انوار الأصول

اشارة

سرشناسه : مکارم شیرازی ناصر، 1305 - عنوان و نام پديدآور : انوار الاصول تقریرا لابحاث شیخنا الاستاذ سماحه آیه الله العظمی الشیخ ناصر مکارم الشیرازی دام ظله / احمد القدسی مشخصات نشر : [قم نسل جوان 1414ق = - 1373. شابک : 3800ریال (ج 1) بهای هرجلدمتفاوت ؛ 15000 ریال هرجلد (ج.1و2) يادداشت : ج 3. چاپ اول 1416ق = 1375 يادداشت : ج 1، 2 (چاپ دوم 1376). يادداشت : ج. 1، 2 (چاپ سوم 1420ق = 1378). يادداشت : ج 1، 2 (چاپ 1420ق = 1378). يادداشت : ج 3 (چاپ دوم 1420ق =1378). يادداشت : چاپ اول 1373؛ بهار هر جلد متفاوت یادداشت : کتابنامه به صورت زیرنویس مندرجات : ج 1. مباحث الالفاظ "الی آخر النواهی .-- ج 2. مباحث المفاهیم الی نهایه الامارات .-- ج 3. الاصول العملیه - التعادل و التراجیع الاجتهاد و التقلید .-- موضوع : اصول فقه شیعه شناسه افزوده : امیرقدسی احمد رده بندی کنگره : BP159/8 /م 7‮الف 8 1373 رده بندی دیویی : 297/312 شماره کتابشناسی ملی : م 75-7018

الجزء الثانى

المقصد الثالث المفاهيم

3- المفاهيم

اشارة

وقبل الورود في أصل البحث لابدّ من تقديم امور:

الأمر الأوّل: في تعريف المفهوم

المفهوم في اللّغة عبارة عن «ما يفهم ويدرك»، فإذا اضيف إلى اللفظ كان معناه ما يفهم من اللفظ، وإذا اضيف إلى الجملة كان معناه ما يفهم من الجملة، فهو يعمّ حينئذٍ المعنى المصطلح للمفهوم أيّاً ما كان، حيث إنّه ممّا يفهم من اللفظ كذلك، فيكون مفهوماً له.

وأمّا في الاصطلاح فقد عرّف في كلمات القوم بتعاريف عديدة:

أحدها: ما أفاده المحقّق الخراساني رحمه الله وهو: «إنّ المفهوم حكم إنشائي أو إخباري تستتبعه خصوصيّة المعنى (الذي اريد من اللفظ) بتلك الخصوصيّة ولو بقرينة الحكمة، وكان يلزمه لذلك، وافقه في الإيجاب والسلب أو خالفه».

ولكنّه قد أتعب نفسه الزكيّة حيث لا حاجة إلى كثير من هذه القيود وهي كلمة «إنشائي أو إخباري» وقوله: «ولو بقرينة الحكمة إلى آخره».

بل لو قلنا: «إنّ المفهوم حكم غير مذكور في الكلام يدلّ عليه المذكور» كان شاملًا لتمام ما أراده من تلك القيود، حيث إنّ لفظ «الحكم» عام يعمّ الإنشائي والإخباري معاً، وجملة «غير مذكور في الكلام» شامل لمفهوم الموافقة وغيرها، وكلمة «المذكور» مخرجة لما يستفاد من مقدّمات الحكمة؛ لأنّها ممّا يستفاد من بعض المقدّمات العقليّة لا من دلالة وضعية، وهذا بنفسه تعريف ثانٍ للمفهوم.

ثالثها: ما نقله المحقّق الخراساني رحمه الله أيضاً ممّا يكون في جانب التفريط وهو أنّ «المفهوم حكم غير مذكور» حيث لا إشكال في أنّ كلّ حكم مذكور ليس مفهوماً.

انوار الأصول، ج 2، ص: 10

رابعها: ما ذكره في تهذيب الاصول وهو «إنّه عبارة عن قضيّة غير مذكورة مستفادة من القضيّة المذكورة عند فرض انتفاء أحد قيود الكلام».

ويرد عليه أيضاً: أنّه غير جامع لمفهوم الموافقة؛ لأنّها لا تستفاد من انتفاء أحد قيود الكلام كما لا

يخفى، مضافاً إلى أنّ الأولى هو التعبير بالحكم بدل كلمة «القضيّة» حيث إنّها تعبير منطقي أو فلسفي، والاصولي يطلب في المسائل الاصوليّة الحكم لا القضيّة.

ثمّ إنّه قد ظهر ممّا ذكرنا أنّ ظاهر كلمات القوم أنّهم في مقام بيان تعريف حقيقي جامع ومانع، لا مجرّد شرح الاسم، ولذلك يتصدّون للنقض والإبرام وإثبات أنّ هذا القيد داخل وأنّ ذاك خارج كما مرّ كراراً، وحينئذٍ فقول المحقّق الخراساني رحمه الله في ما نحن فيه من «أنّه لا موقع لما قد وقع في تعريف المفهوم من النقض والإبرام بين الأعلام؛ لأنّه من قبيل شرح الاسم» في غير محلّه.

الأمر الثاني: هل البحث في باب المفاهيم عقلي أو لفظي؟

الحقّ أنّ البحث في المفاهيم من أوضح المباحث اللفظيّة؛ لأنّ المدلول الالتزامي من أقسام الدلالات اللفظيّة، ومن العجب ما ذكره في المحاضرات من «أنّ للمفاهيم حيثيتين واقعيتين فمن إحداهما تناسب أن تكون من المسائل الاصوليّة العقليّة، ومن الاخرى تناسب أن تكون من المسائل الاصوليّة اللفظيّة، وذلك لأنّه بالنظر إلى كون الحاكم بانتفاء المعلول عند انتفاء العلّة هو العقل فحسب فهي من المسائل الاصوليّة العقليّة، وبالنظر إلى كون الكاشف عن العلّة المنحصرة هو الكاشف عن لازمها أيضاً فهي من المسائل الاصوليّة اللفظيّة لفرض أنّ الكاشف عنها هو اللفظ كما عرفت، فإذن يكون المفهوم مدلولًا للفظ التزاماً» «1»، مع تصريحه بأنّ دلالة اللفظ على المفهوم إنّما يكون بالالتزام، والدلالة الالتزاميّة من أقسام الدلالة اللفظيّة.

وإن شئت قلت: كون المدلول الالتزامي بيّناً يوجب ظهوراً عرفيّاً للفظ في المدلول المفهومي الالتزامي، وحينئذٍ يستظهر المفهوم من اللفظ فهي من المسائل اللفظيّة فقط فتأمّل.

الأمر الثالث: هل المسألة من المسائل الاصوليّة أو لا؟

المستفاد من بعض الكلمات وجود التسالم على كونها اصوليّة، ولكن الحقّ أنّها من مبادى ء الاصول؛ لأنّها تبحث عن صغرى الظهور، وأنّه هل يكون لمنطوق القضيّة الشرطيّة- مثلًا- ظهور في المفهوم أو لا؟ والمسألة الاصوليّة في الحقيقة إنّما هي حجّية الظواهر؛، لأنّ موضوع علم الاصول هو «الحجّة» والبحث في مسائلها يدور مدار حجّية الدليل، وأنّه هل يكون هذا الظهور- مثلًا- حجّة أو لا؟

توضيح ذلك: أنّه لابدّ في فهم معنى خاصّ من لفظ خاصّ والاحتجاج به على المقصود من طيّ مقدّمات عديدة:

إحداها: البحث عن مفاد مادّة اللفظ لغةً كمادّة الوفاء في قوله تعالى «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» مثلًا، ونرجع فيها إلى كتب اللغة.

ثانيتها: البحث عن مفاد هيئة اللفظ المفرد وصيغته وهي صيغة «أوفوا» التي في المثال، وفيها نرجع إلى علم الصرف.

ثالثتها: البحث

عن مفاد هيئة الجملة، أي هيئة «أوفوا بالعقود» وأنّها ظاهرة في أي شي ء؟

ولابدّ فيها من الرجوع إلى علم النحو.

ثمّ بعد طيّ هذه المقدّمات يبحث رابعاً في أنّه هل يمكن أن يكون هذا الظهور دليلًا للحكم الشرعي وحجّة عليه أو لا؟

لا إشكال في أنّ البحث الأخير من المسائل الاصوليّة، ولابدّ فيه من الرجوع إلى علم الاصول، ولازم هذا أن يكون البحث عن المفاهيم وكذلك الأوامر والنواهي خارجاً عن مسائل علم الاصول ودخلًا في مباديه، وأمّا وقوعه في علم الاصول فهو ليس دليلًا على كونها من مسائله، بل لعلّه من باب عدم استيفاء البحث عنها في العلوم اللائقة بها.

الأمر الرابع: هل المفهوم من صفات الدلالة أو المدلول؟

ظهر ممّا ذكرناه من التعريف للمفهوم أنّه من صفات المعنى والمدلول لا الدلالة، فإنّه عرّف بأنّه «حكم غير مذكور»، كما أنّ المنطوق أيضاً من صفات المدلول حيث إنّه حكم مذكور كذلك.

انوار الأصول، ج 2، ص: 12

إن قلت: فكيف يقع صفةً للدلالة ويقال: الدلالة المفهوميّة، كما استشهد به في تهذيب الاصول على أنّ المفهوم قد يكون من صفات المدلول وقد يكون من صفات الدلالة؟

قلنا: المراد من الدلالة المفهوميّة الدلالة المنسوبة إلى المعنى الذي يكون مفهوماً للفظ كما لا يخفى، وحينئذٍ يكون المفهوم في هذا التعبير أيضاً وصفاً للمعنى والمدلول.

الأمر الخامس: هل النزاع في المفاهيم صغروي أو كبروي؟
اشارة

الظاهر من كلمات القوم هو الثاني، حيث إنّهم يعنونون البحث عن مفهوم الشرط مثلًا بهذا العنوان: «هل مفهوم القضيّة الشرطيّة حجّة أو لا؟» وظاهره أنّ البحث إنّما هو في الحجّية وعدمها، وهو بحث كبروي كما لا يخفى.

كما أنّ المنسوب إلى قدماء القوم أيضاً أنّه كبروي، لكن الصحيح أنّه صغروي عند القدماء والمتأخّرين جميعاً، أمّا المتأخّرون فلتصريحهم بأنّ النزاع صغروي، وأنّ الكلام إنّما هو في أصل وجود المفهوم خارجاً، بمعنى أنّ الجملة الشرطيّة أو ما شاكلها هل هي ظاهرة في المفهوم أو لا؟ وأمّا تعبيرهم في عنوان المسألة بأنّ مفهوم القضيّة الشرطيّة حجّة أو لا؟ فإنّما هو لنكتة خاصّة وهي أنّه لا إشكال ولا خلاف في أنّ لجميع الموضوعات التي وقع البحث في مفهومها دلالة ما أو إشعاراً ما على المفهوم، ولكن وقع النزاع في أنّ هذه الدلالة هل تقف عند حدّ الإشعار حتّى لا تكون حجّة، أو تصل إلى حدّ الظهور اللفظي العرفي فتكون حجّة؟

وأمّا القدماء من الأصحاب فالدقّة في كلماتهم أيضاً تقتضي هذا المعنى، أي أنّ مرادهم من حجّية مفهوم وعدمها أنّه هل تصل تلك الدلالة المفروغ

عنها إلى حدّ الظهور العرفي فتكون حجّة، أو لا؟

1- الكلام في مفهوم الشرط
اشارة

هل للجملة الشرطيّة مفهوم، أو لا؟

اختلف الأصحاب في دلالتها على المفهوم وعدمها، والتحقيق في حلّ المسألة ملاحظة ما ينشأ منه المفهوم، أي ملاحظة الخصوصيّات الموجودة في المنطوق التي يمكن أن يفهم منها المفهوم.

فنقول: من الخصوصيّات المذكورة في كلماتهم في هذه الجهة خصوصيّة أدوات الشرط، فقد يدّعى أنّ أداة الشرط وضعت للدلالة على علّية الشرط للجزاء عليه منحصرة، وهي تقتضي انتفاء الجزاء عند انتفاء الشرط، وهذا هو المفهوم.

ولكن الحقّ والإنصاف أنّ أداة الشرط وضعت لمطلق العلقة والملازمة بين الشرط والجزاء في الوجود سواء كانت من قبيل الملازمة الموجودة بين العلّة والمعلول، أو الملازمة الموجودة بين معلولي علّة واحدة، وسواء كانت العلّية منحصرة أو غير منحصرة.

توضيح ذلك: أنّه تارةً لا يكون بين الشرط والجزاء ملازمة، بل المقارنة بينهما اتّفاقية، كما ورد في قول الفرزدق في حقّ الإمام زين العابدين عليه السلام: ياهشام «إن كنت لا تعرفه فإنّي أعرفه» ونحو قولك: «إن لم تكن جائعاً فإنّي جائع»، واخرى توجد بينهما ملازمة لكنّها ليست من باب الملازمة بين العلّة والمعلول بل من باب الملازمة بين معلولي علّة واحدة، نحو «إن جاء النهار ذهب الليل» ونحو «إن طال الليل قصر النهار» حيث إن كلّ واحد من الشرط والجزاء في كلا المثالين يكون معلولًا لعلّة واحدة كما لا يخفى، أو يكون من باب الملازمة بين العلّة والمعلول لكن العلّة فيها هو الجزاء، والمعلول هو الشرط، نحو «إذا جاء النهار طلعت الشمس.

وثالثة: يكون الترتّب من باب ترتّب المعلول على العلّة، لكن العلّية ليست منحصرة في الشرط، نحو «إذا بلغ الماء قدر كرّ لم ينجّسه شي ء» فإنّ علّة عاصميّة الماء ليست منحصرة في انوار

الأصول، ج 2، ص: 14

الكرّيّة، ولا يخفى أنّ أمثلة هذا القسم كثيرة غاية الكثرة، ورابعة: يكون الترتّب من باب ترتّب المعلول على العلّة، والعلّية منحصرة في الشرط، نحو «إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجودة»، وفي باب الامور الشرعيّة كأن يقال: «إذا آمن الإنسان دخل الجنّة».

إذا عرفت هذا فنقول: لو ثبت كون القضيّة الشرطيّة حقيقة في القسم الرابع وتكون مجازاً في الثلاثة الاول تثبت دلالتها على المفهوم، ولكن أنّى لنا بإثبات ذلك؟

نعم، يمكن أن نقول بالمجاز في القسم الأوّل بل يمكن القول بوجود حذف فيه يقتضي كون المقارنة من باب العلّية لا الاتّفاق، كأن يقال بحذف «فلا يضرّ» أو «فلا إشكال» في قول الفرزدق، فقوله: «إن كنت لا تعرفه فإنّي أعرفه» يعني «إن كنت لا تعرفه فلا يضرّه لأنّي أعرفه»، وبالجملة لا يبعد دعوى المجاز في هذا القسم، أمّا القسم الثاني والثالث فإنّ الوجدان العرفي (أي عرف أهل اللسان) حاكم على عدم المجاز فيهما.

الخصوصيّة الثانية: هي إنصراف القضيّة الشرطيّة إلى العلّية المنحصرة، فقد يقال إنّها وإن وضعت أوّلًا وبالذات لمطلق العلقة، لكن عند الإطلاق تنصرف إلى العلقة الناشئة من العلّية المنحصرة لأنّها أكمل فرد لمطلق العلقة.

ولكن يرد عليها أيضاً أنّ ما يوجب الانصراف إنّما هو كثرة الاستعمال التي توجب انساً ذهنياً بالنسبة إلى المنصرف إليه، وهي تارةً تنشأ من كثرة الافراد، واخرى من غيرها، وأمّا مجرّد أكمليّة الفرد فلا توجب ذلك بل لعلّ الأمر بالعكس، أي أنّ الأكمليّة قد توجب الانصراف عن الفرد الأكمل لقلّته وندرته.

بقي هنا شي ء:

وهو ما أفاده في المحاضرات من «أنّ دلالة الجملة الشرطيّة على المفهوم ترتكز على ركائز، منها أن يرجع القيد في القضيّة إلى مفاد الهيئة دون المادّة، والسبب في ذلك ما

ذكرناه في بحث الواجب المشروط من أنّ القضايا الشرطيّة ظاهرة عرفاً في تعليق مفاد الجملة (وهي الجزاء) على مفاد الجملة الاخرى (وهي الشرط)، وإلّا لو بنينا على رجوع القيد إلى المادّة كما اختاره الشيخ الأنصاري قدس سره فحال القضيّة الشرطيّة عندئذٍ حال القضيّة الوصفيّة في الدلالة على المفهوم وعدمها لما سيأتي من أنّ المراد بالوصف ليس خصوص الوصف المصطلح في مقابل انوار الأصول، ج 2، ص: 15

سائر المتعلّقات بل المراد منه مطلق القيد» «1».

أقول: إنّ ما أفاده الشيخ الأعظم رحمه الله ليس هو كون القضيّة الشرطيّة ظاهرة في رجوع القيد إلى المادّة، بل مراده أنّ القيد راجع إلى المادّة لبّاً وإن كانت القضيّة ظاهرة في رجوعه إلى الهيئة لفظاً.

وبعبارة اخرى: إنّ مقصوده أنّ القيد وإن كان للهيئة في مقام الاستظهار والإثبات، ولكنّه لابدّ من رجوعه إلى المادّة في مقام الثبوت من باب أنّ الهيئة من المعاني الحرفيّة التي ليست قابلة للتقييد لجزئيتها، وعلى هذا فلا فرق بين مختار الشيخ قدس سره وغيره في القضيّة الشرطيّة من حيث الظهور العرفي الذي هو الملاك والملحوظ في باب المفاهيم.

اللهمّ إلّاأن يقال: إنّ مراد شيخنا الأعظم قدس سره أنّ الظهور البدوي وإن كان هو رجوع القيد إلى الهيئة ولكن بالنظر إلى القرينة العقليّة وهي عدم قابلية الهيئة للتقييد لابدّ أن يرجع إلى المادّة بحسب الدلالة اللفظيّة.

الخصوصيّة الثالثة: والطريق الثالث لفهم العلّية المنحصرة هو التمسّك بإطلاق الشرط، ويمكن تفسيرها ببيانات ثلاثة:

البيان الأوّل: أنّ إطلاق الشرط يقتضي انحصار العلّة فيه نظير اقتضاء إطلاق الأمر كون الوجوب فيه نفسيّاً تعيينيّاً.

ولكن يرد عليه:

أوّلًا: أنّ قياس المقام بهيئة الأمر قياس مع الفارق فإنّ الإطلاق عبارة عن رفض القيود وعدم بيان ما يكون قيداً مع كون

المتكلّم في مقام البيان، وهو صادق في المقيس عليه لا في المقيس، لأنّ كون الوجوب غيريّاً مثلًا قيد للوجوب كما يستفاد من قوله تعالى: «إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ...» حيث إن المستفاد منه أنّ وجوب الوضوء مقيّد بقصد القيام إلى الصّلاة، والنفسيّة تساوق حسب الفرض عدم كون الوجوب غيريّاً، فإذا كان المولى الشارع في مقام البيان ولم يذكر قيد الغيريّة للوجوب بل صدر منه الحكم مطلقاً كان المستفاد منه الوجوب النفسي، وأمّا في ما نحن فيه فلا يفيد الإطلاق إلّاكون الشي ء تمام الموضوع انوار الأصول، ج 2، ص: 16

للحكم كما في قوله عليه السلام: «إذا بلغ الماء قدر كرّ لم ينجّسه شي ء» فإنّ مقتضى إطلاق الشرط أنّ الكرّيّة مؤثّرة في العاصميّة من دون أن يكون شي ء آخر دخيلًا فيه، وإلّا لكان عليه البيان، فالقيد هو دخل شي ء آخر في موضوع الكرّيّة، وعدم بيانه مع كونه في مقام البيان يفيد أنّ الكرّيّة تمام الموضوع للعاصميّة، وأمّا كون شي ء آخر موضوعاً للحكم أيضاً فلا يوجب تقييداً في هذا الموضوع بوجه لكي نستفيد من عدم بيانه انحصار الحكم في هذا الموضوع.

وبعبارة اخرى: كون الكرّ علّة منحصرة في العاصميّة وعدمه لا دخل له ولا تأثير له في العلقة الموجودة بين الكرّيّة والعاصميّة، فإنّ الكرّيّة تمام الموضوع للعاصميّة سواء كانت العاصميّة منحصرة فيها أم لا، فلا يكون عدم الانحصار قيداً لعاصميّتها، ولا يقتضي الإطلاق انحصار العلّة.

وثانياً: قد مرّ أنّ المستفاد من الجملة الشرطيّة إنّما هو مطلق التلازم بين الشرط والجزاء أعمّ من أن يكون من باب التلازم بين العلّة والمعلول أو من باب التلازم بين معلولي علّة واحدة، فلا يكون مفاده منحصراً في العلّية حتّى يتكلّم في انحصارها أو

عدم انحصارها.

البيان الثاني: أنّ عدم كون العلّة منحصره يقتضي قيداً في الكلام، لأنّ معناه حينئذٍ أنّ هذا الشرط (وهو الكرّيّة مثلًا) مؤثّر في الجزاء (وهو العاصميّة مثلًا) إذا لم تتحقّق قبلها علّة اخرى مثل كون الماء جارياً، وأمّا إذا كانت العلّة منحصرة فمعناه أنّ هذا الشرط يؤثّر في الجزاء مطلقاً سواء حصل قبله وصف الجريان أم لا، فلا حاجة حينئذٍ إلى تقييد شي ء، فإذا كان المتكلّم في مقام البيان ولم يأت بالقيد المزبور (أي عدم تحقّق علّة اخرى فيما قبل) كان المستفاد من إطلاق كلامه انحصار العلّة في الشرط.

ويرد عليه أيضاً:

أوّلًا: ما مرّ آنفاً من أنّ غاية ما يستفاد من القضيّة الشرطيّة إنّما هو مطلق التلازم بين الشرط والجزاء لا خصوص التلازم الموجود بين العلّة والمعلول.

وثانياً: سلّمنا كون المستفاد من الجملة الشرطيّة هو العلّة والتلازم الموجود بين العلّة والمعلول، لكنّها تكون على حدّ العلّية الاقتضائيّة لا الفعليّة، أي يستفاد من قوله عليه السلام «الماء إذا بلغ قدر كرّ لم ينجّسه شي ء» إمكان أن تكون الكرّيّة علّة لعدم التنجّس والعاصميّة، لا أنّها علّة لها فعلًا حتّى ينافي حصول علّة اخرى من قبل.

انوار الأصول، ج 2، ص: 17

البيان الثالث: ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله وهو: «إنّ القضيّة الشرطيّة وإن كانت بحسب الوضع لا تدلّ على تقييد الجزاء بوجود الشرط لصحّة استعمالها بلا عناية في موارد القضيّة المسوقة لبيان الحكم عند تحقّق موضوعه، إلّاأنّ ظاهرها في ما إذا كان التعليق على ما لا يتوقّف عليه متعلّق الحكم في الجزاء عقلًا هو ذلك، فإذا كان المتكلّم في مقام البيان فكما أنّ إطلاقه الشرط وعدم تقييده بشي ء بمثل العطف بالواو مثلًا يدلّ على عدم كون الشرط مركّباً من المذكور في

القضيّة وغيره كذلك إطلاقه وعدم تقييده بشي ء بمثل العطف بأو يدلّ على انحصار الشرط بما هو مذكور في القضيّة وهذا نظير استفادة الوجوب التعييني من إطلاق الصيغة، فكما أنّ إطلاقها يقتضي عدم سقوط الواجب بإتيان ما يحتمل كونه عدلًا له فيثبت به كون الوجوب تعيينياً كذلك مقتضى الإطلاق في المقام هو انحصار قيد الحكم بما هو مذكور في القضيّة فيثبت به أنّه لا بدل له في ترتّب الحكم عليه» «1».

ولكن يرد عليه: أنّه فرق بين ما إذا كان القيد جزء لموضوع الحكم المذكور في القضيّة وما إذا كان عدلًا له، ففي الأوّل تكون المسألة كما أفاد، فلا بدّ من ذكره إذا كان دخيلًا في موضوع الحكم فيقتضي عدم ذكره عدم دخله فيه، بخلافه في الثاني، لأنّ المتكلّم حينئذٍ إنّما يريد بيان وجود العلقة والملازمة بين الشرط والجزاء فحسب كما مرّ، ومعه لا ملزم لذكر ما يكون عدلًا للشرط كما لا يخفى، وأمّا القياس بالوجوب التعييني فهو قياس مع الفارق، لأنّ الوجوب التعييني نوع خاصّ من الوجوب يغاير الوجوب التخييري، والوجوب التخييري لابدّ فيه من ذكر قيد وخصوصيّة في الكلام، أعني وجوبه إذا لم يأت بغيره، كما في مثل قولنا «اعتق رقبة مؤمنة إذا لم تصم شهرين متتابعين أو لم تطعم ستّين مسكيناً» فإذا لم يذكره في الكلام كان مقتضى الإطلاق أنّ الوجوب تعييني، وهذا بخلاف المقام، حيث إن ترتّب المعلول على علّته المنحصرة ليس مغايراً لترتّبه على غير المنحصرة سنخاً، بل إنّهما من سنخ واحد من دون أن يحتاج الثاني إلى ذكر قيد.

انوار الأصول، ج 2، ص: 18

المختار في المسألة: التفصيل بين الحالات المختلفة للشرط، فنقول مقدّمة: لا شكّ في دلالة القضيّة الشرطيّة على الأقلّ على

انتفاء الجزاء عند انتفاء الشرط في الجملة بالتبادر والوجدان، وإلّا لو كان الحكم ثابتاً على أي تقدير لاستلزم كون تعليقه على الشرط لغواً كما لا يخفى.

إذا عرفت هذا فاعلم: إنّه لا شكّ في دلالة القضيّة الشرطيّة على المفهوم والعلّية المنحصرة فيما إذا كان الشرط من ضدّين لا ثالث لهما، نحو «المخبر إن كان فاسقاً فتبيّن» حيث إنّه لا يتصوّر بالنسبة إلى المخبر حالة اخرى غير الفسق والعدل فلا ثالث لهما فيه، فإنّ مقتضى دلالة القضيّة الشرطيّة على الانتفاء عند الانتفاء في الجملة دلالتها على المفهوم في هذه الصورة كما لا يخفى، ونظير المثال المزبور قولك: «الإنسان إن كان مسافرا فعليه القصر» أو «إن كان مستطيعاً فعليه الحجّ» حيث لا ثالث للمسافر والحاضر، ولا للمستطيع وغير المستطيع.

وأمّا إذا كان للشرط حالات عديدة كما في قوله عليه السلام «إذا بلغ الماء قدر كرّ لم ينجّسه شي ء» حيث يتصوّر للماء إذا لم يكن كرّاً أن يكون مطراً أو جارياً أو ماء بئر أو غيره، فهو بنفسه على صورتين فتارةً يوجد فيها قدر متيقّن كالماء القليل في المثال، فلا شكّ أيضاً في دلالة القضيّة الشرطيّة حينئذٍ على المفهوم بالنسبة إليه، وإلّا يلزم اللغويّة ورفع اليد عن دلالتها على الانتفاء عند الانتفاء في الجملة، واخرى لا يوجد فيها قدر متيقّن كأن يقول الشارع «إذا دخل شهر رمضان فصوموا» حيث نعلم أنّ لرمضان دخلًا في حكم الصّيام، وهو ينتفي عند انتفائه إجمالًا، وإلّا كان الصّيام واجباً في تمام أيّام السنة ولم يكن تعليقه بدخول شهر رمضان صحيحاً (كما لا يصحّ تعليق وجوب الصّلاة مثلًا بدخوله، فيقال: «إذا دخل شهر رمضان فصلّوا» لوجوب الصّلاة في جميع أيّام السنة)، ففي هذه الصورة لا

مفهوم صريحاً مشخّصاً للقضيّة لعدم تصوّر قدر متيقّن فيها بل لها مفهوم مبهم إجمالي لا يستفاد منه حكم متعيّن مخالف للمنطوق، فنعلم إجمالًا في المثال المزبور عدم وجوب الصّيام في بعض شهور السنة.

فظهر أنّ الحقّ في المسألة هو التفصيل بين الصورتين الأوّليين والصورة الثالثة وثبوت المفهوم في الأوليين وعدمه في الثالثة.

ويمكن تقرير هذا ببيان آخر مرّ تفصيله في البحث عن الواجب المشروط والبحث عن حقيقة مفهوم «إنْ» الشرطيّة (وباللغة الفارسيّة مفهوم «اگر») فقد قلنا هناك أنّ حقيقة هذه انوار الأصول، ج 2، ص: 19

الكلمة «تعليق حكم على فرض»، أي إذا رأينا عدم تحقّق حكم على نحو الإطلاق بل أنّه يتحقّق بعد تحقّق شي ء آخر حكيناه على نهج القضيّة الشرطيّة، وحينئذٍ نقول: إذا لم يكن للقضية الشرطيّة مفهوم لم يصحّ أن تكون ماهيّة «إنْ» الشرطيّة «حكم على فرض» فإذا كان هذا هو ماهيتها يتصوّر فيها الحالات الثلاثة التي مرّت في البيان السابق، ويكون الكلام هو الكلام والتفصيل هو التفصيل.

هذا كلّه هو المختار في المسألة.

أدلّة المنكرين:
اشارة

وهي وجوه:

منها: ما نسب إلى السيّد المرتضى رحمه الله وحاصله أنّه لا يمتنع أن يتخلّف شرط ويقوم مقامه شرط آخر فلا ينتفي الحكم بانتفائه.

واستشهد لذلك بقوله تعالى «... وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ» حيث إنّه يقوم مقام شهادة الرجلين شهادة رجل واحد وامرأتين أو شهادة أربع نسوة.

وأجاب عنه المحقّق الخراساني رحمه الله بأنّ السيّد المرتضى رحمه الله إن كان بصدد إمكان نيابة بعض الشروط عن بعض ثبوتاً وعدم انتفاء الحكم بانتفاء الشرط لقيام شرط آخر مكانه فالخصم لا ينكر ذلك وإنّما يدّعي عدم وقوعه إثباتاً، بمعنى دلالة الجملة الشرطيّة في مقام الإثبات على خلافه، وإن كان بصدد بيان أنّ هذا الاحتمال الثبوتي يؤثّر في

ظهور الجملة فهو ممنوع جدّاً، لأنّ هذا لا يوجب الظهور ما لم يكن الاحتمال في مقام الإثبات راجحاً.

أقول: ويمكن أن نورد على السيّد رحمه الله أيضاً بوجهين آخرين:

الوجه الأول: خروج ما استشهد به في المقام عن محلّ النزاع حيث إن محل البحث هنا مدلول الجملة الشرطيّة لا ما يصدق عليه الشرط الفقهي، اللهمّ أن يقال بإمكان إرجاع قوله تعالى «وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ» إلى قضيّة شرطيّة لغويّة فافهم.

الوجه الثاني: بناءً على ما اخترناه من التفصيل لا يرد علينا هذا الإشكال حيث إن أكثر ما يمكن أن يدّعيه ويثبته إنّما هو عدم دلالة القضيّة الشرطيّة على المفهوم تفصيلًا في بعض انوار الأصول، ج 2، ص: 20

الموارد، وهو مقبول عندنا بل قد عرفت دلالته عليه إجمالًا فراجع.

ومنها: أنّه لو دلّ الشرط على المفهوم لدلّ بإحدى الدلالات الثلاث، والتالي باطل فالمقدّم مثله.

والجواب عنه منع بطلان التالي عندنا لأنّ الشرط يدلّ على المفهوم بالدلالة الالتزاميّة التي هي من الدلالات الثلاث.

ومنها: قوله تعالى: «وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً ...» حيث إنّه لو دلّ الشرط على المفهوم لدلّ قوله تعالى هذا على جواز الإكراه على البغاء إن لم يردن التحصّن وهو باطل بالضرورة.

وأجاب عنه المحقّق الخراساني رحمه الله بما حاصله: أنّ عدم دلالة الشرط على المفهوم أحياناً بسبب خارجي وقرينة خارجيّة كالإجماع ونحوه ممّا لا يكاد ينكر، وإنّما القائل بالمفهوم يدّعي دلالة الشرط عليه بالظهور اللفظي وهو لا ينافي قيام قرينة خارجيّة على خلافه. هذا أوّلًا:

ويمكن الجواب ثانياً: بأنّ الشرط في الآية ليس شرطاً للحكم من دون دخل له في تحقّق موضوعه، بحيث إذا انتفى الشرط كان الموضوع باقياً على حاله كما في قولك «إن جاءك زيد فأكرمه» بل

هو شرط للحكم مع دخله في تحقّق الموضوع بحيث إذا انتفى الشرط فلا حكم ولا موضوع للحكم أصلًا كما في قولك «إن رزقت ولداً فاختنه» فإنّ الفتيات إذا لم يردن التحصّن فلا إكراه هناك كي يبحث عن حرمته وعدمها.

ويمكن أن يكون التعبير بجملة «إن أردن تحصّناً» على نهج القضيّة الشرطيّة مع عدم انتفاء الحكم عند انتفاء الشرط لنكتة أخلاقيّة تربويّة بالنسبة إلى أرباب الفتيات وهي أنّ بيان إرادة التحصّن والعفّة من جانب الفتيات مع عدم ترقّبه منهنّ لكونهنّ معدودات عند الناس من طبقة سافلة اجتماعيّة من حيث الثقافة والوعي يوجب تحضّ أربابهنّ وتحريك غيرتهم الإنسانيّة (لو كانت لهم غيرة) على العفّة وعدم الإكراه على البغاء.

إلى هنا تمّ الكلام عن أدلّة القائلين بمفهوم الشرط وأدلّة المنكرين له.

انوار الأصول، ج 2، ص: 21

بقي هنا امور

الأمر الأوّل: هل المفهوم هو انتفاء سنخ الحكم بانتفاء شرطه أو انتفاء شخص الحكم؟

ذهب المحقّق الخراساني رحمه الله إلى أنّ المراد من المفهوم في الجملة الشرطيّة هو انتفاء سنخ الحكم لا انتفاء شخصه وإلّا ففي اللقب أيضاً ينتفي شخص الحكم بانتفائه، فإنّ شخص الوجوب المنشأ بقولك «أكرم زيداً» منفي عن إكرام عمرو قطعاً مع أنّ المشهور هو أنّ القائلين بالمفهوم في الجملة الشرطيّة لا يقولون به في اللقب، بل المراد من المفهوم هو انتفاء سنخ الحكم ونوعه بانتفاء الشرط ففي مثل «إن جاءك زيد فأكرمه» كما أن شخص الحكم المنشأ على تقدير المجي ء، ينتفي بانتفاء المجي ء، فكذلك طبيعة الوجوب ونوعه ينتفي بانتفاء المجي ء بمعنى أنّه لا وجوب لإكرامه عند عدم المجي ء لا بهذا الإنشاء ولا بإنشاء آخر يماثله بحيث لو ثبت له وجوب بإنشاء آخر ولو معلّقاً على شرط آخر بأن قال مثلًا «وإن أحسن إليك فأكرمه» كان ذلك منافياً لمفهوم «إن جاءك زيد فأكرمه».

ثمّ قال

ما حاصله: ومن هنا إنقدح أنّ دلالة القضيّة على الانتفاء عند الانتفاء في موارد الوصايا والأوقاف ونحوهما ليس من باب المفهوم بل من باب انتفاء شخص الحكم الذي يعترف به كلّ أحد، ومن باب أنّ المفهوم عبارة عن نفي سنخ الحكم فيما أمكن ثبوته ولا يكاد يمكن ثبوت سنخ الحكم في هذه الموارد كي يمكن نفيه بالمفهوم، فإنّ الدار مثلًا بعد أن وقّفها الواقف على أشخاص معينين بألقابهم أو بوصف شي ء أو بشرط شي ء كالفقر ونحوه ممّا لا يقبل أن تصير وقفاً ولو بإنشاء آخر على غيرهم أو عليهم عند انتفاء الوصف أو زوال الشرط عنهم كي ينفي بالمفهوم، وهذا بخلاف الأمر في مثال «إذا جاءك زيد فأكرمه» فإنّه إذا أنشأ الوجوب لإكرام زيد على تقيّد مجيئه جاز ثبوت وجوب آخر ولو بإنشاء آخر لإكرامه عند عدم مجيئه ولو معلّقاً على شرط آخر بأن يقول مثلًا «وإن أحسن إليك فأكرمه» وهذا واضح.

إن قلت: إنّ الشرط المذكور إنّما وقع شرطاً بالنسبة إلى الحكم الحاصل بإنشائه وهو شخص الحكم، فأقصى ما تفيده الشرطيّة هو انتفاء ذلك الشخص، وأين ذلك من دلالته على انتفاء نوع الوجوب كما هو المدّعى؟

قلنا: أجاب عنه شيخنا الأعظم قدس سره بأنّ الكلام المشتمل على المفهوم إن كان خبريّاً كقولك انوار الأصول، ج 2، ص: 22

«يجب على زيد كذا إن كان كذا» فالوجوب فيه كلّي فيكون الحكم المعلّق على الشرط كليّاً ولا يكون شخصياً كي يتوجّه الإشكال، وإن كان إنشائيّاً كما في قولك «إن جاءك زيد فأكرمه» فالحكم المعلّق على الشرط وإن كان شخصياً ولكن نفي سنخ الحكم بانتفاء الشرط على القول بالمفهوم إنّما يكون من فوائد العلّية المنحصرة المستفادة من الجملة الشرطيّة فإنّ انتفاء

شخص الحكم غير مستند إلى ارتفاع العلّية المنحصرة فإنّه يرتفع ولو في اللقب والوصف كما لا يخفى.

أقول: إن كان هذا هو كلام شيخنا الأعظم رحمه الله كما جاء في التقريرات.

فيرد عليه: أنّ العلّة المنحصرة علّة للجزاء فإن كان الجزاء شخص الحكم يكون الشرط علّة منحصرة لذلك الشخص، وإن كان الجزاء سنخ الحكم يكون الشرط أيضاً علّة منحصرة لسنخ الحكم، فلا يستفاد من العلّية المنحصرة كون الجزاء سنخ الحكم.

نعم نقل في تهذيب الاصول كلام الشيخ قدس سره بعبارة اخرى لا بأس بها بل يدفع بها الإشكال، وهي: «أنّ ظاهر القضيّة وإن كان ترتّب بعث المولى على الشرط إلّاأنّه ما لم تكن مناسبة بين الشرط ومادّة الجزاء كان طلب إيجاد الجزاء عند وجود الشرط لغواً وجزافاً، فالبعث المترتّب يكشف عن كونهما بمنزلة المقتضي (بالكسر) والمقتضى (بالفتح) فيتوصّل في بيان ذلك الأمر بالأمر بإيجاده عند ثبوته ويجعل بعثه عنواناً مشيراً إلى ذلك، فحينئذٍ فالمترتّبان هما ذات الشرط ومطلق الجزاء الذي تعلّق به الحكم بلا خصوصيّة للحكم المنشأ.

وبعبارة أوضح: أنّ ظاهر القضايا بدءاً وإن كان تعليق الوجوب على الشرط لكن حكم العقل والعقلاء في مثل تلك القضايا أنّ لطبيعة مادّة الجزاء مناسبة للشرط تكون سبباً لتعلّق الهيئة بها.

وبعبارة اخرى: أنّ الهيئة وإن كانت دالّة على البعث الجزئي لكن التناسب بين الحكم والموضوع يوجب إلغاء الخصوصيّة عرفاً ويجعل الشرط علّة منحصرة لنفس الوجوب وطبيعته، فبانتفائه ينتفي طبيعي الوجوب وسنخه» «1».

وأجاب المحقّق الخراساني رحمه الله عن هذا الإشكال بما حاصله: أنّ الحكم المعلّق على الشرط هو طبيعة الوجوب لا شخص الوجوب، وذلك لما عرفت في صدر الكتاب من أنّ الاسم انوار الأصول، ج 2، ص: 23

والحرف كما أنّهما موضوعان لمعنى واحد وإنّ

كلًا من لحاظ الآليّة والاستقلاليّة خارج عن أصل المعنى والمستعمل فيه، فكذلك الخبر والإنشاء أيضاً فالخصوصّية الناشئة من قبل الإنشاء خارجة عن أصل المعنى والمستعمل فيه، فالمعنى الذي استعمل فيه صيغة الأمر في قولك «إن جاءك زيد فأكرمه» هي طبيعة الوجوب وهي المعلّقة على الشرط لا شخص الحكم كي ينتفي الشخص بانتفاء الشرط.

وقال المحقّق البروجردي رحمه الله في هذا المقام ما إليك نصّه في تقريراته: «القول بكون المراد في باب المفاهيم انتفاء السنخ وإن اشتهر بين المتأخّرين وأرسلوه إرسال المسلّمات، ولكن لا نجد له معنىً محصّلًا، لوضوح أنّ المعلّق في قولنا: «إن جاءك زيد فأكرمه» مثلًا هو الوجوب المحمول على إكرام زيد، والتعليق إنّما يدلّ على انتفاء نفس المعلّق عند انتفاء المعلّق عليه كما عرفت، وما تفرضه سنخاً إن كان متّحداً مع هذا المعلّق موضوعاً ومحمولًا فهو شخصه لا سنخه، إذ لا تكرّر في وجوب إكرام زيد بما هو هو، وإن كان مختلفاً معه موضوعاً أو محمولًا كوجوب إكرام عمرو مثلًا أو استحباب إكرام زيد فلا معنى للنزاع في أنّ قوله «إن جاءك زيد» يدلّ على انتفائه أو لا يدلّ» «1» (انتهى كلامه).

ويظهر من الشهيد قدس سره في تمهيد القواعد اختصاص النزاع بغير موارد الوصايا والأوقاف ونحوها، لأنّه لا إشكال في دلالة القضيّة الشرطيّة في مثل الوقف والوصايا والنذر والأيمان على المفهوم، فيستفاد من كلامه أنّ دلالة القضيّة على الانتفاء عند الانتفاء في هذه الموارد يكون من باب المفهوم.

أقول: أوّلًا: إنّ دلالة القضيّة الشرطيّة في موارد الوقف والوصايا ونحوها على المفهوم إنّما هي من باب نصب قرينة فيها عليه وهي كون الواقف أو الموصي مثلًا في مقام الإحتراز، فالقيود الواردة في كلامه حينئذٍ قيود إحترازيّة

التي لا إشكال في انتفاء الحكم عند انتفائها ولو كانت من قبيل اللقب، فالحقّ مع الشهيد قدس سره من أنّ الانتفاء عند الانتفاء في الموارد المذكورة إنّما هو من باب المفهوم، أي انتفاء سنخ الحكم لا من باب انتفاء شخص الحكم، وهذا لا يستلزم دلالة اللقب أو الوصف أو الشرط على المفهوم مطلقاً حتّى عند عدم نصب قرينة عليه كما لا يخفى.

انوار الأصول، ج 2، ص: 24

ثانياً: الحقّ في المسألة مع سيّدنا الاستاذ المحقّق البروجردي رحمه الله من أنّه ليس للنزاع هذا معنى محصّلًا كما مرّ بيانه، ونزديك وضوحاً: أنّه وقع الخلط في ما نحن فيه بين الوجوب السببي والوجوب المسبّبي، أي بين الإنشاء والمنشأ، وما يتصوّر فيه التشخّص والسنخيّة إنّما هو الإنشاء والسبب لا المنشأ والمسبّب، وبعبارة اخرى: وقع الخلط هنا بين الإنشاء والمنشأ، فإنّ الإنشاء قد وقع في زمان خاصّ وبألفاظ مخصوصة، فيتصوّر فيه الشخص، وأمّا تشخّص المنشأ وهو الوجوب إنّما يكون بتشخّص موضوعاته مثل الحجّ والصّلاة والصّيام لا غير، فلا يتصوّر هنا معنى لنوع الحكم بل الذي بأيدينا دائماً هو شخص الحكم المتعلّق بموضوعات خاصّة.

وإن قيل: «وجوب إكرام زيد على تقدير مجيئه يغاير وجوب إكرامه على تقدير عدم المجي ء بحسب التشخّص مع اتّحادهما موضوعاً ومحمولًا ولا نعني بالسنخ إلّاذلك، والمعلّق على الشرط ليس هو الإنشاء ولا المنشأ بقيد تعليقه على الشرط حتّى يقال بانتفائه بانتفاء الشرط عقلًا ولا يكون معه مجال للبحث عن المفهوم، بل المعلّق على الشرط هو ذات المنشأ وهو وجوب إكرام زيد، وهذا المعنى كما يمكن أن يتحقّق على تقدير تحقّق الشرط يمكن أن يتحقّق على تقدير عدمه بأن يوجد بإنشاء آخر، ففائدة المفهوم نفي تحقّقه على تقدير عدم الشرط

بإنشاء آخر» «1».

قلنا: هذا أيضاً خلط بين الجهات التعليليّة والتقييديّة، فوجوب الحجّ معلول للاستطاعة لا مقيّد بها.

الأمر الثاني: إذا تعدّد الشرط واتّحد الجزاء

كما في قوله: «إذا خفى الأذان فقصّر» و «إذا خفيت الجدران فقصّر» فعلى القول بمفهوم الجملة الشرطيّة لابدّ من التصرّف فيهما بأحد وجوه ستّة:

الوجه الأوّل: التصرّف في منطوق كلّ منهما وعطف أحد الشرطين على الآخر بالواو،

انوار الأصول، ج 2، ص: 25

فنقول: إذا خفي الأذان والجدران معاً فقصّر، فلا يكون القصر واجباً بخفاء أحدهما.

الوجه الثاني: التصرّف في المنطوقين بتقييد إطلاق كلّ منهما بالآخر فيكون العطف بأو وتكون علّة الحكم كلّ من الشرطين مستقلًا، ونتيجته كفاية أحد الشرطين في وجوب القصر.

الوجه الثالث: أن يخصّص مفهوم كلّ منهما بمنطوق الآخر فتكون النتيجة في المثال: إذا لم يخف الأذان فلا تقصّر إلّاإذا خفيت الجدران، وهكذا في الطرف الآخر، أي إذا لم تخف الجدران فلا تقصّر إلّاإذا خفي الأذان، وهي نفس النتيجة في الوجه الثاني، أي كفاية أحد الشرطين في ترتّب الحكم كما لا يخفى.

الوجه الرابع: أن يكون الشرط هو القدر الجامع بين الشرطين نظراً إلى القاعدة المعروفة، وهي قاعدة «الواحد لا يصدر إلّامن الواحد» والقدر الجامع بين الشرطين في المثال هو مقدار مسافة يكشف عنها كلّ واحد من خفاء الأذان وخفاء الجدران، ويكون كلّ منهما علامة لها، والنتيجة في هذا الوجه أيضاً نفس النتيجة في الوجه الثاني.

الوجه الخامس: رفع اليد عن المفهوم فيهما رأساً، فلا دلالة لهما على عدم علّية ما سوى الشرطين أصلًا، وهذا بخلافهما على الوجوه السابقة فيدلّان فيها على نفي علّية أمر ثالث لكون المفهوم في كلّ من الشرطين في تلك الوجوه محفوظاً بالنسبة إلى ما سوى منطوق الآخر، وإن لم يبق محفوظاً بالنسبة إلى منطوق الآخر، والنتيجة في هذا

الوجه أيضاً علّية كلّ واحد من الشرطين للجزاء مستقلًا.

الوجه السادس: رفع اليد عن المفهوم في أحدهما رأساً والنتيجة كفاية أحدهما أيضاً كما لا يخفى.

إذا عرفت هذا فنقول: لا إشكال في فساد ثلاثة من هذه الوجوه الستّة:

أحدها: هو الوجه السادس لأنّه يستلزم الترجيح بلا مرجّح، إلّاأن يكون أحدهما في مفهومه أظهر من الآخر فيقدّم الأظهر على الظاهر كما صرّح به المحقّق الخراساني رحمه الله حيث قال: «وأمّا رفع اليد عن المفهوم في خصوص أحد الشرطين وبقاء الآخر على مفهومه فلا وجه لأن يصار إليه إلّابدليل آخر إلّاأن يكون ما أبقى على المفهوم أظهر».

هذا- مضافاً إلى أنّ الإشكال لا يرتفع برفع اليد عن مفهوم أحدهما لأنّ التعارض والتنافي يبقى بين منطوقه ومفهوم الآخر، إلّاأن يقال بسقوط كلّ من المفهوم والمنطوق وهو كما ترى.

انوار الأصول، ج 2، ص: 26

ثانيها: هو الوجه الخامس، ودليل فساده أنّه لا وجه لسقوط الدليلين (أي المفهومين في ما نحن فيه) وطرحهما مع إمكان الجمع بينهما عرفاً بتقييد كلّ واحد منهما بمنطوق الآخر.

ثالثها: هو الوجه الرابع الذي يبتني على قاعدة الواحد، ووجه فساده أنّ هذه القاعدة مختصّة بالواحد الشخصي البسيط من جميع الجهات كما مرّ في بعض الأبحاث السابقة، ولا يجري في الواحد النوعي كالحرارة مثلًا التي تعمّ الحرارة الصادرة من الشمس والصادرة من الكهرباء ومن النار، هذا أوّلًا.

وثانياً: أنّها تختصّ بالامور الحقيقيّة، وأمّا الأحكام الشرعيّة فهي من الامور الاعتباريّة التي يعتبرها الشارع.

وثالثاً: أنّها تجري في باب العلّة والمعلول ولا معنى للعلّية في ما نحن فيه بل في جميع الامور الاعتباريّة فليس خفاء الجدران مثلًا علّة لوجوب القصر بل إنّه يعدّ موضوعاً لوجوب القصر، وأمّا علّة الوجوب فإنّما هي إرادة الشارع وإلزامه.

وأمّا الثلاثة الاخر فلا

يبعد أن يكون الأوجه من بينها هو الوجه الثالث، أي تخصيص كلّ واحد من المفهومين بمنطوق الآخر لابتنائه على قاعدة الإطلاق والتقييد والجمع العرفي.

نعم أورد عليه المحقّق النائيني رحمه الله بأنّ المفهوم تابع للمنطوق ولا يمكن تقييده إلّابتقييد منطوقه «1».

ولكنّه مدفوع: بأنّ الثابت في ما نحن فيه إنّما هو لزوم التبعيّة في الدلالة لما مرّ من أنّ المفهوم مدلول التزامي للمنطوق وهو لا يستلزم لزومها بالنسبة إلى إرادة المولى، لأنّه يمكن أن يكون كلّ واحد من المنطوق والمفهوم متعلّقاً لإرادة المولى مستقلًا، بل يمكن أن تتعلّق إرادته على خصوص المفهوم، كما إذا سئل العبد مولاه عن إكرام زيد، فأجابه بقوله: «نعم إن جاءك» فإنّه لا إشكال في أنّ مقصوده إنّما هو عدم إكرام زيد في صورة عدم المجي ء فحسب لا أكثر.

ثمّ لو تنزّلنا عن الوجه الثالث ودار الأمر بين الوجه الأوّل والوجه الثاني، أي دار الأمر بين رفع اليد عن ظهور القضيّة الشرطيّة في كون الشرط تمام العلّة وظهورها في كونه منحصراً (والمفروض ظهورها في كلا الأمرين) فلعلّ الأولى حينئذٍ هو الوجه الثاني أي رفع اليد عن انوار الأصول، ج 2، ص: 27

ظهور القضيّة في الانحصار وتقديم ظهورها في تمام العلّة على ظهورها في الانحصار، وذلك لأنّ رفع اليد عن كلّ واحد من الظهورين يستلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة كما لا يخفى، ولكن تأخير البيان عن وقت الحاجة بالنسبة إلى خصوصيّة الانحصار أقلّ محذوراً منه بالنسبة إلى خصوصيّة تمام العلّة، فإذا قال المولى: إنّ خفاء الجدران علّة مستقلّة لوجوب القصر، وسكت عن كون خفاء الأذان علّة له مع أنّه أيضاً علّة مستقلّة للوجوب في واقع الأمر، كان المحذور أقلّ ممّا إذا لم يكن خفاء الجدران

علّة مستقلًا بل كان للعلّة جزء آخر ولم يبيّنه وهو في مقام البيان، وهذا ممّا يساعد عليه العرف والعقلاء، فإنّه إذا كان مثلًا لداء خاصّ دواءان، وكان كلّ منهما مؤثّراً في رفع الداء مستقلًا ولكن لم يبيّن الطبيب للمريض إلّاأحدهما، كان إشكاله أقلّ ممّا إذا كان للدواء جزء آخر ولم يبيّنه.

وإن شئت قلت: أنّ للقضيّة ظهورين: ظهور في الانحصار وظهور في كون العلّة تامّة، ولا إشكال في أنّ ظهورها في الأوّل أقوى من ظهورها في الثاني فيقدّم عليه.

هذا كلّه بناءً على مبنى القول من أنّ منشأ المفهوم إنّما هو ظهور الجملة الشرطيّة في العلّية المنحصرة، وأمّا بناءً على المختار من أنّ المنشأ هو ظهور القضيّة في مجرّد الانتفاء عند الانتفاء في الجملة والمفهوم التامّ يستفاد من قرينة خارجيّة، فلا إشكال في عدم لزوم رفع اليد عن الظهور في المقام لما مرّ من أنّ المفهوم إنّما يتمّ فيما إذا قامت قرينة من الخارج نظير كون الشرطين مثلًا من قبيل الضدّين لا ثالث لهما أو وجود قدر متيقّن في البين، وإلّا لا يثبت المفهوم مع بقاء مدلول الانتفاء عند الانتفاء في الجملة على حاله، وحينئذٍ نقول: حيث إن القرينة قائمة في ما نحن فيه على العكس لأنّ كلّ واحد من المنطوقين دليل على أنّ مفهوم الآخر لا يتجاوز عن حدّ الانتفاء عند الانتفاء في الجملة فلا مفهوم للقضيتين حتّى يبحث عن كيفية الجمع بينهما، ولا إشكال في أنّ النتيجة حينئذٍ هي الوجه الثاني، أي كون كلّ واحد من خفاء الجدران وخفاء الأذان علّة مستقلّة لوجوب القصر.

تنبيهان التنبيه الأوّل: اختار المحقّق النائيني رحمه الله في ما نحن فيه ترجيح العطف بالواو في الغاية وأنّ انوار الأصول، ج 2، ص:

28

مجموع الشرطين علّة للجزاء، ببيان «أنّ دلالة كلّ من الشرطيتين على ترتّب الجزاء على الشرط المذكور فيها باستقلاله من غير انضمام شي ء آخر إليه إنّما هي بالإطلاق المقابل للعطف بالواو، كما أنّ انحصار الشرط بما هو مذكور فيها مستفاد من الإطلاق المقابل للعطف ب «أو»، وبما أنّه لابدّ من رفع اليد عن أحد الإطلاقين، ولا مرجّح لأحدهما على الآخر يسقط كلاهما عن الحجّية، لكن ثبوت الجزاء كوجوب القصر في المثال يعلم بتحقّقه عند تحقّق مجموع الشرطين على كلّ تقدير، وأمّا في فرض إنفراد كلّ من الشرطين بالوجود فثبوت الجزاء فيه يكون مشكوكاً فيه، ولا أصل لفظي في المقام على الفرض لسقوط الإطلاقين بالتعارض فتصل النوبة إلى الأصل العملي فتكون النتيجة موافقة لتقييد الإطلاق المقابل بالعطف بالواو» «1».

ويرد عليه:

أوّلًا: إنّ وصول النوبة وانتهاء الأمر إلى الأصل العملي في المثال لا يقتضي التقييد بالعطف بالواو وعلّية مجموع الشرطين إلّافي ذهابه إلى السفر، وأمّا في الرجوع فإنّ مقتضى استصحاب بقاء وجوب القصر إنّما هو التقييد ب «أو»، وعلّية أحد الشرطين في النتيجة، وحينئذٍ فلا تكون النتيجة علّية مجموع الشرطين في جميع الموارد.

ثانياً: تعارض الإطلاقين وسقوطهما عن الحجّية متوقّف على عدم كون أحدهما أظهر من الآخر مع أنّ الإطلاق المقابل للعطف بالواو أي ظهور القضيّة في جهة الاستقلال أقوى من الإطلاق المقابل للعطف ب «أو» أي ظهور القضيّة في جهة الانحصار كما مرّ.

ثالثاً: ما أفاده في المحاضرات في مقام الجواب عن هذا البيان، وهو «أنّ مورد الكلام ليس من صغريات الرجوع إلى الأصل العملي، بل هو من صغريات الرجوع إلى الأصل اللفظي وهو إطلاق دليل «المسافر يقصّر» حيث إن القدر الثابت من تقييد هذا الإطلاق هو ما إذا لم

يخف الأذان والجدران معاً حيث إن الواجب عليه في هذا الفرض هو التمام وعدم جواز الإفطار، وأمّا إذا خفي أحدهما دون الآخر فلا نعلم بتقييده، ومعه لا مناصّ من الرجوع إليه لإثبات وجوب القصر وجواز الإفطار، لفرض عدم الدليل على التقييد في هذه الصورة بعد

انوار الأصول، ج 2، ص: 29

سقوط الإطلاقين من ناحية المعارضة، فتكون النتيجة هي نتيجة العطف ب «أو» على عكس ما أفاده شيخنا الاستاذ رحمه الله» «1».

أقول: إنّ ما أفاده من تقييد الإطلاق المزبور بما إذا لم يخف الأذان والجدران معاً مبنيّ على كون حدّ الترخّص حدّاً تعبّديّاً من جانب الشارع مع أنّه قد ثبت في محلّه أنّه أمر عرفي، وحيث إن العرف لا يحكم بصدق عنوان المسافر في هذه الصورة فلا يجب عليه القصر بل صدق عنوان المسافر في صورة خفاء أحد الأمرين أيضاً ليس محرزاً، وحينئذٍ لا يحرز تحقّق موضوع دليل «المسافر يقصّر» فتصل النوبة إلى الأصل العملي لا اللفظي، والمسألة بعدُ محتاجة إلى مزيد تأمّل (اللهمّ إلّاأن يقال: إنّ هذا مناقشة في المثال).

التنبيه الثاني: أنّ الموجود في الجوامع الروائيّة بالنسبة إلى خفاء الجدران إنّما هو «إذا توارى المسافر من الجدران والبيوت يقصّر» وأمّا التعبير الشائع في كلمات الفقهاء بأنّه «إذا خفى الجدران فقصّر» فلم يرد في نصوص الباب، وحينئذٍ يكون موضوع قصر الصّلاة هو خفاء المسافر عن الجدران لا خفاء الجدران عن المسافر، ولعلّه المناسب أيضاً للاعتبار العرفي لأنّه يحكم بالسفر ويقال: «بأنّ فلاناً سافر» بعد أن بَعُد عن الأنظار وخفي عنها، فالذي يخفى إنّما هو شخص المسافر ومن يشاهده عند الجدران لا الجدران نفسها، ولا ملازمة بين خفاء شخص المسافر وخفاء الجدران كما توهّم، لأنّ خفاء المسافر يتحقّق غالباً

قبل خفاء الجدران كما لا يخفى، (ويمكن الإيراد عليه بأنّ هذا أيضاً مناقشة في مثال خاصّ).

الأمر الثالث: في تداخل الأسباب والمسبّبات
اشارة

وقد عنون في الكلمات بتعبير آخر أيضاً وهو: «إذا تعدّد الشرط واتّحد الجزاء فهل يجب تكرار الجزاء أو لا؟ فإذا قال الشارع المقدّس: «إن مَسَسْتَ الميّت فاغتسل» و «إن أجنبت فاغتسل» فهل يجب الإتيان بالغسل مرّتين أو يكفي غسل واحد؟

ثمّ إنّ النزاع هذا ليس مبتنياً على القول بمفهوم الشرط كما هو الظاهر من كلمات المحقّق انوار الأصول، ج 2، ص: 30

الخراساني رحمه الله بل يجري بناءً على عدمه أيضاً، لأنّ البحث إنّما هو في تداخل منطوقي الشرطين أو منطوقي الجزائين سواءً كان لهما مفهوم أو لا، فلا ربط للبحث بباب المفاهيم كما لا يخفى.

بل لا اختصاص له بالقضايا الشرطيّة لأنّه جارٍ في جميع القضايا الشرعيّة بأي نحو صدرت، بنحو القضيّة الحمليّة أو الشرطيّة، فهو يجري في المثال المزبور ولو كانت القضيّتان بهذا النحو: «الجنب يغتسل» و «الحائض يغتسل»، نعم يمكن أن يرجع كلّ ما تركّب من حكم وموضوع إلى القضيّة الشرطيّة، كما يمكن العكس أيضاً.

وكيف كان، فقد وقع النزاع في مقامين: مقام التكليف ومقام الامتثال، فإن كان المقام مقام التكليف والإيجاب كان النزاع في تداخل الأسباب وعدمه وأنّه هل يؤثّر كلّ واحد من الشروط في البعث نحو الجزاء مستقلًا، أو ليس لكلّ منها تأثير مستقلّ بل تؤثّر مجموع الشروط في البعث؟ وإن كان المقام مقام الامتثال بعد قبول دلالة كلّ شرط على وجوب مستقلّ وتأثير كلّ واحد من الشروط مستقلًا في البعث نحو الجزاء لو لم يكن معه غيره كان البحث في تداخل المسبّبات وأنّه هل يكفي الإتيان بمصداق واحد ويكتفي بإتيان المتعلّق مرّة واحدة وتكون النتيجة إندكاك الوجوب الثاني

في الأوّل، وتأكّد الوجوب الأوّل بالثاني أو لا؟

ومن الواضح أنّ النزاع هذا يتصوّر فيما إذا كان الجزاء قابلًا للتكرار ولا يتصوّر في مثل القتل ونحوه ممّا لا يكون قابلًا له.

أمّا المقام الأوّل: وهو تداخل الأسباب

ففيه ثلاثة أقوال:

أوّلها: عدم التداخل إلّاما خرج بالدليل وهذا هو المشهور.

ثانيها: التداخل.

ثالثها: التفصيل بين ما إذا اختلف جنس الشرط وما إذا اتّحد، ففي الأوّل مقتضى القاعدة عدم التداخل، وفي الثاني التداخل.

واستدلّ للقول الأوّل بوجوه:

الوجه الأوّل: أنّه لا إشكال في ظهور القضيّة الشرطيّة في حدوث الجزاء عند حدوث الشرط، ومقتضى ذلك تعدّد الجزاء بتعدّد الشرط وهو يستلزم اجتماع حكمين متماثلين أو أكثر

انوار الأصول، ج 2، ص: 31

في مورد واحد وهو محال كاجتماع الضدّين، وحينئذٍ لابدّ من التصرّف في الظهور بأحد الطرق الثلاثة: إمّا بالالتزام بعدم دلالة الجملة الشرطيّة في حال تعدّد الشرط على حدوث الجزاء عند حدوث الشرط، بل تدلّ على الثبوت عند الثبوت فحسب،

وإن شئت قلت: نرفع اليد من تأثير الشرط الثاني في حدوث الجزاء، وهذا في الحقيقة تصرف في أداة الشرط.

أو بالالتزام بتأثير الشرط الأوّل في الوجوب وتأثير الشرط الثاني في تأكّد الوجوب فقط، وهو تصرّف في هيئة الجزاء في الجملة الثانية.

أو بالالتزام بكون متعلّق الحكم في الجزاء حقائق متعدّدة تنطبق على فعل واحد، فماهيّة غسل الجنابة غير ماهيّة غسل مسّ الميّت كتفاوت ماهيّة صلاة الفريضة بالنسبة إلى ماهيّة صلاة النافلة، وهذا تصرّف في مادّة الجزاء.

ولا يخفى إنّ هذه الوجوه الثلاثة جميعها تصرّفات في الظهور الوضعي، وهيهنا وجه رابع يتصرّف فيه في إطلاق المادّة والفعل (أي الظهور الإطلاقي) وتقييدها بمرّة اخرى كي لا يتعلّق الحكم الثاني بعين ما تعلّق به الأوّل فيلزم اجتماع المثلين بل تعلّق الحكم الأوّل بمصداق وتعلّق الحكم الثاني بمصداق آخر.

ولا يخفى

أنّ مقتضى الوجه الأوّل والثاني هو تداخل الأسباب، ومقتضى الوجهين الأخيرين تداخل المسبّبات، فوقع البحث في أنّه ما هو الأولى من هذه الوجوه؟

فالقائلون بعدم التداخل ذهبوا إلى أنّ الأولى هو الوجه الأخير، واستدلّوا له بأنّ التصرّف في إطلاق المادّة أهون من الثلاثة الاول كلّها، من باب أنّ جميعها تصرّفات في الظهور ومخالفة لظاهر الكلام بخلاف التصرّف في إطلاق المادّة فإنّه ليس مخالفة لظهور الإطلاق حيث إنّ الإطلاق إنّما ينعقد بمقدّمات الحكمة التي منها عدم البيان، ولا إشكال في أنّ ظهور الجملة الشرطيّة في حدوث الجزاء عند حدوث الشرط يكون بياناً لكون المراد من المادّة في الجزاء الثاني فرداً آخر غير الفرد الذي وجب بالشرط الأوّل.

ولكن يرد عليه:

أوّلًا: أنّ هذا تامّ بناءً على ظهور القضيّة الشرطيّة في السببية الفعلية لا الاقتضائيّة حيث إن السببية الاقتضائيّة معناها أنّ الشرط مثلًا مقتضٍ للجزاء ويؤثّر فيه لولا المانع، وأمّا إذا

انوار الأصول، ج 2، ص: 32

تحقّق مانع عن تأثيره كأن يكون المحلّ مشغولًا بسبب آخر مثله فلا يؤثّر فيه.

وبعبارة اخرى: المستحيل إنّما هو توارد العلّتين التامّتين على معلول واحد لا توارد المقتضيين، أي العلّتين الناقصتين عليه، ومن المعلوم أنّه لا تدلّ القضيّة الشرطيّة في ما نحن فيه على أكثر من السببية بمعنى المقتضي.

ثانياً: أنّ لازم التقييد بمرّة اخرى أن يكون أحد الدليلين ناظراً إلى الدليل الآخر مع أنّه كما ترى حيث انّه لا يدّعي أحد كون أحد الدليلين حاكماً على الدليل الآخر وناظراً إليه.

اللهمّ إلّاأن يقال: إنّه ليس المدّعي التقييد بمرّة اخرى عند مراد المتكلّم وإنّ هذا القيد كان ملحوظاً للمتكلّم ولم يظهره، بل المدّعى كونه مدلولًا التزامياً لتكرار الجزاء عرفاً فهو من قبيل دلالة التنبيه والإشارة.

ثالثاً: أنّه مبنيّ على كون

اجتماع الوجوبين من قبيل اجتماع المثلين مع أنّه قد مرّ كراراً إنّ اجتماع المثلين المستحيل يتصوّر في الامور التكوينيّة لا الاعتباريّة، نعم إنّه قبيح على الشارع الحكيم في الاعتباريات من باب اللغويّة.

فظهر أنّ العمدة في الجواب عن هذا الدليل إنّما هو الوجه الأوّل حيث إنّا رفعنا اليد عن الوجه الثاني بقولنا «اللهمّ إلّاأن يقال ...» والوجه الثالث أيضاً تبدّل إلى الإشكال في كيفية الاستدلال فينحصر الجواب في الوجه الأوّل.

الوجه الثاني: أنّ متعلّق الجزاء نفس الماهيّة المهملة فهي بالنسبة إلى الوحدة والتعدّد بلا اقتضاء، بخلاف أداة الشرط فإنّها ظاهرة في السببية المطلقة، والتعدّد فيها يقتضي التعدّد في الجزاء، أي تعدّد السبب يوجب تعدّد المسبّب من باب أنّه لا تعارض بين الاقتضاء واللااقتضاء.

والجواب عنه أنّه في الواقع عبارة اخرى عن الوجه الأوّل، وإجمال لذلك التفصيل، حيث إنّه أيضاً ناشٍ من قبول ظهور القضيّة الشرطيّة في الحدوث عند الحدوث والسببية الفعلية، فيرد عليه نفس ما أوردناه على ذلك الوجه.

الوجه الثالث: ما أفاده المحقّق الهمداني رحمه الله في مصباحه كالوجه الرابع (على ما نقله عنه في انوار الأصول، ج 2، ص: 33

تهذيب الاصول) «1»، وحاصله: إنّ مقتضى القواعد اللفظية سببية كلّ شرط للجزاء مستقلًا، ومقتضاه تعدّد اشتغال الذمّة بفعل الجزاء، ولا يعقل تعدّد الاشتغال إلّامع تعدّد المشتغل به فإنّ السبب الأوّل سبب تامّ في اشتغال ذمّة المكلّف بإيجاد الجزاء، والسبب الثاني إن أثّر ثانياً وجب أن يكون أثره اشتغالًا آخر، لأنّ تأثير المتأخّر في المتقدّم غير معقول، وتعدّد الاشتغال مع وحدة الفعل المشتغل به ذاتاً ووجوداً غير معقول، وإن لم يؤثّر يجب أن يستند إمّا إلى فقد المقتضي أو وجود المانع، والكلّ منتفٍ لأنّ ظاهر القضيّة الشرطيّة سببية الشرط مطلقاً،

والمحلّ قابل للتأثير، والمكلّف قادر على الامتثال فأي مانع من التنجّز؟ (انتهى، وسيأتي الجواب عنه).

الوجه الرابع: أنّه ليس حال الأسباب الشرعيّة إلّاكالأسباب العقليّة، فكما أنّه يجب تحقّق الطبيعة في ضمن فردين على تقدير تكرّر علّة وجودها وقابليتها للتكرار، فكذا يتعدّد اشتغال الذمّة بتعدّد أسبابه.

أقول: إنّ هذين الوجهين أيضاً يرجعان عند التأمّل إلى قبول ظهور القضيّة الشرطيّة في الحدوث عند الحدوث فعلًا لا اقتضاءً، فالجواب هو الجواب، ولا حاجة إلى تكراره.

إلى هنا ثبت عدم تمام وجه من الوجوه الأربعة التي استدلّ بها على عدم التداخل.

وهيهنا وجهان آخران:

أحدهما: ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله واستحسنه في المحاضرات «2» بقوله: «ولشيخنا الاستاذ قدس سره في المقام كلام وهو في غاية الصحّة والجودة»، وهو يتمّ ببيان أمرين حاصلهما: أنّ القضيّة الشرطيّة ظاهرة في الانحلال وتعدّد الطلب لأنّها ترجع إلى القضيّة الحقيقة، ولا إشكال في أنّ الحكم في القضيّة الحقيقة ينحلّ بانحلال موضوعه إلى أحكام متعدّدة، هذا أوّلًا.

وثانياً: أنّ مقتضى تعدّد القضيّة الشرطيّة في نفسها تعدّد الطلب أيضاً لأنّ تعلّق الطلب بشي ء لا يقتضي إلّاإيجاد ذلك الشي ء خارجاً ونقض عدمه المطلق، وإذا فرض تعلّق طلبين بماهيّة واحدة كان مقتضى كلّ منهما إيجاد تلك الماهيّة فيكون المطلوب في الحقيقة هو إيجادها

انوار الأصول، ج 2، ص: 34

ونقض عدمها مرّتين كما هو الحال في تعلّق إرادتين تكوينيتين بماهيّة واحدة، فإذا فرض ظهور القضيّة الشرطيّة في الانحلال وتعدّد الطلب، أو فرض تعدّد القضيّة الشرطيّة في نفسها كان ظهور القضيّة في تعدّد الحكم لكونه لفظيّاً مقدّماً على ظهور الجزاء في وحدة الطلب لو سلّمنا ظهوره فيها ويكون مقتضى القاعدة عدم التداخل «1».

أقول: يرد عليه أنّ روح كلامه هذا يرجع في الحقيقة إلى ما مرّ كراراً من

أنّ لموضوع الحكم نوع علّية للحكم، فيقع النزاع في أنّ هذه العلّية هل هي فعليّة أو اقتضائيّة، وقد اخترنا أنّها ظاهرة في الاقتضاء، ولا أقلّ من عدم ظهورها في الفعليّة أو الشكّ فيها فتصل النوبة إلى الأصل العملي، ولا يخفى أنّه بالنسبة إلى تداخل الأسباب (الذي هو مورد النزاع في المقام) هو البراءة عن الزائد على الواحد، ونتيجتها التداخل كما لا يخفى.

ثانيهما: ما نسب إلى العلّامة رحمه الله في المختلف، وحاصله إنّه إذا تعاقب السببان أو إقترنا فإمّا أن يقتضيا مسبّبين مستقلّين أو مسبّباً واحداً، أو لا يقتضيان شيئاً أو يقتضي أحدهما دون الآخر، والثلاثة الأخيرة باطلة فيتعيّن الأوّل، ومقتضاه عدم التداخل.

ويرد عليه: أنّ روح هذا الوجه أيضاً يعود إلى ما سبق من كون السبب سبباً فعليّاً فالجواب هو الجواب.

هذا- مضافاً إلى أنّ الصور رباعيّة فيما إذا تحقّق الشرطان في زمانين مختلفين، وإمّا إذا تحقّقا في آنٍ واحد ففيه احتمال خامس غير ما ذكر، وهو أن يكون المؤثّر والسبب الحقيقي هو القدر الجامع بين السببين، وهو صرف الوجود من الشرط الذي قد يتحقّق ضمن مصداق واحد، وقد يتحقّق ضمن المصاديق المتعدّدة التي تحقّقت في الخارج في آنٍ واحد، ولا يخفى أنّ لازمه أيضاً التداخل.

هذا كلّه في الوجوه التي استدلّ بها على عدم التداخل.

وقد ظهر ممّا ذكرنا إلى هنا ما يثبت به المختار (أي القول بالتداخل) وهو أنّه لا شكّ في ظهور القضيّة الشرطيّة في الحدوث عند الحدوث، فإن قلنا بكونه في حدّ الاقتضاء، أي القضيّة الشرطيّة ظاهرة في اقتضاء الشرط حدوث الجزاء إذا لم يكن هناك مانع، ولم يكن المحلّ مشغولًا بالمثل فهو المطلوب والمختار، وتكون النتيجة التداخل، وإن قلنا بأنّها ظاهرة في انوار الأصول،

ج 2، ص: 35

الفعليّة، أي في علّية الشرط لحدوث الجزاء فعلًا فنقول: إنّه يعارض ظهور الجزاء في الوحدة فيتساقطان، وتصل النوبة إلى الاصول العمليّة، والأصل الجاري في المقام إنّما هو البراءة عن الزائد على الواحد كما لا يخفى.

اللهمّ إلّاأن يقال: إنّ ظهور الشرط في الحدوث عند الحدوث أقوى من ظهور الجزاء في الوحدة فيقدّم عليه، والنتيجة حينئذٍ بناءً على كون العلّية فعليّة عدم التداخل، ولكن الإنصاف أنّها ظاهرة في الاقتضاء.

تنبيهات التنبيه الأوّل: في المحكي عن فخر المحقّقين رحمه الله، فقد حكي عنه إنّه جعل المسألة مبتنية على أنّ الأسباب الشرعيّة هل هي معرفات وكواشف عمّا هو المؤثّر واقعاً أو هي بنفسها مؤثّرات وعلل، فعلى الأوّل يكون مقتضى القاعدة التداخل، وعلى الثاني عدم التداخل.

ويرد عليه:

أوّلًا: أنّا لا نوافقه على المبنى فإنّ علل الشرائع ليست مؤثّرات ولا معرفات بل إنّها مقتضيات كما مرّ.

ثانياً: ولا نوافقه على البناء أيضاً، فإنّ تعدّد الشرط لا يوجب تعدّد الجزاء ولو كانت العلل مؤثّرات.

وتوضيح الإيرادين: أنّه يتصوّر في الأحكام سواء كانت شرعيّة أو غيرها ثلاثة عناصر:

أحدها: سبب الحكم وعلّته، وهو إرادة الجاعل، لأنّ حقيقة الكم هي الاعتبار، والاعتبار بيد المعتبر، ويتحقّق بإرادته.

ثانيها: الداعي إلى الحكم، وهو المصلحة أو المفسدة التي تترتّب على متعلّق الحكم.

ثالثها: موضوع الحكم.

لا إشكال في أنّ علل الشرائع وما يجعل بعنوان الشرط في القضيّة إنّما يكون في الواقع وعند الدقّة بمنزلة قيود الموضوع لا من العلّة ولا من الداعي، فالجنابة مثلًا في قولك «إذا أجنبت فاغتسل» بمنزلة قيد لموضوع وجوب الغسل، وهكذا الاستطاعة في قولك «إن استطعت انوار الأصول، ج 2، ص: 36

فحجّ» فإنّها بمنزلة قيد لموضوع وجوب الحجّ كما لا يخفى.

وعلى هذا فليست القضايا الشرطيّة الواردة في لسان الأدلّة مؤثّرات

ولا معرفات، والظاهر أنّ فخر المحقّقين رحمه الله قاس العلل الشرعيّة بالعلل التكوينيّة، وهو قياس مع الفارق حيث إنّ علّة الحكم الاعتباري هو إرادة المعتبر لا غير.

وبما ذكرنا يظهر ضعف ما أفاده المحقّق الخراساني رحمه الله من أنّ حال الأسباب الشرعيّة حال أسباب الأحكام العرفيّة في أنّها معرفات تارةً مؤثّرات اخرى فتدبّر.

نعم هيهنا نوع آخر من التعليل في لسان الشارع لا يؤتى به على نهج القضيّة الشرطيّة، بل إنّما يؤتى به بلام العلّة، نحو «لا تشرب الخمر لأنّه مسكر» فإنّ العلّة في هذا القسم مع رجوعه إلى قيود الموضوع أيضاً يمكن أن تكون إشارة إلى المصالح والمفاسد الترتّبة على متعلّق الحكم، ولكنّه أيضاً لا ربط له بقضيّة المؤثّرات أو المعرفات لما عرفت من أنّ المؤثّر هو إرادة المولى.

هذا كلّه بالنسبة إلى ما أوردناه على المبنى، وأمّا ما أوردناه على البناء فتوضيحه إنّا سلّمنا ظهور الأسباب والشرائط في كونها مؤثّرات وفي الحدوث عند الحدوث، ولكنّه- كما مرّ- يعارض ظهور الجزاء في الوحدة، فيجب ملاحظة أقوى الظهورين في صورة إقوائيّة أحدهما ثمّ الرجوع إلى الاصول العمليّة على فرض تساويهما وتساقطهما بعد التعارض فتأمّل.

التنبيه الثاني: ما أفاده في تهذيب الاصول فإنّه بعد نقل ما مرّ من كلام العلّامة رحمه الله في المختلف وذكر ما أفاده الشيخ الأعظم رحمه الله في ذيل كلام العلّامة رحمه الله من أنّ الاستدلال المذكور ينحلّ في مقدّمات ثلاث (إحداها دعوى تأثير السبب الثاني بمعنى كون كلّ واحد من الشرطين مؤثّراً في الجزاء، ثانيتها أنّ أثر كلّ شرط غير أثر الآخر، وثالثتها أنّ ظاهر التأثير هو تعدّد الوجود لا تأكّد المطلوب) وذكر ما ذكر في توجيه المقدّمة الاولى- قال ما إليك نصّ كلامه: «الإنصاف

أنّ أصحاب القول بعدم التداخل وإن كان مقالتهم حقّة إلّاأنّ ذلك لا يصحّ إثباته بالقواعد الصناعيّة، ولا بدّ من التمسّك بأمر آخر، وقد نبّه بذلك المحقّق الخراساني رحمه الله في هامش كفايته، وهو أنّ العرف لا يشكّ بعد الاطّلاع على تعدّد القضيّة الشرطيّة في إنّ ظهور كلّ قضيّة هو وجوب فرد غير ما وجب في الاخرى كما إذا اتّصلت القضايا، وكانت في كلام واحد، ولعلّ منشأ فهم العرف وعلّة استيناسه هو ملاحظة العلل الخارجيّة، إذ العلل الخارجيّة بمرأى ومسمع منه حيث يرى أنّ كلّ علّة إنّما تؤثّر في غير ما أثّر فيه الآخر، وهذه انوار الأصول، ج 2، ص: 37

المشاهدات الخارجيّة ربّما تورث له إرتكازاً وفطرة، فإذا خوطب بخطابين ظاهرهما كون الموضوع فيه من قبيل العلل والأسباب فلا محالة ينتقل منه إلى أنّ كلّ واحد يقتضي مسبّباً غير ما يقتضيه الآخر ... هذا كلّه راجع إلى المقدّمة الالوى أعني فرض استقلال كلّ شرط في التأثير، ولكنّها وحدها لا تفيد شيئاً بل لابدّ من إثبات المقدّمة الثانية، وهي أنّ أثر الثاني غير أثر الأوّل، ولقائل أن يمنع هذه المقدّمة لأنّ غاية ما تلزم من الاولى من استقلالهما في التأثير هي إنّ الوجوب الآتي من قبل النوم غير الآتي من قبل الآخر، وذلك لا يوجب إلّاتعدّد الوجوب لا تعدّد الواجب، بل يمكن أن يستكشف من وحدة المتعلّق كون ثانيهما تأكيداً للأوّل ولا يوجب التأكيد استعمال اللفظ في غير معناه لأنّ معناه وضع الأمر للوجوب هو وضعها لإيجاد بعث ناشٍ من الإرادة الحتمية، والأوامر التأكيديّة مستعملة كذلك ... نعم حمل الأمر على التأكيد يوجب ارتفاع التأسيس، وهو خلاف ظاهر الأمر، لكنّه ظهور لا يعارض إطلاق المادّة والشرطيّة، فإذا دار

الأمر بين رفع اليد عن أحد الإطلاقين ورفع اليد عن التأسيس لا ريب في أولويّة الثاني ...» «1».

أقول: العمدة في كلامه الفقرة الا خيرة منه حيث ينبغي أن نلاحظها ونبحث فيها- وهي «إنّ ظهور إطلاق المادّة مقدّم على ظهور الهيئة في التأسيس» وهي محالا يمكن المساعدة عليه، لأنّ الظهور اللفظي يمنع من انعقاد الإطلاق فإنّ من مقدّماته عدم البيان، والظهور اللفظي يعدّ بياناً، وحينئذٍ يقدّم الظهور في التأسيس على إطلاق المادّة، وعليه تثبت المقدّمة الثانية أيضاً فيثبت المطلوب، وهو عدم التداخل.

هذا- مضافاً إلى أنّ كلامه أيضاً مبني على ظهور القضيّة الشرطيّة في التأثير الفعلي وقد مرّ كراراً المناقشة فيه، كما مرّ أيضاً إنّه لو فرضنا ظهورها في التأثير الفعلي فهو يعارض مع ظهور الجزاء في الوحدة فيتساقطان، والنتيجة حينئذٍ إجمال القضيتين معاً فتصل النوبة حينئذٍ إلى الأصل العملي، وهو في المقام يقتضي نتيجة التداخل كما مرّ فتأمّل.

التنبيه الثالث: قد يفصّل في المسألة بين ما إذا كان الشرطان مختلفين بحسب الجنس وما إذا كانا من جنس واحد، ويقال بالتداخل في الثاني دون الأوّل.

انوار الأصول، ج 2، ص: 38

ولكن الجواب عنه واضح فالنكتة الأصلية في التداخل وعدمه هي أنّ الجملة الشرطيّة ظاهرة في الحدوث عند الحدوث أو في الثبوت عند الثبوت، ولا إشكال في أنّه لا فرق في هذه الجهة بين ما إذا اختلف الشرطان في الجنس أو إتّحدا.

وأجاب عنه المحقّق الخراساني رحمه الله بأنّ الأجناس المختلفة لابدّ من رجوعها إلى واحد، فيما جعلت شروطاً وأسباباً لواحد، لما مرّت إليه الإشارة من أنّ الأشياء المختلفة بما هي مختلفة لا تكون أسباباً لواحد (من باب قاعدة الواحد).

أقول: قد مرّت الإشارة أيضاً إلى أنّه لا مجال لقاعدة الواحد في الامور

الاعتباريّة غير البسيطة.

هذا كلّه في تداخل الأسباب.

المقام الثاني: في تداخل المسبّبات

والمراد من تداخل المسبّبات أنّه لو فرضنا دلالة كلّ واحد من القضيتين الشرطيتين على وجوب مستقلّ ولم نوافق على تداخل الأسباب فهل يكتفي بامتثال واحد عن كلا التكليفين أو لا؟

كما أنّ معنى تداخل الأسباب هو أنّ الشرط الثاني هل يؤثّر في الوجوب مستقلًا كالشرط الأوّل أو لا؟ فالفرق بين المقامين واضح، وقد وقع الخلط بينهما في كلمات المحقّق الخراساني رحمه الله.

وكيف كان ذهب المحقّق النائيني رحمه الله إلى أنّ القاعدة في المقام الثاني (تداخل المسبّبات) تقتضي عدم التداخل ما لم يدلّ دليل على التداخل ثمّ قال: «نعم يستثنى من ذلك مورد واحد وهو ما إذا كانت النسبة بين الواجبين عموماً من وجه كما في قضيّة «أكرم عالماً» و «أكرم هاشميّاً» فإنّ إكرام العالم الهاشمي الذي هو مورد الاجتماع لهما يكون مسقطاً لكلا الخطابين لانطباق متعلّق كلّ منهما عليه ولا يعتبر عقلًا في تحقّق الامتثال إلّاالإتيان بما ينطبق عليه متعلّق الأمر في الخارج» «1».

انوار الأصول، ج 2، ص: 39

أقول: نحن نوافقه فيما أفاده لو كان مرجعه إلى إطلاق الخطابين حيث إنّه إذا كان كلّ واحد من الخطابين مطلقاً بالنسبة إلى الآخر فكان مردّ قوله «أكرم عالماً» مثلًا إلى قوله «أكرم عالماً سواء كان هاشمياً أو غير هاشمي» وكذلك كان مرجع قوله «أكرم هاشمياً» إلى قوله «أكرم هاشمياً سواء كان عالماً أو غير عالم» فلا إشكال في كفاية إتيان متعلّق العنوانين مرّة واحدة عن امتثال كلا الخطابين، ولا يبعد أن يكون ذلك هو مراد المحقّق النائيني رحمه الله أيضاً.

والتحقيق في المسألة أن يقال: إنّ النسبة بين متعلّقي دليلين تتصوّر على أربعة وجوه: فتارةً تكون النسبة هي التباين، وحينئذٍ لا موقع للتداخل

كما لا يخفى.

واخرى تكون النسبة بين العنوانين هي التساوي، فلا معنى أيضاً للبحث عن تداخلهما لأنّهما متداخلان دائماً، ولا يمكن الانفكاك بينهما، بل لا يمكن أن يكلّف المولى بماهيّة مرتين إلّا أن يرجع خطابه في كلّ مرّة إلى فرد خاصّ من الماهيّة فيتعلّق كلّ واحد من الخطابين بأحدهما، وحينئذٍ ترجع النسبة لا محالة إلى التباين أيضاً كما في القسم الأوّل لأنّ كلّ واحد منهما بتشخّصاته الفرديّة مباين للآخر.

وثالثة: نسبة العموم من وجه.

ورابعة: العموم المطلق.

ومحلّ البحث في المقام إنّما هو هذان الوجهان الأخيران، ولا إشكال في أنّ العناوين فيهما تارةً تكون من العناوين القصديّة كعنوان الصّلاة والصّوم ونحوهما من العناوين الموجودة في أبواب العبادات، واخرى من العناوين غير القصديّة، فتصير الصور حينئذٍ أربعة.

والصحيح أنّ مقتضى القاعدة هو التداخل مطلقاً في جميع الصور الأربعة لو كنّا نحن والأدلّة الشرعيّة وإطلاقها ما لم تنصب قرينة على التداخل أو عدمه، فإنّ مقتضى إطلاق الخطابين- كما مرّ- هو كفاية الإتيان بمجمع العنوان في العامين من وجه، وكفاية الإتيان بالخاصّ في العموم والخصوص المطلق.

ولا يتوهّم أنّ الإتيان بخصوص ذلك يخالف تعدّد التكليف، لأنّ المفروض أنّ مجمع العنوانين واجد لكلتا المصلحتين، نظير ما إذا أمر الطبيب المريض بأكل مطلق الفاكهة مثلًا لرفع دائه، وأمره أيضاً بأكل فاكهة خاصّة لرفع داء آخر، فلا إشكال في جواز الاكتفاء بأكل تلك الفاكهة الخاصّة وحصول كلتا المصلحتين بها.

انوار الأصول، ج 2، ص: 40

نعم ربّما تقوم القرينة على عدم التداخل مثل تناسب الحكم والموضوع، فإنّه يقتضي عدم تداخل المسبّبات في كثير من الموارد كما في باب الكفّارات، فإنّ تناسب الحكم (وهو وجوب الكفّارة) والموضوع (وهو المفطر) فيها يقتضي تعدّد الكفّارة حيث إنّ المقصود من إيجاب الكفّارة إنّما هو

تأديب المفطر العامد العاصي، وهو قد لا يحصل بإتيان العمل مرّة واحدة كما لا يخفى، كما أنّه كذلك في أبواب الحدود والديّات وأبواب الضمانات والنذور، ومن هذا القبيل ما ذكره في تهذيب الاصول من المثال، وهو تضاعف مقدار النزح من البئر إذا وقعت الهرّة فيها بعد وقوع الفأرة مثلًا، فإنّ لوقوع كلّ منهما أثراً خاصّاً في قذارة الماء واقتضاءً مستقلًا يوجب تعدّد وجوب نزح المقدار أو استحبابه.

كما أنّه ربّما تقوم القرينة على العكس، أي على التداخل، كما في باب الوضوء والغسل إذا تعدّد الحدث الأصغر في الوضوء والأكبر في الغسل.

نعم، المهمّ في البابين (بابي الوضوء والغسل) تعيين مفاد الدليل وإنّه في الخطاب الثاني هل هو عدم قابلية المحلّ للتعدّد، وعدم كون ماهيّة المسبّب فيه مختلفة عن ماهيّة المسبّب في الخطاب الأوّل كما هو الظاهر في باب الوضوء فتكون النتيجة حينئذٍ تداخل الأسباب وكفاية نيّة أحد الأسباب، أو يكون مفاده قابلية المحلّ للتعدّد وأنّ ماهيّة المتعلّق في أحدهما غير الماهيّة في الآخر كما ربّما يستظهر في باب الغسل، حيث يستظهر أنّ الأغسال ماهيات مختلفة وأنّ لكلّ سبب ماهيّة خاصّة؟ فتكون النتيجة حينئذٍ عدم تداخل المسبّبات ولزوم قصد جميع الماهيات إذا اجتمعت وتحقّقت في زمان واحد (لأنّها عناوين قصديّة) ولا يخفى أنّ تمام الكلام في المسألة في الفقه.

إلى هنا تمّ الكلام عن مفهوم الشرط

2- الكلام في مفهوم الوصف

ولابدّ فيه من تنقيح محلّ النزاع قبل الخوض في أصل المسألة.

فنقول: قال المحقّق النائيني رحمه الله: «إنّ محلّ الكلام في المقام هو الوصف المعتمد على موصوفه، وامّا غير المعتمد عليه فلا إشكال في عدم دلالته على المفهوم، فهو حينئذٍ خارج عن محلّ النزاع، إذ لو كان الوصف على إطلاقه ولو كان غير معتمد

على الموصوف محلًا للنزاع لدخلت الجوامد في محلّ النزاع أيضاً ... إلى أن قال:

بل يمكن أن يقال: إنّ كون المبدأ الجوهري مناطاً للحكم بحيث يرتفع الحكم عند عدمه أولى من كون المبدأ العرضي مناطاً له، فهو أولى بالدلالة على المفهوم من الوصف غير المعتمد» «1».

فحاصل كلامه أنّ الوصف غير المعتمد خارج عن محلّ النزاع لأنّه كاللقب، بل اللقب أولى منه من هذه الجهة لأنّه حاكٍ عن الذات، بينما الوصف غير المعتمد يحكي عن الصفة، وكون الذات مناطاً للحكم بحيث ينتفي بانتفائها أولى من كون الوصف (الذي يكون مبدأً عرضياً للحكم) مناطاً له.

ولكن الإنصاف أنّ محلّ النزاع أعمّ كما صرّح به في تهذيب الاصول «2»، والشاهد على ذلك أنّ المثبت للمفهوم قد يتمسّك بأمثلة تكون من مصاديق الوصف غير المعتمد من دون أن يعترض عليه النافي للمفهوم بأنّها خارجة عن محلّ الكلام، نظير التمسّك بفهم أبي عبيدة في قوله صلى الله عليه و آله «مطل الغني ظلم» «3» وقوله صلى الله عليه و آله: «ليّ الواجد بالدين يحلّ عقوبته وعرضه» «4» ونظير

انوار الأصول، ج 2، ص: 42

التمسّك بقوله تعالى: «إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا»» هذا- مضافاً إلى أنّه لا يجري بناءً على مبنى القائلين باشتمال المشتقّ على الذات حيث إنّه حينئذٍ لا فرق بين القسمين في الاعتماد على الذات.

وكيف كان- فقد استدلّ القائل بعدم المفهوم (مع أنّه على المنكر إقامة الدليل) بوجهين:

الوجه الأوّل: إنّ دلالة الوصف على المفهوم امّا بالوضع أو بالقرينة العامّة، وكلاهما ممنوعان، إمّا الوضع فلأنّه لو كان الوصف دالًا على المفهوم بالوضع لكان استعماله في غيره مجازاً، وهو ممنوع.

وأمّا القرينة العامّة فلأنّها لا تخلو من أن تكون واحدة من الثلاثة: لزوم اللغويّة، كون الوصف

مطلقاً مع أنّ المتكلّم في مقام البيان، وكونه مشعراً بالعلّية المنحصرة.

أمّا لزوم اللغويّة فالجواب عنه إنّ اللغويّة إنّما تلزم فيما إذا انحصرت فائدة الوصف في المفهوم مع أنّه قد يترتّب عليه فوائد كثيرة اخرى فقد يؤتى به لإبراز شدّة الإهتمام بمورد الوصف، مثل قوله: «إيّاك وظلم اليتيم»، أو «إيّاك وغيبة العلماء» أو لدفع توهّم عدم شمول الحكم لمورد الوصف كما في قوله تعالى: «وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ» (هذا شبيه الوصف) أو لعدم حاجة السامع إلى ما سوى مورد الوصف كقولك لمن لا يجد غير ماء البئر:

ماء البئر طاهر مطهّر، أو لغير ذلك من امور اخر كعلم المخاطب بحكم غير مورد الوصف أو توضيح ما اريد بالموصوف والكشف عنه أو غير ذلك.

وأمّا الإطلاق (والمقصود منه إنّه لو كان للوصف عديل أو جزء آخر لذكره المتكلّم لكونه في مقام البيان فإطلاقه دالّ على أنّه لا عديل له، كما أنّه دالّ على كونه تمام الموضوع للحكم).

فيرد عليه: أنّ هذا الإطلاق- الذي يكون إطلاقاً مقاميّاً على فرض وجوده، أي على فرض كون المتكلّم بصدد بيان العلّة المنحصرة أو الموضوع المنحصر للحكم- لا يختصّ في دلالته على المفهوم بباب الوصف بل إنّه يجري في اللقب أيضاً، وحينئذٍ تكون الدلالة على المفهوم مستندة إلى وجود القرينة لا إلى الوصف وإلّا لكانت الدلالة مختصّة بالوصف فحسب.

وأمّا إشعار الوصف بالعلّية المنحصرة فالجواب عنه: إنّ إشعار الوصف بها وإن كان انوار الأصول، ج 2، ص: 43

مسلّماً، إلّاأنّه لا يفيد في الدلالة على المفهوم ما لم يصل إلى حدّ الظهور.

هذا كلّه هو الوجه الأوّل لمنكري مفهوم الوصف، وهو وجه تامّ إلّامن ناحية حصرهم القرائن العامّة في الثلاثة المزبورة فانّه ممّا لا دليل عليه عقلًا.

الوج الثاني:

ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله (ووافقه على ذلك في هامش أجود التقريرات وصرّح بأنّه متين) وحاصله: إنّ القيود الواردة في الكلام تارةً ترجع إلى المفهوم الإفرادي (الموضوع أو المتعلّق) واخرى إلى الجملة التركيبية بحيث يكون القيد قيداً للمادّة المنتسبة (الحكم)، وملاك الدلالة على المفهوم هو أن يكون القيد راجعاً إلى الحكم، أي إلى المادّة المنتسبة ليترتّب عليه ارتفاع الحكم عند ارتفاع قيده، إذ لو كان الحكم ثابتاً عند عدم القيد أيضاً لما كان الحكم مقيّداً به بالضرورة، ففرض تقييد الحكم بشي ء يستلزم فرض انتفائه بانتفائه، وأمّا إذا كان القيد راجعاً إلى المفهومي الإفرادي والموضوع، فغاية ما يترتّب على التقييد هو ثبوت الحكم على المقيّد، ومن الضروري أنّ ثبوت شي ء لشي ء لا يستلزم نفيه عن غيره، وإلّا لكان كلّ قضيّة مشتملة على ثبوت حكم على شي ء دالة على المفهوم وذلك واضح البطلان، وبما أنّ الظاهر في الأوصاف أن تكون قيوداً للمفاهيم الإفراديّة يكون الأصل فيها عدم الدلالة على المفهوم كما هو الحال في اللقب عيناً «1».

أقول: الإنصاف أنّ ما أفاده إنّما هو أحد طرق إثبات المفهوم، فإنّه ربّما يستفاد من ناحية إحترازيّة القيود مع رجوعها إلى الموضوع والمفهوم الإفرادي على تعبيره، بل قد لا يكون للكلام مفهوم وان رجع القيد إلى الحكم والمفهوم التركيبي إذا كان المقصود من أخذه في الكلام أمراً آخر غير الانتفاء عند الانتفاء كأن يؤتى به لكون مورده محلًا لابتلاء المخاطب مثلًا.

فظهر إلى هنا عدم تمام كلا الوجهين لإثبات عدم المفهوم فالأولى لمنكره الاكتفاء بما هو مقتضى القاعدة وطلب البرهان من مدّعيه.

فنقول: استدلّ المثبتون بوجوه اشير إلى بعضها ضمن بيان أدلّة المنكرين (منها اللغويّة لولا المفهوم، والإطلاق وإشعاره بالعلّية) وبقى غيرها:

فمنها:

أنّ الأصل في القيود أن تكون إحترازيّة وذلك ببيانين:

انوار الأصول، ج 2، ص: 44

أحدهما: أنّ معنى كون شي ء قيداً لموضوع حكم هو أنّ ذات الموضوع غير قابلة لتعلّق الحكم بها إلّابعد تقيّده بهذا القيد واتّصافه بهذا الوصف، فيكون القيد أو الوصف حينئذٍ متمّماً لقابلية القابل، وهو في الحقيقة عبارة اخرى عن معنى الاشتراط، فترجع القضيّة إلى القضيّة الشرطيّة لبّاً، وبما الظاهر دخل هذا القيد بخصوصه وبعنوانه الخاصّ (إذ لازم دخل قيد آخر أن تكون العلّة والشرط هو الجامع بين الشرطين لأنّ الواحد لا يصدر إلّامن الواحد، وهو خلاف الظاهر) فلا محالة ينتفي سنخ الحكم بانتفائه وهو معنى المفهوم.

ولكن يرد عليه:

أوّلًا إنّه مبني على قبول قاعدة الواحد، وقد مرّ عدم جريانها في الامور الاعتباريّة أصلًا وعكساً.

وثانياً: إنّ علّة الأحكام إنّما هي إرادة المولى لا غير كما مرّ مراراً.

ثانيهما: أنّ للإنسان في بيان مقاصده وما ليس مقصوداً له طريقين: فإنّه تارةً يصرّح باسم المقصود ويجعله بعنوان موضوعاً لحكمه، وهذا يتصوّر فيما إذا كان للمقصود اسم خاصّ، واخرى لا يكون له اسم خاصّ فيتمسّك بذيل القيود والأوصاف فيذكر مقصوده أوّلًا بنحو كلّي ثمّ يقيّده بقيد بعد قيد حتّى يبيّن مراده بتمامه ويخرج ما ليس بمقصوده، ففلسفة القيود حينئذٍ هو بيان المقصود وإخراج ما ليس بمقصود، وهذا معنى إحترازيّة القيود، ولازمها الانتفاء عند الانتفاء وهو المراد من المفهوم.

ولكن يمكن الجواب عنه أيضاً بأنّ غاية ما يقتضيه هذا البيان وما سبقه هو ظهور القيد في أنّه دخيل في موضوع الحكم ومقصوده، وأنّ الحكم غير ثابت ومقصوده غير حاصل إلّامقيّداً بهذا القيد لا مطلقاً، ولا يقتضي نفي الحكم عن حصّة اخرى من ذات الموضوع ولو بملاك آخر وبقيد آخر، وبعبارة اخرى: مجرّد

أخذ القيد في العنوان لا يكون دليلًا على كونه إحترازيّاً، نعم لو علمنا من القرائن الحاليّة أو الكلاميّة كون المتكلّم بصدد الإحتراز كان للقيود مفهوم حتّى للألقاب.

ومنها: فهم أهل اللسان- ولعلّه أحسنها- فإنّ أهل اللسان يفهمون من الوصف المفهوم في موارد مختلفة كما فهم أبو عبيدة فيما رواه عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله «ليّ الواجد بالدين يحلّ عرضه انوار الأصول، ج 2، ص: 45

وعقوبته» «1» أنّ ليّ الفقير لا يحلّ عرضه وعقوبته، نعم الإشكال في سنده لمكان هارون بن عمرو والمجاشعيّ في طريق الشيخ رحمه الله على ما نقله صاحب الوسائل عن مجالسه.

ومن هذه الموارد قوله تعالى: «وَرَبَائِبُكُمْ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ» «2»

فالكثير من الاصوليين والمفسّرين يعتذرون عن أخذ المفهوم فيها بأنّ قيد «في حجوركم» من القيود الغالبيّة، ولذا لا مفهوم له، فإنّ اعتذارهم هذا دالّ على كون المفهوم في مثل هذه الموارد أمراً وجدانياً وإرتكازيّاً لهم، إنّما المانع هو كون القيد غالبيّاً، كما أنّ وصف «دخلتم بهنّ» الوارد في صدر الآية يدلّ على المفهوم وهو قوله تعالى: «فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ» الوارد في ذيلها، فإنّ ترتّب هذا الذيل على ذلك الصدر بفاء التفريع يشهد على أنّه لو لم يصرّح به لكنّا نفهمه من نفس الوصف الوارد في الصدر.

ومن هذه الموارد قوله تعالى: «وَالْقَوَاعِدُ مِنْ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَايَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ» «3»

فإنّ وصفي «لا يرجون نكاحاً» و «غير متبرّجات» يدلّان على أنّ القواعد اللاتي يرجون نكاحاً أو يتبرّجنّ بزينة فعليهنّ جناح أن يضعن ثيابهنّ كما أفتى به الفقهاء فحكموا بحرمة

وضعهنّ ثيابهنّ.

وكيف كان، فقد فهم أهل اللسان من هذه الموارد ونظائرها المفهوم، وهو يدلّ على دلالة الوصف على المفهوم.

نعم يمكن أن يقال: إنّ فهم المفهوم في هذه الموارد إنّما هو لوجود قرينة مقاميّة، وهي كون المتكلّم في مقام الإحتراز عمّا ليس داخلًا في الحكم، ومحلّ النزاع هو صورة فقد القرينة، فتأمّل.

ومنها: «إنّ القضيّة الوصفية لو لم تدلّ على المفهوم وانحصار التكليف بما فيه الوصف لم يكن موجب لحمل المطلق على المقيّد، حيث إنّ النكتة في هذا الحمل هي دلالة المقيّد على انحصار التكليف به وعدم ثبوته لغيره» «4».

انوار الأصول، ج 2، ص: 46

ولكن يمكن الجواب عنه:

أوّلًا: بأنّ هذا إنّما يتصوّر في ما إذا كان المطلق والمقيّد مثبتين وعلمنا بوحدة المطلوب كما في قولك: «إن ظاهرت فاعتق رقبة» و «إن ظاهرت فاعتق رقبة مؤمنة»، وأمّا إذا كان أحدهما مثبتاً والآخر نافياً كما في قوله تعالى: «أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ» وقوله عليه السلام: «نهى النبي عن بيع الغرر» فالمقيّد حينئذٍ هو نفس المنطوق وهو في المثال منطوق قوله عليه السلام «نهى النبي عن بيع الغرر» لا مفهومه كما لا يخفى.

وثانياً: نقول في المثبتين أيضاً: إنّ المفهوم فيهما إنّما هو لأجل قرينية وحدة الحكم التي تستكشف من وحدة الشرط (وهو «إن ظاهرت» في المثال) وإلّا لو لم يكن الشرط واحداً ولم تعلم وحدة الحكم كما في قولك: «أكرم العلماء» و «أكرم العلماء العدول» فلا مفهوم للجملة الثانية، ولذلك لا تقيّد الاولى بالثانية بل إنّهما من قبيل تعدّد المطلوب كما صرّح به القوم في محلّه، بل تصريحهم هذا دليل على عدم المفهوم في باب المطلق والمقيّد، وعلى أنّ فهم المفهوم في مثال «إن ظاهرت» إنّما هو من باب وجود القرينة.

فظهر ممّا

ذكرنا كلّه عدم تماميّة وجه من الوجوه التي استدلّوا بها على المفهوم، ولكن مع ذلك كلّه يستفاد من الوجه الثاني دلالة الوصف على المفهوم غالباً لكون القيد إحترازيّاً في الغالب، فلا بدّ حينئذٍ من ملاحظة المقامات والمناسبات، وأنّ خصوصيّة المقام هل تكون قرينة على كون القيد إحترازيّاً أو لا؟

بقي هنا امور

الأمر الأوّل: فيما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله في المقام من أنّ دلالة القضيّة على المفهوم ترتكز على أن يكون القيد فيها راجعاً إلى الحكم دون الموضوع فإن رجع إلى الحكم فلها مفهوم وإلّا فلا، وقد مرّ تفصيل بيانه في الوجه الثاني من الوجهين اللذين استدلّ بهما منكروا المفهوم في المقام، وأجبنا عنه هناك، ونقول هنا أيضاً:

الإنصاف أنّ القيود بأسرها قيود للحكم وراجعة إلى الحكم إمّا بلا واسطة أو مع الواسطة، حتّى في مثل قولنا: «في الغنم السائمة زكاة» يكون وصف «السائمة» قيداً للموضوع (وهو الغنم)

انوار الأصول، ج 2، ص: 47

بلحاظ الحكم لأنّ الموضوع المفرد من دون تعلّق حكم عليه لا معنى لتقييده بقيد، هذا أوّلًا.

وثانياً: ليس رجوع القيد إلى الحكم تمام الملاك للدلالة على المفهوم (كما مرّ بيانه) لأنّ لتقييده دواعياً مختلفة لا تنحصر في نفي الحكم عن الغير كأن يكون مورد الوصف محلًا لابتلاء المتكلّم فعلًا ونحوه.

الأمر الثاني: أنّ الأوصاف الغالبيّة ليس لها مفهوم حتّى بناءً على القول بمفهوم الوصف، نظير وصف «في حجوركم» في قوله تعالى: «وَرَبَائِبُكُمْ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ» فإنّه قيد غالبي ورد في الآية (بلحاظ أنّ الغالب في النساء اللاتي يردن النكاح أن تكون ربائبهنّ في حجورهنّ ومصاحبة معهنّ، لصغر سنّهن ولم يأت وقت نكاحهنّ حتّى يحصل الفراق بينهنّ وبين امّهاتهنّ، ولو كنّ مستعدّات للنكاح كانت امّهاتهنّ خارجات عن هذا الاستعداد)

والقيود الغالبيّة قيود توضيحية تصدر من المتكلّم من باب التوضيح والتفسير، فلا تلزم لغويّة الوصف إن قلنا بعدم دلالتها على المفهوم، ولا تجري فيها قاعدة إحترازيّة القيود.

نعم القيد الوارد في الآية- مضافاً إلى صدوره لأجل التوضيح- توجد فيه نكتة اخرى، وهي الإشارة إلى أنّ حكمة حرمة نكاح الربائب تربيتهنّ ونشوئهنّ في حجوركم، فلا ينبغي أن يتزوّج الرجل بمن عاشت وكبرت في حجره وكانت بمنزلة بناته في الواقع.

ولكن مع ذلك فهذه النكتة جارية في غالب موارد جعل الحكم بحرمة النكاح بنحو العموم، فيعمّ الربائب اللاتي لَسْنَ في حجورهم فتكون من قبيل الحكمة لا العلّة.

الأمر الثالث: إنّ الوصف تارةً يكون مساوياً لموصوفه كقولنا: «أكرم إنساناً ضاحكاً» واخرى يكون أعمّ منه مطلقاً كقولنا: «أكرم إنساناً ماشياً» وثالثة يكون أخصّ منه كذلك، كقولنا: «أضف إنساناً عالماً» ورابعة يكون أعمّ منه من وجه كقوله عليه السلام: «في الغنم السائمة زكاة».

ولا إشكال في خروج الأوّل والثاني عن محلّ البحث لأنّ الوصف فيهما لا يوجب تقييداً للموصوف حتّى يكون له دلالة على المفهوم كما لا يخفى.

وأمّا الثالث فلا إشكال في دخوله في محلّ الكلام لأنّ انتفائه لا يوجب انتفاء الموصوف بل الموصوف باقٍ على حاله فيبحث حينئذٍ في انتفاء الحكم عنه بانتفاء وصفه وعدمه.

وأمّا الرابع فهو أيضاً داخل في محلّ النزاع، إلّاأنّه يدلّ على المفهوم (على القول به) بالنسبة

انوار الأصول، ج 2، ص: 48

إلى خصوص ذات الموضوع المذكور في القضيّة، ففي المثال المزبور يدلّ على أنّه لا زكاة في الغنم المعلومة، أمّا بالنسبة إلى غير هذا الموضوع فلا يدلّ على انتفاء الحكم عنه، فلا يدلّ على انتفاء الزّكاة في البقر المعلوفة مثلًا كما نسب إلى بعض الشافعيّة، إلّاأن يقال: إنّ المستفاد من الحديث

إنّ السوم علّة منحصرة للزكاة بالنسبة إلى جميع الحيوانات، وذكر الغنم إنّما يكون بعنوان المثال، لكن أنّى لنا بإثبات ذلك.

ثمّ إنّه تنبغي الإشارة هنا إلى نكتة فقهيّة، وهي أنّ الملاك في زكاة الغنم ليس هو خصوص كونها سائمة كما هو المعروف، بل المستفاد من الأخبار أنّ المعيار عدم كونها من العوامل، وأمّا ذكر وصف السائمة في بعض الرّوايات فإنّه للملازمة الخارجيّة العرفيّة بينها وبين عدم كونها من العوامل في عرف ذلك الزمان، فكونها سائمة من اللوازم القهريّة لعدم كونها عوامل، لعدم الداعي حينئذٍ عادةً على إبقائها في بيوتها بل إنّها تسرح في مرجها وتسام إذا ساعدت الظروف، وقد ذكرنا في تعليقتنا على العروة مؤيّدات عديدة لذلك فراجع «1».

الأمر الرابع: إنّ المراد من الوصف في ما نحن فيه أعمّ من الوصف الاصولي والوصف النحوي، فهو عبارة عن كلّ ما صار قيداً للحكم في الكلام، فيعمّ الحال إذا صار قيداً للحكم كقولك: «من جاءك ذاكراً فأكرمه» كما يعمّ ما يكون ظرفاً للحكم كقولك: «أكرم زيداً يوم الجمعة» فتأمّل.

إلى هنا تمّ الكلام في مفهوم الوصف، وقد ظهر منه عدم إمكان المساعدة على دلالة الوصف على المفهوم في جميع الموارد، وإن كان لا يمكن إنكاره أيضاً مطلقاً، فإنّ القيود والأوصاف كثيراً مّا ترد في مقام الإحتراز، والقرائن الحاليّة والمقاميّة تدلّ عليه.

بل قد يقال: إنّ الأصل في كلّ قيد هو كونه إحترازيّاً، وإمّا الإتيان بالقيود لمقاصد اخرى مثل كونه محلًا للابتلاء أو قيداً غالبياً أو شبه ذلك فإنّها خلاف الأصل، وحينئذٍ يستفاد المفهوم من هذه القيود حتّى في غير الأوصاف من القيود الزمانيّة والمكانيّة وغيرهما (بناءً على عدم شمول الوصف بمعناه الأعمّ لهذه القيود) من دون فرق بين أن يكون

الوصف معتمداً على الموصوف أو لا يكون، فإنّه أيضاً يرجع إلى التقييد ويكون الأصل فيه الإحتراز، فلا فرق بين انوار الأصول، ج 2، ص: 49

أن يقول المولى: «إن ظاهرت أكرم رجلًا عالماً» أو «أكرم عالماً».

وإن أبيت عن ذلك فلا أقلّ من التأمّل في كلّ مقام، وملاحظة ما يقتضيه، وإيّاك أن ترفض مفهوم الوصف والقيود كلّها فإنّه خطأ محض، واللَّه العالم بحقائق الامور.

3- الكلام في مفهوم الغاية

والأولى أن نعبّر عن العنوان بمفهوم أداة الغاية، لأنّ المفهوم على فرض ثبوته يكون مدلول أداة الغاية لا نفسها.

وكيف كان، فإنّ للبحث هنا جهتين:

جهة مفهوميّة، وهي البحث في أنّ الغاية سواء كانت داخلة في المغيّى أم خارجة عنه هل تدلّ مفهوماً على ارتفاع الحكم عمّا بعد الغاية (بناءً على دخولها في المغيّى) أو عن نفس الغاية وبعدها (بناءً على خروجها عن المغيّى) أو لا؟

وجهة منطوقية، وهي البحث في نفس الغاية وأنّها هل هي داخلة في المغيّى بحسب الحكم أو خارجة عنه؟

أمّا الجهة الاولى فالمشهور دلالة الأداة على المفهوم، ولعلّه أشهر من مفهوم الشرط، ولكن ذهب السيّد المرتضى رحمه الله ومن تبعه إلى عدمه مطلقاً، وهنا قول ثالث ذكره الأعلام ببيانات مختلفة:

الأوّل: ما أفاده المحقّق الخراساني رحمه الله، وحاصله التفصيل بين أن تكون الغاية قيداً للحكم وبين أن تكون قيداً للموضوع فعلى الأوّل تدلّ على الارتفاع عند حصولها لانسباق ذلك منها- أوّلًا- وإنّه مقتضى تقييده بها بحيث لو لم تدلّ على الارتفاع لما كان ما جعل غاية له بغاية- ثانياً- مثل قوله عليه السلام «كلّ شي ء حلال حتّى تعرف إنّه حرام» فإنّه ظاهر في أنّ الحلّية محدودة بالعلم بالحرمة بحيث إذا حصل العلم بالحرمة لا يبقى موقع للحكم بالحلّية فإنّه تناقض بحت، بخلاف ما إذا

كانت قيداً للموضوع مثل «سر من البصرة إلى الكوفة» فإنّه لا يدلّ على أزيد من أنّ تحديده بذلك إنّما يكون بملاحظة تضييق دائرة موضوع الحكم الشخصي المذكور في القضيّة، والدلالة على أزيد من ذلك تحتاج إلى إقامة دليل من ثبوت الوضع لذلك أو ثبوت انوار الأصول، ج 2، ص: 52

قرينة ملازمة لذلك، لا يقال: على هذا فما هي الفائدة في هذا التحديد؟ لأنّا نقول: الفائدة غير منحصرة في الدلالة على الارتفاع كما مرّ في الوصف. (انتهى).

الثاني: ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله، فإنّه بعد أن وافق تفصيل المحقّق الخراساني رحمه الله المزبور ثبوتاً قال بالنسبة إلى مقام الإثبات: «الأدوات الموضوعة للدلالة على كون مدخولها غاية بما إنّها لم توضع لخصوص تقييد المفاهيم الإفراديّة كالوصف، ولا لخصوص تقييد الجمل التركيبية كأدوات الشرط تكون بحسب الوضع أمراً متوسّطاً بين الوصف وأدوات الشرط في الدلالة على المفهوم وعدمها، فهي بحسب الوضع لا تكون ظاهرة في المفهوم في جميع الموارد، ولا غير ظاهرة فيه في جميعها، لكنّها بحسب التراكيب الكلاميّة لابدّ أن تتعلّق بشي ء، والمتعلّق لها هو الفعل المذكور في الكلام لا محالة، فتكون حينئذٍ ظاهرة في كونها من قيود الجملة لا من قيود المفهوم الإفرادي فتلحق بأدوات الشرط من هذه الجهة فتكون ظاهرة في المفهوم، نعم فيما إذا قامت قرينة على دخول الغاية في حكم المغيّى كما في «سر من البصرة إلى الكوفة» كان ظهور القيد في نفسه في رجوعه إلى الجملة معارضاً بظهور كونه قيداً للمعنى الإفرادي من جهة مناسبة ذلك لدخول الغاية في حكم المغيّى، فيكون الظهوران متصادمين، فإن كان أحدهما أظهر من الآخر قدّم ذلك، وإلّا لم ينعقد للكلام ظهور أصلًا» «1».

الثالث: ما أفاده بعض الأعلام

في محاضراته وحاصله: إنّ الغاية إذا كانت قيداً للمتعلّق (كقوله تعالى: «أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ») أو الموضوع (كما في مثل قوله تعالى: «فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ») فحالها حال الوصف فلا تدلّ على المفهوم، وإذا كانت قيداً للحكم (كقوله عليه السلام: كلّ شي ء لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام) فحالها في مقام الثبوت حال القضيّة الشرطيّة، بل لا يبعد كونها أقوى دلالة منها على المفهوم، ضرورة أنّه لو لم يدلّ على المفهوم لزم من فرض وجود الغاية عدمه، يعني ما فرض غاية له ليس بغاية وهذا خلف، فظهر أنّ دلالة الغاية على المفهوم ترتكز على ظهور القضيّة في رجوعها إلى الحكم «2».

الرابع: ما أفاده المحقّق العراقي رحمه الله وحاصله: أنّ الذي يسهّل الخطب هو ظهور القضايا الغائيّة كلّية في نفسها في رجوع الغاية فيها إلى النسبة الحكميّة، وأنّ وجوب إكرام زيد في قوله:

انوار الأصول، ج 2، ص: 53

«أكرم زيداً إلى أن يقدم الحاج» هو المغيّى بالغاية التي هي قدوم الحاج، وعليه فلا جرم تكون القضيّة دالّة على انتفاء سنخ وجوب الإكرام عن زيد عند الغاية، من جهة أنّ احتمال ثبوت شخص وجوب آخر له فيما بعد الغاية ممّا يدفعه قضية الإطلاق المثبت لانحصاره في ذلك الفرد من الطلب الشخصي، نعم لو كانت الغاية في القضيّة راجعة إلى خصوص الموضوع أو المحمول (لا إلى النسبة الحكميّة) لكان للمنع عن الدلالة على ارتفاع سنخ الحكم عمّا بعد الغاية كمال مجال «1».

أقول: لا يخفى أنّ مرجع أكثر هذه البيانات إلى أنّ القيد إن كان قيداً للحكم يدلّ على المفهوم، وإن لم يكن قيداً للحكم لا يدلّ على المفهوم، مع أنّه قد مرّ أنّ القيد في جميع الموارد يرجع إلى

الحكم إلّاأنّه تارةً يرجع إليه بلا واسطة، واخرى يرجع إليه مع الواسطة (وهي الموضوع أو المتعلّق).

هذا- مضافاً إلى أنّ أداة الغاية إنّما هي من أداة الجرّ، ولا إشكال في أنّ الجار والمجرور متعلّق بالفعل دائماً كما قرّر في محلّه، وبهذا اللحاظ تكون الغاية قيداً للحكم بلا واسطة في جميع الموارد ولو قلنا بأنّ الوصف قد يكون قيداً للموضوع.

