ولكن (أحد) يستعمل في النفي فقط.

وقالوا تارةً ثالثة: إنّ (أحد) إشارة إلى وحدة الذات و (واحد) إشارة إلى وحدة الصفات.

وقالوا رابعة: إنّ (أحد) يطلق على الذات التي لا تتقبّل الكثرة لا في الخارج ولا في الذهن، ولذا لا يمكن عدّه بعكس الواحد الذي يتصوّر له الثاني والثالث.

وقالوا خامسة: إنّ (أحد) إشارة إلى بساطة ذات اللَّه عزّوجلّ ونفي أي جزء عنه، في حين أنّ (واحد) فيه إشارة إلى وحدانية ذاته قبالة أن يكون له مثيل، غير أنّ تلك التفاسير الخمسة لا تمتلك دليلًا واضحاً، فمثلًا يقال: يوم الأحد، ويطلق الواحد على اللَّه في القرآن: «إِلَهٌ وَاحِدٌ». (البقرة/ 163)

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار، ج 3، ص 206، ح 1.

(2) المصدر السابق، ص 222.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 208

وكما أنّ «أحد» استعمل في جملة ثبوتية كما في سورة البحث وآيات قرآنية اخرى «1».

فالصحيح هو أن نقول بأنّ الإثنين يشيران

إلى معنى واحد.

على كلّ حال، يعتقد بعض المفسّرين أنّ جملة (اللَّه أحد) هي أكمل وصف لمعرفة اللَّه يمكن أن يستقرّ في عقل الإنسان، لأنّ كلمة (اللَّه) تشير إلى الذات التي لها صفات الكمال كلّها وفي (أحد) إشارة إلى نفي الصفات السلبية كلّها «2».

والقرآن الكريم في إكمال هذه الآيات يقول: «اللَّهُ الصَّمَدُ» فهو إله قائم بالذات وغني ويقصده كلّ المحتاجين ويتوجّهون إليه.

وكلمة «صمد» كما في (مقاييس اللغة) لها أصلان: أحدهما يعني القصد، والثاني الصلابة والإستحكام، وعندما تستعمل بصدد اللَّه تعالى فإنّ معناها هو الغني المطلق الذي يتوجّه إليه كلّ المحتاجين، وتعني أيضاً الذات الواجبة الوجود والقائمة بذاتها.

ومن الممكن أن يرجع الأصلان إلى أصل واحد، لأنّ الذات المستحكمة والصلبة والقائمة بذاتها تكون غنيّة- طبعاً- وموضعاً لتوجّه جميع المحتاجين، وعليه فإنّ (صمد) يمكن أن يكون إشارة إجمالية إلى جميع الصفات الثبوتية والسلبية للَّه تعالى، ولعلّه لهذا الدليل ذُكرت معانٍ كثيرة ل (صمد) في الروايات الإسلامية حيث يشير كلّ واحد منها إلى إحدى صفات اللَّه «3».

على أيّة حال، لا تخفى العلاقة بين هذه الآية والآية السابقة لها التي تتحدّث عن وحدانية اللَّه، لأنّ واجب الوجود والغني وحاجة جميع الموجودات إليه تستلزم أن يكون واحداً وأحداً.

وفي الآية اللاحقة تأكيد آخر على حقيقة التوحيد حيث ترد عقيدة النصارى في الآلهة الثلاثة (الأب، والإبن، والواسطة بينهما)، وتبطل عقيدة اليهود بأنّ عزير ابن اللَّه، كما تبطل

__________________________________________________

(1) الآيات: التوبة، 6؛ النساء، 43؛ مريم، 26؛ البقرة، 180؛ الكهف، 19؛ وآيات كثيرة اخرى.

(2) تفسير الكبير، ج 32، ص 180.

(3) راجع التفسير الأمثل، ذيل الآية 2 من سورة الاخلاص.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 209

عقيدة المشركين العرب في أنّ الملائكة بنات اللَّه، أجل، إنّها ومن

أجل نفي هذه الامور كلّها وأمثالها تقول: «لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ».

ومن المسلّم به أن يكون للوجود الذي له ولد أو والد شبيه ومثيل، لعدم إمكانية إنكار الشبه بين الأب والإبن، وعليه لا يمكن أن يكون واحداً ولا مثيل له.

ولذا يقول بعد هذه الآية: «وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوَاً أَحَدٌ».

وعليه فإنّ الآيات الثلاثة من هذه السورة تؤكّد على أحدية اللَّه المقدّسة ووحدانيته وعدم الشبيه والمثيل له، وبعبارة اخرى تكون كلّ آية في هذه السورة تفسيراً للآية السابقة لها، وبمجموعها أوضحت مسألة التوحيد بشكل جامع وتامّ وتجسّدت شجرة التوحيد الطيّبة بكلّ أغصانها وأوراقها.

توضيحات

1- المفهوم الدقيق لتوحيد الذات

يذهب الكثير إلى أنّ: معنى توحيد الذات هو أنّ اللَّه واحد وليس إثنين، وهذه العبارة غير صحيحة وغير مطابقة لما ورد في الرواية عن أمير المؤمنين عليه السلام في تفسير هذه الآيات، لأنّ مفهومها الواحد العددي (أي أن يتصوّر الثاني للَّه عزّوجلّ ولكن لا وجود خارجي له) ومن المسلّم أنّ هذا كلام غير صحيح، والصحيح هو أن يقال: إنّ توحيد الذات هو أنّ اللَّه واحد ولا يتصوّر له الثاني، وبعبارة اخرى: إنّ اللَّه لا شبيه له ولا نظير ولا مثيل، فلا يشبهه شي ء ولا هو يشبه شيئاً لأنّ هذا الوجود اللامتناهي الكامل هو الذي يتّصف بهذه الصفة.

ولذا نقرأ في حديث عن الإمام الصادق عليه السلام حينما سأل أحد أصحابه: أي شي ء أكبر من اللَّه؟ فأجاب: «اللَّه أكبر من كلّ شي ء»، ثمّ قال الإمام عليه السلام: «فكان ثَمَّ شي ء فيكون أكبر منه؟!»، فقال: فما هو (ما المراد من هذه الكلمة)؟ فأجاب عليه السلام: «اللَّه أكبر من أن يوصف» «1».

__________________________________________________

(1) معاني الأخبار للصدوق، ص 7، ح 1.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 210

2- مفهوم توحيد الصفات

حينما نقول: إنّ توحيد الصفات هو فرع من فروع التوحيد فإنّ مفهومه هو: كما أنّ ذات اللَّه عزّوجلّ أزلية وأبدية فإنّ صفاته كالعلم والقدرة وأمثالها أزلية وأبدية أيضاً، هذا من جهة، ومن جهة اخرى، هذه الصفات ليست زائدة على ذاته فلا يوجد فيها عارض ومعروض بل هي عين ذاته.

ومن جهة ثالثة لا تفصل الصفات عن بعضها، أي أنّ علمه وقدرته شي ء واحد والإثنان عين ذاته!

بيان: عندما نراجع أنفسنا نرى أنّنا كنّا نفقد الكثير من الصفات، فلم نملك حين الولادة علماً ولا قدرة، ولكن هذه الصفات نمت فينا تدريجيّاً، ولذا نقول: إنّ هذه امور زائدة على

ذواتنا، ولذا يمكن أن يمرّ بنا اليوم الذي نفقد فيه القوّة العضلية والعلوم والأفكار التي نملكها ونرى بوضوح أيضاً إنّ علمنا وقدرتنا منفصلتان، فالقدرة الجسمية في عضلاتنا ولكن العلم موجود في الروح!

ولا يتصوّر في اللَّه أي معنى من هذه المعاني، فذاته كلّها علم وقدرة وكلّ شي ء في ذاته واحد، ونسلّم طبعاً بأنّ تصوّر هذه المعاني- بالنسبة لنا نظراً لفقداننا لهذه الصفة- معقّد وغير مألوف ولا سبيل إليه إلّاقوّة المنطق والاستدلال الدقيق واللطيف.

3- الدليل على توحيد الصفات

إنّ الخوض في صفات المخلوقات وعدم القدرة على استيعاب مفهوم توحيد الصفات هو السبب في انحراف بعض المتكلّمين وعلماء العقيدة عن المسير الصحيح في موضوع صفات اللَّه، أمثال طائفة (الكرامية) وهم أتباع محمّد بن كرام السيستاني الذين اعتقدوا بأنّ صفات اللَّه حادثة، وكذلك كانوا يعتقدون أنّ اللَّه لم يكن مالكاً لهذه الصفات ابتداءً ثمّ امتلكها!

وهذا الكلام في غاية القبح! ولا يمكن لأحدٍ أن يصدّقه، مَنْ يصدّق بأنّ اللَّه كان عاجزاً في البداية ثمّ اقتدر؟ فمن الذي أعطاه القدرة! ومن الذي وهبه العلم؟!

نفحات القرآن، ج 3، ص: 211

ولذا يحتمل أن يكون مرادهم هو صفات الفعل كالخالقية والرازقية، لأنّ اللَّه قبل أن يخلق موجوداً ويرزقه لا معنى للخالقية أو الرازقية بالنسبة إليه (طبعاً كان قادراً على الخلق والرزق ولكن القدرة على شي ء غير إيجاده) إلّاأنّ البحث في توحيد الصفات لا يرتبط بصفات الفعل والكلام هو في صفات الذات كالعلم والقدرة، وكما سيأتي مفصّلًا بأنَّ صفات الفعل مستقلّة عن صفات ذات اللَّه، فصفات الفعل شي ء ينتزعه العقل بعد مشاهدة أفعال اللَّه وينسبها إلى اللَّه (سنقرأ تفصيل ذلك لاحقاً).

وأوضح إشارة في باب إثبات وحدة الصفات في الآيات القرآنية هي الآية القائلة:

«لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْ ءٌ» و «قُلْ هُوَ

اللَّهُ أَحَدٌ ...» التي تقدّم تفسيرها وتدلّ على أنّ ذاته المقدّسة لا تتّصف بأيّة إثنينية.

ويمكن في الاستدلالات العقلية الاستناد إلى بعض النقاط:

1- ثبت في الأبحاث السابقة أنّ اللَّه غير متناهٍ من جمع الجهات ولذا لا توجد خارج ذاته أيّة صفة كمال، فكلّ ما يوجد مجموع في ذاته، وعندما نرى أنّ صفاتنا حادثة أو أنّها غير ذاتها فإنّ السبب هو أنّنا موجودات محدودة، ولهذه المحدودية تكون الأوصاف والكمالات خارج ذواتنا وهي ممّا نكتسبها أحياناً، أمّا ذات اللَّه وهو الكمال المطلق فأي صفة يمكن تصوّرها خارج ذاته المقدّسة؟

2- لو قلنا بأنّ صفاته مضافة إلى ذاته أو إعتقدنا بأنّ صفاته كالعلم والقدرة منفصلة عنه فإنّ النتيجة هي التركيب (تركيب من الجوهر والعرض بل عوارض متعدّدة) في حين ثبت مسبقاً أنّه لا سبيل لأي تركيب في ذاته خارجياً أو عقليّاً.

وقد أشار أمير المؤمنين عليه السلام إلى هذا المضمون في الخطبة الاولى من نهج البلاغة بعبارة جميلة جدّاً في باب توحيد الصفات:

«وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه، لشهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف، وشهادة كلّ موصوف أنّه غير الصفة، فمن وصف اللَّه سبحانه فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثنّاه، ومن ثنّاه فقد جزّأه، ومن جزّأه فقد جهله».

نفحات القرآن، ج 3، ص: 213

3- التوحيد في العبادة

تمهيد:

إنَّ التوحيد في العبادة هو من أكثر فروع التوحيد حساسية ويعني أن لا نعبد غيره ولا نركع لغيره ولا نسجد إلّاله.

ويمكن القول: إنّ عنوان دعوة الأنبياء عليهم السلام والقاعدة الاولى لشرائعهم هو قضيّة التوحيد في العبادة، وغالباً ما كانت مواجهاتهم مع المشركين تنشأ من هذه النقطة.

صحيح أنّ (التوحيد في العبادة) يلازم (توحيد الذات والصفات) حيث تقرّر أنّ واجب الوجود كلّ ما سواه ممكن ومحتاج إليه فلا سبيل إلّاأن

تكون العبادة مختّصة به.

إنّه هو الكمال المطلق، ولا يوجد كمال مطلق سواه، والعبادة تعتبر طريقاً للوصول إليه، فلابدّ أن تكون مختّصة به.

والملاحظ أنّ الآيات القرآنية مليئة بالدعوة إلى التوحيد في العبادة ونحن نذكر هنا أقسامها الحسّاسة بغية الوصول إلى هذا النداء القرآني المهمّ ونهتمّ بالبقيّة ضمن إشارات بليغة.

بهذا التمهيد نمعن خاشعين في الآيات القرآنية الآتية:

1- «وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ واجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِى الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ».

(النحل/ 36)

2- «وَمَا أَرسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِىَ إِلَيْهِ أَنَّهُ لَاإِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ».

(الأنبياء/ 25)

نفحات القرآن، ج 3، ص: 214

3- «لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَومِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّن إِلهٍ غَيرُهُ إِنِّى أَخَافُ عَلَيكُم عَذَابَ يَومٍ عَظِيمٍ». (الأعراف/ 59)

4- «... وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لَاإِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشركُونَ».

(التوبة/ 31)

5- «قُلْ إِنِّى نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَّاأَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُم قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَا أَنا مِنَ المُهتَدِينَ». (الأنعام/ 56)

6- «وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ». (حجر/ 99)

7- «وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ ويُقِيمُوا الصَّلَاةَ ويُؤتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ». (بيّنة/ 5)

8- «وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّى وَرَبُّكُم فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّستَقِيمٌ». (مريم/ 36)

9- «يَاعِبَادِىَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِى وَاسِعَةٌ فَإِيّاىَ فَاعْبُدُونِ». (عنكبوت/ 56)

10- «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُم وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخلِفَنَّهُم فِى الأَرْضِ كَما اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبلِهِم». (نور/ 55)

11- «وَلَا يَأمُرَكُم أَنْ تَتَّخِذُوا المَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَربَاباً أَيَأْمُرُكُم بِالكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُم مُّسْلِمُونَ». (آل عمران/ 80)

12- «وَللَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِى السَّماواتِ والْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلَالُهُم بِالغُدُوِّ وَالآصَالِ». (رعد/

15)

شرح المفردات:

المفهوم الدقيق للعبادة:

«العبادة»: و (العبودية) كلمتان تعنيان إبراز الخضوع، وعلى ما يذهب إليه الراغب في المفردات، فإنّ للعبادة مفهوماً أعمق وتعني غاية الخضوع بين يدي من له غاية الإنعام والإكرام وهو اللَّه عزّوجلّ.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 215

ويبدو أنّ الأصل في هذا اللفظ مشتقّ من (عبد) إلّاأنّ (عبد) كما في (لسان العرب) و (كتاب العين) يطلق على كلّ إنسان عبداً كان أم حرّاً (لأنّ البشر كلّهم عبيد اللَّه) ويطلق تارةً على العبيد خاصّة.

ويضيف الراغب: العبد أربعة أضرب:

1- عبدٌ بحكم الشرع وهو الإنسان الذي يصحّ بيعه وشراؤه.

2- عبدٌ بمعنى مخلوق.

3- عبدٌ بالعبادة والخدمة، والناس في هذا ضربان: عباد اللَّه وعباد الدنيا (وعباد الرحمن) و (عبيد الدنيا).

وفي مجمع البحرين إنّ هذه الكلمة تستعمل تارةً بمعنى (الحزب والفئة) والآية:

«فَادْخُلِى فِى عِبَادِى». (الفجر/ 29)

فيها إشارة إلى ذلك.

وهذه النقطة جديرة بالإهتمام وهي أنّهم قسّموا العبادة إلى نوعين:

العبادة الإختيارية التي أمرت بها الآيات القرآنية، والعبادة غير الإختيارية، كما يقول القرآن الكريم: «وَإِنْ مِّنْ شَى ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ». (الاسراء/ 44)

ويقول الطريحي في (مجمع البحرين): إنّ الحكماء قسّموا العبادة إلى ثلاثة أقسام وهي:

الأوّل: ما يجب على الأبدان كالصلاة والصيام والسعي في المواقف الشريفة لمناجاته جلّ ذكره (عبادة جسمانية).

الثاني: ما يجب على النفوس كالإعتقادات الصحيحة من العلم بتوحيد اللَّه وما يستحقّه من الثناء والتمجيد والتفكّر فيما أفاضه اللَّه سبحانه على العالم من وجوده وحكمته ثمّ الإتّساع في هذه المعارف (عبادة روحانية).

الثالث: ما يجب عند مشاركات الناس في المدن وهي في المعاملات والمزارعات والمناكح وتأدية الأمانات ونصح بعض لبعض بضروب المعاونات وجهاد الأعداء وحماية الحوزة «1» (عبادة اجتماعية).

__________________________________________________

(1) مجمع البحرين للطريحي، ج 3، ص 108.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 216

«طاغوت»: صيغة مبالغة

من (الطغيان) «1»

، والطغيان كما نعلم هو: تجاوز كلّ حدّ، ولذا تطلق كلمة طاغوت على كلّ موجود متمرّد ومعتدٍ كالشيطان، والسحرة، والجبّارين، والحكّام الظالمين، والتيارات التي تنتهي بغير الحقّ.

وتأتي هذه الكلمة بمعنى المفرد والجمع.

وذكر (الطبرسي) في (مجمع البيان) في تفسير آية الكرسي خمسة معانٍ للطاغوت هي:

الشيطان، الكاهن، الساحر، الإنس والجنّ المتمرّدون والأصنام (ومن الواضح أنّ هذه الأقوال ترجع كلّها إلى معنى جامع واحد اشير إليه).

جمع الآيات وتفسيرها

هو المعبود وحده:

إنَّ آية البحث الاولى تعتبر الدعوة إلى التوحيد هي المنهج الأساسي لرسل اللَّه أجمعين حيث تقول: «ولَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلِّ امَّةٍ رَّسُولًا انِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ».

وهذه الكلمات تُطرح في مواجهة الذين تنقل عنهم (هذه الآية) تبريراتهم في عبادة الأصنام: «وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِن شَى ءٍ ...». (النحل/ 35)

والقرآن يقول في ردّهم: «وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلِّ امَةٍ رَسُولًا انِ اعبُدُوا اللَّهَ واجتَنِبُوا الطَّاغُوتَ» فقد دعا الأنبياء عليهم السلام جميعاً إلى التوحيد في العبادة وعارضوا عبادة أي موجود غير اللَّه، فما هذه الفرية التي تنسبونها إلى اللَّه؟!

وتضيف: إنّ الناس انقسموا إلى طائفتين تجاه دعوة الأنبياء عليهم السلام، طائفة استعدّت للهداية وكانت تطلبها فهداها اللَّه، «فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ»، وطائفة خالفت: «ومِنْهُمْ مَّن حَقَّتْ عَلَيهِ الضَّلَالَةُ»، ثمّ تأمر الآية: «فَسِيرُوا فِى الأَرضِ فَانْظُرُوا كَيفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ»، أجل، إنّهم وبسبب انحرافهم عن جادّة التوحيد وبسبب الطغاة وقعوا في وحل الفساد والشقاء، فنزل عليهم العذاب الإلهي.

__________________________________________________

(1) قال البعض: إنّ الأصل هو «طغووت» ثمّ جاء لام الفعل بدلًا عن عين الفعل وانقلبت الواو المفتوحة قبلها إلى الف وصارت (طاغوت).

نفحات القرآن، ج 3، ص: 217

والملاحظ أنّ الآية تنسب الهداية إلى اللَّه عزّوجلّ، فلولا التوفيق والإمداد الإلهي لما كان لأحد

أن يبلغ الهدف بقدرته، في حين تنسب الضلالة لهم لأنّها نتيجة أعمالهم.

الآية الثانية توافق الآية الاولى بعبارة اخرى وتقول كقضيّة عامّة وخالدة: «وَمَا ارسَلنَا مِنْ قَبلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِىَ الَيهِ انَّهُ لَاالَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ».

والملفت أنّ (نوحي) فعل مضارع ويدلّ على الاستمرار، أي إنّنا أوحينا التوحيد في العبادة إلى كلّ نبي وقد أُمِر جميع الأنبياء بإبلاغ ذلك طيلة دعوتهم.

وعليه فإنّ هذه المسألة استمرّت أصلًا أساسياً في تاريخ الأنبياء عليهم السلام.

الآية الثالثة تنقل كلاماً عن أوّل نبي من اولي العزم وهو شيخ الأنبياء نوح عليه السلام الذي لم تتضمّن دعوته منذ بدايتها نداء سوى نداء التوحيد في العبادة ونبذ عبادة الأصنام حيث يقول: «لَقَدْ ارسَلْنَا نُوحاً الَى قَومِهِ فَقَالَ يَاقَومِ اعبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِنْ الهٍ غَيرُه».

ويستفاد من هذه الجملة بأنّ الشرك وعبادة الاصنام كان ولا يزال أسوأ شوكة في طريق سعادة البشرية، والأنبياء الذين يمثّلون الرعاة لبستان التوحيد كانوا يهتّمون قبل كلّ شي ء بزرع وبرعاية زهور الفضيلة في روح البشر ويقتلعون الأشواك التي تعترض طريقهم بسلاح التوحيد، وخاصّة في عصر نوح عليه السلام، كما يستفاد من الآية 23 من سورة نوح حيث كانت هناك أصنام عديدة ومتنوّعة بإسم (ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر).

وكانت على هيئة رجل، وامرأة، وأسد، وفرس، ونِسر على التوالي، وكانوا يعبدونها بجميع وجودهم، ولمّا رأى نوح منهم العناد والإصرار هدّدهم بعذاب اللَّه، كما نقرأ في ذيل الآية: «انِّى اخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَومٍ عَظِيمٍ»، أي إنّي أخاف عليكم عاقبة الشرك.

والظاهر أنّ المراد من اليوم العظيم هو يوم الطوفان الذي لم يحدث نظيره في تأريخ

نفحات القرآن، ج 3، ص: 218

العقوبات التي نزلت على الأقوام السابقة، كما احتمل أنّ (يوم عظيم) إشارة إلى

يوم القيامة «1».

وقد جاء في تفسير الميزان بأنّ هذه الآية قد جمعت أصلين من اصول الدين في جملة قصيرة هما: (التوحيد والمعاد) كما جاء الأصل الثالث وهو (النبوّة) في آية، «يَاقَوْمِ لَيْسَ بِى ضَلَالَةٌ» «2».

الآية الرابعة تتحدّث عن اليهود والنصارى الذين انحرفوا عن جادّة التوحيد، فقد اعتبر اليهود أحبارهم (علماء الدين اليهود) واعتبر النصارى رهبانهم والسيّد المسيح معبودات لهم!

ثمّ تقول: «وَمَا امِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً» وتؤكّد:

«لَااله إِلَّا هُو» وللتأكيد تضيف: «سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ».

وبهذا فإنّ الدين الذي أقام النبي نوح عليه السلام قواعده واصل طريقهُ في دعوة موسى عليه السلام والسيّد المسيح عليه السلام بكلّ قوّة وثبات.

صحيح أنّ النصارى كانوا يعبدون السيّد المسيح وما زالوا ولكن اليهود لم يعبدوا الأحبار، والنصارى لم يعبدوا الرهبان، بل لإطاعتهم المطلقة لهم واستسلامهم لتحريفهم وتغييرهم الأحكام الإلهيّة أطلق على ذلك عنوان الشرك، ولذا جاء في الأحاديث: «أما واللَّه ما صاموا لهم ولا صلّوا ولكنّهم أحلّوا لهم حراماً وحرّموا عليهم حلالًا فاتّبعوهم وعبدوهم من حيث لا يشعرون» «3»

وسيأتي تفصيل هذا الموضوع في بحث (توحيد الطاعة) بإذن اللَّه.

__________________________________________________

(1) هذان التفسيران قد صرّح بهما في كلمات المفسّرين السابقين ومنها ما أشار إليها الفخر الرازي في التفسيرالكبير، ج 14، ص 149 في ذيل آيات البحث.

(2) تفسير الميزان، ج 8، ص 180.

(3) تفسير نور الثقلين، ج 2، ص 209.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 219

لا أعبد غير اللَّه:

في الآية الخامسة يصل الدور إلى النبي الأكرم صلى الله عليه و آله حيث يأمره اللَّه عزّوجلّ: «قُلْ إِنِّى نُهِيتُ انْ اعْبُدَ الَّذِينَ تَدعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ».

والاستفادة من لفظ (الذين) الذي يستعمل لجمع المذكّر العاقل في معبوداتهم هو إمّا لتصوّرهم في عالم وهمهم وخيالهم أنّ

الأصنام ذات روح وعقل وشعور، وأمّا لوجود أشخاص كالمسيح أو الملائكة والجنّ بين هذه المعبودات.

ولتبيان الدليل على هذا المنع والنهي الإلهي تضيف الآية: «قُلْ لَّااتَّبِعُ اهوَاءَكُم قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَا أَنَا مِنَ المُهتَدِينَ».

ويعني هذا أنّ جذور الشرك كلّها ترجع إلى عبادة الهوى والظنّ والوهم، ومن المسلّم به أنّ اتباع الهوى يستتبع الضلال ولا ينتهي بالسعادة والهداية أبداً.

الآية السادسة توجّه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه و آله وتأمره بأن يثبت ويواصل عبادة اللَّه الواحد واجتناب كلّ شرك وعبادة للأصنام حيث تقول: «وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيكَ اليَقينُ».

