نفحات القرآن المجلد 2

اشارة

سرشناسه : مكارم شيرازي ناصر، - 1305 عنوان و نام پديدآور : نفحات القرآن اسلوب جديد في التفسير الموضوعي للقرآن الكريم ناصر مكارم شيرازي بمساعده مجموعه من الفضلا مشخصات نشر : موسسه ابي صالح النشر و الثقافه [1377؟]. مشخصات ظاهري : ج 6 وضعيت فهرست نويسي : فهرستنويسي قبلي يادداشت : عربي مندرجات : ج 1. العلم و المعرفه في القران .-- ج 2. معرفه الله في القرآن .-- ج 3. .-- ج 4. معرفه صفات و جلال الله .-- ج 5، 6. المعاد في القرآن موضوع : تفاسير شيعه -- قرن 14 رده بندي كنگره : BP98/م7ن7 1377 رده بندي ديويي : 297/179 شماره كتابشناسي ملي : م 77-13711

البحث عن عظمة اللَّه ومعرفته في القرآن الكريم

أسئلة مهمة ومصيرية:

الكل يريد أن يعرف أجوبة هذه الأسئلة:

من أين جئنا؟

أين نحن؟

وإلى أين نذهب؟

وبالطبع فثمة سؤال مهم آخر إلى جانب هذه الأسئلة الثلاثة وهو:

«لماذا جئنا؟» هل كان لمجيئنا غاية؟ وإن كانت له غاية فما هي؟.

وما هي الوسائل المتوفرة لدينا من أجل الوصول إلى هذه الغاية؟

من هو المُبدى ء الأصلي لهذا العالم، ومن أين نَبَعَ عالم الخلقة؟

وأخيراً، هل هناك طريق لمعرفة هذا المُبدى ء الكبير؟

هذه هي أهم أسئلة البشر.

إنّ الذين لا يرون ضرورة في العثور على أجوبة هذه الأسئلة هم الغرقى في الحياة المادية اليومية إلى درجة أنّهم لا يفكرون في شي ء سوى «النوم والأكل واللذة الجنسية»، فهم كالأنعام لا علم لهم «بالعالم الإنساني».

أو أنّهم سعوا وحاولوا العثور على جواب هذه الأسئلة لكنهم لم يصلوا إلى شي ء، فيئسوا وكفوا عن البحث.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 6

وإنطلاقاً من أنّ «السؤال» هو الدافع «للحركة» دائماً، الحركة نحو الإجابة، وأنّ الأسئلة كلما كانت متنوعة وعميقة كانت الحركة أوسع وأكثر تجذراً، لهذا يجب أن تستقبل الأسئلة

المهمّة بصدور واسعة، ولا نخشَ كثرة الأسئلة وأهميّتها، بل نستقبلها بكل رحابة صدر.

ويمكن أن تكون محصلة عمر الإنسان ليست في الحقيقة شيئاً سوى العثور على أجوبة الأسئلة، وأنّ نتيجة جهود كل علماء العالم والفلاسفة وعلماء العلوم الطبيعية بلا استثناء هي الأجابة عن بعض هذه الأسئلة.

يحاول علماء الفلك أن يشرحوا كيفية ظهور السماوات والنظام الذي يحكمها.

وعلماء الجيولوجيا يجيبون على الأسئلة ذات العلاقة بظهور الأرض وتركيبها.

وعلماء الأنثروبولوجيا والتحليل النفسي وكل الذين يدرسون العلوم الإنسانية والاجتماعية يريدون أن يعثروا على أجوبة الأسئلة المتعلقة بهذا الموجود العجيب المسمى ب «الإنسان».

ويريد الفلاسفة بمساعيهم المتواصلة أن يطلعوا على حقيقة المُبدى ء ومصير العالم- إلى الحد الذي يستطيع عقل البشر أن يصل إليه- أو الإجابة عن بعض الأسئلة المتعلقة بهذا المجال على الأقل.

نستنتج ممّا ذكرناه أنّه إن كان البحث حول «الخالق لعالم الوجود» ومبدأ هذا العالم الكبير الذي نعيش فيه من أقدم البحوث وأرسخ الأسئلة الإنسانية، فليس ذلك أمراً عجيباً.

ولهذا نرى من واجبنا السعي بقدر استطاعتنا للعثور على جواب هذه الأسئلة:

من هو مُبدى ء عالم الوجود؟ وكيف يمكن معرفته؟!

نفحات القرآن، ج 2، ص: 7

دوافع البحث عن عظمة اللَّه

اشارة

1- الدافع العقلي

2- الدافع العاطفي

3- الدافع الفطري

نفحات القرآن، ج 2، ص: 9

1- الدافع العقلي

تمهيد:

تمهيد:

قلنا إنّهُ لا توجد حركة بدون حافز أو دافع، وبالطبع فلا يمكن للحركة في طريق معرفة مُبدى ء عالم الوجود أن تكون بلا حافز، ومن هنا يذكر الفلاسفة والعلماء ثلاثة دوافع أساسية للبحث عن اللَّه، وجميعها أشار إليها القرآن الكريم إشارات واضحة.

1- الدافع العقلي.

2- الدافع العاطفى.

3- الدافع الفطري.

وللبعض من هذه الحوافز فروع خاصة بها.

لنبتدأ أولًا ب «الحافز العقلي» و نتأمل خاشعين في الآيات الكريمة أدناه:

1- «يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا اسْتَجِيْبُوا للَّهِ وَلِلرَّسُوْلِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيْكُمْ».

(الانفال/ 24)

2- «لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِيْنَ إِذ بَعَثَ فِيْهمْ رَسُولًا مِّنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكّيْهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ والْحِكْمَةَ وإنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِى ضَلَالٍ مُّبِيْنٍ».

(آل عمران/ 164)

3- «لَقَدْ أَرْسَلُنَا رُسُلَنَا بِالْبيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بالْقِسْطِ». (الحديد/ 25)

4- «يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْروُفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتى كَانَتْ عَلَيْهِمْ». (الأعراف/ 157)

نفحات القرآن، ج 2، ص: 10

5- «قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعَوْنَ* أَوْ يَنْفَعُوْنَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ ... فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّى إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِيْنَ». (الشعراء/ 72، 73، 77)

6- «فَإِنْ أَعْرَضُوْا فَقُلْ انْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ». (فصلت/ 13)

7- «قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا للَّهِ مَثْنَى وَفُرادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذْيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَى عَذَابٍ شَدِيدٍ». (سبأ/ 46)

جمع الآيات وتفسيرها

التحقيق من مسؤوليات الإنسان الأساسية:

الإنسان يحب الكمال، ويعتبر هذا الحب خالداً عند كل الناس، يبقى أنّ كل إنسان يرى كماله في شي ء معين، فيذهب نحوه، والبعض يذهبون وراء السراب يحسبونه ماءً ويلهثون خَلْفَ القيم الوهمية والكمالات الخيالية ويتصورونها واقعاً.

قد يسمى هذا المبدأ أحياناً ب «غريزة حب المنفعة ودفع الضرر» التي يجد الإنسان نفسه على ضوئها بأنّه ملزم أن يكون

له تعامل جاد مع كل موضوع يتعلق بمصيره (بلحاظ النفع والضرر).

لكن إطلاق تعبير «غريزة» على هذا الحب يعدّ تعبيراً غير صحيح، فالغريزة عادة تطلق على أمور تؤثر في أفعال البشر أو باقي الأحياء بدون تدخل التفكير، ومن هنا تستعمل بالنسبة للحيوانات أيضاً.

وَعلى هذا الأساس فمن الأفضل أن نستخدم تعبير (الرغبات السامية) التي استعملها البعض لمثل هذه الموارد.

وعلى كل حال، فالحب للكمال والميل نحو المصالح المعنوية والمادية ودفع كل أنواع الضرر يجبر الإنسان على التحقيق حتى في مواضع الاحتمال، وكلما كان هذا الأحتمال أقوى وذلك النفع والضرر أعظم، كان التحقيق والبحث أكثر ضرورة.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 11

من المستحيل أن يحتمل شخص تأثير أمر مهمّ في مصيره، ولا يرى من واجبه التحقيق حوله.

وقضية الإيمان باللَّه والبحث عن الدين تعتبر من هذه القضايا بلا شك، لأنّ هنالك في محتوى الدين كلام عن القضايا المصيرية، وعن القضايا التي يرتبط خير وشر الإنسان بها ارتباطاً وثيقاً.

البعض يذكر مثالًا من أجل إيضاح هذا الموضوع، فيقول: لنفترض أننا نجد إنساناً واقفاً على مفترق طريقين ونسمعه يقول بقطع ويقين: إنَّ البقاء هنا خَطَرٌ، واختيار هذا الطريق (إشارة إلى أحد الطريقين) هو الآخر خطر، والطريق الثاني هو طريق النجاة، ثم يذكر قرائن وشواهد لكل ما قاله، فما من شك أن أي عابر سبيل يرى نفسه ملزماً بالتحقيق ويعتقد أنّ اللامبالاة تجاه هذه الأقوال مخالفة لحكم العقل، وبلحاظ هذه المقدمة ننتقل إلى تفسير الآيات.

إنّ أول آية من الآيات المعنية بالبحث تَعتبر دعوة رسول اللَّه إلى الإسلام دعوةً إلى العيش والحياة الحقيقية، وَتدل هذه الدعوة على أنّ بالإمكان جمع كل محتوى الإسلام في مفهوم «الحياة»، الحياة التي تشمل الحياة المعنوية وتشمل الحياة المادية، الحياة الشاملة

والجامعة.

مع أنّ البعض فسر معنى الحياة هنا بأنّه بخصوص «القرآن» أو «الأيمان» أو «الجهاد» «1»

، لكن ممّا لا شك فيه أنّ الحياة مفهوم واسع يشمل كل هذه العناوين المذكورة وكل ما هو مؤثر في حياة الإنسان المعنوية والمادية.

وعلى كل حال، إذا دعانا شخص بمثل هذه الدعوة فهل يمكن أن نغض الطرف عن

__________________________________________________

(1) ذكرت هذه الاحتمالات عن المفسرين في تفسير الكبير، ج 15 ص 147؛ وتفسير الميزان، ج 9، ص 43؛ وتفسير روح المعاني، ج 8، ص 169؛ و تفسير القرطبي، ج 4 ص 2825.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 12

دعوته ولا نرى من مسؤوليتنا حتى التحقيق في هذه الدعوة؟.

هنا يريد القرآن بهذا التعبير أن يُوجد حافز الحركة نحو التحقيق حول الدين لدى كل من له القابلية على هذه الحركة.

يقول الراغب في كتاب «المفردات»: إنّ حقيقة «الاستجابة» هي السعي والقابلية على استلام الجواب، ولأنّ هذا الموضوع ينتهي عادةً بالجواب فقد فسروه بمعنى «الاجابة» «1».

الآية الثانية تعدُّ بعثة الرسول من أعظم النعم الإلهيّة التي منحها اللَّه سبحانه وتعالى للمؤمنين، ثم تذكر في تفسير هذه النعمة ثلاثة برامج مهمّة للرسول: تلاوة الآيات الإلهيّة:

«يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ»، والتزكية والتربية: «وَيُزَكِّيِهمْ»، وتعليم الكتاب والحكمة «وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ والْحِكْمَةَ».

ونتيجة كل هذه البرامج هي النجاة من «الضلال المبين»: «وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِى ضَلَالٍ مُّبَيْنٍ».

إنّ كل هذه التعابير هي من أجل إحياء محفزات الحركة نحو الأسلام لدى الناس، أو على الأقل من أجل أن يرى كل إنسان نفسه ملزماً بالتحقيق حول الإسلام لأنّه من الممكن أن يكون اكبر نفع وضرر للإنسان كامناً في هذا التحقيق.

«المِنّة»: من مادة «مَن» وهي في الأصل كما يعتقد البعض بمعنى القطع، لهذا فإن: «أجرٌ غير ممنون»

بمعنى الثواب الذي لا ينقطع أبداً، وكذلك يقال لنوع من الاصماغ والترشحات ذات الطعم الحلو والتي تشاهد كالقطرات الصغيرة مستقرة على أوراق الأشجار تشبه قطرات الندى يقال لها «المن».

ولكن يعتقد الراغب أنّ «المن» في الأصل بمعنى الحجر الذي يَزِنون به، والذي أطلق

__________________________________________________

(1) ولكن يجب الالتفات إلى أنّ «الإجابة» تكون فعلًا متعدياً بدون حرف الجر، في حين أنّ «الاستجابة» تذكر غالباً مع حرف اللام.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 13

فيما بعد على النعم الكبيرة الثقيلة.

وحينما تستخدم هذه المفردة في القاموس الإلهي فتعني «منح النعم» وحين تستخدم في قاموس البشر فتعني غالباً التحدث بالنعمة التي يجزلها الإنسان لغيره، من هنا كان معناها الأول إيجابياً والثاني سلبياً ومذموماً.

الآية الثالثة تشير إلى هدف مهم آخر من أهداف بعثة الأنبياء، وهو مسألة «العدالة الأِجتماعية»، فتقول: إنّنا جهزنا الرسل بثلاثة أشياء:

أولًا: البراهين الواضحة التي تشمل «المعجزات»، و «البراهين العقلية»: «لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ».

ثانياً: الكتاب السماوي الذي يبين المعارف ويشرح للناس مسؤولياتهم.

وثالثاً: الميزان: وهو الوسيلة التي بواسطتها توزن الأشياء، والعجب أنّ بعض المفسرين قد فسّروا الميزان بالمعنى الذي ذكرناه، في حين أنّ أغلب المفسرين يعتقدون أنّ المراد من الميزان هي الوسيلة التي بواسطتها يقام العدل فيشخص بواسطتها الحق من الباطل، الزيادة من النقصان، الخير من الشر، القيم الحقة والخيرة من القيم الباطلة والشريرة، وبإمكاننا أن نفسّر الميزان بالقوانين الإلهيّة.

صحيح أنّ هذه الأمور مذكورة في نص الكتب السماوية، ولكن ذكرها بشكل مستقل جاء بسبب أهميّتها.

وعلى كل حال، هل من الممكن أن يسمع إنسان بأنّ شخصاً يدعي الدعوة إلى وجود مثل هذه الحقائق المصيرية ولا يرى أنّ من واجبه التحقيق في هذه الدعوة؟.

يقول الفخر الرازي: الناس ثلاثة أنواع: نوع في مقام «النفس المطمئنة»

وهم المعنيون بالآية: «أَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ»، النوع الثاني في مقام «الْنَفسِ اللَّوامة» وهم أصحاب اليمين الذين يحتاجون إلى معيار قياسي من أجل المعرفة والأخلاق، ليكونوا في أمان من الافراط

نفحات القرآن، ج 2، ص: 14

والتفريط، وهم المقصودون بتعبير «الميزان»، النوع الثالث هم أصحاب «النفس الأمارة» الذين تعنيهم الآية: «انزلنا الحديد» أي هم المستحقون للعقاب والجزاء «1».

في الآية الرابعة إشارة إلى الأبعاد المختلفة لبعثة الأنبياء وبالخصوص السياسية والاجتماعية ونزول الأديان السماوية، وفيها ذكر لبعض أوصاف رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقد جاءت لترغيب الناس في اتباعه، منها: «يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْروُفِ ويَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُم الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِى كَانَتْ عَلَيْهِمْ».

لا شك أنّ هذه أمور مصيرية وذات علاقة وثيقة بمسألة تكامل الإنسان وخيره وشرِّه، بل مجرّد احتمالها يكفي لدفعه نحو التحقيق.

«الأِصر»: على وزن مصر، يعني في الأصل الربط والاغلاق وحبس الشي ء بقوة وعنوة، ثم أُطلقت على الحمل الثقيل والأعمال الشاقة التي تعوق الإنسان عن النشاط، ولهذا سُميت الجبال والمسامير التي تربط بها الأعمدة «آصار»، ولهذا أيضاً سمي العهد والوعد والذنب بالاصر «2».

يمكن الاستنباط من التعابير التي وردت في كلمات أرباب اللغة والمفسرين أن معنى كلمة «إِصر» الجسم الثقيل الذي يُربط بقدم السجين لكي لا يستطيع أن يتحرك، وإنَّ ذكره إلى جانب الأغلال وهي الأطواق والسلاسل التي تقيد بها الأعناق يناسب هذا المعنى، ثم أطلقت هذه المفردة على معنى آخر يتناسب وأصل الكلمة.

مع إنّ الكثير من المفسرين فسروا «الإِصر» و «الأغلال» في هذه الآية بمعنى التكاليف الشاقة أو الامتحانات العسيرة والمعقدة التي حلّت بالامم السابقة، لكن الظاهر أنّ لهاتين المفردتين مفهوماً أوسع وأشمل يستوعب كل أنواع قيود الاسر والحمل الثقيل الذي

يسببه

__________________________________________________

(1) التفسير الكبير، ج 29، ص 241.

(2) تفسير مجمع البيان، ج 4، ص 488؛ التفسير الكبير، ج 15، ص 25؛ تفسير روح المعانى، ج 9، ص 72 ومفردات الراغب، مادة (إصر) وكتاب العين، ج 7 ص 147.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 15

«الجهل» و «الشهوات» و «الذنوب» و «الاستبداد» و «الأِستعمار» وما شاكل، وهي أمور ترتفع وتزول تحت ظل وجود رسول اللَّه وتعليماته التحررية.

الآية الخامسة كلام ورد عن لسان محطم الأوثان إبراهيم عليه السلام عندما خاطب الوثنيين موبخاً إيّاهم على عملهم القبيح هذا (عبادة الأصنام)، وقال من أجل إيقاض عقولهم حيث كانوا يغطون في سبات عجيب:

«هَلْ يَسْمَعُونَكُم إِذْ تَدْعُوْنَ* أَوْ يَنْفَعُوْنَكُمْ أَوْ يَضَّروُنَ؟!» فلابدّ للعبادة أن تكون إمّا من أجل الربح والمكافأة والمنفعة أو من أجل دفع الضرر والعقاب.

وبالطبع لم يكن لديهم أجوبة إيجابية على هذه التساؤلات سوى الإعتصام باتباع وتقليد السلف والقول: «بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفَعْلُونَ».

تدل هذه التعابير جيداً بأنّ حافز النفع والضرر (ليس النفع والضرر المادي فحسب فالنفع والضرر المعنوي أفضل وأرفع منه) وَيمكن أن يكون حافزاً للحركة باتجاه معرفة اللَّه.

حول نزول آيات سورة فصلت وهي الآية السادسة في بحثنا هذا، نقرأ أن «أبا جهل» سأل «الوليد بن المغيرة» وهو من رجال عرب الجاهلية المعروفين وهو من أهل النظر والمشورة يُرجَع إليه عند المعضلات: ما هذا الذي يقوله «محمد»؟ أهو كهانة أم سحر؟ أهو تكهّن؟ ... فقال «الوليد»: يجب أن أذهب إليه بنفسي وأتحقق، وعندما جاء إلى النبي صلى الله عليه و آله قرأ له بعضاً من آيات سورة فصلت إلى أن جاء إلى الآية التي ورَدت في بحثنا: «فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ».

فارتجف

«الوليد» لسماع هذه الآيات واقشعر بدنه ووقف شعر رأسه، فنهض من مكانه وعاد إلى بيته وأغلق الباب على نفسه، حتى ظن اكابر قريش أنّه يميل نحو الدين

نفحات القرآن، ج 2، ص: 16

الإسلامي، وعندما جاءوا إليه وسألوه عن شأنه، قال: ما صبوت (اي لم اسلم) واني على دين قومي وآبائي ولكني سمعت كلاماً صعباً تقشعرّ منه الجلود، فلا هو بالشعر ولا بالخطب ولا بالكهانة، ولما قيل له: إذن ما نقول فيه؟ قال: قولوا هو سحر، فانّه آخذ بقلوب الناس «1».

أولا يمكن لمثل هذه التهديدات الواردة في الآيات القرآنية وبقيّة المصادر الدينية أن تكون حافزاً على التحرك نحو التحقيق (بالنسبة لمن لم يؤمنوا لحد الآن).

في الآية السابعة من البحث، أُمِر الرسول صلى الله عليه و آله أن يخاطب جميع معارضيه ويعظهم بمسألة واحدة: «قُلْ إنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا للَّهِ مَثْنَى وَفُرادَى ثُمَّ تَتَفَكَّروُا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ الَّا نَذِيْرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَى عَذَابٍ شَدِيدٍ ...».

كل تعابير هذه الآية تعابير مدروسة.

فالتعبير ب «إنّما» من أجل الحصر.

والتعبير ب «الموعظة» يستخدم في المواضع التي يحكم فيها العقل بشي ء، ولكن لكون الإنسان غافلًا عنه فهناك شخص حريص آخر يوقظه ويعظُهُ.

والتعبير ب «القيام» دليل على الاستعداد الكامل لتنفيذ الأهداف الجدية.

والتعبير ب «مثنى» و «فرادى» إشارة إلى النشاطات الجماعية والفردية والجهود الشاملة في هذا السبيل «لا شك أنّ الإنسان يفكر بشكل أعمق عند انفراده ولكنه يفكر بشكل أكمل حين يكون ضمن الجماعة، لأنّ الأفكار ستتحد مع بعضها، والجمع بين هذين (التفكير على انفراد وضمن الجماعة) هو أفضل الطرق» «2».

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار، ج 17، ص 211 وتفاسير أخرى (الأصل في الحديث مفصل وقد نقلناه بتلخيص، لاحظوا تفصيله في التفسير

الأمثل ذيل الآية 13 من سورة فصّلت.

(2) قال بعض المفسرين: «مثنى إشارة إلى المناظرة التي لها تأثير كبير في كشف الحق، في حين أنّ «فرادى إشارة إلى القراءة في الوحدة، واحتمل بعض آخر أن «مثنى» إشارة إلى التفكير الذي يقوم به الإنسان خلال النهار ضمن الجماعة و «فرادى» التفكير الذي يحصل في الليل وعند الإنفراد (تفسير القرطبي، ج 8، ص 53 و 93).

نفحات القرآن، ج 2، ص: 17

ثم التعبير ب «التفكر» الذي ينبع من الصميم ويهدي الإنسان إلى البراهين العقلية الواضحة.

والتعبير ب «لكم» هو الآخر ممتزج بمسألة الانذار والإلتفات إلى العذاب الشديد وفيه إشارة إلى أنّ الموضوع هنا هو نفعكم وضرركم فقط، ولا هدف للنبي صلى الله عليه و آله سوى هذا.

أفلا يجب والحال هذه أنّ يأخذوا دعوته مأخذ الجد ويفكروا فيها ويعثروا على الحق ثم يتبعوه؟

النتيجة:

إنّ الآيات أعلاه وآيات مشابهة أخرى تكشف النقاب جيداً عن الحافز العقلي للبحث والتنقيب في طريق «معرفة اللَّه» وتدل على أنّه لا يمكن لأي إنسان عاقل أن يتقاعس ويسكت أزاء الدعوات العظيمة لأنبياء اللَّه ورسله على صعيد الدعوة إلى اللَّه ذات العلاقة الوثيقة بمصير الجميع، وهذا هو الحافز الأول للتحقيقات الدينية.

توضيحان

1- الدوافع العقلية لفهم الدين في الروايات الإسلامية

1- ورد في حديث عن الإمام موسى بن جعفر عليه السلام أن أحد أصحابه سأله عن الضعفاء (المستضعفين) فكتب له الإمام في الجواب: «الضعيف من لم ترفع إليه حجة، ولم يعرف الاختلاف، فإذا عرف الاختلاف فليس بمستضعف» «1».

2- و جلوه هاى توخالى دنيا از دور روي نفس هذا المعنى عن الإمام الصادق عليه السلام في قوله: «من عرف اختلاف الناس فليس بمستضعف» «2».

__________________________________________________

(1) أصول الكافي، ج 2، ص 406، (باب المستضعف)، ح 11.

(2) المصدر السابق، ح 10.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 18

وفي هذا إشارة إلى أنّ الإنسان حين يطلع على وجود الاختلاف سوف يرغمه عقله على التحقيق والمطالعة (النظر)، وعندها لا يُعتبر مستضعفاً.

وبالطبع فالقصد من «المستضعف» هنا هو «المستضعف فكرياً» الذي نسميه أحياناً ب «الجاهل القاصر».

3- جاء في حديث آخر عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله: «أربعة تلزم كل ذي حجى وعقل من أمتي، قيل: يا رسول اللَّه ما هنَّ؟ قال: إستماع العلم وحفظه ونشره والعمل به» «1».

وبهذا يعتبر النبي صلى الله عليه و آله الاستماعَ والتحقيقَ من آثار وعلامات العقل والدراية.

2- المعاندون الملحّون

كان دائماً في مقابل الأحرار الذين يرون التحقيق في الحق واجبهم العقلي، هناك جماعة يخشون رؤية الحق كالخفافيش، وحتى لو ارتفع صوت منادي الحق وَدَوّى في آذانهم سدوا آذانهم لكيلا يسمعوا صوته.

ينقل القرآن عن جماعة من قوم نوح عليه السلام على لسان هذا النبي العظيم عندما اشتكاهم إلى اللَّه: «وإنِّى كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِى ءَاذَانِهِمْ واسْتَغْشَوا ثِيَابَهُمْ وأَصَرُّوا واسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا». (نوح/ 7)

ولم يكن حال المشركين بأقل من هؤلاء، بل كأنّهم ورثوا قوم نوح المعاندين الذين تحدث عنهم القرآن: «وَقَالَ الَّذِيْنَ كَفَرُوا لَاتَسْمَعُوا لِهَذا الْقُرآنِ وَالْغَوا فِيهِ لَعَلَّكُمْ

تَغْلِبُونَ». (فصلت/ 26)

إنّ هذه الجماعة التي لها أتباع ومقلدون في كل عصر وزمان لا يسمحون لأنفسهم بالتحقيق في ما يجري أبداً، إنّهم جهلة حمقى يخشون نور الشمس كأنّهم الخفافيش، يلجأون إلى الظلمة دائماً، ويفتخرون بالجهل، إنّهم أكثر حرماناً من الجميع لأنّهم أعداء تفضحهم الشمس.

__________________________________________________

(1) تحف العقول، مواعظ النبي، ص 40.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 19

2- الدافع العاطفي

تمهيد:

ثمة مثل معروف يقول: «إنَّ الناس عبيد الأِحسان».

ورد نفس هذا المعنى تقريباً في حديث عن أمير المؤمنين الإمام علي عليه السلام: «الإنسان عبد الاحسان» «1».

وورد عنه عليه السلام: «بالإِحسانِ تملك القلوب» «2».

وفي حديث آخر عنه أيضاً: «وأفضِلْ على من شِئتَ تكن أميره» «3».

وجذور كل هذه المفاهيم في حديث الرسول صلى الله عليه و آله إذ يقول: «إنّ اللَّه جعل قلوب عباده على حبّ من أحسن إليها وبغضِ مَنْ أساء إليها» «4».

والخلاصة هي أنّ هنالك حقيقة تقول: إنَّ الذي يسدي خدمة لشخص أو ينعم عليه نعمة فسيكون عطفه هذا عليه منطلقاً من حبّه له ويكون هذا الآخر محباً لمن اسدى إليه الخدمة والنعمة، يحب أن يتعرف عليه تماماً ويشكره، وكلما كانت هذه النعمة أهم وأوسع، كان توجه العواطف نحو «المنعم» و «معرفته» أكثر.

ولهذا جعل علماء علم الكلام (العقائد) مسألة «شكر المنعم»- ومنذ القِدَم- إحدى الدوافع على التحقيق حول الدين ومعرفة اللَّه.

__________________________________________________

(1) غرر الحكم.

(2) المصدر السابق.

(3) بحار الأنوار، ج 77، ص 421.

(4) تحف العقول، ص 37 (قسم من كلمات النبي صلى الله عليه و آله).

نفحات القرآن، ج 2، ص: 20

ولكن يجب الانتباه إلى أنّ «شكر المنعم» هو قرار عاطفي قبل أن يكون قراراً عقلياً.

نختم هذه الإشارة ببيت شعر لأبي الفتوح البستي الشاعر العربي المعروف:

أحسن إلى الناس

تستعبد قلوبهم فطالما استعبد الإنسانَ إحسانُ بعد هذه الإشارة ننتقل إلى القرآن ونتأمل خاشعين في الآيات أدناه:

1- «وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَاتَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ». (النحل/ 78)

2- «وَهُوَ الَّذِى سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ». (النحل/ 14)

3- «فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ».

(النحل/ 114)

جمع الآيات وتفسيرها

شكر المنعم سلّم إلى معرفة اللَّه:

تتحدث الآية الأولى عن أهميّة النعم الإلهيّة لتحرك في الناس روح الشكر وتدعوهم عن هذا الطريق إلى معرفة «المنعم»، إنَّ الحديث عن النعمة وسيلة للمعرفة، فقد تحدث القرآن عن «العين» و «الأذن» و «العقل» بقوله: «وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ».

فعن طريق السمع تتعرفون على العلوم النقلية وعلوم الآخرين.

وعن طريق البصر ومشاهدة أسرار الطبيعة وعجائب الخلقة تتعرفون على العلوم التجريبية، وعن طريق العقل تتعرفون على العلوم العقلية والتحاليل المنطقية.

ومع أنّ هذه المواضيع الثلاثة معطوفة على بعضها في هذه الآية بالواو ولا تعني بالضرورة الترتيب، إلّاأنّه ليس من المستبعد أن يكون هذا هو الترتيب الطبيعي لها، لأنّ

نفحات القرآن، ج 2، ص: 21

الإنسان عندما يولد لا يمتلك القدرة على النظر والمشاهدة إلى فترة من الزمن بعد ولادته، ولأنّه معتاد على الظلام فهو يخاف من النور ويغمض عينيه لمدّة من الزمن، في حين أنّ الاذن تسمع الأصوات من أول لحظة، ومن الواضح أنّ القدرة العقلية والتمييز والشعور تبدأ بالعمل والنشاط لدى الإنسان بعد السمع والبصر، خاصةً وأنّ «الفؤاد» كما يصرح أرباب اللغة بمعنى «العقل الناضج العميق» ولا يمثل مرحلة عادية من العقل، وطبعاً فإنّ مثل هذا الشي ء يظهر بعد

ذلك.

فضلًا عن أنّ الآية المذكورة يمكن أن تكون إشارة إلى حقيقة أنّ الوصول إلى «الكليات العقلية» يأتي بعد العلم ب «الجزئيات» عن طريق الحس، وعلى كل حال، فالآية تصرح أنّ الهدف من إسداء هذه النعم هو تحريك روح الشكر لدى البشر، والذي يدعوهم بالنتيجة إلى محبّة الخالق ومعرفة اللَّه وإطاعة أوامره.

وبالطبع فإنّ هذا لا يتناقض مع كون بعض العلوم الإنسانية علوماً فطرية لأنّ المعلومات الفطرية عند الولادة موجودة في طبيعة الإنسان على شكل الاستعداد والقابلية، وليس لها طابع الفعلية، ثم تثمر بعد ذلك.

الآية الثانية تشير إلى ثلاث نعم إلهيّة أخرى تتعلق جميعها بتسخير البحار وتعتبرها دافعاً نحو الاستفادة من فضل اللَّه وشكره، ومن هذه النعم:

أولًا: اللحوم التي تستخرج من البحر والمسماة ب «لَحْماً طَرِياً»، وهو اللحم الذي لم يبذل الإنسان جهداً في تربيته أبداً، وإنّما ربته يد القدرة الإلهيّة في أعماق البحار ووضعته في متناول أيدي الإنسان مجاناً، فيعتبر نعمة كبيرة، خاصة في عصر وزمان كانت تكثر فيه اللحوم الفاسدة وكان الناس يضطرون إلى الاحتفاظ باللحوم إلى فترة معينة عن طريق تمليحها أو شيها وتجفيفها تحت أشعة الشمس، وكانت هذه اللحوم تسبب الكثير من الأمراض والتسمم للمسافرين، في حين كانوا يستخدمون اللحوم الطازجه بكل سهولة في سفراتهم البحرية أو الساحلية.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 22

ثانياً: ثم تشير الآية إلى المواد المستعملة للزينة المستخرجة من أعماق البحار والمستخدمة من قبل البشر وتقول: «وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا».

أي أنّ اللَّه وفر لكم أكثر المواد الغذائية ضرورةً بالإضافة إلى الحاجات ذات الطابع التجميلي الصرف.

ثالثاً: وفي المرحلة الأخيرة تشير الآية إلى واحدة أخرى من بركات البحار التي كان لها دور مؤثر جدّاً في حياة البشر حتى في يومنا الحاضر، وهي

استخدام البحر كطريق كبير وواسع ومتصل لحمل ونقل أنواع الأمتعة التي يحتاجها الناس في السفر، ومع الأخذ بنظر الاعتبار أنّ حوالي 75 بالمائة من وجه الأرض مغطىً بالبحار التي تصل إلى كل نقاط العالم، وأنّ قسماً كبيراً من البضائع والمواد الضرورية تنقل عن هذا الطريق، وأنّ قسماً كبيراً من الأسفار يتمّ من خلال هذا الطريق، ومن هنا تتضح أهميّة هذا الموضوع.

يقول عز وجل: «وَتَرَى الفُلْكِ مَوَاخِرَ فِيهِ».

ثم يضيف في النهاية: «لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ».

وبهذا جعل الالتفات إلى هذه النعم أيضاً وسيلة لإحياء روح الشكر وبالتالي اكتساب المعرفة باللَّه، وإلّا فما حاجة اللَّه إلى شكرنا؟ كل هذه ذرائع إلى معرفة ذاته وصفاته والحركة نحو هذا الكمال المطلق.

والجدير بالذكر أنّ «مواخر» هي جمع «ما خرة» من مادة «مخر» (على وزن فخر)، وهذه المادة كما يستفاد من محصلة كلمات أرباب اللغة والمفسرين بمعنى الشق والخرق، كشق «أمواج الماء» بصدر السفينة، أوشق «أمواج الرياح» بواسطة الوجه والأنف والتقدم نحو الأمام، أو شق الأرض لأجل الزراعة.

ولأنّ هذه الأمور غالباً ما تكون مصحوبة بالصوت فقد اطلقت هذه المفردة على صوت هبوب الرياح الشديدة أيضاً «1»، إنّ كل حياة الإنسان والعالم تعتريها موانع يجب على

__________________________________________________

(1) تفسير الكبير، ج 20، ص 7 وقد جاء نفس هذا المعنى في تفسير روح المعاني والقرطبي تذييلًا للآية المنظورةفي بحثنا.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 23

الإنسان كشفها واجتيازها كي يشق طريقة بالتقدم والتطور، وهذه من النقاط المهمّة والحساسة.

وبالضمن فلقد علمنا أنّ «المواخر» تعني السفن والمراكب، ولذلك فقد فسر ابن عباس «المواخر» بالسفن التي في حالة حركة «الجارية» «1» حيث إنّ قيمة السفينة تكمن في كونها متحركة.

أمّا الآية الثالثة والأخيرة والتي خاطبت مشركي مكة أو المؤمنين،

وفي احتمال قوي أنّ الآية عنت بخطابها الاثنين معاً، فقد أمرت بقولها: «فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ».

والملفت للنظر هنا أنّ الآية ذكرت في آخرها: «وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ» فالبعض قال: إنّ هذه القضية شرطية وذلك لانّ هؤلاء لايعبدون اللَّه اصلًا فكيف يشكرون نعمته، فيكون الأمر «سالباً بانتفاء الموضوع».

وأيضاً يرد احتمال حول هذه المسألة وهو أنّ جزاء القضية الشرطية هي عبارة «فكلوا ممّا رزقكم اللَّه ...» والذي ورد مسبقاً حيث يعني بان هذه الأرزاق في حالة كونها حلالًا طيباً عندما أكون عبداً ومطيعاً لله سبحانه وتعالى، لأنّ كل النعم خلقها اللَّه سبحانه وتعالى من أجل المؤمنين، وَمثلُ ذلك مثل المزارع الذي يسقي الورد ماءً، فهو إنّما يعمل ذلك من أجل أن يحصل على الورود لا أن يجني الأشواك بالرغم من أن الأشواك لا تخلو من فوائد، وقد ذكروا تفسيراً ثالثاً وهو أنّ الآية تخاطب الوثنيين، أنّكم إذا أردتم العبادة فاعبدوا من هو ولي نعمتكم، لماذا تعبدون الأصنام التي لا دور لها مطلقاً «2».

__________________________________________________

(1) تفسير الكبير، ج 20، ص 7، وكذلك ورد هذا المعنى في تفسير روح المعاني و تفسير القرطبي وذلك في تفسيرالآية قيد البحث هذا.

(2) تفسير الكشاف، ج 2، ص 640، وثمّة تفسير آخر ورد كاحتمال من الأحتمالات في تفسير الميزان وروح المعاني تذييلًا للآيات المنظورة في البحث.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 24

وليس من المستبعد الجمع بين هذه التفاسير لأنّ المخاطب حسب الظاهر هم جميع المؤمنين والكافرين، بالرغم من أنّ الآيات السابقة واللاحقة تدل على أنّ الكلام موجه إلى المؤمنين أكثر ممّا هو موجه إلى الكفّار.

وعلى كل حال، فالعلاقة بين «النعمة» و «الشكر» و «العبادة» ثم

«معرفة المعبود» و «ولي النعمة» تتضح بجلاء من هذه الآية.

وبهذا نتوصل إلى الحافز الثاني لمعرفة اللَّه وهو مسألة شكر المنعم.

شكر المنعم في الروايات الإسلامية:

1- جاء في حديث عن أمير المؤمنين علي عليه السلام: «لو لم يتوعد اللَّه على معصيته لكان يجب ألّا يُعصى شكراً لنعمه» «1».

إنّ التعبير ب «الواجب» في هذا الحديث هو في الحقيقة نفس تلك الوظيفة التي تنبع من عواطف الإنسان.

2- نقرأ في حديث آخر عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: «كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عند عائشه ليلتها، فقالت: يا رسول اللَّه لمّ تتعب نفسك وقد غفر اللَّه لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ «2»

فقال: يا عائشه ألا أكون عبداً شكوراً» «3».

3- يقول الإمام الرابع علي بن الحسين عليهما السلام في أحد أدعية الصحيفة السجادية:

«والحمد للَّه الذي لو حبس عن عباده معرفةَ حمده على ما أبلاهم من مننهِ المتتابعة وأسبغ عليهم من نعمه المتظاهرة لتصرّفوا في مننه فلم يحمدوه وتوسعوا في رزقِه فلم يشكروه ولو كانوا كذلك لخرجوا من حدود الإنسانية إلى حد البهيميّة فكانوا كما وصف في محكم

__________________________________________________

(1) نهج البلاغة، الكلمات القصار، الكلمة 290.

(2). إشارة إلى ذيل الآية الأولى من سورة الفتح من التفسير الامثل.

(3) أصول الكافي، ج 2، باب الشكر، ح 6.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 25

كتابه إنّ هم إلّاكالأنعام بل هم أضل سبيلًا» «1».

4- جاء في كلام آخر من نهج البلاغة: «... ولو فكروا في عظيم القدرة وجسيم النعمة لرجعوا إلى الطريق وخافوا عذاب الحريق ولكن القلوب عليلة والبصائر مدخولة» «2».

تتضح من هذه الروايات العلاقة الروحية بين «شكر النعمة» و «معرفة اللَّه وإطاعة أوامره».

__________________________________________________

(1) الصحيفة السجادية، الدعاء الأول.

(2) نهج البلاغة،

الخطبة 185.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 27

3- الدافع الفطري

تمهيد:

عندما نتحدث عن الفطرة فالمقصود هو نفس تلك الاحساسات الداخلية والإدراكية التي لاتحتاج إلى أي استدلال عقلي.

عندما نشاهد منظراً طبيعياً جميلًا جدّاً أو زهرة ذات لون ورائحة طيبة نحسُّ بقوة جذب تدفعنا نحوها، ويسمى هذا الاحساس بالميل نحو الجمال وحبه ولا نرى أي حاجة هنا للبرهنة على إثبات قولنا هذا.

أجل، إنّ الميل للجمال يعد من الرغبات المتعالية للروح الإنسانية.

إنّ الاندفاع نحو الدين وخاصةً معرفة اللَّه هو أيضاً من هذه الاحساسات الفطرية والداخلية، بل هو من أقوى الدوافع في أعماق طبيعة وروح جميع البشر.

ولهذا السبب لا نشاهد قوماً أو أمة لا في الحاضر ولا في الماضي التاريخي لم تكن تمتلك نوعاً من العقائد الدينية تتحكم في فكرها وروحها، وهذه علامة على أصالة هذا الاحساس العميق.

وانطلاقاً من أن التوحيد الفطري يُطرح في مجال براهين معرفة اللَّه كبرهان مستقل مع كل آياته، لا نرى داعياً للبحث المسهب حول هذا الموضوع، فنكتفي بذكر نقطة واحدة ونؤجل المزيد من البحث حول هذا الموضوع في محلّه إن شاء اللَّه.

عندما يذكر القرآن قصص نهضة الأنبياء العظام فانّه يؤكد في عدة مواضع على هذه النقطة وهي أنَّ الرسالة الأصلية للأنبياء تتمثل بازالة آثار الشرك والوثنية (وليس إثبات وجود اللَّه، لأنّ هذا الموضوع مخبَّأٌ في أعماق فطرة كل إنسان).

نفحات القرآن، ج 2، ص: 28

وبتعبير آخر: إنّهم لم يكونوا بصدد غرس «بذور عبادة اللَّه» في قلوب الناس، بل كانوا في صدد سقاية الغرسة الجديدة الموجودة واستئصال الأشواك والأدغال الزائدة المضرة التي قد تقتل أو تُذبِل هذه النبتات بصورة تامة في بعض الأحيان.

وردت جملة: «أَلَّا تَعبُدُوا إِلَّا اللَّهَ» أو «أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إيَاهُ» في كلام الكثير من الأنبياء في

القرآن الكريم، وهي عبارات تفيد نفي الأصنام وليس اثبات وجود اللَّه.

كماجاء في دعوة رسول الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم: «أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إَنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ». (هود/ 2)

ودعوة نوح عليه السلام: «أن لَاتَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ». (هود/ 26)

ودعوة يوسف عليه السلام: «... أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَايَعْلَمُونَ». (يوسف/ 40)

ودعوة النبي هود عليه السلام: «.. أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ». (الاحقاف/ 21)

وَفضلًا عن هذا فَإننا نمتلك في أعماق نفوسنا أحاسيس فطرية أصيلة أخرى منها ما نراه في نفوسنا في الرغبة الشديدة للعلم والمعرفة والاطلاع.

فَهل من الممكن أن نشاهد هذا النظام العجيب في هذا العالم المترامي، ولا تكون لنا رغبة في معرفة مصدر هذا النظام؟

أليس من الغرابة أن يقضي أحد العلماء مدة عشرين سنة من أجل التعرف على حياة النمل، ويثابر عالِم آخر عشرات السنين لمعرفة عادات أوضاع بعض الطيور أو الأشجار أو أسماك البحار بدون أن يكون لديه دافع لحب العلم؟ هل يمكن أنّهم لا يريدون معرفة مصدر هذا البحر اللامتناهي الذي يشمل الأشياء من الأَزلِ إلى الأبد؟!

نعم، هذه دوافع تدعونا إلى «معرفة اللَّه»، العقل يدعونا إلى هذا الطريق، العواطف تجذبنا نحو هذا الاتّجاه، والفطرة تدفعنا إلى هذه الجهة.

كانت هذه خلاصة للمحفزات والدوافع الواقعية والحقيقية لظهور الدين ومعرفة اللَّه.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 29

توضيحات

التبريرات المنحرفة:
اشارة

هنالك إصرار عجيب من قبل بعض علماء الاجتماع والنفس الماديين في الغرب والشرق على أنّ مصدر ظهور الدين والعقيدة التوحيدية معلول للجهل أو الخوف أو عوامل اخرى من هذا القبيل.

بالطبع إنّ هذا الأمر ليس عجيباً في نظر البعض، لأنّهم كما يبدو

قد اتخذوا قرارهم باتفاق مسبق، ويعتبرون من المسلمات أن ليس ثمّة شي ء غير عالم المادة، لهذا يرون أنفسهم ملزمين بأن يفسروا كل ظاهرة على أساس العوامل المادية.

من ناحية أخرى نعلم أن وجود العقائد الدينية ما ينفك يزلزل أركان المادية، وإذا أضفنا إلى هذا المعنى الصراعات الشنيعة بين الكنيسة وعلماء العلوم الطبيعية في القرون الوسطى يمكن الاستنتاج أنّ مثل هذه التفاسير المادية للدين والاعتقاد باللَّه جزء من العداء الذي تكنه المدارس المادية للدين.

مع أنّ البحث في كل هذه النظريات بشكل مفصل يحتاج إلى أحاديث طويلة يُخرجنا الدخول فيها عن كُنه بحثنا التفسيري، ولكن يبدو من الضروري الإشارة إليها هنا بشكل مختصر، لكننا نكرر أن كل هذه التفاسير قائمة على أساس أحكام مسبقة وهي أن نسلّم بعدم وجود عالم وراء الطبيعة، وبأنّ عالم الوجود يتلخص في نفس عالم الطبيعة هذا.

وَيمكن تحديد هذه النظريات- أو بعبارة أدق هذه الفرضيات- بشكل عام في خمس فرضيات:

1- نظرية الجهل

يقول أحد علماء الاجتماع المعروفين: «مع أنّ العلم والفن كشف الكثير من الأسباب الخفية، إلّاأنّ الكثير من هذه الأسباب ما تزال بعيدة من نطاق العلم وباقية في لفيف

نفحات القرآن، ج 2، ص: 30

الأسرار، وضرورة التوصل إلى هذه الأسباب دعت إلى ظهور الدين» «1».

ويضيف أحد الفلاسفة الماديين: أنّ الإنسان عندما ينظر إلى الأحداث من زاوية تاريخية فسيتصور العلم والدين عدوين لا يقبلان الصلح! وذلك لسبب واضح جدّاً، فالذي يعتقد بحركة العالم بلحاظ قانون العلية لا يستطيع أن يسمح ولو للحظة واحدة بأن يدخل عقله تصورٌ يقول: إنَّ بامكان موجود خلق الموانع والعثرات في واقع الأحداث «2».

وبعبارة أبسط إنّهم يريدون الادّعاء أنّ جهل الإنسان بالعلل الطبيعية كان السبب في تصوره لوجود قوة وراء الطبيعة أوجدت

هذا العالم وما انفكت تديره، ولهذا فكلما اتضحت الأسباب والعلل الطبيعية تزلزل الاعتقاد بالدين وبعبادة اللَّه.

إنّ الخطأ الأساسي لاتباع «فرضية الجهل» ينبع من:

أولًا: إنّهم ظنوا أنَّ الإيمان بوجود اللَّه يعني إنكار قانون العلية، وإننا على مفترق طريقين: إمّا التسليم للعلل الطبيعية أو لوجود اللَّه، في حين أنّ الإيمان بقانون العلية والكشف عن العلل الطبيعية من وجهة نظر الفلاسفة الإلهيين يعد أحد أفضل طرق معرفة اللَّه.

إنّنا لا نبحث عن وجود اللَّه وسط الفوضى والحوادث الغامضة والمبهمة، أبداً، بل نبحث عن وجوده في وسط الأنوار والنظم المعروفة لعالم الوجود، لأنّ وجود هذه النظم علامة واضحة على وجود مصدر علم وقدرة في عالم الوجود.

ثانياً: لماذا تراهم يغفلون عن هذه النقطة، وهي أنّ الإنسان ومنذ أقدم العصور ولحد الآن يرى دائماً نظاماً خاصاً يحكم العالم؟ نظاماً لا يمكن تبرير ارتباط وجوده بالعلل التي لا شعور لها، وكان يعتبره دوماً علامةً على وجود اللَّه، وكل ما في الأمر أنّ هذا النظام كان

__________________________________________________

(1) جامعه شناسى، ساموئيل كنيك، ص 207 (علم الاجتماع عند ساموئيل كنيك).

(2) الدنيا التي أراها، ص 58- وكم هو مضحك قول «اوغست كونت» إنّ العلم عزل أبا الكائنات من وظيفته وساقه إلى مكان منزو (أي باكتشاف العلل الطبيعية لم يبق ثمّة محل للأيمان باللَّه) (الدوافع نحو المادية، ص 76).

نفحات القرآن، ج 2، ص: 31

معروفاً في الماضي بدرجة أقل، وكلما تطور علم البشر، إكتشفت منه دقائق وطرائف جديدة واتّضح علم وقدرة خالق عالم الوجود أكثر.

ومن هنا فإننا نعتقد أنّ «الإيمان بوجود اللَّه» و «الدين» يتقدم إلى الأمام بتقدم «العلوم»، وكل اكتشاف جديد لأسرار ونظم هذا العالم إنّما هو خطوة جديدة لمعرفة اللَّه بصورة أفضل، فلم يكن بامكان السابقين

أبداً أن يعرفوا اللَّه بالشكل الذي نعرفه اليوم، تطور العلوم لم يكن على ما هو عليه الآن.

2- نظرية الخوف

ذكر المؤرخ الغربي المعروف «وِل ديورانت» في تاريخه ضمن بحث بعنوان منابع الدين عن الحكيم الروماني «لوكروتيوس» بأنّ «الخوف هو الأم الأولى للآلهة، ومن بين أنواع الخوف هو الخوف من الموت الذي يَحتل مكانة أهم بين بقيّة أنواع الخوف ... ولهذا لم يكن باستطاعة الإنسان البدائي أن يصدق بأنّ الموت ظاهرة طبيعية ولذا كان يتصور له سبباً ما ورائياً على الدوام» «1».

ويكرّر «راسل» نفس هذا الكلام بصياغة أخرى في قوله:

«أتصور أنّ مصدر الدين هو الخوف والرهبة قبل كل شي ء، الخوف من الكوارث الطبيعية، الخوف من الحروب وما شاكل، والخوف من الأعمال غير اللائقة التي يرتكبها الإنسان أثناء غلبة الشهوات عليه» «2».

ويتّضح بطلان هذه الفرضية من حيث إنّ أتباعها كأنّهم قد تعاهدوا جميعهم بشكل ضمني على الاتفاق بأنّه ليس ثمة جذور ما ورائية للدين والاعتقاد بعبادة اللَّه، ولابدّ من البحث عن سبب له في الطبيعة، سبب يعود إلى نوع من الظن والخيال، ولهذا فهم دائماً يرون الأمور الفرعية وينسون المسألة الأصلية.

__________________________________________________

(1) قصة الحضارة، ل «وِلْ ديورانت»، ج 1، ص 89.

(2) العالم الذي أعرفه، ص 54.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 32

صحيح أنّ الإيمان باللَّه يمنح الإنسان طمأنينة واقتداراً روحياً، وصحيح أنّه يمده بالشجاعة قبال الموت والحوادث العصيبة، إلى درجة أنّه في بعض الأحيان يكون مستعداً لكل ألوان التضحية والفداء، لكن لماذا ننسى ما هو أمام أعين البشر دائماً أي النظام الذي يحكم الأرض والسماء والنباتات والأحياء ووجود الإنسان ذاته؟!

وبعبارة أخرى فإنّ الإنسان مهما كان جاهلًا بعلم التشريح والفسلجة وما شابه، لكنّهُ حينما ينظر إلى بناء عينه وأذنه

وقلبه ويده ورجله يراه بناءً عجيباً ودقيقاً، وهذا لا يمكن تفسيره أبداً بعوامل اللاشعور والصدفة، فنمو غصن من الزهور، زنبور العسل، بزوغ الشمس والقمر وسيرهما المنتظم وبقية الظواهر الاخرى لا يمكن تفسير كل هذه الظواهر بالصدفة واللاشعور.

هذا هو الشي ء الذي كان موجوداً ولا يزال دائماً أمام أعين الإنسان وهو السبب الأصلي في ظهور الإيمان بوجود اللَّه، لماذا يتجاهلون هذه الحقائق البينة ويتشبثون بمسألة الخوف والجهل؟ لا شي ء غير خوفهم من نمو العقائد الدينية؟ لماذا تركوا الطريق الأصلي النيّر وسلكوا الطريق المنحرف؟ والسبب هو أنّ الأحكام المسبقة حالت بينهم وبين معرفة الحقيقة؟!

3- نظرية العامل الاقتصادي

إنَّ أتباع هذه النظرية يعتقدون بأنّ القوة التي تحرك التاريخ هو شكل وسائل الانتاج، ويعتبرون جميع الظواهر الاجتماعية سواء الثقافية منها أو العلمية أو الفلسفية أو السياسية وحتى الدين وليدة هذا العامل!

ولأصحاب هذا الرأي تبريرات عجيبة من أجل الربط بين ظهور الأديان والمسائل الاقتصادية، منها قولهم: إنّ الطبقة الحاكمة في المجتمعات البشرية قد أوجدت الدين من أجل القضاء على مقاومة الشعوب المستعمَرة وتخديرها، ويلفتون الأنظار إلى عبارة «لينين» المعروفة التي أوردها في كتابه «الاشتراكية والدين» والتي يقول فيها: «الدين أفيون الشعوب»!

نفحات القرآن، ج 2، ص: 33

ولهم في هذا الموضوع كلام كثير هو في الغالب تكرار للمكررات.

ومن حسن الحظ أنّ أتباع هذه النظرية (الاشتراكيون) قد أجابوا على إشكالاتهم بأنفسهم من خلال عباراتهم المتناقضة، فهم عندما يواجهون الإسلام وكيف كان سبباً في حركة ونهوض أُمة متخلفة، وكيف استطاع أن ينهي سلطة المستعمرين من أمثال سلاطين ساسان وقياصرة الروم وفراعنة مصر و «تبابعة» اليمن، يضطرون إلى استثناء الإسلام على الأقل من هذا المقطع التاريخي.

وفوق كل هذا، عندما يشاهدون اليوم الحركات والنهضات الإسلامية التي تنطلق ضد المستعمرين (خاصة

في العصر الحاضر) بوجه حكام الشرق والغرب وانتفاضة الشعب الفلسطيني ضدّ الكيان الصهيوني، فليس أمامهم سبيل سوى أن يشكّوا في تحليلاتهم، بغض النظر عن الذين يعيشون حصاراً في حصار ولا يستطيعون أن يبصروا حتى نور الشمس الساطع.

وعلى كل حال، مع الأخذ بنظر الاعتبار التاريخ المعاصر والقديم لا سيما الخاص بالإسلام، يتضح جيداً أنّ الدين وخلافاً لزعمهم ليس مادة مخدرة وأفيوناً أبداً، فضلًا عن أنّه السبب في ظهور أقوى الحركات الاجتماعية وأكثرها مثاراً للإعجاب، والقضايا الاقتصادية تشكل بدورها جزءً من حياة الإنسان، وحصر الإنسان في الزاوية الاقتصادية يعتبر أكبر خطأ في معرفة الإنسان ومعرفة نوازعه وميوله المتعالية.

4- النظرية الجنسية

والآن تعالوا واستمعوا للسيد «فرويد» الذي يريد أن يقيم جسراً بين «ظهور الدين» و «الغريزة الجنسية» ويعتبر الدين وليداً للغريزة الجنسية!

إنّه يحاول أن يربط هذا الموضوع في فرضيته باحدى القبائل الوهمية (للأب في هذه القبيلة الخيالية نساء كثيرات، أمّا الأولاد الشباب فيعانون الحرمان، وأخيراً ثار الأولاد وقتلوا الأب وأكلوا لحمه، ثم ندموا على فعلتهم، لقد غضوا النظر عن نساء القبيلة وعمدوا

نفحات القرآن، ج 2، ص: 34

إلى إدانة وتقبيح عملهم) ومن هنا نشأ بينهم نوع من الحظر وبتعبيره «تابو» أي (حظر الزواج من المحارم).

وَيضيف: يوجد في القبائل المتوحشة اليوم شي ء باسم «التوتم» وهو الأب أو كبير العشيرة بالنسبة لاعضاء القبيلة، ويعتبر حاميهم وولي نعمتهم.

إنّهم يحترمون «التوتم» ويتصورون أنّ عليهم أن يتشبّهوا به ويقلّدوه (هذا الاعتقاد بالتوتم نابع من نفس الاعتقاد بالقبيلة الوهمية أيضاً).

يعتقد فرويد أنّ الإيمان بالتابو والتوتم هو السبب لظهور العقائد الدينية، ووفقاً لما ذكرنا أعلاه فإن له علاقة بالقضية الجنسية! «1».

وفضلًا عن أنّ فرضية فرويد الجنسية قائمة على أساس اسطورةٍ (اسطورة القبيلة الوهمية)، فإنّ تحليلاته تشبه إلى حد

كبير الأساطير والخرافات، وهذا ناتج من أنّه ينظر الى روح وجسم الإنسان الذي يحمل أبعاداً وميولات متنوعة من زاوية واحدة وبعد واحد.

صحيح أنّ للإنسان غريزة جنسية، لكن من المسلم به أنّ وجود الإنسان لا ينحصر في الغريزة الجنسية، فجسمه يقع تحت تأثير غرائز مختلفة، ولروحه ميول متعالية مختلفة، «فَالنظر من بعد وأحد» خطأ لم يقع فيه فرويد فحسب بل إنّ الاشتراكيين الذين يحصرون وجود الإنسان في البعد الاقتصادي قد وقعوا فيه بشكل آخر، وكلا النظريتين اخطأتاخطأً فاحشاً في معرفة الإنسان.

كان الأجدر بفرويد وبدل الاعتماد على الأوهام أن ينظر إلى هذه الحقيقة وهي أنّ الإنسان منذ فجر حياته وحتى اليوم أبصر نظاماً حاكماً على العالم المترامي وعلى وجوده هو لا يمكن تفسيره بالعلل الطبيعية غير العاقلة وغير العالمة، وكان هذا هو المنطلق في ظهور الاعتقاد باللَّه، فَلماذا يرفضون نهجاً بهذا الوضوح ويسلكون طريق الجهل والضلال؟!

__________________________________________________

(1) الاقتباس من فرويد والفرويدية.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 35

5- نظرية الحاجات الأخلاقية

يقول «أنشتاين» في بحث بعنوان «الدين والعلوم»: بقليل من الدقّة يتّضح أنّ الأحاسيس والانفعالات التي أدّت إلى ظهور الدين مختلفة ومتباينة جدّاً .. وبعد أن يشير إلى نظرية الخوف يضيف:

إنّ النزعة الاجتماعية لدى البشر هي أيضاً من أسباب ظهور الدين، فالفرد يرى أنّ أباه وأمه، أصدقاءه وأقاربه، قادته وعظماءه، يموتون، ويرحلون منْ حوله واحداً واحداً، إذن فالرغبة في الهداية والمحبّة وأن يكون محبوباً في مجتمعه وأن يكون له أمل في شخص ما معتمداً عليه، تمهد الأرضية في نفسه لقبول الاعتقاد باللَّه «1».

وبهذا فهو يريد أن يفترض دافعاً أخلاقياً واجتماعياً لظهور الدين.

وهنا أيضاً نلاحظ أنّ الذين طرحوا هذه الفرضية قد خلطوا بين «الأثر» و «الدافع»، في حين أنّنا نعلم أن ليس كل

أثر هو دافع بالضرورة، فَمن الممكن أن نعثر على كنز أثناء حفرنا لبئر عميق، وهذا هو «أثر»، والحال أنّه لا شك في أنّ المحرك والدافع الأساسي لحفرنا البئر شي ء آخر وهو الحصول على الماء وليس اكتشاف كنزٍ ما.

وعليه فصحيح أنّ بامكان الدين تسكين ومعالجة آمال وآلام الإنسان الروحية، وأنّ الإيمان باللَّه يخلصه من الاحساس بالوحدة عند فقد الأحبّة والأصدقاء ويملأُ الفراغ الناتج من فقدانهم، ولكن هذا أثر وليس دافعاً.

الحافز الأصلي للدين والذي يبدو منطقياً جدّاً هو في الدرجة الأولى ما أشرنا إليه سابقاً، فحينما يرى الإنسان نفسه وجهاً لوجه أمام نظام في عالم كلما تأمل فيه أكثر تعرف على عمقه وتعقيده وعظمته أكثر، فهو لا يستطيع أبداً أن يعتبر ظهور ولو «وردة» واحدة بكل ما لها من ظرافة وبناء عجيب، أو ظهور «عين» واحدة بكل ما فيها من نظام ظريف ودقيق ومعقد، لا يستطيع أن يعتبر ذلك وليداً للطبيعة غير العاقلة والمصادفات العمياء الصماء، ومن هنا يبحث الإنسان عن مُبدى ء لهذا النظام.

__________________________________________________

(1) الدنيا التي أراها، ص 53.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 36

وبالطبع فهنالك أمور أخرى تدعم هذا المعنى أشرنا إليها سابقاً.

والعجيب أن «انشتاين» نفسه الذي اقترح مثل هذه الفرضية تراجع عن كلامه في مكان آخر وأعرب عن عقيدته في موجد عالم الوجود وايمانه الراسخ بذلك المُبدى ء الكبير بشكل ملفت للنظر، يدل على إنّه ينكر الاعتقاد الممتزج بالخرافات ولا ينكر التوحيد الخالص من أي خرافة.

إنّه يقول: «ثمة وراءَ هذه الأوهام معنى واقعي لوجود اللَّه لم يتوصل إليه سوى القليل من الناس» ثم يصرح بعقيدته وعقيدة كبار العلماء بنوع من الإيمان الديني الذي يسميه «الأحساس الديني بالخلق» أو «الوجود» ويدعوه في مكان آخر ب «الحيرة اللذيذة

من نظام الكائنات العجيب الدقيق».

والألطف من ذلك أنّه يقول: «إنّ هذا الإيمان الديني سراج درب البحوث في حياة العلماء» «1».

طبعاً الكلام هنا كثير وإذا أردنا أن نترك العنان للقلم حسب التعبير الدارج فسوف نخرج عن شكل البحث في التفسير الموضوعي.

لهذا نعود إلى أصل الحديث مرّة أخرى وننهي هذا البحث، ونلفت النظر إلى أنّه يجب البحث عن دافع ظهور الأديان في مطالعة عالم الخلقة أولًا (الحافز العقلي والمنطقي)، ثم في الجاذبية الذاتية العنيفة (الحافز الفطري)، ثم في التوجه نحو ذلك المبدى ء الكبير بسبب التمتع بنعمه اللامتناهية (الحافز العاطفي) «2».

__________________________________________________

(1) الدنيا التي أعرفها، ص 56 و 61.

(2) من أجل مزيد من المعلومات في هذا المجال يراجع كتابنا «الحافز في ظهور الأديان».

نفحات القرآن، ج 2، ص: 37

براهين معرفة اللَّه:

اشارة

1- بُرهَان النظم

2- برهان التغيّر والحركة (يبحث في مجلّد 3)

3- برهان الوجوب والإمكان (الغنى والفقر) (يبحث في مجلّد 3)

4- برهان العلة والمعلول (يبحث في مجلّد 3)

5- برهان الصدّيقين (يبحث في مجلّد 3)

6- الطريق الباطنى لمعرفة اللَّه (الفطرة) (يبحث في مجلّد 3)

نفحات القرآن، ج 2، ص: 39

1- بُرهَان النظم

التمهيد:

إنّ أوسع برهان اعتمد عليه القرآن الكريم في آياته وسوره في إثبات «معرفة اللَّه» هو «برهان النظم» بشكل غطى هذا البرهان على كافة البراهين التي وردت في القرآن الكريم.

وهذا يدل على أنّ أفضل وأوضح طريق لمعرفة اللَّه وتنزيهه من كافة ألوان الشرك من وجهة نظر هذا الكتاب السماوي العظيم هو البحث في نظام الخلقة وأسرار الوجود وآيات الآفاق والأنفس.

مميزات برهان النظم:

لهذا البرهان خصائص من أجلها اعتمد وأكد عليه القرآن الكريم إلى هذا الحد.

1- إنّ برهان النظم يقنع العلماء كما يقنع عامة الناس، أي أنّ كل فئة تستطيع الاستفادة والانتفاع منه حسب قابليتها، وذلك لأنَّ الناس مختلفون في إدراك أسرار الخلقة.

2- ليس في برهان النظم الجفاف الموجود في الاستدلالات الفلسفية، بل على العكس فيه لطف خاص يمنح الإنسان حبّ الاطلاع على ذلك المُبدى ء الكبير، ويوجد فيه نوعاً من الاندفاع والشوق نحوه، ويخلق لديه حالة من الخضوع الممزوج بالحبّ ومعرفة اللَّه، وبتعبير آخر فهو يروي عقل الإنسان كما يروي عواطفه وأخلاقه.

وأخيراً فإنّ برهان النظم وبسبب دراسته لأنواع النعم الإلهيّة ضمن دراسة نظم هذا العالم فهو يؤكد على مسألة شكر المنعم، وهذا بحدّ ذاته حافز آخر من حوافز التوحيد.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 40

3- إنّ برهان النظم برهان في حال تطور (متجدد)، وبتعبير آخر هو برهان لا متناه، المقدّمة الكبرى وإن كانت ثابتة، لكن صغراها تمثل أعصانا متفرعة ومورقة وذات برأعم نامية لهذا البرهان، لأنّ أي اكتشاف من الاكتشافات العلمية حول أسرار الخلقة إنما يشكل مصداقاً وصغرى جديدة لهذا البرهان، فهو لهذا جديد دائماً، وفي كل يوم يأخذ شكلًا آخراً، وهو متطور ومتقدم إلى جانب تطور العلم والمعارف البشرية.

4- إنّ برهان النظم يدعو الإنسان إلى سلوك الآفاق والأنفس، وهذا

السلوك المملوء بالبركة يزيد من مستوى معرفة الإنسان في كل يوم ويجعل تفكيره مزدهراً، خاصة وأنّ أسس برهان النظم مختلطة بحياة الإنسان وهو يواجهها في كل خطوة من خطواته، وليس كالبعض الآخر من البراهين التوحيدية التي تقع على هامش قضايا الحياة وخارجها.

5- برهان النظم هو البرهان الوحيد الذي يستطيع إخضاع الفلاسفة التجريبيين الذين ينكرون الاستدلالات العقلية المحضة، ويستخدم حربة العلم التي يستخدمونها في إثبات «المادية» ضدهم، وهو بهذا اللحاظ ذو فاعلية عالية.

ولهذا ليس من العجيب أن يضع القران الكريم الغالبية العظمى من مباحثه التوحيدية على أساسه، لكن من العجيب أنّ بعض المحققين المتأثرين بشدة ببراهين أخرى (البراهين الفلسفية المحضة) يتجاهلون الأهميّة القصوى لهذا البرهان وكأنّهم لا علم لهم بمميزاته وآثاره العميقة.

أسس برهان النظم:

يرتكز هذا البرهان في شكله الأول على ركيزتين أساسيتين، بحسب ما هو مصطلح يشكل صغرى وكبرى

1- هنالك نظام دقيق ومحسوب يحكم عالم الوجود.

2- أينما وجدنا نظاماً دقيقاً ومحسوباً فمن غير الممكن أن يكون وليد الحوادث التصادفية، بل لابدّ أن يصدر عن علم وقدرة عظيمين.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 41

والنتيجة هي أنّ هناك مبدأ علم وقدرة عظيم وراء نظام عالم الخلقة (سواء أطلقنا عليه اسم اللَّه أو وضعنا له إسما آخر) لأنّ التسمية لا تؤثر في مثل هذه البحوث.

العلاقة بين النظام و العلم:

قبل كل شي ء يجب إثبات المقدمة الثانية المسماة بكبرى القياس، ومن أجل هذا لابدّ من تعريف مختصر ل «النظام».

يمكن القول: أن أي منظمة أو موجود يعمل وفق برنامج معين ويعطي نتائج معينة، هو موجود منظم، وعلى هذا الأساس فإنّ «الحساب» و «البرنامج» و «الهدف» تشكل العناصر الأصلية الثلاثة للنظام، فمثلًا الساعة نموذج ل «الموجود المنظم»، ذلك أنّ أجزاءها مصنوعة وفق حساب دقيق، ثم هنالك برنامج لتركيبها، والهدف منها هو التشخيص الدقيق للوقت.

ولأجل التوصل إلى هذه العلاقة (علاقة النظام والعلم) يمكن الاستعانة بعدّة أدلة:

1- الوجدان: مع أننا لم نر أبداً الكثير من العلماء الكبار والمخترعين والفنانين المهرة، ولم يبق منهم سوى الآثار، إلّاأنّنا حين ننظر إلى تلك الآثار والكتب والصناعات واللوحات النفيسة والأبنية البديعة، نعترف بدون الحاجة إلى دليل بعقلهم وذوقهم وعلمهم ومهارتهم الصناعية والفنية.

2- من أجل إثبات هذه العلاقة يمكن- بالإضافة إلى الوجدان- الاستعانة بالدليل المنطقي، فمن أجل أحداث بناية منظمة واظهارها إلى الوجود يجب أن يكون هناك اختيار في سبع مراحل على الأقل.

فلو تصورنا بناية عظيمة وجميلة ومحكمة، وجب أن نمارس عملية الاختيار والانتخاب بشكل محسوب على عدة أصعدة «اولها» نوعية المواد المستخدمة، و «ثانيها»

مقدار وكميَّة المواد، و «ثالثها» جودة المواد، و «رابعها» الأشكال والأحجام المختلفة، و «خامسها» إيجاد الانسجام بين الأجزاء، و «سادسها» إيجاد التناسب بينها، و «سابعها»

نفحات القرآن، ج 2، ص: 42

من حيث وضع كل من الأجزاء في مكانه المناسب.

وهذه الاختيارات السبعة يجب أن تتمّ كل واحدة منها وفقاً للعلم والاطلاع والحساب، وأحياناً الحسابات الدقيقة جدّاً، ومن هنا عندما نرى مثل هذه البناية نتيقن أن صانعها بلا شك كان يملك العلم والمعرفة والاطلاع الواسع.

3- يمكن إثبات هذه العلاقة (علاقة النظام والعلم) عن طريق آخر (عن طريق البرهان الرياضي).

إنّ «حساب الاحتمالات» الذي اصبح اليوم فرعاً علمياً مستقلًا في الجامعات ذو فاعلية جيدة جدّاً في مجال العلاقة بين النظام والعلم، وهو نفس الشي ء الذي ندركه بصورة إجمالية في حياتنا، لكن حساب الاحتمالات يعكسه في شكلٍ رياضي واضح.

إنّنا لا نصدق أبداً أنّ إنساناً امياً يستطيع عن طريق الصدفة أن يؤلف كتاباً في مجال «الفلسفة» مثلًا أو «الآداب والشعر» أو «الطب»، بمعنى أن نعطيه آلة طابعة فيبدأ بدون أن يعرف الحروف بالضغط على أزرار الآلة ليطبع كتاباً.

وليس من المستحيل كتابة كتاب علمي عن طريق الصدفة فحسب، بل لا يمكن كتابة حتى رسالة قصيرة أيضاً.

لأنّه لو افترضنا أن حروف الآلة الطابعة ثلاثون حرفاً فقط، (وهي بالطبع أكثر بكثير، لأنّ لبعض الحروف صور متعددة، فمثلًا حرف الباء الأولية والباء الوسطية والباء النهائية والباء المفردة تشكل أربع صور مختلفة لحرف الباء) يقول حساب الإحتمالات هنا: إنّ الظهور التصادفي لكلمة «من» المكونة من حرفين هو احتمال واحد من تسعمائة احتمال.

(30/ 1* 30/ 1/ 900/ 1).

واحتمال ظهور كلمة مكونة من ثلاثة أحرف هو احتمال واحد من 27 ألف احتمال، وحين نصل إلى كلمة مكونة من

خمسة أحرف سوف نجتاز حدود 21 مليون!!.

والآن إذا كانت الحروف الموجودة في رسالة قصيرة هي مائة حرف فإنّ مجموعة احتمالات هذه الأحرف هي العدد 30 مرفوعاً إلى الأُس 100 بحيث أن رسالتنا المعينة

نفحات القرآن، ج 2، ص: 43

تشكل احتمالًا واحداً من هذا العدد الهائل من الاحتمالات، أي عدداً كسرياً بسطه واحد ومقامه العدد 3 إلى يمينه مائة صفر.

إنّ مقام هذا الكسر من الضخامة بحيث لا يمكن حسابه، ولا شي ء في هذا العالم يصل إلى ضخامة هذا العدد.

ولأجل إيضاح هذه الحقيقة يكفي أن نعلم أننا لو قطرنا جميع المحيطات على الكرة الأرضية قطرة قطرة وحسبنا عددها لكان عددها أقل من عدد على يمينه واحد وعشرون صفراً فقط.

وعلى هذا الحساب لو حسبنا كتاباً مكوناً من ألف صفحة فإنّ عدد الاحتمالات سيتضخم إلى درجة أنّ الاحتمال التصادفي لعدده الكسري (البسط) يتساوى مع الصفر أي أنّه مستحيل.

وبهذا الدليل، إذا ادّعى شخص مثلًا: أنّ «ابن سينا» مؤلف كتاب «القانون» في الطب كان أمياً تماماً، وأنّ «المتنبّي» لم يكن له ذوق شعري مطلقاً، وأن «أنشتاين» لم يكن يفقه شيئاً من الرياضيات وأنّ بنّائي الأبنية التاريخية الشهيرة لم يكن لهم أدنى اطلاع في فن العمارة، وأنّ جميع الآثار التي تركوها ظهرت بمحض الصدفة والحركات غير المقصودة لأيديهم على الأوراق أو على المواد الإنشائية! فلا شك أنّ من يقول مثل هذا الكلام إن لم يكن يمزح فهو مجنون!.

وخلاصة القول أنّ علاقة النظام بالعلم واضحة إلى درجة أنّ الكثير من العلوم والمعارف البشرية قائمة على النظام، فمثلًا جزء مهم من تاريخ الحضارة البشرية كتب من خلال مطالعة ودراسة الآثار الجذابة للسلف التي خلفوها بعد رحيلهم.

والعلماء- بمطالعة الآثار التي يعثرون عليها بواسطة الحفريات أو التي

يكتشفونها في قبور ومعابد الأقوام الغابرة- يتوصلون إلى مستوى ثقافتهم وحضارتهم ونوعية عقائدهم.

في حين إذا أنكرنا علاقة النظام والعلم إنهارت كل هذه الاستنباطات.

الآن وقد اتّضحت تماماً العلاقة بين النظام والعلم، وبعبارةٍ ثبتت كبرى البرهان، نتطرّق

نفحات القرآن، ج 2، ص: 44

إلى مصاديقها في عالم الوجود التي اعتمد عليها القرآن الكريم.

واللطيف أنّ آيات القرآن لا تتحدث مطلقاً عن كبرى برهان النظام، أي «علاقة النظام والعلم»، لأنّها كانت واضحة ووجدانية إلى حد أنّه لم تكن ثمة حاجة لبيانها، وكما قلنا فإنّ الإنسان إذا أنكر هذه العلاقة يجب عليه إنكار الكثير من الحقائق الموجودة في حياته، وما من شك في أن منكري هذه العلاقة يشبهون ب «السفسطائيين» الذين ينكرون الحقائق أثناء حديثهم، ولكنهم في حياتهم اليومية يقبلون جميع الحقائق مثل الآخرين، فمثلًا لو تمرضوا يراجعون الطبيب ويستعملون الدواء وينفذون إرشادات الطبيب حرفاً بحرف، أي أنّهم يعترفون رسمياً بوجود «الطبيب» و «الدواء» و «علم الطب» و «الصيدلة» ومئات الأمور الأخرى الدائرة في هذا الفلك.

إنّ منكري «علاقة النظام والعلم» أيضاً بدورهم يستنتجون علمياً وعملياً من أي أثر علمي وصناعي وأدبي وفني، وجود مُبدى ء واع وذي ذوق وفن، ولا يعتمدون أبداً على الاحتمالات المجنونة.

الآن وقد اتّضحت علاقة النظام والعلم تماماً، وثبتت كبرى البرهان حسب الاصطلاح المنطقي، نعرج على مصاديقها في القرآن الكريم والتي اعتمد عليها.

ونعتقد أن من الضروري ذكر هذه النقطة وهي: أنّ الفلاسفة الماديين الذين حاربوا برهان النظم (انكار وجود النظام في العالم أو إنكار علاقة النظام والعلم) وعلى رأسهم «دافيد هيوم» لم يتحفونا بسوى مجموعة من الوساوس التي لا قيمة لها، الوساوس التي لم يكونوا يقبلونها في حياتهم أبداً.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 45

1- آياته في خلق الإنسان

اشارة

في البداية نمعن خاشعين في

الآيات الكريمة أدناه:

1- «وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِّنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ». (الروم/ 20)

2- «إِنَّا خَلَقْنَا الْإنْسَانَ مِنْ نُّطْفَةٍ أمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً».

(الإنسان/ 2)

3- «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِّنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ* ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ».

(المؤمنون/ 12 و 13)

4- «ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ* الَّذِى أَحَسَنَ كُلَّ شَىْ ءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ* ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِّنْ مَّاءٍ مَّهِينٍ* ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُّوْحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ والْأَبْصَار وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ». (السجدة/ 6- 9)

5- «وَفِى خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ» «1». (الجاثية/ 4)

شرح المفردات:

«بَشَرْ»: من أصل (بَشَرَة) بمعنى ظاهر جلد الإنسان، ولكن يستفاد من «مقاييس اللغة» أنّ أصلها هو ظهور شي ءٍ ذي حسن وجمال، لذا فإنّ حالة «البُشر» (على وزن اليُسر) بمعنى الفرح والانبساط، وانطلاقاً من أنّ هذه الحالة خاصة بالإنسان، كانت مفردة «البشر»

__________________________________________________

(1) هنالك في هذا المجال آيات متعددة أخرى أيضاً، صرفنا النظر عن ذكرها لتقارب مضمونها مع ما ذكرناه من الآيات، من جملتها آيات سورة النجم، 45- 46؛ غافر، 67؛ فاطر، 11؛ الكهف، 37- 38؛ النحل، 4؛ الانعام، 2.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 46

اسماً للنوع الإنساني «1»، وهذه المفردة تطلق على الرجل والمرأة والمفرد والمثنى والجمع «2».

«سُلالة»: (على وزن عُصارة) بمعنى الشي ء المأخوذ من شي ء آخر، فيكون خلاصته وعصارته، وهي في الأصل من (سَلَّ) على وزن (حَلَّ) بمعنى سحب وجرَّ برفق وتستخدم لسحب السيف من القراب أيضاً ثم اطلقت على عصارة وخلاصة الأشياء «3»، وحينما نقرأ في الآيات المذكورة أنّ اللَّه خلق الإنسان من سلالة من طين، فمعنى ذلك من العصارة المصطفاة من الطين، وقال

البعض: إنّ المراد من هذا هو أنّ آدم مخلوق من عصارة كل الأتربة الموجودة على الأرض (ولهذا فقد استخلص آثار الجميع في وجوده) وإطلاق «السليل» على «الابن» من باب أنّه ناتج من عصارة وجود الأب والأم.

«النطفة»: في الأصل بمعنى «الماء الصافي»، واعتبرها بعض أهل اللغة بمعنى «الماء القليل»، وبما أنّ الماء الذي يمثل المبدأ في ظهور الإنسان قليل ومصطفىً وعصارة من كل الجسم فقد أُطلقت هذه المفردة عليه، ويقال للسوائل الجارية «ناطف» أيضاً.

«أمشاج»: جمع «مَشْج» (على وزن نشج) بمعنى الشي ء المخلوط، والبعض اعتبرها جمعاً ل «مشيج»، ولأنّ ماء الرجل والمرأة يختلطان عند انعقاد نطفة الإنسان فقد أطلقت هذه المفردة عليه.

جاء في «لسان العرب» أنّ هذه المادة في الأصل بمعنى اللونين المختلفين الذين يمتزجان مع بعضهما (ثم أطلقت على الأشياء المختلفة التي تختلط مع بعضها).

خلق الإنسان من (نطفة أمشاج)، يمكن أن تكون إشارة إلى المواد المختلفة التي تشكل النطفة، أو القابليات المتنوعة التي تجتمع في النطفة عن طريق عامل الوراثة وغيره من العوامل، أو أنّه إشارة إلى كل هذه الامتزاجات.

__________________________________________________

(1) مقاييس اللغة، لسان العرب والتحقيق في كلمات القرآن الكريم.

(2) لسان العرب، ومجمع البحرين.

(3) مفردات الراغب، مجمع البحرين، ولسان العرب.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 47

جمع الآيات وتفسيرها

آيات الأنفس الأولى

للقرآن الكريم عبارات متنوعة حول بداية ظهور الإنسان، يقول في أول آية بهذا الخصوص:

«وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِّنْ تُرَاب».

ويقول في الآية الرابعة: «وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِيْنٍ».

ويقول في الآية الثالثة: «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِّنْ طِيْنٍ».

ويقول في الآية 11 من سورة الصافات: «إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِّنْ طِيْنٍ لَّازِبٍ».

ويقول في الآية 26 من سورة الحجر: «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مِّسْنُونٍ».

وجاء في الآية 14 من

سورة الرحمن: «خَلَقَ الانْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ».

«الصَلْصَال»: في الأصل بمعنى لوي الصوت في الجسم اليابس، ولهذا سمّى الطين اليابس الذي يصدر منه صوت عند ارتطام جسم آخر به بالصلصال، وحين يُفخر على النار يقال له «الفخار».

«الفخار»: مأخوذ من مادة «فخر» أي الفخور كثيراً، ولأنّ الأشخاص الفخورين أناس كثيرو الضجيج والكلام وفارغون، فقد أُطلق هذا الاسم على الكوز وكل فخار فارغ الجوف، بل أطلق على كل أنواع الفخار «1».

يستفاد من مجموع الآيات أعلاه أنّ الإنسان كان تراباً في البداية، وقد امتزج هذا التراب بالماء واستحال إلى الطين، وقد أخذ هذا الطين بعد مضي فترة شكلَ الوحل ثم استخلصت من عصارته المادة الأصلية لآدم ثم جُفِّفَتْ، وباجتيازها المراحل المهمّة تكوّن آدم.

لكن في آيات اخرى من القرآن كالآية الثانية المعنية، يعتبر خلقة الإنسان من نطفة

__________________________________________________

(1) مفردات الراغب؛ ومجمع البحرين؛ ولسان العرب.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 48

مختلطة: «مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ».

وفي الآية الثالثة يعتبرها اولًا من «عصارة الطين»، ثم من «نطفة في الرحم»: «مِنْ سُلالَةٍ مِّنْ طِيْنٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِى قَرارٍ مَكِيْنٍ».

واضح أنّ المراد من هذه الآيات هو خلقة الإنسان في المراحل والأجيال اللاحقة، وبهذا فإنّ جدنا الأول مخلوق من التراب، وأولاده وعقبه من نطفة أمشاج.

وثمّة احتمال في تفسير الآية أعلاه هو: بما أنّ المواد المكوِّنة للنطفة مأخوذة جميعها من التراب (لأنّ غذاءنا إمّا من المواد الحيوانية أو النباتية ونعلم أن جميع هذه المواد نحصل عليها من التراب)، لهذا فلم يكن الإنسان الأول من التراب فحسب، بل إنّ جميع الناس في المراحل اللاحقة ينشأون من التراب أيضاً «1».

وعلى كل حال، فهذه حقّاً من العجائب الكبيرة في عالم الوجود وغرائب عالم الخلقة أن يولد- من مادة ميتة

وبلا روح ولا قيمة لها كالتراب- موجود حي وعاقل وذو قدر وقيمة كالانسان، فهذه من الآيات البينات لذلك المُبدى ء الكبير، و «إنّ ذلك الخالق لجدير بالشكر والثناء لأنّه خلق من الماء والطين مثل هذا الشكل الجذاب».

وبشكل عام فإن ظهور الحياة من موجود ميت مايزال من ألغاز عالَم الفكر والمعرفة، فضمن أيّ شروط وظروف يخرج موجود حي من موجود ميت كالتراب؟ يعتقد كل العلماء أنّ الكرة الأرضية حين انفصلت عن الشمس كانت كلها ناراً محترقة، ولم تكن عليها حياة مطلقاً، ثم بردت قليلًا قليلًا وهطلت عليها سيول الأمطار من الغازات المضغوطة الموجودة حولها، فتكونت البحار، بدون أن يكون فيها كائن حي، ثم ظهرت بوادر الحياة سواء النباتية أو الحيوانية وأخيراً خُلقَ الانسان!

إنّنا سواء اعتقدنا بالخلق المستقل للإنسان (كما هو ظاهر الآيات القرآنية)، أو اعتبرنا

__________________________________________________

(1) ورد في تفسير الميزان، ج 16، ص 173 إشارة مقتضبة لهذا المعنى

نفحات القرآن، ج 2، ص: 49

الإنسان متكاملًا من أنواع الأحياء الأخرى (كما يقول أتباع داروين، ونظرية التكامل)، فمهما كان فإن جذور هذا الإنسان تعود إلى التراب، فهو منبثق ومخلوق منه، وإذا كان ظهور كائن حي أُحادي الخلية ومجهري من التراب، محيّراً لأفكار كل العلماء، فكيف بظهور الإنسان من التراب الميت الخالي من الروح؟

هنا يجب الاعتراف أننا بأزاء آية كبيرة من آيات الحق وعلامة محيّرة من عظمة اللَّه، آية من العالم الصغير هي نموذج متكامل للعالم الكبير.

يقول كاتب «سر خلق الإنسان» «غرسي موريسن» في معرض إشارته إلى بداية ظهور الحياة على الكرة الأرضية:

«وقعت حادثة عجيبة في بداية ظهور الحياة على الكرة الأرضية كان لها أثر كبير على حياة الموجودات الأرضية، حيث أصبح لاحدى الخلايا خاصية عجيبة وهي أنّها وبواسطة

ضوء الشمس بدأت تحلِّل وتجزِّء بعض التراكيب الكيميائية وتوفر بهذا العمل المواد الغذائية لنفسها ولسائر الخلايا المشابهة، وقد تغذت الخلايا المنشطرة من احدى هذه الخلايا البدائية على الأغذية التي وفرتها لهم أمهم وأوجدت جيل الحيوانات، في حين أنّ خلية أخرى بقيت على شكلها النباتي وكونت نباتات العالم، وهي اليوم تغذي كل الأحياء الأرضية.

ثم يضيف: هل يمكن التصديق أنّه وحسب الصدفة كانت إحدى الخلايا منشأً لحياة الحيوانات وخلية أخرى كانت أصلًا ومصدراً للنباتات؟».

ووفق قول آخرين:

إنّ العلماء يقسمون موجودات عالم المادة إلى نوعين، العضوية (وهي الموجودات القابلة للفساد كأنواع النباتات وأجسام الحيوانات)، والموجودات اللاعضوية (المعدنية) التي لا تقبل الفساد، ولهذا يقسمون الكيمياء إلى قسمين «الكيمياء العضوية» و «اللاعضوية».

تشكل المواد العضوية جميع أطعمة الإنسان تقريباً، وهي مأخوذة كلها من التراب،

نفحات القرآن، ج 2، ص: 50

وحين تدخل جسم الإنسان تكوّن تراكيب كيميائية جديدة تناسب تغذية كل عضو من الأعضاء، وهذه نفس الحقيقة التي يبينها القرآن بعبارة: «إنّا خَلَقْنَاكُم مِّنْ تُراب» أو «مِنْ سُلالةٍ مِّنْ طِين» «1».

صحيح أنّ للإنسان علاوة على المادة الترابية روحاً إلهية، ولكن لا شك أنّ الروح تكون مظهراً للأعمال والأفعال المختلفة بالتنسيق مع الجسم و عليه فإنّ هذه المادة الترابية تستطيع بالتنسيق مع الروح أن تقدم أنواع القابليات والأذواق والابتكارات والأعمال التي يحار فيها العقل.

مع أنَّ الإنسان صار موضوعاً لعلوم مختلفة، وهنالك عالِم خاص حول كل جانب من جوانبه يمارس دراساته وأبحاثه، إلّاأنّ الإنسان ما يزال موجوداً مجهولًا، ويلزم من الوقت سنين طويلة لكي يحل العلماء بجهودهم المتواصلة هذا اللغز الكبير في عالم الوجود وينيروا زواياه، وربّما لم يستطيعوا أبداً أن يقوموا بذلك!

يمكن لكل عضو من أعضاء جسم الإنسان أن يكون لوحده موضوعاً لحساب الاحتمالات: العين،

الاذن، القلب، العروق، الجهاز التنفسي، الكلى المعدة، الكبد، وأخيراً الجهاز العصبي المعقّد، وبعملية رياضية بسيطة يتضح أن أي عقل لا يوافق على أنّها خُلقت صدفة.

نعم، إنّه من أجل التوصل إلى بنية ونوع فعالية وفسلجة كل واحد من الأعضاء فقد درس آلاف العلماء والعقول المفكرة وكتبت مئات أو آلاف الكتب حولها.

هل يصدق أحد أنّه من أجل معرفة كل واحد من هذه الأعضاء تلزم كل هذه العلوم والعقول والذكاء والدراية، بينما لا يلزم صنعها علماً وعقلًا على الاطلاق؟! كيف يمكن أن يكون فهم اسلوب عمل إحدى المعامل متطلباً لسنين من المطالعة، بينما تكون صناعة هذا المعمل قد حصلت على يد العوامل غير العاقلة؟ أي عقل يصدق هذا؟!

هنا لا يعتبر ظهور الإنسان من المادة البسيطة (التراب) ومن سلالة من طين ومن الحمأ

__________________________________________________

(1) مقتبس من إعجاز القرآن من وجهة نظر العلوم المعاصرة، ص 23 و 24.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 51

المسنون إحدى أعمال الخلق العظيمة والآيات الكبيرة على وجود اللَّه فحسب، بل إنّ كل واحدة من خلايا الجسم بامكانها أن تكون مرآة عاكسة لعظمة اللَّه ووجوده.

التعقيد والدقة في نظام الخلق:

يقولون: إنّ للجهاز الفلاني نظام معقد، هذا عندما يكون بناؤه متكوناً من أجزاء وتشكيلات مختلفة ذات ارتباطات متعددة ومتنوعة، ويقوم بأعمال متباينة مهمّة، فمثلًا الحاسبة الألكترونية التي تستطيع فضلًا عن أعمال الحساب الأصلية أن تحل أنواع المعادلات الجبرية والقضايا الهندسية وتؤدّي مختلف الحسابات الرياضية بسرعة أو تحفظها في حافظتها، تعتبر ذات نظام معقد.

يقول العلماء: إنّ خلف غشاء شبكية العين يُوجد تسعون ألف حزمة عصبية تربط بين خلايا الشبكية وسلسلة الأعصاب (بالطبع لكل عين من عيني الإنسان تسعون ألف حزمة) وهذا نظام عجيب ومعقد جدّاً، وبأخذ هذه النقطة بنظر الاعتبار نعود إلى أصل

البحث:

في عالم الخلقة وعلاوة على قضية الظرافة والدقّة، ثمّة أنظمة معقدة غاية التعقيد، تبهت الإنسان وتحيره، وحسب تعبير بعض العلماء فإنّ في مدينة جسم الإنسان العظيمة أبنية تكون أكبر ناطحات السحاب في العالم إلى جانبها مثل كوخ طيني.

وكنموذج: نأخذ بناء الخلية وهي من بين الأنظمة المعقدة في العالم، والذى اكتشفت اليوم أسرار عظيمة منه.

وكذلك فإنّ الإنسان وبشكل معدل في جسمه «عشرة ملايين مليار» وحدة حية صغيرة تسمى «الخلية».

كان أول من اكتشف الخلية ووضع لها تسمية، عالمٌ يدعى «هوك» في القرن السابع عشر الميلادي، وطبعاً فإنّه لم يكن يعلم يومذاك ما في بناء هذه الوحدة الصغيرة من تعقيد يبعث على الحيرة، ولكن العلماء الذين جاؤوا بعده واصلوا مساعيه وتوصلوا إلى أسرار نسرد فيما يلي جانباً من شهاداتهم:

نفحات القرآن، ج 2، ص: 52

1- يمكن تشبيه خلية مجهرية واحدة بمدينة فيها آلاف التأسيسات مجهزة بمنشآت ومعامل لتبديل المواد الغذائية إلى المواد التي يحتاجها الجسم، بحيث لا يمكن أن نقيس أعظم وأحدث الظواهر الصناعية للبشر بها.

2- تتكون هذه المدينة الصغيرة والصاخبة من ثلاثة أقسام:

أ) جدار الخلية وهو بمثابة سور المدينة.

ب) القسم الأوسط للخلية (السايتو بلازم).

ج) النواة أو مركز القيادة.

إنّ السور المصنوع حول الخلية من اللطافة والظرافة بحيث لو وضعنا 500 ألف من هذه الجدران إلى جانب بعضها فمن الصعب أن تساوي سمك ورقة اعتيادية! ومع هذا فهو حساس ومحكم قبال هجوم العوامل الخارجية إلى درجة أن سور الصين المعروف ليس شيئاً يذكر بالقياس إليه!

وهذا السد الرقيق مصنوع بدوره من ثلاثة جدران أو من ثلاث طبقات اصطلاحاً، يتشكل طرفاه من الأنسجة البروتينية وأسفله ملي ءٌ بالدهنيات وهذه الدهنيات لاتسمح لشي ء أبداً بالدخول داخل المدينة إلّابمفتاح رمزي، وهذا المفتاح الرمزي هو: أنّ

المواد التي تريد الدخول إلى المدينة يجب أن تتمكن من إذابة دهون الجدار فيها والنفوذ إلى الداخل، وهذا دليل يثبت أنّها صديقة وليست من الاعداء، وبهذا فإنّ هذه المدينة محروسة بشدة من كل جانب بدون حاجة إلى حارس.

3- يوجد في داخل هذه المدينة (الخلية) قنوات كثيرة تمتد من الجدران إلى أطراف «النواة»، أي حصن قيادة الخلية، تأخذ المواد الغذائية وتحيلها إلى بروتينات.

واللطيف أنّ 23 نوعاً خاصاً من الأحماض تدخل هذه الخلية، والبروتين يتكون من تركيب عدة أنواع منها.

4- النواة الأصلية بمفردِها تمثل ناطحة سحاب مكوّنة من آلاف الطبقات بحيث تكون ناطحات السحاب المعروفة في نيويورك منزلًا متواضعاً إلى جانبها.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 53

للنواة الأصلية في الخلية وهي مقر القيادة تشكيلات معقدة: غشاء النواة، العصارة الداخلية، والحزمات الرفيعة حولها التي تتولى كل منها مهمّة خاصة.

5- العجيب أنّ في نواة الخلية وحدات صغيرة جدّاً وظريفة تسمى «الجينات» يصل عددها طبقاً لدراسات العلماء إلى حدود 25 ألف جين.

ليست «الجينات» هي الكل في الكل في أعمال الخلايا وحسب، بل إنّها تمسك بكل نشاطات الجسم، ومن أهمها التحكم بالأُمور الوراثية ونقل الصفات والخصائص إلى الخلايا اللاحقة، أي أنّ انتقال كل الصفات الوراثية عند البشر وسائر الحيوانات يتمّ عن طريق الجينات.

ولأنّ العمل الأساسي للجين يقع على عاتق الحامض الخاص في النواة، لذا يمكن تسميته بالعقل الألكتروني أو كامبيوتر الجين.

والأعجب من هذا، أنّ نفس هذه الجينات متكونة من أجزاء أخرى تصل طبقاتها من 30 إلى 50 ألف حسب ما يعتقد العلماء.

ومختصر الكلام أنّ هذه المدينة العظيمة بذلك السور العجيب وآلاف المنافذ والبوابات، وآلاف المعامل والمخازن وشبكة الأنابيب ومركز القيادة بتأسيساته الكثيرة وارتباطاته المتعددة والنشاطات الحياتية المتنوعة في تلك الحدود الصغيرة، من

أعقد وأدهش مدن العالم، إذ إنّنا لو أردنا أن نصنع مؤسسات تقوم بنفس الأعمال (ولا نستطيع ذلك أبداً)، وجب علينا اقتطاع عشرات الآلاف من الهكتارات من الأرض لوضعها تحت اختيار هذه المؤسسات والأبنية المختلفة والأجهزة المعقدة لتكون جاهزة لمثل هذا البرنامج، لكن المدهش أنّ نظام الخلق قد ضغط كل هذا في مساحة تعادل 15 مليون مليمتر! «1».

أجل، في خلقة الإنسان آلاف آلاف من الآيات والعلامات الإلهيّة: «الْعَظَمَةُ لِلَّهِ الواحِدِ القَهَّارِ».

__________________________________________________

(1) من كتب فسلجة الحيوان، فسلجة الوراثة، والسفر إلى أعماق وجود الإنسان.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 55

2- آياته في نمو الجنين

تمهيد:

ظلت تحولات نمو الجنين في بطن أمه ولسنين طويلة خافية عن أعين العلماء، إلى أن رفعت يد العلم النقاب عن هذا العالم المملوء بالأسرار، وأظهرت أنّ النطفة عندما تستقر في محلها من الرحم وتبدأ سيرها التكاملي، ماذا تطوي من المراحل المختلفة والمتنوعة حتى تصبح على هيئة إنسان كامل، والعجيب أن القرآن الكريم أكد عدة مرات على قضية نمو الجنين في آياته المختلفة وفي ذلك العصر والزمان الذى لم تكن فيه علوم ولا اكتشافات، تارةً لإثبات التوحيد وتارة لإثبات المعاد.

مع إنّ «علم الأجنة» ما زال في مراحله الأولى، ومعلوماتنا عن هذا العالم الغامض ما تزال قليلة جدّاً، ولكن حتى هذا المقدار الذي كشف العلم البشري النقاب عنه، قد وضع دنيا من العجائب والغرائب مقابل أعين العلماء.

بهذه الإشارة نتأمل خاشعين في الآيات الكريمة التالية:

1- «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِّنْ طِيْنٍ* ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِى قَرارٍ مَّكِيْنٍ* ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِيْنَ». (المؤمنون/ 12- 14)

2- «الَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّنْ مَّنِىٍّ يُمَنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً

فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الَذَّكَرَ وَالأُنْثَى . (القيامة/ 37- 39)

3- «أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُّطْفَةٍ فَاذا هُوَ خَصِيْمٌ مُّبْينٌ». (يس/ 77)

نفحات القرآن، ج 2، ص: 56

4- «قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِى خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا». (الكهف/ 37)

5- «هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ مِّنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَّنْ يُتَوّفىَ مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أجلًا مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُوْنَ» «1». (غافر/ 67)

شرح المفردات:

«العلقة»: من مادة (عَلَق) (على وزن شفق) وهي في الأصل بمعنى العلاقة والإرتباط بشى ء، ولهذا جاءت كلمة «عَلَق» بمعنى «الدم المتخثر» و «الديدان المصاصة للدماء»، وقد سميت «العلقة» بهذا الاسم لأنّها احدى مراحل تكوين الجنين في رحم الأم، فهي تشبه قطعة الدم المتخثرة «2».

جاء في «مقاييس اللغة» أنّ أصل مفهوم هذه المفردة هو ارتباط وتعلق شي ء بموجود أعلى منه ثم اتسع مفهومها بعد ذلك «3».

«المضغة»: من مادة (مَضْغ) بمعنى مضغ الطعام وبمعنى قطعة اللحم التي يمضغها الإنسان لمرة واحدة شرط أن تكون غير مطبوخة، وإطلاق هذا المصطلح على إحدى مراحل الجنين التي تأتي بعد مرحلة «العلقة» جاء من باب تشابهها مع مثل هذا اللحم، ففي ذلك الحين يصبح الجنين على شكل قطعة حمراء فيها الكثير من العروق ذات اللون الأخضر، ويقال أحياناً «قلب الإنسان مضغة من جسده»، كل هذه التعابير تعود إلى أصل واحد «4».

__________________________________________________

(1) توجد على هذا الصعيد آيات اخرى في القرآن الكريم نكتفي بذكر رقمها وسورتها لتقارب معناها من الآيات المذكورة أعلاه، فاطر، 11؛ والحج، 5.

(2) مفردات الراغب.

(3) وفي كتب اللغة الأخرى تعابير تشبه هذا التعبير كما في

لسان العرب ومجمع البحرين.

(4) مقاييس اللغة؛ مفردات الراغب؛ مجمع البحرين؛ لسان العرب وصحاح اللغة.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 57

«المنيّ»: في الأصل من مادة (مَني) (على وزن سَعي) بمعنى التقدير والقياس، وبما أنّ في ماء النطفة مقياس إنسان أو حيوانٍ ما، فقد اطلقت هذه المفردة عليه، ولهذا أيضاً يسمى الموت ب «المنيّة» فهي الأجل المقدر للإنسان أو الحيوان.

وإطلاق مفردة «التمنّي» على الآمال جاء بسبب أنّ الإنسان يُصوِّر ويُحدِّد آماله في قلبه، ولأنّ الكثير من الآمال لا تطابق الواقع تأتي مفردة «الأمنية» أحياناً بمعنى الكذب «1».

جمع الآيات وتفسيرها

عالم الجنين الغامض:

كما اشرنا سابقاً فإنّ القرآن الكريم أكد مراراً على مسألة المراحل التكاملية لنمو الجنين في رحم الأم، ودعا الناس كافة إلى مطالعتها بدقة، واعتبرها إحدى الطرق للوصول إلى معرفة اللَّه، وكذلك إحدىَ طرق إثبات إمكانية المعاد.

إنّ الآيات الأولى المعنية بالبحث وبقرينة العبارة الأخيرة منها: «فَتَبَارَكَ اللَّهُ أحْسَنُ الْخَالِقْينَ» تشير إلى قضية التوحيد، وبالرغم من أنّ الآيات اللاحقة من نفس سورة «المؤمنون» هذه تدلّ على أنّها تشير إلى قضية المعاد أيضاً وبهذا تكون هذه الآيات قد تعرضت إلى مسألة معرفة اللَّه وتوحيده بالاضافة إلى معاد.

وقد تحدثت في البداية عن خلق الإنسان من «سُلالَةٍ مِّنْ طِيْنٍ» ثم من «نُطْفَةٍ فِى قَرارٍ مَكِيْنٍ»، وبعد ذكر هاتين المرحلتين تنتقل إلى ذكر خمس مراحل أخرى

1- مرحلة «العلقة» حيث تتبدل النطفة إلى دم متخثر في داخله الكثير من العروق.

2- مرحلة «المضغة» حيث يصبح هذا الدم المتخثر على شكل قطعة من اللحم.

3- مرحلة «العظام» حيث تتبدل كل الخلايا اللحمية إلى خلايا عظمية.

4- يأتي دور مرحلة تغطية العظام باللحم حيث تغطي العضلات كل العظام: «كَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً».

__________________________________________________

(1) مفردات الراغب، مجمع البحرين، ولسان العرب.

نفحات القرآن،

ج 2، ص: 58

5- هنا تتغير لهجة القرآن وتخبرنا عن تحول وخلق مهم وجديد للجنين، فيقول بتعبير فيه أسرار وخفايا: «ثُمَّ أَنْشَأنَاهُ خَلْقاً آخَرَ».

وعندما تنتهي هذه المراحل السبع يصف القرآن هذه الخلقة العجيبة أجمل وصف بعبارة: «فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الخَالِقْينَ»، وهي عبارة لم تأتِ في أي آية أخرى من القرآن ولم تستخدم في مجال أي موجود آخر.

ذكر المفسرون تفاسير متنوعة في المراد من العبارة الغامضة: «الخلق الآخر».

ويبدو أن أنسبها وأقربها إلى القصد هو بلوغ الجنين مرحلة الحياة الإنسانية، حيث يظهر فيه الحس ويبدأ بالحركة، ويضع قدماً في عالم الحيوانات والبشر، يعبر القرآن عن هذه الطفرة الكبيرة والعجيبة بكلمة «الإنشاء» في إشارة إلى الطريق الطويل الذي يقطعه الإنسان خلال هذه المدة القصيرة.

نقرأ في حديث عن الإمام الباقر عليه السلام في تفسير عبارة: «ثُمَّ أَنْشَأناهُ خَلْقاً آخَرَ» قوله: «هو نفخ الروح فيه» «1».

صحيح أنّ الجنين كائن حي مند لحظاته الأولى ولكنه وحتى فترة معينة لا يمتلك أي إحساس وحركة في بطن الأم، ويكون في الحقيقة أشبه بالنبات منه بالحيوان أو الإنسان، ولكن بعد مضي عدّة أشهر تُبعثُ فيه الروح الإنسانية، ومن هنا جاء في الروايات الإسلامية أنّ الجنين لا يستحق قبل بلوغه هذه المرحلة الدية الكاملة أبداً، أمّا إذا بلغ هذه المرحلة كانت ديته نفس الدية الكاملة للإنسان «2».

التعبير ب «أَحسن الخالقين» بالرغم من أنّه لا خالق غير اللَّه إنّما هو لأجل أنّ مفردة «الخلق» ليست فقط بمعنى الإيجاد بعد العدم فحسب، بل لها معان أخرى منها: «التقدير» و «الصناعة» و «إعطاء الأشكال الجديدة للأشياء الموجودة في العالم»، ولا شك أنّ الإنسان يستطيع بما منحه اللَّه من قوى أن يوجد تغييرات كثيرة على مواد هذا العالم

__________________________________________________

(1)

تفسير نور الثقلين، ج 3، ص 541، ح 56 و 57.

(2) المصدر السابق، ج 2، ص 541، ح 56 و 57.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 59

المختلفة، فيصنع من الحديد والفولاذ المصانع والمعامل أو يبني من المواد الإنشائية بناءً عظيماً بأحجام مختلفة.

إذن فللخلق مفهوم واسع يشمل كل هذه الأمور.

ولهذا وَرَد في القرآن الكريم عن لسان النبي عيسى عليه السلام قوله: «إِنِّى أخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ الطِّيْنِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيْهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ». (آل عمران/ 49)

وبالطبع فإنّ الخالق الحقيقي أي ذلك الذي يوجد المادة والصورة وإليه تعود كل قدرات وخواص الأشياء هو اللَّه فقط، ومهمّة غيره من الخالقين وهم الخالقون المجازيون، هي تغيير الأشكال وتصميم المواد.

تشير الآية الثانية من الآيات المنظورة إلى مرحلة بداية ظهور الإنسان أولًا، أي عندما كان قطرة ماء حقير اسمه المني، ثم تذكر مرحلة العلقة فقط من بين مراحل نمو الجنين ولا تذكر المراحل الأخرى إلّاتحت عنوان: «فَخَلَقَ فَسَوّى وهو تعبير شامل جدّاً، وتشدِّد خاصة على قضية ولادة الجنس «المذكر» و «المؤنث» وهي من أعقد المظاهر المتعلقة بعلم الأجنة: «فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ والْأُنْثى .

«سوَّى»: من مادة (تسوية) بمعنى التنظيم والتسوية، ويعتقد البعض أنّها إشارة إلى خلق الروح الذي جاء في الآية السابقة بشكل آخر.

ويرى البعض أنَّ كلمة «الخلق» إشارة إلى خلق الروح، وكلمة «سوّى إشارة إلى تنظيم وتعديل أعضاء الجسم الإنساني، وفسّرها البعض بالتعديل والتكميل.

لكن الظاهر أنّ تعبيرات الآية شاملة وواسعة بحيث تستوعب كل ألوان الخلق والتنظيم والتعديل والتكامل التي تطرأ على العلقة حتى ساعة وضع الحمل «1».

يقول الراغب في كتاب المفردات: تقال «التسوية» لصيانة الشي ء من الأفراط والتفريط من حيث المقدار والنوعية.

__________________________________________________

(1) تفاسير القرطبي، روح المعاني، في

ظلال القرآن، الميزان و الكبير، في التعقيب على الآية المعنية.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 60

في الآية الثالثة يؤكد على نقطة جديدة أخرى ويقول بعد الإشارة إلى خلق الإنسان من النطفة «خصيم مُبين».