وأمّا ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله من أنّ قيد «إلى الكوفة» في قولك «سر من البصرة إلى الكوفة» قيد للموضوع (أي المفهوم الافرادي على تعبيره) وهو السير، من باب أنّ الغاية وهي الكوفة في هذا المثال داخلة في المغيّى- فهو في غير محلّه، لأنّ مرجع جميع القيود هو الفعل وإن كانت راجعة ابتداءً إلى الموضوع.

هذا- مضافاً إلى عدم الدليل على دخول الغاية (وهو الكوفة) في المثال المزبور في المغيّى ولا شاهد له.

ومنه يظهر الحال فيما أفاده في المحاضرات.

وأمّا كلام المحقّق العراقي رحمه الله فيرد عليه: أنّ رجوع القيد إلى النسبة الحكميّة لا ينفكّ في الحقيقة عن الرجوع إلى الحكم، وأيّ فرق بين تقييد وجوب إكرام زيد بمجيئه، أو تقييد نسبة الوجوب إلى الإكرام بذلك؟

انوار الأصول، ج 2، ص: 54

فتلخّص من جميع ما ذكرنا أنّ الغاية تدلّ على المفهوم لأنّ الظاهر رجوع القيد إلى الحكم في جميع الموارد، وبالنتيجة يكون دالًا على المفهوم ما لم تقم قرينة على خلافه.

هذا كلّه في الجهة الاولى.

وأمّا الجهة الثانية- وهي دخول الغاية في المغيّى بحسب الحكم وعدمه:

ففيها خمسة وجوه أو خمسة أقوال:

الأوّل: الدخول مطلقاً.

الثاني: الخروج مطلقاً وقد ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمه الله وفي تهذيب الاصول.

الثالث: التفصيل بين ما إذا كانت الغاية من جنس المغيّى كقوله تعالى: «فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ» (حيث

إنّ المرافق من جنس الأيدي) فهي داخلة فيه، وبين ما إذا لم تكن الغاية من جنس المغيّى كقوله تعالى «أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ» فهي خارجة عنه.

الرابع: التفصيل في أدات الغاية بين كلمة «إلى» وكلمة «حتّى»، فإن كانت الغاية مدخولة لكلمة «إلى» كانت خارجة عن المغيّى، وإن كانت مدخولة لكلمة «حتّى» كانت داخلة فيه، وقد ذهب إليه المحقّق النائيني رحمه الله.

الخامس: عدم كونها داخلة في المغيّى أو خارجة عنه على نحو العموم بل المقامات مختلفة بحسب اختلاف المقامات والقرائن الموجودة فيها، مع فقد القرينة يكون المرجع هو الأصل العملي.

ولا إشكال في أنّ محلّ البحث في المقام ما إذا كانت الغاية ذات أجزاء كالكوفة في مثال «سر من البصرة إلى الكوفة» ومثل سورة الإسراء في قولك: «اقرأ القرآن إلى سورة الإسراء» وأمّا إذا لم يتصوّر لها أجزاء مثل قولك: «اقرأ القرآن من أوّله إلى آخره» أو «اقرأ القرآن إلى آخر الجزء العاشر» فهو خارج عن محلّ الكلام كما لا يخفى.

وكيف كان، فقد استدلّ المحقّق الخراساني رحمه الله للقول الثاني: (أي خروج الغاية عن المغيّى مطلقاً) بأنّ الغاية من حدود المغيّى فلا تكون محكومة بحكمه لأنّ حدّ الشي ء خارج عن الشي ء.

انوار الأصول، ج 2، ص: 55

وفيه: إنّ المسألة لفظية لا مدخل للعقل فيها بل لابدّ فيها من الرجوع إلى الاستظهارات العرفيّة من اللفظ.

واستدلّ في تهذيب الاصول بأنّ الكوفة لو كانت اسماً لذلك الموضع المحصور بسورها وجدرانها وفرضنا أنّ المكلّف سار من البصرة منتهياً سيره إلى جدرانها من دون أن يدخل جزء من الكوفة يصدق أنّه أتى بالمأمور به وامتثل، ويشهد على ما ذكرنا صدق قول القائل:

«قرأت القرآن إلى سورة الإسراء» إذا انتهى به القراءة إلى الإسراء، ولم يقرأ شيئاً

من تلك السورة، وقس عليه نظائره وأشباهه «1».

أقول: لا يرد عليه ما أوردناه على المحقّق الخراساني رحمه الله، فإنّه قد ورد في المسألة من بابها، أي من طريق العرف والاستظهارات العرفيّة.

ولكن يرد عليه أيضاً: إنّا لا نحرز كون حكم العرف بذلك من باب ظهور اللفظ، بل لعلّه لأجل جريان أصل البراءة عن الأكثر، أي عن وجوب السير في الكوفة، وذلك من باب عدم قيام دليل على وجوبه وقصور اللفظ عنه، فتصل النوبة إلى أصالة البراءة، وتظهر الثمرة بينهما فيما عارضه دليل لفظي آخر، فعلى الأوّل يكون من قبيل المتعارضين، وعلى الثاني ترفع اليد عن الأصل العملي بسبب الأمارة.

أمّا القول الثالث: وهو التفصيل بين ما إذا كانت الغاية متّحدة في الجنس مع المغيّى وما إذا كانت مختلفة معه- فلم نتحقّق له وجهاً، والإنصاف أنّه وإن كان من الممكن أن يصير الاتّحاد في الجنس قرينة على الدخول إلّاأنّ دعواه على نحو كلّي شامل لجميع الموارد مشكلة جدّاً.

وأمّا القول الرابع: وهو التفصيل بين كلمة «حتّى» و «إلى»- فاستدلّ له المحقّق النائيني رحمه الله بأنّ «كلمة حتّى تستعمل غالباً في ادخال الفرد الخفي في موضع الحكم فتكون الغاية حينئذٍ داخلة في المغيّى لا محالة» «2» ولكنّه إنّما نشأ من الخلط بين حتّى العاطفة والخافضة (كما أشار إليه بعض الأعلام في هامش أجود التقريرات) فهي في جميع الموارد التي استعملت لادخال الفرد الخفي كما في قولنا: «مات الناس كلّهم حتّى الأنبياء» (فإنّ الأنبياء في هذا المثال يعدّ فرداً خفياً بالنسبة إلى حكم الموت) لا تدلّ على كون ما بعدها غاية لما قبلها بل هي من أداة العطف حينئذٍ كما لا يخفى.

انوار الأصول، ج 2، ص: 56

وقد ظهر بما ذكرنا ضعف القول الأوّل

أيضاً (وهو الدخول مطلقاً) كما ظهر أنّ الحقّ هو القول الخامس، وهو أنّه لا ظهور لأداة الغاية لا في دخول الغاية في المغيّى ولا في خروجها عنه، فلا بدّ من تعيين ما تقتضيه القرينة، وهي مختلفة بحسب اختلاف المقامات والمناسبات، ومع عدم وجود قرينة يصير الكلام مجملًا، وقد يؤيّد ذلك ما نشاهده في المحاورات العرفيّة من السؤال عن أنّ الغاية داخلة في المغيّى أو خارجة عنه؟ ففي ما إذا قيل مثلًا: «اقرأ القرآن إلى الجزء العاشر» ولا توجد في البين قرينة قإنهّ يتساءل: هل تجب قراءة الجزء العاشر أيضاً أو لا؟

ثمّ إنّ الظاهر أنّ الأصل العملي في صورة الشكّ والإجمال وفقد القرينة هو البراءة لا الاستصحاب، لأنّ من أركان الاستصحاب وحدة الموضوع، ولا إشكال في أنّ ما بعد الغاية موضوع آخر غير ما قبلها، ولا أقلّ في أنّه كذلك في أكثر الموارد.

بقي هنا شي ء

وهو كلام شيخنا المحقّق الحائري رحمه الله في الدرر: فإنّه قال: «التحقيق في المقام أنّ الغاية التي جعلت محلًا للكلام في هذا النزاع لو كان المراد منها هو الغاية عقلًا أعني انتهاء الشي ء فهذا مبني على بطلان الجزء غير القابل للتقسيم وصحّته، فإن قلنا بالثاني فالغاية داخلة في المغيّى يقيناً فإنّ انتهاء الشي ء على هذا عبارة عن جزئه الأخير، فكما أنّ باقي الأجزاء داخلة في الشي ء كذلك الجزء الأخير، وإن قلنا بالأوّل فالغاية غير داخلة لأنّها حينئذٍ عبارة عن النقطة الموهومة التي لا وجود لها في الخارج ...» ثمّ ذكر احتمالًا ثانياً وهو أن يكون محلّ النزاع مدخول حتّى وإلى، وأن لا يكون غاية عقلًا، وفصّل بين ما إذا كانت الغاية قيداً للفعل (للموضوع) وما إذا كانت قيداً للحكم «1». (انتهى محلّ

الحاجة).

أقول: الإنصاف أنّ المسألة لفظيّة لا تناسبها ولا ترتبط بها مسألة عقليّة، فلا مجال لما ذكره في الشقّ الأوّل من كلامه.

4- الكلام في مفهوم الحصر
اشارة

إنّ للحصر أدوات:

منها: كلمة «إلّا» الاستثنائيّة (إذا وردت بعد النفي) فقام الإجماع ووقع الاتّفاق فيها (غير ما نسب إلى أبي جنيفة) على انتفاء الحكم الثابت للمستثنى منه عن المستثنى، والدليل عليه هو التبادر، ففي قولك «ما جاء القوم إلّازيداً» لا إشكال في أنّ المتبادر منه إخراج زيد عن حكم المجي ء الثابت للقوم، وهذا جارٍ في كلّ ما يعادل كلمة «إلّا» في سائر اللغات.

ونسب الخلاف إلى أبي حنيفة، وحكي إنّه احتجّ لمذهبه بقوله صلى الله عليه و آله، «لا صلاة إلّابطهور» وقوله صلى الله عليه و آله، «لا صلاة إلّابفاتحة الكتاب» إذ لو كان الاستثناء من النفي إثباتاً لزم كفاية الطهور أو الفاتحة في صدق الصّلاة، وإن كانت فاقدة لباقي الشرائط والأجزاء، وهو كما ترى.

واجيب عنه: بوجوه أحسنها أنّه غفل عن كلمة «الباء» في المثالين، حيث إنّها فيهما بمعنى «مع» ومفادهما حينئذٍ: إنّ من شرائط صحّة الصّلاة فاتحة الكتاب والطهور، نعم لو قيل: «لا صلاة إلّافاتحة الكتاب» أو «لا صلاة إلّاالطهور» من دون الباء كان لكلامه وجه.

سلّمنا، ولكن الاستعمال أعمّ من الحقيقة والمجاز، ومجرّد الاستعمال لا يكون دليلًا على الحقيقة أو المجاز، بل الميزان في تشخيص أحدهما عن الآخر هو التبادر ونحوه من الإطّراد وغيره، ولا إشكال في أنّ التبادر في ما نحن فيه يقضي على دلالة كلمة «إلّا» على الاستثناء.

وللمحقّق النائيني رحمه الله هنا تفصيل مرّ منه في بعض الأبحاث السابقة أيضاً، فإنّ المعيار الكلّي عنده في باب المفاهيم رجوع القيد إلى الحكم أو إلى الموضوع.

وبعبارة اخرى: رجوع القيد إلى الجملة أو إلى المفرد،

فإن رجع إلى الجملة فله المفهوم، وإن رجع إلى المفرد فليس له المفهوم، وهنا صرّح بأنّ كلمة «إلّا» كلّما رجع إلى المفهوم الإفرادي فهي وصفية لا تدلّ على المفهوم، وكلّما رجعت إلى المفهوم التركيبي فهي استثنائيّة تدلّ على انوار الأصول، ج 2، ص: 58

المفهوم، ثمّ ذكر فروعاً نقلًا عن المحقّق رحمه الله في الشرائع والعلّامة رحمه الله في القواعد، وفرّعها على هذا البحث، منها: «ما لو قال المقرّ: عليّ لزيد عشرة إلّادرهماً» فإنّه يثبت حينئذٍ في ذمّته تسعة دراهم لأنّ كلمة «إلّا» في هذا الكلام لا تكون إلّااستثنائيّة إذ لو كانت وصفيّة لوجب أن يتّبع ما بعدها ما قبلها في الاعراب، وبما أنّ ما بعدها في المثال منصوب مع كون ما قبلها مرفوعاً لا تكون هي وصفية فانحصر الأمر في كونها استثنائيّة، خلافاً لما إذا قال: «عليّ لزيد عشرة إلّا درهم» بالرفع فإنّه يثبت في ذمّته تمام العشرة لتمحّض كلمة «إلّا» حينئذٍ في الوصفيّة ولا يصحّ كونها استثنائيّة وإلّا لزم أن يكون ما بعدها منصوباً على الاستثناء، لأنّ الكلام موجب، فتمام العشرة المتّصفة بأنّها غير درهم واحد تثبت في ذمّة المقرّ» «1».

أقول: هنا نكات ينبغي الإلتفات إليها:

الاولى: أنّه ليست كلمة «إلّا» الاستثنائيّة منحصرة فيما ترجع إلى الجملة والمفهوم التركيبي بل ربّما ترجع إلى المفرد أيضاً كما في قوله تعالى: «فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً» فلا إشكال في رجوع «إلّا خمسين عاماً» إلى كلمة «الف سنة» لا إلى «لبث» وكذلك في كلّ مورد يكون الغرض فيه بيان مقدار العدد وتفخيمه وتعظيمه.

الثانية: أنّ كلامه في باب الإقرار إنّما يتمّ فيما إذا كان المتكلّم المقرّ أمثال سيبويه والكسائي العارف بقواعد اللغة العربيّة الفصحى، وأمّا إذا كان المتكلّم

من عامّة الناس فلا بدّ من حمل كلمة «إلّا» على كونها استثنائيّة لأنّهم ليسوا مقيّدين بأن يستعملوا الألفاظ صحيحاً، مضافاً إلى أنّ كون كلمة إلّااستثنائيّة هو مقتضى الأصل الأوّلي، فحملها على الوصفية يحتاج إلى القرينة.

بقي هنا أمران الأمر الأوّل: إنّ ما مرّ حول كلمة إلّاالاستثنائيّة من دلالتها على المفهوم هل هو من باب المفهوم أو المنطوق؟

فيه أقوال:

انوار الأصول، ج 2، ص: 59

أحدها: إنّه من المفهوم.

ثانيها: إنّه من المنطوق.

ثالثها: التفصيل بين ما إذا قلنا بأنّ كلمة إلّابمعنى «استثنى» فيكون داخلًا في المنطوق، وبين ما إذا قلنا بأنّها حرف من الحروف الربطيّة التي ليس لها معنى مستقلّ، فيكون مدلولها من قبيل المداليل الالتزاميّة، ويكون داخلًا في المفهوم.

أقول: إنّ مدلول كلمة إلّاالاستثنائيّة على أي حال- سواء كانت بمعنى الفعل أو كانت من الحروف- يكون من المنطوق، أمّا إذا كانت بمعنى الفعل فواضح، وأمّا إذا كانت حرفاً من الحروف فلأنّها حينئذٍ تكون من الحروف الإيجاديّة يوجد بها معنى الاستثناء كحروف النداء وحروف التمنّي والترجّي التي يوجد بها مفهوم النداء والتمنّي والترجّي، وتصير حينئذٍ بمنزلة كلمة «استثنى» ويصير مدلولها من قبيل المنطوق كما لا يخفى.

الأمر الثاني: قد يستدلّ لدلالة كلمة إلّاالاستثنائيّة على الحصر بقبول رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إسلام من يشهد بأن «لا إله إلّااللَّه» حيث إنّه لولا دلالته على حصر الالوهيّة للَّه تعالى لما كان مفيداً لذلك.

واستشكل على ذلك بأنّ الاستعمال ليس دليلًا على الحقيقة ولا على المجاز، ودلالة كلمة التوحيد على الحصر المزبور لعلّها من باب قيام قرينة حاليّة أو مقاميّة عليه لا من باب وضع كلمة إلّاللحصر.

أقول: الإنصاف أنّه خلاف الوجدان، فإنّه شاهد على أنّ الحصر في هذه الجملة مفهوم من نفس كلمة إلّاومن حاقّها لا

من القرينة فيكون الاستدلال بكلمة التوحيد على الحصر من قبيل الاستدلال بالتبادر كما لا يخفى.

نعم هيهنا إشكال آخر، وهو المهمّ في المقام، وحاصله: إنّه لابدّ لكلمة «لا» في تلك الجملة من خبر مقدّر، وهو امّا لفظ «موجود» أو «ممكن»، وعلى كلّ واحد منهما لا تدلّ الجملة على التوحيد الكامل، لأنّها تدلّ على التقدير الأوّل على مجرّد حصر الإله في الباري تعالى، ولا تدلّ على نفي إمكان الغير، وعلى التقدير الثاني وإن كانت دالّة على نفي إمكان الشريك له تعالى حينئذٍ ولكنّها لا تدلّ على وجوده تعالى في الخارج.

وقد وقع الإعلام في حلّ هذا الإشكال في حيص وبيص وأجابوا عنه بوجوه:

انوار الأصول، ج 2، ص: 60

الوجه الأوّل: ما أفاده المحقّق الخراساني رحمه الله وحاصله: إنّ المقدّر لخبر «لا» هو لفظ «موجود» أي لا إله موجود إلّااللَّه، ولكن المراد من الإله هو واجب الوجود، وحينئذٍ نفي وجود غيره في الخارج وإثبات فرد من الواجب في الخارج ممّا يدلّ على إمتناع غيره، إذ لو لم يكن الغير ممتنعاً لوجد في الخارج، لأنّ المفروض إنّه واجب لا ممكن.

الوجه الثاني: ما أفاده المحقّق الإصفهاني رحمه الله وحاصله: سواء كان المقدّر لفظ «موجود» أو لفظ «ممكن» كان وجود الغير وإمكانه معاً منتفيان، إمّا بناءً على الأوّل فبنفس ما ذكره المحقّق الخراساني رحمه الله، وأمّا بناءً على الثاني فلأنّه يكون المراد من الإله في هذا الحال أيضاً هو واجب الوجود، أي لا واجب ممكن إلّااللَّه، فينفي إمكان الغير بالمدلول المطابقي ووجود الغير بالمدلول الالتزامي (على عكس الصورة الاولى) لأنّ ما ليس بممكن لا يكون موجوداً بالملازمة كما لا يخفى، كما أنّه يثبت إمكان وجود الباري تعالى بالمطابقة ووجوده في الخارج بالملازمة لأنّه إذا

كان واجب الوجود ممكناً كان موجوداً لا محالة لوجوبه «1».

الوجه الثالث: ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله فإنّه قال: «يمكن أن يقال: إنّ كلمة لا الواقعة في كلمة التوحيد مستغنية عن الخبر كما هو الحال في كلمة لولا الامتناعيّة وفي كلمة ليس التامّة، وأمّا ما ذكره النحويون من كون الخبر محذوفاً في هذه الموارد فلا يبعد أن يكون مرادهم به عدم الحاجة إلى الخبر فيها لا أنّه محذوف حقيقة، فكلمة «لا» تدلّ على عدم تقرّر مدخولها في الوعاء المناسب له، ففي الرّواية المعروفة (لولا علي لهلك عمر) يكون المراد ترتّب الهلاك على عدم تقرّر علي عليه السلام في الخارج، لأنّ هذا هو الوعاء المناسب لتقرّره عليه السلام، وإمّا في كلمة التوحيد فالمراد من التقرّر المنفي هو التقرّر مطلقاً ولو في مرحلة الإمكان، فتدلّ الكلمة المباركة على نفي الوجود والإمكان عن غير اللَّه وإثبات كليهما له تبارك وتعالى» «2».

أقول: الإنصاف أنّ ما أفاده العلمان الأوّلان (المحقّق الخراساني والمحقّق الإصفهاني رحمهما الله) كلاهما لا يكفيان لدفع الإشكال لأنّهما مبنيان على دقّة عقليّة فلسفيّة لا يفهمها إلّاالفيلسوف، مع أنّ المفروض أنّ هذه الكلمة من أي شخص صدرت تدلّ على إسلامه، وأمّا ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله فإنّه أيضاً غير تامّ لجهة اخرى وهي أنّه لم يثبت استعمال كلمة «لا» تامّة نظير ليس انوار الأصول، ج 2، ص: 61

التامّة في كلمات العرب، إذن لابدّ من دفع الإشكال بطرق اخر فنقول: هيهنا وجوه ثلاثة يمكن دفع الإشكال بها:

الأوّل: إنّ كلمة التوحيد ليست ناظرة إلى توحيد الذات وإثبات أصل وجود واجب الوجود، بل إنّها سيقت للتوحيد الأفعالي ولنفي ما يعتقده عبدة الأوثان، ويشهد لذلك أنّ المنكرين الموجودين في صدر الإسلام لم

يكونوا مشركين في ذات الواجب تعالى بل كانوا معتقدين بوحدة ذاته وخاطئين في توحيد عبادته فكانوا يعبدون الأصنام ليقربوهم إلى اللَّه زلفى (بزعمهم)، فكلمة الإخلاص حينئذٍ وردت لردّهم ولنفي استحقاق العبوديّة عن غيره تعالى فيكون معناها: «لا مستحقّ للعبوديّة إلّااللَّه».

الثاني: إنّه لا إشكال في إمكان تقدير كلمة «موجود» و «ممكن» معاً، فكما يجوز إتيان الخبر في الظاهر متعدّداً، كذلك يجوز تقديره متعدّداً فيما إذا قامت القرينة عليه، والمقام كذلك.

الثالث: إنّ المعتبر في الشهادة على التوحيد عند الفقهاء هو نفي وجود الغير فقط وأمّا الإمكان فهو من المفاهيم التي لا يمكن تصوّرها لعامّة الناس، مع أنّ كلّ فقيه يفتي بإسلام كلّ من أقرّ بالتوحيد بهذه الكلمة، فلا يجب في دلالتها على التوحيد دلالتها على امتناع غيره تعالى، بل يكفي فيها دلالتها على عدم وجود إله غيره سبحانه، فيمكن أن يكون المقدّر حينئذٍ خصوص كلمة «موجود» لا كلمة «ممكن» فتأمّل.

هذا تمام الكلام في مفهوم كلمة «إلّا».

من أداة الحصر كلمة «إنّما»

وهي تدلّ على المفهوم عند كثير من الاصوليين، واستدلّ له بوجهين:

الأوّل: إجماع النحات وتنصيص أهل اللغة به.

الثاني: التبادر.

واستشكل في التبادر بأنّه لا سبيل لنا إليه لأنّا لا نعرف المرادف لها في عرفنا حتّى نستكشف منه ما هو المتبادر منها بخلاف ما هو بأيدينا من الألفاظ المترادفة لبعض الكلمات العربيّة كما في أداة الشرط مثلًا نظير كلمة «إنّ» حيث يوجد لها في اللغة الفارسيّة ما يرادفها وهو لفظة «اگر».

انوار الأصول، ج 2، ص: 62

ولكن يرد عليه:

أوّلًا: أنّ ملاك التبادر ليس هو انسباق المعنى إلى أذهاننا فحسب، بل انسباق المعنى إلى أذهان أهل اللسان أيضاً حيث يعتبر سبيلًا إلى العلم بالوضع، وهو موجود في المقام.

وثانياً: أنّ العرب مثلًا ليسوا منحصرين بمن تولّد على ذلك

اللسان وعاش عليه، بل يعمّ أيضاً كلّ عجمي يمارس اللغة العربيّة، وقد ألّف كثير من الأعاجم الكتب النافعة في العلوم العربيّة من اللغة وغيرها.

ثمّ إنّ الفخر الرازي أنكر دلالة كلمة «إنّما» على الحصر، وقد صرّح بذلك في ذيل قوله تعالى: «إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ» «1»

وقال: «قالت الشيعة: هذه الآية دالّة على أنّ الإمام بعد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله هو علي بن أبي طالب، وتقريره أن نقول: هذه الآية دالّة على أنّ المراد بهذه الآية إمام (لأنّ الولي في هذه الآية لا يجوز أن يكون بمعنى الناصر فوجب أن يكون بمعنى المتصرّف لأنّ الولاية المذكورة في هذه الآية غير عامّة لكلّ المؤمنين بدليل إنّه تعالى ذكر بكلمة «إنّما»، وكلمة «إنّما» للحصر، والولاية بمعنى النصرة عامّة)، ومتى كان الأمر كذلك وجب أن يكون ذلك الإمام هو علي بن أبي طالب (لأنّ كلّ من أثبت بهذه الآية إمامة شخص قال: إنّ ذلك الشخص هو علي، مضافاً إلى أنّ الرّوايات تظاهرت على أنّ هذه الآية نزلت في حقّ علي) ...- إلى أن قال- «لا نسلّم أنّ الولاية المذكورة في الآية غير عامّة ولا نسلّم أنّ كلمة إنّما للحصر، والدليل عليه قوله «إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ» ولا شكّ أنّ اللعب واللهو قد يحصل في غيرها» «2».

والجواب عنه:

أوّلًا: أنّ مجرّد الاستعمال ليس دليلًا على الحقيقة ولا على المجاز كما مرّ كراراً.

ثانياً: أنّ الحصر في الآية إضافي، والمقصود منه زوال الدنيا وعدم ثباتها، أي أنّ الحياة الدنيا بالإضافة إلى أمر الثبات وعدم الثبات منحصرة في عدم الثبات، فمثلها في هذه الجهة مثل: «كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ

فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتْ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَاراً

انوار الأصول، ج 2، ص: 63

فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ» «1».

هذا- مضافاً إلى أنّ كلامه ينتقض بما ورد في الحياة الدنيا في آيات الكتاب بكلمة «إلّا» نظير قوله تعالى «وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ» «2»

وقوله سبحانه: «وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ» «3»

حيث لا شبهة في إفادة كلمة «إلّا» الحصر ولا ينكرها أحد فيما نعلم إلّاأبو حنيفة.

بقي هنا شي ء

وهو أنّ دلالة كلمة «إنّما» على الحصر أيضاً ليست بالمفهوم بل هي بالمنطوق حيث إنّها بمنزلة كلمة «فقط» أو كلمة «منحصراً» فكما إنّه لا إشكال في أنّ دلالتهما على الحصر يكون من باب المنطوق كذلك ما تقوم مقامهما.

ومن أداة الحصر كلمة «بل»

وقد ذكر لها ثلاثة معان:

أحدها: الإضراب عن الخطأ، أي الدلالة على أنّ المضروب عنه وقع عن غفلة أو غلطاً، نحو «جاءني زيد بل عمرو»، ولا دلالة لها حينئذٍ على الحصر، وهو واضح.

ثانيها: الإضراب عن الفرد الضعيف إلى الفرد القوي أو للدلالة على تأكيد المضروب عنه وتقريره، كقولك: «أنت لا تقدر على ذلك بل ولا أبوك» وقولك: «زيد لا يقدر على الجواب عن هذا بل ولا أعلم منه» وهذا أيضاً كالسابق.

ثالثها: الدلالة على الردع وإبطال ما ثبت أوّلًا كما في قوله تعالى: «أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ» «4»

وقوله سبحانه: «وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ» «5»

،

انوار الأصول، ج 2، ص: 64

فقال بعض بدلالة هذا القسم على الحصر بل المحقّق الخراساني رحمه الله ادّعى وضوح دلالته عليه.

لكن الإنصاف أنّها لا تدلّ عليه أيضاً بنفسها بل دلالتها عليه إنّما تكون بمساعدة قرينة المقام.

هذا- مضافاً

إلى أنّ الحصر المستفاد منها في هذه الموارد إضافي غالباً.

ومنها تعريف المسند إليه باللام

نظير قولك: «الضارب زيد» أو «الضارب عمرو»، والحصر فيه إمّا يستفاد من مجرّد حمل الخبر على المبتدأ أو من اللام، أمّا اللام فلا إشكال في أنّها لم توضع للحصر بل تدلّ عليه فيما إذا كانت للاستغراق، وبما أنّها تارةً تكون للجنس، واخرى للعهد، وثالثة للاستغراق فلا تدلّ على الحصر إلّاإذا قامت قرينة على أنّها للاستغراق، فيستفاد منه حينئذٍ حصر جميع الافراد في المحمول.

وأمّا الحمل فيدلّ على الحصر فيما إذا كان ذاتياً (وملاك الحمل الذاتي هو الوحدة في المفهوم) فيدلّ حينئذٍ على أنّ الموضوع منحصر في المحمول ولا يكون أخصّ وأضيق منه، وأمّا إذا كان الحمل شائعاً صناعياً فلا يدلّ عليه، لأنّ ملاك الحمل الشائع هو مجرّد الاتّحاد الخارجي ولو كان الموضوع أخصّ وأضيق من المحمول، ولا إشكال في أنّ مجرّد حمل شي ء على جنس أو ماهيّة بالحمل الشائع لا يقتضي حصر ذلك الجنس به، وذلك لجواز إرادة قسم خاصّ أو فرد خاصّ منه، وحيث إنّ الحمل تارةً يكون ذاتياً واخرى صناعياً (بل الغالب كذلك) فلا يدلّ على الحصر إلّاإذا قامت قرينة على أنّه ذاتي.

فظهر ممّا ذكر أنّ مجرّد تعريف المسند إليه باللام لا يدلّ على الحصر، بل إنّما يدلّ عليه فيما إذا قامت القرينة إمّا على كون اللام للاستغراق أو على كون الحمل ذاتياً ونتيجته عدم ثبوت المفهوم في هذا القسم من الأداة.

5- الكلام في مفهوم اللقب

والمقصود منه في المقام ليس هو اللقب المصطلح عند النحّاة بل كلّ اسم (سواء كان مشتقّاً أو جامداً، وسواء كان نكرة أو معرفة) وقع موضوعاً للحكم من دون أن يكون توصيفاً لشي ء، ولا مفهوم له عند الكلّ لأنّه إنّما يثبت شيئاً لشي ء، وإثبات الشي ء لا يكون نفياً لما عداه.

نعم، ربّما يتوهّم ثبوت

المفهوم له ببيان إنّه إذا قال المولى مثلًا: «أكرم زيداً» يستفاد منه عرفاً عدم كفاية إكرام عمرو.

ولكنّه مندفع بأنّ عدم كفاية عمرو في المثال ليس من باب المفهوم بل إنّما هو من باب عدم الإتيان بالمأمور به، لأنّ التكليف تعلّق بإكرام زيد لا عمرو، كما أنّه كذلك في أبواب الأوقاف والوصايا والنذور، فإنّ عدم شمول الحكم فيها لغير المتعلّق ليس من باب المفهوم كما مرّ سابقاً بل لأنّ الوصيّة مثلًا تحتاج إلى الإنشاء، والإنشاء تعلّق بمورد خاصّ لا غير.

هذا- مضافاً إلى ما مرّ في بعض الأبحاث السابقة بالنسبة إلى هذه الامور، وهو أنّ الواقف أو الموصي أو الناذر إنّما يكون في مقام التحديد والإحتراز، ومقتضى قاعدة إحترازيّة القيود عدم شمول الحكم للغير.

كما قد مرّ أيضاً أنّ المسألة ليست مبنية على أنّ ما ينتفي هل هو شخص الحكم أو سنخه حتّى يقال: إنّ ما ينتفي في مثل هذه الموارد إنّما هو شخص الحكم، وانتفاء الشخص ليس من باب المفهوم- لأنّ هذا من قبيل الخلط بين الإنشاء والمنشأ كما مرّ.

6- الكلام في مفهوم العدد

المشهور على أنّه لا مفهوم للعدد، والصحيح هو التفصيل بين أنواع العدد فإنّه على ثلاثة أنواع:

أحدها: ما يكون للتكثير كما في قوله تعالى: «إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ» «1»

وقوله سبحانه: «وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ» «2»

وفي هذا القسم لا مفهوم له بلا إشكال.

ثانيها: ما يكون للتعداد دون تحديد، ولا إشكال أيضاً في عدم دلالته على المفهوم، نعم استعمال العدد في هذا النوع قليل، نظير ما إذا قيل مثلًا بدل قوله تعالى: «وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ»: «وليشهد عذابهما عشر نفرات» فإنّه لا مفهوم له من جانب الأكثر وهو عدم جواز شهادة الأكثر

من عشر نفرات، وإن كان له المفهوم من جانب الأقلّ (إلّا أن يكون ذكره من باب المثال).

ثالثها: ما يكون في مقام التحديد، وهذا بنفسه على ثلاثة أقسام:

فتارةً يكون للتحديد بالإضافة إلى جانب الأقلّ، فيدلّ حينئذٍ مفهوماً على عدم جواز الاقتصار على الأقلّ، وإن جاز التعدّي إلى الأكثر، نحو قوله عليه السلام: «الكرّ ثلاثة أشبار ونصف في ثلاثة أشبار ونصف في ثلاثة أشبار ونصف».

واخرى يكون للتحديد بالإضافة إلى جانب الأكثر، فيدلّ حينئذٍ مفهوماً على عدم جواز التعدّي عن ذلك العدد، وإن جاز الاقتصار على الأقلّ، نظير ما يدلّ على جواز الفصل بين المصلّيْين بمقدار خطوة.

انوار الأصول، ج 2، ص: 68

وثالثة يكون للتحديد بالإضافة إلى جانب الأقلّ والأكثر معاً، وهو نظير الأعداد الواردة في باب ركعات الصّلاة وأشواط الطواف، فيدلّ حينئذٍ بالمفهوم على عدم جواز الإقتصار على الأقلّ وعدم جواز التعدّي إلى الأكثر.

ثمّ إنّ دلالة العدد على المفهوم وكونه في مقام التحديد في هذه الأقسام وإن كانت بقرينة الحال أو المقام أو بمناسبات الحكم والموضوع ولكن أنّ جلّ الأعداد الواردة في لسان الشرع (لولا الكلّ) تكون في مقام التحديد- لابدّ من ذكرها هنا والبحث عنها، لأنّ القرائن المزبورة حينئذٍ تكون من قبيل القرائن العامّة، فينبغي للُاصولي أن يتكلّم فيها كما يتكلّم في سائر مباحث الألفاظ، وإليك نبذة من الأمثلة التي نحتاج فيها إلى هذا المبحث في المسائل الفقهيّة:

1- تعداد أشبار الكبرّ.

2- تعداد الغسلات للتطهير عن النجاسات: مرّتان في البول وثلاث مرّات في الكلب وسبع مرّات في الخنزير.

3- عدد منزوحات البئر سواء كان النزح واجباً أو مستحبّاً.

4- عدد أيّام العادة الأقلّ منها أو الأكثر.

5- عدد أغسال الميّت.

6- عدد قطعات الكفن.

7- عدد الركعات والسجدات والركوعات والقنوت والتسبيحات في الصّلاة.

8- عدد

فصول الأذان والإقامة.

9- عدد النصاب في الزّكاة والخمس.

10- عدد مقدار الزّكاة والخمس، أي نفس العشر أو نصف العشر الخمس.

11- عدد من تقوم بهم الجمعة والجماعة.

12- عدد أيّام الإقامة في السفر (عشرة أيّام مع القصد وثلاثون يوماً متردّداً).

13- عدد أيّام الصّيام.

14- عدد الكفّارات.

15- عدد الجلد في أبواب الحدود والتعزيرات.

فظهر ممّا ذكرنا أنّ للعدد مفهوماً إذا كان في مقام التحديد كما أنّه كذلك في أغلب الموارد في انوار الأصول، ج 2، ص: 69

القوانين الشرعيّة، بل في القوانين العرفيّة أيضاً.

إلى هنا تمّ الكلام عن مبحث المفاهيم، والحمد للَّه ربّ العالمين.

انوار الأصول، ج 2، ص: 71

المقصد الرابع العام والخاص

4- العام والخاص

اشارة

وقبل الورود في أصل البحث لابدّ من الإشارة إلى عدّة امور:

الأمر الأوّل: في تعريف العام والخاص

فقد ذكر للعام تعاريف عديدة فقال في المحاضرات: إنّ العام معناه الشمول لغةً وعرفاً، وأمّا اصطلاحاً فالظاهر إنه مستعمل في معناه اللغوي والعرفي، ومن هنا فسّروه بما دلّ على شمول الحكم لجميع أفراد مدخوله، وسيأتي عدم تماميّة هذا التعريف لأنّ المطلق أيضاً يشتمل جميع أفراده إلّاأنّه بسبب جريان مقدّمات الحكمة فلا بدّ من تقييد الشمول في المقام بقيد يوجب إخراج المطلق، ولذلك نقول: «العام ما كان شاملًا بمفهوم اللفظ لكلّ فرد يصلح أن ينطبق عليه» «1».

أقول: ويمكن أن يعرّف العام أيضاً بأنّه ما يكون مستوعباً لجميع الأفراد التي يصدق عليها بمفهوم اللفظ.

لكن المحقّق الخراساني رحمه الله ذكر هنا أيضاً ما مرّ منه كراراً من أنّ التعاريف المذكورة تعاريف لفظيّة من قبيل شرح الاسم ثمّ بسط الكلام بما حاصله: إنّ كلمة «ما» التي تقع في جواب السؤال عن الأشياء على قسمين: ما الشارحة وما الحقيقيّة، والمستعمل في هذه التعاريف هي الاولى، فتكون التعاريف الواقعة في جواب السؤال عن العام شارحة لفظية لا حقيقية ماهويّة، ثمّ استدلّ له بوجهين:

الوجه الأوّل: اعتبار كون المعرّف في التعريف الحقيقي أجلى من المعرّف، ومن أنّ المعرّف انوار الأصول، ج 2، ص: 74

وهو المعنى المركوز في الأذهان من العام أوضح وأجلى ممّا عرف به ولذلك يجعل المقياس في النقض على التعريف عكساً أو طرداً صدق ذلك المعنى المركوز وعدم صدقه، فإن صدق المركوز على مورد ولم يشمله التعريف فيشكل عليه بعدم العكس، وإن لم يصدق هو على مورد وقد شمله التعريف فيشكل عليه بعدم الطرد.

الوجه الثاني عدم كون العام بمفهومه العام الشامل لجميع أفراده ومصاديقه محلًا لحكم من الأحكام كي يجب تعيين

مفهومه وتحديد معناه فيترتّب عليه حكمه الخاصّ، بل الأحكام إنّما هو لمصاديق العام وأفراده، والمصاديق كلّها معلومة واضحة.

أقول: أوّلًا: قد مرّ كراراً أنّ مقصود القوم في تعاريفهم للألفاظ هو بيان حقيقة الشي ء أو ما يكون كالماهيّة في الامور الاعتباريّة فيكون التعريف حقيقيّاً، كما يدلّ عليه تصريحهم بأنّهم بصدد تعريف الحقيقة والماهيّة، وأنّ القيد الفلاني هو لإخراج كذا أو لادخال كذا تحفّظاً على عكس التعريف وطرده، وهكذا جميع التعاريف التي تذكر في العلوم لموضوعاتها وموضوعات مسائلها.

ثانياً: المقصود من هذه التعاريف هو المبتدى ء في هذه العلوم حتّى يعرف موضوعات المسائل التي يبحث عنها في العلم لا العلماء البارعون في هذه الفنون حتّى يقال: إنّهم أعرف بمفاهيم هذه الألفاظ، هذا بالنسة إلى الوجه الأوّل ممّا ذكره في كلامه.

أمّا الوجه الثاني: ففيه: إن كان المراد منه عدم أخذ عنوان العام في لسان الآيات والرّوايات فهو كذلك، إلّاأنّه لا يستلزم عدم الحاجة إلى تعريف العام تعريفاً حقيقياً، لأنّ الداعي إلى تعريف الألفاظ الموجودة في علم الاصول ليس لأنّها مأخوذة في لسان الأدلّة، بل الداعي إنّما هو ترتّب سلسلة من الأحكام العقلائيّة أو العقليّة عليها في نفس هذا العلم (علم الاصول) كالأحكام التي تترتّب مثلًا على تعريف عنوان الاجزاء أو عنوان المشتقّ أو الحقيقة الشرعيّة والحقيقة اللغويّة، وكذلك سائر العناوين المطروحة في هذا العلم، وإن كان المراد إنكار انطباق أحكام على خصوص عنوان العام في نفس علم الاصول فهو ممنوع لأنّ بعض الأحكام يترتّب على نفس هذا العنوان كالبحث عن أنّه هل للعام صيغة تخصّه؟ أو أنّ العام حجّة قبل الفحص أم لا؟ وغيرهما من المباحث المنطبقة على عنوان العام.

الأمر الثاني: في أقسام العام

قد ذكروا للعام أقساماً ثلاثة: العام الافرادي (الاستغراقي) والعام المجموعي، والعام

البدلي، أمّا الافرادي فهو ما يلاحظ فيه كلّ فرد موضوعاً مستقلًا للحكم كقوله: «أكرم كلّ عالم» فقد لوحظ فيه كلّ فرد من العالم موضوعاً مستقلًا لوجوب الإكرام، بحيث لا يرتبط فرد من أفراده في تعلّق الحكم به بفرد آخر، فإذا أكرم بعض العلماء دون بعض فقد أطاع وعصى، لأنّ لكلّ فرد حكماً مستقلًا.

وأمّا المجموعي فهو ما يلاحظ فيه مجموع الأفراد موضوعاً واحداً لحكم واحد بحيث يكون كلّ واحد من الافراد جزءاً من الموضوع، ويحصل الامتثال بالإتيان بجميع الأفراد، فلو أتى بها إلّاواحداً مثلًا لم يتحقّق الامتثال، وبعبارة اخرى: يكون المجموع من حيث هو المجموع مشمولًا للحكم، فيكون له إطاعة واحدة وعصيان واحد، والإطاعة تحصل بالإتيان بالجميع والعصيان يحصل بترك أي فرد من الافراد.

أمّا العام البدلي فهو ما يلاحظ فيه واحد من الأفراد على البدل موضوعاً للحكم كما لو قال: «أكرم عالماً» فإنّه يحصل الامتثال فيه بإكرام واحد من العلماء وبعبارة اخرى: يكون له إطاعة واحدة وعصيان واحد لكن الإطاعة تحصل بإتيان أي فرد من الأفراد.

ولا يخفى عليك الثمرة التي تترتّب على الفرق الموجود بين هذه الأقسام خصوصاً في حنث النذر إذا تعلّق على عنوان عام، فإنّه لو نذر أحد مثلًا على أن يترك التدخين فإن كان الملحوظ فيه كلّ فرد من أفراد التدخين مستقلًا (أي على نحو العام الافرادي) يتحقّق الحنث بتعداد كلّ من الأفراد التي تحقّق في الخارج، ولا يوجب حنثه بالنسبة إلى فرد حنث سائر الأفراد، وإن كان الملحوظ المجموع من حيث المجموع (أي على نحو العام المجموعي) فله حنث واحد يحصل بالتدخين ضمن أي فرد من الافراد ويسقط سائر الافراد عن الوجوب، وإن كان الملحوظ ترك التدخين على نحو العام البدلي يحصل

الوفاء بترك فرد من الأفراد ويتحقّق الحنث إذا أتى بجميع الأفراد.

بقي هنا امور

الأمر الأوّل: في أنّ تفاوت هذه الأقسام الثلاثة هل هو باعتبار الحكم أو باعتبار ذات انوار الأصول، ج 2، ص: 76

العام؟ ذهب المحقّق النائيني رحمه الله إلى أنّ التفاوت يكون باعتبار الحكم لا بحسب الذات، والنتيجة عدم إمكان تصوّر هذه الأقسام قبل تصوّر الحكم، وذهب بعض إلى أنّ التفاوت بحسب الذات وإنّ لنا ثلاث تصوّرات مختلفة قبل ورود الحكم.

أقول: الصحيح هو الأوّل، لأنّ العام في جميع هذه الأقسام بمعنى واحد وهو الشمول، وهذا المعنى موجود في الثلاثة على وزن واحد، والتفاوت يحصل بتصوّر الحكم المتعلّق به ولو إجمالًا، حتّى أنّ من يتوهّم أنّه يتصوّر كلّ واحد منها مستقلًا يتصوّر ابتداءً (وبنحو الإجمال) حكماً ثمّ بملاك التفاوت في أقسام ذلك الحكم يقسّم العام إلى أقسامه الثلاثة كما يظهر عند التأمّل، والشاهد على ذلك أنّا نقوّم التفاوت بين العام الاستغراقي والعام المجموعي بوحدة الطاعة والعصيان في أحدهما وتعدّدهما في الآخر، وتعدّد الطاعة والعصيان ووحدتهما تترتّبان على استغراقيّة الحكم ومجموعيته.

إن قلت: كيف؟ ولكلّ واحد منها لفظ غير ما للآخر، مثل كلمة «أي» للعموم البدلي وكلمة «كلّ» للعموم الاستغراقي.

قلت: نعم ولكنّه أيضاً بملاحظة اختلاف كيفية تعلّق الأحكام لأنّه لا يمكن تطرّق هذه الأقسام إلّابهذه الملاحظة، كما يكون كذلك في باب الحروف، فإنّ الواضع فيه وضع الألفاظ لمعانيها بملاحظة الأحكام المختلفة التي تتعلّق بها كما لا يخفى.

الأمر الثاني: قال المحقّق النائيني رحمه الله: «لا يخفى أنّ في عدّ القسم الثالث (العموم البدلي) من أقسام العموم مسامحة واضحة، بداهة أنّ البدليّة تنافي العموم فإنّ متعلّق الحكم في العموم البدلي ليس إلّافرداً واحداً، أعني به الفرد المنتشر وهو ليس بعام، نعم

البدليّة عامّة، فالعموم إنّما هو في البدليّة لا في الحكم المتعلّق بالفرد على البدل» «1».

أقول: لا يصحّ التفكيك بين البدليّة ومتعلّق الحكم، لأنّ المتعلّق في العموم البدلي هو نفس البدليّة لا شي ء آخر، وبالنتيجة يكون لمتعلّق الحكم هنا أيضاً شمول، لكن شمول كلّ شي ء بحسبه، وهو في هذا العموم كفايّة إتيان المأمور به ضمن أيّ فرد من الأفراد، ولا وجه لأن نتوقّع تلوّنه في جميع الأشياء بلون واحد.

انوار الأصول، ج 2، ص: 77

إن قلت: إذاً لا فرق بين العام البدلي والمطلق.

قلنا: الفرق بينهما إنّ الشمول والبدليّة في الأوّل يستفاد من اللفظ وهو لفظ «أيّ» مثلًا، وأمّا في المطلق فالشمول فيه إنّما يستند إلى مقدّمات الحكمة كما لا يخفى.

الأمر الثالث: إذا شكّ في أنّ المراد من العموم هل هو استغراقي أو مجموعي كما إذا نذر على أن يترك التدخين مثلًا ثمّ شكّ في أنّه نذر على نهج العموم الاستغراقي أو المجموعي قال المحقّق النائيني رحمه الله: إنّ الأصل يقتضي كونه استغراقياً لأنّ العموم المجموعي يحتاج إلى اعتبار الامور الكثيرة أمراً واحداً، ليحكم عليها بحكم واحد وهذه عناية زائدة تحتاج إفادتها إلى مؤونة زائدة.

والجواب عنه يتمّ بذكر أمرين:

الأوّل: إنّ المؤونة الزائدة في خصوص أحدهما دون الآخر تتصوّر فيما إذا كان أحد العامّين لا بشرط والآخر بشرط لا كما أنّه كذلك في المطلق والمقيّد. وأمّا إذا كان أحدهما بشرط شي ء والآخر بشرط لا فالعناية الزائدة موجودة في كليهما كما لا يخفى، وفي ما نحن فيه نحتاج في العموم الاستغراقي أيضاً إلى لحاظ كلّ فرد من الأفراد مستقلًا عن غيره، أي لحاظ كلّ فرد من الأفراد في العموم الاستغراقي مشروط بعدم لحاظ الغير معه فيكون بشرط لا.

وإن شئت قلت: إنّه

مشروط بشرط الاستقلال، فيكون هو أيضاً بشرط شي ء، فلا فرق بين الاستغراقي والمجموعي في هذه الحيثيّة، والنتيجة حينئذٍ إجمال الدليل وعدم إمكان التمسّك بالاصول اللفظيّة، نعم يتصوّر الشكّ هذا بالنسبة إلى لفظ «كلّ» في اللغة العربيّة حيث إنّه فيها مشترك بين المجموعي والاستغراقي بخلافه في اللغة الفارسيّة حيث وضع فيها بإزاء كلّ واحد من المعنيين لفظ خاصّ، فوضع لفظ «همه» للعام المجموعي ولفظ «هو» للعام الاستغراقي، نعم قد يستعمل لفظ «همه» للافرادي أيضاً.

مضافاً إلى أنّ كلمة «كل» في لغة العرب في الاستغراقي أكثر من استعمالها في المجموعي، ولعلّ كثرة الاستعمال هذه توجب ظهوراً لها في العموم الاستغراقي، والشاهد على الكثرة ملاحظة استعمالات هذا اللفظ في القرآن الكريم وهي بالغة إلى ثلاثمائة وخمس وعشرين (325) مرّة فإنّه استعمل في جميع الموارد إلّانادراً في العموم الاستغراقي كما لا يخفى على المتتبّع فيها، وبهذا يظهر إمكان التمسّك بأصل لفظي في المقام لكن لا كما ذهب إليه المحقّق النائيني رحمه الله انوار الأصول، ج 2، ص: 78

بل بأن نقول: إنّ لفظ «كلّ» صار حقيقة في العام الاستغراقي ولابدّ لاستعماله في المجموعي إلى نصب قرينة، وحين الشكّ فيها نرجع إلى معناه الحقيقي وهو العموم الاستغراقي.

الثاني: أنّ ما أفاده قدس سره يتصوّر فيما إذا كان الدالّ على العموم لفظاً من ألفاظ العموم، أمّا إذا استفدنا العموم من دليل لبّي فلا يمكن التمسّك بأصل لفظي وحينئذٍ إذا شككنا في أنّ العموم استغراقي أو مجموعي يكون المرجع هو الأصل العملي، وقد توهّم بعض أنّه هو أصل البراءة لأنّ الشكّ في المقام يرجع إلى الشكّ في الشرطيّة والجزئيّة (فهو في الواقع شكّ في اشتراط الجميع بالجميع) والأصل فيهما هو البراءة كما قرّر في محلّه.

لكن الإنصاف

أنّ الأصل في مثل هذه الموارد قاعدة الاشتغال لأنّ البراءة تجري فيما إذا كان في البين قدر متيقّن وشككنا في وجوب الزائد عنه، وأمّا في المقام فيكون أصل تعلّق الوجوب بجميع الأفراد يقينياً وإنّما الشكّ في كيفية التعلّق، كما إذا شككنا في شهر رمضان مثلًا في أنّ كلّ يوم من أيّامه يكون الصّيام فيه واجباً مستقلًا أو يكون مشروطاً بإتيان الباقي فيكون المجموع واجباً واحداً؟ مع كون أصل تعلّق الوجوب بكلّ فرد يقينياً، فحينئذٍ الأصل هو قاعدة الاشتغال لا البراءة كما لا يخفى.

هذا إذا كان العبد قادراً على إتيان الجميع، أمّا إذا كان قادراً على بعض دون بعض من بداية الأمر كما إذا قال المولى أكرم العلماء وكان الإكرام واجباً موسّعاً والعبد لا يقدر على إكرام الجميع من أوّل الأمر فالأصل هو البراءة، لأنّه إن كان الوجوب على نهج العام المجموعي يكون التكليف ساقطاً، وإن كان استغراقياً يكون وجوب البعض المقدور عليه ثابتاً، فيصير الشكّ بالنسبة إلى وجوب البعض الآخر بدويّاً، والأصل عندئذ هو البراءة، وأمّا إذا كان قادراً على الجميع من البداية فطرأ العجز بعد ثبوت التكليف فالأصل هو الاستصحاب إذا لم يصل البعض غير المقدور إلى حدّ يوجب خروج موضوع المستصحب عن الوحدة العرفيّة وكانت وحدة الموضوع محفوظةً.

الأمر الثالث: في الفرق بين العام والمطلق

ما هو الفرق بين العام والمطلق مع أنّ المطلق أيضاً ينقسم إلى قسمين: إطلاق شمولي استغراقي وإطلاق شمولي بدلي، والأوّل نحو قوله تعالى: «أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ» والثاني كقولك «أكرم عالماً»؟

المشهور بين الأعلام كما عرفت أنّ التفاوت بينهما أنّ العام يستفاد الشمول فيه من اللفظ، وأمّا في المطلق فيستفاد الشمول من مقدّمات الحكمة، نعم قد خالف في ذلك في التهذيب بعد أن نقل هذا الفرق من

بعض الأعاظم ومنع عن ذلك أشدّ المنع، وحاصل كلامه: إنّ العام والمطلق يفترقان حقيقة ولهما مفهومان متفاوتان لأنّ العام يشمل جميع الأفراد، وأمّا المطلق فليس له شمول بل هو عبارة عن أنّ تمام موضوع الحكم هو الطبيعة لا بشرط ولا ينظر فيه إلى الفرد أصلًا، ففي قولك «أعتق رقبة» يكون النظر كلّه إلى طبيعة الرقبة فقط من دون ملاحظة أفرادها، نعم يلاحظ الفرد ويتوجّه إليه لانطباق الطبيعة عليه.

أقول: هيهنا نكتتان يجب الالتفات إليهما:

إحداهما: إنّ الطبيعة الملحوظة في كلامه هل هي الطبيعة الموجودة في الذهن أو الطبيعة الموجودة في الخارج؟ فإن كان المقصود الطبيعة الموجودة في الذهن فهي ليست مطلوبة للمولى بلا إشكال، وإن كان المراد الموجودة في الخارج فيلاحظ الفرد حينئذٍ وينظر إليه لا محالة كما لا يخفى.

ثانيهما: إنّا لا نفهم معنى الانطباق في كلامه، فإمّا أن يكون الفرد الذي تنطبق عليه الطبيعة مأموراً به أو لا يكون، والأوّل يستلزم الحكم بأنّ الطبيعة إنّما لوحظت بما هي مرآة إلى الخارج لا بما هي هي، والثاني يستلزم كون الطبيعة بما هي هي مقصودة، وهو كماترى، لأنّ الطبيعة بما هي هي مع قطع النظر عن وجودها في الخارج لا تكون منشأً للأثر ولا تترتّب عليها المصالح والمفاسد حتّى يريدها المولى أو يكرهها ويأمر بها أو ينهي عنها.

الأمر الرابع: في أنّ للعموم صيغة تخصّه
اشارة

ويستدلّ له بالتبادر فإنّه لا إشكال في أنّ المتبادر من ألفاظ من قبيل لفظ «كلّ» العموم.

انوار الأصول، ج 2، ص: 80

ويمكن أن يستدلّ له أيضاً بحكمة الوضع فبما أنّ الحكمة في وضع الألفاظ رفع الحاجات اليوميّة للناس فلا بدّ من وضع لفظ أو ألفاظ تدلّ على العموم لأنّ من جملة تلك الحاجات الحاجة إلى لفظ يدلّ على مقصود عام.

أضف إلى ذلك:

أنّ الخصوص ليس له حدّ خاص ومرتبة معيّنة كي يمكن الالتزام بوضع هذه الألفاظ لذلك الحدّ، بل إنّه يؤدّى ويستفاد من طريق تخصيص العام فلا يمكن بيان الخاصّ بدون بيان العام، إذن فلا بدّ من وضع ألفاظ للعام لكي يخصّص ويصير طريقاً إلى بيان الخاصّ.

واستدلّ للخصم أي لوضع هذه الألفاظ للخاصّ بوجهين عقليين.

الأوّل: أنّ إرادة الخصوص ولو في ضمن العموم معلومة بخلاف العموم لاحتمال أن يكون المراد به الخصوص فقط، وجعل اللفظ حقيقة في المعنى المتيقّن أولى من جعله حقيقة في المعنى المحتمل.

الثاني: إنّه قد اشتهر التخصيص وشاع حتّى قيل «ما من عام إلّاوقد خصّ» الحاقاً للقليل بالعدم مبالغة، والظاهر يقتضي كون اللفظ حقيقة في الأشهر الأغلب تقليلًا للمجاز.

أقول: كلا الدليلين لا يخلو من لا الضعف جدّاً.

أمّا الأوّل: فلأنّ كون إرادة الخصوص متيقّناً لا يوجب اختصاص الوضع به بل لابدّ في وضع اللفظ من ملاحظة وجود الحاجة وعدمه، والإنصاف أنّ هذا الاستدلال بهذا البيان في غاية الضعف.

أمّا الدليل الثاني: فلأنّه يتفرّع ويتوقّف على إيجاب التخصيص التجوّز وكون العام مجازاً في الباقي وسيأتي خلافه، مضافاً إلى أنّه لو سلّمنا كونه مجازاً فلا محذور في كثره المجاز إذا كان المجاز بالقرينة وكان التخصيص مورداً للحاجة.

إلى هنا تمّت الامور التي كان ينبغي ذكرها مقدّمة وأمّا البحث عن مسائل العام والخاصّ فيقع ضمن فصول:

انوار الأصول، ج 2، ص: 81

الفصل الأول ألفاظ العموم
اشارة

وتنبغي الإشارة مقدّمة إلى أنّ البحث فيها لغوي لا اصولي لكن يذكر في علم الاصول لعدم استيفاء البحث عنه في محلّه.

وكيف كان قد وقع النزاع في ألفاظ العموم بين القوم بالنسبة إلى أربعة ألفاظ:

1- النكرة في سياق النفي أو النهي.

2- لفظة كلّ وما شابهه مثل جميع وكافّة وقاطبة.

3- الجمع المحلّى باللام

نحو «العلماء» و «الملائكة» و «المؤمنون».

4- المفرد المحلّى باللام مثل البيع والإنسان.

أمّا الأوّل: أمّا النكرة في سياق النفي أو النهي

فقد يقال بأنّها تدلّ على العموم ولعلّه هو المشهور، كقول المولى «لا تعتق رقبة» وكقولك «ما جاءني أحد»، واستدلّ له بأنّ مدلول النكرة هو طبيعة الأفراد، ولا تنعدم الطبيعة إلّا بانعدام جميع أفرادها، وذكر المحقّق الخراساني رحمه الله في بعض كلماته أنّ دلالتها على العموم موقوفة على أخذها مرسلة لا مبهمة، أي إذا أحرز إرسالها بمقدّمات الحكمة، فلا بدّ في استفادة العموم منها من إجراء مقدّمات الحكمة، واستشهد بأنّه لو لم تكن الطبيعة مطلقة بل كانت مقيّدة لم يقتض دخول النفي عليها عموم النفي لأفراد الطبيعة المطلقة، بل عموم أفراد ذلك المقدار المقيّد فقط، كما إذا قال «لا تكرم الفاسق الاموي» فإنّه لا يقتضي نفي وجوب الإكرام عن جميع أفراد طبيعة الفاسق بل عن أفراد الفاسق الأموي فقط، وكذلك لو كانت الطبيعة مهملة فلا يقتضي دخول النفي عليها إلّااستيعاب السلب للأفراد المتيقّنة لا مطلق الأفراد، مع انوار الأصول، ج 2، ص: 82

أنّه لو قلنا بعدم اشتراط دلالتها على العموم بالإرسال والإطلاق واستفادة العموم من النكرة من دون إجراء مقدّمات الحكمة لدلّت على العموم في صورة التقييد أو الإهمال أيضاً.

وقال في التهذيب ما حاصله: إنّ الطبيعة تنتفي بانتفاء الفرد كما توجد بوجوده ولا يحتاج انتفائها إلى انتفاء جميع الأفراد، لأنّ الفاظ النفي والنهي وضعت لنفي مدخولها أو الزجر عنه، والمدخول في ما نحن فيه هو اسم الجنس، وهو موضوع لنفس الطبيعة بلا شرط، فلا دلالة فيها على نفي الافراد التي هي المناط في صدق العموم، ولا وضع على حدة للمركّب، وقولنا:

اعتق رقبة. وقولنا: لا تعتق رقبة سيّان في أنّ الماهيّة متعلّقة للحكم وفي عدم الدلالة

على الأفراد وفي أنّ كلّاً منهما محتاج إلى مقدّمات الحكمة حتّى يثبت أنّ ما يليه تمام الموضوع، نعم هذا ممّا يقتضيه البرهان، وأمّا العرف فيفرّق بين الموردين ويحكم بأنّ المهملة توجد بوجود فرد مّا وتنعدم بعدم جميع الأفراد «1».

أقول: الأولى في كلّ بحث سلوك الطريق اللائقة به، ففي مباحث الألفاظ لابدّ من الرجوع إلى التبادر والمتفاهم العرفي لا إلى وجوه فلسفيّة وتدقيقات عقليّة، وكذلك لابدّ من ملاحظة تراكيبها كما تلاحظ مفرداتها، وفي المقام يجب الفات النظر إلى تركيب قول العربي بعد أن سرق ماله مثلًا: «لم يبق منه شي ء» أو قوله تعالى حكاية قول بلقيس: «ما كنت قاطعة أمراً حتّى تشهدون) أو كلمة «لا إله إلّااللَّه» وهكذا قوله «ولا تضاروهنّ ...» فهل يتبادر منها العموم أو لا؟ الإنصاف أنّ تركيب النكرة في سياق النفي أو النهي في أمثال هذه التراكيب يتبادر منه العموم من دون حاجة إلى مقدّمات الحكمة، كما يشهد له الوجدان أيضاً.

أمّا الثاني: لفظة كلّ وما شابهها

فقد يقال فيها أيضاً أنّ دلالتها على العموم واستيعاب المدخول يتمّ بمعونة مقدّمات الحكمة المحرزة بها سعة المدخول وإرساله، واستشهد لذلك بعدم دلالتها في صورة تقييد مدخولها على أزيد من المقدار المقيّد فقولك: «أكرم كلّ رجل عالم» يدلّ على إكرام الرجال العدول فقط لا مطلق الرجال.

انوار الأصول، ج 2، ص: 83

وقد يقال بأنّها ظاهرة في العموم من دون حاجة إلى مقدّمات الحكمة وهو الصحيح كما قال به في المحاضرات- ولنعم ما قال-: «إنّ لفظة «كلّ» أو ما شاكلها تدلّ بنفسها على إطلاق مدخولها وعدم أخذ خصوصيّة فيه ولا يتوقّف ذلك على إجراء المقدّمات، ففي مثل قولنا «أكرم كلّ رجل» تدلّ لفظة «كلّ» على سراية الحكم إلى جميع من ينطبق عليه الرجل من

دون فرق بين الغني والفقير والعالم والجاهل وما شاكل ذلك، فتكون هذه اللفظة بيان على عدم أخذ خصوصيّة وقيد في مدخولها» «1».

أمّا الثالث: الجمع المحلّى باللام

فاستدلّ لدلالته على العموم بالتبادر أوّلًا، وبوجه عقلي ثانياً، وهو أنّ الجمع له عرض عريض ومصاديق كثيرة، واللام للتعريف، ولا إشكال في أنّ المتعيّن من مصاديق الجمع ومراتبه إنّما هو أقصى المراتب، وغيره لا تعيّن له حتّى أدنى المراتب، ونتيجة ذلك أن لا يستفاد العموم لا من اللام ولا من نفس الجمع بل يستفاد من تعريف الجمع بأقصى مراتبه.

إن قلت: إنّ أدنى المراتب وهو الثلاث أيضاً متعيّن.

قلنا: بل إنّه نكرة بالنسبة إلى ما ينطبق عليه من الأفراد، ولذلك يعقل السؤال في قولنا:

«جاءني ثلاث نفرات» بقولك: «أي ثلاث نفرات؟» حيث يمكن صدقه على كلّ ثلاثة ثلاثة من الأفراد خلافاً لأقصى المراتب، فالمتعيّن في الخارج بحيث لا يكون مردّداً بين شيئين أو أشياء إنّما هو مجموع الأفراد دون غيره من مراتب الجمع.

أقول: أمّا الوجه العقلي فيمكن النقاش فيه بما مرّ من عدم تطرّق الوجوه العقليّة والتحليل العقلي في مباحث الألفاظ كما ذكرنا آنفاً أيضاً بل لابدّ فيها من ملاحظة ما يتبادر منها عرفاً.

هذا أوّلًا.

وثانياً: أنّ المرتبة العليا من مراتب الجمع لا بشرط بالنسبة إلى التعريف والتنكير، فلا يصدق عليها إنّها معرفة أو نكرة لأنّ المقسم للمعرفة والنكرة هو اسم الجنس المفرد كما لا يخفى، فلا يقال مثلًا أنّ «كلّ عالم» أو «جميع العلماء» معرفة أو نكرة.

انوار الأصول، ج 2، ص: 84

أمّا التبادر فهو تامّ مقبول فلا يبعد تبادر العموم من الجمع المحلّى باللام كما لا إشكال في إرادة الجنس منه بمؤونة القرينة في كثير من الموارد، كقولنا: «سَلِ العلماء ما شئت» أو «اختر المؤمنين للُاخوّة» أو

«شارك الأخيار» حيث إنّ تناسب الحكم والموضوع فيها يقتضي أن لا يكون السؤال عن جميع العلماء واختيار جميع المؤمنين للُاخوّة ومشاركة جميع الأخيار. كما لا يخفى.

وعلى أي حال المتبادر من الجمع المحلّى باللام في صورة فقد القرينة هو العموم ولا حاجة فيه إلى إجراء مقدّمات الحكمة.

أمّا الرابع: المفرد المحلّى باللام

فقال بعض بدلالته على العموم، ويستدلّ لها أوّلًا: باتّصافه أحياناً بالجمع كقوله: «أهلك الناس الدرهم البيض والدينار الصفر».

وثانياً: بوقوعه مستثنى منه كقوله تعالى: «إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا ...».

وثالثاً: ما مرّ في الجمع المحلّى باللام من أنّ اللام للتعريف، والمعرفة هي أقصى المراتب.

واجيب عنه: بأنّ التوصيف بالجمع في موارد معدودة محدودة لا ينافي عدم كونه حقيقة في الجمع لأنّ الاستعمال أعمّ من الحقيقة والمجاز، وهكذا وقوعه مستثنى منه في بعض الموارد، وأمّا الوجه الثالث: فقد عرفت بطلانه في الجمع المحلّى باللام فكيف بالمفرد، والإنصاف أنّه لا يستفاد من المفرد المحلّى باللام- لولا وجود القرينة- عموم.

الفصل الثاني حجّية العام المخصّص في الباقي

وهي مسألة يكثر الابتلاء بها، لأنّ العمومات غالباً مخصّصة مع أنّ رحى الاجتهاد تدور على العمل بها فيشكل الأمر لو لم يكن العام المخصّص حجّة في الباقي.

وفيها ثلاثة أقوال:

الأوّل: ما ذهب إليه المشهور من الإماميّة كما أنّ الظاهر ذهاب المشهور العامّة إليه وهو كون العام حجّة في الباقي مطلقاً سواء كان المخصّص متّصلًا أم منفصلًا.

الثاني: عدم الحجّية مطلقاً كما نسب إلى بعض العامّة.

الثالث: التفصيل بين المتّصل والمنفصل فيكون حجّة في الأوّل دون الثاني.

ثمّ إنّ هذه المسألة مبنيّة على مسألة اخرى لابدّ من تقديمها عليها، وهي «هل العام حقيقة في الباقي فيكون حجّة فيه بلا إشكال أو لا؟» فنقول: قد نقل فيها صاحب الفصول ثمانية أقوال، ولا يهمّنا ذكرها بتمامها إلّاثلاثة منها، وهي القول بالحقيقة مطلقاً، والقول بالمجاز مطلقاً، والقول بالتفصيل بين المتّصل والمنفصل وكونه حقيقة في الأوّل ومجازاً في الثاني.

والأوّل هو ما ذهب إليه كثير من المتأخّرين، واستدلّ له بأنّ التخصيص يكون في الإرادة الجدّية لا الإرادة الاستعماليّة ولا إشكال في أنّ المدار في الحقيقة والمجاز هي الإرادة

الاستعماليّة.

توضيح ذلك: ذهب المحقّق الخراساني رحمه الله وجماعة اخرى ممّن تبعه إلى أنّ للمتكلّم في كلّ كلام إرادتين إرادة جدّية وإرادة استعماليّة، وهما تارةً تتوافقان واخرى تتخالفان (وإن كان قد يتوهّم في بدو النظر أنّ للمتكلّم إرادة واحدة) ويستكشف هذا من الكنايات في الجمل الإخباريّة، ومن الأوامر الإمتحانيّة في الجمل الإنشائيّة حيث إنّ في كلّ واحد منهما توجد

انوار الأصول، ج 2، ص: 86

إرادتان إرادة استعماليّة وإرادة جدّيّة، ففي الكنايات إذا قيل مثلًا «زيد كثير الرماد» نرى بوضوح وجود إرادتين لأنّ كلّ واحد من لفظي «زيد» و «كثير الرماد» استعمل في معناه الحقيقي بلا شكّ، لكنّه لم يردّه المتكلّم جدّاً كما هو المفروض، بل المراد الجدّي منهما هو سخاوة زيد، فالإرادة الاستعماليّة تعلّقت بما وضع له اللفظ واستعمل فيه، والإرادة الجدّية تعلّقت بشي ء آخر خارج عن دائرة الوضع والاستعمال، وهو سخاوة زيد، فتخالف الإرادتان وإفترقتا، وكذلك في الأوامر الإمتحانيّة، لأنّ الطلب الظاهري فيها تعلّق بذبح إسماعيل مثلًا في قصّة إبراهيم عليه السلام، لكن المراد الجدّي فيها هو إمتحان إبراهيم عليه السلام كما لا يخفى.

وبالجملة، إنّ هيهنا ثلاث نكات لابدّ من الالتفات إليها والتوجّه بها:

الاولى: إنّ الأصل الأوّلي العقلائي اللفظي في باب الألفاظ هو تطابق الإرادتين وقد سمّي هذا بأصالة الجدّ، ولا إشكال فيه.

الثانية: إنّه لا تختلف الإرادتان إلّالنكتة وداعٍ يدعو إليه.

الثالثة: إنّ المدار في الحقيقة والمجاز هو الإرادة الاستعماليّة لا الجدّية، ولذلك يعدّ الاستعمال في الكنايات استعمالًا حقيقياً، لأنّ الإرادة الاستعماليّة فيها تتعلّق بالمعنى الموضوع له كما مرّ، والتصرّف إنّما وقع في الإرادة الجدّية، وهذا هو الفرق بينها وبين المجازات بناءً على مذاق المشهور من أنّ المجاز إنّما هو في الكلمة لا في الأمر العقلي الذي هو

المختار.

إذا عرفت هذا فاعلم: قد ذهب المحقّق الخراساني رحمه الله إلى كون العام حقيقة في الباقي مطلقاً سواء كان المخصّص متّصلًا أم منفصلًا، أمّا في المتّصل فاستدلّ بأنّه إذا كان المخصّص متّصلًا بالعام تستعمل أداة العموم حينئذٍ فيما هو معناها الحقيقي من استغراق تمام أفراد المدخول، غاية الأمر إنّ دائرة المدخول مضيّقة من جهة التقييد، فلا يتحقّق إخراج بالنسبة إلى أداة العام لكي نبحث في أنّه هل هو حقيقة في الباقي أو لا؟

وأمّا في المنفصل فاستدلّ بأنّه وإن تحقّق فيه الإخراج بالنسبة إلى أداة العام إلّاأنّ ظهورها في العموم يكون دليلًا على استعمالها في العموم لا في الخصوص، أي تعلّقت الإرادة الاستعماليّة بالعموم، ويكون الخاصّ قرينة على إرادة الخصوص لبّاً وجدّاً، وما تعلّقت بالخصوص إنّما هو الإرادة الجدّية فقط، والمدار في الحقيقة والمجاز هو الإرادة الاستعماليّة لا الجدّية (انتهى).

وأورد عليه المحقّق النائيني رحمه الله: بأنّ «الإرادة الاستعماليّة إن اريد بها إرادة إيجاد المعنى انوار الأصول، ج 2، ص: 87

البسيط العقلاني باللفظ بحيث كان اللفظ والإرادة مغفولين عنهما حين الاستعمال، فهذه بعينها هي الإرادة الجدّية التي بها يتقوّم استعمال اللفظ في معنى مّا، وإن اريد بها الإرادة الهزليّة المقابلة للإرادة الجدّية والداعية إلى إرادة إيجاد المعنى باللفظ فهي وإن كانت لا تنافي استعمال اللفظ في معناه الموضوع له لوضوح أنّ الاستعمال الحقيقي لا يدور مدار كون الداعي إلى الاستعمال هو خصوص الإرادة الجدّية إلّاأنّه لا يعقل الالتزام بكون الداعي إلى استعمال العمومات الواردة في الكتاب والسنّة في معانيها هي الإرادة الهزليّة» «1».

ثمّ إنّه تصدّى لحلّ المسألة بطريق آخر يرجع بالمآل إلى ما أفاده المحقّق الخراساني رحمه الله من تعدّد الدالّ والمدلول، فقال: «إنّ أداة العموم لا تستعمل

إلّافي ما وضعت له كما أنّ مدخولها لم يستعمل إلّافيما وضع له، أمّا عدم استعمال المدخول إلّافي نفس ما وضع له فلأنّه لم يوضع إلّا لنفس الطبيعة المهملة الجامعة بين المطلقة والمقيّدة، ومن الواضح أنّه لم يستعمل إلّافيها وإفادة التقييد بدالّ آخر لا تنافي استعمال اللفظ في نفس الطبيعة المهملة كما هو ظاهر، وأمّا عدم استعمال الأداة إلّافيما وضعت له فلأنّها لا يستعمل أبداً إلّافي تعميم الحكم لجميع أفراد ما اريد من مدخولها، غاية الأمر أنّ المراد من مدخولها ربّما يكون أمراً وسيعاً واخرى يكون أمراً ضيّقاً، وهذا لا يوجب فرقاً في ناحية الأداة أصلًا» «2».

أقول: يرد عليه:

أوّلًا: إنّ كلا المعنيين اللذين ذكرهما في تفسير المراد من الإرادة الاستعماليّة غير مقصود في المقام، بل المراد منها هنا أنّ اللفظ تارةً يستعمل في معناه الموضوع له ويريد به المتكلّم تفهيم المخاطب لتمام معناه من دون أن تكون إرادته ناشئة عن كون الحكم المجعول على عنوان ذلك اللفظ ثابتاً له واقعاً بل هي ناشئة من غرض آخر، واخرى يكون الغرض تفهيمه، وهذا مقدّمة له.

ثانياً: ما مرّ في باب دلالات الألفاظ من الإشكال المبنائي، وهو أنّ دلالة اللفظ ترجع إلى الحكاية والعلّامة لا إلى الإيجاد والإنشاء إلّافي بعض الألفاظ مثل أداة التمنّي والترجّي كما مرّ بيانه هناك. (وفي كلامه إشكال آخر ستأتي الإشارة إليه).

انوار الأصول، ج 2، ص: 88

وأمّا ما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمه الله (من الفرق بين المتّصل والمنفصل وأنّ العام في المخصّص المتّصل باقٍ على عمومه واستعمل في استغراق تمام الأفراد وإنّما تحقّق التقييد والإخراج بالنسبة إلى خصوص المدخول، وإنّ في المنفصل وإن حصل الإخراج بالنسبة إلى العام إلّاأنّه تعلّق بالإرادة الاستعماليّة لا الجدّية).

فيرد عليه:

أوّلًا: أنّه

حصر لتخصيص المتّصل في الوصف وما يشبهه من القيود الراجعة إلى الموضوع، مع أنّ التخصيص بكلمة «إلّا» أيضاً تخصيص متّصل وهو قيد للحكم لا للموضوع.

نعم، إنّها ترجع إلى الموضوع في خصوص الأعداد كما مرّ، ففي قوله تعالى: «فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً» يرجع قيد «إلّا خمسين» إلى كلمة «الف سنة» لا إلى «لبث» وأمّا في غير الأعداد فلا إشكال في رجوعه إلى الحكم، والشاهد على ذلك تصريحهم بأنّ كلمة «إلّا» بمعنى «استثنى» لا بمعنى كلمة «غير» حتّى يكون وصفاً.

إن قلت: لو كان الأمر كذلك فما هو الحكم في العام المخصّص بكلمة إلّا؟

قلنا: لا فرق بينه وبين التخصيص بالمنفصل، فكما أنّ التخصيص بالمنفصل إخراج عن خصوص الإرادة الجدّية، والعام فيه باقٍ على عمومه بالنسبة إلى الإرادة الاستعماليّة فكذلك في التخصيص المتّصل بكلمة «إلّا».

إن قلت: لو كان القيد راجعاً إلى خصوص الإرادة الجدّية، والعام استعمل في عمومه واستغراقه فلماذا لم يبيّن المولى مراده الجدّي ابتداءً؟ وما هو الداعي في استعماله العام فيما لم يردّه جدّاً؟

قلنا: يتصوّر لذلك فوائد كثيرة:

الاولى: كونه في مقام ضرب قاعدة للتمسّك بها في الموارد المشكوكة.

الثانية: عدم إمكان بيان الباقي بدون الاستثناء لعدم عنوان أو اسم له، كأن لا يكون للقوم غير زيد عنوان يختصّ بهم كي يرد الحكم عليه، فلا بدّ حينئذٍ من استثناء القوم بكلمة «إلّا زيد».

الثالثة: التأكيد وبيان الشأن الذي تقتضيه البلاغة والفصاحة أحياناً كما في قوله تعالى:

«فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً» فالفرق بين هذا التأكيد الذي يوجد في التعبير

انوار الأصول، ج 2، ص: 89

ب «الف سنة» وبين قولنا «فلبث فيهم تسعمائة وخمسين سنة» واضح.

وثانياً: الحقّ عدم تعارف التخصيص بالمنفصل بين العرف والعقلاء، بل إنّهم يحملونه على التناقض،

فإذا قال أحد: «بعت جميع كتبي»، ثمّ قال بعد مدّة: «لم أبع كتابي هذا وذاك» أو قال:

«أدّيت جميع ديوني» ثمّ قال بعد مدّة: «بقى عليّ كذا وكذا من الديون» يحكم العرف بأنّه نقض كلامه وكذب فيه.

ويشهد لما ذكرنا بعض الرّوايات التي عومل فيها العام والخاص المنفصل معاملة التناقض والتعارض، وهو مكاتبة محمّد بن عبداللَّه بن جعفر الحميري إلى صاحب الزمان عليه السلام- حيث ورد فيها أنّه قال عليه السلام: «في الجواب عن ذلك حديثان أمّا أحدهما فإذا انتقل من حاجة إلى اخرى فعليه التكبير، وأمّا الآخر فإنّه روى أنّه إذا رفع رأسه من السجدة الثانية وكبّر ثمّ جلس ثمّ قام فليس عليه في القيام بعد القعود تكبير، وكذلك التشهّد الأوّل يجري هذا المجرى، وبأيّهما أخذت من باب التسليم كان صواباً» «1».

فإنّ ذيل هذا الخبر وهو جملة «وبأيّهما أخذت ...» يدلّ على أنّ الإمام عليه السلام عامل الحديثين معاملة المتعارضين مع أنّهما من قبيل العام والخاصّ.

إن قلت: كيف اكتفى الإمام عليه السلام في مقام الجواب بنقل روايتين متعارضتين مع أنّه منبع الأحكام وهو عالم بواقعها؟

قلت: كان عليه السلام في مقام إعطاء قاعدة كلّية يمكن تطبيقها في سائر موارد التعارض بين الخبرين عند عدم إمكان الوصول إليه في غيبته.

هذا- لكن لا يخفى أنّ للشارع المقنّن المشرّع كسائر العقلاء في مقام التقنين عرفاً خاصّاً لا يعامل العام والخاصّ معاملة التعارض، لأنّ تدريجيّة بيان الأحكام والقوانين تقتضي أن يبيّنها أوّلًا بشكل العام أو المطلق ثمّ يأتي بعد ذلك بالمخصّص أو المقيّد في ظرفه الخاصّ، ولا يحكم العرف والعقلاء عند ملاحظة هذه السيرة وهذا المقام بالتناقض والتنافي كما لا يخفى.

إن قلت: فكيف حكم به الإمام عليه السلام في مكاتبة الحميري؟

قلنا:

لخصوصيّة في المستحبّات، وهي أنّ العمومات والخصوصات فيها تحمل على بيان انوار الأصول، ج 2، ص: 90

مراتب الاستحباب وتعدّد المطلوب.

هذا كلّه في البحث عن أنّ العام هل هو مجاز في الباقي أو حقيقة حيث ذكرناه بعنوان المقدّمة لمسألة اخرى، وهي أنّ العام هل هو حجّة في الباقي أو لا؟

فنرجع إلى البحث فيها ونقول- ومن اللَّه نستمدّ التوفيق والهداية-: أمّا بناءً على مبنى المحقّق الخراساني رحمه الله من رجوع التخصيص في المتّصل إلى تقييد المدخول ومن تعلّقه بخصوص الإرادة الاستعماليّة في المنفصل فالأمر واضح، لأنّه لا إشكال حينئذٍ في تطابق الإرادتين بالنسبة إلى غير أفراد المخصّص فيكون العام حجّة فيها، وأمّا بناءً على مبنى المحقّق النائيني رحمه الله من تقييد المدخول في المتّصل والمنفصل كليهما فالأمر أوضح كما لا يخفى، وكذلك بناءً على ما اخترناه من بقاء الإرادة الجدّية على حالها في كلا القسمين وتخصيص خصوص الإرادة الاستعماليّة، حيث إنّ العام على هذه المباني ليس مجازاً في الباقي، فلا إشكال حينئذٍ في كونه حجّة فيه.

أمّا إذا قلنا بكونه مجازاً فيه فقال بعض أيضاً بأن العام حجّة في الباقي، ولإثباته طريقان:

الأوّل: طريق المشهور وهو أنّ الباقي أقرب المجازات، فيحمل اللفظ عليه إذا علم أنّه لم يستعمل في معناه الحقيقي.

الثاني: طريق شيخنا الأعظم الأنصاري رحمه الله وهو أنّ دلالة العام على كلّ فرد من أفراده غير منوطة بدلالته على فرد آخر من أفراده، فإذا لم يدلّ على فرد لخروجه عنه بدليل خاصّ لم يستلزم عدم دلالته على بقيّة الأفراد ولو كانت دلالته على الباقي مجازاً، فإنّ كونه مجازاً ليس من ناحية دخول فرد أجنبي بل بسبب خروج فرد من أفراده، فالمقتضي لحمل العام على الباقي موجود والمانع مفقود أيضاً،

لأنّ المانع ليس إلّاالمخصّص، ولا مخصّص إلّابالنسبة إلى ما علم خروجه بدليل خاصّ، ولو فرض الشكّ في وجود مانع آخر غير المخصّص المعلوم فهو مرفوع بالأصل، فإذا كان المقتضي وهو دلالة العام موجوداً والمانع عنه وهو المخصّص الآخر مفقوداً ولو بالأصل- وجب الحمل على الباقي.

أقول: حاصل كلامه قدس سره بالنسبة إلى وجود المقتضي هو أنّ هنا دلالات متعدّدة، كما عبّر عنه المحقّق العراقي رحمه الله بأنّ الحكايات متعدّدة بتعدّد المحكي وإن كان الحاكي واحداً.

واستشكل عليه بأنّ تعدّد المحكي والمدلول لا يوجب تعدّد الحكاية والدلالة بعد كون انوار الأصول، ج 2، ص: 91

الحاكي والدالّ واحداً، فلفظ العام بعنوان واحد وحكاية واحدة يحكي عن الكثير، فإذا علم أنّ اللفظ لم يستعمل في معناه بدليل منفصل (كما هو المفروض) لم تبق حكاية بالنسبة إلى غيره «1».

وأمّا طريق المشهور فاجيب عنه بأنّ مجرّد الأقربيّة إلى المعنى الحقيقي لا يوجب تعيّناً للمجاز الأقرب.

لكن يمكن الدفاع عنه بأنّ المراد من الأقربيّة الأقربيّة لأجل كثرة استعمال لفظ العام وغلبته في الباقي بحيث يوجب ظهور العام وتعيّنه في خصوص الباقي من بين المجازات والخصوصات.

انوار الأصول، ج 2، ص: 93

الفصل الثالث التمسّك بالعام في الشبهات المفهوميّة للمخصّص

ربّما يكون المخصّص مجملًا مفهوماً وهو على أربعة أقسام، فتارةً يكون متّصلًا بالعام، واخرى يكون منفصلًا عنه، وكلّ منها تارةً يكون إجماله لأجل الدوران بين الأقل والأكثر بأن علم في مثل «أكرم العلماء إلّاالفسّاق» أو «لا تكرم فسّاقهم» إنّ مرتكب الكبيرة فاسق قطعاً، ولم يعلم أنّ المصرّ على الصغيرة أيضاً فاسق أو لا؟ واخرى يكون إجماله لأجل الدوران بين المتباينين بأن لم يعلم في مثل «أكرم العلماء إلّازيداً» أو «لا تكرم زيداً» إنّ زيداً هل هو زيد بن خالد أو زيد بن بكر؟

والمحقّق الخراساني رحمه الله

قد فصّل بين هذه الأربعة وتبعه في تهذيب الاصول وقال بعدم جواز التمسّك بالعام في ثلاثة منها، وهي صورتا المتّصل وصورة المتباينين في المنفصل، وبجوازه في خصوص المخصّص المنفصل إذا دار أمره بين الأقل والأكثر.

ولا يخفى أنّ المراد من جواز التمسّك وعدمه أو سراية الإجمال إلى العام وعدمها هو سرايته بالنسبة إلى خصوص الفرد المشكوك وفي دائرة الشكّ لا بالنسبة إلى غيرها كما هو واضح.

واستدلّ المحقّق الخراساني رحمه الله لما ذهب إليه من التفصيل بوجهين: أحدهما: بالنسبة إلى المخصّص المتّصل، والثاني: بالنسبة إلى المنفصل.

أمّا في المتّصل سواء كان إجماله لأجل الدوران بين الأقل والأكثر أو بين المتباينين فاستدلّ لعدم الجواز بأنّ العام حينئذٍ ممّا لا ظهور له في الفرد المشكوك أصلًا فضلًا عن أن يكون حجّة فيه إذا كان المجمل المتّصل بالعام ممّا يمنع عن انعقاد الظهور للعام إلّافيما علم خروجه عن المخصّص على كلّ حال.

وأمّا في المنفصل إذا كان إجماله لأجل الدوران بين المتباينين فاستدلّ له بأنّ العام وإن كان انوار الأصول، ج 2، ص: 94

ظاهراً في كليهما لانفصال المخصّص عنه وانعقاد الظهور له في الجميع ولكن لا يكون حجّة في شي ء منهما لأنّهما من أطراف العلم الإجمالي، وأصالة التطابق بين الإرادتين بالنسبة إلى أحدهما تعارض أصالة التطابق الجاريّة في الآخر، كما أنّه لا يكون الخاصّ أيضاً حجّة في شي ء منهما، فاللازم حينئذٍ هو الرجوع إلى الأصل العملي ومقتضاه مختلف باختلاف المقامات.

أمّا إذا كان إجماله لأجل الدوران بين الأقل والأكثر فدليله على جواز الرجوع إلى العام فيه أنّ العام ظاهر في القدر الزائد وحجّة فيه، أمّا ظهوره فيه فواضح لجهة انفصاله عن الخاصّ، وأمّا حجّيته فيه فلأنّ الثابت من مزاحمة الخاصّ لحجّية ظهور العام إنّما

هو في المتيقّن منه لا في غيره، فيكون العام حجّة فيما لا يكون الخاصّ حجّة فيه، وتكون أصالة التطابق جارية فيما لم يثبت خروجه عن الإرادة الجدّية.

وهنا بيان آخر ذكره في التهذيب لعدم جواز التمسّك بالعام في المخصّص المتّصل بكلا قسميه، وهو «أنّ الحكم في العام الذي استثنى منه أو اتّصف بصفة مجملة، متعلّق بموضوع وحداني عرفاً، فكما أنّ الموضوع في قولنا «أكرم العالم العادل» هو الموصوف بما هو كذلك فهكذا قولنا: «أكرم العلماء إلّاالفسّاق منهم» وحينئذٍ كما لا يجوز التمسّك بالعام كقولنا: «لا تكرم الفسّاق» إذا كان مجمل الصدق بالنسبة إلى مورد، كذلك لا يجوز في العام المتّصف أو المستثنى منه بشي ء مجمل بلا فرق بينهما» «1».

فملخّص كلامه: أنّ عنوان العام في المتّصل يتبدّل إلى عنوان آخر، فعنوان العام في مثل «أكرم العلماء إلّاالفسّاق» يتبدّل إلى عنوان «العالم غير الفاسق» ولا إشكال في عدم جواز التمسّك بالعام في الشبهة المفهوميّة لنفس العام.

أقول: وفي كلامه مواقع للنظر:

الأوّل: ما عرفت سابقاً من أنّ الاستثناء بإلّا يرجع إلى تقييد الحكم لا إلى تقييد الموضوع.

الثاني: أنّه قد مرّ أيضاً مختارنا في الاستثناء بكلمة «إلّا» وقلنا إنّ التصرّف فيها أيضاً تصرّف في الإرادة الجدّية فقط، فالتخصيص بها وبالمخصّص المنفصل سيّان في الحكم وفي عدم تبدّل عنوان العام إلى عنوان مضيّق.

الثالث: ما أفاده شيخنا الحائري رحمه الله في الدرر من «أنّه يمكن أن يقال: إنّه بعد ما صارت انوار الأصول، ج 2، ص: 95

عادة المتكلّم جارية على ذكر التخصيص منفصلًا عن كلامه فحال المنفصل في كلامه حال المتّصل في كلام غيره، فكما أنّه يحتاج في التمسّك بعموم كلام سائر المتكلّمين إلى إحراز عدم المخصّص المتّصل إمّا بالقطع وإمّا بالأصل، كذلك يحتاج

في التمسّك بعموم كلام المتكلّم المفروض إلى إحراز عدم المخصّص المنفصل، فإذا احتاج العمل بالعام إلى إحراز عدم التخصيص بالمنفصل فاللازم الإجمال فيما نحن فيه لعدم إحراز عدمه لا بالقطع ولا بالأصل، أمّا الأوّل فواضح، وأمّا الثاني فلما مضى من أنّ جريانه مخصوص بمورد لم يوجد ما يصلح لأن يكون مخصّصاً» «1».

نعم أنّه عدل عنه في هامشه «بأنّ الإنصاف خلاف ما ذكرنا، ووجهه أنّه لو صحّ ما ذكر لما جاز تمسّك أصحاب الأئمّة بكلام إمام زمانهم لأنّه كالتمسّك بصدر كلام متكلّم قبل مجي ء ذيله فحيث جرى ديدنهم على التمسّك، دلّ ذلك على استقرار ظهور الكلام وعدم كونه مع كلام الإمام اللاحق كصدر الكلام الواحد في المجلس الواحد مع ذيله».

أقول: الحقّ هو ما ذكره أوّلًا لنفس ما أفاده، وأمّا الإشكال المذكور في الذيل فيمكن دفعه بأنّ المراد من عدم جواز التمسّك بالعام عدمه بالنسبة إلى أهل الزمان المتأخّر عن صدور الخاصّ، أي يوجب صدور الخاصّ سقوط العام عن الحجّية بالإضافة إلى ذلك الزمان، وأمّا بالنسبة إلى أهل الزمان السابق على الخاصّ فيمكن أن يستكشف من ديدن الأصحاب على التمسّك إذن الشارع وحكمه بجواز التمسّك موقتاً إلى أن يرد الخاصّ.

وبعبارة اخرى: استقرار سيرة أصحاب الأئمّة وديدنهم على التمسّك بالعام قبل صدور الخاصّ لا يدلّ على عدم سراية إجمال الخاصّ إلى العام وجواز التمسّك به مطلقاً، بل يمكن أن يكون لجهة إذن الشارع بالعمل به موقتاً لمصلحة تدريجيّة بيان الأحكام.

وإن أبيت عن هذا وقلت بعدم سراية الإجمال في المخصّص المنفصل الدائر أمره بين الأقلّ والأكثر فلا أقلّ من قبول سراية الإجمال في المخصّص المتّصل بكلمة «إلّا»، لما مرّ من عدم تبدّل عنوان العام فيه وانعقاد ظهوره في العموم

وأنّ التخصيص يرجع إلى خصوص الإرادة الجدّية فقط.

انوار الأصول، ج 2، ص: 97

الفصل الرابع التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية للمخصّص
اشارة

وله ثمرات فقهيّة مهمّة تظهر في الأبواب المختلفة من الفقه نشير إلى بعضها:

منها: ما يظهر في أبواب الضمانات إذا دار الأمر بين كون اليد عادية وكونها غير عادية، فهل يمكن التمسّك لإثبات الضمان بعموم «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه» الذي خرج منه اليد الأماني أو لا؟

ومنها: ما هو معنون في أبواب النكاح من أنّه إذا شكّ في أنّ الشبه المرئي من بعيد رجل أو امرأة أو من المحارم أو غيرهم فهل يجوز الرجوع إلى عموم قوله تعالى «قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ» «1»

الذي استثنى منه الجنس الموافق والمحارم أو لا؟

ومنها: ما ذكروه في أبواب الطهارة من أنّه إذا دار الأمر بين كون الماء كرّاً فلا يتنجّس بملاقاته للنجس وكونه قليلًا فيتنجّس، فهل يمكن التمسّك بعموم «الماء إذا لاقى النجس يتنجّس» الذي يصطاد من مجموع الأدلّة الواردة في ذلك الباب وخرج منه الماء الكرّ أو لا؟

ثمّ إنّه يأتي هنا أيضاً الصور الأربعة المذكورة في الشبهة المفهوميّة وأمثلتها واضحة، وقد نسب إلى المشهور جواز التمسّك بالعام في هذا الفرض، ولعلّ مقصودهم خصوص صورة دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر فيما إذا كان المخصّص منفصلًا، وذهب المحقّق الخراساني رحمه الله إلى عدم الجواز مطلقاً.

والظاهر أنّه لا كلام فيما إذا كان المخصّص متّصلًا سواء كان أمره دائراً بين الأقلّ والأكثر أو المتباينين، وكذلك إذا كان منفصلًا وأمره دائراً بين المتباينين فإنّه لا فرق بين ما نحن فيه انوار الأصول، ج 2، ص: 98

والشبهة المفهوميّة للمخصّص في عدم جواز التمسّك بالعام.

إنّما الكلام في الصورة الرابعة وهي ما إذا كان الخاصّ منفصلًا وكان أمره دائراً بين الأقلّ والأكثر، فاستدلّ لعدم

جواز التمسّك حينئذٍ بوجوه ثلاثة:

الوجه الأوّل: ما ذكره المحقّق الخراساني رحمه الله وحاصله: أنّ الخاصّ المنفصل إنّما يزاحم حجّية العام في خصوص الأفراد المعلومة دخولها في الخاصّ كمن علم فسقه، ولا يزاحمه في الأفراد المشكوكة الفسق فيكون العام حجّة فيما لا يكون الخاصّ حجّة فيه، ثمّ أجاب عنه: بأنّ الخاصّ كما لا يكون حجّة في المصاديق المشكوكة فكذلك العام لا يكون حجّة فيها فلا بدّ فيها من الرجوع إلى الأصل العملي وذلك لأنّ الخاصّ المنفصل وإن لم يصادم أصل ظهور العام بل ظهوره باقٍ على حاله حتّى في الأفراد المعلومة الفسق فضلًا عن المشكوكة، لكنّه يتعنون بعنوان عدمي فيتبدّل عنوان العالم مثلًا إلى عنوان العالم غير الفاسق، وهذا يوجب لا محالة قصر حجّيته بما سوى الفاسق، عليه فالفرد المشتبه كما لا يعلم إندراجه تحت الخاصّ ولا يمكن التمسّك به لإجراء حكمه عليه وهو حرمة الإكرام فكذلك لا يعلم إندراجه تحت العام كي يمكن التمسّك به لإجراء حكم العام عليه وهو وجوب الإكرام.

إن قلت: هذا ينافي مختاركم سابقاً من أن تعنون العام يجري في خصوص المخصوص المتّصل، وأمّا المنفصل فيوجب التصرّف في الإرادة الجدّية فحسب.

قلنا: إنّه كذلك، لكنّ المقصود من عدم تعنون العام في المنفصل عدم تعنونه بما هو هو لا بما هو حجّة، فالمصداق المشتبه وإن كان مصداقاً للعام بما هو هو إلّاأنّه لم يعلم أنّه من مصاديقه بما هو حجّة لاختصاص حجّيته بغير الفاسق أو لا؟

الوجه الثاني: أنّ العام بعمومه الأفرادي يدلّ على وجوب إكرام كلّ واحد من العلماء في مثال «أكرم العلماء» ويدلّ بعمومه الأحوالي على سراية الحكم إلى كلّ حالة من حالات الموضوع، ومن جملة حالاته كونه مشكوك الفسق والعدالة، وقد علم

من قوله: «لا تكرم الفسّاق من العلماء» خروج معلوم الفسق منهم، فمقتضى أصالة العموم بقاء المشكوك على حاله.

والجواب عنه واضح، لأنّ العام يشمل أفراده الواقعيّة كما أنّ الخاصّ أيضاً يشمل أفراده الواقعيّة، كما أنّه كذلك في جميع الألفاظ فإنّها ناظرة إلى عناوينها الواقعيّة، فالموضوع للعام في انوار الأصول، ج 2، ص: 99

المثال إنّما هو العالم الواقعي خرج منه الفاسق الواقعي، وحينئذٍ لا يصحّ أن يحكم بوجوب إكرام المصداق المشتبه مع احتمال كونه فاسقاً في الواقع.

ولو قيل: إنّ العام لوحظ فيه الواقع والظاهر معاً، أي أنّه شامل للعناوين الواقعيّة والظاهرية (كعنوان معلوم الفسق ومشكوك الفسق) كليهما.

قلنا: إنّه يستلزم الجمع بين اللحاظين، وهما لحاظ ظرف الواقع للحكم الواقعي ولحاظ ظرف الشكّ للحكم الظاهري، وهو ممنوع، لا لأنّه محال لما مرّ منّا في البحث عن جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى من أنّ الجميع بين اللحاظين ممكن بل واقع وذكرنا له شواهد، بل لأنّه إنّما يجري فيما إذا قامت القرينة عليه، وإلّا فالظاهر استعمال اللفظ في معنى واحد وكون اللحاظ واحداً، والألفاظ وضعت للعناوين الواقعيّة مع قطع النظر عن حالة العلم والجهل والشكّ.

الوجه الثالث: التمسّك بقاعدة المقتضي والمانع، وبيانه: أنّ العام مقتضٍ للحكم والخاصّ مانع عنه، ففي موارد الاشتباه يؤول الأمر إلى الشكّ في وجود المانع بعد إحراز المقتضي والأصل عدمه فلا بدّ من الحكم بوجود المقتضي (بالفتح).

وقد يستشمّ التمسّك بهذا من كلمات المحقّق اليزدي رحمه الله في العروة الوثقى في كتاب النكاح فيما إذا دار الأمر بين كون الشبه المرئي من البعيد رجلًا أو امرأة ومن المحارم أو غيرهم فراجع.

ويمكن الجواب عنه:

أوّلًا: بأنّه لا دليل على كبرى القاعدة عقلًا ونقلًا كما سوف يأتي في مبحث الاستصحاب إن

شاء اللَّه.

وثانياً: بمنع الصغرى، لأنّا لا نسلّم كون العام والخاصّ من قبيل المقتضي والمانع، بل ربّما يكونان من قبيل الاقتضاء واللّاقتضاء أو من قبيل المقتضيين لحكمين متخالفين.

أقول: وقد تلخّص من جميع ما ذكرنا إلى هنا أنّه لم نجد دليلًا تامّ الدلالة على جواز التمسّك بالعام في الشبهة المصداقيّة للمخصّص، هذا من جانب، ومن جانب آخر نشاهد موارد عديدة في الفقه ظاهرها التمسّك بالعام في هذه الموارد التي أشرنا إلى بعضها في أوّل هذا الفصل، نعم هيهنا وجه رابع ووجه خامس على جواز التمسّك.

أمّا الوجه الرابع فحاصله أنّ الحجّة من قبل المولى لا تتمّ إلّابعد ثبوت الكبرى والصغرى معاً، والموجود فيما نحن فيه كبريان معلومتان: إحديهما قوله «أكرم كلّ عالم» والثانية قوله: «لا

انوار الأصول، ج 2، ص: 100

تكرم الفسّاق من العلماء» والظهور وإن إنعقد لكلّ من العامين، ولكن فرديّة زيد مثلًا للأوّل معلومة وللثاني مشكوك فيها، فينضمّ هذه الصغرى المعلومة إلى الكبرى الاولى فينتج وجوب إكرام زيد، وليس في البين حجّة تزاحمها، إذ الفرض أنّ فرديّة زيد لموضوع الكبرى الثانية مشكوك فيها، ومجرّد الكبرى لا تكون حجّة ما لم ينضمّ إليها صغرى معلومة.

فالعام حجّة في الفرد المشكوك فيه لا يزاحمه حجّة اخرى.

وأجاب عنه بحقّ في المحاضرات بما حاصله: «أنّ الحجّة قد فسّرت بتفسيرين: أحدهما: أن يراد بها ما يحتجّ به المولى على عبده وبالعكس، وهو معناها اللغوي والعرفي. وثانيهما: أن يراد بها الكاشفية والطريقية، يعني أنّ المولى جعله كاشفاً وطريقاً إلى مراده الواقعي الجدّي، فيحتجّ على عبده بجعله كاشفاً ومبرزاً عنه، هذا من ناحية ومن ناحية اخرى أنّ الحجّة بالتفسير الأوّل تتوقّف على إحراز الصغرى والكبرى معاً، وإلّا فلا أثر لها أصلًا، وأمّا الحجّة بالتفسير الثاني فلا

تتوقّف على إحراز الصغرى، ضرورة أنّها كاشفة عن مراد المولى واقعاً وطريق إليه سواء أكان لها موضوع في الخاج أم لم يكن.

وإن شئت قلت: إنّ الحجّة بهذا التفسير تتوقّف على إحراز الكبرى فحسب، لأنّ التمسّك بالعام إنّما هو من ناحية أنّه حجّة وكاشف عن المراد الجدّي لا من ناحية أنّه مستعمل في العموم إذ لا أثر له ما لم يكن المعنى المستعمل فيه مراداً جدّاً وواقعاً، والمفروض أنّ المراد الجدّي هنا غير المراد الاستعمالي حيث إن المراد الجدّي مقيّد بعدم الفسق في المثال دون المراد الاستعمالي، وعليه فإذا شكّ في عالم أنّه فاسق أو لا فبطبيعة الحال شكّ في انطباق موضوع العام عليه وعدم انطباقه كما هو الحال بالإضافة إلى الخاصّ، يعني أنّ نسبة هذا الفرد المشكوك بالإضافة إلى كلّ من العام بما هو حجّة والخاصّ نسبة واحدة فكما لا يمكن التمسّك بالخاصّ بالإضافة إلى هذا الفرد فكذلك لا يمكن التمسّك بالعام بالإضافة إليه «1».

أمّا الوجه الخامس فهو يختصّ بما إذا كان لسان العام لسان المنع وكشفنا من العام أنّ طبيعة الحكم على المنع حيث إنّه حينئذٍ استقرّ بناء العقلاء على الحكم بالمنع في المصاديق المشكوكة كما يستفاد من العمومات الواردة في باب الوقف أنّ طبيعة الوقف على المنع عن بيع الموقوفة

انوار الأصول، ج 2، ص: 101

وخرج منه صورتان فحسب: صورة الضرورة، وصورة ما إذا سقطت الموقوفة عن حيّز الانتفاع فلا بدّ من الحكم بالمنع في مصاديقه المشكوكة.

وهذا بيان تامّ يظهر منه وجه ما ذكره المحقّق اليزدي رحمه الله في كتاب العروة، المسألة 0 5- من كتاب النكاح حيث قال: «فإن شكّ في كونه مماثلًا أو لا، أو شكّ في كونه من المحارم النسبية أو لا

فالظاهر وجوب الاجتناب لأنّ الظاهر من آية وجوب الغضّ أنّ جواز النظر مشروط بأمر وجودي وهو كونه مماثلًا أو من المحارم، فمع الشكّ يعمل بمقتضى العموم لا من باب التمسّك بالعموم في الشبهة المصداقية ... فليس التخصيص في المقام من قبيل التنويع حتّى يكون من موارد أصل البراءة بل من قبيل المقتضي والمانع» فقد صرّح بأنّ الحكم بالحرمة في صورة الشكّ ليس من باب التمسّك بالعام في الشبهة المصداقيّة بل إنّه من باب قاعدة المقتضي والمانع، مع أنّها ليست بحجّة ولا دليل عليها كما مرّ، لكن يظهر بالبيان المذكور إمكان المساعدة معه في الشقّ الثاني من كلامه، أي صورة الشكّ في كونه من المحارم، لأنّا نستفيد من الأدلّة أنّ الطبيعة الأوّليّة في المرأة حرمة النظر خلافاً للصورة الاولى، أي صورة الشكّ في كونه مماثلًا أو غير مماثل لأنّ طبيعة الإنسان ليست على المنع عن النظر إليه، والنتيجة حينئذٍ أنّ الظاهر وجوب الاجتناب في الصورة الثانية لا الاولى بل المرجع في الصورة الاولى الأصل العملي وهو فيها البراءة.

ومن هنا يظهر أيضاً أنّ نسبة التمسّك بالعام في الشبهة المصداقيّة للمخصّص إلى المشهور في مثل هذه الموارد لعلّها نسبة غير صحيحة لأنّها تكون من قبيل ما يكون طبيعته على المنع، نظير أبواب الضمانات ونظير ما وقع مورداً للبحث والنزاع في يومنا هذا من السمكة المسمّاة ب «اوزون برون» فلو فرض عدم إحراز الفلس لها وشككنا في كونها ذا فلس أم لا قلنا: يستفاد من الأدلّة أنّ طبيعة حيوان البحر على المنع من أكله وخرج منه السمك إذا كان له فلس، أي إذا أحرز له الفلس، وأمّا الصورة المشكوكة فالقاعدة تقتضي حرمة الأكل فيها.

فثبت ممّا ذكر أنّ الحقّ هو

ما ذهب إليه أكثر المحقّقين المتأخّرين من عدم جواز التمسّك بالعام في الشبهة المصداقيّة للمخصّص إلّافي الموارد التي تكون طبيعة الحكم فيها على المنع.

ثمّ إنّ شيخنا العلّامة الأنصاري رحمه الله قد فصّل في المقام بين ما إذا كان المخصّص لفظيّاً وما إذا كان لبّياً، فعلى الأوّل لا يجوز التمسّك بالعام في الشبهات المصداقيّة دون الثاني، مثلًا إذا قال انوار الأصول، ج 2، ص: 102

المولى: «أكرم جيراني» وقطع العبد بأنّه لا يريد إكرام من كان عدوّاً له منهم كانت أصالة العموم باقيّة على الحجّية بالنسبة إلى المصاديق المشكوكة.

وتبعه في ذلك المحقّق صاحب الكفاية قدس سره في خصوص ما إذا كان منفصلًا وقال ما ملخّصه:

أنّ المخصّص اللبّي إن كان كالمخصّص اللفظي المتصّل فلا يجوز التمسّك بالعام في المصداق المشكوك، لأنّ المخصّص حينئذٍ يكون مانعاً عن انعقاد ظهور العام في العموم، وإن كان كالمنفصل اللفظي فلا يكون مانعاً عن انعقاد ظهوره في العموم ولكنّه يفترق عنه في نقطة، وهي أنّ المخصّص المنفصل إذا كان لفظياً فهو مانع عن التمسّك بالعام في الفرد المشتبه، وأمّا إذا كان لبّياً فهو غير مانع عنه، والنكتة في ذلك هي أنّ الأوّل يوجب تقيّد موضوع العام بعدم عنوان المخصّص من باب تحكيم الخاصّ على العام، وأمّا المخصّص اللبّي فإنّه لا يوجب تقييد موضوع العام إلّابما قطع المكلّف بخروجه عن تحته، فإنّ ظهور العام في العموم حجّة، والمفروض عدم قيام حجّة اخرى على خلافه إلّافيما قطع المكلّف بخروجه، وأمّا فيما لا قطع بالخروج عن تحته من الموارد المشكوكة فلا مانع من التمسّك بعمومه فيها.

أقول: لا إشكال في تصوّر الصور الأربعة المذكورة للشبهة المصداقيّة للمخصّص في ما نحن فيه أيضاً، وأمّا الشبهة المفهوميّة للمخصّص فلا تتصوّر

هنا لأنّ المفروض أنّ المخصّص لبّي ولا يكون لفظاً حتّى يمكن أن يكون فيه إجمال، والحقّ فيه عدم جواز التمسّك بالعام في جميع الأقسام الأربعة ولا فرق بين المتّصل والمنفصل، أمّا في المتّصل فلعدم انعقاد ظهور للعام حينئذٍ، وأمّا في المنفصل فلأنّه لا فرق في التنويع وتعنون العام بعنوان عدمي بين إن كان المخصّص لفظياً أو لبّياً فإذا قال المولى مثلًا: أكرم العلماء، فلا فرق بين أن يصرّح بنفسه بعداً أنّه: لا تكرم فسّاقهم، أو علم من الخارج أنّه لا يجب إكرام فسّاق العلماء، فعلى كلا التقديرين يتعنون العام لبّاً وواقعاً بعنوان عدمي، أي أكرم العلماء غير الفسّاق، فلا وجه لتفريق المحقّق صاحب الكفاية بين المخصّص اللبّي واللفظي وقوله بعدم جواز التمسّك في اللفظي مطلقاً في جميع الصور الأربعة وبجواز التمسّك في المنفصل من اللبّي.

نعم، يمكن استثناء مورد، وهو ما إذا كان المتكلّم في مقام تطبيق الكبرى على الصغرى ولاحظ الموضوع بتمام أفراده وأحرز صدق عنوان العام على جميع الأفراد، ففي مثل هذه الموارد نرجع إلى العام في مورد الشكّ، إلّاأنّ الظاهر أنّه لا مصداق له في الأحكام الشرعيّة،

انوار الأصول، ج 2، ص: 103

نعم قد مثّلوا له بقوله عليه السلام: «لعن اللَّه بني اميّة قاطبةً» وقد علمنا من الخارج أنّه لا يجوز لعن المؤمن شرعاً فيعلم من العموم وعدم التخصيص في لسان الدليل أنّ الإمام عليه السلام كان في مقام التطبيق وأنّه ليس في بني اميّة مؤمن لا يجوز لعنه، وبه يعرف أيضاً أنّ المصداق المشتبه للخاصّ المردّد بين الإيمان وعدمه ليس بمؤمن، ولكن الكلام في أنّ هذه الجملة هل هي من قبيل التطبيق والقضايا الخارجيّة أو ليس كذلك؟ مضافاً إلى أنّها ليس من الأحكام الشرعيّة

الكلّية.

بقي هنا شي ء:

وهو أنّه لو قلنا بجواز التمسّك بالعام في المخصّص اللبّي فهل يثبت الحكم فقط في المصداق المشكوك أو يثبت الحكم والموضوع معاً حتّى يترتّب على الموضوع سائر آثاره، كعدم جواز الدفن في مقبرة المسلمين في مثال «لعن اللَّه بني اميّة قاطبةً» (فإذا ثبت للفرد المشكوك مضافاً إلى جواز لعنه كونه كافراً فلا يجوز دفنه في مقبرة المسلمين)؟

قال بعض بثبوت الموضوع أيضاً لكونه مقتضى الصغرى والكبرى الموجودتين في المقام، أمّا الصغرى فهي: «هذا الفرد ممّن يجوز لعنه» وأمّا الكبرى فهي: «كلّ من يجوز لعنه لا يكون مؤمناً» فيستنتج أنّ هذا لا يكون مؤمناً فيترتّب عليه أحكامه.

لكن الإنصاف أنّه مشكل، لأنّ المراد من جواز اللعن مثلًا ليس جوازه في متن الواقع حتّى يحكم بكونه كافراً واقعاً بل الجواز حكم ظاهري فلا يثبت به الأمر الواقعي.

إن قلت: إنّ لوازم الأمارات ومثبتاتها حجّة.

قلنا: المختار في باب الأمارات أنّ مثبتاتها ليست بحجّة مطلقاً بل في خصوص ما إذا كان المولى بصدد بيان تلك اللوازم.

فظهر أنّ الثابت في المقام خصوص الحكم لا الموضوع والحكم معاً، إلّاإذا كان المولى في مقام التطبيق لأنّا نستكشف حينئذٍ أنّ المولى في قوله: «لعن اللَّه بني اميّة قاطبةً» مثلًا يرى عدم إيمان جميعهم حتّى عمر بن عبدالعزيز مثلًا.

تمّ الكلام في جواز التمسّك بالعام في الشبهات للمخصّص.

انوار الأصول، ج 2، ص: 104

تنبيهات التنبيه الأوّل: في إثبات أصل موضوعي يعيّن به حال الفرد المشتبه في المقام (فقد كان الكلام إلى هنا مفروضاً فيما إذا لم يكن هناك أصل موضوعي (كالاستصحاب) يعيّن به حال الفرد المشتبه حتّى يندرج تحت الخاصّ أو العام).

إذا كان للفرد المشتبه حالة سابقة كالعدالة أو الفسق في مثال «أكرم العلماء» يجري استصحابها فيثبت به

كونه عادلًا أو فاسقاً فيحكم بوجوب إكرامه أو حرمته بلا إشكال، وأمّا إذا لم يكن له حالة سابقة فتمسّك بعض حينئذٍ باستصحاب عدم النسبة من الأزل، وهو يسمّى باستصحاب العدم الأزلي كاستصحاب عدم القرشيّة، فهناك عام دلّ على أنّ المرأة تحيض إلى خمسين، وخاصّ دلّ على أنّ القرشيّة تحيض إلى ستّين، فإذا شكّ في امرأة أنّها قرشيّة أو غير قرشيّة فباستصحاب عدم النسبة بينها وبين قريش من الأزل تخرج المرأة من عنوان القرشيّة وتبقى تحت العام فيكون حيضها إلى خمسين.

إن قلت: أنّه معارض باستصحاب عدم النسبة بينها وبين غير قريش.

قلنا: إنّ النسبة بينها وبين غير قريش ممّا لا أثر له شرعاً كي يجري استصحاب عدمها، فيكون أحد الاستصحابين حجّة والآخر غير حجّة.

وقال المحقّق صاحب الكفاية بإمكان إحراز حال الفرد المشتبه بهذا الأصل في جميع الموارد إلّا ما شذّ، وهو ما إذا تبادل الحالتان ولم يعلم السابق من اللاحق فحينئذٍ لا يمكن استصحاب عدم النسبة بينه وبين الفسق من الأزل مثلًا بعد العلم الإجمالي بانتقاض عدم النسبة وتبدّله إلى الوجود قطعاً.

عدم حجّية استصحاب العدم الأزلي

أقول: الحقّ عدم حجّية استصحاب العدم الأزلي لورود إشكالات عديدة عليه:

الأوّل: (ولعلّه أهمّها) كون القضيّة السالبة بانتفاء الموضوع الصادقة هنا غير عرفيّة، فلا يصحّ عند العرف أن يقال مثلًا: «ليس لولدي ثوب» ثمّ يقال عند السؤال عن وجهه: «لأنّه ليس لي ولد» بل يحمل العرف هذا الكلام على الاضحوكة والمزاح، وبالجملة أنّ أدلّة

انوار الأصول، ج 2، ص: 105

الاستصحاب منصرفة عن مثل هذا عرفاً.

الثاني: ما سيأتي في مبحث الاستصحاب من اعتبار الوحدة بين القضيّة المتيقّنة والقضيّة المشكوكة موضوعاً ومحمولًا ونسبةً لعدم صدق مفهوم النقض (لا تنقض اليقين بالشكّ) بدونها، والقضيّتان في ما نحن فيه ليستا متّحدتين في

النسبة لأنّها في إحديهما سالبة بانتفاء الموضوع وفي الاخرى سالبة بانتفاء المحمول.

الثالث: ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله وعصارة كلامه ما ذكره في أوّل بيانه: أنّ الباقي تحت العام بعد التخصيص إذا كان هي المرأة التي لا يكون الانتساب إلى قريش موجوداً معها على نحو مفاد ليس التامّة، فالتمسّك بالأصل المذكور لإدراج الفرد المشتبه في الافراد الباقية وإن كان صحيحاً إلّاأنّ الواقع ليس كذلك، لأنّ الباقي تحت العام حسب ظهور دليله إنّما هي المرأة التي لا تكون قريشيّة على نحو مفاد ليس الناقصة، وعليه فالتمسّك بأصالة العدم لإثبات حكم العام للفرد المشكوك فيه غير صحيح، وذلك لأنّ العدم النعتي الذي هو موضوع الحكم لا حالة سابقة له على الفرض ليجري فيه الأصل، وأمّا العدم المحمولي الأزلي فهو وإن كان مجرى الأصل في نفسه إلّاأنّه لا يثبت به العدم النعتي الذي هو المأخوذ في الموضوع إلّابالأصل المثبت «1».

وأورد عليه بعض تلامذته في هامش أجود التقريرات بوقوع الخلط في كلام المحقّق بين مفاد ليس الناقصة والسالبة المحصّلة وأنّ الاستصحاب وإن لم يكن جارياً في الأوّل لعدم حالة سابقة له إلّاأنّه لا مانع من جريانه في القسم الثاني لوجود الحالة السابقة فيه، والثابت في ما نحن فيه هو السالبة المحصّلة لا ليس الناقصة، وحاصل ما أفاده لإثباته: أنّ الحكم الثابت للموضوع المقيّد بما هو مفاد كان الناقصة إنّما يكون ارتفاعه بعدم اتّصاف الذات بذلك القيد على نحو مفاد السالبة المحصّلة من دون أن يتوقّف ذلك على اتّصاف الذات بعدم ذلك القيد على نحو مفاد ليس الناقصة، فمفاد قضية «المرأة تحيض إلى خمسين إلّاالقرشيّة» وإن كان هو اعتبار وصف القرشيّة على وجه النعتية، في موضوع الحكم بتحيّض المرأة بعد

الخمسين إلّاأنّه لا يستدعي أخذ عدم القرشيّة في موضوع عدم الحكم بتحيّض المرأة بعد الخمسين على وجه انوار الأصول، ج 2، ص: 106

النعتية أعني به مفاد ليس الناقصة، وإنّما يستدعي أخذ عدم القرشيّة في ذلك الموضوع على نحو السالبة المحصّلة، فكلّ امرأة لا تكون متّصفة بالقرشيّة باقية تحت العام، وإنّما الخارج خصوص المتّصفة بالقرشيّة لا أنّ الباقي بعد التخصيص هي المرأة المتّصفة بعدم القرشيّة، فإذا شكّ في كون امرأة قرشيّة لم يكن مانع من التمسّك باستصحاب عدم القرشيّة الثابت لها قبل تولّد تلك المرأة في الخارج «1».

ولكن يرد عليه أيضاً أنّ التمسّك باستصحاب العدم النعتي في القسم الأوّل من كلامه لا محذور فيه من ناحية الإثبات، لأنّ اللازم العقلي الثابت هنا يكون من اللوازم العقليّة للشرائط التي لا إشكال في شمول أدلّة الاستصحاب لها بل مورد أخبار الاستصحاب من هذا القبيل، لأنّ اللازم في باب الطهارة تقيّد الصّلاة بها، وليس هو المستصحب بل المستصحب هو نفس الوضوء وتقيّد الصّلاة بها من اللوازم العقليّة له، وما نحن فيه من هذا القبيل، لأنّ تحيّض المرأة إلى خمسين مقيّد بعدم كونها من قريش، وتقيّدها بعدم القرشيّة يكون لازماً عقليّاً لعدم القرشيّة فإذا أثبتنا باستصحاب العدم الأزلي عدم القرشيّة يثبت تقيّد الموضوع- وهو المرأة- به قهراً بلا إشكال.

