انوار الأصول

اشارة

سرشناسه : مکارم شیرازی ناصر، 1305 - عنوان و نام پديدآور : انوار الاصول تقریرا لابحاث شیخنا الاستاذ سماحه آیه الله العظمی الشیخ ناصر مکارم الشیرازی دام ظله / احمد القدسی مشخصات نشر : [قم نسل جوان 1414ق = - 1373. شابک : 3800ریال (ج 1) بهای هرجلدمتفاوت ؛ 15000 ریال هرجلد (ج.1و2) يادداشت : ج 3. چاپ اول 1416ق = 1375 يادداشت : ج 1، 2 (چاپ دوم 1376). يادداشت : ج. 1، 2 (چاپ سوم 1420ق = 1378). يادداشت : ج 1، 2 (چاپ 1420ق = 1378). يادداشت : ج 3 (چاپ دوم 1420ق =1378). يادداشت : چاپ اول 1373؛ بهار هر جلد متفاوت یادداشت : کتابنامه به صورت زیرنویس مندرجات : ج 1. مباحث الالفاظ "الی آخر النواهی .-- ج 2. مباحث المفاهیم الی نهایه الامارات .-- ج 3. الاصول العملیه - التعادل و التراجیع الاجتهاد و التقلید .-- موضوع : اصول فقه شیعه شناسه افزوده : امیرقدسی احمد رده بندی کنگره : BP159/8 /م 7‮الف 8 1373 رده بندی دیویی : 297/312 شماره کتابشناسی ملی : م 75-7018

الجزء الثالث

المقصد السابع في مباحث الشك والاصول العلمية

7- في مباحث الشكّ والاصول العمليّة

اشارة

بعد الكلام عن أحكام القطع والظنّ تصل النوبة إلى البحث في أحكام الشكّ، وبتعبير القوم أنّه إذا لم يكن هناك دليل اجتهادي كان المرجع هو الاصول العمليّة، وحينئذٍ لا بدّ من البحث في امور:

1- في تعريف الاصول العمليّة.

2- في أنّها داخلة في مسائل علم الاصول أو لا؟

3- في انحصارها في الأربعة.

4- في حكومة الأمارات والأدلّة الاجتهاديّة عليها.

5- في عدم اختصاص الأمارة بموارد الظنّ.

أمّا

الأمر الأوّل: وهو تعريف الاصول العمليّة فالصحيح منه ما أفاده المحقّق الخراساني رحمه الله في الكفاية من أنّها «هى التي ينتهي إليها المجتهد بعد الفحص واليأس عن الظفر بالدليل» نعم لابدّ من إضافة قيد «على الحكم الواقعي» في ذيله لإخراج الدليل على الحكم الظاهري فإنّ الذي ينتهي المجتهد إلى الاصول العمليّة بعد اليأس عنه إنّما هو الدليل على الحكم الواقعي لا مطلقاً.

ثمّ إنّه ينبغي الالتفات إلى أنّ تمامية هذا التعريف مبنى على مذهب أصحابنا الإماميّة من عدم الخلأ القانوني في الشريعة وعدم خلوّ موضوع من الموضوعات الخارجيّة عن الحكم الواقعي، وإن لم تصل أيدينا إليها أحياناً، وأمّا بناءً على مذهب طائفة من العامّة من عدم وجود حكم واقعي لبعض الوقائع وأنّ ما لا نصّ فيه لا حكم فيه فلا معنى للشكّ في الحكم الواقعي الذي أخذ الشكّ فيه في موضوع الاصول العمليّة في التعريف المزبور.

وأمّا الأمر الثاني: وهو كون مسائل الاصول العمليّة جزءً من علم الاصول فقد يبدو في النظر الأوّل أنّها من القواعد الفقهيّة، لأنّ مسائل علم الاصول ما تقع في طريق استنباط

انوار الأصول، ج 3، ص: 10

الحكم، والقاعدة الفقهيّة ما تكون بنفسها حكماً كلّياً فرعياً، والمسألة الفقهيّة عبارة عن الأحكام الفرعيّة الجزئيّة، أي ما يتعلّق به عمل المكلّف (وإن كان كلّياً في نفسه)، والاصول العمليّة إنّما هى من القسم الثاني لأنّها بنفسها أحكام كلّية فرعيّة.

ولكن عند الدقّة والتأمّل يظهر أنّها من القسم الأوّل، وذلك لعدم اشتمالها على حكم من الأحكام الخمسة، أمّا البراءة فلأنّها في الشبهات الوجوبيّة عبارة عن عدم الوجوب، وفي الشبهات التحريميّة عبارة عن عدم الحرمة، فليست هى بنفسها حكماً معيّناً من الأحكام الخمسة (لا وجوداً ولا عدماً).

وأمّا الاستصحاب فلأنّه عبارة عن

العمل بالحالة السابقة المتيقّنة، ولا يخفى أنّ المعلوم سابقاً تارةً يكون وجوباً واخرى تحريماً، وثالثة حكماً وضعيّاً، كما أنّه قد يكون موضوعاً خارجياً، فلا يندرج في تعريف القواعد الفقهيّة.

وهكذا الاحتياط لأنّه في الشبهات الوجوبيّة عبارة عن الوجوب، وفي الشبهات التحريميّة عبارة عن الحرمة، فليس في جميع الموارد حكماً من الأحكام الخمسة، بل إنّه يدلّ على مطلق الإلزام، وليس الإلزام نوعاً من الأحكام الخمسة.

وهكذا التخيير لأنّه سيأتي أنّ المراد منه في مباحث الاصول العمليّة إنّما هو التخيير العقلي، وعبارة عن نفي البأس والعقاب باختيار المكلّف أحد الأطراف، فليس حكماً شرعيّاً من الأحكام الخمسة.

أمّا الأمر الثالث: وهو انحصار الاصول العمليّة في الأربعة فيستفاد من كلمات المحقّق الخراساني رحمه الله نفي انحصارها العقلي في الأربعة مع اعترافه بأنّ المهمّ منها أربعة، وأنّ مثل قاعدة الطهارة وإن كان ممّا ينتهي إليها فيما لا حجّة على طهارته، ولا على نجاسته، إلّاأنّ البحث عنها ليس بمهمّ لأنّها ثابتة بلا كلام من دون حاجة إلى نقض وإبرام بخلاف الأربعة فإنّها محلّ الخلاف بين الأصحاب، ويحتاج تنقيح مجاريها وتوضيح ما هو حكم العقل أو مقتضى عموم النقل فيها إلى مزيد بحث وبيان، ومؤونة حجّة وبرهان، هذا مع جريانها في كلّ الأبواب واختصاص تلك القاعدة ببعضها.

وصرّح شيخنا الأعظم رحمه الله في موضعين من رسائله (أوائل مباحث القطع وأوّل البحث عن البراءة) بحصر مجاريها في الأربعة عقلًا.

انوار الأصول، ج 3، ص: 11

وهذا هو المختار، لأنّ مثل قاعدة الطهارة ليست أساساً من الاصول العمليّة حتّى تصل النوبة إلى البحث عن وضوحها وعدم وضوحها، بل هى من القواعد الفقهيّة لكونها حكماً كلّياً وضعيّاً يستفاد منها الأحكام الجزئيّة الفقهيّة بتطبيقها على موارد الشكّ في الطهارة، مضافاً إلى أنّ اعتذار

المحقّق الخراساني رحمه الله بأنّها واضحة لا تحتاج إلى نقض وإبرام في غير محلّه، لأنّها أيضاً تحتاج إلى البحث والدراسة كما يظهر لمن راجعها، فالوجه في عدم ذكرها في الاصول العمليّة هو دخولها في القواعد الفقهيّة وعدم وجود المناسبة بينها وبين المسائل الاصوليّة.

ثمّ إنّ أحسن ما قيل في بيان حصر مجاري الاصول العمليّة في الأربعة هو ما أفاده شيخنا الأعظم رحمه الله، وحاصله إنّ المشكوك إمّا له حالة سابقة ملحوظة «1» أو لا، والأوّل مورد الاستصحاب، والثاني (وهو ما إذا لم تكن له حالة سابقة أو كانت ولم تكن ملحوظة) إمّا أن يكون الاحتياط فيه ممكناً أو لا، والأوّل «2» إمّا قام دليل عقلي أو نقلي على ثبوت العقاب بمخالفة الواقع المجهول أو لا، والأوّل مورد الاحتياط، والثاني مورد البراءة.

أقول: إنّ كلامه أدقّ ما افيد في هذا المجال، ولكنّه في نفس الحال ليس سليماً عن الإشكال، وعمدة الإشكال أنّ ظاهره أنّ مجرى قاعدة التخيير هو عدم إمكان الاحتياط مطلقاً، أي كلّ ما كان الاحتياط فيه غير ممكن يكون المجرى لقاعدة التخيير مع أنّه ليس كذلك بالنسبة إلى بعض الموارد، كما إذا دار الأمر مثلًا (كما في صلاة العيد في زمن الغيبة) بين الوجوب والحرمة والاستحباب، فإنّ المجرى فيه هو البراءة مع عدم إمكان الاحتياط فيه.

ثمّ إنّ للمحقّق النائيني رحمه الله في فوائد الاصول بياناً في هذا المقام، وإليك نصّه: «إمّا أن يلاحظ الحالة السابقة للشكّ أو لا، وعلى الثاني إمّا أن يكون التكليف معلوماً بفصله «3» أو نوعه»

أو جنسه «5» أو لا، وعلى الأوّل إمّا أن يمكن فيه الاحتياط أو لا، فالأوّل مجرى انوار الأصول، ج 3، ص: 12

الاستصحاب، والثاني مجرى الاحتياط، والثالث مجرى التخيير، والرابع

مجرى البراءة» «1».

والفرق بين هذا البيان وبيان الشيخ الأعظم رحمه الله هو تقديمه للشكّ في التكليف والمكلّف به على إمكان الاحتياط وعدمه على عكس ما ذكره الشيخ الأعظم رحمه الله.

والظاهر أنّ بيانه أيضاً غير تامّ من ناحيتين:

الاولى: إنّ ملاك جريان البراءة في بيانه إنّما هو عدم العلم بالتكليف، وهو ينتقض بالشبهات قبل الفحص فإنّ التكليف فيها ليس معلوماً مع كونه مجرى الاحتياط لا البراءة.

ولا يخفى أنّ هذا الإشكال لا يرد على الشيخ رحمه الله لأنّ ملاك جريان البراءة في كلامه هو عدم قيام دليل عقلي أو نقلي على ثبوت العقاب، والمفروض إنّه غير صادق في الشبهات قبل الفحص فقد قام الدليل فيها على وجوب الاحتياط.

الثانية: إنّ ملاك قاعدة الاحتياط في كلامه عبارة عن العلم بالتكليف، وهو ينتقض بالشبهات غير المحصورة لأنّ التكليف فيها معلوم مع أنّها مجرى قاعدة البراءة.

ولا يخفى أنّ كلام الشيخ الأعظم في فسحة من هذه الناحية أيضاً لأنّ ملاك قاعدة الاحتياط فيه قيام دليل على العقاب وهو غير صادق في الشبهات غير المحصورة.

والأحسن أن يقال: مورد الشكّ إمّا أن يكون اليقين السابق فيه ملحوظاً أو لا، والأوّل مورد الاستصحاب، والثاني إمّا أن يكون الشكّ فيه في التكليف ولم يقم دليل عقلي أو نقلي على ثبوت العقاب في مورده أو لا (سواء كان الشكّ في المكلّف به أو كان الشكّ في التكليف، وقام دليل كذلك) والأوّل مورد البراءة «2»، والثاني إمّا أن يمكن الاحتياط فيه أو لا، والأوّل مورد الاحتياط والثاني مورد التخيير.

وهذا الحصر عقلي، والعجب من المحقّق النائيني رحمه الله حيث قال: «عمدتها أربعة» مع اعترافه بأنّ الحصر عقلي.

أمّا الرابع: فلا إشكال في تقدّم الأمارات والأدلّة الاجتهاديّة على الاصول العمليّة لأنّ أدلّتها

حاكمة عليها.

ولتوضيح معنى الحكومة يناسب هنا بيان الحالات الأربعة لتقديم دليل على دليل، وإن كان محلّه المقرّر له مبحث التعادل والتراجيح.

انوار الأصول، ج 3، ص: 13

فنقول- ومن اللَّه التوفيق والهداية-: يتصوّر للدليل المقدّم على دليل آخر حالات أربعة:

أحدها: التخصّص، وهو خروج مورد عن موضوع دليل خروجاً ذاتيّاً بلا حاجة إلى دليل مخرج، كخروج زيد الجاهل عن دليل وجوب إكرام العلماء.

ثانيها: التخصيص، وهو إخراج مورد عن موضوع دليل إخراجاً حكميّاً بواسطة تعبّدٍ ودليل، كاخراج العالم الفاسق بقول المولى: «لا تكرم الفسّاق من العلماء» عن قوله: «أكرم العلماء».

ثالثها: الورود، وهو عبارة عن الخروج الموضوعي كالتخصّص لكنّه خروج بواسطة ورود دليل يوجب إنعدام موضوع الدليل السابق حقيقة، نظير ورود أدلّة الأمارات على الاصول العمليّة العقليّة فيكون دليل حجّية خبر الواحد مثلًا وارداً على قاعدة قبح العقاب بلا بيان لأنّ موضوعها هو عدم البيان، ودليل حجّية خبر الواحد يجعل مفاد خبر الواحد بياناً.

رابعها: الحكومة، وهى كون أحد الدليلين مفسّراً لدليل آخر، وناظراً إليه نظر تفسيرٍ بالمطابقة أو التضمّن أو الالتزام، بالتصرّف في موضوعه أو حكمه أو متعلّقه، بالتوسعة أو التضييق، فهى على ستّة أقسام:

1- أن يكون التصرّف في الموضوع بالتضييق كما إذا قال المولى (بعد قوله أكرم العلماء):

«العالم الفاسق ليس بعالم».

2- أن يكون التصرّف في الموضوع بالتوسعة، كما إذا قال: «العامي العادل عالم».

3- أن يكون التصرّف في المتعلّق بالتضييق، كما إذا قال: «الإطعام ليس بإكرام» (مع كونه إكراماً عرفاً).

4- أن يكون التصرّف في المتعلّق بالتوسعة كما إذا قال: «مجرّد السلام إكرام» (مع أنّه ليس بإكرام عرفاً على الفرض).

5- أن يكون التصرّف في الحكم بالتضييق، كما إذا ورد في دليل: «إذا شككت في الصّلاة فابنِ على الأكثر» وورد في دليل آخر:

«إنّما عنيت بذلك خصوص الشكّ بين الثلاث والأربع».

6- عكس الخامس، كما إذا قال: «إذا شككت بين الثلاث والأربع فابنِ على الأكثر» ثمّ ورد في دليل آخر: «إنّ المراد منه مطلق الشكّ وأنّ ذكر الثلاث والأربع من باب المثال».

انوار الأصول، ج 3، ص: 14

هذا- وقد ظهر ممّا ذكر الفرق بين التخصيص والحكومة، حيث إنّ لسان التخصيص لسان التعارض، ولسان الحكومة هو التفسير والتوضيح مطابقة أو التزاماً، والمراد من التفسير أنّ الدليل الثاني لا يكون له معنى قابلًا للفهم بدون الدليل الأوّل، بخلاف التعارض، فإنّ لكلّ من الدليلين المتعارضين معناً مستقلًا ولا يتوقّف فهم أحدهما على الآخر، ومن هنا يشترط في التخصيص إقوائيّة الدليل المخصّص خلافاً للحكومة.

ثمّ إنّه لا يعتبر في الحكومة كما أشرنا إليه كون الدليل الحاكم بصيغة تدلّ بالمطابقة على التفسير كقولك: «إنّما عنيت» أو «افسّر» بل تكفي الدلالة عليه بالالتزام كما في كثير من الأمثلة السابقة.

إذا عرفت هذا نقول: إنّ أدلّة الأمارات حاكمة على الاصول العمليّة لأنّ موضوع الاصول قد أخذ فيه الشكّ، ودليل الأمارة كآية النبأ يلغى احتمال الخلاف، وينفى الحكم بلسان نفي الموضوع وكأنّه يقول: شكّك ليس بشكّ.

نعم تكون النسبة بينها وبين الاصول العقليّة نسبة الورود، فإنّ الموضوع في البراءة العقليّة (قاعدة قبح العقاب بلا بيان) إنّما هو عدم الحجّية، ودليل حجّية خبر الواحد مثلًا يقول: إنّ مفاد خبر الواحد حجّة فيوجب انعدام موضوع اللّاحجّة بالحجّة، وهكذا بالنسبة إلى الاحتياط العقلي فإنّ موضوعه عدم الأمن من العقاب ودليل حجّية خبر الواحد يبدّل عدم الأمن إلى الأمن، وكذلك في التخيير العقلي فإنّ الموضوع فيه عدم وجود الرجحان لأحد الدليلين، وخبر الواحد يكون مرجّحاً.

أمّا الخامس:- وهو عدم اختصاص الأمارة بموارد الظنّ- فالمعروف في ألسنّة الاصوليين

أنّه لا يوجد في مورد الشكّ أمارة لأنّ الشكّ ظلمة محضة لا يكون له كشف عن الواقع فلا يمكن جعله أمارة.

لكنّه ينتقض بمثل القرعة فقد وردت فيها روايات خاصّة تدلّ على أماريتها على الواقع، وأنّها توجب الوصول إلى الواقع إذا فوّض الأمر فيه إلى اللَّه تعالى (مع أنّه لا شكّ في أنّها ظلمة وشكّ محض).

ومن هذه الروايات ما رواه الشيخ عن جميل قال: قال الطيار لزرارة: «ما تقول في المساهمة أليس حقّاً؟ فقال زرارة: بل هى حقّ، فقال الطيار: أليس قد ورد أنّه يخرج سهم انوار الأصول، ج 3، ص: 15

المحقّ؟ قال: بلى، قال: فتعال حتّى أدّعي أنا وأنت شيئاً ثمّ نساهم عليه وننظر هكذا هو؟ فقال له زرارة: إنّما جاء الحديث بأنّه ليس من قوم فوّضوا أمرهم إلى اللَّه ثمّ اقترعوا إلّاخرج سهم المحقّ، فأمّا على التجارب، فلم يوضع على التجارب، فقال الطيار: أرأيت إن كانا جميعاً مدّعيين إدّعيا ما ليس لهما من أين يخرج سهم أحدهما؟ فقال زرارة: إذا كان كذلك جعل معه بينهم مبيح فإن كان إدّعيا ما ليس لهما خرج سهم المبيح» «1».

فإنّها واضحة الدلالة على كون القرعة أمارة على الواقع.

أضف إلى ذلك ما ورد في الكتاب الكريم في قصّة يونس: «وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ» «2».

فإنّ هذه الآية أيضاً تدلّ على أنّه يمكن جعل أحد طرفي الشكّ الذي وافقته الأمارة أمارة على الواقع.

بل يدلّ عليه ما ورد في باب الاستخارات حيث إنّها في الواقع نوع من القرعة وأمارة على الواقع، ولم توضع لمجرّد رفع التحيّر في مقام العمل فحسب.

فظهر أنّ كون الشكّ بمنزلة الظلمات إنّما هو بالنسبة إلى أنظارنا، وأمّا عند الشارع العالم

بالشهادة والغيب فقد يكون لأحد الطرفين (وهو الطرف الذي توافقه القرعة) نور وضياء، فيجعله أمارة وطريقاً إلى الواقع.

هذا كلّه هى الامور الخمسة التي ينبغي ذكرها قبل الورود في أصل البحث عن مسائل الاصول الأربعة، ونشرع الآن بحول اللَّه تعالى في أصالة البراءة في الشبهات التحريميّة الحكميّة (كالشكّ في حرمة العصير العنبي إذا غلى، أو الشكّ في حرمة بعض أجزاء الذبيحة أو حرمة التدخين). ونستمدّ منه التوفيق والهداية.

انوار الأصول، ج 3، ص: 17

1- أصالة البراءة

أدلّة الاصوليين على البراءة:

1- الآيات:

«وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا»

«لَايُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا»

«وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً ...»

2- الروايات:

حديث الرفع حديث الحجب حديث الحلّ حديث السعة

حديث الاطلاق 3- العقل 4- الإجماع - أدلّة الأخباريين على وجوب الاحتياط:

1- الآيات 2- الروايات 3- العقل:

- هل الأصل في الأشياء الحظر أو الإباحة؟

- تنبيهات أصالة البراءة:

1- اشتراط عدم وجود أصل موضوعي في جريان البراءة:

أصالة عدم التذكية

2- حسن الاحتياط، ترتّب الثواب عليه، إمكانه في العبادات:

التسامح في أدلّة السنن (أخبار من بلغ)

3- جريان البراءة في الشبهات الموضوعيّة

4- حسن الاحتياط مطلقاً حتّى مع قيام الحجّة على العدم انوار الأصول، ج 3، ص: 19

1- أصالة البراءة
اشارة

إذا شكّ في حرمة شي ء لإجمال نصّ أو عدمه أو تعارض النصّين، فالمعروف بين الاصوليين هو البراءة، وعند الأخباريين الاحتياط، وهو عمدة الفرق بين الطائفتين، والحقّ مع الطائفة الاولى، أي الاصوليين، واستدلّ لذلك بالأدلّة الأربعة:

أدلّة الاصوليين على أصالة البراءة:
الأوّل: الآيات
اشارة

منها: قوله تعالى: «مَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا» «1».

حيث إنّه وردت فيها ثلاث فقرات:

أحدها: أنّ نتيجة عمل كلّ إنسان تعود إلى نفسه: «من اهتدى فإنّما يهتدي لنفسه ومن ضلّ فإنّما يضلّ عليها».

ثانيها: ما يكون بمنزلة المفهوم للحكم الأوّل، أي: «وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى»، وكلّ واحد من هذين الحكمين إرشاد إلى ما يحكم به العقل.

ثالثها: البراءة في موارد عدم البيان والبعث: «وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا» وهى تؤكّد بالآية التالية لها، أي قوله تعالى: «وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً» حيث إنّه بيّنت فيها كيفية العذاب المذكور في تلك الآية وأنّه يقع بعد الأمر ووقوع الفسق، كما أنّ المراد من بعث الرسل في تلك الآية إنّما

انوار الأصول، ج 3، ص: 20

هو إتمام الحجّة على الناس، فهو كناية عن بيان التكليف، فلا موضوعيّة للبعث كما يشهد عليه أنّه لا يعقل العذاب في صورة البعث مع عدم البيان.

ثمّ إنّ هيهنا آيتين اخريين توافقان الآية المذكورة في الدلالة على البراءة في ما نحن فيه، وقد غفل عنهما في كلماتهم:

الاولى قوله تعالى: «وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ» «1»

حيث لا يخفى إنّ دلالة هذه الآية أظهر ممّا ذكره القوم، لما ورد فيها من التعبير ب

«يتلوا عليهم آياتنا» الذي يدلّ صريحاً على بيان التكليف وإنّه لا عقاب إلّابعد البيان، فلا حاجة فيها إلى التوجيه المذكور في تلك الآية من أنّ البعث كناية عن البيان.

الثانية: قوله تعالى: «وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى» «2»

حيث إنّ المراد من كلمة «قبله» هو قبل بعث الرسل، فتدلّ على البراءة بناءً على أنّ نقل كلام الكفّار مشعر بالقبول.

وبالجملة، إنّ لهذه الآيات الثلاثة مدلولًا واحداً مشتركاً، وهو البراءة في الشبهات الحكميّة مطلقاً.

المناقشة:

ولكنّه قد يناقش في دلالتها بامور عديدة، وما قيل أو يمكن أن يقال فيها امور خمسة:

الأمر الأوّل: ما أورده المحقّق الخراساني رحمه الله، وحاصله: إنّ الآية تدلّ على نفي فعلية العذاب لا نفي استحقاقه، ونفي الفعليّة ليس لازماً مساوياً لنفي الاستحقاق حتّى يدلّ نفيها على نفيه، بل هو أعمّ من كونه من باب عدم الاستحقاق أو من باب تفضّله تبارك وتعالى على عباده مع استحقاقهم للعذاب، فلا يصحّ الاستدلال بالآية على البراءة.

ثمّ أورد على نفسه بأنّ المخالفين يعترفون بالملازمة بين نفي الفعليّة ونفي الاستحقاق.

وأجاب عنه أوّلًا: بأنّ قبول الخصم لا يوجب صحّة الاستدلال بها إلّاجدلًا مع أنّنا

انوار الأصول، ج 3، ص: 21

نطلب الحجّة بيننا وبين اللَّه تعالى سواء قبل الخصم أو لم يقبل.

وثانياً: بأنّ عدم وجود الملازمة بين الأمرين أمر واضح، ضرورة أنّ ما شكّ في وجوبه أو حرمته ليس عند الخصم بأعظم ممّا علم بحكمه، فإذا لم تكن ملازمة بينهما في المخالفة القطعيّة فعدمها في المخالفة الاحتماليّة بطريق أولى.

أقول: يمكن الجواب عنه بأنّ ما يهمّنا في الفقه إنّما هو الأمن من العذاب، وهو حاصل بنفي الفعليّة سواء لزمه نفي الاستحقاق أم

لا.

الأمر الثاني والثالث: ما أفادهما الشيخ الأعظم رحمه الله من أنّ ظاهر الآية الإخبار بوقوع العذاب سابقاً بعد البعث فيختصّ بالعذاب الدنيوي الواقع في الامم السابقة، فمحصّل كلامه:

أوّلًا: أنّ الآية مختصّة بالامم السابقة، وثانياً: أنّ اللَّه تعالى قد أخبر بنفي خصوص العذاب الدنيوي، وليس في الآية دلالة على أنّه تعالى لم يعذّبهم لعدم استحقاقهم له كي يكون دليلًا على نفي العقاب قبل البيان مطلقاً، أي الدنيوي والاخروي جميعاً بل لعلّه لم يفعل ذلك منّة منه تعالى في خصوص الدنيا.

والجواب عنهما واضح، أمّا بالنسبة إلى الأوّل منهما فلأنّ لحن الآية الشريفة إنّما هو لحن قوله تعالى: «وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً» «1»

، فيدلّ على أنّه لا يكون العذاب من دون بعث الرسول لائقاً بشأنه تعالى، ولا معنى لاختصاص هذا المفهوم بالامم السابقة كما تشهد عليه الفقرتان السابقتان على هذه الفقرة (أي قوله تعالى «مَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا» وقوله تعالى: «وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى») حيث إنّه لا إشكال في عدم اختصاصهما بالامم السابقة.

وأمّا بالنسبة إلى الثاني منهما فلأنّه إذا لم يعذّبهم في الدنيا فعدم تعذيبه في الآخرة بطريق أولى، وهو عذاب يدوم بقاؤه ولا يخفّف عن أهله، والشاهد عليه الآية اللاحقة وهى قوله تعالى: «وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً».

الأمر الرابع: «إنّ أقصى ما تدلّ عليه الآية المباركة هو أنّ المؤاخذة والعقوبة لا تحسن إلّإ

انوار الأصول، ج 3، ص: 22

بعد بعث الرسل وإنزال الكتب وتبليغ الأحكام والتكاليف إلى العباد، وهذا لا ربط له بما نحن فيه من الشكّ في التكليف بعد البعث والإنزال والتبليغ وعروض اختفاء التكليف لبعض الموجبات التي لا دخل للشارع فيها»

«2».

والجواب عنه: أنّ بعث الرسل في الآية كناية عن إتمام الحجّة كما مرّ، فتدلّ على نفي العذاب ما لم تتمّ الحجّة بعد البعث، والشاهد عليه قوله تعالى في الآية اللاحقة: «وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ ...» فهى تدلّ على أنّ الميزان في العذاب هو صدور الأمر ووقوع الفسق بعده، كما يشهد عليه أيضاً ما مرّ من قوله تعالى في سورة القصص: «وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا ...» لأنّها تصرّح بأنّ الملاك هو تلاوة الآيات لا مجرّد البعث.

الخامس: النقض بالمستقلّات العقليّة، فإنّه لا إشكال (كما مرّ في بعض الأبحاث السابقة) في تعذيبه تعالى على ترك المستقلّات العقليّة، كقبح قتل النفس المحترمة والسرقة والخيانة وغيرها من المعاصي التي يحكم بقبحها العقل مستقلًا، ولو وقعت قبل بعث الرسل.

والجواب عنه: أنّ الآية منصرفة إلى أحكام تحتاج إلى البيان، ولا حاجة إلى البيان في المستقلّات العقليّة التي لا يصحّ فيها الإعتذار بقولهم: «لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى»، ولذلك يقال في مباحث العقائد أنّ من فوائد وجود النبي صلى الله عليه و آله تأكيده المستقلّات العقليّة والتأسيس بالنسبة إلى غيرها.

فتلخّص ممّا ذكر أنّ جميع الإشكالات الواردة مندفعة، وإنّ الآية صالحة للاستدلال على أصالة البراءة في الشبهات الحكميّة التحريميّة.

نعم إنّ النسبة بين هذه الآية والأخبار التي استدلّ بها الأخباريون على الاحتياط هى نسبة الورود، فهى مورودة بتلك الأخبار لأنّ لسانها لسان قاعدة قبح العقاب بلا بيان أو بلا حجّة، وتلك الأخبار على فرض دلالتها بيان وحجّة، لكن تظهر ثمرتها في تأسيس الأصل الأولي في المسألة وأنّ الأصل هو البراءة، فيرجع إليها

إذا ناقشنا في دلالة تلك الأخبار على الاحتياط.

انوار الأصول، ج 3، ص: 23

ومنها: قوله تعالى: «لَايُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا» «1»

، وتقريب الاستدلال بها أنّ «ما آتاها» بمعنى «ما أعلمها» أي لا يكلّف اللَّه نفساً إلّاما آتاها من العلم، فدلالتها على البراءة واضحة.

وقد يناقش في الاستدلال بها بأنّ المراد من الموصول فيها إنّما هو المال بقرينة ما ورد في صدرها من قوله تعالى: «فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَايُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا» فيكون المعنى حينئذٍ: لا يكلّف اللَّه نفساً إلّامالًا آتاها، أي أعطاها، وهو أجنبي عن البراءة كما هو واضح.

ولكن في اصول الكافي عن عبدالأعلى قال: قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام: أصلحك اللَّه هل جعل في الناس أداة ينالون بها المعرفة؟ قال: فقال «لا»، قلت: فهل كلّفوا المعرفة؟ قال «لا، على اللَّه البيان، لا يكلّف اللَّه نفساً إلّاوسعها، ولا يكلّف اللَّه نفساً إلّاما آتاها»، قال: وسألته عن قوله: «وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ»، قال: «حتّى يعرّفهم ما يرضيه وما يسخطه» «2».

فهذه الرواية تؤكّد أنّ الآية ناظرة إلى العلم والمعرفة، ولا يخفى أنّ المراد من المعرفة فيها ليست معرفة أصل وجود اللَّه تبارك وتعالى، لأنّه لا ريب في أنّ أحسن الأدلّة على وجوده تعالى وأوّلها هو العقل من دون اعتماد عى البيان، فليكن المراد معرفة الصفات التي لا تصاب بالعقول، ولذا اشتهر بين العلماء أنّ أسماء اللَّه تعالى وصفاته توقيفية.

فلابدّ حينئذٍ من الجمع بين مورد الآية وهذه الرواية، فنقول: يحتمل في المراد من الموصول في الآية

ثلاثة وجوه:

أحدها: أن يكون المراد المال.

ثانيها: أن يكون المراد المعارف والتكاليف.

ثالثها: الجامع بين المعنيين، فاستعمل الموصول في مطلق الاعطاء أعمّ من الاعطاء المالي واعطاء الحجّة والعلم.

انوار الأصول، ج 3، ص: 24

فقد يقال: إنّ الموصول استعمل في المعنى الثالث، فيكون كلّ واحد من الموردين (مورد الآية ومورد الرواية) من مصاديق هذا المعنى الجامع فتكون دلالته على المراد تامّة.

لكن أورد عليه أوّلًا: بأنّ «إرادة الأعمّ منه (من الإعلام بالحكم والتكليف) ومن المورد (مورد الآية) يستلزم استعمال الموصول في معنيين، إذ لا جامع بين تعلّق التكليف بنفس الحكم وبالفعل المحكوم عليه» «1».

وإن شئت قلت: «المفعول المطلق هو المصدر أو ما في معناه المأخوذ من نفس الفعل، والمفعول به ما يقع عليه الفعل المباين معه ولا جامع بين الأمرين حتّى يصحّ الإسناد» «2».

والجواب عنه: أنّ الموصول في الآية يكون مفعولًا به في كلتا الصورتين، أي سواء اريد منه نفس التكليف أو اريد منه الأمر الخارجي الذي يقع عليه التكليف، لأنّ المراد من التكليف في الصورة الاولى معناه اسم المصدري، أي ما كلّف به (لا المعنى المصدري)، فيكون المعنى: «لا يكلّف اللَّه نفساً بتكليف كمعرفة صفات اللَّه أو الإمام أو الأحكام كما ورد في سؤال الراوي في الرواية: «هل كلّف الناس بالمعرفة».

فعلى أي تقدير يكون الموصول مفعولًا به ويصير المعنى: «لا يكلّف اللَّه نفساً إلّاتكليفاً أو مالًا آتاها» فاستعمل الموصول في القدر الجامع بينهما، وهو مطلق المعطى أعمّ من الامور المادّية كالمال أو المعنوية كالمعرفة، ويكون هذا الجامع هو المفعول به، كما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله بما نصّه: «لكن الإنصاف أنّه يمكن أن يراد من الموصول الأعمّ من التكليف وموضوعه، وإيتاء كلّ شي ء إنّما يكون بحسبه، فإنّ إيتاء التكليف إنّما

يكون بالوصول والإعلام، وإيتاء المال إنّما يكون بإعطاء اللَّه تعالى وتمليكه، وإيتاء الشي ء فعلًا أو تركاً إنّما يكون بإقدار اللَّه تعالى عليه فإنّ للإيتاء معنىً ينطبق على الاعطاء وعلى الاقدار، ولا يلزم أن يكون المراد من الموصول الأعمّ من المفعول به والمفعول المطلق، بل يراد منه خصوص المفعول به» «3».

وثانياً: بما مرّ في آية البعث من المحقّق النائيني رحمه الله أيضاً من أنّ أقصى ما تدلّ عليه الآية هو

انوار الأصول، ج 3، ص: 25

أنّ المؤاخذة والعقوبة لا تحسن إلّابعد تبليغ الأحكام والتكاليف إلى العباد، وهذا لا ربط له بما نحن فيه من الشكّ في التكليف بعد التبليغ وعروض اختفاء التكليف ببعض الموجبات التي لا دخل للشارع فيها.

والجواب عنه: هو الجواب من أنّ المراد من الإيتاء هو إتمام الحجّة، فتدلّ الآية على نفي العذاب ما لم تتمّ الحجّة بعد التبليغ، وهو المطلوب.

وثالثاً: بأنّ المقصود في الآية وكذلك في الرواية التكليف بما لا يطاق، فإنّ معرفة صفاته تعالى مثلًا خارجة عن طاقة البشر، ولا يمكن حصولها له إلّامن ناحية البيان، فالآية تنفي التكليف بما لا يطاق لا التكليف بالاحتياط في مثل التدخين الذي يكون ممكناً للإنسان، وليس خارجاً عن طاقته، والشاهد على ذلك أنّ الإمام عليه السلام ذكر هذه الآية في جنب قوله تعالى: «لَايُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا» التي لا إشكال في أنّ المقصود منها التكليف بما لا يطاق، فالآية حينئذٍ أجنبية عمّا نحن فيه.

ورابعاً: بأنّ سند الرواية ضعيف من ناحية عبدالأعلى المجهول في كتب الرجال، اللهمّ إلّا أن يقال: بأنّه وقع بعد حمّاد وهو من أصحاب الإجماع، ولكن المختار عندنا عدم تماميّة هذه القاعدة.

وبهذا يظهر أنّ الآية غير صالحة للاستدلال بها في المقام.

ومنها: قوله تعالى: «وَمَا

كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ» «1»

، ودلالتها على المدّعى تتمّ إذا كانت «يضلّ» بمعنى «يعذّب» لأنّ مفادها حينئذٍ عدم العقاب بلا بيان، فالمهمّ في المقام تعيين معنى «يضلّ» بعد عدم تصوّر معناها اللغوي المعروف بالنسبة إلى الباري تعالى، فنقول: يحتمل فيها أربعة وجوه:

1- أن يكون بمعنى التعذيب كما مرّ آنفاً.

2- أن يكون بمعنى الحكم بالضلال.

3- أن يكون بمعنى الخذلان أي ترك العون والإمداد وسلب التوفيق.

4- أن يكون بمعناه الحقيقي مع حقيقة الإسناد بالنسبة إليه تعالى من باب إنّه مسبّب انوار الأصول، ج 3، ص: 26

الأسباب وسبب في تأثير عمل العبد في ضلالته، فهو الذي جعل العمل السيّي ء والذنوب الكبار سبباً للضلالة عن طريق الحقّ، فيصحّ إسناده إليه تعالى حقيقة كما يصحّ إسناده كذلك إلى الفاعل بلا واسطة، وهذا نظير من قتل نفسه بشرب السمّ حيث يصحّ إسناد القتل إليه حقيقة لأنّه شرب السمّ باختياره، وإلى الباري تعالى كذلك لأنّه خلق السمّ بحيث يوجب القتل.

ولا يخفى أنّ الإسناد في الوجوه الثلاثة الاول مجازاً، فلا وجه للذهاب إليها مع إمكان حفظ الكلمة على معناه الحقيقي بالوجه الأخير، كما أنّه كذلك في الآيات المشابهة التي استند الاضلال فيها إلى اللَّه تعالى.

منها: قوله تعالى: «يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ» «1».

ومنها: قوله تعالى: «كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ» «2»

فاستناد الاضلال إليه تعالى أمر مأنوس في القرآن الكريم، ولا ريب في عدم مجازيته، لأنّ كلّ فعل يصدر من العباد يصحّ إسناده إليه تعالى حقيقة «لأنّه المالك لما ملّكك والقادر على ما عليه أقدرك» كما ورد في حديث الإحتجاج «3».

وبالجملة

الآية تدلّ على عدم اضلال اللَّه تعالى للعباد حتّى يبيّن لهم الحلال والحرام لقوله تعالى فيها: «حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ» وبما أنّ الاضلال منشأ للعذاب بل هو نوع من العذاب الإلهي فدلالة الآية على عدم العذاب من دون البيان تكون بالأولوية أو بإلغاء الخصوصيّة.

وممّا ذكرنا يظهر الجواب عمّا أورده بعض على دلالة الآية من أنّها تدلّ على نفي العذاب الدنيوي لا الاخروي، وذلك لأنّ دلالتها على نفي العذاب الاخروي- وهو عذاب تطول مدّته ويدوم بقاؤه- بطريق أولى كما مرّ ذلك بالنسبة إلى آية البعث.

بقي هنا شي ء:

وهو أنّ جميع هذه الآيات إنّما تأسّس لنا الأصل الأوّلي وتدلّ على عدم العذاب بلا بيان،

انوار الأصول، ج 3، ص: 27

وحينئذٍ تكون أدلّة الأخباري على فرض تماميتها واردة عليها، لأنّها حينئذٍ تكون بمنزلة البيان، لكن سيأتي عدم تماميتها فالمرجع هو ما يستفاد من هذه الآيات.

هذا كلّه في الآيات التي استدلّ بها على البراءة.

الثاني: الروايات
اشارة

وهى عديدة:

1- حديث الرفع
اشارة

وهو أهمّها، والبحث فيه يقع في مقامين:

1- إسناد الحديث.

2- كيفية دلالته على المطلوب.

المقام الأوّل: في إسناد الحديث

أمّا المقام الأوّل فقد روي هذا الحديث من طريقين:

أحدهما: ما ورد في توحيد الصدوق وخصاله بسند معتبر عن حريز بن عبداللَّه عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: رفع عن امّتي تسعة أشياء: الخطأ والنسيان وما اكرهوا عليه، وما لا يعلمون، وما لا يطيقون، وما اضطرّوا إليه، والحسد، والطيرة، والتفكّر في الوسوسة في الخلق، وما لم ينطقوا بشفة» «1».

وقد تؤيّد هذه الرواية بمرفوعة محمّد بن أحمد النهدي عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: وضع عن امّتي تسع خصال: الخطأ، والنسيان، وما لا يعلمون، وما لا يطيقون، وما اضطرّوا إليه، وما استكرهوا عليه، والطيّرة، والوسوسة في التفكّر في الخلق، والحسد ما لم يظهر بلسان أو يد» «2».

وبين الروايتين فرق بالنسبة إلى ما جاء في ذيلهما، فورد في الرواية الاولى «والتفكّر في انوار الأصول، ج 3، ص: 28

الوسوسة في الخلق» وفي الثانية «والوسوسة في التفكّر في الخلق» وبما أنّ من المستبعد جدّاً كونهما روايتين مستقلّتين نستكشف وقوع خطأ من جانب الراوي في إحديهما، ولكن الذي يسهل الخطب عدم كون الذيل مورداً للاستناد في المقام.

ثانيهما: معتبرة إسماعيل الجعفي عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «سمعته يقول: وضع عن هذه الامّة ستّ خصال: الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه، وما لا يعلمون، وما لا يطيقون، وما اضطرّوا إليه» «1».

فقد وردت فيها ستّ خصال بدلًا عن التسع الوارد في الرواية الاولى، ولكن لا ضير فيه ولا منافاة بينهما بعد كونهما من قبيل المثبتين.

فتحصّل من ما ذكرنا أنّ السند في الجملة معتبر يجوز الإسناد إليه.

المقام الثاني: في كيفية دلالة الحديث على المطلوب

ويقع الكلام فيه في عدّة امور:

الأمر الأوّل: في المراد من الموصول في قوله

صلى الله عليه و آله: «ما لا يعلمون» فهل يشمل الشبهات الحكميّة أيضاً، وهل تكون الرواية صالحة للاستدلال بها في ما نحن فيه أو لا؟

استدلّ الشيخ الأعظم الأنصاري رحمه الله في بعض كلماته لاختصاص الموصول بالشبهة الموضوعيّة بوحدة السياق، إذ إنّ المراد بالموصول في غير فقرة «ما لا يعلمون» هو الفعل الإكراهي والاضطراري ونحوهما، إذ لا معنى لتعلّق الإكراه والاضطرار بنفس الحكم، فليكن المراد بالموصول في «ما لا يعلمون» أيضاً هو الفعل المجهول لا الحكم.

وقال المحقّق الخراساني رحمه الله: إنّ المراد منها مطلق الإلزام المجهول سواء كان في الشبهة الحكميّة كحرمة شرب التتن أو الموضوعيّة كحرمة المايع الخارجي المشكوك كونه خمراً.

والأعلام المتأخّرون عن هذين العلمين كلٌّ أخذ جانباً، فبعض تبع الشيخ الأعظم رحمه الله وبعض آخر ذهب إلى مقالة المحقّق الخراساني رحمه الله، والتحقيق في المقام يستدعي تحليل المراد من المرفوع في «ما لا يعلمون» فهل هو الفعل المتعلّق به الحكم كشرب الخمر مثلًا في مثال المايع انوار الأصول، ج 3، ص: 29

المشكوك، أو المرفوع هو الموضوع الخارجي، أي نفس الخمر في المثال، أو الحكم، أي الحرمة؟

ولابدّ للجواب عن هذا السؤال من ملاحظة التعبيرات الواردة في الآيات والروايات بالنسبة إلى صيغة الوضع، حيث إنّها تقابل الرفع وتضادّه، والأشياء تعرف بأضدادها، فإذا عرفنا ما هو الموضوع في التكاليف الشرعيّة في الكتاب والسنّة عرفنا المرفوع فيها بالتبع.

وبعبارة اخرى: ما هو الثقل والكلفة التي يشتقّ منها كلمة التكليف، ومن أين يجي ء ويوضع على عهدة المكلّف حتّى يكون هو المرفوع؟

فنقول في الجواب: إنّ الموضوع والمحمول على المكلّف في لسان الآيات إنّما هو الفعل كالرزق (بمعناه المصدري) والكسوة الموضوعين على عهدة الأب في قوله تعالى: «وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ»

«1»

، فالموضوع في هذه الآية فعل الرزق وفعل الكسوة كما هو واضح، وكالفدية في قوله تعالى: «وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ» «2»

، والصيام في قوله تعالى «كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ» وحجّ البيت في قوله تعالى: «وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ».

وهكذا في الروايات كقوله عليه السلام: «عليك القضاء» أو «عليك الإعادة» أو «عليك الحجّ من قابل» فالموضوع على عهدة المكلّف إنّما هو القضاء أو فعل الإعادة أو الحجّ، فكأنّ للأفعال ثقلًا في عالم التشريع يضعه الشارع على عاتق المكلّفين، نعم إنّه كناية عن الإيجاب، وهى غير تقرير الوجوب، ولا يلزم فيها مجاز، بل يستعمل كلّ لفظ في معناه الموضوع له، ففي قولك:

«زيد كثير الرماد» استعمل كلّ واحد من «زيد» و «كثير الرماد» في معناه الموضوع له وإن لم يكن المستعمل فيه مراداً جدّياً للمتكلّم، فوضع فعل كالصيام والحجّ والإعادة والقضاء على عاتق المكلّف كناية عن وجوبه.

فإذا كان متعلّق الوضع هو الفعل فليكن متعلّق الرفع أيضاً كذلك، ففي قوله صلى الله عليه و آله: «رفع ما لا يعلمون» إنّما رفع الفعل المجهول كما أنّ المرفوع في «ما اضطرّوا إليه» و «ما استكرهوا عليه» هو الفعل الاضطراري أو الإكراهي الذي كان يثقل على عاتق المكلّف لولا حديث الرفع، لا أن يكون المرفوع هو الحكم حتّى نحتاج إلى تقدير.

انوار الأصول، ج 3، ص: 30

وإذن يختصّ الحديث بالشبهات الموضوعيّة لأنّ شموله للشبهات الحكميّة يحتاج إلى تقدير الحكم، أي رفع ما لا يعلمون حكمه، والأصل عدم التقدير.

فظهر أنّ طريق إثبات اختصاص الرواية بالشبهات الموضوعيّة لا ينحصر في ما ذهب إليه الشيخ الأعظم رحمه الله من قضية وحدة السياق، بل يمكن إثباتها من طريق تحليل معنى الرفع

وملاحظة موارد استعمال ما يقابله من كلمة الوضع.

ثمّ إنّ هذا (أي اختصاص حديث الرفع بالشبهة الموضوعيّة) قد يؤيّد بالرجوع إلى عصر صدور هذا الحديث من النبي صلى الله عليه و آله حيث لم تكن الشبهة الحكميّة محلًا للابتلاء في ذلك العصر إلّاقليلًا لأنّهم كانوا مستغنين بأرباب الشريعة، يأخذون منهم الأحكام مشافهة، ويعرفون ما يريدون بالسؤال عن نفس المعصوم بلا واسطة، فالحديث منصرف إلى ما كان محلًا للابتلاء.

الأمر الثاني: قد ظهر ممّا ذكرنا عدم تقدير شي ء في الحديث لا الحكم ولا المؤاخذة، ولا الأثر المناسب ولا جميع الآثار، بل المرفوع هو نفس الفعل في عالم الاعتبار، وهو كناية عن عدم حرمته، وإذا ارتفعت الحرمة ارتفعت جميع آثارها، وحينئذٍ لا تصل النوبة إلى ما ذكره الأعلام واختلفت فيه الآراء من أنّ المقدّر في الحديث ماذا؟

كما ظهر أيضاً أنّ الرفع إخبار عن الواقع (كما أنّ الوضع في مثل قوله تعالى: «كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ» إخبار عن الوضع في الواقع) لا إنشاء من جانب الرسول صلى الله عليه و آله فلا تصل النوبة إلى البحث عن إمكان التشريع للرسول صلى الله عليه و آله وعدمه، ولو فرض كونه إنشاء من جانبه صلى الله عليه و آله فلا إشكال فيه أيضاً لما أثبتناه في البحث عن ولاية الفقيه في الفقه من صدور تشريعات جزئية من ناحية الرسول صلى الله عليه و آله وإمضائه من جانب الباري تعالى، فما ذهب إليه في تهذيب الاصول من عدم وجود هذا الحقّ للرسول صلى الله عليه و آله والأئمّة عليهم السلام مطلقاً في غير محلّه.

الأمر الثالث: في شمول حديث الرفع للأحكام الوضعيّة وعدمه، فإذا تحقّق بيع عن إكراه مثلًا فهل يكون نافذاً شرعاً أو لا؟

فقد يقال بعدم نفوذه لأجل هذا الحديث بل هو ممّا استدلّ به على اعتبار الاختيار في باب المعاملات، وكيف كان فقد ذكر للعموم والشمول وجوه:

الأوّل: اطلاق الرفع، إمّا بناءً على وجود تقدير في الحديث، فلأنّ المقدّر هو جميع الآثار، وإمّا بناءً على ما إخترناه من كون الرفع كناية فلأنّه كناية عن رفع الحكم الجزئي، وهو في مثل انوار الأصول، ج 3، ص: 31

المقام عبارة عن نفوذ البيع.

الثاني: معتبرة صفوان بن يحيى وأحمد بن محمّد بن أبي نصر جميعاً عن أبي الحسن عليه السلام في الرجل يستكره على اليمين فيحلف بالطلاق والعتاق وصدقة ما يملك أيلزمه ذلك؟ فقال: «لا، قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: وضع عن امّتي ما اكرهوا عليه وما لم يطيقوا وما أخطأوا» «1».

فلا إشكال في أنّ هذه الرواية تشير إلى حديث الرفع، وحينئذٍ إذا كانت إحدى فقراته شاملة للأحكام الوضعيّة تكون سائر الفقرات أيضاً شاملة لها بمقتضى وحدة السياق.

إن قلت: إنّ التمسّك بهذا الحديث لإثبات كون المرفوع بحديث الرفع جميع الآثار حتّى الوضعيّة ضعيف لأنّ الحلف بالطلاق والعتاق وصدقة ما يملك باطل عندنا من الأساس حتّى مع الاختيار فكيف مع الإكراه؟، فمقتضى القاعدة أن يبيّن الإمام عليه السلام بطلانه مطلقاً ولم يفعل، فيكون الجواب حينئذٍ مبنيّاً على التقيّة، فكأنّ الإمام عليه السلام لم يتمكّن من إظهار الحقّ وهو بطلان الحلف بتلك الامور مطلقاً ولو مع الاختيار، فاقتصر على بيان بطلانه في مورد السؤال فقط، وهو الإكراه من باب التقيّة لا من باب أنّ الإكراه رافع للأثر الوضعي واقعاً.

قلت: إنّه كذلك أي الإمام كان في مقام التقيّة، لكنّه غاية ما يقتضيه كون تطبيق الكبرى (أعني عموم حديث الرفع) على مورد السؤال (أي

الحلف بالطلاق والعتاق) تقيّة لكون المورد باطلًا من الأساس وإن لم يكن عن إكراه، ولا دليل على كون أصل الكبرى من باب التقيّة، إذن فالحديث تامّ سنداً ودلالة.

الثالث: ما ذكره الشيخ الأعظم رحمه الله من أنّ مقتضى كون الحديث في مقام الإمتنان على امّة النبي صلى الله عليه و آله شموله للأحكام الوضعيّة، لأنّ الأحكام التكليفيّة كانت مرفوعة في الامم السابقة أيضاً.

ولكن يرد عليه: أنّ المستفاد من بعض الأخبار اختصاص رفع المؤاخذة في الأحكام التكليفيّة أيضاً بامّة النبي صلى الله عليه و آله، منها ما رواه عمرو بن مروان عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: رفع عن امّتي أربع خصال: خطؤها ونسيانها وما اكرهوا عليه وما لم يطيقوا، وذلك قول اللَّه عزّوجلّ: «رَبَّنَا لَاتُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً

انوار الأصول، ج 3، ص: 32

كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَاطَاقَةَ لَنَا بِهِ» وقوله: «إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ»» «1».

فالظاهر من هذا الحديث والآيات التي استشهد بها فيه اختصاص رفع المؤاخذة أيضاً بهذه الامّة.

إن قلت: العقل حاكم بقبح المؤاخذة على الخطأ والإكراه والاضطرار والنسيان وغيرها ممّا هو خارج عن طاقة الإنسان من دون فرق بين الامم.

قلنا: المعروف في الجواب عن هذا الإشكال أنّ الخطأ والنسيان مثلًا على قسمين: قسم لا يكون الإنسان قادراً على الإجتناب عنه بوجه من الوجوه، فهذا القسم مرفوع عن جميع الامم، وقسم آخر يمكن التحفّظ عنه بالمراقبة وإن كان ذات مشقّة، فهذا القسم لا تكون المؤاخذة عليه قبيحاً، ورفع المؤاخذة عنه إمتناناً مختصّ بهذه الامّة، وهو المراد في حديث الرفع كما يدلّ عليه نفس طلب النبي

صلى الله عليه و آله إيّاه في ليلة المعراج، وإلّا كان طلبه صلى الله عليه و آله تحصيلًا للحاصل.

بقي هنا شي ء:

وهو أنّه هل يشمل حديث الرفع الأجزاء والشرائط والموانع أو لا؟ فإذا طرأ النسيان على السورة مثلًا فلم يأت بها فهل تكون الصّلاة صحيحة بمقتضى حديث الرفع أو لا؟

التحقيق في الجواب أن يقال: إنّ الشبهة تارةً تكون بنحو الشبهة الموضوعيّة كما إذا نسى السورة مع علمه بوجوبها، واخرى تكون بنحو الشبهة الحكميّة كما إذا كان المكلّف حديث العهد بالإسلام فنسى أصل وجوب السورة، فإن كانت الشبهة موضوعيّة فشمول الحديث لها مبنى على جريانه في الأحكام الوضعيّة إذ إنّ الجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة من الأحكام الوضعيّة، وقد مرّ جريانه فيها، وإن كانت حكميّة فشمول الحديث لها مبنى على جريانه في الشبهات الحكميّة، وقد مرّ عدمه بناءً على ما اخترناه من أنّ المراد من الموصول في «ما لا يعلمون» الفعل المجهول، فلابدّ في شموله للشبهة الحكميّة من تقدير الحكم (أي ما لا يعلمون حكمه) وهو خلاف الظاهر.

انوار الأصول، ج 3، ص: 33

نعم لا ينبغي الإشكال في شموله لها بناءً على مذاق المشهور من أنّ المراد من الموصول هو الحكم حيث لا حاجة حينئذٍ إلى تقديره.

إن قلت: إنّ الجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة من الأحكام الوضعيّة الإنتزاعيّة التي ينتزعها العقل من الأمر المتعلّق بالكلّ أو المتعلّق بنفس الجزء أو الشرط، أو النهي المتعلّق بالمانع، وليست من الأحكام الوضعيّة المجعولة الاعتباريّة التي تعتبر من جانب الشارع أو العقلاء، كالضمان والملكية فإذا لم تكن قابلة للوضع والاعتبار لم تكن قابلة للرفع أيضاً.

قلنا: يمكن للشارع رفعها باعتبار أنّ جعل منشأ انتزاعها (أي الأمر بالأجزاء والشرائط والنهي عن الموانع) بيد الشارع.

نعم هنا إشكال آخر بالنسبة إلى

الشبهات الموضوعيّة، وهو أنّه لا يمكن التمسّك فيها بحديث الرفع لتصحيح الصّلاة، مثلًا لأنّ الإعادة ليست من آثار النسيان حتّى ترفع برفعه، بل هى من آثار الأمر بالكلّ، وهو لم يمتثل، فتجب الإعادة لأن يحصل الإمتثال.

هذا كلّه بالنسبة إلى الأجزاء والشرائط، وأمّا الموانع فيمكن أن يقال برفع أثرها وهو البطلان بمقتضى حديث الرفع، والقول بأنّ المانع يرجع إلى شرطيّة عدمه كما ترى.

الأمر الرابع: أنّ حديث الرفع حيث ورد في مقام الإمتنان فلا يجري فيما لم يكن في رفعه منّة على المكلّف كما إذا اضطرّ إنسان إلى بيع داره لإنجاء ولده المريض، فعدم صحّة بيعه هذا- لأنّه ممّا اضطرّ إليه- لا يكون منّة عليه بل هو خلاف الإمتنان وهذا واضح، وإنّما الكلام في منشأ هذا الاستظهار، فمن أيّ شي ء يستفاد أنّ الحديث في مقام الإمتنان؟

قد يقال: أنّه يستفاد من التعبير ب «عن امّتي» الوارد في الحديث، حيث لا إشكال في ظهوره في الإمتنان عرفاً، لكن يمكن أن يستفاد ذلك أيضاً من نفس التعبير بالرفع فإنّ الرفع يستعمل في الموارد التي رفع فيها ثقل وكلفة عن المكلّف لا ما إذا وضع ثقل على عاتقه، ولا يخفى أنّ بطلان المعاملة في المثال المذكور ممّا يوجب وضع ثقل على أثقاله لا رفعه.

الأمر الخامس: ربّما يستشكل في رفع المؤاخذة بحديث الرفع بأنّ المؤاخذة من الأحكام العقليّة لا من القوانين والأحكام المجعولة من ناحية الشرع حتّى يمكن رفعها بيد الشارع.

ويجاب عنه: بأنّها وإن كانت من الأحكام العقليّة، ولكن بما أنّ حكم العقل هذا ينشأ من وجوب الاحتياط هو ناشٍ من الحكم الواقعي المجعول من ناحية الشارع فيمكن له رفعها

انوار الأصول، ج 3، ص: 34

برفع منشأها، وهو الوجوب الواقعي.

ويمكن أن يقال أيضاً: أنّ

حكم العقل في المقام إنّما هو استحقاق المؤاخذة لا فعليتها إذ إنّ الفعليّة من شؤون الشارع والمقنّن، ولذا نرى صدور أحكام العفو من الولاة والحكّام ومن بيده رحى التشريع والتقنين في كثير من الأحايين والشارع المقدّس أولى منهم بذلك.

الأمر السادس: الآثار المترتّبة على الخطأ والنسيان وسائر العناوين الواردة في الحديث الشريف على قسمين: منها ما يترتّب عليها بما هى هى، أي يترتّب على العناوين الثانوية كعنوان الخطأ والنسيان، ومنها ما يترتّب على متعلّقاتها الخارجيّة أي على العناوين الأوّلية، فإنّ الآثار المترتّبة على نسيان السورة مثلًا على قسمين: قسم يترتّب على نفس السورة كبطلان الصّلاة بتركها، وقسم يترتّب عليه بما أنّها متعلّقة للنسيان كسجدتي السهو، والمقصود من الآثار المرفوعة بحديث الرفع إنّما هو القسم الأوّل لا الثاني، وإلّا يلزم التناقض في كلام الشارع المقدّس، لأنّ المفروض كون السهو كالسبب لتشريع سجدتي السهو فكيف يكون رافعاً لهما؟

الأمر السابع: في شمول الحديث للُامور العدميّة وعدمه، كما إذا نذر أن يشرب من ماء الفرات فاضطرّ إلى تركه أو اكره عليه فلو قلنا بالشمول لم تتحقّق مخالفة النذر فلا حنث ولا كفّارة.

وقد وقع البحث فيه بين الأعلام، والظاهر من كلمات المحقّق النائيني رحمه الله اختصاصه بالامور الوجوديّة، واستدلّ لذلك «بأنّ شأن الرفع تنزيل الموجود منزلة المعدوم، لا تنزيل المعدوم منزلة الموجود، لأنّ تنزيل المعدوم منزلة الموجود إنّما يكون وضعاً لا رفعاً» «1».

وأجاب عنه في تهذيب الاصول: «بأنّ ترك الشرب بعد ما تعلّق به النذر وصار ذات أثر يكون له ثبوت في عالم الاعتبار، إذ ما لا ثبوت له ولو بهذا النحو من الثبوت لا يقع تحت دائرة الحكم ولا يصير موضوعاً للوفاء والحنث ... وبعد الثبوت الاعتباري لا مانع من

تعلّق الرفع عليه بما له من الآثار» «2».

أقول: وإن شئت قلت في الجواب: قد وقع الخلط في كلام المحقّق النائيني رحمه الله بين عالم انوار الأصول، ج 3، ص: 35

التكوين وعالم التشريع، وكون ترك الشرب أمراً عدميّاً إنّما هو بلحاظ عالم التكوين، وأمّا في عالم التشريع فلا إشكال في أنّ لترك الشرب أثراً وثقلًا وكلفة لولا حديث الرفع بلحاظ ترتّب الكفّارة عليه، فيمكن للشارع رفعه بهذا الحديث.

الأمر الثامن: قد ورد في ذيل الحديث ثلاثة عناوين ينبغي فهمها وتوضيحها وإن كانت خارجة عن موضوع البراءة، وهى: الحسد، والطيرة، والوسوسة في التفكّر في الخلق (بناءً على ما ورد في مرفوعة محمّد بن أحمد الهندي المذكورة سابقاً) أو التفكّر في الوسوسة في الخلق (بناءً على ما ورد في معتبرة حريز بن عبداللَّه المذكورة سابقاً أيضاً).

أمّا الحسد فلا إشكال في أنّ المراد منه في الحديث تلك الحالة النفسانية التي توجب عدم تحمّل الإنسان نعمة أعطاها اللَّه تعالى أخاه المؤمن قبل إظهارها عملًا، وأمّا إذا أقدم على عمل لإزالتها فلا إشكال أيضاً في كونه معصية ولا يكون حينئذٍ مشمولًا للحديث الشريف.

إن قلت: هذه الحالة النفسانيّة قبل إبرازها في مقام العمل أمر غير اختياري فلا معنى لحرمتها لولا الحديث حتّى ترفع إمتناناً.

قلنا: يمكن عادةً رفع هذه الحالة بالمجاهدات والرياضات النفسانيّة والتفكّر في أنّها ملكة رذيلة توجب خسّة النفس ودنائتها فيكون رفعها تحت اختيار الحاسد، ويمكن للشارع عدم رفعها بوجوب تهذيب النفس فيكون رفعه للوجوب منّة على العباد.

أمّا الطيرة فهى من مادّة الطير، بمعنى التشأّم وقراءة الطالع بالطيّور، ثمّ توسّع في ذلك حتّى عمّت سائر طرق التشأّم، فإنّ العرب في الجاهلية كانت تلتزم وتعتني بما يتشأّم بالطيور وغيرها، وكانت الطيور تسدّهم عن مقاصدهم،

فللشارع المقدّس أن يمضي تلك الالتزامات، ولكنّه ردع عنها إمتناناً حتّى لا يتعطّل حياتهم لُامور لا واقع لها.

وأمّا الوسوسة في التفكّر في الخلق (أو التفكّر في الوسوسة في الخلق) فالمراد من الخلق في هذه الجملة يمكن أن يكون على أحد معنيين:

الأوّل: أن يكون بمعنى الخالق، أي خالق اللَّه عزوجل، فيتفكّر في أنّه مَن خَلَقَ الباري تعالى؟

وهو سؤال يشكل جوابه على العوام (وإن كان واضحاً عند المحقّقين لأنّ الحاجة إلى الخالق تتصوّر بالنسبة إلى كلّ حادث أو ممكن الوجود، واللَّه تبارك وتعالى لا يكون حادثاً أو

انوار الأصول، ج 3، ص: 36

ممكناً) ومع ذلك كان أمراً شايعاً في عصر صدور الحديث وكانوا يتوهّمون حصول الكفر به فرفع الشارع أثره المتوهّم إمتناناً.

الثاني: أن يكون في مقابل الخالق، والمراد منه حينئذٍ الوسوسة في التفكّر في البلايا والشرور، وتكرار القول ب «لِمَ» بالنسبة إليها، أي القول بأنّ اللَّه تعالى لِمَ خلق الشي ء الفلاني، ولِمَ خلق العالم كذا وكذا، فرفع الشارع حرمة هذه الوساوس إمتناناً.

وإن قيل: بعض هذه الامور مرفوع من جميع الامم.

قلنا: نعم ولكن الإمتنان إنّما هو بالمجموع من حيث هو المجموع.

الأمر التاسع: لا يخفى أنّ النسبة بين هذا الحديث وأدلّة الأخباريين نسبة التعارض لا الحكومة لأنّ تلك الأدلّة مثل قوله عليه السلام: «أخوك دينك فاحتط لدينك» تدلّ بزعم الأخباري على وجوب الاحتياط وعدم إرتفاع الإلزام المجهول المحتمل، بينما حديث الرفع يدلّ على رفعه وعدم وجوب الاحتياط، فهو حينئذٍ يعارض تلك الأدلّة حتّى بعد فرض تماميتها، فتصل النوبة إلى محاولة المرجّحات وأنّه أي الدليلين أقوى؟ خلافاً لما مرّ من الآيات إذ إنّ أدلّة الأخباري كانت واردة عليها كما ذكرنا.

2- حديث الحجب:

وهو ما رواه أبو الحسن زكريا بن يحيى عن أبي عبداللَّه عليه

السلام قال: «ما حجب اللَّه علمه عن العباد فهو موضوع عنهم» «1».

وهو من حيث السند تامّ حيث إنّ رجاله معروفون، والظاهر أنّ المراد من ابن فضّال فيه هو علي بن فضّال الثقة الذي ينقل عن داود بن فرقد وكان معاصراً له، وداود ثقة بتوثيق علماء الرجال، وهكذا زكريا بن يحيى.

وأمّا الدلالة فتقريب الاستدلال به أنّ الإلزام المجهول ممّا حجب اللَّه علمه عن العباد فيكون موضوعاً عنهم.

انوار الأصول، ج 3، ص: 37

لكن إستشكل عليه الشيخ الأعظم والمحقّق الخراساني والمحقّق النائيني رحمهما الله بامور عديدة نلخّصها في أمرين:

أحدهما: أنّ الحديث أسند الحجب إلى اللَّه تعالى، وهو حينئذٍ ظاهر فيما سكت اللَّه عنه ولم يأمر نبيّه بالإبلاغ، لا ما بيّنه واختفى عنهم بعروض الحوادث الذي هو المبحوث عنه في المقام.

ثانيهما: أنّ كلمة «العباد» ظاهرة في العموم المجموعي، أي جميع المكلّفين والحجب عن العباد صادق في الموارد التي يكون الحكم محجوباً عن مجموع المكلّفين لا عن بعضهم دون بعض، ومحلّ النزاع في ما نحن فيه من النوع الثاني كما لا يخفى.

لكن في تهذيب الاصول يصرّ على تمامية الدلالة، والمعتمد في كلامه كلمة «موضوع عنهم» فيقول: «إنّ الظاهر المتبادر من قوله «موضوع عنهم» هو رفع ما هو المجهول، لا رفع ما لم يبيّن من رأس ولم يبلغ، بل لم يأمر الرسل بإظهاره فإنّ ما كان كذلك غير موضوع بالضرورة، ولا يحتاج إلى البيان مع أنّه مخالف لظاهر «موضوع عنهم» «1».

وقال في مقام الجواب عن الإشكال الأوّل: «إنّ الظاهر من الحجب هو الحجب الخارج عن اختيار المكلّف لا الحجب المستند إلى تقصيره وعدم فحصه ... وعندئذٍ يكون إسناد الحجب إليه على سبيل المجاز، ومثله كثير في الكتاب والسنّة، فإنّ مطلق تلك الأفعال

يسند إليه تعالى بكثير من دون أن يكون خلاف الظاهر في نظر العرف».

وفي مقام الجواب عن الإشكال الثاني قال: «إنّ المطابق للذوق السليم هو أن يكون المراد: كلّ من حجب اللَّه على شي ء عنه فهو مرفوع عنه سواء كان معلوماً لغيره أو لا (لا أن يكون المراد ما حجب اللَّه علمه عن مجموع المكلّفين ولا أن يكون المراد ما حجب اللَّه علمه عن كلّ فرد فرد من أفراد المكلّفين) كما هو المراد من قوله صلى الله عليه و آله في حديث الرفع: «رفع عن امّتي ما لا يعلمون» على أنّ مناسبة الحكم والموضوع يقتضي ذلك، فإنّ الظاهر أنّ المناط للرفع هو الحجب عن المكلّف، وحجبه عن الغير وعدمه لا دخل له لذلك كما لا يخفى»»

.لكن الحقّ أنّ ظهور كلمة العباد في العموم الاستغراقي وظهور الحجب في الإسناد الحقيقي مقدّم على ظهور كلمة «موضوع عنهم» في رفع ما هو المجعول (لا رفع ما لم يبيّن من رأس ولم انوار الأصول، ج 3، ص: 38

يبلغ) لأنّ استعمال كلمة الوضع في ما لم يكن مجعولًا من رأس كثير، كما أنّ كلمة الرفع استعمل في حديث الرفع في معنى الرفع وعدم الجعل من أصله (لا ما وضع أوّلًا ثمّ رفع ثانياً) وهذا نظير ما إذا قيل: هذا البلاء وضع عن هذه الامّة، فإنه استعمل حينئذٍ في بلاء لم ينزل من رأس لا ما نزل ثمّ رفع.

أضف إلى ذلك أنّ الوضع إذا تعدّى ب «عن» (خلافاً لما إذا تعدّى ب «على») يكون بمعنى الرفع، فيأتي حينئذٍ في هذا الحديث كلّ ما قلناه في حديث الرفع، وكيف كان: الأمر دائر مدار إرتكاب أحد الأمرين: رفع اليد من ظهورين (ظهور العباد في العموم

المجموعي وظهور الحجب في الإسناد الحقيقي) ورفع اليد من ظهور واحد (ظهور كلمة «موضوع عنهم» في رفع ما هو المجعول) ولا يخفى أنّ الثاني أهون من الأوّل.

مضافاً إلى أنّ الأوّل يستلزم كون الإسناد إلى العباد مجازاً لأنّ العباد حينئذٍ يستعمل في بعض العباد كما هو واضح.

3- حديث الحلّ:

وهو ما رواه عبداللَّه بن سنان بسند معتبر عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «كلّ شي ء فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبداً حتّى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه» «1».

ونظيره ما رواه مسعدة بن صدقة عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال سمعته يقول: «كلّ شي ء هو لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من نفسك، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة، والمملوك عندك لعلّه حرّ قد باع نفسه، أو خدع فبيع قهراً أو امرأة تحتك وهى اختك أو رضيعتك والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غير ذلك، أو تقوم به البيّنة» «2» وكذلك ما رواه عبداللَّه بن سنان قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن الجبن فقال لي: «لقد سألتني عن طعام يعجبني ثمّ أعطى الغلام درهماً فقال ياغلام ابتغ لنا جبناً، ثمّ دعا بالغداء فتغدّينا معه فأتى بالجبن فأكل وأكلنا فلمّا فرغنا من الغداء قلت: ما تقول في الجبن؟ قال: أو لم ترني آكله؟

انوار الأصول، ج 3، ص: 39

قلت: بلى ولكنّي أُحبّ أن أسمعه منك فقال: ساخبرك عن الجبن وغيره، كلّ ما كان فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام بعينه فتدعه» «1».

والبحث في هذه الروايات تارةً يقع في السند واخرى في الدلالة:

أمّا السند فلا إشكال في اعتبار رواية عبداللَّه بن سنان كما أشرنا إليه آنفاً، وأمّا رواية عبداللَّه بن سليمان فالمراد

من عبداللَّه بن سليمان هو عبداللَّه بن سليمان النخعي بقرينة نقله عن عبداللَّه بن سنان، وهو مجهول في كتب الرجال، وأمّا رواية مسعدة بن صدقة فهى أيضاً ضعيفة من ناحية السند لأنّ مسعدة مجهول، فإن وجدت فيها خصوصية لم توجد في الأوليين لا تكون حجّة، والعجب من المحقّق الخراساني رحمه الله حيث استند إلى هذه الرواية لما فيها من بعض الخصوصيات من دون اعتنائه بسندها كما هو دأبه في كتابه الكفاية.

فالمعتبر من هذه الروايات الثلاثة إنّما هو الرواية الاولى، وهى رواية عبداللَّه بن سنان.

أمّا الدلالة: فلا إشكال في أنّ رواية عبداللَّه بن سنان ظاهرة في خصوص الشبهات الموضوعيّة لمكان فقرة «فيه حلال وحرام» حيث إنّها تتصوّر في الموضوعات كالمايع الذي بعض افراده خمر وبعضها الآخر غير خمر فاشتبه الخمر فيه بغير الخمر، لا في الأحكام، فلا معنى لأن يقال مثلًا: «في شرب التتن حلال وحرام» بل لابدّ فيها حينئذٍ من تقدير كلمة الاحتمال، أي فيه احتمال الحرمة واحتمال الحلّية، وهو تكلّف وخلاف للظاهر.

وبعبارة اخرى: المقصود من كلمة «الشي ء» في قوله عليه السلام: «كلّ شي ء فيه حلال وحرام» هو الشي ء الخارجي والموضوع الخارجي المشكوك، أي متعلّق الشي ء إنّما هو الموضوع الخارجي لا الحكم، بينما متعلّق الشكّ في مثل شرب التتن إنّما هو حكم الشرب لا نفس الشرب الخارجي.

وأمّا رواية مسعدة فالتعبير الوارد فيها «كلّ شي ء هو لك حلال حتّى تعرف أنّه حرام بعينه» فليس فيها التعبير ب «فيه حلال وحرام» حتّى تكون من هذه الجهة ظاهرة في الشبهات الموضوعيّة، نعم كلمة «بعينه» الواردة في ذيلها ظاهرة في الشبهة الموضوعيّة لأنّها بمعنى التشخّص والتعيّن الخارجي، لكن يمكن التوجيه بأنّها تأكيد لقوله عليه السلام: «تعرف» أي حتّى تعلم

انوار الأصول، ج 3، ص: 40

علماً قطعيّاً، وسيأتي بيان الخصوصية الموجودة في «تعرف» بدل «تعلم» في هذه الرواية.

وبهذا تكون الرواية تامّة من حيث الدلالة، ولكنّها ضعيفة من ناحية السند كما مرّ، مضافاً إلى أنّ الظاهر سوق الروايات الثلاثة على مساق واحد، أي بيان الحلّية في الشبهة الموضوعيّة، وذلك لوجود قرائن عديدة فيها:

منها: الأمثلة الواردة في رواية مسعدة فإنّ جميعها من الشبهة الموضوعيّة كما هو واضح.

ومنها: كون مورد بعضها وهى رواية عبداللَّه بن سنان الجبن المشكوك حلّيته من ناحية الأنفحة التي تعقد اللبن جبناً حيث إنّ وجه ترديد الراوي وتأمّله في أكل الجبن في هذه الرواية هو احتمال وجود الميتة فيه لأنّ الأنفحة التي تعقد اللبن جبناً ربّما كانت تؤخذ في ذلك العصر من الميتة.

منها: التعبير ب «تعرف» بدل «تعلم» فإنّه يستعمل غالباً في الشبهات الموضوعيّة لأنّ التعريف بمعنى تشخيص المصداق وتعيينه، بخلاف «تعلم» التي تستعمل في كلا الموردين.

ومنها: كلمة «بعينه» الواردة في رواية عبداللَّه بن سليمان أيضاً فإنّها أيضاً ظاهرة في الشبهة الموضوعيّة كما مرّ.

ومنها: كلمة «منه» الواردة في رواية عبداللَّه بن سنان فهى على وزان كلمة «بعينه» كما لا يخفى.

ولو تنزّلنا عن هذه القرائن فإنّ المهمّ في المقام أنّ ما يكون من هذه الروايات تامّة دلالة- ليست صالحة من ناحية السند، وما تكون تامّة من حيث السند لا تكون صالحة من ناحية الدلالة.

4- حديث السعة:

والمعروف منه في كتب الأعلام «الناس في سعة ما لا يعلمون» ولكنّا لم نظفر به بهذا التعبير في الجوامع الروائيّة بل الوارد فيها تعبيران آخران:

أحدهما: ما ينتهي سنده إلى النوفلي والسكوني عن أبي عبداللَّه عليه السلام: «إنّ أمير المؤمنين عليه السلام سئل عن سفرة وجدت في الطريق مطروحة كثير لحمها وخبزها وجبنها

وبيضها وفيها سكّين انوار الأصول، ج 3، ص: 41

فقال أمير المؤمنين عليه السلام: يقوّم ما فيها ثمّ يؤكل، لأنّه يفسد، وليس له بقاء، فإذا جاء طالبها غرموا له الثمن، قيل له: ياأمير المؤمنين لا يدري سفرة مسلم أو سفرة مجوسيّ؟ فقال: هم في سعة حتّى يعلموا» «1».

ولكن من الواضح أنّه لا دلالة لها على المطلوب لأنّها قضية خارجية، والحكم فيها أيضاً خاصّ بمورده وأمثاله، مضافاً إلى ما فيها من الإشكال السندي من جهة النوفلي والسكوني.

وإن شئت قلت: الوارد في هذا الحديث قضيّة شخصيّة خارجيّة وردت في سفرة مطروحة في الطريق، والمشكوك فيها للسائل إنّما هو طهارة السفرة أو حلّية لحمها فلا يمكن التعدّي عنها إلى سائر الشبهات الموضوعيّة فضلًا عن الشبهات الحكميّة، والتعبير الوارد فيها هو: «هم في سعة حتّى يعلموا» لا «الناس في سعة حتّى يعلموا» لكي يكون على نهج كبرى كلّية فيقال: إنّ المورد ليس مخصّصاً.

ثانيهما: (وهو العمدة) ما ورد في أعيان الشيعة «2» نقلًا عن تحف العقول وعن الشهاب للمحدّث البحراني، وفي المستدرك «3» وعوالي اللئالي «4» عن النبي صلى الله عليه و آله: «الناس في سعة ما لم يعلموا».

وهو من ناحية السند مرسل، وأمّا الدلالة فيحتمل في كلمة «ما» وجهان:

الأوّل: أن تكون موصولة قد اضيفت إليها كلمة «سعة» أي «الناس في سعة شي ء لم يعلموا» فتكون بظاهرها عامّة تعمّ الشبهات الموضوعيّة والحكميّة معاً.

الثاني: أن تكون مصدرية ظرفية متعلّقة بالسعة، أي «الناس في سعة ما داموا لم يعلموا».

وعلى كلا الوجهين يتمّ المطلوب لظهورها في كون الجهل (بعد الفحص) عذراً.

وإستشكل السيّد الحكيم رحمه الله في الوجه الثاني بأنّ ما المصدرية تختصّ بالفعل الماضي، ولكنّه يرد بناءً على ما هو المعروف من التعبير ب «لا

يعلمون» ولا يرد على ما ظفرنا به من انوار الأصول، ج 3، ص: 42

التعبير ب «لم يعلموا» لأنّه في معنى الماضي.

وبالجملة الرواية تامّة من ناحية الدلالة، ولكنّها لا تصلح للاستدلال من ناحية السند.

بقي هنا شي ء:

وهو أنّ الإنصاف أنّ النسبة بين هذه الرواية وأدلّة الأخباريين نسبة التعارض والتضادّ لا الورود لأنّها تدلّ على كون الجهل عذراً وتلك الأدلّة تدلّ (بزعم الأخباري) على عدمه.

وبعبارة اخرى: أنّ هذا الحديث يثبت السعة ما لم يعلم الواقع المجهول من الوجوب أو الحرمة، ودليل الاحتياط يثبت الضيق مع كون الواقع مجهولًا فيتعارضان.

نعم لو كان وجوب الاحتياط نفسيّاً لم يكن بينهما تعارض، بل ينتفي حينئذٍ بوجوب الاحتياط موضوع هذا الحديث لأنّ موضوعه شي ء قد علم به المكلّف بوجوب الاحتياط، فليس في سعة منه، لكن الصحيح أنّ وجوب الاحتياط طريقي لأجل حفظ الأحكام الواقعية.

اللهمّ إلّاأن يقال: إنّ التعبير ب «لم يعلموا» ظاهر من عدم تمامية الحجّة، أي الناس في سعة ما لم تتمّ الحجّة، ودليل الاحتياط حجّة فيكون وارداً عليه.

لكنّه خلاف الظاهر، لأنّ «ما لم يعلموا» ظاهر في عدم العلم بالحكم الواقعي، والحكم الظاهري إنّما يوجب رفع التحيّر في مقام العمل فحسب لا العلم بالواقع.

5- حديث الاطلاق:

وهو ما رواه محمّد بن علي بن الحسين قال: قال الصادق عليه السلام: «كلّ شي ء مطلق حتّى يرد فيه نهي» «1».

والحديث مرسل، لكنّه من المرسلات التي يسندها الصدوق رحمه الله إلى المعصوم عليه السلام بتعبيره «قال» لا «روى»، وظاهره كون الصدور أمراً مقطوعاً عنده.

ولكن هذا ليس كافياً في إثبات الحجّية عندنا، لأنّه استنباط لشخص الصدوق رحمه الله فلعلّه لو ذكر رجال السند لناقشنا في وثاقة بعضهم.

انوار الأصول، ج 3، ص: 43

اللهمّ إلّاأن يقال: بحصول الوثوق من توثيقه، ولكنّه مشكل، وحينئذٍ

لا يخلو السند عن شي ء.

وأمّا الدلالة فقال الشيخ الأعظم الأنصاري رحمه الله أنّه أظهر من الكلّ في الدلالة على البراءة.

وإستشكل فيها المحقّق الخراساني رحمه الله بأنّ دلالته تتوقّف على عدم صدق الورود إلّابعد العلم والوصول مع أنّه يصدق على الصدور المقابل للسكوت أيضاً، فمعنى الحديث حينئذٍ: أنّ ما لم يصدر فيه نهي واقعاً (بمعنى سكوت اللَّه تعالى عنه) فهو حلال، ولا كلفة على العباد من جهته، في مقابل ما إذا صدر النهي عنه واقعاً فليس حلالًا وإن لم يعلم به المكلّف، فوزان هذا الحديث حينئذٍ وزان حديث السكوت.

إن قلت: نعم يصدق الورود على صدور النهي عن الشارع وإن اختفى علينا لبعض الأسباب والدواعي، ولكن الأصل عدم صدوره، فإنّه مسبوق بالعدم فيستصحب عدمه فيتمّ الاستدلال بضميمة هذا الأصل.

قلنا: إنّ الاستدلال حينئذٍ وإن كان يتمّ بضميمة الأصل المزبور، ويحكم بإباحة ما شكّ في حرمته، لكن لا بعنوان أنّه مشكوك الحرمة ومحتمل النهي بل بعنوان إنّه ما لم يرد فيه نهي.

إن قلت: إنّ عنوان «ما لم يرد فيه نهي» الثابت بالاستصحاب وإن كان مغايراً لعنوان مجهول الحرمة لكن لا تفاوت بينها في الغرض وهو إثبات إباحة مجهول الحرمة كشرب التتن، فهذا الفعل مباح ظاهراً سواء كان بعنوان عدم ورود النهي عنه واقعاً ولو تعبّداً (كما هو مقتضى استصحاب عدم ورود النهي عنه) أو بعنوان كونه مجهول الحكم.

قلنا: إنّ الثمرة بين الصورتين تظهر في توارد الحالتين لأنّه لو كان الحكم بإباحة مجهول الحرمة بعنوان إنّه ممّا لم يرد فيه نهي لأختصّ ذلك بما إذا لم يعلم ورود النهي فيه في زمان، وبورود الإباحة فيه في زمان آخر، واشتبه السابق باللاحق فلا يكاد يتمّ الاستدلال حينئذٍ، إذ لا مجال للإستصحاب

حينئذٍ، وهذا بخلاف ما إذا كان الحكم بإباحته بعنوان إنّه مجهول الحرمة، فيجري الأصل حينئذٍ حتّى في مثل الفرض لأنّه مجهول الحرمة ولو مع العلم الإجمالي المذكور، فيحكم بحلّيته ظاهراً إلى أن يعلم الخلاف، (انتهى ما ذكره المحقّق الخراساني رحمه الله بتوضيح منّا).

أقول: يرد على هذا الجواب أوّلًا: أنّه ممّا يهمّ الفقيه في الفقه إذ لا يوجد له مورد في الفقه انوار الأصول، ج 3، ص: 44

ورد فيه أمر ونهي، وإشتبه تاريخهما.

ثانياً: ولو سلم فإنّه من قبيل النسخ الذي يتوفّر الدواعي على نقله فلا يصير من قبيل مجهولي التاريخ.

فالحاصل أنّ الحديث صالح للإستدلال به ولو بضميمة الاستصحاب، فإنّ المقصود إثبات جواز إرتكاب مشكوك الحرمة بأي دليل كان فإنّه الذي يفيد الفقيه في أبواب الفقه.

والعجب من صاحب الوسائل حيث إستشكل بعد نقل الحديث في دلالته على المراد بثمانية امور لا يرد أحد منها:

منها: الحمل على التقيّة، فإنّ العامّة يقولون بحجّية الأصل فيضعف عن مقاومة أدلّة الأخباريين.

وجوابه واضح، فإنّه لا تصل النوبة إلى أعمال هذا المرجّح لأن الترجيح بموافقة الكتاب أولى وأقدم.

ومنها: حمله على الشبهات الوجوبيّة التي يكون الأصل فيها الإباحة حتّى عند الأخباري.

وفيه: أنّ صريح الرواية الشبهة التحريميّة فكيف تحمل على الوجوبيّة؟

ومنها: حمله على الشبهات الموضوعيّة التي يكون الأصل فيها الإباحة أيضاً حتّى عند الأخباري.

وجوابه أيضاً ظاهر، لأنّ صريح الرواية هو الشبهة الحكميّة.

إلى غير ذلك ممّا ذكره في المقام فراجع «1».

هذا كلّه في الاستدلال بالنسبة للبراءة في الشبهات التحريميّة الحكميّة.

الثالث: دليل العقل

قاعدة قبح العقاب بلا بيان:

المعروف بين الاصوليين أنّ قاعدة قبح العقاب بلا بيان والمؤاخذة بلا برهان من انوار الأصول، ج 3، ص: 45

المستقلّات العقليّة بعد الفحص واليأس عن الدليل (وسيأتي مقدار الفحص الواجب)، بل قال شيخنا العلّامة الحائري

رحمه الله في درره: إنّ هذه قاعدة مسلّمة عند العدليّة لا شبهة لأحد فيها (إلّا أن يكون هناك رافع يعني البيان) «1».

لكن يمكن التشكيك في هذه القاعدة بوصف أنّها قاعدة عقليّة محضة بعد ذكر مقدّمة في ملاك وجوب إطاعة اللَّه وقبح معصيته، فنقول: الملاك في وجوب الإطاعة إمّا أن يكون وجوب شكر المنعم فتجب طاعته تبارك وتعالى بالإطلاق من باب أنّها من مصاديق شكر المنعم الحقيقي المطلق كما تجب طاعة الوالدين في الجملة على الولد من باب أنّهما منعمان له في الجملة، أو يكون الملاك الحكمة فإنّ حكمة الباري تعالى تقتضي وجود مصلحة في أوامره ومفسدة في نواهيه، فيحكم العقل بوجوب الإطاعة عن أوامره ونواهيه للحصول على مصالحها ومفاسدها، أو يكون الملاك المالكية والمولويّة فالعقل يحكم بأنّ ترك الطاعة بالنسبة إلى الموالي العرفيّة فضلًا عن المولى الحقيقي ظلم قبيح.

ثمّ نقول: أمّا الملاك الأوّل: فيمكن النقاش فيه بأنّ مردّه إلى قولنا: هل جزاء الإحسان إلّا الإحسان، أي وجوب الإحسان في مقابل الإحسان، وهو لا يتصوّر بالنسبة إلى الباري تعالى لأنّه يتوقّف على وجوب الفقر والحاجة، تعالى اللَّه عنها علوّاً كبيراً.

ولذلك أرجع علماء علم الكلام هذه القاعدة إلى قاعدة وجوب دفع الضرر ببيان أنّ عدم شكر المنعم قد يكون لسلب النعمة وحصول الضرر على المنعَم (بالفتح) وحينئذٍ لا تكون هذه القاعدة من المستقلّات العقليّة ومن مصاديق قاعدة حسن العدل وقبح الظلم.

وأمّا الملاك الثاني: (وهو الحكمة)، فيناقش فيه أيضاً بأنّ لازمه إرشادية جميع الأوامر والنواهي الشرعيّة كأوامر الطبيب ونواهيه، فيتوجّه إلى المكلّف العاصي نفس المفسدة الموجودة في متعلّق النهي فحسب أو سلب المصلحة اللازمة في الأوامر منه مع إنّا نقول بالمولويّة واستحقاق ثواب وعقاب اخرويّين يترتّبان على الفعل

والترك.

وأمّا الملاك الثالث: فهو الأصل والصحيح في وجوب الإطاعة وقبح المعصية لأنّ رجوعه إلى قبح الظلم بمعناه الواسع وهو وضع الشي ء في غير موضعه.

انوار الأصول، ج 3، ص: 46

فظهر أنّ ملاك وجوب طاعة اللَّه وقبح معصيته إنّما هو مولويته ومالكيته فللّه تعالى حقّ الطاعة على العبد لأنّه مولى حقيقي ومالك لجميع شؤونه.

إذا عرفت هذا يقع البحث في حدود هذا الحقّ ودائرته.

فنقول: العقل حاكم على أنّ قيمة أغراض المولى ليست أقلّ من قيمة أغراض العبد فكما أنّه يهتمّ بأغراضه حتّى في المحتملات والمشكوكات فيسلك فيها سبيل الاحتياط كذلك يجب عليه الاحتياط في طريق النيل إلى أغراض المولى المحتملة والمشكوكة، ففي صورة الشك وعدم البيان الذي هو محلّ النزاع في المقام يحكم العقل بوجوب الاحتياط وقبح المعصية وحسن العقاب عكس ما ذهب إليه المشهور من قبح العقاب بلا بيان.

نعم إلى هنا ظهر عدم كون القاعدة قاعدة عقليّة، ولكن الحقّ إنّها قاعدة عقلائيّة جرت عليها سيرتهم وأمضاها الشارع بعدم ردعه منها كما نرى بين العبيد والموالي والملوك وأتباعهم والرؤساء ومن يكون تحت رياستهم، فإنّ بناءهم على عدم عقاب العبد ما لم يبيّن المولى مقاصده وأغراضه، وعلى عدم عقاب المرؤسين والرعايا ما لم يبلغ إليهم أغراضهم، وعليه تكون القاعدة قاعدة عقلائيّة لا عقليّة.

وإن شئت قلت: لولا بناء العقلاء على عدم العقاب بلا بيان وإمضاء الشارع لهذا البناء لم يقبح في حكم العقل العقاب بدونه، فوقع الخلط هنا بين الأحكام العقليّة المبنية على مسألة الحسن والقبح والأحكام العقلائيّة الناشئة عن تشريعاتهم وقوانينهم، والفرق بينهما ظاهر كما أنّ آثارهما مختلفة وستأتي الإشارة إليها عن قريب إن شاء اللَّه.

لكن للمحقّق النائيني رحمه الله هنا بيان حاصله: إنّ الأحكام بوجودها الاحتمالي ليست لها محرّكية

وباعثيّة، فيكون المكلّف حينئذٍ كالعاجز والمضطرّ، وتكليفه تكليفاً بما لا يطاق، وإليك نصّ كلامه: «لا يكفي في صحّة المؤاخذة واستحقاق العقوبة مجرّد البيان الواقعي مع عدم وصوله إلى المكلّف فإنّ وجود البيان الواقعي كعدمه غير قابل لأن يكون باعثاً ومحرّكاً لإرادة العبد ما لم يصل إليه ويكون له وجود علمي ...» «1».

أقول: الإنصاف أنّ هذه مصادرة على المطلوب، لأنّا نعلم أنّ للأحكام بوجودها

انوار الأصول، ج 3، ص: 47

الاحتماليّة باعثيّة ومحرّكية كما في سائر الأغراض والمصالح والمفاسد والمضارّ والمنافع وإلّا يلزم تعطيل الزراعات والتجارات والصناعات وغيرها حيث إنّ الحصول على المنفعة فيها أمر احتمالي في الغالب فكما يتحرّك العبد في منافعه الشخصيّة بالاحتمال والظنّ كذلك يمكن أن يتحرّك وينبعث في المنافع الاحتماليّة لمولاه.

وللمحقّق الأصفهاني رحمه الله هنا بيانان: أحدهما: مبنيّ على ما تبنّاه في حقيقة الحكم فقال:

«إنّ الحكم الحقيقي متقوّم بنحو من أنحاء الوصول لعدم معقوليّة الإنشاء الواقعي في إنقداح الداعي، وحينئذٍ فلا تكليف حقيقي مع عدم الوصول فلا مخالف للتكليف الحقيقي فلا عقاب» «1».

الثاني: ما حاصله إنّ الواجب على العبد إنّما هو عدم الخروج عن رسم العبودية، ومخالفة ما قامت عليه الحجّة خروج عن رسم العبوديّة «2».

أقول: أمّا البيان الأوّل فمبناه غير مقبول، لأنّ للحكم مراحل، وكلامه بالنسبة إلى بعض مراحله ليس تامّاً فإنّه إذا تيقّن العبد بغرض المولى فهو مسؤول في قباله بحكم العقل وإن لم يبيّن المولى غرضه ولم يصدق عليه عنوان الحكم، وبتعبير آخر: سلّمنا أنّ الحكم متقوّم بالبيان ولكن الأغراض ليست متقوّمة به (على الأقل الأغراض اليقينية) وما ذهب إليه صحيح إذا دار وجوب الإطاعة مدار الأحكام فقط لا الأحكام والأغراض كليهما مع أنّ الصحيح هو الثاني لا الأوّل.

وأمّا البيان الثاني فإنّه

أيضاً مصادرة على المطلوب لأنّا نعتقد بأنّ لاخروج عن رسم العبوديّة كما يصدق بمخالفة ما قامت عليه الحجّة كذلك يصدق في المحتملات والمشكوكات.

فتلخّص من جميع ما ذكرنا أنّ العقل لا يحكم بقاعدة قبح العقاب بلا بيان بل يحكم بخلافه، نعم إنّها قاعدة عقلائيّة استقرّ عليها بناء العقلاء، والفرق بين الصورتين إنّه إذا كانت القاعدة قاعدة عقليّة فلا معنى لتحديدها والاستثناء منها بالنسبة إلى مورد دون مورد لأنّ القاعدة العقليّة لا استثناء فيها ولا تخصيص ما دام الموضوع باقياً بخلاف القاعدة العقلائيّة فإنّه لابدّ من تعيين حدودها وقيودها، وهى في المقام أربعة على الأقل:

انوار الأصول، ج 3، ص: 48

أحدها: أن يكون المولى قادراً على البيان وإلّا لو كان المولى محبوساً مثلًا غير قادر على بيان غرضه والعبد يعلم به أو يحتمله فلا يكون عند العقلاء مرخّصاً بالإعتذار بعدم البيان.

ثانيها: أن لا يكون المورد من المسائل الهامّة الأساسية كما إذا دخل في دار المولى من يحتمل أن يكون هلاك المولى بيده، فعلى العبد منعه بكلّ ما يقدر عليه وإن لم يصدر من المولى بيان فيه.

ثالثها: أن يكون المورد من الموارد التي ممنوعها أقلّ من مجازها، وواجبها أقلّ من مباحها، وإلّا لو كان مشكوك الحرمة من الحيوانات البحرية مثلًا التي أكثرها حرام، فلعلّ بناء العقلاء لم يستقرّ على البراءة في أمثالها، فإنّ الظاهر أنّ بناء العقلاء نشأ من كون الواجبات والمحرّمات في مقابل المباحات قليلًا جدّاً فالمحتاج إلى البيان إنّما هو الواجبات والمحرّمات، ولو إنعكس الأمر في مورد وكانت محرّماته أكثر من مباحاته لم يكن لهم بناءً على البيان فيه، ولا أقلّ من الشكّ وعدم ثبوت بناءٍ في أمثال المقام، ومعه لا يصحّ الاستدلال به.

رابعها: أن يكون من المسائل

المبتلى بها، فلو كان الإبتلاء نادراً في مورد لكان الحكم باستقرار بنائهم عليه مشكل فيه جدّاً.

ثمّ إنّ هيهنا إشكالًا معروفاً، وهو أنّ قاعدة قبح العقاب بلا بيان مورودة لقاعدة وجوب دفع الضرر، فيكفي في البيان حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل، فإنّ الشكّ في التكليف يلازم الشكّ في الضرر، والعقل يستقلّ بلزوم دفع الضرر المحتمل فهو بيان عقلي فيرتفع موضوع حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان.

واجيب عنه بوجوه:

منها: أنّ المراد بالضرر (الذي هو موضوع القاعدة) أمّا الضرر الدنيوي وأمّا الضرر الاخروي، والمقصود بالضرر الاخروي أمّا العقاب الموعود من جانب الشارع جزاءً للأعمال، وأمّا الآثار الوضعيّة القهريّة للعمل التي يعبّر عنه بتجسّم الأعمال، فإن كان المراد العقاب الاخروي بالمعنى الأوّل فلا موضوع لهذه القاعدة في المقام لأنّ احتمال التكليف لا يلازم احتمال العقاب بل الملازمة إنّما هى ثابتة بين التكليف الواصل واستحقاق العقوبة على مخالفته لالانّه مع عدم وصول التكليف والبيان يستقلّ العقل بقبح العقاب، وبه لا يثبت موضوع قاعدة دفع انوار الأصول، ج 3، ص: 49

الضرر المحتمل، فتكون قاعدة قبح العقاب بلا بيان واردة على قاعدة دفع الضرر عكس ما توهّمه المستشكل.

هذا- وهنا جواب آخر في كلمات المحقّق النائيني رحمه الله وهو «أنّ حكم العقل بلزوم دفع المقطوع والمظنون والمحتمل من الضرر يكون للإرشاد لا يستتبع حكماً مولوياً شرعياً على طبقه لأنّ حكم العقل في باب العقاب الاخروي واقع في سلسلة معلولات الأحكام، وكلّ حكم عقلي وقع في هذه السلسلة لا يستتبع الحكم المولوي الشرعي وليس مورد القاعدة الملازمة وإلّا يلزم التسلسل، فحكم العقل بلزوم دفع الضرر المظنون بل المحتمل يكون إرشادياً وطريقياً لا يترتّب على مخالفته سوى ما يترتّب على المرشد إليه» «1».

وإن كان المراد

من الضرر العقاب الاخروي بالمعنى الثاني فاجيب عنه بأنّ هذه الآثار ليست مترتّبة على نفس الأعمال بل إنّها تترتّب على الإطاعة والعصيان لا غير، والأفعال الطبيعيّة التي لم توجب إطاعة أو معصية وبعداً أو قرباً لا أثر لها من هذه الجهة.

وإن اريد بالضرر الضرر الدنيوي فاجيب عنه أيضاً بأنّ الكبرى والصغرى كلتيهما ممنوعتان:

أمّا الكبرى: فلأنّه ليس كلّ ضرر ممّا يحكم العقل بلزوم دفعه بل هناك أضرار طفيفة يتحمّلها العقلاء لأجل أغراض دنيوية غير ضرورية وإن كان الضرر من المقطوع فضلًا عن المحتمل.

وأمّا الصغرى: فلأنّه ليس مناطات الأحكام دائماً هى الضرر بل المصالح والمفاسد (التي تكون مناطات الأحكام غالباً) لا تكون من سنخ الضرر، والذي يلازم احتمال الحرمة إنّما هو احتمال المفسدة لا احتمال الضرر، ولا ملازمة بين الضرر والمفسدة، بل ربّ مفسدة توجب المنفعة فضلًا عن الضرر كما في أكل الربا، وربّ مصلحة توجب الضرر فضلًا عن المنفعة كما في الإنفاق في سبيل اللَّه تعالى.

لكن الإنصاف أنّ الكبرى والصغرى كلتيهما تامّتان في الجملة لا بالجملة:

أمّا الكبرى: فلأنّ الأضرار الدنيويّة على قسمين: مهمّة وغير مهمّة، والعقل يحكم فيما إذا

انوار الأصول، ج 3، ص: 50

كان الضرر المحتمل مهمّاً بلزوم الدفع كضرر النفس أو العرض أو المال الكثير فلا محالة يستكشف منه حكم شرعي مولوي بلزوم الإجتناب عنه بقاعدة الملازمة، ويصير هذا بنفسه بياناً يرفع موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان وتكون قاعدة دفع الضرر المحتمل في مثل هذا المورد واردة على هذه القاعدة، ولكن لا تجري هذه القاعدة بالنسبة إلى الأضرار غير المهمّة، فلا يثبت بها مراد المستشكل، هذا بناءً على مبنى القول من كونها قاعدة عقليّة، وأمّا بناءً على ما اخترناه من كونها قاعدة عقلائيّة فالأمر أوضح

لأنّ بناء العقلاء جارٍ على عدم الاعتناء باحتمال الضرر إلّاأن يكون ضرراً هامّاً كما مرّ نظيره في حكم العقل بناءً على مبنى القوم.

وأمّا الصغرى: فلوجود الملازمة بين المفسدة والضرر وبين المصلحة والمنفعة في جميع الموارد، والعجب من مثل شيخنا الأعظم الأنصاري رحمه الله حيث قال بعدمها في البحث عن قاعدة لا ضرر، لأنّ مثل الإنفاق في سبيل اللَّه يوجب رفع العداوة والبغضاء ودفع الفوضى في المجتمع الإنساني، وعدم الإنفاق وبالنتيجة وجود الفقر يوجب إختلال النظام وهلاك جميع الأفراد حتّى الممتنع من الإنفاق وضياع جميع الأموال حتّى أموال الممتنع.

ولذلك قد ورد في الحديث: «حصّنوا أموالكم بالزكاة» وفي حديث آخر «إذا بخل الغني بمعروفه باع الفقير آخرته بدنياه» (ومن المعلوم أنّه إذا باع آخرته بدنياه لا يمتنع عن أي جرم من السرقة وقتل النفوس وإضاعة الأموال وغيرها).

بقي هنا شي ء:

وهو أنّ بعض الأعاظم أجاب عن الإشكال بالنقض «باتّفاق العلماء من الاصوليين والأخباريين بل العقلاء أجمع على عدم لزوم الإجتناب عمّا يحتمل وجود المفسدة فيه في الشبهة الموضوعيّة وأنّه لو كان العقل مستقلًا بوجوب دفع المفسدة المحتملة كان الاحتياط واجباً فيها أيضاً إذ لا فرق بين الشبهة الحكميّة والموضوعيّة من هذه الجهة» «1».

وقال في تهذيب الاصول: «أضف إلى ذلك: أنّ الشبهة الموضوعيّة والوجوبيّة مشتركتان مع الشبهة التحريميّة في هذه التوالي المدّعاة، فلو كانت للأفعال لوازم قهرية مؤذية لصاحبها

انوار الأصول، ج 3، ص: 51

لكان على الشارع الرؤوف الرحيم إيجاب الاحتياط حتّى يصون صاحبها عن هذه اللوازم القهرية، فالترخيص فيها إجماعاً بل ضرورة دليل على بطلان تلك المزعمة وإنّه ليس هيهنا ضرر اخروي أو دنيوي واجب الدفع كما لا يخفى» «1».

ولكن يمكن الجواب عنه بأنّ ترخيص الشارع في الشبهة الموضوعيّة والوجوبيّة إنّما

يكون من باب تعارض المفسدة المحتملة فيها مع مصلحة أهمّ مثل رفع العسر والحرج وإيجاد التسهيل للعباد لا من باب التخصيص في قاعدة عقليّة حتّى يقال بأنّ القواعد العقليّة لا يمكن تخصيصها حيث إنّ العقل- أساساً- يحكم بوجوب دفع الضرر المحتمل ما لم يعارض ضرراً أقوى.

هذا كلّه في دليل العقل.

الرابع: الإجماع

ويمكن تقريره بوجوه ثلاثة:

الأوّل: الإجماع القولي من العلماء كلّهم على البراءة في ما لم يرد فيه دليل عام أو خاصّ على تحريمه.

وهذا المعنى تامّ ولكن لا ينفع في مقابل دعوى الأخباريين في الحكم بالاحتياط بدليل عام لو تمّ دليلهم.

الثاني: الإجماع القولي على البراءة ما لم يرد دليل خاصّ على التحريم.

وهذا الوجه غير تامّ لأنّ المحدّثين يدّعون وجود دليل عامّ على التحريم.

الثالث: الإجماع العملي على البراءة حيث إنّ العلماء في مقام العمل يطالبون بدليل من مدّعي الحرمة، وهذا دليل على أنّ المركوز في أذهانهم أنّ الأصل هو البراءة ما لم يرد ما يدلّ على الحرمة.

وفيه أيضاً: أنّ هذا صحيح إذا كان المراد عدم ورود الدليل الخاصّ والعام معاً وإلّا لو

انوار الأصول، ج 3، ص: 52

كان المقصود عدم ورود الدليل الخاصّ فقط فيرد عليه ما اورد على الوجه الثاني.

لكن المهمّ في الإشكال أنّ الإجمال في مثل المقام ليس بحجّة لقوّة استناد المجمعين إلى بعض الوجوه العقليّة أو النقليّة المستدلّ بها على البراءة فلا كاشفية له عن قول المعصوم عليه السلام.

وهيهنا دليل خامس ذكره الشيخ الأعظم رحمه الله في الرسائل وهو التمسّك باستصحاب حال الصغر (أو استصحاب ما قبل الشرع) وقد أورد عليه الشيخ رحمه الله وغيره بإيرادات عديدة:

منها: أنّ المستصحب أحد امور ثلاثة: إمّا براءة الذمّة، أو عدم المنع من الفعل، أو عدم استحقاق العقاب عليه، والمطلوب في

الآن اللاحق هو القطع بعدم ترتّب العقاب على الفعل أو القطع بالجواز المستلزم للقطع بعدم العقاب، ومن المعلوم أنّ هذا المطلوب لا يترتّب على المستصحبات المذكورة، أمّا عدم ترتّب العقاب على الفعل فلأنّه ليس من اللوازم المجعولة الشرعيّة لتلك المستصحبات حتّى يحكم به الشرع في الظاهر (بأخبار لا تنقض) بل هو من اللوازم العقليّة يحكم به العقل، وأمّا الجواز المستلزم لعدم العقاب فهو وإن كان أمراً قابلًا للجعل (لأنّه أحد الأحكام الخمسة) ويستلزم انتفاء العقاب واقعاً إلّاأنّه ليس لازماً شرعياً للمستصحبات المذكرة بل هو من المقارنات لها إذ إنّ عدم المنع مثلًا لا ينفكّ عن كون الفعل جائزاً بعد العلم بعدم خلوّ فعل المكلّف عن أحد الأحكام الخمسة نظير إثبات وجود أحد الضدّين بنفي الآخر، فيكون الأصل حينئذٍ مثبتاً.

ولكن يجاب عن هذا بأنّ عدم المنع كافٍ للفقيه في الفقه ولا حاجة إلى عنوان الإباحة كما هو ظاهر.

ومنها: عدم بقاء الموضوع للاستصحاب، لأنّ موضوع البراءة في السابق إنّما هو الصغير غير القابل للتكليف، وقد تبدّل بالكبير (وكذلك الكلام بالنسبة إلى ما قبل الشرع وبعده).

أقول: هذا إشكال متين، فإنّ العرف يرى الصغر (وكذلك ما قبل الشرع) من قيود الموضوع، فليس من الحالات المتبادلة بحيث إذا زال لم يزل الحكم.

ومنها: ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله من «إنّ العدم حال الصغر يكون من جهة عدم قابلية الصغير للتكليف فكونه مرخى العنان- من فعل أو ترك- ليس من قبل ترخيص الشارع ورفع الإلزام منه بل اللاحرجيّة (العقليّة) للصغير من جهة أنّه كالبهائم والمجانين، ما وضع عليه قلم التكليف قبل البلوغ لعدم قابلية المحل لا أنّه رفع عنهم الإلزام امتناناً عليهم، وهذا العدم انوار الأصول، ج 3، ص: 53

الذي من جهة

عدم قابلية المحل واللاحرجيّة القهريّة يرتفع قهراً بواسطة البلوغ، إذ معنى هذا العدم عدم وضع قلم التكليف عليه وبعد التكليف والبلوغ تبدّل هذا العدم قطعاً ووضع عليه قلم التكليف فلا مورد للاستصحاب» «1».

أقول: إنّ ما ذكره بالنسبة إلى عدم التكليف في غير المميّز صحيح لا غبار عليه إلّاأنّ المستصحب ليس هو هذا العدم بل إنّه العدم المتّصل بزمان البلوغ المتقدّم عليه بزمان يسير.

وإن شئت قلت: إنّه عبارة عن العدم حال كون الصغير مميّزاً ومراهقاً، حيث إنّه لا شكّ في أنّ حال الصبي في هذا الزمان لا يختلف عن حاله أوّل البلوغ من حيث القابلية وعدمها، ولذلك نقول بشرعية عبادات الصبي كما اختاره المحقّقون وإنّه مشمول للخطابات الاستحبابيّة، فإنّه المراد من رفع القلم عند رفع الإلزام عنه، أي رفع الواجبات والمحرّمات، كما أنّه مقتضى التعبير بالرفع المقابل للوضع حيث يناسب وجود أمر ثقيل يثقل على عاتق المكلّف كما مرّ بيانه في حديث الرفع.

ومنها: أنّ استصحاب عدم الحرمة معارض مع استصحاب عدم الإباحة، لأنّ المرفوع قبل البلوغ جميع الأحكام الخمسة حتّى الإباحة.

وقد ظهر جوابه ممّا مرّ آنفاً من أنّ المرفوع في حديث رفع القلم إنّما هو خصوص الإلزامات، مضافاً إلى أنّ التعارض يتصوّر فيما إذا كانت الإباحة من الامور الوجودية القابلة للجعل لا ما إذا كانت من الامور العدمية وعبارة عن مجرّد عدم الحرمة والوجوب كما قيل.

ومنها: ما سيأتي من المختار في مبحث الاستصحاب من عدم حجّية الاستصحاب في الشبهات الحكميّة خلافاً لما ذهب إليه مشهور الاصوليين بعد الشيخ رحمه الله.

هذا كلّه هو أدلّة الاصوليين للبراءة في الشبهات الحكميّة التحريميّة، وحاصل أكثرها عدم العقاب بلا بيان، ولذا لا موضوع لها في صورة تمامية أدلّة الأخباريين، والتعبير بالأكثر

يكون في مقابل بعض تلك الأدلّة من قبيل رواية «كلّ شي ء مطلق حتّى يرد فيه نهي» بناءً على أنّ المراد من مرجع الضمير في كلمة «فيه» النهي الخاصّ. إذ إنّه لا حكومة لأدلّة أخباريين على هذا الدليل وأمثاله كما هو واضح.

انوار الأصول، ج 3، ص: 54

فالمهمّ حينئذٍ التعرّض لأدلّة الأخباريين والبحث حولها.

أدلّة الأخباريين على وجوب الاحتياط:
اشارة

وقد استدلّ لهم بالأدلّة الثلاثة: الآيات والروايات والعقل.

الأوّل: الآيات

أمّا الآيات: فهى على طوائف:

الطائفة الاولى: ما أمر فيها بالتقوى وهى كثيرة (تسعة وستّون آية منها وردت بصيغة «اتّقوا»، وخمس آيات بصيغة «اتّقون» وأربع آيات بصيغة «اتّقوه»).

والأصرح منها قوله تعالى: «فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ» وتقريب الاستدلال بهذه الطائفة أنّ الاحتياط في الشبهات مصداق من مصاديق التقوى والتقوى، واجب بظاهر هذه الآيات لأنّ الأمر ظاهر في الوجوب.

وقبل الجواب عن هذه الطائفة ينبغي بيان معنى التقوى في اللغة فنقول: إنّها اسم مصدر من مادّة الوقاية على وزن فَعْلى، أصلها وَقْى فأُبدلت الواو بالتاء والتاء بالواو «1»، وهى كما في قاموس اللغة بمعنى الاجتناب والحذر عن كلّ ما يحذر منه، وهذا لا بأس به إذا كان مفعولها غير الباري تعالى، كقوله تعالى: «فاتّقوا يوماً» أو «فاتّقوا النار التي ...» أو «اتّقوا فتنة لا تصيبنّ ...» وأمّا إذا كان المفعول وجود الباري كقوله تعالى: «فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ»، فلابدّ من تقدير فيها كما ذكره المفسّرون لعدم كونه تعالى ممّن يحذر منه كما لا يخفى، وهذا بنفسه قرينة على تقدير شي ء نحو عصيان اللَّه (فاتّقوا عصيان اللَّه) أو عذاب اللَّه أو حساب اللَّه، كما ورد في قوله تعالى: «وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ ...».

هذا كلّه في معنى الكلمة.

ثمّ نقول: يرد على الاستدلال بالطائفة المزبورة على الاحتياط أنّه يمكن النقاش في انوار الأصول، ج 3، ص: 55

صغرى كون الاحتياط في الشبهات من مصاديق التقوى الواجبة، فإنّها عبارة عن الإتيان بالواجبات والاجتناب عن المحرّمات، وأمّا ترك الشبهات فهو مرتبة عالية من التقوى ولا دليل على وجوبها بجميع مراتبها كما أنّ الاجتناب عن المكروهات أيضاً من مراتبه وهو غير واجب.

الطائفة الثانية: ما دلّ على النهي عن

القول بغير علم:

منها قوله تعالى: «إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَاتَعْلَمُونَ» «1».

ومنها قوله تعالى: «قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا ... وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ» «2».

وتقريب الاستدلال بها أنّ الحكم بترخيص الشارع لمحتمل الحرمة إفتراء وقول عليه بغير علم حيث إنّه لم يأذن فيه.

والجواب عنها: أنّ الترخيص في محتمل الحرمة حكم ظاهري ثابت بأدلّة قطعيّة، فليس هو قو بغير علم بل إنّه صادق في الحكم بوجوب الاحتياط لعدم دليل عليه.

الطائفة الثالثة: ما دلّ على النهي عن الإلقاء في التهلكة، وهى قوله تعالى: «وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ» «3»

بتقريب أنّ الإقدام في الشبهات مصداق من مصاديق الإلقاء في التهلكة.

ويرد عليه: أنّ الاستدلال بها غير تامّ صغرى وكبرى، أمّا الصغرى، فلأنّ كون إرتكاب المشتبهات من مصاديق الإلقاء في التهلكة أوّل الدعوى ومصادرة بالمطلوب لعدم دليل عليه، وأمّا الكبرى، فلأنّ النهي الوارد في هذه الآية يكون من قبيل النواهي الواردة في باب الإطاعة لأنّ التهلكة عبارة عن العقاب الاخروي الناشي ء من العصيان، وقد مرّ في مبحث الأوامر والنواهي أنّ الواردة منها في باب الإطاعة إرشاديّة وإلّا يلزم التسلسل المحال، فلا دلالة لهذه الآية على الحرمة، هذا إذا كان المراد من التهلكة ما ذكرنا من العقاب الاخروي، وأمّا إذا كان بمعنى الهلاكة الدنيويّة فلا ربط لها بالمقام كما لا يخفى.

انوار الأصول، ج 3، ص: 56

ثمّ لا يخفى عليك الربط بين صدر الآية «وأنفقوا في سبيل اللَّه» وذيلها «ولا تلقوا ...» فالمقصود منها ما أشرنا إليه في بعض الأبحاث السابقة من أنّ عدم الإنفاق وبالنتيجة إيجاد الفقر في المجتمع يوجب الفوضى واختلال النظام وهلاك جميع الأفراد حتّى الممتنع من الإنفاق، فعدم الإنفاق

في سبيل اللَّه يوجب إلقاء أنفسكم في الهلكة ضمن إلقاء المجتمع فيها.

هذا كلّه في استدلال الأخباريين على الاحتياط بالآيات.

الثاني: الروايات

أمّا الروايات فهى كثيرة جمع عمدتها صاحب الوسائل في كتاب القضاء في الباب الثاني عشر من أبواب صفات القاضي، وهى في الواقع على ثمانية طوائف.

الطائفة الاولى: ما ورد في الشبهات قبل الفحص مثل صحيحة عبدالرحمن بن الحجّاج قال: سألت أبا الحسن عليه السلام عن رجلين أصابا صيداً وهما محرمان، الجزاء بينها، أو على كلّ واحد منهما؟ قال: «لا بل عليهما أن يجزي كلّ واحد منهما الصيد». قلت: إنّ بعض أصحابنا سألني عن ذلك فلم أدر ما عليه فقال: «إذا أصبتم مثل هذا فلم تدروا فعليكم بالاحتياط حتّى تسألوا عنه فتعلموا» «1» وفي هذا المعنى روايات اخرى في نفس الباب كالرواية 3 و 23 و 29 و 31 و 43.

الطائفة الثانية: ما تتضمّن أنّ إجتناب الشبهات يوجب القدرة على ترك المحرّمات، وقد علّل فيها ذلك بأنّ المعاصي حمى اللَّه فمن يرتع حولها يوشك أن يدخلها.

منها: ما رواه الصدوق قال: إنّ أمير المؤمنين عليه السلام خطب الناس فقال في كلام ذكره:

«حلال بيّن وحرام بيّن، وشبهات بين ذلك، فمن ترك ما اشتبه عليه من الإثم فهو لما استبان له اترك، والمعاصي حمى اللَّه فمن يرتع حولها يوشك أن يدخلها».

وفي هذا المعنى أيضاً روايات في نفس الباب كالرواية 22 و 39 و 47 و 61.

والجواب عنها: أنّه لا إشكال في أنّها أوامر استحبابيّة إرشاديّة كما لا يخفى.

الطائفة الثالثة: ما أمر فيها بالورع:

انوار الأصول، ج 3، ص: 57

منها: ما ورد في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين عليه السلام: «لا ورع كالوقوف عند الشبهة» «1».

وفي هذا المعنى أيضاً روايات عديدة كالرواية 24 و

25 و 33 و 41 و 57.

والجواب عنها: أنّ التعبير بالورع بنفسه قرينة على الاستحباب لأنّ الورع ليس واجباً كما مرّ آنفاً.

الطائفة الرابعة: ما ورد في الشبهات الموضوعيّة التي لا إشكال في البراءة فيها حتّى عند الأخباري:

منها: ما رواه السيّد الرضي رحمه الله في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين عليه السلام في كتابه إلى عثمان بن حنيف عامله على البصرة: «أمّا بعد يابن حنيف فقد بلغني أنّ رجلًا من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدبة فأسرعت إليها، تستطاب لك الألوان وتنقل عليك (إليك) الجفان وما ظننت إنّك تجيب إلى طعام قوم عائلهم مجفوّ وغنيّهم مدعوّ، فانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم فما اشتبه عليك علمه فالفظه وما أيقنت بطيب وجوهه فَنَل منه» «2».

وفي هذا المعنى رواية اخرى وهى الرواية 18 من نفس الباب.

ويرد عليها: مضافاً إلى أنّها ناظرة إلى الشبهات الموضوعيّة «3» إنّها أخصّ من المدّعى لورودها في حقّ الحكّام والقضاة، ولا يخفى الفرق بينهم وبين غيرهم.

الطائفة الخامسة: ما يكون النظر فيها إلى اصول الدين.

منها: ما رواه زرارة عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «لو أنّ العباد إذا جهلوا وقفوا ولم يجحدوا لم يكفروا» «4».

وهناك روايات اخرى في نفس الباب تدلّ على هذا المعنى كالرواية 53.

والجواب عنها: أنّها أيضاً خارجة عن محلّ الكلام لأنّ الكلام في الأحكام الفرعيّة لا الاصوليّة التي يجب فيها العلم واليقين.

انوار الأصول، ج 3، ص: 58

الطائفة السادسة: ما يكون ناظراً إلى حرمة الأخذ بالاستحسان والقياس والاجتهادات الظنّية في مقام الفتوى:

منها: ما رواه السيّد الرضي رحمه الله عن أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة أنّه قال في خطبة له:

«فياعجباً وما لي لا أعجب عن خطأ هذه الفرق على اختلاف حججها في

دينها لا يقتفون أثر نبي ولا تقتدون بعمل وصي، يعملون في الشبهات ويسيرون في الشهوات، المعروف فيهم ما عرفوا والمنكر عندهم ما أنكروا، مفزعهم في المعضلات إلى أنفسهم، وتعويلهم في المبهمات على آرائهم، كأنّ كلّ امرى ء منهم إمام نفسه، قد أخذ منها فيما يرى بعرى وثيقات وأسباب محكمات» «1».

وفي معناها رواية اخرى وهى الرواية 54 من الباب.

وهذه الطائفة أيضاً خارجة عن محل البحث، فإنّ حرمة العمل بالقياس والأخذ بالآراء الظنّية والاستحسانات ثابتة بأدلّة قطعيّة لا كلام فيها.

الطائفة السابعة: ما يدلّ على لزوم السكوت والكفّ عمّا لا يعلم.

منها: ما رواه هشام بن سالم قال: قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام ما حقّ اللَّه على خلقه؟ قال: «أن يقولوا ما يعلمون ويكفّوا عمّا لا يعلمون فإذا فعلوا ذلك فقد أدّوا إلى اللَّه حقّه» «2».

وفي هذا المعنى الرواية 32 من نفس الباب.

والجواب عنها: أنّها ناظرة إلى الأحكام الواقعيّة ولا معنى لعدم العلم بالنسبة إلى الحكم الظاهري.

الطائفة الثامنة: ما يكون خارجاً عن جميع الطوائف السابقة ويدلّ على مدّعى الأخباريين في بدء النظر.

منها: ما رواه أبو شيبة عن أحدهما عليهما السلام قال في حديث: «الوقوف عند الشبهة خير من الإقتحام في الهلكة» «3».

وبهذا المعنى أيضاً الرواية 15 و 37 و 41 و 56.

واجيب عنها: بأجوبة بعضها تامّ وبعضها غير تامّ:

انوار الأصول، ج 3، ص: 59

الأوّل: أنّ وجوب الاحتياط إمّا أن يكون مقدّمياً، أي وجب الاحتياط لأجل التحرّز عن العقاب على الحكم الواقعي المجهول، أو يكون نفسياً لوجود ملاك في نفس الإحتراز عن الشبهة مع الغضّ عن الحكم الواقعي المجهول، والأوّل مستلزم لترتّب العقاب على التكليف المجهول، وهو مخالف لقاعدة قبح العقاب بلا بيان، والثاني يستلزم ترتّب العقاب على مخالفة نفس وجوب الاحتياط

لا مخالفة الواقع مع أنّ صريح الأخبار إرادة الهلكة الموجودة على تقدير الحرمة الواقعيّة كما يعترف به الأخباري أيضاً.

وأجاب المحقّق الخراساني رحمه الله عن هذا الوجه بأنّ إيجاب الاحتياط لا نفسي ولا مقدّمي بل يكون طريقيّاً من قبيل الأمر بالطرق والأمارات وبعض الاصول كالاستصحاب، ومعه لا يحكم العقل بقبح العقاب، أي وجوب الاحتياط يكون حينئذٍ وارداً على قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

أقول: بناءً على ما اخترناه من كون القاعدة عقلائيّة (لا عقليّة) يكون الجواب أوضح، لأنّها حينئذٍ إنّما تكون حجّة فيما إذا لم يردع الشارع عنها، وأدلّة الاحتياط على فرض دلالتها ردع عنها.

الثاني: أنّ المراد من الهلكة إمّا أن يكون العقوبة الاخرويّة فهى مندفعة بقاعدة قبح العقاب بلا بيان، أو يكون المراد منها الهلكة الدنيوية فلا يستفاد منها الوجوب.

ويمكن الجواب عن هذا الوجه أيضاً بنفس ما اجيب به عن الوجه السابق، وهو أنّ المراد منها الهلكة الاخروية، ولا تجري حينئذٍ قاعدة قبح العقاب بلا بيان لأنّ أدلّة الاحتياط بنفسها بيان على فرض دلالتها.

الثالث: ما ذكره المحقّق الأصفهاني رحمه الله وحاصله: أنّ روايات التوقّف عند الشبهة وردت في موردين خارجين عن موضع استدلال الأخباري:

أحدهما ما ورد في باب المرجّحات عند تعارض الخبرين، وهو مقبولة عمر بن حنظلة فورد فيها: فقلت جعلت فداك فإن وافقهما الخبران جميعاً؟ قال: «ينظر إلى ما هم إليه أميل حكّامهم وقضاتهم فيترك ويؤخذ بالآخر»، قلت: فإن وافق حكّامهم الخبرين جميعاً؟ قال:

«إذا كان ذلك فارجئه حتّى تلقى إمامك فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الإقتحام في الهلكات» «1».

انوار الأصول، ج 3، ص: 60

فقد وردت هذه الرواية في باب القضاء عند تعارض الأخبار ولا بأس بالالتزام به ولكن البحث في المقام مربوط بباب الفتوى لا

القضاء.

أقول: ياليت أنّه صرف نظره في مقام الجواب عن هذه الرواية إلى قوله عليه السلام «فارجئه حتّى تلقى إمامك» فقط حيث إنّه ناظر إلى الشبهات قبل الفحص وما إذا أمكن لقاء الإمام عليه السلام وهو ليس داخلًا في محلّ النزاع.

ثانيهما: ما رواه مسعدة بن زياد عن جعفر عن آبائه عليه السلام أنّ النبي صلى الله عليه و آله قال: «لا تجامعوا في النكاح على الشبهة وقفوا عند الشبهة، يقول: إذا بلغك إنّك قد رضعت من لبنها وإنّها لك محرم وما أشبه ذلك فإنّ الوقوف عند الشبهة خير من الإقتحام في الهلكة» «1».

ولا يخفى أنّ موردها هو المفاسد الدنيوية فهى أيضاً خارجة عن محلّ النزاع»

.أقول: وهيهنا رواية ثالثة وهى ما مرّ ذكره من رواية داود بن فرقد، وهى رواية مطلقة لا يمكن الجواب عنها بما ذكره المحقّق الأصفهاني رحمه الله.

الرابع: أنّ أخبار الاحتياط تخصّص بأخبار البراءة لأنّها عامّة في ثلاث جهات من ناحية كون الشبهة موضوعيّة أو حكميّة، ومن ناحية كونها قبل الفحص أو بعده، ومن ناحية كونها من أطراف العلم الإجمالي وعدمه، كما أنّ أدلّة البراءة خاصّة في نفس تلك الجهات.

الخامس: أنّه لو كان الأمر بالاحتياط في هذه الأخبار مولوية فلابدّ من إرتكاب التخصيص فيها بأن يقال: لا خير في الإقتحام في الهلكة بإرتكاب الشبهات إلّاإذا كانت الشبهة موضوعيّة مطلقاً أو حكميّة وجوبيّة، مع أنّ سياقها آبٍ عن التخصيص كما لا يخفى، فلابدّ حينئذٍ من حملها على الإرشاد، والإرشاد في كلّ مورد يكون بحسبه، فيكون في بعض الموارد إرشاداً إلى الاستحباب وفي بعض آخر إرشاداً إلى الوجوب.

نعم يبقى في البين روايتان: إحديهما: ما رواه عبداللَّه بن وضّاح حيث ورد فيها: «أرى لك أن تنتظر حتّى

تذهب الحمرة وتأخذ بالحائطة لدينك» «3» ولكن يمكن الجواب عنها بوجوب حملها على الاستحباب بناءً على القول بكفاية استتار القرص في وقت المغرب كما هو الأقوى انوار الأصول، ج 3، ص: 61

ومع قطع النظر عن هذا يكون المورد من موارد العلم بالاشتغال الذي يقتضي البراءة اليقينيّة فإنّ الاشتغال بالصلاة في الوقت مقطوع ولا تحصل البراءة إلّابالقطع بالإمتثال.

وثانيهما: ما رواه الشهيد رحمه الله في الذكرى قال: قال النبي صلى الله عليه و آله: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» «1»، ولكّنها مرسلة لا يمكن الاعتماد عليها.

هذا تمام الكلام في أدلّة الأخباريين من ناحية السنّة.

الثالث: العقل
اشارة

وممّا استدلّ به الاخباريون وجوب الاحتياط في الشبهات التحريميّة سواءً من إعترف منهم بحجّية العقل في الجملة، أو من مال منهم إلى العقل، وتقريبه من وجوه ثلاثة:

الوجه الأوّل: العلم الإجمالي بوجود محرّمات كثيرة فعليّة في جملة المشتبهات فتتنجّز تلك المحرّمات بواسطة العلم الإجمالي، والمعلوم بالإجمال هنا من قبيل الكثير، في الكثير، فيجب الاحتياط في جميع المشتبهات حتّى يحصل العلم بالفراغ.

وأجاب عنه: جميع المحقّقين بأنّ العلم الإجمالي هذا ينحلّ بواسطة قيام الأمارات على المحرّمات الكثيرة في أطراف المعلوم بالإجمال بعد الفحص عن الأدلّة.

وإستشكل على هذا الجواب أوّلًا: بأنّه يعتبر في إنحلال العلم الإجمالي الاتّحاد زماناً بين حصول العلم الإجمالي وحصول العلم التفصيلي بالمقدار المعلوم كما سيأتي وجهه في مبحث الاشتغال، وهذا ليس حاصلًا في المقام لأنّ العلم التفصيلي يوجد بعد الفحص عن الأدلّة.

ولكن يرد عليه: أنّ التقارن والاتّحاد الزماني حاصل في المقام لأنّنا في نفس زمان العلم الإجمالي بوجود محرّمات كثيرة في المشتبهات نعلم بوجود إجماعات وروايات وآيات توجب العلم التفصيلي بتلك المحرّمات وانحلال ذلك العلم الإجمالي.

وثانياً: بأنّ العلم الإجمالي ينحلّ بالعلم التفصيلي

لا الظنّ التفصيلي، بينما الحاصل بظواهر الكتاب وخبر الواحد إنّما هو الظنّ.

ويندفع هذا الإشكال أيضاً بأنّ الموجب للانحلال إنّما هو قيام حجّة تفصيلية سواء

انوار الأصول، ج 3، ص: 62

كانت من قبيل البيّنة والظنّ المعتبر أو القطع واليقين كما سيأتي تفصيله في محلّه إن شاء اللَّه تعالى.

هل الأصل في الأشياء الحظر أو الإباحة؟
اشارة

الوجه الثاني: أنّ الأصل في الأشياء في غير الضروريات الحظر، فإن ورد من الشرع دليل على جوازه فهو، وإلّا فيبقى على ممنوعيته.

توضيح ذلك: أنّ مسألة الحظر أو الإباحة في الأشياء مسألة تلاحظ بلحاظ ما قبل الشرع المقدّس أو مع قطع النظر عنه خلافاً لأصالة البراءة والاحتياط اللتين تلاحظان بلحاظ بعد الشرع، وحينئذ نقول: إذا راجعنا إلى العقل وأحكامه بالنسبة إلى قبل الشرع نجد أنّ الأفعال على ثلاثة أقسام فبعضها من المستقلّات العقليّة يرجع حكمها إلى الحسن والقبح العقليين، وبعضها الآخر يكون من الضروريات كالتنفّس وسدّ الرمق، وقسم ثالث لا يكون من القسم الأوّل ولا من الثاني من قبيل شمّ الرياحين وأكل الفواكه وغيرهما من الرفاهيات ما لم تصبح أمراً ضرورياً، ففي هذا القسم هل يحكم العقل بالإباحة أو يحكم بالحظر. فيه أربعة أقوال:

1- القول بالإباحة وهو المشهور بين القدماء.

2- الحظر.

3- عدم الحكم، أي يحكم العقل بخلوّها عن الحكم مطلقاً، وقد نقل هذا عن الحاجبي.

4- التوقّف عن الحكم، قال به الأشعري.

ثمّ إنّ الفرق بين أصالة الحظر وأصالة الاحتياط، أو الفرق بين أصالة الإباحة والبراءة يتلخّص في امور:

الأوّل: ما أشرنا إليه آنفاً من أنّ الحظر أو الإباحة تلحظ بما قبل الشرع أو مع قطع النظر عن الشرع والاحتياط أو البراءة تلحظ بالنسبة إلى ما بعد الشرع.

الثاني: أنّ الحكم في الأوّل واقعي، فمفاد أصالة الحظر أو الإباحة أنّ الشي ء الفلاني ممنوع أو مباح

واقعاً، بينما الحكم في الثاني ظاهري، فيترتّب العقاب على ترك الاحتياط مثلًا في صورة الإصابة إلى الواقع لا مطلقاً.

انوار الأصول، ج 3، ص: 63

الثالث: أنّ التحريم أو الترخيص بناءً على أصالة الحظر أو الإباحة تحريم أو ترخيص مالكي يحكم به الشارع بما أنّه مالك، بينما التحريم أو الترخيص بناءً على أصالة الاحتياط أو الإباحة تحريم أو ترخيص مولوي يحكم به الشارع بما أنّه مقنّن ومشرّع وبما أنّه مولى.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ عمدة ما استدلّ به القائلون بالحظر مالكية الباري تعالى وأنّ العالم كلّه ملك له والتصرّف في ملك الغير بدون إذنه قبيح عقلًا لا سيّما في المالك الحقيقي، ونتيجته أنّ الأصل في الأشياء الحظر إلّاما أذن اللَّه تعالى به.

ولا يخفى أنّ هذا مبنى على ثبوت الحسن والقبح العقليين والقول بالمستقلّات العقليّة.

وقد اورد على هذا الوجه من ناحية الكبرى والصغرى معاً.

أمّا الكبرى: وهى كون التصرّف في الأشياء تصرّفاً في ملك الغير بدون إذنه.

فيرد عليها أوّلًا: أنّ الإذن حاصل في المقام بدليل الحكم فإنّ الحكمة تقتضي أن يكون خلق الأشياء للانتفاع والتمتّع بها فلا معنى مثلًا لخلق الرياحين والفواكه مع المنع عن أيّ تصرّف فيها للإنسان الذي هو جوهر العالم السفلي.

ثانياً: أنّ اعتبار الإذن يتصوّر فيما إذا صدق التصرّف عرفاً فلا معنى لاعتباره في استماع الخطابة من الخطيب أو شمّ الرياحين مثلًا، لعدم صدق التصرّف عليه عند العرف، كذلك في المقام، فربّما لا يصدق التصرّف العرفي فيه حتّى يقال بأنّه تصرّف في ملك الغير ولا يجوز بدون إذنه كما في النظر إلى الأجنبية، وهذا نظير ما يقال: إنّه يجوز الإستضاءة بنار الغير ونوره والإستظلال بجداره لعدم كونها تصرّفاً عرفاً، وحينئذٍ يصبح الدليل أخصّ من المدّعى.

وثالثاً: أنّه يمكن

أن يستدلّ ببعض الآيات على وجود الإذن من اللَّه بالنسبة إلى تصرّفات عبيده كقوله تعالى: «خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً» وقوله تعالى: «وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ».

ورابعاً: الاستدلال بأدلّة البراءة الشرعيّة حيث تدلّ بالالتزام على وجود الإباحة المالكيّة وإن كان مدلولها المطابقي الإباحة الظاهريّة المولويّة.

وأمّا الصغرى: وهى كون العالم ملكاً اعتبارياً للَّه تعالى.

فأورد عليها في تهذيب الاصول بما حاصله: أنّ المفيد بحال الأخباري في المقام إنّما هو المالكية القانونية الاعتباريّة، ولا وجه لاعتبار ملكيّة اعتباريّة للَّه عزّوجلّ، فإنّ اعتبارها

انوار الأصول، ج 3، ص: 64

لابدّ وأن يكون لأغراض حتّى تقوم بها المعيشة الاجتماعيّة، وهو سبحانه أعزّ وأعلى منه، وأمّا المالكيّة التكوينيّة بمعنى أنّ الموجودات والكائنات قائمة بإرادته، مخلوقة بمشيّته، واقعة تحت قبضته تكويناً فلا يمكن للعبد أن يتصرّف في شي ء إلّابإذنه التكويني وإرادته فهى غير مربوطة بالمقام «1».

أقول: أنّ المالكيّة التكوينيّة ليست في عرض المالكيّة القانونيّة بل إنّها أمر فوقها وحينئذٍ تتصوّر المالكيّة الاعتباريّة بالنسبة إلى الباري تعالى بطريق أولى، أي المالكية التكوينية تتضمّن المالكيّة القانونيّة وتكون منشأً لها كما يشهد به استدلال القائلين بالمالكيّة الشخصيّة للإنسان في محصول عمله في مقابل منكريها بأنّ الإنسان مالك تكويناً لنفسه وأعضائه وقواه، فيكون مالكاً لعلمه، وبالنتيجة يكون مالكاً لأمواله، حيث إنّه تجسّد للعمل وتبلور له.

أضف إلى ذلك أنّه يمكن الاستدلال لمالكيّته التشريعيّة مع قطع النظر عن مالكيته التكوينيّة بآية الخمس إذ إنّ مالكيته بالنسبة إلى الخمس في قوله تعالى «للَّهِ خُمُسَهُ» تشريعية بلا ريب لأنّها جعلت في عرض مالكية الأصناف الخمسة الاخرى، فمقتضى وحدة السياق أن تكون مالكيته تعالى من سنخ مالكية سائر الأصناف.

مضافاً إلى أنّه لو كان المراد المالكيّة التكوينيّة فلا معنى لأن يكون خصوص سهم من الخمس ملكاً تكوينياً له

حيث إنّ العالم كلّه ملك له تعالى وكذا الكلام بالنسبة إلى الإنفال وشبهها.

وإن شئت قلت: إذا كان التصرّف في الملك الاعتباري غير جائز عقلًا فعدم جواز التصرّف في الملك التكويني بطريق أولى.

ثمّ إنّه قد يستدلّ على القول بالإباحة في مقابل الحظر بقاعدة قبح العقاب بلا بيان لكن الحقّ أنّه في غير محلّه لأنّ هذه القاعدة تتصوّر بعد أن قام الشارع للبيان ولم يبيّن، بينما المفروض في المقام إنّما هو ما قبل البيان، مضافاً إلى أنّه يمكن أن يكون حكم العقل بعدم جواز التصرّف في ملك الغير بنفسه بياناً.

وهنا كلام للمحقّق الأصفهاني رحمه الله لإثبات أنّ الأصل هو الإباحة لا الحظر، حيث يقول:

انوار الأصول، ج 3، ص: 65

«إنّ المنع تارةً ينشأ عن مفسدة في الفعل تبعث الشارع بما هو مراعٍ لمصالح عباده وحفظهم عن الوقوع في المفاسد على الزجر والردع عمّا فيه المفسدة، وهذا هو المنع الشرعي، لصدوره من الشارع بما هو شارع، وفي قبالة الإباحة الشرعيّة الناشئة عن لا اقتضائيّة الموضوع وخلوّه عن المفسدة والمصلحة، فإنّ سنّة اللَّه ورحمته مقتضية للترخيص في مثله لئلّا يكون العبد في ضيق منه. واخرى لا ينشأ عن مفسدة إمّا لفرض خلوّه عنها، أو لفرض عدم تأثيرها فعلًا في الزجر كما في ما قبل تشريع الشرائع والأحكام في بدو الإسلام بل من حيث إنّه مالك للعبد وناصيته بيده يمنعه عن كلّ فعل إلى أن يقع موقع حكم من الأحكام حتّى يكون صدوره ووروده عن رأي مولاه، فهذا منع مالكي لا شرعي، وفي قباله الإباحة المالكيّة وهو الترخيص من قبل المالك لئلّا يكون في ضيق منه إلى أن يقع الفعل موقع حكم من الأحكام، فنقول: حيث إنّ الشارع كلّ تكاليفه منبعث عن

المصالح والمفاسد لانحصار أغراضه المولويّة فيها فليس له إلّازجر تشريعي أو ترخيص كذلك، فمنعه وترخيصه لا ينبعثان إلّاعمّا ذكر، ولا محالة إذا فرض خلوّ الفعل عن الحكم بقول مطلق، أعني الحكم الذي قام بصدد تبليغه وإن كان لا يخلو موضوع من الموضوعات من حكم واقعي وحياً أو إلهاماً فليس الفعل منافياً لغرض المولى بما هو شارع فليس فعله خروجاً عن زيّ الرقّية، ومنه يتبيّن أنّ الأصل فيه هو الإباحة لا الحظر، فإنّ عدم الإذن المفروض في الموضوع لا يؤثّر عقلًا في المنع العقلي إلّا باعتبار كون الفعل معه خروجاً عن زي الرقّية، وحيث إنّه فرض فيه عدم المنع شرعاً فلا يكون خروجاً عن زيّ الرقّية إذ فعل ما لا ينافي غرض المولى بوجهٍ من الوجوه بل كان وجوده وعدمه على حدّ سواء لا يكون خروجاً عن زي الرقّية» «1».

فملخّص كلامه أنّه بما أنّ كلّ تكاليف الشارع صادرة عن المصالح والمفاسد فإذا فرض خلوّ الواقع عن الحكم كما في ما قبل الشرع فلا يكون فعل العبد حينئذٍ خروجاً عن زي الرقّية فيكون الأصل في هذه الحالة الإباحة، فيكون لازم كلامه أنّ مالكيّة اللَّه تعالى مندكّة في مولويته، أي كلّ ما هو وظيفة للعباد يكون من طريق مولويته لا مالكيته لأنّ أغراضه منحصرة في المصالح والمفاسد التشريعيّة، وحيث إنّ المفروض عدم وصول حكم من ناحية

انوار الأصول، ج 3، ص: 66

مولويته إلى العبد في ما قبل الشرع فلا يكون فعل العبد خروجاً عن زيّ العبوديّة فيكون الأصل هو الإباحة.

أقول: هذا الكلام أيضاً غير تامّ لأنّ المولويّة والمالكيّة وصفان مختلفان، فالعبد الذي يخرج إلى السفر بدون إذن المولى تارةً يركب مثلًا على مركب المولى ويخرج إلى السفر، واخرى يركب على

مركب غيره، ففي كلتا الحالتين خرج عن زي عبوديّة المولى، لكنّه في الحالة الاولى فعل معصية اخرى، وهو الخروج عن مالكيّة المولى ونقض مالكيته أيضاً.

وبعبارة اخرى: أنّ للمولى مالكيّة على العبد ولازمها حرمة الخروج إلى السفر بدون إذنه، ومالكيّة على الفرس ولازمها حرمة الركوب على فرسه بدون إذنه، فكذلك في ما نحن فيه، فكما أنّ العبد مملوك للَّه تعالى كذلك الرياحين والفواكه أيضاً مملوكة له ويكون التصرّف فيها تصرّفاً في ملك الغير بدون إذن، فلكلّ واحد من هذين حكمه ولا يندكّ أحدهما في الآخر. وبعبارة اخرى: أنّ اللَّه تعالى مالك للعباد وتنشأ من هذه المالكيّة وظائف الرقّية والعبوديّة، فهو مولى وهذا عبد، ومالك لما سوى العباد تنشأ منه حرمة التصرّف فيها بغير إذنه ولا ربط لأحدهما بالآخر.

الوجه الثالث:- من الوجوه العقليّة- حكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل، وقد تقدّم تفصيل الكلام فيه.

والجواب عنه: بأنّه لو كان المراد من الضرر الضرر الاخروي فلا صغرى لهذه القاعدة لورود قاعدة قبح العقاب بلا بيان عليها، وإن كان المراد الضرر الدنيوي ففي كثير الموارد لا يكون الضرر الدنيوي ملاك الحكم، فاحتمال الضرر لا يكون موجباً للزوم دفعه، هذا أوّلًا.

وثانياً: أنّ هذه القاعدة إرشاد من ناحية العقل كأوامر الطبيب فلا ينشأ منها حكم مولوي.

تنبيهات أصالة البراءة:

وينبغي التنبيه على امور:

التنبيه الأوّل: اشتراط عدم وجود أصل موضوعي (وهو من أهمّها)
اشارة

إنّ أصالة البراءة كسائر الاصول الحكميّة يشترط في جريانها عدم وجود أصل انوار الأصول، ج 3، ص: 67

موضوعي ينقّح حال الموضوع، وإلّا فلو كان في المقام أصل جارٍ من ناحية الموضوع لكان حاكماً على الأصل الحكمي سواء في الشبهة الموضوعيّة أم الحكميّة، فالأولى نظير استصحاب عدم ذهاب ثلثي العصير العنبي فيما إذا شككنا في ذهاب الثلثين وعدمه، فهو حاكم على أصالة الإباحة ومانع

عن جريانها، لأنّه بمنزلة الأصل السببي وأصالة الإباحة أصل مسبّبي، وسيأتي البحث عنهما ولزوم تقديم الأوّل على الثاني، والثانية نظير استصحاب جلل الحيوان فيما إذا شككنا في أنّ إستبراء الجّلال يتحقّق عند الشارع بسبعة أيّام أو بعشرة أيّام، فهو حاكم على أصالة الحلّية لنفس العلّة، وهى أنّ الشكّ في الحلّية مسبّب عن الشكّ في بقاء الجلل وعدمه.

فاستصحاب بقاء الجلل أصل سببي وأصالة الحلّية أصل مسبّبي.

ومن هنا يظهر أنّ المراد من الموضوع في قولك: «الأصل الموضوعي» في المقام ما هو في مقابل الحكم سواء كان موضوعاً جزئيّاً كما في المثال الأوّل في الشبهة الموضوعيّة، أو موضوعاً كلّياً كما في المثال الثاني في الشبهة الحكميّة، فليس المراد منه الموضوع الخارجي حتّى يكون جزئياً في جميع الموارد وتكون الشبهة موضوعيّة دائماً.

كما يظهر ضعف ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله في المقام حيث قال: إنّ المراد من الأصل الموضوعي في ما نحن فيه ليس خصوص الأصل الجاري في الموضوع مقابل الحكم الشرعي، بل كلّ أصل محرز متكفّل للتنزيل يكون حاكماً على أصالتي البراءة والاشتغال، وقال في صدر كلامه: «ونعني ب (الأصل المتكفّل للتنزيل) أن يكون مفاد الأصل إثبات المؤدّى بتنزيله منزلة الواقع بحسب الجري العملي سواء كان المؤدّى موضوعاً خارجياً أو حكماً شرعيّاً» «1».

أقول: الظاهر إنحصار هذا الأصل (المتكفّل للتنزيل على مبناه) في الاستصحاب، وأمّا وجه ضعف كلامه هذا أنّه ينتقض بجميع الموارد التي يقدم فيه الاستصحاب على البراءة مع عدم كونه أصلًا موضوعياً بالنسبة إليها ومن قبيل السبب بالنسبة إلى مسبّبه، بل الوجه في تقدّمه عليها إنّما هو أخصّية أدلّة الاستصحاب بالنسبة إلى أدلّة البراءة (كما سيأتي في محلّه) نظير ما إذا شككنا في حلّية شي ء مع العلم

بأنّ حالته السابقة هى الحرمة فاستصحاب الحرمة

انوار الأصول، ج 3، ص: 68

فيه مقدّم على أصالة الحلّية لا من باب أنّه من قبيل الأصل الموضوعي وما إذا كان الشكّ في حكم الحلّية ناشئاً من الشكّ في موضوعه، بل لما ذكرنا من أخصّية أدلّة الاستصحاب.

والظاهر أنّه وقع الخلط في كلام هذا المحقّق رحمه الله بين مسألة تقدّم الاستصحاب على البراءة ومسألة تقدّم الاصول الموضوعيّة على الحكميّة.

وممّا يؤيّد ما ذكرنا أنّ الاصول الموضوعيّة مقدّمة على الحكميّة من دون فرق بين الاستصحاب وسائر الاصول الجارية في الموضوعات كأصالة الحلّية الجارية في الحيوان، فيجوز كون أجزاؤه في بدن المصلّى وهو مقدّم على أصالة الاشتغال بالصلاة.

الكلام في أصالة عدم التذكية

ثمّ إنّه قد وقع بحث طويل بين الأعلام بمناسبة تمثيلهم للأصل الموضوعي بأصالة عدم التذكية في جريان أصالة عدم التذكية في حيوان شكّ في قابليته للتذكية، أو في وقوع التذكية الشرعيّة عليه للشكّ في اختلال بعض الامور الدخيلة في تحقّقها.

ولابدّ لتوضيح البحث من بيان حقيقة التذكية فنقول: يحتمل فيها ثلاث احتمالات:

1- أن تكون أمراً بسيطاً مسبّباً عن شيئين: أحدهما: الذبح الشرعي، والثاني: قابلية الحيوان للتذكية، فتكون التذكية حينئذٍ أمراً مسببيّاً، وهو الطهارة الحاصلة في الحيوان تبيح أكله.

2- أن تكون أمراً مركّباً من الجزئين المذكورين، فتكون حقيقتها نفس هذا السبب المركّب من جزئين.

3- أن تكون عبارة عن نفس الذبح الشرعي فقط، وأمّا القابلية فهى شرط من شرائطها لا أن تكون جزء لماهيتها.

فعلى المعنى الأوّل: لا إشكال في جريان أصالة عدم التذكية في صورة الشكّ، لأنّ الشكّ في التذكية وعدمها يرجع إلى الشكّ في حصول ذلك الأمر البسيط وعدمه.

وعلى الثاني: لا إشكال في عدم جريانها إلّامن باب أصل العدم الأزلي، لأنّ الجزء الأوّل وهو الذبح الشرعي حاصل بالوجدان،

والجزء الثاني وهو القابلية ليس عدمه متيقّناً في انوار الأصول، ج 3، ص: 69

السابق إلّامن باب العدم الأزلي فتجري حينئذٍ أصالة الطهارة بلا مانع بناءً على ما هو المختار من عدم حجّية أصل العدم الأزلي.

وعلى الثالث: فلا إشكال أيضاً في عدم جريانها لأنّ التذكية وهى خصوص الذبح الشرعي حاصلة بالوجدان والشكّ إنّما هو في حصول بعض شرائطها.

والمحقّق النائيني رحمه الله اختار المعنى الثالث لقوله تعالى: «إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ» إذ إنّ نسبة التذكية إلى الفاعلين تدلّ على أنّها من فعلهم «1».

ولكن يرد عليه: أنّ إسناد الفعل إلى الجزء الأخير من العلّة إسناد شائع، وهذا يناسب المعنى الثاني أيضاً، نعم إنّ أصل مدّعاه تامّ لعدم وجود حقيقة شرعيّة في معنى التذكية، فتحمل على معناها العرفي، ولا إشكال في أنّ مدلولها العرفي إنّما هو المعنى الثالث لأنّ أصلها الذكاء (بالذال) لا الزكاء (بالزاء) كما وقع الخلط بينهما في كلمات بعض الأعاظم، ففي مفردات الراغب:

التذكية (بالذال) في الأصل بمعنى الإضاءة وذكّيت الشاة ذبحتها، وحقيقة التذكية إخراج الحرارة الغريزيّة، بينما التزكية (بالزاء) بمعنى النموّ والبركة والتطهير.

وبالجملة المرجع في المقام هو المعنى العرفي لعدم حقيقة شرعية لها (وما جاء في الشريعة من بعض الشروط فهو خارج عن حقيقتها) والمعنى العرفي إنّما هو المعنى الثالث، وعليه لا تجري أصالة عدم التذكية لأنّها حاصلة بالوجدان.

بقي هنا أمران:

الأوّل: أنّه قد ذكر في كلمات بعضهم أصل آخر يتوهّم حكومته على أصالة الحلّية، وهو استصحاب الحرمة في حال الحياة.

ولكن يمكن الجواب عنه بأمرين:

أحدهما: عدم اتّحاد القضيّة المتيقّنة مع القضية المشكوكة في المقام، لأنّ الموضوع في الاولى هو الحيوان الحيّ، وفي الثانية الحيوان الميّت، ولعلّ الحياة مقوّمة لحرمة الأكل.

ثانيهما: حرمة الأكل في حال الحياة أوّل الكلام لأنّ أكل

الحيوان حيّاً غير ممكن إلّافيما هو صغير جدّاً كالسمكة الصغيرة التي يمكن بلعها لدفع بعض الأمراض على ما هو المعروف انوار الأصول، ج 3، ص: 70

بين الناس، فلا موضوع للحلّية والحرمة حينئذٍ.

الثاني: في جريان أصالة عدم التذكية من ناحية الشبهة الموضوعيّة.

كان البحث إلى هنا في جريان أصالة عدم التذكية من ناحية الشبهة الحكميّة، وأمّا جريانها من ناحية الشبهة الموضوعيّة فيتصوّر له ثلاث صور:

الاولى: في القطعة المطروحة في الطريق التي شكّ في أنّها من الحيوان المذكّى أو غير المذكّى، فلا إشكال في أنّها محكومة بالحرمة لجريان أصالة عدم التذكية فيها بمعانيها الثلاثة كما لا يخفى، وأمّا الرواية «1» الواردة في السفرة المطروحة في الطريق من أنّه يجوز أكل لحمها فالظاهر أنّه لمكان كون البلد بلداً مسلماً، وهو أمارة على الحلّية، ومقدّمة على أصالة عدم التذكية.

الثانية: في القطعة المبانة التي يدور أمرها بين حيوانين، أحدهما مذكّى، والثاني غير مذكّى، ففيها أيضاً تجري أصالة عدم التذكية، نعم أنّها لا تجري بالنسبة إلى نفس القطعة لأنّ التذكية صفة تعرض على كلّ الحيوان لا على بعضه بل لابدّ أن يكون المستصحب عنوان «ما أخذ منه اللحم» فيقال الحيوان الذي يكون منه هذا اللحم كان غير مذكّى، فيستصحب عدم تذكيته الذي من آثاره عدم حلّية هذه القطعة أيضاً.

الثالثة: ما إذا كانت هناك قطعات مختلفة مذكّاة وغير مذكّاة اختلط بعضها ببعض، فهل يجب الاجتناب عنها أو لا؟ فيتصوّر فيها صورتان: تارةً يكون كلا الحيوانين داخلين في محلّ الابتلاء، فلا إشكال في وجوب الإجتناب عن كلّ واحد من تلك القطعات لمكان العلم الإجمالي، واخرى يكون أحدهما خارجاً عن محلّ الابتلاء ففيها وإن لم يكن العلم الإجمالي منجّزاً لكن تجري أصالة عدم التذكية بالنسبة إلى

«ما أخذ منه هذا اللحم» ويحكم بحرمة كلّ قطعة بلا ريب.

فتحصّل من ذلك جريان أصالة عدم التذكية في الشبهة الموضوعيّة بجميع صورها.

ثمّ إنّ هيهنا إشكالًا أورده بعض الأعلام على جريان أصالة عدم التذكية مطلقاً وفي جميع انوار الأصول، ج 3، ص: 71

صورها، وهو «أنّ حقيقة التذكية التي هى فعل المذكّى عبارة عن إزهاق الروح بكيفية خاصّه وشرائط مقرّرة، وهى فري الأوداج الأربعة مع كون الذابح مسلماً، وكون الذبح عن تسمية وإلى القبلة مع آلة خاصّة، وكون المذبوح قابلًا للتذكية، وعدم هذه الحقيقة بعدم الإزهاق بالكيفية الخاصّة والشرائط المقرّرة، ولا إشكال في أنّ هذا الأمر العدمي على نحو «ليس» التامّة ليس موضوعاً للحكم الشرعي، فإنّ هذا المعنى العدمي متحقّق قبل تحقّق الحيوان وفي زمان حياته، ولم يكون موضوعاً للحكم، وما هو الموضوع عبارة عن الميتة، وهى الحيوان الذي زهق روحه بغير الكيفية الخاصّة بنحو الإيجاب العدولي، أو زهوقاً لم يكن بكيفية خاصّة على نحو «ليس» الناقصة أو الموجبة السالبة المحمول وهما غير مسبوقين بالعدم فإنّ زهوق الروح لم يكن في زمان محقّقاً بلا كيفية خاصّة، أو مسلوباً عنه الكيفية الخاصّة فما هو موضوع غير مسبوق بالعدم، وما هو مسبوق به ليس موضوعاً له، واستصحاب النفي التامّ لا يثبت زهوق الروح بالكيفية الخاصّة إلّاعلى الأصل المثبت» «1».

ويرد عليه: أنّ الواسطة في ما نحن فيه خفيّة وأنّ العرف يحكم باتّحاد مفاد ليس التامّة ومفاد ليس الناقصة، وإلّا يلزم نفس الإشكال حتّى بالنسبة إلى مورد أخبار الاستصحاب و هو الوضوء، إذ إنّ الوضوء في حدّ ذاته لا يترتّب عليه أثر ولا يكون موضوعاً للحكم الشرعي، بل الموضوع عبارة عن الصّلاة المقيّدة بالطهارة، فيلزم أن تثبت الصّلاة مع الطهارة باستصحاب الطهارة

بما هى هى، فيكون مثبتاً مع أنّه لا يلتزم به أحد.

وإن شئت قلت: موضوع الحكم هنا (مورد أخبار الاستصحاب) هو مفاد كان الناقصة أي كون الصّلاة متّصفة بالطهارة، مع أنّ الاستصحاب فيه هو مفاد كان التامّة أي بقاء الطهارة، فكما أنّ الاستصحاب بعنوان مفاد كان التامّة يكفي عمّا هو مفاد كان الناقصة، فكذلك الكلام بالنسبة إلى مفاد ليس التامّة وليس الناقصة.

التنبيه الثاني: في حسن الاحتياط، وترتّب الثواب عليه، وإمكان الاحتياط في العبادات
اشارة

فيقع البحث في ثلاث مقامات، وهو في الأوّلين كبروي وفي الثالث صغروي.

أمّا الأوّل: (وهو حسن الاحتياط) فلا إشكال ولا ريب في حسنه عقلًا وشرعاً في الجملة ولم يخالف فيه أحد.

وأمّا الثاني: فالمسلّم عند المحقّق الخراساني رحمه الله وجماعة من الأعاظم ترتّب الثواب على الاحتياط، ولكنّه عندنا محلّ إشكال لأنّ الثواب يتصوّر في الأوامر المولويّة، وأمّا الأوامر الإرشادية التي منها الأمر بالاحتياط فما يترتّب عليها إنّما هو المصلحة المرشد إليها لا غير.

وبعبارة اخرى: أنّ الاحتياط في الواقع نحو من الإنقياد الذي يقابل التجرّي، ولا إشكال في أنّ الإنقياد والتجرّي متساويان في ترتّب الثواب والعقاب وعدمه، فكما أنّ التجرّي لا يترتّب عليه العقاب بناءً على المختار في محلّه، كذلك الإنقياد فلا يترتّب عليه الثواب وإلّا يلزم في صورة الإصابة ترتّب ثوابين وهو مقطوع العدم كما في باب التجرّي بالنسبة إلى ترتّب عقابين.

اللهمّ إلّاأن يقال: إذا احتاط العبد احتراماً للمولى وتعظيماً لأوامره المحتملة فإنّه يستحقّ الثواب بعنوان آخر من باب التعظيم والاحترام كما أنّه في باب التجرّي لو قصد العبد بفعله هتك حرمة المولى ترتّب عليه العقاب بلا إشكال، ولكنّه أمر آخر غير ترتّب الثواب على الإنقياد بما هو الإنقياد وترتّب العقاب على التجرّي بما هو التجرّي الذي هو محلّ البحث.

وهنا كلام للمحقّق العراقي رحمه الله يدّعي

فيه ظهور طائفة من الأخبار الواردة في المقام في المولويّة وترتّب الثواب على الاحتياط من هذه الناحية، نعم يعترف في الغاية بعدم استفادة الاستحباب المولوي النفسي منها نظراً إلى بعد الاستحباب النفسي عن مساق تلك الأخبار، بل المستفاد منها إنّما هو الاستحباب المولوي الطريقي، وإليك نصّ كلامه: «إنّ الأخبار الواردة في المقام على طوائف:

منها: ما يشتمل على عنوان الاحتياط كقوله عليه السلام: أخوك دينك فاحتط لدينك، وقوله عليه السلام: إذا أصبتم بمثل هذا فعليكم بالاحتياط.

ومنها: ما يشتمل على عنوان المشتبه، وهذه الطائفة على صنفين: أحدهما: ما يكون انوار الأصول، ج 3، ص: 73

مذيّلًا بالتعليل بأنّه خير من الإقتحام في الهلكة، وثانيهما: ما لا يكون له هذا الذيل، كقوله عليه السلام:

«من ترك الشبهات كان لما استبان له أترك». أمّا الطائفة الاولى: فلابدّ من حملها على الإرشاد كأوامر الإطاعة والإنقياد، وأمّا الطائفة الثانية: فهى أيضا بمقتضى التعليل الواقع في ذيلها ظاهرة في الإرشاد لكن لا إلى حكم العقل بحسن الإطاعة، بل إلى عدم الوقوع في مخالفة التكاليف الواقعيّة والمفاسد النفس الآمرية نظير أوامر الطبيب ونواهيه، وأمّا الطائفة الثالثة: فهى وإن كانت قابلة للإرشاد وللمولويّة إلّاأنّ ظهورها في المولويّة ينفي الإرشادية، نعم يدور أمرها بين الاستحباب النفسي، أو الطريقي كسائر الأحكام الطريقيّة المجعولة لحفظ الواقعيات المجهولة كما في أوامر الطرق والأمارات على ما بيّناه، وحينئذٍ فظاهر تعلّق الأمر بعنوان المشتبه وإن كان يقتضي كونه مستحبّاً نفسيّاً حكمته إعتياد المكلّف على الترك بنحو يهون عليه الاجتناب عن المحرّمات المعلومة ولكن لا يبعد ترجيح الطريقيّة نظراً إلى بعد الاستحباب النفسي عن مساق تلك الأخبار ... إلى أن قال: فعلى هذا صحّ لنا دعوى عدم استفادة الاستحباب المولوي النفسي من الأخبار الواردة

في المقام حتّى المشتمل منها على عنوان المشتبه» «1».

أقول: إنّ الطائفة الثالثة من الأخبار أيضاً ظاهرة في الإرشاد لا المولويّة، لأنّها ترشدنا إلى أنّ ترك المشتبهات يقوّينا على ترك المحرّمات المعلومة، فهى إرشاد إلى ما يوجب الإجتناب عن المحرّمات، وهو حصول القوّة والعادة على ترك القطعيّة منها.

وأمّا المقام الثالث: (وهو إمكان الاحتياط في العبادات) فاستشكل فيه بما يمكن أن يقرّر بثلاث تقريرات:

الأوّل: أنّه يعتبر في العبادة قصد القربة، وهو يحتاج إلى أمر قطعي، وهو مفقود في المقام.

الثاني: أنّ العبادة فرع الإطاعة، والإطاعة متفرّعة على وجود الأمر. (لكنّه يرجع إلى الأوّل وإن جاء في بعض الكلمات بعنوان بيان مستقلّ).

الثالث: لابدّ في العبادة من الجزم بكون العمل مأموراً به ولا جزم في موارد الاحتياط.

واجيب عنها بامور:

انوار الأصول، ج 3، ص: 74

الأمر الأوّل: من طريق إثبات وجود أمر قطعي في الاحتياط، وذلك بثلاثة طرق:

1- أن يقصد إمتثال أوامر الاحتياط.

وفيه: أنّه قد عرفت أنّ تلك الأوامر إرشاديّة، ولا يصحّ قصد التقرّب بالأوامر الإرشاديّة لعدم حسن ذاتي لمتعلّقاتها بل الحسن والمحبوبيّة إنّما هى في المرشد إليه على فرض وجوده.

2- أن يقال: يترتّب على الاحتياط الثواب وهو يلازم المحبوبيّة الذاتية.

وفيه: منع ترتّب الثواب كما مرّ آنفاً.

هذا مضافاً إلى لزوم الدور، لأنّ لازم ذلك توقّف إمكان الاحتياط على ترتّب الثواب عليه، بينما ترتّب الثواب يتوقّف على إمكان الاحتياط.

3- أن يقصد إطاعة إخبار «من بلغ ...».

ولكن سيأتي أنّ إخبار من بلغ لا تدلّ على المحبوبيّة الذاتيّة وأنّ الثواب الوارد فيها هو من باب التفضّل من اللَّه تعالى لا من باب حصول الاستحقاق، والثواب التفضّلي ليس كاشفاً عن الأمر كما هو وضاح.

الأمر الثاني: ما هو أسوأ حالًا من سابقه، وهو أن يقال: إنّ المراد بالاحتياط

في العبادات هو نفس إتيان ظاهر العمل ولو بدون قصد القربة.

وإشكاله واضح، لأنّه لا محبوبيّة ولا حسن لما أتى به من دون قصد القربة، والإتيان بظاهر العبادة بدون القربة كالجسد بلا روح.

الأمر الثالث: (وهو العمدة) أن يقال بكفاية الاحتمال بل الرجاء في تحقّق قصد القربة، ولا حاجة إلى الأمر القطعي.

توضيح ذلك: قد مرّ في مبحث التعبّدي والتوصّلي أنّ أعمال الإنسان على قسمين: قسم منها من الامور التكوينيّة الحقيقيّة غير الاعتباريّة كالصناعات والتجارات والزراعات وغيرها من الأعمال الاعتياديّة للبشر التي لا دخل فيها ليد الجعل والاعتبار، وقسم آخر يكون من الامور الاعتباريّة المجعولة من قبل العقلاء كجعل رفع القلنسوة أو وضع العمامة مثلًا للاحترام والتعظيم على اختلاف الآداب والعادات، ومن هذا القسم ما يدلّ على نوع خاصّ من الخضوع والتواضع الذي يسمّى بالعبادة وفي اللغة الفارسيّة ب «پرستش»، نظير التواجد

انوار الأصول، ج 3، ص: 75

في عرفات أو الهرولة في مناسك الحجّ أو غسل الوجه واليدين في الوضوء أو الإمساك عن الأكل والشرب في الصيام، ومن هذا النوع ما تكون العبادة ذاتيّة له كالسجود الذي يكفي فيه مجرّد قصد العمل بعنوان السجدة بخلاف غيره من العبادات التي تتميّز عن سائر الأفعال بقصد القربة، ومن دونه لا تتحقّق بعنوان العبادة، كما أنّ عباديتها تحتاج إلى كون العمل حسناً ومحبوباً ذاتاً.

وبالجملة لابدّ في عبادية العمل من تحقّق أمرين: أحدهما: كون العمل محبوباً للَّه تعالى، والثاني: كون الباعث إليه التقرّب إليه سبحانه، فتكون العبادة مركّبة منهما، ولا إشكال في حصول هذين في العبادات الاحتياطيّة، معه لا حاجة إلى أمر وراء ذلك.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني رحمه الله أفاد في المقام بأنّه إذا احتاط المكلّف وأتى بالعمل بقصد الرجاء فإن أصاب الواقع فيقع العمل

عبادة، وإن خالف الواقع فيترتّب عليه الثواب لأنّه إنقياد وإطاعة حكميّة.

وذكر المحقّق الأصفهاني رحمه الله في ذيل كلامه إشكالًا، وهو أنّ المعلول الفعلي يتوقّف على علّة فعلية، ولا يكفيه العلّة التقديرية، فالحركة نحو الفعل لا يعقل استنادها إلى الأمر على تقدير ثبوته بل لابدّ من استنادها إلى شي ء محقّق، وليس في البين إلّااحتمال الأمر، فإنّه شي ء فعلي، فلو صار الفعل قربيّاً فإنّما يصير به لا بالأمر على تقدير ثبوته، وهل هو إلّاالإنقياد لا أنّه إطاعة تارةً وإنقياد اخرى.

وأجاب عنه بنفسه بأنّ: «الأمر بوجوده الواقعي لا يكون محرّكاً أبداً ضرورة إنّ مبدأ الحركة الاختياريّة هو الشوق النفساني، فلابدّ له من علّة واقعة في النفس، فلابدّ من كون الأمر بوجوده الحاضر للنفس داعياً ومحرّكاً دائماً، وكما أنّ الأمر الحاضر للنفس المقترن بالتصديق الجزمي قابل للتأثير في حدوث الشوق، كذلك الأمر الحاضر المقترن بالتصديق الظنّي أو الاحتمالي، فإذا كان التصديق القطعي موافقاً للواقع كانت الصورة الحاضرة من الأمر صورة شخصية، فينسب الدعوة بالذات إلى الصورة وبالعرض إلى مطابقها الخارجي، وإذا لم يكن التصديق القطعي موافقاً للواقع كانت الصورة الحاضرة صورة مثله المفروض، فلا شي ء في الخارج حتّى تنسب إليه الدعوة بالعرض، فيكون إنقياداً محضاً لا إمتثالًا وإطاعة للأمر وانبعاثاً عنه، فكذا الأمر المظنون أو المحتمل، فالأمر المظنون أو المحتمل هو الداعي، وهذه انوار الأصول، ج 3، ص: 76

الصفة فعلية في هذه المرتبة فإن وافق الواقع نسب إليه الدعوة وكان إنبعاثاً عنه وإمتثالًا له بالعرض وإلّا فلا، بل كان محض الإنقياد كما في صورة القطع طابق النعل بالنعل» «1».

أقول: وما قد يقال في الفرق بين صورتي القطع والاحتمال من «أنّ القطع يكون طريقاً للواقع فإذا طابق الواقع كان الانبعاث من

الواقع في الحقيقة ولكن الاحتمال لا طريقيّة له» «2» قابل للدفع، فإنّ الاحتمال وإن لم يكن طريقاً إلى الواقع بالمعنى المعروف في الاصول في باب الطرق، ولكنّه ناظر إلى الواقع، فلو طابق الواقع كان الباعث في الحقيقة هو الواقع، وهذا أمر ظاهر بالوجدان، فمن احتمل قدوم بعض أخويه من السفر فاستقبله فأصاب احتماله الواقع كان المحرّك له إلى الإستقبال في الحقيقة قدوم أخيه لا غير، فكأنّه وقع الخلط بين الطريقيّة بمعنى الحجّية، والطريقيّة بمعنى النظر إلى الخارج.

الكلام في أخبار من بلغ (التسامح في أدلّة السنن)
اشارة

لمّا كان الكلام في تصحيح العبادة الاحتياطيّه وتقدم أن أحد الطرق لذلك أخبار من بلغ، كان المناسب بسط الكلام في مفاد هذه الأخبار ومغزاها وما يترتّب عليها من الأحكام.

فنقول ومنه جلّ ثنائه التوفيق والهداية: يقع الكلام فيه في مقامين:

المقام الأوّل: في أنّ المسألة اصوليّة أو لا؟

يمكن عنوان المسألة بصورتين:

الاولى: عنوانها كمسألة اصوليّة، بأن يقال: هل الأخبار الضعاف في المستحبّات في حكم الأخبار الصحاح في الواجبات أو لا؟ وهذا ما يعبّر عنه بالتسامح في أدلّة السنن، ولا يخفى أنّها حينئذٍ مسألة اصوليّة لأنّه يبحث فيها عن الحجّية وعدمها.

والثانية: عنوانها كقاعدة فقهيّة بأن يقال: هل الخبر الدالّ على ترتّب ثواب على عمل يدلّ بالاژلتزام على استحباب ذلك العمل شرعاً أو لا؟ وهذا بحث فقهي حيث يبحث عن انوار الأصول، ج 3، ص: 77

أحد الأحكام الخمسة، وهو الاستحباب، وقاعدة فقهيّة من باب أنّه كلّي ليست عهدتها على المقلّد.

ربّما يقال: بإمكان كون هذه المسألة مسألة كلاميّة لأنّها تبحث عن ترتّب الثواب على العبادات الاحتياطيّة وعدمه، والبحث عن الثواب والعقاب إنّما هو من شأن علم الكلام.

لكن قد مرّ في بعض الأبحاث السابقة أنّه لو كان الأمر كذلك للزم أن يكون قسم عظيم من الكتب الفقهيّة داخلًا في علم الكلام، وهو كما ترى، بل معيار المسألة الكلاميّة إنّما هو البحث عن وجود أصل الثواب والعقاب في يوم القيامة على نحو الكلّي لا البحث عن مصاديقهما.

المقام الثاني: في أدلّة المسألة

واستدلّ لها بأمرين:

الأوّل: دعوى الإجماع من ناحية الشهيد رحمه الله في الذكرى حيث قال: «أخبار الفضائل يتسامح فيها بما لا يتسامح في غيرها عند أهل العلم» والظاهر أنّه ذكر المسألة بعنوان مسألة اصوليّة، كما أنّ ظاهر قوله: «عند أهل العلم» العامّة والخاصّة معاً.

الثاني: طائفة من الأخبار التي فيها صحيح السند (كروايتي هشام بن سالم الآتيتين) وفيها ضعاف أو مراسيل.

1- ما رواه هشام بن سالم عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «من بلغه عن النبي صلى الله عليه و آله شي ء من الثواب فعمله كان أجر ذلك له وإن كان رسول اللَّه صلى

الله عليه و آله لم يقله» «1».

2- ما رواه هشام بن سالم أيضاً عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «من سمع شيئاً من الثواب على شي ء فصنعه كان له، وإن لم يكن على ما بلغه» «2».

والظاهر عند النظر البدوي كونهما روايتين مستقلّتين ولكن عند الدقّة يحتمل قويّاً إتّحادهما كما لا يخفى.

3- ما رواه محمّد بن مروان عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «من بلغه عن النبي صلى الله عليه و آله شي ء من انوار الأصول، ج 3، ص: 78

الثواب ففعل ذلك طلب قول النبي صلى الله عليه و آله كان له ذلك الثواب وإن كان النبي صلى الله عليه و آله لم يقله» «1».

4- ما رواه محمّد بن مروان أيضاً قال سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: «من بلغه ثواب من اللَّه على عمل فعمل ذلك العمل التماس ذلك الثواب اوتيه وإن لم يكن الحديث كما بلغه» «2».

5- ما رواه صفوان عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «من بلغه شي ء من الثواب على شي ء من الخير فعمل (فعمله) به كان له أجر ذلك، وإن كان (وإن لم يكن على ما بلغه) رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لم يقله» «3».

6- ما رواه علي بن موسى بن جعفر بن طاووس في كتاب الإقبال عن الصادق عليه السلام قال:

«من بلغه شي ء من الخير فعمل به كان له ذلك وإن لم يكن الأمر كما بلغه» «4».

7- ما رواه الصدوق عن محمّد بن يعقوب بطرقه إلى الأئمّة عليهم السلام إنّ: «من بلغه شي ء من الخير فعمل به كان له من الثواب ما بلغه وإن لم يكن الأمر كما نقل إليه» «5».

والظاهر رجوع هذا الحديث إلى سابقه ولعلّه إلى الرواية

الثانية التي نقلها الكليني أيضاً عن هشام بن سالم، كما أنّ المحتمل قويّاً كون رواية ابن طاووس أيضاً راجعة إلى إحدى الروايات السابقة فالروايات السبعة ترجع في الواقع إلى أربعة.

8- ما ورد في كتاب عدّة الداعي من طريق العامّة: عن عبدالرحمن الحلواني مرفوعاً إلى جابر بن عبداللَّه الأنصاري قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «من بلغه من اللَّه فضيلة فأخذ بها وعمل بما فيها إيماناً ورجاء ثوابه أعطاه اللَّه تعالى ذلك وإن لم يكن كذلك».

ثمّ قال مؤلّف الكتاب (عدّة الداعي): فصار هذا المعنى مجمعاً عليه عند الفريقين «6».

أقول: أمّا الدليل الأوّل وهو الإجماع فيمكن النقاش فيه من جهتين:

فأوّلًا: من ناحية وجود المخالف مثل صاحب المدارك والعلّامة والصدوق وشيخه محمّد بن حسن بن الوليد.

انوار الأصول، ج 3، ص: 79

فقد قال صاحب المدارك في كتابه في مبحث الوضوءات المستحبّة: وما يقال من أنّ أدلّة السنن يتسامح فيها بما لا يتسامح في غيرها فمنظور فيه لأنّ الاستحباب حكم شرعي يتوقّف على دليل شرعي.

وقال الصدوق رحمه الله في باب صلاة غدير خمّ: إنّ شيخنا لم يصحّح أخبار هذه الصّلاة فلا اعتبار بها (بصلاة غدير خمّ) عندنا.

فإنّه لو كان الإجماع قائماً على التسامح في أدلّة السنن لم يقل بهذا.

وثانياً: من ناحية إنّه محتمل المدرك والظاهر أنّ مدركه هو أخبار من بلغ.

فالعمدة في المقام إنّما هى الأخبار، واستدلّ بها بأنّ ظاهرها ترتّب الثواب على العمل لا من باب التفضّل فقط بل من باب إنّ العمل يوجب الإستحقاق، ففي حديث صفوان: «كان له أجر ذلك» (المشار إليه هو العمل)، وكذلك في حديث هشام (الذي مرّ إنّه من أهمّها): «كان أجر ذلك له» فقد اضيف الأجر في هذين الحديثين إلى العمل،

وهو ظاهر في كون العمل مأموراً به ولازمه الاستحباب النفسي.

وبعبارة اخرى: لا إشكال في أنّ هذه الأخبار تحرّضنا إلى العمل والتحريض إلى العمل دليل على كونه محبوباً، والمحبوبية تدلّ على وجود الأمر.

هذا غاية البيان للاستدلال بهذه الأخبار على الاستحباب.

لكن أورد عليه بوجوه عديدة بعضها قابل للدفع:

1- إنّ هذه الأخبار أخبار آحاد، وقد ثبت في محلّه عدم حجّيتها بالنسبة إلى الاصول.

ويمكن الجواب عنه بأمرين: أحدهما: إنّ المسألة فقهيّة لا اصوليّة. ثانيهما: إنّه قد وقع الخلط بين اصول الفقه واصول الدين وما ذكر من عدم حجّية أخبار الآحاد إنّما هو بالنسبة إلى الثاني لا الأوّل.

لكنّ فيه: إنّ اصول الفقه أيضاً على المبنى المختار لا تثبت بخبر الواحد لأنّ عمدة الدليل على حجّيته إنّما هو بناء العقلاء، وهم لا يقنعون به في المسائل الأساسية الاصوليّة فلا يكتفون به مثلًا في ما يسمّى اليوم بالدُستور، وباللغة الفارسيّة «قانون أساسي» ولا ريب في اتّحاد القاعدة الفقهيّة مع القاعدة الاصوليّة في هذه الجهة (أي الأهميّة والخطورة).

اللهمّ إلّاأن يقال: إنّ خبر الواحد في ما نحن فيه معتضد بعمل الأصحاب قديماً وحديثاً،

انوار الأصول، ج 3، ص: 80

مضافاً إلى تظافر الأخبار في المقام، وهو كافٍ في إثبات المطلوب.

2- إنّه لا يستفاد من هذه الأخبار أكثر من الثواب الإنقيادي كما أنّه مقتضى صراحة بعض التعابير الواردة فيها كقوله عليه السلام: «ففعل ذلك طلب قول النبي صلى الله عليه و آله» أو «التماس ذلك الثواب» وكما أنّه مقتضى التفريع بالفاء في بعض آخر (فعمله) حيث إنّ مثل هذه التعابير ظاهرة أو صريحة في أنّ الباعث على العمل إنّما هو الإنقياد والتماس الثواب، وحينئذٍ بناءً على ترتّب الثواب على الإنقياد أيضاً لا تكون هذه الأخبار دليلًا على الاستحباب

بل غاية ما يستفاد منها الإرشاد إلى حكم العقل بحسن الإنقياد.

وإن شئت قلت: لا أقلّ من صيرورتها مجملة بالنسبة إلى دلالتها على الاستحباب.

أقول: هذا عمدة الإيراد على الاستدلال بهذه الأخبار على الاستحباب النفسي، وذلك وقع الأعلام في حيص وبيص في مقام الجواب عنه.

فأجابوا عنه أوّلًا: بأنّ لازم هذا (كون المدلول الثواب الإنقيادي فقط) ترتّب الثواب الإنقيادي كلّما حصل الاحتمال بكون هذا العمل صادراً من ناحية الرسول صلى الله عليه و آله ولو من طريق فتوى فقيه فلماذا عبّر فيها بخصوص الخبر؟

ولكنّه قابل للدفع بأنّ الغالب في نشوء الاحتمال إنّما هو الخبر الضعيف، فالروايات ناظرة إلى الفرد الغالب، أضف إلى ذلك وجود احتمال خصوصيّة في الثواب الإنقيادي الحاصل من الخبر وهى احترام قول النبي صلى الله عليه و آله والأئمّة عليهم السلام.

وثانياً: بأنّ الثواب الإنقيادي أمر لازم لنيّة العبد لنفس العمل كما لا يخفى، بينما الظاهر من هذه الروايات ترتّب الثواب على نفس العمل.

ولكنّه أيضاً قابل للدفع بأنّ الثواب الإنقيادي أيضاً مربوط بالعمل لا النيّة، غاية الأمر أنّه يترتّب على العمل المستند إلى النيّة كما يحكم به الوجدان في باب التجرّي أيضاً.

3- (وهو من أهمّها) إنّ لحن هذه الأخبار لحن التفضّل لا الاستحقاق كما يشهد عليه أنّ ظاهرها ترتّب نفس الثواب الذي بلغه، مع أنّه لو كان من باب الاستحقاق، كان الثواب الاستحقاقي تابعاً في درجته مقدار ما يقتضيه العمل واقعاً سواء كان أقلّ ممّا بلغه أو أكثر.

نعم لا يوجد هذا اللحن في الصحاح منها (وهى روايتي هشام) لكنّه موجود في عدّة متضافرة، منها والتضافر موجب لجبر الضعف وحصول الوثوق بالصدور.

انوار الأصول، ج 3، ص: 81

4- ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله من «أنّ هذه الأخبار مسوقة

لبيان أنّ البلوغ يحدث مصلحة في العمل بها فيكون البلوغ كسائر العناوين الطارئة على الأفعال الموجبة لحسنها وقبحها والمقتضية لتغيير أحكامها، كالضرر والعسر والنذر والإكراه وغير ذلك من العناوين الثانوية، فيصير حاصل معنى قوله عليه السلام «إذا بلغه بعد حمل الجملة الخبرية على الإنشائيّة هو أنّه يستحبّ العمل عند بلوغ الثواب عليه كما يجب العمل عند نذره، فيكون مفاد الأخبار حجّيه قول المبلّغ وأنّ ما أخبر به هو الواقع، فيترتّب عليه كلّ ما يترتّب على الخبر الواجد للشرائط» «1».

أقول: إنّ معنى هذا الكلام قبول دلالة الأخبار على الاستحباب لعدم الفرق بين أن نستفيد منها الحجّية الاصوليّة أو الاستحباب في مسألة فقهيّة ولا تترتّب عليه ثمره غير ما سيأتي ذكره في التنبيهات، فليس هذا إشكالًا على دلالة أخبار من بلغ.

5- ما ذهب إليه في تهذيب الاصول وهو: «أنّ الظاهر من هذه الأخبار أنّ وزانها وزان الجعالة، بمعنى وضع الحكم على العنوان العام ليتعقّبه كلّ من أراد، فكما أنّ تلك، جعل معلّق على ردّ الضالّة، فهذا أيضاً جعل متعلّق على الإتيان بالعمل بعد البلوغ برجاء الثواب.

توضيحه: أنّ غرض الشارع لما تعلّق على التحفّظ بعامّة السنن والمستحبّات ويرى أنّ الاكتفاء في طريق تحصيلها بالطرق المألوفة ربّما يوجب تفويت بعضها، فلأجل ذلك توصّل إلى مراده بالحثّ والترغيب إلى إتيان كلّ ما سمع عن الغير الذي يحتمل كونه ممّا أمر به رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وأردف حثّه باستحقاق الثواب وترتّب المثوبة على نفس العمل حتّى يحدث في نفس المكلّف شوقاً إلى الإتيان، لعلمه بأنّه يثاب بعمله طابق الواقع أو خالف ... وممّا ذكرنا يظهر إنّ استفادة الاستحباب الشرعي منها مشكل غايته، للفرق الواضح بين ترتّب الثواب على

عمل له خصوصيّة ورجحان ذاتي فيه كما في المستحبّات وبين ترتّب الثواب على الشي ء لأجل إدراك المكلّف ما هو الواقع المجهول كما في المقام، كما أنّ جعل الثواب على المقدّمات العلمية لأجل إدراك الواقع لا يلازم كونها اموراً استحبابيّة وكما أنّ جعل الثواب على المشي في طريق الوفود إلى اللَّه أو إلى زيارة الإمام الطاهر الحسين بن علي عليهما السلام لأجل الحثّ إلى زيارة بيت اللَّه انوار الأصول، ج 3، ص: 82

أو الإمام لا يلازم كون المشي مستحبّاً نفسيّاً» «1».

أقول: لا يترتّب على نفس ما يكون مجرّد طريق أو مقدّمة إلى شي ء ثواب كما ذكر في محلّه في مبحث مقدّمة الواجب سواء كانت مقدّمة العلم أو مقدّمة الوجود مع أنّ الظاهر من هذه الأخبار ترتّب الثواب على نفس العمل، وهذا يقتضي كونه مستحبّاً ولو بعنوان ثانوي غير كونه مقدّمة.

6- إنّه يمكن أن يكون مورد الروايات ما إذا كان المبلّغ ثقة كما هو الظاهر في بدو النظر من قوله عليه السلام: «بلغه» لأنّ البلوغ ظاهر في البلوغ الصحيح، ولا أقلّ من عدم كونه في مقام البيان من هذه الجهة (كون المبلغ ثقة أو غير ثقة) فلا يمكن التمسّك بإطلاقه بل إنّه في مقام بيان أنّ الثواب يترتّب على العمل حتّى في صورة التخلّف عن الواقع.

لكن يمكن أن يقال: إنّ اطلاق حديث من بلغ يقتضي عدم الفرق بين البلوغ من الطرق المعتبرة أو غيرها لصدق البلوغ على كليهما، ويؤيّده فهم الفقهاء، حيث إنّهم في باب التسامح في أدلّة السنن تمسّكوا بهذه الأخبار.

وإن شئت قلت: بلوغ الخبر أعمّ من أن يكون الخبر مطابقاً للواقع أو غير مطابق، فالبلوغ صحيح على كلّ حال وإن لم يكن الخبر مطابقاً للواقع.

7- إنّها

تتعارض مع منطوق آية النبأ لأنّها تدلّ بإطلاقها على وجوب التبيّن حتّى في المستحبّات.

واجيب عنه: بأنّ عموم الآية أو إطلاقها يخصّص أو يقيّد بهذه الروايات.

8- إنّ مدلولها أخصّ من المدّعى من ناحية وأعمّ منها من ناحية اخرى، فهو أخصّ من باب أنّ موردها ما إذا وعد بالثواب، فلا يعمّ غيره كما إذا ورد خبر ضعيف بصيغة الأمر كقوله «اغتسل» من دون الوعد بالثواب، وأعمّ من جهة إنّها تشمل ما إذا كان الخبر الضعيف دالًا على الوجوب أيضاً.

ويمكن الجواب عن هذا بأنّها شاملة لموارد عدم الوعد بالثواب بمدلولها الالتزامي كما لا يخفى، لإلغاء الخصوصيّة من هذه الناحية عرفاً. وأمّا عمومها بالنسبة إلى الخبر الدالّ على انوار الأصول، ج 3، ص: 83

الوجوب فلا بأس به لأنّ المعتبر دلالته على رجحان الفعل وترتّب الثواب فيصير بضميمة أخبار من بلغ دليلًا على الاستحباب.

هذا كلّه هو ما اورد على أخبار من بلغ من الإيرادات حيث كان الأوّل منها إيراداً من ناحية السند والباقي من ناحية الدلالة، وكان أهمّها الذي لا يمكن الجواب عنه، هو الإشكال الثاني وحينئذٍ لا يمكن التمسّك بهذه الأخبار لإثبات استحباب ما أمرت به الأخبار الضعاف، فلا يجوز الفتوى بالاستحباب بل لابدّ أن يقيّد بلزوم إتيان العمل بقصد الرجاء، وبهذا يسقط كثير من المستحبّات الواردة في كتب الفتوى والرسائل العمليّة، فاللازم الإتيان بها بقصد الرجاء لا الورود، إلّاإذا كان دليلها الأخبار المعتبرة لا الضعاف.

ثمّ إنّه لو سلّمنا دلالتها على الاستحباب فليس مفادها حجّية الخبر الضعيف بعنوان مسألة اصوليّة بحيث يكون مثل قوله عليه السلام: «ما أدّيا عنّي فعنّي يؤدّيان» بل إنّ مفادها مجرّد إعطاء قاعدة كلّية فقهيّة وهى استحباب العمل بعنوان ثانوي وهو عنوان البلوغ.

والفرق بين الأمرين يظهر

في بعض الفروع نظير ما مثّل به الشيخ الأعظم الأنصاري رحمه الله في رسائله من غسل المسترسل من اللحية في الوضوء، فالحكم باستحبابه من باب دلالة خبر ضعيف عليه لا يوجب جواز المسح ببلله لأنّ المسح لابدّ من أن يكون من بلل الوضوء، ولا يصحّ ببلل ما ليس منه ولو كان مستحبّاً فيه إلّاإذا ثبت كونه جزءاً مستحبّاً من الوضوء بدليل معتبر، فلا إشكال حينئذٍ في جواز المسح به.

أضف إلى ذلك كلّه خروج هذه الأخبار عن محلّ النزاع (وهو تصحيح العبادة الاحتياطيّة) لأنّه إمّا أن تكون أخبار من بلغ كافية لإثبات الاستحباب الشرعي أو لا، وفي كلا الحالين يكون البحث عنها خارجاً عن محلّ النزاع، أمّا على الأوّل فلأنّ محلّ البحث في المقام ما إذا لم يكن في البين حجّة على الوجوب أو الاستحباب واريد الاحتياط، فلو كانت هذه الأخبار كافية لإثبات الحجّية للخبر الضعيف فلا معنى لإتيان العمل بقصد الاحتياط كما لا يخفى.

وأمّا على الثاني فلأنّ المفروض في محلّ الكلام عدم كفاية قصد الرجاء مع أنّ مقتضى التعبير الوارد في هذه الأخبار لزوم قصد الرجاء في هذه الموارد، فلا فائدة في الاستناد إلى أخبار من بلغ لما هو محلّ البحث.

انوار الأصول، ج 3، ص: 84

بقي هنا امور

الأمر الأوّل: إنّ إحراز موضوع البلوغ من وظيفة المجتهد لا المقلّد سواء كانت المسألة اصوليّة أو كانت قاعدة فقهيّة أو مسألة فقهيّة، أمّا بناءً على كونها اصوليّه فلأنّ الحجّية أو عدمها أمر تشخيصها من شأن المجتهد، وأمّا بناءً على كونها قاعدة فقهيّة أو مسألة فقهيّة فلأنّ تشخيص البلوغ أو عدمه يتوقّف على إعمال مقدّمات فنيّة لا يكون في استطاعة المقلّد غالباً.

الأمر الثاني: أنّه لا فرق في المقام بين أن

يكون الخبر الضعيف مفاده استحباب الشي ء أو وجوبه لاتّحاد المناط فيهما وهو بلوغ الثواب، فالخبر الدالّ على الوجوب حيث إنّ من مدلوله ترتّب الثواب والأجر يتحقّق به موضوع البلوغ، فيكون مشمولًا لأخبار من بلغ، ويصير مفاده مستحبّاً بالعنوان الثانوي وإن لم يثبت به الوجوب بالعنوان الأوّلي، نعم هذا كلّه بناءً على عدم كون المسألة اصوليّة، وأمّا إذا كانت المسألة اصوليّة فحيث إنّه يثبت بهذه الأخبار حجّية الخبر الضعيف يكون الخبر معتبراً من ناحية السند فيدلّ على الوجوب بلا إشكال.

اللهمّ إلّاأن يقال: بإمكان بالتبعيض في الحجّية، وذلك بأن لا يكون مفاد هذه الأخبار بناءً على هذا المبنى أيضاً أكثر من الحجّية من ناحية دلالة الخبر على الرجحان لا الحجّية مطلقاً، فيثبت به مجرّد رجحان العمل واستحبابه فحسب.

الأمر الثالث: أنّه لا فرق بين أن يكون الخبر منسوباً إلى النبي صلى الله عليه و آله أو إلى الأئمّة المعصومين عليهم السلام، لأنّ روايات الباب من هذه الجهة على ثلاث طوائف فطائفة: منها يكون الموضوع فيها مطلق بلوغ الثواب كالرواية 6 و 8 و 9 من الباب، وفي طائفة اخرى مقيّد بالبلوغ عن النبي صلى الله عليه و آله كالرواية 5 و 4 و 3 و 1، وفي طائفة ثالثة مقيّد بالبلوغ عن اللَّه تبارك وتعالى كالرواية 7.

أمّا الطائفة الاولى: فلا إشكال في شمولها للخبر المنسوب إلى الأئمّة عليهم السلام كما لا إشكال في عدم تقييدها بالطائفتين الاخريين لأنّهما من قبيل المثبتين.

وأمّا الطائفة الثانية والثالثة: فيمكن أيضاً الاستدلال بهما لجهتين:

الاولى: إلغاء الخصوصيّة من النبي صلى الله عليه و آله وإنّ الأئمّة وارثون له وحاملون لعلومه.

الثانية: الأخبار الخاصّة التي تدلّ على أنّ ما عند الأئمّة عليهم السلام من علم الحلال

والحرام والشرائع والأحكام نزل به جبرئيل عليه السلام وأخذوه من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقد ورد في بعضها عن انوار الأصول، ج 3، ص: 85

أبي عبداللَّه عليه السلام يقول: «حديثي حديث أبي وحديث أبي حديث جدّي وحديث جدّي حديث الحسين عليه السلام وحديث الحسين عليه السلام حديث الحسن عليه السلام وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين عليه السلام وحديث أمير المؤمنين حديث رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وحديث رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قول اللَّه عزّوجلّ» «1».

وفي بعضها الآخر عن الصادق عليه السلام: «ما سمعته منّي فاروه عن أبي وما سمعته منّي فاروه عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله» «2».

فبضمّ هذه الروايات إلى الخبر الضعيف المروي عن الأئمّة عليهم السلام يثبت موضوع البلوغ عن النبي صلى الله عليه و آله أو اللَّه سبحانه بلا إشكال.

الأمر الرابع: أنّ هذه الأخبار لا تشمل ما إذا احتمل الاستحباب من غير ناحية الخبر الضعيف من فتوى فقيه بل من شهرة أو إجماع منقول أو من غير ذلك ممّا ليس بحجّة شرعاً (في صورة عدم حصول اليقين أو الاطمئنان بسببها بوجود خبر لم يصل إلينا) وإن كانت بعضها مطلقةً كما مرّ آنفاً لانصرافها إلى البلوغ عن المعصوم بالخبر المروي عنه.

وإن شئت قلت: لا يصدق عنوان البلوغ عن المعصوم في فتوى الفقيه باستحباب شي ء أو وجوبه لأنّ الفقيه يخبر عن رأيه بالوجوب أو الاستحباب ولا يكون واسطة في النقل.

الأمر الخامس: أنّه يكفي في المقام مجرّد ورود أمر من ناحية المعصوم عليه السلام من دون أن يعد بالثواب صريحاً، كما إذا ورد في رواية ضعيفة: «اغتسل للزيارة» لما مرّ سابقاً من أنّه لا فرق فيما

نحن فيه بين أن يكون الوعد بالثواب مدلولًا مطابقياً للخبر أو مدلولًا التزامياً له، ولا إشكال في أنّ الأمر بعمل يدلّ بالالتزام على ترتّب أجر وثواب عليه.

الأمر السادس: أنّ الظاهر عدم شمول الأخبار لما يدلّ على كراهة عمل أو حرمته، فلا يجري التسامح في أدلّة المكروهات لأنّ موضوعها بلوغ الثواب، وهو يصدق فيما إذا كان الفعل ذو مصلحة وترتّب عليه ثواب، والمكروه أو الحرام لا يكون في تركه مصلحة فلا يترتّب عليه ثواب بل إنّه مجرّد اجتناب عن مفسدة يوجب النجاة من العقاب.

لكن الإنصاف أنّ ظاهر جملة من الآيات والروايات ترتّب الثواب على ترك المعصية إذا

انوار الأصول، ج 3، ص: 86

كان بعنوان الإطاعة للَّه كقوله تعالى: «وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ...» «1»

وقوله تعالى: «وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى» «2»

وقوله تعالى: «وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ...» «3»

، إذن فتأتي فيها أخبار من بلغ، ويكون الكلام في الخبر الدالّ على الحرمة نظير الكلام في الخبر الدالّ على الوجوب.

الأمر السابع: في شمول أخبار من بلغ الأحاديث المأثورة عن النبي صلى الله عليه و آله بطرق العامّة وعدمه.

فنقول: لو كنّا نحن وأخبار من بلغ فلا إشكال في دخولها تحت اطلاق هذه الأخبار، إلّا أنّه يمكن أن يقال بأنّ مقتضى بعض الروايات الخاصّة عدم جواز الأخذ برواياتهم كقوله عليه السلام في مقبولة عمر بن حنظلة: «ما خالف العامّة ففيه الرشاد» «4» وقوله عليه السلام: «لا تأخذنّ معالم دينك من غير شيعتنا فإنّك إن تعدّيتهم أخذت دينك عن الخائنين الذين خانوا اللَّه ورسوله وخانوا أماناتهم ...» «5».

لكن الصحيح عدم طروّ منع من ناحية

هذه الروايات لأنّها خارجة عن محلّ الكلام، فمثلًا الرواية الاولى مختصّة بالمرجّحات في باب تعارض الخبرين، والثانية ظاهرة في اصول الدين بمقتضى تعبيرها بمعالم الدين حيث إنّه ظاهر في الاصول وشبهها.

الأمر الثامن: أنّه لا إشكال في عدم شمول أخبار من بلغ للرواية الضعيفة من ناحية الدلالة والغير ظاهرة في الاستحباب أو الوجوب لعدم صدق موضوع البلوغ حينئذٍ كما لا يخفى.