وقد فسّر المفسّرون (اليقين) هنا بمعنى الموت، واعتبروه نظير قول السيّد المسيح عليه السلام:

«واوْصَانِى بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً». (مريم/ 31)

ونقرأ في موضع آخر من القرآن على لسان أهل النار: «وكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَومِ الدِّينِ* حَتّى أَتَانَا اليَقِينُ». (المدثر/ 46- 47)

كما جاء التعبير عن (الموت) ب (اليقين) في الروايات الإسلامية، ففي الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام نقرأ قوله عن الموت: «لم يخلق اللَّه يقيناً لا شكّ فيه أشبه بشكّ لا يقين فيه من الموت» «1»

، (لأنّ الناس لا يكترثون به وكأنّهم لا يصدقون أنّهم سيموتون)!

والتعبير عن (الموت) ب (اليقين) إمّا لما اشير إليه في الحديث المذكور أي هو مسألة يقطع

__________________________________________________

(1) تحف العقول، ص 271.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 220

بها جميع الناس ولا اختلاف بين المذاهب والعقائد المتباينة في هذه المسألة، وإمّا أنّ الإنسان يتيقّن بالكثير من القضايا التي يتردّد فيها وذلك عند زوال الحجب عنه عند الموت وظهور الحقائق (من الممكن طبعاً الجمع بين هذين المعنيين).

والتعبير ب (يأتيك) أيضاً إشارة لطيفة إلى هذا الموضوع وهو أنّ الموت سيقع على الإنسان شاء أم أبى!

في الآية السابعة يلاحظ هذا

المضمون نفسه مع إضافات اخرى، وفيها إشارة إلى طائفة من أهل الكتاب الذين انحرفوا عن التوحيد وجعلوا للَّه أنداداً في العبودية حيث تقول: «ومَا امِرُوا إِلَّا ليَعبُدوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ» «1».

والملاحظ أنّ الآية تحصر الأوامر الإلهيّة كلّها في العبادة المخلصة ثمّ في إقامة الصلاة وأدائها: «ويُقِيمُوا الصَّلَاةَ ويُؤتُوا الزَّكَاةَ»، وهذا يدلّ على أنّ الأصل في التعاليم الدينية يرجع إلى الإخلاص في العبودية، والملاحظ أيضاً أنّ الآية تضيف في ذيلها: «وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ» «2».

الآية الثامنة تنقل نكتة وردت في قول السيّد المسيح عليه السلام حيث قال: «وانَّ اللَّهَ رَبِّى وَرَبُّكُم فَاعبُدُوهُ هَذَا صِراطٌ مُّستَقِيمٌ».

ونعلم أنّ الخطّ المستقيم الذي يصل بين نقطتين واحد لا أكثر، في حين توجد آلاف

__________________________________________________

(1) يقول الراغب في المفردات: «حنف» على وزن «كنف» تعني الميل من الضلال إلى الصراط المستقيم وإنّما يقال للإسلام (الدين الحنيف) لأنّه يمنع المسلمين عن أي إنحراف عن الصراط السوي.

(2) «قيّمة» مشتقة من القيام بمعنى القائم والثابت والمستقيم وكما يقول الراغب في المفردات: إنّ معناها هي الامّة التي تقوم بالقسط والعدل كما جاء في الآية .. «كونوا قوّامين بالقسط».

نفحات القرآن، ج 3، ص: 221

الخطوط المنحرفة بينهما، فخطّ التوحيد واحد وكلّ ما سواه فهو شرك وعبادة أصنام.

(مستقيم) من (الإستقامة) ومشتقّة في الأصل من (القيام)، وبما أنّ الإنسان يقف مستوياً في قيامه فإنّ هذه الكلمة استعملت بمعنى كلّ طريق ومنهج معتدل ومستوٍ وخالٍ من الانحراف.

والملاحظ أنّ القرآن وفي سورة الحمد قد جعل النقطة المقابلة للصراط المستقيم هو طريق المغضوب عليهم و (الضالّين)، والطائفة الاولى هم الضالّون من أهل العناد واللجاجة والذين يصرّون على مسيرتهم ومسيرة غيرهم المنحرفة، والطائفة الثانية هم الضالّون البسطاء.

إن عجزتم عن عبادة اللَّه فهاجروا:

نواجه في الآية التاسعة

نقطة جديدة حيث يتوجّه الأمر إلى المؤمنين، وذلك عندما يكون البقاء في مكان- حتّى أوطانهم الخاصّة- مانعاً من عبادة اللَّه ومزعزعاً لتوحيد عبادته فعليهم أن يهجروا ذلك المكان تقول الآية: «يَاعِبادِىَ الَّذينَ آمَنُوا انَّ ارضِى وَاسِعةٌ فَإِيّاىَ فَاعبُدُونِ».

أجل، أنّ أرض اللَّه واسعة ولا يمكن أبداً الإذعان لذلّ الشرك وأسر الكفر وعبادة الأصنام من أجل امور من قبيل القوم والقبيلة والبيت والوطن الحبيب، بل إنّ واجب كلّ مؤمن موحّد هو أن يهجَر وطنه في مثل هذه الظروف ويحلّ في وطن مناسب ويُبقي شمعة التوحيد مضيئة في روحة، وقد يُوفَّق- كالمهاجرين في صدر الإسلام- لإعداد القوّة اللازمة ويرجع إلى وطنه ويزيل آثار الشرك وعبادة الأصنام من ربوعه.

والتعبير ب (ياعبادي)، و (أرضي)، و (إيّاي فاعبدون) في الآية مقرون بالرحمة واللطف الإلهي وإشارة إلى نصره المستمر للموحّدين أينما كانوا وفي كلّ زمان «1».

والملاحظ أنّ المخاطب في الآية هم (العباد)، ومع ذلك فالآية تأمرهم بعبادة اللَّه الواحد،

__________________________________________________

(1) لاحظوا أن «إيّاي فاعبدون» بسبب تقدّم المفعول على الفعل تدلّ على الحصر وتبيّن انحصار العبادة في اللَّه.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 222

وفي ذلك إشارة إلى أنّ العباد ينبغي أن يواصلوا مسيرة التوحيد إلى آخر العمر ولا ينحرفوا لحظة واحدة، وهذا نظير تكرار الجملة: «اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ»، لدى المؤمنين، حيث يطلبون فيها استمرار هذه النعمة إلى جانب الهداية، على أيّة حال، فإنّ الآية دليل على وجوب الهجرة من أرض الشرك وعبادة الأصنام إلى دار الإيمان، إلّاأن يُوفَّق الإنسان لتغيير الأوضاع السائدة على تلك الأرض.

آية البحث هي من آيات سورة العنكبوت التي يقول عنها المفسّرون: إنّ الآيات الإحدى عشرة الاولى منها نزلت في المدينة بصدد الذين كانوا في مكّة وأظهروا الإسلام ولكنّهم لم يعزموا

على الهجرة إلى المدينة، والآية التي بعدها تقول: «كُلُّ نَفسٍ ذَائقَةُ المَوْتِ» وفيها إشارة إلى هذا المعنى وهو أنّ الجميع سيموتون وينفصلون عن الوطن والزوج والمال، فلا تظنّوا أنّكم إن بقيتم في أجواء ملوّثة بالشرك فإنّكم سوف تبقون إلى جنب أحبّائكم أبداً «1».

وتستند الآية العاشرة إلى نقطة جديدة اخرى في هذا المجال، وتعد المؤمنين جميعاً بأنّهم سيكونون مالكين وحكّاماً للأرض كلّها، كما أنّ التوحيد سينتشر في العالم بأسره وسوف لن يعبد إلّااللَّه، وعلى هذا فإنّها تبشّر بتوحيد العبادة الخالصة كبشارة كبرى لكلّ المؤمنين وتقول: «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُم وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الأَرضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبلِهِم»، وهناك بحث بين المفسّرين في تحديد ماهيّة هذه الطائفة التي ورثت الأرض وعاشت في عصور قديمة، والمناسب أن يقال: إنّها إشارة إلى بني إسرائيل الذين أصبحوا ملوكاً وحكّاماً على مساحة واسعة من الأرض بعد نهضة موسى عليه السلام وانهيار حكومة الفراعنة، وكما يقول القرآن الكريم في قوله تعالى: «واورَثْنَا القَومَ الَّذِينَ كَانُوا يُستَضعَفُونَ مَشَارِقَ الارضِ ومَغارِبَها الَّتِى بَارَكنَا فِيهَا» «2». (الأعراف/ 137)

__________________________________________________

(1) راجع تفسير روح البيان؛ وروح المعاني؛ والقرطبي في ذيل آية البحث.

(2) هناك بحث مفصّل آخر في هذا المجال قد ورد في تفسير الأمثل، ذيل الآية 55 من سورة النور، تحت عنوان الحكومة العالمية للمستضعفين وكان لها نموذج صغير بعد فتح مكّة والإنتصارات الواسعة بعد النبي صلى الله عليه و آله والنموذج الأتمّ والكامل سيتحقّق عند قيام الإمام المهدي (عج).

نفحات القرآن، ج 3، ص: 223

وتتضمَّنُ الآية الحادية عشرة إشارة إلى نقطة جديدة في هذا المجال حيث تؤكّد أنّ الأنبياء العظام والملائكة المقرّبين لا يستحقّون العبادة فضلًا عن الأصنام، فالعبادة مختصّة باللَّه عزّوجلّ وتقول:

«وَلَا يَأْمُرَكُمْ انْ تَتَّخِذُوا المَلَائِكَةَ والنَّبِيِّينَ ارْبَاباً» «1».

ولمزيد من التأكيد تضيف الآية: «أَيَأمُركُم بِالكُفْرِ بَعدَ اذْ أَنتُم مُّسلِمُونَ».

«أرباب»: جمع (ربّ) ويعني في الأصل المالك المصلح، أي المالك الذي يسعى في تدبير ملكه وتربيته وإصلاحه، ولذا فإنّ (ربّ الدار) و (ربّ الإبل) جاء بمعنى المالك والمدبّر للبيت أو الإبل، وقد ندر استعمال كلمة «ربّ» في القرآن الكريم في غير اللَّه، منها الآية 42 و 50 من سورة يوسف حيث استعملت كلمة (ربّ) في نعت ملك مصر، ويستفاد من عبارات هذه السورة بأنّ هذه الكلمة كانت كثيرة الاستعمال كسمةٍ للشخصيات المصرية الكبيرة.

وفي المقابل استعملت هذه الكلمة التي وردت مئات المرّات في القرآن الكريم- في كلّ المواطن تقريباً- كصفةٍ للَّه عزّوجلّ، لأنّه هو المالك الأصلي- في الواقع- والمدبّر والمربّي لموجودات الكون كلّه، المهمّ أنّ الكثير من الأقوام كانوا يعتقدون بآلهة صغيرة ويطلقون عليها (ربّ) أو (ربّ النوع) ويطلقون على اللَّه (ربّ الأرباب) وكانت هذه العقيدة لدى بعض الأقوام تجاه الملائكة أو بعض الأنبياء، وآية البحث تنفي بصراحة هذه العقائد الباطلة وتعرّف اللَّه وحده ربّاً وليس ربّ الأرباب، لأنّها تعتبر انتخاب أي ربّ سواه كفراً والإسلام على طرف نقيض معه.

__________________________________________________

(1) لاحظ أن «يأمر» منصوب لأنّه معطوف على (أن يؤتيه اللَّه).

نفحات القرآن، ج 3، ص: 224

آية البحث الثانية عشرة والأخيرة تشير إلى الكلام الأخير في هذا البحث وهو أنّ التوحيد في العبادة لا يختصّ بالبشر بل: «وَللَّهِ يَسجُدُ مَنْ فِى السَّماوَاتِ وَالارضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلَالُهُم بِالغُدُوِّ وَالآصَالِ».

«مَنْ»: وان كانت إشارة إلى العقلاء عادةً ولذا يعتقد جمع من المفسّرين بأنّ آية البحث تقصد بني الإنسان والملائكة وأمثالهم، إلّاأنّ في الآية قرائن تدلّ على أنّ هذه الكلمة تشير إلى الموجودات

كلّها وتعمّ العاقل وغير العاقل والنبات والجماد، والمراد من السجدة ما يعمّ السجدة التكوينية (غاية الخضوع والتسليم في الموجودات تجاه قانون الخلق) والسجدة التشريعية (السجود والعبادة الإعتيادية) لأنّ:

أوّلًا: التعبير ب (طوعاً وكرهاً) دليل على عمومية الآية.

ثانياً: إشتراك (ظلال) في هذه السجدة والعبادة العامّة دليل آخر على هذا المعنى.

ثالثاً: ورد هذا المعنى بجلاء في آيات قرآنية اخرى: «وَللَّهِ يَسجُدُ مَا فِى السّماوَاتِ وَمَا فِى الارضِ». (النحل/ 49)

وهكذا في الآية: «وَالنَّجمُ والشَّجَرُ يَسجُدَانِ». (الرحمن/ 6)

وعلى هذا فإنّ موجودات الكون كلّها وبدون استثناء لها سجود تكويني وتسليم للأوامر الإلهيّة، ومن بينها المؤمنون حيث لهم- مضافاً إلى السجود التكويني الذي لا يتّصف بالإختيار- سجود اختياري تشريعي أيضاً.

وتعميم هذا الحكم إلى (ظلال) تعبير كبير المعنى، لأنّ الظلال تتّصف بالعدم في الواقع (لأنّ الظلّ هو المكان الذي لا يسقط الضوء عليه) ولكن بما أنّ الظلال تابعة للأجسام في وجود النور فإنّ لها قسطاً ضعيفاً من الوجود، ويقول القرآن: إنّ هذه الأعدام الشبيهة بالوجود تسجد للَّه أيضاً فكيف بالموجودات الحقيقية؟ وهذا يشابه العبارة التي نقولها وهي أنّ عداوته لفلان بلغت إلى حدّ أنّه يرمي ظلّه بالسهم.

ثمّ إنّ الظلال تسقط عادة على الأرض والتعبير بالسجود أليق بها.

وما تقوله الآية: «بالغُدُوِّ وَالْآصَالِ» فانّه من الممكن أن يكون وصفاً خاصّاً للظلال،

نفحات القرآن، ج 3، ص: 225

واختيار هذين الزمنين هو لأنّ كلّ شي ء في هذين الوقتين يكون ذا ظلّ، ظلّ طويل وممتدّ على العكس من منتصف النهار إذ يكون له ظلّ أو له ظلّ قصير.

ويحتمل أيضاً أن يكون هذان الوصفان لكلّ الموجودات في السماء والأرض والمراد هو الإشارة إلى استمرار هذا السجود، كما نقول في عباراتنا اليومية: يجب أن نلقى فلاناً صباحاً ومساءً، أي، دائماً وباستمرار «1».

أخيراً

وبمراجعة عامّة لما تقدم نصل إلى أنّ مسألة (التوحيد في العبادة) لها من الأهمّية ما جعلها في صدارة دعوة الأنبياء والرسل عليهم السلام، ومن أهمّ الفقرات في تعليماتهم، وقد أقام جميع الأنبياء اولي العزم دعوتهم عليها، وكان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله طيلة عمره الشريف يدعو للتوحيد بعبارات مختلفة، وصراط الهداية المستقيم يمرّ عبر هذا الطريق، ولتحقيق هذا المنهج الإسلامي المهمّ ينبغي- عند الحاجة- ترك الأوطان وهجر أجواء الشرك وعبادة الأصنام.

ومن الخصائص المهمّة لذلك اليوم الذي تهيمن فيه حكومة العدل الإلهي في العالم بأسره هو ظهور عقيدة التوحيد في العبادة هذه والتي تسود العالم كلّه، وليس البشر فقط بل وكلّ الموجودات في الأرض والسماء تسجد للَّه وفي كلّ الأحوال، وإذا لم تسجد باختيارها فانّها تسجد من حيث تكوينها وبلسان حالها وتسبّح له.

توضيحات

1- شجرة توحيد العبادة المثمرة

لابدّ من ملاحظة هذه النقطة قبل كلّ شي ء وهي: أنّ الإحترام والتواضع والخضوع

__________________________________________________

(1) على الصورة الاولى يكون الجار والمجرور متعلّقاً بالفعل أو الوصف المقدّر (وفيه امتياز أنّه يعود للأقرب) وفي الصورة الثانية يكون الجار والمجرور متعلّقاً بالفعل يسجد وفيه امتياز أنّه مذكور.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 226

والثناء صفاتٌ لها مراتب ودرجات آخرها وذروتها العبادة والعبودية.

ومن البديهي أن يخضع الإنسان لأوامر من يحترمه إلى هذه الدرجة وينقاد له بكلّ وجوده انقياداً تامّاً ويهوي إلى الأرض ويسجد له.

هل من الممكن أن ينفصل الخضوع الذي يصل حدّ العبودية والثناء والإحترام اللامحدود عن الطاعة والتسليم للأمر؟

ومن هنا نقول: إنّ الإنسان إذا استوعب روح العبادة الخالصة فإنّه يكون قد خطا خطوة كبيرة في طريق الطاعة لأمر اللَّه والعمل بالصالحات والإبتعاد عن السيّئات، ومثل هذه العبادة- خاصّة إذا كانت دائمة ومستمرّة- تكون رمزاً لتربية الإنسان وتكامله.

مثل

هذه العبادة الخالصة المقرونة بعشق المحبوب، الذي يشكّل عاملًا مهمّاً للحركة إليه، وكما أنّ التحرّك نحو ذلك الكمال المطلق عامل على ترك القبائح والدنيّات والتلوّث بالمعاصي.

ولهذا حازت مسألة العبادة الخالصة على هذه الدرجة من الأهمّية إلى الحدّ الذي يقول القرآن فيها: «إِنَّ الَّذينَ يَستَكبِرُونَ عَنْ عِبادَتِى سَيَدخُلُون جَهَنَّمَ دَاخِرينَ». (المؤمن/ 60)

إنَّ العابد بدافع من خضوعه اللامحدود بين يدي اللَّه يسعى إلى نَيْلِ رضاه والتقرّب إليه ولأنّه يعلم أنّ تحصيل رضاه يتمّ عن طريق طاعة أمره فإنّه يسعى في هذا الطريق ويتقبّل أوامره بطيب نفس تامّ.

العابد الحقيقي يسعى للتشبّه وتقليد صفات معبوده ومعشوقه الحقيقي ويعكس في هذا الطريق قبساً من صفات جماله وجلاله في نفسه، ولا ينكر ما لهذه الامور من تأثيرات على تكامل الإنسان وتربيته.

2- روح العبادة والإحتراز من الإفراط والتفريط

هناك إفراط وتفريط عجيبان في معنى العبادة كما هو الحال في الكثير من القضايا الاخرى حتّى أنّ بعضاً أفرط إلى حدّ جوّز فيه السجود لغير اللَّه (مع عدم الاعتقاد بمالكية

نفحات القرآن، ج 3، ص: 227

وربوبية المسجود له)، وذكر سجود الملائكة لآدم وسجود اخوة يوسف بين يديه كشاهدين على ذلك.

وفي المقابل اعتبر بعض آخر أنَّ الاستغاثة والتوسل بالنبي صلى الله عليه و آله والأئمّة عليهم السلام وطلب الشفاعة وأداء الاحترام لهم، شركاً، واعتقدوا بأنّ فاعله مشرك.

وفي الحقيقة أنّه لا يمكن التوفيق بين هاتين العقيدتين.

وللإيضاح نقول: إنّ حقيقة العبادة كما نقلنا عن اللغويين في بداية البحث في شرح المفردات هي: الخضوع المطلق وغاية التواضع والتذلّل أمام المعبود، وهذا العمل مختصّ باللَّه من وجهة نظر إسلامية ويكون شركاً في العبادة إن كان موجّهاً إلى معبود آخر.

وبعبارة اخرى إنّ للخضوع والتواضع درجات، درجة منها تحدث أمام الأصدقاء ويقابلها التكبّر عليهم، ودرجة اخرى تكون أمام

أفراد محترمين كالوالدين كما يقول القرآن:

«واخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ». (الاسراء/ 24)

والدرجة الأكمل تكون أمام الأنبياء والأئمّة المعصومين عليهم السلام حتّى أنّ المسلمين لم يحقّ لهم رفع أصواتهم فوق صوت النبي صلى الله عليه و آله بدليل قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَاتَرفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِىِّ وَلَا تَجهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهرِ بَعضِكُم لِبَعضٍ». (الحجرات/ 2)

ولكن آخر مرحلة من الخضوع والتواضع والتذلّل التي نطلق عليها كلمة العبادة والعبودية هو (السجود).

وعليه فإنّ الخضوع المطلق وغاية التذلّل (وإن لم يقترن الإعتقاد بالربوبية والمملوكية) يكون عبادة ومختّصاً باللَّه ولهذا لا يجوز السجود لغيره.

ولصاحب تفسير (المنار) في تفسير سورة الحمد كلام في معنى العبادة ملخّصه: أنَّ العبادة ضربٌ من الخضوع بالغٌ حدَّ النهاية، ناشى ء عن استشعار القلب عظمة المعبود لا يعرف منشأها، واعتقاده بسلطة له لا يدرك كنهها وماهيّتها، وقصارى ما يعرفه منها أنّها محيطة به ولكنّها فوق إدراكه، فمن ينتهي إلى أقصى الذلّ لملك من الملوك لا يقال أنّه عبده وإن قبَّل موطى ء أقدامه، ما دام سبب الذلّ والخضوع معروفاً وهو الخوف من ظلمه المعهود،

نفحات القرآن، ج 3، ص: 228

أو رجاء كرمه المحدود، اللّهم إلّابالنسبة إلى الذين يعتقدون أنّ الملك قوّة غيبية سماوية افيضت على الملوك من الملأ الأعلى، واختارتهم للإستعلاء على سائر أهل الدنيا، لأنّهم أطيب الناس عنصراً وأكرمهم جوهراً، وهؤلاء هم الذين انتهى بهم هذا الإعتقاد إلى الكفر والإلحاد فاتّخذوا الملوك آلهة وأرباباً وعبدوهم عبادة حقيقية «1».

وللمفسّر الكبير العلّامة الطباطبائي رحمه الله كلام قريب منه في تفسير سورة الحمد في تفسير (الميزان) حيث يقول: «الربّ مقصور في المالكية والعبد مقصور في العبودية».

قد عرفت من سورة الفاتحة أنّ العبادة هي نصب العبد نفسه في

مقام العبودية وإتيان ما يثبت ويستثبت به ذلك، فالفعل العبادي يجب أن يكون فيه صلاحية إظهار مولوية المولى، أو عبودية العبد كالسجود والركوع والقيام أمامه حينما يقعد والمشي خلفه حينما يمشي وغير ذلك، وكلّما زادت الصلاحية ازدادت العبادة تعيّناً للعبودية وأوضح الأفعال في الدلالة على عزّ المولوية وذلّ العبودية، السجدة ... لكن الذوق الديني المتّخذ من الإستيناس بظواهره يقضي باختصاص هذا الفعل به تعالى، والمنع عن استعماله في غير هذا المورد «2».

وبناءً على ذلك يستفاد من التدبّر في موارد استعمال كلمة العبادة في القرآن والسنّة والاستعمالات اليومية وشهادة اللغويين أنّ المفهوم اللغوي لهذه الكلمة هو نهاية الخضوع لا الإعتقاد بربوبية المعبود ومالكيته، ولذا إذا سجد شخص للشمس أو القمر أو النار بسبب بركاتها، أطلق على فعله هذا عبادة الشمس والقمر والنار، وهكذا إذا سجد إنسان لتماثيل الأسلاف أوالملوك والسلاطين وأعلى منه إذا للأئمّة عليهم السلام لمقامهم الرفيع فإنّ تلك العبادة غير جائزة.

ولهذا ينهى القرآن الكريم بصراحة في آية السجدة بقوله تعالى: «لَاتَسجُدُوا لِلشَّمسِ وَلَا لِلْقَمَرِ». (فصلت/ 37)

__________________________________________________

(1) تفسير المنار، ج 1، ص 56 و 57.

(2) تفسير الميزان، ج 1، ص 22 و 124.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 229

ولهذا أيضاً تكرّر النهى في الروايات الإسلامية عن السجود لغير اللَّه ومنها:

الروايات السبع التي وردت في (وسائل الشيعة) في أبواب السجود الباب 27 حيث نقرأ في إحدى الروايات أنّ النبي صلى الله عليه و آله خاطب مشركي العرب: «اخبروني عنكم إذا عبدتم صور من كان يعبد اللَّه فسجدتم له أو صلّيتم ووضعتم الوجوه الكريمة على التراب بالسجود بها فما الذي بَقَّيْتُم لربّ العالمين؟ أما علمتم أنّ من حقّ من يلزم تعظيمه وعبادته أن لا يساوي عبيده؟» «1».

وهناك

روايات عديدة تتضمّن الإجابة على السؤال حول كيفية سجود يعقوب وأبنائه بين يدي يوسف، أو كيفية جواز سجود الملائكة لآدم.

1- عن أبي الحسن الرضا عليه السلام: «أمّا سجود يعقوب وولده فإنّه لم يكن ليوسف إنّما كان ذلك منهم طاعةً للَّه وتحيّةً ليوسف، كما كان السجود من الملائكة لآدم، ولم يكن لآدم إنّما كان ذلك منهم طاعةً للَّه وتحيّةً لآدم فسجد يعقوب وولده ويوسف معهم شكراً للَّه لاجتماع شملهم ألا ترى إنّه يقول في شكره في ذلك الوقت: «ربِّ قَد آتَيتنى من المُلك» الآية.