ثمّ إنّ الشيخ الحائري رحمه الله في حاشية الدرر حاول إثبات استصحاب العدم الأزلي ببيان آخر وهو: أنّه قد يستظهر من مناسبة الحكم والموضوع في بعض المقامات أنّ التأثير والفاعليّة ثابت للموضوع المفروغ عن وجوده عند اتّصافه بوصف كما في قضيّة «إذا بلغ الماء قدر كرّ لا ينجّسه شي ء» ولهذا لا يجري استصحاب عدم الكرّيّة من الأزل، وقد يستظهر من المناسبة المذكورة أنّ

التأثير ثابت لنفس الوصف، والموضوع المفروض وجوده إنّما اعتبر لتقوّم الوصف به كما في قوله عليه السلام: «المرأة ترى الدم إلى خمسين إلّاأن يكون قرشيّة» حيث كون الدم حيضاً إلى ستّين إنّما هي من ناحية التولّد من قريش لا أنّ المرأة لها هذه الخاصّية بشرط التولّد، فانتفاء هذا الوصف موجب لنقيض الحكم ولو كان بعدم الموضوع ولهذا يكون استصحاب العدم الأزلي نافعاً (انتهى) «2».

أقول: نحن لا نرى فرقاً بين المثالين، لأنّ في مثال القرشيّة أيضاً يكون وجود المرأة جزءاً

انوار الأصول، ج 2، ص: 107

للموضوع، فيكون الموضوع في الواقع «المرأة الموجودة غير القرشيّة» كما أنّه كذلك في جميع الموارد التي ثبت فيها شي ء لشي ء، أي في جميع أقسام القضيّة الموجبة، فلا فرق بين أن يكون الثابت وجوديّاً كما في الموجبة المحصّلة أو أمراً عدميّاً كما في الموجبة المعدولة نحو «زيد لا قائم» والموجبة السالبة المحمول نحو «زيد هو الذي ليس بقائم» حيث إن الصحيح- كما صرّح به المحقّق النائيني رحمه الله وصرّح به أيضاً في التهذيب- أنّ في جميع الموارد التي تعلّق فيها حكم على عدم شي ء، يكون العدم فيها هو العدم النعتي، أي لا يزال يرجع الاستثناء والتخصيص بعدم شي ء إلى الموجبة المعدولة المحمول لا السالبة التامّة ولا السالبة الناقصة، وإذاً لا يمكن لنا إجراء استصحاب العدم الأزلي في أيّ مورد من موارد التخصيص، فإنّ هذا بنفسه يعدّ إشكال آخر على استصحاب العدم الأزلي.

فتخلّص من جميع ما ذكرنا إلى هنا إنّه يرد على استصحاب العدم الأزلي امور ثلاثة سليمة عن الإشكال.

الأوّل: عدم تصوّر القضيّة السالبة بانتفاء الموضوع عند العرف، مع أنّ الأحكام الشرعيّة منزّلة على متفاهم العرف.

الثاني: عدم وجود الوحدة المعتبرة بين القضيّة المتيقّنة والمشكوكة.

الثالث: أنّ

التخصيص بعدم شي ء يرجع إلى القضيّة الموجبة المعدولة المحمول التي ثبوت شي ء فيها لشي ء يكون فرع ثبوت المثبت له.

بل يمكن أن يورد عليه إشكال آخر أيضاً، وهو أن نرفع اليد من ما ذكرنا سابقاً بعنوان الجواب عن إشكال معارضة استصحاب عدم القرشيّة مع استصحاب عدم كون المرأة غير قرشيّة، بأن نقول: يترتّب على كون المرأة غير قرشيّة أيضاً أثر شرعي وهو كون دمها دم الاستحاضة، فيجري استصحاب عدم كونها غير قرشيّة ويثبت عدم كون الدم دم استحاضة، فإنّ الاستصحاب كما يجري لإثبات حكم شرعي كذلك يجري لنفيه بلا إشكال، وبهذا تثبت المعارضة في استصحاب العدم الأزلي في جميع الموارد فلا يكون حجّة أصلًا.

هذا كلّه في البحث عن استصحاب العدم الأزلي وعدم تماميته.

التنبيه الثاني: في التمسّك بالاصول العمليّة، بعد فرض عدم إمكان التمسّك بالعام في الفرد المشتبه وبعد ما إذا لم يكن هناك أصل موضوعي يُدْرج الفرد المشتبه تحت الخاص أو العام انوار الأصول، ج 2، ص: 108

حيث إن الأصل العملي يجري في الحكم، والأصل الموضوعي يجري في الموضوع، فالثاني مقدّم على الأوّل لتقدّم الموضوع على الحكم.

وكيف كان، يختلف جريان الأصل العملي في الفرض المذكور باختلاف المقامات. فتارةً يكون الأصل هو البراءة عن الحكم التكليفي كما إذا شككنا في الوجوب وعدمه أو الحرمة وعدمها، أو البراءة عن الحكم الوضعي كما إذا شككنا في صحّة بيع العين الموقوفة وفساده أو شككنا في الضمان وعدمه، واخرى يكون الأصل هو التخيير كما إذا دار الأمر بين وجوب الفرد المشتبه وحرمته، وثالثة يكون الأصل هو الاستصحاب كما إذا شكّ المسافر في أنّه هل أقام في المحلّ ثلاثين يوماً من دون قصد الإقامة فيكون الواجب هو الإتمام، أو لا، فيكون الواجب القصر؟

وفرضنا عدم إمكان إجراء استصحاب الموضوع، فيجري حينئذٍ الاستصحاب الحكمي، وهو استصحاب وجوب القصر إلّاإذا لم تحرز وحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوكة، لأنّه قد تتغيّر الموضوع عند العرف فيكون الأصل حينئذٍ هو الاحتياط، كما إذا شكّت المرأة التي مضى عليها خمسون سنة هل أنّها قرشيّة أو لا؟ وقلنا بعدم حجّية استصحاب العدم الأزلي، فربّما يقال حينئذٍ أنّها لا يمكن لها استصحاب أحكام التحيّض لأنّ موضوع القضيّة المتيقّنة وهو المرأة قبل الخمسين غير موضوع القضيّة المشكوكة، وهو المرأة بعد الخمسين عند العرف، فيجب عليها الاحتياط بالجمع بين تروك الحائض وأحكام الاستحاضة.

فتلخّص من جميع ما ذكرنا إمكان جريان الاصول العمليّة كلّها بحسب المقامات المختلفة.

التنبيه الثالث: في جواز التمسّك بعموم وجوب الوفاء بالنذر وكلّ حكم آخر ثابت بعنوان ثانوي مثل وجوب إطاعة الوالد أو استحباب اجابة الأخ المؤمن ونحو ذلك في الشبهة المصداقية عند احتمال خروج مصداق عن العام تخصيصاً كما إذا قال مثلًا: أكرم العلماء ولا تكرم الفسّاق، وشككنا في عدالة زيد العالم، أو تخصّصاً كما إذا علمنا لزوم التوضّي بالماء فيكون الماء المضاف خارجاً تخصّصاً ثمّ شككنا في أنّ هذا الماء مطلق أو مضاف، فالنزاع لا يختصّ بصورة احتمال التخصّص كما يظهر من عبارة المحقّق الخراساني رحمه الله بل يجري عند احتمال التخصيص أو التخصّص.

وكيف كان، فقد يتوهّم إمكان التمسّك بعموم الوفاء بالنذر مثلًا إذا تعلّق بالتوضّي بذلك الماء أو تعلّق بإكرام زيد، فيستكشف بوجوب الإتيان به صحّة المتعلّق ورجحانه فيدخل الماء

انوار الأصول، ج 2، ص: 109

المشكوك في حكم الماء المطلق ويدخل مشكوك العدالة في حكم معلوم العدالة، وربّما يؤيّد ذلك بما ورد من صحّة الإحرام قبل الميقات والصّيام في السفر إذا تعلّق بهما النذر، لأنّه إذا صحّ

الإحرام قبل الميقات والصّوم في السفر بالنذر مع القطع ببطلانهما بدون النذر فصحّة الوضوء بالمائع المشكوك بالنذر مع الشكّ في بطلانه بدون النذر بطريق أولى.

وأجاب المحقّق الخراساني رحمه الله وغيره من الأعلام عن هذا بما حاصله: إنّ الحكم الثابت بالعناوين الثانويّة هل يكون مطلقاً أو يكون مقيّداً؟ فإن كان مقيّداً كما إذا كان وجوب الوفاء بالنذر مقيّداً برجحان متعلّقه، أي كان أحد الأحكام المتعلّقة بالأفعال بعناوينها الأوّليّة مأخوذاً في موضوع الحكم الثابت بالعناوين الثانويّة فلا يجوز التمسّك بعموم وجوب الوفاء بالنذر مثلًا لأنّ الحكم لا يثبت موضوع نفسه، بل لابدّ من إحراز الموضوع قبل تعلّقه، وإن كان الحكم مطلقاً، أي كان الوفاء بالنذر مثلًا واجباً مطلقاً سواء كان متعلّقه راجحاً أو كان حراماً، فحينئذٍ يقع التزاحم بين أدلّة المحرّمات وأدلّة الوفاء بالنذر، وتصل النوبة إلى الرجوع إلى المرجّحات، وعند عدمها يكون الحكم التخيير، وبعبارة اخرى: إنّ التمسّك بعموم «اوفوا» مثلًا فرع إحراز رجحان المتعلّق، فلو أحرز رجحانه وصحّته بعموم «أُوفوا» لزم الدور وهذا واضح.

أقول: هيهنا نكات ينبغي الالتفات إليها:

الاولى: أنّه كان ينبغي أن يستشكل في الصورة الاولى من المسألة، أي صورة التقييد، بأنّ التمسّك بعموم اوفوا بالنذر وكذلك التمسّك بعموم أدلّة سائر العناوين الثانويّة يكون من قبيل التمسّك بالعام في الشبهة المصداقيّة للمخصّص في العناوين الأوّليّة، فابتلى المتوهّم هنا بذلك الإشكال الذي مرّ بيانه فهو كرّ على ما فرّ منه.

الثانية: أنّه في الصورة الثانية وهي صورة عدم التقييد لا أقلّ من الانصراف، أي انصراف أدلّة الوفاء بالنذر إلى صورة الرجحان، ومع الغضّ عن الانصراف لا أقلّ من عدم الإطلاق والإجمال.

الثالثة: أنّ ما جاء به في كلامه من المؤيّدين في بابي الإحرام والصّيام يقع البحث فيهما

من جهات:

الجهة الاولى: من جهة عدم رجحان للمتعلّق فيهما.

انوار الأصول، ج 2، ص: 110

الجهة الثانية: من ناحية اعتبار قصد القربة.

الجهة الثالثة: من ناحية إرتباطهما بما نحن فيه.

أمّا الجهة الاولى: فقد اجيب عن الإشكال الوارد من ناحيتها بجوابين أشار إليهما في الجواهر والكفاية.

الجواب الأوّل: أن يكون ما دلّ على صحّتهما بالنذر مخصّصاً لما دلّ على اعتبار الرجحان في متعلّق النذر فيعتبر في متعلّقه الرجحان إلّافي هذين الموردين.

لكنّه غير تامّ لأنّه يوجب سقوط النذر عن ماهيّته لأنّه أمر عبادي عندنا يعتبر فيه التقرّب إلى اللَّه، ولا يعقل التقرّب بما ليس راجحاً، والحكم العقلي لا يقبل التخصيص والاستثناء كما أنّ عمومات أدلّة اعتبار الرجحان تؤيّد ذلك.

الجواب الثاني: أن يكون ما دلّ على صحّتهما بالنذر كاشفاً عن صيرورتهما راجحين بالنذر بعد ما لم يكونا راجحين ذاتاً.

إن قلت: المعتبر في باب النذر رجحان العمل قبل تعلّق النذر.

قلت: كلّا بل اللازم هو الرجحان حين العمل.

وأمّا الجهة الثانية: وهي الإشكال من ناحية قصد القربة فالجواب عنها متوقّف على الوجهين المذكورين آنفاً عند الجواب عن الإشكال في الجهة الاولى، فإن اخترنا الجواب الأوّل الذي ذهب إليه صاحب الجواهر من أنّ عمومات أدلّة اعتبار الرجحان خصّصت بهذين الموردين فلا يندفع الإشكال في ما نحن فيه ولا يتحقّق قصد القربة، ولا يكفي الأمر الناشى ء من قِبَل النذر لأنّه توصّلي.

وإن اخترنا الجواب الثاني، وهو تحقّق الرجحان مقارناً لتعلّق النذر، فالإشكال يرتفع لصيرورة المتعلّق بعد تعلّق النذر راجحاً محبوباً، وهو يكفي في التقرّب ولا حاجة إلى قصد الأمر.

أمّا الجهة الثالثة: فالإنصاف أنّه لا دخل للموردين في ما نحن فيه لأنّهما ليسا من قبيل التمسّك بعمومات العناوين الثانويّة لإثبات الموضوع وكشف حال الفرد وإنّما ثبتا لقيام دليل خاصّ يدلّ

عليهما، ولا يحصل بهما استقراء عقلي.

التنبيه الرابع: فيما إذا دار الأمر بين التخصيص والتخصّص، وبتعبير آخر: فيما إذا دار الأمر

انوار الأصول، ج 2، ص: 111

بين الخروج عن الموضوع والخروج عن الحكم، كما إذا علمنا بعدم وجوب إكرام زيد ولكن لا نعلم أنّه عالم فيكون خروجه من عموم «أكرم العلماء» تخصيصاً أو ليس بعالم فيكون خروجه من باب التخصّص، فإن كان خروجه من باب التخصيص، كان عنوان العالم منطبقاً عليه فيترتّب عليه سائر الأحكام والآثار المترتّبة على عنوان العالم، وإن كان من باب التخصّص فلا يترتّب عليه تلك الآثار، ومثال ذلك في الفقه كما ذكره في المحاضرات مسألة الملاقي لماء الاستنجاء حيث إنّه غير محكوم بالنجاسة إذا توفّرت فيه الشرائط التي ذكرت في محلّه، فحينئذٍ لا محالة يدور الأمر بين أن يكون خروجه عن هذا الحكم بالتخصّص أو بالتخصيص، يعني أنّ ما دلّ على طهارة الملاقي هل يكون مخصّصاً لعموم ما دلّ على انفعال الملاقي للماء النجس فيكون ماء الاستنجاء نجساً ويترتّب عليه سائر أحكام الشي ء النجس، أو يكون خروجه منه بالتخصّص، فيكون ماء الاستنجاء طاهراً ويترتّب عليه آثار الطهارة غير الوضوء والغسل؟

فيه خلاف بين الأصحاب، وقد اخترنا في التعليقة على العروة الوثقى للمحقّق اليزدي رحمه الله القول بالتخصيص وقلنا هناك: لعل العسر والحرج هما العلّة في هذا الحكم ولذا نقتصر من أحكام الطهارة على ما يندفع به العسر والحرج فقط.

وكيف كان، نحتاج لإثبات التخصّص في المقام إلى قبول أمرين:

أحدهما: جواز التمسّك بأصالة العموم (أصالة عدم التخصيص) لإثبات الموضوع أيضاً كما يجوز التمسّك بها لإثبات الحكم، مع أنّه ممنوع عندنا، فإنّا نقول: إنّها تجري لإثبات أصل الحكم فقط، وأمّا إذا كان الحكم واضحاً وشككنا في موضوعه، أي

شككنا في كيفية الحكم فلا يجري فيه دليل جواز التمسّك بالعام.

ثانيهما: أن تكون مثبتات الاصول والأمارات (وهي في المقام أصالة عدم التخصيص) حجّة، مع أنّ المختار فيها عدم حجّيتها إلّافيما إذا كان المولى ناظراً إلى بيان مثبتاتها ولوازمها، فتكون اللوازم العقليّة والعاديّة حينئذٍ حجّة كما في اللوازم الشرعيّة بالنسبة إلى خصوص ذلك المورد.

الفصل الخامس الكلام في مسألة وجوب الفحص وأنّه هل يجوز التمسّك بالعام قبل الفحص عن المخصّص أو لا؟
اشارة

والبحث فيه يقع في مقامين: المخصّص المتّصل والمخصّص المنفصل، حيث إن المخصّص المتّصل أيضاً داخل في البحث عندنا خلافاً لما ذكر في الكفاية والتهذيب.

المقام الأوّل: في المخصّص المنفصل

المشهور على عدم جواز الرجوع إلى العام قبل الفحص عنه وادّعى عليه الإجماع، وعليه عمل الفقهاء كلّهم (رضوان اللَّه عليهم) في أبواب الفقه، نظير عموم قوله تعالى: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» الذي يحتمل فيه ورود مخصّصات، فلا يستدلّ فقيه به في الموارد المشكوكة قبل الفحص عن تلك المخصّصات، وكذلك قوله تعالى: «وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلَاةِ» «1»

إذا شككنا مثلًا في خروج من يكون السفر عمله أو من يكون عاصياً في سفره أو يكون مقيماً للعشرة، فلا يتمسّك بذلك العموم قبل الفحص، إلى غير ذلك من أشباهها.

فأصل وجوب الفحص ممّا لا إشكال فيه، إنّما الكلام في دليله كيما تتحدّد به دائرة الفحص وتتعيّن به مقداره.

فنقول: قد ذكر هنا وجوه أبعة:

الوجه الأوّل: ما ذكره المحقّق الخراساني رحمه الله في الكفاية وتبعه كثير من الأعلام، وحاصله:

انوار الأصول، ج 2، ص: 114

إنّ مدرك حجّية أصالة العموم هو بناء العقلاء على العمل بها، ولم يثبت بنائهم عليه فيما إذا كانت العمومات في معرض التخصيص، فلو علموا أنّ أحداً من مواليهم العرفيّة يتّكل كثيراً ما في تخصيص عمومات كلامه على مخصّصات منفصلة لم يعملوا بها بمجرّد الظفر على عام من العمومات الصادرة منه ما لم يتفحّصوا بقدر وسعهم عن المخصّص.

أقول: لابدّ من توضيح مقصوده وتأويل كلامه بأن نقول: بما أنّ سيرة الشارع وسنّته استقرّت على بيان الأحكام تدريجاً فيعتمد في تخصيص عمومات كلامه على مخصّصات منفصلة بحيث تكون عمومات كلامه في معرض التخصيص فإنّ العقلاء في مثل هذا المورد لا يستقرّ بنائهم على العمل

بالعمومات قبل الفحص عن المخصّص، وقد عرفت سابقاً عدم وجود المخصّص المنفصل في المحاورات العرفيّة وأنّ العرف يحملونه على التناقض والتكاذب.

وذكر في التهذيب أنّ جميع القوانين العقلائيّة كذلك، لكنّه محلّ تأمّل إذ إنّه بعد تسجيل قانون في مجلس التقنين في ثلاثين مادّة وتبصرة مثلًا لا يرى الموظّفون بإجراء القوانين أنفسهم مسؤلين عن الفحص عن المخصّص أو المعارض فتأمّل.

فتلخّص ممّا ذكر أنّ قوانين الشرع لكونها في معرض التخصيص كما عليه سنّة الشارع وسيرته لابدّ فيها من الفحص عن المخصّص.

الوجه الثاني: أنّ العلم الإجمالي بورود مخصّصات كثيرة حاصل لمن لاحظ الكتب الفقهيّة ولا يمكن إجراء الاصول في أطراف العلم الإجمالي.

لكن هذا أخصّ من المدّعى فالمعلوم بالإجمال هو مقدار معيّن فينحلّ بعد الظفر على المخصّصات بذلك المقدار، فإذا إنحلّ فمقتضى هذا الوجه أنّ العمل بالعام بعد هذا ممّا لا يحتاج إلى الفحص، وهو كماترى، لأنّ سيرة الفقهاء جارية على الفحص حتّى في هذه الموارد.

الوجه الثالث: ما ثبت من اعتبار الظنّ الشخصي في حجّية أصالة العموم وهو لا يحصل مع عدم الفحص.

والجواب عنه أنّ المختار عدم اعتبار الظنّ الشخصي في حجّية الظواهر.

الوجه الرابع: (وهو الدليل الثاني للمحقّق النائيني رحمه الله في المقام): ما حاصله: إنّ حجّية العمومات متقوّمة بجريان مقدّمات الحكمة الكاشفة عن عدم دخل قيد آخر في مراد المتكلّم، فإذا علمنا بعد الرجوع إلى الأدلّة الشرعيّة أنّ طريقة الشارع قد استقرّت على إبراز مقاصده انوار الأصول، ج 2، ص: 115

بالقرائن المنفصلة ينهدم أساس جريان مقدّمات الحكمة ولم تكن تلك العمومات حجّة قبل الفحص عن مخصّصاتها، وبالجملة أنّ من المقدّمات عدم البيان في مقام البيان، ومقام البيان للشارع ليس منحصراً في زمان التكلّم عن العام «1».

وجوابه واضح بعد ما مرّ

من أنّ ألفاظ العموم تكفينا في إفادة العموم من دون حاجة إلى جريان مقدّمات الحكمة.

تنبيهان التنبيه الأوّل: في المقدار اللازم من الفحص، ولا ريب في أنّه يختلف باختلاف الوجوه التي اقيمت لأصل لزوم الفحص.

فعلى الوجه الأوّل يجب الفحص في المسألة بمقدار يخرج العام عرفاً عن كونه معرضاً للمخصّصات وعن مظانّ التخصيص.

وعلى الوجه الثاني (وهو العلم الإجمالي بورود مخصّصات كثيرة) يجب الفحص بمقدار يخرج العام عن أطراف العلم الإجمالي.

وعلى الوجه الثالث (وهو اعتبار الظنّ الشخصي بالمراد) يجب الفحص إلى أن يحصل الظنّ الشخصي بعدم المخصّص.

وعلى الوجه الرابع (وهو ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله) يجب الفحص إلى أن يصدق عدم البيان في مقام البيان، وهذا طبعاً يحتاج إلى حصول العلم بعدم ورود المخصّص كما لا يخفى.

التنبيه الثاني: في أنّه هل الفحص عن المخصّص فحص عن المعارض والمانع أو عمّا يتمّ به اقتضاء المقتضي؟ وبعبارة اخرى: أيكون العموم ناقصاً في الاقتضاء بدون الفحص أو الاقتضاء تامّ، والكلام في عدم المانع؟ ففيه أيضاً تفصيل بلحاظ اختلاف الوجوه التي استدلّ بها.

فعند القائلين باعتبار الظنّ الشخصي- المقتضي ناقص قبل الفحص لأنّ الظنّ ليس حاصلًا قبل الفحص.

انوار الأصول، ج 2، ص: 116

وعند القائلين بوجود العلم الإجمالي فالمسألة متوقّفة على جريان الاصول العمليّة في أطراف العلم الإجمالي وسقوطها بالتعارض أو عدم جريانها حتّى في بدو الأمر، فإن قلنا بأنّها تجري فتتعارض فالفحص يكون في وجود المانع وهو الأصل المعارض الجاري في طرف آخر، وإن قلنا بعدم جريانها ابتداءً فالنقص في المقتضي.

وأمّا بناءً على مبنى المحقّق النائيني رحمه الله فالفحص يكون عن المقتضي، لأنّ مع عدم جريان مقدّمات الحكمة لا ينعقد للعام ظهور واقتضاء.

وأمّا بناءً على دليل المعرّضيّة فالفحص هو عن وجود المانع والمعارض،

لأنّه لا إشكال حينئذٍ في ظهور العام في العموم ودلالته الاستعماليّة.

المقام الثاني: في المخصّص المتّصل
اشارة

قال المحقّق الخراساني رحمه الله: إنّ الظاهر عدم لزوم الفحص عن المخصّص المتّصل باحتمال أنّه كان ولم يصل، بل حاله حال احتمال قرينة المجاز، وقد اتّفقت كلماتهم على عدم الاعتناء به ولو قبل الفحص.

وقال بعض المحشّين بلزوم الفحص في المتّصل أيضاً إذا كان العام في معرض التخصيص بالمتّصل.

أقول: إنّ ما أفاده المحقّق الخراساني رحمه الله في المقام لا يخلو من إبهام، والحقّ أن يقال: إنّ المخصّص المتّصل يتصوّر على أنحاء:

أحدها: أن نحتمل وجود مخصّص متّصل في الزمن السابق لكن لم ينقله الراوي نسياناً أو عمداً كما إذا كان في الكلام استثناء متّصل (مثل أن قال الإمام عليه السلام: «يشترط في لباس المصلّي أن يكون طاهراً إلّافيما لا تتمّ فيه الصّلاة) ولم ينقله الراوي.

ثانيها: أن نحتمل عدم نقل بعض المؤلّفين لجوامع الحديث كصاحب الوسائل الذي كان من دأبه تقطيع الرّوايات فنحتمل وجود قرينة متّصلة في بعض فقرات الرّواية التي لم يذكرها في الباب.

ثالثها: أن نحتمل وجوده في ما يسقط عن الرّواية لبعض العوارض الطبيعية كما إذا فقد

انوار الأصول، ج 2، ص: 117

بعض أوراق كتاب الحديث ويحتمل وجود مخصّص في تلك الورقة المفقودة.

أمّا القسم الأوّل: فلا يعتنى به بلا إشكال، لأنّه إمّا أن نحتمل عدم نقل الراوي لذلك المخصّص تعمّداً، فهو لا يجتمع مع وثاقة الراوي، وإمّا أن نحتمل عدم نقله نسياناً فأصالة عدم النسيان المعتبرة عند العقلاء كافيّة في نفيه، وأمّا الحذف عن تقيّة فهو أيضاً خلاف أصل عقلائي لأنّ الأصل في كلّ كلام حمله على الجدّ.

أمّا القسم الثاني: فهو أيضاً لا يعتنى به لأنّه ينافي وثاقة المؤلّف، واحتمال أنّ عدم نقله نشأ من استنباطه الشخصي

بكون الذيل منفصلًا ولذلك لم ينقله- لا يعتنى به أيضاً لأنّ غايته أن يكون من قبيل النقل بالمعنى الذي ينشأ من الاجتهاد والاستنباط الشخصي.

أمّا القسم الثالث: فلا إشكال في أنّ الفحص لازم فيه، كما إذا فقدت ورقة من كتاب وصيّة أو وقف ويحتمل وجود المخصّص في تلك الورقة المفقودة، فلا يعتمد على ذلك الكتاب بدون الفحص عن الباقي، لأنّ للمتكلّم أن يلحق بكلامه ما شاء ما دام متكلّماً فلا يمكن الاعتماد على كلامه قبل إتمامه.

فظهر ممّا ذكر أنّ المقامات في المخصّص المتّصل مختلفة، ولابدّ فيه من ملاحظة منشأ الشكّ.

تذييل: في لزوم الفحص في موارد الاصول العمليّة

لا إشكال ولا كلام في لزوم الفحص عن الدليل الاجتهادي في الاصول العمليّة إذا كانت الشبهة حكميّة، إنّما الكلام في الفرق بين الموردين، أي بين الفحص عن المخصّص في العمل بالعام وبين الفحص عن الدليل الاجتهادي في جريان الاصول العمليّة.

فقال المحقّق الخراساني رحمه الله ما حاصله: الفحص في الأوّل فحص عمّا يزاحم الحجّية، وأمّا في الثاني فبدون الفحص لا حجّة أصلًا لأنّ الموضوع في البراءة العقليّة مثلًا هو اللّابيان، وهو لا يحرز بدون الفحص كي يكون الحكم المترتّب عليه حجّة.

لكن الإنصاف في المسألة هو التفصيل بين أصالة الاحتياط وغيرها من الاصول، والفرق المذكور إنّما يتمّ في غير الاحتياط، أمّا في البراءة العقليّة منه فلأنّ موضوعها اللّابيان، وهو لا يحرز بدون الفحص كما مرّ، وأمّا البراءة الشرعيّة فلأنّ دليلها وهو حديث الرفع مقيّد بما بعد

انوار الأصول، ج 2، ص: 118

الفحص إجماعاً كما صرّح به المحقّق الخراساني رحمه الله، وأمّا الاستصحاب عند من يقول بحجّيته في الشبهات الحكميّة فلأنّ دليلها إمّا مقيّد بالإجماع كما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمه الله أيضاً، أو منصرف إلى ما بعد الفحص كما هو

المختار، وكذلك أصالة التخيير لأنّ موضوعها هو دوران الأمر بين المحذورين، وهو لا يصدق عقلًا إلّابعد الفحص.

هذا كلّه في غير أصالة الاحتياط، وأمّا فيها فالفحص ليس فحصاً عن الحجّة والمقتضي، لأنّ المقتضي فيها هو العلم الإجمالي، وهو تامّ موجود قبل الفحص، وحينئذٍ يكون الفحص عن المانع وعمّا يزاحم الحجّية.

وإن شئت قلت: لا حاجة فيها إلى الفحص لجواز الاحتياط وعدم وجوب الاجتهاد أو التقليد قبل الفحص في جميع الشبهات كما عليه الفتوى.

وبالجملة الفحص فيها ليس واجباً وإنّما يجب للخروج عن الاحتياط بالظفر على الدليل الرافع لموضوعه.

هذا كلّه في الاصول العمليّة، وكذلك في الاصول اللفظيّة، فلا بدّ فيها أيضاً من التفصيل على المباني والوجوه الأربعة المذكورة للزوم الفحص، فعلى بعض تلك الوجوه يكون الفحص فحصاً عن المقتضي، وعلى بعضها الآخر يكون فحصاً عن المانع كما مرّ تفصيله في التنبيه الثاني.

الفصل السادس الكلام في الخطابات الشفاهيّة
اشارة

لا شكّ في أنّ هناك عمومات وردت في الكتاب والسنّة على نهج الخطابات الشفاهيّة كقوله تعالى: «ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» «1»

وقوله: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ» «2»

، كما لا إشكال أيضاً في أنّها تشمل جميع صيغ التخاطب حتّى صيغ التخاطب من الأوامر والنواهي.

إنّما الإشكال والنزاع يقع فيها في ثلاث مقامات:

المقام الأوّل: في أنّ التكليف الوارد في الخطابات الشفاهيّة هل يصحّ تعلّقه بالمعدومين أو لا؟

المقام الثاني: في توجيه الخطاب إلى المعدومين هل يصحّ حقيقة أو لا؟

المقام الثالث: في أنّ أدوات التخاطب لماذا وضعت؟

يستفاد من كلمات المحقّق الخراساني رحمه الله جريان النزاع في جميع الثلاثة، وصرّح في هامش أجود التقريرات بأنّه جارٍ في خصوص المقام الثالث، والحقّ هو الأوّل، فالنزاع جارٍ في جميع المقامات بل لا معنى للبحث عن المقام

الثالث بدون البحث عن المقام الأوّل والثاني.

أمّا المقام الأوّل: ففصّل المحقّق الخراساني رحمه الله فيه بين ما إذا كان التكليف فعلياً فلا يمكن حينئذٍ تكليف المعدوم عقلًا، وبين ما إذا كان التكليف إنشائيّاً فيجوز، لأنّ الإنشاء خفيف المؤونة نظير إنشاء الوقف على البطون المتعدّدة، فإنّ المعدوم منهم يصير مالكاً للعين الموقوفة بعد وجوده، بإنشاء الواقف حين ما وقف، لا بانتقال العين إليه من البطن السابق.

انوار الأصول، ج 2، ص: 120

لكن الإنصاف أنّه غير تامّ، لأنّه إن كان المراد من المعدوم المعدوم بما هو هو فلا معنى للتكليف لا فعلياً ولا إنشائيّاً، وإن كان المراد المعدوم بما سوف يوجد، أي على فرض وجوده وعلى نهج القضيّة الحقيقيّة فالتكليف ممكن، إلّاأنّه لا فرق حينئذٍ بين الفعلي والإنشائي، وإن شئت قلت: التكليف حينئذٍ فعلي ولكن في فرض وجود موضوعه كما في القضايا الشرطيّة.

أمّا المقام الثاني: وهو جواز مخاطبة المعدومين وعدمه فذهب المحقّق الخراساني رحمه الله إلى عدمه وقال ما حاصله: أنّه لا ريب في عدم صحّة خطاب الغائب عن مجلس الخطاب بل الحاضر غير الملتفت فضلًا عن الغائب والمعدوم على وجه الحقيقة، فإنّ الخطاب الحقيقي عبارة عن توجيه الكلام نحو الغير للإفهام، ومن المعلوم أنّ ذلك ممّا لا يتحقّق إلّاإذا كان توجيه الكلام إلى الحاضر الملتفت.

لكن الإنصاف أنّ ما قلنا في المقام الأوّل جارٍ هنا أيضاً حيث نقول: إن كان المراد مخاطبة المعدوم بلحاظ حال العدم فلا يجوز قطعاً، وأمّا إذا كان بلحاظ الوجود فلا إشكال فيه، لأنّ حقيقة الخطاب توجيهه نحو الغير مع الايصال إليه بأيّ وسيلة كانت سواء كان الغير حاضراً أو غائباً، وليست حقيقته المشافهة حتّى يختصّ جوازه بالحاضر في المجلس، ولذلك تكتب الرسائل ويخاطب فيها

الغائب أو تكتب الوصيّة للجيل اللاحق وهم مخاطبون فيها، كما ورد في وصيّة أمير المؤمنين علي عليه السلام: «اوصيكما وجميع ولدي ومن بلغه كتابي هذا بتقوى اللَّه ونظم أمركم» «1»، إلى غير ذلك من أشباهها ونظائرها.

فتلخّص أنّ حقيقة التخاطب هو توجيه الخطاب نحو الغير لا التشافه والحضور، وهذا يصدق بالنسبة إلى المعدوم بلحاظ زمن وجوده أيضاً.

أمّا المقام الثالث: فالنزاع فيه عند المحقّق الخراساني رحمه الله مسبّب عن أنّ أدوات الخطاب هل هي موضوعة للخطاب مع المخاطب الحقيقي كي نقول باختصاصها بالحاضرين وعدم شمولها للمعدومين لئلّا يلزم استعمال الأداة في غير ما وضعت له، أو موضوعة لإنشاء مطلق التخاطب ولايقاع مجرّد المخاطبة سواء كان مع المخاطب الحقيقي أو التنزيلي فتكون شاملة للمعدومين أيضاً وقد مرّ نظيره في مبحث الأوامر بالنسبة إلى صيغة الأمر وهل هي موضوعة

انوار الأصول، ج 2، ص: 121

للطلب الحقيقي أو لإنشاء مطلق الطلب ولو لم يكن بداعي الطلب الحقيقي كما إذا صدر بداعي التعجيز أو التهديد؟

واستدلّ لوضعها لإنشاء مطلق التخاطب بوجهين:

أحدهما: أنّه كذلك في أشباهها ونظائرها كأداة النداء وضمائر التخاطب فإنّها موضوعة لإنشاء مطلق التخاطب ولايقاع مجرّد المخاطبة سواء كان مع المخاطب الحقيقي أو التنزيلي.

الثاني: أنّ الوجدان حاكم على أنّ في مثل «ياكوكباً ما كان أقصر عمره» الذي ليس المخاطب فيه حقيقيّاً لعدم كونه حاضراً ملتفتاً- ليس هناك تجوّز في أداة الخطاب أصلًا بل هي مستعملة في معناها الحقيقي من إنشاء النداء والخطاب، فليس فيها عناية ولا مجاز بالنسبة إلى أداة الخطاب، ثمّ قال ما حاصله: أنّ هذا كلّه فيما إذا لم تكن قرينة في البين توجب الانصراف إلى الخطاب الحقيقي كما هو الحال في حروف الإستفهام والترجّي والتمنّي وغيرها، وفي نهاية الأمر قال

ما حاصله: أنّ هذا الظهور الانصرافي ناشٍ عن عدم قرينة تمنع عن الانصراف المزبور، وإلّا إذا كان هناك ما يمنع عن الانصراف إلى المعاني الحقيقيّة كما يمكن دعوى وجوده غالباً في كلام الشارع فلا تختصّ هذه الأداة بالخطاب الحقيقي.

أقول: يرد عليه:

أوّلًا: أنّه قال: إن كان الموضوع له هو الخطاب الحقيقي فلا يشمل المعدومين، بينما لا إشكال في الشمول على فرض الوجود كما مرّ.

ثانياً: أنّه قال: إن كان الموضوع له هو الخطاب الإنشائي فيشمل المعدومين، بينما لا إشكال أيضاً في عدم الشمول على فرض العدم.

ثالثاً: لو فرضنا عدم شمول الخطاب للمعدومين فلا ضير فيه، لأنّه لا ريب في شمول التكليف لهم لوجود أدلّة الاشتراك في التكليف، ولا حاجة في ثبوت التكليف إلى توجيه الخطاب إليهم ولا ملازمة بين الأمرين.

ثمّ إنّ المحقّق النائيني رحمه الله قال: إنّ القضايا الخارجيّة مختصّة بالمشافهين ولا تشمل الغائبين والمعدومين، وأمّا القضايا الحقيقيّة فالظاهر أنّ الخطابات فيها عامّة.

واستدلّ له بأنّ توجيه الخطاب إلى الغائب لا يحتاج إلى أكثر من تنزيله منزلة الحاضر، وكذلك بالنسبة إلى المعدوم فينزّل منزلة الموجود، ثمّ قال: هذا المعنى هو مقتضى طبيعة القضيّة الحقيقيّة.

انوار الأصول، ج 2، ص: 122

وأورد عليه في حاشية الأجود بأنّ مجرّد الوجود لا يكفي في الخطابات المشافهة بل تحتاج إلى فرض الحضور أيضاً والقضايا الحقيقيّة تفرض لنا الوجود فقط.

ثمّ حاول لحلّ الإشكال، فذهب إلى ما بنى عليه المحقّق الخراساني رحمه الله من أنّ الأدوات وضعت للخطاب الإنشائي، ثمّ قال في آخر كلامه ما حاصله: هذا إذا قلنا أنّ الخطابات القرآنية خطابات من اللَّه بلسان النبي صلى الله عليه و آله، أمّا إذا قلنا أنّها نزلت عليه قبل قرائته يكون هذا النزاع باطلًا من أصله لعدم

وجود مخاطب غير النبي صلى الله عليه و آله في ذلك الزمان «1».

أقول: الظاهر أنّ إشكاله على المحقّق المذكور غير وارد لما سيأتي، مضافاً إلى أنّ الكلام هو في المنهج الذي سلكه لحلّ الإشكال، لأنّ قوله: إنّ الأدوات وضعت للخطاب الإنشائي تبعاً للمحقّق الخراساني رحمه الله يستلزم عدم كون الخطابات القرآنيّة بداعي الخطاب الحقيقي، وهو خلاف الوجدان وخلاف بعض الرّوايات الواردة لبيان آداب التلاوة نظير ما ورد لاستحباب ذكر «لبّيك» بعد تلاوة خطاب «ياأيّها الذين آمنوا»، هذا أوّلًا.

ثانياً: بالنسبة إلى قوله: «إن قلنا أنّ الخطابات القرآنية نزلت على النبي قبل قرائته» (إلى آخره): أنّه لا ريب في أنّها نزلت عليه قبل قرائته، فلا ينبغي التعليق والترديد فيه بقوله «إن قلنا»، لكن هذا لا يلازم بطلان النزاع من رأسه، لأنّها وإن نزلت قبل قرائته صلى الله عليه و آله لكنّه صلى الله عليه و آله خليفة اللَّه في مخاطبة الناس فيخاطبهم بلسان الباري تعالى.

والإشكال الأساسي في كلمات هؤلاء الأعلام أنّهم تسالموا على وجود الملازمة بين خطاب المشافهة والحضور وأنّ الحضور لازم فيها، بينما قلنا أنّ حقيقة الخطاب هي توجيه الكلام نحو الغير مع الإيصال إليه بأيّ وسيلة.

ثمّ إنّه قد حاول في تهذيب الاصول تحليل القضيّة الحقيقيّة والخارجيّة، وقال: «إنّ هذا التقسيم للقضايا الكلّية، وأمّا الشخصيّة مثل «زيد قائم» ممّا لا تعتبر في العلوم فخارجة عن المقسم، فقد يكون الحكم في القضايا الكلّية على الأفراد الموجودة للعنوان بحيث لا ينطبق إلّا عليها مثل «كلّ عالم موجود في حال كذا» أو «كلّ من في هذا العسكر كذا» وأمّا القضيّة الحقيقيّة فهي ما يكون الحكم فيها على أفراد الطبيعة القابلة للصدق على الموجود في الحال انوار الأصول، ج 2، ص:

123

وغيره مثل «كلّ نار حارّة» فلفظ «نار» تدلّ على نفس الطبيعة وهي قابلة للصدق على كلّ فرد لا بمعنى وضعها للأفراد ولا بمعنى كونها حاكيّة عنها أو كون الطبيعة حاكيّة عنها بل بمعنى دلالتها على الطبيعة القابلة للصدق على الافراد الموجودة وما سيوجد في ظرف الوجود، (إلى أن قال): فكلّ نار حارّة إخبار عن مصاديق النار دلالة تصديقية، والمعدوم ليس مصداقاً للنار ولا لشي ء آخر، كما أنّ الموجود الذهني ليس ناراً بالحمل الشائع، فينحصر الصدق على الأفراد الموجودة في ظرف وجودها من غير أن يكون الوجود قيداً، أو أن يفرض للمعدوم وجود أو ينزل منزلة الوجود ومن غير أن تكون القضيّة متضمّنة للشرط كما تمور بها الألسن موراً» «1».

أقول: ويمكن المناقشة فيه:

أوّلًا: بأنّا لا نفهم معناً محصّلًا لقوله «فينحصر الصدق على الأفراد الموجودة في ظرف وجودها من غير أن يكون الوجود قيداً» لأنّ هذا أيضاً يساوق كون الوجود قيداً، فإن الحارّة مثلًا في مثال «النار حارّة» إنّما هي النار الموجودة في الخارج لا النار بدون الوجود ولا النار الموجودة في الذهن، نعم إنّ ما أفاده جارٍ في مثل «الأربعة زوج».

ثانياً: لو لم يكن الوجود قيداً فنسأل: هل تكون القضيّة شاملة للمعدومين أو لا؟ فإن لم تكن شاملة لهم فالقضيّة خارجيّة لا حقيقيّة، وإن كانت شاملة فيعلم أنّه فرض للمعدوم وجود، وقد مرّ أنّ حقيقة القضيّة الشرطيّة هو فرض الوجود، وعلى كلّ حال: القضيّة الحقيقيّة هي ما يكون الوجود قيداً فيها، غاية الأمر أنّه أعمّ من الوجود التقديري والوجود الفعلي.

ثمّ إنّه في ما سبق أنكر الانحلال في القضايا الكلّية القانونيّة وقد أوردنا عليه بالنقض بالعموم الافرادي، لكن في المقام له كلام صرّح فيه بالانحلال وإليك نصّه:

«وليعلم أنّ الحكم في الحقيقة على الأفراد بالوجه الإجمالي وهو عنوان كلّ فرد أو جميع الأفراد، فالحكم في المحصورة على أفراد الطبيعة بنحو الإجمال على نفس الطبيعة ولكن على الأفراد تفصيلًا» «2».

فقد صرّح في هذا الكلام بأنّ الحكم في المحصورة يتعلّق بالمصاديق والأفراد، بينما قد مرّ منه سابقاً أنّ الحكم في القضايا القانونيّة يتعلّق بالطبيعة فقط.

انوار الأصول، ج 2، ص: 124

فظهر ممّا ذكرنا عدم تماميّة تفصيل المحقّق النائيني رحمه الله في الخطابات الشفاهيّة بين القضايا الحقيقيّة والخارجيّة بأنّ الاولى تشمل الغائب والمعدوم والثانية لا تشملهما، لأنّ حقيقة الخطاب وهي توجيه الكلام إلى الغير موجودة في كلتا القضيتين، وقد ردّ تفصيله في تهذيب الاصول بعد ذكر مقدّمات فكلامه تامّ من هذه الجهة.

هذا كلّه في التفصيل بين القضايا الخارجيّة والحقيقيّة.

وهنا تفصيل آخر وهو بين الخطابات الإلهية وغير الإلهية، ببيان أنّ الاولى شاملة للغائبين والمعدومين، لأنّ اللَّه محيط بكلّ شي ء وكلّ شي ء حاضر عنده بخلاف الثانية.

وأجاب عنه المحقّق الخراساني رحمه الله بأنّه يعتبر في الخطاب ثلاثة أشياء: المخاطب (بالكسر) والمخاطب (بالفتح) وأداة الخطاب، وفي الخطابات الإلهية وإن لم يكن نقص بالنسبة إلى الأمر الأوّل، أي المخاطب (بالكسر) ولكنّه موجود بالنسبة إلى الأمر الثاني والثالث.

وللمحقّق الإصفهاني رحمه الله هنا تفصيل في هذا التفصيل، وهو أنّ الخطابات الإلهيّة تشمل الغائبين دون المعدومين، وأمّا الخطابات البشريّة فلا تشمل المعدومين والغائبين معاً، والدليل هو إحاطته تعالى بالغائبين، وأمّا عدم حضورهم وعدم فهمهم لخطابه فلا ضير فيه بل اللازم هو نوع اجتماع بين المخاطِب والمخاطَب إمّا في مكان واحد أو بحكمه أو الإحاطة الإلهية «1».

أقول: هنا مطلبان:

الأوّل: أنّه لابدّ في صحّة الخطاب وكونه حقيقياً الإفهام والإنفهام ولو في ظرف وصوله (وإلّا يكون إنشائيّاً) من

دون الفرق بين الخطابات الإلهية وغيرها، والحاكم بهذا هو العرف والوجدان.

الثاني: في المقصود من إحاطة اللَّه بالمعدومين: فقد قرّر في محلّه أنّ عدم علمه بالمعدومين يوجب النقص في ذاته تبارك وتعالى عن ذلك ولكن قد يستشكل بأنّ علمه بهم إمّا أن يكون حصولياً وارتسامياً أو يكون حضوريّاً، والأوّل محال لاستلزامه الارتسام في ذاته، مضافاً إلى أنّه لا إشكال في أنّ علمه بالأشياء يكون بذاتها لا بصورتها، وإن كان حضوريّاً فلا يشمل المعدومين لأنّهم ليسوا موجودين حتّى يكونوا حاضرين عنده تعالى.

انوار الأصول، ج 2، ص: 125

وللجواب عنه كما بيّناه في محلّه طريقان:

الأوّل: ما ذهب إليه بعض الحكماء من أنّ اللَّه تعالى عالم بالعلّة، والعلم بالعلّة علم إجمالي بالنسبة إلى المعلول وهو كشف تفصيلي في نفس الوقت.

توضيح ذلك: أنّ الحوادث التي تتحقّق في المستقبل ليست منفكّة عن حوادث الحال والماضي فإنّها سلسلة متّصلة بعضها ببعض، فلو علمنا بحوادث الحال كما هو حقّها وبجميع جزئياتها فقد علمنا حوادث الماضي والمستقبل أيضاً في نفس الوقت، وبما أن علمه تعالى بالأشياء يكون هكذا فهو عالم بالموجودين في الحال والمعدومين في الماضي والمستقبل جميعاً.

الثاني: (وقد يصعب تصوّره على بعض) أن نقول: أنّ تقسيم الزمان إلى الحال والماضي والمستقبل إنّما هو بالنسبة إلى الممكنات، وأمّا بالنسبة إلى ذاته تعالى الذي لا حدّ ولا نهاية له فجميع الموجودات في الماضي والمستقبل والحال سواء عنده، حاضرة لديه بأعيانها لكن كلّ في ظرفه الخاصّ، فموسى عليه السلام مثلًا حاضر عنده في ظرفه وزمانه الخاصّ كما أنّ عيسى عليه السلام أيضاً حاضر عنده في ظرفه الخاصّ، وأهل الجنّة والجحيم حاضرون عنده في ظرفهما، فلا شي ء من هذه معدوم عنده تعالى بل المعدوم معدوم بالنسبة إلى زمان الحال.

وبعبارة

اخرى: أنّ الزمان بمنزلة شريط يتحرّك الإنسان عليه فعلى أي جزء منه كان فهو حال بالنسبة إليه والجزء السابق عليه ماضٍ والجزء اللاحق مستقبل، وأمّا الذي يكون محيطاً بجميع الشريط من أوّله إلى آخره فالحال والماضي والمستقبل عنده سواء.

وقد يذكر لهذا مثال آخر وهو أنّ من يتصوّر للزمان حالًا وماضياً ومستقبلًا مثله مثل من ينظر من منفذ بيت إلى قطار من الإبل خارج البيت، فحيث إنّه يرى في كلّ لحظة من الزمان بعض هذه الجمال يتصوّر له القبل والبعد، وأمّا من يكون فوق البيت مثلًا ويرى جميع القطار في لحظة واحدة فلا معنى لهذا التقسيم بالنسبة إليه.

فبأحد هذين الطريقين يثبت حضور المعدومين عند اللَّه تعالى، ولكن مع ذلك لا يثبت بهذه المحاولات إمكان تفيهم المعدومين من طرق الخطابات المشافهة المتعارفة، وبهذا يظهر أنّه لا وجه للتفصيل بين الخطابات الإلهية وغيرها.

تنبيه في ثمرة المسألة:

وقد ذكر لها ثمرتان، وينبغي قبل بيانهما الإشارة إلى أنّ الثمرة في هذه المسألة لا تظهر بالإضافة إلى التكاليف التي صدرت من الشارع بغير أداة الخطاب لكفاية أدلّة اشتراك التكليف فيها بعد عدم اختصاصها بالموجودين في عصر النبي صلى الله عليه و آله.

الثمرة الاولى: حجّية ظهور الخطابات المشافهة للغائبين والمعدومين كالمشافهين على القول بالتعميم، وإلّا فلا يكون ذلك حجّة بالنسبة إليهم، وهي مبنيّة على صغرى وكبرى، أمّا الكبرى فهي اختصاص حجّية الظواهر بمن قصد إفهامه، وأمّا الصغرى فهي أنّ غير المشافهين ليسوا مقصودين بالإفهام.

والأكثر استشكلوا على الكبرى فقط، ولكن يمكن الإشكال أيضاً على الصغرى.

أمّا الإشكال على الكبرى فهو أنّه مبني على اختصاص حجّية الظواهر بالمقصودين بالإفهام وقد حقّق في محلّه عدم الاختصاص بهم، وسيأتي بيانه في محلّه إن شاء اللَّه تعالى.

وأمّا الإشكال على الصغرى فهو

أنّ الملازمة بين التخاطب والمقصوديّة بالإفهام ممنوع بل الظاهر أنّ الناس كلّهم إلى يوم القيامة مقصودون بالإفهام وإن لم يعمّهم الخطاب.

أقول: وهذا أشبه شي ء بالنداءات التي تطبع في الصحف التي يكون المخاطب فيها شخص أو أشخاص معيّنين مع أنّ المقصود بالإفهام فيها جميع الناس، بل قد يتّفق عدم كون المخاطب مقصوداً ويكون المقصود غير المخاطب من باب «إيّاك أعني واسمعي ياجارة». فتلخّص من جميع ذلك عدم تماميّة هذه الثمرة.

لكن يمكن توجيه هذه الثمرة من حيث الصغرى والكبرى، أمّا الكبرى فلأنّ وظيفة المتكلّم إنّما هي إقامة القرائن للمقصودين بالإفهام فقط وليس من وظيفته إقامتها لمن لم يقصد إفهامه، وحينئذٍ لو احتملنا (احتمالًا عقلائياً) وجود قرينة في البين قد ذكرها المتكلّم للمقصودين بالإفهام ولم تصل إلى غيرهم كما إذا قال المتكلّم مثلًا: «اشتر لي جنساً من الأجناس الموجودة في السوق الفلاني» واحتملنا وجود قرينة في البين قد فقدت وكانت دالّة على أنّ مراد المتكلّم جنس خاصّ من تلك الأجناس، فحينئذٍ يشكل القول بحجّية كلامه وجواز التمسّك بإطلاقه لغير المقصودين بالإفهام مشكل جدّاً.

نعم، لو لم يكن هناك قرينة في البين أخذ بظهوره كلّ من وصل إليه كما يحكى ذلك في قضية

انوار الأصول، ج 2، ص: 127

كتاب كتبه عثمان لعامله في مصر وأشار إلى قتل الذين أتوا بالكتاب، فإنّ المخاطب وإن كان هو العامل فقط ولكنّهم لمّا فتحوا الكتاب وشاهدوا ما كتبه رجعوا إليه ووقع ما وقع، ولم يقل أحد منهم أنّ ظهور الكتاب ليس حجّة بالنسبة إليهم للعلم بعدم وجود قرينة هناك.

أمّا الصغرى فلأنّا وإن وافقنا على وجود خطابات كثيرة (بل أكثر الخطابات الشرعيّة) يكون غير المخاطبين فيها أيضاً مقصودين بالإفهام لكن إثباته في جميع موارد الأدلّة الشرعيّة مشكل

(وإن كان جميع الخطابات القرآنيّة هكذا بلا إشكال) فإنّ في الرّوايات الواردة من ناحية النبي صلى الله عليه و آله والأئمّة المعصومين عليهم السلام توجد موارد كثيرة التي يحتمل فيها كون المقصود بالإفهام خصوص المخاطبين كالروايات وردت بصيغة «ياأصحابي» مثلًا.

فظهر ممّا ذكرنا ثبوت الملازمة بين الخطاب قصد الإفهام بنحو الموجبة الجزئيّة، فلو قلنا بعدم شمول الخطابات الشرعيّة لغير المشافهين يشكل إثبات كون غير المشافهين مقصودين بالإفهام في جميع الموارد، ويستلزم عدم حجّية بعض الخطابات بالنسبة إليهم.

الثمرة الثانية: صحّة التمسّك بإطلاقات الخطابات القرآنيّة وشبهها بناءً على التعميم، وعدمها بناءً على عدمه.

توضيح ذلك: إن قلنا بشمول الخطابات للمعدومين جاز لهم التمسّك بإطلاقات الكتاب نحو إطلاق قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» مثلًا مطلقاً وإن كان غير المشافهين مخالفين في الصنف مع المشافهين، كما أنّ التمسّك بها كذلك جائز للموجودين، وإن قلنا بعدم شمولها لهم فلا يجوز لهم التمسّك بها أصلًا، فإنّ التمسّك بالإطلاق فرع توجّه الخطاب، فإذا لم يتمسّك بالإطلاق فلا يبقى في البين سوى دليل الاشتراك، ولا دليل على الاشتراك إلّا الإجماع وهو دليل لبّي لا إطلاق له، فلا يثبت به الحكم إلّاالقدر المتيقّن منه، وهو موارد اتّحاد الصنف، وحيث لا اتّحاد في الصنف للمعدومين في فرض الكلام فلا دليل على الحكم أصلًا، كما إذا احتملنا دخالة حضور الإمام المبسوط اليد في وجوب صلاة الجمعة، فلا يمكن التمسّك بإطلاق قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ» لإثبات وجوبها في زمن الغيبة لعدم اتّحادهم مع المشافهين في الصنف.

وأجاب عن هذه الثمرة المحقّق الخراساني رحمه الله في الكفاية بما حاصله: أنّ مع عدم عموم الخطاب للمعدومين وإن

لم يصحّ لهم التمسّك بإطلاقه لرفع دخالة ما شكّ في دخله ممّا كان انوار الأصول، ج 2، ص: 128

المعدومون فاقدين له وكان المشافهون واجدين له، ولكن صحّ التمسّك بإطلاقه لرفع دخالته في حقّ المشافهين قطعاً بأن يقال: إنّ صلاة الجمعة مثلًا واجبة عليهم مطلقاً سواء كانوا حاضرين في زمان الإمام المبسوط اليد وواجدين لشرط الحضور والاتّحاد في الصنف أم صاروا فاقدين له بالخروج عن حوزة الحكومة الإسلاميّة كالذين هاجروا إلى الحبشة مثلًا أو بفوت الإمام المبسوط اليد والانتقال إلى الفترة الفاقدة لحكومة العدل بعد النبي صلى الله عليه و آله، وحينئذٍ إذا ثبت عدم دخل القيد في حقّهم بالإطلاق ثبت في حقّ المعدومين بدليل الاشتراك، فالفرق بين عموم الخطاب للمعدومين وعدمه إنّما هو في الحاجة إلى ضمّ دليل الاشتراك وعدمها، فإن كان الخطاب يعمّ المعدومين فلا حاجة إلى ضمّ دليل الاشتراك بل يتمسّكون بالإطلاق ابتداءً، وإن لم يكن الخطاب عاماً لهم لابدّ من ضمّ دليل الاشتراك حيث إن التمسّك بالإطلاق يكون حينئذٍ في حقّ المشافهين فقط، فيسري إلى غيرهم بدليل الاشتراك وهو الإجماع.

ويمكن الإيراد على كلامه بأنّ هذا يتمّ في الأوصاف المفارقة، وأمّا الأوصاف الملازمة (كصفة العربيّة إذا احتملت دخالتها) فلا يتصوّر التمسّك بالإطلاق بالنسبة إليها للمشافهين لكي يثبت اتّحاد المعدومين معهم، وحينئذٍ يرتفع الإشكال عن الثمرة بحذافيرها.

ولكن يمكن الجواب عنه بأنّ وجود صفة ملازمة تحتمل دخالتها في الحكم ممنوع.

أقول: نعم يرد عليه مع ذلك:

أوّلًا: أنّ التمسّك بالإطلاق للمشافهين يكون فرع حجّية الظواهر لمن لم يقصد إفهامه كما هو مبنى المحقّق الخراساني رحمه الله، أمّا بناءً على ما اخترناه من اختصاصها بمن قصد إفهامه فلا يجوز التمسّك بالإطلاق للمشافهين أيضاً لأنّه يمكن إثبات التكليف لهم من

طريق قرائن موجودة في البين، فالخطاب من البداية ليس مطلقاً لكي يجوز التمسّك بإطلاقه، وليس من وظيفة المتكلّم إقامة القرينة لمن لم يقصد إفهامه لكي تنتقل إلينا فنثبت من ناحيتها ثبوت الحكم لنا، وعليه فلا يكون الإطلاق كاشفاً عن عدم دخل القيد المشكوك دخله في الحكم، لمكان احتمال الدخل فيه وأنّ الإطلاق يكون من جهة الإتّكال على حصوله للمقصودين.

وثانياً: أنّه يمكن وجود احتمال دخل صفة ملازمة في الحكم كالعربيّة، بأن يقال مثلًا: كون المشافهين من العرب لعلّه كان سبباً لعدم جواز القنوت بغير العربيّة لهم، وحينئذٍ لا يمكن التمسّك بالإطلاق لإثبات الحكم بالنسبة لنا أيضاً بدليل الاشتراك، للزوم هذا الوصف وعدم انفكاكه عنهم.

انوار الأصول، ج 2، ص: 129

بقي هنا شي ء:

وهو ما أفاده في التهذيب وإليك نصّ كلامه: «يمكن أن يقال بظهور الثمرة في التمسّك بالآية لإثبات وجوب صلاة الجمعة علينا، فلو احتملنا أنّ وجود الإمام وحضوره شرط لوجوبها أو جوازها يدفعه أصالة الإطلاق في الآية على القول بالتعميم، ولو كان شرطاً كان عليه البيان، وأمّا لو قلنا باختصاصه بالمشافهين أو الحاضرين في زمن الخطاب لما كان يضرّ الإطلاق بالمقصود وعدم ذكر شرطيّة الإمام أصلًا، لتحقّق الشرط وهو حضوره عليه السلام إلى آخر أعمار الحاضرين ضرورة عدم بقائهم إلى غيبة ولي العصر (عج) فتذكّر «1».

أقول: لكن قد ظهر ممّا ذكرنا:

أوّلًا: أنّ المراد من قيد الحضور في صلاة الجمعة إنّما هو حضور الإمام المبسوط اليد فلم يتحقّق الشرط في الخارج إلّالعشر سنوات من عصر النبي صلى الله عليه و آله وخمس سنوات من عصر الوصي عليه السلام.

ثانياً: بالنسبة إلى زمان الرسول أيضاً يتصوّر مفارقة هذه الصفة بالنسبة إلى بعض المشافهين، وهم الذين خرجوا من حوزة الحكومة الإسلاميّة وعاشوا

في غير بلاد الإسلام كالذين هاجروا إلى الحبشة مثلًا.

الفصل السابع الكلام فيما إذا تعقّب العام ضمير يرجع إلى البعض

إذا تعقّب العام ضمير يرجع إلى بعضه، فهل يوجب ذلك تخصيصه أو لا؟

وقد اشتهر التمثيل لذلك بقوله تعالى في سورة البقرة (228) «وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ» (الآية) فالضمير في بعولتهنّ راجع إلى خصوص الرجعيات من المطلّقات لا إلى المطلّقات مطلقاً، فهل عود الضمير إلى بعض أفراد المطلّقات ممّا يوجب تخصيصها به ويكون المراد منها هو خصوص الرجعيّات فيختصّ التربّص بهنّ فقط، أو لا يوجب ذلك بل المراد منها مطلق المطلّقات، وبعبارة اخرى: هل نأخذ بأصالة العموم فلا يوجب إرجاع الضمير إلى البعض تخصيص المطلّقات، أو نأخذ بأصالة عدم الاستخدام فيكون إرجاعه إلى البعض موجباً للتخصيص؟ ففيه: أقوال وذكر المحقّق النائيني رحمه الله في المقام ثلاثة أقوال، وللمحقّق الخراساني رحمه الله هنا قول بالتفصيل لو أخذناه قولًا آخر تكون الأقوال في المسألة أربعة.

أوّلها: تقديم أصالة العموم والالتزام بالاستخدام.

ثانيها: تقديم أصالة عدم الاستخدام والالتزام بالتخصيص.

ثالثها: عدم جريان كليهما، أمّا أصالة عدم الاستخدام فلاختصاص مورد جريانها بما إذا كان الشكّ في المراد، فلا تجري فيما إذا شكّ في كيفية الإرادة مع القطع بنفس المراد كما هو الحال في جميع الاصول اللفظيّة، وأمّا عدم جريان أصالة العموم فلاكتناف الكلام بما يصلح للقرينة، فيسقط كلا الأصلين عن درجة الاعتبار.

ورابعها: ما يظهر عن المحقّق الخراساني رحمه الله حيث قال: وليكن محلّ الخلاف ما إذا وقع العام والضمير العائد إلى بعض أفراده في كلامين أو في كلام واحد مع استقلال العام بحكم يختصّ به انوار الأصول، ج 2، ص: 132

كما في الآية

الشريفة، وأمّا إذا كانا في كلام واحد وكانا محكومين بحكم واحد كما لو قيل:

«والمطلّقات أزواجهنّ أحقّ بردهنّ» فلا ينبغي الريب في تخصيص العام به.

أقول: الظاهر أنّ هذا من قبيل توضيح الواضح وإخراج ما لا يتصوّر النزاع فيه عن محلّ النزاع، لأنّ محلّ الخلاف ما إذا كان في البين حكمان: أحدهما عام والآخر خاصّ، وأمّا إذا كان الحكم واحداً كما في المثال الذي ذكره (والمطلّقات أزواجهنّ أحقّ بردهنّ) فلا يعقل النزاع حينئذٍ كما لا يخفى، هذا أوّلًا.

وثانياً: لا يتصوّر النزاع أيضاً فيما إذا وقع العام والضمير في كلامين بل لابدّ من كونهما في كلام واحد، لأنّه إذا جي ء بالعام في كلام واريد أن يؤتى بالخاص بعد ساعة مثلًا في كلام مستقلّ فلا وجه بل لا معنى لإتيانه بالضمير، بل يؤتى على القاعدة بالاسم الظاهر كما لا يخفى، ولو استعمل الضمير حينئذٍ كان المرجع فيه ما ثبت في الذهن لا الكلام المنفصل عنه.

ثمّ إنّ مختار المحقّق الخراساني رحمه الله تقديم أصالة العموم على أصالة عدم الاستخدام، وبعبارة اخرى: ترجيح أصالة الظهور في طرف العام على أصالة الظهور في طرف الضمير، والسرّ فيه ما اشير إليه من أنّ المتيقّن من بناء العقلاء الذي هو مدرك أصالة الظهور هو اتّباعها في تعيين المراد لا في تعيين كيفية الإرادة والاستعمال بعد ظهور المراد، والمراد في طرف العام غير معلوم، إذ لم يعلم أنّه اريد منه العموم أو اريد منه الخصوص فتكون أصالة الظهور حجّة فيه، بخلاف المراد في جانب الضمير فإنّه معلوم على كلّ حال، لأنّ أحقّية الزوج بردهنّ هي للرجعيّات لا محالة، ولكن كيفية الاستعمال مشكوكة، إذ لم يعلم أنّ العام قد اريد منه الخصوص ليكون استعمال الضمير على

نحو الحقيقة أو اريد منه العموم وأنّ الضمير قد رجع إلى بعض ما اريد من المرجع بنحو الاستخدام؟ مختار للمحقّق الخراساني رحمه الله في المقام هو تقديم أصالة العموم، وقد فصّل بين ما إذا عقد للكلام ظهور في العموم كما إذا كان العام والضمير في كلامين مستقلّين، وبين ما إذا كان الكلام محفوفاً بما يصلح للقرينيّة فلا ينعقد للعام ظهور في العموم أصلًا كما إذا كان العام والضمير في كلام واحد، فإنّ أصالة العموم تجري في القسم الأوّل ولا تجري في القسم الثاني بل يصير الكلام فيه مجملًا يرجع في مورد الشكّ إلى الاصول العمليّة، فظهر أنّ المحقّق الخراساني رحمه الله يفصّل بين ما إذا كان العام والضمير في كلامين وما إذا كانا في كلام واحد.

أقول: بناءً على ما مرّ من أنّ محلّ النزاع هو ما إذا كان العام والضمير في كلام واحد يرجع انوار الأصول، ج 2، ص: 133

قول المحقّق في الحقيقة إلى القول الثالث في المسألة، وهو سقوط كلا الأصلين عن الاعتبار، هذا أوّلًا.

وثانياً: أنّ الآية المباركة وأمثالها خارجة عن محلّ النزاع كما أفاد في تعليقات الأجود «1» لأنّ ما هو المعلوم من الخارج إنّما هو اختصاص الحكم المذكور في الآية المباركة بقسم خاصّ من المطلّقات، وأمّا استعمال الضمير الراجع إلى العام في خصوص ذلك القسم فهو غير معلوم، فلا موجب لرفع اليد عن أصالة العموم أو عن أصالة عدم الاستخدام أصلًا.

ثمّ إنّ المحقّق النائيني رحمه الله ذهب أيضاً كالمحقّق الخراساني رحمه الله إلى تقديم أصالة العموم، واستدلّ له بثلاثة وجوه:

الوجه الأوّل: أنّ لزوم الاستخدام في ناحية الضمير إنّما يبتني على أن يكون العام المخصّص مجازاً، لأنّه على ذلك يكون للعام معنيان: أحدهما معنى

حقيقي، وهو جميع ما يصلح أن ينطبق عليه مدخول أداة العموم، وثانيهما معنى مجازي وهو الباقي من أفراده بعد تخصيصه، فإذا اريد بالعام معناه الحقيقي وبالضمير الراجع إليه معناه المجازي لزم الاستخدام، وأمّا إذا قلنا بأنّ تخصيص العام لا يستلزم كونه مجازاً كما هو الصحيح فلا يكون للعام إلّامعنى واحد حقيقي، وليس له معنى آخر حقيقي أو مجازي ليراد بالضمير الراجع إليه معنى مغاير لما اريد من نفسه ليلزم الاستخدام في الكلام.

الوجه الثاني: أنّ الاصول العقلائيّة إنّما تجري عند الشكّ في المراد، وفي المقام لا شكّ في المراد من الضمير وأنّ المراد منه المطلّقات الرجعيّات، وبعد العلم بما اريد من الضمير لا تجري أصالة عدم الإستخدام حتّى يلزم التخصيص في ناحية العام.

إن قلت: أنّ أصالة عدم الإستخدام وإن لم تجر بالإضافة إلى نفي الإستخدام في نفسه لعدم ترتّب الأثر عليها بعد معلوميّة المراد كما ذكر إلّاأنّها تجري بالإضافة إلى إثبات لازم عدم الاستخدام، أعني به إرادة الخاصّ من العموم، ونظير المقام ما إذا لاقى البدن ثوباً مثلًا مع الرطوبة ثمّ خرج الثوب عن محلّ الابتلاء وعلم بنجاسة ذلك الثوب قبل تحقّق الملاقاة مع الشكّ في عروض المطهّر له إلى حال الملاقاة فإنّه لا ريب في أنّه يحكم بالفعل بنجاسة البدن انوار الأصول، ج 2، ص: 134

الملاقي لذلك الثوب وإن كان نفس الثوب خارجاً عن محلّ الابتلاء أو معدوماً في الخارج فاستصحاب نجاسة الثوب وإن كان لا يجري لأجل التعبّد بنجاسة نفس الثوب لأنّ ما هو خارج عن محلّ الابتلاء أو معدوم في الخارج غير قابل لأن يتعبّد بنجاسته في نفسه، إلّاأنّه يجري باعتبار الأثر اللازم لمجراه أعني به نجاسة البدن في المثال، فكما أنّ الأصل العملي

يجري لإثبات ما هو لازم مجراه وإن لم يكن المجري في نفسه قابلًا للتعبّد، كذلك الأصل اللفظي يجري لإثبات لوازم مجراه وإن لم يكن المجري في نفسه مورداً للتعبّد، وعليه فلا مانع من جريان أصالة عدم الاستخدام لإثبات لازم مجريها، أعني به إرادة الخاصّ ممّا يرجع إلى الضمير في محلّ الكلام.

قلت: قياس الأصل اللفظي بالأصل العملي في ما ذكر قياس مع الفارق لأنّ الأصل العملي إنّما يجري لإثبات الآثار الشرعيّة ولو بألف واسطة، بخلاف المقام فإنّ إرادة الخاصّ من العام ليست من آثار عدم الاستخدام شرعاً بل هي من لوازمه عقلًا، والأصل المثبت وإن كان حجّة في باب الاصول اللفظيّة، إلّاأنّه من الواضح أنّ إثبات لازم عقلي بأصل فرع إثبات ملزومه، فالأصل اللفظي إذا لم يمكن إثبات الملزوم به لم يمكن إثبات لازمه به أيضاً لأنّه فرعه وبتبعه.

الوجه الثالث: أنّ استفادة الرجعيّات في قوله تعالى: «وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ» ليس من نفس الضمير، بل يستفاد ذلك من عقد الحمل وهو قوله تعالى: «أحقّ بردهنّ» حيث إنّه معلوم من الخارج أنّ ما هو الأحقّ بالردّ هو خصوص الرجعيّات، فالضمير لم يرجع إلى الرجعيّات بل رجع إلى نفس المطلّقات وكأنّ استفادة الرجعيّات من عقد الحمل، فيكون من باب تعدّد الدالّ والمدلول، فأين الاستخدام المتوهّم «1»؟ (انتهى).

أقول: وفي كلامه مواقع للنظر:

الأوّل: (في جوابه عن قياس الاصول اللفظيّة بالاصول العمليّة في ذيل الوجه الثاني) أنّه لا دخل لكون الأصل في المقام مثبتاً أو غير مثبت ولا حاجة إليه في الجواب، بل العمدة أنّ الاصول اللفظيّة (لكون مجريها هو الشكّ في المراد) لا تجري في أمثال المقام سواء كان لها لازم أو لم يكن، وسواء قلنا بحجّية مثبتات الأمارات أو لم

نقل.

انوار الأصول، ج 2، ص: 135

الثاني: (بالنسبة إلى قوله في الوجه الأوّل) أنّه ليس الكلام في كون العام المخصّص مجازاً أو ليس بمجاز، إنّما الكلام في أنّ مقتضى أصالة عدم الاستخدام كون العام مستعملًا في الباقي بحسب الإرادة الاستعماليّة، وبالجملة أصالة الحقيقة في العام وأصالة الحقيقة في الضمير تتعارضان فأيّتهما تقدّم على الاخرى؟

الثالث: (في قوله في الوجه الثالث) أنّه يتمّ ويحلّ الإشكال بالنسبة إلى الضمير الأوّل، وهو الضمير في بعولتهن، وأمّا بالنسبة إلى الضمير الثاني- وهو الضمير في «بردهنّ» فيبقى الإشكال على حاله حيث إن مرجعه أيضاً هو المطلّقات، وإذا كانت الأحقّية مختصّة بالرجعيّات يرجع الضمير بعدها لا محالة إلى خصوص الرجعيّات كما لا يخفى.

ثمّ إنّه لقد أجاد في التهذيب حيث قال: «كلّ من الضمير في قوله تعالى: وبعولتهنّ أحقّ بردهنّ وكذلك المرجع قد استعملا في معانيهما، بمعنى أنّه أطلق المطلّقات واريد منها جميعها وأطلق لفظة «بردهنّ» واريد منها تمام أفراد المرجع، ثمّ دلّ الدليل على أنّ الإرادة الاستعماليّة في ناحية الضمير لا توافق الإرادة الجدّية، فخصّص بالبائنات وبقيت الرجعيّات بحسب الجدّ، وحينئذٍ لا معنى لرفع اليد عن ظهور المرجع لكون المخصّص لا يزاحم سوى الضمير دون مرجعه، فرفع اليد عنه رفع عن الحجّة بلا حجّة» «1».

الفصل الثامن الكلام في تخصيص العام بالمفهوم

ينبغي قبل الورود في أصل البحث ذكر تقسيمات وردت في المفهوم، فنقول: إنّه على قسمين:

مفهوم الموافقة، وهو ما كان بينه وبين المنطوق توافق في السلب والإيجاب، ومفهوم المخالفة، وهو ما كان بينه وبين المنطوق تخالف في السلب والإيجاب، وأضاف بعض تقسيمين آخرين.

أحدهما: أنّ الموافق تارةً يكون بالأولويّة، ومثاله معروف وهو قوله تعالى: «فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ» الذي مفهومه النهي عن الضرب بطريق أولى، واخرى يكون بالمساواة نحو «لا تشرب

الخمر لأنّه مسكر» الذي يشمل بالمفهوم سائر أفراد المسكر بالمساواة.

ثانيهما: أنّ كلًا من المساواة والأولويّة أيضاً على قسمين، فالمساواة تارةً تكون من قبيل منصوص العلّة، واخرى تكون من قبيل مستنبط العلّة، والأولويّة تارةً عقليّة فتدخل في المفهوم، واخرى تكون عرفيّة فتدخل في المنطوق، فالمثال المعروف (فلا تقل لهما افّ) حيث إن الأولويّة فيه عرفيّة داخلة في المنطوق لا المفهوم.

لكن يمكن النقاش هنا بوجوه:

الوجه الأوّل: تقسيم مفهوم الموافقة إلى الأولويّة والمساواة لا يكون تامّاً لأنّ منصوص العلّة في المساواة لا ينطبق عليه تعريف المفهوم، لأنّ المفهوم هو حكم غير مذكور، مع أنّ ذكر العلّة في منصوص العلّة نحو «لا تشرب الخمر لأنّه مسكر» يكون بمنزلة الحكم بأنّ كلّ مسكر حرام، ولكنّه حذف وقدّر لوضوحه، فلا يعدّ حكماً غير مذكور. وبعبارة اخرى: الحكم هنا مركّب من صغرى وكبرى، والصغرى وهو قوله: «لأنّه مسكر» مذكور في الكلام، وأمّا الكبرى وهو قوله: «كلّ مسكر حرام» فحذفت لوضوحها، فهي مقدّره في الكلام، والمقدّر كالمذكور، ولذلك سمّي هذا القسم بمنصوص العلّة، يعني الحكم الذي نصّ بعلّته، وأمّا في مثال انوار الأصول، ج 2، ص: 138

«فلا تقل لهما افّ» أو «إنّ جاءك زيد فأكرمه» فلم يقل أحد بحذف قضيّة «لا تضرب» أو قضية «إن لم يجئك زيد فلا يجب إكرامه» أو تقديرهما، بل يقال بأنّ القضيتين المنطوقتين تدلّان عليهما بالمفهوم.

الوجه الثاني: أنّ تقسيم المساواة إلى منصوص العلّة ومستنبط العلّة أيضاً تامّ فيما إذا قلنا بحجّية مستنبط العلّة، مع أنّه ليس بحجّة عند الإماميّة، لعدم إمكان استنباط ملاكات الأحكام وعللها، وما أبعد عقول الرجال عن دين اللَّه كما ورد في الحديث.

إن قلت: فما معنى تنقيح المناط وإلغاء الخصوصيّة في المسائل الفقهيّة كما إذا قيل

مثلًا: إن سافرت بين مكّة والمدينة ثمانية فراسخ فقصّر، ونحن نعلم بأنّه لا خصوصيّة لمكّة والمدينة، ونلغي خصوصيتهما ونحكم بوجوب القصر في سائر الأمكنة إذا تحقّق مقدار ثمانية فراسخ، فما الفرق بين هذا وقياس مستنبط العلّة؟

قلت: يكون النظر في القياس المستنبط العلّة إلى علّة الحكم، بينما هو في تنقيح المناط يكون إلى موضوع الحكم، والفرق بين الموضوع والعلّة واضح حيث إنّ الموضوع هو عنوان مشتمل على جميع ما له دخل في تنجّز التكليف وفعليّته كعنوان المستطيع في وجوب الحجّ، وأمّا العلّة فإنّها داخلة في سلسلة المبادى ء والأغراض، مضافاً إلى أنّ إلغاء الخصوصيّة وتنقيح المناط طريق إلى تعيين دائرة المنطوق وتوسعتها ولا ربط له بالمفهوم، فإذا تعدّينا من مورد دليل إلى مورد آخر بالالغاء أو التنقيح وأثبتنا الحكم الثابت في مورد ذلك الدليل لمورد آخر- تعدّ دلالة الدليل حينئذٍ من قبيل المنطوق لا المفهوم كما لا يخفى.

الوجه الثالث: إنّ ما ذكره من الفرق بين الأولويّة القطعيّة والعرفيّة أيضاً غير تامّ، لأنّ الأولويّة سواء كانت عقليّة أو عرفيّة داخلة في المفهوم، وفهم العرف لا ينافي ذلك، لوجود ملاك المفهوم في كلتيهما، حيث إن الملاك هو كون الحكم غير مذكور وهو موجود في مثل قوله تعالى: «فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ» بالنسبة إلى قضية «لا تضرب» مثلًا كما لا يخفى، نعم إلّاإذا كان المنطوق مجرّد طريق وإشارة إلى المفهوم، فلا يكون القول بالافّ في الآية مثلًا حراماً بنفسه بل يكون نحو كناية عن مثل الضرب، ففي مثل هذه الموارد تدخل الأولويّة العرفيّة في المنطوق بلا إشكال.

انوار الأصول، ج 2، ص: 139

إذا عرفت هذا فلنرجع إلى أصل البحث فنقول: هل يجوز تخصيص العام بالمفهوم أو لا؟ لا إشكال ولا خلاف في

جواز تخصيص العام بالمفهوم إذا كان موافقاً كما إذا قال: «لا تكرم الفسّاق» ثمّ قال: «أكرم الضيف ولو كان كافراً» فمفهومه وجوب إكرام الضيف إذا كان مسلماً فاسقاً بطريق أولى، وهذا المفهوم موافق للمنطوق في الإيجاب ويكون خاصّاً بالنسبة إلى عموم «لا تكرم الفسّاق».

وأمّا إذا كان المفهوم مخالفاً ففيه خمسة أقوال:

الأوّل: عدم جواز التخصيص مطلقاً.

الثاني: جوازه مطلقاً.

الثالث: التفصيل بين موارد المفهوم فيختلف باختلاف الموارد والمقامات، فإن كان الدالّ على المفهوم مثل كلمة «إنّما» فيقدّم على العام ويخصّص العام به وإلّا فالعام يقدّم.

الرابع: تفصيل المحقّق الخراساني رحمه الله وهو التفصيل بين الكلام الواحد وبين الكلامين المنفصلين، والتفصيل بين ما إذا فهمنا العموم من الوضع وما إذا فهمناه من مقدّمات الحكمة، فتارةً يكون العام والمفهوم في كلام واحد واستفدنا العموم والمفهوم كليهما من مقدّمات الحكمة أو استفدنا كليهما من الوضع، فلا عموم حينئذٍ ولا مفهوم لعدم تماميّة المقدّمات بالنسبة إلى شي ء منهما في الأوّل، ولمزاحمة ظهور كلّ منهما مع الآخر في الثاني، فلا بدّ حينئذٍ من الرجوع إلى الاصول العمليّة في مورد الشكّ، واخرى يكونان في كلامين بينهما فصل طويل وكان كلّ منهما بمقدّمات الحكمة أو بالوضع، فالظهور لا محالة وإن كان ينعقد لكلّ منهما ولكن لابدّ حينئذٍ من أن يعامل معهما معاملة المجمل لتكافؤهما في الظهور إن لم يكن أحدهما أظهر، وإلّا فيكون هو القرينة على التصرّف في الآخر.

الخامس: تفصيل المحقّق النائيني رحمه الله، فإنّه فصّل في المفهوم المخالف بين ما إذا كانت النسبة بين العام والمفهوم- العموم والخصوص مطلقاً، وبين ما إذا كانت من العام يقدّم على العام سواء كان بين المنطوق والعام العموم المطلق أو العموم من وجه، ومهما كان بين المفهوم والعام- العموم

من وجه يعامل معهما معاملة العموم من وجه فربّما يقدّم العام وربّما يقدّم المفهوم في مورد التعارض من غير فرق في ذلك أيضاً بين أن يكون بين المنطوق والعام- العموم المطلق أو العموم من وجه» «1» (انتهى).

انوار الأصول، ج 2، ص: 140

أقول: الإنصاف أنّ البحث إنحرف عن مسيره الأصلي في كلمات المتأخّرين كالمحقّق الخراساني والنائيني رحمهما الله وبعض آخر (قدّس اللَّه أسرارهم) فقد تكلّموا عن امور أربع لا ربط لها بمحلّ النزاع.

أحدها: أنّه هل يستفاد العموم أو المفهوم من مقدّمات الحكمة أو من الوضع؟

ثانيها: هل الكلام يكون من قبيل المحفوف بالقرينة أو لا؟

ثالثها: هل العام لسانه آبٍ عن التخصيص أو لا؟

رابعها: هل النسبة بين العام والخاصّ العموم والخصوص مطلقاً أو من وجه؟

مع أنّ الحقّ في المقام أن يتكلّم عن التفاوت بين المفهوم والمنطوق فقط وأنّه إذا كان العام قابلًا للتخصيص بالمنطوق فهل يخصّص بالمفهوم أيضاً أو لا؟

وبعبارة اخرى: هل يكون للمفهوم من حيث هو مفهوم نقص في التخصيص بالقياس إلى المنطوق؟ وذلك لأنّه لا فرق في هذه النكات الأربع بين المنطوق والمفهوم، فإنّ المنطوق أيضاً لا يقدّر لتخصيص العام الآبي عن التخصيص، ولا يخصّصه أيضاً إذا كان هو بمقدّمات الحكمة وكان العام دالًا على العموم بالوضع، وكذلك إذا كانت النسبة بينه وبين العام العموم من وجه أو كان العام لإقوائيته وأظهريته قرينة على التصرّف في الخاصّ.

إذن فلا بدّ من ارجاع البحث إلى محوره الأصلي، وهو أن نفرض الكلام أوّلًا في مورد كان العام فيه يخصّص بالخاصّ على تقدير كونه منطوقاً، ثمّ نبحث في أنّه هل يخصّص بالمفهوم أيضاً في هذا الفرض أو لا؟ وأنّ المفهوميّة هل توجب ضعفاً للخاصّ أو لا؟ وحينئذٍ نقول: ربّما يتوهّم أنّ

الدلالة المفهوميّة أضعف من الدلالة المنطوقيّة فلا يكون الخاصّ إذا كان مفهوماً مخصّصاً للعام، لكن الإنصاف أنّ مجرّد كون الخاصّ مفهوماً لا يوجب ضعفاً، بل ربّما يكون المفهوم أقوى من المنطوق، بل ربّما يكون المقصود الأصلي للمتكلّم هو المفهوم فقط.

وبالجملة لا المنطوق بما هو منطوق يوجب قوّة للخاص ولا المفهوم بما هو مفهوم يوجب ضعفاً له، فتلخّص من جميع ما ذكرنا أنّه يجوز تخصيص العام بالمفهوم كما يجوز تخصيصه بالمنطوق، نعم كما أشرنا آنفاً قد يكون العام أقوى من الخاص فلا يخصّص العام به كما إذا كا العام آبياً عن التخصيص، لكنّه لا يختصّ بالمفهوم بل المنطوق أيضاً لا يخصّص العام إذا كان العام كذلك، نحو قوله عليه السلام: «ما خالف كتاب اللَّه فهو زخرف» فإنّ هذا عام لا يمكن تخصيصه انوار الأصول، ج 2، ص: 141

بشي ء، أو كان المورد من المستحبّات، فيحمل الخاصّ حينئذٍ على تعدّد المطلوب كما إذا دلّ دليل على أنّ صلاة الليل مستحبّ من نصف الليل إلى آخره، ونهى دليل آخر عن إتيانها فيما بعد النصف بلا فصل، أو أمر دليل آخر بإتيانها في آخر الليل، فبهذين الدليلين لا يخصّص عموم الدليل الأوّل بل كلّ منهما دالّ على مرتبة من المطلوبيّة.

بقي هنا شي ء:

وهو التفصيل بين مفهوم كلمة إنّما وغيرها، فقال بعض: إذا كان الدالّ على المفهوم كلمة إنّما وشبهها فيقدّم على العام وإلّا فلا، لكنّه غير تامّ ولا يعدّ تفصيلًا لمحلّ النزاع لأنّ مدلول كلمة إنّما منطوق لا مفهوم كما لا يخفى.

انوار الأصول، ج 2، ص: 143

الفصل التاسع الكلام في الاستثناء المتعقّب للجمل المتعدّدة

فهل هو ظاهر في الرجوع إلى الجميع، أو إلى خصوص الأخيرة، أو لا ظهور له أصلًا بل يصير الكلام مجملًا ولابدّ في التعيين من قرينة، مثل

قوله تعالى: «وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الُمحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا» «1»

فهل الاستثناء بقوله «إلّا الذين تابوا» يرجع إلى جميع الأحكام الثلاثة، أي الجلد بثمانين جلدة، وعدم قبول الشهادة أبداً، والفسق، فتكون النتيجة حينئذٍ رفع جميعها بالتوبة، أو يرجع إلى خصوص الأخير فيرفع به خصوص الفسق، أو الكلام مجمل؟

أقوال، فقيل بظهوره في الرجوع إلى الكلّ، وقيل بظهوره في الرجوع إلى خصوص الأخيرة، وقيل بالإجمال مع كون القدر المتيقّن هو الأخير، وقيل بما يأتي من التفصيل.

ولنقدّم قبل الورود في بيان الأقوال أمرين:

الأمر الأوّل: قال بعضهم بإستحالة الرجوع إلى الجميع ثبوتاً فلا تصل النوبة إلى البحث عن الوقوع في مقام الإثبات واستدلّ له بوجهين:

أحدهما: أنّ كلمة «إلّا» من الحروف، وقد قرّر في محلّه أنّ الموضوع فيها جزئي حقيقي، وهو يلزم دلالة كلمة «إلّا» على إخراج واحد لا إخراجات عديدة، ولازمه الرجوع إلى الأخيرة.

ثانيهما: سلّمنا عدم كون الموضوع له في الحروف جزئياً حقيقياً لكنّه لا إشكال في أنّ المعنى الحرفي آليّ وفانٍ في غيره، فلا يلحظ مستقلًا بل لابدّ من لحاظه فانياً في غيره، وحينئذٍ يتعيّن رجوع كلمة الاستثناء إلى الأخيرة لأنّه لا يتصوّر فناء شي ء واحد في شيئين.

انوار الأصول، ج 2، ص: 144

وكلا الأمرين غير تامّ، أمّا الأوّل فلما مرّ من أنّ الموضوع له في الحروف كلّي دائماً أو غالباً، ولو سلّمنا كونه جزئياً لكن الإخراج في ما نحن فيه ليس متعدّداً بل هو واحد وإنّما المخرج متعدّد، وهذا نظير إنشاء المعاني المتعدّدة بصيغة واحدة نحو «بعت هذا الدار بالف تومان وذاك بالفين وذاك بآلاف».

وأمّا الثاني: فلأنّه أوّلًا: يمكن لحاظ معانٍ متعدّدة بصورة وحدانية وتصوّرها

بنحو جمعي ثمّ إفناء معنى الحرف في جميعها، كما إذا قيل: «سِرْ من البصرة أو الكوفة وإلى بغداد وإلى عبّادان» فيلحظ معنى الابتدائيّة لكلمة «من» فانياً في جميع الأمكنة المذكورة في المثال بلحاظ واحد.

ثانياً: يمكن كون اللحاظات متعدّدة واستعمال اللفظ في أكثر من معنى، لما مرّ كراراً من عدم اعتبار آنٍ حقيقي في اللحاظ، ولا دليل على أنّ اللحاظات آنات حقيقيّة، بل يمكن احضار معانٍ متعدّدة كسبعين معنى للفظ «عين» مثلًا في الذهن متواليّة واحداً بعد واحد ثمّ استعمال لفظ العين في الجميع، ولذلك ذهبنا إلى جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى، هذا كلّه في الأمر الأوّل.

الأمر الثاني: أنّه لو قلنا بالإجمال وأنّ الاستثناء المتعقّب لجمل متعدّدة لا يكون ظاهراً في الرجوع إلى الجميع ولا في الرجوع إلى خصوص الأخيرة بعد صلوحه لكلّ منهما وإن كان الرجوع إلى الأخيرة متيقّناً معلوماً فهل يسقط العمومات غير الأخيرة عن الحجّية أو لا؟

قال المحقّق الخراساني رحمه الله: إنّها ساقطة عن الحجّية، فلا يكون ما سوى الأخيرة ظاهراً في العموم لاكتنافه بما يصلح للرجوع إليه، فلا بدّ في محلّ الشكّ من الرجوع إلى الأصل العملي.

ففي مثال «أكرم العلماء إلّاالفسّاق والمخالفين منهم» نرجع في مشكوك الفسق والمخالفة إلى أصل البراءة.

وقال المحقّق النائيني رحمه الله: بعدم سقوطها عن الحجّيه بل «يحتاج تخصيص الجمل السابقة على الجملة الأخيرة إلى دليل آخر مفقود على الفرض، وأمّا توهّم كون المقام من قبيل اكتناف الكلام بما يصلح للقرينية فهو غير صحيح، لأنّ المولى لو أراد تخصيص الجميع ومع ذلك اكتفى في مقام البيان بذكر استثناء واحد مع تكرار عقد الوضع في الجملة الأخيرة لكان مخلًا ببيانه» «1».

انوار الأصول، ج 2، ص: 145

أقول: الظاهر أنّ الحقّ

مع المحقّق الخراساني رحمه الله، لأنّ عدم صحّة اكتفاء المولى في بيان مقصوده بالاستثناء المجمل لكونه مخلًا ببيانه يختصّ بما إذا لم يكن نفس الإجمال مقصوداً، وإلّا فلا إشكال في الصحّة، وهذا نظير الاستثناء بكلمة «بعض»، فإذا قال: «أكرم العلماء إلّا بعضهم» مع عدم كون الإجمال مقصوداً فقد أخلّ بمقصوده وأمّا إذا كان المقصود هو نفس بيان الحكم مجملًا فلا إشكال حينئذٍ في صحّة الاكتفاء بكلمة «بعض»، ولا يخفى أنّ للشارع المقدّس أحكاماً يكون المقام فيها مقام الإجمال والإبهام، وذلك لمصالح تقتضيه، منها عدم انسداد أبواب بيوت أهل البيت عليهم السلام كما صرّح به المحقّق القمي رحمه الله في كتابه جامع الشتات في جواب من سأل عن وجه ورود المتشابه في القرآن الكريم.

إذا عرفت هذا فلنشرع في أصل البحث والأقوال الواردة فيه ...

فنقول: أمّا التفصيل الذي وعدنا نقله فهو ما ذهب إليه المحقّق النائيني رحمه الله وإليك نصّ كلامه: «والتحقيق في ذلك هو التفصيل بأن يقال إنّ من الواضح أنّه لابدّ من رجوع الاستثناء إلى عقد الوضع لا محالة، وعليه فإمّا أن يكون عقد الوضع مكرّراً في الجملة الأخيرة كما في مثل الآية المباركة، أو لا يكون كذلك، بل يختصّ ذكر عقد الوضع بصدر الكلام كما إذا قيل أكرم العلماء وأضفهم وأطعمهم إلّافسّاقهم، أمّا القسم الثاني أعني به ما لا يكون عقد الوضع مذكوراً فيه إلّافي صدر الكلام فلا مناصّ فيه عن الالتزام برجوعه إلى الجميع، لأنّ المفروض أنّ عقد الوضع فيه لم يذكر إلّافي صدر الكلام، وقد عرفت أنّه لابدّ من رجوع الاستثناء إلى عقد الوضع فلا بدّ من رجوعه إلى الجميع، وأمّا كون العطف في قوّة التكرار فهو وإن كان صحيحاً إلّاأنّه لا

يوجب وجود عقد وضع آخر في الكلام ليكون صالحاً لرجوع الاستثناء إليه، وأمّا القسم الأوّل أعني به ما يكون عقد الوضع فيه مكرّراً فالظاهر فيه هو رجوع الاستثناء إلى خصوص الجملة الأخيرة لأنّ تكرار عقد الوضع في الجملة الأخيرة مستقلًا يوجب أخذ الاستثناء محلّه من الكلام فيحتاج تخصيص الجمل السابقة على الجملة الأخيرة إلى دليل آخر مفقود على الفرض» «1».

وقال في حاشية الأجود: «الصحيح في تقريب التفصيل في المقام أن يقال: إنّ تعدّد الجمل انوار الأصول، ج 2، ص: 146

المتعقّبة بالاستثناء إمّا أن يكون بتعدّد خصوص موضوعاتها أو بتعدّد خصوص محمولاتها أو بتعدّد كليهما، وعلى الأوّلين فإمّا أن يتكرّر ما بتعدّده تعدّد القضيّة في الكلام أو لا يتكرّر فيه ذلك، فالأقسام خمسة، أمّا القسم الأوّل، أعني به ما تعدّدت فيه القضيّة بتعدّد موضوعاتها ولم يتكرّر فيه عقد الحمل كما إذا قيل: «أكرم العلماء والأشراف والشيوخ إلّاالفسّاق منهم» فالظاهر فيه رجوع الاستثناء إلى الجميع، لأنّ القضيّة في مثل ذلك وإن كانت متعدّدة صورة إلّا أنّها في حكم قضية واحدة قد حكم فيها بوجوب إكرام كلّ فرد من الطوائف الثلاث إلّا الفسّاق منهم، فكأنّه قيل: أكرم كلّ واحد من هذه الطوائف إلّامن كان منهم فاسقاً، وأمّا القسم الثاني، أعني به ما تعدّدت فيه القضيّة بتعدّد موضوعاتها مع تكرّر عقد الحمل فيه كما إذا قيل:

«أكرم العلماء والأشراف وأكرم الشيوخ إلّاالفسّاق منهم» فالظاهر فيه رجوع الاستثناء إلى خصوص الجملة المتكرّر فيها عقد الحمل وما بعدها من الجمل لو كانت لأنّ تكرار عقد الحمل في الكلام قرينة على قطع الكلام عمّا قبله، وبذلك يأخذ الاستثناء محلّه من الكلام، فيحتاج تخصيص الجمل السابقة على الجملة المتكرّر فيه عقد الحمل إلى دليل آخر

مفقود على الفرض، وأمّا القسم الثالث والرابع، أعني بهما ما تعدّدت فيه القضيّة بخصوص تعدّد محمولاتها مع تكرّر عقد الوضع في أحدهما وعدم تكرّره في الآخر فيظهر الحال فيهما ممّا افيد في المتن، وأمّا القسم الخامس، أعني به ما تعدّدت القضيّة فيه بكلّ من الموضوع والمحمول كما إذا قيل: «أكرم العلماء وجالس الأشراف إلّاالفسّاق منهم» فالظاهر فيه رجوع الاستثناء إلى خصوص الأخيرة ويظهر الوجه فيه ممّا تقدّم» «1».

أقول: يرد عليه:

أوّلًا: أنّ المتّبع في باب الألفاظ هو الظهور العرفي، وهو يختلف باختلاف المقامات ولا يقبل الاستدلال المنطقي، وحينئذٍ لو قامت قرينة أوجبت ظهور الكلام في الرجوع إلى الجميع أو إلى الأخيرة فهو (سواء تكرّر عقد الحمل أو لم يتكرّر) وإلّا فيصير الكلام مجملًا مبهماً يؤخذ بالقدر المتيقّن وهو الرجوع إلى الأخيرة.

وثانياً: أنّ المحقّق النائيني رحمه الله وتلميذه المحقّق المقرّر له كلاهما اتّفقا على ظهور العمومات انوار الأصول، ج 2، ص: 147

غير الأخيرة في عمومها فيما إذا رجع الاستثناء إلى الأخيرة وأنّها ليست مكتنفة بما يصلح للقرينية حتّى تصير مجملة، وذلك لتوهّم أنّ الإجمال يستلزم الإخلال بالمقصود، مع أنّه (كما مرّ) قد يكون المقصود نفس الإجمال والإهمال، وكلمة الاستثناء في الأمثلة المذكورة إن لم تكن كافيّة لبيان تمام المقصود تكفي للإجمال.

وقد يقال: إنّ هذا (التفصيل المزبور) خلط حقيقة بين أداة الاستثناء التوصيفي وأداة الاستثناء غير التوصيفي ففي القسم الأوّل فحيث أنّه لا يجوز التوصيف للضمير المتّصل يرجع الوصف في مثل «أكرم العلماء وأضفهم إلّاالفسّاق منهم» أي الشقّ الثاني من التفصيل إلى الجملة الاولى، أي يصير الوصف وصفاً للعلماء في المثال، فيخصّص به حكم الإكرام وبتبعه يخصّص أيضاً ما بعده وهو حكم الضيافة في المثال، وأمّا في القسم الثاني

أي الاستثناء غير التوصيفي فيمكن رجوعه إلى الأخيرة كما يمكن رجوعه إلى الجميع ونسبته بالنسبة إلى كلّ واحد منهما سواء وليس ظاهراً في خصوص أحدهما حتّى يصير الكلام مجملًا، هذا كلّه في الشقّ الثاني من التفصيل، وأمّا الشقّ الأوّل، أي ما إذا تكرّر عقد الوضع فادّعاء الظهور في الرجوع إلى الأخيرة مصادرة ودعوى بلا دليل.

أقول: كلامه في كلا شقّي التفصيل صحيح ومقبول، ولكن الإشكال إنّما هو في أنّ الأمثلة المذكورة في ما نحن فيه ظاهر جميعها الاستثناء غير التوصيفي لأنّ ظاهرها الاستثناء عن الحكم لا الموضوع، فلا معنى لكونه وصفاً حينئذٍ، بل الاستثناء التوصيفي لا يأتي إلّافي موارد خاصّة كباب الأعداد نحو «فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً» «1»

، وبالجملة المتبادر من الاستثناء (إلّا في بعض الموارد) هو الاستثناء عن الحكم، وظاهره حينئذٍ عدم الوصف نحو «أكرم العلماء إلّاالفسّاق» فليس الظاهر منه «أكرم العلماء المتّصفين بأنّهم غير الفسّاق».

ثمّ إنّه ينبغي هنا أن نشير إلى نكتة وهي أنّ محلّ النزاع في ما نحن فيه ما إذا لم- توجد في البين قرينة مع أنّ المثال المعروف وهو آية القذف المذكورة في صدر المسألة ليس خالياً عنها، وهي أنّ المشهور على قبول شهادة القاذف إذا تاب بل لعلّه إجماعي كما ذكره الفاضل المقداد حيث قال: «وإن تاب قبلت شهادته عندنا وعند الشافعي، وهو قول أكثر التابعين، وقال أبو

انوار الأصول، ج 2، ص: 148

حنيفة لا يقبل شهادته أبداً» «1» ويدلّ عليه أيضاً روايات: منها ما جاء في خبر قاسم بن سليمان عن أبي عبداللَّه عليه السلام «... وبئس ما قالوا كان أبي يقول إذا تاب ولم يعلم منه إلّاخير جازت شهادته» «2». فهذه قرينة خارجيّة تقتضي رجوع الاستثناء إلى

الجميع، وفي الآية قرينة اخرى داخلية تقتضي الرجوع إلى الجميع أيضاً حيث إن مقتضى الرجوع إلى الأخيرة عدالة القاذف إذا تاب ومقتضى المناسبة بين الحكم والموضوع والفهم العرفي قبول شهادته حينئذٍ.

إن قلت: إنّه ينافي ذيل الآية، أي قوله: «ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً».

قلت: إنّ كلمة «أبداً» بمنزلة عام يكون ظاهراً في الدوام وليس نصّاً فيه، ولذا لا إشكال في تخصيصه كما ورد في آيات من القرآن الكريم نحو قوله تعالى: «خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ» «3».

الفصل العاشر هل يجوز تخصيص عمومات الكتاب بخبر الواحد؟

لا إشكال في جواز تخصيصها بخبر المتواتر، إنّما الكلام في تخصيصها بخبر الواحد.

المستفاد من كلمات صاحب الفصول أنّ المسألة ذات أقوال، خلافاً لما إدّعاه المحقّق النائيني رحمه الله من الإجماع على الجواز، فحكي عن جماعة إنكار الجواز مطلقاً ونقل أنّه مذهب السيّد المرتضى رحمه الله.

إن قلت: أنّه أنكر حجّية خبر الواحد من أصله. قلت: إنّ إنكاره هنا مبنيّ على تسليمه لحجّية خبر الواحد فكأنّه يقول: لو سلّم حجّية خبر الواحد فلا يجوز تخصيص الكتاب به.

وهنا قول آخر بالجواز مطلقاً، وهو منقول عن عامّة المتأخّرين، ومنهم من فصّل بين ما إذا كان العام مخصّصاً سابقاً بدليل قطعي وما إذا لم يكن كذلك فذهب إلى الجواز في الأوّل دون الثاني، وهنا من توقّف في المسألة، فظهر إلى هنا أنّ المسألة ليست إجماعيّة، نعم المتأخّرون منهم أجمعوا على الجواز.

ويستدلّ للجواز بوجهين ذكرهما في الكفاية:

الوجه الأوّل: السيرة المستمرّة من زمن النبي والأئمّة عليهم السلام بل وذلك ممّا يقطع به في زمن الصحابة والتابعين فإنّهم كثيراً ما يتمسّكون بالأخبار في قبال عمومات الكتاب ولم ينكر ذلك عليهم.

الوجه الثاني: أنّه لولاه لزم إلغاء الخبر بالمرّة، إذ ما من خبر إلّاوهو

مخالف لعموم من الكتاب.

أقول: كلّ واحد من الوجهين قابل للجواب، أمّا السيرة فيمكن المناقشة فيها بأنّ القدر المتيقّن منها ما إذا كانت أخبار الآحاد محفوفة بالقرينة خصوصاً مع النظر إلى كثرة وجود

انوار الأصول، ج 2، ص: 150

القرائن في عصر الحضور، ولو لم نقطع به فلا أقلّ من احتماله.

وأمّا الوجه الثاني: ففيه أنّ في الكتاب عمومات كثيرة لم تخصّص أصلًا حيث إن غالب عمومات الكتاب ليس الشارع فيها في مقام البيان من قبيل قوله تعالى: «أَقِيمُوا الصَّلَاةَ» وهكذا قوله: «خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً» حيث إنّ معناه أنّ جميع ما خلق في الأرض يكون بنفعكم، وليس مفاده منحصراً في خصوص منفعة الأكل حتّى يخصّص بما ورد من أدلّة حرمة الأكل بالنسبة إلى بعض الأشياء، وهكذا قوله تعالى: «خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً» فإنّه ليس في مقام البيان حتّى ينافيه ويخصّصه ما يدلّ على أنّ الزّكاة في تسعة أشياء.

والأولى في المقام أن يستدلّ بعمومات أدلّة حجّية خبر الواحد كبناء العقلاء ومفهوم آية النبأ، فإنّها دليل على العمل به ولو في مقابل عمومات الكتاب والسنّة المتواترة.

وأمّا المانعون فاحتجّوا للمنع بوجوه:

الوجه الأوّل: أنّ الكتاب قطعي وخبر الواحد ظنّي، والظنّي لا يعارض القطعي لعدم مقاومته له فيلغى بالمرّة.

واجيب عنه: بأنّ الدوران والتعارض يقع في الحقيقة بين أصالة العموم في العام الكتابي وبين دليل حجّية الخبر، لا دلالته، وحيث إن الخاصّ أقوى دلالة من العام، فلا شبهة في تقديمه عليه بعد أن ثبتت حجّيته بدليل قطعي، وببيان آخر: أنّ الخبر بدلالته وسنده صالح عرفاً للقرينية على التصرّف في أصالة العموم بخلاف أصالة العموم فإنّها لا تصلح لرفع اليد عن دليل اعتبار الخبر لأنّ اعتبار أصالة العموم منوط بعدم قرينة على خلافها، والمفروض

أنّ الخبر الخاصّ بدلالته وسنده يصلح لذلك، فلا مجال لأصالة العموم مع القرينة على خلافها.

هذا هو جواب المشهور عن هذا الوجه، لكن الأحسن في مقام الجواب أن نرجع إلى ما بيّناه سابقاً في مبحث العام والخاصّ من أنّ العمومات الواردة في الكتاب والسنّة يجوز تخصيصها لحكمة تدريجيّة بيان الأحكام في الشريعة المقدّسة التي جرت عليها عادة الشارع وسيرته، وفي خصوص الكتاب جرت أيضاً على بيان امّهات الأحكام غالباً وفوّض شرحها وبيان جزئيّاتها إلى سنّة النبي صلى الله عليه و آله والأئمّة عليهم السلام، فالقرآن حينئذٍ بمنزلة القانون الأساسي (في يومنا هذا) الذي بيّنت فيه امّهات المسائل فقط.

الوجه الثاني: أنّ دليل حجّية الخبر وهو الإجماع لبّي، والمتيقّن منه هو الخبر غير المخالف للكتاب فلا يشمل المخالف.

انوار الأصول، ج 2، ص: 151

وجوابه واضح، وهو أنّ دليل حجّية خبر الواحد ليس منحصراً بالإجماع بل لها أدلّة اخرى منها: السيرة المستمرّة لأصحاب الأئمّة عليهم السلام على العمل بخبر الواحد المخالف للعام الكتابي ومنها: بناء العقلاء على العمل بها مطلقاً سواء كان في مقابله دليل قطعي الصدور أم لا.

الوجه الثالث: أنّه لو جاز التخصيص به لجاز النسخ أيضاً، والتالي باطل اتّفاقاً فالمقدّم مثله، بيان الملازمة، أنّ النسخ نوع من التخصيص فإنّه تخصيص في الأزمان والتخصيص المطلق أعمّ منه، فلو جاز التخصيص بخبر الواحد لكانت العلّة أولويّة تخصيص العام على إلغاء الخاصّ وهو قائم في النسخ.

واجيب عنه بوجهين:

الأوّ: أنّ الفارق بين النسخ والتخصيص هو الإجماع لاختصاص الإجماع على المنع بالنسخ.

الثاني: أنّ العقل يحكم بتفاوت النسخ عن التخصيص فالنسخ ممّا يتوفّر الداعي بضبطه، ولذا قلّ الخلاف في موارده ويكون الخبر الدالّ عليه متواتراً غالباً، فلا نحتاج في تعيين موارده إلى العمل بخبر الواحد،

بخلاف التخصيص كما يشهد لذلك الإرتكاز العقلائي فإنّه إذا قام خبر الواحد تارةً على مجي ء أحد الأصدقاء مثلًا واخرى على مجي ء شخص عظيم معروف خلف باب المدينة أو على وقوع الزلزلة وانهدام الحرم ومنارته بها فإنّهم يقبلون خبر الواحد في الأوّل ويرتّبون الآثار عليه دون الثاني لمكان الأهميّة، فيستكشف من هذا أنّ طبيعة بعض الأخبار تتوفّر فيها الدواعي على نقلها وأنّها لو كانت لبانت، ولعلّ هذا هو أساس اختصاص الإجماع على المنع بالنسخ.

ولنا جواب ثالث عن هذا الوجه، وهو أنّا ننكر وجود الملازمة بين النسخ والتخصيص، فإنّ النسخ ليس تخصيصاً في الأزمان للزوم تخصيص الأكثر حينئذٍ، فلو كان مقتضى إطلاق أدلّة وجوب صلاة الجمعة مثلًا بقاؤه إلى يوم القيامة ولكن طرأ عليه دليل النسخ بعد زمان قصير فبناءً على كون النسخ تخصيصاً أزمانياً يوجب إخراج أكثر الزمان منذ ورود النسخ إلى يوم القيامة، هذا- مضافاً إلى ما سيأتي من أنّه ليس للأحكام عموم أزماني، فليس معنى قوله «يجب الصّلاة» مثلًا «يجب الصّلاة إلى يوم القيامة» بل الدوام مقتضى طبيعة القانون الشرعي حيث إن من طبعه أن يبقى ببقاء الشرع نظير القوانين العرفيّة العقلائيّة، فليس معنى قولك:

انوار الأصول، ج 2، ص: 152

«بعتك هذه الدار» مثلًا «ملّكتك إيّاها إلى الأبد» بل البقاء هو مقتضى طبيعة قانون الملكيّة، نعم يستثنى من ذلك بعض القوانين كقانون الإجارة، فليس مقتضى طبيعة الإجارة الدوام والاستمرار بل هو تابع لقصد المؤجر والمستأجر كما لا يخفى.

فالحقّ أنّ النسخ كالفسخ، فكما أنّ التمليك يوجد الملكية من دون تقيّد بزمان والفسخ يرفعها بدونه أيضاً فكذلك النسخ، وسيأتي شرح هذا الكلام عند البحث عن حقيقة النسخ.

الوجه الرابع: (وهو العمدة) الأخبار الدالّة على أنّ الأخبار المخالفة للقرآن باطلة

أو يجب طرحها أو غيرهما من المضامين المشابهة، وهي على طائفتين:

الاولى: طائفة واردة في مورد الخبرين المتعارضين وتجعل موافقة الكتاب من مرجّحات تقدّم أحد الخبرين على الآخر في مقام المعارضة وهي خارجة عن محلّ النزاع لأنّها- كما صرّح به بعضهم- يستفاد منها أنّ حجّية الخبر المخالف في نفسه كان مفروغاً عنها وإنّما منع من العمل به وجود الخبر الموافق للكتاب المعارض.

والثانية: طائفة تدلّ على أنّ ما خالف كتاب اللَّه فهو باطل مطلقاً من دون أن يكون في مقام المعارضة وهي كثيرة وصريحة الدلالة على طرح المخالف كما أشار إليه في الكفاية، ومن حيث اللحن واللسان مختلفة يمكن تقسيمها إلى ثلاث طوائف:

الاولى: ما تدلّ على اشتراط موافقة الخبر للكتاب مثل ما رواه عبداللَّه بن أبي يعفور قال:

«سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن اختلاف الحديث يرويه من نطق به، قال: إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهداً من كتاب اللَّه أو من قول رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وإلّا فالذي جاءكم به أولى به» «1» وما رواه عبداللَّه بن بكير عن رجل عن أبي جعفر عليه السلام في حديث قال: إذا جاءكم عنّا حديث وجدتم عليه شاهداً أو شاهدين من كتاب اللَّه فخذوا به، وإلّا فقفوا عنده ثمّ ردّوه إلينا حتّى يستبين لكم» «2».

الثانية: ما تدلّ على أنّ ما خالف الكتاب زخرف، نحو ما رواه أيّوب بن راشد عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «ما لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف» «3» وما رواه أيّوب بن الحرّ قال:

انوار الأصول، ج 2، ص: 153

سمعت أبا عبداللَّه عليه السلام يقول: «كلّ شي ء مردود إلى الكتاب والسنّة وكلّ حديث لا يوافق كتاب اللَّه فهو زخرف» «1».

الثالثة: ما تدلّ

على اشتراطهما جميعاً وهي أربعة نشير هنا إلى بعضها وهو ما رواه جميل بن درّاج عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «الوقوف عند الشبهة خير من الإقتحام في الهلكة، أنّ على كلّ حقّ حقيقة وعلى كلّ صواب نوراً فما وافق كتاب اللَّه فخذوه، وما خالف كتاب اللَّه فدعوه» «2». وفي معناه ما رواه «3» جابر عن أبي جعفر عليه السلام وهشام بن الحكم عن أبي عبداللَّه عن النبي صلى الله عليه و آله «4» والسكوني عن أبي عبداللَّه عليه السلام «5».

والظاهر أنّ مقتضى الجمع بين هذه الأخبار كلّها وجوب طرح ما خالف كتاب اللَّه ولا أقلّ من أنّه هو القدر المتيقّن منه، وهو يكفينا في المقام فلا حاجة إلى البحث عن مدلولها واحدة بعد واحدة.

وكيف كان، فإنّ هنا صغرى وكبرى، أمّا الصغرى فهي أنّ خبر الواحد المخصّص لعموم الكتاب مخالف لكتاب اللَّه تعالى، وأمّا الكبرى فهي «كلّ ما خالف كتاب اللَّه فهو باطل» فتكون النتيجة أنّ خبر الواحد المخالف للكتاب باطل لا يجوز تخصيصه به.

واجيب عن هذا الوجه بوجوه:

الوجه الأوّل: أنّ مخالفة الخاصّ مع العام ليست بمخالفة عرفاً بل يعدّ الخاصّ حينئذٍ بياناً للعام وشرحاً له.

وهذا الجواب حسن بعد ملاحظة ما مرّ منّا سابقاً من أنّ سيرة الشارع وعادته العمليّة إستقرّت على البيان التدريجي للأحكام وإلّا فمع قطع النظر عن هذه النكتة فقد عرفت أنّ ورود الخاصّ المنفصل بعد العام يعدّ عرفاً معارضاً للعام.

الوجه الثاني: سلّمنا صدق المخالفة عرفاً هنا، إلّاأنّ المراد من المخالفة في الأخبار الآمرة بردّ

انوار الأصول، ج 2، ص: 154

المخالف للكتاب هو غير مخالفة العموم والخصوص مطلقاً قطعاً، وذلك للعلم بصدور أخبار كثيرة مخالفة للكتاب بالعموم والخصوص إجمالًا وجريان السيرة القطعيّة وقيام الإجماع

على العمل بها في مقابل عمومات الكتاب، ولا يكون ذلك إلّالتخصيص المخالفة التي هي موضوع الأخبار الآمرة بطرح الخبر المخالف للكتاب بالمخالفة على نحو التباين وإخراج المخالفة بالعموم والخصوص مطلقاً عن المخالفة، إذن فالأخبار الآمرة بردّ المخالف محمولة على المخالفة على نحو التباين وإلّا فهي آبية عن التخصيص.

أقول: هذا الجواب أيضاً حسن إلّاأنّه يرد عليه إشكال أورده شيخنا الأعظم الأنصاري رحمه الله وأجاب عنه وسيأتي بيانه.

الوجه الثالث: أنّ المراد من هذه الأخبار أنّهم لا يقولون خلاف القرآن ثبوتاً وواقعاً وأمّا خلافه إثباتاً وظاهراً ولو بنحو التباين الكلّي فضلًا عن العموم والخصوص مطلقاً أو من وجه شرحاً لمرامه تعالى وبياناً لمراده فكثيراً ما يقولون به.

ولكنّه غير تامّ، لأنّ ظاهر الأخبار أنّ موافقة الكتاب جعلت معياراً لصدق الخبر في مقام الظاهر، أي بعد عرضه على ظاهر الكتاب، إذ العرض على واقعه غير ممكن لنا. ولعلّ المحقّق الخراساني رحمه الله أشار إليه بعد بيان هذا الوجه بقوله «فافهم».

ولكن هيهنا إشكالان:

أحدهما: أنّ إخراج المخالفة بالعموم والخصوص المطلق من الأخبار الآمرة بطرح المخالف للكتاب واختصاصها بالمخالفة على نحو التباين يستلزم بقاءها بلا مورد، لأنّا لم نظفر على خبر مخالف على هذا الوجه.

وأجاب الشيخ الأعظم الأنصاري رحمه الله عن هذه المشكلة في رسائله بما حاصله: أنّ عدم الظفر على المخالف بالتباين الآن، أي بعد تنقيح الأخبار وتصفيتها مرّات عديدة بأيدي أكابر أصحاب الحديث وضبطها في الاصول الأربعمائة ثمّ في الاصول الأربعة لا يلازم عدم وجوده فيما قبل.

أقول: بل يوجد الآن أيضاً بين الأخبار روايات في بعض جوامع الحديث كالبحار للعلّامة

انوار الأصول، ج 2، ص: 155

المجلسي رحمه الله تخالف الكتاب على نحو التباين أو تخالف بعض المسلّمات والضروريات كالتي تخبر عن وقوع النزاع

والمعارضة بين علي عليه السلام وفاطمة عليها السلام وما ورد من أنّ السادات العاصين لا يدخلون في نار جهنّم كيفما كانت المعصية وعلى أي مقدار، مع أنّ الأوّل ينافي عصمة الأئمّة عليهم السلام وفاطمة عليها السلام والثاني يستلزم زيادة الفرع على الأصل حيث إنّه ورد في القرآن الكريم مخاطباً للرسول صلى الله عليه و آله: «لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ» «1»

، أو قوله تعالى: «وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالَيمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ» «2»

وهكذا ما ورد من أنّ عدد الأئمّة عليهم السلام ثلاثة عشر فإنّها أخبار شاذّة نقطع ببطلانها إذا حملت على ظواهرها.

ثانيهما: أنّ هذا كلّه يتصوّر بالنسبة إلى الطائفة الثانية من روايات طرح الخبر المخالف للكتاب، أمّا الطائفة الاولى وهي الأخبار الدالّة على وجوب الأخذ بالخبر الموافق وطرح الخبر المخالف التي وردت في خصوص باب الخبرين المتعارضين فالمشكلة الموجودة فيها أنّه إذا كانت النسبة بين الخبرين التباين الكلّي فهذه الأخبار إنّما هي في مقام تمييز الحجّة عن اللّاحجّة لا في مقام ترجيح إحدى الحجّتين على الاخرى بموافقتها للكتاب، لأنّ المخالف للكتاب في هذه الصورة ليست بحجّة حتّى تصل النوبة إلى التعارض بينه وبين الموافق، وإذن يتعيّن أن يكون مورد هذه الأخبار ما إذا كانت النسبة بين الخبر وكتاب اللَّه العموم والخصوص مطلقاً، وهذا يستلزم التفكيك في معنى الاختلاف في الطائفتين من الرّوايات مع أنّ الظاهر وحدة المفهوم فيهما.

واجيب عن هذه المشكلة بجوابين:

أحدهما: ما ذكره المحقّق الخراساني رحمه الله في باب التعادل والتراجيح من أنّ الموافقة للكتاب في أخبار التعارض أيضاً لتمييز الحجّة عن اللّاحجّة.

ولكنّه في الواقع في تسليم للإشكال.

ثانيهما: أنّ التفكيك بين الطائفتين غير قادح إذا قامت القرينة ودلّ الدليل عليه كما

في المقام.

انوار الأصول، ج 2، ص: 156

بقي هنا امور:

الأوّل: أنّه يمكن أن يقال: إنّ هذه الأخبار أيضاً بنفسها مخالفة لكتاب اللَّه تعالى لأنّها تخالف مفهوم آية النبأ حيث إن مفهومها حجّية خبر الواحد مطلقاً سواء كان مخصّصاً لعمومات الكتاب أو لا يكون، فيلزم من وجود هذه الأخبار وحجّيتها عدمها لأنّ حجّيتها تقتضي تقييد الكتاب في هذه الآية، فيصير من قبيل تقييد الكتاب بخبر الواحد وهو ممنوع على الفرض، اللهمّ إلّاأن يقال: إنّها بالغة إلى حدّ التواتر وليست من أخبار الآحاد فلا إشكال حينئذٍ في جواز تخصيص عموم الكتاب بها.