وقد وردت تفاسير متعددة لهذا التعبير: فقالوا تارة إنّها إشارة إلى مرحلتي «الضعف» و «القوة» لدى الإنسان، حيث كان يوماً ما نطفة حقيرة ويصبح لاحقاً قوياً ومقتدراً إلى درجة قيامه بالخصومة والضجيج ازاء كل شخص حتى ازاء اللَّه!.

وقالوا تارة إنّها إشارة إلى ملكة النطق والفهم والشعور لدى الإنسان، فهذه النطفة الحقيرة يصل بها الأمر إلى عدم الاقتصار على النطق فقط، بل إلى التمتع بالقدرة على الاستدلال المنطقي بانواعه والاقتدار العقلي، ونحن نعلم أنّ ظاهرة النطق والبيان والمنطق والاستدلال من أهم ظواهر الوجود الإنساني.

وقيل أحياناً: إنّ هذا التعبير إشارة إلى النزاع العجيب الذي يحصل بين الخلايا الذكرية (الحيامن) من أجل التسلط والاتحاد بالخلية الانثوية (البيضة)، لأنّ نطفة الذكر عندما تدخل الرحم تتحرك آلاف الحيامن بسرعة كبيرة لتصل إلى نطفة الأنثى وتتحد معها.

وأول حيمن يصل إليها وينفذ إلى داخلها يسد الطريق على بقية الحيامن، لأنّ غشاءً مقاوماً سيحيط بالبيضة ويمنع من نفوذ بقية الحيامن إليها، وبهذا فإنّ البقية سيهزمون في هذا الصراع العجيب ويمتصهم الدم، ولهذا يشير القرآن الكريم بعد ذكر مرحلة النطفة إلى قضية «خصيم مُبين» «1»

.

في الآية الرابعة أيضا يرد ذكر الخلقة من التراب ثم النطفة وبعد ذلك مرحلة التسوية والتنظيم، وفي الآية الخامسة وهي آخر الآيات يضيف القرآن إلى كل هذا مرحلة «الولادة» وخروج الجنين من بطن الأم على شكل طفل وليد: «ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا».

وكما نعرف فإنّ أهم عجائب الجنين هي نهاية عمره، بالولادة، أية عوامل تؤدّي إلى

__________________________________________________

(1) إعجاز قرآن از

نظر علوم روز، ص 27 (بالفارسية).

نفحات القرآن، ج 2، ص: 61

إصدار الأوامر للجنين بالخروج في لحظة معينة! وتقلبه عن شكله العادي (في الحالة العادية يكون رأس الجنين إلى الأعلى ووجهه إلى ظهر الأم) فترسل رأسه إلى الأسفل لتسهيل عملية ولادته؟!.

في البداية يُخرق كيس الماء الذي كان الجنين يسبح فيه، وتخرج المياه ويستعد الجنين لدخول الدنيا لوحده.

يصيب الأم ألم شديد، تضغط كل عضلات بطنها وظهرها وجانبيها على الجنين، وتدفعه إلى الخارج.

إنّ التفاعلات الكيميائية والتغييرات الفيزيائية التي تحصل للجسم أثناء الولادة على درجة من الغرابة والعجب بحيث تحكي جميعها عن علم وقدرة غير متناهيين أوجدا هذه البرامج لمثل هذا الهدف المهم.

وبهذا نستنتج بوضوح من الآيات المذكورة أنّ النظام المعقد والمذهل لنمو الجنين يُعَدُّ من الآيات والعلامات المهمّة التي تخبر عن وجود العلم والقدرة اللامتناهية لموجده، ومن جانب آخر على قدرته على قضية المعاد والحياة بعد الموت، ذلك أنّ الجنين يتخذ كل حين حياةً ومعاداً جديداً، ولذلك كان هذا النمو دليلًا على التوحيد بقدر ما هو دليل على المعاد.

توضيحات
1- صورة في الماء

هنالك مثل رائج ومشهور عندما يراد التذكير بعدم ثبات شي ء معين فيقولون: «إنّه كالصورة في الماء» لأنّها تتبعثر بأقل حركة أو نسيم، لكن العجيب أنّ اللَّه الكبير يجعل كل الصور المختلفة للإنسان وللكثير من الأحياء الأُخرى صوراً في الماء ويودع كل هذه الصور في قطرة من ماء النطفة، من يرسم الصور في الماء سوى اللَّه الكبير؟

نفحات القرآن، ج 2، ص: 62

2- في ظلمات ثلاث

والأغرب من ذلك حسب قول القرآن، هو أنّ هذه الخِلَقِ التي يوجدها اللَّه واحدة تلو الأخرى في ماء النطفة ليخرجها خلال فترة قصيرة على هيئة إنسان كامل يقوم بها عز وجل جميعاً في محل مظلم لا تصل إليه يَدُ أحد، كما يقول القرآن: «يَخْلُقُكُمْ فِى بُطُوْنِ امَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِّن بَعْدِ خَلْقٍ فِى ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُم لَهُ الْمُلْكُ لَآإِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُوْنَ». (الزمر/ 6)

إنّ الظلمات الثلاث كما يرى الكثير من المفسرين وكما أشارت بعض الروايات هي:

ظلمة بطن الأم، ثم ظلمة الرحم، وبعد ذلك ظلمة «المشيمة» (الكيس الخاص الذى يحتوي الجنين) التي تكون على شكل ثلاث ستائر سميكة حول الجنين «1».

يحتاج الرسامون والنحاتون المهرة أن ينفذوا صورهم أمام النور والضياء الكامل، لكن ذلك الخالق الكبير يرسم صورة على الماء في ذلك المنزل المظلم بحيث يفتن ويبهر الجميع ويجذبهم للمشاهدة.

3- مقر الأمن والامان

3- مقر الأمن والامان

يقول القرآن بصراحة: إننا جعلنا نطفة الإنسان في مقر الأمن والأمان: «ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِى قَرارٍ مَكْينٍ». (المؤمنون/ 13)

والحقيقة إنّ أكثر نقاط الجسم صوناً هي تلك التي تستقر فيها النطفة والجنين بحيث تكون محمية من كل جانب، فمن ناحية هنالك العمود الفقري والأضلاع، ومن ناحية أخرى هنالك العظم القوي المسمى بالحوض، ومن ناحية ثالثة الأغطية والعضلات المتعددة التي تحتويها البطن، بالإضافة إلى أن أيدي الأم تتحول بشكل لا شعوري أثناء وقوع بعض الحوادث الخطيرة إلى درع مقابل البطن!

__________________________________________________

(1) تفسير مجمع البيان؛ تفسير الميزان؛ التفسير الكبير وتفاسير أخرى (روى المرحوم الطبرسي في مجمع البيان نفس هذا المعنى ضمن حديث عن الإمام الباقر عليه السلام).

نفحات القرآن، ج 2، ص: 63

والأغرب من كل هذا أنّ الجنين يقع في داخل كيس مملوء بماء لزج

بحيث يكون معلقاً في داخل ذلك الكيس وفي حالة تامة من فقدان الوزن، أي لا يواجِهُ أي ضغط من أي جانب، ذلك أنّ بنية الجنين وخاصة في بداياته تكون رقيقة جدّاً بحيث يمكن لأقلّ ضغط عليه أن يسحقه.

ولهذا الكيس بما يحتويه من ماء خاصية القابلية على مواجهة الضربات، وهو تماماً كاللوالب المرنة التي توضع لأفضل السيارات، حيث بامكانها امتصاص وابطال مفعول أية ضربة توجه إليه نتيجة الحركات السريعة للأم.

والألطف أنّه يحفظ درجة الحرارة بالنسبة للجنين ضمن الحدود المعتدلة، ولا يسمح للحرارة والبرودة المفاجئة التي تهاجم بطن الأم من الخارج أن تترك آثارها بسهولة على الجنين!

فهل يمكن العثور على مقر أكثر أماناً من هذا؟ وما أجمل تعبير القرآن حين يسمي مقر النطفة ب «القَرار المكين»؟!

4- خصيمٌ مبين

هذه أيضاً إحدى عجائب الجنين، سواء فسرناها بمعنى قدرة الإنسان على الكلام والاستدلال والاحتجاج، كما قال بعض المفسرين، أو فسرناها كونها المسابقة والنزاع الذي يحصل بين الحيامن أثناء الحركة باتجاه البويضة (نطفة الأنثى في رحم الأم، والذي ينتهي بنجاح أحد الحيامن في اتحاده بالبويضة، أمّا بقية الذين انهزموا في هذه الخصومة فانّهم يفنون ويجذبهم الدم، أو اعتبرناها إشارة إلى كلا التفسيرين.

وعلى كل حال، فهذه من النقاط الظريفة والبديعة للجنين، إذ يظهر من موجود منحط وحقير ظاهرياً إِلى ظاهرة سامية وقيّمة جدّاً.

5- تغذية الجنين

تغذية الجنين بدورها إحدى العجائب، لأنّ النمو والرشد السريع للجنين يستلزم مواداً

نفحات القرآن، ج 2، ص: 64

غذائية كاملة ونظيفة ومصفّاة من ناحية، ومن ناحية أخرى يحتاج إلى الأُوكسجين والماء بالمقدار الكافي الذي يجب أن يصل الجنين بشكل مستمر، وقد جعل اللَّه هذه المهمّة على عاتق جهاز اسمه «الحبل السري» الذي خلقه منذ اللحظات الأولى إلى جانب الجنين، والذي يرتبط من أحد طرفيه بقلب الأم عن طريق شريانين ووريد واحد، ومن طرفه الآخر بالجنين عن طريق عقدة السُرّة.

يمتص هذا الجهاز كل المواد الغذائية والماء والاوكسجين اللازم بواسطة نظام الدورة الدموية للأم، ثم ينقل هذه المواد بعد تصفيتها ثانيةً إلى الجنين، ثم يقوم باستقطاب الفضلات والزوائد والكاربونات وما شاكل ويعيدها إلى دم الأم.

إذن فالحبل السري يلعب دور الجذب والدفع بالإضافة إلى كونه مصفىً بحيث يستطيع الإنسان من خلال مجرّد مطالعته للبناء المذهل لهذا الحبل السري أن يصل إلى عظمة الخالق.

اللطيف أنّه ورد حديث عن أحد المعصومين عليهم السلام يقول فيه ما معناه: إنّ الجنين يستفيد من النسيم الذي تستنشقه الأم!

لم تمض سوى سنوات على اكتشاف العلماء بأنّ رئتي الجنين لا تقومان بنشاطهما التنفسي وأنّه يسبح في

ماء الرحم وأنّه بحاجة إلى الأُوكسجين؟ ولم تمض سوى سنوات على معرفتهم أنّ الاوكسيجين الذي تستنشقه الأُم يدخل إلى دمها وينتقل إلى الحبل السري فينتفع منه الجنين عن طريق سُرّته؟

على أيّة حال، لم يمض زمن طويل على ذلك لكن العين البصيرة للإمام عليه السلام رأت هذه الحقيقة منذ مئات السنين فقال: إنّ الجنين يستفيد من هذا النسيم، هل هناك تعبير مقابل الهواء الملوّث الذي نتنفسه أفضل من كلمة النسيم الذي استخدمه الإمام للاشارة إلى الأُوكسيجين؟ «1»

__________________________________________________

(1) إقتبس من كتاب اولين دانشكاه، ج 1، ص 253 (بالفارسية).

نفحات القرآن، ج 2، ص: 65

6- مصير الجنين من حيث الجنس

لم يتمكن أحد من الإجابة عن السؤال القائل: كيف وبتأثير أيّة عوامل يصير الجنين ذكراً أو أُنثى أي أنّ العلم لم يعثر لحد الآن على جواب له، فمن الجائز أن تكون بعض المواد الغذائية أو الأدوية مؤثرة في هذا المجال، لكن المسلم بهِ هو أن تأثيرها ليس مصيرياً وجازماً.

ومع هذا فالعجيب مشاهدة تعادل نسبي دائم بين هذين الجنسين (الرجل والمرأة) في المجتمعات البشرية، وإن كان ثمّة اختلاف فانّه ليس بالاختلاف الملفت للنظر.

تصوروا يوماً يختلُّ فيه هذا التعادل فتكون نسبة الرجال إلى النساء عشرة إلى واحد مثلًا، أو على العكس يكون عدد النساء عشرة أضعاف الرجال، أيّة مفاسد عظيمة سوف تظهر؟ وكيف سيضطرب نظام المجتمعات البشرية؟ وهل أنّ المجتمع الذي يكون فيه مقابل كل رجل عشر نساء أو مقابل كل إمرأة عشرة رجال يستطيع أن يوفر لنفسه حياة هادئة؟

لكن الذي خلق الإنسان لحياة سالمة، أَوجد هذا التوازن العجيب والغامض فيها، أجل إنّ اللَّه تعالى ووفقاً لمشيئته وحكمته يهب لمن يشاء ذكوراً ويهب لمن يشاء إناثاً: «يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَآءُ الذُّكُورَ». (الشورى

49)

لكن هذه المشيئة والإرادة محسوبة.

7- تغيّرات سريعة ومبهمة

من العجائب الأُخرى في الجنين، أنّ النطفة الأصلية للإنسان تكون في بدايتها مجرّد موجود أُحادي الخلية، ينمو ويكثر بواسطة الانشطار على شكل متوالية هندسية، تحدث هذه الكثرة وهذه التحولات بصورة سريعة جدّاً وكما قال القرآن: «خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ» ولو استمر هذا النمو على هذه السرعة بعد الولادة لكانت للإنسان خلال مدّة قصيرة قامة بطول الجبال! ولضاق به وجه الأرض، ولكن نفس الذي منح الجنين السرعة في سيرهِ التكاملي سوف يخفف منها عند وصول الإنسان إلى مرحلة معينة ثم يوقفها بالتدريج!

نفحات القرآن، ج 2، ص: 66

8- نظرة الرحم المستقبلية!!

ما هي العوامل التي تجعل من الخلايا الناتجة عن خلية واحدة تأخذ أنواعاً متباينة:

خلايا غضروفية، عظمية، عضلية، جلدية، وغيرها؟ هل هو الرحم الذي قدّر مستقبل هذا الموجود فمنح الخلايا أشكالها كلّاً في محلها؟ إن كان له مثل هذا الذهن والقدرة والابداع فمن وهبه هذا الذهن والقدرة والإبداع؟!

يقول العالم المعروف «الكسيس كارايل» في كتاب «الإنسان ذلك المجهول»: «كأنَّ كل جزء من الجسم على معرفة بالاحتياجات الحالية والمستقبلية لكل الجسم، وهو يغير نفسه وفقاً لهذه الإحتياجات، للزمان والمكان مفاهيم أخرى عند الأنسجة، لأنّها (الأنسجة) تدرك جيداً البعيد كإدراكها للقريب والمستقبل كإدراكها للحال، فمثلًا تصبح الأنسجة اللينة للأعضاء الجنسية للمرأة في نهاية فترة الحمل ألين وأكثر قدرة على الاتساع، وهذا التغيّر يُسهّل عبور الجنين في الأيام اللاحقة عند الولادة، وفي نفس الوقت تزداد خلايا الثدي ويكبر هذا العضو بل إنّه يمارس نشاطه وينتج اللبن استعداداً لتغذية الوليد حتى قبل الولادة..

إنّ وضع وسلوك العضلات على طول فترة نمو الجنين في رحم الام، يكون وكأنّها تعلم المستقبل مسبقاً، فيُراعى انسجام الأعضاء في لحظتين زمنيتين متفاوتتين أو في نقطتين مكانيتين مختلفتين» «1».

مهما سمينا هذا الموضوع

فانّه لن يتغير، لكنه على أيّة حال يخبر بوضوح عن وجود مبدأ كبير للعلم والقدرة فيما وراءَه.

9- كساء للعظام

قرأنا في تفسير الآية 14 من سورة المؤمنون أنّ للقرآن تعبيراً خاصاً عن قضية ظهور العضلات يقول فيه: «فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً»، إنّ اختيار كلمة: «كَسَوْنَا» إحدى معجزات القرآن العلمية، فقد ثبت اليوم أنّ العظام تظهر قبل الأنسجة اللحمية «2».

__________________________________________________

(1) الإنسان ذلك المجهول، ص 190.

(2) إعجاز القرآن من وجهة نظر العلوم المعاصرة، ص 29.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 67

10- خروج الجنين

كما قرأنا في تفسير الآية 5 من سورة الحج، فإنّ اللَّه ينسب إخراج الجنين من الرحم إلى نفسه: «ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا» إنّ هذا التعبير يكشف عن أهميّة عملية الولادة التي توصل إليها العلماء في عصرنا الحاضر.

ما هو العامل الذي ينظم زمان الولادة؟ وما هي الظروف اللازمة لإصدار الأوامر للجنين بالخروج؟ وكيف تُعَدُّ جميعُ أعضاء الجسم لهذا التحوّل المهم؟ وضمن أيّة عوامل ينقلب جسم الجنين تدريجياً ليخرج رأسهُ إلى الدنيا أولًا؟ هل تراه يعلم أنّ ولادته ابتداءً برجليه غير ممكنة أو أنّها مستعصية جدّاً؟ مَن يصدر الأوامر لكل عضلات جسم الأم بتسليط أشد الضغوط على الجنين من أجل الخروج؟

وتظهر أهميّة هذا الموضوع عندما يختل هذا النظام نادراً ويضطر الأطباء إلى عملية «فتح البطن» «الولادة القيصرية»، وربّما كان وجود مثل هؤلاء الأشخاص القلة، إنذاراً للجميع لكي يفكروا بأهميّة هذا الموضوع.

بالطبع يمكن في بعض الحالات التنبؤ بزمان الولادة على وجه التقريب، ولكن في بعض الحالات تحصل الولادة قبل الموعد وأحياناً بعده.

وهكذا فإنّ عملية الولادة بكل ما يتعلق بها من أمور محسوبة، إنّ هي إلّاآية أخرى من آياته تبارك وتعالى.

11- التغيّرات المذهلة في لحظة الولادة

ذكرنا أنّ أحداً لا يستطيع تعيين لحظة الولادة بصورة دقيقة، وما يتنبأ به الأطباء عموماً أو خصوصاً لإخبار الناس فإنّه ذو طابع تخميني فقط، كما تقول الآية:

«اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيْضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَى ءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ» «1»

. (الرعد/ 8)

__________________________________________________

(1) «تغيض» من مادة «غيض» على وزن فيض بمعنى امتصاص السائل أو احتوائه، ثم جاءت بمعنى النقصان وكذلك بمعنى الفساد، ولهذا فسر البعض كلمة تغيض في الآية أعلاه بمعنى نقصان الجنين والبعض بمعنى الولادة قبل الموعد وهو المعنى المشهور بين المفسرين، وهو المروي في

حديث عن الإمام الباقر أو الإمام الصادق عليهما السلام، كما أنّ ذيل الآية يدل على ذلك.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 68

ظاهر الآية أنّ هذا من العلوم الإلهيّة الخاصة، وهو العلم بخصائص الجنين من كل الجوانب قبل ولادته، فهو عزوجل لا يعلم بالجنين من حيث جنسه فقط وإنّما يعلم بكل قابلياته وأذواقه وصفاته الظاهرة والباطنة، كما أنّ لحظة ولادته لا يعلمها إلّااللَّه، ومن أجل أن لا نتصور أنّ الزيادة والنقصان تأتيان بدون حساب أو مبرر، بل إنّ ساعتها وثانيتها ولحظتها محسوبة جميعاً، فقد أضاف قائلًا: «وكُلُّ شَى ءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ».

المثير هو ظهور تغيرّات عجيبة على نظام حياة الوليد في لحظة ولادته وهي تغيرات ضرورية جدّاً لتكييفه مع المحيط الجديد، وسوف نشير إلى اثنتين منها فقط:

أ) تغيّر نظام دوران الدم، فعملية دوران الدم في الجنين دوران بسيط، لأنّه لا يتحرك الدم الملوّث نحو الرئتين من أجل التصفية، إذ لا تنفس هناك، ولهذا كان إثنان من أجزاء قلبه (البطين الأيمن والأيسر) الذي يتحمل أحدهما مسؤولية إيصال الدم إلى الأعضاء والثاني يتحمل مسؤولية إيصال الدم إلى الرئتين للتصفية، على اتصال مع بعضهما، ولكن بمجرّد أن يولد الجنين تُغلق البوابة بينهما وينقسم الدم إلى قسمين، قسم يُرسل إلى كل خلايا الجسم لتغذيتها والقسم الآخر إلى الرئتين لتصفيته.

أجل، ما دام الجنين في بطن الأُم فإنّه يحصل على ما يحتاج من الأوكسجين من دم الام، لكن عليه أن يكتفي ذاتياً بعد الولادة ويحصل على الاوكسجين بواسطة الرئة والتنفس، الرئة التي كانت قد خِلُقتْ وأُعدّت مسبقاً بشكل تام في رحم الأم، سوف تمارس عملها فجأة بأمر إلهي واحد، وهذا من العجائب حقاً.

ب) إنسداد عقدة السُرّة وجفافها وسقوطها (عادةً ما يقطعون عقدة السرة التي تعتبر

طريق تغذية الجنين بواسطة الحبل السري من دم الأم، ولكن حتى لو لم يقطعوها فإنّها تتيبس وتسقط تدريجياً).

نفحات القرآن، ج 2، ص: 69

أي كما أنّ طريق الحصول على الاوكسجين يتغير عند الولادة، فإنّ طريق التغذية يتغير أيضاً وبشكل مفاجي ء، ويبدأ الفم والمعدة والأمعاء التي اكتملت في الفترة الجنينية ولكنها لم تكن تعمل، فتبدأ بالعمل فجأة، وهذه واحدة أخرى من العجائب المهمّة في خلقة الإنسان.

12- بكاء الأطفال

غالباً ما يكثر الأطفال الرضّع من البكاء، من الممكن أن يكون هذا البكاء دلالة على آلامهم، فهم لا يمتلكون لساناً غير لسان البكاء للافصاح عن الألم، أو أنّه بسبب الجوع والعطش، أو بسبب الانزعاج إزاء ظروف الحياة الجديدة سواء كانت حراً أو برداً أو ضوءً شديداً أو ما شابه، لكن من الممكن أن يبكي الأطفال بدون هذه الظروف أيضاً، وهذا البكاء رمز حياتهم وبقائها.

فهم في ذلك الحين بحاجة شديدة إلى الرياضة والحركة والحال أن ليس بامكانهم الرياضة، الرياضة الوحيدة القادرة على تحريك كل وجودهم بما فيه الأيدي والأرجل والقفص الصدري والبطن وإدارة الدم بسرعة في كل العروق لتغذية كافة الخلايا بصورة متواصلة، هي «رياضة البكاء» التي تعتبر بالنسبة للطفل رياضة كاملة، ومن هنا إذا لم يبكِ الوليد فيُحتمل أن يتعرض لأضرار جمّة أو تتعرض حياته كلها إلى الخطر.

وفضلًا عن هذا فإنّ هنالك رطوبة عالية في مخ الأطفال إذا بقيت هناك يمكن أن تؤدّي إلى أمراض وأوجاع شديدة، أو تسبب العمى والبكاء يعمل على خروج الرطوبة الزائدة من أعينهم على شكل دموع، فيضمن ذلك صحتهم.

يقول الإمام الصادق عليه السلام في حديثه المعروف ب «توحيد المفضل» بعد الإشارة إلى هذا الأمر: «أفليس قد جاز أن يكون الطفل ينتفع بالبكاء ووالداه لا يعرفان ذلك

فهما دائبان ليسكتاه ويتوخّيان في الأُمور مرضاته لئلا يبكي، وهما لا يعلمان أنَّ البكاء أصلح له وأجمل عاقبةً ...» «1»

.

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار، ج 3، ص 65 و 66.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 70

وفي نفس الرواية، يشير الإمام عليه السلام إلى جريان الماء من أفواه الأطفال الذي يكمّل مهمّة دموع أعين الأطفال، ويقول: «فجعل اللَّه تلك الرطوبة تسيل من أفواههم في صغرهم لما لهم في ذلك من الصحة في كبرهم» «1»

.

13- اليقظة التدريجية للعقل والحواس عند الأطفال

لو كان للطفل عقل منذ البداية فلا شك أنّه كان يتألم بشدة، لأنّه سوف يشعر آنذاك بالضعف والمذلة، فهو لا يستطيع المشي ولا الأكل ولا القيام بأبسط الحركات، يجب أن يلفّوه بقماش ويضعوه في المهد ويغطوه بغطاء ويشطّفوه ويحفظوه.

يقول الإمام الصادق عليه السلام ضمن الإشارة إلى هذا الموضوع في حديثه المسمى ب «توحيد المفضل»: «فإنّه لو كان يولد تام العقل مستقلًا بنفسه لذهب موضع حلاوة تربية الأولاد، وما قدر أن يكون للوالدين في الأشتغال بالولد من المصلحة ...» «2»

.

بالإضافة إلى أنّ الانتقال إلى عالم جديد بكل شى ء ومجهول كان سيسبب له من الوحشة والاضطراب ما قد يضر بفكره وأعصابه، لكن تلك القدرة الأزلية التي خلقت الإنسان للتكامل قدّرت فيه كل هذه الأصول.

كذلك لو كانت حواسه متكاملة، وفتح عينيه فجأة وشاهد مشاهد جديدة واستمعت أذنه إلى الأصوات والأنغام الجديدة، لما كان في وسعه تحملها، فكان التدريج في تلقي برامج الحياة الجديدة هو الاسلوب الأمثل.

الملفت للنظر أن القرآن الكريم يقول: «وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِّنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَاتَعْلَمُوْنَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصارَ والأَفْئِدةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُروُنَ». (النحل/ 78) وفقاً لهذه الآية فإنّ الإنسان لا يمتلك أي علم في البداية ولا يتمتع حتى بالسمع والبصر،

__________________________________________________

(1) بحار الانوار، ج

3، ص 65 و 66.

(2) المصدر السابق، ص 64.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 71

ثم وهبه اللَّه القدرة على السماع والنظر والتفكير، ربّما كان ذكر السمع قبل ذكر الأبصار إشارة إلى أنّ النشاط السمعي عند الوليد يبدأ أولًا، وبعد فترة تكتسب الأعين قدرتها على الابصار، بل إنّ البعض يعتقد وكما أسلفنا أنّ للأذن في عالم الجنين مقداراً من القابلية على السماع، فهي تسمع أنغام قلب الأم وتعتاد عليها.

14- غذاء الطفل مُعدٌّ قبل ولادته

لا يستطيع وليد الإنسان والكثير من الحيوانات في بداية ولادته أن يأكل الأطعمة الجافة والثقيلة، ولهذا فقد هيّأت يد الخالق المقتدرة غذاءً خاصاً في ثدي الأم إسمه «اللبن»، والحقيقة أن نفس دماء جسم الأم التي كان الطفل ينتفع منها في الفترة الجنينية تتحول إلى لبن ضمن عملية تغيّر واسعة وسريعة، فتغذّيه حتى الفترة اللازمة.

يتغير شكل ثدي الأم بصورة تدريجية خلال فترة الحمل، ويكبر شيئاً فشيئاً نتيجة الافرازات التي يقذف بها الحبل السري إلى دم الأم ليأمرها بالاستعداد الكامل، وهكذا يُهي ء الثدي نفسه لوظيفتِهِ المستقبلية الثقيلة.

إنّ الأنابيب الموجودة في الثدي والممتدة حتى قمة الثدي (الحلمة)، تتشعب وتزداد وتفرز إفرازات بسيطة، وعند ولادة الطفل تعلن عن استعدادها التام.

العجيب أن ترشح اللبن من خلايا الثدي ليس دائمياً وإلّا لخرج اللبن بصورة متواصلة إلى الخارج، بل إنّه بمجرّد ملامسة شفتي الوليد لثدي الأم وبدئه بالامتصاص تتجه الحوافز العصبية عن طريق الأعصاب إلى النخاع ومن النخاع إلى الهايبوثالموس فتؤدّي إلى نوعين من الافراز، يصب أحدهما في الأثداء عن طريق الدم فيضغط على الأنسجة المحيطة بأنابيب اللبن ليندفع اللبن باتجاه الحلمة، وتتمّ كل هذه الأعمال خلال 30 ثانية، والأعجب أنّ اللبن لا يتحرك في ذلك الثدي الذي يرضع منهُ الطفل فقط، بل ويحدث

هذا في الثدي الآخر أيضاً فيكون مستعداً، ولذا يُؤكد الأطباء على إرضاع الوليد من كلا الثديين.

اللبن غذاء كامل، وخاصة لبن الأم الذي يعتبر غذاءً أكمل بالنسبة لوليدها ولا يستطيع شي ء في العالم أن يحل محله.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 72

يحتوي الحليب على أنواع الفيتامينات كفيتامين A، B، D، P وفيتامينات أخرى وقد اكتشف فيه العلماء 22 مادة مختلفة، علاوة على أنواع الأنزيمات «1»، والكثير من الأدوية الضرورية تنتقل عن طريق لبن الأم إلى وليدها، ومن هنا فإنّ الأطفال المحرومين من لبن الأم يصابون بمختلف الأعراض.

يبدو أنّ لبن الأم لا يغذي جسم الطفل فحسب، بل إنّه يروي عواطفه وروحه أيضاً، ولهذا قد يصاب المحرومون من لبن الأم بمشاكل ونواقص عاطفية بعض الأحيان.

وعلى هذا الأساس يقول القرآن الكريم: «وَالْوَالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ». (البقرة/ 233) إنّ عجائب وغرائب اللبن أكثر من أن يحتويها هذا المختصر، وإذا أردنا أن نترك العنان للقلم لمثل هذه الأبحاث نكون قد خرجنا عن بحثنا التفسيري.

__________________________________________________

(1) من أجل مزيد من الاطلاع تراجع دائرة معارف القرن العشرين، مادة (لبن)، والجامعة الأولى (اولين دانشگاه)، ج 6، وإعجاز القرآن من وجهة نظر العلوم المعاصرة، وقد وردت إشارات مثيرة حول هذا المعنى في حديث توحيد المفضل (بحار الأنوار، ج 3، ص 62).

نفحات القرآن، ج 2، ص: 73

3- آياته في عالم الحياة

تمهيد:

إنّ ظاهرة الحياة هي أعقد ظواهر هذا العالم حسب ما نعلم، ظاهرة حَيّرت عقول كل العلماء، وقد مضت آلاف السنين والعلماء يفكرون فيها، لكن هذا اللغز لم يُحلّ لحد الآن.

ما هو السبب الذي أدّى إلى أن تضع الموجودات الجامدة وبطفرة عجيبة، أقدامها في مرتبة الحياة والعيش فتكون لها تغذية ونمو وتناسل؟! من الممكن أن

يصنع الإنسان جهازاً بالغ التعقيد (كالعقول الالكترونية المتطورة جدّاً) بعد قرون من التجارب، وهذا بدوره شاهد على سعة اطلاع ومعرفة من صنعوه، ولكن هذا الجهاز الدقيق والمعقد للغاية لا ينمو أبداً، ولا يداوي أو يرمم كسوره وعيوبه، ولا يتناسل بصورة مبدأيةٍ مطلقاً.

أمّا الكائنات الحيّة، فإنّها فضلًا عن بنائها الدقيق والمعقد والمذهل إلى أقصى الحدود، فانّها تستطيع القيام بهذه الأعمال وأعمال أخرى كثيرة، والقليل من المطالعة حول وضعها يشكل آية واضحة ودليلًا بيّناً على العلم والقدرة اللامتناهية لخالقها.

يُكثر القرآن من الاستناد إلى موضوع الحياة والموت في آياته المختلفة ضمن قضية إثبات وجود الله، ونفي الشرك بانواعه، ويؤكد عليه كثيراً، والحق أنّه كذلك.

بعد هذه الإشارة نقرأ خاشعين الآيات الكريمة أدناه:

1- «إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنْ الْحىِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤفَكُوْنَ». (الانعام/ 95)

نفحات القرآن، ج 2، ص: 74

2- «كَيْفَ تَكْفُروُنَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيْتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيْكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُوْنَ». (البقرة/ 28)

3- «هُوَ يُحْيِى وَيُمِيْتُ وإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ». (يونس/ 56)

4- «وَهُوَ الَّذِىْ يُحْىِ وَيُمِيْتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ والنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُوْنَ».

(المؤمنون/ 80)

5- «إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ يُحْيِى وَيُمِيْتُ وَمَالَكُمْ مِّنْ دُوْنِ اللَّهِ مِنْ وَلِىٍّ وَلا نَصِيْرٍ». (التوبة/ 116)

6- «لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِى ويُمِيْتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الأوَّلِيْنَ». (الدخان/ 8)

7- «أَلَمْ تَرَ الَى الَّذِى حَآجَّ ابراهِيمَ فى رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ ابْراهِيْمُ رَبِّيَ الَّذِى يُحْيِى وَيُمِيْتُ قَالَ أَنَا أُحْيِى وَأُمِيْتُ». (البقرة/ 258)

8- «إِنّا نَحْنُ نُحْيِى وَنُمِيْتُ وإِليْنَا الْمَصِيْرُ». (ق/ 43)

9- «اللَّهُ الَّذِى خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيْتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيْكُم هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَّنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِّنْ شَى ءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُوْنَ». (الروم/ 40)

10- «واللَّهُ أَنْزَلَ

مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَسْمَعُوْنَ». (النحل/ 65)

شرح المفردات:

«الحياة»: يقول الراغب في المفردات: تستخدم الحياة في معان مختلفة: الحياة النباتية، الحياة الحسية (حياة الحيوانات)، الحياة العقلانية (حياة البشر)، الحياة بمعنى زوال الغم والهم والحزن، الحياة الأخروية الخالدة، والحياة المذكورة كونها إحدى الصفات الإلهيّة، ويأتي لكل واحدة منها بشاهد من الآيات القرآنية.

ولكن في «مقاييس اللغة» يُذكر لهذه المفردة معنيان أساسيان، أحدهما الحياة مقابل الموت، والآخر «الحياء» وهو ما يقابل الوقاحة والصلافة.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 75

غير أن البعض يعتقد برجوع المعنيين إلى أصل واحد، لأنّ الذي يتمتع بالحياة والخجل إنّما يصد نفسه عن الضعف والعجز ويتحرك باتجاه الخير والطهارة، وإن كان الثعبان العظيم يسمى ب «الحية» فذلك لشدّة تحركها التي تعتبر من أبرز آثار الحياة والعيش، وتسمى القبيلة ب «الحي» بلحاظ امتلاكها حياةً اجتماعيةً وجماعيةً «1».

وبالطبع فإنّ لهذه المفردة معانٍ كنائية كثيرة من جملتها «الإيمان» في مقابل الكفر، و «الطراوة» في مقابل الذبول، و «الحركة» في قبال السكون، ويطلق على التحية اسم «التحية» من باب أنّ فيها طلباً للسلامة والحياة.

«الموت»: هو بالضبط النقطة المقابلة للحياة، لهذا كانت له أنواع مختلفة يقابل كل منها نوعاً من أنواع الحياة، منها «الموت النباتي» كما في قول القرآن حول المطر «أَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً». (ق/ 11)

و «الموت الحيواني» و «الموت العقلاني» أي الجهل.

و «الموت» بمعنى الغم والحزن كما يقول القرآن الكريم: «وَيَأتِيْهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ». (ابراهيم/ 17)

«والموت»: بمعنى النوم، كما قالوا: «النوم موت خفيف» مثلما أنّ الموت نوم ثقيل.

وَاعتبر البعض «الموت» بمعنى الإنحلال التدريجي للكائن الحي، و «الموتة» حالة شبيهة بالجنون، وكأنّ العقل والعلم يموتان

في تلك الحالة.

كما أنّ البعض فرّق بين «الميِّت» و «المائت» وقالوا: الميت هو الميت أمّا «المائت» فهو الموجود في حالة الانحلال والانحدار نحو الموت.

ولهذه المفردة معانٍ كنائية كثيرة منها «الكفر»، و «النوم»، و «الخوف».

وَسميت الأرض الموات بالموات لافتقادها الحياة النباتية، والقابلية على الغرس والزراعة، وأمّا بعد أن تُهيَّأَ للغرس والزرع فيسمونها «مهيأة».

ورد في قواميس اللغة أنّ أصل هذه المفردة هو ذهاب القوّة، والذي يعتبر موت الكائنات الحية من مصاديقه البارزة.

__________________________________________________

(1) التحقيق في كلمات القرآن الكريم؛ مفردات الراغب، لسان العرب؛ مجمع البحرين؛ وكتب اللغة الأخرى

نفحات القرآن، ج 2، ص: 76

جمع الآيات وتفسيرها

خَلقُ الحياة آية الخلق:

جرى الاستناد في الآيات العشر أعلاه وعدد آخر من الآيات القرآنية إلى قضية الحياة والموت بعنوان إحدى الآيات الإلهيّة الكبيرة وعلامات الذات المقدّسة للخالق، كان التأكيد في أغلبها على حياة وموت الإنسان، وفي بعضها على الحياة والموت بشكل عام أي عند جميع الأحياء، وفي البعض أكدت على حياة وموت النباتات.

في الآية الأولى المخصصة للبحث، ورد كلام عن فلق النواة والحبّة بواسطة القدرة الإلهيّة، وعن استخراج الكائن الحي من الكائن الميت وبالعكس الكائن الميت من الحي، بحيث تشمل الحياة والموت بالمعنى الواسع للكلمة في النباتات والحيوانات والبشر.

الملفت للنظر أن بذور النباتات ذات جدار صلب ومحكم، والنواة أكثر إحكاماً منه، إذ ليس فلقها بالأمر الممكن بسهولة، ومع هذا فالفِلْقة الخارجة من داخل الحبّة والنواة بحيث لايمكن وصف رقتها ولطافتها، أمّا كيف يمكن لتلك الفِلْقة اللطيفة أن تفلق تلك القلعة والحصن الحصين فتخرج من خلال جدرانه وتستمر في طريقها؟ فليس ذلك سوى القدرة الإلهيّة الفريدة، وكأنَّ عبارة: «إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى إشارة دقيقة إلى هذا المعنى

وحول كيفية إخراج اللَّه تعالى الميِّت من الحيِّ والحيِّ من

الميتِ، ذكر الكثير من المفسرين الماضين الأمثلة عليها، بخروج الدجاجة من البيضة، والشجر والنبات من الحبة والنواة، والإنسان من النطفة، في حين صار من المسلّم به لدى العلماء اليوم أنّ الكائنات الحية تظهر دائماً من الكائنات الحية، أي أنّ في داخل حبة ونواة النباتات والأشجار فضلًا عن الكمية المعينة من المواد الغذائية، توجد خلية حية هي في الحقيقة نبات وشجرة مجهرية صغيرة جدّاً وإذا استقرت في المحيط المناسب فسوف تستفيد من هذه المواد الغذائية فتنمو وتكبر، وكذلك بالنسبة إلى نطفة الإنسان والحيوان فإنّ الخلايا الحية كثيرة، وهي المصدر لتكاثر وتناسل الإنسان والحيوان.

أجاب بعض المفسرين المعاصرين (كالمراغي ومؤلف تفسير المنار) الذين التفتوا إلى

نفحات القرآن، ج 2، ص: 77

هذا الإشكال بأن هذه الخلايا الخاصة مع أنّها تسمى في عرف علماء العلوم الطبيعية بالكائنات الحية، ولكنها لا تجدر بهذه التسمية في العرف العام للناس واللغة، لأنّ أياً من آثار الحياة والعيش لا تظهر عليها «1».

والأفضل أن نقول: إنّ المراد بخروج الكائن الحي من الميت لا يعدو أحد المعنيين التاليين:

الأول: هو بالرغم من أنّ الكائنات الحية في الظروف الحالية تخرج دائماً من البذور والحبوب والنطف الحية، ولكن لا شك أنّ الأمر لم يكن كذلك في البداية، لأنّ الكرة الأرضية عندما انفصلت عن الشمس كانت عبارة عن كتلة من نار، ولم يكن عليها أي كائن حي، ثم ظهرت أول الكائنات الحية من الكائنات غير الحية ضمن ظروف لا علم لنا بها اليوم وبأمر اللَّه بعد سلسلة من القوانين البالغة في التعقيد.

والفرضية القائلة: إنّ من الممكن للحياة أن تكون قد انتقلت من الكواكب الاخرى إلى الكرة الأرضية بواسطة القطع والأجرام السماوية والتي يُصّر البعض عليها، لا تستطيع أن تحل لنا

أية مشكلة، لأنّ الإشكال يصدق على تلك الكواكب أيضاً، فهي ولا شك كانت في البداية كتلًا محترقة، ولايستطيع أى كائن حي أن يتحمل تلك الظروف.

الثاني: هو أنّ البذور والحبوب والنطف الأولى لم تكن إلّاموجودات صغيرة جدّاً لكنّها نمت وتطورت عن طريق تغذيتها على المواد الغذائية غير الحية وهي في الحقيقة تجذب إليها الموجودات غير الحية وتحولها إلى حية، وعليه فإنّ آلاف الآلاف وملايين الملايين من الخلايا الحية قد ظهرت من الموجودات الميتة، وعن هذا يقال: إنّ اللَّه يخرج الميت من الحي ويخرج الحي من الميت.

والبعض قالوا: إنّ المراد بهذا التعبير ولادة «الكافر» من «المؤمن» و «المؤمن» من «الكافر»، أو ولادة الجنين السقط من الإنسان الحي، وولادة الطفل الحي من الام التي تموت فجأة ولا يزال الطفل حياً في بطنها.

__________________________________________________

(1) تفسير المراغي، ج 7، ص 197؛ وتفسير المنار، ج 7، ص 631.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 78

ولكن ممّا لا شك فيه أنّ هذه الأقوال هي مصاديق للمفهوم الكلي للآية ولا تشمل كل مفهوم الآية، المفهوم الأصلي للآية هو أحد المفهومين المُشار إليهما.

وعلى أيّة حال فالتعقيد الذي يحيط بقضية الحياة والموت من الدرجة بحيث أنّ العلماء لا يزالون عاجزين عن فهم أسراره، فإذا كان فهم أسرار إحدى الظواهر يحتاج إلى كل هذا العقل والتفكير والذكاء، فهل يمكن إيجاد هذه الظاهرة بدون الحاجة إلى أي عقل وذكاء؟!

ولهذا يقول القرآن في نهاية نفس هذه الآية: «ذلِكُمُ اللَّهُ فَأنّى تُؤْفَكُوْنَ».

تقول الآية الثانية بلهجة الاستفهام المُوبِّخ: «كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وكُنتُمْ أَمْوَاتاً فأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُم ثُمَّ يُحْيِيكمْ» وفى هذا إشارة إلى أنّ قضية الحياة والموت كافية لمعرفة اللَّه.

وبتعبير آخر فإن ظاهرة الحياة والموت في عالم الخلقة من أهم الوثائق لإثبات وجود

اللَّه.

إنّ الإنسان عندما يفتح عينيه ويعرف نفسه، فإنّه يطالع هذه الوثيقة الكبيرة قبل كل شي ء.

ويدرك الإنسان جيداً أنّ حياته ليست من عنده لأنّه كان يوماً في عداد الموجودات غير الحية، إذن، ثمّة قدرةٍ وهبته الحياة، الحياة بكل أسرارها ورموزها، بكل دقائقها وتعقيداتها.

اعتبر بعض المفسرين «الكفر» في هذه الآية بمعنى «كفران النعمة»، أي كفران نعمة الحياة والموت، هذا الموت الذي هو مقدّمة لحياة أخرى، ولكن الظاهر هو أنّ الكفر هنا بمعنى إنكار وجود اللَّه أو إنكار توحيده مِن قبل المشركين.

بالإضافة إلى أنّه جرى التأكيد في هذه الآية على قضية المعاد، أي أنّ ظهور الحياة والموت تمثلان دليلًا على التوحيد بالإضافة إلى كونهما دليلًا على إمكان المعاد.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 79

الآية الثالثة تُعد ضمن آيات المعاد، ولكن كما قلنا فإنّ قضية الحياة والموت دليل على إثبات وجود اللَّه وعلى إثبات المعاد، والتعبير ب «هُو يُحْيِى وَيُمِيْتُ» إشارة إلى أنّ الحياة والموت بيد اللَّه فقط، ولا يمكن لأحد سوى اللَّه القادر المتعال أن يصنع مثل هذه الظاهرة المهمّة والعجيبة إلى أقصى الحدود.

أمّا الآية الرابعة فقد وردت ضمن آيات التوحيد في سورة (المؤمنون)، وأكدت على قضيتين «قضية الحياة والموت»، و «قضية ذهاب وإياب الليل والنهار» ولهذين شبه كبير فيما بينهما، الموت كالظلمة، والحياة كالنور والضياء، وربما كان تقديم الليل على النهار من هذا الباب أيضاً، ذلك أنّ الموت كان قبل أن تكون الحياة وكان الإنسان سابقاً أجزاءً ميتة ثم أنعم اللَّه عليه فكساه ثوب الحياة، وسواء كان «اختلاف الليل والنهار» بمعنى ذهاب وإياب الليل والنهار (من مادة (خِلفة) على وزن حِرفة بمعنى التناوب في المجي ء والحلول محل البعض)، أو من مادة (خِلاف) بمعنى التباين والاختلاف التدريجي في فصول

السنة المختلفة، وأيّاً كان المعنى فهو يدل على النظام الدقيق الذي يحكمهما وما يرافقه من فصول أربعة ومن بركات ناتجة عنها، كما أنّ لقضية الموت والحياة والنظام الذي يحكمها في المجتمع الإنساني نتائج وآثاراً كثيرة لا يمكن بدونها تنظيم حياة الإنسان.

فَإذا لم يمت أحد، لَما كانت الأرض محلًا للحياة، وإن مات الجميع بسرعة خلت الأرض أيضاً، ولكن خالق هذا العالم جعل فيه نظاماً دقيقاً بحيث لا تخلو الأرض من أقوام يعيشون عليها ويتمكنون من الانتفاع من مواهب الحياة، وهذه هي سنّة اللَّه فَقوم يأتون وقوم يذهبون.

ولهذا يقول تعالى في نهاية الآية: «أَفَلا تَعْقِلُونَ» أفلا تتفكرون في قدرة الخالق وربوبيته ووحدانيته؟ وإنّ من المستحيل ظهور هذا النظام البديع من غير علم ولا تدبير.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 80

وفي الآية السادسة جاءت قضية الحياة والموت إلى جانب قضية الربوبية، فهواللَّه سبحانه مالككم وربّكم أنتم وآبائكم، الأولين وهو خالق الموت والحياة.

وبشكل أساسي فإنّ قضية الموت والحياة إحدى فروع ربوبية اللَّه سبحانه وتعالى، «الربوبية» بمعنى الإصلاح والتنظيم والتربية، وهذه لا تحصل إلّاعن طريق الحياة والموت، الحياة تعطي الإنسان إمكانية التكامل، والموت أيضاً مقدمة لتكامل آخر وحياة جديدة في عالم أوسع.

تعكس الآية السابعة الحوار التاريخي بين النبي إبراهيم عليه السلام وجبار زمانه «نمرود»، ويبدو أنّ هذا الحوار جاء بعد قصة تحطيم ابراهيم الأصنام وظهوره كبطل من الأبطال وشياع صيته في كل مكان واضطرار نمرود إلى إحضاره «1».

إنّ أول سؤال سأله هذا الرجل الأناني الذي أذهب عقله غرور السلطان للنبي إبراهيم عليه السلام هو: «من إلهك؟».

فاعتمد إبراهيم قبل كل شي ء في جوابه على ظاهرة الحياة والموت المهمّة وقال: «ربّيَ الذي يُحيِي ويميت».

فقال الجبارالطاغي نمرود مع علمه الأكيد بأحقّية كلام إبراهيم ومن

أجل استغفال من حوله وتخدير عقولهم: إنني استطيع القيام بهذا أيضاً «أنا أحيي وأميت».

لم يذكر القرآن ما صنعه نمرود من أجل إثبات ادّعائه هذا، ولكن الكثير من المفسرين قالوا: إنّه أمر فوراً باحضار إثنين من السجناء، فأطلق سراح أحدهم وحكم على الآخر بالموت وقال: أرأيت كيف أن الحياة والموت بيدي؟!

والفخر الرازي استبعَدَ هذا المعنى في تفسيره وهو أن يكون الحضار في مجلس نمرود

__________________________________________________

(1) ورد هذا المعنى وهو أنّ الحوار أعلاه حصل بعد تحطيم الأصنام من قبل إبراهيم في عدّة تفاسير منها تفسير المراغي ج 3، ص 21؛ و الكبير ج 7، ص 25.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 81

من البله والسذاجة بحيث لا يدركون الفرق بين عمل نمرود وبين الحياة والموت التي تحصل عن طريق اللَّه.

ويقول: إن قصد نمرود هو قوله: أتراك تزعم أنّ اللَّه يقوم بذلك من دون أيّة واسطة؟ هذا غير صحيح، وإن كان ذلك يحصل عن طريق الاستفادة من عالم الأسباب، فإنّ ذلك بإمكاننا أيضاً «1».

ولكن يبدو أنّ الفخر الرازي نسي هذه النقطة، وهي: أنّ الجهلاء في كل عصر وزمان ليسوا قليلين، خاصة المتملقين الذين يحيطون بحكام الجور والاستبداد والتجبر.

وقد ورد ما يشبه هذا المعنى في حياة موسى وفرعون حيث حاول فرعون استغفال وخداع أهل مصر بكلماته الركيكة المضحكة ودعاهم إلى عبادته.

إن تفسير الفخر الرازي يلائم جماعة من الفلاسفة يجتمعون مع بعضهم ويصطنعون مثل هذه السفسطات، أمثال لو كان الفاعل فاعلًا بالواسطة لكان كذا ولو كان بلا واسطة لكان كذا.

الآية الثامنة تعتبر إيجاد الحياة والموت أمراً خاصاً باللَّه، شأنها شأن الآية الثالثة، وتعتبر عودة جميع الخلق إلى بارئهم عزوجل.

وفي الآية التاسعة يخاطب اللَّه تعالى المشركين بلهجة حازمة فيقول: «اللَّهُ الَّذِى خَلَقَكُم ثُمَّ

رَزَقَكُم ثُمَّ يُمِيْتُكُمْ ثُمَّ يُحْييكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِّنْ شَى ءٍ»، هل بامكانهم إحياء شي ء أو إماتته؟ أو رزقه؟ وما دامت كل هذه الأمور خاصة باللَّه، فما لكم تشركون به: «سُبْحَانَهُ وَتَعالىَ عَمَّا يُشْرِكُونَ».

__________________________________________________

(1) تفسير الكبير، ج 7، ص 24.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 82

وأخيراً وفي الآية العاشرة والأخيرة يطرح اللَّه قضية حياة النباتات، وهو وجهٌ مشرق، جميل وملي ء بالأسرار من وجوه الحياة، ويعرض على البشر صورة الأراضي الميتة كيف يُلبس هذه الصحارى اليابسة الفاقدة للحياة لباسَ الحياة بزخة مطر واحدة أو عدة زخات، فتتصاعد من كل جانب من جوانبها أنغام الحياة فتتجلى ساحة البعث والنشور في هذه البقعة.

وَيضيف في آخر الآية: «إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ»، يسمعون انغام تحميد وتسبيح النباتات ويصغون بآذان قلوبهم لهمسات التوحيد من كل نبات يخرج من الأرض ويردد ذكر «وحده لا شريك له»: «انَّ فِى ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ».

توضيحان

1- لغز الحياة الكبير

كشف تطور العلم والمعرفة البشرية النقابَ عن الكثير من الحقائق، وأوضح العديد من قضايا هذا العالم الكبير، ولكن كما أشرنا فعلى الرغم من ذلك فما زالت هنالك الكثير من الألغاز تواجه الإنسان، وأحد أهم هذه الألغاز هو لغز الحياة، القضية التي لم يُمَط اللثام عن وجهها لحد الآن رغم جهود ومساعي آلاف الّآلاف من العلماء والعقول المفكرة على مرّ التاريخ البشري، وما زالت مستترة خلف ستار من الابهام.

واللطيف أن القرآن الكريم خاطب المشركين قبل أربعة عشر قرناً قائلًا: «يَا ايُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوْا لَهُ إِنَّ الَّذِيْنَ تَدْعُوْنَ مِنْ دُوْنِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَو اجْتَمَعُوا لَهُ وإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيئاً لَّايَسْتَنْقِذُوْهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ».

المثير أنّ عجز البشر اليوم عن خلق الذبابة بمقدار عجزه

قبل أربعة عشر قرناً، وعجزه أزاء هجوم الذباب والجراد وبقية الحشرات يصل إلى درجة عدم جدوى كل ما يستخدم من أجهزة التسميم والمكافحة الحديثة.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 83

قد يُقال: إنّ الإنسان صنع أجهزة قيّمة أكثر أهميّة من خلق الذباب كالسفن الفضائية والعقول الألكترونية المعقدة وأمثال ذلك.

ولكن هذا خطأ كبير وقياس باطل، إذ ليس للسفينة الفضائية أو العقل الألكتروني أي نمو أو تحول ذاتي ويستحيل أن ينجب مثيله، ولا يمكن من داخل نفسه ترميم ما يطرأ عليه من الأضرار، فهو لا يُصلح قطعاته التالفة أبداً، ويحتاج إلى الهداية والقيادة من خارجه، والحال أنّ للذبابة من هذه الوجوه أفضلية واضحة على تلك السفينة الفضائية أو جهاز الكومبيوتر، ولكن كثرة الذباب أدى إلى تصوره من قبلنا كموجود حقير ولا أهميّة له، ولو كانت هنالك ذبابة واحدة فقط في العالم لاتّضح آنذاك مدى ما سيوليه العلماء لها من الاهتمام.

وفضلًا عن هذا فإننا لا نحتاج أساساً إلى هذه المفاضلة، فالهدف هو إيضاح أن بناء الكائن الحي حتى لو كان خلية واحدة والتي أشرنا إليها إشارات واضحة في البحوث الماضية، على قدر من الغموض والتعقيد بحيث يدلّ على أنّ صانعه ذو علم وقدرة غير متناهيين وذو اطلاع تام بقوانين الحياة المعقدة، وبتعبير أصح أنّه هو الذي وضع هذه القوانين.

كيف يمكن أن تحتاج معرفة ظاهرة كهذه إلى كل هذا العقل والشعور ولا يحتاج صنعها إلى أي عقل أو شعور؟!

وهذا هو الأمر الذي نحن في صدد إثباته في هذه البحوث، والذي يشكل هدف القرآن من الآيات المذكورة وآيات مشابهة أخرى

نختم هذا الحديث بذكر نقطة، وهي أنّ الحياة والعيش رغم أنّها من أبرز الظواهر، ولكن حقيقتها غير واضحة لحدّ الآن لأحد، إنّ

ما نراهُ هو آثار الحياة التي تمثل (النمو والتحول والتغذية والتناسل، والاحساس والحركة والتفكير)، ولكن ما هي تلك الحقيقة التي تكون بمثابة المصدر لهذه الآثار؟ لا يعلم أحد بذلك لحد الآن، وما زالت العقول في حيرة من ذلك.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 84

2- هل بامكان الإنسان صناعة كائن حي؟

لا شك أنّ الكائنات الحية وجدت في البداية من كائنات غير حية، سواء حدث هذا الأمر على الكرة الأرضية أو على الكواكب السماوية الأخرى، ولكن تحت أي ظروف؟

ووفقاً لأي معادلة حدثت هذه الطفرة العظيمة؟ إنّ هذا الأمر بقى مجهولًا لحد الآن ولم يتسن لأحد معرفته، طبعاً أنّ البعض من العلماء يأملون بأنّهم سوف يكتشفون هذه المعادلة وهذه الظروف، ويقولون: لعلنا في النتيجة نستطيع أن نصنع خلايا حية من مركبات غير حية.

لا أحد يعلم جدوى ومنطقية هذا الأمل؟ وهل سيتحقق مثل هذا الأمل عملياً في نهاية المطاف أم لا؟ وعلى فرض أنّ الإنسان سيكتشف ظروف بداية الحياة ومعادلتها وسوف يستطيع صناعة خلايا حية في داخل المختبرات، ولكن يجب أن لا ننسى أن:

أولًا: إنّ هذا العمل حين يأتي عن طريق تقليد عالم الخلقة وتركيب المواد المختلفة مع بعضها لن يكون سوى ما يشبه الصناعات التجميعية التقليدية.

ثانياً: على فرض أنّ مشكلة صناعة الخلية الحية سوف تُحل، ولكن تبقى هنالك مشكلة الكائنات المعقدة متعددة الخلايا، كبنية الذبابة أو الجرادة أو الطائر أو الأسماك الكبيرة وأخيراً الإنسان، فمن الذي يستطيع أن يوجد مثل ما ذكرنا عن طريق الصناعة؟

يقول أحد العلماء وهو (البروفسور هانز): سوف يصل الإنسان بعد ألف سنة إلى سر الحياة، ولكن هذا لا يعني أنّه سيستطيع صناعة ذبابة أو حشرة أخرى أو حتى خلية حية.

ثالثا: لنفترض أننا ضمنّا مثل هذه الأهداف بمعونة الهبة الإلهيّة المسماة بالعقل،

وتطورت العلوم وتقليد قوانين الطبيعة، لكن هذا لن يكون له أدنى تأثير على ما نحن بصدد الوصول إليه، لأنّه إن كان بالإمكان إيجاد خلية حية واحدة باستخدام كل هذه النماذج الموجودة والمواد الطبيعية الجاهزة يحتاج إلى كل هذا العلم والمعرفة، فما مقدار العلم والمعرفة اللازمة لخلق أنواع متعددة من الموجودات الحية بلا نموذج أو مواد سابقة؟ هل يمكن أن نعتبر للطبيعة الجامدة الفاقدة للشعور والعقل دوراً في خلق هذه الموجودات؟

نفحات القرآن، ج 2، ص: 85

وألفت انتباهكم إلى عبارة ظريفة عن «غرسي موريسن» رئيس أكاديمية العلوم بنيويورك في كتاب «سر خلق الإنسان»، يقول:

«قال هيغل: أعطوني الهواء والماء والمواد الكيميائية والزمان وسوف أخلق بها إنساناً، لكن هيغل نسي أنّه بحاجة إلى نطفة وجرثومة الحياة من أجل هذا المشروع أيضاً، إنّه بعد أن يجمع الذرات اللامرئية ويرتبها إلى جانب بعضها ضمن نظام وترتيب خاص بخلقة الإنسان، عليه أن يمنح الروح لهذا القالب! وعلى فرض أنّه وُفّق للقيام بكل هذه الامور الخارقة للعادة، هنالك احتمال واحد فقط من بين ملايين الاحتمالات لخلق حيوان لم تشاهد عين الدهور شيئاً أغرب منه، والأعجب هو أن هيغل لن يقول بعد الموفقية في هذا الأمر أنّ هذا الموجود العجيب ظهر بحسب الصدفة والحدث، بل يقول: «إن ذكائي ونبوغي هو الذي خلقه» «1».

تارة يتصور بعض السذج أنّ بالإمكان تبرير ظهور الحياة عن طريق الحوادث والصدف الكثيرة، والحال أننا لو أردنا ووفق حساب الاحتمالات حساب عملية ظهور ذرة واحدة من البروتينات،- وهي إحدى المواد المكونة للكائنات الحية- عن هذا الطريق، لما كفى عمر الكرة الأرضية لظهورها!

ول «جورج والد» أستاذ علم الأحياء في جامعة «هارفارد» كلام عن شروط ظهور الحياة واستحالة إمكان خلق الحياة بالصدفة

والذاتية، هذه خلاصتُهُ:

«من أجل تشكيل البروتين يجب التحام مئات أو آلاف الجزئيات «أحماض أمينية» بنِسب مختلفة وبأشكال متنوعة على شكل سلسلة، وإن عدد أنواع البروتينات لا محدود حقاً، لأنّه لا يمكن العثور على نوعين من الحيوانات يكون لهما نوع واحد من البروتينات، إذن فجزيئات المواد العضوية تشكل مجموعة عظيمة لا حدود لتنوعها وتعقيدها يبعث على الحيرة، ومن أجل صنع موجود حي واحد لا نحتاج إلى مقدار كافٍ ونسب معينة من أنواع البروتينات اللامتناهية فحسب، بل يجب ترتيبها ترتيباً صحيحاً أيضاً، أي أنّ بناءها

__________________________________________________

(1) سر الخلق، ص 139 إلى 141.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 86

له من الأهميّة ما لتركيبها الكيميائي من الأهميّة».

ثم يضيف: «إنّ بناء البروتينات معقد حقاً، وإن اعقد الأجهزة التي صنعها الإنسان (كالعقل الألكتروني) هي بحكم الألعوبة مقابل أبسط الكائنات الحية! يكفي الإنسان أن يفكر في هذه العظمة لتتضح له استحالة الخلقة الذاتية أو بالصدفة» «1».

نختم هذا الكلام بحديث قيّم عن الإمام الصادق عليه السلام، وحديث رفيع المعاني عن أميرالمؤمنين علي عليه السلام، للإمام الصادق عليه السلام كلام مفصل قاله للمفضّل في حديث التوحيد المعروف ب «المفضّل» حول خلقة الإنسان وأعضائه المختلفة، يقول المفضّل:

سيدي: إنّ قوماً يقولون أنّه من صنع الطبيعة! فيجيب الإمام عليه السلام:

«سلهم عن هذه الطبيعة أهي شي ء له علم وقدرة على مثل هذه الأفعال؟ أم ليست كذلك؟ فإن أوجبوا لها العلم والقدرة، فما يمنعهم من إثبات الخالق؟ فإنّ هذه صنعته، وإن زعموا أنّها تفعل هذه الأفعال بغير علم ولا عمدٍ وكان في أفعالها ما قد تراه من الصواب والحكمة، عُلِمَ أن هذا الفعل للخالق الحكيم، وأنّ الذي سمّوه طبيعة هو سُنة في خلقه الجارية على ما أجراها عليه»

«2».

ويقول أمير المؤمنين علي عليه السلام: «ولو اجتمع جميع حيوانها من طيرها وبهائمها، وما كان من مُراحِها وسائمها وأصناف أسناخها وأجناسها، ومتبلدة أممها، وأكياسها، على إحداث بعوضة، ما قدرت على إحداثها ولا عرفت كيف السبيل إلى ايجادها ولتحيرت عقولها في علم ذلك» «3».

__________________________________________________

(1) معرفة الحياة «شناخت حيات»، ص 11 (بالفارسية).

(2) بحار الأنوار، ج 3، ص 167.

(3) نهج البلاغة، الخطبة 186.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 87

4- آياته في خلق الروح

تمهيد:

الروح أيضاً من أعجب ظواهر عالم الوجود وأكثرها غموضاً، ومع أنّها أقرب الأشياء إلينا إلّاأننا بعيدون جدّاً عن معرفتها وتشخيصها.

لم تتوقف جهود ومساعي العلماء والفلاسفة من أجل معرفة الروح في أي زمن من الأزمان، واستطاعوا بفضل هذه الجهود أن يكشفوا اللثام عن بعض الأسرار، ولكن الوجه والأسرار الخافية للروح لم تتغير لحد الآن، وما زالت هناك الكثير من الأسئلة حول هذا الموضوع بدون جواب.

ومن هنا كان خلق روح الإنسان من الآيات المهمّة الدالة على علم وحكمة وتدبير الخالق.

وعلى هذا الصعيد نتأمل خاشعين في الآيات الكريمة أدناه:

1- «وَنَفْسٍ وَمَا سَوّاهَا* فَأَلْهَمَهَا فُجُورَها وَتَقْواهَا». (الشمس/ 7 و 8)

2- «ويَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى وَمَا أُوْتِيْتُمْ مِّنَ الْعِلْمِ إلَّاقَلِيْلًا».

(الاسراء/ 85)

3- «وإذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكةِ إِنّى خالِقٌ بَشَراً مِّنْ صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَأٍ مَّسْنُونٍ* فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيْهِ مِنْ رُّوْحِى فَقَعُوا لَهُ ساجِدِيْنَ». (الحجر/ 28 و 29)

4- «ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِيْنَ». (المؤمنون/ 14)

نفحات القرآن، ج 2، ص: 88

5- «اللَّهُ يَتَوفَّى الأَنْفُسَ حِيْنَ مَوْتِهَا وَالَّتِى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِى قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍّ مُّسَمًّى إِنَّ فِى ذَلِكَ

لَآيَاتٍ لِّقَومٍ يَتَفَكَّرُونَ». (الزمر/ 42)

شرح المفردات:

إنّ مفردة «الروح» تعني في الأصل التنفس والنفخ، ويعتقد بعض أرباب اللغة أنّ «الروح» اشتقت في الأصل من «الريح» بمعنى الهواء والنسيم والرياح، وبما أنّ روح الإنسان أي ذلك الجوهر المستقل المجرّد ومصدر الحياة والتفكير هي جوهر لطيف تشبه من حيث تحركها ومنحها للحياة التنفس والنسيم، فقد استعملت هذه المفردة للتعبير عنها، بالاضافة إلى أنّ علاقة الروح بالجسم لها ارتباط وثيق بالتنفس، لهذا استعملت هذه الكلمة في خصوص روح الإنسان.

يعتقد البعض أنّ المعنى الأصلي لهذه المادة هو «ظهور وحركة شي ء لطيف» سواء كان في عالم الجسم أو في عالم الروح والمعنى ومن أجل هذا أطلقت هذه الكلمة أيضاً على ظهور مقام النبوة وقضية الوحي وتجلي نور الحق.

«الرَوح»: (على وزن قَوم) التي تعني السرور والفرح والراحة والنجاة من الغم والحزن، وهي الاخرى مأخوذة من هذا المعنى كذلك يطلق على الالطاف والرحمة الإلهيّة «روح اللَّه».

مفردة «الريحان» تستخدم في كلام العرب ل «الورد» من أجل رائحتها الطيبة المنعشة ونسيمها المعطر.

ومفردة «الرواح» بمعنى «طرف الغروب» حيث تعود الحيوانات إلى حضائرها لتستريح.

وعلى كل حال، فإنّ مواضع استعمال هذه المفردة في القرآن الكريم متنوعة جدّاً، فتأتي حيناً بمعنى ملاك الوحي، وحيناً بمعنى الملاك الكبير من ملائكة اللَّه الخُلّص (أو

نفحات القرآن، ج 2، ص: 89

المخلوق الأفضل بين الملائكة)، وتأتي أحياناً لتدل على القوة الإلهيّة المعنوية التي يسند اللَّه المؤمنين بها، وجاءت تارة بمعنى الروح الإنسانية، وهذا ما أشرنا إليه في الآيات أعلاه «1».

«النَفْس»: يقول الراغب في المفردات: النفس بمعنى الروح، وتأتي أحياناً بمعنى ذات الشي ء، و «النَفَس» (على وزن قَنَص) بمعنى الهواء الذي يدخل ويخرج من وإلى جسم الإنسان عن طريق الفم.

وقد أُطلقت مفردة «النفْس»

هذه على الدم أيضاً، لأنّ الدم إذا خرج من جسم الإنسان بمقادير كبيرة فارقته روحه، وربّما أُطلقت هذه الكلمة على كل وجود الإنسان.

على أيّة حال، فإنّ أحد المعاني المعروفة للنفس هو «الروح» التي ذكرت عدّة مرّات في القرآن الكريم.

1- «النفس الامارة» التي تأمر الإنسان بالسوء: «إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوء».

(يوسف/ 53)

2- «النفس اللوامة» التي ترتكب الذنوب بعض الأحيان ثم تندم وتلوم نفسها: «وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ». (القيامة/ 2)

3- «النفس المطمئنة» وهي النفس الواصلة إلى مرحلة الأطمئنان والراحة والطاعة التامة لأوامر اللَّه والمشمولة بعناياته: «يَا ايَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ* إِرْجِعِى إِلَى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً». (الفجر/ 27)

جمع الآيات وتفسيرها

الروح اعجوبة عالم الخلقة:

ورد في الآية الأولى من الآيات التي اخترناها لبحثنا هذا قَسَمٌ يختصّ بالروح الآدمية وخالقها.

__________________________________________________

(1) مفردات الراغب؛ لسان العرب؛ مجمع البحرين؛ والتحقيق في كلمات القرآن الكريم.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 90

ذلك اللَّه الذي خلق الخلق ونظم القوى الروحية للإنسان إبتداءً من الحواس الظاهرية وهي مقدمة الإدراكات الروحية وانتهاءً بقوة التفكير، الحافظة، التخيل، الإدراك، الابتكار، الإرادة والتصميم: «وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا».

وعلّمهُ طرق الهداية بعد تنظيم هذه القوى «فَأَلْهَمَهَا فُجُوْرَهَا وَتَقْوَاهَا».

مع أنّ القوى الروحية للإنسان متنوعة وكثيرة جدّاً، ولكن القرآن هنا وضع إصبعه من بين كل تلك القوى على مسألة «إلهام الفجور والتقوى (إدراك الحسن والقبح)، لأنّ هذه المسألة لها تأثير كبير جدّاً في مصير الإنسان وسعادته وشقائه.

قلنا مراراً: إنّ القَسَمَ يدلّ على الأهميّة والعظمة، أهميّة المُقْسَمِ به والمُقَسَمِ له، خاصة القَسَمُ القرآني لحمل الناس على المزيد من التفكّر في آيات «العظمة» الإلهيّة.

فضلًا عن أنّ «النفس» في هذه الآية ذكرت بصيغة النكرة، وهي في مثل هذه الموارد من أجل التأكيد على أهمية الموضوع أو كثرته «1».

تشير الآية الثانية إلى السؤال الذى طرح من

قبل جماعة من المشركين أو أهل الكتاب، حيث وفدوا على الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله وسألوه عدة أسئلة كان أحدها عن الروح كما قال القرآن: «وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوْحِ».

ثم يأمر القرآن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله: «قُلِ الرُّوْحُ مِنْ أَمْرِ رَبّى».

إنّ في هذا الجواب غير المستبين إشارة عميقة إلى مدى غموض ومجهولية هذه الظاهرة الكبيرة في عالم الوجود، ومن أجل أن لا يَقول أحد لماذا لم تظهر واحدة من أسرار الروح؟

يضيف اللَّه في آخر الآية: «وَما أُوتِيْتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيْلًا».

__________________________________________________

(1) تفسير روح البيان، ج 10- ص 442؛ و تفسير روح المعاني، ج 30- ص 142، وقد احتمل بعض المفسرين أن تكون «النفس» في الآية أعلاه إشارة إلى الروح والجسم كليهما، مع أنّ عبارة: «فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا» تناسب الروح أكثر، وكذلك الآية: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ...».

نفحات القرآن، ج 2، ص: 91

وليس من العجيب أن لا تطلعوا على أسرار الروح بهذا «العلم القليل» و «المعرفة اليسيرة» (خصوصاً في ذلك الزمان وتلك البيئة).

روي عن أبن عباس في بعض الروايات أنّ قريش أرسلت بعض رؤوسها إلى علماء اليهود في المدينة وقالت لهم: إسألوهم عن محمد لأنّهم من أهل الكتاب ولهم من العلم ماليس لنا، فجاؤوا المدينة وسألوا علماء اليهود، فقال اليهود في جوابهم: إسألوه عن ثلاثة أمور: قصة أصحاب الكهف، وَذي القرنين، وقضية الروح، فإنّ أجاب عن جميعها أو سكت عن جميعها فليس بنبي، أمّا إن أجاب عن بعض وسكت عن بعض فهو نبي.

فعادت رؤوس قريش إلى مكة وعرضت الأسئلة على الرسول صلى الله عليه و آله، فقدّم لهم الرسول شرحاً وافياً حول ذي القرنين وأصحاب الكهف، ولكنه فيما يخص السؤال عن الروح

إكتفى بذلك الجواب المغلق بأمر من اللَّه «1»، ومع أنّ هناك تفاسير مختلفة لمعنى الروح في الآية أعلاه في روايات المعصومين عليهم السلام وكلمات المفسرين، ولكن أغلب هذه التفاسير لا تتنافى مع بعضها ويمكن الجمع بينها، والروح الإنسانية من جملة المفاهيم الداخلية في مدلول الآية المعنية «2».

في الآية الثالثة كلام عن حوار اللَّه مع الملائكة حول خلق البشر، حيث يقول عزّ وجلّ مخاطباً الملائكة: «إِنَّى خالِقٌ بَشَراً مِّنْ صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَأٍ مَّسْنُونٍ* فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيْهِ مِنْ رُّوْحِى فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِيْنَ».

ثمّة نقطتان تثيران الاهتمام في هذه الآية، الأولى إضافة روح الإنسان إلى اللَّه إذ يقول:

__________________________________________________

(1) تفسير روح المعاني، ج 15، ص 241 «قالت قريش لليهود أعطونا شيئاً نسأل هذا الرجل فقالوا: سلوه عن الروح فسألوه فنزلت: «يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربى وما أوتيتم من العلم إلّاقليلًا»».

(2) وردت في تفسير الميزان أقوال متعددة في هذا المجال، منها أنّ المراد بالروح هي الروح الواردة في الآية الشريفة: «يوم يقوم الروح والملائكة صفاً» ومنها أنّ المراد بها جبرائيل وقال بعض المفسرين: إنّها تعني القرآن، وآخر التفاسير هو أنّ المراد بها الروح الإنسانية، ثم يضيف: إنّ المتبادر من إطلاق الروح هو هذا.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 92

«من روحي»، وهذا دليل على منتهى عظمة وأهميّة الروح الإنسانية، وهذا من قبيل الإضافة التشريفية حسب المصطلح، ك «بيت اللَّه» و «شهر اللَّه» التي تشير إلى أهميّة الكعبة وعظمة شهر رمضان المبارك، وإلّا فإنّ كل مكان هو بيته وكل الأشهر أشهره.

والثانية أمر جميع الملائكة بالسجدة لآدم بعد نفخ الروح فيه، وهذا برهان آخر على عظمة مقام الإنسان، ذلك أنّ السجدة تفيد منتهى الخضوع، فكيف لو كانت من قبل

كل الملائكة؟ وهذه خير علامة على المقام الرفيع لآدم.

في الآية الرابعة وبعد الإشارة إلى خلق النطفة وتطورات الجنين والألبسة المختلفة التي يكسو بها اللَّه هذه القطعة الصغيرة في مختلف المراحل، يُغيّر عز وجل لهجة الكلام ويقول:

«ثُمَّ أَنْشَأنَاهُ خَلْقاً آخَر».

إنّ التعبير ب «الانشاء» (الايجاد) في هذه المرحلة وخلافاً للمراحل السابقة التي عبّر عنها بالخلقة، إضافةً إلى استخدام «ثم» التي تستعمل عادةً من أجل الفصل يدل جميعُهُ على أنّ الخلق في هذه المرحلة يختلف تماماً عن المراحل السالفة، وهذه علامة على أنّ المراد هو خلق الروح التي ترتبط بالجسم بعد تكامله.

والمثير أنّه يعبّر ب «خلقاً آخر» وهو تعبير غامض ومُغلق، خلافاً للتعبيرات السابقة التي يتحدث فيها عن «النطفة» و «العلقة» و «المضغة» و «العظام» و «اللحم» وهي مفاهيم معروفة جميعاً، وهذا دليل آخر على اختلاف المرحلة الأخيرة عن المراحل الماضية.

ومن العجب أنّ بعض المفسرين ذكروا تفاسير لعبارة: «الخلق الآخر» لا تنسجم أبداً مع روح الآية، من جملتها: أنّ المراد بانشاء الخلق الآخر هو ظهور الأسنان والشعر على الجسم «1»! في حين أنّ هذا لا يتناسب أبداً مع تعابير الآية ولا شك أنّ ظهور الأسنان والشعر

__________________________________________________

(1) روي هذا الاحتمال عن بعض المفسرين في تفسير روح المعاني، ج 18، ص 14؛ وتفسير القرطبي، ج 7، ص 4502.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 93

ليس له من الأهميّة ما يوازي سائر تطورات الجنين المختلفة.

في نهاية الآية وردت جملة عجيبة أخرى تشكل دلالة أخرى على الأهميّة القصوى لخلق الإنسان في المرحلة الأخيرة أو في مجموع هذه المراحل، يقول تعالى «فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ» فسبحان العليم الحكيم الذي أودع القابلية والجدارة في مثل هكذا موجود حقير.

«تبارك»: من مادة (بَرْك) بمعنى صدر

الناقة، وبما أنّ للناقة حين تضع صدرها على الأرض نوع من الثبات، فقد جاءت هذه المفردة بمعنى «الثبات والدوام» ولأن كل نعمة كانت دائمة إزدادت أهميتها، فقد سمّيت هكذا نعم بالمباركة.

إنّ استخدام هذه المفردة في خصوص اللَّه إشارة إلى عظمة وقدسية وخلود ذاته المطهرة.

في الآية الخامسة والأخيرة من الآيات المعنية في بحثنا هذا يشير عز وجل إلى مسألة بقاء الروح، بتعبيره: «اللَّهُ يَتَوَفّى الأَنْفُسَ حِيْنَ مَوْتِهَا».

وبلحاظ أن كلمة «يتوفّى تعني القبض والاستلام الكامل، و «الأنفس» هي الأرواح، يتضح أنّ الروح ينفصل كلياً عن الجسم عند الموت وبأمر اللَّه، ولكن عند النوم يحصل هذا الانفصال بشكل ناقص: «وَالَّتى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا».

ثم أشار إلى عدم عودة بعض الأرواح في حالة النوم وعودة البعض الآخر حتى أجل مسمى وأضاف: «إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» «1».

__________________________________________________

(1) يقول الفخر الرازي في تفسيرهِ وتعقيباً على هذه الآية: إنّ اللَّه الحكيم جعل ارتباط الروح الآدمية بالجسم على ثلاثة أقسام: تارة يسطع شعاع الروح على جميع الأجزاء الظاهرية والباطنية للجسم، وهذه حالة اليقظة، وتارة يسحب هذا الشعاع من الأجزاء الظاهرية ويبقى في الباطنية وهذه حالة النوم، وتارة يرتفع شعاعها عن الأجزاء الظاهرية والباطنية وتلك حالة الموت.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 94

يستفاد من هذه الآية وبكل سهولة أنّ الإنسان تركيب من الروح والجسم، وأنّ الروح جوهر غير مادي، وأنّ النوم درجة ضعيفة من الموت ودليل على ضعف الارتباط بين الروح والجسد.

ويستفاد أيضاً أنّ الموت لا يعني الفناء والهلاك، بل هو نوع من البقاء واستمرار الحياة.

والنتيجة هي أنّ الروح الإنسانية بكل قواها وقدراتها التي تجعلها من أعقد وأعجب ظواهر عالم الوجود هي إحدى آيات اللَّه الكبرى كيف يمكن أن يكون خالق كل

هذا العلم والقدرة والفكر والذكاء والذوق والإبتكار والإرادة والتصميم هي الطبيعة الفاقدة للعقل والشعور ولكل أنواع العلم والفكر والذكاء والإبتكار؟!.

بل على العكس، فهذه القطرات والروافد الصغيرة علامة على وجود محيط كبير تنبع جميعها منه، وهذه الاشعاعات الباهتة قبس من تلك الشمس الكبيرة.

توضيحات

1- القوى الظاهرية والباطنية للروح

عَدَّ القدماء خمسة قوىً ظاهرية وخمسة قوىً باطنية للروح الآدمية، أَمّا القوى الظاهرية فهي: حاسة النظر، السمع، الشم، الذوق، اللمس، وهي نوافذ روح الإنسان نحو عالم المحسوسات والروابط بين ذلك الجوهر المجرد وعالم المادة.

إنَّ كل واحدة من هذه القوى عالم واسع مليٌ بالأسرار، وكل واحدة من أدوات هذه القوى أي العين والأُذن واللسان والغدد الشَّمِّيَة والأعصاب الموزَّعة في كافة أنحاء الجلد، آية من آيات اللَّه تتضمن في داخلها عالماً من العلم والحكمة.

وقد عد الفلاسفة القدماء القوى الباطنية خمسة أيضاً:

1- الحس المشترك.

2- الخيال، والذي يعتبر ذاكرة الحس المشترك.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 95

3- القوة الواهمة التي تدرك مفاهيم من قبيل المحبة والعداء.

4- القوة الذاكرة التي تحفظ في داخلها الإدراكات الواهمة.

5- قوة التخيل التي تُصرّف المفاهيم والصور الجزئية الموجودة في خزانة الخيال والذاكرة فترسم صوراً مختارة لا وجود لها في الخارج.

وكل واحدة من هذه القوى الخمس هي عالم ملي ءٌ بالأسرار بحدّ ذاتها.

لكن علماء وفلاسفة اليوم لا يحددون القوى الظاهرية بتلك القوى الخمس المعروفة، ولا القوى الباطنية بتلك القوى الخمس المذكورة، إنهم يضعون للنفس الإنسانية قوى كثيرة، ويعتبرون الروح الآدمية مخزناً عجيباً فيه أنواع القوى ومختلف الاذواق والقابليات والادراكات التي يختلف فيها أفراد البشر.

لقد وضع علم النفس والتحليل النفسي يده اليوم على مناطق غامضة ومبهمة من روح الإنسان واكتشف فيما اكتشف فيها عالماً جديداً وسرّياً باسم «الضمير الخفي» أو «ضمير اللاشعور» ووضع أمام أعين البشر المزيد

من العجائب عن هذا الموجود المجهول.

2- الروح .. الظاهرة الخفية في عالم الوجود

مع أنّ القرآن الكريم يشرح الكثير من الجزئيات المتعلقة بالسماء والأرض والنباتات والحيوانات عند ذكره للآيات الإلهيّة سواء كانت آيات آفاق أو آيات أنفس، لكنه حين يصل إلى قضية الروح لا يزيد على قوله: «قُل الرُّوحُ مِنْ أَمرِ رَبِّى وَمَا أُوْتِيْتُمْ مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيْلًا».

أو إنّه يقول: «وَنَفْسٍ وَمَا سَوّاهَا» أو يعبّر عنها بإِنشاء الخلق الآخر: «ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَر»، أو إنّه ينسب الروح إلى نفسه فيقول: «وَنَفَخْتُ فِيْهِ مِنْ رُوحِى».

إِنَّ كل هذه التعابير تحكي عن أن خلق الروح يختلف عن خلق بقية الموجودات، وليس هذا إلّابسبب تعقيد قضية الروح وأسرارها العظيمة.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 96

3- نشاطات الروح المختلفة

للإنسان نشاطات روحية وفكرية عديدة، سواء في الشعور أو في اللاشعور، بحيث يمكن لكل واحد من هذه النشاطات أن يكون موضوع بحث مستقل في كتب متعددة (وغالباً ما كان)، وقسم من هذه النشاطات على النحو التالي:

أ) «التفكير» من أجل الوصول إلى المجهولات، أو بتعبير الفلاسفة حركة الفكر نحو المبادي ء، ثم حركته الأخرى من المبادي ء نحو الأهداف والمراد.

ب) «الابتكار» من أجل حلّ مشاكل الحياة غير المتوقعة، ومواجهة الحوادث المختلفة، ورفع الاحتياجات المتنوعة والابداعات والاكتشافات والاختراعات.

ج) «الذاكرة» لحفظ أنواع المعلومات التي يحصل عليها الإنسان عن طريق الحس أو التفكير وتبويبها وخزنها ثم استذكارها عند الحاجة.

د) «التجربة وتحليل القضايا» من أجل معرفة علل وجذور الحوادث عن طريق فصل المفاهيم الذهنية عن بعضها، ثم تركيبها، ثم الوصول إلى علل ونتائج الحوادث.

ه) «التخيل» أي إيجاد صورة ذهنية قد لا تكون في بعض الأحيان موجودة في الخارج كمقدمة لفهم القضايا الجديدة.

و) «الإرادة والتصميم» لأجل القيام بالأعمال أو التوقف عنها أو تغييرها.

ز) «الإدراكات الفطرية والعقلية» وهي الأساس في الاستدلالات النظرية وغير البديهية.

ح) العشق، الحب، العداوة

وعشرات الظواهر الروحية الأخرى ذات التأثيرات الإيجابية أو السلبية في أفعال الإنسان.

وبالطبع فهذه القضايا ليست منفصلة عن بعضها، بل هي متمركزة جميعها في داخل روح الإنسان، إنّها أمواج من هذا المحيط اللامتناهي، وأنوار من هذه الشمس الساطعة، وهذا مايدل على أنّ الروح الآدمية أرفع آيات اللَّه وأهم علاماته.

وفي قول القرآن الكريم إشارة إلى هذه الحقيقة: «وَفِى الأَرضِ آياتٌ لِّلمُوقِنِينَ*

نفحات القرآن، ج 2، ص: 97

وَفِى أَنفُسِكُم أفَلا تُبصِرُونَ». (الذاريات/ 21)

ولا نذهب بعيداً فإنَّ الذاكرة الإنسانية التي تمثل أرشيفاً للمعلومات المختلفة على درجة من الغرابة والعجب بحيث لو أننا أردنا توظيف مئات الأشخاص لحفظ وظرافة وترتيب معلومات أحد الأشخاص لاستحال عليهم القيام بنشاط الذاكرة بهذه السرعة والدقة.

ولو سلبت منّا الذاكرة لساعة واحدة لما أمكنتنا الحياة، فلا نضلُّ الطريق إلى منازلنا فحسب، بل سيصيبنا النسيان حتى في أن نضع اللقمة في فمنا عند تناول الطعام، سيكون كل شي ء بالنسبة لنا مجهولًا ووحشياً وغريباً ومُحيراً.

فقد أحد الشباب جزءً من ذاكرته نتيجة حادث سير أصابه بضربة دماغية، وعندما حملوه إلى بيته أنكر بيته! وقال: إنّ هذه هي المرة الأولى التي أضع فيها قدمي هنا! بل حتى أمه كان يتصورها امرأة غريبة، وبدت اللوحة الفنية التي رسمها بيديه مجهولة تماماً في عينيه، وكان يقول: إنّها اول مرّة أراها.

إنّنا نحمل في أرشيف ذاكراتنا صوراً لآلاف الموجودات وآلاف آلاف البشر وآلاف آلاف المواد المختلفة وآلاف آلاف الخواطر واللقطات وآلاف آلاف المعلومات المختلفة الاخرى والعجيب أنّ استحضار احدى الخواطر لا يحتاج أكثر من واحد بالألف من الثانية من أجل أن يستطيع الإنسان الانتباه إلى خاطرة معينة من بين معلوماته المبوبة التي مضت عليها لحظة أو سنة أو خمسون سنة، خاصة وأنّ العلماء يشيرون إلى

إحدى الأعمال المحيرة للذاكرة والتي يسمونها «معجزة الذاكرة» وهي بالترتيب الآتي:

كثيراً ما ينسى الإنسان إسم شخص أو موضوع ثم يجهد ويحاول أن يتذكره ويقلّب رفوف أرشيف ذاكرته واحداً بعد الآخر ولكن دون جدوى

حسناً، إن كان الإنسان يعلم ذلك الاسم أو الموضوع، فلماذا يبحث عنه؟ وإن لم يكن يعلمه فكيف يبحث عن شي ء لا يعلمه؟ أفيمكن أن يبحث الإنسان عن ضالة لا يعرف ما هي أو من هي؟!

نفحات القرآن، ج 2، ص: 98

ومع هذا فيصدق على ذاكرة الإنسان أن تبحث عند النسيان عن ضالة لا تعلم ما هي؟

وفجأة تصل إلى الرف الذي يحمل ضالتها فتعثر عليها «1».

وهنا توجد نقطة دقيقة يكمن فيها الحل المذهل للقضية، وهي: في مثل هذه المواضع لا يبحث الإنسان عن ذات ذلك الاسم أو الموضوع الذي لا يعرف ما هو بل من أجل العثور عليه تراه يبحث عن مجموعة الحوادث التي يعلم بشكل إجمالي أنّه اختزنها في ذهنه بمعية الاسم المطلوب (لأنّ الحوادث المختلفة تُخْتَزَنُ على شكل مجموعات مجموعات)، فمثلًا هو يعلم أنّه تعرف لأول مرّة على الشخص المعني الذي نسي أسمه في اليوم الفلاني والمحل الفلاني، لذلك يطلب من أرشيف الذاكرة وبشكل فوري إضبارة ذلك اليوم وذلك المحل ويتصفحها بسرعة البرق ليعثر في طياتها على اسم ذلك الشخص.

ونختم هذا الكلام بحديث عن الإمام الصادق عليه السلام وَرَدَ في توحيد المفضل، يقول:

«تأمل يا مفضّل هذه القوى التي في النفس وموقعها من الإنسان، أعني الفكر والوهم والعقل والحفظ وغير ذلك، أفرأيت لو نقص الإنسان من هذه الخلال الحفظَ وحده كيف كانت تكون حاله؟ وكم من خلل كان يدخل عليه في اموره ومعاشه وتجارته إذا لم يحفظ ماله وما عليه وما أخذه

وما أعطى وما رأى وما سمع، وما قال وما قيل له ولم يذكر من أحسن إليه ممن أساء به، وما نفعه ممّا ضره، ثم كان لا يهتدي لطريق لو سلكه ما لا يُحصى ولا يحفظ علماً ولو درسه عمره، ولا يعتقد ديناً، ولا ينتفع بتجربة ولا يستطيع أن يعتبر شيئاً على ما مضى بل كان حقيقاً أن ينسلخ من الإنسانية أصلًا».

ثم يضيف الإمام: «وأعظم من النعمة على الإنسان في الحفظ النعمة في النسيان، فإنّه لولا النسيان لما سلا أحد عن مصيبة ولا انقضت له حسرة، ولا مات له حقد، ولا استمتع بشي ء من متاع الدنيا مع تذكر الآفات ..» «2».

__________________________________________________

(1) الاقتباس من كتاب «حافظة» من سلسلة «چه مى دانم» (بالفارسية).

(2) بحار الأنوار، ج 3، ص 80 و 81 (بشي ء من التلخيص).

نفحات القرآن، ج 2، ص: 99

4- مقارنة عقل الإنسان بالعقول الألكترونية

في بعض الأحيان يقارن البعض من عديمي الاطلاع بناء روح وفكر الإنسان وعقله ببناء العقول الالكترونية، والحال أنّ الفرق بينهما اكبر من الفرق بين الطائرة اللعبة التي يلعب بها الأطفال وطائرة عملاقة حقيقية! والسبب هو:

إنّ نشاط العقول الالكترونية محدود بحدود حافظتها فقط، وحافظتها هي تلك التي يغذيها الإنسان بالمعلومات، ولذلك ليس لها وراء حدود هذه الحافظة المحدودة أي نشاط على الاطلاق.

وفضلًا عن أنّ العقول الألكترونية تفتقر لأي نوع من أنواع الإبتكار والتفكير أزاء إحدى الحوادث الجديدة مهما كانت بسيطة، كردّ الفعل مقابل هبوب الرياح الشديدة مثلًا ناهيك عن الإبتكار والإبداع في القضايا المهمّة والمعقدة.

ثم حتى لو افترضنا صحة المقارنة بينهما فَأي عقل يصدق أن صناعة العقل الالكتروني الذي يُعد أُعجوبة الصناعات البشرية، قد تمت على يد إنسان أمي أو أعمى أو أصم أو مجنون؟

أفيمكن للطبيعة الفاقدة للروح والعقل

والتفكير والابتكار أن توجد الروح والعقل والابتكار؟ ومن هنا نقول: إنّ في داخل روح الإنسان الآلاف من آيات الخالق وعلاماته.

5- أصالة واستقلال الروح

مع أنّه لا يوجد بالنسبة لنا فرق في البحوث المتعلقة بآيات اللَّه بين أن تكون روح وفكر الإنسان جوهراً مستقلًا ومجرداً عن المادة، أو مرتبطاً بها ومن آثارها (وهذا هو الجدل المعروف بين الفلاسفة الإلهيين والماديين)، ولكن لا شك أنّه متى ما ثبتت أصالة واستقلال الروح اكتسبت هذه الآية الإلهيّة مزيداً من التأثير والجاذبية.

يصر الماديون على أنّ الروح والفكر من الخواص «الفيزو كيميائية» للخلايا الدماغية

نفحات القرآن، ج 2، ص: 100

والتي تزول تماماً بفناء الجسم، والحال أنّ للروح والفكر الآدمي ظواهر لا يمكن تفسيرها بالتفاسير المادية أبداً.

فمثلًا يجد كل شخص حقيقة في داخله تسمى «الأنا»، وهي واحدة ليست أكثر منذ بداية العمر حتى نهايته، «أنا» منذ الطفولة وحتى الآن شخص واحد لم أزدد ولم أتغير، وسأبقى أنا ذلك الشخص إلى آخر العمر، بالطبع درست وتعلمت القراءة والكتابة ولهذا فقد حصلت وعلى نسبة من التكامل، لكنني لم أتحول إلى إنسانٍ آخر، بل ما أزال ذلك الشخص السابق.

في حين إذا أخذنا الأجزاء المادية للجسم نرى أن جميع تلك الذرات في حال تغيّر وتبدل، وأنّ جميع خلايا الجسم تتغيّر كل سبعة أعوام مرّة واحدة تقريباً، أي أنّ الشخص البالغ من العمر سبعين سنة أصابه تبدل في أجزاء جسمه المادية عشرة مرات، رغم أنّ «الأنا» (شخصيته الإنسانية) ثابتة لم تتغير، وهذا يدل على أن حقيقة «الأنا» حقيقة ما وراء المادة ولا تتغير بتغيرات المادة.

فضلًا عن أنَّ في أذهاننا حقائق مخزونة تكون أكبر من مخنا وخلايانا المخية آلاف الآلاف من المرات، تصور السماوات والمجرّات، الشمس والقمر وغيرها، فَمن المستحيل أن تكمن

هذه الصور الكبيرة في الجزء المادي من وجودنا، ولا سبيل إلّاأن تنعكس في الجزء غير المادي أي الروح، لأنّ الجزء المادي أي المخ ليس إلّاموجود صغير.

وعلاوة على هذا فإنّ الظواهر المادية تقبل التجزئة والقسمة جميعاً في حين توجد بين مفاهيمنا الذهنية مفاهيم لا تقبل التجزئة إطلاقاً.

إنّ خصوصية «تصوير الواقع» والاطلاع على العلم الخارجي بالنسبة لنا، والموجودة في علومنا ومعارفنا، هي حقيقة لا يمكن تبريرها عن طريق الخواص «الفيزو كيميائية» للمخ.

وهذه البراهين الأربعة وبراهين واضحة أخرى تدل بجلاء على أنّ الروح جوهر مستقل ومجرّد من المادة «1».

__________________________________________________

(1) من أجل مزيد من الشروح راجع، ذيل الآية 85 من سورة الإسراء من «التفسير الأمثل».

نفحات القرآن، ج 2، ص: 101

6- خصوصيات الروح في القرآن الكريم

يمكن استخلاص الخصوصيات والصفات التالية للروح الإنسانية بالاستفادة من آيات القرآن الكريم:

أ) تتمتع الروح الآدمية بالاستقلال وتبقى بعد انفصالها عن الجسد مستقلة، والآية «اللَّهُ يَتَوَفَّى الأنْفُسَ ...». (الزمر/ 41)

تشهد بهذه الحقيقة.

ب) من الممكن أن تتنعم الروح الآدمية وبعد انفصالها عن الجسم في عالم البرزخ بانواع النعم الإلهيّة أو أنّها تتعذب بمختلف صنوف العذاب الشديد، وفي آية «حَياةُ الشُّهَداء» كما ورد في الآية 169 من سورة آل عمران.

وآية «عذاب آل فرعون» كما ورد في الآية 46 من سورة غافر.

دليل على هذا المعنى

ج) يختلف بناء الروح إختلافاً كبيراً عن بناء الجسم كما قرأنا ذلك في الآيات المعنية حيث إنّ اللَّه تعالى يعتبر الروح من عالم «الأمر» وخلقها من نوع «انشاء الخلق الآخر» الآية 85 من سورة الاسراء و 14 من سورة المؤمنون.

د) إنّ علم الإنسان عن حقيقة الروح وأسرارها قليل جدّاً، وآية «وَمَا أُوتِيْتُمْ مِّنَ الْعِلمِ إِلّا قَلِيْلًا». (الاسراء/ 85)

شاهد على هذا المدعى

ه) في حالة النوم تضعف علاقة

«الروح»، ب «الجسم» وفي حالة الموت تنقطع نهائياً كما في ورد في سورة الزمر، الآية 42.

و) الروح والظواهر الروحية بصورة عامة من الآيات المهمّة على عظمة اللَّه ووسيلة مهمة لمعرفته تعالى «إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآياتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ». (الزمر/ 42)

نفحات القرآن، ج 2، ص: 102

7- مسك الختام حول الروح

إنّ البحث حول الروح اكبر وأوسع من أن نستطيع تبيان جميع أبعاده في هذا الموجز السريع، وإذا أردنا أن نترك عنان القلم خرجنا من بحثنا التفسيري، لذلك يمكن الرجوع إلى الكتب الفلسفية والكلامية والروائية، من أجل المزيد من التفصيلات وقد وردت بحوث متعددة في «التفسير الأمثل» في هذا المضمار، ونلاحظ بحوثاً وشروحاً وافية في تفسير الميزان، المجلد الأول في تفسير الآية: «وَلَا تَقُوْلُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِى سَبِيْلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ».

(البقرة/ 154)

ذكر العلّامة المجلسي في كتابه المشهور بحارالانوار 17 دليلًا عقلياً ونقلياً لإثبات أنّ حقيقة الإنسان ليست مجرّد هذا الجسم «1».

وفي نفس هذا الكتاب يذكر نقلًا عن المحقق الكاشاني 14 قولًا حول حقيقة الروح «2».

ونختم هذا البحث بحديث لطيف عن أميرالمؤمنين عليه السلام، حيث روى عنه أنّه قال: «الروح في الجسد كالمعنى في اللفظ» «3».

يقول أحد العلماء واسمه الصفري: «إنني لم أر مثالًا حول الروح أجمل وأفصح من هذا المثال»، نعم الروح كالمعنى والجسم كاللفظ!

__________________________________________________

(1) بحارالأنوار، ج 58، ص 6 إلى 10.

(2) المصدر السابق، ص 75.

(3) سفينة البحار، ج 1، ص 537، مادة (الروح).

نفحات القرآن، ج 2، ص: 103

5- آياته في الهداية الفطرية والغريزية للإنسان والحيوان

تمهيد:

ليس البشر فحسب بل الكثير من الأحياء الأخرى تولد من أمهاتها ولديها حصيلة من العلوم والمعارف الفطرية والغريزية، العلوم التي لم يكن ثمّة معلم يعلمها وليست وليدة التجربة والاختبار، بل إنّ المعلم الأول هو الذي أودعها منذ البداية في عمق وجود الإنسان وسائر الحيوانات بطريقة تثير العجب والذهول.

إنّ دراسة هذه العلوم والمعارف والهداية الفطرية والغريزية تعد آيات عظيمة على عظمة اللَّه وعلامة بيّنة لعلمه وقدرته.

وبهذه الإشارة القصيرة، نقرأ خاشعين للآيات الكريمة أدناه:

1- «قَالَ رَبُّنَا الَّذِى أَعْطَى كُلَّ شَى ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى . (طه/ 50)

2-

«أَلَمْ نَجْعَلْ لَّهُ عَيْنَيْنِ* وَلِسَانَاً وَشَفَتْينِ* وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ».

(البلد/ 8- 10)

3- «فأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْوَاهَا». (الشمس/ 8)

4- «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّيْنِ حَنِيْفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَاتَبْدِيْلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّيْنُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَايَعْلَمُونَ». (الروم/ 30)

5- «الَّذِى عَلِّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ». (العلق/ 4- 5)

نفحات القرآن، ج 2، ص: 104

6- «الرَّحْمنُ* عَلَّمَ الْقُرآنَ* خَلَقَ الإِنْسانَ* عَلَّمَهُ الْبَيَانَ». (الرحمن/ 1- 4)

7- «فَذَكِّرْ إِنَّمَآ أَنْتَ مُذَكِّرٌ». (الغاشية/ 21)

جمع الآيات وتفسيرها

أستاذ الأزل:

الآية الأولى من الآيات التي اخترناها في بحثنا هذا تتناول حوار موسى بن عمران عليه السلام مع فرعون، فعندما سأله فرعون وأخاه هارون: من هو ربّكما هذا الذي تدعوان له؟ أجابه فوراً: «رَبُّنا الَّذي أعْطى كُلَّ شَي ءٍ خَلْقَه ثُمَّ هَدى .

واضح أنّ كل موجود خلق من أجل هدف، وكل صنف من أصناف النباتات والحيوانات والموجودات سواء كانت طيوراً أو حشرات أو حيوانات أو صحارى أو بحاراً، كلٌ خُلِقَ لبيئة خاصة، ونرى بوضوح أنّ لها انسجاماً كاملًا مع بيئتها وقد زوّدت بما تحتاج إليه، هذا في المرحلة الابتدائية من خلقها.

أمّا في مرحلة الهداية التكوينية فنشاهد بجلاء أن ليس هنالك موجود يترك لحاله بعد خلقه بل إنّه يُساق نحو أهدافه بتوجيه خفي، وللكثير منها علوم ومعارف لم تصلهم بلا شك عن طريق التجربة الشخصية ولا عن طريق تعليم المعلم، إنّ هذه الهداية التكوينية والعلوم والمعارف من آيات الذات المقدّسة التي خلقت هذا العالم الكبير وما انفكت تهديه وتسيّره.

وبالطبع فإنّ هذا الكلام لا يخص الإنسان وحده، بل إنّ مفاد الآية هو بحث كلي وجامع وعام يشمل أفراد البشر، وهذا أمر يختلف عن هداية الأنبياء والرسل المسماة بالهداية التشريعية والخاصة بالإنسان.

إنّ الطفل الذي يولد من أمّه يتّجه وبدون أي

مقدّمة نحو ثدي الأم بفمه ويمتص عصارة روحها، وتارة يضع يديه الصغيرتين على الثدي فيحرك منابع اللبن فيه، من اين تعلم هذا الدرس الذي يضمن لهُ تغذيته واستمرار حياته؟

نفحات القرآن، ج 2، ص: 105

من اين يعلم أنّ أفضل سبيل لرفع حاجاته التي لا يستطيع القيام بها هو «البكاء» البكاء الذي يهز الأم في نومها ويقظتها ويفرض عليها معونته، وكذلك العلوم والمعارف الأخرى التي يستفيد منها الإنسان في مراحل أخرى من دون الحاجة إلى معلم.

يوجد في آيات أخرى من القرآن ما يشبه هذا المعنى نقرأ في قوله تعالى «وَالَّذى قَدَّرَ فَهَدى . (الأعلى/ 3)

وفي الآية الثانية من الآيات المخصصة لبحثنا هذا وعند تذكير الإنسان بنعمه عليه، يقول بعد الإشارة إلى نعم العين واللسان والشفاه: «وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ».

«نجد»: في اللغة بمعنى المكان المرتفع والفلاة، وهي تقابل «التهامة» التي تطلق على الأراضي المنخفضة والواطئة والمساوية لمستوى سطح البحر وما شاكل، وانطلاقاً من أنّ المعرفة بأُسس السعادة وطرقها وسلوك هذه الطريق يشبه إلى حدٍ ما سلوك الطرق المرتفعة بما فيها من مشاق ومشاكل كثيرة، فقد استعملت مفردة «نجد» هنا بمعنى طريق الخير، ثم جاء الاطلاع على طرق الشر إلى جانبها بعنوان «التغليب»، وعليه يكون معنى الآية هو: «إنّا هدينا الإنسان إلى هذين المكانين المرتفعين»، وهذان المكانان هما طرق الخير والشر.

لهذا نقرأ في حديث عن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله: «يا أيّها الناس! هما نجدان: نجد الخير ونجد الشر، فما جُعِلَ نجد الشر أحبَّ إليكم من نجد الخير» «1».

يحصر البعض من ذوي النظر المحدود مفهوم الآية الواسع في داخل موضوع محدود، ويقولون: إنّ المقصود من هذين المكانين المرتفعين هما ثديا الأُم! وقد ورد في الحديث أن الإمام علي

عليه السلام سُئِل عن معنى «وهديناه النجدين» وهل تعني ثديي الأم كما يدعي البعض.

إنّ الهداية الإلهيّة في هذا المجال تحصل طبعاً عن طرق مختلفة، عن طريق الوجدان الأخلاقي، الفطرة، الدلائل العقلية، وتعاليم الرسل (أي أنّها تشمل أنواع الهداية التكوينية والتشريعية)، لكن سياق الآيات يناسب الهداية التكوينية أكثر.

__________________________________________________

(1) تفسير نور الثقلين، ج 5، ص 581؛ و تفسير مجمع البيان؛ وتفسير القرطبي، وقد روي نفس هذا المعنى عن الإمام الصادق عليه السلام تعقيباً على الآيات المنظورة.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 106

وفي الآية الثالثة بعد القسم بروحِ الإنسان، وخالق الروح، يشيرُ إلى مسألةٍ الهامِ الفجورِ والتقوى ويقول: إنَّ اللَّه تبارك وتعالى ألْهَمَ نَفْسَ الإنسانِ الفجور والتقوى «فَأَلْهَمَها فُجُوْرَهَا وَتَقْوَاهَا»، و «الالهام» مِنْ مادة (لَهْمْ) على وزن (فَهْمْ) أي (ابتلاع) أو (شرب) الشي ء «1».

ثم جاءت بمعنى القاء الأمر في قلب الإنسان من قبل الباري تعالى فكأنّما يلتهمُ القلبُ ذلك الأمرَ بتمامه، وللالهام معنىً آخر أيضاً وهو «الوحي»، حيث استُخدِمَ أيضاً بهذا المعنى أحياناً.

وتعني «الفجور» خرقَ حجابِ التقوى وارتكاب الذنوب، وهي من مادة «فَجْر» التي تعني الانشقاق الواسع، أو انكشاف ظلمة الليل بواسطة بياض الصبح.

و «التقوى : من مادة «الوقاية»، وتعني (الصيانة)، والمقصود هنا الأساليب التي تمنع الإنسان من التلوث بالذنوب والقبائح.

من هنا يُفهمُ بوضوح من هذه الآيةِ أنّ اللَّه تبارك وتعالى قد أوْدَعَ مسألةَ إدراكِ الحُسْنِ والقُبحِ العقليين وفَهْمِ الحَسَنِ والسي ء بشكلٍ فطريٍّ داخل روح الإنسان كي يهديه الطريق نحو السعادة والتكامل.

وورد في حديثٍ للإمام الصادق عليه السلام في تفسير هذه الآية أنّه قال: «بيَّنَ لها ما تأتي وما تترك» «2»

، فالمقصود هو أنَّ اللَّه بيَّنَ للإنسان ما يجب فِعْلُهُ وما يجب تَركُه أو بتعبير آخر علَّمَهُ (الواجبات،

والمحرمات).

وحول السبب في تقدُّم «الفجور» على «التقوى ؟ يقول بعض المفسِّرين: لأنَّ «التَّطهرَ من الذنوب» يُمثلُ الأرضيةَ ل «التحلي بالتقوى ، باعتبار أنّ (التخلية) تكون قبل (التحلية)، و (التطهير) قبل «اعادة البناء» دائماً «3».

__________________________________________________

(1) لسان العرب مادة (لَهمْ) بناءً على ذلك فحينما تستعمل هذه المادة في باب الافعال تفيد «الابتلاع والشرب» وقال بعض إنّها تستخدم في امور الخير فقط، وإنّ المراد من الهام الفجور في الآية هو صده عن الخير أيضاً.

(2) تفسير نور الثقلين، ج 5، ص 586، ج 7.