الأمر التاسع: أنّه لا تبعد دعوى شمول أخبار من بلغ للإخبار عن بعض الموضوعات الخارجية التي يلازم الأخبار عن ترتّب الثواب عرفاً كما إذا قام خبر ضعيف على كون مكان انوار الأصول، ج 3، ص: 87

معيّن مدفن معصوم كمدفن هود وصالح في المكان المعروف الآن في وادي السلام في أرض الغري أو مقام إمام عليه السلام، فإنّ الإخبار بهذه الموضوعات يدلّ التزاماً على ترتّب الثواب على زيارة المعصوم في المكان الذي قام الخبر على كونه مدفنه، ولا إشكال في أنّ البلوغ يصدق على كلّ من الدلالة المطابقيّة والالتزاميّة لأنّ العرف يلغي الخصوصيّة عن المدلول المطابقي، فيصير مثل هذا الخبر مشمولًا لأخبار من بلغ.

الأمر العاشر: إذا وردت رواية ضعيفة باستحباب فعل، وورد دليل معتبر ظنّي بعدم استحبابه فهل تشملهما أخبار من بلغ أو لا؟ قال الشيخ الأعظم الأنصاري رحمه الله في رسالته الخاصّة في مسألة التسامح: «فيه وجهان بل قولان صرّح بعض مشايخنا بالثاني لأنّ الدليل المعتبر بمنزلة القطعي فلابدّ من التزام عدم استحبابه وترتيب آثار عدم الاستحباب عليه كما لو قطع بعدم الاستحباب» ثمّ إستشكل فيه بما يرجع حاصله إلى وجهين:

الأوّل: إنّ أخبار من بلغ تعارض أدلّة حجّية الدليل المعتبر، ومقتضى القاعدة وإن كان هو التساقط إلّاأنّ الأمر لمّا دار بين الاستحباب وغيره وصدق بلوغ الثواب حكم

بالاستحباب تسامحاً.

فإن قلت: أخبار بلوغ الثواب لا تعمّ نفسها.

قلنا: نعم هو غير معقول إلّاأنّ المناط منقّح فلا يقدح عدم العموم اللفظي لعدم تعقّله فافهم فالقول بالتسامح قوي جدّاً.

الثاني: أنّه لا تعارض في البيان لأنّ الشارع نزّل المظنون بالأدلّة المعتبرة منزلة الواقع المقطوع لا أنّه نزّل صفة الظنّ منزلة صفة القطع، ونزّل نفس الاحتمال المرجوح منزلة القطع بالعدم، وحينئذٍ يكون الاحتمال باقياً على حاله، وهو موضوع أخبار عن بلغ، ولذا لا ينكر حسن الاحتياط مع قيام الأدلّة المعتبرة.

أقول: أوّلًا: لا تعارض بين أدلّة حجّية خبر الواحد وأخبار من بلغ، بل الثانية حاكمة على الاولى كحكومة أدلّة الوفاء بالنذر على أدلّة استحباب صلاة الليل مثلًا فيما إذا نذر أن يأتي بها، فإنّ موضوع هذه الأخبار عنوان ثانوي وهو عنوان العمل بالخبر الضعيف امتثالًا لقول النبي صلى الله عليه و آله (وتعظيماً واهتماماً بكلامه) وهو متحقّق حتّى بعد قيام دليل معتبر على عدم الاستحباب.

انوار الأصول، ج 3، ص: 88

وثانياً: لا يبعد دعوى انصراف هذه الأخبار عن مثل هذا المورد، وقد أشار إليه الشيخ رحمه الله نفسه في ذيل كلامه إلّاأنّه لم يقبله بقوله «ولا شاهد عليه»، ونحن نقول: الشاهد عليه هو الوجدان.

الأمر الحادي عشر: لو وردت رواية ضعيفة بالاستحباب ورواية ضعيفة اخرى بعدمه فلا إشكال في شمول أخبار من بلغ، لعدم جريان ما مرّ في التنبيه السابق من الانصراف هنا كما لا يخفى، ومنه يظهر الحال فيما إذا وردت رواية ضعيفة اخرى بالكراهة فلا مانع من الشمول أيضاً لتحقّق موضوع الأخبار وهو بلوغ الثواب وعدم إحراز الإنصراف.

لكن شيخنا الأنصاري رحمه الله إستشكل فيه بأنّ لازمه استحباب كلّ من الفعل والترك لأنّ ترك العمل المكروه أيضاً مستحبّ، وهو غير ممكن

لأنّ طلب الفعل والترك قبيح لعدم القدرة على الإمتثال، وصرف الأخبار إلى استحباب أحدهما على وجه التخيير موجب لاستعمال الكلام في الاستحباب العيني والتخييري (أي استعمال اللفظ في أكثر من معنى) مع أنّ التخيير بين الفعل والترك في الاستحباب لا محصّل له (لأنّ المكلّف إمّا فاعل أو تارك على أيّ حال فيكون الطلب التخييري من قبيل تحصيل الحاصل).

أقول: أوّلًا: لا إشكال في جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى على المبنى المذكور في محلّه.

ثانياً: ليس التخيير بين الفعل والترك في ما نحن فيه من قبيل تحصيل الحاصل لأنّه إنّما يتصوّر فيما إذا لم يكن شقّ ثالث في المقام بينما الصور المتصوّرة هنا أربعة، فتارةً يأتي بالعمل احتراماً للنبي صلى الله عليه و آله ورجاءً للثواب، واخرى يتركه كذلك، وثالثة يأتي به لا لطلب الثواب وقول النبي صلى الله عليه و آله بل لداع من الدواعي الاخرى، ورابعة يتركه كذلك، وحينئذٍ يمكن البعث والتحريك لأن يأتي المكلّف بالفعل أو يتركه بقصد القربة وطلباً لما بلغ عن النبي صلى الله عليه و آله من الثواب.

فلا إشكال حينئذٍ في شمول الأخبار لما نحن فيه، نعم لا يبعد القول بالانصراف في هذه الصورة أيضاً كما أشار إليه الشيخ الأنصاري رحمه الله في ذيل كلامه بقوله: «مضافاً إلى انصرافها

انوار الأصول، ج 3، ص: 89

بشهادة العرف إلى غير هذه الصورة» «1».

الأمر الثاني عشر: حكى عن الشهيد رحمه الله في الدراية أنّه قال: «جوّز الأكثر العمل بالخبر الضعيف في نحو القصص والمواعظ وفضائل الأعمال لا في صفات اللَّه تعالى وأحكام الحلال والحرام وهو حسن حيث لم يبلغ الضعيف حدّ الوضع والاختلاف (الاختلاق)».

وقال شيخنا الأعظم رحمه الله بعد نقل كلامه هذا: «المراد بالخبر الضعيف

في القصص والمواعظ هو نقلها واستماعها وضبطها في القلب وترتيب الآثار عليها عدا ما يتعلّق بالواجب والحرام ... ويدخل حكاية فضائل أهل البيت عليهم السلام ومصائبهم من دون نسبة إلى الحكاية ...

كأن يقول: كان أمير المؤمنين يقول كذا ويفعل كذا ويبكي كذا، ونزل على مولانا سيّد الشهداء عليه السلام كذا وكذا» «2».

ثمّ استدلّ على الجواز بطريق العقل والنقل وقال: إنّ الدليل على جواز ما ذكرنا من طريق العقل حسن العمل بهذه مع أمن المضرّة فيها على تقدير الكذب، وأمّا من طريق النقل فرواية ابن طاووس رحمه الله (من بلغه شي ء من الخير فعمل به كان له ذلك «3» والنبوي»

(وهو رواية عدّة الداعي المذكورة سابقاً).

أقول: يرد عليهما (الشهيد والشيخ الأعظم رحمهما الله) أوّلًا: أنّ المقام داخل في ما استثنياه من كلامهما وهو ما يتعلّق بالحرام والحلال لأنّ المقام مشمول لقوله تعالى: «وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ» والقول بغير علم حرام بمقتضى هذه الآية وأدلّة اخرى كثيرة إلّاإذا قلنا بأنّ المستفاد من أخبار من بلغ حجّية الخبر الضعيف فيكون حاكماً على هذه الآية.

ثانياً: الظاهر من قوله عليه السلام «فعمل به» العمل الخارجي الجارحي، ونقل القصص وذكر الفضائل ليس عملًا بالقصص والفضائل ولا أقلّ من الإنصراف.

ثالثاً: لا يأمن من المضرّة في المقام لأنّ هذا يفتح باب الأكاذيب والخرافات في الشرع المقدّس وادخال ما يوجب الوهن للأنبياء والأوصياء ولمعالمهم ومعارفهم، وأيّ مضرّة أشدّ

انوار الأصول، ج 3، ص: 90

منه؟!

ومن العجب استدلال بعضهم للجواز بما دلّ على رجحان الإعانة على البرّ والتقوى ورجحان الإبكاء على سيّد الشهداء عليه السلام ما دامت الغبرى والسماء، وأنّ من أبكى وجبت له الجنّة من باب أنّ ذكر المصائب مقدّمة للبكاء المستحبّ ومقدّمة المستحبّ مستحبّة.

وفيه:

أنّ الإعانة والإبكاء- كما أفاد الشيخ الأعظم رحمه الله- قد قيّد رجحانهما بالسبب المباح والمقدّمة المباحة، لعدم جواز التوصّل بالمحرّم لإتيان المستحبّ، فلابدّ حينئذٍ من ثبوت إباحة المقدّمة من الخارج، ولا يمكن إثبات إباحة شي ء وعدم تحريمه بأنّه يصير ممّا يعان به على البرّ لو كان كذلك لكان لأدلّة الإعانة والإبكاء قوّة المعارضة لما دلّ على تحريم بعض الأشياء كالغناء في المراثي والعمل بالملاهي لإجابة المؤمن ونحو ذلك.

الأمر الثالث عشر: هل يترتّب على متعلّق أخبار من بلغ سائر آثار العمل المستحبّ غير تّرتّب الثواب؟ فإذا ورد خبر ضعيف على استحباب غسل خاصّ فهل يمكن إتيان الصّلاة به بناءً على كفاية الأغسال المستحبّة عن الوضوء؟

قد يقال بالفرق بين ما إذا كان المبنى ثبوت المسألة الاصوليّة فيترتّب سائر الآثار، وما إذا كان المبنى ثبوت المسألة الفقهيّة فلا يترتّب، ولكن الإنصاف عدم الفرق بين المبنيين لأنّه إذا كان المستفاد من الأخبار مجرّد ترتّب الثواب على ذلك الفعل لا المحبوبيّة الذاتيّة فعلى القول بدلالتها على حجّية الخبر أيضاً يمكن أن يقال بأنّها تدلّ على الحجّية من هذه الجهة لا من جميع الجهات وإن شئت قلت: كفاية الأغسال المستحبّة عن الوضوء ناظرة إلى ما كان مستحبّاً ذاتيّاً لا ما كان بعنوان الإنقياد وطلب قول النبي صلى الله عليه و آله من العناوين الطارئة.

الأمر الرابع عشر: لا إشكال في أنّ النسبة بين هذه الأخبار وأدلّة حرمة التشريع ليست التعارض لأنّ الأخبار حاكمة عليها توجب رفع موضوع التشريع تعبّداً كما لا يخفى.

وإن شئت قلت: أخبار من بلغ لسانها لسان أدلّة العناوين الثانوية كأدلّة أمر الوالد وشبهها الجارية على موضوعات ثانوية، ومن المعلوم أنّها حاكمة على أدلّة العناوين الأوّلية بل قد يكون واردة

عليها إذا كانت قطعيّة.

الأمر الخامس عشر: أنّ ظاهر الأصحاب عدم التفصيل في مسألة التسامح بين أن يكون الفعل من ماهيّات العبادات المركّبة المخترعة كما إذا ورد خبر ضعيف على أنّ صلاة الأعرابي انوار الأصول، ج 3، ص: 91

أربع ركعات وبين أن يكون من غيرها.

قال الشيخ الأعظم رحمه الله: «إلّا أنّ الاستاذ الشريف قدس سره فصّل ومنع التسامح في الاولى، والذي بالبال ما ذكره لساناً في وجه التفصيل هو أنّ «1» ... (إلى هنا جفّ قلمه الشريف).

أقول: لعلّ وجه التفصيل في نظر شريف العلماء رحمه الله أنّ المستفاد من مذاق الشرع والذوق الفقهي المتشرّعي أنّ ماهيات العبادات لكونها من المخترعات الشرعيّة التوقيفيّة لا تثبت إلّا بدليل معتبر، وهذا غاية ما يمكن أن يقال به في توجيه هذا التفصيل، وهو في محلّه، وإن أبيت عن هذا فإنّ الأخبار عامّة تعمّ كلتا الصورتين كما لا يخفى.

إلى هنا تمّ البحث عن أخبار من بلغ وقد تحصّل منه امور أهمّها ثلاثة:

الأوّل: إنّه لا يستفاد من هذه الأخبار لا حجّية الأخبار الضعيفة ولا الاستحباب الفقهي، وما ذكرنا من التنبيهات كان مبنيّاً على أحد المبنيين لا على ما اخترناه من أنّ المستفاد منها مجرّد ترتّب الثواب تفضّلًا، وقد جرت عادة القوم على هذا النحو من البحث فكثيراً ما يبحثون عن مسائل لا موضوع لها إلّاعلى بعض المباني.

الثاني: إنّ المستفاد من هذه الأخبار لزوم إتيان العمل بقصد رجاء ترتّب الثواب وإن قلنا بدلالتها على الاستحباب لأنّه صريح مثل قوله عليه السلام «فعمل به رجاء ذلك الثواب».

الثالث: إنّ هذه الأخبار لا تحلّ المشكلة التي طرحنا هذا البحث لأجلها، وهى مشكلة العبادات المشكوكة بناءً على اعتبار قصد الأمر القطعي فيها، وذلك باعتبار أنّ المستفاد منها إتيان

العمل بقصد الرجاء كما مرّ آنفاً، والمفروض عدم كفايته في عبادية العبادة. هذا أوّلًا.

وثانياً: لو سلّمنا الكفاية كان الدليل أخصّ من المدّعى حيث إنّ هذه الأخبار تشمل خصوص العبادات المشكوكة التي يكون منشأ الشكّ فيها رواية ضعيفة، فلا تعمّ ما كان المنشأ فيه أمر آخر من قبيل شهرة أو إجماع منقول.

نعم هذا كلّه بناءً على اعتبار قصد الأمر الجزمي القطعي في العبادة، وأمّا على القول بكفاية مطلق المحبوبية وقصد الرجاء (كما هو المختار) فلا حاجة إلى أخبار من بلغ من الأساس كما لا يخفى، وقد عرفت غير مرّة أنّ المعتبر في العبادة الحسن الفعلي والفاعلي، والمراد من انوار الأصول، ج 3، ص: 92

الحسن الفعلي كونه أمراً قربيّاً، ومن الحسن الفاعلي كون الداعي والباعث على الإتيان بالعمل هو اللَّه تعالى بأيّ صورة كانت.

التنبيه الثالث: في جريان البراءة في الشبهات الموضوعيّة

وفيه ثلاثة وجوه:

الأوّل: ما هو المشهور وهو البراءة مطلقاً.

الثاني: الاحتياط مطلقاً.

الثالث: التفصيل بين ما إذا كان المطلوب في الحرام مجموع التروك من حيث المجموع بحيث لو أتى به في زمان أو مكان دفعةً واحدة لم يمتثل أصلًا فلا تجري البراءة، وبين ما إذا كان المطلوب فيه تروكاً متعدّدة بحيث يكون كلّ ترك مطلوباً مستقلًا (كالنهي عن الخمر أو الكذب) فيقتصر في الترك على الأفراد المعلومة، وأمّا المشكوكة فتجري البراءة عن حرمتها.

واستدلّ للقول الأوّل: تارةً بالبراءة العقليّة، واخرى بالبراءة الشرعيّة.

أمّا البراءة العقليّة: فالمعروف جريانها في الشبهات الموضوعيّة أيضاً لقاعدة قبح العقاب بلا بيان.

لكن الإنصاف أنّه مشكل لأنّ وظيفة الشارع بما هو شارع ليس إلّابيان الكبريات، وقد بيّنها ووصلت إلى المكلّف حسب الفرض، وإنّما الشكّ في الصغرى وهى كون هذا المائع الخارجي مثلًا ممّا ينطبق عليه متعلّق الحرمة وهو الخمر أم لا، ومن المعلوم أنّ المرجع

في إزالة هذه الشبهة ليس هو الشارع فلا يتحقّق حينئذٍ موضوع القاعدة وهو عدم البيان، فلا تجري القاعدة بل على المكلّف إزالة هذا النوع من التردّد والاشتباه.

قد يقال: إنّ المراد من البيان في هذه القاعدة هو العلم، وعدم العلم صادق في المقام، ولكنّه مجرّد دعوى عهدتها على مدّعيها لأنّه لا دليل على كون قبح العقاب بلا علم مطلقاً وفي جميع الموارد من المستقلّات العقليّة.

وقال المحقّق النائيني رحمه الله بما حاصله: إنّ مردّ قاعدة قبح العقاب بلا بيان إنّما هو قبح العقاب بلا علم لأنّ العقل حاكم على أنّ المجهول لا يمكن أن يكون باعثاً ومحرّكاً للمكلّف ولا

انوار الأصول، ج 3، ص: 93

فرق فيه بين الجهل بالصغرى والكبرى «1».

وقد مرّ أنّه لا إشكال في محرّكية المجهول بل الإنسان ونوع البشر يتحرّك في الصناعات والتجارات والزراعات في أكثر الموارد بالاحتمال بل قد يكون الإنبعاث بمجرّد الوهم (أي الاحتمال المرجوح) كما إذا كان في طلب ضالّته.

هذا كلّه بناءً على مبنى القوم من أنّ القاعدة عقلية، وأمّا بناءً على ما اخترناه من أنّها عقلائيّة فلا يبعد عدم بناء العقلاء على البراءة في الشبهات الموضوعيّة خصوصاً في الموضوعات الهامّة، فإذا قال المولى لعبده «إحذر من أعدائي» مثلًا، فمن البعيد جدّاً بناء العقلاء على قبح عقاب العبد فيما إذا لم يحذر من مشكوك العداوة، والظاهر أنّه لا فرق في ذلك بين الدماء والفروج وغيرها.

أمّا البراءة النقلية: فلا إشكال في جريانها في الشبهات الموضوعيّة لأنّه القدر المتيقّن من أكثر أدلّتها، وأمّا تفصيل المحقّق الخراساني رحمه الله بين ما كان من قبيل العام الإفرادي والمجموعي، فقد أورد عليه بأنّ مقتضى القاعدة جريان البراءة في كلا القسمين من كلامه، لما سيأتي من عدم وجوب الاحتياط

حتّى في الأقلّ والأكثر الإرتباطيين، ولا إشكال في رجوع القسم الثاني إلى الأقل والأكثر الإرتباطيين، والحقّ فيه الانحلال.

إن قلت: إنّ الإشكال مبنائي لأنّ مبنى المحقّق الخراساني رحمه الله في الأقلّ والأكثر الإرتباطيين هو الاحتياط.

قلنا: سيأتي إنّه قائل بجريان البراءة الشرعيّة وإن كان حكم العقل عنده الاحتياط، فالنتيجة النهائيّة عنده في مقام العمل هى البراءة، وهى تخالف ما اختاره في المقام.

نعم هيهنا صورة ثالثة تقتضي القاعدة الاحتياط فيها ولعلّها كانت مورد نظر المحقّق الخراساني رحمه الله وهى ما إذا كان المأمور به أمراً بسيطاً يتحقّق بإتيان مجموع التروك مقدّمة، فيرجع الشكّ في المصداق المشكوك إلى الشكّ في المحصّل الذي لا إشكال في أنّ مقتضى الاشتغال اليقيني فيه البراءة اليقينية، وحينئذٍ الأصل الجاري إنّما هو الاحتياط وقاعدة الاشتغال لا البراءة (وإن كانت عبارته قاصرة عن أداء هذا المعنى).

التنبيه الرابع: في حسن الاحتياط مطلقاً حتّى مع قيام الحجّة على العدم

لا إشكال في اختلاف موارد الاحتياط من جهات ثلاثة: من ناحية قوّة درجة الاحتمال وضعفها، ومن ناحية قوّة المحتمل وضعفها، ومن ناحية قيام الأمارة على الجواز وعدمه.

ذهب المحقّق الخراساني رحمه الله إلى حسن الاحتياط مطلقاً في مطلق الشبهات سواء كانت وجوبيّة أو تحريميّة وسواء كانت حكميّة أو موضوعيّة وسواء قامت الحجّة على العدم أم لم تقم وسواء كان الاحتمال أو المحتمل قويّاً أو ضعيفاً، نعم إنّه قال: إنّ حسن الاحتياط مطلقاً منوط بعدم إخلاله بالنظام وإلّا يكون الاحتياط قبيحاً فلابدّ حينئذٍ من ترجيح بعض الاحتياطات على بعض، أمّا بملاك إقوائية الاحتمال أو إقوائيّة المحتمل أو بملاك عدم قيام الأمارة على العدم.

أقول: هنا نكتتان ينبغي ذكرهما في المقام:

إحديهما: إنّ اختلال النظام من العناوين الثانوية للأحكام ولا خصوصيّة له في المقام بل كلّ عنوان ثانوي يزاحم حسن الاحتياط لابدّ من تقديمه

عليه، كما إذا لزم من الاحتياط ترك المراودة والمعاشرة مع المؤمنين أو ترك صلة الأرحام أو إيذاء المؤمن أو هتكه أو لزم منه تشويه وجه المذهب في الأنظار أو ترك أمر أهمّ كتحصيل العلم لطلّاب العلوم الدينية (وكلّ هذه العناوين ممّا يبتلى بها كثيراً في الاحتياط التامّ) فلا حسن في مثل هذه الموارد للاحتياط وإن لم يلزم منها اختلال النظام.

الثانية: يمكن أن يقال: إنّه لا دليل أصلًا على حسن الاحتياط التام في الشبهات الموضوعيّة في جميع الموارد، بل الدليل على خلافه فيما إذا قامت الأمارة على الخلاف، والشاهد على ذلك لحن الروايات الواردة عن المعصومين بالنسبة إلى سوق المسلمين في الجبن وغيره نظير ما رواه أبو الجارود قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن الجبن فقلت له: أخبرني من رأى إنّه يجعل فيه الميتة، فقال: أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرّم في جميع الأرضين؟ إذا علمت أنّه ميتة فلا تأكله وإن لم تعلم فاشتر وبع وكل، واللَّه إنّي لأعترض السوق فأشتري بها اللحم والسمن والجبن، واللَّه ما أظنّ كلّهم يسمّون هذه البربر وهذه السودان» «1».

فإنّ مقتضى السياق العرفي لهذه الرواية وأمثالها مرجوحية الاحتياط وإنّه مرغوب عنه انوار الأصول، ج 3، ص: 95

في موارد قيام الحجّة على الجواز.

إن قلت: يمكن أن يقال: بأنّ مثل هذه الروايات تكون في مقام دفع الحظر فلا يستفاد منها إلّا مطلق عدم الحرمة.

قلنا: الإنصاف أنّ سياقها هو النهي بمعناه الحقيقي عن مثل هذا الاحتياط، وسيرة المعصومين رحمه الله وأهل الشرع من أقوى الشواهد عليه في موارد قيام الحجّة على الجواز.

إلى هنا تمّ الكلام في أصالة البراءة وما يلحق بها من المباحث والحمد للَّه ربّ العالمين.

انوار الأصول، ج 3، ص: 97

2- أصالة التخيير

تطبيقات

أصالة التخيير في الفقه التخيير في الواقعة المتكرّرة

التخيير في التعبّديّات دوران الأمر بين التعيين والتخيير

انوار الأصول، ج 3، ص: 99

2- أصالة التخيير
اشارة

إذا دار الأمر بين وجوب شي ء وحرمته سواء كان بنحو الشبهة الحكميّة (كما إذا دار الأمر في زمن الغيبة بين وجوب صلاة الجمعة وبين حرمتها مع قطع النظر عن اعتبار القربة في الصّلاة أم كان بنحو الشبهة الموضوعيّة (كما إذا شككنا في أنّ متعلّق النذر شرب هذا المائع في زمن خاصّ أو تركه) ففيه وجوه:

1- الحكم بالبراءة شرعاً وعقلًا نظير الشبهات البدوية بعينها.

2- وجوب الأخذ بأحدهما تخييراً شرعاً وعقلًا.

3- التخيير بين الفعل والترك عقلًا والحكم بالبراءة شرعاً.

4- التخيير بين الفعل والترك عقلًا مع التوقّف عن الحكم بشي ء شرعاً.

5- التوقّف عن الحكم عقلًا وشرعاً.

واختار المحقّق الخراساني رحمه الله القول الثالث الذي يتركّب من جزئين: التخيير بين الفعل والترك عقلًا، والحكم بالإباحة شرعاً، واستدلّ للجزء الأوّل بحكم العقل بعدم الترجيح بين الفعل والترك، وللجزء الثاني بشمول مثل: «كلّ شي ء لك حلال حتّى تعرف أنّه حرام» له.

إن قلت: جريان البراءة في كلّ واحد من الطرفين معارض لجريانها في الطرف الآخر.

قلنا: التعارض فرع لزوم المخالفة القطعيّة العمليّة وهو مفقود في المقام.

إن قلت: إنّ العقل كما يستقلّ بوجوب الإطاعة عملًا كذلك يحكم بوجوبها التزاماً وقلباً، والتمسّك بالأصل في الطرفين ينفي هذا المعنى.

قلنا: بناءً على تسليم وجوب الموافقة الالتزاميّة لا منافاة بينه وبين جريان أصالة الحلّ، لإمكان الإنقياد القلبي الإجمالي بأن يلتزم إجمالًا بالحكم الواقعي على ما هو عليه وإن لم يعلم بشخصه تفصيلًا وفي مقام الفعل، ولا دليل على وجوب الأزيد منه على فرض القول بوجوبه.

انوار الأصول، ج 3، ص: 100

إن قلت: إنّ ما نحن فيه مشمول لأدلّة تعارض الخبرين المتعارضين التي

تقتضي التخيير شرعاً.

قلنا: إنّه قياس مع الفارق، لأنّ مورد تلك الأدلّة هو الأخبار، والأخبار إمّا أن تكون حجّة من باب السببيّة أو من باب الطريقيّة، فعلى الأوّل يكون التخيير بين الخبرين المتعارضين على القاعدة، لفرض حدوث مصلحة ملزمة في المؤدّى بسبب قيام خبر على الوجوب، وحدوث مفسدة ملزمة فيه بقيام خبر آخر على حرمة نفس ذلك المتعلّق، فيقع التزاحم بين تكليفين تتعذّر موافقتهما ويستقلّ العقل بالتخيير حينئذٍ إذا لم يكن ترجيح بين الملاكين.

وعلى الثاني (وهو حجّية الأخبار على الطريقيّة) فالقياس مع الفارق أيضاً، ضرورة أنّ مقتضى القاعدة الأوّلية في تعارض الطرق وإن كان هو التساقط لا التخيير، إلّاأنّه لمّا كان منهما واجداً لشرائط الحجّية ولما هو مناط الطريقيّة من احتمال الإصابة ولم يمكن الجمع بينهما في الحجّية الفعلية لمكان التعارض فقد جعل الشارع أحدهما حجّة تخييراً مع التكافؤ، وتعييناً مع المزيّة لمصلحة لاحظها في ذلك، وهذا بخلاف المقام إذ ليس في شي ء من الاحتمالين اقتضاء الحجّية. (انتهى كلام المحقّق الخراساني رحمه الله بتحرير منّا).

أقول: الإنصاف أنّ الصحيح هو القول الأوّل، أي الحكم بالإباحة ظاهراً عقلًا وشرعاً وذلك باعتبار أنّه بعد فرض عدم إمكان الاحتياط ولغوية وجوب أحدهما تخييراً في مقام الظاهر لكونه تحصيلًا للحاصل تصل النوبة إلى احتمال وجوب أحدهما معيّناً لأنّه نحتمل تكليف الشارع بالنسبة إلى خصوص الفعل أو خصوص الترك، وحينئذٍ لا إشكال في جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان لتحقّق موضوعها وهو عدم البيان إذ لا بيان على خصوص الوجوب أو الحرمة كما لا إشكال في عموم أدلّة الإباحة الشرعيّة لعدم اختصاصها بما إذا كان أحد طرفي الشكّ في حرمة شي ء هو الإباحة كشرب التتن حتّى يختصّ بالشبهة البدوية، بل يعمّ ما

إذا علم جنس الإلزام ولم يعلم النوع الخاصّ منه، فوجوب أحدهما تعييناً مرفوع كرفع الحرمة المحتملة في سائر الموارد.

أمّا القول الثاني: وهو التخيير شرعاً وعقلًا قياساً لما نحن فيه بتعارض الخبرين المتعارضين الجامعين لشرائط الحجّية فقد مرّ الجواب عنه ضمن بيان كلام المحقّق انوار الأصول، ج 3، ص: 101

الخراساني رحمه الله مضافاً إلى أنّه تحصيل للحاصل.

وأمّا القول الثالث: وهو ما مرّ من مختار المحقّق الخراساني رحمه الله، فإن كان مراده من التخيير التخيير الظاهري فقد عرفت أنّه تحصيل للحاصل لأنّ المقصود من كلّ إلزام هو البعث والتحريك لانبعاث حاصل في المقام، وإن كان المراد التخيير الواقعي، فجوابه إنّ مورده باب تزاحم الملاكات وما إذا كان لكلّ من الطرفين ملاكاً مستقلًا مزاحماً لملاك الطرف الآخر، بينما الملاك في ما نحن فيه موجود في أحد الطرفين فقط.

وأمّا القول الرابع: وهو التخيير عقلًا مع التوقّف شرعاً فقد مرّ الجواب آنفاً عن الجزء الأوّل منه، وهو التخيير عقلًا، أمّا الجزء الثاني ففيه: إنّه وإن لم يكن للشارع حكم بالتخيير لما مرّ من أنّه تحصيل للحاصل ولكن لا إشكال في شمول أدلّة الإباحة والبراءة بالنسبة إلى احتمال تعيين أحدهما.

وأمّا القول الخامس: فقد ظهر الجواب عنه ممّا مرّ فلا نعيد.

بقي هنا امور:

الامر الاول: تطبيقات اصالة التخيير في الفقه

إنّا لم نظفر على مثال في الفقه لدوران الأمر بين الفعل والترك بنحو الشبهة الحكميّة، لأنّ ما ذكرنا من مثال صلاة الجمعة خارج عن محلّ الكلام في الواقع (لمكان اعتبار قصد القربة فيها) كما سيأتي إن شاء اللَّه.

نعم يمكن التمثيل له بالشبهة الحكميّة في باب الحدود والتعزيرات كما إذا شككنا في أنّ المجرم الفلاني هل صار مستحقّاً للحدّ أو التعزير (سواء كان الشكّ في أصل الحدّ والتعزير أو مقدارهما) فيكون

واجباً أو ليس مستحقّاً لهما فيكون حراماً لأنّ أمر الحدود أو التعزيرات في جميع الموارد دائر بين الوجوب والحرمة.

لكنّه مجرّد فرض أيضاً لوجود أمارتين في هذا الباب تمنعان من عروض الشكّ: إحديهما: قاعدة «الحدود تدرأ بالشبهات» والثانية: «حرمة إيذاء المؤمن» وحيث إنّهما من الأدلّة الاجتهاديّة فمع جريانهما لا تصل النوبة إلى الاصول العمليّة.

انوار الأصول، ج 3، ص: 102

ويمكن التمثيل أيضاً له بما ذكره بعض الأعلام «1» من أنّ مقطوع الذكر المتعذّر عليه الدخول إذا تزوّج وساحق زوجته ثمّ طلّقها فإن كانت المساحقة في حكم الدخول (كما حكي عن الشيخ في مبسوطه) فطلاقها رجعيّ، وحينئذٍ فلو طلب الزوج منها الاستمتاع في العدّة وجبت الإجابة عليها، وإن لم تكن بحكم الدخول كما هو ظاهر المشهور كان الطلاق بائناً وليس له الاستمتاع بها بالرجوع، بل بالعقد الجديد، فلو طلب منها الاستمتاع حرم عليها الإجابة، وعليه فيدور حكم إجابة الزوجة بين الحرمة والوجوب، وهذا هو الدوران بين المحذورين.

ولكنّه أيضاً ممنوع لحكومة ما دلّ على اعتبار الدخول المشكوك شموله للمقام على أصالة التخيير فإنّ العام إذا كان مردّداً مفهوماً بين الأقلّ والأكثر يؤخذ بالأقلّ فيبقى غيره تحت استصحاب نفي أحكام الدخول فإنّه قبل المساحقة لم يكن محكوماً بأحكام الدخول، والاستصحاب يقتضي عدمه بعدها.

الأمر الثاني: التخيير في الواقعة المتكرّرة

لا إشكال في أنّ ما ذكرنا من جريان البراءة عقلًا وشرعاً وعدم جريان التخيير كذلك إنّما هو في صورة وحدة الواقعة كما في مثال الحلف بشرب الماء وعدمه في زمن خاصّ، وأمّا إذا كانت الواقعة متعدّدة كما إذا لا يعلم أنّه حلف بأن يشرب من هذا المائع في كلّ جمعة أو يتركه كذلك، فلا إشكال في إمكان جريان التخيير عقلًا سواء قلنا بالتخيير البدوي بناءً على عدم جواز

المخالفة القطعيّة في الامور التدريجيّة، أو قلنا بالتخيير الاستمراري بناءً على حرمة مخالفتها كذلك لعدم كونه من قبيل تحصيل الحاصل، فيمكن للمكلّف إرتكاب أحد الطرفين في هذا الاسبوع مثلًا وإرتكاب الطرف الآخر في الاسبوع القابل.

الأمر الثالث: التخيير في التعبديّات

كلّ ما ذكر إنّما هو في التوصّليات، وأمّا إذا كان المورد أمراً تعبّدياً (سواء كان تعبّدياً بكلا طرفيه كما إذا شكّ في أنّ متعلّق نذره حين الإحرام كان هو غسل الجمعة مثلًا أو تركاً من تروك الإحرام بناءً على كونها عبادية، أم كان تعبّدياً بأحد طرفيه كما إذا شكّ في أنّ صلاة الجمعة واجبة أو حرام أو شكّ في كونه مسافراً حتّى يحرم عليه الصوم في شهر رمضان أو حاضراً

انوار الأصول، ج 3، ص: 103

حتّى يجب عليه الصوم) فحكمه يختلف عمّا سبق بل هو خارج عن مسألة الدوران، لأنّ الحكم بالتخيير حينئذٍ لا يكون من قبيل تحصيل الحاصل لتصوّر شقّ ثالث بل رابع هنا، فليس الأمر دائراً بين الفعل أو الترك دائماً بل يدور الأمر بين الفعل من دون قصد القربة أو الترك كذلك، وبين الفعل من دون قصد القربة أو الترك كذلك وبين الفعل مع قصد القربة أو الترك كذلك، فيمكن الحكم بالتخيير عقلًا لعدم كونه تحصيلًا للحاصل، ولإمكان الموافقة الاحتماليّة وإن كانت الموافقة القطعيّة متعذّرة.

نعم لا بأس أيضاً بجريان البراءة عن تعيين أحدهما بالخصوص.

ويمكن أن يقال: أنّ الصورة الثانية ممّا نحن فيه (أي ما إذا كان أحد الطرفين تعبّدياً) ترجع بالمآل إلى التوصّليين لأنّ المتصوّر من الشقوق فيها أيضاً شقّان حيث إنّه في مثال صلاة الجمعة مثلًا إمّا أن يأتي بصلاة الجمعة جامعاً للشرائط، أي مع قصد القربة، أو لا يأتي بها كذلك، سواء لم يأت بها أصلًا أو

يأت بها من دون جزء من أجزائها أو شرط من شرائطها كقصد القربة والوضوء، فهو حينئذٍ يأتي بأحد الشقّين على أي حال والبعث إلى أحدهما تخييراً تحصيل للحاصل.

الأمر الرابع: دوران الأمر بين التعيين و التخيير

إذا دار الأمر بين التعيين والتخيير (سواء كانت الشبهة حكميّة كما إذا دار الأمر بين وجوب صلاة الجمعة في عصر الغيبة تعييناً ووجوبها تخييراً بينها وبين صلاة الظهر، ومثل دوران الأمر بين صلاة القصر تعييناً وبين التخيير بينها وبين صلاة الإتمام في الأماكن الأربعة بالنسبة إلى الإضافات التي عرضت عليها، أو كانت الشبهة موضوعيّة كما إذا شككنا في أنّ متعلّق النذر كان هو إكرام زيد تعييناً أو إكرام زيد وعمرو تخييراً، وكما إذا شككنا في أنّ متعلّق الحلف كان هو الصيام في يوم الجمعة تعييناً أو إتيانها في الجمعة والخميس تخييراً) فهل المرجع فيه قاعدة الاشتغال أو البراءة؟ مذهبان:

استدلّ القائلون بالبراءة، بأنّ صفة التعيينية كلفة زائدة توجب الضيق على المكلّف، بداهة إنّه لو لم يكن الواجب تعيينيّاً لكان المكلّف بالخيار بين الإتيان به أو بعدله، فيشملها قوله صلى الله عليه و آله: «رفع ما لا يعلمون» وغير ذلك من أدلّة البراءة، ويلزمه جواز الإكتفاء بفعل ما يحتمل كونه عدلًا لما علم تعلّق التكليف به.

انوار الأصول، ج 3، ص: 104

واستدلّ القائلون بالاشتغال تارةً من طريق مقام الجعل والثبوت، واخرى من طريق مقام الإمتثال والإثبات:

أمّا الطريق الأوّل: فبأنّ مرجع الواجب التعييني «وجوب هذا ولا سواه»، أو «هذا ولا بدلًا له» فيتركّب من جزئين أحدهما: وجودي ثابت بالوجدان، والآخر: عدمي يثبت بأصل العدم من دون أن يرد عليه إشكال الأصل المثبت أو العدم الأزلي لأنّه من قبيل المركّب لا المقيّد (كصفة القرشية للمرأة) وأمّا الواجب التخييري فمردّه إلى وجوب «هذا أو

هذا» فيكون القيد الثاني وجوديّاً فيحتاج إثباته إلى دليل.

وأمّا الطريق الثاني: فبأنّ رجوع الشكّ فيهما إلى الشكّ في سقوط ما علم تعلّق التكليف به بفعل ما يحتمل كونه عدلًا له فيكون المرجع قاعدة الاشتغال.

ويرد على دليل البراءة بأنّها جارية في الامور الخارجيّة كالكلفة الحاصلة من صيام جديد أو صلاة كذلك أو أجزاء وشرائط جديدة كالسورة ولبس بعض الملابس، وأمّا في التحليلات التي لا انحياز لها في الخارج فلا، مثل ما نحن فيه فإنّ الأخذ بالقدر المشترك أي إلزام أحدهما (إلزام الجمعة أو صلاة الظهر) ونفي الزائد عنه أي الكلفة الحاصلة من خصوصيّة كونها ظهراً أو جمعه ليس من قبيل الامور الخارجيّة المنحازة بل هذا التحليل والتجزئة إنّما يحصل في العقل لا غير.

وشمول حديث الرفع وأشباهه لها غير ثابت كما أنّ إجراء البراءة العقليّة (لا سيّما بناءً على المختار من كونها من قبيل بناء العقلاء) مورد للإشكال فإذا لم تجر البراءة فيها لم يكن هناك مؤمّن في مقابل احتمال العقاب، فلابدّ من الأخذ بالتعيين.

وهذا هو العمدة في المقام، وإلّا فأدلّة القائلين بالاشتغال بكلا شقّيه لا يخلو من تأمّل.

أمّا الأوّل، فلأنّ الفرق بين الواجب التعييني والتخييري ليس من ناحية قيد زائد عدمي في الواجب التعييني بل الواجب التعييني نوع خاصّ من الوجوب يباين ماهيّة مع الواجب التخييري، فهما نوعان من الإيجاب، فمن طلب شيئاً تعييناً كان ذلك لخصوصيّة وجوديّة فيها تعلّقت إرادته بها، فالمولى إذا طلب التفّاح من عبده تعييناً إنّما يريدها لخصوصيّة فيها تقوم بدواء دائه مثلًا لا إنّه أمر عدمي.

وكذلك بالنسبة إلى الدليل الثاني، أعني مقام السقوط فإنّه فرع لمقام الثبوت، فإذا كانا

انوار الأصول، ج 3، ص: 105

نوعين مختلفين متباينين في مقام الثبوت فلا تصل النوبة

إلى ما ذكروه بالنسبة إلى مقام السقوط، فتأمّل.

فالحقّ القول بالتعيين لما عرفت من الإشكال في جريان عدم البراءة هنا وعدم الأمن عن العذاب.

بقي هنا شي ء:

وهو أنّه قد يقال في مسألة دوران الأمر بين الوجوب والحرمة بترجيح جانب الحرمة، لتقديم العقل والعقلاء دفع المفسدة على جلب المنفعة عند دوران الأمر بينهما، ولا إشكال في أنّ الحرام مشتمل على المفسدة والواجب مشتمل على المصلحة والمنفعة.

ولكنّه غير تامّ صغرى وكبرى: أمّا الكبرى: فلانّ حكم العقل بتقديم المصلحة مجرّد دعوى بلا دليل، والملاك في تقديم أحد الجانبين على الآخر عند العقلاء إنّما هو كون الشي ء أهمّ فإنّهم بعد ملاحظة الملاكين ثمّ بعد الكسر والإنكسار يقدّمون الأهمّ على المهمّ سواء كان الأهمّ من قبيل المصلحة أو من قبيل المفسدة كما أنّ بناءهم على التساوي والتخيير عند تساوي الملاكين.

وأمّا الصغرى: فلأنّ الموجود في جانب الواجب ليس هو مجرّد المصلحة حتّى يترتّب على تركه خصوص فقدان المصلحة فحسب بل ترك المصلحة الملزمة يلازم المفسدة كما يحكم به الوجدان في مثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمفاسد التي تترتّب على تركهما، إلى غير ذلك من أشباههما.

إلى هنا تمّ الكلام في أصالة التخيير، والحمد للَّه ربّ العالمين.

انوار الأصول، ج 3، ص: 107

3- أصالة الإشتغال المقام الأوّل: في دوران الأمر بين المتباينين الجهة الاولى: حرمة المخالفة القطعيّة

الجهة الثانية: حرمة المخالفة الاحتماليّة

تنبيهات:

1- الإضطرار إلى بعض الأطراف 2- خروج بعض الأطراف عن محلّ الإبتلاء

3- عدم الفرق بين الدفعيّات والتدريجيّات في تنجّز العلم الإجمالي 4- هل الاصول المرخّصة تجري أوّلًا في أطراف العلم الإجمالي أو لا؟

5- الفرق بين الشبهات المحصورة وغير المحصورة.

6- اعتبار إندراج طرفي العلم الإجمالي تحت عنوان واحد وعدمه 7- حكم ملاقي بعض أطراف الشبهة المحصورة.

8- حكم الخنثى

المشكل المقام الثاني: في دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الإرتباطيين:

الجهة الاولى: في الأجزاء

الجهة الثانية: في الشرائط

الجهة الثالثة: في القيود

تنبيهات:

1- الشك في جزئية شي ء أو شرطيته عند النسيان 2- في زيادة الاجزاء والشرائط

3- هل يسقط الوجوب عند تعذّر وجود جزء أو شرط أو عدم مانع قاعدة الميسور

المقام الثالث: في دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الاستقلاليين انوار الأصول، ج 3، ص: 109

3- أصالة الاشتغال
اشارة

كان البحث إلى هنا في الشكّ في أصل التكليف، والآن نبحث في الشكّ في المكلّف به مع العلم بنوع التكليف، سواء كانت الشبهة حكميّة أو موضوعيّة وسواء كانت وجوبيّة أو تحريميّة، فالوجوبية الحكميّة نظير ما إذا علمنا بوجوب صلاة في يوم الجمعة ولم نعلم بأنّها صلاة الجمعة أو صلاة الظهر، والوجوبيّة الموضوعيّة نظير ما إذا كانت القبلة غير معلومة في الخارج مع العلم بوجوب الاستقبال إليها في الصّلاة، والتحريميّة الحكميّة مثل ما إذا علمنا بأنّ أربعة عشر جزءاً (أو خمسة عشر جزءاً) من أجزاء الذبيحة حرام ولم نعلم بأنّها ما هى؟

والتحريميّة الموضوعيّة نظير ما إذا تردّد الخمر (الثابتة حرمتها) بين إنائين.

ثمّ إنّ الشكّ في المكلّف به قد يكون لتردّده بين المتباينين ذاتاً كجميع ما ذكرنا من الأمثلة آنفاً وقد يكون لتردّده بين الأقل والأكثر، وهو على قسمين: فتارةً يكون من قبيل الأقلّ والأكثر الإرتباطيين كالشكّ في أجزاء الواجب أو الحرام، واخرى من قبيل الأقلّ والأكثر الإستقلاليين كما في دوران دَين بين تسعة دراهم وعشرة دراهم، أو دوران عدد الصلوات الواجب قضاءها بين التسعة والعشرة، فيقع الكلام في ثلاث مقامات:

المقام الأوّل: في دوران الأمر بين المتباينين
اشارة

والأقوال فيه ثلاثة:

1- حرمة المخالفة القطعيّة ووجوب الموافقة القطعيّة (أي حرمة الموافقة الاحتماليّة مضافاً إلى حرمة المخالفة القطعيّة) وهذا هو المشهور بين الاصوليين رضوان اللَّه عليهم.

2- التفصيل بين المخالفة القطعيّة والموافقة القطعيّة بأنّ الاولى حرام وإنّ الثانية مباحة، وذهب إليه المحقّق القمّي رحمه الله.

انوار الأصول، ج 3، ص: 110

3- جواز المخالفة مطلقاً سواء كانت قطعيّة أو احتماليّة، وهو المحكي عن العلّامة المجلسي رحمه الله.

ومنشأ النزاع والاختلاف في المقام هو أنّ العلم الإجمالي هل هو علّة تامّة لحرمة المخالفة ووجوب الموافقة: أو يكون علّة ناقصة لهما؟ وفيه مذاهب

ثلاثة:

1- كونه علّة تامّة بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعيّة والاحتماليّة معاً وأنّ العقل يحكم مستقلًا بها ولا يمكن ردعه من جانب الشارع المقدّس، وهو المنسوب إلى المحقّق الخراساني رحمه الله في المقام.

2- كونه مقتضياً في كلا المقامين، فيمكن إيجاد المانع من ناحية الشارع، وهو مقتضى القول المنسوب إلى العلّامة المجلسي رحمه الله ومختار المحقّق الخراساني رحمه الله في مبحث القطع.

3- التفصيل بين المخالفة القطعيّة والاحتماليّة بأن يكون العلم الإجمالي علّة تامّة في الاولى ومقتضياً في الثانية وهو مختار الشيخ الأعظم رحمه الله.

والظاهر أنّ ما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمه الله في المقام (مبحث الاشتغال) ليس عدولًا عمّا أفاده في مبحث القطع كما توهّمه بعض، حيث إنّه قال هناك: «إنّ التكليف حيث لم ينكشف به تمام الانكشاف وكانت مرتبة الحكم الظاهري معه محفوظة جاز الإذن من الشارع بمخالفة احتمالًا بل قطعاً ... نعم كان العلم الإجمالي كالتفصيلي في مجرّد الاقتضاء لا في العلّية التامّة فيوجب تنجّز التكليف أيضاً لو لم يمنع عنه مانع عقلًا» وقال: «إنّ التكليف المعلوم بينهما (المتباينين) ... إن كان فعليّاً من جميع الجهات بأن يكون واجداً لما هو العلّة التامّة للبعث أو الزجر الفعلي مع ما هو عليه من الإجمال والتردّد والاحتمال فلا محيص عن تنجّزه وصحّة العقوبة على مخالفته، وحينئذٍ لا محالة يكون ما دلّ بعمومه على الرفع أو الوضع أو السعة أو الإباحة ممّا يعمّ أطراف العلم مخصّصاً عقلًا لأجل مناقضتها معه، وإن لم يكن فعليّاً كذلك- ولو كان بحيث لو علم تفصيلًا لوجب إمتثاله وصحّ العقاب على مخالفته- لم يكن هناك مانع عقلًا ولا شرعاً عن شمول أدلّة البراءة الشرعيّة للأطراف» (انتهى).

ولا يخفى أنّ المقصود من كلامه الأوّل أنّه

إذا علم بالتكليف إجمالًا فحيث إنّه لم ينكشف تمام الانكشاف كانت رتبة الحكم الظاهري محفوظة، للشكّ في وجوب التكليف في كلّ واحد من الأطراف وبه يتحقّق موضوع النافي فيجري بلا مانع، بخلاف ما إذا علم به تفصيلًا فلا يبقى انوار الأصول، ج 3، ص: 111

مجال للإذن في مخالفته لعدم بقاء موضوع للحكم الظاهري (وهو الشكّ في الحكم الواقعي) لانكشافه تمام الانكشاف حسب الفرض، ولهذا يكون العلم التفصيلي علّة تامّة للتنجّز كما أنّ العلم الإجمالي يكون مقتضياً له كما صرّح به في تعليقته على الرسائل «1»، بينما المقصود من كلامه الثاني (وهو ما أفاده في مبحث الاشتغال) أنّه لو فرضنا إنّا كشفنا من دليل خارجي كالإجماع إنّ تكليفاً ما فعلي من جميع الجهات «2» وفعليته تامّة من ناحية إرادة المولى وكراهته بحيث لا يتوقّف العقوبة على مخالفته إلّاعلى مطلق وصوله إلى المكلّف بأي نحو كان من أنحاء الوصول فلا فرق حينئذٍ بين العلم التفصيلي والعلم الإجمالي في تنجّز التكليف وعدم وجوب الموضوع للُاصول المرخّصة، وأمّا إذا كشفنا من الخارج عدم كونه فعليّاً من جميع الجهات وأنّ فعليته لا تكون تامّة إلّابالعلم التفصيلي فليس للعلم الإجمالي حينئذٍ تأثير في التنجّز إلّابنحو الاقتضاء ويكون موضوع الأصل المرخّص موجوداً.

أقول: الإنصاف أنّه لا فرق بين العلم التفصيلي والعلم الإجمالي إذا تعلّقا بما هو فعلي من جميع الجهات بل وكذلك في الشبهة البدوية إذا كان المشكوك على فرض وجوده فعلياً من جميع الجهات كما في الشبهات قبل الفحص وشبهها، فحينئذٍ يكون الاحتمال منجّزاً لأنّ المفروض إنّ التكليف على فرض وجوده فعلي بتمام معنى الكلمة فلا مؤمّن من العقاب فلابدّ من إمتثاله بالاحتياط.

ثمّ إنّ ما مرّ من التفصيل ناظر إلى مقام الثبوت ويكون

على نهج القضية الشرطيّة المعلّقة وأشبه بالضرورة بشرط المحمول فيكون توضيحاً للواضح على وجه.

والمهمّ هو تعيين الحكم في مقام الإثبات وأنّ المستظهر من الأدلّة ما هو؟ فنقول: المستفاد

انوار الأصول، ج 3، ص: 112

من مجموع أدلّة الأحكام والإجماعات الحاصلة بين الفقهاء أنّ الحلّ القريب من الكلّ من التكاليف عدم كونها فعلية من جميع الجهات، ولذا نلاحظ استثنائها وتخصيصها بالعناوين الثانوية كالاضطرار والإكراه والتقيّة وغيرها، فما دام لم يعلم بالعلم التفصيلي أمكن إجراء الاصول المرخّصة أو الأدلّة الخاصّة الواردة فيها أو في مورد العلم التفصيلي تحت عنوان «العناوين الثانوية».

نعم يستثنى منها موارد الدماء وشبهها، فيمكن أن يقال بأنّها فعلية من جميع الجهات، أي إن كان المورد من قبيل الدماء وشبهها كان الحكم فعليّاً من جميع الجهات، فإذا علم إجمالًا مثلًا بوجود دم محقون مردّد بين شخصين: أحدهما: مؤمن متّقٍ، والآخر: كافر يكون العلم الإجمالي منجّزاً للتكليف.

بل وكذا الحال في الشبهات البدوية منها، فإنّ الاحتياط واجب فيها، ولذا لا تجري فيها أحكام العناوين الثانوية كالتقيّة ومثلها كما ورد في الحديث: «إنّما جعلت التقيّة ليحقن بها الدم فإذا بلغ الدم فلا تقيّة» «1»، بخلاف ما إذا كان المورد كالمايع النجس الدائر بين الإنائين فإنّه يمكن ورود الترخيص فيها إمّا بمقتضى أدلّة الاصول (على القول به) أو بعنوان «العناوين الثانويّة».

لكن مسألة الدماء أيضاً ليست فعلية من جميع الجهات لانتقاضها بمسألة التترّس في الجهاد كما لا يخفى، فإنّ المعروف حينئذٍ هو جواز القتل حتّى إذا كان الدم المحقون معلوماً تفصيلًا.

ثمّ إنّه تصدّى في تهذيب الاصول لتوجيه التكرار الحاصل في المقام في كلمات القوم حيث إنّهم تارةً يبحثون عن العلم الإجمالي في مبحث القطع واخرى في مبحث الاشتغال، فقال: «إذا علمنا حرمة شي ء

أو وجوبه لا بعلم وجداني بل بشمول اطلاق الدليل أو عمومه على المورد كما إذا قال: «لا تشرب الخمر» وشمل بالإطلاق على الخمر المردّد بين الإنائين فهل يمكن الترخيص بأدلّة الاصول بتقييد اطلاق الدليل أو لا؟ وهذا هو الذي ينبغي أن يبحث عنه في المقام (مبحث الاشتغال) ومثله إذا علم إجمالًا بقيام حجّة على هذا الموضوع أو ذاك، كما إذا علم بقيام أمارة معتبرة إمّا بوجوب صلاة الظهر أو الجمعة» وقال في صدر كلامه: «إذا علم انوار الأصول، ج 3، ص: 113

علماً وجدانياً لا يحتمل الخلاف بالتكليف الفعلي الذي لا يرضى المولى بتركه ... وهذا هو الذي يصلح أن يبحث عنه في باب القطع» «1» فحاصل كلامه أنّ المراد من العلم الإجمالي المبحوث عنه في باب القطع هو العلم الحاصل بالوجدان والمراد منه في مبحث الاشتغال هو ما حصل بإطلاق دليل أو قيام حجّة.

ويرد عليه أوّلًا: أنّه خلاف تعابيرهم والأمثلة التي ذكروها في المقام كالتمثيل بالعلم الإجمالي بالخمر الدائر بين الإنائين حيث إنّه يشمل ما إذا علم به بالوجدان، وليس المراد منه خصوص ما إذا قامت البيّنة على خمرية أحد الإنائين قطعاً، وكذلك التمثيل بالصلاة المردّدة بين الجمعة والظهر حيث إنّها معلوم وجوبها في يوم الجمعة بضرورة من الدين وإجماع المسلمين.

ثانياً: إنّ الملاك تمام الملاك في ما نحن فيه كون التكليف فعليّاً من جميع الجهات وعدم كونه كذلك، من دون فرق بين العلم الوجداني والأمارات المعتبرة، فإن لم يكن فعليّاً من جميع الجهات يمكن جريان الاصول المرخّصة وإلّا يكون المورد مجرى قاعدة الاشتغال.

ثالثاً: إنّ الترخيص الصادر من الشارع ليس منحصراً في موارد أدلّة الاصول العمليّة، بل إنّها إحدى الطرق المرخّصة لما سيأتي من ترخيصه في الشبهات

غير المحصورة لملاكات اخر، والحقّ كما ذكرنا في محلّه أنّ مسألة القطع قائمة بتأثير العلم الإجمالي من حيث الاقتضاء، ومباحث العلم الإجمالي هنا ناظرة إلى عدم وجود الموانع لهذا المقتضى.

ثمّ إنّ البحث هيهنا يقع في جهتين: حرمة المخالفة القطعيّة، وحرمة المخالفة الاحتماليّة.

أمّا الجهة الاولى: فقال الشيخ الأعظم الأنصاري رحمه الله: «لنا على ذلك وجود المقتضي للحرمة وعدم المانع عنها، إمّا ثبوت المقتضي فلعموم دليل تحريم ذلك العنوان المشتبه فإنّ قول الشارع «إجتنب عن الخمر» يشمل الخمر الموجود المعلوم المشتبه بين الإنائين أو أزيد ولا وجه لتخصيصه بالخمر المعلوم تفصيلًا مع أنّه لو إختصّ الدليل بالمعلوم تفصيلًا خرج الفرد المعلوم إجمالًا عن كونه حراماً واقعياً وكان حلالًا واقعياً ولا أظنّ أحداً يلتزم بذلك، وأمّا عدم المانع فلأنّ العقل لا يمنع من التكليف عموماً أو خصوصاً بالاجتناب عن عنوان الحرام انوار الأصول، ج 3، ص: 114

المشتبه في أمرين أو امور والعقاب على مخالفة هذا التكليف، وأمّا الشرع فلم يرد فيه ما يصلح للمنع عدا ما ورد من قولهم عليهم السلام «كلّ شي ء حلال حتّى تعرف أنّه حرام بعينه» و «كلّ شي ء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام منه بعينه» وغير ذلك. ولكن هذه الأخبار وأمثالها لا يصلح للمنع لأنّها كما تدلّ على حلّية كلّ واحد من المشتبهين كذلك تدلّ على حرمة ذلك المعلوم إجمالًا لأنّه أيضاً شي ء علم حرمته»، انتهى.

فحاصل استدلال الشيخ الأعظم رحمه الله لحرمة المخالفة القطعيّة أنّ المقتضي (وهو إطلاقات أدلّة الأحكام وعموماتها) موجود، والمانع (وهو البراءة العقليّة والنقليّة) مفقود، وقد تبعه سائر الأعلام فمشوا في استدلالاتهم على ما يقرب استدلال الشيخ رحمه الله ومنهم المحقّق النائيني رحمه الله، غاية الأمر أنّه قسّم

الاصول على ثلاثة أقسام: أصالة الحلّية، والاصول التنزيليّة، والاصول غير التنزيلية، وأنكر جريان جميعها للزوم التناقض بين حكم العقل بلزوم الاجتناب عن جميع الأطراف (مقدّمة للإجتناب عن الحرام المنجّز الموجود في البين) وبين الترخيص في جميع الأطراف «1».

وكذلك المحقّق العراقي رحمه الله فقال: «لا إشكال في أنّه لا قصور في منجّزية العلم الإجمالي لما تعلّق به من التكليف وإنّه بنظر العقل بالإضافة إلى ما تعلّق به كالعلم التفصيلي في حكمه بوجوب الإمتثال، إذ لا فرق بينهما إلّامن حيث إجمال المتعلّق وتفصيله وهو غير فارق في المقام بعد كون مناط التحميل بنظر العقل إحراز طبيعة أمر المولى بلا دخل خصوصيّة فيه ...

بل التحقيق إنّ حكمه بالاشتغال ووجوب الإمتثال يكون على نحو التنجيز بحيث يأبى عن الردع عنه بالترخيص على خلاف معلومه في تمام الأطراف كإبائه عنه في العلم التفصيلي لكون ذلك بنظره ترخيصاً من المولى في معصيته وترك طاعته ومثله لا يصدّقه وجدان العقل بعد تصديقه خلافه» «2».

وقال شيخنا العلّامة الحائري رحمه الله: «لنا إنّ المقتضي للامتثال وهو العلم بخطاب المولى موجود بالفرض والشكّ في تعيين المكلّف به ليس بمانع عند العقل وهل تجوز المخالفة القطعيّة للتكليف المقطوع مع تمكّن المكلّف من الامتثال بمجرّد الشكّ في التعيين حاشاه من ذلك فإنّ انوار الأصول، ج 3، ص: 115

الملاك المتحقّق في مخالفة العلم التفصيلي موجود هنا بعينه» «1».

أقول: لنا في قبال هذا الوجه أو هذه الوجوه نقض وحلّ:

أمّا النقض: فهو بالشبهات غير المحصورة، اللّهمّ إلّاأن يقال بعدم لزوم المخالفة القطعيّة فيها لعدم إمكان إرتكاب المكلّف جميع الأطراف عادةً ولو تدريجاً.

وكذلك النقض بالشبهات البدوية لأنّه وإن كان الموجود فيها احتمال الإصابة إلى الواقع لكن لا إشكال في استلزامه احتمال التناقض،

واحتمال اجتماع النقيضين محال كالعلم به، وهذا هو الشبهة المعروفة لابن قبّة التي تصدّى الأعلام للجواب عنها باسقاط أحد الحكمين عن الفعلية وإرجاعه إلى مرحلة الإنشاء، وبهذا ذهبوا إلى أنّ العلم الإجمالي في الشبهة غير المحصورة والشبهات البدوية يكون مقتضياً للتنجّز، ونحن نقول: كما يمكن اسقاط أحد الحكمين في هذين الموردين عن الفعليّة والقول باقتضاء العلم الإجمالي للتنجّز، كذلك يمكن في المقام أيضاً اسقاط الحكم الواقعي المعلوم بالإجمال عن الفعليّة وبذلك يرتفع إشكال التناقض، (وقد عرفت أنّ التناقض كما لا يجوز قطعاً لا يجوز احتمالًا).

وعلى هذا فلا يمكن إثبات حرمة المخالفة القطعيّة من ناحية لزوم التناقض كما صرّح به في كلمات المحقّق النائيني رحمه الله والقول بأنّ العلم الإجمالي علّة تامّة للتنجّز كما هو ظاهر بعض كلمات الأعلام الأربعة المزبورة أو صريحها، بل للعلم الإجمالي ليس أكثر من الاقتضاء، فعلينا الفحص عن وجود المانع في الأدلّة النقلية، فإن ظفرنا على رواية مرخّصة تمنع عن نفوذ المقتضي فهو، وإلّا تنجّز العلم الإجمالي لوجود المقتضي وفقدان المانع.

فنقول: هيهنا روايات عديدة يمكن أن يستدلّ بها على الترخيص في أطراف العلم الإجمالي:

أحدها: ما رواه عبداللَّه بن سليمان قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن الجبن فقال لي: «...

ساخبرك عن الجبن وغيره، كلّ ما كان فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام بعينه فتدعه» «2».

فهى تدلّ على الترخيص في أطراف العلم الإجمالي بناءً على أنّ الظاهر من قوله «بعينه»

انوار الأصول، ج 3، ص: 116

العلم التفصيلي والمعرفة التفصيليّة، كما لا إشكال فيها من ناحية السند إلى عبداللَّه بن سنان، وأمّا عبداللَّه بن سليمان فهو مردّد بين خمسة أفراد: الصيرفي والعامري والعبسي والنخعي وعبداللَّه بن سليمان من دون لقب، وكلّهم مجاهيل

لكن يمكن تصحيح الرواية من ناحية السند من باب أنّ نفس المضمون الوارد فيها نقل عن عبداللَّه بن سنان «1» من دون وساطة عبداللَّه بن سليمان وقد نقلها بهذا النحو الصدوق وابن إدريس في السرائر والشيخ الطوسي رحمه الله، في التهذيب.

ثانيها: ما رواه عبداللَّه بن سليمان أيضاً عن أبي عبداللَّه عليه السلام في الجبن قال: «كلّ شي ء لك حلال حتّى يجيئك شاهدان يشهدان فيه ميتة» «2».

بناءً على ظهور كلمة «فيه» في العلم التفصيلي.

ثالثها: ما رواه أبو الجارود قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن الجبن فقلت له: أخبرني من رأى إنّه يجعل فيه الميتة، فقال: «أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرّم في جميع الأرضين؟

إذا علمت أنّه ميتة فلا تأكله وإن لم تعلم فاشتر وبع وكل، واللَّه إنّي لأعترض السوق فأشتري بها اللحم والسمن والجبن، واللَّه ما أظنّ كلّهم يسمّون هذه البربر وهذه السودان» «3».

والإنصاف أنّ الضمير في كلمة «إنّه ميتة» أيضاً ظاهر في العلم التفصيلي.

رابعها: ما رواه معاوية بن عمّار عن رجل عن أصحابنا قال: «كنت عند أبي جعفر عليه السلام فسأله رجل عن الجبن فقال أبو جعفر عليه السلام: «إنّه طعام يعجبني وساخبرك عن الجبن وغيره، كلّ شي ء فيه الحلال والحرام فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام فتدعه بعينه» «4».

وهى أظهر من الروايات السابقة في العلم التفصيلي فإنّ قوله «بعينه» قيد للضمير في «تدعه» فلا يمكن حمله على تأكيد العلم كما قد يقال في الرواية الاولى.

خامسها: ما رواه الحلبي قال: سمعت أبا عبداللَّه عليه السلام يقول: «إذا اختلط الذكي بالميّت باعه انوار الأصول، ج 3، ص: 117

ممّن يستحلّ الميتة وأكل ثمنه» «1». ودلالته ظاهرة من جهة إجازة بيع كليهما.

سادسهما: ما رواه الحلبي أيضاً

عن أبي عبداللَّه عليه السلام: إنّه سئل عن رجل كان له غنم وبقر فكان يدرك الذكي منها فيعزله ويعزل الميتة ثمّ إنّ الميتة والذكي اختلطا كيف يصنع به؟ قال:

«يبيعه ممّن يستحلّ الميتة ويأكل ثمنه فإنّه لا بأس به» «2».

سابعها: ما رواه علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام قال: سألته عن الدقيق يقع فيه خرؤ الفأر هل يصلح أكله إذا عجن مع الدقيق؟ قال: «إذا لم تعرفه فلا بأس وإن عرفته فلتطرحه» «3».

هذه روايات يمكن أن يستدلّ بها على الترخيص في أطراف العلم الإجمالي وعدم حرمة المخالفة القطعيّة.

لكن الإنصاف إمكان المناقشة في الجميع من ناحية الدلالة.

أمّا روايات الجبن فلا يبعد القول بأنها خارجة عن المقام لأنّ موردها الشبهة غير المحصورة أو الشبهة البدوية وفرض الشبهة المحصورة خارجة عنها كما لا يخفى.

وأمّا روايات اختلاط الميتة بالمذكّى فمدلولها (وهو جواز بيع الميتة المعلومة بالإجمال ممّن يستحلّها) بناءً على عدم كونه معرضاً عنه للأصحاب وإمكان الإفتاء على طبقه كما أفتى به بعض الأعاظم- أخصّ من المدّعى، وهى الترخيص في الشبهات المحصورة مطلقاً، فلا يمكن التعدّي عن موردها إلى سائر الموارد لاحتمال الخصوصيّة، فلا يصحّ قياس غيرها عليها بل يمكن أن يقال: هى على خلاف المطلوب أدلّ لأنّ تقييد الجواز بمن يستحلّ دليل على عدم الجواز في غيره.

نعم، إنّه ينافي مقالة القائلين كون العلم الإجمالي علّة تامّة وإنّ الترخيص يستلزم التناقض فإنّ الكفّار مكلّفون بالفروع كما أنّهم مكلّفون بالاصول.

وأمّا الرواية الأخيرة (وهى رواية خرؤ الفأر) فهى مخدوشة سنداً ودلالة: أمّا السند

انوار الأصول، ج 3، ص: 118

فلمكان قرب الإسناد، وأمّا الدلالة فلاحتمال خصوصية في موردها وهى استهلاك الخرؤ في الدقيق، مضافاً إلى أنّ الرواية معرض عنها ظاهراً.

هذا مضافاً

إلى تعارض هذه الروايات مع ما سيأتي في المقام الثاني من الروايات الدالّة على حرمة المخالفة الاحتماليّة فضلًا عن المخالفة القطعيّة.

هذا كلّه في المقام الأوّل.

أمّا الجهة الثانية: وهى حرمة المخالفة الاحتماليّة (وجوب الموافقة القطعيّة) فالحقّ فيها أيضاً ثبوت الحرمة، أي وجوب الاجتناب عن جميع أطراف الشبهة بنفس القاعدة العقليّة التي مرّ ذكرها في المقام الأوّل وهى كون المقتضي موجوداً والمانع مفقوداً، أمّا وجود المقتضي فلشمول أدلّة تحريم المحرّمات للمعلوم إجمالًا، وأمّا عدم المانع فلأنّ الموضوع في أدلّة البراءة من حديث الرفع وغيره الشكّ وعدم العلم، وهو مفقود في ما نحن فيه لأنّ العلم أعمّ من العلم التفصيلي والعلم الإجمالي، وكذلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان لأنّ موضوعها وهو عدم البيان مفقود هنا أيضاً لأنّ العلم الإجمالي بيان كالعلم التفصيلي، وإن أبيت إلّاعن شمول أدلّة البراءة والحلّية لكلّ واحد منها فلا أقلّ من تساقطهما بالتعارض.

هذا هو مقتضى القاعدة الأوّلية.

أمّا الروايات الخاصّة الواردة في المسألة فهى على طوائف:

الطائفة الاولى: ما تدلّ على وجوب الاحتياط في موارد العلم الإجمالي بشكل كلّي من غير تقييد بموضوع خاصّ.

منها: ما مرّ عند ذكر أدلّة الأخباري ممّا ورد في ذيل حديث التثليث المعروف: «فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الإقتحام في الهلكات» «1».

ومنها قوله صلى الله عليه و آله: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» «2».

ومنها: قوله «ما اجتمع الحرام والحلال إلّاغلب الحرام الحلال» «3».

انوار الأصول، ج 3، ص: 119

ومنها: قوله: «اتركوا ما لا بأس به حذراً عمّا به البأس» «1» ولا إشكال في أنّ موردها أو القدر المتيقّن منها أطراف العلم الإجمالي.

الطائفة الثانية ما وردت في موارد خاصّة:

منها: ما مرّ سابقاً روايات «2» القرعة في الغنم الموطوءة، حيث إنّ الأمر بالقرعة

مع عدم حرمة المخالفة الاحتماليّة ممّا لا وجه له.

إن قلت: فلماذا أجاز الشارع إرتكاب الجميع بعد إخراج ما أصابته القرعة؟

قلنا: الجواب عنه واضح، فإنّ القرعة بمنزلة الأمارة كما يستفاد من أدلّتها فإذا إمتاز الحرام في البين بالأمارة جاز إرتكاب الباقي.

منها: ما مرّ آنفاً من روايات اختلاط الميتة بالمذكّى، لتقييد جواز البيع فيها بمن يستحلّ كما ذكرنا.

لكن يرد على هذه الطائفة إنّها خارجة عن محلّ النزاع لأنّ محلّ النزاع صورة عدم جريان الاصول الناهية في أطراف العلم الإجمالي وإلّا لا إشكال في حرمة المخالفة الاحتماليّة حتّى عند القائلين بالجواز لمكان الأصل، ولا إشكال في جريان استصحاب عدم التذكية في مورد اختلاط الميتة بالمذكّى في جميع الأطراف، وكذلك في الغنم الموطوءة بناءً على حجّية الاستصحاب التعليقي (حيث إنّ استصحاب عدم التذكية معلّق على وقوع الذبح خارجاً)، لعدم لزوم المخالفة القطعيّة العلميّة حينئذٍ لأنّ غاية ما يترتّب على جريان الاستصحاب إنّما هو ترك جميع الأطراف وهو مخالفة قطعيّة ولا إشكال في عدم مانعيتها عن جريان الاصول.

الطائفة الثالثة: ما وردت في باب النجاسات وتدلّ على لزوم الاجتناب عن أطراف النجاسة المعلومة بالإجمال:

منها: ما رواه محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام ... وقال: «في المني يصيب الثوب، قال:

انوار الأصول، ج 3، ص: 120

«إن عرفت مكانه فاغسله وإن خفى عليك فاغسله كلّه» «1».

ومنها: ما رواه عنبسة بن مصعب قال: سألت أباعبداللَّه عليه السلام عن المني يصيب الثوب فلا يدري أين مكانه قال: «يغسله كلّه» «2».

ومنها: ما رواه زرارة قال: قلت أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره أو شي ء من مني (إلى أن قلت): فإنّي قد عمت أنّه قد أصابه ولم أدر أين هو فأغسله؟ قال: «تغسل من ثوبك الناحية التي ترى

إنّه قد أصابها حتّى تكون على يقين من طهارتك» «3».

لكن يرد على هذه الطائفة أيضاً أنّ وجوب غسل الثوب إنّما هو لأجل الصّلاة، ومن المعلوم أنّ تمام الثوب موضوع واحد بالنسبة إليها، له حالة سابقة متيقّنة وهى النجاسة، ومعها لا تجوز الصّلاة فيه إلّاأن يعلم بطهارته.

الطائفة الرابعة: روايات إهراق الإنائين المعلومة نجاسة أحدهما:

منها: ما رواه سماعة عن أبي عبداللَّه عليه السلام في رجل معه إناءان، وقع في أحدهما قذر، ولا يرى أيّهما هو، وليس يقدر على ماء غيرهما، قال: «يهريقهما ويتيمّم» «4».

ومثله حديث عمّار الساباطي عن أبي عبداللَّه عليه السلام ولا إشكال في دلالة هذه الطائفة على المقصود لعدم جريان الاصول الناهية في موردها.

فظهر من جميع ما ذكر أنّ مقتضى القاعدة والروايات العامّة وكذلك مقتضى بعض الروايات الخاصّة حرمة المخالفة القطعيّة والاحتماليّة معاً، نعم إنّ موردها الشبهات التحريميّة، ولكن يستفاد منها حرمة المخالفة في الشبهات الوجوبيّة أيضاً بالغاء الخصوصيّة.

انوار الأصول، ج 3، ص: 121

تنبيهات

التنبيه الأوّل: الاضطرار إلى بعض الأطراف

هل الاضطرار إلى أحد الأطراف يوجب انحلال العلم الإجمالي، أو لا؟

وللمسألة أربع صور:

الصورة الاولى: حصول الاضطرار إلى واحد معيّن، كما إذا علم بوقوع النجاسة في واحد من إنائين أحدهما عذب فرات، والثاني ملح اجاج واضطرّ إلى شرب الأوّل.

الصورة الثانية: حصول الاضطرار إلى واحد غير معيّن كما إذا كانا معاً من العذب الفرات.

وفي كلّ منهما إمّا يحصل الاضطرار بعد حصول العلم الإجمالي أو يحصل قبله (أو معه)، فتكون الصور أربعة.

والأقوال في المسألة أربعة أيضاً.

الأوّل: إنّ الاضطرار موجب لانحلال العلم الإجمالي مطلقاً، وهو مختار المحقّق الخراساني رحمه الله.

الثاني: التفصيل بين ما إذا حصل الاضطرار إلى واحد معيّن بعد طروء العلم الإجمالي، وبين ثلاث صور اخرى بوجوب الاحتياط في الأوّل دون الثاني، وقد استفيد هذا

من بعض كلمات المحقّق الخراساني رحمه الله في محضر درسه.

الثالث: التفصيل بين ما إذا حصل الاضطرار إلى واحد معيّن قبل العلم الإجمالي وبين ثلاث صور اخرى بوجوب الاحتياط في الثاني دون الأوّل، وهو مختار شيخنا الأعظم رحمه الله.

الرابع: التفصيل بين صورتي حصول الإضطرار بعد العلم الإجمالي وبين صورتي حصوله قبله (أو معه) بوجوب الاحتياط في الثاني دون الأوّل.

واستدلّ على القول الأوّل بما حاصله: إنّ الاضطرار إلى بعض الأطراف مانع عن فعلية الحكم المعلوم بالإجمال مطلقاً، لأنّ الاضطرار من قيود التكليف شرعاً فطروّه يوجب سقوط العلم الإجمالي عن الحجّية والأثر لأنّ حجّيته فرع تعلّقه بتكليف فعلي.

إن قلت: هذا صحيح في ما إذا كان الاضطرار قبل العلم الإجمالي لا ما إذا كان بعده لأنّ التكليف بوجوب الإجتناب قد تنجّز بالعلم الإجمالي قبل طروء الاضطرار، وبعده انتهى أمد

انوار الأصول، ج 3، ص: 122

تنجّز احتمال التكليف بالنسبة إلى المضطرّ إليه فقط بعروض الاضطرار وأمّا بالنسبة إلى الباقي فأصالة الاشتغال محكمة، وإلّا يلزم إمكان اسقاط العلم الإجمالي من جميع الموارد بإعدام أحد الأطراف وإتلافه، وهو ممّا لا يلتزم به أحد.

قلنا: إنّ الشكّ إن كان في مرحلة الفراغ وسقوط ما في الذمّة كان المرجع فيه قاعدة الاشتغال وإن كان في مرحلة ثبوت التكليف واشتغال الذمّة به كان المرجع فيه أصالة البراءة، وبما أنّ الحكم الواقعي مقيّد بعدم طروّء الاضطرار فمع طروّه لا علم بالتكليف حتّى يكون الشكّ في مرحلة الإمتثال والفراغ، وهذا بخلاف باب التلف فإنّ التكليف فيه مطلق غاية الأمر يرتفع بارتفاع موضوعه، فإذا كان التالف هو موضوع التكليف المعلوم بالإجمال فقهراً يرتفع الحكم وينعدم لا أنّه محدود من هذه الناحية.

وأورد عليه بوجهتين:

الأوّل: إنّ هذا الفرق بين باب الاضطرار وباب التلف

ليس بفارق لأنّه لا فرق في نظر العقل في تنجيز العلم لمتعلّقه المعلوم بالإجمال بين أن يكون تكليفاً مطلقاً على كلّ تقدير أو كان مطلقاً على تقدير إنطباقه على هذا الطرف مثلًا وبين أن يكون وتكليفاً محدوداً على تقدير إنطباقه على الطرف الآخر كما لو علم إجمالًا بوجوب صلاة الظهر أو الجمعة مثلًا، فوجوب صلاة الظهر مطلق يجب أن يأتي بها طول العمر أمّا أداءً أو قضاءً، ووجوب صلاة الجمعة محدود إلى ساعة بعد الزوال فلا يصحّ بعد مضي ساعة من الظهر إجراء البراءة عن صلاة الظهر كما هو واضح.

وبعبارة اخرى: إنّ غاية ما يلزم في صورة طروء الاضطرار بعد العلم الإجمالي أن يصير المورد من قبيل التكليف المردّد بين فرد طويل العمر وفرد قصير العمر كما في المثال.

الثاني: أنّه كما أنّ عدم طروء الاضطرار قيد للحكم والحكم مشروط به، كذلك وجود الموضوع يكون قيداً للحكم، أي الحكم مشروط بوجود الموضوع، فلا فرق بين تقيد الحكم بالاضطرار أو تقييده بوجود موضوعه.

أقول: الصحيح هو الوجه الرابع، وهو التفصيل بين صورتي طروء الاضطرار بعد العلم الإجمالي وبين صورتي حصوله قبله، والدليل عليه أنّ العلم الإجمالي إذا تعلّق بحكم، فعلي على كلّ حال يكون مؤثّراً بلا شبهة، ففي ما إذا حصل الاضطرار قبل العلم الإجمالي فحيث إنّا

انوار الأصول، ج 3، ص: 123

نحتمل تعلّقه بالجنس الواقعي في مثال الإنائين المعلومة نجاسة أحدهما فلا إشكال في أنّ شكّنا في نجاسة غير المضطرّ إليه بدوي يكون المرجع فيه أصالة البراءة سواء كان الاضطرار إلى أحدهما المعيّن أو إلى أحدهما غير المعيّن.

إن قلت: «إنّ الإضطرار إلى أحدهما غير المعيّن يجتمع مع التكليف الواقعي ولا مزاحمة بينهما لإمكان رفع الاضطرار بغير متعلّق التكلّف مع

قطع النظر عن العلم والجهل الطارى ء، بل لولا الجهل بشخص متعلّق التكليف لكان يتعيّن رفع الإضطرار بغيره فالإضطرار إلى غير المعيّن قبل العلم بالتكليف كلّاً اضطراراً، لا يوجب التصرّف في الواقع ولا يصادم متعلّق التكليف ولا تقع المزاحمة بينهما» «1».

قلنا: إنّ رفع الاضطرار بالإناء الطاهر واقعاً يتوقّف على العلم بالنجس الواقعي بعينه وإمكان الجمع بين «إجتنب عن النجس» و «رفع ما اضطرّوا إليه»، وهذا خارج عن محلّ البحث لأنّ محلّ البحث هو ما إذا كان الواقع مجهولًا واحتمل إنطباق ما يختاره على النجس الواقعي، وحينئذٍ لا علم لنا بما يكون فعليّاً على كلّ تقدير، بل المعلوم هو ما يكون فعلياً على تقدير (وهو عدم تعلّق الاختيار بالنجس الواقعي) وغير فعلي على تقدير آخر (وهو تعلّق الاختيار بما هو طاهر واقعاً) وتكون النتيجة حينئذٍ عدم العلم بحكم فعلي على كلّ تقدير، فيصير المورد مجرى أصالة البراءة والحلّية.

هذا كلّه إذا طرأ الاضطرار قبل العلم الإجمالي، وأمّا إذا حصل بعده فيجب الاحتياط مطلقاً أيضاً بالنسبة إلى غير المضطرّ إليه لتساقط الاصول المرخّصة الجارية في الأطراف قبل حصول الاضطرار بالتعارض أو عدم جريانها للتناقض في مدلولها، فلا مجال لجريانها بعد حصوله لما ثبت في محلّه من عدم عموم أزماني لها فليس المراد من قوله صلى الله عليه و آله «رفع عن امّتي ما لا يعلمون» مثلًا هو الرفع في كلّ ساعة وكلّ يوم، وإلّا يلزم جواز إعدام أحد أطراف العلم الإجمالي في الغنم الموطوءة مثلًا وإجراء الاصول المؤمنة في سائر الأطراف بلا معارض، وكذلك كان الجائز أن يقول الإمام عليه السلام في حديث الإهراق «يهرق أحدهما ويتوضأ من الآخر» بدل «يهريقهما» ونهايةً يلزم جواز اسقاط كلّ علم إجمالي عن

الأثر وهو كما ترى، فإذا

انوار الأصول، ج 3، ص: 124

ثبت عدم جريان أصل مرخّص في غير المضطرّ إليه أي عدم مؤمن من العذاب كان الاحتياط واجباً عقلًا وإن كان العلم الإجمالي مرفوعاً بعد مجي ء الاضطرار.

وبما ذكرنا يظهر الضعف في القول الثاني والثالث فلا نحتاج إلى مزيد بحث.

التنبيه الثاني: خروج بعض الأطراف عن محلّ الابتلاء

المعروف بين المتأخّرين والمعاصرين أنّ العلم الإجمالي إنّما يؤثّر فيما إذا كانت جميع الأطراف محلًا للابتلاء وإلّا، فلا أثر له كما إذا علم المكلّف بإصابة قطرة دم أمّا بثوبه أو بثوب بعض المارّة الذي لا صلة بينه وبين المكلّف أبداً ولا يبتلى بثوبه عادة.

وهنا بحث صغروي وبحث كبروي:

أمّا الكبروي: فهو إنّ خروج طرف عن محلّ الابتلاء هل يوجب عدم وجوب الاجتناب عن سائر الأطراف أو لا؟

وأمّا البحث الصغروي: فهو في معيار الخروج عن محلّ الابتلاء وبيان الوظيفة عند الشكّ في الخروج وعدمه.

وحاصل كلمات الأعلام في الكبرى مع اختلافها وتلوّنها أنّ التكليف إنّما يجب امتثاله فيما إذا تحقّق شرائط أربعة:

1- العلم بحدوث تكليف جديد فيعتبر في تأثير العلم الإجمالي في التنجّز أن لا يكون أحد أطرافه على فرض إنطباق المعلوم بالإجمال عليه ممّا لا يترتّب عليه أثر شرعي ولا يحدث بسببه تكليف إلهي، كما إذا علم إجمالًا بوقوع قطرة من البول في أحد إنائين أحدهما بول أو متنجّس بالبول أو كثير لا ينفعل بالنجاسة أو أحد ثوبين أحدهما نجس بتمامه، لعدم العلم حينئذٍ بحدوث تكليف جديد بالاجتناب عن ملاقي هذه القطرة، إذ لو كان ملاقيها هو الإناء النجس لم يحدث بسببه تكليف بالاجتناب أصلًا، فالشكّ في التكليف بالاجتناب عن الآخر شكّ بدوي.

2- كون التكليف فعليّاً من جميع الجهات.

3- كون المكلّف به ممّا يكون العبد قادراً بإتيانه أو غير عاجز عن

الإتيان به، فلا يكون انوار الأصول، ج 3، ص: 125

من قبيل الطيران في الهواء.

4- احتمال إنقداح الإراة في العبد، فلو كان متعلّق التكليف ممّا لا يريده العبد أبداً ويكون متروكاً له بحيث لا ينقدح في نفسه داعٍ إليه كان النهي عنه مستهجناً عرفاً وتحصيلًا للحاصل.

وفي ما نحن فيه وإن كانت الشرائط الثلاثة الاولى حاصلة إلّاأنّ الشرط الأخير غير موجود لأنّه بعد فرض خروج أحد الأطراف عن ابتلاء المكلّف لا ينقدح في نفسه داعٍ إليه فلا حاجة إلى نهيه وزجره ولا يكون التكليف بالنسبة إليه فعليّاً فيكون الشكّ بالنسبة إلى الطرف الآخر بدويّاً.

وإن شئت قلت: يجري الأصل المؤمن في الطرف المبتلى به من دون معارض نظير الشبهات البدوية بعينها، ولا يخفى الفرق بين ما إذا خرج المورد عن الابتلاء قبل حصول العلم الإجمالي وما إذا خرج بعده، حيث إنّه في القسم الثاني قد جرى الأصل في كلّ من الطرفين قبل حصول العلم الإجمالي وتساقط الأصلان أو لم تجر الاصول فيها للتناقض في مدلولها (على اختلاف القولين في المسألة) ولا معنى لجريانه ثانياً بعد الخروج عن الابتلاء فيجب حينئذٍ الإجتناب عن الطرف المبتلى به.

ثمّ إنّه قد يتمسّك لعدم وجوب الاحتياط في المقام برواية علي بن جعفر الواردة في دم الرعاف وسيأتي عدم تماميتها.

وينبغي هنا ذكر ما ورد في تهذيب الاصول من مخالفته لجميع المتأخّرين في هذه المسألة والقول بعدم تأثير الخروج عن محلّ الابتلاء في عدم تنجّز العلم الإجمالي، وإن سبق ذكره في بعض الأبحاث السابقة بمناسبة اخرى.

وحاصل بيانه: إنّ الخطابات على قسمين: خطاب قانوني عام، وخطاب شخصي خاص، وقد وقع الخلط بين الخطابات الكلّية المتوجّهة إلى عامّة المكلّفين والخطابات الشخصيّة إلى آحادهم فإنّ الخطاب الشخصي إلى خصوص

العاجز وغير المتمكّن وغير المبتلى مثلًا مستهجن ولكن الخطاب الكلّي إلى المكلّفين المختلفين حسب الحالات والعوارض ممّا لا استهجان فيه لكفاية، انبعاث عدد معتدّ به من المكلّفين فيه.

إن قلت: أليست الخطابات منحلّة ومتعدّدة بتعدّد الشخاص؟

قلنا: ليس هنا الإرادة واحدة تشريعيّة متعلّقة بخطاب واحد وليس الموضوع إلّاأحد

انوار الأصول، ج 3، ص: 126

العناوين العامّة من دون أن يقيّد بقيد أصلًا، فلو اريد من الانحلال رجوع كلّ خطاب عام إلى خطابات بعدد المكلّفين حتّى يكون كلّ مكلّف مخصوصاً بخطاب خاصّ به وتكليف مستقلّ متوجّه إليه فهو ضروري البطلان فإنّ قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» خطاب واحد لعموم المؤمنين، أي الخطاب واحد والمخاطب كثير، كما أنّ الإخبار «بأنّ كلّ نار حارة» إخبار واحد والمخبر عنه كثير، فلو قال أحد: «كلّ نار بارد» فلم يكذب إلّاكذبة واحدة لا أكاذيب متعدّدة حسب أفراد النار، فلو قال: «ولا تقربوا الزنا» فهو خطاب واحد متوجّه إلى كلّ مكلّف، ويكون الزنا تمام الموضوع للحرمة، والمكلّف تمام الموضوع لتوجّه الخطاب إليه، وهذا الخطاب الوحداني يكون حجّة على كلّ مكلّف من غير إنشاء تكاليف مستقلّة أو توجّه خطابات عديدة، لست أقول: إنّ المنشأ تكليف واحد لمجموع المكلّفين فإنّه ضروري الفساد، بل أقول: إنّ الخطاب واحد والإنشاء واحد والمنشأ هو حرمة الزنا على كلّ مكلّف من غير توجّه خطاب خاصّ أو تكليف خاصّ مستقلّ إلى كلّ واحد، ولا إشكال في عدم استهجان الخطاب العمومي.

ثمّ رتّب على القول بالانحلال توالي فاسدة:

منها: عدم صحّة خطاب العصاة من المژسلمين لأنّ خطاب من لا ينبعث به قبيح أو غير ممكن.

ومنها: عدم صحّة تكليف الكفّار بالاصول والفروع بنفس الملاك.

ومنها: قبح تكليف صاحب المروّة بستر العورة مثلًا فإنّ الدواعي مصروفة عن

كشف العورة فلا يصحّ الخطاب.

ومنها: أنّه يلزم على الانحلال وكون الخطاب شخصياً عدم وجوب الاحتياط عند الشكّ في القدرة لكونه شكّاً في تحقّق ما هو جزء للموضوع، وهو خلاف السيرة الموجودة بين الفقهاء من لزوم الاحتياط عند الشّك في القدرة.

ومنها: لزوم الالتزام بأنّ الخطابات والأحكام الوضعيّة مختصّة بما هو محلّ الابتلاء لأنّ جعل الحكم الوضعي إن كان تبعاً للتكليف فواضح، ومع عدم التبعية والاستقلال بالجعل فالجعل إنّما هو بلحاظ الآثار، ومع الخروج عن محلّ الابتلاء لا يترتّب عليها آثار فلابدّ من الالتزام بأنّ النجاسة والحلّية وغيرهما من الوضعيّات من الامور النسبيّة بلحاظ المكلّفين،

انوار الأصول، ج 3، ص: 127

فيكون الخمر والبول نجسان بالنسبة إلى من كان مبتلى بهما دون غيرهما، ولا أظن التزامهم بذلك للزوم الإختلال في الفقه والدليل العقلي غير قابل للتخصيص فيكشف ذلك عن بطلان المبنى «1» (انتهى).

أقول: يرد عليه:

أوّلًا: إنّه إن اريد من قوله إنّ المخاطب هو عنوان «ياأيّها الذين آمنوا» أو عنوان «ياأيّها الناس» العنوان الذهني بما هو موجود في الذهن فهو واضح البطلان، وإن اريد منه العنوان الذهنبي بما هو مشير إلى أفراده الخارجيّة فليس المخاطب هو العنوان بما هو عنوان بل المخاطب حقيقه هو الأفراد الخارجيّة من زيد وعمرو وبكر وغيرهم.

وهذا عين القول بالانحلال لتعدّد التكاليف بتعدّد المكلّفين، أي الإنشاء واحد والتكليف المنشأ متعدّد، ولا مانع من إنشاء امور عديدة بلفظ واحد كما إذا قال: «أنكحت هذه المرأة لهذا الرجل وتلك المرأة لذلك الرجل» أو قال: «بعت هذا بهذا وذاك بذاك» فإنّ النكاح أو البيع متعدّد وإن كان الإنشاء واحداً، ولذلك يقال في باب البيع، إنّ البيع صحيح في ما يملك وباطل في ما لا يملك، وليس هذا إلّالأجل الإنحلال، وإنّ

الإنشاء الواحد فيه يكون في قوّة إنشاءات متعدّدة.

وثانياً: لازم كلامه عدم وجود فرق بين العام المجموعي والعام الإفرادي مع أنّه لا إشكال في أنّ التكليف في الأوّل واحد وفي الثاني متعدّد بتعدّد أفراد العام، ولذلك يكون العصيان في المجموعي واحداً يتحقّق بعدم إتيان فرد واحد، وأمّا في الإفرادي فتتعدّد الإطاعة أو العصيان بتعداد الأفراد، وليس هذا إلّالأجل الانحلال في الإفرادي دون المجموعي، وكأنّه وقع الخلط في المقام بين الإنشاء والمنشأ، بينما الواحد هو الإنشاء ولا تلازم وحدة الإنشاء وحدة المنشأ.

وثالثاً: في ما ذكره من التوالي الفاسدة:

فبالنسبة إلى عدم تعدّد الكذب في قوله «كلّ نار بارد» نقول: إنّ الصدق والكذب من مقولة اللفظ لا المعنى، أي إنّهما يعرضان للإخبار لا المخبر به، وحيث إنّ الإخبار واحد فليكن الكذب أيضاً واحداً.

انوار الأصول، ج 3، ص: 128

وبالنسبة إلى العصاة والكفّار نقول: إنّ التكليف تارةً يكون بداعي البعث، واخرى بداعي إتمام الحجّة كما يدلّ عليه مثل قوله تعالى: «وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً» «1»

، وتكليف العصاة والكفّار من قبيل الثاني لا الأوّل.

وأمّا النقض بوجوب الاحتياط في الشكّ في القدرة، فيردّ بأنّ وجوب الاحتياط في هذه الموارد ليس من باب فعلية التكليف الكلّي غير المنحلّ وعدم انحلاله بعدد المكلّفين، بل من باب وجود خصوصيّة في المقام، حيث إنّ القدرة على الامتثال وإن كان حالها حال سائر القيود المأخوذة في فعلية التكاليف ولكن مع ذلك لا تجري البراءة في موارد الشكّ فيها لوجود قاعدة عقلائيّة هنا لأنّ بناء العقلاء في دائرة الموالي والعبيد العرفيّة على لزوم الفحص عن وجود القدرة ولزوم التصدّي للامتثال وعدم صحّة الإعتذار بمجرّد احتمال عدم القدرة، وهذا الأمر الإرتكازي

العقلائي بعد عدم الردع عنه من قبل الشارع بمنزلة قرينة متّصلة تمنع عن انعقاد الاطلاق في أدلّة البراءة لموارد الشكّ في التكليف الناشي ء من الشكّ في القدرة، بل يمكن أن يقال: إنّه وارد عليها لانتفاء موضوع البراءة بعد ورود هذا البيان.

وعلى سبيل الفرض إذا قال المولى لعبده وخاطبه بخطاب شخصي بقوله: «اشتر الخبز من السوق» فشكّ العبد في وجود الخبز في السوق لكون اليوم يوم العطلة فلم يتفحّص عنه واعتذر عند المولى بهذا الشكّ، أترى العقلاء يقبلون هذا العذر من هذا العبد، أو يوجبون عليه الفحص بالمقدار المتعارف؟

وأمّا نقضه بالأحكام الوضعيّة فيمكن الجواب عنه بأنّ الأحكام الوضعيّة تنحلّ بعدد موضوعاتها لا بعدد المكلّفين، فينحلّ حكم الشارع بطهارة الماء مثلًا في قوله عليه السلام: «الماء كلّه طاهر» بعدد المياه الموجودة في سطح الأرض، ولا يخفى أنّه يكفي في عدم لزوم اللغويّة ابتلاء بعض المكلّفين بكلّ واحد منها، نعم لو فرض وجود بعض المياه في بعض الكرات من المنظومة الشمسيّة بحيث لا يبتلى بها أيّ مكلّف فعدم شمول الحكم الوضعي لها غير بعيد فلا تشملها أدلّة الطهارة ولا النجاسة.

انوار الأصول، ج 3، ص: 129

نعم هذا بناءً على كون الأحكام الوضعيّة مجعولة بالأصالة كما هو المختار في محلّه، وأمّا لو قلنا بأنّها امور انتزاعيّة من الأحكام التكليفيّة وتكون مجعولة بتبع جعلها فيكون النقض وارداً لأنّه من المستغرب جدّاً أن يكون الخمر مثلًا نجساً بالنسبة إلى مكلّف وغير نجس بالنسبة إلى مكلّف آخر، بل لا معنى له مع فعليّة الحكم التكليفي بالنسبة إلى جميع المكلّفين وانحلاله بعددهم.

بقي هنا أمران:

الأمر الأوّل: إنّ شيخنا الأعظم الأنصاري رحمه الله استدلّ في المقام برواية دم الرعاف المعروفة وهى ما رواه علي بن جعفر عليه

السلام عن أخيه أبي الحسن موسى بن جعفر عليه السلام قال: سألته عن رجل رعف فامتخط فصار بعض ذلك الدم قطعاً صغاراً فأصاب إناءه، هل يصلح له الوضوء منه؟ فقال: إن لم يكن شيئاً يستبين في الماء فلا بأس وإن كان شيئاً بيّناً فلا تتوضّأ منه».

وحيث إنّ مقتضى ظاهر هذه الرواية عدم تنجّس الماء بالدم القليل والمشهور بين الفقهاء عدم الفرق بين القليل والكثير وقعوا في مقام توجيه هذه الرواية في حيص وبيص (بعد أن التزم شيخ الطائفة رحمه الله بظاهرها فقال بعدم تنجيس ما لا يدركه الطرف لاستهلاكه في الماء) وذكروا لها وجوهاً:

منها: المناقشة في سندها لوجود بعض المجاهيل فيه.

واجيب عنه بالمنع في طريق الكافي، ويمكن الجواب عنه أيضاً بأنّ صاحب الوسائل رواها عن كتاب علي بن جعفر، والظاهر أنّ كتابه كان عنده.

ومنها: أنّ التفرقة بين الاستبانة وعدم الإستبانة فيها إشارة إلى صورة العلم وصورة الشكّ فلم تأت هذه الرواية بشي ء جديد.

وفيه: إنّه خلاف ظاهرها وخلاف التعبير ب «أصاب إناءه» حيث إنّ صريحه أنّ أصل الإصابة معلوم في كلتا الصورتين.

ومنها: إنّ المراد في صورة عدم الاستبانة هو الأجزاء الصغيرة من الدم التي لا ترى بغير المنظار كالأجزاء البولية الصغار الموجودة في البخار الحاصل منه.

انوار الأصول، ج 3، ص: 130

ولكنّه أيضاً خلاف الظاهر من الرواية وخلاف التعبير ب «أصاب إناءه».

ومنها: ما ذهب إليه الشيخ الأنصاري رحمه الله نفسه وهو أنّ إصابة الإناء في هذه الرواية لا يستلزم إصابة الماء فالمراد أنّه مع عدم تبيّن شي ء في الماء يحكم بطهارته، ومعلوم إن ظهر الإناء وباطنه الحاوي للماء من الشبهة المحصورة».

وأورد عليه في التهذيب بقوله: «وهو بمكان من الغرابة إذ كيف يكون ظهر الإناء الذي بين يدي المكلّف

خارجاً عن الابتلاء».

أقول: لا غرابة لتوجيه الشيخ رحمه الله لأنّه لابدّ في كون شي ء ممّا يبتلى به المكلّف دخوله أمّا في مأكوله أو في ملبوسه أو في أحد تقلّباته الاخرى الواجبة عليه كالتوضّي والاغتسال والتطهير ونحوها، ومن الواضح أنّ خارج الإناء ليس داخلًا في واحد من هذه الامور، نعم قد يبتلى الإنسان بملاقيه، ولكن سيأتي أنّ ملاقي الشبهة المحصورة في أطراف العلم الإجمالي ليس من الأطراف، ومقصود الشيخ رحمه الله من خروج خارج الإناء عن محلّ الابتلاء إنّما هو خروج الإناء بنفسه لا بملاقيه.

لكن يرد عليه: إنّ هذا الوجه أيضاً خلاف ظاهر قوله عليه السلام: «أصاب إناءه» حيث إنّ إصابة الإناء في لسان الروايات كناية عن إصابة ماء الإناء كما أنّ إهراق الإناء في قوله «يهريقهما» في حديث آخر كناية عن إهراق الماء بلا ريب، والشاهد على ذلك التعبير بقوله:

«إن لم يكن شيئاً يستبين في الماء»- فكأنّ أصل الإصابة بالماء أمر مفروغ عنه والكلام في الإستبانة وعدمها.

فالإنصاف دوران الأمر بين شيئين: إمّا الالتزام بظاهر الرواية والقول بعدم تنجيس النجاسة القليلة كما فعله شيخ الطائفة رحمه الله أو الإكتفاء في رفع اليد عنها بإعراض الأصحاب حيث إنّ عدم وجود فرق بين الأجزاء الصغار وغير الصغار مشهور بشهرة عظيمة تشبه الإجماع، ولولاها لأمكن الفتوى بمثل فتوى شيخ الطائفة رحمه الله.

الأمر الثاني: في الشكّ في الخروج عن محلّ الابتلاء وعدمه.

ولابدّ قبل البحث عنه من تعيين ما هو المعيار في كون الشي ء محلًا للابتلاء فإنّه يختلف باختلاف الأدلّة وقد عرفت أنّ المختار هو أن يكون الخطاب الفعلي مستهجناً وتحصيلًا للحاصل، ثمّ نقول: قد وقع الخلاف بين الشيخ الأعظم والمحقّق الخراساني رحمه الله في الأصل العملي انوار الأصول، ج 3، ص:

131

الجاري عند الشكّ في الخروج عن محلّ الإبتلاء فاختار الشيخ أصالة الاحتياط وذهب المحقّق الخراساني رحمه الله إلى البراءة.

واستدلّ الشيخ رحمه الله بأنّ الخطاب بالاجتناب عن المحرّمات مطلقة غير معلّقة، والمعلوم تقييدها بالابتلاء في موضع العلم بتقبيح العرف توجيهها، وما إذا شكّ في قبح التنجيز فيرجع فيه إلى الإطلاقات لأنّ مرجع المسألة إلى أنّ المطلق المقيّد بقيد مشكوك التحقّق في بعض الموارد لتعذّر ضبط مفهومه هل يجوز التمسّك به أو لا؟ والأقوى الجواز.

وذهب المحقّق الخراساني رحمه الله إلى أنّ المرجع في صورة الشكّ في الابتلاء إنّما هو البراءة (لا اطلاق الخطاب) لعدم إحراز أصل الاشتغال في هذه الموارد، توضيح ما أفاده في توجيه ذلك:

إنّ التمسّك بالاطلاق منوط بإحراز صحّة اطلاق الخطاب ثبوتاً في مشكوك القيدية وكون الشكّ متمحّضاً في مطابقة الاطلاق للواقع، وأمّا إذا كان القيد ممّا لا يصحّ الخطاب بدونه كالقدرة العقليّة أو العاديّة التي منها الابتلاء، فلا معنى للتمسّك بالاطلاق في مرحلة الإثبات لعدم إمكان الاطلاق في مقام الثبوت بعد دخل القدرة في التكليف حتّى يستكشف بالاطلاق في مقام الإثبات.

وقد اختار المحقّق النائيني رحمه الله مذهب الشيخ رحمه الله ببيان آخر وذهب في تهذيب الاصول إلى المختار المحقّق الخراساني رحمه الله ولكن الحقّ مع الشيخ الأعظم رحمه الله لأنّ كثيراً من موارد الشكّ في الابتلاء ترجع إلى الشكّ في القدرة (كما اشير إليه في بيان المحقّق الخراساني رحمه الله) وقد مرّ سابقاً أنّ بناء العقلاء في موارد الشكّ في القدرة على الاحتياط.

هذا مضافاً إلى أنّه يمكن لنا كشف فعليّة الخطاب وشموله لمورد الشكّ في الابتلاء من نفس الاطلاق الظاهري للخطاب بضميمة حكمة المولى الحكيم فإنّ توجيه الخطاب إلى شخص (إمّا بخصوصه أو بعموم

أو اطلاق لفظي) دليل على عدم كونه تحصيلًا للحاصل لما علم من كون المتكلّم حكيماً، وليس هذا من التمسّك بعموم العام في الشبهات المصداقيّة للمخصّص الممنوع في محلّه.

واستدلّ المحقّق النائيني رحمه الله بأنّ القدر المسلّم من التقييد ما هو إذا كان الخمر خارجاً عن محلّ الابتلاء بحيث يلزم استهجان الخطاب في نظر العرف، فإذا شكّ في استهجانه وعدمه للشكّ في إمكان الابتلاء بموضوعه أو عدمه فالمرجع هو اطلاق الدليل، لأنّ المخصّص المجمل انوار الأصول، ج 3، ص: 132

بين الأقل والأكثر مفهوماً لا يمنع عن التمسّك بالعام فيما عدا القدر المتيقّن من التخصيص، وهو الأقلّ خصوصاً في المقيّدات اللبّية، فإنّه يجوز التمسّك بالعام فيها في الشبهات المصداقيّة فضلًا عن الشبهات المفهوميّة»

.وأورد عليه في التهذيب: بأنّ المخصّص اللبّي يسري إجماله إلى العام لأنّه بحكم المتّصل اللفظي يمنع عن انعقاد الظهور «2».

أقول: إنّ إجمال المخصّص يسري إلى العام إذا كانت الشبهة مفهوميّة ولكنّها في المقام مصداقيّة، ولذلك ذهب المحقّق الخراساني رحمه الله إلى عدم جواز التمسّك بالعام أو المطلق في المقام لعدم جواز التمسّك بالعام في الشبهة المصداقيّة للمخصّص. ولكنّا أثبتنا الجواز من طريق آخر وهو كشف الاطلاق من ظاهر كلام المولى بضميمة حكمته كما مرّ.

التنبيه الثالث: عدم الفرق بين الدفعيّات والتدريجيّات في تنجّز العلم الإجمالي

ذكر بعض الأعاظم كالمحقّق العراقي رحمه الله لما إذا كانت أطراف العلم الإجمالي تدريجي الوجود صوراً ثلاثة:

الاولى: ما يكون الزمان فيه مأخوذاً على نحو الظرفية المحضة بلا دخل له لا في التكليف ولا في موضوعه كما إذا علم التاجر بابتلائه في يومه أو شهره بالمعاملة الربويّة.

الثانية: ما يكون الزمان فيه مأخوذاً على نحو القيدية للمكلّف به، أي كان الزمان قيداً للواجب، كما إذا نذر أن يترك أكل غذاء مكروه خاصّ في ليلة خاصّة

واشتبهت بين ليلتين أو أزيد.

الثالثة: ما يكون الزمان فيه مأخوذاً على نحو القيديّة في نفس التكليف أي كان الزمان قيداً للوجوب، كما إذا علمت المرأة المضطربة بأنّها تحيض في الشهر ثلاثة أيّام فإنّ لأيّام الحيض دخلًا في ملاك الحكم وفي أصل التكليف بترك الوطى ء والعبادة ودخول المساجد وقراءة العزائم.

انوار الأصول، ج 3، ص: 133

أمّا الصورة الاولى: فقد قيل بوجوب الاحتياط بالاجتناب عن كلّ معاملة يحتمل كونها ربوية في تمام اليوم أو الشهر.

إن قلت: إنّ الحكم فرع وجود موضوعه ومع عدم تحقّق الموضوع لوجوب الاحتياط وهو العلم الإجمالي بوجود حرام فعلي في الحال، لا علم للمكلّف بتوجّه النهي إليه في الحال أيضاً فلا تنجّز له، لما مرّ من أنّ المنجّز إنّما هو العلم إجمالًا بوجود تكليف فعلي.

وقد اجيب عن هذا، بأنّ التكليف فعلي من باب أنّه من قبيل الواجب المعلّق الذي يكون الوجوب فيه فعليّاً والواجب استقبالي «1».

أقول: قد مرّ في البحث عن الواجب المطلق والمشروط عدم معقولية الواجب المعلّق وإنّه نحو تناقض وتلاعب بالألفاظ، نعم يمكن أن يقال: بأنّ العقل يحكم في هذه الموارد بوجوب الاجتناب وجوباً تهيّؤيّاً من باب المقدّمة، كما يصحّ أن يقال أيضاً: بأنّ العقل مستقلّ بقبح الإقدام على ما يؤدّي إلى تفويت غرض المولى كحكمه بقبح الإقدام في الأغراض الشخصيّة في إذا علم مثلًا بأنّ الغذاء في هذا المطعم مسموم ليوم من أيّام الاسبوع فكما يجب الاحتياط بالاجتناب عن جميع الأطراف في الأغراض الشخصيّة كذلك يجب الاحتياط بالنسبة إلى أغراض المولى.

أمّا الصورة الثانية: فالحال فيها ظهر بما ذكرنا في الصورة الاولى، فإن قلنا بإمكان الواجب المعلّق فهو، وإلّا يثبت وجوب الاحتياط من طريق حفظ غرض المولى، وكذلك الحال في الصورة الثالثة، وعلى

أي حال يجب الاحتياط في التدريجيات بالإجتناب عن جميع الأطراف من باب حكم العقل بلزوم حفظ غرض المولى.

وإن أبيت عن ذلك وأردت أن تثبت الوجوب من طريق فعليّة التكليف فنقول: لا إشكال في عدم وجوب الاحتياط في الصورة الثالثة لأنّ المفروض فيها كون الزمان قيداً للوجوب، فليس التكليف فعليّاً حتّى يوجب تنجّز العلم الإجمالي، كما لا إشكال في أنّ الوجوب في الصورة الاولى والثانية متوقّف على قبول إمكان الواجب المعلّق.

التنبيه الرابع: هل الاصول المرخّصة تجري أوّلًا في أطراف العلم الإجمالي أو لا؟

وبعبارة اخرى هل الإشكال في عدم المقتضي أي عدم جريان أدلّة الاصول المرخّصة في أطراف العلم الإجمالي، أو الإشكال في وجود المانع (وسيأتي بيان الفرق بين التقديرين) ففيه وجهان بل قولان:

واستدلّ القائلون بعدم جريانها رأساً بأنّ جريانها يستلزم منه التناقض بين صدر أدلّتها وذيلها، حيث إنّ مقتضى صدر دليل حجّية الاستصحاب مثلًا وهو «لا تنقض اليقين بالشكّ» شمولها لكلّ واحد من الطرفين ويلزم منه تناقض هذا مع ذيله وهو «بل إنقضه بيقين آخر» لأنّ العلم الإجمالي قسم من اليقين فيكون نقض اليقين السابق بيقين آخر لا بالشكّ، وهكذا دليل «كلّ شي ء لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام» لأنّ صدره وهو كلّ شي ء لك حلال شامل لكلّ واحد من الطرفين فيلزم التناقض بينه وبين ذيله وهو «حتّى تعلم إنّه حرام» حيث إنّه العلم فيه أعمّ من العلم التفصيلي والعلم الإجمالي.

واستدلّ القائلون بتعارضها وتساقطها بعد جريانها:

أوّلًا: بعدّة من الروايات التي لا يكون لها هذا الذيل وتكون مطلقة كقوله عليه السلام: «لا تنقض اليقين بالشكّ» من دون التذييل بقوله: «بل إنقضه بيقين آخر» وكقوله صلى الله عليه و آله: «رفع عن امّتي ما لا يعلمون» في أدلّة البراءة وعدم شمول ما هو مذيل بهذا الذيل لا يمنع عن

شمول ما ليس فيه هذا الذيل.

وثانياً: بدعوى كون العلم المأخوذ في الذيل ظاهراً في العلم التفصيلي، وهو واضح فيما يكون مقيّداً بقيد «بعينه»، وفيما لا يوجد فيه هذا القيد يكون الضمير في مثل قوله: «إنّه حرام» ظاهراً في العلم التفصيلي، وحينئذٍ يكون المقتضي موجوداً وإنّما الكلام في وجود المانع وهو العلم بكذب أحدهما (نظير الخبرين المتعارضين) ولزوم المخالفة القطعيّة فتتساقط بعد جريانها.

أقول: الإنصاف أنّ الصحيح هو القول الثاني لأنّ الغاية لكلمة «حتّى» في هذه الروايات إنّما هو العلم التفصيلي إمّا لظاهر كلمة «بعينه» بل صريحها، أو لظاهر الضمير في قوله عليه السلام «إنّه حرام» كما مرّ آنفاً.

انوار الأصول، ج 3، ص: 135

نعم لقائل أن يقول: إنّ أدلّة الاصول المرخّصة منصرفة عن موارد العلم الإجمالي وناظرة إلى الشبهات البدوية أو الشبهات غير المحصورة كما عرفت في روايات الجبن.

وإستشكل المحقّق النائيني رحمه الله على الشيخ الأنصاري رحمه الله، بأنّ اللازم في المقام البحث عن إمكان جعل الحكم الظاهري في تمام الأطراف بحسب مقام الثبوت، لأنّه مع وجود المحذور في مقام الثبوت لا تصل النوبة إلى البحث في مقام الإثبات والاستظهار، ثمّ ذكر لشمول أدلّة الاصول لأطراف العلم الإجمالي ثبوتاً محذورين على سبيل منع الخلو:

أحدهما: مناقضة الحكم الظاهري الناظر إلى الواقع مع العلم الوجداني، وهى في موارد الاصول التنزيليّة كالإستصحاب حيث إنّ تنزيل الطهارة المشكوكة منزلة الطهارة الواقعيّة مثلًا بدليل الاستصحاب يناقض مع العلم الإجمالي بنجاسة أحدهما الواقعيّة.

ثانيهما: إنّ جعل الحكم الظاهري في تمام الأطراف مستلزم للترخيص في المعصية ومخالفة التكليف الواصل، وهذا في موارد الاصول غير التنزيلية «1».

أقول: التكلّم في مقام الثبوت إنّما هو من باب المقدّمة للبحث عن مقام الإثبات، ولا شكّ في أنّ شمول اطلاقات أدلّة

الاصول لكلّ واحد من الأطراف مع قطع النظر عن سائر الأطراف لا محذور فيه ثبوتاً، إنّما المحذور ينشأ من شموله لها جميعاً، وهذا هو معنى التعارض كما في سائر المقامات، ألا ترى أنّ شمول أدلّة حجّية خبر الواحد لكلّ واحد من المتعارضين مستقلًا لا محذور فيه، ولكن شمولها لهما غير ممكن للمحذور الثبوتي، للعلم بكذب واحد منهما، وهذا هو العلّة في تعارضهما.

التنبيه الخامس: الفرق بين «الشبهات المحصورة» و «غير المحصورة»

وقد أشار المحقّق الخراساني إلى هذه المسألة بغير اهتمام يليق بها، وقال بعدم الفرق بين الشبهتين مع فعليّة التكليف المعلوم بالإجمال، فالمدار في تنجّز العلم الإجمالي إنّما هو فعلية التكليف لا قلّة أطرافها، نعم ربّما تكون كثرة الأطراف في مورد موجبة لعسر أو ضرر أو

انوار الأصول، ج 3، ص: 136

غيرهما ممّا لا يكون معه التكليف فعليّاً فلا يجب حينئذٍ الاحتياط، لكن يمكن طروء هذه الموانع في الشبهة المحصورة أيضاً فلا خصوصية لعدم انحصار أطراف الشبهة في عدم وجوب الاحتياط (انتهى).

لكن الشيخ الأعظم الأنصاري رحمه الله قد بحثها مفصّلًا وذهب إلى عدم وجوب الاحتياط فيها من ناحية كثرة الأطراف، وتبعه غيره من الأعلام، فالمسألة حينئذٍ ذات قولين على الأقلّ.

ولابدّ أن يقال: ابتداءً أنّ التحليل الصحيح للمسألة يتوقّف على أن نبحث عن إيجاب الشبهة غير المحصورة للاحتياط بما هى هى مع قطع النظر عن العناوين والموانع الطارئة الموجبة لسقوط العلم الإجمالي عن التنجّز، فنقول يقع الكلام في مقامين:

الأوّل: في أدلّة وجوب الاجتناب.

والثاني: في معيار عدم الانحصار وحدوده قيوده.

أمّا المقام الأوّل: فاستدلّ الشيخ الأعظم رحمه الله بوجوه ستّة وأضاف إليها الآخرون وجوهاً اخر ربّما تبلغ عشرة أوجه.

الوجه الأوّل: الإجماعات المنقولة على حدّ الاستفاضة، فقد نقل الإجماع عن الروض وعن جامع المقاصد والمحقّق البهبهاني رحمه الله في فوائده

بل نقل عن البهبهاني نفي الريب فيه وأنّ مدار المسلمين في الأعصار والأمصار عليه، وادّعى الضرورة عليه في الجملة.

أقول: لا إشكال في إمكان حجّية الإجماع في اصول الفقه في مثل هذه المسألة لأنّ ملاك الحجّية وهو الكشف عن قول المعصوم عليه السلام جارٍ فيها أيضاً لكن الإشكال في المقام كون الإجماع محتمل المدرك لو لم يكن متيقّنه.

الوجه الثاني: لزوم العسر والحرج في أغلب موارد هذه الشبهة لأغلب أفراد المكلّفين وهو علّة لارتفاع الحكم عن جميعهم حتّى من لا حرج بالنسبة إليه.

ويرد عليه: أنّه قد قرّر في محلّه في البحث عن قاعدة لا حرج أنّ المدار فيها على العسر والحرج الشخصيين فلا يرتفع الحكم بالنسبة إلى من لا عسر عليه وإن كان واحداً من المائة، مضافاً إلى أنّ العسر من العناوين الثانوية الطارئة، وقد مرّ آنفاً خروجه عن محلّ النزاع.

الوجه الثالث: أنّ الغالب عدم ابتلاء المكلّف إلّاببعض معيّن من أطراف الشبهة غير

انوار الأصول، ج 3، ص: 137

المحصورة فيكون الباقي خارجاً عن محلّ ابتلائه، وقد تقدّم عدم وجوب الاجتناب في مثله.

وفيه أيضاً: أنّ محلّ النزاع هو عدم انحصار الشبهة بما هو هو مع قطع النظر عن العناوين الطارئة.

الوجه الرابع: الأخبار الدالّة على حلّية كلّ ما لم يعلم حرمته فإنّها بظاهرها وإن عمّت الشبهة المحصورة إلّاأنّ مقتضى الجميع بينها وبين ما دلّ على وجوب الاجتناب بقول مطلق هو حمل أخبار الرخصة على غير المحصور وحمل أخبار المنع على المحصور.

وفيه: إنّ هذا جمع تبرعي لا شاهد له، ولا يمكن أن نرفع به اليد عن اطلاق «اجتنب عن الخمر» الشامل قطعاً للخمر المعلوم بالإجمال مطلقاً سواء كان ضمن الأطراف المحصورة أو غير المحصورة.

الوجه الخامس: بعض الأخبار الدالّة على أنّ مجرّد العلم

بوجود الحرام بين المشتبهات لا يوجب الاجتناب عن جميع ما يحتمل كونه حراماً مثل ما مرّ من رواية أبي الجارود، قال:

سألت أبا جعفر عليه السلام عن الجبن فقلت: أخبرني من رأى إنّه يجعل فيه الميتة. فقال: «أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرم جميع ما في الأرض فما علمت فيه ميتة فلا تأكله وما لم تعلم فاشتر وبع وكل واللَّه إنّي لأعترض السوق فأشتري اللحم والسمن والجبن، واللَّه ما أظنّ كلّهم يسمّون هذه البربر وهذه السودان» «1».

فاستدلّ تارةً بصدرها (وهو قوله عليه السلام: أمن أجل مكان واحد ...) واخرى بذيلها، وهو قوله عليه السلام: «واللَّه إنّي لأعترض السوق ...»، ولكن نوقش فيها من ناحية السند والدلالة معاً.

أمّا السند فلمكان أبي الجارود المؤسّس لمذهب الجارودية وهو ممّن لا يعتمد على روايته بل في بعض الروايات إنّه كذّاب كافر مضافاً إلى وجود محمّد بن سنان فإنّه محلّ الخلاف بين علماء الرجال خصوصاً في ما رواه عن أبي الجارود.

وأمّا الدلالة فقد ناقش فيها الشيخ رحمه الله بأنّ مورد هذه الرواية هو الشبهات البدويّة فهى تقول أنّ العلم تفصيلًا بجعل الميتة في الجبن في مكان واحد لا يوجب الاجتناب عن جبن غيره من الأمكان فكأنّها تقول: إنّ العلم التفصيلي بنجاسة الطعام في مطعم لا يوجب نجاسة طعام انوار الأصول، ج 3، ص: 138

الاجتناب عن غيره من المطاعم وإيجاد الوسوسة فيها ولا كلام في ذلك ولا ربط له بما نحن فيه، هذا أوّلًا.

وثانياً: إنّ هذه الرواية تشير إلى حجّية أمارة السوق وهى من العناوين الثانوية التي تكون خارجة عن محلّ الكلام.

أقول: يمكن الجواب عن كلا الوجهين، أمّا الوجه الأوّل فلأنّ مورد الرواية بحسب الظاهر هو الجبن التي صنع بعضها بأنفحة

الميتة ثمّ إنتشرت بين سائر الجبن الطاهرة في البلد من دون وجود علامة للنجس منها فهى لو لم تكن ظاهرة في خصوص الشبهة غير المحصورة فلا أقلّ من اطلاقها لها وللشبهات البدوية معاً.

وأمّا الوجه الثاني فيرد عليه: أنّ وجود أمارة مثل أمارة السوق في مورد العلم الإجمالي لا يمنع عن تنجّزه لتساقط الأمارات الجارية في الأطراف بالتعارض.

فالمهمّ في المقام هو الإشكال السندي وهو تامّ يوجب سقوطها عن الحجّية.

إن قلت: يمكن احياؤها سنداً بانجبار الضعف بعمل المشهور والإجماعات المنقولة.

قلنا: قد قرّر في محلّه أنّ الشهرة توجب الجبر فيما إذا كان استنادها إلى الرواية قطعيّة أو كانت الرواية في مرأى ومنظر من قدماء الأصحاب بحيث كان عملهم مستنداً إليها ولو بظهور من الحال، وهذا ممنوع في المقام لأنّ المسألة ذات مدارك عديدة.

ثمّ إنّه ربّما يستشكل في الرواية بأنّ المستفاد منها نجاسة أنفحة الميتة، بينما لا إشكال في أنّها من جملة مستثنياتها.

ولكن يمكن الجواب عنه:

أوّلًا: بأنّ طهارتها الذاتية لا تنافي عروض النجاسة عليها من ناحية ملاقاتها بسائر الأعضاء النجسة غالباً فلابدّ من تطهيرها (كما لابدّ منه بالنسبة إلى سائر مستثنياتها كالبيض) فتحمل الرواية على مورد عدم التطهير.

وثانياً: بالحمل على التقيّة فكأنّ الإمام عليه السلام يقول: سلّمنا كونها نجسة ولكن لا يجب الاجتناب لأنّ الشبهة غير محصورة.

وإن شئت قلت: إنّ صدور الصدر لأجل التقيّة لا ينافي حجّية الذيل الذي صدر على نهج الكبرى الكلّية.

انوار الأصول، ج 3، ص: 139

الوجه السادس: بناء العقلاء بضميمة عدم ردع الشارع المقدّس فلا إشكال في أنّه لو علم أنّه سيحدث ما يوجب قتل واحد من الأفراد في بلد كبير جدّاً، لا يمنع هذا العلم الإنسان عن الورود في هذه البلدة لاحتمال انطباقه عليه، وأمّا لو

كانت الحادثة ممّا يوجب أقلّ من القتل كان الأمر أوضح، ولذا نعلم دائماً بوقوع الحوادث في بعض الطرق من السيارات أو القطارات أو الطائرات في كلّ يوم ومع ذلك هذا العلم لا يمنع أحداً عن السفر لكثرة الاحتمالات وضعف احتمال انطباقه عليه.

الوجه السابع: ما استدلّ به في تهذيب الاصول من الروايات الواردة في باب الأموال المختلطة بالحرام أو الربا.

لكن الإنصاف أنّها ظاهرة في الشبهات غير المحصورة.

الوجه الثامن: ما استدلّ به في تهذيب الاصول أيضاً من روايات إباحة جوائز السلطان التي نعلم باختلاطها بالأموال المغصوبة.

لكن هذا أيضاً غير تامّ لأنّ جوائز السلطان من قبيل الكثير في الكثير حيث إنّ أكثر أموالهم كانت من الخراج وشبهها ممّا لم يجز لهم التصدّي لها، وحكم أموالهم حينئذٍ كأكثر أموال السارقين.

والظاهر كون الحكم بالإباحة في هذه الروايات من أجل إنّها جزء من بيت مال المسلمين، وأمرها بيد وليّ الأمر الحقيقي (وهو الإمام المعصوم عليه السلام) يضعها حيث يشاء.

مضافاً إلى أنّ كثيراً من أموالهم خارجة عن محلّ الإبتلاء فتخرج عن محلّ الكلام.

الوجه التاسع: ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله وحاصله أنّ الضابط في كون الشبهة غير محصورة عدم إمكان الجمع بين أطرافها عادةً بحيث يكون عدم التمكّن من ذلك مستنداً إلى كثرة الأطراف لا إلى أمر آخر، وبهذا يظهر الحكم فيها وهو عدم حرمة المخالفة القطعيّة وعدم وجوب الموافقة القطعيّة، أمّا الأوّل فلعدم إمكانه على الفرض فيكون الحكم بحرمتها تحصيلًا للحاصل، وأمّا الثاني فلأنّ وجوب الموافقة القطعيّة فرع حرمة المخالفة القطعيّة لأنّها يتوقّف على تعارض الاصول في الأطراف، وتعارضها فيها يتوقّف على حرمة المخالفة القطعيّة ليلزم من جريانها في جميع الأطراف مخالفة عملية للتكليف المعلوم في البين، فإذا لم تحرم المخالفة

القطعيّة- كما هو المفروض- لم يقع التعارض بين الاصول، ومع عدم التعارض لا مانع من انوار الأصول، ج 3، ص: 140

إجراء الاصول النافية في جميع الأطراف فلا يجب الموافقة القطعيّة أيضاً.

ثمّ قال: «ما المراد من عدم إمكان إرتكاب الجميع؟ هل المراد منه عدم الإمكان في تمام العمر أو في مدّة معيّنة؟ وعلى الثاني ما هو مقدار هذه المدّة؟» فأجاب عنه «بأنّ الميزان عدم إمكان الإرتكاب بحسب العادة لا في تمام العمر ولا في مدّة معيّنة» «1».

أقول ويرد عليه:

أوّلًا: بأنّ ما ذكر من الضابطة لا يخلو من إبهام مع ملاحظة ما اختاره نفسه من عدم الفرق بين الإرتكاب التدريجي والدفعي في حرمة المخالفة القطعيّة للعلم الإجمالي، لأنّه حينئذٍ إن اريد من عدم التمكّن من الجمع بين الأطراف عدم التمكّن منها ولو تدريجاً فلا ريب في فساده إذ ما من شبهة غير محصورة إلّاويتمكّن المكلّف من الجمع بين الأطراف ولو تدريجاً طول حياته ولو باختلاط بعض الأطراف ببعض، وإن اريد بذلك عدم التمكّن في زمان معيّن فهو يحتاج إلى تحديده بزمان معيّن، ولا دليل على التعيّن.

ثانياً: يلزم منه أن يكون الكثير في الكثير من الشبهات غير المحصورة لجريان الضابطة المذكورة فيه لعدم إمكان إرتكاب الجميع عادةً مع أنّ الوجدان حاكم على عدم وجود الفرق بين الكثير في الكثير (كما إذا علمنا إجمالًا بحرمة الف شاة من عشرة آلاف شاة) والقليل في القليل (كما إذا علمنا بحرمة شاة واحدة في عشر شياة) لأنّ النسبة في المثالين واحدة وهى العشر.

الوجه العاشر: ما أفاده المحقّق العراقي رحمه الله وهو أنّ المناط في كون الشبهة غير محصورة هو أن تكون كثرة الأطراف بحدّ يوجب ضعف الاحتمال في كلّ واحد من الأطراف بحيث

يكون موهوماً بدرجة لا يعتني العقلاء بذلك الاحتمال، بل ربّما يحصل له الاطمئنان بالعدم، وتوهّم منافاة الاطمئنان بالعدم في كلّ واحد منها مع العلم الإجمالي بوجود الحرام في بعضها لضرورة مضادّة العلم بالموجبة الجزئيّة مع الظنّ بالعدم في كلّ طرف بنحو السلب الكلّي، مدفوع بأنّه كذلك في فرض اقتضاء ضعف الاحتمال في كلّ طرف الاطمئنان بعدم التكليف فيه تعييناً حتّى مع ملاحظة الأفراد الاخر مع أنّ المدّعى إنّما هو اقتضاء ضعف الاحتمال في كلّ طرف انوار الأصول، ج 3، ص: 141

الاطمئنان بعدم التكليف مع ملاحظة أنفراده عن البقيّة، وهذا لا يلزم منه إلّاالعلم بالموجبة الجزئيّة مع الظنّ بالسلب الجزئي في كلّ طرف (لا الظنّ بالسلب الكلّي) ولا تنافي بينهما كما هو ظاهر «1».

أقول: إنّا لا نفهم فرقاً بين كلامه هذا وما أفاده الشيخ الأعظم رحمه الله (وإن صرّح بوجود الفرق بينهما) لأنّ الشيخ رحمه الله جعل الضابطة عدم اعتناء العقلاء باحتمال الإصابة لكونه موهوماً، وهو يقول بأنّ الضابطة عدم اعتناء العقلاء بالاحتمال لحصول الاطمئنان بالعدم ومرجع الأمرين إلى شي ء واحد كما لا يخفى.

فتلخّص من جميع ذلك أنّ المهمّ من بين هذه الأدلّة هو بناء العقلاء لضعف الاحتمال بسبب كثرة الأطراف، مضافاً إلى رواية الجبن، ويؤيّده الإجماع المتظافر نقله.

بقي هنا امور:

الأمر الأوّل: في تعيين الضابط في الشبهة غير المحصورة وتحديدها.

لا إشكال في اختلافه باختلاف الأدلّة المذكورة لعدم وجوب الاحتياط فيها، فإن كان الدليل هو الإجماع وكان له معقد لفظي كما إذا كان المعقد التعبير ب «غير المحصور» فلابدّ في تعيين مفهومه من الرجوع إلى العرف، ولعلّ هذا هو مقصود من رأى أنّ الضابط هو صدق مفهوم غير المحصور عرفاً، وإن لم يكن له معقد فلابدّ من الأخذ

بالقدر المتيقّن من كلمات المجمعين.

وإن كان الدليل لزوم العسر والحرج فيكون الضابط كون كثرة الأطراف بحدّ توجب ذلك، كما إنّه إذا كان الدليل لزوم خروج بعض الأطراف عن محلّ الابتلاء كان الضابط كون الكثرة بحدّ توجب خروج بعض الأطراف عن ذلك، وهكذا إذا كان الدليل روايات الجبن كان الضابط شمول الأطراف لتمام البلد (نظراً إلى قوله عليه السلام: واللَّه إنّي لأعترض السوق ...) وأمّا إذا كان الدليل ما إخترناه من بناء العقلاء كان المناط هو أن تكون كثرة الأطراف بحدّ توجب ضعف الاحتمال في كلّ واحد منها بحيث يكون موهوماً بدرجة لا يعتني العقلاء بذلك الاحتمال، وهكذا ... إلى سائر الأدلّة.

انوار الأصول، ج 3، ص: 142

فقد ظهر أنّ المنهج الصحيح للبحث في ما نحن فيه بيان الأدلّة أوّلًا ثمّ تعيين الضابط ثانياً، لأنّ الضابطة إنّما تؤخذ من متن الدليل لا غير، والعجب من غير واحد من الأعاظم حيث عكس الأمر في كلامه فقدّم بيان الضابط على الأدلّة.

وعلي أيّ حال فالمعيار الصحيح عندنا في عدم انحصار الشبهة يرجع في الواقع إلى ما ذكره الشيخ الأعظم والمحقّق العراقي 0 حيث إنّ الدليل المهمّ عندنا إنّما هو بناء العقلاء بما مرّ توضيحه.

ثمّ إنّه لو فرض تعدّد الدليل، أي كان الدليل على عدم وجوب الاجتناب عند شخص وجوهاً من الأدلّة المذكورة فلابدّ من الأخذ بالأوسع منها كما لا يخفى.

الأمر الثاني: إذا شكّ في كون الشبهة محصورة أو غير محصورة فهل مقتضى القاعدة هو وجوب الاحتياط مطلقاً أو البراءة مطلقاً أو يختلف باختلاف المباني؟

لا إشكال في اختلافه على اختلاف المباني، وبناءً على ما تبيّناه من تنجّز العلم الإجمالي مطلقاً عند العقل وأنّ القاعدة الأوّلية إنّما قاعدة الاحتياط واطلاق «اجتنب عن الخمر»

يكون المرجع في صورة الشكّ الاحتياط لأنّ المقتضي وهو اطلاق الأدلّة موجود والمانع وهو المخصّص مفقود لعدم ثبوته عند الشكّ، ومن الواضح أنّه لا ربط لهذا بقاعدة المقتضي والمانع حتّى يقال بعدم حجّيتها لأنّ المقصود من المقتضي هنا هو إطلاقات أدلّة الاجتناب عن المحرّمات لا غير.

وإن شئت قلت: إذا كانت الشبهة شبهة مفهومية للمخصّص فلا كلام في وجوب الرجوع إلى العام، وإذا كانت الشبهة مصداقية فأيضاً يكون المرجع عموم العام لكون المخصّص لبّياً.

الأمر الثالث: هل المخالفة القطعيّة في الشبهة غير المحصورة أيضاً جائزة أو لا؟

يختلف هذا أيضاً باختلاف المباني، فبناءً على كون الدليل هو الإجماع فمع فرض وجود معقد له لا إشكال في اطلاق المعقد وشموله للمخالفة القطعيّة والاحتماليّة معاً، نعم يمكن أن يقال: بانصرافه عن المخالفة القطعيّة كما قال به الشيخ الأعظم رحمه الله.

وبناءً على كون الدليل هو لزوم الحرج فترجع المسألة إلى ما مرّ من البحث في أنّ الاضطرار إلى أحد الأطراف هل يوجب سقوط العلم الإجمالي عن التنجّز مطلقاً أو بالنسبة إلى خصوص المضطرّ إليه فالكلام في ما نحن فيه هو الكلام هناك.

انوار الأصول، ج 3، ص: 143

وأمّا بناءً على المختار في المقام فلا يجوز المخالفة القطعيّة لأنّه لا يجوز من أوّل الأمر إلّا إرتكاب مقدار من الأطراف يكون الاحتمال فيه موهوماً، وأمّا الأزيد منه فلا، كما أنّه لا يجوز إرتكاب جميعها تدريجاً فعلى هذا لا يجوز إرتكاب نصف الجميع، بل ولا عشره لأنّه من قبيل الشبهة المحصورة.

وأمّا بناءً على رواية الجبن فحيث إنّ الغاية للحرمة فيها هى العلم التفصيلي بالحرام يجوز المخالفة القطعيّة لعدم حصول العلم التفصيلي (وهو المعرفة المتعيّنة المتشخّصة) إلى آخر الأطراف.

الأمر الرابع: فيما إذا كانت الشبهة غير المحصورة وجوبية

(كما إذا تردّد الثوب الطاهر للصلاة بين مائة ثوب فيتوقّف الاحتياط فيه على إتيان الصّلاة مائة مرّة، وكما إذا تردّد الدائن بين الف شخص وكان الدين الف تومان مثلًا فيتوقّف الاحتياط فيه على إعطاء الف الف تومان) فلا إشكال في عدم وجوب الموافقة القطعيّة أيضاً، ولكن حيث إنّ الضابط المختار وهو كون ضعف الاحتمال ووهمه بدرجة لا يعتنى به العقلاء، لا يأتي فيها (لعدم ضعف الاحتمال في مثل هذه الأمثلة بالدرجة المذكورة) بل الضابط الجاري فيها كون كثرة الأطراف بحدّ يلزم منه العسر والحرج، تجب الموافقة الاحتماليّة، أي تحرم المخالفة القطعيّة لأنّ هذا الضابط لا يقتضي عدم وجوب الموافقة مطلقاً حتّى فيما إذا لم يلزم منها العسر والحرج الشخصي، بل لابدّ من الاقتصار على الموارد التي يلزم منها ذلك.

الأمر الخامس: في أنّ شبهة الكثير في الكثير داخلة في الشبهات المحصورة كما مرّت الإشارة إليه لأنّ المعيار المختار المذكور وهو كون الاحتمال موهوماً لا يأتي فيها كما لا يخفى، نعم بناءً على مختار المحقّق النائيني رحمه الله من كون الضابط عدم القدرة على إرتكاب الجميع كان من الشبهة غير المحصورة فلا يجب الاحتياط فيها، وهذا من التوالي الفاسدة لهذا القول.

التنبيه السادس: اعتبار إندراج طرفي العلم الإجمالي تحت عنوان واحد وعدمه

هل يعتبر في تنجّز العلم الإجمالي تعلّقه بنجاسة هذا أو نجاسة ذاك مثلًا أو يتنجّز أيضاً فيما إذا تعلّق بنجاسة هذا أو غصبية ذاك مثلًا؟ وللمسألة أثر هامّ في الفقه.

انوار الأصول، ج 3، ص: 144

الإنصاف عدم اعتبار الإندراج تحت عنوان واحد، لأنّ منشأ تنجّز العلم الإجمالي وهو فعليّة التكليف الواقعي موجود في كلتا الصورتين، ولا فرق بين وحدة النجس وتعدّده في حكم العقل كما لا يخفى، ومن هنا يعلم أنّه إذا خرج من الإنسان بلل مردّد بين

البول والمني، أي حصل العلم الإجمالي بوجود موجب الوضوء أو الغسل فيجب أن يأتي بهما معاً كما عليه الفتوى، مع أنّ الحدثين لا يكونان من جنس واحد.

نعم لابدّ فيه من التفصيل بين ما إذا كان قبل خروج البلل على وضوء وبين ما إذا كان قبله محدثاً بحدث الوضوء فيجب في الصورة الاولى بإتيان كلا الطهورين، ويكتفي في الصورة الثانية على خصوص الوضوء، والوجه في ذلك أنّ العلم الإجمالي في الثانية ينحلّ إلى الشكّ البدوي بالنسبة إلى الحدث الأكبر لأنّ الحدث الحادث على فرض كونه بولًا ليس له أثر، ولا يحدث به تكليف جديد لأنّه حدث على حدث فتجري البراءة بالنسبة إلى وجوب الغسل فلا يجب عليه إلّاالوضوء، بخلافها في الصورة الاولى لأنّ الحدث المزبور يكون مؤثّراً وموجداً لتكليف جديد على كلا الفرضين فلابدّ لحصول البراءة اليقينيّة من إتيان كلا الطهورين.

كما يعلم من هنا الحكم في باب الخنثى المشكل، فلا يجوز له إجراء البراءة إذا كان هناك تكليف مختصّ بالرجال أو مختصّ بالنساء، فيحكم بعدم وجوب الستر الواجب على المرأة عليها، وكذا عدم وجوب الجهر بالقراءة عليها، كلّ ذلك للبراءة كما توهّمه بعض، وذلك لأنّ العلم الإجمالي حاصل بوجوب الستر أو الجهر بالقراءة عليها لأنّه في الواقع أمّا تكون امرأة رجلًا، ولا ضير في عدم إندراج الحكمين تحت جنس واحد، وكذا في سائر المقامات من أحكام الخنثى، وسيأتي البحث عنه مستقلًا في التنبيه الثامن.

بل يمكن أن يقال بتنجّز العلم الإجمالي إمّا بكلّ تكاليف الرجال أو كلّ تكاليف النساء، فالواجب عليها الاحتياط في جميع ذلك.

التنبيه السابع: حكم ملاقي بعض أطراف الشبهة المحصورة

هل يحكم بتنجّس ملاقي بعض أطراف النجس المعلوم بالإجمال، أو يجب أيضاً ترتيب سائر الآثار الشرعيّة المتعلّقة بالحرام التفصيلي أو النجس التفصيلي

عليها؟

انوار الأصول، ج 3، ص: 145

في المسألة أقوال ثلاثة:

1- ما ذهب إليه المشهور من عدم تنجّس الملاقي مطلقاً.

2- ما حكي عن العلّامة في المنتهى وابن زهرة في الغنية من التنجّس ووجوب الاجتناب مطلقاً.

3- ما أفاده المحقّق الخراساني رحمه الله في الكفاية من التفصيل بين صور ثلاث: ففي صورة قال بوجوب الاجتناب عن الملاقي والملاقى معاً، وفي صورة اخرى قال بوجوب الإجتناب عن خصوص الملاقى، وفي صورة ثالثة قال بوجوب الاجتناب عن الملاقي دون الملاقى.

وبما أنّ المسألة ليس لها دليل خاصّ فلابدّ من الرجوع إلى الأدلّة الأوّليّة الجارية في أطراف العلم الإجمالي وملاحظة أنّها هل تشمل ملاقيها أو لا؟

والصحيح عدم الشمول، لأنّ وجوب الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي كان مبنيّاً على وجهين: وجوب المقدّمة العلميّة، وتعارض الأدلّة المرخّصة، وكلاهما غير جاريين في المقام.

أمّا الأوّل: فلأنّ ما يكون مقدّمة للعلم بالفراغ عن خطاب «اجتنب عن النجس» مثلًا إنّما هو الاحتياط في نفس الأطراف التي يحتمل إنطباق المعلوم بالإجمال على بعضها، دون غيرها ممّا لا يحتمل انطباق المعلوم عليه وإن كان محكوماً عليه بحكم بعض الأطراف واقعاً، لكون ذلك البعض علّة لنجاسة ملاقيه، لكن الملاقي على هذا التقدير فرد آخر ليس إرتكابه مخالفة لخطاب «اجتنب عن النجس» المعلوم إجمالًا، بل مخالفة لخطاب آخر وهو «اجتنب عن ملاقي النجس» الذي هو مشكوك الوجود.

وأمّا الثاني: فلأنّ المفروض حصول الملاقاة بعد تساقط الاصول المرخّصة بأحد المنشأين المذكورين سابقاً (تعارضها أو التناقض بين صدر الأدلّة وذيلها) فالأصل المرخّص الجاري في الملاقي لا معارض له.

إن قلت: كيف يمكن التفكيك بين الملاقي والملاقى في الحكم مع العلم باتّحادهما في الواقع؟

قلنا: إنّ عدم الفرق في مقام الواقع والثبوت بين شيئين لا ينافي التفكيك بينهما في مقام

الإثبات والحكم الظاهري (كما ثبت في محلّه) نظير ما أفتى به المحقّقون من التفرقة بين الماء المشكوك الكرّية الذي لم يعلم حالتها السابقة، والثوب النجس الملاقي به، فأفتوا ببقاء الماء

انوار الأصول، ج 3، ص: 146

على طهارته لاستصحاب الطهارة، وبقاء الثوب على نجاسته لاستصحاب النجاسة مع القطع باتّحادهما واقعاً أمّا في الطهارة أو في النجاسة.

إن قلت: إنّ الملاقاة بمنزلة تقسيم ما في أحد المشتبهين وجعله في إنائين فتّتسع دائرة الملاقى، فالملاقي والملاقى معاً طرف واحد للعلم الإجمالي، والإناء الآخر طرف آخر له، فيجب الاجتناب عن مجموع الثلاثة.

قلنا: المفروض- كما قلنا- حصول الملاقاة بعد حصول العلم الإجمالي وتعارض الاصول في الأطراف، ومعه كيف يصير الملاقي جزءً لأحد الأطراف مع أنّه قد مرّ سابقاً أنّ الاصول تدخل في مجال التعارض مرّة واحدة فيبقى الأصل الجاري في الملاقي بلا معارض؟

إن قلت: إنّ مسألة الاجتناب عن الملاقي يعدّ عرفاً من شؤون الاجتناب عن الملاقى، وليس تكليفاً جديداً، وليس وجوب الاجتناب عن الملاقي لأجل تعبّد آخر وراء التعبّد بوجوب الاجتناب عن الملاقى، أي يدلّ نفس دليل وجوب الاجتناب عن النجس ( «والرجز فاهجر» أو «اجتنب عن النجس») على الاجتناب عنه وعن ملاقيه بوزان واحد فلو كان الملاقى هو النجس الواقعي توقّف العلم بهجره على الاجتناب عنه وعن ملاقيه، كما يتوقّف العلم بإمتثال خطاب «اجتنب عن النجس» على الاجتناب عن طرف الملاقي أيضاً، بداهة الفراغ اليقيني عن وجوب الاجتناب عن النجس المعلوم المردّد لا يحصل إلّابذلك.

قلنا: هذه دعوى بلا دليل لأنّ الملاقي (على فرض تنجّسه كما في النجس المعلوم تفصيلًا) موضوع جديد للجنس، وله حكم جديد، ولشربه معصية جديدة، فيعدّ شرب الملاقي والملاقى معاً معصيتين لا معصية واحدة، كما هو الظاهر من بعض

الروايات كما أفاد به في تهذيب الاصول، حيث قال: ويمكن الاستدلال على القول المشهور (إنّ وجوب الإجتناب عن الملاقي مجعول مستقلًا) بمفهوم قوله عليه السلام: «إذا بلغ الماء قدر كرّ لم ينجّسه شي ء»، فإنّ مفهومه إنّ الماء إذا لم يبلغ حدّ الكرّ ينجّسه بعض النجاسات، أي يجعله نجساً ومصداقاً مستقلًا منه، وظاهره أنّ الأعيان النجسة واسطة لثبوت النجاسة للماء فيصير الماء لأجل الملاقاة للنجس فرداً من النجس مختصّاً بالجعل «1».

انوار الأصول، ج 3، ص: 147

وأمّا تفصيل المحقّق الخراساني رحمه الله فحاصل كلامه أنّ الملاقي بالكسر له صور ثلاث: فتارةً يجب الاجتناب عن الملاقى بالفتح دون الملاقي بالكسر، واخرى يجب الاجتناب عن الملاقي بالكسر دون الملاقى بالفتح، وثالثة يجب الاجتناب عنهما جميعاً.

أمّا الصورة الاولى فهى كما إذا كانت الملاقاة من بعد العلم الإجمالي فحينئذٍ لا يجب الاجتناب عن الملاقي بالكسر، وظهر وجهه ممّا ذكرنا آنفاً.

وأمّا الصورة الثالثة: فهى كما إذا حصل العلم الإجمالي من بعد الملاقاة فحينئذٍ يجب الاجتناب عن كلّ من الملاقي والملاقى، ووجهه أيضاً واضح لما مرّ.

وأمّا الصورة الثانية: وهى ما يجب فيه الاجتناب عن الملاقي بالكسر دون الملاقى بالفتح فذكر لها مثالين: أحدهما:- الذي لا يمكن المساعدة عليه- ما إذا علمنا مثلًا عند الظهر بنجاسة الثوب أو الإناء الأوّل، ثمّ حصل لنا العلم عند العصر بنجاسة أحد الإنائين من قبل ملاقاة الثوب للإناء الثاني، فيجب الاجتناب عن الملاقي بالكسر- وهو الثوب- والإناء الأوّل إمتثالًا للعلم الإجمالي الأوّل الحادث بينهما عند الظهر، ولا يجب الاجتناب عن الملاقى بالفتح أعني الإناء الثاني، لأنّ وجوب الاجتناب عنه إن كان لأجل العلم الإجمالي الثاني الحادث عصراً بينه وبين الإناء الأوّل فهو غير منجّز بعد تنجّز العلم الإجمالي الأوّل

الحادث ظهراً وسقوط الاصول الجارية فيها، وإن كان لأجل ملاقاة الثوب له فهو غير مؤثّر، لأنّ الثوب على تقدير نجاسته فرد آخر تكون الشبهة فيه بدوية كما لا يخفى، فلا وجه لوجوب الاجتناب عن ملاقيه.

والوجه في عدم إمكان المساعدة عليه أنّ العلم الإجمالي الأوّل إن كان له منشأ آخر غير الملاقاة كما إذا علمنا بوقوع قطرة دم إمّا على الثوب أو في الإناء الأوّل فهذا خارج عن مفروض البحث، وإن كان المنشأ فيهما واحداً فلا معنى لحصول علم إجمالي آخر بعد العلم الإجمالي الأوّل لأنّ المفروض أنّ العلم الإجمالي الأوّل نشأ من ناحية الملاقاة بالنسبة إلى أحد الطرفين، وهذا متوقّف على ثبوت العلم الإجمالي في نفس الإنائين من قبل.

والمثال الثاني: الذي لا إشكال فيه هو ما إذا علمنا في فرض المثال السابق بنجاسة الثوب أو الإناء الثاني ثمّ بملاقاة الثوب للإناء الثاني في الساعة الاولى، وخرج الإناء الثاني الملاقى بالفتح عن محلّ الابتلاء ثم علمنا في الساعة الثانية بنجاسة الثوب الملاقي بالكسر أو الإناء الأوّل، ثمّ صار الإناء الثاني مبتلى به ثانياً فيجب الاجتناب عن الثوب الملاقي بالكسر والإناء

انوار الأصول، ج 3، ص: 148

الأوّل دون الإناء الثاني الملاقى بالفتح لعدم كونه طرفاً لعلم إجمالي منجّز، أمّا بالنسبة إلى العلم الإجمالي الأوّل الذي كان بينه وبين الثوب فلخروجه عن محلّ الابتلاء، وأمّا بالنسبة إلى العلم الإجمالي الثاني فلعدم كونه طرفاً له وأمّا بالنسبة إلى العلم الإجمالي الأوّل بعد صيرورته مبتلى به فلأنّ تنجّز العلم الإجمالي الثاني يكون مانعاً عن تنجّزه لأنّ المنجّز لا يتنجّز ثانياً.

بقي هنا شي ء:

وهو أنّ شيخنا الأعظم الأنصاري رحمه الله استدلّ لوجوب الإجتناب عن الملاقي في المقام برواية عمرو بن شمر عن جابر عن

أبي جعفر عليه السلام قال: «أتاه رجل فقال: وقعت فأرة في خابية فيها سمن أو زيت فما ترى في أكله؟ قال: فقال له أبو جعفر عليه السلام: لا تأكله. فقال له الرجل: الفأرة أهون عليّ من أن أترك طعامي من أجلها قال: فقال أبو جعفر عليه السلام: إنّك لم تستخفّ بالفأرة وإنّما استخففت بدينك، إنّ اللَّه حرّم الميتة من كلّ شي ء» «1» حيث إنّ قوله عليه السلام: «حرّم» بمعنى الحكم بالنجاسة فيكون مقتضى ذيل هذه الرواية نجاسة الميتة بتمام شؤوناتها التي منها الملاقي، فالاجتناب عن الملاقي يعدّ من شؤون الاجتناب عن الملاقى، ثمّ ناقش في سندها لمكان عمرو بن شمر الذي هو ضعيف جدّاً وقال العلّامة في حقّه: «لا أعتمد على شي ء من رواياته» وأيضاً هو متّهم بالدسّ في روايات جابر.

والصحيح أنّ دلالتها أيضاً قابلة للمناقشة، والوجه في ذلك أنّ أصل النجاسة والاستقذار أمر عرفي كانت موجودة قبل وجود الشرع، غاية الأمر أنّ الشارع أضاف إليها شيئاً أو نقص منها شيئاً نظير ما هو ثابت في باب المعاملات، فليست النجاسة من مخترعات الشارع، كما أنّ الملاقاة وسراية النجاسة إلى الملاقي أيضاً أمر عرفي، والعرف يحكم بها إذا تحقّقت قذارة جديدة وموضوع جديد للنجاسة بعد الملاقاة، ولا تعدّ نجاسة الملاقى والملاقي شيئاً واحداً، فليس الملاقي من شؤون الملاقى حتّى يستفاد من اطلاق دليل الملاقى نجاسة الملاقي، فليس معنى «الفأرة نجس» مثلًا «إجتنب عنها وعن ملاقيها».

هذا كلّه بالنسبة إلى ملاقي أحد الأطراف، وأمّا إذا حصلت الملاقاة بالنسبة إلى جميع انوار الأصول، ج 3، ص: 149

الأطراف كما إذا لاقت إحدى اليدين بأحد الإنائين المعلومة نجاسة أحدهما، ولاقت اليد الاخرى بالإناء الآخر فلا إشكال في نجاسة الملاقي لحصول علم إجمالي

جديد حينئذٍ بالنجاسة كما لا يخفى.

التنبيه الثامن: في حكم الخنثى المشكل

كان البحث إلى هنا في الشكّ في التكليف أو المكلّف به، وقد يقع الشكّ في المكلّف نفسه، وهو ما إذا كان المكلّف خنثى يدور أمرها بين أن تكون مذكّراً أو مؤنّثاً، نعم هذا العلم الإجمالي يوجب العلم الإجمالي بالخطاب والتكليف، فيعلم إجمالًا- مثلًا- بكونها مخاطبة أمّا بخطاب «قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ» «1»

أو بخطاب «وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ ...» «2».

وعلى أيّ حال لابدّ من الإشارة هنا إلى أنّ الخنثى هل تكون جنساً ثانياً في قبال الرجال والنساء، أو داخلة في أحدهما؟ فإن كانت جنساً ثالثاً فأمرها سهل لكونها بريئة من مختصّات كلّ من الجنسين بجريان أصالة البراءة في حقّها، فالتكاليف الشاملة لها إنّما هى خصوص المشتركات بينهما، وإن لم تكن جنساً ثالثاً بل كانت داخلة أمّا في الرجال أو في النساء فمقتضى أصالة الاشتغال هو الاحتياط.

المستفاد من ظواهر بعض الروايات والآيات هو الثاني، أمّا الروايات «3» فنظير ما ورد في أبواب الإرث ممّا يدلّ على لزوم الإختبار ابتداءً في الخنثى ليعلم تفصيلًا بأنّها مذكّر أو مؤنّث ولو أشكل أمرها تعطي نصف حقّ الرجل ونصف حقّ المرأة، جمعاً بين الحقّين وعملًا بقاعدة العدل والإنصاف وكذلك ما يدلّ على لزوم القرعة في بعض الصور، فهذه الروايات تدلّ على عدم وجود جنس ثالث في البين، وإلّا فلا معنى لقاعدة القرعة وقاعدة العدل والإنصاف كما لا يخفى.

انوار الأصول، ج 3، ص: 150

وأمّا الآيات فنظير قوله تعالى: «وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى» «1»

(بناءً على عدم كونه إشارة إلى آدم عليه السلام وحوّا) وقوله تعالى: «يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ» «2».

وحينئذٍ إذا فرضنا وجود تكاليف إلزامية خاصّة لكلّ من الطائفتين فلا إشكال

في أنّ مقتضى تنجّز العلم الإجمالي وجوب جميعها على الخنثى فيجب عليها مثلًا في اللباس اختيار ما لا يعدّ مخصوصاً بالرجال ولا مخصوصاً بالنساء بناءً على حرمة تشبّه الرجل بالمرأة وبالعكس كذلك، كما يجب عليه ترك التزوّج بالجنسين، نعم إذا كان الحكم إلزامياً بالنسبة إلى الرجل، وتخييرياً بالنسبة إلى المرأة كما في الصلوات الجهرية وصلاة الجمعة فيمكن أن يقال:

بإمكان إجراء البراءة عن التعيين، لكن قد مرّ سابقاً وجوب الاحتياط مطلقاً عليها، لدوران الأمر في الحقيقة بين كلّ تكاليف الرجال وكلّ تكاليف النساء فلا يلاحظ كلّ واحد من التكاليف مستقلًا عن غيره بل يلاحظ المجموع في مقابل المجموع فيقال: إمّا يجب عليها الجهر في الجهريّة وغضّ النظر عن عن النساء و ... أو يجب عليها غضّ النظر عن الرجال و ....

وإن شئت قلت: إمّا يجب عليه هذه الأربعة مثلًا أو تلك الخمسة، فهو من قبيل المتباينين، مثل ما إذا علمنا بأنّ هذه الإناءات الثلاثة نجسة أو تلك الخمسة مثلًا فالواجب الاحتياط في الجميع.

نعم في دوران الأمر بين المحذورين الذي لا يمكن الاحتياط فيه يكون الحكم التخيير، كما إذا فرضنا وجوب الجهاد على الرجل وحرمته على المرأة.

اللهمّ إلّاأن يقال: إنّ الاحتياط بالجمع بين جميع تكاليف الرجال والنساء طول حياتها توجب المشقّة الشديدة، وهو لا يلائم ما نعلم من مذاق الشارع المقدّس، فيتعيّن حينئذٍ الرجوع إلى القرعة لتبيّن أمرها من الإلحاق بإحدى الطائفتين فيعمل بمقتضاها ما دام عمرها.

إلى هنا تمّ البحث عن المقام الأوّل من المقامات الثلاثة لمبحث الاشتغال، أي دوران الأمر بين المتباينين.

انوار الأصول، ج 3، ص: 151

الكلام في الأقل والأكثر الارتباطيين

المقام الثاني: في دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين
اشارة

إذا شككنا في أنّ الواجب في الصّلاة مثلًا هل هو تسعة أجزاء (من دون وجوب السورة)

أو عشرة أجزاء، فهل يجب عليه الاحتياط، أو لا؟

وينبغي قبل الورود في أصل البحث بيان الفرق بين الأقلّ والأكثر الإرتباطيين، والأقلّ والأكثر الاستقلاليين، وأنّ الملاك فيه هل هو تعدّد الأغراض ووحدتها، أو تعدّد التكاليف ووحدتها؟

ذهب في تهذيب الاصول إلى الأوّل وقال: إنّ الأقل في الاستقلالي مغاير للأكثر غرضاً وملاكاً وأمراً وتكليفاً، كالفائتة المردّدة بين الواحد وما فوقها، والدين المردّد بين الدرهم والدرهمين، فهنا أغراض وموضوعات وأوامر وأحكام على تقدير وجوب الأكثر ... وأمّا الإرتباطي فالغرض قائم بالأجزاء الواقعيّة، فلو كان الواجب هو الأكثر فالأقل خالٍ عن الغرض والأثر المطلوب ... إلى أن قال: «ومن ذلك يظهر أنّ ملاك الاستقلاليّة والإرتباطيّة باعتبار الغرض القائم بالموضوع قبل تعلّق الأمر»، ثمّ استدلّ لضعف القول بأنّ الملاك إنّما هو وحدة التكليف وكثرته بقوله: «ضرورة أنّ وحدته وكثرته (وحدة التكليف وكثرته) بإعتبار الغرض الباعث على التكليف، فلا معنى لجعل المتأخّر عن الملاك الواقعي ملاكاً لتمييزهما» «1».

أقول: الصحيح هو الثاني، أي الميزان هو وحدة التكليف وتعدّده، وذلك لأنّه ليست الأغراض غالباً في متناول أيدينا، ولا يمكن لنا الظفر بها والعثور عليها، بل الواصل إلينا والموجود بأيدينا إنّما هو الأوامر والنواهي المتعلّقة بالمركّبات الشرعيّة، فالمركّب الإرتباطي ما يتألّف من أشياء تكون الأوامر المتعلّقة بها أمراً واحداً حقيقة منبسطاً عليها، فتكون بينها ملازمة ثبوتاً وسقوطاً، وأمّا المركّب الاستقلالي فهو ما يتألّف من أشياء تتعلّق بها أوامر تكون لكلّ منها إطاعة مستقلّة، فلا ملازمة بينها ثبوتاً وسقوطاً، هذا مضافاً إلى أنّ ما ذكره لا يصحّ بناءً على مقالة النافين للأغراض.

إذا عرفت هذا فلندخل في أصل البحث فنقول: يقع الكلام في الأقلّ والأكثر

انوار الأصول، ج 3، ص: 152

الإرتباطيين في جهات ثلاث:

1- الأجزاء (في ما إذا كان

الأقل والأكثر من قبيل الجزء والكلّ).

2- الشرائط (في ما إذا كان الأقل والأكثر من قبيل الشرط والمشروط، وكان منشأ انتزاع الشرطيّة أمراً خارجاً عن المشروط، مبايناً له في الوجود كالطهارة بالنسبة إلى الصّلاة).

3- القيود (في ما إذا كان الأقل والأكثر من قبيل الشرط والشروط أيضاً، ولكن كان منشأ انتزاع الشرطيّة أمراً داخلًا في المشروط متّحداً معه في الوجود، كوصف الإيمان بالنسبة إلى الرقبة).

الجهة الاولى: في الأجزاء

والأقوال فيها ثلاثة:

الأوّل: البراءة عن الأكثر، وهو المشهور بين العامّة والخاصّة.

والثاني: الاحتياط، وهو ما نقل عن الشيخ الطوسي والسيّد المرتضى رحمهما الله في بعض كلماته، والشهيد الأوّل والثاني رحمه الله وبعض آخر.

الثالث: ما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمه الله في الكفاية، وهو التفصيل بين البراءة العقليّة فلا تجري، والبراءة النقلية فتجري، فتكون النتيجة بالمآل وفي مقام الفتوى عنده هو البراءة، لحكومة أدلّة البراءة الشرعيّة.

واستدلّ الشيخ الأعظم الأنصاري رحمه الله في الرسائل للقول الأوّل بقاعدة قبح العقاب بلا بيان، وبأحاديث البراءة فهو يقول بانحلال العلم الإجمالي وصيرورة الشبهة بدوية بالنسبة إلى الأكثر.

والمحقّق الخراساني رحمه الله أنكر الانحلال، واستدلّ لوجوب الاحتياط عقلًا بدليلين:

الدليل الأوّل: لزوم المحذور العقلي من الانحلال، وهو عبارة عن محذور الخلف، ومحذور لزوم عدم الانحلال من الإنحلال (أي يلزم من وجود الانحلال عدمه، وهو التناقض المحال).

أمّا محذور الخلف فبيانه: أنّ دعوى انحلال العلم الإجمالي في المقام خلاف الفرض لأنّ المفروض توقّف الانحلال على تنجّز وجوب الأقل على كلّ تقدير، سواء كان الواجب الواقعي انوار الأصول، ج 3، ص: 153

هو الأقل أو الأكثر، مع أنّه ليس كذلك، فإنّ الواجب الواقعي لو كان هو الأكثر لم يكن وجوب الأقل منجّزاً، إذ وجوب الأقل حينئذٍ يكون مقدّمياً ومن باب تبعية وجوب المقدّمة لوجوب ذي المقدّمة

في التنجّز، والمفروض عدم تنجّز وجوب ذي المقدّمة وهو الأكثر لجريان البراءة فيه على الفرض، فليس وجوب الأقلّ ثابتاً على كلّ تقدير، مع أنّ المعتبر في الانحلال وجوب كذلك، وهذا خلف.

وأمّا محذور لزوم عدم الانحلال من الانحلال فتوضيحه: إنّ انحلال العلم الإجمالي بالعلم التفصيلي والشكّ البدوي منوط بالعلم بوجوب الأقلّ تفصيلًا، وهذا العلم التفصيلي موقوف على تنجّز وجوب الأقلّ مطلقاً، نفسياً كان أو غيريّاً، وتنجّز وجوبه الغيري يقتضي تنجّز وجوب الأكثر نفسيّاً حتّى يترشّح منه الوجوب على الأقل، ويصير واجباً غيريّاً، ولا يخفى أنّ تنجّز وجوب الأكثر يقتضي عدم الانحلال، فلزم من الانحلال عدم الانحلال وهو محال.

أقول: لا يخفى رجوع الإشكال الثاني إلى الأوّل، لأنّ الخلف أيضاً يؤول إلى ما يلزم من وجوده عدمه.

وقد أخذ المحقّقون في الجواب عنهما، وكلّ اختار طريقاً لحلّ المشكلتين.

فقال المحقّق النائيني رحمه الله: يرد عليه أمران:

الأوّل: إنّ ذلك مبنى على أن يكون وجوب الأقل مقدّمياً على تقدير أن يكون متعلّق التكليف هو الأكثر، إلّاأنّ ما نحن فيه ليس من هذا القبيل، لما تقدّم من أنّ وجوب الأقلّ لا يكون إلّانفسيّاً على كلّ تقدير، لأنّ الأجزاء إنّما تجب بعين وجوب الكلّ، ولا يمكن أن يجتمع في الأجزاء كلّ من الوجوب النفسي والغيري.

الثاني: إنّ دعوى توقّف وجوب الأقل على تنجّز التكليف بالأكثر لا تستقيم، ولو فرض كون وجوبه مقدّمياً، وسواء اريد من وجوب الأقلّ تعلّق التكليف به أو تنجّزه، فإنّ وجوب الأقل على تقدير كونه مقدّمة لوجود الأكثر إنّما يتوقّف على تعلّق واقع الطلب بالأكثر، لا على تنجّز التكليف به، لأنّ وجوب المقدّمة يتبع وجوب ذي المقدّمة واقعاً وإن لم يبلغ مرتبة التنجّز، وكذا تنجّز التكليف بالأقل لا يتوقّف على تنجّز التكليف

بالأكثر بل يتوقّف على العلم بوجوب نفسه، فإنّ تنجّز كلّ تكليف إنّما يتوقّف على العلم بذلك التكليف، ولا دخل لتنجّز تكليف آخر في ذلك «1».

انوار الأصول، ج 3، ص: 154

أقول: لعلّ نظر المحقّق النائيني رحمه الله في هذا الإشكال (الإشكال الثاني) إلى وجوب حفظ ماء الوضوء مثلًا قبل الوقت، أو وجوب أخذ جواز السفر والخروج مع الرفقة قبل مجي ء أيّام الحجّ فيكون وجوب المقدّمة فيهما فعليّاً ومنجّزاً مع عدم تنجّز وجوب ذيها.

لكن يرد عليه: بالنسبة إلى إشكاله الأوّل بأنّه لو قبلنا وجوب الجزء العاشر مثلًا على كلّ تقدير وأنّه دخيل في قوام الكلّ فإذا سقط عن الفعلية والتنجّز سقط بالتبع وجوب سائر الأجزاء عن الفعليّة، سواء قلنا بمقدّميتها أو لم نقل.

وإذاً ينحصر الإشكال في الثاني، ويردّه أنّه يستحيل وجوب المقدّمة فعلًا مع عدم وجوب ذيها فعلًا لأنّ وجوب المقدّمة بناءً على المقدّميّة مترشّح من وجوب ذيها وفرع عليه، ولا يمكن زيادة الفرع على الأصل، وأمّا المثالان المذكوران فوجوب المقدّمة فيهما من أجل العلم بوجوب ذي المقدّمة في موطنهما، وحكم العقل بوجوب حفظ غرض المولى الذي يتوقّف على الإتيان بالمقدّمة كما ستأتي الإشارة إليه. ولا يخفى أنّ المقام ليس من هذا القبيل.

ثمّ إنّه اجيب عن مقالة المحقّق الخراساني رحمه الله بوجوه اخر، والمختار في الجواب:

أوّلًا: النقض بعكس كلامه، لأنّه يلزم من وجب الاحتياط أيضاً عدم وجوب الاحتياط فإنّه فرع تنجّز الواقع على كلّ حال، ولازمه العلم التفصيلي بوجوب الأقلّ، ونتيجته انحلال العلم الإجمالي وجريان البراءة في الأكثر.

وثانياً: أنّ لزوم الخلف ولزوم عدم الانحلال من وجوده يتصوّر فيما إذا وجد الانحلال وعدم الانحلال في آنٍ واحد، لا ما إذا كان وعاؤهما زمانين مختلفين، وكان أحدهما في طول الآخر،

كما أنّه كذلك في الشبهة البدوية، فيجب الاحتياط قبل الفحص ولا يجب بعده، وبعبارة اخرى: يشترط في التناقض ولزوم الخلف ثمانية شرائط: منها الوحدة في الزمان، وهى مفقودة في المقام.

وثالثاً: أنّ قاعدة قبح العقاب بلا بيان بناءً على المختار قاعدة عقلائيّة، والعقلاء ليس بناؤهم في دائرة الموالي والعبيد على إجراء الاحتياط في الاجزاء والشرائط المشكوكة في المركّبات فإذا أمر المولى عبده أو الرئيس مرؤوسه بأمر مركّب، ولم يذكر فيه إلّاتسعة أجزاء مثلًا، ثمّ شكّ العبد أو المرؤوس في لزوم جزء عاشر فلا يصحّ مؤاخذته بدون البيان، والعقاب بلا برهان.

انوار الأصول، ج 3، ص: 155

إن قلت: ليس الأمر خالياً من إحدى الحالتين فإمّا ينحلّ العلم الإجمالي أو لا ينحلّ.

فإن انحلّ فتكون الشبهة بالنسبة إلى الأكثر بدويّة، والحكم فيها هو البراءة كسائر مصاديق الشبهات البدويّة فلا خصوصيّة لما نحن فيه، وإن لم ينحلّ فكيف يكون بناء العقلاء على البراءة مع وجود العلم الإجمالي وتنجّزه عقلًا؟

قلنا: إنّ العلم الإجمالي وإن لم ينحلّ بل كان منجّزاً عند العقل، لكن مع ذلك جرى بناء العقلاء على البراءة، وأمضاه الشارع المقدّس كما مرّ تفصيله عند الكلام في البراءة العقليّة مستوفاً.

هذا كلّه هو الدليل الأوّل للمحقّق الخراساني رحمه الله على وجوب الاحتياط.

الدليل الثاني: ما يكون مبتنيّاً على مقالة العدليّة من أنّ الواجبات الشرعيّة الطاف في الواجبات العقليّة، وإنّ الأوامر والنواهي مبنيّة على مصالح ومفاسد واقعيّة لمتعلّقاتها، وهو إنّا نقطع بوجود ملاك ومصلحة ملزمة قائمة بالأقل أو الأكثر، وإذا لم يأت بالأكثر يشكّ في حصول الملاك وتلك المصلحة، فيحكم العقل بلزوم إتيان الأكثر حتّى يحصل العلم بحصول الملاك.

إن قلت: هذا لا يلائم مقالة الأشاعرة ومبنى من يقول بوجود المصلحة في خصوص الأمر نفسه لا

في متعلّقه.

قلنا: إنّا لسنا مسؤولين عن عقائد الأشاعرة بل علينا أن نبحث وفقاً لمبانينا.

إن قلت: لا يمكن في المقام تحصيل الغرض، لاحتمال اعتبار قصد الوجه (وهو إتيان الأجزاء بقصد الوجوب) فيه، وهو لا يمكن بالنسبة إلى الأكثر.

قلنا: قد مرّ كراراً عدم وجوب قصد الوجه، ولو سلّمنا بوجوبه فإنّه واجب بالإضافة إلى مجموع العمل لا كلّ جزء جزء.

أقول: هذا الدليل أيضاً غير تامّ لأنّه لا دليل على لزوم تحصيل الغرض إلّافي ثلاث حالات:

الاولى: فيما إذا لم يكن المولى قادراً على البيان كما إذا كان محبوساً.

الثانية: فيما إذا وقع الغرض بنفسه تحت أمر المولى كما إذا كان المأمور به في الوضوء مثلًا عنوان الطهارة المعنوية التي هى من الامور البسيطة، فيجب الاحتياط في الأجزاء حتّى يعلم بحصولها.

انوار الأصول، ج 3، ص: 156

الثالثة: فيما إذا حصل لنا العلم من ناحية دليل خارجي كالإجماع ونحوه بعدم حصول غرض المولى فيجب الاحتياط حتّى يعلم بحصوله.

وفي غير هذه الموارد لا يجب تحصيل الغرض، ولا دليل على وجوبه، وإنّما الواجب على المكلّف الإتيان بالتكاليف الواصلة وامتثال الأوامر والنواهي الثابتة، فإنّها هى حلقة الإتّصال بين المولى والعبد، ولا علم للعبد بأغراض المولى، لأنّ أغراضه تحت إختياره ومربوطة به، ولا ربط للعبد بها إلّافي ما ذكر، فيدور أمره في غيره مدار الإبلاغ والوصول. هذا أوّلًا.

وثانياً: قد وقع في هذا الوجه الخلط بين قصد الوجه وقصد الجزم، فإنّ قصد الوجه حاصل في المقام لأنّه يأتي بالأكثر بقصد الوجوب لكن لا جزماً بل احتمالًا، فالمفقود هو قصد الجزم (لا قصد الوجه)، ولا دليل على اعتباره، ولذلك اخترنا إمكان الاحتياط في العبادات، ولو سلّمنا باعتبار قصد الجزم فإنّه منحصر بصورة التمكّن عنه، والمقام ليس كذلك.

ثالثاً: في قول المستدلّ

من أنّ المصلحة قد تكون في نفس الإنشاء: إن كان المقصود إمكان تصوّر ذلك في مقام الثبوت فلا إشكال في إمكانه، وإلّا فإنّا لم نظفر به في الشرعيّات في مقام الإثبات حتّى في مورد واحد.

نعم قد يتوهّم بوجوده في ثلاثة موارد:

أحدها: الأوامر الامتحانيّة كما في قصّة ذبح إسماعيل عليه السلام.

والصحيح أنّ المصلحة فيها أيضاً في نفس العمل لا في خصوص الإنشاء: فإنّ في قصّته عليه السلام وإن لم تكن المصلحة في المأمور به المباشري وهو الذبح، لكنّها كانت موجودة في مقدّماته وفعل التهيّؤ للذبح والإقدام به، ولعلّ المأمور به الواقعي عند المولى كان هو الإتيان بمقدّمات الذبح الدالّة على كمال إيثار الخليل والذبيح وإخلاصهما، كما يشهد عليه قوله تعالى «قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا» كما لا يخفى.

ثانيها: الأوامر الجزائيّة كما في قصّة البقرة لنبي إسرائيل فقد ورد في الحديث: «ولكن شدّدوا فشدّ اللَّه عليهم» «1» فإنّ ظاهره عدم وجود المصلحة في لونها وسنّها، بل المصلحة كانت في مجازاتهم بالتضييق عليهم.

انوار الأصول، ج 3، ص: 157

لكن الإنصاف فيه أيضاً أنّ المصلحة في المنشأ لا في الإنشاء، فإنّ اللون الخاصّ مثلًا وإن لم يكن ذا مصلحة بعنوان الأوّلي (لعدم كونه قيداً في المأمور به في إبتداء الأمر) لكنّه صار ذا مصلحة بعنوان ثانوي وهو سدّ باب الأعذار الواهيّة واللجاج من المكلّفين في مقابل الأوامر الإلهيّة.

ثالثها: بعض الأوامر الواردة في مقام التقيّة، حيث إنّ الإمام عليه السلام ينشأ الوجوب في ذلك المقام، مع أنّه لا وجوب في الواقع ولا مصلحة في الفعل المتعلّق للأمر الذي صدر تقيّة، وإنّما المصلحة في نفس الإنشاء.

والصحيح خروج هذا القسم عن محلّ البحث أيضاً، لأنّ محلّه هو الأوامر الجدّية، أي البحث في المقام في أنّه هل

يوجد في الشريعة قانون جدّي كانت المصلحة فيه في نفس الإنشاء، أو لا؟ والأوامر الصادرة تقيّة ليست جدّية، ولذا يقال: إنّ أصالة الجدّ فيها ساقطة.

هذا كلّه في البراءة العقليّة.

وأمّا البراءة النقلية فالمحقّق الخراساني رحمه الله تبعاً للمشهور ذهب إلى جريانها، لأنّ عموم حديث الرفع قاضٍ برفع جزئية ما شكّ في جزئيّته، ويعيّن الواجب في الأقلّ.

ثمّ يستشكل على نفسه بما حاصله: أنّ البراءة تجري فيما تناله يد الوضع والرفع التشريعيين، وجزئيّة السورة المجهولة مثلًا ليست بمجعولة شرعاً، لأنّها ليست أثراً شرعيّاً (كحرمة شرب التتن أو وجوب الدعاء عند رؤية الهلال) وممّا يترتّب عليها أثر شرعي (كالشكّ في الالتزام النفساني المجرّد عن اللفظ في باب النذر الذي يكون سبباً لوجوب الوفاء شرعاً).

ويجيب عنه: بأنّ الجزئيّة وإن لم تكن مجعولة لكونها أمراً انتزاعياً، إلّاأنّ منشأ انتزاعها وهو الأمر مجعول شرعي، وهذا كافٍ في صحّة جريان البراءة فيها.

ثمّ إستشكل ثانياً: بأنّه بعد جريان البراءة في الأمر بالأكثر (الذي هو منشأ انتزاع الجزئيّة) لا يبقى أمر يتعلّق بالأقل لأنّ متعلّق الأمر هو الكلّ لا الجزء، وحينئذٍ لا وجه لجريان البراءة وتعيّن الواجب في الأقل.

وأجاب عنه أيضاً: بأنّ الأمر بالأقلّ يثبت بالجمع بين أدلّة الاجزاء وأدلّة البراءة الشرعيّة، حيث إنّ وجوب الأقل معلوم بنفس أدلّة الاجزاء، ووجوب الأكثر منفي بالبراءة

انوار الأصول، ج 3، ص: 158

الشرعيّة فيكون حديث الرفع بمنزلة الإستثناء لأدلّة الأجزاء، ويقيّد إطلاقها لحالتي العلم والجهل بجزئيّة الأجزاء فكأنّ الشارع قال: «يجب في الصّلاة التكبير والقراءة والركوع والسجود والتشهّد مطلقاً، علم بها المكلّف أم لا، وأمّا السورة فهى واجبة في خصوص ما إذا علم بجزئيّتها»، أو أنّه قال: «ايت بالكلّ إلّاالسورة لأنّك لا تعلم أنّه واجب».

أقول: لا حاجة في حلّ المشكلة

إلى طيّ هذا الطريق، لإمكان حلّها بالأوامر الضمنيّة فيقال: إنّ حديث الرفع ينفي خصوص الوجوب الضمني المتعلّق بما شكّ في جزئيته، ولا ينفي الوجوب عن الباقي.

بقي هنا أمران:

الأوّل: قد يقال أنّ المحقّق الخراساني قد عدل عن مقالته في بعض كلماته، وذهب إلى عدم جريان البراءة عقلًا وشرعاً فقال في تعليقته على كتابه (كفاية الاصول) ما لفظه «لكنّه لا يخفى أنّه لا مجال للنقل فيما هو مورد حكم العقل بالاحتياط، وهو ما إذا علم إجمالًا بالتكليف الفعلي، ضرورة أنّه ينافيه رفع الجزئيّة المجهولة، وإنّما يكون مورده ما إذا لم يعلم به، بل علم مجرّد ثبوته واقعاً (يعني ولو لم يكن فعليّاً) «1».

ولعلّه مبنيّ على ما اختاره سابقاً من أنّ العلم الإجمالي إذا علم كونه فعلياً من جميع الجهات يكون علّة تامّة للتنجّز فلا يمكن صدور الترخيص لأطرافه من ناحية الشارع.

ولكن بما أنّ الصحيح المختار في ذلك البحث عدم كون العلم الإجمالي علّة تامّة، وإنّه ليس إلّا مجرّد المقتضي للإحتياط (وذلك لأنّه لا يستفاد من أدلّة الواجبات والمحرّمات إلّاكونها مقتضية للفعليّة، غير منافية لما يعرض عليها من العناوين الثانوية وغيرها ممّا يمنعها عن الفعليّة، وإنّه لا طريق لنا إلى كشف الفعليّة من جميع الجهات من ظواهر الأدلّة نعم إذا ثبت المقتضي ولم يمنع منه مانع نحكم بفعليّته) فلا مانع حينئذٍ من جريان البراءة في ما نحن فيه.

الثاني: قد يتصوّر إمكان جريان أصالة الاشتغال في ما نحن فيه، وذلك من طريقين:

أحدهما: استصحاب اشتغال الذمّة بالتكليف.

انوار الأصول، ج 3، ص: 159

وفيه: أنّ البراءة مقدّمة على الإشتغال لأنّها في محلّ الكلام بمنزلة الأصل السببي، وأصالة الاشتغال أصل مسبّبي، لأنّ منشأ الشكّ في فراغ الذمّة إنّما هو الشكّ في جزئية السورة مثلًا،

وهو يرتفع بجريان البراءة فيرتفع موضوع أصالة الاشتغال.

ثانيهما: أنّ الشكّ في المقام يرجع إلى الشكّ في المحصّل، لأنّ المأمور به وهو عنوان الصّلاة مثلًا عنوان بسيط، ولا نعلم أنّه هل يحصل بإتيان تسعة أجزاء، أو لا؟ فلابدّ لإحرازه من إتيان الجزء العاشر أيضاً.

وفيه: أنّه ليست الصّلاة أمراً خارجاً وراء الاجزاء، حاصلًا منها ومسبّباً عنها حتّى يكون الشكّ شكّاً في المحصّل، بل إنّما هى عين الاجزاء، والأمر بها منبسط على الاجزاء.

هذا كلّه في الجهة الاولى، وهى ما إذا كان الأقل والأكثر من قبيل الجزء والكلّ.

الجهة الثانية: في الشرائط

(في ما إذا كان الأقل والأكثر من قبيل الشرط والمشروط، وكان منشأ انتزاع الشرطيّة أمراً خارجاً عن المشروط مبايناً له في الوجود كالطهارة بالنسبة إلى الصّلاة).

وقد ذهب المحقّق الخراساني رحمه الله هنا أيضاً إلى التفصيل بين البراءة العقليّة والبراءة الشرعيّة كما ذهب إليه في المقام الثالث الآتي أيضاً (وهو الشكّ في القيود) فقال بجريان البراءة شرعاً وعدم جريانها عقلًا بناءً على مسلكه المتقدّم في المقام الأوّل (الشكّ في الأجزاء)، وادّعى أنّ عدم جريان البراءة العقليّة في الشرائط والقيود أظهر من عدم جريانها في الأجزاء بدعوى أنّ الإنحلال المتوهّم (هناك بتقريب كون الأقل ممّا علم وجوبه تفصيلًا إمّا نفسياً أو مقدّمياً) لا يكاد يتوهّم في المقام، فإنّ الجزء الخارجي ممّا يمكن فيه دعوى اتّصافه بالوجوب الغيري المقدّمي، إذ لكلّ جزء خارجي وجود آخر مستقلّ غير وجود الجزء الآخر وإن كان العرف يرى للمجموع وجوداً واحداً، بخلاف الجزء التحليلي المتصوّر في المقام كالتقيّد والاشتراط فلا وجود له خارجاً غير وجود المجموع الواجب بالوجوب النفسي الاستقلالي، فلا يتّصف بالوجوب حتّى الوجوب النفسي الضمني. هذا في البراءة العقليّة.

وأمّا البراءة النقليّة فقد فصّل فيها بين الشرائط

والقيود، وقال بجريانها في الشرائط

انوار الأصول، ج 3، ص: 160

وعدم جريانها في القيود لأنّ المشروط بالشرط المشكوك (وهو الصّلاة مع الطهارة) مع المطلق (وهو الصّلاة المطلق) يكون في نظر العرف من قبيل الأقل والأكثر، فيأتي فيه ما ذكره من التفصيل في الاجزاء، وأمّا المقيّد بالقيد المشكوك (كالرقبة المؤمنة) مع المطلق (وهو الرقبة المطلقة) يكون في نظر العرف من قبيل المتباينين الأجنبيين فلا تجري فيه البراءة النقليّة كالبراءة العقليّة.

أقول: الحقّ جريان البراءة مطلقاً في الشرائط أيضاً كالأجزاء (وأمّا القيود فسيوافيك البحث عنها في الجهة الثالثة تفصيلًا فانتظر) وذلك لشمول الأمر الضمني للشرائط كالأجزاء، والفرق بينهما أنّ الأمر الضمني في الأجزاء يتعلّق بالجزء نفسه، وأمّا في الشرائط فيتعلّق بوصف الاشتراط لا بنفس الشرط، وهذا المقدار من الفرق لا يمنع عن الانحلال في الشرائط.

وبالجملة إنّ مسألة الانحلال في المقام مبنية على تعلّق الأمر الضمني بالشرائط لا على تعلّق الأمر المقدّمي الغيري بها حتّى يتوهّم محذور الخلف أو محذور لزوم عدم الانحلال من الانحلال الذي مرّ بيانهما تفصيلًا في استدلال المحقّق الخراساني رحمه الله.

الجهة الثالثة: في القيود
اشارة

(أي في ما إذا كان الأقل والأكثر من قبيل الشرط والمشروط أيضاً ولكن كان منشأ إنتزاع الشرطيّة أمراً داخلًا في المشروط متّحداً معه في الوجود كوصف الإيمان بالنسبة إلى الرقبة) وفيها ثلاثة أقوال:

1- ما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمه الله من كونها من قبيل المتباينين فيجب فيها الاحتياط مطلقاً.

2- ما ذهب إليه المحقّق النائيني رحمه الله من التفصيل بين القيود المقوّمة وغير المقوّمة ووجوب الاحتياط في الاولى دون الثانية.

3- ما ذهب إليه الشيخ الأعظم الأنصاري رحمه الله في تهذيب الاصول وهو القول بالبراءة المطلقة.

واستدلّ المحقّق الخراساني رحمه الله للقول الأوّل بأنّ القيود من الاجزاء التحليليّة التي

لا

انوار الأصول، ج 3، ص: 161

يميّزها إلّاالعقل، فلا تميز لها في الخارج أصلًا، فيعدّ واجد الجزء التحليلي وفاقده من المتباينين، لا من الأقل والأكثر، فدعوى الانحلال فيها بتخيّل إنّ ذات المطلق كالرقبة والعام كالحيوان مطلوبان قطعاً بالطلب النفسي أو الغيري، ومطلوبية المقيّد والخاصّ مشكوكة، مدفوعة بأنّ ذاتي المطلق والعام ليستا مقدّمتين للمقيّد والخاص حتّى يكونا واجبتين على كلّ تقدير.

واستدلّ المحقّق النائيني رحمه الله بما حاصله: أنّ القيد والخصوصيّة الزائدة المشكوكة إذا كانت من مقوّمات المعنى المتخصّص بها عقلًا كالفصل بالنسبة إلى الجنس، بمعنى أنّ الأكثر كان مركّباً من الجنس والفصل كما إذا كان الواجب مردّداً بين ذبح الحيوان مطلقاً- بقرة كان أو شاة- وبين ذبح الشاة بالخصوص ففي هذه الصورة يجب الاحتياط بإتيان الأكثر (وهو الشاة التي ينحلّ بالتحليل العقلي إلى جنس وفصل) لأنّ الأكثر وإن كان مركّباً عند العقل إلّاأنّه بنظر العرف يكون مفهوماً بسيطاً مبايناً لمفهوم الأقل فالشاة والحيوان عند العرف من المتباينين.

وإن شئت قلت: إنّه من قبيل دوران الأمر بين التعيين والتخيير، ومقتضى القاعدة فيه هو التعيين لا البراءة عن الخصوصيّة، وهكذا إذا كانت الخصوصيّة الزائدة المشكوكة من مقوّمات المعنى المتخصّص بها بنظر العرف وإن لم يكن من مقوّماته عقلًا، كما إذا كان الواجب مردّداً بين شراء جارية رومية وبين جارية مطلقاً، حيث إنّ الروميّة ليست من مقوّمات الجارية عقلًا ولكن العرف يرونها نوعاً آخر مقابل الجارية الحبشية مثلًا، وأمّا إذا لم تكن الخصوصيّة الزائدة المشكوكة من مقوّمات المعنى لا عقلًا ولا عرفاً كما إذا كان الواجب مردّداً بين الرقبة المطلقة وبين الرقبة المؤمنة أو بين العبد المطلق وبين العبد الكاتب فيجوز إجراء البراءة بالنسبة إليها لأنّ اعتبار قيد الإيمان أو الكتابة مثلًا

يحتاج إلى مؤونة زائدة من البيان في عالم الثبوت والإثبات، ثمّ قال في ذيل كلامه: إنّ الضابط في المقوّمية كون التخلّف في المعاملة من قبيل التخلّف في العنوان فتكون المعاملة باطلة كما إذا قال بعتك شاة ولم تكن شاة بل كان فرساً مثلًا، والضابط في عدمها كون التخلّف من قبيل الأوصاف التي يوجب تخلّفها خيار تخلّف الوصف فقط كما إذا قال بعتك هذا العبد الكاتب ولم يكن كاتباً «1» (انتهى).

واستدلّ في تهذيب الاصول للقول الثالث: بما حاصله: أنّ متعلّق البعث والزجر إنّما هو

انوار الأصول، ج 3، ص: 162

الماهيات والعناوين دون المصاديق الخارجيّة، وعليه فالمدار في دوران الأمر بين الأقل والأكثر إنّما هو ملاحظة لسان الدليل الدالّ على الحكم حسب الدلالة اللفظيّة العرفيّة، لا المصاديق الخارجيّة، ومن المعلوم أنّ البعث إلى الطبيعه (كطبيعة الرقبة) غير البعث إلى الطبيعة المقيّدة (كطبيعة الرقبة المؤمنة)، والنسبة بين المتعلّقين هو القلّة والكثرة وإن كانت المصاديق على غير هذا النحو، وحينئذٍ نقول: إنّ البعث إلى طبيعة الرقبة معلوم، وتعلّقه إلى المؤمنة مشكوك فيه، فتجري البراءة عن المشكوك، وهكذا المركّبات التحليليّة كالجنس والفصل لأنّ الموضوع ينحلّ عند العقل إلى معلوم ومشكوك فيه، فالصلاة المشروطة بالطهارة عين ذات الصّلاة في الخارج، كما أنّ الرقبة المؤمنة عين مطلقها فيه، والإنسان عين الحيوان وهكذا، وإنّما الافتراق في التحليل العقلي، وهو في الجميع سواء، فكما تنحلّ الصّلاة المشروطة بالصلاة والاشتراط، كذا ينحلّ الإنسان إلى الحيوان والناطق، ففي جريان البراءة وقيام الحجّة على المتيقّن دون المشكوك سواء في الجميع» «1».

أقول: الأقوى هو القول الثاني وهو ما ذهب إليه المحقّق النائيني رحمه الله، نعم بالنسبة إلى القيود غير المقوّمة، المختار هو البراءة العقلائيّة لا العقليّة بناءً على ما حقّقناه

في مبحث البراءة.

وعلى أي حال لا فرق بين الأجزاء والشرائط والقيود إلّافي القيود المقوّمة لأنّها في نظر العرف من قبيل المتباينين وإن لم يكن كذلك بالدقّة العقليّة، وإن شئت فاختبر نفسك فيما إذا أمر المولى بصناعة مصنوع خشبي يتردّد بين كونه سريراً أو نافذة، ففي هذه الحالة وإن كانت وصف السريرية وغيرها من الأعراض للخشب لكنّها تعدّ عند العرف من المقوّمات، والسرير والنافذة عندهم متباينان كالسيّارة والطائرة، وإن كانتا مصنوعتين من الخشب والحديد، ولذلك يوجب التخلّف فيهما بطلان المعاملة لا مجرّد خيار تخلّف الوصف.

وبالجملة إنّ المعيار في التباين والوحدة ليس الجنس والفصل المنطقيين بل المعيار الصدق العرفي وإن كان الاختلاف في الاعراض.

هذا- بخلاف ما إذا كانت القيود غير مقوّمة عند العرف كقيد الإيمان في الرقبة المؤمنة وقيد الكتابة في العبد الكاتب، فيكون الفاقد والواجد من قبيل الأقل والأكثر فتجري البراءة بالنسبة إلى الأكثر.

انوار الأصول، ج 3، ص: 163

ومن هنا يظهر الإشكال في كلمات الأعلام الثلاثة:

أمّا المحقّق الخراساني رحمه الله فيرد عليه أنّ المقيّد والفاقد للقيد إنّما يكونان من المتباينين فيما إذا كانا من قبيل الماهيّة بشرط شي ء والماهيّة بشرط لا، مع أنّ مطلق الرقبة والرقبة المؤمنة مثلًا يكونان من قبيل الماهيّة بشرط شي ء والماهيّة لا بشرط، وإلّا يلزم أن يكون الفاقد للجزء والواجد له أيضاً من المتباينين وأن تكون الصّلاة بشرط الجزء العاشر مباينة للصّلاة بشرط تسعة الاجزاء، وهذا مخالف لما ذهب إليه نفسه من كونهما من قبيل الأقل والأكثر.

هذا مضافاً إلى أنّ الميزان كما قلنا صدق التباين وعدمه عند العرف، وكون القيد من القيود المقوّمة وعدم كونه منها في نظر العرف، فربّ وصف لا يعدّ مقوّماً لموصوفه عرفاً كالقراءة والكتابة في العبد القاري والكاتب فيكون

التخلّف فيه من قبيل التخلّف في الوصف موجباً للخيار فقط، وربّ وصف يعدّ من مقوّمات موصوفه عند العرف كوصف السريريّة والنافذية فيما إذا اشترى شيئاً بعنوان إنّه سرير فتبيّن كونه نافذة. فيكون التخلّف فيه من قبيل التخلّف في العنوان، الموجب لبطلان المعاملة.

إن قلت: ما هو الضابط في التباين وعدمه وفي المقوّميّة وعدمها عند العرف؟

قلنا: إنّما يرى العرف التباين فيما إذا كانت الآثار المترتّبة متفاوتة مختلفة كالآثار المترتّبة على السرير والنافذة، وإذا كانت الآثار قريبة كالآثار المترتّبة على العبد الكاتب وغير الكاتب (حيث إنّهما مشتركان في خدمات كثيرة) فلا يحكم العرف بالتباين بل يرى التخلّف فيه مجرّد التخلّف في وصف من الأوصاف.

وأمّا ما ذهب إليه في تهذيب الاصول من أنّ متعلّق البعث والزجر إنّما هو الماهيّات والعناوين.

فيرد عليه: إنّه إمّا أن يكون المراد منه الفاظ الماهيّات كلفظ الغنم والشاة، أو يكون المراد الصور المتصوّرة في الذهن، والأوّل لا معنى له كما لا يخفى، والثاني يحتمل فيه وجهان:

أحدهما: أن يكون المقصود الصور الذهنيّة بما هى صور ذهنيّة، والثانية: الصور الذهنيّة بما هى مشيرة إلى الخارج، والأوّل أيضاً لا يمكن أن يكون متعلّقاً للأمر والنهي قطعاً، فيتعيّن أن يكون المتعلّق العناوين بما هى مشيرة إلى الخارج، وهذا يرجع في الحقيقة إلى كون المتعلّق هو الخارج لا الماهية والعنوان، وأمّا تعلّقهما ابتداءً بالعنوان فلأجل العبور إلى الخارج.

انوار الأصول، ج 3، ص: 164

وإن شئت قلت: الطلب التشريعي كالطلب التكويني، فكما أنّ المولى في طلبه التكويني للماء مثلًا يطلب الماء الموجود في الخارج لأنّه منبع كلّ أثر، كذلك في طلبه التشريعي كما إذا أمر عبده بإتيان الماء عوضاً عن تصدّي نفسه لإتيانه، فلا إشكال في أنّ متعلّق أمره وطلبه هذا أيضاً إتيان

الماء الموجود في الخارج، وقسّ عليه سائر الأوامر والنواهي الصادرة من سائر الموالي والشارعين.

وهاهنا امور ينبغي التنبيه عليها:

الأمر الأوّل: الشك في جزئيّة شي ء أو شرطيّته عند النسيان

فيما إذا شكّ في جزئيّة شي ء أو شرطيته في حال نسيانه، وإنّه هل يوجب النسيان ارتفاع الجزئيّة أو الشرطيّة أو لا؟ وبعبارة اخرى: هل الأصل في الأجزاء والشرائط ركنية كلّ واحد منها (حتّى يوجب النسيان بطلان العمل) أو لا؟

والبحث فيه يقع في ثلاث مقامات:

المقام الأوّل: في مقتضى الدليل الاجتهادي.

المقام الثاني: في مقتضى الأصل العملي.

المقام الثالث: في كيفية الخطاب بالنسبة إلى الناسي بناءً على عدم اطلاق دليل الجزء أو الشرط لحال النسيان.

أمّا المقام الأوّل: فيتصوّر له صور ثلاث:

الاولى: ما إذا دلّ الدليل على الجزئيّة أو الشرطيّة بلسان الحكم الوضعي كقوله عليه السلام: «لا صلاة إلّابفاتحة الكتاب» فلا إشكال في إطلاقه حينئذٍ لحال النسيان.

الثانية: ما إذا كان الدليل بلسان الأمر، وكان إرشاداً إلى الجزئيّة أو الشرطيّة فلا إشكال أيضاً في اطلاقه لحال النسيان.

الثالثة: ما إذا استفدنا الجزئيّة أو الشرطيّة من أمر مولوي تكليفي، ودلّ على الجزئيّة بمدلولها الالتزامي ففي هذه الصورة تختصّ الجزئيّة أو الشرطيّة بحال الذكر والإلتفات، لإمتناع توجّه الخطاب إلى الناسي، فيكون مقتضى القاعدة الأوّلية حينئذٍ اختصاص الجزء أو الشرط

انوار الأصول، ج 3، ص: 165

بالعالم الملتفت بخلاف الصورتين الأوّليين لعموم الدليل فيهما، اللهمّ إلّاأن يكون هناك قاعدة حاكمة عليه كقاعدة لا تعاد وحديث رفع النسيان وشبه ذلك.

أمّا المقام الثاني: أي الذي تصل النوبة إليه بعد فقدان الدليل الاجتهادي فيأتي فيه كلّ واحد من الأقوال الثلاثة المطروحة في الأقل والأكثر الارتباطيين (القول بالاشتغال مطلقاً والقول بالبراءة مطلقاً والقول بالتفصيل بين البراءة العقليّة والبراءة النقليّة) لأنّ المقام من صغريات ذلك البحث لأنّا نعلم إجمالًا بتعلّق التكليف بالجزء أو الشرط ونشكّ

في اطلاقه لحالتي الذكر والنسيان (وهو الأكثر) أو اختصاصه بحال الالتفات فقط (وهو الأقل) فالمختار حينئذٍ في ما نحن فيه هو البراءة عقلًا ونقلًا كما مرّ هناك، والمراد من البراءة النقليّة هنا إنّما هو مفاد فقرة «رفع ما لا يعلمون» من حديث الرفع، لا فقرة «رفع النسيان» لأنّها من الأدلّة الاجتهاديّة، وحاكمة على اطلاق أدلّة الجزئيّة والشرطيّة لو كان هناك اطلاق.