الثاني: ربّما يقال بأنّ هذا البحث قليل الجدوى لأنّ عمومات الكتاب ليست في مقام البيان فلا يقع تعارض وتخالف بينها وبين أخبار الآحاد.

لكن يردّ هذا: بأنّه وإن كان كثير من العمومات الواردة في الكتاب، كذلك ولكن نشاهد بينها عدداً كثيراً من العمومات التي تكون في مقام البيان، نحو عموم قوله تعالى: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» وقوله: «وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ» وقوله: «وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ» وقوله: «وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ» وقوله:

«وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ» وقوله في آية الأنفال: «وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ» وقوله: «وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ» بناءً على كونه في سياق النفي وقوله: «وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ».

الثالث: أنّ أكثر النكات المذكورة بالنسبة إلى عمومات الكتاب تأتي بالنسبة إلى إطلاقاته أيضاً، فالمطلقات من كتاب اللَّه أيضاً تقيّد بخبر الواحد، وحينئذٍ يأتي فيه أيضاً أدلّة المثبتين، وكذلك أدلّة النافين والجواب عنها لأنّ المطلقات بعد تمام مقدّمات الحكمة بحكم العموم.

انوار الأصول، ج 2، ص: 157

الفصل الحادي عشر الكلام في حالات العام والخاص

إذا ورد عام وخاصّ فتارةً يكون تاريخ كليهما معلوماً، واخرى يكون تاريخ أحدهما أو كليهما

مجهولًا، أمّا الأوّل فله صور خمسة:

الصورة الاولى: أن يكون الخاصّ مقارناً للعام، فإنّه حينئذٍ مخصّص له بلا إشكال نحو، أكرم العلماء إلّازيداً.

الصورة الثانية: أن يكون الخاصّ غير مقارن للعام لكن ورد قبل حضور وقت العمل بالعام، كما إذا قال المولى في أوّل الاسبوع: «أكرم العلماء يوم الجمعة» ثمّ قال في وسطه: «لا تكرم زيداً العالم يوم الجمعة» فحكمها التخصيص ولا يجوز فيها النسخ، لأنّ جواز النسخ من ناحية المولى الحكيم مشروط بحضور وقت العمل بالمنسوخ.

الصورة الثالثة: أن يكون الخاصّ غير مقارن للعام وورد بعد حضور وقت العمل به، كما إذا قال في الاسبوع الأوّل: «أكرم العلماء يوم الجمعة» ثمّ قال في الاسبوع الثاني: «لا تكرم زيداً العالم»، فذهب القوم إلى كونه ناسخاً لا مخصّصاً لئلّا يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة، لكنّا نقول: هذا إذا أحرز أنّ العام قد ورد لبيان الحكم الواقعي، أمّا إذا متكفّلًا لبيان الحكم الظاهري كما هو الغالب بل هكذا سنّة الشارع وسيرته العمليّة في بيان الأحكام الشرعيّة حيث إنّه من دأبه أن يبيّن الأحكام تدريجاً، فحينئذٍ يكون الخاصّ مخصّصاً لا ناسخاً لأنّ النسخ في هذه الصورة وإن كان ممكناً ثبوتاً ولكن ندرته وشيوع التخصيص يوجب تقوية ظهور العام في العموم الأزماني وتضعيف ظهوره في العموم الأفرادي، فيقدّم الظهور في الأوّل على الثاني.

الصورة الرابعة: عكس الثانية، وهي أن يرد العام بعد الخاصّ غير مقارن له وقبل حضور وقت العمل بالخاصّ، فحكمها حكم الصورة الثانية لنفس الدليل المذكور فيها، وهو كون انوار الأصول، ج 2، ص: 158

النسخ قبل العمل قبيحاً للمولى الحكيم، والمثال واضح.

الصورة الخامسة: أن يكون العام بعد الخاصّ وغيرمقارن له وورد بعد حضور وقت العمل بالخاصّ، فيدور الأمر فيها بين النسخ

والتخصيص لجواز كلّ منهما عند الكلّ، أمّا التخصيص فلعدم استلزامه تأخير البيان عن وقت الخطاب أو الحاجة، وأمّا جواز النسخ فلكونه بعد حضور وقت العمل بالخاصّ، والمشهور على ترجيح التخصيص على النسخ، فيقدّم عليه وذلك لندرة النسخ وشيوع التخصيص كما مرّ، وبعبارة اخرى: ظهور الخاصّ في الدوام الأزماني أقوى من ظهور العام في العموم الافرادي.

هذه صور خمسة لما إذا كان تاريخ كلّ من العام والخاصّ معلوماً، وهناك صورة سادسة وهي ما إذا كان التاريخ مجهولًا من دون أن يكون فرق بين ما إذا كان تاريخ كليهما مجهولًا وما إذا كان تاريخ أحدهما مجهولًا، ولا يخفى أنّ هذه الصورة تأتي فيها جميع الاحتمالات الخمسة المذكورة، وبما إن الحكم كان في بعضها النسخ وهو الصورة الثالثة على مبنى القوم، فيتردّد الأمر في هذاالقسم بين النسخ والتخصيص على مبنى القوم، ويصير الحكم مبهماً من ناحية الاصول اللفظيّة وحينئذٍ، تصل النوبة إلى الاصول العمليّة.

هذا كلّه بناءً على ما مشى عليه الأعلام فإنّهم تسالموا على ثلاثة اصول في المقام ليست مقبولة عندنا: أحدها: عدم جواز النسخ قبل العمل. ثانيها: عدم جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة. ثالثها: إنّ دوام الأحكام هو مقتضى العموم الأزماني.

أمّا جواز النسخ قبل العمل فنقول: لا إشكال في جواز النسخ قبل العمل في الأوامر الامتحانية كما وقع في قضيّة ذبح إبراهيم عليه السلام ولده إسماعيل عليه السلام حيث كان الأمر فيه إمتحانيّاً يحصل بنفس التهيّؤ للعمل فإذا وقع التهيّؤ وحضر وقته يحصل المقصود من الإمتحان، وحينئذٍ يمكن النسخ، ولا إشكال في جوازه، وهو نظير ما إذا كلّف المولى عبدهبالسفر وقد تهيّأ له قبل حضور وقته فحينئذٍ بما أن نفس التهيّؤ يكفي لتحقّق الإمتحان والقبول فيه وبالإمكان

أن يتحقّق قبل زمان الفعل يجوز للمولى أن ينسخ حكمه بلا إشكال.

أمّا إذا كانت الأوامر غير إمتحانيّة فإنّ المحقّق النائيني رحمه الله قسّمها على ثلاثة أقسام: الأوامر

انوار الأصول، ج 2، ص: 159

الصادرة على نهج القضايا الحقيقيّة غيرالموقتة، والأوامر الصادرة على نهج القضايا الحقيقيّة الموقتة، والأوامر الصادرة على نهج القضايا الخارجيّة، وحكم باختصاص جواز النسخ بالقضايا الحقيقيّة غير الموقتة والقضايا الخارجيّة أو القضايا الحقيقيّة الموقتة بعد حضور وقت العمل بها، وأمّا القضايا الخارجيّة أو الحقيقيّة الموقتة قبل حضور وقت العمل بها فيستحيل تعلّق النسخ بالحكم المجعول فيها من الحكيم الملتفت وقال: في توضيحه: «إنّ ما ذكروه في المقام إنّما نشأ من عدم تمييز أحكام القضايا الخارجيّة من أحكام القضايا الحقيقيّة وذلك لأنّ الحكم المجعول لو كان من قبيل الأحكام المجعولة في القضايا الخارجيّة لصحّ ما ذكروه، وأمّا إذا كان من قبيل الأحكام المجعولة في القضايا الحقيقيّة الثابتة للموضوعات المقدّر وجودها كما هو الواقع في أحكام الشريعة المقدّسة فلا مانع من نسخها بعد جعلها، ولو كان ذلك بعد زمان قليل كيوم واحد أو أقلّ، لأنّه لا يشترط في صحّة جعله وجود الموضوع له في العام أصلًا إذ المفروض أنّه حكم على موضوع مقدّر الوجود، نعم إذا كان الحكم المجعول في القضيّة الحقيقيّة من قبيل الموقّتات كوجوب الصّوم في شهر رمضان المجعول على نحو القضيّة الحقيقيّة كان نسخه قبل حضور وقت العمل به كنسخ الحكم المجعول في القضايا الخارجيّة قبل وقت العمل به فلا محالة يكون النسخ كاشفاً عن عدم كون الحكم المنشأ أوّلًا حكماً مولويّاً مجعولًا بداعي البعث أو الزجر» «1».

أقول: الإنصاف أنّه لا فرق بين الأقسام الثلاثة، فإذا كان الطلب في القضايا الحقيقيّة غير الموقّتة حقيقياً وكان

الغرض فيها حصول نفس العمل في الخارج لا الامتحان فرفع الطلب ونسخ الحكم حينئذٍ يوجب كون الحكم لغواً لأنّه وإن لا يشترط في صحّة الجعل فيها وجود الموضوع فعلًا إلّاأنّه إذا كان الموضوع منتفياً إلى الأبد كما إذا لا يتحقّق مصداق لعنوان المستطيع (في مثال الحجّ) أبداً فلا محالة يكون جعل الحكم من المولى الحكيم العالم بذلك لغواً واضحاً.

ثمّ إنّه قلّما يوجد في الأحكام الشرعيّة أوامر امتحانيّة، نعم قد تكون المصلحة في نفس الإنشاء وذلك لوجود مصلحة في البين كتثبيت المتكلّم موقعيّة نفسه في الموالي العرفيّة

انوار الأصول، ج 2، ص: 160

وكالتقيّة لحفظ النفس أو المال أو غيرهما في الأوامر الشرعيّة، وحينئذٍ يجوز النسخ قبل العمل بلا ريب كما لا يخفى.

هذا كلّه في المسألة الاولى من المسائل الثلاثة، وهي جواز النسخ قبل العمل وعدمه.

المسألة الثانية: وهي تأخير البيان عن وقت الحاجة فالوجه في عدم جوازه يمكن أن يكون واحداً من الثلاثة:

أحدها: الإلقاء في المفسدة كما إذا قال: أكرم العلماء، ولم يستثن زيداً العالم مع أنّه كان خارجاً عن حكم الإكرام عنده وكان إكرامه ذا مفسدة في الواقع، فإنّه حينئذٍ يوجب إلقاء العبد في تلك المفسدة.

ثانيها: تفويت المصلحة كما إذا قال: لا تكرم الفسّاق، وكان إكرام الضيف مثلًا ذا مصلحة في الواقع ولم يستثنه فإنّه يوجب تفويت تلك المصلحة.

ثالثها: الإلقاء في الكلفة كما إذا قال: أكرم جميع العلماء، ولم يكن إكرام جماعة منهم واجباً مع أنّ إكرامهم يستلزم تحمّل المشقّة الزائدة للعبد.

فبناءً على أحد هذه الامور لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، نعم قد يجوز التأخير فيما إذا كانت هناك مصلحة أقوى كالمصلحة الموجودة في تدريجية الأحكام الشرعيّة فلا إشكال حينئذٍ في أنّ العقل حاكم على جواز

تأخير البيان عن وقت الحاجة كما لا يخفى.

المسألة الثالثة: وهي أنّ الدوام والاستمرار الزماني في الأحكام هل يستفاد من العموم الأزماني للأدلّة، أو يستفاد من مقدّمات الحكمة، أو يكون مقتضى أصل عملي وهو الاستصحاب؟ فقال بعض بأنّه لا دليل عليه إلّاأنّه مقتضى استصحاب بقاء الأحكام، وحيث إنّه أصل عملي وعموم العام أصلي لفظي فلا يقع تعارض بينهما بل يقدّم العموم على الاستصحاب دائماً، وعليه إذا ورد العام بعد الخاصّ وبعد حضور وقت العمل بالخاصّ يقدّم العام على الخاصّ وتكون النتيجة تقديم النسخ على التخصيص.

لكنّ الإنصاف أنّ الاستمرار الزماني يستفاد من طرق اخرى لفظيّة فلا تصل النوبة إلى الاستصحاب:

أحدها: مقدّمات الحكمة فيما إذا قال مثلًا: «للَّه على الناس حجّ البيت» ولم يقيّده بزمان خاصّ فنستفيد من إطلاقه الدوام والاستمرار.

انوار الأصول، ج 2، ص: 161

إن قلت: وجود العام ووروده بعد الخاصّ يمنع من جريان مقدّمات الحكمة لكونه بياناً للحكم.

قلنا: أنّ المراد من عدم البيان في مقدّمات الحكمة هو عدم البيان في مقام البيان لا عدم البيان إلى الأبد، وحيث إن المولى أطلق كلامه حين البيان ولم يقيّده بزمان خاصّ تجري مقدّمات الحكمة وتقتضي الدوام والأبديّة.

ثانيها: العمومات التي وردت في الشرع ومفادها «أنّ حلال محمّد صلى الله عليه و آله حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة» أو الأدلّة التي تدلّ على خاتميّة دين النبي صلى الله عليه و آله فإنّ هذه الأدلّة بعمومها أو إطلاقها دليل على أبديّة الأحكام الشرعيّة كلّها.

ثالثها: ما سيأتي إن شاء اللَّه في باب النسخ أنّ طبيعة الحكم الإلهي والقانون الشرعي تطلب الأبديّة وتدلّ على الدوام والاستمرار إلى أن يرد ناسخ فإنّها نظير طبيعة الأحكام الوضعيّة المجعولة عند العرف والعقلاء كالملكيّة والزوجيّة،

حيث إنّها تقتضي الدوام بطبعها وذاتها إلى أن يرد عليه مزيل كما لا يخفى، وسيأتي لذلك مزيد توضيح عن قريب فانتظر.

الفصل الثاني عشر: الكلام في النسخ والبداء
اشارة

والوجه في التعرّض لهذه المسألة في ما نحن فيه أمران:

أحدهما: ربط مسائل العام والخاصّ بالنسخ كما ظهر ممّا سبق.

ثانيهما: كونها من المبادى ء الأحكاميّة التي تبحث عنها في علم الاصول كالبحث عن تضادّ الأمر والنهي، هذا بالنسبة إلى النسخ، وأمّا البداء فلأنّ له صلة قريبة وعلاقة شديدة بالنسخ كما سيتّضح لك إن شاء اللَّه.

وكيف كان: لابدّ أوّلًا: أن نبحث في المعنى اللغوي للنسخ، قال الراغب في مفرداته: «النسخ إزالة الشي ء بشي ء يتعقّبه كنسخ الشمس الظلّ والظلّ الشمس والشيب الشباب، فتارةً يفهم منه الإزالة وتارةً يفهم منه الإثبات وتارةً الأمران» (أي الإزالة والإثبات كلاهما) ثمّ قال بعد فصل: «ونسخ الكتاب نقل صورته المجرّدة إلى كتاب آخر وذلك لا يقتضي إزالة الصورة الاولى بل يقتضي إثبات مثلها في مادّة اخرى كالمناسخة في الميراث» فيستفاد من هذه العبارة إنّه أشرب في ماهيّة النسخ أمران: الإزالة والإثبات، ولذلك قد يستعمل النسخ في خصوص معنى الإزالة وقد يستعمل في خصوص معنى الإثبات، ومن هنا أخذ معنى التناسخ في القول بتناسخ الأرواح لأنّ القائل به يقول: أنّ الروح يزول عن بدن ويثبت في بدن آخر. هذا في معنى النسخ لغةً.

وأمّا في الاصطلاح فذكر له معانٍ مختلفة، فقال المحقّق الخراساني رحمه الله: «إنّ النسخ دفع الحكم الثابت إثباتاً إلّاأنّه في الحقيقة دفع الحكم ثبوتاً».

وقال المحقّق النائيني رحمه الله: «النسخ انتهاء أمد الحكم المجعول لانتهاء الحكمة الداعية إلى جعله» وقال في المحاضرات: «النسخ رفع أمر ثابت في الشريعة المقدّسة بارتفاع أمده وزمانه».

انوار الأصول، ج 2، ص: 164

أقول: لو حاولنا النقاش في هذه التعاريف فيمكن

المناقشة في كلّ منها، فمثلًا بالنسبة إلى التعريف الأخير (وهو للمحاضرات) يمكن أن يقال: إنّ الصحيح هو التعبير برفع الحكم لا رفع الأمر، وأيضاً لا وجه لتخصيصه النسخ بالشريعة المقدّسة بل إنّه ثابت بين العرف والعقلاء أيضاً في أحكامهم، كما أنّ هذا الإشكال يرد على تعريف المحقّق الخراساني رحمه الله أيضاً لأنّ تعبيره بالدفع يتصوّر في دائرة الشرع، وأمّا في دائرة الموالي العرفيّة وعبيدهم فإنّ النسخ هو الرفع لا الدفع كما لا يخفى وهكذا بالنسبة إلى كلام المحقّق النائيني رحمه الله حيث إنّه أيضاً خصّص النسخ في تعريفه بدائرة الشرع، والأحسن أن يقال: النسخ، رفع حكم تكليفي أو وضعي مع بقاء موضوعه (ثبوتاً أو إثباتاً).

ثمّ إنّه هل يجوز النسخ في حكم اللَّه تعالى أو لا؟ المشهور أو المجمع عليه بين المسلمين جوازه ونسب إلى اليهود والنصارى أنّه مستحيل، واستدلّ لذلك بأنّه إمّا إن كان الحكم المنسوخ ذا مصلحة فلا بدّ من دوامه وبقائه ولا وجه لنسخه وإزالته، وأمّا إن لم يكن ذا مصلحة فاللازم عدم جعله ابتداءً إلّاإذا كان الجاعل جاهلًا بحقائق الامور، تعالى اللَّه عن ذلك علوّاً كبيراً، كما أنّ النسخ في الأحكام العرفيّة أيضاً يرجع إلى أحد الأمرين: إمّا إلى جهل الجاهل من أوّل الأمر بعدم وجود المصلحة في الحكم، وإمّا إلى جهله بعدم دوام المصلحة وعدم كونه عالماً بالمستقبل، وبما أن اللَّه تعالى لا يتصوّر فيه الجهل بالمستقبل حدوثاً وبقاءً يستحيل النسخ بالنسبة إليه كما لا يخفى.

والجواب عن هذا معروف، وهو أنّه لا إشكال في أن يكون لشي ء مصلحة في زمان دون زمان آخر كالدواء الذي نافع للمريض يوماً وضارّ يوماً آخر، كما أنّ الرجوع إلى التاريخ وشأن نزول الآيات في

قصّة القبلة يرشدنا إلى هذه النكتة، وحينئذٍ يكون النسخ بمعنى انتهاء أمد الحكم وزوال المصلحة، ومن هنا ذهب المشهور إلى أنّ النسخ دفع الحكم لا رفعه، كما أنّ المعروف كون النسخ تخصيصاً للعموم الأزماني لأحكام الشرع ظاهراً، ولكنّ الإنصاف أنّ بقاء الأحكام مستفاد من طبيعتها وأنّ النسخ في الحقيقة رفع لا دفع.

توضيح ذلك: أنّ الأحكام الإنشائيّة على أقسام فتارةً يكون من الأحكام التكليفيّة كالوجوب والحرمة، واخرى من قبيل الأحكام الوضعيّة كالملكيّة والزوجيّة، وثالثة من قبيل المناصب المجعولة كمنصب القضاوة والوزارة، وكلّ واحد من هذه الثلاثة قد يكون موقتاً

انوار الأصول، ج 2، ص: 165

كالواجبات الموقّتة مثل الصّوم والحجّ في القسم الأوّل، وكالإجارة في القسم الثاني وكبعض مناصب الحكومة في عصرنا هذا في القسم الثالث، وقد يكون مطلقاً كوجوب تطهير المسجد من النجاسة وأداء الدَين في القسم الأوّل وكالملكيّة الحاصلة من البيع في القسم الثاني حيث إن البيع ينعقد مطلقاً وإن كان البائع أو المشتري عازماً على الفسخ، ولذا لا يصحّ أن يقول:

«ملكتك إلى شهر» ولا أن يقول: «ملكتك إلى الأبد» بل الملكيّة إذا حصلت بقيت بذاتها، وكالقضاوة والوزارة في القسم الثالث لأنّه ما لم يعزل القاضي أو الوزير عن منصب القضاوة والوزارة يكون باقياً على منصبه بمقتضى طبيعة ذاتهما.

إذا عرفت هذا فنقول: لا إشكال في أنّ الحكم الذي انشأ على نحو الإطلاق وكان من القسم الثاني والثالث يدوم ويستمرّ بمقتضى طبعه وذاته ولذلك يعبّر فيهما بالفسخ والعزل، فإنّ الفسخ أو العزل هو رفع ما يكون ثابتاً باقياً حتّى في مقام الثبوت، ثمّ نقول: كذلك في القسم الأوّل، أي الأحكام التكليفيّة التي تصدر وتنشأ من جانب الشارع مطلقاً ويكون مقتضى طبعها وذاتها الدوام والاستمرار بلا فرق بينها وبين

الأحكام الوضعيّة والمناصب المجعولة، وبلا فرق بين مقام الثبوت ومقام الإثبات فيكون وزان النسخ فيها وزان الفسخ والعزل فيهما، أي أنّ النسخ أيضاً رفع الحكم الثابت لا الدفع، فكما أنّ الأحكام الوضعيّة المطلقة والمناصب المجعولة المطلقة كان مقتضى طبعها وذاتها الدوام والبقاء فتكون باقية ما لم يفسخ وما لم يعزل كذلك الأحكام التكليفيّة المطلقة يكون مقتضى طبعها الدوام والبقاء وتكون باقيّة ما لم ينسخ، فوزانها وزانهما كما أنّ وزان النسخ وزان الفسخ والعزل، ولذلك نقول: كذلك في الشرائع السابقة فإنّ مقتضى طبعها أيضاً الدوام ما لم تأت شريعة اخرى، فمثلًا شريعة عيسى عليه السلام لم تكن مقيّدة بمقدار خمسمائة سنة بل إنّها بأحكامها كانت مطلقة في مقام الثبوت والإنشاء، مقتضية للبقاء والاستمرار، وهكذا مسألة القبلة في شريعتنا كانت بذاتها مقتضية للدوام والاستمرار ما لم تنسخ من ناحية الشارع.

إن قلت: فما الفرق بين الشارع وغيره في النسخ؟

قلنا: لا فرق بينهما بالنسبة إلى ماهيّة النسخ وحقيقته، فإنّه رفع الحكم ثبوتاً وإثباتاً في كلا الموردين، إنّما الفرق من جهتين:

الاولى: جهل العقلاء بعدم المصلحة حدوثاً ومن أوّل الأمر فيما إذا كانت المصلحة مفقودة

انوار الأصول، ج 2، ص: 166

منذ البداية، فقد يستكشف لهم بعد جعل الحكم فقدان المصلحة من بدو الأمر.

الثانية: جهلهم بانتهاء مصلحة الحكم وعدم دوامها فيما إذا انتهت المصلحة بعد فترة، فيستكشف لهم عدم دوامها، ولا إشكال في أنّه لا يتصوّر شي ء من الأمرين بالنسبة إلى الشارع العليم الحكيم كما لا يخفى، لكن هذا لا ينافي أن يكون جعل الشارع وإنشائه بحسب الظاهر والواقع مطلقاً كما مرّ بيانه.

وممّا يؤيّد ما ذكرنا أنّه لو كان النسخ تخصيصاً أزمانياً ودفعاً في مقام الثبوت فكان الزمان مأخوذاً في الحكم يستلزم تخصيص الأكثر

المستهجن لأنّ في نسخ حكم واحد يستثنى أكثر الزمان، هذا أوّلًا.

وثانياً: لا خلاف ولا إشكال في تقديم التخصيص على النسخ عند دوران الأمر بينهما، وهذا ممّا يشهد بأنّ النسخ عندهم هو نزع الحكم من الأصل والأساس، ولذلك يحتاج إلى مؤونة زائدة على التخصيص الذي يكون أساس الحكم فيه باقياً على حاله، وإلّا لو لم يكن النسخ هكذا بل كان في الواقع من مصاديق التخصيص فلا وجه لتقيم التخصيص عليه.

ثالثاً: أنّ عدم جواز النسخ بخبر الواحد وجواز التخصيص به أيضاً شاهد لما ذكرنا حيث إنّه أيضاً يدلّ على زيادة المؤونة في النسخ وأنّه رفع الحكم من الأساس.

بقي هنا شي ء:

وهو كيف يتصور النسخ في القرآن الكريم؟

لا إشكال في جواز النسخ في القرآن سواء كان الناسخ والمنسوخ كلاهما في القرآن كما في آية النجوى، أو كان خصوص الناسخ فيه كما في حكم القبلة.

لا يقال: أنّه في القسم الأوّل مشمول لقوله تعالى: «وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً» «1»

لأنّ جوابه واضح، وهو وجود القرينة في هذه الموارد إمّا على أنّ الآية المنسوخة ستنسخ أو على ناسخيّة الآية الناسخة فتكون إحدى الآيتين ناظرة إلى الاخرى، ولا إشكال حينئذٍ في عدم صدق الاختلاف، فالأوّل مثل قوله تعالى: «وَاللَّاتِي يَأْتِينَ انوار الأصول، ج 2، ص: 167

الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا» «1»

قرينة على إمكان النسخ فيها، كما ورد من طرق الفريقين أنّ المراد من السبيل هو حدّ زناء المحصنة، فنسخ حكم الإمساك في البيوت للزانيات، وتبدّل إلى الحدّ المذكور في الرّوايات وهو الرجم، نعم ليس الناسخ لهذه الآية من القرآن، فهو خارج عن محلّ الكلام

لأنّ محلّ البحث ما إذا كان كلا الدليلين من القرآن بينما الناسخ هنا روايات وردت من طريق الفريقين.

وأمّا قوله تعالى في سورة النور: «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ» فهو وارد في غير المحصنات كما ثبت في محلّه، نعم يمكن الاستشهاد بهذه الآية لإثبات أصل وجود القرينة في الآية المنسوخة.

إن قلت: كيف يكون الرجم بالنسبة إلى المحصنات الزانيات سبيلًا مع كونه أسوأ حالًا من الإمساك؟

قلنا: أنّه كذلك إذا كان الحكم في الدليل الناسخ شاملًا أيضاً لمن إرتكب الزنا قبل صدور الناسخ مع أنّ الثابت في الشرع أنّ حكم الرجم مخصوص لمن يزني بعد صدور هذا الحكم، وأمّا المرتكب للزنا قبله فهو معفوّ بلا إشكال. وحينئذٍ السبيل في الآية هو العفو بالنسبة إلى من زنى سابقاً، كما أنّه كذلك في القوانين العقلائيّة العرفيّة، فإنّها لا تشمل ما سبق، وحينئذٍ يمكن أن يقال: إنّ الاعتبار العقلائي هذه بنفسها قرينة لبّية على انصراف القانون الجديد في الشرع إلى زمان الحال والاستقبال.

نعم، إذا قلنا: أنّ الآية ناظرة إلى غير المحصنات مع القول بأنّ آية الجلد شاملة لمن سبق منه الزنا أيضاً فالمراد من السبيل حينئذٍ هو تبدّل السجن إلى الجلد.

هذا كلّه فيما إذا كانت القرينة موجودة في الدليل المنسوخ، أمّا الثاني وهو ما إذا كانت القرينة موجودة في الدليل الناسخ فهو نظير قوله تعالى في آية النجوى: «أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ» «2»

فإنّ التعبير ب «أأشفقتم» و «فإذا لم تفعلوا وتاب اللَّه عليكم» قرينة على نسخ حكم الصدقة

انوار الأصول، ج 2، ص: 168

الوارد في قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ

نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ...» «1»

كما لا يخفى.

فتلخّص ممّا ذكرنا أنّه لا إشكال في جواز النسخ في القرآن سواء كان الوارد في القرآن خصوص الدليل الناسخ أو خصوص الدليل المنسوخ أو كليهما، نعم يشترط في الأخير وجود القرينة على النسخ أمّا في الدليل الناسخ أو في الدليل المنسوخ حتّى لا يكون من قبيل الاختلاف.

هذا تمام الكلام في النسخ.

مسألة البداء

ذكرنا مسألة البداء بعد مسألة النسخ لما بينهما من الإرتباط، ولذلك تذكران معاً في كلمات القوم غالباً، والمحقّق العلّامة المجلسي رحمه الله عنون لهما باباً واحداً في المجلّد الرابع من بحار الأنوار بقوله «فصل في البداء والنسخ» وجمع فيه زهاء سبعين رواية في البداء والنسخ.

ووجه الإرتباط بين المسألتين أنّ النسبة بينهما العموم مطلقاً لأنّ البداء يعمّ التكوينيات والتشريعيات معاً لكن النسخ يختصّ بالتشريعيات، نعم خصّص بعض العلماء أحدها بالتكوينيات والآخر بالتشريعيات، وقال في مقام تشبيه أحدهما بالآخر: «البداء في التكوينيات كالنسخ في التشريعيات» وجاء في كلام المحقق الداماد «أنّ البداء النسخ في التكوينيات والنسخ بداء في التشريعيات».

توضيح المسألة: قال الراغب في مفرداته: البداء ظهور الشي ء ظهوراً بيّناً (ولذلك تسمّى البادية بادية لأنّ كلّ شي ء ظاهر هناك، أو لأنّه يظهر فيها حوادث مختلفة لا تظهر في المدن) وقال بعض: المراد من البداء في اللغة ظهور الشي ء بعد الخفاء وحصول العلم به بعد الجهل، نحو قوله تعالى: «ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوْا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ» «2»

أو قوله: «وَبَدَا لَهُمْ انوار الأصول، ج 2، ص: 169

سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا» «1»

هذا بالنسبة إلى معناه اللغوي، وأمّا بالنسبة إلى الباري تعالى فقد وردت روايات كثيرة تدلّ على أنّ البداء في أمر اللَّه من الامور المسلّمة التي يترادف الاعتقاد به الاعتقاد بالتوحيد، ونحن نشير

هنا إلى عدد منها:

1- ما رواه زرارة عن أحدهما عليهما السلام قال: «ما عبداللَّه عزّوجلّ شي ء مثل البداء» «2».

2- ما رواه هشام بن سالم عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «ما عظّم اللَّه عزّوجلّ بمثل البداء» «3».

3- ما رواه مرازم بن حكم قال: سمعت أبا عبداللَّه عليه السلام يقول: «ما تنبّأ نبي قطّ حتّى يقرّ للَّه تعالى بخمس: بالبداء والمشيئة والسجود والعبوديّة والطاعة» «4».

4- ما رواه زرارة ومحمّد بن مسم عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «ما بعث اللَّه نبيّاً قطّ حتّى يأخذ عليه ثلاثاً: الإقرار للَّه بالعبوديّة وخلع الأنداد وأنّ اللَّه يمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء» «5» إلى غير ذلك.

وبالجملة لا إشكال في أصل ثبوت البداء، إنّما الكلام في تفسيره، وقد يفترى على الشيعة الإماميّة بأنّهم يعتقدون بأنّ البداء في اللَّه هو أن يظهر له ما كان مجهولًا له، أي أنّ البداء ظهور الشي ء بعد الخفاء وحصول العلم به بعد الجهل، أو أنّه بمعنى الندامة، مع أنّ هذا إفك عظيم وتهمة واضحة وشطط من الكلام لا يقول به من فهم من الإسلام شيئاً، ولذا أنكر علماؤنا ذلك من الصدر الأوّل إلى اليوم خصوصاً الأكابر منهم كالشيخ الصدوق والشيخ المفيد رحمهما الله، ورواياتنا أيضاً تدلّ على امتناع هذا المعنى على اللَّه، مثل ما رواه أبو بصير وسماعة عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «من زعم أنّ اللَّه عزّوجلّ يبدو له في شي ء لم يعلمه أمس فابرؤوا منه» «6».

فما هو التفسير الصحيح للبداء؟

إنّ معنى البداء الذي نحن نعتقده مبنيّ على آيتين من سورة الرعد، وهما قوله تعالى: «لِكُلِ انوار الأصول، ج 2، ص: 170

أَجَلٍ كِتَابٌ يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ» «1»

، وهو يشبه النسخ

بناءً على مذهب المشهور من أنّ حقيقته هو الدفع لا الرفع، أي أنّ النسخ بمعنى انتهاء أمد الحكم وأنّ اللَّه يظهر فيه ما كان مجهولًا للناس وهو يتصوّر بعد حضور وقت العمل بالحكم المنسوخ إلّافي الأوامر الإمتحانيّة فيتصوّر فيها قبل حضور وقت العمل أيضاً كما مرّ.

فالبداء أيضاً كذلك، فيتصوّر في الأوامر الإمتحانية قبل العمل كما إذا فرضنا مثلًا أنّ أمر إبراهيم بذبح إبنه صدر على نهج القضيّة الخيريّة، فكأنّه حينئذٍ صدر بعنوان الإخبار عن أمر تكويني سوف يتحقّق في المستقبل ثمّ بدا له بقوله تعالى: «قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا»، وفي غير الإمتحان مثل ما وقع في قضية يونس عليه السلام من وعده تعالى بالعذاب على قومه ثمّ كشفه عنهم بعد أن آمنوا، فهو في كلا القسمين ليس بمعنى ظهور ما خفى عليه بل بمعنى إبداء شرط أو مانع أخفاه في بدو الأمر، فهو تعالى يخبر عن وقوع أمر معلّق على شرط أو عدم مانع من دون التصريح بالمعلّق عليه حين الإخبار، فلا يحصل المعلّق لعدم حصول المعلّق عليه وذلك لحكمة تقتضي ذلك، ثمّ يبدي ما لم يذكره أوّلًا، فالبداء بتعبير عقلي يرجع إلى العلل المركّبة التي تتصوّر فيها علّة تامّة وعلّة ناقصة، فيرجع إمّا إلى عدم حصول المقتضي أو وجود المانع، وفي لسان الشرع يرجع إلى مسألة المحو أو الإثبات، فقد ثبت أنّ للَّه تعالى كتابين: أحدهما: امّ الكتاب الذي ثبت فيه جميع الامور من دون محو وإثبات، والآخر: كتاب المحو والإثبات.

وبالجملة، البداء ليس بمعنى ظهور ما خفى عليه تعالى كما يدلّ عليه قوله: «وَقَالَتْ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ» «2»

حيث جاء في التفسير أنّ اليهود قالوا

قد فزع اللَّه من الأمر لا يحدث اللَّه غير ما قدّره في التقدير الأوّل (وأنّه قد جفّ القلم بما هو كائن) فردّ اللَّه عليهم بقوله: بل يداه مبسوطتان، ومن الآيات الدالّة على أصل وجود البداء وصحّته قوله تعالى: «وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ» «3».

وهذا المعنى تدلّ عليه أيضاً روايات الأئمّة المعصومين عليهم السلام وهي كما قلنا كثيرة كما مرّت انوار الأصول، ج 2، ص: 171

جملة منها في صدر البحث، ولا بأس بالإشارة إلى بعضها الآخر التي تشير أيضاً إلى بعض مصاديق البداء الواقعة في الامم الماضية.

1- ما رواه حسن بن محمّد النوفلي قال: قال الرضا لسليمان المروزيّ: ما أنكرت من البداء ياسليمان واللَّه عزّوجلّ يقول: «أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْئاً» ويقول عزّوجلّ: «وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ» ويقول: «بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ» ويقول عزّوجلّ: «يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ» ويقول: «وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِنْ طِينٍ» ويقول عزّوجلّ: «وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِامْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ» ويقول: «وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ» قال سليمان: هل رويت فيه عن آبائك شيئاً؟

قال: نعم رويت عن أبي عبداللَّه عليه السلام أنّه قال: إنّ للَّه عزّوجلّ علمين: علماً مخزوناً مكنوناً لا يعلمه إلّاهو من ذلك يكون البداء، وعلماً علّمه ملائكته ورسله، فالعلماء من أهل بيت نبيّك يعلمونه، قال سليمان: أحبّ أن تنزعه لي من كتاب اللَّه عزّوجلّ، قال: قول اللَّه عزّوجلّ لنبيّه:

«فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ» أراد هلاكهم ثمّ بدا فقال: «وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ» قال سليمان: زدني جعلت فداك، قال الرضا عليه السلام: لقد أخبرني أبي عن آبائه أنّ رسول اللَّه صلى

الله عليه و آله قال: إنّ اللَّه عزّوجلّ أوحى إلى نبي من أنبيائه أن أخبر فلان الملك أنّي متوفّيه إلى كذا وكذا فأتاه ذلك النبي ... إلى آخر الحديث» «1».

2- ما رواه أبو بصير (وهو المعروف بقصّة العروس) قال: سمعت أبا عبداللَّه الصادق جعفر بن محمّد عليهما السلام يقول: إنّ عيسى روح اللَّه مرّ بقوم مجلبين فقال: ما لهؤلاء؟ قيل: ياروح اللَّه، إنّ فلانة بنت فلان تهدى إلى فلان بن فلان في ليلتها هذه. قال: يجلبون اليوم ويبكون غداً. فقال قائل منهم: ولِمَ يارسول اللَّه؟ قال: لأنّ صاحبتهم ميّتة في ليلتها هذه، فقال القائلون بمقالته:

صدق اللَّه وصدق رسوله، وقال أهل النفاق ما أقرب غداً. فلمّا أصبحوا جاؤوا فوجدوها على حالها لم يحدث بها شي ء فقالوا: ياروح اللَّه إنّ التي أخبرتنا أمس أنّها ميتة لم تمت. فقال: عيسى على نبيّنا وآله وعليه السلام: يفعل اللَّه ما يشاء فاذهبوا بنا إليها، فذهبوا يتسابقون حتّى قرعوا الباب، فخرج زوجها فقال له عيسى عليه السلام: استأذن لي على صاحبتك قال: فدخل عليها

انوار الأصول، ج 2، ص: 172

فأخبرها أنّ روح اللَّه وكلمته بالباب مع عدّة قال: فتخدّرت فدخل عليها فقال لها: ما صنعت ليلتك هذه؟ قالت لم أصنع شيئاً إلّاوقد كنت أصنعه فيما مضى أنّه كان يعترينا سائل في كلّ ليلة جمعة فننيله ما يقوته إلى مثلها وأنّه جاءني في ليلتي هذه وأنا مشغولة بأمري وأهلي في مشاغل فهتف فلم يجبه أحد ثمّ هتف فلم يجب حتّى هتف مراراً فلمّا سمعت مقالته قمت متنكّرة حتّى نلته كما كنّا ننيله فقال لها: تنحّي عن مجلسك فإذا تحت ثيابها افعى مثل جذعة عاضّ على ذنبه فقال عليه السلام: بما صنعت صرف عنك هذا»

«1».

تنبيهان الأوّل: إنّ فلسفة البداء وحكمته عدم القعود عن السعي والجهاد وأن لا نيأس من رحمة اللَّه وإرائته للطريق وهدايته السبل، ومن جانب آخر أن لا نأمّن أنفسنا من سخطه وعذابه، ولا نقول: قد جفّ القلم وأنّه لا يحدث اللَّه غير ما قدّره في التقدير الأوّل بل نقول أنّه يمحو ما يشاء ويثبت، فلا يخفى أنّ هذه العقيدة وهذه الحالة تورثنا وتكّمل لنا حالة الخوف والرجاء بحيث لو صدر عنّا ذنب رجونا العفو والمغفرة، كما أنّه لو صدرت عنّا خيرات بالغة وحسنات كثيرة خفنا من سوء العاقبة، وبالجملة أنّ حكمة البداء وفلسفته هي إيقاع العبد بين حالة الخوف والرجاء، ونتيجته دوام السعي والحركة والعمل مع احتمال الخطأ والمخالفة والوقوع في المهلكة.

الثاني: أنّ إنكار البداء يستلزم إنكار عدّة من المسائل المسلّمة والاعتقادات الضروريّة في الإسلام أو ما أشبه ذلك كمسألة التوبة، ومسألة الحبط في الأعمال وأنّ الحسنات يذهبن السيّئات، ومسألة الشفاعة، وتأثير الدعاء، وتأثير صلة الرحم وقطعها في إزدياد العمر ونقصانه، ودفع البلاء بالصدقة (وقد ورد في الحديث أنّ الصدقة ترفع البلاء المبرم وهو البلاء الذي كتب بالقلم في امّ الكتاب).

إلى هنا تمّ الكلام عن المقصد الرابع من مباحث الاصول.

انوار الأصول، ج 2، ص: 173

المقصد الخامس المطلق والمقيّد

5- المطلق والمقيّد

اشارة

وقبل الورود في أصل البحث لابدّ من بيان مقدّمات:

المقدمة الاولى: في تعريف المطلق والمقيّد

نسب إلى المشهور «أنّ المطلق ما دلّ على شائع في جنسه» وحيث إن كلمة «ما» الموصولة في هذا التعريف كناية عن اللفظ يكون المطلق والمقيّد حينئذٍ من صفات اللفظ.

وإستشكل عليه جماعة تارةً بأنّ الإطلاق والتقييد من صفات المعنى لا اللفظ، واخرى بعدم شموله للألفاظ الدالّة على نفس الماهيّة من دون شيوع كأسماء الأجناس مع أنّهم عدّوا أسامي الأجناس من المطلق، وثالثة بعدم منعه، لشموله كلمة «من وما وأيّ» الاستفهاميّة من باب دلالتها أيضاً على العموم البدلي وضعاً مع أنّها ليست من أفراد المطلق.

والمحقّق الخراساني رحمه الله ذهب في المقام أيضاً (من دون أن يتعرّض لبيان هذه الإشكالات) إلى ما نبّه عليه في مقامات عديدة وهو أنّ مثل هذا التعريف من تعاريف شرح الاسم لا التعريف الحقيقي حتّى يكون في مجال النقض والإبرام.

ونحن أيضاً ننبّه هنا على ما بيّناه غير مرّة من الجواب وأنّ المراد من التعريف الحقيقي في أمثال المقام ليس التعريف بالجنس والفصل بل المراد منه ما يكون جامعاً ومانعاً، ولا يخفى إمكان هذا النحو من التعريف وضرورته للمبتدي في العلم لأن يتّضح له الطريق الذي يسلكه ويحيط بأفراد ذلك الموضوع وأغياره، وقلنا أنّ نفس الإشكالات في جانبي الطرد والعكس في كلمات القوم أقوى شاهد بأنّهم في صدد بيان التعريف الحقيقي بالمعنى الذي ذكرنا.

وبالجملة يجاب عن الإيراد على تعريف المشهور بالنسبة إلى:

الإشكال الثاني: بأنّ الشيوع له معنيان: أحدهما: الشيوع بمعنى العموم، وحينئذٍ يرد عليه انوار الأصول، ج 2، ص: 176

هذا الإشكال، وهو عدم شمول التعريف لأنّ الجنس لأنّه ليس للجنس شيوع بل وكذا النكرة، ثانيهما: السريان والعموم بعد ضمّ مقدّمات الحكمة ولا إشكال في وجود هذا

المعنى في اسم الجنس والنكرة.

وأمّا الإشكال الثالث: فيردّ بأنّ كلمة «من وما وأي» الاستفهاميّة ليست من الأغيار بل نحن نلتزم بأنّها أيضاً من أفراد المطلق.

وأمّا الإشكال الأوّل: فيندفع بأنّه كما أنّ المعنى يتّصف بصفة الإطلاق والتقييد، كذلك اللفظ أيضاً يتّصف بهما بلحاظ كونه مرآة للمعنى وكاشفاً عنه.

لكن مع ذلك كلّه يمكن لنا إرائة تعريف أوضح وأسهل من تعريف المشهور، بأن ننظر إلى المعنى اللغوي للمطلق ونقول: المطلق ما لا قيد فيه من المعاني أو الألفاظ، والمقيّد ما فيه قيد، وبعبارة اخرى: أنّ المطلق في مصطلح الاصوليين نفس ما ذكر في اللغة وهو ما يكون مرسلًا وسارياً بلا قيد.

ومن هنا يظهر أنّ الإطلاق والتقييد أمران إضافيان، لأنّه ربّما يكون معنى مقيّداً بالنسبة إلى معنى آخر وفي نفس الوقت يعدّ مطلقاً بالنسبة إلى معنى ثالث، كالرقبة المؤمنة، فإنّها مقيّدة بالنسبة إلى مطلق الرقبة بينما هي مطلقة بالنسبة إلى الرقبة المؤمنة العادلة.

المقدمة الثانية: في شموليّة الإطلاق

إنّ المطلق- كما سيأتي- يفيد العموم والشمول ببركة مقدّمات الحكمة وهذا الشمول على ثلاثة أقسام، لأنّه قد يكون بدليّاً وقد يكون استغراقياً وقد يكون مجموعياً، فلا يصحّ ما ربّما يتوهّم من أنّ المطلق إنّما يدلّ على الشمول البدلي دائماً، لأنّ كلمة البيع أو الماء مثلًا في قوله تعالى: «أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ» وقوله عليه السلام: «الماء إذا بلغ قدر كرّ لم ينجّسه شي ء» مطلق مع أنّه يفيد العموم الاستغراقي، وكلمة العالم في قضيّة «أكرم العالم» أيضاً مطلق مع أنّه قد يكون الشمول فيه مجموعياً، نعم أنّه يتوقّف على قيام قرينة على أنّ المقصود فيه مجموع العلماء من حيث المجموع.

المقدمة الثالثة: الإطلاق والتقييد ليسا الامور الذهنيّة

أنّ الإطلاق والتقييد كما اشير إليه آنفاً ليسا أمرين وجوديّين في الخارج بل هما من الامور

انوار الأصول، ج 2، ص: 177

الذهنيّة، والتقابل بينهما تقابل العدم والملكة فالمطلق ما من شأنه أن يكون مقيّداً وبالعكس.

المقدّمة الرابعة: في مصبّ الإطلاق
اشارة

ما أفاده في تهذيب الاصول من أنّ مصبّ الإطلاق أعمّ من الطبائع والأعلام الشخصية وتجد الثاني في أبواب الحجّ كثيراً، في الطواف على البيت واستلام الحجر والوقوف بمنى والمشعر «1».

أقول: كأنّه وقع الخلط بين نفس الكعبة ومنى والمشعر الحرام وبين الأفعال القائمة بها فهذه المواقف العظيمة وإن كانت اموراً جزئيّة شخصية ولكنّ الأفعال القائمة بها كالطواف والوقوف امور كلّية تصدق على كثيرين ويأتي فيها الإطلاق والتقييد، فليس الإطلاق والتقييد وصفين لها بل هما وصفان لتلك الأفعال الكلّية.

إذا عرفت هذا فلنشرع في أصل مباحث المطلق والمقيّد فهيهنا مقامات:

المقام الأوّل: في الألفاظ التي يرد عليها الإطلاق
أحدها: «اسم الجنس»

وليس المراد منه معناه المنطقي بل المراد منه في المقام ما يقابل العلم الشخصي، فيشمل الجواهر والأعراض والامور الاعتباريّة كلّها.

والمشهور أنّ الموضوع له فيه هو الماهيّة، والماهيّة على أربعة أقسام: الماهيّة بشرط لا، والماهيّة بشرط شي ء، (وليس اسم الجنس واحداً منهما قطعاً)، والماهيّة اللابشرط القسمي، والماهيّة اللّابشرط المقسمي، والفرق بينهما واضح لأنّ الأوّل ما كان اللحاظ فيه جزء الموضوع له، والثاني عبارة عن ما ليس مشروطاً بشي ء حتّى لحاظ أنّها لا بشرط.

ولا ينبغي الشكّ في أنّ المراد من المطلق هو اللّابشرط المقسمي لأنّ اللّابشرط القسمي انوار الأصول، ج 2، ص: 178

موطنه دائماً هو الذهن هوعاء الاشتراط باللّابشرطيّة إنّما هو الذهن، وهو يستلزم عدم صحّة حمل المطلق مثل الإنسان على الخارج حقيقة، فيكون مثل «زيد إنسان» حينئذٍ مجازاً، ويستلزم أيضاً عدم صحّة الأخبار عن الخارج نحو جاءني إنسان، وكذلك عدم صحّة الأمر نحو «جئني بإنسان» فيتعيّن أن يكون الموضوع له اللّابشرط المقسمي أي القدر الجامع بين الأقسام الثلاثة، الذي يكون مرآة للخارج.

بقي هنا شي ء:

وهو أنّ ما اشتهر في كلماتهم (بل لعلّه كالمتسالم عليه) من أنّ الموضوع له في أسماء الأجناس

هو الماهيّة من حيث هي هي لا موجودة ولا معدومة، فإنّه ممّا لا يمكن المساعدة عليه عند الدقّة بل الموضوع له هو الموجود الخارجي، لأنّه المتبادر من إطلاق مثل الإنسان والشجر وغيرهما، فيتبادر عند إطلاق الإنسان والشجر إنسان خارجي وشجر خارجي، غاية الأمر إنسان لا بعينه وشجر لا بعينه، ومن أنكر هذا أنكره بلسانه وقلبه مطمئن بالإيمان، بل يدلّ عليه حكمة الوضع كما مرّ بيانه غير مرّة فإن قد مرّ من أنّ الناس في حياتهم الاعتياديّة لا حاجة لهم إلى الماهيات المطلقة حتّى يضعون الألفاظ بإزائها بل حاجاتهم تمسّ الوجودات الخارجيّة، فبموازات حاجاتهم إلى المعاني الخارجيّة يضعون الألفاظ.

هذا، مضافاً إلى وجود صحّة السلب في المقام، فيصحّ أن يقال: «الإنسان الذهني ليس بإنسان» أو «أنّ النار الذهنية ليست ناراً حقيقة بل النار ذلك الوجود الخارجي الذي يحرق الأشياء» والماء هو «الموجود الخارجي الذي يروي العطشان».

إن قلت: فما تقول في قضية «الإنسان موجود» أو «الإنسان معدوم» أو «لم يكن الحجر موجوداً ثمّ صار موجوداً»؟ حيث إنّه لو كان المراد من الحجر مثلًا الحجر الموجود يصير معنى الجملة هكذا: كان الحجر الموجود معدوماً ثمّ صار موجوداً فيلزم التناقض أو يلزم حمل الشي ء على نفسه في مثل الإنسان موجود لأنّ المعنى فيه يصير هكذا: الإنسان الموجود موجود.

قلنا: يعمل في مثل هذه الموارد عمل التجريد بلا ريب وإلّا فما تقول في الأعلام الشخصية التي لا إشكال في أنّها وضعت للموجودات الخارجيّة، فإنّ كلمة زيد مثلًا وضع لزيد الموجود

انوار الأصول، ج 2، ص: 179

المتولّد في تاريخ كذا وكذا بلا خلاف، فما تقول فيها إذا اطلقت واريد منها الماهيّة كما إذا قيل «زيد كان معدوماً ثمّ تولّد».

إن قلت: الوجود مساوق للتشخّص والجزئيّة وهو

ينافي كلّية اسم الجنس.

قلنا: المراد من الوجود هنا هو الوجود السعي وهو لا ينافي الكلّية لأنّه قدر جامع بين الوجودات الجزئيّة الخارجيّة ويكون وعائه الذهن لكن بما أنّه مرآة ومشير إلى تلك الوجودات، وإن أبيت عن ذلك فاختبر نفسك عند طلب الماء مثلًا أو انظر إلى ظمآن بقيعة يطلب الماء، فلا ريب في أنّه يطلب الماء الخارجي لا ماهيّته مع أنّه ليس في طلب ماء مشخّص معيّن بل يطلب مطلق الماء الخارجي أو جنس الماء الخارجي بوجوده السعي، وليس المراد من الوجود السعي إلّاهذا.

فتلخّص من جميع ما ذكرنا أنّ الموضوع له في أسماء الأجناس هو الماهيات الموجودة في الخارج بوجودها السعي واتّضح أيضاً أنّ اسم الجنس قابل لأنّ يكون مصبّ الإطلاق والتقييد.

ثانيها: «علم الجنس»

وفيه مذهبان:

المذهب الأوّل: ما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمه الله من أنّ حال علم الجنس كحال اسم الجنس عيناً فإنّ علم الجنس أيضاً موضوع عنده لنفس المعنى بما هو هو من دون لحاظ تعيّنه وتميّزه في الذهن من بين سائر المعاني حتّى يكون معرفة بسببه، بل تعريفه لفظي، أي يعامل معه معاملة المعرفة وهو نظير التأنيث اللفظي.

وأورد عليه كثير من الأعلام بأنّ الفرق بين اسم الجنس وعلم الجنس ماهوي فإن اسم الجنس وضع لنفس الطبيعة بما هي هي، وعلم الجنس موضوع للطبيعة بما هي متعيّنة متميّزة في الذهن من بين سائر الأجناس.

ولكن يرد على إيرادهم أنّه إن كان المراد من التميّز في الذهن فهذا يستلزم كون جميع أسامي الأجناس من أعلام الجنس لأنّ التميّز الذهني حاصل في جميعها، مضافاً إلى أنّه ممّا لا محصّل له انوار الأصول، ج 2، ص: 180

لأنّ التميّز حاصل على كلّ حال، وإن كان المراد من التميّز اللحاظ الذهني، أي

أنّ الاسامة مثلًا وضعت لذلك الحيوان المفترس بلحاظ أنّه ليس الشجر أو الحجر وغيرهما، أي أنّه مقيّد بهذا اللحاظ.

ففيه:

أوّلًا أنّه يستلزم عدم انطباق علم الجنس على الخارج إلّابالتجريد أو قبول المجازية وكلاهما منفيّان بحكم الوجدان.

وثانياً: ما حكمة الواضع حينئذٍ في وضعه وأي مشكلة أراد حلّها به؟ خصوصاً إذا كان الواضع عامّة الناس فما هو داعي الأفراد العاديين من الناس في وضعهم مثل لفظ الاسامة على هذا النحو.

المذهب الثاني: ما ذهب إليه في تهذيب الاصول فإنّه قال: «اسم الجنس موضوع لنفس الماهيّة وعلم الجنس للطبيعة بما هي متميّزة من عند نفسها بين المفاهيم وليس هذا التميّز والتعيّن متقوّماً باللحاظ بل بعض المعاني بحسب الواقع معروف معيّن وبعضها منكور غير معيّن» «1».

أقول: إن كان مراده من التعبير بالواقع هو الذهن وعام اللحاظ فيرد عليه نفس ما مرّ آنفاً من الإشكالات، مع أنّه بنفسه أيضاً صرّح بعدمه، وإن كان المراد منه هو الخارج فلا نعرف لما ذكره من الفرق مفهوماً محصّلًا ولعلّ القصور منّا.

وقال المحقّق الإصفهاني رحمه الله في التعليقة: أنّ في الفصول تبعاً للسيّد الشريف إرادة التعيّن الجنسي، بيانه: «إنّ كلّ معنى طبيعي فهو بنفسه متعيّن وممتاز عن غيره وهذا وصف ذاتي له، فاللفظ ربّما يوضع لذات المتعيّن والممتاز كالأسد واخرى للمتعيّن الممتاز بما هو كذلك كالاسامة» «2».

أقول: إنّ ما أفاده قدس سره لا يبعد صحّته ولا أقلّ من الاحتمال، وحينئذٍ الفرق بين اسم الجنس وعلم الجنس نظير الفرق بين زيد والرجل من بعض الجهات، فكما أنّه لا نظر في وضع الرجل لافراد الإنسان إلى التشخّصات الفرديّة والتعيّنات الخارجيّة وأنّ الفرد الفلان تولّد في أيّ انوار الأصول، ج 2، ص: 181

تاريخ ومن أيّ شخص مثلًا بل وضع اللفظ

لذوات الأفراد فقط، وأمّا كلمة زيد فهي وضعت للفرد بما هو فرد وللشخص بما هو متشخّص ومتعيّن عن سائر الافراد، كذلك في ما نحن فيه، فإنّ الأسد وضع لذلك الحيوان المتعيّن خارجاً من دون أن يكون لتعيّنه دخل في الموضوع له، وأمّا الاسامة فإنّها وضعت لذلك المتعيّن بما هو متعيّن وممتار عن سائر الأجناس.

إن قلت: ما هو حكمة الوضع حينئذٍ، قلنا: لا يبعد أن تكون الحكمة في ذلك أنّه كما أنّا قد نحتاج في الاستعمال أن ننظر إلى ذلك الحيوان المفترس (مثلًا) ونلاحظه من دون لحاظ تميّزه عن سائر الحيوانات بل يكون النظر إلى مجرّد الماهيّة، فلا بدّ من وضع لفظ يدلّ على نفس الماهيّة فقط، كذلك قد نحتاج إلى النظر إليه بوصف تميّزه عن سائر الأجناس، فنحتاج حينئذٍ إلى وضع لفظ للماهيّة بوصف تميّزها وتعيّنها، فتأمّل.

ثمّ إنّ الظاهر أنّ علم الجنس أيضاً يقع مصبّاً للإطلاق والتقييد كاسم الجنس من دون إشكال.

ثالثها: «المفرد المحلّى باللام»

وقد عرفت في مبحث العام والخاصّ أنّ الألف واللام تارةً تكون لتعريف الجنس، واخرى للاستغراق وثالثة للعهد، ولا يخفى أنّه يأتي في القسم الأوّل ما مرّ من السؤال والجواب المذكور في علم الجنس، ولذلك ذهب المحقّق الخراساني رحمه الله إلى أنّها للتزيين لا للتعريف، ولكن بناءً على ما بيّناه في علم الجنس يظهر لك الحكم هيهنا أيضاً لأنّه حينئذٍ يكون الفرق بين «إنسان» و «الإنسان» مثلًا أنّ الأوّل يدلّ على مجرّد ماهيّة الإنسان من دون أن يلاحظ تميّزه عن سائر الأجناس والموجودات، وأمّا الثاني فإنّه يشار به إلى تلك الماهيّة بوصف كونه متميّزة ومتشخّصة عن غيرها.

وأمّا القسم الأخير وهو لام العهد فلا إشكال في كونها للتعريف، وهي في مثال الإنسان إمّا أن تكون

إشارة إلى الإنسان المذكور في الكلام، أو الإنسان المعهود في الذهن، أو الإنسان الحاضر، وهكذا القسم الثاني أي لام الاستغراق فهي أيضاً للتعريف، ويدلّ على أقصى مراتب الجمع كما مرّ بيانه في الجمع المحلّى باللام في باب العام والخاصّ لأنّه هو المتعيّن خارجاً بخلاف سائر المراتب كما بيّناه سابقاً.

انوار الأصول، ج 2، ص: 182

ولا يخفى أنّ ما يكون مصبّاً للإطلاق والتقييد هو القسم الأوّل فقط أي ما هو لتعريف الجنس.

رابعها: النكرة

وهي نفس اسم الجنس إذا دخل عليه تنوين النكرة نحو إنسانٌ ورجلٌ، فوقع الكلام في تبيين حقيقتها وبيان الفرق بينها وبين اسم الجنس فذهب المحقّق الخراساني رحمه الله إلى التفصيل بين موارد استعمالها بما حاصله: أنّ الاستعمالات مختلفة فتارةً يكون مثل «جاءني رجلٌ» فيكون مفهوم النكرة حينئذٍ هو الفرد المعيّن في الواقع المجهول في الظاهر، واخرى يكون مثل «جئني برجل» فيكون مفهومها الطبيعة المقيّدة بالوحدة لا تعيّن لها لا في الواقع ولا في الظاهر لأنّها حينئذٍ صادقة على كثيرين، ثمّ أضاف وقال: «وليس مفاده الفرد المردّد بين الأفراد وذلك لبداهة كون لفظ «رجل» في «جئني برجل» نكرة مع أنّه يصدق على كلّ من جي ء به من الأفراد ولا يكاد يكون واحد منها هذا أو غيره كما هو قضية الفرد المردّد لو كان هو المراد منها ضرورة أنّ كلّ واحد هو هو لا هو أو غيره».

وقال شيخنا المحقّق الحائري رحمه الله في درره: «أنّ النكرة مستعملة في كلا الموردين بمعنى واحد وأنّه في كليهما جزئي حقيقي، بيانه: أنّه لا إشكال في أنّ الجزئيّة والكلّية من صفات المعقول في الذهن وهو إن امتنع فرض صدقه على كثيرين فجزئي وإلّا فكلّي وجزئيّة المعنى في الذهن لا تتوقّف على تصوّره

بتمام تشخّصاته الواقعيّة، ولذا لو رأى الإنسان شبحاً من البعيد وتردّد في أنّه زيد أو عمرو بل إنسان أو غيره لا يخرجه هذا التردّد عن الجزئيّة» «1».

أقول: الإنصاف في المقام هو وجه ثالث، وهو أن يكون الموضوع له كلّياً في جميع الموارد لكن مع قيد الوحدة ففي «جاءني رجل من أقصى المدينة» أيضاً يكون الموضوع له كلّياً لكنّه ينطبق على فرد خاصّ وتستفاد الجزئيّة من تطبيق الكلّي على الفرد كما في «زيد إنسان» ويكون من باب تعدّد الدالّ والمدلول، أي استفيدت الوحدة والجزئيّة من التنوين، واستفيدت الطبيعة من اسم الجنس الداخل عليه التنوين لا أن تكون الجزئيّة جزءً للموضوع له وإلّإ

انوار الأصول، ج 2، ص: 183

يستلزم تغيير الموضوع له في الاستعمالات المختلفة والجمل المستعمل فيها النكرة وهو بعيد جدّاً.

وأمّا ما أورده المحقّق الخراساني رحمه الله على كون النكرة بمعنى الفرد المردّد فغير وارد، لأنّا نسأل ما هو مقصود المولى في مثال «جئني بهذا أو هذا»؟ فأمّا أن يكون المقصود الجزئي الحقيقي المعلوم في علم اللَّه تعالى وما أظنّ أحداً يقول به، أو يكون المقصود هو مفهوم أحدهما وهو خلاف الظاهر لأنّه يستلزم تبديل «هذا أو هذا» إلى كلّي جامع بينهما، فيتعيّن أن يكون المقصود في هذا المثال الفرد المردّد، فليكن كذلك ما هو بمنزلته وهو مثل «جئني برجل» فإنّه بمنزلة أن يقال: جئني بهذا الرجل أو ذاك أو ذاك إلى آخر الأفراد.

إن قلت (كما قال به المحقّق الخراساني رحمه الله): أنّ لفظ «رجل» يصدق على كلّ من جي ء به من الأفراد بخلاف الفرد المردّد (وهو مفهوم هذا أو غيره) لأنّه لا يكاد يكون واحد من الأفراد هذا أو غيره ضرورة أنّ كلّ واحد هو هو لا

هو أو غيره.

قلنا: يكفي في صدق مفهوم الفرد المردّد (هذا أو غيره) صدق أحد جانبيه، لأنّ العطف فيه يكون بكلمة «أو» لا الواو، ولا إشكال في أنّ مقتضى طبيعة مفهوم «هذا أو غيره» (لمكان كلمة «أو») الصدق على كلّ واحد من الطرفين كما لا يخفى.

نعم، يرد على الفرد المردّد إشكال آخر، وهو أنّ المتكلّم إنّما يقصده فيما إذا كانت الأفراد قابلة للاحصاء وإلّا فلا يمكن أن يكون مقصوداً بل لابدّ حينئذٍ من تصوّر كلّي جامع يكون عنواناً ومرآةً للأفراد إجمالًا، وهذا الكلّي لا يمكن أن يكون الفرد المردّد لأنّه بمنزلة «هذا أو هذا» فيحتاج فيه إلى تصوّر جميع الافراد تفصيلًا لمكان كلمة «أو» وهو لا يمكن في مثل «جئني برجل» الذي لا يحصى عدد الأفراد فيه. فإنّ هذا هو النكتة الأصليّة في الأشكال على الفرد المردّد لا ما ذهب إليه صاحب الكفاية من عدم انطباقه على الخارج.

فتلخّص ممّا ذكرنا أنّ الموضوع له في النكرة مطلقاً هو الكلّي المقيّد بقيد الوحدة، وأمّا هل هو قابل لأن يكون مصبّاً للإطلاق والتقييد أو لا؟ فالظاهر أنّه لا ينبغي الإشكال في كونه كذلك، فإذا إجتمعت فيها مقدّمات الحكمة دلّ على الشياع والسريان كما سيأتي إن شاء اللَّه تعالى.

المقام الثاني: في أنّ استعمال المطلق في المقيّد حقيقة أو مجاز؟

والأقوال فيه ثلاثة:

الأوّل: ما حكي عن سلطان العلماء ومن تبعه من أنّ استعمال المطلق في المقيّد حقيقة مطلقاً.

الثاني: هو المجاز مطلقاً.

والثالث: التفصيل بين التقييد بالمتّصل والتقييد بالمنفصل، فحقيقة في الأوّل دون الثاني.

والتحقيق في المقام يستدعي ذكر مقدّمة وهي: أنّ للمطلق معنيين:

أحدهما: المطلق قبل إجراء مقدّمات الحكمة الذي نعبّر عنه بمصبّ الإطلاق والتقييد وهو المفهوم اللّابشرط.

ثانيهما: المطلق بعد إجراء مقدّمات الحكمة وهو الشائع في جنسه والساري في أفراده، ولا ريب أنّ محلّ

البحث في المقام هو المعنى الأوّل لا الثاني، لأنّ في المعنى الثاني فرض عدم القيد الذي هو إحدى مقدّمات الحكمة فلا معنى حينئذٍ لأن نبحث في أنّ استعماله في المقيّد هل هو حقيقة أو مجاز؟

ومن هنا يعلم أنّ من أخذ معنى الشيوع والسريان في مفهوم المطلق يحتاج إمّا إلى إجراء مقدّمات الحكمة أو إلى الالتزام بأخذ السريان في مفهوم المطلق بحسب الوضع كما نسب إلى القدماء من الاصوليين، وإلّا فقبل جريان المقدّمات ومن دون أخذ السريان في ذات المطلق ووضعه له لا يدلّ على الشيوع والسريان بل أنّه حينئذٍ كما يمكن أن يكون مصبّاً للإطلاق، فيدلّ على الشيوع، كذلك يمكن أن يكون مصبّاً للتقييد فلا يدلّ على الشيوع.

وكيف كان، هل استعمال المطلق في المقيّد حقيقة أو مجاز؟ الحقّ التفصيل بين ثلاث حالات وكونه حقيقة في حالتين منها ومجازاً في حالة اخرى.

الاولى: ما إذا كان استعماله في المقيّد بنحو تعدّد الدالّ والمدلول بأن يراد أصل الطبيعة من المطلق ويراد القيد من قرينة حاليّة أو مقاليّة، كقوله: «اعتق رقبة مؤمنة» فإنّ الذوق السليم يقضي بأنّ لفظ المطلق وهو «رقبة» في المثال يدلّ على نفس الطبيعة وهو الماهيّة اللّابشرط، ولفظ «مؤمنة» يدلّ على القيد لا أنّ الرقبة استعملت في المقيّد وكانت المؤمنة قرينة على ذلك، وعليه يكون الاستعمال حقيقة.

الثانية: أن يكون من قبيل التطبيق نحو «جاءني رجلٌ» فإنّ المراد فيه رجل خاصّ وفرد

انوار الأصول، ج 2، ص: 185

معيّن منه، وفي هذه الصورة أيضاً يكون الاستعمال حقيقة لأنّ الرجل استعمل في معناه الحقيقي وهو الماهيّة اللّابشرط، لكنّه إنطبق على فرد واحد ومصداق واحد وهو لا يوجب المجازيّة بلا إشكال.

الثالثة: استعمال المطلق في المقيّد بأن اريد القيد من نفس المطلق لا

من دالّ آخر كما إذا اريد «الرقبة المؤمنة» من لفظ الرقبة فلا إشكال في كونه مجازاً في هذه الصورة من غير فرق في ذلك بين المختار وهو وضع المطلق للماهيّة اللّابشرط وبين مسلك مشهور القدماء كما لا يخفى.

ومن هنا ظهر أنّ القول المنسوب إلى القدماء يستلزم المجازيّة مطلقاً (إلّا في الصورة الثانية) لأنّ استعمال المطلق في المقيّد حينئذٍ يكون نظير استعمال العام وإرادة الخاصّ، حيث إن الرقبة مثلًا بناءً على هذا المسلك يكون بمنزلة «أي رقبة» فاستعمالها في خصوص المؤمنة بمنزلة استعمال العلماء مثلًا في خصوص زيد.

المقام الثالث: في دلالة المطلق على الشمول والسريان وبيان مقدّمات الحكمة
اشارة

نسب إلى مشهور القدماء أنّ دلالته عليه بمقتضى الوضع، فوضع لفظ الإنسان مثلًا للشمول والسريان في أفراده، لكن ذهب سلطان العلماء رحمه الله إلى أنّه ناشٍ من مقدّمات الحكمة وتبعه مشهور المتأخّرين.

وحاصل ما ذكره المحقّق الخراساني رحمه الله في المقام عدم صحّة النسبة المذكورة إلى المشهور بل أنّهم أيضاً كانوا يستفيدون الشياع من مقدّمات الحكمة، ولعلّ وجه هذه النسبة ملاحظة تمسّكهم بالإطلاقات مع قطع النظر عن إحراز كون المتكلّم في مقام البيان بينما الوجه في تمسّكهم هذا أنّ الأصل عندهم فيما إذا شكّ في أنّ المتكلّم في مقام بيان تمام المراد أو لا- كونه بصدد بيان تمام المراد، فإنّهم لم يعتبروا هذه المقدّمة اعتماداً على هذا الأصل.

أقول: ويشهد لصحّة هذه النسبة أمران: أحدهما: ما جاء في تعريفهم للمطلق بأنّه ما دلّ على الشياع بنفسه، فالظاهر من كلمة «ما دلّ» أنّ الدالّ على الشياع هو اللفظ كما لا يخفى.

ثانيهما: ما نسب إليهم من أنّ المطلق مجاز فيما إذا استعمل في المقيّد.

انوار الأصول، ج 2، ص: 186

وكيف كان، فالإنصاف في المسألة بطلان ما نسب إليهم وأنّ الصحيح كون الشياع مستفاداً من

مقدّمات الحكمة وذلك لوجهين:

أحدهما: التبادر فإنّ المتبادر من إطلاق اسم الجنس مثل لفظ الإنسان مثلًا صرف الطبيعة مجرّدة عن سريانها في أفرادها، وكذلك في النكرة كقولك «رأيت إنساناً».

ثانيهما: أنّ الوضع يستلزم المجاز فيما إذا استعمل المطلق في المقيّد نحو «جئني برجل عالم» مع أنّه خلاف الوجدان.

وأمّا «مقدّمات الحكمة فما هي؟» فاختلفت كلمات الأصحاب في تعدادها فقيل أنّها أربعة:

أحدها: كون المتكلّم في مقام بيان تمام المراد ثانيها: عدم بيان القيد، ثالثها: عدم الانصراف، رابعها: عدم وجود القدر المتيقّن في مقام التخاطب.

والمحقّق الخراساني رحمه الله جعلها ثلاث مقدّمات بادغام المقدّمة الثالثة في الثانية. بقوله:

«ثانيها انتفاء ما يوجب التعيين» فإنّ الانصراف أيضاً ممّا يوجب التعيين كالقيد كما لا يخفى.

وحذف المحقّق النائيني رحمه الله المقدّمة الأخيرة (وهي عدم وجود القدر المتيقّن) فالمقبول من المقدّمات الأربعة عنده اثنتان: إحديهما: كون المتكلّم في مقام البيان، ثانيهما: انتفاء ما يوجب التعيين، لكنّه أضاف إليهما مقدّمة اخرى وهي أن يكون متعلّق الحكم أو موضوعه قابلًا للتقييد، وهو ناظر فيها إلى التقسيمات اللاحقة عن الأمر كانقسام الواجب إلى ما يقصد به امتثال أمره وما يقصد فيه ذلك وإنقسام المكلّف إلى العالم والجاهل بالحكم، فحيث إنّه لا يمكن مثلًا تقييد متعلّق الأمر بقصد الأمر على رأيه لما هو معروف من إشكال الدور لا يمكن الأخذ بإطلاقه أيضاً.

وهنا مذهب آخر يستفاد من كلمات شيخنا الحائري في الدرر وهو حذف المقدّمة الاولى أيضاً، فاللازم البحث عن كلّ واحد من هذه المقدّمات الخمسة حتّى يعلم ما يصحّ اعتباره وما لا يصحّ.

فنقول: أمّا المقدّمة الاولى: فهي لازمة بالوجدان حيث إن الوجدان أقوى شاهد على عدم صحّة الأخذ بإطلاق كلام المولى إذا لم يكن في مقام بيان تمام المراد، فإذا

قال مثلًا، «اشتر لي ثوباً» أو «اشتر أثاثاً للبيت» فلا يصحّ للعبد أن يشتري من السوق لباساً أو أثاثاً أيّاماً كان ويتمسّك عند الاحتجاج بإطلاق كلامه، نعم إذا شكّ في أنّ المتكلّم هل كان في مقام بيان تمام انوار الأصول، ج 2، ص: 187

المراد أو لا؟ فإنّ الأصل هو كونه بصدد بيان تمام المراد كما أفاده المحقّق الخراساني رحمه الله وغيره، فيكون كونه في مقام الإجمال والإهمال أمراً استثنائياً خلاف الأصل.

لكن شيخنا الحائري رحمه الله خالف في ذلك في درره (بعد قبوله في صدر كلامه) وإليك نصّ بيانه: «أنّ المهملة مردّدة بين المطلق والمقيّد ولا ثالث، ولا إشكال أنّه لو كان المراد المقيّد يكون الإرادة متعلّقة به بالأصالة وإنّما ينسب إلى الطبيعة بالتبع لمكان الاتّحاد، فنقول: لو قال القائل «جئني بالرجل» أو «برجل» يكون ظاهراً في أنّ الإرادة أوّلًا وبالذات متعلّقة بالطبيعة لا أنّ المراد هو المقيّد ثمّ أضاف إرادته إلى الطبيعة لمكان الاتّحاد، وبعد تسليم هذا الظهور تسري الإرادة إلى تمام الأفراد وهذا معنى الإطلاق» «1».

أقول: توضيح كلامه: أنّ الطبيعة المهملة لا تخلو في الواقع من حالتين، فإمّا هي مطلقة، أو مقيّدة لعدم الإهمال في مقام الثبوت، فإن كان المراد في الواقع مطلقاً فهو المطلوب، وإن كان مقيّداً فيستلزم كون تعلّق الحكم والإردة بالمطلق تبعيّاً مع أنّ المولى إذا قال: «اعتق رقبة» ولم يقيّده بقيد المؤمنة فإنّ ظاهره أنّ الإرادة تعلّقت بطبيعة الرقبة استقلالًا، وهذا الظهور يسري إلى تمام الأفراد، وهذا هو معنى الإطلاق.

لكن يرد عليه أمران:

الأوّل: (وهو العمدة)، أنّ حديث الأصالة والتبعيّة في الإرادة يتصوّر في لوازم الماهيّة كالزوجيّة بالنسبة إلى الأربعة فإنّه إذا تعلّقت الإرادة بالأربعة تتعلّق بالزوجيّة تبعاً، ولا يتصوّر في ما

نحن فيه حيث إن طبيعة الرقبة المهملة في المقام متّحدة مع الرقبة المقيّدة بقيد المؤمنة في الخارج فليست إحديهما لازمة للُاخرى كما لا يخفى.

الثاني: ما مرّ من أنّه خلاف الوجدان، فلا يأخذ عبد بإطلاق كلام مولاه إذا لم يكن في مقام البيان.

أمّا المقدّمة الثانية: (وهي عدم بيان القيد) فإنّ لزومها من الواضحات حيث إن المفروض في جواز التمسّك بالإطلاق وعدمه عدم وجود قيد بالنسبة إلى الجهة التي نحاول التمسّك بإطلاق الكلام فيها، ولذلك لم يتكلّم حولها في عباراتهم ولم ينكر اعتبارها أحد.

انوار الأصول، ج 2، ص: 188

أمّا المقدّمة الثالثة: (وهي وجود القابلية للإطلاق والتقييد التي أفادها المحقّق النائيني رحمه الله) فيرد عليها أوّلًا: أنّها ترجع إلى المقدّمة الاولى لأنّ من لم يقدر على التقييد لم يكن في مقام البيان، ولا فرق في عدم جواز التمسّك بالإطلاق بين أن يكون عدم كون المتكلّم في مقام البيان ناشئاً من عدم حضور وقت البيان أو من استلزامه أمراً محالًا كالدور.

ثانياً: قد مرّ في البحث عن التوصّلي والتعبّدي من أنّ التقسيمات اللاحقة تكون كالتقسيمات السابقة لأنّها وإن كان وجودها لاحقاً عن وجود المتعلّق إلّاأنّه يمكن تصوّرها سابقاً وأخذها في المتعلّق فنقول: «صلّ مع قصد أمرها» وتمام الكلام في محلّه.

فظهر أنّ المقدّمة الثالثة على حدّها ليست مقدّمة بل إنّها ترجع حقيقة إلى المقدّمة الاولى، نعم ينبغي التنبيه بها والتوجّه إليها على فرض وجود مصداق لها.

أمّا المقدّمة الرابعة: (وهي عدم الانصراف) فنقول في توضيحها: أنّ الانصراف هو أن توجد من ناحية كثرة الاستعمال بين لفظ ومعنى علاقة في الأذهان بحيث توجب انسباق ذلك المعنى من اللفظ حين إطلاقه، وليس المراد منه صيرورة اللفظ حقيقة ثانويّة في ذلك المعنى، وهو نظير انصراف كلمة

«أهل العلم» في يومنها هذا إلى العالم الديني مع أنّ غيره أيضاً من أهل العلم.

وهو على خمسة أنواع: أحدها: الانصراف البدوي وهو يزول بالتأمّل، مثل أن يقال: «من المفطّرات الأكل والشرب» الذي ينصرف إلى الأغذيّة والمشروبات المتعارفة، لكنّه بدوي لا اعتبار به، ولذا أفتى الأصحاب بحصول الإفطار بالمأكولات غير المتعارفة كأوراق الأشجار.

ثانيها: الانصراف الذي منشأه كثرة الاستعمال وهو لا يزول بالتأمّل كالمثال المتقدّم وهو أهل العلم الذي ينصرف إلى العالم الديني لكثرة استعماله فيه.

ثالثها: الانصراف إلى الفرد الأكمل من أفراد الماهيّة المشكّكة نحو ما مرّ في البحث عن مفهوم الشرط من انصراف العلّية المستفادة من أداة الشرط إلى العلّية المنحصرة لكونها أكمل أفراد العلّية، ولكن هذا الانصراف غير ثابت بل حيث إن الفرد الأكمل يكون نادراً لا ينصرف إليه اللفظ قطعاً.

رابعها: الانصراف إلى القدر المتيقّن وهذا أيضاً غير ثابت.

خامسها: الانصراف الحاصل من كثرة الاستعمال حيث يكون المعنى السابق مهجوراً

انوار الأصول، ج 2، ص: 189

وصار اللفظ حقيقة في المنصرف إليه.

هذا- والإنصاف أنّ الانصراف ينقسم في الواقع إلى قسمين بدوي وثابت مستمرّ، والانصراف البدوي هو ما يزول بالتأمّل، والثابت ما لا يزول به وأمّا هذه الأقسام الخمسة فالخامس منها خارج عن ما نحن فيه لصيرورة اللفظ فيه حقيقة في المعنى الجديد، وأمّا الباقي ففي الحقيقة بيان لمنشأ الانصراف.

إذا عرفت هذا فنقول: والذي عدّ من مقدّمات الحكمة هو عدم الانصراف بالمعنى الثاني، أي عدم الانصراف الثابت، لكنّ الحقّ أنّ هذه المقدّمة أيضاً ترجع حقيقة إلى المقدّمة الثانية، وهي انتفاء ما يوجب التعيين حيث إن الانصراف هو ممّا يوجب تعيين المعنى كما لا يخفى.

أمّا المقدّمة الخامسة: (وهي انتفاء القد المتيقّن في مقام التخاطب) فحاصل بيان المحقّق الخراساني رحمه الله فيها:

أنّه إذا كان المتيقّن تمام مراد المولى وهو لم يذكر القيد اعتماداً على ذلك المتيقّن لم يخلُ بغرضه.

والتحقيق في المسألة: أنّ القدر المتيقّن على قسمين: تارةً يكون المتيقّن متيقّناً بحسب مقام التخاطب، واخرى بحسب الخارج، فالقسم الأوّل مثل أن يسأل العبد من مولاه: «هل أكرم النحويين؟» وأجاب المولى بقوله: «أكرم العالم» فلا ريب في أنّ النحويين بقرينة ذلك السؤال هو القدر المتيقّن في مقام التخاطب، بينما القدر المتيقّن بحسب الخارج هو الفقهاء والمجتهدين مثلًا للقطع بوجود الملاك فيهم، فالميزان في القدر المتيقّن بحسب مقام التخاطب هو وجود سؤال أو قرينة يكون بمنزلة شأن نزول كلام المولى، والميزان في القدر المتيقّن بحسب الخارج القطع بوجود الملاك.

وكيف كان، فإنّ المختار في المقام هو عدم اعتبار هذه المقدّمة كما صرّح به جماعة من الأعلام أيضاً.

ويدلّ عليه وجوه ثلاثة: أحدها: استلزامها عدم إمكان التمسّك بكثير من الإطلاقات الواردة في الكتاب والسنّة مع أنّ السيرة العمليّة للفقهاء والمتشرّعين قامت على خلافه فإنّهم لا يعتنون بشأن نزول الآيات ومورد السؤال في الرّوايات إذا كان الجواب مطلقاً.

ثانيها: أنّ وجود القدر المتيقّن ليس من قبيل القيود الإحترازيّة التي يأخذها المتكلّم في كلامه ويكون لها لسان إثبات ولسان نفي، إثبات الحكم لنفسها ونفي الحكم عن غيرها، بل انوار الأصول، ج 2، ص: 190

غاية ما يستفاد من وجوده ثبوت الحكم بالنسبة إلى نفسه، وأمّا عدم ثبوته بالنسبة إلى غيره فهو ساكت عنه وغير مفيد له، وحينئذٍ لا مانع من التمسّك بالإطلاق وإسراء الحكم إلى ذلك الغير، وإلّا يلزم إهمال المولى بالنسبة إلى غير القدر المتيقّن وسكوته عن بيان حكمه، مع أنّ المفروض أنّه في مقام بيان تمام المراد.

ثالثها: أنّه لو كان المتيقّن مزاحماً للأخذ بالإطلاق فما

هو الفرق بين المتيقّن بحسب التخاطب والمتيقّن بحسب الخارج؟ مع أنّ ما ذكره المحقّق الخراساني رحمه الله في مقام إثبات اعتبار هذه المقدّمة (وهو أنّ المولى لم يخلّ بغرضه إذا لم يبيّن القيد اعتماداً على القدر المتيقّن) جارٍ في القسم الثاني أيضاً وهو يستلزم عدم جواز التمسّك بالإطلاق في ما إذا وجد في البين قدر متيقّن بحسب الخارج أيضاً مع أنّ هذا ممّا لا يلتزم به الخصم.

إلى هنا ثبت أنّ المعتبر في الأخذ بالإطلاق بين المقدّمات الخمسة مقدّمتان: إحديهما: كون المتكلّم في مقام البيان، وثانيهما: انتفاء ما يوجب التعيين.

تنبيهات

الأوّل: في نتيجة مقدّمات الحكمة؟

ذهب المشهور إلى أنّ نتيجتها السريان والشمول فكأنّ المولى أطلق كلامه بعد أن لاحظ القيود إجمالًا، ويسمّى هذا الإطلاق بالإطلاق اللحاظي، وسيأتي الفرق بينه وبين العموم إن شاء اللَّه تعالى.

لكن خالف في ذلك بعض الأعاظم وقال: «لا يستفاد السريان من المطلق ولو بعد جريان مقدّمات الحكمة، بل الإطلاق ليس إلّاالإرسال عن القيد وعدم دخالة القيد وهو غير السريان والشيوع» وقال في موضع آخر من كلماته: «هذا كلّه على المختار في باب الإطلاق من عدم كون الطبيعة مرآة للأفراد ولا وسيلة إلى لحاظ الخصوصيّات وحالاتها وعوارضها» «1»، وقد اعتمد على هذا المبنى وبنى عليه في مسائل عديدة، منها مبحث الترتّب المتقدّم ذكره.

انوار الأصول، ج 2، ص: 191

أقول: إنّا نسأل: هل المولى الذي يكون في مقام البيان ويجعل مفهوم المطلق متعلّق حكمه، يلاحظ ويتصوّر الحالات والعوارض الفرديّة وينظر إليها أو لا؟ فإن قلتم أنّه لم يلاحظها ولو إجمالًا، قلنا: بأنّ هذا خلاف معنى الإطلاق وهو عدم دخالة القيد ومخالف لكون المولى في مقام البيان حيث إن عدم جعل القيد دخيلًا مع كونه في مقام البيان معناه أنّه نظر إلى

القيود ولو إجمالًا فلم يرها دخيلة في مقصوده وقال «اعتق الرقبة» مثلًا، وإن قلتم أنّه نظر إليها ولاحظها ثمّ حكم بعدم دخالتها فليس هذا إلّاالسريان وأنّ المطلق شامل لجميع الأفراد بعد إجراء مقدّمات الحكمة.

والحاصل أنّ كون المطلق تمام المطلوب لا يمكن إلّابعد لحاظ سائر القيود ولو إجمالًا ونفى دخالتها فإنّ هذا هو المفهوم من لفظ تمام المراد فإنّ مفهومه أنّ المطلوب هو هذا لا غير، وهذا أمر ظاهر.

الثاني: ما الفرق بين العام والمطلق؟

(لا سيّما على المختار من أنّ المطلق أيضاً يدلّ على الشمول بدليّاً كان أو استغراقياً).

إنّ الشمول في المطلق يستفاد من مقدّمات الحكمة بينما في العام يستفاد من وضع اللفظ، ولا يخفى أنّ هذا الفرق مبنيّ على المختار وهو دلالة المطلق أيضاً على الشمول، وإلّا فإن قلنا بدلالته على الطبيعة المرسلة فقط فالفرق أوضح، حيث إن العام يدلّ على الشمول وهو لا يدلّ عليه.

نعم، يبقى الكلام في ما ذهب إليه المحقّق النائيني رحمه الله وجماعة من أنّ استفادة العموم من العام أيضاً يتوقّف على إجراء مقدّمات الحكمة في مدخوله فحينئذٍ يشكل الفرق بينهما.

الثالث: فيما إذا شكّ في أنّ المولى هل هو في مقام البيان أو لا؟

فما هو مقتضى الأصل والقاعدة الأوّليّة؟

نقول: إنّ مقتضى الأصل اللفظي العقلائي كونه في مقام البيان ويؤيّده السيرة المستمرّة للفقهاء والمجتهدين في التمسّك بالإطلاقات والعمومات مطلقاً إلّافيما إذا أحرز كونه في مقام الإجمال والإهمال فإنّهم مع فقد هذا الإحراز يأخذون بالإطلاق كما تشهد به سيرتهم العمليّة في أبواب الفقه.

انوار الأصول، ج 2، ص: 192

ثمّ ليعلم أنّه قد يكون المولى في مقام البيان من جهة ولا يكون في مقام البيان من جهة اخرى، كما إذا سئل السائل مثلًا عن الإمام عليه السلام ب «أنّ لي أربعين شاة هل فيها زكاة؟» فأجاب:

«في أربعين شاة زكاة» فإنّه عليه السلام في هذا البيان إنّما يكون في مقام بيان أصل النصاب فقط وليس في مقام بيان مقدار الزّكاة كما لا يخفى، فلا يمكن الأخذ بإطلاقه من هذه الجهة، ومن هنا يظهر أنّ الإطلاق والتقييد أمران إضافيان.

الرابع: في أنّ المراد من عدم البيان في ما نحن فيه هو عدم البيان في زمان التخاطب لا عدم البيان إلى الأبد

فإذا كتب المولى مثلًا في رسالة إلى العبد: «اشتر لي قرآناً وأرسله إليّ» وأطلقها ولم يبيّن خصوصيّة للقرآن، فلا ينتظر العبد إرسال رسالة اخرى يبيّن فيها دخالة قيد خاصّ أو عدمها، بل يأخذ بإطلاقها، وكذلك إذا صدرت منه هذه الجملة في مجلس من دون أن يبيّن في ذلك المجلس وذلك المقام- وهو مقام التخاطب- قيداً خاصّاً.

إن قلت: لو ظفرنا بعد ذلك بالقيد كما إذا صدر المطلق من جانب الرسول صلى الله عليه و آله (مثلًا) والقيد من أحد الأئمّة عليهم السلام فهل يستكشف منه عدم كونه صلى الله عليه و آله، في مقام البيان وإنّا قد أخطأنا، أو نلتزم بأنّه صلى الله عليه و آله أخّر البيان عن وقت الحاجة، أو لا هذا ولا ذاك بل نقول إنّما كان في مقام بيان الحكم الظاهري، وبيّن الإمام

عليه السلام القيد بعنوان الحكم الواقعي والتصرّف في الإرادة الجدّية فقط؟

قلنا: الصحيح هو الوجه الثالث لما مرّ في مبحث العام والخاصّ من أنّ مقتضى مصلحة تدريجية الأحكام كون العمومات من قبيل ضرب القانون ووضع القاعدة، ليعمل بها حتّى يرد المخصّص.

الخامس: في اختلاف نتيجة مقدّمات الحكمة

قد تكون نتيجتها الشمول البدلي، فمفادها حينئذٍ مفاد كلمة أي، نحو «جئني برجل» فإنّ معناه «جئني بأي رجل» وقد تكون الشمول الاستغراقي نحو «أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ» وهو الغالب في الأحكام الوضعيّة نظير «الماء إذا بلغ قدر كرّ فلم ينجّسه شي ء» و «الأرض يطهّر بعضها بعضاً». وأمّا العموم المجموعي، فالظاهر أنّه لا يمكن استفادته إلّاإذا قامت قرينة على إرادة المجموع من حيث المجموع.

انوار الأصول، ج 2، ص: 193

ثمّ إنّه ربّما يتوهّم أنّه قد يكون المستفاد من مقدّمات الحكمة الفرد بدلًا عن الشمول والسريان، وهذا مثل ما مرّ في أبواب الأوامر من أنّ مقتضى إطلاق الأمر الوجوب النفسي التعييني العيني.

أقول: لكن الحقّ أنّ كلّ واحد منها مدلول التزامي للأمثلة المذكورة، أي أنّ مقتضى مقدّمات الحكمة والمدلول المطابقي لها حقيقة في مثال «صلّ صلاة الظهر يوم الجمعة» مثلًا شمول الوجوب لحالتي إتيان صلاة الجمعة وعدمه، ولازمه الوجوب التعييني كما يظهر بالتأمّل، وهكذا بالنسبة إلى الوجوب النفسي والوجوب العيني، ففي كلّ منهما يكون الإطلاق كسائر المقامات، وإنّما تكون النفسية والعينية من لوازمه لا أنّهما مدلولان مطابقيان للإطلاق.

المقام الرابع: فيما إذا ورد مطلق ومقيّد
اشارة

وفيه ثلاث حالات: الاولى: أن يكون الدليلان مختلفين في النفي والإثبات، نحو «اعتق رقبة» و «لا تعتق رقبة كافرة» فلا شكّ في لزوم التقييد فيها لأنّ المطلق ليس ظهوره في الإطلاق أقوى من ظهورالعام في العموم، فكما أنّ العام يخصّص الدليل الخاصّ بلا إشكال، كذلك المطلق يقيّد بالدليل المقيّد، بل التقييد هنا أولى من التخصيص هناك لأنّ ظهور المطلق في الإطلاق مستفاد من مقدّمات الحكمة، وأمّا الظهور في العام فهو مستفاد من الوضع، ولا إشكال في أنّ رفع اليد عن الظهور الإطلاقي أخفّ وأسهل من رفع اليد عن الظهور الوضعي.

أضف إلى ذلك ما

مرّ في العام والخاصّ من أنّ ورود الخاصّ بعد العام يعدّ نحو تناقض عند العرف بخلاف المقيّد، فإنّ العرف لا يرى تناقضاً بين «اعتق رقبة» مثلًا و «لا تعتق الرقبة الكافرة» كما لا يخفى.

الثانية: أن يكونا مثبتين أو منفيين مع عدم إحراز وحدة الحكم فيهما فيكون الظاهر حينئذٍ التعدّد إمّا لأجل تعدّد الشرط مثلًا نحو «إن ظاهرت فاعتق رقبة» و «إن أفطرت فاعتق رقبة مؤمنة» أو لعدم المنافاة بين الحكمين نحو «أكرم العالم» و «أكرم العالم الهاشمي»، وفي هذه الصورة أيضاً لا إشكال في عدم التقييد.

الثالثة: نفس الحالة الثانية مع إحراز وحدة الحكم نحو «إن ظاهرت فاعتق رقبة» و «إن انوار الأصول، ج 2، ص: 194

ظاهرت فاعتق رقبة مؤمنة» أو «صلّ صلاة الظهر» و «صلّ صلاة الظهر إخفاتاً»، والمشهور في هذه الحالة التقييد كما عليه سيرة الفقهاء في الفقه، واستدلّ له بثلاثة وجوه:

الأوّل: أنّ الجمع مهما أمكن أولى من الطرح، وهو في المقام يحصل بالتقييد.

لكن يرد عليه: أنّه لا دليل لنا على ثبوت هذه القاعدة في جميع الموارد فليس الجمع أولى من الطرح حتّى فيما إذا كان الجمع جمعاً تبرئياً غير عرفي، بل الأولويّة ثابتة في باب تزاحم الملاكات، فإذا ثبت هناك ملاكان لحكمين فمهما أمكن الجمع بين هاتين المصلحتين كان أولى.

الثاني: أنّ الدليل المقيّد وارد على الدليل المطلق ورافع لموضوعه، وذلك لأنّ إحدى مقدّمات الحكمة في المطلق هي عدم البيان، والمقيّد يكون بياناً.

لكنّه أيضاً ممنوع لمامرّ سابقاً من أنّ المراد من عدم البيان في مقدّمات الحكمة هو عدم البيان في مقام التخاطب لا عدم البيان إلى الأبد، وإلّا يلزم الخروج عن فرض المسألة حيث إن المفروض في المقام ما إذا ورد مطلق ومقيّد، أي بعد

أن تمّ الإطلاق في دليل المطلق، وهذا يتمّ بعد تمام مقدّمات الحكمة التي منها عدم بيان القيد في مقام التخاطب.

الثالث: (وهو الصحيح في المقام) أن نقول: بأنّ الجمع هنا جمع دلالي عرفي، وبيانه: أنّ هنا ظهورات ثلاثة متعارضة ظهورين في جانب المطلق وظهوراً في جانب المقيّد، أمّا الظهوران في جانب المطلق فأحدهما: ظهوره في كون المولى في مقام البيان، والثاني: ظهوره في تطابق الإرادة الجدّية مع الإرادة الاستعماليّة، وأمّا الظهور في جانب المقيّد فهو ظهوره في كون المطلوب مقيّداً، فيدور الأمر حينئذٍ بين التصرّف في أحد الظهورين في جانب المطلق وبين التصرّف في ظهور المقيّد وحمله على الاستحباب مثلًا، والإنصاف أنّ ظهور المقيّد أقوى منهما، فلا بدّ أن نرفع اليد من الظهور الأوّل في المطلق ونحكم بأنّ المولى لم يكن في مقام البيان، وحينئذٍ لا تصل النوبة إلى الظهور الثاني كما لا يخفى، أو نرفع اليد من الظهور الثاني ونحكم بعدم جدّية الإرادة في غير المقيّد.

نعم، هذا إذا كان المورد من الواجبات، وأمّا إذا كان من المستحبّات فسيأتي حكمه إن شاء اللَّه تعالى من أنّها محمولة على مراتب الفضل.

هذا تمام الكلام في الصور المتصوّرة بعد ورود المطلق والمقيّد.

انوار الأصول، ج 2، ص: 195

تنبيهات التنبيه الأوّل: أنّه من أين ثبت صغرى الكبرى المذكورة في الصورة الثانية؟ والثالثة أي من أين يحرز وحدة الحكم وتعدّده؟ فنقول: يمكن استفادة الوحدة من عدّة قرائن:

منها: أن تكون الحكمين معلّقين على شرط واحد، نحو «إن ظاهرت فاعتق رقبة» و «إن ظاهرت فاعتق رقبة مؤمنة».

ومنها: الإجماع كما أنّه ثابت في مثال صلاة الظهر المتقدّم.

ومنها: ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله وهو مبني على امور ثلاثة نذكرها ملخّصاً:

الأوّل: أن يكون الحكم في كلّ من

المطلق والمقيّد مرسلًا أو معلّقاً على شي ء واحد.

الثاني: أن يكون كلّ من التكليفين إلزامياً وإلّا لم يكن موجب لرفع اليد عن إطلاق المطلق بحمله على المقيّد منهما، والوجه في ذلك هو أنّه إذا كان الحكم المتعلّق بالمقيّد غير إلزامي جاز مخالفته فلا يكون منافاة حينئذٍ بينه وبين إطلاق متعلّق الحكم الآخر.

الثالث: أن يكون متعلّق كلّ من الخطابين صرف الوجود الذي ينطبق قهراً على أوّل وجود ناقض للعدم «1».

وحاصل الكلام في الأمر الثالث أنّه إذا كان مطلوب المولى صرف الوجود للرقبة مثلًا أي رقبة كانت، ثمّ كان مطلوبه أيضاً الرقبة المؤمنة، فلا مناصّ حينئذٍ من التقييد كما هو ظاهر.

التنبيه الثاني: (وهو كثير الابتلاء في الفقه) في أنّ المشهور أنّ المطلق الوارد في المستحبّات لا يحمل على المقيّد بل الدليل المقيّد يحمل على سلسلة مراتب المحبوبيّة وتعدّد المطلوب، نحو ما إذا ورد مثلًا دليل على استحباب قراءة القرآن مطلقاً، وورد دليل آخر على استحباب قراءته مع الطهارة، ودليل ثالث على استحباب قراءته بالترتيل أو مستقبل القبلة، أو ورد في باب صلاة الليل روايات تدلّ على استحبابها ووردت أيضاً رواية تأمر بإتيانها في الثلث الآخر من الليل، ورواية اخرى تأمر بالقنوت في صلاة الوتر أوّلًا وبالدعاء لأربعين مؤمناً ثانياً وبالاستغفار سبعين مرّة وطلب العفو ثلاثمائة مرّة ثالثاً، ونحوه أيضاً أنّه وردت روايات تدلّ على استحباب زيارة الحسين عليه السلام ثمّ وردت روايات تدلّ على إستحبابها في خصوص ليلة

انوار الأصول، ج 2، ص: 196

الجمعة أو يوم عرفة، إلى غير ذلك من المطلقات والمقيّدات التي وردت في أبواب المستحبّات فإنّ المشهور كما مرّ حملها على تعدّد المطلوب وبيان سلسلة مراتب المطلوبيّة والفضل، إلّاإذا قام دليل خاصّ على التقييد، فالقاعدة الأوّليّة والأصل

الأوّلي عندهم في المستحبّات عدم التقييد.

واستدلّ عليه أوّلًا: بما أشار إليه في الكفاية بقوله: «أو أنّه كان بملاحظة التسامح في أدلّة المستحبّات وكان عدم رفع اليد من دليل استحباب المطلق بعد مجي ء دليل المقيّد وحمله على تأكّد استحبابه من التسامح فيها».

إلّا أنّ الإنصاف أنّه غير تامّ، لأنّ التسامح في أدلّة السنن ليس إلّاعبارة عن العمل بأخبار من بلغ في المستحبّات ولا إشكال في أنّها ناظرة إلى ضعف السند على القول به لا الدلالة (كما يأتي في محلّه) والمقام في ما نحن فيه مقام الدلالة كما لا يخفى.

وثانياً: (وهو الحقّ الصحيح) ما أشار إليه المحقّق الخراساني رحمه الله أيضاً، وحاصله مع توضيح منّا: أنّ الغالب في باب المستحبّات أن يكون القيد لأجل التأكيد ومزيد المحبوبيّة لا لأجل الإحتراز والدخول في أصل المطلوبيّة كي يحمل المطلق على المقيّد، وهذه الغلبة توجب ظهور الأوامر فيها في تعدّد المطلوب وتفاوت الافراد بحسب مراتب المحبوبيّة والفضل.

وأورد عليه في المحاضرات بأنّ «مجرّد الغلبة لا يوجب ذلك بعد ما افترض أنّ دليل المقيّد قرينة عرفيّة على تعيين المراد من المطلق، ضرورة أنّ الغلبة ليست على نحو تمنع عن ظهور دليل المقيّد في ذلك» «1».

لكنّه يردّ: بأنّ الغلبة على قسمين: تارةً يكون المقصود منها ما يقابل الشاذّ والنادر، واخرى ما يقابل الأغلب فإن كانت من قبيل الثاني (كما هي كذلك في باب صيغة الأمر) فلا تمنع عن الظهور فإنّ غلبة استعمال صيغة الأمر في الندب مثلًا لا تمنع عن ظهورها في الوجوب، وإن كانت من قبيل الأوّل كما في المقام (حيث إن ورود القيد لأجل الإحتراز والتقييد في باب المستحبّات يكون شاذّاً بالنسبة إلى تعدّد المطلوب) فلا إشكال في منعها حينئذٍ عن ظهور

دليل القيد في التقييد، وبالجملة أنّ غلبة استعمال المطلق والمقيّد في باب المستحبّات في تعدّد

انوار الأصول، ج 2، ص: 197

المطلوب توجب ظهور الأوامر فيها في تعدّد المطلوب، هذا أوّلًا.

وثانياً: سلّمنا ظهورها في وحدة المطلوب لكنّها في التعدّد أقوى وأظهر.

ثمّ إنّ هنا تفصيلًا ذهب إليه في المحاضرات و «هو أنّ الدليل الدالّ على التقييد يتصوّر على وجوه أربعة لا خامس لها:

الأوّل: أن يكون ذات مفهوم بمعنى أن يكون لسانه لسان القضيّة الشرطيّة كما إذا إفترض أنّه ورد في دليل أنّ صلاة الليل مستحبّة وورد في دليل آخر أنّ استحبابها فيما إذا كان المكلّف آتياً بها بعد نصف الليل، ففي مثل ذلك لا مناصّ من حمل المطلق على المقيّد عرفاً، نظراً إلى أنّ دليل المقيّد ينفي الاستحباب في غير هذا الوقت من جهة دلالته على المفهوم.

الثاني: أن يكون دليل المقيّد مخالفاً لدليل المطلق في الحكم، فإذا دلّ دليل على استحباب الإقامة مثلًا في الصّلاة، ثمّ ورد في دليل آخر النهي عنها في مواضع كالإقامة في حال الحدث أو حال الجلوس أو ما شاكل ذلك، ففي مثل ذلك لا مناصّ من حمل المطلق على المقيّد، والوجه فيه ما ذكرناه غير مرّة من أنّ النواهي الواردة في باب العبادات والمعاملات ظاهرة في الإرشاد إلى المانعية.

الثالث: أن يكون الأمر في دليل المقيّد متعلّقاً بنفس التقييد لا بالقيد كما إذا إفترض أنّه ورد في دليل أنّ الإقامة في الصّلاة مستحبّة وورد في دليل آخر: فلتكن في حال القيام أو في حال الطهارة، فالكلام فيه هو الكلام في القسم الثاني، حيث إن الأمر في قوله: «فلتكن» ظاهر في الإرشاد إلى شرطيّة الطهارة أو القيام لها، ولا فرق من هذه الناحية بين كون الإقامة

مستحبّة أو واجبة.

فما هو المشهور من أنّه لا يحمل المطلق على المقيّد في باب المستحبّات لا أصل له في الأقسام الثلاثة.

الرابع: أن يتعلّق الأمر في دليل المقيّد بالقيد بما هو كما هو الغالب في باب المستحبّات، مثلًا ورد في استحباب زيارة الحسين عليه السلام مطلقات وورد في دليل آخر استحباب زيارته عليه السلام في أوقات خاصّة كليالي الجمعة وأوّل ونصف رجب ونصف شعبان وليالي القدر وهكذا، ففي مثل ذلك الظاهر أنّه لا يحمل عليه لعدم التنافي بينهما بعد فرض عدم إلزام المكلّف بالإتيان بالمقيّد بل لابدّ من حمله على تأكيد الاستحباب وكونه الأفضل، بخلاف باب الواجبات انوار الأصول، ج 2، ص: 198

لوجود التنافي فيها بين دليل المطلق والمقيّد حيث إن مقتضى إطلاق المطلق ترخيص المكليف في تطبيقه على أي فرد من أفراده شاء في مقام الامتثال وهو لا يجتمع مع كونه ملزماً بالإتيان بالمقيّد» «1».

أقول: لكن الإنصاف أنّ نطاق مقال المشهور أوسع من القسم الأخير في كلامه فإنّه يشمل سائر الأقسام ما عدى القسم الأوّل الذي هو خارج عن محلّ الكلام للتصريح بعدم الصحّة فيه، وأمّا ظهور الأوامر في الإرشاد إلى الشرطيّة والنواهي في المانعية إنّما هو مسلّم في الواجبات وأمّا في أبواب المستحبّات فهو ممنوع كما عرفت من غلبة كون القيود فيها ناظرة إلى تعدّد مراتب الفضل فلا وجه للتفصيل في المقام.

بقي هنا شي ء:

وهو أنّه إذا ورد المطلق والمقيّد في دليل واحد نحو «اقرأ القرآن مع الطهارة» فهل يحملان أيضاً على تعدّد المطلوب بأن نجعلهما نظير ما إذا ورد كلّ من المطلق والمقيّد في دليل مستقلّ أو لا؟ وهذا ممّا لم يتعرّض له في كلماتهم، ولكن الظاهر عدم الحمل على مراتب الفضل لأنّ ما بيّناه

سابقاً من ظهور القيد في تعدّد المطلوب جارٍ فيما إذا كان هناك مقيّد ومطلق ظاهر في إطلاقه مع أنّ في هذا الفرض لا يحصل للمطلق ظهور في إطلاقه من جهة إتّصال القيد به بل هو ظاهر في وحدة المطلوب، ولا أقلّ من إجماله، ونتيجته الأخذ بالمقيّد لأنّه هو القدر المتيقّن.

التنبيه الثالث: أنّ ما ذكرنا من حمل المطلق على المقيّد في باب الواجبات أو المحرّمات إنّما هو فيما إذا لم يكن من باب مفهوم الوصف وإلّا فلا كلام ولا إشكال في لزوم حمل المطلق على المقيّد حينئذٍ لأنّه يرجع حقيقة إلى الصورة الاولى في المسألة، أي ما إذا كان المطلق والمقيّد متخالفين الذي قد مرّ حكمه وهو لزوم التقييد بلا إشكال.

التنبيه الرابع: أنّ ما مرّ كان مختصّاً بما إذا كان المطلق والمقيّد من الأحكام التكليفية، فما هو الحكم في الأحكام الوضعية كما إذا ورد دليل يقول «أحلّ اللَّه البيع» وورد دليل آخر يقول:

«نهى النبي عن بيع الغرر»؟

انوار الأصول، ج 2، ص: 199

الحقّ أنّ في المسألة صوراً:

الصورة الاولى: ما إذا كان المطلق والمقيّد متخالفين في الإثبات والنفي نظير ما مرّ من المثال آنفاً، فحكمها واضح، ولا إشكال في لزوم الجمع بينهما بالتقييد كما مرّ في الأحكام التكليفية.

الصورة الثانية: ما إذا كانا مثبتين أو منفيين وهي بنفسها على صورتين:

تارةً يكون القيد في المقيّد إحترازيّاً، وبتعبير آخر: يكون للتقيّد مفهوم مثل قوله تعالى:

«وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ» في قبال قوله تعالى:

«أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ» حيث إن القيد في الأوّل في مقام الإحتراز، فلا إشكال أيضاً في التقييد كما مرّ في التنبيه السابق أنّهما يرجعان إلى المتخالفين.

واخرى لا يكون القيد في مقام الإحتراز ولا يكون له

مفهوم كما إذا ورد دليل يقول: «أحلّ اللَّه البيع بالصيغة العربيّة» وفرضنا عدم كون المقام فيه مقام الإحتراز، في قبال دليل حلّية بيع المعاطاة، ففي هذه الصورة قال المحقّق الخراساني رحمه الله: «إذا علم أنّ مراده إمّا البيع على إطلاقه أو البيع الخاصّ فلا بدّ من التقييد لو كان ظهور دليله في دخل القيد أقوى من ظهور دليل الإطلاق فيه كما هو ليس ببعيد، ضرورة تعارف ذكر المطلق وإرادة المقيّد (بخلاف العكس) بالغاء القيد وحمله على أنّه غالبي أو على وجه آخر» (مثل إن كان القيد مورداً لابتلاء المكلّف).

أقول: إنّ مقصوده من قوله: «أمّا البيع على إطلاقه أو البيع الخاصّ» وحدة المطلوب (كما أشار إليه بعض المحشّين على الكفاية) أي إذا أحرز وحدة المطلوب فلا بدّ من التقييد، وهو ممّا لا إشكال فيه ثبوتاً، لكن المهمّ هنا مقام الإثبات وأنّه من أي طريق يمكن إحراز وحدة الحكم كما كنّا نفهمها في الأحكام التكليفية من تعلّق الطلب بصرف الوجود، بل يمكن أن يكون النظر فيها إلى جميع الأفراد، نحو قوله عليه السلام: «الدم نجس» وقوله تعالى: «حَرَّمَ الرِّبَا» و «أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ» وقوله عليه السلام: «إذا بلغ الماء قدر كرّ لم ينجّسه شي ء» فإنّ الحكم فيها (كما لا يخفى) تعلّق بأي دم وأي قسم من الربا وأي نوع من الماء أو البيع، أي أنّ الشمول فيها استغراقي لا بدلي كما أنّ الطريقين الآخرين المذكورين في الأحكام التكليفيّة (وهما إحراز الوحدة من طريق الإماع ووحدة الشرط) أيضاً لا يوجد لهما مصداق في مثل هذه الموارد أصلًا، فحينئذٍ ينحصر الدليل على إحراز وحدة الحكم بكون القيد ظاهراً في الإحتراز، أو قيام دليل آخر على كون القيد ممّا

انوار الأصول،

ج 2، ص: 200

يكون له مفهوم، وإلّا فإنّ مجرّد حلّية البيع على إطلاقه مثلًا وحلّية بيع المعاطاة لا منافاة بينهما.

الكلام في المجمل والمبيّن

ولابدّ فيه من ذكر مقدّمات قبل الورود في أصل الكلام:

المقدّمة الاولى: في أنّه ما هو المراد بالمجمل والمبيّن؟ وما تعريفهما؟

الظاهر أنّ المجمل (وفي مقابله المبيّن) على معناه اللغوي وأنّه ليس له اصطلاح خاصّ في الاصول، وله في اللغة أصلان لكلّ واحد معنى على حدة:

أحدهما: جَمَلَ يجمل (كنصر ينصر) جملًا الشي ء إذا جمعه، وهو في الكلام إذا جمعه من غير تفصيل، ومنه الجملة وجمعه الجُمَل بمعنى الجماعة.

الثاني: جَمُلَ يَجمل (كشرف يشرف) جمالًا، بمعنى الحسن، وصرّح بعض النحويين أنّه أعمّ من الحسن الظاهري والحسن الباطني.

هذا- ويحتمل رجوع المعنيين إلى معنى واحد، لأنّ الجمال أيضاً يطلق على الإنسان إذا إجتمعت فيه أسباب الحسن.

المقدّمة الثانية: أنّهما (كالإطلاق والتقييد) أمران إضافيان نحو هيئة الأمر، فإنّها مبيّنة من حيث دلالتها على الوجوب، وهي في نفس الوقت يمكن أن تكون مجملة من حيث الفور والتراخي، لكنّ المحقّق الخراساني رحمه الله قال في المقام: «ثمّ لا يخفى أنّهما وصفان إضافيان ربّما يكون مجملًا عند واحد لعدم معرفته بالوضع أو لتصادم ظهوره بما حفّ به لديه، ومبيّناً لدى الآخر لمعرفته وعدم التصادم بنظره».

أقول: إنّ هذا خلط بين مقام الثبوت والإثبات، والبحث في ما نحن فيه بحث في مقام الثبوت والواقع من دون النظر إلى علم الأشخاص وجهلهم وإلّا يستلزم أن تكون جميع الألفاظ للغة خاصّة مجملة بالإضافة إلى الجاهل بتلك اللغة، مع أنّ المقصود من الإجمال هو الإجمال بعد فرض التعلّم والرجوع إلى اللغة.

وإن شئت قلت: أنّهما إضافيّان في الواقع ونفس الأمر لا عندنا نظير قولك: «أكرم العلماء إلّا زيداً» إذا كان لفظ زيد مشتركاً

بين زيد بن عمرو وزيد بن بكر فإنّ هذا الكلام مجمل انوار الأصول، ج 2، ص: 201

بالنسبة إلى المستثنى (وهو زيد) إذا لم ينصب فيه قرينة، كما هو المفروض ولو عند العالم بوضعه المشترك، ومبيّن بالنسبة إلى المستثنى منه وهو العلماء، وهذا بعينه نظير الصغير والكبير الذين هما أمران إضافيان مع صرف النظر عن جهل الأشخاص وعلمهم، فإنّ من له عشرون سنة مثلًا صغير بالنسبة إلى من له ثلاثون سنة، وكبير بالنسبة إلى من له عشر سنوات، وبالجملة أنّ المعيار في المقام ليس هو جهل الأشخاص وعلمهم بل الميزان ذات اللفظ وطبعه الأوّلي من دون أن ينصب له قرينة.

المقدّمة الثالثة: أنّ الإجمال تارةً يكون في الهيئة واخرى في المادّة، والأوّل كإجمال فعل المضارع بالإضافة إلى زمان الحال والاستقبال مع فقد القرينة، والثاني كإجمال لفظ القرء، حيث إن المعروف فيه إجماله بين الطهر والحيض.

ثمّ إنّ منشأ الإجمال تارةً يكون الاشتراك اللفظي واخرى كون الكلام محفوفاً بما يصلح للقرينية أو متّصلًا بلفظ مجمل يسري إجماله إليه نحو «أكرم العلماء إلّابعضهم».

إذا عرفت هذا فاعلم أنّه لا إشكال في حجّية المبيّن لأنّه إمّا نصّ أو ظاهر وكلاهما حجّتان، كما لا إشكال في عدم حجّية المجمل إلّاإذا نصبت قرينة عقليّة أو حاليّة أو مقاليّة توجب خروجه من الإجمال وهذا واضح.

إنّما الكلام في موارد من الآيات والرّوايات التي وقع البحث عنها في كلمات القوم في أنّها هل هي مجملة أو مبيّنة؟ وترك البحث عنه المحقّق الخراساني رحمه الله ومن تبعه ولكن ذكر صاحب الفصول رحمه الله عدّة موارد منها وأطال البحث عنها، والحقّ بالنسبة إلى بعضها مع المحقّق الخراساني رحمه الله وتابعيه، حيث إن البحث عنه ليس من شأن الاصولي كالبحث عن

معنى القطع الوارد في قوله تعالى: «السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا» في أنّه هل المقصود منه مطلق القطع أو القطع مع إنفصال العضو؟ فإنّ هذا ونظيره من بعض الموارد الاخرى التي ليس البحث فيها سارياً في الأبواب المختلفة من الفقه- ليس من شأن الاصولي قطعاً، بل للبحث عنه محلّ آخر وهو تفسير آيات الأحكام كما لا يخفى، لكن يوجد بينها موردان ساريان في الأبواب المختلفة من الفقه.

أحدهما: الرّوايات التي وردت بصيغة لا النافيّة للجنس نحو «لا صيام لمن لا يبيّت الصّيام من الليل» و «لا صلاة إلّابطهور» و «لا صلاة إلّابفاتحة الكتاب» و «لا نكاح إلّابولي» وغير

انوار الأصول، ج 2، ص: 202

ذلك ممّا تعلّق النفي فيه بنفس الفعل.

ثانيهما: آيات التحريم نحو «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ» و «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ» و «حُرِّمَتْ عَلَيكُم الخَمرِ» و «حُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ» ونظائرها من التحريم المضاف إلى الأعيان.

فلا يخفى أنّ البحث عن هذين الموردين من شأن الاصولي لأنّ في كلّ منهما يمكن أن توجد قاعدة كلّية تقع كبرى لاستنباط الحكم الشرعي.

فنقول: أمّا الجمل المشتملة على «لا» النافيّة للجنس فاختلف في أنّها هل هي من المبيّن أو المجمل؟ فعدّها بعض من المجمل، مستدلًا بأنّ العرف في مثلها يفهم نفي الصحّة تارةً ونفي الكمال، اخرى وذلك يوجب التردّد الموجب للإجمال، والأكثر على أنّها مبيّنة فيحمل النفي على نفي الماهيّة إن قلنا بمذهب الصحيحي، وإن قلنا بمذهب الأعمّي فيحمل على نفي أقرب المجازات بالنسبة إلى الحقيقة المتعذّرة وهو الصحّة، وإلّا فإن تعذّر الحمل على نفي الصحّة أيضاً لقيام قرينة عليه مثلًا، يحمل على نفي الكمال، كما أنّه من هذا الباب قوله عليه السلام «لا صلاة لجار المسجد إلّافي المسجد».

أقول: إنّا نوافقهم عليه في أصل

المدّعى، أي كون المورد المذكور من المبيّن لكن لا بالطريق الذي مشى عليه المشهور من كون المستعمل فيه في كلّ مرتبة من المراتب الثلاثة المذكورة في كلامهم غيره في الآخرين، بل نقول: أنّ المستعمل فيه في جميع المراتب إنّما هو نفي وجود الماهيّة، إلّاأنّه في المرتبة الثانية والثالثة يكون بعد تحقّق إدّعاء، وهو ادّعاء أنّ عدم الصحّة أو عدم الكمال بمنزلة عدم وجود الماهيّة.

وبهذا يظهر الجواب عمّا اورد على مذهب المشهور وذكره في الفصول من أنّ اللغة لا تثبت بالتراجيح العقليّة لأنّا لم نتجاوز عن المعنى اللغوي لكلمة «لا» (أي نفي وجود الماهيّة والجنس) بل حملناها عليه في جميع المراتب، وعليه فلا تصل النوبة إلى ما ذكره صاحب الفصول في مقام الجواب، هذا كلّه في المورد الأوّل.

أمّا المورد الثاني: وهو التحريم المضاف إلى الأعيان فعدّه بعضهم من المجمل نظراً إلى أنّ إضافة التحريم إلى العين غير معقولة فلا بدّ من إضمار فعل يصلح أن يكون متعلّقاً له، وحيث إن الأفعال كثيرة ففي مثل صيد البر يحتمل أن يكون المحرّم اصطياده أو أكله فيصير الكلام مجملًا.

انوار الأصول، ج 2، ص: 203

وأجاب عنه المشهور (الذين يعدّونه من المبيّن) بأنّ مثله حيثما يطلق يتبادر منه عرفاً نفي الفعل المقصود منه المناس له كالأكل في المأكول والشرب في المشروب واللبس في الملبوس والنكاح في المنكوح إلى غير ذلك، وهو كافٍ في ترجيح البعض على بعض آخر، نعم هذا إنّما يصحّ فيما كان الفعل المناسب له واحداً، وأمّا إذا كان المناسب متعدّداً كما مرّ في مثال صيد البرّ حيث إنّه يقصد فيه كلّ واحد من الاصطياد والأكل فالقول بالإجمال متّجه.

ثمّ إنّ المشهور أرسلوا تقدير الفعل في المقام إرسال المسلّم بزعم أنّ

إضافة التحريم إلى العين غير معقولة مع أنّ الحقّ جواز عدم التقدير بلا إشكال، بل هو المتعيّن لأنّ التحريم بمعنى الممنوعيّة، ولا ريب في تعلّق جواز المنع على العين فيقال: إنّ العين (نفسها) ممنوعة (والأصل عدم التقدير) نعم ينصرف هو إلى الأثر الظاهر والمناسب لكن الانصراف غير التقدير.