(3) تفسير روح المعاني، ج 30، ص 143.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 107

على أيّةِ حالٍ، فلو لم يكن إدراكُ حُسْنِ وقُبحِ الأفعالِ فطرياً بالنسبة للإنسان، أي لو كانت هناك حاجة للاستدلال من أجل فَهمِ قُبحِ الظلم وحُسنِ العدل والاحسان والأعمال الاخرى فمن المسلَّم إنّه سيختلُ نظام المجتمع البشري، لأنَّ الكثير من الاختلافات العقائدية تنشأ عن الاستدلالات النظرية، حيثُ لا يوجد أساسٌ وجدانيٌ متين لهذا المعنى فيمنحُ كلُّ شخصٍ لنفسهِ حريةَ القيام بأيِّ عمل.

أجَلْ إنَّ هذه الهدايةَ الالهيةَ في الحياة الاجتماعية للإنسان مصيريةٌ إلى أبعدِ الحدود، وهذه النعمةُ وهذه الهدايةُ مهمّةٌ إلى الحدِّ الذي لا يمكن قياسُها بسائر النِّعم الاخرى

وفي الآية الرابعةِ طُرحت مسألةُ فطرية الدين، وهو (الدين الحنيف) أي الخالي من كل أشكال الهوى والاتجاه نحو الباطل والانحراف، والطاهر من كافة أشكال الشرك والتلوث:

«فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّيْنِ حَنِيْفَاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَتى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا».

والاستفادة من تعبير «الدِّين» نظراً لسعة مفهومهِ، حيث يشمل جميعَ اصول الدين، والحد الأدنى من مجموع فروع الدين، بأنّه ليس معرفة اللَّه والتوحيد فقط، وإنّما اصول وفروع الدين كافة اودعَتْ منذ البداية في روحِ الإنسان بنحوٍ اجماليٍّ وبصورةٍ فطريةٍ،

وهذه هي «الهدايةُ التكوينية» التي يُمكنُ أن تُوجِدَ أكثر الآثار جاذبية لدى الإنسان فيما لو تناغمت مع «الهداية التشريعية» للأنبياء عليهم السلام.

بناءً على ذلك فانَّ أصلَ كلِّ دعوةٍ موجودةٍ في الشريعةِ له وجود في أعماق فطرةِ الإنسان، ولا يعارضُ أيُّ دينٍ الإرادات الفطرية للإنسان، بل يرشدُها وَيكْملها من خلال الطريق المشروع، ولهذا فانَّ التعبُّدَ والتَّدَيُنَ موجودان داخل روحِ الإنسان بصفتهما هدايةً تكوينية، وإذا ما حصلَ انحرافٌ ما فانَّهُ طارى ءٌ، لهذا فانَّ دور الأنبياء عليهم السلام هو ازالةُ هذه الانحرافات الطارئة كي تحصلَ إمكانية تَفَتُح الفطرةِ الحقيقية.

وهنا نكتفي بهذا المقدار حيث سنتكلَّمُ مفصلًا بخصوص هذه الآية في بحث التوحيد الفطري في المجلَّد الثالث إن شاء اللَّه.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 108

وقد تحدثت الآية الخامسة عن التعليم الإلهي بواسطة القلم ثم أشارت بشكل عام إلى تعليم الإنسان للمسائل التي يَجهلُها إذ يقول تعالى «الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الانْسَانَ مَالَمْ يَعْلَمْ».

قد يكون التعليم الإلهي بواسطة القلم إشارة إلى القراءة والكتابة التي حدثت لأول مرّة على أيدي الا نبياء عليهم السلام «1»، أو لأنَّ اللَّه تباركَ وتعالى قد أوْجَدَ هذا الذوق والقابلية لدى الإنسان هدايةً فطرية حيثُ اْبتُدِعَ بعد اتضاحِ القراءةِ والكتابةِ، فبدأت مرحلة ما بعد التاريخ مع إيجاد الخط (حيث نعلمُ أنّ الفاصل الزمني بين مرحلتي ما قبل التاريخ وما بعد التاريخ هي مسألة اكتشاف الخط).

على أيّةِ حالٍ، فقد حصلَ التعليمُ بالقلم عن طريق الهدايةِ الإلهيّة.

ويُمكن أن تكون جملةُ «عَلَّمَ الانْسَانَ مَالَمْ يَعلَمْ» إشارة إلى العلوم الفطرية المختلفة التي أودَعَها اللَّه تعالى فكر الإنسان، المتضمنة لإدراك القُبحِ والحُسْن، والفجور والتقوى وكذلك القضايا البديهية التي تكون أساساً للقضايا النظرية في العلوم الاستدلالية، والاطّلاع على قواعد الدين واصول الأحكام الإلهيّة

أيضاً.

وفي الآية السادسة بَعْدَ أن يَنسِبَ تعليمَ القرآن إلى اللَّه الذي هو مصدرُ جميع الرحمات والكرامات، يتحدثُ عن خلقِ الإنسان ويقول: «خَلَقَ الانْسَانَ* عَلَّمَهُ الْبَيانَ».

ول «الْبَيان»: مفهومٌ عامٌ حيثُ يُطلقُ على كلِّ شي ءٍ موضِّح كأنواع الاستدلالات العقلية، والمنطقية التي تُبينُ المسائلَ المعقدَّة، أو الخط والكتابة، أو الكلام الذي يعد من ابرز مصاديقه.

وقد اعطى المفسرون احتمالاتٍ كثيرة في تفسير «البيان»، فقد اعتبرها فريق منهم

__________________________________________________

(1) نقل عدةٌ من المفسرين أنّ آدم عليه السلام كان أول من كتب بواسطة القلم (تفسير القرطبي، ج 10، ص 7210؛ وتفسير روح البيان، ج 10 ص 473).

نفحات القرآن، ج 2، ص: 109

بمعنى بيانُ الخير والشَّر، وفريق آخر بمعنى بيانُ الحلال والحرام، وثالث اعتبرها بمعنى الاسم الأعظم، ورابع بمعنى تعليم اللغة «1».

لكن من الواضح أنّ ظاهر (البيان) هو التكلُّم، وتبدو بقية الاحتمالات ضعيفة «2».

وهنا كيف علَّمَ اللَّه تعالى الإنسان التكلُّمَ؟ قال بعض المفسرين: إنَّ اللَّه هو الذي «وَضَعَ اللغات» ثم علَّم الأنبياء عليهم السلام عن طريق الوحي، لكن يبدو أنّه ليس هناكَ دليلٌ واضحٌ لهذا الرأي، إنّما المقصود هو الالهام الباطني من قبل اللَّه تعالى للإنسان، حيث استطاع من خلال ايجاد الصوت عن طريق الحنجرة، ثم إيجاد الحروف عن طريق حركة اللسان والاعتماد على مخارج الحروف، ثم تركيبها مع بعضها وإيجاد الكلمات، ثم تسمية الأشياء والمفاهيم المختلفة، بحيث يعكس مقاصدهُ الباطنية والمفاهيم المادية والمعنوية، الجزئية والكلية، المستقلة وغير المستقلة كافة عن هذا الطريق السهل الذي هو في متناول أيدي الجميع، والحقيقة أنّه لو لم تكن هذه الهِبَةُ الالهيةُ الخلّاقة ولم يعرف الإنسان التكلُّمَ لَما وُجِدَتِ الحضارة، ولَما ارتقى العلمُ إلى هذا الحد، ولَما تمكَّنَ الإنسانُ من بناء قواعد حياتهِ على أساسِ

التعاون الجماعي، لأنَّ التعاونَ فرعٌ من علاقة التقارب مع الآخرين.

وورد في تفسير الميزان أنّ من أقوى الأدلة على أنَّ اهتداء الإنسان إلى «البيان» قد تم بالهامٍ الهيٍّ، هو اختلافُ اللغات باختلاف الامم والطوائف في الخصائص الروحية والاخلاقية والنفسانية وبحسب اختلاف المناطق الطبيعية التي يعيشون فيها «3».

وقد قدَّرَ بعض المحققين عدد اللغات الموجودة في العالم ب «ثلاثة آلاف لغة»، وقال بعضهم أنّ العدد يفوق ذلك «4».

وهذا الاختلاف عجيبٌ حقاً، وهو من براهين قدرةِ وعظمةِ اللَّه تبارك وتعالى

__________________________________________________

(1) تفسير القرطبي، ج 9، ص 6322، و تفسير روح المعاني، ج 27، ص 86.

(2) إذا فُسِّرت (البيان) في بعض الروايات على أنّها الاسم الأعظم فهو من باب ذكر المصداق الواضح.

(3) تفسير الميزان، ج 19، ص 107.

(4) دائرة المعارف «فريد وجدي»، ج 8، ص 364.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 110

فأَصلُ التكلم مِن آيات اللَّه العظيمة، وهذا التنوع في اللغات آيةٌ عظيمةٌ اخرى وكلاهما يعتبر من خصائص خلقةِ البشر.

من الممكن أن تنطقَ بعضُ الطيور عن طريق التعليم المتكرر عبارات جذابة، ولكن- ممّا لا شك فيه- أنّ عَمَلَها ليس إلّاتقليد لالفاظٍ محدودةٍ صادرةٍ عن الإنسان من غير ادراكٍ لمفاهيم هذه الالفاظ، فالانسانُ وحدهُ الذي يستطيع- بنحوٍ غير محدودٍ وبادراك تام- أن يكوِّنَ جُمَلًا ويصب فيها مفاهيم مختلفةً ويعّبر عنها.

وفي (توحيد المفضل)، يلفتُ الإمام الصادق عليه السلام النظر إلى هذه الآية العظيمة، حيث يقول عليه السلام للمفضل: «... اطِلَ الفكر يا مفضل في الصوت والكلام وتهيئة آلاته في الإنسان، فالحنجرة كألانبوبة لخروج الصوت، واللسان والشفتان والاسنان لصياغة الحروف والنغم، الم تر أن من سقطت أسنانه لم يقم السين، ومن سقطت شفته لم يصحح الفاء، ومن ثقل لسانه لم

يفصح الراء، وأشبه شي ء بذلك المزمار الأحمر ....» «1».

ثم يشرحُ الإمام عليه السلام تفاصيلَ ذلك للمفضل ويدعوه إلى التفحص بهذا الأمر.

وفي الآية السابعة والأخيرة من بحثنا، يخاطبُ تعالى الرسولَ صلى الله عليه و آله ويأمُرُهُ: «فَذَكِّرْ إِنَّمَا أنْتَ مُذَكِّر»، فقد يكون المقصود من «التذكير» إشارة إلى أن حقائق هذه العلوم والمعارف وخلاصتها موجودة في وجدان وروح الإنسان طبقاً للهداية الإلهيّة، ثمَّ تتفتحُ هذه العلوم في ظل تعاليم الأنبياء والرُسل (عليهم السلام)، حيث تخرج من مرحلة «الخفاء» إلى مرحلة «الظهور»، ومن «الاجمال» إلى «التفصيل» ومن «الباطن» إلى «الظاهر».

وقد وردت هذه الآية أربعُ مراتٍ في القرآن الكريم في سورة القمر عند بيانِ وقائعِ قومِ «فرعون» و «عاد» و «ثمود» و «لوط» حيث يقول تعالى «وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرآنَ لِلذَّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُّدَّكِرٍ». (القمر/ 17، 22، 32، 40)

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار، ج 3، ص 71.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 111

وهذا الكلامُ معروفٌ أيضاً عن بعض الفلاسفة اليونانيين، حيث يقولون: «ليست العلومُ والمعارف إلّاالتذكير، ولقد اودِعت جميعُ القواعد العلمية روح الإنسان دون استثناء، وقد نَسِيَها الإنسانُ إلّاأنّها تعود إلى الذاكرة بمساعدة المعلمين».

يقول الفخر الرازي في تفسيره: «لو قال قائلٌ: هذا يقتضي وجودَ أمرٍ سابقٍ فنسيَ، ونقول: ما في الفطرة من الانقياد للحقِّ هو كالمنسي فهل من مدَّكر يرجع إلى ما فُطِرَ عليه» «1».

على أيّةِ حالٍ، فإنّ جميع هذه الآيات دليلٌ حيٌ على الهداية الإلهيّة الفطرية للإنسان.

توضيح

الهداية الفطرية و الغريزية في العلم المعاصر:

مع تطور علم النفس، وعلم التحليل النفسي، وبحوث العلماء حول الحواس ذات الأسرار الغريبة للحيوانات، اكتُشِفت الكثير من أسرار الهداية الفطرية والغريزية الغريبة والمدهشة في عالم الأحياء، ونواجه ظواهر تعجز العلوم عن تفسيرها، ولايمكن أبداً الوقوف على مصدر هذه الهدايات، إلّاأنّ نُسَلِّمَ بأنَّ مبدى ء

عالم الوجود الذي تَكفَّل بهداية جميع الكائنات هو الذي وَهَبَ هذه العلوم عن طريق الالهام الفطري الخفي للإنسان أو الحيوانات.

ولدينا في هذا المجال قدر وافر من الشواهد بحيث لو جُمعت لشكَّلت كتاباً كبيراً، منها الحالات الدقيقة الآتية:

1- إنّ الطفل حين ولادته يعرفُ جيداً ومن دون الحاجةِ إلى معلِّمٍ كيفية الامساك بالثدي والرضاعة، واستخدام اليد والأصابع لهذا العمل، وعكس وايصال حاجاته إلى الأُم عن طريق البكاء ويكون حاملًا لاستعدادات خفية اكتسبها من أمُه، من بينها: ابتداع الكلمات،

__________________________________________________

(1) تفسير الكبير، ج 29، ص 42.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 112

قابلية التكلم وفهم اللغات بالأضافة إلى إدراك الحسن والقبح وقسم كبير ممّا يجب وما لا يجب ويحمل في نفسه بشكل فطري معرفة عالم الوجود بالإضافة إلى معرفة اللَّه سبحانه وتعالى.

يقول أحد العلماء: حينما تحتضنُ الامهاتُ أطفالهنَّ لتهدئتهم فهنَّ يضعنهم على الجانب الايسر من الصدر بلا علمٍ منهنَّ بهذا الفعل، حيثُ يضعْنَ أطفالهن بجوار قلوبهن، فيهدأ الطفل بمجرد سماعه ضربات قلب الأُم لأنّه اعتاد على سماع هذا الصوت عندما كان جنينا في بطن أُمه وقلما توجد ام ملتفتة إلى هذه المسألة، ولذا فانّها تؤدّي عملَها هذا في هذا المجال بالهام فطريٍّ محض.

2- إنَّ مسألةَ الهداية الفطرية والغريزية في عالم الحيوان أوسعُ بكثير عمّا هي عليه في الإنسان، حيث يعرض علماء العصر نماذجَ مدهشةً منها، فقد جاء في كتاب (البحر دار العجائب) تأليف (فرد ديناندلين) مايأتي:

«إنّ تصرفات بعض الأسماك تُعدّ من أسرار الطبيعة حيث يعجز كلُّ إنسانٍ عن بيان سببها، فاسماك ال (قزل آلا) تترك مياه البحر لتعود إلى مياه الأنهار العذبة التي بدأت حياتها فيها، وتسبح بجدٍ في الاتجاه المعاكس لتيار الماء، وتقفز من فوق الصخور، بل وتصعدأعلى

الشلالات أيضاً، وقد تملأ النهر لكثرتها أحياناً، وعندما تصل هذه الأسماك إلى المكان الذي تبحثُ عنه تضع بيوضها ثم تموت!

فكيف تهتدي هذه الأسماك إلى الأنهار المناسبة ياترى أنّها أكثرُ إثارة للعجب من اختراع المذياع والتلفاز، لأنّها لا تمتلك خارطةً، كما أنّ قابليتها على الرؤية تحت الماء ضعيفة، وليس هناك من يُدِّلُّها على الطريق «1».

3- وجاء في نفس ذلك الكتاب: «إنَّ تصرفَ (الجريّ) أكثرُ عَجَباً من هذا، فحينما يبلغ سمك الجريّ «الانجليزي» ثماني سنوات يهجُر الحوض أو النهر الذي يعيش فيه ويزحف ليلًا كالافعى على الاعشاب الرطبة حتى يصل إلى شاطى ء البحر، ثم يطوي المحيط

__________________________________________________

(1) البحر دار العجائب، ص 116.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 113

الاطلسي سباحةً ويتجه نحو المياه القريبة من (مثلث برمودا) حيث تضع الاناث بيوضها تحت الماء هناك وتموت ... والمدهش أنّ صغار سمك الجريّ تعوم على سطح الماء ثم تبدأ سَفَراً طويلًا نحو الوطن الأُم، حيث تستغرق هذه الرحلةُ سنتين أو ثلاث سنوات!

فكيف يعرف الجريّ هدفه هذا مع أنّه لم يسلك هذا الطريق أبداً؟!

إنّ الجواب عن هذا السؤال يستوي فيه جميع الناس حتى أعلم العلماء وهو (لا أعلم) «1».

4- يقول (فيتوس درفيشر) مؤلفُ كتاب (الحواس الخفيّة للحيوانات): «لقد اكتشفَ العلماءُ أسراراً مذهلة عن الخفاش، منها وجود أربعةِ أنواعٍ من الخفافيش التي تصطاد الأسماك، فهي تحلق ليلًا فوق الماء وتمد أرجُلَها فيه فجأةً لتصطاد سمكةً وتأكلها، إنّه سرٌ مدهشٌ فمن اينَ لها العلمُ بانَّ في تلك النقطة سمكةٌ تسبح تحت الماء؟ لم يفلحُ الإنسانُ بالقيام بهذا العمل حتى الآن بالرغم من وسائله واختراعاته العلمية، فلا تستطيع أيُ طائرةٍ قاذفةٍ أن تحدِّدَ مكاناً معيناً لغواصةٍ تحتَ الماء، وإن استطاعت فعليها أن تطلق موجات خاصة

على الماء كي تحدد مكان الغواصة من خلال الذبذبات التي تنبعث من الغواصّة إلى الطائرة بواسطة الأمواج اللاسلكية.

أجَلَ، فالطائرة على عكس الخفاش لم تستطع الاطّلاع مباشرةً على مكان وجود الهدف الذي تحت الماء، .. يقول البروفسور (غيري فون) «ليس هناك توضيحٌ يمكنُ قبوله لهذا الموضوع أبداً».

ثم يضيف قائلًا: «ولم يكتشف الإنسان شيئاً حتى الآن إلّاويجد الطبيعة قد سبقته إليه».

ومن الطبيعي أن يبعث هذا الاكتشاف عند الإنسان الغرور، لكنه لا يلبث أن يجد نفسه متأخراً عن الطبيعة في هذا المضمار.

لهذا فقد استحدثَ العلماء الاميركيون علماً جديداً باسم «البولوجيا»- علم البيئة-، وهدفه تعلم الفنون والأساليب الجديدة من الدروس التي تمنحها لنا الطبيعة من خلال الوصول إلى أسرارها.

__________________________________________________

(1) البحر دار العجائب، ص 116.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 114

ثم يضيف قائلًا: «لو وضعنا أحد هذه اللبائن (الخفاش) في صندوقٍ مُقفَلٍ مُظلمٍ وابتعدنا به ثلاثمائة كيلو متر عن عُشِّهِ ثم اطلقناه، نجده يعود مباشرةً وباقصرِ وقتٍ إليه بالرغم من كونه شبه أعمى وكون ذلك المكان مجهولًا بالنسبة إليه» «1».

5- ويوضح الكاتب المعروف (غرسي موريسن) في كتابه (سرُّ خلق الإنسان) وفي فصوله تحت عنوان (الشعور الحيواني)، صوراً لنماذج من هذا القبيل منها:

إنّ الطيور تبني وتوجد أعشاشها بشكلٍ غريزي (على الرغم من أنّها لم تَرَ نموذجاً من قبل)، فطيرُ السنونو الذي يبني عُشَّهُ في رواق البيوت يهاجر في فصل الشتاء إلى المناطق الدافئة، وأمّا إذا لاحت طلائع الربيع فهو يعود إلى وكره.

والكثير من الطيور تهاجر نحو الجنوب والمناطق الحارة، وأغلبها يقطع مئات الفراسخ براً وبحراً إلّاأنّها لا تضِّل الطريق إلى أوكارها أبداً.

والأسماك الحرّة تعيش سنواتٍ عديدةٍ في البحر، ثم تعود إلى النهر الذي جاءت منه، والاكثر عجباً أنّها تقفزُ من شاطى ء النهر

المرتفع وتذهب إلى النهر الذي وُلدت فيه ...

فالأسماك الحرّةُ تَتَبعُ شعورها الباطني، وتذهب إلى الساحل الذي كان محلًا لنشوئها ونموها، فأيُّ شعورٍ يؤدّي إلى أن يعود هذا الحيوان إلى وطنه بهذا النحو الدقيق؟ «لا عِلم لأحد».

فلو أخرجنا فَرخَ طيرٍ من عشِّه وقمنا بتربيته في بيئةٍ اخرى فهو يبدأ ببناء عشٍ له عند بلوغه مرحلة الرشد والتكامل وبالاسلوب الذي يتبعهُ أبواه، فهل أنَّ الأعمال المحدّدة والمختلفة التي تصدر عن جميع مخلوقات الأرض تحدث صدفةً، أم أنَّ العقل والشعورَ العام يؤدّي إلى صدورها؟ «2».

6- ويقول أحد العلماء الفرنسيين ويدعى «فارد» بصدد طائرٍ يسمى (اكسيكلوب) ما يأتي:

__________________________________________________

(1) الحواس الخفية للحيوانات، ص 17.

(2) سرُّ خلق الإنسان، الفصل 8، الشعور الحيواني.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 115

«لقد درست أحوال هذا الطائر، فوجدت من خصائصه أنّه يموت عندما يُكملُ وَضْعَ بيوضه، أي أنّه لا يرى فراخه أبداً، ولذلك فانَّ الفراخَ سوف لن ترى وجهَ الأم الملي ء بالحنان إلى الأبد، وعندما تخرج من البيضة تكون على هيئة اليرقة عديمة الريش والأجنحة ولا قدرةَ لها للدفاع عن نفسها تجاه ما يهدد حياتها، لذلك فعليها البقاء لمدة سنةٍ كاملة على هذه الحال وفي مكانٍ آمنٍ، وأن يكون غذاؤها إلى جانبها، لهذا فحينما تشعر الأُم بحلول موسم وضع البيوض تبحث عن مقطعٍ خشبي فتقوم بثقبه، ثم تشتغل بجمع الأطعمة، فتجمعُ الأوراق والاغصان التي يمكن استخدامها لتغذية فراخها لمدّة سنةٍ كاملة وتُعدُّهُ لواحدٍ من هذه الفراخ، ثم تضعه في نهاية الثقب وتضع عليه بيضةً واحدة وتبني فوقه سقفاً قوياً نسبياً من عجينةِ الخشب، وتبقى تشتغل بجمع الأطعمة، وبعد تأمين قوت سنةٍ كاملةٍ لفرخٍ آخر ووضعها على سقف الطبقةِ الاولى تضع بيضةً اخرى ثم تبني

طبقة ثانيةً، وهكذا تقوم ببناء عدةِ طبقاتٍ ثم تموت بعد الفراغ من العمل! (تأمّلوا جيداً .. من اين جاءت معرفةُ هذا الطائر الضعيف بأنَّ لفراخه مثل هذه الحاجات؟ ومِمَّ استلهم هذه التعاليم؟ فهل تعلَّمها من أُمه؟ في الوقت الذي لم يَرَها أبداً، أم من خلال التجربة، علماً أنّ هذا العمل لا يقع إلّامرّةً واحدةً في حياته ...

ألا يجب الاعتراف بأنَّ هذا الفعل يستندُ إلى الهامٍ غيبي وغريزي حيث وضعته يد القدرة الإلهيّة في كيانه؟!).

7- يقول العالم النفساني الروسي المعروف (بلاتونوف) في كتابه (علم النفس في الاتحاد السوفيتي):

«التقيتُ أثناء الحرب العالمية العظمى صدفةً بطبيب لم يَرَ النومَ لبضعِ ليالٍ، ثم تمكَّنَ من النوم قليلًا، وأثناء ذلك جي ء بعددٍ كبيرٍ من الجرحى الذين يجب علاجهم فوراً، إلّاأنَّ الطبيب المذكور لم يستيقظ، فحرّكناه وسَكَبنا الماء على وجهِه، فكان يحرِّكُ رأسه ويعود إلى النوم، فأشرتُ إلى الموجودين بالسكوت «كي اوقظَهُ»، ثم قلتُ له بهدوء وبشكلٍ واضحٍ: أيّها الطبيب جاؤوا بالجرحى وهم بحاجةٍ ماسةٍ إليك، هنا استيقظ فوراً.

ثم يضيف: كيف يمكنُ تبريرُ هذا الأمر، فهؤلاء الذين كانوا يسعونَ لايقاظه كانوا

نفحات القرآن، ج 2، ص: 116

يوجهون التأثيرات على القسم غير الفعال من دماغه، بينما وضعتُ «دائرة الحراسة من المخ» في حالة انذار وترقب فهذا الجزء يبقى مستيقظاً حتى في أعمق حالات النوم، ومن خلال دائرة الحراسة هذه يقيم الإنسانُ علاقاته مع العالم الخارجي (ويودع المسائل التي يرغبُ بها في هذه الدائرة بلا قصد منه).

والأُمُ التي تنام إلى جانب طفلها المريض ولا يمكن لأعلى صرخات الذين من حولها أن توقظها، تستيقظ لأقلِّ أنَّةٍ تصدر من طفلها.

والطّحان الذي ينامُ عند حدوث العواصف المصحوبةِ بالبرق والرعد يستيقظ بمجرّد توقف طاحونته عن العمل، كل

ذلك بسبب ايداعهم لما يريدونه في دائرة الحفظ في المخ في حالة اللاشعور» «1».

8- ويقول (درفيشر) في كتابه حول الحمام الزاجل وعودته المدهشة إلى عشّه:

«لو وضعنا هذا الطائر في صندوقٍ مقفلٍ مظلمٍ وأبعدناه مئات الكيلو مترات عن وكره، وسلكنا به الطرق الملتوية والمعقّدة أثناء رحلتنا، فانّه حال اخراجه من الصندوق يطيرُ مباشرةً نحو عشِّه بعد عشرٍ أو عشرين ثانيةٍ من رؤية النور، وقد ثبتَ ذلك عن طريق الاختبارات المتكررة التي قام بها عالمٌ معروفٌ يُدعى الدكتور «غرامر» .. ويمكن توضيح اسلوب عمله بهذا المثال: فلو أنّ هذا الطائر كان في مدينة هامبورغ فانّه يعلم أين تكون الشمس عند الساعةِ الفلانية من اليوم، فإذا أخذوه إلى مدينة «بروم» مثلًا فانّه يفهم أنَّ الشمس هناك تكون إلى الشمال من 25/ 1 درجةً شرقاً بنصف درجة.

فمن أجل عودته إلى وكرهِ في هامبورغ يجب عليه التحليق نحو الشمال الشرقي مع الأخذ بنظر الاعتبار وضع الشمس في هامبورغ.

إلّا أنّه ليس معلوماً كيف تقوم هذه الطيور بتحديد طريقها عندما يكون الجوُّ غائماً حيث تختفى الشمس؟ لقد أثبتت التجارب أنَّ أغلبها يجد طريقه بدون الاستفادة من حركة الشمس كبوصله لتحديد اتجاهها» «2».

__________________________________________________

(1) علم النفس في الاتحاد السوفيتي، ص 19 «مع شي ء من الاختصار».

(2) الحواس الخفية للحيوانات، ص 183.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 117

ولو فرضنا أنَّ هذه الطيور تستفيد من حركة الشمس، فمن المسلَّم به عدم مقدرتها على تعيين الزوايا، وهي زوايا صغيرة جدّاً، لا يمكن قياسها الامن خلال الاستعانة بالمنقلة لتحديدها، وهذه مسائل لا يمكن تفسيرها إلّافي ظل الهداية التكوينية الإلهيّة.

إنَّ هذا الطائر ومئات مثلُهُ دليلٌ حيٌّ على أنّ وراءَ الطبيعةِ علماً وقدرةً لا متناهيةً تهدي وتقود كلَّ موجودٍ

في مسيرة حياته ... نعم كلُّ هذا دليلٌ على من لا دليل له.

9- ونختم الحديث بكلامٍ ورد عن الإمام الصادق عليه السلام طبقاً لما جاء في (توحيد المفضل)، حيث يقول عليه السلام: «فكّر يا مفّضل في خلقة عجيبة جعلت في البهائم، فانّهم يوارون أنفسهم إذا ماتو كما يواري الناس موتاهم، وإلّا فأين جيف هذه الوحوش والسباع وغيرها لا يرى منها شي ء؟ وليست قليلة فتخفى لقلتها؛ بل لو قال قائل: إنّها أكثر من الناس لصدق، فاعتبر ذلك بما تراه في الصحارى والجبال من أسراب الظبا والمها والحمير والوعول والأيائل وغير ذلك من الوحوش، وأصناف السباع من الأسد والضباع والذئاب والنمور وغيرها، وضروب الهوام والحشرات ودوابّ الأرض، وكذلك أسراب الطير من الغربان والقطا والأوز والكراكي والحمام وسباع الطير جميعاً وكلها لا يرى منها شي ء مات إلّا الواحد بعد الواحد يصيده قانص أو يفترسه سبع ....» «1».

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار، ج 3، ص 99 (مع شي ء من الاختصار).

نفحات القرآن، ج 2، ص: 119

6- آياتُه في حالتي النوم واليقظةِ

تمهيد:

لم يقتصر القرآن الكريم على إشارته إلى الموضوعات المهمّة جدّاً كخلق السماوات والأرض، والشمس والقمر، وروح الإنسان، بصفتها آيات وبراهين من اللَّه تعالى فحسب، بل نراه أحياناً يتعرض إلى المسائل العاديّة في نظرنا أيضاً، لكي يوضح لنا أنْ ليس هناك شي ء عاديّ في هذا العالم، فكلُّها آياتُ حقٍ كبيرة كانت أم صغيرة، وبراهينٌ عظيمةٌ على علم وقدرة الباري تعالى

ومن بين هذه الامور التي تُعَدُّ عاديةً حسب الظاهر، هي حالتا النوم واليقظة اللتان استند اليهما القرآن الكريم على وجه الخصوص.

بهذا التمهيد نقرأ خاشعين الآيات الكريمة الآتية:

1- «وَمِنْ آياتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ والنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِّنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآياتٍ لِّقَومٍ يَسْمَعُونَ». (الروم/ 23)

2- «وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ

لَكُمُ اللَّيلَ لِباساً والنَّومَ سُبَاتاً وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً».

(الفرقان/ 47)

3- «وَجَعَلْنَا نَومَكُمْ سُبَاتاً* وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً». (النبأ/ 9- 10)

4- «إِذْ يُغَشِّيْكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنْزِّلُ عَلَيْكُمْ مِّنَ السَّمَاءِ ماءً لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ».

(الانفال/ 11)

نفحات القرآن، ج 2، ص: 120

شرح المفردات:

حينما يتطرق بعض أرباب قواميس اللغة إلى مصطلح «النوم» يقولون إنَّ له مفهوماً معروفاً «1».

إلّا أنَّ الراغبَ يقول في كتاب المفردات:

النوم: فُسر على أوجه كلها صحيح بنظرات مختلفة، قيل هو استرخاء أعصاب الدماغ برطوبات البخار الصاعد إليه، وقيل هو أن يتوفى اللَّه النفس من غير موت، قال: «اللَّه يَتَوفى الانفُس» الآية، وقيل النوم موت خفيف والموت نوم ثقيل «2».

و «النُّعاس»: «على وزن غُبار» ويعني النوم القليل والخفيف، وفسَّره بعض على أنّه بداية النوم، وهنا حيثُ يكون النومُ خفيفاً في بدايته فانَّ كلا المعنيين يعودان إلى حقيقةٍ واحدةٍ.

و «السبات»: مأخوذة من مادة «سَبْت» (على وزن ثَبْت) أي «القطع»، ولهذا سُمِّيَ يومُ السبت بهذا الاسم في لغة العرب، حيث كان يوماً لتعطيل الأعمال من أجل الراحةِ، وممّا يظهر أنَّ هذه التسمية مستوحاةٌ من أفكار اليهود حيث يعتبرون يوم السبت عطلةً لهم، وهذا ما يعتقد به اليهود، إذ يقولون إنَّ اللَّه تعالى بدأ خلقَ العالم يوم الأحد وانتهى بعد ستة أيّامٍ فكان يوم السبت نهايةً لخلق البشر وللراحة إلّاأنّنا نعلمُ أنَّ هذا من الأخطاء الفاضحة لليهود، لأنَّه في الوقت الذي لم تكن هناك سماءٌ ولا أرضٌ ولا شمسٌ ولا قمرٌ لم يكن هناك وجود لليوم والاسبوع أيضاً وحينما يقول القرآن الكريم: «خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ» فالمقصود «ست مراحل».

وكلمة «السبت» جاءت بمعنى الراحةِ أيضاً «3».

جمع الآيات وتفسيرها

النوم من آيات اللَّه:

في الآية الاولى من البحث يَعُدُّ القرآن الكريمُ نومَ الإنسان في الليل والنهار أحدَ

__________________________________________________

(1) لسان العرب ج 12، ص 595، مادة (نوم).

(2) لسان العرب، مادة (نوم).

(3) مفردات الراغب؛ مجمع البحرين؛ لسان العرب.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 121

البراهين على علمِ وقدرةِ اللَّه تعالى فيقول: «وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ».

وهو في

نهاية الآية يؤكد هذا البرهان «إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَومٍ يَسْمَعُونَ».

وممّا لا شك فيه أنَّ الكائنات الحيّة كافة تحتاجُ إلى الراحةِ لتجديد قواها، واكتساب الطاقة اللازمة لاستمرار نشاطاتها الحياتية، الراحةُ التي تلاحقهم تلقائياً، وتجبُرُ حتى الذين يحرصون على عدم التمتع بها.

فايُّ عاملٍ أفضلُ من النومِ يمكنُ أن نفكر به من أجل تحقيق هذا الهدف حيث يلاحق الإنسانَ بشكلٍ اجباريٍّ ويضطره لايقاف جميع نشاطاته الجسمية، بل حتى بعض من نشاطاته الفكرية الأساسية، وفي النتيجة يغطُّ في راحةٍ عميقةٍ، وخلال هذه الفترة تقوم أجهزة الجسم باعادة البناء والاستعداد للسعي والحركة من جديد.

وممّا لا شك فيه أنّ الإنسان لولا النوم، فانّه يذبُلُ ويتْلَفُ، ويُصيبُهُ العَجَزُ والانكسار بسرعةٍ، لذلك فقد قالوا: إنَّ النومَ المعتدل والاستقرار سرُّ السلامةِ وطولِ العمر وحيوية الشباب.

واللطيفُ أنَّ الآيةَ التي نبحثها وضعت «النوم»، و «ابْتِغاء فَضْلِ اللَّهِ» في مقابل بعضهما، وحسب قول بعض المفسرين أنَّ الأولَ هو علامة الموت والثاني علامة القيامة.

إنّ تعبير «ابتغاء فضل اللَّه» يشير إلى نقطة ظريفة وهي أن سعي وجهد الإنسان في حياته من المسائل ذات الأهميّة، وكذلك الفضل الإلهي، والجمع بين الاثنين تجعل الإنسان يستفيد من مواهب هذا العالم.

وهنا توجد نقطةٌ جديرةٌ بالاهتمام أيضاً حيث ذكرت الآيةُ أعلاه النومَ بالنهار إضافة إلى النوم بالليل: «مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ»، في الوقت الذي يُعتبرُ النومُ مختصاً بالليل فقط حيث تؤكدَ آياتُ القرآن الكريم هذا المعنى إلّاأنّ بعضَ الظروف التي تطرأ في حياة الإنسان تجبُرُهُ على أنْ يَسهَرَ الليل وينامَ النهار، ويُلاحَظُ هذا الأمر كثيراً في السفر ليلًا، وفي المناطق الحارّةِ جدّاً حيث تتوقف النشاطات النهارية بسبب حرارة الجو ويكون العمل فقط أثناء الليل.

وفي عصرنا الراهن حيث تكون الكثير من المؤسسات الصناعية، ومعامل صناعة

الأدوية مضطرة للعمل ليلًا ونهاراً، إذ من الصعوبة ايقاف العمل، ممّا يدفع العمال إلى تقسيم

نفحات القرآن، ج 2، ص: 122

أعمالهم إلى ثلاث وجبات يومياً، فتتضح الحاجةُ إلى النوم في النهار أكثر من أيِّ وقتٍ آخر.

والآن .. فلو لم يكن برنامج تنظيم النوم بيد الإنسان، ولم يتيسر النوم نهاراً بدلًا عن الليل، فمن المسلَّم به أنّ مشكلاتٍ كبيرةً ستعترضُ حياته.

وفي الآية الثانية بعد ذكر: «هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً» يشيرُ إلى مسألة النوم حيث يقول تعالى «وَالنَّوْمَ سُباتاً».

ومن الممكن أن يكون تعبير «هو الذي» إشارة إلى الجانب التوحيدي لهذه الامور، فكلٌ منها دليلٌ على الذات المقدّسة، أو جانبِ الانعامِ كي يعرفَ الإنسانُ وليَّ نعمتِهِ، ومن المسلَّم به أن الإشارة إلى وليَّ النعمة ستكون مقدمةً لمعرفته أيضاً.

واللطيف أنّه يقول بعد ذلك: «وَجَعَلَ النَّهارَ نَشُورَاً» «1»

.

أجَلْ ... ففي وضح النهار تنتشر الروحُ ويستيقظ الإنسانُ بشكلٍ كامل، إذ لا يخلو من شَبَهٍ بنشورِ يوم القيامة والحياة ما بعد الموت.

وهذا الاحتمالُ ممكن أيضاً، حيث يشير إلى انتشار الناس في ميدان الحياة وحركتهم نحو مقاصدهم المعاشيةِ المختلفة، وبهذا فانَّ أجراس النوم والراحةِ تقرع مع حلول الظلام، وتدق هذه الأجراس في النهوض مع بزوغ الشمس.

وفي الآية الثالثة تكرَّرَ هذا المعنى باختصارٍ طفيف إذ يقول: «وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً* وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً»، فكما يصونُ اللباسُ الإنسانَ من الاخطار ويكون له دوراً في سلامته فانَّ ظلامَ اللَّيل له مثل هذا الأثر.

وفي الآية الرابعة والأخيرة في هذا البحث، وحينما يتحدث القرآن الكريم عن وقائع غزوة بدر يشير إلى أنَّ احدى نِعَمِ اللَّه على المؤمنين في تلك الليلة التاريخية كانت «اذْ

__________________________________________________

(1) تأملوا جيداً أنَّ «النشور» معنى لمصدر، و «السُبات» معنى لمصدرٍ أيضاً أو اسمٌ

مصدريٌ، واطلاقهما على الليل والنهار يفيد المبالغة والتأكيد.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 123

يُغَشِّيْكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ».

لقد كانَ هذا النومُ الرغيدُ سبباً في تجديد قواهم والاستعداد للمعركة الحاسمة في ساحة المعركة ببدر صباحاً، وبخاصة بعد قطع تلك المسافة الطويلة إلى حدٍ ما، تلك المعركة التي انتهت بنصرٍ مبينٍ للمسلمين.

ولعلَّ تَعبير «النُّعاس» إشارة إلى عدم استحواذ النوم العميق عليهم بالرغم من تمتعهم بالراحةِ، كي لا يستغلَ العدوُّ الوضعَ السائد ويباغِتَهُم ليلًا، ولهذا كانت حقيقةُ ذلك النوم نعمةً وكيفيتُهُ نعمةً اخرى

على أيّةِ حالٍ، فانَّ الآيَة أعلاه تعتبر تأكيداً على أثر النوم على أعصاب وجسمِ وروح الإنسان أيضاً، وتجديد الطاقات من أجل مثابرَة أكثر وجهادٍ أكثر فاعليةً في كافة المراحل.

توضيح

ظاهرة النوم الخفيّة:

مع أنَّ «النوم» و «الرؤيا» تعتبر بالنسبة لنا أمراً عادياً، إلّاأنّ العلماء لم يتوصلوا إلى عمق هاتين الظاهرتين المهمتين بالرغم ممّا بذلوه من مساعٍ وجهود.

فايُّ فِعْلٍ وانفعالاتٍ تطرأُ على جسم الإنسان ليتوقف فجأة القسم الأعظم من نشاطاته الجسمية والروحية؟! ويحصلُ هذا التغيير في جميع أجزاء جسمه وروحهِ كذلك، فلا يفهمُ شيئاً ولا يبدي أىَّ حركةٍ ويستلقي جانباً كالميت، ولو غرقت الدنيا بأكملها فهو نائمٌ لا يدري.

ومع كل هذه التوضيحات والآراء والفرضيات التي قيلت في هذا المجال، فقد حافظ النوم على صورته المدهشة!

والأكثر عجباً من ذلك مسألةُ (الرؤيا) التي تُعَدُّ من الألغاز العظيمة كروح الإنسان.

وطبعاً أنّ الحديث المفصَّلَ بصدد حقيقة وأسرار هاتين الظاهرتين خارجٌ عن موضوع بحثنا، لأنَّ الغايةَ من بحث الآيات المذكورة هي بيان المنافع الكثيرة، والفوائد التي لا تُحصى للنوم من جانب ومن جانب آخر كونه نعمة من نعم اللَّه.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 124

فالنوم المعتدل دائماً يعتبر دليلًا على سلامةِ روح واعصاب الإنسان، لذلك فإنّ أهمَ

أسئلةِ الأطباء للمصابين بالأمراض النفسية تدور حول كيفية نومهم.

فلا تتوقف الاجهزة الأساسية في جسم الإنسان كالقلب والرئة أثناء النوم، لكنها تعملُ بهدوءٍ أكثر، ويصبحُ دوران الدَّم في الأعضاء أكثرَ تناسقاً، ويتوقفُ نشاطُ الدَّماغ تقريباً، وتستقر جميعُ العضلات أيضاً، فتؤدّي كلُّ هذه الامور إلى حصول هذه الأعضاء على فرصةٍ لِتجديد بناء بنائها.

وخلالَ النومِ تُزالُ سمومُ الجسم، وتُعالجُ كثير من الأمراض.

لقد أورد «روخلين» في كتابه (الرؤيا في نظر بافلوف) بحثاً تحت عنوان (العلاج بالنوم العميق) قائلًا:

«بناءً على فرضية «بافلوف» فانَّ النومَ عبارةٌ عن ظاهرةِ توقُفٍ من أجل الصيانة وتجديد القوى وعليه فيمكن استغلالهُ كعاملٍ للعلاج من الأمراض المختلفة، وتؤيدُ التجاربُ اليومية دور النوم في ذلك أيضاً».

ثم يضيف: «إنَّ النومَ العميق الطويل مؤثر على تحسُن صحة المريض، لأنَّ المرضى ينامون أكثر من المعهود بعد مرضٍ طويلٍ من أجلِ استعادةِ قواهم وسلامتهم».

ويقول: «لقد واجه العلاجُ عن طريق النوم رواجاً واسعاً في الاتحاد السوفيتي، وقد استخدمت هذه الطريقةُ لأولِ مرّةٍ لمعالجة (جنون الشباب) «الشيزوفرينيا» الذي يعتبر من الأمراض النفسية الشائعة».

ويقول في جانبٍ آخر من حديثه: «تمّ الحصول على نتيجةٍ مُرضيَةٍ لعلاج المصابين بارتفاع ضغط الدم عن طريق النوم العميق ... فالنوم الطويل الذي هو حالة من الراحةِ الكاملة للمخ، يُجدد قدرةَ الجهاز العصبي ويوازن تنظيم نشاط الأعضاء الداخلية، ويترك أثراً إيجابياً مساعداً للوضع العام للإنسان» «1».

أَجَل؛ فالذي خلق الإنسان سالماً من أجل السعي والنشاط، وضع جميع وسائل ذلك تحت تصرفهِ، وأحدُها نظام النوم واليقظة، النظام الذي تبرز فيه بكل وضوح براهينُ حكمةِ الباري عز وجل.

__________________________________________________

(1) النوم في نظر بافلوف، ص 112- 116 (مع الاختصار).

نفحات القرآن، ج 2، ص: 125

7- آياته في بسط السماوات والأرض

تمهيد:

بعد أن ذكرنا آياتِ (الانفس) نتجه صوبَ آيات الآفاق:

لقد

كانَ النظر إلى السماوات والأرض على الدوام دافعاً لتفكير الإنسان، وكلَّما تطورَ علمُ الإنسان تعاظم العالم السماواتي ذو الأسرار العجيبة في نظرهِ، فلو قيسَتْ عظمةُ السماوات في نظر علماء اليوم مع ما مضى لكانت «كالقطرةِ» إلى «البحر»، وليس معلوماً أن يكون «الغد» كذلك في قياسه مع «اليوم».

فماذا يجري في هذه المنظومةِ والمجرّات الكبيرة، والنجوم الثابتةِ والسّيارة؟ وما هي العوالم الموجودة فيها؟

وإلى أيِّ زمانٍ يعود تاريخ ظهورها؟

وهل هناك من يسكنُ فيها؟ وإذا كان كذلك فهل أنّ حياتهم تشبه حياتنا أم يختلفون عنّا؟

هذه الأسئلة وعشراتٌ اخرى تشغلُ فكرَ كلِّ إنسانٍ باحثٍ ومتفحصٍ في أمر السماوات.

يقول علماء العصر: إنّنا اليوم نرى نجوماً في السماء قد اختفت من الوجود قبل آلاف السنين وربّما قبل ملايين السنين، وهذا يعود إلى الفاصلة الخارقة بينها وبيننا، وأنّ نورها قد بدأ حركته منذ آلاف أو ملايين السنين وما زال في طريقه الينا، فإذا كان الميدان الحقيقي للسماء هكذا- وهو كذلك-، فإلى أيِّ حدٍ يختلف مع ما نراه اليوم؟ ليس هناك مَنْ يستطيع الإجابة عن هذا التساؤل!

نفحات القرآن، ج 2، ص: 126

هذه التساؤلات وأمثالها كثيرةٌ حيث يصعب الإجابة عنها من قبل العلماء.

لقد أصبحنا أمام مثل هذا العالم المملوء بالأسرار، فعظمتُهُ من جانبٍ، والنظام والتقنين اللذان يسودانه من جانبٍ آخر، تكشف الستار عن القدرة والعلم اللامتناهي لمن له اليد في هذا الخلق.

بعد هذا التمهيد نقرأ خاشعين الآيات الشريفة الآتية:

1- «إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُوْلى الْأَلْبَابِ». (آل عمران/ 190)

2- «إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ والنَّهَارِ ... لَأَيَاتٍ لِّقَومٍ يَعْقِلُونَ». (البقرة/ 164)

3- «وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ واخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعالِمِينَ». (الروم/ 22)

4- «إِنَّ فِى السَّمَوَاتِ

والأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّلمُؤمِنينَ». (الجاثية/ 3)

5- «خَلَقَ اللَّهُ السَّمَواتِ والْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْمُؤمنِيْنَ».

(العنكبوت/ 44)

6- «إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِى سِتَّةِ أَيّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلىَ الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيْعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إذْنِهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوْهُ أَفَلَا تَذكَّرُوْنَ».

(يونس/ 3)

7- «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَواتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ والْقَمَرَ لَيَقُوْلُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤفَكُونَ». (العنكبوت/ 61)

8- «لَخَلْقُ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ اكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ».

(غافر/ 57)

9- «قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِى اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ». (ابراهيم/ 10)

10- «وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأيْيدٍ وَانَّا لَمُوسِعُونَ* وَالأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدوُنَ».

(الذاريات/ 47- 48)

نفحات القرآن، ج 2، ص: 127

11- «وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَّحْفُوظًا وهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ». (الانبياء/ 32)

12- «اللَّهُ الَّذِى رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوىَ عَلىَ الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ». (الرعد/ 2)

شرح المفردات:

لكَلمة «الَخلْق» معنيان كما يقول صاحب «مقاييس اللغة»، أحدهما تقدير الأشياء، والآخر النَّقي والمسطَّحْ.

ويقول الراغب في المفردات: «الخَلْقُ» أصله التقدير، ويستعمل في ابداع الشي ء من غير أصل ولا احتذاء، قال تعالى «خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ» أي أبدعهما بدلالة قوله:

«بَدِيْعُ السَّمَواتِ وَالأَرْضَ»، ... وليس الخلق الذي هو الإبداع إلّاللَّه تعالى، ولذلك قال في الفصل بينه تعالى وبين غيره: «أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَايَخْلُقْ افَلَا تَذَكَّرونَ»، أمّا الذي يكون بالاستحالة فقد جعله اللَّه تعالى لغيره في بعض الأحوال، وتستعمل هذه المفردة في الكذب أيضاً (وربّما اطلق على الكذب بسبب اختلاق وايجاد موضوع ما في فكر السامع» «1».

ويقول ابنُ منظور في «لسان العرب»: الخلق في كلام العرب ابتداع الشى ء على مثال لم يُسبق إليه.

وعليه ... أنّ كلمة الخلق تَعني في الأصل التقدير والتنظيم وتنقية الأشياء، إلّاأنّها استخدمت فيما بعد بمعنى

الابداع والإيجاد وتغيير هيئة الأشياء بالنحو الذي يتبادر هذا المعنى الآن.

ومعنى «السماء» استناداً إلى ما قاله علماء اللغة، الشي ء الذي يرتفع عالياً، لذلك فانَّ البعض يعتقد أنَّ لها صفة النسبية حيث يمكن أنْ تكون نسبةُ شي ء إلى شي ء آخر كالسماء إلى الأرض، واشتُقَ «الاسم» من هذه المادة أيضاً لأنَّ التسمية عاملٌ في رفعةِ وسمو مقام المُسمى

__________________________________________________

(1) مفردات الراغب، ص 158.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 128

واستناداً إلى كلام مؤلف «التحقيق» فإنّ السماء قد تكون ملموسةً ومادية كما في:

«أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً» أو معنوية كما في: «قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِى السَّمَاءِ». (البقرة/ 144)

ويقول «ابن منظور» في «لسان العرب» أيضاً: السمو: تعني الارتفاع والعُلو «1».

وبناءً على ذلك فانَّ كلمة السماء لا تعني هذه السَّماء فقط بل أيَّ نحوٍ من الارتفاع والعلو، ولكنها جاءت في الآيات المُنتَخبة في هذا البحث بشكلٍ عامٍ بمعنى السماء.

وتُطلقُ «الأرْض» في الأصل على الجزء الأسفل لكل شي ء قبالة «السماء» التي هي الجزء الأعلى لكل شي ء، قال هذا الكلام صاحب «مقاييس اللغة»، ويقول الراغب في تعبيرٍ مشابهٍ: الأرض هي الجرمُ الذي يقابلُ السماء، ويعبَّرُ عن أسفل كل شي ءٍ ب «الأرض».

وورد في كتاب «التحقيق» أنّ الأرض لها مسمّيات متعددة بعضها أوسعُ من بعضها الآخر، فهي تُطلقُ على المسكنِ، والمحلِّ، والقريةِ، والمدينةِ، والبلد، والكرة الأرضية، وما تحت السماء، وحتى ما موجود في عالم الجسم وتحت عالم الأرواح، حيث يقال لكلٍّ منها «أرض»، وفي هذه المفاهيمِ يلاحظ قيدان هما الانخفاض، ومقابلة الارتفاع.

«أرَضَة» (على وزن حَدَقة) وتعني الحشرة التي تخرج من الأرض وتأكل الخشب.

واللطيف هو أنّ أحد معاني «الأرض» هو مرض الزكام، والآخر هو «الرِّعْدَة».

ولعلَّ السبب في ذلك أنّ هذه الأمراض تُقعدُ الإنسان وتُخلدُهُ

إلى الأرض «2».

__________________________________________________

(1) في كتاب «العين» للخليل بن أحمد ذُكرت «سماء» بمعنى الارتفاع أيضاً، ص 391.

(2) مقاييس اللغة؛ مفردات الراغب؛ لسان العرب؛ مجمع البحرين؛ والتحقيق في كلمات القرآن الكريم، ص 712 وص 113.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 129

جمع الآيات وتفسيرها

ارتفاعُ السماء آية حق!

الحديث في أول آيةٍ من البحث هو عن خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار اللذين يحصلان نتيجة دوران الأرض حول نفسها مقابل الشمس إذ يقول تعالى

«إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيات لِأُولى الأَلْبَاب».

وكما أوضحنا في بحوث المعرفة في المجلد الأول من هذا التفسير فانَّ «الالباب» جمع «لُبْ» أي العقل الصافي والعميق، نَعمْ .. فَمَنْ لهم مثل هذه العقول والألباب يستطيعون أن يَرَوا آياتٍ وبراهين كثيرةً عن القدرة الإلهيّة في خلق السماوات والأرض، واختلاف الليل والنهار، وليس آية واحدةً أو برهاناً واحداً فقط.

واللطيف ما جاء في الرواية المشهورة الواردة في الكثير من التفاسير في تفسير هذه الآية حيث ورد فيها: قال ابن عمر: قلت لعائشة اخبريني بأعجب ما رأيت من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فبكت وأطالت ثم قالت: كل أمره عجب، أتاني في ليلتي فدخل في لحافي حتى الصق جلده بجلدي، ثم قال لي: يا عائشة هل لك أن تأذني لي الليلة في عبادة ربي؟ فقلت يا رسول اللَّه إنّي لأحب قربك وأحبّ مرادك قد أذنت لك، فقام إلى قربة ماء في البيت فتوضأ ولم يكثر من صبّ الماء، ثم قام يصلي، فقرأ من القرآن وجعل يبكي، ثم رفع يديه فجعل يبكي حتى رأيت دموعه قد بلت الأرض، فأتاه بلال يؤذن لصلاة الغداة فرآه يبكي، فقال:

يا رسول اللَّه أتبكي وقد غفر اللَّه لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟

فقال صلى الله عليه و

آله: يا بلال أفلا أكون عبداً شكوراً، ثم قال: ما لي لا أبكي وقد أنزل اللَّه في هذه الليلة: «إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ»، ثم قال: «ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها» «1»

.

صحيحٌ أنّ كلَّ من ينظر إلى السماوات والأجرام السماوية يهتدي إلى آياتٍ من آيات اللَّه تعالى إلّاأنَّ ذوي العقول والألباب يستفيدون أكثر من سواهم، فهؤلاء يَرَوْنَ آثارَ قدرةِ اللَّه

__________________________________________________

(1) تفسير روح الجنان؛ ج 3، ص 384؛ تفسير الكبير 9 ص 134؛ و تفسير روح المعاني، ج 1404؛ تفسير القرطبي، ج 3، ص 1552 وتفاسير اخرى

نفحات القرآن، ج 2، ص: 130

تعالى في كلِّ مكان من السماء، فهم يجدون في خلق كلِّ منظومةٍ، وكلِّ مجرَّة، وفي حركاتها المنظَّمةِ العجيبةِ أسراراً لم يجدها سوى اولي الألباب.

وما يلفت النظر انّهُ ذُكر في الآية الثانية «قَوْمٌ يَعْقِلُوْنَ» بدلًا من «اولى الأَلْبَابِ»، وفي الآية الثالثة «عالِمين»، والرابعة والخامسة «مؤمنين».

وفي الحقيقة، كما ورد من تفصيل سابقٍ في بحث (مصادر ومجالات المعرفة) في المجلد الأول من هذا التفسير فانَّ كلًا من الميزات أعلاه (الالباب، التعقل، العلم، والإيمان) تعتبر أرضيةً مناسبةً للمعرفة والاطلاع بشكل أكثر عن آيات اللَّه.

وهذه مسألةٌ جديرةٌ بالاهتمام حيث يصف القرآنُ الكريم «اولى الألْباب» الذين تُفتَحُ أمامهم أبوابُ معرفةِ اللَّه من خلال مشاهدة خلق السماوات والأرض إذ يقول تعالى

«الَّذِيْنَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامَاً وَقُعُوداً وَعَلىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا». (آل عمران/ 191)

أي أنّ ذكر اللَّهِ أولًا، والتفكُّر ثانياً، والتأمل في الهدف من الخلق ثالثاً، يُدّلُهمْ كل ذلك على عظمة الخالق جلّ وعلا.

وعلى هذا الأساس فإنّ تلكؤ علماء الطبيعة في معرفة اللَّه سبحانه وتعالى بالرغم من معرفتهم لدقائق الأمور

في هذا الوجود يعود إلى أنّهم اعتمدوا في بحوثهم على دراسة المعلول والمخلوق ولم يهتموا بدراسة علة العلل و خلق الوجود والهدف من الخلق.

وكما في الآية الاولى فقد وردت مسألة خلق السماوات والأرض في الآية الثانية، إلى جانب اختلاف الليل والنّهار، أي مجي ء وذهاب الليل والنهار (أو اختلافهما التدريجي على مدى فصول السنة)، حيث يمثل ذلك إحدى الظواهر البارزة في السماوات والأرض، إذ يسود النظام الدقيق هذه الظاهرة منذ أزمنة طويلة، ويمكن تحديد لحظة شروق الشمس وغروبها قبل حصولهما، والحدود الدقيقة لليل والنّهار في كل فصلٍ وكلَّ زمانٍ من السنة،

نفحات القرآن، ج 2، ص: 131

ولأي بقعةٍ من بقاع الأرض، ونعلمُ جيداً بانّه أينما يوجد نظامٌ دقيق فانّه يكمنُ وراؤه علمٌ وعقلٌ ولبٌ مدبرٌ.

وفي الآية الثالثة ذكر مسألة اختلاف الألسن والألوان، التي هي من آيات الأنفس، إلى جانب مسألة خلق السماوات والأرض التي هي من آيات الآفاق، حيث يقول تعالى

«وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ وأَخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَالْوانِكُمْ».

وقد يكون اختلاف الألسن والألوان بمعنى اختلاف اللغات التي يتكلم بها الناس، وألوان وجوههم، أو بمعنى لحن أصواتهم واسلوب حياتهم، وتفكيرهم وأذواقهم، وقابلياتهم، أو جميعها، فهذا التنوع العجيب الذي يكون وسيلة لتعرف الناس على بعضهم، وإلى عدم خلو أيٍّ من المناصب الاجتماعية، من خلال النظام الدقيق الذي يسودُه، لا ينفصل عن النظام العجيب السائد في السماوات والأرض بل يرتبطان معاً، وكلٌ دليلٌ على عظمة وقدرة وتدبر الذات المقدسةِ للَّهِ، عزّ وجلّ.

وتشير الآيتان الرابعة والخامسة إلى خلق السماوات والأرض فقط، وتَعُدُّهُ من آيات اللَّهِ، لأنّ ممّا لاريب فيه أنّ هذا الخلق العظيم هو من آيات اللَّه البينات، غير أنَّ الآية الخامسة استندت إلى مسألة التقنيين والهدف من هذا الخلق

وبيانه من خلال تعبير «بالحق».

و في الآية السادسة طُرحَ موضوعٌ جديدٌ ألا وهو خلق السماوات والأرض في ستة أيّامٍ، إذ يقول تعالى «إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَواتِ وَالارْضَ فِى سِتَّة أَيَّامٍ».

نفحات القرآن، ج 2، ص: 132

وقد ورد ذكر خلق السماواتِ والأرض في ستة أيّام في سبع آياتٍ من القرآن الكريم «1».

وهذا يُبرهنُ على أنّ (القرآنَ الكريم) يولي اهتماماً خاصاً لمسألةِ الخلق التدريجي للعالم، وهو بذاته دليلٌ آخر على عظمة الخالق جلَّ وعلا.

ومع أنَّ بعضَ الماديين غير الواعين وبسبب عدم معرفتهم لمعنى «اليوم»، انتقدوا مثل هذه الآيات واستهزؤوا بها «2» حيث إنّهم يعتقدون أنّ «اليوم» هنا بمعنى بياض النهار أو (الأربع وعشرين ساعة)، إلّاأنّ الجميع يعلم أنّ اليومَ بهذا المعنى هو ناتج من حركةِ الأرض وضوء الشمس، وعندما لم يكن وجودٌ للسماوات والأرض لم يكن هناك مفهوم لليل والنهار بهذه الهيئة.

فقد غَفَلَ هؤلاء عن هذه المسألة وهي أنّ كلمة «اليوم» وما يماثلها في بقية اللغات لها معانٍ مختلفة من حيث المفهوم والاستعمالات اليومية، فمنها ما يعني «المرحلة» وقد تكون هذه المرحلة قصيرةً أو طويلةً جدّاً، كما يقول الراغب في كتاب (المفردات) الذي هو من الكتب اللغوية المعروفة: اليومُ يُعَّبرُ به عن وقت طلوع الشمسِ إلى غروبها، وقَدْ يُعبر به عن مدةٍ مِنَ الزَّمانِ أيَّ مدةٍ كانت.

ونقول في الاستعمالات اليومية، إنَّ الناس كانوا في يوم ما يسافرون على ظهور الحيوانات، واليوم بوسائط النقل السريعة، وكلا هذين التعبيرين (يومٌ، واليوم) إشارة إلى حقبة طويلة، ونقرأ في الحديث المعروف عن أمير المؤمنين عليه السلام: «واعلَمْ بأنَّ الدَّهرَ يومانِ:

يومٌ لكَ ويومٌ عليك» «3».

بل إنّ الدنيا كلها عُدَّت يوماً واحداً، وكذلك كل الآخرة في بعض العبارات، فيقول أمير المؤمنين عليه

السلام: «وإنَّ اليوم عملٌ بلا حساب، وغداً حسابٌ بلا عمل».

والبيتان المعروفان عن الشاعر كليم الكاشاني تعبير لطيفٌ في هذا المجال، وهذه

__________________________________________________

(1) الفرقان، 59؛ السجدة، 4؛ ق، 38؛ الحديد، 4؛ الاعراف، 54؛ هود، 7.

(2) المادية التاريخية، ص 87.

(3) نهج البلاغة، الرسالة 72.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 133

ترجمتهما العربية:

إنَّ الحياة سيئة الصيت يومان ليس اكثرَ (كليم) فدَعْني اخبركَ كيف مضت؟ فيومٌ مرَّ بتعلُّقِ القلبِ بهذا وذاك ويوم آخر مضى بانقطاع القلب عن هذا وذاك وعليه فانَّ المقصود من خلقِ السماوات والأرض في ستة أيّام هو ست مراحل، وقد تمتد كلُّ مرحلةٍ من هذه المراحل ملايين أو آلاف الملايين من السنين، ومن الواضح عدم توفُّرِ أيِّ دليلٍ يعارض هذا التحديد من الناحية العلمية «1».

ولكن من المحتمل أن تكون هذه المراحل الست حسب التسلسل الآتي:

1- مرحلةٌ كانَ العالمُ كلَّه فيها مجاميعَ عظيمةً جدّاً من الغازات التي تدور حول نفسها.

2- مرحلةُ انفصال هذه الغازات عن بعضها والدوران حول محور المجموعة المركزية.

3- المرحلة التي فيها شكَّلت بعض هذه المجاميع بسبب دورانها حول نفسها منظوماتٍ كمنظومتنا الشمسية.

4- المرحلة التي تكونت فيها الأرض واستعدت للحياة، وظهرت عليها المياه، وتكونت البحار.

5- مرحلةُ ظهور الأشجار والنباتات وتهيئة الأقوات والأطعمة على الأرض.

6- مرحلة ظهور الحيوانات وبعدها الإنسان على الأرض.

والمسألة الجديرة بالاهتمام هي أنّ من بين الآيات السبع التي بَينَت خلق السماوات والأرض في ستة أيّام، تمّت الإشارة في أربع آياتٍ منها فقط إلى خلق السماوات والأرض في ستة أيّام «2».

وفي ثلاث آيات ورد خلق السماوات والأرض وما بينهما «3».

وفي آية واحدة فقط اشير بشكلٍ عامٍ إلى تفصيل هذه المراحل الست، فمرحلتان لخلق

__________________________________________________

(1) ذُكِر أيضاً في كتاب القاموس المقدَّس الذي هو

شرحٌ لمفاهيم التوراة والانجيل، شرحٌ فيما يخص خلق السماوات والأرض في ستة أيّام حيث يشبه ما ورد أعلاه في بعض الجوانب بالرغم من اختلاطه ببعض الخرافات كاستراحةِ اللَّه في اليوم السابع (القاموس المقدس، ص 84 كلمة الخلق).

(2) الحديد، 4؛ الاعراف، 54؛ يونس، 3؛ وهود، 7.

(3) الفرقان، 59؛ السجدة، 4؛ ق، 38.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 134

الأرض، وأربعة مراحل لإيجاد النباتات والحيوانات: «الَّذِى خَلَقَ الأَرْضَ فِى يَوْمَيْنِ ... وَقَدَّرَ فِيْهَا اقْواتَها فِى أَرْبَعَةِ ايَّامٍ». (فصلت/ 9- 10)

بناءً على ذلك، فانَّ المراحل الست أعلاه تتعلق بخلق السماوات والأرض وموجوداتهما المتنوعة «1».

وتقول الآية السابعة من البحث إنّ هذا المعنى مسلمٌ به حتى لدى الوثنيين وهو: إنَّ اللَّه تعالى هو خالقُ السماوات والأرض، ومسخرُ الشمس والقمر، وأنّ هؤلاء يفهمون أنَّ هذا العالم الجبار والنظام العجيب لا يمكن أن يكون مِنْ خلقِ الأصنام، بل إنّ ضميرهم يحكُمُ بانَّهُ مِنْ خلقِ اللَّه العالمِ القادر: «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَواتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُوْلُنَّ اللَّهُ».

وعليه فليس العلماء والمفكرون وحدهم الذين يصلون إلى معرفة الذات الإلهيّة المقدّسة من خلال التفكر بأسرار الخلق، وإنّما الوثنيّون الجهلاء كذلك يعرفون بشكلٍ عام الذات المقدّسة من خلال مشاهدة هذا النظام بالرغم من أنّهم يتيهون في وادٍ من الشرك بسبب الخرافات والجهل المحيط بهم.

ومع أنّ الآية الثامنة تقصدُ مسألة المعاد والقيامة بدلالةِ الآيات التي تليها وتقول إنّ القادرَ على خلق السماوات والأرض بهذه العظمة، قادرٌ على أن يحييَ الموتى لأنَّ خلق السماوات والأرض أصعب وأعقد من خلق الإنسان، لكنها مع ذلك دليلٌ واضحٌ على مسألة معرفةِ اللَّه أيضاً، لأنَّ وجودَ الإنسان بل وحتى عضو واحد من أعضاء جسمه كالعين والاذن،

__________________________________________________

(1) ومن للتوضيحٍ أكثَر في

هذا المجال يراجع التفسير الأَمثل ذيل الآيات 54 الاعراف؛ و 10 فصلت).

نفحات القرآن، ج 2، ص: 135

بل حتى بناء خليةٍ واحدةٍ من خلايا هذه الأعضاء بكل ما فيها من التعقيد والابهام والأسرار والأنظمة يمكن أن يكون من آيات اللَّه تعالى بناءً على ذلك فانَّ (خلق السماء والأرض الذي هو أكبرُ وأعظم من خلق الإنسان أوضحُ برهانٍ على عظمة اللَّه تعالى «لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ».

ومن المؤكد أنّ خلق الإنسان إذا ما قيسَ مع كل جزء من أجزاء هذا العالم فانه يُرجح عليه، إلّاأنَّه إذا قيس بكل السماوات الواسعة والأرض، فمن المسلَّم به أنّ السماوات والأرض يرجح خلقُها على خلق الإنسان.

والظريف أنّ القرآن الكريم حينما جاء بهذا التصريح لم يكن للناس حينذاك- ولا سيما المتخلّفين في الحجاز- معرفة بعظمة السماوات، ولعلهم كانوا يظنّون أنّ السماء سقفٌ أزرق اللون قريبٌ منهم، وقد تمّ تثبيته بواسطة مسامير فضية وهي النجوم!

أجَلْ ... إنّنا اليوم ندرك جيداً المفهوم العميق لهذه الآية، لأنَّ العلماء تفحّصوا هذه السماء الواسعة من خلال المراصد الفلكية العملاقة، وقد زودونا بأسرار وعجائب مذهلة عن عظمتها والنظام السائد فيها، ومن أين ندري أنّ ما يشاهدونه اليوم لا يبلغ معشار عظمة هذا العالم، ولعل هذه الحقيقة تتضح غداً للملأ، لهذا يقول تعالى في آخر الآية: «وَلكِنَّ اكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُوْنَ» «1».

وفي الآية التاسعة تمَّ جمع دورةٍ كاملةٍ من دروس التوحيد ومعرفة اللَّه في استفهامٍ إنكاريٍّ حيث يقول: «أَفِى اللَّهِ شَكٌ فَاطِر السَّمَواتِ وَالأَرْضِ».

والجدير بالاهتمام هنا أنّ كلمة «فاطر» تعني المشَقِق، وجاء استخدام هذا التعبير إمّا بسبب تمزيق حجاب العدم والظلمة أثناء خلق السماوات والأرض وإشراق نور الوجود في

__________________________________________________

(1) ما معنى «لا يعلمون» هنا؟ هناك

احتمالات مختلفة: أولها هو: أنّ الناس يجهلون عظمتها قياساً مع الإنسان، والآخر أنّهم يجهلون القدرة الإلهيّة اللامتناهية، والثالث، أنّهم يجهلون قدرته على مسألة المعاد، أو يعلمون، وحيث إنّهم لا يفصحون عن علمهم هذا، فهم في حكم الجهلاء (ولكن لا يُستبعد أن تجتمع كل المعاني الثلاثة الاولى في الآية وكما قالوا بأنّ حذف المتعلق دليل على العموم).

نفحات القرآن، ج 2، ص: 136

خلق السماوات والأرض، أو إشارةٌ إلى ما يُعرفُ اليوم لدى علماء الفلك حيث إنّ جميع هذه الأجرام والمنظومات كانت في اليوم الأول على هيئة مجموعةٍ كبيرة مرتبطة ببعضها، وانفصلت عن المركز نتيجة لحركتها حول نفسها وبتأثير القوة الدافعة لها عن المركز، والقت بقطعٍ منها إلى الخارج وظهرت المنظومات والمجرّات الثابتة والسّيارة «1».

على أيّة حال، سواء كان المشركون هم المخاطَبون في هذه الآية أو منكرو وجود اللَّه تعالى أو كلاهما، فانّه يستفاد من هذه الآية الكريمة هذه الحقيقة، وهي أنّ الَّتمعنَ في خلق السماوات والأرض يكفي لأنّ يقتلع كُلُّ نوعٍ من أنواع الشك والريب في وجود اللَّه ووحدانيته وقدرته من قلب الإنسان.

ويشير في الآية العاشرة إلى خاصّية اخرى من خصائص السماء والأرض إذ يقول تعالى «وَالسَّمَاءَ بَنَيْناهَا بِأَيْيْدٍ».

فمن المسلَّم بهِ أنّ خلقَ مثل هذه العوالم الجبّارة يستلزم قدرةً مناسبةً له، وهي قدرة الباري عزّ وجّل وحدها.

ويضيف فيما بعد «وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ».

وبالرغم من أنَّ بعض المفسّرين اعتبروا ذلك بمعنى توسعةِ الرزق عن طريق هطول المطر وغيره «2» لكن يبدو أنّ للآية معان بالغة الأهمية والدقّة، حيث اتّضح ذلك لعلماء عصرنا الحاضر، وقد اميط اللثام عن معجزة من المعجزات العلمية للقرآن، وهي أنّ العالم في حال اتساع وبصورة مستمرة، وأنّ النجوم والمجرات والأجرام تبتعد عن بعضها بشكل سريع.

__________________________________________________

(1)

يقول الراغب في المفردات: «فَطْر» على وزن «سَتْر» أي الشَّقُ طولياً، ثم جاءت بمعنى الايجاد والإبداع، و «فِطْر» (على وزن مِتْر) تعني الافطار وترك الصيام، وكأنَّ الصيام ينفطر، (والفطرة تعني الخلقة وهي مأخوذة من هذه المادة أيضاً).

(2) وقد فسَّر بعض المفسرين لفظة (موسعون) بمعنى (قادرون) أيضاً، لأنّه مفردة (الوسع) تأتي أحياناً بمعنى «القدرة»، أمّا مفهوم «التوسيع» فهو أوضح.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 137

يقول أحد العلماء المعروفين ويُدعى (جورج غاموق) في كتابه (بداية ونهاية العالم):

«يمُّر فضاءُ الكون الذي يتألف من مليارات المجرّات بحالةٍ من الامتداد السريع، والحقيقة هي أنّ عالَمَنا ليس ثابتاً بل إنَّ اتساعَهُ مسلَّمٌ به، والوقوف على كون عالمنا يمرُّ بحالةٍ من الاتساعِ يهي ء لنا المفتاح الحقيقي لكنوز أسرار النظرية الكونية، فلو أنّ العالَمَ يمُّر اليومَ بحالةٍ من الاتساع والامتداد فهذا يعني أنّه كان يمرُ بحالةٍ من الانكماش الشديد في عابر الازمان» «1».

وممّا يبعث على الدهشةِ أنَّ هذا التوسعَ يسيرُ سريعاً بالقَدرِ الذي يقول عنه (فورد هوفل) في كتاب (حدود النجوم): «لقد تم قياس اقصى سرعةٍ لتباعد الكرات حتى الآن بما يقارب 66 ألف كيلو متر في الثانية، وتُدَللُ الصور الملتقطة عن السماء على هذا الاكتشاف المهم بوضوح، حيث إنَّ الفاصلة بين المجرّات النائية تتضاعف بسرعةٍ أكثر من المجرّات القريبة!» «2».

فأيُّ قوةٍ عظيمة تكمنُ وراء هذه الأجرام والمنظومات الجبّارة حيث تُبعدها عن مركز العالم بهذه السرعة النادرة من دون أن تتلاشى على اثر هذه الحركة؟!

ثم يشير إلى الأرض فيقول: «وَالارْضَ فَرَشنَاهَا فَنِعْمَ المَاهِدُونَ».

فالتعبير ب «الفرش» من ناحيةٍ، و «الماهد» من مادة (مهد) من ناحيةٍ اخرى إشارةٌ إلى التغييرات الكثيرة التي حصلت منذ بداية تكوين الأرض، وتهيئتها لحياة الإنسان، وجعلها كالمهد أو فراش الراحة.

كل

هذه دلائل على ذلك العلم والقدرة الأزلية.

ونقرأ في الآية الحادية عشرة تعبيراً جديداً حول خلق السماء إذ يقول: «وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظًا».

__________________________________________________

(1) بداية ونهاية العالم، ص 77 (مع الاختصار).

(2) حدود النجوم، ص 338.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 138

فهل هناك سماءٌ في العالم على هيئة سقف يُحفظُ من نفوذ الكائنات الخارجية؟ نعم ..

فالسماء هنا يمكن أن تكون إشارة إلى الفضاء الذي يحيط بالأرض ويبلغُ سمكُهُ مئات الكيلو مترات، فهذه الطبقة التي تتألف من الهواء المضغوط اللطيف وبقية الغازات المحيطة بجوانب الكرة الأرضية على هيئة سقفٍ دائري، قويةٌ بالقدر الذي يصفها بعض العلماء بأنَّ لها مقاومةً بقدر سقفٍ فولاذيٍّ بسُمكِ عشرة أمتار، وهي لا تمنع نفوذ الاشعاعات المدمرة فحسب، بل تمنع سقوط الصخور الفضائية التي تنجذب نحو الأرض باستمرار، لاصطدامها بهذه الطبقة الجوية بسرعتها الخارقة، فتكون مانعاً لحركة تلك الصخور، كما ويؤدّي هذا الاصطدام إلى احتراق تلك الصخور وانصهارها.

فلو لم تكن هذه الطبقة الجوّية العظيمة لأصبح أهلُ الأرض عُرضةً للملايين من قذائف الصخور الفضائية الصغيرة والكبيرة ليلَ نهار، فماذا سيحصل؟ وهل يكون هناك وجودٌ للاستقرار في «مهد الأرض»؟ وهل سيكون اسمُ المهد والمرقدِ لائقاً بها؟.

لا ضير أن تقرأ هذا الكلام الوارد على لسان عالمٍ معروفٍ يُدعى (فرانك آلن) حيث يقول في كتابه (النجوم للجميع): «إنَّ الجوَّ الذي تألَّفَ من الغازات التي تحفظ الحياة على سطح الأرض له من المقدار والسمك «بحدود 800 كم» بحيث يستطيع أن يكون كالدرع للأرض يصونها من شر اصطدام 20 مليون صخرةٍ فضائيةٍ مدمرةٍ تبلغ سرعتها 50 كيلو متراً في الثانية يومياً!» «1».

صحيحٌ أنّ وزنَ بعض هذه الشهب التي تتقاطر نحو الأرض يعادل 1000 1 من الغرام إلّا أنَّ القوة الناتجة

عن سرعتها تعادل قوة انطلاق ذرات القنبلة النووية! .. وقد يبلغ حجمُ ووزن بعض هذه الشُهُب مقداراً كبيراً بحيث تجتاز هذه الطبقة وتصيب الأرض، ومن الشهب التي اجتازت الغلاف الغازي ووصلت إلى الأرض شهاب «سيبريا» العظيم المعروف الذي أصاب الأرض عام 1908 م وكانَ قطرُهُ بقَدْرٍ كبيرحيث احتلَ (40 كم) تقريباً من الأرض، وأدّى إلى حدوث اضرارٍ جسيمة «وكأنَّ اللَّه تعالى يُنذُرنا بهذا

__________________________________________________

(1) النجوم للجميع، ص 74.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 139

الاسلوب .. لنتصور حالنا فيما لو تعرضنا لقصف الصخور السماوية يومياً».

فلو كان الغلاف الجوي حولَ الأرض بشكل أرقُّ مّما هو عليه «لأصابت الأرضَ يومياً عدةُ ملايين من الأجرام السماوية والشُهب الثابتة، كما يقول (غرسي مورسِن) مؤلف كتاب (سرُّ الخَلْق): «ولم تَعُدِ الأرض صالحةً للحياة» «1».

ولا ينبغي طبعاً نسيانُ الآثار المدمِّرة الناتجة عن اصطدام الأشعة فوق البنفسجية بالأرض في حالة عدم وجود هذا الغلاف فهي أكثر بكثير من أخطار آثار هذه الصخور، ولعلَّ هذا الأمر كان السبب في أن يقول الباري تعالى في نهاية الآية: «وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضوُنَ».

ويشير في الآية الثانية عشرة والأخيرة إلى خاصِيةٍ اخرى من خصائص السماوات، وهي من المعجزات العلمية للقرآن الكريم إذ يقول: «اللَّهُ الَّذِى رَفَعَ السَّمَواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا».

ويبرهنُ هذا التعبير على أنَّ للسمَوات عموداً إلّاأنّهُ غيرُ قابل للرؤيةِ، فهو عمود غيرُ مرئيٍّ، فايُّ شي ءٍ يمكنُ أنْ يكونَ هذا العمود سوى توازن قانون «الجذب» و «الدفع»، أي «القوة الدافعة المركزية»؟ أجَلْ إنّ تعادل الجذب والدفع هذا هو عمود قويٌ بحيث يرفع جميعَ كُرات المنظومة الشمسية وبقية المنظومات في مداراتها بإحكام، مع أنّه غيرُ مرئيٍّ، كما ويمنع تساقطها على بعضها، أو الابتعاد عن بعضها فيختَلُّ نظامُها.

وينبغي الانتباه إلى أنّ

«عَمَدْ» (على وزن صَمَدْ) اسمُ جمع من مادة «عمود»، ولو أراد القرآن أن يقول: «إنَّ السماءَ مرفوعة بلا عمد»، لكان يكفي أن يقول: «رَفَعَ السَّمَواتِ بِغَيرِ عَمَدٍ»، إلّاأنّ اضافة عبارة «تَرَوْنَها» يُدلُ على أنّ المقصود هو نفي الاعمدة المرئية، ويستلزمُ ذلك إثبات العمود اللامرئي.

__________________________________________________

(1) سرُ خلق الإنسان، ص 34.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 140

لذلك نقرأ في الحديث المشهور عن الإمام الرضا عليه السلام حيث كان يتحدث إلى بعض الجهلاء الذين كانوا يقولون: إنَّ السماء بلا عمود، فقال الإمام عليه السلام: «سبحان اللَّه أليسَ اللَّهُ يقول بغير عَمَدٍ تَرَونَها»، ويجيب ذلك الشخص بنعم، فيقول الإمام عليه السلام مباشرة: «ثَمَّ عَمدٌ ولكن لا تَرَوْنَها» «1».

وقد رُوي هذا المعنى بتعبير «عمود من نور» في حديثٍ شيِّقٍ لأمير المؤمنين عليه السلام حيث يقول: «هذه النجوم التي في السماء مدائنُ مثل المدائن التي في الأرض مربوطةٌ كلُّ مدينةٍ إلى عمودٍ من نور» «2».

والذى يثير الانتباه هنا هو بالرغم من أنّ قانون الجذب والدفع لم يكن مذكوراً في تفاسير القدماء والسالفين، فانَّ منهم من فسَّر الآية كما ذكرنا آنفاً، حيث قال بوجود عمودٍ غير منظورٍ للسماء، بالرغم من أنَّ البعض عبَّر عن هذا العمود غير المنظور بقدرةِ اللَّه «3».

على أيّة حال، فهذه احدى آيات اللَّه العظيمة، حيث رفع السموات بهذه الأعمدة القوية غير المنظورة، والأنظمة المهيمنة على قانون الجذب والدفع، بحيث لو حَصَلَ أقلُّ تغييرٍ في هذه المعادلة، فسوف يختلُ توازنها أو تتصادم فيما بينها بشدة وتختفي أو تبتعد نهائياً وينفصم الارتباط بينها.

النتيجة:

مع أنّ الآيات المتعلقة بخلق السموات والأرض في القرآن الكريم ليست محصورةً بما اوردناه آنفاً، وإذا تقررَ أنّ تُبحثَ كموضوعٍ مستقلٍ تحت عنوان: «السماء والأرض في

__________________________________________________

(1) تفسير البرهان، ج 2، ص 278.

(2) بحار الأنوار، ج 55، ص 91؛ تفسير القرطبي ج 9 ص 279.

(3) تفسير مجمع البيان، ج 5، ص 247؛ تفسير روح المعاني، ج 13، ص 78؛ تفسير الكبير، ج 18 ص 232؛ و تفسير القرطبي، ج 5 ص 3508.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 141

القرآن الكريم» فانّها تؤلّف كتاباً مستقلًا «1»، إلّاأننا إخترنا هذه الآيات الاثنتي عشرة من بينها واوردناها، ومن المؤمل أن يفتَح هذا البحث- أي بحث معرفة اللَّه وآيات وجوده في هذا العالم الكبير- الطريق أمامنا، ويوضح لنا بأنَّ في هذا الخلق العظيم دلائل وافرة للسائرين في طريق اللَّه، يُمكنهم من خلال التمعن في هذا الكتاب العظيم الملي ء بالأسرار أَنْ يزدادوا قُرباً منه، وتُملأ أوعيةُ قلوبهم وأنفسهم من حُبِّهِ أكثر فأكثر، فيرددون هذا الكلام القرآني باستمرار: «رَبَّنا مَا خَلَقْتَ هذا باطِلًا»!.

توضيحات

1- عَظَمَةُ ووُسَعَةُ السمَوات

لا عِلْمَ لأحدٍ بحدود سعةِ وامتدادِ السماوات، إنّ الشي ء الذي نعلمه هو أنّه كلما ازداد علم وتفكير الإنسان وتطور فإنّ عظمة السماوات سوف تكون في نظره أكبر وسوف يكتشف أبعاداً جديدة عن عظمة السماوات وأسرارها، وتقول آخر معلومات علماء الفلك بهذا الخصوص:

«إنَّ منظومتنا الشمسية ترتبط ب «درب التبانة» التي هي في الواقع احدى المجرات، وقد توصلَ العلماء في بحوثهم إلى أنّها تتألف من مائةِ مليارد نجمة احداها شمسنا هذه والتي تُعتبر أوسطها حجماً (لا تَنْسَى أنّ الشمس أكبر من الأرض بأكثر من مليون مرّة)، وإذا ضَربنا هذا العدد بمائة تصبح النتيجة مائة مليون مليار، أي أنّ حجم مجموع كرات هذه المجرة يعادل الكرة الأرضية بهذا المقدار!.

وإذا أضفنا هذا العدد إلى العدد الذي اكتشفه العلماء في هذا العالم وفقاً لبحوثهم، وهو مليارد مجرّة على

الأقل، يقفُ العقل والعلم البشري متحيراً أمام عظمة الاله الذي خلقَ هذا العالم اللامتناهي، (تفحصوا الأرقام أعلاه وتفكَّروا في عظمتها).

علماً أنّ هذه الأعداد والأرقام هي ضمن حدود علم واطلاع البشر في الوقت الحاضر،

__________________________________________________

(1) في القرآن الكريم ذُكرت «السماء» أكثر من ثلاثمائة مرّة بصيغة مفردة أو جمع (السمَوات).

نفحات القرآن، ج 2، ص: 142

وليس واضحاً ما سيُكتَشَفُ من معالم جديدة في المستقبل».

وهناك شهادةٌ لطيفةٌ جدّاً لمرصد (بالومار) بخصوص عظمة السماوات حيث يقول:

«في الوقت الذى لم تتمّ صناعة عدسة مرصد (بالومار) العملاق لم تكن سعة الدنيا حسب علمنا أكثر من 500 سنة ضوئية (والمقصود من السنة الضوئية هو مقدار المسافة التي يقطعها الضوء بسرعةِ ثلاثمائة الف كيلو متر في الثانية خلال سنة واحدة، وثلاثمائة الف كيلو متر في الثانية تعني الدوران حول الأرض سبع مرات خلال طرفة عين).

ولكن هذه العدسة ضاعفت دنيانا إلى الف مليون سنة ضوئية، وفي النتيجة تم اكتشاف الملايين من المجراّت الجديدة، حيث يبعدُ بعضها عنّا مليار سنة ضوئية، ولكن هناك فضاءً عظيماً مهيباً ومظلماً بحيث لم يُرَ شي ء من خلاله أبداً ويبعد الف مليون سنة ضوئية ... إلّاأنّ ممّا لا شك فيه هو وجود مئات الملايين من المجرّات في ذلك الفضاء المهيب المظلم حيثُ تُصانُ الدنيا من خلال جاذبية تلك المجرّات، ويُعتقد أنّ هذه الدنيا العظيمة التي نراها ليست سوى ذرةٍ صغيرةٍ متناهية من عالمٍ أعظمْ، ولسنا نقطع بعدم وجود عالمٍ آخر في مكانٍ آخر من الدنيا!» «1».

2- الدِّقة العجيبةُ في القوانين التي تحكمُ السماءَ والأرض

من المعروف أنّه كلما تعاظمت الموجودات فلابدّ من أنْ تتضاءل دقة القوانين السائدة فيها، بينما لا يصدقُ هذا المعنى على هذا العالم الشاسع أبداً، أي أنّه مع عظمته وسعته العجيبة وإثارته للجدل، فهو ذو

انظمةٍ دقيقةٍ وظريفة، ومن أجل إدراك هذه الحقيقة يكفينا الالتفات إلى المسائل الآتية:

أ) نحن نعلم أنّ الإنسان قد أفلحَ في نهاية المطاف أنْ يُنزلَ سفينة الفضاء بطاقمٍ يتألف من شخصين في النقطةِ التي حدّدها العلماء في كوكب القمر، ثم عادا إلى الأرض (تأمل

__________________________________________________

(1) مجلة الفضاء، العدد 56 فروردين 1351.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 143

جيداً ..) فعلى مدى الأيّام الثلاثة التي قضتها السفينةُ في قطع المسافة بين الأرض والقمر، كانت الأرض تدور حول نفسها وتغيرُ مكانها في السماء حول الشمس، وكوكبُ القمر كان يدور حول نفسه وحول الأرض أيضاً، فكم يجب أن تكون هذه الحركات مُنظمةً ودقيقةً ومحبوكة وثابتة بحيث يستطيع العلماء أن يحسبوا حسابَ هذه الحركات ويقدّروها من خلال العقول الالكترونية حتى تحط سفينةُ الفضاء في المكان الذي حددوه على سطح كوكب القمر، ومِنْ ثمَّ المكان الذي عيّنوهُ لعودتها إلى كوكب الأرض؟ فإذا اختلفت احدى هذه الحركات وتداخلت فيما بينها ونقصت أو ازدادت مقدار ثانيةٍ واحدةٍ فمن المسَّلم به أنّ حسابات العلماء سترتبك ويكون عملهم غير ناجح.

أجَلْ .. إنّ نظام عالم الوجود الدقيق هو الذي يمنح الإنسان فرصةَ القيام بمثل هذا العمل، أي الهبوط على سطح كوكب القمر وفي المكان الذي حددهُ.

ب) يستطيع علماء الفلك أن يَحْسُبُوا ويقدّروا أحداث المستقبل التي تتعلق ب «الخسوف» و «الكسوف» في الكرة الأرضية قبل عشرات السنين، وعدد ساعات الليل والنهار وشروق وغروب الشمس وبزوغ وافول القمر، وهذا يعود إلى التنظيم الدقيق لحركاتها ليس إلّا.

ج) كما اشرنا سابقاً أنّ قوة الجاذبية تجذب الأجرام السماوية نحو بعضها، بيد أنَّ القوةَ الدافعة التي تحصل من حركة الدوران والتي تسمى بالقوة الطاردة تُبعدها عن بعضها.

فإذا اريد أنْ تتحرك الكرة في مدارها

ملايين السنين حركةً دقيقة وفي مدارٍ معَّينٍ فيجب أن تتوازن هاتان القوتان تماماً، وهذا ما نعرفه أيضاً حيث إنَّ الجاذبيةَ تتناسب طردياً مع حجم الموجودات، وعكسياً مع الجذر التربيعي للمسافة بينها (فلو ازداد الحجم فانَّ الجاذبية تتضاعف، وإذا تضاعفت المسافات تضعفُ الجاذبيةُ طبقاً للمعادلة أعلاه).

وبناءً على ذلك فمن أجل أن تدور الأرض حول الشمس لمدةٍ طويلةٍ جدّاً في مدارٍ ثابت، ينبغي أن يكون حجم الشمس والأرض وكذلك المسافة بينهما، وسرعة حركةِ الأرض حول الشمس وفقَ حسابٍ دقيقٍ، كي يتمّ التوازن بينهما، وهذه المسائل ليست ممكنةً دون تَدَخُلٍ من عالم ذو علمٍ غيرِ متناهٍ وعقلٍ مدبرٍ.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 144

3- السموات السبع

مايلفت النظر هو أنّ الحديث عن (السموات السبع) ورد في سبع آياتٍ من القرآن الكريم «1».

وتمّت الإشارة في احدى هذه الآيات إلى طبقات الأرض السبع أيضاً، حيث يقول تعالى «اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ سَبْعَ سَمَواتٍ وَمِنَ الارْضِ مِثْلَهُنَّ». (الطلاق/ 12)

ومن بين جميع التفاسير المختلفة التي ذُكرت عن السموات السبع، يظهر أنّ التفسير الصحيح هو أنَّ المقصود من «السموات السبع» هو المعنى الحقيقي للسموات السبع، أي السماء لا تعني الكرات، بل مجموعة النجوم والكواكب في العالم العلوي، والمقصود من العدد (سبعة) هو الرقم المعروف، وليس هو للكثرة.

إنَّه ما يظهر من الآيات الاخرى هو أنّ كل ما نراهُ من نجوم ثابتةٍ، وسيّارة، ومجرّات، وسُحُبٍ يتعلق (بالمجموعة السماوية الاولى وعليه فهناك ست مجاميع عظيمة اخرى (ست سموات) تلي هذه المجموعة العظيمة، حيث إنّ بعضها أكبر من البعض الآخر، وتلك خارجةٌ عن متناول علم الإنسان (لحد الآن على الأقل).

نقرأ في قوله تعالى «إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنيا بِزِيْنةٍ الْكَواكِبِ». (الصافات/ 6)

وجاء في قوله تعالى «وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيْحَ». (فصلت/ 12)

وورد هذا المعنى

أيضاً باختلافٍ طفيفٍ في الآية الخامسة من سورة المُلك.

والجدير بالذكر أنّ المرحوم العلّامة المجلسي قد ذكر هذا الاحتمال كأحد التفاسير لهذه الآية إذ يقول: «الثالث: ما خطر بالبال القاصر، وهو أن تكون جميع الافلاك الثمانية التي أثبتوها لجميع الكواكب فلكاً واحداً مسمى بالسماء الدنيا» «2».

__________________________________________________

(1) البقرة، 29؛ الاسراء، 44؛ المؤمنون، 86؛ فصلت، 12؛ الطلاق، 12؛ الملك، 3؛ نوح، 15 (واشيرَ في آيتين (المؤمنون، 17؛ النبأ، 12) إلى (سبع طرائق) وسبعاً شداداً أيضاً حيث يمكن أن يكونا إشارة إلى السموات السبع أيضاً.

(2) بحار الأنوار، ج 58، ص 78.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 145

صحيحَّ أنَّ معداتنا العلمية الحديثة لم تكشف الحجب عن العوالم الستة الاخرى غير أنّه ليس هنالك من دليل ينفيها من الناحية العلمية أيضاً، ويحتمل أن يكشف النقاب عن هذا السر في المستقبل.

بل يظهر من اكتشافات بعض علماء الفلك أنّ هناك الآن براهين تلوح في الافق عن وجود عوالم اخرى شبيهة لما نقلناه آنفاً عن مرصد (بالومار) الشهير فيما يتعلق بعظمة العالم، ونكرر الجملة التي تشهد على كلامنا هذا «تمّ اكتشاف الملايين من المجرّات الجديدة حيث يبعد بعضها عناّ مليارد سنةٍ ضوئية، لكن هناك فضاءً عظيماً مَهيباً ومظلماً لم يُرَ أيُّ شي ء من خلاله أبداً ويبعد مسافة مليار سنة ضوئية، إلّاأنّ ممّا لا شك فيه وجود مئات الملايين من المجرّات في ذلك الفضاء المهيب المظلم، حيثُ تصانُ الدنيا من خلال جاذبية تلك المجرّات، ويُعتقد أنّ هذه الدنيا العظيمة التي نراها ليست سوى ذرّةٍ صغيرةٍ متناهيةٍ من عالمٍ أعظمْ، ولسنا نقطعُ بعدمِ وجود عالمٍ آخر في مكان آخر من الدنيا» «1».

يقول أحدُ العلماء في مقالٍ كتبهُ حول عظمة عالم الوجود، بعد ذكر المسافات الهائلة

والمذهلة للمجرّات، وبيان الأرقام المدهشة المحددة طبقاً إلى السنةِ الضوئية ما يأتي:

«لا زال المنجمّون يعتقدون أنّهم لم يقطعوا سوى منتصف طريق ما يُمكنُ رؤيتُهُ من العالم العظيم، ولا زال عليهم اكتشاف فضاءات أُخَر غير مكتشفة» «2».

وعليه فإنّ العوالم التي تكشَّفت للبشر لحدّ الآن مع عظمتها ما هي إلّازاوية صغيرة من هذا العالم الكبير، وتصلح للمطابقة مع مسألة السموات السبع «3».

4- لِمَ لا تنظرون إلى السماء؟!

إنَّ كثرة ووفرة آيات اللَّه في عرض السموات، وجمال السماء في الليل، دَفَعَ القرآن

__________________________________________________

(1) مجلة الفضاء، العدد 56 فروردين 1351.

(2) مجلة (نيوز ويك) السنة 1964 (لا ينبغي أن ننسى إنَّ هذه الشهادة تعود إلى ما قبل 24 سنة).

(3) من أجل المزيد من الايضاح حول التفاسير المختلفة التي ذكرت فيما يخص السموات السبع، يُراجع التفسير الامثل (ذيل الآية 29 من سورة البقرة).

نفحات القرآن، ج 2، ص: 146

الكريم والأحاديث إلى دعوة الناس باسرهم وخص المؤمنين منهم إلى التفكُّر في السموات من أجل كسب المزيد من الإيمان، فيقول القرآن الكريم في الآية 6 من سورة ق: «أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلىَ السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَالَها مِنْ فُرُوْجٍ»؟!.

وقد أمَرت الروايات «المستيقظين في الاسحار» خاصة، أن ينظروا إلى السماء أولًا حينَ ينهضون «لصلاة الليل»، وأن يقرأوا الآيات الاخيرة من سورة آل عمران التي تنعكس فيها جميعُ هذه الحقائق بنحوٍ عرفانيٍّ: «إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَواتِ وَالارْضِ ...» ثم يتوجهون نحو العبادة (حيث يمتلي ء الدعاء بعطر التوحيد ومعرفة اللَّه) «1».

ورُويَ أنّ النبي صلى الله عليه و آله حينما كان يستيقظ لصلاة الليل يبتدى ء بالمسواك ثم يلقي نظرةً على السماء، ويردد هذه الآيات «2».

وورد في صفات أمير المؤمنين عليه السلام أيضاً عن أحد أصحابه ويدعى (حبة العرنيّ) حيث

قال: «بينا أنا ونوف (أحد أصحاب الإمام علي عليه السلام) نائمين في رحبة القصر إذ نحن بأمير المؤمنين عليه السلام في بقية من الليل، واضعاً يديه على الحائط شبيه الواله، وهو يقول: «انَّ فى خَلْقِ السَّموات وَالارْضِ» إلى آخر الآية، قال: ثم جعل يقرأ هذه الآيات ويمّر شبه الطائر عقله، فقال لي: أراقدٌ أنت يا حبّة أم رامق؟ قال: قلت: رامقٌ هذا أنت تعمل هذا العمل فكيف نحن؟ فأرخى عينيه فبكى ثم قال لي: يا حبّة، إنّ للَّه موقفاً ولنا بين يديه موقف لا يخفى عليه شي ء من أعمالنا، يا حبّة إنّ اللَّه أقرب إليَّ واليك من حبل الوريد، يا حبّة إنّه لن يحجبني ولا إياك عن اللَّه شي ء ....» «3».

__________________________________________________

(1) تفسير مجمع البيان، ج 2، ص 554 الآيات الأخيرة من سورة آل عمران.

(2) المصدر السابق.

(3) بحار الأنوار، ج 41، ص 22.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 147

8- آياته في خلق الشمس والقمر والنجوم

تمهيد:

مع أنَّ الشمسَ والقمر تُعدّانِ من كواكب وكرات السَّماء، وقد تمّ الحديث بشكلٍ منفصلٍ عن عظمة السموات، ولكن لقربهما من كرتنا الأرضية فانَّ لهما تأثيراتٍ جمَّةٍ على حياتنا، وقد أشار القرآن الكريم إليهما بشكل خاصٍ، ووصف كلًا منهما بآية عظيمةٍ من آيات اللَّه، وإشار إلى الفوائد الخاصة للنجوم إذ اعتبرها من آيات اللَّه، وأنَّ التفحُص في كلٍ منها لا سيما في ظل اكتشافات العصر من الممكن أن يوضح لنا عظمةَ الباري تعالى من جهةٍ وعظمة تعاليم القرآن الكريم من جهة اخرى

وبعد التمهيد المختصر نتأمل خاشعين في الآيات الشريفة الآتية:

1- «هُوَ الَّذِى جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيآءً والْقَمَرَ نُوراً وقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ والْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآياتِ لِقَومٍ يَعْلَمُونَ». (يونس/ 5)

2- «أَلَمْ

تَرَوا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَواتٍ طِباقاً* وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيْهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً». (نوح/ 15 و 16)

3- «وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ والْقَمَرَ دَائِبَيْنِ». (ابراهيم/ 33)

4- «وَسَخَّرَ الشَّمسَ والْقَمَرَ كُلٌ يَجْرِىِ لِأَجَلٍ مُّسَمّىً». (فاطر/ 13)

5- «ومِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ والنَّهارُ والشَّمسُ والْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلقَمَرِ واسْجُدُوا للَّهِ الّذِى خَلَقَهُنَّ إنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ». (فُصَلت/ 37)

6- «وَالشَّمْسُ تَجْرِىِ لِمُسْتَقَرٍ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيْرُ الْعَزيْزِ الْعَلِيْم* والْقَمَرَ قَدَّرنَاهُ مَنازِلَ

نفحات القرآن، ج 2، ص: 148

حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيْمِ* لَاالشَّمْسُ يَنْبَغِى لَهَآ أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ». (يس/ 38- 40)

7- «وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ اللَّيلَ والنَّهَارَ والشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ».

(الانبياء/ 33)

8- «فَلَآ أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ والْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ». (المعارج/ 40)

9- «كَلَّا وَالْقَمَرِ* واللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ* والصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ* إِنَّهَا لَإِحْدى الكُبَرِ».

(المدّثر/ 32- 35)

10- «وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِى ظُلُمَاتِ الْبَرِّ والبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَومٍ يَعْلَمُونَ». (الانعام/ 97)

جمع الآيات وتفسيرها

القَسَمُ بالشمس والقمر والنجوم:

بالرغم من أنّ زمان نزول الآيات المتعلقة بالشمس والقمر كان في وقت لا يملك فيه الإنسان إلّاالقليل من المعلومات عن هذين الكوكبين العظيمين، وتقارن نزول هذه الآيات مع شيوع الخرافات الكثيرة «وبالأخص في مهد نزول هذه الآيات» بالرغم من كل ذلك فإنّ القرآن أشار إلى القمر والشمس والنجوم بعظمة ملفتة للنظر، وذكر الكثير من خصوصياتها وبشكل عام فإنّ القرآن اعتبرها من آيات الحق الإلهيّة والبراهين على إثبات الذات المقدّسة.

فيقول تعالى في الآية الاولى التي نبحثها: «هُوَ الَّذِى جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً والقَمَرَ نُورْاً».

يقول بعضُ أربابِ اللغة (ومنهم الطريحي في مجمع البحرين) وعددٌ من المفسرّين: إنَّ الفَرْقَ بين «الضياء» و «النور» هو أنّ «الضياء» يُطلقُ على النور الذي ينبعث من ذات

نفحات القرآن، ج 2، ص: 149

الشي ء، ويُطلقُ النورُ على الضوء الذي يُكسبُ من الغير، وعليهِ فانَّ الآية أعلاه إشارةٌ لطيفةٌ إلى هذه المسألةِ حيث إنّ نورَ الشمسِ ينطلقُ منها، في الوقت الذي يحصلُ نورُ القمرِ عن طريق ضوء الشمس الذي يَشُعُ عليه، ويتحدث القرآن الكريم بهذا في زمانٍ لم يكن للناس اطلاعٌ عليه.

وممّا لا شك فيه أنّه لا يمكنُ انكارُ أَنَّ كُلًا من هذين المفهومين قد يُستعمل بمعنى اعمَّ من النور «الذاتي» أو «الاكتسابي»، ومشاهدة حالات استعمال هذين المفهومين في القرآن الكريم وفي كلامِ العربِ يَشْهَد على ذلك، وقد يكون لهما معنيان مختلفان فيما إذا تزامنا معاً، كما جاء في الآية أعلاه.

وورد هذا المعنى في الآية الثانية بتعبيرٍ آخر، فَبَعد الإشارة إلى خلق السموات السبع يضيفُ قائلًا: «وَجَعَلَ القَمَرَ فِيهِنَّ نُوْراً وجَعَلَ الشَّمسَ سِراجاً» وقد عَبَّرَ عن الشمس ب «السراج» في آيتين اخريين من القرآن الكريم أيضاً (الفرقان/ 61، النبأ/ 13)، ونحن نعلمُ أنّ نورَ المصباح ينبعثُ من داخلهِ وليسَ مُكتَسباً من الخارج، وقد جاء في بعض نصوص اللُّغة أنّ الضياءَ أكثر شدةً من النور «1»، ولعلَّ هذا الاختلاف مُستَمَدٌ من الاختلاف الأول ويعود إليه «2».

على أيّةِ حالٍ، فقد اشيرَ هنا وقبل كل شي ءٍ إلى نور «الشمس» و «القمر» كآياتٍ حق من آيات اللَّه وبراهين على قدرته وآلائه جلَّ وعلا.

فالشمسُ بضوئها المشرقِ على الكون لا تقوم بتدفئة وانارة مهد الكائنات في العالم فحسب، بل لها نصيبٌ اساسيٌ في نمو النباتات وحياة الحيوانات.

__________________________________________________

(1) تفسير الكشّاف، ج 2، ص 329؛ و تفسير روح البيان، ج 4، ص 12.

(2) ينبغي الانتباه إلى أنّ «الضياء» يأتي بصيغة «المفرد» و «الجمع» أيضاً، ويعتقد بعض المفسرين أنّ له صيغة

الجمع في الآية أعلاه، وأنّه إشارة لطيفةٌ إلى تركيب ضوء الشمس من سبعة ألوان.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 150

واليوم قد ثبتت هذه الحقيقة، إذ إنَّ كلَّ حركةٍ تُشاهدُ في الأرض هي من بركاتِ ضوء الشمس، فلو فكّرنا بامعانٍ في حركة الرياح، والغيوم وأمواج البحار وجريان الأنهار، والشلالات، والحيوانات والناس لوجدناها تنبعُ من ضوء الشمس بدون استثناء.

ولو انطفأت الشَّمس وانقطعت هذه الاشعةُ التي تهبُ الحياة عن الأرض فسَيَعُمُّ الموتُ والسكوتُ والظلامُ كلَّ مكانٍ خلال فترةٍ قصيرةٍ جدّاً.

كما أنّ نور القمرِ الجميلِ لايعتبر مصباحاً في ليالينا الحالكة ودليلا؛ لقاطعي الصحراء ليلًا فقط، بل إنَّ نورَهُ اللطيف والمناسب يبعثُ الطمأنينةَ والنشاط لدى البشر بأسرهم.

ويرى بعضُ المزارعين أنّ (نور القمر) له دور حساس في نمو الفواكه والنباتات أيضاً.

وطبعاً أنّ كل ما ذكرناه يختصُ بنور الشمس والقمر فقط، وسنقوم ببحث ما يخص بقية بركاتهما بشكلٍ مستقلٍ.

ثم يشيرُ القرآن الكريم في نهاية هذه الآية إلى احدى البركات والفوائد المهمّة لهاتين الكرتين السماويتين حيث يضيف: «وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنينَ وَالْحِسابَ».

فالقمرُ بسيرِهِ المنَّظم، وحركته الدقيقة يُعتبر تقويماً واضحاً وحيّاً وطبيعياً للغاية، تَسهُلُ قراءَتُه على العالم والجاهل، ويُنَظِّمُ برامج حياته على اساسهِ، ولو أمعّنا التفكير لوجدنامسألة تنظيم حياة الإنسان ترتبط بقوةٍ بحساب السنين والشهور ووجودِ تقويمٍ طبيعيٍ، حيث يتكفلُ القمرُ والشمسُ ودوران الأرض المنَظَّم حول نفسها وحول الشمس بانجاز هذا الدور، وأنَّ التقويمات الحالية التي نُظِّمت استناداً إلى حسابات المُنجمِّين لا تنفعُ إلّاالذين لديهم إمكانية فهمها، والتقويم الوحيد المفهوم والمعلوم والمفيد للجميع هو التقويم الطبيعي الذي يتوفر لدينا من حركة القمر، منذ مرحلة (الهلال) وحتى وصوله إلى مرحلة (البدر الكامل)، ومن ثمَّ إلى (المحاق)، ولو تفحَّصَ الإنسان قليلًا لاستطاع أنّ يُحدِّدَ ليالي الشهر

من خلال ملاحظة حجم القمر، لأنَّ القَمَر لا يستقر على حالٍ واحدة في السماء على مدى ليلتين أبداً، ولعلَّ تنظيم العبادات الإسلامية وفقاً للأشهر القمريةِ نابعٌ من هذا الأمر.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 151

وكل هذه الدوافع ادّت إلى أن يقولَ القرآن الكريم في نهاية هذه الآية: «يُفَصِّلُ الآياتِ لِقَومٍ يَعْلَمُونَ».