2- عن الإمام العسكري عليه السلام قال: «لم يكن له سجودهم- يعني الملائكة لآدم إنّما كان آدم قبلة لهم يسجدون نحوه للَّه عزّوجلّ، وكان بذلك معظّماً مبجّلًا له، ولا ينبغي لأحد أن يسجد لأحد من دون اللَّه يخضع له كخضوعه للَّه ويعظّمه بالسجود له كتعظيمه للَّه، ولو أمرت أحداً أن يسجد هكذا لغير اللَّه لأمرت ضعفاء شيعتنا وسائر المكلّفين من متّبعينا أن يسجدوا لمن توسّط في علوم علي عليه السلام وحي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ومحض وداد خير خلق اللَّه علي عليه السلام بعد محمّد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ...» الحديث.

والنتيجة من هذه الروايات واحدة تقريباً وهي نفي السجود لغير اللَّه، وقد نقل العلّامة المجلسي في (بحار الأنوار) روايات عديدة في هذا الباب «2».

وقد ورد في القصّة المعروفة حول هجرة المسلمين إلى الحبشة، إنّهم حينما دخلوا على

__________________________________________________

(1) وسائل الشيعة، ج 6، ص 386، ح 3.

(2) بحار الأنوار، ج 11، ص 138 و 139، ح 2، 3، 4، 6.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 230

النجاشي أمرهم الرهبان المسيحيون بأن يسجدوا للملك، فقال لهم جعفر بن أبي طالب: لا نسجدُ إلّاللَّه «1».

إنَّ

هذه الروايات تؤكّد عدم جواز السجود لغير اللَّه وتفسّر حقيقة العبادة.

3- توحيد الوهّابيين المشوب بالشرك

«الوهّابيون»: جماعة لا تزال تحكم الحجاز وهم أتباع (محمّد بن عبدالوهّاب) الذي استمدّ أفكاره من (ابن تيمية، أحمد بن عبد الحميد الدمشقي) المتوفّى عام 728 ه.

استطاع محمّد بن عبدالوهاب خلال السنوات ما بين عام 1160 إلى 1206 ه التي مات فيها وبتعاون مع الحكّام المحلّيين وإثارة نيران العصبية القاسية بين القبائل التي تجوب صحارى الجزيرة أن يدمّر معارضيه ويستلم زمام الحكم بصورة مباشرة وغير مباشرة وقد أريقت دماء كثير من المسلمين في الجزيرة وغيرها.

وبعد موته هاجم أتباعه العراق عن طرق صحراء الجزيرة ودخلوا كربلاء واستغلّوا عطلة عيد الغدير وسفر الكثير من أهاليها إلى النجف فاقتحموا سور المدينة ونفذوا إلى داخلها وشرعوا بهدم صحن الإمام الحسين عليه السلام والأماكن المقدّسة الاخرى ونهبوا الأبواب الثمينة والهدايا النفيسة من المرقد الحسيني وأموال الناس!

لقد قام اولئك بهدم قبور عظماء الإسلام في الحجاز عام 1344 ه بحيث استوت مع الأرض باستثناء قبر النبي صلى الله عليه و آله خوفاً من سخط المسلمين!

ويمتاز الوهّابيون بالتعصّب والقسوة والفظاظة وعدم الرحمة والتحجّر والسطحيّة ويعتقدون بأنّهم المدافعون عن التوحيد الخالص في هذا المجال، وينكرون الشفاعة وزيارة القبور والتوسّل بالقادة العظام ويصبّون جلّ اهتماماتهم تقريباً في هذا السبيل، وقد رفض

__________________________________________________

(1) بحارالانوار، ج 18، ص 420، ح 8 (نقلًا عن خرائج الراوندي).

نفحات القرآن، ج 3، ص: 231

المسلمون قاطبة (سنّة وشيعة) أفكار هذه المجموعة بل وكفّرهم بعض العلماء «1».

ولم يختص البحث هنا عن هذه المجموعة وعقائدها وقبائحها وسيكون لنا كلام مختصر هنا بمقدار ما يرتبط ببحث عقائدهم في التوحيد في العبادة.

إنّهم يقولون: لا يحقّ لأحد أن يطلب الشفاعة من النبي صلى الله عليه

و آله لأنّ اللَّه تعالى يقول:

«لا تَدعُوا مَع اللَّهِ احَداً».

ويقول مؤلّف كتاب (الهدية السنّية) وهو من الوهّابيين: من جعل الملائكة والأنبياء وسائط بينه وبين اللَّه لما لهم من قرب إلهي فهو كافر ومشرك ويباح دمه وماله وإن نطق بالشهادتين وصلّى وصام! «2»

وله منطق مشابه في التوسّل وزيارة قبور الأنبياء والأئمّة والصالحين.

إنَّ الخطأ الكبير الذي يرتكبه الوهّابيون القشريون هو أنّهم تصوّروا أنّ موجودات هذا العالم لها تأثير مستقل ولذا اعتقدوا أنّها تزاحم توحيد الأفعال والتوحيد العبادي للَّه في حين أنّ هذا المعتقد هو نوع من الشرك!

وللإيضاح نقول: الموحّد الكامل يرى أنّ الوجود المستقلّ القائم بذاته في الكون واحد فقط وهو اللَّه عزّوجلّ، وسائر عالم الوجود ممكن ومرتبط بوجوده، فكلّه انعكاس لشمس وجوده وليس له استقلالية من نفسه فكما كان محتاجاً في حدوثه فإنّه محتاج إليه ومتعلّق به في بقائه أيضاً، فكلّ ما يملكه الموجود فإنّه منه، وتأثير الأسباب منه فهو مسبّب الأسباب، وهذا هو معنى جملة (لا مؤثّر في الوجود إلّااللَّه)، لا أن نسقط الأسباب من سببيتها أو نعتقد أنّها مستقلّة فكلاهما خطأ وغير صحيح وبعيد عن حقيقة التوحيد.

بناءً على ذلك إذا كان النبي الأكرم صلى الله عليه و آله مالكاً للشفاعة فإنّ ذلك بإذنه كما يقول القرآن:

__________________________________________________

(1) كتب أحد العلماء السنّة وهو (إحسان عبداللطيف البكري) رسالة بإسم (الوهّابية في نظر علماء المسلمين) أوضح فيها آراء علماء الإسلام العظام حول الوهّابية ومحمّد بن عبدالوهّاب ودوّن الوثائق كلّها بدقّة في آخر الكتاب وقائمة بعناوين الكتب التي تردّهم حيث تبلغ 50 كتاباً لمحقّقي البلدان الإسلامية المختلفة، وهذا الكتاب دليل واضح على تنفّر المسلمين عموماً من هذه المجموعة المنحرفة.

(2) الهدية السنّية، ص 66.

نفحات القرآن، ج 3، ص:

232

«مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِن بَعدِ اذْنِهِ». (يونس/ 3)

وعندما يحيي السيّد المسيح عليه السلام الموتى ويُبرى ء الأعمى والمبتلين بالأمراض المستعصية فإنّ ذلك بإذن اللَّه أيضاً: «وابرِئُ الْاكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَاحْىِ الْمَوْتى بِإِذنِ اللَّهِ». (آل عمران/ 49)

وعندما يستطيع (آصف بن برخيا) وهو وزير سليمان ومَن وصفه القرآن ب: «الَّذِى عِنْدَهُ عِلمٌ مِنَ الْكِتَابِ» أن يأتي بعرش بلقيس في طرفة عين- كما يصرّح به القرآن- من بلاد سبأ إلى سليمان في الشام فإنّه كما قال: «مِن فَضلِ رَبِّي». (النمل/ 40)

ولكن الوهّابيين الغرباء عن القرآن وقعوا في خلط كبير وتصوّروا أنّ هذه الأعمال التي تصدر عن هؤلاء العظماء تصدر منهم بالإستقلال، ولذا قاموا من أجل حلّ المشكل بإنكار بعض الضرورات في الدين مثل مسألة الشفاعة.

وعليه فإنّ هؤلاء ومن أجل تثبيت قواعد التوحيد كما يزعمون سقطوا في وادي الشرك ووادي إنكار ضرورات الدين والقرآن، وللشهيد المطهّري رحمه الله كلام جميل في هذا المجال ننقل خلاصته حيث قال تحت عنوان (حدود التوحيد والشرك):

1- الإعتقاد بموجود غير اللَّه سبحانه ليس شركاً ذاتياً كما يعتقد أنصار الوحدة النوعية للوجود، لأنّ هذه الموجودات مخلوقة ومرتبطة به لا أنّها نظيرة له.

2- لا يعتبر الإعتقاد بتأثير المخلوقات شركاً في الخالقية (كما يعتقد الأشاعرة والجبريون) لأنّ المخلوقات كما أنّها ليست مستقلّة ذاتياً فإنّها غير مستقلّة في تأثيراتها أيضاً، بل أنّها تابعة له.

3- لو اعتقدنا بالتأثّر المستقلّ للمخلوقات وقلنا أنّ عالم الخلق أمام اللَّه كالماكنة والساعة التي يصنعها الصانع فهي بحاجة إليه في حدوثها ولا تحتاجه بعد صناعتها لأنّها تعمل حتّى لو ارتحل صانعها من الدنيا، فهذا هو الإعتقاد بالتفويض وهو لون من الشرك (إعتقاد المعتزلة).

4- الإعتقاد بقدرة الموجودات التي تفوق الطبيعة وتأثيراتها في العالم بإذن اللَّه

وأمره

نفحات القرآن، ج 3، ص: 233

ليس شركاً كما يظنّ الوهّابيون، بل إنّ اعتقادهم يمثّل أسوء ألوان الشرك، لأنّنا لو اعتبرنا ذلك شركاً لكان الإعتقاد بأصل وجود الموجودات شركاً أيضاً.

وهكذا فإنّ الإعتقاد بقدرة الإنسان وتأثيره بعد رحيله من الدنيا لا يعدّ شركاً، لأنّ الإنسان لا يكون جماداً بعد موته.

ثمّ إنّ اعتقاد الوهّابيين يتّسم باللاإنسانية حيث ينزلون الإنسان منزلة الحيوان الطبيعي وهو الذي اعتبره اللَّه خليفة له وأعلى منزلة من الملائكة الذين سجدوا له.

وهنا نصل إلى حقيقة الحديث الشهير الوارد عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ويقول فيه ما نصّه: «إنّ الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء، في ليلة ظلماء» «1».

والطريف أنّ الردّ على الوهّابيين موجود في الآية التي يستدلّون بها على إنكار الشفاعة و (التوسّل)، لأنّ القرآن الكريم يقول: «فَلَا تَدعُوا مَعَ اللَّهِ احَداً». (الجن/ 18)

ويعني المثيل الذي يكون في عرضه وعلى هيئة الموجود المستقلّ كذاته المقدّسة، ولكن إذا كان تأثيره بإذنه وأمره لا في عرضه فإنّ ذلك ليس شركاً فحسب بل فيه تأكيد جديد على أصل التوحيد الذي ينتهي كلّ شي ء إليه.

وهذا يشابه ما طلبه اخوة يوسف من أبيهم يعقوب وكان نبيّاً عظيماً وقد تقبّل ذلك منهم حيث قالوا: «يَاأَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا». (يوسف/ 97)

فاستجاب لهم وقال: «سَوفَ أَسْتَغفِرُ لَكُم رَبِّى». (يوسف/ 98)

هذه هي حقيقة التوحيد في العبادة، وتوحيد الأفعال التي ستتمّ الإشارة إليها وليس كما يظنّه الوهّابيون المتحجّرون.

__________________________________________________

(1) مقدمة في الرؤية الكونية للشهيد المطهري، ص 113 (مع الإختصار).

نفحات القرآن، ج 3، ص: 235

4- توحيد الأفعال

أ) توحيد الخالقية

تمهيد:

إنَّ مفهوم (توحيد الأفعال) في تفسير مبسط وواضح يعني أنّ الكون بأسره هو فعل اللَّه، وكلّ الأفعال، والحركات، والتأثيرات، والتأثّرات تنتهي إلى ذاته المقدّسة، وفي الحقيقة

(لا مؤثّر في الوجود إلّااللَّه)، فالسيف حينما يقطع والنار حينما تحرق والماء حينما يروي الناس والنباتات كل ذلك بإرادته وأمره، وباختصار فإنّ أثر كلّ موجود يكون مصدره اللَّه سبحانه.

وبعبارة اخرى: إنّ الموجودات كما أنّها تابعة في أصل وجودها إلى ذاته فإنّها كذلك في تأثيرها وفعلها.

ولكن هذا المعنى لا ينفي عالم الأسباب وحاكمية قانون العلّية، وطبقاً للحديث المعروف عن الإمام الصادق عليه السلام «أبى اللَّه أَن يُجري الأشياءَ إلّابأسبابٍ» «1».

كما أنّ الإعتقاد بتوحيد الأفعال لا يستوجب الإعتقاد بأصل الجبر وسلب الحريّة من إرادة الإنسان، كما ستتمّ الإشارة إلى ذلك لاحقاً بإذن اللَّه.

بهذا التمهيد نراجع القرآن الكريم ونبحث عن فروع توحيد الأفعال ونذهب أوّلًا إلى توحيد الخالقية فنتأمل خاشعين في الآيات الآتية:

1- «ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُم لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَى ءٍ فَاعْبُدُوهُ وهُوَ عَلى كُلِّ شَى ءٍ وَكِيلٌ».

(انعام/ 102)

__________________________________________________

(1) اصول الكافي، ج 1، ص 183، باب معرفة الإمام، ح 7.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 236

2- «قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَى ءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ». (رعد/ 16)

3- «هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيرُ اللَّهِ يَرزُقُكُم مِّنَ السَّماءِ وَالْأَرضِ لَاالهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ».

(فاطر/ 3)

4- «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّماوَاتِ وَالْأَرضَ وسَخَّرَ الشَّمْسَ والْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ». (عنكبوت/ 61)

5- «وَاللَّهُ خَلَقَكُم وَمَا تَعْمَلُونَ». (صافات/ 96)

6- «أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ العَالَمِينَ». (اعراف/ 54)

شرح المفردات:

(خلق) في الأصل كما يقول الراغب في المفردات يعني التقدير المباشر ويستعمل عادةً في الإيجاد والإبداع لشي ء من دون أن يكون له سابق ومثيل، وعلى ما ورد في (مقاييس اللغة) فإنّ (خلق) لها معنيان أصليان: الأوّل هو التقدير، والثاني هو استواء الشي ء، ولذا يطلق على الحجر المستوي (خَلقاء) وعلى الصفات الباطنة (أخلاق) لأنّه يحكي

عن نوع من الخلق، وعلى كلّ حال بما أنّ الخلق يعني التقدير والتنظيم والتسوية فإنّ هذه الكلمة استعملت في خلق اللَّه الإبداعي.

جمع الآيات وتفسيرها
هو الخالق لكلّ شي ء:

تقول آية البحث الاولى بعد تبيان صفات اللَّه الجلالية والجمالية:

«ذلِكُم اللَّهُ ربُّكُم»، لا الأصنام التافهة ولا المعبودات من الملائكة والجنّ التي هي من المخلوقات والمربوبات، واللَّه عزّوجلّ هو ربّ الجميع «1».

__________________________________________________

(1) جملة «ذلكم اللَّه ربّكم» فيها (ذلكم) وهو إسم إشارة إلى البعيد وفي مثل هذه الموارد يكون كناية عن العظمة غير الإعتيادية لمقامه الخارج عن حدود الأفكار.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 237

وتضيف: «لَاالهَ إِلَّا هُوَ».

لأنّ اللائق للعبادة هو الذي يكون (ربّاً) أي مالكاً ومربّياً ومدبّراً لكلّ شي ء، وللمزيد من التأكيد وإقامة دليل آخر على إنحصار المعبود فيه تضيف الآية: «خَالِقُ كُلِّ شى ءٍ»، ثمّ تستنتج لتقول: «فَاعْبُدُوهُ».

ولقطع كلّ أمل بغير اللَّه وصدّ البشر عن التعلّق بعالم الأسباب وإجتثاث جذور الشرك تقول الآية: «وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَى ءٍ وَكِيلٌ».

كلمة (شي ء) كما يقول اللغويون: تعني كلّ أمر يمكن أن يناله علم الإنسان «1»، إلّاأنّها في آية البحث تعني كلّ الموجودات ما سوى اللَّه سبحانه.

وعلى أيّة حال فإنّ لهذه الكلمة مفهوماً واسعاً يشمل كلّ الموجودات المادّية والمجرّدة والذهنية والخارجية والجوهر والعرض، وباختصار: إنّها تشمل كلّ شي ء، وهذه الآية دليل واضح على عمومية الخلق الإلهي بالنسبة لكلّ شي ء.

وقد وقع هنا نزاع معروف بسبب شمول (شي ء) لأعمال الإنسان بين جماعة تقول بالجبر- كالفخر الرازي- حيث يقول: (إنّ أعمالنا داخلة في كلمة (شي ء) أيضاً، فاللَّه إذن هو خالقها)، وهذه الآية دليل على الجبر عندهم، ولكن المؤيّدين لحريّة الإرادة لهم إجابة واضحة ومستدلّة وستأتي في الإيضاحات.

وقد استدلّت جماعة بهذه الآية على نفي الصفات الزائدة على الذات في مواجهة الأشاعرة القائلين

بأنّ اللَّه ذو صفات منفصلة عن ذاته، فلو كان الأمر كذلك فإنّ كلمة (شي ء) تشملها ويجب- حينئذ- أن تكون مخلوقة للَّه، ولا معنى لأن يخلق اللَّه صفاته كالقدرة والعلم و ... ولا ينسجم هذا مع وجوب الوجود أساساً.

فأجاب بعض الأشاعرة بتخصيص عموم الآية بأن نقول: إنّ (خالق كلّ شي ء) لا يشمل صفات اللَّه! ولكن الآية تأبى الإستثناء ولم يرد عليها أي تخصيص كما سنبيّن ذلك بإذن اللَّه.

__________________________________________________

(1) هذه الكلمة مصدر (شاء) وتكون تارةً بمعنى اسم الفاعل وتارةً بمعنى اسم المفعول (فتأمّل جيدّاً).

نفحات القرآن، ج 3، ص: 238

الآية الثانية تبيّن محتوى الآية السابقة إضافة إلى تأكيدها على وحدانية اللَّه وقهّاريته حيث جاء فيها: «امْ جَعَلُوا للَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلقُ عَلَيهِم قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَى ءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ».

«قهّار»: من (قهر) ويعني في الأصل الغلبة المقرونة بتحقير الطرف المقابل ولذا، تستعمل في هذين المعنيين كليهما، ونظراً لاستعمالها هنا بصيغة المبالغة فانّها تعني غلبة اللَّه والنصر المطلق- دون قيد أو شرط- على كلّ شي ء وكلّ فعل حتّى معبوداتهم وأصنامهم غير مستثناة، وعليه كيف تكون شريكاً للَّه؟!

الآية الثالثة تطرح الموضوع بصورة اخرى وهي صورة الإستفهام الإستنكاري حيث تقول: «هَلْ مِن خَالِقٍ غَيرُ اللَّهِ يَرزُقُكُم مِنَ السَّماءِ والْأَرضِ»، كلّا، فهو الذي بدأ خلقكم، وبقاؤكم مستند إلى رزقه المتواصل.

فبأمره تشرقُ الشمسُ عليكم من السماء، وينزل المطر لاحياء الأرض ويسخّر الرياح، وهو الذي يتفضّل عليكم بالنباتات والثمار والغذاء والمعادن والثروات الثمينة.

وعليه عندما لا يوجد خالق ورازق سواه فبداية الجميع ونهايتهم إذن بيده: «لَاالهَ إِلَّا هُوَ فَانَّى تُؤْفَكُونَ».

خالقية اللَّه للكون:

لا ينكر حتّى المشركون أنّ اللَّه هو الخالق للكون، والآية الرابعة تطرح مسألة التوحيد في إطار آخر وهو أنّ المشركين أنفسهم

يُقرّون أنّ الأصنام ليست خالقة للسماء والأرض والشمس والقمر أبداً وتقول: «وَلَئِنْ سَأَلتَهُم مَّن خَلَقَ السَّماوَاتِ والْأَرْضَ وسَخَّرَ الشَّمْسَ والْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ».

فقد كان المشركون يعتقدون أنّ الأصنام شريكة للَّه في العبادة أو لها التأثير على مصير

نفحات القرآن، ج 3، ص: 239

الإنسان في الخالقية، فلا يصدق عاقل بأنّ كتلة من الحجر والخشب مصنوعة بيد الإنسان على هيئة الصنم تكون خالقاً للسماء والأرض وحتّى أنّهم لم يعتقدوا أنّ للأنبياء والأولياء هذا المقام أيضاً.

يحتمل أن تكون هذه الآية إشارة إلى نفوذ هذه العقيدة في أعماق الفطرة الإنسانية، وعلى أيّة حال فإنّ الفصل بين (توحيد الخالقية) و (توحيد العبادة) تناقض صريح، لأنّ الخالق والرازق هو اللائق بالعبودية فهو الذي سخّر الشمس والقمر لينعم بهما الإنسان وجعلهما في خدمته.

بناءً على ذلك لا تنفصل (الخالقية) عن (الربوبية) ولا (الربوبية) عن (الالوهية)، وبعبارة أوضح: هو الخالق وهو المدبّر للعالم وهو أهل لعبودية العباد.

وقد حاول بعض المفسّرين مثل مؤلف تفسير (في ظلال القرآن) أن يعتبر التفات مشركي العرب إلى (توحيد الخالقية) ناشى ء من تعليمات الأنبياء كالنبي إبراهيم عليه السلام «1».

إلّا أنّه لا ضرورة لهذا الإصرار، حيث يقرّ كلّ إنسان بهذه الحقيقة عند مراجعته للعقل والوجدان، كما اشير إلى هذا المضمون في تفسير روح البيان «2».

إنّ الإستناد إلى مسألة الخلق ثمّ التسخير إشارة إلى مسألتي (الخلق) و (التدبير) حيث يكون الجميع بأمره والمراد من (التسخير) في هذه الآية- بقرينة آيات التسخير الاخرى الواردة في القرآن الكريم- هو استخدامها في سبيل المصالح البشرية.

وعبارة «فَأَنّى يُؤْفَكُونَ» مع ملاحظة اشتقاقه من (افك) بمعنى (إرجاع الشي ء عن مسيره الأصلي) يمكن أن يكون إشارة إلى أنّ المسار الصحيح والمنطقي هو أنّهم بعد الإقرار بخالقية اللَّه وتدبيره في عالم الوجود «أن

لا يعبدوا سواه»، إلّاأنّهم انحرفوا عن الطريق فتعرّضوا إلى العواصف العاتية للشيطان والنفس التي رمت بهم- كالقشّة- من الطريق المستقيم إلى التيه والضلالة (لاحظ أنّ المؤتفكات تعني الرياح المضادّة).

__________________________________________________

(1) تفسير في ظلال القرآن، ج 6، ص 428.

(2) تفسير روح البيان، ج 6، ص 488.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 240

في الآية الخامسة استناد خاصّ إلى كون الأصنام مصنوعة باليد حيث تقول: «وَاللَّهُ خَلَقَكُم وَمَا تَعمَلُونَ» وذلك لما ورد في الآية السابقة لها عن قول إبراهيم عليه السلام- رمز التوحيد- للمشركين: «اتَعْبُدُونَ مَا تَنحِتُونَ»؟ ويقول في هذه الآية: «واللَّهُ خَلَقَكُم وَمَا تَعمَلُونَ» فلا تستحقّ أي منها العبادة، بل إنّ أصنامكم موجودات أحطّ منكم لأنّها مصنوعة بأيديكم.

و «ما»: في جملة (وما تعملون) في هذه الحالة تكون موصولة.

وقد احتمل بعض أو أصرّوا على أنّ اعتبار (ما) هنا مصدرية فيكون معنى الآية: إنّ اللَّه خلقكم وخلق أعمالكم، في حين لا يتناسب هذا المعنى لأنّه:

أوّلًا: إنّ اللَّه يوبّخ الكفّار في الآية على عبادتهم للأصنام فلو كان اللَّه خالقاً لأعمالهم فلماذا التوبيخ؟!

ثانياً: إنّ جملة (ما تعملون) دليل على أنّهم خلقوا أعمالهم، وعليه لا تنسجم مع الخلق الإلهي.

ثالثاً: في الآية السابقة ورد حديث عن الأصنام التي كانوا يصنعونها بأيديهم فالمناسب أن تكون (ما) هي المراد هنا، وإلّا فإنّ الآيات تفقد ترابطها، ولذا اختار كثير من المفسّرين التفسير الأوّل أمثال الزمخشري، في الكشّاف والآلوسي في روح المعاني، والعلّامة الطباطبائي في الميزان وغيرهم.

وهنا سؤال يطرح نفسه وهو: كيف يمكن أن تكون الأصنام مصنوعة للَّه والبشر في الوقت ذاته؟!

يقول الزمخشري: إنّ موادها مخلوقة للَّه وصورتها مخلوقة لصانعي الأصنام «1».

إلّا أنّ الصورة والشكل مخلوقة للَّه من إحدى الجهات، لأنّ اللَّه سبحانه أعطى الإنسان القدرة وخلق فيه هذا العلم

والمهارة وإن نهاه عن سوء الاستفادة منها.

وأخيراً نواجه في الآية السادسة والأخيرة عبارة جديدة في باب توحيد الخالقية حيث تقول: «الَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمرُ» و «تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ».

__________________________________________________

(1) تفسير الكشّاف، ج 4، ص 51.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 241

ولا شكّ في أنّ الآية دليل على انحصار (الخلق) و (الأمر) في اللَّه عزّوجلّ «1»، وعليه فإنّ الآية تبيّن (توحيد الخالقية) بوضوح.

ولكن وقع بين المفسّرين كلام حول المراد من (الأمر)، فبعض فسّره بمعنى تدبير العالم والأنظمة والقوانين الجارية وذلك بقرينة الآيات الكثيرةالتي ورد فيها هذا المعنى نظير «فَالْمُدَبِّراتِ أَمراً». (النازعات/ 5)

والآية: «اللَّهُ الَّذِى سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجرِىَ الْفُلكُ فِيهِ بِأَمرِهِ». (الجاثية/ 12)

الآية: «النُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِامرِهِ». (النحل/ 12)

وآيات عديدة اخرى.