أمّا المقام الثالث: فقد وقع الأعلام (القائلون باختصاص أوامر الجزئيّة والشرطيّة بحال الذكر) في حلّ مشكلة تعدّد الخطابين في حيص وبيص، فذهب المحقّق النائيني رحمه الله إلى عدم إمكان توجّه الخطاب إلى الناسي، وتصحيح صلاته من طريق وجود الملاك (ملاك المحبوبيّة) وذهب جماعة إلى إمكان توجّه الخطاب إليه وذكروا لتصحيحه طرقاً ثلاثة:

الأوّل: ما ذكره الشيخ الأعظم رحمه الله وهو أنّه يكفي في تصحيح عبادة الناسي اعتقاده توجّه أمر الملتفت إليه فيأتي بالفاقد للجزء بداعي إطاعة الأمر بالصلاة، وإنّما الخطأ في التطبيق.

وأورد على هذا الوجه: بأنّ الخطأ في التطبيق متوقّف على تصوير خطاب للناسي في الرتبة السابقة، وهو محلّ الكلام والإشكال.

الثاني: أن يكلّف الملتفت بتمام المأمور به، والناسي بما عدا المنسي، لكن لا بعنوان الناسي حتّى يلزم الانقلاب إلى الذاكر بمجرّد توجّه الخطاب إليه بل بعنوان آخر عام، ملازم لجميع مصاديقه، كعنوان الصائم إذا فرض كونه ملازماً لمصاديق النسيان فيقال: «أيّها الصائم أقم الصّلاة بتسعة الأجزاء».

ويرد عليه: إنّ اختيار عنوان ملازم عام في جميع الموارد أمر مشكل جدّاً أو محال.

الثالث: أن يوجّه الخطاب بالنسبة إلى تسعة أجزاء مثلًا بعنوان أيّها المكلّفون، وبالنسبة إلى الجزء العاشر بعنوان أيّها الذاكر. وهذا وجه جيّد.

الأمر الثاني: في زيادة الأجزاء والشرائط

وتنقيح البحث فيه يحتاج إلى رسم امور:

الأوّل: في أنّ اعتبار أجزاء المركّب يتصوّر على ثلاث

صور: تارةً يعتبر بشرط لا، كما إذا دلّ الدليل على لزوم إتيان الركوع بشرط الوحدة، واخرى لا بشرط، كما في ذكر التسبيح الكبرى في الركوع، وهى بنفسها على قسمين: فتارةً تعتبر الزيادة جزء للصّلاة كما في مثال التسبيح في الركوع، واخرى لا تعتبر جزء للصلاة كما أنّها ليست مضرّة بصحّة العمل (كما في زيادة المسح في الوضوء) إلّامن ناحية التشريع المحرّم، وثالثة نشكّ في كيفيّة اعتبارها.

ومن ناحية اخرى: تارةً تكون الزيادة من سنخ المأمور به كما في الركوع الزائد، واخرى تكون من غير نسخه كما إذا أتى في الصّلاة بأذكار أو أفعال من غير نسخ أفعالها وأذكارها.

ثمّ إنّ كلّ ذلك إمّا يأتي به بقصد الجزئيّة فيكون نوعاً من التشريع، أو يأتي بها من غير قصد الجزئيّة، فلابدّ من البحث في أنّه ما هو مقتضى الأصل العملي حينئذٍ؟ فانتظر.

الثاني: قد يستشكل في أصل تصوير الزيادة في الأجزاء حقيقة فيقال: أساساً لا تتصوّر الزيادة في الاجزاء لأنّها إمّا أخذت في عنوان المأمور به بشرط لا فترجع الزيادة حينئذٍ إلى النقصان، لأنّ للمركّب حينئذٍ قيد عدمي (وهو عدم إتيان الزيادة) وهو ينعدم بإتيان الزيادة، أو أخذت لا بشرط فلا تصدق الزيادة حينئذٍ، أي لا يكون الزائد زائداً في المأمور به، لأنّ المأمور به حينئذٍ إنّما هو طبيعي الجزء من غير اعتبار وجود فرد آخر من الطبيعي معه، ولا اعتبار عدمه لأنّه على الفرض غير مقيّد بكونه وجوداً واحداً ولا بكونه متعدّداً، فلو وجد فردان من الطبيعي أو أكثر يصدق على الجميع أنّها من مصاديق المأمور به فلا تتصوّر الزيادة.

وقد اجيب عنه بوجوه أحسنها: أنّ الزيادة وإن ترجع إلى النقيصة بالدقّة العقليّة لكنّه لا إشكال في صدقها عند العرف،

والمقصود في المقام إنّما هو البحث في إيجاب الزيادة العرفيّة بطلان المأمور به وعدمه.

وإن شئت قلت: إنّ الحكم في ما نحن فيه لا يدور مدار التسمية وصدق عنوان الزيادة أو النقيصة، بل البحث في أنّ ما أتى به زائداً على الاجزاء هل يوجب الفساد أو لا، سواء صدق عليه اسم الزيادة أو لا.

ومن تلك الوجوه: أنّه يتصوّر في اعتبار المأمور به شقّ ثالث، وهو أن يعتبر المولى انوار الأصول، ج 3، ص: 167

صرف الوجود من الطبيعة، أي ما هو عادم العدم ونقيضه، فقهراً ينطبق المأمور به على أوّل وجود من تلك الطبيعة التي أخذت جزءً، ولا ينطبق على الوجود الثاني، بل يصدق عليه عنوان الزيادة حقيقة.

ولكن يرد عليه: أنّه لا يخلو الأمر في مقام الثبوت والواقع من إحدى الحالات الثلاثة فإمّا أخذت الماهيّة لا بشرط أو بشرط شي ء أو بشرط لا، والحصر عقلي لا يتصوّر فيه شقّ رابع بعنوان صرف الوجود، بل لا يكون صرف الوجود أيضاً خارجاً من هذه الثلاثة.

الثالث: في مقتضى الأصل العملي فيما إذا أتى بالزائد من دون قصد الجزئيّة والتشريع.

ربّما يقال: إنّ جميع المباني المذكورة في النقيصة تأتي هنا أيضاً، فيكون الأصل (بناءً على ما هو المختار هناك) هو البراءة لأنّه لو كانت الزيادة مضرّة وموجبة للبطلان لكان على الشارع البيان.

وإن شئت قلت: إنّ كون الزيادة موجبة للبطلان سواء كانت عمدية أو سهوية متوقّف على اعتبار الجزء بشرط لا، أي اعتباره مقيّداً بعدم الزيادة، والشكّ فيه يرجع إلى الأقل والأكثر في المركّبات التحليلية، وقد تقدّم أنّ المختار فيها جريان البراءة، فمقتضى الأصل عدم البطلان إلّاأن يدلّ دليل خاصّ على أنّ الزيادة مطلقاً موجبة للبطلان، كما ورد الدليل على البطلان في باب الصّلاة

والطواف عند الزيادة العمدية.

لكن يمكن أن يقال: بأنّ بناء العقلاء في المركّبات المخترعة مثل الأدوية والأغذية على عدم جواز إتيان الزيادة، فلو أمر المولى بمعجون من كذا وكذا لم يجز التعدّي من الأجزاء والحدود التي بيّنها، وهذا يمنع عن حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان، وعن جريان أصل البراءة الشرعيّة (قاعدة رفع ما لا يعلمون) لأنّ السيرة العقلائيّة- بعد امضاء الشارع ولو بعدم الردع- بمنزلة الأمارة وتوجب رفع موضوع البراءة (وهو الشكّ) وتكون واردة عليها، والنتيجة حينئذٍ قاعدة الاشتغال وبطلان العمل بالزيادة.

الرابع: بناءً على كون الأصل الأوّلي هو البراءة- هل يلزم البطلان من ناحية اعتبار قصد القربة في التعبّديات أو لا؟

وهذا يتصوّر له صورتان: تارةً يأتي بالزيادة بقصد الزيادة بحيث لولاها لا يأتي بالعمل برأسه فلا إشكال حينئذٍ في البطلان لعدم تحقّق قصد القربة وعدم تمشّيه، ولكن مثل هذا نادر

انوار الأصول، ج 3، ص: 168

جدّاً، واخرى يأتي بها من باب تطبيق المأمور به عليها من دون أن يكون محرّكه الإتيان بالزيادة بل المحرّك هو إطاعة المولى كيفما كان، فالحكم بالصحّة هو الأقوى على فرض جريان البراءة في المقام.

الأمر الثالث: هل يسقط الوجوب عند تعذر وجود الجزء أو الشرط ...؟
اشارة

إذا تعذّر وجود جزء أو شرط أو عدم مانع بواسطة الاضطرار أو أحد الأعذار الاخر، بمعنى أنّه اضطرّ إلى ترك جزء من أجزاء الواجب أو ترك شرط من شرائطه أو اضطرّ إلى وجود مانع أو اكره مثلًا إلى ترك ما لوجوده دخل في الواجب أو إلى فعل ما لعدمه دخل، فيه فهل مقتضى القواعد والأدلّة سقوط الوجوب عن الباقي، أو لا؟

وبعبارة اخرى: هل الجزئيّة والشرطيّة والمانعية مطلقة شاملة لحالتي الاختيار والعذر أو تختصّ بحال الاختيار ولازمه وجوب الإتيان بالباقي؟

لابدّ من إيراد البحث في أربع مقامات:

الأوّل: في مقتضى الأدلّة

الخاصّة في كلّ مورد.

الثاني: في مقتضى إطلاقات أدلّة الجزئيّة والشرطيّة.

الثالث: في مقتضى الاصول العمليّة.

الرابع: في مقتضى «قاعدة الميسور» ودائرة شمولها.

أمّا المقام الأوّل: فمحلّ البحث عنه هو الفقه لا الاصول كما لا يخفى.

وأمّا المقام الثاني: فالتحقيق فيه أن يقال: يتصوّر لأدلّة الجزئيّة والشرطيّة ثلاث حالات:

تارةً: تكون الأدلّة بلسان الحكم الوضعي كقوله عليه السلام: «لا صلاة إلّابطهور»، فلا إشكال في إطلاقها وشمولها لحالتي الإختيار والعذر.

واخرى: يكون لسانها لسان الحكم التكليفي مع كونها من قبيل الأوامر الإرشاديّة، أي تكون إرشادة إلى الجزئيّة أو الشرطيّة كقوله تعالى: «إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ انوار الأصول، ج 3، ص: 169

... وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا ...» «1»

فلا إشكال أيضاً في الاطلاق.

وثالثة: تكون الأدلّة بلسان الحكم التكليفي مع كونها أوامر مولويّة، فالصحيح حينئذٍ اختصاصها بحال الاختيار لاستحالة تعلّق الأمر بفاقد القدرة، وامتناع التكليف بما لا يطاق.

وأمّا المقام الثالث: فلا إشكال في أنّ الأصل الجاري في المقام هو البراءة عن وجوب الباقي، أي وجوب الصّلاة بدون الطهارة على فاقد الطهورين مثلًا.

ولكن قد يقال، بجريان استصحاب الوجوب، ويقدّم على البراءة إمّا لكونه حاكماً عليها أو من باب أخصيّة أدلّته من أدلّة البراءة (كما هو المختار في محلّه).

يمكن الإيراد عليه:

أوّلًا: بعدم اتّحاد قضية المشكوكة والمتيقّنة من حيث الموضوع، لأنّ الموضوع في المتيقّنة هو مجموع القيد والمقيّد (الطهارة مع الصّلاة) وفي المشكوكة ذات المقيّد من دون القيد.

واجيب عنه بوجهين:

أحدهما: أنّ المستصحب هنا إنّما هو كلّي الصّلاة، أي القدر الجامع بين الصّلاة من دون الطهارة والصّلاة مع الطهارة، وهو واحد في القضيتين.

ثانيهما: وجود الوحدة عرفاً، لأنّ الجزء أو القيد المتعذّر كثيراً مّا لا يكون من مقوّمات الموضوع في نظر العرف بل يكون من حالاته.

والإنصاف عدم تماميّة كلا الوجهين:

أمّا

الوجه الأوّل: فلأنّ استصحاب الكلّي في المقام من مصاديق القسم الثالث منه (وهو ما إذا إنعدمت الطبيعة الموجودة ضمن فرد بإنعدام ذلك الفرد، وشككنا في وجودها ثانياً بقيام فرد جديد مقام الفرد الأوّل) والمعروف عند المحقّقين عدم حجّيته.

وأمّا الوجه الثاني: فلعدم وجود الاتّحاد عند العرف بين واجد الجزء وفاقده، كالحجّ مع الوقوف في عرفات والحجّ مع عدم الوقوف فيها، وأمّا التسامح العرفي فهو يأتي فيما إذا كان التفاوت جزئيّاً، كما إذا نقص من الماء الكثير رطلًا مثلًا وشككنا في بقائه على الكرّية.

انوار الأصول، ج 3، ص: 170

وثانياً: بأنّ استصحاب الوجوب يتصوّر بالنسبة إلى ما إذا فُقد الطهورين مثلًا بعد دخول الوقت، وأمّا إذا فقد قبله فلا تجب عليه الصّلاة حتّى يستصحب وجوبها، اللهمّ إلّاأن يقال بوجوبها قبل الوقت أيضاً على نحو الواجب المعلّق، لكن المختار عدم صحّته فلا وجه لجريان استصحاب الوجوب، بل الجاري إنّما هو استصحاب عدم الوجوب.

وقد يقال: إنّ هذا الاستصحاب من قبيل القسم الثاني للكلّي لا الثالث لأنّه من قبيل الشكّ في بقاء الحيوان من جهة تردّده بين طويل العمر وقصير العمر لأنّ الوجوب المتعلّق بالمركّب هنا مردّد بين تعلّقه به على أن يكون الجزء المتعذّر جزءاً له مطلقاً فيسقط الوجوب بتعذّره، أو يكون جزءاً له في حال الاختيار فقط فيبقى التكليف بالباقي على حاله.

واجيب عنه: بأنّه غير معقول لأنّه لازمه تعلّق طلب واحد بعشرة أجزاء تارةً، وبتسعة أجزاء اخرى، هذا محال، لأنّ الطلب الواحد لا يتعلّق بشيئين مختلفين، فلا يمكن اندراجه في القسم الثاني من استصحاب الكلّي.

ثمّ إنّه ذكر في المقام وجه آخر للاستصحاب، وهو أن يستصحب شخص الوجوب السابق المتعلّق بالمركّب لأنّه منبسط على أجزاء المركّب، وبعد تعذّر بعض أجزائه يكون

الوجوب في المركّب الناقص عين الوجوب الأوّل الذي كان منبسطاً على المركّب التامّ، غايته أنّ حدّه قد تبدّل بحدّ آخر، نظير البياض المنبسط على جسم طويل فيما إذا انفصل منه جزء وصار قصيراً، حيث إنّ البياض الباقي في الجسم القصير هو عين ذلك البياض الأوّل، غايته أنّه تبدّل حدّه بحدّ آخر.

والجواب عنه: إنّ المركّب الناقص الباقي كان واجباً ضمن المركّب التامّ لا مستقلًا مع أنّ المراد في هذا الوجه استصحاب وجوب الباقي بالاستقلال، فيتبدّل الموضوع من الوجوب الضمني إلى الوجوب الاستقلالي، ويلزم منه عدم وجود شرط الاتّحاد المعتبر في موضوع الاستصحاب، اللهمّ إلّاأن يكون الجزء المتعذّر أمراً غير هامّ بحيث يعدّ من الحالات المتواردة على الموضوع، لا المقوّمة له.

فتلخّص من جميع ما ذكرنا أنّ الأصل الجاري في المقام هو البراءة لولا دليل خاصّ اجتهادي يدلّ على بقاء الوجوب، نظير ما ورد في باب الصّلاة من «أنّ الصّلاة لا تدرك بحال».

ثمّ إنّ المحقّق العراقي رحمه الله استدلّ في المقام لوجوب الباقي بعمومات الإضطرار كقوله عليه السلام في خبري زرارة ومحمّد بن مسلم: «التقية في كلّ شي ء، وكلّ شي ء اضطرّ إليه ابن آدم فقد أحلّه انوار الأصول، ج 3، ص: 171

اللَّه له» «1»، بناءً على كون المراد من الحلّية فيها معناها اللغوي الشامل للحلّية الوضعيّة أيضاً، وتقريب الاستدلال: إنّ حلّية الجزء والشرط والمانع المتعذّر عبارة عن سقوطه عن الجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة في حال تعذّره، ومقتضى ذلك بعد حكومة هذه العمومات على الأدلّة المثبتة للأجزاء والشرائط، والموانع هو تخصيص الجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة المستفادة منها بغير حال التعذّر، ولازمه وجوب الإتيان بالباقي لكونه تمام المركّب المأمور به في هذا المستلزم لفراغ الذمّة وعدم وجوب الإعادة عليه بعد ارتفاع الاضطرار، وربّما

يشهد لما ذكرناه ما في كثير من النصوص من استشهاد الإمام عليه السلام بمثل هذه العمومات لرفع جزئية المتعذّر أو شرطيّته وإيجاب الأمر بالبقيّة (انتهى ملخّصاً) «2».

أقول: من هذه الروايات ما رواه منصور بن حازم قال: قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام: الرجل يعتريه البول ولا يقدر على حبسه، قال فقال لي: «إذا لم يقدر على حبسه فاللَّه أولى بالعذر يجعل خريطة» «3».

ومنها: ما رواه سماعة قال: سألته عن الرجل يكون في عينيه الماء فينتزع الماء منها فيستلقي على ظهره الأيّام الكثيرة: أربعين يوماً أو أقلّ أو أكثر، فيمتنع من الصّلاة الأيّام إلّا إيماءً وهو على حاله، فقال: «لا بأس بذلك وليس شي ء ممّا حرّم اللَّه إلّاوقد أحلّه لمن اضطرّ إليه» «4».

ومنها: ما رواه أبو بصير قال: سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن المريض هل تمسك له المرأة شيئاً فيسجد عليه؟ فقال: «لا إلّاأن يكون مضطرّاً ليس عنده غيرها، وليس شي ء ممّا حرّم اللَّه إلّا وقد أحلّه لمن اضطرّ إليه» «5».

ويمكن أن يقرّب الاستدلال بهذه الروايات لمطلق موارد الاضطرار بطريقين:

أحدهما: طريق القياس المنصوص العلّة فإنّها ظاهرة في أنّ علّة سقوط الجزء أو الشرط

انوار الأصول، ج 3، ص: 172

المضطرّ إليه عن الجزئيّة أو الشرطيّة ووجوب باقي الأجزاء إنّما هو الإضطرار به، وهو موجود في جميع موارد الاضطرار.

ولكن يمكن الجواب عنه: بأنّ غاية ما يستفاد من هذه الرّوايات مجرّد رفع الجزئيّة والشرطيّة عن المتعذّر وأنّها لا تقتضي إيجاب فعل الباقي، وأمّا وجوب الباقي المفروض في مورد هذه الروايات وهو الصّلاة فلعلّه كان مستفاداً من الخارج (لا من نفس الأمر الموجود في هذه النصوص) مثل قوله عليه السلام: «لا تترك الصّلاة بحال». فالمقدار المستفاد من هذه الروايات على نهج القياس

المنصوص العلّة إنّما هو سقوط الجزء أو الشرط عن الجزئيّة والشرطيّة في تمام موارد الاضطرار، وأمّا وجوب الباقي فلا يستفاد منها، بل لابدّ فيه من دليل خاصّ من الخارج كما في باب الصّلاة.

ثانيهما: طريق الاستقراء عن موارد الاضطرار في الأبواب المختلفة من الفقه فإنّه يقتضي حصول القطع بوجوب الباقي، نظير ما ورد في باب القيام من وجوب إتيان الصّلاة جالساً ثمّ مستلقياً ثمّ على جانب الأيمن والأيسر، واستدلال الإمام عليه السلام بقوله تعالى: «الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ» وهكذا ما ورد في باب القبلة.

ويمكن الجواب عن هذا أيضاً: بأنّ موارد الاستقراء مختصّة بأبواب الصّلاة لا غير، فاحتمال إلغاء الخصوصيّة مشكل كما لا يخفى.

هذا تمام الكلام في المقام الثالث.

قاعدة الميسور

وأمّا المقام الرابع: (أي الاستدلال بقاعدة الميسور لوجوب غير المتعذّر من الأجزاء والشرائط في جميع أبواب الفقه) فلابدّ أوّلًا من ملاحظة أدلّة هذه القاعدة، ثمّ مقدار دلالتها، فنقول: يمكن إثباتها من طرق الروايات وبناء العقلاء:

أمّا الروايات فالعمدة فيها ثلاث روايات يشار إليها غالباً في كلمات المتأخّرين:

الرواية الاولى: نبويّة، وهى قوله صلى الله عليه و آله: «إذا أمرتكم بشي ء فأتوا منه ما استطعتم»، نقلت من طريق الخاصّة مرسلة في المستدرك، ج 2، كتاب الحجّ عن عوالي اللئالي وفي البحار كتاب انوار الأصول، ج 3، ص: 173

الصّلاة باب صلاة العراة «1» والموجود في هذا الطريق «فأتوا به ما استطعتم» بدل «فأتوا منه ما استطعتم».

ونقلت من طريق العامّة في سنن البيهقي «2» عن أحمد بن حنبل في سننه عن يزيد بن هارون عن أبي هريرة قال: خطبنا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: «أيّها الناس قد فرض اللَّه عليكم الحجّ فحجّوا»، فقال رجل (وفي رواية: قال عكاشة)

أكلّ عام يارسول اللَّه؟ فسكت صلى الله عليه و آله حتّى قالها ثلاثاً فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «لو قلت نعم لوجب ولما استطعتم، ثمّ قال صلى الله عليه و آله: ذروني ما تركتكم، فإنّما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشي ء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شي ء فدعوه».

ونقلت في سنن النسائي «3» أيضاً، ولكن الموجود فيه «فأتوا به» بدل «فأتوا منه».

ولا شبهة في أنّ الرواية من طريق الخاصّة من المراسيل، ومن طرق العامّة وإن كانت مسندة ولكن في طريقها من لا يخفى حالهم، مضافاً إلى أنّها غير موجودة في كتب قدماء الأصحاب، وإنّما رواها المتأخّرون نقلًا عن عوالي اللئالي، وقد تصدّى للقدح عليه من ليس من عادته القدح في كتب الأخبار كصاحب الحدائق رحمه الله.

الرواية الثانية: هى المرسلة المحكيّة عن كتاب الغوالي أيضاً عن أمير المؤمنين عليه السلام إنّه قال: «ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه» «4».

الرواية الثالثة: هى المرسلة المنقولة عن كتاب الغوالي أيضاً عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: «الميسور لا يسقط بالمعسور» «5».

وهاتان العلويتان أيضاً لا يخفى الإشكال فيهما من ناحية السند من جهة الارسال.

نعم لا يبعد أن يقال بإنجبار ضعفها (أي ضعف كلّ واحدة من الثلاثة) بعمل المشهور،

انوار الأصول، ج 3، ص: 174

ولكن إستشكل فيه في مصباح الاصول صغرى وكبرى:

أمّا الصغرى فبعدم ثبوت استناد الأصحاب عليها في مقام العمل، وأنّ مجرّد موافقة فتوى الأصحاب لخبر ضعيف لا يوجب الإنجبار ما لم يثبت استنادهم عليه.

وأمّا الكبرى فبأنّه لو سلّمنا صغرى الاستناد إلّاأنّه لا يوجب الجبر بعد كون الخبر في نفسه ضعيفاً غير داخل في موضوع الحجّية (لأنّه من قبيل ضمّ

اللّاحجّة إلى اللّاحجّة، أي ضمّ العدم إلى العدم كما مرّ في محلّه) «1».

ويرد عليه ما مرّ أيضاً في محلّه من أنّ الميزان في اعتبار السند الوثوق بالرواية لا الوثوق بالراوي، واستناد المشهور إلى رواية يوجب الوثوق بها، وتمام الكلام في محلّه، هذا بالنسبة إلى الكبرى.

وأمّا الصغرى فيردّها أنّه إذا أفتى المشهور بشي ء ولم تكن فيما بين أيديهم إلّارواية أو روايات معيّنة فإنّ ظاهر الحال استنادهم إليها في إثبات الحكم بعد ما علمنا بأنّ عادة قدماء الأصحاب رضوان اللَّه تعالى عليهم كانت على ذكر الفتاوي وحذف الأدلّة.

هذا كلّه بالنسبة إلى السند.

أمّا الدلالة فالمحتملات في الرواية الاولى أربعة بناءً على كون النسخة «فأتوا منه»:

الأوّل: أن تكون كلمة «من» تبعيضية بحسب الأجزاء، ويكون المعنى «إذا أمرتكم بشي ء فأتوا من أجزائه ما استطعتم» وهذا هو المطلوب في المقام.

الثاني: أن تكون كلمة «من» تبعيضية ولكن بحسب الأفراد، والمعنى حينئذٍ «فأتوا من افراده ما استطعتم» وهذا خارج عن البحث في ما نحن فيه ولا ينفعنا في المقصود، لأنّ الكلام في الميسور من الأجزاء لا الأفراد.

ويشهد لهذا الاحتمال رواية عكاشة»

حيث إنّ سؤاله فيها بقوله: «أكلّ عام يارسول اللَّه» إنّما يكون عن وجوب الحجّ في كلّ سنة فسؤاله عن الأفراد لا الاجزاء.

الثالث: أن تكون كلمة «من» للتعدية بمعنى الباء فيكون قوله صلى الله عليه و آله «فأتوا به» نظير قولك انوار الأصول، ج 3، ص: 175

«أتى به» أو «يأتون به» والمعنى حينئذٍ «فأتوا بالعمل ما استطعتم» والمقصود منه تكرار العمل بقدر الاستطاعة وتكون الرواية ناظرة حينئذٍ إلى الأفراد أيضاً.

الرابع: ما ذكره في مصباح الاصول من أن تكون كلمة «من» بيانية وكلمة «ما» موصولة فيكون حاصل المعنى: إنّه إذا أمرتكم بطبيعة فأتوا ما استطعتم من

أفرادها «1».

هذه هى الاحتمالات المتصوّرة في الرواية، ولا يخفى أنّ الاحتمال الأخير ممّا لا وجه له ولا معنى محصّل له، لأنّه لا معنى لأن يكون الضمير (في كلمة «منه») بياناً لكلمة «ما الموصولة» فإنّ الضمير لا يكون بياناً بل يحتاج إلى البيان.

وأمّا الاحتمالات الثلاثة الاخر فالمفيد بالمقصود (كما مرّ) إنّما هو الاحتمال الثاني، ولكنّه لا يناسب مورد الرواية كما قلنا.

نعم يمكن أن يقال: إنّ كلمة «شي ء» في الرواية مطلق يشمل كلّ ما يكون ذات أجزاء سواء كانت مستقلّة كما في صيام رمضان أو غير مستقلّة كما في أجزاء الصّلاة.

وإن شئت قلت: يتصوّر الجزء في الطبيعة ذات الأفراد كما يتصوّر في المركّب ذات الأجزاء، حيث إنّ الفرد بعض من الطبيعة وفي الحقيقة جزء منها، وحينئذٍ مقتضى هذا الاطلاق وجوب الإتيان بالباقي في كلا الموردين، ولا تضرّنا خصوصيّة المورد لأنّ المورد لا يخصّص.

هذا بالنظر إلى كلمة «من»، وأمّا بالنسبة إلى كلمة «ما» فحيث إنّه يتحمّل أن تكون موصولة ومفعولًا لقوله: «فأتوا»، أي فأتوا منه شيئاً استطعتم، ويحتمل أن تكون مصدريّة زمانيّة، والمعنى حينئذٍ: فأتوا به ما دمتم قادرين أو ما دمتم على الاستطاعة، فلا يمكن الاستدلال بالرواية على المطلوب لإجمالها حينئذٍ.

والوجه في ذلك أنّه يتعيّن الاحتمال الثاني بناءً على نسخة النسائي والبحار، أي نسخة «فأتوا به» (فيكون حاصل المعنى حينئذٍ خذوا به ما دمتم على الاستطاعة) لأنّ مفعول «فأتوا به» إنّما هو كلمة «به» ولا يمكن أن تكون كلمة «ما» مفعولًا آخر له حتّى تكون موصولة، كما يتعيّن الاحتمال الأوّل بناءً على النسخة الاخرى أي نسخة «فأتوا منه» لأنّ «ما» حينئذٍ يكون انوار الأصول، ج 3، ص: 176

مفعولًا لقوله «فأتوا» ولا يمكن أن تكون مصدريّة زمانيّة كما لا

يخفى، وحيث إنّ نسخ الحديث مختلفة فيصير مجملًا لا يمكن الاستدلال به.

هذا مضافاً إلى أنّ التمسّك بهذا الحديث لإثبات مطلوبيّة الباقي يستبطن الدور المحال، لأنّ كون الأجزاء الباقية مقدورة ومستطاعة للمكلّف شرعاً متوقّف على كونها واجدة للملاك، وهذا في المركّبات الشرعيّة لا يحرز إلّابتعلّق الأمر بالباقي وإحراز تعدّد المطلوب من قبل، ولا أمر في البين إلّانفس الأمر الوارد في هذا الحديث، فكون الباقي مقدوراً متوقّف على تعلّق أمر به، وتعلّق الأمر به أيضاً متوقّف على كونه مقدوراً من قبل، وهذا دور محال، ولا مناصّ عنه إلّابإحراز تعدّد المطلوب من قبل، وحينئذٍ يكون الحديث مؤكّداً لحكم العقل، وليس فيه تعبّد شرعي.

ثمّ إنّه لا إشكال في شمول هذا الحديث للتكاليف المستحبّة والواجبة معاً، فيكون الأمر الوارد فيه وهو قوله صلى الله عليه و آله: «فأتوا» مستعملًا في الجامع بين الوجوب والاستحباب، ففي مورد الوجوب يكون المأمور به الإتيان بقدر الاستطاعة وجوباً، وفي مورد الاستحباب يكون المأمور به الإتيان بقدر الاستطاعة إستحباباً، ولا ضير في كون مورد الحديث من المستحبّات لأنّ ذيله من قبيل الكبرى الكلّية التي لا تخصّصها خصوصية المورد، واستعمال الأمر في الجامع لا ينافي المطلوب لأنّ ظاهر الحديث إنّ حكم الميسور في كلّ من الواجب والمستحبّ حكم أصله.

هذا كلّه بالنسبة إلى دلالة الرواية الاولى.

وأمّا الرواية الثانية وهى قوله صلى الله عليه و آله: «الميسور لا يسقط بالمعسور» فتقريب الاستدلال بها واضح، لكن يرد عليه:

أوّلًا: بمثل ما اورد على الحديث الأوّل من أنّ كلمة «الميسور» مردّد بين الميسور من الأفراد والميسور من الأجزاء، فلا يمكن الاستدلال به، لكونه خارجاً عن محلّ الكلام على أحد الاحتمالين.

لكن يمكن الجواب عن هذا بما مرّ نظيره في الحديث الأوّل، وهو

اطلاق كلمة «الميسور»

انوار الأصول، ج 3، ص: 177

المحلّى بلام الجنس، مضافاً إلى أنّ إشكال خصوصيّة المورد (أفراد الحجّ) لا موضوع له في هذا الحديث.

وثانياً: بأنّ المجموع من الاجزاء واجبة بوجوب استقلالي، والباقي من الأجزاء واجب بوجوب ضمني، وليس الواجب بالوجوب الضمني ميسوراً للواجب بالوجوب الاستقلالي، فيتعيّن أن يكون هذا الحديث مختصّاً بالميسور من الأفراد ولا يشمل الميسور من الأجزاء.

والجواب عنه: إنّ هذا نوع مغالطة، لأنّ الميسور والمعسور ليسا من أوصاف الوجوب حتّى يتصوّر فيهما الضمنيّة والاستقلاليّة بل إنّهما من أوصاف الواجب، ولا إشكال في أنّ تسعة الأجزاء ميسورة للعشرة عرفاً.

وثالثاً: بأنّه لا إشكال في اطلاق الحديث وشموله للمستحبّات، فلم يستعمل النفي أو النهي الوارد فيه (وهو قوله صلى الله عليه و آله: «لا يسقط») إلّافي الجامع بين الوجوب والاستحباب، وحيث إنّه لا مرجّح لأحدهما على الآخر فلا يستفاد من الحديث إلّارجحان الإتيان بما هو الميسور لا وجوبه.

والجواب عنه: أنّ قوله صلى الله عليه و آله: «لا يسقط» وإن استعمل في القدر الجامع إلّاأنّه لا يقتضي مجرّد رجحان الإتيان بالميسور في جميع الموارد بل ظاهره أن تكون مطلوبيّة الإتيان في كلّ مورد بحسبه ففي مورد الوجوب بنحو الوجوب، وفي مورد الاستحباب بنحو الاستحباب، أي لا يسقط الميسور من الواجب وجوباً ولا يسقط الميسور من المستحبّ استحباباً كما مرّ آنفاً.

ورابعاً: بأنّ التمسّك بهذا الحديث لوجوب الميسور من الأجزاء يستبطن الدور المحال كما مرّ نظيره في الحديث الأوّل.

أقول: هذا الإشكال وارد على الاستدلال بهذا الحديث كما كان وارداً على سابقه، ولا مناصّ عنه إلّابإحراز تعدّد المطلوب في المركّبات الشرعيّة من قبل، وحينئذٍ يكون مؤكّداً لحكم العقل، فليس في الحديث تعبّد شرعي حينئذ كما مرّ.

وخامساً: بما ذكره في مصباح الاصول

من «أنّ السقوط فرع الثبوت وعليه فالرواية مختصّة بتعذّر بعض أفراد الطبيعة باعتبار أنّ غير المتعذّر منها كان وجوبه ثابتاً قبل طروّ التعذّر، فيصدق إنّه لا يسقط بتعذّر غيره، بخلاف بعض أجزاء المركّب، فإنّه كان واجباً بوجوب ضمني قد سقط بتعذّر المركّب من حيث المجموع فلو ثبت وجوبه بعد ذلك فهو

انوار الأصول، ج 3، ص: 178

وجوب استقلالي وهو حادث، فلا معنى للإخبار عن عدم سقوطه بتعذّر غيره، وكذلك الحال في المرتبة النازلة فإنّ وجوبها لو ثبت بعد تعذّر المرتبة العالية لكان وجوباً حادثاً جديداً لا يصحّ التعبير عنه بعدم السقوط، فإرادة معنى عام من الرواية شامل لموارد تعذّر بعض الأفراد، وموارد تعذّر بعض الأجزاء وموارد تعذّر المرتبة العالية تحتاج إلى عناية لا يصار إليها إلّا بالقرينة» «1».

أقول: ليس هذا إلّادقّة عقليّة في مسألة عرفيّة لا يعتني بها أهل العرف، حيث إنّ المرتبة النازلة تعدّ عند العرف ميسورة من المرتبة العالية، وتكون تسعة أجزاء مثلًا تابعة وبقية لعشرة أجزاء في نظره، لا أمراً حادثاً بعدها حتّى يكون وجوبها أيضاً وجوباً حادثاً جديداً فلا يصحّ التعبير عنه بعدم السقوط.

فتلخّص من جميع ما ذكرناه أنّ الوارد من هذه الوجوه هو الوجه الرابع، وعليه لا يتمّ الاستدلال بهذا الحديث في المقام.

أمّا الرواية الثالثة: وهى قوله عليه السلام: «ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه» فيرد على الاستدلال بها في ما نحن فيه إثنان من الإشكالات الخمسة الواردة على الرواية السابقة:

أحدهما: إجمال كلمة «كلّ» ودورانه بين المجموع بحسب الأفراد والمجموع بحسب الأجزاء.

والجواب عنه هو الجواب، وهو اطلاق ما الموصولة الواردة في الحديث، مضافاً إلى أنّ ظهور كلمة «كلّه» في الأجزاء أشدّ من ظهوره في الأفراد كما لا يخفى.

الثاني: إجمال قوله عليه

السلام: «لا يترك» ودورانه بين إرادة الوجوب بالخصوص وإردة الأعمّ من الوجوب والندب، فلا يمكن الاستدلال بها لأنّه بناءً على الاحتمال الثاني لا يستفاد منها وجوب الإتيان بالباقي.

والجواب عنه أيضاً هو الجواب، وهو أنّ ظاهر الحديث كون حكم ما لا يترك في كلّ من انوار الأصول، ج 3، ص: 179

الواجب والمستحبّ حكم أصله.

نعم، يرد عليها ما أُورد على الروايتين السابقتين، وهو لزوم إحراز تعدّد المطلوب من قبل، ومعه تكون الرواية مؤكّدة لحكم العقل، وليس فيها تعبّد شرعي.

وإن شئت قلت: أنّ قاعدة الميسور قاعدة عقلائيّة يعمل به العقلاء في ما إذا علم تعدّد المطلوب (أي مطلوبيّة الباقي مضافاً إلى مطلوبية المجموع) من قبل فتكون جميع الروايات ناظرة إليها، وليس فيها تعبّد شرعي.

هذا كلّه في مدلول أحاديث الباب.

وأمّا بناء العقلاء فقد مرّ بيانه في تفسير الأحاديث، وحاصله أنّه إذا كان هناك مطلوب له درجات مختلفة يستقلّ بعضها عن بعض، أو كان هناك مطلوبات مختلفة تترتّب مجموعها على مجموع أجزاء المركّب وبعضها على بعض، فلا يشكّ أحد في وجوب الأجزاء التي يترتّب عليها بعض مراتب المطلوب أو بعض المطلوبات المختلفة، ولا يزال العقلاء من أهل العرف يعبّرون في هذه الموارد بتعبيرات قريبة ممّا ورد في روايات القاعدة، حتّى صار عملهم في بعضها من قبيل ضرب المثل بينهم، ممّا لا يخفى على المتتبّع.

بقي هنا امور:

الأمر الأوّل: قال في مصباح الاصول: «لم يعلم من الأصحاب العمل بقاعدة الميسور إلّا في الصّلاة، وفيها دليل خاصّ دلّ على عدم جواز تركها بحال فلم يعلم استنادهم إلى الرواية المذكورة» «1».

ولكنّه ليس بتامّ لتعرّضهم لها في سائر الأبواب أيضاً، فقد تعرّض لها صاحب الجواهر في باب الوضوء في أحكام الجبيرة (كما وردت أيضاً في الحديث

الوارد في باب الجبيرة، وهو ما

انوار الأصول، ج 3، ص: 180

رواه عبدالأعلى مولى آل سام قال: قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام: عثرت فانقطع ظفري فجعلت على اصبعي مرارة فكيف أصنع بالوضوء؟ قال: «يعرف هذا وأشباهه من كتاب اللَّه عزّوجلّ، قال اللَّه تعالى: ما جعل عليكم في الدين من حرج، امسح عليه» «1»، فإنّ مقتضى قاعدة نفي الحرج وجوب المسح على البشرة وأمّا وجوب المسح على المرارة فليس إلّابقاعدة الميسور كما لا يخفى) ولم يستشكل فيها بعدم عمل الأصحاب لها في غير باب الصّلاة، بل إستشكل فيها بأمر آخر يأتي ذكره في الأمر الثاني، والمتتبّع في كلامه وكلام غيره يجد موارد كثيرة في غير أبواب الصّلاة استندوا فيها إلى هذه القاعدة، وإليك شطر منها:

1- في الجواهر في أحكام الجبائر في ذيل كلام المحقّق (من كان على بعض أعضاء طهارته جبائر فإن أمكنه نزعها أو تكرار الماء عليها حتّى يصل البشرة وجب): «... نعم يمكن أن يقال:

يجتزي به (أي بتكرار الماء إذا حصل منه إصابة من غير تحقّق للجريان الذي بدونه لا يتحقّق الغسل) ويقدّم على المسح على الجبيرة عند تعذّر النزع والغسل، لكونه أقرب إلى المأمور به، أو لأنّ مباشرة الماء للجسد واجبة للأمر بالصبّ ونحوه، والغسل واجب آخر، وتعذّر الثاني لا يسقط الأوّل، إذ لا يترك الميسور بالمعسور، وما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه» «2».

2- وفيه في أحكام الجبائر أيضاً عند نقل كلمات الاستاذ الأكبر في شرح المفاتيح: «ثمّ أيّده بقوله عليه السلام: لا يسقط الميسور بالمعسور» «3».

3- وفيه أيضاً في باب غسل الميّت في ذيل كلام المحقّق رحمه الله (إذا وجد بعض الميّت فإن كان فيه الصدر أو الصدر وحده غسل وكفن وصلّى عليه

ودفن): «فيدلّ على تلك الأحكام الاستصحاب ... وقاعدة عدم سقوط الميسور بالمعسور وما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه» «4».

4- وفيه في باب غسل الميّت أيضاً: «وهل يلحق بالصدر بعضه كما هو قضيّة بعض الأدلّة السابقة من الاستصحاب وعدم سقوط الميسور بالمعسور ...» «5».

انوار الأصول، ج 3، ص: 181

5- وفيه في نفس الباب في مسألة الصّلاة على القطعة ذات العظم: «وكيف كان فيؤيّد ما ذهب إليه الاسكافي بعد الاستصحاب وقاعدة الميسور ...» «1».

6- وفيه في نفس الباب وفي نفس المسألة أيضاً: «فإن لم يكن له عظم إقتصر على لفّه في خرقة ودفنه، وقد يؤيّده ما سمعت من القاعدة السابقة (قاعدة الميسور) لعدم معارضة الإجماع بها هنا» «2».

7- وفيه في نفس الباب في مسألة عدم جواز الاقتصار على أقلّ من الغسلات المذكورة إلّا عند الضرورة: «... وكأنّه لقاعدة الميسور والاستصحاب على بعض الوجوه» «3».

8- وفيه في ذيل كلام المحقّق رحمه الله في كتاب الحجّ (إذا نذر الحجّ ماشياً وجب أن يقوم في مواضع العبور): «لخبر السكوني ... ولأنّ المشي يتضمّن القيام والحركة، ولا يسقط الميسور منهما بالمعسور» «4».

9- وفي كتاب الطهارة لشيخنا الأعظم الأنصاري رحمه الله في أحكام الجبائر حاكياً عن الذكرى: «لو التصق بالجرح خرقة أو قطنة أو نحوهما وأمكن النزع وإيصال الماء حال الطهارة وجب كما في الجبيرة، وإلّا مسح عليه، ولو استفاد بالنزع غسل البعض الصحيح، فالأقرب الوجوب لأنّ الميسور لا يسقط بالمعسور» «5».

10- وفي موضع آخر منه في نفس الباب: «ولو ألصق الحاجب عبثاً أو التصق به اتّفاقاً وتعذّر نزعه فصرّح في الذكرى بإلحاقه بالجبيرة، وهو حسن بناءً على أنّ حكم الجبيرة المتعذّر نزعها مطابق للقاعدة المستفادة من قولهم الميسور لا يسقط بالمعسور

...» «6».

لكن الشيخ رحمه الله إستشكل بعد ذلك في ثبوت القاعدة في مثل المقام لُامور تختصّ به (بالمقام).

انوار الأصول، ج 3، ص: 182

11- وفيه أيضاً: «ثمّ إنّك لتعرف ممّا ذكرنا من حكم الجروح والقروح الكائنة في محلّ الغسل حكم الكائن منها في محلّ المسح فيمسح على الجبيرة مراعياً لكيفية المسح على البشرة، وفي وجوب تكرار الماء حتّى يمسّ البشرة وجه استظهره جامع المقاصد تمسّكاً بقاعدة الميسور لا يسقط بالمعسور» «1».

12- وقال في باب غسل الميّت عند فقد الماء للغسلات الثلاثة: «... فيه إنّ المستفاد من أدلّة عدم سقوط الميسور بالمعسور وجوب إيجاد الجزء المقدور على النحو الذي وجب إيجاده حال إنضمام غير المقدور إليه» «2».

13- وقال في ذلك الباب عند فقد السدر والكافور في توجيه وجوب الغسل بماء القراح ثلاثاً: «... فالأولى التمسّك بأدلّة عدم سقوط الميسور بالمعسور حيث إنّها جارية في المقام عرفاً» «3».

ويتحصّل من جميع ذلك وأشباهه أنّ الاستناد إلى القاعدة في غير أبواب الصّلاة من ناحية أساطين الفنّ مثل صاحب الجواهر وشيخنا الأنصاري والمحقّق الثاني والشهيد رضوان اللَّه عليهم ليس بعزيز.

الأمر الثاني: فيما أورده صاحب الجواهر رحمه الله على القاعدة، وهو: «إنّ الاستدلال بقاعدة الميسور موقوف على الانجبار بفهم الأصحاب، وإلّا لو أخذ بظاهره في سائر التكاليف لأثبت فقهاً جديداً لا يقول به أحد من أصحابنا» «4».

ولعلّ مقصوده من سائر التكاليف مثل الصيام، فإنّه لا يجوز فيه التبعيض لا من ناحية الزمان بحيث يكتفى ببعض اليوم إذا لم يقدر على الصوم في تمامه، ولا من ناحية المفطرات بحيث لو قدر على ترك عشرة منها مثلًا ولكن لم يقدر على ترك اثنين منها وجب عليه أن يتركها (نعم قد يقال في جواز الشرب عند

شدّة العطش بلزوم الاكتفاء بقدر ما يمسك به الرمق، ولكنّه أيضاً غير مسلّم)، ومثل الصّلاة إذا لا يقدر المكلّف إلّاعلى بعض ركعاتها فلا يجوز له الاكتفاء

انوار الأصول، ج 3، ص: 183

به، ومثل الغسل إذا لم يجد الماء لتمام الغسل فلا يجوز أن يكتفي بغسل بعض الأعضاء، استناداً إلى هذه القاعدة، وهكذا الوضوء فيما إذا لم يجد الماء إلّالغسل بعض الأعضاء، وباب الحجّ إذا لم يقدر على بعض الوقوفات أو بعض الطواف، إلى غير ذلك من أشباهها، فلو إكتفينا بجميع ذلك للزم منها فقه جديد لا يلزم به أحد.

إن قلت: ما الوجه في كون المعيار في العمل بهذه القاعدة هو عمل الأصحاب مع أنّها عامّة؟

قلنا: الوجه في ذلك أنّ الأخذ بظاهر القاعدة وبعمومها يستلزم تخصيص الأكثر وهو مستهجن، فيستكشف منه أنّه كان للقاعدة معنى آخر لوجود قرائن خاصّة محفوفة بها لم تصل إلينا، وحينئذٍ لابدّ من الاكتفاء بتطبيقات أصحابنا الأقدمين رضوان اللَّه عليهم، وعليه يكون مصير قاعدة الميسور مصير قاعدة لا ضرر في قلّة فائدتها وسقوط عمومها عن الحجّية إلّافيما عمل به الأصحاب (للزوم هذا المحذور بعينه فيها أيضاً بناءً على العمل بعمومها، وذلك لخروج مثل باب الحجّ والزكاة والجهاد وأبواب الحدود وغيرها من الواجبات المشتملة على الضرر).

أقول: الإنصاف أنّه من المستبعد جدّاً وجود قرائن خاصّة محفوفة بخبر الميسور (وكذلك خبر لا ضرر) لم تصل إلينا، والذي أوجب اختيار مثل صاحب الجواهر رحمه الله هذه الفرضيّة أنّه لم يتمكّنوا من حلّ مشكلة التخصيص بالأكثر، ولكن الصحيح عدم لزوم هذه المشكلة لا في باب قاعدة لا ضرر ولا في المقام.

أمّا في الأوّل فلعدم كون ما يتوهّم شموله على الضرر ضررياً فإنّ مثل الزكاة والجهاد ممّا يتوقّف عليه حفظ

نظام المجتمع، ومصلحة العامّة من الأمن والأمان، وإيجاد الطرق وتهيئة رجال الأمن والجنود، والحجّ عزّ للإسلام يوجب شوكة المسلمين، وهكذا غيرها من الواجبات التي مصالحها ومنافعها أكثر من المصارف المالية والجهود البدنية، فيحكم العقل قطعاً بعد كسر وإنكسار بعدم كونها ضرريّة، ولذا قد نشاهد نظائرها بين العقلاء من أهل العرف، كأخذ الضرائب والمكوس لحفظ نظام المجتمع.

وأمّا قاعدة الميسور فلما مرّ من أنّها لا تدلّ على أكثر ممّا هو ثابت بين العقلاء، وناظرة إلى إمضاء القاعدة الموجودة عندهم فيما ثبت فيه تعدّد المطلوب والملاك، فإنّهم يتمسّكون بها فيما إذا ثبت من الخارج أنّ العمل الفلاني اشتمل على ملاكات مختلفة بين ناقص وتامّ، بعد تعذّر

انوار الأصول، ج 3، ص: 184

شي ء منها، والأمثلة المذكورة في توضيح كلام صاحب الجواهر ممّا لم يثبت فيه تعدّد المطلوب فليست مشمولة للقاعدة حتّى يلزم من إخراجها تخصيص الأكثر.

والشاهد على هذا ما ورد في كلام أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة: «ولو أقام لأخذنا ميسوره» «1» حيث إنّ الخطبة وردت فيمن ابتاع سبي بني ناجية من عامل أمير المؤمنين عليه السلام وأعتقهم، فلمّا طالبه بالمال خان به وهرب إلى الشام، فيكون المورد من الامور المالية التي لا إشكال في كون الملاك فيها متعدّداً.

الأمر الثالث: قد يقال: إنّ جريان قاعدة الميسور يتوقّف على أن يصدق ميسور الطبيعة على الباقي عرفاً، ويستدلّ له بأنّه المستفاد من قوله (ع): «الميسور لا يسقط بالمعسور» بدعوى «أنّه يحتمل في بادي النظر وجوهاً أربعة: الأوّل: أنّ ميسور الطبيعة لا يسقط بمعسورها.

الثاني: أنّ الاجزاء الميسورة من الطبيعة لا يسقط بالمعسور من اجزائها. الثالث: أنّ الطبيعة الميسورة لا يسقط بالمعسور من أجزائها. الرابع: عكس الثالث، فعلى الأوّل والثالث يدلّ على المقصود

وأنّه لابدّ أن يكون المأتي به صادقاً عليه الطبيعة بوجه من الوجوه، ولا يبعد أظهريّة الاحتمال الأوّل، ويمكن أن يقال: المتيقّن من الحديث هو ميسور الطبيعة المأمور بها» «2».

أقول: إنّ وحدة السياق تقتضي كون المراد من المعسور نفس ما اريد من الميسور، فيسقط حينئذٍ الاحتمال الثالث والرابع، ويدور الأمر بين الاحتمالين الأوّلين، والأقرب منهما هو الأوّل كما مرّ، وهو يقتضي صدق عنوان ميسور الطبيعة عرفاً على الباقي، ولكن لا يبقى موضوع لهذه الدعوى مع ما مرّ من أنّ الملاك إحراز تعدّد المطلوب، وإنّ بناء العقلاء على الإتيان بالميسور فيما إذا أحرز تعدّد المطلوب، سواء صدق على الباقي أنّه ميسور الطبيعة أم أنّه بعضها.

إلى هنا تمّ الكلام في قاعدة الميسور.

انوار الأصول، ج 3، ص: 185

بقي هنا شي ء:

وهو ما ذكره المحقّق الخراساني رحمه الله في ذيل البحث عن الأقل والأكثر الارتباطيين من أنّه إذا دار الأمر بين جزئيّة شي ء أو شرطيّته، وبين مانعيته أو قاطعيته لكان من قبيل المتباينين ولا يكاد يكون من الدوران بين المحذورين، فيكون الواجب الاحتياط (خلافاً لما ربّما يظهر من الشيخ الأنصاري رحمه الله من كونه من الدوران بين المحذورين، وأنّ الأقوى فيه هو التخيير).

أقول: الفرق بين المانع والقاطع أنّ الأوّل يمنع عن تأثير المقتضي فيقابل الشرط الذي يكمّل اقتضاء المقتضي، ويوجب إتمام تأثيره، وأمّا الثاني فهو ما يتخلّل بين الأجزاء ويقطع المقتضي، فهو يمنع عن وجود المقتضي، بينما الأوّل يمنع عن تأثيره بعد وجوده.

وكيف كان، الحقّ مع المحقّق الخراساني رحمه الله، أي يكون المقام من قبيل دوران الأمر بين المتباينين، لأنّ دوران الأمر بين المحذورين يتصوّر بالنسبة إلى العمل الواحد، وفي ما نحن فيه يمكن إتيان العمل مرّتين، أي تكرار العبادة بقصد الرجاء،

وفعلها تارةً مع ذلك الشي ء المشكوك، واخرى بدونه.

إلى هنا تمّ البحث عن المقام الثاني من المقامات الثلاثة لمبحث الاشتغال (وهو دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين.

المقام الثالث: في دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الاستقلاليين

الظاهر قيام الإجماع على البراءة عن الأكثر فيه، ووجهه واضح، لرجوعه إلى الشبهة البدويّة بالنسبة إلى الأكثر، كما إذا دار الأمر في الصلوات الفائتة بين عشر صلوات وخمس عشرة، (هذا في الشبهة الموضوعيّة)، وكما إذا علمنا بفوات عدّة صلوات يوميّة وغيرها كصلاة الآيات، وشككنا في وجوب قضاء غير اليومية (وهذا في الشبهة الحكميّة) فتجري البراءة بالنسبة إلى خمس صلوات في المثال الأوّل وبالنسبة إلى غير اليومية في المثال الثاني.

نعم، إذا كان في البين أصل موضوعي يوجب ارتفاع موضوع البراءة فلا إشكال في تقدّمه عليها وعدم الحاجة إلى جريانها، كما إذا علمنا بفوات الصّلاة في يومين، وشككنا في فواتها في يوم ثالث، فتجري حينئذ أصالة عدم الإتيان (استصحاب عدم الإتيان) ويثبت انوار الأصول، ج 3، ص: 186

بذلك فوت الصّلاة الموضوع لوجوب القضاء، بناءً على أنّ القضاء بأمر جديد، وموضوعه عنوان الفوت، (وبناءً على كون الفوت أمراً عدميّاً يساوق عدم الإتيان، لا ما إذا كان من قبيل عدم الملكة فيكون الأصل مثبتاً، وتوضيح الكلام في محلّه).

ثمّ إنّ المحقّق النائيني رحمه الله قد تفطّن في المقام إلى جريان هذا القسم من الدوران في الشبهات التحريميّة أيضاً (ونعم ما تفطّن به) ومثّل له بتردّد الغناء بين أن يكون هو مطلق ترجيع الصوت أو بقيد كونه مطرباً، وقال: «الظاهر أن تكون الشبهات التحريميّة على عكس الشبهات الوجوبيّة، فإنّه في الشبهات الوجوبيّة يكون الأقل متيقّن الوجوب والأكثر مشكوكاً، وفي الشبهات التحريميّة الأكثر متيقّن الحرمة (وهو في المثال ترجيع الصوت المطرب) والأقل مشكوكاً (وهو في المثال الترجيع

بلا طرب) والأقوى جريان البراءة عن حرمة الأقلّ مطلقاً، الأقلّ سواء كانت الشبهة حكميّة (كما في المثال) أو موضوعيّة (كما إذا شككنا في كون الصوت الفلاني مطرباً أو غير مطرب؟) ... وسواء كان الأقلّ والأكثر من الارتباطيين أو غيره «1».

هذا تمام الكلام في أصالة الإشتغال، والحمد للَّه أوّلًا وآخراً.

انوار الأصول، ج 3، ص: 187

خاتمة في شرائط جريان الاصول المقام الأوّل: في شرائط جريان أصالة الاحتياط

المقام الثاني: في شرائط جريان سائر الاصول:

1- شرائط الإجراء بالنسبة إلى الشبهة الحكميّة

2- شرائط الإجراء بالنسبة إلى الشبهة الموضوعيّة

الكلام في الجاهل المقصّر

كلام الفاضل التوني في المقام الكلام في قاعدة لا ضرر

انوار الأصول، ج 3، ص: 189

خاتمة في شرائط جريان الاصول
مقدّمة:
اشارة

كان ينبغي ذكر هذا البحث بعد الفراغ من مبحث الاستصحاب لأنّه يعمّ شرائط جريان الاستصحاب أيضاً، والبحث عن شرائط جريانه قبل بيان أدلّته مخالف للترتيب المنطقي في البحث كما لا يخفى.

ثمّ إنّه جاء في بعض شروح الكفاية: أنّ شرائط جريان الاصول على قسمين: قسم منها شرط لأصل الجريان، وقسم آخر شرط للعمل بها، وتمثّل للأوّل بالفحص عن الأدلّة الاجتهاديّة في جريان البراءة العقليّة، حيث إنّه بدون الفحص عنها لا يتحقّق موضوع عدم البيان، وتمثّل للثاني بالفحص عن الدليل الاجتهادي أيضاً بالنسبة إلى جريان البراءة الشرعيّة، لأنّ موضوعها إنّما هو الشكّ، وهو صادق قبل الفحص أيضاً، فليس الفحص شرطاً لجريانها، بل إنّها تجري قبل الفحص ولكن العمل بها متوقّف على تحقّق الفحص.

أقول: ليس لهذا التفصيل وجه وجيه، لأنّ كلّ ما يكون شرطاً للعمل بالاصول شرط لجريانها أيضاً، وكذلك العكس، فإنّ البراءة الشرعيّة وإن كان الدليل فيها لفظيّاً فيمكن أن يقال بإطلاقه، لكن بما أنّ حجّية الأدلّة اللفظيّة متوقّفة على حجّية الظهور، والدليل على حجّية الظهور إنّما هو بناء العقلاء،

فلا إشكال في أنّ بناءهم لم يستقرّ إلّاعلى حجّيتها بعد الفحص بالنسبة إلى المولى الذي ديدنه بيان أحكامه تدريجاً.

وإن شئت قلت: اطلاق هذه الأدلّة منصرف إلى ما بعد الفحص.

إذا عرفت هذا فاعلم: أنّ البحث يقع في مقامين:

المقام الأوّل: في شرائط جريان أصالة الاحتياط.

فحاصل كلام المحقّق الخراساني رحمه الله فيه: أنّه لا يعتبر في حسن الاحتياط شي ء أصلًا بل هو حسن على كلّ حال، إلّاإذا كان موجباً لاختلال النظام، ولا تفاوت فيه بين المعاملات والعبادات مطلقاً ولو كان موجباً للتكرار فيها.

إن قلت: التكرار عبث لا يترتّب عليه غرض عقلائي ولعب بأمر المولى، وهو ينافي قصد الامتثال المعتبر في العبادة.

قلنا: أمّا العبثية فلا تصلح لأن تكون مانعة عن حسن الاحتياط المستلزم لتكرار العبادة لكونها أخصّ من المدّعى، لإمكان نشوء التكرار عن غرض عقلائي، كما إذا كان في تحصيل العلم التفصيلي بالامتثال مشقّة وكلفة أو بذل مال وذلّ سؤال.

وأمّا كونه لعباً بأمر المولى ومنافياً مع قصد الامتثال، ففيه: إنّ مناط القربة المعتبرة في العبادة هو إتيان الفعل بداعي أمر المولى بحيث لا يكون له داعٍ سواه، فلو أتى بهذا الداعي فقد أدّى وظيفته وإن لم يكن التكرار ناشئاً من غرض عقلائي وكان لاعباً في كيفية الإمتثال، لأنّ المنافي إنّما هو اللعب في أصل الامتثال لا في كيفيته (انتهى).

أقول: أوّلًا: إنّ محلّ البحث في المقام إنّما هو الاحتياط الواجب لا المستحبّ، ومجرّد الحسن لا يكون دليلًا على وجوبه.

ثانياً: إنّ إشكال التكرار ليس منحصراً في اللغويّة، بل من الإشكالات دعوى الإجماع على حرمة التكرار، خصوصاً بعد ملاحظة عدم كونه مأنوساً في الشرع المقدّس باستثناء موارد شاذّة، مثل إذا اشتبهت القبلة بين الجهات الأربع، والمعروف فيها تكرار الصّلاة إلى الجهات الأربع، وإن كان المختار فيها أيضاً

عدم وجوب التكرار.

ومن الإشكالات عدم تحقّق قصد الوجه وقصد التميّز، وإن كان المختار عدم وجوبهما أيضاً.

وثالثاً: لا فرق بين اللعب في الكيفية واللعب في أصل العمل لاتّحادهما خارجاً كما لا يخفى، والاتّحاد يوجب سراية القبح من أحدهما إلى الآخر.

ورابعاً: أنّه لا دليل على حسن الاحتياط مطلقاً حتّى فيما إذا قامت أمارة على الترخيص انوار الأصول، ج 3، ص: 191

(كما مرّ)، بل لعلّ الدليل على الخلاف، حيث إنّ ديدن الأئمّة وسيرة أصحابهم على العمل بالأمارات الترخيصيّة وترك الاحتياط فيها ولو لم يلزم منه اختلال النظام، فكانوا عليهم السلام يستجيبون دعوة المؤمنين مع وجود احتمال الشبهة في بيوتهم وأموالهم وطعامهم، ويدخلون في أسواقهم ويشترون ويأخذون ما في أيديهم مع وجود الشبهة فيها أيضاً.

إن قلت: فما هو مورد الأخبار الدالّة على حسن الاحتياط؟

قلنا: لابدّ من حملها على غير موارد قيام الأمارات الترخيصيّة، أو عليها ولكن فيما إذا حصلت التهمة والظنّ القوي بالحرمة.

وبالجملة: تحقيق البحث في المقام يستدعي لزوم ملاحظة موارد وجوب الاحتياط ثمّ البحث عن شرائط الاحتياط في كلّ واحد منها، وقد ظهر ممّا مرّ سابقاً أنّها ثلاثة:

أحدها: الشبهات الحكميّة قبل الفحص.

الثاني: أطراف العلم الإجمالي.

الثالث: موارد اليقين بالاشتغال الذي يقتضي البراءة اليقينيّة.

أمّا المورد الأوّل: فلا إشكال في وجوب الاحتياط فيه من دون شرط، وسيأتي البحث عنه في بيان شرائط جريان أصالة البراءة.

وأمّا المورد الثاني: فهو مشروط بشرائط مرّ ذكرها: منها: أن تكون الشبهة محصورة، ومنها: كون تمام الأطراف محلًا للابتلاء، ومنها: عدم كون واحد من الأطراف مضطرّاً إليه.

وأمّا المورد الثالث: فلا إشكال أيضاً في وجوب الاحتياط فيه بلا شرط. إلّاإذا أوجب طروّ عنوان ثانوي من قبيل العسر والحرج.

ثمّ إنّه هل يجوز العمل بالاحتياط وترك الاجتهاد والتقليد؟

وهذا تارةً يبحث عنه

في مباحث العلم الإجمالي (أي الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي) واخرى في ما نحن فيه (أي مطلق الاحتياط).

والأقوال فيه ثلاثة:

1- ما ذهب إليه المشهور، وهو عدم الجواز مع إمكان الاجتهاد أو التقليد.

انوار الأصول، ج 3، ص: 192

2- ما ذهب إليه المتأخّرون، وهو الجواز مطلقاً.

3- التفصيل بين ما يستلزم التكرار فلا يجوز الاحتياط فيه من دون الاجتهاد أو التقليد، وبين ما لا يستلزم التكرار فيجوز.

واستدلّ القائلون بالجواز مطلقاً بامور:

منها: قوله تعالى في آية النفر أو آية السؤال الذي ظاهره وجوب تحصيل العلم أو وجوب السؤال.

وفيه: أنّ وجوب تحصيل العلم أو وجوب السؤال طريقي لا دليل على كونه نفسيّاً إلّافي باب اصول الدين، حيث لابدّ فيه من تحصيل العلم التفصيلي ولا يمكن فيه الجمع بين الأديان المختلفة، لأنّ الموضوع فيه هو العقد القلبي والاعتقاد، وهو لا يحصل إلّابالعلم التفصيلي.

ومنها: وجوب نيّة الوجه.

وفيه: ما مرّ سابقاً من أنّه لا دليل عليه، مضافاً إلى حصولها في المقام لأنّ قصد الوجه غير الجزم بالوجه.

ومنها: الإجماع الذي مرّ بيانه في مباحث القطع في سؤال السيّد الرضي عن أخيه السيّد المرتضى صلى الله عليه و سلم في مسألة القصر والإتمام بقوله: «الإجماع قائم على أنّ من صلّى صلاة لا يعلم أحكامها فصلاته باطلة» وأجاب السيّد المرتضى رحمه الله بأمر آخر غير المناقشة في تحقّق الإجماع، وظاهره تلقّيه بالقبول.

وفيه: أوّلًا: أنّ الإجماع هنا محتمل المدرك، ولعلّ مدركه نفس الآيتين (آية النفر وآية السؤال) وأشباههما.

وثانياً: لعلّ مورد السؤال والجواب وبالنتيجة معقد الإجماع ما إذا أوجب الجهل فساد العمل لأنّ الصّلاة الرباعية غير الصّلاة الثنائية، ومحلّ البحث في المقام ما إذا لم يأت بالمأمور به رأساً.

ومنها: الدليل العقلي ببيانين:

أحدهما: أنّه لابدّ في كيفية الإطاعة والعمل من

تبعية حكم العقل، والعقل لا يرى عمل المحتاط القادر على الاجتهاد أو التقليد إطاعة.

ثانيهما: إنّ للإطاعة مراتب أربعة: الإطاعة العمليّة التفصيليّة، الإطاعة الظنّية التفصيليّة

انوار الأصول، ج 3، ص: 193

عن طريق الاجتهاد أو التقليد، والإطاعة العلميّة الإجماليّة، والإطاعة الظنّية الإجماليّة، والعقل حاكم على لزوم رعاية هذه المراتب، فمع إمكان المرتبة العالية من الإطاعة لا يجوز التنزّل إلى المرتبة الدانية، وغير خفيّ أنّ العمل بالاحتياط مع القدرة على الاجتهاد أو التقليد تنزّل من الإطاعة التفصيليّة إلى الإطاعة الإجماليّة.

أقول: الإنصاف أنّ هذا ادّعاء محض، ودعوى بلا دليل، لأنّ المقصود من الإطاعة هو إتيان المأمور به جامعاً للشرائط، وهو حاصل بالاحتياط ولو بتكرار العمل أيضاً، ولما عرفت من عدم اعتبار قصد الوجه والجزم في النيّة، وعدم المنافاة بينه وبين قصد القربة.

نعم لا يخفى أنّ العمل بالاحتياط ليس شيئاً مقدوراً لكلّ أحد بل لابدّ فيه من تشخيص مواضعه وكيفيّة أدائه، فيجب أن يكون المحتاط إمّا من أهل العلم والإطّلاع، أو يسأل منهم، فالطريق الوحيد لغالب الناس هو العمل بالتقليد على فرض عدم الاجتهاد.

هذا كلّه في المقام الأوّل (أي شرائط العمل بأصالة الاحتياط).

المقام الثاني: في شرائط جريان سائر الاصول

فالكلام فيه يقع في موردين:

المورد الأوّل: في شرائط الإجراء بالنسبة إلى الشبهة الحكميّة.

المورد الثاني: في شرائط الإجراء بالنسبة إلى الشبهة الموضوعيّة.

أمّا المورد الأوّل: فبالنسبة إلى أصالة البراءة نقول:

يشترط في جريان البراءة العقليّة التفحّص عن مظانّ أحكام المولى ثمّ إجرائها بعد اليأس عن الضفر بها، لأنّها عبارة عن قاعدة قبح العقاب بلا بيان، والمراد من البيان إنّما هو البيان في مظانّ أداء المقصود الذي به يتحقّق الوصول، حيث إنّه لا يشترط فيه الإبلاغ إلى كلّ أحد، فهو في مثل المعاهد والمنظّمات يتحقّق بنصب الأمر الإداري على لوحة الإعلانات أو إيراده

في جريدة رسميّة، ولا يجوز جريان البراءة إلّابعد الفحص عن تلك اللوحة وهذه الجريدة، وبعبارة اخرى: للمولى وظيفة وللعبد وظيفة اخرى، فوظيفة المولى إنّما هو بيان تكليفه وإبلاغه بنحو متعارف، ووظيفة العبد هو الفحص عن بيان المولى في مظانّه المعلومة.

هذا في البراءة العقليّة، وكذلك فيما إذا قلنا بالبراءة العقلائيّة (كما هو المختار) لأنّ العقلاء أيضاً لا يجرون البراءة ولا يحكمون ببراءة ذمّة العبد إلّابعد فحصه عن مظانّ البيان.

أمّا البراءة الشرعيّة: فحيث إنّ أدلّتها لفظيّة (كحديث الرفع) وهى بظاهرها مطلقة،

انوار الأصول، ج 3، ص: 194

فمقتضى اطلاقها جواز إجراء البراءة ولو قبل الفحص، فلابدّ في رفع اليد عن هذا الاطلاق وتقييده بما بعد الفحص من دليل مقيّد، ولذلك ذكر الأصحاب وجوهاً أربعة للتقييد:

1- الإجماع، لإتّفاق جميع العلماء من الشيعة والسنّة على عدم جواز إجراء البراءة قبل الفحص عن مظان البيان، بل عليه ضرورة الفقه.

فانّك لا تجد فقيهاً إذا سئل عن مسألة شرعيّة يفتي بالبراءة من دون الرجوع إلى الكتاب والسنّة.

وأورد على هذا الوجه بأنّ الإجماع هذا لا أقلّ من كونه محتمل المدرك، فلعلّ منشأه الوجوه الثلاثة الاخر، ولكن قد عرفت أنّ المسألة بلغت فوق حدّ الإجماع، وهو الضرورة، ومن المعلوم أنّه إذا صار الحكم ضرورياً فالواجب الأخذ به من أي طريق كان.

2- حصول العلم الإجمالي لكلّ أحد قبل الأخذ في استعلام المسائل بوجود واجبات ومحرّمات كثيرة في الشريعة، ومعه لا يصحّ التمسّك بأصل البراءة لما تقدّم من أنّ مجراها الشكّ في أصل التكليف لا في المكلّف به مع العلم بالتكليف.

ويرد عليه: أنّ هذا أخصّ من المدّعى، فإنّ المدّعى عدم جواز التمسّك بأصل البراءة حتّى بعد الظفر بمقدار المعلوم بالإجمال في الشبهات البدويّة والمسائل المستحدثة.

3- الآيات والروايات الدالّة على

وجوب تحصيل العلم الذي لازمه وجوب الفحص.

أمّا الآيات فنظير آية السؤال أو النفر حيث تتضمّنان معنى الفحص.

وأمّا الروايات فهى على طائفتين:

الطائفة الاولى: ما تدلّ على وجوب تحصيل العلم وبالتالي على وجوب الفحص بشكل كلّي.

منها: ما رواه مسعدة بن زياد قال سمعت جعفر بن محمّد عليه السلام وقد سئل عن قوله تعالى:

«فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ» فقال: إنّ اللَّه تعالى يقول للعبد يوم القيامة عبدي كنت عالماً؟ فإن قال نعم، قال له: أفلا عملت بما علمت؟ وإن قال: كنت جاهلًا، قال: أفلا تعلّمت حتّى تعمل، فيخصمه فتلك الحجّة البالغة» «1».

ومنها: جلّ الأحاديث الواردة في كتاب فضل العلم من اصول الكافي (في الباب الأوّل) كالحديث المعروف من أنّ «طلب العلم فريضة على كلّ مسلم» الذي يدلّ على وجوب التعلّم انوار الأصول، ج 3، ص: 195

على جمع المكلّفين «1»، كما يدلّ ذيل آية النفر: «وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ» على وجوب التعليم كفائياً.

الطائفة الثانية: روايات خاصّة ووردت في موارد خاصّة تدلّ على وجوب تحصيل العلم ووجوب الفحص، وهى عدّة روايات:

إحديها: ما رواه عبدالرحمن بن الحجّاج قال: سألت أبا الحسن عليه السلام عن رجلين أصابا صيداً وهما محرمان، الجزاء بينهما؟ أو على كلّ واحد منهما جزاء إلى أن قال: «إذا أصبتم مثل هذا فلم تدروا فعليكم بالاحتياط حتّى تسألوا عنه فتعلموا» «2».

ثانيها: ما رواه حمزة بن الطيّار أنّه عرض على أبي عبداللَّه عليه السلام بعض خطب أبيه حتّى إذا بلغ موضعاً منها قال له: كفّ واسكت، ثمّ قال أبو عبداللَّه عليه السلام: «أنّه لا يسعكم فيما ينزل بكم ممّا لا تعلمون إلّاالكفّ عنه والتثبّت والردّ إلى أئمّة الهدى حتّى يحملوكم فيه على القصد ويجلو عنكم فيه العمى، ويعرّفوكم فيه الحقّ قال اللَّه

تعالى: «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ»» «3».

ثالثها: ما رواه أحمد بن الحسن الميثمي عن الرضا عليه السلام في حديث اختلاف الأحاديث قال: «وما لم تجدوه في شي ء من هذه الوجوه فردّوا إلينا علمه، فنحن أولى بذلك، ولا تقولوا فيه بآرائكم، وعليكم بالكفّ والتثبّت والوقوف وأنتم طالبون باحثون حتّى يأتيكم البيان من عندنا» «4».

انوار الأصول، ج 3، ص: 196

رابعها: ما رواه جابر عن أبي جعفر عليه السلام في وصية له لأصحابه قال: «إذا اشتبه الأمر عليكم فقفوا عنده، وردّوه إلينا حتّى نشرح لكم من ذلك ما شرح لنا ...» «1».

خامسها: ما واه عبداللَّه بن جندب عن الرضا عليه السلام في حديث قال: «... بل كان الفرض عليهم والواجب لهم من ذلك الوقوف عند التحيّر وردّ ما جهلوه من ذلك إلى عالمه ومستنبطه لأنّ اللَّه يقول في كتابه: «ولو ردّوه إلى اللَّه وإلى الرسول وإلى اولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم»، يعني آل محمّد وهم الذين يستنبطون منهم القرآن، ويعرفون الحلال والحرام وهم الحجّة للَّه على خلقه» «2».

ويظهر من هذه الروايات وأشباهها إنّ وجوب الفحص عن الشبهات الحكميّة أمر مفرو عنه.

4- لقائل أن يقول: إنّ حديث الرفع وسائر أدلّة البراءة- أساساً- لا تعمّ ما قبل الفحص، لأنّ لازمه الإغراء على الجهل، وبعبارة اخرى: إنّها منصرفة عن موارد القدرة على الفحص وحينئذٍ لا يوجد دليل على البراءة قبل الفحص حتّى يقال بجريانها قبله، فلا نحتاج إلى محاولة إقامة الدليل على وجوبه لتخصيص إطلاقات أدلّة الأحكام بما بعد الفحص بل يكفي مجرّد عدم وجود دليل على البراءة قبله.

وهذا الوجه لا غبار عليه، فتلخّص إلى هنا أنّ دلالة الوجه الرابع والثالث على المقصود تامّة.

بقي هنا شي ء:

وهو مقدار الواجب من الفحص

لا إشكال في

أنّه يختلف باختلاف الأدلّة، فمن اعتمد في المسألة على العلم الإجمالي (وهو الوجه الثاني) وجب عليه الفحص حتّى ينحلّ العلم الإجمالي، ومن اعتمد على الضرورة والإجماع فيأخذ بالقدر المتيقّن لكون الدليل لبّياً حينئذٍ، وإن كان الدليل هو الآيات والروايات فالظاهر منها وجوب الفحص في كلّ شي ء عن مظانّ ذلك الشي ء.

انوار الأصول، ج 3، ص: 197

والذي يمكن أن يقال بعد ملاحظة مجموع الأدلّة أنّه يكفي الفحص عن المخصّصات وشبهها عن مظانّها (ولو انحلّ العلم الإجمالي) كما أشرنا إليه سابقاً، بل هذا هو المعمول بين العقلاء من أهل العرف بالنسبة إلى قوانينهم، وممّا يوجب سهولة الأمر في ذلك أنّ علماءنا المتقدّمين رضوان اللَّه عليهم بذلوا جهدهم في سبيل التحقيق عن الأحاديث الفقهيّة وتبويبها ووضع الجوامع لها، كما أنّ الفقهاء الذين جاؤوا بعد المحدّثين بذلوا الجهد في الفحص عن الأحاديث المرتبطة بكلّ مسألة فقهيّة، وأودعوها في كتبهم الاستدلاليّة، ولذا يمكن الفحص بالمقدار اللازم للفقيه في عصرنا هذا مع بذل جهد قليل، فشكر اللَّه سعيهم وأجزل ثوابهم، وجزاهم عنّا وعن الإسلام خير الجزاء.

هذا تمام الكلام في شرائط جريان أصالة البراءة.

ومنه يظهر الحال في شرائط جريان أصالة التخيير وأصالة الاستصحاب.

أمّا أصالة التخيير فيأتي فيها اعتبار وجوب الفحص الذي هو العمدة من الشرائط لأنّ جميع الوجوه الخمسة المذكورة في أصالة البراءة جارية هنا أيضاً، أمّا الإجماع وضرورة الفقه فلا شبهة في قيامهما على وجوب الفحص عن وجود دليل على الترجيح في دوران الأمر بين الوجوب والحرمة، وكذلك آية السؤال والنفر، لشمولهما موارد الدوران بين المحذورين في الشبهات الحكميّة أيضاً، وهكذا الروايات (وقوله عليه السلام: هلّا تعلّمت وشبهه) والعلم الإجمالي بوجود واجبات ومحرّمات قبل الفحص، وكذلك حكم العقل لأنّ العقل يحكم بالتخيير للمكلّف

المتحيّر، والتحيّر المستقرّ إنّما يحصل بعد الفحص وعدم الظفر بالدليل.

وأمّا أصالة الاستصحاب فلأنّ قوله عليه السلام، لا تنقض اليقين بالشكّ (بناءً على شموله للشبهات الحكميّة أيضاً) منصرف إلى ما بعد الفحص كما لا يخفى.

إلى هنا تمّ البحث عن المورد الأوّل، أي اعتبار الفحص في الشبهات الحكميّة.

الفحص في الشبهات الموضوعيّة:
اشارة

أمّا المورد الثاني (أي شرائط إجراء سائر الاصول بالنسبة إلى الشبهة الموضوعيّة) فالمشهور في كلماتهم عدم الفحص مطلقاً سواء كانت الشبهة وجوبيّة أو تحريميّة، وسواء في البراءة العقليّة أو البراءة النقليّة، بل الشيخ الأعظم الأنصاري رحمه الله صرّح بأنّه ممّا لا خلاف فيه انوار الأصول، ج 3، ص: 198

بالنسبة إلى الشبهات الموضوعيّة التحريميّة، نعم استدلّ المحقّق الخراساني رحمه الله في حاشية الرسائل لوجوب الفحص مطلقاً بالنسبة إلى البراءة العقليّة بأنّ العقل لا استقلال له بالبراءة قبل الفحص في الشبهات الموضوعيّة مطلقاً كما يظهر ذلك من استحقاق المبادر إليه قبله عند العقلاء للّوم والذمّ «1».

والشيخ الأعظم رحمه الله فصّل بين الشبهة الوجوبيّة والتحريميّة، وذهب إلى عدم وجوب الفحص في التحريميّة، واستدلّ له بإطلاق الأخبار مثل قوله عليه السلام: «كلّ شي ء لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام» وقوله عليه السلام: «حتّى يستبين لك غير هذا أو تقوم به البيّنة» وقوله عليه السلام: «حتّى يجيئك شاهدان يشهدان أنّ فيه الميتة» وغير ذلك من الأحاديث السالمة عمّا يصلح لتقييدها.

وأمّا الشبهة الوجوبيّة فقال بالنسبة إليها: إنّ مقتضى أدلّة البراءة حتّى العقل كبعض كلمات العلماء عدم وجوب الفحص أيضاً وهو مقتضى حكم العقلاء في بعض الموارد مثل قول المولى لعبده: «أكرم العلماء أو المؤمنين» فإنّه لا يجب الفحص في المشكوك حاله في المثالين، إلّا أنّه قد يترائى أنّ بناء العقلاء في بعض الموارد على الفحص والاحتياط

كما إذا أمر المولى باحضار علماء البلد أو أطبّائها أو إضافتهم أو إعطاء كلّ واحد منهم ديناراً، فإنّه قد يدّعي أنّ بناءهم على الفحص عن اولئك وعدم الاقتصار على المعلوم ابتداءً مع وجود غيرهم في البلد.

ثمّ نقل من صاحب المعالم رحمه الله ما يظهر منه وجوب الفحص، ومن المحقّق القمّي في القوانين أنّه أيّد ذلك بأنّ الواجبات المشروطة بوجود شي ء إنّما يتوقّف وجوبها على وجود الشرط لا على العلم بوجوده، فبالنسبة إلى العلم مطلق لا مشروط، مثل أنّ من شكّ في كون ماله بمقدار استطاعة الحجّ لعدم علمه بمقدار المال لا يمكنه أن يقول: إنّي لا أعلم أنّي مستطيع ولا يجب عليّ شي ء» بل يجب عليه محاسبة ماله ليعلم أنّه واجد للاستطاعة أو فاقد لها، ونقل من العلّامة في التحرير في باب نصاب الغلات أنّه قال: ولو شكّ في البلوغ ولا مكيال هنا ولا ميزان ولم يوجد سقط الوجوب دون الاستحباب (انتهى) وقال: وظاهره جريان الأصل مع تعذّر الفحص وتحصيل العلم (فلا يجري مع عدم تعذّره).

ثمّ ساق الكلام إلى أن قال: ثمّ الذي يمكن أن يقال في وجوب الفحص أنّه إذا كان العلم انوار الأصول، ج 3، ص: 199

بالموضوع المنوط به التكليف يتوقّف غالباً على الفحص بحيث لو أهمل الفحص لزم الوقوع في مخالفة التكليف كثيراً تعيّن هنا بحكم العقلاء اعتبار الفحص ثمّ العمل بالبراءة كبعض الأمثلة المتقدّمة فإنّ إضافة جميع علماء البلد أو أطبّائهم لا يمكن للشخص الجاهل إلّابالفحص، فإذا حصل العلم ببعض واقتصر على ذلك نافياً لوجوب إضافة ما عداه بأصالة البراءة من غير تفحّص زائد على ما حصل به المعلومين عدّ مستحقّاً للعقاب والملامة عند إنكشاف ترك إضافة من يتمكّن من تحصيل العلم

به بفحص زائد (انتهى كلامه) «1».

أقول: الإنصاف في المسألة هو التفصيل بين موارد الشبهة، فتارةً تكون ممّا أحرز إهتمام الشارع به جدّاً كما في الفروج والدماء وإنقاذ نفوس المؤمنين ونحوها فلا تجري البراءة فيها حتّى بعد الفحص بحدّ اليأس إذا كانت الشبهة باقية على حالها، فإذا احتمل أنّ هذا سمّ قاتل بمجرّد شربه لم يجز شربه ولم تجر البراءة حتّى بعد الفحص إذا بقيت الشبهة على حالها، هذا بالنسبة إلى البراءة النقليّة، وكذلك البراءة العقليّة فإنّها لا تجري في مثل هذه الامور المهمّة بناءً على مبنى المشهور فضلًا عن المبنى المختار من عدم كون قاعدة قبح العقاب بلا بيان قاعدة عقليّة بل العقل يحكم بالاحتياط مطلقاً، وأمّا بناء العقلاء فكذلك، حيث لا إشكال في أنّ بنائهم على الاحتياط في الامور المهمّة، وحينئذٍ لا ريب في أنّه باستكشاف وجوب الاحتياط شرعاً في مثل هذه الامور المهمّة من شدّة اهتمام الشارع بها يقيّد إطلاقات أدلّة البراءة الشرعيّة لو سلّم إطلاقها وعدم إنصرافها عن مثل هذه الامور.

واخرى يكون المورد ممّا يحصل العلم فيه بأدنى فحص ونظر، وبتعبير المحقّق الحائري رحمه الله يكون العلم في كُمّه، فيحصل مثلًا بالمراجعة إلى دفتره الخاصّ ليرى أنّه مديون لزيد مثلًا أو لا فلا إشكال في أنّ بناء العقلاء على وجوب الفحص والمراجعة والتأمّل في مثل هذه الامور، ولا يجوز الأخذ ببراءة الذمّة عند الشكّ من دون مراجعة.

وثالثة يكون المورد المشكوك من الموارد التي تقتضي بماهيّته الفحص والاختبار، فيكون ممّا لا يعلم غالباً إلّابالفحص والمراجعة على نحو كأنّ الأمر به شرعاً مستلزم عرفاً لوجوب الفحص عنه، وإلّا لم يمتثل إلّانادراً، كما في الشكّ في بلوغ المال بحدّ الاستطاعة أو النصاب،

انوار الأصول، ج 3، ص:

200

وكذا في أرباح المكاسب وشبهها، فلا ينبغي الإشكال أيضاً في وجوب الفحص، وقد جرت سيرة العقلاء في أوامرهم ونواهيهم في أمثال هذه الموارد على الفحص أيضاً، ولم يمنع عنه الشارع فلا إشكال أيضاً في وجوب الفحص.

ورابعة يكون المورد من غير الأقسام الثلاثة كما إذا قال مثلًا: أكرم العلماء، أو أطعم الفقراء، فلا إشكال في أنّ إطلاقات أدلّة البراءة في الشبهات الموضوعيّة دالّة على عدم وجوب الفحص كالروايات الواردة في مسألة الجبن وغيرها.

بقي هنا أمران:

الأمر الأوّل: في الجاهل المقصر

ثمّ إنّ هيهنا بحثاً لابدّ من طرحه في المقام وإن كان بحثاً فقهيّاً بحتاً، وهو في حكم من ترك الفحص مع كونه قادراً عليه، وهو يقع في مقامين:

الأوّل: في حكمه التكليفي وإستحقاق العقاب وعدمه.

الثاني: في حكمه الوضعي وصحّة العمل المأتي به وفساده.

أمّا المقام الأوّل: فالأقول فيه أربعة:

الأوّل: (وهو الأقوى والمشهور) أنّه يعاقب على ترك الواقع لا على ترك التعلّم.

الثاني: أنّه يعاقب على ترك التعلّم، وهو المحكي عن المحقق الاردبيلي رحمه الله وصاحب المدارك.

الثالث: أنّه يعاقب على ترك تحصيل العلم الموجب لترك الواقع، وهو المستفاد من كلمات المحقّق النائيني رحمه الله.

الرابع: القول بالتفصيل بين التكاليف المطلقة والتكاليف المشروطة أو الموقتة، ففي الاولى يعاقب على ترك الواقع، وفي الثانية على ترك التعلّم، وهذا يستفاد من بعض كلمات المحقّق الخراساني رحمه الله في الكفاية وإن رجع عنه في بعض تعليقاته عليها.

أقول: لو خلّينا وظواهر الأدلّة فالحقّ مع المشهور، لأنّ ظاهرها طريقيّة وجوب التعلّم، ولا دليل على كونه واجباً نفسيّاً، فالظاهر من قوله تعالى: «لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ» مثلًا أو قوله تعالى: «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ» وجوب التفقّه لأجل الإنذار ثمّ الحذر والعمل، ووجوب السؤال انوار الأصول، ج 3، ص: 201

لأجل التعلّم ثمّ العمل على وفقه أو عقد

القلب عليه إذا كان في اصول الدين.

نعم، هيهنا إشكالات أوجبت الذهاب إلى الأقوال الثلاث الاخر، وعمدتها أمران:

أحدهما: أنّ المفروض كون الجاهل عاجزاً عن العمل في مقام الامتثال فلا معنى لأن يعاقب على ترك ما لم يكن مقدوراً له، نعم أنّه كان قادراً على التعلّم فيعاقب على تركه.

ثانيهما: (بالنسبة إلى خصوص التكاليف المشروطة أو الموقتة) أنّ الواقع في التكاليف المشروطة والموقتة لم ينجز على المكلّف كي يعاقب عليه، إذ لا وجوب قبل تحقّق الشرط وقبل الوقت حتّى تكون المقدّمة (وهى التفحّص والتعلّم) واجبة، وكذلك لا وجوب بعد تحقّق الشرط وبعد دخول الوقت أحياناً لعدم القدرة عليه.

أمّا الجواب عن الأوّل: فهو إنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقاباً ولو كان منافياً له تكليفاً، ففي ما نحن فيه فإن الواقع وإن كان مغفولًا عنه حين المخالفة، وكان خارجاً عن تحت الإختيار، ولكنّه بالنهاية ينتهي إلى الاختيار، وهو ترك التعلّم عمداً حينما التفت إلى تكاليف في الشريعة، كما هو الحال في كلّ مسبّب توليدي خارج عن تحت الاختيار إذا كان منتهياً إلى أمر اختياري، فإذا ألقى مثلًا بنفسه من شاهق فرغم خروجه عن الاختيار بعد ذلك، فيهلك قهراً بلا اختيار عند سقوطه على الأرض، ولكن حيث كان الهلاك نتيجة الإلقاء الذي هو أمر اختياري فيكون مصحّحاً للعقاب على ما ليس بالاختيار.

إن قلت: تكليف العبد العاجز حين العجز بما يكون عاجزاً عنه تكليف بما لا يطاق، وهو قبيح.

قلنا: ليس التكليف هذا تكليفاً بما لا يطاق لأنّه يكون مقدوراً له بالواسطة.

وإن شئت قلت: المعيار في العقاب وعدمه هو صحّة إسناد الترك إلى اختيار المكلّف وعدمها والإسناد (ولو مع الواسطة) صادق صحيح فيما إذا كان سقوط التكليف بسوء الاختيار.

وأمّا الإشكال الثاني فيمكن

الجواب عنه بوجهين:

الوجه الأوّل: ما مرّ في محلّه من إمكان وجوب المقدّمة قبل وجوب ذيها، ولا ينافي هذا كون وجوبها وجوباً ترشحياً لأنّ المراد منه الترشّح بحسب الداعوية في نفس المولى لا الترشّح تكويناً، والأوّل يحصل بمجرّد تصوّر المولى وجوب ذي المقدّمة في المستقبل أيضاً، فهو

انوار الأصول، ج 3، ص: 202

يتصوّر مثلًا وجوب الحجّ في موسم الحجّ ويلاحظ أنّ المكلّف لا يقدر على الإتيان به لو لم يأت بمقدّماته فتترشّح من إرادته بالنسبة إلى الحجّ إرادة اخرى بالنسبة إلى المقدّمات، وهذا أمر معقول ومتداول عند العقلاء فإذا تصوّر إنسان مجي صديقه غداً في داره فنفس هذا التصوّر يوجب حصول إرادته إيجاد مقدّمات الإستقبال من الآن.

الوجه الثاني: ما مرّ أيضاً كراراً من مسألة وجوب حفظ غرض المولى وأنّ العقل يحكم بأنّ أغراض المولى ليست بأقلّ من أغراض العبد في الأهميّة، فكما يلزم العبد نفسه بإتيان مقدّمات تحصيل أغراضه الشخصيّة لابدّ له أن يلزم نفسه بإتيان مقدّمات تحصيل أغراض مولاه ولو في المستقبل وإن لم تحصل الإرادة والوجوب فعلًا.

فمن هذين الطريقين وجبت في الشريعة جميع المقدّمات المفوّتة وإن لم يكن الأمر بذي المقدّمة فعليّاً.

نعم، هيهنا طريقان آخران يمكن المناقشة فيهما:

أحدهما: أنّ الواجب المشروط يرجع إلى الواجب المعلّق الذي يكون الوجوب فيه فعلياً والواجب استقبالياً.

وفيه أوّلًا: أنّه خلاف ظاهر أدلّة الواجبات المشروطة فإنّ ظاهرها أنّ الوجوب استقبالي.

وثانياً: ما ذهب إليه صاحب المدارك والمحقّق الأردبيلي رحمه الله من كون وجوب التعلّم وجوباً نفسيّاً.

وفيه أنّه خلاف الوجدان القطعي فإنّا نعلم علماً قطعيّاً بأنّ أمر المولى بالنسبة إلى التعلّم وإرادته له يكون من أجل ما يترتّب عليه من سائر التكاليف، فهو إرشادي محض لأنّ الحكم المولوي النفسي يحتاج إلى وجود مصلحة في

نفس الشي ء، ومعلوم أنّه لا مصلحة في نفس الفحص إلّاحفظ مصلحة الواقع أو عدم الوقوع في مفسدته بقدر الإمكان، ولا أقلّ من كونه مخالفاً لظواهر أدلّة وجوب تحصيل العلم.

إلى هنا ظهر الحال في القول الأوّل والثاني.

أمّا القول الثالث: (وهو ما ذهب إليه المحقّق النائيني رحمه الله من استحقاقه العقاب على ترك التعلّم والفحص عند مخالفة الواقع لا مطلقاً) فحاصل كلامه: إنّ وجوب التعلّم والفحص انوار الأصول، ج 3، ص: 203

وجوب طريقي (خلافاً لما ذهب إليه المحقّق الأردبيلي وصاحب المدارك صلى الله عليه و سلم من كونه وجوباً نفسياً استقلالياً) وعليه تكون مخالفته موجبة لاستحقاق العقاب على ترك الفحص والتعلّم المؤدّي إلى مخالفة الواقع، وذلك لأنّ وجوبه لأجل حفظ الواقع وطريقيّة التعلّم والفحص إلى إدراك الواقع كوجوب الاحتياط شرعاً في بعض الشبهات البدويّة (كما في باب الفروج والدماء بل الأموال) فالمطلوب بالذات هو الواقع، ومطلوبيّة الاحتياط إنّما هى لأجل الوصول إلى الواقع وحصوله.

إن قلت: إذا كان الأمر كذلك فوجوبه يكون وجوباً غيرياً مقدّمياً ومن قبيل المقدّمات المفوتة على القول بالواجب المعلّق، أو وجوباً عقلياً على القول بعدم إمكانه، فلا يكون العقاب إلّا على مخالفة الواقع لا على ترك التعلّم عند مخالفة الواقع.

قلنا: إنّ مناط وجوب التعلّم غير مناط وجوب حفظ القدرة أو تحصيلها في المقدّمات المفوتة، ولا يقاس أحدهما بالآخر، فإنّ القدرة ممّا يتوقّف عليها فعل المأمور به خارجاً ومن المقدّمات الوجوديّة له، ولا يتمكّن المكلّف من فعل الواجب عند تفويت القدرة، فيتحقّق عصيان خطاب ذي المقدّمة بمجرّد ترك هذه المقدّمات الوجودية، ويستحقّ التارك العقاب على تفويت الواجب من زمان ترك المقدّمة، إذ بتركها يفوت الواجب لا محالة، ويمتنع عليه بالاختيار ويصدق أنّه فات منه الواجب، وهذا

بخلاف التعلّم والاحتياط، فإنّه لا يتوقّف فعل الواجبات وترك المحرّمات عليهما في الخارج، إذ ليس للعلم دخل في القدرة ليكون حاله حال المقدّمة المفوتة، وليس لهما دخل في الملاك أيضاً، فلا يكون لإيجاب التعلّم والاحتياط شائبة النفسيّة والاستقلاليّة، بل الغرض من إيجاب التعلّم مجرّد الوصول إلى الأحكام والعمل على طبقها، ومن إيجاب الاحتياط التحرّز عن مخالفة الواقع، من دون أن يكون للتعلّم والاحتياط جهة موجبة لحسنهما الذاتي المستتبع للخطاب المولوي النفسي، بل الخطاب المتعلّق بهما يكون لمحض الطريقيّة، ووجوبهما يكون للغير لا نفسياً ولا بالغير.

فإن قلت: الوجوب للغير لا ينافي الوجوب النفسي، فإنّ غالب الواجبات النفسيّة يكون وجوبها للغير بناءً على تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد.

قلت: الغير الذي يجب الشي ء لأجله يختلف، فتارةً يكون هو ملاكات الأحكام التي اقتضت وجوب الشي ء، واخرى، يكون هو الخطابات الواقعية، ففي الأوّل لا يدور وجوب انوار الأصول، ج 3، ص: 204

الشي ء مدار وجود الملاك، بل الملاك يكون حكمة لتشريع وجوب الشي ء كاختلاط المياه في وجوب العدّة على النساء، وفي الثاني يدور وجوب الشي ء مدار وجود الخطاب الواقعي، ويكون علّة للحكم لا حكمة للتشريع، كوجوب ذي المقدّمة بالنسبة إلى وجوب المقدّمة، والخطابات الواقعية بالنسبة إلى وجوب التعلّم والاحتياط تكون كوجوب ذي المقدّمة علّة للحكم لا حكمة للتشريع، فوجوب التعلّم والاحتياط يكون من هذه الجهة كوجوب المقدّمة، وإن كان يفترق من جهة اخرى وهى: أنّ وجوب المقدّمة يترشّح من وجوب ذيها بخلاف وجوب التعلّم والاحتياط، وبما ذكرنا يظهر ضعف ما ينسب إلى المدارك من كون العقاب على نفس ترك التعلّم، فإنّ المستتبع للعقاب إنّما هو ترك الواجب النفسي لا ترك الواجب الطريقي، ويتلو ذلك في الضعف ما ينسب إلى المشهور من كون العقاب

على ترك الواقع لا على ترك التعلّم، فإنّ العقاب على الواقع المجهول قبيح، وإيجاب التعلّم لا يخرجه عن الجهالة.

فالأقوى: أن يكون العقاب على ترك التعلّم المؤدّي إلى ترك الواقع لا على ترك التعلّم وإن لم يؤدّ إلى ذلك لينافي وجوبه الطريقي، ولا على ترك الواقع لينافي جهالته (انتهى) «1».

هذا- ولكن لا يخلو كلامه من إبهامات وإشكالات:

أوّلها: (بالنسبة إلى قوله: إنّ العلم لا دخل له في القدرة حتّى يكون حاله حال المقدّمات المفوتة) إنّ للعلم دخلًا في القدرة لأنّه لا إشكال في أنّه مع الجهل بمناسك الحجّ مثلًا لا يكون قادراً على إتيانها ولو من طريق الاحتياط لأنّ الاحتياط أيضاً لابدّ فيه من وجود علم إجمالي بالتكليف.

ثانيها: كون العلم طريقيّاً لا ينافي وجوبه النفسي لجواز أن تلاحظ الطريقيّة بعنوان الحكمة لا العلّة، نظير وجوب انتباه المأمورين لإطفاء الحريق لنوبتهم في تمام ساعات الليل والنهار، الذي لا إشكال في أنّه طريقي للإطفاء، ولكن حيث يكون طريقاً بنحو الحكمة فلا يسقط وجوب الانتباه والكون في محلّ الإنتظار بعنوان واجب نفسي.

ثالثها: (وهو العمدة) أنّ الوجوب إمّا غيري أو نفسي و لا ثالث لهما، لأنّ الطريقيّة إمّا أن تكون من قبيل العلّة للحكم فترجع إلى الواجب الغيري، أو تكون من قبيل الحكمة فترجع انوار الأصول، ج 3، ص: 205

إلى الواجب النفسي، وهناك تناقض يشاهد في كلامه، حيث يقول تارةً: «والخطابات الواقعية بالنسبة إلى وجوب التعلّم والاحتياط تكون كوجوب ذي المقدّمة علّة للحكم» واخرى يقول: «إنّ وجوب المقدّمة يترشّح من وجوب ذيّها بخلاف وجوب التعلّم والاحتياط» وليت شعري كيف لا يترشّح وجوب التعلّم من الخطابات الواقعية مع كونه معلولًا لها؟ والمعلول يترشّح دائماً من علّته.

فتحصّل أنّ الصحيح هو ما ذهب إليه المشهور

من كون العقاب على ترك الواقع لكونه مقدوراً بالواسطة وهى تحصيل العلم، والامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.

يبقى الإشكال بالنسبة إلى الواجبات المشروطة أو الموقتة، ولكنّه يرتفع بما مرّ من أنّ علّة الأحكام إنّما هى إرادة المولى التي تصدر منه بعد ملاحظة وجوب ذي المقدّمة في محلّه وملاحظة عدم إمكان تحقّقه بدون إتيان المقدّمة من الآن.

هذا كلّه في المقام الأوّل.

أمّا المقام الثاني: (وهو البحث في الحكم الوضعي وصحّة العمل المأتي به وفساده) فلا إشكال في صحّة العمل إذا أتى بالمأمور به على وجهه، أي واجداً لجميع الشرائط والاجزاء وفاقداً لجميع الموانع، ومن الشرائط قصد القربة في العبادات التي يمكن تمشيه فيها إمّا لأجل الغفلة (كما يتصوّر في العوام) أو رجاءً (كما في الخواص)، ومنها قصد الإنشاء في المعاملات فإنّه أيضاً يمكن تمشّيه من الجاهل بالحكم الشرعي لإمكان تعلّق القصد بإنشاء المسبّبات الممضاة عند العقلاء وإن لم تكن شرعية، ولذلك حكموا بصحّة بيع الغاصب لنفسه فضولة.

فالمدار كلّ المدار في صحّة العمل وفساده مطابقة المأتي به للمأمور به الواقعي لعدم موضوعيّة للاجتهاد أو التقليد بل إنّهما طريقان إلى الواقع محضاً.

ثمّ إنّه تارةً يحصل للمكلّف العلم بالمطابقة فلا إشكال حينئذٍ في صحّة العمل المأتي به.

واخرى يقع المأتي به مطابقاً لاجتهاده الفعلي أو تقليده الفعلي فلا إشكال أيضاً في الصحّة.

وثالثة لا يقع مطابقاً مع اجتهاده الفعلي أو تقليده الفعلي بل يقع موافقاً لمن يجب عليه انوار الأصول، ج 3، ص: 206

تقليده عند صدور العمل منه، ففي هذه الصورة يكون العمل باطلًا ويجب عليه الإعادة أو القضاء.

إن قلت: كيف تكون فتوى مرجعه الفعلي حجّة بالنسبة إليه ولا تكون فتوى المرجع السابق كذلك؟

قلنا: أوّلًا: أنّ فتوى المجتهد الفعلي تكون كاشفةً عن حكم اللَّه

الواقعي المطلق غير المقيّد بزمان خاصّ، ومجرّد مطابقته لفتوى المجتهد السابق غير كافٍ لصحّة عمله لأنّ المفروض عدم استناده إليه.

وإن شئت قلت: إنّ فتوى المجتهد السابق كانت حجّة بالنسبة إلى من أسند عمله إليها، وأمّا من لم يكن عمله مستنداً إليها فلا حجّة له حتّى يعتذر بها عند اللَّه لو خالف الواقع، لأنّه لم يسند عمله إلى فتوى المجتهد السابق حتّى تكون تلك حجّة له، ولم يقع مطابقاً مع فتوى المجتهد الفعلي حتّى تكون هذه حجّة له.

بقي هنا شي ء:

وهو أنّ المشهور بين الفقهاء صحّة عمل الجاهل المقصّر مع استحقاقه للعقوبة في موردين:

أحدهما: الإتمام في موضع القصر.

والثاني: كلّ من الجهر والإخفات في موضع الآخر.

حيث يرد عليه أوّلًا: أنّه كيف يمكن الحكم بصحّة العبادة بدون الأمر؟

وثانياً: كيف يحكم بإستحقاق العقوبة مع فرض صحّة العمل؟

وثالثاً: كيف يصحّ الحكم باستحقاق العقوبة مع أنّ المكلّف متمكّن من الإعادة إلّاأنّ الشارع سلب عنه القدرة عليها بسبب حكمه بالإجزاء والصحّة بناءً على عدم وجوب الإعادة حتّى في الوقت إذا علم به، ففوت المأمور به ناشٍ عن حكمه بالصحّة، لا عن تقصير المكلّف.

وقد ذكر لدفع هذه الإشكالات وجوه عديدة:

انوار الأصول، ج 3، ص: 207

الوجه الأوّل: ما أفاده المحقّق الخراساني رحمه الله وحاصله: أنّ الحكم بالصحّة هنا يكون من باب تعدّد المطلوب ففي مورد الجهر والإخفات يكون أصل الصّلاة وذاتها مطلوبة وإتيانها بالجهر أو الإخفات مطلوباً آخر، وفي مورد الإتمام في موضع القصر تكون الصّلاة التامّة مشتملة على مصلحة لازمة الاستيفاء بحيث لو لم تجب صلاة القصر كانت الصّلاة التامّة مأموراً بها، لكن لمّا كانت مصلحة صلاة القصر أهمّ صارت هى الواجبة فعلًا، وحينئذٍ تكون صحّة الصّلاة المأتي بها مستندة إلى المصلحة لا إلى الأمر

الفعلي حتّى يقال بأنّها ليست مأموراً بها، (وأمّا استحقاقه للعقوبة مع فرض الصحّة فلعصيانه الأمر بالأهمّ أو المطلوب الأعلى).

وأمّا عدم وجوب الإعادة فلأنّها لا فائدة فيها إذ لا مصلحة تقتضي الإعادة، حيث إنّ المصلحة التامّة الكامنة في صلاة القصر مثلًا قد فاتت بسبب الإتيان بالصلاة التامّة، لمكان التضادّ بين المصلحتين، وهذا نظير ما إذا أمر المولى عبده بإطعام الفقير بالخبز من الحنطة فأطعمه بالخبز من الشعير فإنّ مصلحة الإطعام بالخبز من الحنطة قد فاتت بإطعامه الخبز من الشعير، ويمتنع تداركها لعدم بقاء الموضوع.

لا يقال: فيلزم الحكم بصحّة صلاة التمام من العالم بوجوب القصر أيضاً مع استحقاقه العقوبة على مخالفة الواجب.

فإنّه يقال: إنّه لو كان الدليل اشتمال المأتي به على المصلحة اطلاق يشمل صورتي العلم بوجوب القصر والجهل به لقلنا بصحّة التمام وإجزائه عن القصر مطلقاً، لكن الأمر ليس كذلك، لأنّه لم يدلّ دليل على كون التمام ذا مصلحة في السفر إلّافي حال الجهل، ولا بُعد أصلًا في هذا الاختلاف، فإنّ لحالات المكلّف دخلًا في المصالح والمفاسد الداعية إلى تشريع الأحكام.

إن قلت: كيف يتمشّى من المكلّف قصد القربة مع عدم كون التمام مأموراً به؟

قلنا: لا حاجة في تحقّق قصد القربة إلى قصد الأمر بل يكفي قصد الملاك والمصلحة، وقد مرّ كون الصّلاة التامّة أيضاً محبوبة وذات مصلحة).

إن قلت: على هذا يكون كلّ من التمام والإخفات مثلًا سبباً لتفويت الواجب الفعلي، وما هو السبب لتفويت الواجب فعلًا حرام، وحرمة العبادة موجبة لفسادها بلا كلام.

قلت: إنّ التمام مثلًا ليس سبباً لترك الواجب الفعلي وهو القصر، بل التمام والقصر ضدّان، وهما في رتبة واحدة، فعدم كلّ منهما يكون أيضاً في رتبة وجود الآخر لا في طوله حتّى يصير

انوار الأصول،

ج 3، ص: 208

عدم أحدهما مقدّمة ومن اجزاء علّة وجود الآخر فلا علّية بينهما، بل عدم أحدهما ملازم لوجود الآخر لأنّ الضدّ وعدم ضدّه متلازمان ليس بينهما توقّف أصلًا. (انتهى).

وقد أورد عليه المحقّق النائيني رحمه الله بما لا يكون وارداً فأورد عليه:

أوّلًا: بما حاصله: أنّ الخصوصيّة الزائدة (كخصوصيّة القصر أو خصوصيّة الإخفات) إن كان لها دخل في حصول الغرض من الواجب فلا يعقل سقوطه بالفاقد لها، وإن لم يكن لها دخل فاللازم هو الحكم بالتخيير بين القصر والتمام مثلًا، غايته أن يكون القصر أفضل فردي التخيير لاشتماله على الخصوصيّة الزائدة ولا وجه لاستحقاق العقاب»

.وقد ظهرت المناقشة فيه والجواب عنه ممّا سبق من كون المطلوب متعدّداً وأنّ الصّلاة التامّة مشتملة على مقدار من المصلحة يوجب تفويت المقدار الزائد القائم بالقصر وخروجه عن قابلية الاستيفاء والتدارك، وهذا ليس بعزيز، ومجرّد القدرة على فعل الصّلاة قصراً في الخارج غير كافٍ بعد فرض فناء موضوع التدارك.

وثانياً: «بأنّ الظاهر من أدلّة الباب كون المأتي به في حال الجهل مأموراً به فراجع أدلّة الباب» «2».

ويرد عليه: أنّ الدليل على صحّة المأتي به في المقام إنّما هو الإجماع، وهو يدلّ على صحّة العمل إجمالًا، ولا يستفاد منه كونه مأموراً به.

هذا كلّه هو الوجه الأوّل من الوجوه المذكورة في كلمات القوم لدفع الإشكالات الثلاثة المزبورة.

الوجه الثاني: ما أجاب به الشيخ الأعظم الأنصاري رحمه الله وهو عدم كون المأتي به مأموراً به بل أنّه يوجب سقوط الأمر بالواقع المتروك، فلا يجب عليه الإعادة أو القضاء لسقوط الأمر بالواقع حينئذٍ، وأمّا العقاب فلعدم إتيانه للمأمور به على الفرض.

أقول: الظاهر أنّ هذا الوجه في الحقيقة يرجع إلى الوجه الأوّل (بل الظاهر أنّ المحقّق الخراساني رحمه الله أخذه

منه) لأنّه لا وجه لسقوط الأمر بالواقع إلّامن ناحية تعدّد المطلوب.

الوجه الثالث: ما أجاب به كاشف الغطاء رحمه الله وهو الالتزام بأمرين على نحو الترتّب بمعنى انوار الأصول، ج 3، ص: 209

أنّ الأمر حال الجهل أوّلًا تعلّق بالصلاة الواجدة للخصوصيّة الزائدة، وعند عصيانه وفي طوله تعلّق بالفاقد لها، فقهراً إذا عصى الأمر الأوّل لجهله المستند إلى ترك التعلّم أو الفحص يعدّ عاصياً لمخالفة الأمر الأهمّ فيوجب استحقاق العقاب، ومطيعاً للأمر الثاني فيكون عمله صحيحاً، ولا تجب عليه الإعادة أو القضاء.

أقول: الصحيح تماميّة هذا الوجه أيضاً وإن أورد عليه إشكالات أربع من ناحية المحقّق الخراساني والشيخ الأعظم والمحقّق النائيني رضوان اللَّه عليهم:

أوّلها: ما أورده المحقّق الخراساني رحمه الله من ناحية المبنى، وهو إنكاره صحّة الترتّب، ولكن قد مرّ في محلّه أنّ الحقّ صحّته.

ثانيها: ما أورده الشيخ الأعظم رحمه الله من أنّه لا موضوع للترتّب في المقام لأنّ الترتّب عبارة عن اشتراط الأمر بالمهمّ بعصيان الأهمّ، ولا يمكن حصول هذا الشرط في الوقت لأنّه ما دام وقت الأهمّ باقٍ لا معنى لتحقّق عصيانه.

وفيه: أنّه لا يشترط في باب الترتّب كون العصيان مأخوذاً بعنوان الشرط المقارن بل يمكن أخذه بنحو الشرط المتأخّر، أي إذا كان بانياً على العصيان لأمر القصر إلى آخر وقت الصّلاة كان مأموراً بالتمام بل يمكن إرجاعه إلى الشرط المقارن لأنّ بناءه على العصيان إلى آخر الوقت فعليّ.

ثالثها: ما أورده المحقّق النائيني رحمه الله من «أنّه يعتبر في الخطاب الترتّبي أن يكون خطاب المهمّ مشروطاً بعصيان خطاب الأهمّ، وفي المقام لا يمكن ذلك، إذ لا يعقل أن يخاطب التارك للقصر بعنوان العاصي فإنّه لا يلتفت إلى هذا العنوان لجهله بالحكم» «1».

ويمكن الجواب عنه: بكفاية ثبوت الخطاب

في متن الواقع وعلم اللَّه تعالى، والمفروض أنّ المكلّف قصد الأمر الواقعي ولا حاجة إلى أزيد من ذلك في صحّة صلاته.

رابعها: ما ذكره المحقّق النائيني رحمه الله أيضاً وهو «أنّ المقام أجنبيّ عن الخطاب الترتّبي لأنّه يعتبر فيه أن يكون كلّ من متعلّق الخطابين واجداً لتمام ما هو الملاك ومناط الحكم بلا قصور لأحدهما في ذلك، ويكون المانع عن تعلّق الأمر بكلّ منهما هو عدم القدرة عن الجمع بين انوار الأصول، ج 3، ص: 210

المتعلّقين في الامتثال، لما بين المتعلّقين من التضادّ والمقام لا يكون من هذا القبيل» «1».

ويمكن الجواب عنه: بأنّه غير قادر على الجمع بينهما بحسب الواقع، لوجود التضادّ بينهما شرعاً، وإن كان قادراً بحسب الظاهر على الإتيان بكلّ منهما.

هذا كلّه هو الوجه الثالث من الوجوه المذكورة في كلمات القوم لدفع الإشكالات الثلاثة المزبورة.

الوجه الرابع: ما اختاره المحقّق النائيني رحمه الله لدفع الإشكالات، وهو: أنّ الإشكال إنّما كان مبنيّاً على تسليم مقدّمتين:

الاولى: أن يكون العمل المأتي به حال الجهل مأموراً به، كما يستكشف ذلك من أدلّة صحّة العمل والإجزاء ولو بعد زوال صفة الجهل وبقاء الوقت.

الثانية: استحقاق الجاهل العامل للعقاب وأنّ استحقاقه له لأجل تفويت ما كان واجباً عليه في حال الجهل، ومع المنع عن إحدى المقدّمتين يرتفع الإشكال، والمقدّمة الاولى مسلّمة لا سبيل للمنع عنها، إذ لا ينبغي الإشكال في استكشاف تعلّق الأمر بالعمل من أدلّة الصحّة، وأمّا المقدّمة الثانية فللمنع عنها مجال، إذ استحقاق العقاب وعدمه ليس من المسائل الفقهيّة الشرعيّة التي ينعقد عليه الإجماع (بل إنّه حكم العقل) وليس في أدلّة الباب ما يدلّ على العقاب مع أنّه لو سلّم انعقاد الإجماع على إستحقاق العقاب ففي اعتبار مثل هذا الإجماع (لعلّ

نظره إلى كونه مدركيّاً وأنّ مباني المجمعين مختلفة) إشكال.

ثمّ إنّه- مع إعترافه بتماميّة هذا الوجه حيث إنّ مبنى الإشكال كان على تسليم المقدّمتين- تخلّص عنه بعد فرض صحّتهما بوجه آخر ضمن ثلاث مسائل: الاولى: مسألة الجهر في موضع الإخفات وبالعكس، والثانية: مسألة القصر في موضع الإتمام، والثالثة مسألة الإتمام في موضع القصر، التي ينبغي حذفها في المقام لكونها شاذّة ولم يقل بها إلّاقليل فتبقى المسألتان الأوّليان.

أمّا المسألة الاولى فقال فيها: يمكن أن يكون الواجب على عامّة المكلّفين هو القدر المشترك بين الجهل والإخفات، سواء في ذلك العالم والجاهل، ويكون الجهر والإخفات في موارد وجوبهما واجبين مستقلّين نفسيين في الصّلاة، وتكون الصّلاة ظرفاً لامتثالهما، ولكن انوار الأصول، ج 3، ص: 211

وجوبهما الاستقلالي عند العلم به ينقلب إلى الوجوب الغيري ويصير قيداً للصلاة ولا مانع من أن تكون صفة العلم موجبة لتبدّل صفة الوجوب من النفسي إلى الغيري ومن الاستقلالي إلى القيدي، فيرتفع الإشكال بحذافيره لأنّ العقاب إنّما يكون على ترك الواجب النفسي (وهو الجهر أو الإخفات) في حال الجهل، مع كون المأتي به هو المأمور به في ذلك الحال لأنّ المفروض أنّ المأمور به هو القدر المشترك.

إن قلت: فيلزم منه صحّة العمل في حال العلم أيضاً. قلنا: لا يلزم ذلك لما عرفت أنّ بالعلم يتبدّل الاستقلالي النفسي إلى الغيري القيدي.

وأمّا المسألة الثانية: فتفصّى عن الإشكال فيها: بأنّ الواجب على المسافر الجاهل بالحكم خصوص الركعتين الأوّليين لكن لا بشرط عدم الزيادة، بل لا بشرط عن الزيادة، فلا تكون الأخيرتان مانعتين عن صحّة الصّلاة، إلّاأنّ العلم بالحكم يوجب الانقلاب ويصير الواجب على المسافر خصوص الركعتين الأوّليين بشرط عدم الزيادة فتصحّ الصّلاة التامّة عند الجهل وتفسد عند العلم.

وتفصّى عن إشكال

العقاب بأنّه يمكن أن يكون العقاب لأجل ترك السلام بعد التشهّد الثاني، بأن يكون أصل التسليم في الصّلاة جزءً لها، ولكن وقوعه عقيب التشهّد الثاني واجب نفسي، فيكون المتمّم في موضع القصر قد أخلّ بهذا الواجب النفسي، فيعاقب عليه مع صحّة صلاته.

ثمّ إعترف بأنّ هذا الوجه لا تساعد عليه كلمات الأصحاب، بل لا ينطبق عليه بعض الفروع المتسالم عليها بينهم، فإنّ الظاهر تسالمهم على أنّ الجاهل لو نوى التمام وأتمّ الصّلاة بهذا العنوان صحّت صلاته بعنوان ما نواها، وهذا لا يمكن إلّاأن يكون المأمور به في هذا الحال هو الإتمام، إذ لو كان المأمور به هو خصوص الركعتين الأوّليين (ولولا بشرط عن الزيادة) كان اللازم هو فساد صلاة من نوى التمام لعدم نيّة المأمور به «1» (انتهى ما أردناه من كلامه).

أقول: يرد عليه:

أوّلًا: أنّ طريقه هذا مملوّ بالتكلّفات الشديدة ولا يساعد عليه الوجدان الفقهي أصلًا.

انوار الأصول، ج 3، ص: 212

ثانياً: (بالنسبة إلى قوله لا يجوز الاستدلال بالإجماع في مثل هذه المسألة) أنّ لازم انعقاد الإجماع على العقاب هو الإجماع على وجود حكم شرعي في البين ترك امتثاله، أي أنّ الإجماع على العقاب مستلزم لوجود تكليف شرعي في البين أوجبت مخالفته العقاب.

ثالثاً: أنّ لازم كلامه تبدّل الواجب المعلوم بعد العلم به إلى واجب آخر حيث تبدّل، فيتبدّل وجوب الركعتين الأوّليين لا بشرط الزيادة بعد العلم به إلى وجوبهما بشرط عدم الزيادة، وهذا أمر محال لاستلزامه الدور فإنّ الوجوب فرع العلم به، والعلم به فرع تحقّق الوجوب.

الأمر الثاني: في كلام الفاضل التوني في المقام

قد ذكر الفاضل التوني رحمه الله لجريان أصالة البراءة شرطين آخرين:

أحدهما: أن لا يلزم من العمل بالبراءة إثبات حكم آخر، وإلّا لا تجري، كما في أطراف العلم الإجمالي فإنّ جريان الأصل

في بعضها يثبت وجوب الإجتناب عن الآخر.

ثانيهما: أن لا يلزم من جريانها ضرر على الغير، كما إذا فتح إنسان قفص طائر فطار، أو حبس شاة فمات ولدها، أو أمسك رجلًا فهربت دابته على المالك فلا يصحّ اجراؤها فيها لإثبات عدم الضمان.

أقول: أمّا الشرط الأوّل: فله ثلاث صور: تارةً يكون ما يترتّب على البراءة من الآثار الشرعيّة كجريان أصالة الحلّية في الحيوان المتولّد من مأكول اللحم ومحرمه، فيترتّب عليه إباحة جلده ووبره إذا كان المراد من حلّية أجزاء ما يؤكل لحمه الأعمّ من الحلّية الواقعية الظاهرية، ففي هذه الصورة لا إشكال في جريان البراءة.

واخرى: يكون الأثر من الآثار العقليّة كما في مثال العلم الإجمالي، فإنّ وجوب الاجتناب عن الطرف الآخر لازم عقلي لجريان البراءة في الطرف الأوّل، فلا إشكال أيضاً في عدم ترتّب ذاك الأثر عليه لكونه من الأصل المثبت، ولكن هذا غير مانع عن جريانها في مورده.

وثالثة: يكون الأثر من الآثار الشرعيّة المترتّبة على عدم الحكم الواقعي، كما إذا فرضنا

انوار الأصول، ج 3، ص: 213

أنّ إباحة الجلد والوبر في مثال الحيوان المشكوك الحلّية هى من آثار عدم الحرمة في الواقع، ففي هذه الصورة أيضاً لا تجري أصالة الإباحة لأنّها تثبت الإباحة الظاهرية لا الواقعية.

فظهر أنّ كلام الفاضل التوني رحمه الله بالنسبة إلى هذا الشرط تام إذا كان مراده منه الصورتين الأخيرتين، نعم إنّه لا يختصّ بأصالة البراءة، بل هو جارٍ في سائر الاصول العمليّة حتّى الاستصحاب، فإنّها لا تجري في ما إذا كانت مثبتة، وفيما إذا كان الأثر الشرعي مترتّباً على الحكم الواقعي.

أمّا الشرط الثاني: فهو أيضاً لا اختصاص له بأصالة البراءة فكلّ أصل عملي لا يجري إذا أوجب الضرر، هذا مضافاً إلى أنّه لا يختصّ

بقاعدة لا ضرر بل يعمّ سائر الأدلّة الاجتهاديّة فإنّها مقدّمة على الاصول العمليّة.

وإن شئت قلت: لا ينبغي عدّ هذا الشرط من شرائط جريان الاصول، إذ مع وجود الأدلّة الاجتهاديّة ينتفي موضوع الاصول العمليّة وهو الشكّ، ولا مجال حينئذٍ للرجوع إلى الأصل.

وأمّا الأمثلة المذكورة في كلام الفاضل التوني رحمه الله فهى أجنبية عمّا نحن فيه، لأنّ المرجع فيها قاعدة الإتلاف والضمان، لإطلاق قوله عليه السلام: «من أتلف مال الغير فهو له ضامن» فيشمل الإتلاف المباشري والتسبيبي، لصدق الإتلاف عليهما عرفاً، وما نحن فيه من قبيل الثاني.

الكلام في قاعدة لا ضرر
اشارة

قد عنون كثير من الأعاظم تبعاً للشيخ الأعظم والمحقّق الخراساني صلى الله عليه و سلم بمناسبة كلام الفاضل التوني رحمه الله قاعدة لا ضرر، حيث عقدوها للبحث بعنوان أنّها قاعدة فقهيّة، كما أنّ جماعة منهم كتبوا لها رسائل مستقلّة، ونحن نتعرّض لها هنا أيضاً اقتفاءً لآثارهم.

ولكن قبل الورود في البحث عن أصل القاعدة تنبغي الإشارة إلى أمرين:

الأوّل: أنّ القواعد الفقهيّة مع كثرتها وأهميّتها لها مصير مؤسف، فقد تعنونت عدّة منها في الكتب الاصوليّة للمتأخّرين كقاعدة لا ضرر وقاعدة الفراغ والتجاوز، والقرعة، والميسور، وعدّة اخرى في الكتب الفقهيّة كقاعدة ما لا يضمن وقاعدة اللزوم في أبواب المعاملات، ولكن قسم عظيم منها لم يُبحث عنها لا في الفقه ولا في الاصول مع كثرة استدلالهم بها وشدّة

انوار الأصول، ج 3، ص: 214

حاجتهم إليها في طيّات كتب الفقه وشتّى أبواب العبادات والمعاملات «1»، فكان من حقّها أن تفرد من علمي الاصول والفقه، وتبحث بصورة مستقلّة وفي علم مستقلّ، كما صنّفناه في كتابنا الموسوم بالقواعد الفقهيّة، فبحثنا فيه عن مهمّاتها وهى ثلاثون قاعدة.

الثاني: في تعريف القاعدة الفقهيّة ووجه إفتراقها عن المسائل الاصوليّة والفقهيّة.

ولابدّ أوّلًا من الإشارة

الإجماليّة إلى تعريف المسائل الاصوليّة والفقهيّة، فنقول:

أمّا المسائل الاصوليّة فالمشهور إنّها «قواعد تقع في طريق استنباط الأحكام الشرعيّة الفرعيّة عن أدلّتها التفصيليّة» وفي كلمات بعضهم «هى القواعد الممهّدة لاستنباط الأحكام الشرعيّة الفرعيّة عن أدلّتها التفصيليّة» وفي كلمات بعض آخر: «هى قضايا تقع كبرى لقياس يستفاد منها حكم شرعي» والمختار عندنا (كما ذكرنا في محلّه) إنّها «القواعد التي لا تشتمل على حكم شرعي وتقع في طريق استنتاج الأحكام الكلّية الفرعيّة الإلهيّة أو الوظيفة العمليّة».

وأمّا المسائل الفقهيّة فهى: «ما يشتمل على حكم شرعي في موضوع خاصّ أمّا تكليفي أو وضعي».

وأمّا القواعد الفقهيّة فهى كالبرازخ بينهما وامور تكون بنفسها من الأحكام الشرعيّة الفرعيّة (إثباتاً أو نفياً) لا أنّها تقع في طريق استنباط الأحكام الشرعيّة حتّى تدخل في المسائل الاصوليّة، بل تكون أحكاماً فرعية كلّية لا تختصّ بباب دون باب، وتجري في أبواب مختلفة، وليست أحكاماً جزئيّة لموضوعات خاصّة حتّى تدخل في المسائل الفقهيّة وتكون معدّة للورود في الرسائل العمليّة والوصول إلى أيدي المقلّدين مباشرة.

وهى على أقسام عديدة: فقسم منها ما يكون جارياً في جميع أبواب الفقه كقاعدة لا ضرر ولا حرج، وقسم منها يختصّ بكتاب خاصّ كقاعدة لا تعاد التي تختصّ بكتاب الصّلاة مع سريانها في أبواب مختلفة منها، وقاعدة الطهارة المختصّة بكتاب الطهارة، وقسم ثالث منها

انوار الأصول، ج 3، ص: 215

مختصّ بجميع أبواب المعاملات كقاعدة ما يضمن، أو بجميع أبواب العبادات كقاعدة الفراغ.

وبهذا ظهر أنّ القاعدة الفقهيّة لا تكون من المسائل الاصوليّة ولا من المسائل الفقهيّة، وظهر أيضاً الخلط الواقع في كلام الشهيد رحمه الله في قواعده بين القواعد الفقهيّة والفروع الفقهيّة، وما وقع من الخلط في كلمات بعض المتأخّرين بين الامور الثلاثة.

إذا عرفت هذا فنقول: يقع الكلام

في قاعدة لا ضرر في مقامات ثلاثة:

المقام الأوّل: في مداركها.

المقام الثاني: في مضمونها ومحتواها.

المقام الثالث: في بعض خصوصيّاتها وجزئياتها وفي ايضاح نسبتها إلى الأدلّة المتكفّلة للأحكام الثابتة للموضوعات بعناوينها الأوّلية كأدلّة وجوب الصّلاة والصيام ونحوها، أو الثانوية كأدلّة نفي العسر والحرج ونحوها.

المقام الأوّل: في مدرك القاعدة
اشارة

يمكن الاستدلال للقاعدة بالأدلّة الأربعة في الجملة، وإن كانت العمدة هى السنّة.

1- الكتاب:

فقد وردت فيه آيات عديدة في موارد خاصّة كباب الطلاق والإرث والرضاع والشهادة والوصيّة نهى فيها عن الضرر بحيث يمكن اصطياد القاعدة من مجموعها، وبعد ضمّ بعضها إلى بعض، ولا أقل من كونها مؤيّدة لما يأتي من الأدلّة.

منها: قوله تعالى في باب الرضاع: «لَاتُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ» «1».

وقد ذكر له تفسيران:

أحدهما: أن تكون صيغة «لا تضارّ» مبنية على الفاعل، وتكون الباء زائدة و «ولدها»

انوار الأصول، ج 3، ص: 216

مفعولًا بدون الواسطة، فإنّ المضارّة تتعدّى بنفسها، والمعنى حينئذٍ هو النهي عن اضرار الامّ بولدها بترك ارضاعه غيظاً على أبيه لبعض الجهات، وتمسّكاً بعموم ما يدلّ على عدم وجوب الارضاع عليها، وعن اضرار الأب بولده بأن يأخذ للولد امرأة مرضعة ويمنع امّه عن ارضاعه (فيتضرّر منه الولد) تمسّكاً بعمومات ولايته على ابنه، وعلى هذا تكون الآية حاكمة على عموم عدم وجوب الارضاع وعموم الولاية.

ثانيهما: أن تكون «لا تضارّ» مبنية على المفعول والباء للسببيّة، والمعنى لا تضارّ الوالدة بسبب الولد بأن يترك مجامعتها خوفاً من الحمل، ولا يضارّ الوالد بامتناع الامّ عن الجماع خوفاً من الحمل، وبناءً على هذا المعنى تكون الآية بالإضافة إلى فقرتها الاولى مقدّمة على العموم ما يدلّ على جواز ترك الجماع مدّة أربعة أشهر، وأمّا بالنسبة إلى الفقرة الثانية فلا حكومة لها على عموم دليل، لأنّه لا عموم يدلّ على جواز امتناعها وعدم تمكينها، بل الدليل على العكس فيدلّ على وجوب التمكين وحرمة الامتناع، فتكون الآية حينئذٍ مؤيّدة لذاك الدليل لا حاكمة عليه.

ومنها: قوله تعالى في باب الطلاق: «وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا» «1»

. حيث ينهى عن الرجوع إلى المطلّقات الرجعيّة

وتكراره لا لرغبة فيهنّ بل لطلب الاضرار بهنّ تمسّكاً بعموم ما يدلّ على جواز الرجوع في الرجعيّات في مدّة العدّة، فتكون الآية حاكمة على هذا العموم.

ومنها: قوله تعالى في باب الطلاق أيضاً: «أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ» «2»

حيث ينهى عن الإضرار والتضييق على المطلّقات في السكنى والنفقة في أيّام عدّتهنّ، ويكون مفيداً لنا في المقام إذا كان المراد من التضييق الاكتفاء بالمقدار الأقلّ من الواجب بقصد الاضرار بها تمسّكاً بعموم ما يدلّ على جواز هذا الاكتفاء، فتحكم الآية حينئذٍ على ذلك العموم وتقيّده بغير صورة الاضرار.

وأمّا إذا كان المراد منه اعطاء الأقلّ من مقدار الواجب فتكون الآية أجنبيّة عمّا نحن فيه لأنّ الاعطاء هذا بنفسه حرام، ولا حاجة في إثبات حرمته إلى التمسّك بعنوان الاضرار.

انوار الأصول، ج 3، ص: 217

ومنها: قوله تعالى في باب الشهادة: «وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ» «1»

بناءً على كون «لا يضارّ» مبنيّاً على المفعول، حيث إنّه حينئذٍ ينهى عن الاضرار بالكتّاب والشهداء بالرجوع إليهم للكتابة أو الشهادة في أيّ وقت وساعة، تمسّكاً بعموم ما يدلّ على وجوبهما عليهم (وهو ما ورد في صدر الآية من قوله تعالى: «وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ» وقوله تعالى: «وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا» فيكون ذيل الآية حينئذٍ حاكماً على عموم صدرها، وأمّا بناءً على البناء على الفاعل فهى أجنبيّة عمّا نحن فيه، لأنّ المعنى حينئذٍ النهي عن اضرار كاتب الدَين والشاهد عليه بكتابة ما لم يمل والشهادة بما لم يستشهد عليه، أي بكتابة غير صحيحة وشهادة غير صادقة، وهو حرام من غير حاجة إلى عنوان الاضرار.

ومنها: قوله تعالى في باب الوصيّة: «مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ» «2»

الذي

ينهي عن الاضرار بالورّاث بالاقرار بدَين ليس عليه، دفعاً للميراث عنهم، وتمسّكاً بعموم «الناس مسلّطون على أموالهم» فتحكم الآية على هذا العموم ويكون مفيداً لنا في المقصود.

هذه هى الآيات الخاصّة التي وردت في موارد مختلفة وتدلّ على حرمة الاضرار في خصوص تلك الموارد وبنحو الموجبة الجزئيّة، ولا يبعد- كما مرّ- أن يصطاد منها عرفاً قاعدة لا ضرر بنحو كلّي وموجبة كلّية بإلغاء الخصوصيّة عن مواردها، فإنّ العرف إذا ضمّ بعضها إلى بعض ونظر إلى مجموعها يمكن أن يستخرج منها قاعدة كلّية تحت عنوان «لا ضرر»، وإن أبيت عن هذا فلا أقلّ من كونها مؤيّدة لسائر الأدلّة.

2- الإجماع:

فلا إشكال في أنّ القاعدة مجمع عليها في الجملة، أي توجد موارد عديدة في الفقه تكون عمدة الدليل فيها هى قاعدة لا ضرر، نظير خيار الغبن، ولكن لم ينعقد الإجماع عليها بعرضها العريض بحيث يمكن التعدّي إلى سائر موارد وجود الضرر، مضافاً إلى أنّه مدركيّ فليس بحجّة.

3- العقل:

فأيضاً توجد موارد كثيرة يمكن إندراجها تحت قاعدة قبح الظلم العقلي، منها نفس مثال خيار الغبن وأشباهه إذا كان فاحشاً، حيث إنّ العقل يحكم بقبح مثل هذا النحو من الضرر، ومنها ما إذا جعل بيته فيما بين البيوت بيت حدّاد أو طبّاخ بحيث ينتهي إلى أذى الجيران. فلا إشكال في كونها من مصاديق الظلم القبيح، نعم إثباته بالنسبة إلى جميع مصاديق الضرر مشكل جدّاً، فيمكن أن نجد موارد يصدق فيها عنوان الضرر ولا يصدق عنوان الظلم عرفاً كالغبن في بعض مراتبه، فدعوى دلالة العقل على القاعدة بنطاقها الواسع غير خالٍ عن الإشكال.

4- السنّة:

(التي هى العمدة في المقام) فتنقسم إلى الروايات الواردة من طرق الخاصّة والواردة من طرق العامّة.

أمّا الواردة من طرق الخاصّة: فهى على طائفتين: طائفة تدلّ على هذه القاعدة بعمومها، وطائفة وردت في موارد خاصّة يمكن اصطياد العموم من ملاحظة مجموعها ولا أقل من كونها مؤيّدة للطائفة الاولى.

أمّا الطائفة الاولى فهى كثيرة:

منها: قضيّة سمرة بن جندب التي وردت بثلاثة طرق:

الأوّل: طريق ابن بكير عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: «إنّ سمرة بن جندب كان له عذق في حائط لرجل من الأنصار، وكان منزل الأنصاري بباب البستان فكان يمرّ به إلى نخلته ولا يستأذن، فكلّمه الأنصاري أن يستأذن إذا جاء، فأبى سمرة، فلمّا تأبّى جاء الأنصاري إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فشكا إليه وخبّره الخبر، فأرسل إليه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وخبّره بقول الأنصاري وما شكى وقال: إذا أردت الدخول فاستأذن فأبى، فلمّا أبى ساومه حتّى بلغ به من الثمن ما شاء اللَّه فأبى أن يبيع فقال: لك بها عذق يمدّ لك في الجنّة فأبى أن يقبل،

فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله انوار الأصول، ج 3، ص: 219

للأنصاري: إذهب فاقلعها وارم بها إليه فإنّه لا ضرر ولا ضرار» «1».

وهذه الرواية أحسن الرّوايات من جهة الدلالة على المطلوب، لعدم ذكر قيد «على مؤمن» فيها، وسيأتي دخله في المقصود من القاعدة.

الثاني: ما رواه ابن مسكان عن بعض أصحابنا عن زرارة (أيضاً) عن أبي جعفر عليه السلام نحوه إلّا أنّه قال: «فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: إنّك رجل مضارّ ولا ضرر ولا ضرار على مؤمن، قال: ثمّ أمر بها فقلعت ورمى بها إليه، فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: إنطلق فاغرسها حيث شئت» «2».

الثالث: ما رواه أبو عبيدة الحذاء قال: قال أبو جعفر عليه السلام: «كان لسمرة بن جندب نخلة في حائط بني فلان فكان إذا جاء إلى نخلته ينظر إلى شي ء من أهل الرجل يكرهه الرجل قال:

فذهب الرجل إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فشكاه فقال: يارسول اللَّه إنّ سمرة يدخل عليّ بغير إذني فلو أرسلت إليه فأمرته أن يستأذن حتّى تأخذ أهلي حذرها منه، فأرسل إليه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فدعاه فقال: ياسمرة ما شأن فلان يشكوك ويقول: يدخل بغير إذني فترى من أهله ما يكره ذلك، ياسمرة استأذن إذا أنت دخلت، ثمّ قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يسرّك أن يكون لك عذق في الجنّة بنخلتك؟ قال: لا، قال: لك ثلاثة؟ قال لا قال: ما أراك ياسمرة إلّامضارّاً، إذهب يافلان فاقطعها (فاقلعها) واضرب بها وجهه» «3».

هذه طرق ثلاثة وردت فيها قضية سمرة، ولا إشكال في عدم صدور أصل القضيّة من جانب الرسول صلى الله عليه و

آله ثلاث مرّات، وإن كان لا يبعد نقلها متعدّداً من أبي جعفر عليه السلام، وعمدة الفرق بينها أنّ في الطريق الأوّل ذكرت كبرى «لا ضرر ولا ضرار» فقط من دون قيد «على مؤمن»، ومن دون بيان صغرى «إنّك رجل مضارّ» الواردة في الطريق الثالث، بينما في الطريق الثاني مضافاً إلى بيان الكبرى ذكر كلا القيدين، وفي الطريق الثالث ذكرت الصغرى فحسب، ولا يخفى أنّ للحديث إذا كان شاملًا للكبرى قيمة اخرى.

ثمّ إنّ هاهنا نكات ينبغي الإشارة إليها، ولتكن هى على ذكر منك:

انوار الأصول، ج 3، ص: 220

الاولى: أنّ الظاهر من مجموع هذه الثلاثة أنّه كان لسمرة بن جندب حقّ العبور إلى نخلته من باب البستان الذي كان دار الأنصاري.

الثانية: أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أراد الجمع بين حقّين: حقّ العبور وحقّ السكنى، وتحقّق هذا الجمع كان باستئذان سمرة.

الثالثة: أنّ شفاعة الرسول صلى الله عليه و آله للاستبدال بهذه النخلة ترشدنا إلى أنّه قد يلزم على القاضي أن يعطى من بيت المال ما يرفع الغائلة ويندفع به الخلاف، كما ورد في بعض الرّوايات اعطاء الإمام الصادق عليه السلام مفضّل بن عمر مقداراً من المال ليرفع بها المنازعات الواقعة بين أصحابه.

ثمّ إنّه هل كان استدلال الرسول صلى الله عليه و آله بكبرى لا ضرر ولا ضرار على قلع الشجرة أو للجمع بين الحقّين؟

وهذا ممّا لم يطرح في كلمات القوم فيما رأيناه، فيحتمل كونه للجمع بين الحقّين، أي لتبدّل حقّ العبور من الاطلاق إلى الاشتراط، ولقائل أن يقول بأنّ الجمع بين الحقّين لا يحتاج إلى الاستدلال بقاعدة لا ضرر لأنّه لازم قاعدة العدل والإنصاف (إلّا أن يكون من باب التأكيد) فيكون الاستدلال على قلع الشجرة، فأراد

الرسول صلى الله عليه و آله أن يدفع الضرر من طريق قلع الشجرة.

ومنها: ما رواه عقبة بن خالد عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «قضى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بين أهل المدينة في مشارب النخل أنّه لا يمنع نفع الشي ء، وقضى بين أهل البادية أنّه لا يمنع فضل ماء ليمنع فضل كلاء، فقال: لا ضرر ولا ضرار» «1».

وقد ذكر لقوله صلى الله عليه و آله: «لا يمنع فضل ماء ليمنع فضل كلاء» احتمالات أحسنها: أنّه ورد في الآبار التي كانت واقعة في أطراف المدينة، التي يرفع بها ملّاكهم حوائجهم مع زيادة لها، ولكن كانوا يمنعونها عن أهل البادية لسقي مواشيهم عند العطش الحاصل عادةً بعد الرعي في المراتع الواقعة حول الآبار، فلم يقدروا على الاستفادة من كلائها فكان منع فضل الماء يمنع عن فضل الكلاء.

ويحتمل أيضاً أن يكون مفاده المقابلة بالمثل، فإنّ المضايقة عن فضل الماء توجب انوار الأصول، ج 3، ص: 221

مضايقة ملّاك المراتع عن فضل الكلاء.

ويساعد هذا الاحتمال تكرار الضرر في هذه القاعدة فيكون «لا ضرر» ناظراً إلى الضرر الأوّل (أي المنع عن فضل الماء) و «لا ضرار» إلى الضرر الثاني، أي إلى مقابلة الثاني بالمثل، وذلك لمكان باب المفاعلة كما سيأتي.

ثمّ إنّه هل كان استدلال الرسول صلى الله عليه و آله على حكم مستحبّ، أو على حكم وجوبي، أي هل اعطاء فضل الماء وعدم المنع عنه واجب على صاحب البئر أو مستحبّ؟

المشهور هو الثاني، وذهب الشيخ الطوسي رحمه الله وجماعة إلى الأوّل، وتفصيل الكلام في محلّه، وإن كان قول الشيخ أوفق بظاهر الأدلّة.

ثمّ إنّه لو كانت كلمة «قال» الواردة في ذيل الحديث بالفاء (فقال) كان ذيل الحديث جزء من هذه

الرواية، وتصير رواية مستقلّة عمّا سبق، فيؤخذ بما يستفاد من موردها الخاصّ من نكات وخصوصيّات، وأمّا إذا كانت بالواو كما ادّعى العلّامة شيخ الشريعة رحمه الله وجوده في النسخة المصحّحة من الكافي عنده، فيحتمل أن تكون جزء منها، كما يحتمل أن تكون من باب الجمع في الرواية، فيشكل ترتيب آثار الإتّصال عليه.

ومنها: ما رواه عقبة بن خالد عن أبي عبداللَّه عليه السلام: «قال قضى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بالشفعة بين الشركاء في الأرضين والمساكن وقال: لا ضرر ولا ضرار، وقال: إذا ارّفت الأرف وحدّت الحدود فلا شفعة» «1».

فهذا الحديث أيضاً يمكن التمسّك به بعنوان رواية مستقلّة غير ما سبق، إذا كان بمجموعه رواية واحدة كما هو الظاهر من وقوع القاعدة بين فقرتين كلتاهما وردتا في باب الشفعة «2»، فتكون حينئذٍ من قبيل الحكمة لجعل الشفعة (لا العلّة لأنّ البيع بغير الشريك ضرريّ في بعض الموارد لا في تمامها).

ومنها: مرسلة الصدوق قال: وقال النبي صلى الله عليه و آله: «الإسلام يزيد ولا ينقص، (قال) وقال صلى الله عليه و آله: لا ضرر ولا ضرار في الإسلام، فالإسلام يزيد المسلم خيراً ولا يزيد شرّاً، (قال)

انوار الأصول، ج 3، ص: 222

وقال صلى الله عليه و آله: الإسلام يعلو ولا يعلى عليه» «1».

وهو يدلّ على أنّ المسلم يرث من الكافر ولا يرث الكافر من المسلم لأنّ الإسلام يزيد ولا ينقص، فلا يكون الإسلام من موانع الإرث عن الكافر بل يكون الكفر مانعاً عن إرث المسلم، ولو كان الإسلام مانعاً لكان موجباً للضرر ولا ضرار في الإسلام.

ثمّ إنّه هل هذه الفقرات الثلاثة هى ثلاثة أحاديث، أو هى بمجموعها حديث واحد؟

الظاهر هو الأوّل، لكن كلّ واحد منها يدلّ على

أنّ المسلم يرث من الكافر ولا يرث الكافر من المسلم. (وأمّا عبارة «فالإسلام يزيد المسلم خيراً ولا يزيده شرّاً» الواردة في ذيل الحديث الثاني فلعلّها من استنباط الصدوق وتفسيره، وليس جزء للحديث).

والذي يؤيّده ذلك ما رواه أبو الأسود الدؤلي أنّ معاذ بن جبل كان باليمن فاجتمعوا إليه وقالوا: يهودي مات وترك أخاً مسلماً، فقال معاذ: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول: الإسلام يزيد ولا ينقص، فورّث المسلم من أخيه اليهودي» «2». حيث إنّ معاذ استدلّ بالحديث الأوّل في قضائه من دون تذييله بالحديث الثاني (لا ضرر ولا ضرار).

كما يؤيّده أيضاً رواية الحاكم «3» إيّاه في المستدرك مجرّداً عن هذا الذيل (لا ضرر ولا ضرار).

ومنها: ما رواه هارون بن حمزة الغنوي عن أبي عبداللَّه عليه السلام في رجل شهد بعيراً مريضاً وهو يباع فاشتراه رجل بعشرة دراهم وأشرك فيه رجلًا بدرهمين بالرأس والجلد، فقضى أنّ البعير برى ء، فبلغ ثمنه (ثمانية) دنانير قال فقال: «لصاحب الدرهمين خمس ما بلغ فإن قال اريد الرأس والجلد فليس له ذلك، هذا الضرار، وقد أعطى حقّه إذا أعطى الخمس» «4».

وفي الحديث وإن ورد مجرّد الصغرى لكنّه بمنزلة قوله «لا تشرب الخمر لأنّه مسكر» حيث إنّ الكبرى فيه محذوفة وهى كلّ مسكر حرام، كذلك في هذا الحديث فكبرى «لا ضرار» محذوفة فيه، ولذلك تدخل في طائفة الرّوايات الدالّة على القاعدة بالعموم.

انوار الأصول، ج 3، ص: 223

نعم لو قلنا: بأنّ الفرق بين «ضرر» و «ضرار» أنّ الثاني مخصوص بالضرر العمدي، فيكون مفاد هذا الحديث أخصّ من مدلول غيرها ويكون ناهياً عن خصوص الضرر العمدي.

ومنها: ما رواه المحدّث الثوري في المستدرك عن دعائم الإسلام عن أبا عبداللَّه عليه السلام إنّه سئل عن

جدار الرجل وهو سترة بينه وبين جاره سقط فامتنع من بنيانه قال: «ليس يجبر على ذلك إلّاأن يكون وجب ذلك لصاحب الدار الاخرى بحقّ أو بشرط في أصل الملك، ولكن يقال لصاحب المنزل استر على نفسك في حقّك إن شئت، قيل له فإن كان الجدار لم يسقط ولكنّه هدمه أو أراد هدمه اضراراً بجاره لغير حاجة منه إلى هدمه قال: لا يترك، وذلك أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: لا ضرر ولا ضرار (اضرار) وإن هدمه كلّف أن يبنيه» «1».

وسيأتي أنّ ذيل هذا الحديث شاهد على أنّ القاعدة يمكن الاستدلال بها لإثبات الحكم أيضاً لا لخصوص نفي الأحكام.

ومنها: ما رواه المحدّث النوري في المستدرك أيضاً عن أمير المؤمنين عليه السلام: إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: «لا ضرر ولا ضرار».

ومنها: ما ورد في عوالي اللئالي عن أبي سعيد الخدري عنه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «لا ضرر ولا اضرار في الإسلام» «2».

وقال المصنّف بعد ذلك: وأسنده ابن ماجه والدارقطني وصحّحه الحاكم في المستدرك.

هذه هى الطائفة الاولى، أي الروايات العامّة الدالّة على القاعدة عموماً.

أمّا الطائفة الثانية: من الروايات الخاصّة، فمنها ما ورد في حريم البئر وهى اثنتان:

أحداها: ما رواه محمّد بن الحسن (الحسين) قال: «كتبت إلى أبي محمّد عليه السلام: رجل كانت له قناة في قرية فأراد رجل أن يحفر قناة اخرى إلى قرية له كم يكون بينهما في البعد حتّى لا تضرّ إحداهما بالاخرى في الأرض، إذا كانت صلبة أو رخوة؟ فوقّع عليه السلام: على حسب أن لا تضرّ

انوار الأصول، ج 3، ص: 224

إحداهما بالاخرى إن شاء اللَّه» «1».

الثانية: ما رواه محمّد بن حفص عن رجل عن أبي

عبداللَّه عليه السلام قال: «سألته عن قوم كانت لهم عيون في أرض قريبة بعضها من بعض، فأراد رجل أن يجعل عينه أسفل من موضعها الذي كانت عليه، وبعض العيون إذا فعل بها ذلك أضرّ بالبقية من العيون وبعضها لا يضرّ من شدّة الأرض، قال: فقال: ما كان في مكان شديد فلا يضرّ، وما كان في أرض رخوة بطحاء فإنّه يضرّ، وإن عرض رجل على جاره أن يضع عينه كما وضعها وهو على مقدار واحد قال: إن تراضيا فلا يضرّ، وقال: يكون بين العينين الف ذراع» «2».

والمستفاد من هاتين الروايتين عدم جواز الإضرار بالغير وإن كان منشأه تصرّف الإنسان في ملكه، نعم مقتضى خصوصية المورد اختصاص الحكم بباب حريم البئر وعدم جواز التعدّي إلى غيره، ولكن يمكن الغائها عرفاً واسراء الحكم إلى مطلق موارد الإضرار بالغير، ولا أقلّ من جوازه إلى غير البئر من سائر الجيران والأملاك المتقاربة، وحينئذٍ تكون الروايتان حاكمتين على عموم الناس مسلّطون على أموالهم.

وقد ورد في كتاب إحياء الموات في باب حريم البئر بحث عنونه الفقهاء في أنّ الميزان في حريم العيون والقنوات هل هو مطلق عدم الاضرار، أو مقدار الف ذراع في الأرض الرخوة وخمسمائة ذراع في الأرض الصلبة؟

مقتضى الاطلاق في الرواية الاولى بل صريحها هو الأوّل، وهو المحكي عن الأسكافي والمختلف والمسالك، ومدلول الرواية الثانية هو الثاني، وهو مذهب المشهور، ولقائل أن يقول بكفاية أحد الأمرين: البعد بالمقدار المذكور في الرواية الثانية، أو العلم بعدم تضرّر الجار، الذي يستفاد من الرواية الاولى.

ومنها: وما رواه عقبة بن خالد عن أبي عبداللَّه عليه السلام في رجل أتى جبلًا فشقّ فيه قناة فذهبت الآخر بماء قناة الأوّل. قال: فقال: «يتقاسمان (يتقايسان) بحقائب «3»

البئر ليلة ليلة

انوار الأصول، ج 3، ص: 225

فينظر أيّتهما أضرّت بصاحبتها، فإن رأيت الأخيرة أضرّت بالاولى فلتعور» «1».

«حقائب البئر» أو «عقائبه» اعجازها.

وهذه الرواية تحكم على عموم «من أحيى أرضاً فهى له» كما لا يخفى.

وأمّا عدم جريان هذا الحكم بالنسبة إلى الاولى لو أضرّت بالثانية فإنّما هو لقاعدة الإقدام.

ثمّ لا يخفى أنّ المستفاد من هذه الرواية هو الحكم الوضعي، وهو عدم استحقاق الثاني لبقاء ملكه على حاله.

وبهذا المضمون الرواية الثانية والثالثة الواردتان في نفس الباب، والظاهر أنّ جميعها رواية واحدة.

ومنها: ما رواه محمّد بن الحسين قال: كتبت إلى أبي محمّد عليه السلام: «رجل كانت له رحى على نهر قرية والقرية لرجل فأراد صاحب القرية أن يسوق إلى قريته الماء في غير هذا النهر ويعطّل هذه الرحى، أله ذلك أم لا؟ فوقّع عليه السلام: يتّقي اللَّه ويعمل في ذلك بالمعروف ولا يضرّ أخاه المؤمن» «2».

ويرد على الاستدلال بهذه الرواية على المطلوب بأنّ دلالتها عليه متوقّفة على أن يكون موردها ما إذا لم يكن لصاحب الرحى حقّ الانتفاع من النهر من قبل (فيقال حينئذٍ أنّ مقتضى عموم: «الناس مسلّطون على أموالهم» جواز سوق الماء إلى نهر آخر ولكنّه يمنع لقاعدة لا ضرر).

وأمّا مع وجود احتمال آخر في موردها وهو: أنّ صاحب الرحى كان له حقّ الانتفاع من قبل، تصير الرواية مجملة لا تصلح للاستدلال بها لأنّ مقتضى الاحتمال الثاني أن يكون سوق الماء في نهر آخر مزاحماً لحقّ صاحب الرحى، ومتعدّياً عليه، وأن يكون منع الإمام عليه السلام مستنداً إلى هذه الجهة.

انوار الأصول، ج 3، ص: 226

هذا، ولكن يمكن الجواب عنه بأنّ الإمام عليه السلام (على أي حال) أسند منعه إلى عنوان الضرر لا إلى عنوان العدوان والتعدّي على حقّ

الغير، وهذا كافٍ في الاستدلال به على المقصود، ولا يبعد حينئذٍ الغاء الخصوصيّة عن موردها، والحكم بعدم جواز الاضرار مطلقاً.

ومنها: ما رواه الطبرسي رحمه الله في مجمع البيان في ذيل قوله تعالى: «مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ ...» قال: جاء في الحديث «أنّ الضرار في الوصيّة من الكبائر» «1».

والظاهر (بقرينة سائر الروايات الواردة في الباب) أنّ المراد من الضرار في الوصيّة هو الوصيّة بتمام المال أو بأكثر من الثلث، وهو بنفسه حرام، ولذلك لا يتمّ الاستدلال بهذه الرواية لما نحن فيه، اللهمّ إلّاأن يقال: إنّ حكمة جعل هذا الحكم هو حرمة الاضرار، فيكون حاكماً على عموم قاعدة السلطنة، ولازمه حكومة قاعدة لا ضرر على تلك القاعدة أيضاً فتأمّل، ولا يخفى أنّها ناظرة إلى الحكم الوضعي.

ومنها: ما رواه طلحة بن زيد عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «إنّ الجار كالنفس غير مضارّ ولا إثم» «2».

ومنها: ما رواه أبو بصير عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: سمعته يقول: «المطلّقة الحبلى ينفق عليها حتّى تضع حملها وهى أحقّ بولدها أن ترضعه بما تقبله امرأة اخرى، يقول اللَّه عزّوجلّ:

«لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ» «لا يضارّ بالصبي ولا يضارّ بامّه في إرضاعه ...» «3».

ومنها: ما رواه الحلبي عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: سألته عن الشي ء يوضع على الطريق فتمرّ الدابة فتنفر بصاحبها فتعقره فقال: كلّ شي ء يضرّ بطريق المسلمين فصاحبه ضامن لما يصيبه» «4».

فتدلّ على أنّ الاضرار بالغير ولو كان بالتصرّف في الشارع العام موجب للضمان وأنّه لا فرق بين أن يكون الاضرار بالمباشرة أو بالتسبيب.

انوار الأصول، ج 3، ص: 227

ومثله ما جاء في حديث أبي الصباح عن أبي عبداللَّه عليه

السلام: «كلّ ما أضرّ بشي ء من طريق المسلمين فهو له ضامن»»

.ومنها: ما رواه حسن بن زياد عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «لا ينبغي للرجل أن يطلّق امرأته ثمّ يراجعها وليس له فيها حاجة ثمّ يطلّقها فهذا الضرار الذي نهى اللَّه عزّوجلّ عنه إلّا أن يطلّق ثمّ يراجع وهو ينوي الإمساك» «2».

فيحتمل أن يكون المراد من قوله عليه السلام: «فهذا الضرار الذي نهى اللَّه عزّوجلّ عنه» ما مرّ من قوله تعالى: «وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا»، وعليه تكون الرواية من الطائفة الخاصّة، ويحتمل أيضاً أن لا يكون مشيراً إلى تلك الآية فيدلّ على حرمة الاضرار بشكل عام، فتدخل الرواية حينئذٍ في الروايات العامّة، والظاهر من الرواية (خصوصاً بقرينة الروايتين الاخريين الواردتين في نفس الباب اللتين صرّح فيهما بالآية) هو الأوّل.

ومنها: ما رواه في عقاب الأعمال بإسناده عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في حديث قال: «ومن أضرّ بامرأة حتّى تفتدي منه نفسها لم يرض اللَّه له بعقوبة دون النار ... إلى أن قال: ومن ضارّ مسلماً فليس منّا ولسنا منه في الدنيا والآخرة ... إلى أن قال: ألا وإنّ اللَّه ورسوله بريئان ممّن أضرّ بامرأته حتّى تختلع منه» «3».

ولا يخفى أنّ هذه الرواية تشمل جميع موارد الضرر الذي يقع بين الناس بعضهم ببعض، أي المسائل الحقوقية، ولا يمكن التعدّي عنها إلى غيرها من أبواب العبادات.

ومنها: ما رواه إسماعيل بن الفضل الهاشمي قال: سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن رجل اكترى أرضاً من أرض أهل الذمّة من الخراج وأهلها كارهون وإنّما تقبلها من السلطان لعجز أهلها عنها أو غير عجز، فقال: «إذا عجز أربابها عنها فلك أن تأخذها إلّاأن يضارّوا ...» «4».

ومنها: ما رواه عبيد

بن زرارة قال: قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام: الجارية يريد أبوها أن يزوّجها من رجل ويريد جدّها أن يزوّجها من رجل آخر فقال: «الجدّ أولى بذلك ما لم يكن مضارّاً» «5».

انوار الأصول، ج 3، ص: 228

ومنها: ما رواه إسحاق بن عمّار قال قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام: «الرجل يكون عليه اليمين (الدَين) فيحلفه غريمه بالأيمان المغلّظة أن لا يخرج من البلد إلّابعلمه. فقال: لا يخرج حتّى يعلمه، قلت: إن أعلمه لم يدعه قال: إن كان علمه ضرراً عليه وعلى عياله فليخرج ولا شي ء عليه» «1».

ومنها: ما رواه حمران في حديث طويل قال: قال أبو جعفر عليه السلام: «لا يكون ظهار في يمين ولا في إضرار ولا في غضب» «2».

هذه هى الروايات الواردة من طرق الخاصّة.

وأمّا ما ورد من طريق العامّة فمنها: ما رواه أحمد في مسنده عن عبادة بن صامت «3» مسنداً قال: «إنّ من قضاء رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّ المعدن جبّار، والبئر جبّار، والعجماء جرحها جبّار، والعجماء البهيمة من الأنعام، والجبّار هو الهدي الذي لا يعزم، وقضى في الركاز الخمس، وقضى أنّ النخل لمن أبرّها إلّاأن يشترط المبتاع، وقضى أنّ مال المملوك لمن باعه ... إلى أن قال: وقضى للجدّتين من الميراث بالسدس بينهما، وقضى أنّ من أعتق شركاء في المملوك فعليه جواز عتقه إن كان له مال، وقضى أن لا ضرر ولا ضرار، وقضى أنّه ليس لعرق ظالم حقّ، وقضى بين أهل المدينة في النخل لا يمنع نفع بئر، وقضى بين أهل البادية (المدينة) أنّه لا يمنع فضل ماء ليمنع فضل الكلاء» «4».

ومن الواضح (بشهادة مضمون الرواية) عدم صدور هذه الأقضية في زمان واحد وفي رواية واحدة بل صدرت في

وقائع مختلفة جمعها عبادة بن صامت في هذا الحديث، وحينئذٍ لا يبعد عدم كون قوله صلى الله عليه و آله: «لا ضرر ولا ضرار» رواية مستقلّة غير ما ورد في قضيّة سمرة وشبهها التي مرّ ذكرها.

ومنها: ما رواه أحمد أيضاً في مسنده مسنداً عن ابن عبّاس قال: «قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: لا

انوار الأصول، ج 3، ص: 229

ضرر ولا ضرار، وللرجل أن يجعل خشبة في حائط جاره والطريق الميثاء سبعة أذرع» «1».

قوله صلى الله عليه و آله: الميثاء السهل، ولا يخفى إنصرافه عن الطرق في يومنا هذا.

ومنها: ما رواه مالك في موطّأه عن عمر بن يحيى المازني عن أبيه: أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال:

«لا ضرر ولا ضرار» «2».

ومنها: ما رواه ابن ماجه في سننه عن عبادة بن صامت: «أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قضى أن لا ضرر ولا ضرار» «3».

وأيضاً عن ابن عبّاس «4» قال: «قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله «لا ضرر ولا ضرار» وعن ابن حرمة «5» عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «من ضارّ أضرّ اللَّه به».

ومنها: ما رواه في كنز العمّال عن ابن عبّاس عن عبادة: «لا ضرر ولا ضرار» «6».

وعن المازني: «لا ضرر ولا ضرار» وعن ابن عبّاس: «لا ضرر ولا ضرار» «7».

ومنها: ما رواه ابن الأثير في النهاية أنّه صلى الله عليه و آله قال: «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام» «8».

ومنها: ما رواه أبو داود في سننه عن الإمام الباقر عليه السلام عن سمرة بن جندب: «إنّه كان عضد (عضيد) من النخل في حائط رجل من الأنصار، قال: ومع الرجل أهله فكان سمرة يدخل إلى

نخله فيتأذّى به ويشقّ عليه فطلب إليه أن يبيعه فأبى، فطلب إليه أن يناقله فأبى، فأتى النبي صلى الله عليه و آله فذكر ذلك له فطلب إليه النبي صلى الله عليه و آله أن يبيعه فأبى فطلب إليه أن يناقله فأبى، قال: فهبه له ولك كذا وكذا أمراً رغّبه فيه فأبى، فقال: أنت مضارّ فقال صلى الله عليه و آله للأنصاري: إذهب فاقلع نخله» «9».

انوار الأصول، ج 3، ص: 230

ومنها: ما رواه أبو داود أيضاً في سننه عن أبي صرمة صاحب النبي صلى الله عليه و آله أنّه قال: «من ضارّ أضرّ اللَّه به ومن شاقّ شاقّ اللَّه عليه» «1».

ونفس المضمون ورد في سنن الترمذي «2».

هذه ما ورد من طرق العامّة.

وقد ظهر من مجموع ما ورد من الطريقين أنّ الحديث (لا ضرر ولا ضرار) لو لم يكن متواتراً فلا أقلّ من كونه متظافراً، وقد قال العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول في شرح حديث سمرة: «هذا المضمون مروي من طرق العامّة والخاصّة بأسانيد كثيرة فصار أصلًا من الاصول، وبه يستدلّون في كثير من الأحكام» «3».

أضف إلى ذلك استدلال فقهائنا بهذا الحديث بعنوان أصل مسلّم، وهذا هو الشيخ الطوسي رحمه الله استدلّ به في الخلاف كتاب البيع في مسائل الغبن (المسألة 60) وكتاب الشفعة المسألة 14.

إلى هنا تمّ الكلام في المقام الأوّل.

المقام الثاني: في مفاد الحديث
اشارة

ولابدّ فيه من تقديم امور:

الأمر الأوّل: في قيد «في الإسلام» الذي سيأتي دخله وتأثيره في معنى الحديث والاستظهار منه.

وقد ورد هذا القيد في أحاديث عديدة من الطريقين، فورد (كما مرّ في المقام الأوّل) من طريق الخاصّة في مرسلة الصدوق الواردة في باب الإرث، وفي مجمع البحرين في مادّة «ضرر» في ذيل حديث الشفعة، وفي

عوالي اللئالي، ومن طرق العامّة في نهاية ابن الأثير.

لكن بما أنّ جميع هذه الطرق غير قابلة للإعتماد خصوصاً بعد ملاحظة مخالفة بعضها مع انوار الأصول، ج 3، ص: 231

ما جاء في سائر الطرق (فإنّ حديث الشفعة الذي جاء في مجمع البحرين مع القيد المذكور مذكور في جوامع أخبارنا بدون هذا القيد، مضافاً إلى أنّ الظاهر أخذه هذا الحديث من غيره (ولعلّه من نهاية ابن الأثير) ومضافاً إلى نقله في بعض الكتب الفتوائية أيضاً بكلتا الصورتين، فنقل في الخلاف في كتاب الشفعة (المسألة 14) مع هذا القيد، وفي كتاب البيع (المسألة 60) بدون هذا القيد، فتذييل هذا الحديث بهذا الذيل غير ثابت.

فالحاصل أنّ وجود هذا القيد في الأسانيد المعتبرة ليس بثابت هذا أوّلًا.

وثانياً: لو فرضنا وجوده فيها فهل هو بمعنى أنّ الحديث صدر من جانب الرسول صلى الله عليه و آله بصورتين أو لا؟

قد يقال: لا يبعد صدوره منه صلى الله عليه و آله كذلك فيما إذا وقعت الصورتان ذيل قضيتين (كقضية سمرة والشفعة) وأمّا إذا وقعتا ذيل قضيّة واحدة فنقلت في بعض الطرق مع ذلك القيد وفي بعض آخر بدونه فحينئذٍ يقدّم ما اشتمل على الزيادة على ما لم يشتمل عليها ويؤخذ به، نظراً إلى تقديم أصالة عدم الزيادة على أصالة عدم النقيصة بناءً على أنّه أصل عقلائي، فظهر أنّه بناءً على اعتبار الطريقين وبناءً على ورودهما في ذيل قضية واحدة وبناءً على وجود السيرة العقلائيّة على تقديم أصالة عدم الزيادة على أصالة عدم النقيصة تكون الحجّة في المقام هى ما اشتملت على قيد «في الإسلام».

لكن جميع المباني والقيود الثلاثة مشكوكة غير ثابتة، فلا طريق معتبر ورد فيه هذا القيد، وليست القضية واحدة، ولا أصل عقلائي

على عدم الزيادة، كما يشهد عليه ملاحظة رسائل العقود والعهود في يومنا، هذا فيما إذا وقعت زيادة في واحدة من إثنتين منها مثلًا فإنّهم يعتمدون حينئذٍ على قرائن لفظيّة أو حاليّة أو مقاميّة توجب الاطمئنان بثبوتها، وإلّا لا اعتبار لها عندهم، بل يحكمون بالتساقط بعد التعارض.

فصارت النتيجة في النهاية عدم ثبوت القيد المذكور.

الأمر الثاني: في قيد «على مؤمن» الذي سيأتي تأثيره أيضاً في الاستظهار من الحديث.

وقد ورد في أحد طريقي حديث زرارة، وهو طريق ابن مسكان عنه مع ورودهما في ذيل قضيّة واحدة وهى قضية سمرة كما مرّ، فلو قبلنا وجود أصالة عدم الزيادة عند العقلاء وكان السند معتبراً في كليهما يقدّم طريق ابن مسكان عن زرارة على طريق ابن بكير عن زرارة،

انوار الأصول، ج 3، ص: 232

وتصير النتيجة تذييل الحديث بقيد «على مؤمن».

ولكن أوّلًا: ليس الأصل المذكور ثابتاً كما مرّ آنفاً، وثانياً: ليس السند في طريق ابن مسكان معتبراً، لارساله.

الأمر الثالث: في تذييل حديث الشفعة وحديث منع فضل الماء بقوله صلى الله عليه و آله: «لا ضرر ولا ضرار» وعدمه.

وسيأتي دخله في كون كلمة «لا» في «لا ضرر ولا ضرار» ناهية أو نافية، الذي سيأتي البحث عنه وعن الثمرة التي تترتّب عليه.

والظاهر من الروايتين ورود قوله صلى الله عليه و آله: لا ضرر ولا ضرار في ذيل كلّ واحدة منهما كما أشرنا إليه حين نقلهما، ولكن أصرّ بعض الأعاظم أنّه من عمل عقبة بن خالد الراوي لهما من باب الجمع في الرواية، وهو العلّامة شيخ الشريعة الأصفهاني؛، وتبعه المحقّق النائيني رحمه الله وبعض الأعلام في مصباح الاصول.

واستشهد شيخ الشريعة رحمه الله بأنّ قضيّتي الشفعة ومنع فضل الماء رويتا من طرق العامة المنتهية إلى عبادة بن

صامت، بينما كانت طرق الخاصّة تنتهي إلى عقبة بن خالد، وهى خالية من هذا الذيل بلاريب، لأنّ روايته مصدّرة في كلّ فقرة من فقراتها بقوله «وقضى» وهو ينادي بأعلى صوته باستقلال كلّ فقرة عن غيرها (فراجع متن الرواية التي أوردناها في المقام الأوّل) كما أنّ رواية عقبة بناءً على النسخة المصحّحة تكون بالواو لا بالفاء وحينئذٍ يدور الأمر بين صراحة رواية عبادة في الانفصال وظهور رواية عقبة في الإتّصال، فتتقدّم الاولى لصراحتها على الثانية، خصوصاً بعد ملاحظة ما ورد في عبادة من أنّه كان شيعياً ضابطاً متقناً.

ويرد عليه: أنّه لا دليل على وثاقة كلّ واحد من الراويين، فإنّ عقبة مجهول في الكتب الرجالية للإماميّة ولم يرد فيه مدح إلّافي رواية راويها هو نفسه «1» مضافاً إلى أنّها تدلّ على كونه شيعياً لا على وثاقته، وأمّا عبادة فقد ورد في كتب الإمامية «أنّه كان شيعياً كان ابن أخي أبي ذرّ من السابقين الذين أرجعوا إلى أمير المؤمنين عليه السلام» وهذا لا يدلّ على وثاقته أيضاً، نعم انوار الأصول، ج 3، ص: 233

قال شيخ الشريعة بالنسبة إليه: «كان ضابطاً متقناً في نقل الأحاديث ومن خيار الشيعة على ما قيل» لكن لم نر نقل هذه العبارة في كتبنا.

هذا كلّه ما ورد في عبادة، ولو فرضت وثاقته لا يلزم منه اعتبار الحديث لأنّ سائر رواته مجهول الحال، هذا أوّلًا.

وثانياً: لا يخفى على المتأمّل في رواية عبادة تقطيعه للأحاديث، خصوصاً بعد ملاحظة عدم نقله قضيّة سمرة واكتفائه بنقل ذيلها (لا ضرر ولا ضرار) مع أنّ الثابت من الطرق المعتبرة تصدير هذا بقضية سمرة.

وثالثاً: لا يختصّ الظهور في الإتّصال بفاء التفريع، لأنّ العطف بالواو أيضاً ظاهر فيه وإن كان ظهوره أضعف من

ظهور الفاء.

وأمّا ما استدلّ به المحقّق النائيني وتلميذه المحقّق في مصباح الاصول على مقالة شيخ الشريعة فهو وجوه:

الوجه الأوّل: «أنّ بين موارد ثبوت حقّ الشفعة وتضرّر الشريك بالبيع عموم من وجه، فربّما يتضرّر الشريك ولا يكون له حقّ الشفعة كما إذا كان الشركاء أكثر من إثنين، وقد يثبت حقّ الشفعة بلا ترتّب ضرر على أحد الشريكين ببيع الآخر، كما إذا كان الشريك البائع مؤذياً، وكان المشتري ورعاً بارّاً محسناً إلى شريكه، وربّما يجتمعان كما هو واضح، فإذاً لا يصحّ إدراج الحكم بثبوت حقّ الشفعة تحت كبرى قاعدة لا ضرر» «1».

إن قلت: يمكن كونها من قبيل الحكمة، (أي من قبيل علّة التشريع لا علّة الحكم) قلت:

حكمة الأحكام لو لم تكن دائمية فلا أقلّ من لزوم كونها غالبية مع أنّ الضرر في موارد الشفعة ومنع فضل الماء ليس غالبياً «2».

والجواب عنه: أنّ الوجدان حاكم على أنّ أغلب الافراد لا يرضون لتشريك شخص في أموالهم إلّابعد الدقّة والتأمّل في حقّ الشريك، فلو باع الشريك سهمه من دون إطّلاع صاحبه يحكم العرف بأنّه جعله في معرض الضرر والخسران، خصوصاً بعد ملاحظة أنّ كلّ إنسان لا يرضى بالشركة إلّامع أقلّ قليل من افراد المجتمع، لعدم ركونهم إلى كلّ أحد.

انوار الأصول، ج 3، ص: 234

وأمّا عدم وجود حقّ الشفعة فيما إذا كان الشركاء أكثر من اثنين فلأنّ وجود فرد ثالث في البين يوجب سهولة الأمر، وإن أبيت عن هذا فنلتزم باستثناء هذا المورد تعبّداً ولأجل مصلحة خفيت علينا.

الوجه الثاني: أنّ مفاد لا ضرر إنّما هو نفي الحكم الضرري أو نفي الموضوع الضرري، مع أنّ الضرر في مورد ثبوت حقّ الشفعة موجب لإثبات الحكم، وهو الخيار «1».

والجواب عنه: أنّ كون مفاد لا ضرر

خصوص نفي الحكم الضرري أوّل الكلام، بل يمكن أن تكون هذه الرواية (رواية الشفعة) بنفسها دليلًا على عموم مفاد القاعدة وبطلان المبنى المذكور، لا أن يكون المبنى دليلًا على اختصاصها بنفي الحكم.

هذا- مضافاً إلى أنّ قضيّة سمرة أيضاً تشهد على عمومها لأنّ وجوب الاستئذان وكذلك وجوب قلع الشجرة أو جوازه حكم إثباتي.

الوجه الثالث: «أنّ الضرر لا ينطبق على منع المالك فضل ماله عن الغير (بالنسبة إلى حديث منع فضل الماء) إذ من الواضح أنّ منع المالك غيره عن الانتفاع بماله لا يعدّ ضرراً على الغير، غايته عدم الانتفاع به، وعدم الانتفاع لا يعدّ ضرراً» «2».

الوجه الرابع: «أنّ النهي في مورد حديث منع فضل الماء تنزيهي قطعاً لعدم حرمة منع فضل الماء عن الغير بالضرورة فلا يندرج تحت كبرى قاعدة لا ضرر» «3».

والجواب عنهما: أنّ حكم الرسول صلى الله عليه و آله بعدم منع فضل الماء يكون مورده بقرينة مكان الصدور (وهو مناطق الحجاز التي كان تحصيل الماء فيها على الإنسان شاقّاً جدّاً) ما إذا كان الممنوع في حاجة شديدة ويشقّ عليه تحصيل ماء آخر بحيث يوجب من فضل الماء وقوعه في حرج شديد وضيق في المعيشة، وفي مثل هذا المورد ليس المنع من فضل الماء مجرّد عدم الانتفاع بل يصدق عليه الضرر قطعاً، كما أنّه لا يبعد فيه الحكم بحرمة المنع بمقتضى ظاهر الرواية كما أفتى به جماعة من الفقهاء كالشيخ الطوسي وابن جنيد وابن زهرة رحمه الله، وهذا نظير ما

انوار الأصول، ج 3، ص: 235

ورد من الحكم بحرمة الإحتكار وجواز البيع على المحتكر مع أنّ الناس مسلّطون على أموالهم.

الوجه الخامس: أنّ جملة «ولا ضرار» لا تناسب حديث الشفعة ولا حديث منع فضل الماء لأنّها في

اللغة مخصوصة بالضرر العمدي وهو أخصّ من مورد الحديثين «1».

وفيه: أنّه كم من قضية تكون مشتملة على فقرات عديدة وأجزاء مختلفة ولكنّها لاشتهارها بعبارة مخصوصة وجيزة تذكر جميعها في مقام الاستشهاد وإن كان مورد الإستشهاد خصوص بعض فقراتها.

من قبيل رواية البزنطي وصفوان المشتملة على ثلاث فقرات: «رفع ما اكرهوا عليه وما لم يطيقوه وما أخطأوا» مع أنّ موردها خصوص الإكراه. وليكن محلّ الكلام من هذا القبيل.

الأمر الرابع: في معنى الضرر والضرار
اشارة

ولنا في تعيين معاني اللغات وتشخيص حدودها ثلاثة طرق:

1- الرجوع إلى كتب اللغة، وقد مرّت حجّية قول اللغوي.

2- الرجوع إلى موارد الاستعمال إذا بلغ إلى حدّ الإطّراد.

3- الرجوع إلى المتبادر إلى الذهن، وهى تفيد بالإضافة إلى اللغات التي كثر استعمالها في معانيها بحيث تتبادر المعاني إلى ذهن كلّ من أنس باللسان ولو كان من غير أهله.

ولا يخفى أنّ كلمة «الضرر» من اللغات التي يمكن في تعيين معناها أعمال كلّ واحد من هذه الطرق.

أمّا الطريق الأوّل ففي مفردات الراغب: «الضرّ «2» سوء الحال إمّا في النفس لقلّة العمل والفضل وإمّا في البدن لعدم جارحة ونقص، وأمّا في الحال من قلّة مال وجاه».

ولا تخفى المسامحة الموجودة في هذا التعريف مع أنّه من أحسن التعاريف ومع دقّة نظر الراغب في مفرداته.

انوار الأصول، ج 3، ص: 236

والأولى أن يقال، إنّه فقد كلّ ما نجده وننتفع به من مواهب الحياة من نفس أو مال أو عرض أو غير ذلك فلا ينحصر الأمر في ما ذكره، إلّاأن يكون ما ذكره من قبيل ذكر المثال.

وفي لسان العرب: الضَرّ والضُرّ لغتان، كلّ ما كان من سوء حال أو فقر أو شدّة في بدن فهو ضُرّ وما كان ضدّاً للنفع فهو ضَرّ.

وفي كتاب العين (للخليل بن أحمد): الضَرّ والضُرّ

لغتان فإذا جمعت بين الضرّ والنفع فتحت الضاد، وإذا افردت الضرّ ضمّمت الضاد إذا لم تجعله مصدراً، هكذا يستعمله العرف، والضرر النقصان يدخل في الشي ء.

وفي مختار الصحاح: الضرّ ضدّ النفع والضُرّ بالضمّ الهزل وسوء الحال.

ونقل في المفردات عن الكلّيات: الضَرّ بالفتح شائع في كلّ ضرر وبالضمّ خاصّ بما في النفس كمرض وهزل.

وفي المقاييس: له ثلاثة اصول: الأوّل خلاف النفع، والثاني اجتماع الشي ء، والثالث القوّة، ثمّ قال: الضَرّة اسم مشتقّ من الضَرّ كأنّها تضرّ الاخرى كما تضرّها تلك، ثمّ مثّل المعنى الثاني بضرّة الإبهام وهو اللحم المجتمع تحتها، بضرّة الضرع: لحمته، قال أبو عبيدة: الضرّة التي لا تخلو من اللبن، وسمّيت بذلك لاجتماعها، ومثّل المعنى الثالث بالضرير، وهو قوّة النفس، يقال:

فلان ذو ضرير أي ذا صبر على الشي ء وذا مقاصاة.

أقول: يمكن إرجاع المعنى الثاني والثالث إلى المعنى الأوّل لأنّ استعمال الضرّة مثلًا في «الضرّتان» يكون بلحاظ اضرار كلّ واحدة منهما بالاخرى، ولازمه اجتماعهما على الاضرار، ولأنّ الصبر على الشدائد (في المعنى الثالث) أيضاً يلازم الضرر غالباً.

وفي القاموس: أنّه ضدّ النفع وأنّه سوء الحال.

وفي المصباح: «ضرّه يضرّه من باب قتل، إذا فعل به مكروهاً و ... قد اطلق على نقص يدخل الأعيان».

وفي النهاية: «لا ضرَرَ ولا ضرار في الإسلام ... أي لا يضرّ الرجل أخاه فينقصه شيئاً من حقّه».

والظاهر أنّ اختلاف أرباب اللغة في تعبيراتهم ليس لاختلافهم في معنى الكلمة بل من جهة وضوح المعنى، وإنّ كلّ واحد منهم أشار إليه من ناحية، بل يمكن أن يقال بعدم الحاجة

انوار الأصول، ج 3، ص: 237

إلى الرجوع إلى أقوال علماء اللغة في أمثال المقام بعد إمكان الرجوع إلى ما يتبادر منه إلى أذهاننا، لأنّ من يزاول هذه اللغة كمزاولتنا يعدّ

من أهل الخبرة بالنسبة إلى أمثال هذه اللغات المعروفة التي يكثر دورانها في الألسن كما لا يخفى.

والذي نجده من إرتكازنا الحاصل من تتبّع موارد استعمالات كلمة الضرر هو ما مرّ آنفاً من أنّه عبارة عن فقد كلّ ما نجده وننتفع به من مواهب الحياة في النفس أو المال أو العرض أو غير ذلك.

وبهذا يظهر ما يستفاد من الطريق الثالث (وهو الرجوع إلى التبادر) فالمتبادر من الضرر هو ما ذكره في المفردات مع تغيير أشرنا إليه، وأمّا الطريق الثاني (وهو الرجوع إلى موارد الاستعمال) فكذلك يستفاد منه ما يقابل النفع، والشاهد عليه وقوع عنوان الضرر في كثير من موارد الاستعمال في مقابل عنوان النفع، ويكفيك في هذا المجال ملاحظة الموارد التي وردت في كتاب اللَّه العزيز كقوله تعالى: «فَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ» وقوله: «يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَايَضُرُّهُ وَمَا لَايَنْفَعُهُ» وقوله: «لَايَمْلِكُونَ لِانفُسِهِمْ ضَرّاً وَلَا نَفْعاً».

هذا كلّه في معنى كلمة «الضرر».

وأمّا «الضرار» فحيث إنّ استعماله ليس كثيراً مطّرداً فلا يمكن الرجوع فيه إلى الطريق الثالث وهو التبادر، لعدم حصول إرتكاز وانس ذهني بالنسبة إليه حتّى بالإضافة إلى أهل اللسان، فلابدّ حينئذٍ من الرجوع إلى الطريقين الآخرين:

أمّا الطريق الأوّل فكلمات اللغويين فيه مختلفة بل ربّما يختلف فيه كلمات لغوي واحد، فقال في لسان العرب: «وروي عن النبي صلى الله عليه و آله أنّه قال: لا ضرر ولا ضرار في الإسلام ولكلّ واحد من اللفظين معنى غير آخر فمعنى قوله لا ضرر ... إلى أن قال: وقوله «لا ضرار» أي لا يضارّ كلّ واحد منهما صاحبه، فالضرار منهما معاً والضرر فعل واحد- ومعنى قوله «ولا ضرار» أي لا يدخل الضرر على الذي ضرّه ولكن يعفو عنه.

والظاهر

أنّ ما ذكره معنيان مختلفان: الأوّل: اضرار كلّ واحد بالآخر، والثاني: المجازاة على الضرر.

انوار الأصول، ج 3، ص: 238

ثمّ قال: «قال ابن الأثير: قوله: لا ضرر، أي لا يضرّ الرجل أخاه، والضرار فِعال من الضرّ أي لا يجازيه على اضراره، والضرر فعل الواحد والضرار فعل الاثنين، والضرر ابتداء الفعل، والضرار الجزاء عليه، وقيل: الضرر ما تضرّ به صاحبك وتنتفع أنت به، والضرار أن تضرّه من غير أن تنتفع، وقيل هما بمعنى، وتكرارهما للتأكيد».

فقد ذكر إلى هنا أربعة معانٍ تكون هى الأساس والعمدة من المعاني التي ذكرناها في كتابنا القواعد الفقهيّة:

1- أن يكون الضرار بمعنى الضرر.

2- أنّه الاضرار بالغير بما لا ينتفع به بخلاف الضرر فإنّه الاضرار بما ينتفع.

3- أنّه فعل الاثنين والضرر فعل الواحد.

4- أنّه المجازاة على الضرر والمقابلة بالمثل.

وأمّا تفسيره بالتعمّد بالضرر فيرجع إلى المعنى الثاني، أي الاضرار بالغير بما لا ينتفع به.

هذا ما يستفاد من لسان العرب، وسائر كتب اللغة اختار كلّ واحد منها بعض هذه الأربعة، نعم ذكر في القاموس أنّه بمعنى الضيق، وسيأتي ما فيه في آخر البحث.

وبهذا يظهر أنّ تعيين معنى «الضرار» بالطريق الأوّل مشكل جدّاً.

وأمّا الطريق الثاني، وهو الإطراد وكثرة الإستعمال فالمستفاد منه عدم كونهما بمعنى واحد (أي المعنى الأوّل من المعاني الأربعة) مضافاً إلى أنّه بعيد في نفسه لأنّ أحدهما مصدر الثلاثي المجرّد والآخر مصدر المزيد، كما أنّ معنى المجازاة على الضرر (وهو المعنى الرابع) يكون من لوازم باب المفاعلة، وهكذا المعنى الثالث وهو كونه فعل الاثنين فليسا هما مستفادين من كثرة الاستعمال بل المستفاد من التتبّع في موارد إستعمال الكلمة في الكتاب والسنّة إنّما هو المعنى الثاني وهو- كما أشرنا- عبارة عن التعمّد على الضرر بما لا ينتفع

به فقوله تعالى: «وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً» معناه الإمساك ثمّ الطلاق بقصد الإيذاء لا بقصد الإمساك والانتفاع كما يشهد عليه قوله تعالى: «لِتَعْتَدُوا» الوارد في ذيل الآية وكذلك الروايات الواردة في ذيلها، وهكذا قوله تعالى: «لَاتُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ» بناءً على أحد التفسيرين المذكورين سابقاً وهو كونه نهياً عن اضرار الامّ بولدها بترك إرضاعه غيظاً على أبيه وعن اضرار الأب بولده بانتزاعه عن امّه طلباً للاضرار بها، وقوله تعالى: «مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى انوار الأصول، ج 3، ص: 239

بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ» الذي مرّ في تفسيره أنّه نهى عن الاضرار بالورثة بإقراره بدَين ليس عليه، دفعاً لهم عن ميراثهم، وقوله تعالى: «وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ» لأنّه نهي عن الاضرار بالمطلّقات والتضييق عليهنّ في النفقة والسكنى طلباً للاضرار بهنّ.

هذا كلّه في الآيات.

وهكذا الروايات، فإنّ معنى قوله صلى الله عليه و آله «أنت رجل مضارّ» في قضيّة سمرة الوارد في بعض الطرق، وقوله صلى الله عليه و آله: «ما أراك ياسمرة إلّامضارّاً» في طريق آخر، إنّما هو التعمّد على الضرر مع عدم منفعة عقلائيّة في عمله، وهكذا رواية ابن حمزة الغنوي لأنّ الوارد فيها: «إذا إزدادت القيمة بالبرء ومع ذلك طلب الرأس والجلد فليس إلّالقصد الاضرار بصاحبه».

فظهر أنّ المستفاد من موارد استعمالات هذه الصيغة في الكتاب والسنّة إنّما هو الاضرار العمدي بما لا ينتفع به.

وأمّا كونه بمعنى الضيق كما ذكره في القاموس فإن كان المراد منه هو ما ذكر، فبها، وإلّا فإن كان المراد منه الايقاع في الكلفة والحرج في مقابل الضرر الذي هو إيراد نقص في الأموال والأنفس فهو أيضاً ممّا لا يمكن المساعدة عليه لعدم كونه ملائماً موارد استعماله كما لا يخفى.

هذا تمام

الكلام في مفاد كلمتي «الضرر» و «الضرار».

الأقوال الواردة في معنى الحديث

إذا عرفت ذلك كلّه فلنرجع إلى معنى الحديث والأقوال الواردة فيه، فنقول ومن اللَّه سبحانه نستمدّ التوفيق والهداية: منشأ الخلاف فيها أنّ كلمة «لا» الواردة في الحديث هل هى ناهية أو نافية، فبناءً على كونها نافية يحتمل فيه ثلاثة وجوه لكلّ واحد منها قائل من الأصحاب، فأحدها ما قال به الشيخ الأعظم الأنصاري رحمه الله، والثاني ما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمه الله، والثالث ما نقله الشيخ الأعظم رحمه الله، عن بعض الفحول ولم يسمّه، وبناءً على أنّها ناهية يوجد في معنى الحديث قولان: أحدهما قول العلّامة شيخ الشريعة رحمه الله، والثاني ما ذهب إليه في تهذيب الاصول فتصير الأقوال خمسة:

أمّا القول الأوّل، أي ما ذهب إليه الشيخ الأنصاري رحمه الله فهو أن تكون «لا» نافية، ويراد

انوار الأصول، ج 3، ص: 240

به نفي الحكم الشرعي الذي هو ضرر على العباد، وأنّه ليس في الإسلام مجعول ضرري من دون فرق بين الأحكام الوضعيّة كلزوم البيع العنبي، والأحكام التكليفيّة كوجوب اعطاء ثمن كثير لشراء ماء قليل للوضوء، ولازمه حينئذٍ حكومة هذه القاعدة على جميع الأحكام الضررية الوضعيّة أو التكليفيّة وتقييدها لأدلتها.

لكن هنا كلام بين الأعلام في أنّ هذا التركيب (لا ضرر ولا ضرار) بناءً على هذا المعنى حقيقة أو مجاز؟ فأصرّ المحقّق النائيني رحمه الله على كونه حقيقة لا ادّعاء فيه ولا مجاز، ولعلّه يستفاد أيضاً من بعض كلمات المحقّق الحائري رحمه الله.

وذهب في تهذيب الاصول إلى كونه مجازاً إمّا من باب مجاز الحذف، أي «لا حكم ضرري» أو «لا حكم موجب للضرر» نظير قوله تعالى: «وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ» أي أهلها، أو من باب المجاز في الكلمة بعلاقة السبب والمسبّب فذكر المسبّب،

وهو الضرر، واريد منه السبب، وهو الحكم الضرري، أو من باب الحقيقة الإدّعائية (مجاز السكّاكي) بأن يدّعي أنّ الحكم الموجب للضرر بنفسه ضرر.

وسيأتي أنّ الحقّ عدم كونه مجازاً.

وأمّا القول الثاني، (وهو ما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمه الله) فهو أن تكون «لا» نافية ولكن تنفي موضوع الضرر الخارجي ابتداءً (لا الحكم) فينفي الحكم بلسان نفي الموضوع، ويكون نفي موضوع الضرر كناية عن نفي الأحكام الضرريّة في الشريعة، فهو داخل في باب الكناية لا المجاز.

والظاهر أنّ هذا القول غير قول الشيخ الأعظم رحمه الله وإن حاول في تهذيب الاصول أن يجعلهما قولًا واحداً، ولعلّه ناظر إلى النتيجة.

وأمّا القول الثالث، (وهو ما نقله الشيخ رحمه الله عن بعض الفحول) فهو أيضاً أن تكون «لا» نافية، ويكون المراد من نفي الضرر نفي صفة من صفاته، أعني «عدم التدارك» فقوله: لا ضرر أي لا ضرر غير متدارك في الشريعة، ولازم هذا القول عدم حكومة القاعدة على شي ء من أدلّة الأحكام بل إنّها تبيّن حكماً من الأحكام الفرعيّة نظير قاعدة «من أتلف مال الغير فهو له ضامن» التي لا نظر لها إلى سائر الأحكام.

وأمّا القول الرابع، (وهو مختار شيخ الشريعة) فهو أن تكون «لا» ناهية ويراد من انوار الأصول، ج 3، ص: 241

الحديث النهي عن اضرار الناس بعضهم ببعض، نظير قوله تعالى: «فلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ» الذي ينهى عن الرفث والفسوق والجدال في الحجّ، وقول السامري: «لَامِسَاسَ» أي «لا تمسّني» ونتيجة هذا القول أيضاً سقوط القاعدة عن حكومتها على سائر الأحكام وتنزّلها إلى مجرّد نهي تكليفي عن اضرار الناس بعضهم ببعض، كما أنّ قوله تعالى: «وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً» ينهى عن الغيبة فحسب، فيخرج حينئذٍ عن نطاق القواعد الفقهيّة

إلى حكم فرعي خاصّ.

وأمّا القول الخامس، (وهو ما ذهب إليه في تهذيب الاصول) فهو أن تكون «لا» ناهية أيضاً لكن بأن يكون النهي نهياً سلطانياً صدر عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بما هو سائس الملّة وسلطانها، وقال في توضيح مرامه ما حاصله «1»: أنّ للنبي الأكرم مقامات ثلاثة: الأوّل: مقام الإفتاء وبيان الأحكام الشرعيّة، الثاني: منصب القضاء وفصل الخصومة، الثالث: مقام السلطنة الإلهيّة (وما يسمّى اليوم بولاية الفقيه، وهو مقام إجراء «2» الأحكام الإلهيّة التي ترتبط بالحكومة، والأحكام الحكوميّة السلطانيّة) وقاعدة لا ضرر داخلة في القسم الثالث فهى مجرّد حكم سلطاني صدر من الرسول صلى الله عليه و آله في قضيّة سمرة تحديداً لقاعدة السلطنة عن الأموال «3».

انوار الأصول، ج 3، ص: 242

ولا يخفى أنّ نتيجة هذا القول حكومة قاعدة لا ضرر على قاعدة السلطنة فقط كما صرّح به.

أقول: يستدعي التحقيق في المسألة وبيان المختار فيها ونقد الأقوال المزبورة البحث في أمرين آخرين:

أحدهما: في كون كلمة «لا» الواردة في الحديث ناهية أو نافية؟

ثانيهما: في فاعل الضرر وأنّه هل هو الناس أو اللَّه سبحانه؟

أمّا الأمر الأوّل فإستدلّ شيخ الشريعة رحمه الله لكون «لا» ناهية بامور:

الأوّل: الإطّراد وشيوع هذا المعنى في هذا التركيب، أعني تركيب «لا» (التي وضعت لنفي الجنس أصالة) في الاستعمالات العرفيّة.

الثاني: كلمات أئمّة اللغة ومهرة أهل اللسان فادّعى أنّهم متّفقون على إرادة النهي في قوله صلى الله عليه و آله «لا ضرر ولا ضرار» فنقل في هذا المجال عبارات جماعة منهم.

الثالث: موارد استعمال مثل هذا التركيب في الكتاب والسنّة، نظير قوله تعالى: «فلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ» وقوله تعالى: «فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَامِسَاسَ» أي لا يمسّ

بعض بعضاً فصار السامري يهيم في البرية مع الوحش والسباع، لا يمسّ أحداً ولا يمسّه أحد، عاقبه اللَّه تعالى بذلك، وكان إذا لقى أحداً يقول: لا مساس، أي لا تقربني ولا تمسّني، وفي السنّة نظير قوله صلى الله عليه و آله: «لا جلب ولا جنب ولا شغار في الإسلام» وقوله: «لا جلب ولا جنب ولا إعتراض» وقوله: «لا إخصاء في الإسلام» وقوله: «لا غشّ بين المسلمين» وقوله:

«لا هجر بين المسلمين فوق ثلاثة أيّام» ثمّ قال: «ولو ذهبنا لنستقصي ما وقع من نظائرها في الروايات واستعمالات الفصحاء نظماً ونثراً لطال المقال وأدّى الملال» ثمّ أيّد قوله بما جاء في قضيّة سمرة من قوله صلى الله عليه و آله: «إنّك رجل مضارّ» قبل قوله «لا ضرر ولا ضرار على مؤمن» حيث إنّهما بمنزلة صغرى وكبرى، ويصير معناه: إنّك رجل مضارّ والمضارّة حرام (أي منهية) وهو المناسب لتلك الصغرى، لكن لو اريد غيره ممّا يقولون صار معناه: إنّك رجل مضارّ والحكم الموجب للضرر منفي أو الحكم المجعول منفي في صورة الضرر، ولا أظنّ بالأذهان المستقيمة ارتضائه».

انوار الأصول، ج 3، ص: 243

ثمّ رفع يده عمّا يستظهر من كلامه إلى هنا (وهو كون «لا» ناهية) في ذيل كلامه، وقال:

«وليعلم أنّ المدّعي أنّ حديث الضرر يراد به إفادة النهي عنه سواء كان هذا باستعمال التركيب في النهي ابتداءً أو أنّه استعمل في معناه الحقيقي، وهو النفي ولكن لينتقل منه إلى إرادة النهي ...

وربّما كانت دعوى الاستعمال في معنى النفي مقدّمة للانتقال إلى طلب الترك أدخل في إثبات المدّعى، حيث لا يتّجه حينئذٍ ما يستشكل في المعنى الأوّل من أنّه تجوّز لا يصار إليه» (انتهى).

وقد ناقش في كلامه في تهذيب الاصول بأنّ «اطلاق

النفي وإرادة النهي وإن كان شائعاً كما استشهد من الشواهد إلّاأنّه ليس بمثابة يكون من المجازات الراجحة عند تعذّر الحقيقة لأنّ استعماله في غيره أشيع منه، وإليك ما يلي من الروايات والكلمات ممّا ورد على حذو هذا التركيب وقد اريد منه النفي بلا إشكال: لا طلاق إلّاعلى طهر، لا طلاق إلّابخمس: شهادة شاهدين ... الخ، لا طلاق فيما لا تملك، ولا عتق فيما لا تملك، ولا بيع فيما لا تملك ... (إلى آخر ما أورده من الروايات والكلمات)»»

.أقول: لقائل أن يقول: إنّ هذه الموارد على خلاف المطلوب أدلّ فإنّها أيضاً مستعملة في النفي إلّاأنّ النهي فيها إرشاد إلى أحكام وضعية كالبطلان، نعم أنّها ترد على المحقّق شيخ الشريعة رحمه الله لو كانت مدّعاه أنّ «لا» في قوله صلى الله عليه و آله: «لا ضرر ولا ضرار» ظاهرة في النهي التكليفي فقط، فينقض كلامه حينئذٍ بالموارد المذكورة، حيث إنّه لا إشكال في أنّ «لا» فيها استعملت في الحكم الوضعي.

ثمّ قال في التهذيب بعد ذكر هذه الموارد: «نعم لو دار الأمر بين ما ذكره القوم، فما اختاره أرجح، لخلوّه عن كثير ممّا ذكرناه من الإشكال» «2».