والحديث في الآية الثالثة والرابعة عن تسخير الشمس والقمر للإنسان: «وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ والْقَمَرَ».

بَيْدَ أنَّهُ عبَّر في الآية بكلمة «دائبَيْن» أي (الحركة وفقاً لسُنَّةٍ ثابتةٍ) «1» وفي الاخرى ورد تعبير «كُلٌ يَجْرِى لِأَجَلٍ مُّسمّىً» أَيْ «إنَّ كُلًا منهما يستمر في حركته إلى حدٍ مُعيَّنٍ».

وهذه الجملةُ تشيرُ إلى أنّ حركةَ الشمس والقمر ستنتهي على المدى البعيد، ويتغير نظام المنظومة الشمسية بعد ملايين السنين، وهذا بحد ذاته أحد المعجزات العلمية للقرآن الكريم.

وفي الحقيقةِ أنّ المقصود بحركة الشمس هو دوران الأرض حول الشمس طبعاً، لأنّ ما يظهر للعيان أنّ الشمس هي التي تتحرك، حيث إنَّ الأرض في الواقع هي التي تُوجدُ هذا الشعور لدى الإنسان، إذ إنّ الشَّمسَ تتحرك باستمرار مع المنظومةِ الشمسية داخل المجرّات، وسوف نشير إلى ذلك لاحقاً.

والمقصود بتسخير الشمس والقمر وبقية الكائنات التي يعتبرُها القرآن الكريم مسخَّرَةً للإنسان، هو أنّها تتحرك في مجال مصالح الإنسان وخدمته، فكما قُلنا سابقاً أنّ لضوءِ الشمس والقمر دوراً مهماً في حياة الإنسان وكافة الكائنات الحيّة، لا سيما ضياء الشمس إذ تستحيلُ الحياةُ على سطح الأرض بدونه لحظةً واحدةً، وحتى في الليالي المُظلمة فاننا نستفيدُ من الحرارة المتبقية عن ضوة الشمس في الأرض والجو ولولاها لانجمدت الكائنات الحيَّةُ بأسرها، إضافةِ إلى الفوائد الاخرى كالمدِّ والجَزرِ في المحيطات، فهو مصدرٌ للكثير من الخدمات، وسنشير إلى ذلك في بحث آياته في البحار- إن

شاء اللَّه-، وكذلك وضع تقويمٍ طبيعي وخدمات اخرى

__________________________________________________

(1) «دائبين» من مادة «دؤوب» وتعني استمرار العمل وفقاً لعادةٍ وسُنَّةٍ دائمةٍ وهو تعبيرٌ للحركة المنظمة والمتَسّعةللشمس والقمر، ولا يُعتقدُ بوجودِ تعبيرٍ أفضلَ من هذا التعبير.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 152

وبلا شك فإنّ ما نعرفه اليوم من بركاتِ الشمس والقمر أكثر ممّا كان يعرفه السالفون والمخاطَبون بهذه الآيات عند نزولها، ولهذا فانَّ دروس التوحيد التي نقرأها على صفحاتها أكثر ممّا كان يقرأُه السابقون، لهذا يقول في نهاية هذه الآية: إنّ ربَّكُم هو الذي سخَّر لكم كلَّ هذه الموجودات، أمّا الذين تدعونَ من دونه فهم لا يملكون الحكمَ والمُلكَ في هذا العالم بقدَرِ قشرةِ نواة التمر: «وَالَّذِينَ تَدْعُوْنَ مِنْ دُوْنِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيْرٍ» «1»

.

وقد عبرت الآية الخامسة بصراحةٍ عن خلقِ الليل والنهار والشمس والقمر ووصفت هذه الظاهرة بأنَّها من آياته، إلّاأنَّهُ يأمُرُ في نفس الوقت بضرورة عدم الاعتقاد بانَّ هذه هي الإله كما يتصور عبدة الشمس والقمر .. كلا ..: «لَاتَسْجُدُوْا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِى خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُوْنَ».

وهنا نرى الدقة التي يتحدث بها القرآن الكريم، إذ إنّ ذكر القوائد المختلفة للشمس والقمر والليل والنهار وكافة الموجودات في هذا العالم من شأنه أن يترك أثراً في أذهان ذوي العقول الضيقة ويتصورون بأنّهم مدينون للنعم التي اسبغتها عليهم هذه الموجودات فيسجدون لها ويخضعون ويعظمونها، وهذا ما ابتلى به الوثنيون على مر التاريخ، لكن القرآن يقول لهؤلاء: افتحوا أعينكم جيداً وانظروا بدقّة وتبحر، وعندها سترون من وراء الحجب العلل، وسترون الذات القدسية لعلة العلل وعندها سوف تعفرون جباهكم بالسجود إليه وسوف لن تخدعكم أو تضلكم هذه المظاهر.

ويتحدث في الآيتين السادسةِ والسابعةِ عن حركة الشمس والقمر

ومنازلهما، ويصرَّحُ

__________________________________________________

(1) «القطميرُ»، بتعبير بعض المفسِّرين هو القشر الخفيف الذي يغطي نواة التمر، ويقول البعض إنّه النتوء الصغير الموجود خلف نواة التمر، وعلى اية حالٍ فهو كنايةٌ عن موجودات متصاغره ودنيئة.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 153

في نهاية هاتين الآيتين بأن كلًا من هذين الجُرمين يسبح في فلكهِ ومداره وخطه: «وَكُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ» «1»

، وهذه التعابير من عجائب القرآن من ناحيةٍ، ومن عجائب عالم الخلقِ وعلمِ وقدرةِ البارى تعالى من ناحية اخرى

وتوجد هنا عدةُ تفاسير لما تَعنيه جملة «وَالشَّمْسُ تَجْرِى» ومفهوم «لِمُسْتَقرٍ لَهَا».

اولها: إنّ المقصودَ هي الحركة الظاهرية للشمس التي تبدأ منذ شروق الشمس وحتى استقرارها عند الغروب، حيث يظهر للعيان أنّها تختفي (ونعلمُ جيداً إِنَّ حركة الأرض حول نفسها هي التي تُجسدُ لنا مثل هذه الظاهره في الواقع).

الثاني: إنّ المقصود هي حركات الشمس المحورية، حيث تنحرف نحو الجزء الشمالي للكرة الأرضية مع بداية فَصل الربيع، وتستمر هذه الحركة حتى بداية فصل الصيف حيث تستقر (في النصف الشمالي للكرة الأرضية) محاذية لمدار السرطان 23 شمالًا وهو ما يصطلح عليه بالميل الاعظم الشمالي، ثم تبدأ حركتها نحو الجنوب وتصل إلى محاذاة خط الاستواء أوائل فصل الخريف، ثم تنحرف نحو جنوب الكرة الأرضية، وتستمر هذه الحركة حتى بداية فصل الشتاء حيث تصل إلى محاذاة مدار رأس الجدي 23 جنوباً ويعبّرون عن هذا الانحراف بالميل الأعظم الجنوبي، ثم تبدأ حركتها نحو الشمال وتكون بمحاذاة خط الاستواء في فصل الربيع.

بناءً على ذلك فانَّ المقصود من جريان الشمس هو هذا الانحراف نحو الشمال والجنوب، والمقصود من المستقر هو آخر نقطةٍ للانحراف الجنوبي والشمالي أي (مدار رأس السرطان ومدار رأس الجدي).

والمعروف (طبعاً) أنّ هذه الحركةَ ناتجةٌ عن دوران

الأرض حول الشمس ومع الأخذ بنظر الاعتبار انحراف محور الأرض بمقدار 23، ولكن ما يبدو لنا هو أنّ الشمس لها مثل هذه الحركة.

الثالث: المقصود هو الحركة الموضعية للشمس حول نفسها، فقد ثبت اليوم أنّ الشمس

__________________________________________________

(1) «يسبحون» من مادة «سباحة» وتعني الحركة السريعة في الماء أو الهواء (مفردات الراغب).

نفحات القرآن، ج 2، ص: 154

تدور حول مركزها أيضاً (إِذ ذكَرُوا أنّ مدّة هذه الحركة في دورةٍ كاملةٍ تعادل 25 يوماً ونصف اليوم)، وفي هذه الحالة ستَكون اللام في «لِمُسْتَقرٍ لَهَا» بمعنى (في) أي أنّ الشمس تتحرك في مكانها (وطبعاً فقد اشكَلَ بعض المفسّرين على هذا التفسير باعتباره لا يتناسب مع مفهوم كلمة جريان).

الرابع: المقصود هو حركة الشمس في أبراج السماء على مدى أشهر السنة، والتي تقابل في كل شهر أحد هذه الصور الفلكية الاثنا عشر ومن هنا تظهر السنة باثنتي عشر شهراً بعدد هذه الابراج «1»، وعليه فانَّ المقصود من المستقر هو نهاية هذه الدورة.

الخامس والسادس: الحركتان اللتان اكتشفهما العلماء مؤخراً للشمس، إحداهما مع مجموعة المنظومة الشمسية في دورتها حول مجرتنا التي تأخذها باتّجاه إحدى الصور الفلكية المعروفة ب (صورة الجاثي) الواقعة في جهة الشمال بالنسبة للشمس، إذ تقطع أثناء هذه الحركة أكثر من (600 مليون كم سنوياً) وهذا ما يشبه تماماً جلوس مجموعةٍ في طائرةٍ وانشغالهم بالدوران حول مركزٍ واحدٍ بينما تسير الطائرة بسرعةٍ نحو اتجاهٍ ما، وقد تكون حركةُ الطائرة هادئة وخفيفة بالقدر الذي لا يحس الإنسان بهذه الحركة السريعة.

والحركة الاخرى هي دوران المنظومة الشمسية مع بقية المجرّات حول المركز الأصلي لهذه المجرّات التي نرتبط بها، وممّا يثير العجب فقد ذكروا أنّ سرعة هذه الحركة المذهلة تقدر ب 900 الف كيلو متر في

الساعة (بل أكثر من ذلك قليلًا) «2».

وطبقاً لهذا التفسير فانَّ المقصود من المستقر هو المستقر الذي تبلغه الشمس عند نهاية العالم وحلول القيامة، حينها تصبح الشمس بلا ضياءٍ ويزول نظامها.

و (طبعاً) لا تتعارض هذه التفاسير مع بعضها، فيمكن أن تجتمع كلُ هذه التفاسير الستة

__________________________________________________

(1) المقصود من «البرج» هنا مجموعة النجوم المتجمّعة والتي تكوِّنُ شكلًا خاصاً، والابراج الاثنا عشر كما يلي: الحمل، والثور، والجوزاء، والسرطان، والأسد، والسنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس، والجدي، والدلو، والحوت.

(2) راجعوا كتاب العوالم البعيدة، ص 293؛ وتسخير النجوم، ص 392.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 155

في مفهوم هذه الآية، لأنّ حركة كل من الأرض والشمس ليست نوعاً واحداً.

وتعبير «يُسبِّحون» تَعبيرٌ لطيفٌ حيث يعبّر عن حركة الشمس والقمر السريعة والرقيقة والمتوازنة في نفس الوقت.

وذكر في الآيات أعلاه منازل معينة للقمر حيث قال: «وَالقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنازِلَ».

والمقصود تلك المنازل الثمانية والعشرون التي يطويها القمر كل شهر منذ بداية مرحلة الهلال وحتى المحاق (الظلام المطلق)، وفي الليلة الثامنة والعشرين يظهر ثانيةً على هيئة هلالٍ أصفر رفيع جدّاً وقليل الاشعاع والنور ويبقى ليلتين حيث يقال له (محاق) إذ تتعذر رؤيتُه.

ويشبِّهُ القرآنُ الكريمُ هلال آخر الشهر ب «العُرجُونِ القَدَيِم» «1»

، وهذا التعبيرُ لطيفٌ وجذّاب للغاية من عدة وجوه.

ونختتم هذا البحث الذي قد طال بعض الشي ء بذكر هاتين المسألتين:

أولًا: إنّ المقصود من الفلك في الآيات المذكورة هو المعنى اللغوي وليس المعنى الذي يقصده علماء الفلك في قديم الزمان، لأنّ الفلك في اللغة يعني مدار النجوم، وأحياناً يقال لكل موجود يشبه الدائرة ويكون عالياً من أطرافه.

ويعتَقد «الراغب» أنّها في الأصل من مادة «فُلْك» (على وزن قُفْل) والتي تعني «السُفن»، لأنَّ السفن لها حركات دائرية أثناء مسيرها في البحار.

ولكنَّ المنجمين القدامى

سلكوا نهج بطليموس إذ كانوا يعتقدون أنّ السماء تتألف من تسعِ طبقاتٍ مركبة بعضها فوق بعض كقشرة البصل، ولأنَّ هذه الطبقات تتكون من مادةٍ شفّافةٍ كالبلّور فقد التَصَقت النجوم والكواكب في وسطها وتدور مع دوران الافلاك فيظهرُ دوران النجوم فقط، ولا يظهرُ شي ءٌ من دوران الأفلاك، وقد بَطُلَ هذا الاعتقاد بنحوٍ كاملٍ اليوم، واصبح من المسلَّم به أنّ النجوم معلقةٌ في فضاءٍ غير محدودٍ وتتحرك تحت تأثير

__________________________________________________

(1) «العرجون» من مادة «انعراج» أي الاعوجاج والانحناء، ويصفه البعض بذلك القسم من القرن المقوَّس الذي يتبقى على النخل بعد قطف التمر، و «القديم» تعني العتيق.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 156

قانون الجذب والدفع في مسيرةٍ معينةٍ، والجدير بالذكر أنّ القرآن الكريم نزلَ في زمانٍ كانت تحكُم فيه نظريةُ بطليموس على جميع المحافل العلمية بكل قوةٍ، إلّاأنّ تعابير القرآن (كالتعبير ب «الجريان» و «السباحة» التي وردت في الآيات أعلاه) لا تتلائم مع النظرية القديمة بايِّ نحوٍ وتتطابق مع آخر الاكتشافات العلمية في هذا العصر.

وورد في الآيتين الثامنة والتاسعةِ (أَيْمَانٌ) تَبعثُ على التأمل فيقول في إحداهما: «فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ المَشَارِقِ والمَغَارِبِ»، فيمكن أن يكون هذا التعبير إشارة إلى المشارق والمغارب و «المكانية» المختلفة، لأنَّ كروية الأرض تؤدي إلى وجود مشرقٍ ومغربٍ بعدد نقاط سطح الأرض، أو أن يكون إشارة إلى المشارق والمغارب «الزمانية»، لأننا نعلم أنّ حركةَ الأرض حول الشمس تؤدي إلى استحالةِ شروق الشمس وغروبها من نقطةٍ واحدةٍ خلال يومين متتاليين.

هذا الاختلافُ في المشارق والمغارب الذي يتمّ من خلال نظامٍ دقيقٍ ومنهجي سبّب في حدوث «الفصول الاربعة» بما فيها من بركات من جهةٍ، ومن جهةٍ اخرى فهو يؤدّي موازنة الحرارة والبرودةِ والرطوبةِ على سطح الأرض، ويمنحُ حياةَ الإنسان والحيوانات والنباتات نظاماً

وترتيباً، وكلٌ منها آية من آيات اللَّه وبرهان من براهينه.

وفي مكانٍ آخر يُقسمُ بالقمر «كَلَّا وَالقَمَرِ* واللَّيلِ إِذْ أَدْبَرَ* وَالصُّبحِ اذَا اسْفرَ» ثم يضيف: أنّ هذه الأَيْمانُ تُنبي ءُ عن تحذيرٍ في أمر المعاد فيقول: «إنَّ أحداثَ القيامةِ وجهنَّم من عظيمات الامور «إِنَّها لِإحْدى الكُبَرِ»» «1».

واقْسَمَ في بداية سورة الشمس بالشمس أيضاً، واشعتّها التي تُحيي الأرواح، والقمر الذي يبزغُ بعد غروب الشمس.

__________________________________________________

(1) يقول الفخر الرازي: «إنَّ جهنَّم لها سبع مقاماتٍ ودركاتٍ وهي كما يلي، جهنَّم، ولظى والحطمة، والسعير، وسقر، والجحيم، والهاوية» (تفسير الكبير، ج 30 ص 209).

نفحات القرآن، ج 2، ص: 157

وهذا ما نفهمه أيضاً بأنَّ القَسَمَ بشي ء ما يدلُ على أهميته الخاصة، وإذا صدر هذا القَسَمُ عن شخصٍ عظيمٍ ستتضاعف اهميتُه، وإذا اقسِمَ بهِ مِنْ أجل موضوعٍ مهمٍ ستزدادُ أهمية هذا الموضوع أيضاً.

والآن تأمّلوا جيداً عندما يُقسم الباري جلَّ وعلا بالشمس والقمر من أجلِ مسألةِ المعاد المهمّة، فهذا دليلٌ على العظمةِ الفائقة لهذين الكوكبين، ويشهد على هذه الحقيقة كون أن كلًا من هذين الكوكبين ذو أهميةٍ في نظر القرآن الكريم.

فلماذا يُقسمُ الباري تعالى بكواكب السماء واللّيلِ والنهار من أجل اثباتِ القيامة والحساب؟ وذلك لأنَّ النظام الحاكم على هذه الاشياء يبرهنُ على أنّ لجميع ذرات العالم حساباً خاصاً، بناءً على ذلك كيف يمكنُ أن تكون أعمال الإنسان الذي هو زهرةُ عالم الوجود بلا حسابٍ ولا كتابٍ، ولا وجود للمعاد والمحكمة العادلة؟.

وجاءت الآية العاشرة الأخيرة في بحثنا هذا عن نعمةِ وجود النجوم والنظام الدقيق الذي يحكمها فيقول: «وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهتَدوُا بِهَا فِى ظُلُمَاتِ البَرِّ وَالبَحرِ» ثم يضيفُ: «قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَومٍ يَعْلَمُونَ».

لقد كانت النجوم دائماً وعلى مدى مراحل التاريخ من أهم وسائل ارشاد

الإنسان في الليالي المظلمة، حيث كان يهتدي بمساعدتها في أسفاره البحرية والبرّية، حتى أنّ بعض العلماء يظنون أنّ الطيور المهاجرة، أي الطيور التي تقطع آلاف الكيلو مترات في السنة أحياناً، وبعضُها يستمر في طيرانه ليلًا ونهاراً بلا توقفٍ، تحدد طريقها نهاراً عن طريق الشمس، وليلًا عن طريق نجوم السماء، ولهذا فانّها تتوقف عن مواصلة الطيران مؤقتاً إذا كان الجو غائماً تماماً حتى تنكشفَ الغيوم وتظهر السماء والنجوم!

والعجب إنّ إمكانية تحديد فصول السنة أيضاً من خلال الاستفادة من النجوم.

على أيّةِ حالٍ، فانَّ هذه الآية تُلفتُ نظرَ كلِّ المفكِّرين إلى هذه المسألةِ وهي أنّ حركة

نفحات القرآن، ج 2، ص: 158

النجومِ في السماء واستقرارها في هذا الميدان العظيم تتمتع بنظامٍ وحسابٍ خاصٍ، وإلّا لما استطاعَ أيُّ أحدٍ العثور على طريقهِ في ظلمة الليل من دونها.

وهذا النظام يدل على أنَّ الخالق المدبِّر قد خطَّطَ له بكل حكمةٍ، ولهذا فانَّ النظام السائد على نجوم السماء هو الذي يُحررنا من ظلماتِ الشرك والكفر أيضاً!.

ومع تطور علم الفَلَك، فقد نجح العلماء في تقدير سرعة الكثير من كواكب السماء، وحجمها ومسافاتها وبقية خصائصها، وتوصلوا عن هذا الطريق إلى حقائق جديدة عن هذا النظام العظيم.

صحيحٌ قد تم اختراعُ آلاتِ ووسائلَ دقيقةٍ يستطيعُ الإنسان بمساعدتها أن يعثرَ على طريقه في البر والبحر، ولكن لا ينبغي نسيانُ عدم إمكانية استخدام جميع المسافرين لهذه الوسائل العلمية المتنوعة، إضافة إلى حدوث الخلل في هذه المعدات والآلات الدقيقة أحياناً ممّا يسبب الانحراف عن الطريق، فإذا كان الإنسان مطلعاً على مواقع ومواضع النجوم يستطيعُ من خلال ذلك إصلاح اخطاء هذه المعدات.

ورد في بعض الروايات تفسيرٌ آخرٌ لهذه الآية عن أهل البيت (عليهم السلام) يمكنُ أن يُعدَّ جزءً من المعاني الباطنيةِ

والثانويةِ لهذه الآية، وذلك أنّ المقصود من «النجوم» هم القادةُ الربانيّون والأئمّة المعصومون الذين ينجو الناسُ بهم من ظلمات الحياة كما ورد في تفسير علي بن إبراهيم في بيان معنى الآية: «وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِى ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ» حيث قال: «النجوم هم آل محمد» «1»

، و طبعاً- من المستطاع الجمعُ بين هذين المعنيين، أي النجوم الماديّة والنجوم المعنوية والهداية الظاهرية والباطنية.

توضيحات

1- هوية الشمس

لقد اتّضح لنا اليوم تقريباً أنّ الشمسَ عبارة عن كرةٍ، وأنّها أكبر من الأرض بمليون

__________________________________________________

(1) تفسير نور الثقلين، ج 1، ص 750 ح 203.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 159

وثلاثمائة الف مرّة، أي لو كانت الشمس مقعَّرةَ الوسط لكان من الممكن أن تستوعب مليوناً وثلاثمائة الف كرةٍ أرضيةٍ! وتتضح هذه العظمة المذهلة من خلال التأمل في قُطر الشمس عند الوسط الذي يقرب من (مليون وأربعمائة الف كيلو متر).

وتبلغ الفاصلة بيننا وبينها 150 مليون كيلومتراً تقريباً، وأنَّ نورها الذي يقطعُ طريقهُ بسرعةِ 300 الف كيلومتر في الثانية يصل إلينا خلال 8 دقائق تقريباً.

إنّ جُرمَ الشمس العظيم يؤدّي إلى زيادة وزن الأشياء فيها، فمثلًا إنَّ الإنسان الذي يبلغُ وزنُه 60 كيلوغراماً على سطع الأرض سيكون وزنه 1500 كغم فيما إذا كان على سطح الشمس!.

لقد قدَّر العلماء وزن الشمس بما يعادل:

000، 000، 000، 000، 000، 000، 000، 000، 000، 2 طن.

وأخيراً فهُم يُقدِّرون عمر الشمس منذ تكونها بشكلها الحالي بما يقارب 5 مليارات سنة.

إنَّ للشمس ثلاثة انواعٍ من الحركة تقريباً، حركةٌ حول نفسها (كلَّ 25 يوماً مرّة واحدة تقريباً، وحركةٌ مع المنظومةِ الشمسية في قلب المجرّات نحو الصورة الفلكية (الجاثي) حيث تبتعد عن مكانها أكثر من 600 كم كل ساعة، وحركةٌ حول

مركز المجرّات، وتدور حول هذا المركز خلال هذه الحركة مرّة واحدة كل 250 مليون سنة.

أَما حرارةُ سطح ومركز الشمس فهي عجيبةٌ للغاية، وتُبينُ حسابات العلماء أنّ حرارة سطح الشمس تعادل 6000 سانتغراد تقريباً، ولا تحصل هذه الحرارة على الأرض في أيِّ مختبرٍ أو فرنٍ أبداً، ودليلُ ذلك واضحٌ جدّاً لأنَّ جميع المواد بطيئة الذوبان التي نعرفها والتي يمكن بناء فرنٍ منها لا تذوب في مثل هذه الحرارة فقط، بل تصبحُ بخاراً، ولهذا فانَّ جميع المواد الموجودة على سطح الشمس ذائبةٌ على هيئة بخار.

والأعجبُ من ذلك حرارةُ عمقها التي تبلغُ 2 مليون درجة سانتِغراد! وتندلعُ من سطح الشمس ألسنةُ نيران يبلغُ ارتفاعها أحياناً 160 الف كم، ومن السهولة أن تضيع الكرةُ

نفحات القرآن، ج 2، ص: 160

الأرضية فيها (لأنّ قطر الأرض ليس أكثر من 12 ألف كيلو متر).

إنَّ هذه الحرارة لا تحصل بسبب الاحتراق، وإلّا لو كانَ جرم الشمس قد صُنِعَ من الفحم الحجري الخالص لانتهت تماماً على مدى عدةِ آلاف من السنين كما يقول «جورج غاموف» في كتاب «تكوُّن وموت الشمس»، ولا يبقى شي ء سوى الرَّماد. فالحقيقة أنّ مفهوم الاحتراق لا يصدقُ بخصوص الشمس وما يصدقُ هو الطاقة الناتجة عن الانشطار النووي، ولكن بهذا الحال وطبقاً للحسابات العلمية فانَّ كلَّ ثانيةٍ تمرُّ على الشمس ينقصُ من وزنها 4 ملايين طن، أَي إنَّ هذا المقدار من ذراتها يتحول إلى طاقةٍ، فبالرغم من أنّ هذا الأمر ليس له تأثيرٌ على المدى القريب، إلّاأنّه من المسلَّم به سيساعدُ في فناءِ الشمس على المدى البعيد، وهذا ما صرَّحَ به القرآن الكريم في آياته، حيث سيأتي اليوم الذي ينطفي ءُ هذا المصباح السماوي العظيم المنير «1».

2- البركات العظيمة للشمس

مهما تحدثنا حول فوائد وجود هذا

النجم السماوي وتأثيره البالغ في حياة الإنسان وبقية موجودات الأرض، فإننا لا نستطيع أن نفي بالغرض، وفي الحقيقة يمكنُ تأليف كتابٍ كبيرٍ في هذا المجال بالترتيب التالى:

1- إنّ جاذبيةَ الشمس تؤدي إلى دوام استمرار الأرض في دورانها في مدارها الثابت وإلّا لسقطت في إِحدى زوايا هذا الفضاء اللا متناهي ككُرةٍ مضطربة.

2- إنّ الحرارة التي تصلنا من الشمس بصورة مباشرة نهاراً والتي تخزن في الأجسام وتنعكس علينا ليلًا، لها تأثير في نمو النباتات وديمومة الحركة والحياة لدى الحيوانات.

3- إنَّ الشمسَ تَضعُ في خدمة الإنسان نوراً سليماً ومجانياً وغَير حارٍ أو مُحرقٍ ولا

__________________________________________________

(1) اقتباس من كتب 1- تركيبات الشمس، 2- نجوم بلا منظار، 3- تكوُّن وموت الشمس، 4- تاريخ العلوم، 5- من العوالم البعيدة، 6- الإسلام والهيئة.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 161

باردٍ وخالٍ من الأثر، بشكلٍ دائمٍ، وإذا قارنّا قيمة الطاقة التي نحصل عليها من الشمس مع قيمة مصادر الطاقة الاخرى فلابدّ أنْ تدفعَ البشرية اموالًا عِوَضاً عن النور والحرارة التي تستلمها من الشمس مقارنةً مع ثمن «الكهرباء» بمقدار (ملياراً و 700 ألف دولار كل ساعة).

عندئذٍ يجب أن نفكِّرَ كم ستكون هذه الميزانية على مدى سنةٍ كاملةٍ؟

وبتعبيرٍ آخر، لو أرادَ أهلُ الأرض تأمين الحرارة التي تمنحُها إيّاهم الشمس، عن طريق شراء الفحم الحجري فيجب عليهم توفير 61 الف مليار طن منه سنوياً، أو بعبارة اخرى توفير 20 ألف طن لكل شخص، أيّ تأمين ميزانيةٍ باهضة.

3- نحنُ نعلمُ أنّ ضوء الشمس يتركبُ من 7 ألوان مُزجت مع بعضها وظهرت على هيئة هذا النور الأبيض والشعاع الحالي، وهذا النورُ يُعتَبرُ عاملًا مساعداً للنباتات حيثُ يمتصُ غاز ثاني اوكسيد الكاربون من الجو ويطرحُ في المقابل غاز الاوكسجين الذي هو

عِمادُ حياتنا، فهو يساعد النباتات في نموها بسحب ثاني اوكسيد الكاربون.

ونحنُ نميزُ الأشياء حسب العادةِ عن طريق ألوانها، وهذه الألوان تحصلُ في شعاع الشمس، لأنَّ كلَّ موجودٍ يقوم وحسب تكوينه بامتصاص جانبٍ من ألوان الشمس فنطلقُ على اللون الذي لم يُسحبْ لونَ الشي ء، أي أنّ الورق الأخضر للنباتات يمتص جميع ألوان الشمس عدا اللون الأخضر، إذن فنورُ الشمس هو الذي يُظهرُ جميع الألوان.

4- إنَّ الاشعةَ فوق البنفسجية والتي هي من اشعاعات الشمس تُفيدُ في القضاء على 90 خ من الجراثيم، وتقوم بدورِ منعِ التعفن بنجوٍ تامٍ، ولولاها لتبدَّلت الأرضُ إلى مستشفىً كبيرٍ، ولعلَّ أشعة الشمس اعتبرت لهذا السبب من المطهرّات في الإسلام «مع شروط خاصةٍ طبعاً».

5- لقد استطاعَ العلماءُ من خلال استخدامهم للعدسات المحدبة الفخمة من توليد حرارةٍ هائلةٍ بامكانها تشغيل المصانع المهمّة، ولعل الكثير من المؤسسات الصناعية الحسّاسة سيتم تَشغيلها في المستقبل القريب بالاستفادة من نور الشمس، وتحلُّ الطاقةُ

نفحات القرآن، ج 2، ص: 162

الشمسية عندئذ محلَّ الكهرباء في البيوت.

6- إنَّ تكوُّنَ الغيوم نتيجةً لسقوط أشعة الشمس على سطح المحيطات وهبوب الرياح نتيجةً لاختلاف درجات الحرارة على الأرض بسبب أشعة الشمس، ثم حركة الغيوم نحو اليابسة وهطول الأمطار التي تبعث الحياة، هي احدى الفوائد المهمّة للغاية لنور وحرارة الشمس.

7- إنّ حركة الشمس المنظمة في أبراج السماء (الصور الفلكية) وشروقها وغروبها المنهجي الّذي يجري بنظامٍ وتعاقب دقيقٍ ومحسوبٍ على مدى أيام السنة، إضافة إلى مساعدتها في تكوين الفصول المتعددة، فهي تساعد في إيجاد تقويمٍ وحسابٍ منظمٍ للزمان الضروري جدّاً للحياة الاجتماعية للبشر «1».

3- القمر وبركاته

إنَّ القمر كوكبٌ صغيرٌ نسبياً فهو اصغر من الأرض ب (49 مرَّة) وفقاً لحسابات العلماء، لهذا فانَّ قوة جاذبيته تعادل 6 1 قوة

جاذبية الأرض، ومتوسط بُعده عن الأرض أكثر من 384 الف كيلومتر، لذلك فانَّ نور القمر يصل إلينا خلال أكثر من ثانيةٍ واحدةٍ بقليل.

وتَبلغ سرعةُ حركته في دورته حول الأرض كيلو متراً واحداً في الثانية، ويدور حول الأرض مرّة واحدة على مدى شهرٍ قمرىٍّ واحد أي «أكثر من 29 يوماً بقليلٍ»، ويدور حول نفسه أيضاً مرّةً واحدةً خلال نفس هذه الفترة، وبما أنّ هاتين الحركتين متناسقتان فإنَّ جانب القمر الذي يقابل الأرض يكون ثابتاً على الدوام، ولا عجبَ إذا قُلنا إنَّ نورَ القمر حين اكتمالهِ ليلة البدر أقلُ من ضوء الشمس ب (460) ألف مرّة، إلّاأنّ هذا النور الضئيل

__________________________________________________

(1) فكما قلنا إنَّ السبب الرئيسي لحصول هذه الامور هو في الواقع دوران الأرض حول الشمس، ولكن بما أنّ حركة الشمس هي التي تُرى كسببٍ لهذا حسب الظاهر، فإنّ القرآن الكريم يعتبر كلا من الشمس والقمر (حسبان) أي (وسيلةً للنظام والحساب)- الأنعام، 96.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 163

يضي ء الليالي المقمرة، ويظهر كمصباحٍ جميلٍ كثيف الشعاع ومُريح للفؤاد وبمنظرٍ شاعريٍّ محبَّب.

ولم تكن الإشارة إلى القمر في الآيات السابقةِ فقط، فقد تمت الإشارة إلى القمر وبركاته وفوائده في آياتٍ كثيرةٍ من القرآن الكريم، ووردَ القَسَمُ به في آياتٍ اخرى أيضاً، وجاء الحديث عن «القمر» في ما مجموعه 27 آية من القرآن الكريم، واشيرَ إلى تسخير القمر في سبع آياتٍ من هذه الآيات التي تُبيِّنُ أهميّة فوائده في حياة البشر «1».

إنَّ فوائد وبركات القمر كثيرةٌ للغاية، حيث نشير هنا إلى عددٍ منها:

1- إنّ دوران القمر حول الأرض يُشكِّلُ تقويماً طبيعياً لطيفاً، وقد مرَّ شرحُهُ في الأبحاث السابقة.

2- إنّ الضياء المناسب الذي يمنحه القمر بالرغم من أنّه لا يزيل ظلمةَ

الليل كُليّاً (ولا ينبغي أن يزيلها لأنَّ نفس الظُلمةِ لها فلسفة مهمة)، ولكن يُمكن أن يساعد الإنسان إلى حدٍ ما في الكثير من الليالي على اكتشاف طريقه في المدن والصحارى والبحار، لا سيما أنّ نور القمر مناسبٌ وملائم بحيث لا يزعجُ الإنسان والموجودات الاخرى أثناء النوم والراحةِ ليلًا، بل يشعر الإنسان باطمئنان خاصٍ من خلال نور القمر.

3- إنّ مسألةَ المدِّ والجزر في البحار إحدى الآثار البارزة لوجود القمر، فالذين ذهبوا إلى البحار كان بامكانهم ملاحظة هذا الأمر في الليل والنهار حيث يرتفع وينخفض منسوبُ المياه مرّتين كل يوم، ويُعبَّرُ عن ذلك بالمد والجَزر، ويستمر كلٌ منهما لمدة 6 ساعات تقريباً.

فأثناء المدِّ يرتفعُ منسوبُ المياه ويغطي معظم سواحل البحر، وخلال الجزر تنكشف سواحل البحار.

ولهذا المدّ والجزر فوائد مهمّة في حياة البشر منها: تراجع مياه الأنهار التي تصب المياه العذبة في البحار ممّا يؤدّي إلى ري الأراضي الواسعة عن طريق ذلك كما يشاهد في بساتين

__________________________________________________

(1) الاعراف، 54؛ الرعد، 2؛ ابراهيم، 33؛ النحل، 12؛ لقمان، 29؛ فاطر، 13؛ الزمر، 5.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 164

النخيل الساحلية الواسعة في خوزستان.

ومن الفوائد الاخرى للمد والجزر هي حركة المكائن في المصانع ونشاط المولدات الكهربائية، وكذلك الإبحار، حيث إنّ السفن الكبيرة تستطيع خلال المد أن ترسو في معظم السواحل حيث يتمّ تحميل وتفريغ حمولتها، وتنظيف المواني ء، وصيد الأسماك، وتحريك مياه البحر وموازنة حرارته ومركباته أيضاً وامور اخرى «1».

4- الشمس والقمر في كلام الأئمّة المعصومين عليهم السلام

عندما تقع عين الإمام السجّاد عليه السلام على القمر فهو يخاطبه، وهذه الكلمات درسٌ في التوحيد ومعرفة اللَّه حيث يقول:

«أيها الخلق المطيع! الدائب السريع المتردّد في منازل التقدير المتصرف في فلك التدبير، آمنت بمن نوَّر بك الظلم، وأوضح بك البُهم، وجعلك

آية من آيات ملكه، وعلامة من علامات سلطانه ... سبحانه ما أعجب ما دبّرَ في أمرك، وألطف ما صنع في شأنك جعلك مفتاح شهر حادث لامرٍ حادث ...» «2».

وفي توحيد المفضّل عن الإمام الصادق عليه السلام:

«فكّر يا مفضل في طلوع الشمس وغروبها لاقامة دولتي النهار والليل، فلولا طلوعها لبطل أمر العالم كلّه فلم يكن الناس يسعون في معايشهم، ويتصرّفون في امورهم، والدنيا مظلمة عليهم ولم يكونوا يتهنأون بالعيش مع فقدهم لذة النور وروحه، والإِرب في طلوعها ظاهر مستغن بظهوره عن الإِطناب في ذكره، والزيادة في شرحه، بل تأمّل المنفعة في غروبها، فلولا غروبها لم يكن للناس هدوء ولا قرار مع عظم حاجتهم إلى الهدوء والراحة ...

__________________________________________________

(1) اعجاز القرآن في نظر العلوم المعاصرة، ودائرة المعارف للمصاحف وكتب اخرى

(2) بحار الأنوار، ج 58، ص 178، ح 36.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 165

ثم فكر بعد هذا في ارتفاع الشمس وانحطاطها لإقامة هذه الأزمنة الأربعة من السنة وما في ذلك من التدبير والمصلحة ...

فكّر الآن في تنقل الشمس في البروج الاثني عشر لإقامة دور السنة ... وفي هذا المقدار من دوران الشمس تدرك الغلات والثمار، وتنتهي إلى غاياتها، ثم تعود فيستأنف النشوء والنمو ...

انظر إلى شروقها على العالم كيف دّبر أن يكون، فانّها لو كانت تبزغُ في موضع من السماء فتقف لا تعدوه لما وصل شعاعها ومنفعتها إلى كثير من الجهات.

أفلا يرى الناس كيف أنَّ هذه الامور الجليلة؟ التي لم تكن عندهم فيها حيلة صارت تجري على مجاريها، لا تعتل ولا تتخلف عن مواقيتها لصلاح العالم وما فيه بقاؤه؟

استدلّ بالقمر، ففيه دلالة جليلة تستعملها العامة في معرفة الشهور، ولا يقوم عليه حساب السنة ... فكّر

في انارته في ظلمة الليل والإرب في ذلك، فانّه مع الحاجة إلى الظلمة لهدوء الحيوان وبرد الهواء على النبات لم يكن صلاح في أن يكون الليل ظلمة داجية لا ضياء فيها فلا يمكن فيه شي ء من العمل، لأنّه ربّما احتاج الناس إلى العمل بالليل لضيق الوقت عليهم في تقصّي الأعمال بالنهار، أو لشدّة الحر وافراطه ... وجعل طلوعه في بعض الليل دون بعض، ونقص مع ذلك من نور الشمس وضيائها لكيلا ينبسط الناس في العمل انبساطهم بالنهار، ويمتنعوا من الهدوء والقرار ...) «1».

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار، ج 55، ص 175، ح 36 «مع الاختصار».

نفحات القرآن، ج 2، ص: 167

9- آياتُهُ في خلقِ الليل والنهار

تمهيد:

بالرغم من أنّ الليل والنهار من الظواهر التي تحصل نتيجة لضوء الشمس وحركة الأرض، ويعتبران من بركاتهما، لكن نظراً لاهتمام القرآن بهما في آيات التوحيد بشكلٍ خاص، واستناده إلى هاتين الظاهرتين في الكثير من الآيات، لذلك من الواجب الاهتمام بهما بشكل مستقل، كي نرى فيهما آيات تلك الذات غير المعلومة، ونتعرفُ أكثر على خالقِ وإله عالم الوجود، ونزداد حباً له، ونتشرف بالنظر إلى حضرته المقدَّسة.

بعد هذا التمهيد نقرأ خاشعين الآيات الاثنتي عشرة الآتية:

1- «وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ». (الانبياء/ 33)

2- «يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِى ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُولِى الأَبْصَارِ». (النور/ 44)

3- «هُوَ الّذِى جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسكُنُوا فِيْهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآياتٍ لِّقَومٍ يَسْمَعُونَ». (يونس/ 67)

4- «وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ والنَّهارُ والشَّمْسُ والْقَمَرُ». (فصلت/ 37)

5- «وَجَعَلْنَا اللَّيلَ وَالْنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِّتَبْتَغُوا فَضْلًا مِّنْ رَّبِّكُمْ ولِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِيْنَ والْحِسابَ». (الاسراء/ 12)

6- «وَجَعَلْنَا اللَّيلَ لِبَاساً* وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعَاشاً». (النبأ/ 10 و 11)

7- «وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً

لِّمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّر أَو أَرَادَ شُكُوراً».

(الفرقان/ 62)

نفحات القرآن، ج 2، ص: 168

8- «وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ». (النحل/ 12)

9- «إِنَّ فِى اخْتِلَافِ اللَّيلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِى السَّمَواتِ وَالأَرضِ لَآيَاتٍ لِّقَومٍ يَتَّقُونَ». (يونس/ 6)

10- «قُلْ ارَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إلى يَومِ القِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيْكُمْ بِضِياءٍ أفَلا تَسْمَعُونَ* قُلْ ارأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلى يَومِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأتِيْكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيْهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ* وَمِنْ رَّحمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيلَ والنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ولَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ». (القصص/ 71- 73)

11- «وَاللَّيلِ إِذا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى . (الليل/ 1- 2)

12- «ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُوْلِجُ اللَّيلَ فِى النَّهَارِ وَيُوْلِجُ النَّهَارَ فِى اللَّيْلِ وأَنَّ اللَّهَ سَمِيْعٌ بَصيْرٌ». (الحج/ 61)

جمع الآيات وتفسيرها

النظام العجيب اللّيل والنّهار:

لقد تكرّرت كلمة «الليل» في القرآن الكريم أكثر من «70» مرّة، وكلمة «النّهار» أكثر من «50» مرّة، والآيات السابقة تُعتبر نماذج مختلفة لهذه الآيات، حيث تمّت الإشارة فيها إلى البعد التوحيدي لخلق الليل والنهار على وجه الخصوص.

ففي الآية الاولى ذُكرَ اصلُ خلقِ اللّيل والنهار، والشمس والقمر، اللذين يرتبطان بهما بعلاقةٍ قريبةٍ كبرهانٍ لسالكي خط التوحيد ومعرفة اللَّه، حيث يقول: «هُوَ الَّذِى خَلَقَ اللَّيلَ وَالنَّهَارَ».

وجاء هذا المعنى بنحوٍ آخر في الآية الرابعة، إذ يقول: «ومِنْ آياتِهِ اللَّيلُ والنَّهَارُ وَالشَّمسُ وَالقَمَرُ».

نفحات القرآن، ج 2، ص: 169

في الوقت الذي يقول في الآية الثانية: «يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِى ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِى الأَبْصَارِ».

وقد يكون هذا التغيير في التعبير إشارة إلى حصول اللّيل والنّهار، أو زيادة ونقصان مقداريهما، أو اختلافهما من حيث البرودة والحرارة الذي يحدث خلالهما «1»، ولكن لا مانع من شمول هذا التغيير كل هذه المعاني أبداً.

وأشار في

الآية الثالثة إلى احدى فوائد «اللّيل» و «النهار» المهمّة، حيث يقول: «هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ اللَّيلَ لِتَسْكُنُوا فِيه وَالنَّهارَ مُبصِراً».

والواضح أنّ الاطمئنان في ظلمة الليل أحدُ أهمِ النعم الإلهيّة، كما أنّ نور النّهار الضروري لمختلف النشاطات يُعتبر نعمةً مهمةً اخرى

والملاحظ في هذه الآية أنَّ النَّهار اعتُبرَ «مُبصراً»، والمُبصرُ في الأصل تعني البصير، ونحنُ نعلمُ أنّ النّهار ليس بصيراً في نفسهِ، ولكن بما أنّه يؤدّي إلى أن يُبصرَ الآخرون، فلعلَّ هذا التعبير اطلِقَ عليه للتأكيد والمبالغة.

وفي الحقيقة لولا بريق النّور فلا فائدةَ لألف عينٍ مبصرةٍ، لهذا فهو يضيف في ختام الآية: «إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَومٍ يَسْمَعُونَ»، أي اولئك الذين يستمعون هذه الآيات ويتفكرون فيها.

في حين أنّه يعتبر كلًا من الليل والنّهار في الآية الخامسة آيةً من آيات اللَّه تعالى ويقول:

«فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهارِ مُبصَرةً»، ثم يشير إلى فائدتي ذلك حيث يقول:

__________________________________________________

(1) وردت هذه الاحتمالات الثلاثة في تفسير روح المعاني، ج 18، ص 173، وتفسير الكبير ج 24 ص 15، ولكن ذُكر التفسير الأول والثاني فقط في تفسير مجمع البيان ج 7 ص 148.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 170

«لِتَبتَغُوا فَضْلًا مِّنْ رَّبِّكُمْ ولِتَعْلَمُوا عَدَدَ السَنِينَ والْحِسَابَ».

فهل أنّ فوائد النهار تقتصر على ابتغاء فضلِ اللَّه ومعرفة حساب السنة والشهور من آثار الليل والنّهار معاً؟ أم أنّ كلا المنفعتين لهما علاقةٌ وثيقة بالليل والنهار معاً؟ لأنَّ الراحةَ في اللّيل لها أثرٌ واضحٌ في إمكانية العمل والابتغاء من فضل اللَّه نهاراً، والظاهر أنَّ المعنى الثاني أكثر تناسباً من حيث تناسقه مع الآية، بالرغم من أنّ العديد من المفسرين ذكرَ المعنى الأول.

وفي الآية السادسة إشارة إلى هذا المعنى وبنحوٍ آخر حيث يقول: «وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً-

والنَّهَارَ مَعَاشاً».

وقد يكون «المعاش» اسم زمانٍ أو مكانٍ أو مصدراً ميمياً، وهو يلائم المعنى المصدري «1».

ووصف الليل ب «اللباس» يعتبر من التعابير اللطيفة جدّاً، حيث إنَّ الليل كاللباس بالنسبة لنصف الكرة الأرضية، وهو كذلك بالنسبة للإنسان، فكما أنّ اللباس يحفظ جسم الإنسان من بعض الاضرار ويمنحه جمالًا ورونقاً، فانَّ ظلمةَ الليل والنوم العميق أثناء اللّيل يمنح روحَ الإنسان وجسمه طراوةً ونشاطاً ويصونه من مختلف الأمراض.

والحديث في الآية السابعة عن استخلاف الليل والنّهار لبعضهما البعض، فيقول: «وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً».

__________________________________________________

(1) قال بعض المفسرين: إنّ التعبير ب «المعاش» أي «الحياة» بخصوص النهار هو لأجل أنّ النوم في الليل يشبه الموت كما يقول العرب في أمثالهم «النوم أخُ الموت»، وعليه فانَّ النقطة المقابلة له اي النهار هو أساس الصحوة والحياة، (الحياة بكل أبعادها).

نفحات القرآن، ج 2، ص: 171

و «خِلْفَة»: على وزن (فِتنه)، وكما يقول الراغب في «المفردات» فانّها تُطلقُ على شيئين يخلف أحدُهما الآخرَ باستمرار، لكن «خلفة» تعني «مختلف» وفقاً لرأي الفيروز آبادي في «قاموس اللغة»، ففي الحالة الاولى ينصبُّ الاهتمام على تناوب الليل والنّهار، فلو لم يكن هذا التناوب دقيقاً ومحسوباً، فإمّا أنْ تحترق موجودات الأرض من شدة حرارة ضوء الشمس أو تنجمد منْ شدةِ البرودة، وفي الحالة الثانية إشارة إلى اختلاف اللّيل والنّهار وحصول فصول السنة الأربعة التي لها آثار خاصة في حياة الإنسان.

واختار بعضُ المفسرين المعنى الأول، بينما ذهبَ البعضُ الآخر إلى المعنى الثاني، ولكن ليس هنالك من مانعٍ في الجمع بين هذين المعنيين.

وورد في الروايات أنّ الإنسان يستطيع أن يقضي في النّهار ما فاته من عبادات الليل وبالعكس، واعتُبِر أنّ الآية تشير إلى هذا المعنى «1».

ولا يتعارض هذا التفسير مع التفاسير

السابقة أيضاً، وعلى أية حالٍ، فانَّ الآية تشير إلى نظامٍ خاصٍ ومتناوبٍ لظاهرة لليل والنّهار حيث تدلل على العلم والقدرة اللامتناهية للخالق جلَّ وعلا، بشكلٍ لو كانت دورة الأرض حول نفسها اسرعُ بقليلٍ أو أكثر بطءً ممّا عليه الآن لطال اللَّيلُ والنّهار وتعَّرضت حياة الناس بل كافة الموجودات على الأرض إلى الخطر.

والحديث في الآية الثامنة عن تسخير الليل والنّهار وخدمتهما للإنسان إذ يقول:

«وسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ والنَّهارَ».

وبما أنّ شرحَ معنى التسخير قد مرَّ سابقاً في موارد مشابهة فلا نرى حاجةً للإعادة.

__________________________________________________

(1) ورد هذا التفسير في حديث عن النبي صلى الله عليه و آله «طبقاً» لما نُقل في تفسير الفخر الرازي، وفي حديث عن الصادق عليه السلام «طبقاً» لما نُقل في تفسير نور الثقلين، ج 3، الآية المورد البحث.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 172

وأشار في الآية التاسعة، أولًا إلى مسألة اختلاف اللّيل والنهار، ثم إلى كافة مخلوقات الأرض والسماء التي خلقها اللَّه تعالى كبرهانٍ على عظمتهِ وعلمهِ وقدرتهِ فيقول: «انَّ فِى اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِى السَّمَواتِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُوْنَ».

وهذا التعبير دليلٌ على مدى أهميّة خلقهما.

وفي القسم العاشر أشار في ثلاث آيات بتعابير جميلة إلى الفوائد المهمّة لليل والنهار فقال تعالى: «قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيكُمُ اللَّيلَ سَرْمَداً إِلى يَومِ القِيَامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيرُ اللَّهِ يأتِيكُم بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ* قُلْ ارأَيْتُم إنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيكُم الَّنهَارَ سَرمَداً إِلى يَومِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيرُ اللَّهِ يَأتِيكُم بِلَيلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُون* وَمِنْ رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيلَ والنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيْهِ ولِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُم تَشْكُرُوْن».

والجدير بالذكر انّه يقول في نهاية احدى الآيات: «أَفَلا تَسْمَعُونَ»، وفي نهاية آية اخرى «أَفَلا تُبْصِرُونَ».

ولعلَّ هذه التعابير إشارةٌ إلى

أنّ هناك دلائل حسّية في هذا النظام الدقيق لليل والنّهار يجب أن تُنظَر بالعين، وكذلك هناك دلائل نقليه يجب أن تُسمَعَ، وهذا جديرٌ بالتأمُل أيضاً، يقول في مورد خلود اللّيل: «أَفَلا تَسْمَعُونَ»، وفي مورد خلود النّهار: «أَفَلا تُبْصِرُونَ»، لأنَّ الأُذنَ تستخدمُ غالباً في الليل والعينَ في النهار.

إنَّ أهميّة موضوع الليل والنّهار بلغت إلى الحد الذي يُقسمُ اللَّه تعالى في القرآنُ بهما في آياتٍ عديدةٍ من بينها ما يقوله في القسم الحادي عشر من هذه الآيات: «واللَّيلِ إذا يَغْشى والنَّهارِ إِذا تَجَلَّى .

وورد هذا المعنى في مكانٍ ثانٍ وبتعبيرٍ آخر فيقول: «واللَّيلِ إِذ أَدبَرَ والصُبْحِ إِذا أسْفَرَ». (المدثر/ 33)

نفحات القرآن، ج 2، ص: 173

ويقول في مكانٍ آخر: «وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ* والصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ». (التكوير/ 17)

ويضيف في مكان آخر: «وَالضُحى وَاللّيْلِ إِذَا سَجَى . (الضحى 1- 2)

وأَيْمانٌ اخرى من هذا القبيل حيث تحكي كلُّها عن الاهمية الفائقة التي يوليها القرآن الكريم للَّيل والنّهار كي يتمعنَ الإنسان بهما ويرى آياتِ اللَّه في كلَّ موقعٍ منهما، لأنَّ القَسَمَ دليلٌ على أهميّة وقيمة وحقيقة التأمل دائماً.

وفي الآية الثانية عشرة والاخيرة نواجه تعبيراً جديداً في هذا المجال إذ يقول: «ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِى النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِى اللَّيْلِ».

«يُوْلِجُ»: من مادة «ايلاج» وتعني الادخال، وبما أنّها جاءت بصيغة «الفعل المضارع» وحيث اننا نعلمُ أنّ الفعل المضارع يفيد الاستمرار، فقد تكون إشارة إلى طول وقصر اللَّيل والنهار التدريجي والمنَّظم على مدى فصول السنة المختلفة حيث ينقصُ احدهُما ويضاف إلى الآخر، فهذا النظام التدريجي عاملٌ مؤثرٌ في نمو النباتات وتكامل الكائنات الحيّة، فلو حدثَ فجأةً سيختلُ توازنُ هذه الموجودات فيكون مضراً، لهذا فقد جعلَهُ الباري تعالى أمراً تدريجياً.

ومن الممكن أن تكون

إشارة إلى مسألة شروق وغروب الشمس، لأنَّ الشمس حينما تقتربُ من الشروق يشعُ نورُها نحو الطرف الأعلى من الجو، ويضي ء الجو قليلًا، وكلما ارتفعت الشمس من وراء الافق يزداد هذا الضياء، وعلى العكس أثناء الغروب، فلا يحلُّ اللَّيلُ دفعةً واحدةً، بل تختفي أشعةُ الشمس رويداً رويداً في الطبقات السفلى من الجو، ويحلُّ الظلامُ محلَّها، فهذا الانتقال التدريجي من النور إلى الظلام وبالعكس يؤدّي إلى أنْ يتأقلمَ الإنسان معه من الناحية الجسمية والروحية، ولو حلَّ اللّيلُ أو الّنهار بشكلٍ مفاجي ءٍ لتركَ آثاراً سيئةً.

والجدير بالذكر أنّ ظاهرَ الآية هو أنّ دخولَ اللّيل في الّنهار والنهار في الليل يحدث في

نفحات القرآن، ج 2، ص: 174

آنٍ واحدٍ، والواقع هو كذلك، لأنَّ اللَّيلَ يقلُّ تدريجياً أثناء فصل الصيف في المناطق الواقعة شمال خط الاستواء ويصبح جزءً من النهار أي إنّه مصداقٌ ل «يُولِجُ اللَّيْلَ فِى النَّهَارِ»، وفي ذات الوقت يقلُّ النّهار في جنوب خط الاستواء ويصبح جزءً من اللَّيل حيث يكون مصداقاً ل «يُوْلِجُ النَّهارَ فِى اللَّيْلِ» «1»

.

وجاء في الحديث المشهور عن المفضل، أنّ الإمام الصادق عليه السلام قال:

«فكّر في دخول أحدهما- الليل والنهار- على الآخر بهذا التدريج والترسّل، فانك ترى أحدهما ينقص شيئاً بعد شي ء، والآخر يزيد مثل ذلك حتى ينتهي كل واحد منهما منتهاه في الزيادة والنقصان، ولو كان دخول أحدهما على الآخر مفاجأة، لأضّر ذلك بالأبدان وأسقمها، كما أنّ أحدكم لو خرج من حمّام حار إلى موضع البرودة لضّره ذلك واسقم بدنه، فلم يجعل اللَّه عزّ وجلّ هذا الترسل في الحر والبرد إلّاللسلامة من ضرر المفاجأة؟» «2».

توضيحان

1- أهميّة النور والظلام وفوائد اللَّيل والّنهار

لاحظنا في الآيات الآنفة كيف أنّ اللَّه تبارك وتعالى يدعو الناس إلى دراسة هاتين الظاهرتين اللتين تبدوان عاديتين

للعيان، ويعُّدهما من آياته، والحقيقة أننا كلَّما امعّنا النظر في هذا المجال نتوصل إلى امورٍ جديدة:

أ) فنحنُ نعلمُ أنّ اللَّيل والّنهار في جميع أنحاء العالم يختلفان تماماً، فطول الليلِ عند خط الاستواء 12 ساعة، وطول الّنهار 12 ساعة أيضاً في كافة الفصول، إلّاأنَّ السَّنةَ كلَّها في المنطقة الجنوبية وعلى خط 90 ليست أكثر من يومٍ واحدٍ وليلةٍ واحدة حيث تكون مدة كلٍّ منهما ستة أشهر تقريباً «ومثل هذه المناطق غير مأهولة طبعاً»، وهنالك مراحل وسط

__________________________________________________

(1) لقد ذكر «الطريحي» في «مجمع البحرين» هذه النكتة في مادة (ولج).

(2) بحار الأنوار، ج 3، ص 118.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 175

بين هذين الوضعين في باقي بقاع العالم.

إلّا أنَّ مايثير العجب هو بالرغم من هذا الاختلاف فانَّ جميع بقاع الأرض تستفيد من أشعة الشمس بنفس النسبة على مدار السنة وهذا نظامٌ عادلٌ للغاية!.

ب) إنّ الّنهار اكثرُ طولًا أثناء الصيف والليل أكثرُ طولًا في الشتاء، أي أنّ هذين الأمرين يسيران بشكلٍ متزامنٍ، زيادة طول الّنهار، والاشعاع العمودي «أو شبه العمودي» للشمس، فيكمل أحدُهما أثر الآخر، ويؤدّيان إلى زيادة حرارة الجو فتثمرُ الفواكه والمحاصيل الزراعية، وفي الشتاء يؤدّي إلى زيادة البرودة وتساقط أوراق الأشجار والنباتات، واللطيف أنّه في المناطق الاستوائية حيث يشع ضوء الشمس عمودياً لا يطول الّنهار أبداً، وإلّا لداهمها خطر الحرارة الشديدة واحترقت النباتات.

ج) إنّ ضوء الشمس يسبب اليقظةَ والجد والسعي والحركة باستمرار، على العكس من اللّيل الذي يبعث على السكون والاستقرار والنوم، ويُلاحَظُ هذا الأمر على وجه الخصوص في عالم الحيوانات، حيث تستيقظ الطيور مع سفور الصبح وتتجه نحو الصحراء، وتعود وتستريح في أوكارها عند غياب الشمس، وفي الارياف حيث إنّ لمعظم الناس حياةً طبيعية، ويكون برنامج

حياتهم كذلك أيضاً، ولكن نظراً لتطور الآلة، وصناعة النور الاصطناعي، فانَّ الكثير من الأشخاص يسهرون جزءً من اللَّيل وينامون بعض النهار، وهذا أحدُ الأسباب لبعض أنواع الأمراض، وفي الحقيقة أنّ القرآن يُحذِّرُ مثل هؤلاء الأفراد بانَّ ترك النوم ليلًا يؤدّي إلى فقدان الاطمئنان الروحي وذلك من خلال عبارة: «هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيْهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً». (يونس/ 67)

2- ظاهرة اللّيل والّنهار في القرآن الكريم

لقد ذُكِرَتْ ظاهرة اللّيل والّنهار أكثر من ثلاثين مرّة في القرآن الكريم كبرهانٍ على وجود اللَّه ودليلٍ على عظمته وقدرته، حيث يقول أحياناً: «إِنَّ فِى ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُولى

نفحات القرآن، ج 2، ص: 176

الأَبْصارِ». (النور/ 44)

ويقول كذلك: «لَآياتٍ لِّقَومٍ يَتَّقُونَ». (يونس/ 6)

ويقول: «لَآيَاتٍ لِّقَوُمٍ يُؤمِنُونَ». (النمل/ 86)

وفي الواقع، أنّ العلاقة بين هذه الامور الثلاثة تتضح هنا حيث إنَّ التفكُر والتأمُّل الناضجين والعميقين كما ورد في حق «اولُوا الألباب» يؤدّيان إلى ظهور الإيمان ورسوخه، والإيمانُ بدوره يؤدّي إلى ظهور التقوى في القلب والروح أيضاً.

ولهذا فانَّ التمعُنَ في آيات عظمةِ اللَّه وعلمه وقدرته في عرض عالم الوجود، يُرسِّخ العقيدة ويُربّي الإنسان من الناحية العملية أيضاً.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 177

10- آياته في خلق الجبال

تمهيد:

الكلُّ يعرفُ بشكل عام أنّ القُرى واغلبَ المدن المهمّة تقع في سفوح الجبال الشامخة وتقع فيما بينها، وأنَّ الأنهار الكبيرة التي هي عمادُ ازدهار المدن تنبعُ من الجبال الشاهقة، إنَّ دورَ الجبالِ في حياة الإنسان لا ينحصر بذلك فقط على الرغم من أهميّة هذا الدور.

فالجبالُ لها دورٌ مهمٌ جدّاً في حياة الإنسان بل جميع الموجودات التي تعيش على الأرض، وفوائدها وبركاتُها عديدةٌ جدّاً، ولا نُبالغ إذا قلنا باستحالة الحياة على الأرض بدون وجود الجبال.

ولهذا فانَّ القرآن الكريم أشار في آياتٍ كثيرة إلى مسألة خلقِ الجبال كاحدى آيات التوحيد وبراهينه على علم وقدرة الخالق جلَّ وعلا.

بعد هذه المقدمة نقرأ خاشعين الآيات الآتية:

1- «أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلىَ الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ* وإِلىَ السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ* وَإِلى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ». (الغاشية/ 17- 19)

2- «أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَاداً* وَالْجِبَالَ أَوتَاداً». (النبأ/ 6- 7)

3- «وَهُوَ الَّذِى مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيْهَا رَواسىَ وَأَنْهَاراً». (الرعد/ 3)

4- «وَالْقَى فِى الأَرْضِ رَواسِىَ أَنْ تَمِيْدَ بِكُمْ وَأنْهَاراً وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ

تَهْتَدُونَ».

(النحل/ 15)

5- «وَجَعلْنَا فِى الأَرْضِ رَوَاسِىَ أَنْ تَمِيْدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ». (الانبياء/ 31)

نفحات القرآن، ج 2، ص: 178

6- «وَجَعَلَ فِيْهَا رَوَاسِىَ مِنْ فَوقِهَا وَبَارَكَ فِيهَآ وَقَدَّرَ فِيْهَا أَقْواتَهَا فِى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسّآئِلِيْنَ». (فصلت/ 10)

7- «وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِىَ شَامِخَاتٍ وأَسْقَينَاكُمْ مَّآءً فُرَاتاً». (المرسلات/ 27)

8- «أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلَالَها أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِىَ وَجَعَلَ بَيْنَ البَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَ إِلهٌ مَّعَ اللَّه بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَايَعْلَمُوْنَ». (النمل/ 61)

9- «وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً». (النحل/ 81)

10- «وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيْضٌ وحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوانُهَا وَغَرابِيْبُ سُودٌ». (فاطر/ 27)

شرح المفردات:

«جبل»: على وزن (عَسَلْ)، بالرغم من أنّ بعض أرباب اللغة فسَّرها بأنّها المفردة التي تقابل الأراضي المنبسطة، وفسَّرها بعضهم بالأجزاء المرتفعة من الأرض حيث تكون عالية وشامخة، فالظاهر أنّ جميع هذه التعابير تشير إلى معنىً واحد.

وطبعاً قد يُستعمل هذا اللفظ في المعاني الكنائية أيضاً، فقد يُقال (جبل) للأشخاص الصامدين والعظماء، و «جِبِلّي» للصفات الثابتة في طبيعة الإنسان والتي لا تتبدل ولا تتغير «كالجبل»، وكذلك يقال (جِبِلّ) بكسر الجيم والباء وتشديد اللام، للرهط والمجموعة في لغة العرب من باب التشبيه بالجبل في العظمة «1».

و «الرواسي»: جمع «راسية» أي الجبال الثابتة الراسخة، وهي في الأصل من «الرَسو» (على وزن رَسْم وغلوُ) وهي مأخوذة من الثبات والرسوخ، ويُطلقُ على الاواني الضخمة الراسخّة والثابتة في مكان العمل ب (الراسية) أيضاً، (كالقدور الراسية) التي وردت في قصة سليمان عليه السلام في القرآن الكريم، ويُطلقُ لفظ (رسيّ) على الأعمدة الثابتة في وسط الخيمة أيضاً، ويقال لمكان رسوّ السفن ب «المرساة» حيث تثبت وتستقر السفينة في مكانها.

__________________________________________________

(1) المفردات للراغب؛ ومجمع البحرين؛ ولسان العرب.

نفحات

القرآن، ج 2، ص: 179

وقد يُستخدم هذا اللفظ بمعنى ارساء السِّلم في المجتمع أيضاً لأنَّ السّلم أساسُ ثبات كلِّ بلدٍ.

جمع الآيات وتفسيرها

البركات والأسرار العجيبة للجبال:

في القسم الأول من هذه الآيات يدعو الباري تعالى الناسَ إلى البحث والتأمل في آيات اللَّه في السماء والأرض، ثم يشير إلى كيفية خلق الابل وكذلك ارتفاع السموات حيث ارتفعت بدون عَمَدٍ مع مالها من عظمة، وأشار إلى نصب الجبال فقال: «وَإِلى الجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ».

ولعلَّ هذا التعبير إشارة إلى ثبات واستقرار الجبال في أمكنتها ومنع حدوث الزلازل التي سيشار إليها في الآيات القادمة أو اشيرَ إليه آنفا، أو الوقوف أمام الأعاصير والعواصف، وتوفير الملاجي ء الآمنة للبشر، ومستودعات حفظ المياه على هيئة ينابيع وقنوات وأنهار.

ويمكن أن يكون هذا التعبير إشارة ظريفة إلى مسألة طبيعة تكوين الجبال ووجودها حيث كشفَ العلم المعاصر الستار عنها، إذ يقول: إنّ الجبال تكونت نتيجة لعوامل معينة فقد يكون بسبب تعرُّج الأرض، وأحياناً بسبب البراكين، أو نتيجة الترسبات الناتجة عن الأمطار التي تغمر الأرض وتجرف بعضها معها ويبقى الجزء القوي والصلب ثابتاً في مكانه.

وفي أعماق البحار تتكون الكثير من الجبال نتيجة الترسبات الحيوانية كالمرجان حيث يطلق عليها الجبال أو الجُزُر المرجانية.

ومن الممكن جمع كل هذه المعاني في عبارة «كَيْفَ نُصِبَتْ».

ويقول في القسم الثاني من الآيات كبيانٍ للنعم الإلهيّة: «أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَاداً* وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً»؟

نفحات القرآن، ج 2، ص: 180

«الاوتاد»: جمع (وَتَدْ) (على وزن حَسَدْ)، وتُطلقُ على المسامير الضخمة القوية جدّاً، وقد فسَّرها البعض بالمسامير التي تغور في الأرض وتُربط إليها حبالُ الخيمة «1».

وهنا كيف تكون الجبال بمثابة أوتاد الأرض؟ هناك تفاسير متعددة: أولُها وهو ما ثبت اليوم بانَّ الجبال لها جذورٌ عظيمة في أعماق الأرض، وهذه الجذور متشابكة معاً وتُمسكُ بقشرة الأرض

كالدرع وتحفظها في مواجهة الضغوط الناشئة عن الحرارة الداخلية، ولولاها لما كان لسطح الأرض من قرار.

وفضلًا عن ذلك فكما أنّ جاذبية القمر والشمس تترك تأثيراتها على المحيطات، وتسبب المد والجزر، فانَّ اليابسة لها تأثيرها أيضاً، فيمنحُ درعُ الجبالِ قشرةَ الأرض قدرةَ المقاومة أمام هذا الضغط الهائل.

ومن ناحية ثالثة فانَّ الجبال تصونُ بقاعَ الأرض المختلفة من العواصف والسيول وتقف أمامها كالسور العالي، بحيث لو كان وجه الأرض كلُّه على هيئة صحراء لتعسَّرت حياة الإنسان على سطحها أمام هذه السيول العارمة.

وأهم من كل ما مضى فإنّ الجبال تعتبر بمنزلة الأوتاد القوية لنظام حياة البشر لكونها مركزاً لذخائر المياه.

وجاء في تفسير الميزان أنّ الأوتاد جمع وتد وهو المسمار إلّاأنّه أغلظ منه «2» كما في المجمع ولعل عدّ الجبال أوتاداً مبني على أنّ أكثر جبال الأرض ناتجة من البراكين التي تنطلق من أعماق الأرض فتخرج مواد ارضية مذابة تستقر على فم الشق متراكمة كهيئة الوتد المنصوب على الأرض تسكن به فورة البركان التي تحته فيرتفع به ما في الأرض من الاضطراب والتزلزل.

__________________________________________________

(1) تفسير المراغي، ج 30، ص 4.

(2) تفسير الميزان، ج 20، ص 259.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 181

وفي الآيات الثالثة والرابعة والخامسة عُبِّر عن الجبال ب «الرواسي» حيث يقول:

«وَجَعَلَ فِيْهَا رَوَاسِىَ وَأَنْهَاراً».

ويقول في مكان آخر: «وَأَلْقىَ فِى الأَرضِ رَوَاسِىَ أَنْ تَمِيْدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُوْن».

ويشاهد هذا المعنى في الآية الخامسة أيضاً.

ويستفادُ من مجموع هذه الآيات أنّ أحَد أهم فوائد الجبال هو منع الحركات غير الطبيعية والزلازل الأرضية.

و «تَميدُ»: من مادة (مَيْد) (على وزن صَيْدْ) أي إهتزاز الأشياء الضخمة، وقال البعض إنّها الحركة المتزامنة مع التمايل يميناً وشمالًا، كحركة السفن الخالية بسبب أمواج البحر، ولهذا

يقال «مَيْدان» أثناء المسابقات أو الحروب.

وقد تحدثنا في شرح الآيات السابقة عن تأثير الجبال في منع حركات قشرة الأرض أثر الضغط الداخلي، وجاذبية المد والجزر للشمس والقمر، والاضطرابات الناتجة عن السيول المستمرة، ولا حاجة إلى التكرار.

ويُفهم من هذه الآيات بصورة عامة أيضاً، أنَّ لتكوين الأنهار علاقةً بوجود الجبال، وهو الصحيح، فالأنهار الكبيرة التي تجري على مدى السنة وتسقي الأراضي اليابسة هي من بركة المياه التي تجمعت في أعماق الجبال أو قممها على هيئة جليدٍ أو ثلج، ولهذا تُعتبر الجبال العملاقة في العالم ينابيع لأنهار العالم العظيمة. وربّما يحدث لدى البعض شبهة في كون وجود الجبال يكون حائلًا في عزل الأراضي عن بعضها وسبباً في غلق طرق العبور والمرور، لكن الآيات الواردة أعلاه صرحت بأنّ اللَّه سبحانه وتعالى جعل طرقاً واودية يسلكها الناس ليهتدوا إلى بلوغ مقاصدهم ونيل مآربهم.

وهذه نقطة ظريفة جدّاً حيث توجد على الدوام في أعماق الجبال العظيمة الشاهقة ممرات وطرقٌ يستطيع الناس من خلالها المرور والعبور، أي أنّها في ذات الوقت الذي تشكلُ سداً قوياً أمام العواصف والأعاصير، فهي لا تمنع عبور ومرور الناس، ونادراً ما تقوم هذه الجبال بعزلِ أجزاءٍ من الأرض بشكل كامل.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 182

وهناك نقطة بالغة الاهمية وهي لو كان سطح الأرض مستوياً، فسوف تكون درجة الحرارة على الأرض عالية جدّاً ومحرقة وذلك بسبب حركة الأرض السريعة حول نفسها وحركة الهواء على سطح الأرض وبذلك تتعذر الحياة على سطح الأرض.

لكن الباري تعالى الذي جَعَلَ الأرض مهداً لراحة الإنسان، أمر الجبال أن تكون مرتفعة في طبقات الجو، وتدور حول نفسها تبعاً لدوران الأرض، كي تمنع اهتزاز الجو وحصول الحرارة.

بناءً على ذلك نلاحظ جيداً أهميّة الدور الذي يلعبُهُ وجود

هذه القطع الصخرية الصمّاء في حياة الموجودات.

بالاضافة إلى ذلك فانَّ الجبالَ تُوجدُ مساحات مسطَّحة شاسعة بسبب التعرجات والانكسارات وتؤدّي إلى مضاعفة الجزء الذي يمكن استغلاله من الأرض لعدّة مرات، وفي نفس الوقت فانَّ أغلبها يعتبر مكاناً لنمو أشجار الغابات الكثيفة وأنواع النباتات الطبية والغذائية والمراتع.

ولعلَّ لهذا السبب جاء الحديث في الآية السادسة عن بركات الأرض واقواتها بعد نصب الجبال في الأرض إذ يقول: «وَجَعَلَ فِيْهَا رَوَاسِىَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيْهَا وقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا».

لأنَّ ممّا لا شك فيه أنّ الجبال نفسها وكذلك المياه التي تسيل من بطونها لها دورٌ حساسٌ للغاية في انتاج المواد الغذائية.

وممّا يلفت الانتباه قوله في نهاية الآية: «سَواءً لِلسَّائِليْنَ»، فلعلّه إشارة إلى هذا المعنى وهو أنّ المواد الغذائية تعادل ما يحتاجه السائلون والمحتاجون تماماً، ويمكن أن يكون تعبير «السائلين» إشارة إلى كافة الحيوانات والناس والنباتات (وإذا جاء بصيغة جمع المذكر للعاقل فهو من باب التغليب) نعم فالكل يسأل عن «الاقوات» بلسان حاله.

و «أقوات»: جمع (قوت) وتعني الغذاء، وقد فسَّرها بعض المفسرين ب «الأمطار» فقط، والبعض الآخر فسَّرها بالمواد الغذائية المدَّخرة في باطن الأرض، إلّاأنّ الظاهر هو أنّها

نفحات القرآن، ج 2، ص: 183

إشارة إلى كافة المواد الغذائية التي تخرج من الأرض أو التي تنمو عليها، ولعلَّ التعبير ب «قَدَّرَ» وهي من «التقدير»، إشارة إلى أنّه قد تمّ تقدير وتخطيط كافة احتياجات الإنسان وبقية الموجودات قبل خلقها.

وقد ورد مضمون الآية السابعة في الآيات الآنفة.

وأشار في الآية الثامنة إلى أربع نِعَمٍ الهية: فالأرضُ مستقرةٌ بنحوٍ يستطيع الإنسان والموجودات الاخرى من العيش عليها براحةٍ واطمئنان، وتكوين الأنهار التي تشق سطح الأرض، وخلق الجبال العظيمة الراسخة، وتكوين البرزخ بين البحرين (من الماء العذب والمالح) كي لا يختلط

احدهما بالآخر.

وهذه النعم الأربع ترتبط مع بعضها بنحوٍ مدهش، فالجبال أساسُ استقرار الأرض، ومصدر مياه الأنهار، وهذه الأنهار عندما تصبُ مياهها في البحر فهي تبقى منفصلة بواسطةِ حاجزٍ غير منظورٍ لفترة طويلة لا تختلط مع المياه المالحة، وهذا الحاجز ليس سوى اختلاف كثافة الماء «المالح» و «العذب»، وبتعبير آخر أنّ اختلاف كثافتهما يؤدّي إلى عدم امتزاج مياه الأنهار العذبة بالمياه المالحة لمدّة طويلة، ولهذا فائدة ضرورية للزراعة في المناطق الساحلية، لأنَّ هذه المياه العذبة تتراجع إلى الخلف عن طريق المد والجزر وتُغطي معظم الأراضي الزراعية فتغمر البساتين النَظِرة والمزارع المزدهرة.

فليس جزافاً أن يقول في نهاية هذه الآية: «أَ إِلهٌ مَّعَ اللَّهِ»؟ «بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَايَعْلَمُونَ».

أَجَلْ ... فهؤلاء يجهلون أسرار هذه النِعَم والبركات، النِعَمُ الموجودة في كل زوايا وبقاع العالم، وكلٌ منها برهانٌ على تلك الذات المقدّسة، إلّاأنّ هؤلاء الجهلةَ محجوبون عنها.

وفي الآيتين التّاسعة والعاشرة أشار إلى مجموعةٍ اخرى من خصائص ومنافع الجبال، فبعد أنْ ذكرَ خلقَ الجبال التي تقي الإنسان حرارة الشمس المحرقة، يشير إلى الملاجي ء

نفحات القرآن، ج 2، ص: 184

الموجودة فيها حيث يقول: «وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً».

و «الاكنان»: جمع (كِنّ) على وزن (جِنّ) وكما قال صاحب مجمع البيان هو المكان الذي يضم الإنسان بداخله، إلّاأنّ البعض ذكر ذلك بمعنى كلّ نوعٍ من اللباس، حتى أنّهم اعتبروا «الرداء» «كنّاً» للإنسان، والمقصود ب «اكنان الجبال» المغارات والكهوف التي يستطيع الإنسان أن يستخدمها كملجاً له، قد تكون أهميّة الملاجي ء الجبلية والمغارات مجهولة بالنسبة لسكنة المدن، غير أنّها ذات أهميّة حسّاسة جدّاً للمسافرين العُزّل، وقاطعي الصحراء، والرعاة، والسائرين ليلًا، وغالباً ما تنقذهم من الموت المحتوم، لا سيما وإنَّ هذه الملاجي ء دافئة في الشتاء وباردةٌ في الصيف.

فضلًا عن ذلك

فإنّ بعض الناس منذ غابر الأزمان وحتى يومنا هذا ينحتون بيوتهم في وسط الجبال، وهي مُحكَمَةٌ جدّاً وآمنة تماماً في مواجهة الحوادث الطبيعية، كما ورد في القرآن الكريم حول «أصحاب الحجر» (قوم ثمود): «وَكَانُوا يَنْحِتُوْنَ مِنَ الجِبَالِ بُيُوتاً آمِنِيْنَ». (الحجر/ 82)

وهذه فائدة اخرى للجبال.

وفي قسمٍ آخر من هذه الآيات إشارة إلى الطرق التي صنعها الباري تعالى بالوانٍ مختلفة بيضاء وحمراء وأحياناً سوداء بكاملها: «وَمِنَ الجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وحُمْرٌ مُختَلِفٌ أَلوانُهَا وغَرابِيبُ سُودٌ».

و «جُدَدٌ»: جمع (جُدّة) (كغُدَدٌ وغُدَّة) بمعنى الطريق والجادّة، و «بِيضٌ» جمع «أبيض»، و «حُمر» جمع «أحمر»، و «غرابيب» جمع «غربيب» وتعني شديد السواد، ولهذا يقال «غراب»، و «سود» جمع «أسود» ووردت هنا بعد كلمة «غرابيب» للتأكيد.

فطرقُ الجبال المختلفة، بألوانها المتباينة تماماً، لها أهميّة كبيرة حيث تساعد المسافرين في العثور على مقاصدهم، وتنقذهم من التيه، إضافة إلى أن تعدُّد الألوان يدلُّ على اختلاف مركبات الصخور، وقد تكون دليلًا على وجود المعادن المختلفة التي تختفي فيها.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 185

يستفاد جيداً من تسلسل هذه الآيات أنّ خلق الجبال بفوائدها الحياتية والضرورية جدّاً والمصيرية، من البراهين المهمّة على علم وقدرة الباري تعالى وآيات حكمته ورأفته بالإنسان، ويوضح جيداً أن خلقَ هذا العالم وذرات موجوداته، ملي ءٌ بالمعنى والمحتوى إلى حدٍ كلمّا تم التمعُن به تنكشفُ للإنسان أسرارٌ جديدة ويتولد على أثرها حبٌ وارتباطٌ بالخالق جلَّ وعلا.

توضيحات

1- الجبال والاعجاز العلمي للقرآن

1- لعلَّ إلى ما قبل قرنٍ من الزمان كانت نظرية العلماء تنصُ على سطحية الجبال، وكان الاعتقاد السائد هو أنَّ كل الجبال عبارة عن قطعٍ صخرية كبيرة تستقر على سطح الأرض، ولكن مع مرور الزمان ازيلَ الحجابُ عن سرٍّ مهمٍ، وتوصلَ العلماء إلى هذه الحقيقة، وهي أنّ الجزءَ الأعظم من

كل جبلٍ يقع تحت الأرض!

وكما يقول «جورج غاموف» في كتاب «قصة الأرض»: «طبقاً للنظريات المعاصرة فانّ جبال الأرض لها أوضاع تشبه الجبال الجليدية التي تتكون تحت تأثير ضغط الثلوج في المناطق القطبية، فكلُ من زار المناطق القطبية يعرف جيداً أنّ القطع الثلجية الضخمة حينما تتكسر تحت تأثير الضغط تتراكم على بعضها، وتندفع نحو البحار- وأثناء ذلك- تنهار اغلب كميات الثلج في المياه، (ولعلَّ عُشرُها فقط خارج المياه وتسعةُ اعشارها تحت الماء)، ولهذا ففي مقابل كلِّ جبلٍ يرتفع على سطح الأرض هنالك جبلٌ تحت سطح الأرض، متكون من مادة حجر الغرانيت يَغوص في ثنايا طبقة من الصخور التحتية الناعمة» «1».

وهنا نصل إلى هذه المسألة الاعجازية في القرآن حيث يطلق على الجبال «اوتاد» ومسامير الأرض، وذلك لأننا نعلم أنّ القِسمَ الأعظم من المسمار يغور في الجدار أو الأشياء الاخرى دائماً.

__________________________________________________

(1) قصة الأرض، تأليف جورج غاموف، ص 126 مع شي ء من الاختصار.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 186

وهنا حيث تستخدم المسامير في تثبيت شي ءٍ ما، أو ربط القطع المختلفة مع بعضها أيضاً، فهذا التعبير يعتبر إشارة لطيفة إلى التأثير المهم للجبال في منع تبعثر قطع الأرض أثر الضغط الداخلي للكرة الأرضية والضغط الناتج عن حالات المد والجزر.

2- لايقتصر دور الجبال على حفظ استقرار وثبات الأرض فحسب، بل تساعد في استقرار المناخ المحيط بالأرض أيضاً، والكل يعلم مدى صعوبة العيش في الصحراء الشاسعة لأنّ الهواء دائماً في حالة من السرعة المقرونة بالغبار والرمال، فيصبح الاستقرار في هذه المناطق عسيراً والتنفس صعباً مقرونا بعدم الراحة.

نعم .. فهذه القمم الشاهقة للجبال هي التي تقف أمام هذه العواصف الهوجاء، وتصدُّها، أو تُرسلها إلى طبقات الجو العليا.

3- إضافة إلى ذلك فإنّ للجبال تأثيراً

بالغاً في نزول الثلوج وهطول الأمطار، لأنّها تقف في طريق الغيوم والرطوبة الصاعدة من البحر، فتوقفها وتدفعها إلى الهطول فينحدر بعض هذه الأمطار من سفوحها، وتحتفظ بالقسم الآخر في هذه السفوح، أو تحتفظ بها على هيئة ثلج وجليد في قمتها.

4- وكذلك فانَّ للجبال دوراً مهماً في تعديل حرارة الجو لا سيما في المناطق الاستوائية، لأنَّ ارتفاع الجبال يؤدّي إلى ابتعاد المناطق المجاورة لها عن سطح الأرض ونحن نعلم أننا كلّما ابتعدنا عن سطح الأرض تزداد برودة الجو.

5- إنّ الجبالَ مصدرٌ مهمٌ لانواع المعادن والثروات الهائلة التي تختفي في أعماقها، ومن أجل أن يظفر الناس بهذه الثروات فهم يتجهون إلى الجبال دائماً للبحث عنها.

6- للجبال دورٌ مهمٌ آخر في ايقاف حركة الكثبان الرملية، فنحن نعلم أنّ الكثبان الرملية تتحرك أثناء هبوب الرياح في الصحراء القاحلة، وقد تدفُنُ تحتها الأشجار والناس والقوافل وحتى القرى وتصبح سبباً في هلاك النباتات والحيوانات، فإذا لم تتم السيطرة عليها فسوف تأتي على جميع أنحاء الأرض، فأيُّ عاملٍ أفضلُ من الجبال يُمكنُه السيطرة عليها؟!

إنَّ هذه الفوائد العظيمة إضافةً إلى فوائد اخرى كثيرة ذكرناها في تفسير الآيات السابقة

نفحات القرآن، ج 2، ص: 187

توضح لنا الدور المهم للجبال من جهةٍ، وعظمة آيات القرآن الكريم في هذا المجال من جهة اخرى

2- حديث للإمام الصادق عليه السلام حول الجبال

وفي حديث توحيد المفضّل وهو حديث ملي ءٌ بالمعاني، وكاشفٌ لأسرار الخلق في مختلف الجوانب لمعرفة اللَّه، جاء ما يلي:

«انظر يا مفضّل إلى هذه الجبال المركومة من الطين والحجارة التي يحسبها الغافلون فضلا لا حاجة إليها، والمنافع فيها كثيرة: فمن ذلك أن تسقط عليها الثلوج فيبقى في قلالها لمن يحتاج إليه، ويذوب ما ذاب منه فتجري منه العيون الغزيرة التي تجتمع منها الأنهار

العظام، وينبت فيها ضروب من النبات والعقاقير التي لا ينبت مثلها في السهل، ويكون فيها كهوف ومقايل للوحوش من السباع العادية. ويتخذ منها الحصون والقلاع المنيعة للتحرز من الأعداء، وينحت منها الحجارة للبناء والأرحاء، ويوجد فيها معادن لضروب من الجواهر، وفيها خلال اخرى لا يعرفها إلّاالمقدّر لها في سابق علمه» «1».

وقد تكون العبارة التي جاءت في ختام حديث الإمام عليه السلام إشارة إلى الفوائد المهمّة الاخرى التي اكتُشفت تدريجياً مع تطور العلوم وتمّت الإشارة إليها في البحوث الماضية، المنافع التي لا زالت خافيةً عن أنظار العلم البشري.

3- كلامٌ لعالم كبير

عندما يتعرض العلّامة المرحوم المجلسي رحمه الله إلى البحث حول الجبال في كتابه بحار الأنوار، يذكر في تفسير الآية: «والجِبَالَ أَوْتَاداً» سبعة آراء، نذكر ثالثها:

«ما يخطر بالبال وهو أن يكون مدخلية الجبال لعدم اضطراب الأرض بسبب اشتباكها

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار، ج 3، ص 127.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 188

واتصال بعضها ببعض في أعماق الأرض بحيث تمنعها عن تفتّت أجزائها وتفرّقها، فهي بمنزلة الأوتاد المغروزة المثبتة في الأبواب المركبة من قطع الخشب الكثيرة بحيث تصير سببا لالتصاق بعضها ببعض وعدم تفرّقها وهذا معلوم ظاهر لمن حفر الآبار في الأرض فانّها تنتهي عند المبالغة في حفرها إلى الأحجار الصلبة، وأنت ترى أكثر قطع الأرض واقعةً بين جبال محيطة بها، فكأنّها مع ما يتصل بها من القطعة الحجرية المتصلة بها من تحت تلك القطعات كالظرف لها تمنعها عن التفتّت والتفرق والاضطراب عن عروض الأسباب الداعية الى ذلك» «1».

إنَّ هذا الحديث واستناداً إلى التصريح الذي أوردناه آنفاً لاحد العلماء المتأخرين، والذي هو من اكتشافات القرن الأخير، يعتبر أمراً مثيراً جدّاً حيث يشير هذا العالم الإسلامي الكبير إلى ذلك قبل أكثر من

300 سنة.

4- حديثٌ اعجازيٌ حول تكوين الجبال

وهذه نقطة جديرةٌ بالاهتمام أيضاً حيث ورد في روايةٍ أنّ شخصاً سألَ أميرَالمؤمنين عليه السلام قائلًا: مِمّ خُلقتِ الجبالُ؟ فقال الإمام عليه السلام في جوابه: «من الأمواج» «2».

وهذا الحديث يتطابق تماماً مع النظرية المشهورة للعلماء المعاصرين إذ يعتقدون بأنَّ أغلبَ الجبال تكونت نتيجةً لتعرُّج قشرة الأرض بسبب انجمادها كالتجعدات التي تظهر على قشرة التفاح عند جفافها وهذه التعرّجات تشبه الأمواج التي تحدث على سطح الماء، وقد يكون تعبير: «وَأَلْقَى فِى الأَرْضِ رَوَاسِيَ». (النحل/ 15)

إشارة إلى خلق الجبال بعد خلق الأرض أيضاً.

__________________________________________________

(1) بحار الانوار، ج 3، ص 127.

(2) بحارالانوار، ج 57، ص 73 و ج 60، ص 120.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 189

11- آياته في تكوين الغيوم والرياح والأمطار

تمهيد:

إنَّ دورَ الغيوم، والرياح والأمطار، في حياة الإنسان وكافة الكائنات الحيّة واضحٌ إلى حدٍ لا يحتاج معه إلى شرح أو تفصيل، صحيحٌ أنّ الماء يغمُر ثلاثة أرباع الكرة الأرضية، ولكن أولًا: أنّ المياه المالحة لا تصلح للري، ولا لشرب الإنسان والحيوانات، وثانياً: لو فرضنا أنَّ كلَّ مياه البحار كانت عذبةً فبأي طريقةٍ يُمكن نقلها إلى المناطق والأراضي التي قد ترتفع عن مستوى سطح البحر عدة آلاف من الأمتار؟

هنا نرى بجَلاء القدرة العظيمة لمُبدى ء الخلق، حيث القى هذا التكليف المهم على عاتق أشعة الشمس لتشرق على المحيطات وتَقوم بتبخير وتصفية مياهها، فيظهر على هيئة قطعٍ من الغيوم، ثم تتجه به نحو المناطق الجافة بمساعدة الرياح، وتُنزله عليها بصورة قطرات مطر لطيفةٍ وصغيرة وبهدوء، حيث تدُب الحياة في جميع أرجاء المعمورة، فينتشر الإزدهار والإعمار والخُضرة في كُل مكان، وهذا يأتي من خلال نظامٍ دقيقٍ ومحسوب مقرون بظرافة بالغة.

وبعد هذا التمهيد القصير نتجه نحو آيات القرآن الكريم بهذا الخصوص فنقرأ خاشعين الآيات الآتية:

1- «اللَّهُ الَّذِى

يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيْرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِى السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً

نفحات القرآن، ج 2، ص: 190

فَتَرى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ».

(الروم/ 48)

2- «وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَليُذِيقَكُمْ مِّنْ رَّحْمَتِهِ وَلِتَجْرِىَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ولَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ». (الروم/ 46)

3- «وَهُوَ الَّذِى يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنْزَلَنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الَّثمَراتِ». (الاعراف/ 57)

4- «وَاللَّهُ الَّذِى أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيْرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلىَ بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحِيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا. (فاطر/ 9)

5- «انَّ فِى خَلْقِ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ وَاختَلفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالفُلكِ الَّتِى تَجرى فِى البَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وتَصْرِيْفِ الرِّياحِ وَالسَّحَابِ المُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالارْضِ لَآياتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ». (البقرة/ 164)

6- «أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِى تَشْرَبُونَ* أَأنْتُمْ أنْزَلُتمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ المُنْزِلُونَ* لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ اجَاجاً فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ». (الواقعة/ 68- 70)

7- «أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِى ظُلُمَاتِ الْبَّرِ والْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّه تَعالىَ اللَّهُ عَمَّا يُشرِكُونَ». (النمل/ 63)

8- «وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ». (الحجر/ 22)

9- «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَآءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيْعَ فى الأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعَاً مُّخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ... إِنَّ فِى ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِى الأَلْبَابِ». (الزمر/ 21)

10- «وَأَنْزَلنَا مِنَ المُعْصِرَاتِ ماءً ثَجَّاجاً* لِّنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتَاً* وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً».

(النبأ/ 14- 16)

11- «وَهُوَ الَّذِى أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً

نفحات القرآن، ج 2، ص: 191

طَهُوراً». (الفرقان/ 48)

12-

«أَوَلَمْ يَرَوا أَنَّا نَسُوقُ المَاءَ إِلى الأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ». «1»

(السجدة/ 27)

شرح المفردات:

«الرياح»: تكررَ هذا اللفظُ عشرَ مراتٍ في القرآن الكريم، تسعٌ منها إشارة إلى الرياح التي تُحركُ الغيوم وتُعِدُّها لتنزل الأمطار.

و «الرياح»: في الأصل جمع (ريح) وتعني الهواء المتحرك، وأصلُها «رَوْحْ»، وغالباً ما تعتبر مؤنثاً لفظياً، والجدير بالذكر أنّها تستخدم بصيغة الجمع دائماً في الآيات التي تتعلق بحركة الغيوم ونزول الأمطار في القرآن الكريم، وذكر البعض دليلًا على ذلك بأنَّ الرياح إذا تحركت بشكلٍ جماعي فانّها تنشر الغيوم وتُكوِّنُ أمطاراً غزيرة ومليئة بالبركة، وإذا تحركت على هيئة أجزاءٍ متفرقة فانّها تكون عقيمة وغير مفيدة، بل مضرّةً عندئذ، لذلك ورد في الدعاء: «اللّهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً» «2»

.

ويقول «الراغب في المفردات»: في جميع الموارد التي ذكر اللَّه تعالى لفظة «الريح» بصورةٍ مفردة (في القرآن) فهي تحكي عن «العذاب»، وأينما ذكرت بصيغة الجمع فهي تحكي عن الرحمة.

وقول الراغب صائبٌ في ما يَخص «الرياح» في صيغة الجمع، ولكن ليس هناك تعميمٌ في مورد «الريح» بصيغة المفرد، لإنَّ «الريح» استخدمت في القرآن بصيغة المفرد في مورد

__________________________________________________

(1) توجد في القرآن الكريم آياتٌ كثيرةٌ في هذا المجال، وما ورد أعلاه مقتطفات من هذه الآيات بامكانها تبيان ابعاد هذه الامور الثلاثة المهمّة وهي كما يلي: الانعام، 99؛ ابراهيم، 32؛ النحل، 65؛ طه، 53؛ الحج، 63؛ النمل، 60؛ العنكبوت، 63؛ لقمان، 10 و 11؛ فاطر، 27؛ فصلت، 39؛ الرعد، 17؛ الأعراف، 57؛ الحجر، 22؛ النمل، 63.

(2) مجمع البحرين- مادة (ريح).

نفحات القرآن، ج 2، ص: 192

النعمة أيضاً، كما في قوله تعالى: «حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِى الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وفَرِحُوا

بِهَا». (يونس/ 22)

ونقرأ أيضاً بخصوص سليمان عليه السلام: «وَلِسُلَيَمانَ الرِّيْحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَواحُهَا شَهْرٌ». (سبأ/ 12)

و «تَصْريفِ الرِّياح» تعني نقل الرياح من حالٍ إلى حال (من الشمال إلى الجنوب ومن الجنوب إلى الشمال)، وهي من مادة (صرف) (على وزن حرف) أي تحويل الشي ء من حالةٍ إلى حالةٍ اخرى أو إِبداله بشي ءٍ آخر «1».

وقد يكون هذا التعبير إشارة إلى أنّ الرياح لو سارت باتجاهٍ واحدٍ باستمرار فمن الممكن أن تدفعَ بالرطوبة والغيوم المتصاعدة من البحار نحو جهة واحدة فقط أما تغيُّر الرياح فانّه يؤدّي إلى أن تتحرك الغيوم من مكانٍ إلى مكانٍ آخر، وتَستفيد أغلبُ المناطق الجافة من الأمطار إلى اقصى حد.

فضلًا عن ذلك وكما سيأتي فإنّ فائدة الرياح لا تنحصر بحركة الغيوم، بل لها منافع كثيرة اخرى سنشير إليها في تفسير الآيات- إن شاء اللَّه- «2».

و «السَّحاب»: من مادة «سَحْب» (على وزن مَحْو)، وتعني في الأصل الجرَّ، حيثُ تُسحبُ الغيوم بواسطة الرياح، أو أنّ الغيوم تسحبُ المياهَ نحو أيِّ اتجاهٍ، فيُطلقُ اسم «السحاب» عليها، وقد يُستخدم هذا المفهوم بمعنى الظِّل أو الظلام من باب التشبيه.

واللطيف إنَّه قد تمَّ التعبير في الآيات أعلاه ب «سُقناه» من مادة «سوق» أي «الدفع» وقد استُعمِلَ هذا التعبير لأنَّ اللَّه تبارك وتعالى يدفعها نحو اتجاه معيَّن (بالرغم من أنّ السحاب يتحرك طبيعياً).

و «مُزن»: على وزن «حُزن» وتعني «الغيوم الواضحة»، وفسَّرها البعض ب (الغيوم الممطرة) «3».

__________________________________________________

(1) مجمع البحرين، ومفردات الراغب.

(2) يُقسِّمُ العربُ الرياحَ إلى اربعة اقسام: «الشمالية» التي تهب من الشمال، و «الجنوبية» التي تهبُّ من الجنوب، و «الصبا» التي تهبُّ من الشرق، و «الدبور» التي تهبُّ من الغرب.

(3) مفردات الراغب ولسان العرب، مادة (مُزن).

نفحات القرآن، ج 2،

ص: 193

ولهذا يُطلقُ على الهلال الذي يبرز من بين الغيوم ب (ابن مُزنة)، و (مازن) تعبيرٌ يطلق على بيض النمل.

و «بُشْر»: (على وزن عُشْر)، وحسب ما جاء في (مصباح اللغة) فهي مأخوذة من (بَشَرْ) (على وزن سَقَرْ) أي السرور والفرح «1».

والسببُ في تسمية القرآن الكريم للغيوم ب «بُشْر» و «مُبَشِّرات» لأنّها غالباً ما تكون مبشِّرات بهطول المطر الذي يَهَبُ الحياة.

جمع الآيات وتفسيرها

ظاهرة الريح والأمطار والأسرار الكامنة فيها:

أشارت الآية الاولى من البحث وكتعريفٍ بالذات الإلهيّة المقدّسة إلى مسألة هبوب الرياح وحركة الغيوم بواسطتها حيث يقول: «اللَّهُ الَّذى يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيْرُ سَحَاباً».

ثمَّ تعرضت إلى بسط الغيوم في كبد السماء، وتراكمها فوق بعضها، وفي الختام أشارت إلى خروج قطرات الأمطار من وسطها، فيقول: «فَيَبْسُطُهُ فِى السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ ويَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرىَ الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ».

و «الكِسَفْ»: على وزن (قِمَم) تعني هنا تراكم قطعِ الغيوم حيث تستعد لنزول المطر، و «الودق» (على وزن خَلْقْ) تُطلقُ على الرذاذ الذي يشبه الماء، وفسَّرها البعض بأنّها قطرات المطر.

وفي نهاية الآية أُشير إلى استبشار عباد اللَّه أثر نزول المطر فيقول: «فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَستَبْشِرُونَ».

وعليه فانَّ الرياح لا تُحرِّكُ الغيومَ فقط، بل تبسطها في السماء ثم تضعها على بعضها

__________________________________________________

(1) «بُشْر» اسم مصدر وتأتي بمعنى اسم فاعل (مُبَشِّر) أيضاً.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 194

وتقوم بتبريد أطراف الغيوم وإعدادها لإنزال المطر.

فالرياح شأنها شأن الرعاة ذوي الخبرة والتجربة حين يقومون بجمع قطيع الماشية في وقتٍ محدَّدٍ من أطراف الصحراء ويسوقونها في طريقٍ معينٍ، ثم يحضّرونها للحلب.

فلا سُمكُ الغيوم يكون بحد بحيث يمنع خروج قطرات المطر، ولا شدّة الرياح بالقدر الذي تمنع نزول هذه القطرات إلى الأرض. ولا تكون قطرات الأمطار صغيرة بالقَدْرِ الذي يجعلها تبقى معلقةً

في السماء، ولا كبيرة حيث تؤدّي إلى تدمير المزارع والبيوت، ولا يقتصر نزول المطر على بشارة الناس بالإعمار والازدهار فقط، بل إنَّه يُصَفّي ويُلطِّفُ الجو ويبعثُ على النشاط.

والملفت للنظر أنّ الآيات التي تلي هذه الآية من سورة الروم تُذكِّر بالرحمة الإلهيّة في إحياء الأرض بعد موتها: «فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْىِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا». (الروم/ 50)

ومن أجل إدراك مفهوم هذه الآية يكفينا مشاهدة صورٍ من بعض الصحارى والمزارع في بعض المناطق في أفريقيا كيف خيَّم عليها شبحُ الموت أثر الجفاف المستمر، ورحلت عنها ملائكة الرحمة والحياة.

وفي المقابل فإنّ هذه الأمواج اللطيفة للرياح التي تَخترقها قطراتُ الأمطار بسهولةٍ، تقوم أحياناً باقتلاع الأشجار الضخمة، وتُدمِّرُ المبَاني، وتختطفُ الإنسان معها إلى السماء ثم تقذفه إلى مكانٍ آخر إذا ما أمرت بذلك.

وتتعقبُ الآية الثانية هذا الموضوع أيضاً بشي ءٍ من الاختلاف، فهي تصفُ الرياحَ بالمبشِّرات، وبالإضافة إلى مسألة نزول الأمطار فهي تشير إلى حركة السفن بواسطة الهبوب المنظَّم للرياح أيضاً، فجاء في النهاية: «وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ولَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ».

ومن الممكن أن تكون عبارة «وَليُذيْقَكُمْ مِّنْ رَّحْمَتِهِ» إشارة إلى بقية فوائد الرياح، كتلقيح الأشجار، ودفع العفونات وتصفية الأجواء وغيرها كما تمّ توضيحه في تفسير الميزان «1».

__________________________________________________

(1) تفسير الميزان، ج 16، ص 209.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 195

والحقيقة أنّ الإنسان لا يعرف قَدْرَ النعمةِ إلّاإذا سُلبت منه، فلو توقفت هذه الرياح والنسمات يوماً واحداً لأصبح العيش في أجملِ البساتين والمزارع اسوأ من العيش في مطامير السجون المظلمة، ولو هبَّت نسمةٌ على طامورةٍ انفراديةٍ فهي تضفي عليها صبغة الفضاء الطلق. ولو توقَّفَت الرياح فوق سطح المحيطات، وتوقّفت الامواج، فانَّ حياة الكثير من الاحياء المائية تتعرض إلى الخطر بسبب نقص الاوكسجين، وتتبدَّل

البحارُ إلى مستنقعات متعفنة رهيبة.

واهتَّم في الآية الثالثة بهذا الأمر أيضاً مع هذا التفاوت وهو اعتبار الرياحَ مقدمة لرحمته، ووصفَ الغيوم ب «الثِّقال» أي (الأحمال الثقيلة، جمع ثقيل) لانَّ الغيوم الممطرة اثقل من بقية الغيوم، وتكون قَريبة من الأرض، لذلك عبَّر عنها القرآن الكريم ب «الثِّقال».

و «اقلَّت»: من مادة «إقْلالْ» وتعني حملُ شي ءٍ يكون خفيفاً بالنسبة لقدرة الحامل، فهو يعتبره قليلًا ولا قيمة له، إنّ وجود هذا التعبير في الآية أعلاه يبرهنُ على أنّ الغيوم الثقيلة التي قد تحملُ معها ملايين الاطنان من المياه لا تُحمّلُ الرياح ثقلًا كبيراً، وهذا عرضٌ لقدرة اللَّه تعالى

وقد أشارت الآية الرابعة إلى أنّ ارسالَ الرياحِ لأداء هذا الدور العظيم هو أحد آثار عظمة الذات الإلهيّة المقدَّسة، إذ يُحيي الأراضي الميتة بواسطة هذه الرياح.

والجدير بالذكر هنا هو أنّ الآية استعملت كلمة «تثير» أي أنّ الرياح تُثير السُحبَ، وقد يكون هذا التعبير إشارة إلى تكوُّنِ الغيوم بسبب هبوب رياح المناطق الحارّة على سطح المحيطات حيث تؤدّي إلى تكاثف الغيوم، لأنَّ مسألة حركة الغيوم اخِذَتْ بالاعتبار في

نفحات القرآن، ج 2، ص: 196

عبارة «فسقناه»، وعليه فانَّ الرياح لها أثرٌ مهمٌ في حصول الغيوم، وكذلك في تحريكها نحو المناطق الجافة، ورفعها إلى اعالي الجو وتهيئة الظروف لهطول الأمطار.

وذِكْرُ هذه العبارة بصيغة الفعل المضارع «تثير» إشارة إلى عمل السُحبِ الدائم والمستمر أيضاً.

على أيّة حال فانَّ هذه المسألة تُعتبر برهاناً على علم وقدرة الخالق جلَّ وعلا وكذلك دليلٌ على قدرته في المعاد، ولهذا تمت الإشارة إلى مسألة المعاد في ختام بعض هذه الآيات.

واستند في الآية الخامسة من بحثنا إلى خلقِ سبعةِ أشياءٍ مختلفةٍ كآياتٍ ودلائل على علم وقدرة اللَّه تعالى ليستفيد منها المفكرون والعقلاء

وهي: خلق السماء، والأرض، واختلاف الليل والنهار، والفُلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس، والأمطار، وهبوب الرياح واختلافها، والسحب المعلقة بين الأرض والسماء.

واستند في هذه الآية على مسألة الحركات المختلفة للرياح: «وَتَصْرِيْفِ الرِّياحِ»، وكذلك الغيوم المعلقة بين الأرض والسماء: «وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّر بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ»، السحبُ التي تحمل ماء البحار في أوساطها، وهي في ذات الوقت معلقة بين الأرض والسماء، فهي تمثل في الواقع أعظم آيات اللَّه، «فتحيي الأرضَ بنزول المطر وتبّثُ أنواعاً مختلفةً من الدّواب على وجه الأرض»: «فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيْهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ».

وعندما نشاهد أنّ الرياح والغيوم قد ذكرت في هذه الآية بعد نزول الأمطار فلعلّها من أجل الإشارة إلى هذه النقطة، وهي أنّ فائدة الرياح لا تنحصر بتحريك الغيوم وانزال المطر فحسب، بل لها فوائد جمّة اخرى تمّت الإشارة إليها سابقاً، وسيشار إليها في نهاية الموضوع أيضاً.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 197

وبغض النظر عن كون الغيوم هي السبب في هطول الأمطار، فإنّ الغيوم لوحدها تعتبر ظاهرة عجيبة أيضاً، لأنّها تحتفظ ببحارٍ من المياه وهي معلقةٌ بين الأرض والسماء «1».

وتستَند الآية السادسة إلى مسألة مياه شرب الإنسان، وتذكر موضوعاً جديداً حيث تقول: «أَفَرَأَيْتُم المَاءَ الَّذِى تَشْرَبُون* أَأَنْتُمْ أنزَلُتمُوهُ مِنَ المُزْنِ أَمْ نَحنُ المُنْزِلُونَ»؟ ثم يضيف تعالى «لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ» فلو أنَّ ماء البحر يصطحبُ أثناء تبخره إلى السماء ذرّات الأملاح الصغيرة، وتنزلُ المياه المالحة والمرَّة من الغيوم لتحولّت الأرضُ إلى مملحةٍ، فلا ينمو نباتٌ، أو شجر، وإذا أراد الإنسان أن يدفع الموت عنه أثر العطش لم يستطع أن يتجرع شربة من هذا الماء أبداً.

إنّ القدرة التي جعلت الماء يتبخر والأملاح الموجودة في مياه البحار تبقى في

مكانها، هذه العملية التي أثرت على حياة الإنسان وغيرت مجراها بل أثرت على أوضاع كل المخلوقات على وجه الكرة الأرضية، هل يستطيع الإنسان أن يشكر هذه النعمة طيلة بقائه حياً في هذه الدنيا؟

وكما قلنا فإنّ «المُزْن» تعني الغيوم الممطرة و «الأجاج» تعني الماء الشديد الملوحة أو المرارة.

وأشار في الآية السابعة إلى هِبَتَين عظيمتين اخريين من هِبات اللَّه إلى عباده وهما: هبة الهداية في ظلمات البر والبحر «بواسطة النجوم»، وهبة ارسال الرياح كمبشِّراتٍ قبل نزول أمطار رحمته، فحيثما تنزلُ الأمطار تصدحُ الحياة بنغماتها وتكون أساساً لأنواع الخير والبركة.