أمّا بعضهم الآخر فقد اعتبرها بمعنى الأمر التشريعي والدستور الإلهي المقابل للنهي، فيكون معنى الآية: أنّ الخلق خاصّ باللَّه والأمر والدستور التشريعي يصدر عنه أيضاً، مثل:

«فَليَحذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَن امرِهِ». (النور/ 63)

وفي تفسير ثالث فُسّر (الأمر) بمعنى الإرادة مثل: «انَّ اللَّهَ بِالِغُ امرِهِ». (الطلاق/ 3)

وفي تفسير رابع فسّر عالم (الخلق) بعالم المادّة، وعالم (الأمر) بعالم المجرّدات وذلك بقرينة قوله تعالى: «يَسالُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرّوحُ مِن امرِ رَبِّى». (الاسراء/ 85)

والواضح أنّ التفسير الأوّل من بين هذه التفاسير أكثر انسجاماً مع الآيات القرآنية الاخرى ومع آية البحث أيضاً، لأنّ القرآن الكريم يريد أن يذكّر المشركين بهذه الحقيقة، وهي أنّ الخلق وتدبير المخلوقات مختصّ باللَّه والشاهد على ذلك قوله: «رَبُّ الْعَالَمِينَ» في ذيل الآية، وعليه فإنّ الأصنام لا دور لها لا في الخلق ولا في التدبير والربوبية، فلماذا تعبد إذن؟!

__________________________________________________

(1) تقديم (له) على الخلق والأمر دليل على الحصر.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 242

توضيحان
1- الخطوة الاولى نحو الشرك في الخالقية

لعلّ المجوس ليسوا أوّل

من جعل للَّه شريكاً في الخالقية، ولكنّهم أكثر شهرة من غيرهم على الأقل.

إنّهم قسّموا الموجودات إلى مجموعتين: حسنة وسيّئة (خير وشرّ) وافترضوا لكلّ مجموعة إلهاً (يزدان وأهريمن) أو النور والظلمة، ودليلهم هو أنّ مخلوق الإله تكون له سنخية معه، وعليه لا يمكن أن يكون إله الخير وإله الشرّ واحداً، فإله الخير خير، وإله الشرّ شرّ!

لو كانت موجودات العالم مقسّمة على هذا النحو لأمكن أن يكون الاستدلال صحيحاً، لكن الحقيقة هي أنّه لا يوجد في عالم الوجود إلّاالخير، وما يطلق عليه (الشرّ) أمر عدمي أو أنّه ذو جهة نسبية، فمثلًا نقول: الفقر شرّ، في حين أنّ الشرّ ليس إلّاالفقدان لمستلزمات الحياة، والفقدان أمر عدمي والعدم ليس شيئاً ليكون له خالق.

أو نقول: إنّ لسعةَ النحل ومخالب الحيوان المفترس شرّ وذلك عندما نجعل أنفسنا محوراً ثمّ نحكم بهذا النحو، في حين لو نظرنا إلى النحل نجد أنّ الابرة فيه وسيلة للدفاع وطرد المهاجمين، والأنياب والمخالب في الحيوانات المفترسة وسيلة للصيد والتغذّي ولها جانب حيوي بالنسبة إليها فهي إذن خير، وعليه فإنّ الكثير من الموجودات تتّخذ صورة (شرّيرة) نتيجة لأفكارنا.

وقد يكون جهلنا هو السبب في اعتبار الأشياء شرّاً وذلك لعدم علمنا بفوائدها، فمثلًا من الممكن أن نعتبر وجود الجراثيم شرّاً لأنّها تسبّب الأمراض ولكن إذا لاحظنا نظرية بعض العلماء في أنّ الجراثيم المسبّبة للأمراض تدعو خلايا الإنسان إلى معركة دائمة وفيها تكون أكثر نشاطاً ونمواً ورشداً، ولولا الجراثيم لكان معدّل طول الإنسان لا يتجاوز الثمانين سنتمتراً، ولأصبح ذا جسم ضعيف وعاجز، سنذعن عندما ندرك ذلك أنّ إطلاق الشرّ عليها ناشى ء من جهلنا، وبخاصّة أنّ الذي خلق الجراثيم قد أوجد طرق معالجتها في حالة استفحالها أيضاً.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 243

ونعلم

كذلك أنّ بعض الأدوية في عصرنا الراهن تستخرج من سموم الحيوانات ولهذا الغرض يُربّى كثير من الأفاعي والحيوانات السامّة الاخرى، وعلى هذا فإنّ ابرها وسمومها ليست شرّاً مطلقاً، وستأتي تفاصيل أكثر حول هذا الموضوع في بحث العدل، بإذن اللَّه.

2- خطوة اخرى على طريق الشرك

في هذا الموضوع انحرفت مجموعتان إسلاميتان هما (الأشاعرة) و (المعتزلة) أي المفوّضة، المجموعة الاولى تتبع «أبا الحسن الأشعري» المتوفّى عام 324 ه وقد أنكرت التأثير والعلّة والمعلول في عالم الخلق إنكاراً تامّاً وتقول: إذا كانت النار محرقة فانّه مجرّد تصوّر ولا غير! فالمحرق الأصلي هو اللَّه، ولكن إرادته حكمت بشكل إذا مسّت النار- مثلًا- يد الإنسان فإنّ اللَّه يوجد الإحتراق مباشرة في يده! وبهذا النحو أنكروا عالم العلّة والمعلول تماماً واعتبروا اللَّه تعالى علّة لكلّ شي ء مباشرة دون واسطة.

إنّهم أنكروا هذه القضيّة المحسوسة بل والأكثر من المحسوسة «1» بسبب إيمانهم بأنّ الإعتقاد بوجود عالم الأسباب يخلّ في توحيد الخالقية.

بسبب هذا الخطأ الكبير تعرّضت مجموعة الأشاعرة إلى انحراف كبير آخر وهو أنّها تعتبر أفعال الإنسان وأعماله مخلوقة للَّه أيضاً، وهذا أسوء أنواع الجبر!

وبعبارة اخرى أنّه شي ء أعلى من الجبر لأنّ الأشاعرة يقولون: لسنا نحن الفاعلين للأعمال الصالحة والسيّئة بل إنّ الخالق لها كلّها هو اللَّه سبحانه، فهي في الحقيقة أعماله المباشرة لا أعمالنا الجبرية (فتأمّل جيّداً)، وفي النقطة المقابلة يقف المعتزلة الذين لا يعتقدون بوجود تأثير للأسباب والعلل فحسب بل يعتبرونها مستقلّة في تأثيراتها، فمثلًا أنّ اللَّه خلق بعض الأنبياء والأولياء وأوكل إليهم أمر الخلق، كما يعتقدون أنّ الإنسان مستقلّ

__________________________________________________

(1) ليس لقانون العلّية بعد حسّي فقط بل يمكن التوصّل إليه عن طريق الوجدان والعلم الحضوري، لأنّ كلّ شخص يرى بوضوح أنّ روحه توجد الإرادة والتفكير.

نفحات القرآن،

ج 3، ص: 244

في أعماله تماماً، وبهذا يعتبرون الإنسان خالقاً صغيراً واللَّه عزّوجلّ خالقاً كبيراً!

ولا شكّ في أنّ المجموعتين على خطأ، وقد وقعا في لون من الشرك، شرك جلي وصريح، وشرك خفي، فالقائلون ب (التفويض) ابتلوا بشرك جلي لأنّهم اعتقدوا بأنّ الإنسان مستقلّ في أفعاله أو اعتقدوا بأنّ اللَّه قد أوكل إلى أوليائه خلق السماء والأرض وتنحّى جانباً! وهذا ما يعارض صريح الآيات القرآنية التي تعتبر اللَّه خالقاً لكلّ شي ء وربّاً ومدبّراً لجميع الامور، ومن العجيب أنّ الإنسان المسلم المرتبط بالقرآن كيف يتّبع مثل هذه الأبحاث المنحرفة؟!

أمّا الأشاعرة فقد ابتلوا بلون آخر من الانحراف والشرك، لأنّهم أنكروا أوّلًا: أصل العلّية في عالم الخلق خلافاً للوجدان والحسّ، وثانياً: إذا كان الإعتراف بأصل العلّية شركاً فإنّ الإعتقاد بأصل وجود الإنسان شرك أيضاً، إنّ الإنسان مختار وحرّ في فعله ولكن يجب أن لا ننسى أنّ قدرته وقوّته كلّها وحتّى حرية إرادته هي من اللَّه تعالى، فهو الذي أودع كلّ هذه القوى في الإنسان وهو الذي شاء أن يكون الإنسان حرّاً، وعلى هذا فإنّ أعمال الإنسان في الوقت الذي تستند فيه إلى الإنسان فانّها تكون مستندة إلى اللَّه أيضاً، ولا تخرج عن دائرة خلقه، كالإعتقاد بأصل وجود الإنسان فانّه وجود تابع ومتعلّق بغيره، ولذلك لا يستوجب الشرك.

وبملاحظة المثال الآتي يمكن أن تتّضح الحقيقة: إنّ كثيراً من القطارات تعمل بالطاقة الكهربائية، وهذه الطاقة تجري في شبكة على طول الطريق ويرتبط القطار بها عن طريق حلقة، السائق في مثل هذا القطار حرّ في عمله ولكن في الوقت ذاته يكون عمله مرتبطاً بيد شخص آخر وهو الذي يراقب الطاقة الكهربائية على طول السلك، فبإمكانه أن يقطع التيار الكهربائي بإرادته في أيّة لحظة شاء

وذلك بالضغط على زرٍ معين فيتوقّف القطار في مكانه.

وبإمكانه- إذن- أن يقول إنّي حرّكت القطار بإرادتي، كما يمكن لسائق القطار أن يقول ذلك ويصدق الإثنان، إلّاأنّهما فاعلان طوليان الأوّل في المرحلة الاولى والعليا والثاني في المرحلة الثانية والسفلى التابعة، فالفعل ينسب إذن إلى الإثنين ومع ذلك فإنّ سائق القطار

نفحات القرآن، ج 3، ص: 245

مسؤول عن عمله وليس بمجبر.

وعليه لا يكون الإعتقاد بحرية إرادة الإنسان شركاً في الخالقية.

وبعبارة أوضح: مثلما يرتبط أصل وجود الإنسان باللَّه تعالى والإيمان بوجود الإنسان لا يستلزم الشرك فأفعاله كذلك.

والأشاعرة كأنّهم يرون أصل وجود الإنسان مستقلًا في حين أنّ هذا نوع من الشرك، وإلّا فإنّ الوجود التابع إن لم يتعارض مع التوحيد فإنّ الأفعال التابعة للإنسان لا تكون معارضة للتوحيد أيضاً.

ولا بأس أن يتوضّح هذا البحث بضرب مثال:

جاء إنكار الأشاعرة للعلّية والسببية نتيجة لتوهّم وقوع الشرك، أي إذا اعتبرنا الإحراق من النار فانّهم يقولون: إنّ هذا شرك! في حين يبقى هذا السؤال: أليس الإعتقاد بوجود أصل النار أمام وجود اللَّه شركاً؟

سيقولون: لا حتماً، لأنّ هذا الوجود تابع لذاته المقدّسة (كالضوء المنبعث من المصباح المتوقّف على ارتباطه بالطاقة الكهربائية ويطفأ عند انقطاعها)، ونذكر هذا الكلام ذاته في تأثير الأسباب ونقول: إنّها تكون في النهاية تابعة للَّه تعالى، وقدوة الإنسان واختياره تابع له أيضاً، وعليه فإنّ التوحيد يحتفظ بمعناه تماماً في هذا المجال، فاللَّه خالق كلّ شي ء مع ثبوت أصل العلّية والحرية في إرادة الإنسان.

وستأتي إيضاحات أكثر بهذا الشأن في بحث الجبر والإختيار، بإذن اللَّه.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 247

ب) توحيد الربوبيّة

تمهيد:

إنَّ توحيد الربوبية يعني أنّ المدير والمدبّر والمربّي والمنظّم لعالم الوجود هو ذات اللَّه المقدّسة فقط.

وكلمة (ربّ) التي هي من صفات اللَّه عزّوجلّ قد تكرّرت

في القرآن الكريم أكثر من غيرها حتّى بلغت 900 مرّة بألفاظ: (ربّ، ربّك، ربّكم، ربّنا، ربّي وأمثالها)، والعديد من الآيت القرآنية تعرّف اللَّه ب (ربّ العالمين) ويدلّل ذلك على أنّ القرآن يولي اهتماماً خاصّاً بتوحيد الربوبية، حيث كان أغلب المشركين يجعلون مع اللَّه تعالى موجودات اخرى تشاركه في تدبير العالم، وأغلبهم- كما أسلفنا- آمنوا بتوحيد الخالقية ولكنّهم تورّطوا بالشرك في الربوبية، ولذا يقوم القرآن بدفع هذا الانحراف العقائدي الكبير لدى أقوام مختلفة مكرّراً وباستمرار، والشرك في الربوبية طبعاً يكون مصدراً لانحرافات خطيرة اخرى سنتعرض لها في بحوث مقبلة.

بهذا التمهيد نمعن خاشعين في آيات قرآنية تمثّل نماذج من آيات توحيد الربوبية في القرآن الكريم:

1- «الْحَمدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ». (الفاتحة/ 2)

2- «قُلْ أَغَيرَ اللَّهِ أَبْغِى رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَى ءٍ». (الأنعام/ 164)

3- «قُلْ مَنْ رَّبُّ السَّماوَاتِ والْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ». (الرعد/ 16)

4- «فَتَعَالَى اللَّهُ المَلِكُ الحَقُّ لَاالَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ العَرشِ الْكَرِيمِ». (المؤمنون/ 116)

5- «اللَّهَ رَبَّكُم وَرَبَّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ». (الصافات/ 126)

6- «قُلْ مَنْ يَرزُقُكُمْ مِّنَ السَّمَاءِ والْأَرْضِ أَمَّنْ يَملِكُ السَّمْعَ والْأَبْصَارَ وَمَن يُخرِجُ الْحَىَ

نفحات القرآن، ج 3، ص: 248

مِنَ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَىِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ».

(يونس/ 31)

شرح المفردات:

«ربّ»: له أصل واحد وفروع وشعب كثيرة وموارد استعمال كثيرة.

والأصل كما يقول الراغب في المفردات يعني التربية وسَوْق الشي ء إلى الكمال، وفي (مقاييس اللغة) ذكر عدداً من الاصول له هي: المصلح والقائم على الإصلاح الملازم والمقيم على الشي ء، الإدغام بين الشيئين ولكن كما ورد في (التحقيق في كلمات القرآن الكريم) فإنّ هذه ترجع جميعها إلى أصل واحد وهو عبارة عن سوق الشي ء إلى الكمال ورفع النقائص في أبعاد مختلفة: ماديّة ومعنوية، ذاتية

وعرضية، وفي الإعتقاد والصفات والأخلاق.

وبما أنّ أداء هذا العمل يقترن بمفاهيم اخرى نظير: الإصلاح، التدبير، الحكومة، المالكية، الصحبة، السيادة، الإجتماع، التعليم، والتغذية فانّه يطلق على هذه المعاني أيضاً.

من هنا ذكرت له كتب اللغة معاني متعدّدة، فقد جاء في (لسان العرب) مثلًا: إنّ (ربّ) إضافة إلى إطلاقه على ذات اللَّه المقدّسة فانّه يعني المالك والسيّد والمدبّر والمربّي والقيّم والمنعم أيضاً، وجوهر الكلام هو أنّ هذه الكلمة تعني في الأصل التربية والسوق إلى الكمال ثمّ اطلقت على المعاني الملازمة له «1».

ولكن كما يستفاد من أقوال اللغويين إذا استعملت هذه الكلمة مطلقة فانّها تستعمل فيما يخصّ اللَّه تعالى فقط لأنّه المالك الحقيقي والمربّي والمصلح لكلّ شي ء، وإذا استعملت في سوى اللَّه تعالى فالواجب هو أن تكون مضافة مثل (ربّ الدار) (ربّ الإبل) و (ربّ الصبي) «2».

__________________________________________________

(1) ينبغي ملاحظة أنّ «ربّ» مشتقّة من «ربب» في حين أنّ «التربية» مشتقّة من «ربو» ويستفاد من التفاسير التي وردت حول كلمة ربّ في كتب اللغة أنّ (ربو) و (ربب) لهما تشابه شديد في المعنى وقد اعتبر الطبرسي رحمه الله في مجمع البيان ج 1، ص 22، هاتين الكلمتين بمعنى واحد.

(2) راجع، لسان العرب؛ مفردات الراغب؛ وقاموس اللغة مادّة (ربّ).

نفحات القرآن، ج 3، ص: 249

إنّ هذه الكلمة عندما تطلق على اللَّه عزّوجلّ يمكن أن تكون فيها إشارة إلى أبعاد الربوبية المختلفة أي المالكية والتدبير والإصلاح والتربية والقيمومة والإنعام.

«تدبير»: من (دبْر) ويعني المجي ء خلف شي ء، والتدبير يعني جعل الشي ء ذا عاقبة حسنة ونتيجة مرغوبة، العمل الذي لا يمكن إنجازه إلّابالعلم والوعي وبهذا فإنّ لفظ (مدبّر) يطلق على أشخاص يتدبّرون عواقب الأعمال ويوصلونها إلى نهاياتها المطلوبة ويمتلكون رؤية ثاقبة ووعياً كافياً «1».

جمع الآيات وتفسيرها
اللَّه سبحانه وتعالى ربّ العالمين:

إنَّ الآية الاولى التي نردّدها صباحاً ومساءً تقول: «الحَمدُ للَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ» قد تكرّرت في سور قرآنية عديدة من قبل العباد أو من قبل اللَّه تعالى، وتكون تارة مرتبطة بالدنيا، واخرى بيوم القيامة «2».

هذه الآية تتضمّن في الحقيقة استدلالًا لطيفاً على أنّ اللَّه عزّ وجلّ أهل لكلّ حمدٍ وثناء، لأنّه المربّي الحقيقي للعالمين أجمعين، فهو الخالق وهو الرازق وهو المالك وهو المربّي وهو المدير والمدبّر وهو المرشد والمعلّم والهادي، والملاحظ أنّ (الحمد) استعمل كجنس يشمل كلّ أنواع الثناء، و (العالمين) كذلك، فانّه جاء على هيئة الجمع المحلّى بالألف واللام فانّه يشمل موجودات العالم كلّها من عقلاء وغير عقلاء ماديّة وغير مادّية (واستعمالها بصورة الجمع العاقل فانّه من باب التغليب) «3».

__________________________________________________

(1) مقاييس اللغة والتحقيق في كلمات القرآن الكريم ومفردات الراغب.

(2) الأنعام، 10.

(3) لهذا فانّه حينما وصف موسى عليه السلام اللَّه تعالى أمام فرعون بأنّه (ربّ العالمين) سأل فرعون: ومن ربّ العالمين؟ فأجاب موسى: ربّ السماوات والأرض وما بينهما.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 250

وعليه إنّ ما يقوم به الآخرون من تعليم وتربية وإنعام في زاوية من العالم فإنّ ذلك قبس من فيضه سبحانه، ومن كان مالكاً فإنّ ذلك شعاع من مالكيته المطلقة، ولذا علينا قبل أن نشكر عباده ونحمدهم ونثني عليهم يجب أن نحمد اللَّه ونشكر ذاته المقدّسة.

والفخر الرازي يقدّم شرحاً إجمالياً لِنِعَم اللَّه نظراً إلى أنّ الحمد والثناء يكون إزاء النعمة ويقول: «... ثمّ أنّ أصحاب التشريح وجدوا قريباً من 5 آلاف نوع من المنافع والمصالح التي ذكرها اللَّه عزّوجلّ بحكمته في تخليق بدن الإنسان ثمّ إنّ من وقف على هذه الأصناف المذكورة في كتب التشريح عرف أنّ نسبة هذا القدر المعلوم المذكور

إلى ما لم يعلم وما لم يذكر كالقطرة في البحر المحيط» ثمّ يذكر آثار الربوبية في بقيّة أنحاء العالم، ويقول: «إنّ هذا المجموع «مجموع نعم اللَّه» مشتمل على ألف ألف مسألة أو أكثر أو أقلّ، ثمّ إنّه تعالى نبّه على أنّ أكثرها مخلوق لمنفعة الإنسان أو كما قال تعالى: «وَسَخَّرَ لَكُم مَا فِى السَّمَاواتِ وَمَا فِى الأَرْضِ». (الجاثية/ 13)

وحينئذ يظهر أنّ قوله جلّ جلاله «الحمد للَّه» مشتمل على ألف ألف مسألة أو أكثر أو أقلّ» «1».

المفسِّر المذكور تحدّث طبعاً في إطار العلوم السائدة في عصره، وبملاحظة الإكتشافات الحاصلة في عصرنا في المجالات العلمية المختلفة يتّضح صغر وتفاهة هذه الأرقام والأعداد، ففي جسم الإنسان وحده 10 ملايين مليار خليّة! كلّ خليّة منها تعدّ من خَدَمه ومشمولة بربوبية الخالق سبحانه وتستلزم الشكر والحمد، ولو أراد الإنسان أن يعدّ هذه الخلايا ليلًا ونهاراً فضلًا عن حمدها والثناء عليها لاحتاج إلى 300 ألف سنة!

الآية الثانية التي تخاطب النبي صلى الله عليه و آله تقول: «قُلْ أَغَيَرَ اللَّهِ أَبْغِى رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَى ءٍ».

كيف تريدون الإستقلال لأنفسكم عن النظام العامّ لعالم الخلق؟ فاللَّه ربّ الموجودات كلّها فكيف لا نعتقد بأنّه (ربّنا)؟ فهل من الممكن أن نجعل شيئاً تحت ربوبية اللَّه شريكاً له

__________________________________________________

(1) تفسير الكبير، ج 1، ص 6.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 251

ونعتبر المربوب ربّاً والمخلوق شريكاً للخالق، والعبد في عرض المولى؟ فأي حكم هذا؟!

وبملاحظة سعة مفهوم (شي ء) الذي يشمل كلّ ما سوى اللَّه سبحانه فإنّ توحيد الربوبية في هذه الآية ظاهر بصورة كاملة فاللَّه سبحانه يأمر النبي صلى الله عليه و آله ضمن آيتين سابقتين بأن يخاطب المشركين بصراحة: «قُلْ انَّ صَلَاتِى وَنُسُكِى وَمَحيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبِّ

الْعَالَمِينَ». (انعام/ 162)

لماذا أعبد غيره؟ ولماذا أسجد لغيره؟ وكيف أبقى حيّاً بذكر غيره؟ أو أموت فداءً لغيره؟

في حين أنّه وحده هو الخالق والمالك والمربّي لي.

ونرى هنا التلاحم والتآلف بين (توحيد العبادة) و (توحيد الربوبية) حيث أوجدا خليطاً مربّياً للروح «1».

في الآية الثالثة خطاب للنبي صلى الله عليه و آله أيضاً ولكن الكلام هنا جاء عن ربّ السماء والأرض والذي لا يختلف في الحقيقة عن (ربّ العالمين) و (ربّ كلّ شي ء) كثيراً، وإن ذكر بعبارات مختلفة فتقول الآية: «قُلْ مَن رَّبُّ السَّماوَاتِ والْأَرْضِ»، ولأنّهم ليس بوسعهم الإدّعاء بأنّ الأصنام أو المعبودات البشرية وأمثالها مدبّرة ومربّية ومنظّمة للسماء والأرض فإنّ الآية تأمر النبي صلى الله عليه و آله مباشرة: أجب عن هذا السؤال و «قُلِ اللَّهُ».

ينبغي لك أن تهجر كلّ ما سواه وتُعرض عن غيره وتعتمد على ذاته المقدّسة فقط، واجعل قلبك مرتبطاً به وعفّر خدّك له، لأنّ جميع الموجودات لا تملك لنفسها ضرّاً ولا نفعاً فضلًا عن غيرها: «لَايَملِكُونَ لِانفُسِهِمْ ضَرّاً وَ لَانَفْعاً». (الفرقان/ 3)

__________________________________________________

(1) «نسك» مفرد وفسّره الكثير من اللغويين بمعنى كلّ عبادة في حين فسّره البعض بمعنى الهدي ولكن لا توجد آية قرينة عليها بل إنّ ظاهر الآية يدلّ على أنّ المراد هو كلّ العبادات وعليه يكون ذكره بعد الصلاة من قبل العام بعد الخاصّ.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 252

الآية الرابعة تتحدّث عن ربوبية اللَّه للعرش ولكنّها تبدأ بحاكمية اللَّه وتقول: «فَتَعَالَى اللَّهُ المَلِكُ الحَقُّ».

وهذه جملة تكمّل ما ورد في الآية السابقة لها وفيها: «أَفَحَسِبْتُم انَّمَا خَلَقنَاكُم عَبَثاً وَانَّكُم الَينَا لَاتُرجَعُونَ». (المؤمنون/ 115)

ويستفاد منها بأنّه لولا المعاد والقيامة فإنّ خلق الإنسان يكون عبثاً، لأنّ الحياة لعدّة أيّام في الدنيا ليست هدفاً سامياً للخلق

وهذا من الدلائل المهمّة للمعاد، سيكون لنا حديث مفصّل عنها في بحث المعاد بإذن اللَّه.

ثمّ تضيف الآية: «لَاالهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ العَرشِ الْكَرِيمِ».