أقول: وفي كلام شيخ الشريعة رحمه الله أمران: أحدهما: تامّ والآخر: غير تامّ.

أمّا الأمر الذي ليس بتامّ فهو ما ادّعاه أوّلًا بأنّ «لا» في التراكيب المذكورة في كلامه اريد منها النهي لأنّ «لا» في جميعها حتّى في قوله تعالى: «فلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ» وقوله تعالى: «لا مساس» مستعملة في معنى النفي كما يشهد عليه التبادر العرفي، فليس معنى قوله: «لَارَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ» لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا في الحجّ، بل انوار الأصول، ج 3،

ص: 244

مفادها نفي وجود هذه الامور، ويشهد عليه أيضاً جواز تبديل «لا» في تمام هذه التراكيب ب «ليس» التي لا إشكال في أنّها لخصوص النفي، فيقال بدل قوله: «فلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ» «ليس في الحجّ رفث ولا فسوق ولا جدال».

هذا، مضافاً إلى أنّه لا يمكن إرادة النهي في بعض هذه التراكيب بوجه من الوجوه، فلا يصحّ أن يقال: (مثلًا) أنّ معنى قوله صلى الله عليه و آله: «لا اخصاء في الإسلام» «لا تخصوا في الإسلام» لعدم إمكان أن يكون الإسلام ظرفاً للاخصاء.

نعم لازمه النهي عنها، فيكون النفي في هذه التراكيب كناية عن النهي، وهذا هو الأمر الثاني الذي التفت إليه أخيراً، وإلى هذا يرجع ما استدلّ به من كلمات أرباب اللغة فإنّهم فسّروها بلازم المعنى كما هو دأبهم في سائر المقامات.

هذا كلّه هو الأمر الأوّل، وقد ظهر منه أنّ كلمة «لا» في الحديث نافية.

وأمّا الأمر الثاني: وهو أنّ فاعل الضرر في هذا الحديث هل هو الناس بعضهم ببعض، أو اللَّه سبحانه وتعالى؟ (بل العمدة في فهم معنى الحديث هو توضيح هذا المعنى لا كون «لا» نافية أو ناهية كما ستعرف إن شاء اللَّه) فنقول: إن كان الفاعل هو اللَّه سبحانه، فمعنى الحديث أنّ اللَّه تعالى لا يجعل حكماً ضررياً، وضعيّاً كان أو تكليفيّاً، وإن كان الفاعل هو الناس فمعناه أنّ اللَّه تبارك وتعالى لا يجيز الناس أن يضرّ بعضهم ببعض، ولنا شواهد عديدة على الثاني:

منها: أنّه لا إشكال في أنّ فاعل «ضرار» هو الناس بناءً على وجود الفرق بينه وبين معنى الضرر كما هو مقتضى ما مرّ من الشواهد الروائيّة والكتابيّة واللغويّة، وحينئذٍ وحدة السياق تقتضي أن يكون فاعل الضرر أيضاً

هو الناس.

ومنها: قوله صلى الله عليه و آله في قضيّة سمرة «ما أراك إلّامضارّاً» فإذا كان الفاعل في الصغرى هو المكلّف نفسه فليكن في الكبرى أيضاً كذلك.

ومنها: التراكيب المشابهة الواردة في الكتاب والسنّة، كقوله صلى الله عليه و آله: «لا غشّ بين المسلمين» وقوله: «لا هجر بين المسلمين» وقوله تعالى: «فلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ» وقوله صلى الله عليه و آله: «لا سبق إلّافي ثلاث» وقوله: «لا اخصاء في الإسلام، وقوله: «لا بيع إلّافي ملك» و «لا يمين في معصية اللَّه» و «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» و «لا طلاق إلّافي طوع» وغيرها من التراكيب التي لا إشكال في أنّ الفاعل فيها هو المكلّفون.

انوار الأصول، ج 3، ص: 245

ومنها: ما مرّ سابقاً من قوّة احتمال ورود هذه الفقرة ذيل رواية الشفعة التي لا تناسب النهي أصلًا لأنّها جعلت كبرى كلّية للحكم الوضعي المذكور في صدر الرواية فيكون ظاهرها كون الفاعل هو المكلّفين.

ومنها: ورود قيد «في الإسلام» في بعض الطرق بعد قوله: «لا ضرر ولا ضرار» لأنّها تصير حينئذٍ نظير قول الرجل لخادمه: «ليس في بيتي الكذب والخيانة» لِيُعلِمه بأبلغ البيان أنّ هذه الامور ممّا لا ينبغي له ارتكابه في بيته أبداً، ومن ارتكبها كان خارجاً عن أهل البيت، ولا يخفى أنّ الفاعل حينئذٍ هو الخادم، وفي ما نحن فيه هو المكلّف.

فظهر أنّ الفاعل للضرر هو الناس بعضهم ببعض لا اللَّه سبحانه.

المختار في معنى الحديث

لا إشكال في أنّه إذا ضممنا نتيجة الأمر الأوّل (وهى كون «لا» نافية) إلى نتيجة الأمر الثاني (وهى كون الفاعل هو الناس) صار معنى الحديث هكذا: ليس في الخارج (أو في الإسلام بناءً على بعض الطرق) اضرار المكلّفين بعضهم ببعض، أي

لا يمضيه اللَّه تبارك وتعالى ولا يجيزه، فيكون نهياً بلسان في النفي، أي النفي كناية عن النهي وعن عدم الإمضاء، وهذا ممّا نعرفه بالرجوع إلى إرتكازاتنا العرفيّة العقلائيّة وممّا نعهده بين التراكيب المتداولة في اللغة العربيّة وفي غيرها من الألسنة، نظير ما مرّ آنفاً من قول الرجل لخادمه: «ليس في بيتي الكذب والخيانة» كنايةً عن أنّ مثل هذه الامور ممّا لا ينبغي له ارتكابه في بيته أبداً، ونظير ما تداول في يومنا هذا من قولك: «ليس في مكتبنا أو في قاموسنا كذا وكذا».

والنتيجة حينئذٍ شمول هذه القاعدة أوّلًا للأحكام التكليفيّة والوضعيّة معاً، وثانياً حكومتها على سائر الأدلّة كما هو كذلك في بعض الأقوال الاخر، وإن كان الفرق بينه وبينها عدم شمول هذا القول للأحكام الضررية في العبادات كالوضوء الضرري والحجّ الضرري والصوم الضرري وفي التوصّليات كتطهير المسجد إذا كان التطهير منشأً للضرر، بالجملة عدم شموله لتمام الموارد التي ليس الضرر فيها من ناحية أحكام الشرع، وبهذا يظهر أنّه يمكن أن يعدّ هذا قولًا سادساً في معنى القاعدة.

انوار الأصول، ج 3، ص: 246

إن قلت: فكيف أفتى الفقهاء بعدم صحّة العبادات الضرريّة مثل الصوم والوضوء الضرريّين؟

قلنا: إنّ قدماء الأصحاب بل وكثير من متأخّريهم إستندوا فيها بقاعدة لا حرج، ولم يستندوا إلى قاعدة لا ضرر، مع استدلالهم بها في أبواب المعاملات مثل خيار الغبن وغيره ممّا يرجع إلى اضرار الناس بعضهم ببعض، فهذا هو شيخ الطائفة في كتاب الطهارة من الخلاف «1»، والمحقّق رحمه الله في المعتبر «2» والعلّامة رحمه الله في التذكرة وصاحب المدارك في المدارك كلّهم استندوا في مسألة الوضوء الضرري بقوله تعالى: «وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» ولم نر استنادهم إلى قاعدة لا ضرر

في هذه المسألة وفي غيرها من أبواب العبادات الضرريّة وغيرها من التكاليف التي تكون من حقوق اللَّه، ولا ترجع إلى معاملة الناس بعضهم ببعض، وكذلك غيرهم من الفقهاء الأعلام رضوان اللَّه عليهم فيما حضرنا من كلماتهم، (وأظن أنّ الاستناد بهذه القاعدة في هذه الأبواب نشأ بين المتأخّرين أو متأخّري المتأخّرين من الأصحاب) وهذا بنفسه من المؤيّدات على مقالتنا، وذلك لصرافة أذهانهم واستقامة أنظارهم في فهم المفاهيم العرفيّة من الكتاب والسنّة.

هذا ولو تنزّلنا وحكمنا بإجمال القاعدة من هذه الجهة فلابدّ أيضاً من الأخذ بالقدر المتيقّن وهو جريانها في أبواب المعاملات وفيما ترجع إلى اضرار الناس بعضهم ببعض فقط، فتبقى الإطلاقات الواردة في غيرها سليمة عن المعارض والحاكم.

هذا كلّه هو بيان المختار في معنى الحديث.

نقد سائر الأقوال:

أمّا الأوّل والثاني: وهما أنّ القاعدة نافية للأحكام الضرريّة إمّا مجازاً بلسان نفي الحكم انوار الأصول، ج 3، ص: 247

كما ذهب إليه الشيخ الأعظم رحمه الله أو كناية بلسان نفي الموضوع كما اختاره المحقّق الخراساني رحمه الله) فأورد عليهما:

أوّلًا: أنّ المجاز أو الكناية مخالف للظاهر.

وقد أجاب الشيخ رحمه الله عن هذا بأنّه لا مخلص من الالتزام به بعد تعذّر الحمل على الحقيقة (لعدم إمكان انكار وجود الضرر في الخارج، نظير النسيان في حديث الرفع) ولزوم الرجوع إلى أقرب المجازات، بل حاول المحقّق النائيني رحمه الله إثبات أنّ مقالة الشيخ لا يلزم منها المجاز لأنّ النفي في المقام وأشباهه من حديث الرفع وقوله عليه السلام: «لا صلاة إلّابطهور» وغيرهما محمول على معناه الحقيقي بالنظر إلى عالم التشريع.

وحاصل ما أفاده في توضيح ذلك: إنّ الأحكام التكليفيّة وكذا الوضعيّة أمرها بيد الشارع إن شاء رفعها وإن شاء وضعها، فالنفي إذا تعلّق بحكم شرعي كان نفياً حقيقيّاً

لارتفاعه واقعاً في عالم التشريع، هذا بالنسبة إلى النفي، وأمّا اطلاق الضرر على الأحكام المستلزمة له فهو أيضاً حقيقي، لأنّ اطلاق المسبّبات التوليديّة كالإحراق على إيجاد أسبابها شائع ذائع، فمن ألقى شيئاً في النار يقال: إنّه أحرقه، قولًا حقيقيّاً، وحينئذٍ نقول: كما أنّ الشارع إذا حكم بحكم شرعي وضعي أو تكليفي يوجب الضرر على المكلّفين يصدق أنّه أضرّ بهم وليس هذا اطلاقاً مجازياً، فكذا إذا نفاه يصدق عليه أنّه نفى الضرر عنه، نعم لو كانت الأحكام الشرعيّة من قبيل المعدّات للضرر لا من قبيل الأسباب، أو كان من قبيل الأسباب غير التوليديّة كان إسناد الضرر إلى من أوجدها إسناداً مجازياً، ولكن الأحكام الشرعيّة ليست كذلك بل حكم الشارع بالنسبة إلى محيط التشريع كالسبب التوليدي لا غير، أمّا في الأحكام الوضعيّة فواضح، وأمّا في الأحكام التكليفيّة فإسناد الاضرار فيها إلى الشارع إنّما هو بملاحظة داعي المكلّف وإرادته المنبعثة عن حكم الشارع، ففي الحقيقة الحكم التكليفي سبب لإنبعاث إرادة المكلّف وهى سبب للفعل، فهو أيضاً من سنخ الأسباب التوليدية «1». (انتهى).

وربّما يرد عليه: بأنّ الأحكام الإلهيّة ليست عللًا توليديّة لأفعال المكلّفين، وذلك لتخلّل إرادة المكلّف بينهما، والإرادة مستندة إلى الاختيار ومعلولة له، وأمّا الأحكام فهى من قبيل انوار الأصول، ج 3، ص: 248

المعدّدات والدواعي المؤكّدة لاختيار أحد الطرفين لا غير، ولذلك في باب القتل لو ألقى شخص إنساناً في البحر وأغرقه عدّ سبباً للقتل، وكذا إذا فتح باب القفس وطار الطائر منه، وأمّا لو أطمع إنساناً عاقلًا مختاراً وأغراه إلى قتل إنسان آخر فلا يستند القتل حينئذٍ إلى المغري وإن كان يجازى في الشرع المقدّس بأشدّ المجازات لتخلّل إرادة إنسان عاقل مختار فيه، وهذا هو المراد ممّا يبحث

في باب الحدود من أنّه إذا كان السبب أقوى يستند القتل إليه، وكلّما كان المباشر أقوى يستند القتل إلى المباشر، والمراد من إقوائيّة المباشر كونه مستقلًا في إرادته، والمراد من إقوائيّة السبب عدم تخلّل إرادة المباشر.

لكن يمكن دفع هذا بأنّ كون الإسناد حقيقيّاً لايتوقّف على توليديّة الأسباب بل ربّما يكون الإسناد حقيقيّاً ولو لم يكن السبب توليديّاً كما إذا الزم الحاكم بتعطيل السوق فعطّله التجار بإرادتهم فتضرّروا، فهنا وإن كانت الإرادة متخلّلة لكن حيث إنّها كانت منبعثة من تهديد الحاكم وقوّته القاهرة يستند الضرر حقيقة إلى الحاكم، وما نحن فيه من هذا القبيل لحكومة الباري القهّار في الأحكام الإلهيّة، إذاً فأصل ما ذهب إليه المحقّق النائيني من إنّ الإسناد حقيقي أمر صحيح.

لكن يرد عليه: بأنّه لا يختصّ بالأسباب التوليديّة.

وبهذا يندفع الإشكال الأوّل الوارد على الشيخ رحمه الله وإن قبله نفسه، حيث إعترف بأنّ «ما اختاره من المعنى ليس على طريق الحقيقة بل على نحو المجاز، لتعذّر حمله على الحقيقة، لوجودها في الخارج».

ثانياً: أنّه يلزم منه تخصيص الأكثر، وهو مستهجن عرفاً، فيعلم من هنا أنّ للقاعدة معنىً آخر غير ما يظهر لنا في بادى ء النظر فتصير مجملة، ولابدّ حينئذٍ من الاقتصار في مقام العمل بها على موارد عمل الأصحاب.

وهذا ما سيأتي تفصيل البحث عنه وعن جوابه في التنبيهات، ونشير إليه هنا إجمالًا فنقول:

قد وقع الأعلام لدفع هذا الإشكال في حيص وبيص، والشيخ رحمه الله أيضاً كان ملتفتاً إليه وأجاب عنه بأنّ الجميع خرج بعنوان واحد لا بعناوين متعدّدة، ولا استهجان فيه وإن كان ذلك العنوان معلوماً في علم اللَّه تبارك وتعالى ومجهولًا عندنا.

انوار الأصول، ج 3، ص: 249

واجيب عنه: بأنّ «قبح كثرة التخصيص لا يدور مدار كون

الخروج بعنوان واحد أو بعناوين إذا كان المخصّص منفصلًا بل لابدّ في دفعه من أن يكون إخراج الجميع بجامع عرفي يقف عليه المخاطب، وإلّا لو فرض وجوده الواقعي وفرض غفلة المخاطب عنه، بل كان التخصص عنده، بغير هذا الجامع فلا يخرج الكلام من الاستهجان» «1».

أقول: المراد من كثرة التخصيصات هنا هو «ما يتراءى في بادى ء النظر من وجود أحكام ضرريّة كثيرة في الشريعة كوجوب الأخماس والزكوات وأداء الديّات وتحمّل الخسارات عند الاتلاف والضمانات وغير ذلك ممّا تتضمّن ضررياً مالياً، وكوجوب الجهاد والحجّ وغيرهما ممّا تحتاج إلى بذل الأموال والأنفس، وكوجوب تحمّل الحدود الشرعيّة والقصاص وأشباهها ممّا تتضمّن ضرراً نفسيّاً أو عرضياً»، ولكن قد مرّ سابقاً عدم كون هذه الأحكام ضرريّة بأدنى تأمّل، والشاهد على ذلك وجودها وتداولها عند العرف والعقلاء فإنّهم لا يزالون يحكمون بلزوم بذل الخراج والعشور والخروج إلى الجهاد وأداء وظيفة النظام وغيرها فلا يرونها ضرراً عليهم بل يرونه نفعاً بمنزلة القاء البذر في الأرض، الذي يعدّ ضرراً في النظر البدوي السطحي، مع أنّه سوف يترتّب عليه نتائج وثمرات مضاعفة.

وبعبارة اخرى: إنّ صلاح المجتمع صلاح لكلّ فرد فرد ولا يصحّ التفكيك بينهما عند العرف والعقلاء، فبصلاح المجتمع يقوم صلاح الأفراد ويحفظ منافعهم.

فلا يلزم حينئذٍ تخصيص من هذه الناحية أصلًا، فضلًا عن لزوم تخصيص الأكثر، نعم هيهنا اطلاقات قليلة تتقيّد بهذه القاعدة، وهذا ليس بعزيز.

ثالثاً: (وهو بحسب الحقيقة تعبير آخر عن الإشكال الثاني) إنّ قاعدة لا ضرر قاعدة إمتنانيّة، والأحكام الإمتنانيّة آبية عن التخصيص وإن لم يلزم تخصيص الأكثر، مع أنّ من المعلوم ورود تخصيصات عليها.

وجوابه ظهر ممّا مرّ آنفاً من أنّه لا يلزم تخصيص أصلًا من ناحية هذه الأحكام التي يتراءى كونها ضرريّة،

والشاهد عليه كون أمثالها متداولة بين العقلاء، حيث إنّهم لا يجعلون قانوناً على أنفسهم.

انوار الأصول، ج 3، ص: 250

رابعاً: ما ظهر ممّا حقّقناه سابقاً من أنّ الفاعل في الضرر هم المكلّفون لا اللَّه سبحانه مع أنّ ظاهر كلام الشيخ بل صريحه كون الفاعل هو اللَّه، وقد عرفت أنّه لا يساعد عليه ظواهر الأدلّة أو صريحها.

أمّا القول الثالث: (وهو ما نقله الشيخ الأعظم رحمه الله من بعض الفحول، وهو أن يكون المراد من نفي الضرر نفي صفة عدم التدارك، وهو في نظر الشيخ رحمه الله أردأ الوجوه) فغاية ما يمكن أن يقال في توجيهه «أنّ الضرر إذا كان متداركاً لم يصدق عليه عنوان الضرر بنظر العرف وإن صحّ اطلاقه عليه بالدقّة العقليّة، فنفي الشارع للضرر على الاطلاق مع ما نرى من وجوده في الخارج دليل على أنّ جميع أنواع الضرر الحاصلة من ناحية المكلّفين متداركة بحكم الشرع، وأنّ فاعلها مأمور بتداركها وجبرانها، وإلّا لم يصحّ نفيها، فهذا القيد أعني «عدم التدارك» إنّما يستفاد من الخارج من باب دلالة الاقتضاء».

وقد اجيب عن هذا بوجوه عديدة، وعمدة الجواب عنه أن يقال: إذا كان الفاعل للضرر هو اللَّه سبحانه صار المعنى عبارة عن أنّ اللَّه تبارك وتعالى لا يجعل الأحكام الضرريّة، ولا حاجة إلى تقدير «غير متدارك» كما لا يخفى، وإن كان الفاعل هو المكلّفين فأيضاً لا نحتاج إلى ذلك التقدير لأنّ المعنى حينئذٍ عدم ترخيص إضرار أحد بغيره في مقام التكليف والوضع، غاية ما يلزم أن تكون «لا» نافية وكناية عن النهي، ولا إشكال في أنّه إذا دار الأمر بين هذه الكناية وتقدير «غير متدارك» الكناية هى الاولى، لعدم انس الأذهان بمثل هذا التقدير، وبالعكس لها بالنسبة إلى الكناية

المذكورة انس شديد، لما مرّت من الشواهد والتراكيب.

أمّا القول الرابع: (وهو مختار شيخ الشريعة من كون مفاد الحديث حكماً فرعيّاً خاصّاً من دون أن يكون ناظراً إلى سائر الأدلّة وحاكماً عليها) فقد ظهر جوابه ممّا عرفت في بيان المختار من حكومة القاعدة على جميع الأدلّة الواردة في حقوق الناس والمعاملات بالمعنى الأعمّ.

أما القول الخامس: (وهو ما نقلناه إجمالًا من تهذيب الاصول) فهو مبنى على أربع مقدّمات نلخّصها في اثنتين:

إحديهما: أنّ للنبي صلى الله عليه و آله مقامات ثلاثة:

الأوّل: مقام النبوّة والرسالة فهو صلى الله عليه و آله بما أنّه نبي ورسول ينبى ء عن اللَّه، ويبلّغ أحكامه انوار الأصول، ج 3، ص: 251

خطيرها وحقيرها حتّى أرش الخدش.

الثاني: مقام الحكومة والسلطنة، فهو صلى الله عليه و آله سلطان الامّة والحاكم بينهم وسائس العباد في البلاد، وهو من هذه الجهة يرسل سرية ويأمر بالجهاد ويعدّ القوّة، إلى غير ذلك من شؤون الحكومة الإلهيّة في الخلق.

والفرق بين المنصبين واضح فإنّه صلى الله عليه و آله بما أنّه نبي ورسول ليس له أمر ولا نهي، ولا بعث ولا زجر، بل كلّ ما يأمر به أو ينهى عنه فإرشاد إلى أمره تعالى ونهيه، وأمّا إذا أمر بما أنّه سائس الامّة فيجب إطاعته ويحرم مخالفته، فمن خالف فإنّما خالف أمر الرسول ونهيه، ومن أطاع فقد أطاعه، أي يكون المقام ذا دستور وأمر وزجر مستقلًا.

الثالث: مقام القضاء وفصل الخصومة عند التنازع.

ثانيتهما: أنّه كلّما ورد في الروايات من الرسول ووصيّه من أنّه «أمر بكذا» فهو ظاهر في الأمر المولوي السلطاني، وكلّما ورد من «أنّه قضى» فهو ظاهر في القضاء وفصل الخصومة، وأمّا قوله «حكم» فهو مردّد بينهما، وأمّا ما ورد في الآثار من التعبير بأنّه

صلى الله عليه و آله «قال» فدلالته على أنّه كان أمراً سلطانيّاً يحتاج إلى قرينة دالّة عليه، وأمّا إذا كان بصيغ الأمر فهى ظاهرة في حدّ نفسها في الأمر المولوي، فالعدول عنه يحتاج إلى دليل آخر.

ثمّ قال: إن قاعدة لا ضرر من الأحكام السلطانيّة، ويدلّ عليه:

أوّلًا: ما ورد من طرق العامّة من التعبير ب «وقضى أن لا ضرر ولا ضرار» في مساق سائر الأقضية، ولا ينافي هذا ما مرّ أنّ لفظة «قضى» ظاهرة في الحكم القضائي، فإنّ ذلك صحيح إذا لم تقم قرينة على كونه ليس بصدد فصل الخصومة والقضاء.

وثانياً: قضيّة سمرة، لأنّ التأمّل في صدرها وذيلها والإمعان في هدف الأنصاري حيث رفع الشكوة إلى النبي صلى الله عليه و آله ليدفع عنه الظلم، والتدبّر في أنّه لم يكن لواحد منهما شبهة حكميّة ولا موضوعيّة، يورث الاطمئنان ويشرف الفقيه بالقطع على أنّ الحكم حكم سلطاني.

إن قلت: إنّ الرسول صلى الله عليه و آله قد استند في أمره بالقطع والرمي بها على وجهه بقوله: «فإنّه لا ضرر ولا ضرار» وظاهر الاستناد والفاء المفيد للتعليل أنّه حكم إلهي وقاعدة كلّية من اللَّه تعالى، وهو صلى الله عليه و آله إتّكل على الحكم الإلهي، فأمر الأنصاري بقلعها ورميها، فعلّل عمل نفسه بالحكم الصادر من اللَّه، ولا يناسب أن يفسّر عمل نفسه ويعلّله بحكم نفسه.

انوار الأصول، ج 3، ص: 252

قلنا: إنّ الأنصاري لمّا رفع شكواه إلى النبي الأعظم واستدعى النبي سمرة وأمره بالاستئذان عند الدخول وقد كان رجلًا مضارّاً تخلّف عن حكمه، مسّت الحاجة إلى تأديبه، فأصدر حكمه السياسي لحفظ النظام وأمر بقلعها ورميها إلى وجهه، ثمّ علّل هذا الحكم التأديبي بالحكم السياسي الكلّي وأنّه لا ضرر ولا ضرار، وعلى

هذا تتوافق الجمل ويتّضح التناسب بين المعلول (قلع الشجرة) وتعليلها (لا ضرر ولا ضرار) بلا أدنى تكلّف، فإنّ كلًا من المعلول وعلّته حكم سياسي تأديبي.

ثمّ ذكر قدّس سرّه الشريف في بعض كلماته أنّ نتيجة هذا القول كون القاعدة حكماً صدر من ناحية الحاكم الشرعي لتحديد قاعدة السلطنة فحسب، فلا حكومة لها على سائر الأحكام الوضعيّة والتكليفية. (انتهى) «1».

أقول: يمكن المناقشة في كلامه رحمه الله من عدّة جهات:

الجهة الاولى: في الفرق بين الأحكام الإلهيّة والأحكام السلطانيّة، والحقّ فيه أنّ الأحكام السلطانيّة ليست في عرض الأحكام الإلهيّة بل إنّها في طولها لأنّ الأحكام الإلهيّة أحكام كلّية وردت على موضوعات كلّية، ولكن الأحكام السلطانيّة أحكام جزئيّة إجرائيّة لأنّ إجراء الأحكام الكلّية الإلهيّة وتحقيقها في الخارج لا يكون إلّابتأسيس الحكومة، فينفتح حينئذٍ باب الولاية، ويكون الوالي فيه شخص النبي صلى الله عليه و آله وغيره من الأوصياء، وفي زمن الغيبة الفقيه الجامع للشرائط، ووظيفة الوالي فيه تشخيص موارد الأحكام الكلّية الإلهيّة وتطبيقها على مصاديقها الجزئيّة الشخصية، فالأحكام السلطانيّة أحكام تصدر من جانبه في سبيل إجراء تلك الأحكام الإلهيّة الكلّية، وذلك كالأحكام التي تصدر منه لنصب الولاة وامراء الجيوش وعمّال الصدقات وتهيئة العُدّة والعِدّة لدفع الأعداء وغيرها ممّا تختلف بحسب الأزمنة والظروف، فالوالي يتوصّل بهذه الأحكام إلى إجراء أحكام اللَّه في أمر الجهاد والزكوات والقضاء وغيرها من الأحكام الكلّية الإلهيّة.

ومن الواضح أنّ إجراء حكم الجهاد مثلًا وتطبيقه في الخارج لا يتمّ بمجرّد الوعظ والإرشاد، بل يحتاج إلى ولاية وحكومة، وأمر ونهي، ونصب أمير وتهيئة عِدّة وعُدّة، وبرامج انوار الأصول، ج 3، ص: 253

عمليّة لكيفية الهجوم على العدوّ، كلّ هذه الامور موكولة إلى نظر السلطان وولي الأمر، وتكون من شؤون ولايته، فالوالي

بما أنّه والٍ لا يكون مأموراً إلّابما ذكر، ولذلك سمّينا الأحكام السلطانية بالأحكام الإجرائية الجزئيّة التي تختلف باختلاف الظروف المختلفة.

نعم، يمكن أن يكون حكم الحاكم كلّياً بالإضافة إلى مقطع خاصّ من الزمان، كتحريم شرب التتن التي صدرت من ناحية الميرزا الشيرازي رحمه الله، ولكنّها أيضاً كانت حكماً إجرائيّاً صدرت منه في سبيل إجراء حكم إلهي كلّي وهو المنع عن استيلاء الكفّار على المسلمين: «وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا» «1».

بل يمكن أن يقال: إنّها لم تكن من الأحكام السلطانيّة أصلًا بل هى من الأحكام الإلهيّة الثانويّة التي تجب بتحقّق عناوين ثانوية، فإنّ شرب التتن في ذلك الزمان حيث إنّه صار مقدّمة لإستيلاء الكفّار المحرّم ومصداقاً من مصاديق المحاربة مع صاحب الولاية عليه السلام صار حراماً من باب أنّه مقدّمة للحرام، ومقدّمة الحرام من العناوين الثانوية، نعم تطبيق العناوين الثانوية على موضوعاتها ومصاديقها أيضاً من شؤون ولاية الحاكم.

إذا عرفت هذا فنقول: لا إشكال في أنّ الضرر والضرار من الموضوعات الكلّية التي لها في الشرع حكم كلّي لا محالة، وتكون في حيطة التشريع الإلهي، وليست من سنخ تلك الامور الخاصّة التي تكون في حيطة سلطنة ولي أمر المسلمين.

وبعبارة اخرى: المعلوم من مذهبنا عدم خلوّ واقعة من حكم إلهي، وإنّه لا فراغ من ناحية القانون في الشريعة المقدّسة الإسلاميّة حتّى بالنسبة إلى أرش الخدش، وما يسمّى اليوم في الحكومة الإسلاميّة بمجلس التقنين فهو بمعنى تطبيق الكلّيات على موضوعاتها لا الجعل والتشريع كما لا يخفى على أحد.

إن قلت: إن لم يكن للنبي صلى الله عليه و آله مقام التشريع والتقنين فما هو المراد من فرض النبي صلى الله عليه و آله في بعض الروايات في مقابل فرض اللَّه

تعالى، كالرواية الواردة في باب الصّلاة، القائلة بأنّ الركعة الاولى والثانية فرض اللَّه، والركعة الثالثة والرابعة فرض النبي صلى الله عليه و آله، وأنّه فوّض إليه صلى الله عليه و آله هذا المنصب؟ فليكن ما نحن فيه أيضاً من هذا القبيل.

انوار الأصول، ج 3، ص: 254

قلنا: سلّمنا كون قاعدة لا ضرر من قبيل فرائض النبي صلى الله عليه و آله التي فوّض أمر تشريعها إليه، ولكنّها ليست من الأحكام السلطانيّة أيضاً، لأنّ المفروض حينئذٍ أنّ النبي صلى الله عليه و آله وضعها بما أنّه مفوّض إليه التشريع لا بما أنّه حاكم ومجرٍ للأحكام الإلهيّة الكلّية.

هذا مضافاً إلى أنّه قد قرّر في محلّه في مبحث ولاية الفقيه أنّ مقام التشريع الذي فوّض إلى الرسول صلى الله عليه و آله كان على نحو جزئي ومختصّاً بموارد خاصّة معدودة، كما تشهد عليه شواهد عديدة، منها قوله صلى الله عليه و آله في كثير من الموارد: «إنّي أنتظر الوحي» حيث إنّ انتظار الوحي وتعيين التكليف من ناحية الوحي ينافي التفويض الكلّي إليه كما لا يخفى.

وحينئذٍ لابدّ لتعيين فرائض النبي صلى الله عليه و آله وتمييزها عن غيرها إلى قرينة قطعيّة (نظير ما يقال في باب النسخ بأنّه بما أنّ موارد النسخ قليلة لابدّ لتعيينها وتشخيصها من قرينة خاصّة) وإلّا يكون الظاهر من أوامره ونواهيه أنّه في مقام الحكاية عن أوامر اللَّه تعالى ونواهيه.

مضافاً إلى اختصاص هذا المقام بالنبي صلى الله عليه و آله كما يدلّ عليه قوله تعالى: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ». وقوله صلى الله عليه و آله في رواية حجّة الوداع: «ما من شي ء يقرّبكم إلى اللَّه إلّاوقد أمرتكم به وما من شي ء يبعّدكم عن اللَّه إلّاوقد نهيتكم عنه»

وغيرها ممّا ورد في الباب الذي عقده في الوافي في أنّه ليس شي ء ممّا يحتاج إليه الناس إلّاوقد جاء في كتاب أو سنّة «1»، التي تدلّ على عدم وجود فراغ قانوني كما مرّ آنفاً، حتّى أنّ الأئمّة المعصومين صلوات اللَّه عليهم إنّما كانوا وارثين للنبي صلى الله عليه و آله وحاملين لعلومه كما وردت روايات متواترة من ناحيتهم تدلّ على أنّ كلّ ما يقولونه ينقلونه عن الرسول صلى الله عليه و آله، ولذا لم يصدر تشريع حكم منهم عليهم السلام في طيلة حياتهم «2».

الجهة الثانية: في ما هو الظاهر من قضية سمرة ...

فنقول: الظاهر أنّ حكمه صلى الله عليه و آله في قضيّة سمرة كان بعنوان فصل الخصومة ورفع التنازع في الحقوق والأموال، وكان النزاع بينه وبين الأنصاري ناشئاً من الجهل بالحكم فإنّه يرى أنّ وجوب الاستئذان من الأنصاري تضييق في دائرة سلطنته، ولذا قال: أستأذن في طريقي إلى عذقي؟ بينما الأنصاري يرى أنّ له أن يلزم سمرة على الاستئذان، فشكاه إلى النبي صلى الله عليه و آله لفصل الخصومة والنزاع بما أنّه صلى الله عليه و آله قاضٍ منصوب من قبل اللَّه تعالى، نعم بعد قضاء الرسول صلى الله عليه و آله انوار الأصول، ج 3، ص: 255

وأمره سمرة بالاستئذان دخل سمرة باب اللجاج والتمرّد، وعلى القاضي إجراء حكمه، ولذلك أمر الأنصاري بعد ذلك بقلع النخلة حسماً لمادّة النزاع.

والحاصل: أنّ الرواية تنادي بأعلى صوتها بأنّها ناظرة إلى مسألة القضاء.

نعم لقائل أن يقول: إنّ صدرها وإن كان وارد في مقام القضاء، لكن ذيلها يدلّ على أنّ قلع النخلة من باب ولاية الحاكم والحكم السلطاني.

ولكنّا نقول: إنّ تعليله صلى الله عليه و آله بحكم كلّي إلهي في

هذه الواقعة الخاصّة من أوضح الدليل على أنّ قاعدة لا ضرر حكم كلّي إلهي، وإن كان تطبيقها على ذاك المورد من باب ولاية الحاكم الإسلامي، فأمره بقلع الشجرة أمر سلطاني صدر منه صلى الله عليه و آله لأجل إجراء قاعدة «لا ضرر ولا ضرار» الذي هو حكم كلّي إلهي.

الجهة الثالثة: أنّ لازم كونه حكماً سلطانياً إجرائياً إختصاصه بزمن النبي صلى الله عليه و آله وأنّه يجوز لغيره من الحكّام تغييره، ولا أظنّ التزامه قدّس سرّه الشريف به.

الجهة الرابعة: سلّمنا جميع ذلك، لكن لماذا تختصّ حكومة القاعدة بقاعدة السلطنة، ولا حكومة لها على سائر الأحكام الضررية، مع أنّها بحسب الظاهر كبرى كلّية، والمورد ليس مخصّصاً.

الجهة الخامسة: من العجب أنّه قدس سره إكتفى في المسألة بقضية سمرة وما تقتضيه ولم يشر إلى سائر المدارك الموجودة فيها، فإنّه قد مرّ في المقام الأوّل أنّ دليل القاعدة ليس منحصراً بقضيّة سمرة، بل هناك روايات عديدة من طرق الفريقين ظاهرة في خلاف هذا القول، وآيات مختلفة وردت في موارد خاصّة ضررية، ولا إشكال في أنّ ما يستفاد منها حكم إلهي أوحاه اللَّه تعالى إلى نبيّه صلى الله عليه و آله، والنبي إنّما هو مبيّنه ومبلّغه.

إلى هنا تمّ الكلام في تفسير القاعدة والأقوال الواردة فيها، وظهر أنّ المختار فيها:

1- أنّ «لا» نافية، ولكنّها كناية عن النهي.

2- أنّ الفاعل في الضرر هم المكلّفون لا اللَّه سبحانه.

3- أنّها تعمّ الأحكام التكليفيّة والوضعيّة.

4- أنّها تختصّ بحقوق الناس، ولا تشمل حقوق اللَّه تعالى مثل العبادات الضرريّة وغيرها.

انوار الأصول، ج 3، ص: 256

وبهذا تمّ الكلام في المقام الثاني.

المقام الثالث: في تنبيهات قاعدة لا ضرر
التنبه الأوّل: في نسبة القاعدة إلى سائر الأدلّة

إنّ نسبة القاعدة إلى سائر الأدلّة نظير «الناس مسلّطون على أموالهم» وقوله عليه السلام:

«الطلاق بيد من أخذ بالساق» تختلف

باختلاف المباني فيها، فعلى مبنى الشيخ الأعظم والمحقّق الخراساني رحمهما الله ومن تبعهما لا إشكال في حكومة القاعدة على سائر الأحكام، لأنّها حينئذٍ تنفي الحكم الضرري، فتكون ناظرة إلى غيرها من الأحكام، فإنّ معنى الحكومة أن يكون الدليل الحاكم ناظراً إلى المحكوم ومتصرّفاً أمّا في نفس الحكم (كما إذا قال المولى: يجب إكرام العلماء، ثمّ قال: إنّما عنيت وجوب إكرام غير الفسّاق) أو في متعلّقه (كما إذا قال: «السلام من الإكرام» أو «تقبيل اليد ليس إكراماً») أو في موضوعه (كما إذا قال: «العالم الفاسق ليس بعالم» أو «العامي العادل عالم») وما نحن فيه من القسم الأوّل كما لا يخفى.

وبناء على المختار (وهو أن تكون القاعدة ناظرة إلى النهي عن اضرار الناس بعضهم ببعض) فأيضاً لا إشكال في تقدّم القاعدة على سائر الأدلّة، لكن لا لأجل الحكومة لعدم جريان قسم من الأقسام الثلاثة من الحكومة في المقام، بل لأظهريتها التي هى الملاك في تقديم أحد الدليلين على الآخر فيما إذا كانت النسبة بينهما العموم من وجه، ولا يخفى أنّ نسبة القاعدة مع غيرها العموم من وجه، حيث إنّ دليل «الناس مسلّطون على أموالهم» مثلًا شامل لموارد الضرر وغير الضرر، وقاعدة «لا ضرر» أيضاً شاملة لموارد السلطة وغيرها.

ووجه الأظهرية: أوّلًا: أنّه في صورة عدم تقديم القاعدة لا يبقى لها مورد، لأنّه لا مورد إلّا والقاعدة تعارض فيه إطلاقاً أو عموماً.

وإن شئت قلت: إنّ نسبة القاعدة إلى مجموع سائر الأدلّة بمجموعها نسبة الخاصّ إلى العام، ولا إشكال في تقديم الخاص على العام، فتأمّل.

وثانياً: أنّها آبية عن التخصيص كما يظهر بملاحظة مناسبة الحكم والموضوع فيها وكونها في مقام الإمتنان فلا يصحّ أن يقال: إنّه لا يجوز اضرار الناس بعضهم

ببعض إلّافي هذا المورد.

انوار الأصول، ج 3، ص: 257

وثالثاً: نفس قضيّة سمرة، حيث إنّه أراد أن يستند في عمله إلى قاعدة السلطنة ولكن الرسول صلى الله عليه و آله منعه عن ذلك وحكم بقاعدة لا ضرر، وكذلك في حديث الشفعة وحديث منع فضل الماء، فقدّمت قاعدة لا ضرر فيهما أيضاً على قاعدة السلطنة، وهكذا في الموارد الخاصّة الواردة في الكتاب والسنّة، حيث إنّها أيضاً قدّمت على الإطلاقات الواردة في مواردها كإطلاق الدليل الدالّ على جواز الرجوع في العدّة أو اطلاق الدليل الدالّ على جواز الاكتفاء بمقدار الواجب في النفقة والسكنى وغير ذلك.

وأمّا بناءً على مبنى شيخ الشريعة رحمه الله أو بناءً على مبنى من قال بإرادة نفي صفة عدم التدارك فلا يبقى وجه لحكومة القاعدة، فإنّه بناءً على الأوّل يكون النهي الوارد في الحديث كسائر النواهي الشرعيّة الواردة في مواردها التي لا نظر لها إلى سائر الأحكام، وبناءً على الثاني يكون الحديث دليلًا على اشتغال ذمّة الأنصاري بغرامة ضرره، فيختصّ حينئذٍ بموارد الغرامات، ويقدّم على العمومات الدالّة على براءة الذمّة، لكن لا من باب الحكومة، بل إمّا من باب إبائه عن التخصيص، أو من باب عدم بقاء مورد له على فرض عدم التقديم.

التنبيه الثاني: هل القاعدة موهونة بكثرة التخصيصات أو لا؟

وهو ما وعدناه سابقاً حين البحث عن مقالة الشيخ الأعظم الأنصاري رحمه الله.

فنقول: ربّما يقال بأنّها موهونة بكثرة تخصيصها بأحكام ضرريّة كثيرة في الشريعة المقدّسة كوجوب الأخماس والزكوات وأداء الديّات وتحمّل الخسارات عند الإتلاف والضمانات، ووجوب الجهاد والحجّ وتحمّل الحدود والقصاص، فلابدّ حينئذٍ الاقتصار على موارد عمل الأصحاب بها، واقتضاء آثارهم لا سيّما الأقدمين منهم فنعمل فيما عملوا بها، لأنّه يظهر حينئذٍ أنّ المراد من الحديث ليس ما هو الظاهر منه عندنا، بل

كان هو محفوفاً بقرينة لا يلزم منه التخصيص الكثير، وقد ظفر قدماء الأصحاب بها وخفيت علينا، فلا مناصّ لنا من الإهتداء بهم.

وقد سلك الأعلام في الجواب عن هذا مسالك عديدة:

منها: ما ذكره شيخنا الأنصاري رحمه الله من أنّه ليس تخصيصاً بالأكثر بل إنّه تخصيص انوار الأصول، ج 3، ص: 258

بالكثير وهو ليس بمستهجن.

ومنها: ما ذكره الشيخ رحمه الله أيضاً من كونه تخصيصاً بعنوان واحد لا بعناوين.

ومنها: ما اخترناه من أنّه تخصيص في بادى ء النظر فقط، لأنّا نعلم بعد الدقّة والتأمّل عدم كون تلك الأحكام ضرريّة عند العرف والعقلاء.

توضيح ذلك: أنّ للإنسان حياتين: حياة فردية وحياة اجتماعيّة، ولكلّ من الحياتين مصارف خاصّة، فبالنسبة إلى حياته الفردية يحتاج إلى أغذية وألبسة وماء وهواء وغير ذلك من أشباهها، وأمّا بالنسبة إلى حياته الاجتماعيّة فيحتاج إلى أمن السبل ونظام المجتمع ودفع الأعداء وفصل القضاء واحقاق الحقوق وأمثال ذلك، فكما أنّ ما يصرفه في طريق حياته الفردية من الأموال لا تعدّ ضرراً عند أحد ولا يتفوّه به واحد من العقلاء، فكذلك المصارف التي يتحمّلها لحفظ حياته الاجتماعيّة وصيانتها عن الحوادث، فالنفقات التي يصرف لتقوية الجيوش وأمن السبل وإجراء الحقوق وحفظ منصب القضاء والتعليم والتربية لأبناء المجتمع لا تعدّ ضررية قطعاً، كيف وتعود منافعها إليه وقتاً بعد وقت وتؤتي اكلها كلّ حين بإذن ربّها، وما عدّوه من الأحكام الضررية تعود في الغالب إلى أمثال هذه النفقات أو أشباهها من تدارك الخسارات وغيرها ممّا يعلم وجهها.

وليت شعري كيف تعدّ هذه الأحكام ضرريّة مع أنّ أمثالها موجودة بين العقلاء من أهل العرف، وتكون ضروريّة عندهم فيجعلونها من الواجبات على عاتقهم ويعدّونها ممّا لا تقوم معيشتهم إلّابها.

أضف إلى ذلك عدم ورود هذا الإشكال من الأساس

على مختارنا في معنى الحديث من أنّه بحسب الحقيقة نهى عن إضرار الناس بعضهم ببعض، ولا ينفي وجود أحكام ضررية في الشريعة حتّى يتوهّم تخصيصها بما يتراءى كونه ضررياً، كما لا يخفى.

التنبيه الثالث: في ما هو المعروف من الإشكال في خصوص قضية سمرة

وهو منافاة حكم النبي صلى الله عليه و آله بقلع الشجرة لسائر القواعد، لأنّ أقصى ما يستفاد من قاعدة «لا ضرر» هو لزوم استئذان سمرة من الأنصاري، وأمّا قلعها ورميها إليه فهو ينافي حقّ سمرة

انوار الأصول، ج 3، ص: 259

في بقاء شجرته في البستان.

وقد اجيب عن هذا أو يمكن الجواب عنه بوجوه عديدة:

1- سلّمنا ورود هذا الإشكال بهذه الفقرة من الحديث، لكنّه لا يمنع من الاستدلال بسائر الفقرات التي هى مورد للاستدلال بالحديث، لا تلك الفقرة.

ويرد عليه: ما مرّ كراراً من أنّ سقوط فقرة من الحديث عن الحجّية يوجب سريان الشكّ إلى غيرها عند العرف والعقلاء، وإن أبيت فاختبر نفسك في إسناد الأوقاف والوصايا وغيرهما إذا كان بعض فقراتها مخدوشاً وباطلًا، فإنّه يوجب جريان الشكّ إلى سائر الفقرات.

هذا- مضافاً إلى وجود خصوصيّة في المقام، وهى ورود قوله صلى الله عليه و آله: «فإنّه لا ضرر ولا ضرار» في ذيل قوله صلى الله عليه و آله: «إذهب فاقلعها وارم بها إليه» فهو بمنزلة الكبرى لذلك الذيل، وكيف يمكن التفكيك في الحجّية بين الصغرى والكبرى؟

2- إنّ إصرار سمرة في عدم الاستئذان ولجاجته أوجب اسقاط احترام ماله.

وفيه: إنّه لا دليل على أنّ مجرّد لجاج أحدٍ يوجب سقوط حرمة ماله من دون أن يدخل ذلك في عنوان من العناوين المعروفة عند الفقهاء.

3- إنّ هذا حكم سلطاني والرسول صلى الله عليه و آله أصدره بما أنّه حاكم وولي أمر المسلمين.

وفيه: إنّه قد مرّ أنّ الأحكام السلطانيّة أحكام إجرائيّة تصدر

من ناحية الحاكم الإسلامي وفقاً للأحكام الإلهيّة الكلّية، فما هو الحكم الإلهي الكلّي الذي لأجله صدر ذلك الحكم؟

اللهمّ إلّاأن يقال: إنّ الحكم بقلع الشجرة صدر لإجراء حكم «لا ضرر ولا ضرار»، حيث إنّ ضرر دخول سمرة على الأنصاري بلا إذن منه كان منفيّاً في الشريعة، وكان طريق دفعه منحصراً بقلع شجرته، فالرسول صلى الله عليه و آله لأجل العمل بقاعدة «لا ضرر» وإجرائها أصدر الحكم بقلع الشجرة، بما أنّه حاكم.

4- إنّ الرسول صلى الله عليه و آله أعمل في هذا الحكم ولايته على الأنفس والأموال: «النَّبِىُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ» وقد حقّق في محلّه أنّها من مقاماته التي هى فوق مسألة الولاية على الحكومة.

وفيه: أنّه حسن في نفسه، ولكنّه لا يلائم استناده صلى الله عليه و آله في ذيل الحديث بقاعدة لا ضرر

انوار الأصول، ج 3، ص: 260

دون ولايته على الأنفس والأموال.

5- ما جاء في بعض كلمات المحقّق النائيني رحمه الله وحاصله: أنّ الضرر وإن كان ينشأ من دخول سمرة على الأنصاري بلا استئذان منه، ولكن كان منشأ جواز دخوله هو إستحقاقه لكون النخلة باقية في البستان، فالضرر وإن نشأ عن الدخول، إلّاأنّه كان معلولًا لإستحقاق إبقاء النخلة، فرفع هذا الحكم إنّما كان برفع منشأه وهو إستحقاق الإبقاء، كإرتفاع وجوب المقدّمة برفع وجوب ذيها، فالقاعدة رافعة لاستحقاق بقاء النخلة، ولازمه جواز قلعه، فيصحّ حينئذٍ تعليل الحكم المزبور بالقاعدة (انتهى ملخّصاً) «1».

أقول: هذا موافق لظاهر رواية عبداللَّه بن بكير التي علّل فيها بنفي الضرر (كما أشار إليه المحقّق نفسه) حيث ورد فيها: «إذهب فاقلعها وارم بها إليه فإنّه لا ضرر ولا ضرار» فهو تامّ في محلّه.

6- إنّه كان من باب النهي عن المنكر، نظير أمره صلى الله

عليه و آله بتخريب مسجد الضرار، ونظير ما رواه أبو بصير عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «مدّ الفرات عندكم على عهد علي عليه السلام فأقبل إليه الناس فقالوا ياأمير المؤمنين نحن نخاف الغرق، لأنّ في الفرات قد جاء من الماء ما لم ير مثله، وقد امتلأت جنبتاه فاللَّه فاللَّه، فركب أمير المؤمنين عليه السلام والناس معه وحوله يميناً وشمالًا، فمرّ بمسجد سقيف فغمزه بعض شبّانهم، فالتفت إليه مغضباً، ثمّ أمر بهدم المحلّ الذي كانت الشبّان يتّخذونه لأفعالهم الفاسدة، وهدم كلّ كوّة وميزاب وبالوعة إلى طريق المسلمين، وقال: إنّ هذا أذى للمسلمين «2» (انتهى ملخّصاً).

فهو عليه السلام في هذا الحديث أعمل ولايته وحكم بالتخريب نهياً عن المنكر، ولا يخفى أنّ النهي عن المنكر له مراتب بعضها مختصّ بمنصب الحكومة.

وهذا الجواب قريب من الوجه الثالث، ولكنّه أيضاً لا يلائم ظاهر الاستناد بقاعدة «لا ضرر» وعدم الاستناد بعنوان النهي عن المنكر.

التنبيه الرابع: هل يجوز التمسّك بالقاعدة لإثبات الأحكام كما يمكن التمسّك بها لنفيها أو لا؟

وبعبارة اخرى: هل تختصّ القاعدة بالامور الوجودية أو أنّها تشمل العدميّات أيضاً؟

كعدم الضمان فيما يفوت من عمل الحرّ بسبب حبسه، وكعدم جواز الطلاق للزوجة من ناحية الحاكم الشرعي إذا كان بقاؤها على الزوجية ضررياً كما إذا كان الزوج معتاداً على المخدرات ويحتمل قويّاً سراية إعتياده إلى الزوجة، أو صار محكوماً بحبس طويل المدّة بما يوجب الضرر على زوجته إمّا من ناحية نفقتها أو من باب إنّها شابّة في معرض المعصية، فهل يمكن التمسّك بالقاعدة لإثبات الضمان في الأوّل وإثبات جواز الطلاق في الأخيرين أو، لا؟

واستدلّ القائلون بعدم العموم أوّلًا: بكون «لا» نافية، وهى تنفي الأشياء ولا تثبتها.

وثانياً: بلزوم فقه جديد في صورة تعميم القاعدة للُامور العدميّة، فيلزم مثلًا كون أمر الطلاق بيد الزوجة أو الانفساخ بغير

طلاق في المثال المزبور، ويلزم إنعتاق العبيد إذا كانوا في الشدّة، ويلزم أيضاً الضمان في مثال الحرّ الكسوب (مع أنّه لم يقل به المشهور) كما يلزم وجوب تدارك كلّ ضرر يتوجّه إلى المسلم إمّا من بيت المال أو من مال غيره كما أشار إليه الشيخ الأعظم رحمه الله في رسالته.

لكن الإنصاف هو التعميم، وذلك لوجوه شتّى:

منها: كون مورد كثير من روايات الباب إثبات أحكام وجودية، ففي قضيّة سمرة حكم صلى الله عليه و آله بقلع الشجرة، وقد مرّ كونه من باب قاعدة لا ضرر بقرينة تعليله بالقاعدة في ذيل الحديث، ولا يخفى أنّ جواز قلع الشجرة حكم إثباتي.

وكذلك في حديث الشفعة، حيث إنّ الشفعة حكم إثباتي ناشٍ عن كون عدمه ضررياً، وفي حديث حفر البئر الذي حكم فيه بالاعتوار، وهو حكم إثباتي ناشٍ عن الضرر في تركه، وحديث جدار الجار الذي ورد فيه: «كلّف أن يبنيه» ووجوب البناء إثباتي.

ومنها: أنّ المنفي في القاعدة إنّما هو الضرر المستند إلى الشارع بناءً على مختار الشيخ، والضرر المستند إلى المكلّفين بناءً على المختار من دون حاجة إلى تقدير الحكم كما لا يخفى، وحينئذٍ مقتضى إطلاقه نفي الضرر الناشى ء من جعل حكم والناشى ء من عدم جعل حكم معاً، حيث إنّه إذا كان جعل حكم مقدوراً للشارع عدم جعله أيضاً مقدوراً له، لأنّ نسبة

انوار الأصول، ج 3، ص: 262

القدرة إلى الوجود والعدم سواء، فكما يستند الضرر الناشى ء من جعل شي ء إليه كذلك يستند إليه الضرر الناشى ء من عدم جعل شي ء (كعدم جعل الضمان في حبس الحرّ الكسوب).

هذا بناءً على مختار الشيخ رحمه الله، كذلك بناءً على المختار، فكما أنّ إقدام المكلّفين بعمل ضرري ينفى بالقاعدة، كذلك عدم إقدامهم وعدم تداركهم ربّما

يوجب الاضرار ويصحّح استناده إليهم فينفى بالقاعدة.

ومنها: لو سلّمنا كون موارد الأحاديث اموراً وجوديّة، لكن العرف يلغي الخصوصيّة عن الوجود، ويحكم بعدم الفرق بين ما إذا أوجب فعلك الضرر بالغير، وما إذا أوجب عدم فعلك وعدم إقدامك بفعلٍ، الضرر.

ومنها: وجود الملازمة بين العدم والوجود في كثير من الموارد، ففي مثال الطلاق لازم عدم حكم الشارع بجواز الطلاق هو دوام الزوجية، ولا يخفى أنّه أمر وجودي موجب للضرر، نعم هذا الوجه أخصّ من المدّعى.

ثمّ إنّه لا تخفى الثمرة العمليّة لهذا البحث خصوصاً في الحكومة الإسلاميّة ليومنا هذا، حيث إنّ القول بالتعميم يوجب بسط يد الحاكم في دائر العدميّات أيضاً إذا كانت منشأً للضرر ومصداقاً له، الأمر الذي تحلّ به جمّ غفير من المشاكل الحكومية خلافاً لما إذا قلنا بعدمه.

وأمّا ما أفاده الشيخ الأعظم رحمه الله من لزوم فقه جديد فهو ممنوع جدّاً، لأنّ الالتزام بوجوب الغرامة للحرّ الكسوب وجواز الطلاق في الأمثلة المذكورة ليس أمراً غريباً، وإن لم يرد في كلمات المشهور.

وأمّا ما ذكره من تدارك الضرر الذي ليس من ناحية أحكام الشرع ولا من ناحية المكلّفين بعضهم ببعض من بيت المال فالإنصاف أنّه لا دخل له بما نحن فيه، لأنّه إذا لم يكن الضرر مستنداً إلى الشارع ولا إلى المكلّفين بعضهم ببعض فلماذا يجبر من بيت المال أو من مال اناس آخرين؟ فإنّه من قبيل إقدام الإنسان على ضرر نفسه، ولا ربط له بقاعدة لا ضرر كما لا يخفى.

التنبيه الخامس: هل الحكم بنفي الضرر من باب الرخصة أو العزيمة؟

ويتصوّر بناءً على مختار القوم من أن القاعدة تدلّ على نفي الأحكام الضرريّة وتعمّ العبادات الضررية كالوضوء والصوم الضرريين، فيبحث في أنّه بعد ثبوت عدم وجوب الوضوء الضرري مثلًا هل يقع صحيحاً لو أتى به المكلّف

فيكون الحكم بنفيه من باب الرخصة، أو لا يقع كذلك فيكون الحكم بنفيه من باب العزيمة؟ وأمّا بناءً على المختار من عدم دلالة القاعدة على نفي التكاليف الضررية فلا موضوع لهذا البحث كما لا يخفى.

وكيف كان: استدلّ القائلون بالعزيمة بأنّ هذه الأحكام امور بسيطة لا تركّب فيها حتّى يبقى جوازها بعد رفع وجوبها.

وفي قبالهم ادّعى القائلون بالرخصة بأنّها امور مركّبة، مع أنّه أوّلًا: لا دليل على التركيب، وثانياً: لو سلّمنا التركيب يكون الجواز بمنزلة الجنس والوجوب بمنزلة الفصل، وحيث إنّ قوام الجنس بالفصل فلابدّ بعد رفع الوجوب من إتيان فصل آخر، ولا دليل عليه في المقام.

واستدلّوا أيضاً بأنّ دليل وجوب الوضوء مثلًا، له مدلول مطابقي وهو الوجوب، ومدلول التزامي وهو كون الوضوء ذا مصلحة، وبقاعدة «لا ضرر» ينفي المدلول المطابقي، فيبقى المدلول الالتزامي، وهو يقتضي الجواز.

ولكن يمكن الجواب عنه أيضاً بأنّه قد قرّر في محلّه بأنّ الدلالة الالتزاميّة تابعة للدلالة المطابقيّة في الحجّية وعدمها.

ويمكن أن يقال: ا نّ المسألة مبنيّة على مسألة حرمة الإضرار بالنفس مطلقاً وعدم حرمتها كذلك، فعلى القول بحرمته مطلقاً يكون الصوم الضرري أو الوضوء الضرري مثلًا حراماً، فلا يصحّ التقرّب بهما، لما ذكرنا في محلّه من سراية الحسن والقبح من المسبّبات إلى الأسباب التوليديّة.

لكن الإنصاف أنّ الضرر إن كان كلّياً كانت العبادة في هذا الحال باطلة، وإن كان جزئياً أمكن القول بصحّتها، وذلك لعدم الدليل على حرمة الإضرار بالنفس مطلقاً، بل المقطوع هو ما إذا كان الضرر كلّياً.

التنبيه السادس: هل المراد بالضرر هو الضرر الشخصي أو النوعي؟

فهل يجوز للمكلّف الوضوء مثلًا إذا كان ضررياً لغالب الأفراد ولا يكون ضررياً بالنسبة إلى نفسه؟

لا شكّ في أنّ الظاهر من الأدلّة إنّما هو الضرر الشخصي، لعدم صدق موضوع الضرر على المكلّف مع

كونه نوعيّاً، كما أنّه كذلك في سائر العناوين التي صارت موضوعات للأحكام الشرعيّة كعنوان العسر والحرج والخوف والخطر في سفر الحجّ مثلًا وكذلك عنوان الاستطاعة والفقر وغيرها.

نعم يمكن للشارع المقدّس في الأحكام التكليفيّة وللحاكم الشرعي في الأحكام الجزئيّة الإجرائيّة أن يجعل الملاك الضرر النوعي، فيكون حينئذٍ من قبيل الحكمة للحكم لا العلّة والعنوان كما لعلّه كذلك في باب الشفعة لعدم وجود الضرر في جميع مصاديقها كما مرّ.

هذا في القسم الأوّل، وفي القسم الثاني (الأحكام الإجرائيّة) نظير حرمة حمل السلاح في عصرنا هذا، الذي يكون منشأً للضرر في غالب الأفراد، ولكن الحاكم الشرعي يحكم بتحريم حمل السلاح على نحو العموم ولجميع الأفراد، حفظاً لهذا الغرض، وعلى هذا يمكن أن يكون الضرر النوعي ملاكاً بالنسبة إلى مقام الجعل لا المجعول، وبعبارة اخرى: يكون داعياً لوضع القانون الكلّي لا عنواناً له.

إن قلت: لو كان المعيار هو الضرر الشخصي فلماذا استدلّ الأصحاب بقاعدة «لا ضرر» على خيار الغبن، مع أنّ المعاملة الغبنية لا تكون ضررية دائماً بل قد تكون المصلحة في بيع المتاع ولو بأقلّ من ثمن المثل، كما إذا كان في معرض الخرق والسرق، أو كان المالك عاجزاً عن حفظه؟

قلنا: الملاك في كون المعاملة ضرريّة أو غير ضرريّة إنّما هو المعاملة من حيث هى معاملة، ومعرّاة عن الحيثيات والعناوين الطارئة، ولا يخفى أنّ عنوان الضرر والمعاملة الضررية صادق على المعاملة المذكورة من حيث هى معاملة، وإن لم تكن ضررية بعد ملاحظة جميع الحيثيات الداخليّة والخارجيّة وبعد الكسر والإنكسار.

نعم، الحكم بالفساد في خصوص هذه الواقعة لا يكون منّة على المكلّف، لكن الإنصاف أنّ الامتنان إنّما هو بلحاظ الحكم الكلّي في هذه المقامات، لا بملاحظة مصاديقه الشخصيّة،

انوار الأصول، ج 3، ص:

265

ودوران الضرر مدار الأشخاص أمر، ودوران الامتنان مدار النوع أمر آخر، ولا منافاة بينهما، فتدبّر جيّداً.

التنبيه السابع: هل المدار على الضرر الواقعي أو العلمي؟

قد يكون العمل ضررياً ولا يعلم به المكلّف، فهل يحكم بفساده حينئذٍ على مختار الشيخ ومن تبعه من شمول القاعدة للعبادات وغيرها، أو يكون العلم جزءً للموضوع فلا يبطل؟

فلو صام بتوهّم عدم كونه ضررياً، ثمّ انكشف ضرره، فعلى الأوّل (كون الملاك الضرر الواقعي) يبطل الصوم ويجب القضاء، وبالعكس لو كان عالماً بالضرر وصام غفلة ثمّ انكشف عدم كونه ضررياً فلا يكون باطلًا إذا حصل منه قصد القربة.

واستدلّ على الأوّل: بأنّ الألفاظ تحمل على مصاديقها الواقعيّة، أي أنّ الظاهر من العناوين المأخوذة في موضوعات الأحكام إنّما هى المصاديق الخارجية، فالموضوع في قضيّة «الدم نجس» أو «الكرّ مطهّر» إنّما هو الدم الواقعي والكرّ الخارجي، فليكن كذلك عنوان الضرر في ما نحن فيه.

ولكن حاصل كلام بعض الأعلام في مصباح الاصول أنّ مقتضى تسالم الفقهاء على صحّة الطهارة المائيّة مع جهل المكلّف بكونها ضرريّة هو الثاني (كون العلم جزء الموضوع) كما يقتضيه تقييد الفقهاء خيار الغبن والعيب بما إذا جهل المغبون، وأمّا مع العلم بهما فلا يحكم بالخيار.

ودعوى أنّه مع العلم داخل في قاعدة الإقدام على نفسه، مدفوعة بأنّ إقدامه على الضرر غير مؤثّر في لزوم البيع بعد كون الحكم الضرري منفياً في الشريعة، وبعد كون اللزوم منفيّاً شرعاً لا أثر في إقدامه على الضرر.

ثمّ أجاب عن كلا النقيضين، أمّا عن الأوّل فبأنّ دليل لا ضرر ورد في مقام الامتنان على الامّة الإسلاميّة، فكلّ مورد يكون نفي الحكم فيه منافياً للامتنان لا يكون مشمولًا لدليل لا ضرر، ومن المعلوم أنّ الحكم ببطلان الطهارة المائيّة الضرريّة الصادرة حال الجهل، والأمر بالتيمّم وبإعادة العبادات الواقعيّة

معها مخالف للامتنان، ومجرّد كون الوضوء الضرري مثلًا

انوار الأصول، ج 3، ص: 266

الصادر حال الجهل غير مشمول لدليل لا ضرر، لا يكفي في الحكم بصحّته، بل إثبات صحّته يحتاج إلى دليل من عموم أو اطلاق يشمله.

(فوقع في تكلّف شديد لإثبات ذلك الدليل، وذكر له وجهين فراجع).

أمّا عن الثاني فبأنّ الدليل لثبوت خيار الغبن والعيب ليس قاعدة نفي الضرر، بل الدليل على ثبوت خيار الغبن تخلّف الشرط الإرتكازي، باعتبار أنّ بناء العقلاء على التحفّظ بالماليّة عند تبديل الصور الشخصيّة، فهذا شرط ضمني إرتكازي، وبتخلّفه يثبت خيار تخلّف الشرط، وعليه فيكون الإقدام من المغبون مع علمه بالغبن إسقاطاً للشرط المذكور فلا إشكال فيه، وأمّا خيار العيب فإن كان الدليل عليه هو تخلّف الشرط الضمني، بتقريب أنّ المعاملات العقلائيّة مبنية على أصالة السلامة في العوضين، فإذا ظهر العيب كان له خيار تخلّف الشرط فيجري فيه الكلام السابق في خيار الغبن، وإن كان الدليل عليه الأخبار الخاصّة كما أنّ الأمر كذلك فالأمر أوضح، لتقييد الخيار في الأخبار بصورة الجهل بالعيب «1».

أقول: لنا في المقام نكتتان:

الاولى: (بالنسبة إلى النقض الأوّل وهو العبادات الضرريّة): إنّ الحقّ (كما أفاده دام ظلّه) عدم شمول قاعدة لا ضرر مثل الطهارة المائيّة الضرريّة الصادرة حال الجهل لأنّها وردت في مقام الامتنان، ولكن يكفي لإثبات صحّة الوضوء الضرري إطلاقات أدلّة الوضوء بعد رفع المانع، والعجب منه أنّه كيف لم يتعرّض لهذا المعنى، ووقع لإثبات دليل على الصحّة في حيص وبيص، مع أنّه إذا رفع المانع أمام الإطلاقات فهى تؤثّر أثرها وهو إثبات صحّة العمل المأتي به بقصد إمتثالها.

الثانية: (بالنسبة إلى خيار الغبن): الصحيح أنّ الدليل لثبوت خيار الغبن إنّما هو قاعدة لا ضرر والإرتكاز المذكور في كلامه

بعيد جدّاً، خصوصاً بعد ملاحظة توسعة نطاقه عندهم بحيث يثبت حتّى إذا كان الغبن بمقدار خمس قيمة المثل، فإذا إشترى ما كان قيمته ثمانية دراهم بعشرة مثلًا حكم بكونه مغبوناً عندهم فيثبت له خيار الغبن، فمن البعيد جدّاً أخذ هذا المقدار بعنوان شرط ضمني (نعم وجود هذا الشرط الضمني واضح في خيار العيب، فإنّ الإنسان لا

انوار الأصول، ج 3، ص: 267

يشتري شيئاً إلّابشرط الصحّة) فالحقّ حينئذٍ مع من إدّعى أنّه مع العلم داخل في قاعدة الإقدام على نفسه، ومعه لا مجال لقاعدة لا ضرر لكونها قاعدة امتنانيّة، ولا منّة على المشتري إذا أقدم بنفسه على نفسه بقصد مصلحة البائع أو أي غرض آخر.

فظهر أنّه كلّما كانت قاعدة الإقدام جارية في مورد فلا مجال لقاعدة لا ضرر، لأنّ جريانها حينئذٍ خلاف الامتنان لأنّ المفروض أنّه أقدم على شي ء لغرض يطلبه، وحكم الشارع بمنعه عن وصوله إلى غرضه لا امتنان فيه.

التنبيه الثامن: في تعارض الضررين

وهو من أهمّ التنبيهات، وله في الفقه مصاديق كثيرة، والبحث عنه يقع في مقامين:

الأوّل: فيما إذا كان التعارض بالنسبة إلى شخص واحد نظير الوضوء الضرري (بناءً على شمول القاعدة للعباديات) إذا كان وجوده موجباً للاضرار بالبدن من أجل جراحة فيه، وعدمه موجباً لتشديد الحمّى مثلًا.

الثاني: فيما إذا كان التعارض بالنسبة إلى شخصين نظير ما إذا أراد الإنسان أن يجعل داره مطبخة بقصد التكسّب بها، فوجودها مضرّ بحال الآخرين، وعدمه مضرّ بحال نفسه، ونظير ما إذا دخلت دابّة في دار، ولا يمكن إخراجها منها إلّابهدم جدارها، أو إذا أدخلت الدابّة رأسها في قدر مالك آخر من دون تفريط من المالكين، ولم يمكن إخراج رأسه إلّابكسر أحدهما، ونظير ما هو المبتلى به في يومنا هذا من إحداث شرع جديد،

أو تغيير مسير بعض الطرق، أو إحداث قنطرة ممّا يوجب الضرر لمالكي الدور والدكاكين حولها، مع أنّ ترك الإحداث أيضاً يوجب الضرر لكثير من الناس، ونظير ما سيأتي من مسألة الإكراه فيما إذا اكره ظالم مأموره بأن يضرب أحداً فامتثال أمره يوجب الاضرار بالغير وعدمه يوجب الاضرار بنفسه.

أمّا المقام الأوّل فهو على قسمين:

قسم يكون الضرران فيه متساويين فلا إشكال في عدم جريان القاعدة فيه، أو أنّها تجري ثمّ تتساقط فتبقى عمومات الوضوء أو الغسل مثلًا بلا معارض، ويلحق بهذا القسم ما

انوار الأصول، ج 3، ص: 268

إذا كان التفاوت بين الضررين أقلّ قليل بحيث تكون القاعدة منصرفة عنه عند العرف.

وقسم يكون أحد الضررين أقوى من الآخر بحيث يحكم العرف بعدم شمول القاعدة للأضعف بعد الكسر والانكسار، فلا إشكال أيضاً في جريان القاعدة في خصوص الأقوى.

أمّا المقام الثاني فهو أيضاً على قسمين:

أولًا: يكون التعارض بين الضررين بالنسبة إلى مالكين، كما في مثال إدخال الدابّة رأسها في قدر مالك آخر، أو بالنسبة إلى غير المالك، كما إذا كان تغيير مسير نهر عام موجباً للاضرار بقرية، وعدم تغييره موجباً للاضرار بقرية اخرى، ففي هذه الصورة أيضاً إمّا أن تجري القاعدة في الطرفين ثمّ تتساقط، أو لا تجري رأساً من باب إنّ أدلّة القاعدة منصرفة عنها، لأنّها حكم امتناني ولا امتنان فيها، فلابدّ حينئذٍ من الرجوع إلى قاعدة عقلائية اخرى، وهى قاعدة العدل والإنصاف، أو قاعدة الجمع بين الحقّين، فيتعيّن أحد الضررين بالقرعة ثمّ تقسّم الخسارة بين الطرفين، نعم هذا إذا لم يكن أحدهما مقصّراً، وإلّا فعلى المقصّر تحمّل الخسارة كلّها.

هذا كلّه إذا كان الضرران متساويين، وأمّا إذا كان أحدهما أقوى من الآخر فليس المرجع حينئذٍ القرعة، بل لابدّ فيه من

الأخذ بالأضعف وتعيين مقدار الخسارة فيه، ثمّ تقسيمها بينهما، كما إذا كان إخراج الدابّة عن الدار متوقّفاً على قلع باب الدار فحسب إذا كانت قيمة الدابّة أكثر من خسارة قلع الباب ونصبه ثانياً.

هذه هى الصورة الاولى، والعجب كيف لم يتعرّض الفقهاء إلى لزوم تقسيم الخسارة فيها بين الطرفين.

ثانياً: يكون التعارض بين ضرر مالك وغير المالك، والأمثلة المذكورة لهذه الصورة أكثرها خارجة عمّا نحن فيه، كمثال جعل دار مطبخة أو مدبغة أو بيت حدّاد في سوق العطّارين، فإنّها ليست مشمولة لقاعدة السلطنة عند العقلاء حتّى نحتاج إلى تضييقها بقاعدة لا ضرر، لأنّ قاعدة السلطنة قاعدة عقلائيّة، لها حدود وقيود ونطاق معلوم، ومن تجاوز عنها عدّ متجاوزاً على حقوق الآخرين، فليست القاعدة عندهم مطلقة من جميع النواحي، ومن الواضح أنّ ما ورد في لسان الشرع بالنسبة إلى هذه القاعدة يكون إمضاء لما عند العقلاء بما لها من الحدود والقيود.

انوار الأصول، ج 3، ص: 269

وكيف كان: ففي هذه الصورة تارةً يوجب عدم تصرّف المالك ضرراً بنفسه أو فوت منفعة له، كما إذا كان محلّ نصب المدفأة مثلًا في جنب جدار الجار، ومتّصلًا بغرفة نومه، بحيث يوجب الاضرار بالجار من جانب، ولا يكون له مكان آخر للنصب من جانب آخر، أو أراد أن يبني بناءً ذات طبقات عديدة بحيث يوجب عدمه الاضرار بالمالك، لأنّ الاكتفاء بطبقة واحدة مع ارتفاع قيمة الأرض (على الفرض) يكون سبباً للضرر الكثير على مالكها، بينما البناء المرتفع المتعدّد الطبقات يكون سبباً لضرر الجيران، واخرى يكون تصرّف المالك تعمّداً للاضرار أو لغرض غير عقلائي.

ففي القسم الأوّل لا إشكال في عدم شمول القاعدة أو تساقطها، فيبقى حينئذٍ قاعدة السلطنة بلا معارض ما دام لم يوجب إجراء هذه

القاعدة التصرّف في ملك الغير، وإلّا فلا إشكال أيضاً في عدم جوازه، كما في الحمّام الذي يوجب سراية النداوة إلى دار الغير أو تسويد داره بدخّانه.

وأمّا في القسم الثاني فتجري القاعدة بلا إشكال، لأنّه هو مورد قضيّة سمرة وروايتي الجدار والبعير، فلا يجوز للمالك التصدّي لهذه الامور اعتماداً على قاعدة السلطنة.

هذا آخر ما أردناه في بيان القاعدة وفروعاتها وتنبيهاتها، وهناك تنبيهات اخرى ذكرناها في كتاب القواعد مستقلًا، ولكن هنا أدغمناها في التنبيهات الاخر، والحمد للَّه أوّلًا وآخراً وظاهراً وباطناً.

إلى هنا تمّ الكلام في شرائط جريان الاصول وما لحقت بها من قاعدة لا ضرر.

انوار الأصول، ج 3، ص: 271

4- أصالة الاستصحاب مقدّمة:

1- تعريف الاستصحاب 2- هل الاستصحاب من المسائل الاصوليّة؟

3- أركان الاستصحاب 4- ثمرة فعليّة اليقين والشكّ 5- هل الاستصحاب من الاصول أو الأمارات؟

6- جريان الاستصحاب في الحكم الشرعي المستكشف من دليل العقل وعدمه 7- الفرق بين الاستصحاب وقاعدتي اليقين والمقتضي والمانع الأقوال في حجّية الاستصحاب وبيان أدلّتها:

الأول: أدلّة القول بالحجّية مطلقاً:

بناء العقلاء الإستقراء في الأبواب المختلفة من الفقه الإجماع الأخبار المستفيضة

الثاني: التفصيل بين الشبهات الحكميّة والموضوعيّة

الثالث: تفصيل الشيخ الأعظم بين الشكّ في المقتضي والشكّ في الرافع تنبيهات الاستصحاب:

1- الأحكام الوضعيّة وتفصيل الفاضل التوني رحمه الله 2- اعتبار فعلية اليقين والشكّ في الاستصحاب 3- جريان الاستصحاب فيما ثبت بالأمارة 4- أقسام استصحاب الكلّي:

الشبهة العبائية

5- استصحاب الامور التدريجية 6- الاستصحاب التعليقي 7- استصحاب أحكام الشرائع السابقة 8- الاصول المثبتة وعدم حجّيتها

9- بعض تطبيقات الاصول المثبتة

10- عدم كون الاستصحاب مثبتاً بالنسبة إلى اللازم المطلق للمستصحب 11- لزوم كون المستصحب حكماً شرعياً أو ذا حكم شرعي ولو بقاءً

12- استصحاب تأخّر الحادث 13- استصحاب الكتابي 14- استصحاب حكم المخصّص 15- عموم الشكّ

في الاستصحاب للظنّ والوهم 16- اعتبار بقاء الموضوع في الاستصحاب 17- تقدّم الأمارات على الاستصحاب 18- النسبة بين الاستصحاب وسائر الاصول 19- تعارض الاستصحابين 20- النسبة بين الاستصحاب والقواعد الجارية في الشبهات الموضوعيّة

انوار الأصول، ج 3، ص: 273

4- اصالة الاستصحاب
اشارة

ولابدّ قبل الورود في بيان حجّيته الأدلّة الدالّة عليها من تقديم امور:

الأمر الأوّل: تعريف الاستصحاب

وقد عرّف الاستصحاب في كلمات القوم بتعاريف عديدة:

ومنها: ما في زبدة الاصول للشيخ البهائي رحمه الله من أنّه: «إثبات الحكم في الزمان الثاني تأويلًا على ثبوته في الزمن الأوّل».

وهو تعريف جيّد إلّامن ناحية عدم الإشارة فيه إلى ركني الاستصحاب وهما: اليقين السابق والشكّ اللاحق، ولذا يصدق هذا التعريف فيما إذا حصل لنا اليقين في الزمن اللاحق أيضاً، مع أنّه خارج عن حقيقة الاستصحاب.

ومنها: ما اختاره الشيخ الأنصاري رحمه الله في رسائله بعنوان أنّه تعريف أسدّ وأخصر، وهو:

أنّ الاستصحاب إبقاء ما كان.

ويرد عليه أيضاً: عدم الإشارة فيه إلى ركني الاستصحاب، مضافاً إلى شموله الإبقاء التكويني لما كان، بينما متعلّق الإبقاء في الاستصحاب إنّما هو الحكم الشرعي التعبّدي، اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ طبيعة البحث قرينة على كونه ناظراً إلى التشريع.

ومنها: ما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمه الله في الكفاية، وهو «الحكم ببقاء حكم أو موضوع ذي حكم شكّ في بقائه».

وهذا ممّا لا بأس به إن اضيف إليه قيد آخر، وهو عدم كون الحكم بالبقاء مستنداً إلى دليل خاصّ، حيث إنّه لولاه لكان التعريف شاملًا لما إذا كان الإبقاء من جهة قيام دليل خاصّ عليه.

انوار الأصول، ج 3، ص: 274

ومنها: ما اختاره المحقّق النائيني رحمه الله وهو أنّ «الاستصحاب عبارة عن عدم إنتقاض يقين سابق المتعلّق بالحكم أو الموضوع من حيث الأثر، والجري العملي بالشكّ في بقاء متعلّق اليقين» «1».

وهذا التعريف مضافاً إلى كونه تطويلًا بلا دليل لا يناسب مقام التعريف، يرد عليه ما أوردناه على تعريف المحقّق الخراساني رحمه الله من شموله لما إذا كان عدم انتقاض اليقين السابق مستنداً إلى دليل خاصّ، مضافاً إلى

أنّ الصحيح أن يعبّر بعدم النقض لا عدم الانتقاض لأنّ الاستصحاب فعل من أفعال الفقيه.

فالحقّ والصحيح في تعريف الاستصحاب ما مرّ من تعريف المحقّق الخراساني رحمه الله بإضافة القيد المزبور، أي «الحكم ببقاء حكم أو موضوع ذي حكم شكّ في بقائه من دون قيام دليل خاصّ عليه».

الأمر الثاني: هل الاستصحاب من المسائل الاصوليّة أو غيرها؟

وقد حكم بعض بكونه من المسائل الاصوليّة بتّاً ويقيناً، وفصّل بعض آخر بين الاستصحاب في الشبهات الحكميّة والاستصحاب في الشبهات الموضوعيّة، فحكم بأنّه اصوليّة في الأوّل، وقاعدة فقهيّة في الثاني.

والصحيح أنّه يختلف باختلاف مجاريه الثلاثة: فتارةً يكون المستصحب من الموضوعات ككرّية الماء وعدالة زيد، فلا إشكال حينئذٍ في كونه من القواعد الفقهيّة لا من المسائل الاصوليّة، لعدم كون النتيجة فيهما حكماً كليّاً كما لا يخفى ولا من المسائل الفرعيّة الفقهيّة التي أمرها بيد المقلّد، لأنّ تشخيص موارد جريانها وموارد عدم جريانها لوجود معارض أو حاكم مثلًا إنّما هو بيد المجتهد.

إن قلت: الميزان في كون مسألة من القواعد الفقهيّة كونها حكماً كليّاً قابلًا للانطباق على مصاديق كثيرة، وهو لا يتصوّر في الموضوعات.

انوار الأصول، ج 3، ص: 275

قلنا: إنّ قاعدة الاستصحاب الجاري في الموضوعات بما هى هى من دون ملاحظة الموضوعات بخصوصياتها حكم كلّي ينطبق على افراد كثيرة، وهو عبارة عن الجري العملي على وفق الحالة السابقة.

واخرى: يكون المستصحب من الأحكام كاستصحاب طهارة العصير العنبي بعد الغليان، فلا إشكال في أنّه من المسائل الاصوليّة، لأنّه يقع كبرى لقياس يستنتج منه حكم فقهي كلّي.

وثالثة: يكون المستصحب من المسائل الاصوليّة كاستصحاب حجّية خبر الواحد فيما إذا شككنا في نسخها من جانب الشارع فهو حينئذٍ من مبادى ء علم الاصول التصديقيّة، وقد عرفنا سابقاً أنّه لابدّ من البحث عنها في علم الاصول إذا لم يبحث

عنه أو لم يستوف حقّها في سائر العلوم.

الأمر الثالث: أركان الاستصحاب

المعروف أنّ للاستصحاب ركنين: اليقين السابق والشكّ اللاحق المتعلّق بمتعلّق اليقين، ونفس هذا يدلّ على لزوم اتّحاد القضيّتين في الاستصحاب: القضية المتيقّنة والقضية المشكوكة موضوعاً ومحمولًا فتكون مثلًا قضية «إنّ هذا الماء كرّ» متعلّقة اليقين والشكّ معاً.

إن قلت: لو كان المعتبر في جريان الاستصحاب اتّحاد القضيتين كذلك، لزم عدم جريانه في الشبهات الحكميّة، حيث إنّه ما من شكّ متعلّق ببقاء حكم من الأحكام إلّاأوهو ناشي ء من تغيير في موضوع القضيّة المتيقّنة في الزمن اللاحق.

قلنا: أنّه كذلك لو كان المراد من الوحدة الوحدة العقليّة، بينما المقصود منها الوحدة العرفيّة كما سيأتي بيانه إن شاء اللَّه تعالى.

هذا- وللمحقّق النائيني رحمه الله في المقام كلام طويل «1» عدّ فيه للاستصحاب ثلاثة أركان:

1- اجتماع اليقين والشكّ.

انوار الأصول، ج 3، ص: 276

2- سبق زمان المتيقّن على المشكوك.

3- فعلية اليقين والشكّ.

وهو ممّا لا بأس به إذا أراد منه مجرّد التفسير والتوضيح، وإلّا لا إشكال في رجوعها إلى الركنين السابقين، أمّا الأوّل والثاني فواضح، وأمّا الثالث فلأنّه كلّما نتكلّم عن وصف نريد منه ما هو موجود بالفعل، فلو قلنا مثلًا إنّ المقلّد (بالفتح) لابدّ أن يكون مجتهداً فلا ريب في أنّ المراد منه المجتهد الفعلي، لا من سيصير مجتهداً، وهكذا سائر الأوصاف، فإنّها ظاهرة في الفعليّة حتّى في الجوامد، كالشجر والحجر فإنّ المراد منهما ما يكون شجراً أو حجراً بالفعل.

الأمر الرابع: ثمرة فعليّة اليقين والشك

قد ظهر ممّا سبق آنفاً أنّه لا يكفي في جريان الاستصحاب إلّااليقين والشكّ الفعليّان، فلو تيقّن الإنسان بالحدث ثمّ شكّ في حصول الطهارة ثمّ غفل عن شكّه وصلّى ثمّ التفت إلى أنّه كان شاكّاً قبل الشروع في الصّلاة فلا إشكال في حجّية استصحاب الحدث، وأنّه لا تصل النوبة إلى قاعدة الفراغ لأنّها خاصّة

بالشكّ الحادث بعد العمل، والمفروض أنّ الشكّ في الطهارة كان موجوداً قبل العمل، وأمّا إذا تيقّن بالحدث ثمّ غفل وصلّى ثمّ التفت واحتمل حصول الطهارة قبل الصّلاة ولكن يعلم بأنّه لو كان ملتفتاً قبل الشروع في الصّلاة لحصل له الشكّ في الطهارة فحصول الشكّ له معلّق على خصوص الالتفات ومقدّر على تقديره فبناءً على ما مرّ في المقدّمة السابقة لا يجري استصحاب الحدث بل الجاري هو قاعدة الفراغ كما لا يخفى، وهذا وأشباهه يكون ثمرة لمسألة فعلية اليقين والشكّ.

الأمر الخامس: هل الاستصحاب من الاصول أو الأمارات؟

وقد فصّل شيخنا الأعظم الأنصاري رحمه الله فيه بين ما إذا كان الدليل عليه من الأخبار أو العقل، وقال: إنّ عدّ الاستصحاب من الأحكام الظاهرية الثابتة للشي ء بوصف كونه مشكوك الحكم نظير أصل البراءة وقاعدة الاشتغال مبنى على استفادته من الأخبار، وأمّا بناءً على انوار الأصول، ج 3، ص: 277

كونه من أحكام العقل يعني به ما استقرّ عليه بناء العقلاء فهو دليل ظنّي اجتهادي نظير القياس والاستقراء على القول بهما، وحيث إنّ المختار عندنا هو الأوّل ذكرناه في الاصول العمليّة المقرّرة للموضوعات بوصف كونها مشكوكة الحكم، لكن ظاهر كلمات الأكثر كالشيخ والسيّدين والفاضلين والشهيدين وصاحب المعالم كونه حكماً عقليّاً، ولذا لم يتمسّك أحد هؤلاء فيه بخبر الأخبار (انتهى).

فيظهر من صريح كلامه أنّ الاستصحاب عنده من الاصول إن كان الدليل عليه هو الأخبار، ومن الأمارات إن كان الدليل عليه هو العقل، وإنّ مختاره هو الأوّل، لكن لابدّ قبل تعيين ما هو الصحيح في المسألة من بيان الفرق بين الأمارة والأصل العملي.

فنقول: المعروف فيه أنّ الأصل ما أخذ في موضوعه الشكّ، وأنّ الأمارة ما يكون طريقاً إلى الواقع من دون أخذ الشكّ في موضوعه.

وذكر بعض أنّ الأصل ما يكون

الشكّ مأخوذاً في موضوعه، وأنّ الأمارة ما يكون الشكّ مأخوذاً في مورده.

والحقّ هو أنّ الشكّ مأخوذ في موضوع كلّ من الأصل والأمارة من دون فرق بين الموضوع والمورد، والشاهد عليه قوله تعالى: «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَاتَعْلَمُونَ»، الوارد في حجّية الرجوع إلى أهل الخبرة، حيث إنّ «لا تعلمون» يساوق معنى الشكّ، ولا كلام في أنّ الرجوع إلى أهل الخبرة من الأمارات، بل لا معنى لنفي الشكّ عن موضوع الأمارات فإنّها على كلّ حال واردة في ظرف الشكّ ومقيّدة به، سواء ورد التصريح به في العبارة أو لم يرد، والفرق بين المورد والموضوع لا معنى محصّل له.

بل الصحيح في الفرق بينهما أنّ الأمارة ما تكشف عن الواقع في الجملة، ولأجل ذلك جعلت لها الحجّية عند الشرع أو العقلاء من أهل العرف فصار كشفها الناقص بمنزلة الكشف التامّ، وأمّا الأصل فليس له كشف عن الواقع بل هو حكم جعل لمجرّد رفع الحيرة والترديد في مقام العمل، سواء كان الدليل عليه العقل أو النقل.

وإن شئت قلت: إنّ هنا موضوعاً وحكماً وعلّة للحكم، فالموضوع في كلٍّ من الأمارات والاصول هو الشكّ بالمعنى الأعمّ من الظنّ، كما أنّ الحكم في كليهما هو الحجّية، ولكن العلّة في الأمارات هى الكاشفيّة عن الواقع في الجملة، بينما العلّة في الاصول هى مجرّد رفع الحيرة في انوار الأصول، ج 3، ص: 278

مقام العمل، فالفرق بينهما إنّما هو في مقام علّة الحجّية فحسب.

إذا عرفت هذا فنقول: الظاهر أنّ التفصيل المزبور من الشيخ الأعظم رحمه الله في غيره محلّه لأنّ للعقلاء أيضاً اصولًا وأمارات فإنّهم يجرّون البراءة مثلًا في الأحكام الجارية بين الموالي وعبيدهم وبين الحكّام ورعاياهم والرؤساء والمرؤوسين، وفي الموضوعات في الجرائم والمسائل الحقوقيّة، مع

أنّه لا نزاع في أنّ البراءة من الاصول العمليّة، فمجرّد كون الدليل بناء العقلاء لا يكون دليلًا على الأمارية بل يوافق كون المورد أصلًا أو أمارة، فلابدّ إذن من ملاحظة كيفية بناء العقلاء وخصوصيته حتّى يتبيّن أنّ نظرهم هل هو إلى جهة الكشف حتّى يكون المورد أمارة، أو إلى مجرّد رفع الحيرة حتّى يكون المورد من الاصول؟ وسيأتي بيان هذا بالنسبة إلى الاستصحاب فانتظر.

بقي هنا شي ء:

وهو أنّ المحقّق النائيني رحمه الله فرّق في الاصول العمليّة بين المحرزة منها وغير المحرزة وقال:

ليس معنى الأصل المحرز كونه طريقاً إلى المؤدّي، بل معناه هو البناء العملي على أحد طرفي الشكّ على أنّه هو الواقع وإلغاء الطرف الآخر، فالمجعول في الأصل المحرز هو الجهة الثالثة من العلم الطريقي، وهى الحركة والجري العملي نحو المعلوم، فالإحراز في باب الاصول المحرزة غير الإحراز في باب الأمارات، فإنّ الإحراز في باب الأمارات هى إحراز الواقع مع قطع النظر عن مقام العمل، وأمّا الإحراز في باب الاصول المحرزة فهو الإحراز العملي في مقام تطبيق العمل على المؤدّي، فالفرق بين الإحرازين ممّا لا يكاد يخفى. وأمّا الاصول غير المحرزة فالمجعول فيها مجرّد التطبيق العملي على أحد طرفي الشكّ من دون البناء على أنّه هو الواقع، فهو لا يقتضي أزيد من تنجيز الواقع عند المصادفة والمعذورية عند المخالفة، وهو الذي كان يقتضيه العلم من الجهة الرابعة. (انتهى) «1».

أقول: هذا التقسيم ممّا لا محصّل له، لأنّ حجّية الاستصحاب إمّا أن تكون ناشئة عن كشفه للواقع أو لا، فعلى الأوّل يكون أمارة لا أصلًا، وعلى الثاني يكون أصلًا لا أمارة، وليس انوار الأصول، ج 3، ص: 279

هنا شقّ ثالث، وما قد يقال من «أنّ الاستصحاب عرش الاصول وفرش

الأمارات» كلام شعري.

وأمّا ما أفاده رحمه الله من أنّ الإحراز في باب الاصول المحرزة غير الإحراز في باب الأمارات إلى آخر ما ذكره فهو أيضاً ممّا لا يرجع إلى محصّل، فإنّ الإحراز العملي تعبير يوهم التناقض فإنّ الإحراز لا يكون في مقام العمل، وإنّما الإحراز في مقام العلم والظنّ، والموجود في مقام العمل ليس إلّاالبناء على أحد الطرفين، فحينئذٍ لا فرق بين الاستصحاب وغيره من الاصول بناءً على عدم كشفه عن الواقع.

وأمّا قاعدة الفراغ والتجاوز فسيأتي إن شاء اللَّه تعالى من الأمارات وإن كانت متأخّرة عن أمارات اخر، كما أنّ البيّنة مقدّمة على اليد وإن كانت كلتاهما من الأمارات.

وما قد يقال من أنّ لازم ذلك كون مثبتات قاعدة الفراغ حجّة مع أنّ ظاهرهم عدم الالتزام به مدفوع بأنّ حجّية مثبتات الأمارات مقيّدة بقيود خاصّة ستأتي الإشارة إليها إن شاء اللَّه عن قريب.

الأمر السادس: جريان الاستصحاب في الحكم الشرعي المستكشف من دليل العقل وعدمه

فلو كشفنا حرمة المخدّرات مثلًا من حكم العقل، أي بقانون الملازمة فهل يصحّ استصحابه فيما إذا شككنا في بقائها في الزمان اللاحق، أو لا؟

ذهب شيخنا الأعظم الأنصاري رحمه الله إلى عدمه، من باب أنّ الأحكام العقليّة كلّها مبيّنة مفصّلة من حيث مناط الحكم، فلا يشكّ العقل حينئذٍ في حكم نفسه، فلابدّ وأن يرجع الشكّ في بقاء المستصحب وعدمه إلى الشكّ في موضوع الحكم، والموضوع لابدّ أن يكون محرزاً معلوم البقاء في الاستصحاب.

وبعبارة اخرى: أنّ الحكم العقلي موضوعه معلوم تفصيلًا للعقل الحاكم به فإن أدرك العقل بقاء الموضوع في الآن الثاني حكم به حكماً قطعيّاً كما حكم أوّلًا، وإن أدرك ارتفاعه قطع بارتفاع ذلك الحكم، فلا يعقل تطرّق الاهمال إلى موضوعه.

انوار الأصول، ج 3، ص: 280

وعليه فإذا تخلّف قيد من قيود الموضوع وحالة من حالاته

فإن كان دخيلًا في الموضوع بنظر العقل فالحكم العقلي غير باقٍ قطعاً، وهكذا الحكم الشرعي المستند إليه، وإن لم يكن دخيلًا فيه فالحكم العقلي باقٍ كذلك، فإذا حكم العقل مثلًا بحرمة السمّ المضرّ، وإنتفى الإضرار من السمّ فإن كان الاضرار دخيلًا بنظره في الموضوع فلا حرمة يقيناً، وإن لم يكن دخيلًا فالحرمة باقية يقيناً، وعليه فلا استصحاب على شي ء من التقديرين بلا شبهة، (انتهى ملخّص كلماته في هذا المقام) «1».

ولكن المحقّق الخراساني رحمه الله أورد عليه بأنّ تطرّق الإهمال إلى موضوع حكم العقل ممّا يعقل في الجملة، بمعنى أنّه يمكن أن يستقلّ العقل بحكم خاصّ على موضوع مخصوص مع وجود حالة مخصوصة فيه، لكن من غير أن يدرك دخلها في المناط على نحو إذا انتفت الحالة أدرك فقد المناط فيه بل يدرك فقط تحقّق المناط مع وجود الحالة فيستقلّ بالحكم، ولا يدرك تحقّق المناط مع انتفاء الحالة فلا يستقلّ بالحكم ولا بانتفائه، وعليه فلا مانع حينئذٍ عن استصحاب الحكم الشرعي المستكشف بحكم العقل بعد انتفاء الحالة المخصوصة، وذلك لليقين السابق كما هو المفروض، والشكّ اللاحق نظراً إلى احتمال عدم دخل الحالة في المناط أصلًا، ولبقاء الموضوع عرفاً إذا فرض عدم كون الحالة من مقوّمات الموضوع، بل من حالاته المتبادلة.

وبعبارة اخرى: أنّه لا مانع من عدم الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع بقاءً مع وجود الملازمة بينهما حدوثاً، وذلك لأنّه قد يكون الموضوع في الواقع وفي نظر الشارع أوسع من الموضوع في نظر العقل، أو يكون هناك ملاكان مختلفان للحكم زال أحدهما المعلوم عند العقل وبقي الآخر المجهول عنده، والمعلوم عند الشارع العالم بالخفيّات، فيحتمل بقاء الحكم بعد زوال حكم العقل، فيستصحب مع بقاء الموضوع في

نظر العرف (انتهى).

أقول: الإنصاف أنّ الحقّ في المسألة مع الشيخ الأعظم رحمه الله لأنّه وإن كان ركنا الاستصحاب (وهو اليقين السابق والشكّ اللاحق) موجودين في ما نحن فيه، لكن الكلام في وحدة الموضوع المعتبرة في الاستصحاب، وهى منتفية في المقام، وذلك لأنّ الأحكام المتعلّقة

انوار الأصول، ج 3، ص: 281

بالأشياء الخارجية من ناحية الشرع أو العقل لا تتعلّق بها بما هى هى، أي بذواتها، بل تتعلّق بها بعناوينها، فالمتعلّق للحكم دائماً هو الشي ء بعنوانه لا بما هو هو، فبعد أن تبدّل الخمر إلى الخلّ وإن كانت «الهذية» موجودة، لكنّها ليست موضوعاً للنجاسة، بل الموضوع لها هذا بما هو خمر، ولا إشكال في زواله وعدم وجوده بعد صيروريته خلًا.

نعم الموضوع في حكم آخر كالملكيّة أو حقّ الاختصاص ربّما لا يكون عنوان الخمر، ولا يكون هذا العنوان مقوّماً له بل يكون من حالاته المتبادلة.

ثمّ إنّ الشيخ الأعظم رحمه الله قد رتّب على مختاره في هذا البحث ثمرتين:

أحدهما: عدم إمكان استصحاب عدم وجوب السورة للناسي لها الذي كان ثابتاً في حال النسيان بحكم العقل لأنّ الموضوع لعدم الوجوب كان هو هذا الناسي، وهو منتفٍ بعد زوال النسيان.

ثانيهما: عدم إمكان استصحاب البراءة العقليّة الثابتة في حال الصغر للصبي بعد بلوغه لأنّ الموضوع لها كان عنوان الصغير وهو ليس موجوداً بعد البلوغ وزوال الصغر.

إلى غير ذلك ممّا يتصوّر من الثمرات، وما ذكره جيّد.

الأمر السابع: الفرق بين قاعدة الاستصحاب وقاعدتى اليقين والمقتضي والمانع
اشارة

ما هو الفرق بين هذه الثلاثة مع اشتراك جميعها في ركني اليقين والشكّ؟

فنقول: لا إشكال في عدم اجتماع اليقين والشكّ لشخص واحد بالنسبة إلى شي ء واحد وفي زمان واحد، فإذا علمنا يوم الجمعة بعدالة زيد في يوم الخميس لا يمكن أن نشكّ يوم الجمعة أيضاً في عدالته في ذلك

اليوم بعينه بل لابدّ من تغاير اليقين والشكّ إمّا في نفس المتعلّق أو في زمان المتعلّق (بالفتح) أو في زمان المتعلّق (بالكسر).

فإذا كان اليقين والشكّ متّحدين في الزمان (أي لا يكون تغاير في زمان المتعلّق بالكسر) وكان متعلّقهما أيضاً واحداً في الزمان (أي لا يكون تغاير في زمان المتعلّق بالفتح) ولكن كان متعلّق اليقين وجود المقتضي، ومتعلّق الشكّ وجود المانع (أي كان التغاير في نفس المتعلّق انوار الأصول، ج 3، ص: 282

بالفتح) فهذا هو مورد قاعدة المقتضي والمانع.

وإذا كان المتعلّق (بالفتح) واحداً، وكان زمان المتعلَّق (بالفتح) أيضاً واحداً، ولكن كان زمان اليقين متغايراً مع زمان الشكّ فهذا مورد قاعدة اليقين، ويسمّى بالشكّ الساري لسريان الشكّ إلى نفس متعلّق اليقين، كما إذا علمنا يوم الخميس بعدالة زيد يوم الأربعاء، وشككنا يوم الجمعة في عدالته يوم الأربعاء بعينه.

وإذا كان زمان اليقين والشكّ متّحداً، وكان متعلّقهما أيضاً أمراً واحداً، ولكن كان التغاير في زمان المتعلّق بالفتح، فهذا هو مورد قاعدة الاستصحاب، ويسمّى الشكّ حينئذٍ بالشكّ الطارى ء (في مقابل الشكّ الساري) كما إذا علمنا يوم الخميس بعدالة زيد، ثمّ شككنا في عدالته يوم الجمعة.

فالميزان في الاستصحاب هو التمايز والتغاير في زمان متعلّق اليقين والشكّ، وفي قاعدة اليقين هو التمايز في زمان نفس اليقين والشكّ، وفي قاعدة المقتضي والمانع في نفس متعلّق اليقين والشكّ.

الأقوال في حجّيّته الاستصحاب وبيان أدلّتها:

إذا عرفت هذا كلّه فاعلم أنّ الأقوال في حجّية الاستصحاب كثيرة:

1- الحجّية مطلقاً.

2- عدم الحجّية مطلقاً.

3- التفصيل، وهو على وجوه عديدة.

والمهمّ- كما أفاده المحقّق الخراساني رحمه الله- ذكر أدلّة المختار منها، وهو الحجّية مطلقاً، على نحو يظهر بطلان سائر الأقوال، فنقول:

استدلّ للقول بالحجّية مطلقاً بوجوه:

الاول: بناء العقلاء:

بناء العقلاء، فإنّ بناءهم على استصحاب الحالة المتيقّنة السابقة في جميع

امورهم، وعليه أساس معاشهم، بل قال بعضهم: لولا ذلك لأختلّ نظام العالم وأساس عيش بني آدم، فلو احتمل أحدهم موت صاحبه في تجارة لكهولة سنّه أو مرضه أو غير ذلك من انوار الأصول، ج 3، ص: 283

الحوادث المختلفة فلا يعتني بهذا الاحتمال بل يداوم على عمله ويسير إلى مقصده من دون أن تمنعه هذه الاحتمالات، وفي المحاكم القضائيّة العقلائيّة يبني على بقاء مالكية الإنسان ما لم يثبت خلافه، وعلى بقاء الوكالة ما لم يثبت العزل، وعلى بقاء زوجية الزوج الغائب وإن احتمل موته أو طلاقه.

وقد قال بعض المحقّقين «إنّ ذلك يظهر بالعيان والوجدان لمن نظر في أعمالهم وحركاتهم وسكناتهم في معاملاتهم وتجاراتهم وزياراتهم لأصدقائهم وأقربائهم، وعياداتهم لمرضاهم وجميع امورهم، بل وإن تأمّل في أعمال نفسه وحركاته الإرتكازية يرى أنّه يجري على طبق الحالة السابقة مع الشكّ في ارتفاعها» «1».

بل قد يقال: إنّه ثابت حتّى في الحيوانات فإنّها تطلب عند الحاجة، المواضع التي عهدت فيها الماء والكلاء، كما أنّ الطيور تعود من الأماكن البعيدة إلى أوكارها، غاية الأمر أنّ بنائها على هذا يكون عن جبلّتها وغريزتها، وبناء العقلاء يكون عن شعورهم وعاقلتهم.

وقد أورد على هذا بإشكالات عديدة، ذكر اثنين منها في الكفاية:

أحدهما: إنّ بناء العقلاء هذا لا يفيدنا إلّاإذا كان ناشئاً من تعبّدهم على ذلك، وهو ممنوع لأنّه ينشأ من ملاكات عديدة، فقد يكون رجاءً واحتياطاً، وقد يكون من باب الاطمئنان بالبقاء، وقد يكون ظنّاً ولو نوعاً، وقد يكون من باب الغفلة كما هو الحال في الحيوانات دائماً وفي الإنسان أحياناً.

لكن الإنصاف أنّه غير تامّ، لأنّ من الاحتمالات المذكورة في كلامه كون البناء من باب الظنّ النوعي، ومنها كونه من باب الرجاء والاحتياط، وهذا كافٍ في إثبات

المطلوب، لأنّه إذا كان الظنّ أو الرجاء أو شبههما حجّة عند العقلاء بحيث يحتجّ به العبيد على مواليهم، والموالي على عبيدهم فهو كافٍ في إثبات المطلوب، لأنّا لا نقصد من الحجّية إلّاهذا.

ثانيهما: سلّمنا ذلك، لكن الآيات الناهية عن العمل بغير العلم رادعة عن هذه السيرة.

وأورد عليه المحقّق الأصفهاني رحمه الله بأنّ «كلماته في هذه المسألة في تعليقته المباركة، وفي مبحث خبر الواحد من الكتاب، وفي هامشه هناك، وفي هذا المبحث من الكتاب مختلفة، ففي تعليقته على الفرائد قدّم السيرة على العمومات نظراً إلى استحالة رادعية العمومات عن انوار الأصول، ج 3، ص: 284

السيرة، وفي مبحث خبر الواحد أيضاً قدّم السيرة مع الالتزام بالدور من الطرفين على وجه دون وجه، وفي هامش المبحث المزبور التزم بحجّية الخبر لاستصحاب حجّيته الثابتة قبل نزول الآيات بعد دوران الأمر بين الردع والتخصيص، وفي هذا الموضع قدّم الآيات الناهية، وادّعى كفايتها في الرادعيّة» «1».

أقول: قد مرّ سابقاً أنّ الآيات الناهية عن العمل بالظنّ لا يمكن أن تكون رادعة عن سيرة العقلاء على العمل، لأنّ المراد من الظنّ فيها ليس هو الظنّ المصطلح (وهو الاحتمال الراجح في مقابل العلم والشكّ والوهم) بل إنّه في هذا القبيل من الآيات إشارة إلى الظنون الواهيّة والتخيّل والخرص، كما تؤيّده القرائن الموجودة في نفس الآيات، مثل ما ورد في قوله تعالى: «إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ» «2»

فعطف على الظنّ ما تهوى الأنفس، وما ورد في قوله تعالى: «إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ» «3»

ففسّر الظنّ بالخرص وهو التخمين والحدس بغير أساس ودليل. مضافاً إلى ورود هذه الآيات في المشركين وعبدة الأصنام الذين لم تكن عبادتهم للأصنام ناشئة من ظنّ عقلائي وأساس برهاني

بلا ريب، بل من توهّمات باطلة وخيالات كاسدة. هذا أوّلًا.

ويشهد له ثانياً: أنّه لو كان كذلك للزم تخصيص هذه الآيات في موارد العمل بالظواهر والبيّنة وخبر الواحد وقول ذي اليد وغيرها، مع أنّ لحنها آبٍ عن التخصيص كما لا يخفى.

وثالثاً: أنّ الظاهر ورودها في خصوص اصول الدين والمسائل الاعتقاديّة التي لا يقاس عليها الفروع والمسائل الفرعيّة.

ثمّ إنّ هنا كلاماً للمحقّق الأصفهاني رحمه الله، وهو أنّ «اللازم في حجّية السيرة العقلائيّة مجرّد عدم ثبوت الردع عنها من الشارع، ولا يجب إحراز الامضاء وإثبات عدم الردع، حتّى يجب البناء على عدم حجّيتها بمجرّد عدم العلم بالامضاء أو الجهل بعدم الردع لأنّ الشارع بما هو عاقل بل رئيسهم العقلاء متّحد المسلك معهم إلّاإذا أحرز اختلاف مسلكه معهم بما هو شارع» «4».

انوار الأصول، ج 3، ص: 285

ويرد عليه: أنّه لو ثبت لنا اتّحاد مسلك النبي صلى الله عليه و آله والأئمّة المعصومين مع سائر العقلاء ودخولهم فيهم من هذه الجهة بالروايات المعتبرة الدالّه على أفعالهم في هذه الموارد، فبها ونعم المطلوب، لكن لقائل أن يمنع عن ذلك ويقول: لم يرد بناءهم العملي في هذه الموارد بالروايات المأثورة عنهم، نعم يمكن أن يقال: إنّ عمل العقلاء كان في مسمع ومنظر منهم وكانوا ساكتين عنه، ولكنّه هو معنى الحاجة إلى امضائهم في إثبات الحجّية.

والإشكال الثالث: هو ما ذكره المحقّق النائيني رحمه الله من أنّ بناء العقلاء على إبقاء الحالة السابقة وإن كان غير قابل للإنكار في الجملة، إلّاأنّه لم يعلم أنّ ذلك من جهة التعبّد بالشكّ والأصل العملي، أو من جهة الأماريّة والكشف عن الواقع، إذ يبعّد الأوّل عدم تعقّل بناء من العقلاء على صرف التعبّد بالشكّ من دون أماريّة وكاشفية ...

كما أنّه يبعّد الثاني عدم وجود شي ء في المقام يكون كاشفاً عن الواقع في ظرف الشكّ، إذ اليقين السابق لا أماريّة له في ظرف الشكّ، ونفس الشكّ لا أماريّة له أيضاً كما هو ظاهر، إلّاأن يقال: إنّ التعبّد بالشكّ من العقلاء وإن لم يكن في نفسه معقولًا، إلّاأنّه يمكن أن يكون ذلك بإلهام «1» من اللَّه تعالى حتّى لا يختلّ امور معاشهم ومعادهم، فإنّ لزوم اختلال النظام مع التوقّف عن الجري في الحالة السابقة مع الشكّ واضح، فلأجله جعل اللَّه الجري على طبقها من المرتكزات في أنفسهم مع عدم وجود كاشف عن تحقّقها أصلًا «2».

أقول: وكلامه رحمه الله لا يخلو من نظر:

أمّا أوّلًا: فلأنّ ما أفاده من «أنّ بناءهم إلهام إلهي وإنّ فطرتهم جرت على ذلك» بنفسه دليل على وجود التعبّد لهم، فإنّهم يلاحظون بعض الامور كأصالة البراءة، وأنّه لا كاشفية لها بالنسبة إلى الواقع، ولكن يجعلون بناءهم على ذلك من باب أنّ عدمه يوجب اختلال النظام، ومن هذا القبيل باب الحقوق والجرائم، فما دام لم يثبت جرم أحد، أو كونه مديوناً، لا يحكم عليه بالجرم والدين، ويمكن أن يكون بناؤهم على الاستصحاب أيضاً من هذا القبيل، ولا أقلّ من إمكانه ثبوتاً، وبالجملة أنّ للعقلاء اصولًا وأمارات، بل يمكن أن يقال: إنّ لجميع الاصول انوار الأصول، ج 3، ص: 286

والأمارات الشرعيّة أساساً عقلائياً، وما قد يتوهّم من أنّه ليس لهم إلّاالأمارات كلام باطل، وليكن هذا على ذكر منك حتّى نتلو عليك منه ذكراً.

وثانياً: (بالنسبة إلى قوله بعدم وجود معيار للأماريّة في الاستصحاب، وأنّ مجرّد اليقين السابق غير كافٍ فيها) فلأنّه يمكن أن يقال: إنّ معيار الأماريّة في الاستصحاب إنّما هو الغلبة، فإنّ الغلبة في موت الأفراد

وحياتهم على الحياة، وفي السلامة والمرض على السلامة، وفي الطرق والأماكن ونظائرهما على البقاء على حالها.

نعم هذا كلّه في الموضوعات والشبهات الموضوعيّة، كما أنّ تمام ما ذكرنا من الأمثلة كحياة زيد ووكالة عمر والملكية والزوجيّة وغيرها كانت من الموضوعات الخارجية، وأمّا الشبهات الحكميّة والأحكام الكلّية فإن كان الشكّ في نسخها كان بناء العقلاء على عدم النسخ ما لم يثبت جعل قانون جديد، وأمّا بالنسبة إلى غير النسخ من مناشٍ اخر للشكّ في بقاء الحكم كما إذا قرّرت الحكومة وضع ضرائب على العنب وشكّ في بقائها بعد تبدّل العنب إلى الزبيب (بناءً على أنّه من الحالات لا من المقوّمات) فلا يستصحب أحد من العقلاء بقاء تلك الضرائب كما لا يخفى، وسيوافيك لذلك مزيد توضيح في محلّه إن شاء اللَّه.

الثاني: الاستقراء في الأبواب المختلفة من الفقه وقد قال الشيخ الأعظم الأنصاري رحمه الله في هذا المجال: «إنّا تتبّعنا موارد الشكّ في بقاء الحكم السابق المشكوك من جهة الرافع فلم نجد من أوّل الفقه إلى آخره مورداً إلّاوحكم الشارع فيه بالبقاء، إلّامع أمارة توجب الظنّ بالخلاف كالحكم بنجاسة البلل الخارج قبل الاستبراء، فإنّ الحكم بها ليس لعدم اعتبار الحالة السابقة، وإلّا لوجب الحكم بالطهارة لقاعدة الطهارة، بل لغلبة بقاء جزء من البول أو المني في المخرج، فرجّح هذا الظاهر على الأصل (وهو أصالة الطهارة) كما في غسالة الحمّام عند بعض، والبناء على الصحّة المستند إلى ظهور فعل المسلم، والإنصاف أنّ هذا الاستقراء يكاد يفيد القطع» (انتهى).

أقول: ومن هذه الموارد حكم الشارع باستظهار الحائض بعد مضيّ أيّام العادة إلى عشرة أيّام فورد في الحديث: «تستظهر بيوم أو يومين أو ثلاثة» أي تستصحب.

انوار الأصول، ج 3، ص: 287

ومنها قوله عليه السلام:

«صم للرؤية وافطر للرؤية» الذي قد يقال بأنّ منشأه الاستصحاب.

لكن الإنصاف أنّ هذا الاستقراء ناقص جدّاً فكيف يحصل القطع في هذه المسألة المهمّة من ذكر أمثلة قليلة؟ مع ما فيها من الإشكال، فقد يرد على المثال الأوّل من أنّه كما يحتمل أن يكون البلل الخارج قبل الاستبراء بولًا، كذلك يحتمل أن يكون مذياً أو ودياً الذي لا إشكال في طهارته ولو قبل الإستبراء لأنّ الملاقاة في البواطن لا توجب النجاسة، فالمعلوم حينئذٍ خروج القطرات البولية السابقة ووجود قطرات اخرى مقامها يشكّ أنّها من مصاديق البول أو المذي، فلا يجري الاستصحاب فيها لأنّه حينئذٍ من قبيل استصحاب القسم الثالث من الكلّي، وهو ليس بحجّة.

الثالث: الإجماع نقله الشيخ الأعظم رحمه الله عن مبادى ء الوصول للعلّامة رحمه الله وعن نهايته كما نقله أيضاً المحقّق الخراساني رحمه الله في الكفاية.

فقال في المبادى ء: «الاستصحاب حجّة لإجماع الفقهاء على أنّه متى حصل حكم ثمّ وقع الشكّ في أنّه طرأ ما يزيله أم لا، وجب الحكم ببقائه، ولولا القول بأنّ الاستصحاب حجّة لكان ترجيحاً لأحد طرفي الممكن من غير مرجّح» «1».

وظاهره العموم بالنسبة إلى فقهاء الفريقين، وبالنسبة إلى الشبهة في النسخ وسائر الشبهات الحكميّة والموضوعيّة.

وقال في النهاية: «أنّ الفقهاء بأسرهم على كثرة اختلافهم اتّفقوا على إنّا متى تيقّنا حصول شي ء، وشككنا في حدوث المزيل له أخذنا بالمتيقّن».

لكن لا كلام في عدم حجّية هذا النوع من الإجماع لكونه محتمل المدرك على الأقل، ولعلّ مدركه ما مرّ من سيرة العقلاء أو الاستقراء أو ما سيأتي ذيلًا من الأخبار.

انوار الأصول، ج 3، ص: 288

الرابع: الأخبار المستفيضة

وهى العمدة في المسألة، وأوّل من طرحها في الاصول على التفصيل هو شيخنا الأعظم الأنصاري رحمه الله:

1- صحيحة زرارة، قال: «قلت

له: الرجل ينام وهو على وضوء، أيوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟ فقال عليه السلام: يازرارة قد تنام العين ولا ينام القلب والاذن فإذا نامت العين والاذن والقلب وجب الوضوء، قلت: فإن حرّك على جنبه شي ء ولا يعلم به؟ قال عليه السلام:

لا، حتّى يستيقن أنّه قد نام حتّى يجي ء من ذلك أمر بيّن، وإلّا فإنّه على يقين من وضوئه، ولا تنقض اليقين أبداً بالشكّ ولكنّه ينقضه بيقين آخر» «1».

ولا يخفى أنّ اضمار زرارة في الحديث لا يضرّ بصحّته، لأنّ مثله لا يسأل الحكم الشرعي إلّا عن الإمام عليه السلام، مضافاً إلى لحن الحديث والسؤال والجواب الواردان فيه حيث إنّ الإنسان يطمئنّ بأنّ مثله لا يصدر إلّامن الإمام المعصوم عليه السلام «2»، وعلى هذا فلا كلام في الرواية من ناحية السند، إنّما البحث في دلالتها وقد وقع في تعيين جزاء كلمة «إلّا» الواردة فيها، والتي هى مركّبة من «إنّ» و «لا»، أي «وإن لم يستيقن أنّه نام»، فما هو جزاؤها؟ فنقول: فيه أربعة وجوه:

الأوّل: أن يكون الجزاء محذوفاً، أي: «وإن لم يستيقن أنّه قد نام فلا يجب عليه الوضوء، أو فهو باقٍ على وضوئه» ويكون قوله عليه السلام: «فإنّه على يقين من وضوئه» تعليلًا لذلك الجزاء فيكون بمنزلة كبرى كلّية لا تختصّ بباب الوضوء.

الثاني: أن يكون قوله عليه السلام: «فإنّه على يقين من وضوئه» بنفسه جزاءً فيكون بمنزلة جملة إنشائيّة، بمعنى: «فليكن على وضوئه» فيختصّ بباب الوضوء لخروجه عن صيغة التعليل الذي يتعدّى عن المورد.

الثالث: أن يكون الجزاء قوله عليه السلام: «ولا ينقض اليقين بالشكّ أبداً»، ويكون قوله عليه السلام:

«فإنّه على يقين ...» توطئة له، فيختصّ أيضاً بباب الوضوء.

والإنصاف أنّ الترجيح مع التفسير الأوّل، وأنّ الأخيرين بعيدان

عن ظاهر الحديث.

أمّا الأوّل منهما (أي التفسير الثاني) فلأنّ كون قوله عليه السلام: «فإنّه على يقين» بمنزلة جملة

انوار الأصول، ج 3، ص: 289

إنشائيّة، وبمعنى «فليكن» بعيد في الغاية- كما قال به المحقّق الخراساني رحمه الله- لأنّ الإخبار بجملة اسميّة وإرادة الكناية عن الإنشاء لا يكون أمراً مأنوساً عند أهل اللسان، فلا يقال مثلًا: «أنت آكل» عوضاً عن قوله «كل»، أو «أنت قائم» كناية عن قوله «قم»، أو «أنت على يقين» كناية عن «كن على اليقين» (في ما نحن فيه) نعم أنّه شائع في الجملة الفعليّة بصيغة المضارع كقوله عليه السلام: «تعيد» بمعنى «أعد».

وأمّا الثاني منهما (وهو التفسير الثالث) فلأنّ لازمه أن يكون الجزاء معطوفاً على شرطه بالواو العاطفة، وهو واضح البطلان.

هذا- ولو سلّم كون أحدهما مراداً للإمام عليه السلام لكنّه يمكن أيضاً استفادة العموم من الحديث لعدّة قرائن:

الاولى: قوله عليه السلام: «فإنّه على يقين من وضوئه» حيث إنّه إشارة إلى نكتة إرتكازية عند العقلاء، وهى عدم صحّة نقض شي ء محكم وطرده (وهو اليقين) بأمر مرهون ضعيف (وهو الشكّ) وبعبارة اخرى: تناسب الحكم والموضوع يوجب إلغاء العرف الخصوصيّة عن باب الوضوء.

الثانية: كلمة «أبداً» فإنّها مناسبة لجريان الحكم وسريانه في سائر الأبواب.

الثالثة: ورود قوله عليه السلام: «لا ينقض اليقين بالشكّ» في سائر الأبواب أيضاً، مثل باب النجاسات والصّلاة والصوم فإنّه بمنزلة قرينة خارجية على عموم الحكم في المقام.

إن قلت: ذكر اليقين قبل هذه الجملة مرّتين وتعلّق في المرّة الاولى بالنوم وفي الثانية بالوضوء، وحينئذٍ تكون اللام الواردة في كلمة اليقين في هذه الجملة ظاهرة في العهد، ولازمه اختصاص الحكم بباب الوضوء.

قلنا: قد قرّر في محلّه أنّ الأصل في «اللام» أن تكون للجنس، ومجرّد وجود متعلّقها في القبل لا

غير، كافٍ لرفع اليد عن هذا الأصل، فإذا دار الأمر بين كونها للعهد أو الجنس فالترجيح مع الثاني، إلّاإذا حصل الظهور في العهدية ومجرّد سبق عنوان اليقين غير كافٍ في إثبات هذا الظهور. هذا أوّلًا.

وثانياً: سلّمنا أنّها تكون للعهد، ولكن العرف يلغي الخصوصية عن باب الوضوء بما مرّ من تناسب الحكم والموضوع ووجود كلمة «أبداً» وغيرهما من القرائن.

انوار الأصول، ج 3، ص: 290

ثمّ إنّه قد أجاب المحقّق الخراساني رحمه الله عن هذه الشبهة بجواب لا يخلو من التكلّف جدّاً، وهو أنّ كون اللام في قوله عليه السلام: «ولا ينقض اليقين أبداً بالشكّ» للعهد مبنى على كون لفظة «من وضوئه» متعلّقة بلفظة «يقين» بنفسها، فيكون اليقين حينئذٍ في الصغرى خاصّاً، فليكن في الكبرى أيضاً خاصّاً، وأمّا إذا كان متعلّقاً بالظرف أي بلفظة «على يقين» بحيث كان المعنى هكذا: «فإنّه من ناحية وضوئه على يقين ولا ينقض اليقين أبداً بالشكّ» فلا يكون اليقين حينئذٍ في الصغرى خاصّاً كي تكون اللام في يقين الكبرى للإشارة إليه، بل جنساً مطلقاً فيكون اليقين في الكبرى أيضاً كذلك. (انتهى).

ولا يخفى أنّ فيه تكلّفاً ظاهراً، وأنّه لا يشبه العبارات العربيّة المتداولة، فالإنصاف أنّ المرتكز لمن يكون عارفاً باللسان كون «عن وضوئه» متعلّقاً باليقين نفسه.

إن قلت: أنّ هذا الحديث من ناحية دلالته على الاستصحاب قد أعرض عنه الأصحاب، كما يظهر من تصريح الشيخ الأعظم رحمه الله بأنّ أوّل من تمسّك به هو والد الشيخ البهائي رحمه الله في الحبل المتين.

قلنا: لعلّ عدم تمسّك الأصحاب به كان من جهة أنّهم يرون أنفسهم مستغنين عنه بوجود سيرة العقلاء على الاستصحاب، مع كون السيرة دليلًا قطعيّاً وخبر الواحد دليلًا ظنّياً. هذا أوّلًا.

وثانياً: لعلّ إعراضهم كان من جهة

وجود الشبهة عندهم من ناحية الدلالة وعدم عموميتها واختصاصها بأبواب معيّنة، لا من ناحية السند، فلا يكون اعراضهم عن السند محرزاً عندنا.

ويؤيّد ذلك أنّ صاحب الوسائل وغيره من أكابر علماء الحديث جعلوا هذه الأخبار في أبواب خاصّة، ولم يجعلوا لها عنواناً مستقلًا كلّياً، وهذا دليل على أنّهم لم يفهموا منها العموم، وكم ترك الأوّل للآخر.

2- صحيحة ثانية لزرارة قال: «قلت له: أصاب ثوبي دم رعاف أو شي ء من مني فعلّمت أثره إلى أن اصيب له الماء، فأصبت وحضرت الصّلاة ونسيت أنّ بثوبي شيئاً وصلّيت ثمّ إنّي انوار الأصول، ج 3، ص: 291

ذكرت بعد ذلك، قال: تعيد الصّلاة وتغسله، قلت: فإنّي لم أكن رأيت موضعه وعلّمت أنّه أصابه فطلبته فلم أقدر عليه، فلمّا صلّيت وجدته، قال: تغسله وتعيد، قال قلت: فإن ظننت أنّه قد أصابه ولم أتيقّن ذلك فنظرت فلم أر فيه شيئاً ثمّ صلّيت فرأيت فيه، قال: تغسله ولا تعيد الصّلاة، قلت: لِمَ ذاك؟ قال: لأنّك كنت على يقين من طهارتك ثمّ شككت فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبداً، قلت: فإنّي قد علمت أنّه قد أصابه ولم أدر أين هو فأغسله، قال:

تغسل من ثوبك الناحية التي ترى أنّه أصابها، حتّى تكون على يقين من طهارتك، قلت: فهل عليّ إن شككت في أنّه أصابه شي ء في ثوبي أن أنظر فيه؟ فقال: لا، ولكنّك إنّما تريد أن تذهب الشكّ الذي وقع في نفسك، قلت: إن رأيته في ثوبي وأنا في الصّلاة، قال: تنقض الصّلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه ثمّ رأيته، وإن لم تشكّ ثمّ رأيته رطباً قطعت الصّلاة وغسلته ثمّ بنيت على الصّلاة لأنّك لا تدري لعلّه شي ء أوقع عليك فليس ينبغي لك أن

تنقض اليقين بالشكّ» «1».

هذه الرواية مشتملة على ستة أسئلة وأجوبة:

أوّلها: قول السائل: «أصاب ثوبي دم رعاف أو شي ء من مني فعلمت أثره إلى أن أُصيب له الماء، فأصبت وحضرت الصّلاة ونسيت أنّ بثوبي شيئاً وصلّيت ثمّ إنّي ذكرت بعد ذلك؟» جواب الإمام عليه السلام عنه بقوله: «تعيد الصّلاة وتغسله».

ثانيها: قول السائل: «فإنّي لم أكن رأيت موضعه وعلمت أنّه أصابه فطلبته فلم أقدر عليه فلمّا صلّيت وجدته» وجوابه عليه السلام بقوله: «تغسله وتعيد».

وهذان السؤالان لا يخفى خروجهما عمّا نحن فيه وهو البحث عن الاستصحاب، حيث إنّ مورد الأوّل نسيان النجاسة والتذكّر بعد إتمام الصّلاة، ومورد الثاني الشروع في الصّلاة مع العلم الإجمالي بنجاسة موضع من الثوب.

ثالثها: قول السائل «فإن ظننت أنّه قد أصابه ولم أتيقّن ذلك فنظرت فلم أر فيه شيئاً ثمّ صلّيت فرأيت فيه»؟ وجوابه عليه السلام بقوله: «تغسله ولا تعيد الصّلاة (قلت: لِمَ ذاك؟) قال عليه السلام:

لأنّك كنت على يقين من طهارتك ثمّ شككت فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبداً».

انوار الأصول، ج 3، ص: 292

وهذا السؤال والجواب ناظر إلى محلّ البحث صراحةً كما لا يخفى.

رابعها: قول السائل: «فإنّي قد علمت أنّه قد أصابه ولم أدر أين هو؟ فأغسله؟» وجوابه عليه السلام: «تغسل من ثوبك الناحية التي ترى أنّه أصابها حتّى تكون على يقين من طهارتك».

وهذا السؤال في بدء النظر غير مرتبط بالمقصود بل مرتبط بمسألة العلم الإجمالي ولكنّه عند التأمّل يمكن أن يكون تتميماً للسؤال الثالث، كما أنّ جواب الإمام عليه السلام أيضاً يمكن أن يكون تكميلًا للجواب عن السؤال الثالث، أو بياناً لمدلوله الالتزامي، وهو قوله «انقضه بيقين آخر» فالمحتمل دلالة هذه الفقرة أيضاً على حجّية الاستصحاب.

خامسها: قول السائل: «فهل عليّ إن

شككت في أنّه أصابه شي ء في ثوبي أن أنظر فيه؟» وجواب الإمام عليه السلام: «لا ولكنّك إنّما تريد أن تذهب الشكّ الذي وقع في نفسك».

وهذا الجواب ناظر إلى عدم لزوم الفحص في الشبهات الموضوعيّة وخارج عمّا نحن بصدده.

إن قلت: قد مرّ في مبحث عدم وجوب الفحص في الشبهات الموضوعيّة استثناء موردين منها:

أحدهما: ما إذا كان العلم بالواقع سهل الوصول جدّاً.

وثانيهما: ما لا يحصل العلم به عادةً من دون فحص كمقدار النصاب وأرباح المكاسب والاستطاعة، وما نحن فيه من القسم الأوّل فلماذا لم يأمر فيه بوجوب الفحص؟

قلنا: يظهر من هذه الرواية وغيرها أنّ نظر الشارع التسهيل في أمر الطهارة والنجاسة وإستثناءهما من القاعدة المذكورة، ولعلّ الوجه فيه هو الوقوع في الوساوس المختلفة لو بنى على الفحص ولو بهذا المقدار.

سادسها: قول السائل: «إن رأيته في ثوبي وأنا في الصّلاة» وجواب الإمام عليه السلام: «تنقض الصّلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه ثمّ رأيته، وإن لم تشكّ ثمّ رأيته رطباً قطعت الصّلاة وغسلته ثمّ بنيت على الصّلاة لأنّك لا تدري لعلّه شي ء أوقع عليك فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ».

وهذا السؤال والجواب أيضاً داخل في الاستصحاب كما هو واضح.

انوار الأصول، ج 3، ص: 293

فظهر أنّ الداخل من هذا الحديث في مبحث الاستصحاب هى الفقرة الثالثة والسادسة يقيناً، والفقرة الرابعة احتمالًا.

لكن اورد عليه إشكالات عديدة لابدّ من حلّها:

الأوّل: في تعبير الإمام عليه السلام ب «ليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ»، حيث إنّه يستشمّ منه رائحة الاستحباب.

والجواب عنه واضح: لأنّه ورد في مقام الاستدلال على حكم إلزامي، وهو عدم جواز إعادة الصّلاة، لظاهر النهي بلسان النفي، فمقام الاستدلال قرينة على أنّ المراد به عدم الجواز، وموارد استعمال «لا ينبغي»

مختلفة كما يظهر بالرجوع إليها.

الثاني: أنّ الحديث لعلّه في مقام بيان قاعدة اليقين لا الاستصحاب، أي أنّه يناسب قاعدة اليقين كما يتناسب مع الاستصحاب، لأنّ لفظ اليقين في قوله عليه السلام: «لأنّك كنت على يقين من طهارتك» كما يحتمل أن يكون المراد منه اليقين بطهارة الثوب من قبل ظنّ الإصابة (فيكون المورد من الاستصحاب) كذلك يحتمل أن يكون المراد منه اليقين بالطهارة الذي حصل بالنظر في الثوب مع عدم رؤية شي ء، ثمّ زال برؤيه النجاسة بعد الصّلاة لاحتمال حدوثها بعد الصّلاة (فيكون المورد من قاعدة اليقين لأنّ الشكّ يتسرّى إلى اليقين السابق) فيصير الحديث مجملًا لا يصلح للاستدلال به على الاستصحاب.

وجوابه واضح أيضاً: فعند التأمّل في الرواية يظهر أنّها ناظرة إلى خصوص الاستصحاب، وأنّ المستشكل لم يعطها حقّ النظر والدقّة، فإنّ معيار الاستصحاب وفرقه عن قاعدة اليقين، (وهو تغاير زمان متعلّق اليقين والشكّ) موجود فيها، حيث عبّر الإمام عليه السلام فيها بقوله: «لأنّك كنت على يقين ثمّ شككت» وهو ناظر إلى سؤال الراوي الذي كان على يين من طهارته ثمّ شكّ في نجاستها في زمان بعده.

الثالث: أنّ مورد الحديث إنّما هو نقض اليقين بيقين آخر لا نقضه بالشكّ، فإنّ السائل يقول: «ثمّ صلّيت فرأيت فيه» وهو يعني اليقين بالنجاسة ووقوع الصّلاة بها فإعادة الصلاة من قبيل نقض اليقين باليقين لا نقض اليقين بالشكّ.

ويمكن الجواب عنه بامور:

أوّلها (وهو أحسنها) أنّ جواب الإمام عليه السلام ناظر إلى أنّ الشرط في صحّة الصّلاة هو الأعمّ انوار الأصول، ج 3، ص: 294

من الطهارة الواقعية والظاهرية، وأنّ الطهارة الظاهرية كانت حاصلة في أثناء الصلاه لمكان الاستصحاب، وإن حصل القطع بعد الصّلاة بعدم وجود الطهارة الواقعية، فعدم وجوب الإعادة إنّما هو لتحقّق

الشرط الواقعي، وهو الطهارة الظاهرية الحاصلة بمقتضى الاستصحاب.

ثانيها: أنّ هذه الفقرة ناظرة إلى مسألة الاجزاء في الأوامر الظاهرية فيقول الإمام عليه السلام أنّ الأمر الظاهري حاصل في المقام لمكان الاستصحاب (وإن قطعت بعد الصّلاة بعدم وجود الأمر الواقعي) وهو مجزٍ عن إتيان الواقع.

وبعبارة اخرى: أنّها ناظرة إلى صغرى قاعدة الإجزاء، وهى وجود أمر ظاهري ناشٍ من الاستصحاب، وإلى كبراها وهى أنّ الأوامر الظاهرية مجزية.

وهذا الجواب أيضاً تامّ على المختار من إجزاء الأوامر الظاهرية الشرعيّة وإن لم يتمّ على مختار المنكرين للاجزاء.

ولكن إستشكل فيه الشيخ الأعظم رحمه الله بما حاصله: أنّ لازمه اكتفاء الإمام في مقام التعليل ببيان الصغرى (وهى قوله عليه السلام: «لأنّك كنت على يقين من طهارتك ثمّ شككت فليس ينبغي لك ... الخ» الذي هو كناية عن وجود أمر ظاهري) مع أنّ الشائع عرفاً إنّما هو بيان الكبرى (وهى في المقام أنّ الأوامر الظاهرية مجزية).

وفيه: أنّه يختلف باختلاف الموارد، فتارةً يكتفي ببيان الصغرى فقط لكون الكبرى أمراً إرتكازياً كقوله: «لا تشرب الخمر لأنّه مسكر»، واخرى يكتفي ببيان الكبرى لكون الصغرى إرتكازياً كقول المولى لعبده «لا تفعل هذا فإنّ العاقل لا يلقي نفسه إلى حيث الضرر» فصغرى «لأنّه مضرّ» حذفت لوضوحها، وثالثة تذكر الصغرى والكبرى معاً.

وما نحن فيه داخل في القسم الأوّل، فذكرت الصغرى فقط (وهو وجود الأمر الظاهري لأجل الاستصحاب) لعدم كونها مثل الكبرى (وهى إجزاء الأوامر الظاهريّة) في الوضوح.

ثالثها: أنّ مورد السؤال في الفقرة الثالثة إنّما هو ما إذا احتملنا وقوع النجاسة بعد الصّلاة، فيكون نهي الإمام عليه السلام بقوله: «لا تنقض اليقين بالشكّ» بالنسبة إلى أثناء الصّلاة.

لكنّه خلاف الظاهر لأنّ في الرواية: «قلت فإن ظننت أنّه قد أصابه ... ثمّ صلّيت

فرأيت فيه» وهو ظاهر في أنّ ما وجده بعد الصّلاة إنّما هو نفس ما كان متفحّصاً عنه في أثناء الصّلاة.

فهذا الجواب غير تامّ.

انوار الأصول، ج 3، ص: 295

الرابع: ما يكون مرتبطاً بالفقرة السادسة، وحاصله، أنّ مفاد هذه الفقرة لزوم غسل الثوب ثمّ البناء على الصّلاة فيما إذا احتمل وقوع النجاسة في نفس الوقت الذي رآها، ولزوم نقض الصّلاة ووجوب الإعادة إذا رآها وعلم بوجودها من أوّل الصّلاة، وهذا- أوّلًا- مخالف لفتوى المشهور، فإنّها قائمه على عدم الفرق بين الصورتين، فحكموا في الصورة الثانية أيضاً بوجوب الغسل ثمّ البناء.

وثانياً: مخالف لنفس الحديث في فقرته الثالثة إذ إنّ مدلولها صحّة الصّلاة فيما إذا وقعت بتمامها في النجاسة، وهو يقتضي بالفحوى صحّتها فيما إذا وقعت بعضها في النجاسة، فيقع التضادّ حينئذٍ بين الفقرتين الفقرة السادسة والفقرة الثالثة، ولازمه سقوط كلتيهما عن الحجّية.

واجيب عن هذا بوجهين:

أحدهما: الالتزام بالتفكيك في الحجّية بين فقرات حديث واحد، بإسقاط بعض الفقرة السادسة عن الحجّية والعمل بالفقرة الثالثة.

ولكن قد عرفت غير مرّة أنّ مثل هذا التفكيك مشكل لمخالفة بناء العقلاء.

ثانيهما (وهو أحسن الوجوه): أنّ الأولوية ممنوعة، لاحتمال الفرق بين صورة الجهل في تمام الصّلاة والجهل في بعضها، فإنّ لازم الثاني وجود النجاسة المعلومة ولو آناً مّا.

إن قلت: العلم بالنجاسة آنّاً مّا موجود فيما إذا احتمل وقوع النجاسة في نفس الوقت الذي رآها فكيف لم يحكم الإمام فيه بالبطلان؟

قلنا: لعلّ الشارع عفى عن ذلك، لوجود خصوصيّة فيها، وهى احتمال وقوعها في نفس زمان رؤيتها.

فتلخّص من جميع ما ذكرنا أنّ الاستدلال بالصحيحة تامّ لا إشكال عليه.

3- صحيحة ثالثة لزرارة عن أحدهما عليهما السلام «قال: قلت له: من لم يدر في أربع هو أم في ثنتين وقد أحرز

الثنتين؟ قال: يركع بركعتين وأربع سجدات وهو قائم بفاتحة الكتاب، ويتشهّد، ولا شي ء عليه، قال: إذا لم يدر في ثلاث هو أو في أربع وقد أحرز الثلاث، قام فأضاف إليها اخرى ولا شي ء عليه، ولا ينقض اليقين بالشكّ، ولا يدخل الشكّ في اليقين، ولا

انوار الأصول، ج 3، ص: 296

يخلط أحدهما بالآخر، ولكنّه ينقض الشكّ باليقين ويتمّ على اليقين فيبني عليه، ولا يعتدّ بالشكّ في حال من الحالات» «1».

وتقريب الاستدلال بهذا الحديث لحجّية الاستصحاب واضح، ولكن يرد عليه أمران:

أحدهما: أنّه يحتمل في قوله عليه السلام: «قام فأضاف إليها اخرى» ثلاث احتمالات:

الأوّل: أن يكون المراد من القيام فيه القيام بعد التسليم إلى ركعة اخرى مفصولة ويكون المراد من اليقين فيها اليقين بالبراءة الحاصلة بالبناء على الأكثر والإتيان بركعة مستقلّة، وحينئذٍ تكون الصحيحة أجنبية عن الاستصحاب، وناظرة إلى قاعدة الإشتغال.

الثاني: أن يكون المراد من القيام فيه القيام للركعة الرابعة من دون التسليم في الركعة المردّدة بين الثالثة والرابعة، فيكون حاصل الجواب هو البناء على الأقل والمراد من اليقين هو اليقين بإتيانه ثلاث ركعات، وحينئذٍ تكون الصحيحة دالّة على الاستصحاب.

ولكنّها موافقة لقول العامّة ومخالفة للمذهب ولظاهر الفقرة الاولى من قوله: «يركع بركعتين ... بفاتحة الكتاب» فإنّ ظاهره بقرينة تعيين الفاتحة إرادة ركعتين منفصلتين، أعني صلاة الاحتياط.

فلابدّ حينئذٍ من الالتزام بالتفكيك في الحجّية بين ما ذكر في ذيل الحديث من كبرى كلّية دالّة على الاستصحاب وبين مورده، القول بالحجّية في الكبرى، وأنّ الصغرى محمولة على التقيّة، فيأتي فيه مشكل التفكيك في الحجّية بين فقرات الحديث، الذي هو في المقام آكد وأشنع، لأنّه تفكيك بين كبرى وصغراها، لا بين فقرتين اللتين يدلّ كلّ منهما على حكم مستقلّ.

الثالث: أن يكون المراد من القيام

القيام للركعة الرابعة مع التسليم، أي إتيانها منفصلة، كما هو مذهب أهل البيت في صلاة الاحتياط.

وعليه يكون المراد من قوله عليه السلام: «ولا يدخل الشكّ في اليقين» النهي عن إدخال صلاة الاحتياط المشكوكة في ما أتى به متيقّناً، أي يأتي بها مستقلًا ومفصولة.

ويكون المراد من قوله عليه السلام، ولكنّه ينقض الشكّ باليقين» تأكيداً لذلك، وقوله عليه السلام «ويتمّ انوار الأصول، ج 3، ص: 297

على اليقين» أيضاً إشارة إلى إتيان صلاة الاحتياط منفصلة.

وحينئذٍ تكون ثلاث فقرات من الفقرات الستّة الواردة في الذيل ناظرة إلى لزوم انفصال صلاة الاحتياط، وثلاث فقرات اخر مرتبطة بقاعدة الاستصحاب، فيندفع بذلك إشكال كثرة التأكيدات في حديث واحد، وكذلك إشكال الحمل على التقيّة والتفكيك بين الصغرى والكبرى.

ثمّ إنّ الترجيح يؤيد الحمل على الاستصحاب، أي أحد الاحتمالين الأخيرين، وذلك بقرينة الروايات الاخرى، وقرينة داخليّة وهى لحن الرواية والتعبير ب «لا تنقض اليقين بالشكّ» الوارد فيها، حيث إنّ التعبير المناسب مع قاعدة الاشتغال هو لزوم العلم بالفراغ بعد العلم بالاشتغال، وهذا المعنى غير موجود في الحديث، ولا سيّما إنّ أخبار الباب الناظرة إلى وجوب العمل بالاحتياط مصرّحة بلزوم البناء على اليقين فما ورد في هذا الحديث مناسب للاستصحاب لا غير، لأنّه عبّر بعدم نقض اليقين بالشكّ لا البناء على اليقين.

كما أنّ الترجيح في هذين الاحتمالين يتّفق مع الحمل على الاحتمال الأخير، لأنّ قوله عليه السلام:

«قام فأضاف إليه اخرى» وإن كان ظاهراً في الإتّصال مجرّداً عن صدره، ولكنّه بقرينة صدر الرواية (الذي ظاهر في الإنفصال بقرينة تعيين فاتحة الكتاب كما مرّ آنفاً) لابدّ من حمله على الانفصال، مضافاً إلى محذور التفكيك في الحجّية الموجود في الاحتمال الآخر، أي الاحتمال الثاني من الاحتمالات الثلاثة في الرواية.

وحينئذٍ يتعيّن

الاحتمال الثالث، وبذلك يتمّ دلالة الصحيحة على المقصود من دون أي محذور.

ثمّ إنّ المحقّق العراقي رحمه الله بعد أن التزم بهذا التفكيك، وجعله من قبيل ما ذكره المحقّق النائيني رحمه الله (وهو ما ورد في بعض الأخبار من قوله عليه السلام للخليفة العبّاسي بعد سؤال اللعين عن الإفطار في اليوم الذي شهد بعض بأنّه يوم العيد: «ذاك إلى إمام المسلمين إن صام صمنا معه، وإن أفطر أفطرنا معه» حيث إنّ الإمام عليه السلام إنّما قال ذلك تقيّة ومخافة على نفسه، كما بيّن عليه السلام ذلك بعد خروجه عن مجلس اللعين، ومع هذا يكون قوله عليه السلام «ذاك إلى إمام المسلمين» لبيان حكم اللَّه الواقعي كما أنّ الفقهاء استدلّوا به على اعتبار حكم الحاكم في الهلال، وليس ذلك إلّالأجل أنّ تطبيق القول على المورد للتقيّة لا ينافي صدور أصل القول لبيان حكم اللَّه الواقعي فلتكن انوار الأصول، ج 3، ص: 298

الصحيحة فيما نحن فيه من هذا القبيل) قال: ونظير ذلك أيضاً ما ورد من استشهاد الإمام عليه السلام بحديث الرفع المروي عن النبي صلى الله عليه و آله على بطلان الحلف بالطلاق والعتاق والصدقة بما يملك عند الإكراه.» «1».

أقول: مما استدلّ به غير واحد من الأصحاب على أنّ حديث الرفع يعمّ الأحكام الوضعيّة في مبحث البراءة صحيحة المحاسن التي استشهد فيها الإمام عليه السلام بحديث الرفع على بطلان الحلف بالطلاق والعتاق والصدقة بما يملك، مع أنّ الحلف بهذه الثلاثة باطل عند الإماميّة ذاتاً ولو لم تكن عن إكراه، فالإمام عليه السلام استند لبطلانه في صورة الإكراه بحديث الرفع، وهو أمر عرضي ولم يستند من جهة التقيّة ببطلانه الذاتي، فنلتزم بالتفكيك بين أصل الاستناد إلى حديث الرفع، أي

مدلوله المطابقي وهو جريان حديث الرفع في الأحكام الوضعيّة، وبين تطبيقه على المورد، أي مدلوله الالتزامي وهو صحّة الطلاق والعتاق والصدقة بما يملك لولا الإكراه، ونقول بأنّ الإمام عليه السلام كان في الأوّل في مقام بيان حكم اللَّه الواقعي، وفي الثاني كان في مقام التقيّة فليكن مقامنا أيضاً كذلك.

لكن الإنصاف أنّ هذا القياس مع الفارق، لأنّ كون استناد الأصحاب لشمول حديث الرفع للأحكام الوضعيّة هناك بتلك الرواية من قبيل التفكيك بين فقرتي حديث واحد، مبنى على دلالته على صحّة الطلاق وأخويه عند العرف بالدلالة الالتزاميّة البيّنة، مع أنّها ليست أكثر من حدّ الإشعار، بخلاف ما نحن فيه الذي يكون للكبرى فيه مدلول، ولصغراها مدلول آخر وهو الظهور في الإتّصال، فلا ينتقض مختارنا هنا (وهو كون التفكيك خلاف بناء العقلاء) بما ذهب إليه الأصحاب هناك.

وأمّا رواية الهلال فالاستناد إلى كبراها أيضاً قابل للتأمّل.

ثانيهما: أنّ المستفاد من الحديث قضيّة جزئية خاصّة بصورة الشكّ بين الثلاثة والأربع، لأنّ مرجع تمام الضمائر فيه إنّما هو المصلّى، وإن أبيت عن ذلك فلا أقلّ من الإجمال.

والجواب عنه: إنّا نفهم الشمول والعموم من ثلاث قرائن:

1- تناسب الحكم والموضوع.

انوار الأصول، ج 3، ص: 299

2- تعبير الإمام عليه السلام بقوله: «لا يعتدّ بالشكّ في حال من الحالات».

3- قرينة خارجية وهو إشتراك هذا الحديث مع غير واحد من روايات الاستصحاب في التعبير ب «لا تنقض ...».

بقي هنا أمران:

الأمر الأوّل: فيما أورده المحقّق العراقي رحمه الله على ما يستفاد من كلام الشيخ الأعظم رحمه الله- من أنّ مقتضى الاستصحاب في الشكّ في الركعات إتيان صلاة الاحتياط متّصلة، فيكون موافقاً لمذاق العامّة (إلّا إذا قامت قرينة خارجية على خلافه) لأنّ مقتضى الاستصحاب عدم الإتيان بالركعة الرابعة- ما حاصله:

أنّ وجوب التشهّد والتسليم على ما يستفاد من الأدلّة مترتّب على رابعية الركعة، وهذا لا يثبت باستصحاب عدم إتيانه إلّامن باب الأصل المثبت، لأنّ إتّصاف الركعة المأتية بكونها رابعة من اللوازم العقليّة لعدم الإتيان بها بمقتضى الاستصحاب «1».

ويجاب عنّه أوّلًا: بكون الواسطة خفيّة في نظر العرف قطعاً، ولولا ذلك يكون مورد روايات الباب أيضاً من الأصل المثبت، لأنّ المستصحب فيها هو الطهارة، بينما الأثر المطلوب ترتّبه عليها إنّما هو كون الصّلاة متّصفة بالطهارة أو مقيّدة بها، ولا يخفى أنّ تقيّد الصّلاة أو إتّصافها بها من اللوازم العقليّة لوجود الطهارة.

وثانياً: بأنّه لا دليل على ترتّب وجوب التشهّد والتسليم على رابعية الركعة، بل المستفاد من الأدلّة كون التسليم في آخر الصّلاة، كما ورد في رواية القداح عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: افتتاح الصّلاة الوضوء، وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم» «2».

فموضع التسليم هو آخر الصّلاة، وهذا أمر ثابت بالوجدان وهكذا ما ورد في أبواب التشهّد، وأنّه يأتي به في بعض الصلوات مرّه وفي بعضها الآخر مرّتين (فليس فيها أثر من تقييده بالرابعة).

انوار الأصول، ج 3، ص: 300

الأمر الثاني: قد مرّ أنّ المقصود من قوله عليه السلام «يبني على اليقين» هو العمل بالاحتياط بإتيانه ركعة مفصولة، ولكن لابدّ أن نشير هنا إلى أنّ هذا الاحتياط احتياط نسبي تعبّدي لأنّه بنفسه متضمّن لخلاف الاحتياط في امور أربع:

1- وجوب إتيان التشهّد بعد الركعة المردّدة، مع احتمال كونها هى الركعة الثالثة.

2- وجوب التسليم بعد الركعة المردّدة أيضاً، مع وجود نفس الاحتمال أيضاً.

3- وجوب التكبير لافتتاح صلاة الاحتياط مع احتمال كونه في أثناء الصّلاة.

4- تخييره في بعض الموارد بين إتيانها قائماً أو قاعداً مع أنّ الواجب

على المكلّف السالم أن يأتي بالصلاه قائماً بالتعيين.

فظهر أنّ هذا عمل بالاحتياط تعبّداً لابدّ في كيفية أدائه من بيان الشارع المقدّس.

نعم، يمكن أن يجاب عن الثلاثة الاولى منها بأنّ التشهّد ذكر اللَّه لا تضرّ زيادته بالصلاة، وأمّا السلام فهو وإن كان من كلام الآدمي، ولذلك لا يجوز الإبتداء به في أثناء الصّلاة (ووجوب الجواب عنه في أثنائها يكون من باب وجود دليل خاصّ) ولكنّه صادق في غير السلام المأثور في باب الصّلاة، وأمّا السلام المأثور فلا يصدق عليه أنّه من كلام الآدميين، لأنّ المراد منه الكلام الرائج بين عامّة الناس والسلام الخاصّ بباب الصّلاة ليس من هذا القبيل، فتأمّل.

وأمّا تكبيرة الإحرام فهى توجب بطلان الصّلاة فيما إذا كانت في أوّلها وافتتاحها، وأمّا إذا صدرت في الأثناء فتعدّ من ذكر اللَّه الحسن على كلّ حال.

فيتعيّن الإشكال في خصوص الأخير، وهو التخيير بين إتيان صلاة الاحتياط قائماً أو قاعداً في بعض موارد الشكّ في الركعات.

4- ما رواه الصدوق رحمه الله في الخصال بإسناده عن علي عليه السلام (في حديث الأربعمائة) قال:

«من كان على يقين ثمّ شكّ فليمض على يقينه، فإنّ الشكّ لا ينقض اليقين»»

.انوار الأصول، ج 3، ص: 301

وهذا الحديث مع عمومه وسلامته عن إشكال خصوصية المورد وسائر الإشكالات الواردة على الروايات السابقة، أورد عليها أيضاً سنداً ودلالة:

أمّا السند فللقاسم بن يحيى الذي ضعّفه العلّامة في الخلاصة، وابن داود في رجاله.

نعم، يمكن أن يقال: الأصل في هذا القدح ابن الغضائري الذي لا اعتبار بتضعيفاته وإن كان توثيقاته معتبرة، ولكنّه مع ذلك لم يوثّق، ولابدّ في تصحيح السند من إثبات الوثاقة.

اللهمّ إلّاأن يقال: إنّ الناقل عنه أحمد بن محمّد بن عيسى القمّي الذي أخرج أحمد بن محمّد بن خالد

البرقي عن قم لنقله عن الضعاف، ولكنّه أيضاً ليس أكثر من قرينة على الوثاقة لا دليلًا عليها.

وأمّا الدلالة فلأنّ المراد منها غير واضح، فهل هى تدلّ على قاعدة اليقين أو قاعدة الاستصحاب؟ فلابدّ أوّلًا من بيان الفرق بين القاعدتين، فنقول: قد مرّ كون زمان الشكّ واليقين في الاستصحاب واحداً، وزمان متعلّقهما متعدّداً، وأمّا قاعدة اليقين فيكون (بالعكس) زمان المتعلّقين فيها واحداً، وزمان نفس اليقين والشكّ متعدّداً.

وفي هذا الحديث هناك فقرة منه (وهى قوله عليه السلام: «من كان على يقين ثمّ شكّ») تناسب قاعدة اليقين، لأنّها ظاهرة في أنّ الشكّ حصل في زمان آخر غير زمان اليقين وتعلّق بنفس ما تعلّق به اليقين، وتناسب فقرة اخرى منه الاستصحاب، وهى قوله عليه السلام: «إنّ الشكّ لا ينقض اليقين» حيث إنّها ظاهرة في بقاء اليقين حين حصول الشكّ، ولذلك نهى عن نقضه به، فالتعليل الوارد في هذا الحديث ظاهر في قاعدة الاستصحاب، وصدره ظاهر في قاعدة اليقين، ولا إشكال في أنّ ظهور التعليل مقدّم، والذي يسهل الخطب هى قرينية سائر الروايات كما لا يخفى.

5- ما رواه علي بن محمّد القاساني قال: «كتبت إليه وأنا بالمدينة أسأله عن اليوم الذي يشكّ فيه من رمضان هل يصام أم لا؟ فكتب: اليقين لا يدخل فيه الشكّ، صمّ للرؤية وافطر للرؤية» «1».

انوار الأصول، ج 3، ص: 302

وقد عدّه الشيخ الأعظم رحمه الله من أحسن روايات الباب، واختار المحقّق الخراساني والمحقّق النائيني رحمه الله عدم دلالته رأساً، وذهب جماعة إلى دلالته في الجملة.

فلابدّ حينئذٍ من البحث فيه سنداً ودلالة:

أمّا السند فاختلف في أحمد بن محمّد القاساني، قال بعض: أنّه متّحد مع أحمد بن محمّد الشيره وهو ثقة، وقال بعض آخر: أحمد بن محمّد الشيره

ثقة والقاساني ضعيف، فالسند مشترك لا يمكن الاعتماد عليه، مضافاً إلى إشكال الاضمار.

أمّا الدلالة فالعمدة من الاحتمالات الموجودة فيها إثنان:

أحدهما: ما ذكره الشيخ الأعظم رحمه الله، وهو أنّ الحديث ناظر إلى الاستصحاب، والمراد من اليين هو اليقين بشهر شعبان واليقين بشهر رمضان، والمراد من الشكّ هو الشكّ في شهر رمضان والشكّ في شهر شوّال، وقوله عليه السلام «لا يدخل» أي «لا ينقض»، وقوله عليه السلام: «صم للرؤية وافطر للرؤية» عبارة اخرى عن قوله عليه السلام: «انقضه بيقين آخر» في بعض الروايات الاخر.

ثانيهما: ما في أجود التقريرات تبعاً للمحقّق الخراساني رحمه الله: وحاصله أنّ الحديث أجنبي عن الاستصحاب لأنّه لم يعهد أن يكون «لا يدخل» بمعنى لا ينقض، بل المراد من الحديث قاعدة اليقين في خصوص باب رمضان، وهو أنّ الشارع إعتبر أن يكون صوم شهر رمضان وإفطاره يقينيين «1».

وقد اعتمد المحقّق الخراساني رحمه الله في هذا على روايات اخرى وردت في الباب وهى كثيرة:

منها: ما رواه الحلبي عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «إنّه سئل عن الأهلّة فقال هى أهلّة الشهور، فإذا رأيت الهلال فصم وإذا رأيته فأفطر» «2».

ومنها: ما رواه محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال: إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، وليس بالرأي ولا بالتظنّي ولكن بالرؤية» «3».

ومنها: ما رواه عمرو بن عثمان والفضل وزيد الشحّام جميعاً عن أبي عبداللَّه عليه السلام: «أنّه انوار الأصول، ج 3، ص: 303

سئل عن الأهلّة، فقال: هى أهلّة الشهور، فإذا رأيت الهلال فصم وإذا رأيته فأفطر الحديث» «1». إلى غير ذلك.

وظاهرها اعتبار حصول القطع واليقين بمشاهدة الهلال، فليكن الرواية الثالثة عشر من هذا الباب (وهى رواية القاساني المذكورة) أيضاً كذلك.

وأمّا الاحتمالات الاخرى في الحديث

فهى ثلاثة:

1- أن يكون المراد من الحديث لزوم العمل على اليقين بدخول شهر رمضان فقط، وهو جزء من احتمال المحقّق الخراساني رحمه الله.

وأورد عليه بأنّه ينافي ذيل الحديث: «وأفطر للرؤية».

2- أن يكون المراد منه اعتبار اليقين في كلّ يوم من شهر رمضان لا خصوص الأوّل والآخر.

وفيه: أنّه يستلزم عدم وجوب الصيام في اليوم الآخر المشكوك كونه من رمضان أو من شوّال، ولا يقول به أحد.

3- أن يكون الحديث ناظراً إلى قاعدة الإشتغال أساساً (الإشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية).

ويرد عليه: أنّ لازمه وجوب الصيام في اليوم الأوّل المشكوك كونه من رمضان أو من شعبان، وهو أيضاً لا يقول به أحد.

ثمّ إنّه يستفاد من مجموع كلمات المحقّق الخراساني والمحقّق النائيني والمحقّق الأصفهاني رحمه الله مؤيّدات ليكون المراد من الحديث قاعدة اليقين في خصوص باب الصوم، أي اعتبار اليقين في الصيام والإفطار، وأنّه ليس ناظراً إلى الاستصحاب:

منها: التعبير ب «لا يدخل» عوضاً عن التعبير ب «لا ينقض».

ومنها: الأحاديث الواردة في الباب الثالث من أبواب أحكام شهر رمضان كرواية سماعة (رفاعة) قال: «صيام شهر رمضان بالرؤية وليس بالظنّ» «2».

ورواية إسحاق بن عمّار عن أبي عبداللَّه عليه السلام أنّه قال: «في كتاب علي عليه السلام صمّ لرؤيته انوار الأصول، ج 3، ص: 304

وافطر لرؤيته وإيّاك والشكّ والظنّ ...» «1».

ورواية إبراهيم بن عثمان الخزّاز عن أبي عبداللَّه عليه السلام في حديث قال: «إنّ شهر رمضان فريضة من فرائض اللَّه فلا تؤدّوا بالتظنّي» «2».

فلا يخفى أنّ الملحوظ في هذه الروايات كون صيام رمضان بالرؤية والمشاهدة وأنّ الظنّ لا يكفي فيه، ولا نظر لها إلى اليقين بشهر شعبان حتّى يتوهّم أنّها في مقام بيان الاستصحاب.

ويمكن الاستشهاد أيضاً بقوله تعالى: «فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ»

بناءً على أن يكون المراد من الشهود مشاهدة الهلال.

ولكنّه يندفع بذيل الآية الواردة في حقّ المسافر وكذلك بالروايات الواردة في تفسيرها، فإنّها تدلّ على أنّ الشهود بمعنى الحضور في الوطن في مقابل السفر.

ومنها: تفريع الإمام عليه السلام قوله «اليقين لا يدخل فيه الشكّ» بقوله: «صم للرؤية وافطر للرؤية»، حيث إنّه لو كان المراد منه الاستصحاب لكان المناسب أن يقول: فلا تصم عند الشكّ في رمضان ولا تفطر عند الشكّ في شوّال» فإنّ تعبيره بالرؤية شاهد على أنّ المراد هو قاعدة اليقين المختصّة بباب الصيام.

ومنها: أنّه لو كان المراد الاستصحاب للزم أن يكون اليقين بمعنى المتيقّن، وهو خلاف الظاهر.

أقول: يمكن الجواب عن جميع هذا بما ملخّصه: أنّه لا تضادّ بين المعنيين بل إنّهما متلازمان، لأنّ لازم حجّية الاستصحاب اعتبار القطع واليقين في وجوب الصيام ووجوب الإفطار، فالعدول من أحد التعبيرين إلى الآخر ممّا لا إشكال فيه.

توضيح ذلك: أمّا المؤيّد الأوّل ففيه أنّ الدخول والنقض متلازمان لأنّ النقض بمعنى عقد البناء أو عقد الحبل، ولازم نقض البناء مثلًا دخول الماء ونفوذه فيه.

وأمّا المؤيّد الثاني فمقتضى الجمع بين هذه الروايات والروايات الواردة في الباب الثالث عشر حصول الاطمئنان أيضاً بأنّ هذه الروايات تكون في مقام بيان لازم الاستصحاب ونتيجته، وهكذا بالنسبة إلى المؤيّد الثالث.

انوار الأصول، ج 3، ص: 305

وأمّا المؤيّد الرابع فجوابه أنّ اليقين في الغالب طريق إلى المتيقّن، فيكون ناظراً غالباً إلى المتيقّن كما هو كذلك في الروايات الثلاثة لزرارة التي لا إشكال في دلالتها على الاستصحاب.

فظهر أنّ الأرجح في النظر بالنسبة إلى هذا الحديث إنّما هو كلام الشيخ رحمه الله وهو دلالته على الاستصحاب.

6- ما رواه عمّار عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «كلّ شي ء نظيف حتّى

تعلم أنّه قذر فإذا علمت فقد قذر وما لم تعلم فليس عليك» «1».

ونظيره ما رواه حمّاد بن عثمان عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «الماء كلّه طاهر حتّى يعلم أنّه قذر» «2».

وكذلك ما رواه معاوية بن عمّار عن رجل من أصحابنا قال: «كنت عند أبي جعفر عليه السلام فسأله رجل عن الجبن فقال أبو جعفر عليه السلام: أنّه طعام يعجبني وساخبرك عن الجبن وغيره، كلّ شي ء فيه الحلال والحرام فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام فتدعه بعينه» «3».

وغيره من روايات الباب (الباب 61، من أبواب الأطعمة المباحة) وعلى هذا فالروايات المتظافرة بهذا المضمون، وهو يغنينا عن البحث في إسنادها.

وأمّا الدلالة: فالأقوال فيها خمسة لابدّ لتوضيحها من بيان مقدّمة، وهى أنّ هنا نوعين من الطهارة أو الحلّية: أحدهما الطهارة أو الحلّية الواقعية، والثاني الطهارة أو الحلّية الظاهريّة، والظاهريّة بنفسها أيضاً على قسمين: الطهارة أو الحلّية المستفادة من قاعدة الطهارة أو قاعدة الحلّية التي لا تلاحظ فيها الحالة السابقة، والطهارة أو الحلّية المستفادة من قاعدة الاستصحاب الملحوظة فيها الحالة السابقة.

والبحث في ما نحن فيه في أنّه هل هذه الطهارة أو الحلّية واقعيّة أو ظاهريّة؟ وعلى فرض كونها ظاهريّة هل هى من باب تطبيق قاعدة الطهارة أو الحلّية، أو من باب تطبيق قاعدة الاستصحاب.

انوار الأصول، ج 3، ص: 306

ولا يخفى أنّ هذا القبيل من الروايات إنّما يفيدنا في المقام إذا كانت الحلّية أو الطهارة فيها ظاهرة أوّلًا، ومن باب قاعدة الاستصحاب ثانياً.

وكيف كان، فالأقوال في المسألة خمسة:

1- قول المحقّق الخراساني رحمه الله في حاشية الرسائل بأنّها ناظرة إلى الواقعيّة والظاهريّة بكلتا قسميها.

2- القول بأنّها ناظرة إلى الواقعيّة بصدرها، واستصحاب الطهارة أو الحلّية بذيلها، ولا نظر لها إلى قاعدة الحلّية

أو قاعدة الطهارة، وهذا هو ظاهر المحقّق الخراساني رحمه الله في الكفاية.

3- أن يكون صدر الرواية ناظراً إلى قاعدة الحلّية أو قاعدة الطهارة، وذيلها إلى قاعدة الاستصحاب، وهذا هو قول صاحب الفصول، ولعلّه أوّل من استدلّ بها على الاستصحاب في المقام.

4- أن تكون ناظرة إلى قاعدة الطهارة أو الحلّية فحسب، وهذا منسوب إلى المشهور.

5- قول الشيخ الأعظم رحمه الله في الرسائل وهو التفصيل بين حديث «الماء كلّه طاهر حتّى يعلم أنّه قذر» فيكون ناظراً إلى الحكم الواقعي والاستصحاب، وبين حديثين آخرين (حديث كلّ شي ء نظيف «1» ... وحديث كلّ شي ء لك حلال) فيكونان ناظرين إلى خصوص القاعدة.

واستدلّ القائلون بعدم دلالة هذا الحديث على الطهارة الواقعيّة:

أوّلًا بأنّ الطهارة والنجاسة أمران طبيعيان عرفيّان لا مجعولان شرعيّان.

أضف إلى ذلك أنّه لو كانتا مجعولين من ناحية الشرع المقدّس للزم إمكان خلوّ الواقع من كليهما، وهو خلاف إرتكاز المتشرّعة.

ويرد عليه: أنّ الطهارة والنجاسة أمران مجعولان من ناحية الشارع قطعاً وأنّ النسبة بين الطهارة والنجاسة الشرعيتين والطهارة والنجاسة العرفيتين عموم من وجه، فربّ شي ء نظيف بحسب الإرتكاز العرفي ولكنّه نجس وقذر شرعاً، كالكافر النظيف وعرق الجنب عن انوار الأصول، ج 3، ص: 307

الحرام الذي لا فرق بينه وبين عرق الجنب عن الحلال عند العرف (بناءً على ما ذكره المشهور من نجاسة الكافر، وما ذهب إليه جمع من الأصحاب من نجاسة عرق الجنب من الحرام)، وربّ شي ء طاهر شرعاً ولكنّه قذر عرفاً، كالمسلم غير النظيف وغسالة الإستنجاء.

وأمّا ما ذكر من اللازم فإنّا نلتزم به ولا ضير فيه، فلا إشكال في إمكان خلوّ الواقع عن كلّ واحد من الطهارة والنجاسة.

وأمّا إرتكاز المتشرّعة فهو مختصّ بالوقوع الخارجي ومقام الإثبات لا بالإمكان ومقام الثبوت.

واستدلّوا ثانياً: بأنّ

الحديث ناظر إلى الحكم الظاهري، وإنّ نظره إلى الحكم الواقعي يستلزم منه الجمع بين اللحاظين في آنٍ واحد.

توضيح ذلك: أنّ كلمة «شي ء» الواردة في الحديث لو كان المراد منه الشي ء الواقعي فيكون هو الشي ء بعنوانه الأوّلي، أي الشجر مثلًا بما هو شجر، والفاكهة بما هى فاكهة، ولو كان المراد منه الحكم الظاهري فيكون المراد منه الشي ء بما هو مشكوك، ولا يخفى أنّ الحكم الظاهري متأخّر عن الحكم الواقعي برتبتين، فإنّ الحكم الواقعي متأخّر عن موضوعه برتبة، والشكّ فيه موضوع للحكم الظاهري، فيكون الحكم الظاهري متأخّراً عن الحكم الواقعي برتبة اخرى، ومع هذا لا يمكن كون لفظ واحد فانياً في المعنيين في آنٍ واحد.

وهكذا بالنسبة إلى كلمة «نظيف» (أو طاهر) فلا يمكن أن يريد منه النظافة الواقعيّة والظاهريّة معاً بنفس البيان.

وكذلك بالنسبة إلى قوله عليه السلام: «حتّى تعلم» لأنّه إذا كان المراد من الطهارة الطهارة الواقعية كان العلم فيها مأخوذاً بعنوان الطريق إلى الواقع، لأنّه لا يمكن أن تكون الطهارة الواقعية مغيّاة بالعلم بالنجاسة، بل إنّها مغيّاة بالنجاسة الواقعيّة.

وإن كان المراد منها الطهارة الظاهرية كان العلم فيها مأخوذاً بعنوان الموضوع، لأنّ العلم يرتفع به موضوع الطهارة الظاهرية وهو الشكّ.

ولا إشكال في أنّ اللحاظ في العلم الطريقي آلي، وفي الموضوعي استقلالي، والجمع بينهما محال، وحينئذٍ نقول: لا كلام في كون الطهارة الظاهرية مرادة قطعاً، فيستحيل أن تكون الطهارة الواقعيّة أيضاً مرادة.

انوار الأصول، ج 3، ص: 308

ولكن يمكن الجواب عنه: بأنّ كلّ هذه مبنى على مبنى فاسد في حقيقة الاستعمال، وهو أنّ حقيقة الاستعمال فناء اللفظ في المعنى كما هو مختار المحقّق الخراساني ومن تبعه، وأمّا إذا قلنا بأنّ الاستعمال نوع من التعهّد والالتزام، أي التعهّد بأنّ هذا اللفظ

علامة لهذا المعنى فلا إشكال في البين ولا استحالة.

إن قلت: فكيف يكون المتكلّم غافلًا عن اللفظ وملتفتاً إلى خصوص المعنى حين التلفّظ؟ وكيف يسري القبح أو الحسن من المعنى إلى اللفظ؟

قلنا: كلّ هذا لأجل كثرة الاستعمال، ولا ربط بالفناء ونحوها، وإن أبيت فانظر إلى من كان حديث العهد بلغة جديدة، فإنّه ينظر إلى اللفظ أيضاً حين الاستعمال، ولا يحسّ قبحاً أو حسناً بالنسبة إلى الألفاظ التي لها معانٍ قبيحة أو معانٍ حسنة، فإذا ضممنا هذا إلى ما اخترناه في محلّه من جواز استعمال لفظ واحد في أكثر من معنى بلا إشكال، وإنّ كثيراً من البدائع والظرائف الكلامية مبنية عليه (كما جاء في قول الشاعر:

المرتمى في الدجى والمبتلى بعمى والمبتغي ديناً والمشتكي ظمأً

يأتون سدّته من كلّ ناحية ويستفيدون من نعمائه عيناً

والنتيجة إندفاع إشكال الجمع بين اللحاظين، كما مرّ تفصيله في محلّه.

إلى هنا ثبت إمكان إرادة المعاني الثلاثة معاً (الحكم الواقعي والقاعدة والاستصحاب) من الحديث وأنّه لا استحالة فيه.

لكن الكلام بعدُ فيما هو الظاهر منه، فنقول: الصحيح أنّ الظاهر منه بصدره وذيله وبغايته ومغيّاه إنّما هو قاعدة الطهارة والحلّية، كما نسب إلى المشهور، فلا يستفاد منها الحكم الواقعي ولا الاستصحاب، وذلك لقرائن مختلفة:

أحدها: أنّ الغاية (وهى كلمة «حتّى تعلم») سواء كانت قيداً للموضوع (أي كلّ شي ء مقيّد بعدم العلم بنجاسته طاهر) أو كان قيداً للحكم (أي كلّ شي ء طاهر بالطهارة المقيّدة بعدم العلم بالنجاسة) أو كان قيداً للنسبة كما هو الموافق مع الوجدان العرفي والإرتكاز العقلائي (أي أنّ الطهارة ثابتة ما لم يعلم بالنجاسة) لا تناسب كون المراد الحكم الواقعي، لأنّ الأحكام الواقعيّة مغيّاة بقيود واقعيّة وعناوين حقيقية، وليست تابعة للعلم والجهل، فإنّ ماء الكرّ مثلًا طاهر

واقعاً إلى أن يتغيّر لونه أو طعمه أو ريحه بالنجاسة واقعاً، لا إلى أن يعلم بتغيّره.

الثانية: أنّ العرف إذا اعطيت بيده الغاية (حتّى تعلم) يؤخذ ضدّها (وهو الشكّ) في انوار الأصول، ج 3، ص: 309

موضوع المغيّى فيحكم بأنّ المغيّى في ما نحن فيه عبارة عن «كلّ شي ء مشكوك»، أي «كلّ شي ء مشكوك طاهر حتّى تعلم أنّه قذر»، أو «كلّ شي ء طاهر ما دمت في شكّ حتّى تعلم أنّه قذر»، ولا يخفى أنّ المأخوذ في موضوعه الشكّ حكم ظاهري لا واقعي.

الثالثة: ظاهر التعبير ب «حتّى تعلم أنّه قذر» أنّه قد سبقه جعل حكم واقعي بالطهارة أو القذارة ثمّ شكّ فيه، فلا يكون المقام إلّامقام الحكم الظاهري.

هذه قرائن يندفع بها احتمال إرادة الحكم الواقعي، ويثبت أنّ الظاهر هو جعل حكم ظاهري، وحينئذ يبقى الكلام في أنّ الظاهر من الحديث هل هو قاعدة الطهارة أو الحلّية، أو الظاهر منه استصحاب أحدهما؟ فنقول: الصحيح هو الأوّل، لأنّ معنى الاستصحاب يحتاج إلى ما يدلّ على استمرار الحالة السابقة، وهو غير ظاهر في الحديث.

إن قلت: يدلّ عليه كلمة «حتّى»، لأنّها تدلّ على الاستمرار.

قلنا: هذا الاستمرار إنّما هو من جهة بقاء الحكم ببقاء موضوعه الثابت في جميع الموارد، لا الاستمرار الاستصحابي، فمعنى الحديث أنّ حكم الطهارة ثابت لمشكوك الطهارة ما دام مشكوكاً، وأين هذا من الاستصحاب؟

إن قلت: يمكن أن يكون صدر الحديث ناظراً إلى الحكم الواقعي وذيله إلى الاستصحاب (كما هو ظاهر المحقّق الخراساني رحمه الله في الكفاية) فيكون المعنى في الواقع: «الأشياء بعناوينها الواقعية طاهرة، ويستمرّ هذا الحكم عند الشكّ حتّى تعلم أنّه نجس»، فيصير «حتّى تعلم» غاية للجملة المقدّرة (أي لجملة «يستمرّ هذا الحكم») لا للحكم الواقعي حتّى يستشكل بعدم إمكان

وقوع العلم غاية له.

قلنا: التقدير خلاف الظاهر ومحتاج إلى قرينة، وهى مفقودة في المقام.

إن قلت: أي مانع في أنّ يكون صدر الحديث ناظراً إلى القاعدة وذيله إلى الاستصحاب مع عدم ابتلائه بإشكال التقدير؟

قلنا: هذا غير ممكن فإنّه لولا التقدير لكان الذيل غاية لما ثبت في الصدر، فكما أنّ الذيل ناظر إلى الحكم الظاهري (أي الطهارة للمشكوك) لابدّ أن يكون صدره كذلك.

فتحصّل من جميع ما ذكرنا أنّ ما نسب إليه المشهور هو الحقّ، وهو أنّ الحديث دالّ على خصوص القاعدة بصدره وذيله.

انوار الأصول، ج 3، ص: 310

بقي هنا شي ء:

وهو استشهاد المحقّق الخراساني رحمه الله لإثبات مقالته في الحديث (وهو أنّ صدر الحديث ناظر إلى حكم اللَّه الواقعي وذيله إلى الاستصحاب) بما ورد في ذيل الحديث، وهو «فإذا علمت فقد قذر وما لم تعلم فليس عليك»، حيث إنّ الفقرة الاولى وهى (فإذا علمت فقد قذر) بمنزلة قوله عليه السلام: «بل إنقضه بيقين آخر» والفقرة الثانية وهى قوله عليه السلام: «وما لم تعلم فليس عليك» بمنزلة قوله عليه السلام: «لا تنقض اليقين بالشكّ» فتكون الفقرتان متلائمتين ومرتبطتين معاً بالاستصحاب، بخلاف ما إذا قلنا بأنّ صدر الرواية ناظر إلى القاعدة وذيلها إلى الاستصحاب، حيث إنّه حينئذٍ لابدّ من أن تكون الفقرة الثانية ناظرة إلى قاعدة الطهارة، لأنّ معنى «ما لم تعلم» هو الشكّ الذي يكون موضوعاً لها، مع أنّ الفقرة الاولى ناظرة إلى الاستصحاب بلا ريب، وبهذا يلزم التفكيك بين الفقرتين، وهو خلاف الظاهر، حيث إنّ الظاهر كون الثانية من قبيل المفهوم للُاولى.

والجواب عنه: أنّه كذلك فيما إذا دار الأمر بين إرادة الحكم الواقعي والاستصحاب من الحديث، أو القاعدة والاستصحاب، وأمّا بناءً على المختار (من كون الحديث بصدره وذيله ناظراً

إلى القاعدة) فيكون المراد من الفقرة الاولى بيان أنّ الحكم يرتفع إذا تبدّل موضوع القاعدة وهو الشكّ إلى العلم، ومن الفقرة الثانية بيان أنّ هذا الحكم ثابت ما دام الموضوع باقياً، فهما ناظران إلى طرفي مفهوم واحد.

7- ومن الروايات ما رواه عبداللَّه بن سنان قال: «سأل أبي أبا عبداللَّه عليه السلام وأنا حاضر، أنّي اعير الذمّي ثوبي وأنا أعلم أنّه يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير فيردّه عليّ فأغسله قبل أن اصلّي فيه؟ فقال أبو عبداللَّه عليه السلام: صلّ فيه ولا تغسله من أجل ذلك فإنّك أعرته إيّاه وهو طاهر ولم تستيقن أنّه نجّسه فلا بأس أن تصلّي فيه حتّى تستيقن أنّه نجّسه» «1».

ولكن الإنصاف أنّها من الروايات الخاصّة التي لا يستفاد منها العموم، ولو سلّمنا ظهور

انوار الأصول، ج 3، ص: 311

التعليل الوارد فيها في العموم إلّاأنّه مختصّ أيضاً بباب الطهارة والنجاسة ويشكل التعدّي عنه إلى غيره، فالأولى جعلها مؤيّدة للمقصود.

8- ومنها ما رواه عبداللَّه بن بكير عن أبيه قال: قال لي أبو عبداللَّه عليه السلام: «إذا استيقنت إنّك قد أحدثت فتوضّأ، وإيّاك أن تحدث وضوء أبداً حتّى تستيقن أنّك قد أحدثت» «1».

وهذا أيضاً خاصّ بباب الوضوء وإن كان تعليق الحكم فيه على وصف اليقين مشعراً العلّية، فالأولى أيضاً جعلها مؤيّدة.

نتيجة البحث في أدلّة الاستصحاب:

قد ظهر أنّ الدالّ على الاستصحاب من بين الأدلّة إنّما هو بناء العقلاء وسيرتهم (مع دلالته على أنّ الاستصحاب أصل لا أمارة، وذلك لما قلنا سابقاً من أنّ للعقلاء اصولًا كما أنّ لهم أمارات) وخمس روايات من الروايات المذكورة، ثلاثة منها روايات زرارة، والرابعة رواية علي بن محمّد القاساني في صوم شهر رمضان، والخامسة رواية الخصال في من كان على يقين فشكّ ...

وأمّا الإجماع فقد مرّ

أنّه مدركي في المقام، وأمّا الإستقراء فقد عرفت أنّه إستقراء ناقص جدّاً.

لكن هيهنا سؤال وهو أنّه لو كانت دلالة هذه الأحاديث تامّة فلِمَ لم يستند إليها القدماء من الأصحاب، وإعترف الشيخ الأعظم رحمه الله بعدم استنادهم إليها إلى زمان والد الشيخ البهائي رحمه الله؟

والجواب عنه: أنّه يمكن أن يكون عدم إستنادهم إليها لجهات عديدة:

منها: أنّهم قد ظنّوا استغناءهم عنها بسيرة العقلاء وقد مرّ أنّ هذه الروايات إمضاء لها.

انوار الأصول، ج 3، ص: 312

ومنها: أنّهم ظنّوا أنّها روايات خاصّة وردت في أبواب معيّنة لا يمكن الاستدلال بها على العموم، وإنّ اللام في اليقين والشكّ إشارة إلى العهد لا الجنس، كما مرّ احتماله سابقاً، فمن هنا تركوا الاعتماد على هذه الروايات ورجعوا إلى بناء العقلاء، وقد ثبت في محلّه أنّ إعراض المشهور عن الدلالة غير ضائر في الحجّية.

التفصيل بين الشبهات الحكميّة والشبهات الموضوعيّة:

ثمّ إنّه هل المستفاد من هذه الأدلّة حجّية الاستصحاب في خصوص الشبهة الموضوعيّة، أو إنّها تعمّ الشبهات الحكميّة أيضاً؟

ذهب إلى الثاني جميع المتأخّرين، وذكر أنّ الأمين الاسترابادي في بعض كلماته أنّ أحداً من القدماء الماضين قدّس اللَّه أسرارهم لم يقل بهذا العموم، فلم يستندوا إلى الاستصحاب في بقاء حلّية العصر العنبي مثلًا بعد الغليان، وبقاء نجاسة الماء المتغيّر بعد زوال تغيّره بنفسه.

والصحيح هو الأوّل كما ذهب إليه بعض أعاظم العصر قدّس اللَّه سرّه، وإن كان دليله الذي أقامه على الانحصار غير تامّ (كما سيأتي بيانه وبيان المناقشة فيه).

دليلنا عليه أمران:

أحدهما: أنّه قد مرّ أنّ أساس الاستصحاب إنّما هو سيرة العقلاء، وهى جارية في خصوص الشبهات الموضوعيّة، وأمّا الشبهات الحكميّة فإن كان الشكّ فيها في نسخ قانون وعدمه فلا ريب في أنّهم يتمسّكون باستصحاب عدم النسخ أيضاً، وأمّا إذا لم يكن

منشأ الشبهة النسخ، بل شكّ في بقاء الحكم وعدمه، ولم يكن هناك عموم أو اطلاق، كما إذا جعلت زكاة على العنب وبعد تبدّله إلى الزبيب شكّ في بقائه مثلًا (مع فرض كون وصف الزبيبيّة من الأوصاف لا من المقوّمات) فإنّ العقلاء لا يعتمدون في مثل هذه الموارد على استصحاب بقاء ذلك الحكم.

ثانيهما: أنّ الوجدان حاكم على أنّه لو عشنا نحن في عصر صدور أخبار الاستصحاب مكان زرارة لم نشكّ في وجوب الفحص عن الحكم في الشبهات الحكميّة بالسؤال عن الإمام عليه السلام، ولم نحتمل جواز التمسّك بالاستصحاب بمجرّد الشكّ في بقاء حلّية العصر العنبي بعد

انوار الأصول، ج 3، ص: 313

الغليان مثلًا، أو بقاء نجاسة الماء المتغيّر بعد زوال تغيّره بنفسه.

وإن شئت قلت: حيث إنّ الفحص والسؤال عن المعصوم كان ممكناً في عصر الأخبار غالباً لا سيّما للرواة، ولم تمسّ الحاجة غالباً إلى جريان الاستصحاب فيمكن أن يقال حينئذٍ بإنصراف أخبار الاستصحاب عن الشبهات الحكميّة، ولذلك إعترف الشيخ الأعظم الأنصاري رحمه الله في مبحث الاحتياط أنّ الأخبار الدالّة على وجوب الاحتياط ناظرة إلى زمن الحضور، كما أنّه قد ورد في بعضها التعبير ب «إذا أصبتم بمثل هذا فعليكم الاحتياط حتّى تسألوا وتعلموا».

وكيف كان، لا أقل من الشكّ في اطلاق أخبار الاستصحاب أو عمومها بالنسبة إلى الشبهات الحكميّة، وهذا كافٍ في عدم جواز الاستدلال بها على العموم.

ويؤيّد ذلك أنّ مورد جميع الروايات خاصّ بالشبهات الموضوعيّة، كالسؤال عن إصابة النجاسة بالثوب ووقوع النوم وعدمه في روايات زرارة، وعن يوم الشكّ في شهر رمضان في خبر علي بن محمّد القاساني، وهكذا في رواية الشكّ في الركعات.

استدلال بعض الأعاظم للتفصيل ونقده:

ثمّ إنّ بعض أعاظم العصر قدّس اللَّه سرّه استدلّ لعدم حجّية الاستصحاب في الشبهات

الحكميّة بما حاصله: إنّ الاستصحاب في الأحكام الكلّية معارض بمثله دائماً.

وإليك ملخّص ما أفاده في توضيح ذلك في كلام طويل له في المقام:

إنّ للأحكام مرحلتين: مرحلة الإنشاء والجعل، ومرحلة الفعلية والمجعول، مثلًا الشارع ينشأ وجوب الحجّ على المستطيع مع عدم وجود مكلّف أو مستطيع، فهنا إنشاء الحكم على موضوعه وإن كانت الشرائط غير موجودة والموانع غير مفقودة، فإذا وجد الموضوع واجتمعت الشرائط وفقدت الموانع صار فعليّاً.

والاستصحابات الحكميّة معارضة دائماً بالاستصحاب العدمي في مرحلة الجعل والإنشاء، فالمرأة إذا طهرت من الدم ولم تغتسل جرى في حقّها استصحاب بقاء حرمة الوطي، ولكنّه معارض بعدم جعل الحرمة من أوّل الأمر فيما زاد على زمان الدم، فيتعارض الاستصحابان ويسقطان من الجانبين.

انوار الأصول، ج 3، ص: 314

ثمّ أشكل على نفسه بامور:

1- إنّ استصحاب عدم جعل الحرمة (مثلًا) معارض باستصحاب عدم جعل الحلّية.

فأجاب عنه أوّلًا: بأنّه لا مجال لإستصحاب عدم جعل الحلّية لأنّ الرخصة كانت متحقّقة في صدر الإسلام لتشريع الأحكام تدريجاً.

وثانياً: بأنّ التعارض فرع لزوم المخالفة العمليّة القطعيّة، وهنا ليس كذلك كما لا يخفى.

وثالثاً: بأنّه لو تنزّلنا عن جميع ذلك فنقول: يقع التعارض بين هذه الاستصحابات الثلاث لأنّها في مرتبة واحدة.

2- إنّ استصحاب عدم جعل الحرمة حاكمة على استصحاب بقاء الحرمة السابقة لأنّ الأوّل سببي والآخر مسبّبي.

وأجاب عنه: بأنّه يعتبر في حكومة الأصل السببي على الأصل المسبّبي أن يكون التسبّب بينهما شرعيّاً، وهنا ليس كذلك، وبعبارة اخرى: الملاك كون المشكوك في أحدهما أثراً مجعولًا شرعيّاً للآخر، مع أنّ سببيّة الجعل للمجعول عقلي، وليست من الأحكام الشرعيّة.

3- إنّ استصحاب عدم الجعل مثبت في المقام لأنّ الحلّية من اللوازم العقليّة لعدم جعل الحرمة.

وأجاب عنه: بأنّ الأصل المثبت إنّما هو في امور لم يكن

أمر وضعه ورفعه بيد الشارع، أمّا لو كان وضعه ورفعه كذلك فالأصل المثبت لا إشكال فيه، لأنّه إذا رفعه الشارع واقعاً ترتّب عليه جميع آثاره العقليّة والشرعيّة (انتهى ما إستفدناه من أبحاثه ومحاضراته قدّس اللَّه سرّه الشريف).

4- ما ورد في بعض تقريراته عن استاذه المحقّق النائيني رحمه الله وهو: «إنّ استصحاب عدم الجعل غير جارٍ في نفسه لعدم ترتّب الأثر العملي عليه لأنّ الجعل عبارة عن إنشاء الحكم والإنشائية لا تترتّب عليها الآثار الشرعيّة، بل ولا الآثار العقليّة من وجوب الإطاعة وحرمة المعصية مع العلم بها، فصحّ عن التعبّد بها بالاستصحاب فإنّه إذا علمنا بأنّ الشارع جعل وجوب الزكاة على مالك النصاب لا يترتّب على هذا الجعل أثر ما لم تتحقّق ملكية في انوار الأصول، ج 3، ص: 315

الخارج، وعليه فلا يترتّب الأثر العملي على استصحاب عدم الجعل فلا مجال لجريانه» «1».

أقول: والجواب عنه ظاهر (والعجب كيف خفى هذا على مثل هذا المحقّق النحرير قدّس اللَّه سرّه) لأنّ ترتّب آثار الحكم كالبعث والزجر والطاعة والمعصية يتوقّف على كلّ من الجعل والمجعول، أي كلّ واحد من مقام الإنشاء ومقام الفعلية، وبعبارة اخرى: يتوقّف على الجعل وتحقّق الموضوع معاً، فيكفي في عدمها إنتفاء أحدهما، فلو استصحبنا عدم أحدهما وهو الجعل مثلًا (كما هو المفروض في المقام) كفى في إثبات عدم وجوب الطاعة، وكما أنّ استصحاب بقاء الجعل يجري (ولو قبل تحقّق الموضوع) لإثبات فعلية التكليف عند وجود الموضوع، كذلك استصحاب عدم الجعل يجري (ولو قبل تحقّق الموضوع) لإثبات عدم فعليته عند وجود الموضوع.

هذا بالنسبة إلى ما نقله عن استاذه المحقّق النائيني رحمه الله، وفي كلامه أيضاً مواقع للنظر:

1- (بالنسبة إلى ما ذكره من أنّ تعارض استصحاب عدم جعل

الحرمة مع استصحاب عدم جعل الحلّية لا يوجب سقوطهما عن الحجّية لعدم لزوم المخالفة القطعيّة العمليّة) أنّه قد تلزم المخالفة القطعيّة العمليّة، وهو في مثل استصحاب عدم جعل نجاسة الماء المتغيّر الذي زال عنه التغيّر بنفسه إذا كان الماء منحصراً فيه ولا يكون له ماء آخر، فإنّ استصحاب عدم جعل النجاسة فيه معارض مع استصحاب عدم جعل الطهارة، ويلزم من جريانهما المخالفة القطعيّة العمليّة، لأنّه لو كان طاهراً يجب التوضّي به، ولو كان نجساً يحرم شربه، فيلزم من إجراء الأصلين جواز الشرب وعدم وجوب التوضّي منه.

2- (بالنسبة إلى قوله أنّ الطهارة عبارة عن عدم النجاسة فتكون أمراً عدميّاً لا يقبل الجعل حتّى يمكن استصحاب عدمه) يرد عليه ما مرّ من أنّ الطهارة والنجاسة أمران وجوديّان، ولكلّ منهما أحكام وآثار شرعية، ولذلك يجب طهارة ماء الوضوء والماء الذي يريد المكلّف أن يتطهّر به عن الخبث، وإلّا لا يكون مطهّراً عن الحدث والخبث.

3- (بالنسبة إلى قوله: إنّ في صورة التعارض يسقط جميع الاستصحابات الثلاثة) أنّ انوار الأصول، ج 3، ص: 316

الاستصحاب الحكمي مقدّم على استصحاب عدم الجعل (عكس ما قد يقال من أنّ استصحاب عدم الجعل مقدّم لكونه سببيّاً) لأنّ الاستصحاب الحكمي بنفسه يكون جعلًا لحكم ظاهري، ولذلك يقال: إنّ استصحاب الحكم من قبيل جعل مماثل، فإنّ معنى استصحاب نجاسة الماء الذي زال عنه التغيّر أنّ الشارع جعل له نجاسة ظاهريّة في هذا الحال، ومع وجود هذا الحكم الظاهري لا يبقى شكّ في جعل الطهارة، فلا مجال لاستصحاب عدمه.

4- (هذا وما بعده من الإشكال الآتي هو العمدة في المقام) أنّ الاستصحاب الحكمي (استصحاب المجعول) لا يكون معارضاً لاستصحاب عدم الجعل في جميع الموارد والأمثلة، بل كثيراً ما يكون

موافقاً له، كاستصحاب طهارة المذي الخارج بعد الوضوء الذي لا يعارضه استصحاب عدم جعل ناقضية المذي (فإنّ استصحاب عدم الجعل فيه عبارة عن استصحاب عدم الناقضية كما لا يخفى) بل يعضده، وهكذا استصحاب بقاء الملكية في عقد المعاطاة بعد قول المالك الأوّل «فسخت» فإنّه ليس معارضاً لاستصحاب عدم جعل الفسخ رافعاً، وأمّا الملكيّة الحاصلة بالبيع فهى مستمرّة بالإجماع لولا الفسخ، فلا يمكن أن يقال: نحن نشكّ في جعل الملكية حتّى في ما بعد الفسخ، لأنّه عبارة اخرى عن جعل الفسخ نافذاً، والأصل عدم جعله نافذاً، فهو موافق لاستصحاب بقاء الملكية، وكذلك بالنسبة إلى كلّ مورد يكون الشكّ فيه في النقض أو الرفع أو الفسخ.

فلابدّ لمن قام دليله على عدم جريان الاستصحاب في الشبهات الحكميّة وتعارضه مع استصحاب عدم الجعل أن يفصّل ثانياً بين مواردها فيكون تفصيلًا في تفصيل.

5- إنّ الأساس في الاستصحاب كما مرّ كراراً إنّما هو بناء العقلاء وسيرتهم، وهى قائمة في خصوص الموارد التي تكون الغلبة فيها على البقاء، مثل الصحّة والمرض الذي تكون الغلبة فيه على السلامة، وفي الأملاك والمساكن التي تكون الغلبة فيها بقائها على حالها، وأمّا فيما إذا كانت الغلبة على العكس، كما إذا وقعت زلزلة في بلد من البلاد وخربت أكثر بيوته، ففي مثل هذا المورد لا يعتمد العقلاء على استصحاب بقاء دار زيد مثلًا، أو إذا شاع مرض مثلًا وأهلك غالب سكّان البلد فلا شكّ في أنّهم لا يعتمدون أيضاً على استصحاب حياة زيد مثلًا، ومن هذا القبيل ما نحن فيه، حيث إنّ ظهور الإسلام والشريعة المقدّسة أوجب تزلزلًا وتغييراً أساسيّاً بجعل أحكام جديدة في كثير من الموضوعات بحيث صارت الغلبة على وجود الجعل والمجعول، وفي مثله لا

تأتي تلك السيرة مع ذلك الملاك، فلا يجري استصحاب عدم الجعل فيه.

انوار الأصول، ج 3، ص: 317

فتلخّص من جميع ذلك أنّ أصل مدّعاه قدس سره (الموافق لما ذكره النراقي) أي التفصيل بين الشبهات الموضوعيّة والحكميّة صحيح وإن لم يتمّ دليله.

تفصيل الشيخ الأعظم الأنصاري؛ بين الشكّ في المقتضي والشكّ في الرافع
اشارة

ثمّ إنّ هيهنا تفصيلًا آخر من الشيخ الأعظم قدّس سرّه الشريف الذي نسبه إلى المحقّق رحمه الله في المعارج (وإن كان في النسبة نظر كما سيأتي) وهو التفصيل بين الشكّ في المقتضي فلا يكون الاستصحاب حجّة، وبين الشكّ في الرافع فيكون حجّة، وتحليل المسألة وإيضاح الحقّ فيها يحتاج إلى رسم امور:

1- بيان الموارد من المقتضي والمانع.

2- دليل الشيخ الأعظم رحمه الله على هذا التفصيل.

3- نقد كلامه الشريف.

أمّا الأمر الأوّل فنقول: قد أوضح الشيخ رحمه الله بنفسه مقصوده من المقتضي والمانع بأوفى البيان مع ذكر المثال، ولا ينقضي تعجّبي عن بعض الأعلام من أنّه كيف أتعب نفسه الزكيّة فذكر لتوضيح مراد الشيخ رحمه الله احتمالات عديدة هى أجنبية عن مرامه ومخالفة لما صرّح به نفسه؟

وإليك نصّ كلام الشيخ رحمه الله في مبحث تقسيم الاستصحاب باعتبار الشكّ المأخوذ فيه:

«الثالث من حيث إنّ الشكّ في بقاء المستصحب قد يكون من جهة المقتضي، والمراد به الشكّ من حيث إستعداده وقابليته في ذاته للبقاء، كالشكّ في بقاء الليل والنهار وخيار الغبن بعد الزمان الأوّل، وقد يكون من جهة طروّ الرافع مع القطع باستعداده للبقاء، وهذا على أقسام ...» «1».

ثمّ ذكر الأقوال في حجّية الاستصحاب وقال: «والأقوى هو القول التاسع وهو الذي اختاره المحقّق، فإنّ المحكيّ عنه في المعارج أنّه قال: إذا ثبت حكم في وقت ثمّ جاء وقت آخر

انوار الأصول، ج 3، ص: 318

ولم يقم دليل على انتفاء ذلك الحكم هل يحكم

ببقائه على ما كان، أم يفتقر الحكم في الوقت الثاني إلى دلالة؟ كما يفتقر نفيه إلى الدلالة، حكى عن المفيد رحمه الله أنّه يحكم ببقائه ما لم تقم دلالة على نفيه، وهو المختار، وقال المرتضى رحمه الله: لا يحكم. ثمّ مثل بالمتيمّم الواجد للماء في أثناء الصّلاة، ثمّ احتجّ للحجّية بوجوه: منها: أنّ المقتضي للحكم الأوّل موجود، ثمّ ذكر أدلّة المانعين وأجاب عنها، ثمّ قال: والذي نختاره أن ننظر في دليل ذلك الحكم فإن كان يقتضيه مطلقاً وجب الحكم باستمرار الحكم كعقد النكاح فإنّه يوجب حلّ الوطي مطلقاً. فإذا وقع الخلاف في الألفاظ التي يقع بها الطلاق، فالمستدلّ على أنّ الطلاق لا يقع بها لو قال: حلّ الوطي ثابت قبل النطق بهذه الألفاظ فكذا بعده، كان صحيحاً، لأنّ المقتضي للتحليل- وهو العقد- اقتضاه مطلقاً، ولا يعلم أنّ الألفاظ المذكورة رافعة لذلك الاقتضاء، فيثبت الحكم عملًا بالمقتضي «1».