__________________________________________________

(1) يجب الانتباه إلى أنّ السحاب: البخار المتراكم وتسميه العرب (ضباباً)- بالفتح- مالم ينفصل من الأرض فإذا انفصل وعلا سُمّي (سحاباً وغيما وغماماً)، (تفسير الميزان ج 1، ص 411).

نفحات القرآن، ج 2، ص: 198

ويستند في نهاية الآية على هذين الموضوعين كوثيقةٍ لإثبات وحدانية اللَّه تعالى ويخاطب المشركين: «أَ إِلهٌ مَعَ اللَّه تَعَالى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ»، ولعلَّ ذكرُ هاتين الهِبَتين معاً إشارةٌ إلى هذا المعنى وهو عندما يكون الجو صافياً يمكن الاستفادة من النجوم ليلًا في الإهتداء إلى الطريق للوصول إلى الهدف، وإذا كان الجو غائماً فثمة رحمة أخرى وهي المطر ينالها الإنسان، إذنْ ففي كلا الحالتين هناك موهبة ورحمةٌ، وهو برهانٌ لمعرفة الذات الإلهيّة المقدّسة.

وفي الآية الثامنة إشارة إلى مسألة الرياح ونزول الأمطار بتعبيرٍ جديد، فيقول:

«وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَواقِحَ».

هل أنّ المقصود من الآية الكريمة هو حمل حبوب اللقاح بواسطة الرياح لتلقيح النباتات التي ستحمل الفواكه والثمار من بعد ذلك، أم المقصود هو تلقيح السحاب لكي يحمل المطر؟

وبالنظر لقوله في تكملة الآية: «فَأَنْزَلنَا مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ»، فيظهر أنّ المعنى الثاني أكثر تناسباً، بالرغم من إمكانية الاستفادة من المعنيين

معاً.

على أيّة حال، فانَّ التعبير أعلاه تعبيرٌ لطيفٌ جدّاً حيث شَبَّه قِطعَ الغيوم بالامهات والآباء، فتتلاقح هذه الغيوم عن طريق الرياح ثم تحملُ، وتضعُ جنينها أي قطرات الأمطار على الأرض!

ويشيرُ في ختام الآية إلى المياه الجوفية المخزونة تحت الأرض، والتي هي من الذخائر الإلهيّة للناس، فيقول: «وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ».

فنحن الذين أمرنا طبقات الأرض أن تحتفظ بمياه الأمطار الصافية في داخلها، وقد تكون الآبار والقنوات التي تستخدمونها اليوم هي من احتياطي المياه التي ذُخرت لكم منذ ملايين السنين في باطن الأرض، من غير أنْ تَتلوث أو تتعفن.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 199

وقد نقوم بخزنها عن طريق تجميدها في قمم الجبال على هيئة جليد وثلجٍ كي تصبح ماءً بشكلٍ تدريجيٍ، ونسقيكم أنتم وحيواناتكم ومزارعكم، وربّما تكون المياه التي تنحدر من القمَّة الفلانية اليوم مخزونةً منذ ملايين السنين.

وفي الآية التاسعة، فبالاضافة إلى إشارته إلى نزول الأمطار من السماء، فهو يشير إلى مسألة تكوُّنِ الينابيع، فيقول: «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ انْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيْعَ».

و «ينابيع»: جمع «ينبوع» وتعني العَيْن، وهي في الأصل مأخوذة من مادة (نَبْعْ) وتعني انبثاق الماء من الأرض، ومن الطبيعي إنَّ تكوُّنَ الينابيع في الأرض الذي يجعل الإنسان يستفيد من الماء الجاري بدون الحاجة إلى قوة اخرى يتبع ظروفاً خاصةً أولُها: أن تكون طبقة الأرض قابلة للاختراق كي يتغلغل الماء خلالها، ثم يجب أن يكون ما تحت هذه الطبقة صلداً كي يتوقف الماء ويُخزنَ هناك، وأن يكون هناك فارقٌ في المستوى بين خزانات المياه والمناطق الاخرى حتى ينسابَ الماء من هناك إلى بقية النقاط، ومن المسلَّم به استحالةُ تناسق هذه الأمور لولا تخطيط مُبدي ء العلم والقدرة.

ويضيف في سياق الآية: «ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعَاً

مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ».

فيمكنُ أنْ يكون اختلاف الألوان هذا إشارة إلى ألوان النباتات المختلفة تماماً، أو إشارة إلى أنواع النباتات وأزهار الزينة والاعشاب الطبية والصناعية والخضروات التي يأكلها الإنسان والتي لها أنواع لا تحصى في الواقع.

أَجَل .. إنّ اللَّه تعالى يستخرج من هذا الماء الذي لا لون له مئات الآلاف من ألوان الورود والنباتات المنتشرة في هذه الرياض الكثيرة، وكما يقول الشاعر نقلًا عن اللغة الفارسية:

فإذا توصَّلت إلى أسرارها ستعرف أنّ هذا هو سر الأسرار حيث هناك واحدٌ ولا يوجد غيره «وحده لا اله إلّاهو» لهذا فهو يقول في نهاية الآية: «إِنَّ فى ذلِكَ لَذِكْرى لأُولى الألْبَاب».

نفحات القرآن، ج 2، ص: 200

وقد أُشير في الآية العاشرة إلى نكتةٍ جديدة اخرى فيقول: «وَأَنْزَلْنَا مِنَ المُعْصِراتِ مَاءً ثَجَّاجاً».

و «مُعْصِرات»: جمعُ (مُعْصِر) من مادة «عَصْر» وتعني الضغط، والمُعصرات تعني الضاغطات، وما هو المقصود هنا بهذا التعبير؟ لقد ذكروا تفاسير متعددة: فالبعض اتخذها صفةً للغيوم، إذ اعتبرها إشارة إلى نظامٍ خاص يتحكم بها عندما تتراكم على بعضها، فكأنّما تعصِر نفسها كي تجري الأمطار منها، واعتبر هذا التعبير من المعاجز العلمية للقرآن الكريم «1».

إلّا أنّ البعض الآخر اتخذها صفةً للرياح، واعتبرها إشارة إلى العواصف الرملية والأعاصير الشديدة والزوابع الترابية، حيث لها تأثيرٌ عميق في تكوين الأمطار والرعد والبرق (علماً أنّ «الإعصار» يعني ريح ترتفع بالتراب أو بمياه البحار).

فيقول هؤلاء .. أثناء هبوب العواصف الرملية الشديدة على سطح البحار والمحيطات فانّها تحمل معها البخار من على سطح المحيط، وحينما تصل به إلى نقاط الجو العليا الباردة جدّاً، وحيث تكون قدرة إشباع البخار هناك ضعيفة، يحصل الرعد والبرق الشديد، وبما أنّ «ثجّاجاً» صيغة للمبالغة، وهي من مادة «ثَجَ» على وزن (حّجَّ) وتعني سكب

الماء تتابعاً وبكثرة فهي تتناسب كثيراً مع مثل هذا الرعد والبرق «2».

واعتبرها البعض إشارة إلى الغيوم التي تتزامن مع العواصف الرملية والأعاصير «3»، فهذه العواصف تسوق الغيوم نحو الأعلى وتأخذها نحو مناطق الجو الباردة حيث تتبدّل هناك إلى قطرات من الماء، وبما أنّ هذا العمل يتمّ سريعاً فهو يولد زوابع رعدية شديدةٍ و «الماء الثجّاج»، ونلاحظ كثرة مثل هذه الزوابع الرعدية في فصل الربيع ولعله بسبب كثرة حالات الزوابع الرعدية والعواصف في هذا الفصل.

__________________________________________________

(1) راجِع كتاب الريح والمطر، ص 126.

(2) اعجاز القرآن في نظر العلوم المعاصرة، ص 67.

(3) التفسير الكبير، ج 31، ص 8 إذ ذكر هذا المعنى كأحدِ التفاسير لهذه الآية.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 201

ويضيف في سياق هذه الآيات: «لِّنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً* وَجَنَّاتٍ الْفَافاً»، ويشمل هذا التعبير جميع أنواع النباتات والحبوب وأشجار الفاكهة.

وفي الآية الحادية عشرة، وبعد بيان ما جاء في الآيات السابقة: «وَهُوَ الَّذِى أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ»، يَرِدُ ما يلي: «وَأَنْزَلنَا مِنَ السَّماءِ مَاءً طَهُوْراً».

وهذا موضوع جديدٍ حيث يستند إليه في هذه الآية.

و «الطّهور»: صيغة مبالغة من «الطهارة» والنقاوة حيث تفيد طهارةَ الماء وكذلك كونه مطهّراً، ولو لم تكن للماء صفة التطهير لتلوثت كلُّ مقومات حياتنا واجسامنا وأرواحنا خلال يومٍ واحد، ويمكن أن نلمسَ حقيقة هذا الكلام إذا ما ابتُلينا تارة بفقدان ماء للتنظيف، حينها يصعبُ توفير الغذاء، وسنفقد نظافة الجسم والنشاط والطراوة والصحة والسلامة.

صحيحٌ أنّ الماء لا يقتل الجراثيم ولكنّه (مُذيب) جيد فهو يقوم بتحليل أنواع الجراثيم وإزالتها، ولهذا فهو عاملٌ مؤثرٌ في تأمين السلامة، ويطهِّرُ روحَ الإنسان من الأدران عن طريق الوضوء والغُسل أيضاً.

وليس عبثاً أن يأتي في الآية: «لِنُحْىَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً».

ثم

نواجه في الآية الثانية عشرة والأخيرة مسألةً جديدةً وهي أنّ اللَّه تعالى يسوق المياه إلى الأرض «الجُرُز» أي الجافة اليابسة الخالية من الكلأ، فيقول: «أَوَلَمْ يَرَوا انَّا نَسُوقُ المَاءَ إِلىَ الأَرْضِ الجُرُزِ»؟! «فَنُخرِجُ بِه زَرَعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أنْعَامُهُمْ وأَنْفُسُهُمْ»، فيَأكلون الحبوب وتأكل بهائمهُم السوق والأوراد والجذور.

ويستفاد من كلام أرباب اللغة أنّ «الجُرُز» ماخوذة في الأصل من مادة (جَرَز) على وزن (مَرَضْ) وتعني (الانقطاع) أي انقطاع الماء، والنبات، والإعمار والطراوة، ولذا يقال

نفحات القرآن، ج 2، ص: 202

للناقة التي تأكل وتقطع كل شي ء ب «ناقة جروز»، ولمن يأكل كل ما موجود على خوان الطعام ويفرغها تماماً ب «رجل جروز» «1»

.

ويقول في نهاية الآية داعياً إلى التفحص في هذه النِعَم الإلهيّة العظيمة وآيات التوحيد:

«أَفَلا يُبْصِرُوْنَ».

ولكن لماذا تقدمت «الانعام» على الإنسان في الآية المذكورة؟ يقول بعض المفسِّرين:

لأنَّ الزرعَ أول ما ينبت يصلح للدواب ولا يصلح للإنسان بالإضافة إلى أنّ الزرعَ غذاء الدَّواب وهو لابدَّ منه، في حين أنّ للإنسان اغذية اخرى «2».

النتيجة:

يستفادُ جيداً من الآيات الآنفة وبالانتباه إلى المسائل الدقيقة والظريفة التي انعكست فيها، أنّ هناك نظاماً دقيقاً جدّاً ومضبوطاً يسود وجود الرياح والغيوم والأمطار، حيث كلّما أطالَ الإنسان التمعُن فيها تزداد معرفته بالظرافة والمنافع والبركات الكامنه فيها.

فقد اعتُبر الماء في بعض هذه الآيات أساساً للحياة، وفي بعضها وسيلةً للنظافة، وفي بعضها كموجودٍ مباركٍ (سورة ق، 9)، وفي البعض الآخر كمشروبٍ سائغ «مَاءً فُراتاً».

(المرسلات/ 27)

ومن مجموع ذلك فاننا أينما وجهنا النظر وحدقنا نعثر على آثار حكمة اللَّه البالغة، وأينما يقع بصرُنا تتجلى لنا صورة من العظمة الإلهيّة.

توضيحات

1- تكوين الرياح وفوائدها

إنَّ مصدرَ حصول الريح هو الاختلاف في درجة الحرارة بين منطقتين مختلفتين من

__________________________________________________

(1) التحقيق في كلمات القرآن الكريم، و مصباح اللغة.

(2) تفسير الكبير، ج 25، ص 187.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 203

الأرض، ويمكن تجربة هذا أثناء فصل الشتاء حيث يكون هواء الغرفة حاراً وفي خارجها بارداً، فلو وضعنا شمعتي إضاءة عند طرفي الباب العلوي والسفلي وفتحنا الباب قليلًا سيتضح هذا الأمر جيداً إذ إنَّ الهواء البارد وبسبب ثقله يدخلُ من الاسفل والهواء الحار يخرج من الأعلى لخفّته فيحرك شعلةَ الشمعة باتجاهه (إنَّ الهواء الحار يكون ممدداً وخفيفاً والهواء البارد مضغوطاً ثقيلًا،) ولو لم تكن هذه الصفة وتتوقف الرياح عن الحركة فايُّ بلاءٍ عظيمٍ سينزل على الإنسان؟!).

كما نعرفُ أيضاً أنّ للكرة الأرضية ثلاث مناطق، فالمنطقة الباردة (الأطراف القطبية)، والحارّة جدّاً (المناطق الاستوائية)، والمعتدلة (المناطق التي تتوسط هاتين المنطقتين).

وهذا الاختلاف في درجات الحرارة على الأرض يكون سبباً في انتقال الهواء من جهةٍ إلى اخرى وأهمّه الرياح التي تُسمى «الرياح القطبية» (وهي الرياح التي تهبُّ من القطب نحو المنطقة الاستوائية ولأنّها تكونُ باردةً فهي تسير بالقرب من سطح

الأرض)، والرياح «الاستوائية» (وهي الرياح التي تهبُّ من المنطقة الاستوائية نحو القطب وبما أنّها تكون حارَّة فهي تتحرك في طبقات الجو العليا) «1».

فضلًا عن أنّ ماء المحيطات لا يكون حاراً كحرارة السواحل أثناء شروق الشمس، إضافة إلى أنّ ماء البحر يفقد حرارته ليلًا اسرعُ ممّا يفقده الساحل، فهذا الاختلاف في درجات الحرارة بين ماء البحر والساحل يتسبب أيضاً في هبوب الرياح باستمرار من البِّر إلى البحر ومن البحر إلى البِّر أيضاً.

وإضافة إلى كل هذا فانَّ كروية الأرض تؤدّي إلى أن تقع بعضُ المناطق في مواجهة الشمس مباشرة (أثناء الظهر)، وأن تَشِّعَ الشمسُ على المناطق الاخرى بشكلٍ مائلٍ (أثناء الشروق والغروب)، فهذا الاختلاف في درجات الحرارة أحد أسباب حصول الرياح في مختلف المناطق أيضاً (وكذلك هناك عوامل معقّدة اخرى .

وتتظافر هذه الأسباب في تحريك الرياح في سائر انحاء الكرة الأرضية وتتزامن معها

__________________________________________________

(1) اعجاز القرآن في نظر العلوم المعاصرة، ص 65.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 204

الفوائد الجمَّة التالية التي تمَّت الإشارة إليها في الآيات السابقة:

1- للرياح نصيبٌ مهمٌ في تكوين الغيوم بسبب هبوبها على المحيطات.

2- إنّ الرياحَ تصطحبُ معها الغيوم إلى المناطق الجافة واليابسة ولولاها لاحترقَ جانبٌ كبير من الكرة الأرضية بسبب الجفاف.

3- إنّ الرياحَ تلطِّفُ الجوَّ وتجلبُ الاوكسجين الضروري من المناطق البعيدة.

4- إنّ الرياحَ تأخذ معها التلوث حيث تساعد في تنقية الجو عن هذا الطريق.

5- إنّ الرياحَ تُقللُ من شدّة حرارة الشمس على أوراق النباتات، وتمنع احتراقها بهذه الأشعة، وبصورة عامة فانّها وسيلةٌ مهمةٌ لاعتدال الجو في بقاع الأرض.

6- إنّ الرياح- وكما قلنا في تفسير الآيات- تعصُر الغيوم وتُعدُّها لإنزالِ المطر.

7- إنّ الرياح تسوقُ الغيوم نحو طبقات الجو العليا، وبسبب البرودة وفقدان قدرة تحمل الاشباع

تتحول إلى قطرات مطرٍ تهبُ الحياة.

8- إنّ الرياح تُحرِّك السفن الشراعية في المحيطات، كما أنّها تُعتبر أحد المصادر المهمّة للطاقة.

9- تُستخدم الرياح لتشغيل الطاحونات الهوائية.

10- إنّ الرياح تُعتبرُ وسيلة مهمة جدّاً للمزارعين في تصفية الحنطة وغيرها وعزلها عن التبن.

11- إنّ الرياح تعملُ على تحريك مياه البحر فتحصل الأمواج وهذه الأمواج تؤدّي بدورها إلى اختلاط الهواء مع الماء، فيكون أساساً لحياة الموجودات في البحر، ولولا الرياح والأمواج لتبدَّل البحر إلى مستنقعٍ آسن لا حياة فيه.

12- وختاماً فانَّ الرياح تساهم في تلقيح النباتات، إذ تحمل حبوب اللقاح إلى الأجزاء الانثوية، ولو تقاعست عاماً واحداً لتناقصت كمية الفاكهة المنتجة لدينا!

هذا جانبٌ من بركات هبوب الرياح الذي توصَّلَ إليه العلمُ البشري حتى الآن ومن المسلَّم به أنّ بركاتها لا تنحصر بما قلناه، وينبغي الانتظار حتى يرفعَ العلمُ الحجابَ عن

نفحات القرآن، ج 2، ص: 205

أسرار جديدة، ولكن كُلًا من الامور المذكورة أعلاه يكفي لوحده أن يبرهنَ لنا على علم وقدرة الخالق جلَّ وعلا، ناهيك عن مجموعها، فكم هو رحيم ورؤوف ذلك الإله الذي يُكُنُّ لعباده كلَّ هذا العطف والمحبّة، وكَمْ مليئة ب (البركة) تلك «الحركة» التي تترك كل هذه الآثار الايجابية المهمّة أثناء هبوب ذرات الهواء؟.

2- أسرار تكوين الغيوم وهطول الأمطار

لا يخفى أنّ الغيوم هي ذرّات بخار الماء، أو بتعبير أكثر دقّة هي ذرات الماء التي انفصلت جزئياتها عن بعضها وتحولت إلى بخار.

إنَّ التمعنَ في ما يخص تكوّن الرياح والأمطار يكشف لنا أسراراً لطيفةً عن هاتين الظاهرتين العجيبتين، منها:

1- إنّ أغلبَ السوائل لا تتبخر إذا لم تصل إلى درجة الغليان، إلّاأنَّ الماء من السوائل المستثناة حيث يتبخر في أي درجة من الحرارة، ولولا هذه الميزة في الماء لما تبخرت قطرة واحدة من ماء

البحر، ولما تكوّنت الغيوم، ولما نزلت المطر ولاحترقت اليابسة من الجفاف.

2- وهذا ما يجدر بالاهتمام أيضاً، فأثناء عملية التبخر يتبخر الماء الصافي فقط، وتبقى الأملاح والذّرات الاخرى التي فيه في مكانها، أي أنّ هناك عملية تصفيةٍ طبيعية كي ينالَ البشرُ المياهَ الصالحة.

3- لو لم تكن الطبقات العليا من الجو أكثر برودة من الطبقات السفلى لما امطرت الغيوم المضطربة في الجو أبداً، ولكن هذا الاختلاف في درجات الحرارة هو الذي يؤدّي إلى نزول الأمطار، وكذلك لو كانت قدرة إشباع ذرات البخار متساوية في الهواء البارد والحار لما نزلت الأمطار، ولكن بما أنّ الهواء البارد له قدرةُ إشباعٍ ضعيفة فانّه يُنزلُ البخار الذي تحول إلى ماءٍ.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 206

4- إنّ الأمطار إضافة إلى توفيرها للماء الضروري لنمو النباتات، تقوم بغسل الأرض وتحمل الأوساخ معها نحو البحار.

5- إنّ الأمطار تُنّظفُ الجوَّ أيضاً، وتقوم بإنزال التراب والغبار والذّرات المعلَّقة في الجو التي تذوب فيها إلى الأرض، ولولا هطول الأمطار لتلوَّثَ الجو بعد مدةٍ قصيرة واستحالَ التنفُس على الإنسان.

6- إنّ الأمطار تغسلُ صخور الجبال شيئاً فشيئاً، ليخرجَ منها التراب الذي يمكن استثماره، فتمتد السهول الواسعة على سطح الأرض.

7- إنّ الأمطار تحمل معها الاتربة الغنيّة من المناطق البعيدة وتنشرها في المزارع لتقويتها، كما يجلب جريان الماء معه أفضل الاسمدة الطبيعية للنباتات إلى بعض المناطق (كسواحل النيل).

8- إنّ الأمطار لا تهبُ الحياة في المناطق الجافة فحسب، بل إنَّ هطول الأمطار على البحار يُعتبر مؤثراً للغاية أيضاً، وليس أقل من تأثيره في المناطق اليابسة كما يقول بعض العلماء، لأنَّ سقوط الأمطار في البحر يساعد على نمو النباتات الصغيرة في وسط أمواج المياه، حيث تكون طعاماً مناسباً جدّاً للاسماك والاحياء البحرية، وفي

السنة التي يقلُّ فيها نزول الأمطار يسوء فيها وضع الصيد.

9- إنّ ارتفاعَ الغيوم عن سطح الأرض أكثر من ارتفاع اعلى نقاط الأرض ولهذا فلا تُحرم أيةُ بقعةٍ من الاستفادة من ماء المطر.

10- إنّ العديد من أشجار الغابات والأعشاب الطبية والغذائية تنمو على سفوح الجبال الشاهقة، وهذا يدل على أنّ الأمطار تقوم بإيصال الكمية اللازمة من الماء إليها، ولولا الأمطار لاصبحت هشيماً يابساً.

11- لو تأملنا جيداً بالسدود الضخمة التي أنشِئَتْ في عصرنا هذا والتي تُؤمِّنُ جانباً مهماً من الطاقة الكهربائية في العالم، وتقوم بتشغيل المعامل العملاقة لوجدناها من بركات هطول الأمطار على المناطق الجبلية.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 207

12- إنّ بعض ترشحات الغيوم تنزلُ إلى الأرض على هيئةِ جليدٍ فتتراكم على قمم الجبال كمصادر للمياه، وتقوم بتغذية خزانات المياه الموجودة تحت الأرض أيضاً لأنّها تذوب تدريجياً وتَنْفُذُ داخل الأرض، ولكن لو تساقط الجليد باستمرار بدلًا من المطر تنعدم عندئذٍ الكثير من المنافع التي ذُكرت.

13- الغيوم بحار معلقة في السماء، وما أعظمَ الإله الذي يُرسلُ كلَّ هذا الماء إلى السماء خلافاً لقانون الجاذبية، ويقوم بنقله بسهولةٍ من نقطةٍ إلى اخرى

14- بالاضافة إلى كل هذا فانَّ للغيوم تأثيراً ملموساً في خفض درجة الحرارة شتاءً وخفض درجة الحرارة صيفاً.

15- إنّ الغيوم تحمل الشحنات الكهربائية المختلفة حيث تؤدّي إلى وقوع الرعد والبرق، وسوف نتحدث عن هاتين الظاهرتين في البحث الذي يتعلق بالرعد والبرق إن شاء اللَّه.

وعلى العموم فانَّ هاتين الظاهرتين اللّتين نعتبرهما من الامور العادية جدّاً نتيجة لأُنْسِنا بهما، مدهشتان ومليئتان بالأسرار، ويمكن مشاهدة آيات التوحيد العظيمة في أعماق أسرارهما، والوصول إلى عظمة تلك الذات المقدّسة من خلال هذه الآيات العظيمة.

3- الرياح والأمطار في الروايات

نقرأ في الحديث المعروف بتوحيد المفضّل عن الإمام

الصادق عليه السلام أنّه قال:

«وانبهك يا مفضل على الريح وما فيها، ألست ترى ركودها إذا ركدت كيف يحدث الكرب الذي يكاد أن يأتي على النفوس، ويمرّض الأصحاء وينهك المرضى ويفسد الثمار، ويعفّن البقول، ويعقّب الوباء في الأبدان، والآفة في الغلات ففي هذا بيان أنّ هبوب الريح من تدبير الحكيم في صلاح الخلق.

ولو أنّ ملكاً من الملوك قسّم في اهل مملكته قناطير من ذهب وفضة ألم يكن سيعظم

نفحات القرآن، ج 2، ص: 208

عندهم ويذهب له به الصوت؟ فأين هذا من مطرة رواء؟ إذ يعمر به البلاد ويزيد في الغلّات أكثر من قناطير الذهب والفضة في أقاليم الأرض كلها.

تأمل نزوله على الأرض والتدبير في ذلك فانّه جعل ينحدر عليها من علو ليتفشّى ما غلظ وارتفع منها فيروّيه ولو كان إنّما يأتيها من بعض نواحيها لما علا على المواضع المشرفة منها ويقل ما يزرع في الأرض وبها يسقط عن الناس في كثير من البلدان مؤونة سياق الماء من موضع إلى موضع، وما يجري في ذلك بينهم من التشاجر والتظالم حتى يستأثر بالماء ذوو العزة والقوة ويحرمه الضعفاء. ثم إنّه حين قدّر أن ينحدر على الأرض انحداراً جعل ذلك قطراً شبيهاً بالرش ليغور في قطر الأرض فيرويها ولو كان يسكبه انسكابا كان ينزل على وجه الأرض فلا يغوُر فيها ثم كان يحطم الزرع القائمة إذا اندفق عليها فصار ينزل نزولا رقيقاً فينبت الحب المزروع وفي نزوله أيضاً مصالح اخرى فانّه يلين الأبدان ويجلو كدر الهواء فيرتفع الوباء الحادث من ذلك ويغسل ما يسقط على الشجر والزرع من الداء».

ويقول في جانب آخر من الرواية:

«فكّر يا مفضل في الصحو والمطر كيف يعتقبان على هذا العالم لما فيه صلاحه،

ولو دام واحد منهما عليه كان في ذلك فساده، ألا ترى أنّ الأمطار إذا توالت عفنت البقول والخضر واسترخت أبدان الحيوان وخصر الهواء فأحدث ضروباً من الأمراض وفسدت الطرق والمسالك وأنّ الصحو إذا دام جفّت الأرض واحترق النبات وغيض ماء العيون والأودية فأضرّ ذلك بالناس وغلب اليبس على الهواء فأحدث ضروبا اخرى من الأمراض فإذا تعاقبا على العالم هذا التعاقب اعتدل الهواء ودفع كل واحد منهما عادية الآخر فصلحت الأشياء واستقامت» «1».

ونقرأ في حديث آخر عن الإمام السجاد عليه السلام:

«أنزل من السماء ماءً يعني المطر ينزله من أعلى ليبلغ قلل جبالكم وتلالكم وهضابكم

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار، ج 3، ص 119- 126 (مع الاختصار).

نفحات القرآن، ج 2، ص: 209

واوهادكم ثم فرقه رذاذاً ووابلًا وهطلًا لتنشفه ارضوكم، ولم يجعل ذلك المطر نازلًا عليكم قطعة واحدة فيفسد أرضيكم وأشجاركم وزروعكم وثماركم» «1».

4- لقد كشفت البحوث الحديثة للعلماء النقاب عن أسرار جديدة وبيَّنَتْ التأثيرات المهمّة للرياح في نزول الأمطار بكيفية جديدة حيث يُعتبر التوضيح الآتي نموذجاً منه (يجب توفر شرطين لتكوين الغيوم وهطول الأمطار) وهما:

1- وجود بخار الماء في الهواء.

2- تشَبُّع الهواء بالبخار وتقطيره.

أمّا فيما يتعلق بالشرط الأول فبالرغم من أنّ الهواء لا يخلو على الاطلاق من بخار الماء وتبلغ ادنى نسبة له نحو 50 غراماً في المتر المكعب، إلّاأنّ هذا المقدار من الرطوبة لا يكفي لتكوين الغيوم ونزول الأمطار، بل يجب امدادها باستمرار، أي يجب أن يصل هواءٌ جديدٌ مُحمَّلٌ ببخار الماء بعد تكوين الغيوم ونزول الأمطار تباعاً، ويستمر هبوب الرياح، ويكون انطلاقها أو مسيرتها من البحر أو الغابات الكثيفة كي تتزود من الرطوبة بالمقدار اللازم.

وأمّا الشرط الثاني أي الوصول إلى حالة الاشباع وحصول ظاهرة التقطير

(تعرُّق الهواء وتحول البخار إلى سائل) فهذا يستلزم برودة الهواء، كما يحدث في الشتاء إذ يَتعرق زجاج شبابيك الغرف التي تحتوي على ما يكوّن البخار كالسماور والقدر ....

والعامل الوحيد المؤثر في برودة الهواء والذي يوصله إلى مرحلة تكوين الغيوم والتقطير هو ارتفاع الهواء وعلوه، ويحدث ارتفاع الهواء على ثلاثة أشكال أو في ثلاث حالات، وينزل في كل حالةٍ منها مطرٌ خاصٌ وهي:

أ) اصطدام الهواء بالأجزاء البارزة من الأرض والصعود من وسط الجبال حيث تنتج عنه الأمطار الجبلية.

ب) حرارة وخفَّةُ الهواء وصعوده السريع اثر اشعة الشمس وملامسة المناطق الحارة وتنتج عنه (أمطار العواصف).

__________________________________________________

(1) تفسير نور الثقلين، ج 1، ص 41؛ بحار الأنوار، ج 56، ص 344- 374 أيضاً وردت روايةٌ أشارت إلى أسرار تكوُّنِ الغيوم والمطر.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 210

ج) اصطدام جناحي الهواء الحار والبارد وتقلبهما وتنتج عنه (الأمطار الغزيرة)، وأنَّ الغيوم والأمطار كافة تنشأ عن أحد هذه الحالات الثلاث واهمها النوع الأخير.

اذن فالهواء يرتبط بالغيوم والأمطار في كل المراحل فهو يتدخل ابتداءً من حمل البخار وايصاله إلى المناطق الجافة، مروراً وانتهاءً بهزّ الغيوم وانزال المطر، وليس من الممكن حصول الغيوم والأمطار بدون الهواء، والمعروف أنّ الغيوم ليست سوى الهواء (أي الهواء المحمَّل بالماء).

وورد في قسمٍ آخر من هذا البحث: «إنَّ قطرات الأمطار تهطل من الغيوم المتكونة من عدّة طبقات والتي ترتفع أكثر من عشرة كيلو مترات، وهذه الغيوم العارية الصاخبة تظهر على هيئة جبالٍ حيث يُغطى القسم الأعلى منها بقضبان الثلج وقطع الجليد وقد تكون ممتلئة بالبرَدِ».

وحتى قبل الحرب العالمية الاولى حيث تمكنت الطائرات حينذاك من الارتفاع فوق الغيوم وشاهد الطيارون الستائر المتكونة من الجليد والناشئة من الغيوم المتصاعدة، لم يكن لأي شخصٍ

علمٌ بوجود الجليد والبَرَدِ في غيوم السماء.

«فالصعود المتقلِّب الاطبقي للرياح الرطبة والحارة يؤدّي إلى تكوين جبالٍ عاليةٍ من الغيوم المتجمدة التي تتزامن مع الزوابع الشديدة وسط الرعد والبرق المتتابعين» «1».

ويمكن أن يعطي هذا التوضيح تفسيراً جديداً للآية 43 من سورة النور ويرفع الحجاب عن معجزة علمية لطيفة للقرآن الكريم، حيث يقول: «وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيْبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيصْرِفُهُ عَن مَّنْ يَشاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ» فأيُّ جبلٍ في السماء توجدُ فيه قطع البَرَدِ؟ هذا السؤال الذي كان صعباً ومعقداً بالنسبة للكثيرين، ولهذا فقد ذكروا له عدة تفاسير.

ولكن من خلال الاكتشافات أعلاه يتضح عدم الحاجة إلى التبرير والتقدير والمجاز وامثال ذلك لتفسير الآية المذكورة، ويتبينُ معنى الآية في ظل هذا الأمر «2».

__________________________________________________

(1) الهواء والمطر، ص 57- 65 (مع الاختصار).

(2) من أجل المزيد من الايضاح يراجع التفسير الأمثل، ذيل الآيه 43 من سورة النور.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 211

12- آياته في حدوث الرعد والبرق

التمهيد:

هنالك القليل ممن يولي ادنى اهتمامٍ لهاتين الظاهرتين السماويتين قبل دراسة أسرار الرعد والبرق، وعادةً ما يمرُّ الجميعُ عليها مرور الكرام، ولعلَّ بعضهم ينظرُ إليها وكأنَّها مزاحُ الطبيعة، كما يتحدث بعض آخر حولها بقصصٍ خرافية، إلّاأنّ الحقيقة هي أنّ هاتين الظاهرتين تحدثان من خلال نظامٍ خاصٍ، ولهما آثارٌ وبركاتٌ جديرةٌ باهتمام الإنسان حيث سيأتي شرحها في تفسير الآيات الآتية.

بعد هذا التمهيد نقرأ خاشعين بعض آيات القرآن الكريم في هذا المجال:

1- «وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيْكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْىِ بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا انَّ فِى ذَلِكَ لَآياتٍ لِّقَومٍ يَعْقِلُونَ». (الروم/ 24)

2- «هُوَ الَّذِى يُرِيْكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِى ءُ السَّحَابَ الثِّقَالَ». (الرعد/ 12)

3- «وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ

مِنْ خِيْفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيْبُ بِهَا مَنْ يَشَآءُ». (الرعد/ 13)

شرحُ المفردات:

«البرق»: كما يقول الراغبُ في المفردات تعني في الأصل النورَ الذي يظهر من الغيوم، ثم استُعملت للتعبير عن كل شي ءٍ ساطعٍ، فمثلًا يقال للسيفِ اللامعِ: (السيفُ البارق).

نفحات القرآن، ج 2، ص: 212

إضافة إلى ذلك، يستفاد من «مقاييس اللغة» أنّ «البرق» له معنى آخر، وهو اجتماع السواد والبياض في شي ءٍ واحدٍ، ولكنَّ الظاهر أنَّ المعنى الثاني يعود إلى المعنى الأول، السواد عندما يكون إلى جانب البياض يُبدي بريقاً أكثر، كما اعتبر بعضٌ مفهومَ الشِّدةِ والضغط جزءاً من معنى البرقِ أيضاً فيقولون: إنّ البرقَ واللمعان يحدثان بشكل خاص من خلال الشدَّة والضغط «1».

ويقول «الراغب» إنّ «الرعد» هو صوت الغيوم، ويستعمل كناية أيضاً عن تحطُّمِ وسقوط الشي ء الثقيل المتزامن مع الصوت، إلّاأنَّ صاحب «مقاييس اللغة» ذكرَ أنَّ معناه الحقيقي هو الحركة والاضطراب، ولكن بصورة عامة، يستفاد جيداً من كتب اللغة أنّ المعنى الحقيقي هو الصوت الذي ينطلق من الغيوم، وبقية المعاني لها صبغةٌ كنائية.

و «الصواعق»: جمع «صاعقة»، وتعني في الأصل الصوت الشديد المهيب الذي ينطلقُ من الجو مصحوباً ببريقٍ ناريٍّ عظيم، وجاءت هذه المادة أيضاً بمعنى الذهول بسبب سماع الاصوات القوية، وقد تستعمل بمعنى الهلاك أيضاً.

وقال بعض أرباب اللغة: إنَّ موارد استعمال الصاعقة ثلاثة وهي: «الموت» و «العذاب» و «النار» «2»

إلّاأنّ الظاهر أنّ جميعها من لوازم المعنى الحقيقي.

جمع الآيات وتفسيرها

أسرار خلق الرعد والبرق:

تعتبرُ الآية الاولى من البحث بشكل صريح، أنّ برقَ السماء من آيات اللَّه فتقول: «وَمِنْ آياتِهِ يُرِيْكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً». هذه الآية تارة تذكر الخوف وأحياناً الأمل والرجاء.

الخوف الناتج عن الصوت المهيب الذي يرافق الرعد، واحتمال تزامنه مع صاعقةٍ

__________________________________________________

(1) التحقيق في كلمات القرآن الكريم، مادة (برق).

(2) مفردات الراغب، ولسان العرب؛ والتحقيق في كلمات القرآن الكريم.

نفحات

القرآن، ج 2، ص: 213

مميتة، والأمل والطمع بسبب احتمال نزول المطر، لأنّه في كثير من الحالات يعقبُ الرعدَ والبرقَ زوابع مليئةٌ بالبركة.

ولعلَّه لهذا السبب يضيف في سياق هذه الآية: «وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْىِ بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا».

فالأرضُ اليابسة والمحترقة تحيى بقليلٍ من المطر والغيث الذى يهب الحياة، بحيث تنتعش الأزهار والنباتات فيها وكأنها ليست تلك الأرض السابقة.

ولهذا يضيف في نهاية الآية للتأكيد فيقول: «إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقومٍ يَعْقِلُوْن».

فهُمْ يفهمون أنّ هذه الظواهر ليست ظواهر عاديّة تحدث صدفةً، فيتفكرون فيها ويتعرفون على أسرارها.

وورد هذا المعنى في الآية الثانية من بحثنا بتعبيرٍ آخر تعريفاً بالذات الإلهيّة المقدّسة عن طريق آثاره فيقول تعالى «هُوَ الَّذِى يُرِيَكُمُ البَرْقَ خَوْفاً وطَمَعاً».

الخوفُ من الصواعق والتفاؤل بنزول المطر، أو خوف المسافرين، وتفاؤل المقيمين في المدن والارياف.

واللطيف أنّه يقول بعد ذلك مباشرة: «ويُنْشِى ءُ السَّحَابَ الثِّقَال».

وقيل في بيان هذه الجملة (تتزامن مع العواصف القويّة كُتلٌ من الغيوم، فتغطي اعالي الجو القريبة من الأرض، فيصبح الجو مظلماً، وتتولد شحنات كهربائية نتيجة تلاطم الرياح، وتهتز الأرض والجو بسبب صوت الرعد المتتابع، وأخيراً فانَّ الغيوم المتراكمة في طبقات الجو السفلى كثيفة ومحملة بكثير من قطرات الماء الكبيرة لذلك تكون ثقيلة للغاية على الرياح المحركة «1».

__________________________________________________

(1) الريح والمطر، ص 138.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 214

ويشير في الآية الثالثة والأخيرة من بحثنا إلى ظاهرة «الرعد» فيقول: «ويُسَبِّحُ الرَعْدُ بِحَمْدِهِ».

ويُبَيِّنُ هذا التعبير أنّ هذه الظاهرة السماوية ليست مسألة عاديةً، بل تُنبى ءُ عن علم وقدرة اللَّه تعالى لأنَّ «التسبيح» يَعني التنزيه عن كل عيبٍ ونقص، و «الحمد» تعني شكره مقابل الكمالات، وعليه فانَّ صوت الرعد يتحدث عن الأوصاف الجمالية والجلالية للَّه تعالى

ويمكن أن يكون هذا الكلام بلسان الحال،

كما يتحدثُ اختراعٌ مهمٌ عن علم ووعي المخترع، أو لوحةٌ جميلةٌ جدّاً عن الذوق الحاد للرسام، أو قطعة شعرية عن الذوق الأدبي للشاعر، فتمدحه وتشكره، فتكون لسان حالٍ، كما قالَ بعض المفسرين بأنَّ لدى ذرات هذا العالم كافة عقلًا وشعوراً، كل حسب حظه، وتسبيحها وحمدها ينبع من العقل والشعور والإدراك.

يقول الفخر الرازي في تفسيره:

«فلا يبعد من اللَّه تعالى أن يخلق الحياة والعلم والقدرة والنطق في أجزاء السحاب فيكون هذا الصوت المسموع من الأفعال الاختيارية لله سبحانه وتعالى.

وكما هو تسبيح الجبال في زمن داود عليه السلام وتسبيح الحصى في زمان محمد صلى الله عليه و آله» «1».

فليكن أيُّ الاحتمالين، فليس هنالك اختلافٌ في بحثنا، وعلى كل حال فإنّ هناك أسراراً خفيّةً في هذه الظاهرة السماوية حيث تكشفُ عن عظمة الخالقِ وتمثل آيةً من آياته.

والمعروف أنّ الماء والبخار، والغيوم الناتجة منهما عناصر لا تنسجم مع النار، ولكن بقدرة الخالق تنطلقُ منها نارٌ هائلة أكثر احراقاً من أنواع النيران الموجودة على الأرض كافة، وكذلك البخار، الجسم اللطيف جدّاً، ولكن ينطلقُ منه صوتٌ لا ينطلقُ من سقوط أثقل وأقوى الأجسام.

__________________________________________________

(1) التفسير الكبير، ج 19، ص 25.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 215

ويستفاد من مجموع هذه الآيات أنّ كلًا من «الرعد» و «البرق» من ظواهر عالم الوجود الجديرة بالاهتمام ويجب دراستها بجديّة، للتوصل إلى أسرارها، والتعرف على عظمة الخالق عن طريقها، وسيأتي هذا الأمر في قسم التوضيحات إن شاء اللَّه تعالى

توضيحان

1- الرعد والبرق في نظر العلم المعاصر

يعتقد العلماء المعاصرون أنَّ بريق السماء يحدث من خلال تقارب كتلتين من الغيوم المحملة بالشحنات الكهربائية المختلفة واحدة موجبة والاخرى سالبة، فتُحدِثان بريقاً كما يحصل من اقتراب قُطبَيْ المُوصِّل الكهربائي تماماً.

وحيث تتحمَّل قطع الغيوم بالشحنات الكهربائية العظيمة

يكون بريقها عظيماً أيضاً، ونحن نعلمُ أنّ لكلِّ بريقٍ صوتاً، وكلّما اشتد البرقُ كلما تعاظم صوته، ولهذا قد يكون الصوت المهيب لهذا البرق من الشدّةِ بحيث يهزُّ جميع المباني ويُحدثُ صوتاً كالقنابل الشديدة الانفجار.

ولكن البرق لا ينتج نتيجة اقتراب كتلتين من الغيوم دائماً لتكون بعيدة عن متناول الإنسان ولا تُسبب أيَّ خطر، بل قد تقترب الغيوم الحاوية على الشحنات الموجبة من الأرض، وبما أنّ الأرض تحتوي على الشحنات السالبة لذلك يحدث البرق بين «الأرض» و «الغيوم»، وهذا البرق العظيم الذي يسمى بالصاعقة خطيرٌ للغاية، فهو يُحدثُ هزَّةً شديدةَ في المنطقة التي يقع فيها، وكذلك يولد حرارة عالية جدّاً بحيث إذا أصابت أيَّ شي ءٍ تجعلُهُ رماداً «1».

__________________________________________________

(1) مع أنّ مدة الصاعقة لا تتجاوز عُشرَ الثانية وقد تكون 100 1 من الثانية، ولكن الحرارة التي تنتج منها تصل إلى 15000 (سانتيغراد) بامكانها التسبب في حدوث اخطارٍ بالغة الشدّة (حرارة سطح الشمس 8000 فقط) (اعجاز القرآن، ص 78).

نفحات القرآن، ج 2، ص: 216

ونظراً لتجمع الشحنات على الأجزاء المدببة للأجسام ففي الصحارى التي تحدث فيها الصواعق، يظهر البرق في النقاط المرتفعة كرؤوس الأشجار، وحتى رأس الإنسان المار عبرها، لذلك يعتبر التوقف في الصحارى أثناء الجو العاصف الملي ء بالرعد والبرق خطيراً للغاية، وفي مثل هذه الحالات يمكن أن يزيلَ اللجوءُ إلى الوديان أو الاقتراب من الأشجار واسفل الجبال والتلال الخطر إلى حدٍ ما (إنّ الاتكاء على الأشجار والشبابيك الحديدية لا يخلو من خطورة أيضاً).

ويتضح جيداً من خلال الإشارة أعلاه اخطارُ البرقِ وعامل الخوف الذي اشيرَ إليه في الآيات الآنفة.

2- فوائد وبركات الرعد والبرق

بالرغم من الاخطار التي تصحب الرعد والبرق أحياناً إلّاأنّ لهذه الظاهرة فوائد جمّة سنشير إلى بعضها هنا:

أ) الري- من المعروف

أنّ البرق يولِّدُ حرارة عاليةً جدّاً، قد تبلغ 15 ألف درجة سانتيغراد، وهذه الحرارة كافية لاحراق مقدارٍ كبيرٍ من الهواء المحيط ممّا يؤدّي إلى هبوط الضغط الجوي مباشرة، ونحن نعلمُ أنّ الغيومَ تُمطرُ أثناء هبوط الضغط، ولهذا فغالباً ما يبدأ نزول المطر عقبَ حدوث البرق وتنزل قطرات الأمطار الكبيرة، وفي الواقع يعتبر الري من هذا الجانب أحد بركات البرق.

ب) رش السموم- عندما يظهر البرق بتلك الحرارة، تتزود قطرات المطر بكمياتٍ إضافية من الاوكسجين، فيحصل الماء الثقيل أي الماء المؤكسد (2 O 2 H)، ونحن نعلم أنّ من آثار هذا الماء هو القضاء على الجراثيم، ولهذا يستعمل طبياً في تنظيف الجروح، فهذه القطرات تقضي على بيوض الآفات المسببة لأمراض النباتات عندما تنزل إلى الأرض، وتقوم برش السموم على أحسن وجهٍ، لذلك فقد قالوا: في كل سنةٍ يَقلُّ فيها الرعد والبرق تزداد الآفات النباتية.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 217

ج) التغذية والتسميد- إنّ قطرات المطر وأثر حدوث البرق وحصول الحرارة الشديدة الناتجة عنه وتركيبها الخاص، تحصل على حالةٍ من حامض الكاربونيك، فتقوم بتكوين سمادٍ نباتيٍ مؤثرٍ أثناء تناثرها على الأرض وتخلُّلها فيها، فتتغذى النباتات عن هذا الطريق.

ويقول بعض العلماء: إنَّ كمية السماد الحاصل من حالات البرق في السماء خلال سنةٍ واحدة يبلغ عشرات الملايين من الاطنان، وهذا رقم مرتفعٌ للغاية.

بناءً على ذلك نرى أنّ هذه الظاهرة الطبيعية العاديّة وغير المهمّة إلى أيَّ حدٍّ مفيدةٍ ومليئةٍ بالبركة؟ فهي تسقي، وترش السموم أيضاً، وتقوم بالتغذية، وهذا نموذج صغيرٌ من الأسرار العجيبة لعالَم الوجود حيث يصلح أنْ يكون دليلًا في الطريق لمعرفة اللَّه.

كل هذا من بركات البرق، ولكن الحرائق التي تنتج عن نوعٍ منه وهي الصواعق من جانبٍ آخر قد تحرق

الإنسان أو الحيوان والمزارع والأشجار، بالرغم من أنّ هذا الأمر قليلٌ ونادر الوقوع ويُمكن اجتنابه، إلّاأنّه بإمكانه أن يصبح عامل خوفٍ وهَلَعٍ، وعليه فانَّ ما قرأناه في الآية السالفة بانَّ البرق أساسٌ للخوف وأساسٌ للأمل أيضاً قد يكون إشارة إلى مجمل هذه الامور.

ومن الممكن أن تكون عبارة «وَيُنْشِى ءُ السَّحَابَ الثِّقالَ» الواردة في نهاية الآية لها ارتباط بميزة البرق هذه التي تؤدي إلى تحمُّلِ الغيوم بقطرات الأمطار.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 219

13- آياته في خلقِ البحار والفُلك

تمهيد:

نحنُ نعلمُ أنّ الماءَ يغطي ثلاثة ارباع سطح الكرة الأرضية، وأنّ المحيطات والبحار ترتبط مع بعضها، كما نعلم أنّ الإنسان قد استثمر البحار للحمل والنقل منذ غابر الأيّام على افضل وجه، بالإضافة إلى استغلاله لجانبٍ مهمٍ من المواد الغذائية الكامنة في البحر، وكذلك فانَّ القسم الأعظم من مختلف المواد التي تُستعمل في الصناعات تُستخرج من البحار.

والأهم من كل ذلك، أنّه لا يخفى على أي شخص دور البحار في تكوّن الغيوم وسقي الاراضي اليابسة كافة، وواضحٌ للجميع تقريباً وضعُ حيوانات البحار وتنوعها وعجائبها.

لهذه الأسباب اعتبرَ القرآنُ الكريم البحارَ والفلك من آيات اللَّه، ودعا الناس إلى التمعنِ في أسرارها.

بعد هذا التمهيد نيَمِّمُ وجوهنا صوب القرآن الكريم ونقرأ خاشعين الآيات الآتية:

1- «وَهُوَ الَّذِى سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمَاً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرىَ الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيْهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ولَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ». (النحل/ 14)

2- «وَمَا يَسْتَوى الْبَحرانِ هَذَا عَذْبٌ فُراتٌ سَائِغٌ شَرابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ اجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأكُلُونَ لَحْماً طَريّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرىَ الْفُلْكَ فِيْهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوْا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ». (فاطر/ 12)

3- «اللَّهُ الَّذِى سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرىَ الْفُلْكُ فِيْهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ». (الجاثية/ 12)

نفحات القرآن، ج 2، ص: 220

4- «وَمِنْ آيَاتِهِ

الْجَوَارِ فِى الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ* إِنْ يَشَأ يُسْكِنِ الرِّيْحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِى ذلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ». (الشورى 32- 33)

5- «أَلَمْ تَرَ انَّ الْفُلْكَ تَجْرِى فِى الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُريَكُمْ مِنْ آياتِهِ انَّ فِى ذَلِكَ لَآياتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ». (لقمان/ 31)

6- «إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ ... والْفُلْكِ الَّتِى تَجْرِى فِى الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ ... لَآياتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ». (البقرة/ 164)

7- «رَبُّكُمُ الَّذِى يُزْجِى لَكُمُ الْفُلْكَ فِى الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَّ بِكُمْ رَحِيْماً».

(الاسراء/ 66)

شرح المفردات:

«البَحْر»: حسب قول الراغب في «المفردات»، هو المكان الواسع الذي يتجمع فيه ماءٌ كثير، كما يطلقُ على كلِّ شي ءٍ واسعٍ، و «متبحر» أو «مستبحر»: يقال للشخص الذي يمتلك علماً واسعاً، ويقال للتغيُّر الذي يحدث للعليل فجأة ب «بُحران» (ثم اطلقَ لفظ «بُحران» على الحوادث الحادة) واعتبر بعضٌ أنّ الملوحةَ تدخل في مفهوم «البحر» علماً أنّ البَحر يُطلقُ على الماء العذب أيضاً «1»، و «الفُلْك» (على وزن قُفْل) وتعني السُفن، ويستوي فيها المفرد والجمع والمذكَّر والمؤنث، ولفظ «فلَكْ» (على وزن فَدَك) يعني مسير ومدار النجوم تفرَّعَ من هذا الأصل.

و «الجواري»: جمع «جارية» وهي مأخوذة في الأصل من «الجري» أي العبور السريع، ويقالُ «جارية» للسفن التي تجري وتتحرك في البحار، ويقالُ للشابّةِ في لغة العرب «جارية» أيضاً وذلك لنشاط الشباب الذي يملأُ كل وجودها، وجاء في «المصباح المنير» أنّ اطلاق لفظ «الجارية» على الخادمة لِكونها مسخَّرةً لأوامر مولاها وتجري لانجاز الأعمال باستمرار.

__________________________________________________

(1) صحاح اللغة، والمقاييس؛ ومفردات الراغب؛ ومجمع البحرين؛ ولسان العرب.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 221

و «مواخر»: جمع «ماخرة» وتعني السفينة وهي من مادة «مَخْرْ» (على وزن فَخْر) كما تطلق على جريان الماء في الأرض وانفطارها،

وكذلك تطاير الماء من على جانبي السفينة، كما تستعمل هذه المفردة لأصوات هبوب الرياح، والظاهر أنّها من لوازم المعنى الأول «1».

جمع الآيات وتفسيرها

عجائب البحار!

تقول الآية الاولى معرّفة بالذات الإلهيّة المقدّسة: «وَهُوَ الَّذِى سَخَّرَ البَحْرَ».

ويدلِّلُ هذا التعبير على أنّ البحر بكل وجوده في خدمة الإنسان، والحق كذلك، فاولُ براعم الحياة تتفتحُ في البحار، وقد كان البحر فيما مضى وحاضراً مصدراً مهماً لانواع حاجات الإنسان وديمومة حياته.

ونلاحظ من سياق هذه الآية أنّها أكدت على ثلاثة مواضع:

أولها: يستطيع الإنسان أنْ يستخرج من البحر لحماً طرياً إذ يقول: «لِتَأكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَريّاً».

لحمٌ كثيرٌ لم يتحمل الإنسان عناءَ تربية مصدره أبداً، ويكون طريّاً بشكلٍ كامل وفي متناول يده في أغلب نقاط الأرض.

إنَّ التأكيد على طراوة وطزاجة هذا اللحم، إضافة إلى إشارته إلى لذة لحم الأسماك، فهو تذكيرٌ بهذه النكتة، وهي أنّ الناس في تلك العصور والازمان كانوا يستفيدون من اللحوم المجفّفة بسبب المشكلات التي تواجههم في الحصول على اللحوم الطريّة، وهذه النعمة ذات أهميّة خاصة، وفي عصرنا وزماننا حيث تتوفر اللحوم القديمة والمجَمَّدة لأسباب مختلفة تتضح أهميّة هذا التعبير.

ويقول بعض المفسرين: هذا التعبير إشارة إلى عظمة اللَّه عز وجل وقدرته في خلق اللحوم الطرية اللذيذة في المياه المالحة «2».

__________________________________________________

(1) مفردات الراغب، والمصباح المنير،. التحقيق في كلمات القرآن، ولسان العرب.

(2) تفسير روح المعاني، ج 14، ص 102.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 222

ويُمكنُ أن يكون التعبير ب «اللحم» إشارة إلى أنّ القسم الأعظم من جسم السمك يتكون من اللَحم وفيه قليلٌ من العظام، على العكس من بقية الحيوانات.

وتتضح أهميّة هذه النعمة الإلهيّة أكثر من خلال الالتفات إلى أنّ استغلال لحوم الأسماك لتغذية البشر أصبحت تحظى باهتمامٍ بالغٍ بسبب ندرة المواد الغذائية.

وثانيها: يذكر

فائدة البحر في استخراج وسائل الزينة لا سيما الجواهر «وتَسْتَخرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا».

فكأنّه يقول: يخرجُ من البحر المواد الغذائية الضرورية جدّاً وحتى الحاجات غير الضرورية والكمالية، «وكلّها مُسخَّرة لكم».

وثالثهما: يخاطب النبي صلى الله عليه و آله قائلًا: «وَتَرىَ الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيْهِ».

«إنَّ اللَّه قد منحكُم هذه النِعَم كي تبتغوا من فضله، لعلكم تؤدون شكرَ نعمائه» «وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ».

ومن أجل أن تتمكن السُفنُ من الإبحار في المحيطات والبحار واستخدامها كأفضل وسيلة لحمل ونقل السلع التجارية وتنقل البشر لابدّ من تظافر عدَّة عوامل:

نوعية القوانين التي تسودُ المواد الثقيلة والخفيفة التي تصونها على سطح الماء، وتموّج الماء، وهبوب الرياح المنظّم على سطح المحيطات، والعمق اللازم للبحار، فتتظافر كلها كي تتحرك السفن العملاقة على سطح المحيطات، أمّا السفنُ التي تعملُ بقوة البخار فهي أعظم ما صنَعهُ الإنسان، وقد يكون حجم أحدها بقدر مدينةٍ وتستطيع انجاز ما يعادل عمل عشرات الآلاف من السيارات لوحدها (إنَّ السفن التي تستوعب خمسمائة الف طن تحمل ما يعادل حمولة 150 ألف سيارةٍ ذات حمولة 10 أطنان!).

إنَّ هذه المسألة بالاضافة إلى مسألة استخراج أنواع المواد الغذائية وغير الغذائية ومواد الزينة، تعتبرُ دليلًا على علم وقدرةِ خالق الكون الذي وضع كل هذه النِعَم في متناول يد الإنسان مجاناً.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 223

وفي الآية الثانية تكررت ذاتُ النِّعم الثلاث التي اشيرَ إليها في الآية السابقة (اللَّحم الطري، والحُلي، وحركة السفن في عرض البحار) أيضاً، واستند إليها، مع هذا الاختلاف حيث يشير في مطلع الآية إلى بحار الماء العذب والماء المالح فيقول: «وَمَا يَسْتَوى الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرابُهُ وهَذَا مِلْحٌ اجَاجٌ».

ومع أنّ أكثر مياه البحار على سطح الأرض مالحة إلّاأنَّ بحار وبحيرات المياه

العذبة ليست قليلة أيضاً، حيث تُشاهَد نماذجُ عديدة منها في الولايات المتحدة، وكثيراً ما يستفاد منها، اضافة إلى الأنهار الكبيرة التي تصب في البحار المالحة وتتوغل فيها، فتدفع المياه المالحة إلى الخلف ولا تختلط معها لفترةٍ طويلةٍ فتُشكِّلُ بحراً من الماء العذب حيث يسقي كثيراً من السواحل أثناء المد والجزر، ممّا يؤدّي إلى ازدهار البساتين والمزارع الواسعة.

ويعتبر الفخر الرازي في تفسيره هذين البحرين إشارة إلى المؤمنين والكافرين، إلّاأنّ التمعنَ في لحن الآيات يدللُ على أنّه لا يقصد هذا المعنى بل إنَّ الهدف هو بيانُ آيات وآلاء اللَّه في عَرْضِ الخلق.

وجاء الحديث في الآية الثالثة عن تسخير البحار للإنسان: «اللَّهُ الَّذِى سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ».

ولكن استند إلى مسألة الإبحار فقط من بين مختلف بركات البحر، والتي تمت الإشارة إليها في الآيات السابقة.

وفي الآية الرابعة اعتبر السُفنَ العملاقة التي تشبه الجبال المتحركة والتي تظهر على سطح البحر من آيات وآلاء اللَّه، فيقول: «وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِى الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ».

حقاً .. مَنْ خلقَ المحيطات بهذه السَعَةِ والعمقِ والخصائص؟ ومنْ الذي مَنَحَ الخشبَ

نفحات القرآن، ج 2، ص: 224

والحديد هذه الميزةَ بحيث يطفو على وجه الماء؟ ومَنِ الذي أَمَرَ الرياحَ أنْ تَهُبَّ بشكلٍ منظَّمٍ على سطح البحار وتمنح الإنسان فرصة الانتقال من نقطةٍ إلى اخرى ويستخرج ملايين الثروات عن طريق البحر؟

أليسَ هذا نظام مُتقن ومُحكَم، وكذلك النظام السائد على قوة البخار والبرق دليل جلي على علم وحكمة الخالق جلَّ وعلا؟

هنا يشبِّهُ القرآن الكريم السُفنَ الضخمة ب «الأَعلام» و «الأَعلام» جمع «عَلَمْ» (على وزن قَلَمْ) وتعني في الأصل (كما يقول الراغب في المفردات) الاثر الذي يحصلُ منه علمٌ بوجود شي ءٍ، كالعلامات التي توضع على الطرق، وعلم العسكر، ولهذا اطلق على الجبل اسم

«عَلَم» حيث يعتبر دليلًا واضحاً يبرزُ من بعيد، ولهذا السبب شُبِّهت السُفنُ العملاقة بالجبال حيث تتضح من بعيد كالجبال.

واللطيف أنّ القرآن يقول عقب هذه الآية: «إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيْحَ فَيِظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ».

ولو شاء جعلَ الرياح مضطربةً وغير منظمةٍ بحيث لا تستطيع أيّة سفينةِ بلوغ هدفها، بل يغرقها في البحر، لذلك يكرر التأكيد في نهاية الآية: «إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآياتٍ لِّكُلِّ صَبّارٍ شَكُوْرٍ».

اولئك الذين استوعبوا آيات الآفاق من خلال الصبر والتحمل، ويؤدّون شكر هذه النعمة بعد إدراك الحقيقة، ويركعون على اعتاب ساحة القدس الإلهيّة العظيمة.

وأشار في الآية الخامسة إلى هذا الموضوع أي حركة السفن في البحار كأحد النعم الإلهيّة العظيمة أيضاً، مع هذا الفارق حيث يقول: «ليُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ».

نفحات القرآن، ج 2، ص: 225

وفي الآية السادسة أيضاً حيث يأتي البحث عن سبع آياتٍ من آيات اللَّه، فهو يذكر الفلك كآية ثالثة حيث تجري في البحر بما ينفع الناس: «وَالْفُلْكَ تَجْرِى فِى الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ»، ويؤكد في ختام هذه الآية أنّ في هذه الامور آياتٍ من الذات الإلهيّة المقدّسة وآياتٍ عن وحدانية اللَّه لقومٍ يعقلون: «لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ».

وفي الآية السابعة يستند إلى ربوبيته تعالى فيقول: «رَبُّكُمُ الَّذِى يُزجى لَكُمُ الْفُلْكَ فى الْبَحْرِ» فلا تتبعوا الأوثان لأنّها ليست بربكم.

وهنا نواجه تعبيراً جديداً «يُزجي» وهو من مادة «إزجاء» التي تعني «تسيير الشي ء بمداراةٍ وَرِقّة» بالنحو الذي ورد في «مصباح اللغة»، ويُستفاد من «مقاييس اللغة» بأنّها تعني «التسيير الدائم والمستمر»، وهاتان المسألتان في حركة السُفنِ على سطح المحيطات جديرتان بالاهتمام، لا سيما في السفن الشراعية، فالمعروف أنَّ الرياح تسوق السُفُنَ برفقٍ واستمرارٍ.

فلو كان للرياح هبوبٌ شديدٌ، أوتكون متقطعةً فانّها تجعلُ السفن تواجه حركاتٍ واضطرابات قوية، وقد تتوقف وتضيع

في وسط البحر أيضاً، إنَّ هذا التعبير يبينُ أسراراً جديدة عن هذه الآية الإلهيّة.

ولهذا يستفاد من مجموع الآيات السالفة أنّ لخلق البحار فوائد مختلفة حيث تعتبر كل منها آيةً من آياته تعالى لا سيما حركة السفن الدقيقة على سطح المحيطات.

وتُعرفُ النّعمةُ دائماً بعد فقدانها، فلولا البحار لم يتكدَّس القسم الأعظم من السلع التجارية التي تُنقلُ عبر المياه فحسب، بل تختفي كميات كبيرة من المواد الغذائية والحُلي أيضاً، وأهم من ذلك، تنعدم الغيوم ولا تهطل الأمطار، ويجر الهواء الجاف والحار جميعَ الكائنات الحيّة إلى الفَناء.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 226

توضيحات

1- البحرُ مركز لأنواع النِعَم

لم يكن هنالك أحدٌ عندما تكونت البحار، كي يرى طريقة تكوينها، إلّاأنَّ العلماء يعتقدون أنَّ كُرَتَنا الأرضية بعد انفصالها عن الشمس كانت حارةً وساخنة، وبَرَدَت رويداً رويداً، كالتفاحةِ الناضجة تعرَّج قشرُها وتجَّعدَ وحصل الانخفاض والارتفاع، برزت الجبال والوديان والبحار.

ومن الممكن أن يرد هذا التساؤل وهو: من أَين جاءت مياه البحار؟ هنالك رأيان: يعتقد بعضٌ أنّها تكونت نتيجة لتفاعل الاوكسجين والهيدروجين الموجودين في أعماق الأرض وانبثقت كالينابيع التي تتدفق حالياً، وملأت منخفضات الأرض تدريجاً.

إلّا أنَّ اشهرَ الآراء هو أنّ السماء غطَّت جوانب الكرة الأرضية بالغيوم المتراكمة، وحينما انخفضت حرارتها سالت على هيئة أمطارٍ غزيرة، وهطل المطر لآلاف السنين، وغمرت السيولُ كافة أنحاء الكرة الأرضية بنحوٍ لا يمكن تصوره، وحصلت البحار، وحتى أمدٍ طويل كانت أمواجُه تغسل أعماقه وكذلك الصخور والسواحل، ثم هدأت تدريجاً، واستقر على هيئته الحالية.

على أيّة حال فإنّ البحر له تاريخٌ قديمٌ جدّاً وملى ءٌ بالأسرار، ولكن الأهمُ من ذلك هي البركات والمنافع التي ينالها الإنسان اليوم من البحار حيث بإمكاننا أن ندرج قسماً منها، ولا يتسع هذا البحث المختصر لبيانها كلها:

1- إنَّ البَحر له اهميةٌ بالغةٌ

في الإبحار وحمل ونقل الناس والسلع التجارية، وكما اشرنا فانّ البحار تعتبر اهم وسائل البشر للحمل والنقل. لا سيما الخطوط البحرية التي تمتد بشكلٍ طبيعيٍّ إلى بقاع الأرض كافة، ويكفينا الالتفات إلى هذه الحقيقة وهي صناعة البواخر العملاقة التي تستطيع أن تستوعب (خمسمائة الف طن) من النفط وتنقله إلى أيِّ نقطةٍ في العالم.

وهذا يلزم توفر (خمس وعشرين الف سيارة ذات حمولة 20 طناً) لحمل هذه البضاعة.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 227

2- المواد الغذائية- ومن أهم الفوائد الاخرى للبحار هي المواد الغذائية التي يحصل عليها الإنسان منها.

فمن أجل معرفة أهميّة هذا الأمر يكفينا العلم بانَّه يتم صيدُ ست وعشرين مليون طن من الأسماك سنوياً، علماً أنّ هذا الاحصاء يتعلق بثلاثين عاماً مضت، ومن المسلَّم به أنَّ هذا الرقم قد تضاعف كثيراً في الوقت الحاضر.

وليس الإنسان وحده بل إنَّ الكثير من الطيور تحصل على طعامها من البحار أيضاً، وهذا بحدِّ ذاته اقتصادٌ في استهلاك المواد الغذائية الجافة.

فيقول بعض العلماء من خلال الاحصاءات التي قاموا بها: إنَّ الطيور البحرية التي تعيش على الجبال الساحلية والجزر الصخرية تستهلك لوحدها مليونين وخمسمائة الف طن من الأسماك سنوياً!.

ونعلمُ أيضاً أنَّ جانباً مهماً من علف الدواجن يتم تأمينه من عظام أسماك البحر، (نفس هذه الأسماك المصطادة)، أي أنّها تتدخل بصورةٍ غير مباشرة في تغذية الإنسان.

3- الاعشاب والادوية- يحصل من كل هكتارٍ من البحر خمسمائةُ طنٍ من العلف الاخضر، في حين أنّ أفضل مزارعنا لا تنتجُ أكثر من أربعة أطنان وفي بعض البلدان يُستَغلُ هذا العلف لتغذية المواشي، ويُستَعملُ رماده سماداً للمزارع أيضاً.

ويستخرجون من الاعلاف البحرية مختلف المواد، كالكحول الجامد والسلولوز والنشاء والمواد الجلاتينية، حيث تُستثمر في الصناعات الكيميائية واعداد الطعام (وبعض الادوية).

4-

المعدن والنفط- إنّ البحارَ غنيّةٌ بالمعادن، ويكمنُ جانبٌ من هذه المعادن في أعماقها، ويعومُ الجزء الاعظم منها على سطحها، ومنها الفلزات التي يمكن استخلاصها من ماء البحر «كالمغنيسيوم» الذي يُستعملُ في الصناعات، وكذلك «البوتاسيوم» و «البروم» و «سلفات الصوديوم» وغيرها.

يقول العلماء إنَّ أكثر من أربعين عنصراً (عدا ما ذُكر) موجودٌ في ماء البحر، لها قيمةٌ

نفحات القرآن، ج 2، ص: 228

صناعية جديرة بالاهتمام، كما ويعثر على الذهب في ماء البحر أيضاً، غير أنَّ استخراج الكثير من الغازات ما زال يحتاج إلى ميزانيةٍ هائلةٍ لا يمكن مقارنتها بالاستهلاك، وقد يأتي اليوم الذي يتمكن فيه الإنسان من أن ينالها من خلال طرقٍ أكثرَ يُسراً.

وتقوم بعض الشركات العملاقة بتصنيع أكثر من خمسمائة مادةٍ مختلفةٍ من معادن البحر، حيث هنالك مليارات الأطنان من المعادن.

ويعتبر النفط- وهو من أثمن المستخلصات- من هدايا البحر، لأنَّ المليارات من الموجودات البحرية توجد في أعماق البحار العظيمة، وبما أنّ القارات ارتفعت فيما بعد فقد دُفنت هذه الموجودات تحت الرمال التي تحوَّلت إلى صخورٍ بعد ذلك، وبقي النفط الناتج عنها في أعماق الأرض.

والملحُ هو أحد اهم المواد المعدنية التي تُستخرج من البحر، له دورٌ مهمٌ في حياة الإنسان، وقد ذكروا في السابق أنّ الملح بلغ من الأهميّة بحيث إنَّ جنود الروم كانوا يتقاضون رواتبهم على هيئة ملح، وحتى في روسيا فقد اندلعت «ثورة الملح»! بسبب ارتفاع سعره.

إنَّ أهم مصادر استخراج الملح هو البحر، وحتى أنّ بعض المناطق الملحية الموجودة على اليابسة والتي يبلغ قطرها 800 م هي من آثار البحار عندما كانت تغمر جميع بقاع الأرض.

لقد قدَّروا الاستهلاك العالمي للملح ب 22 مليون طن سنوياً، بحيث لو أراد الإنسان استهلاك مخزون الملح الموجود على اليابسة لَنفدَ

عاجلًا أو آجلًا في حين أنّ البحر مصدرٌ لا ينفدُ للملح، فيمكن أن تؤمِّنَ أملاحُ البحر ما يحتاجه البشر لمدة مليون وسبعمائة الف سنة.

5- افضلُ منتجٍ للطاقة- لقد انتبه الإنسان منذ القِدَم إلى هذا الأمر، وهو إمكانية انتاج الطاقة من خلال السيطرة على المياه المتراكمة بسبب المد، وتنسحب أثناء حدوث الجزر، فتستغل لتحريك المطاحن وغيرها.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 229

وتفيد بحوث العلماء المعاصرين أنَّهُ يُمكنُ انتاج الكهرباء بكمية كبيرة من هذه البحار، وأنْ يستعانَ بها بصفتها أهم مصدرٍ لانتاج الطاقة، فالجَزر والمد اللذان يحدثان مرّتين ليلًا ونهاراً بتأثير جاذبية القمر يقومان برفع وخفض ماء البحار بمقدارٍ كبير، وهذا الأمر إضافة إلى مسألة الطاقة التي اشير إليها فهو يؤثر في سقي المناطق الساحلية، لأنَّ مصبات الانهار التي تصب في البحار تمثلُ بحراً من الماء العذب، فيندفع ماء الساحل العذب إلى الخلف ويُغطي كثيراً من الأراضي، لذلك سَخر البشرُ مند القِدَمِ أراضِيَ واسعةً للزراعة من خلال شق الأنهار في مثل هذه المناطق.

ولعلَّ هنالك الملايين من أشجار النخيل في سواحل الخليج الفارسي حيث تُسقى بنفس هذه الطريقة فقط، لأنَّ الماء يتراجع إلى مسافات بعيدة عن الساحل، فهذا الماء العذب الفرات الذي يجاور الماء المالح الاجاج ولا يختلط معه يعتبر ثروةً عظيمةً لسكان السواحل.

6- وسائل الزينة المختلفة- من المنافع الاخرى للبحار التي ذُكُرت بشكل خاص في الآيات المذكورة هي وسائل الزينة التي تُستخرج من البحر، كاللؤلؤ الذي ينمو في نوعٍ خاصٍ من الصدف، والمرجان الذي هو نوع من الاحياء البحرية، ولكن على هيئة اغصان أشجار لها منظر جميل ومرغوب، اضافة إلى صفةِ الزينة فهو يُستعملُ في الطب أيضاً.

7- تلطيف الجو عن طريق البحار- ليست الرياح التي تهبُّ من البحار

نحو اليابسةِ هي التي تُرطبُ وتُلَطفُ الجَّو فقط، بل هنالك أنهارٌ عظيمةٌ متحركة في قلب محيطات العالم تتحرك من المناطق الحارة إلى المناطق الباردة وبالعكس، وبصورة عامة لها أثرٌ بالغٌ في تلطيف الهواء على الكرة الأرضية.

وواحدٌ من أعظمها هو «غولف استريم»، هذا النهر العظيم الذي يتحرك من سواحل أمريكا الوسطى ويطوي المحيط الأطلسي، ثم يصل إلى سواحل شمال اوربا، وهذه المياه تكون حارةً حينما تتحرك من المناطق القريبة من خط الاستواء، حتى أنّ لونها يختلف أحياناً عن لون المياه المجاورة لها، واللطيف أنّ عُرضَ هذا النهر البحري العظيم أي «غولف

نفحات القرآن، ج 2، ص: 230

استريم» نحو مائة وخمسين كيلو متراً، وعمقه عدة مئات من الأمتار «1»، وتبلغ سرعته في بعض المناطق حداً بحيث يقطع مائة وستين كيلو متراً في اليوم، وتختلف درجة حرارته عن حرارة المياه المجاورة ب 10- 15 درجة.

إنَّ «غولف استريم» يتسبب في حصول رياحٍ حارةٍ، ويعطي نسبةً كبيرة من حرارته إلى البلدان الواقعة شمال اوربا، فيعمل على تحسين جوِّها، ولولا هذا الجريان لتعسرت الحياة كثيراً في هذه البلدان واستحالت في بعضها.

والعجيب أنّ هذه الأنهار البحرية العظيمة والتي يكمن السبب الرئيس وراء ظهورها في التفاوت في درجة حرارة المناطق الاستوائية والمناطق القطبية قليل ما تمتزج بالمياه المحيطة بها، وتطوي آلاف الكيلو مترات بهذا الشكل، فهي مصداقٌ لطيفٌ ل «مَرَجَ البَحْرَيْنِ يَلْتَقيَانِ* بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّايَبْغِيَانِ». «2» (الرحمن/ 19 و 20)

8- استثمار ماء البحر طبياً- لا حاجة لتوضيح أنّ ماء البحر له آثارٌ مفيدة لجسم واعصاب الإنسان، ولهذا ينتشر اليوم وفي معظم مناطق العالم استثمار ماء البحر لعلاج بعض الأمراض الجلدية والعصبية، أو لحفظ الصحة والسلامةِ، ولو تمَّ القضاء على التلوث الأخلاقي في هذا

المجال لأصبح استثمار ماء البحر مصدراً لسلامة ونشاط الناس.

9- المصدر الرئيس للمياه الجوفية- إنّ أهمَّ وأعظمَ وأكثر فوائد البحر هي الابخرة التي تتصاعد منه، ثم تؤلفُ الغيوم، وتساقُ هذه الغيوم نحو المناطق اليابسة والجافة، فتُحييها، حيث ذُكرَ ذلك في فصل الريح والأمطار بشكلٍ مُفصَّلٍ.

10- توفير الماء العذب- يتمُّ في الكثير من المناطق التي يصعب الحصول على الماء العذب، تأمين هذه المادة الحياتية من خلال تقطير ماء البحر فتصبح المناطق المهجورةُ مسكونة بسبب ذلك.

هذا جانبٌ من منافع وبركات البحار التي وقف عليها الإنسان حتى هذا اليوم، وليس

__________________________________________________

(1) وقد ذُكر في بعض الكتب أنّ عمقَهُ يصل في بعض المناطق إلى (800 م) (البحر والعجائب، ص 46).

(2) لمزيد من التوضيح في هذا المجال يراجع التفسير الامثل، ذيل الآية 19 و 20 من سورة الرحمن.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 231

معلوماً ما حجم المنافع التي سينالُها الإنسان في المستقبل، وهنا نقف على عظمة هذا التعبير القرآني: «وَسَخَّرَ لَكُمُ البَحْرَ» «1»

.

2- البحر عالم العجائب

لو فكرنا جيداً فانَّ جميع الموجودات في العالم تبعث على الدهشةِ، ولكن لا يشبهُ أيٌ منها الاحياءَ التي في أعماق البحار، وقد ذكر بعض العلماء أنّ عدد أنواع الاحياء البحرية التي تمت معرفتها مائة وأربعون الف نوعٍ، علماً أنّ عدد هذه الأنواع كثيرٌ للغاية على سطح المحيطات، ولكن كلَّما نفذنا في الأعماق فانّها تقلُّ، أو على الأقل تقلُّ معلوماتنا عنها.

والمسألة المهّمة التي تخص البحار هي أنّ التصوُرَ كان ينصبُ على عدم وجود أيِّ كائن حيٍّ في أعماق البحار، لأنَّ أشعة الشمس تنفذ إلى عمق «600» متر في الماء فقط، و تختفي نهاية الأشعة في مثل هذا العمق، فيغُطُ كلُّ شي ءٍ في «ظلام دامس».

بالاضافة إلى أنّ ماءَ البحر

يكون بارداً جدّاً في هذه المنطقة، والأهمُ من ذلك الضغطُ الذي يولده الماء على موجودات تلك المنطقة، لأنَّ ضغط الماء في عمق كيلو مترٍ واحد يكون في نحو من مائة كيلو غرام لكل سنتمتر مربعٍ واحدٍ، ومن المسلمِ به لو كان الإنسان هناك مجرّداً من ملابس الوقايةٍ لتحطمت وسُحقت عظامُهُ «2»، ولهذا لا يمكن النزول في البحار بعمق عشرة أمتار فأكثر بدون ملابس واقيةٍ، ولابدَّ من استخدام الواقيات الفولاذية السميكة أثناءَ الغوص في الاعماق، وإلّا لدَمَّر ضغطُ البحر كلَّ شي ء، ولا يمكن الذهاب بكل وسيلة إلى الأعماق في بعض المراحل بسبب عدم وجود شي ءٍ يقاوم الضغط.

__________________________________________________

(1) تُراجع كتب: البحر دار العجائب؛ وأسرار البحر؛ وعجائب البحر؛ ونشرة الميناء والبحر؛ رسالة الثقافة، ج 12؛ وأفضل الطرق لمعرفة اللَّه.

(2) إنَّ الغواصين يغوصون إلى عمق 30 متراً فقط بدون ملابس الغوص وإلى عمق 150 متراً بملابس الغوص، في حين أنّ ضغط الماء يبلغ 7 أطنان لكل انج مربعٍ في أعمق نقاط البحر (البحر دار العجائب، ص 89).

نفحات القرآن، ج 2، ص: 232

على أيّة حال فقد اثبتت بحوث العلماء فيما بعد أنّ هنالك في أعماق البحر موجوداتٍ حيَّةً كثيرة وعجيبة، حيث تقوم بإبطال مفعول الضغط العجيب للماء من خلال الضغط الداخلي الموجود فيها.

ولا تنمو الحشائش هناك كي تستفيد منها الاحياء الموجودة في قاع البحر، لكن يد القدرة الإلهيّة تقوم بتهيئة الغذاء اللازم لها والذي هو عبارة عن المواد النباتية المختلفة على سطح المحيط وتحت ضوء الشمس، وبعد إعداده ينزل إلى سُكان أعماق البحر على هيئة مائدةٍ سماوية، وتترسب هناك، بالاضافة إلى الاحياء الموجودة على سطح الماء التي تموت حيث تُعَدّ جثثها طعاماً لذيذاً للموجودات الحيّة في قاع البحر.

ولكن لنرَ

كيف تُحلُّ مشكلة الظلام الدامس؟ فقد وفَّرت القدرة التي خلقت هذه الموجودات للعيش في هذه المنطقة والنور اللازم لها، لأنَّ اغلبَ هذه الاحياء تقوم باشعاع النور منها، نورٌ كنور ليلة مقمرة من ليالي الصيف فتضي ء ذلك المحيط.

وينطلقُ نورٌ احمر من رأس نوعٍ من الأسماك، ومن ذيل اخرى نورٌ ازرقٌ، وينشر بعضُ الأسماك نوراً باللون الاحمر والابيض والازرق.

يقول أحد العلماء: إنَّ أكثر المناطق عجباً في البحر ليست قرب سطح الماء ولا قاع المحيط، بل هي المنطقة التي تتوسطهما، فليس لها سماءٌ فوقها ولا أرضٌ تحتها، وانما يحيط الماء بكل شي ء، ولا مأوى للموجوداتِ التي تحيى هناك، فهي في حركةٍ مستمرة، وهنالك الأسماك التي تُحيّرُ العقول، فاسنانُ بعضها طويلٌ بالقدر الذي لا تتمكن من أن تغلقَ فمها أبداً ونوعٌ من الأسماك يتسع بطنهُ بحيث يتمكن من ابتلاعِ سمكةٍ تعادلُ حجمه ثلاث مرات، وقد اطلق على هذه الأسماك أسماءً عجيبةً وغريبةً مثل «البالع الأسود» و «الأفعى البحرية» و «ثعبان السمك»!

لنترك قعر المحيط ونأت إلى سطح الماء فهناك عجائب أيضاً، وهنالك أسماك كلٌ منها اعجبُ من الآخر، منها الأسماك ذوات الشحنة الكهربائية حيث تستطيع انتاج كميات كبيرة من الكهرباء بايعاز من الدماغ، إذ تصيب العدو أو الفريسة بالشلل، تلك الشحنات الخطيرة حتى على الإنسان أيضاً.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 233

و «الأسماك الطائرة» التي تخرج من الماء وتطير إلى مسافة ستين متراً، وتقفز أحياناً أعلى من الأشجار.

و «السمك ذو الدواة» الذي يفرز مادةً سوداء اللون في ماء البحر للاختفاء عن العدو والافلات منه، كما يُصنع اليوم في الحروب التقليدية، حيث يُملأ ميدان المعركة بالدخان كي يتوارى الأشخاص عن العدو.

و «السمك المائدة» أحد الأنواع العجيبة للسمك، حيث تكون عريضةً وكبيرة جدّاً،

إذ تبسط نفسها على سطح المحيط فتشكل مائدة، وبمجرّد وقوع الفريسة على هذه المائدة تجمع أطرافها المبسوطة عليها وتنشغل بأكلها.

يعيش في البحر أصغر الاحياء، وأكبرها أيضاً، إذ يبلغ طول الحيتان الموجودة في البحر ثلاثين متراً، وقطرها أكثر من أربعة عشر متراً، ويبلغ طول فكِّها أكثر من سبعة أمتار، ووزنُ لسانها ثلاثة أطنان، ووزن قلبها نصف طن، ووزن كبدها طناً واحداً، ويبلغ طول وليدها سبعة أمتار أحياناً «1».

وكان طول احدى الحيتان التي تمّ اصطيادها في جزائر «نيو جورجيا» ثلاثاً وثلاثين متراً، ووزنها مائة وخمسة وعشرين الف كيلو غرام «2».

وكذلك هناك نباتاتٌ مجهريةٌ، ونباتات يبلغ طولها خمسين متراً تعيش في البحار أيضاً.

3- البحر في كلام المعصومين عليهم السلام

وهنا نترَّنمُ بهذه الجملة المشهورة في دعاء الجوشن من خلال عالَمٍ من الخشوع والإخلاص ولْنَقُل: «يا مَنْ في البحار عجائِبُهُ» «3».

__________________________________________________

(1) عجائب البحر، ورسالة الثقافة.

(2) البحر دار العجائب، ص 121.

(3) دعاء الجوشن الكبير، الفقرة 58.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 234

في ذلك اليوم حيث رُويت هذه العبارة في دعاء الجوشن عن النبي صلى الله عليه و آله لم تزل أسرار البحار غير مكشوفة لأحد، واليوم تتجلّىَّ لنا عظمة هذه العبارة أكثر من أيِّ وقت.

وورد في دعاءٍ ومناجاةٍ اخرى لأمير المؤمنين عليه السلام حيث يقول:

«أَنتَ الذى في السماء عَظَمَتُكَ، وفى الأرضِ قُدْرَتُكَ، وفى البحار عَجائبُكَ» «1».

ونواصل هذا البحث بحديثٍ آخر عن أمير المؤمنين عليه السلام حيث يقول:

«سخَّرَ لكُمُ الماءَ يَغدو عَلَيكُمْ وَيَروُحُ صَلاحاً لمعايشكُمْ والبَحْرَ سَبَباً لكَثْرَةِ أمْوالِكُم» «2».

ونختم هذا البحث بمقطعٍ من الحديث المشهور ب «توحيد المفضّل» عن الصادق عليه السلام، إذ يقول عليه السلام:

«فإذا أردت أن تعرف سعة حكمة الخالق وقصر علم المخلوقين، فانظر إلى ما في البحار من ضروب

السمك ودواب الماء، والاصداف والاصناف التي لا تحصى ولا تعرف منافعها إلّاالشي ء بعد الشي ء يدركه الناس بأسباب تحدث؛ مثل القرمز فانّه إنّما عرف الناس صبغه بأنّ كلبة تجول على شاطي ء البحر فوجدت شيئاً من الصدف الذي يسمى «الحلزون» فاكلته فاختضب خطمها بدمه فنظر الناس إلى حسنه فاتخذوه صبغاً ...» «3».

نعم .. ففي البحر وموجوداته ونباتاته وغيرها منافع وبركاتٌ تتكشفُ عنها المزيد من الأسرار في كل يومٍ يَمُرُّ من حياة البشر، وتظهر لهُ فوائد جديدة بحيث تجبر الإنسان على الخضوع إلى خالق هذه النِعَم.

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار، ج 97، ص 202.

(2) المصدر السابق، ج 60، ص 39، ح 3 (باب الماء وانواعه والبحار).

(3) المصدر السابق، ج 3، ص 109 (حديث المفضل).

نفحات القرآن، ج 2، ص: 235

14- آياتُهُ في خلقِ الظِّلال

تمهيد:

هل أنّ الظِّلَّ شى ءٌ يمكنُ من خلاله أن تستدل على خالق العالَم؟ نعم .. فقد تمّت الإشارة في آيات القرآن الكريم إلى هذه المسألة التي تبدو عاديةً أثناء وصف نِعَمِ الخالق جلَّ وعلا والتعريف بالذات الإلهيّة المقدّسة، فهو تعالى يريدُ بيانَ هذه الحقيقة، وهي أينما يقع بصرُكَ في هذا العالم الملي ء بالعجائب والأسرار فانَّ عظمَتهُ تتجلى فيه، وبراهينُ حكمته وقدرته مكتوبةٌ في جبين كل الموجودات صغيرها وكبيرها.

بعد هذا التمهيد نتأمل خاشعين في الآيات الآتية:

1- «أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيْلًا* ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِليْنَا قَبْضَاً يَسيْراً». (الفرقان/ 45- 46)

2- «وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الجِبَالِ أَكْنَاناً وجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيْلَ تَقيْكُمُ الحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ».

(النحل/ 81)

3- «أَوَلَمْ يَرَوْا إِلىَ مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَىٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِيْنِ وَالشَّمائِلِ

سُجَّداً لِّلّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ». (النحل/ 48)

4- «وَللَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِى السَّموَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلَالُهُمْ بِالْغدُوِّ وَالآصَالِ». (الرعد/ 15)

نفحات القرآن، ج 2، ص: 236

شرح المفردات:

«ظِلال»: جمع «ظِلّ» إلّاأنّ العالِم والمفسرَ المعروف «الراغب» يقول في كتاب «المفردات»: أيُّ مكانٍ لا تشرق فيه الشمس يُعتبر ظِلًا سواء أشرقت عليه سابقاً أم لا، ولكن «الفي ء» على وزن (شي ء)، يقالُ للمكان الذي أشرقت عليه الشمس سابقاً ثم غطّاه الظل.

في حين أنّ بعض أرباب اللغة اتخذَ الاثنين بمعنىً واحد، وقال البعض إنَّ «الظل» هي الظلال التي تنزل أثناء الصباح، و «الفي ء» يُطلقُ على الظلال التي تنزلُ عصراً، إلّاأنّ المعنى الأول يتناسب كثيراً مع حالات استعمال هذين اللفظين.

ويطلق لفظ «الظل» كنايةً في مورد العزّةِ والمَنعةِ والرفاه والراحة لأنَّ من المعروف أنَّ هذه الأحوال تحصل في الظل «1».

جمع الآيات وتفسيرها

هل إنَّ الظِّلَّ نعمةٌ عظيمة؟

هل إنَّ الظِّلَّ نعمةٌ عظيمة؟

إنَّ الحديث في هذه الآيات عن الظلال، والمسألة تبدو وكأنّها عاديَة لكنَّ التفحُصَ فيها يمكنُ أن يُقربَنا ويُعرفَنا أكثر بخالقِ هذا العالم.

ففي الآية الاولى يخاطبُ النبيَّ صلى الله عليه و آله قائلًا: «أَلَمْ تَرَ الىَ ربِّكَ كَيْفَ مَدَّ الْظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً».

ويضيف في نهاية الآية قائلًا: «ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيْلًا»، ويضيف في الآية التي تليها: «ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلْينا قَبْضَاً يَسيراً».

وهنا ما المقصود بهذا الظِّل الذي يمُّدهُ الباري تعالى ثم يجمعه تدريجياً؟ قال بعض المفسرين: المقصود هو ظلُّ الليل حيث ينبسطُ على جميع سطح الأرض وينقبض بنحوٍ متناوب، ويعتبر وجود الشمس دليلًا وإشارة عليه، إذ «تُعرفُ الاشيَاءُ بِاضدَادِهَا».

ويعتبره البعض إشارةً إلى الظلِّ الذي يمتدُّ بين الطلوعين (بين طلوع الصبح وطلوع

__________________________________________________

(1) لسان العرب؛ ومفردات الراغب.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 237

الشمس)، فيغطي وجه الأرض وهو افضل الظلال والساعات.

واعتبره البعض بمعنى الظلال التي تحصل أثناء النهار بسبب اصطدام ضوء الشمس بالجبال والأشجار وبقية الاجسام، ثم ينتقل تدريجياً.

من هنا حيث لا تتعارض هذه التفاسير

الثلاثة، وبما أنّ تعبير الآية مُطلق وجامع، فيمكن أن يكون إشارة إليها كلها إذ إنَّ كلًا منها نعمةٌ ثمينة.

إننا نعلمُ أنّ اللَّيلَ في الواقع هو ظل نصف الكرة الأرضية الذي يقع أَزاء الشمس، الظلُّ المخروطي الشكل الذي يمتد في الفضاء في الجهة المقابلة ويتحرك باستمرار، ولولا ظلُّ اللَّيل لاحترقت كافة الكائنات الحية بفعل ضوء الشمس والحرارة الناتجة عنه، وهلكَ النسل البشري بسرعة.

وكذلك لولا وجود سائر أنواع الظلال، ولو كان الإنسان مجبوراً على قضاء النَّهار تحت الشمس لوقَعَ في حَرَجٍ بالغٍ، ولأصبحت الحياةُ شاقةً بالنسبة له لاسيما في فصل الصيف، إنَّ اللَّهَ تعالى فتحَ الظل للإنسان كي ينالَ الراحة والاستقرار هو ومن يتعلق به.

وبتعبيرٍ آخر فانَّ بعض الأشياء خُلقت «معتمة»، والبعض خُلق «شفافاً» بحيث يعبرُ النور من خلاله، فلو كانت كل الأشياء شفافةً فلا وجود للظلِّ اطلاقاً وستتبدلُ حياة الإنسان مقابل ضوء الشمس المستمر إلى جهنم محرقة، وإذا تفكَّرَ الإنسان قليلًا في هذا المجال فسيتعرف على عظمة وأهميّة هذه النعمة ويتمكن من خلال ذلك الوصول إلى الخالق الحكيم.

ولعلَّ التصريح ب «النظام التدريجي للظِّل» في الآيةِ أعلاه إشارة إلى هذه الحقيقة وهي لوأنَّ الظِّلال تحصل أو تزول فجأة لأدّت إلى اضرار جسيمة، إذ لا يخفى على أحد الاضرار الناتجة عن الانتقال المفاجي ء من النور إلى الظلام وبالعكس، أو من الحر إلى البرد وبالعكس.

ولكنَّ «الظِّل» بما له من بركاتٍ ولطفٍ، مضرٌ أيضاً فيما إذا دام وخَلُدَ لأنَّه يحرم الإنسان من نعمة النور، لهذا يقول في الآية أعلاه: «وَلَو شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً»، (ولكنه للطفه وكرمه لم يفعل ذلك كي يَنَعُمَ العباد بنعمة النور والظِّل على السواء).

نفحات القرآن، ج 2، ص: 238

ويقول في الآية الثانية التي تمَّ بيانها ضمن آيات

التوحيد في سورة النحل، بعد تعداد بعض آيات الآفاق ونِعَمِ الخالق جلَّ وعلا: «وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّمَّا خَلَق ظِلَالًا».

قال بعض المفسّرى إنَّ المقصود هنا الأشياء التي تتسبب في ايجاد الظّلال، كالجبال والأشجار، والغيوم، والسقوف والجدران «1».

وممّا لا شكَّ فيه لو كانت جميع الاشياء- كما المحنا سابقاً- شفافةً ومضيئة كالبلور، ولا وجود للظلِّ في العالم لكانت الحياة غير ممكنة بالنسبة للإنسان.

ويشير سياق الآية إلى سائر النِّعم التي هي في الواقع مكملةً لوجود الظلِّ، كالملاجى ء المستحدثة في الجبال على هيئةِ مغاراتٍ وكهوف، والتي تقي الإنسان من حرارةِ الشمس المحرقة، كالدرع حينَ يَصُدُّ طعنات العدو في ساحة الحرب: «وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الجِبَالِ أَكنَاناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابيْلَ تَقِيْكُمْ بَأسَكُمْ» «2».

وهنا لماذا أشار في الآية الآنفة إلى اللباس كوقاءٍ للحفظ من الحَرِّ فقط، من دون الإشارة إلى البرد؟ يقول بعض المفسِّرين: لأنَّ المناطق التي نزلت فيها هذه الآيات، المتداول فيها مسألة الحر بكثرة، أو لكثرة وزياده اخطار الحرارة والاحتراق عند مواجهة الشمس، في حين تتزايد طرق وقاية الإنسان لمواجهة البرد.

ولكن لا يجب نسيان أنّ في آداب العرب حينما يريدون التلميح إلى ضدّين فهم يحذفون أحدَهُما في أغلب الموارد ويذكرون واحداً فقط، وهذا الأثر له قرائن كثيرة.

والجدير بالاهتمام أنّه يقول في نهاية هذه الآية بعد ذكر هذه النِّعم الثلاث (الظلال، والمساكن، والملابس): «كَذلِكَ يُتِمٌّ نِعْمَتَهُ عَلَيِكُم لَعَلَكُمْ تُسْلِمُونَ».

نعم .. فالتأمل بهذه النِّعَمِ وأسرارها المختلفة يعرِّفُ الإنسان بعلمِ وقدرة اللَّه تعالى من ناحيةٍ، ومن ناحيةٍ اخرى يدفعُ إلى التسليم إلى أوامر الخالق جلَّ وعلا ذي اللطف والرحمة، من خلال تحريك الشعور بالشُّكر له.

__________________________________________________

(1) تفسير روح المعاني، ج 14، ص 186؛ و تفسير القرطبي، ج 6، ص 3775.

(2) «سرابيل» جمع «سربال»

(على وزن مثقال) وقد فسَّرها البعض بكل أنواع الملابس، واعتبرها البعض بمعنى الرداء (حيث يرتدون الدرع كالرداء) إلّاأنّ المعنى الأول اكثرُ تناسباً هنا.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 239

وفي الآية الثالثة يوجه اللوم والتوبيخ للمشركين في آيات التوحيد فيقول:

«أَوَلَمْ يَرَوْا الىَ مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَى ءٍ يَتَفَيَّؤا ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِيْنِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِّلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ» «1».

أيٌ تعبيرٍ لطيفٍ هذا؟ فقد خضعت الظلالُ بأسرها وسجدت أمام ذاته المقدّسة، لأنّها مُسَلِّمةٌ لأمرِهِ وهذا التسليم والخضوع أمام قوانين الخالق هو سجودها لحضرته تعالى

فكيف يتضاءل الإنسان أمام الظلال، ويسجدُ للأصنام، ولا يسجدُ للخالق جلَّ وعلا؟!

إنَّ سجودَ الظِّلالِ جزءٌ من سجود كافة الكائنات في السماء والأرض، ولهذا فقد أشار في سياق هذه الآية إلى هذا السجودِ العام، فقال: «وللَّهِ يَسْجُدُ مَا فِى السَّمواتِ ومَا فِى الأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ».

وهنا سُتطرحُ بحوثٌ مفصلّة خلال بحث السجود العام لموجودات العالم أمام الباري عزّوجل، على أيّةِ حالٍ ففي هذه الآيةِ إشارة لطيفة إلى أهميّة الظلال وآثارها حيث تصلح كمصدرٍ لإلهام التوحيد.

وفي الآية الرابعة يضع الظّلال في جُملة موجودات السماء والأرض التي تخضع وتسجدُ للَّه تعالى فيقول: «وَللَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِى السَّمَوَاتِ وَالأَرضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ والآصَالِ».

وربّما يكون التعبير ب «طَوْعاً وَكَرْهاً» إشارة إلى تسليم الموجودات العاقلة وذات الاحساس رغبةً وطوعاً، وإلى تسليم الموجودات غير العاقلة كالظلال للأوامر الإلهيّة فتسجد قوانين الخلق الاجبارية.

__________________________________________________

(1) «يَتَفَيَؤا» من مادة «في ء» وتعني العودة والرجوع، ويحصرها بعض أرباب اللغة بمعنى ظلال الأشياء حين عودة الشمس عصراً، واطلاقها على غنائم الحرب يعود إمّا بسبب رجوع المسلمين بها، أو زوالها أو فنائها النهائي كالظلال، و «داخر» تعني المتواضع.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 240

أو إلى أنّ المؤمنين يسجدون رغبةً وطوعاً، وغيرُ

المؤمنين الذين ليس لديهم الاستعداد للسجود طوعاً فإنّ جميعَ ذرات وجودهم مسلِّمة للَّه تعالى بحكم قوانين الخلق الاجبارية، وقد جبلوا على السجود التكويني أمام ذاته المقّدسة.

أو أنّ المؤمنين يُمَرِّغون جباهَهُمْ بالتراب أزاءه في كل الأحوال (في الراحة وعند حلول المشكلات، مطمئنين كانوا أم مضطربين)، إلّاأنّ الكافرين لا يتوجهون نحوه إلّاحينما تباغتهم المشاكل.

وممّا لا شك فيه أنّه ليس هنالك تعارضٌ بين هذه التفاسير الثلاثة، ويمكنُ جمعُها في مفهومٍ واحدٍ.

والتعبير ب «مَنْ» في الآية أعلاه مع أنّه يختص باصحاب العقول حسب الظاهر، إلّاأنَّ من المحتمل أن يكون له مفهومٌ عامٌّ فيشمل كافة الموجودات العاقلة وغير العاقلة، فيصبح التعبير ب «مَنْ» من باب التغليب.

وأمّا تعبير «الغدو» و «الآصال» (الصباح والمساء) فلعلّه كان بسبب إمكانية زوال الظلال وسط النهار، أو كونها ضئيلة جدّاً ومحدودة، في حين أنّها ليست كذلك في الصباح والمساء، وفضلًا عن ذلك، فإنّ هذا التعبير جاء في الكثير من الحالات لبيان الديمومة والتعميم، فمثلًا تقول: إنّ الشخص الفلاني يدرس صباحاً ومساءً، أو إنّه يؤذي شخصاً آخر، أي إنّه كذلك على الدوام.

يُستفاد من مجموع هذه الآيات أنَّ القرآن الكريم يولي اهتماماً خاصاً حتى للظلال، ويعتبرها من آيات عظمة اللَّه، والتعبير ب «السجود» الذي هو غايةُ الخضوع إشارةٌ إلى هذا المعنى

توضيح

لو لم تكن هناك الظلال ...؟!

من أجل ادراك أهميةِ أيّ موجودٍ لابدّ من احتمالِ زواله تماماً في لحظةٍ أو يومٍ أو شهرٍ

نفحات القرآن، ج 2، ص: 241

ما، ثم الالتفات إلى آثاره.

والأمر كذلك في مسألة الظلال التي تبدو موضوعاً عادياً وغير مهم للوهلة الاولى، ولكن افرضوا أنّ كل أنواع الظلِّ والمظلات رُفعت عن الكرة الأرضية لمدّة اسبوعٍ، فلا جبال، ولا أشجار، ولا حائط بيتٍ ولا سقف، ولا حتى ظلَّ نصف الكرة الأرضية الذي

يُغطي النصف الآخر وهو الليل، واختفت كلّها بصورة مفاجئة، وتبدلت جميع الأجسام في هذا العالم إلى حالةٍ كالبلور ونفذ ضوء الشمس من خلالها، فكم ستصبح الحياة صعبةً وغير قابلة للتحمل؟ إذ يشعُ ضوء الشمس باستمرار، ويتعرض له كل شى ء، ويسلبُ كل أشكال الاستقرار والاطمئنان والراحة من الإنسان وسائر الموجودات، ولو حدثت مثل هذه الفرضية في فصل الصيف فسوف تهلك جميع الكائنات الحية خلال فترة قصيرة.

بناءً على ذلك يمكن القول أنّ لوجود الظلال دوراً مؤثراً جدّاً في حياة الإنسان للأسباب الآتية:

1- إنّ وجودَ الظلال ضروريٌّ للغاية من أجل تخفيف ضوء وحرارة الشمس، لأنَّ الأشعة الحياتية للشمس لو لم تُخفَّف بالظهور المتناوب للظلال ستُفني كل شى ء وتحرقه خلال فترة قصيرة.

يقول الفخر الرازي في تفسيره: «إنّ الظل هو الأمر المتوسط بين الضوء الخالص وبين الظلمة الخالصة، وهو ما بين ظهور الفجر إلى طلوع الشمس، وكذا الكيفيات الحاصلة داخل السقف وأفنية الجدران، وهذه الحالة أطيب الأحوال، لأنّ الظلمة الخالصة يكرهها الطبع وينفر عنها الحس، وأمّا الضوء الخالص وهو الكيفية الفائضة من الشمس فهي لقوتها تبهر الحس البصري وتفيد السخونة القوية وهي مؤذية، فاذن أطيب الأحوال هو الظل، ولذلك وصف تعالى الجنّة به فقال: «وظِلٌ مَمْدُودٌ» «1».

2- يبدو أنَّ دور الظلال لاسيما الظلال المتحركة حيويٌ جدّاً بالنسبة للمسافرين وقاطعي الصحراء، فهؤلاء يستطيعون الاستعانة بالخيام ووسائط النقل المسَقَّفة من وقاية

__________________________________________________

(1) تفسير الكبير، ج 24، ص 88.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 242

انفسهم أزاء أخطار أشعة الشمس المباشرة.

3- والمسألة الاخرى الجديرة بالاهتمام، هي أنّه خلافاً للتصور العام فانَّ النور لا يكفي لوحده لرؤية الأشياء، بل يجب أن يكون متزامناً مع «الظلال» كي تتوفر إمكانية رؤية الأشياء، وبعبارة أكثر جلاءً:

لو أنّ النورَ يشعُ

على موجودٍ ما من أربعة جهات بحيث لا يوجد أيُّ شكلٍّ للظل أو بعضه، فلا يمكن رؤية ذلك الشي ء الذي يغرقُ في النور المتساوي من جميع الجهات، اذن فكما لا يستطيع الإنسان رؤية الأشياء في الظلام المطلق فهو غير قادرٍ على رؤية الأشياء في النور المطلق أيضاً، بل يجب أن يتظافرا معاً كي تتيسر رؤية الأشياء (فتأمل جيداً).

فالخالقُ الذي أناطَ هذه الأدوار المهمّة والحيوية لموجودٍ عاديٍّ بهذا المستوى جديرٌ بالعبودية والخضوع والسجود.

نختتم هذا الحديث بعبارةٍ لأحد المفسّرين، إذ يقول لمن غَفَلَ عن السجود للَّه تعالى

«أمّا ظلك فسجد لربك وأمّا أنت فلا تسجد له بئسما صنعت» «1».

__________________________________________________

(1) التفسير الكبير، ج 20، ص 43.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 243

15- آياتُهُ في عالم النباتات والثمار

تمهيد:

إنَّ النباتات هي أكثر الكائنات الحيّة الموجودة على الأرض، وتحتل المرتبة الاولى من حيث التنوع والكثرة، والعجائب والزينة، وكذلك من حيث الآثار المفيدة والثمينة أيضاً.

لهذا فقد استند القرآن الكريم في آياته التوحيدية مراراً على مسألة خلق النباتات، ومزاياها المختلفة، ودعا الإنسان إلى التفحُصِ في أسرار هذه الموجودات الرائعة في عالم الخَلق، الموجودات التي يُمكنُ أن تُقدِّمَ ورقةٌ واحدةٌ منها كتاباً عن معرفة اللَّه تعالى

بعد هذا التمهيد نتمعن خاشعين في الآيات الآتية ومواضيعها اللطيفة:

1- «أَوَلَمْ يَرَوْا إِلىَ الأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَريمٍ* انَّ فِى ذَلِكَ لَآيةً وَمَا كَانَ أَكْثَرَهُمْ مُّؤمِنْينَ». (الشعراء/ 7- 8)

2- «أَمَّنْ خَلَقَ السَّمواتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِّنَ السَّمَاءِ مَآءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَاءَ ءَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ». (النمل/ 60)

3- «خَلَقَ السَّمَواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وأَلْقى فى الأَرْضِ رَوَاسِىَ أَنْ تَمِيْدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيْهَا مِنْ كُلِّ دَآبَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَآءً

فَأَنْبَتْنَا فِيْهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيْمٍ* هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِى مَاذَا خَلَقَ الَّذِيْنَ مِنْ دُوْنِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِى ضَلالٍ مُّبِيْنٍ». (لقمان/ 10- 11)

4- «وَآيَةٌ لَّهُمُ الأَرْضُ المَيْتَةُ أَحيَينَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُوْنَ* وَجَعَلْنَا فِيْهَا جَنَّاتٍ مِّنْ نَّخيْلٍ وأَعْنابٍ وفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ* لِيأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيْهِم أَفَلا يَشْكُرُونَ* سُبْحَانَ الَّذِى خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا

نفحات القرآن، ج 2، ص: 244

يَعْلَمُونَ». (يس/ 33- 36)

5- «وَهُوَ الَّذِى أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَآءً فَأخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَى ءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُوْنَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ أُنْظُرُوا إِلىَ ثَمَرِهِ اذَا أَثمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِى ذَلِكُم لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤمِنُونَ». (الانعام/ 99)

6- «وَفِى الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيْلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَىَ بِمَآءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِى الْأُكُلِ انَّ فِى ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ». (الرعد/ 4)

7- «هُوَ الَّذِى أنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَّكُمْ مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجرٌ فِيْهِ تُسِيْمُونَ* يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيْلَ وَالأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ». (النحل/ 10- 11)

8- «وَهُوَ الَّذِى أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوْشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوْشَاتٍ وَالنَّخْلَ والزَّرْعَ مُخْتَلِفاً اكُلُهُ والزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذآ أَثْمَرَ وآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسرِفُوا إِنَّهُ لَايُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ». (الانعام/ 141)

9- «وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلقَينَا فِيهَا رَوَاسِىَ وأنْبَتْنَا فِيْهَا مِنْ كُلِّ شَى ءٍ مَّوْزُونٍ* وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِيْنَ». (الحجر/ 19- 20)

10- «إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الحَبِّ والنَّوَى ... ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنىَّ تُؤفَكُونَ». «1»

(الانعام/ 95)

شرح المفردات:

«النَبات»: يعني في الأصل كلَّ نوعٍ من الزرع الذي

يخرج من الأرض سواء كان له ساق كالشَجَر، أو بدون ساقٍ والذي يُسمِّيه العربُ ب «النَّجم»، إلّاأنّ هذا اللفظ غالباً ما يُطلق على

__________________________________________________

(1) هناك آيات كثيرة في القرآن الكريم تشير إلى هذا المعنى كالآيات التالية: النبأ، 15؛ طه، 53؛ عبس، 27؛ ق، 7؛ البقرة، 261؛ البقرة، 22؛ ابراهيم، 32؛ الانعام، 141؛ الاعراف، 57؛ النحل، 67.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 245

الزرع الذي ليس له ساق، وفي التعابير الأكثر شمولًا يُطلق «النبات» على كل موجودٍ نامٍ سواء كان نباتاً أم حيواناً أم إنساناً «1».