«ملك»: يعني الحاكم والمالك، ولا يصدق ذلك بمعناه الحقيقي إلّافي اللَّه سبحانه لأنّه من شؤون الخالقية ومستلزماتها ولعدم وجود خالق سواه فانّه لا مالك ومَلك غيره.

ولذا تصفه الآية بعبارة (الحقّ)، ثمّ تحصر المعبود فيه لأنّ العبادة تليق بالملك الحقّ وتكمل ذلك بوصفه ب «رَبُّ العَرشِ الْكَرِيمِ»، هذه الصفات الأربع جاءت لدعم عقيدة المعاد والقيامة الواردة في الآيات السابقة.

«العرش الكريم»: إشارة إلى عالم الوجود كلّه، لأنّ العرش يعني كرسي السلاطين العالي، وكرسي الحكومة الإلهيّة كناية عن مجموعة عالم الخلق وعلى هذا ينسجم مع جملة: «رَبُّ كُلِّ شَي ءٍ» التي جاءت في الآيات السابقة، واتّصاف العرش ب (الكريم) الذي يعني الشريف والمفيد والجيّد بسبب أنّ كرسي الحكومة الإلهيّة مصداق كامل لهذه الصفات.

ولكن بعضاً اعتقد أنّ (الكريم) يعني الصاحب الكريم، ولأنّ هذا المعنى لا يصدق في العرش فإنّ هذه الصفة تكون لذات اللَّه المقدّسة لا العرش، في حين أنّ كريم يمكن أن يكون وصفاً لغير الموجودات العاقلة أيضاً مثل: «لَهُم مَّغفِرَةٌ وَرِزقٌ كَرِيمٌ». (الحج/ 50)

أي كثير الفائدة والشريف «1».

__________________________________________________

(1) هنا أبحاث مفصّلة في معنى «العرش» في اللغة والقرآن الكريم ومنها في تفسير الأمثل، ذيل الآية 54 من سورة الأعراف و ذيل الآية 3 من سورة يونس.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 253

الآية الخامسة تتحدّث عن ربوبية اللَّه للبشر وتنقل عن النبي العظيم «إلياس عليه السلام» خطابه لقومه، وفيه وبخّهم على عبادة صنمهم المعروف ب (بعلْ) وقال لهم: «أَتَدْعُونَ بَعْلًا وتَذَرُونَ احسَنَ الْخَالِقِينَ» وأضاف: «اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ» «1».

وهذا في الواقع لجميع الوثنيين الذين كانوا

يبرّرون عبادة الأصنام حينما يسألون عنها بقولهم: إنّ هذه سنّة آبائنا ولا نتركها، وفي المقابل استند النبي إلياس عليه السلام إلى هذا المعنى وهو: أنّ اللائق للعبودية هو ربّ العالم ومدبّره والمربّي الحقيقي للإنسان، واللَّه ربّكم وربّ آبائكم وأجدادكم فإذا كان اولئك على خطأ في معرفة المعبود الحقيقي وربّهم فلماذا تسلكون نفس الطريق الخاطى ء؟

هو المدبّر للُامور:

تتحدّث الآية السادسة والأخيرة عن تدبير الأمر بدلًا من استخدام كلمة (الربّ) وهو مفهوم شبيه بالربوبية، وليس عينه تماماً، فتخاطب النبي صلى الله عليه و آله: «قُلْ مَن يَرزُقُكُم مِنَ السَّماءِ وَالْأَرضِ».

مَن الذي سخّر لكم نور الشمس الضروري لوجودكم والأمطار التي تنزل من السماء لتهب الحياة في كلّ مكان والهواء الذي تتنفسونه فيمنحكم طراوة ولطافة؟

وهكذا النباتات التي تنبت في الأرض، وتوفّر المواد الغذائية والفواكه اللذيذة والمعادن الثمينة التي تستخرجونها من باطن الأرض، من الذي أعطاها لكم؟ هل هذه الأرزاق من الأصنام؟!

ثمّ تذكر الآية جسم الإنسان وتشير إلى مجموعيتن من أهمّ أعضائه بعنوان الطريق الأصلي في ارتباط الإنسان مع العالم الخارجي والمبدأ الأساس للعلوم والأفكار حيث تقول: «أَمَّن يَملِكُ السَّمعَ والابصَارَ»، ثمّ تتناول أهمّ ظاهرة في عالم الخلقة وهي قضيّة

__________________________________________________

(1) «اللَّه» منصوب لأنّه بدل من «أحسن الخالقين» في الآية السابقة وقال بعض إنّه عطف بيان.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 254

الحياة والموت وتقول: «وَمَن يُخرِجُ الحَىَّ مِنَ المَيِّتِ ويُخرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَىِّ»، فهل هذا من فعل الأصنام أيضاً؟!

والآية في آخرها بعد ذكر المسائل المهمّة الثلاث (الأرزاق السماوية والأرضية، السمع والبصر، الحياة والموت) تذكر القضيّة بصورة كليّة وجامعة وتقول: «ومَنْ يُدَبِّرُ الْامرَ».

ومن المسلّم به أنّهم لو راجعوا عقولهم وضمائرهم لم يكن لهم جواب إلّاأنْ يقولوا اللَّه:

«فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ».

ثمّ تقول الآية خذ من هذا

الجواب مستمسكاً وقل: «أَفَلَا تَتَّقُونَ».

إنّ جميع الأرزاق المعنوية والماديّة للإنسان وتدبير العالم كلّه قد اجتمعت في الحقيقة في هذه الآية، فإنّ الأرزاق الماديّة إمّا تكون من السماء أو من الأرض، والأرزاق المعنوية عادةً تكون عن طريق البصر والسمع اللذين ينقلان العلوم الحسّية والعقلية والنقلية إلى الإنسان، وتدبير العالم يشمل هذه كلّها وغيرها، فمن يستطيع أن يدّعي أنّ العباد الضعفاء أو الموجودات الحقيرة كالأصنام هي الخالقة لهذه الأرزاق والمدبّرة لهذه الامور؟ إنَّ توحيد الربوبية ليس قضيّة معقّدة حتّى بالنسبة لعبّاد الأصنام فيما لو فكّروا قليلًا.

والتعبير ب (يملك السمع والأبصار) يمكن أن يكون إشارة إلى خلقها أو حفظ نظامها وتدبيرها أو هذه الامور كلّها.

من مجموع الآيات المذكورة والآيات المشابهة لها في القرآن الكريم وهي كثيرة وواسعة نحصل على هذه الحقيقة، وهي أنّ القرآن الكريم يعرّف اللَّه القادر المتعال بأنّه هو المالك والمربّي والمدير والمدبّر لعالم الوجود كلّه وكلّ شي ء، وكلّ موجود في السماء والأرض والعرش والكرسي والبشر في الزمان الحاضر والماضي، ونقول بصراحة لا ربّ لعالم الوجود غيره.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 255

توضيحات
1- التوحيد يعني حذف الوسائط!

من خلال مطالعة دقيقة للآيات القرآنية نستنتج أنّ القرآن يصرّ مؤكّداً بأن لا يضيع الناس بين الوسائط وعليهم أن يتوجّهوا إلى ذات اللَّه المقدّسة مباشرةً، ويتحدّثوا معه ولتتعلّق قلوبهم به وحده ولا يعبدوا غيره، والتعبير ب (ربّ العالمين) في سورة الحمد والسور القرآنية الاخرى إشارة إلى هذه الحقيقة، وتكرار ذكر الركوع والسجود (سبحان ربّي العظيم) و (سبحان ربّي الأعلى) كلّه لبيان هذه الحقيقة وهي: ليس خلقنا بيده فحسب بل وبقاؤنا وتربيتنا وتكاملنا وتدبير امورنا.

وقد أوضح القرآن الكريم ذلك بدقّة وهو أنّ، (الخالق) و (الربّ) لا يمكن أن ينفصلا، ولو دقّقنا جيّداً في الإنسان لوجدنا

له خلقاً جديداً في كلّ لحظة، وكلّ ذلك منه سبحانه.

إنَّ موجودات العالم بأسرها محتاجة وفقيرة وهو الغني المطلق من كلّ جهة.

وتاريخ الديانات يشير إلى أنّ البشرية بسبب التيه في الوسائط والخرافات التي ابتُليت بها، وكم من الموجودات المنحطّة التي جعلتها آلهة تتحكم بمصائرها، وهذا التعدّد في الأرباب والآلهة قد جلب للبشرية كلّ هذا التفرّق والاختلافات والشقاء.

ولكن عندما نهجر هذه الوسائط ونعتبر أنّ اللَّه هو الربّ المطلق كما تقول الدلائل والبراهين العقلية، نعرف أنّ كلّ شي ء محتاج إليه فإنّا سنصل إلى مبدأ النور والعظمة والوحدة والوحدانية.

ولذا فإنّ صفة (ربّ) تكرّرت أكثر من 900 مرّة في الآيات القرآنية ولم تتأكّد صفة اخرى من الصفات الإلهيّة إلى هذه الدرجة.

وفي الحقيقة يجب معرفة ومطالعة الإخلاص في توحيد الإسلام قبل كلّ شي ء في هذا التوحيد الربوبي.

2- تاريخ الديانات وخرافة الوسائط
اشارة

كلّما تعمّقنا في دراسة تاريخ المذاهب والديانات تتجلّى أمامنا هذه الحقيقة أكثر فأكثر

نفحات القرآن، ج 3، ص: 256

وهي شيوع الشرك وتعدّد الآلهة (الإله بمعنى الربّ) بين المجتمعات البشرية المختلفة منذ أقدم العصور بشكل أوسع، ولو قمنا بجمع أسماء هذه الآلهة وعقائد المجتمعات البشرية المختلفة لحصلنا على كتاب مفصّل ملي ء بالعقائد العجيبة والغريبة والخرافية، ولا بأس في الإشارة إليها بصورة مختصرة، ليطّلع القرّاء على تلك القصّة الطويلة من خلال هذه المقدّمة المتواضعة.

أ) آلهة الروم

كَتَبَ أحد المؤرّخين الغربيين بهذا الصدد: «لم تكن الديانة الرومية تشابه ما نصطلح عليه «دين» أبداً، ولم تتضمّن أي تشريع لمعتقديها، ولم تكن بصدد إصلاح التفسّخ الأخلاقي بين الناس، بل كانت تعلّمهم أفضل السبل لاكتساب رضا الآلهة وعونها.

... وكانت آلهة الروم كثيرة جدّاً ممّا جعل كلّ إله يحظى باتجاه معين! وله دور في قضيّة معيّنة، فلم يكن لأبواب البيوت إله فحسب، بل والعتبة منها وقواعدها كانت لها أرباب، كما أنّ هناك آلهة مستقلّة تتولّى أمر المحافظة على كلّ فرد من أفراد البشر، فوجود رب النوع الخاص الذي يعلّم الطفل أوّل صرخة، وآخر يعلّمه شرب الماء، وآخر يعلّمه الخروج من البيت وآخر يعلّمه كيف يرجع! وهناك إله خاص لحراثة الأرض وإله آخر خاص بالزراعة وآخر لبذر البذور و (أعداد كبيرة من الآلهة)، ولا عجب في أن يكون للروم (30) ألف إله! حتّى أنّ أحد شخصياتهم مازح بقوله: إنّ آلهة بلادنا في الشوارع والمجتمعات هي أكثر من أفراد شعبنا!» «1».

ب) آلهة اليونان

ويكتب ذلك المؤرّخ أيضاً: (لقد اعتقد المجتمع اليوناني- كالكثير من الامم- بالوهية الظواهر الطبيعية كلّها نظير الشمس والرعد والمحيطات والأعاصير والأنهار والعيون

__________________________________________________

(1) تاريخ آلبرمالة، تاريخ الروم، ج 1، ص 29 و 30، (علامة التعجّب منّا).

نفحات القرآن، ج 3، ص: 257

والرياح والأمطار، وقام بعبادتها واعتقد أنّ هذه الآثار تنشأ من وجود خفي، واعتقد أنّها منشأ الخير والشرّ ومن هنا قام بعبادتها كي يحصل على كرمها أو يدفع الشرّ بها.

ثمّ يذكر إله اليونان المعروف وهو (زيوس) ابن (كرونوس) وهو المتصوّر لديهم على شكل إنسان، له الهيمنة التامّة والجبروت وذو جبهة عريضة وشعر كثيف ولحية كثّة طويلة على شكل حلقات!

كان زيوس ربّ الأرباب وإله البشر في اليونان ويحيطه

عدد كبير من الآلهة وأرباب الأنواع، وكانت زوجة زيوس (هيرا) تعيش في السماء.

ويعتقدون أنّ لزيوس أبناء ثلاثة هم: (هرمس) و (آرتميس) و (آپولون) وهم على التوالي مظاهر المطر وربّ النوع للقمر والشمس!

كما اعتقدوا بآلهة عديدة اخرى نظير آلهة البحر وآلهة الأرض وآلهة جوف الأرض وآلهة العمل «1».

ج) آلهة مصر

أغلب المصريين القدماء اعتقدوا بديانة تؤمن بتعدد الآلهة، واعتقدوا أنّ إلهاً واحداً هو أعلى من الآخرين عرف ب (إله الآلهة).

في مصر القديمة كان للناس في كلّ منطقة آلهة ومعبد خاصّ تجاوزت ال 2000 معبود! تسعة منهم يحظون بذكر أكبر، أحدهم إله الشمس، ثمّ إله الهواء، وإله الفضاء والفرا غ، وإله الأرض وهكذا هناك إله الصحراء والأراضي الخصبة والموات «2».

يقول المؤرّخ الشهير ويل ديورانت في (قصّة الحضارة):

«لم تكن في العالم منطقة تناظر مصر في تعدّد الآلهة، وكان المصري يعتقد أنّ الخلق ابتدأ من السماء، وكانت سماء نهر النيل أعظم ربّ الأنواع.

__________________________________________________

(1) تاريخ آلبرمالة، تاريخ امم الشرق، ج 2، من ص 171 إلى ص 179 (باختصار).

(2) الإسلام والعقائد والآراء البشرية، ص 46.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 258

وقد اعتقد المصريون بأنّ كواكب السماء ليست أجساماً فحسب بل إنّها تعكس الصورة الخارجية لأرواح الآلهة الكبيرة مثل آلهة السماء والحيوان والنبات، وقد بلغت حداً أصبحت فيه المعابد المصرية معارض للحيوانات المختلفة» «1».

د) آلهة ايران

إعتقد الإيرانيون قديماً بالثنوية ثمّ بتعدّد الآلهة وشاع بينهم بصورة تدريجية عبادة (امشاسبندان) أو الآلهة الستّة، آلهة الحيوانات الأليفة والبيضاء، إله النار، إله المعادن، إله الأرض، وإله المياه والحيوانات وإله الثوابت والسيارات السماوية «2».

ه) آلهة الصين

إعتقد الصينيون القدماء أيضاً بأنّ العالم يحكمه أصلان أحدهما (المذكر) أو (الموجَب) أو (النور) والآخر (الأُنثى أو (السالب) أو (الظلام) وتبعه التفكير بالثنوية (شانكتي) وهو فحل مظهر لأصل الذكورة وكان يدعى إله الأفلاك، واعتقدوا أنّه هو الذي يجازي الإنسان على أعماله الصالحة والسيّئة في هذه الدنيا وينزل البلاء الشديد عند العصيان العامّ.

وكانت (هاتن) إلهاً مؤنثاً ويثنى عليه، ثمّ ظهرت آلهة اخرى تدريجاً وتبدّلت الثنوية إلى تعدّد الآلهة: إله الخصوبة، إله المطر، إله الرياح، إله الثلج، إله النار، إله الجبل و ... «3».

و) مشركو العرب

يؤكّد بعض المؤرّخين والمفسّرين بأنّ العرب كانوا يعتقدون بأنّ الخالق والرزّاق والربّ والمدبّر للعالم إله واحد ويستشهدون بآيات قرآنية تتحدّث عن إقرارهم في قضيّة خالقية اللَّه ورازقيته، وعليه فإنّ عبادة الأصنام بينهم لم تنشأ من الإعتقاد بتعدّد الآلهة، بل من

__________________________________________________

(1) تاريخ الحضارة، ويل دورانت، ج 1، ص 298 و 300 (بإختصار).

(2) الإسلام والعقائد والآراء البشرية، ص 34 (بإختصار).

(3) المصدر السابق، ص 157.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 259

اعتبارهم الأصنام ذات مقام ومكانة عند اللَّه يرجون منها الشفاعة والقرب من اللَّه، حتّى اعتقد البعض منهم أنّ إلى جانب كلّ صنم شيطان موكول به من قبل اللَّه، وكلّ من يعبد الصنم حقّ عبادته فإنّ ذلك الشيطان يبادر بقضاء حوائجه بأمر من اللَّه!! «1»

ولا يمكن إنكار أنّ طائفة من العرب كانت ترجّح عبادة النجوم، وتعتقد أنّ كواكب خاصّة حين الغروب والشروق تقوم بإنزال المطر وقد عبّروا عنها ب (الأنواء) وهو جمع نوء ويعني النجم الذي يميل إلى الغروب، وقد اعتقدوا بارتباط الحركة والسكون والسفر والإقامة بهذه النجوم (واعتقدوا بتأثيرها على مصائرهم) وقد شيّدوا معابد كبيرة للشمس والقمر والزهرة وسائر الكواكب «2».

وفي اليمن كان

من بين القبائل العربية من يعبد الكواكب السماوية، فكانت طائفة منها تعبد الشمس وقد أشار القرآن الكريم إليها في قصّة ملكة سبأ، وطائفة اخرى عبدت القمر، واخرى عبدت نجمة الشعراء، كما عبدت قبائل اخرى نجوماً اخرى «3».

ز) آلهة بلدان أخرى

في بلدان اخرى مثل الهند واليابان وغيرها ساد الإعتقاد بأرباب الأنواع والآلهة المتعدّدة، كما اعتقد الصابئة (عبّاد النجوم) بأنّ السيّارات السبع هي التي تحرس الأقاليم السبعة وتحافظ عليها (حيث قسّموا الأرض قديماً إلى سبعة أقسام أُطلق على كلّ قسم منها اقليم) «4» واعتقدوا أنّها مبدأ الخيرات ودافعة للأضرار عن أهل الأرض.

والإعتقاد ب (توتم) الذي ساد في مناطق شاسعة من العالم كان مشابهاً للاعتقاد بربّ الأنواع أيضاً، حيث كان لكلّ قبيلة (توتم) بمثابة الأب وروح القبيلة واعتقد بأنّه على صورة الحيوانات أو ما شاكله.

__________________________________________________

(1) بلوغ الأرب، ج 2، ص 197.

(2) المصدر السابق، ص 223.

(3) الإسلام والجاهلية، ص 295.

(4) يمكن مراجعة معجم البلدان، ج 1، ص 27 للمعرفة التفصيلية بالأقاليم السبعة وحدودها.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 260

ح) الإعتقاد بالمثل الأفلاطونية

إفترض افلاطون لكلّ نوع من أنواع عالم الطبيعة فرداً مجرّداً عقليّاً، واعتقد أنّه قائم بالذات وبما أنّ هذه الأفراد المجرّدة اعتبرت أمثالًا ومظاهر لأسماء وصفات اللَّه وشبيهة للأنواع الطبيعية فقد اطلق عليها عنوان (مثال) وجمعه مُثُل على وزن رُسُل.

إعتقد افلاطون أنّ ما له الحقيقة هو المثال وهو المطلق الذي لا يتغيّر ومجرّد من الزمان والمكان وأبدي وكلّي، وأمّا هذه الأجسام الجسمانية والمادّية التي نشاهدها متعدّدة وذات زمان ومكان وفانية فإنّها إنعكاس لتلك، وعليه تكون نسبة الإنسان الجسماني لمثاله هو نسبة الظلّ إلى ذي الظلّ.

ولأفراد الإنسان قسط من الحقيقة ما يناسب قربها من المثال، ومن هنا اعتبر افلاطون العالم المحسوس مجازاً وعالم المعقولات حقيقة «1».

إنّ الإعتقاد بالمثل اليونانية وإن تغاير مع الإعتقاد بأرباب الأنواع لكنّه لا يخلو من تشابه من عدّة جهات ويعتبر شكلًا فلسفياً من أرباب الأنواع اليوناني.

كما أنّ الإعتقاد بالعقول الفلكية المجرّدة له تشابه مع

أرباب الأنواع من جهة.

وإيضاحه: أنّ جماعة من الفلاسفة اعتقدوا بأنّ اللَّه- بسبب بساطته من كلّ جهة- له مخلوق واحد لا أكثر، وهو مخلوق مجرّد أطلقوا عليه (العقل الأوّل) ثمّ اعتقدوا بأنّ العقل الأوّل لتركّبه من وجود وماهية فهو الخالق للعقل الثاني والفلك الأوّل، وبهذا الترتيب اعتقدوا بخلق عشرة عقول وتسعة أفلاك!

وقد اعتقد البعض منهم أنّ عدد العقول لا حصر لها، كما اعتقدوا ب (العقول العرضية) إلى جانب العقول الطولية (العقول العشرة التي يكون أحدها مخلوقاً للآخر)، واعتبروها وسائط لفيض الصور النوعية والمرتبة العليا للموجودات الجسمية (مثل أرباب الأنواع والمثل الافلاطونية)، ولكلّ مفردة من هذه المسائل بحوث مطوّلة ننصرف عنها لأنّها خارجة عن موضوع بحثنا.

__________________________________________________

(1) كليّات الفلسفة الإسلامية وسير الحكمة في اوربا وكتب اخرى.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 261

المهمّ هنا هو أن نعلم بأنّ القرآن الكريم واجه هذه الأفكار كلّها وفي هذا الوسط الواسع من الأفكار العجيبة والغريبة والملوّثة بالشرك وأمام هذه العقائد والمذاهب الفلسفية المختلفة التي تُشمّ منها رائحة الشرك قام بعرض توحيد خالص في مسألة الخالقية وتدبير العالم وربوبيته وهو بحقّ من معجزات القرآن الكريم.

لقد أبطل القرآن هذه الآلهة الوهمية وربّ الأنواع الخيالية وعرّف (اللَّه عزّوجلّ) كربٍّ للعالمين فقط، واعتبر كلّ شي ء وكلّ إنسان مخلوقاً له وتحت تربيته وتدبيره، وقام بإفاضة الصفاء على قلوب البشر وأرواحهم بنور الوحدة ووجّه أنظار البشر المشتّتة إلى ذلك الواحد الأبدي.

أجل، إنّ دراسة تلك العقائد المشوبة بالشرك ومطالعتها تفصح عن قيمة التوحيد الإسلامي في منظار أتباع الحقّ.

والطريف أنّ الإسلام قد انبعث من أجواء لا يتحكّم فيها سوى الجهل، وكان الشرك يفرض قوّته على عقول الناس، ولم يكن العالم الخارج عن حدود الجزيرة العربية متخلّفاً عنها، فقد أشرنا سالفاً

إلى أنّ الفلاسفة والمفكّرين كانوا متورّطين بلون من الأفكار المشوبة بالشرك.

ويدلّ ذلك على أنّ طريق التوحيد الأصيل ليس أمراً يسمح للإنسان أن يسير فيه بنفسه، بل لابدّ من يد غيبية تمتدّ إليه عن طريق الوحي، ومن أنبياء يقودونه من وادي الظلمات ويوصلونه إلى معين التوحيد الخالص.

3- التفويض لون من الشرك

بالرغم من أنّ للتفويض معاني مختلفة تبلغ سبعة عند بعض، ووجود بحوث واسعة مرتبطة به، إلّاأنّ من اللازم التذكير بأنّ جمعاً من المسلمين القائلين بالتفويض قد ظهروا وهم يحملون عقيدة بأنّ اللَّه تعالى خلق النبي صلى الله عليه و آله والأئمّة المعصومين عليهم السلام ثمّ أوكل إليهم

نفحات القرآن، ج 3، ص: 262

أمر الخلق والرزق والموت والحياة لسائر الموجودات في العالم.

وأفضل ما قيل عن هذه العقيدة هوماذكره العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول: «ثم اعلم أنّ التفويض يطلق على معانٍ بعضها منفي عنهم عليهم السلام وبعضها مثبت لهم، فالأوّل: إنّ التفويض في الخلق والرزق والتربية والإماتة والإحياء، فإنّ قوماً قالوا: إنّ اللَّه خلقهم وفوّض إليهم أمر الخلق فهم يخلقون ويرزقون ويحييون ويميتون وهذا يحتمل وجهين:

أحدهما: أن يقال: إنّهم يفعلون جميع ذلك بقدرتهم وإرادتهم وهم الفاعلون لها حقيقة وهذا كفر صريح، دلّت على استحالته الأدلّة العقليّة والنقلية ولا يستريب عقل في كفر من قال به.

وثانيهما: إنّ اللَّه تعالى يفعلها مقارناً لإرادتهم كشقّ القمر وإحياء الموتى وقلب العصا حيّة وغير ذلك من المعجزات، فانّها جميعها إنّما تقع بقدرته سبحانه مقارناً لإرادتهم لظهور صدقهم فلا يأبى العقل من أن يكون اللَّه تعالى خلقهم وأكملهم وألهمهم ما يصلح في نظام العالم ثمّ خلق كلّ شي ء مقارناً لإرادتهم ومشيئتهم، وهذا وإن كان العقل لا يعارضه بتاتاً لكن الأخبار الكثيرة ممّا أوردناها في كتاب

(بحار الأنوار) يمنع من القول به فيما عدا المعجزات ظاهراً بل صريحاً» «1».

وعليه فإنّ الاحتمال الثاني غير محال عقلًا، إلّاأنّ الأدلّة النقلية لا ترتضيه، وقد كثرت الامور التي ليست محالة عقلًا ولكن الشرع يرفضها، فمن الممكن- مثلًا- أن يكون عدد الأنبياء أو الأئمّة أكثر من المعروف إلّاأنّ الأدلّة النقلية قد حدّدت أعدادهم بما نعلمه.