إلى هنا تمّ الكلام عن المقصد الخامس من مباحث الاصول، وبه تمّ الكلام عن الاصول اللفظية ومباحث الألفاظ، وانتهينا إلى مباحث القطع والأمارات ومباحث الاصول العمليّة.

انوار الأصول، ج 2، ص: 205

المقصد السادس الأمارات المعتبرة

6- الأمارات المعتبرة

اشارة

ويقع البحث فيها في المقامات التالية:

المقام الأوّل: في مباحث القطع
اشارة

ويجري البحث ابتداء في القطع عادةً بعنوان المقدّمة، كما يبحث فيه عن أمرين قبل الورود في مسائل القطع:

الأمر الأوّل: في أنّ البحث عن أحكام القطع اصولي أو لا؟

قال المحقّق الخراساني رحمه الله أنّها أشبه بمسائل الكلام، ولعلّه يستفاد من كلمات الشيخ أيضاً، وصرّح في تهذيب الاصول بأنّه بحث اصولي، وسكت عنه بعض آخر.

وظاهر كلام المحقّق الخراساني رحمه الله أنّها خارجة من مسائل الاصول لأنّ الميزان في كون المسألة اصوليّة وقوعها في طريق استنباط الحكم الشرعي وحدّاً وسطاً في القياس، وما للقطع من الأحكام ليس من هذا القبيل قطعاً، فلا يقال مثلًا «هذا مقطوع الخمريّة، وكلّ مقطوع الخمريّة حرام، فهذا حرام» أو «هذا مقطوع الوجوب. وكلّ مقطوع الوجوب واجب شرعاً، فهذا واجب شرعاً، فإنّ الوجوب أو الحرمة ثابت لنفس الأشياء بما هي هي لا لمقطوع الوجوب أو مقطوع الحرمة.

وأمّا وجه كونها أشبه بمسائل الكلام أنّ البحث في الكلام بحث عن المبدأ والمعاد وعن الثواب والعقاب، ومباحث القطع أيضاً يرجع في الواقع إلى البحث عن صحّة مؤاخذة المولى وعدم صحّتها، فالبحث عن القطع المخطى ء مثلًا يرجع إلى أنّه إذا وافقه القاطع فهل على المولى أن يثيبه على الانقياد؟ أو إذا خالفه القاطع فهل للمولى أن يعاقبه على التجرّي؟ فالبحث فيه انوار الأصول، ج 2، ص: 208

بحث عن الثواب والعقاب الذين هما الميزان في كون المسألة كلاميّة.

وقال في تهذيب الاصول: «أنّ الملاك في كون الشي ء مسألة اصوليّة هو كونها موجبة لإثبات الحكم الشرعي الفرعي بحيث يصير حجّة عليه ولا يلزم أن يقع وسطاً للإثبات بعنوانه بل يكفي كونه موجباً لاستنباط الحكم كسائر الأمارات العقلائيّة والشرعيّة» «1».

أقول: كيف يمكن كون الشي ء حجّة وبرهاناً من دون وجود صغرى أو كبرى في البين، ومن دون وقوعه وسطاً لإثبات الكبرى للصغرى، فإنّ

هذا لا يخلو من نحو تهافت وتناقض كما لا يخفى.

والصحيح أن يقال: ليس القطع من المسائل الاصوليّة لعدم كونه دليلًا وحجّة على الأحكام التي يقطع بها بل إنّه نتيجة الدليل، والدليل هو ما يوجب القطع كالخبر المتواتر الذي نتيجته القطع بالحكم المؤدّي له.

وبعبارة اخرى: أنّ القطع هو نفس المقصد ونفس النتيجة لا ما يوصل إليها كما سيأتي بيانه تفصيلًا في البحث عن حجّية القطع إن شاء اللَّه.

نعم يمكن إدخاله في المسائل الاصوليّة لواحد من هذه الوجوه:

الوجه الأوّل: أن لا يكون المقصود من القطع في ما نحن فيه القطع العقلي بل المقصود منه هو القطع العرفي المعبّر عنه بالاطمئنان، وهو الظنّ القوي المتاخم بالعلم، والذي لا ينافي وجود احتمال الخلاف، وهو الموجود في أكثر الآراء العلميّة والنظريات الفلسفيّة (إلّا البديهيات أو شبهها) كما سنشير إليه أيضاً، حيث إن حجيّة القطع حينئذٍ تحتاج إلى جعل جاعل واعتبار معتبر فيقع وسطاً للإثبات.

الوجه الثاني: أن نلاحظه بالنسبة إلى بعض مسائله الداخلة في المسائل الاصوليّة قطعاً، وهو خمسة من السبعة التي ذكرها المحقّق الخراساني رحمه الله في مباحث القطع وهي عبارة عن: 1- البحث عن القطع الموضوعي، 2- البحث عن أخذ القطع في موضوع نفسه 3- البحث عن الموافقة الالتزاميّة 4- قطع القطاع 5- العلم الإجمالي.

وأمّا المسألتان الاخريان (وهما مسألة حجّية القطع ومسألة التجرّي) فأوّليهما خارجة

انوار الأصول، ج 2، ص: 209

عن الاصول قطعاً، والثانية لعلّها من المسائل الفقهيّة كما سيأتي إن شاء اللَّه.

الوجه الثالث: أن نلاحظه بالنسبة إلى بعد زواله حيث إنّه وإن لا يقع وسطاً بملاحظة حين وجوده لكنّه بعد زواله يمكن البحث في أنّ القطع السابق مجزٍ أو لا؟ أو أنّه حجّة أو لا؟

الأمر الثاني: تقسيم الشيخ الأعظم رحمه الله
اشارة

وقد قسّم الشيخ الأعظم رحمه

الله المكلّف الملتفت إلى أقسام وقال: «المكلّف إذا التفت إلى حكم شرعي فيحصل له إمّا الشكّ فيه أو القطع أو الظنّ، فإن حصل له الشكّ فالمرجع فيه هي القواعد الشرعيّة الثابتة للشاكّ في مقام العمل وتسمّى بالاصول العمليّة ... إلى أن قال:

فالكلام يقع في مقاصد ثلاثة: الأوّل: في القطع والثاني: في الظنّ والثالث: في الاصول العمليّة التي هي المرجع عند الشكّ».

وأوردت عليه إشكالات صارت منشأً لعدول المحقّق الخراساني رحمه الله عن هذا التقسيم:

أحدها: أنّ جعل عنوان المكلّف مقسماً يستلزم عدم شمول التقسيم للقطع ببعض الأحكام الظاهريّة أي البراءة، مع أنّ القطع بالحكم الواقعي يشترك في جميع الأحكام.

وجه الملازمة أنّ البراءة وضعت لمجرّد رفع التحيّر في مقام العمل وليس تكليفاً من التكاليف الشرعيّة، ولا يصدق فيه عنوان المكلّف الذي هو المقسّم في هذا التقسيم.

ثانيها: أنّ ظاهر قوله «إنّ المكلّف إذا التفت إلى الحكم الشرعي» كونه شاملًا لخصوص ما يرجع إلى نفس المكلّف من الأحكام مع أنّ الأحكام المتعلّقة بالحيض والنفاس والاستحاضة وأشباه ذلك ممّا هو خارج عن ابتلاء المجتهد نفسه لا ترجع إلى نفس المكلّف الملتفت، فلا بدّ من أخذ المقسّم بحيث يعمّ ما يتعلّق بالمكلّف ومقلّديه معاً.

ثالثها: أنّ المقصود من الظنّ في كلامه إمّا الظنّ المعتبر أو غير المعتبر، فإن كان المراد منه المعتبر فهو ممّا يوجب القطع بالحكم الظاهري الشرعي المجعول على طبقه فليدخل حينئذٍ في القسم الأوّل أي القطع، وإن كان المراد الظنّ غير المعتبر فيكون مجرى الاصول العمليّة الشرعيّة ويرجع إلى القسم الثالث أي الشكّ، فالتثليث في كلامه حينئذٍ لا واقع له بل يرجع حقيقة إلى التثنية.

ولهذه الوجوه من الإشكال عدل المحقّق الخراساني رحمه الله عمّا مرّ من تقسيم الشيخ وقال «إنّ

انوار الأصول، ج 2، ص: 210

البالغ الذي وضع عليه القلم إذا التفت إلى حكم فعلي واقعي أو ظاهري متعلّق به أو بمقلّديه فأمّا أن يحصل له القطع به أو لا، وعلى الثاني لا بدّ من انتهائه إلى ما استقلّ به العقل من أتباع الظنّ لو حصل له، وقد تمّت مقدّمات الانسداد على تقدير الحكومة، وإلّا فالرجوع إلى الاصول العقليّة من البراءة والاشتغال والتخيير على تفصيل يأتي في محلّه إن شاء اللَّه تعالى ...

إلى أن قال: وكذلك عدلنا عمّا في رسالة شيخنا العلّامة أعلى اللَّه مقامه من تثليث الأقسام».

أقول: الإنصاف أنّ البحث انحرف عن مسيره الأصلي فالمقصود في هذا التقسيم بيان ممثّل لمباحث الكتاب وتنظيم جدول لأبوابه، وبما أن مباحثه على ثلاثة أبواب حتّى عند المحقّق الخراساني رحمه الله في مقام العمل حيث جعلها على ثلاثة مقاصد أيضاً: مقصد القطع ومقصد الظنّ ومقصد الشكّ، فالأولى ما ذهب إليه الشيخ الأعظم رحمه الله لأنّه ينطبق على مقاصد الكتاب ويتناسب مع الترتيب الملحوظ فيها.

أضف إلى ذلك أنّ المهمّ في المقام هو الحالات الواقعيّة للمكلّف الطارئة عليه في الخارج، وأن يتداخل بعضها مع بعض آخر في الحكم، ولا يخفى أنّ الحالات العارضة على المكلّف ثلاثة: القطع والظنّ والشكّ، فليكن المتّبع حينئذٍ هو التثليث، كما أنّ المحقّق الخراساني رحمه الله اكتفى بالتثنية في خصوص مقام التقسيم، وأمّا في مقام البيان فعدل إلى ما عدل عنه وكرّ إلى ما فرّ عنه، ومشى على أساس الحالات الثلاثة لا أحكامها، وعليه فالإشكال الثالث على تقسيم شيخنا العلّامة رحمه الله وهو إشكال التثليث غير وارد. هذا أوّلًا.

وثانياً: أنّ الحكم الظاهري يكون في طول الحكم الواقعي، فإن الموضوع فيه هو الجهل بالحكم الواقعي والشكّ فيه، وحينئذٍ

لا يصحّ جعلهما في عرض واحد، وعلى هذا يندفع إشكاله الأوّل وهو خروج الأحكام الظاهريّة عن قسم القطع.

ثالثاً: أنّ المقصود من المكلّف في كلام الشيخ الأعظم هو من وضع عليه قلم التكليف لا خصوص من تنجّز عليه التكليف كي لا يصحّ جعله مقسّماً، وبعبارة اخرى: المراد من المكلّف هو المكلّف الشأني أي الذي من شأنه التكليف لا المكلّف الفعلي الذي تنجّز عليه التكليف كي نحتاج إلى تقييده بقيد الفعلي كما فعله المحقّق الخراساني رحمه الله.

وأمّا الإشكال الثاني فهو مدفوع بإطلاق قوله «المكلّف إذا التفت إلى حكم شرعي» حيث إن إطلاقه يعمّ ما يتعلّق بالمكلّف نفسه وما يتعلّق بمقلّديه.

انوار الأصول، ج 2، ص: 211

ثمّ إنّ هذا كلّه بالنسبة إلى العلم التفصيلي، وأمّا العلم الإجمالي (الذي أشار إليه في مقام التقسيم في تهذيب الاصول حيث قال: «والأولى أن يقال: إذا التفت المكلّف إلى حكم كلّي فأمّا أن يحصل له القطع به ولو إجمالًا أو لا ...») فله جهتان فمن جهة انطباق عنوان القطع عليه وكونه نوعاً من القطع لابدّ من طرحه في مبحث القطع، ومن جهة امتزاجه بنوع من الشكّ لابدّ من طرحه في مبحث الشكّ كما فعله هكذا كلّ من العلمين: شيخنا العلّامة والمحقّق الخراساني رحمهما الله فتكلّما عنه تارةً في مبحث الشكّ.

إذا عرفت هاتين المقدّمتين فاعلم أنّ هيهنا مسائل:

المسألة الاولى: في حجّية القطع

وفيها أيضاً جهتان من البحث: الجهة الاولى: في الدليل على حجّية القطع، والثانية* في أنّ الحجّية ذاتيّة للقطع.

أمّا الجهة الاولى: فأدلّ الدليل على حجّيته الوجدان بحيث لا حاجة إلى مزيد بيان وإقامة برهان، والحجّة- كما لا يخفى- معناها ما يمكن به أن يحتجّ العبد على مولاه وبالعكس، وبعبارة اخرى: ما يكون قاطعاً للعذر، كما قد يكون مسبّب

العذر، فيكون قاطعاً للعذر عند إصابة الواقع، وعذراً للعبد إذا خالف الواقع، وهذا ما يسمّى بالمنجزيّة والمعذّريّة.

أمّا الجهة الثانية: فإنّ المعروف أنّ الحجّية من ذاتيات القطع بالوجدان، والذاتي ليس قابلًا للجعل، وبتعبير آخر: أنّها من قبيل لوازم الماهيّة التي لا يمكن جعلها بالجعل البسيط، بل يتّبع جعلها جعل نفس الماهيّة كالإحراق الذي يجعل بتبع جعل النار بسيطاً، أي إذا وجدت النار وتحقّقت تحقّق الإحراق بتبعها، كما لا جعل تركيبيّاً بين الشي ء ولوازمه الذاتيّة، وحاصل ما ذكر: أنّه لا يمكن جعل الحجّية للقطع لأنّها من ذاتياته. هذا أوّلًا.

وثانياً: أنّ جعلها يستلزم التسلسل لأنّ نفس هذا الجعل أيضاً يثبت بالقطع فننقل الكلام إليه فإن كان حجّيته ذاتيّة فبها، وإن احتاجت هي أيضاً إلى جعل آخر فهو أيضاً يثبت من طريق القطع، ثمّ ننقل الكلام إلى هذا القطع وهكذا فإن انتهى في النهاية إلى ما تكون الحجّية

انوار الأصول، ج 2، ص: 212

ذاتيّة له فبها وإلّا يتسلسل، وهذا هو المقصود من القول المعروف: «إنّ كلّ ما بالعرض لابدّ أن ينتهي إلى ما بالذات» ويتمسّك به في مثل وجود الممكن وعلمه وقدرته ويقال: أنّه يرجع إلى وجود ذاتي وعلم وقدرة ذاتيين.

وثالثاً: أنّ إمكان الجعل يلازم إمكان المنع عن تأثيره مع أنّه يلزم منه اجتماع الضدّين اعتقاداً في صورتي الخطأ والإصابة، وحقيقة في صورة الإصابة فقط.

بيان ذلك: أنّه إذا قطع المكلّف بوجوب شي ء ونهى الشارع عن العمل بقطعه فإن كان قطعه مصيباً لزم اجتماع الضدّين حقيقة فإنّه على حسب قطعه المصيب واجب، وعلى حسب نهي الشارع عن العمل بقطعه حرام، وهو اجتماع الضدّين حقيقة، وإن كان قطعه مخطئاً لزم اجتماع الضدّين في نظر المكلّف فإنّه على حسب قطعه واجب ولو في اعتقاده،

وعلى حسب نهي الشارع عنه حرام غير جائز، ومن المعلوم أنّ اجتماع الضدّين ولو اعتقاداً محال كاجتماع الضدّين حقيقة فإنّ المحال كما يستحيل وقوعه خارجاً يستحيل أيضاً الاعتقاد بوقوعه خارجاً.

هذه وجوه ثلاثة لإثبات الحجّية الذاتيّة للقطع.

وأورد على هذه الوجوه:

أوّلًا: بأنّه إن كان المراد من الحجّية الطريقيّة والكاشفيّة فهي ليست لا من لوازم الماهيّة ولا من لوازم الوجود لأنّها إذا كانت من إحديهما لا تنفكّ عن ملزومها ولا تفترق عنه، والقطع قد يصيب وقد لا يصيب، ومعه كيف يمكن عدّ الكاشفيّة من ذاتياته أو من لوازم وجوده، وإن كان المراد منها صحّة الاحتجاج بالقطع فإنّ صحّة الاحتجاج من الأحكام العقلائيّة لا من الواقعيات الثابتة للشي ء، فليست الحجّية حينئذٍ أيضاً من لوازم ماهيّة القطع أو من لوازم وجوده «1».

ثانياً: أنّ الردع عن العمل بالقطع كسلب الحجّية غير ممكن، لكنّه لا للزوم اجتماع الضدّين لما قرّر في محلّه من عدم التضادّ بين الأحكام لأنّها امور اعتباريّة لا حقائق خارجيّة، بل للزوم اجتماع الإرادتين المختلفتين على مراد واحد، لأنّ الإرادة الحتميّة الإيجابيّة بالنسبة إلى صلاة

انوار الأصول، ج 2، ص: 213

الجمعة مثلًا لا تجتمع مع الإرادة التحريمية بالنسبة إليها «1».

أقول: قد انحرف البحث هنا أيضاً عن مجراه الواقعي الأصلي لأنّ إثبات الحجّية للقطع من الطرق المذكورة غير صحيح، والنكتة الأصلية في المقام أنّ القطع حقيقته الوصول إلى الواقع (ولا أقلّ أنّه كذلك في نظر القاطع) والأحكام المترتّبة عليه ليست في الواقع من أحكام نفس القطع بل إنّها من أحكام الواقع والخارج المتعلّق للقطع.

وبعبارة اخرى: أنّ القاطع لا يرى قطعه، وأنّ القطع ليس طريقاً ومرآة للوصول إلى الواقع بل القطع بنفسه مشاهدة للواقع ووصول إليه فهو حينئذٍ نظير النظر إلى الشمس، حيث

لا يقال حين النظر إليها: إنّي قطعت بالشمس، بل القطع فيه هو نفس إنعكاس الشمس في الذهن، فكذلك في ما نحن فيه، فليست الآثار المترتّبة على القطع آثاراً لنفس تلك الحالة النفسانية بل هي آثار للواقع وتترتّب على الواقع، ولذلك لا يقع القطع وسطاً لإثبات الحكم ولا يقال: «هذا مقطوع الخمريّة وكلّ مقطوع الخمريّة حرام فهذا حرام» بل يقال: «هذا خمر كلّ خمر حرام» نظير قولك: «هذه نار وكلّ نار حارّة» وأيضاً لا يقال في مقام الاحتجاج على العبد فيما إذا سمح بدخول الدار لعدوّ مولاه مثلًا مع قطعه بكونه عدوّاً له: «إنّك قطعت بأنّه عدوّ ولم تعمل بقطعك» بل يقال: «لِمَ سمحت بدخول العدوّ ولم تمنعه».

فظهر إلى هنا إنّه لا حاجة إلى إثبات حجّية القطع إلى التمسّك بالوجدان أو التسلسل أو غيرهما بل القاطع يعمل بقطعه ويرتّب آثاره من باب وصوله إلى الواقع لا من باب حجّية القطع.

نعم هذا كلّه بالنسبة إلى شخص القاطع حين قطعه، وأمّا بالنسبة لما بعد زوال القطع وكذلك بالنسبة إلى غير القاطع (أي الذهن فوق الذهن) فلما ذكر من النقض والإبرام في مقام الاستدلال لحجّية القطع شأن.

وحينئذٍ نقول: المقبول عندنا من بين الأدلّة التي اقيمت لحجّية القطع وجهان:

أحدهما: التسلسل، والبيان الأصحّ والأدقّ فيه أن يقال: إنّ جميع الأدلّة الشرعيّة ترجع دليليتها وحجّيتها إلى القطع، فلو كان مآل حجّية القطع أيضاً شيئاً غير ذاته يلزم الدور أو التسلسل كما لا يخفى.

انوار الأصول، ج 2، ص: 214

ثانيهما: ما مرّ من اجتماع الضدّين، وإن شئت فعبّر عنه بالتناقض.

إن قلت: اجتماع الضدّين ليس مستحيلًا في الامور الاعتباريّة.

قلت: إنّه كذلك، ولكنّه قبيح عن الحكيم، وبعبارة اخرى: علم العبد بعدم صدور القبيح من المولى يوجب إيجاد

التناقض في ذهنه، وحينئذٍ لا حاجة لتتميم الإشكال إلى ارجاعه بالنسبة إلى ذهن المولى وإرادته كما فعل في تهذيب الاصول بل بهذا البيان يتصوّر هو أيضاً بالنسبة إلى ذهن العبد.

بقي هنا أمران:

الأمر الأوّل: أنّ هذا كلّه في القطع الحقيقي، أمّا القطع العادي العرفي وهو المسمّى بالاطمئنان والوارد في الآراء العلميّة والنظرات الفلسفية (غير البديهيات أو شبهها) فلا يجري فيه هذا الكلام، فإن كلّ إنسان يحتمل خطأه في بعض آرائه العلميّة النظريّة مع كثرتها، ولا يوجد إنسان لا يحتمل الخطأ في شي ء من آرائه النظريّة أبداً، وحينئذٍ نقول: كيف يجتمع العلم في كلّ واحد من هذه الآراء مع احتمال الخطأ في بعضها، وهل تجتمع الموجبة الكلّية مع السالبة الجزئيّة، وهذا دليل على أنّ ما نسمّيه قطعاً في المسائل العلميّة في الحقيقة من قبيل الاطمئنان لا القطع الحقيقي الذي لا تجتمع مع احتمال الخطأ أبداً، فلو تأمّلت في ما ذكرنا تعرف أنّ العلم الحاصل لنا في هذه المسائل من قبيل العلم العرفي لا العلم الحقيقي، فتدبّر جيّداً.

وفي مثل هذا النوع من القطع يمكن أن تكون حجّيته قابلة للجعل لاستقرار بناء العقلاء على حجّيته، والشارع أيضاً أمضى ذلك إلّابالنسبة إلى بعض الموارد ولعلّ من هذا البعض باب الطهارة والنجاسة حيث إن الظاهر أنّه اعتبر فيه حصول القطع الحقيقي الحسّي أو كالحسّي ولم يمض الشارع بناءهم هنا، وإلّا يشكل الأمر على كثير من الناس في هذا الباب كما لا يخفى على الخبير.

الأمر الثاني: أنّ ما تقدّم من كون القطع منجزاً للتكليف أو معذّراً له إنّما هو فيما إذا كان التكليف المتعلّق به القطع فعليّاً لا إنشائيّاً محضاً، ولذلك ينبغي الإشارة هنا إلى مراتب الحكم فنقول: قد ذكروا للحكم مراتب

أربع:

الاولى: مرتبة الاقتضاء وهي مرتبة الملاك والمصلحة.

انوار الأصول، ج 2، ص: 215

الثانية: مرتبة الإنشاء وهي مرتبة جعل القانون وضرب القاعدة من دون أن يكون فيه انفاذ للحكم ولا إعلام به، وهذا نظير القوانين العرفيّة قبل ابلاغها إلى المأمورين للإجراء.

الثالثة: مرتبة الفعلية وهي مرتبة الانفاذ والابلاغ للمكلّفين والبعث والزجر.

الرابعة: مرتبة التنجّز وهي مرتبة انقطاع عذر المكلّف ببلوغ الحكم إليه وقدرته عليه فإذا علم به وهو متمكّن من امتثاله فقد تنجّز عليه التكليف عقلًا والعقل حاكم باستحقاق العقاب عليه إذا خالفه بلا عذر، فالحكم قبل أن يبلغ إلى مرتبة التنجّز وقبل حصول شرطيّه وهما العلم والقدرة لا يوجب ترك امتثاله عقاباً للعبد، والحاكم به العقل، وإذن ليست هذه المرتبة حقيقة من مراتب الحكم، كما أنّ عدّ المرتبة الاولى (وهي مرتبة المصلحة والمفسدة) من مراتب الحكم أيضاً لا يخلو من مسامحة.

هذا في دائرة القوانين أعمّ من الشرعيّة والعرفيّة، وأمّا في الأوامر العرفيّة العادية الجارية بين الموالي والعبيد فلا إشكال في أنّ له مرتبة واحدة من هاتين المرتبتين، وهي مرتبة البعث أو الزجر كما إذا قال: «اسقني ماءً» لعدم تصوّر الإنشاء فيها منفصلًا عن مرحلة البعث والزجر عادةً كما لا يخفى.

المسألة الثانية: في أحكام التجرّي
اشارة

إذا قطع الإنسان بحرمة شي ء وإرتكبه ثمّ إنكشف الخلاف وعدم مطابقة قطعه للواقع، كما إذا قطع بأنّ هذا المايع خمر فشربه، ثمّ تبيّن أنّه ليس بخمر، أو قطع بأنّ هذا غصب فتصرف فيه، ثمّ تبيّن أنّه ماله فهل فعل حينئذٍ حراماً أو لا؟ وقع البحث فيه بين الأعلام.

ولكن ينبغي ذكر مقدّمتين قبل الورود في أصل المسألة والأقوال الموجودة فيها:

المقدمة الاولى: أنّه تتصوّر في إرتكاب شي ء مراحل أربع:

أحدها: النيّة بمراحلها (سيأتي أنّ للنيّة مراحل عديدة).

ثانيها: إرتكاب مقدّمات الفعل.

ثالثها: إرتكاب ذي

المقدّمة.

رابعها: مرحلة الإصابة للواقع وعدمها، ولا شكّ في أنّ التجرّي صادق بالنسبة إلى كلّ انوار الأصول، ج 2، ص: 216

مرحلة من هذه المراحل، فمن نوى ولم يأت بالعمل أو أتى بالمقدّمة ولم يأت بذي المقدّمة أو أتى بذي المقدّمة أيضاً ولكن لم يصب قطعه الواقع أو أصاب قطعه بالواقع أيضاً، ففي جميع هذه المراحل قد تجرّى على مولاه، نعم في مصطلح الاصوليين يطلق التجرّي على خصوص المرحلة الثالثة فقط، أي ما إذا نوى وأتى بالمقدّمة وذي المقدّمة ولم يصب الواقع، ولا يخفى أنّ نفس هذا الكلام وهذه المراحل بأسرها تجري في الإنقياد أيضاً.

المقدمة الثانية: هل هذه المسألة مسألة اصوليّة أو فقهيّة أو كلاميّة؟

ذهب المحقّق الحائري رحمه الله في درره إلى أنّها قابلة لكلّ منها وقال: «أنّ النزاع يمكن أن يقع في استحقاق العقوبة وعدمه فيكون راجعاً إلى النزاع في المسألة الكلاميّة، ويمكن أن يقع النزاع في أنّ إرتكاب الشي ء المقطوع حرمته هل هو قبيح أم لا؟ فيكون المسألة من المسائل الاصوليّة التي يستدلّ بها على الحكم الشرعي، ويمكن أن يكون النزاع في كون هذا الفعل أعني إرتكاب ما قطع بحرمته مثلًا حراماً شرعاً أو لا؟ فتكون من المسائل الفقهيّة» «1».

أقول: الإنصاف أنّ المسألة فقهيّة ولا غير، أمّا كونها فقهيّة فلأنّ نتيجتها وهي حرمة التجرّي حكم كلّي فرعي قابل للانطباق على مصاديقه الجزئيّة وحيث يمكن للفقيه أن يكتب في الرسالة العمليّة: أنّ من نوى حراماً وفعل مقدّماته ولم يطابق الواقع فقد فعل حراماً أو لم يفعل حراماً.

وبعبارة اخرى: أنّ نتيجتها لا تقع كبرى لقياس الاستنباط حتّى تستنتج منها حكماً كلّياً فرعياً بل هي نفسها حكم كلّي فرعيى، ولو تنزّلنا عن ذلك فلا أقلّ من كونها من القواعد

الفقهيّة.

وأمّا عدم كونها كلاميّة فلأنّ البحث فيها بحث عن صغرى موضوع علم الكلام، حيث إن موضوعه هو كبرى: أنّ المعصية هل توجب العقاب أو لا؟ بينما البحث في المقام بحث في صغرى المعصية، أي في أنّ فعل المتجرّي معصية أو لا؟

وإلّا فإن كانت هذه مسألة كلاميّة يلزم أن يكون كلّ فرع فقهي من مسائل الكلام، والإنصاف أنّ عدّها من علم الكلام من ناحية هذا المحقّق بعيد من مقامه.

انوار الأصول، ج 2، ص: 217

وأمّا عدم كونها اصوليّة فلما أشرنا إليه من أنّ المسألة الاصوليّة ما تقع نتيجتها في طريق استنباط الحكم الكلّي الفرعي وليست هي بنفسها حكماً كلّياً فرعياً.

وأمّا ما ذكره في توجيه كونها اصوليّة من أنّ البحث فيها بحث عن الحسن والقبح ووجود الملازمة بين حكم العقل والشرع.

ففيه: أنّه أيضاً من الخلط بين الصغرى والكبرى، حيث إن الاصولي في مسألة الحسن والقبح يبحث في كبرى «كلّما حكم به العقل حكم به الشرع» بينما في ما نحن فيه يبحث في أنّ التجرّي هل يحكم العقل بقبحه حتّى يكون صغرى لتلك الكبرى وتكون النتيجة حرمته عند الشرع أيضاً أو لا؟ وهذا واضح.

وهيهنا كلام للمحقّق النائيني رحمه الله: وهو «أنّ الإنصاف أنّ إحراز الشي ء لا يكون مغيّراً لما عليه ذلك الشي ء من المصلحة والمفسدة، وليس من قبيل الضرر والنفع العارض على الصدق والكذب المغيّر لجهة حسنه وقبحه لوضوح أنّ العلم بخمريّة ماء وتعلّق الإحراز به لا يوجب انقلاب الماء عمّا هو عليه وصيرورته قبيحاً، فدعوى أنّ الفعل المتجرّي به يكون قبيحاً ويستتبعه الحكم الشرعي بقاعدة الملازمة واضحة الفساد» «1».

أقول: جوابه واضح، لأنّ القائل بالحرمة لا يقول: أنّ شرب الماء بعنوانه حرام بل لم يقل بحرمته بعنوانه أحد، بل يقول:

إنّ الشارب للماء بنيّة شرب الخمر قد تجرّأ على المولى، وأوقع نفسه في مقام الهتك عليه فينطبق على شربه عنوان الهتك والجرأة على المولى، ولذلك أي لأجل هذا الانطباق صار شرب الماء حراماً، وبعبارة اخرى: أنّ عنوان التجرّي عنوان من العناوين الثانويّة، وفي كلامه وقع الخلط بينها وبين العناوين الأوّليّة.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ الأقوال في المسألة ثلاثة:

أوّلها: الحرمة، وذهب إليه المحقّق الخراساني رحمه الله ومن تبعه.

الثاني: عدم الحرمة، ومال إليه شيخنا الأعظم في الرسائل.

الثالث: التفصيل بين الحالات المختلفة المتصوّرة في المقام، وهذا هو الذي اختاره صاحب الفصول رحمه الله وسيأتي أنّه ليس بتفصيل، بل يرجع في الواقع إلى القول بالحرمة مطلقاً.

انوار الأصول، ج 2، ص: 218

واستدلّ القائلون بالحرمة بوجوه خمسة:

الوجه الأوّل: الإجماع المستفاد من موارد من الفقه:

منها: باب السفر الحرام، فإنّ الإجماع قام على حرمة سفر من يخاف على نفسه من الضرر أو الخطر المحتمل وجوده في الطريق وإن انكشف خلافه بعد.

ومنها: باب أوقات الصّلاة، فالإجماع قام على عدم جواز تأخير الصّلاة لمن يظنّ ضيق الوقت، فلو تأخّرها عصى وإن تبيّن بعد عدم ضيق الوقت.

وفيه: أوّلًا: أنّ الإجماع في مثل هذه المسألة التي لها مدارك مختلفة ليست بحجّة وكاشفاً عن قول المعصوم عليه السلام.

ثانياً: الإجماع في الفرع الثاني ليس بثابت، لذهاب بعض الفقهاء إلى عدم المعصية إذا انكشفت سعة الوقت، وأمّا الفرع الأوّل فيمكن أن يقال: إنّ موضوع الحرمة فيه هو نفس خوف الضرر والخطر لا الضرر الواقعي، وحينئذٍ لا يتصوّر كشف الخلاف، فإن الخوف موجود واقعاً على كلّ حال.

الوجه الثاني: بناء العقلاء على عقاب المتجرّي على المولى.

وجوابه واضح، لأنّه أوّل الكلام ولا دليل عليه، نعم أصل المذمّة والحكم بالقبح من ناحيتهم ممّا لا إشكال

فيه لكن حكمهم بالعقاب ليس ثابت.

إن قلت: حكم العقلاء من حيث هم عقلاء بالقبح يلازم العقاب الشرعي بقاعدة الملازمة.

قلنا: لا ملازمة بين العقاب الشرعي والقبح العقلي في جميع مراتبه لأنّ للقبح درجات: منها درجة تشبه الكراهة التي لا عقاب على إرتكابها بلا خلاف، بل الملازمة ثابتة بين العقاب الشرعي والقبح العقلي الذي يحكم العقل بلزوم تركه أيضاً، كما أنّ الحسن العقلي أيضاً لا يلازم الوجوب الشرعي في جميع مراتبه، حيث إن للمستحبّات العقليّة أيضاً درجة من الحسن لا تبلغ حدّ الإلزام.

الوجه الثالث: دليل العقل وبيانه: أنّه إذا نوى شخصان شرب الخمر وإرتكبا مقدّماته وشرب كلّ منهما ما قطع بخمريته فأصاب قطع أحدهما بالواقع دون الآخر فالحكم في المسألة حينئذٍ لا يخلو من أحد احتمالات أربعة: فأمّا أن نحكم باستحقاق كليهما للعقاب وهو المطلوب، أو نقول بعدم استحقاق كليهما له وهو كما ترى، والاحتمال الثالث استحقاق المخطى ء له وعدم انوار الأصول، ج 2، ص: 219

استحقاق المصيب، وهذا ممّا لا يتفوّه به أحد، والرابع عكس الثالث وهو يستلزم الترجيح بالإصابة التي هي خارجة عن الاختيار، وهو محال، فيتعيّن الاحتمال الأوّل، وهو استحقاق كلا الفردين للعقاب، فيثبت حينئذٍ حرمة التجرّي.

وجواب هذا الوجه أيضاً معلوم، وهو إنّا نختار الاحتمال الرابع ونلتزم بالتفاوت والترجيح المذكور، فإنّه لا إشكال في أنّ عدم العقاب لأمر غير اختياري ممّا لا استحالة فيه، نظير عدم العقاب الناشى ء من تعطيل مراكز الفساد الخارج عن اختيار المكلّفين، بل الإشكال ثابت في العقاب لأمر غير اختياري.

الوجه الرابع: روايات سيأتي ذكرها وتدلّ على أنّ نيّة المعصية معصية كما يأتي أيضاً الجواب عنها.

الوجه الخامس: (ولعلّه العمدة) الوجدان، حيث إن الوجدان قاضٍ بأنّ من تجرّى على مولاه فقد هتك حرمة مولاه

وخرج عن رسم العبوديّة وهو يوجب الاستحقاق للعذاب.

وجوابه: أنّ التجرّي على قسمين: تارةً يكون المتجرّي في مقام الهتك على المولى، ولسان حاله أنّي افعل هذا عناداً وهتكاً ومعارضة للمولى، وهذا قد يكون سبباً للكفر فضلًا عن الفسق.

واخرى ليست نيّته الهتك والمعارضة بل يقول: غلبني هواي ويقرّ ويعترف على تقصيره كما ورد في دعاء أبي حمزة الثمالي عن علي بن الحسين عليه السلام: «إلهي ما عصيتك حين عصيتك وأنا لربوبيتك جاهل ولا لأمرك مستخفّ بل خطيئة عرضت لي وسوّلت لي نفسي وغلبني لي هواي» فإنّ هذا ليس هتكاً قطعاً، حيث إن الهتك من العناوين القصديّة، والعاصي في هذه الصورة ليس قاصداً للجرأة على مولاه.

ومن هنا يعلم أنّ من قصد قتل مولاه ولم يقتله كمن صبّ السمّ مثلًا في طعامه ولكن لم يأكله اتّفاقاً فإنّه إنّما يعاقب من باب الهتك والجرأة والمعارضة وانطباق عناوين قصديّة محرّمة على فعله لا من باب التجرّي في مصطلح الاصوليين، وبعبارة اخرى: موضع النزاع في ما نحن فيه هو المتجرّي في مصطلح الاصوليين أي مطلق من نوى حراماً وأتى بمقدّماته ولم يصبّ الواقع، لا المتجرّي في اللغة الذي يلازم الجرأة والهتك، بل أنّه خارج عن محلّ البحث، وكأنّه وقع الخلط بين المعنيين في كلام المحقّق الخراساني رحمه الله.

انوار الأصول، ج 2، ص: 220

الوجه السادس: ما نقله المحقّق النائيني رحمه الله عن السيّد الشيرازي الكبير سيّد أساتذتنا، وهو مركّب من أربع مقدّمات:

الاولى: أنّ وظيفة المولى إرسال الرسل وإنزال الكتب، ووظيفة العبد وجوب الإطاعة بحكم العقل.

الثانية: أنّه فرق بين حسن الطاعة وقبح المعصية، وبين حسن الإحسان وقبح الظلم، لأنّ الأوّلين يرتبطان بسلسلة معاليل الأحكام والأخيرين يرتبطان بسلسلة علّلها.

الثالثة: أنّ المناط في حكم العقل باستحقاق العقاب

هو إرتكاب ما يعلم مخالفته للتكليف لا ما يكون مخالفاً واقعاً، فالمهمّ إذن هو العلم بالتكليف لا إصابة ذلك العلم للواقع وإلّا لتعطّلت الأحكام حيث لا يمكن إحراز الإصابة في مورد، وعليه فالمتجرّي والعاصي على حدّ واحد من حيث وجود مناط استحقاق العقوبة فيهما.

الرابعة: أنّ الميزان في استحقاق العقوبة إمّا القبح الفعلي أو الفاعلي، والأوّل واضح البطلان إذ يلزم استحقاق العقاب على شرب الخمر واقعاً باعتقاد أنّه خلّ، فيتعيّن الثاني، وهو في المتجرّي والعاصي على حدّ سواء.

أقول: أوّلًا: لا دخل للمقدّمة الاولى والثانية في المقام مع صحّتهما في أنفسهما كما لا يخفى.

وثانياً: يصلح كلّ من المقدّمة الثالثة والرابعة أن يكون برهاناً مستقلًا على استحقاق المتجرّي للعقاب.

وثالثاً: (بالنسبة إلى قوله في المقدّمة الثالثة) المناط في حكم العقل باستحقاق العقاب ليس هو العلم بالتكليف فقط بل إنّنا نختار أنّ الإصابة للواقع أيضاً شرط، ولكنّها حاصلة لدى المتجرّي في نظره لأنّ القاطع يرى قطعه مطابقاً للواقع، فهو دائماً يحرز التكليف ويرى نفسه مستحقّاً للعقاب على تقدير المخالفة فلا يلزم تعطيل الأحكام.

ورابعاً: قوله في المقدّمة الرابعة مبني على انقسام القبح إلى خصوص الفعلي والفاعلي مع إنّا نختار وجهاً ثالثاً، وهو كون الميزان مجموع القبحين، فتكون التفرقة بين العاصي والمتجرّي صحيحة بلا لزوم إشكال.

فظهر إلى هنا عدم وجود دليل على حرمة المتجرّي واستحقاق العقاب عليه.

انوار الأصول، ج 2، ص: 221

تنبيهات

التنبيه الأوّل: في مقتضى هذه الأدلة

ما هو مقتضى هذه الأدلّة؟ هل هو حرمة الفعل المتجرّي به، أو حرمة النيّة؟

الإنصاف أنّ مقتضاها مختلف، فلا إشكال في أنّ الدليل الأوّل يقتضي حرمة الفعل، وكذلك الثاني والثالث من دون حاجة إلى توضيح، وأمّا الدليل الرابع، أي الرّوايات التي سيأتي ذكرها فحيث إنّها تصرّح بأنّ نيّة المعصية معصية، فهي تقتضي

حرمة النيّة، وكذلك الدليل الخامس كما صرّح به المحقّق الخراساني رحمه الله، وإن كان يرد عليه: أنّه إن كانت النيّة حراماً عنده فكيف يتكلّم لإثبات الحرمة عن عنوان الهتك وانطباقه على التجرّي مع أنّ الهتك عمل في الخارج وإن كان من العناوين القصديّة التي لابدّ فيها من النيّة أيضاً؟ وهكذا الدليل السادس، لأنّ الميزان في حرمة التجرّي لدى الميرزا الشيرازي رحمه الله القبح الفاعلي لا الفعلي.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني رحمه الله ذكر لعدم إمكان أن يكون الفعل الخارجي في ما نحن فيه حراماً وجهين:

أحدهما: ضرورة الوجدان، وتوضيحها: أنّ الفعل المتجرّي به أو المنقاد به لا يحدث فيه بسبب القطع بالخلاف حسن أو قبح ولا وجوب أو حرمة واقعاً كي يترتب عليه الثواب أو العقاب، بل هو باقٍ على ما هو عليه من الحسن أو القبح والوجوب أو الحرمة فقتل ابن المولى بسبب القطع بأنّه عدوّ له لا يحدث فيه حسناً ولا وجوباً بل هو باقٍ على قبحه وحرمته كما أنّ قتل عدوّ المولى مع القطع بأنّه ابن المولى لا يحدث فيه قبحاً ولا حرمة بل هو باقٍ أيضاً على حسنه، ووجوبه فإنّ القطع بالحسن والقبح ليس من الوجوه والاعتبارات التي بها يتحقّق الحسن والقبح والوجوب والحرمة كالعناوين الثانويّة الطارئة للأفعال.

ثانيهما: أنّ الفعل المتجرّي به أو المنقاد به بما هو مقطوع الحرمة أو الوجوب لا يكون اختياريّاً لأنّ هذا العنوان غير ملتفت إليه غالباً فإنّ من يشرب الماء باعتقاد أنّه خمر يقصده ويشربه بعنوانه الأوّلي الاستقلالي، أي بعنوان أنّه خمر، لا بعنوانه الطارى ء الآلي، أي بعنوان أنّه مقطوع الخمريّة فإذا لم يكن هذا العنوان اختياريّاً ملتفتاً إليه فلا يعقل أنّه يكون هو من جهات الحسن أو

القبح عقلًا، ومن مناطات الوجوب أو الحرمة شرعاً.

لكن كلا الوجهين غير تامّ:

انوار الأصول، ج 2، ص: 222

أمّا الوجه الأوّل: فلأنّ القطع بخلاف الواقع وإن لم يحدث واقعاً بسببه حسن أو قبح ولا وجوب أو حرمة كانت للفعل بعنوانه الأوّلي ولكن يحدث بسببه الحسن أو القبح الذي هو للفعل بعنوانه الثانوي، وهو عنوان الإنقياد أو التجرّي الطارى ء له، وقد ذكر المحقّق الخراساني رحمه الله في ما مرّ من كلامه أنّه معنون بعنوان الهتك للمولى والخروج عن رسم عبوديته وهذا العنوان كافٍ في حرمته.

وأمّا الوجه الثاني: فلأنّ العنوان المحرّم في المقام وهو عنوان الجرأة على المولى والخروج عن رسم العبوديّة عنوان أعمّ يتحقّق في ضمن فردين: المعصية والتجرّي، والمتجرّي حيث إن مقصوده هو هذا العنوان الأعمّ فهو على أيّ حال يقصد العنوان المحرّم وإن لم يتحقّق ضمن مصداق المعصية، نظير من كان قصده شرب الخمر الزبيبي وإنكشف أنّه كان خمراً عنبياً.

التنبيه الثاني: الآيات والرّوايات

أمّا الآيات والرّوايات التي استدلّ بها على حرمة التجرّي.

أمّا الآيات فهي كثيرة:

1- قوله تعالى: «لَايُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ» «1».

2- قوله تعالى: «وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ» «2».

3- قوله تعالى: «وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا» «3».

ووجه الاستدلال بالأخيرة أنّ القلب مسؤول عمّا نوى.

4- قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» «4».

انوار الأصول، ج 2، ص: 223

والجواب عن الاستدلال بهذه الآيات أنّه وقع الخلط بين معصية القلب وبين نيّة المعصية والعزم عليها، فهناك أفعال تصدر من القلب وتترتّب عليها العقاب نحو كتمان الحقّ وحبّ إشاعة الفحشاء والرضا بالمعاصي

(كما ورد في زيارة وإرث: ولعن اللَّه امّة سمعت بذلك فرضيت به) والاعتقاد بالأوثان والأصنام، كما أنّ هناك أفعالًا اخرى تصدر من القلب وتترتّب عليه الثواب كالاعتقاد باللَّه ورسوله، لكن هذا لا يستلزم منه ترتّب العقاب على جميع أفعال القلب حتّى مثل نيّة المعصية والعزم عليها، وبعبارة اخرى: أنّ هذه الآيات تدلّ على حرمة خصوص بعض المصاديق من الأفعال الجوانحيّة المذكورة فيها، وأين ذلك من حرمة كلّ فعل قلبي؟

أمّا الرّوايات فهي على طائفتين: طائفة تدلّ على أنّ نيّة المعصية معصية، و طائفة اخرى تدلّ على عدمها أو العفو عنها.

أمّا الطائفة الاولى: فهي روايات عديدة لابدّ من البحث عن كلّ واحدة منها والنظر إليها مستقلًا حتّى يتّضح مقدار دلالتها على المدّعى ثمّ ملاحظتها من حيث المجموع.

منها: ما ورد في الجواب عن إشكال الخلود في النار أو في الجنّة مع كون العمل في الدنيا محدوداً بمقدار معيّن نحو خبر أبي هاشم، قال: قال أبو عبداللَّه عليه السلام: «إنّما خلّد أهل النار في النار لأنّ نيّاتهم كانت في الدنيا أن لو خلّدوا فيها أن يعصوا اللَّه أبداً، وإنّما خلّد أهل الجنّة في الجنّة لأنّ نيّاتهم كانت في الدنيا أن لو بقوا فيها أن يطيعوا اللَّه أبداً، فبالنيّات خلّد هؤلاء وهؤلاء، ثمّ تلا قوله تعالى: «قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ» قال: على نيّته» «1».

ولكن يناقش فيها بأنّها ممّا لا يمكن الالتزام بظاهرها لشمول إطلاقه من كان كافراً وليست نيّته في الدنيا أن لو خلّد فيها أن يعصى اللَّه أبداً بل ربّما تكون نيّته أن يتوب بعد مدّة، لكن مات على كفره قبل أن يتوب، وشموله أيضاً مؤمناً ليست نيّته أن لو بقى في الدنيا أن يطيع اللَّه أبداً، لكن

اتّفق موته على الطاعة، ومن المسلّم أنّ الأوّل مخلّد في النار لأنّ الكافر خالد في النار مطلقاً بلا إشكال، كما أنّه لا خلاف في أنّ الثاني لا يخلّد في النار، وحينئذٍ فتحمل هذه الأخبار على أنّ الإمام عليه السلام تكلّم فيها على قدر عقل المخاطب، وأجاب بما يقتضيه استعداده وطاقته الفكريّة فيكون الجوا اقناعياً أو يردّ علمها إلى أهلها.

انوار الأصول، ج 2، ص: 224

وأمّا إشكال الخلود فلنا جواب آخر ذكرناه مفصّلًا في كتاب المعاد، وملخّصه: أنّ الخلود في الواقع يرجع إلى تجسّم الأعمال وظهور خاصّية العمل وأثره، فإنّ أثر كفر الكافر أن يخلّد في النار أبداً نظير إرشاد الطبيب مريضه بأنّك إن شربت الخمر أو السمّ تبتلِ بقرحة المعدة إلى آخر العمر.

ومنها: ما رواه فضيل بن يسار عن أبي جعفر عن آبائه عليهم السلام أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: «نيّة المؤمن أبلغ من عمله وكذلك نيّة الفاجر» «1».

لكن في الباب روايتان شارحتان لهذه الرّواية، وتدلّان على أنّه لا ربط لها بالمقام:

إحداهما: ما رواه زيد الشحّام قال: قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام: «أنّي سمعتك تقول: نيّة المؤمن خير من عمله، فكيف تكون النيّة خيراً من العمل؟ قال: لأنّ العمل ربّما كان رياءً للمخلوقين، والنيّة خالصة لربّ العالمين، فيعطي عزّوجلّ على النيّة ما لا يعطي على العمل» «2».

ثانيهما: ما رواه حسن بن الحسين الأنصاري عن بعض رجاله عن أبي جعفر عليه السلام أنّه كان يقول: «نيّة المؤمن أفضل من عمله، وذلك لأنّه ينوي من الخير ما لا يدركه، ونيّة الكافر شرّ من عمله وذلك لأنّ الكافر ينوي الشرّ ويأمل من الشرّ ما لا يدركه» «3».

مضافاً إلى أنّ العمل بظاهرها مشكل جدّاً بل هو ممّا

لا يتفوّه به فقيه، حيث إن مقتضاه أن يكون مثلًا معصية من نوى شرب الخمر ولم يشرب- أشدّ ممّا إذا نوى وشربه، وأمّا إذا شربه سهواً أو نسياناً بغير نيّة فلا عقاب له قطعاً فلا تكون الرّواية ناظرة إليه.

ومنها: ما رواه السكوني عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «نيّة المؤمن خير من عمله ونيّة الكافر شرّ من عمله، وكلّ عامل يعمل على نيّته» «4».

والجواب عن هذه هو الجواب عن الرّواية الثانية لاشتراكهما في المضمون كما لا يخفى.

ومنها: ما رواه جابر عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال لي: ياجابر: يكتب للمؤمن في سقمه من العمل الصالح ما كان يكتب في صحّته، ويكتب للكافر في سقمه من العمل السيّى ء ما كان انوار الأصول، ج 2، ص: 225

يكتب في صحّته، ثمّ قال، قال: «ياجابر: ما أشدّ هذا من حديث» «1».

وهذه الرّواية لا إشكال في دلالتها على المدّعى في الجملة حيث إن ظاهرها أنّ نيّة المريض كان مؤثّراً في دوام العمل الصالح أو العمل السيّى ء له.

ومنها: ما رواه عبداللَّه بن موسى بن جعفر عن أبيه عليه السلام قال: «سألته عن الملكين هل يعلمان بالذنب إذا أراد العبد أن يفعله أو الحسنة؟ فقال: ريح الكنيف والطيب سواء؟ قلت: لا، قال: أنّ العبد إذا همّ بالحسنة خرج نفسه طيّب الريح، فقال: صاحب اليمين لصاحب الشمال: قم فإنّه قد همّ بالحسنة، فإذا فعلها كان لسانه قلمه وريقه مداده فأثبتها له، وإذا همّ بالسيّئة خرج نفسه منتن الريح فيقول: صاحب الشمال لصاحب اليمين قف فإنّه قد همّ بالسيّئة فإذا هو فعلها كان لسانه قلمه وريقه مداده فأثبتها عليه» «2».

فيمكن أن يستدلّ على المدّعى بقوله «وإذا

همّ بالسيّئة خرج نفسه منتن الريح» حيث إن ظاهره أنّ انتان الريح نشأ من ناحية كون النيّة معصية.

لكن الإنصاف أنّ ذيله دالّ على خلافه حيث إن فيه توقّف ثبوت المعصية على تحقّق الفعل، ولو تنزّلنا عن ذلك فلا أكثر من أنّه مشعر إلى المدّعى وليس على حدّ الدلالة.

ومنها: ما رواه أبو عروة السلمي عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «إنّ اللَّه يحشر الناس على نيّاتهم يوم القيامة» «3».

لكنّها تفسّر برواية اخرى وهي رواية إسماعيل بن محمّد بن إسحاق بن محمّد قال: حدّثني علي بن جعفر بن محمّد وعلي بن موسى بن جعفر هذا عن أخيه وهذا عن أبيه موسى بن جعفر عليه السلام عن آبائه عليهم السلام عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله (في حديث) قال: «إنّما الأعمال بالنيّات ولكلّ امرى ء ما نوى فمن غزى ابتغاء ما عند اللَّه فقد وقع أجره على اللَّه عزّوجلّ، ومن غزى يريد عرض الدنيا أو نوى عقالًا لم يكن له إلّاما نوى» «4».

فإنّها تدلّ على اعتبار قصد القربة في المثوبة.

انوار الأصول، ج 2، ص: 226

ومنها: ما ورد في باب حرمة شرب الخمر وهو ما رواه حسين بن زيد عن الصادق عليه السلام عن آبائه عليهم السلام (في حديث المناهي): أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله نهى أن يشتري الخمر، وأن يسقى الخمر، وقال: «لعن اللَّه الخمر وغارسها وعاصرها وشاربها وساقيها وبائعها ومشتريها وآكل ثمنها وحاملها والمحمولة إليه» «1».

وجوابها واضح، لأنّها داخلة تحت عنوان الاعانة على الإثم الذي هو بنفسه من العناوين المحرّمة فهي أجنبية عمّا نحن بصدده.

ومنها: روايات الرضا وإنّ من رضى بفعل قوم كان منهم، ومن جملتها ما ورد في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين

عليه السلام: «أيّها الناس إنّما يجمع الناس الرضا والسخط وإنّما عقر ناقة ثمود رجل واحد فعمّهم اللَّه بالعذاب لمّا عمّوه بالرضا فقال سبحانه: «فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ» «2»» «3»

. وأيضاً ما ورد في زيارة الحسين عليه السلام: «ولعن اللَّه امّة سمعت بذلك فرضيت به» «4».

لكن المستفاد من هذه الرّوايات أنّ الرضا غير النيّة وأنّه عنوان مستقلّ محرّم، أي من رضى بعصيان شخص آخر فقد عصى، وإن لم يكن من قصده فعل تلك المعصية بنفسها بل ربّما ينتهي إلى الكفر كمن رضى بقتل الحسين عليه السلام فإنّه يوجب انطباق عنوان الناصب، والناصب كافر.

ومنها: ما ورد «5» في السنّة الحسنة والسنّة السيّئة، ومضمون جميعها يرجع إلى أنّ من سنّ سنّة حسنة كان له أجر من عمل بها ومن سنّ سنّة سيّئة كان عليه وزر من عمل بها.

والجواب: أنّها أيضاً ترجع إلى عنوان الاعانة على البرّ والتقوى أو عنوان الاعانة على الإثم والعدوان كما لا يخفى.

ومنها: ما روي أنّه «إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار، قلت هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: لأنّه أراد قتل صاحبه».

انوار الأصول، ج 2، ص: 227

وهي أيضاً خارجة عن محلّ النزاع، لأنّ الموجب للدخول في النار فيها ليس مجرّد نيّة القتل وإرادته بل الإلتقاء بالسيف، وسلّ السيف على المسلم بنفسه من المحرّمات، بل قد يدخل تحت عنوان المحارب الذي له حدّ شديد كما ورد في القرآن.

وإن شئت قلت: النيّة منضمّة إلى مقدّمة من مقدّمات القتل وهي الإلتقاء بالسيف، والإلتقاء بالسيف حرام لانطباق عنوان الهتك أو اخافة المؤمن عليه.

فظهر إلى هنا أنّ التامّ من حيث الدلالة من بين هذه الرّوايات الكثيرة رواية واحدة وهي رواية جابر، لكنّها من ناحية السند ضعيفة لمكان عمرو بن

شمر.

هذا، مضافاً إلى أنّ في قبال هذه الأخبار روايات «1» كثيرة تدلّ بالصراحة على عدم كون نيّة المعصية معصية نشير هنا إلى روايتين منها:

إحداهما: ما رواه زرارة عن أحدهما عليهما السلام: قال: «إنّ اللَّه تبارك وتعالى جعل لآدم في ذرّيته أنّ من همّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة ومن همّ بحسنة وعملها كتبت له عشر، ومن همّ بسيّئة لم تكتب عليه، ومن همّ بها وعملها كتبت عليه سيّئة» «2».

ثانيهما: ما رواه أبو بصير عن أبي عبداللَّه عليه السلام: قال: «إنّ المؤمن ليهمّ بالحسنة ولا يعمل بها فتكتب له حسنة، وإن هو عملها كتبت له عشر حسنات، وإنّ المؤمن ليهمّ بالسيّئة أن يعملها فلا يعملها فلا تكتب عليه» «3». إلى غير ذلك ممّا هو في معناهما.

وذكر شيخنا الأعظم الأنصاري رحمه الله للجمع بين هاتين الطائفتين وجهين كلّ واحد منهما جمع تبرّعي لا شاهد له.

أحدهما: أن تحمل الطائفة الاولى على من ارتدع عن قصده بنفسه، والثانية على من بقى على قصده حتّى عجز عن الفعل لا باختياره.

الثاني: أن تحمل الاولى على من اكتفى بمجرّد القصد، والثانية على من إشتغل بعد القصد ببعض المقدّمات.

ولكن الأمر سهل بعد ما عرفت من عدم تمام الطائفة الاولى، سلّمنا ولكنّ الطائفة الثانية

انوار الأصول، ج 2، ص: 228

أصرح دلالة وأكثر عدداً، مضافاً إلى ما مرّ من المناقشة في كلّ واحد من روايات الطائفة الاولى دلالة أو سنداً، ويتلخّص من جميع ما ذكرنا أنّه لا دليل على حرمة التجرّي من العقل والنقل.

التنبيه الثالث: الكلام في تفصيل صاحب الفصول

في ما ذهب إليه صاحب الفصول من التفصيل، وإليك نصّ كلامه: «أنّ قبح التجرّي ليس عندنا ذاتياً بل يختلف بالوجوه والاعتبار فمن إشتبه عليه مؤمن ورع عالم بكافر واجب القتل، فحسب إنّه

ذلك الكافر فتجرّى ولم يقدم على قتله فإنّه لا يستحقّ الذمّ على هذا التجرّي عقلًا عند من انكشف له الواقع، وإن كان معذوراً لو فعل، وأظهر من ذلك ما لو جزم بوجوب قتل نبي أو وصي نبي فتجرّى ولم يفعل، ألا ترى أنّ المولى الحكيم إذا أمر عبده بقتل عدوّ له فصادف العبد إبنه وقطع بأنّه ذلك العدو فتجرّى ولم يقتله فاذا اطّلع المولى على حاله لا يذمّه بهذا التجرّي بل يرضى به وإن كان معذوراً لو فعل ... إلى أن قال: ومن هنا يظهر أنّ التجرّي على الحرام في المكروهات الواقعيّة أشدّ منه في مباحاتها، وهو فيها أشدّ في مندوباتها، ويختلف باختلافها ضعفاً وشدّة كالمكروهات ويمكن أن يراعى في الواجبات الواقعيّة ما هو الأقوى من جهاتها وجهات التجرّي» «1». (انتهى).

أقول: الظاهر من كلامه هذا أنّ حكم التجرّي لديه يختلف بعدد الأحكام الخمسة، ولعلّ وجهه عنده هو نفس ما ادّعاه المحقّق الخراساني رحمه الله على مذهبه (وهو حرمة التجرّي مطلقاً) من حكومة الوجدان، فكأنّ صاحب الفصول يقول: كما أنّ الوجدان يحكم بقبح التجرّي في بعض الموارد يحكم أيضاً بعدمه في موارد اخرى.

ولكن يجاب عنه أوّلًا: بأنّه ليس تفصيلًا في المسألة بل هو يساوق حقيقةً القول بحرمة التجرّي مطلقاً لكنّها حرمة اقتضائيّة تتغيّر بطروّ عناوين ثانوية كما هو كذلك في غالب العناوين المحرّمة، فإنّ الكذب مثلًا حرام باعتبار وجود مفسدة فيه، وتتغيّر حرمته إذا طرأ عليه مصلحة أقوى.

انوار الأصول، ج 2، ص: 229

وثانياً: إنّا ننكر أصل حرمة التجرّي، لما مرّ من عدم صلوح الوجوه المذكورة لإثبات الحرمة، فلا تصل النوبة إلى ملاحظة الكسر والانكسار بين قبحه وحسن ما طرأ عليه.

وثالثاً: أنّ قبح المتجرّي نشأ من القطع بالحرمة

فلا يعقل أن يرتفع ما دامت صفه القطع موجودة قائمة بالقاطع بجهة من الجهات المجهولة المغفولة له، وبعبارة اخرى: أنّ الحسن والقبح تابعان لما علم من الجهات، لا لأقوى الجهات الواقعيّة التي يكون مغفول عنه للمتجرّي.

إن قلت: فبما تحكم في قضية ترك قتل ابن المولى مع علمه بأنّه عدوّ للمولى فهل يرضى أحد فيه باستحقاق العبد للمؤاخذة؟

قلت: إنّ المولى الحكيم العادل يحكم بالقبح والعقاب في هذا المورد أيضاً لأنّه يعاقب عبده على جرأته وخروجه عن رسم العبوديّة، وهذا باقٍ ولم يتبدّل إلى غيره حتّى بعد انكشاف الواقع، نعم قد لا يعاقبه ويعفو عنه شكراً لسلامة إبنه وخروجه عن خطر القتل لا من باب عدم صدق عنوان المتجرّي عليه كما يشاهد كثيراً مّا نظيره بين العرف والعقلاء في المعاصي الواقعيّة أيضاً فيتركون عقاب العبيد شكراً للنعم المقارنة للمعصية.

التنبيه الرابع: في الإنقياد

قد يقال: يترتّب الثواب على الانقياد لنفس ما استدلّ به على ترتّب العقاب على التجرّي، وهو شهادة الوجدان ودلالة بعض الأخبار، ثمّ يستنتج ويقال: حسن الانقياد يلازم قبح التجرّي ولا يجوز التفكيك بينهما.

لكن يناقش فيه بأنّ حسن الانقياد وترتّب الثواب عليه معلول لانطباق عنوان تعظيم المولى عليه لأنّ مفهوم الانقياد إنّما يصدق فيما إذا أتى بالعمل بقصد أمر المولى والتقرّب إليه وإتيان الفعل، فهذا القصد لا ينفكّ عن انطباق عنوان التعظيم في جميع الموارد فيترتّب الثواب أيضاً في جميع الموارد، وهذا بخلاف عنوان التجرّي، فإنّه ليس معناه الإتيان بما يراه معصية بقصد مخالفة المولى والعناد له، فإنّ هذا لا يعتبر في حقيقة التجرّي بل هو عنوان ثانوي ربّما يوجب الكفر فضلًا عن الفسق، بل المتجرّي إنّما يأتي بما يأتي من فعله لشهواته ومقاصده الحيوانية كما ورد في دعائه

عليه السلام: «ولكن خطيئة عرضت لي وسوّلت لي نفسي وغلبني هواي» إلى آخر ما مرّ ذكره.

انوار الأصول، ج 2، ص: 230

فإذاً الفرق بين مسألتي التجرّي والانقياد من هذه الناحية ظاهرة لا سترة عليه فلا يمكن قياس أحدهما بالآخر.

التنبيه الخامس: في سريان حرمة التجرّي بين الأحكام جميعا

لا فرق في حرمة التجرّي بين مخالفة الأحكام الواقعيّة والظاهريّة ولا بين مخالفة العلم والظنّ المعتبر لأنّ حقيقة الجرأة على المولى موجودة في الجميع، والأدلّة التي استدلّوا بها على حرمته تجري في الأحكام الظاهريّة والظنون المعتبرة أيضاً ولكن قد عرفت عدم صحّة شي ء منها.

هذا تمام الكلام في أحكام التجرّي وأدلّتها واللَّه العالم.

المسألة الثالثة: في أقسام القطع
اشارة

كان البحث إلى هنا عن القطع الطريقي، وهيهنا قسم من القطع يسمّى بالقطع الموضوعي يؤخذ في موضوع الحكم بحيث لا يتحقّق الموضوع بدونه، نحو «إذا قطعت بنجاسة ثوبك فلا تصحّ الصّلاة فيه» فالموضوع لبطلان الصّلاة في هذا المثال هو القطع بنجاسة الثوب مع كون الثوب نجساً في الواقع، حيث إن القطع حينئذٍ جزء للموضوع، كما هو المشهور في محلّه وقد أفتى المشهور بعدم مانعية النجاسة الخبثيّة الواقعيّة عن صحّة الصّلاة، خلافاً للنجاسة الحدثيّة.

وهيهنا أبحاث ثلاثة:

البحث الأوّل: أنّه يستحيل أخذ القطع بعنوان الموضوع

ويقع البحث فيه في ثلاث مواضع:

أحدها: أن يؤخذ في موضوع نفس الحكم.

ثانيها: أن يؤخذ في موضوع ضدّ الحكم.

ثالثها: أن يؤخذ في موضوع مثل الحكم.

انوار الأصول، ج 2، ص: 231

والدليل على الاستحالة في كلّ واحد منها واضح، أمّا الأوّل فلاستلزامه الدور المحال مثل ما إذا قيل: «إذا قطعت بنجاسة هذا الثوب فهو ينجّس بنفس هذه النجاسة» أو قيل: «إذا قطعت بوجوب هذا العمل فهو يجب بنفس هذا الوجوب».

أمّا الثاني: فلاستلزامه اجتماع المثلين كما إذا قيل: «إذا قطعت بوجوب هذا العمل فهو يجب بوجوب آخر مثله».

وأمّا الثالث: فلاستلزامه اجتماع الضدّين مثل أن يقال: «إذا قطعت بوجوب شي ء فهو يحرم».

وهذا كلّه واضح لا يحتاج إلى مزيد بيان، ولكنّه بالنسبة إلى أصل المدّعى، إنّما الإشكال في كيفية الاستدلال على عدم الصحّة بالنسبة إلى القسمين الأخيرين، حيث إنّه لا استحالة لاجتماع الضدّين أو المثلين في الامور الاعتباريّة كما مرّ مراراً، بل الإشكال فيه من جهة قبحه ولغويته، فإنّ اجتماع المثلين لغو واجتماع الضدّين يستلزم التكليف بما لا يطاق، وصدور كلّ واحد منهما من جانب المولى الحكيم قبيح بلا ريب.

البحث الثاني: أخذ القطع موضوعا

أنّ القطع المأخوذ موضوعاً على أربعة أقسام: لأنّه تارةً يكون تمام الموضوع لحكم كما قيل به في مسألة الخوف بالضرر فإنّه تمام الموضوع لبعض الأحكام الشرعيّة فيترتّب عليه تلك الأحكام وإن لم يكن ضرر في الواقع، كما أنّه كذلك في الامور التكوينيّة أحياناً فيوجب علم الإنسان بضرر خاصّ تغيّر اللون أو ارتعاش البدن مثلًا، سواء كان الضرر موجوداً واقعاً أو لم يكن.

واخرى يكون جزء الموضوع، والجزء الآخر هو الواقع الذي تعلّق به القطع كما في القطع بنجاسة الثوب الذي أخذ جزءً في موضوع بطلان الصّلاة، فإذا قطعت بنجاسة الثوب وكان نجساً في

الواقع تبطل الصّلاة، وأمّا إذا قطعت بها وصلّيت مع تمشّي قصد القربة وانكشف الخلاف وعدم نجاسة الثوب فالحقّ صحّة الصّلاة حينئذٍ، كما أنّه كذلك فيما إذا كان الثوب نجساً في الواقع ولكن لم يكن قاطعاً بها.

وعلى كلّ حال إنّ كلًا من القطع المأخوذ تمام الموضوع والمأخوذ جزء الموضوع تارةً يكون انوار الأصول، ج 2، ص: 232

مأخوذاً بما هو طريق وكاشف عن الواقع، واخرى بما هو صفة خاصّة وحالة مخصوصة للقاطع أو المقطوع به، والفرق بينهما أنّ القطع من الصفات ذات الإضافة التي تحتاج إلى طرف آخر كالقدرة المحتاجة إلى المقدور (في قبال الصفات الحقيقة التي لا تحتاج إلى ذلك كالحياة ونحو ذلك من الصفات القائمة بالنفس من دون حاجة إلى طرف آخر)، فإنّ القطع من جهةٍ نور لنفسه ويكون كمالًا للنفس، ومن جهة اخرى نور لغيره وكاشف عن غيره، أي الأمر المقطوع به، وحينئذٍ تارةً يمكن أن يلاحظ بما هو صفة قائمة بالنفس، واخرى بما أنّه طريق وكاشف عن الغير، وبهذا تصير أقسام القطع الموضوعي أربعة، وبانضمام القطع الطريقي إليه تصير خمسة.

ثمّ إنّ المحقّق النائيني رحمه الله أنكر هنا القطع المأخوذ تمام الموضوع على نحو الكاشفيّة، وجعل الأقسام ثلاثة قائلًا بأنّه غير معقول لأنّ معنى الأخذ على نحو الكاشفيّة أنّ للواقع دخلًا في الموضوع وهو لا يجتمع مع أخذه تمام الموضوع، وفي قباله المحقّق الخراساني رحمه الله في الكفاية والشيخ الحائري رحمه الله في الدرر أثبتا هذا القسم وجعلا الأقسام أربعة.

أقول: الحقّ أنّه وقع هنا بين المحقّق النائيني رحمه الله من جانب وبين العلمين المذكورين من جانب آخر مناقشة لفظيّة لأنّ لكلّ من الطرفين بل لكلّ واحد من الأعلام الثلاثة تفسيراً خاصّاً للقطع المأخوذ على نحو

الكاشفيّة يناسب مع ما ذهب إليه من الإنكار أو الإثبات.

أمّا المحقّق النائيني رحمه الله فيفسّر المأخوذ على نحو الكاشفيّة بأنّ معناه أنّ للواقع دخلًا في الموضوع، فبناءً على هذا التفسير يكون إنكاره في محلّه كما لا يخفى.

وأمّا المحقّق الخراساني رحمه الله فيقول: أنّ القطع لمّا كان من الصفات الحقيقيّة ذات الإضافة، ولذا كان العلم نوراً لنفسه ونوراً لغيره صحّ أن يؤخذ فيه بما هو صفة خاصّه وحالة مخصوصة بإلغاء جهة كشفه أو اعتبار خصوصيّة اخرى فيه معها كما صحّ أن يؤخذ بما هو كاشف عن متعلّقه وحاكٍ عنه، فمراده من الكاشفيّة مجرّد النظر إلى الغير وصرف التعلّق بالغير سواء كان الغير موجوداً في الخارج أو لم يكن، لا أن يكون للواقع دخل.

كما أنّ المحقّق الحائري رحمه الله قال في الدرر: «والمراد من كونه ملحوظاً على أنّه صفة خاصّة ملاحظته من حيث إنّه كشف تامّ، ومن كونه ملحوظاً على أنّه طريق ملاحظته من حيث إنّه أحد مصاديق الطرق المعتبرة، وبعبارة اخرى: ملاحظة الجامع بين القطع وسائر الطرق انوار الأصول، ج 2، ص: 233

المعتبرة» «1». فمقصوده من المأخوذ على نحو الكاشفيّة في هذه العبارة أيضاً ليس كون الواقع دخيلًا في الموضوع، بل المقصود مجرّد ملاحظة أنّه أحد مصاديق الطرق المعتبرة في قبال ملاحظة حالة المائة في المائه في المأخوذ على نحو الصفتية.

ولا يخفى أنّه بناءً على كلّ واحد من هذين التفسيرين يمكن تصوّر قسم رابع وهو كون القطع المأخوذ على نحو الكاشفيّة تمام الموضوع، وبهذا يرتفع النزاع حقيقه بين الطرفين.

البحث الثالث: في أحكام القطع الموضوعي والطريقي وأنّه هل تقوم الطرق والأمارات مقامهما أو لا؟

لا ريب في قيام الأمارات بنفس دليل حجّيتها (كآية النبأ) مقام القطع الطريقي المحض، كما لا ريب في عدم قيامها مقام القطع الموضوعي على وجه الصفتيّة فلا شكّ

في أنّه إذا أشار المولى إلى الشمس مثلًا وقال: «بمثل هذا فاشهد» فأخذ القطع بما أنّه صفة خاصّة ودرجة خاصّة من العلم والكشف في موضوع الشهادة، فلا تجوز الشهادة على مالكية زيد مثلًا بمجرّد قيام البيّنة على أنّ هذا ملك له، أو ثبتت مالكيته بالقرعة.

إنّما الكلام في قيامها مقام القطع الموضوعي على نحو الكاشفيّة.

قال الشيخ قدس سره في الرسائل: «ثمّ من خواص القطع الذي طريق إلى الواقع قيام الأمارات الشرعيّة والاصول العمليّة مقامه في العمل بخلاف المأخوذ في الحكم على وجه الموضوعيّة فإنّه تابع لدليل الحكم فإن ظهر منه أو من دليل خارج اعتباره على وجه الطريقية للموضوع قامت الأمارات والاصول مقامه، وإن ظهر منه اعتبار صفة القطع في الموضوع من حيث كونها صفة خاصّة قائمة بالشخص لم يقم مقامه غيره» «2».

فظاهر كلامه هذا أنّ الطرق والأمارات تقوم مقام القطع الموضوعي على وجه الكاشفيّة مطلقاً سواء كان جزءً للموضوع أو تمام الموضوع.

لكن المحقّق الخراساني رحمه الله ذهب في الكفاية إلى عدمه، حيث قال: «إنّ القطع المأخوذ بهذا

انوار الأصول، ج 2، ص: 234

النحو (على نحو الكاشفية) في الموضوع شرعاً كسائر ما لها دخل في الموضوعات أيضاً (أي كسائر الصفات التي لها دخل في موضوعات الأحكام) فلا يقوم مقامه شي ء بمجرّد حجّيته أو قيام دليل اعتباره ما لم يقم دليل على تنزيله ودخله في الموضوع كدخله».

أقول: لم يقم أحد من العلمين دليلًا على مدّعاه، وكأنّ كلّ واحد منهما أرسلها إرسال قضايا قياساتها معها، والإنصاف أنّ المشكلة هنا أيضاً تنحلّ بما مرّ آنفاً من لزوم ملاحظة التفاسير الثلاثة التي ذكرت لأخذ القطع موضوعاً على وجه الكاشفيّة فيثبت بذلك أنّ النزاع في هذا المقام أيضاً لفظي.

بيان ذلك: أنّ ظاهر كلام

الشيخ رحمه الله كون مراده من المأخوذ على وجه الكاشفيّة أنّ ما أخذ في الموضوع هو جامع الكاشف وجنس الكاشف الذي يكون القطع مصداقاً من مصاديقه كما صرّح بهذا التفسير المحقّق الحائري رحمه الله في الدرر (وقد مرّ بيانه) ولا ريب أنّه بناءً على هذا التفسير يقوم مقام القطع سائر مصاديق الكاشف بلا إشكال.

وأمّا المحقّق الخراساني رحمه الله فقد مرّ أنّ مقصوده من المأخوذ على نحو الكاشفيّة أنّ تلك الحالة، أي حالة المائة في المائة أخذت في الموضوع من جهة أنّها منوّرة لغيره لا من جهة أنّها تؤثّر في نفسه، ولا إشكال (حتّى عند الشيخ قدس سره) في عدم قيام الأمارات مقام هذه الدرجة من العلم، فالمناقشة بين العلمين لفظيّة نشأت من اختلاف التفسير للقطع الموضوعي على وجه الطريقيّة.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني رحمه الله بعد هذا أورد على نفسه ما حاصله: أنّه يكفينا لإثبات قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي المأخوذ على نحو الكاشفيّة إطلاق دليل تنزيلها منزلة القطع الشامل ذلك الإطلاق لجميع آثار القطع من الطريقيّة والموضوعيّة، فإنّ إطلاق دليل اعتبار الأمارة ينزّل الأمارة منزلة القطع في جميع آثاره ولوازمه المترتّبة عليه من كونه طريقاً محضاً وموضوعاً حتّى على نحو الصفتية.

وأجاب عن هذا بأنّ هذا الإطلاق ممتنع في المقام لاستلزامه اجتماع اللحاظين المتضادّين لأنّ تنزيل الأمارة منزلة القطع الموضوعي موقوف على لحاظ القطع استقلالًا لأنّ مقتضى موضوعيّة شي ء هو استقلاله في اللحاظ من دون كونه تبعاً للغير، وتنزيلها منزلة القطع الطريقي موقوف على لحاظه آلة للغير وهو الواقع المنكشف به فيستلزم منه لحاظ المنزّل عليه وهو القطع بلحاظين متضادّين في إنشاء واحد وهو محال.

انوار الأصول، ج 2، ص: 235

أقول: ويرد عليه: إنّ جوابه هذا مبنيّ على

ما ذهب إليه في البحث عن حقيقة الاستعمال من أنّ استعمال اللفظ في المعنى فناؤه فيه حقيقة، وقد مرّ الجواب عنه، فقد قلنا أنّ حقيقة الاستعمال هو جعل اللفظ علامة للمعنى والبناء على إرادته عنده، ولذلك لا مانع من استعمال لفظ واحد في أكثر من معنى ومن احضار معاني متعدّدة في الذهن ثمّ استعمال لفظ واحد في جميعها.

هذا ولكن نحن أيضاً نمنع عن إطلاق أدلّة حجّية الأمارات لكن لا من باب اجتماع اللحاظين المتضادّين بل من باب انصراف أدلّة حجّية الأمارات عن القطع الموضوعي فإنّها ناظرة بظهورها إلى القطع الطريقي المحض فقط.

وللمحقّق النائيني رحمه الله في المقام بيان آخر لجواز قيام الأمارات مقام القطع الموضوعي على نحو الكاشفيّة، والنكتة الأساسيّة الرئيسة في كلامه (بعد أن جعل عمدة ما يتصوّر أن يكون مانعاً عن القيام ما ذكره المحقّق الخراساني رحمه الله من الجمع بين اللحاظين) تفسير ذكره لحجّية الطرق والأمارات، وهو أنّ دليل الحجّية إنّما ناظر إلى إعطاء صفة الطريقيّة والكاشفيّة للأمارة وجعل ما ليس بمحرز حقيقة محرزاً تشريعاً وإليك نصّ كلامه: «أنّه ليس معنى حجّية الطريق مثلًا تنزيل مؤدّاه منزلة الواقع ولا تنزيله منزلة القطع حتّى يكون المؤدّى واقعاً تعبّداً أو يكون الأمارة علماً تعبّداً، بداهة أنّ دليل الحجّية لا نظر له إلى هذين التنزيلين أصلًا وإنّما نظره إلى إعطاء صفة الطريقيّة والكاشفيّة للأمارة وجعل ما ليس بمحرز حقيقة محرزاً تشريعاً، نعم لابدّ وأن يكون المورد قابلًا لذلك بأن يكون له كاشفيّة عن الواقع في الجملة ولو نوعاً إذ ليس كلّ موضوع قابلًا لإعطاء صفة الطريقيّة والمحرزيّة له فما يجري على الألسنة بأنّ ما قامت البيّنة على خمريته مثلًا خمر تعبّداً أو أنّ نفس البيّنة

علم تعبّداً فممّا لا محصّل له وليس له معنى معقول إذ الخمريّة أو العلم من الامور التكوينيّة الواقعيّة التي تنالها يد الجعل تشريعاً، مضافاً إلى أنّ لم يرد في آية ولا رواية أنّ ما قامت البيّنة على خمريته خمر وإنّ الأمارة علم حتّى يصحّ دعوى كون المجعول هو الخمريّة أو كون البيّنة علماً ولو بنحو المسامحة من باب الضيق في التعبير، وبالجملة ما يكون قابلًا لتعلّق الجعل التشريعي به كيفية المجعولات التشريعية هو نفس صفة الكاشفيّة والطريقيّة لما ليس كذلك بحسب ذاته من دون تنزيل للمؤدّى منزلة الواقع ولا لتنزيل نفسه منزلة العلم. وبعبارة اخرى له في موضع آخر: أنّ مفاد حجّية

انوار الأصول، ج 2، ص: 236

الأمارات هو تتميم الكشف أي يكمّل الشارع بأدلّة الحجّية الكشف الظنّي الموجود في الأمارة).

ثمّ أشار إلى ما مرّ من إشكال الجمع بين اللحاظين بأنّ بناء هذا الإشكال على تخيّل أنّ دليل الاعتبار إنّما يتكفّل لإثبات أحكام الواقع للمؤدّى أو أحكام القطع للأمارة فيكون تعميماً في الموضوعات الواقعيّة أو في العلم المأخوذ في الموضوع واقعاً، وأمّا إذا بنينا على عدم تكفّل دليل الحجّية والاعتبار للتنزيل أصلًا بل غاية شأنه هو إعطاء الطريقيّة والكاشفيّة للأمارة وجعل ما ليس بمحرز للواقع حقيقة محرزاً له تشريعاً فليس هناك تنزيل حتّى يترتّب عليه الجمع بين اللحاظين المتنافيين» «1».

أقول يرد عليه:

أوّلًا: ما المراد بإعطاء صفة الكاشفيّة لما ليس كاشفاً؟ أليست الكاشفيّة أيضاً من الامور التكوينيّة غير القابلة للجعل؟ فما ليس بعلم تكويناً وواقعاً كيف يمكن جعله علماً؟ أليس هذا إلّا كرّ على ما فرّ منه؟

إن قلت: فما هو معنى الحجّية في رأيكم؟

قلت: يمكن أن يبيّن لها معنيان:

الأوّل: تنزيل المؤدّى منزلة الواقع بحسب الأحكام والآثار الشرعيّة، فمعنى

«صدّق العادل» مثلًا «نزّل ما أخبر العادل بخمريته مثلًا منزلة الخمر الواقعي في أحكامه».

الثاني: جعل حكم طريقي مماثل للحكم الواقعي، أي ينشأ دليل حجّية خبر العادل فيما إذا أخبر عادل عن خمريّة شي ء حرمةً لذلك الشي ء مثل حرمة الخمر الواقعي.

ولا يخفى أنّ المعنى الأوّل هو ظاهر لسان الأدلّة، حيث إن الخبر الذي يقول مثلًا: «ما رواه عنّي فعنّي يروي» يعني «رتّب على ما رواه الآثار والأحكام الشرعيّة»، والعمدة أنّ الذي يقبل التشريع هو الامور الاعتباريّة مثل الأحكام الشرعيّة لا غيرها.

ثانياً: سلّمنا إمكان إعطاء الكاشفيّة، لكن ليس هو لسان أحد من أدلّة الاعتبار فليس معنى مفهوم آية النبأ (وهو: إذا جاءكم عادل فلا تبيّنوا) اعطيت خبر العادل صفة الكاشفية كما لا يخفى.

انوار الأصول، ج 2، ص: 237

ثالثاً: سلّمنا ذلك، ولكن نتيجته أنّ لدينا قسمين من القطع: قطعاً تكوينياً وقطعاً تشريعياً، وظاهر أدلّة أخذها في الموضوع هو القطع التكويني فقط، فالقطع التشريعي الحاصل بتتميم الكشف وإعطاء صفة الطريقية خارج عن منصرفها.

وبالجملة فالمختار في المقام أنّه إن كان المراد من الأخذ على نحو الكاشفيّة أخذ جامع الكاشف فلا إشكال في قيام الأمارة مقامه، وإن كان المراد منه أخذ القطع بما أنّه كاشف تامّ فلا إشكال أيضاً في عدم قيام الأمارة مقامه لأنّ كشف الأمارة كشف ناقص.

هذا تمام الكلام في قيام الأمارات مقام القطع.

أمّا قيام الاصول مقامه فلنبدأ فيه ببيان أقسامها فنقول: قد قسّمها بعض الأكابر إلى الاصول المحرزة وغير المحرزة، والحقّ أنّ محرزيّة شي ء بالنسبة إلى الواقع تنافي كونه من الاصول العمليّة التي أخذ في موضوعها الشكّ بالواقع، وعليه فلا محصّل لهذا التقسيم.

اللهمّ إلّاأن يقال: أنّه مجرّد اصطلاح لكلّ أصل عملي له نظر إلى الواقع وإن لم يكن كاشفاً

ظنّياً، أو كان كذلك ولكن لم يكن الكشف الظنّي ملاك حجّيته شرعاً.

وكيف كان، قال المحقّق الخراساني رحمه الله: «أمّا الاصول فلا معنى لقيامها مقامه بأدلّتها أيضاً غير الاستصحاب لوضوح أنّ المراد من قيام المقام ترتيب ما له من الآثار والأحكام من تنجّز التكليف وغيره كما مرّت إليه الإشارة وهي ليست إلّاوظائف مقرّرة للجاهل في مقام العمل شرعاً أو عقلًا، إلى أن قال: ثمّ لا يخفى أنّ دليل الاستصحاب أيضاً لا يفي بقيامه مقام القطع المأخوذ في الموضوع مطلقاً».

وحاصل كلامه: أنّ غير الاستصحاب من الاصول العمليّة لا يقوم مقام القطع لأنّ لسانها ليس لسان التنزيل وترتيب الآثار بل هي ليست إلّامجرّد وظائف عملية للجاهل، وأمّا الاستصحاب فهو وإن كان لسان أدلّته لسان التنزيل ولها نظر إلى الواقع إلّاأنّ دليل الاستصحاب مثل قوله عليه السلام «لا تنقض اليقين أبداً بالشكّ» لابدّ أن يكون ناظراً إمّا إلى تنزيل الشكّ في البقاء منزلة القطع به، أو إلى تنزيل المشكوك منزلة المتيقّن، ولا يعقل أن يكون ناظراً إلى كلا التنزيلين لاستلزامه اجتماع اللحاظين على ما تقدّم منه قدس سره في قيام الأمارات.

أقول يرد عليه:

أوّلًا: ما مرّ من أنّ الإشكال في المقام ليس هو الجمع بين اللحاظين، بل الإشكال أنّ الأدلّة

انوار الأصول، ج 2، ص: 238

منصرفة عن القطع الموضوعي، فمثل قوله «لا تنقض اليقين» المعنى المستظهر منه هو ترتّب آثار الواقع المتيقّن أي الوضوء مثلًا في مورد هذا الخبر، لا ترتيب آثار القطع.

ثانياً: ظاهر كلامه هذا أنّ الاصول لا توجب تنجّز التكليف لأنّها ليست إلّاوظائف مقرّرة للجاهل في مقام العمل مع أنّه لا منافاة بينهما بل إنّها تنجّز التكليف الواقعي في صورة الإصابة وإن لم يكن لسانها لسان التنزيل منزلة الواقع.

فظهر ممّا

ذكرنا: أنّ الاصول لا تقوم مقام القطع الموضوعي مطلقاً حتّى إذا فسّر القطع الموضوعي المأخوذ على نحو الكاشفيّة بأخذ جامع الكاشف لأنّه ليس لأصل عملي كاشفيّة وإن كان لسانه لسان التنزيل، وعليه فلا وجه لما ذهب إليه في تهذيب الاصول من جواز قيام الاستصحاب مقام القطع الموضوعي.

بقي هنا شي ء:

وهو ما يستفاد من بعض كلمات المحقّق النائيني رحمه الله من إنكاره القطع الموضوعي المأخوذ على نحو الصفتية في لسان الأدلّة الشرعيّة، وأنّه لم نجد في الأحكام الفقهيّة حكماً أخذ في موضوعه القطع على نحو الصفتية.

فنقول في جوابه: إن كان المراد من القطع المأخوذ على نحو الصفتية تلك الدرجة العالية من العلم أي حالة المائة في المائة فيمكن أن يحمل عليها ما ورد في باب الشهادات عن علي بن غياث عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: لا تشهدنّ بشهادة حتّى تعرفها كما تعرف كفّك» «1». وما ورد أيضاً عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وقد سئل عن الشهادة قال: هل ترى الشمس؟ على مثلها فاشهد أو دع» «2».

وإن كان المراد منه القطع بما أنّه صفة كماليّة للنفس فيمكن أيضاً أن يحمل عليه ما ورد في بعض الرّوايات من استحباب إكرام العالم أو استحباب النظر إلى وجه العالم حيث إن العلم في هذين الحكمين لم يؤخذ بما أنّه كاشف لغيره بل بما أنّه نور في نفسه وصفة كماليّة للنفس كما لا يخفى.

المسألة الرابعة: هل يتصوّر ما ذكر من الأقسام للقطع في الظنّ أيضاً أو لا؟

قد ذكرنا سابقاً أنّ للقطع الموضوعي أربعة أقسام:

1- القطع المأخوذ في موضوع حكم نفسه.

2- القطع المأخوذ في موضوع حكم مثله.

3- القطع المأخوذ في موضوع حكم ضدّه.

4- القطع المأخوذ في موضوع حكم غيره، ومرّ أيضاً بطلان الثلاثة الاولى وإنّ الجائز منها هو القسم الأخير نحو

«إذا قطعت بنجاسة الثوب تبطل الصّلاة فيه».

أمّا الظنّ فلا إشكال في بطلان القسم الأوّل بالنسبة إليه نحو «إذا ظننت بوجوب صلاة الجمعة فهي تجب بهذا الوجوب»، وذلك للزوم نفس الإشكال وهو الدور المحال هنا أيضاً، كما لا إشكال في جواز القسم الأخير فيه، أمّا القسم الثاني والثالث فربّما يقال بأنّهما قد يصحّان بالنسبة إلى الظنّ نحو «إذا ظننت بوجوب صلاة الجمعة فهي تجب» و «إذا ظننت بنجاسة الثوب فهو طاهر»، ونكتة الجواز والسرّ فيه أنّ الحكمين فيهما حكمان في مرحلتين: مرحلة الإنشاء ومرحلة الفعليّة، فالمظنون بسبب الجهل به وعدم رفع الستار عنه كما ينبغي- يكون إنشائيّاً غير فعلي، وأمّا الحكم الذي قد أخذ الظنّ موضوعاً له فيكون فعلياً، وعليه فلا يلزم اجتماع الحكمين المتماثلين أو المتضادّين في مرتبة واحدة.

إن قلت: لو كان هذا هو السرّ في الجواز فيمكن أن يقال به في القطع أيضاً، أي يمكن أن يأخذ القطع بحكم في مرحلة الإنشاء موضوعاً للقطع به في مرحلة الفعلية فيقال مثلًا: إذا قطعت بوجوب شي ء وجوباً إنشائيّاً يجب ذلك الشي ء بوجوب فعلي أو يحرم فعلًا، فما هو الفارق بين المقامين؟

قلت: الفرق هو أنّ القطع بحكم إنشائي يلازم القطع بالفعليّة (إذا كان المانع عن الفعليّة هو الجهل فقط) لأنّ القطع حجّيته ذاتيّة ولا يمكن سلب الحجّية عنه، بخلاف الظنّ فيمكن فيه للشارع جعل الحجّية له أو سلبها عنه لعدم كونها ذاتيّة له.

إن قلت: ما هي الثمرة لهذا البحث؟

قلنا: سيأتي إن شاء اللَّه تعالى فائدتها العظيمة في الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري في انوار الأصول، ج 2، ص: 240

جواب شبهة ابن قبّة التي هي من المشكلات في مبحث الأحكام الظاهريّة.

المسألة الخامسة: في وجوب الموافقة الالتزاميّة في الأحكام الفرعيّة وعدمه

إذا علمنا بوجوب شي ء أو حرمته أو استحبابه

مثلًا فهل يجب الالتزام القلبي بذلك الوجوب أو الحرمة أو الاستحباب أو لا؟ وبعبارة اخرى: الواجب في الأحكام الفرعيّة شيئان أو شي ء واحد؟

وفيه أبحاث ثلاثة:

الأوّل: في المراد من الالتزام القلبي والمعنى المقصود منه.

الثاني: في وجوبه في الأحكام الفرعيّة وعدمه بعد إمكان تصوّره في مرحلة الثبوت.

الثالث: في ثمرة البحث، فيقع الكلام في ثلاث مقامات:

أمّا المقام الأوّل: فحلّ المشكل فيه يتوقّف على إثبات جواز انفكاك الاعتقاد عن العلم وأنّه هل يكون العلم عين الاعتقاد أو لا؟ فذهب جمع إلى عدم إمكان التكفيك بينهما.

قال في تهذيب الاصول: «إنّ التسليم القلبي والانقياد الجناني والاعتقاد الجزمي لأمر من الامور لا تحصل بالإرادة والاختيار، من دون حصول مقدّماتها ومبادئها، ولو فرضنا حصول عللها وأسبابها، يمتنع تخلّف الالتزام والانقياد القلبي عند حصول مبادئها، ويمتنع الاعتقاد بأضدادها فتخلّفها عن المبادى ء ممتنع كما أنّ حصولها بدونها أيضاً ممتنع ... إلى أن قال: فمن قام عنده البرهان الواضح بوجود المبدأ المتعال ووحدته لا يمكن له عقد القلب عن صميمه بعدم وجوده وعدم وحدته، ومن قام عنده البرهان الرياضي على أنّ زوايا المثلّث مساوية لقائمتيه، يمتنع مع وجود هذه المبادى ء، عقد القلب على عدم التساوي، فكما لا يمكن الالتزام على ضدّ أمر تكويني مقطوع به فكذلك لا يمكن عقد القلب على ضدّ أمر تشريعي ثبت بالدليل القطعي. نعم لا مانع من إنكاره ظاهراً وجحده لساناً لا جناناً واعتقاداً، وإليه يشير قوله عزّوجلّ: «وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً». وما يقال من أنّ الكفر الجحودي يرجع إلى الالتزام القلبي على خلاف اليقين الحاصل في نفسه فاسد جدّاً. هذا هو الحقّ القراح في هذا المطلب من غير فرق بين الاصول الاعتقاديّة ... إلى أن قال: فلو قام الحجّة

انوار

الأصول، ج 2، ص: 241

عند المكلّف على نجاسة الغسالة وحرمة استعمالها، يمتنع عليه أن يعقد القلب على خلافها أو يلتزم جدّاً على طهارته، إلّاأن يرجع إلى تخطئة الشارع (والعياذ باللَّه) وهو خارج عن المقام.

وبذلك يظهر أنّ وجوب الموافقة الالتزاميّة وحرمة التشريع لا يرجع إلى محصّل إن كان المراد من التشريع هو البناء والالتزام القلبي على كون حكم من الشارع مع العلم بأنّه لم يكن من الشرع، أو لم يعلم كونه منه، ومثله وجوب الموافقة وهو عقد القلب اختياراً على الاصول والعقائد والفروع الثابتة بأدلّتها القطعيّة الواقعيّة.

والحاصل أنّ التشريع بهذا المعنى أمر غير معقول بل لا يتحقّق من القاطع حتّى يتعلّق به النهي، كما أنّ الاعتقاد بكلّ ما ثبت بالأدلّة أمر قهري تتبع مبادئها ويوجد غبّ عللها بلا إرادة واختيار ولا يمكن التخلّف عنها ولا للحاصل له مخالفتها، فلا يصحّ تعلّق التكليف لأمر يستحيل وجوده، أو يجب وجوده بلا إرادة واختيار» «1».

أقول: لا يخفى أنّ لازم ما أفاده في المقام عدم وجود موضوع للبحث هنا فينتفي بانتفاء موضوعه لأنّه أنكر إمكان تعلّق الوجوب بالالتزام القلبي ثبوتاً فلا تصل النوبة إلى مقام الإثبات والبحث في أنّه هل يكون الالتزام القلبي واجباً شرعاً أو لا؟

لكن الإنصاف هو إمكان التفكيك بين العلم والالتزام القلبي ثبوتاً وأنّه يوجد وراء العلم شيئاً آخر اختياريّاً يسمّى بالتسليم والالتزام القلبي، وإن شئت فعبّر عنه بالإيمان مقابل الإسلام، وقد بيّنه المحقّق الإصفهاني رحمه الله في كلامه «2».

وتوضيحه: أنّه إذا تيقّن الإنسان بشي ء يجد بوجدانه في قبال يقينه وعلمه أمرين مختلفين:

أحدهما: التسليم الجوارحي، والثاني: التسليم الجوانحي فربّما يحصل له التسليم الجوارحي ولا يحصل له التسليم القلبي والانقياد الجناحي وبالعكس فيعلم كثيراً ما مثلًا بأهلية شخص للرئاسة

والمرجعية لكنّه لا ينقاد له قلباً ولا يقرّبه باطناً لخباثة نفسه أو لعدم كونه من قومه وقبيلته أو لجهة اخرى، وإن كان في مقام العمل يتحرّك بحركته خوفاً من سوطه وسطوته، ونحن نعتقد أنّه من هذا القبيل الكفر الجحودي فكثير من الكفّار الذين نطق القرآن بكفرهم كانوا عالمين بحقّانيّة القرآن ونبوّة نبيّنا صلى الله عليه و آله، ومع ذلك لم يكونوا منقادين، ولو كان ملاك الإيمان انوار الأصول، ج 2، ص: 242

الحقيقي نفس العلم لزم أن يكونوا مؤمنين به وأن يكون الشيطان أو فرعون مثلًا أظهر مصاديق المؤمن من أنّ كفرهم ممّا لا ينكره أحد، ومن هنا يكون المراد من الجحود في قوله تعالى: «وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ» الجحد القلبي لا أنّهم جحدوا لفظاً وعملًا.

والعجب من تهذيب الاصول حيث إنّه مع ما ذهب إليه من عدم كون الالتزام القلبي اختياريّاً صرّح في ذيل كلامه بانفكاك العلم عن الإيمان وقال: «إنّ الإيمان ليس مطلق العلم الذي يناله العقل ويعدّ حظّاً فريداً له» ولم يبيّن أنّه كيف لا يلزم من عدم كون العلم عين الإيمان كون الالتزام والانقياد اختياريّاً بل قال: «وبما أنّ المقام لا يسع طرح تلك الأبحاث فليراجع من أراد التفصيل إلى محالّه» «1».

وكيف كان، فإنّ عدم كون الإيمان والالتزام القلبي اختياريّاً ينافي ظاهر كثير من الرّوايات والآيات كالتي تأمر بالإيمان وتعلّق الأمر فيها بالتسليم القلبي كقوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ» ولو لم يكن الإيمان والتسليم أمراً اختياريّاً يكون هذا القبيل من الأوامر تكليفاً بما لا يطاق، والقول بأنّها محمولة على تحصيل مبادئه وأسبابه تكلّف لا وجه له.

فتلخّص ممّا ذكرنا أنّ محلّ البحث أنّه إذا علمنا بوجود شي ء فهل يتصوّر فعل قلبي

وراء العلم أو لا؟ فإن قبلنا وجود ذلك الفعل فيعقل ويتصوّر البحث عن وجوب الالتزام القلبي وعدمه وإلّا فلا، وقلنا أنّ الوجدان حاكم على وجود أمر آخر قلبي يسمّى بالالتزام والتسليم القلبي وهو المستفاد من ظاهر الآيات والرّوايات، ومن هنا يعلم أنّ حقيقة التشريع هي الالتزام القلبي على كون حكم من الشارع مع العلم بأنّه لم يكن من الشرع أو مع عدم العلم بكونه منه.

هذا كلّه في إمكان تعلّق الوجوب على الالتزام وعدمه.

المقام الثاني: في أنّه بعد قبول إمكان تعلّق الوجوب ثبوتاً فهل يكون واجباً إثباتاً أو لا؟

فنقول: لا دليل لنا على وجوب الالتزام في الأحكام الشرعيّة الفرعيّة تفصيلًا لا عقلًا ولا نقلًا وإن كان واجباً في الاصول الاعتقاديّة.

أمّا عقلًا فلأنّ العقل والعقلاء لا يحكمون باستحقاق العبد للعقوبة على ترك الالتزام القلبي انوار الأصول، ج 2، ص: 243

في الأحكام الفرعيّة، ولا يحكمون فيما إذا أتى العبد بالعمل ولم يلتزم قلباً لا بوجوبه ولا بحرمته بأنّه هاتك للمولى.

وأمّا نقلًا فلعدم وجود رواية تدلّ على وجوب الموافقة الالتزاميّة، ومع عدمه والشكّ في الوجوب تصل النوبة إلى البراءة، نعم مقتضى أدلّة الإيمان بالنبوّة هو الإيمان بالأحكام الفرعيّة التي جاء بها النبي إجمالًا، وهذا غير وجوب الالتزام القلبي بها تفصيلًا، وخارج عن محلّ الكلام، وممّا يؤيّد هذا المعنى غفلة عامّة الناس عن هذا الالتزام التفصيلي، ولو كان واجباً لكان على الشارع البيان.

المقام الثالث في ثمرة المسألة: وليعلم أنّ المسألة ليست لها ثمرة في الاصول، وإن كان قد يمنع ذلك من إجراء الاصول في أطراف العلم الإجمالي على بعض الاحتمالات، بل تظهر ثمرتها في الفقه بلا واسطة، فإنّ تعلّق العلم بحكم تفصيلًا كالعلم بوجوب الصّلاة وجب الالتزام به قلباً إن قلنا

بوجوب الموافقة الالتزاميّة ولا يجب إن قلنا بعدمه، وإن تعلّق العلم بحكم إجمالًا وجب الالتزام القلبي به كذلك إن قلنا بوجوبه كالعلم الإجمالي بوجوب صلاة الجمعة أو صلاة الظهر، وذلك لعدم القدرة حينئذٍ على الالتزام التفصيلي، وهكذا لو تعلّق العلم بما يدور بين المحذورين، كما إذا علمنا بأنّ صلاة الجمعة إمّا حرام أو واجب، فيكون الالتزام القلبي حينئذٍ مثله.

هذا كلّه بالنسبة إلى الحكم الواقعي، وكذلك إذا كان الحكم ظاهريّاً كوجوب الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي كمثال الواجب يوم الجمعة إذا دار أمر الوجوب بين صلاة الجمعة وصلاة الظهر، وكالحكم بالتخيير فيما إذا دار الحكم بين الوجوب والحرمة، وبما أنّ العلم بهذا الحكم الظاهري يكون تفصيلياً يجب الالتزام به تفصيلًا، فيكون الالتزام الواجب في مثل هذه الموارد قسمان: أحدهما: تفصيلي، وهو الالتزام بالحكم الظاهري المعلوم تفصيلًا، والآخر: إجمالي وهو الالتزام بالحكم الواقعي المعلوم إجمالًا.

ولا منافاة بينهما لعدم المنافاة بين الحكم الواقعي والظاهري كما سيأتي في محلّه إن شاء اللَّه.

وبهذا يظهر ضعف ما قيل: بأنّ ثمرة المسألة تظهر في المسألة الاصوليّة، وهي جريان الاصول في موارد التخيير، فإذا قلنا بعدم وجوب الالتزام القلبي بالحكم الواقعي فلا مانع من جريان البراءة عن الوجوب والبراءة عن الحرمة في دوران الأمر بين الوجوب والحرمة مثلًا، لأنّ جريانها إنّما يستلزم المخالفة العلميّة الالتزاميّة فقط، والمفروض عدم وجوبها، وأمّا إن قلنا

انوار الأصول، ج 2، ص: 244

بوجوب الالتزام القلبي فلا يمكن جريان الاصول من ناحية لزوم الالتزام والموافقة العلميّة بالحكم الواقعي.

ووجه الضعف: إنّ لنا في المقام التزاماً قلبياً إجمالياً بالحكم الواقعي، وهو باقٍ على قوّته، والتزاماً قلبياً تفصيلياً بالحكم الظاهري، وهو البراءة، وهو أيضاً باقٍ على حاله، ولا منافاة بينهما كما سيأتي إن شاء

اللَّه.

بقي هنا شي ء:

وهو أنّ الالتزام القلبي ممّا لابدّ منه في الأحكام التعبّديّة التي يعتبر فيها قصد القربة، سواء قلنا بوجوبه أو لم نقل، وذلك لوجود الملازمة بين قصد القربة والالتزام القلبي وعدم انفكاك الأوّل عن الثاني، فلا معنى لوجوبه ذاتاً ومستقلًا، وحينئذٍ لا يجري البحث عن وجوبه وعدمه.

نعم، هذا بالنسبة إلى حين العمل والامتثال، وأمّا بالنسبة إلى خارج وقت العمل فلا إشكال في جريان البحث أيضاً فإذا علمنا بوجوب الصّلاة سواء حضر وقتها أم لا فهل يجب الالتزام بوجوبها قلباً أو لا؟

وكذلك يجري البحث على مستوى العمل من ناحية ترتّب عقاب واحد على ترك قصد القربة أو عقابين، فإن كان الالتزام واجباً مستقلًا فيترتّب على الترك عقابان، وإن لم يكن الالتزام واجباً ذاتاً فيترتّب على الترك عقاب واحد.

المسألة السادسة: في قطع القطاع

ينقسم الناس من حيث قطعهم بالأشياء إلى ثلاثة أقسام:

الأوّل: من يكون قطعه متعارفاً، فيقطع بالشي ء فيما إذا حصلت مبادئه العقليّة وأسبابه العادية.

الثاني: القطّاع وهو من يقطع بدون تحقّق أسبابه المتعارفة.

الثالث: الوسواس وهو لا يقطع حين تحقّق تلك الأسباب.

انوار الأصول، ج 2، ص: 245

أمّا القطاع، فتارةً يبحث فيه عن عدم حجّية قطعه بالنسبة إلى القطع الطريقي، واخرى بالنسبة إلى القطع الموضوعي، أمّا عدم حجّية قطعه بالنسبة إلى القطع الموضوعي فاللازم فيه ملاحظة ظواهر الأدلّة التي أخذ القطع فيها في الموضوع وإنّها هل تشمل قطع القطّاع أيضاً أو لا؟

فنقول: الظاهر إنصرافها عن قطع القطاع وإنّ القطع المأخوذ في موضوعها هو القطع الحاصل من الأسباب المتعارفة لا الحاصل من أي سبب كان.

أمّا القطع الطريقي، فلا إشكال في حجّيته في قطع القطاع بالنسبة إلى حين القطع لأنّها كما مرّ سابقاً ذاتي للقطع لا يمكن أن يتخلّف عنه سواء كان قطع القطاع أو

غيره، ومن أي سبب حصل، ولأيّ شخص كان، فالقطاع في حالة قطعه لا يمكن نهيه وسلب الحجّية عن قطعه، وأمّا بالنسبة إلى ما بعد زوال قطعه أو زوال حالة القطاعيّة فلا إشكال أيضاً في إمكان نهيه عن ترتيب الآثار على قطعه وأمره بقضاء ما لم يأت به، لقطعه بعدم وجوبه أو عدم حصول شرائط الوجوب مثلًا.

هذا بالنسبة إلى مقام الثبوت، وأمّا مقام الإثبات فإذا انكشف الخلاف فقد مرّ في مبحث الإجزاء عدم إجزاء الأحكام الظاهريّة العقليّة ووجوب القضاء عليه، وإذا لم ينكشف وشكّ في صحّة عمله فهل يمكن إجراء قاعدة الفراغ أو لا؟ الحقّ عدم شمولها للمقام لانصرافها إلى غيره، ولما ورد فيها من التعليل بأنّه «هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ» المعلوم عدم شموله للمقام.

هذا كلّه بالنسبة إلى القطع الحقيقيى، أمّا القطع العرفي المسمّى بالاطمئنان الذي قد مرّ أنّه الغالب في العلوم والآراء العلميّة فحيث أنّه يجتمع مع احتمال الخلاف يمكن النهي عنه في القطّاع أو غيره وسلب الحجّية عنه حين القطع.

فتلخّص من جميع ما ذكر إمكان المنع عن العمل بقطع القطاع في ثلاثة موارد:

1- القطع الموضوعي.

2- القطع الطريقي العرفي.

3- القطع الطريقي الحقيقي بالنسبة إلى حال زوال القطع أو حال زوال هذه الصفة أي كونه قطاعاً، ولا يمكن سلبها عنه في مورد واحد، وهو القطع الطريقي الحقيقي حين القطع، هذا كلّه في القطاع.

انوار الأصول، ج 2، ص: 246

أمّا الوسواس فأحكامه تشبه أحكام القطّاع لأنّ كلّ واحد منهما خارج عن حدّ الاعتدال، إنّما الفرق بينهما أنّ أحدهما داخل في جانب الافراط والآخر في جانب التفريط، فكما أنّ الأدلّة التي كان القطع فيها مأخوذاً في الموضوع كانت منصرفة عن قطع القطاع كذلك منصرفة عن قطع الوسواس،

فإذا كان مفاد دليل: «إذا قطعت بنجاسة ثوبك يجب تحصيل القطع بطهارته» فهو منصرف إلى القطع المتعارف وغير شامل للوسواس، فلا يجب عليه تحصيل القطع بطهارة ثوبه، وهكذا بالنسبة إلى القطع الطريقي فلا يمكن منعه وسلب الحجّية عن قطعه في حال قطعه، كما إذا قطع بنجاسة جميع المياه الموجودة في بلده، فصار بناءً على قطعه هذا فاقداً للماء، فتيمّم لصلاته، فلا يمكن منعه في حال قطعه، وأمّا بالنسبة إلى ما بعد زوال قطعه أو زوال حالة الوسوسة فلا إشكال أيضاً في إمكان سلب الحجّية عن قطعه السابق وأمره بالقضاء ثبوتاً، وبالنسبة إلى مقام الإثبات أيضاً يجري هنا جميع ما مرّ في قطع القطاع من عدم الاجزاء وعدم جريان قاعدة الفراغ.

المسألة السابعة: هل القطع الحاصل من المقدّمات العقليّة، هو حجّة؟
اشارة

قد مرّ في ما تقدّم أنّ القطع الطريقي حجّة، والحجّية ذاتيّة له، وقلنا إنّه بحسب الحقيقة ليس طريقاً للوصول إلى الواقع بل هو نفس الوصول إلى الواقع والمشاهدة له سواء كان قطع القطاع أو غيره، ومن أي سبب حصل، ولأي شخص كان وفي أي مورد من موارد الفقه.

لكن نسب إلى الأخباريين إنكار حجّية القطع الحاصل من المقدّمات العقليّة وعدم عدّ العقل من الأدلّة الشرعيّة، والذي يظهر من كلماتهم امور: أحدها: إنكار الملازمة بين حكم العقل والشرع، والثاني: عدم حصول القطع من المقدّمات العقليّة، والثالث: منع الشارع عن الرجوع إليها وإن حصل منها القطع، هذا من أهمّ وجوه الاختلاف بين المسلكين (المسلك الأخباري ومسلك الاصولي) ولازمها سقوط دليل العقل من بين الأدلّة الأربعة الشرعيّة، فصارت الأدلّة عندهم ثلاثة بل صارت دليلًا واحداً لعدم أخذهم بالكتاب بغير طريق السنّة وعدم اعتمادهم على الإجماع إذا لم يكن في المجمعين معصوم.

انوار الأصول، ج 2، ص: 247

أمّا المقام الأوّل: أي إنكار

الملازمة بين حكم العقل والشرع فيتصوّر فيه احتمالات أربع، لتعيين مرادهم:

الأوّل: أن يكون المقصود إنكار الحسن والقبح العقليين.

الثاني: إنكار كبرى الملازمة بين الحكم العقلي والحكم الشرعي في سلسلة التشريع.

الثالث: إنكاره قدرة العقل على إدراك المصالح والمفاسد.

الرابع: عدم قدرته على إدراك الموانع والمعارضات.

أمّا الاحتمال الأوّل، وهو عزل العقل بالمرّة عن إدراك الحسن والقبح كما ذهب إليه الأشاعرة فيردّه بداهة العقل، ومراجعة الوجدان أدلّ دليل على إدراك العقل للحسن والقبح، حيث لا إشكال في أنّ العقل يحكم بحسن بعض الأفعال كالإحسان وإعانة المظلوم وإغاثة الملهوف، وقبح بعضها الآخر كالظلم وقتل النفوس الأبرياء والتجاوز على الحقوق والأموال المحترمة.

أمّا الاحتمال الثاني (وهو إنكار حكم العقل بالملازمة بين ما استقلّ العقل بحسنه ووجود المصلحة الملزمة فيه وبين حكم الشارع بوجوبه، وهكذا بين ما إستقلّ بقبحه ووجود المفسدة وبين حكم الشارع بحرمته) فقد نقل المحقّق النائيني رحمه الله عن صاحب الفصول وجوهاً لعدم الملازمة:

أحدها: وجود الأوامر الإمتحانية في الشرع مع عدم وجود الملاك في متعلّقاتها، فيمكن وجود الحكم الشرعي مع عدم وجود الحكم العقلي لعدم الملاك والمصلحة في مورده.

وجوابه: أنّ مورد البحث في المقام هو الأوامر الجدّية غير الإمتحانية.

ثانيها: موارد التقيّة إذا كانت في نفس الحكم دون المتعلّق كما إذا أمر الإمام عليه السلام بشي ء لحفظ دم نفسه سلام اللَّه عليه بنفس الأمر من دون أن يكون هناك مصلحة في المأمور به فقد تخلّف الحكم عن الملاك.

وفيه: ما مرّ من الجواب عن الوجه الأوّل من أنّ مورد البحث ما إذا كان الأمر بداعي الجدّ، وإن شئت قلت: أنّ المصلحة إذا كانت في نفس الإنشاء بأن تكون التقيّة في نفس الأمر لا أن تكون التقيّة في المأمور بها، فهو لا يكون بأمر

حقيقة بل هو مجرّد تكلّم بلفظ، والمصلحة في نفس التكلّم، وأين ذلك من تخلّف الحكم عن الملاك؟

انوار الأصول، ج 2، ص: 248

ثالثها: أنّه لا ريب في أنّ الملاك ربّما يكون في بعض الأفراد دون بعض، ومع ذلك يجعل الحكم على كلّي يشملهما، وهذا كما في باب العدّة، فإنّ مصلحة حفظ الأنساب وعدم اختلاط المياه اقتضت تشريع حكم العدّة مطلقاً حتّى فيما لا يلزم فيه من عدم العدّة اختلاط المياه فقد تخلّف الحكم في تلك الموارد عن الملاك.

وجوابه: أنّ المصلحة على قسمين: مصلحة نفس الحكم التي يمكن أن يكون نوعيّة غالبية ولا تكون موجودة في جميع الأفراد والمصاديق، ومصلحة كلّية الحكم، فيمكن أن لا يوجد في فرد مصلحة نفس الحكم، وفي نفس الحال لا يستثنى ولا يخصّص ذلك الفرد لوجود المصلحة الثانية، أي مصلحة كلّية الحكم فيه، وذلك مثل حرمة الخمر الجارية في جميع مصاديقها مع أنّ مفسدتها وهي السكر لا يوجد في قطرة واحدة منها مثلًا، ومع ذلك يكون شربها حراماً حفظاً لكلّية الحكم، وأين ذلك من الالتزام بعدم تبعية الحكم للملاك كما هو المدّعى؟

رابعها: أنّه لا ريب في أنّ الملاك والمصلحة في العبادات إنّما يترتّب على إتيانها بقصد قربى لا على مجرّد وجوداتها في الخارج، ومن المعلوم أنّ الأوامر فيها لا تتعلّق إلّابأنفسها لما ذكر في محلّه من عدم جواز قصد القربة في متعلّق الأمر، فما فيه الملاك يستحيل تعلّق الأمر به، وما تعلّق به الأمر لا يكون واجداً للملاك على الفرض.

وجوابه: أنّه قد مرّ في محلّه إمكان أخذ قصد القربة في المأمور به بلا إشكال فراجع.

خامسها: أنّه ثبت لنا في الشريعة موارد لم يحكم الشارع فيها على طبق الملاكات الموجودة فيها كما هو مقتضى

قوله صلى الله عليه و آله «لولا أن أشقّ على امّتي لأمرتهم بالسواك» بل أمرنا بالسكوت فيما سكت اللَّه عنه في قوله صلى الله عليه و آله «اسكتوا عمّا سكت اللَّه عنه فإنّ اللَّه لم يسكت عنها نسياناً الخ» فإذا أمكن تخلّف الحكم الشرعي عن الملاك ولو في مورد واحد فبمجرّد إدراك العقل لحسن شي ء أو قبحه لا يمكن استكشاف الحكم الشرعي في ذلك المورد بل لابدّ من السكوت فيه.

وجوابه واضح: لأنّ المقصود في هاتين الروايتين أنّ عدم الحكم الشرعي مع وجود الملاك يكون لوجود مصلحة أهمّ التي تمنع عن الحكم، وإن شئت قلت: إنّ مصلحة الحكم هنا معارضة مع مفسدة العسر والحرج وأشباهه، وبعبارة اخرى: أنّ محلّ الكلام إنّما هو في مورد لا يتطرّق فيه احتمال المزاحم مثل المشقّة ونحوها، إذ معه لا يمكن استقلال العقل حتّى يستكشف منه الحكم الشرعي.

انوار الأصول، ج 2، ص: 249

إذا عرفت عدم صحّة الوجوه التي استدلّ بها لعدم وجود الملازمة فنقول: دليلنا على الملازمة وعلى أنّ الأحكام الشرعيّة تابعة للمصالح والمفاسد أمران:

الأوّل: أنّ العقل يحكم بأنّه قبيح على الحكيم أن يأمر بغير مصلحة وينهى بغير مفسدة.

الثاني: الآيات والرّوايات التي علّلت الأحكام وإشارات إلى مصالحها أو مفاسدها: فمن الآيات قوله تعالى في الصّيام: «كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» «1»

وقوله في الحجّ: «لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ» «2»

وقوله في الزّكاة: «خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا» «3»

وقوله في الصّلاة: «إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ» «4»

وقوله في القصاص: «وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» «5»

وقوله في الجهاد: «كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ» «6».

ومن الرّوايات ما

ورد في رواية تحف العقل وحاصله: أنّ كلّ ما هو مأمور به على العباد وقوام لهم في امورهم من وجوه الصلاح الذي لا يقيمهم غيره ممّا يأكلون ويشربون ويلبسون وينكحون ويملكون ويستعملون فهذا كلّه حلال بيعه وشراؤه وهبته وعاريته، وكلّ أمر يكون فيه الفساد ممّا قد نهى عنه من جهة أكله وشربه ولبسه ... فحرام، هذا هو المستفاد من مجموع ما ورد في تلك الرّواية الطويلة، فإنّ هذه الرّواية تنادي بأعلى صوتها بأنّ الحلال تابع للمصلحة والحرام تابع للمفسدة وكذلك غيرها من الرّوايات الكثيرة المذكورة في كتاب علل الشرائع وغيره.

أمّا الاحتمال الثالث (وهو أن يكون المراد إنكار قدرة العقل على إدراك المصالح والمفاسد) والاحتمال الرابع (وهو أن يكون مرادهم عدم إدراك العقل لموانعها ومعارضاتها) فجوابهما واضح لأنّه لا إشكال في أنّ العقل ولو بنحو الموجبة الجزئيّة يمكن أن يدرك المصالح الملزمة

انوار الأصول، ج 2، ص: 250

وحسن الأشياء أو المفاسد وقبحها لما مرّ من حكمه بحسن الإحسان وإعانة المظلومين وقبح الظلم وقتل النفس المحترمة، والمنكر ينكره باللسان وقلبه مطمئن بالإيمان.

هذا كلّه هو المقام الأوّل، وهو إنكارهم الملازمة بين حكم العقل والشرع.

أمّا المقام الثاني: وهو عدم حصول القطع من المقدّمات العقليّة النظريّة فنسب إلى بعض الأخباريين أنّه لا يحصل القطع من المقدّمات العقليّة لكثرة وقوع الخطأ فيها.

والجواب عنه:

أوّلًا: أنّ ما ذهبوا إليه بنفسه دليل وبرهان عقلي اقيم على نفي العقل.

ثانياً: أنّه ينتقض بوقوع الخطأ والاختلاف الكثير بين الذين لا يعتمدون إلّاعلى الأدلّة النقليّة، وحيث إن بعضهم تفطّن لذلك- أجاب عنه بأنّه إنّما نشأ ذلك من ضمّ مقدّمة عقليّة باطلة بالمقدّمة النقليّة الظنّية أو القطعيّة، ولكنّه خلاف الإنصاف لانتقاضه بوقوع الاختلاف بين الأخباريين المنكرين لحجّية العقل أيضاً فإنّهم كثيراً

ما يختلفون في ظهورات الأدلّة النقليّة واستظهاراتهم منها.

ثالثاً: أنّ هذا أيضاً خروج عن المفروض في محلّ النزاع لأنّ البحث هنا في حجّية القطع على فرض حصوله من المقدّمات العقليّة.