و «الشَجَرْ»: تعني النباتات ذات السيقان، ولهذا جاء في القرآن الكريم أزاء «النجم» الذي يعني النبات الذي لا ساق له: «والنَّجْمُ والشَّجرُ يَسجُدان». (الرحمن/ 6)

وورد في «مقاييس اللغة» أنّ «الشَّجَرَ» له معنيان في الأصل: هما الارتفاع والعلو، وتداخل أجزاء الشي ء مع بعضها، وحيث إنّ الأشجار ترتفع عن الأرض، كذلك فانَّ أغصانها تتداخل فيما بينها، لذلك اطلقَ عليها «شَجَرْ»، و «مشاجرة»: تعني النزاع والاختلاف والمحادثة لأنَّ حديث الجانبين يتداخل مع بعضه.

إلّا أنّ البعض يعتقد أنّ أصلَ هذه المادة يعني الشي ء الذي ينمو ويرتفع وتتفرع منه أوراقٌ وأغصان، وقد يُطلق على الامور المعنوية أيضاً كما في: «والشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فى الْقُرآن». (الاسراء/ 60)

(التي تمَّ تفسيرها بمعنى «شجرة الزقوم» أو «اليهود» أو «بني اميّه») «2».

وكما يُفهم من كتب اللغة المختلفة فإنّ «الزرع» تعني في الأصل نثر البذور والحبوب في الأرض، ومن هنا حيث سيتبعُ نثر البذور نمو النبات وحصاده، فيُطلقُ على كل واحد من هذه العمليات «زرعاً».

ويقول بعض اللغويين: إنَّ الزرع تعني الإنماء، وهذا في الحقيقة هو فعلُ اللَّه تعالى وإذا اطلقَ لفظ الزارع على العباد فهو بسبب توفيرهم لأسباب ومقدّمات ذلك، وقد يقال ل

«المزروع» زرعاً أيضاً.

وغالباً ما يُطلق لفظ «زرع» على الحنطةِ والشعير، إلّاأنّ مفهومه أكثر شمولًا، حيث يشملهما وغيرهما «3».

__________________________________________________

(1) «النبات» لها معنىً مصدري، واسم مصدري أيضاً.

(2) مفردات الراغب؛ مقاييس اللغة؛ مصباح اللغة؛ والتحقيق في كلمات القرآن الكريم.

(3) مفردات الراغب؛ لسان العرب؛ والتحقيق في كلمات القرآن الكريم؛ وصحاح اللغة.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 246

وأمّا ال «ثَمَرْ» فقد جاء في «مقاييس اللغة» أنّ هذا اللفظ يعني في الأصل كلَّ شي ءٍ يتولد من شي ءٍ آخر، وقال بعض اللغويين، أنّه يعني ما يحصل من الشجرة فقط.

وصرَّحَ قسمٌ آخر من ارباب اللغة، بان كل موجود يحصل ويتولد عن موجودٍ آخر مأكولًا كان أم غير مأكول، مرغوباً كان أم غير مرغوب، حلواً كان أم مُراً، يسمى «ثَمَراً».

لكن الظاهر أنّ الثمر كان له في الأصل مفهومٌ محدودٌ وهو الفاكهة الحاصلة من الشَجَر، لكنَّ هذا المفهوم اتَّسَعَ فيما بعد واطلقَ مجازاً على محصول ومنتوجِ أيّ شي ء، حتى أصبح يقالُ إنَّ ثمرةَ هذا المذهب وهذه التعاليم كانت كذا وكذا، وجاء في الرواية: «امُّك أَعْطَتكَ مِنْ ثَمَرةِ قَلبها»، إشارة إلى حليب الام أو محبتها، وفي الروايات أيضاً اطلقَ على الوَلَد بانه ثمرة الفؤاد.

جمع الآيات وتفسيرها

الورق الأخضر للأشجار:

أشار في الآية الاولى إلى المشركين أو الجاحدين، فقال: «أَوَلَمْ يَرَوا إلى الأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَريْمٍ».

ثمَّ صرح قائلًا: «إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيةً وَمَا كَانَ أكْثَرُهُمْ مُّؤمِنينَ».

أجَلْ ... فلو تَمَعَّنَ هؤلاء في هذه النباتات الملّونة، والأزهار، والثمار، والأشجار، والخضار، والسنابل، وأنواع الزروع الاخرى سَيَروْنَ آيات اللَّه فيها بكلِّ جلاء، فهؤلاء لا يريدون أنْ يؤمنوا وينظروا إلى صورة ذاته المقدَّسةِ ببصيرة القلوب، وإلّا فانَّ جمالَه لا يخفى على أحدٍ، نعم فهؤلاء ليست لديهم آذان للاستماع إلى آيات اللَّه

التشريعية ولا أبصار لمشاهدة آياته التكوينية.

وهنا ما المقصود من «زوج»؟ فالكثير من المفسِّرين فَسَّرَ ذلك بمعنى النوع والصنف، واعتبروهُ إشارة إلى تنوعِ وتشعب النباتات، حيث إنّ عددها غير محدودٍ ولا يمكن حصرهُ،

نفحات القرآن، ج 2، ص: 247

وأيّاً منها يُعتبر آيةً من آيات الباري عزوجل.

في حين احتملها البعضُ إشارة إلى «الزوجية» (أي الذكر والانثى الموجودة في عالم النباتات، وهذه الحقيقة اكتشفت لأول مرّة على نطاقٍ واسعٍ على يد عالم النبات السويدي المعروف «لينه» أواسط القرن الثامن عشر الميلادي، حيث إنّ النباتات- على الأغلب- تحمل وتثمر كاليحوانات عن طريق تلاقح الذكر والانثى في الوقت الذي وردت هذه الحقيقة في القرآن الكريم قبل قرون عديدة.

ومن هنا حيث لا تعارُضَ بين هذين المعنيين فيمكن أن تكون إشارة اليهما معاً.

إنَّ وصف «الزَوْج» ب «الكريم» علماً بأنَّ لفظ «كريم» يعني الموجود الثمين، إشارة إلى أهميّة أنواع النباتات وقيمتها الفائقة.

إنَّ تنوعَ النباتات كثيرٌ إلى الحد الذي يقول بعض العلماء: إنَّ «النخل» أكثر من ثلاثة آلاف نوعٍ، و «الكاكتي» أو «التين الهندي» ألف وسبعمائة نوع، و «ورد الثعلب» الف ومائتا نوع، ونَسبوا ل «الكَمَأْ» مائة الف نوع، ول «الطحالب» أربعة آلاف نوع، ول «التفاح» سبعة آلاف نوع، وذكروا ل «الحنطة» خمساً وثلاثين الف نوع! «1».

حقاً ... كم هو عجيب عالمُ النباتات الفسيح بكل هذا التنوع؟ وكم هو عظيمٌ خالقُه ومدبّرهُ!

وفي الآية الثانية ومن أجل إثبات «وحدانية المعبود» يدعو الناس إلى تَفحُصِ أسرار خلق السموات والأرض ثم نزول المطر، ثم يقول: «فَأنْبَتْنا بِهِ حَدائِق «2» ذاتَ بَهْجَةٍ»، وليس في إمكانكم أبداً أن تُنبتوا أشجارَ هذا البستان الجميلة: «مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنبِتُوا شَجَرَهَا»،

__________________________________________________

(1) عالم الزهور، ص 99 إلى 118.

(2) «الحدائق» جمع «حديقةٍ»

وتعني «البستان»، وهي تعني في الأصل قطعة الأرض التي تجمَّعَ فيها الماء، وقدفسَّرها الكثير من المفسرين بأنّها البُستان الذي ضُربَ حوله بسور وفيه ما يكفي من الماء.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 248

ومع هذا تقولون هناك إلهٌ مع اللَّه: «أ إلهٌ مَعَ اللَّه».

إلّا أنَّ هؤلاء أفراد يجهلون حيث يعدلون عن الخالق العظيم الذي أبدعَ كل هذه العجائب والغرائب ويجعلون الموجودات التي لا حول لها ولا قوةَ ندّاً للَّه: «بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُوْنَ».

ومن الممكن أن يكون التعبير ب «يعدلون» بمعنى عدولهم عن اللَّه الواحد المنفرد، أو اختلاق مثيلٍ ونظيرٍ له.

أجَلْ ... فعملُ الإنسان نثرُ البذور والرَّي وأمثال ذلك، واللَّه وحدهُ الذي خلقَ الروحَ في جنين هذه البذرة الصغيرة، واعطاها القدرة على أنْ تتحولَ إلى شجرةٍ عملاقةٍ مثمرةٍ مزدهرةٍ نظرةٍ حيث يَبعثُ منظرُها في البساتين الفَرَح والسرورَ في نفس الإنسان، ولو وضع الإنسان قدمَهُ وسط أحد هذه البساتين المزدهرة النظرة في أحدِ أيام الربيع، وفتح بصيرتَه إلى جانب بصرهِ الظاهري، ليرى كلَّ هذا التنوع والعجائب والمناظر الخلّابةِ والأزهار الملَّونَة والأوراق والثمار المختلفة، لاستنشقَ عطرَ التوحيد وارتوى من كأسِ العبوديةِ واصبح مسحوراً مفتوناً، بنحوٍ يجعلُهُ يترنَّمُ بلحنِ التوحيد ويعترف بهذه الحقيقة.

وهذا الشعر المنقول من اللغة الفارسية يقول:

هنالك واحدٌ لا أحد سواه وحده لا إله إلّاهو وهنا يثمر هذا الأمر:

كلُّ نباتٍ ينمو من الأرض يقول وحده لا شريك له وفي القسم الثالث من الآيات أعلاه وضمن تعرضه لخمسة أقسامٍ من براهين توحيد الخالق جلَّ وعلا وآيات الآفاق (خلقُ السموات بغيرِ عمدٍ ترونها، وخلق الجبال، وخلقُ الدّواب والحيوانات، وخلق المطر، وخلقُ النباتات)، خاطبَ المشركين قائلًا: «هَذَا خَلْقُ اللَّه فأَرُوْنى مَاذَا خَلَقَ الَّذِيْنَ مِنْ دُونِهِ».

وأضاف في ختام الآيةِ: «بَلِ الظّالِمُونَ

فِى ضَلالٍ مُبْينٍ».

نفحات القرآن، ج 2، ص: 249

فكيف يُمكنُ لمَن يملُك بصراً ويرى آثار قدرةِ وحكمةِ وعظمة الخالق في عَرضِ عالم الوجود، ثمَّ يخضعُ تعظيماً لغيره؟!

ونواجه في هذه الآيات مرّةً اخرى التعبير ب «كُلِّ زَوْجٍ كَريْمٍ» بخصوص النباتات، حيث يتحدث عن التنوع الضروري جدّاً للنباتات، وعن الزوجية في عالمها، ويُشعر سالكي طريق التوحيد بأهميّة هذا الموضوع.

لفظة «ظلم» لها معنى واسع حيث يشمل وضع اي شي ء في غير محلّه، وحيث كان المشركون يعتبرون تدبير الكون بيد الأصنام، أو يتصورونها واسطةً بين المخلوق والخالق ويسجدون لها، فقد ضلُّوا وارتكبوا ظلماً عظيماً، ولهذا جاءت هذه الكلمة في الآية أعلاه بمعنى الشرك، أو بمعنىً واسع حيث إنَّ الشركَ مصداقٌ واضح له.

لا يخفى أنّ عبارة «فأَروني»- في الواقع- جاءت على لسان النبي صلى الله عليه و آله، وبتعبيرٍ آخر:

انَّهُ مكلَّفٌ بانَّ يقول هذه الجُملة للمشركين، لانَّ الآراء للَّه لا يمكن أن يكون لها مفهوم.

ويقول بصراحةٍ في الجزء الرابع من هذه الآيات التي وردت في سورة يس: «وآيَةٌ لَّهُمُ الأَرضُ المَيْتَةُ أَحيَيْناها».

وفي الحقيقة أنَّ مسألة الحياة من اهم أدلَةِ التوحيد، سواء كانت في عالم النباتات، أم الحيوانات والبشر، أنّها المسألة الغنيةُ بالأسرار والمدهشةُ التي حيَّرت عقول كبار العلماء، ومع كل النجاحات التي حققها الإنسان في مختلف الحقول العلمية، لم يفلح أيُّ شخصٍ من حلِّ لُغز الحياة حتى الآن، ولا عِلْمَ لأي أحدٍ كيف وتحت تأثير أية عوامل تبدّلت الجمادات إلى كائناتٍ حَّيةٍ؟!

ثمَّ أشارَ خلال بيان مسألة احياء الأرض الميتة، إلى إنماء المحاصيل الغذائية (كالحنطة والشعير والذرة و ...)، وبساتين العنب والنخيل النظرة، وتكوين ينابيع الماء الصافي، وقال في الختام: «لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ ومَا عَمِلَتْهُ أَيْديهِمْ أَفَلا يَشكُرُونَ».

نفحات القرآن، ج 2، ص: 250

إنَّ عبارة

«ما عَمِلَتْهُ أَيْديهِم» إشارة لطيفةٌ إلى أنَّ هذه الثمار الطازجة، غذاءٌ كاملٌ مهيأٌ للأكل دون الحاجةِ إلى طبخهِ وإضافة المواد الاخرى إليه، فليس للإنسان تدخلٌ في أصل وجودها، ولا في اعدادها للأكل، فعملُ الإنسان لا يتعدى نثرُ البذور وسقي الأشجار فحسب «1».

على أيّةِ حالٍ، لم يكن الهدف من خلق كل هذه النِّعم المختلفة انهماك الإنسان بالأكل كالحيوانات، وأنْ يقضي عمره على هذه الحال، ثم يموت ويصبح تراباً، كلا، فالهدف ليس هذا، بل إنّ الهدف هو أن يرى ذلك ويعيش في ذاته الشعور بالشكر، ومن خلال «شُكر المنعم» يصل إلى معرفة واهب النِّعم حيث ينالُ اسمى المواهب وأرفع مراحل تكامل الإنسان.

والمسألة الجديرة بالاهتمام في الآيات أعلاه هي انّها تضع الزوجية في عالم النباتات إلى جانب الزوجية في عالم الإنسان فتقول: «سُبْحَانَ الَّذِى خَلَقَ الأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ انْفُسِهِمْ ومِمَّا لَايَعْلَمُونَ».

فهذا التعبير دليلٌ على أنَّ الزوجيةَ هنا تعني جنس الذكر والانثى ووجودها على نطاقٍ واسعٍ في عالم النباتات، وهذا من المعاجز العلمية للقرآن الكريم، لأنَّ هذا المعنى لم يكن آنذاك واضحاً لدى الإنسان بأنَّ هنالك وجودٌ لقوامِ الذكر والاجزاء الانثوية في عالم النباتات، وتنطلقُ الخلايا التي هي نُطَفُ الذكور لتستقر في الأجزاء الانثوية وتتَلاقَح معها وتنعقد نطفةُ النبات.

ويمكن أن تكون عبارة «ومِمَّا لا يَعلَموُن» إشارة إلى أنَّ مسألة الزوجية لها نطاق واسع، وما أكثر الموجودات التي تجهلون وجود الزوجية فيها، وسيزيل تطورُ العلم النقاب عنها (كما ثبتت هذه المسألة في الذّرات حيث تتركب من قسمين مختلفين يكمِّلُ أحدُهما الآخر

__________________________________________________

(1) وهذا في حالةِ كون «ما» في عبارة (وما عملتهُ) نافيةً (وهذا هو الظاهر)، إلّاأنّهم احتملوا أن تكون موصولةً، تلميحاً إلى الثمار التي تنتج عن طريق

التطعيم والتي للإنسان دَخَلٌ فيها، أو إلى المشتقات التي يأخذونها من الفاكهة كالعصير والخل التي تؤخذ من العنب والتمر، وممّا لا شك فيه أنَّ المعنى الأول أكثرُ تناسباً.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 251

كالزوجين: ف «الالكترونات» تحمل الشحنات السالبة، و «البروتونات» تحمل الشحنات الموجبة)، ومواضيع اخرى لم يتوصل إليها العلم البشري حتى الآن.

وفي الآية الخامسة حيث تبدأ بالتعريف باللَّه من خلال الآيات المختلفة، أشارت أولًا إلى نزول المطر من السماء، ثم قالت: «فَاخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَى ءٍ».

وربّما يكون التعبير ب «نَباتَ كُلِّ شْي ءٍ» إشارة إلى أنواع النباتات المختلفة، حيث تُسقى بماءٍ واحدٍ، وتنمو على أرضٍ واحدةٍ، ومع هذا فهي تختلف في الشكل والطعم والخواص وأحياناً تتعارض في ذلك، وهذا من عجائب خلقِ اللَّه.

أو أنَّ المقصودَ هو النباتات التي تحتاجها الطيور والبهائم البرية والبحرية وكذا الإنسان «1»، (ويمكن الجمع بين هذين المعنيين أيضاً).

ثم يتطرقُ إلى ذكِر مسألةٍ اخرى فيضيف: «فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً»، وبهذا يشير إلى مادة «الكلوروفيل» الخضراء التي هي من أهم وانفع اجزاء النبات، هذه الخُضرة التي تبعث الحيوية، واللطافة، والجمال، وتسلب القلوب والتي تخرج من التراب الغامق اللون والماء الرائق الشفاف.

إنَّ التعبير ب «خَضِراً» بالرغم من اطلاقه، إلّاأنَّه استناداً إلى الجملة التالية التي تقول:

«نُخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَراكِباً»، يشير بالأساس إلى سيقان وسنابل الحنطة والشعير والذرة وما شابه ذلك «2».

ثم يُلفتُ النظرَ إلى أشجار النخيل، فيقول: «ومِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنُوانٌ دانِيَةٌ».

«قنوان»: جمع «قِنْو» على وزن (حزب)، وتعني الفروع الرفيعة التي تخرج من الطلع بعد

__________________________________________________

(1) في هذه الحالة يكون مفهوم الجملة «فاخرجنا به نباتاً لكل شي ء».

(2) «مُتراكب» مأخوذة من مادة «ركوب» وتعني الصعود، وهي إشارة إلى الحبوب التي تتراكُب على بعضها على

هيئة سنبلةٍ ذات منظرٍ جميلٍ ومحبَّبٍ للغاية.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 252

تَفتُحِه، وهي التي تُكَوِّن عذوق التمر فيما بعد.

وقد يكون التعبير ب «دانيةٌ» إشارة إلى قرب هذه العذوق من بعضها أو انحنائها نحو الأسفل بسبب ثُقل ثمار الرطب.

ويقول بعض المفسرين بما أنَّ عذوق التمر تختلف أيضاً، فالبعض يكون في الجزء الأسفل من النخل ويَمكن استثماره بيُسر، والبعض الآخر بعيداً عن متناول اليد فتكون الاستفادة منه صعبةً بعض الشي ء، فقد أشار الباري تعالى إلى الصنف الأول باعتباره أكثر فائدة «1».

وأشار في سياق هذه الآية إلى بساتين العنب والزيتون والرُّمان: «وجَنّاتٍ مِّنْ أَعنابٍ والزَّيتُونَ والرُّمَّانَ»، التي تتشابه في نفس الوقت الذي تختلف فيه، وتختلف فيما بينهما في حين أنّها متشابهة «مُتَشَابَهاً وغَيْرَ مُتَشابِه».

يقول بعض المفسرين إنَّ هذه الثمار تتشابه في المنظر، إلّاأنّها تختلف في الطعم (كانواع العنب والرُّمان الحامض والحلو).

وقال البعض الآخر إنَّ أوراق أشجارها تتشابه أحياناً (كاوراق الزيتون والرّمان)، في حين أنَّ ثمارها مختلفة.

ولكن المناسب اعطاء أوسَع مفهومِ لتوضيح الآية وهو الإشارة إلى أنواع التشابه والتفاوت.

واللطيف أنّه يدعو الجميع للتمعُنِ في الثمار فيقول: «انْظُرُوا إِلىَ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ ويَنْعِهِ».

«لأنَّ في هذا، آياتٌ وبراهين عن عظمةِ وقدرة وحكمة الباري تعالى لأهل الإيمان» «إِنَّ فِى ذَلِكُم لَآياتٍ لِّقَوْمٍ يُؤمِنُونَ».

وليست آية واحدة بل فيها آيات جمة للَّه تعالى لأنَّ تكون الثمار كولادة الصغار في عالم الحيوانات، حيث تنتقل حبوب لقاح الذكور إلى الأقسام الانثوية عن طريق الرياح أو الحشرات، وبعد انجاز عملية التلقيح والاختلاط فيما بينهما يتم تشكيل البويضة والنطفة

__________________________________________________

(1) تفسير القرطبي، ج 4، ص 2484.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 253

أولًا، ثم تظهر في جوانبها خلايا الثمار والالياف واللب والفروع الجذّابة التي تغذيها.

وفي داخل هذه الثمار تكمُنُ هناك

أعظمُ المختبرات الخفيّة التي تعمل باستمرار في صناعة المركبات الحديثة بمزايا جديدة، وقد يَكون الثمر بلا طعمٍ في بداية الأمر، ثم حامضي الطعم تماماً، ثم يصبح حلواً، وفي كلِّ وقتٍ يحدث فيها انشطارٌ وتفاعلٌ جديد، كما تتغير ألوانها باستمرار وهذه من عجائب خلقِ اللَّه التي يدعو القرآن الكريم- لاسيّما في الآية الآنفة- الإنسان إلى التمعُنِ فيها.

وأشار في الآية السادسة من البحث في بادي ء الأمر إلى قطع الأرض المختلفة التي تملك قابليات متفاوتة لتربية أنواع الأشجار والنباتات وغيرها، إذ يقول: «وفى الأَرْضِ قِطَعٌ مُتجاوِراتٌ» مع أنَّ هذه القطع يلتصقُ بعضها بالبعض الآخر، فبعضها خصبٌ ومستعدٌ لأي شكلٍ من الزراعة، وبعضها مالحٌ لا تنبتُ فيه سنبلةٌ أبداً، وقد يناسبُ بعض هذه القطع زراعة الأشجار أو نوعٍ خاصٍ منها فقط، ويناسبُ البعض الآخر نوعاً خاصاً من الزراعة، وهذا عجيبٌ حيث تتفاوت الأراضي المترابطة بشكلٍ تستعد للقيام بواجباتٍ مختلفة.

وبعد ذِكر هذه المقدَّمة أشار إلى أنواع الأشجار والزراعات، فاضاف قائلًا: «وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعنَابٍ وَزَرْعٌ ونَخيلٌ صِنْوانٌ وغَيْرُ صِنْوانٍ». «أعناب»: جمع عِنَب وتعني الكَرْم و «نخيل» جمع «نخل» و «نخيلة» و تعني شجرة التمر، وذكرهما بصيغة الجمع يُحتملُ أن يكون إشارة إلى الأنواع المختلفة للعنب والتمر، لأنَّ لهاتين الفاكهتين مئات أو آلاف الأنواع المختلفة.

والتعبير ب «صِنْوانٌ وغَيْرُ صِنْوانٍ» بالالتفات إلى أنَّ «صنوان» جمع «صنو» «وتعني الفرع الذي يخرج من البدن الأصل للشجرة»، من الممكن أن يكون إشارة إلى قابلية الشجرة على تغذية الثمار المختلفة عن طريق التطعيم، لهذا تظهر على أغصان شجرةٍ واحدةٍ لها ساق واحد وجذر واحد وتتغذى من ماءٍ وأرضٍ واحدةٍ أنواعٌ مختلفةٌ من الثمار، وهذا من عجائب الخلقة.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 254

ومن الممكن أن يكون هذا التفاوت

إشارة إلى تفاوت الأغصان التي تَنمو على أصل واحدٍ، وتتفاوت من حيث الثمار الطبيعية.

ثم يُصرِّحُ بانَّ هذه الأشجار مع هذا الاختلاف فانّها تُسقى بماءٍ واحدٍ: «يُسْقَى بِماءٍ واحِدٍ»، وفي نفس الوقت فانّنا نُفضِّلُ بعضها على البعض الآخر من حيث الثمر «ونُفَضِّلُ بَعضَها عَلى بَعْضٍ فى الأُكُلِ».

ومن المسلَّم به أنَّ في هذا الأمر آيات وبراهين للمتفكرين: «إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآياتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ».

حقاً إنَّهُ مدهشٌ، فالماء واحدٌ، والترابُ واحدٌ أيضاً، أمّا الاختلاف بين الثمار فكثير بحيث إنَّ أحدها حلوٌ والآخرُ حامضٌ تماماً (ففي الكثير من المناطق تنمو أشجار الليمون الحامض إلى جانب أشجار النخيل) أو تنمو المحاصيل الزيتية والمحاصيل النشوية وغيرها في مزرعةٍ واحدةٍ، وتتفاوت تماماً، حتى أنَّ لهذه الفواكه والمحاصيل أنواعاً مختلفةً بالكامل.

ما هذا الجهاز العجيب المكنون في أغصان الأشجار وجذورها الذي لديه القدرة على صنع المواد الكيميائية مختلفة الخواص من خلال استغلال نوعٍ واحدٍ من المواد (نوعٌ واحد من الماء والتراب)؟! فلو لم يكن هنالك دليلٌ على علم وحكمةِ خالق الكون سوى هذه المسألة لكانت كافية لمعرفة هذا الخالق العظيم، وكما يقول أحد شعراء العرب «1»:

والأرضُ فيها عبرةٌ للمُعتَبر تُخبرُ عن صُنعِ مليكٍ مقتدر تُسقى بماءٍ واحدٍ أشجارُها وبقعةٌ واحدةٌ قرارها والشمسُ والهواء ليس يختلف واكُلُها مختلفُ لا يأتلف فما الذي أوجَبَ ذا التفاضلا إلّا حكيمٌ لَم يَرِدْهُ باطلا __________________________________________________

(1) تفسير روح المعاني، ج 13، ص 93.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 255

وفي الآية السابعة يتطرق إلى شرح أدلةِ التوحيد ومعرفة اللَّه بقرينة بدايتها ونهايتها، فيقول: «هُوَ الَّذِى أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَّكُمْ مِنهُ شُرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ».

فليس كلُ ماءِ صالحٌ لشرب الإنسان، ولاكلُّ ماءٍ صالحٌ لنمو النبات والشَجَر، إلّاأنّ هذا الماء السماوي

مفيدٌ للكل وأساسٌ لحياةِ كل شي ء.

«شَجَر»: كما قلنا له معنىً شامل في اللغة، حيث يشمل أنواع النباتات سواء كانت ذات سيقان أم لا، و (تُسيمون) من «اسامة» وهي من مادة «سَوْم» وتعني رعي الحيوانات «1»، وحيث إنّ الحيوانات تتناول كلًا من الأعشاب وأوراق الأشجار عند رعيها فالتعبير ب «شجر» يبدو مناسباً جدّاً لاشتماله على كليهما.

ثم يضيف: «يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ والزَّيتُونَ وَالنَّخِيْلَ وَالأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الَّثمَراتِ».

واللطيف أنَّ الآية أعلاه مع انَّها تتحدث عن كافة الِّثمار وجميع أنواع المحاصيل الزارعية بما فيها الحبوب، فهي تستند خاصة إلى ثلاثة ثمار هي: الزيتون، والتمر، والعنب.

وهذا يعود للأهمية الفائقة لهذه الثمار من حيث المواد الغذائية، وأنواع الفيتامينات والميزات الدوائية التي تمت معرفتها مع تطور العلوم الغذائية في هذا العصر «2».

لهذا يعود ويؤكّد في نهاية الآية بانَّ في هذه الامور برهاناً واضحاً عن حكمة وقدرة وعظمة اللَّه لُاولئك الذين يتفكرون: «إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَةً لِّقِوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ».

والذين لا يتفكرون في هذه الآيات الجليّة لا يستحقون أن تُطلق عليهم كلمة الإنسانية، كما يقول الشاعر نقلًا عن الفارسية:

عجبٌ لهذا الرسم على بابِ وجدار الوجود فكلما فعَل فكركَ كانَ رسماً على الحائط __________________________________________________

(1) وطبعاً أنَّ المعنى اللغوي ل «السَوْم» هو وضع العلامة، وبما أنَّ الحيوانات حين العلف تترك أثراً على الأرض اطلق عليه هذا الاصطلاح.

(2) طالعوا شرح هذا الكلام في التفسير الأمثل، ذيل الآيه 11 من سورة النمل.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 256

هل يتمكن أن يعطي فاكهةً ملونةً من الخشب؟ أم يقدرُ أن يستخرج من الشوك ورداً بمائةٍ لون؟ لقد تناثر الارجوان على عتبة المرج الخضراء عيوناً تبقى الابصارُ حيرى فيه! وفي الآية الثامنة نواجه تنوعاً آخر في عالم النباتات

والأشجار الذي يُطرح كأحِدِ ادلةِ التوحيد ومعرفة عظمة اللَّه، إذ يقول: «وهُوَ الَّذِى أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَعُروشَاتٍ وغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ».

«معروش»: من مادة (عَرْش) وتعني السرير المرتفع أو السقف، وفي ما يعنيه هذا المفهوم فى هذه الآية، هنالك خلاف بين المفسِّرين:

فقال بعضهم: إنّ «المعروشات» تعني النباتات التي تنساب على الأرض أو تتسلق على الأبنية أو على هيكل من حديد أو خشب يصنع لها، مثل الأعناب والخيار والبطيخ. و «غَيْرَ مَعْرُوْشات» ما قام على ساق مثل النخل وسائر الأشجار: وقال البعض الآخر: المعروشات ما ارتفعت أشجارها وأصل التعريش الرفع، عن ابن عباس، وقالوا أيضاً: المعروشات ما أثبته ورفعه الناس- واحيط بسور-، وغير المعروشات ما خرج في البراري والجبال من الثمار «1».

ولكن يظهر أنَّ التفسير الأول أكثر ملائمةً.

على أيّة حالٍ، فالعجب أنَّ بعض الأشجار كالسرو والصنوبر ترتفع في السماء برتابة ولا تستطيع الرياح العاتية والعواصف من التأثير على قامتها، في حين أنَّ البعض الآخر كأشجار الكروم لا تملك غصناً مستقيماً واحداً، وتهتز وتنحني باستمرار، وكلٌّ منها له عالمهُ الخاص.

فأشجار العنب بعناقيدها الثقيلة لو كانت لها قامة كاشجار الصنوبر لانكسرت ولم

__________________________________________________

(1) وردت هذه التفاسير الثلاثة في تفسير القرطبي، ج 4، ص 2534.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 257

تستمر يوماً واحداً، فضلًا عن ابتعادها عن متناول يد الإنسان، في حين أنَّ طفلًا صغيراً باستطاعته اقتطاف جميع الثمار في بساتين العنب.

ثم يضيف مستنداً إلى أربعة أنواعٍ من الثمار والزرع: «وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً اكُلُهُ والزَّيْتُوْنَ وَالرُّمَانَ مُتَشابهاً»، لابدّ من الانتباه إلى أنّ «جنات» جمع «جنّة» تُطلقُ على البستان، وعلى الأراضي التي يغطيها الزرع، و «اكُل» على وزن (دُهُل) من مادة «أَكْل» على وزن (مَكْر) وتُطلق على جميع المأكولات.

على أيّة حالٍ، فالأشجار والزروع

والنباتات لا تختلف كثيراً من ناحية الظاهر فقط، بل إنّ ثمارها ومحاصيلها تتفاوت للغاية أيضاً، من حيث اللون والطَعَم والشكل الظاهري، وكذلك من حيث ما فيها من مواد غذائية وخصائص متنوعة، اضافة إلى أنَّ منها المرغوب والمتوسط، وهذا بيان لقدرة الخالق جلَّ وعلا الذي أوجَدَ مثل هذا التنوع العظيم الواسع في عالم النباتات، وكلُّ نوعٍ يُسَبِّح بحمده وثنائه.

وفي نهاية الآية يُصدرُ أَوامره: «كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وآتُوا حَقَّه يَومَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَايُحِبُّ المُسرِفِيْنَ».

وعليه فانَّ الأمرَ ب «كُلوا» دليل على حليّتها الكاملة ولكن بشرطين: الايفاء بحقوق المحتاجين، وعدم الاسراف.

وبالرغم من أنَّ بعض المفسرين قالوا إنَّ المقصود ب «حقّ» هنا هو الزكاة، إلّاأنَّ أغلبَ المفسرين واستلهاماً من الروايات الواردة عن طريق أهل البيت عليهم السلام وأهل السُّنة، صرَّحوا بأنَّ المقصود بهذا الحق ليس الزكاة «1».

بناءً على ذلك لابدّ أن يُخصصَ أصحابُ المزارع والبساتين نصيباً للمحتاجين أثناء قطف الثمار، وحصاد المحاصيل كحكمٍ إلهيٍّ، وهذا النصيب ليس له حدٌ معينٌ في الشرع، بل يتعلق بهمّةِ المالكين. وعليه فإنّ ذيل الآية تتحدث عن حكمٍ أخلاقي وصدرها يشتمل على دورس توحيدية.

__________________________________________________

(1) يُراجع سنن البيهقي، ج 4، ص 132؛ ووسائل الشيعة، ج 6 كتاب الزكاة «أبواب زكاة الغلات»؛ وتفسير الميزان؛؛ و تفسير القرطبي فيما يخص الآية.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 258

ويشير في الآية التاسعة إلى موضوعٍ آخر من عجائب عالم النباتات والأشجار، فيقول بعد ذكر مسألة بسط الأرض وتكوّن الجبال: «وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَى ءٍ مَوْزُونٍ».

بالرغم من أنَّ «موزون» من مادة «وزن»، إلّاأنّها هنا إشارة إلى النظام الدقيق والمحدَّد، والتقديرات المتلائمة والمتناسقة التي تحكم جميع ذرات النباتات، إضافة إلى أنّ «وزن» كما أوردها الراغب في المفردات تعني في

الأصل معرفة قَدرِ الشي ء.

وقال بعض المفسِّرين أيضاً إنَّ المُرادَ من هذا التعبير هو أنَّ اللَّه خلقَ من كلِّ نباتٍ بقَدْر حاجة الإنسان «1».

كما قالوا إنَّ المراد من «موزون» هو وجوب تظافر كميات محدّدة من الماء والهواء والتراب وضوء الشمس كي تنمو النباتات.

واحتملَ بعض المفسرين أنّ التعبير ب «كلِّ شي ء» يشتمل على المعادن أيضاً، ولكن من خلال الفَهم بأنّ عبارة «أنبتنا» لا تتناسب كثيراً مع المعادن، فانَّ هذا التفسير يبدو بعيداً، وأنَّ الجمعَ بينَ التفسيرين ممكنٌ، وورد في بعض الروايات إشارة إلى التفسير الثاني أيضاً «2».

ويردفها الإشارة إلى توفير الوسائل المعاشية والحياتية للناس ولحيواناتهم ولاولئك الذين يرتزقون على مائدة الخالق الواسعة فيقول: «وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِيْنَ». «معايش»: جمع «معيشة» ولها معنىً واسعٌ جدّاً، فتشمل كلَّ شي ءٍ يعدّ من وسائل حياة الناس، وجملةُ «ومَنْ لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِيْنَ» إشارة إلى الحيوانات والكائنات الحيّة التي ليس بمقدور الإنسان أن يُطعمها، فوضع الباري تعالى الطعامَ المناسب لكلٍّ منها في اختيارها على أساس النظام الخاص الذي يسود العالم، ولو فتحنا أعيننا وتأملنا طريقة تغذية أنواع الحيوانات من النباتات، لوجدنا فيه عالَماً من أدلة معرفة اللَّه.

__________________________________________________

(1) ذكرالفخر الرازي هذا في تفسيره كاحتمالٍ أولٍ، والتفسير الثاني كثالت احتمال، (التفسير الكبير، ج 19، ص 171).

(2) تفسير نور الثقلين، ج 3، ص 6، أشار الإمام علي عليه السلام في هذه الرواية إلى المعادن المختلفة التي أوْجَدَها اللَّه في الجبال وتباعُ وتَشترى بالوزن.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 259

فبعضها يستفيد من الثمار، وبعضها من الحبوب، ومجموعةٌ من أوراق الأشجار، وطائفةٌ من السيقان، وآخر من القشور، والبعض من رحيق الأزهار، وقسمٌ آخر يأكل الجذرَ فقط.

وفي الآية العاشرة والاخيرة من البحث اشيرَ إلى ميزةٍ

اخرى لعالم النباتات، وهي مسألة انفلاق حبوب ونوى النباتات تحت الأرض.

وقد وُصِفَ الباري تعالى في هذه الآية كما يلي: «إِنَّ اللَّه فَالِقُ الْحَبِّ والنَّوى»، ويقول في نهاية الآية: «ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنّى تُؤفَكُونَ».

«فالق»: من مادة (فَلْق)، وكما يقول الراغب في المفردات فهي تعني انفطار الشي ء، وانفصال جزءٍ عن جزءٍ آخر «1»، و «الحبّ» تعني حبوب الطعام والغذاء أو كل أشكال الحبوب النباتية، و «النوى تعني نوى الثمار، وإذا حَصَرها البعض بمعنى نوى التمر فذلك بسبب تكاثره في ذلك المحيط.

على أيّةِ حالٍ، فانَّ أهم والطف مراحل حياة النباتات هي مرحلة انفلاق الحبِّ والنوى وفي الحقيقة فانَّ هذه الحالة تشبه حالة ولادة الطفل، والعجيب أنَّ هذا البرعم النباتي بما فيه من رقّةٍ وظرافةِ يشقُ هذا الجدار القوي الذي يحيط به، ويخرج إلى العالم الخارجي، فيولد هذا الكائن الحي الذي كان محبوساً إلى ما قبل لحظات في القشرة والنوى ولم تكن له علاقة بالعالم الخارجي، ويقيم علاقاته مع الخارج فوراً، فيتغذى من المواد الغذائية الموجودة في الأرض، ويرتوي من الماء والرطوبة التي تحيط به، ويبدأ بالحركة بسرعة في اتجاهين متعاكسين فمن جهةٍ ينفذ في الأرض على هيئةِ جذرٍ، ومن جهة اخرى يستقيم فوق الأرض على هيئةِ ساقٍ.

فالقوانين الدقيقة التي تسود هذه المرحلة من حياة النبات مدهشةٌ حقاً، وتعتبر دليلًا

__________________________________________________

(1) قد يستعمل هذا اللفظ بمعنى «الخلقة» كأنَّ حجبُ ظلمة العدم تتمزق وينكشف نور الوجود عنها (تفسير روح المعاني، ج 7، ص 196)، ولنفس هذا الشي ء يسمى بياض الصبح «فلق» على وزن «شَفَق» أيضاً.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 260

حياً على علم وقدرة الخالق جلَّ وعلا.

يستفاد من مجموع ما ورد في هذه الآيات القرآنية حول خلق النباتات وخصائصها المختلفة ابتداءً من

رشد النباتات إلى تنوعها ومسألة اللقاح والزوجية، وأنواع المواد الغذائية للإنسان والحيوانات، حتى كيفية نمو طلع التمر، والحبوب المرتبة بعضها فوق بعض كالحنطة والشعير، وتكاثر الثمار والزروع المتباينة تماماً الناتجة عن ماء واحد وأرض واحدة وسيادة القوانين الموزونة على جميع المراحل وانفلاق الحبوب والنوى أنّها جميعاً آيات لتلك الذات المقدّسة، ودليل حي على وحدانية الرب ونفي كل أشكال الشرك.

توضيحات

1- التركيب المذهل للنباتات

من الطبيعي أن ننسى عجائب وأسرار كل شي ء إذا بدا لنا واضحاً فيكون مصداقاً للآية الشريفة: «وكَأَيِّنْ مِّنْ آيَةٍ فِى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنهَا مُعْرِضُونَ». (يوسف/ 105)

فنمر عليها مرور الكرام في الوقت الذي يكمن فيها عالم من عجائب وقدرة وعظمة الخالق جلَّ وعلا.

لنبدأ من جذور النباتات، فالجذر بلطافته وَرِقِتِه له قدرةٌ مذهلة، فهو ينفذ في طبقات الصخور والأراضي الصلدة، وأحياناً يغور تحت قطعٍ صخريةٍ تزنُ عدة اطنان ويرفعها عن مكانها وتتحرك العمارات والأحواض التي أُنشِئَت من القوالب والطبقات المسلحة نتيجة نمو الأشجار حولها.

فعملُ الجذر هو امتصاص المواد الغذائية والرطوبة من كل ناحيةٍ، وكأنّها تعرف مراكز الرطوبة والمواد الغذائية من خلال شعورها العجيب فتسعى نحوها.

ولكلِّ جذرٍ جهازٌ عظيمٌ لهُ قدرةٌ خاصة في انتخاب نوع الغذاء وتغييره وتبديله، ثم

نفحات القرآن، ج 2، ص: 261

يدفعه إلى داخل الأغصان بعد التغييرات التي يُحدثها فيه، ومنها إلى الثمار، وتجري عليها تفاعلات كيميائية جديدة في كلِّ مرحلةٍ، كي يصنع من التراب فاكهةً طيبةً كالعسل، أو يصنَع دواءً شافياً وصحياً.

ومن أهم واجبات الجذر امتصاص- النتروجين المذاب- الضروري لبناء النبات الذي لا تتمكن بقية أجزاء النبات من جذبه.

وبناء الأوراق أكثر عجباً منه، فلو وضعنا ورقةً أمام أشعة الشمس ستلفت نظرنا الفروعُ الدقيقة جدّاً الممتدة فيها والتي يكون واجبها ايصال الماء والغذاء

إلى كافة خلايا الورقة.

وفي الواقع أنَّ كلَّ ورقةٍ تعتبر بحد ذاتها مدينةً كاملةً، وهذه الفروع هي الأنابيب المنّظمة لهذه المدينة ابتداءً من الانبوب الرئيسي، وحتى أصغر التفرعات.

والورقة مع رقتها لها سبع طبقات، وكلُّ طبقةٍ لها بناءٌ وبرنامجٌ خاص يَبعث على الدهشة، والغلاف الذي يغطي الورقة كجلد الإنسان ذو مساماتٍ دقيقة جدّاً، وكل من هذه المسامات لها خلايا للصيانة تقوم بتنظيم انفتاح وانغلاق المسامات.

وتتنفس الورقة من خلال هذه المسامات، فتستنشق الهواء وتفصل عنه غاز ثاني اوكسيد الكاربون، لتصنع به «الكلوروفيل» النباتي، وفي المقابل تطرح الاوكسجين وكميةً من الرطوبة لتلطيف وتطهير الجو كموهبتين عظيمتين لدنيا الإنسانية.

والأرقام التي يقدمها العلماء هنا تبعث على الحيرةِ إذ يقولون: من أجل أن يتمكنَ النبات من صناعة رطل واحد من السُكَّر يجب أن تستنشقَ الأوراقُ ما يعادل ثلاثمائة الف لتر من الهواء وتحلّله.

وبناء الأزهار ومن ثمَّ الثمار أعجبُ من ذلك أيضاً، فهناك الأقسام الذكرية والانثوية، وتفاعل الذّرات الذكرية الدقيقة جدّاً مع الأجزاء الانثوية، ثم تكوين البويضة في رحم النبات بعد هذا الزواج الصامت، وكيفية نموه، أنّه عالمٌ عجيبٌ يسلب معه روحَ وعقلَ الإنسان، ويجعله غارقاً في محيطٍ من العجائب.

إنَّ تفصيل بناء هيكل النباتات والأزهار والثمار لا يفي بالغرض المطلوب في هذا

نفحات القرآن، ج 2، ص: 262

البحث المختصر، فقد تمَّ تأليف العديد من الكتب من قبل العلماء حول هذا الموضوع، وظهرَ علمٌ واسعٌ بإسم (علم النبات)، فمن الأولى أن نكتفي هنا بكلامٍ لأحد خبراء الزراعة ونغلقَ هذا الملّف الضخم على عجل، يقول عالم النبات «تشرالدت»: «إنَّ الاله يظهرُ من خلالِ القوانين الثابتة والرمزية التي يدير بها عالم النبات إنّه يظهر ويتجلّى من خلال هذه الطرق:

1- النظام والترتيب: و يشمل التكاثر والانقسامات الخلوية وبناء

الأجزاء المختلفة من النبات حيث يتم بشكل منظم ومرتب.

2- التعقيد: فلا تقاسُ أيُّ ماكنةٍ من صنعِ الإنسان مع الترتيب المعقد والمذهل لنباتٍ عاديٍّ.

3- الجمال: إنَّ جمالَ الساق، والورق والزهر أمرٌ الهيٌّ، إذ لا يقدرُ أيُّ نحاتٍ ماهرٍ ورسامٍ مجرِّبٍ من تقديم تمثالٍ أو لوحةٍ بهذا الجمال.

4- الوراثة: فكلُّ نباتٍ يولِّدُ مثلِه وهذا هو انتاج المثل، وهو يجري وفقاً لارادةٍ وتخطيطٍ، فبأي مكان زرعوا وكيفما زرعوا فانَّ «الحنطة تنبتُ من الحنطة والشعير من الشعير».

ثم يضيف: باعتقادي، أنّ هذه المظاهر دليلٌ على وجود الخالقِ ذي الحكمة البالغةِ والقدرة اللامتناهية» «1».

يقول «تايلر» استاذُ علم البيئة السابق في جامعة مانشستر: «تأملوا النباتات والحشائش التي نَبتتْ على جانبي الطريق، فهل تستطيع الآلات الحديثة التي صنعها البشر حتى الآن أن تضاهي صنع هذا النبات الطبيعي؟!

فهذه الحشائش الطبيعية بكل معنى الكلمة مدهشة ومذهلة حيث تنمو باستمرار وتقوم يومياً بآلاف الأفعال والتفاعلات الفيزيائية والكيميائية، وكلُ ذلك يجري بإشراف المادة البروتوبلازمية التي تكوّنت فيها كل حياة الطبيعة، فهذه الآلة الحيّةُ العجيبة من صُنعِ أيِّ قدرة؟!».

__________________________________________________

(1) عالم الأزهار (اقتباسِ وتلخيص).

نفحات القرآن، ج 2، ص: 263

2- فوائد وبركات النباتات

إنَّ النباتات تُمثِّلُ الركن الأساس للحياة على الكرة الأرضية، وكافةُ الكائنات الحيَّةِ الاخرى بحاجة إلى النباتات، ففوائد النباتات كثيرة ووفيرة للغاية حيث يمكن الإشارةإلى اثنتي عشرة فائدة متسلسلة:

1- أفضل مادة غذائية: يتمّ تحضير افضل اطعمتنا نحن البشر من النباتات والحبوب والفاكهة، فطاقتنا وقدرتنا وسلامتنا تُؤَمَّنُ عن طريق الغذاء النباتي، والكثير من الطيور والدَّواب واللبائن والأسماك في البحر تستفيد من النباتات، لهذا فكلُّ بلدٍ يتمكن من تأمين منتجاته الغذائية عن طريق النباتات فانه يبلغ الاكتفاء الذاتي في الواقع.

2- التهوية: نحن نعلمُ أنَّ الإنسان واغلب الموجودات الحيّة تستخدم اوكسجين الهواء بنحوٍ

دائمٍ وتقوم بإحراقه، ولولا وجود مصدرٍ يعوِّضُ ذلك فسيُستهلك هذا الاوكسجين الموجود في الجو والأرض خلال مدة قصيرة، ويَهلك هذا الصنف من الموجودات أثر الاختناق، إلّاأنّ الإله الحكيم اناطَ مسؤولية تعويض هذه الخسارة بالنباتات، فهي تتنفس على العكس من الإنسان، إذ تأخذ غاز ثاني اوكسيد الكاربون وتُحللَّه وتطرح غاز الاوكسجين، لهذا فانَّ هواء البساتين والمزارع منعش ومُنَشِّطٌ، كما يوصون لنفس هذا السبب بأنْ تقامَ في كلِّ مدينةٍ متنزهاتٍ مُشَجَّرةٍ، وتخصَصُ لكلِّ شخصٍ مساحةٌ من هذه المتنزهات، ويطلقون على هذه المتنزهات «رئةُ المدينة».

3- الملابس: إنّ الجانب الأعظم من ملابسنا يتمّ تصنيعه من ألياف بعض النباتات، وفي الواقع فإنّ المصدر الذي لا ينفد لملابس الإنسان في الدرجة الاولى هو النبات.

4- البيت وأثاثه: لو ألقينا نظرة على ما حولنا في البيت لوجدنا أنّ أغلب الأبواب والشبابيك واللوازم الاخرى هي من أخشاب الأشجار، بنحوٍ لو أردنا الغاءَها من حياتنا فستصبح الحياة صعبةً بالنسبة لنا، وفي الكثير من المناطق يصنعون بيوتهم من الخشب بشكلٍ كامل، ولهذه البيوت مزايا كثيرة، وأحد اللوازم المهمّة للحياة المعاصرة هو النايلون، ونحن نعلمُ إن مادته الاصلية تُستخرج من عصير شجر (المطاط).

نفحات القرآن، ج 2، ص: 264

5- الأعشاب الطبية: كانت أغلبُ الأدوية في السابق تُستخلصُ من النباتات، واليوم فانَّ القسم الكبير منها يستخرج من النباتات أيضاً، ونظراً للآثار السلبية للأدوية الكيميائية فقد بدأت الآن حملةٌ للعودة إلى الأدوية النباتية، وهنالك صيدليّات جميع أدويتها من النباتات.

6- السيطرة على الكثبان الرملية: إنَّ أحد الأخطار الجدّية التي تهدد المدن لا سيما القريبة من الصحارى الرملية هي الكثبان الرملية حيث تدفن تحتها أحياناً قريةً كاملة، وأفضل سبيلٍ لتثبيت هذه الرمال هو استخدام النباتات المختلفة التي توقف حركتها وتقدُّمَها.

7- تحضير الورق:

نحن نعلم أنَّ اختراع الورق كان له نصيب مهم للغاية في تطور الحضارة والعلم البشري، والنباتات هي المصدر الأساس لصناعة الورق.

8- معادلة الحرارة والبرودة: إنَّ النباتات وبسبب الرطوبة المناسبة والمعتدلة التي تلقيها في الفضاء تقوم بالحدِّ من شدّة البرد، وكذلك الحدِّ من شدّة الحرارة، ولهذا فانَّ الجو في المناطق كثيفة الأشجار يكون معتدلًا دائماً.

9- وسائط النقل: إنَّ الكثير من البواخر والقوارب كانت تصنع سابقاً وتصنع حالياً من الخشب، وهي تعتبر من أفضل وسائط النقل التي يستخدمها الإنسان سابقاً وفي الوقت الحاضر.

10- الجمال والطراوة: لا يخفى هذا الأثر اللطيف للأشجار والنباتات والزهور على أحد حيث تبهرُ روحَ الإنسان بجمالها المدهش، وتُريحُ القلبَ وتزرع الطمأنينة في نفس الإنسان لمواجهة الضغوط الشديدة للحياة، لهذا يقومون بتزيين المستشفيات بأنواع النباتات والأشجار من أجل تحسين أحوال وأوضاع المرضى ويلجأ الإنسان باستمرار إلى أحضان الطبيعةِ في وسط الأشجار والبساتين ومزارع الحنطة من أجل ازالة المتاعب وتجديد النشاط.

11- المصدر المهم للطاقة: إنَّ الخشبَ والورق وجذور النباتات كانت ولا زالت أحدى

نفحات القرآن، ج 2، ص: 265

المصادر المهمّة للطاقة وتأمين الحرارة، وحتى الفحم الحجري الذي هو أحد مصادر الطاقة المهمّة فهو من منتوجات الأشجار والنباتات أيضاً، والحرارة التي تحصل من الخشب وأوراق الأشجار ملائمة، وتلويثها للبيئة ضئيلٌ جدّاً، وحتى الرماد المتبقي منها يصلحُ كسمادٍ للأشجار يستفادُ منه مجدداً.

12- أصناف العطور والمواد الكيميائية: نحنُ نعلمُ أنَّ أفضلَ العطور الملطفة لروح الإنسان كانت ولا زالت تُستخلص من رحيق الأزهار، والأشجار والنباتات ذات الورق والخشب المعطَّر ذا الرائحة الطيبة، ليست بالقليلة.

ناهيك عن كثيرٍ من الواد الكيميائية المستخلصة من النباتات التي تستخدم في مختلف الصناعات.

عظيمٌ ذلك الأله الذي أودع كلَّ هذه الآثار والفوائد والبركات في هذا المخلوق،

وجعلَهُ آيةً عظيمة من آيات علمه وقدرته.

إنَّ التعابير الشاملة التي تَلَوْناها في الآيات المذكورة، يمكن أن تجمع كلَّ هذه الفوائد في عبارة «معايش» جمع «معيشة» وتعني وسيلة الحياة.

3- الأنواع غير المحدودة للنباتات

كما أشرنا سابقاً فانَّ أنواع النباتات كثيرةٌ بالقدر الذي لا يمكن حصرُها، وقد تمّ حتى الآن احصاء ثلاثة آلاف نوع من النخيل، والف وسبعمائة نوع من التين الهندي، والف ومائتي نوع من ورد الثعلب.

يذكر مؤلف كتاب «عالم الأزهار» (فرديناندلين) أنَّ عددَ النباتات ذات الحبّ المغطّى يبلغ مائة وخمسين الف نوع وقد تم بيان صفات أكثر من ثمانية عشر الف نوع من النباتات في بعض كتب علم النباتات «1».

__________________________________________________

(1) تاريخ العلوم، ص 352.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 266

وقد تم بحثُ الف نوع من الكمأة من التي تمّ احصاؤها، وأكثر من أربعين الف نوعٍ من الطحالب، وسبعة آلاف نوع من التفاح، وخمسة وثلاثين الف صنف من الحنطة «1».

ومن بين النباتات، هنالك نباتات لا تُرى بالعين المجرّدة، وهنالك نباتات يصل طولها إلى خمسين متراً، وبعضها ينمو في وسط الصخور، وبعضها يعوم وسط الماء، وجذور بعضها يتفرع تحت الماء وأزهاره فوق سطح الماء، ولكلٍّ منها منظَرهُ البديع واللطيف في عالمه حيث يصدح بلحنِ التوحيد.

4- عجائبُ عالم النباتات

لو تركنا كلَّ ما قيل بخصوص النباتات بشكل عام، سنلاحظ أنّ هناك عجائب جَّمةً في عالم النباتات، حيثُ صار بعضها طي النسيان لاعتيادنا عليها.

فأوراق وسيقان النباتات الضخمة ترفع يومياً مليارات الأطنان من الماء من الأرض خلافاً لقانون الجاذبية، ثم تنثُره بخاراً في الفضاء المحيط بها، أيُّ قانون يسمحُ للنباتات أن تستعرض قوتَّها هكذا خلافاً لقانون الجاذبية التي تجذب كلَّ شي ءٍ نحو الأسفل- لا سيما الماء؟- هنالك الكثير من النباتات كورد عباد الشمس تدور مع حركة الشمس فتتحرك أزهارها الكبيرة نحو الشرق في أول الصباح ونحو الغرب أثناء الغروب.

والنباتات آكلة اللحوم من أكثر ظواهر عالم النباتات إثارةً.

وقد اجرى البروفسور «ليون برتن» مدير «متحف التاريخ الوطني

الطبيعي الفرنسي» تحقيقاتٍ بخصوص هذه النباتات آكلةِ اللحوم حيث يوجد منها عشرة أنواعٍ فقط في فرنسا، وأشهرها النباتات الآتية:

أ) «آلدروفوند»: ويكثر في ولاية «جيرفوند» الواقعة غرب فرنسا على سواحل المحيط

__________________________________________________

(1) معرفة اللَّه، ص 291 و 292.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 267

الأطلسي، فهذا النبات ذو ورقةٍ تتكون من قطعتين خاصتين متقابلتين كصفحتي كتابٍ مفتوحٍ، تتصلان من الأسفل بواسطة مفصلٍ خاصٍ، وتغطي سطح الأوراق طبقةٌ حساسةٌ.

وعندما تقترب ذبابةٌ منه وتمسُ أرجلُها أو جسمُها هذه الطبقة، تنطبق الصفحتان المذكورتان بسرعة، فيقع الحيوان في وسط ذلك السجن، وفي النهاية يُهضمُ تدريجياً ويصبح جزءً من جسم النبات أثر افراز مادة لاصقة خاصة حيث تفرز من الورق.

ب) «دروزرا»: وهذا النبات لهُ أوراقٌ حمراء اللون تشاهد عليها نتوءات رفيعة تشبه الشَعَر، وحينما تضلّ الذبابةُ طريقها، تقف على أوراق هذا النبات ظنّاً منها بأنّها قد عثرت على المكان الآمن الخالي، وفجأةً تنطبق المخالب من ناحية رأسها، فتجرها مخفورةً إلى داخل الورقة فتهضمُ ويمتصها النبات وسط الافرازات اللزجة للورقة.

ج) «نيانتس»: وهو أكثر النباتات الآكلةِ للحوم عجباً، حيث يُوجد في نهاية الفرع الدقيق ما يشبه الوعاء الصغير، تكون فوهتُه نحو الأعلى وله بابٌ خاصٌ مفتوحٌ خلال الأوضاع العادية.

ويُعتبر هذا الوعاء فخاً خطيراً للحشرات الغافلة والهائمة في الجو، فهو يحتوي باستمرار على العسل اللَّزج الحلو حيث يدعو الحشرات «عابدة البطن» نحوه، وكذلك فانَّ جمال وشفافية لون الوعاء ذو جذبٍ خاصٍ للحشرات «ذات الذوق الجيد».

فإذا وقعت حشرةٌ ما أسيرةً لهواها ودخلت الوعاء فانَّ فوهته ستنغلق على الفور وستبتلى بسجنٍ لا خلاص منه أبداً.

على أيةِ حالٍ، هذا الوعاء يعتبر كالمعدةِ بالنسبة لهذا النبات، والافراز الداخلي كافرازاتها، ويجعل الحشرةَ قابلةً للامتصاص.

يقول العلماء: إنَّ قيام هذه النباتات باصطياد الحشرات

يعود لعدم قدرة جذورها لامتصاص (النتروجين)، لهذا فهي تعوّضُ هذا النقص عن هذا الطريق.

ويأملُ العلماء بأنْ يأتي اليوم الذي يستطيعون فيه تربية كميةٍ كبيرة من هذه النباتات في حدائق البيوت أو إلى جانب الأحواض، ويقضون بهذه الطريقة الصحية والطبيعية على الذباب والحشرات الضارة الموجودة في بيئة الإنسان.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 268

وورد في مذكرات السِّيّاح والرَّحّالة قصصٌ عجيبةٌ حول النباتات التي تأكل البشر، فيقول بعض العلماء من الممكن أن تكون هذه النباتات من النباتات آكلة الحشرات إلّاأنّها أكبر حجماً لنموها في أرضٍ غنيةٍ، وتستطيع أن تقتنصَ احياءً أكبر في بطن فروعها واوراقها وتمتصها تدريجياً (ولكن لا يمكن تأكيد وقبول ذلك بسهولة) «1».

ومن أعجب وألطف جوانب وجود النباتات هو انتاج الثمار.

وواحد من مئات الامور الظريفة فيها وجود سائلٍ حلو ولذيذٍ في الكثير منها مخزون في أوعيةٍ صغيرة خاصةٍ مربوطةٍ بإحكامٍ، حيث يبدو أفضل طرق الربط في عصرنا الحاضر، بدائيةً جدّاً أزاءها.

افتحوا برتقالةً واحدة، ستجدون كأنَّ شقاً منها يتكون من مئات القطع الزجاجية الصغيرة الظريفة التي تفيضُ بسائلٍ لذيذٍ ومعطَّر، الزجاجات التي تجمّعت معاً دون أيِّ فاصلةٍ (ولو كان هنالك فاصلةٌ وهواء فيما بينها لفسدت بسرعة).

لكن هذه الزجاجات لا تتكسر أبداً، وتتحمل صعوبات الحمل والنقل، واللطيف هو إمكانية أكلها مع محتوياتها.

وكلُّ مجموعةٍ من هذه الزجاجات الصغيرة والظريفة مغلفةٌ بقشرةٍ سميكة وهي بمثابة الغلاف، وتظهر على هيئة شقٍّ (وهذا الوعاء قابلٌ للاكلِ مع محتوياته أيضاً، بل هو مفيدٌ للجهاز الهضمي).

وهذه الأغلفة الصغيرة تجمعّت بدونِ اقلِّ فاصلةٍ مع تفريغٍ كاملٍ من الهواء، والتَوتْ وسط عدّة لفافاتٍ من أجل السلامة والأمان، وفي النهاية أصبحت معدة على هيئةِ حملٍ صالحٍ جاهز للشحن لمسافات نائية.

ويُلاحظ هذا الأمر على نحوٍ أكثر طرافةً داخل

ثمار الرمان والعنب والتين أيضاً.

تأملوا جيداً لو أنَّ عصارة أيٍّ من هذه الثمار وُضعت في الهواء الطلق ستتغير بعد مرور ساعة واحدة، وقد تتعفن خلال عدّة ساعات، إلّاأنّ تغليفها دقيقٌ ومحبوكٌ بنحوٍ لا يسمح

__________________________________________________

(1) نظرةٌ على الطبيعةِ وأسرارها، تأليف البروفسور ليون بر تن، ص 131- 134 (مع الاختصار والاقتباس).

نفحات القرآن، ج 2، ص: 269

بنفوذ الهواء إلى داخلها أبداً، ولهذا فهي تبقى سالمةً لعدة شهور دون أقلّ تغييرٍ في طعمها.

وهذا يتعلق بمسألة التغليف العادية فقط، وأمّا المركبات الكيميائية لكلِّ فاكهةٍ وخواصها الغذائية والطبية وأنواع الفيتامينات وموادها الغذائية فهي بحد ذاتها ذات قصةٍ مفصلةٍ حيث يختص ببحثها المتخصصون بعلم الغذاء، وقد تم تأليف كتبٍ كثيرة في هذا المجال، ولو أردنا أنْ نطرقَ كلَّ هذه المسائل فسنخرج عن إطار كتابنا التفسيري، فضلًا عن أنّ «وزن كتاب كهذا سيبلغ الأطنان».

5- أسرار خلق النباتات في توحيد المفضل

ونقرأ في حديث توحيد المفضل عن الإمام الصادق عليه السلام حيث قال:

«فكّر يا مفضل في هذا النبات وما فيه من ضروب المآرب، فالثمار للغذاء، والأتبان للعلف، والحطب للوقود، والخشب لكل شي ء من أنواع النجارة وغيرها، واللحاء والورق والاصول والعروق والصموغ لضروب من المنافع، أرأيت لو كنّا نجد الثمار التي نتغذى بها مجموعة على وجه الأرض ولم تكن تنبت على هذه الأغصان الحاملة لها كم كان يدخل علينا من الخلل في معاشنا، وإن كان الغذاء موجوداً فإنّ المنافع بالخشب والحطب والأتبان وسائر ما عددناه كثيرة، عظيم قدرها جليل موقعها هذا مع ما في النبات من التلذذ بحسن منظره ونضارته التي لا يعد لها شي ء من مناظر العالم وملاهيه.

فكّر يا مفضل في هذا الريع الذي جعل في الزرع فصارت الحبة الواحدة تخلف مائة حبة وأكثر وأقل وكان يجوز

أن يكون الحبة تأتي بمثلها فلم صارت تريع هذا الريع إلّا ليكون في الغلّة متسع لما يرد في الأرض من البذر وما يتقوت الزراع إلى إدراك زرعها المستقبل ... تأمّل نبات هذه الحبوب من العدس والماش والباقلاء وما أشبه ذلك فانّها تخرج في أوعية مثل الخرائط لتصونها وتحجبها من الآفات إلى أن تشدّ وتستحكم كما قد تكون المشيمة على الجنين لهذا المعنى بعينه، فأمّا البُرّ وما أشبهه فانّه يخرج مدرّجاً في

نفحات القرآن، ج 2، ص: 270

قشور صلاب على رؤوسها مثال الأسنة من السنبل ليمنع الطير منه ليتوفّر على الزراع ...

تأمل الحكمة في خلق الشجر وأصناف النبات فانّها لما كانت تحتاج إلى الغذاء الدائم كحاجة الحيوان ولم يكن لها أفواه كأفواه الحيوان ولا حركة تنبعث بها لتناول الغذاء جعلت اصولها مركوزة في الأرض لتنزع منه الغذاء فتؤديه إلى الاغصان وما عليها من الورق والثمر فصارت الأرض كالأم المربية لها وصارت اصولها التي هي كالأفواه ملتقمة للأرض لتنزع منها الغذاء كما يرضع أصناف الحيوان امهاتها.

تأمل يا مفضل خلق الورق فانك ترى في الورقة شبه العروق مبثوثة فيها أجمع، فمنها غلاظ ممتدة في طولها وعرضها، ومنها دقاق تتخلل الغلاظ منسوجة نسجاً دقيقاً معجماً لو كان ممّا يصنع بالأيدي كصنعة البشر لما فرغ من ورق شجرة واحدة في عالم كامل ولاحتيج إلى آلات وحركة وعلاج وكلام فصار يأتي منه في أيام قلائل من الربيع ما يملأ الجبال والسهل وبقاع الأرض كلها بلا حركة ولا كلام إلّابالإرادة النافذة في كل شي ء والأمر المطاع».

ثم أشار الإمام عليه السلام في سياق هذا الحديث إلى عجائب الثمار والنّوى وموت وحياة النباتات في كل عام، وتلقيح وحمل الأجزاء الانثوية عن طريق الالتحام مع

الأجزاء الذكورية، وكذلك أدوية العلاج التي تستخلص من أصناف النباتات، والحبوب والنباتات التي يُعتبر كلٌ منها غذاء لأحدِ الحيوانات، وقدَّمَ شرحاً لطيفاً حول كلٍّ منها، حيث إنّ ذكرها جميعاً لن يكون ممكناً، وبمقدور الراغبين مراجعة الحديث أعلاه «1».

نضطرُ هنا إلى طي هذا البحث الطويل ونختمه ببعض الابيات من الشعر التوحيدي الأصيل، فلو اطلقَ عنانُ العلمِ فيجبُ تأليفُ كتب عديدة، في هذا المجال يقول الشاعر نقلًا عن الفارسية:

إنَّ جميع خلقِ اللَّهِ انذارٌ للقلب ليس له قلبٌ من لا يُقرُّ باللَّه فالجبال والبحار والأشجار كلُّها تسبِّحُ ولا يفهمُ كلُّ مستمعٍ هذه الأسرار! __________________________________________________

(1) بحارالأنوار، ج 3، ص 129- 136 «مع الاختصار».

نفحات القرآن، ج 2، ص: 271

والعقُل متحيرٌ من عنقود العنب الذهبي والذهنُ يَعجزُ عن حقيقة ياقوتة الرُّمان وتتدلى عناقيد الرَّطب من النخل والنخل من صنع قضاء وقدر ماهرٍ ولكي لا يصبح ظلاماً ظلُّ الأشجار الكثيف فقد وضع تحت كل ورقةٍ مصباحاً من نور الرّمان وهبط الندى على الزهرة عند حلول السحر يشبه عرق المحبوب المعطَّر! فافتح بصرك وانظر خلقَ النارنج يا مَن لا تصدِّق أنَّ «في الشجر الاخضر نار» مقدرٌ منزَّهٌ الاله الذي سخرَّ الشمس والقمرَ بتقديرٍ وكذلك الليل والنهار «1» __________________________________________________

(1) هذه الابيات مترجمة من «كليات سعدي»، فصل القصائد، ص 443.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 273

16- آياتُه في خلق الأرزاق العامة

تمهيد:

إنَّ لكلِّ كائنٍ حيٍّ احتياجاتٍ من أجل استمرار حياته، أو بتعبيرٍ آخر إنَّ النشاطات الحياتية تتطلب مواداً تولدُ الطاقةَ يجب أن تصل إلى الكائن الحيِّ دائماً، ويُطلق عليها بالاصطلاح (التلافي)، وتعويض ما يتحلل.

ويجب أن تكون هذه المواد ملائمة تماماً لذلك المخلوق من جميع الجوانب كي يتمكن من الاستفادة منها بُيسر.

إنَّ نظامَ الرزق في عالم الخَلق، وكيفية

إعدادهِ، ثم كيفية وضعهِ في متناول كلِّ موجود، وكذلك الاستفادة منها، نظامٌ جميل ودقيقٌ للغاية، وملي ءٌ بالأسرار أحياناً، حيث يختفي فيه جمع من الآيات المهمّة لتوحيد اللَّه وعلمه وقدرته، لهذا استند عليه القرآن الكريم مراراً في مختلف الآيات.

بعد هذا التمهيد نعود إلى القرآن الكريم ونتأمل خاشعين في الآيات الآتية:

1- «يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيرُ اللَّهِ يَرزُقُكُمْ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَآإِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤفَكُونَ». (فاطر/ 3)

2- «اللَّهُ الَّذِى خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحِييْكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَّنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِّنْ شَى ءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالىَ عَمَّا يُشْرِكُونَ». (الروم/ 40)

3- «أَمَّنْ يَبدَؤُا الخَلّقَ ثُمَّ يُعِيْدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَإِلهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ». (النمل/ 64)

نفحات القرآن، ج 2، ص: 274

4- «أَمَّنْ هَذَا الَّذِى يَرزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَّجُّوا فِى عُتُوٍّ وَنُفُورٍ».

(الملك/ 21)

5- «أَوَلَمْ يَرَوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ ويَقْدِرُ انَّ فِى ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤمِنُونَ». (الروم/ 37)

6- «إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِيْنُ». (الذاريات/ 58)

7- «وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِى الأَرْضِ إِلَّا عَلىَ اللَّهِ رِزقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ». (هود/ 6)

8- «قُلْ مَنْ يَرْزقُكُمْ مِّنَ السَّمواتِ والأرْضِ قُلِ اللَّهُ وإنَّا أَو إِيَّاكُمْ لَعَلىَ هُدىً أو فِى ضَلالٍ مُّبْينٍ». (سبأ/ 24)

9- «وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّماءِ مَآءً مُّبَارَكاً فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الحَصِيْدِ* وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ* رِّزْقاً لِلْعِبَادِ». (ق الآيات/ 9- 11)

10- «فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ إِلىَ طَعَامِهِ* أَنَّا صَبَبْنَا المَآءَ صَبّاً* ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقّاً* فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً* وَعِنَباً وقَضْباً* وَزَيتُوْناً وَنَخْلًا* وَحَدَائِقَ غُلْباً* وفَاكِهَةً وَأَبّاً* مَّتَاعَاً لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ». «1»

(عبس الآيات/ 24- 32)

شرح المفردات:

«الرِزْق»: كما يقول

الراغب في كتاب «المفردات» يعني البذل والعطاء المستمر، دنيوياً كان أو أخروياً، كما يُقال للحظ والنصيب رزقاً، وكذلك للمواد الغذائية التي تصل إلى جوف الإنسان.

يقول «ابن منظور» في «لسان العرب» أيضاً: «الرزق» نوعان: ظاهر للأبدان كالأقوات، وباطن للقلوب والنفوس، كانواع المعارف والعلوم.

__________________________________________________

(1) هناك آيات كثيرة اخرى وردت في هذا المجال لها شَبَهٌ بالآيات أعلاه منها 31، يونس؛ 172، البقرة؛ 28، الشورى 26، الرعد؛ 12، الشورى 27، الشورى 22، البقرة؛ 32، ابراهيم؛ 73، النحل؛ 17، العنكبوت؛ 13، غافر.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 275

وورد في كتاب «التحقيق» أيضاً أنَّ الرزقَ يَعني «العطاء الخاص الذي يناسبُ متطلبات وضع المقابل ويطابق حاجته لاستمرار حياته».

وفي القرآن الكريم استُعملَ في كلا المعنيين فنقرأ قوله تعالى: «هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُوْلًا فَامْشُوا فِى مَنَاكِبِهَا وكُلُوا مِنْ رِّزْقِهِ». (الملك/ 15)

وورد قوله تعالى في خصوص الشهداء: «بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ».

(آل عمران/ 169)

إلّا أنّه يُستخدم غالباً بخصوص الأرزاق المادّية، بالرغم من أنَّ استعماله بخصوص الأرزاق المعنوية ليس قليلًا أيضاً، وحيث إنّ اللَّه تعالى واهب جميع النعم المادّية والمعنوية فانَّ لفظ «الرزّاق» من صفاته الخاصة «1».

و «الطعام»: له معنىً مصدري واسم مصدري معاً، أي أنّه يُطلقُ على «أكل الغذاء»، وكذلك على نفس «الغذاء»، وقد يُستعمل هذا اللفظ بخصوص الحنطة، كما ورد في الرواية إنَّ النبي صلى الله عليه و آله أمرَ باعطاءِ صاع من «الطعام» أو صاع من «الشعير» (وهنا استُخدمَ الطعام بمعنى الحنطةِ في مقابل الشعير).

وذَكر صاحب «لسان العرب» أنَّ الطعامَ اسمٌ جامعٌ لكلِّ ما يؤكل، إلّاأنَّه هو والرّاغبُ في المفردات صَّرحا بانَّ هذا اللفظ قد يُستخدمُ للمشروبات أيضاً كما في: «فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّى وَمَنْ لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنّى».

(البقرة/ 249)

يقول الخليل بن احمد في كتاب «العين» أيضاً: يقالُ الطعامُ في كلام العرب للبّر خاصة، (إلّا أنّه يعود على ما يَبدو إلى أنَّ الطعام الأساس غالباً ما يكون من الخبز الذي يُصنعُ بدورهِ من الحنطة، وإلّا فانَّ الكثير من أرباب اللغة ذكروا أنَّ للطعام مفهوماً عاماً) «2»، وقال بعض اللغويين إنَّ الطعام يعني التمرَ أيضاً، ويبدو أنَّ هذا الكلام يعود إلى أنَّ التمر كان هو الطعام الأساس في ذلك الزمان وتلك البيئة.

__________________________________________________

(1) لسان العرب؛ المفردات؛ مجمع البحرين؛ والتحقيق في كلمات القرآن الكريم.

(2) لسان العرب؛ المفردات؛ كتاب العين؛ والنهاية لابن اثير.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 276

جمع الآيات وتفسيرها

الكل يتنعم بهذه المائدة عدواً كان أم صديقاً:

لقد قلنا مراراً أنَّ مشركي العرب لم يعتبروا الأصنامَ كخالقٍ لهم أبداً، إلّاأنّهم كانوا يعتقدون أنَّ الاوثان لها يدٌ في تدبير هذا العالم وحل مشكلات الناس فيبذلون العطاء لها، لهذا يعتبرونها شفيعةً لدى اللَّه، أو بسبب إناطة مسؤولية تدبير العالم في هذه الجوانب لها.

لذلك فقد تمّ التأكيد في الآيات القرآنية المذكورة على هذه المسألة بتعابير مختلفة من أجل رد هذه العقائد الخرافية، والتأكيد بأنَّ الخالقَ والرازقَ واحدٌ، وجميع أنواع الأرزاق تأتي من ناحيته.

من البديهي إذا ما دُعيَ الإنسان إلى مائدةٍ وكان فيها من الأطعمةِ ما لذَّ وطابَ، أن يتقدمَ بالشكر قبل كل شي ء إلى صاحب هذه النِعَم، لذلك فهو يذهب وراء صاحب تلك المائدة لمعرفته، فهلْ هناك مائدةٌ أوسعُ من مائدة الخالق؟ وهلّا يجب معرفة صاحب هذه المائدة التي يتنَعمُ بها العدو والصديق؟ وتقديم الشكر له لعطاياه التي غَمَرْتنا ظاهراً وباطناً من أعلى رؤوسنا وحتى أخمص أقدامنا؟

بناءً على ذلك فانَّ أهمَّ الدوافع «لمعرفة اللَّه» وكذلك أحد الطرق لمعرفته هي هذه الأرزاق.

لذلك خاطبَ القرآن في أول آية من

البحث كافةَ النّاس قائلًا: «يَا أيُّها النَّاسُ اذكُروا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ». «هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالأَرْضِ».

فهو يُرسلُ لكم من السماء نور الشمس الذي يهبُ الحياة، وقطرات المطر التي تُحيي الأرض، والنسيم الذي يُنمي الأرواح، ومن الأرض يُنبتُ لكم أنواع النباتات والفواكه والمواد الغذائية، وفي باطنها أنواع المعادن والثروات.

مع هذا يجب أنْ تعرفوا أنْ لا معبودَ سواه، وهو وحده الجدير بالعبادة، فكيف تنحرفون عن الصراط المستقيم وتجعلون هذا الخالق العظيم واهب الرزق وراء ظهوركم، وتسجدون

نفحات القرآن، ج 2، ص: 277

للأصنام: «لَآإِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤفَكُونَ» «1».

ويستند في الآية الثانية على أربعةِ أمورٍ لإثبات توحيد الربوبية: «وحدانية الخالق»، وكذلك التوحيد في العبادة، وهي: خلق الإنسان، ورزقُهُ، ومَوتُهُ، وإعادة احيائه، وقد تمَّ تعريفها من قبل اللَّه تعالى لأنَّها جميعاً ذات نظامٍ دقيقٍ حيث تُبرهنُ أنّها تصدرُ عن مبدأ العلم والقدرة، فيقول: «اللَّهُ الَّذِى خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيْتَكُمْ ثُمَّ يُحْيِيْكُمْ». «هَلْ مِنْ شُركَائِكُمْ مَّنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِّنْ شَى ءٍ» بناءً على ذلك يجب أنْ تُسلِّموا لنزاهتهِ وعلوِّهِ عمّا يُشركون به: «سُبحَانَهُ وَتَعَالىَ عَمَّا يُشرِكُونَ».

فحيثما نعلم أنَّ خلقَنا وموتنا وحياتنا بيده، فلا معنى بأنْ نلهثَ وراء غيره، ونخضع ونُسَلِّمَ لسواه.

والجدير بالذكر أنَّ الخلقَ يشملُ الرزقَ والموت والحياة، لأنَّ كافة أنواع الرزق تعود إلى خلقِ اللَّه تعالى وكذلك فإنّ الحياة جزءٌ من الخلق وتعقبها الأرزاقُ والموت، وعليهِ فانَّ الاستناد إلى هذهِ الجوانب الثلاثة ليس لكونها شيئاً منفصلًا عن الخلق، بل لأنّها في الحقيقة توضحُ مصاديقَ مهمّةً عن ذلك الموضوع العام.

وهذه النكتة جديرةٌ بالتأمْلِ أيضاً، إذ بالرغم من أنَّ الإحياء بعد الموت لم يَكن مقبولًا لدى مشركي العرب، إلّاأنَّ هذه الآية تُعتبر إشارة لطيفةً لهذا الاستدلال،

وهو أنَّ الخلقَ الأول ونعمة الحياة في بداية الأمر دليلٌ واضحٌ على إمكانية تكراره يوم القيامةِ والبعث، بل لو تأمّلنا جيداً فانَّ مسألة الموت والحياة مستمرةٌ في هذا العالم، فوجود الإنسان يعتبر ساحةً للموت والحياة في كلٍّ عامٍ وشهر بل في كلِّ يوم وساعة، تموت الملايين من الخلايا، وتحلُ مكانها ملايينُ اخرى فتتجسدُ مسألةُ المعاد باستمرار في هذه الدنيا، إذن ما العَجَبُ في أنْ يَرجعَ الامواتُ إلى الحياة من جديد في الآخرة؟

__________________________________________________

(1) «تؤفكون» من مادة «إفْكْ»، وتعني تغيير الشي ء عن وضعهِ الحقيقي، ولهذا يقال للكذب والاتهام والانحراف عن الحق نحو الباطل «إفْكْ»، وكذلك يُطلقُ على الرياح التي تنحرف عن مسيرها المنظم (مؤفكة) (مفردات الراغب).

نفحات القرآن، ج 2، ص: 278

وفي الآية الثالثة حيث جاءت في ترتيب آيات «التوحيد» إذ تُحصي آياتِهِ المختلفة في السماء والأرض، تمّ الاستناد أيضاً إلى ثلاث مسائل هي: بداية الخلق، ورجوعه، والرزق والاقوات التي تصل الإنسان من السماء والأرض فيقول: أيُّهما أفضل ... مَنْ تعبدون مِنْ دون اللَّه أم مَنْ بدأ الخلقَ ثم يُعيدُه؟ «أَمَّنْ يبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعيدُهُ» «1» «وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ».

ويضيف في النهاية «أالَهٌ مَعَ اللَّه».

«قُلْ: لَقَد جِئتُكم بدليلٍ عَلى ربوبيّتهِ فَهَاتُوا دَليلَكُم إِنْ كُنتُم صَادِقينَ».

«قُلْ هَاتُوا بُرهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ».

وبتعبير آخر: «إنَّ هذه البركات تصدرُ عن الذات الإلهيّة المقدّسة، أمّا هذه الأصنام فهي لا تملكُ شيئاً كي تستحق العبادة».

والتعبير ب «خَيْر» أي (أفضل) الذي حُذِفَ من هذه الآية والذي يتجلّى بقرينةِ الآيات السابقة ليس المقصود منه أنّ للأصنام خيراً وبركات قليلة قياساً إلى خيرِ اللَّه وبركاتهِ بل إنَّ هذا التعبير يُستعملُ أيضاً في الحالات التي لا يكون هنالك خيرٌ في الفعل أبداً، فمثلًا يقال

لك امتنع عن تناول طعام معين كي تحافظ على صحتك أو لَيسَ الصحةُ أفضل من المرض؟

مِنَ المسلَّم به أنْ لا فضل في المرض بحيث تكون الصحةُ أفضلَ منه، ونقرأ في القرآن الكريم أيضاً: «وَلَعَبْدٌ مُّؤمِنٌ خَيْرٌ مِّنْ مُّشْرِكٍ». (البقرة/ 221)

ويقول في مكانٍ آخر: «قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ». (الفرقان/ 15)

وخلاصة الأمر أنَّ لفظ «خير» بالرغم من أنّه من «افعل التفضيل» ويجب أنْ يستعملَ في مورد شيئين أحدهما حَسَنٌ والآخرُ أحسن منه إلّاأنّ الهدف في أغلب الحالات هو اغراقُ المخاطبِ في التفكر وجعلَهُ يشعرُ بأنَّ ما يختاره ليسَ منشأً لأي خيرٍ ومنفعة.

__________________________________________________

(1) هنالك جملةٌ محذوفةٌ حيث تتضح بقرينة الآيات الآنقة (الآية 59 من نفس السورة) وتَقَدَّر كما يلي «أمَّنْ يبدءُالخلق ثم يُعيدهُ ... خيرٌ أمْ ما يشركون».

نفحات القرآن، ج 2، ص: 279

إنَّ الاستناد إلى قضية المعاد بالرغم من عدم إيمان المشركين بها إنّما هو لأجل كون الخلق أول دليل على المعاد.

وطُرحَ هذا المعنى في الآية الرابعة بنحوٍ آخر، إذ يقول: «أَمَّنْ هَذَا الَّذِى يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ» «1».

تلميحاً إلى أنّه لو امتنعت السماء عن المطر بأمرِ اللَّه، ولم ينمُ نباتٌ ما، وعمَّ الجدب والقحطُ كلَّ مكان، فهل تستطيع هذه الأصنام أو أيُّ موجودٍ آخر أن يرزقكُم ويُطعِمكُم؟ ولو انقطعت عنكم الأرزاق المعنوية والروحية بأمرٍ من اللَّه، فهل مِنْ هادٍ يرشدكم؟ ينبغي القول أنَّ الجواب على كل هذه التساؤلات سلبيٌ، فكيف اذن يتمادى الوثنيون في عملهم القبيح هذا؟ فهلْ منْ سبب هنا سوى العناد والتعصب؟

لهذا يقول في خاتمة الآية: «بَلْ لَّجُّو فِى عُتوٍّ وَنُفُوْرٍ» «2».

وفي الآية الخامسة استند إلى أمرٍ آخر يتعلق بمسألةِ الأرزاق، إذ يؤكد أنَّ بسط وقبضَ الرزق هو بمشيئة اللَّه، فيقول: «أَوَلَمْ يَرَوْا

أَنَّ اللَّه يَبْسُطُ الِّرزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ»؟!

صحيحٌ أنَّ سعيَ ومثابرة الناس والمؤهلات والاستحقاقات تؤثرُ في تحصيل الرزق.

وصحيحٌ أنَّ العالَم، عالم الأسباب، وغالباً ما يستفيد المثابرون أكثر من الكسالى في تحصيل الأرزاق.

إلّا أننا نرى استثناءات كثيرة قبالة هذه القاعدة، فقد نرى أناساً مُقعدين قد فُتحت أمامهم

__________________________________________________

(1) بالرغم من احتمال بعضهم بتقدير محذوف من الآية إلَّاأنَّ ظاهر الأمر يشير إلى أن لا محذوف هناك فيكون المعنى كما يلي «إنْ امسَكَ اللَّه رزقهُ مَنْ هذا الذي يرزقكم» فتكون «أم» هنا بمعنى «بل» (فتأمل جيداً).

(2) «لجوا» من مادة اللجاجة و «العَتو» تعني الطغيان و «النفور» تعني الابتعاد والهروب من الشي ء.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 280

أبوابُ الرزق، وبالعكس فقد نرى مثابرين ومستحقين أينما يولّوا وجوههم فانَّ الأبواب مغلقة أمامهم، كما يقول الشاعر العربي المعروف:

كم عاقلٍ عاقلٍ أَعْيَتْ مذاهبُهُ وجاهلٍ جاهلٍ تلقاهُ مرزوقاً وهذا من أجل أن لا يضيع الإنسان في عالم الأسباب وليعلمَ أنّ وراء هذا العالم، يداً قادرةً تديرُهُ وتعلو قدرتها فوق جميع القدرات، وكي لا يصيبَ الغرورُ المتنعمين والمستفيدين بسبب إمكانياتهم، فيظلموا ويطغوا، وحتى لا ييأس ذوو الإمكانيات المحدودة، لأَنَّه من الممكن أن يتغيَر الوضعُ في كل لحظةٍ حسبَ الإرادة والمشيئةِ الإلهيّة.

وبتعبير آخر: من أجل توفر الرزق والقوت لكل إنسان تتظافر عشرات الأسباب أحدها سعي الإنسان ومثابرته، حتى أنَّ اللَّه قد منح القدرة على السعي والمثابرة ودوافعهما أيضاً.

وهنا يتمكن الإنسان من فهم نفحات من الذات الإلهيّة المقدّسة من خلال مسألة سعة الرزق وضيقه، فقد قال في نهاية الآية: «إِنَّ فِى ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» اولئك الذين لديهم استعدادٌ لقبول الحق بسبب إيمانهم، ويتعرّفون أكثر على الذات المقدّسة من خلال مشاهدة هذه الميادين يومياً.

وفي الحقيقة

أنَّ الأية أعلاه قد تكرر مضمونُها ومحتواها عشر مرات في القرآن الكريم تشبه ما نُقل عن أميرالمؤمنين عليه السلام حيث يقول: «عَرَفْتُ اللَّه سبحانه بفسخ العزائم وحلِّ العقود ونقضِ الهِمَمِ» «1».

وتشابه ما نُقلَ عن بعض المفسِّرين أنَّ أحدَ العلماء سُئل عن الدليل على وحدانية اللَّه؟

فقال: «ثلاثة ادلّة: ذلُّ اللّبيب وفقرُ الأديب وسُقمُ الطبيب» «2».

والتعبير ب «اوَلَمْ يَرَوا» إشارة إلى أنْ لو تمعنَ الإنسان قليلًا في حياة الناس لرأى هذه الاختلافات جيداً.

ولابدّ من ذكر هذه النكتة وهي أنَّ إرتباط سعة وضيق الرزق بالإرادة الإلهيّة يعني

__________________________________________________

(1) نهج البلاغة، الكلمات القصار، الكلمة 250.

(2) تفسير روح البيان، ج 7، ص 39.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 281

الإرادة الممتزجة مع الحكمة وإلّا ليس للَّه مشيئةٌ بدونِ حكمه سواء كان هنا أم في باقي الموارد.

علماً أنَّ ضيق الرزق في هذه الآية (والآيات العشر) المذكورة لا يعني مُطلقَ الحرمان من الرزق، حتى يتعارض مع الآيات الآتية التي تقول: «وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِى الأَرْضِ إِلَّا عَلى اللَّهِ رِزْقُهَا». (هود/ 6)

بل المقصود قلةُ الرزق وفي نفس الوقت وجود الحد الادنى والكافي منه.

وفي الآية السادسة بعد أن يؤكّد على هذه النكتة وهي: أنَّ اللَّه لا يحتاجُ عبادَهُ وحينما يدعوهم إلى عبادته فليس بسببِ حاجته فيقول تعالى: «إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَاقُ ذُو القُوَّةِ الْمَتِيْنُ». (الذاريات/ 56- 57)

و «الرزّاق»: صيغةُ مبالغةٍ تعني كثير العطاء، وهذا يصدقُ بخصوص ذاته المقدّسة فقط، حيث جلست الكائنات الحية في كلِّ زاويةٍ من هذا العالم العريض: على الجبال، في بطون الصخور، في أعماق الوديان، في قاع البحار، وباختصارٍ في كلِّ زاويةٍ وجانبٍ من هذا العالم العظيم على مائدة احسانِه، متنعمة بامداداته وفيضه.

وبما أنَّ مثل هذا العطاء والبذل الواسع وغير المحدود يحتاج إلى

قدرةٍ وقوةٍ تامةٍ، فقد ذَكر بعد هذا وصفين آخرين: «ذُو القُوةِ» و «الْمَتِيْنُ» وهي من مادة «متن» وتعني في الأصل العَضلتين اللتين تحيطان بالعمود الفقري، وتقومان بشَدِّ عضلات ظهر الإنسان من أجل انجاز الأعمال الشاقة، وهنا كنايةٌ عن القوة والاقتدار الخارق.

وفي الواقع أنَّ هذه الجملة وصفٌ للذات الإلهيّة المقدّسة في بذل الأرزاق، لأنَّ هذه الصفة تخصُهُ فقط، وأمّا الآخرون فكل ما يملكون فهو منه جلَّ وعلا، وإذا استعمل وصف «الرزاق» لبعض الناس أو للأسباب الطبيعية فهو يعني في الحقيقة الواسطة في انتقال فيوضاتهِ وليس الفّياض وخالق النِّعم.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 282

واستند في الآية السابعة إلى موضوعٍ آخر وهو شمول رزق اللَّه لكلِّ الدّواب، هذا العمل الذي لا يمكن حصوله بدونِ احاطةٍ وعلمٍ كامل بجميع موجودات العالم، فلابدّ أن يعرفَ المُضيِّفُ عددَ ضيوفهِ سلفاً، وكذلك مقدار حاجاتهم وأذواقهم، كي يتمكنَ من تقديم الطعام الملائم لهم، لهذا يقول في هذه الآية: «وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِى الأَرْضِ الَّا عَلىَ اللَّهِ رِزْقُهَا».

ويُشير هذا التعبير بجلاء إلى أنَّهُ قد تكفَّلَ برزق عباده، كي يَحدَّ من حرص وطمع بعض الناس واضطراب وقلق بعضهم الآخر من جانب، ومن جانبٍ آخر يبرهنُ على أنّه لو شوهدت شحةٌ في الأرزاق، فهي مفتعلة ومن المؤكد أنّها حصلت نتيجة لظلم جماعةٍ من الناس وهضم الحقوق، والاحتكار وافتعال الأزمات الكاذبة أو في النهاية بسبب عدم السعي للاستفادة من هذه المائدة الإلهيّة المبسوطة، تلك هي الأسباب التي يؤدّي كلٌّ منها أو مجتمعة، إلى حرمانِ بعض الناس من رزقهم وقوتهم، وإلّا فانَّ اللَّه قد ضمنَ رزقَ كلّ الدَّواب.

وبما أنَّ ايصالَ الرزق لهم يُعدّ متعذراً بدونِ علمٍ كاملٍ بأماكنهم وخصائصهم فهو يقول في سياق الآية: «وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا ومُسْتَوْدَعَهَا».

وكلُّ ذلك

مسجّلٌ في كتابٍ جلّيً (هو اللوح المحفوظ، لوح علم الخالق) «كلٌّ فِى كِتابٍ مُبِيْنٍ».

و «دابَّة»: من مادة «دبيب» «وتعني المشي البطي ء» ويُطلقُ هذا اللفظ (دابّة) على البهائم والحيوانات والحشرات، بالرغم من استعمالهِ بخصوص الخيل في بعض الموارد، إلّاأنّ المسلَّم به هنا أنّه ذو معنىً واسعٍ وشاملٍ حيث يشمل جميع البهائم «1».

ولفظ «مُستَقَّر» يعني المقر، والمكان الثابت، وهو مأخوذ في الأصل من مادة «قُرّ» على وزن (حُرّ) وتعني البرد القارص الذي يجعلُ الإنسان جليسَ الدار.

و «مُستَوْدَع»: يعني المكان غير الثابت، وهي من مادة «وديعة» وتعني في الأصل ترك واطلاق الشي ء، ولهذا يقال للُامور غير المستقرة «مستودع».

__________________________________________________

(1) إنَّ «التاء» في «دابّة» لا تدل على التأنيث، بل تشمل جميع الحيوانات مذكرها ومؤنثها، وبتعبير آخر أنَّ تأنيثها لفظيٌ وليس حقيقياً (مفردات الراغب وتفسير الكبير، ج 17، ص 185).

نفحات القرآن، ج 2، ص: 283

وهذه الألفاظ تلمّح إلى أنّه لا تظنّوا أنَّ اللَّه يوفرُ الرزقَ للموجودات في مستقرها فقط، بل أينما تكون وفي أيّ نقطةٍ من الأرض والسماء، فهو يعلمُ ويرى مكانها ويعطيها رزقها هناك!

روى بعض المفسّرين في ذيل هذه الآية حديثاً مفاده: «أنّ موسى عليه السلام عند نزول الوحي عليه وكان برفقة طفله وزوجته في ليلة ظلماء في وادٍ بطور سيناء، حيث أمره اللَّه سبحانه وتعالى أن يذهب إلى فرعون، فانصرف ذهنه إلى زوجته وطفله، كيف سيكون مصيرهم بعده.

فأمره اللَّه تعالى أن يضرب بعصاه صخرة فانفلقت وخرجت منها صخرة ثانية؛ ثم ضربها بعصاه مرّة اخرى فانفلقت وخرجت صخرة ثالثة، ثم ضربها بعصاه فانفلقت فخرجت منها دودة كأصغر ما تكون عليه النملة وفي فمها شي ء يجري مجرى الغذاء لها، وعند ذاك رفع الحجاب عن سمع موسى عليه السلام فسمع الدودة

تقول: سبحان من يراني، ويسمع كلامي، ويعرف مكاني، ويذكرني ولا ينساني» «1».

كما ورد في حديثٍ أنَّ الإمام الحسين عليه السلام كان له سيفٌ كتبَ عليه: «الرزقُ مقسومٌ والحريصُ محرومٌ، والبخيل مذمومٌ، والحاسدُ مغمومٌ» «2».

ونختتم هذا الحديث بشعرٍ لأحد شعراء العرب، إذ يقول:

وكيف أخافُ الفقرَ واللَّه رازقي ورازقُ هذا الخلق في العسرِ واليُسرِ تكفَّلَ بالأرزاق للخلق كُلِّهِم وللضَّبِ في البيداء والحوتِ في البحرِ وفي الآية الثامنة، يبدو وكأنّه يحاكمُ المشركين، ويبينُ بطلان عقائدهم عن طريق مسألة ايصال الرزق إلى الخلائق، ويوضح وحدانية الرَّب، فيقول: «قُلْ مَنْ يُرزُقُكُم مِنَ السَّموَاتِ وَالأَرضِ» من ضوء الشمس، من قطرات المطر الذي يهب الحياة، ومن هذا الهواء

__________________________________________________

(1) تفسير الكبير؛ ج 17، ص 186؛ تفسير روح البيان، ج 4، ص 97؛ و تفسير روح المعاني، ج 12، ص 2.

(2) تفسير روح البيان، ج 4، ص 97.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 284

الذي يمد الكائنات بالحياة، ومن أنواع المواد الغذائية الموجودة في أعماق الأرض وتظهر على هيئة ثمراتٍ وغلاةٍ وخضروات.

ثم لا يَدَعُ النبى صلى الله عليه و آله ينتظر جوابهم فيردّ الجواب قائلًا: «قُلِ اللَّه وَإِنَّا أَو إِيَّاكُم لَعَلى هُدىً أَو فِى ضَلالٍ مُبِينٍ».

ولأنَه لا تجتمع عقيدتان متناقضتان، وبما أنّكم لا تملكون دليلًا يثبتُ أنّ الأصنام هي منشأ البركات، يتضح اذن أننا نتبع الحقَّ وأنتم في ضلالٍ مبينٍ.

ولو لاحظنا هنا أنَّ النبي صلى الله عليه و آله لم ينتظر جوابهم، لأنَّهم في الواقع لا يملكون جواباً لهذا التساؤل، سوى السكوت الممزوج بالخجل، وعليه يجب على المتكلِّم الفصيح أن يُمسكَ بزمامِ الحديث في مثل هذه الحالات ويقدِّمَ الجوابَ بنفسِه.

وأحدُ فنون الفصاحةِ هو أنْ يُلقى الكلام الغامض على الخصوم من خلال الحوار ويترك

الفصل لهمْ، لهذا يقول هنا: «وَإِنَّا أَو إِيَّاكُم لَعَلى هُدىً او فِى ضَلالٍ مُّبِينٍ» ومن المسلَّم به أنَّ الضّالَ والمهتدي يتضحُ هنا، ومن الأفضل أن تبقى العبارةُ غامضةً في الظاهر كي لا يتمادى هؤلاء في عنادهم، وأن يُكلِّفوا أنفسهم عناء الاستنتاج.

والعجيب أنَّ بعضَ المفسِّرين يعتقدون أنَّ هذه العبارة من قَبيل «التقيّة» في الوقت الذي لا مجال للتقيّةِ هنا، والأمرُ مشكوفٌ بجلاء- ولكن بشي ء من اللطافة-، وحيث يقول في البداية: «إنّا» ثم يقول: «أنتم» ويتابع قائلًا على «هدىً» أو على «ضلال»، وهذا التسلسل يوضحُ الأمرَ أكثر.

وفي الآية التاسعة، بعد أن أشارَ إلى نزول المطر المبارك من السماء، استند إلى ثلاثة أصنافٍ من الارزاقِ التي يستفيد الجميع منها، فيقول: «وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّماءِ مَاءً مُّبارَكاً فَأنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الحَصِيْدِ».

نفحات القرآن، ج 2، ص: 285

«وَالنَّخلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيْدٌ» «1» «رِزْقاً لِلْعِبادِ».

وفي الواقع فقد استند في هذه الأية إلى الثمار والمحاصيل الغذائية لأنّها تمثلُ أهمَ وأَصلح جانبٍ من المواد الغذائية للناس، واستند إلى التمر بالخصوص من بين الثمار، بسبب أهميّته الغذائية الفائقة، حيث بحثناه بالتفصيل في محلِّه «2».

والجدير بالذكر: إنَّ بعض المفسِّرين يعتقد أنَّ استناد القرآن إلى هذه الأنواع الثلاثة من الأرزاق جاء بسبب خصائص كلٍّ منها على حدة، لأنَّ بعض النباتات يُثمرُ سنوياً، دون الحاجة إلى بذر البذور، كانواع أشجار الفاكهة، وبعضها يحتاج إلى بذر البذور سنوياً كالحنطة والشعير والرز والذرة وبعضها وسطاً بينهما كالنخيل الذي يكون أصلهُ ثابتاً إلّاأنّه يحتاج في كلِّ عامٍ إلى «التلقيح»، بالنحو الذي يرفعون طلع الذكر وينثرونه على ثمار النخلةِ كي تحمل بشكلٍ كامل، ومن الممكن أن تلقح بطريقة اخرى (عن طريق الرياح والحشرات) إلّا أنّها لن تكون غزيرة الثمار.

وهذه النكتة

جديرة بالاهتمام أيضاً حيث إنّ في تعبير «رزقاً للعباد»، «3» إشارة لطيفة إلى هذه الحقيقة وهي وجوب استثمار النعم الإلهيّة لسلوك طريق عبوديةِ اللَّهِ، وهذه الموجودات مذعنةٌ ومطيعةٌ للإنسان كي ينال الرزق ولا يأكلُه غافلًا عن اللَّه، كما قال الحكماء:

أنت تعيش لتأكل وأنا آكل لأعيش وأذكر اللَّه.

__________________________________________________

(1) «حصيد» تعني المحصود (أو الجاهز للحصاد)، و «باسقات» جمع «باسقة» وتعني الطويلة و «طلع» تعني ثمرة النخيل في بداية تكوينها، و «نضيد» تعني المتراكم والكثيف الذي يبعث على التعجب لا سيما في ثمار النخيل أي التمر.

(2) يُراجع التفسير الأمثل، ذيل الآية 25 من سورة مريم.

(3) إنَّ نصبَ «رزقاً» جاء لكونه «مفعولًا لاجله»، ويُستبعدُ احتمال كونه «مفعولًا مطلقاً» أو «حالًا».

نفحات القرآن، ج 2، ص: 286

وفي الآية العاشرة وآخر الآيات في بحثنا استند إلى الأنواع المتباينة من الاطعمة التي وضعها الباري ء، تعالى في متناول الإنسان والدَّواب، ودعا الإنسان إلى التفحصِ فيها، كي يُعدَّهُ لمعرفة المُنعم ومعرفة اللَّه من خلال تحريضه على الشعور بالشكر.

فيقول: «فَلْيَنْظُرِ الإِنْسانُ الىَ طَعَامِهِ».

ليرى كيف تظافرت مختلف العوامل من الشمس والأرض والهواء والمطركي تضع في خدمته هذه النَّعَم. فيجب أنْ ينظُر ويرى كيف: «أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً* ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقّاً* فَأنبَتنَا فِيهَا حَبّاً* وعِنَباً وقَضْباً «1»* وزَيْتُوْناً وَنَخْلًا* وَحَدَائِقَ غُلْباً* وَفَاكِهَةً وَأَبّاً» «2».

مع أنَّ «فاكهة» تشمل جميع أنواع الثمار، و «حدائق» تتضمن جميع البساتين، إلّاأنَّ الاستناد إلى «العنب» و «الزيتون» و «التمر» يأتي بسبب مزاياها المهمّة للغاية التي ثبتت الآن في علم النبات بالنسبة لكلِّ منها.

وبالرغم من أنَّ «طعام» تعني عادةً الغذاء المادي، لا سيما بخصوص الآية التي تعقبها، فقد ذُكرت موارد عديدة للاطعمة الماديّة، الفواكه والحبوب، إلّاأنّه وكما ورد في بعض الروايات، يمكن

أن يكون للطعام معنى واسع وشامل حيث يشمل الغذاء المعنوي أيضاً، ويجب أن ينظرَ الإنسان جيداً ممَّ يكتسبُ العلمَ الذي هو غذاؤه الروحي، فلا ينبغي أن يكون مشتملًا على علوم سامة وهدامة.

والكلام الأخير حول هذه الآية الشريفة، هو من الممكن أن تكون عبارة «فَلْيَنْظُرِ» هي النظر من أجل إدراك أسرار المبدأ والمعاد، وكذلك النظر لتمييز الصنف الطيِّب والطاهر، من الخبيث والملوث، والمشروع من اللامشروع والمفيد من الضّار.

يستفادُ جيداً من مجموع ما قيلَ في شرح هذه الآيات أنَّ أنواع الرزق الإلهي آياتٌ

__________________________________________________

(1) «قضب» على وزن (جذب) وتعني القطع والقطف، وقد فسَّرها المفسِّرون بأنّها الخُضرُ التي تُقطعُ عدّة مرات.

(2) «حدائق» جمع «حديقة» وتعني البساتين المحصورة بين الجداران، و «غُلب» جمع «اغلب» من مادة «غُلبة» وتعني الضخم الجُثّه، و «أب» تعني النباتات الطبيعية والمراتع الطبيعية، أو الثمار التي تُجفَّف وتحفظ. (والآية 31 من سورة عبس).

نفحات القرآن، ج 2، ص: 287

وآثارٌ على عظمتهِ، وكيفية ظهورها، والنظام المدهش الذي استُعملِ في بنائها، والصفات المميزة لكل منها، والمواد المعاشية الموجودة في كلٍّ منها، وكذلك كيفية ايصالِ هذه الأرزاق إلى المحتاجين ومطابقتها لحاجتهم، فكلٌّ منها آية ودليل عن حكمة وعظمة الذات الإلهيّة المقدّسة.

توضيحات

1- من عجائب عالم الأرزاق

حقاً لو تأملنا في النظام العجيب الموجود في ارتزاق مختلف الموجودات من المصادر الطبيعية، لتجلَّت لنا امورٌ لطيفةٌ ومدهشة عن قدرة الخالق جلَّ وعلا.

الأمر الأول منها هو لماذا لا تتقلص كمية المواد الغذائية الموجودة على الأرض مع قلتها واستفادة الناس والحيوانات على مدى آلاف الآلاف من السنين؟! كيف لا تنتهي هذه المائدة الممتدة في كل مكانٍ؟!

حينما نتأمل جيداً نرى أنَّ المواد الغذائية في هذه الدنيا لها شكلٌ خاص بحيث لو استُفيدِ منها لملايين الملايين من السنين،

لم ينقص منها بقدر رأس الابرة، وهذا بسبب «حركتها الدائرية» فمثلًا أنَّ المياه تتبخر من البحر ثم تظهر على هيئة غيومٍ وامطار، فيهطل قسمٌ من ماء المطر إلى البحر ثانيةً، والقسم الآخر يصبحُ جزءاً من جسم الإنسان والحيوانات والنباتات ويتبخر وينتشر في الجو، وتستمر هذه الحركة الدائرية دائماً.

فالاشجار تمتص المواد الغذائية من الأرض وتتكون الفروع والأوراق، ثم تتساقط الأوراق وتتفسخ وتتحول فيما بعد إلى سمادٍ ومواد غذائيةٍ لنفس الأشجار، وتستفيد الحيوانات من المواد الغذائية ثم تُصبحُ تراباً، وجزءاً من المواد الغذائية في الأرض.

ويتنفس الإنسان والحيوانات غازَ «الاوكسجين» ويطرح غاز «ثاني اوكسيد الكاربون»، ولكن الأشجار على العكس من ذلك فهي تأخذ غاز «ثاني اوكسيد الكاربون» وتطرح غاز

نفحات القرآن، ج 2، ص: 288

«الاوكسجين»، ويتكرر هذا التبادل دائماً، هنا نشاهد أنّ هذه المائدة الإلهيّة السرمدية مبسوطة باستمرار لتجلس كافة المخلوقات إليها للارتزاق منها دون أن يصيبها النقصان.