فظهر أنّ كلام الشيخ رحمه الله واضح لا حاجة في توضيحه إلى بيان احتمالات عديدة، نعم الظاهر أنّ كلام المحقّق رحمه الله لا ربط له بالاستصحاب وبالشكّ في المقتضي أو المانع المبحوث عنه في مبحث الاستصحاب، بل الظاهر أنّ مراده من المقتضي إنّما هو العمومات التي يرجع إليها عند الشكّ في المخصّص، والشاهد عليه ما صرّح به في ذيل كلامه حيث قال: «وقوع العقد إقتضى حلّ الوطي لا مقيّداً بوقت» فإنّه ناظر إلى عموم «اوفوا بالعقود» و «أحلّ اللَّه النكاح» الذي لا نعلم تخصيصه بالألفاظ المشكوكة في أبواب الطلاق، فالتمسّك بالعموم عند الشكّ في المخصّص شي ء، والتمسّك بالاستصحاب شي ء آخر، وهذا نظير الاستدلال لأصالة اللزوم في أبواب المعاملات ب «اوفوا بالعقود» و «أحلّ اللَّه البيع» و «تجارة عن تراضٍ»

وغيرها، كما تمسّك الشيخ الأعظم نفسه بها في ابتداء مباحث البيع والخيارات. ثمّ أضاف إليها لاستصحاب بعنوان دليل آخر.

وأمّا الأمر الثاني: فاستدلّ الشيخ رحمه الله لهذا التفصيل بما حاصله: أنّ للنقض معنىً حقيقيّاً وهو عبارة عن رفع الهيئة الإتّصاليّة كما في نقض الحبل، ومعنى مجازياً أقرب وهو رفع الأمر الثابت، أي المستحكم الذي فيه إقتضاء الثبوت والاستمرار، ومعنىً مجازياً أبعد وهو مطلق رفع اليد عن الشي ء وترك العمل به ولو لعدم المقتضي له، فإذا تعذّر المعنى الحقيقي كما في المقام انوار الأصول، ج 3، ص: 319

ودار الأمر بين المعنيين المجازيين، فيتعيّن الأوّل منهما الأقرب، فيختصّ اليقين حينئذٍ بما كان متعلّقه أمراً ثابتاً مستحكماً فيه اقتضاء الاستمرار كالزوجيّة والملكيّة والعدالة ونحوها ممّا يحتاج رفعه إلى وجود رافع ومزيل دون ما ليس فيه اقتضاء الثبوت والاستمرار بل يرتفع بنفسه.

إن قلت: هذا يستلزم التصرّف في معنى اليقين وإرادة المتيقّن منه، وهو خلاف الظاهر.

قلنا: لابدّ من هذا التصرّف على أي حال، لأنّ اليقين بما هو يقين لا يتعلّق به النقض الاختياري، ولا يتصوّر بالنسبة إليه النقض أو عدم النقض، وبعبارة اخرى: التعبير بالنقض قرينة على أنّ المراد من اليقين إنّما هو المتيقّن.

وأمّا الأمر الثالث: فقد أورد (أو يرد) على كلامه إشكالات أربع:

الأوّل: (وهو العمدة) أنّه لا بأس بأن تكون صفة النقض بلحاظ وصف اليقين لا المتيقّن، أي يكون متعلّق النقض اليقين نفسه، وهذا لا ينافي كونه من الأفعال الاختياريّة التي تتعلّق بما يكون فعلًا اختيارياً، لأنّ النهي عن عدم نقض اليقين كناية عن العمل على طبقه والإجراء على وفقه عملًا، وحينئذٍ نقول: أنّ وصف اليقين أمر مبرم ومستحكم سواء كان متيقّنه أيضاً كذلك أو لم يكن.

إن قلت: لا معنى لنقض

اليقين بأي معنى كان في مورد الاستصحاب، لأنّ المفروض إنّ زمان اليقين قد مضى، والموجود الآن هو الشكّ.

قلنا: المفروض في مورد الاستصحاب أيضاً أنّ الشارع غضّ نظره عن زمان متعلّق اليقين والشكّ وعن تغاير المتعلّقين من ناحية الزمان، فلاحظهما معاً، ثمّ نهى عن نقض أحدهما بالآخر، فيكون النقض حاصلًا.

الثاني: أنّ تفصيله مبنى على شمول جميع روايات الاستصحاب على التعبير ب «لا تنقض» مع أنّه لم يرد في رواية الخصال، حيث إنّ الوارد في صدرها «فليمض على يقينه»، وهكذا حديث علي بن محمّد القاساني الذي عبّر ب «اليقين لا يدخل فيه الشكّ صم للرؤية وافطر للرؤية» ولا إشكال في أنّ تعبيري المضيّ والدخول عامان لا يختصّان بخصوص موارد الشكّ في الرافع.

نعم، يمكن أن يقال بالنسبة إلى الرواية الاولى (كما قال به الشيخ الأعظم رحمه الله نفسه) أنّ انوار الأصول، ج 3، ص: 320

ذيله وهو «فإنّ الشكّ لا ينقض اليقين» قرينة على تقييد الصدر.

وأمّا الرواية الثانية فأجاب عنها الشيخ رحمه الله: بأنّها ناظرة إلى استصحاب الإشتغال لا الاستصحاب المصطلح، ولا يخفى أنّ استصحاب الإشتغال يكون دائماً من قبيل الشكّ في الرافع، لأنّ شغل الذمّة دائمي إلى أن يرفعه رافع.

لكن جوابه هذا غير تامّ صغرى وكبرى:

أمّا الصغرى: فلأنّ المفروض في هذه الرواية أنّ الشكّ متعلّق بعمر شهر رمضان وشهر شعبان، ولا إشكال في أنّ الشكّ في عمر الشهر من قبيل الشكّ في المقتضي.

مضافاً إلى أنّه لا إشتغال للذمّة بالنسبة إلى يوم الشكّ في إبتداء رمضان حتّى يكون الاستصحاب فيه من قبيل استصحاب الإشتغال.

وأمّا الكبرى: فلأنّه لو فرضنا كون المورد من قبيل الشكّ في الرافع إلّاأنّ الكبرى الواردة في صدر الرواية وهى قوله «لا يدخل ...» عامّ لا يخصّص بالمورد.

ومن

الروايات التي لم يرد فيها التعبير بالنقض رواية عبداللَّه بن سنان الواردة في باب العارية، ولكن الشيخ رحمه الله ذكرها مؤيّداً لسائر الروايات، لا دليلًا مستقلًا على الاستصحاب، فلا ينقض بها كلامه.

الثالث: أنّ من مصاديق الاستصحاب المجمع عليها استصحاب عدم النسخ حتّى عند الشيخ الأعظم رحمه الله نفسه، مع أنّ الشكّ في مورده يكون دائماً من قبيل الشكّ في المقتضي، لأنّه شكّ في عمر الحكم الشرعي، لما ذكر في محلّه من أنّ حقيقة النسخ دفع الحكم لا رفعه.

اللهمّ إلّاأن يقال: إ نّ استصحاب عدم النسخ ثابت بالإجماع، لا الروايات والظاهر أنّ الإجماع معتمد على العموم الأزماني الموجود في أدلّة الأحكام، أو على روايات نظير قوله عليه السلام:

«حلال محمّد حلال إلى يوم القيامة ...» لا على روايات الاستصحاب.

الرابع: أنّه قد مرّ أنّ الأساس في باب الاستصحاب إنّما هو بناء العقلاء، وهم لا يفصّلون بين الشكّ في المقتضي والشكّ في الرافع، لأنّ القدر المسلّم من مصاديق الاستصحاب عندهم استصحاب الحياة، ومن المعلوم أنّ النفوس المختلفة متفاوتة في مقدار استعداد البقاء، وقد يكون إنسان مستعدّاً للبقاء إلى ثلاثين أو أربعين أو خمسين سنة، وقد يكون أقلّ من ذلك أو أكثر، ولا ينبغي الشكّ في جريان الاستصحاب عند العقلاء في جميع هذه الموارد، بل لو قلنا أنّ انوار الأصول، ج 3، ص: 321

الحدّ الوسط في الاستعداد للبقاء مثلًا هو خمسون أو ستّون سنة فلا شكّ في جريان الاستصحاب بعده أيضاً، مع أنّه من قبيل الشكّ في المقتضي.

إلى هنا تمّ الكلام عن أدلّة الاستصحاب، والآن نشرع في بيان التنبيهات التي ذكرها الأصحاب في كلماتهم، فنقول ومنه جلّ شأنه التوفيق والهداية:

تنبيهات الاستصحاب:

وينبغي التنبيه على امور:

التنبيه الأوّل: الأحكام الوضعيّة
اشارة

وقد بحث عنها الأعلام ضمن بيان الأقوال

في الاستصحاب وبمناسبة نقل ما فصّله الفاضل التوني من جريان الاستصحاب في الأحكام التكليفية دون الوضعيّة، ولكن الصحيح المناسب أن يبحث أوّلًا عن ماهيّة تلك الأحكام حتّى يظهر حال استصحابها، وهذا هو موضوع البحث في هذا التنبيه.

وكيف كان لابدّ قبل الورود في أصل البحث من تقديم امور:

أحدها: أنّ الأحكام الشرعيّة على قسمين: تكليفيّة ووضعيّة، فالتكليفيّة ما يدور مدار الأحكام الخمسة، وقسّمها القدماء من الأصحاب على قسمين: اقتضائيّة وتخييريّة، والمراد من الاقتضائيّة ما يكون له اقتضاء للفعل أو الترك، فيشمل الوجوب والحرمة والاستحباب والكراهة، ومن التخييريّة ما ليس له اقتضاء ورجحان من حيث الفعل والترك، وهى المباحات.

وأمّا الوضعيّة، فهى كلّ مالا يكون من الأحكام الخمسة ولا تحدّد عمل المكلّف من حيث الاقتضاء والتخيير بل يمسّ أفعال المكلّفين بالواسطة (كالحكم بأنّ «الماء طاهر» أو «الدم نجس») أو بدون الواسطة (كالملكية والزوجية والضمان) ولهذا لا يصحّ حصرها في عدد خاصّ كما فعل بعضهم.

ثانيها: في أنّ حقيقة الأحكام التكليفيّة ماذا؟

انوار الأصول، ج 3، ص: 322

والمعروف الجاري على ألسنة المحقّقين أنّ حقيقتها إنشاء البعث أو الزجر أو الترخيص الناشى ء عن إرادة المولى أو كراهته أو ترخيصه في نفسه، وهذا ممّا يتّضح لنا بالرجوع إلى الوجدان.

ولكن ذهب بعض أعاظم العصر قدّس اللَّه نفسه إلى أنّ الحكم التكليفي اعتبار نفساني من المولى يبرز بالإنشاء، وقال: «هذا الاعتبار النفساني تارةً يكون بنحو الثبوت، أي المولى يثبت شيئاً في ذمّة العبد ويجعله دَيناً عليه، كما ورد في بعض الروايات أنّ دَين اللَّه أحقّ أن يقضى، فيعبّر عنه بالوجوب، لكون الوجوب بمعنى الثبوت، واخرى يكون بنحو الحرمان، وإنّ المولى يحرم العبد عن شي ء ويسدّ عليه سبيله، كما يقال في بعض المقامات: أنّ اللَّه تعالى يجعل لنا

سبيلًا إلى الشي ء الفلاني فيعبّر عنه بالحرمة، فإنّ الحرمة هو الحرمان عن الشي ء، كما ورد أنّ الجنّة محرّمة على آكل الربا مثلًا فإنّ المراد منه المحروميّة عن الجنّة، لا الحرمة التكليفيّة، وثالثة يكون بنحو الترخيص وهو الاباحة بالمعنى الأعمّ، فإنّه تارةً يكون الفعل راجحاً على الترك واخرى بالعكس، وثالثة لا رجحان لأحدهما على الآخر، وهذا الثالث هو الإباحة بالمعنى الأخصّ» «1».

أقول: يرد عليه أوّلًا: أنّه خلاف الوجدان، إذ إنّ الوجدان حاكم بأنّ البعث الإنشائي يكون كالبعث التكويني، فكما أنّ في الثاني لا يوضع على ذمّة الإنسان شي ء بعنوان الدين، كذلك في الأوّل، فلا يعتبر المولى بقوله «افعل» دَيناً على عهدة العبد، بل أنّه مجرّد إنشاء بعث في نفسه، يحاذي البعث التكويني الخارج بدفع المكلّف بيده نحو العمل.

ثانياً: أنّ كلامه لا يجري في الاستحباب لأنّه لا معنى للدين الإستحبابي، مع أنّ الاستحباب يكون على وزان الوجوب، والفرق بينهما من ناحية شدّة الطلب والبعث وضعفه.

ومن هنا يظهر أنّ ما ذكره من بعض الشواهد نظير ما ورد في بعض الروايات «إنّ دين اللَّه أحقّ أن يقضى» تعبيرات كنائية، ومن باب تشبيه الحكم بالدَين، والقرينة عليه ما مرّ من قضاء الوجدان بما ذكرناه.

انوار الأصول، ج 3، ص: 323

بقي هنا شي ء:

وهو أنّه قد يبدو أنّ الاباحة ليست حكماً من الأحكام، أي أنّها من قبيل «لا إقتضاء» و «لا حكم» فيكفي فيها عدم صدور بعث أو زجر من جانب المولى، وعليه تكون الأحكام أربعة فما اشتهر في الألسن من أنّ الأحكام خمسة، شهرة لا أصل لها.

ولكن عند الدقّة يمكن الفرق بين الأحكام الشخصيّة والقانونيّة، فإنّ المتداول بين العقلاء من أهل العرف جعل الترخيص في كثير من الموارد بعنوان قانون من القوانين، لأنّا

إذا راجعنا إلى مجالس التقنين العقلائي نلاحظ أنّهم في كثير من الموارد ينشئون الجواز والترخيص، كما ينشئون الوجوب أو الحرمة فينشئون مثلًا إنّ ورود البضاعة الفلانيّة مباح من هذا التاريخ، وليس ذلك مجرّد دفع المنع السابق، بل إنّه إنشاء جديد وحكم وجودي في مقابل حكم وجودي سابق، لا فسخه ونسخه فقط.

ثالثها: في أنّ الوجود على قسمين: وجود خارجي وهو واضح، ووجود ذهني، وهو على قسمين أيضاً: ما يكون له ما بحذاء خارجي، وما ليس له ما بحذاء خارجي، بل هو من مخترعات الذهن، والمخترعات الذهنيّة أيضاً على أقسام ثلاثة:

أحدها: الامور الانتزاعيّة، وهى ما يكون له منشأ إنتزاع في الخارج، كسببية النار للإحتراق، فإنّ الذهن ينتزعها من مقايسة النار بالإحراق في الخارج قهراً، من دون دخل لإرادة الإنسان واعتباره وجعله.

ثانيها: الاعتباريات، وة ما ليس له منشأ إنتزاع في الخارج، بل هو مجرّد اعتبار للعقلاء كالملكيّة التي لا يوجب اعتبارها أو عدم اعتبارها زيادة أو نقصاناً في الخارج، بل هى تابعة لاعتبار المعتبر وباقية ببقائه.

إن قلت: ما هى حقيقة الاعتبار؟

قلنا: أنّها عبارة عن سلسلة من الفروض والتشبيهات التي يترتّب عليها آثار عقلائيّة، لتوافقهم عليه، فهى فروض ذات آثار عقلائيّة، فإنّهم مثلًا يلاحظون الملكيّة التكوينيّة الخارجيّة التي أتمّها وأكملها مالكيّة ذات الباري تعالى لعالم الوجود (وهى نفس سلطته واحاطته على العالم) ومن مصاديقها مالكية الإنسان على أعضائه وصور ذهنه، ومالكيته على أفعاله بواسطة الأعضاء، فإنّ جميع ذلك سلطات تكوينية خارجيّة.

انوار الأصول، ج 3، ص: 324

ثمّ إنّهم يفرضون في عالم الذهن أمراً يشبه ذلك ويرون لزيد مثلًا سلطة على الدار الكذائية، كسلطته على أعضائه، وهكذا في الزوجية فيلاحظون زوجية مصراعي الباب في الخارج مثلًا، ويعتبرون مثلها للزوج والزوجة إلى غير

ذلك من أشباهها، فهى بجميعها كعكوس ومرايا لما في الخارج، وصور ذهنية تشابهها.

ثالثها: الوهميّات، وهى عبارة عن أوهام الناس وتخيّلاتهم التي لا قيمة لها عند العقلاء، وليست مبدأً للآثار عندهم.

إذا عرفت هذه المقدّمات الثلاثة فاعلم أنّ الأقوال في حقيقة الأحكام الوضعيّة ثلاثة:

القول الأوّل: ما عبّر شيخنا الأعظم الأنصاري رحمه الله عنه بما نصّه: «المشهور كما في شرح الزبدة بل الذي استقرّ عليه رأي المحقّقين كما في شرح الوافية للسيّد صدر الدين: إنّ الخطاب الوضعي مرجعه إلى الخطاب الشرعي، وأنّ كون الشي ء بسبباً لواجب هو الحكم بوجوب ذلك الواجب عند حصول ذلك الشي ء، فمعنى قولنا إتلاف الصبي سبب لضمانه أنّه يجب عليه غرامة المثل أو القيمة إذا اجتمع فيه شرائط التكليف من البلوغ والعقل واليسار وغيرها، فإذا خاطب الشارع البالغ العاقل الموسر بقوله: «أغرم ما أتلفته في حال صغرك» إنتزع من هذا الخطاب معنى يعبّر عنه بسببيّة الإتلاف للضمان».

وحاصله: أنّ الأحكام الوضعيّة كلّها امور انتزاعية من الأحكام التكليفية، ليست لها جعل مستقلّ.

القول الثاني: ما هو على ألسنة جماعة (بتعبير الشيخ الأعظم رحمه الله) وهو أنّ الأحكام الوضعيّة امور اعتباريّة قابلة للجعل مستقلًا، ففي قوله تعالى: «أَقِمْ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ» يكون للشارع جعلان: أحدهما وجوب الصّلاة، الثاني سببية الدلوك للوجوب.

القول الثالث: القول بالتفصيل بين الأحكام الوضعيّة، فقسم منها من الامور التكوينيّة، وليس قابلًا للجعل أصلًا لا تبعاً ولا مستقلًا، وقسم آخر من الامور الاعتباريّة وقابل للجعل مستقلًا، وقسم ثالث من الامور الإنتزاعية يتعلّق بها الجعل تبعاً.

وينبغي هنا قبل بيان أدلّة الأقوال أن نشير إلى أنّ الامور الانتزاعيّة على ثلاثة أقسام باعتبار منشأ انتزاعها، فقسم منها ينتزع من مقام الذات، كسببيّة النار للإحتراق، وقسم آخر ينتزع من مقام

الصفات، كتقدّم زيد على عمرو في المسير، فإنّ وصف التقدّم أو التأخّر ينتزع انوار الأصول، ج 3، ص: 325

من مقايسة محلّ كلّ واحد بمحلّ الآخر، ولذا يتغيّر الحال مع بقاء الذات، وقسم ثالث ينتزع من الامور الاعتباريّة كشرطيّة الاستطاعة لوجوب الحجّ التي ينتزعها الذهن من وجوب الحجّ عند الاستطاعة في قوله تعالى: «للَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا».

إذا عرفت هذا فاعلم أنّه استدلّ الشيخ الأعظم رحمه الله للقول الأوّل بالحوالة على الوجدان وبرهان اللغويّة، فقال: «إذا قال المولى لعبده: «أكرم زيداً إن جاءك» فهل يجد المولى من نفسه أنّه أنشأ إنشائين وجعل أمرين: أحدهما إكرام زيد عند مجيئه، والآخر كون مجيئه سبباً لوجوب إكرامه أو أنّ الثاني مفهوم منتزع من الأوّل، لا يحتاج إلى جعل مغاير لجعله، ولا إلى بيان مخالف لبيانه؟ فإنّ الوجدان شاهد على أنّ السببية والمانعيّة في المثالين اعتباران منتزعان، كالمسببيّة والمشروطيّة والممنوعيّة».

ثمّ أتى ببيان ثالث وحاصله: أنّه قد يكون تعلّق الجعل الاستقلالي بالامور الوضعيّة محالًا، لأنّ جعل ما ليس بسبب سبباً محال، فإنّ دلوك الشمس إمّا أن يكون ذا مصلحة تدعو المولى إلى إيجاب الصّلاة عنده، وحينئذٍ لا حاجة إلى وضعه، أو لا يكون له مصلحة، وحينئذٍ لا يمكن جعله ذا مصلحة بالجعل التشريعي هذا بالنسبة إلى السببيّة والشرطيّة والمانعيّة.

ثمّ قال: وهكذا الصحّة والفساد، لأنّهما أمران تكوينيان، فإنّ الصحّة بمعنى المطابقة مع المأمور به، والفساد بمعنى عدم المطابقة، ولا إشكال في أنّهما أمران تكوينيان، هذا في العبادات، أمّا في المعاملات فهما أمران منتزعان من جواز التصرّف وعدم جواز التصرّف.

ثمّ قال: وأمّا الزوجيّة والملكيّة والطهارة فلا تخلو من أحد الوجهين، فإمّا أنّها امور واقعية كشف عنها الشارع أو امور انتزاعيّة

تنتزع من عدّة من الأحكام التكليفية. (انتهى ملخّص كلامه).

أقول: الحقّ في المسألة التفصيل بين الأحكام الوضعيّة وتفريق بعضها عن بعض، أي البحث عن كلّ نوع منها على حدّه، فنقول:

1- من الأحكام الوضعيّة: السببيّة والشرطيّة والمانعيّة، والصحيح أنّها على قسمين:

السببيّة أو الشرطيّة أو المانعيّة للتكليف كسببية الدلوك لوجوب الصّلاة، وشرطيّة

انوار الأصول، ج 3، ص: 326

الاستطاعة لوجوب الحجّ، ومانعية الحيض لوجوب الصّلاة، والقسم الثاني ما يكون سبباً أو شرطاً أو مانعاً بالإضافة إلى المكلّف به، كشرطيّة الوضوء للصلاة، ومانعيّة لبس ما لا يؤكل لحمه عن الصّلاة.

أمّا القسم الأوّل فقد يقال: إنّها من الامور التكوينيّة، ولا تقبل الجعل والاعتبار مطلقاً كما يستفاد من بعض كلمات الشيخ الأعظم (وقد عرفته آنفاً) والمحقّق الخراساني رحمه الله، وتبعهما جماعة آخرون، وقال بعض أنّها منتزعة من الحكم التكليفي، كما أنّ مقتضى اطلاق كلام جماعة كونها مستقلّة في الجعل.

ولكن الظاهر وقوع خلط بين التكوينية من هذه الامور والتشريعيّة منها، أي بين السببيّة التكوينيّة مثلًا والسببيّة التشريعيّة (وهذا أيضاً من موارد الخلط بين المسائل الفلسفية والمسائل الاصوليّة التي غلب عليها هذا الخلط في شتّى مسائلها، وأوجب الانحراف فيها) فإنّ لنا سببيّة أو شرطيّة في عالم التكوين، وهى ما يكون موجوداً في الدلوك مثلًا من المصلحة التكوينية التي تقتضي إيجاب الصّلاة تكويناً (بل هى لا تكون سبباً حقيقة، بل إنّها من قبيل الداعي للجعل)، وسببيّة أو شرطيّة شرعيّة ترجع في الواقع إلى قيود الموضوع كالإستطاعة التي تكون قيداً من قيود موضوع وجوب الحجّ (كما أنّ مانعية شي ء ترجع إلى أنّ عدمه قيد للموضوع كمانعيّة الحيض، فإنّ معناها أنّ عدم الحيض قيد لموضوع وجوب الصّلاة) سواء قلنا بأنّ الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد، أو لم نقل بذلك كالأشاعرة.

فالسببيّة

الشرعيّة وكذلك الشرطيّة والمانعيّة الشرعيتان امور منتزعة من جعل وجود شي ء أو عدمه قيداً لموضوع التكليف، ولا تناله يد الجعل مستقلًا، فإذا أخذ المولى قيداً في موضوع الحكم كفى في انتزاع شرطيّته له، ولا حاجة إلى أمر أكثر من ذلك، كما هو واضح.

هذا في السببيّة أو الشرطيّة أو المانعيّة للتكليف.

وكذلك بالنسبة إلى المكلّف به، فإنّها ترجع فيه أيضاً إلى قيود المأمور به، فإن كان وجود شي ء أو عدمه قيداً للمأمور به، كما في الوضوء بالنسبة إلى الصّلاة، تنتزع هذه الامور وإلّا فلا، من دون حاجة إلى أمر وراء ذلك.

هذا كلّه بالنسبة إلى السببيّة والشرطيّة والمانعيّة.

2- ومنها الصحّة والفساد في العبادات أو المعاملات، والأقوال فيهما أربعة:

انوار الأصول، ج 3، ص: 327

أوّلها: القول بأنّها ليست مجعولة مطلقاً لا تبعاً ولا مستقلًا.

ثانيها: أنّها مجعولة مستقلًا مطلقاً.

ثالثها: التفصيل بين العبادات والمعاملات وأنّهما مجعولان مستقلًا في العبادات دون المعاملات.

رابعها: الفرق بين الصحّة الواقعية فليست قابلة للجعل مستقلًا، والصحّة الظاهرية فهى مجعولة مستقلًا.

والمختار أنّ للصحّة والفساد معنيين، وإنّهما على كلا معنييهما أمران تكوينيان لا تنالهما يد الجعل مطلقاً:

أحدهما: ما مرّ في مبحث الصحيح والأعمّ من أنّ الصحيح من الأشياء ما يكون مبدأً للآثار المرغوبة منها، والفاسد ما ليس فيه تلك الآثار، ولا إشكال في أنّ كون شي ء ذا أثر وعدمه أمر تكويني.

ثانيهما: مطابقة الأمر (في العبادات) أو مطابقة الحكم (في المعاملات) وعدمها، ولا ريب أيضاً أنّ التطابق أو عدم التطابق أمر واقعي تكويني، فلو كان العمل جامعاً للاجزاء والشرائط فهو مطابق للمأمور به، ولو لم يكن جامعاً لها فهو مخالف للمأمور به، ولا يمكن أن يجعل ويعتبر ما ليس بمطابق خارجاً مطابقاً في الخارج، فإذا كان المأمور به ذا عشرة أجزاء، والمأتي

به ذا تسعة، فلا شكّ أنّه لا يكون مطابقاً، ولا معنى لجعل التسعة عشرة.

فهما ليسا من الامور الاعتباريّة المجعولة مستقلًا، كما أنّهما ليسا منتزعين من التطابق وعدم التطابق، لأنّ الصحّة عين التطابق، كما أنّ الفساد عين التخالف.

إن قلت: هذا ليس صادقاً في مثل المريض الذي لا يكون قادراً على إتيان جميع الأجزاء وليس عمله مطابقاً للواقع، مع أنّ الشارع حكم بصحّة عمله، وكذا الكلام في أمثاله من الأعذار.

قلنا: أنّ حكم الشارع بالصحّة في هذا الحال يرجع في الواقع إلى أنّه رفع يده عن وجوب بعض الاجزاء، فتكون الصّلاة مثلًا بالنسبة إلى المريض تسعة اجزاء لا عشرة (أو جعل لبعض الاجزاء أبدالًا كالإيماء بدل الركوع والسجود) فالصحّة حينئذٍ أيضاً بمعنى التطابق الواقعي، أي تطابق التسعة مع التسعة، لا تطابق التسعة مع العشرة بحكم الشارع.

انوار الأصول، ج 3، ص: 328

هذا- ولكن المحقّق النائيني رحمه الله في بعض تقريراته «1» قد فصّل بين الصحّة الواقعية والصحّة الظاهريّة، وقال بأنّ الصحّة الظاهرية قابلة للجعل بخلاف الصحّة الواقعية، نعم الموجود في تقريرات «2» الدورة الاولى من درسه أنّ الصحّة الظاهرية أيضاً ليست قابلة للجعل مستقلًا، بل إنّها تنتزع من حكم الشارع بالإجزاء.

ولكن الإنصاف أنّ الصحّة الظاهرية وكذا الإجزاء غير قابلة للجعل لا استقلالًا ولا تبعاً فإنّ المولى لو صرّح بأنّ المأمور به هو العشرة حتّى في حال العذر أو الشكّ فكيف يصحّ له الحكم بالصحّة والإجزاء (أي المطابقة للمأمور به وأدائه)؟ وهل هذا إلّاتناقض؟ ولو رفع يده عن بعض الاجزاء والشرائط في هذا الحال فالتطابق حاصل بلا حاجة إلى أمر آخر.

3- ومنها الطهارة والنجاسة، وقد مرّ من شيخنا الأعظم الأنصاري رحمه الله أنّهما أمران تكوينيان، وقال بعض بأنّهما من الامور المجعولة

مستقلًا، وبعض آخر بأنّهما منتزعان من الحكم بجواز الصّلاة في الشي ء الطاهر وعدم جوازها في النجس.

والحقّ أنّ لهما أيضاً أقساماً مختلفة: فقسم منهما أمر تكويني كان موجوداً في العرف قبل الشرع كطهارة المطر وقذارة البول والغائط، وأمضاهما الشارع المقدّس، وقسم ثانٍ منهما أمر تكويني أيضاً، ولكن لم يكن معروفاً واضحاً عند العرف، بل كشف عند الشارع كنجاسة عرق الجنب من الحرام على القول بها أو نجاسة بول الجلالة وغائطها، فهذان القسمان أمران تكوينيان أمضاهما الشارع وليسا مجعولين مطلقاً، وقسم ثالث يكون ظاهرياً منشأه الطهارة أو النجاسة المعنوية كنجاسة الكافر التي منشأها كفر الكافر ونجاسته المعنوية، ولعلّ من هذا القسم نجاسة الخمر بل وعلى احتمالٍ نجاسة عرق الجنب من الحرام على القول بها. فهذا القسم أيضاً أمر تكويني معنوي.

اللهمّ إلّاأن يقال: إنّ نجاسة الكافر تنتزع من حكم الشارع بالاجتناب عنه وعن سؤره، فتكون مجعولة بالتبع ومن الامور الانتزاعية، ولكنّه خلاف ظواهر الأدلّة.

4- ومنها الرخصة والعزيمة، وقد يتوهّم إنّها من الأحكام الوضعيّة، لكن الصحيح عدم كونهما لا من الأحكام الوضعيّة نفسها ولا منتزعة عنها بل إنّهما مجرّد إسمين وإصطلاحين لأحد

انوار الأصول، ج 3، ص: 329

الأحكام الخمسة في حالتين من الحالات، فإنّ العزيمة عنوان مصطلح عند الفقهاء لإباحة الترك مع حرمة الفعل كجواز ترك الصيام في السفر أو جواز ترك صلاة الجمعة في عصر الغيبة على بعض الأقوال، كما أنّ الرخصة أيضاً عنوان مصطلح عند الفقهاء لإباحة الترك مع إباحة الفعل، نظير جواز ترك الصيام في الحضر أو جواز ترك صلاة الجمعة في عصر الغيبة على قول بعض.

5- ومنها المناصب كالولاية على الوقف أو على الصغير أو على الأمة وكولاية القضاء والوصاية والوكالة والنيابة، ولا شكّ في أنّها من

الامور الوضعيّة التي يتعلّق بها الوضع والإنشاء، فالشارع يجعل الإنسان وليّاً أو قاضياً أو وكيلًا، فهى مجعولة مستقلًا وبالأصالة كما يحكم به الوجدان.

اللهمّ إلّاأن يقال: إنّ الولاية على الصغير والقيمومة عليه مثلًا تنتزع من حكم الشارع بجواز تصرّفات الولي في أموال الصغير.

ثمّ إنّ اطلاق الحكم بما له من المعنى المعروف عند الفقهاء على الولاية وكذا غيرها من أنواع المناصب وكونها من الأحكام الشرعيّة مشكل جدّاً (وإن كانت من الامور الوضعيّة المجعولة) سيّما في ما إذا كانت جزئية شخصيّة كالولاية المجعولة لشخص خاصّ على منصب خاصّ، لأنّ الأحكام كلّية، والجزئيّة والتشخّص من خصوصيات المصاديق.

وإن شئت قلت: إنّ كون هذه المناصب في كثير من الموارد جزئية شاهد على عدم صحّة اطلاق الحكم عليها.

6- ومنها الملكيّة والزوجيّة والحرّية والرقّية ونحوها وكذلك الحقوق كحقّ الشفعة وحقّ التحجير، فهل هى مجعولة بالأصالة، أو أنّها منتزعة من مجموع من الأحكام التكليفية كجواز البيع والأكل وسائر التصرّفات بالإضافة إلى الملكيّة؟

الصحيح إمكان كلا الوجهين عقلًا، لكن الوجدان حاكم على الأوّل، أي إنّها مجعولة بالأصالة، لأنّ لازم الوجه الثاني أنّ البائع مثلًا في قوله «ملّكتك» يكون ناظراً إلى الأحكام الكثيرة المتنوّعة التكليفيّة المترتّبة على الملكيّة، وهذا بعيد عن الفهم العرفي جدّاً، ومخالف للوجدان عند إنشائها، والشاهد على ما ذكرنا ما مرّ من أنّ هذه الامور إنعكاسات من امور تكوينيّة يشبهها في عالم الخارج وأنّ الذهن يرسم أشكالًا فرضيّة لما في الخارج، فهى مجعولة

انوار الأصول، ج 3، ص: 330

بالأصالة، وموضوعة مستقلًا من ناحية الذهن بالمقايسة مع الخارج، ففي الملكيّة يجعل صورة فرضية للسلطنة على شي ء كسلطنة الإنسان على أعضائه وجوارحه.

7- ومنها الحجّية في باب الأمارات وغيرها من الحجج الشرعيّة والعقلائيّة، كحجّية خبر الواحد.

والتحقيق في هذا القسم

مبنى على ملاحظة المباني المختلفة في باب الحجّية، ولذلك نقول:

لو كان المبنى أنّ الحجّية عبارة عن جعل حكم مماثل فمعنى حجّية خبر الواحد الدالّ على وجوب صلاة الجمعة أنّ الشارع جعل وجوباً ظاهرياً طريقيّاً لصلاة الجمعة مماثلًا لما في الواقع، فلا إشكال في أنّها حينئذٍ حكم تكليفي إذا كان الخبر دالًا على الحكم التكليفي، وحكم وضعي إذا كان الخبر دالًا على الحكم الوضعي لأنّ الحجّية حينئذٍ عبارة عن نفس الحكم المماثل المجعول.

ولو قلنا بأنّها عبارة عن المنجزية والمعذرية، أي أنّ إصابة الأمارة الواقع كانت منجّزة وإن أخطأت كانت عذراً، فيمكن أن يقال: أنّها من الأحكام الوضعيّة المجعولة بالأصالة لأنّ كونها مجعولة حينئذٍ ممّا لا ريب فيه، كما أنّ عدم كونها من الأحكام الخمسة التكليفيّة أيضاً ظاهر، فينطبق عليها تعريف الحكم الوضعي.

ولو قلنا بأنّها بمعنى إلغاء احتمال الخلاف فإمّا أن يكون المراد منه حينئذٍ الغاء الاحتمال بحسب الاعتقاد، أي تبديل صفة الظنّ باليقين فهو أمر محال غير معقول لأنّه أمر تكويني ليس في اختيار المكلّف، ولا يحصل بسبب الإنشاء، وأمّا أن يكون المراد إلغاء الاحتمال بحسب العمل فهو يرجع إلى الحكم التكليفي بالعمل، لأنّ معنى «الغ احتمال الخلاف» حينئذٍ «افعل هذا العمل وامش في مقام العمل طبقاً لمؤدّي الأمارة» وهو في الواقع يرجع إلى المعنى السابق، وهو إنشاء الحكم المماثل.

وهيهنا مبنى رابع للمحقّق النائيني، وهو ما مرّ منه في مبحث الأمارات من أنّ الحجّية عبارة عن جعل صفة العلم للظنّ، فبناءً عليه تكون الحجّية أيضاً من الأحكام الوضعيّة المجعولة بالأصالة كما لا يخفى.

فظهر ممّا ذكرنا أنّ ما فعله المحقّق الخراساني رحمه الله من جعله الملكية ونحوها في عرض المناسب (أوّلًا) وجعله الحجّية في عرض الملكيّة والمناصب

من دون أن يفصل بين المذاهب المختلفة في معنى الحجّية (ثانياً) في غير محلّه.

انوار الأصول، ج 3، ص: 331

بقي هنا شي ء:

وهو ما يترتّب على هذا البحث من الثمرة في باب الاستصحاب:

وهى عبارة عن جريان الاستصحاب في الأحكام الوضعيّة على بعض المباني وعدم جريانه على بعض آخر، فما منها من الامور التكوينيّة كالصحّة والفساد (فإنّ الصحّة عبارة عن المطابقة مع المأمور به، وهى أمر خارجي تكويني كما مرّ توضيحه) فلا يمكن استصحابه، كما لا يمكن استصحاب أثره وهو الاجزاء وإسقاط الإعادة والقضاء، لأنّه أمر عقلي، والاستصحاب يجري فيما إذا كان المستصحب أمراً شرعياً أو ذا أثر شرعي.

وما كان منتزعاً من الامور التكليفيّة كالجزئيّة والشرطيّة فلا إشكال في جريان الاستصحاب فيه باعتبار منشأ انتزاعه، فإذا شككنا في بعض الأحوال في جزئية السورة مثلًا نستصحب وجوب السورة ونثبت بقاء الأمر المتعلّق بها بلا ريب.

وينبغي هنا ذكر ما مرّ من الشيخ الأعظم رحمه الله من مثال ضمان الصبي فإنّه قال: «إنّ معنى قولنا «إتلاف الصبي سبب لضمانه» أنّه يجب عليه غرامة المثل أو القيمة إذا إجتمع فيه شرائط التكليف، فإذا خاطب الشارع البالغ العاقل المؤسر بقوله «أغرم ما أتلفته في حال صغرك» إنتزع من هذا الخطاب معنى يعبّر عنه بسببيّة الإتلاف للضمان» وحاصله أنّ ضمان الصبي حكم وضعي ينتزع من الحكم التكليفي التعليقي.

ولا يخفى ما يرد عليه من أنّه كيف ينتزع الحكم الوضعي الفعلي من حكم تكليفي تعليقي؟

(لأنّ الأحكام التكليفية تعليقية بالنسبة إلى الصبي) فإمّا أن يقول بعدم ضمان الصبي في حال صغره فهو مخالف لظاهر كلمات القوم والأدلّة، ولا نظنّ أن يلتزم به أحد، وإمّا يقول بكونه ضامناً فعلًا، وحينئذٍ لابدّ من انتزاعه عن حكم غير فعلي، وهو كما ترى.

وما كان منها من الامور المجعولة بالأصالة كالملكية والوكالة

وغيرهما فلا شكّ في جريان الاستصحاب فيه.

ثمّ إنّ للمحقّق الخراساني رحمه الله في ذيل هذا التنبيه إشكالًا وجواباً لا يخلو ذكرهما عن فائدة.

أمّا الإشكال فحاصله: أنّ الملكيّة كيف تكون من الأحكام الوضعيّة والاعتبارات الحاصلة بالجعل والإنشاء، التي هى من الخارج المحمول، أي ليس بحذائها شي ء في الخارج انوار الأصول، ج 3، ص: 332

سوى منشأ انتزاعها، مع أنّ الملك هو إحدى المقولات المحمولات بالضميمة، أي التي بحذائها شي ء في الخارج، فإنّ مقولة الملك هى نسبة الشي ء إلى ما يحويه، والحالة الحاصلة له من ذلك، كالتختّم والتعمّم والتقمّص؟

وأمّا الجواب فحاصله: إنّ الملك مشترك لفظي يطلق على المقولة التي يعبّر عنها بالجدة تارةً، ويطلق على الإضافة التي قد تحصل بالعقد وقد تحصل بغيره (من إرث ونحوه) اخرى، فالذي هو من الأحكام الوضعيّة والاعتبارات الحاصلة بالجعل والإنشاء ويكون من الخارج المحمول، هو الملك بالمعنى الثاني، والذي هو من الأعراض المتأصّلة ويكون من المحمولات بالضميمة (أي التي لا تحصل بالجعل والإنشاء) هو الملك بالمعنى الأوّل، ومنشأ الإشكال إشتراكه اللفظي.

أقول: قد حاول بعض الأعلام في مقابل المحقّق الخراساني رحمه الله إثبات كون الملك مشتركاً معنوياً فقال بأنّه وضع لمطلق إحاطة شي ء على شي ء، وأورد عليه من جانب بعض آخر أنّ الإحاطة الموجودة في مثل التختّم عبارة عن إحاطة الملك على المالك، بينما الإحاطة الموجودة في الملك القانوني الاعتباري عبارة عن إحاطة المالك على الملك، فهما نوعان من الإحاطة، ولا قدر جامع بينهما.

ولكن لقائل أن يقول: إنّ القدر الجامع هو عنوان الإحاطة الأعمّ من إحاطة المالك على الملك وإحاطة الملك على المالك.

بل الصحيح أن يقال: إنّه قد وقع الخلط بين المعنى اللغوي والمعنى المصطلح في الفلسفة، فإنّ الملك في اللغة ليس بمعنى الإحاطة،

بل أنّه عبارة عن سلطة مطلقة قانونيّة تحصل للمالك على ملكه بحيث يجوز له أنواع التصرّف، وهذا المعنى لا يوجد في مثل التختّم والتقمّص كما لا يخفى، وبالجملة لابدّ من أخذ المعنى اللغوي من كتب اللغة وأخذ المعنى المصطلح من أهل الاصطلاح، ولا يصحّ الخلط بينهما، والمشترك اللفظي ما يكون له معنيان مختلفان عند أهل اللغة، كما أنّ المشترك المعنوي ما يكون له قدر جامع عندهم أيضاً، لا بضمّ اللغة مع الاصطلاح، والعجب من المحقّق الخراساني رحمه الله حيث وقع في هذا الخلط، مع أنّه حاول أن يمنع من وقوع الخلط بين التشريع والتكوين.

ثمّ إنّه قد مرّ سابقاً أنّ الملكية في مالكية الباري تعالى لعالم الوجود وإن لم تكن من قبيل انوار الأصول، ج 3، ص: 333

السلطة القانونيّة الاعتباريّة (بل إنّها عبارة عن إحاطته تعالى على ما سواه، التي توجب أن يستفيض العالم منه فيض الوجود آناً فآناً) فيكون اطلاق المالك عليه مجازاً، إلّاأنّه ليس على حدّ سائر المجازات التي تكون قنطرة إلى الحقيقة، بل إنّه فوق الحقيقة، وتكون الحقيقة فيه قنطرة إلى مثل هذا المجاز، ومن هنا يظهر الإشكال في التقسيم الذي يدور على بعض الألسن من أنّ للملكيّة بالمعنى الثاني أنواعاً ثلاثة:

أحدها: الملكيّة الحاصلة من الإضافة الإشراقيّة (وهى إضافة الخالق إلى خلقه).

ثانيها: الملكيّة الحاصلة من الإضافة الحاصلة من ناحية التصرّف مثل ملكيّة الراكب للفرس.

ثالثها: الملكية الاعتباريّة القانونيّة الحاصلة من ناحية الاعتبار (انتهى).

هذا، مع ما فيه من الإشكال في اطلاق الملك على مجرّد التصرّف فإنّ هذا أيضاً مجاز قطعاً، فلا يقال لراكب الفرس أنّه مالك له إذا كان الفرس لغيره.

التنبيه الثاني: اعتبار فعلية اليقين والشكّ في الاستصحاب

فإذا تيقّن بالحدث فشكّ وجرى استصحاب الحدث وصار محكوماً بكونه محدثاً شرعاً ثمّ غفل وصلّى

بطلت صلاته، ولا تنفعه قاعدة الفراغ أصلًا، لأنّ مجراها الشكّ الحادث بعد الفراغ لا الموجود من قبل، وأمّا إذا تيقّن بالحدث ثمّ غفل وصلّى واحتمل أنّه قد تطهّر قبل الصّلاة بعد حدثه المتيقّن صحّت صلاته لقاعدة الفراغ ولأنّ الشكّ في الحدث من قبل الصّلاة لم يكن فعلياً حتّى يحكم بالحدث من قبل فتبطل صلاته، وإن كان بحيث لو التفت لشكّ.

وذلك لأنّ الشكّ واليقين في أدلّة الاستصحاب ظاهران في الشكّ واليقين الفعليين، بل إنّه كذلك في جميع العناوين المأخوذة في أدلّة الأحكام وغيرها فإنّها ظاهرة في مصاديقها الفعلية كعنوان المجتهد والعادل، بل يمكن أن يقال بصحّة سلبها عن مصاديقها التقديرية.

إن قلت: المعروف كون اليقين طريقاً إلى الواقع، وأنّه ليس لصفة اليقين موضوعيّة، وكذلك الشكّ، لأنّه ليس أكثر من عدم اليقين.

قلنا: أنّه كذلك، ولكن في باب الاستصحاب قامت القرينة على الموضوعيّة، نظير باب انوار الأصول، ج 3، ص: 334

الشهادات، لأنّ المستظهر من أدلّة الاستصحاب أنّ المعتبر هو الثبوت العلمي النفساني لا الثبوت الواقعي.

التنبيه الثالث: جريان الاستصحاب فيما ثبت بالأمارة

لا ريب في أنّه لا فرق في جريان الاستصحاب بين أن يكون المستصحب محرزاً باليقين الوجداني أو بمحرز تعبّدي كالأمارات، فلو قامت أمارة على الطهارة أو العدالة ثمّ شككنا في بقائها فلا إشكال في جريان استصحابها، مع أنّ الأمارة من الأدلّة الظنّية ولا توجب اليقين الوجداني.

هذا- مع أنّ الظاهر من أدلّة الاستصحاب إنّما هو اليقين الوجداني، نعم حجّية الأمارة يقينية بالوجدان ولكنّها لا توجب اليقين بالواقع، لأنّ معناها إنّه لو أصابت الأمارة الواقع كانت منجّزة، ولو أخطأت كانت عذراً، فلم يحصل اليقين بالواقع، مع أنّه أحد ركني الاستصحاب الظاهر من أدلّة الاستصحاب اليقين بالواقع لا اليقين بالحجّية فإنّه لا يراد استصحاب الحجّية لعدم الشكّ فيها.

إن

قلت: اليقين بالحكم الظاهري يكفي في الاستصحاب وهو حاصل في المقام.

قلنا: أنّه مبنى على القول بجعل الحكم المماثل الذي لا نقول به.

هذا كلّه هو بيان الإشكال، وقد ذكر لحلّه طرق عديدة:

1- ما ذكره المحقّق الخراساني رحمه الله وحاصله: أنّ الاستصحاب ممّا يتكفّل بقاء الحكم الواقعي على تقدير ثبوته، فتكون الحجّة على ثبوته حجّة أيضاً على بقائه، لما ثبت من الملازمة بين الثبوت والبقاء بالاستصحاب، نظير ما إذا قام الدليل الشرعي على طلوع الشمس فيكون دليلًا على وجود النهار، أيضاً بعد ما ثبتت الملازمة بين طلوع الشمس ووجود النهار غايته أنّ الملازمة في المثال وجدانيّة وفي المقام تعبّديّة.

وأورد عليه أوّلًا: بأنّه معارض مع ما مرّ منه نفسه من اعتبار فعلية اليقين «فوقع التهافت بين ما اختاره في التنبيه الأوّل من اعتبار فعليّة الشكّ واليقين في الاستصحاب وبين ما اختاره في التنبيه الثاني من الإكتفاء في صحّة الاستصحاب بالشكّ في بقاء شي ء على تقدير

انوار الأصول، ج 3، ص: 335

ثبوته وإن لم يحرز ثبوته ... وذلك لأنّ لازم القول باعتبار فعلية اليقين والشكّ هو أخذهما في موضوعه، ولازم ما اختاره في التنبيه الثاني هو عدم أخذهما فيه أو لا أقلّ من عدم أخذ اليقين فيه» «1».

ولكن يرد عليه: أنّه وقع الخلط بين الموضوعيّة والطريقيّة وبين الفعليّة والتقديريّة، فإنّ البحث في المقام في أنّ اليقين المأخوذ في أدلّة الاستصحاب طريقي لا موضوعي بينما البحث في التنبيه السابق كان في أنّ هذا اليقين الطريقي يعتبر أن يكون فعليّاً، وبعبارة اخرى: يكون البحث في المقام في أنّ اليقين المعتبر فعليته هل أخذ في أدلّة الاستصحاب بعنوان الموضوع، أو أنّه طريق إلى الواقع؟ أي هل المعتبر هو الثبوت الواقعي أو المعتبر صفة اليقين،

فلا تناقض بين التنبيهين كما لا يخفى.

وثانياً: بما أفاده المحقّق الأصفهاني رحمه الله من أنّ ظاهر أدلّة الاستصحاب الثبوت العنواني المقوّم لصفة اليقين لا الثبوت الواقعي «2».

ولكن لنا أن نقول: أنّ ظاهر أدلّة الاستصحاب أخذ صفة اليقين والشكّ في موضوع الاستصحاب كركنين له.

2- ما ذكره المحقّق الأصفهاني رحمه الله أيضاً في مقام حلّ الإشكال وحاصله: أنّ المراد من اليقين في أدلّة الاستصحاب هو مطلق المنجّز، يعني «كلّ قاطع للعذر» وهذا له مصداقان:

القاطع للعذر عقلًا وهو اليقين الوجداني، والقاطع للعذر شرعاً وهو الأمارة، ومفاد أدلّة الاستصحاب هو إيجاد الملازمة بين المنجّز على الحدوث والمنجّز على البقاء «3».

3- ما أفاده المحقّق الأصفهاني رحمه الله أيضاً وهو «إرادة مطلق الحجّة- القاطعة للعذر- من اليقين، لكن جعل منجّز الثبوت منجّزاً للبقاء كما هو ظاهر الأخبار، لأنّ مفادها إبقاء اليقين- أي المنجّز- لا التمسّك باحتمال البقاء، ويتعيّن حينئذٍ كون الاستصحاب حكماً طريقياً» «4».

أقول: هيهنا نكات يتّضح بها الحقّ في المسألة:

انوار الأصول، ج 3، ص: 336

الاولى: أنّه لا ريب في جريان الاستصحاب في ما ثبت بالأمارات، وإنّما المهمّ حلّ ما اورد عليه من الإشكال صناعياً.

الثانية: أنّه لابدّ من حلّ المشكلة على المباني المختلفة في باب الأمارات، فنقول: أمّا بناءً على مبنى جعل الحكم المماثل لمؤدّى الأمارة فلا موضوع للإشكال، لأنّ قيام الأمارة حينئذٍ يوجب اليقين بالحكم الظاهري الطريقي وجداناً.

وكذلك بناءً على القول بأنّ مفاد الأمارة إلغاء احتمال الخلاف الذي قد مرّ أنّه يرجع إلى جعل الحكم المماثل.

وكذلك بناءً على مبنى المحقّق النائيني رحمه الله من جعل صفة العلم لأنّ اليقين حاصل حينئذٍ بتعبّد من الشارع.

فيختصّ الإشكال حينئذٍ بالقول بأنّ مفاد الأمارة هو جعل المنجّزيّة، والمعذّريّة وحيث إنّ المختار هو جعل الحكم المماثل

فنحن في فسحة من ناحية هذا الإشكال.

الثالثة: أنّ لليقين معنيين: اليقين المنطقي وهو ما لا يوجد فيه احتمال الخلاف، واليقين العرفي، ولا ريب في أنّ الثاني هو الموضوع في باب الاستصحاب وغيره ممّا أخذ في موضوعه اليقين كما مرّ بيانه تفصيلًا في محلّه (مبحث حجّية خبر الواحد) كما لا ريب في أنّ هذا النوع من اليقين حاصل في باب الأمارات، فتنحلّ المشكلة من الأساس في جريان الاستصحاب في باب الأمارات، كما تنحلّ المشكلة في كثير من أبواب الشهادات، وكذا في مسألة قيام الأمارات مقام العلم المأخوذ في الموضوع وأشباهها.

الرابعة: أنّه لو أغمضنا عن جميع ذلك فلا أقلّ ممّا أفاده المحقّق الأصفهاني رحمه الله من الطريقين المذكورين، والإنصاف أنّ كليهما في محلّه، نعم أنّه إستظهر من أدلّة الاستصحاب الطريق الثاني مع أنّ الظاهر منها هو الأوّل.

وحاصل الكلام أنّ اليقين المأخوذ في لسان أدلّة الاستصحاب هو بمعنى مطلق الحجّة، ومفاد الاستصحاب جعل الملازمة بين حجّية الاستصحاب وحجّية تلك الأمارة.

التنبيه الرابع: أقسام استصحاب الكلّي
اشارة

والمشهور عند من تأخّر عن الشيخ الأعظم الأنصاري رحمه الله أنّه على ثلاثة أقسام، وذكر بعض من قارب عصرنا قسماً رابعاً فصارت الأقسام أربعة:

الأوّل: أن يكون الشكّ في بقاء الكلّي من جهة الشكّ في بقاء الفرد الذي كان الكلّي متحقّقاً في ضمنه كما إذا علم بوجود الإنسان في ضمن زيد، ثمّ شكّ في بقاء الإنسان من جهة الشكّ في بقاء زيد، فلا إشكال في جواز استصحاب الإنسان وترتيب أثره عليه كما جاز استصحاب شخص زيد وترتيب نفس الأثر عليه فإنّ أثر الكلّي أثر الفرد أيضاً ولا عكس، ولذا لو ترتّب على الفرد بخصوصه أثر جاز استصحاب الفرد دون الكلّي.

والمثال الشرعي لهذا القسم ما إذا أجنب زيد وتيقّن بالجنابة

وبتبعها بكلّي الحدث ثمّ شكّ في رفعها بالغسل فلا إشكال في جريان استصحاب كلّ من الجنابة والحدث، ومقتضى الثاني هو عدم صحّة صلاته وما هو مشروط بالطهارة، وهو بعينه مقتضى الأوّل أيضاً مضافاً إلى عدم جواز مكثه في المسجد مثلًا.

الثاني: أن يكون الشكّ في بقاء الكلّي من جهة تردّد الفرد الذي كان الكلّي متحقّقاً في ضمنه بين ما هو مرتفع قطعاً، وما هو باقٍ جزماً، كما إذا علم إجمالًا بوجود طائر في الدار، ولم يعلم أنّه العصفور أو الغراب، ثمّ مضى مقدار عمر العصفور دون الغراب، فإن كان الطائر عصفوراً فقد مات وإن كان غراباً فهو باقٍ فيستصحب كلّي الطائر الجامع بينهما.

والمثال الشرعي لهذا القسم ما إذا علم إجمالًا بنجاسة الثوب ولم يعلم أنّها من الدم أو البول؟ فإن كانت النجاسة من الدم فقد زالت بالغسل مرّة بالماء القليل وإن كانت النجاسة من البول فهى باقية لا تزول إلّابالمرّة الثانية، فيستصحب كلّي النجاسة المشترك بين البول والدم.

الثالث: أن يكون الشكّ في بقاء الكلّي من جهة الشكّ في وجود فرد آخر بعد القطع بارتفاع الفرد الأوّل الذي كان الكلّي متحقّقاً في ضمنه، وهذا على قسمين:

فتارةً يقع الشكّ في وجود فرد آخر مقارن لوجود الفرد الأوّل، واخرى يقع الشكّ في وجود فرد آخر مقارن لارتفاع الفرد الأوّل.

كما إذا علم بوجود الإنسان في الدار في ضمن وجود زيد، ثمّ حصل القطع بخروج زيد عنها وشكّ في وجود عمرو مقارناً لوجود زيد في الدار أو مقارناً لخروجه عنها.

انوار الأصول، ج 3، ص: 338

والمثال الشرعي له ما إذا علم بحدوث الحدث الأصغر ثمّ حصل اليقين بإرتفاعه بالوضوء وشكّ في حدوث الحدث الأكبر مقارناً لحدوث الأصغر أو مقارناً لارتفاعه.

الرابع: ما ذكره بعض

من قارب عصرنا، وحاصله ما إذا علمنا بوجود فرد بعنوان، خاصّ ثمّ علمنا بوجود مصداق معنون بعنوان آخر ولكن لا ندري أنّ العنوانين منطبقان على مصداق واحد أولهما مصداقان مختلفان؟

وهذا مثل ما إذا علمنا بوجود زيد في الدار، ثمّ سمعنا صوت القرآن من الدار لا ندري هو زيد أو عمرو؟ ثمّ خرج زيد من الدار، فإن كان القارى ء زيداً فقد خرج، وإن كان غيره فهو باقٍ، فهل يمكن استصحاب بقاء القارى ء للقرآن في الدار- أي بهذا العنوان لا بعنوان أنّه زيد أو عمرو- أم لا؟

ومثاله الشرعي ما إذا علم إنسان بأنّه قد إحتلم ثمّ إغتسل بعد ذلك، ثمّ رأى بعد ذلك اليوم آثار المني في ثوبه لا يدري أهو من الاحتلام السابق، أو من إحتلام جديد؟ فهل يمكن الإشارة إلى خصوص ذلك الأثر، فيقال: أنّ الجنابة كانت حاصلة مقارنة لخروج هذا، ولا ندري أنّه اغتسل بعد خروجه أم لا؟ فيستصحب الجنابة التي حصلت مقارنة له لا خصوص الجنابة الحاصلة في أمس، فإنّها قد ارتفعت قطعاً، ولا خصوص الجنابة الحاصلة في اليوم فإنّها مشكوك حدوثها.

والفرق بينه وبين الكلّي في القسم الثالث واضح فإنّ تعدّد الفردين هناك قطعي، فالحدوث بسبب واحد منهما والبقاء بسبب فرد آخر، ولكن التعدّد هنا غير ثابت لإحتمال إنطباق عنوان زيد وقارى ء القرآن على شخص واحد.

هذه هى الأقسام الأربعة من الاستصحاب الكلّي.

أمّا القسم الأوّل: فلا إشكال في جريان استصحاب الكلّي فيه (كما مرّت الإشارة إليه) كما يجري استصحاب الفرد أيضاً.

ولكن الكلام في أنّ استصحاب الفرد هل يغني عن استصحاب الكلّي مطلقاً، أو لا يكفي كذلك أو فيه تفصيل؟ والاحتمالات أربعة:

انوار الأصول، ج 3، ص: 339

1- كفاية استصحاب الفرد عن استصحاب الكلّي، واستدلّ لها باتّحاد

الكلّي مع فرده، فيكفي استصحاب الفرد لترتّب جميع آثار الكلّي، وهذا ما ذهب إليه أكثر المحقّقين، وهو المختار.

2- عدم الكفاية، من باب اختلاف الحيثيتين: حيثية الحدث مثلًا وحيثية خصوص الجنابة، فإنّهما عنوانان، لكلّ واحد منهما آثار غير آثار الآخر.

3- التفصيل بين الفرد الساري وصرف الوجود، والمراد من الفرد الساري هو الأفراد الداخلة تحت العموم الاستغراقي، فإنّ حكم الجنابة عام سارٍ في جميع أفرادها، فيغنينا استصحاب الفرد عن استصحاب الكلّي، بخلاف صرف الوجود، كما في الاستطاعة للحجّ والنصاب في الزكاة، فإنّ صرف وجود الاستطاعة يكفي لوجوب الحجّ، كما أنّ صرف وجود النصاب يكفي لوجوب الزكاة، فلا يغني حينئذٍ استصحاب الفرد عن استصحاب الكلّي.

4- التفصيل بين الاستصحاب في الشبهة الحكميّة والاستصحاب في الشبهة الموضوعيّة، فيغني استصحاب الفرد عن استصحاب الكلّي في الاولى دون الثانية، لأنّ الشارع في مورد الاولى يجعل حكماً مماثلًا للواقع، ففي مورد استصحاب وجوب صلاة الجمعة مثلًا يجعل وجوباً ظاهرياً مماثلًا لوجوبها الواقعي، بخلافه في الثانية، حيث إنّ المستصحب فيها هو الموضوع لا الحكم.

إذا عرفت هذا فنقول: الصحيح من هذه الوجوه إنّما هو القول الأوّل كما أشرنا، فلا ثمرة لإستصحاب الكلّي في هذا القسم لأنّ الكلّي لا يكون مفترقاً عن فرده، لما ثبت في محلّه أنّ الحقّ اتّحاد الكلّي الطبيعي مع افراده، وأنّ وجود الطبيعي عين وجود افراده، وحينئذٍ آثار الكلّي تترتّب أيضاً على فرده، فمن تيقّن بالجنابة ثمّ شكّ في الطهارة عنها يستصحب بقاء الجنابة ويرتّب عليها عدم المكث في المسجد، الذي هو من آثار فرد الجنابة وعدم صحّة صلاته الذي هو من آثار مطلق الحدث، ولا حاجة إلى استصحاب كلّي الحدث.

أمّا القول الثاني: (وهو عدم كفاية استصحاب الفرد عن استصحاب الكلّي) فاستدلّ

له المحقّق الأصفهاني رحمه الله في تعليقته بما حاصله: أنّ مقتضى الدقّة أنّ التعبّد بالشي ء لا معنى له إلّا التعبّد بأثره، ولا يعقل التعبّد بشي ء والتعبّد بأثر غيره «1».

انوار الأصول، ج 3، ص: 340

والجواب عنه أوّلًا: أنّ تعدّد الكلّي والفرد إنّما هو في الحيثية، ولا إشكال في أنّ التعدّد الحيثي أمر ذهني يحصل بالتحليل العقلي لا في الخارج لأنّ الحقّ أنّ وجود الطبيعي في الخارج عين وجود افراده كما مرّ.

وثانياً: سلّمنا كونهما متعدّداً في الخارج بالدقّة العقليّة ولكنّهما واحد بنظر العرف فإنّ العرف يرى وحدة بين حيثية الحدث وحيثية الجنابة، ولا إشكال في أنّ المعتبر في الاستصحاب إنّما هو الوحدة العرفيّة.

والعجب من المحقّق الخراساني رحمه الله حيث إنّه أفاد في تعليقته على الرسائل عكس ما أفاد هنا، حيث قال هناك: «إنّ الكلّي والفرد بالنظر العرفي إثنان، يكون بهذا النظر بينهما التوقّف والعلّية دون الاتّحاد والعينية، فلا يكون التعبّد بالفرد عرفاً تعبّداً بالكلّي بهذا النظر وهو المعتبر في هذا الباب» «1».

فإنّه قد مرّ أنّ المسألة على العكس، أي أنّ حيثية الكلّي وإن كانت غير حيثيّة الفرد بالدقّة العقليّة ولكنّهما عند العرف واحد.

وأمّا القول الثالث: (وهو التفصيل بين الوجود الساري وصرف الوجود) فاستدلّ له بأن المستصحب الكلّي إذا كان وجوده سارياً في افراده ككلّي الحدث في ما إذا قيل: إن كنت محدثاً فلا تصلّ (حيث إنّ الحكم بعدم جواز الصّلاة تعلّق بكلّي الحدث ومنه سرى إلى أفراده) فإنّه يكون حينئذٍ من قبيل القضيّة الحقيقيّة، وقد ثبت في محلّه «أنّ الحكم في المحصورة أيضاً جرى على الطبيعة بحيث قد سرى افرادها إذ لو على أفرادها لم يمكن إذ ليس إنتهت أعدادها» «2» ومعناه أنّ الكلّي متّحد مع فرده فاستصحاب

فرده مغنٍ عن استصحاب نفسه، وأمّا إذا كان من قبيل صرف الوجود كمقدار النصاب في الزكاة أي عشرين مثقالًا مثلًا (حيث إنّ الزكاة تجب بمجرّد تحقّق صرف الوجود من هذا المقدار) فلا يكون حينئذٍ ناظراً إلى خصوصيّات الأفراد، أي يكون لا بشرط بالنسبة إلى الأكثر من صرف الوجود، فلا يغني استصحاب الفرد عن استصحاب الكلّي.

والجواب عنه أيضاً: اتّضح ممّا مرّ من أنّ وجود الكلّي عين وجود فرده عقلًا وعرفاً،

انوار الأصول، ج 3، ص: 341

والتعدّد بينهما إنّما هو في الوجود الذهني والتحليل العقلي، سواء كان الكلّي من قبيل الوجود الساري أو صرف الوجود.

وأمّا القول الرابع: (وهو التفصيل بين الشبهة الحكميّة والشبهة الموضوعيّة) فاستدلّ له بأنّ المختار في الشبهة الحكميّة هو جعل الحكم الممثال، ولا إشكال في أنّ الحكم المجعول كالوجوب مصداق للفرد ولكلّي الطلب معاً، فيغني استصحاب الوجوب عن استصحاب كلّي الطلب، بخلاف الشبهة الموضوعيّة كالجنابة، حيث إنّ حيثية الجنابة غير حيثية الحدث.

والجواب أيضاً اتّضح ممّا مرّ من أنّ تعدّد الحيثيتين إنّما هو في الذهن لا في الخارج.

أمّا القسم الثاني: فقد مرّ مثاله الشرعي والعرفي، ومن أمثلته الشرعيّة ما إذا علم إجمالًا بحدوث البول أو المني ولم يعلم الحالة السابقة، ثمّ توضّأ ولم يغتسل، فإن كان الحدث من البول فقد زال، وإن كان من المني فهو باقٍ، فيستصحب كلّي الحدث المشترك بين البول والمني ويترتّب عليه الأثر المشترك كحرمة مسّ المصحف وعدم جواز الدخول في الصّلاة ونحوهما ممّا يشترط بالطهارة، فيجب عليه حينئذٍ الغسل مضافاً إلى الوضوء.

هذا إذا كان مسبوقاً بالطهارة، وأمّا لو كان مسبوقاً بالحدث الأصغر فلا يجب عليه أزيد من الوضوء لأنّه لا يعلم أنّ خروج البلل المشتبه هل أوجب له تكليفاً جديداً، أو لا؟

فيجوز له استصحاب عدم الجنابة، وأمّا استصحاب عدم الحدث الأصغر فهو غير جارٍ، لأنّ المفروض وجوده، فيجب عليه حينئذٍ الوضوء فقط.

وكيف كان فقد ذهب أكثر المحقّقين إلى حجّية هذا القسم لكن في خصوص ما إذا لم يكن أثر الكلّي مبايناً مع أثر الفرد والخصوصيّات الفردية، كما إذا علمنا إجمالًا بنجاسة الثوب ولم نعلم أنه دم أو بول، حيث إنّ أثر النجاسة بالدم وجوب الغسل مرّه وأثر النجاسة بالبول وجوب الغسل مرّتين فيجري استصحاب بقاء النجاسة بعد الغسل مرّة ويجب الغسل مرّة اخرى.

وأمّا إذا كان أثر الكلّي مبايناً مع أثر الفرد كما في المثال المشهور المذكور آنفاً (مثال البول والمني حيث إنّ أثر البول وجوب الوضوء وأثر المني وجوب الغسل وهما أثران متباينان) وكما

انوار الأصول، ج 3، ص: 342

إذا علمنا بشرب حيوان من الإناء، ودار أمره بين الكلب والخنزير، فإن كان كلباً وجب التعفير والغسل مرتين بالماء القليل، ولو كان خنزيراً وجب الغسل سبع مرّات من دون تعفير، ففي هذه الصورة لا تصل النوبة إلى استصحاب كلّي الحدث لإثبات وجوب الوضوء والغسل معاً في المثال الأوّل، ولإثبات وجوب رعاية ما إعتبر في التطهير من نجاسة الكلب والخنزير معاً في المثال الثاني، بل تجري قاعدة الاحتياط والاشتغال فقط لإثبات وجوب رعاية كلا الأثرين.

أقول: هذا- ولكن الصحيح أنّ هذا النوع من الاستصحاب ليس من مصاديق استصحاب الكلّي بل إنّه في الواقع من قبيل استصحاب الفرد المبهم، وإن شئت قلت: يجري استصحاب الفرد المبهم ويترتّب نفس ما يترتّب على استصحاب الكلّي، ففي مثال العصفور والغراب مثلًا نشير إلى ذلك الفرد من الطائر المبهم الذي دخل الدار في ساعة كذا ورآه بعينه من دون معرفة حاله، ويستصحب شخص ذلك الفرد المبهم،

ولعلّ مراد القائلين بالكلّي أيضاً ذلك.

ثمّ إنّه قد أورد على هذا القسم من استصحاب الكلّي بوجوه:

الوجه الأوّل: إختلال بعض أركان الاستصحاب فيه، لدورانه بين ما هو مقطوع الانتفاء وهو وجود الفرد القصير، وما هو مشكوك الحدوث من الأوّل، وهو الفرد الطويل المحكوم بالعدم بمقتضى الأصل.

واجيب عنه: بأنّ هذا كلّه ممّا يضرّ باستصحاب نفس الفرد الطويل أو القصير بعينه، أي استصحاب خصوصية الفرد، وأمّا استصحاب القدر المشترك بينهما فلا مانع منه وذلك لتحقّق أركانه من اليقين السابق والشكّ اللاحق وغيرهما من الامور المعتبرة في حجّية الاستصحاب.

الوجه الثاني: أنّ الشكّ في بقاء الكلّي مسبّب عن الشكّ في حدوث الفرد الطويل، فإذا إرتفع الشكّ عن حدوثه تعبّداً باستصحاب عدم حدوثه علم بعدم بقاء الكلّي تعبّداً، وذلك لحكومة الأصل السببي على الأصل المسبّبي.

وفيه أوّلًا: منع كون الشكّ في بقاء الكلّي مسبّباً عن الشكّ في حدوث الفرد الطويل لأنّ الكلّي عين الفرد خارجاً ولا تسبّب بينهما، والمعتبر في أحكام السبب والمسبّب أن تكون حادثة خارجية مسبّبة عن حادثة اخرى، ولازمه تعدّد الحادثتين.

انوار الأصول، ج 3، ص: 343

ثانياً: سلّمنا، ولكن يعتبر في حكومة الأصل السببي على المسبّبي أن يكون المسبّب من الآثار الشرعيّة للسبب، بينما تكون السببيّة والمسبّبية في المقام عقلياً على فرض قبولها.

وثالثاً: إنّا نمنع كون الشكّ في بقاء الكلّي وعدمه مسبّباً عن الشكّ في حدوث الفرد الطويل، بل أنّه مسبّب عن أنّ الحادث المعلوم حدوثه هل هو الفرد القصير المعدوم حتّى يكون الكلّي معلوم الارتفاع، أو هو الفرد الطويل حتّى يكون معلوم البقاء؟ أي الشكّ في بقاء الكلّي مسبّب عن دوران الفرد بين القصير والطويل.

وبعبارة اخرى: أنّ الكلّي ينعدم بانعدام جميع أفراده، فيكون عدم الكلّي مسبّباً عن عدم الفرد الطويل

والقصير معاً، لا مسبّباً عن خصوص عدم فرده الطويل.

وبعبارة اخرى: إنّ الكلّي ينعدم بانعدام جميع أفراده فيكون عدم الكلّي مسبّباً عن عدم فرد الطويل والقصير معاً، لا مسبّباً عن خصوص عدم فرده الطويل.

ولكنّه غير تامّ لأنّ المفروض أنّ زمان جريان استصحاب الكلّي ما إذا علمنا بإنعدام الفرد القصير، فالشكّ في بقائه ناشٍ من الشكّ في حدوث الفرد الطويل وعدمه، فإن كان الطويل حادثاً كان الكلّي باقياً، وإلّا فلا، من غير دخل لحدوث القصير وعدمه، فتدبّر جيّداً.

الوجه الثالث: أنّ من شرائط حجّية الاستصحاب وحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوكة، أي تعلّق اليقين والشكّ بشي ء واحد، وهذا في المقام غير حاصل، لأنّ وجود الكلّي ضمن أحد أفراده غير وجوده ضمن فرد آخر، فإنّ نسبة الكلّي إلى افراده نسبة الآباء إلى الأبناء، لا نسبة أب واحد إلى أبناء متعدّدين، وحينئذٍ يصير الاستصحاب من قبيل استصحاب الفرد المردّد، وهو غير حجّة.

واجيب عنه أوّلًا: بأنّه «إنّما يرد ذلك بعد تسليم كون الطبيعي مع الأفراد كذلك عرفاً لو أردنا استصحاب الفرد المردّد دون ما إذا أردنا استصحاب الكلّي، فإنّ المعلوم هو حيوان خارجي متشخّص يكون الكلّي موجوداً بوجوده، وشكّ في بقاء ذاك الحيوان بعينه فلا إشكال في جريان الأصل فيه» «1».

ويمكن الجواب عنه ثانياً: بما مرّ من أنّ هذا القسم من الكلّي في الحقيقة إلى استصحاب انوار الأصول، ج 3، ص: 344

الفرد، أي استصحاب تلك الحصّه الخاصّة المتيقّنة وإن كان بعض خصوصيّاتها مبهمة، فنقول:

أنّ الطائر الذي دخل الدار في ساعة كذا بعينه موجود الآن وإن شككنا في أنّه كان غراباً أو عصفوراً لظلمة أو شبهها.

الوجه الرابع: أنّه يرد على هذا الاستصحاب ما يرد على جريان الاستصحاب في الشبهات المفهوميّة كاستصحاب بقاء النهار في ما

إذا شككنا في أنّ النهار هل هو ما ينتهي إلى سقوط قرص الشمس أو يبقى إلى زوال الحمرة (فإنّ الاستصحاب فيه غير جارٍ لعدم الشكّ في أمر خارجي فإنّ سقوط القرص معلوم وعدم زوال الحمرة أيضاً معلوم، فالأمر دائر بين المعلومين، وإنّما الشكّ في إنطباق مفهوم النهار على أحدهما) فإنّ الأمر في المقام أيضاً دائر بين المعلومين، لأنّ الحيوان الخارجي إذا كان غراباً فهو باقٍ قطعاً، وإذا كان عصفوراً فهو معدوم قطعاً، وإنّما الشكّ في إنطباق عنوان الغراب أو العصفور عليه.

والجواب عنه واضح: لأنّ قياس المقام على الشبهة المفهومية مع الفارق، فإنّ الشكّ في الشبهة المفهوميّة إنّما هو في المعنى اللغوي، أو العرفي ولا يسري إلى الخارج أصلًا، بخلاف ما نحن فيه فإنّ الشكّ فيه في بقاء عمر الطائر خارجاً، أي بقاء نفس ذلك الحيوان المتيقّن وجوده في الخارج سابقاً.

الشبهة العبائيّة

ثمّ إنّ هيهنا شبهة سمّيت بالشبهة العبائيّة، وهى في الواقع إشكال خامس على جريان الاستصحاب في القسم الثاني من استصحاب الكلّي، ومنسوبة إلى المحقّق السيّد إسماعيل الصدر رحمه الله وحاصلها: أنّه لو علمنا بإصابة النجاسة أحد طرفي العباءة من الأيمن والأيسر ثمّ طهّرنا الطرف الأيمن فطهارته تورث الشكّ في بقاء النجاسة في العباءة، لاحتمال أن تكون النجاسة المعلومة قد أصابت الطرف الأيسر فيجري فيه استصحاب بقاء النجاسة، فإذا لاقت اليد مثلًا الطرف الأيسر كانت محكومة بالطهارة (لأنّ ملاقي بعض الأطراف في الشبهة المحصورة طاهر) أمّا إذا لاقت بعد ذلك الطرف الأيمن وجب الحكم بنجاستها مع أنّ الأيمن طاهر على المفروض، وذلك لأنّ النجاسة في العباءة باقية بحكم الاستصحاب وليست خارجة

انوار الأصول، ج 3، ص: 345

عن الطرفين، وقد لاقت اليد كليهما، فلا محيص عن القول بنجاسة اليد

بعد إصابة الطرف الطاهر، وهذا من العجائب، فلابدّ من رفع اليد عن جواز استصحاب الطهارة هنا الذي هو من قبيل استصحاب القسم الثاني من الكلّي.

وقد وقع الأعلام في حيص وبيص في حلّ هذه المشكلة.

فأجاب المحقّق النائيني رحمه الله في الدورة الاولى من خارج الاصول بجواب، وفي الدورة الثانية بجواب آخر.

أمّا الجواب الأوّل: فهو «إنّ الاستصحاب الجاري في مثل العباءة ليس من استصحاب الكلّي في شي ء لأنّ استصحاب الكلّي إنّما هو فيما إذا كان الكلّي المتيقّن مردّداً بين فرد من الصنف الطويل وفرد من الصنف القصير، كالحيوان المردّد بين البق والفيل على ما هو المعروف، بخلاف المقام فإنّ الشكّ فيه في خصوصيّة محلّ النجس مع العلم بخصوصيّة الفرد، والشكّ في خصوصيّة المكان أو الزمان لا يوجب كلّية المتيقّن، فليس الشكّ حينئذٍ في بقاء الكلّي وارتفاعه حتّى يجري الاستصحاب فيه، كما إذا علمنا بوجود زيد في الدار فانهدم الطرف الشرقي منها، فلو كان زيد فيه فقد مات بانهدامه، ولو كان في الطرف الغربي فهو حي، فحياة زيد وإن كانت مشكوكاً فيها إلّاأنّه لا مجال معه لاستصحاب الكلّي» «1».

وأورد عليه مقرّره المحقّق: بأنّ الإشكال ليس في تسمية الاستصحاب الجاري في مسألة العباءة باستصحاب الكلّي، بل الإشكال إنّما هو في أنّ جريان استصحاب النجاسة لا يجتمع مع القول بطهارة الملاقي لأحد أطراف الشبهة، سواء كان الاستصحاب من قبيل استصحاب الكلّي أو الجزئي» «2».

ولكن يمكن الدفاع عن المحقّق النائيني رحمه الله بأنّ مقصود المحقّق إنّما هو إثبات سلامة استصحاب القسم الثاني من الكلّي من الإشكال وهو حاصل بجوابه.

نعم، يمكن الإيراد عليه بأنّ قياس ما نحن فيه بمثال وجود زيد في الدار مع الفارق، لأنّ البحث في ما نحن فيه ليس

في خصوصيّة المكان وأنّ النجاسة هل وقعت في الطرف الأيمن أو الطرف الأيسر؟ بل الكلام في تنجّس العباءة (فإنّها تتنجّس بالملاقاة) وإنّ نجاستها هل هى انوار الأصول، ج 3، ص: 346

باقية ضمن فردها الأيمن أو الأيسر أو لا؟ نظير ما إذا علمنا بنجاسة كلّي الإناء ولا نعلم بوجوده ضمن الإناء الأيمن أو الإناء الأيسر، فالاستصحاب من قبيل القسم الثاني من الكلّي على مبنى القوم، وبعبارة اخرى: العباءة ليست ظرفاً للنجاسة، بخلاف مثال زيد في طرفي الدار، بل العباءة تتنجّس بنفسها ثمّ نشكّ في ارتفاع نجاستها.

وأما الجواب الثاني: فهو «إنّ الاستصحاب المدّعى في المقام لا يمكن جريانه في مفاد كان الناقصة بأن يشار إلى طرف معيّن من العباءة ويقال: إنّ هذا الطرف كان نجساً وشكّ في بقائها فالإستصحاب يقتضي نجاسته، وذلك لأنّ أحد طرفي العباءة مقطوع الطهارة والطرف الآخر مشكوك النجاسة من أوّل الأمر، وليس لنا يقين بنجاسة طرف معيّن يشكّ في بقائها ليجري الاستصحاب فيها، نعم يمكن اجراؤه في مفاد كان التامّة بأن يقال: أنّ النجاسة في العباءة كانت موجودة وشكّ في إرتفاعها فالآن كما كانت، إلّاأنّه لا تترتّب نجاسة الملاقي على هذا الاستصحاب إلّاعلى القول بالأصل المثبت» «1».

وقد ذكر له بعض الأعاظم رحمه الله مثالًا آخر وهو «أنّه لو وجب عليه إكرام عالم وكان في البيت شخصان يعلم كون أحدهما عالماً فخرج أحدهما من البيت وبقي الآخر يجري استصحاب بقاء العالم في البيت ويترتّب عليه أثره لو كان له، لكن لا يثبت كون الشخص الموجود عالماً يكون إكرامه عملًا بالتكليف»»

.ولكن يرد عليه: أنّ هذا ليس من الأصل المثبت بل هو من قبيل ضمّ الوجدان إلى الأصل، لأنّ ملاقاة اليد مثلًا بالعباءة متيقّن بالوجدان، ونجاسة العباءة

معلومة بالتعبّد فتثبت نجاسة الملاقي، وهذا نظير ما إذا تنجّس خصوص أحد طرفي العباءة ولم نعلم بطهارته بعد ذلك ولاقاه شي ء فلا إشكال في نجاسة الملاقي حينئذٍ.

وإن شئت قلت: من الآثار الشرعيّة للشي ء النجس نجاسة ملاقيه وبعد إثبات نجاسة العباءة في ما نحن فيه بإستصحاب كلّي النجاسة تترتّب عليها نجاسة ملاقيه وهو اليد.

وأمّا قياسه بمثال العالم الموجود في الدار في كلمات بعض الأعاظم قياس مع الفارق فإن تنظير المقام به إنّما يتمّ فيما إذا قلنا بنجاسة اليد بمجرّد ملاقاتها بالطرف الأوّل، أي قلنا بنجاسة

انوار الأصول، ج 3، ص: 347

ملاقي بعض أطراف العلم الإجمالي، وليس كذلك.

الجواب الثالث: ما أفاده بعض الأعلام وحاصله: أنّ هذا يكون في الواقع التحقيق العبائي لا الشبهة العبائية، أي نحكم بنجاسة الملاقي لطرفي العباءة تعبّداً من باب جريان استصحاب كلّي النجاسة في العباءة، فإنّ من آثار هذا الاستصحاب هو الحكم بنجاسة الملاقي، ولا منافاة بين الحكم بطهارة الملاقي في سائر المقامات والحكم بنجاسته في مثل المقام، للأصل الحاكم على الأصل الجاري في الملاقي، فإنّ التفكيك في الاصول كثير جدّاً، ولا تناقض في عالم التعبّد والاعتبار «1».

ويرد عليه أنّه لا يجوز مثل هذا التعبّد لجهتين.

فأوّلًا: أنّ نجاسة الملاقي من شؤون نجاسة الملاقى، وهو في المقام ليس نجساً لأنّ المفروض أنّ الطرف الثاني طاهر، وملاقي الطاهر لا يتنجّس، كما أنّ المفروض أنّه لا يحكم بنجاسة الملاقي للطرف الأوّل.

وثانياً: سلّمنا أنّه لا تناقض في عالم التعبّد عقلًا ولكن الوجدان يحكم بأنّ مثل هذا التعبّد أمر عجيب جدّاً يوجب إنصراف أدلّة الاستصحاب عنه بلا ريب، وإن شئت قلت: مثل هذا التعبّد لا يمكن إثباته بمجرّد الاطلاق، بل يحتاج إلى دليل صريح الدلالة قوي السند جدّاً.

الجواب الرابع: ما

هو الصحيح، وهو أنّ مثل هذا الاستصحاب ليس من قبيل استصحاب القسم الثاني من الكلّي، لأنّ استصحاب القسم الثاني عبارة عن استصحاب فرد واحد مجهول الصفات، أي الفرد المبهم المتيقّن وجوده في الخارج، بينما الفرد في ما نحن فيه مردّد بين فردين خارجيين، فهو نظير ما إذا علمنا بنجاسة أحد الإنائين ثمّ علمنا بإنعدام أحدهما ولا نعلم هل المعدوم هو الإناء النجس أو الإناء الطاهر؟ فلا إشكال في عدم جواز استصحاب نجاسة كلّي أحدهما في مثل ذلك، لتبدّل الموضوع الناشى ء من انعدام أحدهما في الخارج.

فإنّ المفروض في ما نحن فيه أنّ أحد الطرفين صار طاهراً قطعاً، فتبدّل عنوان «هما» ب «هو» فليس المتيقّن نجاسة كلّي أحدهما بل المتيقّن نجاسة الفرد المردّد بين ما صار طاهراً يقيناً وبين ما هو مشكوك نجاسة، فهو من قبيل استصحاب الفرد المردّد الذي لا إشكال في عدم انوار الأصول، ج 3، ص: 348

جريانه في أمثال المقام لتبدّل الموضوع.

إن قلت: فليكن إتيان الصّلاة في مثل هذا العباءة جائزاً.

قلنا: كلّا، لأنّ أحد أطراف العلم الإجمالي باقٍ على حاله بعد تنجّزه، وقد ثبت في محلّه بقاء تنجّز العلم الإجمالي بالنسبة إلى الافراد الباقية ولو بعد إنعدام بعض الأطراف، فالحكم بعدم جواز الصّلاة حينئذٍ ليس من باب استصحاب النجاسة، بل هو ناشٍ عن وجوب الاحتياط الحاصل من العلم الإجمالي، والفرق بينهما ظاهر.

أمّا استصحاب القسم الثالث: ففي حجّيته وعدم حجّيته وجوه ثلاثة:

الأوّل: عدم الحجّية مطلقاً، وهو المعروف بين الأصحاب.

الثاني: الحجّية مطلقاً، ولا نعرف من يقول به بالاسم والعنوان.

الثالث: تفصيل شيخنا الأعظم الأنصاري رحمه الله في فرائده بين ما إذا إحتمل وجود الفرد الآخر مقارناً لخروج الفرد الأوّل، وما إذا احتمل وجوده مقارناً لوجود الفرد الأوّل، فهو

حجّة في الثاني دون الأوّل.

والصحيح هو القول الأوّل، ودليله واضح، لإعتبار وحدة متعلّق اليقين والشكّ في الاستصحاب الذي يعبّر عنه بلزوم اتّحاد القضية المتيقّنة والقضية المشكوكة، وهى مفقودة في المقام لأنّ متعلّق اليقين فيه إنّما هو وجود الإنسان ضمن زيد، بينما المشكوك هو وجود الإنسان ضمن عمرو، وقد ثبت في محلّه أنّ وجود الكلّي الطبيعي في الخارج يكون متعدّداً بتعدّد أفراده وإن كان متّحداً معها في الذهن، ولا إشكال في أنّ المستصحب في ما نحن فيه إنّما هو وجود الكلّي في الخارج لا الموجود في الذهن.

واستدلّ الشيخ الأعظم رحمه الله لجريان الاستصحاب في القسم الأوّل من قسمي الثالث (وهو ما إذا وقع الشكّ في وجود فرد آخر مقارن لوجود الفرد الأوّل) بما إليك نصّه: «لإحتمال كون الثابت في الآن اللاحق هو عين الموجود سابقاً فيتردّد الكلّي المعلوم سابقاً بين أن يكون وجوده الخارجي على نحو لا يرتفع بإرتفاع الفرد المعلوم إرتفاعه وأن يكون على نحو يرتفع بإرتفاع ذلك الفرد، فالشكّ إنّما هو في مقدار استعداد ذلك الكلّي، واستصحاب عدم حدوث انوار الأصول، ج 3، ص: 349

الفرد المشكوك لا يثبت تعيين استعداد الكلّي».

فحاصل كلامه: أنّه في القسم الأوّل يحتمل أن يكون الثابت في الآن اللاحق هو عين الموجود سابقاً بخلاف القسم الثاني فلا يحتمل فيه ذلك، فيجري الاستصحاب في الأوّل دون الثاني.

ويمكن أن يجاب عنه: بأنّ المتيقّن إنّما هو وجود كلّي الإنسان ضمن وجود زيد، وأمّا المشكوك فهو وجود كلّي الإنسان ضمن عمرو، فالموضوع المستصحب على كلّ حال ليس واحداً لما مرّ كراراً من أنّ وجود الطبيعي في ضمن فرد غير وجوده في ضمن فرد آخر.

بقي هنا امور:

الأمر الأوّل: قد استثنى الأعاظم من القسم الثالث ما يتسامح

فيه العرف، فيعدّون الفرد اللاحق مع الفرد السابق كالمستمرّ الواحد، وهو ما إذا كان الفردان من قبيل المرتبة الشديدة والمرتبة الضعيفة من شي ء واحد، كما إذا علمنا بالسواد الشديد في محلّ، وشككنا في تبدّله بالبياض أو بسواد خفيف، ففي هذه الصورة لا إشكال في جريان الاستصحاب، لأنّ العبرة في جريان الاستصحاب كون الوجود اللاحق استمراراً للوجود السابق بنظر العرف ولو كان مغايراً معه بالدقّة العقليّة.

أقول: الحقّ في المسألة أنّ الفرد السابق متّحد مع الوجود اللاحق حتّى بالدقّة العقليّة وذلك لإتّصال مراتب الشديدة والضعيفة في شي ء واحد، وقد ثبت في محلّه أنّ الإتّصال دليل الوحدة الحقيقيّة الخارجيّة، ولذلك إستشكل القائلون بأصالة الوجود على القائلين بأصالة الماهيّة بأنّ لازم هذا القول هو القول بأفراد غير متناهية من الماهيات بين حاصرين في مراتب التشكيك، ولا يرد هذا الإشكال على القائلين بأصالة الوجود لأنّ الوجود المتّصل عندهم واحد فقط. فلو قلنا بتعدّد الوجود في ما نحن فيه من باب تعدّد المراتب لورد نفس الإشكال على القائلين بأصالة الوجود أيضاً.

الأمر الثاني: إذا صارت القضيّة عكس ما مرّ في الأمر الأوّل، فيرى العقل الفرد اللاحق مع الفرد السابق كالمستمر الواحد، لكن العرف يعدّونهما فردين، فهى عند العقل لا تكون من قبيل القسم الثالث من الكلّي، نظير ما إذا زال الوجوب (كوجوب صلاة العيد في عصر

انوار الأصول، ج 3، ص: 350

الحضور مثلًا بالنسبة إلى عصر الغيبة) ولا نعلم هل بقي مطلق الطلب ضمن الاستحباب، أو لا؟ فهل يمكن استصحاب مطلق الطلب الذي كان موجوداً ضمن فرده الواجب، أو لا؟

الصحيح هو عدم الجريان لأنّ الميزان في هذه الموارد إنّما هو نظر العرف، والمفروض أنّ ما نحن فيه يكون عنده من قبيل القسم الثالث من

الكلّي.

نعم يمكن المناقشة في المثال المزبور الذي ذكره المحقّق الخراساني رحمه الله للمقام لأنّه يمكن أن يقال: بأنّ الاستحباب والوجوب مرتبتان من شي ء واحد (وهو الطلب): المرتبة الضعيفة والمرتبة الشديدة، فيرى العرف أيضاً أحدهما مع الآخر كالمستمرّ الواحد.

الأمر الثالث: ربّما يرد على تفصيل الشيخ الأعظم رحمه الله وجريان الاستصحاب في الصورة الاولى من القسم الثالث من استصحاب الكلّي (وهو ما إذا احتمل وجود الفرد الآخر مقارناً لوجود الفرد الأوّل) «أنّه إذا قام أحد من النوم واحتمل جنابته في حال النوم، لم يجز له الدخول في الصّلاة مع الوضوء وذلك لجريان استصحاب الحدث حينئذٍ بعد الوضوء، لاحتمال إقتران الحدث الأصغر مع الجنابة، وهى لا ترتفع بالوضوء، والظاهر أنّه لا يلتزم بهذا الحكم الشيخ الأعظم رحمه الله وغيره فإنّ كفاية الوضوء حينئذٍ من الواضحات وهذا يكشف عن عدم جريان الاستصحاب في القسم الثالث مطلقاً» «1».

أقول: بل يرد عليه: أنّ لازم كلامه جريان استصحاب بقاء المعلوم بالإجمال في كثير من موارد دوران الأمر بين الأقل والأكثر الاستقلاليين، ونتيجته وجوب الإتيان الأكثر بحكم الاستصحاب، فإذا دار الأمر في الدَين مثلًا بين كونه مائة درهم فقط أو مع إضافة مائة منّ من الحنطة، فإذا أدّى القدر المعلوم وهو الدراهم وبعد ذلك شكّ في بقاء كلّي الدَين المشترك بينهما وبين الحنطة يجوز له استصحاب كلّي الدَين، وحينئذٍ لا يحصل له البراءة إلّابأداء الحنطة أيضاً، وكذا أشباهه من الأمثلة التي لا نظّن التزام أحد من المحقّقين بها.

وقد قام جماعة من الأعلام منهم المحقّق النائيني رحمه الله في مقام الدفاع عن الشيخ رحمه الله. بما حاصله: أنّ المستفاد من قوله تعالى: «إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ...» وقوله تعالى: «وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً

فَاطَّهَّرُوا» أنّ الوضوء والغسل فردان متضادّان لا يجتمعان في آنٍ انوار الأصول، ج 3، ص: 351

واحد، أي وجوب الوضوء مختصّ بغير الجنب بمقتضى المقابلة لأنّ التقسيم قاطع للشركة، فالمكلّف بالوضوء هو كلّ محدث لا يكون جنباً، أي موضوع وجوب الوضوء مركّب من أمرين: كون المكلّف محدثاً وعدم كونه جنباً، وهذا حاصل في المثال، لأنّ هذا الذي قام من نومه ويحتمل كونه جنباً حين النوم تجري في حقّه أصالة عدم تحقّق الجنابة، فكونه محدثاً محرز بالوجدان، وكونه غير جنب محرز بالتعبّد الشرعي فيدخل تحت قوله تعالى: «فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ...» فيكون الوضوء في حقّه رافعاً للحدث، ولا مجال حينئذٍ لوجوب الغسل لمكان التنافي والتضادّ، ولا مجال لجريان استصحاب بقاء كلّي الحدث لكونه محكوماً بالأصل الموضوعي وهو عدم كونه جنباً» «1».

ولكن يرد عليه:

أوّلًا: أنّ الاستصحاب ناظر إلى الحكم الظاهري مع أنّ المستفاد من الآية حكمان واقعيان، والتنافي بين الحكمين الواقعيين لا يستلزم التنافي بينهما في الحكم الظاهري.

ثانياً: أنّ هذا الجواب يختصّ بمسألة الوضوء والغسل، ولا يجري في غيره ممّا ذكرنا من الأمثلة.

هذا هو الوجه الأوّل في الدفاع عن الشيخ رحمه الله.

وهنا وجه آخر أفاده بعض الأعاظم، وحاصله: أنّ كلّي الحديث لا يترتّب عليه أثر شرعي بل الأثر إنّما يترتّب على خصوص الحدث الأصغر أو الحدث الأكبر، فلا يمكن نقض كلام الشيخ رحمه الله باستصحاب كلّي الحدث.

وفيه: أنّه لو سلّم عدم ترتّب الأثر الشرعي على كلّي الحدث فهذا الجواب يختصّ بهذا المثال، ولا يجري في غيره من الأمثلة كمثال الدَين، فالإشكال الذي أوردوه على شيخنا الأعظم من هذه الناحية وارد عليه.

هذا تمام الكلام في استصحاب القسم الثالث من الكلّي.

انوار الأصول، ج 3، ص: 352

أمّا القسم الرابع: ففي حجّية جريان الاستصحاب فيه

وعدمها أقوال ثلاثة:

1- أنّه يجري مطلقاً ولكنّه مبتلى بالمعارض غالباً، وهذا ما ذهب إليه بعض أعاظم العصر.

2- عدم الجريان مطلقاً، وهو المختار.

3- ما ذهب إليه المحقّق الهمداني رحمه الله في مصباح الفقيه من التفصيل الآتي ذكره.

أمّا القول الأوّل: فاستدلّ له بتمامية أركان الاستصحاب وتشييد نظامه في هذا القسم فإنّ أحد العنوانين وإن إرتفع يقيناً إلّاأنّ لنا يقيناً بوجود الكلّي في ضمن عنوان آخر، فنشكّ في ارتفاعه لاحتمال انطباقه على فرد آخر غير الفرد المرتفع يقيناً (فإذا علمنا بأنّ زيداً كان في الدار ثمّ سمعنا قراءة القرآن من الدار واحتملنا أنّ القارى ء هو زيد أو غيره ثمّ خرج زيد عن الدار فحينئذٍ نقول: العلم بوجود كلّي الإنسان كان حاصلًا والآن نشكّ في بقائه لاحتمال تعدّد الفردين: زيد وقارى ء القرآن) فبعد اليقين بوجود الكلّي المشار إليه والشكّ في ارتفاعه لا مانع من جريان الاستصحاب فيه.

نعم قد يبتلى هذا الاستصحاب بالمعارض، كما إذا علم بالجنابة ليلة الخميس مثلًا وقد إغتسل منها، ثمّ رأى منيّاً في ثوبه يوم الجمعة، فيعلم بأنّه كان جنباً حين خروج هذا المني ولكن يحتمل كون المنيّ من الجنابة التي قد إغتسل منها كما يحتمل كونه من غيرها، فإستصحاب كلّي الجنابة مع الغاء الخصوصيّة وإن كان جارياً في نفسه، إلّاأنّه معارض باستصحاب الطهارة الشخصيّة فإنّه على يقين بالطهارة حين ما إغتسل من الجنابة ولا يقين بارتفاعها لإحتمال كون ذلك الأثر من تلك الجنابة، فيقع التعارض بينه وبين استصحاب الجنابة، فيتساقطان ولابدّ من الرجوع إلى أصل آخر «1».

أقول: بعد سقوط الأصل من الجانبين يكون هذا الإنسان كخلق الساعة، وقد وقع الكلام فيه في محلّه من أنّ من خلق من ساعته كآدم مثلًا هل يجوز له الصّلاة

لأنّ الحدث مانع، أو لا يجوز لأنّ الوضوء شرط؟ فكلّ ما اخترنا هناك يجري هنا، لعدم جريان أصل من ناحية الطهارة والحدث، وسيأتي قريباً الجواب عن هذا القول عند ذكر دليل القول الثاني.

انوار الأصول، ج 3، ص: 353

أمّا القول الثاني: فحاصل ما استدلّ له أنّه يرجع إلى التمسّك بعموم لا تنقض في الشبهة المصداقيّة، لأنّه يحتمل أن يكون رفع اليد عن اليقين السابق من قبيل نقض اليقين باليقين فإنّ احتمال انطباق هذا الأثر على الجنابة المعلوم ارتفاعها مساوق لإحتمال تحقّق اليقين بارتفاع الجنابة الحادثة عند حدوث هذا الأثر.

إن قلت: أنّه لا معنى للشكّ في تحقّق اليقين وعدمه، لأنّ اليقين من الصفات النفسانية التي لا يمكن تطرّق الشكّ إليها فإمّا يعلم بوجوده في عالم النفس أو يعلم بعدمه.

قلت: إنّ متعلّق حكم الشارع بالإبقاء نفس الجنابة الخارجية الحاصلة عند وجود هذا الأثر، وإنّما أخذ هذا العنوان (الجنابة الحاصلة عند وجود الأثر) للاشارة إلى الموجود الخارجي، وإلّا فلا دخل لهذا العنوان في الحكم الشرعي بلا إشكال، فلو علم بارتفاع الجنابة الخارجية (بأي عنوان كان وبأيّة إشارة فرضت) فقد حصلت الغاية وهو اليقين بارتفاع الجنابة وكان رفع اليد عن المتيقّن السابق من قبيل نقض اليقين باليقين فإحتمال إنطباق عنوان المتيقّن في المقام على الجنابة المعلوم ارتفاعها يوجب احتمال كون رفع اليد عنه من قبيل نقض اليقين باليقين فلا يصحّ التمسّك بعموم «لا تنقض» لإثبات بقائها.

والحاصل: أنّ اليقين والشكّ وإن كانا من الامور النفسانيّة التي لا يمكن الشكّ في تحقّقها، ولكن الكلام هنا في متعلّق اليقين، فقد يكون العنوان الذي أخذ في متعلّقه منطبقاً على عنوان آخر في الخارج، ومجرّد هذا الاحتمال يوجب احتمال تحقّق اليقين بارتفاع الجنابة في المثال ولو

بعنوان آخر، فالشكّ إنّما هو في انطباق العنوانين اللذين تعلّق بهما الشكّ واليقين، فتأمّل فإنّه دقيق.

هذا كلّه بالنسبة إلى القول الثاني.

وأمّا القول الثالث: فهو تفصيل المحقّق الهمداني رحمه الله بين ما ذكرنا من المثال فيجري فيه الاستصحاب وبين ما إذا علم الإنسان باحتلامه ليلة السبت ولم يغتسل منها بل عوّض ثوبه فقط، ثمّ نام واغتسل بعد الإستيقاظ ثمّ نام في ليلة الأحد ورأى أثر الجنابة في ثوبه بعد الإستيقاظ، فهو يحتمل أن يكون هذا الأثر من الإحتلام الذي يحتمل وقوعه في النوم الثاني من ليلة السبت، أو من الإحتلام المحتمل وقوعه في ليلة، الأحد، فإن كان من الأوّل فلا أثر لهذا الإحتلام، لأنّه من قبيل وقوع الحدث بعد الحدث، وإن كان من الثاني فيجب الغسل عنها،

انوار الأصول، ج 3، ص: 354

وحيث إنّه لا يعلم أهو من هذا أو ذاك فلا يكون هذا العلم الإجمالي منجّزاً، لسقوط أحد طرفيه عن الأثر قبل تنجّزه.

وبالجملة فرق بين ما إذا علم بحدوث تكليف جديد عند تحقّق هذا الأثر، وبين ما إذا لم يعلم بتحقّقه فلا يجري الاستصحاب في الثاني ويجري في الأوّل.

ويمكن الجواب عنه بأنّ المستصحب إنّما هو وجود الجنابة عند وقوع هذا الأثر. (سواء كان لخروجه أثر في الجنابة أم لا) وهو متيقّن في السابق، ومشكوك بقائه في اللاحق في الصورتين فإن كان الاستصحاب جارياً في الصورة الاولى فهو جارٍ هنا أيضاً وإن لم يكن جارياً هناك فكذلك هنا.

التنبيه الخامس: استصحاب الامور التدريجيّة

قد يكون المستصحب من الامور الثابتة القارّة وقد يكون من الامور التدريجيّة غير القارّة كالحركة والزمان، فهل يختصّ الاستصحاب بالقسم الأوّل، أو يجري في القسم الثاني أيضاً؟

فلابدّ لتفصيل الكلام فيه من البحث في مقامات ثلاث:

الأوّل: في الاستصحاب في نفس الزمان

كاليوم والليل.

الثاني: في الاستصحاب في التدريجيّات المشابهة للزمان، أي ما تكون طبيعتها سيّالة كالحركة في المكان أو سيلان الدم والتكلّم وقراءة القرآن وسيلان الماء من العيون.

الثالث: في الاستصحاب في الامور الثابتة المقيّد بالزمان كزيد في يوم كذا فيما إذا صار زيد موضوعاً لحكم من الأحكام مقيّداً بالزمان.

أمّا المقام الأوّل: فإستشكل في جريان الاستصحاب فيه بامور ثلاثة:

أوّلها: أنّه يعتبر في الاستصحاب الشكّ في البقاء، والبقاء معناه وجود الشي ء في الزمان ثانياً، وهو لا يتصوّر لنفس الزمان، وإلّا يستلزم أن يكون للزمان زمان آخر، وهكذا ...

فيتسلسل.

ثانيها: الإشكال بتبدّل الموضوع، لأنّ الساعة المتيقّنة غير الساعة المشكوكة، مع أنّ انوار الأصول، ج 3، ص: 355

المعتبر في حجّية الاستصحاب بقاء الموضوع، أي وحدة القضية والمشكوكة.

ثالثها: رجوعه إلى الأصل المثبت غالباً، لأنّ المراد من استصحاب النهار مثلًا إمّا إثبات وقوع الإمساك في النهار، وهو لازم عقلي لبقاء النهار، أو إثبات أنّ الصّلاة وقعت أداءً، وهو أيضاً لازم عقلي له.

وقبل الورود في الجواب عن هذه الإشكالات لا بأس بالإشارة إجمالًا إلى حقيقة الزمان، فقد دارت حوله أبحاث كثيرة ضخمة، وصدرت من الأعلام في هذا المجال مطالب معقّدة، مع أنّه بإجماله من الضروريات البديهيات.

وكيف كان، فإنّ عمدة الآراء فيه ثلاثة:

1- أنّه بُعد موهوم يتوهّم الإنسان بوقوع الأشياء فيه.

2- أنّه ظرف خاصّ كالمكان، وله بعد حقيقي في الخارج، وهو مخلوق قبل الأشياء الزمانيّة.

3- ما هو مختار الفلاسفة المتأخّرين (وهو الحقّ) من أنّ الزمان ليس إلّامقدار الحركة في العرض أو الجوهر، فلولا الحركة لما كان هناك زمان، فهى في الحقيقة مخلوقة بعد خلق الأشياء المادّية لا قبلها، وهكذا المكان فإنّه أيضاً ينتزع بعد خلق الأشياء المادّية ونسبة بعضها إلى بعض كما ذكر في محلّه.

إذا عرفت هذا

فلنرد في الجواب عن الإشكالات الثلاثة المذكورة فنقول:

أمّا الإشكال الأوّل ففيه: أنّ المستفاد من أدلّة الاستصحاب إنّما هو اعتبار وجود يقين سابق وشكّ لاحق في شي ء واحد، ولا دليل على اعتبار عنوان البقاء فيه.

وأمّا الإشكال الثاني فالجواب عنه:

أوّلًا: أنّ المعتبر وجود الوحدة بنظر العرف لا بالدقّة العقليّة، والوحدة العرفيّة موجودة في الزمان بلا ريب.

وثانياً: أنّ الوحدة موجودة فيه حتّى بالدقّة العقليّة، ودليلها وجود الإتّصال الحقيقي بين أجزاء الزمان، وإلّا يلزم الاجزاء غير المتناهية في المتناهي (بين الحاضرين) بعد عدم صحّة الجزء الذي لا يتجزّى، فالموجود في الخارج في الامور المتّصلة ليس إلّاشيئاً واحداً، وإنّما التجزئة في الذهن.

انوار الأصول، ج 3، ص: 356

ثالثاً: أنّه يمكن أن يستصحب عدم حصول المنتهى، فيستصحب مثلًا عدم حصول آن الغروب أو آن الطلوع.

نعم أنّه يجري فيما إذا ترتّب في الشرع أثر على آن الغروب أو الطلوع، وإلّا يكون الأصل مثبتاً كما لا يخفى.

أمّا الإشكال الثالث: فاجيب عنه: بامور لا تخلو عن مناقشة، ونشير إلى بعضها:

1- أنّه يمكن استصحاب نفس الحكم وهو وجوب الصيام مثلًا، ومعه لا حاجة إلى استصحاب الموضوع حتّى يكون مثبتاً.

وفيه أوّلًا: أنّ هذا تسليم للإشكال.

وثانياً: أنّ الاستصحاب الحكمي هنا لا يفيد، لأنّ المطلوب في المثال إنّما هو إثبات وجوب صيام شهر رمضان مثلًا لا مطلق الصيام، وإثبات وجوب صيام شهر رمضان يحتاج إلى استصحاب الموضوع فيعود الإشكال.

2- ما أفاده المحقّق الخراساني رحمه الله في بعض الأبحاث القادمة بقوله «الإمساك كان قبل هذا الآن في النهار، والآن كما كان».

ولا يخفى أنّ قوله هذا يرجع إلى استصحاب الموضوع لأنّ المستصحب فيه إتّصاف هذا الصيام بأنّه كان في رمضان قبل هذا الآن.

ويرد عليه أيضاً: أنّ هذا الجواب على فرض تماميته إنّما

يتمّ في الصيام فقط، لأنّه في مثل الصّلاة يكون استصحاباً تعليقياً بهذا النحو: لو كنت أُصلّي الظهر سابقاً كانت صلاتي واقعة في النهار والآن كما كان، والاستصحاب التعليقي في مثل هذه الموارد ليس بحجّة (لو سلّمت حجّيته في غيرها) لأنّ التعليق هنا تعليق عقلي، والتعليق الملحوظ في الاستصحاب التعليقي إنّما هو التعليق الشرعي كما في قولنا: «العصير إذا غلى ينجّس».

3- أنّه يمكن أن يجعل المستصحب ما لا يكون تدريجياً وهو آن الغروب، لأنّ المستفاد من قوله عليه السلام: «إذا زالت الشمس دخل وقت الصلاتين ثمّ أنت في وقت حتّى تغرب الشمس» إنّ الواجب مركّب من جزئين: وقوع الصّلاة الذي هو ثابت بالوجدان، وعدم الغروب الذي يثبت بالاستصحاب.

ويرد عليه أيضاً: أنّ هذا جمود على ظاهر الدليل، لأنّ المستظهر من مجموع أدلّة

انوار الأصول، ج 3، ص: 357

الأوقات أنّ للصلاة أو الصيام وقتاً محدّداً، وأنّ الواجب وقوعهما في وقت من الأوقات كالنهار وشهر رمضان، وهذا يعني أنّ الواجب وقوع الصّلاة في النهار أو وقوع الصيام في شهر رمضان لا مجرّد عدم الغرب أو عدم طلوع هلال الشوّال.

فقد ظهر أنّ كلّ واحد من هذه الأجوبة غير تامّ.

والحقّ في الجواب أن يقال: إنّ الواسطة في ما نحن فيه خفيّة فلا يكون الأصل مثبتاً وإلّا فليكن الاستصحاب مثبتاً حتّى في مورد أدلّة الاستصحاب لأنّ ما هو معتبر في الصّلاة إنّما هو تقيّد أفعالها بالوضوء، لمكان معنى الشرط، وهو من اللوازم العقليّة لإستصحاب بقاء الوضوء كما لا يخفى، مع أنّ جواز هذا الاستصحاب مصرّح به في نفس الصحيحة المعتبرة الدالّة على حجّية الاستصحاب.

أضف إلى ذلك أنّ من روايات الباب رواية علي بن محمّد القاساني المذكور سابقاً (صم للرؤية وافطر للرؤية) ولا إشكال في

أنّ المستصحب في موردها هو الزمان.

بقي هنا شي ء:

وهو أنّ الشكّ في الزمان قد يكون من قبيل الشبهة المصداقيّة كما إذا شككنا في أنّ غروب الشمس تحقّق أم لا؟ أو شككنا في تحقّق طلوع الفجر أو شهر رمضان، وقد يكون من قبيل الشبهة المفهوميّة كما إذا شككنا في مفهوم المغرب وأنّه هل وضع لإستتار القرص أو لذهاب الحمرة؟

لا إشكال في جريان الاستصحاب في الشبهة المصداقيّة لتماميّة أركانه فيها، وأمّا الشبهة المفهوميّة فالصحيح عدم جريانه فيها، لأنّ المستظهر من أدلّة الاستصحاب أنّ متعلّق الشكّ إنّما هو الوجود الخارجي للشي ء لا مفهمه، وبتعبير آخر، لابدّ أن يكون الشكّ في عمر المستصحب في الخارج والاستصحاب يزيد على عمره شرعاً وتعبّداً، بينما في الشبهات المفهوميّة لا شكّ في الوجود الخارجي، لأنّ الخارج معلوم عندنا فنعلم بأنّ قرص الشمس إستترت والحمرة لم تزل، إنّما الشكّ في المراد من لفظ المغرب الوارد في الأحاديث.

نعم، يمكن جريان الاستصحاب بالنسبة إلى وضع اللفظ، بأن يقال: إنّ الشارع أو العرف لم يضع لفظ المغرب سابقاً في إستتار القرص، والآن شككنا في وضعه، فيجري استصحاب عدم وضعه للإستتار.

انوار الأصول، ج 3، ص: 358

ولكن فيه أوّلًا: إنّه معارض باستصحاب عدم وضعه لذهاب الحمرة.

وثانياً: إنّه مثبت، لأنّ المقصود منه إثبات وضع اللفظ لذهاب الحمرة أوّلًا ثمّ إثبات ظهور اللفظ فيه عند فقدان القرينة لأصالة الحقيقة، ولا يخفى أنّ الواسطة فيه عقلية جلية توجب كون الاستصحاب مثبتاً.

هذا كلّه في المقام الأوّل أي الاستصحاب في نفس الزمان.

أمّا المقام الثاني- أي جريان الاستصحاب في غير الزمان من التدريجيات- فإنّ الامور التدريجية غير الزمان على أقسام:

منها: ما لا يدركه العرف بل لا يعرفه إلّاالعلماء والفلاسفة، وهو تدريجية تمام الموجودات لأنّ وجودها يترشّح من

المبدأ الفيّاض آناً فآن، سواء كانت له حركة جوهرية كما في الماديات، أو لم تكن كما في المجرّدات.

ومنها: ما يكون العرف غافلًا عنه ولكن يدركه عند الدقّة كالحركة الموجودة في السراج، سواء كان سراجاً كهربائياً أو دهنياً.

ومنها: ما يكون ظاهراً ومحسوساً عند العرف كجريان الماء وسيلان دم الحيض ونبع ماء العين وحركة الإنسان من مبدأ إلى منتهى.

ومنها: ما يكون في الواقع من الموضوعات المقطّعة، ولكن تكون لها وحدة اعتبارية كالقراءة والتكلّم.

فهذه أقسام أربعة للُامور التدريجية غير الزمان.

أمّا القسم الأوّل: فلا إشكال في جريان الاستصحاب فيه لو كان له أثر شرعي، وهكذا القسم الثاني والثالث، لأنّ شرطيّة وحدة الموضوع حاصلة في كلّ واحد منها، والدليل عليها وجود الإتّصال فيها.

إنّما الكلام في القسم الرابع فهل يجري فيه الاستصحاب مطلقاً (لأنّ الوحدة العرفيّة موجودة فيه أيضاً ولو كانت اعتبارية) كما ذهب إليه جمع كثير من المحقّقين، أو لا يجري مطلقاً، لأنّ وحدتها تكون بالتسامح العرفي ولا اعتبار بالمسامحات العرفيّة، أو فيه تفصيل بين ما إذا

انوار الأصول، ج 3، ص: 359

اتّحد الداعي فلا يجري، كما إذا كان زيد مريداً للذهاب من النجف إلى بغداد من أوّل الأمر، وما إذا تعدّدت الدواعي فيجري، كما إذا كان زيد مريداً للذهاب من النجف إلى كربلاء وشككنا في حصول داعٍ جديد له للذهاب من كربلاء إلى بغداد، وكما إذا لم نعلم أنّه هل كان مريداً من أوّل الأمر للذهاب من النجف إلى بغداد، أو كان مريداً من أوّل الأمر للذهاب إلى كربلاء ثمّ تجدّد الداعي له إلى بغداد، وهذا ما ذهب إليه المحقّق النائيني رحمه الله فيما حكى عنه في تقريرات بعض الأكابر من تلامذته «1»، ففيه وجوه بل أقوال ثلاثة، الحقّ والصحيح منها

هو القول الأوّل.

أمّا القول الثاني فيرد عليه: أنّ الوحدة في القسم الرابع كالقراءة والتكلّم حاصلة حتّى عند العرف الدقّي، وليست الوحدة فيه من المسامحات العرفيّة.

وأمّا القول الثالث: فيرد عليه أيضاً: أنّ مجرّد تعدّد الداعي لا يكون موجباً للتعدّد في الفعل، لأنّ الحافظ للوحدة ليس هو الداعي بل هو الإتّصال.

هذا كلّه في المقام الثاني.

أمّا المقام الثالث:- أي الامور الثابتة المقيّدة بالزمان في لسان الدليل كالإمساك المقيّد بالنهار أو الجلوس المقيّد بيوم الجمعة وكالصلاة المقيّدة بإتيانها في داخل الوقت- فهل يجري استصحاب بقاء وجوب الصّلاة مثلًا بعد انقضاء الزمان المقيّد به فعل الصّلاة أو لا يجري؟ فيه وجهان بل قولان:

ذهب كثير من الأعاظم إلى عدم جريان الاستصحاب في هذا المقام، وذلك لتبدّل الموضوع، لأنّ المفروض أنّ الزمان كان مقوّماً له عرفاً، نعم إذا لم يكن الزمان مقوّماً للموضوع عند العرف كما في مثل خيار الغبن وخيار العيب كان الاستصحاب فيه جارياً، فإذا شككنا في أنّ خيار الغبن مثلًا كان فوريّاً فإنقضى زمانه أو لم يكن فورياً فلم ينقض زمانه كان استصحاب بقاء الخيار جارياً بلا إشكال (بناءً على جريانه في الشبهات الحكميّة) لكنّه ليس حينئذٍ من الامور الثابتة المقيّدة بالزمان لأنّ الزمان ليس قيداً فيه.

انوار الأصول، ج 3، ص: 360

وإن شئت قلت: إذا كان الزمان قيداً في الواجب فلا يجري الاستصحاب لتبدّل الموضوع، ولذلك يقال بأنّ القضاء يكون بأمر جديد، وإذا لم يكن الزمان قيداً في الواجب بل كان ظرفاً له كما في مثل الخيار فيكون الاستصحاب جارياً، ولكن المستصحب حينئذٍ ليس زمانياً فليس داخلًا في محلّ النزاع.

إن قلت: إنّ الزمان وإن أخذ في لسان الدليل ظرفاً للحكم ولكنّه ممّا له دخل في أصل المناط قطعاً، لأنّ المفروض

أنّ وجود الفعل زماني فالزمان مقوّم لوجوده فيكون مؤثّراً في المناط بالواسطة.

واجيب عنه بما حاصله: أنّ الزمان وإن كان لا محالة من قيود الموضوع ولكنّه ليس من القيود المقوّمة له بنظر العرف على وجه إذا تخلّف لم يصدق عرفاً بقاء الموضوع بل من الحالات المتبادلة له، والمعتبر في الاستصحاب هو بقاء الموضوع في نظر العرف لا في نظر العقل.

بقي هنا شي ء:

وهو كلام حكاه الشيخ الأعظم هنا عن المحقّق النراقي وتبعه غيره مع أنّه ليس مرتبطاً بالمقام، بل هو تفصيل في حجّية الاستصحاب بين الشبهات الموضوعيّة والشبهات الحكميّة فذهب المحقّق النراقي رحمه الله إلى جريان الاستصحاب في الاولى دون الثانية، لمعارضته دائماً باستصحاب عدم الجعل، وقد تكلّمنا عن هذا تفصيلًا فيما سبق، وأجبنا عن إشكال المعارضة بامور عديدة، ومنها: أنّ الاستصحابين ليسا في عرض واحد بل أحدهما وهو استصحاب وجود الحكم حاكم أو وارد على الآخر وهو استصحاب عدم الجعل، فإنّ استصحاب بقاء الحكم بنفسه حكم ظاهري يوجب زوال الشكّ الذي هو مأخوذ في موضوع استصحاب عدم الجعل.

والعجب من المحقّق الخراساني رحمه الله حيث ناقش في مثال خروج المذي بعد الوضوء الذي ذكره المحقّق النراقي رحمه الله مثالًا للمسألة، وقال: أنّ مقتضى الاستصحاب الوجودي هو بقاء الوضوء، وهو يعارض مع مقتضى الاستصحاب العدمي، وهو عدم جعل الشارع الوضوء رافعاً للحدث لما بعد خروج المذي، فناقش فيه المحقّق الخراساني رحمه الله بأنّ رافعية الوضوء للحدث ليست محدودة بحدّ زماني، بل هى كسائر الأحكام التي تجعل من جانب الشارع انوار الأصول، ج 3، ص: 361

كالملكية باقية إلى الأبد حتّى يثبت ما يكون ناقضاً، له كما أنّ الملكية دائمية حتّى يثبت الفسخ.

كما يمكن أن يناقش فيه أيضاً بأنّه قد يكون

الاستصحاب العدمي معاضداً وموافقاً للاستصحاب الوجودي كما في هذا المثال، فإنّ مقتضى عدم جعل المذي ناقضاً للوضوء أيضاً بقاء الطهارة بحالها.

ولكنهما مناقشتان في خصوص هذا المثال لا في الحكم على نحو العموم وللمحقّق النراقي رحمه الله تبديله بمثال آخر، وهو ما إذا شككنا بعد إنقطاع دم الحيض وقبل الغسل في حرمة الوطى ء فاستصحاب الحرمة قبل الإنقطاع معارض مع استصحاب عدم جعل الحرمة لما بعد الإنقطاع، ولا يجري فيه جواب المحقّق الخراساني ولا المناقشة التي ذكرناها، فالصحيح في الجواب ما ذكرناه من الأجوبة السابقة، ولا حاجة لتكرارها.

التنبيه السادس: الاستصحاب التعليقي

هل هو حجّة (بناءً على جريان الاستصحاب في الشبهات الحكميّة) كالاستصحاب التنجيزي أو لا؟.

وتوضيح ذلك: أنّ الأحكام الشرعيّة قد تصدر من جانب الشارع على نهج القضايا التنجيزية كأكثرها، وقد تصدر على نهج القضايا التعليقية، كحكمه في العصير العنبي بأنّه إذا غلى ينجّس (أو يحرم)، ثمّ وقع الكلام في الفقه في أنّه إذا تبدّل العنب بالزبيب فما هو حكم العصير الزبيبي إذا غلى؟ وممّا استدلّ به على الحرمة أو النجاسة هنا هو الاستصحاب التعليقي، ولعلّ أوّل من استدلّ به هو العلّامة السيّد الطباطبائي بحر العلوم رحمه الله، وقد ناقش فيه السيّد محمّد المجاهد بعده وذهب إلى عدم حجّية الاستصحاب التعليقي، وصرّح بأنّ والده (وهو صاحب الرياض) أيضاً كان يقول بعدم حجّيته، ولكن ذهب إلى مذهب السيّد بحر العلوم الشيخ الأعظم الأنصاري والمحقّق الخراساني 0، وتبعهما جماعة ممّن بعدهما، كما خالفهما جماعة اخرى.

أقول: لا بأس أن نتكلّم أوّلًا في خصوص المثال الذي ذكروه للمسألة، ونشير إلى حكمه الفقهي، ثمّ ندخل في البحث عن حجّية الاستصحاب التعليقي وعدمها على نحو كلّي.

انوار الأصول، ج 3، ص: 362

فنقول: أنّ الغليان على قسمين: غليان بنفسه وغليان

بالنار وشبهها، أمّا الغليان بنفسه فهو نشيش اسكاري يحصل بنفسه أو في مقابل الشمس ويكون من مقدّمات انقلاب العصير مسكراً، وقد ذكر أهله أنّ المواد الحلوة الموجودة في العصير العنبي أو الزبيبي أو التمري وغيره تنجذب بالمواد المخمّرية وهى خليّات حيّة، ثمّ يحصل منه المواد الكحولية وغاز الكربن، وهذا الغاز هو الذي يوجب النشيش، وهو المسمّى بغليان الخمر (جوشش مي)، وأمّا الغليان بالنار فهو نشيش فيزيكي يحصل للعصير بحرارة النار.

والفرق بين هذين النوعين من الغليان والنشيش ماهوي، والذي يوجب الاسكار وتجري عليه جميع أحكام الخمر ولا يطهّره ذهاب الثلثان هو النوع الأوّل من الغليان، أي الغليان بنفسه، وأمّا النوع الثاني فهو يوجب الحرمة فقط ولا دليل على نجاسته، ويطهر العصير فيه بذهاب الثلثان وقد ذكرنا في التعليقة «1» على العروة أنّ الحكمة من تحريمه لعلّها هى أنّ العصير المتّخذ للشرب مدّة مديدة إذا لم يذهب ثلثاه ينقلب خمراً تدريجاً فحرّمه الشرع مطلقاً حماية للحمى، وأمّا إذا ذهب ثلثاه فلا ينقلب مسكراً لأنّ من شرائط التخمير وجود كميّة وافرة من الماء.

ولعلّ أوّل من التفت إلى الفرق المذكور هو المحقّق شيخ الشريعة الأصفهاني رحمه الله في رسالته القيّمة في العصير العنبي.

فقد ظهر ممّا ذكر أنّه لا ربط بين الغليان بالنار والغليان بنفسه، وأنّه لا دليل على نجاسة العصير إذا غلى بالنار، بل الدليل قام على حرمته فقط. هذا أوّلًا.

وينبغي أن نشير ثانياً: إلى أنّ الثابت من هذه الحرمة إنّما هو في العصير العنبي، وأمّا الزبيبي والتمري ونحوها فالاجتناب عنهما هو الأحوط، وثالثاً أنّ هذا الحكم يجري فيما صدق عليه العصر عرفاً وأمّا ما يلقى من العنب أو الزبيب أو التمر في الغذاء فيغلى فلا دليل على حرمته

فتوىً أو احتياطاً لعدم صدق عنوان العصير عليه.

إذا عرفت هذا فلنرجع في أصل البحث فنقول:

استدلّ القائلون بحجّية الاستصحاب التعليقي بأنّ أركانه تامّة، من اليقين السابق والشكّ انوار الأصول، ج 3، ص: 363

اللاحق وبقاء الموضوع عرفاً، فإنّ الزبيبية من الحالات عرفاً لا من المقوّمات.

وإستشكل عليه القائلون بعدم الحجّة أوّلًا: بأنّ عنوان الزبيب غير عنوان العنب عرفاً فقد تبدّل الموضوع وتغيّر.

والجواب عنه واضح: لأنّ هذا مناقشة في المثال، مضافاً إلى أنّ الصحيح كون الزبيبيّة والعنبية من الحالات، كما يحكم به الوجدان العرفي في نظائره من سائر الفواكه إذا جفّت، بل في سائر الأغذية بعد الجفاف، كالخبز إذا جفّ، فهو نفس الخبز قبل الجفاف فإنّ الجفاف وعدمه ليس من مقوّمات الشي ء، نعم أنّه كذلك في مثل تبدّل الكلب إلى الملح وفي إنقلاب الخمر خلًا أو الماء بخاراً.

وثانياً: بأنّ هذا الاستصحاب معارض مع استصحاب آخر تنجيزي، وهو استصحاب الطهارة أو الحلّية الثابتة قبل الغليان.

والجواب عنه: أنّه محكوم للاستصحاب التعليقي لأنّ الشكّ في الطهارة أو الحلّية التنجيزية مسبّب عن الشكّ في بقاء الحرمة أو النجاسة المعلّقة على الغليان.

وإن شئت قلت: أنّ الحلّية أو الطهارة كانت مغيّاة بعدم الغليان في حال كونه عنباً فنستصحبها في حال كونه زبيباً، ومن المعلوم أنّ هذه الطهارة المغيّاة لا تنافي الحرمة المعلّقة على الغليان.

وثالثاً: (وهو العمدة) بأنّه يشترط في حجّية الاستصحاب ثبوت المستصحب خارجاً في زمان من الأزمنة قطعاً ثمّ يحصل الشكّ في ارتفاعه بسبب من الأسباب، ولا يكفي مجرّد قابلية المستصحب للثبوت باعتبار من الاعتبارات، أي بتقدير من التقادير، فإنّ التقدير أمر ذهني خيالي لا وجود له في الخارج.

واجيب عنه بوجوه:

1- ما أجاب به الشيخ الأعظم الأنصاري رحمه الله، وهو أنّ الملازمة (وبعبارة اخرى سببية

الغليان لتحريم ماء العصير) متحقّقة بالفعل من دون تعليق، وبهذا يرجع جميع الاستصحابات التعليقيّة إلى التنجيزيّة.

وأورد عليه: بأنّه مخالف لما اختاره في ماهية الحكم الوضعي من عدم كونه مجعولًا من جانب الشارع بل أنّه مجرّد انتزاع ذهني من الحكم التكليفي، وليس من الأحكام الوضعيّة

انوار الأصول، ج 3، ص: 364

السببيّة، فهى لا تكون مجعولة بيد الشارع حتّى يمكن له الحكم باستصحابها.

2- ما أجاب به الشيخ الأعظم الأنصاري رحمه الله أيضاً، وتبعه فيه المحقّق الخراساني رحمه الله، وهو أنّه لا مانع من استصحاب الحرمة على تقدير الغليان، لأنّ الحكم التقديري أيضاً له حظّ من الوجود، فيكون له نحو وجود متحقّق في نفسه في قبال العدم المحض.

وأجاب عنه المحقّق النائيني رحمه الله: بأنّ ثبوت الحرمة على تقدير الغليان للعنب ليس ثبوتاً شرعياً وحكماً على موضوعه، بل هو من جهة حكم العقل بأنّه متى وجد جزء الموضوع المركّب فلا محالة تكون فعلية الحكم متوقّفة على ثبوت الجزء الآخر.

توضيح ذلك: قد ذكرنا في بحث الواجب المشروط أنّ كلّ شرط يكون لا محالة مأخوذاً في موضوع الحكم كما أنّ كلّ موضوع يكون شرطاً في الحقيقة، فقولنا «يحرم العنب إذا غلى» عبارة اخرى عن قولنا: «العنب المغلّى حرام» وبالعكس، ولهذا الحكم ثبوتان حقيقيّان تشريعاً: أحدهما: ثبوته في مرحلة الجعل والإنشاء مع قطع النظر عن وجود عنب في الخارج أصلًا، والرافع للحكم في هذه المرحلة هو النسخ ليس إلّا، ثانيهما: ثبوته الخارجي بفعلية تمام موضوعه، أعني به وجود العنب وغليانه، إذ مع إنتفاء أحد قيود الموضوع يستحيل فعلية الحكم، وإلّا لزم الخلف وعدم دخل ذلك القيد في موضوعه، والمفروض في المقام عدم الشكّ في بقائه في مرحلة الإنشاء، وعدم فعلية موضوعه في الخارج، فأين

الحكم الشرعي المتيقّن حتّى يستصحب وجوده؟ نعم حيث إنّ الحكم الشرعي مترتّب على الموضوع المركّب فالعقل يحكم عند وجود جزء منه بكون الحكم متوقّفاً على ثبوت الجزء الآخر، وهذا الثبوت عقلي محض وغير قابل للاستصحاب أصلًا» «1».

أقول: يرد عليه: أنّ إرجاع شرائط الوجوب إلى قيود الموضوع مخالف للمتبادر من القضيّة الشرطيّة وظاهرها، فإنّ ظاهرها (كما هو واضح لمن راجع وجدانه) كون الشرط قيداً للوجوب لا للواجب ولا للموضوع، وإمكان إرجاع أحدهما إلى الآخر بتمحّل عقلي لا يفيد شيئاً في المقام بعد ظهور القضية في كون الشرط راجعاً إلى الوجوب، فهذا الوجه أيضاً لا يمكن المساعدة عليه، فإنّه كما لا يمكن المساعدة على مقالة الشيخ رحمه الله من إرجاع القيود إلى الواجب،

انوار الأصول، ج 3، ص: 365

كذلك لا يمكن المساعدة على ما ذكره المحقّق النائيني رحمه الله من إرجاع القيود إلى الموضوع (كالعصير المغلي وكالمستطيع في مسألة الحجّ).

فالصحيح في حلّ الإشكال تحليل ماهية الواجب المشروط، فنقول: قد مرّ في محلّه أنّ فيه مذهبين: مذهب الشيخ الأعظم الأنصاري رحمه الله من أنّ القيود الموجودة في الواجب المشروط ترجع إلى الواجب لا الوجوب، أي أنّها ترجع إلى مفاد المادّة لا الهيئة، ولذلك ترجع عنده جميع الواجبات المشروطة إلى الواجبات المعلّقة في الواقع واللبّ، ومذهب المشهور وهو أنّ القيود قيود للوجوب (لا الواجب) كما هو ظاهر القضيّة الشرطيّة، ولكن المعضلة الكبرى في هذا القول الذي يجب حلّها هو أنّ إنشاء الوجوب نوع من الإيجاد، وهو شي ء أمره دائر بين النفي والإثبات، فكيف يتصوّر فيه التعليق؟ ولذا ذهبوا إلى بطلان التعليق في العقود.

وقد مرّ منّا في محلّه من الواجب المشروط طريق لحلّ هذا الإشكال ممّا ينحلّ به إشكال التعليق في الإنشاء

وإشكال الاستصحاب التعليقي في المقام أيضاً، وحاصله: أنّ الأحكام على قسمين: قسم منها تنجيزي كقولك لزيد: «إذهب إلى السوق»، وقسم منها تعليقي، وهو ما يصدر بعد فرض شي ء كقولك: «إن جاءك زيد فأكرمه»، فالقضيّة الشرطيّة عبارة عن إنشاء حكم بعد فرض خاصّ، وهو مفاد إنّ الشرطيّة أو كلمة «اگر» في اللغة الفارسية عند مراجعة الوجدان، فقولك: «إن جاءك زيد فأكرمه» عبارة اخرى عن قولك: «يجب عليك إكرام زيد على فرض مجيئه» فالقيد وهو مجي ء زيد راجع إلى مفاد الهيئة وهو وجوب الإكرام، لا مفاد المادّة وهو نفس الإكرام.

وإن شئت قلت: المتكلّم قد يرى أنّ زيداً قد قدم فيقول: «قم ياغلام وأكرمه» واخرى يعلم أنّ زيداً لم يجي ء بعد، ولكن يتصوّر ويفرض قدومه فيُظهر شوقه إلى إكرامه حينئذٍ، فينشى ء وجوب الإكرام في هذا الفرض الذي هو مفاد «ان» و «اگر»، فيقول: «إن جاءك زيد فأكرمه»، فليس هناك تعليق في إنشائه، كما أنّه ليس هناك إنشاء فعلي، بل هو إنشاء بعد فرض، فلذا لا أثر له إلّابعد تحقّق ذاك الفرض، فإنّ هذا هو المعنى المعقول في القضيّة الشرطيّة.

ولذلك قلنا في محلّه أنّ التعليق في العقود ليس بمحال عقلًا بل هو من قبيل القضيّة الشرطيّة فيمكن أن يقال: «بعتك إن جاءك زيد» فيكون هو تمليكاً على فرض، نعم المانع من صحّته الإجماع أو عدم كون مثل هذا العقد عقلائياً، وبهذا يظهر أنّ للحكم التعليقي (أي الحكم على فرض) أيضاً حظّ من الوجود فيمكن أن يستصحب.

انوار الأصول، ج 3، ص: 366

بقي هنا أمران:

الأوّل: أنّ النزاع في الاستصحاب التعليقي يتوقّف أوّلًا على جريان الاستصحاب في الشبهات الحكميّة كما مرّ، وثانياً على كون التعليق في لسان الشرع، لا بنظر لاعقل، لأنّه إذا

كان التعليق شرعياً كان هناك حكم صادر من ناحية الشرع، غاية الأمر أنّه حكم على فرض، فصدر على أي حال إنشاء وحكم من ناحية الشارع، فله حظّ من الوجود، وأمّا إذا كان التعليق عقلياً (بإرجاع قيود الموضوع إلى شرط الحكم) فليس لنا حكم صادر من جانب الشارع حتّى يستصحب، فإنّ التعليق العقلي إنّما هو في الواقع إنتزاع من ناحية العقل وإخبار عن تحقّق حكم عند تحقّق موضوعه.

الثاني: بناءً على جريان الاستصحاب التعليقي في الأحكام فهل يجري هو في الموضوعات أيضاً، أو لا؟ قد يستفاد من بعض التعبيرات جريانه في الموضوعات أيضاً، فاستدلّ به في مسألة اللباس المشكوك لصحّة الصّلاة بأنّ المصلّي قبل لبسه اللباس المشكوك لو كان يصلّي كانت صلاته صحيحة، وبعد لبسه إيّاه يستصحب ويقال: لو صلّى في هذا الحال فصلاته صحيحة أيضاً.

ولكن يرد عليه: أوّلًا: عدم بقاء الموضوع بعد لبسه إيّاه، كما هو واضح.

وثانياً: أنّ التعليق فيه ليس في لسان الشرع بل إنّه إنّما هو بتحليل عقلي، وليس له حظّ من الوجود.

التنبيه السابع: استصحاب أحكام الشرائع السابقة
اشارة

وهو غير استصحاب الكتابي الذي سيأتي بيانه، فهل يجوز أن يكون المستصحب حكماً من أحكام الشريعة السابقة كحجّية القرعة الثابت وجودها في الشرائع السابقة كما وردت في قصّة زكريا وقصّة يونس في كتاب اللَّه العزيز، أو يعتبر في المستصحب أن يكون حكماً ثابتاً في هذه الشريعة؟

قد يقال: إنّ أركان الاستصحاب فيها مختلّة من جهتين:

الاولى: من ناحية عدم اليقين بثبوتها في حقّ المكلّف الذي أراد أن يستصحب بالنسبة

انوار الأصول، ج 3، ص: 367

إلى نفسه وإن علم بثبوتها في حقّ آخرين، فإنّ الحكم الثابت في حقّ جماعة لا يمكن إثباته في حقّ جماعة اخرى لتغاير الموضوع، ولذا يتمسّك في تسرية الأحكام الثابتة للحاضرين أو

الموجودين إلى الغائبين أو المعدومين بالإجماع والأخبار الدالّة على إشتراك جميع الامّة في الحكم، لا بالإستصحاب.

واجيب عنها: بأنّ الحكم الثابت في الشريعة السابقة لم يكن ثابتاً لخصوص الافراد الموجودين في الخارج بنحو القضية الخارجية، بل الحكم كان ثابتاً لعامّة المكلّفين بنحو القضية الحقيقيّة، فإذا شكّ في بقائه لهم لإحتمال نسخه في هذه الشريعة استصحب.

الثانية: من ناحية الشكّ اللاحق، فإنّا نتيقّن بإرتفاعها بنسخ الشريعة السابقة بهذه الشريعة فلا شكّ في بقائها حينئذٍ حتّى يكون من قبيل نقض اليقين بالشكّ فيستصحب، بل إنّه من قبيل نقض اليقين باليقين.

واجيب عنها أيضاً: أوّلًا: بأنّ نسخ الشريعة السابقة ليس بمعنى نسخ جميع أحكامها فإنّ كثيراً من أحكام الشرائع السابقة باقية في هذه الشريعة أيضاً كحرمة الزنا والغيبة وغيرهما.

وإن شئت قلت: إن اريد من النسخ نسخ كلّ حكم إلهي من أحكام الشريعة السابقة فهو ممنوع، وإن اريد نسخ البعض فالمتيقّن من المنسوخ ما علم بالدليل، فيبقى غيره على ما كان عليه ولو بحكم الاستصحاب.

إن قلت: إذا علمنا بنسخ بعضها إجمالًا صار جميعها من أطراف العلم الإجمالي فلا يمكن الاستصحاب فيها.

قلنا: إنّ العلم الإجمالي هذا ينحلّ إلى علم تفصيلي وشكّ بدوي، فإنّ مقدار المعلوم بالتفصيل ينطبق على مقدار المعلوم بالإجمال.

وثانياً: إنّا نفرض الشخص الواحد مُدركاً للشريعتين، فإذا إستصحب هو بالنسبة إلى نفسه تمّ الأمر في حقّ غيره من المعدومين بقيام الضرورة على إشتراك أهل الزمان الواحد في الشريعة الواحدة، وقد اجيب عن هذا الجواب بأنّ ذلك غير مجد في تسرية الحكم من المدرك للشريعتين إلى غيره من المعدومين، فإنّ قضيّة الإشتراك ليس إلّاأنّ الاستصحاب حكم كلّ من كان على يقين فشكّ، لا حكم الكلّ ولو من لم يكن كذلك.

انوار الأصول، ج 3، ص:

368

وإن شئت قلت: قاعدة الاشتراك تجري بالنسبة إلى موارد الوحدة في الموضوع لا ما إذا اختلف الموضوع، فإذا كانت أركان الاستصحاب الذي هو حكم ظاهري تامّة في حقّ أحد دون آخر يجري الاستصحاب في حقّه فقط دون غيره.

أقول: التحقيق في المسألة يستدعي تحليل ماهية نسخ الشريعة، فنقول: لا إشكال في أنّ نسخ الشريعة ليس بمعنى نسخ الاصول الإعتقادية فيها، كما لا إشكال في أنّه ليس عبارة عن تغيير جميع الأحكام بل يدور النسخ مدار معنيين:

أحدهما: رفع بعض الأحكام الفرعية وجزئيات الفروع ككيفية الزكاة والصّلاة، وثانيهما: إتمام أمد رسالة النبي السابق وانقضاء عمرها، ولازمه تشريع جميع الأحكام من جديد، وحينئذٍ ليس هو من قبيل تغيير الدولة في حكومة خاصّة وتبديلها إلى دولة اخرى، بل هو في الواقع من قبيل تبديل أصل الحكومة إلى حكومة جديدة ونظام آخر بحيث لابدّ فيه من تقنين قانون أساسي جديد، وبالجملة أنّه بمعنى تدوين جميع القوانين العمليّة والأحكام الفرعية من أصلها، وإن إشتركت الشريعتان في كثير من أحكامهما.

الصحيح في ما نحن فيه هو المعنى الثاني، فإنّ هذا هو حقيقة نسخ الشرائع والديانات وظهور شريعة اخرى جديدة، ويشهد على هذا المعنى أوّلًا: تكرار تشريع بعض الأحكام في الإسلام مع وجوده في الشريعة السابقة كحرمة شرب الخمر وحرمة الزنا ووجوب الصيام والصّلاة وكثير من المحرّمات والواجبات، كما يدلّ عليه بالصراحة التعبير بالكتابة في مثل قوله تعالى: «كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ».

وثانياً: جريان أصالة الإباحة بالنسبة إلى الشبهات الوجوبيّة عند الأخباري والاصولي معاً، وفي الشبهات التحريميّة عند الاصولي فقط، فإنّه أيضاً شاهد على نسخ جميع الأحكام السابقة ورجوع الأشياء إلى الإباحة، وعلى عدم وجود حكم إلزامي إلّابعد ثبوت تدوينه وكتابته

ثانياً.

والذي يستنتج من هذا المعنى للنسخ هو عدم جواز استصحاب الشرائع السابقة فإنّه فرع احتمال بقاء بعض أحكام الشريعة السابقة، مع أنّك قد عرفت إنّا نعلم بنسخ جميع أحكامها وتشريع أحكام جديدة، وافقها أو خالفها.

كما يظهر منه عدم تمامية ما اجيب به عن الإشكال الأوّل الذي أورد على استصحاب انوار الأصول، ج 3، ص: 369

الشرائع السابقة (وهو جعل الأحكام على نهج القضايا الحقيقيّة) فإنّا لا نقبل جعل أحكام شريعة موسى عليه السلام مثلًا على نحو تشمل الأفراد بعد انقضاء شريعته، بل إنّما شرّعت لُامّة موسى عليه السلام فقط.

وكذا الجواب الثاني عن الإشكال الثاني (وهو قضيّة المدرك للشريعتين) فهو أيضاً فاسد لأنّه بعد العلم بنسخ جميع أحكام الشريعة السابقة لا يبقى شكّ لمُدرك الشريعتين في عدم بقاء تلك الأحكام، حتّى تتمّ أركان الاستصحاب بالنسبة إليه فيستصحبها.

هذا تمام الكلام في أصل جريان استصحاب أحكام الشريعة السابقة، وقد ظهر من جميع ما ذكرنا عدم جريانه حتّى بناءً على جريان الاستصحاب في الشبهات الحكميّة فضلًا عن عدم جريانه فيها كما هو المختار.

ثمرة هذا البحث

ثمّ إنّه بناءً على جريان استصحاب الشرائع السابقة قد يقال: أنّ ثمرته تظهرفي موارد شتّى في الفقه:

1- مسألة القرعة، حيث يظهر من قصّة مريم في قوله تعالى: «وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ» «1»

ومن قصّة يونس في قوله تعالى: «فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ» «2»

حجّية القرعة في خصوص موارد التشاحّ والمخاصمة والتنازع في شريعة زكريّا وشريعة يونس، فيمكن إثباتها في هذه الشريعة بالإستصحاب.

نعم لا حاجة إلى هذا الاستصحاب لو فهمنا من مجرّد نقل القضيتين في كتاب اللَّه إمضاء الشارع لحجّية القرعة، ولكن أنّى لنا بإثبات ذلك؟

2- مسألة اعتبار قصد القربة في

الأوامر وعدمه، حيث يظهر من قوله تعالى: «وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ» «3»

اعتبار قصد القربة في جميع أوامر الشرائع السابقة، فإنّ الضمير في «امروا» راجع إلى أهل الكتاب، فيستفاد منه أنّ الأصل في دوران الأمر بين انوار الأصول، ج 3، ص: 370

التعبّديّة والتوصّليّة هو التعبّديّة، فيجري هذا الحكم بمؤونة الاستصحاب في شريعتنا.

ولكن أورد عليه بإشكالات عديدة:

منها: أنّه متوقّف على كون المراد من كلمة «مخلصين» اعتبار قصد القربة، مع أنّ المراد منها التوحيد في مقابل الشرك.

واجيب عنه: بأنّ الشاهد على المقصود في الآية إنّما هو قوله تعالى: «وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ» فإنّه ظاهر في أنّ جميع أوامر الشرائع السابقة صدرت لعبادة اللَّه، فلا حاجة إلى ظهور كلمة «مخلصين» في قصد القربة.

ومنها: أنّه متوقّف على صدور أوامرها على نهج القضايا الحقيقيّة، مع أنّ نزول كلمة «امروا» بصيغة الماضي ظاهر في أنّها صدرت على نهج القضايا الخارجية فلا يمكن استصحابها.

ويمكن الجواب عنه: بأنّه لا دلالة في صيغة الماضي على خارجية القضايا، حيث إنّها ناظرة إلى القوانين التي شرّعت في الشرائع السابقة، ولا إشكال في أنّ القانون يكون غالباً على نحو القضية الحقيقيّة.

ومنها: أنّه لا حاجة إلى الاستصحاب في المقام، حيث إنّ قوله تعالى في ذيل الآية:

«وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ» بنفسه ظاهر في الدوام والبقاء.

واجيب عنه: بأنّ مرجع اسم الإشارة «ذلك» لعلّه هو قوله «مخلصين»، أي التوحيد في مقابل الشرك لا ما قبله، خصوصاً بقرينة الأقربية.

ومنها: أنّه مبنيّ على كون الغاية في الآية وهى قوله تعالى «ليعبدوا» غاية لفعل الناس حتّى يكون المعنى: وما امروا إلّالأن يقصد الناس القربة ويكونوا عابدين للَّه تعالى، مع أنّه يحتمل كونها غاية لفعل اللَّه تعالى فتكون الآية حينئذٍ ناظرة إلى بيان حكمة

أوامره تعالى، والمعنى: أنّ فلسفة الأحكام الإلهيّة وحكمة الأوامر الشرعيّة الأعمّ من التعبّدي والتوصّلي إنّما هو تربية اللَّه عباده لأن يكونوا عابدين مخلصين، فتكون الآية حينئذٍ قريبة الافق من قوله تعالى: «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ»، ومن الواضح أنّها عندئذٍ لا ربط لها بالمقام، حيث إنّها صادقة حتّى بالنسبة إلى الأوامر التوصّلية.

ومنها: أنّ لازم هذا المعنى التخصيص بالأكثر، فإنّ من المعلوم أنّ أكثر الأوامر الواردة في انوار الأصول، ج 3، ص: 371

الشرائع السابقة كالتي وردت في جميع أبواب المعاملات، أوامر توصّلية، كما أنّه كذلك في شريعتنا، فإنّ العبادات معدودة محدودة في مقابل غيرها.

ومنها: أنّ الآية صدراً وذيلًا وردت في التوحيد مقابل الشرك، ولا ربط لهما بمسألة قصد القربة، والشاهد عليه ما ورد في ذيلها: «وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ» وهكذا التعبير ب «حنفاء» (فإنّ الحنيف بمعنى المائل عن الشرك إلى التوحيد) وكذلك الآيات الواردة في ما قبلها وما بعدها فإنّها جميعاً وردت في أهل الكتاب والمشركين فراجع، فإنّ التأمّل في الآية نفسها وفي ما قبلها وما بعدها ممّا يوجب القطع بأنّها في مقام نفي الشرك وإثبات التوحيد من دون نظر لها إلى مسألة قصد القربة في الأوامر.

والعمدة في الإشكال على الاستدلال بالآية هو الإشكال الأخير.

3- ما يستفاد من قصّة يوسف عليه السلام من قوله تعالى: «قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ» «1»

حيث إنّ التعبير ب «حمل» يدلّ على عدم اعتبار معلوميّة المقدار في الجعالة (لأنّ مقدار حمل بعير أمر مجهول) وبالإستصحاب نثبته في شريعتنا، هذا أوّلًا.

وثانياً: أنّ قوله تعالى: «وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ» يدل على جواز ضمان ما لم يجب (ما لم يكن فعليّاً) حيث إنّه يثبت الضمان في الجعالة قبل أن

يتحقّق في الخارج عمل، ومقتضى استصحاب بقائه جواز ضمان ما لم يجب في شريعتنا أيضاً.

واجيب عنه: أوّلًا: بأنّه لا دليل على عدم كون حمل البعير معلوم المقدار، بل لعلّه كان معلوماً، كما أنّه كذلك اليوم في بعض البلاد، فيكون مقدار حمل الحمار (خروار) في بعض البلاد مائة منّ، وفي بعض آخر 75 منّاً، وفي بعض ثالث 45 منّاً.

وثانياً: لا دليل على أنّ ما وقع في تلك القضيّة كان بصيغة الجعالة، بل لعلّه كان مجرّد وعد بإعطاء حمل بعير بعنوان الجزاء والجائزة، كما نشاهده في يومنا هذا في بعض الإعلانات لكشف الضالّة.

وثالثاً: لا دليل على أنّ القصّة بتمامها كان بمحضر من يوسف حتّى يستفاد منها الامضاء والمشروعيّة.

انوار الأصول، ج 3، ص: 372

ورابعاً: ظاهر قوله تعالى: «كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ» إنّ كلّ ذلك كان أمراً صورياً وتوطئة لإبقاء يوسف أخاه عنده، لا أمراً واقعياً حتّى يستفاد منه حكم فقهي.

وخامساً: أنّ قول المؤذّن: «وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ» ليس من قبيل ضمان ما لم يجب الذي ثبت عدم جوازه، فالمختار كما ذكرنا في محلّه أنّ الدين الذي لم يتحقّق بعد ولكن تحقّقت مقتضياته جائز ضمانه، وليس هو من باب ضمان ما لم يجب، وذلك نظير ما هو رائج في زماننا عند العقلاء من مطالبة الضامن للأجير أو الخادم لأجل الخسارات التي يحتمل تحقّقه في المستقبل، ونظير عقد التأمين لو أدخلناه في باب الضمان فإنّ الضمان في مثل هذه الموارد جائز وغير داخل تحت الإجماع القائم على عدم جواز ضمان ما لم يجب، لحصول مقتضى الضمان فيها، ولا إجماع على البطلان في مثله.

4- ما يستفاد من قصّة يحيى في قوله تعالى: «فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الِمحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً

بِكَلِمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِنْ الصَّالِحِينَ» «1»

من جواز ترك النكاح واستحبابه، لأنّ الحصور في اللغة بمعنى تارك النكاح.

واجيب عنه أيضاً: أوّلًا: بأنّه من قبيل المدح على المنكشف لا الكاشف، كما إذا مدحنا من ردّ بعض الهدايا لكونه كاشفاً عن علوّ طبعه وغنى نفسه، مع أنّ الكاشف وهو ردّ الهدية مذموم، فمدح يحيى لكونه حصوراً وتاركاً للنكاح لعلّه كان من باب إنّه كاشف عن شدّة ورعه وكفّ نفسه عن الشهوات، كما احتمله بعض المفسّرين فتأمّل.

وثانياً: لا دليل على كون الحصور بمعنى تارك النكاح فإنّه في اللغة من مادّة الحصر بمعنى المنع عن المعصية وكفّ النفس عن الشهوات فيكون بمعنى المتّقي والوَرع.

وثالثاً: لعلّ هذا كان حكماً خاصّاً لشخص يحيى عليه السلام وكذلك عيسى عليه السلام، وذلك لما كان لهما من شرائط خاصّة فإنّ عيسى عليه السلام لا يزال كان مشتغلًا بالتبليغ عن مذهبه والتردّد من بلد إلى بلد وكذلك يحيى، حيث إنّه كان مبلّغاً لشريعة عيسى عليه السلام، ولا إشكال في جواز ترك النكاح لمصلحة أهمّ.

ورابعاً: من أركان الاستصحاب الشكّ اللاحق، ولا شكّ لنا في استحباب النكاح كما

انوار الأصول، ج 3، ص: 373

يدلّ عليه ما ورد في مذمّة ترك النكاح بل في استحباب الإنكاح.

5- ما يستفاد من قصّة أيّوب في قوله تعالى: «وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ» «1»

من عدم لزوم الحنث بالعدول عن الضرب بالسوط إلى الضرب بالضغث في باب النذور والأيمان.

ويمكن المناقشة فيه أيضاً: بأنّ العدول إلى الضغث لعلّه لم يكن من باب الوفاء باليمين أو النذر، بل من باب إنكشاف عدم استحقاق زوجة أيّوب للضرب بعد الرجوع، فانكشف أنّ تأخيرها كان عن عذر، فينكشف أنّ

اليمين أو النذر لم ينعقد لإعتبار الإباحة أو الرجحان فيهما.

إن قلت: فكيف أمر بالضرب بالضغث مع أنّ لازم ما ذكر سقوط الضرب من رأسه.

قلنا: لعلّه كان من باب رعاية حرمة إسمه تعالى، وحفظ ظاهر اليمين، كما يرى نظيره من حيث حفظ الظاهر والإحترام بالحدود الإلهية في الأخبار في أبواب الحدود والأيمان.

6- ما يستفاد من قوله تعالى: «وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ» «2»

من اعتبار أصل المساواة في باب القصاص، فيستصحب هو في شريعتنا.

إن قلت: إنّه لا حاجة في اعتبار المساواة إلى الاستصحاب لأنّ أصل القصاص من مسلّمات شريعة الإسلام، والمساواة من لوازم ماهية القصاص كما لا يخفى، مضافاً إلى أنّه يمكن إستفادتها من قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَى بِالْأُنثَى» «3».

قلنا: يجوز الاستدلال بالآية الاولى في موارد الشكّ، كما في ذي العين الواحدة، حيث إنّ المحتملات فيه ثلاثة: جواز القصاص فقط، وعدم جواز القصاص بل وجوب الديّة فقط، وجواز القصاص مع نصف الديّة، فيستدلّ بإطلاق قوله تعالى «والعين بالعين» على جواز خصوص القصاص في شريعة موسى عليه السلام ثمّ يستصحب في شريعتنا.

انوار الأصول، ج 3، ص: 374

نعم أنّه فرع وجود الاطلاق للآية وكونها في مقام البيان من هذه الجهة، مضافاً إلى أنّه يمكن أن يقال بعدم الحاجة إلى هذا الاستصحاب أيضاً، لإمكان استفادة ذلك من نفس الآية الثانية بقرينة ما ورد فيما قبلها وهو قوله تعالى: «إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ ...» «1»

فإن ظاهرها- على الأقل- هو الإمضاء لهذا الحكم الذي انزل في التوراة.

7- ما يستفاد من قصّة موسى وشعيب في قوله

تعالى: «قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَىَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَةَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ» «2»

أوّلًا من جواز الترديد في الزوجة حين إجراء عقد النكاح حيث قال: «إِحْدَى ابْنَتَىَّ هَاتَيْنِ» وثانياً من جواز الترديد في المهر أيضاً لقوله تعالى: «فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ» وثاثاً من جواز إعطاء المهر بأب الزوجة لقوله تعالى «تَأْجُرَنِي» فكان المهر عبارة عن عمل موسى لشعيب، ورابعاً من جواز وقوع عمل الحرّ مهراً في النكاح.

ولكن يرد على الأوّل والثاني بأنّهما مبنيّان على صدور هذا القول من شعيب في مجلس إجراء الصيغة لا مجلس المقاولة للنكاح ومقدار المهر، وأنّى لنا بإثبات ذلك.

وعلى الثالث بأنّ الإنتفاع باستيجار موسى عليه السلام كان لجميع أهل البيت ولم يكن حياتهم إلّا على المشاركة القريبة جدّاً فكان استيجار أبيها كاستيجارها بنفسها.

وعلى الرابع بأنّه لا حاجة إلى هذا الاستصحاب بعد وضوح المسألة في شريعتنا، فإنّه لا شكّ في الجواز.

التنبيه الثامن: الاصول المثبتة وعدم حجّيتها
اشارة

وتحقيق حالها فيها يطلب البحث في مقامات أربع:

1- في المراد من الأصل المثبت.

2- في أنّه لماذا ليس بحجّة.

3- في ما استثنى من الأصل المثبت.

انوار الأصول، ج 3، ص: 375

4- في الفرق بين مثبتات الأمارات ومثبتات الاصول.

المقام الأوّل: المراد من الأصل المثبت

فالمقصود من الأصل المثبت ترتيب الآثار الشرعيّة للمستصحب مع الواسطة العقليّة أو العادية.

توضيح ذلك: إذا كان المستصحب حكماً شرعياً فلا كلام في جواز استصحابه وترتيب آثاره، وأمّا إذا كان المستصحب موضوعاً من الموضوعات كحياة زيد فلا إشكال أيضاً في جواز استصحابه وترتيب أثره الشرعي من دون الواسطة، كبقاء زوجية زوجته وملكية أمواله، الذي يترتّب على حياة زيد بلا واسطة، وأمّا آثاره الشرعيّة مع الواسطة العقليّة مثل أنّ له خمسين سنة (إذا ترتّب عليه أثر شرعي بنذر وشبهه) أو الواسطة العادية كبياض لحيته (إذا صار أيضاً متعلّقاً للنذر مثلًا) فلا تترتّب عليه، ويسمّى الاستصحاب حينئذٍ بالأصل المثبت.

المقام الثاني: لماذا ليس الأصل المثبت بحجّة

فلابدّ من البحث على المباني المختلفة في معنى الحجّية التي قد مرّت الإشارة إليها في باب الأمارات إجمالًا.

فنقول: من المباني أنّ حجّية الأصل مثل الاستصحاب بمعنى جعل الحكم المماثل وهو المختار، ومعناه جعل حكم ظاهري مماثل لنفس المستصحب إذا كان المستصحب هو الحكم، أو جعل حكم ظاهري مماثل لحكم المستصحب إذا كان المستصحب هو الموضوع، ولا يخفى أنّ من فسّر الحجّية بالجري العملي أو التطبيق في مقام العمل أو الإلتزام بالحكم السابق يعود كلامه إلى جعل المماثل أيضاً، لأنّه لا نعرف من وجوب الجري العملي أو تطبيق العمل على مؤدّى الأصل إلّاجعل حكم ظاهري مماثل لمؤدّاه، وهكذا الإلتزام، فإنّ الإلتزام القلبي هنا غير مراد، والإلتزام العملي ليس إلّاما ذكرناه، فالعبارات شتّى والمراد واحد.

والمبنى الثاني عبارة عن جعل المنجّزية والمعذّرية، فلا يجعل الحكم المماثل، بل المجعول إنّما هو قضيّة «إن أصاب خبر الواحد مثلًا الواقع كان منجّزاً وإن خالف الواقع كان عذراً» وقد

انوار الأصول، ج 3، ص: 376

مرّ عدم صحّة هذا المبنى، لأنّ المنجّزية والمعذّرية من حكم العقل، ولا تنالها يد

الجعل.

والمبنى الثالث عبارة عن جعل صفة اليقين أو صفة المحرزية بالنسبة إلى الاستصحاب، وقد مرّ أيضاً أنّه غير معقول، لأنّ صفة اليقين من الامور التكوينية التي لا تتعلّق بها الجعل والإنشاء، ولا يمكن أن يصير الشاكّ قاطعاً بالإنشاء.

نعم يمكن أن يخاطب الشاكّ قاطعاً بالإنشاء.

نعم يمكن أن يخاطب الشاكّ بقوله «رتّب أثر اليقين»، ولكنّه يعود أيضاً إلى جعل الحكم الظاهري الموافق لمؤدّى الاستصحاب، وهكذا صفة المحرزية، لأنّها أيضاً من الامور التكوينية.

إذا عرفت هذا فلنعد إلى أصل البحث وهو عدم حجّية الأصل المثبت، وقد ذكر له وجوه عديدة:

الأوّل: ما أفاده الشيخ الأعظم، وإليك نصّ كلامه: «إنّ تنزيل الشارع المشكوك منزلة المتيقّن كسائر التنزيلات إنّما يفيد ترتيب الأحكام والآثار الشرعيّة المحمولة على المتيقّن السابق، فلا دلالة فيها على جعل غيرها من الآثار العقليّة والعادية، لعدم قابليتها للجعل، ولا على جعل الآثار الشرعيّة المترتّبة على تلك الآثار، لأنّها ليست آثاراً لنفس المتيقّن، ولم يقع ذوها مورداً لتنزيل الشارع حتّى تترتّب هى عليه» (انتهى).

وحاصل كلامه رحمه الله: أنّ الآثار مع الواسطة لا يجري فيها الاستصحاب لعدم وجود أركانه فيها، لأنّ اليقين السابق كان في خصوص حياة زيد مثلًا، لا ما يشمل لوازمه العقليّة والعادية في حال الشكّ.

الثاني: ما ذهب إليه المحقّق الخراساني في الكفاية، وحاصله: أنّ مفاد الأخبار ليس أكثر من التعبّد بالمستصحب وحده بلحاظ ما لنفسه من الآثار الشرعيّة، ولا دلالة لها بوجه على تنزيل المستصحب بلوازمه العقليّة والعادية حتّى تترتّب عليه آثارها أيضاً، فإنّ المتيقّن إنّما هو لحاظ آثار نفسه، وأمّا آثار لوازمه فلا دلالة هناك على لحاظها.

أقول: الظاهر أنّ نظره إلى إنّ إطلاقات «لا تنقض» لا تشمل المقام لأنّ من شرائط الأخذ بالإطلاق عدم وجود القدر المتيقّن

(على مبناه) وهو مفقود في ما نحن فيه، لوجود القدر المتيقّن وهو الآثار الشرعيّة من دون الواسطة.

انوار الأصول، ج 3، ص: 377

الثالث: ما أفاده المحقّق الحائري في الدرر، وحاصله: عدم شمول إطلاقات الأخبار لما نحن فيه، لوجود القدر المتيقّن، بل لإنصرافها إلى الآثار الشرعيّة بلا واسطة لأنّ الإبقاء العملي للشي ء ينصرف إلى إتيان ما يقتضيه ذلك الشي ء بلا واسطة» «1».

أقول: أمّا كلام المحقّق الخراساني فيرد عليه ما قرّر في محلّه من منع ما تبنّاه في مقدّمات الحكمة وإنّ منها عدم وجود القدر المتيقّن فإنّ لازمه سقوط أغلب المطلقات عن الاطلاق لأنّ القدر المتيقّن فيها موجود، ولا أقلّ من موارد سؤال الرواة، مع أنّ سيرة الفقهاء وديدنهم على أخذ الاطلاق فيها وإنّ المورد ليس بمخصّص.

وأمّا ما أفاده الشيخ الأعظم فيرد عليه أيضاً ما أورده المحقّق الخراساني عليه من أنّ أثر الأثر أثر، فلا مانع عقلًا من تنزيل المستصحب بلحاظ مطلق ما له من الأثر ولو بالواسطة «2».

والصحيح في المقام ما ذهب إليه المحقّق الحائري من أنّ الإطلاقات منصرفة إلى الآثار الشرعيّة بلا واسطة، ولتوضيحه لا بأس بإتيان أمثلة يكون الوجدان أقوى شاهد على إنصراف الأدلّة عنها:

منها: ما جاء في بعض الكلمات من أنّه إذا كان في الحوض كرّ من الماء، ثمّ وجدناه فارغاً من الماء وقد سقط فيه ثوب في البارحة وكان نجساً وكان ينغسل لو كان الماء باقياً. فإنّه لا إشكال في أنّ استصحاب بقاء الماء حين سقوط الثوب لا يثبت الإنغسال الذي يكون من الآثار العقليّة لبقاء الماء، حتّى يترتّب عليه أثره الشرعي وهو الطهارة.

انوار الأصول، ج 3، ص: 378

ومنها: ما إذا كان زيد جالساً في حجرته وشككنا في خروجه منها وعدمه، فإذا فرض إحراق الحجرة

فلا يثبت إحتراق زيد بإستصحاب بقائه إلى حين الإحتراق حتّى يترتّب عليه أثر القصاص.

ومنها: ما إذا كان الإناء مملوّاً من اللبن وشككنا في إنتقاله منه إلى إناء آخر، ثمّ كسره إنسان في ظلمة الليل مثلًا بحيث لو كان اللبن باقياً فقد أتلفه، فلا يثبت إتلاف اللبن باستصحاب بقاء اللبن حين الإنكسار حتّى يترتّب عليه أثره الشرعي وهو الضمان.

المقام الثالث: فيما استثنى من الأصل المثبت

وقد استثنى من عدم حجّية الأصل المثبت وانصراف الأدلّة عنه موارد خاصّة معدودة:

أحدها: ما إذا كانت الواسطة خفيّة، كما إذا استصحب رطوبة النجس من المتلاقيين مع جفاف الآخر فيحكم بنجاسة الملاقي الجافّ، مع أنّ تنجّسه ليس من أحكام ملاقاته للنجس رطباً، بل من أحكام سراية رطوبة النجاسة إليه وتأثّره بها، والسراية من الآثار العقليّة للملاقاة بالنجس رطباً، ولكنّها لا اعتبار بها لخفائها.

وأظهر منه ما مرّ سابقاً ممّا ورد في نفس أدلّة الاستصحاب من استصحاب الطهارة للصلاة، مع أنّ صحّة الصّلاة أثر لتقيّدها بالوضوء لا نفس الوضوء، والتقيّد بالوضوء من الآثار العقليّة لبقاء الوضوء، وهكذا في سائر الشرائط، لأنّ الجزء فيها إنّما هو التقيّد، وأمّا القيد فهو خارج، ولكن الإمام عليه السلام حكم بحجّية الاستصحاب، وليس ذلك إلّالمكان خفاء الواسطة.

ونظيره أيضاً استصحاب بقاء شهر رمضان وترتيب أثر صحّة الصيام عليه، مع أنّ الصحّة من آثار وقوع الصيام في شهر رمضان، ولكنّه لا بأس به أيضاً لخفاء الواسطة.

ثانيها: ما إذا كانت الواسطة جليّة جدّاً بحيث يرى العرف ملازمة بين تنزيل المستصحب وتنزيلها، فإذا نزّل المستصحب منزلة المتيّقّن السابق نزّلت الواسطة تبعاً كذلك، فيجب ترتيب أثرها الشرعي قهراً.

وإن شئت قلت: إنّ شدّة وضوح الواسطة وجلائها توجب عدّ أثر الواسطة أثراً لذي انوار الأصول، ج 3، ص: 379

الواسطة، نظير أصالة عدم دخول

هلال شوّال أو بقاء شهر رمضان في يوم الشكّ المثبت لكون الغد يوم العيد فيترتّب عليه أحكام العيد من الصّلاة والغسل وزكاة الفطرة وغيرها، فإنّ إتّصاف الغد بصفة العيد بعد استصحاب بقاء رمضان في يوم الشكّ من اللوازم العقليّة قطعاً، لكنّ العرف لا يفهمون من وجوب ترتيب آثار عدم انقضاء رمضان وعدم دخول شوّال إلّا ترتيب أحكام آخرية ذلك اليوم لشهر، وأوّلية غده لشهر آخر، لأجل وضوح لزوم أحدهما للآخر وعدم انفكاكهما في جعل الأحكام.

ثالثها: ما إذا كانت الواسطة والمستصحب من قبيل المتضايفين كاستصحاب بقاء زيد زوجاً، الذي يلازم بقاء هند مثلًا على زوجيتها، ولا يفهم العرف من جعل أحدهما إلّاجعل الآخر، ولا يصحّ عندهم ترتيب آثار الزوجيّة على خصوص الزوج دون زوجته بل يرون هذا من قبيل التناقض في الجعل (وإن لم يكن كذلك حقيقةً).

هذا- ويمكن جعل هذا المورد من مصاديق جلاء الواسطة الذي مرّ بيانه آنفاً، والأمر في عدّهما أمرين مختلفين أو مصداقين لأمر واحد سهل.

هذا كلّه ما استثنى من الأصل المثبت.

ولكن قد اورد عليها من جانب الأعلام إشكالات:

الأوّل: ما أورده المحقّق النائيني على الشيخ الأعظم رحمهما الله في القسم الأوّل وهو ما إذا كانت الواسطة خفية، وتبعه بعض أعاظم تلامذته، وهو: «أنّه لا مسوّغ للأخذ بهذه المسامحة، فإنّ الرجوع إلى العرف إنّما هو لتعيين مفهوم اللفظ عند الشكّ فيه أو في ضيقه وسعته مع العلم بأصله في الجملة، لأنّ موضوع الحجّية هو الظهور العرفي، فالمرجع الوحيد في تعيين الظاهر هو العرف، سواء كان الظهور من جهة الوضع أو من جهة القرينة المقاليّة والحاليّة، ولا يجوز الرجوع إلى العرف والأخذ بمسامحاتهم بعد تعيين المفهوم وتشخيص الظهور اللفظي كما هو المسلّم في مسألة الكرّ

... وكذا في مسألة الزكاة» «1».

أقول: يرد عليه:

أوّلًا: أنّ المسامحات العرفيّة على قسمين: قسم منها ما يكون العرف فيه ملتفتاً إلى انوار الأصول، ج 3، ص: 380

تسامحه كما في باب الكرّ والنصاب، فإنّه يعلم أنّ 999 مثقالًا من الذهب أو الماء ليس الف مثقال، ولكن يسامح في اطلاق الألف عليه، ففي هذا القسم، الصحيح كما قال، أي عدم حجّية التسامح العرفي، وقسم منها ما لا يكون كذلك، أي يكون العرف غافلًا عنه ولا يلتفت إليه ولو عند الدقّة، كما في مثل الدم فهو يحكم بأنّ لونه ليس دماً، مع أنّه يمكن أن يقال: بأنّ انتقال العرض من شي ء إلى شي ء آخر بدون انتقال معروضه محال عقلًا، فبقاء اللون دليل على بقاء الأجزاء الصغار من الدم، وكذا في ما إذا لاقت يده الميتة وأصاب بها رائحتها، فهو يحكم بعد الاغتسال بعدم وجود أجزاء الميتة في اليد، ففي مثل هذه الموارد لا إشكال في الحجّية، وإلّا كان على الشارع اخراج العرف عن الغفلة، ولا إشكال في أنّ خفاء الواسطة قد يكون من هذا القسم.

ثانياً: أنّ موارد خفاء الواسطة داخلة في القسم الأوّل من كلامه، أي ما إذا كان الشكّ في تعيين المفهوم أو سعته وضيقه، فيكون المرجع فيها العرف، وبعبارة اخرى: كان الوجه في عدم حجّية المثبتات انصراف دليل «لا تنقض» عنها، وهو ليس جارياً في المقام، أي لا يكون ذلك الاطلاق منصرفاً عن موارد خفاء الواسطة عند العرف.

وإن شئت قلت: يستفاد من تعميم الشارع حجّية الاستصحاب لموارد خفاء الواسطة في مورد حديث زرارة ورواية علي بن محمّد القاساني أنّ أثر الأثر أثر عنده في هذه الموارد.

الثاني: ما أورده المحقّق الأصفهاني رحمه الله على صاحب الكفاية في المورد

الثاني والثالث (مورد جلاء الواسطة والمتلازمين) وحاصله: «أنّه لا حاجة إلى إثبات بقاء أحد المتضايفين باستصحاب الآخر، بل يجري الاستصحاب في كلّ واحد منهما.

هذا في المتلازمين، وهكذا في جلاء الواسطة (الذي مثّل له بباب العلّة والمعلول كاستصحاب حركة اليد وإثبات آثار حركة المفتاح) فيمكن إجراء استصحاب حركة المفتاح في عرض استصحاب حركة اليد، للعلم بوجود كلّ واحد منهما» «1».

ويرد عليه أيضاً: أنّ كلامه في مورد جلاء الواسطة صادق في مثل ما ذكره من مثال حركة اليد والمفتاح وما أشبهه من موارد العلّة والمعلول، لا في مثل ما ذكرناه من مثال انوار الأصول، ج 3، ص: 381

استصحاب بقاء رمضان في يوم الشكّ، لعدم جريان الاستصحاب بالنسبة إلى كون الغد عيداً، فلا يمكن إثباته إلّامن طريق استصحاب بقاء عدم دخول هلال شوّال في يوم الشكّ.

الثالث: وجود الأصل المعارض في موارد خفاء الواسطة دائماً، لأنّ استصحاب بقاء الرطوبة في الذباب لإثبات نجاسة الثوب مثلًا معارض مع استصحاب بقاء الطهارة في الثوب.

وفيه: أيضاً أنّ الاستصحاب الثاني محكوم للأوّل، لأنّه من قبيل الأصل المسبّبي في مقابل الأصل السببي، حيث إنّه بعد جريان استصحاب بقاء الرطوبة لا يبقى شكّ في نجاسة الثواب تعبّداً حتّى تصل النوبة إلى استصحاب طهارته.

فظهر أنّ الوارد من هذه الإشكالات إنّما هو إشكال المحقّق الأصفهاني رحمه الله في خصوص المتضايفين وأشباهه.

هذا كلّه في المقام الثالث.

المقام الرابع: الفرق بين مثبتات الاصول والأمارات

المشهور بين المتأخّرين من الاصوليين حجّية مثبتات الأمارات مطلقاً، فيثبت بالأمارة مؤدّيها وملزومها ولوازمها وملازماتها ولو بالف واسطة، وهذا بخلاف مثبتات الاصول.

والقول الثاني: ما ذهب إليه بعض أساتذتنا العظام وهو عدم الحجّية مطلقاً في كلتيهما.

والثالث: التفصيل بين الموارد المختلفة، وهو المختار وسيأتي بيانه وشرحه.

أمّا القول الأوّل فإستدلّ عليه ببيانات أربع:

البيان الأوّل: ما أفاده

المحقّق الخراساني رحمه الله وهو: «أنّ الأمارة كما تحكي عن المؤدّي ونشير إليه، كذلك تحكي عن أطرافها من ملزومها ولوازمها وملازماتها، لأنّ مقتضى اطلاق دليل اعتبارها لزوم تصديقها في حكايتها في جميع ذلك».

وتوضيحه: أنّ الأمارة تنحلّ إلى حكايات متعدّدة مطابقية والتزامية، فهى كما تحكي عن المؤدّي بالمطابقة فكذلك تحكي عن أطرافه بالالتزام (فتخرج في الواقع عن كونها مثبتة على تعبير بعض محشّي الكفاية).

انوار الأصول، ج 3، ص: 382

ويمكن أن يناقش فيه:

أوّلًا: بأنّ كلامه وإن كان صادقاً في مثل خبر الواحد، لأنّ له الحكاية، والحكاية عن الشي ء حكاية عن لوازمه (وكذا الإقرار والبيّنة) ولكنّه لا يصدق في مثل أصالة اليد، حيث إنّها لا تحكي ولا تخبر عن شي ء، وليس لها لسان حتّى تنحلّ إلى حكايات عديدة.

وثانياً: أنّه يقبل في نفس خبر الواحد أيضاً في الجملة لا بالجملة، لأنّ انحلاله إلى إخبارات عديدة مبنى على التفات المخبر باللوازم والملازمات، وأمّا اللوازم التي ليس المخبر عالماً بها ولا متوجّهاً إليها فلا يصحّ أن يكون الإخبار عن الملزوم إخباراً عن تلك اللوازم.

البيان الثاني: أنّ حجّية الأمارة هى من باب أنّها توجب حصول الظنّ نوعاً، والظنّ بشي ء ظنّ بلوازمه.

وفيه: أنّه المبني مخدوش، لأنّ مناط الحجّية ليس هو حصول الظنّ النوعي، وإلّا يلزم حجّية الظنّ مطلقاً، وهو- على الظاهر- ممّا لا يلتزم به المستدلّ نفسه.

البيان الثالث: ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله من «أنّ الأمارة إنّما تكون محرزة للمؤدّي وكاشفة عنه كشفاً ناقصاً، والشارع بأدلّة اعتبارها قد أكمل جهة نقصها، فصارت الأمارة ببركة اعتبارها كاشفة ومحرزة كالعلم، وبعد إنكشاف المؤدّى يترتّب عليه جميع ما للمؤدّى من الخواصّ والآثار على قواعد سلسلة العلل والمعلولات واللوازم والملزومات» «1».

أقول: إنّ كلامه هذا أيضاً من آثار

مبناه المعروف من أنّ معنى الحجّية جعل صفة المحرزية والكاشفيّة واليقين، فكأنّ الشارع يقول: أنّ لمفهوم الحجّة قسمين من المصداق: قسم تكويني، وقسم اعتباري يحتاج إلى جعل واعتبار ممّن بيده الاعتبار، فبعد جعل الحجّية يصير مصداقاً واقعياً للعلم فيترتّب عليها لوازمها وملازماتها كالعلم التكويني.

ولكن قد مرّ كراراً أنّ صفة اليقين أمر تكويني لا يمكن جعلها في عالم الاعتبار، وينبغي أن نشير هنا إلى ما أفاد المحقّق العراقي رحمه الله في تعليقته على فوائد الاصول، فإنّه قال: «الطريقيّة بمعنى تتميم الكشف وتماميّة الانكشاف المساق لإلغاء الاحتمال بحقيقته يستحيل أن تناله يد الجعل تشريعاً» «2».

انوار الأصول، ج 3، ص: 383

البيان الرابع: ما أفاده بعض الأعاظم في رسائله حيث قال: «أمّا وجه حجّية مثبتات الأمارات فهو أنّ جميع الأمارات الشرعيّة إنّما هى أمارات عقلائيّة أمضاها الشارع، وليس فيها ما تكون حجّيتها بتأسيس من الشرع كظواهر الألفاظ وقول اللغوي على القول بحجّيته وخبر الثقة ... ومعلوم أنّ بناء العقلاء على العمل بها إنّما هو لأجل إثباتها الواقع لا للتعبّد بالعمل بها، فإذا ثبت الواقع بها تثبت لوازمه وملزوماته وملازماته بعين الملاك الذي لنفسه فكما أنّ العلم بالشي ء موجب للعلم بلوازمه وملزوماته وملازماته مطلقاً فكذلك الوثوق به موجب للوثوق بها ... ولو حاولنا إثبات حجّية الأمارات بالأدلّة النقليّة لما أمكن لنا إثبات حجّية مثبتاتها، بل ولا لوازمها الشرعيّة إذا كانت مع الواسطة الشرعيّة» «1».

وفيه: أوّلًا: أنّا نمنع الصغرى، وهى كون جميع الأمارات إمضائيّة، لأنّ بعض الأمارات كالقرعة لا إشكال في أنّها تأسيسيّة فيما إذا كان هناك واقع في البين ولم تكن القرعة لمجرّد حسم مادّة النزاع، كما هو كذلك غالباً، فإنّ المنساق من أدلّة حجّية القرعة في الشرع أنّها كاشفة عن

الواقع غالباً أو دائماً إذا اجتمع فيها شرائطها، فقد ورد في الحديث النبوي: «ليس من قوم تقارعوا ثمّ فوّضوا أمرهم إلى اللَّه إلّاخرج السهم الأصوب» وكذا ما ورد في الدعاء المأثور عند إجراء القرعة: «اللهمّ ربّ السموات السبع أيّهم كان الحقّ له فأدّه إليه» وفي رواية اخرى:

«اللهمّ أنت اللَّه لا إله إلّاأنت عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون فبيّن لنا أمر هذا المولود» وكذا ما ورد في قضيّة يونس وقضيّة عبدالمطّلب وغير ذلك من القرائن التي يغني تظافرها عن ملاحظة إسنادها، فمن جميع ذلك يعلم أنّ القرعة أمارة شرعيّة حيث لا أمارة، ويؤيّده ما ورد في أمر الاستخارة فإنّها نوع من القرعة يطلب منها الكشف عن المصالح الواقعيّة لا مجرّد رفع الحيرة «2».

إن قلت: إذا كانت القرعة من الأمارات فلابدّ من تقديمها على الاصول العمليّة مع أنّه لا يقول به أحد.

قلنا: المستفاد من ظواهر أدلّة القرعة أو صريحها أنّ كاشفيتها منحصرة بما إذا أشكل الأمر وسدّت أبواب الحلّ وطرق الفتح، وهذا لا يصدق إلّافيما إذا لم توجد في البين أمارة ولا

انوار الأصول، ج 3، ص: 384

أصل، فالقرعة أمارة تكشف عن الواقع حيث لا أمارة ولا أصل.

هذا كلّه في القرعة.

وهكذا سوق المسلمين، فهو أيضاً لا أثر له عند العقلاء، بل هو أمارة إخترعها الشارع المقدّس، وجعلها كاشفة عن طهارة ما يشتريه المكلّف من سوق المسلمين أو حلّيته من الذبائح وشبهها.

ثانياً: لو سلّمنا وجود جميع الأمارات بين العقلاء لكنّا لا نقبل إمضاء جميعها من جانب الشارع بل فيه تفصيل سيأتي توضيحه عند بيان المختار.

هذا كلّه في القول الأوّل.

أمّا القول الثاني: فهو ما ذهب إليه بعض الأعلام في مصباح الاصول من عدم الفرق بين

الأمارات والاستصحاب وعدم حجّية المثبتات في المقامين، لأنّ عمدة الدليل على الفرق في نظره إنّما هو ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله (من أنّ العلم الوجداني شي ء يقتضي ترتّب جميع الآثار حتّى ما كان منها بتوسّط اللوازم العقليّة أو العادية ولو بالف واسطة، فكذا العلم التعبّدي، بخلاف الاستصحاب، فإنّ المجعول فيه هو الجري العملي على طبق اليقين السابق، وحيث إنّ اللازم لم يكن متيقّناً فلا وجه للتعبّد به) ولكنّه أجاب عنه بأنّ «ما ذكره غير تامّ لأنّ العلم الوجداني إنّما يقتضي ذلك لأنّه من العلم بالملزوم يتولّد العلم باللازم بعد الالتفات إلى الملازمة، فترتّب آثار الملزوم ليس من جهة العلم بالملزوم، بل من جهة العلم بنفس اللازم المتولّد من العلم بالملزوم، ولذا يقولون: أنّ العلم بالنتيجة يتولّد من العلم بالصغرى والعلم بالكبرى ... بخلاف العلم التعبّدي بالمجعول، فإنّه لا يتولّد منه العلم الوجداني باللازم- وهو واضح- ولا العلم التعبّدي به لأنّ العلم التعبّدي تابع لدليل التعبّد، وهو مختصّ بالملزوم دون لازمه، لما عرفت من أنّ المخبر إنّما أخبر عنه لا عن لازمه».

ثمّ استثنى باب الأخبار وقال: «نعم تكون مثبتات الأمارة حجّه في باب الأخبار فقط لأجل قيام السيرة القطعيّة من العقلاء على ترتيب اللوازم على الأخبار بالملزوم ولو مع الوسائط الكثيرة، ففي مثل الإقرار والبيّنة وخبر العادل يترتّب جميع الآثار ولو كانت بوساطة

انوار الأصول، ج 3، ص: 385

اللوازم العقليّة أو العادية» «1».

ولكن يرد عليه أيضاً: أنّ كلامه مبنى على انحصار وجوه الفرق بين مثبتات الأمارات والاصول فيما ذكره المحقّق النائيني رحمه الله، وهو ممنوع لما مرّ من الوجوه المختلفة، وسيأتي عند بيان المختار مزيد توضيح للمقام.

أمّا القول الثالث: (وهو المختار) فهو التفصيل بين اللوازم الذاتية للأمارة

فتكون حجّية، وبين اللوازم الإتّفاقية فلا تكون حجّة، ولإثباته لابدّ من ذكر مقدّمة في بيان الفرق بين الأمارة والأصل فنقول.

المشهور بينهم أنّ الفرق بين الأمارة والأصل أنّ الجهل بالواقع والشكّ فيه مأخوذ في موضوع الأصل دون الأمارة فإنّ الشكّ إنّما هو موردها لا موضوعها.

ولكنّه ممّا لا وجه ولا أصل له، والصحيح أنّ الجهل بالواقع والشكّ فيه أخذ في كليهما، والوجه في ذلك ما جاء في بعض الكلمات من «أنّ الاهمال بحسب مقام الثبوت غير معقول فلا محالة تكون حجّية الأمارات إمّا مطلقة بالنسبة إلى العالم والجاهل، أو مقيّدة بالعالم والجاهل، أو مختصّة بالجاهل، ولا مجال للالتزام بالأوّل والثاني فإنّه لا يعقل كون العمل بالأمارة واجباً على العالم بالواقع فبقى الوجه الأخير، وهو كون الأمارة مختصّة بالجاهل وهو المطلوب (هذا بالنسبة إلى مقام الثبوت).

مضافاً إلى أنّه في مقام الإثبات أيضاً مقيّد به في لسان بعض الأدلّة كقوله تعالى:

«فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَاتَعْلَمُونَ»» «2»

(وقد استدلّ القوم بالآية في مباحث حجّية خبر الواحد تارةً في مباحث الاجتهاد والتقليد اخرى).

والصحيح في الفرق بينهما أنّ للأمارة كاشفية عن الواقع وإن كان كشفاً ظنّياً غير تامّ، بخلاف الأصل فليس فيه كشف عن الواقع أصلًا، ولا فرق في ذلك بين أن نأخذ الأمارة والاصول من الشارع المقدّس أو من بناء العقلاء، فإنّ لهم أيضاً أمارات واصول، بل الأمارات الموجودة في الشرع متّخذة منهم غالباً كما عرفت آنفاً، وكذا الاصول الأربعة فإنّ جميعها

انوار الأصول، ج 3، ص: 386

موجودة بين العقلاء من أهل العرف. ومنها الاستصحاب فإنّهم يجرون الاستصحاب في القوانين والمناصب كالوكالة ومقام القضاء والولاية وغيرها بعنوان الأصل لا الأمارة، فهم ما دام لم يصل بأيديهم حكم جديد يعملون بما سبق.

إذا عرفت هذا

فنقول: الحقّ في المسألة هو التفصيل بين اللوازم الذاتيّة واللوازم الاتّفاقية في باب الأمارات، وإنّ الأولى تثبت بالأمارة دون الثانية من دون فرق بين ما كانت مخترعة بيد الشارع وما كان عليه سيرة العقلاء، ومن دون فرق بين أن تكون الأمارة من الأخباريات أو لا، فإذا ثبت بالقرعة أنّ هذا المولود لزيد مثلًا فلا إشكال في ترتّب لوازمه الذاتيّة عليه من كون فلان خاله وكون فلان عمّه، مع أنّ القرعة ليست من الأخباريّات، بخلاف اللوازم العرضية الإتّفاقية، كما إذا أثبتنا بالبيّنة أو بمقتضى اليد أنّ هذه الدار لزيد وعلمنا من الخارج أنّ دار زيد كانت قبال القبلة، فلا يثبت بهما جهة القبلة، مع أنّ خبر الواحد من الأمارات الموجودة فيما بين العقلاء، ويكون من الأخباريات أيضاً، وهكذا إذا قامت أمارة كأذان العارف الثقة على دخول الوقت وعلمنا من الخارج وجود ملازمة اتّفاقية بين جهة القبلة وبين وقوع الشمس بين العينين حين دخول الوقت، في مكان خاصّ، فلا يمكن إثبات جهة القبلة من ناحية إثبات دخول الوقت، وكذا العكس، فإذا قامت أمارة على ثبوت القبلة (كقبور المؤمنين) فلا يمكن إثبات دخول الوقت من مواجهة القبلة في بعض الأمكنة لملازمة اتّفاقية بينهما.

التنبيه التاسع: بعض تطبيقات الأصل المثبت

وهو في الواقع تتمّة للتنبيه السابق وتكميل له، والبحث فيه يقع في ثلاثة امور:

1- في أنّه لا فرق في اللازم العادي أو العقلي بين كونه مبايناً مع المستصحب رأساً وبين كونه متّحداً معه وجوداً بحيث لا يتغايران إلّامفهوماً، فالأصل مثبت في كليهما.

ولتوضيح المقام والتحقيق في البحث لابدّ من الإشارة إلى الأقسام المختلفة للكلّي، فنقول:

تارةً يكون الكلّي منتزعاً من مرتبة ذات الشي ء كما في الحيوان والإنسان والناطق ونحو ذلك.

انوار الأصول، ج 3، ص: 387

واخرى ينتزع من الشي ء

بملاحظة إتّصافه بأمر ليس بحذائه شي ء في الخارج، ويكون من الخارج المحمول لا بضميمة شي ء كوصف الممكن للإنسان.

وثالثاً: ينتزع من الشي ء بملاحظة اتّصافه بعرض من الأعراض بحيث يكون من الامور الحقيقيّة المتأصّلة التي بحذائها شي ء في الخارج غير معروضها، وإن كان وجوده في ضمن وجود معروضه وكان من المحمول بالضميمة، كما في الأسود والأبيض والقاعد والقائم ونحو ذلك.

هذه أقسام ثلاثة للكلّي.

ثمّ نقول: قد يتوهّم أنّه لا يجوز استصحاب الفرد وإجراء أحكام الكلّي عليه في جميع الأقسام الثلاثة حتّى القسم الأوّل الذي يكون من الذاتيات، لأنّ حيثية زيدٍ المستصحب مثلًا غير حيثية كونه إنساناً، فيكون الجميع من الأصل المثبت.

وقد يقال: بأنّ الاستصحاب مثبت في الأخيرين لا في الأوّل، لاتّحاد الكلّي فيه مع المستصحب اتّحاداً ذاتياً، فأثر الكلّي أثر للمستصحب حقيقة.

ويمكن أن يقال بأنّه مثبت في خصوص الأخير، لأنّ الأثر في كلّ واحد من القسمين الأوّلين يكون لنفس المستصحب واقعاً، حيث لا يكون بحذاء ذلك العنوان الكلّي (المتّحد مع المستصحب وجوداً) شي ء آخر في الخارج غير المستصحب، بخلاف القسم الثالث لأنّ الأثر فيه ليس لنفس المستصحب واقعاً بل لما هو من اعراضه وهو السواد والبياض والقيام والقعود ونحو ذلك.

أقول: أوّلًا: أنّه لا فائدة في هذا النزاع لأنّه لا حاجة في إثبات آثار الكلّي في هذه الأقسام إلى استصحاب الفرد بعد ما كان نفس الكلّي أيضاً متيقّناً سابقاً، لأنّ استصحاب نفس الكلّي حينئذٍ يكون جارياً ومغنياً عن استصحاب الفرد.

ثانياً: لو أغمضنا عن ذلك فإنّ الصحيح هو القول الثاني، أي عدم كون الاستصحاب مثبتاً في الأوّل دون الأخيرين، لأنّ الكلّي في القسم الأوّل ليس في الواقع من اللوازم العقليّة للمستصحب، لكونه منتزعاً من مقام ذاته ويكون متّحداً معه ذاتاً،

بخلاف الأخيرين.

2- أنّه لا فرق في الأثر المستصحب أو المترتّب على المستصحب بين أن يكون حكماً تكليفياً أو حكماً وضعيّاً، وبتعبير آخر: بين أن يكون حكماً مجعولًا مستقلًا أو مجعولًا تبعاً كالشرطيّة والمانعيّة.

انوار الأصول، ج 3، ص: 388

قد يقال: أنّ الأحكام الوضعيّة على ثلاثة أقسام:

قسم منها ما يقع تحت يد الجعل ذاتاً واستقلالًا نظير الزوجيّة والملكيّة.

وقسم منها ما يقع تحت يد الجعل بمنشأ انتزاعه كالجزئيّة والشرطيّة للمكلّف به، فإنّ شرطيّة الطهارة أو مانعية النجاسة مجعول تبعي وأمره بيد الشارع وضعاً ورفعاً، لكن من طريق وضع منشأ انتزاعه ورفعه.

وقسم ثالث ما لا يكون مجعولًا للشارع لا نفسه ولا منشأ انتزاعه، لكونه من الامور التكوينيّة كشرائط التكليف، مثل دلوك الشمس للصلاة وغيره ممّا يكون داعياً وباعثاً للمولى على الحكم (ولكن قد ذكرنا سابقاً أنّ شرائط التكليف أيضاً ترجع إلى قيود الموضوع فتكن مجعولةً).

أمّا القسم الأوّل فقال المحقّق الخراساني رحمه الله بعدم كون الاستصحاب فيه مثبتاً، وأمّا القسم الثاني فقد يتوهّم كون الاستصحاب فيه مثبتاً لكونه من الامور الانتزاعيّة العقليّة لا الآثار الشرعيّة، ولكن أجاب عنه المحقّق الخراساني رحمه الله بأنّه أيضاً مجعول للشارع تبعاً بجعل منشأ انتزاعه فأمره أيضاً بيد الشارع وضعاً ورفعاً، فلا يكون الاستصحاب فيه مثبتاً، وأمّا القسم الثالث فمن الواضح أنّ الاستصحاب فيه مثبت.

أقول: أوّلًا: أنّ هذا النزاع أيضاً ممّا لا طائل تحته، لأنّه لا حاجة إلى استصحاب شرطيّة الطهارة مثلًا حتّى يقال بأنّه مثبت، بل يكفي استصحاب حكم تكليفي يوجد في جنب هذا الحكم الوضعي، وهو مفاد قوله تعالى «إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا ...» فيكفي استصحاب وجوب الوضوء عن استصحاب شرطيّة الوضوء للصلاة.

وثانياً: أنّ معنى الأصل المثبت في كلام المحقّق الخراساني رحمه الله

في المقام نطاقه أوسع ممّا مرّ، حيث إنّه في ما سبق كان عبارة عن ترتيب الآثار الشرعيّة بوساطة الآثار العقليّة أو العادية على المستصحب، وفي المقام يعمّ ما إذا كان نفس المستصحب أو الأثر المترتّب عليه بلا واسطة أمراً عقيّاً ولم يكن له أثر شرعي، وبهذا يندفع ما أورده المحقّق الأصفهاني رحمه الله عليه من هذه الناحية.

3- في أنّه لا فرق أيضاً في المستصحب أو المترتّب على المستصحب بين أن يكون هو ثبوت حكم ووجوده، أو نفيه وعدمه.

انوار الأصول، ج 3، ص: 389

فقد يقال: إذا كان المستصحب أو الأثر المترتّب عليه عدم الحكم كان الاستصحاب مثبتاً، لأنّ العدم ليس ممّا يقع تحت يد الجعل، إمّا بلحاظ نفسه فواضح، وإمّا بلحاظ آثاره من الثواب أو العقاب فلأنّها من الآثار العقليّة.

ولكن أجاب عنه (بحقٍّ) المحقّق الخراساني: أوّلًا: بأنّ نفي الأثر وعدمه أمره بيد الشارع كأمر ثبوته ووجوده، وثانياً: بأنّ عدم اطلاق الحكم على نفي الأثر غير ضائر، إذ ليس هناك ما دلّ على اعتباره بعد صدق نقض اليقين بالشكّ على رفع اليد عنه كصدقه على رفع اليد عن ثبوته ووجوده.

وعلى هذا فيكون استصحاب البراءة المتيقّنة حال الصغر أو الجنون جارياً، ولا يرد عليه ما أورده الشيخ الأعظم رحمه الله من أنّ عدم استحقاق العقاب في الآخرة ليس من اللوازم المجعولة الشرعيّة، لأنّ عدم استحقاق العقوبة وإن لم يكن من اللوازم المجعولة الشرعيّة لكن عدم المنع من الفعل (أو عدم التكليف) بنفسه أمر قابل للاستصحاب من دون حاجة إلى ترتّب أثر مجعول عليه، وذلك لما عرفت آنفاً من عدم التفاوت في المستصحب أو المترتّب على المستصحب بين أن يكون هو ثبوت الحكم ووجوده، أو عدمه ونفيه، فيترتّب عليه أثره

القهري وهو عدم ترتّب العقاب لأنّه وإن كان لازماً عقليّاً له، ولكنّه لازم مطلق لعدم المنع ولو في الظاهر، وسيأتي في التنبيه اللاحق أنّ اللازم العقلي أو العادي إنّما لا يثبت بالاستصحاب إذا كان لازماً للوجود الواقعي، وأمّا إذا كان لازماً للوجود الأعمّ من الظاهري والواقعي فهذا ممّا يثبت به بلا كلام.

التنبيه العاشر: اللازم المطلق

في أنّ ما تقدّم من عدم ترتّب اللازم العادي أو العقلي ولا الأثر الشرعي المترتّب عليه إنّما هو اللازم العادي أو العقلي للمستصحب واقعاً لا اللازم المطلق له ولو في الظاهر (أي سواء كان لوجوده الواقعي أو الظاهري) فليس الاستصحاب مثبتاً بالنسبة إليه، نظير ترتّب الإجزاء على الطهارة الاستصحابيّة، حيث إنّ شرط الصّلاة هو الأعمّ من الطهارة الواقعيّة والظاهريّة فيترتّب عليها الإجزاء وإن كان من آثارها العقليّة، ونظير ترتّب عدم العقاب على انوار الأصول، ج 3، ص: 390

استصحاب عدم التكليف الذي مرّ ذكره آنفاً، وهذا من القضايا التي قياساتها معها، فإنّ الأثر العقلي إذا كان أثراً للحكم الظاهري والواقعي معاً، والمفروض ثبوت موضوعه وهو الحكم الظاهري هنا، فيترتّب عليه بلا إشكال.

ثمّ إنّ هيهنا فروعاً فقهيّة تذكر عادةً في ذيل الأصل المثبت، ولكنّا تركنا البحث عنها إلى محلّها في الفقه.

التنبيه الحادي عشر: لزوم كون المستصحب حكماً شرعيّاً أو ذا حكم شرعي ولو بقاء

لا إشكال ولا كلام في أنّه لا بدّ أن يكون المستصحب حكماً شرعياً أو موضوعاً ذا حكم شرعي كما أشرنا إليه سابقاً، لأنّه إن لم يكن كذلك كان التعبّد به من الشارع لغواً فلا معنى للحكم باستصحاب بقاء تلك القطعة من الحجر مثلًا المطروحة في أرض كذا أو ذلك الحيوان الموجود في الأجمّة.