رابعاً: أنّ عزل العقل عن الإدراك والحجّية بالمرّة يوجب سدّ باب إثبات الصانع وسائر الاصول الاعتقاديّة، وإثباتها بالأدلّة النقليّة دور واضح.

ثمّ إنّ للمحدّث الاسترابادي رحمه الله في المقام كلاماً لإثبات عدم حصول القطع من المقدّمات العقليّة، ونقله شيخنا الأعظم رحمه الله في رسائله، وحاصله ببيان منّا: أنّ العلوم مطلقاً على ثلاثة أقسام:

الأوّل: ما ينتهي إلى الحسّ كالعلوم التجربيّة.

الثاني: ما ينتهي إلى مادّة هي قريبة من الإحساس، ومن هذا القسم علم الهندسة والحساب وأكثر أبواب المنطق.

الثالث: ما ينتهي إلى مادّة بعيدة عن الإحساس ومن هذا القسم الحكمة الإلهية والطبيعية وعلم الكلام وعلم اصول الفقه والمسائل النظريّة الفقهيّة وبعض القواعد المذكورة في كتب المنطق.

انوار الأصول، ج 2، ص: 251

ومن المعلوم عدم وقوع الخلاف بين العلماء أو الخطأ في نتائج الأفكار في القسمين الأوّلين، بخلاف القسم الثالث حيث وقعت الاختلافات والمشاجرات الكثيرة الشديدة بين الفلاسفة في الحكمة الإلهية والطبيعية وبين علماء الإسلام في اصول الفقه ومسائل الفقه وعلم الكلام وغير ذلك، والسبب في ذلك بُعد هذه العلوم عن الإحساس فلا بدّ في إثباتها من المنطق، والقواعد الفقهيّة عاصمة من الخطأ من جهة الصورة لا من جهة المادّة.

ويمكن أن نضيف إلى ما ذكره: أنّ العلم الإجمالي بوقوع الخطأ في هذا القسم مانع عن حصول القطع في مسائله، لأنّ الموجبة الكلّية لا تجتمع مع السالبة الجزئيّة كما مرّ، وهذا يقتضي أن يتبدّل علمنا التفصيلي بكلّ واحد من تلك المسائل إلى الظنّ ويرجع هذا إلى عدم حجّية إدراكات العقل في غير المحسوسات وما تكون

مبادئه قريبة من الإحساس.

والمحقّق الخراساني رحمه الله تجاوز هذا الوجه إتّكالًا على أنّ النزاع مع هذا المحدّث نزاع صغروي، لكننا نعتقد بأهميّته لأنّه على أي حال سواء كان النزاع في الصغرى أم في الكبرى يوجب عزل العقل بالمرّة عن الإدراك والحجّية، فلا بدّ من حلّه والجواب عنه.

فنقول يرد عليه:

أوّلًا: إنّ ما ذهب إليه من عدم وقوع الخطأ في الحسيّات وما ينتهي إلى مادّة قريبة من الإحساس ممنوع بالوجدان لوقوع الخطأ الكثير في المبصرات والمسموعات وغيرها الحواس، فيقطع الإنسان مثلًا بوصول الماء إلى البشرة في الوضوء ثمّ ينكشف خلافه تفصيلًا أو إجمالًا، وهكذا في الرياضيات فينكشف الخلاف مثلًا في جمعه وتفريقه وإن لم يظهر الخطأفي قواعده.

ثانيا: أنّ كلامه يوجب بطلان نفسه، لأنّ استدلاله ليس من الحسّيات ولا من الرياضيات بل داخل في القسم الثالث الذي لا يحصل القطع فيه عنده.

ثالثاً: ما مرّ سابقاً من أنّ القطع الحقيقي وإن لم يكن في بعض العلوم النظريّة إلّاأنّه لا إشكال في حصول القطع العادي العرفي الذي استقرّت سيرة العقلاء على حجّيته وقد أمضاها الشارع أيضاً.

هذا كلّه في المقام الثاني.

أمّا المقام الثالث: فهو في روايات استدلّوا بها على عدم حجّية العقل، وهي المهمّ في المقام انوار الأصول، ج 2، ص: 252

بل هو الأساس في إنكارهم حجّية العقل وهي على طوائف:

الطائفة الاولى: ما تنهى عن العمل بالرأي، وفسّر الرأي عندهم بحكم العقل.

الطائفة الثانية: ما تدلّ على غاية بعد العقول عن دين اللَّه.

الطائفة الثالثة: ما تدلّ على أنّ المدرك الوحيد للأحكام هو روايات أهل البيت عليهم السلام.

أمّا الطائفة الاولى: النهي عن العمل بالرأي

فمنها: ما روي عن أبي جعفر عليه السلام: «من أفتى الناس برأيه فقد دان اللَّه بما لا يعلم ومن دان اللَّه بما لا يعلم فقد ضادّ

اللَّه حيث أحلّ وحرّم فيما لا يعلم» «1».

ومنها: ما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام في كلام له: إنّ المؤمن لم يأخذ دينه عن رأيه ولكن أتاه من ربّه فأخذ به «2».

ومنها: ما رواه غياث بن إبراهيم عن الصادق عن آبائه عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال في كلام له: «الإسلام هو التسليم- إلى أن قال- أنّ المؤمن أخذ دينه عن ربّه ولم يأخذه عن رأيه» «3».

ومنها: ما رواه في الاحتجاج عن أبي عبداللَّه عليه السلام أنّه قال لأبي حنيفة في احتجاجه عليه في إبطال القياس: «أيّما أعظم عنداللَّه؟ القتل؟ أو الزنا؟ قال بل القتل فقال عليه السلام: فكيف رضى في القتل بشاهدين ولم يرض في الزنا إلّابأربعة؟ ثمّ قال له: الصّلاة أفضل أم الصّيام؟ قال: بل الصّلاة أفضل قال عليه السلام فيجب على قياس قولك على الحائض قضاء ما فاتها من الصّلاة في حال حيضها دون الصّيام وقد أوجب اللَّه عليها قضاء الصّوم دون الصّلاة، ثمّ قال له: البول أقذر أم المني؟ فقال البول أقذر فقال: يجب على قياسك أن يجب الغسل من البول دون المني، وقد أوجب اللَّه تعالى الغسل من المني دون البول- إلى أن قال عليه السلام: تزعم أنّك تفتي بكتاب اللَّه ولست ممّن ورثه وتزعم أنّك صاحب قياس، وأوّل من قاس إبليس ولم يُبْنَ دين اللَّه على القياس وزعمت أنّك صاحب رأي وكان الرأي من الرسول صلى الله عليه و آله صواباً ومن غيره خطأً لأنّ انوار الأصول، ج 2، ص: 253

اللَّه تعالى قال: «فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ» ولم يقل ذلك لغيره» «1». الحديث.

ومنها: ما رواه يحيى البكّاء عن علي عليه السلام قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه

و آله: «ستفترق امّتي على ثلاث وسبعين فرقة منها ناجية والباقون هالكون والناجون الذين يتمسّكون بولايتكم، ويقتبسون من علمكم ولا يعملون برأيهم فاولئك ما عليهم من سبيل» «2». الحديث.

ومنها: ما رواه معاوية بن ميسرة بن شريح قال: شهدت أبا عبداللَّه عليه السلام في مسجد الحنيف وهو في حلقة فيها نحو من مائتي رجل وفيهم عبداللَّه بن شبرمة فقال له: يا أبا عبداللَّه إنّا نقضي بالعراق فنقضي بالكتاب والسنّة ثمّ ترد علينا المسألة فنجتهد فيها بالرأي- إلى أن قال-: فقال أبو عبداللَّه عليه السلام: فأيّ رجل كان علي بن أبي طالب عليه السلام؟ فأطراه ابن شبرمة وقال فيه قولًا عظيماً. فقال له أبو عبداللَّه عليه السلام: «فإنّ علياً أبى أن يدخل في دين اللَّه الرأي وأن يقول في شي ء من دين اللَّه بالرأي والمقاييس- إلى أن قال-: لو علم ابن شبرمة من أين هلك الناس ما دان بالمقاييس ولا عمل بها» «3».

ومنها: ما رواه طلحة بن زيد عن أبي عبداللَّه عن أبيه عليه السلام قال، قال: أمير المؤمنين عليه السلام: «لا رأي في الدين» «4».

ومنها: ما رواه أبو بصير قال قلت لأبي جعفر عليه السلام ترد علينا أشياء لا نجدها في الكتاب والسنّة فنقول فيها برأينا فقال: «أما إنّك إن أصبت لم تؤجر وإن أخطأت كذبت على اللَّه» «5».

ومنها: ما رواه زيد في حديث أنّه لمّا نزل قوله تعالى: «إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ» السورة قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «إنّ اللَّه قضى الجهاد على المؤمنين في الفتنة بعدي- إلى أن قال-: يجاهدون على الأحداث في الدين إذا عملوا بالرأي في الدين ولا رأي في الدين إنّما الدين من الربّ أمره ونهيه» «6».

انوار

الأصول، ج 2، ص: 254

ومنها: ما رواه حبيب قال: قال لنا أبو عبداللَّه عليه السلام: «ما أحد أحبّ إليّ منكم إنّ الناس سلكوا سبلًا شتّى منهم من أخذ بهواه ومنهم من أخذ برأيه وإنّكم أخذتم بأمر له أصل» «1».

ومنها: ما روي عن أبي محمّد الحسن بن علي عليه السلام أنّه سئل عن كتب بني فضّال، فقال:

«خذوا بما رووا وذروا ما رأوا» «2».

والجواب عنها: أنّها خارجة عن محلّ النزاع أي القطع الحاصل من المقدّمات العقليّة بل هي ناظرة إمّا إلى الآراء والقياسات الظنّية كما تشهد عليه ما مرّ من رواية مسعدة بن صدقة عن أبي جعفر عليه السلام حيث ورد فيها: «ومن دان اللَّه بما لا يعلم فقد ضادّ اللَّه ففسّر الرأي فيها بما لا يعلم».

أضف إلى ذلك أنّ من لاحظ تاريخ فقه العامّة يرى أنّهم كانوا يعتقدون في الفقه بخلأ فقهي (خلافاً لما ذهب إليه علمائنا أجمع، فيتوهّمون أنّ هناك مسائل لم يبيّن حكمها في الكتاب والسنّة ولم يرد فيه نصّ ويعبّرون عنها بما لا نصّ فيه) ولعدم جريان البراءة فيها عندهم يتمسّكون أوّلًا بذيل القياس إن وجدوا لها شبيهاً ونظيراً في الفقه وإلّا يلتجأون إلى الاستحسان والاجتهاد بمعنى جعل القوانين وفقاً لآرائهم، وهذا هو المقصود من الرأي الوارد في هذه الطائفة من الرّوايات فهي ناظرة إلى هذا المعنى بحسب الحقيقة، وفي ضوء هذه النكتة التاريخيّة يتّضح المراد من هذه الأخبار.

وإن شئت قلت: هذا الإرتكاز الذهني المتداول بينهم يكون بمنزلة قرينة لبّية لتعيين المراد من الرأي الوارد في هذه الطائفة.

ويشهد عليه أيضاً ترادف الآراء بالمقاييس في لسان الرّوايات، فمن المسلّم أنّ المقصود من القياس ليس هو قياس الأولويّة الذي يكون قطعيّاً بل المراد منه القياس الظنّي،

فليكن مترادفها أيضاً كذلك.

ومن هنا يظهر أيضاً أنّ المراد من التعبير بالاجتهاد الوارد في الرّوايات هو نفس العمل بالرأي والظنّ، لا تطبيق الاصول على الفروع.

وأمّا أن تكون ناظرة إلى مقابلتهم الأئمّة والاستغناء عن مسألتهم، وله أيضاً شواهد: منها

انوار الأصول، ج 2، ص: 255

ما رواه يونس بن عبدالرحمن قال: قلت لأبي الحسن الأوّل عليه السلام: بما أُوحّد اللَّه؟ فقال:

«يايونس لا تكوننّ مبتدعاً، من نظر برأيه هلك، ومن ترك أهل بيت نبيّه ضلّ، ومن ترك كتاب اللَّه وقول نبيّه كفر» «1».

ومنها: ما مرّ من رواية حبيب ورد فيها: «منهم من أخذ برأيه وإنّكم أخذتم بأمر له أصل».

أمّا الطائفة الثانية: ما تدّل على غاية بعد العقول عن دين اللَّه

فمنها: ما رواه عبدالرحمن بن الحجّاج قال: سمعت أبا عبداللَّه عليه السلام يقول: «ليس شي ء أبعد من عقول الرجال عن القرآن» «2».

ومنها: ما رواه زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: «ليس شي ء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن، أنّ الآية ينزل أوّلها في شي ء، وأوسطها في شي ء وآخرها في شي ء» «3».

ومنها: ما رواه جابر قال: قال أبو عبداللَّه عليه السلام: «ياجابر أنّ للقرآن بطناً وللبطن ظهراً، ولى شي ء أبعد من عقول الرجال منه، أنّ الآية لينزل أوّلها في شي ء وأوسطها في شي ء، وآخرها في شي ء، وهو كلام متصرّف على وجوه» «4».

والجواب عنها هو الجواب عن الطائفة الاولى من أنّها ناظرة إلى الآراء الظنّية أو ناظرة إلى ترك أهل بيت النبي صلى الله عليه و آله كما يشهد له ما رواه ابن عبّاس عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: قال: «من قال في القرآن بغير علم فيتبوّء مقعده من النار» «5».

وما جاء في ما رواه إسماعيل بن جابر عن الصادق عليه السلام: «وإنّما هلك الناس في المتشابه لأنّهم

لم يقفوا في معناه ولم يعرفوا حقيقته فوضعوا له تأويلًا من عند أنفسهم بآرائهم واستغنوا بذلك عن مسألة الأوصياء ونبذوا قول رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وراء ظهورهم» «6».

أمّا الطائفة الثالثة: التي تدلّ على انحصار الحجّة الشرعيّة بالنقل
اشارة

فمنها: ما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام: «من أخذ دينه من أفواه الرجال أزالته الرجال، ومن أخذ دينه من الكتاب والسنّة زالت الجبال ولم يزل» «1».

ومنها: ما روي عن حريز: «أنّ أبا حنيفة قال له: أنت لا تقول شيئاً إلّابرواية قال: أجل» فهو يدلّ على أنّ مثل حريز الذي كان من كبار أصحاب الصادق عليه السلام وخواصّهم لا يقول شيئاً إلّا برواية ولا حجّة عنده إلّاالرّواية «2».

والجواب عنها أيضاً هو الجواب عن الطائفتين السابقتين، فلا بدّ من ملاحظة خصوصيّات تلك الأعصار حتّى يثبت لنا أنّ مراد أبي حنيفة في قوله «أنت لا تقول شيئاً إلّابرواية» عدم اعتناء حريز بالقياس والاستحسان، حيث إنّه لا ريب في أنّ الحريز أيضاً كان يعمل بحكم العقل في تقديم الأهمّ على المهمّ مثلًا والتمسّك بالكذب لنجاة مؤمن لو ابتلى به، وإن لم يصدر فيه من جانب الإمام عليه السلام رواية، كما أنّ المراد من أخذ الدين من أفواه الرجال أيضاً ليس إلّاأخذه من القياسات الظنّية والاستحسانات غير القطعيّة.

أضف إلى ذلك ما رواه ابن أبي ليلى عن أبي عبداللَّه عليه السلام أنّه قال لأبي حنيفة: «فدع الرأي والقياس وما قال قوم في دين اللَّه ليس له برهان» «3» فإنّها تشهد على أنّ مقصود هذه الطائفة من الأخذ بالرواية هو الاجتناب عن الآراء الظنّية، حيث إنّها تعبّر عن الرأي القياس ب «ما ليس له برهان».

هذا كلّه في الوجوه التي استدلّ بها الأخباريون لمرامهم.

ثمّ إنّ المحقّق النائيني رحمه الله أضاف إليها

وجهاً رابعاً، وحاصله: أنّا نحتمل كون حجّية دليل العقل من جانب الشارع مشروطاً بوساطة من جانب الأئمّة المعصومين صلوات اللَّه عليهم، وبعبارة اخرى: أنّ دليل العقل يدلّ على الحكم الشأني لا الفعلي ويصل إلى مرحلة الفعليّة إذا ايّد بالكتاب أو السنّة، ومجرّد وجود هذا الاحتمال يوجب بطلان الاستدلال بالأدلّة العقليّة.

وأجاب عنه بالقول: «أنّ العقل بعد ما أدرك المصلحة الملزمة في شي ء كالكذب المنجي انوار الأصول، ج 2، ص: 257

للنبي أو لجماعة من المؤمنين مثلًا، وأدرك عدم مزاحمة شي ء آخر لها، وأدرك أنّ الأحكام الشرعيّة ليست جزافيّة وإنّما هي لأجل ايصال العباد إلى المصالح وتبعيدهم عن المفاسد، كيف يعقل أن يتوقّف في استكشاف الحكم الشرعي بوجوبه ويحتمل مدخلية وساطتهم صلوات اللَّه وسلامه عليهم بل لا محالة يستقلّ بحسن هذا الكذب ويحكم بمحبوبيته، والحاصل أنّ المدّعى هو تبعيّة الحكم الشرعي لما استقلّ به العقل من الحسن والقبح، وبعد الاستقلال لا يبقى مجال لهذا الاحتمال أصلًا» «1».

أقول: ولذلك نعتقد بأنّ من لم يصل إليه بلاغ من رسول فلا أقلّ من استحقاقه للعقاب على ترك ما يستقلّ به العقل، فلو قتل إنساناً عالماً عامداً كان مستحقّاً للعذاب عند اللَّه تعالى بلا إشكال، ولا يمكن أن يقال: إنّ هذا الحكم ما لم يصل إلى هذا القاتل من ناحية الشرع كان معذوراً في هذا الفعل.

ثمّ إنّ الاصوليين استدلّوا لحجّية العقل في قبال الأخباريين بوجوه:

الأوّل: الأخبار الواردة في هذا المجال:

منها: ما رواه محمّد بن عبدالجبّار عن بعض أصحابنا رفعه إلى أبي عبداللَّه عليه السلام قال قلت له:

ما العقل؟ قال: «ما عبد به الرحمن واكتسب به الجنان»، قال: قلت فالذي كان في معاوية؟

فقال: «تلك النكراء، تلك الشيطنة وهي شبيهة بالعقل وليست بالعقل» «2».

ومنها: ما

رواه هشام عن أبي عبداللَّه عليه السلام في حديث طويل: «ياهشام أنّ للَّه على الناس حجّتين حجّة ظاهرة وحجّة باطنة فأمّا الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمّة عليهم السلام وأمّا الباطنة فالعقول» «3».

ومنها: ما رواه إسماعيل بن مهران عن بعض رجاله عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «العقل دليل المؤمن» «4».

ومنها: ما رواه محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال: «لمّا خلق اللَّه العقل استنطقه ثمّ قال انوار الأصول، ج 2، ص: 258

له: أقبل فأقبل، ثمّ قال له أدبر فأدبر، ثمّ قال: وعزّتي وجلالي ما خلقت خلقاً هو أحبّ إليّ منك ولا أكملتك إلّافيمن أُحبّ، اما أنّي إيّاك آمر وإيّاك أنهى وإيّاك اعاقب وإيّاك اثيب» «1».

أضف إلى ذلك لحن خطابات القرآن، حيث إنّها متوجّهة إلى اولي الألباب وقوم يعقلون ويتفكّرون، وهذا ينافي عدم حجّية العقل كما لا يخفى، ولا أقلّ فيها من التأييد للمراد.

الثاني: الأخبار التي استدلّ فيها الأئمّة عليهم السلام بوجوه عقليّة كما يظهر لمن تتبّع فيها.

الثالث: اتّفاق الاصوليين والأخباريين على العمل بالأدلّة العقليّة في كلماتهم فمن راجع كلمات الأخباريين كصاحب الحدائق يجد صدق ما ذكرناه.

الرابع: عدم الخلاف في حجّيته في اصول الدين وهو يستلزم الحجّية في الفروع بالأولوية القطعيّة.

هذا تمام الكلام في العلم التفصيلي.

الكلام في العلم الإجمالي
اشارة

كان البحث إلى هنا في العلم التفصيلي، ونبحث الآن في العلم الإجمالي وأنّه ما هو حكمه؟

فهل يترتّب عليه جميع آثار العلم التفصيلي أو لا؟ وبعبارة اخرى: كان العلم التفصيلي حجّة في مقامين، مقام التنجّز ومقام الامتثال، فيقع البحث في العلم الإجمالي أيضاً في مقامين:

الأوّل: في إثبات التكليف وتنجّزه به، فهل يجب موافقته ويحرم مخالفته قطعاً أو احتمالًا، أو لا؟

والثاني: في أنّه هل يجوز الاكتفاء به في مقام الامتثال وإسقاط التكليف كما

إذا صلّى الإنسان إلى أربع جهات مع كونه قادراً على تعيين القبلة تفصيلًا؟

ولا بدّ قبل الورود في البحث من الإشارة إلى نكتة، وهي أنّه لماذا يبحث عن العلم الإجمالي في موضعين من الاصول: مباحث القطع، ومبحث الاشتغال؟

ذهب المحقّق الخراساني رحمه الله في مقام بيان الفارق بين المقامين إلى أنّ البحث هنا بحث عن انوار الأصول، ج 2، ص: 259

المقتضى، أي هل العلم الإجمالي مقتض لإثبات الحكم أو لإسقاط التكليف كالعلم التفصيلي أو لا؟ وهناك يبحث عن المانع، أي: هل يمنع مانع عن حجّية العلم الإجمالي في مقامين، أو لا؟

وأمّا شيخنا الأعظم رحمه الله فقد فرّق بين البابين بوجه آخر، وهو أنّ البحث هنا بحث في حرمة المخالفة القطعيّة، وهناك بحث في وجوب الموافقة القطعيّة.

ونحن نقول: لا يمكن القناعة بهذا المقدار من الفرق والتفاوت مع أنّ أدلّة المسألتين مرتبطتان، فلا وجه لتقطيع البحث والتكلّم هنا عن المقتضى وهناك عن وجود المانع، أو يبحث هنا عن حرمة المخالفة وهناك عن وجوب الموافقة.

بل الحقّ أنّ العلم الإجمالي يناسب كلا البابين، لأنّ ماهيّته علم مختلط بالشكّ، فهو من جهة شكّ يمكن أن يترتّب عليه آثار الشكّ، ومن جهة اخرى علم يمكن أن يترتّب عليه آثار العلم، فيناسب أن يبحث عنه في مباحث القطع لجهة كونه علماً وفي مباحث الشكّ لاختلاطه بالشكّ، نعم حيث إنّه لا وجه للبحث التفصيلي عنه في كلا الموضعين يبحث عنه هنا إجمالًا وهناك تفصيلًا.

إذا عرفت هذا فلنشرع في البحث عن المقامين:

أمّا المقام الأوّل: في تنجّز العلم الإجمالي وعدمه

وهو البحث عن تنجّز العلم الإجمالي ففيه أقوال أربعة:

الأوّل: ما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمه الله في المقام (مباحث القطع) من أنّ العلم الإجمالي خلافاً للعلم التفصيلي مقتضٍ للتنجّز بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعيّة ووجوب

الموافقة القطعيّة معاً وليس علّة تامّة لواحد منهما.

الثاني: ما ذهب إليه أيضاً المحقّق الخراساني رحمه الله لكن في مبحث الاشتغال وهو أنّه علّةتامّة لكلّ واحد من حرمة المخالفة القطعيّة ووجوب الموافقة القطعيّة، ولكن ألّا يؤدّي هذا إلى التناقض في كلامه قدس سره أو لا؟ فسيأتي إن شاء اللَّه في مبحث الاشتغال بيانه وتوجيه كلامه.

الثالث: ما اختاره الشيخ الأعظم رحمه الله من كونه علّة تامّة بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعيّة ومقتضياً بالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعيّة.

الرابع: ما نسب إلى المحقّق الميرزا القمّي رحمه الله من أنّه مقتضي بالنسبة إلى حرمة المخالفة

انوار الأصول، ج 2، ص: 260

القطعيّة، وأمّا بالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعيّة، فليس بعلّة تامّة ولا مقتضياً.

أمّا القول الأوّل: فاستدلّ له بأنّه فرق بين العلم التفصيلي والعلم الإجمالي حيث إنّ الأوّل كشف تامّ بالنسبة إلى متعلّقه، ولذا لا مجال فيه لصدور حكم ظاهري بالترخيص ولا يمكن مخالفته، بخلاف العلم الإجمالي لأنّه مخلوط بالشكّ، فيمكن للشارع الترخيص في المخالفة الاحتماليّة بل في المخالفة القطعيّة أيضاً لمكان الشكّ.

إن قلت: العلم على كلّ حال لا يجتمع مع الترخيص ومانع عنه.

وقد أجاب عنه بجوابين: أحدهما: بالنقض بجواز الترخيص في أطراف الشبهة غير المحصورة كما قام عليه الإجماع، وهكذا في الشبهات البدويّة، لأنّ احتمال التناقض واجتماع النقيضين محال كاليقين به.

والثاني: بالحلّ وأنّ هنا حكمين: أحدهما: في مرحلة الإنشاء، والآخر: في مرحلة الفعليّة، ولا تنافي بين المرحلتين، وبعبارة اخرى: الترخيص حكم ظاهري والمعلوم بالإجمال حكم واقعي، ولا منافاة بين الحكم الواقعي والظاهري كما سوف يأتي في محلّه إن شاء اللَّه.

أقول: يمكن توجيه ما اختاره الشيخ رحمه الله وتقويته (أي تقوية أنّ العلم الإجمالي علّة تامّة بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعيّة لكنّه مقتضٍ بالنسبة

إلى الموافقة القطعيّة) بأنّ الحكم الظاهري وإن كان موضوعه الشكّ ولذا لا منافاة بينه وبين الحكم الواقعي لكن متعلّق الشكّ في العلم الإجمالي إنّما هو خصوص أحد الطرفين لا كليهما.

وبعبارة اخرى: أنّ قوله «كلّ شي ء لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام» وإن كان يشمل كلًا من الطرفين لكن مجموع الطرفين من حيث المجموع داخل في الغاية، أي قوله: «حتّى تعلم أنّه حرام» وإن شئت قلت: ظهور الذيل مانع عن انعقاد الإطلاق في صدره وشموله لموارد العلم الإجمالي.

إن قلت: فكيف تحكم بالجواز في الشبهة غير المحصورة؟ قلت: جواز إرتكاب الجميع فيها أيضاً أوّل الكلام، فلا يجوز فيها إرتكاب جميع الأطراف والمخالفة القطعيّة، ولذا عدّ بعضهم من ضوابطها أن لا تكون جميع الأطراف قابلة للإرتكاب، هذا أوّلًا.

ثانياً: أنّه يمكن أن يقال: إنّ احتمال انطباق العمل بالحرام الواقعي في الشبهة المحصورة ضعيف جدّاً بحيث يعدّ عند العرف كالعدم، وحينئذٍ لا تنجّز للعلم الإجمالي الموجود فيها،

انوار الأصول، ج 2، ص: 261

فقياس المقام بها مع الفارق، فتأمّل.

فظهر ممّا ذكرنا أنّه لا يجوز الترخيص في المخالفة القطعيّة ويكون العلم الإجمالي علّة تامّة لحرمة المخالفة القطعيّة وإن لم تكن الموافقة القطعيّة واجبة وجازت المخالفة الاحتماليّة.

نعم، يستثنى منها موردان يجوز للشارع الترخيص فيهما:

الأول: ما إذا كان القطع الإجمالي موضوعياً فيمكن للشارع أن يقيّد القطع الذي يأخذه في موضوع الحكم بقيد التفصيلي بلا إشكال، لكنّه خارج عن محلّ البحث لأنّ البحث هنا في القطع الطريقي المحض.

الثاني: إذا صادف الحكم أحد موانع الفعلية كالعسر والحرج، ويؤدّي الاحتياط وتنجيز العلم الإجمالي للحفاظ على الحكم الواقعي إلى العسر والحرج، لكنّه لا يختصّ بموارد العلم الإجمالي بل أنّه جارٍ في موارد العلم التفصيلي أيضاً.

لكن لتهذيب الاصول في المقام كلام،

وهو أنّ البحث في المقام عن القطع الوجداني بالتكليف الفعلي الذي لا يحتمل الخلاف ويعلم بعدم رضا المولى بتركه لكن اشتبه متعلّق التكليف بحسب المصداق أو غيره، كما أنّ البحث في باب الاشتغال إنّما هو عن العلم بالحجّة المحتمل صدقها وكذبها كإطلاق دليل حرمة الخمر الشامل لصورتي العلم بالتفصيل والإجمال، وعلى ذلك فلا شكّ أنّ العلم والقطع الوجداني بالتكليف علّة تامّة لحرمة المخالفة ووجوب الموافقة القعطيّين ولا يجوز الترخيص في بعض أطرافه فضلًا عن جميعه إذ الترخيص كلًا أو بعضاً ينافي بالضرورة مع ذاك العلم الوجداني، فإنّ الترخيص في تمام الأطراف يوجب التناقض بين الإرادتين في نفس المولى، كما أنّ الترخيص في بعضها يناقض ذاك العلم في صورة المصادفة ... (إلى أن قال): وممّا ذكر يظهر حال الأقوال المذكورة في الباب، فإنّ كلّ ذلك ناشٍ عن خلط ما هو مصبّ البحث مع ما هو مصبّه في باب الاشتغال» «1».

أقول يرد عليه:

أوّلًا: أنّه كيف يكون مصبّ البحث هنا هو العلم الوجداني بالتكليف الواقعي وهناك العلم بالحجّة والحكم الظاهري مع أنّا لم نجد أحداً يلتزم بهذا الفرق؟ والأمثلة في المسألتين واحدة

انوار الأصول، ج 2، ص: 262

كأدلّتهما، إلّاأن يقال: يدلّ على كون مصبّ البحث هنا العلم الوجداني قياسه بالعلم التفصيلي، فلا شكّ في أنّ المقصود منه هو العلم التفصيلي الوجداني، ولذلك يقال بأنّه حجّة ذاتاً ولا تناله يد الجعل.

اللهمّ أن يقال: إنّ هذا لا يمنع عن كون البحث عاماً في مبحث الاشتغال كما هو ظاهر كلماتهم، وحينئذٍ يكون بين المسألتين عموم مطلق فلا يبقى وجه أيضاً للتكرار.

ثانياً: لو كان المعلوم بالإجمال هو الحكم الفعلي من جميع الجهات الذي لا يرضى المولى بتركه، فكيف وقع البحث عن كونه علّة تامّة

للحكم وعدمه وعن أنّه هل يكون الحكم فعلياً أو لا؟ وإن هو إلّاكالقضايا الضروريّة بشرط محمولاتها.

ثالثاً: كيف يحصل العلم الوجداني بالحكم مع أنّ الطرق الموجودة عندنا إطلاقات وعمومات التي هي طرق ظنّية توجب العلم بالحجّة لا العلم الوجداني.

وإن شئت قلت: جعل مصبّ البحث هنا العلم الوجداني يستلزم أن يكون البحث هنا بحثاً عن شي ء تكون مصاديقه نادرة.

هذا كلّه في أنّ العلم الإجمالي هل هو علّة تامّة لتنجّز التكليف أو يكون مقتضياً له؟ وقد اخترنا كونه علّة تامّة بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعيّة ومقتضياً بالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعيّة كما اختاره الشيخ الأعظم رحمه الله.

ثمّ إنّه بعد كونه مقتضياً لحرمة المخالفة الاحتماليّة أو وجوب الموافقة القطعيّة، فهل يوجد مانع عنه من قبيل عموم قوله عليه السلام «كلّ شي ء لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام» أو من قبيل أدلّة خاصّة تدلّ على وجود المانع، أو لا؟ فسيأتي البحث عنه في باب الاشتغال إن شاء اللَّه تعالى.

هذا كلّه في المقام الأوّل.

أمّا المقام الثاني: في كفاية العلم الإجمالي في مقام الامتثال وعدمه

وهو البحث عن كفاية العلم الإجمالي في مقام الامتثال وعدمه فهو ما تعرّضوا له في مباحث الاجتهاد والتقليد وأنّ الناس على ثلاثة أصناف: مجتهد ومقلّد ومحتاط، فهل يمكن العمل بالاحتياط مع إمكان الاجتهاد أو التقليد أو لا؟ وهو تارةً يتصوّر في الشبهة الموضوعيّة كالإتيان بأربع صلوات إلى الجهات الأربعة، واخرى في الشبهة الحكميّة كما إذا علم إجمالًا بأنّ انوار الأصول، ج 2، ص: 263

الواجب عليه يوم الجمعة أمّا صلاة الظهر أو صلاة الجمعة، ومحلّ الكلام ما إذا قدر على تحصيل العلم التفصيلي، وإلّا فلا ريب في تعيّن الاحتياط وكفاية الامتثال الإجمالي.

ويتصوّر للمسألة أيضاً أربع صور (والمهمّ منها هو الصورة الرابعة)، لأنّ المعلوم بالإجما تارةً يكون من التوصّليات، واخرى

من التعبّديات، وفي كلّ منهما تارةً يكون الامتثال الإجمالي مستلزماً للتكرار، واخرى لا يكون.

أمّا التوصّليات فلا إشكال ولا كلام في كفاية العلم الإجمالي فيها في مقام الامتثال، سواء استلزم التكرار أو لم يستلزم، وهكذا في التعبّديات إذا لم يستلزم التكرار كما إذا شككنا في جزئيّة السورة.

إنّما البحث والإشكال في العبادات إذا استلزم الامتثال الإجمالي فيها التكرار كمثال الصّلاة في أربع جهات، فأجازه قوم ومنعه آخرون، واستدلّ المانعون بوجوه متفرّقة في كتبهم يمكن جمعها وتلخيصها في ثمانية:

الوجه الأوّل: الإجماع بإحدى الصور التالية:

الاولى: الإجماع قولًا على المنع في خصوص ما إذا استلزم التكرار في العبادات، أي في خصوص محلّ النزاع.

الثانية: الإجماع قولًا على المنع مطلقاً، استلزم التكرار أو لم يستلزم.

الثالثة: الإجماع عملًا في خصوص العبادات، والمقصود منه أنّ سيرة علماء السلف استقرّت على عدم تكرار العبادة.

الوجه الثاني: أصالة الاشتغال، فإنّه إذا شككنا في حصول الامتثال وبراءة الذمّة مع ترك العلم التفصيلي فالاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينيّة.

الوجه الثالث: أنّه يوجب اللعب بأمر المولى خصوصاً فيما إذا تداخل علمان إجماليّان أو أكثر في مورد واحد، كما إذا أراد أن يصلّي كلّ واحد من صلاة الظهر وصلاة الجمعة في أربع جهات للحصول على القبلة وفي أثواب متعدّدة، للعلم إجمالًا بطهارة واحد منها بحيث يوجب الإتيان بصلوات كثيرة بدل صلاة واحدة.

الوجه الرابع: لزوم الاخلال بقصد الوجه.

الوجه الخامس: لزوم الاخلال بقصد التمييز فلا يمكن أن يأتي بصلاة الظهر بقصد أنّها هي انوار الأصول، ج 2، ص: 264

المأمور بها متميّزة عن غيرها.

الوجه السادس: أدلّة وجوب تحصيل العلم كقوله تعالى «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ» وقوله صلى الله عليه و آله: طلب العلم فريضة على كلّ مسلم» فإنّها ظاهرة في الوجوب التعييني فلا يجوز العمل بالاحتياط.

الوجه السابع:

ظاهر أدلّة حجّية الأمارات والطرق فإنّ ظاهرها هو الوجوب التعييني أيضاً لا التخيير بين العمل بمفادها وبين الاحتياط.

الوجه الثامن: ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله في المقام ملخّصه: أنّ الإطاعة هي الانبعاث عن بعث المولى والتحرّك عن تحريكه خارجاً وهو لا يتحقّق مع الامتثال الإجمالي، بداهة أنّ المحرّك لخصوص صلاة الظهر أو الجمعة يستحيل أن يكون هو إرادة المولى وبعثه، فإنّ المفروض الشكّ في تعلّقها بكلّ منها بل المحرّك هو احتمال تعلّق الإرادة بكلّ منهما، ومع التمكّن من التحرّك عن نفس الإرادة يستقلّ العقل بعدم حسن التحرّك عن احتمالها، فإنّ مرتبة الأثر متأخّرة عن مرتبة العين (المقصود من العين هو نفس الإرادة ومن الأثر احتمالها) فكلّ ما أمكن التحرّك عن نفس الإرادة في مقام الإطاعة فلا حسن في التحرّك عن احتمالها» «1».

فملخّص كلامه استقلال العقل بعدم حسن التحرّك عن احتمال الإرادة الموجود في الامتثال الإجمالي في المقام.

هذا- والحقّ هو جواز العمل بالاحتياط وإن استلزم التكرار كما عليه أكثر المتأخّرين والمعاصرين، ولا يتمّ أحد هذه الوجوه.

أمّا الإجماع فجوابه واضح، لأنّ استناد المجمعين إلى الأدلّة السابقة محتمل أو معلوم فلا يكشف عن قول المعصوم.

وأمّا أصالة الاشتغال فلأنّ الأصل الجاري في المقام هو البراءة لا الاشتغال لأنّ الشكّ هنا يرجع إلى الشكّ في الشرطيّة أو الجزئيّة حيث يشكّ في اعتبار قيد عدم تكرار العمل، وهو قيد أو شرط زائداً على الشروط والأجزاء المتيقّنة تفصيلًا، فينحلّ العلم الإجمالي إلى العلم التفصيلي بسائر الأجزاء والشرائط والشكّ البدوي في القيد المذكور، ولا ريب في أنّه مجرى انوار الأصول، ج 2، ص: 265

لأصالة البراءة لا الاشتغال، والاشتغال مصبّه غير ذلك، وهو ما إذا كان أصل المأمور به معلوماً وشكّ في وجوده خارجاً.

قال المحقّق

النائيني رحمه الله هنا ما حاصله: أنّ أدلّة أصل البراءة كحديث الرفع جارٍ فيما كان وضعه ورفعه بيد الشارع ويكون قاصراً عن الشمول لما يتحمّل اعتباره في الطاعة عقلًا كما في المقام، حيث إن الشكّ فيه راجع إلى اعتبار أمر في الطاعة العقليّة، ضرورة أنّ حسن الاحتياط من الأحكام التي يستقلّ العقل بها، فمع الشكّ في تحقّقه لا يمكن التمسّك بحديث الرفع «1».

أقول: إن كان حسن الاحتياط في المقام من المستقلّات العقليّة فلا معنى للشكّ فيه، لأنّ لاعقل لا يشكّ في حكم نفسه، فإمّا أن يحكم بكفاية الامتثال الإجمالي أو يحكم بعدمها، ولا تردّد له فيه، وحينئذٍ فلو كان هناك شكّ كان شكّاً في حكم الشرع، أي شكّاً في الجزئيّة أو الشرطيّة الشرعيّة فيرجع إلى الأقلّ والأكثر الإرتباطيين الذي يكون مجرى لأصل البراءة.

وأمّا الدليل الثالث وهو لزوم اللعب بأمر المولى فاجيب عنه بجوابين:

أحدهما: أنّ التكرار لا يعدّ لعباً بأمر المولى إذا نشأ من دواعٍ عقلائيّة.

ثانيهما: سلّمنا ذلك، ولكنّه لعب في كيفية الإطاعة لا في أصلها، واللعب في كيفية العمل لا يوجب بطلان أصله.

لكن الإنصاف أنّ هذا الجواب غير تامّ، لأنّ كيفية العمل ليست منفكّة عن أصل العمل بل هي متّحدة معه عرفاً.

وللمحقّق الإصفهاني رحمه الله هنا كلام وإليك نصّه: «إنّ المانع إمّا عدم صدور العمل عن داعٍ إلهي بل من غيره، أو التشريك في الداعي بحيث لا يكون الأمر مستقلًا في الدعوة، أو تعنون الفعل بنفسه بعنوان اللعب، أو تعنون الفعل المأتي بداعي الأمر بعنوان اللعب، والكلّ مفقود، أمّا الأوّل فلأنّ المفروض أنّ المحرّك لفعل كلّ من المحتملات هو الأمر المحتمل تعلّقه به، وأمّا الثاني فلأنّ المفروض عدم محرّك إلى ذات كلّ واحد من المحتملات

سوى الأمر المحتمل فلا تشريك في الداعي، وإلّا فلو فرض التشريك لم يكن فرق بين الداعي العقلائي وغيره في المفسدية وعدم صدور العمل عن داعٍ إلهي مستقلّ في الدعوة، وأمّا الثالث فلأنّ المفروض أنّ انوار الأصول، ج 2، ص: 266

ذات العمل صلاة واتّصافها باللعب والعبث باعتبار صدورها عن داعٍ نفساني شهواني ومع فرض صدورها عن داع الأمر المستقلّ في الدعوة لا معنى لتعنون ذات الصّلاة باللعب والعبث، وأمّا الرابع فبأنّ اتّصاف المأتي به بداع الأمر بوصف اللعب والعبث بأن يكون الداعي إلى جعل الأمر داعياً غرضاً نفسانياً غير عقلائي والمفروض أنّ داعيه إلى امتثال أمر المولى ما هو الداعي في غيره من توقّع الثواب أو تحصيل مرضات المولى أو غيرها» «1».

أقول: الحقّ عدم الحاجة إلى هذا التفصيل بل روح الكلام والعمدة في المقام هو ما ذكرنا من أنّ التكرار لا يكون لعباً إذا نشأ من دواع عقلائيّة.

أمّا الدليل الرابع: وهو اعتبار قصد الوجه ففيه: أوّلًا: أنّه قد ثبت في محلّه عدم اعتباره في صحّة العبادة.

وثانياً: لو سلّمنا اعتباره فإنّه حاصل في المقام لأنّه على قسمين: قصد الوجه الغائي وقصد الوجه الوصفي، والغائي حاصل في المقام لأنّ صلاته إنّما هي لغاية وجوب تلك الصّلاة الواجبة إجمالًا، وكذلك الوصفي لأنّه بصدد الإتيان بالصلاة المتّصفة بالوجوب المتردّد بين الأربعة.

وأمّا قصد التمييز فهو ممّا لا دليل على اعتباره إلّافي مورد واحد، وهو ما إذا توقّف عليه حصول عنوان من العناوين القصديّة، حيث إن العنوان القصدي لا يحصل إلّابتمييزه عن سائر العناوين كما إذا اشتغل مثلًا ذمّة المكلّف بصيام يوم للكفّارة وبصيام يوم آخر للنذر وبصيام يوم ثالث للقضاء، وكلّ واحد من هذه الثلاثة عنوان من العناوين القصديّة يحتاج تحقّقه في

الخارج إمّا إلى تمييز تفصيلي له بالنسبة إلى سائر العناوين كما إذا قال مثلًا: أصوم للكفّارة، أو تمييز إجمالي كما إذا نوى ما اشتغلت به ذمّته أوّلًا، وأمّا في غير هذه الصورة فلا يجب التمييز لا إجمالًا ولا تفصيلًا بل يكفي قصد ما في الذمّة، وما نحن فيه من هذا القبيل كما لا يخفى.

ثالثاً: أنّه لم يأت بدليل على مقالته إلّاما إفاده من أنّ التحرّك عن الأثر متأخّر عن التحرّك عن العين، وهذا ما لا محصّل له لأنّه إن كان المراد منه التأخّر في عالم الخارج فهذا مسلّم لكنّه لا يثبت المدّعى، وإن كان المراد التأخّر في الداعويّة والبعث فهو أوّل الكلام لأنّه ربّما يتحرّك الإنسان عن الأثر من دون أن يتحرّك عن العين كما إذا أمر الطبيب بالحمية فنهى عن أكل انوار الأصول، ج 2، ص: 267

بعض الأغذية وشرب بعض آخر لرفع المرض والحصول على السلامة، والمريض يتركها لكن لا لجهة مرضه وتحصيل السلامة عنه بل لما يترتّب عليها من العواقب والآلام.

بقي هنا امور:

الأوّل: إنّه هنا كان البحث في جواز الامتثال الإجمالي مع القدرة على تحصيل العلم التفصيلي واخترنا فيه الجواز، أمّا إذا لم يقدر على تحصيل العلم التفصيلي بل كان قادراً على الظنّ التفصيلي الذي هو الغالب في الفقه كما مرّ وعليه يدور رحى الاجتهاد والتقليد فالكلام فيه أظهر، بل يجوز الامتثال الإجمالي فيه بطريق أولى كما أشرنا إليه سابقاً.

الثاني: أنّ ما يقال من «أنّ الاحتياط في ترك الاحتياط» فهو صحيح على الإطلاق في بعض الموارد، وهو ما إذا كان قادراً على العمل التفصيلي، والوجه فيه هو الخروج عن القول بالخلاف، أمّا إذا لم يقدر على العلم بل كان قادراً على الظنّ التفصيلي المعتبر،

فحينئذٍ لعلّ الاحتياط من بعض الجهات كان في العمل بالاحتياط لا في تركه، وذلك لأنّ الاحتياط حينئذٍ يوصل الإنسان إلى الواقع قطعاً، والظنّ المعتبر يوصله إليه ظنّاً (مع قطع النظر عن ما يستلزم التكرار من مخالفة الاحتياط).

الثالث: لا يخفى أنّ ما اخترناه من جواز الاحتياط لا يجري في نفس المسألة وهي «هل يجوز العمل بالعلم الإجمالي والاحتياط مع إمكان الاجتهاد أو التقليد؟» بل لابدّ فيها من الاجتهاد أو التقليد وهو واضح لا يحتاج إلى مزيد بيان.

الرابع: كثيراً ما لا يمكن العمل بالإحتياط لكونه من موارد الدوران بين المحذورين، ويرشدنا إلى هذه الموارد الرجوع إلى أبواب الحدود والتعزيرات والقصاص وكذلك باب الإرث وكثير من أبواب المعاملات، وحينئذٍ لابدّ من الاجتهاد أو التقليد وعلى هذا العمل بالاحتياط مطلقاً غير ممكن.

الخامس: أنّ العمل بالاحتياط قد يوجب العسر والحرج لشخص الإنسان وقد يوجب اختلال النظام أو الاضرار بالغير كما إذا استلزم من احتياط إنسان الاضرار بعياله أو صديقه مثلًا، فعلى الأوّل لا إشكال في جوازه وعدم حرمته لأنّه ليس ناشئاً من جانب الشارع بل هو نشأ من ناحية شخصه واختياره، ولا كلام في أنّ المرفوع في أدلّة العسر والحرج هو الإلزام انوار الأصول، ج 2، ص: 268

الحاصل من حكم الشرع لا الجواز، وعلى الثاني فلا إشكال أيضاً في حرمة الاحتياط حينئذٍ ووجوب العمل بالاجتهاد أو التقليد. واللَّه العالم.

تمّ الكلام إلى هنا عن مباحث القطع.

انوار الأصول، ج 2، ص: 269

المقام الثاني في مباحث الظنّ (حجّية الأمارات الظنّية)
اشارة

وقبل الدخول في هذا البحث لابدّ من رسم امور ثلاثة:

الأمر الأول: أنّ الظنّ وبتعبير آخر: أنّ الأمارات الظنّية ليست بحجّة ذاتاً، أي ليست الحجّية من لوازمها الذاتيّة كما في القطع (مع قطع النظر عمّا مرّ منّا في مبحث القطع من أنّه لا

معنى لحجّية القطع بمعنى كونه طريقاً إلى الواقع بل هو نفس النظر إلى الواقع ومشاهدته والإحاطة به).

الأمر الثاني: أنّه يمكن التعبّد بها وجعلها حجّة.

الأمر الثالث: في تأسيس الأصل في المسألة، فهل الأصل فيها أنّ جميع الأمارات الظنّية حجّة إلّاما خرج بالدليل أو العكس، أي ليس شي ء منها بحجّة إلّاما ثبت خروجه بالدليل؟

وبعبارة اخرى: هل يكون إثبات الحجّية وإقامة الدليل عليها على عهدة المنكر للحجّية أو على عهدة المثبت المدّعى لها؟ فإن كان الأصل هو الأوّل فلا بدّ للمنكر إقامة الدليل وهو مدّعٍ في الواقع، وإن كان هو الثاني فعلى المثبت.

ولا يخفى أنّ البحث في الأمرين الأوّلين بحث في مقام الثبوت، وفي الأخير بحث في مقام الإثبات.

أمّا الأمر الأوّل: أنّ الأمارات الظّنية ليست بحجّة ذاتا

فاستدلّ له:

أوّلًا: بإجماع العقلاء واتّفاقهم على أنّ الظنّ ليس بحجّة ذاتاً بل لابدّ من جعلها بيد جاعل كجعل الحجّية لخبر الواحد، أو من حصول مقدّمات توجب الحجّية له إمّا عقلًا بناءً على تماميّة

انوار الأصول، ج 2، ص: 270

مقدّمات الانسداد على تقرير الحكومة، وأمّا شرعاً بناءً على تماميتها بنحو الكشف.

وثانياً: بحكومة الوجدان، فإنّ الوجدان شاهد على عدم حجّية الظنّ ذاتاً إذ لا كشف تامّاً لها عن الواقع كما في القطع فلا بدّ لجبران نقصها في الكشف إلى جعل جاعل من ناحية الغير، نظير ما يقال في الوجود الممكن من أنّه ليس ذاتياً له ولذلك لابدّ من حصوله له بسبب أمر خارج خلافاً للوجود الواجب.

بقي هنا شي ء:

وهو أنّ المحقّق الخراساني رحمه الله في الكفاية ذكر لتصوّر الحجّية المجعولة للظنّ طريقين: جعل الجاعل وحصول مقدّمات الانسداد، ولكن هنا طريق ثالث وهو إخبار الشارع بعدم العقاب لمن عمل بالظنّ من دون أن يكون في مقام الجعل، فإنّ إخباره بذلك كافٍ في حصول الأمن عن

العذاب الذي هو نتيجة الحجّية.

وأمّا الأمر الثاني: في إمكان التعبّد بالظّن
اشارة

وهو إثبات قابلية الظنّ لأن يصير حجّة وإمكان جعل الحجّية له. فنقول: المراد من الإمكان هنا هو الإمكان الوقوعي، بمعنى أنّه لا يلزم من وقوعه محذور عقلي من أمر ممتنع ذاتي كاجتماع الضدّين أو أمر ممتنع عرضي كالقبيح الذي يستحيل صدوره من الحكيم.

توضيح ذلك: المعروف من معاني الإمكان أربعة:

أحدها: الإمكان الذاتي وفي مقابله الامتناع الذاتي كاجتماع النقيضين.

ثانيها: الإمكان الوقوعي وفي مقابله الامتناع الوقوعي وهو ما يلزم من وقوعه محال كامتناع اجتماع الآلهة في العالم وهو مفاد قوله تعالى: «لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا».

ثالثها: الإمكان العادي بمعنى عدم الامتناع بحسب العادة في مقابل الامتناع العادي كامتناع بلوغ عمر الإنسان إلى آلاف سنين عادةً.

رابعها: الإمكان الاحتمالي وهو ما أشا إليه الشيخ الرئيس بقوله: كلّ ما قرع سمعك من الغرائب فذره في بقعة الإمكان ما لم يضدّك عنه قاطع البرهان.

أمّا القسم الأخير فلا شكّ في عدم كونه مقصوداً في المقام لأنّه إنّما يكون في النظر البدوي،

انوار الأصول، ج 2، ص: 271

وسيزول بالتأمّل ويرجع إلى أحد الأقسام الاخر، ولذلك عبّر الشيخ ب «كلّما قرأ سمعك».

وكذلك الإمكان العادي لأنّ العادة لا يمكن أن تقع موضوعاً للأدلّة العقليّة، وأيضاً الإمكان الذاتي لأنّه لا شكّ لأحد في أنّه لا مانع في إمكان التعبّد بالظنّ ذاتاً وأنّ حجّية الظنّ ليست كاجتماع النقيضين، فيتعيّن حينئذٍ الإمكان الوقوعي، فالمراد بالإمكان في المقام هو الوقوعي في مقابل من يدّعي الامتناع الوقوعي كابن قبّة «1» من قدماء الأصحاب.

ومن العجب أنّ المحقّق النائيني رحمه الله ذهب إلى «أنّ المراد من الإمكان المبحوث عنه في المقام هو الإمكان التشريعي، بمعنى أنّ من التعبّد بالأمارات هل يلزم محذور في عالم التشريع من تفويت المصلحة

والإلقاء في المفسدة، واستلزامه الحكم بلا ملاك، واجتماع الحكمين المتنافيين وغير ذلك من التوالي الفاسدة المتوهّمة في المقام، أو أنّه لا يلزم شي ء من ذلك؟ ثمّ قال: وليس المراد من الإمكان هو الإمكان التكويني بحيث يلزم من التعبّد بالظنّ أو الأصل محذور في عالم التكوين، فإنّ الإمكان التكويني لا يتوهّم البحث عنه في المقام وذلك واضح» «2».

ولكن لا يخفى ما فيه من أنّ كون موضوع الإمكان والاستحالة أمراً تشريعياً لا يقتضي خروج إمكانه عن التكوين إذا كان المحذور على كلّ لزوم اجتماع الضدّين في عالم التكوين أو صدور القبيح من الحكيم الذي يستحيل صدوره منه تكويناً أيضاً.

وبعبارة اخرى: المحذورات الخمسة التي سيأتي في بحث اجتماع الحكم الظاهري والواقعي وكذلك شبهة ابن قبّة، كلّها ترجع إلى محذورات تكوينية ناشئة عن تشريع العمل بالظنّ فراجع وتدبّر.

والإنصاف أنّه لا معنى للإمكان التشريعي في مقابل الامتناع التشريعي إلّاحكم الشارع بالإباحة في مقابل الحرمة، وأين هذا ممّا نحن بصدده.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ ابن قبّة خالف إمكان حجّية خبر الواحد واستدلّ له بدليلين:

أحدهما مختصّ بخبر الواحد، والآخر عام يشمل جميع الأمارات الظنّية.

أمّا الأوّل: فهو أنّه لو جاز التعبّد بخبر الواحد في الإخبار عن النبي صلى الله عليه و آله لجاز التعبّد به في انوار الأصول، ج 2، ص: 272

الإخبار عن اللَّه تعالى، والتالي باطل إجماعاً، ووجه الملازمة أنّ حكم الأمثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد.

والصحيح في الجواب عنه (كما سيأتي في مبحث خبر الواحد) أنّه قياس مع الفارق، لأنّ التعبّد بخبر الواحد في الإخبار عن اللَّه تعالى ملازم لدعوى النبوّة، وهي من اصول الدين، التي تحتاج إلى دليل قطعي.

وأمّا الثاني: فهو أنّ جواز التعبّد بالظنّ موجب لتحليل الحرام وتحريم الحلال

إذ لا يؤمن أن يكون ما أخبر مثلًا بحلّيته حراماً وبالعكس.

أقول: كلامه هذا مبهم يحتاج إلى مزيد توضيح فنقول: إنّ تحليل الحرام أو تحريم الحلال اللازم من جواز التعبّد بالظنّ يستبطن بنفسه محاذير خمسة عقليّة:

أحدها: اجتماع النقيضين في صورة عدم إصابة الظنّ بالواقع، واجتماع المثلين في صورة الإصابة، وهذا بالنسبة إلى نفس الحكم.

ثانيها: اجتماع الضدّين في نفس المولى في صورة الخطأ وهو اجتماع الإرادة والكراهة لأنّ الأمر ينشأ من الإرادة والنهي ينشأ من الكراهة وهذا يكون بالنسبة إلى مبادى ء الحكم.

ثالثها: اجتماع الضدّين من المصلحة والمفسدة في صورة الخطأ، ويكون بالنسبة إلى متعلّق الحكم.

رابعها: التكليف بما لا يطاق، لأنّ الحكم الواقعي يكلّف الإنسان بالفعل في مفروض الكلام، والظاهري يكلّفه بالترك مثلًا، والأمر بهما يستحيل على الحكيم الخبير.

خامسها: الإلقاء في المفسدة وتفويت المصلحة في صورة الخطأ.

ولا يخفى أنّ جميع هذه المحاذير مبني على بقاء الحكم الواقعي في مورد الأمارة على قوّته كما هو الصحيح لأنّ ارتفاع الحكم الواقعي يستلزم التصويب الباطل عندنا.

ولقد حاول جميع العلماء بعد ابن قبّة رفع هذه المحاذير، وكلّ سلك في حلّها طريقاً خاصاً، وهذا هو الذي يسمّى عندهم بمسألة الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي.

ومن الطرق طريق المحقّق الخراساني رحمه الله، ومنها ثلاث طرق ذكرها في درر الفوائد التي حكى اثنين منها من استاذه السيّد السند المحقّق الفشاركي رحمه الله، ومنها طريق المحقّق النائيني رحمه الله وطريق سادس ذكره في تهذيب الاصول، وهيهنا طريق سابع يستفاد من كلمات شيخنا الأنصاري رحمه الله وهو المختار.

انوار الأصول، ج 2، ص: 273

ونحن نذكرها واحداً بعد واحد ثمّ نبيّن المختار في المقام (وهو نفس ما يستفاد من كلمات شيخنا الأعظم):

1- قال المحقّق الخراساني رحمه الله ما حاصله: أنّ أغلب

هذه المحاذير نشأ من توهّم أنّ التعبّد بالأمارة واعتبار الأمارة شرعاً معناه أنّ للشارع أحكاماً ظاهريّة على طبق مؤدّياتها، فإذا قامت الأمارة على وجوب شي ء فيحكم الشارع ظاهراً بوجوب ذلك الشي ء، وإذا قامت على حرمة شي ء فيحكم ظاهراً بحرمة ذلك الشي ء وهكذا، وبعبارة اخرى: أنّ هذه المحاذير نشأت من القول بجعل أحكام ظاهريّة على وفق مؤدّى الأمارة مع أنّنا لا نلتزم بإنشاء الأحكام الظاهريّة في مورد الأمارات بل المجعول فيها هو نفس المنجزيّة والمعذّريّة عند الإصابة والخطأ، وهذا لا يستتبع إنشاء أحكام تكليفية ظاهريّة على طبق مؤدّيات الطرق في قبال الأحكام الواقعيّة كي يلزم منها اجتماع المثلين عند إصابة الأمارات ومطابقتها للواقع، واجتماع الضدّين من إيجاب وتحريم وإرادة وكراهة ومصلحة ومفسدة بلا كسر وإنكسار في البين عند خطأ الأمارات ومخالفتها للواقع، بل إنّما يلزم منها تنجّز التكليف الواقعي بقيام الأمارة المعتبرة عند اصابتها وصحّة الاعتذار بها عند خطأها.

نعم، يبقى في البين إشكال واحد وهو تفويت المصلحة والإلقاء في المفسدة عند خطأ الأمارة، وهذا ممّا لا محذور فيه إذا كان في التعبّد بالظنّ الذي إعتبره الشارع مصلحة غالبة على مفسدة التفويت أو الإلقاء كما لا يخفى.

أقول: الظاهر أنّ مراده من المصلحة الغالبة هو الوصول إلى الواقعيات غالباً مع تسهيل الأمر للمكلّفين ورفع التضييق عنهم، فحيث إنّها كانت أهمّ بنظر الشارع من تفويت المصلحة والإلقاء في المفسدة عند خطأ الأمارة أحياناً قدّمها عليه.

ثمّ قال: هذا كلّه إذا كانت الحجّية بمعنى المنجّزيّة والمعذّريّة ولو فرضنا كونها بمعنى جعل الحكم المماثل فلا يلزم محذور أيضاً، لأنّ هذه الأحكام المجعولة على طبق مؤدّيات الأمارات أحكام طريقيّة مقدّمة للوصول إلى الواقعيات لا توجب إلّاتنجّز التكليف إذا أصابت الواقع، وصحّة الاعتذار إذا

أخطأت، من دون أن تكون ناشئة عن مصلحة أو مفسدة.

ثمّ إنّه قدس سره نظر إلى أنّ هذا البيان كلّه يصحّ بالنسبة إلى الأمارات ولكن الإشكال باقٍ بعدُ في بعض الاصول الشرعيّة مثل الإباحة الشرعيّة التي توجب جعل حكم ظاهري بلا ريب انوار الأصول، ج 2، ص: 274

وليست طريقاً إلى الواقع، لأنّ المفروض عدم كونها أمارة، فقال ما نصّه: «فلا محيص في مثله (بعض الاصول العمليّة كأصالة الإباحة الشرعيّة) إلّاعن الالتزام بعدم إنقداح الإرادة أو الكراهة في بعض المبادى ء العالية أيضاً كما في المبدأ الأعلى لكنّه لا يوجب الالتزام بعدم كون التكليف الواقعي بفعلي، بمعنى كونه على صفة ونحوٍ لو علم به المكلّف لتنجّز عليه كسائر التكاليف الفعليّة التي تنجّز بسبب القطع بها، وكونه فعلياً إنّما يوجب البعث والزجر في النفس النبويّة أو الأولويّة فيما إذا لم ينقدح فيها الإذن لأجل مصلحة».

وحاصل ما أفاده: أنّ الحكم الواقعي في مورد هذه الاصول ليس فعليّاً تامّاً لأنّ الفعليّة موقوفة على حصول الإرادة وهو موقوف على عدم صدور إذن من جانب الشارع على الخلاف، وإلّا لو صدر إذن من ناحيته كما في الاصول العمليّة فالحكم فعلي تقديري، بمعنى أنّه لو تعلّق به العلم أو قامت أمارة عليه لتنجّز، بخلاف الإنشائي الذي لا تنجّز وإن تعلّق به العلم خارجاً، وبهذا ترتفع المنافاة بين الحكم الواقعي والظاهري، لأنّ الحكم الواقعي فعلي تقديري، والحكم الظاهري فعلي تحقيقي ولا منافاة بينهما.

فظهر إلى هنا أنّ المحقّق الخراساني رحمه الله اختار لحلّ إشكال الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي ثلاثة طرق:

الأوّل: إنكار أن يكون مؤدّى الأمارة حكماً بل هو مجرّد المنجّزيّة والمعذّريّة.

الثاني: كونه حكماً طريقيّاً.

الثالث: أنّ الواقعي فعلي تقديري أي فعلي لولا الترخيص والإذن، والظاهري فعلي مطلقاً.

ولا

يخفى أنّ هذا الكلام منه مبني على ما ذهب إليه من أن للأحكام مراتب أربعاً كما مرّت الإشارة إليه منّا في باب اجتماع الأمر والنهي، وكما أشار إليه في تعليقته على رسائل شيخنا الأعظم رحمه الله:

أحدها: الاقتضائيّة والشأنية، وهي عبارة عن كون الشي ء ذا ملاك يقتضي الحكم الفلان على طبق ذلك الملاك.

ثانيها: الحكم الإنشائي وهو عبارة عن إنشاء الحكم على طبق المصالح والمفاسد الكامنة في الأشياء ضرباً للقاعدة والقانون، من دون أن يكون في البين إرادة أو كراهيّة فعلية.

ثالثها: الحكم الفعلي، وهو عبارة عن تعلّق الإرادة الفعلية أو الكراهة الفعلية بشي ء أي البعث والزجر.

انوار الأصول، ج 2، ص: 275

رابعها: مرتبة التنجّز وهي عبارة عن حكم العقل باستحقاق العقاب على مخالفة حكم المولى وعصيانه بعد وصوله إليه بعلم أو علمي.

هذا- وقد عرفت أنّه بعد تقسيمه الفعلي إلى الفعلي التامّ وغير التامّ، أو الفعلي التقديري والفعلي المطلق صارت الأقسام خمسة.

ولكنك قد عرفت سابقاً أنّ مرتبة الاقتضاء (التي يسمّيها بالحكم الاقتضائي أو الحكم الشأني) ومرتبة التنجّز لا ينبغي أن يعدّا من الأحكام الشرعيّة ومجعولات الشارع، لأنّ الحكم الاقتضائي والشأني ليس إلّامجرّد اقتضاء الحكم وشأنيته له وليس هذا أمراً مجعولًا، والتنجّز حكم عقلي لا حكم شرعي، فإطلاق الحكم الشرعي عليهما لا يخلو من مسامحة، فلم يبق للحكم إلّامرتبتين: مرتبة الإنشاء ومرتبة الفعليّة.

نقد كلام المحقّق الخراساني رحمه الله:

وفي كلامه مواقع للنظر:

1- إنّ ما ذكر من تفسير الحجّية بالمعذّريّة والمنجّزيّة خلاف ظاهر أدلّة حجّية الأمارات، فإن المستظهر منها هو جعل الأحكام على وفق مؤدّيات الأمارات، ويشهد لذلك فهم الفقهاء بأجمعهم وتعبيرهم في كتبهم الفقهيّة ورسائلهم العمليّة عن مفاد الأمارات بالوجوب والحرمة وغيرهما من الأحكام.

أضف إلى ذلك أنّ لحن بعض أدلّة الأمارات وتعبير الإمام عليه السلام فيها

بحكم من الأحكام الخمسة بدلًا عن التعبير بالحجّية من أقوى الأدلّة على ذلك:

منها: ما ورد في باب حجّية أمارة السوق من ما رواه فضيل وزرارة ومحمّد بن مسلم أنّهم سألوا أبا جعفر عليه السلام عن شراء اللحوم من الأسواق ولا يدري ما صنع القصّابون فقال: «كُلْ إذا كان ذلك في سوق المسلمين ولا تسأل عنه» «1».

وأيضاً ما رواه أبو نصر قال سألته عن الرجل يأتي السوق فيشتري جبّة فراء لا يدري أذكيّة هي أم غير ذكيّة أيصلّي فيها؟ فقال: «نعم ليس عليكم المسألة ...» «2».

انوار الأصول، ج 2، ص: 276

ومنها: ما ورد في باب حجّية خبر الواحد ممّا رواه حفص بن البختري عن أبي عبداللَّه عليه السلام في الرجل يشتري الأمة عن رجل فيقول: إنّي لم أطأها، فقال: «إن وثق به فلا بأس أن يأتيها» «1».

فهذه الرّوايات تعبّر عن مفاد الأمارات بالحكم (بقوله «كُل» و «يصلّي» و «يأتيها») مع أنّه بناءً على مبنى المحقّق الخراساني رحمه الله كان ينبغي أن يجيب الإمام عليه السلام في مقام الجواب بتعبير آخر من قبيل: «إذا كان حراماً فأنت معذور» مثلًا.

ولو سلّمنا عدمه بالدلالة المطابقية فلا أقل من أنّها تدلّ على حكم الترخيص بالالتزام كما هو مفاد الاصول الشرعيّة بلا ريب.

2- ما الفرق بين الفعلي التقديري والإنشائي؟ فإنّ الفعلي التقديري ليس هو إلّاالحكم الإنشائي، لأنّ في مورد الأمارة إذا لم ينقدح إرادة أو كراهة وبعث أو زجر بالنسبة إلى الحكم الواقعي فلا يتجاوز عن مرتبة الإنشاء، وهذا ما سيأتي من ما ذهب إليه شيخنا الأنصاري رحمه الله في الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري الذي لم يقبله هو (أي المحقّق الخراساني رحمه الله).

3- (وهو العمدة في الإشكال عليه) أنّ ما أجاب

به عن إشكال تفويت المصلحة والإلقاء في المفسدة من وجود مصلحة غالبة- ينافي ما ذهب إليه من بقاء الحكم الواقعي على الفعليّة لأنّ فعلية الحكم تابعة للمصلحة الغالبة الأقوى فإذا كان مؤدّى الأمارة ذا مصلحة أقوى يكون مفادها هو الحكم الفعلي، ويسقط الحكم الواقعي عن الفعلية نظير سقوط حرمة الدخول في الدار المغصوبة لإنقاذ الغريق، لأنّ المصلحة الأقوى توجد في إنقاذ الغريق، وهو رجوع إلى ما فرّ منه.

4- أنّه ليس لطريقية الحكم معنى محصّل، لأنّ الطريق إنّما هو الظنّ أو القطع لا الحكم، فالحكم الطريقي الذي أشار إليه في كلامه لا معنى له.

هذا كلّه في بيان ما اختاره المحقّق الخراساني رحمه الله في الجواب عن إشكال ابن قبّة ونقده.

2- ما نسبه في الدرر إلى استاذه المحقّق السيّد محمّد الفشاركي قدّس سرّه الشريف وحاصله: أنّ الموضوع في الحكم الظاهري غير الموضوع في الحكم الواقعي، أي أنّهما حكمان انوار الأصول، ج 2، ص: 277

على موضوعين مختلفين لا على موضوع واحد لكي يستلزم مثلًا اجتماع الضدّين أو المثلين.

توضيح ذلك: أنّه لا إشكال في أنّ الأحكام لا تتعلّق ابتداءً بالموضوعات الخارجيّة بل إنّما تتعلّق بالمفاهيم المتصوّرة في الذهن لكن لا من حيث كونها موجودة في الذهن بل من حيث إنّها حاكية عن الخارج، فالشي ء ما لم تتصوّر في الذهن لا تتّصف بالمحبوبيّة والمبغوضيّة، وهذا واضح، ثمّ إنّ المفهوم تارةً يكون مطلوباً على نحو الإطلاق واخرى على نحو التقييد، والإطلاق والتقييد عنوانان لا يجتمعان في الذهن في آنٍ واحد، فإذا فرضنا كون صلاة الجمعة حراماً بمقتضى دلالة أمارة مع أنّها واجب في الواقع فموضوع الوجوب هو صلاة الجمعة المتصوّرة على نحو الإطلاق، وأمّا موضوع الحرمة فهو صلاة الجمعة المتصوّرة على نحو

التقييد، أي صلاة الجمعة المشكوك حكمها الواقعي فهما في رتبتين متفاوتتين: رتبة التقسيمات الأوّليّة السابقة، ورتبة التقسيمات الثانويّة اللاحقة، والأوصاف المتأخّرة عن الحكم لا يمكن ادراجها في موضوعه، وحينئذٍ إذا فرضنا بعد ملاحظة اتّصاف الموضوع بكونه مشكوك الحكم تحقّق جهة المبغوضيّة فيه، فيصير مبغوضاً بهذه الملاحظة لا محالة ولا يزاحمها جهة المطلوبيّة الملحوظة في ذاته لأنّ الموضوع بتلك الملاحظة لا يكون متعقّلًا فعلًا، لأنّ تلك الملاحظة ملاحظة لذات الموضوع مع قطع النظر عن الحكم، وهذه ملاحظة مع الحكم.

فإن قلت: العنوان المتأخّر وإن لم يكن متعقّلًا في مرتبة تعلّق الذات ولكن الذات ملحوظة في مرتبة تعقّل العنوان المتأخّر، فعند ملاحظة العنوان المتأخّر يجتمع العنوانان في اللحاظ، فلا يعقل المبغوضيّة في الرتبة الثانية مع محبوبيّة الذات.

قلت: إن تصوّر ما يكون موضوعاً للحكم الواقعي الأوّلي مبني على قطع النظر عن الحكم (أي بنحو الماهيّة بشرط لا) وتصوّره بعنوان كونه مشكوك الحكم لابدّ وإن يكون بلحاظ الحكم (أي بنحو الماهيّة بشرط شي ء) ولا يمكن الجمع بين لحاظ التجرّد عن الحكم ولحاظ ثبوته «1».

أقول: وكلامه أيضاً قابل للمناقشة من جهات:

أوّلًا: من ناحية اعترافه بأنّ المفاهيم المتصوّرة في الذهن تتعلّق بها الأحكام من حيث إنّها حاكية عن الخارج- فيرد عليه أنّه لا اعتبار بما في الذهن حينئذٍ بل الاعتبار كلّه بما هو في انوار الأصول، ج 2، ص: 278

الخارج وهو المتعلّق للحبّ والبغض والإرادة والكراهة وفيه المصلحة والمفسدة لا في الذهن، وهو (أي ما في الخارج) يكون واحداً لا اثنين، وحينئذٍ يستلزم اجتماع الإرادة والكراهة في محلّ واحد، كما أنّ المفسدة والمصلحة أيضاً متعلّقهما هو الخارج، وهما لا يجتمعان في شي ء واحد خارجي، وقد مرّ نظير هذا الكلام في مبحث اجتماع الأمر

والنهي، وأجبنا عنه بهذا الجواب.

وثانياً: من ناحية قوله: «أنّ صلاة الجمعة بشرط لا بالنسبة إلى الانقسامات السابقة وبشرط شي ء بالنسبة إلى الانقسامات اللاحقة».

فيرد عليه: أنّ متعلّق الأحكام الواقعيّة كما أنّها لا تتقيّد بوجود الانقسامات اللاحقة فلا تكون بالنسبة إليها بشرط شي ء، كذلك لا تقبل التقييد بالنسبة إلى عدمها، فلا تكون بشرط لا بالنسبة إليها أيضاً، بل أنّها من قبيل اللّابشرط المقسمي، فيمكن أن يكون ذات الموضوع (وهو عنوان الصّلاة مثلًا) ملحوظة في مرتبة تعقّل العنوان المتأخّر (وإن لم يمكن ملاحظة العنوان المتأخّر في مرتبة تعقّل ذاته) فيجتمع العنوانان في اللحاظ فلا تعقل المبغوضيّة في الرتبة الثانية مع محبوبيّة الذات.

فبهذا يظهر أنّ ما ذكره أيضاً لا يكفي في حلّ مشكلة التضادّ لا في الخارج ولا في الذهن.

3- ما نسبه أيضاً في الدرر إلى المحقّق الفشاركي رحمه الله وهو «أنّ الأوامر الظاهريّة ليست بأوامر حقيقية بل هي إرشاد إلى ما هو أقرب إلى الواقعيات، وتوضيح ذلك:- على نحو يصحّ في صورة انفتاح باب العلم ولا يستلزم تفويت الواقع من دون جهة- أن نقول: إنّ انسداد باب العلم كما أنّه قد يكون عقليّاً كذلك قد يكون شرعياً، بمعنى أنّه وإن أمكن للمكلّف تحصيل الواقعيات على وجه التفصيل لكن يرى الشارع العالم بالواقعيات أنّ في التزامه بتحصيل اليقين مفسدة، فيجب بمقتضى الحكمة دفع هذا الالتزام عنه، ثمّ بعد دفعه عنه لو أحاله إلى نفسه يعمل بكلّ ظنّ فعلي من أي سبب حصل، فلو رأى الشارع بعد أن صار مالك أمر المكلّف إلى العمل بالظنّ أنّ سلوك بعض الطرق أقرب إلى الواقع من بعض آخر فلا محذور في إرشاده إليه، فحينئذٍ نقول: إمّا اجتماع الضدّين فغير لازم لأنّه مبني على

كون الأوامر الطرقيّة حكماً مولويّاً، وأمّا الإلقاء في المفسدة وتفويت المصلحة فليس بمحذور بعد ما دار أمر المكلّف بينه وبين الوقوع في مفسدة أعظم» «1».

انوار الأصول، ج 2، ص: 279

وعمدة الإشكال في هذا الطريق إنّا لا نقبل كون المجعول في الأمارات حكماً إرشاديّاً إلى ما هو أقرب إلى الواقعيات لأنّه خلاف ظاهر أدلّة حجّية الأمارات كما مرّ آنفاً. مضافاً إلى ما مرّ من فهم الفقهاء وتعبيرهم عن مفاد الأمارات بحكم مولوي من وجوب وحرمة وغيرهما.

4- ما أفاده المحقّق الحائري رحمه الله بنفسه في الدّرر، بقوله: «إنّ بطلان ذلك مبني على عدم جواز اجتماع الأمر والنهي لأنّ المورد من مصاديق ذلك العنوان فإنّ الأمر تعلّق بعنوان العمل بقول العادل مثلًا، والنهي تعلّق بعنوان آخر مثل شرب الخمر، وحيث جوّزنا الاجتماع وبيّناه في محلّه فلا إشكال هنا أيضاً، لا يقال: جواز اجتماع الأمر والنهي على تقدير القول به إنّما يكون فيما تكون هناك مندوحة للمكلّف كالأمر بالصلاة والنهي عن الغصب لا فيما ليس له مندوحة، وما نحن فيه من قبيل الثاني، لأنّ العمل بمضمون خبر العادل مثلًا يجب عليه معيّناً حتّى في مورد يكون مؤدّى الخبر وجوب شي ء مع كونه حراماً في الواقع بخلاف الصّلاة لعدم وجوب تمام أفرادها معيّناً بل الواجب صرف الوجود الذي يصدق على الفرد المحرم وعلى غيره، لأنّا نقول: اعتبار المندوحة في تلك المسألة إنّما كان من جهة عدم لزوم التكليف بما لا يطاق، وفيما نحن فيه لا يلزم التكليف بما لا يطاق من جهة عدم تنجّز الواقع، فلم يبق في البين إلّاقضية اجتماع الضدّين والمثلين وهو مدفوع بكفاية تعدّد الجهة» «1».

ثمّ إستشكل على هذا الطريق بما حاصله: إنّ ما نحن فيه ليس من

باب تعدّد الجهة والعنوان حتّى يكون من باب اجتماع الأمر والنهي لأنّ جعل الخبر طريقاً إلى الواقع معناه أن يكون الملحوظ في عمل المكلّف نفس العناوين الأوّليّة، مثلًا لو قام الخبر على وجوب صلاة الجمعة في الواقع فمعنى العمل على طبقه أن يأتي بها على أنّها واجبة واقعاً، فيرجع إيجاب العمل به إلى إيجاب الصّلاة على أنّها واجبة واقعاً، فلو فرضنا كونها محرّمة في الواقع يلزم كون الشي ء الواحد من جهة واحدة محرّماً وواجباً، فليس من جزئيات مسألة اجتماع الأمر والنهي التي قلنا بكفاية تعدّد الجهة فيه.

أقول: ما أورده على هذا الطريق وارد جدّاً، إلّاأنّ هنا إشكالًا آخر يرد على ردّه، وهو الذي نقله في ضمن كلامه (أي ما ذكره في حكم المندوحة) وهو أنّه إن كان المراد من عدم تنجّز

انوار الأصول، ج 2، ص: 280

الواقع في جوابه كونه في مرتبة الإنشاء فقط فلا حاجة حينئذٍ إلى التمسّك بذيل باب اجتماع الأمر والنهي وتعدّد الجهتين لعدم المنافاة بين الحكم الإنشائي والحكم الفعلي، وإن كان المراد كون الواقع فعلياً أيضاً فلا وجه لعدم كونه منجزاً لأنّ عدم التنجّز إنّما يكون لمانع عن الفعليّة كالعجز والجهل، والمفروض عدمهما.

5- هو ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله وحاصله: أنّ الأحكام الظاهريّة على ثلاثة أقسام:

الأمارات والاصول التنزيلية نحو الاستصحاب، والاصول غير التنزيلية، أمّا في الأمارات: فيرتفع الإشكال بأنّ الشارع لم يجعل فيها غير صفة المحرزيّة والوسطية في الإثبات شيئاً فلم يجعل فيها حكماً حتّى ينافي الحكم الواقعي وذلك لأنّ الأمارات إمضائيّة وليست عند العقلاء أحكام تكليفية ولازمه أن لا يكون بعد إمضاء الشرع للأمارات تكليفة ظاهريّة في مواردها.

فحال الأمارات حال العلم الوجداني في أنّه ليس في موردها أحكام تكليفية.

وأمّا الاصول التنزيلية:

فالمجعول فيها هو الوسطية في الإثبات من حيث الجري العملي مع أخذ الشكّ في موضوعها خلافاً للأمارات.

وأمّا الاصول غير التنزيلية: فليست ناظرة إلى الواقع أصلًا فلا يمكن أن يكون المجعول الوسطية في الإثبات بل لابدّ فيها من الالتزام بجعل الأحكام التكليفية فيها فلتوهّم لزوم اجتماع الضدّين حينئذٍ مجال، وطريق دفعه أنّ الأحكام التكليفية فيها متأخّرة رتبة من التكاليف الواقعيّة فهي متفرّعة عليها وليس بينهما منافاة أصلًا فلا يكون بينهما تضادّ، وهذا مراد سيّد أساتيذنا العلّامة الشيرازي قدس سره من عدم كون الحكم الظاهري منافياً للواقع لترتّبه عليه «1».

نقد كلام المحقّق النائيني رحمه الله:

أقول: إنّ كلامه قابل للمناقشة بجميع أقسامه:

أمّا القسم الأوّل: فلأنّ القطع أمر تكويني غير قابل للجعل كالبرودة والحرارة وليس من قبيل الملكيّة والزوجيّة وغيرهما من المجعولات الاعتباريّة، فلا يمكن للشارع أن يجعل ما

انوار الأصول، ج 2، ص: 281

ليس بعلم علماً، فإن كان المراد من جعل صفة المحرزيّة إلغاء احتمال الخلاف وجعل صفة العلم تكويناً فهو محال، وإن كان المراد الجري العملي على طبق مؤدّيات الأمارات كما يظهر من بعض كلماته في المقام فهذا معناه إيجاب الجري العملي على وفق الأمارة، وليس هذا إلّاجعل وجوب العمل على مؤدّى الأمارة، وهذا حكم تكليفي ظاهري.

وأمّا ما أفاده من أنّ حجّية الأمارات ليست بشي ء إلّاإمضاء لطريق العقلاء، والعقلاء ليس لهم حكم على طبق مؤدّى الأمارة بل يعدّونها فقط طريقاً إلى الواقع.

ففيه: أنّ العقلاء أيضاً إذا علموا مثلًا بأنّ هذا ليس لزيد من طريق أخبار خبر الثقة مثلًا يحكمون بأنّه لزيد، ويكون مؤدّى الأمارة عندهم حكماً من الأحكام وقانوناً من القوانين، فكيف لم يكن عندهم أحكام ظاهريّة قانونيّة؟ وعدم وجود التكاليف المولويّة بينهم ليس دليلًا على عدم وجود التكاليف القانونية.

وأمّا القسم الثاني: فلأنّ

الاصول موضوعها الشكّ في الحكم الواقعي، ولا معنى لكون الشكّ طريقاً إلى الواقع، وحينئذٍ كيف يمكن جعل الشارع الوسطيّة في الإثبات والطريقيّة إلى الواقع لما ليس طريقاً أبداً؟ ولو قلنا أنّ الاستصحاب لا يخلو من طريقيّة إلى الواقع فلازمه عدّ الاستصحاب من الأمارات لا من الاصول، وهو خلاف المفروض.

وأمّا القسم الثالث: ففيه: أنّ تأخّر الموضوع والتفرّع لا يحلّ المشكلة في المقام، لأنّه وإن كان الموضوع متعدّداً في الذهن إلّاأنّ الخارج واحد، والمفروض أنّ الصورة الذهنيّة مأخوذة في الموضوع بما هي حاكية عن الخارج، فيلزم حينئذٍ اجتماع حكمين فعليين على محلّ واحد، ويعود الإشكال.

6- ما أفاده في تهذيب الاصول وحاصله بالنسبة إلى شبهة التضادّ «أنّهم عرفوا الضدّين بأنّهما الأمران الوجوديان غير المتضائفين المتعاقبان على موضوع واحد، لا يتصوّر اجتماعهما فيه، بينهما غاية الخلاف، وعليه فما لا وجود له لا ضدّية بينه وبين شي ء آخر كما لا ضدّية بين أشياء لا وجود لها كالاعتباريات التي ليس لها وجود إلّافي وعاء الاعتبار ... والإنشائيات وبالتبع الأحكام التكليفيّة كلّها من الامور الاعتباريّة لا تحقّق لها إلّافي وعاء الاعتبار» «1».

انوار الأصول، ج 2، ص: 282

أقول: لو كان المراد من عدم وجود التضادّ في الأحكام التكليفيّة عدم التضادّ في مرحلة الإنشاء فلا بأس به، ولكن المدّعى ليس هو اجتماع الضدّين في تلك المرتبة بل أنّه بالنسبة إلى مرتبة الفعليّة، وفي هذه المرتبة وإن كان الإنشاء أو الحكم أمراً اعتباريّاً ولكن له مبادٍ ولوازم حقيقية، حيث إن الحكم الفعلي لابدّ فيه من وجود مصلحة أو مفسدة في متعلّقه كما يحتاج إلى إنقداح إرادة أو كراهة في نفس المولى وبعث أو زجر، ولا يخفى أنّ المصلحة أو المفسدة والإرادة أو الكراهة أمران حقيقيان لهما

وجودان في عالم التكوين كما مرّت الإشارة إليه حينما تعرّضنا لمعنى الإمكان في هذا المبحث في جواب ما اختاره المحقّق النائيني رحمه الله من الإمكان التشريعي.

بيان المختار في المقام:

المختار في حلّ المشكلة هو الطريق السابع: وهو ما أفاده الشيخ الأعظم الأنصاري رحمه الله في رسائله، ويرجع إليه كلام كثير من الأعلام، وإليك نصّ عبارته: «أنّه (ابن قبّة) إن أراد إمتناع التعبّد بالخبر في المسألة التي انسدّ فيها باب العلم بالواقع فلا يعقل المنع عن العمل به فضلًا عن امتناعه، وإن أراد الإمتناع مع انفتاح باب العلم والتمكّن منه في مورد العمل بالخبر فنقول: إنّ التعبّد بالخبر حينئذٍ بل بكلّ أمارة غير علميّة يتصوّر على وجهين:

الوجه الأوّل: أن يكون ذلك من باب مجرّد الكشف عن الواقع فلا يلاحظ في التعبّد بها إلّا الايصال إلى الواقع، فلا مصحلة في سلوك هذا الطريق وراء مصلحة الواقع، والأمر بالعمل في هذا القسم ليس إلّاللإرشاد، وهذا الوجه غير صحيح مع علم الشارع العالم بالغيب بعدم دوام موافقة هذه الأمارة للواقع.

الوجه الثاني: أن يكون ذلك لمدخلية سلوك الأمارة في مصلحة العمل بها وإن خالف الواقع فإنّ العمل على طبق تلك الأمارة يشتمل على مصلحة فأوجبه الشارع، وتلك المصلحة لابدّ أن تكون ممّا يتدارك بها ما يفوت من مصلحة الواقع وإلّا كان تفويتاً لمصلحة الواقع وهو قبيح، والمراد بالحكم الواقعي الذي يلزم بقائه هو الحكم المتعيّن المتعلّق بالعباد الذي يحكي عنه الأمارة ويتعلّق به العلم أو الظنّ وإن لم يلزم امتثاله فعلًا في حقّ من قامت عنده أمارة على خلافه، ويكفي في كونه الحكم الواقعي أنّه لا يعذر فيه إذا كان عالماً به أو جاهلًا مقصّراً.

والحاصل: أنّ المراد بالحكم الواقعي هي مدلولات الخطابات الواقعيّة

غير المقيّدة بعلم انوار الأصول، ج 2، ص: 283

المكلّفين ولا بعدم قيام الأمارة على خلافها، ولها آثار عقليّة وشرعيّة يترتّب عليها عند لاعلم بها أو قيام أمارة حكم الشارع بوجوب البناء على كون مؤدّاها هو الواقع، نعم هذه ليست أحكاماً فعلية بمجرّد وجودها الواقعي» (انتهى ملخّصاً).

فالمستفاد من كلامه هذا بل عصارة بيانه في المقام أمران:

أحدهما: وجود مصلحة في سلوك الأمارة يتدارك بها فقدان المصلحة الواقعيّة في صورة الخطأ.

ثانيهما: أنّ الحكم الواقعي الفعلي ينقلب إنشائيّاً إذا قامت أمارة معتبرة على خلافه ما- دام لم ينكشف خلافها.

أقول: يمكن أن يكون المراد من المصلحة السلوكيّة في كلامه هو مصلحة التسهيل وعدم لزوم الحرج الشديد واختلال النظام من اعتبار حصول القطع في صورة الإنفتاح واعتبار الاحتياط التامّ في صورة الانسداد بل عدم لزوم رغبة الناس عن الدين الحنيف وخروجهم من الدين أفواجاً، وإن شئت فاختبر ذلك بالعمل بالقطع يوماً وليلة واحدة، لا تأكل إلّا الحلال القطعي ولا تلبس ولا تشرب ولا تسكن إلّاذلك، ولا تصلّي إلّافي الحلال والطاهر الواقعيين، ولا تعتمد على سوق مسلم ولا على يده ولا غير ذلك من الأمارات الظنّية.

ولا يخفى أنّه ترتفع بهاتين النكتتين جميع المحاذير المتوهّمة في الأحكام الظاهريّة:

أمّا المحذور الأوّل (وهو لزوم اجتماع الضدّين أو المثلين) فلأنّه لا منافاة بين الحكم الفعلي والإنشائي، والمراد من الإنشائي ما يكون فيه مصلحة أو مفسدة لكن يمنع عن فعليته وعن صدور البعث أو الزجر مانع أو مصلحة أقوى.

وأمّا المحذور الثاني (أي لزوم اجتماع المصلحة والمفسدة في متعلّق واحد) فلأنّه لا مصلحة في متعلّق الأمارة حتّى يلزم اجتماع المصلحة والمفسدة في محلّ واحد.

وأمّا المحذور الثالث (أي لزوم اجتماع الإرادة والكراهة في متعلّق واحد) فأوّلًا: إنّ المتعلّق للإرادة والكراهة

متعدّد، فإحديهما متعلّقة بالفعل والاخرى متعلّقة بنفس السلوك لا بمتعلّق الأمارة، وثانياً: لو سلّمنا كون المتعلّق واحداً إلّاأنّ إحديهما تقع تحت شعاع الاخرى فتسقط عن الفعليّة وترجع إلى مقام الإنشاء لأنّ المفروض أنّ مصلحته أعمّ.

وأمّا الرابع (أي لزوم التكليف بما لا يطاق) فلأنّه إنّما يلزم فيما إذا كان الحكم الواقعي أيضاً

انوار الأصول، ج 2، ص: 284

فعلياً مع أنّ المفروض كونه إنشائيّاً.

وأمّا المحذور الخامس (أي تفويت المصلحة والإلقاء في المفسدة) فلأنّ مصلحة السلوك أهمّ فتجبر بها ما فاتت من المصلحة الواقعيّة.

إن قلت: «إنّ ما هو المجعول واقعاً طبقاً للمصالح والمفاسد ويكون مشتركاً بين العالم والجاهل وتدلّ الأدلّة على اشتراكه بينهما وإنحفاظه في مرتبة الجهل به- هو الحكم الفعلي الذي لو وصل إلى المكلّف كان داعياً له نحو الفعل أو الترك، وإنكار مثل هذا الحكم في ظرف الجهل بالحكم الواقعي والقول بأنّ الموجود في هذا الظرف مجرّد الإنشاء فقط تصويب لا تقول به الإماميّة» «1».

قلت: الباطل من التصويب على قسمين: أحدهما: محال عقلي، والآخر: محال شرعي، أمّا المحال العقلي فهو أن يقال: إنّ اللَّه تعالى يجعل الحكم بعد اجتهاد المجتهد مع خلوّ الواقع عن الحكم قبله فإنّ هذا محال عقلًا لأنّ معناه أنّ المجتهد يجتهد ويتفحّص عن شي ء لا وجود له في الواقع والخارج، ولا إشكال في أنّ لازمه الدور المحال، وأمّا المحال الشرعي فهو أن يقال: إنّ اللَّه يجعل بعدد آراء المجتهدين أحكاماً شرعيّة، وهذا باطل إجماعاً عند أصحابنا رضوان اللَّه عليهم، وأمّا لو قلنا بوجود حكم إنشائي مشترك بين جميع المكلّفين ولكنّه بالنسبة إلى بعضهم بلغ حدّ الفعلية وبالنسبة إلى الباقين بقى على حاله فلا دليل على كونه من التصويب المحال بل الدليل على خلافه.

إن قلت:

ما الفائدة في جعل حكم وإنشائه من دون أن يكون فعليّاً على المكلّفين؟

قلنا: فائدة هذا الحكم هي فائدة المقتضي في جميع المقامات، فإذا اجتمعت فيه شرائط الفعلية وانتفت الموانع صار فعليّاً، ولذلك لا يكون الجاهل المقصّر في الفحص اجتهاداً أو تقليداً معذوراً، ومن هنا أيضاً يجب على المكلّف الإعادة بعد كشف الخلاف (بناءً على القول بعدم الإجزاء).

ثمّ إنّه في تهذيب الاصول أورد على المصلحة السلوكيّة إشكالات أربع:

أحدها: «أنّ حجّية أمارة في الشرع ليس إلّاإمضاء ما كان في يد العقلاء في معاشهم انوار الأصول، ج 2، ص: 285

ومعادهم، من غير أن يزيد عليه شيئاً أو ينقص منه شيئاً، ومن المعلوم أنّ اعتبار الأمارات لأجل كونها طريقاً إلى الواقع فقط من دون أن يترتّب على العمل بها مصلحة وراء إيصالها إلى الواقع، فليس قيام الأمارة عند العقلاء محدثاً للمصلحة لا في المؤدّى ولا في العمل بها وسلوكها، وعليه فالمصلحة السلوكيّة لا أساس لها».

وفيه: أنّ للعقلاء أيضاً في تشريعاتهم وتقنيناتهم مصلحة تتعلّق بسلوك الأمارات بلا إشكال لأنّ عدم حجّية الظنّ في ما بينهم أيضاً يوجب الحرج الشديد واختلال نظامهم ومعاشهم الدنيويّة ولا نعني بالمصلحة السلوكيّة إلّاهذا، فالإنسان إذا لم يعتمد على اليد كالدليل على الملكية وعلى قول المشهور، وكذا ظواهر الألفاظ وخبر الثقة وغير ذلك من الأمارات العقلائيّة لا يقدر على أن يعيش ولو شهراً إلّافي حرج شديد وضيق أكيد.

ثانيهما: ما حاصله: أنّه لا يتصوّر لسلوك الأمارة وتطرّق الطريق معنى وراء العمل على طبق مؤدّاها، فلا يتصوّر له مصلحة وراء المصلحة الموجودة في الإتيان بالمؤدّى.

وإن شئت قلت: الإتيان بالمؤدّى والسلوك على طبق الأمارة من المفاهيم المصدريّة النسبية لا يعقل أن تصير متّصفة بالمصلحة أو المفسدة، بل المصلحة والمفسدة قائمتان

بنفس الخمر والصّلاة مثلًا.

وفيه أيضاً: إنّ المصلحة السلوكيّة ليس معناها أنّ صلاة الجمعة مثلًا (التي يدلّ خبر الواحد على وجوبها) تصير ذا مصلحتين بالسلوك بل المقصود أنّ جعل الحجّة للأمارة وجعلها طريقاً إلى الواقع يوجب التسهيل وعدم رغبة الناس عن الدين وشبه ذلك.

ثالثها: «إنّ ظاهر عبارة الشيخ وشارح مراده أنّ المصلحة قائمة بالتطرّق والسلوك بلا دخالة للواقع في حدوث تلك المصلحة، وعليه فلو أخبر العادل عن الامور العادية لزم العمل على قوله في هذه الموارد أيضاً لأنّه ذا مصلحة سلوكيّة، وهو كما ترى».

أقول: ظاهر هذه العبارة أنّ وجود المصلحة السلوكيّة في الامور الشرعيّة يستلزم وجودها في الامور العادية أيضاً (لأنّ المفروض أنّ حجّية الأمارات إمضاء لطريق العقلاء، والمصلحة قائمة بنفس السلوك بلا دخالة للواقع في حدوث تلك المصلحة) مع أنّه كما ترى، أي لا معنى لحدوث المصلحة في سلوك الأمارة في الامور العادية.

والجواب عنه واضح، لأنّ المراد من طريقة العرف والعقلاء الممضاة عند الشارع هي انوار الأصول، ج 2، ص: 286

طريقيتهم في دائرة القوانين العرفيّة العقلائيّة، ولا شكّ في وجود المصلحة السلوكيّة فيها أيضاً كما مرّ آنفاً، لأنّ اعتبار حصول القطع عندهم أيضاً يوجب لزوم الاختلال في نظامهم الاجتماعي ومعاشهم.

رابعها: «أنّ لازم تدارك المصلحة الواقعيّة بالمصلحة السلوكيّة هو الاجزاء وعدم لزوم الإعادة والقضاء إذ لو لم يتدارك مصلحة الواقع لزم قبح الأمر بالتطرّق، ولو تدارك سقط الأمر، والمفروض أنّ المصلحة القائمة بتطرّق الطريق ليست مقيّدة بعدم كشف الخلاف، فما يظهر من التفصيل من الشيخ الأعظم رحمه الله وبعض أعاظم العصر ليس في محلّه» «1».

وفيه أيضاً: إنّ ما يتصوّر من المصلحة في الأمارات على نوعين: تارةً هي مصلحة تقوم مقام المصلحة الواقعيّة فإشكاله حينئذٍ وارد، فلا بدّ

من القول بالإجزاء مطلقاً سواء انكشف الخلاف أو لم ينكشف، واخرى ليست هي مصلحة تقوم مقامها ولكن في نفس الحال تكون أهمّ منها نظير العثور على الكنز لمن يحفر البئر للوصول إلى الماء، مع أنّها لا تقوم مقامها أصلًا ولا يرتفع بها الظمأ، ومن هذا القبيل مصلحة التسهيل وعدم خروج الناس عن الدين في المقام، وحينئذٍ لو انكشف الخلاف وظهرت المصلحة الواقعيّة لابدّ من إحرازها والحصول عليها بالإعادة أو القضاء على القول بعدم الاجزاء.

والعجب من قوله أخيراً: «والمفروض أنّ المصلحة القائمة بتطرّق الطريق ليست مقيّدة بعدم كشف الخلاف» لأنّه ليس في البين إطلاق حتّى يتمسّك به ويستفاد منه وجود المصلحة في السلوك في كلتا الصورتين بل الدليل في المقام هو حكم العقل والقدر المتيقّن منه صورة عدم انكشاف الخلاف.

بقى هنا شي ء: وهو أنّه قد ظهر ممّا ذكرنا أنّه لا فرق في إمكان الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي ورفع المحاذير المتوهّمة بين الأمارات والاصول فنقول في موارد الاصول العمليّة أيضاً: أنّ الحكم الواقعي إنشائي والظاهري (أي مفاد الأصل) فعلي مع وجود المصلحة في سلوكها ومن دون فرق بين التنزيلية منها وغير التنزيليّة.

هذا تمام الكلام في الأمر الثاني (أي في إمكان التعبّد بالظنّ).

الأمر الثالث: في تأسيس الأصل في المسألة
اشارة

إنّ الأمارة الظنّية قد يعلم حجّيتها وقد يعلم عدم حجّتها، وقد يقع الشكّ فيها فإذا وقع الشكّ، فهل الأصل حجّيتها إلّاما خرج بالدليل أو العكس، أي أنّ الأصل عدم حجّيتها إلّاما خرج؟

لا خلاف في أنّ الأصل هو الثاني، أي عدم الحجّية، إنّما الخلاف في طريق الاستدلال عليه، فذكر شيخنا الأعظم الأنصاري رحمه الله له طريقاً، وللمحقّق الخراساني رحمه الله طريق آخر، فاستدلّ الشيخ رحمه الله بأنّ أصالة حجّية الظنّ معناها جواز الاستناد إلى الظنّ

والالتزام بكون مؤدّاه حكم اللَّه في حقّه، مع أنّ هذا الاستناد عند الشكّ حرام بالأدلّة الأربعة ما لم يدلّ دليل على جوازه.

وقال المحقّق الخراساني رحمه الله تضعيفاً لذلك ما ملخّصه: أنّ صحّة الالتزام بما أدّى إليه الظنّ من الأحكام وصحّة نسبته إليه تعالى لا دخل لهما بمسألة الحجّية كي إذا لم تصّح الالتزام والنسبة كشف ذلك آناً عن عدم الحجّية، وذلك كما في الظنّ على الانسداد والحكومة فإنّه حجّة عقلًا كالعلم في حال الانفتاح مع عدم صحّة الالتزام بما أدّى إليه وعدم صحّة نسبته إليه تعالى، إذ المفروض عدم القول بالكشف وأنّ الظنّ طريق منصوب من الشرع، بل هو حجّة عقلًا يجب العمل على طبقه والحركة على وفقه، أي يقبح عقاب العبد على أزيد من ذلك، ولو فرض صحّة الالتزام والنسبة فيما شكّ في اعتباره لم يُجد في إثبات حجّيته ما لم يترتّب عليه آثار الحجّية من المنجّزيّة والمعذّريّة، ومع فرض ترتّب آثار الحجّية لم يضرّ عدم صحّتهما كما عرفت في الظنّ على الانسداد والحكومة فالمدار في الحجّية وعدمها على ترتّب آثارها وعدم ترتّبها لا على صحّة الالتزام والنسبة وعدمهما.

أقول: إنّه إشكال وارد في بدء النظر، بل يمكن تأييده بأنّ مسألة صحّة الإسناد والالتزام من الأحكام الفرعيّة الفقهيّة، ومسألة الحجّية مسألة اصوليّة لا ربط بينهما، ولكن عند الدقّة والتأمّل يمكن الجواب عنه والدفاع عن مقالة الشيخ قدس سره بأنّ مراده من صحّة الإسناد والالتزام وعدمها هو مدلولها الالتزامي أي الحجّية، حيث إن الحجّية الشرعيّة تلازم جواز الإسناد والالتزام، والبحث في الحجّية الشرعيّة لا الحجّية العقليّة، وطرح المسألة بهذا النحو وإن كان يجعلها من المسائل الفقهيّة لكن تثبت به الحجّية آناً.

وإن شئت قلت: أنّ صحّة الالتزام

والنسبة وإن لم يكونا من آثار الحجّية لما عرفت من انوار الأصول، ج 2، ص: 288

جواز انفكاك الحجّة عنهما كما في الظنّ الانسدادي على الحكومة ولكن لا يكاد يجوز تحقّقهما في غير الحجّة، فليس كلّ حجّة ممّا صحّ الالتزام بكون مؤدّاه حكم اللَّه وصحّ نسبته إليه تعالى، ولكن كلّما صحّ الالتزام بكون مؤدّاه حكم اللَّه وصحّ نسبته إليه تعالى كان حجّة قطعاً.

أضف إلى ذلك أنّه لا حاجة بناءً على مبنى المحقّق الخراساني رحمه الله في تفسير الحجّية إلى التمثيل بالظنّ الانسدادي على الحكومة، لأنّه بناءً على ذلك المبنى في تمام الحجج الشرعيّة لا يجوز الإسناد والالتزام لأنّ الحجّية عنده بمعنى المنجّزيّة والمعذّريّة، وهما في الواقع قضيتان شرطيتان، أي لو وافق مؤدّى الأمارة الواقع كان منجزاً ولو خالفه كان عذراً، وليستا حاكيتين عن حكم واقعي أو ظاهري حتّى يصحّ الإسناد، فظهر أنّ مآل الطريقين إلى أمر واحد.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني رحمه الله استدلّ للمسألة بالضرورة فقال: «ضرورة أنّه بدونه لا يصحّ المؤاخذة على مخالفة التكليف بمجرّد إصابته ولا يكون عذراً لدى مخالفته مع عدمها ولا يكون مخالفته تجرّيّاً ولا يكون مخالفته بما هي موافقة انقياداً».

ومقصوده من الضرورة هنا هو الضرورة العقليّة والبداهة الوجدانيّة، وهو كذلك، لأنّ الوجدان حاكم على عدم ترتّب آثار الحجّية على أمارة ما لم تتّصف بالحجية الفعليّة في مقام الإثبات.

وأمّا شيخنا الأنصاري رحمه الله فاستدلّ لحرمة الإسناد والإلزام التي يستفاد منها عدم الحجّية بالدلالة الالتزاميّة كما مرّ بالأدلّة الأربعة وقال: «التعبّد بالظنّ الذي لم يدلّ على التعبّد به دليل، محرّم بالأدلّة الأربعة ويكفي من الكتاب قوله تعالى: «قُلْ أَاللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ» دلّ على أنّ ما ليس بإذن من اللَّه من

إسناد الحكم إلى الشارع فهو افتراء، ومن السنّة قوله صلى الله عليه و آله في عداد القضاة من أهل النار «رجل قضى بالحقّ وهو لا يعلم» «1»، ومن الإجماع ما ادّعاه الفريد البهبهاني في بعض رسائله من كون عدم الجواز بديهيّاً عند العوام فضلًا عن العلماء، ومن العقل تقبيح العقلاء من يتكلّف من قبل مولاه بما لا يعلم بوروده من المولى ولو كان جاهلًا مع التقصير».

انوار الأصول، ج 2، ص: 289

أقول: أمّا الإجماع فلا يخفى أنّه في مثل المقام مدركي يرجع إلى سائر الأدلّة فلا اعتبار به مستقلًا، وأمّا السنّة فقد نوقش فيها بأنّ مقام القضاء مقام خاصّ، وللشارع اهتمام خاصّ به، فيكون الدليل أخصّ من المدّعى، كما ناقش فيها في تهذيب الاصول بأنّ مقام القضاء مقام إنشاء الحكم لا إسناده إلى اللَّه تعالى، أي أنّ القاضي إنّما يقول: «حكمت وقضيت بكذا وكذا» ولا يقول: «اللَّه يقول كذا وكذا» «1».

لكن يرد عليه (على مناقشة تهذيب الاصول): أنّ القضاء إنشاء يلازم الإخبار عن الشارع، لأنّ القاضي قام على منصب القضاء الشرعي، وكأنّه يقول: أنّي أحكم بكذا وكذا لأنّي من قضاة الشرع ومنصوباً من قبل الشارع، فإنشاؤه حينئذٍ لا ينفكّ عن الإخبار.

ولكن الأنسب والأولى للشيخ قدس سره أن يستدلّ بما ورد في نفس الباب (أي الباب 4 من أبواب صفات القاضي) من دون أن يكون مختصّاً بباب القضاء، وهي ثلاث روايات:

أوّلها: ما رواه زياد بن أبي رجاء عن أبي جعفر عليه السلام قال: «ما علمتم فقولوا: وما لم تعلموا فقولوا: اللَّه أعلم، أنّ الرجل ينتزع الآية يخرّ فيها أبعد ما بين السماء» «2».

ثانيها: ما رواه مفضّل بن فريد (يزيد) قال: قال أبو عبداللَّه عليه السلام: «أنهاك عن خصلتين

فيهما هلك الرجال: أنهاك أن تدين اللَّه بالباطل وتفتي الناس بما لا تعلم» «3».

ثالثها: ما رواه عبدالرحمن بن الحجّاج قال: قال لي أبو عبداللَّه عليه السلام: «إيّاك وخصلتين ففيهما هلك من هلك: إيّاك أن تفتي الناس برأيك أو تدين بما لا تعلم» «4».

وأمّا دليل العقل فهو شبيه بما استدلّ به المحقّق الخراساني رحمه الله، يعني ضرورة العقل والوجدان، وعلى أي حال فقد ظهر ممّا ذكر أنّ الأصل هو عدم حجّية الظنّ إلّاما خرج بالدليل.

انوار الأصول، ج 2، ص: 290

كلام في التشريع:

ثمّ إنّه لمّا انتهى الكلام إلى هنا ينبغي البحث عن حقيقة التشريع وأنّه هل هو عبارة عن الالتزام القلبي أو مجرّد الإسناد إلى اللَّه تعالى مطلقاً؟ فنقول هنا امور ثلاثة لابدّ من البحث فيها:

الأوّل: في حقيقة التشريع.

الثاني: في الدليل على حرمته ..

الثالث: في أنّ المحرّم هل هو خصوص التديّن والتعبّد، أو يسري القبح إلى الفعل المتشرّع به أيضاً فيصير الفعل الخارجي قبيحاً عقلًا وحراماً شرعاً؟

أمّا الأمر الأوّل: فنقول: إنّ حقيقة التشريع ومعناه ادخال ما ليس من الدين في الدين بحسب الاعتقاد القلبي وهو غير الإسناد إلى اللَّه تعالى، والنسبة بينهما هي العموم المطلق، فالمعروف بين العلماء أنّ حقيقة التشريع تصدّق في الوحدة أيضاً بمجرّد بناء القلب من دون الإظهار والإسناد، كما إذا صام يوم عيد الفطر بنيّة استحبابه من قبل اللَّه تعالى من دون أن يسندها في محضر غيره إلى اللَّه فيتحقّق حينئذٍ التشريع من دون تحقّق الإسناد الذي هو نوع من الإخبار.

ثّم إنّه هل التشريع يصدق في صورة الشكّ أيضاً؟ فإذا شككنا مثلًا في وجوب سجدتي السهو، فهل يصدق التشريع إذا أتى بهما بنيّة الوجوب أو لا يصدق، بل الصادق حينئذٍ مجرّد التجرّي؟

الصحيح عندنا هو الثاني،

لأنّ المسلّم من حرمة التشريع هو إدخال ما ليس من الدين في الدين اعتقاداً، وإن كان المعروف عند العلماء أنّ التديّن والاعتقاد بالمشكوك فيه أيضاً تشريع محرّم.

وكيف كان، فالمعروف أنّ التشريع عبارة عن الالتزام القلبي كالالتزام قلباً بأنّ هذا واجب أو حرام ولذا يقال: لا يجوز إتيان الذكر الفلان بقصد الورود، أو يقال: يجوز إتيان الذكر الفلان بقصد الرجاء.

لكن قد أورد بعض الأعاظم على هذا إشكالًا حاصله: «أنّ الالتزام الجزمي بما شكّ كونه من المولى أمر ممتنع، وكيف يمكن التعبّد الحقيقي بما لا يعلم أنّه عبادي، فإنّ الالتزامات انوار الأصول، ج 2، ص: 291

النفسانيّة ليست واقعة تحت اختيار النفس حتّى توجدها في أي وقت شاء» «1».

أقول: الحقّ أن التعبّد الحقيقي بما لا يعلم أنّه عبادي أمر ممكن كما هو المعروف في الألسنة والكتب الفقهيّة لأنّه من قبيل قوله تعالى «وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ» فلا إشكال في أنّ فرعون مثلًا كان كافراً باللَّه تعالى مع علمه به، وليس هذا إلّاأنّه بنى في قلبه والتزم قلباً بأنّه ليس في العالم إله يسمّى ب «اللَّه»، هذا في الاصول الاعتقاديّة، وكذلك في الفروع فيمكن الالتزام القلبي بأنّ الشي ء الفلان حرام مع العلم بحلّيته.

وإن شئت قلت: ليس التشريع هو العلم بل هو اعتقاد وعقد في القلب، والاعتقاد غير العلم لأنّ العلم، هو مجرّد الإدراك، وأمّا الاعتقاد فإنّه من عقد القلب والبناء القلبي، وكم من شي ء يعلمه الإنسان (أي يدركه) ولكن لا يقبله ولا يلتزم به في قلبه وبالعكس.

وبعبارة اخرى: عقد القلب هو التسليم الباطني تجاه شي ء، علم به أو لم يعلم، كما يدلّ عليه ما مرّ سابقاً، وهو ما رواه إبراهيم بن أبي محمود عن الرضا عليه السلام في حديث طويل

قال: أخبرني أبي عن آبائه عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: «من أصغى إلى ناطق فقد عبده، ... إلى أن قال: فإنّ أدنى ما يخرج به الرجل عن الإيمان أن يقول للحصاة، هذه نواة ثمّ يدين بذلك ويبرأ ممّن خالفه، ياابن أبي محمود احفظ ما حدّثتك به فقد جمعت لك فيه خير الدنيا والآخرة» «2».

هذا كلّه في الأمر الأوّل.

أمّا الأمر الثاني: وهو الدليل على حرمة التشريع، فيدلّ عليها أوّلًا: جميع ما يدلّ على حرمة البدعة من الإجماع والآيات والأخبار الواردة في باب البدعة وتحريمها لأنّ التشريع مصداق من مصاديقها.

وثانياً: حكم العقل بقبح التشريع، لأنّ من المستقلّات العقليّة أنّ التشريع نوع تلاعب بأحكام المولى ومخالف لحقّ الطاعة ورسم العبوديّة.

أمّا الأمر الثالث: وهو أنّ المحرّم هل هو خصوص التديّن والالتزم القلبي أو يسري قبح التشريع إلى الفعل المتشرّع به بحيث يصير الفعل قبيحاً عقلًا وحراماً شرعاً؟ فذهب المحقّق النائيني رحمه الله إلى الثاني وقال: «إنّه من الممكن أن يكون القصد والداعي من الجهات والعناوين انوار الأصول، ج 2، ص: 292

المغيّرة لجهة حسن العمل وقبحه فيكون الالتزام والتعبّد والتديّن بعمل لا يعلم التعبّد به من الشارع موجباً لانقلاب العمل عمّا هو عليه وتطرأ عليه بذلك جهة مفسدة تقتضي قبحه عقلًا وحرمته شرعاً، وظاهر قوله: «رجل قضى بالحقّ وهو لا يعلم» حرمة القضاء واستحقاق العقوبة عليه، فيدلّ على حرمة نفس العمل» «1».

أقول: كلامه في محلّه لأنّ أدلّة حرمة التشريع لا تعمّ مجرّد الالتزام القلبي من دون تحقّق عمل في الخارج، وبعبارة اخرى: ليس التشريع من قبيل اصول الدين التي تتقوّم بنفس الاعتقاد في القلب بل القدر المتيقّن من الأدلّة هو الفعل الخارجي الناشي ء من الالتزام القلبي، وإن

شئت فعبّر «الفعل الخارجي مع هذه النيّة».

انوار الأصول، ج 2، ص: 293

حجّية الأمارات الظنّية
1- حجّية الظواهر

بعد أن ثبت إمكان التعبّد بالظنّ وبعد ثبوت أنّ الأصل هو عدم حجّية الظنّ إلّاما خرج، تصل النوبة إلى البحث عمّا وقع التعبّد به خارجاً، أي ما خرج من الظنون عن هذا الأصل، فنقول: من جملة الظنون التي خرجت عن تحت أصالة حرمة العمل بالظنّ ودلّ الدليل على حجّيتها ظواهر الألفاظ مطلقاً من دون اختصاصها بالألفاظ الواردة في الكتاب والسنّة كما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمه الله، فلا إشكال في حجّية ظواهر الألفاظ التي وردت في كتب الوصايا والأوقاف ورسائل العقود والعهود وإسناد المعاملات، فلا زال البحث عنها بين الناس ثمّ يرسلونها إلى الفقهاء ويستفتون عن حكمها، وكان عليه سيرة المسلمين في الماضي والحال، مع أنّها من الموضوعات لا الأحكام (خلافاً لأغلب الألفاظ الواردة في الكتاب والسنّة) لكن لا بأس به لما مرّ سابقاً من أنّ تشخيص الموضوعات المعقّدة المشكلة على عهدة الفقيه، ولا يقول فقيه: أنّه خارج عن شؤون الفقاهة ولست مكلّفاً بالجواب عنه حيث إنّ الأعظم من الفقهاء كانوا بل لا زال كانوا يستقبلون عن الأسئلة المربوطة بالموضوعات ويجيبون عنها كما يظهر لمن راجع فروعات كتاب العروة الوثقى فإنّ كثيراً من فروعاتها من هذا القبيل.

وكيف كان، لا إشكال في حجّية ظواهر الألفاظ إجمالًا، (إنّما الإشكال والكلام في بعض خصوصيّاته وجزئياته) واستدلّوا لها ببناء العقلاء الذي لم يردع الشارع عنه، ويمكن أيضاً الاستدلال بلزوم نقض الغرض لو لم نقل بالحجّية، وذلك لأنّ الغرض الأصلي في وضع الألفاظ التفهيم والتفهّم، فلو اكتفى بالألفاظ الصريحة والقطعيّة الدلالة مع ملاحظة تلك المجازات والاستعارات الكثيرة، والتصرّفات الحاصلة في الألفاظ التي توجب طبعاً تضييق دائرة الألفاظ الصريحة يلزم

نقض غرض الواضع بلا ريب.

انوار الأصول، ج 2، ص: 294

لكن للمحقّق الحائري رحمه الله هنا بياناً يليق بالذكر وحاصله: أنّه إذا ثبت عندنا أمران نقطع بأنّ مراد المتكلّم هو ما يستفاد من ظاهر اللفظ:

أحدهما: أن نعلم بأنّ المتكلّم يكون في مقام البيان وتفهيم المراد.

ثانيهما: أن نعلم أنّه لم ينصب قرينة توجب إنصراف اللفظ عن ظاهره.

واستدلّ له بأنّه لولا ذلك لزم نقض الغرض، أي لزم الالتزام بأنّه تصدّي لنقض غرضه عمداً وهذا مستحيل، ولذلك لا يختصّ ذلك بمورد يكون المتكلّم حكيماً لأنّ العاقل لا يعمل عملًا يكون فيه نقض غرضه سواء كان حكيماً أم لا، وهذا واضح.

هذا كلّه إذا أحرزنا المقدّمتين كلتيهما، أمّا إذا شككنا في أنّ المتكلّم أراد من اللفظ معناه الظاهر أو غيره، فإمّا أن يكون الشكّ من جهة الشكّ في كونه في مقام التفهيم، وإمّا من جهة الشكّ في وجود القرينة، وإمّا من جهة كليهما، فيقول بالنسبة إلى الصورة الاولى: أنّ الأصل المعوّل عليه عند العقلاء كونه في مقام تفهيم مراده، وهذا الأصل لا شبهة لأحد منهم فيه، وبالنسبة إلى الصورة الثانية يقول: هل الأصل المعوّل عليه فيها هو أصالة عدم القرينة أو أصالة الحقيقة (أصالة الظهور)؟ وتظهر الثمرة بينهما فيما لو إقترن بالكلام ما يصلح لكونه قرينة، فعلى الأوّل يوجب إجمال اللفظ لعدم جريان أصالة عدم القرينة مع وجود ما يصلح للقرينيّة، وعلى الثاني يؤخذ بمقتضى المستفاد من الوضع والمستظهر من اللفظ حتّى يعلم خلافه.

ثمّ قال: «فاعلم أنّ اعتبار الظهور الثابت للكلام وإن شكّ في احتفافه بالقرينة ممّا لا إشكال فيه في الجملة، وأمّا كون ذلك من جهة الاعتماد على أصالة الحقيقة كي لا يرفع اليد عنها في صورة وجود ما يصلح للقرينيّة

فغير معلوم، وإن كان قد يدّعي أنّ بناء العقلاء على الجري على ما يقتضيه طبع الأشياء ما داموا شاكّين في الصحّة والفساد لأنّ مقتضى طبع كلّ شي ء إن يوجد صحيحاً، والفساد يجي ء من قبل أمر خارج عنه، ولعلّه من هذا القبيل القاعدة المسلّمة عندهم «كلّ دم يمكن أن يكون حيضاً فهو حيض» فإنّ مقتضى طبع المرأة أن يكون الدم الخارج منها دم حيض وغيره خارج عن مقتضى الطبع».

ثمّ قال: «وعلى هذا نقول: أنّ مقتضى طبع اللفظ الموضوع أن يستعمل في معناه الموضوع له لأنّ الحكمة في الوضع تمكّن الناس من أداء مراداتهم بتوسّط الألفاظ فاستعماله في غيره إنّما جاء من قبل الأمر الخارج عن مقتضى الطبع ... إلى أن قال: وكيف كان فالمتيقّن من الحجّية هو

انوار الأصول، ج 2، ص: 295

الظهور المنعقد للكلام خالياً عمّا يصلح لأن يكون صارفاً» (انتهى) «1».

هذا كلّه في حجّية الظواهر إجمالًا.

وأمّا بالنسبة إلى خصوصيّاتها وجزئياتها فوقع النزاع في امور ثلاثة:

1- هل الحجّية هنا مقيّدة بحصول الظنّ الشخصي على الوفاق؟

2- هل هي مقصورة على من قصد إفهامه؟

3- هل تكون ظواهر الكتاب حجّة مستقلًا أو بعد تفسير الأئمّة المعصومين عليهم السلام كما ذهب إليه الأخباريون؟

أمّا الأمر الأوّل: فاختلفوا فيه على أربعة أقوال:

1- قول من يقول بتقييدها بالظنّ بالوفاق.