وكيفية إعداد الرزق للحيوانات عجيبةٌ أيضاً، فالبعضُ يتغذى على النباتات والرطوبة الموجودة على الأرض، وبعضٌ يحصل على غذائه من الماء «النباتات العائمة» وبعضٌ من الجو، وبعضٌ عن طريق الالتحام بنباتاتٍ اخرى «كبعض الطفيليات» وتعيش حيوانات أعماق البحار في مكانٍ لا ينمو فيه نباتٌ أبداً، لأنَّ اشعة الشمس تتلاشى تماماً في عمق 600- 700 م ثم يسود ماءَ البحر بعدها ليلٌ حالكٌ وسرمديٌّ، إلّاأنّ الباري تعالى يهي ء ويعدُّ رزقَها على سطح البحر ويرسلُه إليها في أعماق البحر فالنباتات التي تنمو بكثرة على سطح البحر وسط الأمواج تصبحُ ثقيلة وتهبط إلى قاعه بعد نضوجها وتخصيص قسم منها للموجودات الحيّة على سطحه، وكذلك تنزل بقايا الموجودات التي تعيش على سطح البحر على هيئة مائدةٍ سماوية إلى الموجودات في قاعه.

فقد تُصبحُ الطيورُ طُعمةً لأسماك البحر،

واسماك البحر طعمةً للطيور، وقد يجعل النباتاتِ غذاءً للحيوانات، أو الحيوانات غذاءً للنباتات التي تأكل اللحوم! وقد يصنع من فضلات ولعاب بعض الموجودات غذاءً لذيذاً لموجودٍ آخر (كما في بعض حيتان البحر حيث تخرج إلى ساحل البحر بعد تغذّيها على أسماك البحر المختلفة، فتبقى الفضلات بين أسنانها، فتفتح فمَها الذي يشبه الغار، فتدخلُ مجموعةٌ من طيور الساحل إلى فمها وتقوم باخراج اللحوم المتبقية من بين اسنانها وتتخذها طعاماً لذيذاً لها، فتقوم بدورِ المسواك في تنظيف أسنان هذا الحيوان، الذي لا يسي ء ردَّ الجميل، فلا يُطبقُ فاهُ حتى خروج آخر طيرٍ من فمه، وحينما ينتهي الأمر ويتخلص من المواد المزعجة، وتمتلي ء بطون الطيور من الطعام حينئذ يُطبقُ فمَهُ ويتجه نحو أَعماقِ البحر «1».

وباختصار: كلّما دققنا في هذه المسألة أكثر، سنحصل على نقاطٍ جديدة في مجال علمِ

__________________________________________________

(1) يضيف الفخر الرازي في تفسيره ضمن إشارته المختصرة لهذا الموضوع، أنّه على رأس هذا الطائر شي ءٌ يشبه الشوك، فلو قَرر التمساحُ ابتلاع هذا الطائر فسيؤلمه ذلك «تفسير الكبير، ج 24، ص 11).

نفحات القرآن، ج 2، ص: 289

وحكمةِ الخالق جلَّ وعلا، والتدبير الذي صُرفَ في مجال الأرزاق، بشكلٍ لا يبقي مجالًا لأي نوع من الصدفة.

يكفينا التأمُل في وضع الإنسان خلال المراحل الثلاث: الجنين، الرضاعة، والأكل، كيف أنَّ اللَّه تعالى وضعَ في متناولهِ ما يناسب حاله في كلِّ واحدةٍ من هذه المراحل الحساسة بدونِ نقصٍ، فيتغذى طيلة مكوثه في رحم الام عن طريق جهاز الحبل السّري المعقّد والإرتباط المباشر بدم الام، وبعده الولادة، عندما لا توجدُ أسنانٌ لمضغ الطعام، ومعدتُه وامعاؤهُ غير مستعدةٍ لاستقبال الطعام، يهيي ء له ثدي امه الملي ء بالحليب، غذاءً مناسباً، غنياً بكافة المواد الغذائية، معتدل الحرارة، لا

تغلب عليه الحلاوة أو الملوحة، ولا يحتاج إلى مضغٍ ونشاطٍ لمعدتهِ كي تهضمه.

وفي المرحلة الثالثة، يضع في متناوله أنواعاً من الاطعمة «المناسبة»، فلو لم تكن أطعمة الإنسان وباقي الحيوانات «ملائمة» ويكون مجبوراً على تناولها كالأدوية المرّة، فايٌّ مأزق سينشأ في حياته، ألا يفنى معظمُ الناس بسبب عدم توفر الطعام السليم لهم؟

ومن جانبٍ آخر، فقد أودعَ في الإنسان الشعورَ بالجوع والعطش، كي ينجذب نحوهما بشكل آلي عندما يحسُ بالحاجةِ إلى هاتين المادتين الحيويتين، فتأملوا ما يحصل لولا هذا الشعور؟!

وكما يقول الإمام الصادق عليه السلام في الحديث المعروف عن المفضّل:

«فكّر يا مفضل في الأفعال التي جُعلت في الإنسان من الطعم والنوم والجماع وما دبّر فيها فانّه جُعل لكل واحد منها في الطباع نفسه محرّك يقتضيه ويستحث به فالجوع يقتضي الطعم الذي به حياة البدن وقوامه والكرى تقتضي النوم الذي فيه راحة البدن وإجمام قواه والشبق يقتضي الجماع الذي فيه دوام النسل وبقاؤه، ولو كان الإنسان إنّما يصير إلى أكل الطعام لمعرفته بحاجة بدنه إليه ولم يجد من طباعه شيئاً يضطره إلى ذلك كان خليقاً أن يتوانى عنه أحياناً بالتثقل والكسل حتى ينحل بدنه فيهلك ...، فانظر كيف جُعل لكل واحد من هذه الأفعال التي بها قوام الإنسان وصلاحه محرك من نفس الطبع يحركه لذلك ويحدوه عليه» «1».

__________________________________________________

(1) بحارالأنوار، ج 3، ص 78 و 79، توحيد المفضّل.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 290

لهذا تُعتبر الرغبةُ في نوعٍ من الطعام بالنسبة للاصحاء من الناس دليلًا على حاجة الجسم إلى ذلك الغذاء على نحو الخصوص، ويجب على مثل هؤلاء الأشخاص كذلك النزول عند هذه الرغبات الداخلية؛ يقول العالم الروسي المعروف «باولف»: «إنَّ الغذاءَ الطبيعي والمفيد، هو الغذاء الذي يؤكل

بشهيَّةٍ وتلذذ».

ولهذا أيضاً لا معنى للالتزامِ بنظامٍ خاصٍ في الامتناع عن الأطعمة التي يرغب الإنسان بتناولها لأنّ تلك الرغبة تعتبر بحد ذاتها أفضل دليلٍ على حاجةِ الجسمِ لها.

ما هذه التركيبات المحبوكة التي تحددُ بنفسها نوع حاجتها، ووقودها، وصنعها؟

وبمجرد أن يحصلَ نقصٌ توقظ شعورَ الإنسان وتدفعهُ نحو ذلك؟ هل يمكن حمل مثل هذه الامور على سبيل الصدفة؟ وهل هنالك إمكانية لوجود مثل هذا البرنامج المنظّم لولا وجود عقلٍ وتدبيرٍ واسعٍ؟

2- هل أنَّ الرزقَ مقسومٌ؟

وردت هذه النكتة في بعض الآيات أعلاه وهي أنَّ رزقَ كلِّ دابةٍ على اللَّه، وقد تكفَّلَ اللَّه به: «وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِى الأَرْضِ الَّا عَلى اللَّهِ رِزْقُهَا ...». (هود/ 6)

وورد في بعضٍ آخر أنّ سعة الرزق وضيقة مشيئة الهية. (الروم/ 37 وآيات اخرى .

واشير إلى هذا المعنى في الروايات أيضاً، فيقول امير المؤمنين عليه السلام: «وَقَدَّر الأرزاقَ فكثَّرها وقلَّلها وقسَّمها على الضَّيق والسَّعة» «1».

وفي حديث آخر عنه عليه السلام نقرأ في حثِّه على طلب العلم إذ يقول:

«إنَّ طلبَ العلمِ أوجَبُ عليكم من طلبِ المال، إنَّ المالَ مقسومٌ مضمونٌ لكم قد قسَّمَهُ عادلٌ بينكم وضَمِنَه وَسَيَفي لكم والعلمُ مخزونٌ عند أهلهِ قد امرتُم بطلبهِ» «2».

__________________________________________________

(1) نهج البلاغة خطبة 91.

(2) معالم الدين، ص 9.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 291

والآن يبرز هذا التساؤل وهو: لو كان الأمر كذلك فما هو مفهوم السعي والاجتهاد لطلب الرزق والتخطيط لتحسين الوضع الاقتصادي للمجتمع؟

ولكن من خلال التمعُن في الآيات والروايات فيما إذا جُمعت مع بعضها يتضح الجواب على هذا السؤال بأنَّ المقصود من ضمان الرزق من قبل اللَّه تعالى وتكّفله والتزامه بتقسيمه هو اعداد الأرضية اللازمة، ومتى ما تظافرت الأرضية الخارجة عن طاقة الإنسان، والاستعدادات الموجودة في ذاتهِ، يستلم الإنسان

نصيبه من الرزق.

وهذا يشبه تماماً رواتب العاملين في مؤسسة ما والتي يحددها المدير إلّاأنَّه لا يجلبُ تلك الرواتب إلى بيوتهم بل يجب عليهم أن يعملوا، ثم يذهب كلٌ منهم لمل ء بطاقةِ راتبه ليستلمه.

ولا يجب نسيان هذه الحقيقة بأنّ اللَّه تعالى ومن أجل أن لا يضيع الناس في «عالم الأسباب» ويعتبروا أنَّ حاصل الرزق يأتي عن طريق السعي والاجتهاد فقط، فهو يوصل الرزق أحياناً لاناسٍ لم يبذلوا جهداً جهيداً وقد يسلب الرزق من أشخاصٍ مجتهدين كي يوضح أنَّ وراء هذا العالم قدرةً اخرى (ولكن يجب أن لا ننسى أنَّ هذا مجرّد استثناء، وأمّا القاعدة الأساسية فهي السعي والاجتهاد).

ولعلّه لهذا الأمر ورد في حديثٍ عن الرسول صلى الله عليه و آله أنّه قال:

«واعلموا أنَّ الرزقَ رزقان: فرزقٌ تطلبونه ورزقٌ يطلبكُم فاطلبوا أرزاقكم من حلال، فانّكم إن طلبتموها من وجوهها أكلتموها حلالًا وإنْ طلبتموها من غير وجوهها أكلتموها حراماً» «1».

هذا الفارقُ في الرزق يعتبرُ في الواقع دليلًا على الجمع بين الآيات والروايات التي تعتبرُ الرزقَ مُقَسَّماً ومضموناً، والروايات التي تعاكسها، التي تعتبر الجد والاجتهادَ والمثابرة شرطاً للاستفادة من الرزق «2».

__________________________________________________

(1) وسائل الشيعة، ج 17، ص 47.

(2) من أجل التعرف على هذه الروايات يراجع، وسائل الشيعة ج 12، كتاب التجارة، ص 9 و 16 و 18 و 22 و 24 و 26.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 292

بالإضافة إلى أنَّ التعرف على هذا الاختلاف في الرزق يدفع الحريصين إلى التخلي عن حرصهم، ولا يتلوث المؤمنون بتحصيل الرزق من الحرام، ولا ييأس المحرومون أيضاً.

3- إذا كانَ الرزقُ مضموناً للجميع فلماذا يموتُ البعضُ جوعاً؟

في الآيات أعلاه تتجسدُ هذه الحقيقة جيداً بأنَّ اللَّه تعالى قد تكفَّلَ برزق جميع الموجودات الحيّة، وايصاله إليها أينما كانت، ولكن يبرز هذا السؤال

وهو: لماذا ماتت وتموت مجاميعُ من الناس جوعاً الآن وعلى طول التاريخ؟ أَلَمْ يُؤَمَّنُ رزقُها؟!.

في الرد على هذا التساؤل يجب أخذ النقاط الآتية بنظر الاعتبار: أولًا: إنَّ تأمين وضمان الرزق لا يعني اعدادَه للإنسان العاقل والمكلَّف وارساله إلى بيته، أو وضعهِ في فمه كاللقمة، بل قد اعدت الأرضية اللازمة، وسعيُ الإنسان واجتهاده يعتبر شرطاً لتحقيق هذه الأرضية وايصالها إلى مرحلة الفعل، حتى مريم (عليها السلام) عندما كانت في ذلك الوضع الصعب وفي تلك الصحراء القاحلة حيث هيأ لها اللَّهُ تعالى رزقها رطباً جنياً على جذع النخلة أمرها بأنْ تسعى وخاطبها: «وهُزِّى الَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ».

ثانياً: لو أنَّ الناسَ- في الماضي والمستقبل- يقومون بهضم حقوق الآخرين ويسلبون أرزاقهم ظلماً فهذا ليس دليلًا على عدم تأمين البارى ء تعالى للرزق، وبتعبير آخر: إضافة إلى مسألة السعي والاجتهاد فإنّ وجود العدالة الاجتماعية يعتبر سراً في التوزيع العادل للأرزاق، وإذا قيل: لماذا لا يمنع اللَّهُ ظلمَ الظالمين؟ نقول: إنَّ أساس حياة البشر يقوم على الحرية وليس على الاجبار والاكراه كي يخضع الجميع للامتحان، وإلّا فلا يحصل التكامل «فتأمل جيداً».

ثالثاً: هناك مصادر كثيرة لتأمين طعام البشر على هذه الكرة الأرضية ولكن يجب أن تكتشفَ وتُستخدمَ بذكائهم ومعرفتهم، وإذا قصَّر الإنسان في هذا المجال فالذنبُ ذنبهُ.

لا يجب أن ننسى أنّ بعض مناطق افريقيا التي يموت شعبها جوعاً تعتبر من اغنى

نفحات القرآن، ج 2، ص: 293

مناطق العالم، إلّاأنّ العوامل المدمرّة التي أشرنا إليها آنفا جعلتهم يهيمون في ليلٍ مظلمٍ.

نختتم هذا البحث المختصر بحديثٍ عن الإمام علي عليه السلام ورد في نهج البلاغة، يقول:

«انظروا إلى النملةِ في صِغرِ جُثتها ولطافةِ هيئتها لا تكادُ تُنالُ بلحظِ البَصرِ ولا بمُستدركِ الفكَرِ كيفَ دبَّت على أرضها،

وصُبَّت على رزقها تنقُلُ الحبَّةَ إلى جحرِها وتُعِدُّها في مستقرها، تجمعُ في حَرِّها لبردها، وفي وِردِها، لصدرِها» «1».

4- سعةُ الرزق وضيقه

وردَ في الآيات أعلاه أنَّ اللَّه تعالى يبسطُ الرزقَ لمن يشاء ويُضيقَهُ على مَنْ يشاء، وهذا التعبير الذي تكرَّر في آياتٍ عديدةٍ يمكنُ أن يُوجدَ هذا الخلط وهو أنَّ نظام الرزق خارجٌ عن إرادة الإنسان بشكلٍ كامل، طبقاً لذلك فلو تَنَعَّمَ قومٌ وحُرمَ آخرون فهذه مشيئة اللَّه وليس ما كسبته أيدينا وليس لنا حول ولا قوّة! ويُمكن أن يكون هذا مكسباً جيداً لُاولئك الذين يشكلون على أصل الدين ويعتبرونه وليداً للحركات والمشاريع الاستعمارية.

ولكن لو تأملنا في هذه الآيات والروايات وفكّرنا في أسباب ضيق الرزق وسعَته لتجلّى لنا تفسير هذه الآيات وأسرارها وسيتم القضاء على تلك الأفكار الهدّامة، ونتوصل إلى امور مهمة وقيمّة للغاية.

لقد قلنا مراراً أنَّ التعبير ب «الارادة الإلهيّة» لا يعني الإرادة التي تخلو من الحساب والكتاب، بل الإرادة الممتزجة ب «الحكمة».

إنَّ حكمة اللَّه تقتضي أنّ من يسعى ويجتهد ويُخلصُ ويُضحي أكثر، يكون رزقه أوسعُ:

«وأَنْ لَّيْسَ لِلِانْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى . (النجم/ 39)

و «كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِيْنَةٌ». (المدثر/ 38)

«وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً* وَيَرزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَايَحتَسِبُ». (الطلاق/ 2- 3)

__________________________________________________

(1) نهج البلاغة خ 185.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 294

فالتقوى تؤدّي إلى سيادة العدالة الاجتماعية ومن ثمَّ تؤدي إلى سعة الرزق، كما أنّ السعي والمثابرة تُعِدُّ الأرضية اللازمة للازدهار الاقتصادي وتعتبر سبباً في سعة الرزق، وبناءً على ذلك فانَّ التعاليم أعلاه ونظراً لجذورها واصولها لا تعتبر سبباً في الخمول وترك السعي، بل إنّها من العوامل المؤثرة في السعي والاجتهاد.

والشاهد هو هذا الحديث القيّم الذي نُقل عن الإمام علي عليه السلام، حيث يقول:

«إنَّ الأشياءَ لمّا ازْدَوَجَتْ إزْدَوَجَ الكَسَلُ والعَجْزُ فَنَتَجا بينهما الفَقْر» «1».

نعم .. ففقرُ كلِّ قومٍ، نتيجة مباشرة لضعفهم وخُمولهم، وقد اقتضت الحكمة الإلهيّة أنْ يضيق الرزقُ على مثل هؤلاء.

إنَّ التَأمُّلَ في أسباب ضيق وسعة الرزق في الروايات شاهدٌ ناطقٌ آخر على القول السابق.

ومن جملة الامور التي ذكرتها في الروايات كاسبابٍ لسعة وبسط الرزق ما يلي:

صلة الرحم، نظافة الدار والأواني والجسم، مواساة المسلمين، السعي مبكراً لطلب الرزق، شكر النعمة، الاقلاع عن البخل، اجتناب اليمين الكاذبة، الاستغفار والتوبة من الذنوب، حسن النية في الأعمال، الاحسان إلى الجيران وذكر اللَّه «2».

نقرأ في حديثٍ عن النبي صلى الله عليه و آله: طيبُ الكلام يزيدُ في الارزاق «3».

وجاء في حديثٍ عن أمير المؤمنين عليه السلام: «في سعةِ الاخلاقِ كنوز الأرزاق» «4».

وورد في حديثٍ آخر عن الإمام الصادق عليه السلام: «كَثرةُ السُحتِ يمحقُ الرزق» «5».

__________________________________________________

(1) وسائل الشيعة، ج 17، ص 60.

(2) بحار الأنوار، ج 73، ص 314 (باب ما يورث الفقر والغنى ، و سفينة البحار، ج 1، ص 519 و 520.

(3) المصدر السابق.

(4) المصدر السابق.

(5) المصدر السابق.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 295

17- آياته في خلق الطيور

تمهيد:

لقد أَحْبَّ الإنسان على مرّ التاريخ الطيورَ وتمتَّع بتربيتها ومشاهدتها تُحلقُ فوقَ رأسهِ في السماء بشكلٍ جميلٍ، وكانت هذه الظاهرة تبعث على دهشته دائماً، وهي كيفية امكان أنْ يحلِّق جسم ثقيل في السماء ويتحرك بتلك السرعةِ خلافاً لقانون جاذبية الأرض؟!.

وليست هذه الصفة فقط بل صفات اخرى كالريش و الجناحين، التغريد اللطيف لبعضها، طراز بناء البيت والعش، تربيةِ الفراخ واطعامها، الهجرة الطويلة لقسمٍ منها، وامور اخرى من هذا القبيل كانت مصدراً لدهشته، بالرغم من أنّ تكرار هذه الحالات المثيرة أدّى وبالتدرج- إلى أن يمرَّ

بعض الناس عليها مرور الكرام.

وقد أشارَ القرآن الكريم في جانبٍ من آياتِ التوحيد إلى هذه المسألة، ودعا الجميع مشاهدة عالم الطيور، كي يَرَوْا آيات وبراهين الباري تعالى

بهذا التمهيد نتأمل خاشعين في الآيات الآتية.

1- «أَلَمْ يَرَوْا إِلىَ الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِى جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآياتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ». (النحل/ 79)

2- «أَوَلَمْ يَرَوا إِلىَ الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافّاتٍ ويَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ الَّا الرَّحمَنُ انَّهُ بِكُلِّ شَي ءٍ بَصِيرٌ». (الملك/ 19)

3- «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِى السَّمَواتِ وَالأَرْضِ والطَّيْرُ صَافَاتٍ كُلٌ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيْحَهُ وَاللَّهُ عَلِيْمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ». (النور/ 41)

نفحات القرآن، ج 2، ص: 296

4- «وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِى الأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيْرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا امَمٌ أَمْثالُكُمْ مَّا فَرَّطْنَا فِى الْكِتابِ مِنْ شَى ءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ». (الانعام/ 38)

شرح المفردات:

«طَير»: جمع (طائر) وتُقال لكلِّ حيوانٍ ذي جناحٍ وريشٍ، ويحلِّقُ في الهواء، ومصدرها «الطيران» «1»

و «تَطَيَّر» تقالُ لطالع السوء الذي كانوا يستلهمونه في الجاهلية من حركة الطيور، ولكن اطلقَ فيما بعد على كل أشكال التشاؤم وسوء الطالع.

كما جاء لفظ «تَطايُر» بمعنى الحركة بسرعة أيضاً «2».

«صافّات»: من مادة «صف» وتعني وضع الأشياء في خطٍ مستقيمٍ، كالناس أو الأشجار حينما يكونون في خطٍ واحد، فعندما يُطلق هذا اللفظ وصفاً أو حالًا للطيور: «والطَّيْرُ صافّاتٍ»، فهو إشارة إلى بسط الأجنحةِ في السماء أثناء الحركة، ويعاكسها: «ويَقْبِضْنَ».

ولفظ «إصطفاف» كناية عن التسليم والطاعة المحضة والخضوع التام، وإشارة للخدمِ الذين يقفون في صفٍ واحدٍ استعداداً لتقديم الخدمة «3».

وبطبيعة الحال أنّ احتمال: «والطيرَ صافاتٍ» إشارة إلى مجموعة من الطيور التي تتحرك بشكلٍ جماعيٍّ في صفٍ أو عدة صفوف حيث تلفتُ الانتباه بتناسقها وارداً أيضاً، إلّا أنَّ عبارة

«ويقبضنَ» تمنعُ هذا التفسير.

__________________________________________________

(1) وقد قالوا إنّ مصدر هذا الفعل «طَير» أيضاً، وطيور جمع الجمع (جمع طَير) وذكر بعضهم أنّ «طيور» جمع «طائر».

(2) مفردات الراغب؛ لسان العرب؛ كتاب العين؛ ومجمع البحرين.

(3) التحقيق في كلمات القرآن الكريم؛ ومفردات الراغب.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 297

جمع الآيات وتفسيرها

الطيرُ يُسبّحُ وأنا صامت!

أكدت الآية الاولى على أن تحليق الطيور في جو السَّماءِ خلافاً للجاذبية الأرضية هو آيةٌ من آيات اللَّه: «أَلمْ يَرَوْا الَى الطَّيرِ مُسَخَّراتٍ فى جَوِّ السَّماءِ» «1»

.

ونظراً لطبيعة الأجسام في الانجذاب نحو الأرض فانَّ حركة الطيور في أعالي الجو تبدو شيئاً عجيباً، ويجب أنْ تُؤخذ مأخذ جدّ، فمن المسَّلم به أنَّ هناك مجموعة من المزايا لدى الطيور تمكنها من الطيران بيُسرٍ في السماء مستثمرة مختلف القوانين الطبيعية المعقّدة، إنّه لشي ء يبعث على الدهشة بلا شك.

إنّ لهذا الميدان العجيب والقوانين التي تسبب هذه الظاهرة المدهشة ربّاً قادراً حكيماً مطلعاً على أسرار العلوم، بل ليست العلوم إلّاشيئاً من القوانين التي وضعها، لهذا يقول في سياق الآية: «مَا يُمْسِكُهنَّ الَّا اللَّهُ».

ويضيف في ختام الآية: «إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآياتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ».

وسنرى في الايضاحات التي ستأتي في نهاية هذه الآيات- إن شاء اللَّه- ما هي القوانين التي يجب أنْ تتظافر كي تحصل هذه الظاهره التي تُدعى «الطيران»، لذلك نواجه في كلِّ خطوةٍ آيةً جديدةً من آيات مُبدي ء الوجود العظيم.

والآية الثانية تتشابه مع الاولى من عدة وجوه، إلّاأنَّه يُلاحظُ فيما بينهما اختلافاتٌ أيضاً، ففي هذه الآية يدعو الناس «لا سيما المشركين» إلى تفحّص اوضاع الطيور، هذه الموجودات التي تنطلق من الأرض خلافاً لقانون الجاذبية الأرضية، وتتحرك مسرعةً بكل

__________________________________________________

(1) لقد اتخذ بعضهم لفظ «جَوّ» بمعنى الفضاء الذي يحيط بالأرض، وبعضٌ بمعنى «الهواء» قريباً كان

أم بعيداً عن الأرض، ولكن يبدو أنّ ما يستعمل عادةً هو المعنى الأول، وهو الذي يناسب الآية أعلاه حيث يمكن أن يكون مصدراً للاعجاب.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 298

يُسرٍ في جو السّماء لساعاتٍ وأحياناً لأسابيع، وحتى أحياناً لعدة شهور بدون توقفٍ، حركةً مرنة وسريعةً، بنحوٍ تبرهن على أنّها لا تواجه مشكلةً في عملها.

فيقول: «أَوَلَمْ يَرَوا الَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ ويَقْبِضْنَ» «1»

.

فلا أحد سوى الرحمن الذي عمَّت رحمتُه كلَّ شي ء، يستطيع أن يُمسكَهُنَّ هناك: «مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرحْمَنُ».

أجل .. اللَّهُ الذي منَحها كلَّ أدوات الطيران، وعلَّمها طريقته واسلوبه، كما وضعَ قوانين وانظمةً تستفيدها فتحلّق بيسر وسهولة، فهو العليم بحاجات كل الموجودات والبصير بكلِّ شي ءٍ: «إِنَّه بِكُلِّ شَى ءٍ بَصِيْرٌ».

وابتداءً من الذرات حتى المنظومة الشمسية، والمنظومات الاخرى الجبارة، ومن النباتات والحيوانات المجهرية، حتى الموجودات العملاقة، والكل يستمر في وجوده بتدبيره جلَّ وعلا، التدبير الذي يُطلعنا في كلِّ مرحلةٍ منه على آيةٍ جديدةٍ من علمه وقدرته تبارك وتعالى وينفي كل أشكال الاحتمال بوجود الصدفةِ وقدرتها على الخلق، ويملأ القلب بحبّه والإيمان به.

ويُمكن أن يكون التعبير ب «صافاتٍ» و «يَقْبِضْنَ» إشارة إلى وضع الطير، حيث يبسطنَ أجنحتهنَّ تارةً، ويجمعنَها اخرى ويقدرنَ على الطيران من خلال هذين الفعلين، ويرِدُ هذا الاحتمال أيضاً بأنْ يكون إشارة إلى صنفين من الطيور: الطيور التي غالباً ما تكون أجنحتها مبسوطة، وتركبُ أمواجَ الهواء، وفي نفس الوقت تسيرُ في كلِّ اتجاهٍ بسرعة، فكأنّما هناك قدرةٌ خفيَّةٌ تُحركُها لا نراها بأعيننا، والطيور التي تخفق اجنحتها باستمرار أثناء طيرانها، ولبعضِ الطيور حالةٌ وسطٌ بين هاتين الحالتين أثناء الطيران «2».

__________________________________________________

(1) يقول بعض المفسرين لو تعدت «الرؤية» ب «إلى فهي تعني الرؤية الحسّية، وإذا تعدت ب «في» فهي تعني

المشاهدة القلبية والمطالعة العقلية (تفسير روح البيان، ج 10، ص 91).

(2) لماذا جاءت «صافاتٍ» بصيغة الاسم الفاعل، و «يقبضنَ» بصيغة الفعل المضارع؟ وردت تفسيرات كثيرة أفضلها: يقال إنّه عند انبساط الاجنحة يأخذ وضع الطائر نسقاً واحداً، بينما يتكرر رفيف اجنحته عند خفقانها، وهذا ما يناسب الفعل المضارع ويكسبه صفة الاستمرارية. وذُكر تفسير آخر في «الكشاف» وأيده بعض المفسرين: بأنّ منشأ هذا التفاوت ينبع من أنّ الطيران هو الحالة الأصلية الاولى للطيور، والحالة الثانية هي عرضية. غير أن الغموض يكتنف هذا التفسير.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 299

وفي الآية الثالثة نواجه صياغة جديدة بصدد الآيات التوحيدية لحياة الطيور إذ يخاطبُ النبي صلى الله عليه و آله قائلًا: «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِى السمَّواتِ وَالأَرْضِ» «والطَّيْرُ صافَّاتٍ».

الطيور التي تتحرك في الجو صفوفاً، بجلالٍ وعظمةٍ وجمال ولا تتعبُ العين من مشاهدتها أبداً، فهي ترسمُ أشكالًا هندسيةً مختلفة على صفحة السماء بحيث تذهلُ الإنسان، إذ قد تطير المئات بل الآلاف من الطيور وتغيُّر طريقها باستمرار من خلالِ أمرٍ خفيٍّ من دون أن يحدث اصطدامٌ فيما بينها.

ويضيف في سياق الآية: «كُلٌ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وتَسْبِيْحَهُ» «1»

.

نعم .. فلكلٍّ منها صلاةٌ وابتهال ومناجات ودعاءٌ وحاجاتٍ في عالمها الخاص، ولكلٍّ تسبيحه وتعظيمه وثناؤه، ومن المعروف أنَّ ذرات وجود أيٍّ منها وبناء مختلف أعضائه وحركاته وسكناته تُخبرُ عن مُبدي ءٍ عظيمٍ يجمعُ كافة الكمالات ومُنَزَّهٍ عن جميع النواقص، وهي دائمةُ التّسبيح بحمده بلسان حالها.

ويعتقد بعضهم أنَّ حمدَها وتسبيحها وصلاتها عن وعي، ويعتبرون لكلِّ موجودٍ حتى الذي نَحسبُه جماداً وبلا روح، عقلًا واحساساً، بالرغم من جهلنا به، كما نقرأ في مكانٍ آخر: «وَإِنْ مِّنْ شَى ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَّاتَفْقَهُوْنَ تَسْبِيْحَهُم». (الاسراء/

44)

وكل تفسير من ذينك التفسيرين الصحيحين يصلح أن يكون شاهداً على ادعائنا بأنَّ جميع الموجودات في هذا العالم، لا سيما الطيور التي تطير في جوِّ السماء، آياتٌ وبراهينٌ على قدْرةِ وعلم خالق الكون.

__________________________________________________

(1) هنا حيث يعود الضمير في «عَلِمَ» إلى «اللَّه» أو إلى «كلّ» هنالك جدالٌ بين المفسِّرين، ولكن ما يناسب وضع الآية هو أن يعود الضمير إلى «كل» فيعني: «كل واحد» أي أنَّ كلَّ واحدٍ من موجودات الأرض والسماء والطيور يعرف صلاته وتسبيحه جيداً.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 300

ويقول في نهاية الآية: «وَاللَّهُ عَلِيْمٌ بِمَا يَفْعَلُوْنَ».

فهو يعلم كل أعمالهم ونواياهم وجميع حاجاتهم، وهنا لماذا استند في هذه الآية إلى بسط أجنحة الطيور فقط «صافات»؟ لعلَّ السبب هو هذا الوضع العجيب والمدهش حيث تستطيع أن تتحرك في جو السماء بسرعة بدون تحريك اجنحتها كما أشرنا إلى ذلك سابقاً.

والاحتمال الوارد أيضاً هو أنّ الطيور تتحرك في السماء بشكلٍ جماعي بنحوٍ يبعث على الحيرة، حركة هندسية منظّمة، متناسقة تماماً، وبلا قيادةٍ ظاهرةٍ.

وأشار في الآية الرابعة والأخيرة من البحث إلى مسألةٍ جديدةٍ اخرى من عجائب عالم الطيور فقال: «وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِى الأَرْضِ وَلَا طائِرٍ يَطِيْرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا امَمٌ أَمْثالُكُم».

والتعبير ب «امَمْ» جمع «امهّ» يدللُ على أنَّ لها عقلًا واحساساً في عالمها، والتعبير ب «أمثالكم» يؤكد هذا المعنى أيضاً، لأنّها تشابه الإنسان في مسألة الإدراك والفهم والشعور، وهذا تأكيد مجدد للتفسير الذي ورد في الآية السابقة، بأنَّ لها تسبيحاً ودعاءً عن وعيٍ في عالمها الخاص بها «1».

إنَّ القرائن المتوفرة لدى الطيور، وباقي الحيوانات، تؤيد بأنّها ذات ذكاءٍ وشعور.

لأنَّ: أولًا: الكثير من الحيوانات تعمل بمهارةٍ ودقةٍ في بناءِ بيوتها وجمع غذائها وتربية فراخها، ورعايتها، وسعيها لسد حاجات حياتها

الاخرى بدقة ومهارة لا يُصدق معها، صدور هذا العمل عن غير عقلٍ وشعور؟.

وهي تبدي ردود فعلٍ مناسبة ازاء الاحداث التي لا تمتلك تجربةً سابقةً حيالها، فمثلًا نرى أنَّ الخروف الذي لم يَرَ ذئباً طيلة حياته له وعيٌ كاملٌ عن خطر هذا العدو ويدافع عن نفسهِ بكلِّ وسيلةٍ يستطيعها.

__________________________________________________

(1) لقد اعطى المفسرون احتمالات كثيرة في تفسير تشبيهها بالإنسان حيث يبدو أنَّ ما اوردناه أعلاه أكثر تناسباً بالرغم من عدم وجود تعارضٍ بين هذه الاحتمالات. يراجع تفسير المنار، ج 7، ص 392؛ وتفسير القرطبي، ج 4، ص 2417.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 301

لقد قاموا بتربية الحيوانات من أجل غاياتٍ مهمّةٍ، كالطيور التي تنقل الرسائل، والحيوانات التي تُرسلُ إلى السوق للشراء، وحيوانات الصيد، وكلاب الشرطة التي تستعمل للكشف عن المخدّرات، وملاحقة المجرمين وامثال ذلك، فتُربّى هذه الحيوانات بنحوٍ قد تكون أفضل وأكثر ذكاءً من الإنسان في انجاز مهمتها، حتى في هذا العصر الذي تنوعت فيه معدات كشف الجرائم لم يجدوا في انفسهم غنىً عن هذه الكلاب!.

خصوصاً أنَّ بعض الحيوانات كالنحل والنمل والأرضة، وبعض الطيور كالطيور المهاجرة، وبعض حيوانات البحر كالأسماك الحرّة التي تقطع آلاف الأميال في اعماق البحر باتجاه منشئها الأصلي أثناء وضع البيوض، تعيش حياةً دقيقةً ومليئةً بالأسرار بحيث لا يمكن نسبتُها إلى الغريزة، لأنَّ الغرائز تُعتبر عادةً مصدراً للأعمال ذات النَسق الواحد، في حين أنَّ حياة هذه الحيوانات ليست كذلك، وأعمالها دليلٌ على فهمها واحساسها النسبي.

يقول مؤلف تفسير «روح المعاني»:

أنا لا أرى مانعاً من القول بأنّ للحيوانات نفوساً ناطقة وهي متفاوتة الإدراك حسب تفاوتها في أفراد الإنسان وهي مع ذلك كيفما كانت لا تصل في إدراكها وتصرفها إلى غاية يصلها الإنسان، والشواهد على هذا كثيرة

وليس في مقابلتها دَليل يجب تأويلها لأجله «1».

والظاهر أنّ مقصوده من الشواهد هذه التلميحات أو التصريحات التي جاءت في القرآن الكريم في قصة «الهدهد وسليمان» وكذلك «النملة وسليمان»، وكذلك الروايات التي نُقلت في تفسير آية البعث بأنَّ الحيوانات تُحشرُ وتُنشرُ وتحاسبُ يوم القيامةِ أيضاً «2».

ولكن على أيّةِ حالٍ فسواء كانت أعمالها وتصرفاتها ناتجة عن عقلٍ وإرادةٍ أو عن غريزة فلا أثر لذلك على بحثنا، فهي بأيَّ نحوٍ آيةٌ من آيات اللَّه وبرهانٌ من براهين علمه وقدرته.

__________________________________________________

(1) تفسير روح المعاني، ج 7، ص 147.

(2) تفسير مجمع البيان، ج 3، ص 298.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 302

واللطيف أنّه يقول في نهاية الآية: «مَا فَرَّطْنَا فِى الْكِتابِ مِنْ شَى ءٍ» «1». «ثُمَّ إِلَى ربِّهِمْ يُحْشَرُوْنَ».

والتعبير ب «حَشر» يشير أيضاً إلى أنّها ذات عقلٍ وإرادةٍ نوعاً ما.

يُستفادُ من الآيات أعلاه أنَّ الطيور ومن عدة جوانب تعتبر من آيات اللَّه ولا يمكن نسبة هذه الظواهر الدقيقة والمعقدة والمليئة بالأسرار إلى الصدفة العمياء والصماء أو إلى الطبيعة التي لا عقل ولا شعور لها.

توضيحات

1- فَنُّ الطيران الْمعقَّد

منذ سنواتٍ والإنسان يُفكر: ما هذه القوة الخفيّة التي تساعد الطيور الثقيلة نسبياً على الطيران خلافاً لجاذبية الأرض وتجعلها تطير بانسيابية ويُسرٍ ومهارةٍ في أعالي السماء، وتتنقلُ بسرعةٍ؟ ولكن باختراع الطائرة وصناعتها تمّ اكتشاف هذا السر بانَّ هناك قوة تسمى (القوة الرافعة) تستطيع أنْ ترفع الأجسام الثقيلة جدّاً وتجعلها تطير في السماء، فضلًا عن الطيور. ويمكن توضيح ذلك في عبارةٍ بسيطةٍ وخاليةٍ من المصطلحات الفنية بما يلي:

لو كان لجسمٍ سطحان مختلفان (كاجنحة الطيور أو اجنحة الطائرة حيث يكون سطحها العلوي منحنياً وبارزاً، فلو تحرك هذا الجسم افقياً ستتولد قوةٌ خاصةٌ ترفعُهُ إلى الأعلى وهذا يعود إلى أنَّ

ضغط الهواء سيتضاعف على السطح السفلي أكثر من العلوي (لأنَّ السطح العلوي أوسع من السفلي).

وتعدّ الاستفادة من هذا القانون السبب الرئيس في تحليق الاجسام الثقيلة في الجو، ولو

__________________________________________________

(1) «فَرَّطنا» من مادة «تفريط» أي التقصير في اداء العمل وتضييعه بنحوٍ يضيع (صحاح اللغة) ويردُ هذا الاحتمال أيضاً بأنَّ المقصود من عدم التفريط في هذا الكتاب السماوي يعني أنَّ للقرآن مفهوماً جامعاً حيث يشمل كافة حاجات الإنسان إلّاأنّه نظراً إلى ذيل الآية فانَّ المعنى أعلاه يعتبر أكثر مناسبة.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 303

تأملنا اجنحة الطيور جيداً للمسنا هذا القانون الفيزيائي بكل دقة.

غير أنّ هذه مسألة واحدة فقط من عشرات المسائل المهمّة في الطيران، ومن أجل تصور أوسع له لابد من التطرق إلى الامور الآتية:

1- السرعة الأولية لحصول القوّة الرافعة (فالطائرة تسير وقتاً طويلًا على الأرض للحصول على هذه السرعة، أمّا الطيور فقد تركض قليلًا أو بقفزةٍ سريعةٍ في الهواء فتصل هذه الغاية!).

2- كيفية التحكم بهذه القوّة أثناء الهبوط (وهذا الأمر يجري في الطيور والطائرة بتقليل السرعة وتغيير هيئة الجناح!).

3- كيفية تغيير الاتجاه أثناء الطيران (ويتم هذا الأمر عن طريق الاستفادة من حركات مؤخرة الطائرة أو الريش الخاص في قوافي الطيور التي تحدث حركات في مختلف الاتجاهات وتسوق الطائر نحو أيِّ اتجاه).

4- اتخاذ الشكل المناسب للطيران بالنحو الذي يجعل مقاومة الهواء على جسم الطائر تصل إلى الحد الأدنى (وهذا الأمر تمَّ تأمينه من خلال الهيكل المغزلي للطيور، والرأس البيضوي، والمنقار المدبَّب والحاد، وهيئة الطائرة تقليدٌ له!).

5- أدوات التنسيق مع الطيران (وهذا المعنى متوفرٌ من خلال الريش الذي يسمح للطيور أنْ تسبح في الهواء، ووضع البيوض بدلًا من الحمل، كي لا يصبح جسمها ثقيلًا، والعيون الحادّة حيث ترى الفريسة

أو الصيد جيداً من مكان بعيد وأمثال ذلك).

6- لقد كان العلماء ولمدةٍ من الزمن يلاحظون أنَّ عجلات الطائرات علاوة على تخفيفها لسرعتها فهي لا تخلو من الأخطار أثناء طيرانها، حتى شاهدوا الطيور تجمع أرجُلَها أثناء الطيران وتفتحها قبل الهبوط بقليل فادركوا أنّه يجب الاستفادة من العجلات المتحركة التي تُجمع بعد الارتفاع، وتُفتح قبيل الهبوط!.

ولا عجب في إجراء العلماء لبحوث كثيرة ولسنواتٍ متماديةٍ على مختلف أنواع الطيور مهتمين بكيفية الطيران، والهبوط، وشكل الأجنحة والأذناب، وقاموا بصِناعةِ أنواع مختلفة

نفحات القرآن، ج 2، ص: 304

من الطائرات تقليداً لمختلف الطيور.

فهل يُمكن أن تكون الاسس الضرورية المذكورة في الطيران وليدة للطبيعة العمياء والصّماء؟ أوَليسَ جملةُ: «مَا يُمسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ» إشارة دقيقة وجميلة إلى جميع تلك الاسس؟ لا سيما وأنّ المعنى يتم بعد جملة: «إِنَّهُ بِكُلِّ شَى ءٍ بَصيرٌ».

2- «عجائب الطيور» و «الطيور العجيبة»

للطيور أنواع مختلفة وعجيبة، وبعضها أكثرُ عجباً، إذ يقول بعض العلماء: شوهد 289 نوعاً من الحمام و 209 نوع من الحجل و 100 ألف نوع من الفراشة لحد الآن «1».

ويمكن ذكر «الخفاش» مثلًا من بين الطيور العجيبة، فهو يضجر من ضوء الشمس على عكس سائر الطيور، ويطير في ظلام الليل بكل شجاعةٍ وجرأةٍ وبأيّ اتجاه شاء، وجسمه خالٍ من الريشِ تماماً واجنحتُه متشكلة من جلد رقيق، وهو لبونٌ ولودٌ، فيحيضُ، ويأكل اللحم، ويقالُ إنَّ الطيور تنصبُ له العداء، كما أنّه يعاديها أيضاً! لهذا فهو يقضي حياته منعزلًا.

وحركته السريعة والجريئة في ظلمة الليل من دون أن يصطدمَ بمانعٍ تبعث على الحيرةِ، فهو يَمر من خلال انحناءاتٍ والتواءاتٍ كثيرة بدون أن يضِّل طريقه، ويوفر طعامه بدقّة أينما كان مختفياً ومن دون خطأٍ، لامتلاكه لجهازٍ خفي يشبه «الرادار».

فهو يرى بأذنه «أَجَلْ بأذنه!» لأنَّ الأمواجَ الخاصَّة التي

يصدرها من حنجرته ويرسلها إلى الخارج عبر أنفهِ ترتطمُ بكل ما يصادفها وتعود، وهو يلتقط الأمواج المنعكسة بأذنه، ويتحسسُ الوضعَ في جميع الجهات فيتجنب العقبات.

إنَّ بناءَ حنجرته وانفهِ وأذنهِ عجيبٌ، دقيقٌ لا يوجد له مثيل في أيٍّ من اللبائن.

والأمواج التي يرسلها إلى الخارج هي أمواج ما وراء الصوت، التي لا نستطيع سماعها، وفي كلِّ ثانيةٍ يرسل 30- 60 مرّة إلى كل الاتجاهات المحيطة به ويستلم ردَّها.

__________________________________________________

(1) يراجع كتاب أسرار حياة الحيوانات، ص 142 إلى 196.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 305

لقد اجروا بحوثاً كثيرة حول «الخفّاش» وأَلّفُوا مقالاتٍ عديدةً، تتشكل منها دروس حقة لمعرفة اللَّه.

ولهذا يتحدث أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة في خطبةٍ معروفةٍ باسمِ «خطبة الخفّاش» عن هذا الحيوان، ويُبينُ مهارتَه ودقته في بيانهِ العظيم والبليغ، حيث يقول:

«من لطائف صنعته، وعجائب خلقته، ما أرانا من غوامض الحكمة في هذه الخفافيش ...» «1»

ثم يضيف بصدده قائلًا:

«وقيل من الحيوانات من يحتضن صغاره، ويحمله تحت جناحه وربما قبض عليه بفيه وهو في حنوه عليه واشفاقه عليه وربما ارضعت الانثى ولدها وهي طائرة ...» «2».

ومن عجائب الخلق طائرٌ آخر يُسمى «الطاووس»، بريشه الجميل الذي تصيب الدهشة من يتمعن بألوانه، فكأنّما خرجَ لتوِّهِ من تحت يد رسّام ماهر مليئاً بالألوان الخلابة الزاهية الشفّافة والجذّابة، مصففاً ريشه بمظلة عجيبة التي إذا رأيتها فسوف لن تغيب عن بالك، أنّ ذلك لآية اخرى من آيات خلقِ اللَّه.

لهذا أكَّد معلمُ التوحيد ومعرفة اللَّه، الإمام علي عليه السلام في احدى خطب نهج البلاغة «خطبة الطاووس» على هذا الأمر قائلًا:

«ومِنْ أَعجبِها خلقاً الطاووس الذي أَقامَهُ في أَحكَمِ تعديلٍ، ونضّد ألوانه في أحسن تنضيد بجناحٍ أشرج قَصَبَهُ وذنب أطال مَسْحَبَه

إذا درج إلى الانثى نثره من طيّه وسما به مطلًا على رأسه كأنّه قلع داري عنجة نوتيّةٌ يختال بألوانه ...» «3».

و «الطيور المهاجرة» من أكثر أنواع الطيور إثارة للدهشة أيضاً، فهي تقطع أحياناً كل المسافة بين القطب الشمالي والقطب الجنوبي، ثم تعودُ إلى مكانها الأول، قاطعة سفراً طويلًا بعيداً قد يبلغ آلاف الأميال، والعجيب أنّها تستخدم في هذه المسافة الشاسعة آلاتٍ

__________________________________________________

(1) نهج البلاغة، الخطبة 155.

(2) سفينة البحار، ج 1، ص 403.

(3) تراجع بقية هذا الحديث في الخطبة 165 من نهج البلاغة.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 306

خفية تستطيع بها تشخيص طريقها بين الجبال والغابات والصحارى والبحار.

والأعجب من كل هذا مواصلة طيرانها لعدّة أسابيع بدون توقف ليلًا ونهاراً دون الحاجة إلى غذاء، لأنّها تبدأ بالأكل قبل بداية سفرها- بدافع داخليِّ-، أكثر من الحد اللازم، وتختزن هذه الأطعمة على هيئةِ دهون في جسمها، كي تكتسب الطاقة اللازمة لهذا الطيران الطويل المستمر.

فهل تستفيد من الجاذبية المغناطيسية للأرض من أجل تشخيص طريقها؟ أو من استقرار الشمس في السماء والنجوم أثناء الليل؟ وفي هذه الحالة يجب أن تكون هذه الطيور من الفلكيين المرموقين، أو تستفيد من طريقةٍ خفيَّة اخرى نجهلها لحد الآن؟

والأهم من ذلك أنّها تنام في السماء أحياناً وهي طائرةٌ وتواصل مسيرتها نحو هدفها! كما أنّها تتوقعُ التحولات في الجو قبل حصولها من خلال تنبؤ ذاتي، فتستعد للحركة.

لعلكم شاهدتم بأعينكم أنَّ الطيور المهاجرة تتحرك بشكلٍ جماعيٍّ وتُشكِّلُ نسقاً على هيئةِ رقم 7، فهل هذا حدثَ صدفةً؟ لقد أثبتت بحوث العلماء أنَّ الطير عندما يحرِّك جَناحَيهُ في الهواء فهو يخفضه ممّا يسهل عملية تحريك جناح الطائر الذي يليه، لهذا فانَّ الطيور حينما تتحرك بالشكل أعلاه قليلًا ما

تتعب، وتختزن كميةً لا بأس بها من طاقتها، فايُّ معلِّمٍ اعطاها هذا الدرس الدقيق؟

3- الطيور في خدمة الإنسان والبيئة

يقول أحد العلماء: إنَّ شقاءَ وقسوة الإنسان، وغفلته وجهله لا عدّ ولا حدود لها، فيجب أن يعلَم أنَّ قتلَ الطيور يكلفه خسارةً فادحةً، ويحرمُهُ عون ونصرة أعزِّ وأغلى الاصدقاء والرفاق في صراعه مع الحشرات الضارة.

فللإنسان طريقتان في مكافحته للحشرات الضارة: إحداهما الاسلوب البدائي وهو عبارة عن إبادة اليرقات في البساتين والمزارع وقتلها، والقضاء على الجراد وحشرة المنّ، عن طريق السموم، والاخرى الصراع العلمي عن طريق «البيولوجيا» بواسطة الفايروسات

نفحات القرآن، ج 2، ص: 307

والطفيليات الخاصة التي يتم تكثيرها لهذا الغرض.

إلّا أنّه يدفعُ ثمناً غالياً في هذين الاسلوبين من الصراع ويتحملَ المتاعب والمشقة، بينما لو ترك الطيور سالمةً، وقام بتكثير الطيور التي تقتل الحشرات كالبوم، وبعض الطيور التي تتغذى على الحشرات فستكون المكافحة أسهل وافضل (وارخص).

يقول عالمٌ يُدعى «ميشيل»: «لولا وجود الطيور ستصبح الأرض فريسةً للحشرات»، ويكتبُ آخرُ يُسمى «فابر» في تأييده: «لولا وجود الطيور سيقضي القحط على البشر»!.

وتحدِّثنا الاحصاءات، بأنْ لو حصلنا على حسابات دقيقة نسبياً عن معدل اليرقات والحشرات التي تستهلكها الطيور الصغيرة سنوياً في طعامها وطعام فراخها فستتضح هذه المسألة كثيراً.

فهنالك طيرٌ صغيرٌ يُدعى «رواتوله» يأكل سنوياً «ثلاثة ملايين» من هذه الحشرات المهاجمة! وهناك نوع من الطيور يُسمى «الطائر الازرق» يأكل سنوياً «ستة ملايين ونصف المليون» من الحشرات، ويستهلك «أربعاً وعشرين مليوناً» لاطعام فراخه التي لا تقل عادةً عن اثني عشر أو ستة عشر فرخاً ...

والسنونو تطوي يومياً أكثر من ستمائة كيلو متر وتأكل «الملايين» من الذباب، وهناك طيرٌ يُدعى «تروغلوديت» يتغذى على «تسعة ملايين» حشرة منذ أن يخرج من البيضة وحتى طيرانه من العش! وغالباً ما يعتبر الناس

أنَّ الغراب الاسود مضرٌ، ولكن لو ذبحتم أحد الغربان وتفحصتم حوصلته تجدونه مليئاً بنوعٍ من الديدان البيضاء «1».

هذا جانبٌ من خدمات الطيور للمزارعين والبيئة، فافرضوا الآن لو أنّها تأخذُ نصيباً من محاصيلنا الغذائية الذي لا يساوي واحداً بالالف ممّا تستحقه من هدية! فهل يؤدّي بنا هذا إلى اعتبارها حيواناتٍ ضارةً ومؤذية؟

فَمَنْ أَوْدَعَ هذا التكليف لدى هذه الطيور بأن تتكفَّل بدورٍ مهمٍ بموازنة القوى في عالم الحيوانات والحشرات التي لها فوائدها أيضاً.

__________________________________________________

(1) نظرةٌ إلى الطبيعةِ وأسرارها، ص 195- ص 197 «مع الاختصار».

نفحات القرآن، ج 2، ص: 308

4- دروس التوحيد في وجود الطيور

يقول الإمام الصادق عليه السلام معلمُ التوحيد العظيم في الحديث المشهور ب «المفضل»:

«تأمّل يا مفضل جسم الطائر وخلقته فإنه حين قدّر أن يكون طائراً في الجو خفّف جسمه وادمج خلقه فأقتصر به من القوائم الأربع على اثنتين ومن الأصابع الخمس على أربع، ومن منفذين للزبل والبول على واحد يجمعهما ثم خلق ذا جؤجؤ محدد ليسهل عليه أن يخرق الهواء كيف ما أخذ فيه كما جعل السفينة بهذه الهيئة لتشق الماء وتنفذ فيه وجعل في جناحيه وذنبه ريشات طوال متان لينهض بها للطيران وكُسيَ كله بالريش ليدخله الهواء فيقله، ولما قدّر أن يكون طعمه الحبّ واللحم يبلعه بلعاً بلا مضغ نقص من خلقه الأسنان وخلق له منقار صلب جاس يتناول به طعمه فلا ينسجح من لقط الحب ولا يتقصف من نهش اللحم، ولمّا عدم الاسنان وصار يزدرد الحبّ صحيحاً واللحم غريضاً اعين بفضل حرارة في الجوف تطحن له الطعم طحنا يستغني به عن المضغ؛ واعتبر ذلك بأنّ عجم العنب وغيره يخرج من أجواف الانس صحيحاً ويطحن في أجواف الطير لا يرى له أثر ثم جعل ممّا يبيض بيضاً

ولا يلد ولادةً لكيلا يثقل عن الطيران ...» «1».

ثمَّ يشرحُ الإمام عليه السلام بعد ذلك، الامورَ المهمّة والدقيقة الاخرى حول الطيور حيث نُعرض عنها مراعاةً للاختصار.

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار، ج 3، ص 103 وما بعدها.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 309

18- آياتُه في حياة النحل

تمهيد:

إنَّ حياة النحل من أكثر ظواهر الخلق دهشةً، وقد اكتشفت عجائبُ عن حياة هذه الحشرة الصغيرة من خلال بحوث العلماء، إذ يعتقد البعض أنَّ حضارتها وحياتها الاجتماعية أكثر تطوراً من حياة الإنسان، فانتم لا تعثرون على أي مجتمعٍ متطورٍ قد حلَّ مشكلة «البطالة» و «المجاعة» بشكلٍ كاملٍ، إلّاأنّ هذه المسألة حُلَّت تماماً في عالم النحل (خلايا النحل)، فلا يُعثُر في هذه المدينة على زنبورٍ عاطلٍ عن العمل أو زنبور جائعٍ أيضاً.

فبناء الخلية، وكيفية جمع رحيق الورود، وصناعة العسل وخزنهِ، وتربية الصغار واكتشاف المناطق المليئة بالأزهار، واعطاء عنوان السكن لباقي النحل، والعثور على الخليّةِ من بين مئات أو آلاف الخلايا كل ذلك دليلٌ على الذكاء الخارق لهذه الحشرة.

إلّا أنّ من المسلَّم به أنَّ الإنسان لم يكن يمتلك مثل هذه المعلومات عن النحل سابقاً، ولكن القرآن الكريم أشار في السورة المسماة باسم هذه الحشرة «النَّحل» باشاراتٍ مليئةٍ بالمعاني إلى الحياة المعقَّدة والمدهشة لهذه الحشرة.

بهذا التمهيد نتأمل خاشعين في الآيات الآتية:

1- «وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلىَ النَّحْلِ أَنِ أتَّخِذِى مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً ومِنَ الشَّجَرِ ومِمَّا يَعرِشُونَ». (النحل/ 68)

2- «ثُمَّ كُلىِ مِنْ كُلِّ الَّثمَراتِ فَاسلُكِى سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرابٌ

نفحات القرآن، ج 2، ص: 310

مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيْهِ شَفاءٌ لِّلنَّاسِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيةً لِّقَومٍ يَتَفَكَّرُونَ». (النحل/ 68- 69)

شرح المفردات:

«النَحْل»: اسمُ زنبور العسل و «نِحلَة» (على وزن قِبلة) تعني العطاء بلا عوض، ومفهومها محدودٌ أكثر من مفهوم الهبة، لأنَّ «الهبة» تشمل العطاء بعوض وبغير عوض بينما تشمل النحلة العطاء بلا عوض فقط، و «نحول» تعني الضَعف، تشبيهاً بُهزالِ زنابير العَسَلِ، و «نواحل» تطلق على السيوف الحادة «الرفيعة».

وقد يُحتمل أنّ المنشأ الاصلي ل «نِحلة» يعني العطاء، وإذا اطلقَ على

زنبور العسل «نَحل» فلأنّه يصطحبُ معهُ عطاءً وهبةً حلوةً لعالم الإنسانية. «1»

و (أوْحى : من مادة «وحي» ولها معانٍ كثيرة وقد ذكرنا شرحها في الجزء الأول من «نفحات القرآن» في بحث «مصادر المعرفة»، وأصلها يعني «الإشارة السريعة» وبالنظر إلى أنَّ أمر اللَّه تعالى فيما يتعلق بالنشاطات المختلفة والمعقّدة للنحل قريب الشبه من الإشارة السريعة أو الالهام القلبي فهذا المعنى استُخدمَ أيضاً فيما يخص النحل، لأنَّ جميع هذه الأعمال المعقّدة قد تُنجز من خلال إشارةٍ الهية سريعة.

لنزورَ بلاد النحل:

لقد استند القرآن الكريم في آيات عديدة إلى جوانب مختلفة من حياة النحل حيث كلٌ منها اعجبُ من الآخر، فقد أشارَ أولًا إلى مسألة بناء بيوتها، قائلًا: «وَأَوْحَى رَبُّكَ الى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِى مِنَ الْجِبالِ بُيُوْتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ».

وقد يكون التعبير ب «اتَّخذي» بصيغة الفعل المؤنث إشارة إلى أنَّ النَّحلَ عندما يهاجر

__________________________________________________

(1) مفردات الراغب.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 311

لاختيار بيتٍ جديدٍ فهو يسير خلف «الملكة» التي هي بمنزلة القائد في الخليّة، وعليه فانَّ المتنفذ الحقيقي هي «الملكة».

والتعبير ب «أوحى تعبيرٌ جميلٌ حيث يبرهنُ على أنَّ اللَّه تعالى قد علَّمَ هذا الحيوان طراز بناء البيت الذي يُعدّ من أروع أعمال هذه الحشرةِ بواسطةِ الهامٍ خفيٍّ وسيأتي شرحه في «التوضيحات» إن شاء اللَّه، وهي تقوم بانجاز واجباتها على أفضل وجهٍ وفقاً لهذا الوحي الإلهي، فقد تختار صخور الجبال، أو بطون الكهوف لبناء بيوتها، وتضع الخلية بين أغصان الأشجار أحياناً، وقد تستخدم الخلايا الاصطناعية التي يصنعها الإنسان لها على القصب، أو أنّها هي التي تقوم ببناء البيت على القصب.

إنَّ ألفاظ الآية تدللُ جيداً على أنَّ بناء البيت هذا ليس بناءً عادياً وإلّا لما عبَّر عنه القرآن بالوحي، وسنرى عاجلًا أنَّ

الأمر هكذا.

وفي الآية الثانية توجَّه نحو صناعة عسل النحل مضيفاً: أنَّ اللَّه قد أوحى لها أن تأكل من جميع الثمار: «ثُمَّ كُلِى مِنْ كُلِّ الَّثمَراتِ» «واقطعي الطرق التي يَسَّرها وسخَّرها لكِ ربُّكِ لتكوين العسلِ الحلو»: «فَاسْلُكِى سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا».

«سُبُل»: جمع «سبيل» وتعني «الطريق اليسير» «1»

.

وهنا: ما المقصود من هذه السُبُل في الآية أعلاه؟ لقد أبدى المفسِّرون احتمالات مختلفة:

فقال بعضهم: المقصود هي الطرق التي يطويها النَّحلُ نحو الأزهار، والتعبير ب «ذُلُل» (جمع «ذلول» وتعني التسليم والطاعة) «2» يدللُ على أنَّ هذه الطرقَ تُعيَّنُ بدقةٍ بحيث يكون ارتيادها سهلًا وعاديّاً للنحل؛ وتؤيدُ دراساتُ خبراء النحل هذا المعنى أيضاً، فهم يقولون:

__________________________________________________

(1) كما أوردها الراغب في المفردات.

(2) من الممكن أن تكون «ذللًا» حالًا ل «سبل»، أو ل «النحل»، ويبدو أنَّ الاحتمال الأول اكثرُ صحةً.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 312

تخرجُ مجموعةٌ من النحل مكلفةٌ بتشخيص مكان الأزهار صباحاً، من الخلّيةِ، وبعد اكتشاف المناطق المليئة بالأزهار ترجع، وتعطي للباقين العنوان الكامل لذلك المكان بشكلٍ سريٍّ ومدهش، وقد تشَخِّصُ الطريق بوضعها علاماتٍ عليه متكونة من موادٍ ذات رائحةٍ خاصةٍ، وبنحوٍ لا تضل أيّة نحلة باتباعها.

وقال بعضهم الآخر أيضاً: إنّ المقصود هو طريق العودةِ إلى الخلية، لأنَّ النحلَ قْدَ يُجبَر على قطع مسافاتٍ طويلةٍ، ولا يبتلى بالتيه عند عودته، فهو يتجه نحو الخليّة بدقةٍ، بل وأنّه يعثر على خليته بيُسرٍ من بين عشرات الخلايا المشابهة.

وقال آخرون: إنَّ «السُبُلَ» هنا لها معنىً مجازيٌّ فهي تشير إلى الاساليب التي يتبعها النحلُ لإعداد العسل من رحيق الأزهار، فهي تمتص رحيقَ الأزهار بنحوٍ خاصٍ ترسله «حوصلتها» وهناك حيث تكون كمختبرٍ للمواد الكيميائية يتبدل إلى «عسلٍ» من خلال التغييرات والتطورات التي تجري عليه، ثم يستخرجه

الزنبور من حوصلته.

أجَلْ .. إنّه يعرف الاسلوب اللازم لاجراء هذا العمل جيداً، من خلالِ أمرٍ إلهيٍّ فيسلكُ هذا الطريق بدقّة.

ونظراً إلى أنّ هذه التفسيرات الثلاثة لا تتعارض فيما بينها وكون ظاهر الآية عاماً، فيمكن القول: بشمول جميع هذه المفاهيم، إذ يقطع النحل هذه الطرق الملتوية والمنحنية بالاستفادة من الشعور الذي منحه اللَّه له، أو بالالهام الغريزي، ويستخدم هذه الأساليب بكل مهارةٍ واقتدار.

وفي المرحلةِ الآتية أشار إلى صفات «العسل» وفوائده وبركاته قائلًا: «يَخْرُجُ مِنْ بُطُوْنِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ».

وقد حَمَل بعضهم التعبير ب «بُطُوْنِ» (جمع بطن) على معنى مجازيٍّ وقالوا: إنّها تعني الأفواه، وقالوا إنَّ العَسَل الذي هو رحيق الأزهار مخزون في فم النَّحل ثم ينتقل إلى الخليّة «1».

__________________________________________________

(1) تفسير مجمع البيان، ج 6، ص 372.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 313

بينما يعتقد بعضهم أنَّ العسل هو فضلات النحل!

ويعتبره بعضهم الآخر من المسائل الخفيّة التي لم تُكتشف لحد الآن «1».

ولكن بحوث العلماء برهنت على عدم صواب أيٍّ من هذه الآراء- كما أشرنا-، بل إنّ النحلَ يُرسلُ رحيق الأزهار إلى مكان خاصٍ في جسمه يسمى «الحوصلة» وبعد أن يجري عليه تغييرات وتطورات يقذفه خارجاً من فمه «2».

والتعبير ب «بُطون» شاهدٌ على هذا المعنى واجلى منه التعبير ب «كُلي»، لأنَّ العربَ لا يقولون لحفظ الشي ء في الفم «أكل» أبداً، وحمل هذه الجملة على المجاز تفسيرٌ مجازيٌ لا ضرورة له.

وأمّا المقصود من «ألوان مختلفة» هنا فهي ذات تفاسير متباينة أيضاً، فقد اعتبرها بعضهم بمعنى هذا «اللون» الظاهري الذي يتفاوت فيه العسل فبعضه أبيضٌ شفاف، وبعضٌ أصفر، والآخر أحمر اللون، وبعضُه يميلُ إلى السواد، ويمكن أن يكون هذا التباين مرتبطاً باختلاف أعمار النحل، أو مصادر الأزهار التي يتغذى عليها، أو كليهما.

وقد

احتملَ أيضاً أن يكون المقصود من هذا التفاوت (نوعية) العسل، فبعضٌ غليظ، وبعض خفيف، أو أنّ عسلَ الأزهار المختلفة له آثار ومزايا مختلفة أيضاً، كما يختلف العسل العادي كثيراً عن «الشهد» (العسل الخاص الذي يُصنع لملكة الخليّة)، لأنَّ المشهور أنَّ ل «الشهد» قيمةً من الناحية الغذائية بحيث يزيد كثيراً في عمر الملكة ولو تمَّكنَ الإنسان أن يتغذى عليها فإنّها تتركُ اثراً عميقاً في طول عمره.

وفي بعض البلدان هناك حدائق من ورودٍ متشابهة حيث تُنصب فيها الخلايا الخاصة بالنحل، وبهذا تُستخلص أنواع مختلفة من العسل كلٌ منها مستخرجٌ من زهرٍ خاص، ويتمكن الراغبون من شراء العسل من الورد الذي يرغبونه، وبهذا نواجه ألواناً مختلفةً من

__________________________________________________

(1) وفي تفسير القرطبي ينقل عن ارسطو أنّه صَنَع خليَّةً من الزجاج كي يرى كيفية صناعة العسل غير أنَّ النَّحلَ كان يُعتِّمُ الزجاجة لكي لا ينكشف السر حينما يريد مزاولة عمله (المصدر السابق ليرى .

(2) تربية النحل، لمحمد مشيري، ص 113؛ وكتاب نظرة على الطبيعة وأسرارها، ص 126.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 314

العسل تدخل في المفهوم الواسع والعام للآية.

والتعبير ب «شراب» جاء لأنَّ العرب لا يستخدمون لفظ «أكل» بخصوص العسل كما يقول بعض شّراح لغة العرب، ويُعبر عنه بالشرب دائماً (ولعلَّه بسبب أنَّ العسلَ في تلك المناطق يكون خفيفاً) «1».

وفي الختام أشار إلى تأثير العسل في العلاج قائلًا: «فِيْهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ».

والتعبير ب «شفاء» بصيغة النكرة، إشارةٌ إلى أهميّته الفائقة، وكما سيأتي في التوضيحات إن شاء اللَّه، فللعسل الكثير من المزايا العلاجية الجاهزة التي تحتوي عليها الأزهار والنباتات الطبية الموجودة على الكرة الأرضية، وقد ذكر العلماء لا سيما في هذا العصر خصائص عديدة له تشمل الجانب العلاجي وجانب الوقاية من

الأمراض أيضاً.

فللعسل تأثيرات مذهلة في علاج الكثير من الأمراض وهذا يعود إلى الفيتامينات والمواد الأساسية التي يحتويها، حيث يمكن القول: (إنَّ العسلَ يخدم الإنسان علاجياً وصحيّاً وجمالياً).

وفي نهاية الآية أشار إلى الجوانب الثلاثة الآنفة (بناء خلية النحل، طريقة جمع رحيق الأزهار وصناعة العسل، وخصائصه العلاجية) فيقول: «إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ».

وعليه ففي كل مراحل حياة النحل، واستخراج محصول هذه الحشرة الذكية والمثابرة، تظهر للعيان آيةٌ بل آياتٌ لعلمِ وقدرة الخالق جلَّ وعلا الذي ابتدعَ مثل هذه الظواهر المذهلة.

توضيحات

1- حضارة النَّحل العجيبة!

مع اتساع علم الحيوان وعلم الاحياء والدراسات المستفيضة للعلماء تم اكتشاف

__________________________________________________

(1) تفسير روح المعاني، ج 14، ص 168.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 315

مسائل عجيبة وحديثة عن حياة هذه الحشرة الصغيرة أذهلت الإنسان بشدة، ولا يُصدَّق أبداً بأنْ يسودَ حياة النحل مثل هذا النظام والتدبير والتخطيط بلا أيِّ احساسٍ طبيعيٍّ.

يقول أحد العلماء المختصين بعلم الاحياء ويدعى «مترلينغ» الذي كانت له دراسات كثيرة على مدى سنوات طويلة حول حياة النحل، والنظام العجيب الذي يحكم ممالكها يقول: «إنَّ الملكة في مدينة النحل ليست هي الزعيم كما نتصورها، بل هي كسائر أفراد هذه المدينة تخضع لسلسلةٍ من القوانين والأنظمة العامة أيضاً».

ثم يضيف: «نحن لا نعرف مصدر هذه القوانين وبأيّة طريقةٍ توضعُ، ونحن ننتظر اليوم الذي نتوصل فيه إلى معرفة واضع هذه المقررات، إلّاأننا نطلقُ عليه حالياً اسم «روح الخليّة»، ولا ندري أين تكمنُ «روح الخليّة» وفي أيٍّ من سكان الخلية حلَّت، إلّاأننا نعرف أنَّ الملكةَ كالآخرين تطيعُ روح الخلية أيضاً»!.

«إنّ روحَ الخليّةِ لا تشبه غريزة الطيور، ولا تعمل بآليةٍ وإرادةٍ عمياء، فهي تشخصُ تكليفَ كلِّ واحدٍ من سكان هذه المدينة العملاقة حسب قابليته وتعطي لكلٍّ منها واجباً،

فقد تأمُر مجموعةً ببناء البيت، وأحياناً تُصدر أمرَ الرحيل والهجرة»

«والخلاصة إننا لا نستطيع إدراك أنَّ قوانين مملكة النحل التي توضع من قبل روح الخليّة هل ستطرح في «مجلس شورى ويُصادقُ عليها ويتخذُ القرار بتنفيذها؟، ومَنْ الذي يُصدرُ أمرَ الحركةِ في اليوم المحدَّد»؟! «1»

إلّا أنَّ القرآن الكريم أعطى جواباً لجميع هذه التساؤلات بتعبيرٍ جميلٍ ودقيقٍ جدّاً إذ يقول: «وَأَوْحى رَبُّكَ الَى النَّحْلِ»!

وهو نفس التعبير الذي ذكرَهُ بخصوص الأنبياء (عليهم السلام)، صحيحٌ أنَّ هذا الوحي يختلف عن ذلك الوحي كثيراً، إلّاأنّ تناسقَ التعبير دليلٌ على أهميّة العلم الذي أودعه اللَّه لدى النَّحل، كي يدعو مفكّري العالم إلى دراسة أوضاعها.

فمن المسلَّم به أنَّ بناء خلية النحل يجري بالهامٍ الهيٍّ، لأنَّها تبني تشكيلات سداسيّة

__________________________________________________

(1) كتاب النحل، تأليف مترلينغ، ص 35 و 36 مع الاختصار.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 316

منظمة واسعة من كمية قليلةٍ من الشمع (حيث يمكن استغلال جميع زواياه ويكون مقاوماً أمام الضغط أيضاً) وتتكون بيوتها من طبقتين، وعندما تبني بيتاً في الجبال أو على الأشجار فهي تقتصر على هاتين الطبقتين إلّاأنّها تضيفُ طبقتين اخريين في الخلايا الاصطناعية وبما يمكن استيعابه منها.

ويتخذ قعر البيت شكلًا هرمياً حيث يتألف من ثلاثة سطوح لوزية الشكل ويغور الرأسُ والأجزاء البارزة بكل طبقةٍ في قعر الطبقة السفلى

وقد أثبتت التجارب أنّه لو كان سطح الشمع مربع الشكل أو باي شكل آخر وصُبَّ في قوالب اصطناعية ووُضعَ النحل في داخله فسوف لا يرتضي مثل تلك الجدران غير المطابقة للمواصفات، بل يرفع الجدران إلى الأعلى ويعيدها إلى وضعها الصحيح.

لقد قاسَ أحد العلماء، قعر بيت النحل، فكانت زاويته الكبيرة تُقدرَّ ب 9. 1 درجة و 28 دقيقة، ثم طرحت هذه المسألة على مهندسٍ

الماني كبيرٍ يُدعى «كنيك» كسؤالٍ عامٍ بأن لو أراد إنسان بناءَ هرمٍ بأقلِ كميةٍ من مواد البناء وباكبر ظرفية بحيث يتشكل من ثلاثة سطوحٍ لوزية فما مقدار زواياه؟.

فقام بحلَّ هذه المسألة المعقدة بالاستعانة بحساب «ديفرانسيل» وكتب في الجواب، مائة وتسعة درجات وستة وعشرين دقيقة بدونٍ علمٍ منه بأنَّ هذا يرتبط ببيت النَّحل ومتفاوت معه بدقيقتين فقط.

ثم تلاهُ مهندسٌ آخر يُدعى «ماغ لورن» فاجرى حساباتٍ دقيقةً وتأكَّدَ بأنَّ تلك الدقيقتين كانتا نتيجة لاهمال المهندس الأول، والجواب الصحيح كما فى عمل النحل»! «1»

ينقل العالم البلجيكي المعروف «متر لينع» في كتاب «النحل» عن أحد العلماء ويُدعى «رأيت» ما يلي: لدينا ثلاثة طرق علمية فقط في الهندسة لتقسيم الفواصل المنظمة وربطها وتكوين الأشكال الكبيرة والصغيرة، وهذه الطرق الثلاثة عبارة عن (المثلث القائم الزوايا) و (المربّع) و (المسدَّس) وتستخدم الطريقة الثالثة أي «المسدَّس» في بناء غرف النحل،

__________________________________________________

(1) تفسير روح الجنان هامش المرحوم الشعراني، ج 7، ص 123 «مع شي ء من الاختصار».

نفحات القرآن، ج 2، ص: 317

وهذا الشكل أكثر ملاءمةً لاستحكام البناء (لأننا لو دققنا قليلًا نجد أنَّ الشكل السداسي يشبه الأقواس من جميع الجهات حيث يمتلك الحد الأقصى لمقاومة الضغط، بينما تتضرر المثلثات والمربعات أمام الضغط كثيراً).

بالإضافة إلى أنَّ جسمَ النحل اسطواني الشكل تقريباً ويتلاءم كثيراً مع الخروج والدخول في مثل هذه البيوت.

على أيّةِ حالٍ، كلَّما تحققّنا بخصوص ما أشار إليه القرآن الكريم في مسألة بناء بيت النّحل نحصل على مسائل عجيبةٍ جديدة، تجعلنا نعظم خالق ومبدع ومرّبي هذه الحشرة العجيبة.

2- جمع رحيق الأزهار وصناعة العسل

الأمر الثاني الذي استند إليه القرآن هو جمع العسل من رحيق الأزهار، وهو من المسائل المدهشة والمحيّرة حقاً.

يقول بعض العلماء: يجب أن تسافر 50 الف نحلة من أجل

إعداد كيلو غرام واحد من العسل!.

وتؤكد حسابات العلماء أيضاً أنّه من أجل اعداد كيلو غرام واحد من الرحيق يجب أن يَمتصَ النحل سبعة آلاف وخمسمائة زهرةٍ كمعدلٍ ويستخرج رحيقها (وطبقاً لهذه المعادلة يجب امتصاص 5، 7 مليون زهرةٍ لاعداد كيلو غرام واحد من العسل!) «1».

ولابدّ أن نعلمَ أيضاً أنَّ النَّحلَ يسافر يومياً حوالي 17- 24 مرّة من أجل جمع رحيق الأزهار.

ولا عجب أن نعلم أنّ النَحْلَ لم يَذق طعمَ الراحةِ طول عمره، وأنّه لا يرى النومَ أبداً، فهو يقظٌ طول عمره! «2».

__________________________________________________

(1) تربية النحل، ص 112.

(2) المصدر السابق، ص 115.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 318

ومن أجل أن ندرك العَمَلَ المرهق لهذه الحشرة الكادحة يجب أن نقول انَّهُ يتعين على النحل أن يسافر 80 ألف مرّة ذهاباً واياباً على الاقل من أجل كل اربعمائة غرام من العسل الذي يَحصل عليه، ولو ربطنا هذا الذهاب والاياب معاً وقدَّرنا مسافةَ كلِّ مرةٍ (كمعدل) بكيلو مترٍ واحدٍ، ستكون المسافة التي يقطعها النحل من أجل الحصول على اربعمائة غرام من العسل تعادل ضعفَ محيط الكرة الأرضية، أي أنَّ هذه الحشرة الكادحة تقطع مسافة ما يعادل ضعف محيط الكرة الأرضية من أجل جمع شرابٍ يُصنعُ من اربعمائة غرام من العسل! «1».

ومن الضروري الانتباه إلى هذه النكتة وهي أنَّ معظمَ الأزهار لا تمتلك الرحيق باستمرار كي يستطيع النحل امتصاصه، بل إنّها تقدّمُ رحيقها مرةً واحدةً في اليوم وفي ساعاتٍ معينةٍ تتبع نوع الزهرة، فبعض الأزهار تعطي رحيقها صباحاً، وبعضها ظهراً، وبعضها الآخر بعد الظهر، والعجيب أنّ النَّحلَ يعرف هذه البرامج جيداً فيتوجه نحو الأزهار وفقاً لها تماماً فلا يذهب وقته هدراً! «2».

و حريٌ بالإنسان أن يخجلَ عندما يشاهد هذه الأرقام

والاعداد في مجال جمع العسل وعدد مرات الطيران وعدد الأزهار المستهلكة من أجل غرامٍ واحدٍ من هذه المادة الغذائية المهمّة، ولكن لو فكَّر بامعان في نفس الوقت بعظمة خالقِ هذه الحشرة الكادحة وتَحقَّقَ بعلمه وقدرته لخضع امامه مؤدياً شكر هذه النعمة، ويُمكن أن يكون كل ذلك مقدمةً لهذه الغاية السامية.

والنكتة الاخيرة التي يجب أن نذكرها ونغلقَ هذا الملف الكبير قبل أن نخرج عن مضمون البحث التفسيري، هي أنَّ النحل علاوةً على امتصاصه للرحيق فهو مكلَّفٌ بجمع «الحبوب الصفراء» للأزهار المسماة «بولن» ومزجها مع العسل.

ولهذه الحبوب آثار حياتية فائقة، فهي تحتوي على 21 نوعاً من حامض الامونيك

__________________________________________________

(1) عالم الحشرات وفقاً لنقل عجائب الخلق، ص 143.

(2) الحواس الخفية للحيوانات تأليف فيتوس دروشر، ص 157 (مع الاختصار).

نفحات القرآن، ج 2، ص: 319

وأنواع الزيوت، وهورمونات النمو، والسكَّر، والانزيمات، كما تستخدم عصارة الحبوب تلك في معالجة الالتهابات والاورام المزمنة التي تعجز المضادات الحيوية عن علاجها، كما أنّ لها آثاراً منشطّة أيضاً «1».

وللأرجل الخلفية للنحل نتوءات كأسنان المشط يثير بها غبار الأزهار، ويصنع منه ذرات كروية، وهنالك أيضاً إلى جانب تلك النتوءات ما يشبه «السلّة» وآخر يشبه «الملقط» حيث يجمع ذرات غبار الورد هناك ويحفظها، وحينما يعود إلى الخليَّة يجلب معه بالاضافة إلى رحيق الأزهار كرتين صفراوين كانتاج لعملهِ اليومي «2».

3- العسل غذاءٌ مفيدٌ ودواءٌ شافٍ

لقد تحدثَ القرآن الكريم في الجزء الثالث من الآيات المذكورة عن مسألة التأثير المهم للعسل في شفاء المرضى بتعبير مختصر وغامض ويتم في هذا العصر كشف النقاب عن أسراره من خلال دراسات المختصين بعلم الغذاء، إذ يذكر هؤلاء مزايا وآثاراً لا تُحصى للعسلِ تبعث على دهشة الإنسان.

فهم يقولون: إنَّ العسلَ مادةٌ لا تفسد أبداً وتبقى صالحةً لآلاف

السنين فيما إذا كان صافياً، لأنّ اي مكروب لا يمكنه أن يعيش فيه أبداً «3».

وقد عُثرَ في قبور الفراعنةِ على ظروفٍ من العسل تعود إلى آلاف خلت من السنين، وقد بقي هذا العسل صالحاً وطبيعياً بشكل كامل، وهذا بحد ذاته دليلٌ على صدق الادعاء أعلاه.

العسل ونظراً لأنّه يُستخرج من رحيق الأزهار المختلفة (ونحن نعلم أنّ كل نوع من

__________________________________________________

(1) الجامعة الاولى ج 5، ص 57 إلى 59 (مع الاختصار).

(2) نظرة على الطبيعة وأسرارها، ص 127.

(3) مجلة السلامة.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 320

الأزهار يحتوي على مواصفات علاجية خاصة) فيمكن أنْ يحمل معه صفات هذه الأزهار.

يقول العلماء: يعتبرُ العسلُ مادةً حيَّةً بسبب احتوائه على الفيتامينات و «الانزيمات» و «حامض الفورميك» فهو يحتوي على الفيتامينات: أ، ب، ث، د، ك، آي، ومواد معدنية كالبوتاسيوم، والحديد، والفسفور، و «الرصاص» و «المنغنيز» و «الالمنيوم» و «النحاس» و «الكبريت» و «الصوديوم» ومواد اخرى متفرقة، وكذلك يحتوي على مختلف الحوامض «1».

ونحن نعلمُ أنَّ لكلٍّ من هذه المواد الحياتية دوراً اساساً في حياة الإنسان، ولهذا فانَّ العسلَ يحتوي على المواصفات الآتية:

يؤثر العسل في تركيب الدم.

للعسل أثرٌ جيدٌ في ازالة التعب وتقلص العضلات.

يحدُّ العسل من حدوث الالتهابات في المعدة والامعاء.

ويؤدّي إلى أن يتمتع الوليدُ بجهازٍ عصبيٍّ متينٍ إذا ما تناولته المرأة الحامل.

والعسلُ مفيدٌ لمن لديهم جهاز هضمي ضعيف.

ويعتبر العسلُ مُرَمِّماً قوياً.

ويؤثر في تقوية القلب.

ويولدُ العسلُ طاقةً لا بأس بها لدى المسنّين.

ينفع لعلاج قرحة المعدة والاثني عشري.

ويفيدُ العسلُ لعلاج مرض الربو «ضيق التنفس».

ويعتبر عاملًا مساعداً في علاج الأمراض الرئوية.

ويعتبر دواء لعلاج مرض الروماتيزم، وضعف نمو العضلات، والمتاعب العصبية.

ويعدّ العسلُ مفيداً للمصابين بالاسهال نظراً لميزته في قتل الجراثيم.

__________________________________________________

(1) الجامعة الاولى ج 5،

ص 129 (مع شى ء من الاختصار).

نفحات القرآن، ج 2، ص: 321

وتُصنعُ منه ادويةٌ تؤثرُ في نعومةِ وجمال الجلد وازالة الحروق والتجعدات.

ويُصنع من العسل دواءٌ يعالج ورمَ الفم ويُعطرُ التنفس.

ويستثمر العسل أيضاً في معالجة ذبول الجلد، والتشققات، والحروق، والرَّمد، واللدغات المؤلمة للحيوانات، وورم العين، والسعال.

وقد قام بعض العلماء بصناعةِ اقراصٍ من رحيق الأزهار تحتوي على مواصفاتٍ تشبه مواصفات العسل واهم آثارها مضاعفة طاقة الشباب وتنشيط الخلايا ومن ثمّ يؤدّي إلى الراحة وطول العمر «1».

ولهذا فقد عُرِف أنَّ «فيثا غورس» كان يوصي طُلّابَه «كلوا العَسَلَ والخبز ما استطعتم» وكان «بقراط» يقول: «لو أردتم عمراً طويلًا فعليكم بالعسل».

إنَّ الآثار المنشّطة والخواص العلاجية والترميمية للعسل أكثر ممّا تمّ بحثه في هذا المختصر، حتى دوَّنَ بعضُ العلماءِ كُتباً مستقلةً حول الميزات الغذائية والعلاجية للعسل.

وقد جمع القرآن الكريم كل هذه المطالب في جملة: «فِيهِ شَفَاءٌ لِلنّاسِ» بشكل دقيق.

ولا عجب إن كانت لدغة النحل والسم الموجود فيها علاجاً للكثير من الأمراض أيضاً، كالروماتيزم، والملاريا، وتضخم الغدة الدرقية، وألم الأعصاب، وبعض أمراض العين، وغيرها، ويجب أن يكون التداوي بوخز النحل حسبَ برنامجٍ خاصٍ وبإشراف الطبيب، فمثلًا في اليوم الأول مرّة واحدة، وفي الثاني اثنتان، وحتى اليوم العاشر يستفاد من عشرة زنابير، وتلك هي المرحلةُ الاولى من العلاج، وأما في المراحل الثانية فيتخذ العلاج شكلًا آخر، وإذا تجاوز وخزُ النحل الحدَّ المعينَّ فمن الممكن طبعاً أنْ تتمخض عنه أخطارٌ، كما أنّ قليلُهُ مضر بالأشخاص الذين لديهم حساسية اتجاهه.

لقد كتبَ بعضُ العلماء مقالةً أو مقالاتٍ بهذا الخصوص، واختار بعضهم رسالته للدكتوراه تحت عنوان «مستخرجات سمِّ النحل وخواصها العلاجية» «2».

__________________________________________________

(1) الجامعة الاولى ج 5، ص 212- 290، نشرة الطب والدواء وكتب اخرى

(2) المصدر

السابق، ص 174.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 322

4- خدماتٌ اخرى للنحل أَثمنْ من العسل!

إنَّ حياة النحل مليئةٌ بالعجائب والاحداث، وما تحدثنا عنه لحد الآن كان جانباً منها، فقصة بناء الشمع- تلك المادة التي يُشيد منها بيت النحل بشكلٍ كامل- بحد ذاتها قصةٌ مفصَّلة، والعجيب أنّها لا تستثمر هذا الشمع لبناء البيت فقط، فقد تقوم بتحنيط اجساد الحشرات المؤذية التي لا تستطيع دفعها إلى الخارج كي تأمنَ شرَّها!.

يقول أحد خبراء النحل: أنّه لفت انتباهه في أحد الأيّام وجود كرة كبيرة نسبياً داخل خلية نحل، وعندما فتحها وجد فيها جثة جرادةٍ حنَّطها النحل.

وقال بعضهم عن الشمع، أنّه روح العسل والعسل روح الزهر وهو خفيف، بحيث إنّ وزن خمسمائة بيت من مدينة النحل لا يتجاوز بضعة غرامات، ولا شكَّ في صعوبة معرفتنا بكيفية ترشح هذا الشمع بالنسبة للنحل، غير أننا نعرف جيداً أنَّ للشمع استعمالًا هاماً.

وعملية تلقيح وحمل الأزهار، من أهم أعمال النحل.

يقول أحد العلماء: «لولا وجود الحشرات، لخلت سلالُنا من الفاكهة، لأنَّ الحشرات التي تستفيد من الأزهار يمكن أن تلقحها افضلَ من بقية عوامل نقل حبوب اللقاح، فعندما تمدُ احدى الحشرات التي تعشقُ الأزهار خرطومَها في الزهرة، فهي إمّا أنْ تُدخلَ اغلبَهُ، أو أنْ تُدخلَ جزءاً من جسمها في الزهرة كما يحدث غالباً، وفي خروجها يتغطى جسمُها بالغبار ذي اللون الأصفر وهو غبار الورد، فتنقله مباشرة إلى زهرةٍ اخرى وكما نعلم- أن غبار الأزهار عاملٌ مؤثرٌ فلا تتبدل البذور إلى حبوب، ولا المبيض إلى ثمار بدونه.

وهذه النكتة جديرةٌ بالاهتمام من الناحية الفلسفية إذ إنَّ الحشرات التي تعشق الأزهار تميل إليها منذ بدء التكوين ... كلٌ منها بموازاة الاخرى ينمو ويتكامل، وقد وصل الحال بها اليوم إلى عدم قدرتها على الحياة منفصلة عن

بعضها ... ومن أهم الحشرات التي تعشقُ الأزهار- ولابدّ أنّكم تعرفونها- هي: الفراشة، والنحل، والزنبور الذهبي و ... لكن النحل أكثرُ استعداداً وتجهيزاً من بين هذه الحشرات لاخراج الغبار والرحيق من الأزهار» «1».

__________________________________________________

(1) نظرة على الطبيعة وأسرارها، ص 126.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 323

ومن الضروري الانتباه إلى أنّ الأشجار التي تحتوي على الأزهار الذكرية والانثوية صنفان: الأشجار العقيمة غير المثمرة، والأشجار المثمرة التي لها القدرة على ذلك.

ومن أجل تكون الثمار في الصنف الأول لابد من وجود واسطةٍ للتلقيح، وهذه الواسطة عبارة عن النحل، وقد ثَبُتَ أنّ 80 خ من عملية تلقيح الأزهار يجري عن طريق النحل، ومن أجل المزيد من الاطلاع على دور النحل يجب الانتباه إلى أنّ جميع أنواع التفاح، والاجاص، والكرز، واللوز وأمثالها تعتبر من الأشجار العقيمة!

وقد واجهت المساعي التي بُذلت بصدد إجراء التلقيح بالطرق الكيميائية والميكانيكية والاصطناعية فشلًا ذريعاً، ومن هنا يتضح دور النحل «1».

ويضيف العلماء: «إنَّ النحل يساعدنا بكلفة لا تقل عن مائتي الف درهم في الزراعة مقابل كل الف درهم من العسل والشمع الذي يصنعه لنا»! «2».

ونختم هذا الحديث بجملةٍ عجيبةٍ عن «متر لينغ» استاذ علم البيئة، بقوله: «لو هلك النحل (سواء الوحشي منه أو الأليف)، فسيَفنى مائةُ الفِ نوع من النباتات والأزهار والثمار وما يدريك بأنْ لا تزول حضارتنا أصلًا»!! «3».

5- البناء الجسمي للنحل عجيبٌ أيضاً!

إنَّ تركيب النحل ذاته ذو قصةٍ طويلةٍ ومدهشةٍ وعيونها بالذات اكثرُ عجباً إذ يقول العلماء: تتألف عيون النحل من الفين وخمسمائة طبقة صغيرة! تُشكِّل مع بعضها زاوية من 2- 3 درجة، وهذه العيون قادرةٌ على تعيين موقع الشمس فيما إذا حجبتها الغيوم، عن طريق الأشعة فوق البنفسجية التي تؤثر فيها.

__________________________________________________

(1) تربية النحل، ص 233 و 234

«مع الاختصار».

(2) اقتباس عن عالم الحشرات.

(3) الجامعة الاولى ج 5، ص 55.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 324

لغة النحل وتشاورها مع بعضها تعد من الحقائق العلمية التي تم اكتشافها في السنوات الأخيرة أيضاً «1».

إنَّ النحلَ لا يرى الأزهار الملّونة بشكلها ولونها الذي نراه، بل إنّه يرى بواسطة الاشعة فوق البنفسجية، وهذا النور يضاعف في جمال الأزهار فيجذبها نحوها «2».

وللأسف فانَّ طبيعة البحث لا تسمح لنا بمزيد من الكلام في هذا المضمار، ولكن يجب القول بأنّه كلَّما سَمعنا عن هذه الحشرة ونشاطاتها التي أشار إليها القرآن الكريم تتكشفُ لنا أسرارٌ جديدة عن قدرة الإله العظيم خالقِ كلِّ هذه العجائب.

و «مسك الختام» نُيممُ باسماعنا وقلوبنا صوب كلام الإمام الصادق عليه السلام حيث يقول في توحيد «المفضّل»:

«انظر إلى النحل واحتشاده في صنعة العسل، وتهيئة البيوت المسدسة وما ترى في ذلك اجتماعه من دقائق الفطنة فانك إذا تأملت العمل رأيته عجيباً لطيفاً وإذا رأيت المعمول وجدته عظيماً شريفا موقعه من الناس، وإذا رجعت إلى الفاعل الفيته غبياً جاهلًا بنفسه فضلًا عما سوى ذلك، ففي هذا أوضح الدلالة على أنّ الصواب والحكمة في هذه الصنعة ليس للنحل بل هي للذي طبعه عليها وسّخره فيها لمصلحة الناس ...» «3».

__________________________________________________

(1) الحواس الغامضة للحيوانات، ص 137 و 140 و 143.

(2) سرُّ خلق الإنسان، ص 93.

(3) بحار الأنوار، ج 3، ص 108.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 325

19- آياته في خلق الحيوانات

تمهيد:

إنَّ الحيوانات تُمثل جانباً عظيماً من الموجودات الحيَّة في العالم، وهي تجلب اهتمامَ كلِّ ناظرٍ إليها لتراكيبها المختلفة واشكالها المتنوعة وتباينها الكثير، وعجائبها العظيمة، ودراسة كلٍّ منها، تُعرِّفُ الإنسان على العلم والقدرة اللامتناهية لخالقها.

وتتجلّى أهميّة هذه المسألة عندما نرى هذه الحيوانات في

مكانٍ واحدٍ، فمثلًا لو ذهبنا إلى حديقة الحيوانات، وزرنا غرفَ الأسماك وأنواع الطيور، والقردة، والاسد والفهد والنَّمر و الزّرافة والفيل، وننظرَ عادات وعجائب خلقِ كلٍّ منها، فلا يمكن لمن يمتلك قليلًا من العقل والفطنة، أن لا يغرق بتفكيره بها، ولا يُذعن أمام خالق هذه الموجودات المتنوعة والعجيبة.

ومن بين هذه الحيوانات، هنالك حيوانات أليفة تخدم الإنسان وذات منافعَ وبركات مختلفة للبشر، جديرةٌ بالاهتمام أكثر من غيرها، لهذا فقد استند القرآن الكريم في آياته التوحيدية إلى جميع الدواب بشكلٍ عام وإلى الأنعام والبهائم بشكل خاص، وذكرَ جوانبَ من عجائبها في آياتٍ عديدة.

بهذا التمهيد نُمعن خاشعين في الآيات الآتية:

1- «وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيْهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلىَ جَمْعِهِمْ اذَا يَشَاءُ قَدِيْرٌ». (الشورى 29)

2- «إِنَّ فِى السَّمَواتِ وَالأَرْضِ لَآياتٍ لِّلْمُؤْمِنْينَ* وَفى خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ

نفحات القرآن، ج 2، ص: 326

آياتٌ لِّقَومٍ يُوْقِنُونَ». (الجاثية/ 3- 4)

3- «أَفَلَا يَنْظُرُونَ الىَ الِابِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ». (الغاشية 17)

4- «وَإِنَّ لَكُمْ فِى الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيْكُمْ مِّمَّا فِى بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيْهَا مَنَافِعُ كَثِيْرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ* وَعَلَيْهَا وَعَلىَ الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ». (المؤمنون/ 21- 22)

5- «وَانَّ لَكُمْ فِى الأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيْكُمْ مِّمَّا فِى بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خالِصاً سَائِغاً لِّلشَّارِبِيْنَ». (النحل/ 66)

6- «وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ بُيُوْتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنْ جُلُودِ الأَنْعامِ بُيُوْتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَومَ ظَعْنِكُمْ وَيَومَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أصْوافِهَا وَأَوبَارِهَا وَاشْعارِهَا أَثَاثاً وَمَتاعَاً إِلىَ حِيْنٍ». (النحل/ 80)

7- «وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذَلِكَ انَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيْزٌ غَفُوْرٌ». (فاطر/ 28)

8- «أَوَلَمْ يَرَوا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِّمَّا عَمِلَتْ أَيْدِيْنَا انْعَامَاً فَهُمْ لَهَا مالِكُونَ* وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأكُلُونَ* وَلَهُمْ فِيْهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ افَلا يَشْكُرُونَ».

(يس/ 71- 73)

9- «وَالَّذِى خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعامِ مَا تَرْكَبُوْنَ* لِتَسْتَووُا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ اذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِى سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِيْنَ». (الزخرف/ 12- 13)

10- «اللَّهُ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ* وَلَكُمْ فِيْهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِى صُدُوْرِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلىَ الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ* ويُرِيْكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ» «1»

. (غافر/ 79- 81)

__________________________________________________

(1) هنالك آيات اخرى في هذا المجال أيضاً مثل: الشعراء، 33؛ والانعام، 142؛ والزمر، 6؛ والزخرف، 11.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 327

شرح المفردات:

«دابّة»: كما قلنا سابقاً من مادة «دبيب» أي السير ببطءٍ وهدوء، إلّاأنّها تُطلقُ عادةً على جميع الحيوانات، وعلى المذكر والمؤنث والموجودات التي تَدُبُّ على الأرض وحتى طيور السماء، وجمعها «دوابّ» وتعني البهائم.

وقد تستعملُ أحياناً بصدد نفوذ وحلول شي ءٍ في موجودٍ آخر، فيقال مثلًا: دبَّ الشرابُ في الجسم ودبَّ السُّقمُ في البدن.

وهذا المفهوم يشملُ حتى الإنسان، وموارد استعماله في القرآن الكريم تشهدُ على ذلك «1».

«انعام»: جمع «نَعَم» (على وزن قَلَم) وهي ماخوذة في الأصل من مادة «نعمة» ثم اطلقت على «الجَمَلْ»، لأنَّ الجَمَلَ كان من أفضل النعَمِ لدى العرب، ويُطلقُ هذا اللفظ على الدواب الاخرى كالبقر والماشية بشرط أنْ يكون الجملُ جزءاً منها «2».

وصرَّحَ رهطٌ من ارباب اللغة أنَّ «النِّعَم» ذات معنىً جمعي ولا مفرد لَها، و «انعام» جمع الجمع «3».

يقول «ابن منظور» في «لسان العرب»: إنَّ «النَّعَم» تعني الحيوان المجتر، ثم ينقل عن آخرين أنّ «النَّعم» تُقالُ بخصوص الجَمل، وعن بعضهم الآخر أنّها تُطلقُ على الجمال والماشية.

وسُميت «النَّعامةُ» بهذا الاسم لأنّها تشبه «البعير» كثيراً لضخامة جسمها، ولذلك اطلقت على ظلال الجبال وغيرها، أو الاعلام

التي تُثبتُ في الصحارى لتحديد الطريق.

على أيّةِ حال .. مهما كان المعنى الأول للفظ «انعام» فهو يطلقُ في الاستعمالات العادية على الحيوانات المجترّة (البقر والأغنام والجِمال).

__________________________________________________

(1) لسان العرب، مفردات الراغب، ومجمع البحرين مادة (دبّ).

(2) مفردات الراغب.

(3) مجمع البحرين، وأقرب الموارد.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 328

جمع الآيات وتفسيرها

ماذا يجري في عالم الحيوانات؟

بعد الإشارة في الآية الاولى والثانية إلى آيات اللَّهِ في خلق السماوات والأرض، وكذلك خلق الإنسان أشار إلى خلق كافة الحيوانات الموجودة في السماوات والأرض، قائلًا «ومِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّمَواتِ والأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيْهمَا مِنْ دابَّةٍ».

«بَثَّ»: تعني في الأصل تفريق الشي ء كما يُفرّق الهواء الاتربة، وهذا التعبير في الآية يعني تكوين وخلق وابراز الموجودات المختلفة، ونشرها في مختلف المناطق.

على أيّة حال .. فإنَّ هذا التعبير يشملُ جميع البهائم والحيوانات والإنسان، ابتداءً من الموجودات المجهرية التي تتحرك حركةً دقيقة وخفيَّةً وحتى الحيوانات العملاقة التي يبلغ طولها عشرات الامتار وقد تزن أكثر من مائة طن «1» ويضم كلَّ أنواع الطيور ومئات الآلاف من أنواع الحشرات المختلفة، وآلاف الآلاف من أنواع الحيوانات الوحشية والأليفة والحيوانات المفترسة والزواحف والأسماك الصغيرة والكبيرة والموجودات الحيَّة في البحار.

ولو تأملنا قليلًا في سعة مفهوم «دابة» وشموله بالنسبة لجميع أنواع البهائم لتجسد أمامنا عالمٌ من العجائب والغرائب ومناظرُ من القدرة، حيث يكفي كلٌ منها أنْ يُعرفَنا على علمِ وقدرة الخالق العظيم لهذا الخلق.

لقد دُوّنت الملايين من الكتب وبمختلف اللغات حول خصائص بناء وحياة أنواع الاحياء، واعدّوا الكثير من الاشرطة المصورة في هذا المجال، واصدروا مجلات مختلفة وبلغاتٍ متباينة بخصوص هذا الموضوع، حيث تجعلُ مطالعتُها الإنسان يغرقُ في بحرٍ من

__________________________________________________

(1) يصل وزنُ بعض الحيتان إلى مائة وعشرين طناً، وكما يقول صاحب كتاب «نظرة على الطبيعة

وأسرارها» (البروفسور ليون برتن) فانَّ هذا الوزن يعادل وزن الفِ وخمسمائة رجلٍ ضخم الجثة! أو اربعة وعشرين فيلًا ضخما! وقد أجريت حساباتٍ على وزن أعضاء جسمها: فقلبه يزن ستمائة كيلو غرام، والدم يزن ثمانية آلاف كيلو غرام، والرئتان طناً واحداً، والعضلات خمسين طناً، والجلد والعظام والامعاء والاحشاء تزن ستين طناً، (ص 238).

نفحات القرآن، ج 2، ص: 329

العجائب والغرائب، وقد أزالت المساعي التي بُذلت من قبل العلماء على مدى آلاف السنين لمعرفتها، الحجاب عن جانبٍ واحدٍ فقط من حياتها، ومن المسلَّم به أنَّ المستقبل سيشهد في كل يوم انكشاف اسرارٍ جديدة من حياتها.

فبعض العلماء قضى عشرين عاماً من عمره لدراسة حياة النمل فقط، وإذا أرادوا دراسة حياة كافة أنواع الحيوانات بهذا الاسلوب فمن غير المعلوم أنْ يكفي عمر البشرية لمعرفة أسرارها.

والجدير بالذكر أنَّ ما نتحدث عنه هو الكائنات الحيَّة الموجودة في الأرض، بينما يستفاد من تعبير «فيهما» (في السماء والأرض) أنْ هنالك احياءً كثيرة في السماوات أيضاً ليست في متناول دراسات علمائنا، وربّما يعثر الإنسان على موجوداتٍ حيَّةٍ عجيبةٍ وغريبةٍ اخرى في باقي الكواكب من خلال الرحلات الفضائية حيث يصعبُ علينا الآن تصور شكلها ومواصفاتها.

وقال بعض المفسِّرين إنَّ المقصود من حيوانات السماوات هي الملائكة، بينما لا تُطلقُ كلمة «دابّة» على الملائكة ويعتقد بعضهم أيضاً بعدمِ وجود أيَّ كائنٍ حيٍّ في السماوات غير الملائكة، وقد ذكروا تبريرات وتفاسير اخرى للآية، بينما يتضح هذا المعنى لدينا اليوم إذ إنَّ الكائنات لا تقتصر على الكرة الأرضية فقط، وكما يقول العلماء هنالك ملايين الملايين من الكواكب في هذا الفضاء الفسيح يمكنُ السكنُ فيها من قبل الدّواب والاحياء.

والجدير بالذكر أيضاً أنّ الحيوانات لا تعتبر آية من آيات اللَّه في خلقتها وطراز

حياتها وجوانبها المختلفة فحسب، بل لفوائدها العديدة وخيراتها الكثيرة التي تفيض بها على الإنسان.

وإذا قال: «آيَاتٌ لِّقَوْم يُوقِنُونَ» فهو إشارة إلى الذين لديهم الاستعداد لقبول الحق والإيمان ولم يقصد المعاندين والمتكبرين والأنانيين.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 330

ويقول في الآية الثالثة من البحث بصيغة استفهام توبيخي: «أَفَلا يَنْظُرونَ إلىَ الابِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ».

واللطيف أنّه تمت الإشارة بعد ذلك إلى عظمة خلق السماء، ثم الجبال ومن بعدها الأرض، فوضعُ الابلِ إلى جانب هذه الاشياء، يُعتبرُ دليلًا على أهميّة خلق هذا الحيوان.

إنَّ التأمُلَ في أوضاع هذا الحيوان، يدللُ على أنّه ذو مواصفاتٍ متباينة تجعلُهُ يختلف عن باقي الحيوانات الاخرى ويتضح جيداً من خلال الانتباه إلى هذه المواصفات لماذا استند القرآن الكريم إلى هذا الموضوع بشكلٍ خاص ومن جملتها:

1- إنَّ مقاومة الجَمَلَ لا نظير لها، لا سيما ازاء الجوع والعطش، وشدة التحمُّل، وقد يقاوم العطشَ وهو اصعبُ من الجوعِ لعشرةِ أيّام أو أكثر ولهذا يعتبرُ أفضل وسيلةٍ لقطع الصحراء القاحلةِ، لذلك فقد اطلقوا عليه «سفينة الصحراء». لأنَه يتمكن من خزن الغذاء والماء لمدةٍ طويلةٍ في بطنهِ ويقتصدُ في استهلاكها أيضاً.

2- لا يتقيد بنوعٍ خاصٍ من الغذاء في طعامه، وغالبا ما يتغذى على كل ما ينمو في الصحراء.

3- والأعجب من ذلك أنّه يواصلُ طريقه شاقاً العواصف الترابية المليئة برمال تعمي العيون وتصم الآذان، وهو يستطيعُ سدَّ منخريه مؤقتاً، ويحافظ على اذنيه من الغبار، ولعينيه هدبان يُطبق أحدهما على الآخر في هذه الظروف، وينظر من خلفهما، وما قاله بعضهم بأنَّ الجمَلَ يسير مغمضَ العينين فانَّ هذا هو المقصود.

حتى ذكر بعض المفسِّرين إنَّه يُحسنُ تشخيص الطريق في الليالي المظلمة أيضاً!.

4- إنَّ الحيوانات تتباين فيما بينها، فبعضها يستفادُ من لحمه ومنها مَا يفيد في

الركوب، وبعضُ يستفادُ من لبنه فقط، وبعضها الآخر للحمل، إلّاأنّ الجَمَلَ يجمعُ بين هذه الجوانب الأربعةِ جميعها، فيستفاد منه للركوب ولحمل الأمتعة ومن لبنه وجلده ووبره.

5- ومن العجائب المتميزة لهذا الحيوان هي أنَّ الحملَ يوضَعُ على ظهرهِ أو يُركبُ أثناء بروكهِ، وينهض وبحركةٍ واحدةٍ من مكانه ليقف على أرجلهِ، بينما تنعدم هذه القدرة لدى باقي الحيوانات.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 331

وقد ذكرَ بعضهم أنَّ هذا يعود إلى القدرة العجيبة الكامنة في رقبته الطويلة التي تعمل طبقاً لقانون «الرافعة» الذي اكتشفه «ارخميدس» لأول مرّة، (فهو يقول: لو وجدتُ نقطة للاتكاء خارج الكرة الأرضية لتمكنتُ برافعة ضخمة من تحريك هذه الكرة عن مكانها! وهذا هو الواقع، فطبقاً لقانون الرافعة أنَّ الضغط الوارد على أحد طرفي الرافعة الذي يضرب في المسافة بينه وبين نقطة الاتكاء يوجد في الطرف الآخر للرافعة الاقرب إلى نقطة الاتكاء ضغطاً عظيماً).

وانطلاقاً من هذا فانَّ رقبة البعير تكتسب صفة الرافعة استناداً إلى نقطة ارتكازها المتمثلة في الأرجل الإمامية ومن خلال حركةٍ سريعةٍ وقويةٍ تعمل على تخفيف الاحمال الموجودة على ظهر البعير وتسمح له باطلاق رجليه الخلفيتين وينهض من مكانه! «1».