هذا- ولكنّه لا يخفى أنّه يكفي كون المستصحب كذلك ولو بقاءً ولا يعتبر كونه حكماً شرعياً أو ذا حكم شرعي عند الحدوث فلو كانت اليد نجسةً قبل الظهر مثلًا ولم يكن لهذه النجاسة أثر شرعي لعدم وجوب الصّلاة مثلًا في ذلك الوقت ولا شي ء آخر ممّا يعتبر فيه الطهارة ثمّ شككنا بعد الظهر في طهارتها كان استصحاب النجاسة جارياً بلا ريب لكونه موضوعاً ذا أثر شرعي في هذا الوقت وهو عدم جواز الصّلاة بها.

والوجه في

ذلك أنّ الاستصحاب تعبّد من جانب الشارع في الآن اللاحق، فيكفي وجود الأثر في هذا الآن، فيشمله اطلاق «لا تنقض»، لصدق نقض اليقين بالشكّ على رفع اليد عمّا تيقّن به مطلقاً ولو كان حكماً أو موضوعاً ذا حكم بقاء لا حدوثاً.

ولذلك نقول بحجّية استصحاب العدم الأزلي في الشبهات الحكميّة فيما إذا كان الشكّ في أصل جعل حكم من جانب الشارع وعدمه، مع أنّه لم يكن للمستصحب (وهو عدم الحكم الفلاني) أثراً في الأزل.

إن قلت: العدم الأزلي لا يتصور في الأحكام، لإمكان وجودها في علم اللَّه على نهج انوار الأصول، ج 3، ص: 391

القضايا الحقيقيّة، فلا يقين سابق بهذا العدم حتّى يمكن استصحابه.

قلنا: أوّلًا: إنشاء الأحكام كذلك في الأزل لغو لا يصدر من الشارع الحكيم.

ثانياً: وجود الأحكام على نهج القضايا الإنشائية الحقيقيّة في علم اللَّه من الأزل لا معنى محصّ له، لأنّ الإنشاء أمر حادث ووعاؤه الذهن، فلابدّ فيه من وجود ذهن نبوي أو ولوي، والذي كان اللَّه تبارك وتعالى عالماً به إنّما هو صدور الإنشاء من جانبه فيما بعد، لا أنّه صدر.

ثالثاً: يمكن دعوى الإجماع على عدم وجود هذه الأحكام حتّى بصورها الإنشائيّة في الأزل، بل قبل بعث النبي صلى الله عليه و آله، لأنّ الإجماع حاصل على نزول الأحكام تدريجياً، والقول بنزول القرآن عليه صلى الله عليه و آله مرّتين: مرّة دفعيّاً ومرّة تدريجيّاً أيضاً لا ينافي ما ذكرنا فإنّه على كلّ حال أمر حادث بعد البعثة.

بقي هنا شي ء:

وهو أنّه قد لا يمكن جريان استصحاب العدم الأزلي، لا لعدم تصوّره، بل لإشكال آخر، وذلك في الشبهات الموضوعيّة فيما إذا كانت من قبيل العدم النعتي، أي فيما إذا كان الوصف قائماً بالغير بنحو كان الناقصة كقرشية

المرأة، فلا يمكن استصحاب عدم قرشيتها، وعلى نحو كلّي لا يمكن جريان الاستصحاب في مفاد ليس الناقصة (وإن كان المعروف بين جماعة من الأعلام جريانه) وذلك لما قد قرّر في محلّه من اعتبار وحدة القضيّة المتيقّنة والقضية المشكوكة، وهى ليست حاصلة في المقام، لأنّ القضية المتيقّنة فيه عبارة عن القضيّة السلبة بانتفاء الموضوع، والقضيّة المشكوكة سالبة بانتفاء المحمول، أي عدم قرشية هذه المرأة، ولا ريب في مغايرة إحدى القضيتين الاخرى في نظر العرف.

أضف إلى ذلك أنّ القضيّة السالبة بانتفاء الموضوع أمر غير معقول عند العرف، كما لا يخفى على الخبير، فلا يمكن عند العرف أن يقال: إنّ هذه المرأة لم تكن قرشية حين عدم وجودها فلتكن في الحال كذلك.

وهذا في الواقع يرجع إلى عدم وجود يقين سابق عرفاً، فأركان الاستصحاب حينئذٍ غير تامّة من جهتين.

التنبيه الثاني عشر: استصحاب تأخّر الحادث

لا إشكال في جريان الاستصحاب فيما إذا شكّ في أصل حدوث الحادث، حكماً كان أو موضوعاً، وأمّا إذا شكّ في تقدّمه وتأخّره بعد العلم بتحقّق أصله كما إذا علمنا بموت زيد ولا نعلم هل هو مات يوم الخميس أو يوم الجمعة؟ وفرضنا ترتّب أثر شرعي على موته في يوم الجمعة أو يوم الخميس بنذر وشبهه فهل يجري استصحاب عدم موته إلى يوم الجمعة، أي عدم تقدّمه على يوم الجمعة، أو عدم تأخّره عن يوم الخميس، أو لا؟

وقع الكلام في مقامين:

المقام الأوّل: فيما إذا لوحظ تقدّمه وتأخّره بالنسبة إلى أجزاء الزمان كما في المثال المذكور.

المقام الثاني: فيما إذا لوحظ تقدّمه وتأخّره بالنسبة إلى حادث آخر قد علم بحدوثه أيضاً، كما إذا علم بموت متوارثين على التعاقب ولم يعرف المتقدّم منهما على المتأخّر، أو علم بحصول ملاقاة اليد المتنجّسة بالماء وحصول الكرّية

على التعاقب ولم يعلم المتقدّم منهما، أو علم بموت الأب المسلم وإسلام الولد الكافر ولم يعرف المتقدّم منهما أيضاً.

أمّا المقام الأوّل: فلا شكّ في جريان استصحاب عدم تحقّق الحادث في الزمان الأوّل وترتيب آثار عدمه فقط، وأمّا آثار تأخّره عن الزمان الأوّل وآثار حدوثه في الزمان الثاني (يوم الجمعة في المثال) فلا، لكونه مثبتاً بالنسبة إلى عنوان التأخّر والحدوث، فلابدّ في التخلّص عنه إمّا دعوى خفاء الواسطة، أو دعوى أنّه من باب المتضايفين، أو دعوى أنّ الحدوث أمر مركّب من عدم الحادث في زمان ووجوده في زمان بعده، والقيد الثاني حاصل بالوجدان لأنّ المفروض حصول الموت في الحال (أي يوم الجمعة في المثال) والقيد الأوّل ثابت بالأصل، فحدوث الموت يوم الجمعة يثبت بضميمة أصل إلى وجدان.

ولكن الإنصاف أنّ كلًا من هذه الدعاوي في غير محلّه، أمّا الاولى فواضحة كالثانية، وأمّا الثالثة فلأنّ الحدوث أمر بسيط ينتزع من الوجود في زمان وعدم الوجود في زمان آخر، نظير الفوقية التي تنتزع من كون هذا في هذا المكان وذاك في ذاك المكان لا إنّه أمر مركّب حتّى يمكن إثبات أحد جزئيه بالوجدان والآخر بالأصل.

أمّا المقام الثاني: فالبحث فيه بنفسه يقع في موضعين:

الموضع الأوّل: ما إذا كان كلّ من الحادثين مجهول التاريخ.

انوار الأصول، ج 3، ص: 393

الموضع الثاني: ما إذا كان أحدهما معلوم التاريخ والآخر مجهول التاريخ.

أمّا الموضع الأوّل فله أربعة أقسام:

1- ما إذا كان الأثر الشرعي لتقدّم أحدهما أو لتأخّره أو لتقارنه بنحو مفاد كان التامّة.

2- ما إذا كان الأثر الشرعي للحادث المتّصف بالتقدّم أو التأخّر أو التقارن بنحو مفاد كان الناقصة.

3- ما إذا كان الأثر الشرعي لعدم تقدّم أحدهما على الآخر أو لتأخّره أو لتقارنه بنحو مفاد ليس

التامّة.

4- ما إذا كان الأثر الشرعي لعدم الحادث المتّصف بالتقدّم أو التأخّر أو التقارن بنحو مفاد ليس الناقصة، كما إذا قيل: لم يكن الإبن متّصفاً بالإسلام في زمن موت الأب.

وهيهنا قسم خامس ذكره المحقّق الخراساني رحمه الله في بعض كلماته، وهو ما إذا كان الأثر للعدم النعتي، أي للحادث المتّصف بالعدم في زمان حدوث الآخر بنحو مفاد كان الناقصة، ولكن يعلم حاله بالدقّة في أبحاث الأربعة المزبورة.

أمّا القسم الأوّل: فلا إشكال في جريان استصحاب العدم (أي عدم التقدّم إذا كان الأثر لتقدّم أحدهما، وهكذا بالنسبة إلى التأخّر والتقارن) بلا معارض، لتمامية أركان الاستصحاب فيه، نعم إذا كان الأثر لتقدّم كلّ منهما أو لتقارن كلّ منهما أو لتأخّر كلّ منهما أو كان الأثر لأحد الحادثين بجميع أنحائه من التقدّم والتأخّر والتقارن كان الاستصحاب معارضاً كما لا يخفى.

أمّا القسم الثاني: فلا يجري فيه الاستصحاب لعدم يقين سابق بقضيّة «كان الإبن كافراً عند موت أبيه المسلم». مثلًا كما هو واضح.

وأمّا القسم الثالث فيظهر حكمه من القسم الأوّل، لأنّ الأثر مترتّب على عدم التقدّم والتأخّر والتقارن، كما أنّ العدم النعتي أيضاً يظهر حكمه من القسم الثاني، لكون الأثر فيه أيضاً مترتّباً بنحو مفاد كان الناقصة، فلا يقين سابق فيه فلا يجري الاستصحاب.

إنّما الإشكال والكلام في القسم الرابع، وهو مفاد ليس الناقصة، والمراد منه أن يكون الأثر مترتّباً مثلًا على عدم كون الماء كرّاً في زمن الملاقاة وعلى عدم كون النجس ملاقياً للماء حتّى صار كرّاً، فوقع الخلاف فيه بين الشيخ الأعظم والمحقّق الخراساني رحمه الله، فقال الشيخ الأعظم رحمه الله بأنّ الاستصحاب جارٍ فيه ولكنّه يتساقط للمعارضة فيما إذا كان الأثر موجوداً في انوار الأصول، ج 3، ص: 394

كلا الطرفين،

أمّا إذا كان الأثر مفروضاً في أحدهما فلا يتساقط، والمحقّق الخراساني ذهب إلى عدم جريانه رأساً لعدم إندراجه تحت أدلّة الاستصحاب ولو كان الأثر مفروضاً في طرف واحد دون الآخر، وذلك لعدم إحراز إتّصال زمان شكّه بزمان يقينه.

توضيح ذلك: إنّه لا ريب في أنّ المستفاد من قول الشارع «لا تنقض اليقين بالشكّ» لزوم إتّصال زمان اليقين بالشكّ، فلو إنفصل أحدهما عن الآخر لم يشمله هذا الاطلاق، وإذ قد عرفت ذلك فلنرجع إلى ما نحن بصدده فنقول: المفروض أنّ الماء لم يكن كرّاً يوم الجمعة ولم يلاق نجساً، ثمّ علمنا بحدوث أحدهما إجمالًا في يوم السبت والآخر في يوم الأحد وإجتمعا في نهاية ذاك اليوم، فلو قلنا أنّ الماء لم يكن كرّاً في زمن الملاقاة إحتمل في ذلك احتمالين: أحدهما أن يكون زمن الملاقاة في متن الواقع يوم السبت، والثاني، أن يكون يوم الأحد، فلو كان زمن الملاقاة في الواقع يوم السبت كان متّصلًا بيوم الجمعة فتمّ إتّصال زمان اليقين بالشكّ، وأمّا لو كان زمن الملاقاة في الواقع يوم الأحد كان منفصلًا عن زمن اليقين، لإنفصال يوم الأحد عن يوم الجمعة، وحيث لا نعلم أنّ الواقع أي واحد من الاحتمالين فتكون المسألة من الشبهات المصداقيّة لحديث «لا تنقض».

وقد إستشكل المحقّق الخراساني رحمه الله على نفسه بأنّه لا شبهة في إتّصال مجموع الزمانين وفي مثالنا يوم السبت والأحد بذلك الآن الذي هو قبل زمان اليقين بحدوث أحدهما، وأنّ مجموع الزمانين هو زمان الشكّ في حدوث الكرّية مثلًا فكيف يقال بعدم إحراز اتّصال زمان شكّه بزمان يقينه؟

وأجاب عنه بما حاصله: أنّ هذا صحيح إذا لوحظت الكرّية بالنسبة إلى أجزاء الزمان فيستصحب عدم الكرّية من زمان اليقين به وهو

يوم الجمعة إلى آخر الأحد بلا مانع عنه، وأمّا إذا لوحظ بالنسبة إلى الملاقاة وكان ظرف وجودها أحد الزمانين (السبت أو الأحد، لا كليهما) فلا شبهة في عدم إحراز إتّصال زمانه بزمان اليقين.

أقول: الحقّ مع ذلك كلّه مع الشيخ الأعظم رحمه الله كما إعترف به كثير من المحقّقين الذين جاؤوا بعد المحقّق الخراساني رحمه الله، وذلك لوقوع الخلط في كلامه بين عدم ترتّب الأثر في زمان وبين عدم الشكّ في ذلك الزمان، حيث لا ريب في المقام في أنّ كلًا من السبت والأحد يوم الشكّ، إلّاأنّ في أحدهما وهو يوم السبت لا يترتّب أثر شرعي على عدم الكرّية في فرض كون انوار الأصول، ج 3، ص: 395

الملاقاة يوم الأحد في الواقع، بل الأثر يترتّب على عدم الكرّية حين الملاقاة فقط.

وببيان آخر: أنّ زمان الملاقاة ظرف للمستصحب (عدم وقوع الكرّية حين الملاقاة) وليس قيداً له، كما أنّه مقتضى اعتبار وحدة القضيّة المشكوكة والقضيّة المتيقّنة، لأنّه لا ريب في أنّ الزمان في القضية المتيقّنة ظرف لا قيد، فلتكن في المشكوكة أيضاً كذلك.

وبعبارة اخرى: كما أنّا نقول: لم يكن الماء كرّاً قطعاً يوم الجمعة (ويوم الجمعة ظرف له) كذلك نقول: وقع الشكّ في أنّه هل صار كرّاً يوم السبت ويوم الأحد أو لا؟ غاية الأمر أنّ يوم الأحد في مفروض الكلام يوم الملاقاة فهو أيضاً ظرف فاتّحدت القضيتان واتّصلتا.

وأجاب المحقّق النائيني رحمه الله عن إشكال المحقّق الخراساني رحمه الله بوجه آخر وحاصله: أنّ الشكّ واليقين من الصفات النفسانيّة الوجدانيّة، لا يتطرّق إليها الشكّ، فإنّه لا معنى للشكّ في أنّ له يقين أم لا، أو في أنّ له شكّ أم لا، ونحن نجد بوجداننا أنّه لا انفصال بين الشكّ واليقين

في المقام لأنّ انفصال الشكّ عن اليقين لا يمكن إلّابتخلّل يقين يضادّه، وهو مفقود في المقام «1» (انتهى ملخّصاً).

ولكن يرد عليه: أنّ الظاهر أنّ مراد المحقّق الخراساني من الشكّ واليقين إنّما هو المشكوك والمتيقّن الخارجيين، ولا شبهة في تخلّل يوم السبت مثلًا بين الجمعة والأحد في المثال المذكور، ومن الواضح أنّه يمكن تصوّر الشبهة المصداقيّة في الامور الخارجيّة.

بقي هنا شي ء:

وهو ذكر المثال لما إذا انفصل زمان الشكّ عن زمان اليقين وكان المورد من قبيل الشبهة المصداقيّة للمخصّص، فنذكر هنا مثالين:

أحدهما: ما جاء في كلمات المحقّق النراقي رحمه الله وأشار إليه المحقّق النائيني رحمه الله في بعض كلماته في المقام، وهو ما إذا علمنا بعدم وجوب الجلوس قبل الظهر، ثمّ علمنا بوجوبه بعد الظهر، ثمّ شككنا في وجوبه عند غروب الشمس، فلا يمكن إجراء استصحاب عدم وجوب الجلوس الثابت قبل الظهر، لانفصال زمان الشكّ في الوجوب عن زومان اليقين بعدمه، بتخلّل زمان انوار الأصول، ج 3، ص: 396

اليقين بالوجوب، وقد ذكر هذا المثال المحقّق النراقي رحمه الله في كلامه عند الاستدلال لعدم جواز إجراء الاستصحاب في الشبهات الحكميّة.

ثانيهما: ما قد يكون في أطراف العلم الإجمالي بعد العلم التفصيلي، كما إذا كانت في البين ذبيحة وميتة، ثمّ اختلطا وإشتبه الأمر علينا فلا نعلم أيّتهما ذبيحة وأيّتهما ميتة؟ فلا يمكن إجراء استصحاب عدم التذكية في كلّ واحد منهما، لا لوجود العلم الإجمالي بأنّ أحدهما مذكّى، لأنّ العلم الإجمالي يمنع عن جريان الأصل في أطرافه إذا إستلزم مخالفة عمليّة، ولا يخفى أنّه لا يلزم من إجراء استصحاب عدم التذكية في كلا الطرفين مخالفة عملية، بل الإشكال في انفصال زمان الشكّ عن زمان اليقين، حيث إنّ زمان اليقين بعدم التذكية في

كليهما إنّما هو زمان حياتهما، وزمان الشكّ هو بعد الاختلاط وبعد فصل اليقين بصيرورة أحدهما مذكّى وصيرورة الآخر ميتة.

هذا كلّه في المقام الأوّل، وهو ما إذا كان كلّ من الحادثين مجهول التاريخ.

أمّا الموضع الثاني: (وهو ما إذا كان أحدهما مجهول التاريخ والآخر معلوم التاريخ، كما إذا علمنا في المثال السابق بوقوع الملاقاة في يوم الأحد، ولا نعلم أنّ الكرّية هل وقعت يوم السبت حتّى لا تؤثّر الملاقاة في نجاسة الماء أو وقعت بعد الأحد حتّى يكون الماء نجساً؟) فيجري فيه أيضاً الأقسام الخمسة المذكورة في المقام الأوّل، كما لا كلام في أربعة منها هنا أيضاً، بل إنّما الكلام والإشكال في مفاد ليس الناقصة (والمراد منه- كما أشرنا سابقاً- ما إذا كان الأثر مترتّباً مثلًا على عدم كون الماء كرّاً في زمن الملاقاة وعلى عدم كون النجس ملاقياً للماء إلى أن صار كرّاً). فقد حكم الشيخ الأعظم رحمه الله فيه بجريان استصحاب العدم في خصوص مجهول التاريخ دون معلوم التاريخ، ومقتضى ما ذكره المحقّق الخراساني رحمه الله عدم جريانه فيهما لما عرفت من شبهة انفصال زمان الشكّ عن زمان اليقين فيه أيضاً، كما أشار إليه في بعض كلماته في المقام، لأنّ المفروض أنّ زمان الشكّ بالنسبة إلى مجهول التاريخ هو يوم الأحد (فإنّه يوم الملاقاة) وزمان اليقين بعدم الكرّية هو يوم الجمعة، ولكن الجواب هو الجواب فلا نعيد.

هذا بالنسبة إلى مجهول التاريخ.

وأمّا معلوم التاريخ فذهب الشيخ الأعظم رحمه الله إلى عدم جريان استصحاب العدم فيه كما مرّ، آنفاً وتبعه عليه جماعة آخرون.

انوار الأصول، ج 3، ص: 397

وقد يتوهّم أنّه يجري الاستصحاب فيه أيضاً، لأنّ الكرّية مثلًا وإن كان وجودها معلوماً لنا بالنسبة إلى اجزاء الزمان ولكنّه مجهول

بالنسبة إلى زمان الملاقاة، فالأصل عدم وجودها حين الملاقاة ومقتضاه النجاسة.

وقد اجيب عنه بوجوه:

أولها: (وهو العمدة) أنّ مفاد الاستصحاب هو الحكم ببقاء ما كان متيقّناً في عمود الزمان وجرّه إلى زمان الشكّ في الارتفاع، وفي المقام لا شكّ لنا في معلوم التاريخ باعتبار عمود الزمان حتّى نجرّه بالتعبّد الاستصحابي.

وبعبارة اخرى: لا شكّ لنا في معلوم التاريخ في زمان أصلًا، فإنّه قبل حدوثه (المعلوم لنا وقته تفصيلًا) لا شكّ في انتفائه، وبعد حدوثه لا شكّ في وجوده، بل الشكّ فيه إنّما هو بالقياس إلى الآخر.

ثانيها: سلّمنا بجريان استصحاب العدم فيه أيضاً، ولكنّه محكوم للاستصحاب الجاري في مجهول التاريخ، لأنّه مسببي والاستصحاب الجاري في مجهول التاريخ سببي، لأنّ الشكّ في أنّ الملاقاة هل وقعت قبل الكرّية أو بعدها (مع أنّ زمان الملاقاة معلوم) ينشأ في الحقيقة من الشكّ في زمان الكرّية، فحيث أنّا لا نعلم أنّ الكرّية هل وقعت يوم السبت بعد الأحد نشكّ في أنّ الملاقاة الواقعة يوم الأحد هل وقعت حين وجود الكرّية أو وقعت حين عدمها.

ولكن يرد عليه: أنّ السببيّة وإن كانت هنا معلومة ولكن التسبّب فيه ليس شرعيّاً، وقد ذكر في محلّه لزوم ذلك في حكومة الأصل السببي على المسبّبي.

ثالثها: ما عرفت من حديث إنفصال زمان الشكّ عن زمان اليقين فإنّه صادق في معلوم التاريخ أيضاً.

ولكن قد عرفت الجواب عنه بما لا مزيد عليه.

وقد ظهر إلى هنا أنّ الحقّ عدم جريان الاستصحاب في معلوم التاريخ تبعاً للشيخ الأعظم رحمه الله فيجري في مجهول التاريخ من دون معارض.

بقي هنا شي ء:

وهو توارد الحالتين المتعاقبتين (المتضادّتين كالوضوء والحدث) في محلّ واحد، والفرق انوار الأصول، ج 3، ص: 398

بينه وبين ما سبق (وهو توارد الحادثتين) أنّ الحالتين في

المقام لمكان تضادّهما لا يتصوّر فيهما التقارن، بخلاف الحادثتين كالملاقاة واحد كموت المتوارثين ونحوه، بينما الحالتان المتعاقبتان تعرضان لمحلّ واحد كما في مثل الوضوء والحدث، هذا مضافاً إلى أنّ الكلام فيما سبق وقع في استصحاب عدم أحدهما إلى حال حدوث الآخر، وهيهنا يقع في استصحاب وجود أحدهما أو عدمه إلى زمان خاصّ.

وكيف كان فالأقوال في المسألة أربعة:

1- ما يظهر من كلمات الشيخ الأعظم رحمه الله من التفصيل بين ما إذا كانا مجهولي التاريخ فيجري الاستصحاب في كليهما ويتعارضان فيتساقطان، وما إذا كان أحدهما معلوم التاريخ فيجري فيه دون مجهول التاريخ، على عكس ما سبق في الحادثتين.

2- ما قد يظهر من كلمات المحقّق الخراساني من عدم جريان الاستصحاب فيه مطلقاً.

3- جريان الاستصحاب في كلتا الصورتين، وهو ما ذهب إليه المحقّق النائيني رحمه الله في أجود التقريرات.

4- الأخذ بضدّ الحالة السابقة على الحالتين إن كانت معلومة لنا، وهو منسوب إلى المحقّق الثاني رحمه الله وجماعة، بل وإلى المحقّق الأوّل رحمه الله أيضاً في المعتبر.

أمّا القول الأوّل: الذي هو المختار فيمكن أن يستدلّ له بأنّه إذا كانا مجهولي التاريخ فحيث إنّ أركان الاستصحاب في كليهما تامّة فيجري في كليهما ويتساقطان، كما أنّ الأركان تامّة في خصوص معلوم التاريخ فيما إذا كان أحدهما معلوم التاريخ، دون مجهول التاريخ، وذلك ببيانين:

أحدهما: أنّ مراده دائر بين ما هو معلوم الارتفاع وما هو مشكوك الحدوث، فإذا علم بأنّه توضّأ عند الزوال مثلًا وعلم أيضاً بحدوث الحدث، ولا يعلم أنّه وقع قبل الزوال أو بعده فلا يجري استصحاب بقاء الحدث، لأنّه بالنسبة إلى قبل الزوال معلوم ارتفاعه فلا شكّ فيه، وبالنسبة إلى بعد الزوال مشكوك حدوثه فلا يقين به.

ثانيهما: أنّه من أوضح مصاديق

احتمال انفصال زمان اليقين عن زمان الشكّ، أي أنه من مصاديق الشبهة المصداقيّة لدليل «لا تنقض» لأنّ الحدث إن وقع قبل الزوال حصل الإنفصال قطعاً ودخل في قوله: «انقضه بيقين آخر» فلا يكون الإتّصال محرزاً في عمود الزمان، مع أنّ انوار الأصول، ج 3، ص: 399

الاستصحاب استمرار لعمر المستصحب في عمود الزمان كما مرّ.

وأمّا القول الثاني: وهو مختار المحقّق الخراساني (عدم جريان الاستصحاب مطلقاً) فدليله نفس ما مرّ في البحث السابق من عدم إحراز اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين حتّى في معلوم التاريخ، لأنّه وإن كان تاريخ حدوثه معلوماً لنا ولكن اتّصاله بزمان الشكّ الحاضر غير معلوم لنا، لاحتمال انفصاله عنه وتخلّل ما هو المجهول تاريخ والمعلوم تحقّقه إجمالًا، بينهما.

ولكن الجواب أيضاً هو الجواب فلا نعيده وهو الجواب الذي سبق في مسألة تعاقب الحادثتين أيضاً.

وأمّا القول الثالث: (مختار المحقّق النائيني رحمه الله) وهو الجريان مطلقاً فالوجه فيه بالنسبة إلى مجهولي التاريخ ما مرّ، وأمّا بالنسبة إلى مجهول التاريخ في مقابل معلوم التاريخ فيقول: «وأمّا بالنسبة إلى المجهول تاريخه وهو الحدث في المثال فربّما يقال بعدم جريان الاستصحاب فيه تارةً من جهة عدم إحراز إتّصال زمان اليقين بالشكّ فيه، واخرى من جهة أنّ أمره مردّد بين ما هو مقطوع الإرتفاع كما إذا كان قبل الطهارة، وما هو مشكوك الحدوث من جهة احتمال حدوثه بعدها المحكوم بالعدم بالأصل، ولذلك قد عرفت حديث شرطيّة إحراز إتّصال زمان اليقين بالشكّ وأنّ دوران أمر الحادث بين كونه مقطوع الارتفاع أو مشكوك الحدوث إنّما يضرّ باستصحاب الفرد دون الكلّي، فلا مانع من جريان الاستصحاب في مجهول التاريخ أيضاً بنحو استصحاب الكلّي» «1».

ولكن يرد عليه:

أوّلًا: ما مرّ سابقاً بأنّ المستصحب في مثل هذا

المورد ليس كلّياً لأنّ المتيقّن إنّما هو ذلك الفرد المبهم الواقع في الخارج وما نشير إليه في الاستصحاب، فهو جزئي حقيقي، وتسميته كلّياً مجاز ناشٍ عن إبهام صفاته.

وثانياً: سلّمنا، ولكنّه يتمّ بالنسبة إلى خصوص البيان الأوّل، ويبقى البيان الثاني (أعني شبهة انفصال زمان اليقين عن زمان الشكّ) على تماميته، وقد عرفت أنّ ما ذهب إليه المحقّق النائيني رحمه الله من عدم الانفصال (من جهة أنّ اليقين والشكّ من الصفات الوجدانيّة التي لا

انوار الأصول، ج 3، ص: 400

يتطرّق إليها الشكّ) وأنّ الإتّصال في أمثال المقام حاصل بالوجدان، مدفوع بما مرّ أيضاً من أنّ الاعتبار بوجود المتيقّن والمشكوك، وبملاحظة زمانهما تحصل شبهة الانفصال، فراجع ما مرّ منّا في تعاقب الحادثتين.

أمّا القول الرابع: وهو الأخذ بضدّ الحالة السابقة فالوجه فيه هو القطع بارتفاع الحالة السابقة بوجود ما هو ضدّها قطعاً، والشكّ في ارتفاعه لاحتمال وجوده بعد وجود الحادث الآخر الموافق للحالة السابقة، فيكون مجرى للاستصحاب.

ولكن يرد عليه: أنّه أشبه بالمغالطة، لأنّه كما أنّ ضدّ الحالة السابقة وجد قطعاً وهو مشكوك الارتفاع، كذلك الحادث الآخر الموافق للحالة السابقة، فإنّه أيضاً قطعي الوجود ومشكوك الارتفاع فيستصحب. ويقع التعارض ويتساقطان.

ثمّ إنّ بعض الأعاظم اختار هذا المذهب (أي الأخذ بضدّ الحالة السابقة) في جميع صور المسألة إلّافيما إذا لم يكن معلوم التاريخ ضدّ الحالة السابقة، حيث قال: «والتحقيق عندي هو قول المحقّق رحمه الله في مجهولي التاريخ والتفصيل في معلومه بأنّه إن كان معلوم التاريخ هو ضدّ الحالة السابقة فكالمحقّق رحمه الله «1»، وإلّا فكالمشهور، وإن ينطبق المسلكان نتيجة أحياناً.

أمّا في مجهولي التاريخ فلأنّ الحدث أمر واحد له أسباب كثيرة، وتكون سببيّة الأسباب الكثيرة للشي ء الواحد سببيّة اقتضائيّة، بمعنى أنّ كلّ سبب يتقدّم

في الوجود الخارجي صار سبباً فعليّاً مؤثّراً في حصول المسبّب، وإذا وجد سائر الأسباب بعده لم تتّصف بالسببية الفعلية ... فإذا كان المكلّف متيقّناً بكونه محدثاً في أوّل النهار فعلم بحدوث طهارة وحدث بين النهار، وشكّ في المتقدّم والمتأخّر، يكون استصحاب الطهارة المتيقّنة ممّا لا إشكال فيه، ولا يجري استصحاب الحدث، لعدم تيقّن الحالة السابقة لا تفصيلًا ولا إجمالًا، فإنّ الحدث المعلوم بالتفصيل الذي كان متحقّقاً أوّل النهار قد زال يقيناً، وليس له علم إجمالي بوجود الحدث إمّا قبل الوضوء أو بعده لأنّ الحدث قبل الوضوء معلوم تفصيلي، وبعده مشكوك بالشكّ البدوي ... هذا حال مجهولي التاريخ، وأمّا إذا جهل تاريخ الحدث وعلم تاريخ الطهارة مع كون الحالة السابقة هو الحدث فاستصحاب الحدث لا يجري، لعين ما ذكرنا في مجهولي التاريخ من عدم انوار الأصول، ج 3، ص: 401

العلم الإجمالي بالحدث فلا تكون حالة سابقة متيقّنة للحدث، ولكن استصحاب الطهارة لا مانع منه ... وإذا جهل تاريخ الطهارة مع العلم بالحدث سابقاً وعلم تاريخ الحدث فإستصحاب المعلوم التاريخ يعارض استصحاب الطهارة المعلومة بالإجمال ونحكم بلزوم التطهّر عقلًا لقاعدة الاشتغال» «1».

أقول: وكأنّ منشأ الإشتباه في هذا الكلام هو مسألة فعليّة تأثير سبب الحدث وشأنية سببيته، والحال أنّه لا أثر لها في المقام فإنّا نعلم علماً قطعيّاً أنّ المكلّف كان محدثاً مقارناً للحدث الثاني بأي سبب كان (الحدث السابق أو الحدث اللاحق) والكلام إنّما هو في أصل وجود المسبّب، وهو قطعي في تلك الحالة، ثمّ نشكّ في إرتفاع هذا الحدث، فأركان الاستصحاب فيه تامّة.

وإن شئت قلت: التردّد في سبب وجود الشي ء بعد القطع بوجوده لا يوجب تعدّد وجود الشي ء أو الشكّ في أصل وجود المسبّب.

بقي هنا امور:

الأوّل: في

مقتضى الأصل العملي بعد تعارض الاستصحابين وتساقطهما.

وهو مختلف باختلاف المقامات، فإذا كانت الحالتان الطهارة والحدث، فالمرجع هو أصالة الاشتغال لأنّ الواجب إتيان الصّلاة مع الطهارة، والمفروض عدم وجودها لا بالوجدان ولا بالأصل لسقوطه بالمعارضة، وإذا كانت الطهارة، عن الخبث والنجاسة فيكون المرجع أصالة الطهارة (قاعدة الطهارة المأخوذة من قوله عليه السلام كلّ شي ء طاهر ...) ولا يخفى أنّ أصالة الطهارة غير استصحابها، وإن كانتا الكرّية والقلّة فالمرجع بعد تعارض أصالة عدم الكرّية وأصالة عدم القلّة إنّما هو استصحاب الطهارة الثابتة قبل الملاقاة بالنسبة إلى الملاقى (بالفتح) واستصحاب النجاسة الثابتة قبل الملاقاة بالنسبة إلى الملاقي (بالكسر).

الثاني: أنّ ما ذكرنا من جريان الاستصحاب أو عدم جريانه في المقام كان مختصّاً بمفاد كان التامّة، أو ليس التامّة، أي أصل وجود الحدث أو الوضوء أو عدمهما، ولا يجري بالنسبة إلى مفاد كان الناقصة (كان النوم متقدّماً على الوضوء أو بالعكس مثلًا) أو مفاد ليس الناقصة

انوار الأصول، ج 3، ص: 402

(لم تكن الطهارة متقدّمة على الحدث أو بالعكس مثلًا) لأنّه ليس له حالة سابقة متيقّنة كما لا يخفى.

الثالث: في كلام للمحقّق النائيني رحمه الله حيث يرجع إلى مسألة فقهية في باب الطهارة، وهى ما إذا كان هناك ماءان مشتبهان قليلان وكان الماء منحصراً بهما، فجاء في الحديث: «ويهريقهما ويتيمّم» سواء كان للإهراق موضوعيّة أو لم تكن فوقع البحث في أنّه هل هو حكم على القاعدة، أو يكون من التعبّد المحض؟

فيمكن أن يقال: أنّه تعبّد محض لأنّ مقتضى القاعدة الاحتياط بالتوضّي بكلّ واحد منهما، ثمّ إتيان الصّلاة به نظير إتيان الصّلاة في أربع جهات في مشتبه القبلة.

وقال بعض أنّه حكم على القاعدة في الجملة لأنّه بمجرّد وقوع القطرة الاولى من الماء الثاني

موضع إصابة الماء الأوّل قبل انفصال الغسالة يحصل له العلم التفصيلي بنجاسة اليد ثمّ يشكّ في زوال النجاسة وحصول الطهارة بعد انفصالها (لأنّه إن كان النجس هو الماء الأوّل كانت الغسالة طاهرة وإن كان النجس هو الماء الثاني كانت الغسالة نجسة) فيستصحب بقاء النجاسة فتبقى يده نجسة لا يمكن معها إتيان كلّ ما يشترط فيه الطهارة، والشارع المقدّس حذراً من وقوع المكلّف في هذه المحاذير أمر بإهراقهما والتيمّم.

المحقّق النائيني رحمه الله تصدّى لدفع هذه المشكلة وإثبات عدم تنجّس اليد في صورة عدم الإهراق، وبالمآل إثبات أنّ هذا الحكم ليس على القاعدة بل هو تعبّد محض، وذلك بتطبيق ما تبنّاه في مسألة توارد الحالتين على هذه المسألة فقال: «ومن هنا يظهر الحال في المغسول بمائين مشتبهين بالنجاسة ولو كان الغسل ثانياً بماء قليل، فإنّ نجاسة المغسول عند ملاقاة الماء الثاني وإن كانت معلومة تفصيلًا إمّا من جهة تنجّسه بملاقاته أو من جهة بقاء نجاسته السابقة من جهة ملاقاة الماء الأوّل، ومشكوك الارتفاع بانفصال الغسالة عنه، إلّاأنّ غاية ذلك هو جريان الاستصحاب في طرف النجاسة شخصياً، وهذا لا ينافي جريان الاستصحاب في طرف الطهارة كلّياً، ضرورة أنّ وجود الطهارة مع قطع النظر عن خصوصية كونه بعد الغسل بالماء الثاني أو قبله معلوم تفصيلًا ومشكوك بقاؤه وجداناً، فغاية الأمر هو وقوع المعارضة بين استصحاب الكلّي والشخصي (فيتعارضان ويتساقطان والمرجع أصالة الطهارة فيكون الحكم انوار الأصول، ج 3، ص: 403

بالإهراق تعبّد من الشارع)» «1».

أقول: يرد عليه ما مرّ آنفاً من أنّ تسمية هذا باسم استصحاب الكلّي لا يدفع المحذور، أي شبهة انفصال زمان اليقين عن زمان الشكّ بسبب القطع بوجود آنٍ معيّن في عمود الزمان محكوم بالنجاسة قطعاً.

التنبيه الثالث عشر: استصحاب الكتابي

وهو

نزاع وقع بين السيّد محمّد باقر القزويني رحمه الله (حينما قدم إلى قرية ذي الكفل من القرى الواقعة بين النجف وكربلاء وفي مسير زيارته) والعالم اليهودي بعد أن ادّعى جريان استصحاب نبوّة موسى وأجاب عنه القزويني بجواب اقتبسه ممّا روي عن الإمام الرضا عليه السلام «2» في جواب جاثليق العالم المسيحي، وهو «أنا مقرّ بنبوّة كلّ موسى أخبر بنبوّة نبي الإسلام صلى الله عليه و آله وكافر بنبوّة كلّ موسى لم يقرّ بنبوّة محمّد صلى الله عليه و آله وكتابه». ولم يرتضه اليهود نظراً إلى أنّ موسى جزئي حقيقي لا كلّي يكون له مصاديق مختلفة.

أقول: لابدّ قبل الورود في أصل البحث من بيان مقدّمة، وهى أنّ هذا النزاع متفرّع على كون الإيمان أمراً وراء العلم واليقين، أي يمكن التفكيك بينهما، وإلّا لو كان الإيمان عين اليقين ولا يمكن التفكيك بينهما فلا فائدة في هذا النزاع، لأنّه لا يترتّب حينئذٍ على هذا الاستصحاب أثر علمي، نعم لو كان الإيمان أمراً وراء اليقين وهو فعل القلب أمكن جريان الاستصحاب فيه من جهة هذا الأثر لأنّه لا فرق هنا بين فعل الجوانح والجوارح.

والحقّ أنّ النسبة بين الإيمان واليقين العموم من وجه، فقد يحصل اليقين بشي ء من دون حصول الإيمان به، كما صرّح به في قوله تعالى: «وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً» «3»

، وقد ورد في اصول الكافي في ذيل هذه الآية عن الصادق عليه السلام في تفسير كفر الجحود (بعد أن قسّم الكفر على خمسة وجوه) «هو أن يجحد الجاحد وهو يعلم أنّه حقّ قد استقرّ

انوار الأصول، ج 3، ص: 404

عنده» «1».

وكذا العكس، كما يشهد به قوله تعالى: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنْ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ

وَالطَّاغُوتِ» «2»

وقوله تعالى: «إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ» «3»

، وقد ورد عن ابن أبي محمود عن الرضا عليه السلام: «فإنّ أدنى ما يخرج به الرجل عن الإيمان أن يقول للحصاة: هذه نواة. ثمّ يدين بذلك ويبرأ ممّن خالفه» «4».

وبالجملة أنّ حقيقة الإيمان هى الإقرار في القلب والتسليم القلبي (عقد القلب) وهو ممّا يمكن إنفكاكه عن العلم واليقين، فقد يحصل التسليم بشي ء في القلب مع أنّه لا يقين له به، كما في قضية الإيمان بالجبت والطاغوت في الآية، بل قد يكون اليقين بضدّه، كما في قضية الحصاة الواردة في الرواية، وقد يكون بالعكس كما في قضية فرعون وقومه.

إذا عرفت هذا فنقول: أنّ استصحاب الكتابي نبوّة موسى عليه السلام أو عيسى عليه السلام مختلّ من جهات شتّى:

1- إنّ منشأ حجّية الاستصحاب إن كان هو الأخبار الواردة من ناحية أئمّتنا عليهم السلام التي ترجع بالمآل إلى نبيّنا صلى الله عليه و آله فحجّية الاستصحاب تكون متوقّفة على قبول رسالته صلى الله عليه و آله فكيف يمكن أن يكون الاستصحاب دليلًا على عدم نبوّته؟ فليس هذا إلّامن قبيل ما يلزم من وجوده عدمه، وهو محال، وإن كان هو بناء العقلاء فكذلك، لأنّ حجّية هذا النبأ متوقّف على امضائه من جانب الأئمّة عليهم السلام فيعود المحذور، أو من جانب موسى عليه السلام ولا دليل عليه، أي لا دليل على عدم ردع هذا البناء في شريعة موسى عليه السلام لأنّها ليست مضبوطة، بل دخلت أيادي التحريف فيها، فلا يمكن أن يقال: أنّه لو صدر من جانب موسى عليه السلام ردع بالنسبة إلى هذا البناء لبان ولوصل إلينا.

2- نّ جريان الاستصحاب فرع لوجود يقين سابق بنبوّة موسى عليه السلام ولا

يقين لنا بها إلّا من طريق أخبار أئمّتنا أو الآيات الواردة في القرآن الكريم، وكلتاهما تلازم ثبوت نبوّة نبيّنا ونسخ شريعة موسى عليه السلام وعيسى عليه السلام.

إن قلت: إنّ شريعة موسى أو عيسى عليه السلام ثابتة بالتواتر من التاريخ الموجب لليقين.

انوار الأصول، ج 3، ص: 405

قلنا: كلّا، هذا غير ثابت، وإن كان مشهوراً في كثير من الأعصار لأنّ مجرّد الشهرة غير كافية، وإن هو إلّامثل ما ادّعي من نبوّة زردشت مع أنّها مشكوكة، ومعاملة المجوس معاملة أهل الكتاب (كما ورد في رواياتنا) لا يدلّ على كون زردشت نبيّاً لولا تلك الروايات، بل ومع تلك الروايات أيضاً لأنّ زردشت لم يثبت كونه نبي المجوس.

3- من شرائط جريان الاستصحاب في مثل المقام هو الفحص إلى حدّ اليأس لأنّه وإن كان من الشبهات الموضوعيّة ولكنّه من الامور الإعتقاديّة بل هو أساس الأحكام ومنشأها ومبناها، فإذا كان الاستصحاب في حكم واحد مشروطاً بالفحص فما ظنّك بأساس الأحكام الإلهيّة كلّها؟

وبعبارة اخرى: يعتبر الفحص أيضاً في الموضوعات الإعتقاديّة كالشبهات الحكميّة كما صرّح به المحقّق الأصفهاني رحمه الله في تعليقته، وحينئذٍ نقول: إنّا بعد الفحص عن نبوّة نبيّنا لم يبق لنا شكّ في ثبوتها ونسخ شريعة موسى وعيسى عليهما السلام فليس الاستصحاب جارياً بالنسبة إلينا.

وبعبارة اخرى: إن كان المراد من الشكّ في كلام الكتابي هو الشكّ قبل الفحص فلا اعتبار به، وإن كان المراد به الشكّ بعد الفحص فهو منتفٍ.

4- لابدّ في المسائل الإعتقاديّة واصول الدين (كما أشرنا إليه في طليعة البحث) من تحصيل الجزم واليقين، وهو لا يحصل من طريق الاستصحاب ولو سلّمنا حجّيته.

5- إنّ ما ورد في كلام الإمام الرضا عليه السلام جواب صحيح في محلّه، ولكنّه وقع في مناظرة اليهودي

مورداً للمناقشة، لإشكال وقع في نقل السيّد القزويني رحمه الله، حيث إنّ المتيقّن المستصحب في نقله هو نبوّة كلّ عيسى عليه السلام أو موسى عليه السلام الذي أخبر عن نبوّة محمّد صلى الله عليه و آله، فأجابه الكتابي بأنّ المتيقّن هو وجود موسى عليه السلام وهو جزئي حقيقي لا يصدق على غير واحد، وهو معلوم لكم ولنا، وجعله كلّياً خلاف التحقيق، مع أنّ الوارد في كلام الرضا عليه السلام: «أنا مقرّ بنبوّة عيسى وكتابه وما بشّر به امّته وأقرّت به الحواريون» «1» أي نبوّة شخص عيسى عليه السلام وكتابه وما بشّر به، لا نبوّة كلّ عيسى، فهو عليه السلام يقول: «إنّ المتيقّن لنا ليس هو خصوص نبوّة عيسى فحسب، بل هى وما بشّر به امّته، أي كما إنّا نعلم بنبوّة عيسى عليه السلام نعلم أيضاً بأنّه بشّر

انوار الأصول، ج 3، ص: 406

بنبوّة محمّد صلى الله عليه و آله، وحينئذٍ لا يبقى لنا شكّ بالنسبة إلى نبوّة نبيّنا إذا لاحظنا العلامات التي ذكرها عيسى عليه السلام لتشخيص نبوّة محمّد صلى الله عليه و آله، فلا يمكن التفكيك بين نبوّة عيسى عليه السلام ونبوّة محمّد صلى الله عليه و آله ودعوى اليقين بأحدهما دون الآخر.

نعم، قد ورد في ذيل الكلام المزبور: «وكافر بنبوّة كلّ عيسى لم يقرّ بنبوّة محمّد وكتابه» ولكنّه محمول على صدره ويفسّر به، فالمراد من هذه العبارة كون الاعتراف بنبوّة عيسى عليه السلام (وهو وجود شخصي) مقيّداً بإخباره عن نبوّة محمّد صلى الله عليه و آله ولا يمكن العكس بأن يجعل الذيل تفسيراً للصدر لما هو المعلوم من الخارج أنّ عيسى عليه السلام كان جزئياً حقيقياً.

بقي هنا شي ء:

وهو تحقيق في كلام المحقّق الخراساني رحمه الله

في المقام، الذي يتلخّص في ثلاث مقامات:

الأوّل: في أنّه لا فرق في جريان الاستصحاب وحجّيته بين أن يكون المستصحب من الأحكام الفرعيّة أو الموضوعات الخارجيّة أو اللغويّة (إذا كانت ذات أحكام شرعيّة) وبين أن يكون من الامور الإعتقاديّة التي كان المهمّ فيها شرعاً هو الانقياد والتسليم والإعتقاد (بمعنى عقد القلب عليها) أي من الأعمال القلبيّة الاختياريّة، لأنّ ذاك من أعمال الجوارح وهذا من أعمال الجوانح، فلا إشكال في جريان استصحاب في كليهما موضوعاً وحكماً فيما إذا كان هناك يقين سابق وشكّ لاحق.

إن قلت: إنّ الاستصحاب أصل عملي فيجب إجراءه في الفروع العمليّة ولا معنى لإجرائه في الامور الإعتقاديّة.

قلنا: أنّ معنى كونه أصلًا عملياً أنّه وظيفة للشاكّ تعبّداً في ظرف شكّه وتحيّره في قبال الأمارات الحاكيّة عن الواقع الرافعة للشكّ ولو تعبّداً لا أنّه يختصّ بالفروع العمليّة المطلوب فيها عمل الجوارح، بل يعمّ عمل الجوانح أيضاً إذا تمّ فيها أركانه.

نعم، في الامور الإعتقاديّة التي كان المهمّ فيها شرعاً وعقلًا هو القطع بها ومعرفتها (لا خصوص الانقياد والتسليم القلبي) فلا مجال للاستصحاب موضوعاً بل يجري حكماً، فلو كان متيقّناً بوجوب تحصيل القطع بشي ء (كتفاصيل القيامة) في زمان وشكّ في بقاء وجوبه، يستصحب بقاء الوجوب، وأمّا لو شكّ في حياة إمام زمانه مثلًا فلا يستصحب، لأنّ الواجب انوار الأصول، ج 3، ص: 407

فيه تحصيل القطع والمعرفة به، ومن المعلوم أنّ الاستصحاب ممّا لا يجدي في حصولها. وحينئذٍ لابدّ لجريانه في هذا القسم من ترتّب أثر شرعي عليه، فهذا القسم من الامور الإعتقاديّة كسائر الموضوعات لابدّ في جريانه فيها من أن يكون في المورد أثر شرعي.

الثاني: فيما ينقدح ممّا ذكر في المقام الأوّل، وهو أنّه لا مجال للاستصحاب في نفس

النبوّة إذا كانت ناشئة من كمال النفس بمثابة يوحى إليها، لعدم الشكّ في بقائها، لكونها ممّا لا تزول بعد اتّصاف النفس بها لعدم كونها مجعولة شرعاً بل إنّها من الصفات الخارجيّة التكوينيّة، ولو فرضنا إمكان زوالها وعروض الشكّ عليها فلا يترتّب عليها أثر شرعي مهمّ حتّى نستصحبها، نعم لو كانت من المناصب المجعولة كالوكالة كانت بنفسها مورداً للاستصحاب، ولكن يحتاج الاستصحاب حينئذٍ إلى دليل غير منوط بتلك النبوّة وغير مأخوذ من ذلك الشرع، وإلّا لزم الدور كما لا يخفى، وهكذا إذا كان المراد من استصحابها استصحاب بعض أحكام شريعة من اتّصف بالنبوّة السابقة فلا إشكال في جريانه أيضاً.

الثالث: فيما يترتّب على المقامين الأوّلين، وهو أنّه لا موقع لتشبّث الكتابي باستصحاب نبوّة موسى عليه السلام أو عيسى عليه السلام أصلًا، لا الزاماً للمسلم ولا إقناعاً به.

أمّا إلزاماً للمسلم فلعدم شكّه في بقاء نبوّة موسى عليه السلام أو عيسى عليه السلام بل هو متيقّن بنسخها وإلّا فليس بمسلم، وبعبارة اخرى: أنّ المسلم ما لم يعترف بأنّه كان على يقين سابق فشكّ لم يلزم به.

وأمّا إقناعاً فلوجهين: أحدهما: لزوم معرفة النبي عقلًا بالفحص والنظر في حالاته ومعجزاته، لما عرفت من أنّ النبوّة هى من الامور الإعتقاديّة التي يجب فيها بحكم العقل تحصيل القطع والمعرفه به يقيناً، ومن المعلوم أنّ استصحاب النبوّة هو ممّا لا يجدي في حصولها.

ثانيهما: أنّه لا دليل على التعبّد ببقائها عند الشكّ فيه لا عقلًا ولا شرعاً، أمّا عقلًا فواضح، إذ ليس الحكم بالبقاء عند اليقين بالحدوث من مستقلّات العقل، وأمّا شرعاً فلأنّ الدليل الشرعي إن كان هو من الشريعة السابقة فاستصحاب النبوّة السابقة بسببه ممّا يستلزم الدور، وإن كان من الشريعة اللاحقة فيستلزم الخلف

(انتهى كلامه بتوضيح منّا).

أقول: أوّلًا: كان ينبغي أن يشير المحقّق الخراساني رحمه الله إلى الوجه الصحيح من بين الوجوه الثلاثة التي ذكر في تفسير النبوّة، وحيث إنّه لم يذكر مختاره فيه فنقول: أمّا المعنى الأوّل (وهو

انوار الأصول، ج 3، ص: 408

أن تكون النبوّة ناشئة من كمال النفس) فلا ريب في عدم صحّته لما سيأتي في بيان وجه المختار، وهكذا الوجه الثالث (وهو أن يكون المراد من النبوّة أحكام شريعة من اتّصف بها واستصحابها هو استصحاب بعض أحكامها) لما سيأتي أيضاً بل الصحيح إنّما هو المعنى الثاني (وهو كون النبوّة من المناصب المجعولة) كما يشهد عليه قوله تعالى: «إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً» «1»

حيث إنّ النبوّة والإمامة فيما يهمّنا في المقام على وزان واحد، وقوله تعالى: «اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ» «2»

، وقوله تعالى: «وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى» «3»

فإنّ هذه الآيات ونظائرها صريحة أو كالصريحة في كون النبوّة منصباً من المناصب المجعولة من ناحية الشارع فإنّ التعبير بالجعل والاختيار كالصريح في هذا المعنى، نعم هذا مقام لا يعطيه الحكيم إلّالمن تمّت القابلية فيه.

ثانياً: هيهنا وجه رابع في المراد من النبوّة وهو أن يكون المراد منها مجموع الأحكام والتعاليم الموجودة في تلك الشريعة السابقة، وهذا هو الصحيح المختار لأنّ من المسلّم أنّ انقضاء شريعة موسى وعيسى عليهما السلام ليست بمعنى عزلهما عن ذلك المنصب الإلهي أو بمعنى تنزّلهما عن تلك المرتبة من كمال النفس، بل إنّها بمعنى إنقضاء أمد شريعتهما وخروجها عن كونها ديناً رسميّاً للعباد، ولا يخفى أنّ هذا المعنى أيضاً لا يمكن استصحاب بقائه عند الشكّ فيه، لما مرّ من عدم وجود الدليل على الاستصحاب من غير ناحية الشريعة الإسلاميّة ولغيّره ممّا مرّ ذكره، ولو فرضنا

وجود الدليل على الاستصحاب في نفس الشريعة السابقة فأيضاً لا يمكن التمسّك به لإثبات بقاء أحكام تلك الشريعة، لما أفاده بعض الأعلام من «أنّ حجّية الاستصحاب من جملة تلك الأحكام فيلزم التمسّك به لإثبات بقاء نفسه وهو دور ظاهر» «4».

ثالثاً: لو فرضنا كون النبوّة أمراً تكوينياً فلا يمكن الإيراد على جريان الاستصحاب فيه بعدم ترتّب أثر عملي شرعي عليه لأنّ وجوب الإعتقاد القلبي به وعقد القلب عليه أثر عملي جانحي شرعي، وإن كان الكاشف عنه هو العقل، نظير وجوب المقدّمة.

التنبيه الرابع عشر: استصحاب حكم المخصّص

إذا خصّص العام وخرج منه بعض الأفراد في بعض الأزمنة ولم يكن لدليل الخاصّ اطلاق أزماني إمّا لكونه لبّياً كالإجماع، أو لكونه لفظيّاً لا اطلاق له، وتردّد الزمان الخارج بين الأقل والأكثر، فهل يرجع عند الشكّ أي بعد انقضاء الزمان الأقل إلى عموم العام أو إلى استصحاب حكم المخصّص؟ فإذا قال مثلًا أكرم كلّ عالم وقام الإجماع على حرمة إكرام زيد العالم في يوم الجمعة، ووقع الشكّ في حرمة إكرامه يوم السبت فهل يرجع في يوم السبت إلى عموم العام من وجوب الإكرام، أو إلى استصحاب حكم الخاصّ من حرمة الإكرام؟

ومثاله الشرعي اوفوا بالعقود، فإنّه لا شكّ في أنّ له عموماً افرادياً لأنّ «العقود» جمع معرّف باللام، وهو من صيغ العموم، فإذا جاء دليل خيار الغبن وأخراج المعاملة الغبنية مثلًا عن تحت هذا العموم وعلمنا بخروجها عن تحت هذا العام في الآن الأوّل من الالتفات إلى الغبن والضرر، وشككنا في خروجها في الأزمنة المتأخّرة عن الآن الأوّل فهل المرجع هو عموم العام والحكم باللزوم في سائر الأزمنة حتّى يكون الخيار فورياً، أو استصحاب حكم المخصّص حتّى يكون الخيار على التراخي؟ (ولا يخفى أنّ هذا النزاع

جارٍ بناءً على جريان الاستصحاب في الشبهات الحكميّة).

وهو ممّا لم يعنون بوضوح في كلمات قدماء الأصحاب، ولعلّ أوّل من عنونه تفصيلًا هو الشيخ الأعظم في رسائله، فإنّه فصّل فيه بين ما إذا كان للعام عموم أزماني كعمومه الإفرادي فيرجع إلى عموم العام، وبين ما إذا لم يكن له عموم كذلك وإن كان الحكم فيه للاستمرار والدوام إمّا بالنصوصيّة أو بالإطلاق فيرجع إلى استصحاب حكم المخصّص.

قد يقال في مقام توضيح هذا التفصيل: أنّه إذا كان العام بحسب عمومه الأزماني أيضاً انحلالياً مثل عمومه الافرادي بمعنى كون كلّ قطعة من الزمان موضوعاً مستقلًا لحكم العام بحيث لا يكون إمتثال الحكم أو عصيانه في تلك القطعة مربوطاً بالإمتثال والعصيان في سائر القطعات، بل يكون لكلّ قطعة إمتثاله وعصيانه، ففي هذه الصورة خروج قطعة من الزمان عن تحت العموم الأزماني لا يضرّ بوجود أصالة العموم بالنسبة إلى القطعات الاخر، إذ حال أصالة العموم بناءً على هذا بالنسبة إلى الأزمان حال أصالة العموم بالنسبة إلى الافراد، وأمّا إذا لم يكن كذلك، أي لم تكن كلّ قطعة من الزمان موضوعاً مستقلًا بل كان مجموع القطعات انوار الأصول، ج 3، ص: 410

موضوعاً واحداً، فلا يبقى مجال للتمسّك بعموم العام، فإن شكّ في حكم هذا الفرد بقاءً بعد خروجه عن تحت العام فلا مفرّ عن الرجوع إلى الاستصحاب.

وأمّا المحقّق الخراساني رحمه الله فقد إفترض للمسألة أربع صور، وحكم في صورتين منها بأنّ المرجع عموم العام وهما ما إذا كان للعام عموم أزماني وكان الزمان في الخاصّ قيداً لموضوعه، أو كان الزمان في الخاصّ ظرفاً لثبوت حكمه.

وحكم في صورة ثالثة منها بأنّ المرجع استصحاب حكم الخاصّ، وهى ما إذا كان الزمان ظرفاً لثبوت الحكم في

كلّ واحد من العام والخاصّ.

ثمّ استدرك بأنّه لو كان الخاصّ غير قاطع لاستمرار حكم العام كما إذا كان الخاصّ مخصّصاً له من الأوّل لما ضرّ بالتمسّك بالعام حينئذٍ في غير مورد دلالة الخاصّ بل يكون أوّل زمان استمرار حكم العام بعد زمان دلالة الخاصّ، فإذا قال مثلًا اوفوا بالعقود وخصّص أوّله بخيار المجلس في الجملة على نحو تردّد الخيار بين أن يكن هو في المجلس الحقيقي عيناً أو فيه وما يقرب منه صحّ التمسّك بعموم اوفوا بالعقود لإثبات اللزوم في غير المجلس الحقيقي ولو كان ممّا يقرب منه، بخلاف ما إذا قال اوفوا بالعقود وخصّص وسطه بخيار الغبن أو العيب ونحوهما وتردّد الخيار بين الزمان الأقل والأكثر، فلا يصحّ التمسّك بعموم اوفوا بالعقود لإثبات اللزوم بعد انقضاء الزمان الأقل.

وحكم في صورة رابعة بأنّ المرجع سائر الاصول، وهى ما إذا كان الزمان ظرفاً لثبوت حكم العام وقيداً لموضوع الخاصّ، لأنّ المفروض عدم العموم الأزماني للعام حتّى يرجع إليه، وأنّ الزمان قيد لموضوع الخاصّ فلا يمكن الاستصحاب فيه لتبدّل الموضوع (انتهى كلامه).

أقول: هيهنا امور تجب الإشارة إليها:

الأوّل: أنّه لا يصحّ التفكيك بين العام والخاصّ بجعل الزمان في أحدهما قيداً وفي الآخر ظرفاً، لأنّ المفروض أنّ الخاصّ بعض افراد العام وداخل فيه ثمّ خرج، فإن لم يكن قيداً ودخيلًا في المصلحة أو المفسدة ففي كليهما، وإن كان قيداً ودخيلًا فيها ففي كليهما أيضاً، وحينئذٍ تصير الصور المتصوّرة في المسألة اثنتين لا أربعة.

انوار الأصول، ج 3، ص: 411

الثاني: أنّه لا مانع من استصحاب حكم الخاصّ حتّى في الصورة الرابعة لأنّ الزمان فيها وإن كان قيداً ولكنّه ليس قيداً للموضوع حتّى يتبدّل الموضوع بمضيّه، بل إنّه قيد للحكم في أمثال المقام

غالباً، فلا إشكال في أنّ يوم الجمعة في مثال، لا تكرم زيداً يوم الجمعة لا يكون قيداً لا لزيد الذي يكون موضوعاً لوجوب الإكرام ولا للإكرام الذي يكون متعلّقاً للوجوب، بل إنّه قيد لنفس الوجوب، وحينئذٍ يكون الموضوع السابق باقٍ على حاله ويستصحب حكمه.

الثالث: إنّ ما ذكره من الاستدراك في القسم الثالث من إمكان الرجوع إلى العام فيما إذا كان التخصيص من الأوّل لا يمكن المساعدة عليه، لأنّ المفروض أنّ الحكم في العام واحد مستمرّ ولا ينحلّ ولا يفرّد بالزمان، وحينئذٍ إذا انقطع هذا الحكم بالتخصيص ولو كان من الأوّل يحتاج إثباته بعد الانقطاع إلى دليل.

ثمّ إنّ بعض الأعلام بعد أن فسّر تفصيل الشيخ الأعظم رحمه الله (بين ما إذا كان للعام عموم أزماني وما إذا لم يكن له عموم أزماني) بأنّ العموم الأزماني تارةً يكون على نحو العموم الاستغراقي واخرى يكون على نحو العموم المجموعي، إستشكل عليه بأنّه مخالف لما نقّحناه في بحث العام والخاصّ من عدم الفرق في جواز الرجوع إلى العام بين كونه استغراقياً أو مجموعياً، فكما لا فرق بينهما في الأفراد العرضيّة ويرجع إلى العموم في غير ما علم خروجه بمخصّص سواء كان بنحو العموم الاستغراقي (كما في مثال أكرم العلماء) أو كان بنحو العموم المجموعي (كما في مثال أكرم هذه العشرة، فيما إذا كان المراد إكرام مجموع العشرة من حيث المجموع ثمّ علمنا بخروج زيد منها) لأنّ التخصيص (تخصيص مجموع العشرة بزيد) لا يمنع شمول العام للاجزاء الاخر، كذلك لا فرق بين العموم الاستغراقي والعموم المجموعي بالنسبة إلى الأفراد الطوليّة في جواز الرجوع إلى العام مع الشكّ في التخصيص، غاية الأمر أنّه يثبت بالرجوع إلى العموم الاستغراقي حكم استقلالي، وبالعموم

المجموعي حكم ضمني للجزء المشكوك فيه «1».

انوار الأصول، ج 3، ص: 412

أقول: الحقّ هو وجود الفرق بين العام الاستغراقي والعام المجموعي في المقام، وما أرسله إرسال المسلّم في باب العام والخاصّ في غير محلّه، وذلك لأنّ العام في العموم الاستغراقي كلّي له أفراد كثيرة ويتعدّد الحكم فيه بتعدّد افراده فإذا خرج فرد واحد بقيت سائر الافراد على حالها.

بخلاف العموم المجموعي فإنّ العام فيه وجود واحد مستمرّ له أمر واحد، وتعلّق هذا الأمر بالمجموع بما هو مجموع، فإذا خرج جزء منه سقط الأمر المتعلّق بالمجموع، ولا أمر آخر يثبت الحكم به، ولذلك يكون مقتضى القاعدة في صيام شهر رمضان سقوط الصيام عن الوجوب إذا اضطرّ المكلّف بالأكل أو الشرب ولو في ساعة، إلّاأن يدلّ دليل خاصّ على بقاء الوجوب كما في ذي العطاش على قوله، وكما أنّه قد يقال بذلك في باب الصّلاة في فاقد الطهورين لأنّ المفروض أنّ الصّلاة والطهارة كأمر واحد لا يمكن التفكيك بينهما.

ولذلك لا يتمسّك الفقهاء لإثبات بقاء الوجوب بعموم العام في هذه الموارد بل يستدلّون بقاعدة الميسور.

نعم إذا كان الخاصّ في العام المجموعي متّصلًا كما إذا قال: «أكرم مجموع العشرة إلّازيداً» كان العموم بعد إخراج الفرد المخصّص باقياً على حاله، لأنّ العام ينعقد ظهوره في الباقي من الأوّل.

وخلاصة الكلام أنّ هيهنا أقساماً ثلاثة من العموم:

1- العموم الاستغراقي، كما إذا قال اوفوا بالعقود في كلّ يوم.

2- العموم المجموعي، كما إذا قال: اوفوا بالعقود في مجموع الأيّام.

3- العموم المستفاد من مقدّمات الحكمة ومن طريق الاطلاق، كما أنّه كذلك في قوله تعالى «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ».

وقد ظهر ممّا ذكر ما هو الصحيح في القسم الأوّل والثاني، وأمّا الثالث فلا يمكن الرجوع فيه إلى العام، وذلك لأنّ العموم

الأزماني هنا متفرّع على العموم الأفرادي فإذا دخل فرد من العقود تحت «اوفوا بالعقود» أمكن دعوى الاطلاق فيه من حيث الأزمان بمقدّمات الحكمة، وأمّا إذا خرج فرد منه ولو على بنحو الإبهام كما في خيار الغبن فلا يمكن دعوى الاطلاق فيه بعد ذلك، لأنّ دعوى الاطلاق فرع بقاء هذا العقد (العقد الغبني) تحت اوفوا بالعقود، فإذا خرج انوار الأصول، ج 3، ص: 413

منه بالتخصيص لا يبقى مجال للأخذ بالإطلاق، فتأمّل.

التنبيه الخامس عشر: في المراد من الشكّ في المقام

هل المراد من الشكّ الوارد في أخبار الاستصحاب خصوص تساوي الطرفين، أو المراد منه الأعمّ منه ومن الظنّ والوهم؟ فقد ذكر لإثبات المعنى الثاني وجوه:

منها: ما يستفاد من نفس أخبار الباب، ففيها إشارات كثيرة تدلّ على العموم، كما ذكره شيخنا العلّامة الأنصاري:

1- مقابلة الشكّ باليقين في جميع أخبار الباب فإنّ ظاهرها عدم وجود شقّ ثالث في البين.

2- قوله عليه السلام «ولكن ينقضه بيقين آخر» فإنّه ظاهر أنّ ناقض اليقين منحصر في اليقين فقط.

3- قوله عليه السلام في صحيحة زرارة الاولى: «فإن حرّك إلى جنبه شي ء وهو لا يعلم به ...» فإنّ ظاهره فرض السؤال فيما كان معه أمارة النوم.

4- قوله عليه السلام: «لا حتّى يستيقن أنّه قد نام» حيث جعل غاية وجوب الوضوء اليقين بالنوم ومجي ء أمر بيّن منه.

5- قوله عليه السلام في صحيحة زرارة الثانية: «فلعلّه شي ء أوقع عليك ...» لأنّ كلمة لعلّ ظاهرة في مجرّد الاحتمال، ولا أقلّ أنّها أعمّ من الشكّ والوهم الذي يلازم الظنّ بالخلاف.

6- قوله عليه السلام: «صم للرؤية وافطر للرؤية» حيث إنّه فرّع على قوله عليه السلام: «اليقين لا يدخله الشكّ» فهو ظاهر في حصر ناقض اليقين في الرؤية واليقين.

ومنها: شهادة كلمات اللغويين، فعن الصحاح أنّه خلاف اليقين، ولكن في

المفردات:

«الشكّ اعتدال النقيضين عند الإنسان وتساويهما».

وعليه يشكل الركون إلى ما نقل عن الصحاح.

نعم، يؤيّده موارد استعماله في كتاب اللَّه الكريم فإنّه ورد في خمسة عشر مورداً منه كلّها

انوار الأصول، ج 3، ص: 414

استعملت في المعنى الأعمّ كقوله تعالى: «فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ» «1»

حيث إنّ المراد منه «إن كنت لا تعلم» كما لا يخفى، وقوله تعالى: «قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ» «2»

من الواضح أنّه أيضاً أعمّ.

ومنها: الإجماع: فإنّ جميع القائلين بحجّية الاستصحاب اتّفقوا على أنّ المراد من الشكّ في أخبار الاستصحاب إنّما هو المعنى الأعمّ.

لكن فيه أوّلًا: أنّه لا أقلّ من كونه محتمل المدرك، وثانياً: أنّه من قبيل الإجماع المركّب حيث إنّه في الواقع يرجع إلى أنّ الفقهاء بين قائل بعدم حجّية الاستصحاب وقائل بحجّيته في المعنى الأعم، ولا دليل على حجّية الإجماع المركّب.

ومنها: أنّ الظنّ غير المعتبر لا يخلو من وجهين: أمّا الظنّ القياسي الذي قام الدليل على عدم حجّيته وبطلانه فلا يعتنى به في جريان الاستحباب، أو الظّن غير القياسي الذي يكون مشكوك الحجّية فهو ينتهي إلى الشكّ فلا يمكن نقض اليقين به.

ولكنّه أيضاً غير تامّ بكلا شقّيه، أمّا بالنسبة إلى شقّه الأوّل (أي الظنّ القياسي) فلأنّ أدلّة بطلان القياس ليست ناظرة إلى أدلّة الاستصحاب أصلًا، بل إنّ مفادها أنّ الظنّ لا يكون كاشفاً عن الواقع، وأمّا بالنسبة إلى شقّه الثاني فكذلك، لأنّ المراد من عدم الحجّية عدم الكشف عن الواقع.

التنبيه السادس عشر: اعتبار بقاء الموضوع في الاستصحاب
اشارة

وهو ممّا ذكر في كلمات الأصحاب بعنوان الخاتمة، مع أنّه لا فرق بينه وبين سائر الامور التي ذكرت تحت عنوان التنبيهات، ولذا ألحقناه بها، وكذا ما يليه من الامور المذكورة في الخاتمة.

وكيف كان، فقد ذهب أكثر المحقّقين إلى

أنّ جريان الاستصحاب فرع لبقاء موضوع انوار الأصول، ج 3، ص: 415

المستصحب وإحرازه في الزمان اللاحق، ثمّ تكلّموا بعد ذلك عن أنّه هل اللازم كون ذلك بالنظر الدقيق العقلي أو يكفي بقاءه عند العرف أو لابدّ من ملاحظة ما أخذ موضوعاً في لسان الدليل؟

ولكن بعضهم كالمحقّق الخراساني رحمه الله عبّر عن هذا باتّحاد القضيتين المتيقّنة والمشكوكة، ولازمه وحدة كلّ من الموضوع والمحمول فيهما.

واستدلّ لذلك بأنّه ظاهر أدلّة الاستصحاب ولازم قوله عليه السلام: «لا تنقض اليقين بالشكّ» حيث إنّه لو لم يكن موضوع القضيتين متّحداً كاتّحادهما محمولًا لم يكن رفع اليد عن اليقين في محلّ الشكّ نقضاً لليقين بالشكّ، بل لا يكون نقضاً أصلًا، فإذا تيقّن مثلًا في السابق بعدالة زيد وشكّ فعلًا في عدالة عمرو لا يكون الشكّ حينئذٍ في بقاء ما كان، كما لا يكون رفع اليد عن اليقين بعدالة عمرو نقضاً لليقين بالشكّ، وكذا إذا علم بعدالة زيد ثمّ شكّ في وكالته مثلًا عن عمرو.

هذا مضافاً إلى أنّه لو لم يكن موضوع القضيتين متّحداً كاتّحادهما محمولًا لم يصدق الشكّ في البقاء كما لا يخفى.

أقول: الصحيح في المقام أن يقال: إنّ المراد من بقاء الموضوع في كلمات القوم إنّما هو وجود الموضوع في الزمان اللاحق، أي يعتبر في الاستصحاب أن يكون الموضوع موجوداً حينما يكون الحكم مشكوكاً، مضافاً إلى اعتبار وحدة القضيتين، ولا ريب في أنّ أحدهما غير الآخر.

والشاهد على اعتبار وجود الموضوع نفس أخبار الباب حيث إنّ المشكوك في موردها إنّما هو بقاء الحكم (كبقاء الوضوء في حديث زرارة) مع فرض بقاء الموضوع ووجوده حين الشكّ.

إن قلت: إنّه ينتقض باستصحاب وجود الأشياء عند الشكّ في بقائها، حيث إنّ الشكّ حينئذٍ إنّما هو في وجود

الموضوع في الزمان اللاحق على نحو مفاد كان التامّة، ومع إحراز وجود الموضوع في الزمان اللاحق لا معنى لهذا الشكّ.

قلنا: إنّ معنى وجود الموضوع هو تحقّق الموضوع في اللاحق على نحو تحقّقه في السابق، فإن كان تحقّقه في السابق تحقّقاً ماهوياً كما في مفاد كان التامّة، نحو «زيد كان موجوداً» بأن كان الموضوع (وهو زيد في المثال) بتقرّره الماهوي موضوعاً للاستصحاب كان المعتبر تحقّقه في انوار الأصول، ج 3، ص: 416

الزمان اللاحق كذلك، وإن كان تحقّقه في السابق خارجياً بأن كان بوجوده الخارجي موضوعاً للاستصحاب، كما في مثل قولك: «كان زيد عادلًا» وشككنا الآن في عدالته فيعتبر وجوده في اللاحق خارجاً، وإن كان تحقّقه في السابق في عالم الاعتبار كالملكيّة والزوجيّة فيعتبر وجوده في اللاحق في عالم الاعتبار أيضاً.

وكيف كان، يعتبر في حجّية الاستصحاب بقاء الموضوع بمعنى وجوده في الزمان اللاحق على نحو وجوده في الزمان السابق، والدليل عليه ظاهر أخبار الباب كما مرّ، فإنّ المشكوك فيها هو الحكم بعد إحراز وجود الموضوع.

ثمّ إنّ الشكّ قد يكون من قبيل الشبهات الموضوعيّة وقد يكون من قبيل الشبهات الحكميّة، والشبهات الموضوعيّة قد تكون على نحو مفاد كان التامّة، كما إذا كان الشكّ في وجود زيد، وقد تكون على نحو مفاد كان الناقصة، كما إذا كان الشكّ في بقاء كرّية الماء، والشبهات الحكميّة أيضاً على قسمين: تارةً يكون الشكّ في الحكم بوجوه الإنشائي، واخرى يكون الشكّ فيه بوجوده الفعلي.

هذه أقسام أربعة.

ولا إشكال في جريان الاستصحاب في القسم الأوّل، ولا يتصوّر فيه دعوى تبدّل الموضوع كما لا يخفى، بخلاف القسم الثاني، حيث يتصوّر فيه دعوى تبدّل الموضوع، فإذا أخذنا من الكرّ مقداراً من الماء وشككنا في بقاء كرّيته أمكن أن

يدّعي أنّ هذا الماء ليس هو الماء السابق بالدقّة العقليّة، فيجري فيه ما سيأتي من المدار في بقاء الموضوع هل هو العقل أو العرف أو غيرهما؟ فانتظر.

وأمّا الشبهات الحكميّة ففي القسم الأوّل منها، أي ما إذا كان الشكّ في بقاء الحكم الإنشائي وبالمآل في نسخه وعدمه فقد يقال: لا يتصوّر فيه أيضاً تبدّل الموضوع نظراً إلى رجوع إلى الشكّ في وجود الإنشاء وعدمه (ولكنّه غير خالٍ عن الإشكال كما سيأتي) كما في القسم الأوّل من الشبهات الموضوعيّة، بخلاف القسم الثاني منها، نظير ما إذا شككنا في بقاء نجاسة الماء المتغيّر الذي زال عنه التغيّر، فيجري فيه أيضاً- كالقسم الثاني من الشبهات انوار الأصول، ج 3، ص: 417

الموضوعيّة- ما سيأتي من النزاع في ميزان التبدّل كما لا يخفى.

ثمّ إنّ الشيخ الأعظم الأنصاري استدلّ لإعتبار وجود الموضوع بإستحالة إنتقال العرض من موضوع إلى موضوع آخر (للزوم الطفرة، وهى مستلزمة لكون العرض بلا معروض ولو آناً مّا في حال الانتقال والتحوّل) وذلك في المقام من باب إنّ الموضوع بمنزلة معروض للحكم فيلزم من انتقال الحكم من موضوع إلى موضوع آخر- كانتقال الحرمة من الماء المتغيّر إلى الماء الذي زال عنه التغيّر- انتقال العرض من معروض إلى معروض آخر.

ولكن يرد عليه: أوّلًا: أنّ هذا أيضاً من قبيل الخلط بين الحقائق والاعتباريات، فإنّ إستحالة انتقال العرض إنّما يتصوّر في الامور التكوينيّة لا الاعتباريّة كالوجوب والحرمة لأنّها ليست من الأعراض في الحقيقة.

وثانياً: أنّه لا دليل على هذه الإستحالة بل أنّه من قبيل الشبهة في البديهيات، حيث إنّا نجد بوجداننا إنتقال الأعراض من معروض إلى معروض آخر كانتقال الحرارة من الماء إلى الإناء، وكذلك انتقال البرودة من أحدهما إلى الآخر، مثلًا قد يكون مقدار

حرارة الماء عشرين درجة ثمّ يصبّ في إناء يكون درجته على حدّ الصغر فتنخفض درجة الماء إلى عشرة، حينما بلغت درجة حرارة الإناء أيضاً عشرة، فمن أين جاءت هذه العشرة؟ وإلى أين ذهبت تلك العشرة؟ وهل هى إلّابانتقالها من أحدهما إلى الآخر، بل المنظومة الشمسيّة لا تزال محلًا لهذا الانتقال في جميع آنات الليل والنهار، فكيف يكون إنتقال العرض محالًا؟

ثالثاً: سلّمنا، ولكنّه أخصّ من المدّعى لأنّ جميع موارد الاستصحاب ليست من قبيل العرض والمعروض، بل قد تكون من قبيل الوجود والماهيّة، كما في مفاد كان التامّة (كان زيد) ولا إشكال أنّ الوجود ليس من عوارض الماهيّة.

إلى هنا قد ظهر ممّا ذكرنا أنّه يعتبر بقاء الموضوع (إمّا بمعنى وجود الموضوع أو بمعنى اتّحاد القضيتين كما أفاده المحقّق الخراساني رحمه الله أو كليهما كما هو المختار) في جريان الاستصحاب.

المعيار في بقاء الموضوع:

ثمّ إنّه هل اللازم بقاء الموضوع العقلي الدقّي أو الموضوع المأخوذ في لسان الدليل، أو الموضع العرفي؟ ففيه وجوه ثلاثة.

إن قلت: لا معنى للتردّد بين هذه الامور الثلاثة فانّ من الواضح لزوم التبعية عن لسان الدليل، وإنّما العقل كاشف عن حكم الشرع وليس مشرّعاً، وكذلك العرف، فلا يصحّ جعلهما في عرض لسان الدليل.

قلنا: ليس المراد من هذا الترديد كون العقل والعرف في مقابل الشرع، بل المقصود منه إنّا إذا أردنا تطبيق ما ورد من جانب الشارع (أي قوله: لا تنقض ...) على مورد الاستصحاب كان المعتبر فيه هل الجمود على ظاهر الدليل، أو ملاحظة ما يراه العقل بالنظر الدقّي، أو ما يفهمه العرف؟

فإذا ورد من الشارع مثلًا «الماء إذا بلغ قدر كرّ لا ينجّسه شي ء» وشككنا في أنّ هذا الماء كرّ أم لا (على نحو الشبهة الموضوعيّة) مع

أنّه كان في السابق كرّاً، فهل الميزان في بقاء موضوع الكرّية أي عنوان «هذا الماء» نظر العرف حتّى يصدق قوله عليه السلام «لا تنقض اليقين بالشكّ» لأنّ هذا الماء نفس ما كان سابقاً بنظر العرف ولا يضرّ أخذ مقدار من الماء بصدق عنوان «هذا»، فيكون الموضوع باقياً فيجري الاستصحاب، أو الميزان بقاء «هذا» بنظر العقل فلا ينطبق عليه قوله عليه السلام: «لا تنقض ...» لأنّ هذا الماء غير ما كان سابقاً بالنظر العقلي الدقّي فلا يكون الموضوع باقياً فلا يجري الاستصحاب؟

وهكذا فيما إذا كان الشبهة حكميّة كما إذا صار الماء نجساً بالتغيّر، والآن زال عنه التغيّر، فإن كان المعيار نظر العقل فلا يكون الموضوع باقياً، وإن كان هو نظر العرف يكون باقياً، وإن كان الميزان الجمود على ما ورد في لسان الدليل وفرضنا أنّ الوارد فيه «أنّ الماء المتغيّر نجس» فقد تبدّل الموضوع بزوال التغيّر، وإن فرضنا أنّ الوارد فيه «الماء نجس إذا تغيّر» فالموضوع باقٍ على حاله كما لا يخفى.

وإن شئت قلت: (كما قاله بعض الأعلام): أنّ المقصود من هذا الترديد أنّه هل المرجع في بقاء الموضوع هو الدليل الأوّل (الدالّ على المتيقّن سابقاً) أي ما يدلّ على نجاسة الماء حين التغيّر، حتّى يلاحظ ما ورد في لسانه من الموضوع وإنّه هل هو «الماء المتغيّر» أو «الماء» مطلقاً،

انوار الأصول، ج 3، ص: 419

بأن كان جريان الاستصحاب تابعاً لبقاء الموضوع المأخوذ في لسانه، أو المرجع هو الدليل الثاني الدالّ على الإبقاء في ظرف الشكّ أي قوله «لا تنقض اليقين بالشكّ» حتّى يكون جريان الاستصحاب تابعاً لصدق النقض والمضيّ في نظر العرف أو نظر العقل؟

نعم الترديد بين الثلاث إنّما هو في الشبهات الحكميّة، وأمّا في الشبهات الموضوعيّة

فالترديد ثنائي بين العقل والعرف لأنّ الموضوع الجزئي لا يؤخذ من لسان الدليل «1».

وقد ظهر ممّا ذكرنا ثمرة هذه المسألة حيث عرفنا أنّه إذا كان المعيار نظر العرف فكثيراً ما يكون الموضوع في مفاد كان الناقصة باقياً إلى زمان الشكّ فيجري الاستصحاب، وأمّا إذا كان الميزان نظر العقل فلا يجري الاستصحاب فيه أصلًا، لأنّ حصول الشكّ فرع حصول تغيير في الموضوع، ومعه لا يكون الموضوع باقياً في الآن اللاحق عقلًا، وإن كان الميزان هو الجمود على ظاهر الدليل الدالّ على ثبوت الحكم سابقاً فلابدّ من الرجوع إليه.

إذا عرفت هذا فنقول: لا ريب أنّ الميزان في بقاء الموضوع إنّما هو نظر العرف، أي صدق النقض وعدم النقض عرفاً، كما أنّه كذلك في جميع الموضوعات الواردة في لسان الأدلّة، وذلك لأنّ المفاهيم الموجودة في أدلّة الأحكام نازلة على المتفاهم العرفي.

وتوضيحه: أنّ القيود المأخوذة في الموضوع في لسان الأدلّة على قسمين:

قيود تكون في نظر العرف من المقوّمات كميعان الماء، فلا يجري استصحاب النجاسة إذا صار الماء بخاراً، وهذا إذا صار الكلب الواقع في المملحة ملحاً، أو صار الخشب النجس رماداً ودخاناً، وذلك لعدم صدق النقص على رفع اليد عن الحكم السابق.

وقيود تكون من الحالات كالتغيّر في الماء المتغيّر بالنجس، فإنّ الموضوع للنجاسة مطلق الماء فيجري استصحاب النجاسة لصدق نقض اليقين بالشكّ على رفع اليد عن حكم النجاسة، ولقد أجاد من نظّر هذا بما ثبت في الفقه في باب الخيارات بأنّه لو قال البائع: «بعتك هذا الفرس العربي» فبان كونه حماراً يكون البيع باطلًا، لكون الصورة النوعية مقوّمة المبيع، ولكن لو بان كونه فرساً غير عربي فالبيع صحيح مع خيار تخلّف الوصف، لعدم كون الوصف مقوّماً للمبيع بنظر العرف،

وهكذا وصف الصحّة المبنيّ عليها العقد فإنّ تخلّفها لا يوجب الخيار.

انوار الأصول، ج 3، ص: 420

وإن شئت قلت: بيع الموصوف مع الوصف في أمثال هذه المقامات من قبيل تعدّد المطلوب عرفاً (والمعيار كونه كذلك في نظر نوع الناس دون الأشخاص) فإذا تخلّف أحد المطلوبين لم يضرّ بالآخر وإن كان الخيار ثابتاً لتخلّف بعض المطلوب، نعم قد يكون الوصف أيضاً مقوّماً في نظر نوع الناس نظير وصف الصحّة في الشاة المبتاعة في منى في مناسك الحجّ، فإذا باع شاة وانكشف كونها معيوبة يحتمل كون البيع باطلًا (لا أنّه صحيح مع خيار العيب) فإنّه لا يتعلّق غرض غالباً بالمعيب هناك فتأمّل.

إن قلت: من أين نعلم أنّ هذا الوصف مقوّم أو من الحالات؟

قلنا: نفهمه من مناسبات الحكم والموضوع، ففي باب الطهارة والنجاسة يحكم العرف بأنّ موضوع النجاسة إنّما هو مطلق الماء من دون دخل للون والطعم أو لاريح فيها بل إنّهما من الحالات، وفي باب التقليد عن العالم يحكم بأنّ العلم من المقوّمات، فإذا عارضه النسيان لا يمكن استصحاب جواز تقليده لأنّ مناسبة الحكم والموضوع تقتضي أنّ موضوع جواز التقليد إنّما هو زيد بما أنّه عالم، ومن هنا قد يكون شي ء واحد من الحالات بالنسبة إلى حكم، ومن المقوّمات بالنسبة إلى حكم آخر. كوصف العلم فإنّه مقوّم في المثال المذكور وغير مقوّم بالنسبة إلى جواز الإقتداء به.

إن قلت: ما هو المرجع فيما إذا شككنا في كون وصف من المقوّمات أو من الحالات؟ كما إذا صار الخمر خلًاّ وشككنا في بقاء نجاسته مع قطع النظر عمّا ورد في باب الانقلاب فهل الخمرية من مقوّمات موضوع النجاسة أو أنّها من الحالات؟

قلنا: لا يجوز الاستصحاب حينئذٍ لأنّه لابدّ فيه من إحراز بقاء

الموضوع، وبعبارة اخرى: أنّه من موارد الشبهة المصداقيّة لدليل «لا تنقض» فلا يمكن الرجوع إلى عموم أدلّة الاستصحاب بل المرجع سائر الاصول.

إن قلت: أليس ما ذكرت من قبيل الرجوع إلى العرف في المسامحات العرفيّة التي لا تتّبع؟

قلنا: كلّا، لأنّ الرجوع إلى المسامحات العرفيّة ممنوع فيما إذا كان المفهوم واضحاً ومع ذلك يتسامح العرف في تطبيقه على مصداقه، فيطلق على «ثمانية فراسخ إلّاعشرة أذرع» مثلًا أنّه ثمانية فراسخ، أو على مقدار «كرّ من الماء إلّاغرفة» أنّه كرّ مع كون مقدار الكرّ معلوماً، كما أنّ انوار الأصول، ج 3، ص: 421

الماء الخارجي أيضاً معلوم وعدم إنطباق الأوّل على الثاني أيضاً واضح، وأمّا إذا لم يكن الموضوع المأخوذ في لسان الدليل واضحاً مفهوماً، فالمرجع في تشخيص المفهوم وحدوده إنّما هو العرف لأنّ المفاهيم الواردة في لسان الأدلّة والموضوعات المأخوذة فيها نازلة على المتفاهم العرفي كما مرّ آنفاً، وليس هذا من قبيل المسامحات.

بقي هنا شي ء:

وهو الثمرة التي تترتّب على هذا البحث.

(قد مرّت الإشارة إلى أنّه إن كان الميزان في تشخيص الموضوع ما يدركه العقل فلا يجري الاستصحاب في شبهة من الشبهات الحكميّة، لأنّ الشبهة فيها فرع لإحتمال تغيّر في الموضوع، ومع هذا الاحتمال لا يحرز بقاء الموضوع بالدقّة العقليّة، ومعه لا يجوز الاستصحاب لأنّه يعتبر في جريان الاستصحاب إحراز الموضوع بتمام قيوده وأجزائه.

وإن شئت قلت: إنّ الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد، وبقاء المصالح أو المفاسد فرع بقاء الموضوع، والشكّ في بقاء الحكم ينشأ من الشكّ في بقاء المصلحة أو المفسدة، وهو ناشٍ من احتمال تغيّر في الموضوع، وإلّا فلا وجه للشكّ.

هذا إذا كانت المصلحة أو المفسدة في نفس الفعل كما هو الغالب، وأمّا إذا كانت في نفس الإنشاء فاحتمال تغيّر المصلحة

أو المفسدة لا ينشأ من احتمال تغيّر في الموضوع، بل يمكن بقاء الموضوع على حاله مع تغيّر المصالح أو المفاسد فإذا كان الموضوع باقياً يجري الاستصحاب وإن احتملنا عدم وجود مصلحة في الإنشاء.

ولكن وجود المصلحة في الإنشاء أمر نادر لا نعرف له مصداقاً في القوانين الكلّية الشرعيّة، ومن هنا يظهر الحال بالنسبة إلى عدم جريان استصحاب عدم النسخ في الأحكام الكلّية أيضاً (لو قلنا بكون الموضوع مأخوذاً من العقل) لأنّه في مثل هذه الموارد أيضاً يحتمل تغيّر الموضوع لأنّ النسخ دفع للحكم لا رفع له، ويكون بمعنى انتهاء أمد المصلحة وهو لا يكون إلّابتغيّر في الموضوع.

ومن هنا يظهر الإشكال فيما ذكره الشيخ رحمه الله من أنّه لو أخذ الموضوع من العقل لكان انوار الأصول، ج 3، ص: 422

جريان الاستصحاب في الشبهات الحكميّة مختصّاً بموارد الشكّ في الرافع، ومراده من الرافع (بناءً على توجيه المحقّق النائيني رحمه الله لكلامه) ما يمنع عن تأثير المقتضي في البقاء بعد تأثيره في الحدوث، فهو عبارة عمّا أخذ عدمه في بقاء شي ء بعد حدوثه كالطلاق بالنسبة إلى علاقة الزوجية، لا ما أخذ عدمه في حدوث شي ء، وحينئذٍ الرافع في المقام ما يكون خارجاً عن دائرة الموضوع ولا دخل لعدمه في حدوث الحكم.

والوجه في عدم تماميّته أنّ قياس الأحكام الشرعيّة بالامور التكوينيّة مع الفارق كما مرّ كراراً، لأنّ جميع الشرائط والموانع في الأحكام الشرعيّة ترجع بالأخرة إلى قيود في موضوع الحكم، فالشكّ في بقاء الحكم الشرعي بعد العلم بحدوثه ينشأ من الشكّ في طروّ تغيّر في موضوعه، ومعه لا مجال لجريان الاستصحاب بناءً على أخذ الموضوع بالدقّة العقليّة.

التنبيه السابع عشر: تقدّم الأمارات على الاستصحاب

اتّفقت كلمات الأصحاب على تقدّم الأمارة على الاستصحاب، وإنّما الكلام في وجهه، فهل هو

من باب الورود، أو الحكومة، أو التخصيص الذي هو توفيق عرفي بين دليل اعتبار الأمارة وخطاب الاستصحاب، فإن قلنا بالورود فمعناه عدم بقاء شكّ حقيقة بعد مجي ء الأمارة، وإن قلنا بالحكومة فمعناه عدم بقاء الشكّ تعبّداً وحكماً كذلك، وإن قلنا بالتخصيص فلازمه أنّ دليل الأمارة أخصّ من دليل الاستصحاب، (وسيأتي توضيح الفرق بين هذه الثلاثة في أبواب التعادل والترجيح إن شاء اللَّه).

ذهب المحقّق الخراساني رحمه الله إلى أنّه من باب الورود، وذهب الشيخ الأعظم رحمه الله إلى أنّه من باب الحكومة، واحتمل بعض كونه من باب التخصيص، ففي المسألة ثلاثة احتمالات أو ثلاثة أقوال.

واستدلّ المحقّق الخراساني رحمه الله لمختاره بقوله: «إنّ رفع اليد عن اليقين السابق بسبب أمارة معتبرة على خلافه ليس من نقض اليقين بالشكّ بل باليقين، وعدم رفع اليد عنه مع الأمارة

انوار الأصول، ج 3، ص: 423

على وفقه ليس لأجل أن لا يلزم نقضه به بل من جهة لزوم العمل بالحجّة» «1».

وأورد عليه المحقّق الأصفهاني رحمه الله في تعليقته على الكفاية بما حاصله: أنّ الأمارة «إمّا أن تكون حجّة من باب الموضوعيّة والسببيّة وإمّا أن تكون حجّة من باب الطريقيّة، فإن كانت حجّة من باب الموضوعيّة (أي توجب الأمارة حصول مصلحة في موردها وإن لم تكن لها مصلحة واقعاً) فحينئذٍ وإن كان الحكم الفعلي هو مؤدّى الأمارة ولكنّه لا ينافي انحفاظ الحكم الفعلي المطلق (الحكم الإنشائي) بقوّته، فاحتمال وجود حكم مخالفٍ لمؤدّى الأمارة في الواقع باقٍ على حاله، ومعه لا ورود، إذ كما يكون الاحتمال محفوظاً مع حكم نفسه كذلك مع الحكم المجعول بسبب الأمارة، وإن كانت حجّة من باب الطريقيّة، فأيضاً لا يرتفع احتمال الحكم الواقعي، سواء كانت الحجّية حينئذٍ بمعنى جعل الحكم

المماثل أو بمعنى منجّزية الأمارة للواقع، لأنّه على الأوّل يكون الحكم مقصوراً على صورة الموافقة للواقع، فلا يقين بالحكم ليرتفع احتمال الحكم الواقعي، وعلى الثاني لا حكم مماثل مجعول أصلًا ليكون اليقين به رافعاً لاحتمال الحكم» «2».

أقول: الصحيح ما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمه الله، وأنّ ما أورده عليه المحقّق الأصفهاني رحمه الله ممّا لا يمكن المساعدة عليه من جهتين:

الاولى: ما مرّ سابقاً من أنّ الأمارة أيضاً توجب حصول العلم واليقين العرفي، ولعلّ هذا هو مراد المحقّق الخراساني رحمه الله حيث عبّر عمّا يحصل بالأمارة باليقين، والشاهد عليه أنّ أكثر القضايا المتيقّنة السابقة نتيقّن بها من طريق الأمارات.

وإن شئت قلت: كما أنّه لا فرق في حصول اليقين السابق بين الحاصل من طريق الأمارة أو العلم القطعي الوجداني، كذلك لا فرق في نقضه بيقين آخر بين ما يحصل من الوجدان وما يحصل من الأمارة.

الثانية: أنّ مفاد الأمارة وإن كان ظنّياً ولكنّه ينتهي إلى اليقين، حيث إنّ دليل حجّيته قطعي، فنقض اليقين السابق ورفع اليد عنه بالأمارة يكون بالمآل من مصاديق نقض اليقين انوار الأصول، ج 3، ص: 424

باليقين لا نقض اليقين بالشكّ، فتأمّل.

ويمكن تبيين هذا المعنى من طريق آخر وهو أنّ المراد من الشكّ في أدلّة حجّية الاستصحاب هو الحيرة الحاصلة من عدم وجود طريق إلى الواقع، فإذا قامت عنده الأمارة التي هى من الطرق المعتبرة لم تبق له حيرة ولا يصدق عليه أنّه سالك بلا طريق، فكأنّ معنى الشكّ عند العرف في أمثال المقام أضيق من الشكّ الفلسفي، كما أنّ اليقين عندهم أوسع من اليقين الفلسفي، وحينئذٍ لا يصدق على رفع اليد عن اليقين بالأمارة أنّه نقض اليقين بالشكّ بل يصدق عليه عند العرف أنّه نقض

لليقين باليقين.

ويؤيّد ما ذكرنا ما مرّ من أنّ من أدلّة حجّية الاستصحاب هو بناء العقلاء، ولا إشكال في أنّهم يعتمدون على الاستصحاب في خصوص موارد التردّد والحيرة، وأمّا إذا قامت أمارة على تقنين قانون جديد مثلًا أو على عزل الوكيل عن وكالته فلا يجرون استصحاب بقاء القانون السابق أو استصحاب الوكالة كما لا يخفى.

فظهر أنّ الحقّ كون الأمارات واردة على الاستصحاب، ولو تنزّلنا عن ذلك فلا أقلّ من الحكومة (وهى أن يكون أحد الدليلين ناظراً إلى دليل آخر إمّا إلى موضوعه أو إلى متعلّقه أو إلى حكمه، توسعة أو تضييقاً بالدلالة المطابقيّة أو التضمّن أو الالتزام البيّن، وذلك لأنّ أدلّة حجّية خبر الواحد مثلًا عند الدقّة والتحليل ناظرة إلى أدلّة الاصول، فإنّ مقتضى مفهوم آية النبأ (أي عدم لزوم التبيّن في خبر العادل) مثلًا إنّ ما أخبر به العادل مبيّن (ولذلك لا يحتاج إلى التبيّن) ولا إشكال في أنّ معناه عدم ترتيب آثار الشكّ، وهكذا بالنسبة إلى قوله عليه السلام «ما أدّيا عنّي فعنّي يؤدّيان» إذ إنّ معناه لزوم معاملة العلم مع ما أخبر عنه الثقة وعدم ترتيب آثار الشكّ، ولعلّ تسمية الشاهدين العدلين باسم البيّنة كانت من هذه الجهة، أي إذا شهدت البيّنة على شي ء فرتّب عليه آثار العلم تعبّداً ولا ترتّب آثار الشكّ، وليس هذا إلّامن باب أنّ أدلّة هذه الأمارات حاكمة على أدلّة الاصول وناظرة إليها ومضيّقة لدائرتها بغير موارد قيام الأمارة، فظهر ممّا ذكرنا أنّ إنكار المحقّق الخراساني للحكومة هنا في غير محلّه.

ولو تنزّلنا عن ذلك فيمكن أن يقال بالتخصيص في الجملة، أي التوفيق العرفي بين أدلّة الأمارات وأدلّة الاستصحاب بتخصيص عموم الاستصحاب بموارد قيام الأمارة، والإنصاف أنّه يتصوّر بالنسبة إلى

بعض الأمارات قطعاً، نظير موارد قيام قاعدة اليد، حيث إنّه لو لم تكن اليد مقدّمة على الاستصحاب ومخصّصة لأدلّته، لما بقي لقاعدة اليد مورد، وذلك لأنّها في جميع انوار الأصول، ج 3، ص: 425

مواردها مزاحمة لإستصحاب عدم التملّك، وهكذا في أصالة الصحّة وقاعدة الفراغ حيث أنّهما معارضتان مع استصحاب عدم إتيان العمل صحيحاً في جميع الموارد.

نعم، إنّ هذا لا يجري بالنسبة إلى بعض الأمارات كخبر الواحد، فإنّه قد يكون معارضاً مع الاستصحاب وقد لا يكون، كما لا يخفى.

هذا كلّه في الأمارات المخالفة مع الاستصحاب.

أمّا الأمارات الموافقة كما إذا قامت البيّنة على طهارة شي ء كان طاهراً سابقاً ففيها أيضاً يأتي ما مرّ من ورود أدلّة الأمارات على أدلّة الاستصحاب بنفس البيان السابق، وهو أنّ مورد الاستصحاب هو الشكّ في الحكم الواقعي بمعنى الحيرة والتردّد، والأمارة تزيلها.

وبعبارة اخرى: إنّ لليقين في أدلّة الاستصحاب معنىً يعمّ ما يحصل من الأمارة قطعاً، وحينئذٍ مع وجود الأمارة لا تصل النوبة إلى الاستصحاب، وأمّا استدلال الفقهاء بالاصول ومنها الاستصحاب في جنب سائر الأدلّة فهو بعد الفحص عن وجود الأمارة.

ولو تنزّلنا عن الورود فلا أقلّ من الحكومة أيضاً كالأمارات المخالفة، لأنّ أدلّة الأمارات مفادها في الواقع «نزّله منزلة اليقين ولا ترتّب آثار الشكّ»، اللهمّ إلّاأن يقال: إنّها منصرفة عن الاصول الموافقة.

نعم، لا سبيل إلى التخصيص هنا، لأنّه فرع مخالفة العام مع الخاصّ بلا إشكال، ولذا لا يخصّص قولك «أكرم العلماء» بقولك «أكرم زيداً العالم» عند العرف.

التنبيه الثامن عشر: النسبة بين الاستصحاب وسائر الاصول العمليّة

والكلام فيه أيضاً يكون في وجه تقديم الاستصحاب على سائر الاصول، وإلّا لا إشكال في أصل تقدّمه عليها بل ادّعى اتّفاق الأصحاب عليه.

وقد قرّر في محلّه أنّ الاصول العمليّة على قسمين: عقلية وشرعية، أمّا العقليّة فهى ثلاثة:

البراءة العقليّة (قبح العقاب بلا بيان) والاحتياط العقلي (في أطراف العلم الإجمالي وشبهه) والتخيير العقلي (في دوران الأمر بين الواجب والحرام) نعم قد مرّ في مبحث البراءة أنّ المختار أنّها عقلائيّة لا عقليّة، لأنّ العقل كما يحكم في موارد العلم الإجمالي بالاحتياط يحكم في انوار الأصول، ج 3، ص: 426

موارد الشبهات البدوية أيضاً به، لما مرّ هناك من أنّ مقاصد المولى لا تكون أقلّ أهمية من مقاصد العبد نفسه، فكما أنّ العقل يحكم بالاحتياط فيما إذا احتمل العبد كون هذا الطعام مثلًا مضرّاً ضرراً معتدّاً به حفظاً لمقاصده الشخصية، كذلك يحكم به فيما إذا احتمل كون هذا الشي ء مبغوضاً لمولاه.

وعلى هذا فالاصول العقليّة إثنان لا ثلاثة، نعم إنّ بناء العقلاء قام على البراءة، فلا يؤاخذون العبيد والمأمورين بشي ء قبل البيان الواصل إليهم، وقد أمضاه الشارع أيضاً.

ولكن لا يخفى أنّه ليس فارقاً فيما هو المهمّ في المقام، لأنّ موضوع البراءة سواء كانت عقليّة أو عقلانيّة هو عدم البيان، وبعد قيام الاستصحاب يتبدّل عدم البيان إلى البيان.

وكيف كان، لا إشكال في أنّ الاستصحاب وارد على الاصول العقليّة لأنّ موضوعها يرتفع به، أمّا البراءة العقليّة (أو العقلائيّة) فلما عرفت آنفاً، وأمّا الاحتياط العقلي فلأنّ موضعه عدم الأمن من العقوبة فيما إذا علم إجمالًا بخمريّة أحد الإنائين مثلًا، ومع استصحاب خليّة أحدهما ينحلّ العلم الإجمالي من أصله ويحصل الأمن من العقاب، وهكذا في التخيير العقلي، فإنّ موضوعه عدم الترجيح بين المحذورين والاستصحاب مرجّح.

هذا في الاصول العقليّة.

وأمّا الاصول الشرعيّة المنحصرة في البراءة الشرعيّة فقد وقع النزاع في وجه تقديم الاستصحاب عليها فذهب المحقّق الخراساني رحمه الله إلى أنّ الاستصحاب وارد «1» على البراءة الشرعيّة بمعنى كونه رافعاً لموضوعها (أي الشكّ) بعد

قيامه.

وقال في توضيح مرامه ما حاصله: إن قلت: هذا لو أخذ بدليل الاستصحاب في مورد الاصول، ولكن لماذا لا يؤخذ بدليلها ويلزم الأخذ بدليله؟

قلنا: لأنّه لو أخذنا بدليل الاستصحاب لم يلزم منه شي ء سوى ارتفاع موضوع سائر الاصول بسببه، وهذا ليس بمحذور، وأمّا لو أخذنا بدليل البراءة الشرعيّة دون الاستصحاب فيلزم منه إمّا التخصيص بلا مخصّص إن رفعنا اليد عن الاستصحاب الجاري في مورد البراءة الشرعيّة بدون مخصّص لدليله، وإمّا التخصيص على وجه دائر إن رفعنا اليد عنه لأجل كون انوار الأصول، ج 3، ص: 427

البراءة الشرعيّة مخصّصة لدليله، فإنّ مخصّصيتها له ممّا يتوقّف على اعتبارها معه، واعتبارها معه ممّا يتوقّف على مخصّصيتها له، وهو دور محال (انتهى كلامه مع شرح وتوضيح).

ولكن يرد عليه: أنّ موضوع البراءة الشرعيّة إنّما هو الشكّ في الحكم الواقعي، وهو باقٍ على حاله واقعاً حتّى بعد قيام الاستصحاب، لأنّ المفروض أنّ الاستصحاب ليس أمارة حتّى يحصل به الاطمئنان بالواقع، أضف إلى ذلك أنّه يجري عين هذا البيان (لزوم التخصيص بلا مخصّص أو التخصيص على وجه دائر) في الطرف المقابل أيضاً، لأنّهما في عرض واحد ولسانهما واحد.

وذهب المحقّق النائيني رحمه الله إلى أنّه حاكم على البراءة الشرعيّة من باب «أنّها من الاصول غير التنزيلية (غير المحرزة) فيكون الاستصحاب المتكفّل للتنزيل رافعاً لموضوعها بثبوت التعبّد به شرعاً فيكون حاكماً عليها» «1».

ولكن يرد عليه أيضاً:

أوّلًا: ما مرّ سابقاً من أنّه لا فرق من هذه الجهة بين الأمارة والأصل، فإنّ الشكّ مأخوذ في موضوع كليهما، حيث إنّ الوارد في دليل حجّية الأمارة أيضاً «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ» (أي عند الشكّ وعدم العلم)، نعم كأنّه قال: «اسألوا حتّى تعلموا» فالغاية هو العلم بالواقع

والوصول إلى الواقع، بخلاف الأصل فإنّه لمجرّد رفع الحيرة في مقام العمل، وبه لا يصل المكلّف إلى الواقع.

ثانياً: أنّ مفاد دليل الاستصحاب إنّما هو النهي عن نقض اليقين السابق حيث يقول: لا تنقض اليقين (أي اليقين السابق) بالشكّ، ولا يقول: لا تنقض لأنّك على يقين من الحكم المتيقّن سابقاً حتّى يكون مفاده تنزيل المؤدّى منزلة الواقع.

ثمّ إنّ للشيخ الأعظم رحمه الله بياناً آخر للحكومة أي حكومة الاستصحاب على البراءة الشرعيّة بالنسبة إلى بعض أدلّتها مثل قوله عليه السلام: «كلّ شي ء مطلق حتّى يرد فيه نهي» ونحوه، وإليك نصّ كلامه: «إنّ دليل الاستصحاب بمنزلة معمّم للنهي السابق بالنسبة إلى الزمان اللاحق فقوله عليه السلام: «لا تنقض اليقين بالشكّ» يدلّ على أنّ النهي الوارد لابدّ من إبقائه وفرض انوار الأصول، ج 3، ص: 428

عمومه، فمجموع الرواية المذكورة (كلّ شي ء مطلق ...) ودليل الاستصحاب بمنزلة أن يقول:

«كلّ شي ء مطلق حتّى يرد فيه النهي، وكلّ نهي ورد في شي ء فلابدّ من تعميمه لجميع أزمنة احتماله» فتكون الرخصة في الشي ء وإطلاقه (المستفاد من قوله كلّ شي ء مطلق) مغيّى بورود النهي المحكوم عليه بالدوام وعموم الأزمان (بدليل الاستصحاب) فكان مفاد الاستصحاب نفي ما يقتضيه الأصل الآخر (البراءة الشرعيّة) في مورد الشكّ لولا النهي، وهذا معنى المحكومة» (انتهى).

وحاصل كلامه أنّ دليل البراءة الشرعيّة يقول: كلّ شي ء مطلق ومرخّص حتّى يرد فيه نهي، ودليل الاستصحاب يقول: إنّ النهي السابق نهي في الزمان اللاحق أيضاً، فيرتفع به موضوع أصالة البراءة وهو عدم وجود النهي فيكون حاكماً عليه.

ولكن يرد عليه: أنّ المستفاد من دليل الاستصحاب إنّما هو عدم ترتّب آثار الشكّ في مقام العمل ولزوم ترتّب آثار اليقين السابق كذلك، لا أنّ النهي السابق موجود في

الآن اللاحق، لأنّه ليس حاكياً عن بقاء النهي بحسب الواقع، وإلّا يلزم كونه من الأمارات.

وبعبارة اخرى: إمّا أن تلتزموا بكون الاستصحاب من الأمارات كما التزم به بعض الأعلام «1» ونتيجته أنّه مقدّم على البراءة الشرعيّة بالورود أو الحكومة، أو تجعلونه من الاصول العمليّة فلا وجه حينئذٍ لكونه مقدّماً من جهة الورود أو الحكومة، بل إنّه يعارض البراءة الشرعيّة ولابدّ حينئذٍ من ملاحظة الترجيح بين أدلّتهما. فنقول: أنّ وجه التقديم كون أدلّة الاستصحاب بعد ملاحظة التأكيدات الكثيرة والعبارات المترادفة المتعدّدة فيها أقوى وأظهر دلالة من أدلّة البراءة كما لا يخفى، فالمرجّح إنّما هو الأظهريّة والأقوائيّة في الدلالة، ويؤيّده ما قد يقال: من أنّ ألسنة بعض رواياته كقوله عليه السلام: «فليس ينبغي أن تنقض اليقين بالشكّ» في الصحيحة الثانية لزرارة وقوله عليه السلام: «فإنّ الشكّ لا ينقض اليقين» في رواية محمّد بن مسلم آبٍ عن التخصيص لا سيّما بعد كون التعليل بأمر إرتكازي عقلي.

إلى هنا تمّ الكلام عن التنبيه الثامن عشر.

التنبيه التاسع عشر: تعارض الاستصحابين

وقد قسّمه المحقّق الخراساني رحمه الله إلى قسمين، فإنّها تارةً يكونان من قبيل المتزاحمين (وقد مرّ في مبحث اجتماع الأمر والنهي أنّ التزاحم عبارة عن كون كلا الدليلين ذا مصلحة واقعيّة ولكن المكلّف لا يقدر على إتيانهما معاً) كما في غريقين نحتمل حياة كلّ منهما، فمقتضى استصحاب حياتهما وجوب إنقاذ كليهما ولكن المكلّف لا يقدر إلّاعلى إنقاذ واحد منهما.

واخرى يكونان من قبيل المتعارضين كما إذا علمنا بطهارة أحد الإنائين اللذين كانا نجسين سابقاً فيجري استصحاب نجاسة كلّ واحد منهما مع العلم بمخالفة أحدهما للواقع، وكذلك العكس وهو ما إذا كان الإناءان طاهرين سابقاً ثمّ علمنا بنجاسة أحدهما من غير تعيّن، فإستصحاب طهارة كلّ واحد منهما يعارض

استصحاب طهارة الآخر للعلم بكذب أحدهما.

أمّا القسم الأوّل: فقد ذهب المحقّق الخراساني رحمه الله في هامش الكفاية إلى أنّ حكمه التخيير إلّاأن يكون أحدهما أهمّ من الآخر فيقدّم، كما إذا دار الأمر بين إنقاذ النبي وغيره، أو دار الأمر بين انقاذ مسلم وذمّي (بقاءً على وجوب إنقاذ الذمّي أيضاً).

لكن الصحيح أنّه على أقسام أربعة:

فتارةً تكون النسبة بينهما التساوي ولا ترجيح لأحدهما على الآخر لا من ناحية المحتمل ولا من ناحية الاحتمال، فالحكم حينئذٍ التخيير بلا إشكال.

واخرى يكون أحدهما أكثر احتمالًا من الآخر مع تساويهما في جانب المحتمل، كما إذا كانت درجة احتمال نجاة أحدهما ثمانين في المائة ودرجة احتمال نجاة الآخر عشرين في المائة مع عدم ترجيح بينهما فيقدّم الأوّل على الثاني طبقاً لقاعدة الأهمّ والمهمّ.

وثالثة يكون أحدهما أهمّ في جانب المحتمل مع تساويهما في جانب الاحتمال، ومثاله يظهر ممّا ذكرنا فيقدّم الأهمّ أيضاً على المهمّ.

ورابعة يكون أحدهما أكثر احتمالًا والآخر أهمّ محتملًا، فلابدّ حينئذٍ من الكسر والانكسار وتشخيص ما يكون أهمّ في المجموع وتقديمه على الآخر.

وأمّا القسم الثاني: (وهو المتعارضان) فهو بنفسه على قسمين:

فتارةً يكون الاستصحابان طوليين بأن كان الشكّ في أحدهما مسبّباً عن الشكّ في الآخر

انوار الأصول، ج 3، ص: 430

على نحو لو ارتفع الشكّ في السبب ارتفع الشكّ في المسبّب، أي يكونان من قبيل أصلي السببي والمسبّبي، كما إذا شككنا في بقاء نجاسة الثوب المغسول بماء شكّ في بقاء طهارته.

واخرى يكونان عرضيين كالمثال المذكور آنفاً (استصحاب طهارة الإنائين مع العلم الإجمالي بنجاسة أحدهما بملاقاته للنجس أو العكس).

أمّا القسم الأوّل فلابدّ من التكلّم فيه أوّلًا: في ميزان كون أحد الأصلين سببيّاً والآخر مسبّبياً، وثانياً: في وجه تقديم الأصل السببي على المسبّبي.

أمّا المقام الأوّل فالصحيح

ما اشير إليه آنفاً من أنّ المعيار كون الشكّ في أحدهما مسبّباً عن الشكّ في الآخر، وإن شئت قلت: كون أحدهما من الآثار الشرعيّة للآخر ففي المثال المزبور تكون طهارة الثوب المغسول من الآثار الشرعيّة لطهارة الماء بخلاف العكس، فليست نجاسة الماء من الآثار الشرعيّة لنجاسة الثوب المغسول بل إنّها من لوازمها العقليّة كما لا يخفى.

والمحقّق النائيني رحمه الله ذكر لحكومة كلّ أصل سببي على كلّ أصل مسبّبي شرطين: أحدهما: أن يكون الترتّب بينهما شرعياً لا عقلياً، بأن يكون أحدهما من الآثار الشرعيّة للآخر، فالشكّ في بقاء الكلّي لأجل الشكّ في حدوث الفرد الباقي خارج عن محلّ الكلام، لأنّ بقاء الكلّي ببقاء الفرد عقلي.

ثانيهما: أن يكون الأصل السببي رافعاً للشكّ المسبّبي، فالشكّ في جواز الصّلاة في الثوب لأجل الشكّ في اتّخاذه من الحيوان المحلّل خارج عن محلّ الكلام، فإنّ أصالة الحلّ في الحيوان وإن كانت تجري، إلّاأنّها لا تقتضي جواز الصّلاة في الثوب، لأنّ أصالة الحلّ لا تثبت كون الثوب متّخذاً من الأنواع المحلّلة «1» (فإنّ جواز الصّلاة مترتّب على كون الثوب متّخذاً من عناوين خاصّة كعنوان الغنم والشاة والإبل ونحوها من سائر الحيوانات المحلّلة).

أقول: إذا عرّفنا الأصل السببي والمسبّبي بكون الشكّ في أحدهما مسبّباً عن الشكّ في الآخر شرعاً فلا حاجة إلى ذكر هذين الشرطين مستقلًا لأنّهما مفهومان من نفس التعريف ولا زمان له، أمّا الشرط الأوّل فلأنّه يفهم من قيد «شرعاً» الوارد في ذيل التعريف، وأمّا الشرط الثاني فلأنّه أيضاً من لوازم التسبّب الشرعي التعبّدي الموجود في التعريف، لأنّه إذا

انوار الأصول، ج 3، ص: 431

إرتفع السبب الذي هو بمنزلة العلّة شرعاً ارتفع المسبّب الذي هو بمنزلة المعلول كذلك، وإلّا يلزم تخلّف المعلول عن علّته.

وأمّا

ما ذكره من المثال، ففيه: أنّ إرتفاع الشكّ في جواز الصّلاة مع ارتفاع الشكّ في الحلّية بجريان أصالة الحلّية فيه، ناشٍ عن عدم كونه مسبّباً عنه شرعاً، لأنّ الشكّ في جواز الصّلاة ليس مسبّباً عن الشكّ في الحلّية حتّى يرتفع بارتفاعه، بل مسبّب عن الشكّ في أنّه من العناوين الخاصّة المحلّلة أو لا؟ وهو لا يرتفع بإجراء أصالة الحلّية كما ذكره.

هذا كلّه في المقام الأوّل.

أمّا المقام الثاني: وهو الوجه في تقديم الأصل السببي على المسبّبي، فإستدلّ المحقّق الخراساني رحمه الله لتقديم السببي على المسبّبي بعين ما استدلّ به لتقديم الأمارة على الاستصحاب من الورود، فقال: إنّ رفع اليد عن اليقين السابق بنجاسة الثوب في المثال المذكور مع استصحاب طهارة الماء المغسول به ليس من نقض اليقين بالشكّ بل باليقين، وقال في مقام الجواب عن إشكال عدم وجود مرجّح لتقديم جانب السببي على المسبّبي: إنّ الأخذ بجانب السببي ممّا لا يلزم منه شي ء سوى نقض اليقين باليقين وهو ليس بمحذور بخلاف الأخذ بجانب المسبّبي فيلزم منه إمّا التخصيص بلا مخصّص أو التخصيص على وجه دائر.

أقول: يرد عليه عين ما أوردناه عليه هناك فلا نعيده، مضافاً إلى أنّه يمكن أن يقال بالحكومة هنا أيضاً من باب أنّ طهارة الثوب من اللوازم الشرعيّة لطهارة الماء، بخلاف العكس لأنّ نجاسة الماء ليس من اللوازم الشرعيّة لنجاسة الثوب بل إنّها من لوازمها العقليّة.

إن قلت: إنّ الحكومة تتوقّف على تعدّد الدليل ليكون أحد الدليلين ناظراً إلى الآخر ومفسّراً لمدلوله، فلا يعقل أن يكون دليل واحد بالنسبة إلى تطبيقه على فرد منه ناظراً إلى نفسه بالنسبة إلى تطبيقه على فرد آخر كما في ما نحن فيه.

قلنا: قد أجاب عن هذا المحقّق النائيني

رحمه الله بأنّه «نشأ من خلط الحكومة الواقعيّة بالظاهريّة، فإنّ الحكومة إذا كانت واقعيّة كحكومة أدلّة الغاء شكّ كثير الشكّ بالقياس إلى أدلّة المشكوك فلا مناصّ عن تعدّد الدليل حتّى يكون أحدهما مخصّصاً للآخر لبّاً بعنوان انوار الأصول، ج 3، ص: 432

الحكومة، وأين هذا من الحكومة الظاهريّة التي لا يعتبر فيها إلّاكون الحاكم رافعاً لموضوع الآخر في عالم التشريع؟ فإنّ الدليل الواحد إذا كان له افراد كثيرة بعضها في طول الآخر ومسبّب عنه فلا محالة يكون شمول هذا الدليل للسبب رافعاً لما هو في طوله تشريعاً. وهذه الحكومة هى المدعاة في المقام دون الحكومة الواقعيّة المعتبر فيها نظر أحد الدليلين بمدلوله اللفظي إلى الدليل الآخر» «1».

أقول: الإنصاف أنّه ليس هناك إلّاقسم واحد من الحكومة، وهو أن يكون أحد الدليلين ناظراً إلى الآخر ومفسّراً له إمّا بمدلوله المطابقي أو التضمّني أو الالتزامي، ولا إشكال في أنّ هذا المعنى قد يحصل في دليل واحد إذ انحلّ إلى أحكام متعدّدة، فإذا كان الماء المشكوك طهارته داخلًا في عموم لا تنقض كان معناه ترتيب آثار الماء الطاهر عليه، فإذا سئل من آثاره يمكن أن يقال: إنّ من آثاره رفع النجاسة عن الثوب المغسول به، وهذا معنى النظر إلتزاماً.

والحاصل: أنّه لا يعتبر في حكومة دليل على دليل آخر أن يكون الدليل الحاكم ناظراً إلى الدليل المحكوم بمدلوله المطابقي، بل يكفي فيها النظر بمدلوله الالتزامي، ولا إشكال في أنّ هذا المقدار من النظر لازم انحلال دليل واحد إلى أحكام متعدّدة، حيث إنّ المقصود من النظر (كما اعترف المحقّق النائيني رحمه الله نفسه) أن يكون أحدهما رافعاً لموضوع الآخر تعبّداً، وهذا حاصل بعد حصول الانحلال كما لا يخفى.

أمّا القسم الثاني: وهو ما إذا

كان أحدهما في عرض الآخر كاستصحاب طهارة الإنائين مع العلم الإجمالي بنجاسة أحدهما، فله أيضاً صورتان:

الاولى: ما إذا كانا في أطراف علم إجمالي بتكليف فعلي، فيلزم منهما المخالفة القطعيّة.

الثانية: ما إذا لم يكونا في أطراف علم إجمالي بتكليف فعلي، بحيث إذا جرى الاستصحاب في كليهما لم يلزم مخالفة قطعيّة.

أمّا الصورة الثانية: فالأقوال فيها ثلاثة:

انوار الأصول، ج 3، ص: 433

1- ما ذهب إليه الشيخ الأعظم رحمه الله من عدم شمول أدلّة الاستصحاب لهما مطلقاً.

2- ما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمه الله من أنّها تشمل المقام، أي أنّ المقتضي تامّ والمانع مفقود، وهو المخالفة العمليّة القطعيّة (وما ذكراه يجري في أصالة الحلّية أيضاً).

3- تفصيل المحقّق النائيني رحمه الله بين الاستصحاب وسائر الاصول العمليّة، فذهب في الاستصحاب إلى نفس ما ذهب إليه الشيخ الأعظم رحمه الله وفي غيره إلى مقالة المحقّق الخراساني رحمه الله.

واستدلّ الشيخ الأعظم رحمه الله بأنّ جريان الاستصحاب في ما نحن فيه يلزم منه التناقض في دليل الاستصحاب بين صدره وذيله، لأنّ صدره يقول: «لا تنقض اليقين بالشكّ» وهذا يشمل كلا الطرفين، بينما الذيل يقول: «انقضه بيقين آخر» وهو شامل لأحدهما إجمالًا، لأنّ أحدهما معلوم ومتيقّن، كما يلزم هذا في أدلّة بعض الاصول الاخر كقاعدة الحلّية، فإنّ الصدر فيها يقول: «كلّ شي ء لك حلال» فهو شامل لكلا الطرفين من العلم الإجمالي، والذيل يقول: «حتّى تعلم أنّه حرام» وهو أيضاً شامل لأحدهما المعلوم بالإجمال.

ولكن قد اجيب عنه بجوابين:

أحدهما: أنّ المناقضة بين الصدر والذيل على فرض كونها مانعة عن اطلاق الخطاب وعن شموله لأطراف العلم الإجمالي فهى موجودة في بعض أخبار الباب ممّا فيه الذيل المذكور، وليست موجودة في جميع الأخبار، وعليه فإطلاق الخطاب وشموله لأطراف العلم الإجمالي

في سائر الأخبار محفوظ على حاله.

ويرد عليه: أنّ الوجدان العرفي يحكم بأنّ الروايات المطلقة تقيّد وتفسّر بالروايات المذيّلة بذلك الذيل، حيث إنّا نقطع بأنّ جميع هذه الروايات في مقام بيان حكم واحد على موضوع واحد لا حكمين مختلفين.

الثاني: ما أجاب به بعض الأعلام من «أنّ الظاهر كون المراد من اليقين في قوله عليه السلام:

«ولكن تنقضه بيقين آخر» هو خصوص اليقين التفصيلي لا الأعمّ منه ومن الإجمالي، إذ المراد نقضه بيقين آخر متعلّق بما تعلّق به اليقين الأوّل، وإلّا لا يكون ناقضاً له، فحاصل المراد هكذا:

كنت على يقين من طهارة ثوبك فلا تنقضه بالشكّ في نجاسة الثوب بل انقضه باليقين بنجاسته،

انوار الأصول، ج 3، ص: 434

فلا يشمل اليقين الإجمالي لعدم تعلّقه بما تعلّق به اليقين الأوّل، بل تعلّق بعنوان أحدهما» «1».

أقول: بل يمكن أن يقال: إنّ الذيل لا يراد منه إلّانفس ما اريد من الصدر، فهو توضيح وتفسير للصدر، حيث إنّه يفهم من نفس الصدر بقرينة المقابلة.

وإن شئت قلت: كما أنّ الشكّ هنا تفصيلي فالعلم المقابل له أيضاً تفصيلي فالعلم الإجمالي خارج عن نطاقه.

أضف إلى ذلك أنّه يمكن أن يقال: بإنصراف أدلّة الاستصحاب عن موارد العلم الإجمالي، فهى مختصّة بموارد الشكّ البدوي الخالص فإنّ الشكّ في أطراف العلم الإجمال ليس شكّاً خالصاً بل شكّاً مشوب بالعلم.

واستدلّ المحقّق النائيني للتفصيل بين الاصول المحرزة وغير المحرزة وجريان الثاني (الاصول غير المحرزة) في أطراف العلم الإجمالي دون الأوّل بأنّ المجعول في الاصول المحرزة (كالاستصحاب وقاعدة الفراغ والتجاوز وأصالة الصحّة) هو البناء العملي على ثبوت الواقع في أحد طرفي الشكّ وتنزيله عملًا منزلة الواقع، ولا يخفى أنّ التعبّد ببقاء الواقع في كلّ واحد من أطراف العلم الإجمالي ينافي العلم الوجداني بعدم

بقاء الواقع في أحدها، وكيف يعقل الحكم ببقاء النجاسة مثلًا في كلّ واحد من الإنائين مع العلم بطهارة أحدهما؟ ومجرّد أنّه لا يلزم من الاستصحابين مخالفة عملية لا يقتضي صحّة التعبّد ببقاء النجاسة في كلّ منهما فإنّ الجمع في التعبّد ببقاء مؤدّى الاستصحابين ينافي ويناقض العلم الوجداني بالخلاف، وهذا بخلاف الاصول غير المحرزة فإنّه لمّا كان المجعول فيها مجرّد تطبيق العمل على أحد طرفي الشكّ فلا مانع من التعبّد بها في أطراف العلم الإجمالي إذا لم يلزم منها مخالفة عملية «2».

ويرد عليه أوّلًا ما مرّ كراراً من أنّا لا نقبل تقسيم الاصول إلى المحرزة وغير المحرزة ولا نفهم له معنىً محصّلًا، فإنّ مفاد الدليل إذا كان هو التنزيل منزلة الواقع فهو أمارة (سواء أخذ الشكّ ظاهراً في موضوعه أم لم يؤخذ) وإن لم يكن مفاده كذلك فهو أصل عملي.

وثانياً: سلّمنا، ولكن المقتضي وهو إطلاقات أدلّة الاستصحاب تامّ في كلا القسمين إذ إنّ انوار الأصول، ج 3، ص: 435

المفروض عنده أنّ اليقين في الاستصحاب يقين تعبّدي لا حقيقي، واليقين التعبّدي بكلا طرفي الشكّ لا ينافي العلم الإجمالي الحقيقي بكذب أحدهما، فهو نظير البيّنتين المتعارضتين أو الخبرين المتعارضين اللذين يجريان كلاهما ثمّ يتساقطان بالتعارض بحسب القاعدة.

فظهر أنّ الصحيح ما ذهب إليه الشيخ الأعظم رحمه الله من عدم جريانهما رأساً، ولكن لا لتناقض صدر الحديث مع ذيله كما ذكره، بل من باب الإنصراف كما ذكرنا.

بقي هنا شي ء:

وهو بيان الثمرة في هذه المسألة:

إنّ ثمرة هذه المسألة تظهر في الملاقي لأحد الأطراف إذا كان كلّ واحد مسبوقاً بالنجاسة ثمّ علم بطهارة أحدهما إجمالًا، فإنّه حينئذ طاهر بناءً على عدم جريان الاستصحاب (وقد ثبت في محلّه أنّ ملاقي بعض أطراف الشبهة المحصورة

طاهر وإن كان يجب الإجتناب عن نفس الأطراف لمكان العلم الإجمالي) ولكنّه نجس بناءً على جريان الاستصحاب، لأنّه حينئذٍ يكون كلّ طرف من الأطراف نجساً بالتعبّد الاستصحابي، والمفروض عدم سقوط الاستصحاب بعد الجريان لعدم لزوم المخالفة العمليّة، وإذا كان الطرف بنفسه نجساً بالتعبّد كان ملاقيه أيضاً نجساً كذلك.

وممّا ذكرنا ظهر الحال فيما إذا كان أحد الاستصحابين ذا أثر شرعي دون الآخر، كما إذا كان الماء في أحد الطرفين كرّاً وفي الآخر قليلًا، فيجري الاستصحاب في خصوص الماء القليل بلا معارض وتترتّب عليه آثاره حتّى عند من يقول بعدم جريان الاستصحاب في القسم الأوّل.

هذا كلّه في هو الصورة الثانية، أي ما إذا لم يلزم من جريانهما مخالفة عملية.

وأمّا الصورة الاولى: أي ما إذا لزم من جريان الاستصحابين المخالفة العمليّة، فالاستصحابان غير جاريين إمّا لعدم المقتضي كما أفاده الشيخ الأعظم رحمه الله أو للتعارض كما أفاده صاحب الكفاية.

التنبيه العشرون: النسبة بين الاستصحاب والقواعد الجارية في الشبهات الموضوعيّة
اشارة

وقد أشار المحقّق الخراساني رحمه الله إلى خمسة منها: قاعدة التجاوز، قاعدة الفراغ (بناءً على الفرق بينهما)، أصالة الصحّة، قاعدة اليد، قاعدة القرعة.

ولا إشكال في وجوب تقديم هذه القواعد على الاستصحاب، وإنّما الكلام في وجهه.

قال المحقّق الخراساني رحمه الله بأنّ الوجه أخصّية دليلها من دليل الاستصحاب، وكون النسبة بينه وبين بعضها عموماً من وجه لا يمنع عن تخصيصه بها، وذلك لوجهين:

أحدهما: الإجماع على عدم التفصيل في جريان هذه القواعد بين موارد جريان الاستصحاب وغيرها، فكما أنّه يعمل باليد مثلًا فيما إذا لا يكون في موردها استصحاب، فكذلك يعمل بها فيما إذا كان هناك استصحاب على خلافها.

ثانيهما: أنّ مورد افتراق اليد (مثلًا) عن الاستصحاب نادر قليل جدّاً، فلو خصّصنا اليد بالإستصحاب وجعلنا مورد الاجتماع تحت الاستصحاب لزم التخصيص المستهجن بلا

إشكال، بخلاف ما إذا خصّصنا الاستصحاب باليد وجعلنا مورد الاجتماع تحت قاعدة اليد.

أقول: الصحيح من هذين الوجهين هو الوجه الثاني لأنّ الإجماع في مثل هذه الموارد لا أقلّ من كونه محتمل المدرك.

إن قلت: إن كانت النسبة العموم من وجه، فما هو موضع إفتراق هذه القواعد عن الاستصحاب؟

قلنا: قد ذكر له موردان: أحدهما: موارد توارد الحالتين، فلا يجري الاستصحاب فيما إذا توارد الحدث والطهارة على مكلّف واحد مثلًا وشكّ في السابق منهما بعد إتيان الصّلاة، بل تجري قاعدة الفراغ بلا معارض.

ثانيهما: موارد الشكّ في طروّ المانع فيما إذا كان الاستصحاب موافقاً لأصالة الصحّة أو قاعدة الفراغ والتجاوز، كما إذا شككنا في إتيان ركوع زائد بعد التجاوز عن المحلّ أو بعد إتمام الصّلاة، فإنّ استصحاب عدم إتيانه بركوع زائد موافق لقاعدة الفراغ في إثبات صحّة الصّلاة، فتجري قاعدة الفراغ بلا جريان استصحاب معارض، بل الاستصحاب موافق له.

إن قلت: يجري استصحاب بقاء إشتغال الذمّة بالصلاة الصحيحة وهو يعارض أصالة الصحّة.

انوار الأصول، ج 3، ص: 437

قلنا: أوّلًا: لا تصل النوبة إلى استصحاب الاشتغال مع جريان قاعدة الإشتغال (الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينيّة) في جميع موارد الشكّ في براءة الذمّة، كما قرّر في محلّه، ولا يخفى الفرق بينهما، فإنّ قاعدة الاشتغال ليست محدودة بموارد سبق الحالة السابقة للاشتغال.

وثانياً: أنّ استصحاب عدم إتيان الركوع الزائد حاكم على استصحاب الاشتغال، لكونه سبباً واستصحاب الإشتغال مسبّبياً، فالشكّ في بقاء الاشتغال ينشأ من الشكّ في إتيانه بالركوع الزائد وعدمه، فإذا ارتفع هو باستصحاب عدمه ارتفع الشكّ في بقاء الاشتغال أيضاً.

فظهر ممّا ذكر أنّ الوجه في تقديم القواعد على الاستصحاب قلّة موارد الافتراق فتقدّم عليه من باب تقديم الخاصّ على العام.

أقول: والصحيح في منهج البحث في

المقام تعيين كون هذه القواعد من الأمارات أو الاصول أوّلًا، حيث إنّها إذا كانت من الأمارات كان وجه تقديمها على الاستصحاب نفس وجه تقديم سائر الأمارات عليه، وهو كون أدلّتها واردة على أدلّة الاستصحاب أو حاكمة عليها ببيان مرّ تفصيله، ولا إشكال في أمارية هذه القواعد فتكون واردة على الاستصحاب، ولا أقلّ من كونها حاكمة عليها كما هو مقتضى بعض أدلّتها كقوله عليه السلام في مورد قاعدة التجاوز:

«بلى قد ركعت» «1» أي أنّك على يقين من إتيان الركوع فلا تعتن بشكّك وامض.

هذا كلّه في بيان النسبة بين الاستصحاب والقواعد الخمسة غير القرعة.

وأمّا القرعة فحاصل ما أفاده المحقّق الخراساني رحمه الله في وجه تقديم الاستصحاب عليها وبيان النسبة بينهما وجوه ثلاثة:

الوجه الأوّل: أنّ دليل الاستصحاب أخصّ من دليل القرعة لأنّ الاستصحاب ممّا يعتبر فيه سبق الحالة السابقة دون القرعة.

إن قلت: إنّ النسبة بين الاستصحاب والقرعة هى العموم من وجه لا العموم المطلق، فكما أنّ الاستصحاب أخصّ من القرعة لاعتبار سبق الحالة السابقة فيه فكذلك القرعة تكون أخصّ من الاستصحاب لاختصاصها بالشبهات الموضوعيّة بالإجماع بل بالضرورة.

انوار الأصول، ج 3، ص: 438

قلنا: المدار في النسبة بين الدليلين هو نسبتهما بحسب أنفسهما قبل تخصيص أحدهما بشي ء، فتخصيص القرعة بالشبهات الموضوعيّة بالإجماع والضرورة لا يوجب خصوصية في جانبها بعد عموم دليلها بحسب اللفظ.

الوجه الثاني: أنّ عموم دليل القرعة موهون بكثرة تخصيصه حتّى صار العمل به في مورد محتاجاً إلى الجبر بعمل الأصحاب بخلاف الاستصحاب فيكون عمومه باقياً على قوّته فيقدّم على عمومها.

الوجه الثالث: أنّ الموضوع في جريان القرعة كون الشي ء مشكلًا بقول مطلق (واقعاً وظاهراً) لا في الجملة، وعليه يكون دليل الاستصحاب وارداً على دليل القرعة، رافعاً لموضوعه (أي الإشكال) ولو

تعبّداً وظاهراً، لا حقيقة وواقعاً.

أقول: الحقّ عدم تمامية الوجه الأوّل والثاني (وقد أخذهما صاحب الكفاية عن الشيخ الأعظم رحمه الله).

أمّا الوجه الأوّل فإنّ دليل القرعة ليس عاماً من أوّل الأمر، لأنّ الإرتكاز العقلائي والمتشرّعي الموجود على اختصاصها بالشبهات الموضوعيّة يوجب انصرافها إلى الشبهات الموضوعيّة كما لا يخفى، وحينئذٍ لا يلزم انقلاب النسبة، بل النسبة بين دليلها ودليل الاستصحاب عموم مطلق من الأوّل.

وأمّا الوجه الثاني، فيرد عليه: أيضاً أنّ القرعة لم تخصّص في مورد فضلًا عن كونها موهونة بكثرة التخصيصات، لأنّ موضوعها كلّ أمر مجهول، وهو لا يعني كلّ أمر مشكوك، بل إنّما هو بمعنى سدّ جميع الأبواب والطرق، كما هو كذلك في مثال ولد الشبهة أو الغنم الموطوءة وغيرهما ممّا ورد في أحاديث الباب، ففي مورد المثال الأوّل لا بيّنة تعيّن بها خصوص الموطوءة، ولا استصحاب لعدم سبق الحالة السابقة، ولا تجري أصالة الاحتياط للزوم الضرر العظيم، وفي مثال ولد الشبهة لا طريق لإحراز أمر الولد وتخيير القاضي مظنّة التشاحّ والتنازع، فلا يبقى طريق إلّاالقرعة.

والحاصل: أنّ القرعة إنّما تجري في موارد سدّ الأبواب جميعاً من الأمارات والاصول.

فالصحيح في المقام هو الوجه الثالث، وهو أنّ أدلّة الاستصحاب واردة على أدلّة القرعة لأنّ بها يرتفع المجهول موضوعاً، كما أنّها كذلك بالنسبة إلى أدلّة سائر الاصول وجميع الأمارات والقواعد.

انوار الأصول، ج 3، ص: 439

ثمّ إنّ شيخنا الأعظم رحمه الله قد فرّق بين الاصول الشرعيّة كالاستصحاب وبين الاصول العقليّة، فقال بورود الاصول الشرعيّة على القرعة خلافاً للُاصول العقليّة كالبراءة العقليّة فإنّ القرعة واردة عليها لأنّ موضوعها «لا بيان» والقرعة بيان.

وبما ذكرنا ظهر ضعف هذا الكلام لأنّ موضوع القرعة- كما قلنا- هو المجهول المطلق، وهو ليس حاصلًا حتّى في موارد البراءة

والاحتياط العقليين، ولذلك لا يتمسّك حتّى الشيخ رحمه الله نفسه بذيل القرعة في أطراف العلم الإجمالي، مع أنّ وجوب الاحتياط فيها من الاصول العقليّة.

وتمام الكلام في مسألة القرعة وتحقيق مثل هذه المباحث يحتاج إلى رسم امور (وإن كان استيفاء البحث فيها موكولًا إلى محلّ آخر) «1».

الأمر الأوّل: في أدلّة حجّية القرعة

وقد يدلّ عليها الأدلّة الأربعة من الكتاب والسنّة والإجماع وبناء العقلاء (لا دليل العقل):

أمّا الكتاب: فهو آيتان إحديهما: قوله تعالى في قصّة زكريا وولادة مريم: «وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ» «2»

فإنّه بعد ما وقع التشاّح بين الأحبار لتعيين من يكفل مريم حتى بلغ حدّ الخصومة ولم يجدوا طريقاً لرفعه إلّا القرعة تقارعوا بينهم، فوقعت القرعة على زكريّا.

ثانيهما: قوله تعالى: «وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ» «3»

وقصّة يونس (إباقه من قومه ثمّ وروده في سفينة ووقوع القرعة عليه ثلاث مرّات) معروفة.

إن قلت: إنّ الآيتين وردتا في الشرائع السابقة، وقد مرّ أنّ الأقوى عدم حجّية استصحابها للشريعة اللاحقة.

قلنا: إنّ تمسّكنا بهما في المقام ليس مبنيّاً على حجّية استصحاب الشرائع السابقة، بل مبنى انوار الأصول، ج 3، ص: 440

على أنّ نقل القرآن الكريم قد يكون ظاهراً في الامضاء.

وأمّا الروايات: فهى على طائفتين: طائفة عامّة تعمّ جميع موارد القرعة، وقد نقلنا منها إثنا عشرة رواية في كتابنا القواعد الفقهيّة «1»، وطائفة خاصّة تختصّ بقضايا خاصّة كالتي وردت في الغنم الموطوءة أو ولد الشبهة أو النذر، وقد نقلنا منها عشر طوائف في القواعد الفقهيّة أيضاً «2»، ولا إشكال في أنّها بمجموعها بلغت حدّ التواتر ولذلك نعدّها عمدة أدلّة القرعة.

وأمّا بناء العقلاء: فلا إشكال أيضاً في أنّ سيرة العقلاء جرت

على القرعة في الامور المشكلة عليهم التي تنجرّ إلى التنازع والتشاحّ، فراجع لتفصيل البيان والموارد المختلفة في تداول القرعة بينهم كتاب القواعد الفقهيّة أيضاً «3».

وأمّا الإجماع: فلا ريب أيضاً في أنّ إتّفاق الأصحاب قام على حجّية القرعة، نعم لا أقلّ من أنّه محتمل المدرك فلا يمكن الركون إليه خاصّة.

الأمر الثاني: في موارد القرعة

وهى عند العقلاء منحصرة بموارد مظنّة التنازع والتشاحّ، ولكن مواردها عند الشارع المقدّس أوسع منها (وهذا ممّا وسّع الشارع فيه ما بنى عليه العقلاء) فلا إشكال في جريان القرعة في الغنم الموطوءة مثلًا عند فقهاء الأصحاب، وقد وردت روايات عديدة تدلّ عليه.

ثمّ إنّ المستفاد من روايات الباب جريان القرعة في المجهول المطلق مطلقاً سواء كان له واقع محفوظ اشتبه علينا فتكون القرعة أمارة وكاشفة عنه كما في ولد الشبهة والغنم الموطوءة، أو لم يكن له واقع مجهول فتجري القرعة، لمجرّد رفع التنازع والتشاحّ كما في موارد تزاحم الحقوق أو المنازعات، ويمكن أن يقال: إنّ مورد قصّة زكريا وولادة مريم من هذا القبيل (كما أنّه لا ريب في أنّ مورد قصّة يونس عليه السلام من قبيل القسم الأوّل) حيث إنّ الرجوع إلى القرعة فيها كان لرفع تشاحّ أحبار بني إسرائيل في كفالة مريم، اللهمّ إلّاأن يقال: أنّ جريان القرعة فيها أيضاً كان لتعيين الواقع، أي تعيين من هو أفضل وأولى لكفالة مريم وتربيتها، ولذا وقعت انوار الأصول، ج 3، ص: 441

القرعة باسم زكريا الذي لا ريب في كونه أفضل من غيره في ذلك الزمان، نعم أنّه كان بملاك رفع التنازع بين الأحبار أيضاً، فاجتمع الملاكان فيه ولا منافاة بينهما.

الأمر الثالث: الروايات في الفرعة

إنّ روايات القرعة على طائفتين: طائفة يستفاد منها أنّ ملاك حجّية القرعة هو أماريتها وكاشفيتها عن الواقع وهى رواية أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام «1» ورواية زرارة «2» ورواية العياشي عن أبي جعفر في حديث يونس «3» ورواية عبّاس بن هلال عن أبي الحسن الرضا عليه السلام «4» ورواية سماعة «5»، وطائفة يستفاد منها بالصراحة إنّ ملاكها حفظ العدالة.

ويمكن الجمع بينهما بأنّ الطائفة الاولى ناظرة إلى

الموارد التي يكون الواقع فيها مجهولًا، والطائفة الثانية ناظرة إلى ما لا واقع لها، وحينئذٍ تكون القرعة أمارة في الموارد الاولى كما يشهد بها لسان ما وردت من الأدعية في الطائفة الاولى، نظير ما ورد في حديث سماعة: «اللهمّ ربّ السموات السبع وربّ الأرضين السبع وربّ العرش العظيم، عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم، أيّهما كان صاحب الدابّة وهو أولى بها فأسألك أن يقرع ويخرج سهمه» وما ورد في بعض الروايات: «اللهمّ أنت اللَّه لا إله إلّاأنت عالم الغيب والشهادة ... وبيّن لنا أمر هذا المولود» «6» وفي بعضها الآخر: «ما من قوم فوّضوا أمرهم إلى اللَّه عزّوجلّ وألقوا سهامهم إلّاخرج السهم الأصوب» «7».

الأمر الرابع: القرعة لكلّ أمر مشكل

إنّا لم نظفر بما إشتهر في ألسنة المعاصرين من التعبير ب «القرعة لكلّ أمر مشكل» في ما

انوار الأصول، ج 3، ص: 442

تتبّعناه من الروايات، بل الوارد في ما رواه الصدوق في الفقيه والشيخ في التهذيب عن محمّد بن حكيم عن أبي الحسن موسى عليه السلام: «كلّ مجهول ففيه القرعة» «1» ولذلك لابدّ من البحث في أنّ المراد من المجهول هل هو المجهول واقعاً: أو واقعاً وظاهراً؟ فإن كان المراد هو الثاني فلازمه أنّ القرعة أمارة حيث لا أمارة ولا أصل، وإن كان المراد هو الأوّل فيقع التعارض بينه وبين سائر الاصول والأمارات، وقد مرّ أنّ الصحيح هو الثاني فلا نعيد.

إن قلت: أنّ رواية محمّد بن حكيم (كلّ مجهول ففيه القرعة) غير وافٍ لإثبات هذه المسألة المهمّة.

قلنا: الدليل على كون القرعة للأمر المجهول المطلق ليس منحصراً في هذه الرواية بل قد عرفت أنّ بناء العقلاء الذي أمضاه الشارع (مع توسعة قد عرفتها) أيضاً على الرجوع إلى القرعة في خصوص هذه الموارد.

أضف إلى ذلك ما

يستفاد من الروايات الخاصّة الكثيرة الواردة في موارد مختلفة، فإنّ جميعها وردت فيما هو مجهول مطلقاً لا أمارة فيها ولا أصل، ويمكن اصطياد العموم منها فيكون دليلًا برأسه في هذه المسألة المهمّة.

الامر الخامس: ما المراد من المجهول

ممّا يترتّب على كون المراد من المجهول هو المجهول المطلق عدم لزوم تخصيص في أدلّة القرعة فضلًا عن كونها موهونة بكثرته كما أشرنا إليه سابقاً.

إلى هنا قد ظهر أوّلًا: وجه تقديم الاستصحاب على القرعة ووروده عليها، وثانياً: عدم تخصيصها بمورد فضلًا عن كونها موهونة بكثرة التخصيص، وثالثاً: إنّها أمارة حيث لا أمارة ولا أصل فيما كان له واقع مجهول.

تمّ الكلام عن مبحث الاستصحاب، وبه تمّ الكلام عن المقصد السابع من مباحث الاصول.

والحمد للَّه ربّ العالمين.

المقصد الثامن في تعارض الأدلّة والتعادل والتراجيح

اشارة

- مقدّمة:

1- عنوان المسألة

2- تعريف التعارض 3- التخصيص والتخصّص والحكومة والورود

4- عدم وجود التعارض بين العناوين الأوّلية والعناوين الثانوية

5- موارد الجمع العرفي ليست من التعارض:

ضوابط الجمع الدلالي العرفي 6- الفرق بين التعارض والتزاحم 7- موارد التعارض الفصل الأوّل: في مقتضى الأصل الأوّلي في المتعارضين الفصل الثاني: في مقتضى الأصل الثانوي في المتعارضين:

المقام الأوّل: في أخبار التعادل وحكم المتعارضين بعد التعادل المقام الثاني: في أخبار التراجيح ولزوم أعمال المرجّحات قبل التعادل:

الإقتصار على المرجّحات المنصوصة وعدمه ميزان التعدّي من المرجّحات المنصوصة بناءً على جوازه شمول التخيير أو الترجيح لموارد الجمع العرفي وعدمه الفصل الثالث: في إنقلاب النسبة

الفصل الرابع في ترتيب المرجّحات الفصل الخامس في المرجّحات الخارجيّة

أقسام الشهرة: الروائية والفتوائية والعمليّة

لماذا تكون مخالفة العامّة من المرجّحات التعارض بين العامين من وجه انوار الأصول، ج 3، ص: 445

8- في تعارض الأدلّة والتعادل والتراجيح

المقدمة:
اشارة

تعارض الأدلّة من أهمّ المسائل الاصوليّة، أمّا كونه مسألة اصوليّة فلأنّ موضوع علم الاصول إمّا أن يكون هو الأدلّة بذواتها فلا إشكال في أنّ التعادل أو التراجيح وصفان عارضان على ذوات الأدلّة لأنّ المراد من التعادل هو تعادل الدليلين وتساويهما، والمراد من الترجيح هو الترجيح بين الدليلين، وإمّا أن يكون الموضوع مطلق الحجّة في الفقه كما ذهب إليه بعض الأساتذة الأعلام، فكذلك لا إشكال في أنّ البحث عن تعادل الدليلين أو الترجيح بينهما بحث عن عوارض الحجّة، وهكذا لو قلنا أنّ الموضوع هو الأدلّة بوصف حجّيتها، فإنّ البحث عن التعادل والترجيح إنّما هو بعد ثبوت الحجّية لكلّ من الدليلين في نفسه ومع قطع النظر عن التعارض، وإلّا فلو لم يكن الدليل حجّة في ذاته لا تصل النوبة إلى مسألة التعارض، وعلى هذا يكون ما نحن فيه من المسائل الاصوليّة حتّى عند من

يرى البحث عن حجّية خبر الواحد من المبادى ء.

وأمّا كونه من أهمّ المسائل الاصوليّة فلجريانه وسريانه في جلّ الأبواب الفقهيّة، ولذلك اعترض بعض الأعلام في مصباح الاصول على جعله خاتمة لعلم الاصول بزعم أنّه مشعر بكونه خارجاً عنه كمبحث الاجتهاد والتقليد، ولكن الصحيح أنّه لا إشعار له بهذه الجهة، لأنّ المراد من عنوان الخاتمة أنّه يختم مسائل الاصول ويكون أخرها، كما أنّه كذلك في سائر موارد استعماله كخاتم الأنبياء وخاتم المجتهدين والفقهاء.

وكيف كان لابدّ في المقدّمة من رسم امور:

الأمر الأوّل: عنوان المسألة

وهو في كلمات بعضهم «التعادل والترجيح» (بصيغة المفرد) وفي كلمات بعض آخر

انوار الأصول، ج 3، ص: 446

«التعادل والتراجيح» (بصيغة الجمع) ولا يخفى أنّ وجه هذا التفاوت في خصوص الجزء الثاني أنّ التعادل يكون بمعنى التساوي وهو قسم واحد لا يتصوّر فيه التعدّد، وأمّا الترجيح فحيث أنّ له أنواعاً مختلفة وجهات عديدة (كالترجيح من ناحية السند والترجيح من ناحية الدلالة وهكذا الترجيح بالمرجّحات الخارجيّة) فتارةً يؤتى بلفظ المفرد ويراد منه جنس الترجيح حتّى يعمّ جميع أنواعه، واخرى بلفظ الجمع، والأمر سهل.

الأمر الثاني: تعريف التعارض

وهو في اللغة من التعرّض بمعنى البروز والظهور، تعارضاً أي تظاهراً وتبارزاً، ومنه المبارزة والتعبير ب «برز إليه»، حيث إنّ المبارزة والنزاع في ميدان الحرب يلازم بروز المقاتل وظهوره في مقابل عدوّه.

وأمّا في الاصطلاح فقد عرّفه المحقّق الخراساني رحمه الله ب «تنافي الدليلين أو الأدلّة بحسب الدلالة، وفي مقام الإثبات على وجه التناقض أو التضادّ حقيقة أو عرضاً بأن علم بكذب أحدهما إجمالًا مع عدم امتناع اجتماعهما أصلًا».

والتضادّ الحقيقي مثل ما إذا أمر أحد الدليلين بصلاة الجمعة ونهى الآخر عن إتيانها، والتضادّ العرضي مثل ما إذا أمر أحدهما بصلاة الجمعة والآخر بصلاة الظهر في يوم الجمعة فإنّ وجوب كلّ من الظهر والجمعة وإن لم يمتنع اجتماعهما ذاتاً ولكن حيث نعلم بالإجماع بل الضرورة بعدم وجوب أكثر من خمس صلوات في اليوم والليلة فيتنافيان بالعرض.

والمراد من التناقض أن يقول أحدهما بوجوب صلاة الجمعة، والآخر بعدم وجوبها، ومن التضادّ أن يقول أحدهما بوجوب صلاة الجمعة والآخر بحرمتها مثلًا.

والمراد من قوله «بحسب الدلالة ومقام الإثبات» نفس ما جاء في تعريف الشيخ الأعظم رحمه الله، وهو «تنافي الدليلين بحسب مدلولهما»، وليس هذا عدولًا عن تعريف الشيخ رحمه الله من هذه

الجهة كما ذهب إليه بعض الشرّاح للكفاية، حيث إنّه من الواضح أنّ التعارض عبارة عن تنافي مدلولي الدليلين (أي الوجوب والحرمة) وإنّه لا تعارض بين الدلالتين.

أقول: ومع ذلك كلّه يرد على تعريف المحقّق الخراساني رحمه الله أوّلًا: أنّ قيد «بحسب الدلالة ومقام الإثبات» إضافي ومن قبيل توضيح الواضح، لأنّ من الواضح أنّ التعبير بتعارض الأدلّة

انوار الأصول، ج 3، ص: 447

ناظر إلى الدليل بما هو دليل وفي مقام الإثبات، ولا ربط للتعارض بمقام الثبوت لأنّه لا يصحّ للمولى الحكيم إنشاء حكمين متضادّين أو متناقضين في الواقع.

ثانياً: التعبير بالتضادّ لا يناسب الامور الاعتباريّة فإنّه إنّما يتصوّر في الامور التكوينيّة لأنّ الاعتبار سهل المؤونة، فيمكن في عالم الاعتبار أن يعتبر وجوب شي ء مع اعتبار حرمته، نعم أنّه لا يصدر من المولى الحكيم لكونه لغواً وقبيحاً.

وبعبارة اخرى: التضادّ فيها مستحيل بالغير لا بالذات، ولذلك نعبّر عنه بشبه التضادّ.

وثالثاً: التضادّ بالعرض في مثل وجوب صلاة الجمعة بالنسبة إلى وجوب صلاة الظهر يوم الجمعة يرجع إلى التضادّ الحقيقي لأنّ التضادّ فيه حقيقة يكون بين ثلاث أدلّة (لا دليلين) وإن كان إثنان منها في جانب (وهما الدليلان المذكوران في المثال) ودليل واحد في جانب آخر، وهو الإجماع أو الضرورة الدالّة على عدم جواز الجمع بينهما، فإنّ مدلولهما الالتزامي جواز الجمع، ومدلول الإجماع أو الضرورة عدم جواز الجمع، فيتضادّان.

فالأولى في تعريف التعارض أن يقال: التعارض هو تنافي الدليلين أو الأدلّة بحيث لا يمكن الجمع بينهما، فعلى هذا يخرج منه موارد التخصيص والتخصّص والورود والحكومة وجميع موارد الجمع العرفي.

الأمر الثالث: التخصيص والتخصّص والحكومة والورود وبيان الفرق بينها

إعلم أنّ التخصص عبارة عن خروج شي ء عن موضوع حكم آخر تكويناً كخروج زيد الجاهل عن قولك «أكرم العلماء» وكخروج العلم الوجداني عن أدلّة الاصول العمليّة.

والتخصيص

عبارة عن خروج شي ء عن حكم دليل آخر مع حفظ موضوعه كخروج زيد العالم عن قولك «أكرم العلماء».

وأمّا الورود فهو عبارة عن خروج شي ء عن موضوع حكم آخر حقيقة ولكن بعد ورود دليل شرعي، نظير خروج غسل الجمعة فيما إذا دلّ على وجوبه خبر الثقة، عن موضوع قبح العقاب بلا بيان، فإنّه خرج عن موضوع اللّابيان حقيقة ولكن بالتعبّد الشرعي.

والحكومة عبارة عن أن يكون دليل ناظراً إلى دليل آخر ومفسّراً له وموجباً للخروج انوار الأصول، ج 3، ص: 448

عن الموضوع (أو المتعلّق أو الحكم) ولكن تعبّداً لا حقيقة، كقولك: «زيد ليس بعالم» بالنسبة إلى قولك: «أكرم العلماء»، وكذلك دخول موضوع في أحدهما توسعة بالتعبّد.

فنلاحظ أنّ الورود شبيه التخصّص في كون كلّ منهما خروجاً عن الموضوع حقيقة، والفرق بينهما أنّ الخروج في أحدهما تكويني وفي الآخر بعد ورود الدليل الشرعي، كما أنّ الحكومة شبيه التخصيص في كون كلّ منهما إخراجاً للموضوع تعبّداً إلّاأنّ أحدهما (وهو التخصيص) إخراج للموضوع بلسان المعارضة، بينما الحكومة إخراج له بلسان التوضيح والتفسير، نعم هذا في ما إذا كان لسان الدليل الحاكم لسان تضييق لا توسعة، وإلّا فلا ربط بينهما.

ثمّ إنّ تعابير الأصحاب في تفسير الحكومة مختلفة فقال شيخنا الأعظم الأنصاري رحمه الله أنّها عبارة عن أن يكون أحد الدليلين شارحاً ومفسّراً للدليل الآخر بمدلوله اللفظي.

وقال المحقّق الخراساني رحمه الله: هى أن يكون أحدهما ناظراً إلى بيان كميّة ما اريد من الآخر.

وقال المحقّق النائيني رحمه الله: هى أن يكون أحدهما بمدلوله المطابقي ناظراً إلى التصرّف في الآخر إمّا في عقد وضعه إثباتاً أو نفياً، أو عقد حمله.

أقول: أحسنها هو تعبير الشيخ الأعظم رحمه الله إذا إنضمّ إليه قيد، بأن نقول: الحكومة أن يكون

أحد الدليلين شارحاً ومفسّراً للدليل الآخر بالدلالة اللفظيّة المطابقيّة أو التضمّنيّة أو الالتزاميّة، وبهذا التعميم في الدلالة اللفظية لا يرد إشكال المحقّق النائيني رحمه الله عليه بأن لا يعتبر في الحكومة أن يكون أحد الدليلين بمدلوله اللفظي مفسّراً لمدلول الآخر وشارحاً له بحيث يكون مصدّراً بأحد أداة التفسير أو ما يلحق بذلك، فإنّ غالب موارد الحكومات لا ينطبق على هذا الضابط.

وممّا ذكرنا من التعميم يظهر عدم ورود هذا الإيراد، إذ إنّه وارد بناءً على انحصار الدلالة اللفظيّة في المطابقية كما لا يخفى.

وبما ذكرنا يتّضح أيضاً أنّ في تمام موارد الحكومة يوجد للدليل الحاكم نظر إلى الدليل المحكوم ويكون هو مفسّراً له ولو في حدّ الدلالة الالتزامية كما في أدلّة الأمارات كمفهوم آية البناء بالنسبة إلى أدلّة الاصول كما مرّ في بعض الأبحاث السابقة.

كما يتّضح وجه تقديم الدليل الحاكم على الدليل المحكوم، حيث إنّه مفسّر للدليل المحكوم،

انوار الأصول، ج 3، ص: 449

ولا إشكال في أنّ المفسّر (بالكسر) يقدّم على المفسَّر (بالفتح).

وظهر بما ذكرنا أيضاً أنّ الحكومة على أقسام: فتارةً يكون الدليل الحاكم ناظراً إلى التصرّف في موضع الدليل المحكوم توسعة أو تضييقاً، ومثال الأوّل قول المولى: «العادل عالم»، ومثال الثاني قوله: «إنّ العالم الفاسق ليس عندي بعالم».

واخرى يكون ناظراً إلى التصرّف في متعلّق الدليل المحكوم نظير قول المولى في مثال «أكرم العلماء»: «إنّ الإطعام ليس بإكرام» وقوله: «السلام إكرام».

وثالثة يكون ناظراً إلى التصرّف في حكم الدليل المحكوم كما إذا قال: «إنّما عنيت من وجوب إكرام العلماء وجوب إكرام الفقهاء خاصّة».

ورابعة يكون ناظراً إلى التصرّف في النسبة كقوله «إكرام الفاسق ليس بإكرام العالم».

بقي هنا شي ء:

وهو أنّ المحقّق النائيني رحمه الله قسّم الحكومة إلى قسمين: ظاهريّة وواقعيّة، وقال في

توضيحه ما حاصله: أنّ الدليل الحاكم قد يكون في مرتبة الدليل المحكوم فتكون الحكومة واقعيّة، كما في حكومة قوله عليه السلام: «لا شكّ لكثير الشكّ» على أدلّة الشكوك، حيث إنّه يوجب اختصاص الأحكام المجعولة للشاكّ بغير كثير الشكّ في الواقع، وقد لا يكون في مرتبته بل يكون موضوع الدليل الحاكم متأخّراً رتبةً عن موضوع الدليل المحكوم، فتكون الحكومة حينئذٍ ظاهريّة، كما في حكومة الأمارات على الأدلّة الواقعيّة، فإنّها لا توجب اختصاص الأحكام الواقعيّة بغير من قامت عنده الأمارة على خلافها، بل غايتها هو الاختصاص في مقام الظاهر.

ثمّ يستنتج في ذيل كلامه أنّه لا يعتبر في الحكومة تأخّر تشريع الدليل الحاكم عن تشريع الدليل المحكوم بحيث يلزم لغوية التعبّد بدليل الحاكم لولا سبق التعبّد بدليل المحكوم فإنّ من أوضح أفراد الحكومة حكومة الأمارات على الاصول، مع أنّه يصحّ التعبّد بالأمارات انوار الأصول، ج 3، ص: 450

ولو لم يسبق التعبّد بالاصول، بل ولو مع عدم التعبّد بها رأساً «1».

أقول: في كلامه مواقع للنظر:

أوّلًا: أنّ الحكومة لها قسم واحد من دون فرق بين مواردها فإنّها واقعيّة في جميع الموارد، وجميعها ترجع إلى التخصيص واقعاً وحقيقة، غاية الأمر الدليل المحكوم قد يكون من الأحكام الواقعيّة، وقد يكون من الأحكام الظاهريّة، وهذا غير كون الحكومة ظاهرياً في بعض الموارد وواقعياً في بعض الموارد الاخرى، وبعبارة اخرى: التخصيص واقعي وإن كان المخصّص أو المخصِّص ظاهرياً.

ثانياً: أنّ رتبة الدليل الحاكم والدليل المحكوم واحدة في جميع موارد الحكومة، وإلّا لم يكن توضيحاً وتفسيراً، وأمّا في مورد الأمارات بالنسبة إلى الأحكام الواقعيّة فالصحيح أنّه لا معنى لحكومة الأمارات على الأحكام الواقعيّة، بل إنّها طرق إلى الواقع، وكما أنّ العلم طريق إليه تكويناً تكون الأمارات طرقاً

إليه تشريعاً.

وثالثاً: أنّا نعترف بلغوية التعبّد بدليل الحاكم لولا سبق التعبّد بدليل المحكوم، لأنّ الدليل الحاكم ناظر إلى الدليل المحكوم ومفسّر له، ومن الواضح أنّه لا معنى للتفسير مع عدم سبق دليل بعنوان المفسّر (بالفتح)، وهذا صادق حتّى بالنسبة إلى حكومة الأمارات على الاصول، لما مرّ من أنّها ناظرة إليها ومفسّرة لها ولو في حدّ الدلالة الإلتزامية اللفظية.

ومن هنا يظهر حال الأمارات في مقابل الاصول وأنّ الصحيح كونها واردة عليها.

توضيح ذلك: يحتمل في وجه تقديم الأمارات على الاصول أربعة وجوه: حكومتها عليها، ورودها عليها، إمكان الجمع والتوفيق العرفي بينهما، وتخصيص الاصول بالأمارات.

ذهب المحقّق الخراساني رحمه الله هنا إلى الوجه الثالث (التوفيق العرفي) مع أنّه صرّح في أواخر الاستصحاب بالورود، وأراد من التوفيق العرفي ما يقابل الحكومة.

ولكنّه في غير محلّه، لأنّ المراد من الجمع العرفي إمّا كون الأمارات خاصّة بالنسبة إلى الاصول مطلقاً فقد مرّ عدم كونها كذلك، أو أنّ أدلّتها أظهر من أدلّة الاصول، ولا دليل عليه.

انوار الأصول، ج 3، ص: 451

وبهذا ينتفي الوجه الثالث والرابع، ويدور الأمر بين الحكومة والورود، وقد مرّ أنّ الحقّ ورود الأمارات على الاصول لأنّ الأمارة طريق إلى الواقع فيوجب رفع الحيرة والتردّد الذي هو معنى الشكّ المأخوذ في موضوع الاصول، ولو تنزّلنا عن ذلك فلا أقلّ من الحكومة، لما مرّ أيضاً من أنّ أدلّة الأمارات ناظرة إلى أدلّة الاصول ولو بمدلولها الالتزامي.

الأمر الرابع: عدم وجود التعارض بين العناوين الأوّلية والعناوين الثانويّة

لا إشكال في تقديم العناوين الثانويّة على العناوين الأوّلية وأنّه لا تعارض بينهما كما أشار إليه الشيخ الأعظم والمحقّق الخراساني رحمه الله في كلماتهما، وهو متفرّع على التعريف المذكور للتعارض، إذ إنّه بمعنى التنافر والتضادّ، ولا ريب في أنّه لا تضادّ بين أدلّة العنوانين، إنّما الكلام في وجه

تقدّم الثاني على الأوّل.

فظاهر كلمات الشيخ الأعظم رحمه الله أنّه من باب الحكومة، بينما ظاهر كلمات المحقّق الخراساني رحمه الله أنّه من باب الجمع العرفي حيث قال: «أو كانا على نحو إذا عرضا على العرف وفّق بينهما بالتصرّف في خصوص أحدهما كما هو مطّرد في مثل الأدلّة المتكفّلة لبيان أحكام الموضوعات بعناوينها الأوّلية، مع مثل الأدلّة النافية للعسر والحرج والضرر والإكراه والاضطرار ممّا يتكفّل لأحكامها بعناوينها الثانوية».

وفصّل بعض المحشّين على الكفاية بين العناوين الثانويّة فقال في مثل الضرر والحرج بالحكومة، وفي مثل الشروط والنذور بالجمع العرفي، فالأقوال في المسألة ثلاثة.

ولابدّ قبل الورود في أصل البحث من تعريف الأحكام الأوّليّة والأحكام الثانويّة (وقد بحثناه تفصيلًا في كتاب المكاسب مبحث ولاية الفقيه)، فنقول: الأحكام الأوّليّة أحكام ترد على الموضوعات الخارجيّة مع قطع النظر عن الطوارى ء والعوارض الخارجة عن طبيعتها كحكم الحرمة العارضة على عنوان الدم أو الميتة في قوله تعالى: «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ».

والأحكام الثانوية ما يرد على الموضوعات الخارجيّة مع النظر إلى الطوارى ء الخارجة عن ذاتها كحكم الحلّية العارضة على الميتة بما أنّها مضطرّ إليها.

وعلى هذا ليست نجاسة الماء في صورة تغيّر أحد أوصافه الثلاثة من الأحكام الثانويّة

انوار الأصول، ج 3، ص: 452

لأنّ عنوان التغيّر يكون من الإنقسامات الأوّلية للماء، فالماء بما هو ماء على قسمين: ماء متغيّر وماء غير متغيّر، كما أنّه يقسّم بذاته إلى الماء المضاف والماء المطلق أو إلى الكثير والقليل، بخلاف الاضطرار فلا يقال أنّ الماء على قسمين: ماء مضطرّ إلى شربه وماء غير مضطرّ إلى شربه.

ولذلك فإنّ من علامات العناوين الثانوية وخصوصياتها جريانها في كثير من الأبواب الفقهيّة والموضوعات المختلفة، بخلاف العناوين الأوّلية التي تجري في موضوعات خاصّة كعنوان التغيّر بالنسبة إلى

الماء.

كما يظهر ممّا ذكرنا أنّ العناوين الثانوية ليست منحصرة بعنوان الضرورة والاضطرار بل لها مصاديق كثيرة نذكر هنا أحد عشر عنواناً:

1- العسر والحرج 2- الضرر

3- الإكراه 4- الاضطرار

5- التقيّة

6 و 7 و 8- النذر والعهد والقسم 9- أمر الوالد أو نهيه 10- المقدّمية للواجب أو الحرام 11- الأهم والمهمّ إذا عرفت هذا فنقول: الحقّ في وجه تقديم العناوين الثانويّة على الاوليّة ما ذهب إليه الشيخ الأعظم رحمه الله وهو الحكومة، كما يظهر هو من ما ذكرنا من التعريف، حيث قلنا: أنّ العناوين الثانويّة تكون طارئة وعارضة على العناوين الأوّليّة، ولازمه النظر والتفسير وأنّه لا معنى للعناوين الثانويّة بدون العناوين الأوّلية، كما لا معنى لقوله تعالى: «مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» إذا لم يكن في الرتبة السابقة جعل وتشريع.

وأمّا تفصيل بعض المحشّين على الكفاية فيرد عليه: أنّ الشرط لا يكون من العناوين الثانويّة بتاتاً حتّى يقال بأنّها حاكمة أو واردة، لأنّ الشرط مثل البيع والإجارة نوع معاقدة

انوار الأصول، ج 3، ص: 453

ومعاهدة، فكما أنّ قوله تعالى: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» يشمل البيع بالعنوان الأوّلي يشمل أيضاً الشروط التي في ضمنه كذلك.

وأمّا ما ذكره صاحب الكفاية من أنّه من باب التوفيق العرفي فإن كان مراده أنّ الجمع بينهما على وزان الجمع بين العام والخاصّ والظاهر والأظهر، فهذا أمر لا يمكن المساعدة عليه، لما عرفت من كون أحدهما حاكماً على الآخر، وإن كان المراد ما يشمل الحكومة (وإن كان خلاف مصطلح القوم) فلا مانع منه، ولكنّه لا يوافق ظاهر كلامه.

الأمر الخامس: موارد الجمع العرفي ليست من التعارض
اشارة

إذا كان أحد الدليلين أظهر من الآخر أو كان أحدهما نصّاً والآخر ظاهراً فلا إشكال في أنّ العرف يوفّق بينهما بتقديم الأظهر على الظاهر (إذا كان الأظهر قرينة على

التصرّف في الظاهر) والنصّ على الظاهر، فهما ليسا متعارضين عندهم إلّافي النظر البدوي.

وهذا ممّا لا إشكال فيه كبروياً، إنّما الإشكال فيما مثّلوا له بالعام والخاصّ والمطلق والمقيّد، أمّا المطلق والمقيّد فلأنّه إذا فهمنا الاطلاق من مقدّمات الحكمة (لا من اللفظ) كما هو مذهب المحقّقين من المتأخّرين، فمن المقدّمات عدم البيان في مقام البيان، ولا ريب أنّه بعد ورود المقيّد يتبدّل إلى البيان فيكون وارداً على المطلق.

وأمّا العام والخاصّ فلما مرّ في مبحث العام والخاصّ (إذا كان منفصلًا كما هو موضوع البحث في المقام) من أنّهما من قبيل المتعارضين المتضادّين عند العرف سواء صدر العام على نهج الجملة الخبريّة أو الجملة الإنشائيّة، فإذا قال الولي لعبده: «بع جميع أفراد الغنم» ثمّ قال غداً: «لا تبع هذه وهذه» يحمله العرف على التناقض والتضادّ أو على الغفلة أو الندم والبداء، وكذلك إذا سأل المشتري من البائع «هل يوجد عندك شي ء من ذلك الثوب؟» وقال البائع:

«بعتها كلّها» ثمّ قال في ساعة اخرى: «بعتها إلّاهذا المقدار» فلا إشكال في تكذيب المشتري إيّاه، وهكذا في المراسلات وفي المحاكم عند سؤال القاضي عن المتّهم فلو أجاب بالعام في مجلس والخاصّ في مجلس الآخر أو في مجلس واحد مع عدم اتّصال الخاصّ بالعام، لعُدّ كلامه متناقضاً، كما لا يخفى على من راجع العرف وصرف النظر عمّا إنغرس في الأذهان من كلام الاصوليين.

انوار الأصول، ج 3، ص: 454

ويمكن أن يستشهد على ذلك بفهم القدماء من المفسّرين حيث إنّهم كانوا يعاملون الخاصّ الوارد في القرآن الكريم معاملة الناسخ فيعدّونه ناسخاً للعام.

كما يمكن الاستشهاد أيضاً بما رواه الطبرسي رحمه الله في كتاب الإحتجاج في جواب مكاتبة محمّد بن عبداللَّه بن جعفر الحميري إلى صاحب الزمان عليه السلام

يسألني: بعض الفقهاء عن المصلّي إذا قام من التشهّد الأوّل إلى الركعة الثالثة هل يجب عليه أن يكبّر فإن بعض أصحابنا قال: لا يجب عليه التكبير ويجزيه أن يقول: بحول اللَّه وقوّته أقوم وأقعد، فكتب عليه السلام في الجواب: أنّ فيه حديثين: أمّا أحدهما فإنّه إذا إنتقل من حالة إلى حالة اخرى فعليه التكبير، وأمّا الآخر فإنّه روي إذا رفع رأسه من السجدة الثانية وكبّر ثمّ جلس ثمّ قام فليس عليه في القيام بعد القعود تكبير وكذلك التشهّد الأوّل يجري هذا المجرى، وبأيّهما أخذت من جهة التسليم كان صواباً» «1» حيث إنّه حكم بالتخيير بين الروايتين مع أنّ أحدهما خاصّ والآخر عام كما هو ظاهر، لكنه عاملهما معاملة المتعارضين.

ولكن الإنصاف أنّ ما ذكرنا مختصّ بالعرف العام، وأمّا العرف الخاصّ فقد يكون على خلاف ذلك إذا علمنا أنّ سيرة المقنّن والشارع فيه جرت على بيان أحكامه وقوانينه تدريجيّاً كما أنّه كذلك في الشريعة الإسلاميّة، فالعرف بعد ملاحظة هذه السيرة لا يحكم بالتعارض في موارد العام والخاصّ وإن كانا منفصلين، ولذلك يحمل ما مرّ من معاملة القدماء من المفسّرين على غفلتهم عن هذه السيرة وعدم التفاتهم إلى هذه النكتة.

نعم، إنّ هذا جارٍ بالنسبة إلى الواجبات أو المحرّمات، وأمّا في المستحبّات فللشارع سيرة اخرى، وهى بيان سلسلة مراتب الاستحباب ودرجات المطلوبيّة، فيحمل العام فيها على بيان درجة منها والخاصّ على بيان درجة اخرى، ونتيجته عدم كونهما فيها من باب التخصيص ولا من باب التعارض، حيث إنّهما يجريان في خصوص موارد إحراز وحدة المطلوب لا تعدّده كما قرّر في محلّه.

ومن هنا يظهر الجواب عن الشاهد الثاني، وهو حديث الإحتجاج فإنّ مورده من المستحبّات، فالتخيير الوارد فيها ليس من سنخ

التخيير بين المتعارضين بل من قبيل تعدّد

انوار الأصول، ج 3، ص: 455

المطلوب والتخيير بين مراتب الاستحباب فهى خارجة عمّا نحن بصدده.

الضوابط الكلّية للجمع الدلالي العرفي

لا إشكال في أنّ الاصول لا تبحث عن القرائن الخاصّة الجزئيّة للجمع الدلالي بين المتعارضين التي لا تدخل تحت ضابطة كلّية، بل إنّما تبحث عن القرائن الكلّية التي تشكّل قاعدة عامّة وقانوناً كلّياً للجمع الدلالي، وهذه الضوابط والقرائن كثيرة نذكر منها أهمّها وهى:

1- إذا تعارض عام ومطلق، أي دار الأمر بين تخصيص عام وتقييد مطلق كما إذا قال المولى: أكرم عالماً ثمّ قال: لا تكرم الفسّاق، ووقع التعارض في العالم الفاسق (فالعالم مطلق يشمل العادل والفاسق منه، والفسّاق جمع محلّى باللام يدلّ على عموم الحكم لجميع أفراد الفاسق، فالنسبة بينهما عموم من وجه فيتعارضان في مادّة الإجتماع وهى العالم الفاسق)، ومثاله الشرعي تعارض قوله تعالى: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» رواية «نهي النبي عن الغرر» (لو فرضنا كون الرواية بهذا النحو، حيث إنّ المعروف بل المأثور «نهي النبي عن بيع الغرر» «1») فإنّهما يتعارضان في العقود الغررية كما لا يخفى، فقد يقال بترجيح ظهور العموم على الاطلاق أي تقديم التقييد على التخصيص، واستدلّ له بوجهين:

الأوّل: أنّ ظهور الاطلاق تعليقي أي معلّق على عدم بيان التقييد بحيث كان عدم البيان جزءاً من مقتضى الاطلاق، بخلاف ظهور العام فإنّه تنجيزي مستند إلى الوضع، فيكون ظهور العام بياناً للتقييد وليس للمطلق ظهور في ذاته.

الثاني: أنّ التقييد أغلب من التخصيص.

أقول: أمّا الوجه الثاني فواضح الفساد فإنّ التخصيص أيضاً كثير، وكثرته بمثابة حتّى قيل: «ما من عام إلّاوقد خصّ».

وأمّا الوجه الأوّل فأورد عليه المحقّق الخراساني رحمه الله بأنّه مبنى على كون الاطلاق معلّقاً

انوار الأصول، ج 3، ص: 456

على عدم البيان إلى الأبد، بينما هو

معلّق على عدم البيان في مقام التخاطب كما تقدّم تحقيقه في مبحث المطلق والمقيّد، فإذا لم يأت من جانب المتكلّم بيان في مقام التخاطب كما هو المفروض إنعقد ظهور الاطلاق وتنجّز.

وذهب المحقّق النائيني رحمه الله في فوائد الاصول «1» إلى اشتراط عدم البيان إلى الأبد في انعقاد ظهور الاطلاق ثمّ نقل من المحقّق الخراساني رحمه الله في بعض فوائده الاصوليّة أنّه قال: «إنّ اللازم علينا جمع كلمات الأئمّة عليهم السلام المتفرّقة في الزمان، ونفرض أنّها وردت في زمان ومجلس واحد، ويؤخذ ما هو المتحصّل منها على فرض الاجتماع» وقال: إنّ هذا الكلام منه ينافي ما ذهب إليه من أنّ العبرة على عدم البيان في مقام التخاطب لا مطلقاً.

وعلّق عليه المحقّق العراقي رحمه الله بأنّ الحقّ مع استاذنا المحقّق الخراساني رحمه الله، وأنّ ما أفاده في بعض فوائده لا ربط له بما نحن فيه، بل مراده منه أنّ كلمات المعصومين يفسّر بعضه بعضاً، فلو جمعا في كلام واحد لكان أحدهما قرينة على التصرّف في الآخر، وهذا لا ينافي ما أفاده من أنّ قوام ظهور المطلق بعدم إقامة القرينة على مرامه متّصلًا بكلامه.

أقول: أنّ العلمين وإن لم يذكرا هنا دليلًا على مدّعاهما، ولكن الإنصاف أنّ أقوى الدليل على عدم صحّة مقالة المحقّق الخراساني رحمه الله (وهى أنّ الاطلاق معلّق على عدم البيان إلى الأبد) هو أنّ لازم ما ذهب إليه عدم انعقاد الظهور لمطلق من المطلقات إلى آخر أزمنة الأئمّة المعصومين صلوات اللَّه عليهم أجمعين، وهو كما ترى، فإنّه لا ريب في صدور مطلقات كثيرة من جانب الرسول صلى الله عليه و آله والأئمّة الهادين عليهم السلام عمل بظهورها أصحابهم.

وعلى هذا فلا إشكال في أنّ ظهور الاطلاق

أيضاً منجّز، ولكن ظهور العام أقوى منه في الجملة، فإذا إنضمّت إليه بعض القرائن الاخر قدّم عليه، فلابدّ حينئذٍ من ملاحظة المقامات المختلفة والخصوصيات والقرائن الموجودة في كلّ مقام، فإن أحرزنا من مجموع ذلك كون ظهور العموم أقوى من ظهور الاطلاق قدّمناه عليه، وإلّا يقع التعارض بينهما وتصل النوبة إلى المرجّحات الاخر.

انوار الأصول، ج 3، ص: 457

2- إذا تعارض الاطلاق الشمولي (الذي هو بمنزلة العطف بالواو) مع الاطلاق البدلي (الذي هو بمنزلة العطف ب «أو») كقوله «أكرم عالماً» و «لا تكرم الفاسق» (فإنّ النسبة بينهما عموم من وجه ومحلّ التلاقي هو العالم الفاسق) فقد يقال أنّ اطلاق الشمولي يقدّم على الاطلاق البدلي.

واستدلّ له المحقّق النائيني رحمه الله بأنّ «مقدّمات الحكمة في الاطلاق الشمولي تمنع عن جريان مقدّمات الحكمة في الاطلاق البدلي، لأنّ من مقدّمات الحكمة في الاطلاق البدلي كون الافراد متساوية الأقدام، ومقدّمات الحكمة في الاطلاق الشمولي يمنع عن ذلك، ولا يمكن العكس» «1».

ويمكن أن يستدلّ له أيضاً بأنّ تقديم الاطلاق الشمولي يجتمع مع امتثال الاطلاق البدلي وعدم طرده، بخلاف العكس، فإنّه يوجب نفي بعض مصاديق المطلق الشمولي وترك العمل به.

3- إذا دار الأمر بين النسخ والتخصيص، كما إذا قال المولى «لا تكرم زيداً» وفرضنا مجي ء وقت العمل به، ثمّ قال: «أكرم العلماء» فورد العام بعد حضور وقت العمل بالخاصّ، فيدور الأمر بين أن يكون الخاصّ مخصّصاً أو يكون العام ناسخاً، وهكذا إذا ورد الخاصّ بعد حضور وقت العمل بالعام، فيدور الأمر بين أن يكون الخاصّ ناسخاً للعام أو مخصّصاً له.

ومثاله الشرعي ما إذا فرضنا صدور النهي عن بيع الغرر في إبتداء الهجرة ونزول «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» بعد سنين، أو العكس، ففي الصورة الاولى إن قلنا بالتخصيص

كانت النتيجة عدم وجوب الوفاء بالبيع الغرري، وإن قلنا بأنّ العام يكون ناسخاً للخاصّ كانت النتيجة وجوب الوفاء حتّى في البيع الغرري، وفي الصورة الثانية (وهى ما إذا كان نزول «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» قبل صدور النهي عن بيع الغرر) إن قلنا بالتخصيص لم يجب الوفاء بالبيع الغرري من الأوّل، وإن قلنا بالنسخ (أي نسخ الخاصّ للعامّ) لم يجب الوفاء به من حين ورود الخاصّ لا من الأوّل.

وكيف كان، فقد ذهب المشهور إلى تقديم التخصيص على النسخ مطلقاً، ولكن ذهب بعض إلى تقديم النسخ مطلقاً، ومال إليه المحقّق الخراساني رحمه الله (خلافاً لما ذهب إليه في مبحث العام والخاصّ).

انوار الأصول، ج 3، ص: 458

واستدلّ المشهور على مقالتهم بأنّ النسخ قليل والتخصيص كثير بمثابة حتّى يقال: «ما من عام إلّاوقد خصّ» فيوجب شيوع التخصيص وندرة النسخ أن يكون ظهور الخاصّ في الدوام أقوى من ظهور العام في العموم.

واستدلّ المحقّق الخراساني رحمه الله في مقابل المشهور بأنّ هذا البحث من صغريات البحث السابق، أي دوران الأمر بين التقييد والتخصيص، فإنّ النسخ هنا يرجع إلى تقييد الاطلاق الزماني للخاصّ، والتقييد مقدّم على التخصيص، لأنّ تقديم التخصيص أي تقديم الخاصّ متوقّف على ظهوره في الدوام والاستمرار الزماني، وهو يستفاد من الاطلاق ومقدّمات الحكمة، فيكون معلّقاً على عدم البيان، والعموم الإفرادي للعام تنجيزي مستند إلى الوضع فيكون بياناً له.

وأجاب عن الوجه المعروف في ترجيح التخصيص على النسخ من غلبة الأوّل وندرة الثاني، بأنّ هذا ممّا لا يوجب إقوائيّة ظهور الكلام في الاستمرار الأزماني من ظهور العام في العموم الإفرادي، إذ ليست غلبة التخصيص مرتكزة في أذهان أهل المحاورة بمثابة تعدّ من القرائن المكتنفة بالكلام وتوجب اقوائيّة الظهور.

أقول: التحقيق في المسألة يستدعي تحليل ماهية

النسخ أوّلًا، فنقول: الصحيح أنّ النسخ ابطال للإنشاء كالفسخ.

توضيح ذلك: أنّ للحكم مرحلتين: مرحلة الإنشاء ومرحلة الفعليّة، وبعبارة اخرى: مرحلة الإرادة الاستعماليّة ومرحلة الإرادة الجدّية، والتقييد بالمنفصل إنّما هو تصرّف في الإرادة الجدّية وهكذا التخصيص، وأمّا الإرادة الإستعماليّة فهى باقية بقوّتها بخلاف النسخ، فإنّه إبطال للإنشاء من حين وروده نظير الفسخ فإنّ الفاسخ في خيار الفسخ يبطل إنشاء البيع حين الفسخ، وهذا ممّا ندركه بوجداننا العرفي وإرتكازنا العقلائي في القوانين الجديدة العقلائيّة، فكما أنّ فيها تخصيصات وتقييدات يدرجونها تحت عنوان التبصرة، وهى تمسّ بإرادتهم الجدّية في القوانين السابقة، كذلك لهم نواسخ تتعلّق بإرادتهم الإستعمالية بالنسبة إلى القوانين الماضية، وبالجملة أنّ النسخ هو الفسخ يتعلّق بالإنشاء (إلّا أنّ النسخ في القانون والفسخ في المعاملات والعقود) فلا يكون من قبيل التقييد الذي يتعلّق بالإرادة الجدّية.

هذا مضافاً إلى أنّ الإنشاء في القوانين كالإيجاد، ويكون بذاته باقياً في عالم الاعتبار إلى انوار الأصول، ج 3، ص: 459

الأبد، فدوامه واستمراره لازم لذاته وماهيّته، لا أنّه يستفاد من الاطلاق اللفظي لأدلّته حتّى نتكلّم عن تقييده وعدمه، وأمّا ما ورد في الحديث الشريف «حلال محمّد صلى الله عليه و آله حلال إلى يوم القيامة وحرامه ...» فهو ناظر إلى خاتمية الشريعة المقدّسة لا إلى الاطلاق اللفظي لأدلّة قوانينها.

فقد ظهر إلى هنا عدم تمامية ما استدلّ به على تقديم النسخ، والحقّ ما ذهب إليه المشهور وهو تقديم التخصيص، لأنّ النسخ يحتاج إلى دليل قطعي بخلاف التخصيص الذي يثبت حتّى بخبر الواحد الثقة.

هذا- مضافاً إلى أنّ سيرة الفقهاء في الفقه على تقديم التخصيص كما يشهد عليها عدم السؤال والفحص عن تاريخ صدور العام والخاصّ، فإنّ النسخ لابدّ فيه من الفحص عن التاريخ حتّى يتبيّن المقدّم

منهما والمتأخّر فيكون المتأخّر ناسخاً والمتقدّم منسوخاً، فعدم فحصهم عن تواريخ صدور الأحاديث من أقوى الدليل على ترجيحهم التخصيص على النسخ.

بقي هنا شي ء:

وهو إنّا بعد ملاحظة العمومات والتخصيصات الواردة في الكتاب والسنّة والأحاديث الصادرة عن الأئمّة المعصومين صلوات اللَّه عليهم نرى أنّ هناك مخصّصات وردت بعد حضور العمل بالعمومات، فورد مثلًا عام في الكتاب أو السنّة النبوية مع أنّ خاصّه ورد في عصر الصادقين عليهما السلام، فإن قلنا بكونه مخصّصاً للعام يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة، وإن قلنا بكونه ناسخاً يلزم كون الإمام عليه السلام مشرّعاً، مع أنّه حافظ للشريعة، ولو قبلنا إمكان تشريعه ونسخه بعد توجيهه بإرادة كشف ما بيّنه النبي صلى الله عليه و آله عن غاية الحكم الأوّل وابتداء الحكم الثاني لم يمكن قبوله هنا، لأنّ غلبة هذا النحو من التخصيصات تأبى عن هذا التوجيه، فما هو طريق حلّ هذه المشكلة؟

وقد ذكر لحلّها وجوه:

1- أن يكن الخاصّ ناسخاً، ولكنّه قد نزل في عصر النبي صلى الله عليه و آله ولم تكن هناك مصلحة في إبرازه فأودع النبي صلى الله عليه و آله أمر إبرازه بيد الإمام عليه السلام، وبعبارة اخرى: أنّ النبي صلى الله عليه و آله أودع عندهم علم أجل الحكم وانتهائه، فهم يبيّنون غاية الحكم وأمده بعد حلول أجله.

انوار الأصول، ج 3، ص: 460

2- أن يكون الخاصّ مخصّصاً (لا ناسخاً) ولكنّه كاشف عن صدوره في عصر النبي صلى الله عليه و آله ووقت الحاجة به، فخفي علينا بأسباب مختلفة فظهر بيد الإمام عليه السلام فلا يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة، ويشهد على إمكان هذا ما ثبت في التاريخ من منع كتابة الحديث في عصر بعض الخلفاء زعماً منهم أنّه

يمسّ كرامة كتاب اللَّه والإكتفاء به، كما تشهد عليه روايات تدلّ على أنّ كلّ ما قال به الأئمّة الهادون من أهل البيت عليهم السلام فإنّها من النبي صلى الله عليه و آله، وهى كثيرة، وقد جمعها في مقدّمة جامع أحاديث الشيعة فراجع.

3- أن نلتزم بجواز تأخير البيان عن وقت الحاجة إذا كان لمصلحة أهمّ، وهى مصلحة تدريجية بيان الأحكام، فكان تكليف السابقين هو العمل بالعموم ظاهراً مع إرادة الخصوص واقعاً.

ولقد أجاد المحقّق الحائري رحمه الله في درره حيث قال (في مقام الجواب عن أنّ تأخير البيان عن وقت الحاجة قبيح عقلًا): أنّ «تأخير البيان عن وقت العمل ليس علّة تامّة للقبح كالظلم حتّى لا يمكن تخلّفه عنه، وإذا لم يكن كذلك فقبحه فعلًا منوط بعدم جهة محسّنة تقتضي ذلك» «1».

أقول: يرد على الوجه الأوّل أنّ كثيراً من هذه التخصيصات من أخبار الآحاد، مع أنّ النسخ يحتاج إلى دليل قطعي كما قرّر في محلّه.

وعلى الوجه الثاني بأنّه من البعيد جدّاً صدور هذه المخصّصات الكثيرة غاية الكثرة من جانب الرسول صلى الله عليه و آله ولم يصل إلينا شي ء منها، وما دلّ على أنّ رواياتهم عليهم السلام كلّها عن النبي صلى الله عليه و آله يمكن أن يكون ناظراً إلى العلم الذي ورثوه عنه صلى الله عليه و آله لا أنّ جميع ذلك صدر عنه صلى الله عليه و آله بمرأى من الناس ومسمع منهم.

فيتعيّن الوجه الثالث وهو تأخيرها عن وقت الحاجة لمصلحة أهمّ.

نعم، هيهنا وجه رابع بالنسبة إلى كثير من هذه التخصيصات والتقييدات، يحتاج للدقّة، وهو أنّ كثيراً منها في الواقع تطبيقات لكبريات الكتاب والسنّة على مصاديقها (نظير التفريعات والمسائل العمليّة الواردة في الرسائل العمليّة التي

لم يرد كثير منها في آية ولا رواية، ولكنّها من قبيل تطبيق الكبرى على الصغرى من جانب المجتهد) أو بيانات لتوضيح انوار الأصول، ج 3، ص: 461

الكبريات وتعيين حدودها وخصوصياتها.

فمثلًا تخصيص الإمام عليه السلام وجوب تقصير الصّلاة في السفر بسفر المعصية يرجع في الواقع إلى بيان أنّ آية التقصير قد وردت في مقام الإمتنان فلا تنطبق على سفر المعصية، وكذلك تخصيصه بالنسبة إلى من قصد إقامة عشرة أيّام بيان في أنّ تلك الكبرى مختصّة بمن يصدق عليه المسافر عرفاً، ومثل هذا الإنسان ليس مسافراً، وهكذا تقييد حكم صلاة المسافر بحدّ الترخّص إنّما هو لعدم كونه مسافراً عرفاً قبل بلوغ هذا الحدّ، ومثله تخصيص آية الخمس في أرباح المكاسب بمؤونة السنة فإنّه في الواقع بيان لكون موضوع الخمس في الآية إنّما هو عنوان الغنيمة، وهى عبارة عن الفائدة المحضة فلا تشمل مؤونة السنة، لأنّ من يستفيد طول السنة عشرة آلاف درهماً مثلًا ولكن تكون مؤونته بهذا المقدار فهو في الواقع لم ينتفع بشي ء ولم يغتنم غنيمة، وكذلك إستثناء البيع الغرري عن كبرى أُوفوا بالعقود، فهو يرجع في الواقع إلى بيان أنّ هذه الآية إرشاد إلى حكم عقلائي وأنّ بناء العقلاء لا يقوم على وجوب الوفاء بالبيع الغرري، إلى غير ذلك من الأمثلة، ولعمري أنّ هذا جواب متين بالنسبة إلى كثير من هذه التقييدات والتخصيصات.

4- إذا دار الأمر بين التصرّف في منطوق أحد الخبرين ومفهوم الآخر كقوله عليه السلام: «إذا خفى الأذان فقصّر» وقوله عليه السلام: «إذا خفيت الجدران فقصّر» (لو فرض صدور خبرين بهذين المضمونين) فبعد قبول كبرى مفهوم الشرط يقع التعارض بينهما، لأنّ مفهوم كلّ منهما ينافي منطوق الآخر، وقد وقع الكلام في مبحث المفاهيم (مفهوم

الشرط) بينهم وذكروا لحلّ هذا التعارض طرقاً عديدة، والمرتبط منها بما نحن فيه طريقان:

1- تقييد اطلاق مفهوم كلّ منهما بمنطوق الآخر، ولازمه كفاية أحد الأمرين في حصول حدّ الترخّص.

2- تقييد اطلاق منطوق كلّ منهما بمنطوق الآخر، ولازمه اعتبار خفاء الأذان والجدران معاً في وجوب التقصير.

وكيف كان: إن قلنا بأنّ المنطوق أقوى ظهوراً من المفهوم فالمتعيّن هو الطريق الأوّل، وإلّإ

انوار الأصول، ج 3، ص: 462

لا ترجيح لأحدهما على الآخر، فقد يقال: إنّ المنطوق أقوى ظهوراً من المفهوم، لأنّ الكلام إنّما سيق لبيان المنطوق، والمفهوم أمر تبعي ولازم للمنطوق، ولكنّ الإنصاف أنّ هذا دعوى بلا دليل بل كثيراً ما يساق الكلام لبيان المفهوم. كقولك: «سافر إن كان الطريق آمناً» فيما إذا كان مرادك النهي عن السفر في صورة عدم الأمن.

فالصحيح أن يقال: إنّ المقامات مختلفة، والمتّبع هو الضوابط الخاصّة والقرائن المكتنفة بالكلام، فيسقط الطريق الأوّل عن كونه ضابطة كلّية للجمع الدلالي.

5- إذا دار الأمر بين التخصيص والمجاز، وبعبارة اخرى: دار الأمر بين التصرّف في أصالة العموم أو رفع اليد عن أصالة الحقيقة، كقوله: «لا تكرم الفسّاق» مع قوله: «لا بأس بإكرام زيد الفاسق» فكما يمكن رفع اليد عن العموم بالتخصيص، كذلك يمكن رفع اليد عن ظهور النهي في الحرمة وحملها على الكراهة حتّى تجتمع مع عدم البأس.

ولا يخفى أنّ نظيره في الفقه كثير، فإنّه يتصوّر أيضاً فيما إذا كان العام بصيغة الأمر، فيدور الأمر بين رفع اليد عن ظهور العام في العموم ورفع اليد عن ظهور هيئة الأمر في الوجوب وحملها على الاستحباب.

والصحيح في هذه الموارد تقديم التخصيص على المجاز لأنّه أمر شائع معروف، والأوامر التي تحمل على الاستحباب أو النواهي التي تحمل على الكراهة وإن كانت كثيرة

إلّاأنّ تخصيص العام أكثر وأظهر.

نعم، قد يقدّم المجاز في هذه الموارد على التخصيص لبعض القرائن الخاصّة والضوابط الجزئيّة كما لا يخفى على من له إلمام بالمسائل الفقهيّة المناسبة للمقام.

الأمر السادس: الفرق بين التعارض والتزاحم

لا إشكال في أنّ المراد من التزاحم هنا ليس هو التزاحم في الملاكات بالنسبة إلى فعل واحد، كما إذا كان في فعل واحد جهة مصلحة تقتضي إيجابه، وجهة مفسدة تقتضي تحريمه، فليس للمكلّف دخل في هذا التزاحم، بل أمره وملاحظة الجهات وما هو الأقوى من الملاكات انوار الأصول، ج 3، ص: 463

فيه بيد المولى، فهو خارج عن محلّ الكلام، وإنّما المراد من التزاحم في ما نحن فيه هو تزاحم الأحكام في مقام الامتثال بأن توجّه إلى المكلّف تكليفان لا يقدر على الجمع بينهما، كما إذا توقّف إنقاذ الغريق على التصرّف في الأرض المغصوبة، أو كان هناك غريقان لا يقدر المكلّف إلّا على إنقاذ أحدهما.