2- قول من يقول بتقييدها بعدم الظنّ بالخلاف.

3- قول من لا يعتبر الظنّ الشخصي مطلقاً.

4- تفصيل المحقّق النائيني رحمه الله بين الألفاظ التي تتردّد بين العبيد والموالي وفي مقام الاحتجاج، والألفاظ التي لا تصدر في هذا المقام كالمتردّدة بين صديقين مثلًا فاعتبر حصول الظنّ (بل حصول أعلى مراتبه وهو الاطمئنان) بالوفاق في الثاني دون الأوّل.

واستدلّ القائلون بالقول الثالث، أي عدم اعتبار الظنّ الشخصي مطلقاً، بإطلاق بناء

العقلاء (الذي كان هو المدرك في أصل حجّية الظواهر) القائم على الأخذ بالظواهر واتّباعها إلى أن يعلم بالخلاف، والدليل على هذا الإطلاق هو عدم صحّة الاعتذار عن مخالفتها بعدم إفادتها الظنّ بالوفاق ولا بوجود الظنّ بالخلاف.

أقول: الحقّ صحّة هذا الإطلاق وإنّ استدلالهم به في محلّه ولا بأس به.

وأمّا تفصيل المحقّق النائيني رحمه الله وهو عدم اعتبار حصول الظنّ بالوفاق في موارد الاحتجاج واعتباره في غيره فهو دعوى بلا دليل وإن كان بناء كثير من الناس في غير الموالي والعبيد على الاحتياط في هذه الموارد، لا سيّما إذا كان في الامور المهمّة والأموال الضخمة.

نعم، يستثنى منه بعض ما ثبتت أهميّته في نظر الشارع المقدّس كباب الحدود والديّات من انوار الأصول، ج 2، ص: 296

باب أنّ الحدود تدرؤا بالشبهات.

نعم، هيهنا تفصيل آخر (وهو المختار) بين ما إذا كان الظنّ الشخصي مخالفاً لقرينة توجب الظنّ على الخلاف، لمن اطّلع عليها غالباً بحيث تكون قابلة للإرائة والاستناد بها على الخلاف، وما إذا لم يكن كذلك، فيمكن أن يقال: إنّ العقلاء لا يعتمدون على الكلام في الصورة الاولى وإن كان ظاهراً في المراد عرفاً.

هذا كلّه في الأمر الأوّل.

وأمّا الأمر الثاني: وهو تفصيل المحقّق القمّي رحمه الله بين من قصد إفهامه بالكلام وغيره وأنّ ظواهر الكتاب حجّة بالنسبة إلى الأوّل دون الثاني، فتظهر ثمرته في الخطابات الشفاهيّة في القرآن الكريم حيث إنّه بناءً على هذا التفصيل يختصّ هذا القبيل من الخطابات بالمشافهين دون الغائبين والمعدومين لعدم كونهم مقصودين بالإفهام، كما تظهر الثمرة أيضاً في الرّوايات التي كان شخص الراوي لها مقصوداً بالإفهام كما إذا سئل زرارة مثلًا مسألة شخصية خاصّة بنفسه فليست ظواهر هذا القبيل من الرّوايات حجّة بالنسبة إلينا بناءً على

التفصيل المذكور بل تنحصر الحجّة منها في الرّوايات التي يكون المخاطب فيها أعمّ من المشافهين كالتي ورد فيها قوله عليه السلام: «فليبلّغ الشاهد الغائب» وهي من قبيل خطبة النبي صلى الله عليه و آله في مسجد الخيف وخطبته في منى.

وعلى كلّ حال استدلّ الميرزا القمّي رحمه الله بما حاصله (على ما ذكر المحقّق الإصفهاني رحمه الله لكلامه من التوجيه) أنّ دليل حجّية ظواهر الكتاب إنّما هو عدم تحقّق نقض الغرض (لأنّ عدم حجّية الظاهر مع كون المتكلّم في مقام البيان ومع أنّه لم ينصب قرينة على الخلاف يوجب نقض الغرض) وهو خاصّ بالمقصودين بالإفهام فقط لأنّه يكفي نصب القرائن الحاليّة أو المقاليّة لمن قصد إفهامه فحسب وأمّا اختفائها ممّن لم يقصد إفهامه فلا يوجب نقض غرضه من الكلام، وبعده لا يبقى دليل لحجّية ظاهر كلامه بالنسبة إلى غيرهم «1».

أقول: الإنصاف كما ذهب إليه المحقّقون هو عدم الفرق بين من قصد إفهامه وغيره، وذلك لعدم انحصار دليل حجّية الظواهر في لزوم نقض الغرض، بل العمدة فيها إنّما هي بناء العقلاء،

انوار الأصول، ج 2، ص: 297

ولا فرق عندهم بين الصورتين كما تشهد عليه شواهد كثيرة:

منها: أنّ القضاة لا يزالون يستندون إلى الشرائط التي حصلوا عليها من ناحية شخص أقرّ صديقه بشي ء عنده مع أنّه هو المقصود بالإفهام.

ومنها: اعتمادهم بسجلّات الأوقاف حتّى في ما إذا كان المخاطب فيها شخص المتولّي أو خصوص إنسان آخر.

ومنها: اعتمادهم بالمكالمات التلفونية أو المكاتبات السرّية التي يكون غير المخاطب فيها مقصوداً بالإخفاء فضلًا عن عدم كونه مقصوداً بالإفهام واستدلالهم بها. هذا أوّلًا.

وثانياً: سلّمنا باختصاص حجّية الظواهر بمن قصد إفهامه إلّاأنّه لا تترتّب عليه ثمرة بالنسبة إلى خطابات القرآن والرّوايات.

أمّا الاولى: فلأنّ القرآن خاتم الكتب

السماويّة ولا إشكال في أنّ المقصود بالإفهام من خطاباتهم جميع الناس إلى الأبد، ولذلك ورد الأمر بالترتيل عند قرائتها واجابة خطاباتها بقول القاري «لبّيك ربّنا».

وأمّا الثانية: فلأنّها على قسمين: قسم يكون من قبيل تأليف المؤلّفين للكتب التي ليس المقصود بالإفهام فيها شخصاً خاصّاً أو أشخاصاً معينين، ولا إشكال فيها للمحقّق القمّي رحمه الله نفسه أيضاً، وقسم آخر لا يكون كذلك إلّاأنّ عدالة الراوي أو وثاقته وأمانته في النقل تقتضي نقل القرائن التي دخيلة في الفهم من الرّواية أيضاً بحيث يعدّ عدم نقله إيّاها من الخيانة في النقل.

فتلخّص أنّ كلامه مضافاً إلى عدم تناسبه مع الدليل المعتبر في حجّية الظواهر لا تترتّب عليه ثمرة في ما بأيدينا من آيات الكتاب وأخبار السنّة.

هذا كلّه في الأمر الثاني.

أمّا الأمر الثالث: وهو حجّية ظواهر كتاب اللَّه مستقلًا فالمعروف والمشهور بين أصحابنا الإماميّة هو الحجّية، وأنكرها جماعة من الأخباريين، وقالوا بعدم حجّيتها قبل ورود تفسير الأئمّة المعصومين، وهذا التفريط الذي يقصر الحجّة في الرّواية إنعكاس في الواقع لإفراط من قال: «حسبنا كتاب اللَّه»، وكلّ واحد منهما جائر عن سواء السبيل.

وكيف كان، قبل بيان أدلّة الأخباريين لابدّ من ذكر الأدلّة التي تدلّ على حجّية ظواهر

انوار الأصول، ج 2، ص: 298

الكتاب، فنقول: دليلنا على ذلك امور:

الأوّل: أنّها مقتضى القاعدة الأوّليّة لأنّ بناء العقلاء استقرّ على حجّية الظواهر مطلقاً، ومنها ظواهر القرآن الكريم، واستثنائها منها بغير دليل معتبر ممّا لا وجه له.

وإن شئت قلت: المقصود في الآيات تفهيم معانيها للناس من طريق ظواهرها فعدم حجّية ظواهرها يستلزم نقض الغرض كما لا يخفى.

الثاني: آيات من القرآن نفسه: منها قوله تعالى: «قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ

وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» «1».

ومنها: قوله تعالى: «وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِىٍّ مُبِينٍ» «2».

إن قلت: إثبات حجّية ظواهر الكتاب بالكتاب يستلزم الدور المحال.

قلنا: أنّه كذلك إذا كان الاستدلال بظواهر الآيات مع أنّه في المقام استدلال بنصوصها التي لا ينكرها الأخباريون أيضاً.

الثالث: (وهو العمدة) دلالة طوائف من الأخبار على حجّيتها:

الطائفة الاولى: حديث الثقلين «3»، فإنّ ظاهره أنّ كلًا من الكتاب والعترة حجّة مستقلًا، وإنّ الكتاب هو الثقل الأكبر، والعترة الطاهرة عليهم السلام هو الثقل الأصغر، وإن كان كلّ واحد منهما يؤيّد الآخر ويوافقه، نظير حكم العقل وحكم الشرع في قاعدة الملازمة فليست حجّية حكم العقل مقيّدة بدلالة الشرع وبالعكس، وإن كان يؤيّد أحدهما بالآخر، فكذلك في ما نحن فيه، وإلّا لو كانت حجّية دلالة الكتاب مقيّدة بدلالة الرّوايات لكانت دلالة الرّوايات أيضاً مقيّدة بدلالة الكتاب مع أنّه لم يقل به أحد.

الثانية: ما يدلّ على أنّ القرآن هو الملجأ عند المشاكل والحوادث، والمرجع عند التباس انوار الأصول، ج 2، ص: 299

الامور، نظير ما نقله الطبرسي رحمه الله في مقدّمة تفسيره عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «إذا التبس عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن فمن جعله أمامه قاده إلى الجنّة ومن جعله خلفه ساقه إلى النار».

وغير ذلك ممّا ورد في نهج البلاغة نحو قوله عليه السلام: «فاستشفوه من أدوائكم فإنّ فيه شفاء من أكبر الداء»، إلى غير ذلك ممّا هو كثير، وكثرتها تغني عن ملاحظة أسنادها.

الثالثة: ما يدلّ على وجوب عرض الرّوايات على كتاب اللَّه، التي جمعها في الوسائل الباب 9 من أبواب صفات القاضي:

منها: ما رواه السكوني عن

أبي عبداللَّه عليه السلام قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «إنّ على كلّ حقّ حقيقة وعلى كلّ صواب نوراً فما وافق كتاب اللَّه فخذوه وما خالف كتاب اللَّه فدعوه» «1».

فكيف يمكن أن يكون القرآن معياراً لتعيين الحجّة عن اللّاحجّة، ولا يكون بنفسه حجّة.

الرابعة: ما ورد عند تعارض الخبرين الآمرة بأخذ ما وافق كتاب اللَّه «2».

الخامسة: ما يدلّ على أنّه يجب الوفاء بكلّ شرط إلّاما خالف كتاب اللَّه، وهو ما ورد في ج 12- من الوسائل باب 12- من أبواب الخيار، التي ظاهرها حجّية ظواهر الكتاب لكونها ملاكاً لتشخيص الشروط الحقّة عن الشروط الباطلة» «3».

السادسة: ما ورد في باب صلاة القصر في ذيل آية التقصير عن زرارة ومحمّد بن مسلم قالا: قلنا لأبي جعفر عليه السلام: رجل صلّى في السفر أربعاً أيعيد أم لا؟ قال: «إن كان قرأت عليه آية التقصير وفسّرت له فصلّى أربعاً أعاد، وإن لم يكن قرأت عليه ولم يعلمها فلا إعادة عليه» «4».

إن قلت: ما المراد من قوله عليه السلام: «فسّرت»؟ أليس هذا مشيراً إلى مقالة الأخباريين؟

قلنا: كلّا، بل المراد- على الظاهر- تفسير قوله تعالى: «لا جناح» بما يقتضي الوجوب.

وأيضاً ما ورد في أبواب حدّ شرب الخمر وأنّ الشارب إذا لم يسمع آية التحريم لكونه انوار الأصول، ج 2، ص: 300

حديث العهد بالإسلام يدرأ عنه الحدّ «1».

السابعة: ما ورد في الرّوايات من إرجاع الناس في فهم أحكام اللَّه إلى القرآن، نظير ما ورد في باب الوضوء عن عبدالأعلى مولى آل سام قال: قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام: عثرت فانقطع ظفري فجعلت على إصبعي مرارة فكيف أصنع بالوضوء؟ قال: «يعرف هذا وأشباهه من كتاب اللَّه عزّوجلّ، قال اللَّه تعالى: «مَا جَعَلَ

عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ»، امسح عليه» «2».

الثامنة: ما يدلّ على لزوم إرجاع المتشابهات من الأخبار والقرآن إلى محكماتها، نظير ما رواه أبو حيون مولى الرضا عن الرضا عليه السلام قال: «من ردّ متشابه القرآن إلى محكمه فقد هدي إلى صراط مستقيم، ثمّ قال عليه السلام: إنّ في أخبارنا محكماً كمحكم القرآن ومتشابهاً كمتشابه القرآن، فردّوا متشابهها إلى محكمها ولا تتّبعوا متشابهها دون محكمها فتضلّوا» «3».

إن قلت: لعلّ المراد من المحكم هو خصوص النصوص من الكتاب والرّوايات.

قلنا: إنّ المحكم ما يقابل المتشابه، والمتشابه بمعنى المبهم والمجمل فكلّ ما لا يكون مبهماً محكم، فيعمّ المحكم النصّ والظاهر معاً لأنّ الظاهر أيضاً لا يعدّ عند العرف والعقلاء من المبهم، ويشهد لذلك ذيل الخبر لأنّه يدلّ على أنّ الأخبار أيضاً تنقسم إلى المحكم والمتشابه، ولم يقل أحد حتّى من الأخباريين بأنّ ظواهر الأخبار داخلة في المتشابه.

التاسعة: ما يعبّر من الرّوايات بقوله عليه السلام: «أما سمعت قول اللَّه ...» «4».

فإن ظاهرها أيضاً أنّ ظاهر الكتاب حجّة كما لا يخفى.

العاشرة: ما دلّ على «أنّ اللَّه لا يخاطب الخلق بما لا يعلمون» «5»، فإنّه ظاهر في أنّ خلق اللَّه تعالى يدركون ما أنزله ويكون ظاهره حجّة عليهم.

هذه هي الطوائف العشرة يدلّ كلّ واحدة منها على المقصود مستقلًا، ولو سلّمنا عدم دلالته كذلك فلا أقلّ من أنّ في المجموع بما هو المجموع غنىً وكفاية.

انوار الأصول، ج 2، ص: 301

ثمّ إنّه اعتذر بعض الأخباريين عن بعض ما ذكرنا بما فيه تكلّف ظاهر، مثل ما ذكره صاحب الوسائل في ذيل الطائفة العاشرة من أنّ المراد من الخلق فيها هم الأئمّة عليهم السلام أو جميع المكلّفين (باعتبار دخول الأئمّة عليهم السلام فيهم وأنّه إذا علم بعضهم

معنى القرآن فهو كافٍ في صدق قوله عليه السلام «لا يخاطب الخلق بما لا يعلمون») «1».

ولكن لا يخفى ما فيه من إرتكاب خلاف الظاهر والتعسّف والتكلّف، كما أنّ توجيهه روايات العرض على القرآن بأنّ المراد منها العمل بالكتاب والسنّة معاً- أيضاً واضح البطلان لأنّ ظاهرها أنّ تمام المعيار في معرفة الحقّ والباطل في الرّوايات هو الكتاب الكريم لا أنّ الخمسين في المائة مثلًا منه للقرآن، والخمسين في المائة الاخر للروايات، بل ظاهر هذه الطائفة أنّ للقرآن ما هو أعظم وأهمّ من الحجّية وهو أنّه نور في نفسه ومنوّر لغيره.

وأجاب عن روايات الطائفة التاسعة بأنّ «وجهها أنّ من سمع آية ظاهرها دالّ على حكم نظري لم يجز له الجزم بخلافها، لاحتمال إرادة ظاهرها، فالإنكار هناك لأجل هذا، وإن كان لا يجوز الجزم بإرادة الظاهر أيضاً، لاحتمال النسخ والتخصيص والتأويل وغير ذلك».

وهذا الكلام أيضاً مخالف لظاهر ما مرّ من الرّواية كما لا يخفى على الناظر فيها.

وأمّا الوجوه التي استدلّوا بها على عدم حجّية ظواهر الكتاب فهي ستّة بعضها ينفي كبرى الحجّية بعد قبول صغرى الظهور، وبعضها الآخر ينفي الصغرى أعني ظهور الآيات في معانيها.

أمّا الوجه الأوّل: (ولعلّه العمدة) فهي الرّوايات الناهيّة عن التفسير بالرأي بتقريب أنّ العمل بالظواهر من مصاديق التفسير بالرأي.

منها: ما رواه الريّان بن الصلت عن الرضا عن آبائه عليهم السلام قال: قال اللَّه عزّوجلّ: «ما آمن بي من فسّر برأيه كلامي» «2».

ومنها: ما رواه عبدالرحمن بن سمرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «لعن اللَّه المجادلين في دين اللَّه على لسان سبعين نبيّاً، ومن جادل في آيات اللَّه كفر، قال اللَّه: «مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا»، ومن فسّر

القرآن برأيه فقد افترى على اللَّه الكذب ...» «3».

انوار الأصول، ج 2، ص: 302

ومنها: ما رواه أبو بصير عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «من فسّر القرآن برأيه إن أصاب لم يؤجر، وإن أخطأ خرّ أبعد من السماء» «1».

وغير ذلك من بعض روايات الباب الثالث عشر من أبواب صفات القاضي «2».

والجواب عن هذا الوجه مبني على بيان معنى التفسير والرأي الواردين في هذه الرّوايات وأنّهما هل يشملان العمل بالظواهر أو لا؟

أمّا كلمة التفسير ففي القاموس: «الفسر والتفسير الإبانة وكشف المغطّى، والتفسير هو نظر الطبيب إلى الماء فإنّ الطبيب بنظره إلى الماء وهو البول يكشف عن نوع المرض».

وفي مفردات الراغب «الفسر إظهار المعنى المعقول، والتفسير قد يقال في ما يختصّ بمفردات الألفاظ وغريبها وما يختصّ بالتأويل ولذا يقال تفسير الرؤيا وتأويلها».

وفي لسان العرب: «الفسر كشف المغطّى والتفسير كشف المراد عن اللفظ المشكل، قيل التفسيرة (على وزن التذكرة) البول الذي يستدلّ به على المرض».

فبناءً على هذا المعنى ينحصر تفسير القرآن ببطونه وبمتشابهاته، ولا يشمل الأخذ بظواهر الآيات نظير قوله تعالى: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» و «أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ» وقوله تعالى: «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ» كما لا يخفى.

وأمّا معنى الرأي فالظاهر منه هو الآراء الباطلة التي لا أساس لها.

ففي مفردات الراغب: «الرأي اعتقاد النفس أحد النقيضين عن غلبة الظنّ» وليس المراد من الظّن إلّاالآراء والظنون الباطلة كما يشهد به الرّوايات:

منها: ما روي عن الحسن بن علي العسكري عليه السلام في تفسيره بعد كلام طويل في فضل القرآن قال: «أتدرون من المتمسّك به الذي له بتمسّكه هذا الشرف العظيم؟ هو الذي أخذ القرآن وتأويله عنّا أهل البيت عن وسائطنا السفراء عنّا إلى شيعتنا لا عن آراء المجادلين وقياس

الفاسقين» «3».

ومنها: ما رواه عمّار بن موسى عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: سئل عن الحكومة فقال: «من انوار الأصول، ج 2، ص: 303

حكم برأيه بين اثنين فقد كفر، ومن فسّر آية من كتاب اللَّه فقد كفر» «1».

فالمراد من الرأي على ضوء مثل هاتين الروايتين هو قول العامّة: بأنّ هذا ممّا لا نصّ فيه فليتمسّك بذيل القياس أو الاستحسان.

الوجه الثاني: الرّوايات الناهيّة عن العمل بالمتشابهات بتقريب أنّ الظواهر من المتشابهات لأنّ المحكمات منحصرة في النصوص.

منها: ذيل ما رواه علي بن الحسين المرتضى في رسالة المحكم والمتشابه نقلًا عن التفسير النعماني عن إسماعيل بن جابر عن الصادق عليه السلام: «وإنّما هلك الناس في المتشابه لأنّه لم يقفوا على معناه ولم يعرفوا حقيقته فوضعوا له تأويلًا من عند أنفسهم بآرائهم واستغنوا بذلك عن مسألة الأوصياء ونبذوا قول رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وراء ظهورهم» «2».

ومنها: ما رواه أبو بصير عن أبي جعفر عليه السلام أنّه قال: «نحن الراسخون في العلم ونحن نعلم تأويله» «3».

ومنها: ما رواه عبدالرحمن بن كثير عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «الراسخون في العلم أمير المؤمنين عليه السلام والأئمّة من ولده» «4».

والجواب عن هذا الوجه واضح لأنّ المتشابه (كما مرّت الإشارة إليه في ذيل الطائفة الثامنة من الرّوايات الدالّة على حجّية ظواهر الكتاب) هو ما يتشابه بعضه بعضاً، أي ما يشابه فيه أحد احتمالين احتمالًا آخر وبالعكس، ولذلك يوجب الحيرة للإنسان فيصير مجملًا ومبهماً، وإلّا ما لم يكن فيه تشابه بين الاحتمالين بل كان أحدهما ظاهراً والآخر مخالفاً للظاهر فلا يكون متشابهاً حتّى يكون داخلًا في هذه الرّوايات.

والشاهد على ذلك ما مرّ من ذيل رواية إسماعيل بن جابر: «لأنّهم لم يقفوا على

معناه ولم يعرفوا حقيقته فوضعوا له تأويلًا من أنفسهم بآرائهم» وهو يعني أنّ المتشابه ما لا يفهم الإنسان معناه، ولذلك يرى نفسه مضطراً إلى أن يأوّله من عند نفسه، وهذا لا يكون صادقاً في انوار الأصول، ج 2، ص: 304

العمل بالظواهر والمطلقات والعمومات لأنّ المعنى فيها مفهوم واضح.

هذا مضافاً إلى ما ورد في ذيل آية المحكم والمتشابه وهو قوله تعالى: «فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ» حيث لا يخفى أنّ العمل بالظواهر لا يكون فيه ابتغاء الفتنة، بل الفتنة تنشأ من ناحية اتّباع الذين في قلوبهم المرض أحد الاحتمالين، وهو يصدق في ما ليس له ظهور أو ما يخالف الظهور.

الوجه الثالث: روايات تدلّ على أنّ للقرآن مفاهيم عالية لا تصل إليها الأيدي العادية والأفهام القاصرة للناس، ولذلك لا ظهور لها بالنسبة إليهم.

منها: ما رواه عبدالعزيز العبدي عن أبي عبداللَّه عليه السلام في قول اللَّه عزّوجلّ: «بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ» قال: «هم الأئّمة عليهم السلام» «1».

ومنها: ما رواه أبو بصير قال: قرأ أبو جعفر عليه السلام هذه الآية: «بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ» ثمّ قال: «أما واللَّه ياأبا محمّد ما قال ما بين دفّتي المصحف» قلت:

من هم جعلت فداك؟ قال: «من عسى أن يكونوا غيرنا» «2».

ومنها: ما رواه أبو بصير أيضاً قال سمعت أبا جعفر يقول في هذه الآية: « «بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ» فأوى بيده إلى صدره» «3».

ومنها: ما رواه سدير عن أبي عبداللَّه عليه السلام في حديث قال: «علم الكتاب كلّه واللَّه عندنا علم الكتاب كلّه واللَّه عندنا» «4».

ومنها: ما رواه الطبرسي في التفسير الصغير عن

الصادق عليه السلام في قوله تعالى: «وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ» قال: «إيّانا عنى وعلي أوّلنا» «5».

والجواب عن هذا الوجه أنّ المقصود من هذه الرّوايات أنّ للقرآن بطوناً في مقابل الظواهر، والمختصّ بالأئمّة هي تلك البطون خاصّة لا الظواهر، ولنا على هذا شواهد من نفس الرّوايات:

انوار الأصول، ج 2، ص: 305

منها: ما رواه جابر قال قال أبو عبداللَّه عليه السلام: «ياجابر أنّ للقرآن بطناً وللبطن ظهراً وليس شي ء أبعد من عقول الرجال منه، أنّ الآية لينزل أوّلها في شي ء وآخرها في شي ء وهو كلام متصرّف على وجوه» «1».

فإنّ الضمير في قوله «منه» يرجع إلى القرآن فيكون المقصود أنّ القرآن بجميع شؤونه من الظاهر والباطن لا يفهمه غير الأئمّة، ولا أقلّ من أنّ هذا طريق الجمع بينها وبين ما دلّ على إرجاع آحاد الناس إلى الكتاب العزيز، وقد عرفت أنّها متواترة.

ومنها: ما رواه فضيل بن يسار قال: سألت أبا جعفر عن هذه الرّواية: ما من القرآن آية إلّا ولها ظهر وبطن، قال: «ظهره وبطنه تأويله، ومنه ما قد مضى ومنه ما لم يكن، يجري كما تجري الشمس والقمر كلّما جاء تأويل شي ء يكون على الأموات كما يكون على الأحياء، قال اللَّه:

«وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ»» «2»

. ومعنى قوله «ظهره وبطنه تأويله» أنّ ظهره واضح وأمّا بطنه فهو تأويله.

ومنها: ما رواه زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: «تفسير القرآن على سبعة أوجه، منه ما كان ومنه ما لم يكن بعد، تعرفه الأئمّة عليهم السلام» «3»، وظاهر الرّواية أنّ التفسير (وهو الكشف عن المغطّى) عندهم عليهم السلام.

ومنها: ما روي عن الباقر عليه السلام في قوله تعالى: «وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ

يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ» قال: «هم الأئمّة المعصومون عليهم السلام» «4».

فإنّ آية «ولو ردّوه إلى الرسول ... الخ» نزلت في ما لا يكون له ظهور، ولذلك وقع الاختلاف فيه فتدلّ هذه الرّواية على أنّ هذا السنخ من الآيات علمها عند الأئمّة المعصومين عليهم السلام فقط.

ومنها: ما رواه إسماعيل بن جابر عن الصادق عليه السلام قال: «إنّ اللَّه بعث محمّداً فختم به الأنبياء فلا نبي بعده، وأنزل عليه كتاباً فختم به الكتب فلا كتاب بعده- إلى أن قال-: فجعله النبي صلى الله عليه و آله انوار الأصول، ج 2، ص: 306

علماً باقياً في أوصيائه فتركهم الناس وهم الشهداء على أهل كلّ زمان حتّى عائدوا من أظهر ولاية ولاة الأمر وطلب علومهم، وذلك أنّهم ضربوا القرآن بعضه ببعض ... ولهذه العلّة وأشباهها لا يبلغ أحد كنه معنى حقيقة تفسير كتاب اللَّه تعالى ولا نبيّه وأوصياؤه» «1» ودلالتها أيضا على المطلوب ظاهرة.

الوجه الرابع: روايات تدلّ على أنّ مخاطب القرآن إنّما هو الرسول صلى الله عليه و آله والأئمّة الهادين، وهذه صغرى إذا انضمّت إلى كبرى اختصاص حجّية الظواهر بمن خوطب به يستنتج منها أنّ ظواهر الكتاب ليست حجّة لغير الأئمّة عليهم السلام:

منها: ما رواه زيد الشحّام قال: دخل قتادة بن دعامة على أبي جعفر عليه السلام فقال: «ياقتادة أنت فقيه أهل البصرة؟» فقال: هكذا يزعمون فقال أبو جعفر عليه السلام: «بلغني أنّك تفسّر القرآن- إلى أن قال أبو جعفر عليه السلام- ويحك ياقتادة إن كنت إنّما فسّرت القرآن من تلقاء نفسك فقد هلكت وأهلكت، وإن كنت قد فسّرته من الرجال فقد هلكت وأهلكت، ويحك ياقتادة إنّما يعرف القرآن من خوطب به» «2».

وفيه إشكال صغرى وكبرى: أمّا الصغرى فلأنّ اختصاص مخاطبي القرآن

بالرسول صلى الله عليه و آله والأئمّة عليهم السلام كلام غير معقول، لما ورد من أنّ النبي صلى الله عليه و آله كان يحتجّ مع المشركين بهذه الآيات، وكان المشركون والكافرون يخاطبون بها بمثل قوله تعالى: «ياأهل الكتاب» و «ياأيها الكافرون» و «ياأيّها الناس» ولا يكاد ينتظرون تفسير النبي صلى الله عليه و آله الذي لم يؤمنوا به.

وأمّا رواية قتادة فهي تفسّر بما رواه شبيب بن أنس عن بعض أصحاب أبي عبداللَّه عليه السلام في حديث أنّ أبا عبداللَّه قال لأبي حنيفة: «أنت فقيه العراق؟» قال: نعم قال «فبم تفتيهم؟» قال:

بكتاب اللَّه وسنّة نبيّه صلى الله عليه و آله قال: «ياأبا حنيفة: تعرف كتاب اللَّه حقّ معرفته؟ وتعرف الناسخ والمنسوخ؟» قال: نعم، قال: «ياأبا حنيفة لقد ادّعيت علماً ويلك ما جعل اللَّه ذلك إلّاعند أهل الكتاب الذي انزل عليهم، ويلك ولا هو إلّاعند الخاصّ من ذرّية نبيّنا محمّد صلى الله عليه و آله، وما ورّثك اللَّه من كتابه حرفاً» «3».

انوار الأصول، ج 2، ص: 307

وهي تدلّ على أنّ خصوصيّات الناسخ والمنسوخ وشبهها عند الأئمّة عليهم السلام فقط، وهذا ردّ على الذين استغنوا بآرائهم عن مسألتهم، ولا يشمل من يعمل بظواهر الكتاب ويأخذ المشكلات من أهله، ولا أقلّ من أنّ هذا طريق الجمع بينها وبين ما دلّ على ارجاع الناس عموماً إلى القرآن الكريم.

فالمراد من قوله في رواية قتادة: «إنّما يعرف القرآن من خوطب به» هو معرفة تفسير البطون والأسرار والمتشابهات، كما يشهد عليه صدرها: «بلغني أنّك تفسّر القرآن» وقد عرفت أنّ التفسير عبارة عن كشف المغطّى، وكما يشهد عليه أيضاً ما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام في احتجاجه على زنديق سأله عن آيات متشابهة من

القرآن فأجابه- إلى أن قال-: «ثمّ إنّ اللَّه قسّم كلامه ثلاثة أقسام فجعل قسماً منه يعرفه العالم والجاهل، وقسماً لا يعرفه إلّامن صفا ذهنه ولطف حسّه وصحّ تمييزه ممّن شرح اللَّه صدره للإسلام، وقسماً لا يعلمه إلّااللَّه وملائكته والراسخون في العلم، وإنّما فعل ذلك لئلّا يدّعي أهل الباطل المستولين على ميراث رسول اللَّه صلى الله عليه و آله من علم الكتاب ما لم يجعله اللَّه لهم، وليقودهم الاضطرار إلى الايتمام بمن ولّي أمرهم فاستكبروا عن طاعته» «1».

هذا كلّه في الصغرى.

وأمّا الكبرى فلما مرّ في جواب كلام المحقّق القمّي رحمه الله من عدم اختصاص حجّية الظواهر بالمقصودين بالإفهام وأنّ بناء العقلاء استقرّ على الأعمّ منهم.

الوجه الخامس: أنّ ظاهر الكتاب وإن لم يكن ذاتاً مندرجاً في المتشابه لكنّه مندرج فيه بالعرض، فسقط عن الظهور، وذلك لأجل العلم الإجمالي بطروّ التخصيص والتقييد والتجوّز في الكتاب.

واجيب عن هذا الوجه بجوابين: أحدهما: بالنقض، والآخر بالحلّ، أمّا الأوّل فبالنقض بالإخبار فلا بدّ من القول بعدم حجّية ظواهرها أيضاً.

وأمّا الثاني فبأنّ سببية العلم الإجمالي (بإرادة خلاف الظاهر في جملة من الآيات) للإجمال مشروطة بعدم انحلاله بالظفر في الرّوايات بالمخصّصات وغيرها من موارد إرادة خلاف انوار الأصول، ج 2، ص: 308

الظاهر بمقدار المعلوم بالإجمال، ومع الانحلال لا إجمال.

وإن شئت قلت: إنّ دائرة المعلوم بالإجمال ليست مطلق الأمارات حتّى يقال ببقاء احتمال التخصيص ونحوه حتّى بعد الظفر بمخصّصات ونحوها فيما بأيدينا من الرّوايات وغيرها، بل خصوص ما لو تفحّصنا عنه لظفرنا به، وهذا العلم الإجمالي يمنع عن التمسّك بالظواهر قبل الفحص لا بعده، فبعد الفحص إذا لم يظفر بما يخالف ظاهر الكتاب من تخصيص أو تقييد أو قرينة مجاز يكون ذلك الظاهر ممّا علم خروجه

تفصيلًا عن أطراف الشبهة، فلا مانع حينئذٍ من إجراء أصالة الظهور فيه.

الوجه السادس: ما يبتني على مزعمة تحريف القرآن، وهو أن يقال: إنّا نعلم إجمالًا بوقوع التحريف في الكتاب، وكلّ ما وقع فيه التحريف يسقط ظهوره عن الحجّية، فظواهر كلام اللَّه تسقط عن الحجّية.

وهو باطل صغرى وكبرى، ونقدّم البحث عن الكبرى لاختصاره، فنقول: سلّمنا وقوع صغرى التحريف في الكتاب لكنّه لا يوجب المنع عن حجّية ظواهر القرآن الكريم، وذلك لُامور:

الأوّل: أنّ التحريف على فرض وقوعه لا يوجب التغيير في المعنى دائماً كالتحريف بإسقاط آية أو سورة لا إرتباط لها بما قبلها وما بعدها.

الثاني: أنّ محلّ الكلام هو آيات الأحكام، ودواعي التحريف فيها ضعيفة، وإنّما الدواعي في ما له ربط بسياسياتهم أعني مسألة الولاية والحكومة، فتأمّل.

الثالث: أنّه لو فرضنا وجود العلم الإجمالي بالتحريف في مجموع الآيات من الأحكام وغيرها لكنّه غير ضائر بحجّيتها لكونه من موارد الشبهة غير المحصورة أي من قبيل العلم الإجمالي بالقليل في الكثير وهو لا يوجب الإحتياط على ما قرّر في محلّه.

الرابع: سلّمنا كون الشبهة محصورة، وأنّ العلم الإجمالي في المقام من قبيل العلم بالكثير في الكثير إلّاأنّه لا يوجب أيضاً عدم حجّية الظواهر لأنّه من موارد عدم ترتّب أثر شرعي على بعض أطراف العلم الإجمالي لو كان المعلوم بالإجمال محقّقاً فيه، فإنّ الخلل المعلوم بالإجمال إن كان في ظواهر غير آيات الأحكام من القصص والحكايات والاعتقادات والأخلاقيات لم يؤثّر شيئاً لعدم تكليف شرعي عملي فيها وليست هي أحكاماً تعبّديّة بل إنّها إرشادات إلى عدّة من الأحكام العقليّة، وإن كان في ظواهر آيات الأحكام فهو شكّ بدوي فتكون أصالة

انوار الأصول، ج 2، ص: 309

الظهور في الأحكام باقية على حجّيتها.

وقد اجيب عن هذا الوجه

في كلمات بعض الأعاظم بأنّ جميع آيات القرآن داخلة في محلّ الابتلاء في العمل بناءً على ما هو المشهور من لزوم قراءة سورة كاملة في الركعتين الأوّليين من كلّ صلاة، ولو وقع التحريف في سورة لا يصحّ قراءتها في الصّلاة لعدم كونها كاملة سواء كان المحتوى فيها من الأحكام أم غيرها، وإذن يصير كلّ سورة من سور القرآن محلًا للابتلاء في العمل فيؤثّر العلم الإجمالي أثره من عدم الحجّية.

كما يمكن إثبات دخول جميع القرآن في موضع الابتلاء من طرق اخرى أيضاً كاعتبار الطهارة في مسّها سواء كانت من الأحكام أم غيرها.

أقول: الإنصاف هو عدم الاعتماد بشي ء من هذه الوجوه، وذلك لأنّ أصالة حجّية الظواهر ليست من الاصول التعبّديّة بل هي كأصالة الحقيقة من الاصول العقلائيّة الطريقيّة التي استقرّ عليها بناء العقلاء من باب أنّها طريق لكشف الواقع لا من باب مجرّد التعبّد، وحينئذٍ لابدّ من ملاحظة بناء العقلاء في المقام وأنّه هل هو ثابت على حجّية ظواهر كتاب حتّى بعد وقوع التحريف فيها أو لا؟ الإنصاف أنّ بناءهم لم يستقرّ عليها في هذه الصورة من دون فرق بين كونها داخلة في محلّ الابتلاء وعدمه، ومن دون فرق بين أن يترتّب عليها أثر شرعي أو لا يترتّب.

والحقّ في الجواب أن نقول: أنّ الطوائف العشرة الدالّة على لزوم الأخذ بظواهر كتاب اللَّه التي مرّت سابقاً لا تدعونا إلّاإلى العمل بهذا القرآن الموجود في أيدي المسلمين، وتلاوة آيات هذا القرآن الذي وصل إلينا من عهد أمير المؤمنين عليه السلام والصادقين عليهما السلام سواء قلنا بتحريفه بعد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في مدّة قصيرة قبل جمعه في عهد عثمان أو لم نقل به كما هو الحقّ،

وسيأتي تفصيله إن شاء اللَّه، لأنّه لا يقول أحد بوقوع التحريف بعد جمع عثمان إلى زماننا هذا.

وبالجملة لو فرضنا وقوع التحريف فيه وعدم بناء العقلاء على حجّية كتاب محرّف فلا كلام ولا إشكال في حجّية القرآن الموجود بأيدينا شرعاً وإنّا مأمورين بالعمل به بمقتضى تلك الرّوايات الكثيرة.

هذا كلّه في كبرى الوجه السادس من الوجوه التي استدلّ بها لعدم حجّية ظواهر القرآن الكريم، أمّا الصغرى (وهي صغرى وقوع التحريف) فلا بدّ من البحث فيه بحثاً لا يكون فيه اقتصار مخلّ ولا تطويل مملّ فنقول ومن اللَّه التوفيق والهداية:

انوار الأصول، ج 2، ص: 311

الكلام في عدم تحريف الكتاب العزيز
اشارة

ولابدّ فيه من رسم مقدّمات:

المقدمة الاولى: في أشكال التحريف

إنّ التحريف على قسمين: لفظي ومعنوي، فاللفظي ينقسم إلى ثلاثة أقسام: أحدها: التحريف بالزيادة، والثاني: التحريف بالنقصان، والثالث: التحريف بالتبديل والتغيير.

والمعنوي ينقسم أيضاً إلى قسمين: فتارةً يكون بتغيير المعنى كما إذا قيل: إنّ الوليّ في قوله تعالى: «إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ والمؤمنون ...» بمعنى الصديق والحبيب لا بمعنى المولى الحاكم والولي في التصرّف، واخرى بتطبيقه على غير مورده نظير ما يحكى عن معاوية في قصّة سمرة بن جندب في قوله تعالى: «وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ» فطلب منه أن يعلن أنّ هذه الآية نزلت في عبدالرحمن بن ملجم أشقى الآخرين وقاتل علي عليه السلام بالسيف وإنّ قوله تعالى: «وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ» نزل- العياذ باللَّه- في علي عليه السلام وقد فعله سمرة بعد أن أخذ منه مائة الف من الدراهم من بيت مال المسلمين «1».

والتحريف اللفظي بالزيادة أيضاً على أقسام: التحريف بزيادة حرف، والتحريف بزيادة كلمة، أو زيادة جملة، أو آية أو سورة، وهكذا التحريف بالنقيصة، كما أنّ التحريف بالتغيير على أنواع: التحريف بتغيير حركة (اعراب) والتحريف بتغيير حرف أو حروف (كما يحكى في قصّة أهل انطاكية في عهد أحد الخلفاء حيث قدموا إليه وطلبوا منه أن يبدّل قوله تعالى في سورة الكهف: «فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا» بقولهم «فأتوا أن يضيّفوهما» حتّى يرتفع النقص انوار الأصول، ج 2، ص: 312

والازراء عن أهل بلدهم) والتحريف بتقديم كلمة أو آية أوتأخيرهما.

هذه هي الأقسام الخمسة الأصلية من التحريف.

ولا إشكال في وقوع التحريف المعنوي بكلا قسميه في مرّ التاريخ بأيدي الأعداء والطواغيت، وفي يومنا هذا ببعض الطوائف الضالّين المضلّين المنحرفين.

أمّا التحريف اللفظي فالتحريف بالزيادة مجمع على بطلانه

ولم يقل به أحد، والظاهر أنّ سببه كون القرآن في حدّ من النظم والاعجاز بحيث لو اضيف إليه شي ء يعرف عادةً، وأمّا التحريف بالتغيير فهو ممنوع أيضاً بالنسبة إلى التغيير بالحركة والاعراب إن قلنا بتواتر القراءات السبعة وأنّ جميعها نزل بها الروح الأمين وأنّ سلسلة إسنادها تصل إلى النبي صلى الله عليه و آله، وأمّا إن قلنا بأنّ القرآن نزل على قراءة واحدة فلا يمكن نفس هذا النوع لأنّه كان على قراءة واحدة في السابق وصار الآن على قراءات سبعة، ومنشأ هذا أنّه كان يكتب بلا إعراب ثمّ اعربت ألفاظها في الأزمنة اللاحقة فوقع فيه هذا الاختلاف قهراً.

بقى التحريف بالنقصان أو بتغيير كلمة أو حرف، وهو المشهور في محلّ النزاع ومحوراً للبحث في الكلمات فقد يقال بوقوعه في القرآن إمّا بنقصان كلمة ككلمة «ياأيّها الرسول» أو بنقصان آية أو سورة أو سورتين، أو نقصان ثلث الكتاب أو أكثر من ذلك بما يأتي فيه من الأقوال والاستدلالات.

المقدمة الثانية: في الأقوال في المسألة

المشهور والمعروف بين الفريقين عدم وقوع التحريف مطلقاً في القرآن، ومنهم قالوا بوقوعه، ولذلك نقول في جواب من نسب التحريف من أهل العامّة إلى الشيعة: إن كان المراد الشاذّ منهم فلا فرق بين الشيعة والسنّة لأنّ شاذّاً من السنّة أيضاً قالوا بالتحريف، وإن كان المقصود جمهور المحقّقين من الشيعة فهو كذب ومخالف لتصريحات أكابر علمائهم من المتأخّرين والقدماء كالشيخ الصدوق والمفيد والسيّد المرتضى والشيخ الطوسي والطبرسي قدّس اللَّه أرواحهم.

فقال الشيخ المفيد رحمه الله رئيس المذهب في أوائل المقالات: «أنّه قال جماعة من أهل الإمامة أنّ القرآن لم ينقص من كلمة ولا من آية ولا من سورة، ولكن حذف ما كان مثبتاً في مصحف انوار الأصول، ج 2، ص: 313

أمير المؤمنين

عليه السلام من تأويله وتفسير معانيه على حقيقة تنزيله من مقال من ادّعى نقصان الكلمة من نفس القرآن دون تأويله» «1».

وقال الصدوق رحمه الله في اعتقاداته: «اعتقادنا أنّ القرآن الذي أنزل اللَّه على نبيّه هو ما بين الدفّتين وليس بأكثر من ذلك ومن نسب إلينا بأنّا نقول أنّه أكثر من ذلك فهو كاذب» «2».

وقال السيّد المرتضى رحمه الله: «أنّه لم ينقص من القرآن، وأنّ من خالف في ذلك من الإماميّة والحشوية (الأخباريين من أهل العامّة) لا يعتدّ بخلافهم فإنّ الخلاف في ذلك مضاف إلى قوم من أصحاب الحديث نقلوا أخباراً ضعيفة ظنّوا صحّتها» «3».

وقال الشيخ الطوسي رحمه الله في التبيان: «وأمّا الكلام في زيادته ونقصانه فمما لا يليق به أيضاً لأنّ الزيادة فيه مجمع على بطلانها، والنقصان منه فالظاهر أيضاً من مذهب المسلمين خلافه، وهو الأليق بالصحيح من مذهبنا» «4».

وقال الطبرسي رحمه الله في مجمع البيان: «ومن ذلك الكلام في زيادة القرآن ونقصانه فإنّه لا يليق بالتفسير، فأمّا الزيادة فيه فمجمع على بطلانها، وأمّا النقصان منه فقد روى جماعة من أصحابنا وقوم من حشوية العامّة أنّ في القرآن تغييراً ونقصاناً، والصحيح من مذهب أصحابنا خلافه وهو الذي نصره المرتضى قدّس اللَّه روحه واستوفى الكلام فيه غاية الاستيفاء في جواب المسائل الطرابلسيات، وذكر في مواضع أنّ العلم بصحّة نقل القرآن كالعلم بالبلدان والحوادث الكبار والوقائع العظام والكتب المشهورة وأشعار العرب المسطورة، فإنّ العنايّة اشتدّت والدواعي توفّرت على نقله وحراسته وبلغت إلى حدّ لم يبلغه فيما ذكرناه لأنّ القرآن معجزة النبوّة ومأخذ العلوم الشرعيّة والأحكام الدينيّة، وعلماء المسلمين قد بلغوا في حفظه وحمايته الغاية حتّى عرفوا كلّ شي ء اختلف فيه من اعرابه وقراءته وحروفه وآياته فكيف يجوز

أن يكون مغيّراً أو منقوصاً مع العناية الصادقة والضبط الشديد» «5».

انوار الأصول، ج 2، ص: 314

وقال كاشف الغطاء رحمه الله في كشف الغطاء: «لا ريب أنّه (أي القرآن) محفوظ في النقصان بحفظ الملك الديّان كما دلّ عليه صريح القرآن وإجماع العلماء في كلّ زمان ولا عبرة بنادر، وما ورد من أخبار النقص تمنع البديهة من العمل بظواهرها فلا بدّ من تأويلها» «1».

وقال الرافعي في إعجاز القرآن: «ذهب جماعة من أهل الكلام ممّن لا صناعة لهم إلّاالظنّ والتأويل واستخراج الأساليب الجدليّة من كلّ حكم وكلّ قول إلى جواز أن يكون قد سقط من القرآن شي ء حملًا على ما وصفوا من كيفية جمعه» «2».

هذا- وقد عرفت أنّه لا اعتبار بقول الشاذّ من أصحابنا ومن أهل السنّة بعد شهادة هؤلاء الأكابر بنفي التحريف مطلقاً، كما أنّك قد عرفت أنّ قول الشاذّ لا ينحصر بالشيعة بل في بعض الكتب المعروفة من السنّة ما يبدو منه أنّ هذا القول الشاذّ نشأ من قبلهم، فقد ورد في صحيح البخاري: روى ابن عبّاس: أنّ عمر قال فيما قال وهو على المنبر: «أنّ اللَّه بعث محمّداً صلى الله عليه و آله بالحقّ وأنزل عليه الكتاب فكان ممّا أنزل اللَّه آية الرجم فقرأناها وعقلناها ووعيناها فلذا رجم رسول اللَّه ورجمنا بعده فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: واللَّه ما نجد آية الرجم في كتاب اللَّه فيضلّوا بترك فريضة أنزلها اللَّه، والرجم في كتاب اللَّه حقّ على من زنى إذا أحصن من الرجال ... ثمّ إنّا كنّا نقرأ فيما نقرأ من كتاب اللَّه: أن لا ترغبوا عن آبائكم فإنّه كفرٌ بكم أن ترغبوا عن آبائكم أو: أنّ كفراً بكم أن ترغبوا عن آبائكم ...»

«3».

وآية الرجم التي ادّعى عمر أنّها من القرآن ولم يقبل منه أبو بكر لعدم دليل عليه: «إذا زنى الشيخ والشيخة فارجموهما البتة نكالًا من اللَّه واللَّه عزيز حكيم».

وروى عروة بن الزبير عن عائشة قالت: «كانت سورة الأحزاب تقرأ في زمن النبي صلى الله عليه و آله مأتي آية، فلمّا كتب عثمان المصاحف لم نقدر منها إلّاما هو الآن» «4».

انوار الأصول، ج 2، ص: 315

إلى غير ذلك من الرّوايات الشاذّة التي لا يقام لها وزن عندنا وعندهم، وأمّا العذر بأنّ ذلك من قبيل نسخ التلاوة فسيأتي عدم صحّته فانتظر.

المقدمة الثالثة: متى جمع القرآن؟
اشارة

فقال بعض بأنّه جمع على عهد أبي بكر، وقال بعض آخر أنّه جمع على عهد عمر، وجماعة كثيرة يقولون بأنّه جمع في زمن عثمان.

وهيهنا قول رابع وهو أنّ القرآن جمع على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ولم يقبض رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إلّا بعد أن جمع تمامه، وأمّا عثمان فهو إنّما نظّم القراءات المختلفة وجمع المسلمين على قراءة واحدة وهي القراءة التي كانت مشهورة بين المسلمين التي تلقّوها عن النبي صلى الله عليه و آله وأنّه منع عن القراءات الاخرى المبتنية على أحاديث نزول القرآن على سبعة أحرف، وأمّا نسبة بعضهم الجمع إلى أبي بكر وبعضهم الآخر إلى عمر وبعضهم الثالث إلى عثمان فلعلّ ذلك من حرص بعض الناس على تكثير مناقبهم وإلّا فلا دليل يعتدّ به عليه.

وينبغي هنا ذكر ما نقله الطبرسي رحمه الله في مقدّمة المجمع عن السيّد المرتضى رحمه الله في هذا المجال:

«إنّ القرآن كان يدرس ويحفظ جميعه في ذلك الزمان حتّى عيّن على جماعة من الصحابة في حفظهم له وإن كان يعرض على النبي صلى الله عليه و

آله ويتلى عليه، وإنّ جماعة من الصحابة مثل عبداللَّه بن مسعود وابيّ بن كعب وغيرهما ختموا القرآن على النبي صلى الله عليه و آله عدّة ختمات وكلّ ذلك يدلّ بأدنى تأمّل على أنّه كان مجموعاً مرتّباً غير مبتور ولا مبثوث» «1».

ويدلّ على صدق هذه الدعوى شواهد كثيرة:

منها: قضيّة كتّاب الوحي وشدّة إهتمام النبي صلى الله عليه و آله بكتابة القرآن، وقد نقل أنّه كان عنده لهذه المهمّة كتّاب كثيرون، والرّوايات في عددهم مختلفة من أربعة عشر كاتباً إلى ثلاثة وأربعين، قال في تاريخ القرآن «2»: «كان للنبي صلى الله عليه و آله كتّاب يكتبون الوحي وهم ثلاثة وأربعون أشهرهم الخلفاء الأربعة وكان ألزمهم للنبي زيد بن ثابت وعلي بن أبي طالب» وهذا يوجب عادةً أن يكون القرآن مجموعاً على عهده صلى الله عليه و آله.

انوار الأصول، ج 2، ص: 316

ومنها: ما يشبه الدليل العقلي، وهو عبارة عن عظمة القرآن في نفسه وأنّه بمنزلة القانون الأساسي لجميع أبعاد حياة الإنسان والمجتمع البشري وتمام رأس مال المسلمين، وهذا يقتضي اهتمام النبي صلى الله عليه و آله بحفظه وقراءته واهتمام المسلمين بما يهتمّ به النبي صلى الله عليه و آله.

وإن شئت قلت: إذا قلنا بأنّ النبي صلى الله عليه و آله كان لازماً عليه تعيين الإمام بعده لكونه حافظاً للشرع فبطريق أولى كان واجباً عليه أن يجمع القرآن الذي هو متن الشرع وقانون الشريعة ومعارف الإسلام ومصابيحه.

وينبغي هنا نقل ما ذكره في هذا المجال في كتاب البيان من «أنّ في القرآن جهات عديدة كلّ واحد منها تكفي لأن يكون القرآن موضعاً لعناية المسلمين وسبباً لاشتهاره حتّى بين الأطفال والنساء منهم فضلًا عن الرجال وهذه الجهات هي:

1- بلاغة القرآن: فقد

كانت العرب تهتمّ بحفظ الكلام البليغ ولذلك يحفظون أشعار الجاهلية وخطبها فكيف بالقرآن الذي تحدّى ببلاغته كلّ بليغ وأخرس بفصاحته كلّ خطيب لسن؟ وقد كانت العرب بأجمعهم متوجّهين إليه سواء في ذلك مؤمنهم وكافرهم، فالمؤمن يحفظه لإيمانه، والكافر يتحفّظ به لأنّه يتمنّى معارضته وإبطال حجّته.

2- إظهار النبي صلى الله عليه و آله رغبته بحفظ القرآن والاحتفاظ به، وكانت السيطرة والسلطة له خاصّة، والعادة تقضي بأنّ الزعيم إذا أظهر رغبته بحفظ كتاب أو بقراءته فإنّ ذلك الكتاب يكون رائجاً بين جميع الرعيّة الذين يطلبون رضاه لدين أو دنيا.

3- أنّ حفظ القرآن سبب لارتفاع شأن الحافظ بين الناس وتعظيمه عندهم فقد علم كلّ مطّلع على التاريخ ما للقرّاء والحفّاظ من المنزلة الكبيرة، والمقام الرفيع بين الناس، وهذا أقوى سبب لاهتمام الناس بحفظ القرآن جملة أو بحفظ القدر الميسور منه.

4- الأجر والثواب الي يستحقّه القارى ء والحافظ بقراءة القرآن وحفظه.

هذه أهمّ العوامل التي تبعث على حفظ القرآن والاحتفاظ به، وقد كان المسلمون يهتّمون بشأن القرآن ويحتفظون به أكثر من اهتمامهم بأنفسهم وبما يهمّهم من مال وأولاد، وقد ورد أنّ بعض النساء جمعت جميع القرآن ... وإذا كان هذا حال النساء في جميع القرآن فكيف يكون حال الرجال؟ وقد عدّ من حفّاظ القرآن على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله جمّ غفير، قال القرطبي:

«قد قتل يوم اليمامة سبعون من القرّاء وقتل في عهد النبي صلى الله عليه و آله ببئر معونة مثل هذا العدد، وقد

انوار الأصول، ج 2، ص: 317

تقدّم في الرّواية العاشرة أنّه قتل من القرّاء يوم اليمامة أربعمائة رجل» «1».

ومنها: أنّ من الأسامي المشهورة لسورة الحمد هو فاتحة الكتاب، والرّوايات التي لعلّها بالغة إلى حدّ التواتر تدلّ

على أنّ الرسول صلى الله عليه و آله نفسه سمّاها بهذا الاسم، وقد جمعت هذه الرّوايات في تفسير البرهان ونور الثقلين وغيرهما سيّما في درّ المنثور نذكر هنا من الأخير أربعة منها:

أحدها: أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: «كلّ صلاة لا تقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي حداج (يعنى ناقص).

ثانيها: قال رسول اللَّه: «لو أنّ فاتحة الكتاب جعلت على كفّة الميزان وجعل القرآن في كفّته الاخرى لفضلت فاتحة الكتاب».

ثالثها: أنّ رسول اللَّه قال: «فاتحة الكتاب شفاء من كلّ داء».

رابعها: قال رسول اللَّه: «إذا وضعت جنبك على الفراش وقرأت فاتحة الكتاب وقل هو اللَّه أحد فقد آمنت من كلّ شي ء إلّاالموت» «2».

هذا من ناحية، ومن ناحية اخرى أنّ سورة الحمد لم تكن أوّل سورة نزلت من القرآن، بل قال بعض: أنّها من السور المدنية لا المكّية فلو لم يكن القرآن قد جمع في عهد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لم يكن وجه لتسميتها بفاتحة الكتاب، وبالجملة أنّ ظاهر هذه التسمية من قبل النبي صلى الله عليه و آله جمع القرآن على عهده صلى الله عليه و آله.

ويؤيّده أنّ ظاهر حديث الثقلين (لو خلّينا وهذا الحديث) يؤكد أنّ القرآن كان مكتوباً مجموعاً منظّماً في زمن صدور هذا الحديث لأنّه لا يصحّ إطلاق الكتاب عليه وهو في الصدور.

ومنها: إطلاق لفظ الكتاب على القرآن في كثير من آياته الكريمة فإنّها دالّة على أنّ سور القرآن كانت متميّزة في الخارج بعضها عن بعض ومنتشرة بين الناس حتّى المشركين وأهل الكتاب، ولذلك قد تحدّاهم على الإتيان بمثله أو بعشر سور مثله مفتريات أو بسورة من مثله.

ومنها: روايات صرّح فيها بأنّ القرآن قد جمع على عهد رسول اللَّه

صلى الله عليه و آله ومن جملتها ما

انوار الأصول، ج 2، ص: 318

رواه البخاري «1» في صحيحه عن قتادة: سألت أنس بن مالك: من جمع القرآن على عهد النبي صلى الله عليه و آله؟ قال: «أربعة كلّهم من الأنصار، ابي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زبيد».

ومن هذه الرّوايات ما رواه النسائي بسند صحيح عن عبداللَّه بن عمر قال: «جمعت القرآن فقرأت به كلّ ليلة فبلغ النبي صلى الله عليه و آله فقال اقرأه في شهر ...».

ومنها: ما رواه منتخب كنز العمال «2» عن الطبراني وابن عساكر عن الشعبي قال: «جمع القرآن على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ستّة من الأنصار: ابي بن كعب وزيد بن ثابت ومعاذ بن جبل وأبو الدرداء وسعد بن عبيد وأبو زيد، وكان مجمع بن جارية قد أخذه إلّاسورتين أو ثلاث».

هذه هي الوجوه والقرائن التي تدلّ على أنّ القرآن قد جمع على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، ولو أُورد على بعض هذه القرائن فلا أقلّ من أنّ في مجموعها بما هو المجموع غنىً وكفاية في الدلالة على المقصود.

بقي هنا أمران:

أحدهما: جمع القرآن من قِبل أمير المؤمنين عليه السلام.

والثاني: جمع القرآن من قِبل عثمان.

أمّا الأمر الأول: فقد ورد في الرّوايات أنّ أمير المؤمنين علي عليه السلام لزم بيته بعد وفاة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ولم يخرج من بيته حتّى جمع القرآن مع تنزيله وتأويله والناسخ منه والمنسوخ، وهو بحسب الواقع جمع لتفسير القرآن الكريم، ويشهد لذلك عدّة من الرّوايات:

منها: ما رواه في البحار عن كتاب سليم بن قيس: أنّ أمير المؤمنين لمّا رأى غدر الصحابة وقلّة وفائهم لزم بيته، وأقبل على

القرآن يؤلّفه ويجمعه فلم يخرج من بيته حتّى جمعه، وكان في المصحف والشظاظ والأسيار والرقاع فلمّا جمعه كلّه وكتبه بيده تنزيله وتأويله والناسخ منه والمنسوخ بعث إليه أبو بكر أن اخرج فبايع فبعث إليه أنّي مشغول فقد آليت على نفسي يميناً

انوار الأصول، ج 2، ص: 319

ألّا أرتدي برداء إلّاللصلاة حتّى اؤلّف القرآن وأجمعه «1».

وهذه الرّواية بقرينة قوله «تنزيله وتأويله والناسخ منه والمنسوخ» الذي هو بدل عن الضمير في قوله «جمعه وكتبه» وكذلك سائر الرّوايات الواردة في الباب تدلّ على أنّ القرآن الذي جمعه أمير المؤمنين كان تفسيراً للقرآن وشرحاً لمعاني آياته ومواقع بيّناته لا أنّه كان فيه زيادة على هذه الآيات الموجودة أو تغيير.

وأمّا الأمر الأوّل فقد وردت روايات صريحة طائفة منها أنّ القرآن جمع على عهد أبي بكر، وصريحة طائفة اخرى منها أنّ الجمع كان على عهد عمر، وظاهر طائفة ثالثة منها أنّه كان في زمن عثمان فهي متناقضة في أنفسها فلا يمكن الاعتماد على شي ء منها، ولعلّ صدورها من باب تكثير المناقب كما مرّت الإشارة إليه سابقاً.

هذا- مضافاً إلى أنّ المستفاد من بعض الرّوايات أنّ عثمان إنّما أمر بجمع القرآن لحمل الناس على القراءة بوجه واحد، وهي القراءة المشهورة بين الناس (كما أشرنا إليه سابقاً)، والمنع عن القراءات الاخرى، لا أنّه جمع الآيات والسور في مصحف، ففعل ما لم يفعل في زمن النبي صلى الله عليه و آله، واختلاف القراءات لم يكن مقصوراً على مجرّد اختلاف الاعراب والحركات بل يعمّ التغيير لبعض الكلمات أيضاً كما روي أنّ عمر كان يقرأ في سورة الجمعة: «فامضوا» بدلًا عن قوله تعالى: «واسعوا».

ففي بحار الأنوار عن البخاري والترمذي عن الزهري عن أنس بن مالك: «أنّ حذيفة بن اليمان

قدم على عثمان وكان يغازي أهل الشام في فتح ارمينية وآذربيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم في القرآن فقال حذيفة لعثمان: إدرك هذه الامّة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى، فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف، ننسخها في المصاحف، ثمّ نردّها إليك فأرسلت بها إليه فأمر زيد بن ثابت وعبداللَّه بن الزبير وسعيد بن العاص وعبدالرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرهط القرشيّين: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شي ء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش انوار الأصول، ج 2، ص: 320

فإنّما نزل بلسانهم ففعلوا حتّى إذا نسخوا الصحف في المصاحف، ردّ عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كلّ افق بمصحف ممّا نسخوا، وأمر بما سوى ذلك من القرآن في كلّ صحيفة أو مصحف أن يحرق» «1».

فإنّ هذه الرّواية صريحة في أنّ جمع عثمان كان لأجل رفع الاختلافات الواردة في القراءات لا جمع الآيات والسور في مصحف.

هذا كلّه في المقدّمات الثلاث التي كان يجب ذكرها قبل الخوض في أصل البحث عن التحريف وأدلّة الطرفين.

أدلّة القائلين بعدم تحريف كتاب اللَّه:

إذا عرفت ذلك فنقول: أمّا القائلون بعدم تحريف القرآن فاستدلّوا بوجوه عمدتها ثلاثة:

الوجه الأوّل: ما يشبه الدليل عقلي وهو مجموعة «2» من القرائن التي توجب اليقين الباتّ بعدم التحريف، وهي ما مرّ سابقاً في مقام إثبات وقوع جمع القرآن على عهد النبي صلى الله عليه و آله ضمن الشواهد الدالّة على جمعه في ذلك العهد من اهتمام النبي صلى الله عليه و آله بحفظه وقراءته واهتمام المسلمين بما يهتمّ به النبي صلى الله عليه و آله وغيرهما من الجهات العديدة المذكورة هناك فراجع.

ونؤكّد هنا على ذلك أيضاً بما ورد في القرآن نفسه من

قوله تعالى: «إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَي اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنْ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ» «3»

. فهذه تدلّ على شدّة اهتمام النبي والمسلمين بقراءة القرآن من الصدر الأوّل حتّى إنّهم كانوا يقومون كثيراً من الليل لم يكن لهم همّ إلّاتلاوة القرآن.

وبما ورد في الأخبار ممّا يدلّ أيضاً على إهتمام المسلمين بتلاوته فإذا مرّ عليهم أحد يسمع انوار الأصول، ج 2، ص: 321

لهم دويّاً كدويّ النحل، واهتمامهم بالتبرّك به حتّى صاروا يجعلون تعليمه مهراً لأزواجهم.

فمع ملاحظة هذه الجهات والقرائن يحكم العقل بعدم إمكان أن تنال أيدي التحريف إليه.

الوجه الثاني: آيات من نفس الكتاب العزيز كالصريحة في الدلالة على عدم التحريف، ولا يخفى أنّ الاستدلال بها ليس دوريّاً لأنّ المدّعى يدّعي التحريف بالنقيصة لا الزيادة والقرآن الموجود في يومنا هذا بما فيه من الآيات مقبول عند الجميع:

منها قوله تعالى: «وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمجْنُونٌ لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنْ الصَّادِقِينَ مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ» «1»

ولتقريب دلالة هذه الآية على المقصود لابدّ من تفسير كلمتين: «الذكر» والحفظ» فما المراد من الذكر؟ وما المراد من الحفظ؟

فنقول: أمّا معنى كلمة الذكر فواضح لأنّ قوله تعالى: «وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ» شاهد قطعي على أنّ المراد من الذكر في قوله تعالى: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ» هو القرآن بل هذه الآية تدلّ على شهرة هذا الاسم للقرآن بحيث يستعمله الكفّار المنكرون للوحي أيضاً.

أضف إلى ذلك وجود آيات كثيرة تطلق هذا الاسم على القرآن: منها قوله تعالى:

«وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ» «2»

، ومنها قوله تعالى: «وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ» «3»

، والأوضح منها قوله تعالى: «إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ» «4»

، وقوله تعالى: «أَؤُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي» «5»

، وقوله تعالى: «وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ» «6»

وقوله تعالى: «وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ» «7».

انوار الأصول، ج 2، ص: 322

وما قد يقال: من أنّ المراد منه هو النبي صلى الله عليه و آله وقوله تعالى: «نَزَّلْنَا» بمعنى «أرسلنا» وذلك بقرينة قوله تعالى: «فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُوْلِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ» «1»

حيث إن كلمة «رسولًا» وقعت في هذه الآية بدلًا عن كلمة «ذكراً» فيكون الذكر بمعنى الرسول.

فجوابه أوّلًا: لو سلّم استعمال الذكر في خصوص هذه الآية في الرسول مجازاً فهو لا يوجب استعماله فيه مجازاً أيضاً في سائر الآيات من دون نصب قرينة عليه مع صراحته في تلك الآيات في القرآن.

ثانياً: إنّ استعماله في الرسول في هذه الآية أيضاً محلّ كلام، لأنّه لا مناصّ في الآية من إرتكاب أحد خلافي الظاهر: أحدهما إطلاق الذكر على الرسول مع عدم كونه في اللغة بمعنى الرسول كما هو واضح، وثانيهما كون الرسول مفعولًا به لفعل محذوف أعني «أرسل»، وكثير من المفسّرين رجّحوا الثاني على الأوّل وهو المختار في كتابنا في التفسير.

ثالثاً: لو سلّمنا أنّ الذكر في الآية المبحوث عنها في محلّ النزاع بمعنى الرسول لكن لا بأس أيضاً بالاستدلال بها على المطلوب ببيان إنّه إذا دلّت الآية على محافظته تعالى عن الرسول فتدلّ على حفظه للقرآن الكريم بطريق أولى.

وأمّا

كلمة الحفظ: فيحتمل فيها وجوه عديدة:

أحدها: أن يكون المراد منها الحفظ المنطقي والاستدلالي، ويكون المقصود حينئذٍ أنّه لا يصير مغلوباً لأي منطق واستدلال.

الثاني: أن يكون بمعنى العلم، أي «وإنّا له لعالمون».

الثالث: أن يكون المراد منه الحفظ من جميع الجهات من الزيادة والنقصان ومن المقابلة بالمثل والغلبة بالمنطق وغيرها، وهذا هو الظاهر، ولا دليل على التحديد والتقييد.

إن قلت: إن كان المراد من الحفظ الحفظ العامّ ومن جميع الجهات فهو متيقّن العدم لما وقع في التاريخ بالنسبة إلى مصاحفه من الإندراس والصبّ في البحر وإحراقها من جانب عثمان وغيره أحياناً بأي غرض كان، وإن كان المراد منه حفظ مّا، فهو حاصل ولو بالقرآن المحفوظ عند

انوار الأصول، ج 2، ص: 323

الحجّة عليه السلام وحينئذٍ لا تدلّ الآية على المدّعى.

قلنا: إنّ للحفظ معناً عرفياً لا يصدق على شي ء من المعنيين (الحفظ الكلّي والحفظ الجزئي) وهو كون الكتاب في أيدي الناس ووجوده بينهم، فالمراد من قوله تعالى «لحافظون» لحافظونه عند الناس وبينهم لا بمعنى حفظ جميع المصاديق أو مصداق من مصاديقه، كما أنّه إذا قيل «إنّ ديوان الشاعر الفلان موجود ومحفوظ إلى اليوم» لا يكون المقصود منه أنّ جميع مصاديقه بقيت محفوظة أو مصداق من مصاديقه محفوظ في متحف من المتاحف بل المراد منه بقاؤه بين الناس وبين أيديهم كما لا يخفى.

إن قلت: إنّ هذه الآية مكّية تشمل الآيات النازلة إلى زمان نزولها لا غيرها.

قلنا: لا خصوصيّة للآيات المكّية قطعاً لأنّ القرآن كتاب هداية يحتاج إليه الناس في هدايتهم، ولا فرق في هذه الجهة بين آية وآية، وحفظ بعضها دون بعض من جانب الحكيم لغو وترجيح بلا مرجّح.

وبالجملة هذا الإشكال من أضعف الإشكالات وأرديها.

ومنها: قوله تعالى «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ

وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَايَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ» «1».

وقبل تقريب الاستدلال بها لابدّ من تعيين خبر «إنّ» في قوله تعالى: «إنّ الذين كفروا ...» فنقول: فيه ثلاث وجوه:

الأوّل: (وهو أحسنها الذي ذهب إليه الطبرسي رحمه الله في مجمع البيان) أن يكون الخبر في التقدير، أعني «سوف يجازيهم اللَّه» أو «سيجازيهم اللَّه».

الثاني: أن يكون الخبر قوله تعالى في بعض الآيات اللاحقة «اولئك ينادون من مكان بعيد»، لكن هذا المقدار من الفصل بين المبتدأ والخبر بعيد في الكلام الفصيح.

الثالث: أن يكون الخبر قوله تعالى: «وإنّه لكتاب عزيز» بأن يكون المقصود منه أنّه لا يقدر أحد على أن يغلب كتاب اللَّه لكونه عزيزاً، فوقع علّة الخبر موقعه.

وكيف كان فتقريب الاستدلال بهذه الآية على عدم التحريف يتوقّف على بيان معنى انوار الأصول، ج 2، ص: 324

الباطل في قوله تعالى: «لَايَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ» فقد ذكر فيه وجوه عديدة:

أحدها: كونه بمعنى المقابلة بالمثل فيكون المعنى حينئذٍ «لا يأتيه مثل له حتّى يبطله».

ثانيها: أن يكون بمعنى الشيطان، فيكون المراد أنّ الشيطان لا يمكنه أن يحرّفه أو يمحوه من القلوب.

ثالثها: كونه بمعنى النسخ، أي لا تضادّه الكتب السماويّة من قبل ولا ينسخه كتاب سماوي من بعد.

رابعها: أن يكون بمعنى الكذب في الأخبار كما نقل الطبرسي رحمه الله عن الإمام الباقر عليه السلام:

«ليس في أخباره عمّا مضى باطل ولا عمّا يكون في المستقبل باطل» «1».

خامسها: كونه بمعنى مطلق البطلان، فيكون المقصود: لا يأتيه أي باطل من أي جهة من الجهات كما ورد في مجمع البيان: «لا تناقض في ألفاظه ولا كذب في أخباره ولا يعارض ولا يزداد ولا يغيّر» «2».

وهذا هو المختار لأنّه

لا وجه للتقييد ما دام لم توجد قرينة عليه، وقوله تعالى في الذيل:

«تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ» بمنزلة التعليل للصدر، أي كما أنّ المنزل منه يكون عالماً حكيماً ومنعماً حميداً إلى الأبد لابدّ أن يكون المنزل الذي هو حكمة من جانب ونعمة من جانب آخر باقياً بين الناس أيضاً.

وأمّا تفسير الباطل بالكذب في الرّواية فهو من باب ذكر أحد المصاديق الواضحة وما كان محلًا لحاجة الناس.

إن قلت: إن كان المراد من عدم إتيان الباطل عدمه على نهج القضيّة الكلّية فهو قطعي البطلان (كما مرّ نظيره في الآية السابقة) وإن كان المراد عدم الإتيان على نهج القضيّة الجزئيّة فهو يصدق بالنسبة إلى المصحف الموجود عند الإمام الحجّة عليه السلام فلا يثبت عدم إتيانه الباطل بالإضافة إلى غيره من المصاحف.

قلنا: الجواب هو الجواب، وهو أنّ الحفظ أو عدم إتيان الباطل مفهوم عرفي والقرآن كتاب انوار الأصول، ج 2، ص: 325

للهداية فلا يصدق هذا العنوان إذا لم يكن القرآن محفوظاً بين الناس لهدايتهم وإن كان محفوظاً عند الإمام الحجّة عليه السلام.

وأمّا الإشكال الآخر الذي أورد على الآية السابقة المبنى على كون الآية مكّية فلا يرد هنا لأنّ ذيل الآية: «من بين يديه ومن خلفه» يعمّ عدم الإيتان في المستقبل أيضاً.

الوجه الثالث: روايات لا إشكال في دلالتها على عدم التحريف قطعاً:

منها: حديث الثقلين المتواتر من طرق العامّة والخاصّة «1» حيث إنّه ورد في ذيلها: «ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا» وفي بعض الطرق «لن تضلّوا أبداً».

فاستدلّ بها بملاحظة هذا الذيل بأحد وجهين:

الأوّل: أنّ مقتضى الذيل بقاء ما يمكن أن يتمسّك به بعد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إلى الأبد مع أن التحريف بحذف بعض الآيات يوجب سلب الاعتماد عن

سائر الآيات بمقتضى ما روي أنّ القرآن يفسّر بعضه بعضاً، فتسقط بقيّة الآيات عن الحجّية.

الثاني: (وهو العمدة) أنّ مقتضاه عدم ضلالة الامّة إذا تمسّكوا بهذا الكتاب العزيز، والقول بالتحريف بالنقيصة من شأنه سلب المصداقيّة الاهتداء بالقرآن فلا يأمن من الضلالة، لأنّ الآيات المحذوفة لابدّ وأن تكون ممّا يرتبط بباب الولايات والسياسيات كما مرّ، والقرآن المجرّد عنها لا يمكن أن يمنع عن الضلالة.

إن قلت: لا فرق في هذه الجهة بين الثقل الأكبر والأصغر، فكما أنّ الحرمان عن هداية الثقل الأصغر بغيبة الإمام عليه السلام لا ينافي هذه الرّواية كذلك الحرمان عن هداية الثقل الأكبر.

قلنا: الفرق بينهما واضح، وذلك لأنّ غيبة الإمام عليه السلام لا تنافي بقاء اهتداء الناس به لأنّهم عليهم السلام أراؤوا طرق الهداية في أكثر من مأتي سنة ضمن رواياتهم، وقد أودعوا هداياتهم في طيّات أخبارهم فهم متمثّلون ضمن هذه الأخبار، وكأنّهم إحياء بحياتها وبقائها، بينما تحريف القرآن يقتضي الحرمان عن هدايته بعد وفاة النبي صلى الله عليه و آله من دون فصل، لأنّ القائل بالتحريف يقول بوقوعه بعد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إلى زمن جمع عثمان له من دون أن يقوم مقامه شي ء، نعم هذا القياس يتمّ لو وقعت الغيبة أيضاً بمجرّد وفاة النبي صلى الله عليه و آله.

انوار الأصول، ج 2، ص: 326

ومنها: روايات ظاهرها أنّ القرآن معيار لتشخيص الحقّ والباطل في الرّوايات مطلقاً، وتأمرنا بعرض الرّوايات جميعها عليه، وهي تنافي تحريف القرآن لأنّ تحريفه يلازم حذف ما كان معياراً للعديد من الرّوايات، ولازمه كون القرآن معياراً نسبياً لا مطلقاً بحيث يعمّ جميع الرّوايات.

ومنها: روايات تأمرنا وتشوّقنا باتّباع القرآن، وهي ظاهرة في أنّه وسيلة جامعة كاملة للهداية، منها ما ورد

في نهج البلاغة في ذمّ الأخذ بالأقيسة والاستحسانات والآراء الظنّية:

«أم أنزل اللَّه سبحانه ديناً ناقصاً فاستعان بهم على إتمامه أم كانوا شركاء له، فلهم أن يقولوا، وعليه أن يرضى؟ أم أنزل اللَّه سبحانه ديناً تامّاً فقصّر الرسول صلى الله عليه و آله عن تبليغه وأدائه، واللَّه سبحانه يقول: ما فرّطنا في الكتاب من شي ء وفيه تبيان لكلّ شي ء» «1».

وكذلك قوله عليه السلام فيه أيضاً: «وأنزل عليكم الكتاب تبياناً لكلّ شي ء وعمّر فيكم نبيّه أزماناً حتّى أكمل له ولكم فيما انزل من كتابه دينه الذي رضى لنفسه» «2».

وقوله فيه أيضاً: «وكتاب اللَّه بين أظهركم ناطق لا يعيا لسانه وبيت لا تهدم أركانه وعزّ لا تهزم أعوانه» «3».

وكذلك قوله فيه أيضاً: «كأنّهم أئمّة الكتاب وليس الكتاب إمامهم» «4».

وهكذا قوله عليه السلام: «وعليكم بكتاب اللَّه فإنّه الحبل المتين والنور المبين والشفاء النافع والري الناقع والعصمة للتمسّك والنجاة للمتعلّق لا يعوّج فيقام ولا يزيغ فيستعتب ولا تخلقه كثرة الردّ ولوج السمع، من قال به صدق ومن عمل به سبق» «5».

وقوله عليه السلام: «ثمّ أُنزل عليه الكتاب نوراً لا تطفأ مصابيحه وسراجاً لا يخبو توقّده وبحراً لا يدرك قعره، ومنهاجاً لا يضلّ نهجه وشعاعاً لا يظلم ضوءه وفرقاناً لا يخمد برهانه وتبياناً لا تهدم أركانه ...» «6».

انوار الأصول، ج 2، ص: 327

فإنّ المستفاد من جميع ذلك أنّ كتاب اللَّه بجميع ما أُنزل على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله موجود بين الناس يستضاء بنور هدايته ويهتدي بهداه، ولو كان الكتاب محرّفاً أو ناقصاً في شي ء من آياته لما كان له هذه المنزلة وتلك الآثار.

أضف إلى ذلك: أنّ قوله: «كتاب اللَّه بين أظهركم» بلفظه شاهد لوجود جميع الكتاب بين أظهر الناس.

فتلخّص

من جميع ذلك أنّ الأدلّة العقليّة والنقليّة متظافرة على بطلان مزعمة التحريف وأنّ كتاب اللَّه محفوظ بين الامّة كما نزل على رسول اللَّه مضافاً إلى الشهرة القطعيّة بين علماء الفريقين ومحقّقيهم.

أدلّة القائلين بالتحريف ونقدها
اشارة

وأمّا أدلّة القائلين بالتحريف فالمهمّ منها روايات كثيرة جمعها المحدّث النوري في كتابه الموسوم بفصل الخطاب، وهي على طوائف:

الطائفة الاولى: روايات لا شكّ في كونها مجعولة غير معقولة
اشارة

منها: ما روي عن الاحتجاج «1» عن أمير المؤمنين عليه السلام في جواب زنديق الذي سأله عن عدم التناسب بين الشرط والجزاء في قوله تعالى في صورة النساء: «وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ» «2»

: «وأمّا ظهورك على تناكر قوله: فإن خفتم ألّا تقسطوا في اليتامى وليس يشبه القسط في اليتامى بنكاح النساء ولا كلّ النساء أيتاماً فهو ممّا قدّمت ذكره من اسقاط المنافقين من القرآن وبين القول في اليتامى وبين نكاح النساء من الخطاب والقصص أكثر من ثلث القرآن» «3».

انوار الأصول، ج 2، ص: 328

فإنّ هيهنا نكات لا بدّ من ملاحظتها:

أوّلًا: كيف يمكن أن يحذف من القرآن الذي كان يقرأ ليلًا ونهاراً وكان له أربعة عشر أو أكثر من أربعين كاتباً ومئات من القرّاء والحفّاظ، الآلاف من آياته فإنّ هذا أمر مستحيل عادةً لا يتفوّه به عاقل.

ثانياً: ما هو الوجه والداعي لحذف هذه الآيات في خصوص ذلك المورد وهو ما بين شرط وجزاء، فلا يتصوّر له وجه ولا يوجد له داع.

ثالثاً: يوجد هنا ربط واضح بين الشرط والجزاء يتّضح لنا بملاحظة شأن نزول هذه الآية فقد ذكر له وجوه ستّة «1» عمدتها أربعة:

الوجه الأوّل: أنّهم كانوا في الجاهلية يأخذون إليهم الأيتام الصغيرة من النساء، وذلك لقلّة صداقهنّ أو عدم صداق لهنّ أوّلًا، ولأنّ لهم أموالًا كثيرة ثانياً فيتزوّجون بهنّ ويأكلون أموالهنّ إلى أموالهم ثمّ لا يقسطون فيهنّ وربّما أخرجوهنّ بعد أكل مالهنّ فيصرن عاطلات ذوات مسكنة لا مال لهم يرتزقن منه ولا راغب فيهنّ فيتزوجنّ، وقد شدّد القرآن الكريم النكير

على هذا الدأب الخبيث والظلم الفاحش وأكّد النهي عن ظلم اليتامى وأكل أموالهم ضمن آيات عديدة فأعقب ذلك أنّ المسلمين أشفقوا على أنفسهم وخافوا خوفاً شديداً حتّى أخرجوا اليتامى من ديارهم خوفاً من الابتلاء بأموالهم والتفريط في حقّهم، فنزلت هذه الآية وهي واقعة موقع التأكيد بالنسبة إلى النهي الواقع في تلك الآيات، والمعنى: «اتّقوا أمر اليتامى ولا تتبدّلوا خبيث أموالكم بطيّب أموالهم ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم حتّى أنّكم إن خفتم أن لا تقسطوا في اليتيمات منهم ولم تطب نفوسكم أن تنكحوهنّ وتتزوّجوا بهنّ فدعوهنّ وانكحوا نساءً غيرهنّ ما طاب لكم مثنى وثلاث ورباع، فقول «فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ» في معنى قولنا «إن لم تطب لكم اليتامى للخوف من عدم القسط فلا تنكحوهنّ وانكحوا نساءً غيرهنّ».

الوجه الثاني: أنّهم كانوا يشدّدون في أمر اليتامى ولا يشدّدون في أمر النساء فيتزوجون منهنّ عدداً كثيراً ولا يعدلون بينهنّ فقال تعالى: إن كنتم تخافون أمر اليتامى فخافوا في النساء

انوار الأصول، ج 2، ص: 329

أيضاً فانكحوا منهنّ واحدة إلى أربع.

الوجه الثالث: أنّه كان الرجل منهم يتزوّج بالأربع والخمس وأكثر، ويقول: ما يمنعني أن أتزوّج كما تزوّج فلان فإذا فنى مال نفسه مال إلى مال اليتيم الذي في حجره فنهاهم اللَّه عن أن يتجاوز والأربع لئلّا يحتاجوا إلى أخذ مال اليتيم ظلماً.

الوجه الرابع: أنّ المعنى «إن خفتم أن لا تقسطوا في اليتيمة المربّاة في حجوركم فانكحوا ما طاب لكم من النساء ممّا أُحلّ لكم من يتامى قرباتكم مثنى وثلاث ورباع».

فعلى هذا يكون ربط الشرط والجزاء هنا ظاهر لمن تدبّر الآيات السابقة واللاحقة عليها وما ورد في شأن نزولها، فلا يبقى موضع لتقدير واحدة من الآيات فضلًا عن القول باسقاط ثلث

القرآن بينها والعياذ باللَّه.

ومنها: ثلاث روايات تدلّ على حذف إثنى عشر ألف آية، وقد نقل بعضها حتّى في مثل كتاب الكافي للكليني رحمه الله وذكرها المحدّث النوري في فصل الخطاب ضمن الدليل الحادي عشر على التحريف:

أحدها: ما رواه هشام بن سالم عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «إنّ القرآن الذي جاء به جبرئيل إلى محمّد صلى الله عليه و آله سبعة عشر ألف آية» «1».

ثانيها: ما رواه المولى محمّد صالح المازندراني في شرح الكافي عن كتاب سليم بن قيس الهلالي أنّ أمير المؤمنين عليه السلام بعد وفاة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لزم بيته وأقبل على القرآن يجمعه ويؤلّفه فلم يخرج به من بيته حتّى جمعه كلّه وكتب على تنزيله الناسخ والمنسوخ منه والمحكم والمتشابه والوعد والوعيد وكان ثمانية عشر ألف آية «2».

ثالثها: ما رواه أحمد بن محمّد السياري في كتاب القراءات عن علي بن الحكم عن هشام بن سالم قال قال أبو عبداللَّه عليه السلام: «القرآن الذي جاء به جبرئيل عليه السلام إلى محمّد صلى الله عليه و آله عشرة ألف آية».

قال المحدّث النوري رحمه الله بعد نقل هذه الرّواية في فصل الخطاب: «كذا في نسختي وهي سقيمة والظاهر سقوط كلمة سبعة لاتّحاده متناً وسنداً لما في الكافي بل لا يبعد كون ما فيه انوار الأصول، ج 2، ص: 330

مأخوذاً منه فإنّ محمّد بن يحيى يروي عن السياري، أو ثمانية لمطابقته للموجود في كتاب سليم» «1».

منها: ما رواه زرّ قال: قال ابي بن كعب يازرّ: كأيّن تقرأ سورة الأحزاب؟ قلت: ثلاث وسبعين آية وقال: «إن كانت، لتضاهى سورة البقرة أو هي أطول من سورة البقرة ...» «2». فسقطت منها 213 آية وهي تعادل

34 مجموع هذه السورة.

ومنها: سورة نقلها المحدّث النوري رحمه الله في فصل الخطاب عن كتاب يسمّى بدبستان المذاهب وحكاها الميرزا الآشتياني رحمه الله في حاشيته على الرسائل (بحر الفوائد) أيضاً.

ففي فصل الخطاب: «صاحب كتاب دبستان المذاهب بعد ذكر اصول عقائد الشيعة ما معناه: وبعضهم يقولون أنّ عثمان أحرق المصاحف وأتلف السور التي كانت في فضل علي وأهل بيته عليهم السلام منها هذه السورة (ثمّ ذكر ما سمّاه بعضهم بسورة الولاية التي تلوح منه آثار الجعل والتزوير كما يأتي الكلام فيه)، ثمّ ذكر بعد ذلك ما نصّه: قلت ظاهر كلامه أنّه أخذها من كتب الشيعة ولم أجد لها أثراً فيها غير أنّ الشيخ محمّد بن علي بن شهر آشوب المازندراني ذكر في كتاب المثالب على ما حكي عنه أنّهم أسقطوا من القرآن تمام سورة الولاية ولعلّها هذه السورة واللَّه العالم» «3».

أقول: لم تنقل هذه السورة (كما صرّح به المحدّث نفسه) في كتاب آخر غير كتاب دبستان المذاهب، وصاحب هذا الكتاب مجهول مجهول، وقيل: لعلّه مجوسيّ لأنّ أكثر مطالب كتابه ناظرة إلى مقالات المجوس، وكأنّه أراد بذلك الازراء على المسلمين وإيراد النقص على الكتاب العزيز الذي هو أساس الإسلام والدعوة المحمّديّة.

ويؤيّد ذلك ما حكى مؤلّف كتاب «برهان روشن» «4» عن بعض الأعاظم من العلماء أنّ مؤلّف هذا الكتاب (دبستان المذاهب) من الملاحدة، وكان مقصوده من تأليفه هذا- إيجاد الاختلاف بين المسلمين.

انوار الأصول، ج 2، ص: 331

كما أنّ من تأمّل في محتوى هذه السورة وكان له أنس مع سياق آيات القرآن الكريم يرى تعبية ما يقرب من ثلاثين آية من آيات الكتاب الكريم ضمنها بدون تناسب ولا تلائم بينها وبين بقية آيات السورة ممّا يشير إلى أنّه أضافها إليها.

ومنها:

ما رواه سعد بن عبداللَّه القمّي رحمه الله قال: «وقرأ أحد سورة الحمد على أبي عبداللَّه فردّ عليه وقال: اقرأ: صراط من أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم وغير الضالّين» «1».

منها: ما رواه سعد بن عبداللَّه القمّي قال: وقوله تعالى في سورة عمّ يتساءلون: «وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَاباً» إنّما هو: «ياليتني كنت ترابيّاً» وذلك أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كنّى أمير المؤمنين عليه السلام بأبي تراب «2».

هذه هي الطائفة الاولى من الرّوايات التي استدلّ بها على التحريف، وهي روايات لا تعقل صحّتها ولا شكّ في كونها مجعولة مدسوسة.

أمّا رواية الاحتجاج وما نقلناه من كتاب دبستان المذاهب فقد مرّ الجواب عنهما، وأمّا رواية ما قبل الأخيرة فلأنّ سورة الحمد لا تزال تقرأ بين المسلمين من أي فرقة كانوا ليلًا ونهاراً وفي كلّ زمان ومكان، ولا أقلّ من قراءتها في كلّ يوم عشر مرّات في صلواتهم، فكيف يتصوّر تحريفها بما ذكر في هذه الرّواية؟ وكذلك رواية ابي بن كعب بالنسبة إلى سورة الأحزاب، لأنّه لا يعقل حذف هذا المقدار الكثير من سورة واحدة مع شدّة اهتمام المسلمين بها وحفظهم لها.

وأمّا رواية سعد بن عبداللَّه القمّي بالنسبة إلى قوله: «ياليتني كنت تراباً» فلأنّ بيان هذا المعنى بتلك العبارة ركيك جدّاً لا يلائم فصاحة القرآن وبلاغته.

تبقى الرّوايات الدالّة على حذف آلاف من الآيات فالجواب عنها:

أوّلًا: ما مرّ من أنّه لا يعقل إسقاط عشرة آلاف بل أكثر من الآيات مع اهتمام كثير بحفظها وجمعها وتلاوتها ليلًا ونهاراً، ولا يتفوّه بذلك عاقل.

وثانياً: ما يتمّ بيانه في ترجمة راوي بعض هذه الرّوايات وموقف كتاب فصل الخطاب:

أمّا الراوي فهو أحمد بن محمّد السياري الذي نقل كثيراً من الرّوايات الواردة

في كتاب انوار الأصول، ج 2، ص: 332

فصل الخطاب (وهي 188) رواية بناءً على إحصاء مؤلّف كتاب «برهان روشن») بحيث ينبغي أن يلقّب ببطل التحريف، وقد عبّر المحدّث النوري رحمه الله عن هذه الرّوايات بالروايات المعتبرة مع أنّ أحمد بن محمّد السياري كما صرّح به علماء الرجال: ضعيف فاسد المذهب مجهول الرّواية كثير المراسيل «1»، فمع كونه بهذه الدرجة من فساد العقيدة وكذب الأقوال كيف يكون أميناً على التنزيل ويقبل قوله بعنوان كلمات المعصومين.

قيمة كتاب فصل الخطاب!!

وأمّا كتاب «فصل الخطاب» فقال المحدّث النوري رحمه الله في مقدّمته: «وبعد فيقول العبد المذنب المسي ء حسين بن محمّد تقي النوري الطبرسي جعله اللَّه تعالى من الواقفين ببابه المتمسّكين بكتابه: هذا كتاب لطيف وسفر شريف عملته في إثبات تحريف القرآن وفضائح أهل الجور والعدوان وسمّيته فصل الخطاب في تحريف كتاب ربّ الأرباب» ثمّ ذكر مباحثه ضمن ثلاث مقدّمات وبابين، وذكر في الباب الأوّل إثنى عشر دليلًا بزعمه على وقوع التحريف في كتاب اللَّه العزيز، وفي الباب الثاني أجاب عن أدلّة القائلين بعدم تطرّق التغيير فيه بأجوبة واهيّة لا تسمن ولا تغني.

وقام تلميذه المحدّث الطهراني رحمه الله في مقام الدفاع عن الاستاذ في موضعين: مقدّمة المستدرك والذريعة «2»، وإليك عبارته في مقدّمة المستدرك ملخّصاً: «إنّ شيخنا النوري كان يقول (حسبما شافهناه به وسمعناه من لسانه في أواخر أيّامه) أخطأت في تسمية الكتاب وكان الأجدر أن يسمّى بفصل الخطاب في عدم تحريف الكتاب وذلك لأنّي أثبتّ فيه أنّ كتاب الإسلام الموجود بين الدفتين المنتشر في أقطار العالم وحي إلهي بجميع سوره وآياته وجمله لم يطرأ عليه تغيير أو تبديل ولا زيادة ولا نقصان من لدن جمعه حتّى اليوم وقد وصل إلينا المجموع الأولي بالتواتر

القطعي، ولا شكّ لأحد من الإماميّة فيه، فبعد ذا من الإنصاف أن يقاس الموصوف بهذه الأوصاف بالعهدين أو الأناجيل المعلومة أحوالها لدى كلّ خبير. هذا

انوار الأصول، ج 2، ص: 333

ما سمعناه من قول شيخنا نفسه وأمّا عمله فقد رأيناه وهو لا يقيم لما ورد في مضامين الأخبار وزناً بل يراها أخبار آحاد لا تثبت بها القرآنيّة بل يضرب بخصوصيّاتها عرض الجدار سيرة السلف الصالح من أكابر الإماميّة كالسيّد المرتضى والشيخ الطوسي وأمين الإسلام الطبرسي قدس سرهم وغيرهم، ولم يكن العياذ باللَّه- يلصق شيئاً منها بكرامة القرآن وإن ألصق ذلك بكرامة شيخنا من لم يطّلع على مرامه وقد كان باعتراف جميع معاصريه رجاليّ عصره والوحيد في فنّه ولم يكن جاهلًا بأحوال تلك الأحاديث- كما ادّعاه بعض المعاصرين- حتّى يعترض عليه بأنّ كثيراً من رواة هذه الأحاديث ممّن لا يعمل بروايته، فإنّ شيخنا لم يورد هذه الأخبار للعمل بمضامينها بل للقصد الذي أشرنا إليه».

فاعتذر هو في هذه العبارة بأمرين:

أوّلًا: بأنّ استاذه أثبت عدم وقوع التحريف بالزيادة أو النقصان أو التغيير والتبديل من لدن جمع عثمان حتّى اليوم.

وثانياً: بأنّ استاذه لم يرد هذه الأخبار للأخذ بها والعمل بمضامينها.

ثالثاً: يستفاد اعتذاره من بعض كلماته في الذريعة بأنّ استاذه أثبت أنّ ما وقع من التحريف في الكتاب العزيز قبل جمع عثمان إنّما هو خصوص التحريف بالنقيصة لا الزيادة أو التغيير والتبديل، والنقيصة لا تسمّى تحريفاً ولا يوجب سقوط الكتاب عن الاعتبار بل الموجب له إنّما هو الزيادة أو التغيير والتبديل.

أقول:- بالرغم من فائق الاحترام لكلّ من الاستاذ والتلميذ-: لا قيمة لشي ء من هذه الاعتبارات الثلاث أصلًا:

أمّا الاعتذار الثالث فلأنّ سقوط عدد كثير من الآيات عن الكتاب العزيز على فرض المحال مع

ملاحظة ما أشرنا إليه سابقاً من أنّ القرآن يفسّر بعضه بعضاً- من أتمّ مصاديق التحريف حقيقة ولو فرض عدم تسميته به في العرف أو اللغة، ولا فرق بينه وبين التحريف بالزيادة أو التغيير، وليس النزاع في صدق لفظ التحريف وعدمه، فإنّ الحكم هنا لا يدور مدار الألفاظ.

وأمّا الاعتذار الثاني فلأنّ من لاحظ كتاب فصل الخطاب يعلم أنّه لا يوافق ما يدّعي من أنّ استاذه كان بصدد نفي التحريف أصلًا.

انوار الأصول، ج 2، ص: 334

وأمّا الأوّل فالحقّ إنّه أسوأ حالًا من الثاني والثالث لأنّه لا خصوصيّة لمصحف عثمان بل محلّ البحث عن وقوع التحريف وعدمه إنّما هو القرآن النازل على النبي صلى الله عليه و آله والمفروض في كلامه أنّ استاذه ادّعى التحريف فيه.

وبالجملة: إنّ هذا من الموارد التي يكون الاعتذار فيها الخطأ، ولقد أجاد بعض الأعاظم في أمثال هذا المقال حيث قال: الاعتراف بالخطأ في كثير من الموارد أهون من الاعتذار، فإنّ الخطأ والنسيان كالطبيعة الثانية للإنسان.

الطائفة الثانية: وقع الخلط بين الرّوايات والحديث القدسي ...

قد تكون الرّوايات تامّة من ناحية السند إلّاأنّه وقع الخلط فيها بين الحديث القدسي أو الدعاء المأثور من جانب النبي صلى الله عليه و آله أو الأئمّة وبين آيات القرآن العظيم.

والفرق بين الحديث القدسي والقرآن يظهر بما ذكره المحقّق القمّي رحمه الله في القوانين وإليك نصّه: «المنزل من اللَّه على قسمين: قسم أنزل على سبيل الاعجاز وهو القرآن، وقسم أنزل لا على سبيل الاعجاز، وهو الحديث القدسي (وهذه الأحاديث نُزّل بعضها على موسى عليه السلام وبعضها على عيسى عليه السلام وبعضها على رسول اللَّه في ليلة المعراج وغيرها».

ومن هذه الرّوايات ما رواه أبو حرب بن أبي الأسود عن أبيه قال: بعث أبو موسى الأشعري إلى قرّاء أهل البصرة فدخل

عليه ثلاثمائة رجل، قد قرأوا القرآن، فقال أنتم خيار أهل البصرة وقرّاؤهم، فاتلوه ولا يطولنّ عليكم الأمد فتقسوا قلوبكم كما قست قلوب من كان قبلكم، وإنّا كنّا نشبّهها في الطول والشدّة ببراءة فأنسيتها غير أنّي قد حفظت منها: «لو كان لابن آدم واديان من مال لأبتغى وادياً ثالثاً ولا يملأ جوف ابن آدم إلّاالتراب» وكنّا نقرأ سورة كنّا نشبّهها بإحدى المسبّحات فأنسيتها، غير أنّي حفظت منها: «ياأيّها الذين آمنوا لِمَ تقولون ما لا تفعلون فتكتب شهادة في أعناقهم فتسألون عنها يوم القيامة» «1».

فإنّ هذه العبارات تنادي بأعلى صوتها بأنّها من الأحاديث القدسيّة لو ثبتت صحّة إسنادها.

انوار الأصول، ج 2، ص: 335

ومنها: ما رواه عبداللَّه بن رزين الغافقي قال: قال لي عبدالملك بن مروان: لقد علمت ما حملك على حبّ أبي تراب إلّاأنّك أعرابي جافّ؟ فقلت: واللَّه لقد جمعت القرآن من قبل أن يجتمع أبواك ولقد علّمني منه علي بن أبي طالب عليه السلام سورتين علّمهما إيّاه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ما عُلِّمتهما أنت ولا أبوك: «اللهمّ إنّا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك ولا نكفّرك ونخلع ونترك من يفجرك، اللهمّ إيّاك نعبد ولك نصلّي ونسجد وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك ونخشى عذابك الجدّ إنّ عذابك بالكفّار ملحق» «1».

وهذا أيضاً تنادي بأعلى صوتها بأنّها من الأدعية المأثورة كما لا يخفى.

ومنها: ما أخرجه البيهقي من طريق سفيان الثوري عن ابن جريح عن عطا عن عبيد بن عمير: أنّ عمر بن الخطّاب قنت بعد الركوع فقال: بسم اللَّه الرحمن الرحيم اللهمّ إنّا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك ولا نكفّرك ونخلع ونترك من يفجرك، بسم اللَّه الرحمن الرحيم اللهمّ إيّاك نعبد ولك نصلّي ونسجد وإليك نسعى ونحفد نرجو رحمتك ونخشى

نقمتك إنّ عذابك بالكافرين ملحق، قال ابن جريح: حكمة البسملة إنّهما سورتان في مصحف بعض الصحابة» «2».

وقد سمّيت هاتين السورتين بسورة الحفر وسورة الخلع لورود هاتين الكلمتين فيهما.

فهذه العبارة واضحة الدلالة على ما ذكرنا، كما يشهد عليه قول ابن جريح في ذيلهما حيث إنّه يرشدنا إلى علّة الخلط والاشتباه في هذا المورد، وهي وجود البسملة في صدر الدعائين.

مضافاً إلى أنّ قرآنيّتهما لا بدّ فيها من ذكر قائل لها لأنّهما صدرتا بلسان عبد من عباد اللَّه، ودأب القرآن في مثل هذه الموارد أن يذكر القائل إلّاسورة الحمد خاصّة، التي تواترت الأخبار بها.

الطائفة الثالثة: وقع الخلط بين روايات الفريقين

وردت روايات كثيرة من طرق الفريقين ووقع الخلط فيها بين القرآن نفسه وتفسيره وشأن نزوله:

انوار الأصول، ج 2، ص: 336

منها: ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي يونس مولى عائشة أنّه قال: أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفاً وقالت: إذا بلغت هذه الآية فآذنّي «حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى» قال: فلمّا بلغتها آذنتها فأملت عليّ «حافظوا على الصلوات والصّلاة الوسطى وصلاة العصر قوموا للَّه قانتين» قالت: عائشة سمعتها من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله «1».

أقول: لا أقلّ من احتمال صدق هذا الخبر وصدور العبارة المذكورة من جانب النبي صلى الله عليه و آله إلّا أنّه على فرض صحّة الصدور تكون هذه البعارة بمثابة تفسير للصلاة الوسطى بصلاة العصر من جانبه صلى الله عليه و آله لا من باب أنّها جزء للآية.

ومنها: ما رواه البخاري في كتاب البيوع من صحيحه عن عمرو عن أبن عبّاس قال: كانت عكاظ ومخبة وذو المجاز أسواق الجاهلية فتأثّموا أن يتّجروا في المواسم فنزلت: «ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلًا من ربّكم في مواسم الحجّ» «2».

فقوله «في مواسم الحجّ» ورد

لتفسير الآية ظاهراً لا أنّه جزء للآية.

ومنها: ما رواه الثعلبي عن تفسيره كما نقله الطبرسي وغيره بإسناده عن أبي نصرة قال:

سألت ابن عبّاس عن المتعة فقال: أما تقرأ سورة النساء؟ فقلت: بلى، قال: فما تقرأ «فما استمتعتم به منهنّ إلى أجل مسمّى» قلت: لا أقرأها هكذا. قال: ابن عبّاس: «اللَّه هكذا أنزلها اللَّه ثلاث مرّات» «3».

والظاهر أنّ هذا أيضاً من وهم ابن عبّاس ولذا لم يذكره غيره.

ومنها: ما رواه السيوطي في الإتقان عن ابن عبّاس «مثل نوره كمشكاة» (في سورة النور) قال هي خطأ من الكاتب، هو أعظم من أن يكون نوره مثل نور المشكاة إنّما هي: «مثل نور المؤمن كمشكاة» «4».

وليس هذا إلّااجتهاد منه في معنى الآية كما هو واضح.

ومنها: ما رواه البخاري في كتاب التفسير من صحيحه عن ابن عبّاس في حديث طويل انوار الأصول، ج 2، ص: 337

أنّه كان يقرأ: «وكان أمامهم ملك يأخذ كلّ سفينة صالحة غصباً» وكان يقرأ: «وأمّا الغلام فكان كافراً وكان أبواه مؤمنين» «1».

والكلام فيه كما في سابقه.

ومنها: ما رواه علي بن عيسى الإربلي في كشف الغمّة عن طريق العامّة عن زرّ بن عبداللَّه قال: كنّا نقرأ على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «ياأيّها الرسول بلّغ ما انزل إليك من ربّك أنّ عليّاً مولى المؤمنين فإن لم تفعل فما بلّغت رسالته واللَّه يعصمك من الناس» «2».

ومنها: ما رواه البيهقي في سننه عن ابن عمر أنّه طلّق امرأته وهي حائض فذكر ذلك عمر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فتغيّظ فيه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ثمّ قال: «ليراجعها ثمّ يمسكها حتّى تطهر ثمّ تحيض فتطهر فإن بدا له أن يطلّقها فيطلّقها طاهرة قبل

أن يمسّها فتلك العدّة التي أمر اللَّه تعالى أن يطلّق بها النساء وقرأ صلى الله عليه و آله: ياأيّها النبي إذا طلّقتم النساء فطلّقوهنّ في قبل عدتهنّ» «3».

فعوّضت كلمة اللام في قوله تعالى «لعدتهنّ» بكلمة «في قبل» تفسيراً لها.

ومنها: ما رواه الراغب الإصفهاني في المحاضرات من أنّه قرأ بعضهم: «النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجهم امّهاتهم وهو أب لهم» «4».

فقوله: «وهو أب لهم» تفسير لقوله تعالى: «وأزواجه امهاتهم» لأنّ لازم كون الأزواج امّهات كون الزوج أباً.

ومنها: ما رواه الشيخ أبو الحسن الشريف في تفسيره عن عبدالرحمن السلمي قال: قال عمر بن الخطّاب: لا تغالوا في مهور النساء، فقالت: امرأة ليس ذلك لك ياعمر، إنّ اللَّه يقول:

وآتيتم إحداهنّ قنطاراً من ذهب، فقال عمر: «إنّ امرأة خاصمت عمراً فخصمته» «5».

إلى غير ذلك ممّا يعلم أو يحتمل فيه وقوع الخلط بين متون الآيات والتفاسير الواردة فيها عن النبي صلى الله عليه و آله أو الأئمّة الهادين أو غيرهم، فلا يصحّ الاستدلال بشي ء منها على وقوع انوار الأصول، ج 2، ص: 338

التحريف حتّى إذا فرضنا صحّة إسنادها واللَّه العالم بحقائق الامور.

الطائفة الرابعة: في روايات تدل على مطلق التحريف ...

هذه الطائفة من الرّوايات تدلّ على مطلق التحريف، ولكن حملها المحدّث النوري رحمه الله على التحريف اللفظي مع أنّ المعنوي منه أيضاً معنى شائع له- كما مرّ- مضافاً إلى وجود شواهد في نفس هذه الرّوايات تشهد على أنّ المراد من التحريف فيها هو التحريف المعنوي.

فمنها: ما رواه الصدوق في الخصال بإسناده عن جابر عن النبي صلى الله عليه و آله: «يجي ء يوم القيامة ثلاثة يشكون: المصحف والمسجد والعترة، يقول المصحف: «ياربّ حرّفوني ومزّقوني» ويقول المسجد: «عطّلوني وضيّعوني» وتقول العترة: «ياربّ قتلونا وشرّدونا» «1».

فقوله: «مزّقوني» قرينة على أنّ المراد من

التحريف هو التحريف المعنوي لأنّ تمزيق أوراق الكتاب لم يكن أمراً شائعاً في مرّ التاريخ بل لم يرد وقوعه من أحد إلّاالقليل مثل الوليد، فيكون التمزيق حينئذٍ كناية عن التحريف في المعنى.

ومنها: ما رواه علي بن إبراهيم القمّي بإسناده عن أبا ذرّ قال: لمّا نزلت هذه الآية: «يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ» قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «ترد عليّ امّتي يوم القيامه على خمس رايات، فراية مع عجل هذه الامّة فأسألهم: ما فعلتم بالثقلين من بعدي فيقولون: أمّا الأكبر فحرّفنا ونبذناه وراء ظهورنا، وأمّا الأصغر فعاديناه وأبغضناه ...» «2».

فقوله «ونبذناه وراء ظهورنا» أيضاً قرينة على أنّ المراد هو التحريف المعنوي لأنّ نبذ القرآن وراء الظهور كناية عن عدم العمل به.

ومنها: ما رواه ابن شهر آشوب في المناقب- كما في البحار- عن أبي عبداللَّه الحسين عليه السلام في خطبته يوم عاشوراء وفيها: «فإنّما أنتم من طواغيت الامّة وشذّاذ الأحزاب ونبذة الكتاب ونفثة الشيطان وعصبة الآثام ومحرّفوا الكتاب ... الخطبة» «3».

انوار الأصول، ج 2، ص: 339

فإنّ المخاطب في هذا الكلام هم أهل الكوفة الذين جاؤوا لقتل الحسين عليه السلام يوم عاشوراء، ولا إشكال في أنّه لو فرض وقوع التحريف اللفظي فقد كان من آبائهم، وأمّا تحريف هؤلاء الحاضرين في كربلاء فكان معنويّاً قطعاً.

ومن العجب ما قاله المحدّث النوري رحمه الله هنا من أنّه لابدّ لنا من حمل التحريف في هذه الأخبار على التحريف اللفظي لا المعنوي، واستدلّ له بقرائن كثيرة. منها: «إنّا لم نعثر على التحريف المعنوي الذي فعله الخلفاء الذين نسب إليهم التحريف في تلك الأخبار في آية أو أكثر وتفسيرهم لها بغير ما أراد اللَّه تعالى منها، ولو وجد ذلك لكان في غاية

القلّة» إلى غير ذلك ممّا ذكره في هذا المجال، مع إنّا نعلم أنّهم كانوا يحرّفون الكتاب ليلًا ونهاراً تحريفاً معنويّاً كتطبيقهم كلمة وليّ الأمر أو المؤمنين الواردة في آيات من الكتاب على أنفسهم، وقوله تعالى:

«وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ» على من خالفهم.

الطائفة الخامسة: في روايات تدلّ على حذف آيات الفضائل:

منها: ما رواه في الكافي عن الأصبغ بن نباتة قال: سمعت أمير المؤمنين عليه السلام يقول: «نزل القرآن ثلاثاً: ثلث فينا وفي عدوّنا، وثلث سنن وأمثال، وثلث فرائض الأحكام» «1».

ومنها: ما رواه في الكافي أيضاً عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «إنّ القرآن نزل على أربعة أرباع:

ربع حلال، وربع حرام، وربع سنن وأحكام، وربع خبر ما كان قبلكم ونبأ ما لم يكن إلّابعدكم وفصل ما بينكم» «2».

ومنها: ما رواه العيّاشي في تفسيره عن أبي الجارود قال سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: «نزل القرآن على أربعة أرباع: ربع فينا، وربع في عدوّنا، وربع في فرائض وأحكام، وربع سنن وأمثال ولنا كرائم القرآن» «3».

ووجه الاستدلال هو عدم وجود مثل هذه الأثلاث أو الأرباع في الكتاب الموجود بين أيدينا.

انوار الأصول، ج 2، ص: 340

والجواب عن هذه الطائفة واضح، لأنّ المراد من قوله عليه السلام «فينا» الانطباق عليهم على نحو انطباق الكلّي على مصداقه الأتمّ الأكمل، كما ورد في بعض الرّوايات بالإضافة إلى كلّ آية ورد فيها «الذين آمنوا»: أنّ عليّاً عليه السلام على رأسها وأميرها، أي إنّه أتمّ المصاديق كما أنّ أعدائهم أتمّ مصاديق الآيات التي وردت فيها «الذين كفروا»، وحيث إن ثلث القرآن ورد في بيان حالات المؤمنين والكافرين فباعتبار انطباقها على الأئمّة عليهم السلام وعلى عدوّهم انطباق العنوان الجامع على أتمّ مصاديقه يصحّ أن يقال مثلًا: «نزل القرآن أثلاثاً ثلث فينا وفي عدوّنا» لا أنّ

أساميهم كانت مذكورة في الكتاب العزيز.

الطائفة السادسة: في اختلاف القراءات

وردت في اختلاف القراءات ومن هذا القبيل كثير من الرّوايات التي أوردها المحدّث النوري رحمه الله في الدليل الثاني عشر:

منها: ما رواه السياري عن البرقي عن النصر عن يحيى بن هارون قال: صلّيت خلف أبي عبداللَّه عليه السلام بالقادسيّة فقرأ: من يعمل مثقال ذرّة خيراً يره (بضم الياء) ومن يعمل مثقال ذرّة شرّاً يُره (بضمّ الياء أيضاً).

وسيأتي إن شاء اللَّه تعالى في البحث عن اختلاف القراءات عدم كونه من التحريف مطلقاً فانتظر.

الطائفة السابعة: في روايات ليست داخلة في الطوائف الستة ...
اشارة

وهنا وردت روايات ليست داخلة في إحدى الطوائف الستّة السابقة ولا يرد عليه أحد من الإشكالات الواردة عليها ولكنّها مردودة من جهتين:

الاولى: أنّها مخالفة لكتاب اللَّه العزيز، وقد ورد في أحاديث أهل البيت «إنّ ما خالف كتاب اللَّه فذروه».

الثانية: اعراض الأصحاب عنها حتّى بالنسبة للمحدّث النوري رحمه الله نفسه كما يدلّ عليه ما

انوار الأصول، ج 2، ص: 341

مرّ سابقاً من عبارة تلميذه المحدّث الطهراني في مقدّمة المستدرك: «وأمّا عمله فقد رأيناه وهو لا يقم لما ورد في مضامين (هذه) الأخبار وزناً بل يراها أخبار آحاد لا تثبت بها القرآنيّة بل يضرب بخصوصيّاتها عرض الجدار سيرة السلف الصالح من أكابر الإماميّة كالسيّد المرتضى والشيخ الطوسي وأمين الإسلام الطبرسي رحمهم الله».

بقي هنا امور:

الأمر الأوّل: الرّوايات الواردة في كتاب فصل الخطاب

إنّ كثيراً من الرّوايات الواردة في كتاب فصل الخطاب سيّما في الدليل الثاني عشر مروية من طريق السياري وهي تبلغ 188 رواية بناءً على احصاء مؤلّف كتاب «برهان روشن»، وبالتالي نذكر نماذج من هذه الرّوايات التي يتجلّى فيها وقوع الخطأ:

فمنها: ما روي عن أبي جعفر عليه السلام في قوله تعالى: وإذا المودّة (بدل الموؤدة) سئلت (في سورة الشمس) قال: «من قتل في مودّتنا».

ومنها: ما روي عن أبي عبداللَّه عليه السلام: « «ياأيّتها النفس المطمئنة» (في سورة الفجر) إلى محمّد وأهل بيته ارجعي إلى ربّك راضيّة مرضيّة فادخلي في عبادي وادخلي جنّتي غير ممنوعة».

ومنها: ما روي عن أبي عبداللَّه قال: قرأ رجل بين يدي أبي عبداللَّه عليه السلام: فإنّ مع العسر يسراً إنّ مع العسر يسراً (الإنشراح) فقال عليه السلام: إنّ مع العسر يسرين هكذا نزلت».

ومنها: ما روي أبو بصير عن أبي عبداللَّه عليه السلام في قوله تعالى: تنزّل الملائكة والروح فيها بإذن ربّهم (سورة القدر)

من عند ربّهم على محمّد وآل محمّد بكلّ أمر سلام».

ومنها: ما روي عن أبي عبداللَّه عليه السلام: «إنّا أعطيناك يامحمّد الكوثر فصلّ لربّك وانحر إنّ شانئك هو عمرو بن العاص هو الأبتر».

ومنها: ما روي عن عابر بن خداعة قال قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام: علّمني قل هو اللَّه أحد، قال: أكتبها لك قال: لا، احبّ أن أتعلّمها إلّامن فيك. قال اقرأ: «قل هو اللَّه أحد اللَّه الصمد ثلاثاً آخرها كذلك اللَّه ربّنا».

انوار الأصول، ج 2، ص: 342

وهذه هي نماذج من الرّوايات التي في سندها أحمد بن محمّد السياري الذي مرّ الكلام عنه إجمالًا وقد وقع الخلط فيها بين التفسير والتنزيل، هذا على فرض صدورها، ولكن قد عرفت كون الرجل من أضعف الضعاف، ولكن بما أنّ المحدّث النوري رحمه الله سلك في آخر المستدرك مسلك الدفاع عنه لابدّ لنا من سرد كلمات الرجاليين فيه تفصيلًا، وإليك رأي عدّة كثيرة من كبار علماء الرجال فيه:

1- قال الشيخ الطوسي رحمه الله في الفهرست: «أحمد بن محمّد بن سيّار، أبو عبداللَّه الكاتب بصري من كتّاب أبي طاهر في زمن أبي محمّد عليه السلام ويعرف ب «السياري» ضعيف الحديث فاسد المذهب، مجفوّ الرّواية، كثير المراسيل» «1».

2- قال العلّامة في الخلاصة: «هو فاسد المذهب، كثير المراسيل، ضعيف الحديث، مجفوّ الرّواية حكى محمّد بن محبوب عنه» «2».

3- قال النجاشي في رجاله نظير ما سمعته من الطوسي في الفهرست «3».

4- قال الكشّي في رجاله عن إبراهيم بن محمّد بن حاجب قال: «قرأت في رقعة مع الجواد عليه السلام يعلم من سأل عن السياري أنّه ليس في المكان الذي ادّعاه لنفسه وأن لا يدفعوا (إليه) شيئاً» «4».

5- قال العلّامة المامقاني الذي من دأبه تصحيح الرجل

وإحياء ذكره مهما أمكن: «ضعف الرجل من المسلّمات» «5».

6- قال ابن شهر آشوب: «أنّه مجفوّ الرّواية» «6».

7- قال ابن داود في رجاله نظير ما سمعته من الخلاصة «7».

انوار الأصول، ج 2، ص: 343

8- وضعّفه المجلسي رحمه الله في الوجيزة «1».

والمستفاد من هذه الكلمات أنّ ضعف السياري من المسلّمات، لكن المحدّث النوري رحمه الله دافع عن الرجل في خاتمة المستدرك بوجهين:

أحدهما: نقل رواياته في الكافي.

والثاني: أنّ منشأ هذه التضعيفات إنّما هو ابن الغضائري الذي أمر فيه بأخذ توثيقاته وردّ تضعيفاته لأنّه كان شديد الأخذ في الرجال يضعّف الرجل بأدنى شي ء.

ويردّ على الأوّل: بأنّا نعلم بورود روايات ضعيفة في الكافي لم يعمل أحد من العلماء بها.

وأمّا الوجه الثاني فيرد عليه: أنّه دعوى بلا دليل لأنّه لم يعتمد أحد من هؤلاء في كلماته على ابن الغضائري، نعم يشبه كلامه كلام النجاشي في قوله: «إنّه قال بالتناسخ» أي توجد نسبة الرجل إلى القول بالتناسخ في كلّ من رجال النجاشي ورجال ابن الغضائري، ولكنّه لا دليل على اعتماد النجاشي عليه، وإن كان هو (ابن الغضائري) من مشايخه، ولو سلّم اعتماده عليه لكنّه لا يحتمل ذلك بالنسبة إلى الشيخ الطوسي الذي لم يكن هو (ابن الغضائري) من مشايخه قطعاً، وبالنسبة إلى الكشّي أيضاً الذي يروي الرّواية عن الجواد عليه السلام في حقّه.

ولقد أجاد المحقّق المامقاني رحمه الله بعد نقل كلمات علماء الرجال في الرجل حيث قال ما نصّه:

«وبالجملة فضعف الرجل من المسلّمات والعجب كلّ العجب من الشيخ الماهر المحدّث النوري رحمه الله حيث إنّه رام في خاتمة المستدرك إثبات وثاقة الرجل والاعتماد على كتابه بإكثار الكليني رحمه الله والثقة الجليل محمّد بن العبّاس بن ماهيا الرّواية عنه ... إلى أن قال: ووجه

التعجّب من هذا النحرير أنّه رفع اليد عن تصريحات من سمعت بنقل هؤلاء رواياته الذي هو فعل مجمل وجعل الإصغاء إلى التنصيصات المذكورة ممّا لا ينبغي، وهو كما ترى، إذ كيف يقابل القول الصريح بعدم الاعتماد عليه بالفعل الظاهر سيّما مع تأيّد أقوالهم بما سمعته من مولانا الجواد عليه السلام الظاهر في دعواه النيابة عنه من غير أصل؟» «2».