وهناك احتمال ثالث وهو أنّ اللَّه عزّ وجلّ يوهب النبي أو الإمام قدرة يستطيع بها إحياء الميّت أو إبراء المريض من مرضه المستعصي بإذنه والظاهر من الآيات القرآنية حول السيّد المسيح هو ما ذكرنا، وهذا كلّه ممكن أيضاً بالنسبة للمعصومين، ولكن كما وردت في العبارات المذكورة تكون هذه المسألة في إطار المعجزات والكرامات فقط، لا في مورد خلق السماء والأرض وتدبير امور الكائنات، لأنّ القرآن الكريم قد صرّح في حصر أمر الخلق والتدبير والربوبية في اللَّه عزّ وجلّ، والآيات التي ذكرناها في هذا الفصل حول

__________________________________________________

(1) مرآة العقول، ج 3، ص 143 (باختصار).

نفحات القرآن، ج 3، ص: 263

التوحيد والربوبية شاهدة على هذا المعنى.

وبما أنّ الإنسان الكامل هو الغاية الأساسية من الخلق وبما أنّ المعصومين هم أفضل البشر، يمكن القول أنّ عالم الوجود قد خلق من أجلهم، وبتعبير آخر، أنّهم بمثابة العلّة الغائية لعالم الوجود.

4- هل أنّ الملائكة تدبر الامور؟

يُقسم القرآن الكريم في سورة النازعات الآية 5 ب (المدبّرات أمراً)، والمشهور بين المفسّرين هو أن الملائكة هي التي تدبّر امور العالم، فهل هذا يتنافى مع توحيد الربوبية؟

الإجابة عن هذا السؤال واضحة، فلو كانت الملائكة لها الإستقلال في التأثير لم يكن ذلك منسجماً مع توحيد الربوبية ولكنّا نعلم أنّها منفّذة للأمر الإلهي وقد أوكلت إليها الامور بإرادته ومشيئته نظير الأسباب في عالم الطبيعة التي لها تأثيراتها بأمر

اللَّه.

وقد لاحظ الكثير من المفسّرين هذه النقطة في هذه الآية ولم يجدوا تناقضاً بين القول بأنّ اللَّه (ربّ العالمين) و (ربّ كلّ شي ء) وبين تأثيرات عالم الأسباب أو تدبير الملائكة بإذن اللَّه، فكما ينصّ القرآن الكريم على أنّ الرازق لجميع الموجودات هي الذات المقدّسة للَّه عزّوجلّ: «وَمَا مِن دَابَّةٍ فِى الارضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزقُهَا». (هود/ 6)

في حين يقول في موضع آخر: «وَعَلَى المَولُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالمَعرُوفِ». (البقرة/ 233)

ومن المسلّم به أنّ إطلاق الرازق على والد المولود لا يتنافى مع إطلاقه على اللَّه سبحانه، فهذا مستقلّ بالذات وذلك بالعرض والتبع.

عندما نقول: إنّ في العسل شفاء: «فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ». (النحل/ 69)

فإنّ ذلك لا يتنافى مع أنّ الشافي هو اللَّه فقط، كما يقول رمز التوحيد، إبراهيم عليه السلام: «وَإِذَا مَرِضتُ فَهُوَ يَشْفِينِ». (الشعراء/ 80)

نفحات القرآن، ج 3، ص: 264

هذه كلّها تبيّن سلسلة العلّة والمعلول، أي تبدأ بالعلّة غير المستقلّة حتّى تصل إلى علّة العلل ومسبّب الأسباب، أي الذات المقدّسة للَّه تبارك وتعالى حيث يكون كلّ سبب مديناً له في تأثيره.

5- «توحيد الربوبية» في الأحاديث الإسلامية

لقد انعكس هذا المضمون بصورة واسعة في الروايات والأدعية المأثورة عن المعصومين: ومنها الأدعية المختلفة التي وردت في الجزء الثاني من اصول الكافي، حيث تلاحظ هذه العبارات خلال الأدعية: «اللهمّ ربّ السماوات السبع وربّ الأرضين السبع ...

رب العرش العظيم ... ربّ المشعر الحرام وربّ البلد الحرام وربّ الحل والحرام ... الحمد للَّه ربّ الصباح ... ربّ الملائكة والروح .. ربّ المستضعفين .. ربّ جبرئيل وميكائيل وإسرافيل وربّ القرآن العظيم وربّ محمّد خاتم النبيين» «1».

كما وردت هذه التعابير في روايات أهل السنّة «2».

وعليه فلا ربّ للسماء والأرض والملائكة والنبيين والأغنياء والمستضعفين والصباح والمساء والكعبة ومكّة والعرش العظيم إلّااللَّه

القادر الواحد.

والتنسيق في شؤون الكون وتنفيذ الأنظمة الحاكمة عليه دليل واحد على وحدة المدبّر، ولذا نقرأ في حديث عن الإمام الصادق عليه السلام قوله للزنديق الملحد الذي سأله عن وحدانية اللَّه عزّ وجلّ: «فلمّا رأينا الخلق منتظماً، والفلك جارياً، واختلاف الليل والنهار والشمس والقمر، دلّ صحّة الأمر والتدبير وائتلاف الأمر على أنّ المدبّر واحد» «3».

__________________________________________________

(1) اصول الكافي، ج 2، ص 514- 585.

(2) للمزيد من الإيضاح راجع المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي، ج 3، ص 207.

(3) توحيد الصدوق، ص 244، باب 36 (باب الردّ على الثنوية والزنادقة).

نفحات القرآن، ج 3، ص: 265

ج) توحيد المالكية (الحاكمية التكوينية)

تمهيد:

من الأقسام المهمّة الاخرى ل (توحيد الأفعال) هو التوحيد في المالكية، ويعني أنّ المالك الحقيقي تكويناً وتشريعاً هو الذات الإلهيّة المقدّسة، والمالكيات الاخرى مجازية وغير مستقلّة.

إيضاح ذلك: أنّ المالكية على قسمين: مالكية حقيقية (تكوينية) ومالكية حقوقية (تشريعية).

المالك الحقيقي هو من له السلطة التكوينية والخارجية على الأشياء، وأمّا المالكية الحقوقية والتشريعية فانّها العقود التي تمضي عليها السلطة القانونية نظير مالكية الإنسان لأمواله.

والقسمان من المالكية للَّه تعالى في الدرجة الاولى من منظار الموحّد لعالم الوجود، فهو تعالى المالك للسلطة الوجودية على جميع الأشياء في الكون، لأنّ الموجودات كلّها منه وتستمدّ منه فيض الوجود آناً بعد آن، والجميع تبع له، وبهذا تثبت مالكيته الحقيقيّة على كلّ شي ء من كلّ جهة.

وأمّا المالكية القانونية فإنّ كلّ شي ء له لأنّه الخالق والموجود لجميع الأشياء، بل حتّى ما نصنعه فانّه هو الذي أعطانا وسائل الإنتاج كلّها، وعليه: فإن المالك الأوّل في الحقيقة هو اللَّه، وإن مالكيتنا ما هي إلّاوديعة لأيام معدودة.

وبهذا التمهيد نراجع القرآن الكريم لنتأمل خاشعين في الآيات التالية:

1- «قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلكِ تُؤْتِى المُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ

المُلكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَى ءٍ قَدِيرٌ». (آل عمران/ 26)

نفحات القرآن، ج 3، ص: 266

2- «أَلَمْ تَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماوَاتِ وَالْأَرضِ وَمَا لَكُمْ مِّنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِىٍّ وَلَا نَصيْرٍ». (بقرة/ 107)

3- «ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ المُلْكُ لَاإلهَ إِلَّا هُوَ فَانّى تُصْرَفُونَ». (زمر/ 6)

4- «وَاللَّهُ يُؤْتِى مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ». (بقرة/ 247)

5- «ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ المُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ». (فاطر/ 13)

6- «قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِى السَّماوَاتِ وَلَا فِى الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا من شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّنْ ظَهِيرٍ». «1»

(سبأ/ 22)

شرح المفردات:

(الملك) بناءً على ما ورد في المقاييس هو في الأصل: القوّة على الشي ء، ولذا ورد التمليك بمعنى التقوية، ثمّ استعمل هذا التعبير في ما يصحبه الإنسان من أشياء وذلك لما له من قدرة وقوّة عليها.

ولذا يطلق على الماء الذي يحمله المسافر (ملك)، لأنّ المسافر الذي يصطحب الماء (خصوصاً في الصحارى الحارّة) يكون قويّاً ومهيمناً على عمله.

«مَلِك»: هو السلطان لقدرته في بلاده.

«ملكوت»: يعني العزّة والسلطنة.

«إملاك»: في العربية يعني التزويج، لاعتبارهم الزوجة ملكاً لهم!

وأخيراً (مملكة) هي الحكومة وعزّة السلطنة، ومن ثمّ أُطلق على الوطن.

__________________________________________________

(1) وردت في القرآن الكريم آيات كثيرة اخرى حول هذا الموضوع متّفقة مع الآيات أعلاه مثل: المائدة، 17- 18- 40- 120؛ الأعراف، 158؛ التوبة، 116؛ الإسراء، 111؛ النور، 42؛ الفرقان، 2؛ ص، 10؛ الزمر، 44؛ الشورى، 49؛ الزخرف، 85، وغيرها.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 267

جمع الآيات وتفسيرها
اللَّه مالك الملك:

قال المفسّرون: إنّ الآية الاولى نزلت بعد فتح مكّة، أو حينما كان النبي الكريم صلى الله عليه و آله مشغولًا بحفر الخندق قبيل معركة الأحزاب حيث بشّر المسلمين بفتح بلاد فارس والروم وقد اعتبر المنافقون ذلك تخيّلات وتكهّنات وتشبّثاً بالمحالات «1».

وفي هذه الأثناء نزلت الآية المذكورة وأنذرت الجهلاء بأنّ اللَّه مالك كلّ البلدان حيث قالت: «قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلكِ تُؤْتِى المُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ المُلكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ» وليس الحكومات فقط وليس العزّة والذلّة بل: «بِيَدِكَ الخَيرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَى ءٍ قَدِيرٌ» «2».

وقدرة اللَّه عزّوجلّ على كلّ شي ء هي- في الحقيقة- دليل حاكميته على الأرض والسماء.

ومن الواضح أنّ لمالكية اللَّه بُعداً عامّاً وحقيقيّاً، في حين ما جاء في المورد الآخر في جملة: «تؤتي الملك من تشاء» يكون له بعد جزئي

ومجازي.

ولا دليل على تحديد مفهوم الآية بفتوحات الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله أو عزّة المؤمنين وذلّة اليهود وما شاكل- كما يعتقد بعض المفسّرين- بأنَّ للآية مفهوماً واسعاً يشمل كلّ الحكومات وكلّ عزّة وذلّة، وما قالوه فهو من مصاديقها الواضحة، والجملة الأخيرة: «إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَي ءٍ قَديرٌ» هي في الواقع بمثابة الدليل على هذه المالكية الإلهيّة العامّة والمطلقة.

وواضح أنّ المشيئة والإرادة الإلهيّة التي استند إليها في هذه الآيات لا تعني أنّ اللَّه يعزّ أو يذلّ أو يعطي الحكومة ويسلبها بدون حساب، بل إنّه وضع في عالم الأسباب مجموعة من عوامل النصر والهزيمة وهي مظاهر مشيئته وإرادته.

__________________________________________________

(1) تفسير مجمع البيان، ج 2، ص 427؛ وتفسير الكبير، ج 8، ص 4.

(2) قال بعض اللغويين: الخير والإختيار لهما مادّة واحدة، والحسنات خير لأنّ كلّ إنسان يختارها (التحقيق، المفردات، تفسير الميزان في ذيل آية البحث).

نفحات القرآن، ج 3، ص: 268

فحينما يوفَّقُ المسلمون يوماً لفتح الأندلس وهي بوابة اوربا أو يخرجون من تلك الديار المعمورة يوماً آخر فإنّ ذلك حديث وفق تلك الأسباب التي هي مظاهر لمشئيته الإلهيّة.

وعندما يتسلّط أمثال يزيد وجنگيزخان على الناس فلعلّه نتيجةً لأعمال الناس أنفسهم حيث إنهم يستحقون مثل هذه الحكومات فقد ورد: «كيفما تكونوا يولّى عليكم».

من هنا يتّضح الجواب على الأسئلة التي تطرح حول آية البحث وليست بحاجة إلى توضيح أكثر.

الآية الثانية تنظر إلى الإشكالات الواهية التي أُثيرت من قبل اليهود حول تغيير القبلة بقولهم: هل بإمكان اللَّه أن ينسخ حكماً ويحلّ حكماً آخر محلّه؟ أن يرفع حكم القبلة من بيت المقدس ويجعله للكعبة؟ فتقول: «أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماوَاتِ وَالْأَرضِ».

وعليه هل يكون عجيباً أن يقوم مثل هذا الحاكم العظيم

بنسخ حكم؟

إنّه ليس مطّلعاً على مصالح العباد فحسب بل له الحاكمية أيضاً وهو مالك التدبير والتصرّف المطلق في الكون وفي عباده.

ولذا تضيف الآية في ذيلها: «وَمَا لَكُمْ مِّنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصيرٍ».

إنّه يعينكم في ضوء علمه بالمصالح والمفاسد وفي ظلّ حاكميته يسنّ القوانين، ثمّ أنّ اللَّه تعالى ليس له مكان لكي تتوجّهوا إليه في الصلاة، وعليه فإن قيمة المكان المتّخذ كقبلة- مع أنّ الكون بأسره ملك له- ناشئة من أمره بذلك.

وقد ورد وصف اللَّه تعالى بأنّه (ولي) و (نصير) في القرآن بكثرة، ويمكن أن يكون الاختلاف بينهما من جهتين: الاولى أنّ (ولي) يعني حافظ المصالح و (نصير) هو الذي ينصر الإنسان على عدوّه، والاخرى: أنّ (ولي) هو الذي يؤدّي عملًا لشخص تحت ولايته، ولكن (نصير) هو الذي يعين الإنسان ليتغلّب على مشكلته.

الآية الثالثة ومن خلال الإشارة إلى خلق الإنسان والحيوانات والتطوّرات العجيبة

نفحات القرآن، ج 3، ص: 269

تقول: «ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ المُلْكُ»، فهو الخالق وهو المربّي ولذا فهو المالك والحاكم، ثمّ تجعل الآية هذه القضيّة مقدّمة لإثبات توحيد العبادة وتضيف: «لَاإلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ».

فيا أيّها الغافلون الجاهلون وياأيّها التائهون في وادي الضلالة! كيف تحيدون مع وجود هذه الدلائل الواضحة عن الإعتراف بخالقية اللَّه وربوبيته ومالكيته؟! هذا الجزء من الآية يثبت في الحقيقة (توحيد العبادة) استناداً إلى (توحيد الحاكمية) للَّه تعالى وحاكميته بالإستناد إلى مسألة الخلق التي يذعن حتّى المشركون بأنّها مختصّة باللَّه عزّوجلّ.

الآية الرابعة تنظر إلى قصّة طالوت وجالوت، فقد كان جالوت جبّاراً ومجرماً وحاكماً على بني إسرائيل وقد آذاهم كثيراً.

وقد قام النبي (اشموئيل) «1»

بطلب من بني إسرائيل بتنصيب (طالوت) الذي كان من القرويين الفقراء قائداً للجيش وحاكماً على بني إسرائيل!

أمّا الملأ

من بني إسرائيل فقد احتجّوا على هذا الإنتخاب واعتبروا أنفسهم أرجح منه، وذلك لما لهم من ثروة وفخامة! إلّاأنّ نبيّهم قال لهم بصراحة: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً» وأضاف: «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِى العِلْمِ والجِسْمِ واللَّهُ يُؤْتِى مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ». (البقرة/ 247)

وعليه فانّه لا يكون حاكماً تكوينياً على عالم الوجود فحسب، بل إنّ الحاكمية القانونية والتشريعية على المجتمع البشري هي لذاته المقدّسة ويمنحها لمن يشاء وإن كانت إرادته ومشيئته قائمة على أساس الأهلية واللياقة.

__________________________________________________

(1) احتمل بعض المفسّرين أنّه النبي شمعون أو يوشع ولكنّهما يبدوان بعيدين، أمّا بالنسبة ليوشع الذي كان وصيّاًلموسى عليه السلام فهو غير ممكن تقريباً.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 270

الآية الخامسة تبيّن هذه المسألة في إطار جديد، فبعد بيان حاكمية اللَّه على الشمس والقمر ونظام النور والظلم تستنتج بهذا النحو بقولها: «ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُم لَهُ المُلكُ».

في حين ليس للمعبودات من دونه حاكمية ولا مالكية حتّى بحجم الغشاء الرقيق الذي يغلّف نوى التمر: «وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ».

وقد ذكر المفسّرون واللغويون معانيَ مختلفة لكلمة قطمير، أشهرها هو الغشاء الرقيق الذي يفصل النوى عن التمر.

وقد فسّره البعض بأنّه يعني التجوّف الأبيض الصغير الذي يوجد على ظهر النوى وينمو منه نبات التمر، وفسّره البعض بأنّه رأس التمرة، وفسّره بعض آخر بمعنى الشقّ الموجود على بطن النوى، أو بمعنى النطفة الحيّة الموجودة في بطن النوى.

ترتبط هذه المعاني الخمسة بنوى التمر التي كانت في متناول العرب، وهناك تفسير آخر ذكر لهذه الكلمة وهو غشاء البصل، ولكن الأشهر- كما ذكرنا- هو المعنى الأوّل وعلى كلّ حال هو كناية عن الشي ء الصغير والتافه الذي لا يؤبه له «1».

والآية

هذه دليل واضح على أنّ المالكية والحاكمية لا تكون لأحد سوى اللَّه عزّوجلّ إلّا أن تكون بمشيئته وهبته.

وفي الآية السادسة والأخيرة جاء هذا المضمون في إطار جديد، حيث تخاطب النبي صلى الله عليه و آله: «قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِنْ دُونِ اللَّهِ» هل بإمكانهم أن يحلّوا عقدة من مشكلاتكم؟

ثمّ تقيم دليلًا على عجزهم في حلّ المشكلات وتضيف: «لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِى السَّماوَاتِ وَلَا فِى الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِنْ ظَهِيرٍ».

__________________________________________________

(1) راجع تفاسير مجمع البيان؛ روح المعاني؛ القرطبي؛ الميزان؛ المراغي؛ ومفردات الراغب، لسان العرب؛ ومجمع البحرين.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 271

وعليه فانّهم ليسوا مالكين مستقلّين ولا شركاء ولا معاونين، فأي عمل هم قادرون على إنجازه حتّى تسجدوا لهم وتعبدوهم؟!

بهذه الاستدلالات الواضحة ينفي القرآن الكريم كلّ شريك في المالكية والحاكمية في عالم الوجود الواسع بصورة مستقلّة ومشتركة ومتعاضدة، وتعتبر ذلك كلّه مختّصاً في اللَّه، وينزّه اللَّه عن كلّ شريك ومعين وناصر في عالم الوجود كلّه.

المستفاد من مجموع هذه الآيات الستّ والآيات القرآنية المشابهة لها هو أنّ المالك والحاكم على عالم الوجود بأسره لا يكون في منظار الموحّد الكامل إلّااللَّه، ولا يملك أحد في أي موضع ومنصب جزءاً صغيراً، وبهذا لا يبقى للمشركين أي مبرّر لعبادة الأصنام أو ربّ الأنواع أو الملائكة وغيرها.

توضيحان
1- الآثار التربوية للإيمان بتوحيد المالكية والحاكمية

الطغيان والغرور والتمرّد والبخل والحسد حالات نفسية تنشأ غالباً من عقيدة الإنسان بأنّه المالك الحقيقي للأموال التي بحوزته، ويرى نفسه حرّاً فيما إذا استلم زمام الحكم في نطاق واسع أو ضيق، وهذه حالة مشوبة بالشرك وهي منشأ لألوان المعاصي والفساد الاجتماعي.

ولكن إذا ما نظر الإنسان إلى هذا العالم بمنظار توحيدي، واعتقد- كما في الآيات- أنّ العالم ملك مطلق

للَّه واعتبر نفسه- كما جاء في الآية 7 من سورة الحديد: «وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُّستَخلَفِينَ فِيهِ»- أميناً بين يدي اللَّه، وإستوعب هذا المعنى بوجوده كلّه، فكيف يمكن أن يقصر في أداء ما يريده صاحب الأمانة الأصلي أو يبخل أو يحسد؟ وكيف تكون هذه الأموال سبباً لغروره وطغيانه، إن ما يملك من مال وثروة ليس له! فهل يغترّ الموظّف في أحد المصارف بالملايين التي تكون تحت تصرُّفه كلّ يوم؟

وهكذا بالنسبة للحكومات والمناصب التي يتولّاها البعض، فانّهم ليسوا مستخلفين في

نفحات القرآن، ج 3، ص: 272

جزء صغير من عالم الوجود هذا، وعلى أساس هذا الفهم والرؤية، فلماذا الغرور والطغيان؟

ولماذا الظلم والفساد؟

إنَّ هذه الرؤية التوحيدية للعالم تعطي للإنسانية صبغة أُخرى صبغة إلهيّة، صبغة السلام والصفاء والأمن ولون الإنفاق والإيثار.

2- إستغلال مفهوم (ملكية اللَّه)

لا شكّ- وكما تقدم- أنّ اللَّه تعالى مالك لعالم الوجود بأسره- وبغض النظر عن الآيات القرآنية الكثيرة الواردة بهذا الخصوص فإنّ الدليل العقلي شاهد على هذا الأمر، فانحصار واجب الوجود في ذاته المقدّسة واحتياج الموجودات كلّها إلى اللَّه سبحانه وتعالى يكفي لإثبات هذا المفهوم ولايتنافى مع هذا المعنى من المالكية الحقوقية والقانونية لبني الإنسان في الإطار الذي يسمح به اللَّه أبداً، وما يتشبّث به البعض في قضيّة (ملكية اللَّه) لنفي آية (الملكية الخاصة) فانّه استغلال ليس إلّا، والعجيب إن ذلك يُطرح تحت عنوان الفقه الإسلامي، ويعطي- في الحقيقة- للإشتراكية أو الشيوعية لوناً إسلامياً.

وبوضوح أكثر نقول: إنّ القرآن الكريم الذي أكد على مالكية اللَّه لعالم الوجود الواسع بأسره فيه آيات تتعلّق ب (الإرث والخمس والزكاة والتجارة) أيضاً ويضفي الشرعية على الأموال المشروعة التي يتصرّف بها القطّاع الخاصّ، فقد جاء التعبير ب (أموالكم) في 14 آية قرآنية، والتعبير ب (أموالهم) في 31

آية- وقد وردت الكثير من التعاليم الالهيّة في العديد من الآيات تأمرهم في كيفية التصرف في أموالهم، فلو كان مفهوم الملكية الإلهيّة ينفي ملكية الإنسان، فما هو إذن مفهوم الآيات التي وردت في هذه ال 45 آية إضافة إلى آيات كثيرة اخرى تتعلّق بهذا الموضوع؟

فالقرآن الكريم يقول: «وَآتُوا الْيَتَامى أَمْوَالَهُمْ ... وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ».

(النساء/ 2)

نفحات القرآن، ج 3، ص: 273

وفي موضع آخر: «انَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً ..».

وفي موضع ثالث يقول: «الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَموَالَهُمْ فِى سَبيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَايُتبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنّاً وَلَا أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُم عِندَ رَبِّهِمْ ...». (البقرة/ 262)

ويخاطب المرابين: «وَإِن تُبتُم فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَموالِكُم». (البقرة/ 279)

أو كما ورد في الآية الكريمة: «وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً». (النساء/ 6)

وقد وردت تعابير كثيرة تشير إلى هذا النوع من المالكية.

بالطبع، في الشريعة الإسلامية هناك أقسام أُخرى من المالكية مثل «الملكية العامة» و «ملكية الحكومة» بالإضافة إلى «الملكية الخاصة»، وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك، ولكن لا يوجد لأي من هذه الملكيات علاقة بمالكية اللَّه سبحانه وتعالى، وبتعبير مختصر وهو أنّ توحيد الملكية لايتعارض ولا يتنافي مع ملكية أفراد البشر أو طبقة من المجتمع، أو المجتمع لأي شي ء، بشرط أن تكون هذه الملكية مشروعة.

ولهذا الأمر شروط وأسباب وردت في كتب الفقة الإسلامي بشكل مفصل وواضح.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 275

د) توحيد التقنين (الحاكمية التشريعيّة)

تمهيد:

من المعلوم إنّه ومن أجل تنظيم شؤون المجتمعات البشرية نحتاج إلى ثلاث سلطات، (السلطة التشريعية) التي تتكفّل

سنّ القوانين الكفيلة بحفظ النظام في المجتمع والحيلولة دون ضياع الحقوق، و (السلطة التنفيذية) التي تنفّذ ما صادقت عليه السلطة التشريعية وتتولّاها عادةً الحكومات المؤلفة من الوزراء والدوائر الحكومية.

و (السلطة القضائية) المسؤولة عن معاقبة المتخلّفين عن القانون والمجرمين والمعتدين.

في الرؤية التوحيدية الإسلامية تستمد هذه السلطات الثلاث من تعاليم الذات المقدّسة الالهيّة ولا يكون فيها حكماً جائزاً إلّابإذنه وأمره فهو الذي شرّع القوانين وهو الذي يجيز تشكيل الحكومات وتنفيذ القوانين، وهو الذي يمنح الشرعية لعمل القضاة، وعليه فإنّ هذه السلطات الثلاث لابدّ أن تستمدّ شرعيتها من حضرة القدس الإلهي طبق الشرائط والأوامر، وهذا المعنى له انعكاس واسع في الآيات القرآنية إضافةً إلى إمكانية الاستدلال عليه عقليّاً.