والفرق بين هذا النوع من التزاحم وبين التعارض يتلخّص في أمرين:

1- علم المكلّف بكذب أحد الدليلين في باب التعارض مع علمه بصدقهما في باب التزاحم.

2- التعارض إنّما هو بين الدليلين وفي مقام الإثبات، أي مقام الدلالة والكشف عن الواقع، وبتعبير آخر: التعارض إنّما هو بين محتواهما في مقام الإثبات، فيكون أحدهما صادقاً في كشفه والآخر كاذباً.

وأمّا التزاحم فيقع بين الحكمين المدلولين الواقعيين من ناحية الامتثال بعد الفراغ عن تمامية دليلهما وصدق كليهما، ولذلك يكون المرجّحات في التعارض بما يرجع إلى الدلالة والسند وشبههما، وفي التزاحم باقوائية الملاك وأهميّة أحد الحكمين بالنسبة إلى الحكم الآخر.

نعم، قد يكون التزاحم سبباً للتعارض، وهو فيما إذا كان كلّ واحد من المتزاحمين ظاهراً في الفعليّة، فيقع التعارض حينئذٍ بين مدلوليهما للعلم بكذب أحدهما كما لا يخفى.

وقد ظهر بما ذكرنا

أوّلًا: أنّ الترجيح أو التخيير في باب التزاحم عقلي، لأنّ العقل يحكم بترجيح أقوى الملاكين على الآخر، ويحكم بالتخيير في المتساويين من ناحية الملاك، بخلاف باب التعارض حيث إنّ العقل يقضي بالتساقط فيه، ويكون الحكم بالتخيير أو بترجيح ما وافق كتاب اللَّه وطرح ما خالفه مثلًا، شرعياً وتعبّدياً، نعم لو صارت المرجّحات موجبة لتمييز الحجّة عن اللّاحجّة فيحكم العقل حينئذٍ بترجيح الحجّة فيكون الترجيح عقلياً، ولكنّه خارج عن باب التعارض لأنّه عبارة عن التنافي بين الحجّتين.

وثانياً: أنّ الحكم الأوّلي ومقتضى الأصل والقاعدة الأوّليّة في باب التعارض هو التساقط إلّاأن يدلّ دليل شرعي تعبّدي على الترجيح أو التخيير.

انوار الأصول، ج 3، ص: 464

بقي هنا شي ء:

وهو كلام للمحقّق النائيني رحمه الله قابل للمناقشة ولا يخلو ذكره عن فائدة أو فوائد ...

قال: إنّ الترجيح في باب التزاحم يكون بامور خمسة مترتّبة أجنبية كلّها عن مرجّحات باب التعارض:

1- أن يكون أحد الواجبين موسعاً والآخر مضيّقاً، فإنّ المضيّق يتقدّم على الموسع لا محالة.

2- أن تكون القدرة المعتبرة في أحد الحكمين عقليّة وغير معتبرة في الملاك، وإنّما كان اعتبارها في الخطاب من جهة حكم العقل بقبح خطاب العاجز، وفي الآخر شرعيّة ودخيلة في الملاك فإنّ ما اعتبر القدرة فيه عقلًا يتقدّم على ما اعتبر فيه شرعاً، والوجه فيه ظاهر.

3- أن يكون أحد الواجبين ممّا له البدل دون الآخر، فيتقدّم ما ليس له البدل على ما له البدل، والسرّ فيه واضح أيضاً.

4- أن يكون أحد المتزاحمين من دون أن يكون هناك شي ء من المرجّحات السابقة أهمّ من الآخر فيقدّم الأهمّ على المهمّ.

5- أن يكون أحد الحكمين سابقاً في الزمان على الآخر، فإنّ السابق منهما يكون معجّزاً مولوياً عن الآخر، فإذا دار الأمر بين

القيام في الركعة الاولى أو الثانية بحيث لا يتمكّن المكلّف من الجمع بينهما فلا محالة يكون القيام في الركعة الاولى هو المتعيّن، وبذلك يكون المكلّف عاجزاً عن القيام في الثانية فيسقط (وكما إذا دار الأمر بين الصيام في النصف الأوّل من شهر رمضان والنصف الآخر منه بحيث لا يتمكّن المكلّف من الصيام في جميع الشهر) «1».

ولكن يرد عليه:

أوّلًا: أنّ تعبيره في صدر كلامه بالمترتّبة مشعر بوجود ترتّب منطقي بين هذه الامور الخمسة مع أنّه لا دليل على ذلك أصلًا.

وثانياً: أنّ جميع هذه الامور خارجة عن باب التزاحم إلّاالأمر الرابع (وهو أن يكون أحدهما أهمّ من الآخر) وقد أشرنا إليه سابقاً.

انوار الأصول، ج 3، ص: 465

أمّا الأمر الأوّل: فلأنّ المتزاحمين عبارة عن ما يمكن الجمع بينهما، ولا إشكال في إمكان الجمع بين الموسّع والمضيّق عرفاً.

وهكذا الأمر الثاني: لأنّ الواجب المطلق لا يكون متزاحماً مع الواجب المشروط، فإنّ الحجّ المشروط بالاستطاعة مثلًا إنّما يصير واجباً فيما إذا لم يكن هناك واجب آخر، وبعبارة اخرى: لا تتحقّق الاستطاعة (التي هى شرط فعليّة وجوب الحجّ) إذا أدّى إتيان الحجّ ترك واجب أو فعل حرام.

وأمّا الأمر الثالث: فلأنّه إمّا أن يكون البدل فيما له البدل في عرض المبدل فيكون التيمّم مثلًا في عرض الوضوء، أو أنّه في طول المبدل، فإن كانا في عرض واحد كان المبدل (وهو الوضوء في المثال) واجباً تخييرياً، ولا إشكال في أنّه لا تعارض بينه وبين الواجب التعييني وهو تطهير الثوب في المثال، وإن كانا طوليين فلا محالة كان الوضوء أقوى ملاكاً من التيمّم فإتيانه مع القدرة على إتيان الوضوء موجب لتفويت درجة من المصلحة، فيدور الأمر في الواقع بين رفع اليد عن هذه الدرجة من المصلحة

وبين مصلحة تطهير الثوب فتدخل المسألة في باب الأهمّ والمهمّ فلا يصحّ الحكم بتقديم ما ليس له البدل على ما له البدل دائماً، بل لعلّ تلك الدرجة من المصلحة كانت أقوى وأهمّ من مصلحة التطهير.

وأمّا الأمر الخامس: فكذلك أنّه خارج من باب التزاحم، لأنّه متفرّع على فعليّة وجوب كلا الحكمين في عرض واحد. مع أنّ وجوب الركعة الثانية أو وجوب الصيام في النصف الثاني من شهر رمضان لا يكون فعليّاً قطعاً.

الأمر السابع: موارد التعارض
اشارة

إنّ التعارض إنّما يتصوّر في ما إذا كان كلّ واحد من الدليلين ظنيّاً، إمّا من ناحية السند، أو الدلالة، أو جهة الصدور، وأمّا إذا كان أحدهما قطعيّاً من جميع الجهات والآخر ظنّياً من بعض الجهات فلا إشكال في تقديم الأوّل على الثاني، ولا معنى لتعارضهما، فالتعارض بين الآيات القرآنية إنّما يتصوّر فيما إذا كانت كلّ واحدة من الآيتين المتعارضتين ظاهرة في الحكم، أي كانت ظنّية الدلالة، وهكذا في الخبرين المتواترين والإجماعين المحصّلين، فيتصوّر التعارض فيهما فيما إذا كان الخبر المتواتر ظاهراً في الحكم وكان للإجماع المحصّل معقد لفظي ظاهر في الحكم.

انوار الأصول، ج 3، ص: 466

ومن ذلك يعلم أنّه لا يتصوّر التعارض فيما إذا كان كلّ من الدليلين قطعيّاً من جميع الجهات لأنّه ينافي العلم بكذب أحدهما، بل لا يمكن فرض وجود دليلين قطعيين متخالفين حتّى يتكلّم فيهما من هذه الجهة.

هذا كلّه في ما أردنا إيراده بعنوان المقدّمة.

إذا عرفت هذا فلنتكلّم في أصل البحث فنقول (ومنه سبحانه نستمدّ التوفيق): هيهنا فصول:

الفصل الأوّل: في مقتضى الأصل الأوّلي في المتعارضين

فهل الأصل في التعارض التساقط، أو التخيير، أو الجمع مهما أمكن؟

قد يقال: بلزوم الجمع بينهما استناداً إلى القاعدة المعروفة «الجمع مهما أمكن أولى من الطرح» ولعلّ أوّل من طرحها ابن أبي جمهور الأحسائي في غوالي اللئالي وإن تصدّى للعمل بها شيخ الطائفة رحمه الله في الاستبصار (ولا يخفى أنّ الأولوية في هذه القاعدة هى الأولويّة التعيينية، أي وجوب الجمع مهما أمكن لا استحبابه نظير ما ورد في قوله تعالى: «وَأُوْلُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ» «1»

).

ولكنا نقول: الجمع يتصوّر على أقسام:

أوّلها: الجمع التامّ بين الدليلين بالعمل بتمامهما من دون أي تصرّف فيهما فإن أمكن ذلك ولو بتدبير وبذل جهد فلا إشكال في وجوبه بل هو خارج

عن محلّ الكلام ومن التعارض.

ثانيهما: أن يكون المراد منه العمل ببعض كلّ منهما أو بعض أحدهما وتمام الآخر عملًا يوافقه العرف ويستحسنه، فلا إشكال أيضاً في تعيّنه وكونه أولى من الطرح كما في العام والخاصّ، ولكنّه أيضاً خارج عن محلّ الكلام لأنّه لو كان بينهما تعارض فإنّما هو في النظر البدوي.

ثالثها: أن يكون المراد منه الجمع بين الحقوق المتزاحمة في باب التزاحم، كالجمع بين انوار الأصول، ج 3، ص: 467

حقوق الغرماء في المفلّس فلا ريب أيضاً في لزوم هذا الجمع بمقدار الإمكان ولكنّه أيضاً خارج عن محلّ الكلام كما لا يخفى.

رابعها: أن يكون المراد منه مطلق الجمع ورفع اليد عن ظاهر كليهما أو أحدهما بتأويلهما أو تأويل أحدهما من دون أي شاهد عرفي، وهو ما يسمّى بالجمع التبرّعي كما قد يظهر الإصرار عليه من بعض كلمات شيخ الطائفة رحمه الله في كتاب الإستبصار، وهذا هو الذي يمكن أن يتكلّم فيه في محلّ الكلام.

ولكن مثل هذا الجمع يرد عليه:

أوّلًا: أنّه لا دليل على أولويته عند الطرح من العرف والعقلاء.

وثانياً: أنّه يوجب الهرج والمرج في الفقه لأنّه لا ضابطة للجمع التبرّعي فيمكن لكلّ فقيه أن يختار نوع جمع خاصّ لروايتين غير ما يختاره الآخر.

وثالثاً: أنّه يعارض جميع أخبار الترجيح عند وجود المرجّحات أو حملها على مورد النادر، أي المورد الذي لا يمكن الجمع فيه ولو بالتأويل وإرتكاب خلاف الظاهر، وهكذا يعارض أخبار التخيير.

فظهر أنّه لا يمكن في المقام الجمع بين المتعارضين، فيدور الأمر بين التخيير والتساقط، فهل القاعدة الأوّليّة تقتضي التساقط مطلقاً، أو التخيير مطلقاً، أو التفصيل بين المباني المختلفة في حجّية الأمارات من الطريقيّة وأنواع السببيّة؟ الصحيح هو الأخير.

توضيح ذلك: أنّ المراد من الطريقيّة أنّ الأمارة لا

توجد مصلحة في مؤدّاها بل إنّها مجرّد طريق إلى الواقع فإن أصابت إلى الواقع فمؤدّيها هو الواقع، وإلّا فلا يكون شيئاً، والمراد من السببيّة أنّ الأمارة توجب حصول مصلحة في المؤدّى وهى على أقسام أربعة:

1- السببيّة الكاملة التي قال بها جمع كثير من العامّة في ما لا نصّ فيه، وحاصلها: أنّ الفقيه يجتهد في ملاحظة المصالح والمفاسد ثمّ يختار حكماً بلحاظها، وفي الواقع له وضع القانون الإلهي فيما لم يرد به نصّ، وهذا المعنى ثابت لجميع المجتهدين وإن اختلفوا في وضع هذه الأحكام اختلافاً كثيراً، فكلّ واحد منها حكم إلهي يمضيه اللَّه، وهذا هو التصويب الأشعري المعروف عندهم الباطل عندنا، وهذا النوع من التصويب غير مذكور في كلمات أصحابنا غالباً.

وهو من أشنع ما التزموا به ممّا يلزم منه نقض التشريعات الإسلاميّة وحاجتها إلى انوار الأصول، ج 3، ص: 468

الإكمال من ناحية البشر، بل أضعف ممّا يتداول في العصر الحاضر من وضع القوانين من ناحية الوكلاء المنتخبين من الناس فإنّ نتيجته قانون واحد لبلد واحد لا قوانين كثيرة بعدد آحاد الفقهاء، ولنعم ما قال مولانا أمير المؤمنين فيما روي عنه عليه السلام في نهج البلاغة في ذمّ الفتيا حيث قال: «ترد على أحدهم القضيّة في حكم من الأحكام فيحكم فيها برأيه ثمّ ترد تلك القضية بعينها على غيره فيحكم فيها بخلاف قوله، ثمّ يجتمع القضاة بذلك عند الإمام الذي استقضاهم، فيصوّب آراءهم جميعاً وإلههم واحد ونبيّهم واحد وكتابهم واحد أفأمرهم اللَّه سبحانه بالاختلاف فأطاعوه، أم نهاهم عنه فعصوه» «1».

وهو مخالف أيضاً لحديث الثقلين المتواتر بين الفريقين المانع عن ضلالة الامّة بصريحه، وخطبة النبي صلى الله عليه و آله في حجّة الوداع: «أيّها الناس ما من شي ء يقرّبكم

إلى الجنّة ويباعدكم عن النار إلّاوقد أمرتكم به وما من شي ء يقرّبكم إلى النار ويباعدكم عن الجنّة إلّاوقد نهيتكم عنه» «2»، بل هو مخالف لقوله تعالى: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ...» فإنّ الدين الكامل لا يحتاج في تشريعاته إلى أبناء البشر واتّباع امّته، والإنصاف أنّهم لم يقعوا في هذه المشكلة إلّابترك الثقل الأصغر أعني أئمّة أهل البيت عليهم السلام فهذه جريمة مترشحة عن ذاك الجرم ونتيجة لذلك الإثم.

وعلى كلّ حال لا يخفى في أنّه بناءً على هذا المعنى للسببيّة تدخل الأمارات المتعارضة في باب التزاحم ويكون مقتضى القاعدة حينئذٍ التخيير (بناءً على كون المصلحة السلوكيّة فيما يكون أمارة اقتضائيّة، وأمّا إذا قلنا بأنّها ثابتة في الأمارة الفعليّة فتدخل في باب التعارض كما هو ظاهر).

2- ما قال به المعتزلي وهو أنّ لنا واقعاً محفوظاً قد تصيبه الأمارة وقد تخطى ء، ولكنّها في صورة الخطأ توجد مصلحة أقوى من مصلحة الواقع في مؤدّيها، فتوجب سقوط الواقع عن الفعلية وانقلاب الحكم الواقعي إلى مؤدّى الأمارة.

وهذا المعنى أيضاً أجمع الأصحاب على بطلانه، ويكون مقتضى القاعدة بناءً عليه هو التخيير (على تفصيل مرّ ذكره بين الحجّية الاقتضائيّة والفعليّة) لأنّ الأخبار المتعارضة تدخل انوار الأصول، ج 3، ص: 469

حينئذٍ في باب التزاحم أيضاً.

نعم قد فصّل المحقّق الخراساني رحمه الله هنا وقال: هذا إذا قلنا بالسببيّة مطلقاً ولو فيما علم كذبه، وأمّا إذا قلنا بسببية الأمارات في خصوص ما لم يعلم كذبه من الخبرين المتعارضين بأن لا يكون ما علم كذبه مسبّباً لحدوث مصلحة أو مفسدة في المتعلّق، فحالهما حينئذٍ من حيث مقتضى القاعدة الأوّليّة كحالهما بناءً على الطريقيّة عيناً (من التساقط كما سيأتي) وهذا هو المتيقّن من أدلّة اعتبار الأمارة من سيرة العقلاء

والآيات والأخبار، وما ذكره قريب من الصواب.

3- السببيّة الظاهريّة، والمراد منها أنّ أدلّة حجّية الأمارة تجعل حكماً ظاهرياً مماثلًا لمؤدّيها، وهذا ما ذهب إليه جماعة من الأعاظم، وهو المقصود ممّا حكاه صاحب المعالم عن العلّامة رحمه الله من أنّ ظنّية الطريق لا تنافي قطعيّة الحكم، فمراده من الحكم القطعي إنّما هو الحكم القطعي الظاهري بلا ريب.

والنتيجة بناءً على هذا المعنى هو التساقط بناءً على كون الحكم الظاهري المماثل مجرّد طريق إلى الواقع فحسب، من دون حصول أي مصلحة فيه (كما هو الظاهر)، وأمّا إذا قلنا إنّها توجب في مؤدّيها حصول مصلحة أقوى من مصلحة الواقع أو المساوي لها فهو يشبه حينئذٍ مبنى السببيّة المعتزلية، ونتيجته التزاحم بين الأمارة التي أصابت إلى الواقع والأمارة التي أخطأت ولكنّها أوجبت مصلحة في مؤدّيها، فيكون مقتضى الأصل حينئذٍ التخيير أيضاً.

4- السببيّة السلوكيّة أو المصلحة السلوكيّة، والمراد منها أنّ أدلّة حجّية الأمارة لا توجد مصلحة في مؤدّيها في صورة الخطأ بل إنّها توجب حصول مصلحة في نفس السلوك على طبقها ما يعادل مصلحة الواقع، ففي مثال الأمارة التي قامت على وجوب صلاة الجمعة في زمان الغيبة لا توجب أدلّة حجّيتها حصول مصلحة في نفس صلاة الجمعة بل توجد مصلحة في العمل بقول الثقة مثلًا وسلوك هذا الطريق.

فعلى هذا المبنى أيضاً يكون مقتضى القاعدة التخيير والدخول في باب التزاحم (على تفصيل مرّ ذكره) ولكن لا دليل على حصول هذه المصلحة في مقام الإثبات، سلّمنا- لكن يرد عليه ما مرّ من إشكال المحقّق الخراساني رحمه الله من أنّ المتيقّن من أدلّة اعتبار الأمارة هو سببيّة الأمارات في خصوص ما لم يعلم كذبه من الخبرين.

انوار الأصول، ج 3، ص: 470

هذا كلّه بناءً على القول

بالسببية.

وأمّا على مبنى الطريقيّة فذهب أكثرهم إلى التساقط، واستدلّوا لذلك بوجود العلم الإجمالي بكذب أحد الطريقين، حيث إنّه يوجب عدم إعتماد العرف بكليهما فيسقط كلّ واحد منهما عن الطريقيّة والحجّية.

وإن شئت قلت: إنّ أغلب الطرق الشرعيّة مأخوذة من الطرق العقلائيّة وامضاء لها، ولا إشكال في أنّ العرف والعقلاء في باب الشهادات والدعاوي ومقام القضاء وغيرها يحكمون ببطلان كلا الطريقين إذا شهد كلّ منهما على خلاف الآخر مثلًا.

وللمحقّق الأصفهاني رحمه الله كلام في هذا المجال لا تخلو الإشارة إليه من فائدة، وحاصله: أنّ الاحتمالات المتصوّرة في ما نحن فيه أربعة:

1- أن يكون أحدهما لا بعينه حجّة، فإنّه إذا علمنا بكذب أحدهما لا بعينه صارت الحجّة أيضاً أحدهما لا بعينه، ولا إشكال في بطلان هذا الاحتمال لأنّ عنوان أحدهما لا بعينه انتزاع ذهني لا وجود له في الخارج، فلا تتعلّق به وصف الحجّية، فإنّ الصفات سواء كانت حقيقية أو اعتبارية لا تعرض إلّاللوجود الخارجي.

2- أن تكون الحجّة ما يكون مطابقاً للواقع، وهذا أيضاً لا يمكن الالتزام به لعدم العلم بمطابقة واحد منهما للواقع وإن إحتمل ذلك، فإنّ المفروض ظنّية كلّ واحد من الخبرين.

3- أن يكون كلّ منهما حجّة (وكأنّ مراده حجّية كليهما في مدلولهما الإلتزامي وهو نفي الثالث) ولكنّه أيضاً لا يمكن الالتزام به لأنّه وإن كان المقتضي للحجّية في كليهما موجوداً والمانع مفقوداً ولكن سنخ المقتضي لا يقبل التعدّد، لأنّ تنجّز الواقع الواحد على تقدير الإصابة لا يعقل فعليته في كليهما، فالواقع غير قابل للفعلية إلّافي أحدهما.

4- عدم حجّية كليهما، وهذا هو المتعيّن «1».

أقول: وهنا احتمال خامس وهو التخيير، ولكنّه أيضاً منتفٍ لعدم الدليل عليه من العقل ولا النقل (إلّا في مورد خاصّ).

فتلخّص من جميع ذلك

أنّ الأصل في المتعارضين التساقط.

انوار الأصول، ج 3، ص: 471

ثمّ إنّ ما ذكرنا من أنّ قضية التعارض بين المتعارضين هو التساقط إنّما هو بملاحظة الأصل الأوّلي والقاعدة الأوّليّة فيعمل به ما لم ينتقض بدليل خاصّ تعبّدي كما انتقض في الخبرين المتعارضين، فإنّ الإجماع والأخبار العلاجية قائمان على عدم سقوطهما بل لابدّ من العمل بأحدهما إمّا تعييناً أو تخييراً، نعم إنّها باقية على حالها في غير الخبرين سواء في الشبهة الحكميّة كما في الإجماعين المحصّلين المتعارضين أو في الشبهة الموضوعيّة كما في البيّنتين المتعارضتين.

بقي هنا شي ء:

وهو أنّ الصحيح بين المبنيين (مبنى السببيّة ومبنى الطريقيّة) إنّما هو مبنى الطريقيّة، وذلك لأنّ أدلّة حجّية الأمارات في الواقع امضاءً لبناء العقلاء، ولا إشكال في أنّهم يعتمدون على مثل قول الطبيب وأهل الخبرة بلحاظ كونه طريقاً إلى الواقع لا لحصول مصلحة في قول الطبيب ورأيه ولو كان مخالفاً مع الواقع.

إن قلت: إنّ إجازه الشارع العمل بمؤدّى الأمارة مطلقاً حتّى فيما إذا كان موجباً لتفويت الواقع تكشف عن توليد مصلحة في السلوك على طبقها، أي المصلحة السلوكيّة (لا المصلحة في نفس المؤدّى حتّى يرد عليه لزوم التصويب المجمع على بطلانه).

قلنا: إنّ إذنه بالعمل بالأمارة مطلقاً يكون من باب إنقطاع يد المكلّف عن الوصول إلى العلم بالواقع غالباً، وهذا ما يشهد عليه الوجدان في باب ملكيّة الأشخاص بالنسبة إلى أموالهم وفي باب الدعاوي في القضاء، فإنّه لا يحصل للإنسان العلم بملكيّة زيد مثلًا بالنسبة إلى أمواله أو بحقّانية أحد طرفي الدعوى، كما أنّه قد يوجب اعتبار حصول العلم للعسر والحرج كما في باب الطهارة والنجاسة والأملاك وغيرهما فإنّ حصول العلم فيها وإن كان ممكناً للإنسان أحياناً ولكنّه يستلزم منه العسر والحرج غالباً كما

لا يخفى.

لا أقول أنّ حجّية الأمارات تكون من باب إنسداد العلم (الإنسداد الكبير) بل أقول: أنّ الحكمة في حجّية غالب الأمارات وجود انسداد صغير في مواردها.

انوار الأصول، ج 3، ص: 472

ثمّ إنّه بناءً على تساقط الخبرين المتعارضين هل تبقى دلالتهما الالتزاميّة على نفي الثالث على حالها، أو أنّها أيضاً تسقط؟ فإذا قامت بيّنة (في الشبهة الموضوعيّة) على أنّ هذه الدار لزيد مثلًا وبيّنة اخرى على أنّها لعمرو فهل يثبت بهما عدم كونها لبكر، أو لا؟ وهكذا في الشبهات الحكميّة، فإذا قام الخبر على كون نصاب المعدن عشرين ديناراً ودلّ خبر آخر على أنّه دينار واحد فهل يبقى مدلولهما الالتزامي (وهو أصل وجود نصاب لوجوب الخمس في المعدن الدائر أمره بين العشرين والدينار الواحد) على حاله فتكون النتيجة عدم وجوب التخميس في الأقلّ من دينار، أو أنّه أيضاً يسقط وتكون النتيجة وجوب الخمس مطلقاً حتّى في الأقلّ من دينار؟ فيه قولان:

أحدهما: ما ذهب إليه المشهور منهم صاحب الكفاية والمحقّق النائيني والمحقّق الأصفهاني والمحقّق الحائري رحمه الله في الدرر وجماعة اخرى من المتأخّرين، وهو عدم سقوط الدلالة بالنسبة إلى نفي الثالث.

ثانيهما: ما ذهب إليه بعض الأعلام كما في مصباح الاصول من سقوطها حتّى من هذه الجهة.

ولابدّ قبل الورود في باب أدلّة الطرفين أن نشير إلى أنّ هذا البحث إنّما يجري فيما إذا احتملنا كذب كلا الخبرين، أي كان كلّ من الدليلين ظنّياً، وأمّا إذا علمنا صدق أحدهما من دليل خارج كالإجماع (كما أنّه كذلك في الخبرين الدالّين على وجوب صلاة الجمعة ووجوب صلاة الظهر في يوم الجمعة حيث إنّ الإجماع قام على صدق أحدهما وعدم تكليف ثالث في البين كوجوب كليهما أو عدم وجوب كليهما) فلا موضع لهذا

النزاع، لأننا نقطع حينئذٍ بنفي الثالث.

وعلى أي حال فقد استدلّ للقول الأوّل بوجهين:

الوجه الأوّل: ما أفاده المحقّق الخراساني رحمه الله فإنّه قال: «نعم يكون نفي الثالث بأحدهما لبقائه على الحجّية وصلاحيته على ما هو عليه (من عدم التعيّن) لذلك لا بهما» وحاصله ما مرّ منه من أنّ ما يسقط عن الحجّية إنّما هو أحد الخبرين لا بعينه، فيكون أحدهما الآخر لا بعينه باقٍ على حجّيته، فينفي به الثالث، فلا يجوز الخروج عن مؤدّى المجموع.

ولكن يرد عليه: إشكال بحسب مقام الثبوت، وإشكال بحسب مقام الإثبات، أمّا الأوّل:

انوار الأصول، ج 3، ص: 473

فهو ما مرّ في كلام المحقّق الأصفهاني رحمه الله من أنّ الصفات الحقيقيّة والاعتباريّة لا تعرض إلّا للوجود الخارجي، ولا وجود لعنوان أحدهما لا بعينه في الخارج فلا يتعلّق به وصف الحجّية بل هو أمر إنتزاعي ذهني.

وإن شئت قلت: الغرض من جعل شي ء حجّة إنّما هو بعث المكلّف إليه وانبعاثه عنه في مقام العمل، ولا إشكال في عدم إمكان البعث إلى عنوان أحدهما لا بعينه، لعدم إمكان انبعاث المكلّف عنه عملًا، نعم يمكن الانبعاث إلى كليهما تخييراً ولكن لا ربط له بما نحن فيه.

وأمّا الثاني: فهو أنّه لا دليل على حجّية أحدهما لا بعينه في مقام الانبعاث، إذ إنّ أدلّة حجّية الأمارات كمفهوم آية النبأ لا تعمّ أحد العدلين (مثلًا) لا بعينه. وبعبارة اخرى: ليس عنوان أحدهما لا بعينه مصداقاً من مصاديق خبر العادل في مفهوم الآية (إن جاءكم عادل فلا تبيّنوا).

الوجه الثاني: ما استدلّ به بعض الأعلام، وهو أنّ الخبرين المتعارضين يشتركان في نفي الثالث بالدلالة الالتزاميّة فيكونان معاً حجّة في عدم الثالث، وتوهّم أنّ الدلالة الالتزاميّة فرع الدلالة المطابقيّة وبعد سقوط المتعارضين في المدلول

المطابقي لا مجال لبقاء الدلالة الالتزاميّة لهما في نفي الثالث- فاسد فإنّ الدلالة الالتزاميّة إنّما تكون فرع الدلالة المطابقية في الوجود لا في الحجّية» «1».

ولكن يرد عليه:

أوّلًا: أنّ هذا صحيح في مقام الثبوت لا في مقام الإثبات لأنّ أدلّة الحجّية في مقام الإثبات إنّما تعمّ الدلالة الالتزاميّة بتبع الدلالة المطابقيّة ومن طريقها وفي طولها لا في عرضها، وبعد فرض عدم شمولها للمدلول المطابقي لا يبقى مجال لحجّية المدلول الالتزامي، وبعبارة اخرى: أدلّة حجّية الأمارات لا تشمل شيئاً من المتعارضين من أوّل الأمر للزوم التناقض، فلا يبقى مورد للدلالة الالتزاميّة كما لا يبقى مورد للدلالة المطابقيّة.

وثانياً: أنّه مخالف للسيرة العقلائيّة والإرتكازات العرفيّة، فإنّها قائمة على سقوط الدلالة الالتزاميّة بتبع الدلالة المطابقيّة، فإذا أخبر ثقة بقدوم زيد يوم الجمعة وأخبر ثقة آخر بقدومه انوار الأصول، ج 3، ص: 474

يوم السبت، فلا إشكال في سقوط كليهما عن الحجّية عند العرف حتّى في مدلولهما الالتزامي، وهو عدم قدوم زيد يوم الأحد، ولذا يبقى عندهم احتمال قدومه يوم الأحد، وهكذا إذا قامت بيّنة على أنّ هذه الدار لزيد وقامت بيّنة اخرى على كونها لعمرو، فبعد تساقطهما لا يبقى مجال لنفي احتمال كونها لشخص ثالث.

وثالثاً: أنّه مخالف لما يستفاد من مقبولة عمر بن حنظلة التي تدلّ على لزوم الأخذ بأحوط الاحتمالات فيما إذا تعارض الخبران لا بأحوطهما فإنّ لازمها عدم نفي الثالث، أي سقوط دلالتهما الالتزاميّة على نفي الثالث، ولكن سيأتي الحديث عنها والنقاش في دلالتها فانتظر.

فظهر ممّا ذكرنا أنّ الصحيح في المسألة هو القول الثاني، وهو عدم نفي الثالث، كما قد ظهرت الثمرة المترتّبة على هذا البحث، حيث إنّه بناءً على نفي الثالث لا يمكن الرجوع إلى الإطلاقات والاصول العمليّة بعد

سقوط الخبرين، ففي مثال دوران الأمر بين العشرين والواحد في نصاب المعدن لابدّ من الجمع بين الخبرين والأخذ بأقلّ النصابين لانتفاء احتمال ثالث في البين (وهو عدم اعتبار النصاب رأساً ووجوب الخمس حتّى في الأقل من دينار) مع أنّه بناءً على القول الثاني وهو عدم نفي الثالث يمكن الرجوع إليها، وهى في المثال أصالة إطلاقات وجوب الخمس في المعدن، وهى تقتضي وجوب الخمس حتّى في الأقل من دينار، أي تقتضي عدم اعتبار النصاب رأساً.

هذا كلّه في الفصل الأوّل، وهو مقتضى الأصل الأوّلي في المتعارضين.

الفصل الثاني: في مقتضى الأصل الثانوي في المتعارضين
اشارة

لا شكّ في انتقاض الأصل الأوّلي (أصالة التساقط في الدليلين المتعارضين) في الأخبار المتعارضة، فقد قام الدليل فيها على عدم سقوط كليهما عن الحجّية، والكلام فيه يقع في مقامين:

1- في أخبار التعادل وحكم الخبرين المتعارضين بعد التعادل والتكافؤ.

2- في أخبار التراجيح ولزوم أعمال المرجّحات قبل أن تصل النوبة إلى التعادل والتكافؤ.

المقام الأوّل: في أخبار التعادل
اشارة

فالأخبار الواردة في هذا المجال على طوائف خمسة:

1- ما تدلّ على أنّ الحكم هو التخيير.

2- ما تدلّ على لزوم العمل بأحوط الخبرين.

3- ما تدلّ على لزوم العمل بالاحتياط مطلقاً، أي بأحوط الاحتمالات الجارية في المسألة لا بأحوط الخبرين.

4- ما تدلّ على لزوم الأخذ بالأحدث من الخبرين.

5- ما تدلّ على لزوم التوقّف والإرجاء إلى لقاء الحجّة عليه السلام.

أخبار التخيير

أمّا الطائفة الاولى: فهى روايات كثيرة:

1- ما رواه الحسن بن الجهم عن الرضا عليه السلام قال: قلت له: «تجيئنا الأحاديث عنكم مختلفة فقال: ما جاءك عنّا فقس على كتاب اللَّه عزّوجلّ ... قلت: يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين ولا نعلم أيّهما الحقّ، قال: فإذا لم تعلم فموسّع عليك بأيّهما أخذت» «1».

2- ما رواه الحارث بن المغيرة عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «إذا سمعت من أصحابك الحديث وكلّهم ثقة فموسّع عليك حتّى ترى القائم عليه السلام فتردّ إليه» «2».

ودلالة هاتين الروايتين تامّة على المقصود وإن أُورد على سندهما بالارسال.

3- ما رواه علي بن مهزيار قال: «قرأت في كتاب لعبداللَّه بن محمّد إلى أبي الحسن عليه السلام اختلف أصحابنا في رواياتهم عن أبي عبداللَّه عليه السلام في ركعتي الفجر في السفر، فروى بعضهم صلّها في المحمل، وروى بعضهم لا تصلّها إلّاعلى الأرض فوقّع عليه السلام: موسّع عليك بأيّةٍ عملت» «3».

ولكن يرد عليه: بأنّ مورده هو التخيير في نافلة الفجر المستحبّة فيحمل على التخيير

انوار الأصول، ج 3، ص: 476

بين مراتب الفضيلة فلا يمكن التعدّي عنه إلى الواجبات، لأنّ حكم المتعارضين في المستحبّات غير حكمهما في الواجبات كما مرّ.

4- ما رواه الطبرسي في الإحتجاج في جواب مكاتبة محمّد بن عبداللَّه بن جعفر الحميري إلى صاحب الزمان عليه السلام وهو «1» ما

مرّ ذكره سابقاً من رواية التكبير حين الانتقال من حالة إلى حالة اخرى، ولكن قد مرّ أنّ مورده أيضاً هو التخيير في المستحبّات.

5- مرسلة الكليني حيث قال: وفي رواية اخرى: «بأيّهما أخذت من باب التسليم وسعك» «2». ولكن لعلّها مأخوذة من الروايات السابقة.

6- معتبرة سماعة عن أبي عبداللَّه قال: «سألته عن رجل اختلف فيه رجلان من أهل دينه في أمر كلاهما يرويه: أحدهما يأمر بالأخر والآخر ينهاه، كيف يصنع؟ قال عليه السلام: يرجئه حتّى يلقى من يخبره، فهو في سعة حتّى يلقاه» «3».

وهى أيضاً قابلة للمناقشة حيث إنّ دلالتها على المطلوب مبنيّة على أن يكون المراد من «سعة» فيها هو التخيير مع أنّه يحتمل أن يكون المراد منها الرجوع إلى الأصل، أي البراءة.

لا يقال: إنّها مغيّاة بملاقاة الإمام فتكون الرواية مختصّة بعصر الحضور، لأنّا نقول: إنّ عصر الغيبة أولى بالسعة لعدم إمكان الوصول إلى قول المعصوم عليه السلام.

7- ما رواه أحمد بن الحسن الميثمي: «أنّه سأل الرضا عليه السلام يوماً ... إلى أن قال: وبأيّهما شئت وسعك الاختيار من باب التسليم والإتّباع ...» «4».

ولكن موردها أيضاً المستحبّات حيث ورد قبل الفقرة المذكورة: «وما كان في السنّة نهي إعافة أو كراهة ثمّ كان الخبر الأخير خلافه فذلك رخصة فيما عافه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وكره ولم يحرّمه، فذلك الذي يسع الأخذ بها جميعاً وبأيّهما شئت ...».

8- ما رواه في عوالي اللئالي عن العلّامة بقوله: «وروى العلّامة مرفوعاً إلى زرارة بن أعين قال: سألت الباقر عليه السلام فقلت: جعلت فداك يأتي عنكم الخبران أو الحديثان المتعارضان انوار الأصول، ج 3، ص: 477

فبأيّهما آخذ؟ فقال: يازرارة ... فقلت أنّهما معاً موافقان للإحتياط أو مخالفان له فكيف

أصنع؟

فقال عليه السلام: إذن فتخيّر أحدهما وتأخذ به وتدع الآخر» «1».

وهذه الرواية صريحة الدلالة على المقصود.

فقد ظهر إلى هنا أنّ التامّ دلالة من هذه الثمانية إنّما هو الأوّل والثاني، والثامن فيبلغ ما دلّ على التخيير إلى حدّ التظافر وإن لم يبلغ إلى حدّ التواتر كما ادّعاه الشيخ الأعظم، مضافاً إلى تأييدها بمرسلة الكليني وغيرها خصوصاً بعد ملاحظة ما صرّح به في ديباجة الكافي حيث قال: «... ولا نجد شيئاً أحوط ولا أوسع من ردّ علم ذلك كلّه إلى العالم عليه السلام وقبول ما وسّع من الأمر فيه بقوله عليه السلام بأيّما أخذتم من باب التسليم وسعكم» «2».

ومضافاً إلى ما إدّعاه شيخنا الأعظم رحمه الله في رسائله من «أنّ عليه المشهور وجمهور المجتهدين حيث قال: فهل يحكم بالتخيير أو العمل بما طابق منهما الاحتياط أو بالاحتياط وجوه، المشهور وهو الذي عليه جمهور المجتهدين الأوّل للأخبار المستفيضة بل المتواتر» (انتهى) وكفى بذلك جبراً لسندها حتّى ولو كانت رواية واحدة.

بل هذا هو ما نشاهده عملًا في الفقه وعليه سيرة الفقهاء، فمن العجب جدّاً ما قال به بعض الأعلام في مصباح الاصول: «إنّ التخيير بين الخبرين المتعارضين عند فقد المرجّح لأحدهما ممّا لا دليل عليه، بل عمل الأصحاب في الفقه على خلافه فإنّا لم نجد مورداً أفتى فيه بالتخيير واحد منهم» «3».

هذه كلّه في الطائفة الاولى من الأخبار.

أمّا الطائفة الثانية: (وهى ما تدلّ على لزوم الأخذ بأحوط الخبرين) فهى نفس مرفوعة زرارة المذكورة آنفاً حيث ورد فيها: «قلت: ربّما كانا معاً موافقين لهم أو مخالفين، فكيف أصنع؟

فقال: إذن فخذ بما فيه الحائطة لدينك واترك ما خالف الاحتياط».

ولكن غاية ما يستفاد من هذه الرواية كون موافقة أحد الخبرين للاحتياط من

المرجّحات لا أنّ مآل الأمر إلى الأخذ بالأحوط بل مآله هو التخيير كما وقع التصريح به في انوار الأصول، ج 3، ص: 478

ذيل الرواية، وحيث إنّ هذا المرجّح لا دليل عليه إلّاهذه الرواية وقد عرفت الإشكال في سندها، فلا يمكن المساعدة على جعل الأحوطية مرجّحة أيضاً.

وأمّا الطائفة الثالثة: (وهى ما تدلّ على لزوم العمل بأحوط الاحتمالات) فهى أيضاً رواية واحدة، وهى مقبولة عمر بن حنظلة حيث ورد فيها: «قلت: فإن وافق حكّامهم الخبرين جمعياً؟ قال: إذا كان ذلك فارجئه حتّى تلقى إمامك فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الإقتحام في الهلكات» «1».

ولكنّها أيضاً غير تامّة من جهتين:

الاولى: أنّ مفادها هو التساقط لا الأخذ بأحوط الاحتمالات، فإنّ المراد من الأرجاء هو التوقّف وهو خلاف الإجماع لأنّه قام على عدم التساقط كما مرّ.

الثانية: أنّ هذه الفقرة ناظرة إلى عصر الحضور ولا تعمّ زمان الغيبة إذ إنّ الحكم بالإرجاء فيها مغيّى بلقاء الإمام عليه السلام، وبعبارة اخرى: إنّها إنّما تدلّ على لزوم الاحتياط في الشبهات قبل الفحص أو حال الفحص.

وأمّا الطائفة الرابعة (وهى ما تدلّ على لزوم الأخذ بالأحدث منهما) فهى عديدة:

منها: ما رواه الحسين بن المختار عن بعض أصحابنا عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «أرأيتك لو حدّثتك بحديث «العام» ثمّ جئتني من قابل فحدّثتك بخلافه بأيّهما كنت تأخذ؟ قال: كنت آخذ بالأخير. فقال لي: رحمك اللَّه» «2».

ومنها: ما رواه معلّى بن خنيس، قال قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام: «إذا جاء حديث عن أوّلكم وحديث عن آخركم بأيّهما نأخذ؟ فقال: خذوا به حتّى يبلغكم عن الحيّ فإن بلغكم عن الحي فخذوا بقوله، قال ثمّ قال أبو عبداللَّه عليه السلام: إنّا واللَّه لا ندخلكم إلّافيما يسعكم» «3».

ومنها: مرسلة الكليني

فإنّه قال: «وفي حديث آخر: خذوا بالأحدث» ولكنّه من المستبعد جدّاً كونها غير الروايات السابقة.

ومنها: ما رواه أبو عمرو الكناني قال: قال لي أبو عبداللَّه عليه السلام: «ياأبا عمرو أرأيت لو

انوار الأصول، ج 3، ص: 479

حدّثتك بحديث أو أفتيتك بفتيا ثمّ جئتني بعد ذلك فسألتني عنه فأخبرتك بخلاف ما كنت أخبرتك أو أفتيتك بخلاف ذلك بأيّهما كنت تأخذ؟ قلت: بأحدثهما وأدع الآخر. فقال: قد أصبت ياأبا عمرو أبى اللَّه إلّاأن يعبد سرّاً أما واللَّه لئن فعلتم ذلك إنّه لخير لي ولكم أبى اللَّه عزّوجلّ لنا في دينه إلّاالتقيّة» «1».

ولكن لا يخفى أنّ مورد هذه الرواية هو التقيّة، ولا إشكال في أنّ المعتبر في هذا المقام إنّما هو آخر ما يصدر من صاحب التقيّة فإنّها على قسمين: تقيّة القائل، وهى ما إذا كان الإمام عليه السلام في شرائط خاصّة تقتضي بيان الحكم على خلاف الواقع، وتقيّة السائل وهى ما إذا كان للمسائل ظروف وشرائط خاصّة كذلك فإنّ الإمام عليه السلام كالطبيب ينظر إلى حاجة المأمورين في الظروف المختلفة من لزوم التقيّة أو رفضها، ومن الواضح أنّ الميزان في تعيين الحكم والوظيفة العمليّة إنّما هو ما مرّ عليه في الحال من الشرائط الجديدة، ولازمه لزوم الأخذ بأحدث الخبرين.

بل يمكن أن يقال: إنّ هذه الرواية وكذلك ما ورد في ذيل الرواية السابقة (وهو قوله عليه السلام:

«واللَّه لا ندخلكم إلّافيما يسعكم») الظاهر في مقام التقيّة أيضاً يرفع النقاب عن وجه هذه الطائفة من الروايات بأجمعها، ويبيّن لنا جهة صدورها وأنّها غير قابلة الإعتماد من هذه الجهة وتكون خارجة عن محلّ النزاع.

وممّا يؤيّد هذا المعنى (أي خروجها عن محلّ النزاع) يقين السائل فيها بأصل الصدور وأصل مجي ء الحديث عن جانب الإمام

عليه السلام وإنّما الكلام في جهة الصدور بينما محلّ البحث هو ما إذا كان الصدور ظنّياً، هذا كلّه أوّلًا.

وثانياً: سلّمنا كون الأحدثية ميزاناً في الأخذ بأحد الخبرين، ولكن غايتها أنّها إحدى المرجّحات، فلا دلالة لهذه الروايات على صورة فقدان هذا المرجّح، فتكون أخصّ من المدّعى.

وثالثاً: أنّها محمولة على عصر الحضور بقرينة ما ورد في رواية معلّى بن خنيس «خذوا به حتّى يبلغكم عن الحي».

انوار الأصول، ج 3، ص: 480

ولكن قد يقال: لابدّ من ردّ علم هذه الروايات إلى أهلها لأنّه كما جاز أن يكون الأوّل للتقية والثاني لبيان حكم اللَّه الواقعي جاز بالعكس أيضاً، فلا يمكن العمل بالرواية على كلّ حال، ولذا لم يعمل بها أحد من الأصحاب.

ولكن الإنصاف أنّ معنى هذه الطائفة معلومة معقولة، فإنّ المراد منها هو الأخذ بالأحدث لمن كان معاصراً له فإنّ هذا هو حكمه الشرعي في ذلك الزمان سواء كان تقيّة أو ابطال تقية سابقة.

أمّا الطائفة الخامسة: فهى ذيل مقبولة ابن حنظلة حيث قال: إذا كان ذلك (أي كان الخبران متساويين في المرجّحات السابقة) فارجئه حتّى تلقى إمامك فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الإقتحام في الهلكات» «1». وذيل رواية الميثمي عن الرضا عليه السلام حيث قال: «وما لم تجدوه في شي ء من هذه الوجوه فردّوا إلينا علمه» «2».

ومن الواضح أنّ هذه الطائفة مختصّة بزمن الحضور وإمكان الوصول إلى الحجّة عليه السلام.

فظهر من جميع ما ذكرنا أنّ الطريق الصحيح في المقام إنّما هو ما ذهب إليه المشهور وهو التخيير.

بقي هنا امور:

الأمر الأوّل: في أنّه هل الحكم بالتخيير في الخبرين المتعارضين تعبّد محض فيكون حكماً مخالفاً للقاعدة، أو أنّه كاشف بالدلالة الالتزاميّة عن أنّ الصحيح من بين المباني الخمسة السابقة هو مبنى

السببيّة السلوكيّة (التي ليست من قبيل التصويب الباطل) فيكون حكماً مطابقاً للقاعدة، أو أنّ المبنى الصحيح هو الطريقيّة، ولكنّه أيضاً مطابق للقاعدة لخصوصيّة في المقام؟ وجوه.

وجه الاحتمال الأوّل: ما مرّ سابقاً من أنّ القاعدة تقتضي التعارض فيكون الحكم بالتخيير تعبّداً محضاً وحكماً مخالفاً للقاعدة.

وجه الاحتمال الثاني: ما ورد في بعض الروايات من التعبير ب «أيّهما أخذت من باب انوار الأصول، ج 3، ص: 481

التسليم وسعك» حيث إنّه يستشمّ منه أنّ نفس التسليم في مقابل الأئمّة وسلوك الطريق الذي فتحوه أمامنا يكون ذا مصلحة.

ولكن هذا التعبير ورد في ثلاث روايات:

إحديها: مكاتبة محمّد بن عبداللَّه بن جعفر الحميري.

وثانيها: ما رواه أحمد بن الحسن الميثمي عن الرضا عليه السلام.

وثالثها: مرسلة الكليني، وقد مرّ أنّ الأوّليين واردتان في المستحبّات وهى خارجة عن محلّ الكلام، والثالثة مرسلة.

هذا- مضافاً إلى ما ورد في صدر بعضها (وهو رواية الميثمي) من لزوم أعمال المرجّحات أوّلًا: حيث إنّ أعمال المرجّح بين الخبرين إنّما يتصوّر فيما إذا كان خصوص أحدهما طريقاً إلى الواقع وأردنا تعيينه من بينهما بالمرجّح، وإلّا إذا كان لسلوك كلّ منها مصلحة فلا حاجة إلى ترجيح أحدهما على الآخر والأخذ بخصوصه، فإذا كان الصدر كذلك يحمل عليه الذيل أيضاً، بل الإنصاف أنّ قوله «من باب التسليم» ليس له ظهور في السببيّة وإن كان له دلالة عليها، فهى في حدّ الإشعار، فلا تكون دليلًا على شي ء.

ووجه الاحتمال الثالث: إنّا نعلم بصدور أحد الخبرين وصدقه، ولا إشكال في أنّ مقتضى القاعدة في موارد دوران الأمر بين المحذورين مع العلم بصدق أحدهما هو التخيير.

وفيه: أنّه مبنى على حصول العلم بصدور أحدهما، وأنّى لنا بإثباته؟

بل المفروض العلم بكذب أحدهما فقط، وأمّا الآخر فهو دليل ظنّي في نفسه

يحتمل الكذب أيضاً، وقد عرفت أنّ أدلّة الحجّية لا تشمل شيئاً منهما بعد فرض التعارض.

الأمر الثاني: في أنّ التخيير في المقام واقعي أو ظاهري؟

فإن كان واقعياً كان نظير التخيير بين خصال الكفّارات والتخيير بين الحمد والتسبيحات الأربعة في الركعتين الأخيرتين، وإن كان ظاهرياً كان نظير التخيير بين الوجوب والحرمة عند دوران الأمر بين المحذورين في الحكم الظاهري.

والصحيح في ما نحن فيه هو الثاني، لأنّ المختار فيه هو مبنى الطريقيّة والعلم بكذب أحد الخبرين لأنّ المصلحة حينئذٍ لو كانت فإنّما هى في واحد منهما، فلا يتصوّر حينئذٍ التخيير الواقعي لأنّه إنّما يتصوّر فيما إذا وجدت المصلحة في كلّ من الأطراف.

انوار الأصول، ج 3، ص: 482

الأمر الثالث: في أنّ التخيير في المقام هل يكون في المسألة الاصوليّة، أو في المسألة الفقهيّة؟ وبعبارة اخرى: هل التخيير يكون للمجتهد فقط في اختيار الأدلّة، أو له وللمقلّد في العمل؟

قال شيخنا الأعظم الأنصاري رحمه الله: «المحكي عن جماعة بل قيل أنّه ممّا لا خلاف فيه أنّ التعادل إن وقع للمجتهد في عمل نفسه كان مخيّراً في عمل نفسه، وإن وقع للمفتي لأجل الإفتاء فحكمه أن يخيّر المستفتي فيتخيّر في العمل كالمفتي ... (إلى أن قال): ويحتمل أن يكون التخيير للمفتي فيفتي بما اختار ... (إلى أن قال) والمسألة بعد محتاجة إلى التأمّل وإن كان وجه المشهور أقوى» انتهى.

واستدلّ لقول المشهور أي القول الأوّل بوجهين:

الأوّل: أنّ خطابات الأمارات عامّة تشمل المجتهد والمقلّد، إلّاأنّ المقلّد عاجز عن القيام بشروط العمل بالأدلّة من حيث تشخيص مقتضاها ودفع موانعها، فإذا ثبت للمجتهد جواز العمل بكلّ من الخبرين المتكافئين المشترك بين المقلّد والمجتهد تخيّر المقلّد كالمجتهد.

الثاني: إنّ إيجاب مضمون أحد الخبرين على المقلّد تعييناً لا دليل عليه،

فهو تشريع محرّم.

واستدلّ للقول الثاني أوّلًا: بما ورد في مرفوعة زرارة قلت: «إنّهما معاً موافقان للاحتياط ومخالفان فكيف أصنع؟ فقال عليه السلام: إذن فتخيّر أحدهما فتأخذ به وتدع الآخر» حيث إنّه وارد بعد اعمال المرجّحات ولا إشكال في أنّه من عمل المجتهد لا المقلّد مضافاً إلى أنّ قوله: «فتخيّر أحدهما فتأخذ به وتدع الآخر» كالصريح في اختيار أحد الحجّتين ورفض الآخر، وليس ذلك إلّا للمجتهد.

وبعبارة اخرى: لم يخيّره الإمام بين مضمون الخبرين بل أمره بالأخذ بأحد الدليلين تخييراً.

وثانياً: بأنّ التخيير حكم للمتحيّر والمتحيّر، إنّما هو المجتهد لا المقلّد.

أقول: الأولى في المقام ملاحظة روايات التخيير، ولا إشكال في أنّها ظاهرة فيما ذهب إليه المشهور فإنّ من جملتها ما رواه سماعة عن أبي عبداللَّه عليه السلام «قال: سألته عن رجل اختلف عليه رجلان من أهل دينه في أمر كلاهما يرويه، أحدهما يأمر بأخذه والآخر ينهاه عنه كيف انوار الأصول، ج 3، ص: 483

يصنع؟ قال: فهو في سعة حتّى يلقاه» «1».

ولا إشكال في أنّه ظاهر في التخيير بين مدلولي الخبرين في العمل.

ومنها: مرسلة الكليني المذكورة سابقاً (فإنّه قال: «وفي رواية اخرى بأيّهما أخذت من باب التسليم وسعك» «2»).

وهكذا رواية الحسن بن الجهم «3». ورواية الحارث بن المغيرة «4» المذكورتان في السابق أيضاً.

نعم المستفاد من مرفوعة زرارة كما عرفت هو التخيير في المسألة الاصوليّة، ولكن الكلام بعد في سندها.

وأمّا الاستدلال للقول بكون التخيير في المسألة الاصوليّة بأنّ التحيّر حاصل للمجتهد فقط، فيمكن الجواب عنه بأنّ الموضوع في روايات التخيير هو الخبران المتعارضان لا المتحيّر، فإنّه لم يرد هذا العنوان في شي ء من هذه الروايات، فإذن الأظهر هو ما ذهب إليه المشهور.

ثمّ إنّه لو شككنا في المسألة ولم نعلم أنّه هل

التخيير للمجتهد أو للمقلّد فمقتضى الأصل هو الأوّل ببيانين:

أحدهما: أنّه من قبيل دوران الأمر بين التعيين والتخيير، لأنّ لازم كون التخيير في المسألة الاصوليّة أن يفتي المجتهد بأحد الخبرين تعييناً، ولازم التخيير في المسألة الفقهيّة أن يفتي بالتخيير بينهما، فعلى القول بأنّ مقتضى القاعدة في دوران الأمر بينهما هو التعيين تكون النتيجة كون التخيير في المسألة الاصوليّة.

ثانيهما: إنّا نعلم بحجّية ما اختاره المجتهد منهما قطعاً ونشكّ في حجّية الآخر، وقد ثبت في محلّه أنّ مجرّد الشكّ في الحجّية كافٍ لإثبات عدمها.

انوار الأصول، ج 3، ص: 484

الأمر الرابع: هل التخيير بدوي أو استمراري؟ والمراد من التخيير البدوي أنّه لو اختار مثلًا وجوب صلاة الجمعة (عند تعارض الأخبار) لابدّ من العمل بها ما دام عمره، ومعنى التخيير الاستمراري أنّ له في المثال المذكور اختيار الجمعة في كلّ جمعة أراد، واختيار صلاة الظهر كذلك طول عمره.

والأقوال في المسألة ثلاثة:

1- ما حكي عن جماعة من المحقّقين من أنّ التخيير استمراري.

2- ما يظهر من بعض كلمات شيخنا الأعظم رحمه الله من أنّه بدوي.

3- بناء المسألة على المسألة السابقة، فإن قلنا بأنّ التخيير في المسألة الاصوليّة يكون التخيير هنا بدوياً، وإن قلنا بأنّ التخيير في المسألة الفقهيّة يكون التخيير هنا استمرارياً، وهذا ما ذهب إليه المحقّق النائيني رحمه الله في فوائد الاصول.

واستدلّ للقول الأوّل بوجهين:

أحدهما: إطلاقات أخبار التخيير، فإنّ التعبير ب «فموسّع عليك» أو «إذن فتخيّر» ظاهر في السعة الاستمراري والتخيير الدائمي.

ثانيهما: استصحاب التخيير الثابت في بدو الأمر على فرض الشكّ.

واستدلّ للقول الثاني أيضاً بوجهين (وهما في الواقع جواب عن ما استدلّ به للقول الأوّل):

أحدهما: أنّ الموضوع في أخبار التخيير هو التحيّر، وهو يرتفع بعد إختيار أحد الخبرين فلا يكون بعده مشمولًا

لها، كما أنّه لا يجوز حينئذٍ استصحاب التخيير لتبدّل الموضوع.

ثانيهما: لزوم المخالفة القطعيّة التدريجية العمليّة من استمرار التخيير فإنّ المفروض كون التخيير ظاهرياً فيكون أحدهما مخالفاً للواقع قطعاً.

أقول: يمكن المناقشة في الوجه الأوّل بأنّ الموضوع في أخبار التخيير ليس هو عنوان المتحيّر بل الموضوع وجود خبرين متعارضين، ولا إشكال في أنّ التعارض دائمي.

وأمّا الوجه الثاني فهو تامّ في محلّه، وقد ذكرنا في محلّه أنّ المخالفة القطعيّة العمليّة للعلم الإجمالي حرام سواء كانت دفعيّة أو تدريجيّة، ولازم هذا الوجه كون التخيير بدوياً كما تشهد به مرفوعة زرارة لأنّها تأمر بالأخذ بأحد الخبرين وطرد الآخر حيث تقول «فتخيّر أحدهما فتأخذ به وتدع الآخر» ولا إشكال في أنّ ظاهر طرد الآخر طرده مطلقاً، كما أنّ ظاهر الأخذ بأحدهما أخذه دائماً.

انوار الأصول، ج 3، ص: 485

وأمّا القول الثالث فاستدلّ المحقّق النائيني رحمه الله له بأنّ التخيير إذا كان في المسألة الفقهيّة كان كالتخيير بين القصر والإتمام في المواطن الأربعة، فللمكلّف أن يعمل بمضمون أحد المتعارضين تارةً، وبمضمون الآخر اخرى، إلّاأن يقوم دليل على خلاف ذلك، وأمّا إذا كان التخيير في المسألة الاصوليّة فإنّ معناه هو التخيير في جعل أحد المعارضين حجّة شرعية وأخذ أحدهما طريقاً محرزاً للواقع، ولازم ذلك وجوب الفتوى بما اختاره أوّلًا وجعل مؤدّاه هو الحكم الكلّي الواقعي المتعلّق بأفعال المكلّفين فلا معنى لإختيار الآخر بعد ذلك «1».

أقول: الحقّ أنّه لا ملازمة بين القول بالتخيير في المسألة الاصوليّة وكونه بدويّاً، لإمكان جعل المجتهد مخيّراً في هذه المسألة مستمرّاً، كما أنّ الأمر في المسألة الفرعية أيضاً كذلك، إنّما الكلام بحسب مقام الإثبات وظواهر أدلّة التخيير، فإن كانت هى إطلاقات السعة فهى ظاهرة في الاستمرار، وإن كانت هى مرفوعة زرارة

فهى ظاهرة في التخيير البدوي، ولو شكّ في ذلك فقاعدة الاحتياط حاكمة بالتخيير البدوي لعين ما مرّ في المسألة السابقة التي دار أمرها بين التعيين والتخيير، هذا كلّه مع قطع النظر عمّا عرفت من لزوم المخالفة القطعيّة العمليّة التدريجية من التخيير الاستمراري.

المقام الثاني: في أخبار التراجيح
اشارة

المشهور والمعروف وجوب أعمال المرجّحات قبل أن تصل النوبة إلى التخيير وذهب بعض كالمحقّق الخراساني رحمه الله إلى عدم وجوبه، والأقوى هو ما ذهب إليه المشهور، ويدلّ على ذلك امور:

الأوّل: الأخبار

فإنّها تأمر بالترجيح، والأمر ظاهر في الوجوب وهى على طوائف:

الطائفة الاولى: ما يدلّ على أنّ المرجّحات أكثر من مرجّحين وهى عديدة:

انوار الأصول، ج 3، ص: 486

منها: مقبولة عمر بن حنظلة قال: سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان وإلى القضاة أيحلّ ذلك؟ قال: من تحاكم إليهم في حقّ أو باطل فإنّما تحاكم إلى الطاغوت، وما يحكم له فإنّما يأخذ سحتاً وإن كان حقّاً ثابتاً له، لأنّه أخذه بحكم الطاغوت وما أمر اللَّه أن يكفر به، قال اللَّه تعالى: «يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ»، قلت: فكيف يصنعان؟ قال: ينظران من كان منكم ممّن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنّما إستخفّ بحكم اللَّه وعلينا ردّ، والرادّ علينا رادّ على اللَّه وهو على حدّ الشرك باللَّه، فإن كان كلّ واحد اختار رجلًا من أصحابنا فرضيا أن يكون الناظرين في حقّهما واختلفا فيما حكما وكلاهما اختلفا في حديثكم (حديثنا) فقال:

الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر. قال: فقلت: فإنّهما عدلان مرضيّان عند أصحابنا لا يفضّل (ليس يتفاضل) واحد منهما على صاحبه؟ قال: فقال: ينظر إلى ما كان من روايتهما عنّا في ذلك الذي حكما به المجمع عيه عند أصحابك فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشاذّ الذي

ليس بمشهور عند أصحابك فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه، وإنّما الامور ثلاثة أمر بيّن رشده فيتّبع وأمر بيّن غيّه فيجتنب وأمر مشكل يردّ علمه إلى اللَّه وإلى رسوله، قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: حلال بيّن وحرام بيّن وشبهات بين ذلك فمن ترك الشبهات نجى من المحرّمات ومن أخذ بالشبهات إرتكب المحرّمات وهلك من حيث لا يعلم، قلت: فإن كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقات عنكم؟ قال: ينظر فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنّة وخالف العامّة فيؤخذ به ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنّة ووافق العامّة، قلت: جعلت فداك إن رأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنّة ووجدنا أحد الخبرين موافقاً للعامّة والآخر مخالفاً لهم بأي الخبرين يؤخذ؟ فقال: ما خالف العامّة ففيه الرشاد، فقلت: جعلت فداك فإن وافقها الخبران جميعاً؟ قال: ينظر إلى ما هم إليه أميل حكّامهم وقضاتهم فيترك ويؤخذ بالآخر، قلت: فإن وافق حكّامهم الخبرين جميعاً قال: إذا كان ذلك فارجه حتّى تلقى إمامك فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الإقتحام في الهلكات» «1».

انوار الأصول، ج 3، ص: 487

فإنّ هذه الرواية تأمر بالترجيح بالشهرة وبموافقة الكتاب ومخالفة العامّة ومخالفة ميل الحكّام، ولكنّه إستشكل فيها سنداً ودلالة:

أمّا السند فلعمر بن حنظلة حيث إنّه لم يوثّق في كتب الرجال، نعم نقل المحقّق المامقاني رحمه الله لتوثيقه روايتين:

إحديهما: ما رواه يزيد بن خليفة قال: قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام أنّ عمر بن حنظلة أتانا عنك بوقت فقال أبو عبداللَّه عليه السلام «إذاً لا يكذب علينا ... قال: صدق» «1».

ثانيهما: ما رواه عمر بن حنظلة نفسه عن أبي عبداللَّه عليه السلام في جواب السؤال عن القنوت يوم الجمعة قال عليه

السلام «أنت رسولي إليهم ...» «2»، حيث إنّ رسالته عن الصادق عليه السلام دليل على أنّ له شأناً من الشأن.

هذا- مضافاً إلى حكاية المجلسي رحمه الله في روضة المتّقين «3» عن الشهيد الثاني رحمه الله أنّه وثّقه في الدراية.

ولكن مع ذلك كلّه لا يتمّ السند بعد، لأنّ يزيد بن خليفة مجهول الحال في علم الرجال، والرواية الثانية راويها نفس عمر بن حنظلة فالاستدلال به دوري، وأمّا توثيق الشهيد الثاني رحمه الله فلعلّ مبناه هاتان الروايتان نفسهما، فمن البعيد أنّه وصل إليه ما لم يصل إلى غيره، مضافاً إلى أنّه نفسه صرّح في درايته، بوجود مجاهيل اخرى في الرواية منه محمّد بن عدي وداود بن حسين، والعجب منه أنه قال: عمر بن حنظلة لم ينصّ الأصحاب فيه بجرح ولا تعديل لكن أمره عندي سهل لأنّي حقّقت توثيقه من محلّ آخر وإن كانوا قد أهملوه» «4».

وياليته أشار إلى طريقه فإنّه لا يصحّ لنا الحكم بالمجهول.

إن قلت: «إنّ الصحيح بناءً على القاعدة المختارة في الرجال (من توثيق من ينقل عنه أحد الثلاثة) صحّة سندها، وذلك باعتبار أنّه يمكن توثيق يزيد بن خليفة بهذه القاعدة حيث قد

انوار الأصول، ج 3، ص: 488

روى عنه صفوان بن يحيى (وهو أحد الثلاثة) بسند معتبر في باب كفّارة الصوم من الكافي «1» فنثبت بذلك وثاقته، وبروايته نثبت وثاقة عمر بن حنظلة أيضاً فالمقبولة صحيحة سنداً» «2».

قلنا: هذه القاعدة غير ثابتة عندنا لأنّ أحد هؤلاء الثلاثة هو ابن أبي عمير، وقد روى عن علي بن حديد وقد ضعّفه الشيخ رحمه الله في مواضع من كتابه وبالغ في تضعيفه وقد روى هو أيضاً وصفوان (فرد آخر من الأعلام الثلاثة) عن يونس بن ظبيان وهو من أضعف

الضعاف إلى غير ذلك من الضعاف الذين روى هؤلاء عنهم «3» وكيف يصحّ مع ذلك الاعتماد على تلك القاعدة وأنّ الأعلام الثلاثة لا يروون إلّاعن الثقات؟

فظهر أنّه لا يمكن توثيق عمر بن حنظلة بهاتين الروايتين، نعم لا أقلّ من تأييدهما لوثاقته، كما يمكن التأييد بأنّه نقلها المشايخ الثلاثة في ثلاث من الكتب الأربعة، والمهمّ في المقام إنّما هو عمل الأصحاب بهذه الرواية فتلقّوه بالقبول حتّى سمّيت مقبولة.

وأمّا الدلالة فقد نوقش فيها من جهات شتّى:

1- من أنّ ظاهرها جواز كون القاضي إثنين مع أنّه ممنوع في فقهنا.

2- سلّمنا ولكن من البعيد جدّاً وقوع قضائهما في آنٍ واحد بل أحدهما يتقدّم على الآخر غالباً، وحينئذٍ لا إشكال في عدم جواز نقض المتأخّر قضاء المتقدّم وإن كان أعلم منه مع أنّ ظاهر هذه الرواية جوازه.

3- إنّ ظاهره أنّ أحدهما إعتمد في قضائه على الخبر الشاذّ وغفل عن المعارض المشهور، وهذا دليل على نقصان فحصه أو عدم فحصه عن الأدلّة رأساً، ومعه كيف يتمّ له القضاء؟

4- ظاهر قوله عليه السلام: ينظر إلى ما كان من روايتهما ... وكذلك قوله عليه السلام: «ينظر فما وافق ...» وقوله عليه السلام: «ينظر إلى ما هم إليه أميل ...» جواز نظر أرباب الدعوى ودخالتهم في القضاء وهو ممنوع بلا ريب.

5- إنّ ظاهرها تقدّم الترجيح بصفات القاضي على الترجيح بموافقة الكتاب مع أنّ انوار الأصول، ج 3، ص: 489

المشهور خلافه.

6- الظاهر جواز الترجيح في صفات القاضي بأحد الصفات المذكورة في هذه الرواية (وهى الأعدليّة والأفقهيّة والأصدقيّة والأورعيّة) مع أنّ ظاهرها بقرينة واو الجمع لزوم اجتماعها.

7- إنّ الاحتجاج بها على وجوب الترجيح في مقام الفتوى لا يخلو عن إشكال لقوّة احتمال الترجيح بها بمورد الحكومة لرفع

المنازعة وفصل الخصومة كما هو موردها ولا وجه معه للتعدّي منه إلى غيره.

توضيح ذلك: أنّ الإمام عليه السلام بعد ما ذكر مرجّحات القاضيين وإن كان قد ذكر مرجّحات الخبرين أيضاً ولكن الترجيح في الخبرين إنّما يكون لدفع خصومة المتخاصمين فلا يمكن الاحتجاج بها لوجوب الترجيح في مقام الفتوى أيضاً، وذلك لقوّة احتمال اختصاص الترجيح بتلك المزايا المنصوصة بمورد الحكومة والقضاء فقط، فإنّ قطع الخصومة عند اختلاف القاضيين لاختلاف ما استند إليه من الخبرين لا يكاد يمكن إلّابالترجيح، بخلاف مقام العمل والفتوى فيمكن الأخذ فيه بأيّهما شاء من باب التسليم.

8- إنّها مختصّة بزمان الحضور والتمكّن من لقاء الإمام عليه السلام بقرينة أمره في آخرها بالإرجاء حتّى تلقى إمامك.

9- إنّ صدرها معارض لذيلها لأنّ الصدر ظاهر في أنّ أرباب الدعوى كانوا مقلّدين والذيل ظاهر في اجتهادهم بقرينة قوله عليه السلام: «ينظر ...» فإنّ النظر والدقّة من عمل المجتهد لا المقلّد.

هذه هى جهات تسعة في المناقشة من ناحية الدلالة.

ولابدّ لحلّها والجواب عنها من البحث في أنّ هذه الرواية هل هى واردة في باب القضاء أو في باب الفتوى أو الحكومة والولاية، أو أنّ صدرها وارد في باب الحكومة وذيلها في باب الفتوى، أو أنّ صدرها وارد في باب القضاء وذيلها في باب الفتوى، أو أنّ صدرها وارد في باب القضاء ووسطها في باب الاجتهاد والتقليد وذيلها في باب تعارض الخبرين والافتاء؟

فالاحتمالات فيه ستّة، أظهرها هو الأخير.

والشاهد على أنّ صدرها مخصوص بباب القضاء أوّلًا: التعبير ب «المنازعة في دَين أو ميراث» فإنّ رفع المنازعة من شؤون القاضي وهو المرجع فيها، بل الرجوع إلى وليّ الأمر في انوار الأصول، ج 3، ص: 490

مثل ذلك إنّما يكون بما هو قاضٍ لا بما

هو حاكم.

وثانياً: الجمع بين تعبيري «إلى السلطان» و «إلى القضاة» بواو الجمع، حيث إنّ ظاهره كون التحاكم إلى السلطان من باب أنّه قاضٍ لا بما أنّه حاكم.

ثالثاً: التعبير بالحكم في قوله عليه السلام: «وما يحكم به ...»، فإنّ الحكم من شؤون القاضي لا الحاكم بما هو حاكم، حيث إنّ مقام الحكومة والولاية مقام الإجراء لا مقام إصدار الحكم.

رابعاً: الاستدلال بقوله تعالى: «يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ» لأنّ هذه الآية إنّما وردت في مورد القضاء في قصّة يهودي ومسلم منافق رضي اليهودي بقضاء رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ولم يرض المسلم المنافق به).

خامساً: التعبير بقوله عليه السلام: «كلاهما اختلفا في حديثكم» لما مرّ من أنّ وظيفة الحاكم الشرعي بما هو حاكم إجراء الأحكام لا ملاحظة أدلّة الأحكام والبحث عن تعارضها والاختلاف فيها.

سادساً: اعمال المرجّحات فيها لأنّه أيضاً ليس من شؤون الحاكم.

فظهر أنّ هذه الرواية قد وردت في الشبهة الموضوعيّة ومورد القضاء، غاية الأمر حيث إنّ الأمر فيها إنتهى إلى الشبهة الحكميّة والاختلاف في الأحاديث في الأثناء وصلت النوبة في الذيل إلى مسألة التعارض واعمال المرجّحات.

إذا عرفت هذا فلنرجع إلى الجواب عن الإشكالات التسعة فنقول ومن اللَّه التوفيق والهداية:

أمّا الإشكال الأوّل فجوابه: أنّ تعدّد القاضي ممنوع في المنصوب منه لا في التحكيم.

وأمّا الإشكال الثاني فجوابه أيضاً: أنّ عدم جواز نقض حكم القاضي لا يأتي في قاضي التحكيم فإنّ من لوازم جواز تعدّده نقض أحد القاضيين حكم الآخر، فتأمّل.

وأمّا الإشكال الثالث فجوابه: أنّه لا منافاة بين طرد رواية وكونها مشهورة لأنّ المراد من الشهرة إنّما هى الشهرة الروائية لا الفتوائية.

وظهر ممّا ذكرنا من المقدّمة الجواب عن الإشكال الرابع (وهو عدم جواز

دخالة أرباب الدعوى في القضاء) حيث إنّ المسألة تبدّلت من القضاء إلى الفتوى، ومنها إلى منبع الفتوى أي الخبرين، وفيه لابدّ من النظر إلى المرجّحات فرجوعهما إلى المرجّحات إنّما يكون لاستنباط

انوار الأصول، ج 3، ص: 491

الحكم من ناحيتهما لا بما أنّهم أرباب الدعوى.

وهكذا الجواب عن الإشكال الخامس (وهو عدم جواز تقديم الترجيح بالصفات على الترجيح بموافقة الكتاب)، لأنّ الرجوع إلى الصفات إنّما هو لتقديم حاكم على حاكم أو مفتٍ على مفتٍ لا تقديم إحدى الروايتين على الاخرى، ولذا قال: «الحكم ما حكم به أعدلهما ...» وقال بعده: «ينظر إلى ما كان من روايتهما ...» فالأوّل مزيّة للحاكم أو المفتي، والثاني مزيّة للرواية.

وأمّا الإشكال السادس: (وهو أنّ ظاهر المقبولة لزوم اجتماع الصفات الأربعة) فجوابه: أنّ الواو فيها بمعنى «أو»، والشاهد عليه ما ورد في الذيل من قول عليه السلام السائل: «لا يفضل واحد منهما على صاحبه» فإنّ ظاهره لزوم ترجيح من يفضّل بواحدة من هذه الصفات وأنّه هو المراد من ما قبله بقرينة المقابلة.

وظهر ممّا ذكرنا في المقدّمة أيضاً الجواب عن الإشكال السابع (وهو احتمال اختصاص الترجيح بها بمورد الحكومة لرفع المنازعة وفصل الخصومة) لأنّ الوارد في باب الحكومة وفصل الخصومة إنّما هو صدر الرواية لا ذيلها، فإنّه وارد في باب تعارض الخبرين في مقام الفتوى.

وأمّا الإشكال الثامن: (وهو اختصاص الرواية بزمن الحضور) فجوابه أوّلًا: إنّ مقتضى قاعدة الاشتراك في التكليف عدم الفرق بين الزمنين ما لم تقم قرينة على الخلاف، وثانياً: إذا كان الحكم في زمن الحضور مع إمكان لقاء الإمام عليه السلام هكذا، ففي زمن الغيبة وعدم التمكّن من الإمام يكون كذلك بطريق أولى.

وأمّا الإشكال التاسع: (وهو وجود تناقض بين الصدر والذيل، فإنّ الصدر ظاهر

في التقليد والذيل في الاجتهاد) فجوابه أنّه فرق بين الاجتهاد في عصر الحضور والاجتهاد في أعصارنا فإنّ قواعد الفقه والاصول وفروعاتهما في أعصارنا متشعّبة معقّدة على خلاف تلك الأعصار فإنّها كانت بسيطة جدّاً يمكن الوصول إليها لكثير من آحاد الناس، ولا مانع من صيرورة المقلّد بعد الحصول عليها إجمالًا مجتهداً ولو في بعض المسائل.

هذا كلّه في الرواية الاولى من الطائفة الاولى من أخبار الترجيح.

انوار الأصول، ج 3، ص: 492

ومنها: مرفوعة زرارة وقد رواها محمّد بن علي بن إبراهيم بن أبي جمهور الأحسائي في كتابه غوالي اللئالي عن العلّامة رحمه الله مرفوعاً إلى زرارة قال: سألت أبا جعفر عليه السلام فقلت: «جعلت فداك يأتي عنكم الخبران أو الحديثان المتعارضان فبأيّهما آخذ؟ فقال: يازرارة خذ بما إشتهر بين أصحابك ودع الشاذّ النادر. فقلت: ياسيّدي إنّهما معاً مشهوران مرويّان مأثوران عنكم.

فقال: خذ بما يقول أعدلهما عندك وأوثقهما في نفسك. فقلت: إنّهما معاً عدلان مرضيّان موثّقان.

فقال: انظر إلى ما وافق منهما مذهب العامّة فاتركه وخذ بما خالفهم فإنّ الحقّ فيما خالفهم، قلت:

ربّما كانا معاً موافقين لها أو مخالفين فكيف أصنع؟ فقال: إذن فخذ بما فيه الحائطة لدينك واترك ما خالف الاحتياط. فقلت: إنّهما معاً موافقان للاحتياط أو مخالفان له فكيف أصنع؟ فقال: إذن فتخيّر أحدهما فتأخذ به ودع الآخر» «1».

وقد نقلها الشيخ الأعظم رحمه الله في رسائله ولكن بتفاوت مع ما ورد في غوالي اللئالي في مواضع كثيرة (عشرة مواضع) لكنّها غير مؤثّرة في المقصود.

والمهمّ إشكالها السندي أوّلًا: من ناحية عدم كون الإحسائي معاصراً للعلّامة رحمه الله فلابدّ أنّه نقله من كتابه مع أنّه قد يقال: إنّه لم يجدها المتتبّعون في كتب العلّامة رحمه الله، واحتمال أخذه من بعض تلاميذه

أيضاً لا يفيدنا لأنّه مجهول لنا.

وثانياً: من ناحية الارسال بين العلّامة رحمه الله وزرارة بسقوط وسائط كثيرة لفصل طويل بينهما.

قال صاحب الحدائق (فيما حكى عنه): أنّ الرواية لم نقف عليها في غير كتاب العوالي مع ما عليها من الارسال وما عليه الكتاب المذكور من نسبة صاحبه إلى التساهل في نقل الأخبار والاهمال وخلط غثّها بسمينها وصحيحها بسقيمها كما لا يخفى على من لاحظ الكتاب المذكور (انتهى).

وقد ذكر شيخنا الأنصاري رضوان اللَّه عليه في بعض كلماته في مباحث الشهرة: (في مباحث الظنّ) «أنّه قد أشكل في سند هذا الخبر من ليس دأبه الإشكال ...» والظاهر أنّه ناظر إلى كلام الحدائق.

انوار الأصول، ج 3، ص: 493

نعم يستفاد من بعض الكلمات عمل المشهور بها، فقال الشيخ الأعظم رحمه الله في مباحث التعادل والترجيح: «فإنّه وإن كانت ضعيفة السند إلّاأنّها موافقة لسيرة العلماء في باب الترجيح فإنّ طريقتهم مستمرّة على تقديم المشهور على الشاذّ، والمقبولة وإن كانت مشهورة بين العلماء حتّى سمّيت مقبولة إلّاأنّ عملهم على طبق المرفوعة وإن كانت شاذّة من حيث الرواية حيث لم توجد مرويّة في شي ء من جوامع الأخبار المعروفة ولم يحكها إلّاابن أبي جمهور عن العلّامة مرفوعاً» (انتهى).

ثمّ أورد عليها بما حاصله: أنّ العمل بالمرفوعة يقتضي عدم العمل بها حيث إنّها معارضة مع المقبولة في تقديم الشهرة على الصفات وتأمر بالأخذ بالمشهور من الروايتين المتعارضتين لأنّ ولا إشكال في أنّ المشهور بينهما إنّما هى المقبولة.

أقول: ولكنّه متوقّف على وجود التعارض بينهما مع أنّه ليس كذلك، لأنّ صدر المقبولة وارد في باب الحكم والفتوى لا الخبرين المتعارضين كما مرّ، وإنّما المتعلّق منها بباب تعارض الخبرين قوله عليه السلام: «ينظر إلى ما كان من روايتهما المجمع عليه

...» ولا يخفى أنّ أوّل المرجّحات حينئذٍ الشهرة كما في المرفوعة.

نعم، يبقى إشكال ضعف السند على حاله لأنّ استناد عمل الأصحاب بها غير معلوم فلعلّ مدركهم هو المقبولة بناءً على ما ذكرنا.

فتحصّل أنّ المرجّحات الواردة في كلّ واحدة من هاتين الروايتين أربعة، أمّا ما ورد في المقبولة فهى: الشهرة، وموافقة الكتاب، ومخالفة العامّة، ومخالفة ما هو أميل إليه حكّامهم وقضاتهم، وما ورد في المرفوعة فهى: الشهرة، وصفات الراوي، ومخالفة العامّة، والموافقة مع الاحتياط.

ومنها: مرسلة الكليني فإنّه قال في أوّل الكافي: «إعلم ياأخي أنّه لا يسع أحد تمييز شي ء ممّا اختلفت الرواية فيه عن العلماء برأيه إلّاما أطلقه العالم عليه السلام بقوله: أعرضوهما على كتاب اللَّه عزّوجلّ فما وافق كتاب اللَّه عزّوجلّ فخذوه وما خالف كتاب اللَّه فردّوه، وقوله عليه السلام: دعوا ما وافق القوم فإنّ الرشد في خلافهم، وقوله عليه السلام: خذوا بالمجمع عليه فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه» «1».

انوار الأصول، ج 3، ص: 494

فالمرجّحات الواردة فيها ثلاثة: موافقة كتاب اللَّه، ومخالفة العامّة، والشهرة، ولكن المظنون بالظنّ القوي أنّها ليست إلّاضمّ روايات بعضها ببعض فليست رواية مستقلّة غير ما مرّ عليك.

هذا كلّه في الطائفة الاولى وهى ما تدلّ على أنّ المرجّحات أكثر من إثنين.

الطائفة الثانية: فهى ما تدلّ على أنّ المرجّحات اثنان (وهما الموافقة مع كتاب اللَّه والمخالفة مع العامّة) وهى رواية واحدة رواها عبدالرحمن بن أبي عبداللَّه قال: قال الصادق عليه السلام: «إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فأعرضوهما على كتاب اللَّه فما وافق كتاب اللَّه فخذوه، وما خالف كتاب اللَّه فردّوه، فإن لم تجدوهما في كتاب اللَّه فأعرضوهما على أخبار العامّة، فما وافق أخبارهم فذروه وما خالف أخبارهم فخذوه» «1».

الطائفة الثالثة: ما تدلّ على

مرجّح واحد (وهو الموافقة مع الكتاب والسنّة القطعيّة) وهى ثلاثة:

إحديها: ما رواه أحمد بن الحسن الميثمي أنّه سأل الرضا عليه السلام يوماً ... قلت: «فإنّه يرد عنكم الحديث في الشي ء عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ممّا ليس في الكتاب وهو في السنّة ثمّ يرد خلافه فقال: كذلك فقد نهى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عن أشياء ... فما ورد عليكم من خبرين مختلفين فأعرضوهما على كتاب اللَّه فما كان في كتاب اللَّه موجوداً حلالًا أو حراماً فاتّبعوا ما وافق الكتاب، وما لم يكن في الكتاب فأعرضوه على سنن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ...» «2». (ومن الواضح أنّ المراد من السنّة فيها هو السنّة القطعيّة).

ثانيها: ما رواه الحسن بن الجهم عن الرضا عليه السلام قال: قلت له: «تجيئنا الأحاديث عنكم مختلفة فقال: ما جاءك عنّا فقس على كتاب اللَّه عزّوجلّ وأحاديثنا فإن كان يشبهها فهو منّا

انوار الأصول، ج 3، ص: 495

وإن لم يكن يشبهها فليس منّا» «1» (فالأحاديث القطعيّة عنهم بمنزلة السنّة النبوية القطعيّة).

ثالثها: ما رواه الحسن بن الجهم عن العبد الصالح عليه السلام قال: «إذا جاءك الحديثان المختلفان فقسهما على كتاب اللَّه وأحاديثنا فإن أشبهها فهو حقّ وإن لم يشبهها فهو باطل» «2».

الطائفة الرابعة: ما تدلّ على مرجّح واحد، وهو مخالفة العامّة وهى أربعة:

1- ما رواه الحسين بن السرّي قال: قال أبو عبداللَّه عليه السلام: «إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فخذوا بما خالف القوم» «3».

2- ما رواه الحسن بن الجهم قال: قلت للعبد الصالح عليه السلام: «هل يسعنا فيما ورد علينا منكم إلّا التسليم لكم؟ فقال: لا واللَّه لا يسعكم إلّاالتسليم لنا فقلت: فيروى عن أبي عبداللَّه عليه

السلام شي ء ويروى عنه خلافه فبأيّهما نأخذ؟ فقال: خذ بما خالف القوم، وما وافق القوم فاجتنبه» «4».

3- ما رواه محمّد بن عبداللَّه قال: قلت للرضا عليه السلام: «كيف نصنع بالخبرين المختلفين؟

فقال: إذا ورد عليكم خبران مختلفان فانظروا إلى ما يخالف منهما العامّة فخذوه وانظروا إلى ما يوافق أخبارهم فدعوه» «5».

4- ما رواه سماعة بن مهران عن أبي عبداللَّه عليه السلام قلت: «يرد علينا حديثان: واحد يأمرنا بالأخذ به، والآخر ينهانا عنه قال: لا تعمل بواحد منهما حتّى تلقى صاحبك فتسأله، قلت:

لابدّ أن نعمل بواحد منهما، قال: خذ بما فيه خلاف العامّة» «6».

انوار الأصول، ج 3، ص: 496

الطائفة الخامسة: ما تدلّ على الترجيح بالموافقة مع الشهرة وهى رواية واحدة رواها في الإحتجاج مرسلًا، قال: وروي عنهم عليهم السلام أنّهم قالوا: إذا إختلف أحاديثنا عليكم فخذوا بما اجتمعت عليه شيعتنا فإنّه لا ريب فيه» «1».

ولكن لا يبعد أن تكون مأخوذة من مقبولة عمر بن حنظلة.

الطائفة السادسة: ما تدلّ على ترجيح الأحدث، وهى أربعة، مرّت ثلاثة «2» منها في المقام الأوّل، والرابعة ما رواه محمّد بن مسلم عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: قلت له: «ما بال أقوام يروون عن فلان وفلان عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لا يتّهمون بالكذب فيجي ء منكم خلافه؟ قال: إنّ الحديث ينسخ كما ينسخ القرآن».

ولا يخفى أنّه لا يمكن الأخذ بظاهر هذا الحديث (وهو أنّ الإمام عليه السلام يمكن له نسخ ما روى عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله) لأنّ الإمام حافظ للشريعة لا مشرّع، فليكن المراد منه إمّا أنّ الإمام عليه السلام يبرز ويبيّن ما كان منسوخاً في زمن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ولم تساعد

الظروف على تبيينه، وحينئذٍ يخرج الحديث عن محلّ البحث لأنّ البحث في ما نحن فيه عن الأخبار الظنّية، والناسخ يعتبر فيه أن يكون قطعيّاً.

أو المراد منه الأخذ بالأحدث، أي بما يكون ناسخاً للحكم الظاهري (لا للحكم الواقعي كما في الاحتمال الأوّل) فيكون الحديث دالًا على الترجيح بالأحدثيّة.

هذه هى الطوائف الستّة الواردة في المرجّحات.

ولكن الإنصاف أنّ الطائفة السادسة بجميع رواياتها خارجة عن محلّ الكلام لأنّها واردة في باب التقيّة كما لا يخفى، ومحلّ البحث ما إذا كان الخبران كلاهما في مقام بيان حكم اللَّه الواقعي.

انوار الأصول، ج 3، ص: 497

فتبقى خمس طوائف اخرى لابدّ من علاجها ورفع التعارض بينها.

والعجب من المحقّق الخراساني رحمه الله حيث إنّه رفضها من دون ذكرها جميعاً وتبيين معانيها ونسبها، مع أنّ اللازم في جميع هذه الأبواب ذكر جميع ما ورد عنهم عليهم السلام واحداً بعد واحد والدقّة في مضامينها، وقد جرت عادة شيخنا الأنصاري رحمه الله على هذه الطريقة، ولكن مع الأسف تغيّرت عادة كثير من المتأخّرين والمعاصرين من الاصوليين إلى غير هذا، حفظنا اللَّه تعالى من مزال الإقدام.

وعلى أي حال الاشكال الأول الذي يرد على هذه الروايات هو أنّها معارضة مع أخبار التخيير التي مرّ تفصيلها في المقام الأوّل.

ويجاب عنه: بحمل المطلق على المقيّد، حيث إنّ تلك الروايات مطلقة تعمّ موارد وجود المرجّحات وعدمها فتقيّد بهذه الروايات وتحمل على موارد تساوي الخبرين.

والإشكال الثاني: تعارض نفس هذه الطوائف بعضها مع بعض، فإنّ بعضها يدلّ على ثلاث مرجّحات أو أربعة، وبعضها على إثنين، وبعضها الآخر على أنّها واحدة، والتي تدلّ على مرجّح واحد أيضاً مختلفة كما مرّ آنفاً.

ولكن هذا الإشكال أيضاً يندفع بحمل المطلق على المقيّد، فإنّ ما تدلّ على مرجّح واحد مثلًا

تكون مطلقة بالنسبة إلى سائر المرجّحات كما يتّضح بالتأمّل فيها.

والإشكال الثالث: في المقام إشكال الترتيب الموجود بين المرجّحات، فإنّ الترتيب الموجود في المقبولة مثلًا يخالف الترتيب الموجود في المرفوعة.

وسيأتي الجواب عنه إن شاء اللَّه تعالى عند الجواب عن إشكالات المحقّق الخراساني رحمه الله على وجوب الترجيح فانتظر.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني رحمه الله بعد أن اعتبر المقبولة والمرفوعة أجمع خبر للمزايا المنصوصة في الأخبار حاول أن يناقش في دلالتهما على وجوب الترجيح فأورد على الإحتجاج بهما بامور:

1- ما يختصّ بالمرفوعة فقط، وهو ضعف سندها، وقد مرّ الكلام فيه فلا نعيد.

2- ما يختصّ بالمقبولة فقط، وهو ما مرّ تفصيله من أنّها مختصّه بباب القضاء ورفع الخصومة فلا ربط لها للترجيح في مقام الفتوى، وقد مرّ توضيح إشكاله هذا والجواب عنه أيضاً.

انوار الأصول، ج 3، ص: 498

3- ما يختصّ بالمقبولة أيضاً وهو اختصاصها بزمان الحضور والتمكّن من لقاء الإمام عليه السلام بقرينة أمره في آخرها بالإرجاء حتّى تلقى إمامك، ووجوب الترجيح في زمان الحضور لا يلازم وجوبه في زمان الغيبة، وقد مرّ الجواب عن هذا الإشكال أيضاً فراجع.

4- أنّ تقييد جميع إطلاقات التخيير الواردة في مقام الجواب عن سؤال حكم المتعارضين بلا استفصال عن كونهما متعادلين أو متفاضلين بأخبار الترجيح من المقبولة والمرفوعة وغيرها وحمل الإطلاقات المذكورة جميعاً على موارد تساوي الخبرين مع ندرتها بعيد قطعاً.

ولكن الإنصاف أنّ هذا الاستبعاد يزول بعد ملاحظة أخبار التخيير وقلّة إطلاقاتها، فقد لاحظت في المقام الأوّل أنّ روايات التخيير التامّة دلالة هى رواية الحسن بن الجهم (وهى الرواية الاولى من ذلك المقام) ورواية الحارث بن المغيرة (وهى الرواية الثانية) ومرفوعة زرارة (وهى الرواية الثامنة) ومرسلة كليني.

أمّا مرفوعة زرارة فإنّ الأمر بالتخيير فيها ورد

بعد الأمر بالترجيح فلا تعدّ من المطلقات، وأمّا مرسلة الكليني فقد احتملنا كونها مأخوذة من سائر الروايات، فتبقى الرواية الاولى والثانية، ولا إشكال في أنّ حملهما على موارد التساوي ليس ببعيد.

5- وجود الاختلاف الكثير في نفس أخبار الترجيح، فإنّه شاهد على الحمل على مراتب الاستحباب والفضل (كما فعله الأصحاب بالنسبة إلى الروايات المختلفة الواردة في باب منزوحات البئر).

وهذا أيضاً يرتفع بعد التأمّل في الأخبار والنسبة الموجودة بينها، فإنّ المهمّ من الطائفة الاولى إنّما هى المقبولة (لعدم اعتبار المرفوعة سنداً كما مرّ) والمرجّحات الواردة فيها عبارة عن الشهرة وموافقة الكتاب ومخالفة العامّة (وأمّا المخالفة مع ميل حكّامهم فهى من مصاديق مخالفة العامّة فترجع إليها كما لا يخفى) ولا إشكال في أنّ الطائفة الثانية وهى ما تدلّ على إثنين من هذه الثلاثة (وهما الثاني والثالث منها) مطلقة بالنسبة إلى المرجّح الأوّل منها، وهكذا كلّ من الطائفة الثالثة والرابعة التي غ تدلّ على مرجّح واحد من الثلاثة مطلقة بالنسبة إلى مرجّحين آخرين فيجمع بينها بالتقييد.

6- ما يختصّ بالأخبار المشتملة على الترجيح بموافقة الكتاب والسنّة فقط أو الترجيح انوار الأصول، ج 3، ص: 499

بمخالفة العامّة فقط، أو الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامّة معاً، وحاصله: أنّها ليست من أخبار الباب، أي ترجيح الحجّة على الحجّة، وإنّما هى في مقام تمييز الحجّة عن اللّاحجّة، أمّا بالنسبة إلى الخبر المخالف للكتاب والسنّة فلقوّة احتمال أن يكون مثله في نفسه غير حجّة ولو لم يكن له معارض أصلًا، وذلك بشهادة ما ورد في شأنه من أنّه زخرف أو باطل أو أنّه لم نَقُله، أو أمر بطرحه على الجدار، مضافاً إلى أنّ الصدور أو الظهور في مثله يكون موهوناً بحيث لا يعمّه أدلّة اعتبار السند أو

الظهور.

وأمّا بالنسبة إلى الخبر الموافق للقوم فلأنّه بملاحظة الخبر المخالف له مع الوثوق بصدوره (المخالف) لو لم ندع القطع بصدوره تقيّة فلا أقلّ من عدم جريان أصالة الجدّ فيه.

ولكن الإنصاف أنّ هذا أيضاً نشأ من عدم التأمّل في أخبار الباب، أمّا المشتملة على الترجيح بموافقة الكتاب والسنّة فلأنّها على قسمين: قسم لا ربط له بما نحن فيه، أي بباب التعارض، بل إنّه وارد في مطلق ما يكون مخالفاً للكتاب، وقسم آخر ورد في خصوص باب التعارض، والتعبير ب «أنّه زخرف» أو «باطل» أو غيرهما ورد في خصوص القسم الأوّل لا الثاني.

فإنّ من القسم الأوّل: ما رواه السكوني عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله:

أنّ على كلّ حقّ حقيقة وعلى كلّ صواب نوراً، فما وافق كتاب اللَّه فخذوه وما خالف كتاب اللَّه فدعوه» «1».

ومنها: ما رواه أيّوب بن راشد عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «ما لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف» «2».

ومنها: ما رواه أيّوب بن الحرّ قال: سمعت أبا عبداللَّه عليه السلام يقول: كلّ شي ء مردود إلى الكتاب والسنّة، وكلّ حديث لا يوافق كتاب اللَّه فهو زخرف» «3».

ومنها: ما رواه هشام بن الحكم وغيره عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «خطب النبي صلى الله عليه و آله بمعنى وقال: أيّها الناس ما جاءكم عنّي يوافق كتاب اللَّه فأنا قلته، وما جاءكم يخالف كتاب اللَّه فلم أقله» «4».

انوار الأصول، ج 3، ص: 500

ومنها: ما ورد في تفسير العياشي عن سدير قال: «قال أبو جعفر وأبو عبداللَّه عليهما السلام: لا تصدّق علينا إلّاما وافق كتاب اللَّه وسنّة نبيّه صلى الله عليه و آله» «1».

فتلاحظ أنّ جميعها واردة في كلّ

خبر يكون مخالفاً للكتاب والسنّة ولا ربط لها بباب الخبرين المتعارضين، وحينئذٍ يكون المراد من المخالفة فيها هى المخالفة على نحو التباين لا العموم والخصوص أو الاطلاق والتقييد، فإنّا نقطع بورود مخصّصات أو مقيّدات كثيرة لعمومات الكتاب وإطلاقاتها في الأخبار الظنّية المعتبرة.

ومن القسم الثاني (الذي هو خالٍ عن تلك التعبيرات) المقبولة والمرفوعة. وما رواه عبدالرحمن بن أبي عبداللَّه عن الصادق عليه السلام (وقد مرّ ذكرها في الطائفة الثانية من أخبار المرجّحات).

وليس في شي ء منها واحد من تلك التعبيرات الظاهرة في عدم الحجّية، فيكون المراد من المخالفة فيها المخالفة لظهور الكتاب لا لنصّه وصريحه.

وممّا يشهد عليه وقوع الترجيح بموافقة الكتاب في المقبولة بعد الترجيح بالشهرة أنّ معنى تقديمه عليه هو الأخذ بالخبر المشهور المجمع عليه وإن كان مخالفاً للكتاب والسنّة، فلو كان المراد من المخالف للكتاب والسنّة هو المخالف لنصّهما وصريحهما لم يجز الأخذ به ولو فرض كونه مشهوراً مجمعاً عليه عند الأصحاب كما لا يخفى.

كما يشهد عليه أيضاً فرض الراوي في المقبولة موافقة كلا الخبرين للكتاب بقوله: «إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنّة» فإنّه إذا كان المراد من المخالفة المخالفة على نحو التباين فلا معنى لأن يكون كلّ من الخبرين المتعارضين المتباينين موافقاً لكتاب اللَّه.

ويشهد عليه ثالثاً وقوع الترتيب بين الترجيح بموافقة الكتاب والترجيح بمخالفة العامّة في المقبولة أيضاً، فإنّ اعتبار الترتيب لا يلائم عدم الحجّية كما لا يخفى. وبالجملة ليس المراد من المخالفة للكتاب في أخبار الترجيح هى المخالفة لنصّ الكتاب وصريحه، بل المراد منها بقرينة هذه الشواهد الثلاثة هى المخالفة لظهوره.

وبهذا يظهر الجواب عن الأمر الثاني في كلامه (وهو عدم شمول أدلّة اعتبار السند

انوار الأصول، ج 3، ص: 501

والظهور للخبر المخالف للكتاب

والسنّة) فإنّه إذا كان المراد من المخالفة هو المخالفة لظاهر الكتاب فالصدور أو الظهور في الخبر المخالف ممّا لا وجه له (لوهنه بعد القطع بصدور أخبار كثيرة مخالفة لظاهر الكتاب تخصيصاً كما مرّ بيانه).

هذا كلّه بالنسبة إلى الأخبار المشتملة على الترجيح بموافقة الكتاب.

وأمّا المشتملة على الترجيح بمخالفة العامّة (وإليه يرجع الترجيح بمخالفة ميل الحكّام كما مرّ) فكذلك ليست من قبيل تمييز الحجّة عن اللّاحجّة لأنّه لا ريب في أنّ المراد من الموافقة للعامّة أو المخالفة لهم إنّما هى موافقة بعضهم، أو مخالفة بعضهم لما ورد في ذيلها من فرض موافقة كلا الخبرين لهم، حيث لا معنى لأن يكون كلّ من الخبرين المتضادّين موافقاً لجميع العامّة، ولا إشكال في أنّ الخبر الذي يوافق بعضهم لا يحمل على التقيّة حتّى يكون من قبيل اللّاحجّة.

هذا مضافاً إلى أنّ عدم حجّيته لا يلائم الترتيب الواقع في المقبولة أيضاً.

7- ما يرجع من جهة إلى التأييد للوجه السابق، وهو أنّ ما ذكرنا (من كون أخبار الترجيح في مقام تمييز الحجّة عن اللّاحجّة لا في مقام ترجيح الحجّة عى الحجّة) ممّا يقتضيه التوفيق بين أخبار الترجيح وبين إطلاقات التخيير، فإنّ مقتضى الجمع بينهما إمّا حمل أخبار الترجيح على ما ذكرنا أو حملهما على الاستحباب، لأنّه لو لم نوفّق بينهما هكذا بل وفّقنا بينهما بتقييد إطلاقات التخيير بأخبار الترجيح (كما فعله المشهور) لزم التقييد في نفس أخبار الترجيح أيضاً (لما مرّ من اختلافها على طوائف) مع أنّها آبية عنه جدّاً، وكيف يمكن تقييد مثل «ما جاءكم يخالف كتاب اللَّه فلم أقله» أو «زخرف» أو «باطل» بما إذا لم يكن أحدهما أشهر روايةً بحيث لو كان أحدهما أشهر أخذنا به ولو خالف الكتاب.

وقد ظهر

ممّا ذكرنا في الجواب عن الوجه السابق الجواب عن هذا الوجه أيضاً، فإنّ هذه التعبيرات (من الزخرف والباطل ولم أقله) ليس منها في أخبار الترجيح عين ولا أثر، وإنّما هى في الأخبار الناهيّة عن الخبر المخالف للكتاب والسنّة ولو لم يكن له معارض، وأمّا رواية الحسن بن الجهم «1» المشتملة على بعض هذه التعبيرات فهى ضعيفة بالارسال.

انوار الأصول، ج 3، ص: 502

إلى هنا تمّ الكلام عن الدليل الأوّل على مقالة المشهور (وجوب اعمال المرجّحات) وهو في الواقع يرجع إلى ظهور الأمر بالترجيح الوارد في أخبار الترجيح في الوجوب.

الثاني: دعوى الإجماع على لزوم الأخذ بالخبر الراجح

وأجاب عنه المحقّق الخراساني رحمه الله بأنّ «دعوى الإجماع مع مصير مثل الكليني رحمه الله إلى التخيير وهو في عهد الغيبة الصغرى ويخالط النوّاب والسفراء- قال في ديباجة الكافي ولا نجد شيئاً أوسع ولا أحوط من التخيير- مجازفة».

ولكن الإنصاف أنّ كلام الكليني رحمه الله في الديباجة يوافق الإجماع فإنّه قال فيها ما لفظه (على حكاية صاحب الوسائل): اعلم ياأخي أنّه لا يسع أحد تمييز شي ء ممّا اختلفت الرواية فيه عن العلماء برأيه إلّاما أطلقه العالم عليه السلام بقوله: «اعرضوهما على كتاب اللَّه عزّوجلّ فما وافق كتاب اللَّه عزّوجلّ فخذوه، وما خالف كتاب اللَّه فردّوه» وقوله عليه السلام: «دعوا ما وافق القوم فإنّ الرشد في خلافهم» وقوله عليه السلام: «خذوا بالمجمع عليه فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه» ونحن لا نعرف من ذلك إلّاأقلّه، ولا نجد شيئاً أحوط ولا أوسع من ردّ علم ذلك كلّه إلى العالم عليه السلام وقبول ما وسع من الأمر فيه بقوله عليه السلام: بأيّهما أخذتم من باب التسليم وسعكم» «1».

ومن المعلوم أنّه ليس مراده من قوله «ونحن لا نعرف من ذلك إلّاأقلّه» عدم وجوب

العمل بما ذكر من أخبار الترجيح ولزوم ردّها إلى أهلها حتّى في تلك الموارد القليلة على نحو السالبة الكلّية، بل الظاهر أنّ مراده عدم معرفة مصاديق هذه المرجّحات لا عدم وجوب العمل بها عند معرفة مصاديقها، هذا أوّلًا.

وثانياً: أنّ كلام الكليني هذا صدر منه في الواقع لشبهة حصلت له فإنّا لا نقبل قلّة موارد الترجيح بالمرجّحين المذكورين في كلامه.

فالصحيح في المناقشة أنّ مثل هذا الإجماع مدركيّ لا اعتبار به.

الثالث: حكم العقل بوجوب ترجيح ذي المزيّة
اشارة

وذلك بدعوى أنّه لو لم يجب ترجيح ذي المزيّة لزم ترجيح المرجوح على الراجح وهو قبيح عقلًا بل ممتنع قطعاً.

واجيب عنه أو يمكن أن يجاب عنه أوّلًا: بإشكال صغروي، وهو إنّا نقبل وجوب ترجيح ذي المزية كبرويّاً ولكن فيما إذا كانت المزية موجبة لتأكّد ملاك الحجّية بنظر الشارع لا مطلقاً، إذ من الممكن أن تكون المزية بالنسبة إلى ملاك الحجّية هى كالحجر في جنب الإنسان، ومعه لا يكاد يجب الترجيح، بل الترجيح بها ترجيح بلا مرجّح، وهو قبيح عقلًا كترجيح المرجوح على الراجح عيناً.

وثانياً: سلّمنا إيجاب المزيّة تأكّداً في ملاك الحجّية، ولكنّه فيما إذا أُوجبت التأكّد على حدّ الإلزام لا على حدّ الاستحباب، وبعبارة اخرى: إنّا لا نقبل قبح ترجيح المرجوح على الراجح مطلقاً، ولا يخفى أنّ هذا إشكال في كلّية الكبرى.

وثالثاً: بما أورده المحقّق الخراساني رحمه الله على إضراب المستدلّ من الحكم بالقبح إلى الامتناع، وحاصله: أنّ ترجيح المرجوح على الراجح في الأفعال الاختياريّة كاختيار أحد الكأسين لشرب الماء مثلًا مع كونه دون صاحبه في المزايا والجهات المحسنة بلا داع عقلائي هو أمر قبيح عقلًا وليس بممتنع أبداً، وذلك لجواز وقوعه من غير الحكيم خارجاً بلا إستحالة له أصلًا، فإنّ الممتنع هو تحقّق الشي ء بلا

علّة وسبب، وليس ترجيح المرجوح كذلك، إذ يكفي إرادة الفاعل المختار علّة له وسبباً، نعم يستحيل وقوع ذلك من الحكيم تعالى بالعرض بعد فرض كونه حكيماً لا يرتكب القبيح أبداً.

أقول: إنّ كلامه رحمه الله هنا أقوى شاهد على بطلان ما ينسب إليه في مبحث الطلب والإرادة ومبحث التجرّي من الميل إلى إعتقاد الجبر، فتدبّر.

بقي هنا امور:

الأمر الأوّل: الاقتصار على المرجحات المنصوصة وعدمه

(وهى الشهرة وموافقة الكتاب ومخالفة العامّة كما مرّ) أو يتعدّى منها إلى غيرها

انوار الأصول، ج 3، ص: 504

(كموافقة الأصل أو موافقة الإجماع المنقول)؟ فيه قولان:

1- جواز التعدّي وهو ما ذهب إليه الشيخ الأعظم رحمه الله ومن تبعه، بل إنّه قال: ادّعى بعضهم ظهور الإجماع وعدم ظهور الخلاف فيه بعد أن حكى الإجماع عليه عن جماعة.

2- عدم جواز التعدّي وهو ما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمه الله في الكفاية، وتبعه المحقّق النائيني وبعض الأعاظم في رسائله.

واستدلّ القائلون بالتعدّي بوجوه أربعة:

الوجه الأوّل: التعليل الوارد في ذيل المقبولة في مقام الترجيح بالشهرة بالأخذ بالمشهور وترك الشاذّ النادر بقوله عليه السلام «فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه».

بأن يقال: إنّ تعليله بعدم الريب في المشهور يدلّ على مرجّحية كلّ شي ء يكون موجباً لأقلّية الريب فيما له المزية بالنسبة إلى مقابله سواء كان من المرجّحات المنصوصة أو لم يكن، وذلك من جهة أنّه لا يمكن أن يكون المراد نفي الريب بقول مطلق حتّى يكون مساوقاً للعلم بالصدور، فيكون خارجاً عن محلّ البحث وداخلًا في تمييز الحجّة عن اللّاحجّة، بل يكون خلاف مفروض السائل في ذيل الرواية من كون كليهما مشهورين، لأنّه لا معنى لأن يكون كلّ من الخبرين المتعارضين ممّا لا ريب فيه بقول مطلق أي قطعي الصدور، فالمراد بنفي الريب نفيه بالنسبة إلى الآخر بواسطة

شهرته بين المحدّثين والأصحاب ولا إشكال في أنّ هذا المعنى إذا كان هو التعليل للترجيح يمكن أن يوجد مثله في المزايا والمرجّحات غير المنصوصة فيجب التعدّي إليه.

واجيب عنه: بأنّ الظاهر من هذه الكلمة (بمقتضى ظهور لا النافية للجنس في نفي الجنس والطبيعة) هو نفي الريب بقول مطلق، أي الريب مطلقاً وبجميع مراتبه منفي، فإنّ الخبر إذا كان مشهوراً بين الرواة في الصدر الأوّل وكان مجمعاً عليه عندهم فهو ممّا يطمئن بصدوره على نحو صحّ أن يقال عرفاً أنّه ممّا لا ريب فيه، ولا بأس بالتعدّي عن مثل هذه المزيّة إلى كلّ مزيّة توجب ذلك عيناً ولا نأبى عن ذلك.

إن قلت: إنّ هذا موجب للخروج عن محلّ الكلام ومخالف لفرضهما مشهورين.

قلنا: غاية ما يستفاد من الشهرة هنا نفي الريب في صدور الرواية، ولا مانع من تعارضهما بعد كون الدلالة أو جهة الصدور فيهما ظنّياً، فمثل هاتين الروايتين غير خارجتين عن محلّ الكلام.

انوار الأصول، ج 3، ص: 505

الوجه الثاني: الترجيح بالأصدقية في المقبولة والأوثقية في المرفوعة فإنّ اعتبار هاتين الصفتين ليس إلّالترجيح الأقرب إلى مطابقة الواقع، أي مناط الترجيح بهما هو الأقربيّة إلى الصدور، ففي كلّ مورد تحقّق هذا المناط يكون موجباً للترجيح سواء كان من المرجّحات المنصوصة أو لم يكن.

واجيب عنه أوّلًا، بأنّ هذا ليس إلّاالظنّ بأنّ المناط هى الأقربيّة إلى الصدور (وتنقيح المناط ما لم يكن قطعيّاً لا اعتبار به) لأنّه من الممكن أن يكون الترجيح بهما لخصوصية فيهما لا لصرف كونهما أقرب إلى الصدور، وبعبارة اخرى: أنّ مجرّد جعل شي ء (فيه جهة الإراءة والكشف) حجّة كخبر الصادق أو الثقة أو جعله مرجّحاً كالأصدقيّة والأوثقيّة، لا دلالة فيه على أنّ الملاك فيه بتمامه جهة إراءته على

نحو نقطع بذلك ونتيقّن به حتّى يكون من باب تنقيح المناط القطعي ويجوز التعدّي عن مورد النصّ، وذلك لاحتمال دخل خصوصيّة ذلك الشي ء في حجّيته أو مرجّحيته لا جهة إراأته فقط.

وثانياً: بأنّه سلّمنا إحراز أنّ المناط هو الأقربيّة إلى الصدور، ولكنّه لا ريب في أنّ للأقربيّة مراتب مختلفة، ولعلّ جعل الأصدقيّة والأوثقيّة مرجّحاً للخبر كان لأجل أنّ لهما درجة خاصّة من الأقربيّة التي لا يمكن إحرازها في غيرهما.

وثالثاً: أنّ الترجيح بهاتين الصفتين لا يوجد إلّافي المقبولة والمرفوعة، وقد مرّ أنّ المرفوعة لا سند لها، وأمّا المقبولة فهذا المرجّح فيها ناظر إلى حال القضات لا الرواة لأنّها تقول: «الحكم ما حكم به ...» وهذا مختصّ بباب الحكومة والقضاء، ولا ربط له بباب تعارض الخبرين.

الوجه الثالث: التعليل الوارد في الأخذ بما يخالف العامّة بأنّ «الرشد في خلافهم» حيث إنّه يدلّ على وجوب ترجيح كلّ ما كان معه أمارة الحقّ والرشد، وترك ما فيه مظنّة خلاف الحقّ والصواب.

ويمكن أن يجاب عنه: بأنّه لم ترد هذه الفقرة بصورة التعليل في روايات الباب، فإنّ الوارد في المقبولة هو قوله «ما خالف العامّة ففيه الرشاد» ومن الواضح أنّ هذا ليس من قبيل انوار الأصول، ج 3، ص: 506

منصوص العلّة، نعم وروده بصورة التعليل إنّما هو في مرسلة الكليني «1» في ديباجة الكافي، والاعتماد عليها مشكل، لا سيّما بعد احتمال كونها مأخوذة عن المقبولة مع النقل بالمعنى.

هذا مضافاً إلى أنّ المراد من كون الرشد في خلافهم هو الاحتمال الغالب في الخبر الموافق من حيث التقيّة، ولكن حيث لا يعلم مقدار الغلبة هنا لا يمكن التعدّي إلى غيره ممّا لم يحرز فيه المقدار المذكور.

وذكر المحقّق الخراساني رحمه الله احتمالًا آخر في معنى هذا التعليل

لا يمكن المساعدة عليه، وهو أن يكون الرشد في نفس المخالفة لهم لحسنها ورجحانها موضوعياً.

ووجه عدم المساعدة أنّ هذا الاحتمال بعيد عن ظاهر الحديث غاية البعد، فإنّ معناه أن يكون لمجرّد المخالفة معهم موضوعيّة مع أنّ الرشد في اللغة ما يقابل الغيّ كما في الصحاح، فهو بمعنى الوصول إلى المقصد والإهتداء في الطريق كما يشهد عليه قولهم للمسافر «راشداً مهدياً» بل قوله تعالى: «وَهَيِ ءْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً» «2»

في قصّة أصحاب الكهف.

وأجاب المحقّق النائيني رحمه الله عن الاستدلال بهذا الحديث لجواز التعدّي بأنّ «التعليل لا ينطبق على ضابط منصوص العلّة» ولا يصلح أن يكون كبرى كلّية، لأنّ ضابط منصوص العلّة هو أن تكون العلّة على وجه يصحّ ورودها والقائها إلى المكلّفين إبتداءً بلا ضمّ المورد إليها كما في قوله: «الخمر حرام لأنّه مسكر» فإنّه يصحّ أن يقال «كلّ مسكر حرام» بلا ذكر الخمر، وهذا بخلاف قوله عليه السلام «فإنّ الرشد في خلافهم» فإنّه لا يصحّ أن يقال: «خذ بكلّ ما خالف العامّة» لأنّ كثيراً من الأحكام الحقّة توافق قول العامّة» «3».

ولكن يرد عليه أيضاً أنّ الكبرى الكلّية المأخوذة من هذا الحديث ليس «خذ بكلّ ما خالف العامّة» حتّى يناقش فيه بما ذكر، بل المستفاد منه: «كلّ خبرين أحدهما موافق للعامّة والآخر مخالف لهم فخذ بالخبر المخالف» وهذه كبرى كلّية يمكن الالتزام بها بلا ريب.

وأجاب المحقّق الحائري رحمه الله عن الاستدلال بهذا الدليل بما حاصله: أنّ هذا التعليل لا

انوار الأصول، ج 3، ص: 507

يدلّ إلّاعلى أنّ الخبر الذي يكون معه هذا المرجّح يؤخذ به لكونه معه أقرب إلى الواقع في نظر الشارع لا في نظر الناظر، ومن المعلوم أنّه لا يصحّ لنا التعدّي إلى كلّ خبر يكون

معه شي ء يرجّح في نظرنا مطابقته للواقع «1».

ويمكن الجواب عنه أيضاً بأنّ المدّعى جواز التعدّي إلى كلّ مزية توجب لنا العلم بكون ذيّها أقرب إلى الواقع وهو علم طريقي لا يمكن للشارع مخالفته.

فالصحيح في المناقشة في الحديث ما ذكرنا من الإشكال السندي والدلالي.

الوجه الرابع: ما ذكره الشيخ الأعظم رحمه الله في رسائله ولم يأت به المحقّق الخراساني في الكفاية لضعفه عنده، وهو النبوي المعروف «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» ببيان أنّ من المعلوم كون المراد من عدم الريب هو عدم الريب بالإضافة إلى الآخر لا عدم الريب مطلقاً وإلّا كان مقابله ممّا لا ريب في بطلانه.

والجواب عنه: أنّ الظاهر من هذا الحديث أيضاً عدم الريب مطلقاً، وحينئذٍ يخرج عمّا نحن فيه ويدخل في الشبهة البدوية التحريميّة، ولذلك استدلّ به الأخباريون على وجوب الاحتياط في الشبهات التحريميّة، ويشهد على هذا المعنى ما ورد في ذيل الحديث على نقل الكراجكي في كنز العمّال (على ما حكي عنه) وهو قوله صلى الله عليه و آله: «فإنّك لن تجد فقد شي ء تركته للَّه عزّوجلّ» حيث إنّ المناسب لهذا التعليل أن يكون المراد من ما يريبك هو الشبهات البدوية، ومن ما لا يريبك هو الاحتياط في هذه الشبهة برجاء ثوابه تعالى.

هذا- مضافاً إلى إرساله.

إلى هنا ظهر عدم تمامية شي ء ممّا استدلّ به القائلون لجواز التعدّي.

وأمّا القائلون بعدم جواز التعدّي فاستدلّوا بأنّه هو مقتضى الأصل والقاعدة، وهى إطلاقات التخيير، حيث إنّها تقتضي التخيير في كلّ حال إلّاما خرج بالدليل، وما خرج بالدليل إنّما هو ذو المزيّة بالمزايا المنصوصة فقط.

ويمكن تأييده بما ذكره المحقّق الخراساني رحمه الله بعنوان الدليل، وهو أنّه لو وجب التعدّي عن المرجّحات المنصوصة إلى كلّ مزية

توجب أقربية ذيّها إلى الواقع لبيّن الإمام عليه السلام من الأوّل بنحو الضابطة الكلّية أنّه يجب الأخذ بالأقرب من الخبرين إلى الواقع من دون حاجة إلى ذكر

انوار الأصول، ج 3، ص: 508

تلك المرجّحات المخصوصة واحداً بعد واحد كي يحتاج السائل إلى إعادة السؤال مرّة بعد مرّة.

هذا- مضافاً إلى أنّه لو وجب التعدّي لم يأمر الإمام عليه السلام في آخر المقبولة بعد ما فرض السائل تساوي الطرفين في جميع ما ذكر من المرجّحات المنصوصة بالأرجاء حتّى تلقى إمامك، بل كان يأمره بالترجيح بسائر المرجّحات الموجبة لأقربية أحدهما إلى الواقع.

هذا كلّه في الأمر الأوّل.

الأمر الثاني: ميزان التعدى من المرجّحات المنصوصة وعدمه

بناءً على جواز التعدّي من المزايا المنصوصة هل يتعدّى إلى خصوص المزيّة الموجبة للأقربية إلى الواقع (أي الظنّ بالصدور) أو الموجبة لإقوائيّة المتن والمضمون (أي الظنّ بمطابقة المحتوى للواقع) أو يتعدّى إلى كلّ مزيّة للخبر ولو لم يوجب الإقربيّة أو الإقوائيّة؟

ذهب المحقّق الخراساني رحمه الله إلى الثاني استناداً إلى ما ادّعاه من أنّ المزايا المنصوصة على ثلاثة أقسام: قسم منها يوجب الأقربيّة إلى الواقع، وهو الأصدقية والأوثقية ومخالفة العامّة، وقسم منها يوجب الإقوائيّة في المضمون، وهو موافقة الكتاب، وقسم ثالث لا يوجب شيئاً منهما كالأورعيّة والأفقهيّة، فإذا كان في المزايا ما لا يوجب شيئاً من الإقوائيّة والأقربيّة فلا وجه للتعدّي إلى خصوص ما يوجب إحديهما بل نتعدّى إلى كلّ مزية ولو لم تكن موجبة لإحديهما أصلًا.

ولكن الصحيح رجوع جميع المزايا إلى الأقربيّة إلى الواقع، أمّا ما يوجب إقوائيّة المضمون فلأنّه إذا كان مضمون أحد الخبرين أقوى من الآخر- كما إذا كان مطابقاً لكلام اللَّه تعالى- لكان موجباً لإقوائيّة الظنّ بصدوره عن المعصوم أيضاً، ولذلك قد يجعل علوّ مضامين الأحاديث دليلًا على صحّة صدورها كما

ذكره شيخنا الأنصاري رحمه الله في بعض كلماته في حديث «وأمّا من كان من الفقهاء ...» فقال: «إنّه يلوح منه آثار الصدق» وكما أنّ بعض أساتيذنا العظام (وهو المحقّق البروجردي رحمه الله) أيضاً كان يستدلّ على أقربيّة صدور أدعية الصحيفة السجّادية الشريفة بقوّة محتواها وعلوّ مضامينها، وكما يقال ذلك في خطب نهج البلاغة ورسائله وأنّ علوّ مضامينها يدلّ على صدورها عن الإمام عليه السلام وإن كان كثيراً منها من المراسيل.

انوار الأصول، ج 3، ص: 509

وأمّا القسم الثالث فلأنّ الورع عبارة عن الكفّ عن محارم اللَّه، ومنها الكذب والإفتراء، والإنسان الأورع يكون احتياطه ومحافظته على التكلّم أكثر من غيره غالباً، فيكون أصدق من غيره كذلك، وهكذا الأفقهيّة فإنّ الأفقه يكون أخذه من الإمام عليه السلام أتقن وأحسن من غيره، هذا مضافاً إلى أنّ كلًا من الأورعيّة والأفقهيّة في المقبولة هى من مرجّحات الحاكم (كالأعدليّة والأصدقيّة) لا من مرجّحات الراوي.

وعلى ما ذكرنا إنّما يمكن التعدّي من المزايا المنصوصة (لو قلنا به) إلى كلّ مزيّة توجب قوّة ذيّها من حيث دليليته وطريقيّته إلى الواقع.

الأمر الثالث: شمول التخيير أو الترجيح لموارد الجمع العرفي وعدمه

وبعبارة اخرى هل يجوز إعمال المرجّحات في موارد العام والخاصّ، والمطلق والمقيّد أيضاً، أو لا؟ المشهور والمعروف أنّه يختصّ بغير موارد الجمع العرفي، بل قال الشيخ الأعظم رحمه الله: «وما ذكرناه كأنّه ممّا لا خلاف فيه كما استظهره بعض مشايخنا المعاصرين، ويشهد له ما يظهر من مذاهبهم في الاصول وطريقتهم في الفروع».

ولكن من العجب أنّه نسب إلى الشيخ الطوسي رحمه الله في بعض كلماته في الاستبصار والعدّة، وإلى المحقّق القمّي في مباحث العام والخاصّ من القوانين أنّ أعمال المرجّحات يقدّم على الجمع العرفي.

والصحيح ما ذهب إليه المشهور (بل يلزم من العمل بما نسب إلى

شيخ الطائفة رحمه الله فقه جديد كما سيأتي) وعمدة الدليل عليه أمران:

الأوّل: أنّه لا تعدّ موارد الجمع العرفي من قبيل المتعارضين، فلا يصدق عنوان التعارض والاختلاف عليها عند العرف، فلا يجري عليها أحكام التعارض.

الثاني: أنّ إعمال المرجّحات في موارد العام والخاصّ والمطلق والمقيّد يلزم منه ما لا يلتزم به فقيه، لمخالفته لضرورة الفقه، فإنّ من الضروري تخصيص العمومات الكثيرة وتقييد الإطلاقات العديدة في الكتاب والسنّة بالأخبار الخاصّة، مثلًا قوله تعالى: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» تخصّص بجميع أدلّة شرائط صحّة البيع والخيارات وشرائط المتبايعين والعوضين، وهكذا

انوار الأصول، ج 3، ص: 510

قوله تعالى: «وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلَاةِ» فإنّه خصّص بأدلّه شرائط التقصير في السفر وهى كثيرة، وقوله تعالى: «وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ». بأدلّة خاصّة لشرائط نشر الحرمة بالرضاع، إلى غير ذلك من أشباهها، فلو جوّزنا اعمال المرجّحات بالنسبة إلى العام والخاصّ والمطلق والمقيّد وفرضنا كون العام في مثل هذه الموارد ذا المزيّة كان اللازم رفض جميع هذه المخصّصات، ولا ريب في استلزامه لفقه جديد غير ما نعرفه.

والإنصاف أنّه لم يقل به شيخ الطائفة أيضاً، حيث إنّ قوله في أوّل الاستبصار: «وإن كانا متساويين في العدالة والعدد وهما عاريان من جميع القرائن التي ذكرناها نُظر فإن كان متى عمل بأحد الخبرين أمكن العمل بالآخر على بعض الوجوه وضرب من التأويل كان العمل به أولى من العمل بالآخر الذي يحتاج العمل به إلى طرح الخبر الآخر لأنّه يكون العامل به عاملًا بالخبرين معاً» «1» (ونظير هذا عبارته في عدّة الاصول) «2» الظاهر في لزوم الجمع بين الخبرين متى أمكن، وإن وقع في عبارته بعد ذكر المرجّحات من حيث الترتيب، ولكنّه لا يدلّ على المقصود، لأنّ مراده

من الجمع في هذه العبارة إنّما هو الجمع التبرّعي الذي لا شاهد له من العرف، فهو في الواقع قدّم الجمع التبرّعي على التخيير بناءً على ما اختاره من المبنى، فكأنّه يقول: بعد إعمال المرجّحات تصل النوبة إلى الجمع التبرّعي ثمّ إلى التخيير خلافاً لمذهب المشهور حيث لا قيمة لمثل هذا الجمع عندهم فتصل النوبة إلى التخيير بعد عدم المرجّحات.

ويشهد على هذا كلامه في مبحث العام والخاصّ في عدّة الاصول: «قد يستشكل (في التخصيص) بأنّ الأخبار قد وردت في تقديم ما هو مخالف العامّة وموافق الكتاب، وهذا يقتضي تقديم العام لو كان هو الموافق للكتاب أو المخالف للعامّة.

وفيه: أنّ البحث منعقد لملاحظة العام والخاصّ من حيث العموم والخصوص لا بالنظر إلى المرجّحات الخارجيّة إذ قد يصير التجوّز في الخاصّ أولى من التخصيص في العام من جهة مرجّح خارجي» «3».

انوار الأصول، ج 3، ص: 511

فإنّ ذيل كلامه هذا شاهد على أنّ نظره في تقديم العام على الخاصّ مختصّ بموارد وجود قرينة خارجيّة على تجوّز الخاصّ كما إذا قامت قرينة خارجيّة على حمل الخاصّ على الاستحباب، ولا إشكال في وجوب تقديم العام وعدم جواز تخصيصه بالخاصّ حينئذٍ.

الفصل الثالث: في انقلاب النسبة

كلّ ما مرّ من أبحاث التعارض كانت فيما إذا كان التعارض بين دليلين، وأمّا إذا كان بين الزائد عليهما فهو على قسمين:

تارةً لا يوجب تقديم إحدى الخصوصيات إنقلاب النسبة بين العام والخاصّ الآخر، كما إذا قال: «أكرم العلماء» ثمّ قال: «لا تكرم النحويين» وقال أيضاً: «لا تكرم الصرفيين».

واخرى يوجب تقديم إحديها انقلاب النسبة، كما إذا قال: «لا تكرم الفسّاق منهم» وقال أيضاً: «لا تكرم النحويين» حيث إنّ تقديم التخصيص بالأوّل يوجب انقلاب النسبة بين «أكرم العلماء» و «لا تكرم النحويين» من العموم

المطلق إلى العموم من وجه، فإنّ النسبة بين العلماء العدول والنحويين هى العموم من وجه كما لا يخفى.

والبحث هيهنا في انقلاب النسبة السابقة على التخصيص بإحدى الخصوصيّات إلى النسبة اللاحقة به وعدمه، والمحكي عن المحقّق النراقي أنّه ذهب إلى الانقلاب وقال بلزوم ملاحظة النسبة اللاحقة.

والصحيح أنّ النزاع إنّما يتصوّر فيما إذا كان الخاصّان منفصلين، وأمّا إذا كان أحدهما متّصلًا فلا إشكال في انقلاب النسبة، أي لزوم ملاحظة النسبة بين العام المخصّص بالمتّصل والخاصّ الآخر المنفصل، والظاهر أنّ نظر المحقّق النراقي رحمه الله أيضاً إلى هذا القسم، إذ إنّ مفروض كلامه (على ما حكي عنه في كلمات الشيخ الأعظم رحمه الله) هو ما إذا كان أحد الخاصّين لبّياً كالإجماع ونحوه الذي هو بمنزلة المخصّص المتّصل.

وكيف كان، فهل تنقلب النسبة فيكون اللازم ملاحظة تاريخ الخاصّين وتخصيص العام أوّلًا بما هو الأقرب زماناً ثمّ بالأبعد، أو لا ينقلب فلا حاجة إلى ملاحظة تاريخهما؟ ولابدّ في الجواب من الإشارة إلى أمرين:

انوار الأصول، ج 3، ص: 512

أحدهما: هل التخصيص يتعلّق بالإرادة الجدّية، أو الإرادة الاستعماليّة؟ وتوضيحه: أنّ للفظ إرادتين: إرادة استعماليّة وهى ما يستعمل فيه اللفظ، وإرادة جدّية وهى ما يكون المقصود من الاستعمال، والسؤال هنا هو أنّ متعلّق التخصيص هل هو الإرادة الجدّية، أو الإرادة الاستعماليّة؟

المعروف والمشهور أنّه يتعلّق بالإرادة الجدّية، ولذلك لا يلزم منه مجاز، لأنّ باب المجاز والحقيقة باب اللفظ وما استعمل فيه اللفظ لا المعنى والمراد، وقد مرّ البحث عنه تفصيلًا في مباحث العام والخاصّ تحت عنوان «التخصيص بالمنفصل إنّما هو في الإرادة الجدّية لا الإرادة الاستعماليّة» وهو المختار هناك.

ثانيهما: هل المعيار في تعارض الدليلين هو الإرادة الاستعماليّة أو الإرادة الجدّية؟

لا إشكال في أنّ الميزان في التعارض

إنّما هو الإرادة الاستعماليّة، لأنّ الدليلين يتعارضان ويتضادّان في ظهورهما الاستعمالي واللفظي كما هو واضح.

ثمّ بعد ملاحظة هاتين النكتتين يظهر لنا أنّه لا وجه لانقلاب النسبة، لأنّ تخصيص العام بالخاصّ الأوّل إنّما هو في الإرادة الجدّية ولا ربط له بالإرادة الاستعماليّة، وحينئذٍ يبقى الظهور الاستعمالي للعام على حاله الذي كان هو المعيار في التعارض، ولابدّ بعد التخصيص بالخاصّ الأوّل من ملاحظة النسبة بين الخاصّ الثاني وهذا الظهور الاستعمالي للعام الباقي على قوّته.

والذي يؤيّد ذلك هو سيرة الفقهاء العمليّة في الفقه، فإنّهم لا يلاحظون تاريخ الخصوصيّات ولا يقدّمون التخصيص بأحد الخاصّين على التخصيص بالخاصّ الآخر بل يخصّصون العام بكليهما في عرض واحد.

نعم، قد يستثنى منه ما إذا كانت المخصّصات بمقدار من الكثرة يوجب الاستهجان عرفاً، فيكون النسبة بين الخصوصات والعام من قبيل المتباينين، فربّما يكون طريق الجمع فيه إسقاط العام عن ظهوره في الوجوب أو الحرمة وحمله على الاستحباب أو الكراهة.

ثمّ إنّ جماعة من الأعلام أشاروا إلى أمرين آخرين:

أحدهما: هو البحث عن مسألة الضمان في عارية الذهب والفضّة التي هى من موارد تعارض أكثر من دليلين ومن مصاديقه وتطبيقاته، ولكننا نتركه إلى محلّه في الفقه لأنّه بحث فقهي خاصّ لا يليق إلّابالفقه كما لا يخفى على الخبير.

انوار الأصول، ج 3، ص: 513

وثانيهما: ما ذكره بعض الأعلام مفصّلًا من الأنواع المختلفة لتعارض أكثر من الدليلين والصور العديدة لكلّ نوع منها، ولكنّه أيضاً لا طائل تحته بعد قبول عدم انقلاب النسبة مطلقاً كما هو الحقّ.

الفصل الرابع: في ترتيب المرجّحات

هل تعتبر مراعاة الترتيب بين المرجّحات أو لا؟ وعلى فرض لزومها أيّتها تتقدّم وأيّتها تتأخّر؟ فيه ثلاثة أقوال:

1- ما ذهب إليه صاحب الكفاية، وهو عدم اعتبارها بناءً على القول بالتعدّي من المزايا المنصوصة وإناطة

الترجيح بالظنّ أو بالأقربية إلى الواقع، فإن حصل أحدهما في جانب فهو المتقدّم، وإن حصل في كليهما فيتخيّر.

نعم، لو قيل بالاقتصار على المزايا المنصوصة فلها وجه.

2- ما ذهب إليه شيخنا الأعظم والمحقّق النائيني رحمه الله من لزوم مراعاة الترتيب. فإنّ المرجّحات على ثلاثة أقسام: المرجّحات السندية وهى ما ترجع إلى أصل الصدور كالشهرة وأعدليّة الراوي أو أوثقيته، والمرجّحات الجهتية وهى ما ترجع إلى جهة الصدور، أي التقيّة وعدمها، كمخالفة العامّة، والمرجّحات المضمونيّة، وهى ما ترجع إلى المضمون كموافقة الكتاب، فقال شيخنا الأعظم رحمه الله بتقديم الأوّل على الثاني والثالث، وقال المحقّق النائيني رحمه الله بتقديم الأوّل على الثاني، والثاني على الثالث «1».

3- ما ذهب إليه المحقّق الوحيد البهبهاني رحمه الله، وهو لزوم تقديم المرجّح الجهتي على الصدوري، فلو كان أحد المتعارضين مخالفاً للعامّة وكان الآخر موافقاً للشهرة قدّم ما يخالف العامّة.

أقول: لابدّ من البحث أوّلًا على ما يقتضيه القواعد الأوّلية، ثمّ على ما يستظهر من الروايات الخاصّة الواردة في باب المرجّحات، وكلمات القوم هنا مضطربة.

انوار الأصول، ج 3، ص: 514

أمّا ما تقتضيه القواعد فحاصل كلام الشيخ الأعظم رحمه الله أنّ جهة الصدور متفرّعة على أصل الصدور، فإذا كان الخبران المتعارضان مقطوعي الصدور كما في المتواترين أو بحكم مقطوعي الصدور فتصل النوبة إلى المرجّح الجهتي، وأمّا إذا كانا متفاضلين من حيث الصدور فيجب التعبّد حينئذٍ بالراجح صدوراً، ولا تكاد تصل النوبة إلى المرجوع صدوراً كي يلاحظ رجحانه جهة.

وأورد عليه: بأنّه يستلزم اللغوية، لأنّ لازمه لزوم التعبّد بصدور الخبر المشهور الموافق للعامّة، ولا معنى للتعبّد بصدور الخبر مع وجوب حمله على التقيّة، إذ الحمل على التقيّة يساوق الطرح، ولا يعقل أن تكون نتيجة التعبّد بالصدور هى الطرح، فالحقّ

أنّه لا ترتيب بين المرجّحات وأنّ الترجيح بجميعها يرجع إلى الصدور.

ولكن يمكن الجواب عنه: بأنّ معنى حجّية الخبر ليس التعبّد والعمل به، بل معناه هو التعبّد به لولا المزاحم، وبعبارة اخرى: المراد من حجّية كلا الخبرين هو الحجّية الإقتضائية لا الحجّية الفعليّة، وهذا المعنى حاصل في المقام.

أقول: الحقّ هو ما اختاره المحقّق الخراساني رحمه الله من عدم الترتيب، وأنّ برهان الفرعيّة في كلام الشيخ الأعظم رحمه الله ليس بتامّ لأنّ المرجّحات الجهتيّة أو المضمونيّة وإن كانت متأخّرة عن المرجّحات الصدورية بحسب الوجود الخارجي (لأنّ جهة الصدور أو المضمون فرع لأصل الصدور وعارض عليه، ووجود المعروض سابق على وجود العارض) إلّاأنّه لا دخل له في ما هو المهم في المقام، فإنّ محلّ البحث في ما نحن فيه هو الحجّية بمعنى ترتيب الأثر العملي، ولا ريب في أنّ كلًا من الجهات الثلاثة شرط في الحجّية والعمل، ومن أجزاء العلّة التامّة له في عرض واحد، ولا تقدّم لأحدها على غيره من هذه الجهة، أي من ناحية العمل كما لا يخفى. هذا أوّلًا.

وثانياً: سلّمنا اعتبار الترتيب ولكنّه على مرحلتين لا ثلاث مراحل كما أشار إليه المحقّق النائيني رحمه الله وقد مرّ آنفاً، فإنّ المرجّح المضموني يرجع إلى المرجّح الصدوري لأنّ الوفاق مع الكتاب دليل على الصدور، والمخالفة معه دليل على عدم الصدور ولو ظنّاً.

وأمّا القول الثالث: (وهو ما ذهب إليه المحقّق الوحيد البهبهاني رحمه الله) فاستدلّ له المحقّق الرشتي رحمه الله بأنّ التعبّد بالدليل الموافق للعامّة مستحيل، لدوران أمره بين عدم صدوره من انوار الأصول، ج 3، ص: 515

أصله وبين صدوره تقيّة، وهو على كلا التقديرين ممّا لا يعقل التعبّد به، وحينئذٍ كيف يقدّم الأرجح صدوراً إذا كان موافقاً للعامّة

على غيره وإن كان مخالفاً للعامّة كما قال به الشيخ الأعظم رحمه الله؟ ثمّ قال: فاحتمال تقديم المرجّحات السندية على مخالفة العامّة مع نصّ الإمام عليه السلام على طرح موافقهم من العجائب والغرائب التي لم يعهد صدورها من ذي مسكة فضلًا عمّن هو تالي العصمة علماً وعملًا، ثمّ قال: وليت شعري أنّ هذه الغفلة الواضحة كيف صدرت منه مع أنّه في جودة النظر يأتي بما يقرب من شقّ القمر.

ويمكن الجواب عنه أوّلًا: بأنّ الخبر الموافق للعامّة ليس دائراً بين احتمالين بل الاحتمالات فيه ثلاثة: عدم صدوره من أصله، وصدوره تقيّة، وصدوره لبيان حكم اللَّه الواقعي، وإنّما يدور أمره بين الاحتمالين الأوّلين إذا كان المعارض المخالف للعامّة قطعيّاً من جهاته الثلاث، أي من جهة السند والدلالة والجهة جميعاً، وأمّا إذا كان ظنّياً ولو من بعض الجهات كما هو المفروض (حيث إنّ البحث في المرجّحات الظنّية لا في تمييز الحجّة عن اللّاحجّة) فلا علم لنا بصدق المخالف بل نحتمل كذبه أيضاً، كما لا علم لنا ببطلان الموافق وعدم حجّيته على أي حال.

وكأنّ المحقّق الرشتي رحمه الله غفل عن هذه النكتة، أي أنّ البحث هو في المرجّحات الظنّية.

وثانياً: أنّ ما ادّعاه صادق في العكس أيضاً، لأنّ الإمام عليه السلام قال في المرجّحات الصدورية: «فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه» ولازمه حصول العلم بعدم صدور غير المشهور.

ولقد أجاد المحقّق الخراساني رحمه الله حيث قال في ذيل كلامه هنا: أنّ الغفلة والنسيان كالطبيعة الثانويّة للإنسان.

فقد ظهر أنّ مقتضى القواعد الأوّلية عدم اعتبار الترتيب بين المرجّحات فلابدّ من الرجوع إلى أقوى الدليلين وأظهرهما، وهو مختلف بحسب اختلاف المقامات، ولو لم يكن أحدهما أقوى أو أظهر سقطت المرجّحات فتصل النوبة إلى التخيير.

هذا

كلّه بحسب القواعد.

وأمّا بحسب الأدلّة الخاصّة النقلية فالمهمّ فيها هو مقبولة عمر بن حنظلة المذكور فيها ثلاث مرجّحات: الشهرة، موافقة الكتاب والسنّة، ومخالفة العامّة (وأمّا مخالفة ميل الحكّام فقد مرّ أنّه يرجع إلى مخالفة العامّة، كما أنّ الترجيح بالأعدليّة والأفقهيّة والأوثقيّة الواردة في انوار الأصول، ج 3، ص: 516

صدرها من مرجّحات باب الحكومة والقضاء لا الرواية كما مرّ أيضاً) والإنصاف أنّ ظاهر هذا الحديث هو لزوم الترتيب بين المرجّحات الثلاثة.

ومن الروايات مرفوعة زرارة، ولكن الترتيب الوارد فيها مخالف للترتيب الوارد في المقبولة، فإنّ المرجّح الثاني فيها هو صفات الراوي، والثالث هو مخالفة العامّة، والرابع هو الأحوطيّة، وحينئذٍ يقع التعارض بينهما، مع أنّ المطلوب منها علاج التعارض.

ولكن الذي يسهل الخطب أنّ المرفوعة لا سند لها كما مرّ بيانه.

ومن الروايات ما مرّ من مصحّحة عبدالرحمن بن عبداللَّه «1»، ولا إشكال أيضاً في صراحته في لزوم الترتيب مع خصوصيّة ومزيّة له بالنسبة إلى المقبولة، حيث إنّ الترتيب فيه جاء في كلام الإمام عليه السلام نفسه، بينما الترتيب في المقبولة جاء في كلام السائل، إلّاأنّ سكوت الإمام ظاهر في التقرير والامضاء.

وقد يدّعى وجود قرينة على خلاف هذا الظهور، وهى أنّ في كثير من الروايات لم يذكر إلّا مرجّح واحد، ولزوم الترتيب واعتباره يستلزم تقييد اطلاق جميع هذه الروايات بالمقبولة بالنسبة إلى سائر المرجّحات، وهو مشكل جدّاً.

وبعبارة اخرى: قد مرّ أنّ روايات الترجيح على طوائف عديدة، والمرجّحات في بعضها أربعة وفي بعضها الآخر ثلاثة، وفي طائفة ثالثة إثنان، وفي طائفة رابعة واحد، والمرجّح الواحد في الطائفة الرابعة أيضاً كان هو مخالفة العامّة في بعض رواياتها وموافقة الكتاب في بعضها الآخر، فقد يقال: إنّ هذا الاختلاف قرينة على التصرّف في ظهور المقبولة

في الترتيب، وحملها على أنّ الإمام عليه السلام فيها كان في مقام بيان مجرّد أنّ هذا مرجّح وذاك مرجّح.

ولكن يمكن الجواب عنه: بأنّه لابدّ من رفع اليد عن الاطلاق المذكور على أيّ حال، سواء قلنا بالترتيب أو لا، فإنّ مقتضى اطلاق الطائفة التي جاء فيها مرجّح واحد مثلًا أنّ المعتبر في مقام الترجيح إنّما هو خصوص ذلك المرجّح فقط، وهذا الظهور لا يعتنى به حتّى القائلين بعدم اعتبار الترتيب.

هذا- مضافاً إلى أنّه يمكن أن يقال: إنّ ما تدلّ عليه المقبولة من اعتبار الترتيب على انوار الأصول، ج 3، ص: 517

النحو المذكور فيها موافق للاعتبار أيضاً، وأنّ الإمام عليه السلام كان في مقام بيان ما يوافق الاعتبار، والأخذ بالأقوى فالأقوى من المرجّحات، وتطبيق قانون تقديم الأقوى على الأضعف، إذ إنّ الموافق مع الشهرة أقوى ظهوراً من الخبر غير المشهور الموافق مع كتاب اللَّه، وهكذا المخالف للعامّة أقوى من الموافق لعموم الكتاب أو إطلاقه.

بقي هنا امور:

1- إنّ ما ادّعاه شيخنا الأعظم رحمه الله في رسائله من أنّ المرفوعة منجبرة بعمل الأصحاب حيث قال: «فهى وإن كانت ضعيفة السند إلّاأنّها موافقة لسيرة العلماء في الترجيح» مبنى على كون عمل الأصحاب مستنداً إلى خصوص المرفوعة، مع أنّ الظاهر أنّ مستندهم هو المقبولة، لأنّ فيها أيضاً قدّم الترجيح بالشهرة على الترجيح بسائر المرجّحات، والشيخ الأعظم رحمه الله حيث توهّم أنّ أوّل المرجّحات في المقبولة هو صفات الراوي وأنّ ما قدّم فيه الشهرة على سائر المرجّحات إنّما هو المرفوعة، كما أشار إليه في ذيل كلامه بقوله «فإنّ طريقتهم مستمرّة على تقديم المشهور على الشاذّ» ذهب إلى أنّ عمل الأصحاب مستند إلى المرفوعة فيجبر ضعف سندها، مع أنّه قد مرّ أنّ الترجيح بالصفات

الواردة فيها من مرجّحات باب الحكومة والقضاء لا الرواية.

2- قد أشرنا سابقاً إلى أنّ المرجّحات المضمونية ترجع في الواقع إلى المرجّحات السنديّة (الصدوريّة) لأنّ موافقة كتاب اللَّه تعالى توجب الظنّ بالصدور وأنّ علوّ المضامين يوجب القوّة في السند، كما لا يخفى، وحينئذٍ ترجع المرجّحات إلى قسمين: صدوريّة وجهتيّة، لا إلى ثلاثة أقسام.

3- ما أشرنا إليه أيضاً في الجواب عن المحقّق الرشتي رحمه الله من أنّه ليس كلّ ما كان موافقاً للعامّة صدر في مقام التقية، والشاهد على ذلك أنّ الأئمّة عليهم السلام كثيراً ما كانوا ينقضون التقيّة، ويبلّغون أحكام اللَّه الواقعيّة، سواء كانت موافقة مع آراء العامّة أو مخالفة لها.

توضيح ذلك: أنّ التقيّة على قسمين:

التقيّة في العمل وأكثر روايات التقيّة ناظرة إليها، وقد ذكرناها بالتفصيل في القواعد

انوار الأصول، ج 3، ص: 518

الفقهيّة، كقوله عليه السلام: التقيّة سنّة إبراهيم، أو سنّة آل فرعون، أو سنّة أصحاب الكهف، أو أنّها جنّة المؤمن، أو ترس المؤمن، وهكذا قوله تعالى: «إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً» «1»

الوارد في شأن عمّار بن ياسر وأبويه، فلا إشكال في أنّ جميعها ناظراً إلى التقية في مقام العمل كما لا يخفى.

وتقية في مقام الفتوى، وهى بنفسها على قسمين: أحدهما ما يصدر من الإمام عليه السلام حفظاً لنفسه الشريفة، وثانيهما ما يصدر منه حفظاً لدماء الشيعة، والمتتبّع في تاريخ الأئمّة وسيرتهم يلاحظ أنّ هذين القسمين من التقيّة لم تكن بتلك الدرجة من الكثرة لكي يتوهّم مثل المحقّق الرشتي رحمه الله أنّ كلّ خبر يوافق آراء العامّة فإمّا أن لا يكون صادراً عنهم عليهم السلام أو صدر تقية، سيّما بعد ملاحظة الروايات الناقضة للتقية كأكثر روايات باب الخمس وكثير من روايات أبواب الحجّ وما أشبهها فراجع.

4- قال

المحقّق الخراساني رحمه الله أنّ تقدّم الأرجح صدوراً على المخالف للعامّة (أي تقدّم المرجّح الصدوري على الجهتي) مبنيّ على كون المخالفة للعامّة من المرجّحات الجهتية، وأمّا بملاحظة كونها من المرجّحات الدلالية نظراً إلى ما في الموافق للعامّة من احتمال التورية الموجب لضعف ظهوره ودلالته فيكون المخالف للعامّة أقوى منه دلالة وظهوراً لعدم احتمال التورية فيه أصلًا، فالمرجّح الجهتي حينئذٍ مقدّم على جميع المرجّحات الصدورية لما عرفت من تقدّم المرجّحات الدلالية على ما سواها من المرجّحات.

ثمّ أشكل على نفسه وقال: اللهمّ إلّاأن يقال: إنّ باب احتمال التورية وإن كان مفتوحاً فيما احتمل فيه التقيّة إلّاأنّه حيث كان بالتأمّل والنظر لم يوجب أن يكون معارضه أظهر، بحيث يكون قرينة على التصرّف عرفاً في الآخر من حيث الدلالة.

أقول: إن كان مقصوده ممّا رجع إليه في ذيل كلامه أنّ عمل التورية وأعمالها في محلّها أمر مشكل فهو صحيح لا غبار عليه، وأمّا إن كان المقصود أنّ تشخيص الأظهر والظاهر بعد فرض انفتاح باب التورية وتحقّقها في الخارج في الروايات الموافقة مشكل فهو ممنوع، فإنّ الإنصاف أنّ ما لا يحتمل فيه التورية أقوى ظهوراً عند العرف ممّا يحتمل فيه التوراة، فيقدّم عليه إذا كان أحدهما قرينة على التصرّف في الآخر، هذا أوّلًا.

انوار الأصول، ج 3، ص: 519

وثانياً: قد ذكرنا في محلّه في المكاسب الحرمة في باب الكذب: أنّ التورية لا تجري في كلّ كلام، بل تجري فيما إذا كان الكلام محتملًا لمعنيين ذاتاً، غاية الأمر أنّ ذهن السامع ينصرف إلى أحدهما مع أنّ المتكلّم أراد المعنى الآخر، كما إذا قال صاحب الدار (في جواب من سئل عنه بقوله «أزيد في الدار»): ليس هو هنا، وأراد منه وراء الباب لا مجموع الدار،

ونظير قول سعيد بن جبير في الجواب عن سؤال الحجّاج، «أنت عادل قاسط» حيث أراد من «عادل» من عدل عن التوحيد مشيراً إلى قوله تعالى: «ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ» «1»

فإنّ له معنيين، ومن «قاسط» معنى الظلم لأنّه من الأضداد، وإن انصرف الذهن منهما إلى معنى العدالة، ونظير قول بعض العلماء (في الجواب عن سؤال: خير الورى بعد النبي من هو؟ في تلك القصّة المعروفة):

من بنته في بيته، فأراد من الضمير النبي صلى الله عليه و آله فينطبق على أمير المؤمنين علي عليه السلام، ولعلّه كان المنصرف إلى الذهن في ذلك الزمان رجوع الضمير الثاني إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فينطبق على الخليفة الأوّل.

ويتفرّع على ذلك عدم كون التوراة داخلة في أنواع الكذب، كما يتفرّع عليه أنّ التورية لا تجري في كلّ كلام وفي كلّ مقام، بل لها موارد خاصّة، وحينئذٍ لا يمكن القول باحتمال التورية في جميع موارد التقيّة.

هذا، وتمام الكلام في محلّه في المكاسب المحرّمة.

الفصل الخامس: في المرجّحات الخارجيّة
اشارة

جعل الشيخ الأعظم رحمه الله مجموع المرجّحات على قسمين: داخليّة وخارجيّة، فالداخلية عبارة عن كلّ مزية غير مستقلّة بنفسها، وهى على ثلاثة أقسام مرّ ذكرها تفصيلًا، والخارجيّة عبارة عن كلّ مزية مستقلّة بنفسها ولو لم يكن هناك خبر أصلًا، وهى على خمسة أقسام:

1- ما لا تكون معتبرة لتعلّق النهي بها، وهى الأمارات الظنّية غير المعتبرة المنهي عنها كالقياس.

انوار الأصول، ج 3، ص: 520

2- ما لا تكون معتبرة لعدم وجود دليل على اعتبارها لا للنهي عنها، وهى الأمارات الظنّية التي لا دليل على اعتبارها كالشهرة الفتوائية والإجماع المنقول ونحوها.

3- ما تكون معتبرة في نفسها، وهى الأمارات الظنّية المعتبرة كإطلاق الكتاب أو عمومه.

4- المرجّحات القطعيّة كالإجماع المحصّل ونصوص

الكتاب.

5- الاصول الأربعة العمليّة شرعيّة كانت أو عقليّة.

أمّا القسم الأوّل: وهو مثل القياس فلابدّ فيه من البحث أوّلًا: في شمول الأدلّة الناهيّة عن القياس للقياس في مقام الترجيح، وثانياً: في التعارض بين هذه الأدلّة على فرض شمولها والأدلّة الآمرة بالأخذ بأقوى الدليلين، أي التعارض بين اطلاق هذه واطلاق تلك.

أمّا المقام الأوّل: فالصحيح فيه هو الفرق بين الأقسام المختلفة من القياس، فإنّ له أقساماً ثلاثة: القياس في المسائل الاصوليّة (كما إذا قيست الشهرة الفتوائية بخبر الواحد في أنّها موجبة للظنّ أيضاً)، والقياس في المسائل الفرعية كقياس ديّة أصابع المرأة الوارد في حديث أبان، والقياس في الموضوعات كقياس حال الصائم من حيث السلامة والمرض في اليوم بما مضى عليه في الأمس.

لا إشكال في أنّ أدلّة النهي عن القياس لا تعمّ القسم الثالث، لأنّه لو فرضنا كون الموضوع لحرمة الإمساك مثلًا هو الظنّ بالضرر أو الخوف منه فلا فرق فيه بين أن يحصل الظنّ من القياس أو من أمر آخر، فإنّه ليس من القياس في الدين المنهي عنه، بل قياس في الموضوعات الخارجيّة.

وأمّا القياس في المسائل الفرعيّة فلا إشكال أيضاً في شمول تلك الأدلّة له، بل هى القدر المتيقّن منها.

وأمّا القياس في المسائل الاصوليّة فقد يقال أيضاً أنّ الأدلّة شاملة له لأنّ ظاهرها حرمة القياس في دين اللَّه مطلقاً كما ورد في الحديث «أنّ دين اللَّه لا يصاب بالعقول» ولا ريب في أنّ اصول الفقه جزء من الدين وداخلة في الشريعة، كما لا إشكال في أنّ القياس في ما نحن فيه أي في باب المرجّحات من هذا القسم فلا يجوز وإن أجزنا التعدّي عن المرجّحات المنصوصة إلى غيرها.

انوار الأصول، ج 3، ص: 521

قال المحقّق الأصفهاني رحمه الله في المقام

ما حاصله: أنّ القياس في المرجّحات لا يكون مشمولًا لأدلّة النهي عن القياس لعدم كونه طريقاً شرعياً وواسطة في إثبات حكم من الأحكام الشرعيّة فرعيّة كانت أو اصوليّة، لأنّ الحكم الفرعي من الوجوب والحرمة أو الاصولي كالحجّية يثبت بنفس الخبر الموافق لا بالظنّ القياسي، ومن جانب آخر: مرجّحية الظنّ القياسي ثبت بأدلّة الترجيح المتكفّلة أمر حجّة كلّ ما يوجب الأقربيّة إلى الواقع، وحينئذٍ يمكن الترجيح بالظنّ القياسي من دون أن يكون مشمولًا لقوله عليه السلام: إنّ دين اللَّه لا يصاب بالعقول.

ولكنّه عدل عنه في ذيل كلامه بقوله: كما أنّ الأدلّة المانعة عن العمل بالقياس توجب خروج الظنّ القياسي عن تحت الدليل الدالّ على حجّية كلّ ظنّ (لو كان هناك دليل) كذلك توجب خروجه عن تحت أدلّة الترجيح بكل ما يوجب الأقربيه إلى الواقع (لو قلنا به) فكما ليس له الحجّية، كذلك ليس له المرجّحية «1».

أقول: ما ذكره في آخر كلامه هو الحقّ لما ذكره بعينه.

وإن شئت قلت: إنّ جعل القياس من المرجّحات يصدق عليه أنّه من قبيل إستعماله في الدين.

ومن هنا يعلم (بالنسبة إلى المقام الثاني) أنّه لا تصل النوبة حينئذٍ إلى تعارض الأدلّة الدالّة على الأخذ بأقوى الدليلين والأدلّه الناهيّة عن القياس، فإنّ الأخير آبٍ عن التخصيص.

وأمّا القسم الثاني: فكونه من المرجّحات مبنى على جواز التعدّي من المرجّحات المنصوصة، وبما أنّ المختار كان هو عدم التعدّي فهذا القسم عندنا ليس من المرجّحات.

وأمّا القسم الثالث: وهو الأمارات الظنّية المعتبرة، فلا إشكال في لزوم الترجيح به إذا كان من المرجّحات المنصوصة كموافقة الكتاب.

وأمّا القسم الرابع: وهو ما يوجب القطع بالحكم الشرعي فكذلك لا ريب في لزوم الترجيح به، لأنّه من قبيل تمييز الحجّة عن اللّاحجّة كما

لا يخفى.

انوار الأصول، ج 3، ص: 522

وأمّا القسم الخامس: فهو نظير ما إذا دلّت رواية على حرمة المواقعة قبل الغسل وبعد انقطاع الدم، ودلّت رواية اخرى على جوازها، فهل تقدّم الاولى على الثانية لكونها موافقة مع استصحاب الحرمة، أو لا؟ فيه ثلاثة أقوال:

1- تقديم الموافق للأصل، وهذا ما نسب إلى المشهور، ويشهد عليه أنّهم في الفقه يعتبرون الموافقة مع الأصل من المرجّحات للأحكام.

2- تقديم المخالف للأصل، وهذا أيضاً منسوب إلى المشهور، ويشهد عليه ما كان يعنون سابقاً في الاصول من أنّه إذا دار الأمر بين الناقل والمقرّر كان الترجيح للناقل (المخالف للأصل) عند المشهور، بل قد يدّعي عليه الإجماع.

ويمكن دفع هذا التهافت (في النسبة إلى المشهور) بأنّ البحث عن الناقل والمقرّر مختصّ بالاصول العقليّة، ويبحث عنه عقيب البحث عن الحظر والإباحة الذي هو من شقوق مبحث البراءة العقليّة، بينما النسبة الاولى إلى المشهور مرتبطة بالبراءة الشرعيّة.

3- ما ذهب إليه جمع من الأعاظم منهم الشيخ الأعظم والمحقّق الخراساني والمحقّق النائيني رحمه الله، وهو عدم مرجّحية الأصل مطلقاً لا المخالف والا الموافق.

واستدلّ للقول الأوّل بوجهين:

أحدهما: أنّ مطابق الأصل مظنون، وكلّ ظنّ مرجّح، واجيب عنه:

أوّلًا: بأنّ الأصل العملي لا يوجب ظنّاً بالحكم، حيث إنّه وظيفة عملية للشاكّ فحسب.

وثانياً: سلّمنا، ولكنّه مبنيّ على التعدّي من المرجّحات المنصوصة، والمختار عدمه كما مرّ، فكلّ من الصغرى والكبرى لهذا الوجه ممنوعة.

ثانيهما: أنّ الأخذ بموافق الأصل يوجب تخصيص دليل واحد، وهو أدلّة حجّية خبر الواحد بالنسبة إلى الدليل المخالف، ولكن الأخذ بمخالف الأصل يوجب تخصيص دليلين:

وهما أدلّة حجّية خبر الواحد وأدلّة حجّية الأصل، ولا إشكال في أولوية الأوّل.

والجواب عنه واضح، وهو أنّ الاصول ليست في رتبة الأمارات حتّى يوجب الأخذ بالخبر المخالف (وهو أمارة

من الأمارات) تخصيص أدلّة حجّية الأصل، أعني أنّه مع الأخذ بالخبر المخالف لا تصل النوبة إلى الاصول حتّى يلزم تخصيص أدلّتها، بل إنّها خارجة حينئذٍ تخصّصاً أو من باب الورود أو الحكومة.

انوار الأصول، ج 3، ص: 523

واستدلّ القائلون بترجيح المخالف (القول الثاني) بأنّ المحتاج إلى البيان من جانب الشارع إنّما هو في الغالب ما يكون مخالفاً للأصل، وهو الوجوب أو الحرمة، إذ إنّ المباح الموافق للبراءة أو أصالة الاباحة لا يحتاج إلى بيان غالباً، وهذا ما يوجب حصول الظنّ بأنّ ما صدر من جانب الشارع إنّما هو المخالف للأصل لا الموافق.

والجواب عنه: أنّه أيضاً مبنى على التعدّي من المرجّحات المنصوصة، وإلّا لا حجّية لمثل هذا الظنّ في مقام الترجيح.

فظهر أنّ الصحيح هو القول الثالث بعد عدم وجود الدليل على ترجيح الموافق أو المخالف.

بقي هنا امور:

الأمر الأوّل: في أنّ الشهرة على أقسام: الروائيّة والفتوائيّة والعمليّة

أمّا الشهرة الروائيّة فهى اشتهار الرواية بين الرواة والمحدّثين.

وأمّا الشهرة الفتوائيّة فهى عبارة عن فتوى المشهور بشي ء وإن كانت الرواية فيه شاذّة.

وأمّا الشهرة العمليّة فهى عبارة عن نفس السيرة العمليّة للمتشرّعة وأصحاب الأئمّة.

ولا إشكال في أنّ النسبة بين الأوّل والثاني هى العموم من وجه، فقد تتحقّق الشهرة الروائية بالنسبة إلى خبر وتكون فتوى الأصحاب أيضاً على طبقه، وقد تتحقّق الشهرة الروائيّة من دون الفتوى على طبقها، وقد تكون القضية بالعكس، أي تكون الفتوى مطابقة لرواية مع عدم شهرتها روائية.

كما لا إشكال في أنّ النسبة بين الأوّل والثالث أيضاً العموم من وجه، فقد تكون رواية مشهورة بين الرواة والمحدّثين، ومعمولًا بها عند الأصحاب والمتشرّعة، وقد تكون الرواية مشهورة من دون العمل على طبقها، وقد يكون عمل المتشرّعة مطابقاً لرواية من دون شهرتها بين المحدّثين.

نعم، النسبة بين الثاني والثالث هى العموم المطلق، فإنّ

فتوى الأصحاب بشي ء يلازم عملهم وعمل المتشرّعة على طبقه، بينما قد يكون عمل المتشرّعة على رواية من دون فتوى انوار الأصول، ج 3، ص: 524

الأصحاب بها في كتبهم الفتوائيّة.

إذا عرفت هذا فاعلم، أنّه لا إشكال في كون القسم الأوّل من الشهرة من المرجّحات لأنّ الظاهر من قوله عليه السلام في المقبولة: «خذ ما كان من روايتها ...» هو الشهرة الروائية، نعم أنّه مشروط بعدم إحراز العمل على خلافها، لأنّ المقبولة هى في مقام بيان قرائن صدق الرواية ومرجّحات صدورها، والمقام هذا بنفسه قرينة لبّية موجبة لعدم انعقاد اطلاق للمقبولة بالنسبة إلى ما إذا كان العمل مخالفاً للرواية وانصرافها إلى غيره.

وكذلك ظاهر المرفوعة، حيث ورد فيها: «ياسيّدي إنّهما معاً مشهوران مأثوران عنكم» ولا إشكال في ظهوره في الشهرة الروائيّة.

وأمّا الشهرة الفتوائيّة والعمليّة فلا إشكال في عدم شمول المقبولة والمرفوعة لهما باطلاقهما، ولكن لا يبعد إلغاء الخصوصيّة عن الشهرة الروائيّة بالنسبة إليهما أو تنقيح المناط خصوصاً بعد ملاحظة التعليل الوارد في المقبولة بأنّ «المجمع عليه لا ريب فيه» فإنّه تعليل بإعتبار عقلي يوجد في الفتوائية والعمليّة أيضاً كما لا يخفى.

نعم، هذا كلّه فيما إذا كانت الشهرة الفتوائيّة بين القدماء لا المتأخّرين حيث لا شكّ في أنّ الشهرة الفتوائيّة بين المتأخّرين لا تكون سبباً للترجيح سواء كانت فتواهم على طبق القاعدة أو لم تكن، وذلك لأنّ مباني فتاويهم موجودة بأيدينا فلا تزيدنا الشهرة شيئاً عليها، بخلاف الشهرة بين القدماء، فإنّهم كانوا حديث العهد بعصر الأئمّة المعصومين وقد وصلوا إلى ما لم نصل إليها.

هذا كلّه بالنسبة إلى الترجيح بالشهرة بأقسامها.

وأمّا بالنسبة إلى جبر ضعف سند الرواية أو وهن صحّته فالصحيح أنّه يمكن إنجبار الضعف وكذلك وهن الصحّة بالشهرة الفتوائيّة أو

العمليّة لأنّ الميزان في باب الحجّية إنّما هو الوثوق بالصدور كما مرّ غير مرّة، لا الوثوق بالراوي فقط، فكما يحصل الوثوق بالصدور بكون الراوي ثقة كذلك يحصل بمطابقة الشهرة لمضمون الخبر، كما لا يحصل الوثوق بالصدور إذا تحقّقت الشهرة على خلاف رواية وإن تحقّق الوثوق برواتها.

انوار الأصول، ج 3، ص: 525

نعم يشترط أوّلًا: كون الشهرة متحقّقة بين القدماء الذين كانوا قريبوا عهد بالمعصومين عليهم السلام.

وثانياً: إحراز استناد المشهور في فتاويهم أو عملهم إلى تلك الرواية.

ولكن الكلام في أنّه كيف يمكن إحراز استنادهم إليها مع خلوّ كتبهم الفقهيّة في الغالب عن الاستدلال وإكتفائهم بذكر الفتاوي فقط كما لا يخفى على من راجع كتبهم؟

قد يقال: إنّ الإستناد يحرز بالجمع بين الأمرين: أحدهما كون المسألة على خلاف القاعدة، والثاني كون الخبر في مرأى ومسمع منهم، وهو كذلك، فإنّ ظاهر الحال حينئذٍ استنادهم إليها.

إن قلت: كيف تكون الشهرة موجبة لحجّية الخبر مع عدم كونها حجّة مستقلًا، وليس هذه إلّامن قبيل ضمّ اللّاحجّة باللّاحجّة.

قلنا: أنّ الحجّة قد تحصل من تراكم الظنون، فإنّ المدار في حجّية خبر الواحد هو الوثوق بصدوره، وهذا قد يحصل من ضمّ ظنّ إلى ظنّ، كما قد يحصل العلم منه مثل الخبر المتواتر الذي يوجب العلم من طريق تراكم الظنون وضمّ بعضها إلى بعض.

الأمر الثاني: لماذا تكون مخالفة العامّة من المرجّحات؟

والاحتمالات فيه أربعة (قد أشرنا إلى بعضها في تفسير قوله عليه السلام «فإنّ الرشد في خلافهم» في البحث عن جواز التعدّي عن المرجّحات المنصوصة):

1- كون الترجيح بها لمجرّد التعبّد من الشرع لا لغيره.

2- أن يكون الرشد في نفس المخالفة لهم لحسنها ورجحانها فيكون للمخالفة موضوعيّة.

3- أن يكون لها طريقيّة إلى ما هو الأقرب إلى الواقع فالترجيح بالمخالفة لهم من باب أنّ الخبر المخالف أقرب

إلى الواقع لأنّ الرشد والحقّ غالباً يكون فيما خالفهم والغيّ والباطل في ما وافقهم.

4- أن يكون لها طريقيّة إلى احتمال وجود التقيّة (أي طريقيّة جهتية، خلافاً للاحتمال الثالث الذي كان للمخالفة فيه طريقيّة مضمونيّة) فيكون الترجيح بها لأجل إنفتاح باب انوار الأصول، ج 3، ص: 526

التقيّة فيما وافقهم وانسداده فيما خالفهم.

والبحث هنا في تحديد ما يستظهر من روايات الباب فنقول:

أمّا الوجه الأوّل: فلا إشكال في أنّه خلاف ظاهر التعليل الوارد فيها كما لا يخفى.

وأمّا الوجه الثاني: فهو أيضاً بعيد جدّاً لكونه مخالفاً لظاهر التعليل الوارد فيها أيضاً، فإنّ الرشد بمعنى الوصول إلى الحقّ وسلوك طريق الهداية.

مضافاً إلى أنّه خلاف ما ورد في روايات كثيرة من الأمر بالحضور في تشييع جنائزهم عيادة مرضاهم والحضور في جماعاتهم وغير ذلك.

وأمّا الوجه الثالث: فيمكن أن يستشهد له أوّلًا: بما رواه أبو إسحاق الأرجاني رفعه قال: قال أبو عبداللَّه عليه السلام: «أتدري لِمَ امرتم بالأخذ بخلاف ما تقول العامّة، فقلت: لا أدري، فقال: إنّ عليّاً عليه السلام لم يكن يدين اللَّه بدين إلّاخالف عليه الامّة إلى غيره إرادة لإبطال أمره، وكانوا يسألون أمير المؤمنين عليه السلام عن الشي ء الذي لا يعلمونه فإذا أفتاهم جعلوا له ضدّاً من عندهم يلتبسوا على الناس» «1».

فإنّ ظاهرها أنّ هناك تعمّد في مخالفة العامّة لآراء أهل البيت عليهم السلام ولازمه أنّ الغلبة في مخالفتهم للواقع فلابدّ في موارد الشكّ من الرجوع إلى ما هو موافق للواقع غالباً وهو المخالف لآراء العامّة.

ولكن يناقش فيها بضعف السند أوّلًا: لكونها مرفوعة، وثانياً: بأنّها مخالفة لما ثبت في كتبهم التاريخيّة والفقهيّة من استنادهم في فتاويهم إلى قول علي عليه السلام، وكلام عمر في حقّ أمير المؤمنين عليه السلام في مواقف

كثيرة «أنّه لولا علي لهلك عمر» معروف.

مضافاً إلى ما نشاهد بأعيننا من موافقة كثير من أحكام مذهب أهل البيت لأحكامهم في أبواب مختلفة من الفقه نظير باب الحجّ فإنّ كثيراً من مناسكه مشتركة بين الفريقين.

ويستشهد لهذا الوجه ثانياً: بما رواه أبو بصير عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «ما أنتم واللَّه على شي ء ممّا هم فيه ولا هم على شي ء ممّا أنتم فيه، فخالفوهم فما هم من الحنفية على شي ء» «2».

ولكنّها أيضاً قابلة للمناقشة من ناحية السند، لأنّ المقصود من ابن حمزة فيه إنّما هو ابن انوار الأصول، ج 3، ص: 527

حمزة البطائني الذي هو من الكذّابين وإن كان ممّن ينقل عنه ابن أبي عمير، لأنّ الثابت في محلّه أنّ ابن أبي عمير لا يرسل إلّاعن ثقة، لا أنّه لا يروي إلّاعن ثقة مطلقاً سواء في مراسيله أو مسانيده.

وهكذا من ناحية الدلالة، لأنّه إن كان المراد فيها أنّنا لا نوافقهم على شي ء في مسألة الولاية فهو صحيح، ولكن لا ربط له بما نحن فيه، وإن كان المراد عدم التوافق في غيرها فهو كما ترى.

فيبقى الوجه الرابع: ويشهد له ما رواه عبيد بن زرارة عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «ما سمعته منّي يشبه قول الناس فيه التقيّة، وما سمعت منّي لا يشبه قول الناس فلا تقيّة فيه» «1».

إن قلت: الظاهر من قوله عليه السلام في المقبولة «ما خالف العامّة ففيه الرشاد» إنّما هو الاحتمال الثالث لمكان التعبير بالرشاد الظاهر في الموافقة مع الواقع والحقّ.

قلنا: الإنصاف أنّ قوله عليه السلام هذا ظاهر في الطريقيّة إجمالًا الدائر أمرها بين الوجه الثالث والرابع، فلا يمكن الاستدلال به لشي ء منهما، بل الظاهر هو الوجه الرابع بتناسب الحكم والموضوع في المقام.

فقد

ظهر إلى هنا أنّ المتعيّن في المقام هو الوجه الرابع، ولازمه اختصاص مرجّحية مخالفة العامّة بموارد احتمال التقيّة، فلو كان الخبران المتعارضان واردين في عصر لا يحتمل فيه التقيّة كعصر الإمام الرضا عليه السلام يشكل ترجيح المخالف على الموافق، بل لابدّ من الرجوع إلى سائر المرجّحات.

الأمر الثالث: التعارض بين العامين من وجه

فهل يكون المرجع فيه الأخبار العلاجيّة فلابدّ عند وجود المرجّحات من الترجيح وعند فقدها من التخيير، أو لا، بل في مادّة الإفتراق يعمل بكلّ واحد منهما وفي مادّة الاجتماع يحكم بالتساقط ويكون المرجع هو الأصل الجاري في المسألة؟ (بعد أن كان المرجع في انوار الأصول، ج 3، ص: 528

المتباينين الأخبار العلاجيّة وفي العموم المطلق الجمع الدلالي).

وهو نظير ما إذا وردت مثلًا رواية تدلّ بإطلاقها على نجاسة عذرة كلّ ما لا يؤكل لحمه، ورواية اخرى تدلّ باطلاقها على طهارة عذرة كلّ طائر، فمادّة الإجتماع فيهما هو الطائر الذي لا يؤكل لحمه، فتتعارضان فيه وتدلّ إحديهما على نجاسته والاخرى على طهارته، فهل المرجع فيه الأخبار العلاجية فإمّا أن ترجّح إحديهما على الاخرى عند وجود المرجّح أو يخيّر بينهما عند فقده، أو يكون المرجع الأصل الجاري فيه بعد فقد العمومات أو الإطلاقات؟

لا إشكال في عدم جريان المرجّحات الصدوريّة فيه، لأنّ المفروض أنّه يعمل بكلّ واحد منهما في مادّتي الافتراق، ومعلوم أنّ الرجوع إلى المرجّحات الصدورية وترجيح أحدهما على الآخر مستلزم لإسقاط الدليل في مادّة الاجتماع، فيلزم التبعّض والتجزئة في الصدور والسند، وبطلانه واضح.

وأمّا المرجّحات الجهتيّة وهكذا المرجّحات المضمونيّة (بناءً على عدم إرجاعها إلى المرجّحات الصدوريّة) فلا مانع من جريانها، لأنّ في مادّة الاجتماع يمكن الأخذ بإحديهما وترجيحها على الاخرى لمكان التقية مثلًا، وفي مادّة الإفتراق يعمل بكلتيهما من دون أن يلزم محذور، لإمكان

أن يكون الإمام عليه السلام في مقام بيان حكم اللَّه الواقعي بالإضافة إلى أصل الدليل، وفي مقام التقيّة بالإضافة إلى اطلاقه.

هذا بالنسبة إلى الترجيح عند وجود المرجّح.

وأمّا التخيير عند فقد المرجّح فالمشهور على عدمه، فيتساقط الخبران حينئذٍ في مادّة الاجتماع عندهم، ويكون المرجع هو الأصل الجاري في المسألة، ونسب إلى المحقّق الطوسي رحمه الله التخيير، وذهب إليه المحقّق النائيني رحمه الله، واستدلّ له بإطلاقات أدلّة التخيير.

والإنصاف أنّ ما ذهب إليه المشهور هو الأقوى لانصراف أدلّة التخيير عن موارد العامين من وجه، فإنّ ظاهر قوله عليه السلام: «فتخيّر أحدهما ودع الآخر» قبول أحدهما بتمامه وترك الآخر بتمامه، لا قبول أحدهما وترك بعض الآخر، فهى مختصّة بالمتباينين.

إلى هنا تمّ الكلام عن التعادل والتراجيح، والحمد للَّه ربّ العالمين.

انوار الأصول، ج 3، ص: 529

خاتمة في الاجتهاد والتقليد

المقام الأوّل: في مباحث الاجتهاد

1- معنى الاجتهاد لغةً وإصطلاحاً

2- الاجتهاد بالمعنى العام والاجتهاد بالمعنى الخاصّ 3- موارد النزاع بين الأخباري والاصولي 4- المجتهد المطلق والمجتهد المتجزي الجهة الاولى: في أحكام المجتهد المطلق إمكان تحقّق الاجتهاد المطلق جواز العمل بالإجتهاد المطلق جواز القضاء للمجتهد المطلق من مناصب المجتهد المطلق الولاية والحكومة

الجهة الثانية: في أحكام المجتهد المتجزي جواز عمل المجتهد المتجزّي برأيه جواز رجوع الغير اليه قضاء المجتهد المتجزّي 5- مباني الاجتهاد

6- التخطئة والتصويب:

أسباب السقوط في هوّة التصويب المفاسد المترتّبة على القول بالتصويب 7- تبدّل رأي المجتهد

المقام الثاني: في مباحث التقليد:

1- جواز التقليد للعامي 2- تقليد الأعلم 3- تقليد الميّت انوار الأصول، ج 3، ص: 531

خاتمة في الاجتهاد والتقليد
المقدمة:

لابدّ قبل الورود في أصل البحث من بيان مقدّمة وهى هل أنّ هذه المسألة من مسائل الفقه أو الاصول؟ الصحيح أنّها من مسائل الفقه فورودها في علم الاصول استطرادي، ولذلك يبحث عنها

في الكتب الفقهيّة والرسائل العمليّة أيضاً في ابتدائها، والوجه في ذلك ما عرفت من أنّ المسألة الاصوليّة ما يقع في طريق استنباط الأحكام الشرعيّة، ولا إشكال في أنّ الاستنباط من شؤون الفقيه المجتهد لا المقلد، ونتيجة المسألة الاصوليّة حكم كلّي من شؤون المجتهد لا المقلِّد، بينما نتيجة هذه المسألة (أي حجّية قول المجتهد) ترجع إلى المقلد.

فلا يقال: إنّ من مسائل علم الاصول البحث عن حجّية الأمارات، وكلام المجتهد من الأمارات.

لأنّا نقول كلام المجتهد أمارة إجماليّة للمقلِّد لا المجتهد، والأمارة الاصوليّة هى ما يقع في طريق استنباط الأحكام التفصيليّة للمجتهد.

وبعبارة اخرى: البحث هنا بحث عن جواز التقليد عن المجتهد وعن أمارية قول المجتهد وحجّيته، ونتيجته وهى حجّية قول المجتهد تعود إلى المقلّد لا المجتهد.

إذا عرفت هذا فلنشرع في مسائله، فنقول البحث فيه يقع في مقامين:

المقام الأوّل: في مباحث الاجتهاد
اشارة

وفيه امور:

الأمر الأوّل: معنى الاجتهاد لغةً واصطلاحا

أمّا في اللغة فهو مأخوذ من الجَهد (بالفتح) أو الجُهد (بالضمّ) وهل هما بمعنيين أو بمعنى انوار الأصول، ج 3، ص: 532

واحد؟ اختلف فيه بين أرباب اللغة، ففي مختصر الصحاح: الجَهد والجُهد الطاقة، وفي مقاييس اللغة: الجيم والهاء والدالّ أصلة المشقّة ... والجُهد الطاقة» «1» وفي مفردات الراغب: الجَهد والجُهد الطاقة والمشقّة، وقيل: الجَهد (بالفتح) المشقّة والجُهد الواسع ... (إلى أن قال):

والاجتهاد أخذ النفس ببذل الطاقة وتحمّل المشقّة «2».

أقول: الظاهر أنّ معناه الأصلي هو نهاية الطاقة والقدرة التي من لوازمها المشقّة، فإنّ من بذل نهاية طاقته يقع في المشقّة والكلفة، وعليه فالصحيح أنّه بمعنى بذل نهاية الطاقة كما ذهب إليه في «التحقيق في كلمات القرآن الكريم» «3» وإستعمل فيه في لسان الآيات أيضاً كقوله تعالى: «وَالَّذِينَ لَايَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ» «4»

أي نهاية طاقتهم في الإنفاق على أمر الجهاد وقوله تعالى: «وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ» «5»

أي أقسموا باللَّه نهاية طاقتهم في القسم.

وأمّا في الاصطلاح: فقد ذكر له في كلمات الاصوليين تعاريف كثيرة:

1- ما حكي عن قدماء الاصوليين من أهل السنّة والشيعة مثل الحاجبي والعلّامة، وهو:

«استفراغ الوسع في تحصيل الظنّ بالحكم الشرعي».

ويرد عليه أوّلًا: أنّه لا وجه للتقييد فيه بالظنّ، لصدق الاجتهاد على استفراغ الوسع لتحصيل العلم أيضاً.

وثانياً: قد يكون نتيجة الاستنباط والاجتهاد حصول الظنّ بمطلق الحجّة من دون أن يصدق عليها الحكم، كما في البراءة العقليّة والظنّ الانسدادي على الحكومة والاحتياط العقلي، وحينئذٍ ليس التعريف جامعاً لتمام الافراد.

وثالثاً: أنّه يعمّ استفراغ وسع المقلّد في تحصيل فتوى مقلّده (بالفتح) أيضاً فلابدّ من ضمّ قيد «عن أدلّتها التفصيليّة» إليه حتّى يخرج جهد المقلّد.

انوار الأصول، ج 3، ص: 533

ورابعاً: لا حاجة إلى التعبير بالاستفراغ فإنّ لبذل الوسع في باب الفحص

مقداراً لازماً قد ذكر في محلّه، وهو قد لا يصل إلى حدّ الاستفراغ كما لا يخفى على من راجع كلماتهم هناك.

إن قلت: إنّ تعاريف القوم كلّها لفظية لشرح الاسم وحصول المعنى في الجملة، وليست هى حقيقيّة لبيان الكنه والماهيّة، لتكون بالحدّ أو الرسم، مضافاً إلى أنّه لا إحاطة لغير علّام الغيوب بكنه الأشياء كي يمكن تعريفها الحقيقي.

قلنا: أنّ التعاريف شرح الاسميّة إنّما هى من شؤون اللغوي الذي هو في مقام شرح اللفظ وبيان المفهوم الإجمالي، وأمّا علماء العلوم المختلفة فكلّ واحد منهم بصدد بيان التعريف الحقيقي لما هو موضوع علمه أو موضوع مسائله، ولذلك يقول اللغوي: «سعدانة نبت» ولا يقوله عالم النبات الذي يطلب في تعريفه لشي ء من النباتات ترتيب آثار حقيقيّة خارجيّة، فإنّ فلسفة التعاريف في سائر العلوم (غير علم اللغة) إعطاء معرفة جامعة مانعة للأشياء بيد الطالب، حتّى يمكن له ترتيب آثارها عليها خارجاً، ولا إشكال في توقّفه على إرائة تعريف جامع مانع.

وممّا يشهد على ما ذكره إيراد جميع علماء الاصول وغيره من العلوم وإستشكالهم بجامعيّة التعاريف ومانعيتها. هذا أوّلًا.

وثانياً: لا حاجة في تعريف كنه الأشياء إلى معرفة الجنس والفصل حتّى يقال بأنّ العالم بهما إنّما هو علّام الغيوب، لأنّ التعريف الجامع المانع لا يتوقّف عليهما، بل يحصل بالعرض الخاصّ أيضاً.

أضف إلى ذلك أنّ الكلام في ما نحن فيه إنّما هو في العلوم الاعتباريّة لا الحقيقيّة، ولا إشكال في أنّ كنه الامور الاعتباريّة وحقيقتها ليست أمراً وراء نفس الاعتبار، فيكون كلّ معتبر عالماً بكنه اعتباره، ولا يختصّ العلم به بعلّام الغيوب.

2- «استفراغ الوسع في تحصيل الحجّة على الحكم الشرعي».

وهذا- مع سلامته عن الإشكال الأوّل والثاني الواردين على التعريف السابق لمكان التعبير بالحجّة- يرد

عليه الإشكالان الأخيران كما لا يخفى.

3- «أنّه ملكة يقتدر بها على إستنباط الحكم الشرعي الفرعي من الأصل، فعلًا أو قوّة قريبة منه».

انوار الأصول، ج 3، ص: 534

ويرد عليه أوّلًا: أنّ الاجتهاد الذي يعدّ عدلًا للتقليد والاحتياط، والذي هو من أطراف الوجوب التخييري الثابت للاجتهاد والتقليد والاحتياط، ليس عبارة عن نفس الملكة، كما أنّ الطبابة والنجارة وغيرهما من سائر العلوم ليست ملكات نفسانية سواء بمعناها المصدري أو اسم المصدري، لأنّ الملكة قوّة نفسانية ينشأ منها ويتولّد منها الاجتهاد، وهكذا فعل الطبابة والنجارة، نعم قد يطلق عنوان المجتهد (لا الاجتهاد) في الإصطلاح على من له ملكة الاجتهاد والاستنباط ولو لم يكن متلبّساً بالفعل الخارجي حين ذلك الاطلاق، فعلى هذا فرق بين المعنى الوصفي والمصدري أو اسم المصدر.

ثانياً: ينبغي تبديل التعبير ب «الأصل» بقوله «من أدلّته التفصيليّة» حتّى يعم جميع الأمارات والاصول، ولا يكون فيه إجمال وإبهام.

ثالثاً: كثيراً مّا لا يكون مستنبط الفقيه حكماً من الأحكام، بل يكون من قبيل تحصيل الحجّة على البراءة أو الاشتغال، كما مرّ بالنسبة إلى التعريف الأوّل والثاني.

4- ما جاء في التنقيح من «أنّ الاجتهاد هو تحصيل الحجّة على الحكم الشرعي» «1».

وهو وإن كان أحسن من غيره من بعض الجهات، لكن يرد عليه أيضاً بعض الإشكالات لشموله عمل المقلّد أيضاً، فإنّه أيضاً يحصّل الحجّة على الحكم الشرعي، غاية الأمر من طريق دليل إجمالي وهو «إنّ كلّ ما حكم به المجتهد فهو الحجّة على المقلّد».

هذا- مضافاً إلى شموله للمسائل الاصوليّة لخلوّه عن قيد «الفرعيّة»، ومضافاً إلى ما أورد على التعاريف السابقة بالإضافة إلى التعبير بالحكم من أنّه ليس جامعاً لجميع المصاديق.

فالأولى في تعريف الاجتهاد أن يقال: الاجتهاد هو استخراج الحكم الشرعي الفرعي أو الحجّة عليه

من أدلّتها التفصيليّة.

بقي هنا شي ء:

وهو ما ذهب إليه بعض الأعلام في تنقيحه من أنّ ملكة الاجتهاد تحصل للإنسان وإن لم انوار الأصول، ج 3، ص: 535

يتصدّ الاستنباط ولو في حكم واحد، وقال في توضيحه: «أنّ ملكة الاجتهاد غير ملكة السخاوة والشجاعة ونحوهما من الملكات، إذ الملكة في مثلهما إنّما يتحقّق بالعمل والمزاولة كدخول المخاوف والتصدّي للمهالك، فإنّ بذلك يضعف الخوف متدرّجاً ويزول شيئاً فشيئاً حتّى لا يخاف صاحبه من الحروب العظيمة وغيرها من الامور المهام، فترى أنّه يدخل الأمر الخطير كما يدخل داره، وكذلك الحال في ملكة السخاوة فإنّ بالإعطاء متدرّجاً قد يصل الإنسان مرتبة يقدّم غيره على نفسه فيبقى جائعاً ويطعم ما بيده لغيره، والمتحصّل أنّ العمل في أمثال تلك الملكات متقدّم على الملكة، وهذا بخلاف ملكة الاجتهاد لأنّها إنّما يتوقّف على جملة من المبادى ء والعلوم كالنحو والصرف وغيرهما، والعمدة علم الاصول فبعد ما تعلّمها الإنسان تحصل له ملكة الاستنباط وإن لم يتصدّ للاستنباط ولو في حكم واحد» «1».

لكن الإنصاف أنّ هذا مجرّد فرض، فإنّ من المحالات جدّاً أن تحصل للإنسان ملكة الاستنباط بمجرّد تحصيل المبادى ء ولو لم يتصدّ للاستنباط في حكم واحد، بلا فرق بينها وبين سائر الملكات، وإن شئت فاختبر نفسك من لدن الشروع في تحصيل علم الفقه ومبانيها فإنّك ترى لزوم الممارسة في تطبيق القواعد الاصوليّة على مصاديقها وممارسة ردّ الفروع إلى الاصول في كثير من الكتب التي تدرس في الحوزات العلمية ككتاب مكاسب الشيخ وغيرها فإنّ طلّاب الفقه لا يقدرون على الاجتهاد حتّى في حدّ التجزّي بدون هذه الممارسات.

والحاصل أنّه لا فرق بين علم الطبّ وعلم الفقه وغيرهما من العلوم في لزوم الممارسة مدّة طويلة في تطبيق القواعد على مصاديقه وردّ

الفروع إلى اصولها في العمل حتّى تتمّ ملكة الاجتهاد فيها، بل من المحال عادةً حصول شي ء منها بغير الممارسة العمليّة، فالعالم بقواعد العلوم إذا لم يكن ممارساً لها عملًا لا يقدر على الاجتهاد فيها قطعاً، ولو فرض قدرته عليه في بعض المسائل الساذجة فلا شكّ في عدم قدرته على الاجتهاد في المسائل الخطيرة المشكلة.

الأمر الثاني: الاجتهاد بالمعني العام والاجتهاد بالمعنى الخاص

الاجتهاد بالمعنى العام، والاجتهاد بالمعنى الخاصّ (وقد مرّ البحث عنهما في مواضع مختلفة من الاصول، وهيهنا هو المحلّ الأصلي للكلام عنه فلا بأس بإعادته مع بسط وتوضيح).

أمّا الاجتهاد بالمعنى العام فهو ما مرّ تعريفه في الأمر الأوّل ويكون مقبولًا عند الشيعة والسنّة، وسيأتي أنّ الأخباري أيضاً يقبله في مقام العمل وإن كان ينكره باللسان.

وأمّا الاجتهاد بالمعنى الخاصّ فهو مختصّ بأهل السنّة، والمراد منه نوع تشريع وجعل قانون من ناحية الفقيه فيما لا نصّ فيه على أساس القياس بالأحكام المنصوصة أو الاستحسان أو الاستصلاح (المصالح المرسلة) أو غير ذلك من مبانيهم «1».

انوار الأصول، ج 3، ص: 537

ولتوضيح ذلك لابدّ من نقل بعض كلماتهم في هذا المجال:

ففي مصادر التشريع الإسلامي فيما لا نصّ فيه (لمؤلّفه عبدالوهّاب الخلّاف): «الاجتهاد بذل الجهد للتوسّل إلى الحكم في واقعة لا نصّ فيها بالتفكّر واستخدام الوسائل التي هدى الشارع إليها (كالقياس والاستحسان) للاستنباط فيما لا نصّ فيه» «1».

وحكى عن مالك وأحمد: «إنّ الاستصلاح طريق شرعي لاستنباط الحكم فيما لا نصّ فيه ولا إجماع، وأنّ المصلحة التي لا يوجد من الشرع ما لا يدلّ على اعتبارها ولا على إلغائها

انوار الأصول، ج 3، ص: 538

مصلحة صالحة لأن يبنى عليها الاستنباط» «1».

بل قد يرى من بعضهم التعدّي عنه والقول به حتّى في مقابل النصّ، ولعلّ أوّل من أسّسه إنّما هو الخليفة الثاني في

قصّة المتعتين المعروفة، ثمّ إنحصر عند متأخّريهم في خصوص السياسيات والمعاملات، فذهب جماعة منهم إلى جواز الاجتهاد فيهما حتّى فيما فيه نصّ.

فذهب الطوفي من علماء الحنابلة إلى أنّ المصالح تتقدّم في السياسيات الدنيوية والمعاملات على ما يعارضها من النصوص عند تعذّر الجمع بينهما «2»، (ولكن لم يوافقه على هذا المعنى كثير منهم).

نعم خالفهم في هذا النوع من الاجتهاد الشافعي بالنسبة إلى الاستصلاح والاستحسان وقال: «إنّه لا استنباط بالاستصلاح، ومن استصلح فقد شرّع كمن إستحسن، والاستصلاح كالاستحسان متابعة للهوى» «3».

وبعضهم كالظاهريين خالفهم في القياس أيضاً وقالوا بأنّه بدعة» «4».

وقد مرّ أنّ هذا هو منشأ التصويب عند الإمامية لأنّ عليه يكون كل فقيه قد أعطى حقّ التشريع والتقنين بحيث يكون حكم كلّ واحد منهم حكم اللَّه الواقعي، ولا يخفى أنّه أشدّ قبحاً وأكثر فساداً من المجالس التقنينيّة في يومنا هذا، حيث إنّ أمر التشريع فيها إنّما هو بيد جماعة تسمّى بشورى التقنين الذين يمثّلون بلداً واحداً وقطراً عظيماً، لا كل فرد من علمائهم ومتخصّصيهم.

هذا مضافاً إلى ما يترتّب عليه من التوالي الفاسدة في مختلف أجواء العالم الإسلامي.

ولبعض المعاصرين رحمه الله كلام في هذا المقام نحبّ إيراده مع تلخيص منّا، وهو أنّ لهذا المذهب آثار سوء في مختلف مجالات الفكر يمكن أن تلخيصها في ثلاث مجالات:

الأوّل: في المجال الفقهي حيث صار منشأ لظهور المذهب الظاهري على يد داود بن علي انوار الأصول، ج 3، ص: 539

بن خلف الإصبهاني في أواسط القرن الثالث، إذ كان يدعو إلى العمل بظاهر الكتاب والسنّة والاقتصار على البيان الشرعي، ويشجب الرجوع إلى العقل.

الثاني: في المجال العقائدي والكلامي فصار سبباً لظهور الأشعري الذي عطّل العقل وزعم أنّه ساقط بالمرّة عن إصدار الحكم حتّى في المجال

العقائدي. فبينما كان المقرّر عادةً بين العلماء: أنّ وجوب المعرفة باللَّه والشريعة ليس حكماً شرعياً وإنّما هو حكم عقلي، لأنّ الحكم الشرعي ليس له قوّة دفع وتأثير في حياة الإنسان إلّابعد أن يعرف الإنسان ربّه وشريعته، فيجب أن تكون القوّة الدافعة إلى معرفة ذلك من نوع آخر غير نوع الحكم الشرعي (أي من نوع الحكم العقلي)- بينما كان هذا هو المقرّر عادةً بين المتكلّمين- خالف في ذلك الأشعري، إذ عزل العقل عن صلاحية إصدار أي حكم وأكّد أنّ وجوب المعرفة باللَّه حكم شرعي كوجوب الصوم والصّلاة.

الثالث: في علم الأخلاق (وكان وقتئذٍ يعيش في كنف علم الكلام) فأنكر الأشاعرة قدرة العقل على تمييز الحسن من الأفعال عن قبيحها حتّى في أوضح الأفعال حسناً أو قبحاً، فالظلم والعدل لا يمكن للعقل أن يميّز بينهما، إنّما صار الأوّل قبيحاً والثاني حسناً بالبيان الشرعي ولو جاء البيان الشرعي يستحسن الظلم ويستقبح العدل لم يكن للعقل أي حقّ للإعتراض على ذلك.

ولا إشكال في أنّ هذه النتائج الفاسدة الشنيعة مشتملة على خطر كبير والرجوع عن الإسلام إلى الجاهلية الذي قد لا يقلّ عن الخطر الذي كان يستبطنه مصدر تلك النتائج أي مذهب الرأي والاجتهاد لأنّها حاولت القضاء على العقل بشكل مطلق وتجريده عن كثير من صلاحياته وايقاف النحو العقلي في الذهنيّة الإسلاميّة بحجّة التعبّد بنصوص الشارع والحرص على الكتاب والسنّة، ولهذا كانت تختلف اختلافاً جوهرياً عن موقف مدرسة أهل البيت التي كانت تحارب مذهب القياس والاستحسان وتؤكّد في نفس الوقت أهميّة العقل وضرورة الإعتماد عليه في الحدود المشروعة واعتباره ضمن تلك الحدود بعنوان أداة رئيسية أصلية لإثبات الأحكام الشرعيّة حتّى جاء في نصوص أهل البيت عليهم السلام: «إنّ للَّه على الناس حجّتين

حجّة ظاهرة وحجّة باطنة فأمّا الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمّة، وأمّا الباطنة

انوار الأصول، ج 3، ص: 540

فالعقول» «1»، وهكذا جمعت مدرسة أهل البيت عليهم السلام بين حماية الشريعة من فكرة النقص وحماية العقل من مصادرة الجامدين (انتهى) «2».

ومن هنا يتّضح أنّهم لماذا سدّوا باب الاجتهاد في النهاية فإنّ هذا التفريط من نتائج ذلك الإفراط ولوازمه القهرية كما لا يخفى.

وكيف كان، لابدّ من تحديد نظر علماء الإماميّة في هذا المجال وأنّهم لماذا ردّوا هذا النوع من الاجتهاد بل حملوا عليه حملة شديدة فنقول: إنّه يمكن الاستناد في بطلانه إلى وجوه شتّى:

الأوّل: ما يدلّ من آيات الكتاب العزيز على أنّه لا واقعة إلّاولها حكم وبيان في القرآن الكريم نظير قوله تعالى: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي» «3»

وقوله تعالى: «وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ» «4»

(والمراد من «كلّ شي ء» كلّ ما له دخل في هداية نفوس الإنسان وتربيتها).

الثاني: الأخذ بحديث الثقلين فإنّ أحدهما هو عترة الرسول عليهم السلام، ومع وجودهم لا يحسّ فقدان نصّ، لأنّ ما كان يصدر منهم كان من جانب الرسول صلى الله عليه و آله لا من عند أنفسهم فكان البيان الشرعي لا يزال مستمرّاً باستمرار الأئمّة، وفقهاء العامّة حيث إنّهم كانوا يعتقدون بأنّ البيان الشرعي متمثّل في الكتاب والسنّة النبويّة المأثورة عن الرسول فقط، وهما لا يفيان إلّا بشي ء قليل من حاجات الإستنباط- بل حكي عن أبي حنيفة (الذي كان على رأس مذهب الاجتهاد بالمعنى الخاصّ أو من روّاده الأوّلين) أنّه لم يكن عنده من الأخبار الصحيحة المنقولة عن النبي صلى الله عليه و آله إلّاخمسة وعشرون حديثاً- التجأوا لرفع هذه الحاجات إلى هذا النوع من الاجتهاد لإحساسهم خلأً قانونياً في الشريعة ونقصاناً في

الأحكام الفرعية لابدّ في رفعه إلى التمسّك بذيل القياس ونحوه.