كلُ هذا وعجائب ومواصفات اخرى أدّت إلى أن يُستند إليه بوصفه آيةً من آيات اللَّه العظيمة، وليس فقط لأنَّ الجَمَلَ كان من الأركان المهمّة في حياة العرب الذين كانوا أولَ من خوطب بهذه الآيات.

فمنْ يستطيع أنْ يخلقَ كلَّ هذه العجائب والبركات في مخلوقٍ واحدٍ؟ ومن ثمَّ يجعلُهُ مطيعاً للإنسان بحيث لو أَخذَ طفلٌ صغيرٌ بعنانِ قافلةٍ من الابلِ لكان بمقدوره أن يأخذه إلى المكان الذي يصبوا إليه، والعجيب أنّ الأنغام الموزونة (كالحدي) تترك أثراً في نفسهِ أيضاً وتدفعه إلى الحركة بحيويةٍ ونشاط وشوقٍ.

أوليست هذه آياتٌ

عن عظمة وقدرة الخالق؟ أَجَلْ؛ فاولئك الذين لا يمرُّون على هذه الآيات مرور الكرام باستطاعتهم أن يدركوا أسرارها (لا تَنسَوْا أنّ جملة: «افَلَا يَنْظُرونَ» من مادة «نَظَرْ» إلّاأنّها ليست النظر العادي، بل النظر المتزامن مع التفكُّر والتأمُّل).

__________________________________________________

(1) اشير إشارة قصيرة في كتاب الجامعة الاولى ج 6، ص 32 إلى هذه المسافة، وكما اشير في كتبٍ اخرى باشاراتٍ مفصلةٍ.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 332

ويقول في الآية الرابعة والخامسة ضمن إشارته إلى المنافع المختلفة للحيوانات بالنسبة للإنسان: «وَإِنَّ لَكُمْ فِى الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً».

وذُكرت «عبرة» هنا بصيغة «نكرة» حيث تعتبر دليلًا على أهميّته الفائقة، وكما يقول الراغب في كتاب المفردات «عِبرَة» من مادة (عَبْر) وتعني العبور والانتقال من حالةٍ إلى اخرى وهنا حيثُ يرى المعتبرُ حالةً يدلكُ من خلالها على حقيقة لا يمكن ملاحظتها فاطلقوا على ذلك «عبرة».

وعليه فانَّ مفهوم الآية يشير إلى أنّه بمقدوركم انْ تصلوا إلى معرفة اللَّه وعظمة وعلم وقدرة مُبدى ء الخلق العظيم من خلال ملاحظة أسرار وعجائب الحيوانات.

ثم أشار القرآن في شرحه لهذا المعنى إلى أربعةِ جوانب من الفوائد المهمّة للحيوانات فيقول ابتداءً: «نُسْقِيْكُمْ مِّمَّا فِى بُطُونِهَا» نعم، اللبن هذه المادة السائغة الطعم التي تخرج من الحيوانات ومن بين دمها ولحمها شراباًمغذياً كاملًا، وورد هذا المعنى مع تأكيد أكثر في الآية الخامسة إذ يقول: «نُّسْقِيْكُمْ مِّمَّا فِى بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثِ وَدَمٍ لَّبَناً خالِصاً سَائِغاً لِلشَّارِبِيْنَ» «1»

.

فأيُّ قدرةٍ تلك التي تُخرجُ مثل هذا الغذاء الطاهر الصافي اللذيذ من بين تلك الأشياء الملّوثة؟ لونه ابيض، طعمه حلوٌ، رائحته عطرة، ومقبولٌ من جميع الجهات.

والعجيب ما يذكره العلماء .. فمن أجل انتاج لتر واحد من الحليب في ثدي الحيوان يجب أنْ يمرَّ ما يقارب خمسمائة لتر من

الدم خلال هذا العضو كي يتم امتصاص المواد اللازمة من الدم لتكوين ذلك اللتر من اللبن! ومن أجل انتاج لتر واحد من الدم في الشرايين

__________________________________________________

(1) «فرث» بمعنى الغذاء المهضوم، والجدير بالذكر أنَّ «بطونها» ذُكرت في سورة المؤمنون مع ضميرٍ مؤنث حيث لها معنىً يفيد الجمع في مثل هذه الموارد، وفي سورة النحل «بطونه» بضمير المذكر إذ لها معنىً فردي، وقال بعض المفسِّرين أنّ «انعام» اسمُ جمعٍ ولو لوحظ ظاهر اللفظ فانَّ ضمير المفرد يعود إليها، ولو لوحظ معناه فانّه ضمير جمعٍ ولو لوحظ ظاهر اللفظ فانَّ ضمير المفرد يعود إليها، ولو لوحظ معناه فانّه ضمير جمعٍ وقال بعضهم أنّ ضمير المفرد لمفهوم الجمع وضمير المؤنث لمفهوم الجماعة، (يُراجع تفاسير الكشاف و الكبير وروح المعاني و ابو الفتوح الرازي).

نفحات القرآن، ج 2، ص: 333

لابدَّ أنْ تمُرَّ الكثير من المواد الغذائية خلال الامعاء هنا حيث يتجلّى مفهوم: «مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ».

وقد قيلَ الكثير حول تركيب اللبن وكيفية تكوينه في الأثداء، وأنواع المواد الأولية والفيتامينات الموجودة فيه، ومزاياه التي تمنح الطاقة، والمستخرجات المتعددة التي تُنتجُ منه، وفائدته لكلِّ الأعمار، بحيث لو جُمعَتْ لألَّفَتْ كتاباً مُعتَبراً، يُخرِجُنا التطرق إليه عن اطار البحث التفسيري.

ونكتفي هنا بذكر روايةٍ مليئةٍ بالمعاني عن النبي صلى الله عليه و آله حيث يقول: «إذا أكَلَ أحَدُكُمُ طعاماً فَلْيَقُلْ اللَّهُمَّ بارِكْ لَنَا فيهِ، وأطْعمنا خيراً مِنْهُ، وإذا شَرِبَ لَبَناً فَلْيَقُل أللَّهُمَ بارِكْ لَنَا فيهِ، وَزِدْنا مِنهُ، فَانّي لا أَعْلَمُ شَيئاً أنْفَعُ في الطّعامِ والشَّرابِ مِنْهُ» «1».

ثم يتطرق إلى الفائدة الثانية للحيوانات ذوات الأربع، فيقول في جملةٍ قصيرةٍ وغامضةٍ:

«وَلَكُمْ فِيْهَا مَنافِعُ كَثِيْرَةٌ».

وهذا التعبير يُمكنُ أنْ يكون إشارة إلى الصوف والوبر والشَعَر في الحيوانات والتي

يُصنعُ منها أنواع الملابس والفرش باستمرار، وكذلك إشارة إلى الجلود والامعاء والعظام والقرون التي تُصنعُ منها وسائل الحياة المختلفة، وحتى فضلاتها يمكن استخدامها كأسمدة في تنمية الأشجار وتنشيط الزراعة والنباتات.

وفي المرحلة الثالثة أشار إلى فائدة اخرى قائلًا: «وَمِنْهَا تَأكُلُونَ».

مع ما ذكره خبراء الغذاء من كل أضرار اللحم، وبالرغم من المؤاخذات الواردة على آكلي اللحوم في العالم من الناحية الطبية والاخلاقية وغيرها، فأنَّ الكثير يعتقدون أنَّ استهلاك اللحم بكميةٍ قليلةٍ ليس غير مضر فحسب بل وأنَّهُ ضروريٌّ بالنسبة لجسم الإنسان، وتبرهنُ تجارب الذين يعيشون على النباتات بأنَّهم مصابون بالاضطرابات والنواقص وتؤيدُ وجوهُهُم الصفراء ذلك، وهذا يعود إلى أنَّ البروتين وبعض العناصر الأساسية الموجودة في اللحم لا يمكن الحصول عليها في أيَّ نباتٍ أبداً، والأهميّة التي

__________________________________________________

(1) تفسير روح البيان، ج 5، ص 48.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 334

يعطيها القرآن لهذه المسألة تحكي عن هذا المعنى

ولكن ممّا لا شك فيه أنَّ الافراط في اكل اللحوم شي ءٌ مذمومٌ في نظر الإسلام ومن وجهة النظر الطبية أيضاً.

وأشار في الجزء الرابع والأخير من هذه الآية إلى الاستفادة من الحيوانات للركوب.

فيقول: «وَعَلَيْهَا وَعَلىَ الْفُلْكِ تُحْمَلُوْنَ».

فقد كانت هذه الحيوانات على الدوام خير وسيلةٍ للحمل والركوب، واليوم في عصر السيارات والشاحنات لم يستغنِ البشر أيضاً عن وجود هذه الحيوانات للركوب وحمل الأمتعة، لا سيما في بعض المناطق الجبلية والطرق التي لا يمكن استغلال وسائط النقل الحديثة فيها، فيستفاد من الحيوانات في الحمل والنقل فهنالك حيوانات كالبغال تعتبر افضل وسيلةٍ لارسال العتاد إلى جبهات الحرب على اعالي الجبال الوعرة، ولولاها لاصبح من الصعوبة السيطرة على الجبال الشاهقة الواسعة.

وبهذا فقد أودعَ الباري تعالى فوائد جمّة في هذه الحيوانات، وبيَّنَ آثار عظمته وفضله على

الإنسان من خلالها.

واللطيف أنَّ الحيوانات جاءت في هذه العبارة من الآية في مقابل السفن وهذا دليلٌ على انّها بمثابة سفن في اليابسة! «1».

وفي الآية السادسة وكتعريفٍ بالذات الإلهيّة، أو ذكر النِّعم التي تجُّر الإنسان إلى معرفته، أشار إلى مايستفيده الإنسان من جلود واصواف الحيوانات، فيقول: «وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً».

ثم يضيف: «وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَومَ ظَعْنِكُمْ ويَومَ إِقامَتِكُم».

أجل .. فالبيوت الثابتة لا تُلبي حاجةَ الإنسان باستمرار، ففي الكثير من الحالات يحتاج الإنسان إلى بيوت متنقلةٍ كي يستطيع حملها ونقلها بسهولة وتقاوم في نفس الوقت

__________________________________________________

(1) وورد ما يشابه هذا المضمون في الآيات 5 إلى 8 من سورة النحل حيث يشير إلى المنافع المتعددة للحيوانات.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 335

البردَ والحرَّ والرّياح والعواصف وأمثال ذلك، ومن افضل البيوت المتنقلة هي الخيام التي تصنع من الجلود التي تمت الإشارة إليها في هذه الآية، وهي اقوى من الخيام المصنوعة من الصوف أو القطن وأكثر مقاومةً وراحةً.

ويتطرق في ختام الآية إلى جانبٍ آخر من منافعها المهمّة، إذ يضيف: «ومِنْ أَصْوَافِها وَأَوْبارِهَا وَأَشْعارِهَا أَثاثاً وَمَتاعاً إِلىَ حِيْنٍ» «1».

ونحنُ نعلمُ طبعاً أنَّ الصوف من الأغنام، والوبر من الابلِ، والشَّعْرَ من الماعز، ونعلمُ أيضاً أنَّ أنواع الملابس، والفرش، والاغطية، والستائر، والخيام، والسُفَر، والحبال، وأمثالها ممّا يلعب دوراً مهماً في حياة الإنسان، تُصنعُ جميعها من هذه المواد الثلاث.

وبالرغم من أنَّهم قاموا في هذا العصر بصناعة أنواع الملابس والفراش من المواد الصناعية والنفطية، إلّاأنّ دراسات العلماء أثبتت أنّها لا تُعتبر صالحةً لحياة الإنسان، وغالباً ما تؤدّي إلى مضاعفاتٍ غير ملائمة له، بينما تُعتبر الملابس الصوفية والوبرية والشَعرية من أصلح الملابس.

وقد اعتبرَ بعضهم التعبيرَ ب «الىَ حينٍ» إشارةً إلى

دوام الآلات التي تُصنعُ من هذه المواد الثلاث، ويعتبرها بعضهم إشارةً إلى أنَّ جميع ذلك الأثاث معرض للزوال ولا يجب التعلُّق به، ويبدو أنَّ هذا المعنى أكثر تناسباً.

وفي الآية السابعة التي وردت ضمن الآيات التوحيدية في سورة فاطر، حيث أثارَت انتباه النبي صلى الله عليه و آله إلى خلقِ الإنسان والدَّوابِ والأَنعامِ، قائلًا: «ومِنَ النّاسِ والدَّوابِ

__________________________________________________

(1) «بيوت» جمع «بيت» ويعني حجرة أو بيت الإنسان الذي يأوي إليه ليلًا، ولفظة «بيتوته» التي تعني «المبيت ليلًا» مأخوذة من ذلك أيضاً، «ظعن» تعني الرحيل والتنقل من مكان إلى آخر وهي تقابل «الاقامة»، ... «اثاث» مأخوذة من مادة «اثّ» وتعني الكثرة والاضطراب وتطلق على لوازم البيت نظراً لكثرتها واعتبرها بعضهم بمعنى الغطاء واللباس وبعضهم بمعنى البساط في حين اعتبرها بعضهم الآخر راجعة إلى «المتاع» الذي يعد وسيلة للتمتع والاستفادة وأنّهما بمعنى واحد.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 336

وَالأَنْعَامِ مُختَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ» «1».

أي كما خلقَ اللَّه تعالى انواعَ الثمار وبألوانٍ متباينة، وتتباينُ الوانُ الجبال فيما بينها، فقد خلقَ ألواناً مختلفةً من الاحياء سواء الإنسان أم الدَّواب أم الأنعام، بالرغم من أنَّ اغلب المفسرين اتّخذوا الألوان هنا بمعنى الألوان الظاهرية المختلفة «2»، ولكن يبدو أنّ التعبير المذكور ذو معنىً واسع، ويُعتبرُ إشارة إلى تفاوت أنواع واصناف الناس والدَّوابِّ والأنعام، الذي يعتبر من اهم عجائب وغرائب الخلق.

لا شك أننا نعلمُ أنَّ هنالك اليوم مئات الآلاف من أنواع الدَّواب والحيوانات في العالم، بل يذكر بعض العلماء أنَّ أنواعها يبلغ مليوناً وخمسمائة الف نوع!، وهذا التباين العجيب وبهذه المواصفات التي تتصف بها كلٌّ منها يعتبر آيةً عظيمةً من آيات اللَّه، وبراهين عل علمه وقدرته.

نعم ... فقد ابدعَ هذا الرسّام الماهر بقلم واحد ولون

واحد في رسمِ انواعٍ لا تُحصى من الرسوم ونماذج ملَّونةٍ من الألواح كل منها آية في صنعِ الخلقِ.

غير أنّ المفكرين والعلماء هم الذين فتحوا بصائرهم لَيَروا روحَ العالم في هذه الميادين البديعة، و «يَرَوْنَ مالا يُرى ، لذلك يقول في ذيل الآية: «إِنَّمَا يَخْشى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزيزٌ غَفُورٌ».

إنَّ ألوانها الظاهرية المختلفة تَشغُلُ أهلَ الظاهر، وألوانها الباطنية وخلقها المتباين تشغل اهلَ الباطن والمعنى

فالألوان الظاهرية للأزهار تجذب نحوها النحل، كي يساعدها في التلقيح، كما تتجاذب الإناث والذكور من الحيوانات فيما بينها «لا سيما في الطيور»، إلّاأنّ ألوانها الباطنية وبناءها المتفاوت يدعو العلماء وأصحاب الفكر نحوه، كي يُلقِّحَ فكرهُ من بذر التوحيد.

__________________________________________________

(1) «من الناس» خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ، والتقدير هو: «ما هو مختلفٌ الوانه»، و «كذلك» أشار إلى الثمار المختلفة وألوان الجبال المتفاوتة التي وردت في الآية السالفة.

(2) تفسير الميزان، وتفسير روح الجنان، وتفسير في ظلال القرآن، وتفسير القرطبي وغيره.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 337

و «خَشْية»: تعني «الخوف الممزوج بالتعظيم الناتج عن علمٍ ووعي»، وفي الحقيقة هي مزيجٌ من الرهبةِ والرجاء لهذا وَصَفَ اللَّه نفسه بعد هذا الكلام مباشرة بصفتي «عزيز» و «غفور» حيث إنَّ الأولَ منشأ للرهبة والثاني مصدر للرجاء، وعليه فانَّ ذيل الآية مركبٌّ في الحقيقةِ من العلة والمعلول.

علماً أنَّ ذكرَ «الإنعام» بعد الدّواب، جاء من باب ذكر الخاص بعد العام، لأهميّة الانعام في حياة الناس.

وفي الآية الثامنة وجَّه الَّلومَ من خلال استفهامٍ توبيخي للمشركين والكافرين الذين ضلّوا وتركوا خالق الكون وتوجهوا نحو الأصنام، فقال: «أَوَلَمْ يَرَوا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِّمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ».

إنّ التعبير ب «لَهُم» ذو مفهومٍ واسعِ للغايةِ حيث يشمل المنافع المختلفة لجميع أجزاء

هذه الانعام، أَجَلْ .. فقد اقتضى لطفُ اللَّه أن يكونَ هو «الخالق» والآخرون هم «المالكون»!.

ثم أشار إلى نكتةٍ اخرى فيما يخص الانعام، مضيفاً: «وَذَّللْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُم وَمِنْهَا يأكْلُونَ* ولَهُمْ فِيْهَا مَنافِعُ وَمَشَارِبُ».

ويقول في الختام «فهلا يشكرون هذه النِّعم التي وهبها اللَّه للناس»؟ ولا يَسْعَوْنَ لمعرفة ذاته المقدّسة؟ «أَفَلا يَشْكُرُونَ».

ويُمكنُ أن يكون التعبير ب «ممّا عَمِلَتْ أَيْدينا» إشارة إلى تعقيد مسألة الحياة التي لم ينكشف لغزُها للبشر لحد الآن، وهذا نابعٌ من قدرته الازليّة فقط.

والتعبير ب «المشارب» بعد ذكرِ «المنافع» من قبيل ذكر الخاص بعد العام حيث تمَّ الاستناد إليه بسبب أهميّته.

علماً أنّ «مَشارِب» جمع «مَشرب» (لأنّها جاءت مصدراً ميميّاً بمعنى اسم المفعول،

نفحات القرآن، ج 2، ص: 338

ويمكن أن تكون إشارة إلى أنواع حليب الانعام المختلفة، التي لكلٍّ منها آثاره ومزاياه الخاصة به، أو إشارة إلى مستخلصات الحليب التي نحصل عليها، وبما أنَّ اصلها هو الحليب فقد اطلقَ عليها لفظ «مشارب»، ونحن نعلمُ أنّ الحليب ومستخرجاته يُمثلُ جانباً مهماً من غذاء الناس «1».

ولنا بحثٌ مناسب حول «ذَلَّلناها» سيأتي في قسم التوضيحات إن شاء اللَّه.

والآية التاسعة من البحث وقعت ضمن سلسلة الآيات التي تتعلق بمعرفة اللَّه والتوحيد لأنَّه قال في الآيات التي سبقتها: «ولَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمواتِ والأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزيزُ الْعَليمُ»، ثمَّ تَطرَّقَ إلى وصفِ اللَّه القدير قائلًا: «والّذى نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً بِقَدرٍ فأَنْشَرنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخرَجُونَ»، ثم يضيفُ في آية البحث: «والّذى خَلَقَ الازواجَ كُلَّها».

ويبدو أنَّ المقصود من «أزواج» هنا هو أزواج الاناث والذكور من الحيوانات والاحياء، لا سيما وانّه يضيف بعد ذلك: «وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الفُلكِ والأَنْعامِ مَا تَركَبُونَ» (أي الفلك في البحار والانعام في اليابسة).

وبهذا فانَّ ذكر «أنعام»

بعد «الأزواج» جاء من بابِ ذكر الخاص بعد العام.

إلَّا أنّ بعض المفسِّرين يعتقِدون أنَّ «الأزواج» هنا إشارة إلى «الاصناف المتفاوتة» للموجودات، سواء كانت حيوانات أم نباتاتٍ ام جماداتٍ، لأنَّ كلًا منها له جنسٌ يقابله، ففي الحيوانات هنالك الذكر والانثى وفي غيرها النور والظلام، السماء والأرض، والشمس والقمر، اليابس والرطب، وحتى داخل أفكار الإنسان هنالك الخير والشر، الكفر والإيمان، التقوى والفجور، وامثال ذلك، والوجود الوحيد الذي لا اختلاف فيه هو ذاتهُ

__________________________________________________

(1) يعتبر بعض المفسِّرين أنَّ «مشارب» إشارة إلى الأواني التي تُصنعُ من جلد الحيوانات كانواع القِرَب والأواني الاخرى إلّاأنّ هذا التفسير يبدو بعيداً إذ ليس لهذا الأمر أهميّة بالغة بحيث يُستند إليه بعد ذكر المنافع.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 339

المقدّسة، وهو متفردٌ في كافة النواحي، إلّاأنَّ التفسير الأول يبدو أكثر صواباً من خلال ما ذكرناه من قرينة.

على أيّةِ حالٍ، فقد ذُكرَ خلقُ الأزواجِ من جانبٍ وخلق الانعامِ للركوب من جانبٍ آخر في هذه الآية براهين عن الوجود المقدَّسِ للَّه تبارك وتعالى

إنَّ النظامَ الدقيق الذي يسود مسألة التكاثر في الموجودات الحيَّةِ والحيوانات نظامٌ معقَدٌ وعجيبٌ للغاية، فما هي العوامل التي تؤدّي إلى أن يكون الجنين في رحم امه ذكراً أو انثى وما هي العوامل التي تؤدّي إلى حفظ التوازن بين جنس الذكر والانثى وما هي العوامل التي تؤدّي إلى أنْ ينجذبَ أحدُهما نحو الآخر كي تحصل مُقدَّماتُ الحمل؟ وما هي العوامل التي تعمل على تكاملهِ في مرحلةِ الحياة الجنينيةِ المعقدة؟

فإذا تأملنا جيداً، لوقَعَ بصرُنا على آياتٍ عظيمةٍ من آياتِ اللَّه في هذا الطريق الطويل، وفيما يخص تذليل الحيوانات لركوبها.

ثم تحدَّثَ عن تسخير هذه الحيوانات القوية والضخمة للإنسان، قائلًا: «لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُوْرِهِ ثُمَّ تَذكُروُا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ

إِذَا اسْتَوَيْتُم عَلَيْهِ وتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِى سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِيْنَ».

صحيحٌ أننا ننظرُ إلى هذه المسألة نظرةً بسيطة جرّاء اعتيادنا عليها يومياً، حيث نرى قوافل كبيرة من الابل والخيل، وحتى حيواناتِ ضخمة كالفيلة مُسَخَّرة بيد طفلٍ صغيرٍ، وأحياناً يُودَعُ عنانُ قافلةٍ منها بيد طفلٍ فيقودها حيث يشاء، إلّاأنَّها في الحقيقةِ ليست أمراً هيّناً، فلو كان لأحدها أقلُّ حالةٍ من التمرد والمواجهة فلا يستفاد منها في الركوب أبداً بل لأَصبحت تربيتُها من قِبل الإنسان خطيرةً جدّاً.

فنحن لا نستطيع أنْ نُربّي بازاً مشاجراً، وحتى قطة غاضبة وهائجة، فكيف نُربّي هذه الحيوانات الكبيرة القوية التي يمتلك بعضها قروناً وبعضها ذات اسنانٍ قاطعةٍ وفكٍ قويٍّ، وارجل بعضها قوية وكبيرة تستخدمها للضرب والركل، فإذا لم تكن مطيعة فكيف

نفحات القرآن، ج 2، ص: 340

نستخدمها للركوب؟ ولولا التسخير الإلهي حقاً لم نستفد منها أبداً: «مَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِيْنَ» «1»

.

والنكتة الجديرة بالذكر أيضاً أنَّ ظهرَ الأَنعامِ خُلق بحيث يكون مناسباً ومُعَدَّاً لركوب الإنسان.

وممّا يلفت النظر أنّه يذكرُ الركوبَ عليها هدفاً أولًا، وذكر نِعَمِ الخالقِ يعتبره الهدف الثاني، وتعد معرفة الذات الإلهيّة المقدّسة وتسبيحه وتقديسه هي الهدف النهائي، فذكر النِّعَمِ يَضَعُ الإنسان دائماً في طريق معرفتها، ومن ثمّ كلُ مواهب الخلق دافعٌ ومقدمة لمعرفة اللَّه سبحانه.

وذُكر هذا المعنى في الآية العاشرة والأخيرة بالإضافة إلى منافع اخرى وقد تمت الإشارة في هذه الآية إلى خمس فوائد اساسية للانعام، واعتبرها من آيات اللَّه.

فيقولُ في البداية: «اللَّهُ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا» «وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ».

ثم أشار إلى الفوائد المختلفة، كاللبن والصوف والجلد والمواد الطبية وامثال ذلك، فيقول إجمالًا: «وَلَكُمْ فِيْهَا مَنافِعُ» «2».

ويقول في المرحلةِ الاخيرة: «وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِى صُدُورِكُم».

إنَّ ذكرَ هذا المعنى على

هيئةِ منفعةٍ مستقلة، مع أنَّ مسألة الركوب قد ذُكرت سابقاً، يُمكنُ أن يكون المقصود منه حمل ونقل الامتعةِ وضروريات الحياة «3»، أو لاغراض التنزُّهِ والسياحةِ والمسابقات أو كسب القوة في ساحة الجهاد، أو الصراع مع بعض الحيوانات الوحشية، أو عبور الأنهار عن طريق سباحة الحيوانات، لأَنَّها جميعاً تندرجُ في لفظ «حاجة» الشامل، وهذه الضروريات لا شأنَ لها مع مسألة الركوب في الأسفار.

__________________________________________________

(1) إنَّ الضمير المفرد في «ظهوره» و «عليه» و «له» يعود إلى «الانعام» لأنّ «الانعام»- وكما قلنا سابقاً- ذات معنىً جمعي، إلّاأنّها تلفظ مفردة، وظن بعضهم أنَّ هذه الضمائر تعود إلى «ما» في «ما تركبون»، وفي هذه الحالة تشمل «الانعام» و «السفن» علماً أنّ «مقرنين» من مادة «إقران» وتعنى الاقتدار على الشي ء، وفسَّرها بعضهم بمعنى القبض والحفظ.

(2) ذكرت منافع بصيغة النكرة كي تُبرهنَ على أهميّتها.

(3) كما تمّت الإشارة إلى ذلك في الآية 6 من سورة النحل.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 341

ويقول في الفائدة الخامسة والأخيرة: «وَعَلَيْهَا وَعَلى الْفُلْكِ تُحْمَلُوْنَ».

ولتعبير «حَمْل» مفهوم غير «الركوب» ويبدو أنَّ المقصود منه هو المحامل والهوادج التي توضعُ على ظهور الأَنعام ويجلس فيها النساء والأطفال الذين لا طاقة لهم على الركوب، كما يستفاد منها للمرضى والعَجَزَةِ والضعفاء.

إنَّ ذكرَ «تُحمَلُون» بصيغة «الفعل المجهول»، وجعلها إلى جانبِ الفُلك حيث يوضحُ تشابههما مع بعضهما (الفلك في البحر والانعام على الأرض) يعتبر من القرائن أيضاً على التفسير أعلاه، وبهذا يتضح اختلاف هذه العبارات الثلاث: «لِتَركَبُوا- وَلِتَبْلُغُوا- وعليها وعلى الفُلك تُحمَلونَ»، وطالما وقع بعضُ المفسِّرين في معضلات تفسيرها، وقد فسَّروها بمعنىً واحدٍ!

ومع أنَّ بعضهم يعتقد أنَّ الانعام في هذه الآية تعني الابل فقط، ولكن نظراً لسعة مفهوم «الانعام» وعدم وجودِ قيدٍ في

الآية فلا دليل لحصرها، لا سيما أنَّ تكرار «منها» (علماً إنَّ «مِنْ» في مثل هذه الموارد تُفيد التبعيض) يبرهنُ على أنَّ بعض الانعام يفيد في الركوب، وبعضها يُفيد في الأكل، بينما لو كان المقصود هو الأبل فإنَّها تُفيدُ في جميع هذه الجوانب.

واللطيف أنَّه يقول في الآية الآتية باستنتاج عامٍ: «وَيُريكُم آياتِهِ فأيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُوْنَ».

إشارة إلى أنَّ كُلًا من هذه الامور يعتبر آيةً من آياتِ اللَّه بالنسبة للمتفكرين والعقلاء، آية بيِّنة ولا يمكنُ انكارها، والمنكرون يستحقون كلَّ اشكال اللَّوم والتوبيخ.

وهكذا نرى أننا نواجه في كلِّ خطوةٍ نخطوها في هذا الجانب آية من آياتهِ في عالم الاحياء والحيوانات خصوصاً الأنعام، ونواجه برهاناً من براهين علمه وقدرته وحكمته ولطفهِ ورحمتِهِ، وكلٌّ يحكي بلا لسان ويُعطينا درساً في التوحيد ومعرفة اللَّه، ويُثيرُ فينا دافعَ الشكرِ الذي يدعونا إلى معرفته.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 342

توضيحات

1- عجائب عالم الحيوانات

إنَّ كتابَ الخلقِ العظيم كتابٌ تكمنُ في كل جملةٍ- بل في كلِّ كلمةٍ وكلِّ حرفٍ منه- نكاتٌ، بنحوٍ لا يَشعُر الإنسان بالتعبِ من مطالعتها، فلو طالعَ أحد جمل هذا الكتاب العظيم مائة مرّة فسيَنكشفُ له في كلِّ مرّةٍ مفهومٌ جديدٌ واسرارٌ جديدة. فعالمُ «الحيوانات والانعام» الذي يُمثِّلُ جانباً من هذا الكتاب العظيم مليى ء بالأسرار والعجائب، نكتفي ببعضٍ منها ويجب أن نوكلَ الامعان في التفصيل إلى الكتب المدَوَّنة في هذا المجال.

2- ترويض الحيوانات

إنَّ استعداد الحيوانات للترويض مسألةٌ مهمةٌ للغاية.

ومن أجل إدراك أهميّة كلِّ نعمةٍ، لابدّ من تصوُّر الحالةِ التي تتحوَّل فيها الحيوانات الاليفة إلى حيوانات وحشية، «فالجملُ» يشنُّ هجماتهِ كالفهد ويمزِّقُ الإنسان بفكيّه القويتين، ويستخدمُ «البقرُ» قرنَهُ، وتضرب الخيلُ بحوافرها مَنْ يقترب منها، حينها لا يمكن اعتبار هذا القطيع من الأغنام والابل والبقر أساسيَ الوجود فحسب، بل وسنستعين بأية آلة قاتلةٍ من أجل الخلاص من شرِّها والقضاء عليها، وفي الوقت الحاضر أيضاً تغضب هذه الحيوانات الاليفة أحياناً فتشكلُ خطورةً بالغة، فمثلًا تُلَقِّنُ الفيلةُ الهنودَ دروساً، وتَشنُّ الجمالُ الغاضبة هجماتها على أصحابها، ومن الممكن أن تنتهي بالقضاء عليهم إذا ما غفلوا، وكأن اللَّه تعالى يريد أنْ يُبرهنَ على أنْ لو اردتُ سلبها أمرَ الطاعة والتسليم والخضوع فستَرَونَ بايِّ صورةٍ تظهر!

وقد عبَّر القرآن الكريم عن هذه الحقيقة بتعابير مختلفة، فيقول أحياناً: «وَذَلَّلْنَاهَا لَهُم». (يس/ 72)

وحيناً يقول: «سُبْحَانَ الَّذِى سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنينَ». (الزخرف/ 13)

نفحات القرآن، ج 2، ص: 343

وقد أشار الإمام الصادق عليه السلام إلى هذه المسألة في توحيد المفضّل، فيقول بعد بيان خلق الأنعام: ... «ثُمَّ مُنِعَت الذِّهنَ والعَقلَ لِتَذِلَّ للانسانِ فلا تَمْتَنِعَ عَلَيْهِ إذا كَدَّها الكَدَّ الشّديدَ وحَمَّلَها الحِمْلَ الثَّقيلَ» «1».

وبالطبع أنَّ عدم امتلاكها

للعقل جزءٌ من الدليل على تآلفها، علاوة على هذا أنَّ اللَّه تعالى خَلَقها بشكلٍ تأتلفُ فيه بسرعةٍ وتبقى على هذا الحال إلى الأبد، بينما نجد أنَّ بعضَ الحيوانات التي تماثلها في الذكاء والعقل (كالذئاب والّنمور) إذا ما ألفت فبمشقّةٍ تكون مؤقتة، ومع ذلك يجب الحذر منها، وأحياناً تفترسُ اصحابها إذا ما غفلوا عنها.

3- ذكاء الحيوانات

لعلَّ اختيار هذا العنوان بعد الذي قيل في البحث السابق يبدو عجباً ومتناقضاً، والحال أنّه ليس كذلك، مع أنّ الحيوانات تبدو بلا عقلٍ أو قليلة العقل، ونحنُ نشبّهُ البُلداء بالبهائم، إلّا أنّها تبدي ذكاءً ووعياً في بعض المسائل بحيث تبعث على الدهشة.

فقد شاهدَ اغلبُنا قطيعَ الأغنامِ عندما يعود من الصحراء، فهنالك عدد من الغنم والماعز تعود إلى عائلةٍ ما وبمجرد اقترابها من القريةِ يسلك كلٌّ منها فروع وازقةَ القرية ويتجه نحو بيت صاحبهِ بدونِ أيِّ اختلاف.

كما شاهدنا أنَّ النعجةَ لا تسمح أبداً لغير وليدها أن يرتضع من ثديها، وعندما تُطلقُ الصغار في ظلمةِ الليل وتدخلُ في القطيع يذهبُ كلٌ منها إلى امه، فتعرفه وتستعد لإضاعه، وهذه المعرفة تحصل عن طريق «الشَّم» فقط، وهذا يعني أنَّ عددَ روائح الأغنام تضاهي عددها، وكلُّ نعجةٍ تشخصُ رائحةَ صغيرها من بين هذه الروائح!

يقول «غرسي موريسن» في كتاب «سرُّ خلق الإنسان»: (إنَّ اغلبَ الحيوانات تُشخصُ طريقها في الليالي المظلمة، وتسير بيُسر، وإذا كانت لاتبصر في الظلمة الحالكة فهي تعرفه من تفاوت الهواء المحيط بالطريق، ويؤثر النورُ الضعيف جدّاً للأشعة مافوق الحمراء الذي

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار، ج 3، ص 91، توحيد المفضل.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 344

يشع من سطح الطريق على عيونها).

إنَّ طراز بناء البيت، وتربية الصغار، وكيفية مقاومة العدو، وحتى معالجة نفسها أثناء المرض من الامور

العجيبة في الحيوانات، وشرحُ كلٍّ منها يحتاج إلى بحثٍ مفصَّلٍ.

ذكر أحدُ علماء البيئة ويُدعى «البروفسور هانر منرو» في كتابه في خصوص استعداد بعض الحيوانات لمعالجةِ أمراضها قائلًا:

«اجريت بعض الكشوفات الطبية على علاجاتها، فمثلًا هناك نوعٌ من الطيور التي تأكل الأسماك، تتضرر أرجلها أثناء الطيران الجماعي أو الهبوط على الأرض، بسبب طولها، فوجدت أنّها على اطلاعٍ تامٍ بالتجبير وعلاج الكسور، فتذهب إلى ساحل البحر والمناطق الموحلة التي يمتزج طينها مع النورة الخاصة بالتجبير، وتغمسُ أرجلها بالنورة الرطبة، ثم تجلس تحت أشعة الشمس كي تَجفَّ النورة، وتبقى تراقب أرجلها بهذا الحال حتى يلتحم مكانُ الكسرِ تماماً ...

ومن الصدفة أنَّ النّورة التي يستخدمها الأطباء في المستشفيات من نفس هذا النوع الذي يستخدمه هذا الطائر الذي يأكل السمك لعلاج نفسهِ، لأنَّه لزجٌ ومتماسكٌ جدّاً» «1».

يعتقد العلماء أنَّ معظمَ الحيواناتِ لديها لغةٌ خاصة بها، وتتفاهم فيما بينها عن طريقها، فالنمل يتحدث فيما بينه من خلال اللمس، أو من خلال اصطدام لوامسها، وتتبادل الرسائل، وبعضُها تخابُر أثناء حلول الخطر من خلال ضرب ارجلها على باب الخليّة فترسل برقيات بهذه الطريقة إلى بعضها الآخر.

إنَّ اغلبَ الاحياء علاوة على امتلاكها للغةٍ خاصةٍ فهي تملك لغةً عامةً تستطيع من خلالها فهم لغة بعضها البعض الآخر، فهذه اللغة التي يصدرها الغراب أثناء حصول الخطر حيث يحذِّرُ بقيةَ الحيوانات بصوتٍ خاصٍ كي تبتعد سريعاً عن منطقة الخطر، ويعتبر الغراب في الواقع بمنزلة جاسوس من جواسيس الغابة!

لقد توصلَ علماء البيئة في دراساتِهم إلى هذه النتيجة وهي أنّ الحشرات تلي الإنسان

__________________________________________________

(1) أفضل طرق معرفة اللَّه، ص 197.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 345

في امتلاك جهاز اتصالاتٍ متكاملٍ، لا سيما التكلم وجهاز اتصالات النحل، فهو أكثرها عجباً

وندرةً «1».

القى عالمُ احياءٍ سويدي محاضرةً تثير الاهتمام في جامعة «لاند» حول لغة النحل وكانت نتيجة هذا التحقيق والتجربة التي أجراها عالم الأحياء هذا بمساعدة الأجهزة وعن طريق المقايسة، أنّها لغة يمكن فهمُ معناها «2».

إنَّ عجائب عالم الحيوانات أكثرُ من أن يُؤدى حقُها في كتابٍ واحدٍ أو عشر كتب.

والأفضل أن نكتفي بهذا المقدار ونغلق الملف ونقول بكل خضوعٍ وخشوعٍ أمام الحضرة الإلهيّة المقدّسة: «سُبحانَكَ اللَّهُمَّ وبحَمدِّكَ لا تُحصىَ عَجائِبُ خِلْقَتِكَ وإِنَّكَ على كُلِّ شَي ءٍ قَديرٌ».

__________________________________________________

(1) مجلة الصيد والطبيعة، العدد 72.

(2) تربية النحل، ص 60.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 347

20- آياته في خلق اعضاء جسم الإنسان

تمهيد:

من أجل أن يتمكن الإنسان من إقامةٍ الأواصر مع العالم الخارجي فهو يحتاج إلى ادواتٍ مختلفةٍ، حيث جَهَزه اللَّهُ بها، فقد جهّزَهُ بحاسة البصر لرؤية هيئة ولون وكمية ونوعية الموجودات، وبحاسة السمع من أجل معرفة أنواع الأصوات كما جهّزه بحواس اخرى من أجل الاحساس بالروائح، البرد والحر، الخشونة والنعومة و ...

إنَّ بناء هذه الآلات معقَدٌ ودقيقٌ بالقدر الذي يُمكن أن يكون شرح كلٍّ منها موضوعاً لعلمٍ مستقلٍ، وقد دوِّنت كتبٌ كثيرة بهذا الخصوص حيث تُعتبر في الحقيقةِ مجموعةً من أسرار التوحيد، ودروس، وبلاغات ونغمات لمعرفة اللَّه تُردُدها هذه الأعضاء في مسامع روح الإنسان، فمن غير الممكن أن يتأملَ المرءُ في بناء هذه الأعضاء ولا يخضع اجلالًا امام قدرة وعظمة خالقها، سواء اعترف بلسانه أم لا.

بهذا التمهيد نُيممُ وجوهنا صوب القرآن الكريم ونتأمل خاشعين في الآيات التالية:

1- «وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِّنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَاتَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصارَ والافْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ». (النحل/ 78)

2- «وَهُوَ الَّذِى أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفئِدةَ قَلِيْلًا مَّا تَشْكُرُونَ».

(المؤمنون/ 78)

3- «قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّماءِ وَالأَرضِ أَمَّنْ يَملِكُ السَّمْعَ وَالأَبصَارَ

.... وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ افَلَا تَتَّقُونَ». (يونس/ 31)

نفحات القرآن، ج 2، ص: 348

4- «أَلَم نَجْعَلْ لَّهُ عَيْنَيْنِ* وَلِسَاناً وشَفَتَيْنِ». (البلد 8 و 9)

5- «قُلْ أَرأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوْبِكُمْ مَّنْ الهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأتِيْكُمْ بِهِ أنْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُوْنَ». (الانعام/ 46)

6- «سَنُرِيْهِمْ آيَاتِنَا فِى الآفَاقِ وَفِى أَنْفُسِهِمْ حَتَّىَ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ».

(فصلت/ 53)

شرح المفردات:

«السَّمْع»: تعني في الأصل قوّة السَّمع، وقد تطلق على الأذن أيضاً، وقد وَردَ هذا اللفظ بمعنى الاستماع، واستجابة الدعوة والقبول والتجسس أيضاً، وإذا ما استخدمت في ما يخص الباري تعالى فهي تعني علمه واطلاعه على المسموعات، و «اسماع» جمع «سمع» إلّا أنَّ هذا اللفظ لم يُستخدم في القرآن الكريم اطلاقاً، ولعلّه بسبب أنّ «السمع» تستعملُ في معنى الجمع أيضاً «1».

«بَصَرْ»: وتعني (العين) وتستخدمُ أيضاً بمعنى «قوة النظر»، ويُستعمل هذا اللفظ في معنى قوة العقل والفهم أيضاً، فيقال لها «بصر» و «بصيرة» (جمع بصر، «ابصار» وجمع بصيرة «بصائر»).

إلّاأنَّ لفظ بصيرة لا يُطلقُ على العين أبداً، بل يُقال لها «بَصَرْ» والعجيب أنَّ لفظ البصير يُطلقُ أحياناً على المكفوفين، ولكن يظهرُ أنّ هذا الاستعمال ليس بسبب علاقة التضاد، بل لأنَّ المكفوفين غالباً ما يتميزون بقوة إدراكٍ فائقة، ويتلافون فقدانهم لقوة البصر بقوة التفكير والبصيرة «2».

واعتبر بعضُ أرباب اللغة كمؤلف «المصباح» أنَّ المعنى الأصلي ل «بَصَر» هو النور

__________________________________________________

(1) لسان العرب، المفردات، مجمع البحرين، والتحقيق في كلمات القرآن الكريم.

(2) مفردات الراغب.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 349

الذي نتمكن من خلاله من رؤية الموجودات، وفي «المقاييس» ذُكر لها معنيان: الأول الاطلاق على الشي ء، والثاني ضخامة وسمك الشي ء، ولكن يبدو أنَّ المعنى الأول والذي أوردَهُ

الراغب في المفردات أيضاً أكثر صواباً وتناسباً مع موارد هذا اللفظ.

و «افئدة»: جمع «فؤاد» من مادة «فَأد» (على وزن وَعد) وتعني في الأصل «الشوي»، لذا يُقال «فؤاد» للأفكار والعقول الناضجة، وقد يأتي هذا اللفظ بمعنى القلب، أو غلاف القلب أيضاً، وقال بعضهم أيضاً أنَّ هذا اللفظ يطلق على القلب والعقل حينما يكون متنوراً ومشرقاً، وقال بعضهم إنَّ «فؤاد» تعني مركز القلب يُطلقُ على مجموعهِ.

و «العَيْن»: ذات معانٍ كثيرة والمعروف أنَّ لهذا اللفظ سبعين معنىً في لغة العرب.

إلّا أنَّ المعنى الاصلي ل «العين» هو العضو الخاص بالنظر، وقد يأتي أيضاً بمعنى قوة البصر.

ولكن لها معانٍ كنائية ومجازية كثيرة برزت على هيئة معانٍ حقيقية نتيجة لكثرة الاستعمال، فمثلًا يقال للينبوع «عين» لأنَّه يشبه العين، ويقال للجاسوس والمكلف بالتجسس والاستطلاع «عين» أيضاً، كما يُطلقُ هذا اللفظ على ذوي المكانة وعلى الشمس والذهب أيضاً لأنَّ الذهبَ من بين الفلزات كالعين بين الأعضاء، وكذلك «الشمس» بين النجوم، وكالمرموقين من بين أبناء قومهم، كما يُطلقُ هذا اللفظ أيضاً على الثروة والمتاع الذي يمكن الاستفادة منه، وثقب الحلقة، والبصيرة والاطلاع على الشي ء كلٌّ في محلِّه، وسُمِّيت الحور العين بهذا الاسم لأنّها ذات عيونٍ جميلةٍ وواسعة.

و «اللسان»: تعني عضو التكلُّم، ووردت أيضاً بمعنى قوة البيان، وتُطلقُ أيضاً ككنايةٍ على الأشخاص المتكلمين نيابة عن جماعة ما، كما يُقال ل «ألْسِنة» (جمع لسان) أيضاً، ويُستخدم هذا اللفظ بصيغة المذكَّر والمؤنث إلّاأنّه جاء في القرآن الكريم بصيغة المذكر.

و «شَفَة»: على وزن (سَعَة) وتستخدم بصيغة التثنية «شفتان» «1»

.

ومفهوم «مشافهة» يعني مقابلة الشخص والاستماع إلى شي ءٍ ما من شفتيه، وورد هذا اللفظ بمعنى شاطي ء «النهر» وساحل «البحر» لأنَّه شفة له.

__________________________________________________

(1) لقد ذكر بعضهم أنَّ اصَلها «شَفْو» (ناقصة

الواو) وبعضٌ «شَفَة» لأنّ مصغَّرها «شفيهة» وجمعها «شفاه».

نفحات القرآن، ج 2، ص: 350

جمع الآيات وتفسيرها

الدور الحساس لآلات المعرفة:

يقول في الآية الاولى كتعريفٍ بالذات الإلهيّة المقدّسة وبيانٍ لآياته في خلقِ الإنسان:

«وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّنْ بُطُونِ امَّهاتِكُمْ لَاتَعْلَمُونَ شَيْئاً».

إنَّ هذا التعبير يُبيِّنُ بجلاء أنَّ صفحة القلب تخلو من جميع المعارف عند الولادة، إلّاأنّ بعض المفسِّرين قالوا إنَّ المقصود ليس العلم الحضوري للإنسان بذاته، أو بتعبير آخر إنّ المقصود هو العلم بالأشياء الخارجية، وذكروا ذلك كشاهدٍ في قوله تعالى: «وَمِنْكُمْ مَّنْ يُرَدُّ إِلىَ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَىْ لَايَعْلَمَ بَعدَ عِلْمٍ شَيْئاً». (النحل/ 70)

والانسان في سنِ الشيخوخة يعلمُ بوجوده إلّاانَّه يُحتملُ جهلِ الوليد بوجوده في بداية الولادة وأول ما يُدركه هو وجوده.

ثم يضيفُ: «وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصارَ وَالأَفئِدَةَ لَعَلكُمْ تَشْكُرُونَ».

لقد جعلَ اللَّه العينَ والاذنَ كي يُدركا المحسوسات، والعقل لإدراك المعقولات، وتَطّلعون على العالم الخارجي من خلال وسائل المعرفة الثلاث هذه، ثمَّ تقومون بشكر هذه النِّعم وتتوجهون قبل كلِّ شي ء لمعرفة ذلك الخالق الذي منحكُم وسائل العلم والمعرفة.

ولإدراك أهميّة العين والاذن والعقل يكفي تصور الحالة التي تتمخض عن فقدان أحدهما (فضلًا عن كليهما)، فما هو حال مكفوف البصر، أو الأخرس أو المجنون أو جميعهم؟ وكم ينأى عن مواهب هذا العالم العظيم؟ وقبل كلِّ شي ءً يفقد موهبة العلم والاطلاع التي هي أفضل المواهب ومقدمةٌ للتَنعُمِ بالمواهب الاخرى

وقال بعضهم إنَّ المقصود من «شيئاً» في الآية أعلاه هو حق المنعم، وقال بعض آخر: إنّ المقصود هو مصالحه، وفسَّرها قسمٌ منهم على أنّها السعادة والشقاء، أو الميثاق الإلهي في يوم: «ألستُ بربِّكم»، إلّاأنّ اطلاقَ الآية ينفي كلَّ اشكال التقييد فتشمل كلَّ شي ء.

وهنا لماذا تقدَّمَ «السَّمع» على «الأبصار»؟ فلعل ذلك يرجعُ إلى استخدام الاذن قبل العين، لأنَّ العينَ لم

تكن لديها القابلية على الرؤية في محيط رحم الام الذي يسودُه ظلامٌ

نفحات القرآن، ج 2، ص: 351

مطبقٌ، وتكون حساسة جدّاً ازاء النور إلى حينٍ بعد الولادة، لذلك فهي غالباً ما تكون مغمضة، حتى تستعد تدريجاً لمواجهة النور، إلّاأنَّ الاذن ليست كذلك فباعتقاد بعضهم أنّها تسمعُ الأصوات في عالم الجنين أيضاً، وتتعرفُ على انغامِ قلب الأُم!.

بالاضافة إلى أنَّ الاذن تعتبرُ وسيلةً لسماع رسالة الوحي الإلهي الذي هو أشرف المسموعات، وكذلك وسيلة عامة لنقل العلوم من جيلٍ إلى جيلٍ آخر، بينما ليست العينُ كذلك، لا شكَّ أنَّ القراءة والكتابة وسيلةً لنقل العلوم إلّاأنّها ليست عامة وشاملة.

وجعلُ «الافئدة» وراءهما واضحُ الدليل أيضاً، لأنَّ البَشر ينقلون المشاهدات والمسموعات إلى العقل، ومن ثمَّ يقوم بتحليلها وتفكيكها وينتقي منها معلومات حديثة ويكتشف القوانين العامة للعالم «1».

وفي الآية الثانية يتابع الحقيقة التي وردت في الآية الآنفة، وأشار إلى مسألة خلق الاذن والعين والقلب، من أجل معرفة اللَّه، مثيراً في الإنسان الشعور بالشكر الذي هو السُلَّم لمعرفة اللَّه تعالى مع هذا الاختلاف حيث يُعبَرُ عن خلق هذه الأعضاء بتعبير «انشاء» وفي الختام يوجِّهُ اللومّ والتأنيب لُاولئك الذين قليلًا ما يشكرون اللَّه، فيقول: «وَهُوَ الَّذِى أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيْلًا مَّا تَشْكُروُنَ».

و «الإنشاء»: كما يقول الراغب تعني في الأصل إيجاد الشي ء وانمائهِ، ولهذا يقال «ناشئة» للشباب.

إنَّ التعبير بإنشاء غالباً ما يخص الحيوانات، بالرغم من استخدامها أحياناً في غير هذا المورد مثل: «أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ». (الواقعة/ 72)

ومن الممكن أن يكون هذا التعبير في الآية أعلاه إشارة إلى المسيرة التكاملية للعين

__________________________________________________

(1) إنَّ «سمع» تُطلقُ على المفرد والجمع، بالرغم من أنَّهم يجمعونها بصيغة «اسماع» أيضاً.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 352

والاذن

والعقل خلال مرحلة الجنين ثم في مرحلة الطفولة، حيث أَوْجَدَها الباري تعالى ثم يقوم بتربيتها.

ويقول في الآية الثالثة «كاستفهام تقريري» من المشركين الذين انفصلوا عن اللَّه وضلِّوا في وادي عبودية الأوثان: «قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِّنَ السَّماءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَملِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصارَ».

منَ المسلَّم به أنَّ الأرزاق التي يحصل عليها الإنسان إمّا أنْ تكون من السماء (كالامطار والهواء وضوء الشمس) أو من الأرض (كالنباتات والأشجار والمعادن المختلفة) فكذلك العلوم والمعارف فغالباً ما يحصل عليها الإنسان عن طريق العين والاذن، لأنَّ هاتين الحاستين المهمتين تُعتبران وسيلةَ اتصالِ الإنسان بالعالم الخارجي، وكلُّ هذه الأرزاق الماديّة والمعنوية من اللَّه تبارك وتعالى

واللطيف أنّه عبَّر هنا بتعبير المالكية، وبِما أنَّ المالكية هنا تكوينية فانها لن تنفصل عن مسألة «الخلق» وفي الحقيقة أصبح هذا التعبير من لوازمه، وكذلك لن تكون منفصلةً عن مسألة «تدبير الامور» لذا يقول مستفسراً في نهاية الآية: «ومَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ» «1»

.

فيضيف مباشرة: «أنّهم وبالهام من وحي فطرتهم يقولون بسرعةٍ: إنَّ اللَّه هو مالك وخالق ومدِّبرُ هذه الامور» «فَسَيَقُوْلُونَ اللَّهُ».

«فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ».

أي ترك عبادة الأوثان والتوجه إلى غير اللَّه، والابتعاد عن الذنوب والظلم.

__________________________________________________

(1) قالَ بعض ارباب اللغة إنّ «ملِك» (بفتح الميم وكسر اللام، تعني مَنْ يتصرف بعامةِ الناس من خلال أمره ونهيهِ وهذا يستلزم السلطة والاقتدار والتدبير).

نفحات القرآن، ج 2، ص: 353

ويقول في الآية الرابعة ضمن إشارته إلى جانب من نِعَمِ اللَّهِ على الإنسان لتحريك الاحساس بالشكر الذي هو مقدمة ل «معرفة اللَّه»: «أَلَمْ نَجْعَلْ لَّهُ عَيْنَيْنِ».

العينان اللتان يتمكن من خلالهما أنْ يرى عالم الوجود، وأن يشاهد عجائب الخلق، وأن ينظر إلى الشمس والقمر والنجوم وأنواع النباتات وأنواع الموجودات الحيّة والحيوانات، وأنْ يتفرجَ على عجائب صُنعِ اللَّه،

وأن يُميزَ الخير من الشر، ويُشَخصَ الصديقَ من العدو، وأن ينقذَ نفسَهُ من مخالب الحوادث.

ثم يضيف «وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ».

اللسان الذي يُمثلُ وسيلةَ اتصالهِ بالآخرين، اللسان الذي يعتبرُ عاملًا في نقل العلوم والمعارف من جيل إلى آخر ومن قومٍ إلى آخرين، اللسان الذي يردد ما يحتاجه، وبه يدعو ويتوسل إلى المعبود جلَّ وعلا، وهو الذي ينطق عن جميع ذرات وجوده.

وكذلك الشفاه التي تلعبُ دوراً مهماً في النطق، وتتحمَّلُ مسؤولية تلفظ كثير من مخارج الحروف «1» بالاضافة إلى مساعدتها في شرب الماء واكل الطعام وهضمه والحفاظ على سوائل الفم، بنحوٍ لو جُدعَ جانبٌ من الشفة فلن تصبح هذه الامور صعبةً بالنسبة للإنسان فحسب، بل وسيكون منظرهُ وصورته باعثاً على الحسرة.

واللطيف أنّ القرآن يتحدث بعد هاتين الآيتين عن هداية الإنسان إلى الخير و (الشر)، قائلًا: «وَهَدَيْناهُ النَّجدَيْنِ».

إنَّ هذا التعبير البليغ يشيرُ إلى علاقة العين واللسان والشفاه بمسألة الهداية ومعرفة الخير والشر، لأنّها تُعتبر آلاتٍ لهذا الهدف العظيم.

وفي الآية الخامسة يُلفتُ الانتباه إلى الحالة التي تحصل لدى الإنسان بسبب فقدانهِ

__________________________________________________

(1) وهذه أربعة حروف بالعربية (ب- ف- م- و) وهي (حروف شفهية) بكثرة وفقدان الشفة يؤدّي إلى أن يفقدالمرء قدرة التكلم إلى حدٍ ما.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 354

للاذنِ والعين والعقل، فيقول: «قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيْكُمْ بِهِ» «1»

.

ثم يضيف في نهاية الآية: «انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ» «2»

.

وفي الحقيقةِ أنَّ القرآن يريد أن يقول: إنَّ آلات المعرفة المهمّة تلك ليست ملكاً لكم لأنّها لو كانت كذلك لما سُلبت منكم فليس بالقليل اولئك الذين فقدوا نعمة السمع والبصر والعقل نتيجة لتأثير عوامل مختلفة، اذن فهي ملك لخالقٍ

آخر، هذا من جهة.

ومن جهة اخرى بما أنَّ الأشياء تعرف باضدادها فانَّ القرآن يريد أن يلفتَ نظرَ الإنسان إلى عظمة الخالق وواهب هذه النعم، من خلال تذكيره بالوضع المؤلم الذي يطرأ للإنسان بسبب فقدان هذه النِّعم التي لا مثيل لها، ويرشده عن هذا الطريق ويُحفزهُ إلى الخضوع أمام عظمته تعالى

ويمكن أن يكون التعبير ب «أخذ» الاذن والعين بمعنى أخذ هذه الاعضاء، أو أخذ قوة السمع والبصر أو كليهما.

وفي الآية الأخيرة من البحث التي تعتبر من آيات التوحيد ومعرفة اللَّه يُسلطُ الانظارَ على آياته قاطبةً في عالم الخلق بأسرِه، فيقول: «سَنُرِيْهِمْ آياتِنَا فِى الآفاقِ وَفِى أَنْفُسِهِمْ حَتّىَ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ».

«آفاق»: جمع «افُق» وتعني الأطراف، وعليه فانَّ «آفاق الأرض» تعني أطراف

__________________________________________________

(1) لقد فسَّر المفسِّرون جملة «أرأيتُم» وكذلك «أرأيتُكُم» بمعنى اخبروني أو «هل علمتُم» ولكن باعتقاد بعض المحققين فانَّ هذه الجُمل تتسامح مع المعنى الأصلي فمثلًا جملة (أرأيتم) بمعنى (هل شاهدتم)، ولكن حيث تكون المشاهدة في مثل هذه الموارد للعلم والأخبار فقد فسِّرت بلازم المعنى وعلى ايةِ حالٍ فإنّ الغاية من ذكر هذه الجُمل هو التذكير والتأكيد على دقةِ المخاطب، ولو أردنا أن نفسِّرها بلازم المعنى فيمكننا القول بانَّ هذا هو مفهومها.

(2) «نصِّرف» من مادة «تصريف» وتعني التغيير، وتعني هنا ذكرُ حقيقة ما بلباس وبيان مختلف، و «يصدفون» من مادة «صَدَف» (على وزن هدف) وتعني هنا الإعراض.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 355

الأرض، و «آفاق السماء» تعني أطراف السماء، وبما أنّها ذُكرت في آية البحث بشكلٍ مطلق، فهي تشمل كل الأطراف شمالًا وجنوباً وشرقاً وغرباً.

و «أَنْفُس»: لها هنا معنىً واسع حيث تتضمن الروح والجسم أيضاً، وجميع اعضاء الجسم التي هي موضوع بحثنا.

وهنا إلى

من يعود الضمير في «أَنَّهُ الحَقُّ»؟ قال بعض المفسِّرين: المقصود هو القرآن، والمقصود من آيات الآفاق الانتصارات التي حققها المسلمون في أطراف العالم، والمقصود من آيات الانفس، انتصاراتُهم في بلاد العرب أي اننا نُريهم الانتصارات في أطراف العالم وفي بلاد العرب كي يعلموا أنَّ القرآن حقٌ.

وقال بعضهم: المقصود هو «رسول اللَّه» صلى الله عليه و آله أو دينه، حيث لا يتفاوت كثيراً مع التفسير الأول.

لكن الظاهر هو (كما فهمهُ عددٌ من المفسِّرين) أنَّ المقصود هو اللَّه، أي أننا نُريهم آيات الآفاق والأنفس كي يتجلّى لهم أنَّ اللَّه هو الحق.

يُعدّ التعبير ب «آياتٍ» من جانبٍ، والتعبير ب «الآفاق والانفس» من جانبٍ آخر بالإضافة إلى الآية التي تليها والتي تتحدث عن التوحيد شواهد على هذا التفسير، علماً أنَّ هذه الآية تتوافق مع عدة آيات في القرآن الكريم التي تعرضُ آياتِ اللَّه في عرضِ الخلق ووجود الإنسان، مثل: «وَفِى الأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِيْنَ* وَفِى أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ». (الذاريات/ 20- 21)

وقد ذُكر هذا المعنى أيضاً في تفسير على بن إبراهيم، على الرغم من أنَّ بعض الروايات ذكرت أنَّ ضمير، (أنّه) يقصُد به الإمام المهدي «عج» ولكن الظاهر أنّه تفسيرٌ لبطون الآيات (والجمع بين التفاسير ممكن أيضاً)، على أيةِ حالٍ ... ففي أيٍّ منها تمعنّا نرى من خلاله آثار علمه وقدرته تعالى وكلُّ نباتٍ ينبتُ من الأرض ينطق بنفسه ب «لا شريك له» و «قلب كلِّ ذرة نفتحهُ- نرى شمسَهُ في وسطهِ».

والتعبير ب «سنُريهم» (نظراً لأنَّ الفعل المضارع في مثل هذه الموارد يعني الاستمرارية)

نفحات القرآن، ج 2، ص: 356

يُعتبر إشارة لطيفة إلى هذه الحقيقة وهي أنَّ كلَّ يومٍ يمُرُّ من عمر الإنسان تنكشفُ له حقائق جديدة عن هذا العالم، وتتجلى أسرارٌ

خافية، ففي كلِّ يومٍ يتوصل العلماء في مختبراتهم ومكتباتهم إلى اكتشافٍ حديث، وتتضح آيات جديدة من آيات اللَّه، ومن المسلَّم به أنَّ هذه المسألة ستستمر حتى لو انقضت ملايين السنين من عمر الخليقةِ، فكم هو عجيب عالَم الخلق الواسع، وكم عظيم خالقُه؟

ومِنْ ثمَّ فاننا لا نعلمُ شيئاً عن مليارات السنين السابقة وما تلاها، وليس لدينا أدنى اطلاع عن هذا الكتاب العتيق الذي فُقد فصلاه (الأول والأخير) وكلُ ما نعلمُه هو نزرٌ يسيرٌ يتعلقُ بجانبٍ من هذا العالم الواسع وفصل من هذا الكتاب الكبير: «العظمة للَّه الواحد القهار».

نستنتجُ من مجموع ما مضى من الآيات أنَّ كلَّ عضوٍ من اعضاء جسمِ الإنسان، بل كلَّ جزءٍ منها، يعتبرُ مرآةً واضحةً للحق تعالى وآيةً مستقلةً وجليةً من علم وقدرةِ وحكمة وتدبير خالق الكون.

توضيحان

1- عجائب أعضاء الجسم

لو لم يكن في كلِّ الكَونِ موجودٌ سوى الإنسان، ولم يكن في جميع كيان هذا الإنسان شى ءٌ سوى عينٍ أو أُذُنٍ واحدة، لصار ذلك سبباً لمعرفة الذات الإلهيّة المقدّسة وعلمهِ وقدرته، لأنَّ بناءها دقيق ومعقّدٌ ومحبوكٌ بقدر لا يصدقُ أيُّ عقلٍ أنّها مِنْ صنعِ الصدفةِ أو الطبيعةِ العمياء والصمّاء، بل نواجه في كلِّ مرحلةٍ من دراستها، آيةً جديدةً من علم وقدرة ذلك الصانعِ الحكيم.

فمن بين مئات الخصائص ومن خلال الدقّة في حاسة البصر، أي العين، يكفينا ذكر المواضع الآتية كي نعرف الغرابة المذهلة في هذا العضو:

نفحات القرآن، ج 2، ص: 357

1- العدسة المتغيِّرة: من المعروف أنَّ العينَ تُشبَّهُ بآلة التصوير، بينما لا تصل أحدث آلات التصوير في العالم انْ تكون كأُلعوبةٍ أمام عين الإنسان، لأنّها تحتوي على عدسة ثابتةٍ، حيث يجب أنْ تُنظَّمَ وتُدارَ مِنْ قبل مصورٍ باستمرار من أجل التقاط الصور من عدة جهات، إلّاأنَّ عدسةَ

العينِ الواقعة خلف إنسان العين مباشرة، تتغير دائماً بشكلٍ آلي، فقد يتقلص قطرها أحياناً فيبلغ 5/ 1 ملميتر وأحياناً يتّسع حيث يبلغ 8 ملمترات فيسمح لها بالتقاط الصور من مناظر بعيدة وقريبةٍ جدّاً.

2- طبقات العين السبع: إنَّ العينَ تتألفَ أساساً من سبعةِ حجُب أو سبع طبقات وتُسمى «الصلبية» و «العِنَبية» و «المشيمية» و «الجليدية» و «الزُلالية» و «الزُّجاجية» و «الشَبكيّة»، حيث لكل منها بناؤها الخاص بها وواجبها الذي تتحمله، وشرحها يجرُّنا إلى الاطالة، فيكفينا أن نعلمَ أنَّ اقَلَّ اختلاف فيها يؤدّي إلى اختلال النظر، طبعاً تكمنُ خلف «الشبكية» أعصاب بصرية تنقل الصور التي تقع على الشبكية إلى الدماغ.

3- الحساسية ازاء الضوء: إنَّ تنظيم النور بالنسبة للمصورين يعتبر عملًا شاقاً، وكثيراً ما تُكلَّفُ مجموعةٌ متخصصة بهذا العمل، بينما تستطيع العين من خلال تغيير حساسيتها ازاء شدة الضوء أن تلتقط الصورَ من مناظر مختلفةٍ وفي نورٍ ضعيفٍ أو قويٍّ جدّاً.

4- الحركة المستمرة: إنَّ المصوّرين يديرون اجهزتهم باستمرار نحو اليمين واليسار وإلى الأعلى والأسفل، ويستخدمون مختلف الآلات لهذا العمل، بينما نجد أنَّ العضلات التي تحيط بكرة العين تُدير هذا الجهاز بحركةٍ خاطفة إلى الجهات الأربع بشكلٍ كاملٍ، وتضاعف قدرة المناورة لديها للتصوير في جميع الجهات.

5- المركبات البسيطة والدقيقة: فمن أجل إعداد أجهزة التصوير يستفادُ من أقوى العدسات والفلزات، بينما تم صنعُ العين من مواد لطيفةٍ وفي نفس الوقت قد تستمر في العمل مائة عامٍ لأنّها جهاز حي يستطيع بناء نفسه وتجديد قواه باستمرار، بينما تعتبر الأجهزة التي يصنعها البشر اجهزةً ميتة!

6- اعداد شريط التصوير: يعتبر اعداد شريط التصوير بالنسبة لاجهزة التصوير عملًا

نفحات القرآن، ج 2، ص: 358

صعباً ويجب استعمال حلقاتٍ متباينة باستمرار من أجل التصوير، بينما تصوِّرُ شبكيةُ

العين ذاتياً على الدوام، وبعد انتقاله وحفظِه في الدماغ يُمحا وتستعد لتصوير منظرٍ آخر، ويُنجزُ هذا العمل بسرعةٍ عجيبةٍ ومدهشةٍ للغاية، علماً أنَّ مسألة اخراج شريط التصوير التي تعتبر عملًا شاقاً ومستهلكاً للوقت لم تُطرح هنا.

7- الأجهزة الجانبية: من أجل أنْ تقومَ العين بانجاز واجباتها فقد جُهزت بالكثير من اللوازم التي يعتبر كلٌ منها مدهشاً أيضاً.

إنَّ وجودَ الغدد «الفوّارة» التي تَصبُّ السائل الخاص والشفّاف بشكلٍ دائمٍ في العين، ويَسمح للاجفان أن تتحرك فوق فص العين بدونِ أقَّل تماسٍ خشنٍ، وتسوق فضلات الماء الموجودة في أسفلها إلى الخارج، فينحدر إلى بؤبؤ العين، وللأجفان ردود فعل سريعةمقابل الحوادث المختلفة حيث تحافظ على العين من الصدمات، وهجوم التراب والغبار، أو الضوء الشديد، وبناء «الأهداب» التي هي بمنزلة ستائر تسمح للعين بالاستنارة قليلًا مع كون العين مفتوحة وتحفظها من دخول الغبار والتراب، واستقرار العين في صندوقٍ عظمي قويٍّ جدّاً كالقلعةِ المنيعة، ووضع هذا الصندوق في مكانٍ مرتفعٍ من الجسم حيث يسمح لها أن ترى جوانبها كالراصد الذي يتمركز في المرصد، ووجود الحواجب التي تُمثلُ درعاً لحمايتها، وامور جمَّة اخرى حيث لكلٍّ منها قصةٌ لطيفةٌ ومدهشةٌ وغنية بالمعاني.

لو جمعنا كلَّ هذه الامور وتمعّنا فيها قليلًا فمن المسلَّم به اننا سنذعنُ أنَّ صانعَ العين كانَ مطلعاً على جميع الأنظمة المتعلقة بالعدسات، وانعكاس الضوء، ومسائل اخرى معقّدة من هذا القبيل، وخلقَ مثل هذا الموجود العجيب بعلمه وقدرته الأزلية.

2- اللسان، هذا العضو المحترف!

إنّ من بين الأعضاء التي تمت الإشارة إليها في الآيات المذكورة هو اللسان، الذي يعتبر بحقٍ من عجائب خلق اللَّه، ولو كان لهذا اللسان لسانُ ينطقُ عنه، لشَرحَ لنا ما فيه من

نفحات القرآن، ج 2، ص: 359

عجائب، حينها يتضح لنا لماذا استند إليه

القرآن الكريم.

لو القينا نظرةً قصيرةً على واجبات ومسؤوليات اللسان، لاظهرت لنا جانباً من هذه الحقائق، وإجمالًا فلّلسان ستة واجبات أساسية هي:

1- دور اللسان في هضم الطعام: لولا اللسان لما تمت عملية هضم الغذاء بشكل كامل، و لبقي قسم من الغذاء غير مهضوم، وسوف نضطر إلى تحريك الأكل باصابعنا لتتم عملية مضغه بواسطة الأسنان فاللسان يُقلب الطعام باستمرار من ثلاث جهات بين الأسنان بحركاته السريعة الماهرة، دون أنْ يبقى في وسطها! أجل قد يصيبُهُ التعبُ والعجزُ أحياناً فتَقتنصه الأسنان فيُصاب بشدّة، وكأنَّ اللَّه يريد أنّ يثبت لنا بأنّ اللسان لو لم يمنح تلك المهارة الفائقة لتكرر هذا المشهد يومياً ولتعرض اللسان للجرح دائماً.

2- خلط الطعام بلعاب الفم: اللعاب هو ذلك السائل اللزج الذي يعمل على ترقيق وانزلاق الطعام وإعداده للبلع، من جهة، ومن جهة اخرى يجري عليه تفاعلات كيميائية خاصة، ويُعدّه للبلع والهضم، فاللسان هو الذي يتكفل بمسؤولية مزجه بهذا السائل الحيوي.

3- المساعدة في ابتلاع الطعام والماء: إنَّ اللسانَ يلعبُ دوراً أساسياً في نفوذ الطعام والماء، فبالتجمُّع والالتصاق بسقف الفم والضغط على الماء والطعام يدفعه سريعاً نحو البلعوم، ولو اصيب بشلل ليومٍ واحدٍ على سبيل المثال لتعسَّر ابتلاعُ لقمةٍ واحدةٍ ولعله يصبح مستحيلًا.

4- السيطرة على المواد الغذائية: يستطيع اللسان- وبسبب قوة التذوق الشديدة فيه- أن يشخص الكثير من المواد الضارة والسامة للجسم، ويقذفها خارجاً، ولولا دور اللسان في السيطرة الماهرة على باب الدخول إلى الجسم لأُصيبَ الإنسان بالأمراض بسرعة نتيجة لأكلهِ الأطعمة المضرّة، ولأصبح عرضة للأخطار، فالطعام المُر والمالح، أو المتَبَّل، أو الفاسد والمتعفن يميزه اللسانُ أولًا، فيمنَعه من الورود إلى الجسم، أجل- هذا الحارس الغذائي مكلَّفٌ بالسيطرة على جميع المأكولات والمشروبات ليلًا ونهاراً.

نفحات القرآن،

ج 2، ص: 360

5- تنظيف الفم: لابدّ أنّكم قد تفحصتم يوماً أنَّ الفم واللسان ينشغلانِ بالحركة بعد الانتهاء من الطعام، فهذه الحركة هي لتحريك وإزالة بقايا الطعام حيث تُجمع في فضاء الفم ثمَّ تُرسَلُ إلى القناة الهضمية، وهذا العمل يتحملُه اللسان بشكلٍ أساسي وحتى انَّهُ ينظفُ الأسنان إلى حدٍ ما، وخلاصة الأمر: يعتبر اللسان منظفاً ماهراً للفم.

6- النُطق: وأخيراً فانَّ أهمَّ وادقَّ واجبٍ للّسان هو البيان الذي استند إليه القرآن لا سيما فى بداية سورة الرحمن لتعريف اللَّه قائلًا: «الرَّحمَنُ عَلَّمَ الْقُرآنَ خَلَقَ الانْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ». ومع أنَّ النطق يعتبر أمراً بسيطاً بسبب كثرة ممارسته، إلّاأنّه يعتبر في الحقيقة من أكثر الأعمال تعقيداً حيث ينجزه الإنسان ب «لسانه» و «عقله».

فيجب أن يختار أولًا الكلمة المناسبة من بين عشرات الآلاف أو مئات الآلاف من الكلمات وأحياناً أكثر من هذا العدد، ثم يصدر الأوامر إلى اللسان أن يتحرك على مقاطع الحروف بحركاته الملتوية السريعة الماهرة، وأن يُركِّبَ الحروف المطلوبة بمساعدة الرئة والحنجرة والأوتار الصوتية ويربطها فيما بينها وأن يكوِّنَ كلمةً واحدة، ثم يختار الكلمة الثانية بنفس السرعة، ويولدُ أصواتاً معينة، ويستمر هكذا حتى تكتمل الجملة، ولو اخطأ الذهنُ قليلًا في اختيار الكلمات فانّه يقصر عن استيعاب المعنى ولو حدث أدنى خطأ في حركات اللسان السريعة في فضاء الفم لما كانت هناك جملة واحدة مفيدة.

تأمّلوا الآن متكلماً يتحدث باتزانٍ وفصاحة وبلاغة ساعة كاملة، لقد أدار لسانه في أطراف الفم آلاف المرّات واستند إلى مقاطع الحروف تماماً وذلك في محيط صغيرٍ تتقلص إمكانية المناورة فيه كثيراً فأيُّ عملٍ عجيبٍ واعجازيٍّ يؤدّيه؟ وهذا ليسَ إلّاعرضٌ لقدرة الخالق العظيم.

ومن المسلم به أنّ الشفاه تُكمِّلُ عمل اللسان، وتقوم بتكوين بعض الحروف، وهذا التنسيق

بين هذين العضوين يمثل عملًا لطيفاً ومدهشاً وأهم منهُ العمل الفكري الذي يلازمه.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 361

والخلاصة أنَّ لكلِّ عضو من الأعضاء الظاهرية أو الأجهزة الداخلية للجسم كالقلب والدماغ والشرايين وشبكة الأعصاب قصةً مفصَّلةً ومثيرة، ولو أردنا أنْ نتطرق إلى أسرارها واحد تلو الآخر لاستلزمَ سبعين منّاً من الورق لأنّ من اليسير أن تمتلى ء آلاف الكتب بأسرارها، فالأفضل لنا أن نعترف بقصورنا في هذا المجال ونخضع إجلالًا على أعتاب قدرة الخالق العظيم، ونترنَّم بقول الشاعر بصدد الخلق ونقول أيّها الإنسان: عجباً لك إذ لم يكن للعالم مجال لمشاهدتك فلماذا لا تنظر إلى نفسك متعجباً:

أو نقول:

أتزعُمُ انَّكَ جرمٌ صغيرٌ وفيك انطوى العالم الأكبرُ! نفحات القرآن، ج 2، ص: 363

21- آياته في الحياة الاجتماعية للإنسان

تمهيد:

ممّا لا شك فيه أنَّ الإنسان موجودٌ اجتماعي بالطبع، ويحصل على ما يحتاج إليه في الحياة الجماعية، فتكامل الإنسان معنوياً ومادياً، في العلوم والمعارف، الحضارات والصناعات، الآداب والتقاليد، يحصل من خلال الحياة الجماعية، بنحوٍ يمكننا من القول أنّه لو فقدَ الإنسان هذا الطراز من الحياة فسيفقد كلَّ شي ءٍ، ويهبط إلى مستوى الحيوان.

إنَّ اهتمام الإنسان بهذا الطراز من الحياة علاوة على فطريته، فهو نابع من كثرة وتباين حاجاته، وهمته العالية لبلوغ مراحل اعظم وأكمل، ولا يمكن تأمين هذه الحاجات الجسمية والروحية بدون الحياة الاجتماعية، وإلّا فما هو دور الإنسان منفرداً؟

ولكن يجب أن لا ننسى أنّ الإنسان يحتاج إلى عوامل نفسية وبدنية كثيرة من أجل التعايش اجتماعياً، حيث وضعها الخالق في متناول يديه، وإذا تمَّ تحليل هذا الجانب من حياة الإنسان تحليلًا موضوعياً فسيتضح انَّه من أكثر آيات اللَّه عجباً.

بهذا التمهيد نتجه نحو آيات القرآن التي تستند إلى هذا الأمر ونتمعن خاشعين في الآيات التالية:

1- «وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ

خَلَقَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِّتَسْكُنُوا الَيْها وَجَعَلَ بَينَكُمْ مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً انَّ فِى ذَلِكَ لَآياتٍ لِّقَومٍ يَتَفَكَّرُونَ». (الروم/ 21)

2- «هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ مِّنْ نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لَيَسْكُنَ الَيْها».

(الاعراف/ 189)

نفحات القرآن، ج 2، ص: 364

3- «إِنَّا خَلَقْنا الإِنْسَانَ مِنْ نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيْهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيْراً». (الإنسان/ 2)

4- «يَا ايُّهَا النَّاسُ انَّا خَلَقْنَاكُم مِّنْ ذَكَرٍ وَانْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا انَّ اكْرَمَكُمْ عَنْدَ اللَّهِ اتْقاكُمْ». (الحجرات/ 13)

5- «هُوَ الَّذِى أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِيْنَ* وَالَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ انْفَقْتَ مَا فِى الأَرضِ جَمِيْعاً* مَا الَّفتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّه عَزِيزٌ حَكِيْمٌ». (الانفال/ 62- 63)

جمع الآيات وتفسيرها

شرح المفردات:

«زوج»: تعني في الأصل الحيوان المذكر والمؤنث حيث يُطلقُ هذا اللفظ على كلٍّ منهما، ويُطلقُ- أحياناً بمعنى أكثر شموليةً- على كلِّ شيئين متناظرين، سواء كان من ناحية التشابه أو التضاد، كزوج الحذاء، أو الجوراب، أو الليل والنهار والخير والشَّر وأمثالها، أو الارقام التي تقبل القسمة على اثنين متساويين، لأنَّ كلًا منها يناظر الآخر، إلّاأنّها تُقال في خصوص البشر لمن أبرم عقد الزواج بينهما.

وقال بعض أرباب اللغة إنَّ معنى «زوج» عبارة عن الشكل الذي يكون له مثيل، كالأنواع والألوان المختلفة، أو الشي ء الذي له مضاد، كالرطب والجاف، المذكر والمؤنث، الليل والنهار، الحلو والمر، كما صرَّحوا أنَّ «زوج» تعني كلَّ فردٍ من الزوجين، لا الاثنين معاً بل يجب أن يقال للاثنين «زوجان»، واطلاقُ زوج على الاثنين هو من كلام الجهلة «1».

«لِتَسْكُنُوا»: من مادة «سكون» وتعني في الأصل ثبات الشي بعد الحركة، وجاء في «مقاييس اللغة» أنَّ أصلها بمعنى الاطمئنان، والحالة التي تعاكس الاضطراب والحركة، وتطلقُ أحياناً على تخفيف ضغط العاصفة والحر والبرد، والمطر والغضب أيضاً، ولهذا سُمِّيَ «سكان» السفينة

بهذا الاسم حيث يعتبر أساس واطمئنان السفينة ووضعها في

__________________________________________________

(1) المفردات، مصباح اللغة، التحقيق ولسان العرب.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 365

الطريق الصحيح، ومن هذا الجانب سميت «السِكّينة» بهذا الاسم، حيث تُسكنُ حركات الحيوان بقطع رأسه، كما يقال لحالة الاطمئنان والاستقرار النفسي «سَكينة» أيضاً، وتُطلق «مِسْكين» على من يبدو ساكناً في محله لشدة الفقر الذي يعانيه، ويقال لمكان سكن واستقرار الإنسان «مَسْكَن» «1»

.

و «شُعُوب»: طبقاً لقول بعضهم، جمع «شَعْب» (على وزن صَعْب)، وجمع «شِعْب» (على وزن فِعْل) طبقاً لقول بعضهم الآخر، بينما يعتقد البعض كصاحب مجمع البحرين أنَّ جمع الأول «شعوب» وجمع الثاني «شعاب»، وعلى أيّةٍ حالٍ فانَّها تعني كما يقول صاحب «لسان العرب» الجمع والتفريق، أو الإصلاح والافساد (وذلك يصور إلى أنّ معناها الأصلي هو الوادي الذي يتجمعُّ في الجانب الآخر من الجبل ويتسعُ في الجانب السفلي وكما يقول الراغب في المفردات أنَّ المفهومين اجتمعا فيه) لذلك يقال «شَعب» للقبيلة التي انفصلت عن طائفةٍ كبيرة (فلها صفةٌ جمعيةٌ تفريقية) وقال بعض أيضاً أنَّ «شعوب» تستخدم بخصوص العجم و «قبائل» للعرب «2».

ولهذا تأتي «تَشَعب» أيضاً بمعنى التفرق وكذلك الاجتماع، والإصلاح والافساد.

«ألَّف»: من مادة «إلْف» على وزن (جِلْف) وتعني الاجتماع المتقارن بالانسجام والوئام، وتأليف القلوب يعني إيجاد الالفةِ والأواصر والصلةِ بينها (وعلى هذا الأساس اطلقوا على تأليف الكتاب هذا الاسم حيث يتمّ إيجاد نوع من التآلف والانسجام بين الألفاظ والمعاني والموضوعات) ولهذا يقولون للعدد أَلْف حيث يعتقد العرف أنَّ كافةَ الاعدادِ مجموعةٌ فيه لأنَّه يتكون من عدد واحد والعشرات والمئات والآلاف، ولم تكن هناك أعدادٌ بعده بل تتكرر نفس الأرقام، عشرة آلاف ومائة ألف و .... «3».

__________________________________________________

(1) التحقيق، لسان العرب، المفردات، مجمع البحرين، وكتاب

العين.

(2) تفسير مجمع البيان، ج 9، ص 138.

(3) مجمع البحرين، لسان العرب، مفردات الراغب.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 366

تفسيرٌ وتحليل

الروح الاجتماعية للبشر واحدة من أعظم المواهب الإلهيّة:

في سورة «الروم» وأثناء تعداد الآيات الإلهيّة في سبعِ آيات متقاربة «1» حيث تبتدأ كلٌّ منها بتعبير «ومن آياته» أَوضحَ جانباً من براهين عظمة اللَّه في عالم الوجود بلحنٍ مرغوبٍ وجذابٍ ونغمةٍ لطيفةٍ ومحببةٍ والآية الاولى في البحث إحداها فقد أشارت إلى اللبنة الاولى في بناء المجتمع البشري، أي وحدة الاسرة والعلاقة التي تسودُها، فيقول: «وِمِن آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا».

واللطيف أنّه لم يذكر هنا أنَّ الهدف من الحياة الزوجية هو بقاء النسل، بل يذكرُ نيل الاطمئنان والسكينة، الذي يحصل من خلال الحياة الزوجية، لأنَّ هذين الجنسَيْن يُكمل أحدُهما الآخر، ويكونان سبباً لتفتُحِ وانقاذ وتربيةِ كلٍّ منهما، بنحوٍ يبدو كلٌ منهما ناقصاً بدون الآخر، وينال تكامله عن هذا الطريق.

إنَّ هذا الاطمئنان والسكون لا يقتصر على الجانب الجسدي بل إنّ جانبه الروحي أهم واقوى

والاضطرابات النفسية وفقدان التوازن الروحي، والأمراض المختلفة المتمخضة عن الزهد في الزواج، شاهدٌ ناطقٌ على هذا المعنى

ثم يضيف: «وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً».

هذه المودةُ والرحمة التي تُعتَبرُ في الحقيقة الركن الأساس وحلقة الوصل والإرتباط ما بين الناس، فتربط الأشخاص المتفرقين والمتباعدين، وتخلق من ذلك مجتمعاً قوياً، تقوم المواد الأساسية في البناء بشدِّ قطع الطابوق والحجر ويُشيَّدُ منها بناءٌ ضخمٌ وعظيم.

واللطيف كذلك أنّه استند مرّه ثانية في نهاية الآية إلى هذه النكتة التوحيدية: قائلًا: «إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفكّرُونَ».

__________________________________________________

(1) تبدأ هذه الآيات من الآية 20 من السورة وحتى الآية 25 (ست آيات متتابعة) والآية 7 والآية 46 من نفس السورة.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 367

ولو تأمَّلنا في تشكيل

الحياة الزوجية وهي أول وحدةٍ اجتماعية، في الرابطة القوية التي تتكون بين هذين الجنسين المختلفين، ومن ثم لو تأملنا في الوحدات الاجتماعية الأكبر:

العائلة، الأقارب، الطائفة والعشيرة، ثم في المدن والاقطار وفي كل المجتمع البشري، فاننا سنواجه في كلِّ خطوةٍ نخطوها آيةً من آياتِ اللَّه العظيمة.

فمن الذي خلقَ المحبّةَ والمودةَ بين المرأة والرجل، والأب والام وابنهما، والعشيرة والأقارب، وكلِّ الناس بشكلٍ عامٍ؟

من الذي وَضَعَ التوازن بين جنس المرأة والرجل في المجتمع البشري؟ بشكلٍ يتمّ الحفاظ على هذا التوازن رغم الحوادث المعقدة التي تطرأ في المجتمعات كالموت والولادات!

من الذي خلقَ الأذواق المختلفة في العقول، والرغبات المتباينة في القلوب؟ وأخذ بيد كلِّ صنفٍ نحو عملٍ وبرنامجٍ، كي يتكون من مجموعهم مجتمعٌ إنسانيٌّ ككتلةٍ واحدةٍ متكاملةٍ من جميع الجوانب.

ولعلِّهُ لهذا السبب أشار في الآية الآتية إلى اختلاف الالسُنِ وتباينِ الألوان ويعتبر ذلك من آيات اللَّه. فيقول: «وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ الْسِنَتِكُمْ وَالْوانِكُمْ إنَّ فِى ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِيْن». (الروم/ 22)

وممّا لا شك فيه أنَّ أحد التفاسير لاختلاف الألسن والألوان، هو هذا التباين الموجود في النطق والأذواق والجذب الفكري للأشخاص، ممّا يؤدّي إلى أنْ يتحلّى المجتمع البشري بالانسجام التام، بنحوٍ لا يحصل معه فراغٌ في أي من الحاجات المعنوية والمادية للبشر.

«مَوَدَّة»: من مادة «وُدّ» (على وزن حُبّ) وتعني المحبّة كما تطلق على «الأمل في تحقيق الشي ء» (وكلا المعنيين قريبان لبعضهما) ولفظ «وَدّ» (على وزن حَدّ) اسمٌ لأحد اصنام الجاهلية، وسمي بذلك الاسم لمحبتهم الشديدة له، أو لأنّهم كانوا يظنّون بوجودِ مودةٍ بين اللَّه وهذا الصنم، كما يُطلقُ هذا اللفظ على «المسمار»، حتى قالَ بعض إنَّ لفظ «وَتَدْ»

نفحات القرآن، ج 2، ص: 368

الذي يعني في لغة العرب «المسمار» مأخوذٌ

من أصل «وُدّ» لأنَّ المسامير تلتصق بالجدار أو الأشياء الاخرى ومن هنا فهي تتشابه مع مفهوم المحبّة «1».

«رَحْمة»: وتعني حالة الليونة التي تحصل في قلب الإنسان فتجعله يميل إلى الاحسان تجاه من يستحق الرحمة، ومن المسلَّم به أنّها حينما تُستَخدمُ في مورد الباري تعالى فانّها تعني الإنعام والعطاء والاحسان.

وهنا ما الفرق بين الاثنين (المودة والرّحمة) في هذه الآية؟ لقد اعطى المفسِّرون عدّة احتمالات، ويُمكن القول أنَّ الجامع بينها هو أنَّ «المودَّة» تُقالُ لشي ءٍ لهُ مقابل، كالمحبّة التي بين المرأة والرجل أو الاخَوَيْنِ، حيث تدفع كلًا منهما إلى تقديم الخدمةِ إلى الآخر، إلّا أنّ «الرحمة» من جانبٍ واحدٍ وتشتمل على التضحية، كعلاقة الحب بين الوالدين وابنهما، أو أحد الزوجين نحو الآخر عندما يعجز عن العمل.

وهنا تكمنُ نكتةٌ مهمّة، وهي يجب أن يقوم في الحياة الزوجية وكذلك الحياة الاجتماعية بشكلٍ عامٍ نوعان من العلاقة المعنوية:

الأول: العلاقة التي تتخذ طابع الخدمات المتقابلة، فيقوم كل فردٍ أو طبقةٍ بخدمات متقابلة تجاه الأفراد أو الطبقات الاخرى

والثاني: «الخدَّمات المجانية»، لأنَّ المجتمعات البشرية أو الاسرَ التي هي مجتمعٌ مصغرٌ تعجُّ بالأطفال والضعفاء والعجزة باستمرار ولو شاؤا انتظار الخدمات المتقابلة لظلّوا يعانون الحرمان، هنا حيث يعطي مفهوم «المودة» مكانه إلى «الرحمة»، وتحلُّ الخدمات التضحية محلَّ الخدمات المتقابلة، وكم لطيف هذا التعبير القرآني الذي لن ترى المجتمعات البشرية صورة الاطمئنان والراحةِ إلّابالعمل به.

والآية الثانية من البحث تردد هذه الحقيقة التي وردت في الآية الآنفة مع هذا الفارق

__________________________________________________

(1) مفردات الراغب مادة (ود).

نفحات القرآن، ج 2، ص: 369

حيث تقول: «هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ مِّنْ نَّفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنهَا زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها».

والمقصود من «نفسٍ واحدةٍ» باعتقاد اغلب المفسِّرين هو آدم عليه السلام «1»،

ومن المسلَّم به أنَّ التعابير التي جاءت في ذيل الآية وتُشَمُّ منها رائحة الشرك، لا تعني الشرك في الاعتقاد ولا في العبادة، بل يُمكنُ أن يَكونَ المقصود منها هو ميل آدم إلى ابنائهِ، الميلُ الذي قد يجذبُ الإنسان نحوه في لحظات خاطفة ويجعله يغفل عن غيره.

ويُحتملُ أن يكون المراد من «نفس واحدة» هو «الوحدة النوعية»، أي (خلقكم من نوعٍ واحدٍ).

وليسَ المقصود من عبارة: «جَعَلَ منها زَوْجها» أنَّ زوجة آدم «حواء» قد خُلقَتْ من جزءٍ من جسمه، كما نُقل في الرواية الموضوعة أنَّ حواء خُلقت من ضلع آدم الأيسر، ولهذا يقل عدد الاضلع في الجانب الايسر عنها في الجانب الأيمن بضلعٍ واحدٍ، لدى الرجال، ولا شك أنَّ عددَ الأضلع في كلا جانبي الرجل لا يتفاوت أبداً، ومن السهولة تجربة ذلك، بل إنّ المقصود هو:

إنَّه خلقَ زوجة آدم من جنسه، كي تكون بينهما الجاذبة الجنسية، وليس من جنسٍ بعيدٍ وغريبٍ، كما نقرأ بخصوص النبي صلى الله عليه و آله في القرآن الكريم: «هُوَ الَّذِى بَعَثَ فِى الأُمِيِّيْنَ رَسْوُلًا مِنْهُمْ».

ويشير في الآية الثالثة إلى خلق الإنسان من نطفةٍ مختلطة، فيقول: «إنّا خَلَقْنا الانْسَانَ مِنْ نُّطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَليْهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيْعاً بَصِيْراً».

وتم التلميح في هذه الآية إلى ثلاث مزايا للإنسان: الاولى امتزاج النطفة، ويستفاد هذا الامتزاج من لفظ «أمشاج» جمع «مشيج» أو «مَشَج» (على وزن مَدَدْ) وتعني الشي ء

__________________________________________________

(1) تفسير مجمع البيان، ج 4، ص 508؛ و التفسير الكبير، ج 15، ص 85؛ و تفسير روح البيان، ج 3، ص 2094؛ تفسير الميزان، ج 8، ص 391، ونقل هذا المعنى في تفسير القرطبي (ج 4، ص 2773) عن جمهور المفسرين.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 370

الممزوج، ولهذا معنىً واسع حيث يشمل

اختلاط النطفة من «البيضة» و «الحيمن»، وكذلك المواد المعدنية المختلفة وغيرها من المواد التي تتظافر لصنع النطفة، كما يمكن أن تكون إشارة إلى القوى المختلفة والقابليات المتباينة والأذواق المتفاوتة الموجودة في نطفة الإنسان وتُعدهُ للحياة الاجتماعية في المجالات كافة.

والثاني عبارة «نبتليه» التي تشير إلى انتقال الإنسان من حالةٍ إلى اخرى والتحولات المستمرة وأنواع الابتلاءات والاختبارات التي تأخذ بيده في مسيرته التكاملية وتعتبر دليلًا على تكليف الإنسان ومسؤوليته، لأنَّ الاختبار غير ممكنٍ بدون حرية الإرادة، والقابلية على أداء التكليف.

والثالث امتلاك الأدوات المهمّة للمعرفة ومن أهمّها السمع والبصر، فالسمع للاستفادة من العلوم النقلية وأفكار الآخرين، والعين للمشاهدة والاتصال المباشر بحقائق العالم.

فهكذا إنسان وبمثل هذه المواصفات جديرٌ بأن يرتقي إلى مقام خليفة اللَّه وقادرٌ على الحياة الجماعية.

وفي الآية الرابعة وجَّهَ الكلام إلى الناس قاطبةً، قائلًا: «إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وانْثى .

بناءً على ذلك ليس هنالك أيُّ تمايزٍ بين الأجناس والقبائل والشعوب، لأنّهم يرجعون إلى أصلٍ واحدٍ: «أبوهم آدم وامُّهم حواء».

ثم أشار إلى فلسفة تصنيف الناس إلى شعوب وطوائف مضيفاً: «وَجَعَلناكُم شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا».

لا شكَّ أنَّ أول شروط الحياة الاجتماعية هي معرفة الأشخاص ببعضهم، إذ لولاها لاختَلَّ نظام المجتمع البشري خلال يومٍ واحد، فلم يُعرف المجرم من البري، ولا الدائن من المدين، ولا القائد من المقود، ولا الأئمّة من التابعين، و ... اجَلْ .. اللَّهُ الذي خلقَ الإنسان لمثل هذه الحياة وجَعَلَه أجناساً وقبائل وجماعاتٍ تتباين تماماً بالمواصفات وجَعَل في كلِ

نفحات القرآن، ج 2، ص: 371

قبيلةٍ أشخاصاً يمتازون بمزايا شخصية خاصةٍ كي تُحلَّ مسألة «التعارف».

ويقول في نهاية الآية كاستنتاج أخلاقي من هذه المسألة الاجتماعية: إنَّ الانتسابَ للقبائل والجماعات ليس دليلًا على أيِّ تفاضُل أبداً بل: «انَّ أَكْرَمَكُم

عِنْدَ اللَّهِ اتْقاكُمْ».

فالتقوى لا تُعتبرُ مسألة أخلاقية فحسب، بل مسألة اجتماعية لا تستقيم الحياة الاجتماعية للبشر إلّامن خلالها، التقوى في جميع المجالات، التقوى الاقتصادية، التقوى السياسية، تقوى اللسان والتقوى الفكرية.

وفي الآية الخامسة والاخيرة من البحث يعتبر «تأليف القلوب» احد الأدلة المهمّة على انتصار نبي الإسلام صلى الله عليه و آله، فيقول: «هُوَ الَّذِى أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وبالْمُؤْمِنيْنَ* وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ».

ويثبتُ هذا التعبير بوضوح أنَّ تأليف القلوب يعتبر أمراً حتمياً من أجل التغلُّب على المشكلات الاجتماعية، وقد خلقَ اللَّهُ هذا الاستعداد لدى البشر ولولاه لم يتسنَ التأليفُ بين القلوب، ولو لم يحصل فستضطرب حياة البشر الاجتماعية.

ثمَّ يُلمِّحُ إلى مسألةٍ لطيفةٍ وهي أنَّ تأليف القلوب لا يتحقق بالطرق المادّية، بل يمكن تحقيقه من خلال الإيمان والأساليب المعنوية والقيم الإنسانية السامية، فيقول: «لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِى الأَرْضِ جَميْعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبْهِم وَلكِنَّ اللَّهَ الَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزيْزٌ حَكِيْمٌ».

صحيحٌ أنَّ هذه الآية نزلت بخصوص أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، إلّاأنَّ من الواضح أنَّ مفهومها عامٌ ويشملُ المؤمنين قاطبةً، كما اشير إلى هذا المعنى في تفسير الميزان «1».

إنَّ المسائل الماديّة وبسبب ضيقها تكون مصدراً للنزاعات والصراعات، ولو فرضنا أن تكون عاملًا للوحدة يوماً ما، فستكون وحدةً غير راسخةٍ، فالوحدة الراسخة تتحقق في ظل الإيمان والتقوى والقيم الروحية فقط.

__________________________________________________

(1) تفسير الميزان، ج 9، ص 120.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 372

وورد قرينُ هذا المعنى بتعابير اخرى في قوله تعالى حيث يقول حول أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «أَشِدّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ». (الفتح/ 29)

وما يثير اهتمامنا هنا هو التعبير ب «هو الذي» في بداية الآية، حيثُ تُعرِّفُ الباري من خلال نصرة رسول اللَّه صلى الله

عليه و آله والتأليف بين قلوب المؤمنين، ويعدَّها من آيات وجود اللَّه تعالى التآلف الذي يَسمو على جميع انواعِ التآلف، حتى على الروابط النسبية والسببية، ولهذا فقد هيمنت أواصر العصبية القبلية وبنحوٍ مذهلٍ على العلاقات التي كانت تسود المجتمع العربي أبان العصر الجاهلي لكن أواصر الإيمان والتقوى طغت على جميع أنواع الراوبط، وظهرت آثار هذا التآلف الروحي والمعنوي في جميع جوانب حياتهم الفردية والاجتماعية، وأذْعَنَ العالمُ باسرهِ أمام عظمتهم.

توضيح

هل للمجتمع روحٌ؟

إنَّ الأَحياء على قسمين وأغلبُها يعيش منفرداً ولا وجود اجتماعي فيما بينها ولو على صعيد اصغر وحدة اجتماعية أي العائلة، وبعضها قد تخطّى هذه الحياة قليلًا وأخذ يعيش مع قرينهِ، ولكنّ قليلًا من الحيوانات تعيش حياةً جماعيةً، وبعضها قد كون حضارةً، كالنحل، والَّنمل، والأرضة وغيرها من الحيوانات.

إلّا أنَّ هذا الصنف (الحيوانات الاجتماعية) لها نوعان من النقص أيضاً: الاوّل: هو استحالة الحياة المشتركة بين المجاميع المتباينة (كنحلِ خليتين أو بضع خلايا)، والثاني:

إنَّ حياتها الاجتماعية تتخذُ طابعاً واحداً باستمرار، اي أنَّ النحلَ يعيشُ اليوم كما يعيش قبل مليون سنة.

فالكائن الوحيد الذي يعيش حياةً جماعيةً غير مقيّدة ويسير نحو التطور والتكامل هو الإنسان، والدليل على ذلك هذا النمو والتطور وسيادة العلم والعقل على حياته الاجتماعية.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 373

وهنا بحوث كثيرة لو أردنا الولوج فيها سنخرج من اطار البحث التفسيري ولكن يبدو من الضروري التذكير ببعض الامور:

1- ما هو منشأ رغبة الإنسان للحياة الاجتماعية؟- هنالك آراء مختلفة، ويبدو أكثرها صواباً هو أنّه مزيجٌ من الحوافز «الغريزية» و «العاطفية» و «الفكرية» فالعقلُ يقول إنّ التكاملَ ممكنٌ في ظل الحياة الاجتماعية فقط سواء كان معنوياً أو عادياً، لأنَّه من البديهي إذا أراد فردٌ أو اسرةٌ أن تعيش بمعزل عن

الآخرين، فلا وجود لهذه العلوم والمعارف ولا هذه الصناعات والاختراعات والابداعات، فلا شك أنّها حصلت من خلال استثمار تكدُس الطاقات الفكرية والجسمية، ونقل كلُ جيلٍ تجاربه إلى الأجيال الاخرى واثمرت هذه الظواهر الجبارة من خلال تجمعها وتظافرها.

ومن ناحيةٍ اخرى فانَّ الإنسان يميل إلى هذه الحياة من خلال حافزٍ ذاتيٍ وعاطفي، فهو يضجر من العزلة، ويشعر باللذة من خلال حديثه وجلوسه وقيامه مع رفاقهِ، وسجنُ الوحدة يمثل أقسى عذابٍ بالنسبة له، وقد اثبتت تجارب العلماء أنَّ العزلة لو استمرت فستؤدّي إلى اضطرابات نفسية على مدى فترةٍ قصيرة، وبغض النظر عن منافع التعايش الجماعي فإنّ هذا يُؤكد على أنَّ الإنسان يرغبُ بطبعهِ في هذا التعايش.

2- لقد اعتبر الإسلام الحياةَ الاجتماعيةَ للبشر من أهم مبادئه، ولم يهتم بها في العلاقات السياسية والاقتصادية فقط بل حتى في مسألة العبادات التي تعتبر علاقة بين الخلق والخالق، فاعطى للعبادات الجماعية (صلاة الجماعة) وصلاة الجمعة ومناسك الحج، أهميّةً لا مثيل لها.

فماهية الصلاة، والاذان والاقامة تُحفزُ الجميع لصلاة الجماعة، ويبرهن ضميرُ الجمع الوارد في سورة الفاتحة، والسلام الذي في خاتمة الصلاة، على أنّ الصلاة ذات صفةٍ اجتماعية واداؤها فرادى يُعد صيغة فرعية.

وقد اعطيت الحياة الاجتماعية اهميةً بالغةً في الإسلام بحيث اعتُبرَ كلُ ما يؤدّي إلى الاختلاف والتفرقة (كالحسد، قول الزور، والغيبة، والنفاق و ...) من الذنوب الكبيرة، وكلُ

نفحات القرآن، ج 2، ص: 374

ما يؤدّي إلى السَّلام والوئام والإصلاح بين الناس جزءاً من أفضل العبادات.

3- أنَّ تحقيق الحياة الاجتماعية للبشر ليس امراً بسيطاً، لأنّه يحتاج إلى توزيع القابليات والقدرات العقلية والجسمية المختلفة، وتخطيطٍ دقيقٍ، وتوزيع للأعمال، والتنسيق والتآلف بين القلوب، وطبقاً للتعبير الذي ورد في تفسير الآيات فانَّ البشر كمواد البناء- الطابوق

والحديد والمواد الإنشائية الاخرى التي إذا لم تكن فيما بينها وسيلة للربط والالتحام لم يتشيَّد منها بناءٌ شامخٌ، وهنا جاءت يد القدرة الإلهيّة لمساعدة الإنسان، ووضعت الخطة الدقيقة الرامية إلى تأليف القلوب، وتوزيع القابليات العقلية والجسمية، وأنواع الأذواق والفنون، ورفَدت الإنسان بالمواهب العظيمة التي لن تدور عجلة الحياة الاجتماعية للبشر بدونها أبداً، ويُعبَّر عن مجموع هذه الامور أحياناً ب «روح المجتمع» وإلّا فاننا نعلمُ أن ليس للمجتمع روح خاصةً غير ما ذُكر.

من يا ترى أوْجَد هذه الروح الاجتماعية بكل ما فيها من مواصفاتٍ من أجل دفع الإنسان نحو التكامل؟ فهل تستطيع الطبيعة العمياء الصمّاء التي لا عقل ولا احساس لها أنْ تُوجدَ هذا التخطيط، وهذه المودَة والرحمة، وهذه السكينة والاطمئنان، ونطفة الامشاج، وهذا التعارف العام، وهذا التآلف بين القلوب؟!

لهذا تَعتبرُ الآياتُ المذكورة هذه الامور من آيات عظمةِ وعلمِ وقدرة اللَّه تعالى

ونختتم هذا الكلام بالحديث الذي ورد عن النبي صلى الله عليه و آله فيما يخص اهتمام الإسلام بتقوية الأواصر الاجتماعية بين أبناء البشر، إذ يقول صلى الله عليه و آله:

«إنَّ المُسْلِمَ إذا لَقيَ أخاهُ المسلمَ فاخذَ بيَدهِ تحاتت عَنْهُما ذُنوبُهما كَما تَتَحاتُ الوَرقُ عن الشَجَرةِ اليابسةِ في يومِ ريحٍ عاصفٍ و «لا يفترقان» إلّاغُفِرَ لَهما ذنوبُهما ولَو كان مثلَ زَبَدٍ البحار!» «1».

كلمة الختام:

من مجموع ما جاء في بحوث هذا الكتاب المختلفة تتضح هذه الحقيقة بجلاء وهي أنَ

__________________________________________________

(1) الطبراني، نقلًا عن تفسير في ظلال القرآن، ج 4، ص 57.

نفحات القرآن، ج 2، ص: 375

المعشوقَ يتجلّى من كلِّ بابٍ وجدارٍ، وافاض بأنواره على كلِّ موجودات الدنيا، ورسمَ اسماءَه وصفاتهِ على جبين كلِّ الكائنات.

فقد تجلّى بمائةِ الفٍ من الأنوار، كي نراه بمائة الفٍ

من الابصار، وهو قد اضاءَ شمساً في قلبِ كلِّ ذرةٍ، واظهرَ آثار علمهِ وقدرتهِ في السماء والأرض.

وقد وُصِفَ في آيات القرآن بهذا الطريق وأحصى آياتهِ في الآفاق والانفس.

فتكفي عينان، واذنان، وقلبٌ يقظٌ كي يرى المرءُ هذه الأنوار، وأن يسمع انغام التوحيد، وان يدعو خيرَ المحسنين إلى القلب، ويستضيفه في هذه الخلوةِ الانيسة، وهذا العرش العظيم، ويخاطبه في جذبةٍ روحيةٍ ويترنم بما يلي من الاشعار:

لَبَّيكَ يا عالماً سرّي وَنَجوائي لَبّيكَ لَبّيك يا فَقْرى وَمُغْنائي أدعوكَ بَلْ أَنْتَ تَدُعُوني فَهَلْ نَاجَيَتُ إيّاكَ أَو ناجَيْتَ إيائي حُبّي لِمَولايَ أضناني وأسْقَمَني فَكَيفَ أشكوا إلى مَوْلايَ مَوْلائي يا وَيْحَ رُوحي مِنْ روحي ويا أسَفي عليَّ منّي فإني أصل بَلْوائي «1» الهي! املأ قلوبَنا من حبّكِ ومعرفتكَ والإيمان بك.

ربّنا! أفِضْ علينا نحن العطاشى من كؤوس معرفتك واجعلنا سكارى إلى الأبد في جذبةٍ روحية من جذباتك.

يا مولاي! من الصعب طيُّ طريق معرفة ذاتك المقّدسة إلّابلطفك ورعايتك وتوفيقك، فاجعلنا مشمولين برعايتك وفضلكَ وتوفيقك.

آمين يا رب العالمين

ختام الجزء الثاني من نفحات القرآن

11/ 4/ 1367

الموافق ل 17 ذي القعدة 1408

__________________________________________________

(1) روضات الجنان، ج 3، ص 148، الشعر لحسين بن منصور الحلاج.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.