بهذا التمهيد نراجع القرآن الكريم لنمعن خاشعين في الآيات القرآنية:

1- «وَمَنْ لَّمْ يَحكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُوْلئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ». (المائدة/ 44)

2- «وَمَنْ لَّمْ يَحكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُوْلئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ». (المائدة/ 45)

3- «وَمَنْ لَّمْ يَحكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُوْلئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ». (المائدة/ 47)

4- «وَأَنِ احْكُمْ بَينَهُم بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُم أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إلَيكَ». (المائدة/ 49)

5- «فَلَا وَرَبِّكَ لَايُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيَما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثمَّ لَايَجِدُوا فِى أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً». (النساء/ 65)

6- «إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا للَّهِ». (الأنعام/ 57) (يوسف/ 65)

نفحات القرآن، ج 3، ص: 276

7- «وَهُوَ اللَّهُ لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِى الْاولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الحُكْمُ وإلَيهِ تُرْجَعُونَ». (القصص/ 70)

8- «وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَىْ ءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الحُكْمُ وإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ». (القصص/ 88)

9- «وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَى ءٍ فَحُكْمُهُ إلَى اللَّهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّى عَلَيهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ انِيبُ».

(الشورى/ 10)

10- «أَفَغَيرَ اللَّهِ أَبْتَغِى

حَكَماً وَهُوَ الّذِى أَنْزَلَ إِلَيكُمُ الكِتَابَ مُفَصَّلًا». «1» (الانعام/ 114)

شرح المفردات:

«حُكْم»: على وزن (قُفْل) ويعني في الأصل- كما يقول الكثير من كبار اللغويين- المنع والصدّ «2» ومن ثمّ اطلق على (القضاء) و (الحكومة)، لأنّ القاضي والحاكم يمنعان الناس بأحكامهما الحازمة من مخالفتها أو ارتكاب الأعمال الممنوعة.

«حَكَمة»: تعني الحديدة التي توضع في فمّ الحيوان أو أنفه كلجام، ولدى سحبه يتألّم الحيوان ويستسلم ويوجد هنا معنى المنع نفسه أيضاً.

وفي (لسان العرب): ل (حكم) معانٍ مختلفة كالعلم والفهم والقضاء بالحقّ والعدل (حيث تصدّ هذه الامور الإنسان عن المخالفة) ويطلق (حكيم) على من كان ذا معرفة كافية تصدّه عن ارتكاب الأعمال السيّئة.

ومن اللازم التذكير بهذه النقطة وهي أنّ هذه الكلمة تستعمل في الموارد الثلاثة (التشريعية والقضائية والتنفيذية) حيث يطلق الحاكم على الموارد الثلاثة، ولذا فإنّ البعض

__________________________________________________

(1) هنالك آيات قرآنية كثيرة وردت بهذا المضمون أيضاً مثل المائدة، 48، و 50؛ الكهف، 26؛ الأعراف، 87،؛ يوسف، 109؛ هود، 45؛ يوسف، 80؛ التين، 8؛ النساء، 60.

(2) المفردات؛ مقاييس اللغة؛ ومصباح المنير للفيومي.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 277

من كتب اللغة تذكر أنّ أحد معاني (حكم) هو تفويض الأمر والفعل لشخص ما.

ورد في كتاب (العين) أنّ لفظ (حكمة) يرجع إلى مفهوم العدل والعلم والحلم، ويقول صاحب الكتاب: إنّ هذه الكلمة فُسّرت بمعنى (المنع) أو (المنع من الفساد)، وهذا ينسجم مع ما نقلناه عن اللغويين، والآيات المحكمات اطلق عليها هذا اللفظ لأنّ صراحتها ووضوحها يمنع من أي تفسير أو تأويل خاطي ء.

جمع الايات وتفسيرها
من لم يحكم بما أنزل اللَّه:

في الآيات الأربعة الاولى (الآية 44، 45، 47، و 49 من سورة المائدة) عرض لمسألة توحيد الحاكمية بأوضح وجوهه.

تقول الآية الاولى والثانية والثالثة: «وَمَنْ لَّمْ يَحكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُوْلئِكَ هُمُ الكافِرونَ ... هُمُ الظَّالِمُونَ ... هُمُ الفَاسِقُونَ».

وللمفسّرين أقوال

في هذه العبارات هل أنّها تتضمّن مفاهيم مختلفة أو أنّها تشير إلى مفهوم واحد؟

فبعض يعتقد أنّها تنظر إلى جماعة واحدة، وأنّها صفات متعدّدة لموصوف واحد ويمكن تفسيرها بهذا الترتيب: من يحكم بخلاف ما أنزل اللَّه فانّه يخالف اللَّه وينهض بوجه اللَّه فهو كافر من هذه الجهة.

ومن جهة ثانية أنّه يوجّه ضربه للحقّ الإنساني فهو ظالم.

ومن جهة ثالثة أنّه يخرج من نطاق واجباته فهو فاسق (لاحظ أنّ الفسق يعني الخروج عن واجبات العبودية).

وقال بعض آخر: إنّ الآية الاولى والثانية- وبقرينة ما قبلها- تقصدان اليهود، في حين تتحدّث الآية الثالثة عن النصارى، وبما أنّ عداء اليهود للأحكام الإلهيّة أشدّ من النصارى فقد حكم عليهم بالكفر والظلم بينما حكم على النصارى بالفسق.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 278

ولكنّا نعلم أنّ نزول الآيات في موارد خاصّة لا يحدّد مفاهيمها الكلّية بتلك الموارد، وعليه فإنّ الآيات هذه تشمل جميع الذين يحكمون بغير ما أنزل اللَّه.

إنَّ صدق الظلم والفسق فيمن يرتكب هذه المعصية واضح ولكن الحكم بالكفر يكون في حالة الردّ لحكم اللَّه والإعتقاد ببطلانه، لأنّ ذلك أمّا إعتقاد يلازمه إنكار الذات المقدّسة أو علمه وحكمته وعدله، وهذا يستوجب الكفر قطعاً، وهكذا إذا رجع إنكار هذا الحكم إلى إنكار القرآن أو رسالة نبي الإسلام صلى الله عليه و آله.

ولكنّه إذا حكم بغير ما أنزل اللَّه فقط وكان المنشأ فيه هوى النفس مثلًا لا إنكار التوحيد أو النبوّة فانّه لا يستوجب الكفر.

وقد ورد في قوله تعالى: «فَاحْكُمْ بَينَهُم بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ». (المائدة/ 48)

وقوله تعالى: «وَأَنِ احْكُمْ بَينَهُم بِما أَنْزَلَ اللَّهُ». (المائدة/ 49)

وقوله تعالى: «أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ».

(المائدة/ 50)

إنّ الآيات الستّ هذه تؤكّد على هذا المعنى وهو

(الحكم حكم اللَّه فقط).

إنّ هذه التعابير المختلفة وهذا التأكيد المثالي الذي ورد في هذه الآيات الستّ في سورة واحدة وبصورة متقاربة لدليل على هذه الحقيقة وهي أنّه لا يحقّ التشريع لأي مقام إلّااللَّه، وكلّ من يفتي أو يقضي أو يحكم على خلاف حكم اللَّه فانّه يقترف إثماً عظيماً وظلماً وينزع عنه ثوب الإيمان أيضاً.

بهذه يثبت توحيد الحاكمية التشريعية وحصر التشريع في ذات اللَّه المقدّسة وحصر الحكم في حكم اللَّه.

الآية الخامسة تتحدّث عن مقام القضاء وتعتبره من مختصّات رسول اللَّه صلى الله عليه و آله (الذين ينصبون من قبله أئمّة بالمعنى المطلق أو في خصوص القضاء) وتقول: «فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيَما شَجَرَ بَينَهمْ ثُمَّ لَايَجِدُوا فِى أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً».

نفحات القرآن، ج 3، ص: 279

وعليه تكون علامات الإيمان الحقيقي ثلاث: الإحتكام إلى النبي الأكرم صلى الله عليه و آله في كلّ اختلاف وعدم الشعور بالأذى من حكمه وتنفيذه بالكامل في الخارج، وبهذا فإنّ الآية تعتبر فرعاً آخر من الحاكمية، أي الحاكمية في القضاء منحصرة في اللَّه عزّ وجلّ (لأنّ النبي صلى الله عليه و آله ممثّل عن اللَّه).

الحكم للَّه فقط:

الآية السادسة تقول بتعبير قصير: «إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا للَّهِ».

لقد تكرّرت هذه الجملة في القرآن الكريم مراراً ولها مفهوم واسع حيث تتضمّن الحكم بمعنى التشريع والحكومة والقضاء والحكم التكويني والأحكام التشريعية، غير أنّ هذا التعبير في سورة الأنعام الآية 57 وسورة يوسف الآية 67 جاء في مورد الحكم الإلهي بالعذاب على الكافرين ومعاقبتهم.

على كلّ حال فإنّ الاختلاف في موارد التعبير هذه دليل واضح على أنّ مفهوم الآية واسع كما قلنا، ويعتبر كلّ حكم وأمر مختصّاً في اللَّه، في عالم التكوين وعالم التشريع.

الآية السابعة وبعد أن

وصفت اللَّه عزّ وجلّ باستحقاق العبودية والحمد والثناء في الدنيا والآخرة تقول: «وَهُوَ اللَّهُ لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الحَمْدُ فِى الْاولى والْآخِرَةِ وَلَهُ الحُكْمُ وَإِلَيهِ تُرْجَعُونَ».

وعبارة (وله الحكم) في الحقيقة دليل على انحصار الأهلية للعبادة والحمد والثناء فيه عزّوجلّ، لأنّ (المعبود) و (المحمود) هو من كان حكمه نافذاً في كلّ شي ء وفي الجميع، وإن قال بعض المفسّرين أمثال ابن عبّاس: إنّ المراد من (حكم) هنا هو القضاء بين العباد يوم

نفحات القرآن، ج 3، ص: 280

القيامة «1» وليس بأيدينا أي دليل على تحديد معنى الآية، وقلنا مراراً: إنّ خصوصية المورد لا تمنع عمومية مفهوم الآية.

وعليه فإنّ الآية أعلاه تشمل توحيد حاكمية اللَّه في عالم التكوين وفي عالم التشريع والتقنين والحكومة والقضاء (في تفسير الميزان إشارة إلى عمومية مفهوم الآية) «2».

وينبغي ملاحظة أنّ عبارة (له الحكم) تدلّ على الحصر من جهتين: إحداهما من جهة أنّ (له) مقدّم، والاخرى من جهة أنّ كلمة (الحكم) جاءت مطلقة أي أنّها تشمل أنواع الحاكمية كلّها.

والجدير ذكره أنّ انحصار المالكية في اللَّه لا يمنع من أن يضعها اللَّه في اختيار الأنبياء والأئمّة المعصومين وعباده الصالحين، فالبحث يدور حول المبدأ الأصلي للحاكمية، كما أنّ إختصاص الحمد والثناء في ذاته المقدّسة لا يمنع من أن يثني الإنسان على العباد الصالحين أو الوالدين أو المعلّم، فهم يمثلون الواسطة في النغمة ولابدّ من ملاحظة أنّ هذه الامور كلّها من اللَّه وهذا هو معنى توحيد الحاكمية.

الآية الثامنة تتحدّث أوّلًا عن توحيد العبادة ثمّ توحيد الحاكمية حيث تقول: «وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لَاإِلَهَ إِلَّا هُوَ» ثمّ تقول بما يتضمّن الدليل على هذا الحكم: «كُلُّ شَى ءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ» وتضيف أخيراً: «لَهُ الحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ».

هذه الآية تخصّص

العبادة في اللَّه وهكذا البقاء والحكم والقضاء وإن اعتبر البعض الحكم فيها بمعنى الحكم التكويني وإرادة اللَّه النافذة في كلّ شي ء، واعتبرها البعض الآخر بمعنى

__________________________________________________

(1) تفسير روح المعاني، ج 20، ص 92.

(2) تفسير الميزان، ج 16، ص 70.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 281

القضاء يوم القيامة.

وقال البعض: إنّ الحكم هنا له جانب تشريعي فقط، غير أنّ الإطلاق هو الظاهر من الآية ويشمل كلّ حكم في عالم الوجود وعالم الشريعة والدنيا والآخرة.

أمّا المراد من (الوجه) في العبارة: «كُلُّ شَى ءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ» فإنّ البعض فسّره بمعيّة الأعمال الصالحة التي تنجز للَّه تعالى، فيما فسّره البعض الآخر بمعنى الدين والقانون، والبعض الآخر بمعنى مقام الربّ.

ولكنّا نعلم أنّ (وجه) يعني في الأصل (الصورة) وكما يقول الراغب: أنّ الوجه هو أوّل ما يواجه الأشخاص الآخرين وهو أشرف الأعضاء في الإنسان، ولذا اطلقت هذه الكلمة على الموجودات الشريفة، وبهذه المناسبة يطلق على ذات اللَّه المقدّسة وقد استعملت بهذا المعنى في الآية ظاهراً.

وبما أنّ كلّ موجود يرتبط بهذه الذات الباقية والأبدية، فانّه يتلوّن بلون الأبدية فإنّ دين اللَّه وشريعته والأعمال المنجزة من أجله والأنبياء تكون خالدة وباقية لارتباطها باللَّه تعالى، وبهذا تجتمع التفاسير المذكورة في مضمون الآية.

عند الاختلاف ارجعوا إلى اللَّه:

الآية التاسعة ترى (الحاكمية) بمعنى القضاء حيث تقول: «وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَى ءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ».

أجل، إنّه وحده القادر على رفع الاختلاف فيما بينهم لأنّه عالم بكلّ شي ء وله الولاية على الجميع.

وتضيف الآية: «ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّى عَلَيهِ تَوَكَّلتُ وَإِلَيْهِ انِيبُ».

وهناك أقوال عديدة في تفسير هذه الآية، فالبعض اعتبرها ناظرة إلى الاختلافات والخصومات بين الناس الذين وجَبَ عليهم الإحتكام إلى النبي صلى الله عليه و آله، فيما اعتبرها البعض الآخر إشارة إلى الاختلاف في

تأويل الآيات وتفسيرها، في حين اعتبرها آخرون ناظرة إلى الاختلاف في العلوم المرتبطة بالمفاهيم الدينية والتكاليف وواجبات الناس مثل معرفة الروح وأمثالها «1».

__________________________________________________

(1) نقلت هذه التفاسير الثلاثة عن المفسّرين في تفسير روح المعاني، ج 25، ص 15.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 282

ولكنّا لا نرى دليلًا لتحديد مفهوم الآية، بل كما قال بعض المحقّقين: إنّ الآية تشمل كلّ قضاء سواء كان في الأحكام أو في المفاهيم الدينية أو في معنى الآيات المتشابهة أو غيرها.

إنّ الآية هذه من الآيات التي تثبت هذه الحقيقة بوضوح وهي أنّ كلّ المسائل التي يحتاجها الناس قد وردت في الكتاب والسنّة، ويكون كلّ قياس وتشريع وأمثاله باطلًا، فلولا وجود هذه الأحكام كلّها في الكتاب والسنّة فلا معنى لإرجاع جميع الاختلافات إلى اللَّه فيها (تأمّل جيّداً).

والملاحظ أنّ الفخر الرازي وبعض المفسّرين قد أقرّوا بهذه الحقيقة واعتبروا هذه الآية من جملة الأدلّة المبطلة للقياس في الأحكام الفقهية «1».

فالآية تقول: يجب إرجاع الحكم في جميع الاختلافات إلى اللَّه، وبالطبع فإنّ النبي صلى الله عليه و آله هو خليفة اللَّه المصطفى من بين الناس، فلو لم يتضمّن الكتاب والسنّة طرق حلّ للاختلافات في الأحكام والعقائد وما يتعلّق بالشرع لكان إرجاع الاختلافات إلى اللَّه عزّ وجلّ لا معنى له.

الآية العاشرة والأخيرة تقول كاستنتاج عام عن لسان النبي صلى الله عليه و آله: «أَفَغَيرَ اللَّهِ أَبْتَغِى حَكَماً وَهُوَ الَّذِى أَنْزَلَ إِلَيكُمُ الكِتَابَ مُفَصَّلًا» وعليه فإنّ (الحكم والحاكم والقاضي) هو ذاته المقدّسة فقط لأنّه عالم بكلّ شي ء، والقرآن أفضل دليل على علمه «2».

وأمّا السؤال عن أنّ الحكمية في أي شي ء تكون؟ فإنّ القرائن تشير إلى أنّ المقصود هو

__________________________________________________

(1) تفسير الكبير، ج 27، ص 149.

(2) «حكم»: كما

يعتقد المرحوم الطبرسي في مجمع البيان والشيخ الطوسي في (التبيان) يطلق على من لا يحكم إلّابالحقّ في حين أنّ (الحاكم) يمكن أن يحكم بغير الحقّ، ولكن لم يتوضّح من أين استفيد هذا المعنى إلّاأنّ القدر المسلّم به هو أنّه صفة مشبهة وتدلّ على الدوام والاستمرار ويطلق على من يحكم باستمرار، والقصّة المعروفة عن (الحكمين) في حرب صفّين شاهد على نفي هذا المعنى، غير أنّ هذه الكلمة أو كلمة (حاكم) إذا استعملت في اللَّه فانّها إشارة إلى القضاء والحكم المنزّه عن كلّ ظلم وخطأ وليس لهذا ارتباط بالأصل اللغوي.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 283

الإحتكام إلى اللَّه في حقّانية الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله.

وسبب النزول الذي ينقل في هذا المجال شاهد على هذا المعنى حيث قيل: إنّ مشركي قريش إقترحوا على النبي صلى الله عليه و آله أن اجعل بيننا وبينك حكماً من اليهود أو قساوسة النصارى؟

كي يخبرونا عنك بما يتوفّر لديهم من كتب سماوية «1».

فنزلت الآية كجواب على إشكالهم: هل يوجد غير اللَّه حَكْماً!

وذيل الآية شاهد على هذا المعنى أيضاً بقولها: «وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَبِّكَ بِالحَقِّ».

على كلّ حال فإنّ مفهوم الآية واسع ويحصر الحَكَمية في جميع الامور دون استثناء في ذات اللَّه المقدّسة لأنّا نعلم أنّ مورد الآية لا يحدّد مفهوم الآية أبداً.

المستفاد جيّداً من الآيات العشر السالفة هو أنّ الحاكمية ونفوذ الحكم والأمر في عالم الوجود وفي عالم الشريعة مختصّ في ذات اللَّه المقدّسة.

والحاكمية بمعنى التشريع وهكذا القضاء والحكومة بمعنى التنفيذ كلّها تنشأ منه تعالى ومن يرغب في التصدّي لبعض هذه الامور فلابدّ أن يكون ذلك بإذنه وأمره سبحانه.

غير أنّ الآيات المذكورة مختلفة، فبعضها يلاحظ فروع الحاكمية كلّها وبعضها

يلاحظ مسألة القضاء أو التشريع فقط، ولكن المستفاد من المجموع هو مسألة (توحيد الحاكمية) بجميع أبعادها من هذه الآيات.

توضيحات
1- حاكمية اللَّه في المنطق العقلي

لا شكّ أنّ كلّ عارف باللَّه مقرّ بتوحيد الخالق يذعن بنفاذ أمره في عالم الوجود، وعندما

__________________________________________________

(1) تفسير روح المعاني، ج 8، ص 7.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 284

يتقبّل حاكميته على عالم الوجود فانّه سوف لا يتردّد في ولايته وحكومته التشريعية لأنّه حينما يكون هو الخالق والمالك والمدير والمدبّر فغيره لا يكون أهلًا للتشريع ولا يتمكّن من وضع قوانين تنسجم مع نظام التكوين والخلق.

وهكذا عندما يكون هو الخالق والمدبّر فانّه هو الذي يجب أن يحكم في مسألة الحكومة القانونية على العباد ويقضي في الاختلافات، وبدونه سيكون هناك تدخل في نطاق مالكية اللَّه عزّ وجلّ وتدبيره بدون إذنه، من جهة اخرى يكون القانون الصحيح هو القانون الذي ينسجم مع التركيب الجسمي للإنسان وروحه ويلبّي حاجاته الماديّة والمعنوية ولا يترك آثاراً سلبية في فترة زمنية قصيرة وطويلة، وأن يكون ذا ضمان تنفيذي كافٍ وذا تقبّل وانشداد في المجتمع الإنساني.

وبتعبير آخر يكون المشرِّعُ الحقيقي عالماً بالإنسان بصورة كاملة من جهة وعالماً بالكون من جهة اخرى كي يلاحظ بدقّة العلاقات التي تربط الإنسان مع العالم الخارجي والداخلي ويضع القوانين مضافاً إلى عدم وجود مصالح شخصية من وضع تلك القوانين.

وما نشاهده من اختلال كبير في القوانين البشرية فانّه ناشي ء من:

أوّلًا: فقدان البشرية لمن يعرف الإنسان بجميع جزئياته الجسمية والروحية ويعلم جميع القوانين والعلاقات التي تحكم العالم، فلا زالت تؤلّف كتب من قبل المفكّرين تحت عنوان (الإنسان موجود مجهول) وما شاكل، فإذا كانت معرفة الإنسان بنفسه إلى هذه الدرجة من الضعف فكيف تكون معرفته بالعالم الواسع؟

ثانياً: الإنسان موجود محتاج إلى غيره، ولذلك

نجد أنّ كلّ مجموعة تسنّ القوانين في إحدى المجتمعات البشرية تأخذ بنظر الإعتبار منافع تلك المجموعة أو الحزب.

ثالثاً: الإنسان غير مصون عن الخطأ والإشتباه ولذا تكون القوانين البشرية عرضة للتغيّر المستمرّ وذلك لظهور عيوبها ونقائصها وأخطائها بمرور الزمان فيبادر لإصلاحها ولكن سوف تظهر عيوب اخرى، ومن هنا أصبحت المجالس التشريعية البشرية مختبرات تختبر فيها القوانين بشكل دائم اختباراً لا طائل فيه ولا نهاية!

نفحات القرآن، ج 3، ص: 285

وبقطع النظر عن مسألة مالكية اللَّه وخالقيته لا يصلح أحد للتشريع أصلًا إلّامن كان خالقاً للإنسان وعالماً بكلّ متطلّباته الجسمية والروحية وغنيّاً عن كلّ شي ء وكلّ إنسان ومنزّهاً عن كلّ خطأ واشتباه.

وواجبنا الوحيد هو تطبيق اصول القوانين الإلهيّة العامّة على مصاديقها وجعل الأحكام العامّة أحكاماً جزئية قابلة للتنفيذ.

2- الحكومة وديعة إلهيّة

من الآيات السابقة يستنتج بصورة جيّدة أنّ الحكومة وديعة إلهيّة، وعلى الحكّام والمسؤولين العمل كنوّاب عن اللَّه تعالى، المفهوم من هذا الكلام هو وجوب رعاية أوامر المالك الأصلي للحكومة، أي اللَّه سبحانه وتعالى في جميع المجالات.

وقد خاطب اللَّه عزّ وجلّ النبي داود عليه السلام وهو ملك لأحد أوسع الحكومات في التاريخ البشري: «يَادَاوُدُ انَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِى الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ». (ص/ 26)

إنَّ هذا التعبير يشير من جهة إلى أنّ الحكومة وديعة، وإلى المنهج والطريقة للحكومة الإلهيّة الشرعية والصحيحة من جهة اخرى.

3- شرعية الحكومات تستمد من اللَّه فقط

في الإسلام والرؤية التوحيدية تُنصب الحكومة من الأعلى وليس من الأسفل، أي من قبل اللَّه عزّ وجلّ لا من قبل الناس، ويضمن الجانب الاجتماعي لها بأمره أيضاً.

توضيح ذلك: إنّ إحدى الفوارق الواضحة بين الرؤية التوحيدية وبين الرؤية المشوبة بالشرك في قضيّة الحكومة هي أنّ الموحّد يعتقد أنّ الحكومة في جميع أبعادها (التشريعية

نفحات القرآن، ج 3، ص: 286

والتنفيذية والقضائية) نشأت من اللَّه ومن ثمّ انتقلت إلى الأنبياء وأوصيائهم ثمّ الصالحين والعلماء في الامم.

لابدّ أن يشعر هؤلاء الحكّام بالمسؤولية أمام اللَّه عزّ وجلّ، ويراعوا رضاه قبل كلّ شي ء، وأن يكونوا خُداماً مخلصين وامناء لعباده.

إنّ مثل هذه الحكومة وبوحي من الرسالة الإلهيّة يمكنها قيادة البشر، لا أن تكون تابعة لأهواء هذا أو ذاك ولرغباتهم المنحرفة والمشوبة بالمعاصي.

ومن الممكن أن يقال: إنّ الحكومة الإسلامية إذن ليس لها بعد شعبي بل هي أكثر ما تكون نوعاً من دكتاتورية الصالحين، ولكن هذا خطأ كبير لأنّ مبدأ الشورى الذي تقرّر في الشرائع التوحيدية كقضيّة أساسية في الحكومة وأكّد عليها النصّ القرآني ويشهد له فعل نبي الإسلام صلى الله عليه و آله وهو

صاحب مقام (العقل الكلّ) يدلّ على أنّ اللَّه هو (مالك الملك) و (أحكم الحاكمين) وهو الذي أمر بالمشورة مع الناس في أمر الحكومة وإشراكهم في هذا الشأن.