الثالث: روايات متواترة تدلّ على أنّه ما من شي ء تحتاج إليه الامّة إلى يوم القيامة إلّإ

انوار الأصول، ج 3، ص: 541

وقد ورد فيه حكم أو نصّ، وقد جمعت مقدّمة كتاب في جامع أحاديث الشيعة نقلًا عن الكافي للكليني وغيره.

الرابع: ما ثبت لنا عملًا وتاريخياً إلى حدّ الآن في طيلة الأعصار والقرون من الصدر الأوّل إلى عصرنا هذا من أنّ فقهاء الخاصّة وأصحابنا الإماميّة قدّس اللَّه أسرارهم لم يحسّوا حاجة لرفع الحاجات الفقهيّة إلى إعمال مثل القياس والاستحسان فإنّ لديهم نصوصاً خاصّة من ناحية أهل بيت العصمة واصولًا كلّية تنطبق على أكثر القضايا والمصاديق الفرعية، وقواعد واصولًا عملية يرجعون إليها في سائر القضايا الفقهيّة، وهذا هو معنى انفتاح باب العلم والاجتهاد عندهم خلافاً لفقهاء الجمهور فإنّهم بعد اعراضهم عن مكتب عترة الرسول وما وصّى به في حديث الثقلين وغيره من لزوم التمسّك بعترته في عرض التمسّك بالكتاب العزيز إعتقدوا عدم كفاية الكتاب والسنّة لرفع حاجات الاستنباط كما مرّ، وبالتالي ظنّوا عدم كفاية نصوص الكتاب والسنّة للدلالة على الحكم في كثير من القضايا، ولازمه عدم استيعاب الشريعة لمختلف شؤون الحياة، وبتبعه إستباحوا لأنفسهم أن يعملوا بالظنون والاستحسانات ويتصدّوا لتشريع الأحكام في هذه الأبواب.

الخامس: أنّ الاجتهاد بهذا المعنى معناه نقصان الشريعة، وأنّ اللَّه تعالى لم يشرّع في الإسلام إلّاأحكاماً معدودة، وهى الأحكام التي جاء بيانها في الكتاب والسنّة، وترك التشريع في سائر المجالات إلى الفقهاء من الناس ليشرّعوا الأحكام على أساس الظنّ والاستحسان، ولا يخفى أنّ لازمه الفوضى والهرج والمرج الشديد في الدين وما لا نجد نظيره حتّى في التقنينات العقلائيّة في اليوم لأنّ ما يجعل ويقنّن فيها هو قانون

واحد لا قوانين عديدة بعدد الفقهاء والعلماء كما مرّ آنفاً.

ولما ذكرنا كلّه خصوصاً لهذه النتيجة الفاسدة الشنيعة نهض أمير المؤمنين علي عليه السلام في مقام الذمّ لهذا النوع من الاجتهاد في عصره (فكيف بالأعصار اللاحقة) بما مرّ ذكره في بعض الأبحاث السابقة، ولا بأس بإعادته لأنّه كالمسك كلّما كرّرته يتضوّع، قال فيما روي عنه في نهج البلاغة: «ترد على أحدهم القضية في حكم من الأحكام فيحكم فيها برأيه ثمّ ترد تلك القضية

انوار الأصول، ج 3، ص: 542

بعينها على غيره فيحكم فيها بخلاف قوله ... أم أنزل اللَّه سبحانه ديناً ناقصاً فاستعان بهم على إتمامه، أم كانوا شركاء للَّه فلهم أن يقولوا وعليه أن يرضى، أم أنزل اللَّه سبحانه ديناً تامّاً فقصر الرسول صلى الله عليه و آله عن تبليغه وأدائه، واللَّه سبحانه يقول: «ما فرّطنا في الكتاب من شي ء ...».

ولا يخفى أنّ هذا البيان وكذلك غيره من الأخبار التي وردت في ذمّ هذا النوع من الاجتهاد من سائر الأئمّة المعصومين عليهم السلام- في الواقع دفاع عن كيان الدين وأساس الشريعة والتأكيد على كمالها وعدم النقص فيها.

فقد ظهر ممّا ذكرنا بطلان القسم الثاني من الاجتهاد، ولعلّ الخلط بين القسمين صار منشأً لمعارضة الأخباريين مع الاصوليين، وإلّا فإنّ الاجتهاد بالمعنى الأعمّ يعمل به الأخباري أيضاً في المجالات المختلفة من الفقه، وإن شئت فراجع إلى كتاب الحدائق حتّى تلاحظ كونه اجتهاد واستنباط من المحدّث البحراني من أوّله إلى آخره، وكذا غيره من أشباهه.

الأمر الثالث: موارد النزاع بين الأخباري والاصولي

ويرجع تاريخ هذا النزاع إلى أوائل القرن الحادي عشر على يد الميرزا محمّد أمين الاسترابادي رحمه الله صاحب كتاب الفوائد المدنية (وإن كانت بذوره موجودة من قبل في كلمات جمع من المحدّثين المتقدّمين) فابتدأ النزاع منه، ثمّ

إستمرّ إلى القرن الثاني عشر، وإستبان الحقّ فيه تدريجاً.

وعمدة محلّ الخلاف بين الطائفتين امور ثلاثة:

1- مسألة جواز الاجتهاد.

2- حجّية العقل.

3- تقليد العوام المجتهدين.

أمّا المورد الأوّل: فقد أشرنا سابقاً إلى أنّ الأخباري أيضاً يستنبط الحكم من أدلّته ويجتهد على نحو الاجتهاد بالمعنى العام في مقام العمل، كما أنّ الاصولي أيضاً يخالف الاجتهاد بالمعنى الخاصّ، فالنزاع بينهم في هذا المجال كأنّه نشأ من مناقشة لفظية واشتراك لفظي أو معنوي في كلمة الاجتهاد أو الرأي أو الظنّ، فإنّ للاجتهاد معنيين: المعنى العام والمعنى الخاصّ (وقد مرّ تعريفهما وبيان المقصود من كلّ واحد منهما) كما أنّ للعمل بالظنّ وهكذا العمل بالرأي أيضاً معنيين، فهما عند الاصوليين بمعنى العمل بالأمارات المعتبرة وظواهر الكتاب والسنّة،

انوار الأصول، ج 3، ص: 543

وعند العامّة بمعنى العمل بالقياس الظنّي أو الاستحسان الظنّي، فقد وقع الخلط بين المعنيين لأجل هذا الاشتراك.

والشاهد على لفظية النزاع أنّ بعض الأخباريين أيضاً بحثوا عن كثير من مباحث الاصول في ابتداء كتبهم الفقهيّة كالمحدّث البحراني، حيث خصّص قسماً كبيراً من المجلّد الأوّل من حدائقه بالبحث عن المسائل الاصوليّة أي قواعد الاجتهاد بالمعنى العام وإن عبّر عنه بمقدّمات الحدائق لا المسائل الاصوليّة، كما أنّ تتبّع كلمة الاجتهاد في تاريخ الفقه والحديث يدلّنا بوضوح أنّ هذه الكلمة كانت تستخدم للتعبير عن الاجتهاد بالمعنى الخاصّ منذ عصر الأئمّة عليهم السلام إلى عدّة قرون وكان هو المراد منها في الروايات المأثورة عن الأئمّة المعصومين عليهم السلام التي تذمّ الاجتهاد وكذلك في كلمات الأصحاب وتصنيفاتهم التي ألّفوها في هذا المجال، ويكفيك مثل هذا التعبير في بعض كلماتهم: «أنّ الاجتهاد باطل، وأنّ الإماميّة لا يجوز عندهم العمل بالظنّ ولا الرأي ولا الاجتهاد»، فإنّه دليل ظاهر على أنّ مرادهم

من الاجتهاد هو ما يرادف الرأي والظنّ.

وبهذا نعرف أيضاً أنّ لكلمة الأخباري أيضاً معنيين: أحدهما ما يرادف مصطلح المحدّث الذي يطلق في الكلمات على مثل الصدوق والكليني رحمهما الله، والثاني ما يقابل مصطلح الاصولي، الذي ظهر أمره وانتشر انتشاراً كثيراً في القرن الحادي عشر على يد أمين الاسترابادي، والمتبادر منه هو الأخير كما أنّ المتبادر من المحدّث هو الأوّل.

هذا كلّه في المورد الأوّل من موارد الاختلاف بين الأخباري والاصولي.

أمّا المورد الثاني: وهو حجّية العقل فقد وقع النزاع فيه أيضاً بين الطائفتين، وقد أنكر الأخباريون اعتبار العقل إنكاراً تامّاً، وحيث أورد عليهم بأنّه لو عزلتم العقل عن حكمه مطلقاً فمن أين تثبت اصول الدين؟ وهل يمكن إثباته بالدليل النقلي مع استلزامه الدور الواضح؟ فلذا أخذ جماعة منهم في الاستثناء عن هذا العموم فقال بعضهم باعتبار العقل البديهي، وبعضهم باعتبار ما يقرب إلى الخمس من العقل النظري كالرياضيات إلى غير ذلك ممّا ذكروه في هذا المقام ممّا يدلّ على وقوعهم في هرج وتناقض من هذا الأمر وحيث قد مرّ الكلام في جميع ذلك مشروحاً في مباحث القطع فلا حاجة إلى إعادته فراجع وتأمّل.

وأمّا المورد الثالث: وهو تقليد العوام للعلماء- فقد ذهب الأخباريون إلى عدم جوازه،

انوار الأصول، ج 3، ص: 544

وقالوا أنّ اللازم على المجتهد إراءة النصوص الشرعيّة إلى العوام لكي يعملوا بها مباشرة وبدون واسطة، كما كان ذلك ديدن القدماء من الأصحاب إلى «نهاية» شيخ الطائفة رحمه الله، فقد كانت كتبهم الفتوائية متلقّاة من كلمات المعصومين ومتّخذة من نفس العبارات الواردة في الأخبار بعد تنقيحها وتهذيبها وعلاج التعارض بينها.

أقول: لا يخفى أنّ هذا النزاع أشبه بالمناقشة اللفظية أو مغالطة واضحة، حيث إنّ اعطاء النصوص والأخبار بأيدي العوام بعد

حلّ تعارضها وتهذيب إسنادها وتخصيص عمومها بخصوصها وتقييد مطلقها بمقيّدها وغير ذلك ممّا لابدّ منه في مقام استخراج الأحكام ليس أمراً وراء الاجتهاد من جانب الفقيه، والتقليد من جانب العوام، والقائلون بجواز التقليد لا يريدون شيئاً وراء هذا.

والكتب المشار إليها أيضاً من هذا القبيل، نعم هى خالية غالباً عن تفريع الفروع، وأين هذا من عدم اجتهادهم في بيان اصول الأحكام؟

الأمر الرابع: المجتهد المطلق والمتجزّي
اشارة

أمّا المجتهد المطلق فقد عرّف بأنّه من له ملكة يقتدر بها على إستنباط جميع الأحكام الشرعيّة الفرعيّة.

والتعريف بالملكة لا ينافي ما مرّ سابقاً من «أنّ الاجتهاد عبارة عن المعنى المصدري أو اسم المصدري للاستراج والاستنباط، فيكون أمراً فعلياً لا بالقوّة» لأنّ الكلام هنا في المتّصف بهذه الصفة والمشتقّ منها، أي عنوان «المجتهد» (لا «الاجتهاد») ولا يخفى أنّ المبدأ في مثل هذه العناوين والمشتقّات أخذ على نحو الملكة لا على نحو الفعلية بعنوان الملكة، فإنّ قيام المبدأ بالذات على أنحاء مختلفة كما قرّر في محلّه في بحث المشتقّ.

والمجتهد المتجزّي عبارة عن، من له ملكة يقدر بها استنباط بعض الأحكام الشرعيّة الفرعيّة فقط.

وحينئذٍ يقع البحث في جهتين:

الجهة الاولى: في أحكام المجتهد المطلق.

انوار الأصول، ج 3، ص: 545

الجهة الثانية: في أحكام المجتهد المتجزّي.

أمّا الجهة الاولى: في أحكام المجتهد المطلق
اشارة

فلتحقيق البحث فيها لابدّ من رسم مسائل:

المسألة الاولى: إمكان تحقّق الاجتهاد المطلق

ربّما يقال بعدم إمكان الاجتهاد المطلق، لأنّ الفقيه لو بلغ إلى أي مرتبة من العلم والفقاهة يبقى مع ذلك في بعض المسائل متردّداً، ولذا قد يتردّد الأعلام في بعض المسائل، ويقولون في كتبهم الاستدلاليّة: أنّ المسألة بعدُ محلّ إشكال أو محلّ تأمّل فيعبّرون في رسائلهم العمليّة بوجوب الاحتياط.

ويمكن الجواب عنه: بأنّ هذه الاحتياطات إنّما تدلّ على وجود تعقيد في المسألة فحسب، ولذلك يقتضي الورع الفقهي عدم إعلان فتواه العلمي ما لم يحسّ ضرورة في إعلانه، وإن شئت قلت: إنّما يحتاط الفقهاء الأعلام في بعض المسائل لأحد أمرين:

أحدهما: حاجة المسألة إلى تتبّع كثير لا يسع له الوقت أو لا يحضر منابعها ومداركها بالفعل.

ثانيهما: ما يكون الدليل فيه في أقلّ مراتب الحجّية فلا يجترى ء الفقيه للفتوى لشدّة ورعه، ولأن لا يبعّد المكلّفين مهما إمكن عن الأحكام الواقعيّة، ولكن لو مسّت الحاجة إلى تبيين الحكم كانوا قادرين عليه، لأنّ المسألة إمّا ورد في نصّ يبلغ مرتبة الحجّية أم لا، وعلى تقدير وروده إمّا يوجد معارض أم لا، وعلى تقدير عدم وروده إمّا يكون هناك اطلاق أو عموم، أو لا يوجد شي ء من ذلك ما عدى الاصول العمليّة التي تكون حاصرة لمواردها حصراً عقلياً، والوظيفة في جميع هذه الفروض معلومة مبيّنة، لا معنى لعجز الفقهاء الأكابر الأعلام عن تشخيصها.

نعم، لمّا كانت الاحتياطات موجبة لخروج الشريعة عن كونها سهلة سمحة فالجدير بالعلماء الأعلام أن لا يحوموا حولها إلّابشرطين:

أحدهما: أن يكون المورد من الموارد التي لا توجب للمقلّد الكلفة والمشقّة الشديدة في انوار الأصول، ج 3، ص: 546

مقام العمل، كما أنّه كذلك في الاحتياط بالجمع بين القصر والإتمام في الصّلاة والصيام.

ثانيهما: كون المورد من الموارد

التي لا يمكن فيها تحصيل الحدّ الأقل من الحجّة بسهولة، وإلّا ففي غير هذين الموردين يجب عليه ترك الاحتياط وإظهار الفتوى.

المسألة الثانية: جواز العمل بالاجتهاد المطلق

لا ريب في جواز عمل المجتهد برأيه في أعماله، لشمول الخطابات الشرعيّة وأدلّة الأمارات المعتبرة والاصول العمليّة له، فبعد ثبوتها عنده يجب العمل على طبقها، بل يكون تقليده لغيره حراماً، لأنّه على الفرض يرى المخالف له في فتواه جاهلًا ومخطئاً، أي قامت الحجّة عنده على أنّ ما يقوله المخالف ليس حكم اللَّه، فكيف يرجع إليه ويلتزم بفتواه في مقام العمل؟ نعم إذا كان قادراً على الاستنباط ولم يستنبط فالمعروف هنا أيضاً حرمة تقليده للغير، لكنّه لكن لا يخلو عن إشكال كما ذكرنا في محلّه.

وأمّا عمل الغير باجتهاده وفتاويه فقد ذهب الأخباريون من أصحابنا إلى عدم جوازه، وسيأتي في أحكام التقليد بيان بطلانه وضعفه، وعدم التزام الأخباري أيضاً به في العمل، والمشهور جوازه، بل ادّعى صاحب الفصول أنّه إجماعي بل ضروري، وهو غير بعيد كما سيأتي.

وفصّل المحقّق الخراساني رحمه الله بين ما إذا كان المجتهد إنفتاحياً فيجوز تقليده، وبين ما إذا كان انسدادياً فلا يجوز، واستدلّ على عدم الجواز في الانسدادي بما حاصله: أنّ رجوع الغير إليه ليس من رجوع الجاهل إلى العالم بل إلى الجاهل، أضف إلى ذلك أنّ أدلّة جواز التقليد إنّما دلّت على جواز رجوع غير العالم إلى العالم، وأمّا مقدّمات الانسداد الجارية عند الإنسدادي فمقتضيها حجّية الظنّ في حقّ نفسه دون غيره، إذ لا ينحصر المجتهد بالانسدادي فقط، هذا كلّه على تقدير الحكومة، وأمّا بناءً على الكشف فإنّه وإن ظفر المجتهد الانسدادي بناءً عليه بحكم اللَّه الظاهري من طريق كشف العقل عنه، ولكن يبقى الإشكال الثاني على قوّته، أي لا دليل

على جريان مقدّمات الانسداد بالنسبة إلى غيره مع وجود المجتهد الانفتاحي.

أقول: وللنظر في كلامه مجال من جهات شتّى:

انوار الأصول، ج 3، ص: 547

أوّلًا: ليس بناء العقلاء في رجوع الجاهل إلى العالم على رجوعه إلى العالم بالحكم فقط، بل إنّه استقرّ على رجوع الجاهل إلى العالم مطلقاً سواء كان عالماً بالحكم أو بمطلق الحجّة ومواقع العذر، وإن هو إلّانظير البراءة العقليّة والاحتياط العقلي على القول بالإنفتاح، بل نظير تمام الأمارات على مبنى القائلين بالمنجّزية والمعذّريّة، حيث إنّ مفاد أدلّة حجّية الأمارة حينئذٍ ليس حكماً شرعياً حتّى يكون العالم به عالماً بالحكم، بل إنّ مفاده حينئذٍ قضيتان شرطيّتان وهما: إن أصاب الواقع فهو منجّز وإن خالف الواقع كان معذّراً.

ثانياً: في قوله أنّ مقدّمات الانسداد لا تكاد تجري بالنسبة إلى غير المجتهد- أنّ الفقيه المجتهد يكون كالنائب عن جميع الناس يكشف مواقع الأدلّة في حقّهم، ولا يخفى وضوح هذا المعنى في كشفه عن أحكام لا ترتبط به نفسه، كالأحكام المختصّة بالنساء في الحيض والنفاس وغيرهما، فهو كالنائب عنهنّ في تشخيص موارد الأدلّة، وكذلك الكلام عن انسداد باب العلم.

فإنّه لو رأى انسداد باب العلم فكأنّه رأى انسداده لجميع الناس، فليكن رأيه حجّة لجميعهم.

ثالثاً: أنّ المجتهد الإنسدادي لو فرض كونه أعلم من غيره فكيف يعدّ جاهلًا بالحكم، وغيره الإنفتاحي عالماً بالحكم، مع أنّ المجتهد الإنفتاحي قد يكون من أقلّ تلامذته ويكون جاهلًا مركّباً في نظره؟

فظهر ممّا ذكرنا أنّه لا وجه للتفصيل بين الانسدادي والانفتاحي في حجّية قول المجتهد المطلق لغيره.

المسألة الثالثة: جواز القضاء للمجتهد المطلق

قد يقال: أنّ مقتضى مقبولة عمر بن حنظلة لمكان التعبير ب «حكم بحكمنا» و «عرف أحكامنا» اختصاص نفوذ قضاء المجتهد المطلق بما إذا كان انفتاحياً، حيث إنّ الانسدادي ليس عالماً بالحكم

وعارفاً بالأحكام.

ولكن الجواب هو الجواب، وهو أنّ المراد من الحكم إنّما هو مطلق الحجّة، فالعارف بالحجج أيضاً يعدّ عارفاً بالأحكام، كما أنّ الحاكم بالحجّة أيضاً يكون حاكماً بالحكم.

انوار الأصول، ج 3، ص: 548

بقي هنا شي ء:

وهو ما أفاده بعض الأعلام فيمن له ملكة الاجتهاد ولم يجتهد بالفعل، أو اجتهد شيئاً قليلًا، من عدم جواز الرجوع إليه في التقليد، وعدم نفوذ قضائه وتصدّيه للُامور الحسبيّة، من باب أنّ الأدلّة اللفظيّة المستدلّ بها على جواز التقليد من الآيات والروايات أخذت في موضوعها عنوان العالم والفقيه وغيرهما من العناوين غير المنطبقة على صاحب الملكة، وكذلك الحال في السيرة العقلائيّة، لأنّها إنّما جرت على رجوع الجاهل إلى العالم، وصاحب الملكة ليس بعالم فعلًا، فرجوع الجاهل إليه من قبيل رجوع الجاهل إلى مثله، هذا إذا لم يتصدّ للاستنباط بوجه، وأمّا لو استنبط من الأحكام شيئاً طفيفاً فمقتضى السيرة العقلائيّة جواز الرجوع إليه فيما استنبطه من أدلّته، فإنّ الرجوع إليه من رجوع الجاهل إلى العالم، فإنّ إستنباطه بقيّة الأحكام وعدمه أجنبيان عمّا استنبطه بالفعل، نعم قد يقال: إنّ الأدلّة اللفظيّة رادعة عن السيرة، إذ لا يصدق عليه عنوان الفقيه أو العالم بالأحكام، ولكن الإنصاف أنّ الأدلّة اللفظيّة لا مفهوم لها وإنّها غير رادعة.

هذا كلّه في جواز التقليد وعدمه، وأمّا نفوذ قضائه وعدمه فالصحيح عدم نفوذ قضائه وتصرّفاته في أموال القصر، وعدم جواز تصدّيه لما هو من مناصب الفقيه، وذلك لأنّ الأصل عدمه، لأنّه يقتضي أن لا يكون قول أحد أو فعله نافذاً في حقّ الآخرين إلّافيما قام عليه الدليل، وهو إنّما دلّ على نفوذ قضاء العالم أو الفقيه أو العارف بالأحكام أو غيرها من العناوين الواردة في الأخبار، ولا يصدق شي ء من ذلك

على صاحب الملكة «1». (انتهى)

أقول: في ما أفاده مواقع للنظر:

أوّلًا: قد مرّ أنّ حصول ملكة الاجتهاد من دون ممارسة عملية مجرّد فرض لا واقع له خارجاً.

ثانياً: سلّمنا، ولكن لا إشكال في أنّ سيرة العقلاء لم تستقرّ على الرجوع إلى مثله، ولا أقلّ من عدم إحرازها.

ثالثاً: أنّه لم يبيّن الفرق في كلامه بين جواز التقليد وجواز التصدّي للقضاء في جريان انوار الأصول، ج 3، ص: 549

سيرة العقلاء على الرجوع في الأوّل دون الثاني، فإنّه لو فرض استقرار سيرة العقلاء على رجوع الجاهل إلى صاحب الملكة في أمر التقليد، فكيف لم تستقرّ سيرتهم على رجوع المتداعيين إليه في أمر القضاء؟ مع أنّ لازم جواز الرجوع إليه في أمر التقليد كونه عالماً وخبرة عندهم بمجرّد الحصول على الملكة، وهذا صادق أيضاً بالنسبة إلى من له ملكة القضاء، وما ذكره من أنّ الأصل عدم نفوذ قضاء أحد في حقّ، أحد- حقّ، ولكن يمكن إحراز النفوذ في مثل المقام بإطلاقات أدلّة القضاء وإنصرافها إلى ما هو متعارف عند العقلاء (إلّا ما خرج بالدليل) فإنّ القضاء ليس أمراً تأسيسيّاً للشرع، بل هو إمضاء لما عند العقلاء.

المسألة الرابعة: من مناصب المجتهد المطلق الولاية والحكومة

إنّ من الواضحات والامور البديهية في الشريعة حاجة المجتمع الإنساني إلى الحكومة وعدم إمكان تفكيكه عنها، وذلك من باب أنّه بالحكومة يمكن تحقيق أهداف الشريعة المقدّسة التي لا يمكن الوصول إليها إلّامن طريق تشكيل الحكومة وتنفيذ الولاية.

ومن تلك الأهداف المهمّة حفظ نظام المجتمع، فلا إشكال في لزوم اختلال النظام بدون الحكومة وهو ممّا لا يرضى الشارع به، بل هو من أهمّ الامور عنده.

ومنها: تعليم النفوس الإنسانيّة وتربيتها.

ومنها: إقامة القسط والعدل، وإحقاق حقوق الناس، فإنّه أيضاً من أهداف الشريعة المقدّسة.

ومنها: إجراء بعض المراحل العالية للأمر بالمعروف والنهي

عن المنكر.

ومنها: تولّى القضاء، فإنّه أيضاً لا يمكن تحقّقه في الخارج من دون اعتضاده بالحكومة.

ومنها: إجراء الحدود والتعزيرات.

ومنها: حفظ حدود الممالك الإسلاميّة وثغورها، فإنّها أيضاً لا تتحقّق إلّابتشكيل الحكومة والعساكر.

فظهر أنّ أصل الحكومة أمر لازم ضروري.

ثمّ إنّ هذه الحكومة تأخذ مشروعيتها من ناحية الباري تعالى لا من جانب الناس انوار الأصول، ج 3، ص: 550

وآرائهم، وأمّا قانون الانتخاب في الحكومة الإسلاميّة فإنّه لمجرّد جلب مشاركة الناس في أمر الحكومة، التي هى من المقدّمات الواجبة لتحقيق الأهداف المزبورة، ولذلك نقول: لابدّ من تنفيذ أمر رئيس الجمهورية بعد توفيقه في أخذ أكثرية الآراء من جانب الولي الفقيه.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ هذا المنصب جعل من ناحية الإمام المعصوم عليه السلام للفقيه الواجد للشرائط المذكورة في محلّها، ويدلّ على هذا الجعل وجوه عديدة، كما أنّ لولايته مراحل وشؤوناً مختلفة، ليس هنا محلّ ذكرها، وقد بحثنا عن هذه الشؤون وتلك الوجوه تفصيلًا في كتاب أنوار الفقاهة، كتاب البيع، مبحث أولياء العقد، فراجع.

هذا كلّه في الجهة الاولى، وهى البحث في أحكام المجتهد المطلق.

الجهة الثانية: في أحكام المجتهد المتجزّي
اشارة

وقبل الورود فيها لابدّ من بحث موضوعي وهو إمكان التجزّي في الاجتهاد وعدمه، وقد وقع الخلاف فيه بين الأصحاب، فقال بعض بأنّه ممكن، وقال بعض آخر بأنّه محال، ولنا نظرة اخرى وهى أنّ الاجتهاد المطلق يستحيل عادةً تحقّقه في الخارج من دون العبور عن طريق الاجتهاد المتجزّي.

واستدلّ القائلون بالإستحالة بوجهين:

أحدهما: أنّ الملكة من الكيفيات النفسانية وهى بسيطة لا تقبل القسمة والتجزّي.

ثانيهما: ربط المسائل الفقهيّة بعضها ببعض وعدم إمكان التفكيك بينها.

ويرد على الوجه الأوّل: أنّ الملكة وإن لم تنقسم ولا تتجزّى، لكنّها ذات مراتب متفاوتة باعتبار تفاوت متعلّقاتها من حيث الصعوبة والسهولة والكمال والنقص، فهى حينئذٍ ملكات كثيرة بعدد

المسائل التي وقعت متعلّقة للملكة، وقد تحصل مرتبة ناقصة منها دون المرتبة الكاملة من دون تلازم بينهما في الوجود، ومن هذا القبيل ملكة الاجتهاد، فإنّها كسائر الملكات تدريجية الحصول لا تصل إلى مرتبة أعلى إلّابعد العبور عن المرتبة الأدنى، ولا تتحقّق ملكة الاجتهاد في المسائل المعقّدة المشكلة إلّابعد حصول القدرة على استنباط المسائل الساذجة، كما أنّه كذلك في مثل ملكة المشي والتكلّم للصبي التي تبتدأ من مراحل ساذجة إلى مراحل انوار الأصول، ج 3، ص: 551

معقّدة، وهكذا في القدرة على الطبابة، فإنّها تبتدأ من المعالجات البسيطة إلى مراحل معقّدة عميقة، بل قد يكون الاجتهاد المطلق في بعض العلوم الجديدة كالطب من المحالات، فإنّ كلّ طبيب يمكن له أن يجتهد ويستنبط في مجال خاصّ من الطبابة.

إن قلت: إنّ قياس ملكة الاجتهاد في المسائل الفقهيّة بسائر الملكات مع الفارق، لأنّ مدارك الاستنباط واصوله وقواعده في باب من الفقه متّحدة مع الاصول الجارية في أبواب اخر.

قلنا: أنّه كذلك، ولكن يمكن التفكيك في المسائل الاصوليّة أيضاً من حيث الصعوبة والسهولة، فيتطرّق التقسيم والتجزّي فيها، ولا إشكال حينئذٍ في ورود التجزّي إلى المسائل الفقهيّة التي تنطبق عليها، فمثلًا مسألة اجتماع الأمر والنهي من المسائل المشكلة في الاصول، ومن لا يقدر على حلّها والاجتهاد فيها لا يقدر على حلّ ما يرتبط بها من الفروعات الفقهيّة في باب الصّلاة والصوم والحجّ وغيرها. هذا أوّلًا.

وثانياً: قد مرّ أنّ الإحاطة بعلم الاصول وحده لا تكفي لحصول ملكة الاجتهاد، بل لابدّ من التمرين والممارسة، ولا ريب في أنّ للممارسة مراحل مختلفة ودرجات متفاوتة، وبحسبها يتجزّأ الاجتهاد في الفقه، وهذا هو ما ذكرنا من أنّ الاجتهاد المطلق يستحيل عادةً من دون العبور عن الاجتهاد المتجزّي.

وقد يقال: إنّ

الوصول إلى الاجتهاد المطلق من دون طيّ مرحلة التجزّي يلزم منه الطفرة التي قضى العقل ببطلانها.

ولكن يمكن الجواب عنه: أنّ المراد من الطفرة تقديم ما هو في رتبة متأخّرة أو بالعكس، كتقديم ذي المقدّمة على المقدّمة، والمعلول على العلّة، ومثل رفع الأقدام المتأخّرة قبل الاقدام المتقدّمة في العلل الأعدادية، فهى تتصوّر فيما إذا كان هناك ترتيب عقلًا، وهو مفقود في ما نحن فيه.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّه يبحث في أحكام المجتهد المتجزّي عن امور ثلاثة:

أحدها: جواز عمل المتجتهد المتجزّى برأيه

والتحقيق فيه التفكيك بين صورتين:

انوار الأصول، ج 3، ص: 552

الاولى: ما إذا اجتهد واستقرّ رأيه على شي ء.

الثانية: ما إذا لم يجتهد، أو اجتهد ولكن لم يستقرّ رأيه بعد على شي ء.

أمّا الصورة الاولى:

فلا ريب في وجوب تقليده لنفسه والعمل برأيه، وحرمة تقليده لغيره، لأنّه لا إشكال في كونه مخاطباً لأدلّة الاصول العمليّة والأمارات الشرعيّة، مثل دليل «إن جاءكم فاسق بنبأ فتبيّوا»، ولازمه أنّه إذا اجتهد واستنبط مثلًا تنجّس الماء القليل تمّت الحجّة عليه في خصوص هذه المسألة من دون الحاجة إلى الإذن من مجتهد مطلق.

أمّا الصورة الثانية:

ففي جواز العمل برأيه فيها خلاف، ذهب صاحب المناهل إلى عدمه، ومقتضى اطلاق كلام الشيخ الأعظم رحمه الله في رسالته في الاجتهاد والتقليد هو الجواز، بل حرمة التقليد عن الغير، وتفصيل البحث في ذلك في محلّه.

ثانيها: جواز رجوع الغير إليه

والتحقيق فيه أن يقال: إنّه تارةً: يمكن له أن يجتهد في شي ء معتدّ به من الأحكام، بحيث يصدق عليه عنوان «من عرف حلالنا وحرامنا» أو «شيئاً من قضايانا» أو عنوان «أهل الذكر» و «من كان من الفقهاء»، كما إذا حصلت له ملكة الاجتهاد في أبواب المعاملات مثلًا، فلا ريب حينئذٍ في جواز تقليد الغير له، والشاهد عليه بناء العقلاء على العمل برأي الطبيب المتجزّي المتخصّص في فنّه، بل على ترجيحه على غيره، لكونه أعلم من غيره في هذه الناحية.

واخرى: يمكن له أن يجتهد مسائل طفيفة قليلة، ففي هذه الصورة لا تصدق عليه العناوين المزبورة، أي لا تشمله الأدلّة النقليّة الواردة في باب التقليد، نعم لا إشكال في جريان سيرة العقلاء وبنائهم على تقليده، كما لا إشكال في عدم ثبوت الردع عنه بتلك الأدلّة النقلية، لأنّها ساكتة عنه، ونتيجته جواز تقليده في هذه الصورة أيضاً إذا كان واجداً لسائر شرائط التقليد.

انوار الأصول، ج 3، ص: 553

والذي يسهل الخطب أنّ المتجزّي بهذا المعنى لا مصداق له خارجاً، لأنّه قد مرّ أنّ من شرائط حصول الملكة، الممارسة في الاستنباط، وهى تحتاج إلى استنباط مسائل كثيرة، كما أنّه كذلك في مثل ملكة الطبابة ونحوها.

ثالثها: قضاء المجتهد المتجزّي

وقد فصّل بعض فيه بين من كانت له ملكة الإستنباط على مقدار معتنى به من الأحكام ومن كان قادراً على استنباط أحكام قليلة، وقال بجواز القضاء للأوّل دون الثاني، وذلك لعدم شمول العناوين الواردة في مثل مقبولة عمر بن حنظلة ومشهورة أبي خديجة لمثله.

ولكن يمكن أن يستدلّ للجواز مطلقاً بوجوه عديدة:

منها: ما رواه أحمد عن أبيه رفعه عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «القضاة أربعة ثلاثة في النار وواحد في الجنّة: رجل قضى بجور وهو يعلم،

فهو في النار، ورجل قضى بجور وهو لا يعلم فهو في النار، ورجل قضى بالحقّ وهو لا يعلم فهو في النار، ورجل قضى بالحقّ وهو يعلم فهو في الجنّة» «1».

فإنّ قوله عليه السلام: «قضى بالحقّ وهو يعلم» صادق على المتجزّي مطلقاً بلا إشكال، نعم الإشكال في سندها لكونها مرفوعة.

ومنها: بناء العقلاء، فإنّه استقرّ على الرجوع بمن هو عالم بأحكام القضاء المتداولة بينهم سواء كان مجتهداً مطلقاً أو متجزّياً، وعلى الثاني سواء كان له ملكة الاجتهاد بالنسبة إلى مسائل معتدّ بها، أو كان له ملكة الاجتهاد بالنسبة إلى مسائل طفيفة قليلة، ولا إشكال في أنّ هذا البناء يخصّص ذلك الأصل الأوّلي، أي أصالة عدم نفوذ قضاء أحد على أحد، كما لا إشكال في عدم رادعية الروايات المذكورة له، لأنّها تثبت جواز القضاء لمن كانت العناوين الواردة فيها صادقة عليه، وليس لها مفهوم ينفي الجواز عمّن لم تكن تلك العناوين صادقة عليه، فتأمّل.

ومنها: نفس مقبولة عمر بن حنظلة ورواية أبي خديجة من باب أنّه لا موضوعيّة

انوار الأصول، ج 3، ص: 554

للعناوين الواردة فيهما، بل إنّها طريق إلى من يكون قادراً على القضاء، وعناوين مشيرة إلى اعتبار العلم بأحكام القضاء حتّى يكون قادراً عليه، فهما تعمّان المتجزّي أيضاً.

فظهر أنّه يجوز القضاء للمتجزّي حتّى لمن كان مجتهداً في مسائل قليلة، لكن الكلام في وجود هذا القسم من المتجزّي خارجاً كما مرّ سابقاً.

بقي هنا شي ء:

وهو أنّه لا إشكال في عدم اعتبار الإذن من المجتهد المطلق في عمل المجتهد المتجزّي برأيه إذا كان مجتهداً في المباني الاصوليّة، وحصل له القطع بالحجّة بعد الإستنباط، نعم رجوع العامي إليه يحتاج إلى الإذن من المجتهد المطلق، أي لابدّ له من التقليد عن المجتهد المطلق في

خصوص هذه المسألة، أي مسألة جواز التقليد عن المجتهد المتجزّي، وإلّا دار، وهذا نظير ما يقال به في مسألة جواز تقليد غير الأعلم من أنّه لابدّ في خصوص هذه المسألة من تقليد الأعلم، فإن أجاز هو تقليد غير الأعلم فهو، وإلّا فلا يجوز تقليد غير الأعلم، وهكذا بالنسبة إلى مسألة تقليد الميّت. فلابدّ في خصوصها من تقليد الحي.

إلى هنا تمّ الكلام في الأمر الرابع بكلتا جهتيه (أحكام المجتهد المطلق والمتجزّي).

الأمر الخامس: مباني الاجتهاد

وقد ذكر بعضهم أنّ الاجتهاد في المسائل الشرعيّة يبتني على علوم كثيرة ربّما تربو على أربعة عشر علماً: علم اللغة، علم الصرف، علم النحو، علم التفسير، علم الرجال، علم الحديث، علم الدراية، علم الكلام، علم اصول الفقه، علم الفقه نفسه (ممارسة الفقه)، علم المنطق، الفلسفة، علم المعاني، علم البيان.

ولابدّ من البحث أوّلًا: في أصل وجوب تحصيل كلّ واحد من هذه العلوم واعتباره في الاجتهاد والإستنباط، وثانياً: في المقدار اللازم منه.

فنقول: أمّا علم اللغة، فلا ريب في لزومه أمّا اجتهاداً أو رجوعاً إلى أهل الخبرة، لأنّ عمدة الأدلّة هى الكتاب والسنّة، وهما صدرا بلسان عربي مبين، فلابدّ من معرفة مواد اللغة العربية.

انوار الأصول، ج 3، ص: 555

وهكذا علم الصرف، لوضوح دخالته في فهم الكتاب والسنّة، وعلم النحو، لأنّ كلمة واحدة تستعدّ لمعانٍ مختلفة على أساس إعرابات متفاوتة، فلابدّ من معرفته حتّى تتميّز المعاني بعضها عن بعض، نعم اللازم منه ما يكون له أثر في اختلاف المعاني فحسب لا أكثر.

وبالجملة لكلّ واحد من هذه الثلاثة دخل في فهم المعاني، فإنّ علم اللغة يبيّن المادّة، وعلم الصرف يبيّن هيئة الكلمة وعلم النحو يبيّن هيئة الجملة.

وأمّا علم التفسير، فالمراد منه ما يكون وراء الثلاثة السابقة وهو الإحاطة بالآيات القرآنيّة، وردّ

بعضها إلى بعض، ومعرفة المحكم والمتشابه، والناسخ والمنسوخ، وغير ذلك من أشباهه فلا إشكال في دخله في إستنباط الأحكام.

وأمّا علم الرجال، فلا حاجة إليه عند من يقول بحجّية الأخبار المدوّنة في الكتب المشهورة المعروفة، من الكتب الأربعة وغيرها، وهكذا عند القائلين بحجّية الأخبار الواردة في خصوص الكتب الأربعة، وأمّا بناءً على مبنى القائلين باعتبار الوثوق برجال السند أو الوثوق بالرواية (الذي قد يحصل من طريق الوثوق بالراوي وقد يحصل من طريق الموافقة لعمل المشهور، وقد يحصل من طريق علوّ المضامين، أو من طريق تظافر الروايات) فلا إشكال في لزوم علم الرجال ودخله في الاستنباط والاجتهاد كما لا يخفى.

وأمّا علم الحديث فيكون بمنزلة علم التفسير، ومورداً للحاجة في طريق الاستنباط، لأنّ المراد منه معرفة لسان الرواية فإنّ لرواية الأئمّة المعصومين لسان خاصّ، ولحن مخصوص بها كالقرآن الكريم، يفترق عن لسان عبارات الفقهاء والعلماء ولحنها.

وأمّا علم الدراية، فلا إشكال في لزومه أيضاً، لأنّ المراد منه هو معرفة أقسام الرواية من حيث صفات الراوي من الصحيح والحسن والضعيف وغيرها، وبما أنّ الميزان في حجّية الرواية هو الوثوق بالرواية وأحد طرق حصوله هو الوثوق برجال الحديث كما مرّ آنفاً فلابدّ من معرفة أقسام الحديث على أساس رجال السند.

وأمّا علم الكلام، فكذلك لا إشكال في لزومه لأنّ إثبات حجّية كلام المعصوم وفعله وتقريره متوقّف على إثبات إمامته وعصمته في الرتبة السابقة، كما أنّ إثبات حجّية ظواهر الكتاب أيضاً مبنيّ على إثبات حقّانيّة أصل الكتاب وهكذا ...، ومحلّ البحث عن مثل هذه الامور إنّما هو علم الكلام كما لا يخفى.

انوار الأصول، ج 3، ص: 556

إن قلت: لازم هذا البيان عدم صدق الاجتهاد والاستنباط على اجتهاد زنديق يكون من فحول علماء علم الاصول

(فرضاً) وعالماً في سائر مباني الاستنباط، وهو كما ترى.

قلنا: يعتبر في صدق الاجتهاد تحصيل العلم بالحجّة، وهو لا يحصل لمثل هذا المفروض، وبما أنّه فرض غير واقعي لا ينبغي البحث فيه أكثر من هذا.

وأمّا علم اصول الفقه، فلزومه وشدّة الحاجة إليه في الاستنباط من القضايا قياساتها معها، كما يلوح به تعريف علم الاصول بأنّه هو العلم بقواعد تقع في طريق الاستنباط.

إن قلت: فما دعوى الأخباريين في مقابل الاصوليين وعدّ بعضهم إيّاه من البدعة في الدين؟

قلنا: لا إشكال في أنّ قسماً من النزاع بين الطائفتين لفظي، لأنّ المحدّث الاسترابادي نفسه مثلًا محتاج أيضاً في إثبات الأحكام الشرعيّة إلى حجّية خبر الواحد وحجّية ظواهر الألفاظ، وإلى ملاحظة إمكان الجمع الدلالي، ثمّ العلاج السندي عند تعارض الأدلّة، وإلى الرجوع إلى الاصول العمليّة عند فقدان النصّ (ولو كان الأصل عنده خصوص أصالة الاحتياط) ولا يخفى أنّ هذه المسائل من أهمّ مسائل علم الاصول.

ويشهد عليه ملاحظة ما بحث عنه صاحب الحدائق (وهو من المحدّثين المعروفين) في مقدّمات الحدائق، وهى إثنتا عشرة مقدّمة في 170 صفحة، ومن تلك المقدّمات حجّية خبر الواحد (وهو المقدّمة الثانية) ومنها مدارك الأحكام الشرعيّة، ومن جملتها حجّية ظواهر الكتاب والإجماع وأصالة العدم وأصالة البراءة في الشبهات الوجوبيّة ومقدّمة الواجب، ومسألة أنّ الأمر بالشي ء مستلزم للنهي عن ضدّه أم لا؟ وقياس الأولوية، وقياس منصوص العلّة (وهذه كلّها هى المقدّمة الثالثة) ومنها التعارض بين الأدلّة (وهو المقدّمة السادسة) ومنها مسألة أنّ مدلول الأمر والنهي هل هو الوجوب والتحريم أو لا؟ (وهو المقدّمة السابعة) ومنها ثبوت الحقيقة الشرعيّة وعدمه (المقدّمة الثامنة) ومنها معنى المشتقّ (المقدّمة التاسعة) ومنها حجّية دليل العقل وعدمها (المقدّمة العاشرة) وقد ذكر في المقدّمة الحادية عشرة

جملة من القواعد الفقهيّة فراجع.

فلا ريب في أنّ البحث والنزاع بين الطائفتين في هذا القسم من الاصولي لفظي.

انوار الأصول، ج 3، ص: 557

نعم هنا قسم من مباحث الاصول يقع النزاع فيه معنوياً، وقد حكى «1» صاحب الحدائق عن المحدّث الشيخ عبداللَّه البحراني صاحب كتاب منية الممارسين: أنّ موارد الاختلاف في هذا القسم تنتهى إلى ثلاثة وأربعين مسألة، ولكن الإنصاف أنّ هذا العدد ليس عدداً واقعياً، فإنّ كثيراً ممّا عدّه من موارد الاختلاف هى من شقوق دليل العقل، وتجمع تحت عنوان دليل العقل، والصحيح أنّ العمدة من موارد النزاع بينهم هى امور ثلاثة:

أحدها: في عدد الأدلّة، فإنّها عند الاصوليين أربعة: الكتاب والسنّة والإجماع ودليل العقل، بينما هى عند الأخباريين الأوّلان خاصّة، ولكن قد مرّ أنّ الإجماع الحجّة عند الاصوليين يرجع في الحقيقة إلى السنّة، فهو ليس دليلًا برأسه، وأمّا دليل العقل فالبديهيات العقليّة وهكذا العلوم العقليّة التي إستمدّت قضاياها من الحسّ، كالرياضيات فهى حجّة عند الجميع، فتبقى النظريات غير المعتمدة على الحسّ، فالأخباريون ذهبوا إلى عدم حجّيتها لما ظهر من الخطأ في تاريخ العلوم في هذا القسم من المدركات العقليّة (وهو نفس ما استدلّ به المذاهب الحسّية والتجربية في الفلسفة الأوربية) ولذلك قالوا بعدم حجّية ما يدركه العقل في مثل مسألة مقدّمة الواجب ومسألة الترتّب ومسألة أنّ الأمر بالشي ء يقتضي النهي عن ضدّه أو لا؟ ومسألة إجتماع الأمر والنهي وغيرها من أشباهها.

ثانيها: أصالة البراءة في الشبهات الحكميّة التحريميّة.

ثالثها: حجّية ظواهر كتاب اللَّه، فإنّ بعض الأخباريين ذهب إلى عدم حجّيتها إلّابعد ضمّ تفسير الأئمّة المعصومين عليهم السلام إليها.

فقد ظهر أنّ موارد الاختلاف بينهم قليلة، والإنصاف أنّ هذا المقدار من الخلاف أمر قهري طبيعي قد يكون بين الاصوليين أنفسهم

أيضاً، فلا يوجب تشنيعاً ولا تكفيراً من جانب الأخباريين بالنسبة إلى الاصوليين أو بالعكس كما نبّه عنه المحدّث البحراني في المقدّمة الثانية عشرة، فالجدير بالمقام نقل كلامه في هذا المجال، وإليك نصّه في الحدائق: «وقد كنت في أوّل الأمر ممّن ينتصر لمذهب الأخباريين، وقد أكثرت البحث فيه مع بعض المجتهدين من مشايخنا المعاصرين، وأودعت كتابي الموسوم بالمسائل الشيرازية مقالة مبسوطة مشتملة

انوار الأصول، ج 3، ص: 558

على جملة من الأبحاث الشافية والأخبار الكافية تدلّ على ذلك وتؤيّد ما هنالك، إلّاأنّ الذي ظهر لي- بعد إعطاء التأمّل حقّه في المقام وإمعان النظر في كلام علمائنا الأعلام- هو إغماض النظر عن هذا الباب، وإرخاء الستر دونه والحجاب، وإن كان قد فتحه أقوام وأوسعوا فيه دائرة النقض والإبرام:

أمّا أوّلًا: فلاستلزامه القدح في علماء الطرفين والإزراء بفضلاء الجانبين، كما قد طعن به كلّ من علماء الطرفين على الآخر، بل ربّما إنجرّ إلى القدح في الدين، سيّما من الخصوم المعاندين، كما شنّع به عليهم الشيعة من إنقسام مذهبهم إلى المذاهب الأربعة، بل شنّع به كلّ منهم على الآخر أيضاً.

وأمّا ثانياً: فلأنّ ما ذكروه في وجوه الفرق بينهما جلّة بل كلّه عند التأمّل لا يثمر فرقاً في المقام ...- إلى أن قال-.

وأمّا ثالثاً: فلأنّ العصر الأوّل كان مملوءاً من المحدّثين والمجتهدين، مع أنّه لم يرتفع بينهم صيت هذا الخلاف، ولم يطعن أحد منهم على الآخر بالإتّصاف بهذه الأوصاف، وإن ناقش بعضهم بعضاً في جزئيات المسائل، واختلفوا في تطبيق تلك الدلائل، وحينئذٍ فالأولى والأليق بذوي الإيمان، والأحرى والأنسب في هذا الشأن هو أن يقال: أنّ عمل علماء الفرقة المحقّة والشريعة الحقّة- أيّدهم اللَّه تعالى بالنصر والتمكين ورفع درجاتهم في أعلى علّيين سلفاً وخلفاً- إنّما

هو على مذهب أئمّتهم صلوات اللَّه عليهم وطريقهم الذي أوضحوه لديهم، فإنّ جلالة شأنهم وسطوع برهانهم ودرعهم وتقواهم المشهور بل المتواتر على مرّ الأيّام والدهور يمنعهم من الخروج عن تلك الجادّة القويمة والطريقة المستقيمة، ولكن ربّما حادّ بعضهم أخبارياً كان أو مجتهداً عن الطريق غفلة أو توهّماً أو لقصور إطّلاع أو قصور فهم أو نحو ذلك في بعض المسائل، فهو لا يوجب تشنيعاً ولا قدحاً، وجميع تلك المسائل- التي جعلوها مناط الفرق- من هذا القبيل، كما لا يخفى على من خاض بحار التحصيل، فإنّا نرى كلًا من المجتهدين والأخباريين يختلفون في آحاد المسائل، بل ربّما خالف أحدهم نفسه، مع أنّه لا يوجب تشنيعاً ولا قدحاً، وقد ذهب رئيس الأخباريين الصدوق (رحمه اللَّه تعالى) إلى مذاهب غريبة لم يوافقه عليها مجتهد ولا أخباري، مع أنّه لم يقدح ذلك في علمه وفضله، أو لم يرتفع صيت هذا الخلاف ولا وقوع هذا الإعتساف إلّامن زمن صاحب الفوائد المدنية سامحه اللَّه تعالى برحمته انوار الأصول، ج 3، ص: 559

المرضيّة، فإنّه قد جرّد لسان التشنيع على الأصحاب وأسهب في ذلك أي إسهاب، وأكثر من التعصّبات التي لا تليق بمثله من العلماء الأطياب، وهو وإن أصاب الصواب في جملة من المسائل التي ذكرها في ذلك الكتاب، إلّاأنّها لا تخرج عمّا ذكرنا من سائر الاختلافات ودخولها فيما ذكرنا من التوجيهات، وكان الأنسب بمثله حملهم على محامل السداد والرشاد، إن لم يجد ما يدفع به عن كلامهم الفساد، فإنّهم رضوان اللَّه عليهم لم يألوا جهداً في إقامة الدين وإحياء سنّة سيّد المرسلين صلى الله عليه و آله، ولا سيّما آية اللَّه العلّامة رحمه الله الذي قد أكثر من الطعن عليه والملامة، فإنّه بما ألزم

به علماء الخصوم والمخالفين من الحجج القاطعة والبراهين حتّى آمن بسببه الجمّ الغفير، ودخل في هذا الدين الكبير والصغير والشريف والحقير، وصنّف من الكتب المشتملة على غوامض التحقيقات ودقائق التدقيقات، حتّى أنّ من تأخّر عنه لم يلتقط إلّامن درر نثاره، ولم يغترف إلّامن زاخر بحاره، قد صار له من اليد العليا عليه وعلى غيره من علماء الفرقة الناجية ما يستحقّ به الثناء الجميل ومزيد التعظيم والتبجيل لا الذمّ والنسبة إلى تخريب الدين، كما اجترأ به قلمه عليه رحمه الله وعلى غيره من المجتهدين» «1» (انتهى).

وأمّا علم الفقه نفسه، أي ممارسة الفقه فقد يتوهّم أنّه لا معنى لكونه من مباني الاجتهاد من باب أنّه يكون غاية لغيره وذا المقدّمة بالنسبة إلى سائره، ولكن قد مرّ كراراً أنّ ملكة الاجتهاد لا تتحقّق إلّابالتمرين والممارسة في الفقه كما في غالب العلوم، وهى تحصل أوّلًا: بتطبيق الاصول على الفروع، وثانياً: بردّ الفروع إلى الاصول، فإذا سئل عنه مثلًا عن رجل صلّى الظهرين وهو يعلم إجمالًا بأنّه كان في أحدهما فاقداً للطهارة، فليعلم أنّه هل يجب عليه الاحتياط فيكون المورد من موارد تطبيق قاعدة الاحتياط، أو أنّه من موارد تطبيق قاعدة 6565 الفراغ؟ وأنّه هل يكون الترتيب بين الظهر والعصر ترتيباً واقعيّاً، أو لا؟ فيكفي إتيان صلاة رباعية بقصد ما في الذمّة، أو سئل عمن صار مستطيعاً وقد استُؤجر سابقاً لمناسك الحجّ فهل يبطل عقد الإجارة أو لا؟ من باب عدم كونه مستطيعاً شرعاً والممنوع شرعاً كالممنوع عقلًا، وهكذا ... إلى سائر الفروعات والمسائل.

وأمّا علم المنطق، فقد يقع الشكّ في الحاجة إليه، لأنّ المقدار اللازم منه أمر فطري لكلّ انوار الأصول، ج 3، ص: 560

إنسان فإنّ عمدة المنطق إنّما هى الأشكال

الأربعة، وجلّ استدلالات الناس (لولا كلّها) ترجع إلى الشكل الأوّل، وقد ذكروا أنّه بديهي الإنتاج، وأمّا السائر المسائل فقلّما يتّفق الحاجة إليها في الفقه، نعم الإحاطة ببعض المصطلحات فيها ربّما توجب سهولة الأمر في بيان الاستدلالات، كالإحاطة بالنسب الأربعة والكلّيات الخمس والوَحَدات المعتبرة في التناقض وغيرها.

وهكذا الفلسفة، فلا دخل لها بعلم الفقه لأنّها تبحث عن الامور الحقيقيّة، بينما الفقه يبحث عن الاعتباريات، نعم يمكن أن يقال: أنّ لها تأثيراً في الفقه من باب تأثيرها في علم الكلام فليس لها دخل مباشرة وبلا واسطة.

هذا- وقد أوجد الخلط بين مسائلها ومسائل اصول الفقه غوامض وتعقيدات كثيرة قد أشرنا إلى بعضها في بعض الأبحاث السابقة، ومن تلك المسائل الفلسفية التي أوردوها في الاصول قاعدة الواحد، مع أنّه قد قرّر في محلّه أنّها مختصّة بالواحد البسيط الحقيقي، ولا مساس لها بالاعتباريات، ومنها قاعدة عدم جواز الجمع بين النقيضين في باب إجتماع الأمر والنهي، مع أنّه أيضاً يتكلّم عن الحسن والقبح في الاعتباريات لا عن الإمكان والاستحالة في الحقائق، ولا استحالة في اعتبار النقيضين، ومنها تنزيلهم الحكم والموضوع بمنزلة العرض والمعروض وإسراء أحكامهما عليهما، ومنها أحكام العلّة والمعلول في باب الواجب المشروط وباب تداخل الأسباب الشرعيّة.

نعم، قد يلزم البحث عنها في عصرنا هذا للمنع عن هذا التداخل.

وأمّا علم المعاني والبيان فغاية ما قد يقال في تأثيره في الاستنباط والاجتهاد: أنّ من المرجّحات في الخبرين المتعارضين البلاغة والفصاحة، مع أنّ الصحيح أنّهما ليسا من المرجّحات، لأنّ كلمات الأئمّة المعصومين عليهم السلام مختلفة، قسم منها عبارة عن الخطب والمواعظ، وقد أعملوا فيها قواعد الفصاحة والبلاغة وبدائعها، نظير خطب نهج البلاغة وأدعية الصحيفة السجّادية وأشباهها.

وقسم آخر صدر لبيان الأحكام الفرعيّة والمسائل العمليّة، فلم

يصدر عنهم صلوات اللَّه عليهم ببدائع الفصاحة والبلاغة كما لا يخفى على الخبير، وفي الواقع القسم الأوّل نظير الآيات القرآنية، بينما يكون القسم الثاني شبيه الأحاديث القدسية الإلهيّة.

انوار الأصول، ج 3، ص: 561

هذا مضافاً إلى ما قد مرّ سابقاً من وجوب الاقتصار على المرجّحات المنصوصة (وليس هذا منها).

نعم، هيهنا أبحاث من علم المعاني والبيان كمسألة تقديم ما حقّه التأخير، وأبواب المجاز والحقيقة والكنايات والاستعارات، يكون لها دخل في فهم الأحكام عن الأدلّة اللفظيّة، ولكنّها مسائل يبحث عنها في علم الاصول أيضاً، وأمّا غيرها من سائر مسائل هذا العلم فلا أثر لها في الاستنباط، نعم قد يقال: إنّ لها أثراً مع الواسطة من حيث دخلها في تبيين كون كتاب اللَّه معجزة خالدة.

بقي هنا أمران:

الأوّل: لا شكّ في أنّ القواعد الفقهيّة لها دور عظيم في استنباط الأحكام الفرعيّة، ولعلّ عدم ذكرها في العلوم التي يبتني عليها الاستنباط من باب عدّهم إيّاها من الفقه نفسه، ولكن قد ذكرنا في محلّه أنّها علم برأسه وليست من اصول الفقه، كما أنّها ليست من الفقه نفسه فراجع «1».

الثاني: لا ينبغي الشكّ في أنّ للزمان والمكان دخلًا في الاجتهاد.

وتوضيحه: أنّ لكلّ حكم موضوعاً، والمعروف في الألسنة أنّ تشخيص الموضوع ليس من شؤون الفقيه، ولكن الصحيح أنّه لا يمكن للفقيه تجريد الذهن وتفكيك الخاطر عنه، فإنّ لموضوعات الأحكام مصاديق معقّدة غامضة لا يقدر العوام على تشخيصها، بل لابدّ للفقيه تفسيرها وتبيين حدودها وخصوصياتها، كما يشهد على ذلك أنّ كثيراً من الفروعات المعنونة في الكتب الفقهيّة (كالمبسوط للشيخ، والقواعد للعلّامة، والعروة الوثقى للسيّد اليزدي رحمهم الله) هى من هذا القبيل.

وإن شئت قلت: إن كان المراد من الموضوع في المقام هو الموضوعات الجزئيّة، أي مصاديق الموضوعات

الكلّية للأحكام، كمصاديق الدم والخمر والماء المطلق والمضاف انوار الأصول، ج 3، ص: 562

وغيرها فإنّه كذلك، أي ليس تشخيصها من شؤون الفقيه، وأمّا إن قلنا بأنّ المراد منه هو نفس الموضوعات الكلّية الواردة في لسان الأخبار فلا إشكال في أنّ تشخيصها وتعيين حدودها من شؤون الفقيه.

وبعبارة أدقّ: أنّ هذا القسم من الموضوعات- في الواقع- يستنبطها الفقيه بإرتكازه العرفي، ويستخرجها ويأخذها من بين العرف بما أنّه من أهل العرف، ثمّ يرجعها إلى العرف ويجعلها بأيديهم بعد تفسير الخصوصيات وتبيين حدودها، وإن شئت فانظر إلى فتاوي الفقهاء مثلًا في ما يصحّ السجود عليه، فقد ورد في الدليل أنّه يجوز السجود على الأرض وما يخرج منها إلّاما أكل وما لبس، فهذا عنوان عرفي، وقد تكلّم فقهاؤنا رضوان اللَّه عليهم في مصاديقه وأنّه أي شي ء يعدّ من المأكول والملبوس وأي شي ء لا يعد منهما فقد يكون هناك مصاديق لا يقدر العرف على تشخيص أنّها منهما أو ليست منهما، ولذا أورد المحقّق اليزدي رحمه الله في هذا الباب من العروة الوثقى فروعاً كثيرة لتبيين هذه المصاديق المشتبهة كجواز السجود وعدمه على الامور التالية:

1- الأدوية والعقاقير كلسان الثور.

2- قشر الفواكه.

3- تفالة الشاي.

4- نخالة الحنطة.

5- نواة الفواكه.

6- ورق الكرم بعد اليبوسة وقلبها.

7- ما يؤكل في بعض الأوقات دون بعض.

8- ما هو مأكول في بعض البلاد دون بعض.

9- النبات الذي ينبت على وجه الماء (فهل هو داخل في عنوان «ما أنبته الأرض» الوارد في الرواية أو لا؟).

10- التنباك ... إلى غير ذلك من أشباهها.

إن قلت: كيف يكون رجوع العوام إلى الفقيه في هذا القسم من المصاديق من قبيل رجوع الجاهل إلى العالم؟ أي كيف تشملها أدلّة التقليد؟

انوار الأصول، ج 3، ص: 563

قلنا: إنّ أدلّة التقليد

تشملها ويكون الرجوع فيها من قبيل رجوع الجاهل إلى العالم من باب أنّه ليس لها متخصّص وخبير غير الفقيه، نعم لو كانت هناك موضوعات يكون لها في العرف خبراء معروفون يجب الرجوع إليهم دون الفقيه.

ومن الأمثلة التي يمكن أن تذكر في هذا المجال عنوان النظر المحرّم إلى الأجنبيّة فإنّه أيضاً من الموضوعات المشكلة من باب أنّ لها مصاديق معقّدة مبهمة، فهل يصدق على النظر إلى تصوير الأجنبي في المرآة مثلًا أو الماء الصافي أو في تلفزيون عنوان النظر إلى الأجنبية أو لا؟

هذا من ناحية، ومن ناحية اخرى نعلم أنّ الأحكام تابعة لموضوعاتها متابعة الظلّ لذي الظلّ وقد يتبدّل الموضوع بتبدلّ الزمان أو المكان، فترى الماء في المفازة والصحاري مالية فيجوز بيعه فيها، بينما لا يكون له مالية على الشاطى ء، فيبطل بيعه (هذا من قبيل دخل المكان في الموضوع) وترى الشيخ رحمه الله يجوّز بيع الثلج في الصيف دون الشتاء لكونه مالًا في الأوّل دون الثاني (وهذا من قبيل دخل الزمان في الموضوع).

ومن أمثلتها الواضحة في يومنا هذا الدم الذي كان بيعه وشراؤه حراماً في الأزمنة السابقة باعتبار عدم وجود منفعة محلّلة معتدّ بها له. ولكن الآن لا إشكال في جواز بيعه وشرائه لما له من منافع محلّلة مقصودة، حيث لا تنحصر منافعه في الأكل المحرّم أو الصبغ الذي يعدّ من المنافع النادرة، فإنّ الدم في يومنا هذا عنصر حياتي يمكن به إنقاذ نفس إنسان من التهلكة، ولذا تكون له ماليّة عظيمة محلّلة معتدّ بها لنجاة المصدومين والجرحى وكثير من المرضى، لا سيّما في العمليات الجراحيّة فلِما لا يجوز بيعه في زماننا والحال هذا؟ وكذا بيع الكُلْية وشرائها لنجاة بعض المرضى الذين فسدت كِليَتهم، مع أنّها

بعد فصلها عن صاحبها تكون بحكم الميتة، ولا سيّما أنّها من غير المأكول، فلم يكن بيعها في الأزمنة السابقة جائزاً لعدم منفعة محلّلة لها، ولكن الآن جاز بيعها في زماننا هذا لتغيّر الموضوع وتبدّله، ولذا يشترونها بالأثمان الغالية جدّاً (نعم قد يقال: إنّها وإن جاز بيعها من هذه الناحية أي كونها ذات منفعة محلّلة مقصودة، ولكن لا يجوز بيعها من باب حرمة بيع الميتة من كلّ شي ء وإن كان لها منفعة مقصودة، للنصوص الخاصّة الواردة فيها، فالواجب حينئذٍ عدم جواز أخذ الثمن في مقابل نفسها بل في مقابل إجازه التصرّف في بدن صاحب الكِلوة فتأمّل جيّداً).

ومن أمثلتها في عصرنا ما قد يقال في مسألة تقليل المواليد وأنّها كانت مرجوحة في انوار الأصول، ج 3، ص: 564

الأعصار السابقة، بينما هى راجحة في زماننا، لا أقلّ في بعض البلاد التي تكون كثرة النفوس فيها موجبة للفقر الشديد والتأخّر والمفاسد الأخلاقيّة العظيمة.

فإنّ ما ورد في الترغيب على تكثير النسل والمواليد كالنبوي المعروف: «تناكحوا تكثروا فإنّي اباهى بكم الامم يوم القيامة ولو بالسقط» «1» ناظرة إلى الأعصار السابقة التي كانت كثرة النفوس فيها سبباً للقدرة والسلطة، فما كان من الجوامع الإنسانيّة أكثر نفراً كان أشدّ قدرة وأكثر قوّة كما يشهد عليه قوله تعالى: «كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَاداً» «2»

. وقوله تعالى: «وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَاداً» «3»

، وقوله تعالى: «اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ» «4»

وقوله تعالى: «فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ... وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ» «5»

فهذه الآيات تدلّ بظاهرها على أنّ كثرة الأولاد كانت موجبة للقدرة والشوكة كما كانت كثرة الأموال أيضاً كذلك، ومثل النبوي المعروف قد ورد في مثل هذا الظرف

من المجتمع الإنساني، فهذه الخصيصة الاجتماعية الموجودة في عصر صدوره تكون بمنزلة قرينة لبّية قد توجب انصرافه إلى خصوص ذلك الزمان، وهذه الدعوى وإن لم تكن ثابتة بالقطع واليقين، ولكنّها قابلة للدقّة والتأمّل.

فقد ظهر ممّا ذكر دخل الزمان والمكان في الاجتهاد والاستنباط لكن لا على نحو دخلهما في الحكم بلا واسطة بل من طريق دخلهما في الموضوع، فإنّ الأحكام ثابتة إلى الأبد، «وحلال محمّد صلى الله عليه و آله حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة»، والمتغيّر على مرّ الدهور والأزمان، والمتبدّل في الأمكنة والأقطار إنّما هو الموضوعات، وبتبعها تتغيّر الأحكام قهراً.

الأمر السادس: التخطئة والتصويب
اشارة

والمراد من التخطئة أنّه عند اختلاف الآراء لا يكون الصواب إلّاواحد منها فيكون الباقي خطأً، وبعبارة اخرى: أنّ للَّه تعالى في كلّ واقعة حكماً يشترك فيه الكلّ، العالم والجاهل، فمن أصابه أصابه ومن أخطأه أخطأه.

والمراد من التصويب أنّه عند اختلاف الآراء كلّها أحكام اللَّه وكلّها صواب.

والتحقيق في المسألة يستدعي رسم امور:

الأمر الأوّل: لا إشكال ولا كلام في بطلان التصويب في الأحكام العقليّة الحقيقيّة والمحسوسة فيكون الرأي الصحيح فيها واحداً بالإجماع، كما إذا وقع الاختلاف بين المنجّمين في عدد سيّارات المنظومة الشمسية أو بين الأطباء في تشخيص كيفية مرض زيد مثلًا وتعيين الدواء له، والوجه في ذلك أنّ الواقع شي ء واحد فلا يمكن إنقلابه إلى مؤدّى آراء المجتهدين، ولا فرق بين أن يكون متعلّق الحكم من الجواهر والأعراض كالمثالين المذكورين أو من الامور نفس الآمرية كاستحالة الجمع بين الضدّين (حيث إنّه لا يكون لا من الاعتباريات ولا من الامور الخارجيّة التكوينيّة).

نعم نقل عن عبداللَّه بن حسن العنبري التصويب في العقليات أيضاً (على ما حكي عن كتاب اصول الأحكام للآمدي والمستصفى للغزالي) ولا توجيه

لكلامه إلّاأنّ الفقيه معذور، فلو حكم فقيه بكرّية هذا الماء وفقيه آخر بعدم كريّته، أو حكم أحدهما بطلوع الفجر والآخر بعدمه فلا إشكال في عدم كون كليهما صادقين بل كلّ منهما معذور في حكمه ولا عقاب عليه على فرض خطئه إذا لم يكن مقصّراً.

الأمر الثاني: ينقسم التصويب في الشرعيات إلى أربعة أقسام:

1- ما هو باطل عقلًا.

2- ما ليس بباطل عقلًا ولكن يكون مجمعاً على بطلانه.

3- ما ليس بباطل عقلًا ولا مجمعاً على بطلانه ولكن الأقوى بطلانه.

4- ما يكون خارجاً عن هذه الأقسام الثلاثة ولا إشكال في صحّته.

أمّا التصويب الباطل عقلًا (أي القسم الأوّل) فهو إنّ اللَّه ينشأ أحكاماً إلهيّة على وفق آراء المجتهدين بعد اجتهادهم، والوجه في بطلانه عند العقل أنّه لابدّ للطلب من مطلوب، فلو

انوار الأصول، ج 3، ص: 566

كان اللَّه تعالى يجعل الحكم بعد اجتهاد المجتهد، والمجتهد يطلب في استنباطه حكم اللَّه الواقعي فما هو مطلوبه؟

وبعبارة اخرى: يستلزم منه الدور المحال لأنّ اجتهاد المجتهد متفرّع على وجود حكم قبله، والمفروض أنّ الحكم أيضاً متوقّف على اجتهاده، وقد يسمّى هذا بتصويب الأشعري، وليس بذلك، كما سيأتي بيانه.

وأمّا القسم الثاني: (وهو ما يكون مجمعاً على بطلانه) فهو أنّ اللَّه تعالى ينشى ء أحكاماً عديدة بعدد آراء المجتهدين قبل اجتهادهم، فيكون كلّ مجتهد طالباً في استنباطه لحكمه الذي جعله اللَّه تعالى في حقّه، وهذا وإن لم يكن محالًا عقلًا ولكنّه مجمع على بطلانه عند الإمامية، حيث إنّهم يعتقدون أنّ لكلّ واقعة حكماً واقعياً واحداً للعالم والجاهل، أصابه المجتهد أو لم يصيبه، وقد يسمّى هذا بتصويب المعتزلي وليس بذلك، كما سيأتي بيانه أيضاً.

وأمّا القسم الثالث: فهو أن يكون حكم اللَّه تعالى في مقام الإنشاء واحداً ولكنّه متعدّد في مقام

الفعليّة لأنّ طرقه الشرعيّة متعدّدة ويكون كلّ طريق سبباً لإيجاد المصلحة في مؤدّاه فيكون منشأ التعدّد في الأحكام الفعلية هو القول بسببيّة الأمارات، وقد مرّ أنّ الصحيح المختار بطلان السببيّة، وأنّ المستفاد من أدلّة حجّية الأمارات إنّما هو الطريقيّة فحسب، فالأقوى بطلان هذا القسم وإن لم يكن باطلًا عقلًا ولا مجمعاً على بطلانه.

وأمّا القسم الرابع: فهو التصويب في الأحكام الظاهريّة الذي يوافق مبنى القائلين بأنّ أدلّة حجّية الأمارات وإن لم تكن سبباً لإيجاد المصلحة ولكنّها توجب جعل حكم ظاهري مماثل كما هو المختار، وهو الظاهر من كلمات المشهور وفتاواهم، وقد يكون في سلوك هذه الطرق مصالح أهمّ من المصالح الواقعيّة التي تفوت من المكلّف وهذا ما يعبّر عنه بالمصلحة السلوكيّة.

هذا هو المختار في معنى الطريقيّة، وهناك قول آخر بأنّ المراد من الطريقيّة هو جعل المنجّزية والمعذّرية مع القول بالمصلحة السلوكيّة، وعلى كلّ حال يكون القول بالطريقيّة خارجاً عن التصويب بأي معنى فرض كما سيأتي.

الأمر الثالث: في أنّ هذا التقسيم الرباعي ناشٍ من وقوع خلط في معنيي الاجتهاد، وهو الخلط بين الاجتهاد بالمعنى العام والاجتهاد بالمعنى الخاصّ، وإلّا يكون التقسيم ثلاثياً.

انوار الأصول، ج 3، ص: 567

توضيح ذلك: قد مرّ أنّ الاجتهاد بالمعنى العام هو استنباط الحكم عن أدلّته التفصيليّة وأنّ الاجتهاد بالمعنى الخاصّ هو تقنين المجتهد وتشريعه فيما لا نصّ فيه، ولا إشكال في عدم لزوم التصويب المحال بناءً على الاجتهاد بالمعنى الخاصّ لأنّه ليس فيما لا نصّ فيه حكم على زعمهم حتّى يقال بأنّه لابدّ للطلب من مطلوب، وقد نصّ على ذلك الغزالي في مستصفاه، وقال: «إنّه ليس في الواقعة التي لا نصّ فيها حكم معيّن يطلب بالظنّ، بل الحكم يتبع الظنّ، وحكم اللَّه تعالى على

كلّ مجتهد ما غلب على ظنّه، وهو المختار، وإليه ذهب القاضي، وذهب قوم من المصوّبة إلى أنّ فيه حكماً معيّناً يتوجّه إليه الطلب، إذ لابدّ للطلب من مطلوب، لكن لم يكلّف المجتهد إصابته، فلذلك كان مصيباً وإن أخطأ ذلك الحكم المعيّن الذي لم يؤمر بإصابته، بمعنى أنّه أدّى ما كلّف فأصاب ما عليه» «1».

وقد نسب مؤلّف الاصول العامّة القول الأوّل إلى محقّقي المصوّبة، وقال بعد ذلك: «وقد عرف القسم الأوّل من التصويب على ألسنة بعض الباحثين من الاصوليين بالتصويب الأشعري كما عرف القسم الثالث بالتصويب المعتزلي» «2».

فظهر أنّه بناءً على ما ذهب إليه مشاهير المصوّبة أنّه لا موضوع للقسم الأوّل من التصويب فيكون التقسيم ثلاثيّاً، نعم أنّه رباعي بناءً على قول غيرهم، كما ظهر أنّ التصويب الأشعري هو هذا المعنى المنسوب إلى مشاهير المصوبة، لا ما مرّ من القسم الأوّل، وأنّ التصويب المعتزلي هو نفس ما عليه المخطئة لا القسم الثاني من الأقسام الأربعة السابقة.

والحاصل أنّ الاشتباه في دعوى إستحالة القسم الأوّل من التصويب نشأ من توهّم كون المراد من الاجتهاد هو الاجتهاد بالمعنى المعروف، أي استفراغ الوسع في كشف الحكم الشرعي عن أدلّتها، بينما ليس مرادهم ذلك، بل الاجتهاد عندهم هو استفراغ الوسع في طلب المصالح والفاسد وتشريع الأحكام على وفقها من ناحية المجتهد فليس هناك حكم واقعي يطلبه المجتهد حتّى يلزم المحال.

ثمّ إنّ للغزالي هنا في توجيه نظره كلاماً حاصله ما يلي: الكلام الكاشف للغطاء رحمه الله عن هذا الكلام المبهم هو أنّا نقول: المسائل منقسمة إلى ما ورد فيها نصّ وما لم يرد، أمّا ما ورد فيه انوار الأصول، ج 3، ص: 568

نصّ، فالنصّ كأنّه مقطوع به من جهة الشرع، لكن لا يصير

حكماً في حقّ المجتهد إلّاإذا بلغ وعثر عليه، وأمّا إذا لم يبلغه ولم يعثر عليه فليس هو حكماً في حقّه إلّابالقوّة، لأنّ الحكم الفعلي عبارة عن النصّ البالغ المعثور عليه، وأمّا ما لم يرد فيه نصّ فيعلم أنّه لا حكم فيها لأنّ حكم اللَّه تعالى خطابه، وخطابه يعرف بأن يسمع من الرسول أو يدلّ عليه دليل قاطع من فعل النبي صلى الله عليه و آله أو سكوته، فإذا لم يكن خطاب لا مسموع ولا مدلول عليه فكيف يكون فيه حكم؟ «1».

أقول: إنّ هذا التقسم قد نشأ من الخلط بين مراتب الحكم الثلاثة:

مرتبة الجعل، وهى مرحلة الإنشاء، نظير ما يصوّب في مجالس التقنين في زماننا هذا قبل الإبلاغ إلى الدولة والموظفين للإجراء، فإنّه وإن كان مصوباً في هذه المجالس ولكن لا يكلّف المواطنون بالعمل به إلّابعد إبلاغه رسميّاً إلى الدولة.

ومرحلة الفعليّة وهى مرحلة الإبلاغ والبعث أو الزجر فيلزم العمل على طبقه.

ومرحلة التنجيز، وهى مرحلة استحقاق العقاب في صورة ترك العمل، وهى لا تشمل الجاهل القاصر أو العالم العاجز عن العمل به وأمثالهما.

في بطلان القسم الأوّل من التصويب (التصويب الأشعري)
اشارة

إذا عرفت هذه الامور الثلاثة فاعلم: أنّ الحقّ بطلان التصويب بالمعنى الذي اشتهر بين المصوّبة (أي التصويب الأشعري) لأنّ هذا المعنى من التصويب يبتني على أمرين:

1- وجود وقائع خالية عن الحكم.

2- أن يكون اختيار التقنين بيد الفقيه فيكون من شؤون الفقيه جعل الحكم وتقنين الأحكام فيما لا حكم فيه، ذلك الأمر الذي يعبّر عنه أخيراً بالتشريع الإسلامي، والذي يذكر له مصادر ومنابع.

وكلا الأمرين قابل للمناقشة والمنع:

انوار الأصول، ج 3، ص: 569

أمّا الأمر الأوّل: فلما مرّ في بيان بطلان الاجتهاد بمعنى التشريع والتقنين من ناحية المجتهد إجمالًا، وتفصيله: إنّا نقول: كلّ ما يحتاج إليه الامّة إلى

يوم القيامة فقد ورد فيه حكم، والدليل عليه:

أوّلًا: كتاب اللَّه الكريم أي قوله تعالى: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي» «1»

، وقوله تعالى: «مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْ ءٍ» «2»

وقوله تعالى: «وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ» «3»

، فلو كانت بعض الوقائع خالية عن الحكم لما كان الدين كاملًا، والنعمة تامّة، ولم يكن الكتاب تبياناً لكلّ شي ء (لأنّه لو لم يكن تبياناً للمسائل الجزئيّة الخارجيّة كمسائل العلوم الفلكيّة والطبيعيّة ونحوهما فلا أقلّ من كونه تبياناً للمسائل الكلّية الشرعيّة)، بل كان الدين ناقصاً فاستعان سبحانه (العياذ باللَّه) من خلقه على إتمامه وإكماله، ولزم من ذلك مفاسد جمّة سنشير إليها.

وثانياً: الروايات الكثيرة الواردة من ناحية أئمّة أهل البيت عليهم السلام، وهى على طوائف أربعة:

الطائفة الاولى: حديث الثقلين الذي تواتر نقله بين الفريقين، فإنّه روى باسناد عديدة في الكتب المعروفة من الشيعة وأهل السنّة، وينبغي نقل واحدٍ منها من باب التيمّن والتبرّك، وهو ما ورد في صحيح الترمذي قال: «حدّثنا نصر بن عبدالرحمن الكوفي حدّثنا زيد بن الحسن وهو الأنماطي عن جعفر بن محمّد عن أبيه عن جابر بن عبداللَّه قال: رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في حجّته يوم عرفة وهو على ناقته القصواء يخطب فسمعته يقول: ياأيّها الناس إنّي قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلّوا كتاب اللَّه وعترتي أهل بيتي» «4».

ومن أراد الوقوف على مجموعها فليراجع إلى جامع أحاديث الشيعة، ج 1، الباب 4، ح 189 إلى ح 209.

ولا إشكال في أنّه نصّ على كفاية الرجوع إلى كتاب اللَّه والعترة ليؤمن عن الخطأ ولا

انوار الأصول، ج 3، ص: 570

يكون الضلال في شي ء، ولازمه عدم خلوّ الوقائع عن الأحكام الإلهيّة كما لا

يخفى.

الطائفة الثانية: ما تدلّ على أنّ للَّه في كلّ واقعة حكماً يشترك فيه جميع الامّة، وقد نقلها الكليني رحمه الله في المجلّد الأوّل من اصول الكافي في باب «الردّ إلى الكتاب والسنّة وأنّه ليس شي ء من الحلال والحرام وجميع ما يحتاج إليه إلّاوقد جاء فيه كتاب أو سنّة»، والشيخ الحرّ العاملي رحمه الله في المجلّد الثاني عشر من كتاب الوسائل الباب 12 من أبواب صفات القاضي وهى روايات كثيرة:

منها: ما رواه عمر بن قيس عن أبي جعفر عليه السلام قال سمعته يقول: «إنّ اللَّه تبارك وتعالى لم يدع شيئاً يحتاج إليه الامّة إلّاأنزله في كتابه وبيّنه لرسوله صلى الله عليه و آله وجعل لكلّ شي ء حدّاً وجعل عليه دليلًا يدلّ عليه، وجعل على تعدّي ذلك الحدّ حدّاً» «1».

ومنها: ما رواه حمّاد بن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: سمعته يقول: «ما من شي ء إلّاوفيه كتاب أو سنّة» «2».

ومنها: ما رواه المعلّى بن خنيس قال: قال أبو عبداللَّه عليه السلام: «ما من أمر يختلف فيه إثنان إلّا وله أصل في كتاب اللَّه عزّوجلّ، ولكن لا تبلغه عقول الرجال» «3» (أي لابدّ أن يسأل من الأئمّة المعصومين خلفاء رسول اللَّه صلى الله عليه و آله).

ومنها: ما رواه سماعة عن أبي الحسن الموسى عليه السلام قال: «قلت له: أكلّ شي ء في كتاب اللَّه وسنّة نبيّه صلى الله عليه و آله أو تقولون فيه؟ قال: بل كلّ شي ء في كتاب اللَّه وسنّة نبيّه صلى الله عليه و آله» «4».

ومنها: ما ورد في حديث حجّة الوداع: «ياأيّها الناس: واللَّه ما من شي ء يقرّبكم من الجنّة ويباعدكم من النار إلّاوقد أمرتكم به، وما من شي ء يقرّبكم من النار ويباعدكم من الجنّة إلّا وقد

نهيتكم عنه» «5».

ومنها: ما رواه مسعدة بن صدقة عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «قال أمير المؤمنين عليه السلام: أيّها

انوار الأصول، ج 3، ص: 571

الناس ... (إلى أن قال): ذلك القرآن فاستنطقوه ولن ينطق لكم، أخبركم عنه: أنّ فيه علم ما مضى وعلم ما يأتي إلى يوم القيامة، وحكم ما بينكم وبيان ما أصبحتم فيه تختلفون فلو سألتموني عنه لعلّمكتم» «1».

ومنها: ما رواه سليمان بن هارون قال: «سمعت أبا عبداللَّه عليه السلام يقول: ما خلق اللَّه حلالًا ولا حراماً إلّاوله حدّ كحدّ الدار ... حتّى أرش الخدش فما سواه والجلدة ونصف الجلدة» «2».

ومنها: ما رواه مرازم عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «إنّ اللَّه تبارك وتعالى أنزل في القرآن تبيان كلّ شي ء حتّى واللَّه ما ترك اللَّه شيئاً يحتاج إليه العباد، حتّى لا يستطيع عبد يقول: لو كان هذا أُنزل في القرآن إلّاوقد أنزله اللَّه فيه» «3».

إلى غير ذلك من أشباهها ونظائرها، وقد نقل جملة منها (ثماني روايات) المحدّث البحراني أيضاً في تفسير البرهان (المجلّد الأوّل ص 14) فراجع.

ولا يخفى أنّ المستفاد من هذه الطائفة أنّ للَّه في كلّ واقعة حكماً يشترك فيه العالم والجاهل، وعلى هذا المعنى، التواتر المعنوي من الروايات (لا اللفظي كما هو ظاهر بعض الكلمات).

الطائفة الثالثة: روايات متظافرة تدلّ على وجود كتاب عند الأئمّة المعصومين عليهم السلام كان بإملاء رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وخطّ علي عليه السلام فيه كلّ ما يحتاج إليه الامّة إلى يوم القيامة حتّى إرش الخدش، وكان يسمّى بالجامعة.

منها: ما رواه بكر بن كرب الصيرفي قال: «سمعت أبا عبداللَّه عليه السلام يقول: إنّ عندنا ما لا نحتاج معه إلى الناس، وإنّ الناس ليحتاجون إلينا، وإنّ عندنا كتاباً

إملاء رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وخطّ علي عليه السلام، صحيفة فيها كلّ حلال وحرام» «4».

ومنها: ما رواه عبداللَّه بن ميمون عن جعفر عن أبيه قال: «في كتاب علي عليه السلام كلّ شي ء

انوار الأصول، ج 3، ص: 572

يحتاج إليه حتّى الخدش والأرش والهرش» «1».

وفي مجمع البحرين: «والأرض ما يأخذه المشتري من البائع إذا اطّلع على عيب في المبيع، والخدش تفرّق اتّصال في الجلد أو الظفر أو نحو ذلك وإن لم يخرج الدم خَدَشَه خدشاً إذا جرحه في ظاهر الجلد».

وفي مقاييس اللغة: «الهاء والراء والشين (هرش) هى مهارشة الكلاب، تحريش بعضها على بعض».

ومنها: ما رواه أبو بصير عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال سمعته يقول: «وذكر ابن شبرمة في فتياه، فقال: أين هو من الجامعة أملى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وخطّه علي عليه السلام بيده، فيها جميع الحلال والحرام حتّى ارش الخدش فيه» «2».

ومنها: ما رواه جعفر بن بشير عن رجل عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «ما ترك علي عليه السلام شيئاً إلّا كتبه حتّى ارش الخدش» «3».

ومنها: ما رواه علي بن سعيد قال سمعت أبا عبداللَّه عليه السلام يقول: «أمّا قوله في الجفر إنّما هو جلد ثور مدبوغ كالجراب، فيه كتب وعلم ما يحتاج إليه إلى يوم القيامة من حلال وحرام، إملاء رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وخطّ علي عليه السلام» «4».

وفي مجمع البحرين: «الجراب بالكسر وعاء من إهاب شاة يوعى فيه الحبّ والدقيق ونحوها».

الطائفة الرابعة: روايات متظافرة أيضاً تحكم بالاحتياط والوقوف عند الشبهات حتّى في موارد الشكّ في الحكم، وتأمر بوجوب الفحص والسؤال عند عدم العلم بحكم اللَّه الواقعي، فإنّها تدلّ بالملازمة على وجود حكم واقعي في

كلّ واقعة كما لا يخفى.

منها: ما رواه عبدالرحمن بن الحجّاج قال: «سألت أبا الحسن عليه السلام عن رجلين أصابا

انوار الأصول، ج 3، ص: 573

صيداً وهما محرّمان، الجزاء بينهما أو على كلّ واحد منهما جزاءً؟ قال: لا، بل عليهما أن يجزي كلّ واحد منهما الصيد، قلت: إنّ بعض أصحابنا سألني عن ذلك فلم أدر ما عليه، فقال: إذا أصبتم مثل هذا فلم تدروا فعليكم بالاحتياط حتّى تسألوا عنه فتعلموا» «1».

ومنها: ما رواه جميل بن صالح عن الصادق عليه السلام (وهو معروف بحديث التثليث) عن آبائه عليهم السلام قال: «قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في كلام طويل: الامور ثلاثة: أمر تبيّن رشده فاتّبعه، وأمر تبيّن لك غيّه فاجتنبه، وأمر اختلف فيه فردّه إلى اللَّه عزّوجلّ» «2».

ومنها: ما رواه زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: «سألت أبا جعفر عليه السلام ما حجّة اللَّه على العباد؟ قال: أن يقولوا ما يعلمون ويقفوا عند ما لا يعلمون» «3».

وغير ذلك من أشباهها «4»، ومفاد جميعها عدم خلوّ الواقعة عن الحكم الشرعي ولذا لابدّ من الاحتياط حتّى يسأل عن الإمام المعصوم عليه السلام.

وممّا ينبغي جدّاً ذكره في هذا المقام ما مرّ كراراً من خطبة أمير المؤمنين عليه السلام في الذمّ على الرأي والاجتهاد، وهو قوله عليه السلام: «ترد على أحدهم القضية في حكم من الأحكام فيحكم فيها برأيه، ثمّ ترد تلك القضية بعينها على غيره فيحكم فيها بخلاف قوله، ثمّ يجتمع القضاة بذلك عند الإمام الذي إستقضاهم فيصوّب آراءهم جميعاً وإلههم واحد، ونبيّهم واحد، وكتابهم واحد، أفأمرهم اللَّه سبحانه بالإختلاف فأطاعوه، أم نهاهم عنه فعصوه؟ أم أنزل اللَّه سبحانه ديناً ناقصاً فاستعان بهم على إتمامه، أم كانوا شركاء له،

فلهم أن يقولوا وعليه أن يرضى؟ أم أنزل اللَّه سبحانه ديناً تامّاً فقصّر الرسول صلى الله عليه و آله عن تبليغه وأدائه، واللَّه سبحانه يقول: «مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْ ءٍ» وفيه «تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ»» «5».

هذا كلّه ما ورد من طرق الخاصّة، وقد ورد من طرق العامّة أيضاً ما يوافق مذهب التخطئة وأنّ للَّه تعالى في كلّ واقعة حكم.

منها: ما رواه الترمذي عن أبو هريرة عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: «إذا حكم الحاكم فاجتهد

انوار الأصول، ج 3، ص: 574

فأصاب فله أجران، وإذا حكم فأخطأ فله أجر واحد» «1».

ومنها: ما ورد في الدرّ المنثور قال: «سئل أبو بكر عن الكلالة فقال: إنّي سأقول فيها برأي فإن كان صواباً فمن اللَّه وحده، لا شريك له، وإن كان خطأً فمنّي ومن الشيطان واللَّه عنه بري ء» «2».

إلى غير ذلك من نظائرهما.

فقد ظهر ببركة هذه الآيات والروايات الكثيرة بطلان الأمر الأوّل، وهو أنّ ما لا نصّ فيه لا حكم فيه.

أمّا الأمر الثاني: وهو جواز إعطاء حقّ التقنين بيد الفقيه، ففيه: أنّه دعوى بلا دليل، بل اللازم في ما لا يوجد فيه نصّ خاصّ على حكم إلهي هو الرجوع إلى الأحكام الظاهريّة المتّخذة من الاصول العمليّة (البراءة والاحتياط والاستصحاب والتخيير، كلّ في مورده).

نعم، أنّه يوجب لأهل السنّة الذين أعرضوا عن الثقل الأصغر، الدخول في هرج شديد لخلوّ كثير من الوقايع عن الحكم عندهم، وهذه نتيجة الإعراض عن العمل بحديث رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حديث الثقلين.

وينبغي هنا أوّلًا: الإشارة إلى ما دفعهم إلى القول بالتصويب، وثانياً: إلى المفاسد التي تترتّب على القول بالتصويب.

1- أسباب السقوط في هوّة التصويب

إنّ هناك اموراً دفعتهم إلى القول بالتصويب:

أحدها: قلّة الروايات التي يمكن الإستناد إليها في

استنباط الأحكام الشرعيّة عندهم، وذلك نشأ من عدم قبولهم الخلافة التي نصّ بها الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله طيلة رسالته الشريفة

انوار الأصول، ج 3، ص: 575

كراراً، حيث إنّه أوجب حصر الطريق إلى النبي صلى الله عليه و آله في الصحابة، والإعراض عن عترته الطاهرة، حتّى بمقدار كونهم طرقاً معتبرة إلى النبي صلى الله عليه و آله، فإذا إنضمّ هذا إلى ورود مجعولات كثيرة في الروايات المنسوبة إلى النبي صلى الله عليه و آله الذي يطلب بالطبع الجرح والتعديل وطرح عدّة من الروايات، وهكذا إذا إنضمّ إلى المنع عن ضبط الأحاديث من زمن الخليفة الثاني إلى مقدار مائة عام- إستنتج منه تنزّل أخبار النبي صلى الله عليه و آله إلى أقلّ قليل، بحيث نقل أنّ الأحاديث الفقهيّة المعتبرة على زعمهم، الموجودة عند أبي حنيفة عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كانت محصورة في خمسة وعشرين حديثاً، ولذلك اضطرّوا أن يلوذوا بأقوال الصحابة من قبيل أبي هريرة وأنس، وبالقياسات والظنّيات ونحوهما والتصويب فيها.

ثانيها: إعتقادهم في مسألة الخلافة مع شدّة أهميتها بأنّ الرسول صلى الله عليه و آله فوّض أمرها إلى الامّة أي أهل الحلّ والعقد، فإنّه صلى الله عليه و آله إذا فوّض أمر الخلافة بتلك الأهميّة إلى الامّة ففي المسائل الفرعيّة بطريق أولى، ولازمه تصويب الامّة في آرائهم.

ثالثها: اعتقادهم بعدالة الصحابة وعدم خطئهم في الرأي، ولازمه صواب آراء جميعهم في صورة الاختلاف، وبالطبع تعدّد الحكم الواقعي بالإضافة إلى واقعة واحدة.

2- المفاسد المترتّبة على القول بالتصويب

لا خفاء في ما يترتّب على هذا القول من المفاسد العديدة في الفقه والمجتمع الإسلامي، وقد أشار إلى بعضها الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في خطبته الشريفة التي مرّ ذكرها.

منها: الاعتراف بنقصان الدين

العياذ باللَّه، وهو نفس ما أشار إليه الإمام عليه السلام في خطبته.

ومنها: انسداد باب الاجتهاد، فإنّ قولهم بانسداد باب الاجتهاد وحصر جواز الفتوى عن الأئمّة الأربعة لهم إنّما نشأ من كثرة الفتاوي الحاصلة من الاجتهاد بالرأي، ووقوع الخلاف الشديد بين الناس باختيار بعض هذه الفتاوي، فقد ألجأهم ذلك إلى سدّ هذا الباب، لإزالة الخلاف، فصار مصداقاً للمثل المعروف: «كم أكلة منعت أكلات» (إذ كانت الأكلة الاولى سبباً للأمراض الموجبة للحرمان).

ومنها: وقوع الفوضى والهرج والمرج الفقهي والقضائي، لملازمته وجود آراء متضادّة ومتعدّدة بعدد المجتهدين في مسألة واحدة، بل إنّه أكثر فساداً وأسوأ حالًا من المجالس التقنينيّة

انوار الأصول، ج 3، ص: 576

في يومنا هذا، كما أشرنا إليه سابقاً في أوائل مبحث الاجتهاد والتقليد في الأمر الثاني (حيث إنّ أمر التشريع فيها إنّما هو بيد جماعة تسمّى بشورى التقنين لا فرد فرد من علمائهم ومتخصّصيهم، وهم يضعون لقطر من أقطار الأرض، والواضعون جماعة كثيرة من العقلاء، مندوبون عن الجماهير، بخلاف القول بالتصويب، لأنّهم قد يكون في بلد واحد، أو قرية من القرى مجتهدون متعدّدون، ويكون لكلّ واحد منهم رأي وتقنين على حسب ظنّه الشخصي).

وهذا هو الذي سبّب انسداد باب الاجتهاد في أواخر القرن الرابع من ناحية زعماء القوم بعد ما أحسّوا خطراً عظيماً، وهو اضمحلال الدين وهدم نظام الامّة، لاختلاف الآراء جدّاً، فحدّدوها في الأربعة المعروفة، وسدّوا باب الاجتهاد على السائرين.

وقد أشار إلى هذا المعنى في خلاصة التشريع الإسلامي فقال: إنّ سدّ باب الاجتهاد نشأ من أربعة عوامل:

الأوّل: توجّه العلماء إلى المسائل السياسيّة وانغمارهم فيها، وتخلّفهم عن المسائل العلميّة الفقهيّة، فاضطرّوا إلى القول بأنّ المجتهد والقادر على الاستنباط هم العلماء الأوّلون فحسب.

الثاني: تحزّب المجتهدين ودخول كلّ واحد منهم في

حزب وخطّ سياسي خاصّ فكان ينبغي على كلّ حزب الحصول على دليل من الروايات والآيات على حقّانية حزبه.

الثالث: تحاسد العلماء وظهور تصرفات سيّئة قبيحة في سلوكيات بعضهم حيث يتشبث بكلّ وسيلة دنيئة لتسقيط من انتهى إلى رأي جديد ونظر حديث في مسألة باجتهاده والعمل على تشويه سمعته وتزييف أراءه ولهذا لم يجترأ أحد على الاجتهاد والاستنباط لئلا يقع في معرض تحاسد الآخرين.

الرابع: معالجة الفوضى الفقهيّة بالجمود وسدّ باب الاجتهاد «1» (انتهى كلامه).

أقول: الأهمّ من هذه الوجوه هو الوجه الأخير، فإنّ القول بالتصويب أوجب الوقوع في فوضى عظيمة، وبالتالي أوجب سدّ باب الاجتهاد، وتسبب في فقر فقهي شديد في المسائل المستحدثة، ولذلك رجع بعضهم في الأزمنة الأخيرة، وإعتقد بفتح باب الاجتهاد.

هذا- بخلاف الإماميّة التابعين لمكتب أهل البيت عليهم السلام فلا يترتّب على قولهم بالإنفتاح انوار الأصول، ج 3، ص: 577

أيّة مفسدة، بل إنّه موجب لإزدهار علم الفقه والاصول، وتطوّره وتقدّمه باستمرار، وذلك أوّلًا: لاعتبارهم كون مرجع الفتوى للناس أعلم الفقهاء الأحياء، وثانياً: أنّ اجتهادهم- كما مرّ تعريفه- مبنيّ على أساس النصوص وضوابط خاصّة مستفادة من النصوص أيضاً، لا على القياس والاستحسانات الظنّية وأشباهها ممّا لا تندرج تحت ضابطة معيّنة.

وبالجملة، أنّ نتيجة القول بالتصويب- بما أنّه يستبطن سدّ باب الاجتهاد- هى ركود علم الفقه وعدم تكامله فإنّ القائل به لا يرى في الآراء الفقهيّة الصادرة خطأً حتّى يرى نفسه ملزماً بالتحقيق والتتبّع ويتعب نفسه للحصول على ما هو الواقع الحقّ بخلاف القول بالتخطئة، فإنّ القائل به يبذل جهده لتحصيل ذلك الحكم الواحد الواقعي، ولازمه التفكّر العميق والتدبّر الواسع وإعمال كمال الدقّة للظفر بالحقّ والعثور على الواقع.

هذا كلّه في القسم الأوّل من التصويب.

وأمّا القسم الثاني: وهو التصويب المعتزلي

(وهو أنّ للَّه في كلّ واقعة حكماً

ولكن لمن وصل إليه الخطاب، وأمّا من لم يصل إليه الخطاب فلا حكم في حقّه، بل تصل النوبة حينئذٍ إلى تقنين الفقيه) فهو أيضاً باطل بكلتا مقدّمتيه، لأنّ القول بأنّ الأحكام مخصوصة للعالمين فقط مخالف لظاهر جميع أدلّتها، فإنّ مثل قوله تعالى: «كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ» وقوله تعالى: «إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً» عامّ للجاهل والعالم، وليس العلم مأخوذاً في موضوعه، بل العلم طريق إليه، ولو سلّمنا اختصاص الأحكام بالعالمين فلا دليل أيضاً على إعطاء حقّ التقنين بيد الفقيه كما مرّ في نظيره (التصويب الأشعري).

وأمّا القسم الثالث: وهو التصويب المبني على القول بسببيّة الأمارات.

ففيه أيضاً: أنّه لا دليل على سببيّة الأمارات فإنّ ظاهر أدلّتها هو الطريقيّة كما مرّ بيانه في محلّه، فإنّا قد قلنا هناك أنّ قوله تعالى: «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ» مثلًا بمعنى «فأسألوا حتّى انوار الأصول، ج 3، ص: 578

تعلموا»، وممّا يؤكّد هذا المعنى ما مرّ كراراً من أنّ الأمارات الشرعيّة جلّها- لولا كلّها- امضاءات لبناءات العقلاء، ولا إشكال في أنّها طرق إلى الواقع عندهم فقط.

وأمّا القسم الرابع: وهو أنّ يكون المراد من التصويب جعل أحكام ظاهريّة مماثلة لمؤدّيات الطرق والأمارات فقد قلنا سابقاً أنّه هو الصحيح المختار، بل لا يسمّى هذا تصويباً.

والدليل عليه: أنّ أدلّة حجّية الأمارات ظاهرة في الجعل والإنشاء، وليس مفادها مجرّد المنجّزية أو المعذّرية، والشاهد عليه هو السيرة العمليّة للفقهاء وارتكازهم الفقهي والمتشرّعي، حيث إنّهم يعبّرون في رسائلهم العمليّة عن مؤدّيات الأمارات بالواجب والحرام، ويحكمون بأنّ هذا واجب وذاك حرام، لا أنّك معذور إن كان هذا حراماً ولست معذوراً إن كان هذا واجباً.

ولكن- كما عرفت- فإنّ تسمية هذا بالتصويب خلاف الاصطلاح، لأنّ مصطلح الفقهاء

فيه إنّما هو في الأحكام الواقعيّة.

ثمّ إنّه قد مرّ في أوائل البحث عن أقسام التصويب في ذيل هذا القسم، أنّه قد يكون في سلوك هذه الطرق مصالح أهمّ من المصالح الواقعيّة التي تفوت المكلّف، وهى التي يعبّر عنها بالمصالح السلوكيّة، وبهذا يندفع ما أورد على حجّية الأمارات من أنّ لازمه تفويت المصلحة أو القاء العبد في المفسدة كما لا يخفى.

نعم، قد إستشكل بعض الأعلام في المحاضرات في هذا القسم (وبتعبير آخر في هذا المعنى للسببية، وبتعبير ثالث في المصلحة السلوكيّة) من جهتين:

الاولى: «أنّه لا ملزم للالتزام بهذه المصلحة لتصحيح اعتبار الأمارات وحجّيتها (ودفع الإشكال المزبور) والسبب في ذلك أنّ اعتبار الأمارات من دون أن ترتّب عليه مصلحة وإن كان لغواً فلا يمكن صدوره من الشارع الحكيم، إلّاأنّه يكفي في ذلك ترتّب المصلحة التسهيلية عليه، حيث إنّ تحصيل العلم الوجداني بكلّ حكم شرعي لكلّ واحد من المكلّفين غير ممكن في زمان الحضور فضلًا عن زماننا هذا، ولو أمكن هذا فبطبيعة الحال كان حرجيّاً لعامّة المكلّفين في عصر الحضور فما ظنّك في هذا العصر، ومن الواضح أنّ هذا منافٍ لكون الشريعة

انوار الأصول، ج 3، ص: 579

الإسلاميّة شريعة سهلة وسمحة.

الثانية: أنّ مردّ هذه السببيّة إلى السببيّة المعتزلية في انقلاب الواقع وتبدّله لأنّنا إذا افترضنا قيام مصلحة في سلوك الأمارة التي توجب تدارك مصلحة الواقع فالإيجاب الواقعي عندئذٍ تعييناً غير معقول» «1».

أقول: أمّا الإشكال الأوّل فهو عجيب فإنّ مصلحة التسهيل هى نفس المصلحة السلوكيّة ومصداق بيّن منها، فلولا هذه المسألة لما أمر الشارع بسلوك هذه الطرق.

وأمّا الثاني فالجواب عنه ظاهر بعد ما عرفت من أنّ مصلحة التسهيل هى من المصالح السلوكيّة، فما يجاب عن هذه المصلحة هو الجواب في أشباهها.

وبعبارة أوضح: ليست المصلحة السلوكيّة في عرض مصلحة الواقع، فإنّ المصالح الواقعيّة إنّما هى مصالح في أفعال المكلّفين، وأمّا المصلحة السلوكيّة فإنّما هى مصلحة في سلوك هذا الطريق بقصد الوصول إلى الحكم الواقعي، فيكون أحدهما في طول الآخر، ولا معنى للتخيير حينئذٍ.

الأمر السابع: تبدّل رأي المجتهد

وفيه يبحث أيضاً عن مسألة العدول عن مجتهد إلى آخر، من حي إلى حي أو من ميّت إلى حي لاشتراك المسألتين في الأدلّة، وهو بحث مبتلى به كثيراً، ويطرح تارةً بالنسبة إلى المجتهد نفسه في العمل برأيه، واخرى بالنسبة إلى مقلّديه.

كما أنّ الكلام فيه تارةً يقع في العبادات واخرى في المعاملات بالمعنى الأخصّ، كما إذا اشترى داراً بالبيع الفضولي أو المعاطاة، ثمّ تبدّل رأيه إلى بطلانه، وثالثة في المعاملات بالمعنى الأعمّ، كما إذا تزوّج بالعقد الفارسي، ثمّ تبدّل رأيه وذهب إلى إشتراط العربية، أو كان قائلًا في باب الرضاع باعتبار أكثر من عشر رضعات في حصول المحرميّة فتزوّج بمن إرتضعت من امّه عشر رضعات، ثمّ تبدّل رأيه وذهب إلى كفايتها في حصول المحرميّة، أو كان قائلًا في باب النجاسات بعدم نجاسة عرق الجنب عن الحرام، وفي باب الطهارة بعدم اعتبار عصر الثوب في انوار الأصول، ج 3، ص: 580

التطهير، ثمّ تبدّل رأيه إلى نجاسة عرق الجنب عن الحرام أو اعتبار العصر.

ومن جانب آخر تارةً يكون الموضوع موجوداً، كما إذا كانت الذبيحة موجودة أو كان متلبّساً بثوب لم يعصره حين تطهيره، واخرى يكون معدوماً.

ثمّ ليعلم أنّ هذا كلّه إنّما هو في ما إذا كانت الفتوى السابقة موافقة للاحتياط، وأمّا إذا كانت مخالفة له كما إذا كان قائلًا باعتبار إتيان التسبيح ثلاث مرّات وتبدّل رأيه إلى كفاية مرّة واحدة فلا إشكال في أنّه خارج عن محلّ

النزاع.

وكيف كان، لابدّ هنا من تقديم امور:

الأوّل: في الأقوال في المسألة، وهى كثيرة:

قول بالإجزاء مطلقاً.

وقول بعدم الإجزاء مطلقاً.

وقول بالتفصيل، وهو بنفسه متعدّد:

تفصيل المحقّق الخراساني رحمه الله في الكفاية بين ما إذا كان مدرك الاجتهاد الأوّل هو القطع بالحكم، أو كان هو الطريق المعتبر شرعاً، وكان المبنى اعتبار الأمارات من باب الطريقيّة، فيعامل حينئذٍ مع الأعمال السابقة معاملة البطلان، وبين ما إذا كان مدرك الاجتهاد السابق هو الطريق المعتبر شرعاً كان المبنى اعتبار الأمارات من باب السببيّة والموضوعيّة، أو كان ملاك الاجتهاد السابق هو الاستصحاب أو البراءة الشرعيّة فيعامل معها معاملة الصحّة.

وتفصيل صاحب الفصول رحمه الله بين ما إذا كان الاجتهاد الأوّل في نفس الحكم الشرعي فيتغيّر الحكم الشرعي بتغيّر الاجتهاد الأوّل ولا يبقى إلى الآخر، فلو بنى على حلّية حيوان فذكّاه، ثمّ رجع وبنى على تحريم المذكّى، وبين ما إذا كان الاجتهاد الأوّل في متعلّق الحكم الشرعي، وقد وقع المتعلّق في الخارج على طبق ذلك الاجتهاد الأوّل، ثمّ تغيّر الاجتهاد، فلا يتغيّر المتعلّق عمّا كان عليه من الصحّة، بل يبقى على آثاره حتّى بعد الرجوع، كما إذا بنى على عدم جزئيّة شي ء للعبادة أو عدم شرطيّته فأتى بها على الوجه الذي بنى عليه ثمّ رجع، فيبني على صحّة ما أتى به.

وتفصيل المحقّق اليزدي رحمه الله في العروة الوثقى (المسألة 53) بين ما إذا كان موضوع اجتهاده باقياً بنفسه فلا يكون مجزياً، كما إذا أفتى بجواز الذبح بغير الحديد مثلًا فذبح حيواناً كذلك انوار الأصول، ج 3، ص: 581

فمات المجتهد (أو تبدّل رأيه) وقلّد من يقول بحرمته وكان الحيوان المذبوح موجوداً فلا يجوز بيعه ولا أكله، وبين غيره من موارد العبادات والمعاملات ممّا قد مضى فيكون مجزياً،

فلو قلّد من يكتفي بالمرّة مثلًا في التسبيحات الأربع، أو أوقع عقداً أو إيقاعاً بتقليد مجتهد يحكم بالصحّة ثمّ مات، وقلّد من يقول بعدم كفاية المرّة وبالبطلان، يجوز له البناء على صحّة العبادة والعقد، ولا يجب عليه إعادة الأعمال السابقة.

الثاني: أنّ هذه المسألة جزئي من جزئيات مسألة الإجزاء ومصداق من مصاديقها، لأنّ من أقسامه هو الإجزاء في الأوامر الظاهريّة، والمقام من هذا القبيل، لأنّ حجّية فتوى المجتهد للمقلّد حكم ظاهري له.

نعم أنّها أعمّ منها من جهة اخرى، فإنّ مسألة الإجزاء مختصّة بباب الأوامر والأحكام التكليفيّة فحسب، ولا تعمّ الأحكام الوضعيّة، بينما البحث هنا أي مسألة التبدّل والعدول يعمّ الأحكام التكليفيّة والوضعيّة معاً، فكلّ من المسألتين أعمّ من الاخرى من جهة، وأخصّ منها من جهة اخرى.

الثالث: في مقتضى الأصل في المسألة، ولا يخفى لزوم تعيينه حتّى يطالب من يخالفه بالدليل فنقول: لا إشكال في أنّ مقتضى الأصل والقاعدة الأوّليّة في المقام هو الفساد فإنّ الأصل مثلًا هو عدم وقوع التذكية شرعاً أو عدم الإتيان بالصلاة الصحيحة (مع قطع النظر عن القواعد الخاصّة التي يمكن جريانها كقاعدة الفراغ ونحوها) فهو يوافق القول بعدم الإجزاء فلابدّ للقائلين بعدم الفساد من إقامة الدليل عليه.

إذا عرفت هذا فاعلم: أنّه إذا كان مدرك الاجتهاد السابق هو القطع ثمّ انكشف خلافه بالقطع أيضاً فلا وجه حينئذٍ للقول بالإجزاء، لأنّ المفروض أنّه لم يكن في الواقع أمر من جانب المولى، بل إنّه امتثل أمراً خيالياً منقوشاً في الذهن فقط، وذلك لأنّ القطع ليس من الأمارات الشرعيّة حتّى يقال: إنّه أمارة كسائر الأمارات يتولّد منها حكم ظاهري شرعي، بل هو من الأمارات العقليّة التي تكون مجرّد طرق إلى الواقع فحسب، ومنه يعلم الحال فيما

إذا زال القطع السابق وقامت أمارة شرعيّة على خلافه.

انوار الأصول، ج 3، ص: 582

لكن موارد تبدّل رأي المجتهد ليست من هذا القبيل غالباً لأنّ ما يتبدّل عند المجتهد في غالب الموارد إنّما هو الأمارات الظنّية المعتبرة، كما أنّ رجوع المقلّد إلى مجتهد آخر أيضاً ليس من هذا القبيل أصلًا، لأنّ الحجّة عنده إنّما هو قول المجتهد وهو أمارة ظنّية عقلائية أمضاها الشارع المقدّس.

والمهمّ في المقام هو ما إذا كانت فتوى المجتهد على أساس أمارة شرعية وكان المبنى في حجّية الأمارات، الطريقيّة (كما هو الحقّ)، وحينئذٍ يستدلّ للإجزاء بوجوه عديدة:

الوجه الأوّل: (وهو العمدة) إنّ إطلاقات أدلّة حجّية الأمارات لا تشمل الأعمال السابقة التي أتى بها المكلّف وفقاً لأمارات كانت حجّة عليه حين العمل، وبعبارة اخرى: إنّ أدلّة حجّية الأمارات وإن كانت مطلقة من حيث الزمان، ولكنّها منصرفة إلى زمان الحال والاستقبال، ولا تشمل ما عمل سابقاً على وفق أمارة اخرى، أي أنّ القدر المتيقّن منها إنّما هو الحال والمستقبل، كما أنّه كذلك في الأمارات العرفيّة، فمن أعطى دراهم بيد وكيله، وأمره بأن يتّجر بها أحسن التجارة وأنفعها، والوكيل لا يعلم ما هو أنفعها وأحسنها فيعتمد فيها على قول الخبرة، ويسأل زيد الخبرة عنها مثلًا، فيعمل على وفق رأيه، ثمّ بعد مضيّ زمان يسأل عن عمرو الخبرة نفس ذلك، فيجيبه بما يخالف رأي زيد، فحينئذٍ هل يكون معنى حجّية كلام عمرو إبطال جميع العقود السابقة لأنّه لم يكن وكيلًا في إبتياع غير الأنفع، فالعقود الواقعة عليها فضوليّة، أو أنّ القدر المتيقّن منها إنّما هو بالنسبة إلى الحال والاستقبال؟ لا إشكال في أنّ وجداننا العرفي يحكم بالثاني.

وعلى أي حال: لا اطلاق في الاجتهاد الثاني حتّى يعمّ الواقعة السابقة، ولا

أقلّ من الشكّ في ذلك، ولعلّ هذا هو مراد من قال (وهو صاحب الفصول وغيره): «الواقعة الواحدة لا تتحمّل اجتهادين»، ولعلّه هو العلّة للسيرة المدّعاة في كلمات بعضهم على عدم إعادة الأعمال السابقة (وكون الإعادة أمراً مستغرباً في أذهان أهل الشرع بأن يعمل بفتوى مجتهد عشرات سنة، ثمّ بعد تبدّله أو تقليد مجتهد آخر يعيد جميع أعماله التي عملها في هذه السنوات، وكذلك فيما بعده من تبدّلات الرأي، ولعلّه أيضاً المصدر الوحيد لما ادّعى من الإجماع في المسألة، ولا أقلّ في العبادات.

وإن شئت قلت: الإجماع المدّعى والسيرة المستمرّة التي وردت في كلمات بعضهم- ولا

انوار الأصول، ج 3، ص: 583

يبعد قبولها في الجملة- أيضاً مؤيّدتان لما ذكرنا من الدليل.

ثمّ إنّ هيهنا بيانين آخرين لا يمكن الالتزام بهما إلّاإذا رجعا إلى البيان المزبور:

أحدهما: أنّ الاجتهاد اللاحق كالإجتهاد السابق، ولا دليل على ترجيحه عليه حتّى يبطله. وهذا بحسب ظاهره باطل قطعاً، لأنّ المفروض أنّ المجتهد يرى الاجتهاد السابق في الآن باطلًا ولو ظنّاً، ويكون هذا الزمان زمان حكومة الاجتهاد الثاني، فكأنّه ظفر لمصدر الاجتهاد السابق معارضاً لم يظفر به سابقاً.

إلّا أن يرجع إلى أنّ دليل حجّية الاجتهاد اللاحق لا يعمّ الأعمال السابقة وهو نفس ما ذكرناه.

ثانيهما: ما ذكره في «التنقيح» من دون أن يقبله، وحاصله: أنّ الاجتهاد الأوّل كان حجّة في ظرفه، والاجتهاد الثاني حجّة من زمن تحقّقه، ولا يعمّ السابق، فكلّ حجّة في ظرفه الخاصّ به.

وبعبارة اخرى: المفروض في المقام هو ما إذا كان إنكشاف الخلاف بقيام حجّة معتبرة على الخلاف، فلا علم وجداني بكون الاجتهاد السابق على خلاف الواقع، وحينئذٍ كما يحتمل أن يكون الاجتهاد الثاني مطابقاً للواقع، يحتمل أيضاً أن يكون الاجتهاد الأوّل كذلك، فهما متساويان

من هذه الجهة لأنّ الاجتهاد اللاحق لا يكشف عن عدم حجّية الاجتهاد السابق في ظرفه، لأنّ انكشاف الخلاف في الحجّية أمر غير معقول، بمعنى أنّ السابق يسقط عن الحجّية في ظرف الاجتهاد الثاني مع بقائه على حجّيته في ظرفه «1».

وهذا أيضاً لا يمكن المساعدة عليه بظاهره، لأنّ الاجتهاد الثاني وإن كان زمان حجّيته حين وصوله، ولكنّه يمكن أن يكون عاماً من حيث المحتوى والمؤدّى فيشمل الأعمال السابقة أيضاً.

فمثلًا إذا ظفر المجتهد برواية تدلّ على وجوب صلاة الجمعة فإنّها وإن صارت حجّة من زمن وصولها ولكن مضمونها ومحتواها يدلّ على وجوب صلاة الجمعة من زمن الرسول صلى الله عليه و آله إلى يوم القيامة، لأنّ مقتضاها ثبوت مدلولها في الشريعة المقدّسة من الابتداء، لعدم اختصاصه انوار الأصول، ج 3، ص: 584

بعصر دون عصر، وحينئذٍ يكون العمل المأتي به على طبق الحجّة السابقة باطل بمقتضى الحجّة الثانية.

إلّا أنّ يقال: إنّ المقصود من هذا البيان أنّ المضمون المذكور منصرف من الأعمال السابقة التي عمل فيها بدليل معتبر في وقته، فيرجع إلى ما ذكرنا من البيان.

الوجه الثاني: أنّ عدم الإجزاء يؤدّي إلى العسر والحرج المنفيين عن الشريعة السمحة، لعدم وقوف المجتهد غالباً على رأي واحد، فيؤدّي إلى الاختلال فيما يبني فيه عليها من الأعمال.

وفيه: أنّه أخصّ من المدّعى من وجه، وأعمّ منه من وجه آخر، أمّا كونه أخصّ منه فلأنّ المعروف أنّ المعيار إنّما هو الحرج الشخصي لا النوعي فلا يعمّ الدليل جميع المكلّفين، وأمّا كونه أعمّ منه فلشموله موارد القطع واليقين مع أنّه لا كلام في عدم الإجزاء في موارد القطع.

الوجه الثالث: الإجماع على الإجزاء مطلقاً أو في خصوص العبادات على الأقلّ.

وفيه: أوّلًا: أنّه منقول لا دليل على حجّيته،

وثانياً: يكون محتمل المدرك لو لم يكن متيقّنه.

الوجه الرابع: السيرة المتشرّعة المستمرّة على عدم الإعادة والقضاء مع أنّ تبدّل الرأي أمر شائع بين المجتهدين.

وفيه: أنّ إرجاع هذه السيرة إلى زمن المعصوم عليه السلام أمر مشكل جدّاً، لأنّه وإن كان الاجتهاد موجوداً في ذلك الزمان أيضاً ولكن لم يكن على نحو تبدّل الآراء والعدول عنها بحيث كان في مرأى ومسمع من الأئمّة المعصومين عليهم السلام، ولعلّ منشأ هذه السيرة وكذا الإجماع هو الدليل الأوّل الذي اخترناه، كما أشرناه إليه آنفاً.

الوجه الخامس: أنّ عدم الإجزاء يوجب ارتفاع الوثوق في العمل بآراء المجتهدين، من حيث إنّ الرجوع في حقّهم محتمل، وهو منافٍ للحكمة الداعية إلى تشريع حكم الاجتهاد.

وفيه: أنّه مجرّد إستحسان ظنّي لا يركن إليه ما لم يلزم منه عسر حرج اختلاف النظام.

الوجه السادس: ما استدلّ به بعضهم من الاستصحاب على بقاء آثار السابقة للأعمال التي أتى بها.

وفيه: أوّلًا: ما ذكرناه غير مرّة من عدم حجّية الاستصحاب في الشبهات الحكميّة، وثانياً:- وهو العمدة-: أنّ المقوّم للأحكام السابقة كان رأي المجتهد، والمفروض انتفاؤه فعلًا

انوار الأصول، ج 3، ص: 585

وإنقلابه إلى غيره، فإذا عدم الرأي كيف يمكن استصحاب آثاره، وهو أشنع من الاستصحاب عند تبدّل الموضوع وتغيّره.

الوجه السابع: ما استدلّ به بعض الأعلام على الإجزاء وعدم انتقاض الآثار السابقة بعد تقسيمه الأحكام إلى التكليفيّة والوضعيّة، وحاصله:

أمّا أحكام الوضعيّة: بالمعنى الأعمّ فإنّها تتعلّق غالباً بالموضوعات الخارجيّة، ولا معنى لقيام المصلحة بها، بل المصلحة قائمة بالأمر الاعتباري، ففي عقد المعاطاة مثلًا المصلحة لا تقوم بالمال بل بالملكيّة الحاصلة من المعاطاة القائمة بالمال، فإذا أدّت الحجّة إلى أنّ المعاطاة مملّكة فقد وجدت المصلحة في جعل الملكيّة، فإذا قامت الحجّة الثانية على أنّ المعاطاة لا

تفيد الملكية لم تكشف إلّاعن أنّ المسألة من لدن قيامها إنّما هى في جعل الإباحة في المعاطاة لا في جعل الملكية، فقيام الحجّة الثانية من قبيل تبدّل الموضوع.

وأمّا الأحكام التكليفيّة: فهى وإن كانت تابعة للمصالح والمفاسد في متعلّقاتها ويتصوّر فيها كشف الخلاف، إلّاأنّ الحجّة الثانية إنّما يتّصف بالحجّية بعد إنقطاع الحجّة السابقة، فالحجّة الثانية لم تكن حجّة في ظرف الحجّية السابقة، وإنّما حجّيتها تحدث بعد سلب الحجّية عن السابقة، وإذا كان الأمر كذلك استحال أن تكون الحجّية المتأخّرة موجبة لانقلاب الأعمال المتقدّمة عليها، (انتهى ملخّصاً) «1».

وفيه: أوّلًا: أنّه قدس سره هل يتكلّم على مبنى القائلين بالسببيّة في حجّية الأمارات أو الطريقيّة؟ من الواضح أنّه لا يقول بالأوّل، وأمّا على الثاني فالحجج الشرعيّة لا تكشف عن المصالح الواقعيّة لأنّها تتضمّن أحكاماً ظاهريّة فحسب، والمصلحة السلوكيّة لا توجب الاجزاء، فما ذكره من أنّ المصلحة حاصلة في عقد المعاطاة بعد قيام الحجّة أمر غريب على مبناه، وقوله: «إذا أدّت الحجّة إلى أنّ المعاطاة مملّكة فقد وجدت المصلحة في جعل الملكية في المعاطاة» نفس القول بالسببية من دون تفاوت.

وأمّا دعوى الاستحالة في كون الحجّية المتأخّرة موجبة لانقلاب الأعمال المتقدّمة في الأحكام التكليفيّة فهو أغرب منه، فإنّ الأعمال المتقدّمة لم تثبت صحّتها واقعاً وإنّما ثبتت انوار الأصول، ج 3، ص: 586

صحّتها ظاهراً (كما هو المفروض) والانقلاب إنّما هو بالنسبة إلى آثارها الموجودة الآن من القضاء والإعادة، وهذا ليس من المستحيل أبداً.

اللهمّ إلّاأن يعود كلامه إلى ما ذكرنا آنفاً من أنّ الحجّية الثانية لا تدلّ على ترتيب الآثار عليها إلّابالنسبة إلى أعماله في الحال وفي المستقبل، لانصرافها عمّا أتى به وفقاً للحجّة السابقة، والانصراف العرفي أمر، ودعوى الاستحالة العقليّة أمر آخر.

وثانياً: ما

أفاده من أنّه لا معنى لقيام المصلحة أو المفسدة بالجسم والموضوع الخارجي.

فيرد عليه: أنّ الطهارة والنجاسة من الأحكام الوضعيّة تتبّعان المصالح والمفاسد الموجودة في الموضوعات الخارجيّة، وهكذا أشباههما.

بقي هنا شي ء:

وهو أنّ ما ذكرناه هنا إنّما هو مقتضى القواعد الأوّلية في الأعمال السابقة المطابقة للإجتهاد الأوّل مع قطع النظر عن مقتضى القواعد الثانوية الخاصّة، فإنّ هيهنا قواعد خاصّة تقتضي صحّة الأعمال السابقة:

منها: ما يختصّ بباب الصّلاة، وهى قاعدة «لا تعاد الصّلاة إلّامن خمس» لشمول إطلاقها للجاهل القاصر، وما نحن فيه من مصاديقه لأنّ المجتهد إذا أخطأ في إجتّهاده كان من هذا القبيل، فإذا أدّى الاجتهاد الأوّل إلى عدم جزئيّة شي ء للصّلاة مثلًا والمكلّف أتى بالصلاة على طبقه، ثمّ تبدّل الرأي وانكشف الخلاف وظهرت جزئية ذلك الشي ء صحّت الصّلاة، ولا إشكال في عدم وجوب الإعادة والقضاء.

ومنها: ما يختصّ بباب الصيام فإنّ الأدلّة التي تدلّ على أنّ الإفطار يوجب البطلان مختصّة بالعالم العامد فقط ولا تشمل ما نحن فيه، ولازمه صحّة الصيام الذي أتى به المكلّف وفقاً للاجتهاد الأوّل.

منها: الإجماع على الإجزاء في بعضهم العبادات، وقد ادّعاه بعضهم وقال في مستمسكه «نسب إلى بعض دعوى صريح الإجماع بل الضرورة عليه» «1».

انوار الأصول، ج 3، ص: 587

ولكن فيه: أوّلًا: أنّه من قبيل الإجماع المنقول الذي لا دليل على حجّيته، فإنّ المحصّل منه في أمثال المقام لم يتعرّض أكثر الأصحاب للمسألة في كلماتهم أمر مشكل جدّاً.

وثانياً: أنّه محتمل المدرك لو لم يكن متيقّنة فإنّا نحتمل (على الأقل) استنادهم في ذلك إلى بعض الوجوه المستدلّ بها في المقام، وقد مرّ عليك ذكرها آنفاً.

وثالثاً: أنّ المحكيّ عن العلّامة والعميدي 0 دعوى الإجماع على خلافه (على ما في مستمسك الحكيم قدس سره).

هذا كلّه فيما

إذا كانت فتوى المجتهد على أساس أمارة من الأمارات الشرعيّة.

ومنه يظهر الكلام في الاصول العمليّة العقليّة أو الشرعيّة، فإنّ الحكم الحاصل منها حكم ظاهري، وقد عمل به المكلّف، ثمّ تبيّن بحسب الاجتهاد الثاني خلافه، فيأتي جميع ما ذكرنا في الأمارات والأدلّة الاجتهاديّة.

وملخّص الكلام في المقام: أنّ تبدّل الرأي على ثلاثة صور:

تارةً يكون العمل قد مضى ثمّ تبدّل الرأي، ففي هذه الصورة لا إشكال في الإجزاء إلّافيما إذا كان مدرك الاجتهاد السابق هو القطع.

واخرى: السبب قد مضى والمسبّب باقٍ على حاله كما في مثال الذبيحة فإنّ عمل التذكية فيه قد مضى وأمّا الحيوان المذكّى فهو موجود في الحال، ومثل عقد النكاح بالفارسية فالعقد قد مضى وأمّا مسبّبه ومنشأه وهو الزوجية باقٍ على حاله، ومثل ما إذا اشترى داراً بعقد المعاطاة فمسبّبه وهو ملكية الدار باقية على حالها، ففي هذه الصورة أيضاً إذا تبدّل رأي المجتهد، الصحيح هو الإجزاء من دون فرق بين مثال الذبيحة وإنشاء العقد باللغة الفارسيّة لأنّ كليهما من باب واحد، والمسبّب (أو الموضوع على تعبير المحقّق اليزدي رحمه الله في العروة الوثقى) باقٍ على حاله في كليهما، ولا وجه للفرق بينهما كما ذهب إليه السيّد اليزدي رحمه الله، ولذلك علّق على كلامه وإستشكل عليه أكثر المعلّقين.

وثالثة: يكون الموضوع باقياً على حاله، كما إذا اجتهد سابقاً ورأى كفاية سبعة وعشرين شبراً في تحقّق الكرّية، واجتهد في اللاحق على عدم كفايتها، وكان الماء المحكوم بالكرّية سابقاً باقياً على حاله، ورأي سابقاً عدم نجاسة ملاقي الشبهة المحصورة أو عدم نجاسة عرق انوار الأصول، ج 3، ص: 588

الجنب عن الحرام أو دم البيض، والآن يرى نجاستها وهى باقية على حالها، ففي هذه الصورة لا إشكال في عدم الإجزاء،

لأنّ الكلام فيه ليس في الأعمال الماضية، بل بالنسبة إلى الحال والمستقبل، بأن يعامل مع هذا الماء معاملة الكرّ في الحال والآتي فلا ريب في عدم الإجزاء.

فالحقّ في المسألة هو التفصيل بين الصورتين الأوّليين والصورة الأخيرة، والقول بالإجزاء في الأوليين دون الأخيرة، ومنه يظهر حال سائر التفاصيل المذكورة في المقام والجواب عنها.

ثمّ إنّ هنا تفصيلًا آخر اختاره سيّدنا الاستاذ الحكيم رحمه الله في مستمسكه، وحاصله: الفرق بين أعمال المجتهد نفسه وأعمال مقلّديه، وعدم الإجزاء في الاولى والاجزاء في الثانية، أمّا حكم المجتهد نفسه بالإضافة إلى الأعمال السابقة على العدول فالظاهر وجود التدارك عليه، لأنّ الدليل الأوّل في نظره على الفتوى اللاحقة لا فرق فيه بين الوقائع السابقة واللاحقة، وأمّا بالنسبة إلى المقلّد فيمكن الاستدلال على صحّة الأعمال السابقة بأنّ ما دلّ على جواز العدول أو وجوبه إنّما دلّ عليه بالإضافة إلى الوقائع اللاحقة سواء كان هو الإجماع أو غيره، مضافاً إلى استصحاب بقاء الحجّية للفتوى السابقة بالإضافة إلى الوقائع السابقة، نعم لو كان العدول لأجل أعلمية المعدول إليه فوجوب العدول إليه يقتضي تدارك الأعمال السابقة لإطلاق دليل حجّية فتوى الأعلم، (إنتهى كلامه ملخّصاً) «1».

وفيه: أنّ الإنصاف عدم الفرق بين المجتهد والمقلّد في هذا الباب، ولا بين أن يكون تبدّل الفتوى للعدول إلى الأعلم أو غير ذلك من أسباب العدول وتغيير الفتوى، فإنّ الفتوى الأخيرة التي استنبطها المجتهد عن الأدلّة غير مقيّدة بزمان ولا مكان، ولا حال دون حال، بل محتواها أنّ الحكم الشرعي من زمن النبي صلى الله عليه و آله إلى آخر الدنيا هو هذا كما كانت الاولى قبل كشف خلافها كذلك، فإذا ثبتت حجّية فتوى المجتهد، في زمان وجب ترتيب الآثار على كلامه

بالنسبة إلى جميع الأزمنة.

اللهمّ إلّاأن يقال: بانصراف حجّيتها إلى خصوص الوقائع اللاحقة، ولكن يجري مثل هذه الدعوى بالنسبة إلى المجتهد نفسه لأنّه وإن كان يعترف بالخطأ في الجملة ولكن المفروض انوار الأصول، ج 3، ص: 589

أنّه ليس معناه حصول القطع ببطلان الفتوى السابقة لأنّه خارج عن محلّ الكلام، بل يحتمل صحّتها أيضاً في متن الواقع، وإن كانت وظيفته فعلًا العمل بالثانية.

وحينئذٍ يمكن دعوى انصراف أدلّة حجّية الفتوى اللاحقة إلى الوقائع اللاحقة حتّى بالنسبة إلى المجتهد نفسه، هذا إذا كان الدليل لفظياً، وأمّا إذا كان دليل الحجّية لبّياً فالقدر المتيقّن منه ليس إلّاما ذكرناه، وهذا الكلام يجري بالنسبة إلى الأعلم أيضاً.

إلى هنا تمّ الكلام عن المقام الأوّل من مباحث الاجتهاد والتقليد (وهو البحث عن أحكام الاجتهاد).

المقام الثاني: فى مباحث التقليد
اشارة

وهو في اللغة جعل القلادة على العنق، قلّده تقليداً جعل القلادة على عنقه، ومنها تقليد الولاة الأعمال، وتقليد البدنة أن يعلّق في عنقها شي ء ليعلم أنّه هدى، وتقليد السيف تعليقه في العنق أو شدّه على وسطه، وأمّا الاقليد فهو معرّب «كليد»، وفي مجمع البحرين أنّه لغة يمانية بمعنى المفتاح، فلا ربط بينه وبين مادّة القلادة.

وأمّا التقليد في المقام، أي التقليد عن المجتهد فالمعروف أنّه قبول قول الغير من غير دليل، لأنّ المقلِّد يجعل عمله كالقلادة على عنق المجتهد، وقيل أنّ المقلِّد يجعل طوق التبعيّة على عنقه.

وأمّا في الاصطلاح فقد ذكر شيخنا الأعظم الأنصاري رحمه الله له في رسالته الشريفة أربعة معانٍ:

1- العمل بقول الغير.

2- قبول قول الغير.

3- الأخذ بقول الغير.

4- متابعة قول الغير.

ويمكن أن يقال: إنّها جميعاً ترجع إلى معنى واحد ولكن يستخرج منها عند الدقّة ثلاثة مفاهيم مختلفة: أحدها: العمل بقول الغير، ثانيها: الأخذ بقول الغير بقصد العمل من دون

العمل به، ثالثها: الالتزام القلبي بالعمل به وإن لم يأخذه ولم يعمل به، ثمّ يقع البحث في أنّه أي شي ء من انوار الأصول، ج 3، ص: 590

هذه الامور الثلاثة يعبّر عن حقيقة التقليد، فهل هى الالتزام القلبي بفتوى المجتهد سواء أخذ بها أم لم يأخذ، وسواء عمل بها أم لم يعمل، أو أنّه الالتزام مع الأخذ بقصد العمل سواء عمل أم لم يعمل، أو أنّه الالتزام مع الأخذ والعمل؟

وللمحقّق الخراساني رحمه الله تعريف خامس، وهو: الأخذ بقول الغير بغير دليل، فأضاف إليه قيد «بغير دليل»، ولا ريب في أنّ مراده من الدليل إنّما هو الدليل التفصيلي، وإلّا يكون للمقلّد دليل في تقليده إجمالًا بلا إشكال.

وفي العروة الوثقى للمحقّق اليزدي؛ تعريف سادس وهو: الالتزام بالعمل بقول مجتهد معيّن، فإنّه قال في المسألة 8: «التقليد هو الإلتزام بالعمل بقول مجتهد معيّن وإن لم يعمل بعد، بل ولو لم يأخذ فتواه فإذا أخذ رسالته والتزم بما فيها كفى في تحقّق التقليد».

وقد وافقه جماعة من المحشّين، وخالفه جماعة اخرى منهم وقالوا: «التقليد هو الأخذ بفتوى المجتهد للعمل».

والتعريف السابع ما هو المختار، وهو: الاستناد إلى رأي المجتهد في مقام العمل. فإنّ الإنصاف أنّ التقليد إنّما هو العمل استناداً إلى قول المجتهد أو أنّه الاستناد في مقام العمل، والدليل عليه:

أوّلًا: أنّه هو المناسب للمعنى اللغوي حيث إنّه عبارة عن جعل القلادة في العنق، ولا ريب في أنّ قلادة التقليد تعلّق على عنق المجتهد بعد أن عمل المقلّد بفتاويه استناداً إليها.

ثانياً: ما سيأتي في مسألة جواز التقليد وعدمه ممّا إستند إليه لعدم الجواز من الآيات الناهية عن العمل بغير علم، حيث إنّ لازمه كون التقليد هو العمل بغير العلم، ولم يردّ عليه (لا

من جانب المستدلّين بها لعدم جواز التقلّد ولا من جانب المجيبين عنهم) بأنّ هذه الآيات لا ربط لها بمسألة التقليد لأنّه ليس من مقولة العمل، فكأنّ الطرفين توافقا على كونه من قبيل العمل.

وثالثاً: أنّ المقصود من التقليد والأثر الشرعي المترتّب عليه إنّما هو صحّة العمل وهى لا تحصل بدون العمل.

وبعبارة اخرى: كما أنّ الآثار الشرعيّة التي تترتّب على التقليد عبارة عن الآثار في مقام العمل فليكن معناه أيضاً كذلك، أي لابدّ من إدخال العمل في معناه.

انوار الأصول، ج 3، ص: 591

ثمّ إنّ القائلين بأنّ التقليد عبارة عن الإلتزام القلبي أو الأخذ بالفتوى فعمدة الدليل عليه عندهم: أوّلًا: ما جاء في كلمات المحقّق الخراساني رحمه الله وغيره من إشكال الدور، ببيان: أنّه لابدّ أن يكون العمل عن تقليد، فيكون التقليد في رتبة سابقة على العمل، فلو كان التقليد عبارة عن العمل فيكون في رتبة متأخّرة عنه، فيلزم منه الدور وتقديم ما حقّه التأخير.

وإن شئت قلت: أنّ وقوع العبادة في الخارج هو ممّا يتوقّف على قصد القربة، وقصد القربة على ثبوت كونها عبادة، وثبوت ذلك للعامي ممّا يتوقّف على التقليد، فلو كانت التقليد هو العمل، أي وقوع العبادة في الخارج، لتوقّف وقوعها في الخارج على وقوعها في الخارج، وهو دور واضح.

ثانياً: أنّ التقليد سابق على العمل، فلو كان التقليد هو نفس العمل لكان العمل الأوّل بلا تقليد.

ثالثاً: أنّ التقليد في اللغة جعل القلادة على عنق المقلِّد، ولا إشكال في أنّه يتحقّق بالالتزام وإن لم يعمل بعد.

والجواب عن الأوّل: أنّه لم يرد في آية ولا رواية من أنّه لابدّ أن يكون العمل عن تقليد ومسبوقاً بالتقليد وناشئاً عنه كي يجب أن يكون التقليد سابقاً على العمل، بل الذي يجب

على المقلّد إنّما هو العمل بقول المجتهد والأخذ بكلامه، فلو عمل بقوله فقد صدق أنّه قلّده وإن لم يصدق أنّه عمل عن تقليد.

وبعبارة اخرى: أنّه قد وقع الخلط بين التقليد والحجّة، فإنّ ما يجب على المقلّد إنّما هو إتيان العمل عن حجّة، والتقليد عبارة عن العمل عن حجّة، لأنّا نقول: لابدّ أن يكون المكلّف في أعماله وعباداته إمّا مجتهداً أو محتاطاً أو مقلّداً، ولا نقول: لابدّ أن يكون عمله عن تقليد، وحينئذٍ يكون علمه الأوّل أيضاً مع التقليد وينطبق عليه عنوانه، لأنّه أيضاً يكون عن حجّة ودليل، وبهذا يظهر الجواب عن الدليل الثاني.

وأمّا الدليل الثالث ففيه: ما مرّ من معنى التقليد في اللغة، فإنّه ليس عبارة عن جعل القلادة على عنق المقلّد، بل هو عبارة عن جعل قلادة المسؤولية على عنق المجتهد ولا يحصل ذلك إلّابعد العمل.

والعمدة في المقام والذي يسهّل الخطب أنّ التكلّم في مفهوم التقليد لا يترتّب عليه ثمرة

انوار الأصول، ج 3، ص: 592

فقهيّة، وذلك لأنّه أمر حادث في مصطلح الفقهاء لم يرد في آية ولا رواية ولا معقد إجماع إلّافي مرسلة الإحتجاج عن أبي محمّد العسكري عليه السلام: «فأمّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه مخالفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوام أن يقلّدوه» «1».

لكنّها مضافاً إلى ضعفها من ناحية السند مؤيّدة لما ذكرنا لأنّ الذمّ الوارد فيها إنّما هو على عملهم بفتاوي من لا يوثق به من علماء أهل الكتاب.

نعم، عن محمّد بن عبيدة قال: قال لي أبو الحسن عليه السلام: «يامحمّد أنتم أشدّ تقليداً أم المرجئة؟ قال: قلت: قلّدنا وقلّدوا، فقال: لم أسألك عن هذا، فلم يكن عندي جواب أكثر من الجواب الأوّل، فقال أبو الحسن عليه السلام: أنّ المرجئة

نصبت رجلًا لم تفرض طاعته وقلّدوه، وأنّكم نصبتم رجلًا وفرضتم طاعته ثمّ لم تقلّدوه، فهم أشدّ منكم تقليداً» «2».

ولكنّها- مع قطع النظر عن وجود سهل بن زياد في سندها- أيضاً خارجة عن محلّ البحث وهو التقليد عن غير المعصوم، مضافاً إلى أنّه ظاهر أيضاً في كون التقليد هو العمل لأنّ شكوى الإمام عليه السلام إنّما هو على ترك العمل بأقواله وهداياته.

وهكذا ما جاء في بعض معاقد الإجماعات من أنّه «لا يجوز تقليد الميّت إجماعاً» لأنّه سيأتي أنّ الإجماع في باب التقليد لا أقلّ من كونه محتمل المدرك، فالظاهر أنّ منشأه هو بناء العقلاء، مضافاً إلى كونه من إجماع المتأخّرين الذي لا يكشف عن قول المعصوم عليه السلام تعبّداً.

وربّما يقال: إنّ ثمرة البحث عن مفهوم التقليد تظهر في مسألتي البقاء على تقليد الميّت، والعدول من حي إلى غيره، فإنّا إذا فسّرناه بالإلتزام وفرضنا أنّ المكلّف التزم بالعمل بفتوى مجتهد ثمّ مات ذلك المجتهد فله أن يعمل على فتاواه لأنّه من قبيل البقاء على تقليد الميّت، وليس تقليداً ابتدائياً له، وهذا بخلاف ما إذا فسّرناه بالاستناد إلى فتوى المجتهد في مقام العمل لأنّه حينئذٍ من قبيل تقليد الميّت ابتداءً لعدم استناد المكلّف إلى شي ء من فتاوي المجتهد الميّت حال حياته في مقام العمل.

وهكذا في مسألة العدول من حي إلى غيره، لأنّه إذا التزم بالعمل بفتيا مجتهد، وفسّرنا التقليد بالالتزام حرّم عليه العدول عن تقليده لأنّه قد قلّده تقليداً صحيحاً ولا مرخّص له انوار الأصول، ج 3، ص: 593

للعدول، وهذا بخلاف ما إذا قلنا أنّ التقليد هو الاستناد إلى فتوى المجتهد في مقام العمل، لأنّه حينئذٍ لم يتحقّق منه تقليد المجتهد ليحرم عليه العدول بل لا يكون رجوعه لغيره

عدولًا من مجتهد إلى مجتهد آخر «1».

ولكن يرد عليه: أنّ هذا إنّما يتمّ لو كان دليل الجواز على البقاء على تقليد الميّت أو العدول من حي إلى آخر هو معاقد الإجماعات المشتملة على لفظ التقليد، ولكن قد عرفت في السابق وسيأتي مشروحاً إن شاء اللَّه أنّه ليس كذلك، فهذه الثمرة أيضاً ساقطة.

مسائل التقليد
اشارة

ويقع البحث فيه في ثلاث مقامات:

1- جواز التقليد للعامي

لا إشكال في أنّه لابدّ من أن يكون العامي مجتهداً في خصوص هذه المسألة التي لا مؤونة لاستنباطها واجتهادها، فإنّ لزوم رجوع الجاهل إلى العالم أمر إرتكازي لجميع العقلاء، وسيأتي أنّ المهمّ والعمدة في باب التقليد إنّما هو بناء العقلاء، وما يشاهد من أنّهم يكتبون في إبتداء رسائلهم العمليّة من أنّه لابدّ للعامي أن يجتهد في خصوص هذه المسألة فهو لمجرّد تقريب الذهن وإرشاد العامي.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّه استدلّ لجواز التقليد بامور أربع:

الأمر الأوّل: (وهو العمدة في المسألة) سيرة العقلاء في جميع أعصار وأنحاء العالم وجميع الصنائع والتجارات والزراعات والعلوم المختلفة البشريّة كعلم الطب وشعبه المتفاوتة (طبّ الإنسان وطبّ الحيوان وطبّ النبات) وغيره من سائر العلوم، بل جميع المجتهدين والمتخصّصين للعلوم البشريّة يكون تخصّصهم واجتهادهم في فنون طفيفة معدودة، وأمّا بالإضافة إلى سائر الفنون والحرف فيكونون مقلّدين، فالمجتهد في علم الفقه مثلًا يقلِّد الأطباء

انوار الأصول، ج 3، ص: 594

في علم الطبّ والمعمار في بناء داره مثلًا، وهكذا في غيرها ممّا يحتاج إليه في امور معاشه، بل وفي موضوعات أحكام معاده، وكثيراً مّا يتّفق أنّ عدّة من طلّاب العلوم مثلًا يتعلّم كلّ واحد منهم علماً خاصّاً ويصير متخصّصاً في ذلك وفي نفس الوقت يقلّد كلّ واحد من أصحابه في علمه الخاصّ به، فيكون كلّ منهم متخصّصاً في علم واحد ومقلّداً في سائر العلوم.

ولذلك نقول: إنّ ما يدور في الألسنة في يومنا هذا من وجوب التحقيق في المسائل الشرعيّة الفرعيّة على كلّ أحد ولا معنى للتقليد فيها بعد إمكان التحقيق، كلام شعري أو هتاف سياسي، بل الأخباري المنكر للتقليد أيضاً إمّا أن ينكره باللسان وقلبه مطمئن بالإيمان، أو يكون إنكاره من

باب الخلط بين الاجتهاد بالمعنى العامّ والاجتهاد بالمعنى الخاصّ كما مرّ بيانه آنفاً.

ثمّ إنّه لا بأس أن نشير هنا إلى أنّ هذا البناء للعقلاء يكون في الواقع ناشئاً من انسداد صغير فإنّهم يلاحظون في الأموال مثلًا أنّهم لو اعتمدوا فيه على العلم فقط وأنكروا حجّية اليد على الملكيّة لأنسدّ باب العلم في هذا المقام وإن كان مفتوحاً في الأبواب والموارد الاخرى، ولذلك يعتبرون حجّية كثير من الاصول والقواعد كقاعدة اليد وغيرها، وهذه هى النكتة التي أشار إليها المحقّق الخراساني رحمه الله بقوله: «وإلّا لأنسدّ باب العلم على العامي».

الأمر الثاني: الاستدلال بالكتاب العزيز بجملة من الآيات:

منها: آية النفر، وقد مرّ الكلام فيه تفصيلًا في مبحث حجّية خبر الواحد، وينبغي هنا أن نشير إلى نكتة منها فقط، وهى أنّ هذه الآية ناظرة إلى باب الاجتهاد والتقليد لا باب الرواية، فإنّ التفقّه الوارد فيها بمعنى الاجتهاد والاستنباط عن نظر وبصيرة، وإلّا ربّ حامل رواية وفقه إلى من هو أفقه منه، كما أنّ الإنذار أيضاً من وظائف وشؤون المجتهد لا الراوي، أي إنّما يقدر على الإنذار من كان بصيراً بالحكم الإلهي، وعالماً متيقّناً به، وقادراً على تمييز الواجب عن المستحبّ، وناظراً في الحلال والحرام، وقد مرّ أيضاً أنّ كلمة «لعلّ» فيها كناية عن الوجوب، وإلّا فمادّة الحذر وماهيته لا تقبل الاستحباب كما لا يخفى.

نعم، هيهنا إشكالان لو أمكن دفعهما كان الاستدلال بالآية في المقام تامّاً وإلّا فلا:

أحدهما: أنّ الآية لا اطلاق لها حتّى تشمل صورة العلم وعدمه فلعلّ المقصود من قوله تعالى: «لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ» خصوص ما إذا حصل من الإنذار العلم واليقين بحكم اللَّه فلا يعمّ انوار الأصول، ج 3، ص: 595

صورة حصول الظنّ كما هو محلّ النزاع في المقام،

وبعبارة اخرى: أنّ للآية قدر متيقّن في مقام التخاطب فإطلاقها ليس بحجّة لعدم حصول جميع مقدّمات الحكمة.

والجواب عنه: أنّ الآية مطلقة، ومجرّد وجود قدر متيقّن في مقام التخاطب لا ينافي الاطلاق كما ذكرناه في محلّه، وإلّا لأختلّ غالب النصوص المطلقة لنزولها أو ورودها في مقامات خاصّة.

ثانيهما: أنّها في مقام بيان وظيفة المجتهد لا المقلّد، فلا اطلاق لها من هذه الجهة.

وفيه: أنّه مجرّد دعوى لا شاهد عليها، بل الظاهر كون الآية في مقام البيان من الجانبين.

منها: آية السؤال، وهى قوله تعالى: «وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لَاتَعْلَمُونَ» «1»

وقوله تعالى: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَاتَعْلَمُونَ» «2»

(والفرق بينهما هو إضافة كلمة «من» في الثانية).

هذه الآية من جهة أقوى دلالة من آية النفر لأنّها في مقام بيان وظيفة المقلّد وتلك كانت في مقام بيان وظيفة الفقيه والمجتهد على قول.

وتقريب الاستدلال بها واضح، فإنّ المراد من أهل الذكر أهل العلم والقرآن من العلماء كما نصّ عليه جماعة.

ولكن أورد عليه أوّلًا: بأنّ موردها وشأن نزولها إنّما هو أهل الكتاب في باب اصول الدين التي يعتبر فيها تحصيل العلم، فيكون الأمر بالسؤال من أهل الذكر لتحصيل العلم من أقوالهم فيعمل بالعلم لا بأقوالهم تعبّداً ليثبت المطلوب.

وثانياً: بأنّ ذيلها وهو قوله تعالى: «إِنْ كُنتُمْ لَاتَعْلَمُونَ» أقوى شاهد على أنّ الغرض من السؤال هو العلم فالآية تقول: «إن كنت لا تعلم فاسأل حتّى تعلم».

لكن الإنصاف إمكان دفع كليهما ...

أمّا الإيراد الأوّل: فلأنّ المورد ليس مخصّصاً والآية مطلقة تعمّ السؤال عن اصول الدين وغيرها، وتقييد بعض المصاديق (وهو اصول الدين) بالعلم بدليل من الخارج لا يوجب تقييد سائر المصاديق

به واعتباره فيها، فكما أنّه يمكن تقييد جميع المصاديق بدليل منفصل كقوله: «لا

انوار الأصول، ج 3، ص: 596

تكرم الفسّاق منهم» بالنسبة إلى دليل «أكرم العلماء» كذلك يمكن تقييد بعض المصاديق كما إذا قيل: «لا تكرم الفسّاق من النحويين».

وأمّا الإيراد الثاني: فلأنّ قوله تعالى: «إِنْ كُنتُمْ لَاتَعْلَمُونَ» هو في مقام بيان الموضوع، أي تقول الآية: «اسأل عند عدم العلم حتّى تكون لك الحجّة» كما إذا قيل: «إن كنت لا تعلم دواء داءك فارجع إلى الطبيب» فليس معناه أنّ قول الطبيب يوجب العلم دائماً.

وبعبارة اخرى: قوله تعالى: «إِنْ كُنتُمْ لَاتَعْلَمُونَ» ليس من قبيل بيان الغاية حتّى يورد عليها بما ذكر.

وبعبارة ثالثة: تارةً يكون العلم موضوعاً واخرى يكون غايةً، وما نحن فيه من قبيل الأوّل، فهى تقول: إنّ الموضوع للرجوع إلى البيّنة أو القسم أو الموضوع للرجوع إلى الخبرة إنّما هو الجهل، وهذا لا يعني حصول العلم بعد الرجوع.

سلّمنا كونه غاية، لكن ليس المراد من العلم في المقام اليقين الفلسفي كما مرّ كراراً بل المراد منه هو العلم العرفي الذي يحصل من ناحية إقامة أيّة حجّة، فإنّ العرف والعقلاء يعبّرون بالعلم في كلّ مورد قامت فيه الحجّة.

هذا- ولكن الآيات الواردة في المسألة كبعض الروايات الواردة فيها التي سنشير إليها إمضاءً لما عند العقلاء من رجوع الجاهل إلى العالم، نعم لا ضير فيها من هذه الجهة.

الأمر الثالث: الروايات الواردة في خصوص المقام، وهى كثيرة إلى حدّ تغنينا عن البحث حول إسنادها.

منها: ما رواه أبو عبيدة قال: قال أبو جعفر عليه السلام: «من أفتى الناس بغير علم ولا هدى من اللَّه لعنته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ولحقه وزر من عمل بفتياه» «1».

فهو يدلّ بمفهومه على جواز الإفتاء بعلم، ولا ريب في

أنّ المقصود من العلم فيه إنّما هو الحجّة.

منها: ما رواه عنوان البصري عن أبي عبداللَّه جعفر بن محمّد عليهما السلام في حديث طويل يقول فيه: «سل العلماء ما جهلت وإيّاك أن تسألهم تعنّتاً وتجربة» «2».

انوار الأصول، ج 3، ص: 597

ومنها: ما رواه إسماعيل بن الفضل الهاشمي قال: «سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن المتعة فقال:

«ألق عبدالملك بن جريح فسله عنها فإنّ عنده منها علماً» «1».

ومنها: ما رواه في تحف العقول من كلام الحسين بن علي عليه السلام في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويروى عن أمير المؤمنين عليه السلام: «اعتبروا أيّها الناس ... بأنّ مجاري الامور والأحكام على أيدي العلماء باللَّه الامناء على حاله وحرامه ...» «2».

ومنها: ما رواه في المستدرك عن علي عليه السلام: أنّه قال في حديث: «فإذا كان كذلك إتّخذ الناس رؤساء جهّالًا يفتون بالرأي ويتركون الآثار فيضلّون ويضلّون فعند ذلك هلك هذه الامّة» «3».

ومنها: ما رواه في المستدرك أيضاً عن تفسير الإمام العسكري عليه السلام: عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله:

«أنّ اللَّه لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس ولكن يقبضه بقبض العلماء، فإذا لم ينزل عالم إلى عالم يصرف عنه طلّاب حكّام الدنيا وحرامها، ويمنعون الحقّ أهله ويجعلونه لغير أهله، واتّخذ الناس رؤساء جهّالًا، فسألوا فأفتوا بغير علم فضلّوا وأضلّوا» «4».

ومنها: ما رواه مفضّل بن يزيد قال: قال أبو عبداللَّه عليه السلام: «أنهاك عن خصلتين فيهما هلك الرجال، أنهاك أن تدين اللَّه بالباطل، وتفتي الناس بما لا تعلم» «5».

ومنها: ما رواه عبدالرحمن بن الحجّاج قال: قال لي أبو عبداللَّه عليه السلام: «إيّاك وخصلتين ففيهما هلك من هلك إيّاك أن تفتي الناس برأيك أو تدين بما لا تعلم» «6».

ومنها: ما

رواه عبدالرحمن بن الحجّاج أيضاً قال: «سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن مجالسة أصحاب الرأي فقال: جالسهم وإيّاك عن خصلتين تهلك فيهما الرجال، أن تدين بشي ء من رأيك أو تفتي الناس بغير علم» «7».

انوار الأصول، ج 3، ص: 598

ومنها: ما رواه موسى بن بكر قال: قال أبو الحسن عليه السلام: «من أفتى الناس بغير علم لعنته ملائكة الأرض وملائكة السماء» «1».

ومنها: ما رواه إسماعيل بن زياد عن أبي عبداللَّه عن أبيه عليهما السلام قال: «قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله:

من أفتى الناس بغير علم لعنته ملائكة السماء والأرض» «2».

ومنها: ما رواه الطبرسي في الإحتجاج عن أبي محمّد العسكري عليه السلام في حديث طويل:

«فأمّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً على هواه، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوام أن يقلّدوه» «3».

ودلالته على المطلوب واضحة.

ومنها: ما رواه حذيفة قال: سألته عن قول اللَّه عزّوجلّ: «اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ» قال: «أما إنّهم لم يتّخذوهم آلهة إلّاأنّهم أحلّوا لهم حلالًا فأخذوا به وحرّموا حراماً فأخذوا به، فكانوا أربابهم من دون اللَّه» «4».

وقد ورد الذمّ فيهما على عمل اليهود حيث أخذوا أحكامهم عن العلماء المحرّفين لأحكام اللَّه بما يظهر منه أنّه لو كان هؤلاء علماء صالحين لم يكن هناك ذمّ في الرجوع إليهم.

ومنها: ما رواه عمر بن حنظلة عن أبي عبداللَّه عليه السلام في حديث طويل: «قال ينظر أنّ من كان منكم ممّن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنّما إستخفّ بحكم اللَّه وعلينا ردّ، والرادّ علينا الرادّ على اللَّه وهو على حدّ الشرك باللَّه» «5».

ومنها: ما رواه

أبو خديجة عن أبي عبداللَّه عليه السلام: «... اجعلوا بينكم رجلًا قد عرف حلالنا وحرامنا، فإنّي قد جعلته عليكم قاضياً ...» «6».

انوار الأصول، ج 3، ص: 599

وهما وإن وردا في باب القضاء ولكن ظاهرهما أو صريحهما كون النزاع في الشبهات الحكميّة فلو جاز الرجوع إلى القضاة فيها مع النزاع جاز الرجوع إليهم فيها بدونه أيضاً فتأمّل.

ومنها ما رواه إسحاق بن يعقوب عن الإمام الحجّة عليه السلام: «... وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة اللَّه ...» «1».

ومنها: عدّة من الأحاديث الواردة في نفس الباب مثل الحديث 11 و 15 من الباب الحادي عشر من المستدرك، ومثل الحديث 15 و 21 و 34 و 35 و 36 من الباب الحادي عشر من الوسائل (وإن كان بعضها لا يخلو عن كلام) ممّا يدلّ على إرجاع الناس إلى أعاظم أصحابهم نظير زرارة وأبي بصير ومحمّد بن مسلم وزكريّا بن آدم وبريد بن معاوية وأشباههم، ولا شكّ أنّهم كانوا ممّن يعالجون تعارض الأخبار ويجمعون بين المطلق والمقيّد والعام والخاصّ وما يشبه ذلك، ولا شكّ في أنّ هذه نوع من الاجتهاد فالأخذ منهم كان من باب أخذ المقلّد من المجتهد.

إلى غير ذلك ممّا ورد في هذا المعنى وهى متفرّقة في أبواب مختلفة من الوسائل والمستدرك في أبواب صفات القاضي.

الأمر الرابع: إجماع المسلمين، وقد يعبّر عنه بسيرة المتشرّعة لأنّه إجماع عملي والظاهر أنّه أيضاً ينشأ من بناء العقلاء على رجوع الجاهل إلى العالم، ولا أقلّ من احتماله، أي احتمال أنّ المتشرّعين والمتديّنين بنوا على الرجوع إلى العالم بالمسائل الشرعيّة لا بما هم متشرّعون بهذا الشرع المقدّس بل بما هم عقلاء أو بما أنّه من الامور الفطريّة

الارتكازيّة (كما إعترف به المحقّق الخراساني) ثمّ أمضاه الشارع المقدّس وإذاً ليس الإجماع أو السيرة دليلًا مستقلًا برأسه.

هذا كلّه ما يمكن أن يستدلّ به لجواز التقليد، ولكن مع ذلك كلّه نقل صاحب المعالم وصاحب الفصول عدم جوازه عن جماعة، فقال صاحب المعالم قدس سره، أنّه عزى في الذكرى إلى بعض علماء الأصحاب وفقهاء حلب منهم القول بوجوب الاستدلال على العوام، وقال انوار الأصول، ج 3، ص: 600

صاحب الفصول قدس سره: «ذهب شرذمة إلى عدم جواز التقليد» والمشهور أيضاً أنّ الأخباريين منكرون لجواز التقليد.

ويمكن أن يستدلّ لهم أنّ العامي إمّا أن يكون عربياً يفهم الكتاب والسنّة، ويدرك مفاهيم الألفاظ واللغات، فلا حاجة له حينئذٍ إلى الرجوع إلى المجتهد، بل هو بنفسه يلاحظ أدلّة الأحكام ويعمل بها، وأمّا أن يكون عجمياً فهو وإن لا يدرك معاني الألفاظ واللغات ولكن لا حاجة له إلى التقليد أيضاً لأنّه يكفيه دلالة المجتهد إلى موارد الأدلّة ووضعها بين يديه حتّى يصير قادرا على إستخراج الأحكام واستنباطها منها، فالمجتهد حينئذٍ يكون من قبيل المترجم فحسب، لا مرجعاً ومقلّداً.

ولكنّه واضح البطلان، أمّا في عصرنا هذا فلما نشاهده من سعة دائرة الفقه وأدلّة الأحكام والقواعد، والبعد الحاصل بيننا وبين عصر الأئمّة المعصومين عليهم السلام، الذي يوجب بطبعه غموضاً شديداً في فهم أدلّة الأحكام ومقاصد الإمام عليه السلام فإنّ تعليمها بجميع المقلّدين وعرضها لهم يستلزم نفر جميعهم إلى الحوزات العلميّة، وهذا ممّا يلزم منه إختلال النظام والمعاش.

وأمّا بالنسبة إلى أعصار الأئمّة المعصومين عليهم السلام التي كان تحصيل المسائل فيها خفيف المؤونة، وإسناد الروايات فيها واضحة، أو لم يكن حاجة إليها لإمكان الوصول إلى الأئمّة عليهم السلام مباشرةً وبدون الواسطة، وبالجملة كان الاجتهاد والاستنباط في ذلك الزمان

بسيطاً جدّاً بالنسبة إلى زماننا هذا، فبالنسبة إلى تلك الأعصار نقول أيضاً: لم يكن تحصيل ملكة الاجتهاد ممكناً لجميع الناس خصوصاً لغير العرب، سيّما إذا لاحظنا أنّ كثيراً من الناس فاقدون للإستعداد اللازم لفهم المسائل الشرعيّة الدقيقة، بل وفي مستواها البسيط، وهذا ممّا ندركه بوجداننا بالإضافة إلى عوام عصرنا فتدبّر.

والحاصل: أنّ فرض إمكان الاجتهاد لجميع آحاد الناس في جميع الأحكام الشرعيّة من دون فرق بين الرجال والنساء، ومن كان قريب العهد بالبلوغ من البدوي والقروي وغيرهما أمر يشبه بالخيال والرؤيا، ومن يدّعيه إنّما يدّعيه باللسان ويخالفه عند العمل، كما هو ظاهر، كما أنّ الأمر كذلك في سائر العلوم.

هذا- وعمدة أدلّتهم لعدم جواز التقليد هى الآيات الناهية بظاهرها عن التقليد، وهى على طائفتين:

انوار الأصول، ج 3، ص: 601

الطائفة الاولى: ما تنهي عن العمل بالظنّ على نحو العموم، فإنّ من الظنون ما يحصل من قول المجتهد للمقلّد.

والطائفة الثانية: آيات وردت في خصوص باب التقليد وهى كثيرة (تبلغ إلى عشر آيات):

منها: قوله تعالى: «وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَايَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلَا يَهْتَدُونَ» «1»

وقوله تعالى: «بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ» «2»

. وقوله تعالى: «وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ» «3»

. إلى غير ذلك ممّا يدلّ على هذا المعنى.

والجواب عنهما: أمّا عن الطائفة الاولى فقد اجيب عنها بأنّها عام تخصّص بأدلّة حجّية الظنون المعتبرة.

ولكن قد مرّ سابقاً أنّ لسان هذه الآيات آبية عن التخصيص.

واجيب عنها أيضاً: بأنّها واردة في اصول الدين لأنّها ناظرة إلى تقليدهم في الشرك وعبادة

الأوثان، ومحلّ النزاع في المقام هو الفروع، والمنع عن العمل بالظنّ خاصّ بالاصول.

ولكن قد مرّ أيضاً أنّ هذا الجواب لا يساعد مع لحن بعضها كقوله تعالى: «وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا» فإنّه وإن فرض كون الفؤاد خاصّاً بالاصول ولكنّه لا ريب في أنّ السمع والبصر لا أقلّ من كونهما عامين يشملان الفروع والاصول لو لم يكونا خاصّين بالفروع.

هذا مضافاً إلى أنّ المورد لا يكون مخصّصاً في أي مقام.

والجواب الثالث (وهو الصحيح): أنّ الظنّ الوارد في هذه الطائفة لا يراد منه الاحتمال الراجح في الذهن، بل هو عبارة عن الحدس والتخمين بلا أساس ودليل، فلا يعمّ الظنّ المعتبر المعتمد على الحجّة لأنّ ذلك يعدّ من مصاديق العلم عند العقلاء، والشاهد على ذلك نفس انوار الأصول، ج 3، ص: 602

التعبيرات الواردة في هذه الآيات ففي قوله تعالى: «إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ» «1»

حيث جعل الظنّ قريناً لهوى الأنفس، كما أنّ في قوله تعالى: «إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ» «2»

حيث جعل قريناً للخرص والتخمين بلا دليل.

ويشهد على ذلك أيضاً أنّ من ظنونهم ما جاء في قوله تعالى (قبل الآية الاولى من الآيتين المزبورتين) «أَلَكُمْ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ» فقد نفت هذه المزعمة: أنّ لهم الذكر وللباري تعالى الانثى، لأنّه وهم غير معقول ولا يعتمد على الحجّة والدليل، بل الدليل العقلي القطعي على خلافه.

ويؤيّد ذلك كلّه ما ذكرنا آنفاً من أنّ الظنون المعتبرة العقلائيّة تعدّ علماً عند العرف كما يساعد عليه وجداننا العرفي وإرتكازنا العقلائي.

وأمّا عن الطائفة الثانية:

فهو واضح جدّاً، لأنّ التقليد على خمسة أقسام: تقليد الجاهل عن الجاهل، وتقليد العالم عن الجاهل، وتقليد العالم عن العالم، وتقليد الجاهل عن العالم الفاسق، وتقليد الجاهل عن العالم العادل، ولا إشكال في أنّ الأربعة الاول ممنوعة مذمومة عقلًا وشرعاً، والجائز الممدوح منها هو القسم الأخير، كما لا إشكال في أنّ التقليد في مورد آيات هذه الطائفة إنّما هو تقليد الجاهل عن الجاهل، كما يشهد عليه قوله تعالى: «أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَايَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلَا يَهْتَدُونَ» الوارد في الآية الاولى منها.

وبهذا يظهر الجواب عن الروايات الناهية عن التقليد، فإنّها أيضاً أمّا وردت بالنسبة إلى تقليد الجاهل عن الجاهل، أو تقليد الجاهل عن العالم الفاسق، وكلاهما ممنوعان عند العقل والشرع.

هذا كلّه في المقام الأوّل من البحث في أحكام التقليد.

2- تقليد الأعلم
اشارة

إذا اختلفت العلماء في العلم والفضيلة فهل يجب على العامي إختيار الأعلم، أو لا؟

المعروف بين الأصحاب وجوب تقليد الأعلم، بل حكي عن المحقّق الثاني رحمه الله دعوى الإجماع عليه، بل عن السيّد المرتضى رحمه الله أنّه من المسلّمات عند الشيعة، ومع ذلك كلّه حكي عن جماعة من المتأخّرين عدم وجوبه.

وهنا قول ثالث وهو مختارنا ومختار جماعة اخرى، وهو التفصيل بين ما علم إجمالًا أو تفصيلًا بوجود الخلاف فيه مع كونه محلًا للابتلاء فيكون تقليد الأعلم واجباً، وبين غيره من سائر الموارد فلا يكون واجباً، ولعلّ مقصود من يدّعي الإجماع في وجوب تقليد الأعلم إنّما هو الصورة الاولى فقط.

وكيف كان: لا إشكال في أنّ الأصل في المسألة هو عدم حجّية قول غير الأعلم لما مرّ في أوّل مبحث الظنّ من أنّ الأصل في موارد الشكّ في حجّية الظنون هو عدم الحجّية.

وإن شئت قلت: إنّا نعلم إجمالًا باشتغال الذمّة بعدّة

من التكاليف الشرعيّة والاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينيّة، وهى لا تحصل إلّابالعمل بآراء الأعلم.

ومن هنا يظهر بطلان كلام من توهم أنّ الأصل في المسألة هو الجواز من باب أنّ الأمر فيها يدور بين التعيين والتخيير، والأصل فيه التخيير، فإنّ في التعيين كلفة زائدة تنفي بأصالة البراءة.

وذلك لأنّ أصالة التخيير عند دوران الأمر بين التعيين والتخيير إنّما هى في باب التكاليف أي فيما إذا كان الشكّ في أصل التكليف لا في ما إذا كان الشكّ في الحجّية، فإنّ أصالة التخيير في الواقع عبارة عن أصالة البراءة عن تلك الكلفة الزائدة الموجودة في التعيين، ولا إشكال في أنّ مجرى أصالة البراءة إنّما هى التكاليف.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّه استدلّ على جواز تقليد غير الأعلم بامور:

الأمر الأوّل: أنّ المسألة من باب دوران الأمر بين التعيين والتخيير، وقد مرّ بيانه والجواب عنه آنفاً.

الأمر الثاني: قاعدة العسر والحرج ببيان أنّ معرفة مفهوم الأعلم (وهل هو عبارة عن الأعلم بالاصول، أو الأعلم بالفروع والتفريعات، أو من هو أعلم في تشخيص المذاق العرفي انوار الأصول، ج 3، ص: 604

والظواهر عند العرف، أو من هو أعلم في علم الرجال، أو من هو أدقّ نظراً من غيره، أو جميع هذه؟) أولًا، ومعرفة مصاديقه ثانياً، مشكل جدّاً لتلامذه الأعلام المجتهدين فضلًا عن العوام المقلّدين، ولذلك يجاب غالباً عند السؤال عن الأعلم» ب «أنّي لا أعرف مصداق الأعلم ولكن فلان يجوز تقليده» أو «كلّ واحد من فلان وفلان يجوز تقليده».

والجواب عنه: أوّلًا المنع عن الكبرى فإنّه لا عسر ولا حرج في تعيين مفهوم الأعلم لأنّ المراد منه «من يكون أعرف بالقواعد والمدارك للمسألة، وأكثر إطّلاعاً لنظائرها وأشباهها، وأجود فهماً للأخبار الواردة فيها، والحاصل أن يكون أجود إستنباطاً»

وقد ذكر هذا التعريف المحقّق اليزدي في العروة الوثقى في المسألة 17، ولم يعلّق عليه أحد من المحشّين فيما رأينا.

توضيح ذلك: أنّ الأعلم في علم الطبّ مثلًا من هو أحسن معالجة للأمراض وأدقّها في دواء الداء، والأعلم في البناء من هو يقدر على بناء أحسن الأبنية من دون فرق بين أن يكون تلميذاً أو استاذاً، فربّ تلميذ يكون أعلم من استاذه، كما لا فرق بين أن يكون شاباً أو كهلًا، فربّ مجتهد شابّ يكون أعلم من الشيخ الهرم وإن كان الشيخ أكثر حنكاً وتجربة وأكثر تسلّطاً على إعمال المصطلحات واستخدام القواعد، فإنّ المعيار هو شدّة القوّة والقدرة على إستخراج الأحكام الشرعيّة من أدلّتها.

نعم، إنّ تشخيص مصداق هذا المعنى مشكل جدّاً، ولكنّه فيما إذا كان البُعد والمسافة بين الأفراد قصيرة، أمّا إذا كانت التفاوت العلمي بينهم كثير فلا عسر ولا حرج في تشخيص الأعلم وتعيينه، كما أنّه كذلك في باب الطبابة وغيرها.

وثانياً: سلّمنا وجود العسر والحرج فيه، ولكن قد ذكرنا في محلّه أنّ الحرج في بابه شخصي لا نوعي، فوظيفة تعيين الأعلم تسقط عن كلّ من يقع في العسر والحرج لا عن الجميع.

كما أنّه كذلك في باب الوضوء والصيام ونحوهما، فإذا لم يكن التوضّي بالماء لشخص زيد حرجاً، لم يسقط عنه وإن كان لغيره حرجاً ومشقّة.

وثالثاً: إنّ أكثر ما يلزم من العسر والحرج إنّما هو التخيير بين عدّة من المجتهدين الذين هم في مظنّة الأعلميّة، لا أن يسقط اعتبارها برأسها، فيجوز تقليد غيرهم من آحاد المجتهدين وإن كانوا بمكان بعيد من الأعلميّة.

انوار الأصول، ج 3، ص: 605

الأمر الثالث: (وهو العمدة) الرجوع إلى إطلاقات آية النفر أو آية السؤال أو اطلاق الروايات التي استدلّ بها للمقام (كقوله عليه

السلام «فللعوام أن يقلّدوا») فإنّ آية النفر لا تقول:

«ولينذر أعلمهم» وليس في آية السؤال «فاسألوا أعلمهم» وفي الرواية: «فللعوام أن يقلّدوا أعلمهم» وفي رواية اخرى: «فارجعوا إلى أعلم رواة أحاديثنا» وهكذا الروايات التي ترجع المكلّفين إلى أصحابهم عليهم السلام.

ويرد عليه: أوّلًا: أنّ هذه الإطلاقات منزّلة على بناء العقلاء وإمضاء له فإنّه قد مرّ أنّ الأساس في باب التقليد إنّما هو بناء العقلاء، وهو قائم على تقليد الأعلم في موارد العلم بالمخالفة على الأقل، والظاهر أنّ الإطلاقات المذكورة ناظرة إلى دائرة هذا البناء لا أن تكون رادعة عنها وموسعة لها.

ثانياً: قد مرّ أيضاً أنّ إطلاقات أدلّة الحجّية لا تعمّ الحجّتين المتعارضتين كما في ما نحن فيه، وحينئذٍ لابدّ أن يقال إمّا بتعارضهما ثمّ تساقطهما، أو يقال بأنّ القدر المتيقّن منهما هو الأعلم، ولا ريب في أنّ المتعيّن هو الثاني.

هذا كلّه في أدلّة المنكرين لإعتبار الأعلميّة.

وأمّا أدلّة وجوب تقليد الأعلم فأوّلها: الإجماع، بل نقل عن السيّد المرتضى رحمه الله أنّه من مسلّمات الشيعة.

ولكن لا إشكال في أنّه مدركي.

والثاني: سيرة العقلاء، وهى العمدة، فإنّه كما أشرنا آنفاً لا أقلّ من بنائهم على تقليد الأعلم في موارد العلم بالمخالفة كما إذا وقع الإختلال بين الأطباء أو بين خبراء أي فنّ من الفنون الاخرى.

نعم لازم هذا الدليل ما سيأتي من التفصيل فانتظر.

الثالث: الروايات:

منها: مقبولة عمر بن حنظلة المعروفة.

واجيب عنها أوّلًا: أنّها مخصوصة بباب القضاء، ولا ريب في أنّ فصل الخصومة فيه لا

انوار الأصول، ج 3، ص: 606

يمكن إلّابالرجوع إلى الأعلم عند اختلاف القضاة.

ثانياً: أنّ المراد من الأعلميّة في مورد الرواية هى الأعلميّة بالنسبة إلى مورد المخاصمة لا مطلق الموارد كما هو محلّ النزاع في المقام، فتأمّل.

وقد إستشكل فيها أيضاً من ناحية

السند، ولكنّه قد مرّ أنّ الأصحاب تلقّوه بالقبول حتّى سمّيت مقبولة.

ومنها: ما جاء في عهده عليه السلام إلى مالك الأشتر النخعي: «فاختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك» «1».

ولكنّه أيضاً خاصّ بباب القضاء وفصل الخصومة الذي لا إشكال في اعتبار اختيار أعلم القضاة فيه عند اختلافهم، هذا أوّلًا.

وثانياً: إنّ عهده عليه السلام إلى مالك الأشتر مشتمل على مستحبّات كثيرة وأوصاف غير لازمة للحاكم أو القاضي التي هى كمال لهما (لا سيّما في هذا المورد، فقد ذكر فيه إثنا عشر صفة- كثير منها صفات كمال)، فلا يمكن استفادة اللزوم من فقرة من فقراته بمجرّد التعبير بصيغة الأمر.

ومنها: ما رواه في البحار عن كتاب الاختصاص قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «وإنّ الرئاسة لا تصلح إلّالأهلها ومن دعى الناس إلى نفسه وفيهم من هو أعلم منه لم ينظر اللَّه إليه يوم القيامة» «2».

وفيه: أنّ التعبير بالرئاسة قرينة على أنّ الحديث ورد في مقام بيان شرائط الولاية والحكومة لا المرجعيّة للتقليد، ولا ملازمة بين الأمرين كما لا يخفى، مضافاً إلى ضعف سنده.

ومنها: ما رواه في البحار أيضاً عن الإمام الجواد عليه السلام- أنّه قال مخاطباً عمّه- «ياعمّ أنّه عظيم عند اللَّه أن تقف غداً بين يديه فيقول لك لِمَ تفتي عبادي بما لم تعلم وفي الامّة من هو أعلم منك» «3».

وفيه: أنّه ضعيف من ناحية السند، مضافاً إلى ضعف الدلالة لأنّه في مقام النهي عن إفتاء

انوار الأصول، ج 3، ص: 607

الجاهل وغير العالم في مقابل العالم لا العالم في مقابل الأعلم، وذلك لمكان التعبير ب «ما لم تعلم» الظاهر في الجاهل لا في العالم بالنسبة إلى الأعلم منه.

فتلخّص أنّ جميع الروايات التي استدلّ بها في المقام غير

تامّة دلالة أو سنداً، وهكذا الإجماع، بل التامّ إنّما هو بناء العقلاء وهو أيضاً لا يقتضي وجوب تقليد الأعلم مطلقاً بل مقتضاه هو التفصيل الآتي ذكره.

المختار في المسألة

المختار في المسألة هو التفصيل بين صور أربعة:

الصورة الاولى: ما إذا علم تفصيلًا بالخلاف كما إذا ذهب أحدهما إلى وجوب صلاة الجمعة والآخر إلى حرمتها أو عدم وجوبها.

ففي هذه الصورة لا ريب في وجوب تقليد الأعلم، ومن البعيد جدّاً شمول كلمات القائلين بجواز تقليد غير الأعلم لهذه الصورة.

الصورة الثانية: صورة العلم بموافقتهما تفصيلًا.

والظاهر عدم وجود محذور عن تقليد غير الأعلم في هذه الصورة لأنّ المفروض أنّ عمل المقلّد حينئذٍ مطابق للحجّة على أيّ حال، إنّما الكلام في لزوم إستناده إلى خصوص قول الأعلم، ولا إشكال في عدم لزومه بعد العلم بموافقتهما معاً، مضافاً إلى أنّ بناء العقلاء أيضاً على عدم ترجيح رأي الأعلم في هذه الصورة لعدم فائدة فيه، كما هو واضح.

الصورة الثالثة: ما إذا علمنا إجمالًا بوجود الخلاف بينهما في ما يتبلي به من المسائل.

وفيها أيضاً لا إشكال في وجوب تقليد الأعلم لأنّ العلم الإجمالي المزبور يوجب عدم شمول إطلاقات الحجّية لمثل هذه الموارد وإنصرافها عنها، ولا أقلّ من إجمالها، والقدر المتيقّن حينئذٍ هو الرجوع إلى الأعلم، كما أنّ سيرة العقلاء أيضاً ترجيح الأعلم في هذه الموارد على الظاهر.

الصورة الرابعة: ما إذا شككنا في وجود الخلاف وعدمه.

والإنصاف جواز تقليد غير الأعلم في هذه الصورة، والدليل عليه جريان سيرة العقلاء عليه كما نشاهده بالوجدان، وإلّا لانسدّت أبواب الأطبّاء غير الأعلم وغيرهم من خبراء

انوار الأصول، ج 3، ص: 608

سائر الفنون والحرف لأنّه لا ريب في أنّ الشكّ في الخلاف موجود على الأقل في غالب الموارد.

هذا مضافاً إلى أنّه لا مانع لشمول

إطلاقات الحجّية لغير الأعلم في هذه الموارد لأنّه لا موجب لإنصرافها.

إن قلت: التمسّك بالإطلاقات والعمومات في ما نحن فيه يكون من قبيل التمسّك بالعام في الشبهات المصداقيّة للمخصّص لأنّا نعلم بتخصيص هذه العمومات بموارد العلم بالمخالفة.

قلنا: إنّ دائرة الدليل المخصّص في المقام تكون في موارد العلم بالاختلاف لا موارد الاختلاف في الواقع، فإنّ الدليل على التخصيص هو سيرة العقلاء، وهى مختصّة بموارد العلم بالخلاف لا موارد الخلاف واقعاً سواء علمنا بها أو لم نعلم، ولا إشكال في أنّ عدم جواز التمسّك بالعام في الشبهات المصداقيّة للمخصّص خاصّ بما إذا كان المستثنى من عموم العام بدليل المخصّص هو العنوان الواقعي لا العنوان المقيّد بالعلم.

إن قلت: الشبهة في المقام حكميّة ولا يجوز التمسّك بالعمومات في الشبهات الحكميّة إلّا بعد الفحص.

قلنا: إنّ الشبهة في ما نحن فيه موضوعيّة لا حكميّة، لأنّه لا شكّ لنا في حكم اللَّه الكلّي فإنّا نعلم على نحو كلّي بأنّه يجوز التقليد إلّافي موارد العلم بالخلاف، وإنّما الشكّ في تحقّق موضوع الخلاف وعدمه خارجاً.

بقي هنا شي ء:

مدار الأعلميّة على ماذا؟

قد مرّ أنّ المعيار فيه هو شدّة القوّة والقدرة على إستخراج الأحكام الشرعيّة من أدلّتها إجمالًا، ولا إشكال في أنّ معرفة هذا ليس مشكلًا لأهل الخبرة ولو كانوا في المراتب التالية بالنسبة إلى المجتهد محتمل الأعلميّة، وهذا ما ندركه بوجداننا العرفي، فمن كان له معرفة بقواعد الشعر وموازينه مثلًا يقدر على أن يعيّن بعض الشعراء المعروفين ممن هو أقوى من هذه الناحية، أو شاعر متوسّط له حظّ من هذه الملكة وكذلك نرى أبنية كثيرة في غاية الاستحكام والجودة، ونرى فرقاً كثيراً بينها وبين أبنية اخرى لا يرى فيها هذه المزيّة، ونعلم قطعاً أنّ المعمارين في القسم الأوّل كانوا

أقوى وأعلم وأكثر خبرة وأحسن ذوقاً من المعمارين في القسم انوار الأصول، ج 3، ص: 609

الثاني، وربّما لا نقدر مع ذلك أن نبني بناءً بأنفسنا، وهكذا في فنّ الخطابة وغيرها من سائر الفنون.

وكيف كان يمكن تلخيص موازين الأعلميّة في عدّة امور:

1- أن يكون أعلم في معرفة مباني الفقه (اصول الفقه) وكيفية الورود في المسألة والخروج عنها، (أي يكون أعلم بالمباني).

2- أن يكون أعلم بمنابع الأحكام من الآيات والروايات ورجال الحديث وسائر الأدلّة الأربعة (أي يكون أعلم بالمبادى ء).

3- أن يكون أدقّ وأعمق نظراً.

4- أن يكون أقوى حفظاً وأشدّ تسلّطاً على الفروع فإنّ مسائل الفقه مع إفتراق بعضها عن بعض وانبثاثها وانتشارها في أبواب مختلفة تكون ذا إرتباط ونسج خاصّ في كثير منها، كما لا يخفى على الخبير.

5- أن يكون أعرف في تشخيص الموضوعات العرفيّة ومذاق أهل العرف، فإنّ لمعرفة الموضوعات دخل تامّ في معرفة الأحكام هذا أولًا.

وثانياً: أنّ كثيراً من مسائل الشرع امضاء لما عند العقلاء فلابدّ للعلم بها من معرفة مذاق العقلاء والعرف والإرتكازات العقلائيّة والمناسبات العرفيّة.

6- أن يكون أكثر ممارسة في المسائل الشرعيّة لكثرة الرجوع إليه في أبواب مختلفة من الفقه، ولهذا فاحتمال أعلميّة من تربّى في الحوزات العلميّة الكبرى يكون أكثر من احتمال أعلميّة غيره ممّن ترعرع في غيرها، كما أنّه كذلك في سائر الفنون كالطبابة مثلًا فإنّ من داوى الجرحى وعالج كثيراً من المجروحين في أيّام الحرب يصير أقوى ملكة في الطبابة وعملية الجراحة من غيره.

7- أن يكون له حسن سليقة واعتدالها وذهن مستقيم في اختيار الرأي، لا طبع سقيم واعوجاج في السليقة.

ولا يخفى أنّ كثيراً من أعاظم الفقه مثل الفقيه الماهر صاحب الجواهر أو الشيخ الأعظم الأنصاري رحمه الله كانوا واجدين لجميع

هذه الخصوصيات كما هو ظاهر لمن تتبّع آثارهم.

3- تقليد الميّت

والأقوال فيه ثلاثة:

1- عدم الجواز، وهو المشهور بيننا، ولعلّه مجمع عليه، ونسب الجواز إلى الكليني في مقدّمة الكافي والصدوق في مقدّمة من لا يحضر الفقيه والعلّامة والمحقّق القمّي رحمه الله في جامع الشتات (وسيأتي عدم صحّة هذه النسبة بأجمعها إلّاما نسب إلى المحقّق القمّي رحمه الله) ونقل أيضاً عن جماعة من الأخباريين، ولكن سيأتي أيضاً أنّ مخالفتهم للُاصوليين في هذه المسألة من قبيل الخلاف في الموضوع لا الحكم.

2- الجواز، وهو المشهور بين العامّة.

3- التفصيل بين التقليد الابتدائي فلا يجوز، والتقليد الاستمراري (أي البقاء على التقليد بعد الموت) فيجوز، وهو المختار.

واستدلّ القائلون بعدم الجواز بوجوه عمدتها ثلاثة:

الوجه لأوّل: (وهو العمدة أيضاً بين الثلاثة) الإجماع، فقد نقل شيخنا الأعظم الأنصاري رحمه الله في رسالته (رسالة الاجتهاد والتقليد) عن صاحب المسالك أنّه قال: صرّح الأصحاب باشتراط الحياة، وعن الوحيد البهبهاني رحمه الله أنّه قال: أجمع الفقهاء على اشتراط الحياة.

وعن صاحب المعالم رحمه الله أنّه قال: العمل بفتاوي الموتى مخالف لما يظهر من اتّفاق أصحابنا على المنع من الرجوع إلى فتوى الميّت.

ثمّ قال الشيخ رحمه الله: يكون هذا الاتّفاق بدرجة من القبول حتّى شاع عند العوام أنّ قول الميّت كالميّت.

ولا يخفى أنّ هذا الإجماع ليس مدركيّاً بل إنّه ضدّ المدرك، لما سيأتي من أنّ القائلين بجواز تقليد الميّت يستدلّون عليه ببناء العقلاء لأنّهم يعتبرون لجميع الكتب العلمية بعد الموت ما يعتبرونه في زمن الحياة (كما أنّه الحقّ) فإنّ الفقهاء خالفوا هذا البناء بإجماعهم على عدم الجواز، وهذا من الموارد التي يكون الإجماع فيها مخالفاً للقواعد، فضلًا عن أن يكون مستنداً إليها، ولم ينقل خلاف لهذا الإجماع إلّاما نقل عن العلّامة والمحدّثين

المعروفين (الكليني والصدوق) والمحقّق القمّي قدّس اللَّه أسرارهم.

انوار الأصول، ج 3، ص: 611

لكن العلّامة لم يثبت مخالفته من كتبه، وأمّا المحدّثان فعند الرجوع إلى كتاب الكافي ومن لا يحضره الفقيه نجد أنّ ترخيصهما في تقليد الميّت مبنى على مسلكهم من إنكار مشروعية التقليد برأسه، وأنّ رجوع العامي إلى المجتهد من باب الرجوع إلى رواة الحديث، فالمفتي ينقل الرواية لا أنّه يفتي حقيقة حسب رأيه ونظره، ولا إشكال في أنّ حجّية الرواية وجواز العمل بها لا يتوقّفان على حياة الراوي بوجه، (وإن كان أصل هذا المبنى لشبهة حصلت لهما فإنّه فرق بين الفتوى ونقل الرواية لأنّ الأوّل يكون من باب الحدس والثاني من باب الحسّ).

وكذلك لا ضير في كلام المحقّق القمّي فإنّه أيضاً مبنى على ما ذهب إليه من إنسداد باب العلم وحجّية مطلق الظنون، فيقول: أنّ المتعيّن على المكلّف هو العمل بالظنّ سواء حصل من فتوى الميّت أو فتوى الحي.

الوجه الثاني: أنّ أدلّة وجوب التقليد على العامي قاصرة عن شمولها لتقليد الميّت، حيث إنّ المجتهد الميّت لا يتّصف بالفعل بعنوان المنذر مثلًا في آية النفر أو عنوان أهل الذكر في آيه السؤال، وإنّما كان منذراً أو كان من أهل الذكر.

ولكن إشكاله واضح لأنّ السؤال إنّما هو طريق للحصول على رأي أهل الذكر وهو يحصل بالرجوع إلى الكتاب أيضاً، كما أنّ المقصود من الإنذار هو تحذير المكلّف، وهو يتحقّق بالرجوع إلى الكتاب أيضاً، وهكذا قوله عليه السلام: «فارجعوا إلى رواة الأحاديث» فإنّه يصدق بالرجوع إلى كتبهم المؤلّفة في حال حياتهم فإنّ الرجوع إلى الكتاب رجوع إلى مؤلّفه بلا ريب، كما أنّ الرجوع إلى آراء الفلاسفة والأطباء وأهل الخبره يحصل بالرجوع إلى كتبهم المؤلّفة ولو منذ آلاف سنة.

الوجه

الثالث: أصالة عدم الحجّية في موارد الشكّ.

ولكنّه لا تصل النوبة إليها مع وجود الدليل الاجتهادي على الجواز كبناء العقلاء.

هذا كلّه هو أدلّة المنكرين للجواز وقد ظهر أنّ المعتمد منها إنّما هو الوجه الأوّل.

واستدلّ القائلون بالجواز أيضاً بوجوه ثلاثة:

1- السيرة المستمرّة للعقلاء على أنّ آراء الأموات المكتوبة في كتبهم كآراء الأحياء في جميع الفنون كاللغة والطبابة والرجال ونحوها، وأمّا مهجورية بعض الآراء فلا ربط لها بالممات انوار الأصول، ج 3، ص: 612

أو الحياة فإنّه كثيراً ما يترك بعض آراء الحي أيضاً في زمان حياته لظهور رأي أقوى منه.

2- الاستصحاب، وهو استصحاب بقاء الرأي أو بقاء الحكم.

أمّا استصحاب بقاء الرأي فإستشكل في بأنّ الميّت لا رأي له.

إن قلت: إنّ هذا ينافي القول ببقاء النفس الناطقة، بل قد يقال: إنّ الإنسان يكون بعد مماته أعلم وأفقه «فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ».

قلنا: إنّ مسألة بقاء النفس الناطقة ونحوها من التدقيقات العقليّة لا يفهمها العرف فإنّه يحكم ببطلان الرأي بعد الموت وبأنّ الميّت لا رأي له، ولا ريب في أنّ المعتبر في باب الاستصحاب إنّما هو بقاء الحالة السابقة عند العرف فتأمّل.

وأمّا استصحاب الحكم (بأن يقال: كانت صلاة الجمعة واجبة على المقلّد فالآن أيضاً واجبة عليه) فإستشكل فيه المحقّق الخراساني بأنّ الأمارات الشرعيّة لا يتولّد منها الحكم، بل مفادها إنّما هو المنجّزية والمعذورية فحسب.

ولكن قد مرّ الإشكال في أصل المبنى كراراً.

والصحيح في المقام أن يقال: أمّا استصحاب بقاء الرأي فالحقّ أنّه لا حاجة إليه لأنّ آراء الفقيه ليست عبارة عن الصورة الذهنيّة له حتّى تضمحلّ بموته، بل إنّ آراءه هى نفس ما كتبه في كتبه الفقهيّة، وهو ممّا لا شكّ فيه حتّى يستصحب بقاؤه، والمحتاج إلى الاستصحاب إنّما هو بقاء

حجّية هذه الآراء المكتوبة وهو نفس استصحاب بقاء الحكم، وقد ذكرنا في محلّه أنّ إجراء الاستصحاب في الشبهات الحكميّة مشكل جدّاً.

إن قلت: لو جاز تقليد الميّت بحكم الاستصحاب لجاز تقليد الحي إذا عرضه النسيان أيضاً لبقاء آرائه في كتبه مع أنّه غير جائز.

قلنا: لا نسلّم عدم الجواز بالنسبة إلى آرائه السابقة، نعم لا يجوز الإعتماد على آرائه في الحال.

الثالث: إطلاقات أدلّة التقليد، لصدق عنوان أهل الذكر مثلًا على الميّت أيضاً بلحاظ زمان صدور الرأي فإنّ المشتقّ حقيقة فيمن تلبّس بالمبدأ حال النسبة لا حال النطق.

وإن شئت قلت: لابدّ أن يكون من يرجع إليه العامي من أهل الذكر والعلم عند صدور الرأي منه، ولا شكّ أنّه كان كذلك حال صدور هذه الآراء.

انوار الأصول، ج 3، ص: 613

ولكن يرد عليه: أنّ الإطلاقات منزّلة على بناء العقلاء ولا تعدّ دليلًا مستقلًا برأسها.

فظهر أنّ الدليل السالم عن المناقشة للطائفة الثانية (القائلين بالجواز) إنّما هو بناء العقلاء، كما أنّ الدليل السالم عن المناقشة للطائفة الاولى إنّما هو الإجماع.

وقد إستشكل في الإجماع أوّلًا: بأنّه مدركي، ومدركه أمّا أصالة عدم الحجّية أو إنصراف الإطلاقات إلى الأحياء. ولكن قد مرّ الجواب عنه آنفاً.

وثانياً: بأنّه لا يكون كاشفاً عن رأي المعصوم عليه السلام لعدم اتّصال المجمعين بزمانه، من باب أنّ التقليد المبحوث عنه أو الاجتهاد المصطلح اليوم أمر حادث في زماننا ولم يكن رائجاً في ذلك الزمان.

ولكن يرد عليه أيضاً: أنّ التقليد بهذا المعنى الحديث ولو في مستواه البسيط كان موجوداً في ذلك الزمان أيضاً، وأنّ الأئمّة عليهم السلام كانوا يرجعون الناس إلى أصحابهم الموجودين في البلاد الإسلاميّة، خصوصاً إذا لاحظنا أنّ مسلمي سائر البلاد لم يكن بإمكانهم الرجوع إلى الإمام عليه السلام في مسائلهم

الشرعيّة وحاجاتهم الدينيّة، بل كانوا يرجعون فيها إلى علماء البلاد قطعاً، والعلماء أيضاً يستنبطونها من الأدلّة الموجودة بأيديهم بعد علاج تعارضها وحمل المطلق على المقيّد والعام على الخاصّ والأخذ بأنواع المرجّحات، إلى غير ذلك ممّا كان من وظيفة المجتهد حتّى في تلك الأعصار.

أضف إلى ذلك أنّ تقليد الحي إنّما هو رمز بقاء المذهب وتحرّكه في جميع شؤونه وتجدّده عصراً بعد عصر وجيلًا بعد جيل، بل هو رمز لإزدهار علم الفقه وتقدّمه على مرّ الدهور والليالي والأيّام، بل الإنصاف أنّ الثورات الإصلاحيّة بيد العلماء والفقهاء في تاريخ التشيّع أثر من آثار هذا الأمر، كما شاهدناها في ثورة عصرنا، وذلك أنّ الناس لو كانوا مقلّدين لشيخ الطائفة مثلًا فسوف لا يهتمّون بالأحكام الصادرة من جانب الفقهاء الموجودين لا سيّما قائد الثورة.

وبالجملة: أنّ القول بكفاية تقليد الميّت كلمة توجب المسرّة لأعدائنا لأنّها مانعة عن حركة الأحياء وقيادتهم، وهو الفارق الأساسي بين علماء الشيعة وعلماء السنّة، وسرّ نشاط الطائفة الاولى وركود الطائفة الثانية.

انوار الأصول، ج 3، ص: 614

بقي هنا شي ء:

وهو أنّ هذا الإجماع دليل لبّي لابدّ من الاكتفاء فيه بالقدر المتيقّن، والقدر المتيقّن منه إنّما هو التقليد الابتدائي فحسب، فهو رادع عن بناء العقلاء بالنسبة إلى خصوص الابتدائي، وأمّا الاستمراري فحجّية بناء العقلاء فيه بلا مزاحم، وحينئذٍ يكون المختار في المسألة التفصيل بين الابتدائي والاستمراري.

انوار الأصول، ج 3، ص: 615

إلى هنا إنتهت محاضرات شيخنا الاستاذ آية اللَّه العظمى الشيخ ناصر مكارم الشيرازي دام ظلّه في المسائل الاصوليّة من أوّل مباحث الألفاظ إلى آخر مباحث الاجتهاد والتقليد

في دورة كاملة جامعة لجميع مسائلها، ولا يشذّ منها شاذّ، وقد أشرف دام ظلّه على جميع هذه الأوراق بدقّة وإمعان، وبذلت الجهد على أن لا يفوت منّي

شي ء منها كما بذلت جهدي في تقريرها وتنقيحها وأداء حقّها كي يبقى أثراً خالداً لطلّاب العلم وآخر دعوانا أنّ الحمد للَّه ربّ العالمين.

اللهمّ تقبّله منّا واجعله عملًا خالصاً يرجى به الرشد والرضوان ونافعاً ليوم المعاد يوم لا ينفع مال ولا بنون إلّامن أتى اللَّه بقلب سليم.

وقد وقع الفراغ من تصحيحه وتنقيحه يوم السبت 22 بهمن من 1373 ه ش 11 رمضان المبارك من 1415 ه ق من الهجرة النبوية على هاجرها وآله آلاف التحيّة والسلام

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.