من هنا تكون الحكومة التوحيدية والإسلامية حكومة (شعبية دينية) ويعني ذلك الإهتمام بآراء الناس بأمر إلهي وذلك في إطار مبادي ء العقيدة والأحكام الإلهيّة طبعاً، وسيأتي تفصيل هذا الكلام بشكل كامل في مباحث الحكومة في الإسلام بإذن اللَّه.

النتيجة هي أنّ الناس- مثلًا- عندما يتوجّهون إلى صناديق الإقتراع في الحكومة الإسلامية لانتخاب رئيس الجمهورية أو نوّاب المجلس فانّهم يلاحظون هذه النقطة وهي أنّهم امناء اللَّه تعالى، فالواجب هو أن يضعوا هذه الوديعة الإلهيّة التي تسمى بالحكومة في يد من تتجسد به القيم الالهيّة، وإلّا فانّهم يخونون الأمانة.

قوله تعالى: «انَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ». (النساء/ 58)

وقد ورد في الروايات الإسلامية، إنّ إحدى المصاديق المهمّة للأمانة هي الحكومة، وقد تأكّد هذا الأمر في تفسير الدرّ المنثور حيث قال: «حقّ على الإمام أن يحكم بما أنزل اللَّه وأن يؤدّي الأمانة» «1».

__________________________________________________

(1) تفسير درّ المنثور، ج 2، ص 175.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 287

وعليه فانّهم لا يفكّرون أبداً بأي نائب أو رئيس للحكومة يقوم برعاية مصالحهم الشخصية أو الفئوية أو من هو الذي تربطهم معه الصداقة أو القرابة؟ من الذي يستأنسون به أم لا يستأنسون؟ بل ينبغي أن يراعوا اللَّه عزّ وجلّ ورضاه والقيم الإنسانية والدينية السامية في كلّ موقف.

أمّا في الحكومات الديمقراطية والشعبية في العالم المادّي فيمكن أن تنظر هذه الامور في آراء المقترعين من قبيل الميول الشخصية والفئوية، الصراعات السياسية، المصالح المادّية اللامشروعة والعلاقات الخاصّة وأمثالها.

لاحظ الفارق من أين وإلى أين؟

4- الإيمان بتوحيد المالكية وتأثيراته التربوية

ممّا

ذكر يتّضح جانب من تأثير الإيمان بهذا النوع من التوحيد وهو مدى تأثير الإعتقاد بحاكمية اللَّه في جميع الأبعاد، وأنّ الحكومة وديعة إلهيّة عند الناس، فعند التعيين سواء كان في المسؤوليات الكبيرة في الحكومة أو الصغيرة ينبغي أن يراعى فيه مبدأ الأمانة والوديعة الإلهيّة وعدم التضحية بالضوابط فداءً للعلاقات وعدم التضحية بمصالح المجتمع من أجل المصالح الشخصية.

وأمّا من جهة الحكّام فانّا نعلم بأنّ المشكلة الهامّة في العالم هي مشكلة الحكّام المستبدّين الذين أضرموا النيران طيلة التاريخ في مناطق واسعة من العالم، أو في العالم بأسره وجلبوا المصائب والشقاء الكبير للبشرية.

في هذا العصر قام (هتلر) بقتل عشرات الملايين، و (ستالين) مسؤول عن مقتل 30 مليون إنسان! حسب الإحصاءات المروّعة التي نشرت من قبل شعبه، ولا تزال أوضاع العالم بهذا النحو وان كانت بصور اخرى.

في حين لو كان الإنسان ذا رؤية توحيدية لآمن بأنّ الحكومة المطلقة مختصّة باللَّه تعالى

نفحات القرآن، ج 3، ص: 288

وقد فوّضت إليه بإذنه عزّ وجلّ وإعانة عباده وأنّه خليفة اللَّه في الأرض وعليه يجب أن لا يكون إنساناً مستبدّاً مغروراً وظالماً أبداً، وعندما يصل إلى الحكومة يقول كما قال علي عليه السلام: «... وما أخذ اللَّه على العلماء ألّا يقارّوا على كظَّة ظالم ولا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس أوّلها، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز» «1».

أجل إنّه يرى الحكومة في كلّ الأحوال وديعة إلهيّة وهو أمينها ومسؤول أمام صاحبها الأوّل، وهذه الرؤية يمكن لها أن تقلب صورة الحكومة في العالم بشرط أن تنفذ إلى أعماق الروح وتتلوّن الروح الإنسانية بلونها.

ولا يصدق هذا الأمر على المتصدين في الحكومة فحسب، بل يصدق على جميع العاملين في الحكومة

والامراء والقادة والمدُراء والقضاة.

المعلوم من مجموع ما مرّ من أبحاث هو أنّ الحكومة في الإسلام ليس لها شكل استبدادي وليست من الطراز الديمقراطي الغربي، بل هي نوع من الحكومة الشعبية التي تعمل في إطار العقيدة ولها لون إلهي في أساسها، عن هذا الطريق تكتسب لوناً شعبياً وتنشأ كلّ امتيازاتها من هنا.

وهناك كلام طويل حول (الحكومة في القرآن) وموضوع البحث هنا هو (التوحيد في الحاكمية) و (نشوء الحكومة من اللَّه) ولذا نوكل الباقي إلى البحث العامّ حول الحكومة بإذن اللَّه.

__________________________________________________

(1) نهج البلاغة، الخطبة 3.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 289

ه) توحيد الطاعة

تمهيد:

الكلام الأخير في باب أقسام التوحيد هو أنّ الإنسان الموحّد يعتقد بأنّ اللَّه وحده واجب الطاعة ولذا يضع طوق العبودية في رقبته ويفتخر بقوله: إنّي عبد ويستعدّ للتضحية بنفسه ويعلن عن استعداده لتنفيذ أوامر اللَّه تعالى

ويقوم بطاعة الأنبياء والمرسلين وأوصيائهم المعصومين ومبعوثيهم بوصفها فرعاً لعبادة اللَّه عزّوجلّ ويحترم أوامرهم.

إنّه يفكّر بأمر واحد فقط هو رضا المحبوب الحقيقي وامتثال أوامر المولى الحقيقي، إنّه لا يشتري (رضا الناس) ب (سخط اللَّه) ولا (إطاعة المخلوق) ب (معصية الخالق)، لأنّه يرى ذلك شعبة من الشرك.

إنَّ هذا الفرع من التوحيد وهو (توحيد الطاعة) ينشأ في الواقع من التوحيد في الحاكمية الذي مرّ في البحث السابق.

وبهذا التمهيد نراجع القرآن الكريم لنتأمل بخشوع في الآيات التالية:

1- «وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَولَّيتُمْ فَاعلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ المُبِينُ». (المائدة/ 92)

2- «قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ والرَّسُولَ فَإنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَايُحِبُّ الكَافِرِينَ».

(آل عمران/ 32)

3- «يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وأُولِى الْأَمْرِ مِنْكُم فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِى شَى ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُم تُؤْمِنونَ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الْآخِرِ». (النساء/ 59)

نفحات القرآن،

ج 3، ص: 290

4- «فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا». (التغابن/ 16)

5- «فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ».

(الشعراء/ 108، 126، 144، 163، 179) (آل عمران/ 50) (الزخرف/ 63)

6- «اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيكُمْ مِّنْ رَّبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ». (الأعراف/ 3)

7- «وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِيناً». (الأحزاب/ 36)

8- «يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَاتُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَىِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ واتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَليمٌ». (الحجرات/ 1)

9- «اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبَانَهُم أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ والْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً وَاحِداً لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ». (التوبة/ 31)

10- «أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُم يَابَنِى آدَمَ أَنْ لَاتَعبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌ مُّبِينٌ* وَأَنِ اعْبُدُونِى هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ». «1»

(يس/ 60- 61)

شرح المفردات:

(إطاعة) تعني في الأصل الإنقياد والتسليم (وقد صرّح بذلك الكثير من اللغويين) ومن ثمّ أُطلق على اتّباع الأمر.

وقد فرَّق البعض بين (الإطاعة) و (المطاوعة) ففسّر الإطاعة بمعنى الإنقياد وتنفيذ الأمر، والمطاوعة بمعنى الموافقة والإنسجام، ولذا يقول الخليل ابن أحمد في كتاب (العين):

تستعمل (الإطاعة) في مورد الرعية بالنسبة للقائد، وفي مورد المرأة بالنسبة لزوجها تستعمل (طواعية) أو (مطاوعة).

__________________________________________________

(1) هنالك آيات قرآنية كثيرة اخرى تتفق مع الآيات أعلاه مضموناً منها: الأنفال، 20، 46؛ النور، 54؛ محمّد، 33؛ المجادلة، 13؛ النساء، 16؛ الأنعام، 15؛ يونس، 15؛ الزمر، 13.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 291

جمع الآيات وتفسيرها
إلهنا نطيع أمرك وحدك:

إنَّ آية البحث الاولى وإن جاءت بعد تحريم الخمر والقمار والأنصاب والأزلام إلّاأنّ محتواها لا يخفى كونه حكماً عامّاً حيث تقول: «وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا»، وتضيف لدى تأكيدها على هذا الأمر: «فَإِنْ تَوَلَّيتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ المُبِينُ» «1».

ومن الواضح أنّ طاعة الرسول رشحة من رشحات طاعة اللَّه تعالى وطاعته طاعة اللَّه، لأنّه لا يبيّن سوى كلام اللَّه وأمره، ولعلّ تكرار جملة (أطيعوا) إشارة إلى هذا المعنى، أي أنّ الطاعة الاولى لها جانب ذاتي وأصلي والثانية لها جانب عرضي وفرعي.

والآية الثانية تعكس هذا المضمون من خلال توجيه خطاب للنبي صلى الله عليه و آله: «قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَايُحِبُّ الكَافِرِينَ» ذيل الآية يشهد جيّداً بأنّ التمرّد يستوجب الكفر، التمرّد الحادث عناداً وعداءً لأمر اللَّه تعالى والنبي صلى الله عليه و آله، أو نتوسّع في معنى الكفر حتّى يشمل كلّ معصية.

على أيّة حال فإنّ الآية تؤكّد على وجوب طاعة اللَّه ونبيّه أي اتّباع الكتاب والسنّة.

النبي صلى الله عليه و آله في هذه الآية وإن كان معطوفاً على اللَّه

تعالى بدون واسطة ولكن بملاحظة الآية السابقة التي تقول: «قُلْ إِنْ كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِى»، يتّضح أنّ طاعة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله هي فرع لطاعة اللَّه تعالى.

__________________________________________________

(1) جزاء الشرط في الآية محذوف يقدّر ب (قامت الحجّة عليكم) أو (استحققتم العقاب) أو (لم تضرّوا بتوليكم الرسول) (تفاسير مجمع البيان؛ الكبير؛ روح المعاني والمراغي في ذيل آية مورد البحث).

نفحات القرآن، ج 3، ص: 292

وهذه الآية تدلّ بوضوح على أنّ علامة الحبّ الحقيقي للَّه ورسوله هي طاعتهما واتّباعهما وإلّا كان حبّاً كاذباً أو ضعيفاً جدّاً.

الآية الثالثة تضيف طاعة اولي الأمر إلى طاعة اللَّه ورسوله وتأمر: «يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ واولِى الأَمرِ مِنْكُم فَإِنْ تَنَازَعتُمْ فِى شَى ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُم تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ».

وهذا التعبير يدلّ بوضوح على أنّ الطاعة مختصّة في اللَّه ثمّ رسوله واولي الأمر، ولحلّ أي نزاع لابدّ من الإستعانة بهم، وبدون ذلك فإنّ قواعد الإيمان بالمبدأ والمعاد ستتزعزع في قلب الإنسان وروحه.

الآية الرابعة تتحدّث عن طاعة اللَّه فقط حيث تقول: «فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا»، فهي تأمر بالتقوى أوّلًا وتجنّب المعاصي لأنّ (التحلية) والتطهير يتقدّمان على (التخلية)، ثمّ تأمرنا ثانياً بالإستماع لأمر اللَّه استماعاً يكون مقدّمة للطاعة، وتأمر أخيراً بإطاعة أمره دون قيد أو شرط، وهذه الطاعة المطلقة مختصّة في اللَّه عزّ وجلّ، وما يظنّه البعض من أنّ عبارة: «فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ» نسخت الآية «اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ» (آل عمران/ 102) خطأ كبير لأنّ الآيتين تتحدّثان عن حقيقة واحدة، لأنّ حقّ التقوى ليس سوى أن يكون الإنسان متّقياً قدر ما يستطيع.

الآية الخامسة التي جاءت على لسان الكثير من الأنبياء عليهم السلام تأمر أوّلًا بالتقوى

ثمّ طاعة الأنبياء وتقول: «فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ» وقد نقلت هذه العبارة نفسها عن لسان نوح وهود وصالح ولوط وشعيب والسيّد المسيح عليهم السلام في القرآن الكريم (مرّة واحدة على لسان نوح (الشعراء/ 108) ومرّتين على لسان هود (الشعراء/ 126 و 131) ومرّتين على لسان صالح

نفحات القرآن، ج 3، ص: 293

(الشعراء/ 144، 155) ومرّة على لسان لوط (الشعراء/ 163) وشعيب (الشعراء/ 179) ومرّتين على لسان المسيح (آل عمران/ 50 والزخرف/ 63) ومن المسلّم به هنا هو أنّ الطاعة ترتبط بالدرجة الاولى بمبدأ التوحيد وترك الوثنية ثمّ سائر التعاليم الدينية، ومثل هذه الطاعة هي طاعة لأمر اللَّه لأنّهم لم يتحدّثوا إلّاعنه تعالى.

في الآية السادسة حديث عن متابعة الأحكام الإلهيّة، وهي تعبير آخر عن الطاعة إضافةً إلى تصريح الآية بعدم اتّباع غيره، وهذا النفي والإثبات يوضّحان (توحيد الطاعة) وتقول:

«اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيكُمْ مِّنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَولِياءَ»، هذه الآية تبطل طاعة الغير أيّاً كان وفي أيّة حال إلّاأن ترجع طاعته إلى طاعة أمر اللَّه عزّوجلّ.

وهذه الآية وأمثالها تشهد جيّداً أنّ أحكام البشر وآراءهم مهما كانت فهي ليست أهلًا للإتّباع (لامتلائها بالأخطاء إضافةً إلى عدم وجود دليل على وجوب طاعة الآخرين).

الآية السابعة وبعد التصريح بعدم امتلاك أي رجل مؤمن أو امرأة مؤمنة أي خيار أمام أمر اللَّه ورسوله تقول: «وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِيناً».

إنّ الآية تُبيّن في أوّلها وآخرها توحيد الطاعة وتعتبره علامة الإيمان ومعارضته تكون (ضلالًا مبيناً) وأي ضلال هو أوضح من أن يترك الإنسان أمر اللَّه العالم الحكيم والرحمن والرحيم ويتوجّه لطاعة الآخرين؟!

الآية الثامنة تخاطب المؤمنين، وقد ذكرت شؤون مختلفة في نزولها وكلّها تشهد على أنّ بعض الأشخاص يتقدّمون

أحياناً على اللَّه ورسوله بالإقتراحات ويقولون: لو أصدر

نفحات القرآن، ج 3، ص: 294

الأمر الفلاني لكان أفضل، فنزلت الآية تنذرهم بقولها: «يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَاتُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَىِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ».

ومن المسلّم به أنّ اللَّه لا مكان له حتّى يقول: لا تتقدّموا عليه، بل أنّ ذلك كناية عن عدم التقدّم عليه في أي عمل أو كلام «1».

على أيّة حال فإنّ الآية لا تعتبر طاعة الأمر الإلهي واجباً فحسب، بل تقول: كونوا بانتظار أوامره في كلّ عمل، وبعد إصدار الأمر لا ينبغي عليكم التقدّم عليه أو التريَّث في امتثاله فالمسرعون والمبطئون مخطئون.

وقد جاء في تفسير المراغي القول عن بعض علماء الأدب العربي: إنّ مفهوم التعبير (لا تقدّم بين يدي الإمام) هو: لا تعجّل عليه في أداء الأعمال.

عبادة القادة والعلماء:

الآية التاسعة تذمّ اليهود والنصارى لكونهم جعلوا من علمائهم ورهبانهم آلهة من دون اللَّه الواحد: «اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبَانَهُم أَرْبَابَاً مِنْ دُونِ اللَّهِ» «2».

وقد جعلوا من المسيح بن مريم معبوداً لهم أيضاً: «والمَسِيحَ ابْنَ مَريْمَ» في حين: «وَمَا

__________________________________________________

(1) المراد من «تقدّموا» هنا هل هو بمعنى لا تتقدّموا أم لا؟ وقع كلام بين المفسّرين (الأوّل من باب التفعيل والثاني من باب التفعّل) ولكن جملة (بين يدي اللَّه ورسوله) في الحالة الاولى يكون معناها عدم التقدّم على اللَّه ورسوله، وفي الحالة الثانية يكون مفهومها هو لا تقدّموا شيئاً على اللَّه ورسوله وأوامرهما والمعنى الأوّل هو الأنسب.

(2) «احبار» جمع «حبر» أو «حِبر» ويعني في الأصل الأثر الجميل ثمّ اطلق على العالم والمفكّر بسبب الآثار الجميلة التي تبقى منهما بين الناس وهذه الكلمة تستعمل في الغالب في علماء اليهود وقد تطلق أحياناً على غيرهم كما لقّبوا ابن عبّاس ب

(حبر الامّة).

«رهبان» جمع «راهب» وقال البعض: إنّ هذه الكلمة لها معنى المفرد والجمع وتعني في الأصل الشخص الذي يتّصف بخوف اللَّه ويظهر ذلك على أعماله، وتطلق عادةً على مجموعة (التاركين للدنيا) من النصارى وهي مجموعة هجرت الحياة والإكتساب والعمل بل والزواج أيضاً واشتغلوا بالعبادة في الدير (مفردات الراغب، العين، نهاية ابن الأثير، وتفاسير الميزان، الكبير، روح المعاني؛ وروح البيان؛ والمراغي).

نفحات القرآن، ج 3، ص: 295

امِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً وَاحِدَاً لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ»، ومن المسلّم به أنّ اليهود والنصارى لم يعتقدوا بالوهية علمائهم ورهبانهم ولم يعبدوهم كما نعبد اللَّه تعالى أبداً، فلماذا إذن استعمل القرآن الكريم كلمة (ربّ) و (إله) فيهم؟!

وردت الإجابة عن ذلك في رواية عن الإمام الباقر عليه السلام والإمام الصادق عليه السلام: «أما واللَّه ما صاموا لهم ولا صلّوا ولكنّهم أحلّوا لهم حراماً وحرّموا عليهم حلالًا فاتّبعوهم وعبدوهم من حيث لا يشعرون» «1».

وقد ورد هذا الحديث بطرق متعدّدة اخرى في المصادر الشيعية والسنّية ومنها ما نقرأه في كتب عديدة: «عن عَدي بن حاتم قال: أتيت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وفي عنقي صليب من ذهب فقال: ياعدي: اطرح عنك هذا الوثن وسمعته يقرأ آية: اتّخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون اللَّه. فقلت له: يارسول اللَّه لم يكونوا يعبدونهم فقال: أليس يحرّمون ما أحلّ اللَّه تعالى فيحرّمونه ويحلّون ما حرّم اللَّه فيستحلّونه؟ فقلت: بلى، قال: ذلك عبادتهم» «2».

وبهذا يتّضح أنّ اتّباع وإطاعة أشخاص يأمرون على خلاف حكم اللَّه يكون لوناً من الشرك.

الآية العاشرة والأخيرة تخاطب جميع البشر: «أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُم يَابَنِى آدَمَ أَنْ لَاتَعبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌ مُّبِينٌ» «وَأَنِ اعْبُدُونِى هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ».

ومن المسلّم به أنّه لا

أحد يعبد الشيطان بمعنى الركوع والسجود والصلاة والصيام، فما هي العبادة التي نُهي عنها؟ هل هي شي ء غير الطاعة؟ أجل، إنّهم حينما يستسلمون لما يريده الشيطان ويقدّمون أمره على أمر اللَّه فانّهم مشركون وعبّاد الشيطان، والشرك هنا

__________________________________________________

(1) تفسير مجمع البيان، ج 5، ص 23؛ وتفسير البرهان، ج 2، ص 120 و 121.

(2) تفسير روح المعاني، ج 10، ص 75 وورد هذا المعنى في تفاسير متعدّدة اخرى منها تفسير درّ المنثور بفارق طفيف.

نفحات القرآن، ج 3، ص: 296

بمعنى طاعة الأمر لا الركوع والسجود.

أين أخذ اللَّه تعالى هذا العهد من بني آدم؟ فسّره البعض بأنّه (عالم الذرّ) وفسّره بعض أنّه وصايا الأنبياء لأقوامهم، ولكن الظاهر أنّ الآية تشير إلى الوصايا التي تشبه العهد الذي كان للَّه تعالى عند هبوط آدم مع أولاده إلى الأرض، وقد قامت هذه الآية بتبيان ذلك: «يَابَنِى آدَمَ لَا يَفَتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخرَجَ أبَوَيكُم مِّنَ الجَنَّةِ». (الاعراف/ 27)

وهكذا في خطابها لآدم وزوجته بقولها «انَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ». (الاعراف/ 22)

والآية 117 من سورة طه تخاطب آدم عليه السلام: «فَقُلنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدوٌّ لَّكَ وَلِزَوجِكَ».

ومن المسلّم به أنّ مثل هذا العدو يكون عدوّاً لأبنائه أيضاً، لأنّ مخالفته لم تكن مع آدم فقط بل مع جميع نسله، ولذا أقسم من البداية: «قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِى كَرَّمتَ عَلَىَّ لَئِن أَخَّرتَنِ الى يَومِ القِيَامَةِ لَأَحتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا». (الاسراء/ 62)

وقوله اللَّه تعالى: «قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغوِيَنَّهُم أَجمَعِينَ* إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الُمخْلَصِينَ».

(ص/ 82- 83)

توضيحان
1- اللَّه تعالى هو المطاع المطلق

من مجموع الآيات السابقة يستفاد جيّداً أنّ اللَّه تعالى وحده هو (واجب الطاعة) في النظرية الإسلامية وفي المنظار القرآني وهكذا الذين تُعتبر طاعتهم طاعة للَّه تعالى، وكلّ طاعة وتسليم أمام الأحكام

والأوامر المخالفة لأمر اللَّه يُعدّ لوناً من الشرك والوثنية في المنظار القرآني.

وعليه فإنّ لزوم طاعة النبي والأئمّه: والوالدين هو بأمر اللَّه كما يقول القرآن: «وَمَا أَرسَلنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ». (النساء/ 64)

كما يمكن إثبات هذه المسألة بالدليل العقلي، لأنّ المطاع المطلق هو من يكون عالماً

نفحات القرآن، ج 3، ص: 297

بكلّ شي ء وحكيماً وخبيراً ومنزّهاً عن كلّ خطأ ورحيماً وقد اجتمعت هذه الصفات في ذات اللَّه المقدّسة فقط.

وإرادة الحكّام والأصدقاء والأبناء والأرحام والامنيات القلبية إن لم تتناسق مع إرادة اللَّه فإنّ طاعتها تكون شركاً.

يقول الإنسان الموحِّد: لو انحرفت عن طاعة اللَّه قيد أنملة فانّي قد أشركت لأنّي جعلت له ندّاً في طاعته.

2- توحيد الطاعة في الروايات الإسلامية

2- توحيد الطاعة في الروايات الإسلامية

إنَّ الأحاديث المختلفة التي وردت في مصادرنا الإسلامية أكّدت على هذه المسألة أيضاً وهي أنّ أحد شعب الشرك هو الشرك في الطاعة ومن هذه الروايات:

أ) ورد في الحديث النبوي: «لا طاعة في معصية اللَّه إنّما الطاعة في المعروف» «1».

ب) ونقرأ في نهج البلاغة عن أميرالمؤمنين عليه السلام: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» «2».

ج) وحديث عن الإمام الصادق عليه السلام: «من أطاع رجلًا في معصية فقد عبده» «3».

د) في حديث عن الإمام الباقر عليه السلام وهكذا عن الإمام الجواد عليه السلام: «من أصغى إلى ناطق فقد عبده، فإن كان الناطق يؤدّي عن اللَّه فقد عبد اللَّه، وان كان الناطق يؤدّي عن الشيطان فقد عبد الشيطان» «4».

ه) ونختم هذا الكلام بحديث آخر عن أمير المؤمنين عليه السلام: «لا دين لمن دان بطاعة المخلوق في معصية الخالق» «5».

__________________________________________________

(1) صحيح مسلم، ج 3، ص 1469.

(2) نهج البلاغة، الكلمات القصار، الكلمة 165.

(3) وسائل الشيعة، ج 18، ص 91، ح 8.

(4) وسائل الشيعة، ج 18، ص 91، ح 9، وتحف العقول، ص 339 (باختلاف يسير).

(5) بحار الأنوار، ج 73، ص 393، ح 6 (وهذا المضمون ورد أيضاً عن الإمام الباقر عليه السلام في أصول الكافي، ج 2، ص 273، ح 4).

نفحات القرآن، ج 3، ص: 298

تتّضح من هذه الروايات الصريحة والقاطعة النظرية الإسلامية في مسألة الشرك وتمييز الموازين الإسلامية في توحيد الطاعة.

إلهنا: إنّ سلوك طريق التوحيد معقّد ومشكل، فاهدنا أنت في هذا الطريق الملتوي.

الهنا: إنّ جهات مختلفة تدعونا لطاعتها من كلّ جهة، فالهوى من الداخل، وشياطين الجنّ والإنس من الخارج، ونحنُ نرغب في طاعة أمرك وحدك، فكن لنا عوناً وناصراً في هذا الطريق.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.