الأمر الثاني: في نسخ التلاوة

وهو أن تنسخ تلاوة آية من الآيات سواء نسخ حكمها أيضاً أو لم ينسخ فقد يكون الحكم باقياً من دون بقاء الآية الدالّة عليه، وفي مقابله نسخ الحكم، وهو أن ينسخ الحكم من دون أن تنسخ الآية الدالّة عليه، أمّا نسخ الحكم مع بقاء التلاوة فهو أمر ظاهر مفهوماً ومصداقاً، وأمّا نسخ التلاوة بعد نزولها قرآناً فهو أمر لا معنى محصّل له، ولكن مع ذلك ذهب جماعة من العامّة إليه في موارد كثيرة، والظاهر أنّهم أرادوا به توجيه بعض ما ورد في رواياتهم من التحريف في الكتاب العزيز:

منها: ما مرّ من رواية الليث بن سعد قال: «أوّل من جمع القرآن أبو بكر وكتبه زيد ... وإنّ عمر أتى بآية الرجم فلم يكتبها لأنّه كان وحدة» «1».

ومنها: ما مرّ أيضاً من عائشة قالت: «كانت سورة الأحزاب تقرأ في زمن النبي صلى الله عليه و آله مأتي آية، فلمّا كتب عثمان المصاحف لم نقدر منها إلّاما هو الآن» «2».

ومنها: ما مرّ أيضاً من سورتي الخلع والحفد في ما حكوا عن مصحف ابن عبّاس وابي بن كعب: «اللهمّ إنّا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك ولا نكفّرك ونخلع ونترك من يفجرك اللهمّ إيّاك نعبد ولك نصلّي ونسجد وإليك نسعى ونحفد نرجو رحمتك ونخشى عذابك إنّ عذابك بالكافرين ملحق» «3».

إلى غير ذلك

ممّا روي من طرقهم، فقد أرادوا بهذا إنكار نسبة القول بالتحريف إلى أنفسهم بتوجيه أنّ هذه الرّوايات من قبيل نسخ التلاوة لا من موارد التحريف.

ولابدّ في الجواب عنه من تعيين معنى نسخ التلاوة والمراد منه فنقول: إن كان المقصود منه أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله نهى عن تلاوة هذا القبيل من الآيات وأن نسخ التلاوة قد وقع من رسول اللَّه فهذا أمر غير معقول، وإن كان المراد وقوعه ممّن تصدّى للزعامة من بعد النبي صلى الله عليه و آله فهو عين القول بالتحريف بالنقصان واقعاً وإن لم يسمّ بالتحريف لفظاً، وعليه فيمكن أن يدّعي أنّ القول بالتحريف هو مذهب كثير من علماء أهل السنّة لأنّهم يقولون بجواز نسخ التلاوة، بل انوار الأصول، ج 2، ص: 345

يمكن أن يدّعي أنّ أوّل من قال عندهم بالتحريف هو عائشة، والثاني عمر، والثالث ابن عبّاس، وقد عرفت أنّ المحقّقين منّا ومنهم رفضوا القول بالتحريف مطلقاً.

الأمر الثالث: في اختلاف القراءات

ويبحث فيه أنّ الاختلاف في القراءة هل يوجب سقوط حجّية القرآن في الآية المختلف في قرائتها، أو لا؟

فنقول: الاختلاف في القراءة على وجهين: تارةً لا يوجب تغييراً في المعنى كالاختلاف في قوله: «خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ» «1»

بالنسبة إلى كلمة «ضعف» التي قرأت بالفتح في قراءة عاصم برواية الحفص، وبالضمّ في بعض القراءات الاخرى وقراءة عاصم برواية غير الحفص.

واخرى يكون مغيّراً للمعنى كالاختلاف في قوله تعالى: «فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الَمحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ» «2»

بالنسبة إلى قوله «يطهرن» ففي قراءة الحفص وجماعة ورد بالتخفيف، وفي قراءة جماعة اخرى بالتشديد، وهو على الأوّل ظاهر في النقاء عن الدمّ، ونتيجته جواز الوقاع قبل الغسل وبعد انقطاع الدم، وعلى الثاني ظاهر في الاغتسال (وإن كان عندنا محلّ

كلام) ونتيجته عدم جواز الوقاع قبل الغسل وبعد النقاء.

وكيف كان، فإنّ هنا ثلاث مسائل:

المسألة الاولى: في تواتر القراءات وعدمه، وفيه ثلاث احتمالات:

الأوّل: تواتر القراءات.

الثاني: عدم التواتر مع حجّية جميعها.

الثالث: عدم التواتر مع حجّية واحد منها فقط وإن كانت القراءة في الباقي جائزة.

فنقول: لا دليل على تواتر القراءات وكونها موجودة في زمن النبي صلى الله عليه و آله نزل بها جبرئيل عليه السلام، لأنّ تواترها يتوقّف على تحقّق التواتر في ثلاث مراحل: التواتر بيننا وبين القرّاء، والتواتر بين القرّاء أنفسهم، والتواتر بين القرّاء وبين النبي صلى الله عليه و آله بينما المعروف أنّ لكلّ واحد من القرّاء السبعة راويين فقط، فلا يتحقّق التواتر في المرحلة الاولى، مضافاً إلى أنّ هذين الراويين انوار الأصول، ج 2، ص: 346

ينقلان عن قارئهما مع واسطة إلّاراوي عاصم.

وهكذا بالنسبة إلى المرحلة الثانية لأنّه في عصر عاصم مثلًا لا يعيش من القرّاء المعروفين أحد إلّاشخص عاصم، وكذلك بالنسبة إلى المرحلة الثالثة لأنّ هؤلاء القرّاء تولّدوا بعد مدّة طويلة بعد النبي صلى الله عليه و آله ولا دليل على وجود التواتر بينه وبينهم.

نعم نعلم إجمالًا بكون كثير من هذه القراءات مشهورة بين الناس، ولكن هذا المقدار من الشهرة غير كافٍ في إثبات المقصود.

وعلى هذا فدعوى تواتر القراءات دعوى عجيبة بلا دليل، بل الدليل موجود على خلافه، وهو ما مرّ سابقاً أنّ عثمان جمع المسلمين على قراءة واحدة، لأنّ الاختلاف في القراءة من شأنه أن يؤدّي إلى الاختلاف بين المسلمين وتمزيق صفوفهم ولذلك لم يعترض أحد من الصحابة عليه مع أنّه لو كانت القراءات متواترة لم يكن وجه لسكوتهم.

هذا مضافاً إلى أنّ نزول القرآن على النبي صلى الله عليه و آله على سبعة أحرف في

نفسه أمر غير ثابت بل غير معقول كما لا يخفى.

ثمّ إنّه لا معنى للاحتمال الثالث وهو جواز القراءة مع عدم الحجّية في العمل لأنّه إذا استفدنا من الرّوايات المتظافرة (التي تقول: اقرأوا كما قرأ الناس) جواز القراءة شرعاً نستفيد منها الحجّية بالملازمة العرفيّة، أي الحجّية حينئذٍ مدلول التزامي لتلك الرّوايات، فلا وجه لإنكار الملازمة من ناحية المحقّق الخراساني رحمه الله وصاحب البيان واستدلالهم بأنّ الرّواية تقول:

«اقرأوا» ولا تقول: «اعملوا».

المسألة الثانية: في مقتضى كلّ واحد من هذه الاحتمالات: فنقول: إذا قلنا بتواتر القراءات فلازمه حجّية جميعها والقطع بصدور الجميع، وحينئذٍ لا تعارض بينها من ناحية السند بل التعارض ثابت في دلالاتها، فلو كان واحد منها أظهر من الباقي يؤخذ به وإلّا تتعارض ثمّ تتساقط الجميع عن الحجّية.

وإن قلنا بالاحتمال الثاني فتكون المسألة من باب الخبرين المتعارضين اللذين كلاهما حجّة، وحينئذٍ بما أن أدلّة إعمال المرجّحات خاصّة بالسنّة الظنّية تكون النتيجة تساقط الخبرين عن الحجّية، وإن كان لأحدهما ترجيح على الآخر فتصل النوبة إلى الاصول العمليّة، وسيأتي ما تقتضيه هذه الاصول إن شاء اللَّه.

انوار الأصول، ج 2، ص: 347

وإن قلنا بالاحتمال الثالث فتكون المسألة من قبيل اشتباه الحجّة بلا حجّة، فتصير حينئذٍ حجّية كلّ منهما ظنّية، وقد ثبت في محلّه أنّ احتمال العدم في باب الحجّية يساوق عدم الحجّية.

وإن شئت قلت: قد ثبت في محلّه أنّ الأصل في الظنون عدم الحجّية.

المسألة الثالثة: في مقتضى القاعدة الأوّليّة بعد التساقط فنقول: مقتضى القواعد العامّة الفقهيّة بعد الشكّ في حكم خاصّ وإجمال الدليل هو الرجوع إلى العمومات والأدلّة الاجتهادية أوّلًا فإن ظفرنا بها فهو، وإلّا تصل النوبة إلى الاصول العمليّة، ففي المثال المعنون في محلّ البحث مثلًا لو فرض إجمال قوله

تعالى: «فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الَمحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ» لابدّ من الرجوع أوّلًا إلى العمومات الواردة في المسألة، وقيل أنّ العام فيها قوله:

«فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ» لأنّ عموم «أنّى شئتم» يشمل جميع الأزمنة (لأنّه بمعنى «متى شئتم» أو «أي زمان شئتم») وخرج عنه خصوص زمان وجود الدم فقط، فبمجرّد النقاء يأتي جواز الوقاع لذلك العموم ولا تصل النوبة إلى استصحاب الحرمة.

هذا إذا قلنا أنّ كلمة «أنّى» بمعنى «متى» فحسب، وأنّ معناها واضح لا إجمال فيه، وأمّا إذا قلنا بإجماله كما أنّه كذلك لأنّه ذكر لها في اللغة ثلاث معانٍ ففي المجمع البحرين «أنّى» بمعنى «متى» و «أنّى» بمعنى «كيف» و «أنّى» بمعنى «أين» (كقوله تعالى: أنّى لك هذا) بل بعض اللغويين لم يذكروا المعنى الأوّل، وهو الراغب في المفردات (الذي هو من أئمّة اللغة وكتابه مختصّ بلغات القرآن ومحلّ البحث في المقام من جملتها) فيثبت حينئذٍ عدم تماميّة الدليل اللفظي الاجتهادي وتصل النوبة إلى الرجوع إلى الاصول العمليّة، والأصل العملي في المثال هو استصحاب وجوب الاعتزال لأنّ موضوعه هو خصوص النساء وليس سيلان الدم من مقوّماته حتّى يوجب تغيير الموضوع بعد الانقطاع بل هي من حالاته كاستصحاب النجاسة في الماء المتغيّر بعد زوال تغيّره، ولو فرض كونه مقوّماً كما إذا قلنا بأنّ معنى قوله تعالى «اعتزلوا النساء» قولك «اعتزلوا الحائض» يجري الاستصحاب أيضاً لوحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوك عند العرف في المقام لما عرفت من أنّ الحيض عند العرف ليس من مقدّمات الموضوع بل إنّه من حالاته بخلاف ما إذا صار المجتهد ناسياً لعلومه فلا يجوز تقليده بعد عروض النسيان تمسّكاً باستصحاب جواز التقليد لأنّ الاجتهاد عند العرف من مقوّمات الموضوع بالنسبة إلى هذا الحكم فيلزم

تبدّل الموضوع بعد عروض النسيان.

انوار الأصول، ج 2، ص: 348

نعم، هذا كلّه فيما إذا قلنا بجريان الاستصحاب في الشبهات الحكميّة، وسيأتي في مبحث الاستصحاب إن شاء اللَّه أنّ المختار خلافاً للمشهور عدمه، وحينئذٍ تصل النوبة إلى أصالة الإباحة (كلّ شي ء لك حلال حتّى تعرف أنّه حرام) ولا إشكال في جريانها في الشبهات الحكمية، أو إلى البراءة العقليّة.

ولكن هذا كلّه فيما إذا كانت الآية من أمثلة النزاع في ما نحن فيه، أي كان اختلاف القراءة فيها موجباً لاختلاف المعنى والحكم، مع أنّه أوّل الكلام، لأنّه لقائل أن يقول: أنّ قوله تعالى:

«يطهرن» على كلا الوجهين يكون بمعنى النقاء عن الدم لأنّ كون «يطهرن» على الوجه الثاني (أي كونها من باب التفعّل) مبني على اعتبار كون الفعل اختياريّاً في باب التفعّل والمطاوعة لأنّه بناءً على هذا الاعتبار لا يمكن أن يكون يطهّرن (بالتشديد) بمعنى النقاء لعدم كونه من الأفعال الاختياريّة بخلاف معنى الاغتسال.

لكن لا دليل على هذا الاعتبار، بل كثيراً مّا يدخل في باب التفعّل ما لا يكون اختياريّاً كما في قوله تعالى: «وَإِنَّ مِنْ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ» وقوله تعالى: «تَقَطَّعَتْ بِهِمْ الْأَسْبَابُ». مضافاً إلى وجود قرينتين في الآية على كون «يطهرن» بمعنى النقاء: إحديهما: كلمة المحيض وأنّها موجبة لوجوب الاعتزال لأنّ الحيض بمعنى سيلان الدم، والتطهّر من الحيض يساوق عدم السيلان وانقطاع الدم. الثانية وحدة السياق فإنّها تقتضي كون الغاية في الجملة الاولى (ولا تقربوهنّ حتّى يطهرن) والشرط في الجملة الثانية (فإذا تطهّرن فأتوهنّ) بمعنى واحد، وحيث إن «تطهّرن» في الجملة الثانية بمعنى النقاء بلا إشكال فلتكن «يطهرن» في ما نحن فيه أيضاً بهذا المعنى.

ثمّ ليعلم أنّ لهذه المسألة في الفقه روايات خاصّة عديدة، بعضها تدلّ

على جواز الوقاع قبل الغسل وبعضها تدلّ على عدم الجواز ومقتضى الجمع بينهما هو الجواز مع الكراهة، والكراهة الشديدة إذا لم تغسل الموضع.

بقي هنا شي ء:

وهو أنّه كيف يجمع بين القول باختلاف القراءات مع سرايته إلى المعنى أحياناً وبين وعده تعالى بحفظ القرآن في آية الحفظ؟

انوار الأصول، ج 2، ص: 349

والجواب عنه: أنّ الاختلاف ينافي آية الحفظ فيما إذا ثبت عدم القراءة المشهورة المتداولة بين المسلمين.

وإن شئت قلت: يستفاد من الآية بالدلالة الالتزاميّة أنّ القراءة التي تنزل بها جبرئيل هي هذه القراءة ولا دليل على شهرة القراءات الاخرى ولو بالنسبة إلى فترة من الزمان.

هذه مضافاً إلى أنّ كون الاختلاف في القراءة التي بين أيدينا سبباً لتفاوت الأحكام أوّل الكلام كما عرفت في المثال المعروف في آية الحيض.

إلى هنا تمّ الكلام في مباحث حجّية ظواهر الألفاظ واللَّه العالم بحقائق الامور.

انوار الأصول، ج 2، ص: 351

إثبات صغرى الظهور (حجّية قول اللغوي)

إلى هنا قد فرغنا عن البحث عن كبرى حجّية ظواهر الألفاظ، وتصل النوبة إلى بحث صغروي، وهو إثبات صغرى الظهور وأنّ هذا اللفظ ظاهر في هذا المعنى أو لا؟ فبأيّ شي ء يثبت الظهور؟ وما هو المرجع عند الشكّ فيه؟

فنقول: للمسألة خمس صور لا بدّ من التميير بينها والبحث عن كل منها مستقلًا:

الاولى: إذا كان الشكّ في مادّة اللغة كمادّة الكنز أو الغنيمة.

الثانية: إذا كان الشكّ في هيئة المفرد، كما إذا شككنا في معنى الطهور، فهل هي بمعنى الطاهر في نفسه والمطهّر لغيره، أو بمعنى شديد الطهارة في نفسه بمقتضى صيغة المبالغة.

الثالثة: إذا كان الشكّ في هيئة الجملة كالشكّ في الجملة الشرطيّة وأنّها هل تدلّ على العلّية المنحصرة حتّى يكون لها المفهوم أو لا؟

الرابعة: إذا كان الشكّ في وجود قرينة توجب الاختلاف في الظهور.

الخامسة: إذا

كان الشكّ في قرينيّة الموجود كقرينيّة الاستثناء بألّا للجمل السابقة فيما إذا تعقّبت الجمل المتعدّدة باستثناء واحد.

ونبدأ في الجواب بالأخيرتين ونقول:

أمّا الصورة الرابعة: فلا إشكال ولا كلام في أنّ الأصل فيها عدم وجود القرينة، إنّما الكلام في أنّ أصالة عدم القرينة هل هي أصل تعبّدي وحجّة تعبّداً، أو أنّها ترجع إلى أصالة الظهور فتكون حجّيتها من باب حجّية أصالة الظهور؟ فعلى الأوّل يكون الأصل عدم وجود قرينة في البين فيؤخذ بالمعنى الظاهر العرفي، وأمّا على الثاني فلا بدّ من ملاحظة ظهور الكلام وأنّه هل يوجب احتمال وجود القرينة إجمال اللفظ أو الظهور باقٍ على حاله؟ فالملاك كلّه حينئذٍ هو

انوار الأصول، ج 2، ص: 352

الظهور اللفظي وعدمه، ولكن لا فرق بين المبنيين بالنسبة إلى هذه الصورة فإنّ النتيجة واحدة.

أمّا الصورة الخامسة: وهي ما إذا شكّ في قرينية الموجود كالإستثناء المتعقّب للعمومات المتعدّدة فهي مبنيّة على ما مرّ من النزاع آنفاً، فبناءً على كون أصالة عدم القرينة حجّة تعبّداً فلا إشكال في الأخذ بالعمومات السابقة على العام الأخير، وبناءً على أصالة الظهور يصبح الكلام مجملًا وتسقط العمومات السابقة عن الحجّية لاحتفافها بما يحتمل القرينية، وبما أن بناء العقلاء استقرّ على حجّية الظواهر فقط فلا بدّ لإثبات حجّية أصالة عدم القرينة تعبّداً من دليل يدلّ عليها وإلّا لزم الرجوع إلى أصالة الظهور لا محالة.

أمّا الصورة الثالثة: وهي الشكّ في هيئة الجملة فالمرجع فيها هو علم النحو والمعاني والبيان، ولكن بما أن عدداً كثيراً من هيئات الجمل لم يبحث عنها في هذه العلوم بحثاً كافياً لابدّ من البحث عنها في مبادى ء علم الاصول، والمتداول اليوم التكلّم عنها في مباحث الألفاظ.

وأمّا الصورة الثانية: وهي الشكّ في هيئة المفردات فالمرجع فيها هو

علم الصرف كالبحث عن الفرق بين اسم الفاعل واسم المفعول، أو بين اسم الفاعل والصفة المشبهة، أو الفرق بين أبواب الثلاثي المزيد.

نعم يبحث عن عدّة منها في علم الاصول كالبحث عن المشتقّ.

بقيت الصورة الاولى وهي الشكّ في مادّة اللغة، فالمعروف والمشهور أنّ المرجع فيها هو قول اللغوي وأنّه حجّة فيها بل ادّعى فيه إجماع العلماء، لكن خالف فيه المحقّق الخراساني رحمه الله وقال بعدم حجّية قول اللغوي، وسيأتي أنّ شيخنا الأعظم الأنصاري رحمه الله مال إلى الحجّية مع تأمّله فيها أخيراً، فعلينا أن نلاحظ الأدلّة وأنّه ما هو مقتضى الدليل؟

استدلّ للحجّية بوجوه ثلاثة:

الوجه الأوّل: إجماع العلماء (بل جميع العقلاء) على ذلك، فانّهم قديماً وحديثاً يرجعون في استعلام اللغات إلى كتب أهل اللغة، ولذلك ينقلون في الفقه أقوال اللغويين بالنسبة إلى موضوع من موضوعات الأحكام كالغنيمة والكنز حتّى من أنكر حجّية قولهم كالمحقّق الخراساني رحمه الله، كما يرجعون إليهم في فهم الحديث وتفسير الكتاب الكريم.

لكن يرد عليه: أنّ الإجماع هذا لا يكون كاشفاً عن قول المعصوم عليه السلام بما أنّه دليل تعبّدي انوار الأصول، ج 2، ص: 353

خاصّ قبال الأدلّة الاخرى التي استدلّوا بها في المقام لإمكان نشوئه منها فلا بدّ من الرجوع إليها.

الوجه الثاني: بناء العقلاء وسيرتهم قديماً وحديثاً وفي كلّ عصر وزمان ومكان على الرجوع إلى أهل الخبرة، وهذا أهمّ الوجوه في المقام.

لكن أُورد عليه إشكالات عديدة:

الأول: أنّ اللغوي ليس من أهل الخبرة، أي أهل الرأي والاجتهاد بالنسبة إلى تشخيص المعاني الحقيقيّة عن المعاني المجازيّة، وإن شئت قلت: ليس شأن اللغوي إلّابيان موارد الاستعمال لا تعيين المعنى الحقيقي من بين المعاني التي يستعمل اللفظ فيها.

ويمكن الجواب عنه: بأنّ المهم في تعيين مراد المتكلّم هو تشخيص

ظهور اللفظ كما مرّ، ولا ريب في أنّ اللغوي يبيّن المعنى الظاهر للفظ سواء كان حقيقة أو مجازاً مشهوراً.

الثاني: ما اشير إليه في بعض كلمات المحقّق النائيني رحمه الله من أنّه يمكن أن يكون رجوع العقلاء إلى كتب اللغويين من جهة حصول الوثوق والاطمئنان من قولهم في بعض الأحيان لا من جهة حصول الظن فقط وحجّية قولهم مطلقاً، ولا إشكال في أنّ الاطمئنان منزّل منزلة العلم أو أنّه علم عرفي فيكون حجّة «1».

قلنا: الإنصاف أنّ رجوعهم إلى أهل الخبرة ليس متوقّفاً على حصول الاطمئنان كما في الرجوع إلى قول المجتهد فإنّ المقلّد مع الإلتفات إلى اختلاف آراء الفقهاء في كثير من الموارد التي لا يحصل الإطمئنان والوثوق فيها عادةً بقول المجتهد- مع ذلك لا يتوقّف عن الرجوع كما أنّه كذلك في باب القضاء ورجوع القضاة إلى المتخصّصين والعارفين بالموضوعات التي هي محلّ الدعوى كالغبن والتدليس وغيرهما، مع أنّه لا يحصل لهم الاطمئنان بتشخيصهم في كثير من الأحيان.

الثالث: أنّ قول اللغوي من مصاديق خبر الواحد، وحجّيته في الموضوعات منوطة بحصول شرائط الشهادة.

أقول: إنّ اللغوي من أهل الخبرة، وحجّية أهل الخبرة لا تتوقّف على شرائط الشهادة كما في مرجع التقليد.

انوار الأصول، ج 2، ص: 354

وإن شئت قلت: الحسّ على نوعين: حسّ دقيق، وحسّ غير دقيق، ولا ريب في أنّ الشهادة والإخبار عن حسّ دقيق تحتاج إلى التخصّص والخبرويّة نظير إخبار الطبيب وشهادته على أنّ هذا المريض كذا وكذا، وما نحن فيه من هذا القبيل لأنّ تشخيص الظهور وتعيين المتفاهم عرفاً بين المعاني والاستعمالات المتعدّدة أمر مشكل دقيق يحتاج إلى دقّة وخبرويّة، وحينئذٍ يرجع قول اللغوي إلى قول أهل الخبرة لا إلى الشهادة عن حسّ.

هذا- مضافاً إلى ما أثبتناه

في القواعد الفقهيّة «1» من أنّه لا يعتبر التعدّد في الإخبار عن الموضوعات بل في غير باب القضاء يكفي خبر الواحد الثقة.

رابعها: ما ورد في تهذيب الاصول من «أنّ مجرّد بناء العقلاء على الرجوع في هذه القرون لا يكشف عن وجوده في زمن المعصومين حتّى يستكشف من سكوته رضاهم، مثل العمل بخبر الواحد وأصالة الصحّة ... (إلى أن قال): والحاصل: أنّ موارد التمسّك ببناء العقلاء إنّما هو فيما إذا احرز كون بناء العقلاء بمرأى ومسمع من المعصومين عليهم السلام ولم يحرز رجوع الناس إلى صناعة اللغة في زمن الأئمّة بحيث كان الرجوع إليهم كالرجوع إلى الطبيب» «2».

قلنا: لا حاجة في حجّية خصوص قول اللغوي الذي هو من مصاديق كبرى بناء العقلاء على الرجوع إلى أهل الخبرة إلى وجود خصوص هذا المصداق في زمن المعصومين عليهم السلام بل مجرّد وجود الكبرى في ذلك الزمان كافٍ، وإلّا يلزم من ذلك عدم جواز الرجوع إلى أهل الخبرة بالنسبة إلى المصاديق المستحدثة. هذا أوّلًا.

وثانياً: أنّه لا ريب في رجوع غير أهل اللسان في زمن المعصومين إلى أهل اللسان في حاجاتهم اليوميّة التي كانت مربوطة بتعيين معاني اللغات والألفاظ المتداولة في ذلك اللسان كرجوع أعجمي إلى أهل لسان العرب في تشخيص رسائل الوصايا والأوقاف وأسناد المعاملات والمراسلات العادية التي كانت مكتوبة باللغة العربيّة، وعلى الأقلّ في فهم ما يتعلّق بالقرآن والحديث في توضيحهما وتفسيرهما وتبيين مفرداتهما فلا تتوقّف إثبات إتّصال سيرة العقلاء إلى زمن المعصومين عليهم السلام على تدوين كتب في اللغة في ذلك الزمان ورجوع الناس إليها كذلك.

انوار الأصول، ج 2، ص: 355

الوجه الثالث: من الأدلّة هو التمسّك بالانسداد الصغير، وهو انسداد باب العلم والعلمي في بعض الموضوعات مقابل الانسداد

الكبير الذي هو عبارة عن انسداد باب العلم والعلمي بالنسب إلى معظم الأحكام، ولذا يعتمد على قول المرأة في الطهر والحيض وشبههما ممّا لا يعلم إلّا من قبلها، كما أنّ قول من يكون وكيلًا لعدّة من الأشخاص حجّة في تعيين نيّته وأنّه باع هذا المتاع مثلًا من جانب أي موكّل من موكّيله لأنّ النيّة أيضاً ممّا لا يعلم إلّامن قبله، كذلك في ما نحن فيه حيث إن الحاجة بقول اللغوي في المسائل الفقهيّة كثيرة جدّاً لأنّه (كما أفاد شيخنا الأعظم الأنصاري رحمه الله في رسائله) «يمكن الوصول الإجمالي إلى معاني اللغات بطريق العرف والتبادر والقواعد العربيّة المستفادة من الاستقراء القطعي واتّفاق أهل العربيّة بضميمة أصالة عدم القرينة إلّاأنّه لا مناصّ من الرجوع إلى أهل اللغة في فهم تفاصيل المعاني وجزئياتها» كما في لفظ الكنز مثلًا فنعلم إجمالًا أنّه اسم لأمر مستند مخفي، ولكن هل يعتبر فيه أن يكون مستتراً تحت الأرض، أو يعمّ مثلًا المخفيّ في جوف الجدار أيضاً؟

وحينئذٍ يأتي الإشكال الذي بيّن في الانسداد الكبير، وهو محذور جريان الاحتياط مطلقاً أو جريان البراءة مطلقاً، فالأوّل يوجب العسر والحرج واختلال النظام، والثاني يوجب تفويت المصالح الكثيرة الواقعيّة التي نعلم أنّ الشارع لا يرضى بتفويتها.

أقول: وإشكاله واضح ما لم يرجع إلى الانسداد الكبير، لأنّ الاحتياط في موارد الشكّ هنا ممكن أن لا يوجب اختلال النظام ولا العسر والحرج.

فالأولى أن يقال: إنّ المهمّ والأساس في المقام هو الدليل الثاني، أي بناء العقلاء على الرجوع إلى أهل الخبرة، فأنّ فلسفة كثير من بناءات العقلاء في كثير من الموارد ومنها بناؤهم في الرجوع إلى الخبرة هو هذا الانسداد الصغير، ففي باب الأمارات مثلًا منشأ بنائهم على حجّية قول ذي

اليد وأماريتها على الملك، أو حمل فعل الناس على الصحّة كحمل فعل الوكيل في المعاملة على صحّة العقد هو الانسداد الصغير كما لا يخفى.

فمنشأ بناء العقلاء في المقام هو هذا النوع من الانسداد كما أنّ منشأ اتّفاق العلماء على الرجوع إلى أهل الخبرة أيضاً لعلّه يكون هذا المعنى، وعلى هذا الأساس يرجع الدليل الأوّل والثالث إلى الدليل الثاني.

وكان ينبغي للشيخ الأنصاري رحمه الله أن يتمسّك بهذا الوجه الثاني لا الوجه الأوّل والثالث انوار الأصول، ج 2، ص: 356

حتّى ينفي أوّلًا حجّية قول اللغوي ويجيب عن استلزامه الانسداد الصغير، ثمّ يرجع أخيراً ويقبل الحجّية بنحو قوله «لعلّ» ثمّ يأمر بالتأمّل في النهاية، وإليك نصّ كلامه: «هذا ولكن الإنصاف أنّ موارد الحاجة إلى قول اللغويين أكثر من أن يحصى في تفاصيل المعاني بحيث يفهم دخول الافراد المشكوكة أو خروجها وإن كان المعنى في الجملة معلوماً من دون مراجعة قول اللغوي كما في مثل الفاظ الوطن والمفازاة والتمر والفاكهة والكنز والمعدن والغوص وغير ذلك من متعلّقات الأحكام ممّا لا يحصى وإن لم تكن الكثرة بحيث يوجب التوقّف فيها محذوراً، ولعلّ هذا المقدار مع الاتّفاقات المستفيضة كافٍ في المطلب فتأمّل» «1».

هذا كلّه في تعيين الظهور وتشخيصه.

انوار الأصول، ج 2، ص: 357

2- حجّية الإجماع المنقول وفيه بحث حول الإجماع المحصّل أيضا
اشارة

وممّا قيل بحجّيته وخروجه عن تحت أصالة حرمة العمل بالظّن الإجماع المنقول بخبر الواحد.

قال المحقّق الخراساني رحمه الله: «أنّه حجّة عند كثير ممّن قال باعتبار الخبر بالخصوص من جهة أنّه من أفراده».

وفي الحقيقة يستدلّ على هذا بدليل مركّب من صغرى وكبرى، أمّا الصغرى فهو: أنّ الإجماع المنقول بخبر الواحد مصداق من مصاديق خبر الواحد، وأمّا الكبرى فهو: كلّ خبر الواحد الثقة حجّة، فيستنتج أنّ الإجماع المنقول بخبر الواحد حجّة.

وبهذا يظهر

أنّ الأنسب والأولى تأخير هذا البحث عن بحث خبر الواحد لأنّه فرع من فروعه، ولكن نقتفي أثر القوم ونبحث فيه بناءً على حجّية خبر الواحد.

فنقول: تحقيق القول في المسألة يستدعي التكلّم في امور:

الأمر الأوّل: في الإجماع المحصّل.
اشارة

ووجه البحث عن الإجماع المحصّل أنّه يمكن أن يكون الإجماع المنقول مشمولًا لأدلّة حجّية خبر الواحد على بعض المباني في الإجماع المحصّل دون بعض، فلا بدّ من البحث أوّلًا عن وجوه حجّية الإجماع المحصّل عندهم والمسالك التي سلكوها في ذلك، فنقول: يوجد في الإجماع المحصّل مبنيان معروفان: مبنى أهل السنّة، ومبنى الشيعة، فالمعروف والمشهور عند السنّة أنّ الإجماع في نفسه حجّة، أي للُامّة بما هي امّة عصمة تعصمها عن الخطأ، ولذلك عبّر شيخنا الأعظم الأنصاري رحمه الله عن إجماعهم بالإجماع الذي هو الأصل لهم وهم الأصل له، وأمّا

انوار الأصول، ج 2، ص: 358

الشيعة فالإجماع عندهم حجّة بالعرض، أي بما هو كاشف عن قول المعصوم أو مشتمل عليه، فهو بحسب الحقيقة يرجع إلى السنّة وليس دليلًا على حدة، فالأدلّة عندنا في الواقع ثلاثة لا أربعة.

وتنبغي الإشارة أيضاً إلى معنى الإجماع لغة واصطلاحاً فنقول: أمّا لغة فهو بمعنى الاتّفاق، وأمّا في مصطلح الاصوليين فهو اتّفاق مخصوص.

وقد اختلف العامّة في تحديد الإجماع وتعريفه على أقوال: فقال بعضهم أنّه اتّفاق امّة محمّد صلى الله عليه و آله على أمر من الامور الدينيّة، وقال بعض آخر أنّه اتّفاق أهل الحلّ والعقد من امّة محمّد صلى الله عليه و آله وثالث: أنّه اتّفاق المجتهدين من امّة محمّد صلى الله عليه و آله في عصر على أمر، ورابع: أنّه اتّفاق أهل المدينة، وخامس: أنّه اتّفاق أهل الحرمين، بل يظهر من بعضهم أنّه اتّفاق الشيخين أو الخلفاء الأربعة.

وأمّا الشيعة فهو عندهم

على أربعة أنواع: الدخولي (التضمّني) والحدسي والتشرّفي واللطفي، ولكلّ تعريف يخصّه سيأتي عند البحث عن كلّ واحد منها.

1- دليل حجّية الإجكاع عند العامة

وقد استدلّ العامّة على حجّية الإجماع بالأدلّة الثلاثة: الكتاب والسنّة والعقل.

أمّا الكتاب فاستدلّوا منه بآيات عديدة: الأهمّ منها قوله تعالى: «وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً» «1»

(الشقاق بمعنى العداوة).

تقريب دلالتها: أنّ اللَّه تعالى جمع بين مشاقّة الرسول صلى الله عليه و آله واتّباع غير سبيل المؤمنين في الوعيد، فيلزم أن يكون اتّباع غير سبيل المؤمنين محرّماً مثل مشاقّة الرسول، وإذا حرم اتّباع غير سبيل المؤمنين وجبّ اتّباع سبيلهم إذ لا ثالث لهما، ويلزم من اتّباع سبيلهم أن يكون الإجماع حجّة لأنّ سبيل الإنسان هو ما يختاره من القول أو الفعل أو الاعتقاد.

ولكن الإنصاف أنّ هذه الآية لا ربط لها بمسألة الإجماع في الأحكام الفرعيّة، بل إنّها تنهى انوار الأصول، ج 2، ص: 359

عن معصية الرسول وشقّ عصا المجتمع الإسلامي، وتتكلّم عن مخالفة الرسول والكفر بعد الإيمان وما يترتّب عليه من العذاب الاخروي، فالمقصود من اتّباع غير سبيل المؤمنين في قوله تعالى: «وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ» هو مخالفة الرسول واتّباع الكفر بعد الإيمان، فإنّ سبيل المؤمنين بما هم مجتمعون على الإيمان هو الاجتماع على طاعة الرسول الذي طاعته طاعة اللَّه تعالى.

والشاهد على ذلك امور:

1- ما ورد في شأن نزولها من أنّ قوماً من الأنصار من بني ابيرق اخوة ثلاثة كانوا منافقين: بشير وبشر ومبشّر، فنقبوا على عمّ قتادة بن النعمان، وأخرجوا طعاماً كان أعدّه لعياله وسيفاً ودرعاً، فشكا قتادة ذلك إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وفضح بنو ابيرق، فكفر بشر وارتدّ، ولحق

بالمشركين بدل أن يستغفر اللَّه ويتوب إليه من ذنبه فأنزل اللَّه «ومن يشاقق ..» حيث إن اتّباع بشر غير سبيل المؤمنين إنّما هو ارتداده ولحوقه بالمشركين لا مخالفته لإجماع المسلمين في حكم فرعي.

2- إنّ سبيل المؤمنين في قوله تعالى: «وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ» سبيلهم بما هم مجتمعون على الإيمان، فيكون المعنى، سبيل الإيمان، لأنّ تعليق حكم بوصف مشعر بعلّيته. فالمراد من الآية الخروج من الإيمان إلى الكفر لا المخالفة في المسائل الفرعيّة.

3- أنّ قوله تعالى: «ويتّبع ...» شرط في الجملة، وجزاؤه قوله تعالى: «نولّه ما تولّى» ولا إشكال في أنّ المقصود من الجزاء انّا نأخذه على ما جرى عليه من ولاية الطاغوت فوزانه وزان قوله تعالى في ذيل آية الكرسي: «وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ» وقوله تعالى: «يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ» «1»

فليكن المقصود من الشرط (اتّباع غير سبيل المؤمنين) أيضاً قبول ولاية الطاغوت.

4- لو لم يكن قوله تعالى: «وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ» عطفاً تفسيريّاً لمشاقّة الرسول، وكان المراد منه مخالفة الإجماع في المسائل الفرعيّة، أي أمراً آخر وراء مشاقّة الرسول صلى الله عليه و آله فلتكن هي وحدها موجبة للدخول في جهنّم كما أنّ مشاقّة الرسول وحدها موجبة له، ولازمه انوار الأصول، ج 2، ص: 360

حينئذٍ العطف ب «أو» مع أنّه عطف بالواو، وهو ظاهر في مطلق الجمع، ولازمه التفسير والتوضيح.

5- قوله تعالى: «مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى» دليل آخر على المقصود، حيث إنّه يدلّ على أنّ الكلام في الضلالة بعد الهداية، فيوجب ظهور قوله: «ويتّبع ...» في كونه تفسيراً لاتّباع الضلالة بعد تبيّن الهداية.

فظهر من مجموع هذه القرائن والشواهد أنّ الآية لا دخل لها بالإجماع في الأحكام الفرعيّة، بل

ناظرة إلى المسائل الاصوليّة (اصول الدين).

وهيهنا آيات اخر استدلّوا بها على حجّية الإجماع أيضاً، منها قوله تعالى: «وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً» «1»

بتقريب أنّ الوسط هو العدل والخير، والعدل أو الخير لا يصدر عنه إلّاالحقّ، والإجماع صادر عن هذه الامّة العدول الخيار فليكن حقّاً.

والجواب عنها واضح، لأنّ المراد من الوسط هو الاعتدال والسلامة من طرفي الإفراط والتفريط، ولا إشكال في أنّ هذه الامّة بالنسبة إلى أهل الكتاب والمشركين على هذا الوصف فإنّ بعضهم وهم المشركون والوثنيّون مالوا إلى تقوية جانب الجسم محضاً لا يريدون إلّا الحياة الدنيا، وبعضهم كالنصارى اهتمّوا بتقوية جانب الروح لا يدعون إلّاالرهبانيّة، لكن اللَّه سبحانه جعل هذه الامّة وسطاً وجعل لهم ديناً يهدي إلى وسط الطرفين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، كما يهدي إلى أنّه لا تعطيل ولا تشبيه ولا جبر ولا تفويض.

ومعنى «شهداء على الناس» أنّ هذه الامّة لكونها وسطاً يمكن لها أن تكون شهيدة على سائر الامم الواقعة في طرفي الإفراط والتفريط، واسوة ومثالًا لهم يقاس ويوزن بها كلّ من الطرفين، كما أنّ النبي صلى الله عليه و آله هو الاسوة والمثال الأكمل لهذا الامّة وميزان يوزن به حال الآحاد من الامّة.

فإذا كان هذا هو معنى الآية فلا ربط لها بمسألة الإجماع في الأحكام الفرعيّة كما هو ظاهر، مضافاً إلى أنّ الامّة عام إفرادي يشمل آحاد الامّة فيكون كلّ واحد من الامّة شاهداً

انوار الأصول، ج 2، ص: 361

وشهيداً، ولازم هذا الاستدلال حينئذٍ أن يكون كلّ فرد من أفراد الامّة معصوماً عن الخطأ، وهو كما ترى.

ولو سلّم كونها عاماً مجموعياً، أي كان النظر إلى الامّة من حيث إنّها امّة فغاية ما تقتضيه الآية

هي إثبات العدالة لها لا العصمة، والذي ينفع في المقام إنّما هو إثبات العصمة لا العدالة لتتمّ كاشفيتها عن الواقع.

ومنها قوله تعالى: «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمْ الْفَاسِقُونَ» «1».

بتقريب أنّ اللَّه تعالى وصف الامّة في هذه الآية بأنّها خير الامّة وأنّها تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر، فلا يجوز أن يقع منها الخطأ، لأنّ ذلك يخرجها عن كونها خياراً ويخرجها عن كونها آمرة بالمعروف وناهيّة عن المنكر.

وفيه: أنّه لا ملازمة بين عدم جواز وقوع الخطأ وبين كونهم خياراً، لأنّ الخيار قد يقع منهم الخطأ وإن كانوا معذورين، كما هو الشأن في غير المعصومين من العدول فإنّه يقال: إنّ الشيخ الأعظم الأنصاري رحمه الله مثلًا من الخيار أو أنّ أبا ذر رضى الله عنه كان من خيار الامّة مع عدم كونهما معصومين.

ومنها قوله تعالى: «وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا» «2»

بتقريب أنّ الإجماع حبل اللَّه فيجب الاعتصام به ولا يجوز التفرّق عنه.

وفيه أوّلًا: أنّ الآية تأمر بإيجاد الاتّحاد بين المسلمين، والاتّحاد شي ء وقبول كلّ رأي وعقيدة تعبّداً شي ء آخر، ولا ملازمة بينهما.

ثانياً: دلالة الآية على المدّعى موقوفة على أن يكون الإجماع مصداقاً لمفهوم حبل اللَّه، مع أنّ من الواضح أنّ الحكم لا يثبت موضوعه، بل تدلّ على لزوم الاعتصام بحبل ثبت كونه حبل اللَّه تعالى بدليل آخر.

هذا كلّه من ناحية استدلالهم بالكتاب وقد عرفت أنّها تكلّفات بعيدة وتشبّثات واهيّة.

وأمّا السنّة: فاستدلّوا منها بحديث نبوي نقل بطرق مختلفة على مضامين متفاوتة، فنقل انوار الأصول، ج 2، ص: 362

من طريق عمر وابن مسعود وأبي سعيد الخدري وأنس بن مالك وابن عمر وأبي هريرة

وحذيفة بن اليمان وغيرهم «1».

ففي سنن ابن ماجة «2»: حدّثني أبو خلف الأعمى قال: سمعت أنس بن مالك يقول: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول: «إنّ امّتي لا تجتمع على ضلالة فإذا رأيتم اختلافاً فعليكم بالسواد الأعظم» وفي نقل آخر: «لم يكن اللَّه ليجمع امّتي على الضلالة» وفي ثالث: «سألت اللَّه أن لا يجمع امّتي على الضلالة فأعطانيها» وفي رابع: «لا تزال طائفة من امّتي على الحقّ ظاهرين لا يضرّهم من خالفهم» (وفي تعبير آخر: لا يضرّهم خلاف من خالفهم).

وقد نوقش فيه: تارةً من ناحية السند، واخرى من ناحية الدلالة، أمّا السند فقد ناقش فيه أهل السنّة أنفسهم، منهم بعض شرّاح سنن ابن ماجة فإنّه قال في ذيل هذا الحديث: «وفي إسناده ابو خلف الاعمى واسمه حازم ابن عطاء وهو ضعيف، وقد جاء الحديث بطرق في كلّها نظر».

أمّا الدلالة فلو كان في التعبير الوارد في الحديث كلمة «خطأ» كما هو المعروف في الألسنة أي كان الحديث هكذا: لا تجتمع امّتي على خطأ، فلا إشكال في دلالته لكن لم يرد الحديث بهذا التعبير في الجوامع الموجودة، بل التعبيرات منحصرة فيما نقلناه «3»، وحينئذٍ لقائل أن يقول: إنّ التعبير بالضلالة الموجود فيها ظاهرة في الضلالة في اصول الدين لأنّ هذا هو المتبادر من الضلالة، فلا يثبت بها حجّية الإجماع في الأحكام الفرعيّة، هذا أوّلًا.

وثانياً: سلّمنا الإطلاق وصحّة السند إلّاأنّ متعلّق الضلالة فيها هو لفظ الامّة، فيكون المفاد حينئذٍ أنّ جميع المسلمين لا يجتمعون على باطل (لأنّ الظاهر من الامّة هو تمام الامّة) وهذا لا يفيد إلّامن يقول بأنّ إجماع الامّة حجّة، أمّا سائر الأقوال كإجماع العلماء أو إجماع انوار الأصول، ج 2، ص: 363

أهل الحرمين

أو الصحابة أو أهل المدينة وغيرها من الأقوال، فإنّ هذا الحديث لا يصلح لإثباتها، فالذي يثبت به إنّما هو حجّية إجماع الامّة وهذا ممّا لا بأس بالالتزام به عند الإماميّة أيضاً لاعتقادهم بوجود المعصوم عليه السلام في الامّة في كلّ زمان، فلعلّ جعل الحجّية من ناحية النبي صلى الله عليه و آله لاشتمالها على المعصوم عليه السلام لا من حيث هي هي، ولا يخفى أنّ هذا الجواب يجري حتّى لو كان في متن الحديث كلمة «الخطأ» لا الضلالة.

وعلى كلّ، هذه الرّواية لا تصدق فيما إذا خالفت طائفة من الامّة فتنحصر طبعاً في خصوص الضروريات، وإذن يكون مفادها مقبولًا معقولًا بل يمكن تأييدها بدليل العقل لأنّ الخطأ في ما ثبتت ضرورته من الدين محال عادة.

وأما قوله صلى الله عليه و آله في ذيل النقل الأوّل: «فعليكم بالسواد الأعظم» فقد ورد مثل هذا التعبير في نهج البلاغة في كلام الإمام أمير المؤمنين عليه السلام حيث قال: «والزموا السواد الأعظم فإنّ يد اللَّه مع الجماعة وإيّاكم والفُرقة فإنّ الشاذّ من الناس للشيطان كما أنّ الشاذّ من الغنم للذئب» «1».

والإنصاف أنّه لا ربط له بمسألة الإجماع في الفروع بل هذا الذيل بقرينة صدره وهو: «لا تجتمع على ضلالة» منصرف إلى الاصول كما مرّ.

كما أنّ ذيل ما نقلناه من كلام أمير المؤمنين عليه السلام وهو: «إيّاكم والفُرقة فإنّ الشاذّ من الناس للشيطان» شاهد على أنّ المقصود من صدره أيضاً المسائل الاعتقاديّة ولا ربط له بالفروع لأنّه لا إشكال ولا خلاف في أنّه لو خالف بعض الفقهاء بعضاً في بعض الفروع الدينيّة لم يكن فيه محذور وليست هذه الفرقة مذمومة ناشئة من الشيطان، وكم له من نظير في المباحث الفقهيّة.

هذا كلّه

بالنسبة إلى دليل السنّة.

2- دليل حجّية الإجماع عند الأصحاب
اشارة

أمّا الخاصّة فلهم في حجّية الإجماع المحصّل مسالك أربعة:

المسلك الأوّل: الإجماع الدخولي

وهو دخول الإمام عليه السلام في المجمعين والمتّفقين بشخصه، وإن كان لا يعرفه المحصّل للإجماع، فيخبر بالحكم عنه بصورة الإجماع، فملاك حجّيته دخول المعصوم بنفسه في المجمعين، ولذلك قال المحقّق رحمه الله في المعتبر: «فلو خلا المائة من فقهائنا من قوله لما كان حجّة ولو حصل في اثنين كان قولهما حجّة» «1».

ولا إشكال في هذا النوع من الإجماع من ناحية الكبرى، إنّما الكلام في الصغرى لأنّ الإجماعات المنقولة الموجودة في الكتب الفقهيّة ليست من هذا القبيل قطعاً، فإنّ الناقل لم يسمع الحكم من جماعة بحيث يعلم بأنّ الإمام عليه السلام أحدهم قطعاً، نعم هذا المعنى كان ممكناً في عصر حضور الإمام عليه السلام ولكن نقلة الإجماع وأرباب الكتب الفقهيّة متأخّرون عن ذلك العصر يقيناً.

المسلك الثاني: الإجماع اللطفي

وصاحب هذا المسلك هو شيخ الطائفة رحمه الله فإنّه قال فيما حكي عنه: اجتماع الأصحاب على الباطل وعلى خلاف حكم اللَّه الواقعي خلاف اللطف، فيجب لطفاً القاء الخلاف بينهم بإظهار الحقّ ولو لبعضهم، فلو حصل إجماع واتّفاق من الكلّ نستكشف بقاعدة اللطف إنّه حقّ وهو حكم اللَّه الواقعي.

أقول: تنبغي الإشارة إجمالًا إلى قاعدة اللطف التي تفيدنا هنا وفي أبواب العقائد أيضاً فنقول: قال العلّامة رحمه الله في شرح التجريد: «اللطف هو ما يكون المكلّف معه أقرب إلى فعل الطاعة وأبعد من فعل المعصية ولم يكن له حظّ في التمكين (أي القدرة) ولم يبلغ حدّ الإلجاء (أي الإجبار)» «2»، وحاصله أنّ اللطف عبارة عمّا يقرّب العبد نحو الطاعة ويبعّده عن المعصية ما دام لم يسلم العبد لقدرته فقط ولم يجبره أيضاً على الطاعة أو ترك المعصية بل كان هناك مضافاً إلى قدرة العبد على الفعل أو الترك معاونة على الطاعة وترك المعصية،

مع عدم وصولها إلى حدّ الإلجاء والإجبار.

انوار الأصول، ج 2، ص: 365

وقال بعض المحقّقين ممّن قارب عصرنا: أنّ مراد المتكلّمين من قاعدة اللطف هو ما يسمّى عند علماء الحقوق في يومنا هذا بضمانة الإجراء، فإنّهم بعد وضع القوانين يضعون لإجرائها ضامناً من الحبس والجريمة وغيرها ممّا يوجب الحركة نحو امتثال الواجبات والإجتناب عن المحرّمات، فهي بحسب الحقيقة لطف بالنسبة إلى من يكون مكلّفاً بهذه القونين، فكذلك في ما نحن فيه.

ولكن الإنصاف أنّ المراد من اللطف في كلماتهم معنى أوسع من ذلك، لأنّه يشمل أيضاً ما يوجب إيجاد ظروف ثقافيّة وفكريّة لتكميل النفوس القابلة والإرشاد إلى مناهج الصلاح من بعث الرسل وإنزال الكتب والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإنذار والتبشير، ولذلك يعدّ من أهمّ أدلّة لزوم بعث الرسل قاعدة اللطف، ولا إشكال في أن الغرض من إنزال الكتب السماويّة وإرسال الرسل الإلهية ليس منحصراً في الإنذار والوعد والوعيد بل يعمّ إيجاد تلك الظروف التربويّة أيضاً.

وكيف كان، لا بدّ من البحث أوّلًا: في كبرى القاعدة وثانياً: في تطبيقها على المقام.

أمّا الكبرى فاستدلّ لها بلزوم نقض الغرض، لأنّ المولى أو المقنّن المشرّع عليه أن يوجد شرائط ومقدّمات إجراء أحكامه وقوانينه، ولو كان الغرض من الجعل إنفاذها في الخارج فهو، وإلّا لنقض غرضه، وهذا كمن يدعو رجلًا إلى داره ويريد إكرامه ومع ذلك لا يهيى ء مقدّماته من إرسال رسالة إليه مثلًا وغيرها من سائر المقدّمات التي يعلم أنّه لولاها لما استجاب دعوته فيعدّ عند العقلاء ناقضاً للغرض، كذلك في المقام فإنّ اللَّه سبحانه وتعالى خلق الإنسان ليوصله إلى الكمال بطاعته وترك معصيته، وهذا يحتاج إلى بعث الرسل وإنزال الكتب والإرشادات المستمرّة وجعل تكاليف كالصلاة والصّوم والحجّ، وإلّا فقد نقض غرضه.

قلنا:

أنّ هذا مقبول تامّ ولكنه بالنسبة إلى الشرائط والمقدّمات التي يوجب عدمها نقض الغرض لا غير.

وبعبارة اخرى: المقدّمات على ثلاثة أقسام: قسم منها يعدّ من شرائط القدرة، ولا إشكال في لزوم حصول هذا القسم.

وقسم آخر منها يوجب حصولها الإجبار في العمل أو الترك، ولا إشكال في منافاته للتكليف لأنّ المفروض كون العبد مختاراً.

انوار الأصول، ج 2، ص: 366

وقسم ثالث ليس لا من هذا ولا من ذاك، وهو بنفسه على قسمين: قسم يرجع إلى العبد، وقسم يرجع إلى المولى، فالأوّل كالتعلّم إمّا اجتهاداً أو تقليداً، ولا ريب في أنّ تحصيل هذا يكون على عهدة العبد، فلو لم يحصّله يعدّ عند العقلاء مقصّراً، وأمّا الثاني فهو أيضاً يكون على قسمين: قسم منه يجب إيجاده من جانب المولى بحيث لو لم يفعله يعدّ مقصّراً وناقضاً لغرضه، وقسم آخر ليس إلى هذا الحدّ فلا يصدق عليه نقض الغرض.

وإن شئت فمثّل لهذين القسمين بالقوانين المجعولة للسياقة وحركة المرور حيث إنّه لا إشكال في أنّها يمكن أن تكون على نوعين: منها ما يكون نظير بسط الشوارع ورسم الخطوط وأخذ الغرامة ونصب العلامات فإنّها من المقدّمات التي لو لم يحقّقها المسؤولون وحصل من هذه الناحية الهرج والمرج كانوا مقصّرين في أداء وظائفهم، ومنها ما ليس على هذا المستوى كنصب مراقب على كلّ سيارة فلا ريب في عدم لزومه عليهم.

كذلك في ما نحن فيه، فإنّ إرسال الرسل وإنزال الكتب وتعيين الثواب والعقاب والحدود والتعزيرات وإيجاد ظروف التعليم والتعلّم يكون من القسم الأوّل، وهي مقتضى قاعدة اللطف، فإنّ اللطف يقتضي إيجاد المقدار اللازم من المقدّمات، وأمّا الأكثر من ذلك فلا يستفاد لزومه من هذه القاعدة.

فتحصّل من جميع ذلك أنّ اللطف الواجب هو ما يعدّ تركه

من المولى الحكيم نقضاً للغرض.

هذا كلّه بالنسبة إلى الكبرى.

أمّا الصغرى وتطبيق القاعدة على المقام فلم يقبلها أكثر الفقهاء لعدم وضوح المصلحة التي اقتضت اختفاء الإمام عليه السلام، فلعلّها هي إمتحان الناس بالغيبة كما امتحن قوم بني إسرائيل بغيبة موسى عليه السلام وذهابه إلى جبل طور في فترة من الزمان، أو أنّها حفظ نفس الإمام عليه السلام كما ورد في بعض الرّوايات، واقتضت الحكمة الإلهيّة حصر عددهم في اثني عشر، أو عدم قابلية الناس وعصيانهم، فلو صلحوا وأطاعوا أوامرهم لظهر الإمام عليه السلام.

وعلى كلّ حال نفس المصلحة التي تقتضي خفاءه وغيبته قد تكون موجودة في اختفاء بعض الأحكام فتقتضي عدم إظهارها على كلّ حال.

وبعبارة اخرى: نفس السبب الذي أوجب غيبة الإمام عليه السلام يشمل بعض الأحكام الفرعيّة التي أجمع العلماء على الخطأ فيها في عصر واحد.

انوار الأصول، ج 2، ص: 367

ولقد أجاد المحقّق الطوسي رحمه الله حيث قال: «وجوده لطف وتصرّفه لطف آخر وعدمه منّاً» «1» يعني أنّ لوجود الإمام عليه السلام ألطافاً عديدة:

أحدها: أصل وجوده الشريف وقوام نظام الكون به، وهذا باقٍ في عصر الغيبة أيضاً فإنّه خزينة أسرار الشرع في كلّ عصر وزمان، والعلّة الغائيّة لخلقة العالم لأنّه من أتمّ مصاديق الإنسان الكامل الذي خلق الكون لأجله، ونور اللَّه الذي يهتدي به المهتدون بولايته على القلوب.

ثانيها: ظهوره وتصرّفه فإنّ حكومته وقيادته لطف آخر، ولكن عدم هذا اللطف وانقطاعه منّا، «فقوله: عدمه منّا» أي عدم تصرّفه لا عدم وجوده، ولا يلازم قطع هذا القسم من اللطف قطع القسم الأوّل منه.

وإن شئت قلت: من شؤون تصرّف الإمام وظهوره أن يمنع العباد عن الخطأ وإذا لم يكن عدم أصل الظهور والتصرّف مخالفاً للّطف على المفروض فليكن عدم ما

هو من شؤونه أيضاً كذلك. هذا أوّلًا.

وثانياً: سلّمنا أنّ مقتضى القاعدة، القاء الخلاف إلّاأنّه لا تحلّ المشكلة ما لم يمنع الأكثر عن الوقوع في الخطأ (على الأقل) لأنّ مجرّد إلقاء الخلاف لبعض شاذّ لا يهدي إلى سبيل، وهذا يستلزم حجّية الشهرة أيضاً مع أنّ المستدلّ لا يلتزم به على الظاهر.

المسلك الثالث: الإجماع التشرّفي

وهو تشرّف الأوحدي من العلماء بمحضر الإمام عليه السلام في زمان الغيبة واستفساره عن بعض المسائل المشكلة، ثمّ إعلانه رأي الإمام عليه السلام بشكل الإجماع لأنّه يعلم أنّ مدّعي الرؤية لا يقبل قوله بل لابدّ من تكذيبه كما في الحديث، فيعلن حكم الإمام بصورة الإجماع ويقول مثلًا: هذا ثابت بالإجماع.

إن قلت: كيف يمكن الجمع بين ما حكي متظافراً أو متواتراً من تحقّق رؤيته عليه السلام لبعض عدول الثقات، وبين ما ورد في بعض الرّوايات من الأمر بتكذيب مدّعى الرؤية.

انوار الأصول، ج 2، ص: 368

قلنا: لا يبعد أن تكون الرّوايات الآمرة بالتكذيب ناظرة إلى من يدّعي نيابة أو رسالة أو حكماً، وأمّا مجرّد دعوى الرؤية بدون ذلك فلا دليل على تكذيبه.

ولكن غاية ما يقتضيه هذا البيان هو إمكان الإجماع التشرّفي ثبوتاً، وأمّا في مقام الإثبات فلم نجد مصداقاً له في ما بأيدينا من الإجماعات المنقولة.

المسلك الرابع: الإجماع الحدسي

وهو كما قال في الفصول: «أن يستكشف عن قول المعصوم عليه السلام أو عن دليل معتبر باتّفاق علمائنا الأعلام الذين كان ديدنهم الانقطاع إلى الأئمّة عليهم السلام في الأحكام، وطريقتهم التحرّز عن القول بالرأي ومستحسنات الأوهام فإنّ اتّفاقهم على قول وتسالمهم عليه مع ما يرى من اختلاف أنظارهم وتباين أفكارهم ممّا يؤدّي بمقتضى العقل والعادة عند أُولي الحدس الصائب والنظر الثاقب إلى العلم بأنّ ذلك قول أئمّتهم ومذهب رؤسائهم وأنّهم إنّما أخذوه منهم إمّا بتنصيص أو بتقرير» «1».

وقال شيخنا العلّامة الحائري رحمه الله في الدرر: «ولا اختصاص لهذه الطريقة باستكشاف قول المعصوم عليه السلام بل قد يستكشف بها عن رأي سائر الرؤساء المتبوعين، مثلًا إذا رأيت تمام خدمة السلطان (الذين لا يُصدرون إلّاعن رأيه) اتّفقوا على إكرام شخص خاصّ يستكشف منه إنّ

هذا إنّما هو من توصيته» «2».

أقول: يمكن تقريب هذا المسلك بثلاثة وجوه:

الوجه الأوّل: ما ذهب إليه المحقّق النائيني رحمه الله في فوائد الاصول وهو أن نقول بوجود الملازمة العادية بين اتّفاق المرؤوسين على أمر ورضا الرئيس إن كان نشأ الاتّفاق عن تواطئهم على ذلك «3» فكما يكشف قول الشافعي من العلماء الشافعيين وقول أبي حنيفة من تلامذته وكذا غيرهم، كذلك يكشف من إجماع علماء الشيعة قول الإمام المعصوم عليه السلام.

ويرد عليه: إنّ هذا ثابت في زمان الحضور ولا يفيدنا اليوم لأنّ كشف قول الرئيس أو

انوار الأصول، ج 2، ص: 369

الإمام أو الاستاذ من أقوال المرؤوسين أو المأمونين أو التلامذة مبني على وجود صلة بين الطرفين، وهي حاصلة في خصوص عصر الحضور.

لكن الحقّ هو وجود هذه الملازمة في زمن الغيبة أيضاً، لأنّ الصلة مع الواسطة حاصلة، ويكفي في ذلك الفترة التي كان ديدنهم في الفتوى على التعبّد بمتون الرّوايات وعلى أساس الكتب المتلقّاة من كلمات المعصومين من دون تفريع واستنباط.

الوجه الثاني: ما حكي عن السيّد محمّد المجاهد صاحب مفاتيح الاصول وهو: أنّ تراكم الظنون من الفتاوى تنتهي بالأخرة إلى القطع، فمن فتوى كلّ واحد منهم يحصل ظنّ ما بحكم اللَّه الواقعي، فإذا كثرت فمن تراكم تلك الظنون يحصل القطع بالحكم الواقعي الصادر عن الإمام عليه السلام كما هو الوجه في حصول القطع من الخبر المتواتر.

أقول: إنّ هذا ممكن في نفسه ولكن لا يندرج تحت ضابط كلّي، إذ يختلف ذلك باختلاف مراتب الظنون والموارد والأشخاص، فقد يحصل القطع من تراكم الظنون لشخص ولا يحصل لآخر، إذن فيمكن قبول الصغرى والكبرى في الجملة لا بالجملة.

الوجه الثالث: ما مرّ بيانه من صاحب الفصول، ونقول توضيحاً لذلك: أنّ اتّفاق العلماء كاشف

على وجود دليل معتبر عندهم، لكن هذا إذا لم يكن في مورد الإجماع أصل أو قاعدة أو دليل على وفق ما اتّفقوا عليه، فإنّه مع وجود ذلك يحتمل أن يكون مستند الإجماع أحد هذه الامور، فلا يكشف اتّفاقهم عن وجود دليل آخر وراء ذلك.

كما إذا اتّفقوا على أنّ حدّ الكرّ في باب المياه ثلاثة أشبار ونصف في ثلاثة أشبار، والمفروض في هذا الفرع عدم وجود أصل أو قاعدة عقليّة أو دليل معتبر نقلي يدلّ على ذلك، فإنّ هذا الاتّفاق يكشف عن وجود دليل آخر معتبر عند الكلّ، سيّما إذا لاحظنا ديدن قدماء أصحابنا فإنّه كان على التعبّد بالرجوع إلى الإخبار والإفتاء على وفق متون الرّوايات حتّى كانوا معرضين عن النقل بالمعنى إلّابمقدار ثبت جوازه في نقل الرّواية.

ويشهد على هذا ما ورد في مقدّمة كتاب المبسوط «1» لشيخ الطائفة رحمه الله الذي كانت لسيّدنا الاستاذ البروجردي رحمه الله عناية خاصّة بها وكان يقول: إنّ هذه المقدّمة تمثّل لنا الجوّ الفكري انوار الأصول، ج 2، ص: 370

والاجتماعي الموجود في عصر الشيخ الطوسي رحمه الله، وإليك نصّها: «أمّا بعد فإنّي لا أزال أسمع معاشر مخالفينا من المتفقّهة والمنتسبين إلى علم الفروع يستحقرون فقه أصحابنا الإماميّة ويستنزرونه وينسبونهم إلى قلّة الفروع وقلّة المسائل، ويقولون: إنّهم حشو ومناقضة، وإنّ من ينفي القياس والاجتهاد لا طريق له إلى كثرة المسائل ولا التفريع على الاصول، لأنّ جلّ ذلك وجمهوره مأخوذ من هذين الطريقين، وهذا جهل منهم بمذاهبنا وقلّة تأمّل لُاصولنا، ولو نظروا في أخبارنا لعلموا أنّ جلّ ما ذكروه من المسائل موجود في أخبارنا ومنصوص عليه تلويحاً من أئمّتنا ... (إلى أن قال): وكنت على قديم الوقت وحديثه مشوق النفس إلى عمل كتاب

يشتمل على ذلك (التفريعات) تتشوّق نفسي إليه فيقطعني عن ذلك القواطع وتشغلني الشواغل وتضعف نيّتي أيضاً فيه قلّة رغبة هذه الطائفة فيه وترك عنايتهم به لأنّهم ألفوا الأخبار وما رووه من صريح الألفاظ حتّى أنّ مسألة لو غيّر لفظها وعبّر عن معناها بغير اللفظ المعتاد لهم لعجبوا منها وقصر فهمهم عنها، وكنت عملت على قديم الوقت كتاب النهاية وذكرت جميع ما رواه أصحابنا في مصنّفاتهم واصولها من المسائل وفرّقوه في كتبهم، ورتّبته ترتيب الفقه وجمعت من النظائر، ورتّبت فيه الكتب على ما رتّبت للعلّة التي بيّناها هناك ولم أتعرّض للتفريع على المسائل ولا لتعقيد الأبواب وترتيب المسائل وتعليقها والجمع بين نظائرها بل أوردت جميع ذلك أو أكثره بالألفاظ المنقولة حتّى لا يستوحشوا من ذلك» «1» (انتهى).

فالمستفاد من هذه العبارات وصريحها أنّ المقبول من التأليفات في ذلك العصر وما تقدّمه إنّما هو ما كان مأخوذاً من متون الرّوايات وصريح ألفاظها، فإذا اتّفق علماء ذلك الزمان على مسألة فالإنصاف أنّه يمكن الحدس القطعي من ذلك عن وجود دليل معتبر سنداً ودلالة (أمّا من ناحية السند فلو فرض ضعفه لجبر بعملهم، وأمّا من ناحية الدلالة فلأنّه لو كان له من هذه الناحية خفاء لخالف بعضهم على الأقل) أو يكشف ذلك عن أخذ هذا الحكم عن المعصوم عليه السلام جيلًا بعد جيل وإن لم يذكر في رواياتهم.

فقد ظهر ممّا ذكرناه أوّلًا: أنّ ثلاثة من الأقسام الأربعة للإجماع تامّة كبرى، وهي الإجماع انوار الأصول، ج 2، ص: 371

الدخولي والحدسي والتشرفي، وأمّا الإجماع اللطفي فلا يتمّ من ناحية الكبرى فضلًا عن الصغرى، وأنّ قسمين من هذه الثلاثة وهما: الدخولي والتشرّفي ليس لهما صغرى معروفة، فالذي يكون تاماً صغرى وكبرى هو الإجماع الحدسي،

وهو المقصود من الإجماعات المنقولة في الكتب الفقهيّة بين المتأخّرين.

ثانياً: لابدّ في كشف مراد ناقل الإجماع من ملاحظة التعبير الذي ذكره، فلو قال مثلًا:

«مخالفة فلان لا تضرّ بالإجماع لأنّه معلوم النسب» فنعلم أنّ مبناه على الإجماع الدخولي، وإذا قال مثلًا: «مخالفة الفلان لا تضرّ لانقراض عصره حين الإجماع» أو قال: «إنعقد الإجماع قبله وبعده» فنعلم أنّ مبناه على الإجماع اللطفي لاعتبارهم اتّفاق أهل عصر واحد على حكم، وإن قال: «لا أصل ولا قاعدة في هذه المسألة» «1» فنستكشف كون المبنى على الحدس، نعم لا يوجد تعبير يناسب الإجماع التشرّفي في الكلمات.

ثالثاً: أنّه لا يعدّ الإجماع دليلًا مستقلًا في مقابل الأدلّة الثلاثة الاخرى بناءً على مذاق الإماميّة.

هذا تمام الكلام في الأمر الأوّل من الامور التي نذكرها بعنوان المقدّمة للبحث عن الإجماع المنقول.

الأمر الثاني: حجّية الخبر المنقول ...

إنّ حجّية الإجماع المنقول مبنية على دخوله تحت مصاديق خبر الواحد فلا بدّ من توفّر شرائط حجّية خبر الواحد فيه، وهي ثلاثة:

أحدها: أن يكون الخبر عن حسّ فلا تشتمل أدلّة حجّية خبر الواحد الخبر الصادر عن الحدس (كما إذا قال مثلًا: يستنبط من قرائن عقليّة أنّ الإمام عليه السلام قال كذا وكذا) إمّا لأنّ سيرة العقلاء التي هي عمدة دليل الحجّية لم تقم إلّاعلى قبول خبر الثقة فيما إذا كان إخباره عن حسّ وسائر الأدلّة تقرير وإمضاء لتلك السيرة، وإمّا من جهة أنّ أدلّة حجّية خبر العادل والثقة تنفي انوار الأصول، ج 2، ص: 372

احتمال تعمّد الكذب، فبضميمة أصالة عدم الخطأ والغفلة في المحسوسات أو ما يكون قريباً من الحسّ (لقلّة الخطأ والغفلة فيها) يتمّ المطلوب، أي حجّيته ووجوب تصديقه ولزوم العمل على طبق قوله، وأمّا في الحدسيات فلكثرة الخطأ والغفلة فيها، فلا تجري أصالة

عدم الخطأ والغفلة عند العقلاء، فلا تشملها أدلّة حجّية خبر الواحد، ولا شكّ أنّ ناقل الإجماع لا ينقل الحكم عن الإمام عليه السلام عن حسّ خصوصاً في زمن الغيبة.

الثاني: كون الإخبار عن المعصوم عليه السلام في الأحكام الشرعيّة لا في الموضوعات الخارجيّة، بل يعتبر في الموضوعات التعدّد والعدالة (ولا يكفي الوحدة والوثاقة) وهذا هو المشهور، ولكن المختار عدم اعتبار هذا الشرط كما سيأتي.

الثالث: أن لا يكون الخبر من الامور الغريبة والمستبعدة، فلو كان أمراً غريباً فقد لا يكفي فيه خبر الواحد بل لابدّ من استفاضته.

وهنا شرط رابع، وهو أن لا يكون الخبر عن مسائل مهمّة كاصول الفقه، لأنّ سيرة العقلاء لم تثبت في المسائل المهمّة التي تترتّب عليها آلاف المسائل، ولذلك قد يقال: إنّ خبر الواحد ليس بحجّة في الاصول، والمراد من الاصول هنا هو اصول الفقه لا اصول الدين كما زعمه بعض.

بقي هنا شي ء:

وهو أنّه إذا شككنا في نقل المسبّب أو السبب هل هو مستند إلى الحسّ حتّى تشمله أدلّة حجّية خبر الواحد، أو إلى الحدس حتّى لا تشمله الأدلّة، فما هو مقتضى القاعدة؟

قال المحقّق الخراساني رحمه الله: لا يبعد أن يقال بشمول أدلّة حجّية الواحد لهذه الصورة أيضاً، لأنّ عمدة أدلّة الحجّية هو بناء العقلاء، وهم كما يعملون بخبر الثقة إذا علم أنّه عن حسّ يعملون به أيضاً فيما يحتمل كونه عن حدس، فليس بناؤهم فيما إذا أخبر بشي ء التوقّف والتفتيش في أنّه هل يكون عن حدس أو عن حسّ بل يعملون على طبقه بدون ذلك.

أقول: كلامه هذا صحيح بالنسبة إلى الموارد التي كانت طبيعة الإخبار عنها مبنية على الحسّ، وأمّا الموارد التي يخبر فيها كثيراً عن حدس فقد يقال بعدم ثبوت بنائهم

على الحجّية في مورد الشكّ.

انوار الأصول، ج 2، ص: 373

ولهذا قال المحقّق الخراساني رحمه الله بعد هذا الكلام: «لكن الإجماعات المنقولة في ألسنة الأصحاب غالباً مبنية على حدس الناقل أو على اعتقاد الملازمة عقلًا لقاعدة اللطف فلا اعتبار لها ما لم ينكشف أنّ نقل السبب كان مستنداً إلى الحسّ».

الأمر الثالث: في تقويم الإجماعات المنقولة من جانب كيفية النقل والإخبار
اشارة

المنقول في حكاية الإجماع تارةً يكون هو المسبّب وهو قول الإمام عليه السلام كما إذا قال: «أجمع المسلمون عامّة» أو «المؤمنون كافّة» أو «امّة محمّد» أو نحو ذلك إذا كان ظاهره إرادة الإمام عليه السلام معهم، ويسمّى حينئذٍ بنقل المسبّب أو بنقل السبب والمسبّب معاً، واخرى السبب، أي قول من سوى الإمام الكاشف عن قوله كما إذا قال: أجمع علمائنا أو أصحابنا أو فقهائنا أو نحو ذلك ممّا ظاهره من سوى الإمام عليه السلام ويسمّى بنقل السبب فقط.

ويستفاد كون المنقول سبباً أو مسبّباً من طريقين:

أحدهما: المسلك الذي اختاره الناقل والمدرك الذي اعتمد عليه، فإن كان مسلكه الإجماع الدخولي أو التشرّفي وكان مدرك نقله هو الحسّ والسماع من الإمام بنفسه ولو ضمن اشخاص يعلم إجمالًا أنّ الإمام عليه السلام أحدهم ولا يعرفه بشخصه كان المنقول حينئذٍ المسبّب أو السبب والمسبّب جميعاً، وإن كان مبناه الإجماع الحدسي أو اللطفي، أي كان مدرك نقله هو الحدس المقابل للحسّ كان المنقول هو السبب لا محالة.

ثانيهما: اختلاف ألفاظ النقل من حيث الصراحة والظهور والإجمال في أنّه نقل للسبب، أي نقل قول من عدى الإمام عليه السلام، أو أنّه نقل للسبب والمسبّب جميعاً.

إذا عرفت هذا فلنرجع إلى أصل المسألة، وهو حجّية الإجماع المنقول، فأي قسم من أقسام نقل الإجماع حجّة شرعاً بأدلّة حجّية خبر الواحد نظراً إلى كونه من أفراده ومصاديقه وأي قسم

منها لا يكون حجّة شرعاً لعدم كونه كذلك؟

فنقول: إذا كان المنقول السبب والمسبّب جميعاً عن حسّ كما إذا حصّل السبب وهو قول من عدى الإمام عليه السلام، وهكذا المسبّب وهو قول الإمام عليه السلام بالسمع من المنقول عنه شخصاً كأن يقول: أجمع المسلمون أو المؤمنون أو أهل الحقّ قاطبة- إن قلنا أنّ ظاهره إرادة الإمام عليه السلام انوار الأصول، ج 2، ص: 374

معهم- فهذا القسم حجّة قطعاً نظراً إلى كونه من أفراد خبر الواحد ومن مصاديقه، إذ لا فرق في الأخبار عن قول الإمام عليه السلام بين أن يكون إخباراً عنه بالمطابقة أو التضمّن، غايته أنّه في الأوّل سمع من شخص الإمام عليه السلام وهو يعرفه فيقول: سمعته يقول كذا وكذا، وفي الثاني سمع عن جماعة يعلم إجمالًا أنّ الإمام أحدهم.

ولكن اعتبار هذا القسم بالنسبة إلى زمان الغيبة موهون جدّاً، فلا نجد له مصداقاً، لأنّ الإجماع المنقول عن حسّ في هذا الزمان إنّما هو الإجماع التشرّفي أو الدخولي، وهما غير تامّين من ناحية الصغرى كما مرّ، فالحجّة غير الموجود، والموجود غير الحجّة.

وإذا كان المنقول السبب والمسبّب جميعاً ولكن المسبّب وهو قول الإمام عليه السلام ليس عن حسّ بل بملازمة ثابتة عند الناقل والمنقول إليه جميعاً كما إذا حصّل مثلًا أقوال العلماء من الأوّل إلى الآخر عن حسّ وقطع برأي الإمام عليه السلام للملازمة العادية بينهما فقال: أجمع المسلمون أو المؤمنون أو نحو ذلك ممّا ظاهره إرادة الإمام عليه السلام معهم وكان المنقول إليه يعتقد بهذه الملازمة، فهذا القسم أيضاً حجّة لأنّ الإخبار عن الشي ء (ولو لم يكن عن حسّ) إذا كان مستنداً إلى أمر محسوس لو أحسّه المنقول إليه لحصل له القطع أيضاً بالمخبر به، فهو

حجّة بلا كلام كالإخبار عن حسّ عيناً.

وهكذا إذا كان المنقول هو المسبّب فقط وكان نقله عن حسّ، والسبب تامّ في نظر الناقل والمنقول إليه جميعاً كما إذا نقل اتّفاق جميع الفقهاء عن حسّ، والمنقول إليه أيضاً يرى أنّ لازمه العادي هو قول الإمام عليه السلام، فيكون هذا القسم أيضاً حجّة لأنّ المخبر في هذا القسم وإن لم يخبر إلّا عن السبب فقط ولكن السبب حيث كان بنظر المنقول إليه تامّاً ملازماً لقول الإمام عليه السلام عادةً فهو مخبر عن قوله بالالتزام، ومن المعلوم أنّه لا فرق في نقل قول الإمام عليه السلام بين أن يكون بالمطابقة كما في الرّوايات المصطلحة، أو بالتضمّن كما في القسمين السابقين، أو بالالتزام كما في المقام، فالكلّ إخبار عن قوله وحكاية لرأيه فتشمله أدلّة حجّية الخبر.

نعم، إذا كان المنقول السبب والمسبّب جميعاً ولم يكن المسبّب وهو قول الإمام عليه السلام عن حسّ، بل بملازمة ثابتة عند الناقل دون المنقول إليه، فليس هذا بحجّة، لأنّ المتيقّن من بناء العقلاء هو الرجوع إلى خبر الثقة في المحسوسات أو الحدسيّات القريبة بالحسّ، أي الحدسيّات المستندة إلى امور لو أحسّوها بأنفسهم لقطعوا بالمخبر به مثل قطع الناقل.

انوار الأصول، ج 2، ص: 375

وكذلك إذا كان المنقول السبب فقط وكان عن حسّ ولكن السبب لا يكون تامّاً بنظر المنقول إليه، كما إذا نقل أقوال علماء عصر واحد عن حسّ ولكن المنقول إليه لا يراه سبباً لكشف قول المعصوم لعدم تماميّة قاعدة اللطف عنده، أو كان المنقول السبب فقط لكن كان نقله عن حدس، كما إذا تتبّع أقوال جمع من مشاهير الأصحاب فحصل له الحدس باتّفاق الكلّ وادّعى الإجماع في المسألة، فليس الإجماع في هاتين الصورتين بحجّة بل

على المنقول إليه في الصورة الاولى أن يضيف إلى المنقول ما يتمّ به السبب في نظره بأن يحصّل أقوال سائر الفقهاء لبقيّة الأعصار ويرتّب على المجمع لازمه العادي، وهو قول الإمام عليه السلام، وفي الصورة الثانية أن يأخذ بالمتيقّن من ذلك الحدس، وهو اتّفاق المشاهير مثلًا ويضيف إليه أقوال سائر العلماء ليتمّ به السبب ويحكم بثبوت اللازم وهو قول الإمام عليه السلام.

إن قلت: إنّ نقل السبب والقول بأنّ الشيخ الطوسي رحمه الله مثلًا قال كذا وكذا يكون من الموضوعات لا من الأحكام، فلا بدّ من توفّر شروط الشهادة فيه من التعدّد والعدالة.

قلنا: ليس هذا من الموضوعات المجرّدة، بل من الموضوعات التي يستفاد منها الحكم الإلهي، لأنّها تجعل مقدّمة لفهم قول المعصوم عليه السلام ولا تقبل بما هي هي أي لا يقبل كلام الشيخ الطوسي رحمه الله بما أنّه كلامه بل بما أنّه جزء السبب لاستفادة رأي الإمام عليه السلام، ومن هنا يكون الخبر حجّة في تعيين حال السائل من أنّه ثقة أو ممدوح أو ضعيف، وفي خصوصيّة القضيّة التي وقعت مسؤولة عنها ونحو ذلك ممّا له دخل في ثبوت كلام الإمام عليه السلام أو في تعيين مرامه بعد ثبوت أصل كلامه، وبعبارة اخرى: لا فرق في اعتبار الخبر بين ما إذا كان المخبر به تمام السبب أو ما له دخل في السبب.

بقي هنا امور ثلاثة:

الأمر الأول: الإجماع القاعدة

وهو مهمّ في المقام وإن لم يتكلّم المحقّق الخراساني رحمه الله عنه بشي ء، ولكن شيخنا الأعظم الأنصاري رحمه الله بحثه وأدّى حقّه.

إنّ ممّا يوجب قلّة الاعتماد بالنسبة إلى الإجماعات المنقولة عن قدماء الأصحاب سواء من ناحية السبب أو المسبّب اكتفاؤهم في دعوى الإجماع في مسألة خاصّة بوجود الإجماع على انوار

الأصول، ج 2، ص: 376

قاعدة أو أصل أو عموم أو إطلاق أو غير ذلك ممّا يؤدّي إلى هذا الحكم في نظرهم.

ومن ذلك الإجماعات المتعارضة من شخص واحد أو من معاصرين أو متقاربي العصر، ومن ذلك أيضاً رجوع المدّعى للإجماع عن الفتوى التي ادّعى الإجماع فيها، وكذلك دعوى الإجماع في مسائل غير معنونة في كلام من تقدّم على المدّعى، أو في مسائل قد اشتهر خلافها بعد المدّعي بل في زمانه بل قبله، فكلّ ذلك مبني على هذا الوجه من الاستناد في نسبة القول إلى العلماء.

وقد ذكر الشيخ الأنصاري رحمه الله لهذا القسم من الإجماعات موارد كثيرة نذكر ثلاثة منها أوضح من غيرها:

أحدها: ما وجّه به المحقّق رحمه الله دعوى السيّد المرتضى رحمه الله: «إنّ مذهبنا جواز إزالة النجاسة بغير الماء من المايعات» (أي المايعات المضافة) فقال: إنّه إنّما أضاف ذلك إلى مذهبنا لأنّ من أصلنا العمل بالأصل ما لم يثبت الناقل وليس في الشرع ما يمنع الإزالة بغير الماء من المايعات، ثمّ قال: وأمّا المفيد رحمه الله فإنّه ادّعى في مسائل الخلاف إنّ ذلك مروي عن الأئمّة (إشارة إلى قوله عليه السلام: كلّ شي ء مطلق حتّى يرد فيه نهي).

فظهر أنّ نسبة السيّد قدس سره الحكم المذكور إلى مذهبنا من جهة الاتّفاق على الأصل مع أنّ تطبيقه على هذا المورد خطأ لأنّه أوّلًا: أنّ المورد من موارد استصحاب النجاسة لا الرجوع إلى البراءة، وثانياً: أنّه من الموارد التي يوجد فيها الدليل الاجتهادي، وهو في المقام ظاهر قوله عليه السلام «اغسل» في روايات كثيرة، فإنّ ظاهره وجوب الغسل بالماء المطلق فلا تصل النوبة إلى الأصل العملي.

ثانيهما: ما عن المفيد رحمه الله في فصوله حيث إنّه سئل عن الدليل على

أنّ المطلّقة ثلاثاً في مجلس واحد يقع منها واحدة، فأجاب بموافقته لقوله تعالى: «الطلاق مرّتان» «1»

، ثمّ استدلّ بالإجماع نظراً إلى أنّهم مطبقون على أنّ ما خالف الكتاب فهو باطل، فحصل الإجماع على إبطاله.

فقد ادّعى ثبوت إجماع الامّة على المسألة لأنّ الكبرى المنطبقة عليها مجمع عليها الامّة.

ثالثها: ما ادّعاه ابن إدريس الحلّي رحمه الله من الإجماع على وجوب فطرة الزوجة ولو كانت انوار الأصول، ج 2، ص: 377

ناشزة على الزوج، وردّه المحقّق رحمه الله بأنّ أحداً من علماء الإسلام لم يذهب إلى ذلك، فإنّ الظاهر أنّ الحلّي إنّما اعتمد في استكشاف أقوال العلماء على تدوينهم للروايات الدالّة بإطلاقها على وجوب فطرة الزوجة على الزوج متخيّلًا أنّ الحكم معلّق على الزوجة من حيث هي زوجة، ولم يتفطّن لكون الحكم من حيث العيلولة أو وجوب الإنفاق.

فنستنتج ممّا ذكرناه عدم إمكان الاعتماد على الإجماعات المنقولة في كلمات القدماء وسقوطها عن الحجّية، وبعكس الإجماعات المنقولة في كلمات المتأخّرين كصاحب الجواهر وصاحب الحدائق وصاحب مفتاح الكرامة فإنّها ليست من قبيل الإجماع على القاعدة بل ناظرة إلى حكاية أقوال العلماء في خصوص المسألة المبحوث عنها.

الأمر الثاني: في لزوم ملاحظة الفاظ الإجماعات

لابدّ في الإجماعات المنقولة من ملاحظة مقدار دلالة ألفاظها، فإنّ دلالة ألفاظ الإجماع تختلف في القوّة والضعف، فقد يقال: «أجمع الأصحاب» وقد يقال: «لا خلاف بينهم» وقد يقال «لم نعرف مخالفاً» وهكذا.

ولابدّ أيضاً من ملاحظة حال الناقل فإنّه قد يكون في أعلى درجة التتبّع، وقد يكون دون ذلك، وقد يكون ضعيفاً في تتبّعه، وكذلك لابدّ من ملاحظة حال المسألة التي نقل فيها الإجماع فإنّها قد تكون مشهورة معروفة عند الأصحاب مدوّنة في كتبهم تصل إليها الأيدي غالباً، وقد تكون دون ذلك، وقد تكون في غاية الخفاء ليس

لها مكان مضبوط وإنّما عنونها الأصحاب في مواضع مختلفة لا تصل إليها إلّايد الأوحدي من الأعلام، فإذا استفيد من مجموع ذلك أنّ السبب المنقول هو سبب تامّ فهو، وإلّا فلا بدّ من الأخذ بالمتيقّن وضمّ سائر الأقوال إليه ليكون سبباً تامّاً تترتّب عليه الثمرة والنتيجة.

الأمر الثالث: في التواتر المنقول بخبر الواحد
اشارة

إذا قيل: تواترت الأخبار على كذا، فهل يمكن التمسّك بأدلّة حجّية خبر الواحد لإثبات انوار الأصول، ج 2، ص: 378

حجّية مثل هذا التواتر؟ وهل يجري فيه القياس المتقدّم في الإجماع المنقول المتشكّل من صغرى وكبرى؟

لابدّ لتحقيق المسألة من الرجوع إلى ماهيّة الخبر المتواتر وأنّه ما هو؟ وقد ذكر له تعريفان:

أحدهما: «أنّه خبر جماعة يفيد بنفسه العلم»

وإستشكل عليه بأنّه لا يوجد خبر يفيد بنفسه العلم بل يدخل في حصول العلم امور أربعة: نوع الخبر (المخبر به)، حال المخبرين، حالة المخبر له وكيفية الإخبار (مثل كون الخبر مكتوباً في كتاب مطبوع أو مخطوط معتبر وعدمه) وإلّا لابدّ من اعتبار عدد خاصّ في التواتر مع أنّه ممّا لم يقل به أحد.

ولذلك ذكر بعض من ذهب إلى هذا التعريف هذا القيد فيه: «إلّا القرائن الملازمة للخبر» ومراده منها هذه الامور الأربعة، فيكون المراد من القرائن الخارجيّة حينئذٍ شيئاً غيرها، كاعتضاد مضمون الخبر بخبر ظنّي آخر أو دليل عقلي كذلك.

ثانيهما: «أنّه خبر جماعة يؤمن تواطؤهم على الكذب عادةً»

وقد اورد على هذا التعريف أيضاً أوّلًا: بأنّه لا ينفي احتمال الخطأ فلا بدّ تقييد ذيله بهذا القيد: «ويحصل من قولهم العلم».

وثانياً: بأنّه ما المراد من التواطؤ؟ فإن كان المقصود منه التوافق على أمر فلا وجه لاعتباره لإمكان كذب كلّ واحد من المخبرين على حدة ومستقلًا بدواع شتّى أو كانوا بداعٍ واحدٍ على نشر اكذوبة خاصّة من غير التواطؤ.

فالصحيح في التعريف أن يقال: «إنّه خبر جماعة كثيرة يؤمن اجتماعهم على الكذب والخطأ عادةً» والتقييد بقيد «كثيرة» لازم لأنّه لو حصل القطع مثلًا من اجتماع ثلاثة أفراد على خبر لا يقال أنّه متواتر في مصطلحهم بل إنّه خبر واحد محفوف بقرائن قطعية أو مستفيض.

وإذا كان هذا هو معنى الخبر المتواتر فإنّه يختلف بحسب الأشخاص، فيمكن أن يكون خبر متواتراً عند شخص وغير متواتر عند شخص آخر.

وعليه بمتا أنّ التواتر المنقول من حيث المسبّب لا يكون مشمولًا لأدلّة حجّية خبر الواحد

انوار الأصول، ج 2، ص: 379

لأنّ المسبّب وهو قول الإمام عليه السلام لا يكون عن حسّ ولا شبيهاً بالحسّ فلا بدّ وأن يكون نقل التواتر إخباراً نقطع منه

بقول الإمام.

وأمّا من ناحية السبب فإنّه وإن كان عن حسّ، أي أنّ الشيخ الطوسي رحمه الله مثلًا إذا قال:

«تواترت عليه الأخبار» يحصل العلم بمشاهدته عدداً من الأخبار، لكن حيث إنّه مردّد عند المنقول إليه بين الأقل والأكثر يأخذ بالقدر المتيقّن، ويلاحظ ما أشرنا إليه سابقاً من الامور التي لها دخل في حصول التواتر وعدمه من ألفاظ النقل من حيث القوّة والضعف وحال الناقل من حيث الضبط والدقّة أو المسامحة والمبالغة، وحال الأمر المتواتر (أي المخبر به) من حيث شيوع الأخبار به لسهولة الإطّلاع عليه أو ندرة الإخبار به لصعوبة الإطّلاع عليه أو لغير ذلك من الخصوصيّات والجهات، فإن كان مجموع ذلك كافياً عند المنقول إليه في إثبات التواتر فهو نقل للسبب التامّ ويثبت به المسبّب، وإلّا فلا بدّ من إلحاق مقدار آخر من إخبار المخبرين ليكمل به السبب ويثبت به المسبّب، لأنّه ليس حينئذٍ على حدّ خبر واحد مسند أيضاً، لعدم وجود الإسناد فيه، فليس داخلًا لا في باب الخبر المتواتر ولا في باب خبر الواحد، بل يعدّ حينئذٍ بحكم الخبر المتظافر.

انوار الأصول، ج 2، ص: 381

3- حجّية الشهرة الظنّية
اشارة

والمراد منها الشهرة الفتوائيّة، فإنّ الشهرة الروائيّة والعمليّة أجنبيتان عن مقامنا، لأنّ الاولى عبارة عن اشتهار الرّواية بين أرباب الحديث ونقلها في كتبهم وهي من المرجّحات عند تعارض الخبرين، والثانية عبارة عن عمل المشهور بالرواية، أي فتواهم مستنداً إلى تلك الرّواية، فتكون جابرة لضعفها إذا كانت عند القدماء، كما أنّ اعراضهم عن العمل بها يكون كاسراً لقوّتها كما سوف يأتي في محلّه.

وأمّا الشهرة الفتوائيّة فهي عبارة عن فتوى المشهور بحكم بحيث يعدّ قول المخالف شاذّاً سواء وجدت في البين رواية أو لم توجد، وسواء كانوا متّفقين في المدرك أو

مختلفين.

والنسبة بينها وبين الإجماع الحدسي هي العموم من وجه، موضع اشتراكهما ما إذا حدس بالشهرة قول المعصوم عليه السلام فإنّه يصدق حينئذٍ الإجماع الحدسي أيضاً لوجود ملاكه، وهو الحدس من كلام جمع من الفقهاء بقول الإمام عليه السلام، وموضع افتراق الإجماع الحدسي عن الشهرة ما إذا وصل الإجماع إلى اتّفاق الكلّ، وعكسه الشهرة التي حصل منها مجرّد الظنّ.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّه اختلف في حجّية الشهرة الفتوائيّة على أقوال: فقال بعض بحجّيتها مطلقاً سواء كانت شهرة القدماء أو المتأخّرين، وقال بعض بعدمها مطلقاً، وفصّل ثالث بين الموردين، وقال بحجّية شهرة القدماء فقط.

واستدلّ القائلون بالحجّية مطلقاً بامور:

الأمر الأول: أنّ الظنّ الحاصل من الشهرة الفتوائيّة بالحكم أقوى من الظنّ الحاصل من خبر الواحد فتكون حجّة بطريق أولى.

ويجاب عنه:

أوّلًا: بأنّه قياس مع الفارق، لأنّ الظنّ الحاصل من خبر الواحد ينشأ عن الحسّ وفي الشهرة عن الحدس.

انوار الأصول، ج 2، ص: 382

ثانياً: أنّ هذا يتمّ لو كان مناط حجّية خبر الواحد هو حصول الظنّ منه بالحكم الشرعي، وحينئذٍ لا خصوصيّة للظنّ الحاصل من الشهرة بل إنّه يدلّ على حجّية كلّ ظنّ كان في مرتبة ذلك أو أقوى منه، وأمّا لو كان مناط حجّيته مجهولًا فلا يتمّ ذلك.

إن قلت: هذا إذا كان دليل حجّية خبر الواحد من الأدلّة النقلية فحينئذٍ وإن علمنا إجمالًا أنّ الشارع جعل حجّية الظنّ لكاشفيته وإماريته على الواقع لكن لا نعلم كونها تمام الملاك، فلا يقاس بخبر الواحد غيره، وأمّا إذا قلنا أنّ دليل الحجّية هو بناء العقلاء فلا ريب أنّ الملاك كلّ الملاك عندهم هو الكشف الظنّي عن الواقع والمفروض أنّ هذا الكشف موجود في الشهرة بدرجة أقوى.

قلنا: أوّلًا: يمكن أن يكون شي ء حجّة عند العقلاء

بملاك ولكن الشارع أمضى بنائهم بملاك آخر، كما أنّ الكعبة مثلًا كانت في عصر الجاهلية محترمة عند الناس لأنّها مكان أصنامهم، والشارع أيضاً عدّها محترمة بملاك آخر قطعاً، وكذلك الصفا والمروة فإنّهما كانا محترمين عندهم لأنّهما مكان نصب صنمين معروفين من أصنامهم: أساف ونائلة، ولكن الإسلام جعلهما من شعائر اللَّه بملاك آخر قطعاً، ولعلّ ما نحن فيه كذلك، فكان خبر الواحد حجّة عند العقلاء بملاك وعند الشارع بملاك آخر، كما يشهد له حكم الشارع في الخبرين المتعارضين المتساويين بالتخيير مع أنّهما يتساقطان في الحجّية والاعتبار عندهم، وعلى كلّ حال لا ملازمة بين إمضاء النتيجة وإمضاء الملاك.

ثانياً: نحن لا نقبل كون ملاك الحجّية عند العقلاء أيضاً حصول مطلق الظنّ من خبر الواحد، بل الحجّية عندهم ظنّ خاصّ حاصل من منشأ خاصّ، ولذلك لا يُعتنى عندهم بظنّ القاضي ولو كان أقوى من الظنّ الحاصل من شهادة الشهود.

الأمر الثاني: ما ورد في مقبولة ومشهورة:

أمّا الاولى: ما ورد في مقبولة: فهي ما رواه عمر بن حنظلة قال سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما ... (إلى أن قال): فإن كان كلّ واحد اختار رجلًا من أصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرين في حقّهما واختلف فيما حكما وكلاهما اختلفا في حديثكم (حديثنا) فقال: «الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما، ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر»، قال فقلت: فإنّهما عدلان مرضيّان عند

انوار الأصول، ج 2، ص: 383

أصحابنا لا يفضل (ليس بتفاضل) واحد منهما على صاحبه، قال: فقال: «ينظر إلى ما كان من روايتهما عنّا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه عند أصحابك فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشاذّ

الذي ليس بمشهور عند أصحابك فانّ المجمع عليه لا ريب فيه» «1».

وتقريب الاستدلال بها: أنّ المجمع عليه في الموضعين منها هو المشهور بقرينة إطلاق المشهور عليه في قوله عليه السلام بعد ذلك: «ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور» بل وفي قول الراوي أيضاً: «فإن كان الخبران عنكم مشهورين» وعليه فالتعليل بقوله: «فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه» يكون دليلًا على أنّ المشهور مطلقاً سواء كان رواية أو فتوى هو ممّا لا ريب فيه ويجب العمل به، وإن كان مورد التعليل خصوص الشهرة في الرّواية.

وأمّا ضعف سندها فإنّه يجبر بعمل الأصحاب بها ولذلك يعبّر عنها بالمقبولة.

وأمّا الثانية: ما ورد في المشهورة: فهي مرفوعة العلّامة رحمه الله المنقولة في غوالي اللئالي (ومن العجب أنّها غير موجودة في كتب العلّامة رحمه الله كما قيل) قال: روى العلّامة رحمه الله مرفوعة عن زرارة قال سألت الباقر عليه السلام قلت جعلت فداك يأتي عنكم الخبران والحديثان المتعارضان بأيّهما نعمل؟ قال عليه السلام: «خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذّ النادر» «2».

فاستدلّ بقوله عليه السلام «خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذّ النادر» لأنّ الموصول فيها عام يشمل الشهرة بأقسامها.

لكن يرد عليه امور لا يتمّ الاستدلال به من دون الجواب عنها:

الأوّل: أنّ هذا الاستدلال دوري لأنّ حجّية هاتين الروايتين أيضاً متوقّفة على عمل المشهور بهما.

ويمكن الجواب عنه بأنّ الموقوف هنا غير الموقوف عليه، لأنّ ما يكون حجّيته متوقّفة على هاتين الروايتين هي الشهرة الفتوائيّة بما أنّها دليل مستقلّ يكشف عن قول المعصوم عليه السلام بينما المتوقّف عليه حجّية الروايتين هو الشهرة الفتوائيّة بما أنّها جابرة لضعف السند فإنّه سيأتي في البحث عن حجّية خبر الواحد أنّ المهمّ فيها حصول الوثاقة بالرواية وإن

لم تكن الرواة موثوقاً بهم، ومن الامور التي توجب الوثوق بالرواية (أي كون الرّواية موثوقاً بها) شهرة الفتوى على وفقها.

انوار الأصول، ج 2، ص: 384

الثاني: ما أورده المحقّق الخراساني رحمه الله عليهما من أنّ المراد من الموصول (كلمة «ما» في المشهورة والألف واللام الموصولة في المقبولة) فيهما هو الرّواية لا ما يعمّ الفتوى «1».

ويمكن أيضاً الجواب عن هذا بأنّه تامّ بالنسبة إلى المشهورة لا المقبولة لأنّ الكبرى فيها عام وإن كانت الصغرى خاصّة ولا سيّما أنّه كدليل عقلي.

الثالث: ما أورده في درر الفوائد: من أنّ غاية ما تدلّ عليه هاتان الروايتان كون الشهرة مرجّحة من المرجّحات مع أنّ النزاع في كونها حجّة مستقلّة في قبال سائر الحجج ولا ملازمة بين المرجّحية والحجّية مستقلّة «2».

هذا أيضاً يمكن الجواب عنه بأنّ التعليل عام.

الرابع: ما ذكره المحقّق النائيني رحمه الله وهو أنّ التعليل الوارد في المقبولة ليس من العلّة المنصوصة ليكون من الكبرى الكلّية التي يتعدّى عن موردها فإنّ المراد من قوله «فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه» إن كان هو الإجماع المصطلح فلا يعمّ الشهرة الفتوائيّة وإن كان المراد منه المشهور فلا يصحّ حمل قوله عليه السلام «ممّا لا ريب فيه» عليه بقول مطلق، بل لابدّ من أن يكون المراد منه عدم الريب بالإضافة إلى ما يقابله، وهذا يوجب خروج التعليل عن كونه كبرى كلّية لأنّه يعتبر في الكبرى الكلّية صحّة التكليف بها ابتداءً بلا ضمّ المورد إليها كما في قوله:

«الخمر حرام لأنّه مسكر» فإنّه يصحّ أن يقال: لا تشرب المسكر بلا ضمّ الخمر إليه، والتعليل الوارد في المقبولة لا ينطبق على ذلك لأنّه لا يصحّ أن يقال: «يجب الأخذ بكلّ ما لا ريب فيه بالإضافة إلى ما

يقابله» وإلّا لزم الأخذ بكلّ راجح بالنسبة إلى غيره وبأقوى الشهرتين وبالظنّ المطلق وغير ذلك من التوالي الفاسدة التي لا يمكن الالتزام بها فالتعليل أجنبيّ عن أن انوار الأصول، ج 2، ص: 385

يكون من الكبرى الكلّية التي يصحّ التعدّي عن مورده» «1».

وحاصل كلامه: أنّ نفي الريب هيهنا ليس المراد به نفي الريب بقول مطلق لوجود الريب قطعاً وإلّا لم يكن مورداً للسؤال، بل المراد به نفي الريب بالنسبة إلى ما يقابله من الخبر الشاذّ النادر، ومثل هذا المعنى ليس قابلًا لأن يكون علّة سارية لوجوب الأخذ في جميع الموارد، للقطع بعدم حجّية بعض ما يكون الريب فيه أقلّ بالنسبة إلى ما يقابله (كاختلاف مراتب الكذّاب في الكذب).

وأجاب عنه بعض الأعاظم: «أنّ الكبرى ليست مجرّد كون الشي ء مسلوباً عند الريب بالإضافة إلى غيره حتّى يتوهّم سعة نطاق الكبرى بل الكبرى كون الشي ء ممّا لا ريب فيه بقول مطلق عرفاً بحيث يعدّ الطرف الآخر شاذّاً نادراً لا يعبأ به عند العقلاء وهذا غير موجود في الموارد التي أشار إليها قدس سره، فإنّ ما ذكره من الموارد ليس ممّا لا ريب فيه عند العرف» «2» وهو جيّد.

الخامس: (وهو العمدة) أنّ المراد من الشهرة فيها هو الشهرة بمعنى الوضوح، أي الشهرة اللغويّة لا الشهرة المصطلحة (وفي الواقع وقع الخلط بينهما، ونظيره كثير في طيّات كتب الفقه والاصول) ففي مقاييس اللغة: «الشهرة وضوح الأمر، وشهر سيفه إذا انتضاه» وفي النهاية:

«الشهر الهلال سمّي به لشهرته وظهوره» وفي لسان العرب: «الشهرة ظهور الشي ء في شنعة حتّى يشهره الناس».

وفي مفردات الراغب: «شهر فلان واشتهر يقال في الخير والشرّ» وفي الصحاح (نقلًا من لسان العرب): «الشهرة وضوح الأمر».

وفي مجمع البحرين: «الشهرة ظهور الشي ء في شَنعة

حتّى شهره الناس».

إذن فيكون معنى قول الإمام في الروايتين: «خذ بما صار واضحاً عند أصحابك» ولا إشكال في أنّ هذا المعنى من الشهرة أو أنّ هذه الدرجة من الشهرة تصل إلى مرتبة القطع العرفي العادي، فليس المراد من عدم الريب عدم الريب بالنسبة إلى ما يقابله، بل عدم الريب مطلقاً،

انوار الأصول، ج 2، ص: 386

وإذن لا يصحّ الاستدلال بهما في محلّ البحث، لأنّ المفروض أنّ محلّ النزاع هو الشهرة في الاصطلاح، أي الشهرة الفتوائيّة التي توجب الظنّ بقول المعصوم عليه السلام.

هذا كلّه بالنسبة إلى الأمر الثاني لحجّية الشهرة.

الأمر الثالث: فهو ما نقله المحقّق النائيني رحمه الله وهو الاستدلال بذيل آية النبأ من التعليل بقوله تعالى: «أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ» بتقريب أنّ المراد من الجهالة السفاهة والاعتماد على ما لا ينبغي الاعتماد عليه، ومعلوم أنّ العمل بالشهرة والاعتماد عليها ليس من السفاهة وفعل ما لا ينبغي «1».

وفيه: أنّ غاية ما يقتضيه هذا التعليل هو عدم حجّية كلّ ما فيه جهالة وسفاهة، وهذا لا يقتضي حجّية كلّ ما ليس فيه جهالة وسفاهة إذ ليس له مفهوم حتّى يتمسّك به، ألا ترى أنّ قوله «لا تأكل الرمّان لأنّه حامض» لا يدلّ على جواز أكل كلّ ما ليس بحامض.

والإنصاف أنّ هذا الدليل لشدّة وهنه لا يليق بالذكر.

هذا كلّه بالنسبة إلى القول بحجّية الشهرة مطلقاً، وأمّا القول بالتفصيل بين الشهرة عند القدماء والشهرة عند المتأخّرين فيستدلّ القائلون به بتعبّد القدماء بالعمل بالأخبار ومتون الرّوايات وعدم الاعتناء بالأدلّة العقليّة والاستحسانات (كما مرّ ضمن بيان مقدّمة كتاب المبسوط) ويتّضح لنا ذلك ببيان التطوّرات الفقهيّة التي مرّ بها تاريخ الفقه الشيعي فنقول: كان فقه الشيعة ينتقل من الأئمّة المعصومين

عليهم السلام إلى شيعتهم يداً بيد وجيلًا بعد جيل من دون وجود حلقة مفقودة، لكن بطيّ مراحل مختلفة، ففي أوائل عصر الأئمّة عليهم السلام كانت الشيعة تأخذ الرّوايات من أئمّتهم من دون أن يكون لهم تدوين وتأليف، ثمّ في مرحلة اخرى جمعوها في كتب ورسائل عديدة انتهت إلى أربعمائة كتاب، وسمّيت بالاصول الأربعمائة، لكن كلّ هذا من دون تنظيم وترتيب وتبويب مطلوب، ثمّ في مرحلة ثالثة تصدّوا لتنظيمها وتبويبها مع ذكر إسنادها وكانوا يكتفون بها للفتوى، ثمّ وصلت النوبة إلى مرحلة رابعة وهي مرحلة الفتوى، فكانوا يفتون في المسألة في بدء هذه المرحلة بألفاظ الأحاديث ومتونها، وذلك بحذف الإسناد وتخصيص العمومات بمخصّصاتها وتقييد المطلقات بمقيّداتها وحمل التعارضات والجمع أو الترجيح بين المتعارضات نظير ما صنع به علي بن بابويه والد الصدوق رحمه الله، ولذلك كان انوار الأصول، ج 2، ص: 387

الأصحاب يرجعون إليها عند اعوزاز النصوص، ثمّ انتهى الأمر في المرحلة الخامسة إلى التفريعات وتطبيق الاصول والقواعد على الفروع والموضوعات الجديدة والمصاديق المستحدثة.

وحينئذٍ لو تحقّقت شهرة الأصحاب قبل المرحلة الخامسة على مسألة فحيث إنّهم كانوا متعبّدون بالعمل بمتون الأخبار، ولم يكن لهم تفريع واستنباط من عند أنفسهم يحصل الوثوق والاطمئنان بقول المعصوم عليه السلام أو وجود دليل معتبر، وتكون هذه الشهرة بنفسها كاشفة عن الحكم، بخلاف الشهرة عند المتأخّرين لكونها مبنية على آرائهم الشخصية من دون أن يكون معقدها متلّقاة من كلمات المعصومين وألفاظ الرّوايات، فتكون الشهرة عند القدماء حينئذٍ كالإجماع الحدسي وكاشفة عن قول الإمام عليه السلام أو مدرك معتبر كشفاً قطعيّاً، بل هي ترجع في الواقع إلى الإجماع الحدسي وتكون من مصاديقه لعدم اشتراط إجماع الكلّ فيه، وعندئذٍ يخرج عن محلّ النزاع لأنّ البحث

كان في الشهرة الفتوائيّة الظنّية.

هل الشهرة جابرة لضعف السند؟

بقي هنا شي ء:

قد مرّ في أوّل البحث أنّ الشهرة على ثلاثة أقسام: الشهرة الفتوائيّة والشهرة الروائيّة والشهرة العمليّة، ومرّ أيضاً تعريف كلّ واحدة منها، ولكن وقع البحث بين الأعلام في أنّ وقوع الشهرة العمليّة على وفق رواية ضعيفة هل يوجب جبر ضعفها أو لا؟ فذهب الأكثر إلى كونها جابرة، وخالف بعض الأعلام وإستشكل في المسألة كبرى وصغرى، وحاصل كلامه في مصباح الاصول: «أنّ الخبر الضعيف لا يكون حجّة في نفسه كما هو المفروض وكذلك فتوى المشهور غير حجّة على الفرض أيضاً، وانضمام غير الحجّة إلى غير الحجّة لا يوجب الحجّية فإنّ انضمام العدم إلى العدم لا ينتج إلّاالعدم، ودعوى: أنّ عمل المشهور بخبر ضعيف توثيق عملي للمخبر به فيثبت به كونه ثقة، فيدخل في موضوع الحجّية، مدفوعة: بأنّ العمل مجمل لا يعلم وجهه فيحتمل أن يكون عملهم به لما ظهر لهم من صدق الخبر ومطابقته للواقع بحسب نظرهم واجتهادهم، لا لكون المخبر ثقة عندهم، فالعمل بخبر ضعيف لا يدلّ على توثيق المخبر به، ولا سيّما أنّهم لم يعملوا بخبر آخر لنفس هذا المخبر، وأمّا آية النبأ فالاستدلال بها أيضاً غير

انوار الأصول، ج 2، ص: 388

تامّ، إذ التبيّن عبارة عن الاستيضاح واستكشاف صدق الخبر، وهو تارةً يكون بالوجدان، واخرى بالتعبّد، وإن فتوى المشهور لا تكون حجّة فليس هناك تبيّن وجداني ولا تبيّن تعبّدي يوجب حجّية خبر الفاسق.

هذا كلّه بالنسبة إلى الكبرى (وهي: أنّ عمل المشهور موجب لانجبار ضعف الخبر أو لا؟).

وأمّا الصغرى (وهي استناد المشهور إلى الخبر الضعيف في مقام العمل والفتوى) فإثباتها أشكل، لأنّ القدماء لم يتعرّضوا للاستدلال في كتبهم ليعلم استنادهم إلى الخبر الضعيف، وإنّما المذكور فيها مجرّد الفتوى، فمن

أين نستكشف عمل قدماء الأصحاب بخبر ضعيف واستنادهم إليه، فإنّ مجرّد مطابقة الفتوى لخبر ضعيف لا يدلّ على أنّهم إستندوا في هذه الفتوى إلى هذا الخبر إذ يحتمل كون الدليل عندهم غيره» «1». (انتهى).

أقول: الإنصاف تماميّة الكبرى والصغرى معاً، أمّا تماميّة الكبرى فليست لأجل آية النبأ بل لوجود ملاك حجّية خبر الواحد هنا، وهو حصول الوثوق بصدور الرّواية عن المعصوم عليه السلام وإن لم تكن رواتها موثوقين فإنّ عمل مشهور القدماء برواية واستنادهم إليها يوجب الاطمئنان والوثوق بصدورها.

وأمّا قوله: «أنّه ضمّ للعدم إلى العدم».

ففيه: أنّه ليس كذلك، لأنّ ضمّ احتمال إلى احتمال آخر يوجب شدّة الاحتمال، وتراكم الاحتمالات توجب قوّة الظنّ، حتّى أنّه قد ينتهي إلى حصول اليقين، وإلّا يلزم من ذلك عدم حجّية الخبر المتواتر أيضاً لأنّه أيضاً ضمّ لا حجّة إلى لا حجّة، هذا بالنسبة إلى الكبرى.

وكذلك الصغرى، لأنّه وإن لم يستند الأصحاب في فتواهم إلى الرّواية مباشرة ولكن إذا ذكرت الرّواية في كتب مشهورة معتبرة، وكانت بمرأى ومنظر الأصحاب وكان عملهم موافقاً لمضمونها، فإنّ ظاهر الحال يقتضي استناد فتواهم إليها.

وإن شئت قلت: يحصل الوثوق والاطمئنان إجمالًا بأنّ فتواهم إمّا مستندة إلى هذه الرّواية أو ما في معناها، وعلى أي حال يحصل الوثوق إجمالًا بصدور هذا المعنى من الإمام عليه السلام فنأخذ به ويكون حجّة.

انوار الأصول، ج 2، ص: 389

4- حجّية خبر الواحد
اشارة

وهذه المسألة من أهمّ المسائل الاصوليّة لاستناد أكثر المسائل الفقهيّة إلى خبر الواحد بحيث لولاها ولولا مسألة التعادل والتراجيح التي تعدّ تكملة لها لتعطّل عمل الاستنباط والاجتهاد، فلا بدّ من الإهتمام بها.

وقبل الورود في أصل البحث لابدّ من بيان مقدّمة: وهي أنّه مع وجود هذه الأهميّة الشديدة- مع ذلك- وقع البحث والنزاع بين الأعلام

في أنّ هذه المسألة كيف يمكن أن تكون من مسائل الاصول، ومنشأ الإشكال أنّ موضوع علم الاصول هو الأدلّة الأربعة، ومن جانب آخر أن موضوع كلّ علم هو ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتيّة، مع أنّ البحث في هذه المسألة ليس من العوارض الذاتيّة للسنّة التي تكون من الأدلّة الأربعة، لأنّ البحث فيها يكون بحثاً عن حجّية خبر الواحد ودليلية الدليل، وهي بحث عن ذات الموضوع لا عن عوارضه، لأنّ الموضوع هو الأدلّة الأربعة بوصف أنّها أدلّة لا الأدلّة الأربعة بذواتها وبما هي هي.

ولحلّ هذه المشكلة ذكروا طرقاً عديدة نذكر هنا عدّة منها.

الأوّل: التسليم للإشكال والقول بكون البحث عنها استطراديّاً في الاصول كما ذهب إليه صاحب القوانين.

ولكنّه كما ترى لا يناسب كون المسألة من أهمّ مسائل الاصول.

الثاني: ما ارتكبه صاحب الفصول من التكلّف والقول بأنّ الموضوع في علم الاصول هو ذوات الأدلّة فيكون البحث عن وصف الدليلية حينئذٍ من العوارض.

وهذا التكلّف أيضاً خلاف ظاهر تعبيرهم بالأدلّة لأنّ ظاهره الأدلّة بما هي أدلّة.

الثالث: طريق الشيخ الأنصاري رحمه الله في الرسائل، وحاصله: أنّ الموضوع هو السنّة الواقعيّة، أي ما صدر واقعاً من ناحية المعصوم عليه السلام والبحث في خبر الواحد هو أنّ قول المعصوم عليه السلام أو فعله أو تقريره هل يثبت بخبر الواحد أو لا؟

انوار الأصول، ج 2، ص: 390

إن قلت: إنّ الثبوت هنا هو بمعنى الوجود، فيكون البحث عن وجود الموضوع، والبحث عن وجود الموضوع ليس بحثاً عن عوارضه لأنّ المراد من العوارض ما يعرض الشي ء بعد وجوده.

قلت: إنّ الوجود الذي لا يكون من المسائل والعوارض بل يكون من المبادى ء هو الوجود الحقيقي لا التعبّدي، أمّا الثبوت التعبّدي فهو من العوارض وهو المقصود في المقام، لأنّ

البحث في ما نحن فيه بحسب الواقع في أنّه هل تثبت السنّة الواقعيّة بخبر الواحد تعبّداً أو لا؟ (انتهى).

وإستشكل عليه المحقّق الخراساني رحمه الله بما حاصله: أنّ الثبوت التعبّدي ليس هو المبحوث عنه في المسألة بل لازم لما هو المبحوث عنه، وهو حجّية الخبر، فإنّ الخبر إن كان حجّة شرعاً لزمه ثبوت السنّة به تعبّداً وإلّا فلا، والملاك في كون المسألة من المباحث أم من غيرها هو نفس عنوانها المبحوث عنه لا ما هو لازمه.

أقول: الإنصاف أنّ طريق الشيخ الأنصاري رحمه الله أيضاً خلاف تعبيرات القوم، فإنّا لم نجد أحداً منهم يعبّر عن عنوان المسألة بهذا التعبير، بل كلامهم يدور مدار عنوان حجّية خبر الواحد.

الرابع: ما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمه الله وهو ما مرّ منه في بداية الاصول من عدم اختصاص موضوع علم الاصول بالأدلّة الأربعة كي تكون المسألة الاصوليّة باحثة عن أحوالها وعوارضها بل إنّه الكلّي المنطبق على موضوعات مسائله المتشتّتة، والملاك في كون المسألة اصوليّة أن تقع نتيجتها في طريق الاستنباط، وحينئذٍ مسألة حجّية خبر الواحد بحسب هذا الملاك تكون من المسائل الاصوليّة.

ويظهر الإشكال فيه ممّا مرّ في محلّه من ضعف المبنى.

ثمّ إنّ المحقّق النائيني رحمه الله حاول إحياء طريق الشيخ الأنصاري رحمه الله ببيان حاصله: أنّ البحث في حجّية خبر الواحد يرجع إلى البحث عن أنّه هل تنطبق السنّة على مودّى الخبر أو لا «1»؟

واستشكل عليه المحقّق العراقي رحمه الله في الهامش بما حاصله: أنّ انطباق الماهيّة على مصداقها

انوار الأصول، ج 2، ص: 391

هو عين البحث عن وجود الماهيّة، ومثل هذا البحث وإن كان من عوارض الماهيّة تصوّراً ولكنّه عين البحث عن وجودها خارجاً والبحث عن الوجود يكون من المبادى ء.

أقول: يرد على

المحقّق النائيني رحمه الله إشكال آخر، وهو أنّ هذا البيان أيضاً لا ينطبق على ما عنونه القوم لأنّ عنوانهم هو أنّ خبر الواحد حجّة أو لا؟

والحقّ في المقام أن يقال: إنّه لا دليل على أنّ موضوع كلّ علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتيّة حتّى لا يكون البحث عن وجود موضوعات المسائل من مسائل ذلك العلم، بل البحث عن الوجود أيضاً من مسائل العلوم كما نشاهد ذلك في كثير من العلوم كالنجوم والجغرافيا وغيرهما.

هذا مضافاً إلى أنّ موضوع علم الاصول ليس الأدلّة الأربعة بل الموضوع هو الحجّة في الفقه مطلقاً وإلّا خرج كثير من المسائل (كمسائل الاصول العمليّة كالبراءة والاستصحاب وغيرهما) عن مسائل علم الاصول.

إذا عرفت هذا فلنرجع إلى بيان الأقوال في المسألة فإنّ المسألة ذات قولين: الأوّل (وهو المشهور بين المتأخّرين) الحجّية، والثاني (وهو المشهور بين جمع من القدماء، منهم السيّد المرتضى والشيخ المفيد وابن زهرة وابن برّاج وابن إدريس رحمهم الله) عدم الحجّية، وسيأتي أنّه ليس بين الطائفتين فرق في العمل لأنّ ما يكون حجّة عند المشهور من أخبار الآحاد يكون عند القدماء محفوفاً بقرائن قطعية.

أدلّة القائلين بعدم الحجّية:
اشارة

واستدلّ لعدم حجّية خبر الواحد بالأدلّة الأربعة: الكتاب والسنّة والإجماع والعقل.

الدليل الأول: الكتاب

أمّا الكتاب فاستدلّ منه بالآيات الناهيّة عن العمل بالظنّ، وهي قوله تعالى: «إِنَّ الظَّنَّ لَإ

انوار الأصول، ج 2، ص: 392

يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئاً» «1»

وقوله تعالى: «وَإِنَّ الظَّنَّ لَايُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئاً» «2»

وقوله تعالى: «وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ» «3».

واجيب عنه بوجوه عديدة:

الوجه الأوّل: أنّ مدلول هذه الآيات عام، وما من عام إلّاوقد خصّ، فتخصّص بأدلّة حجّية خبر الواحد.

ولكن هذا الجواب غير تامّ لأنّ لسان الآيات آبية عن التخصيص فإنّ قوله تعالى: «إِنَّ الظَّنَّ لَايُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئاً» مثلًا بمنزلة قولك: «إنّ زيداً ممّن لا اعتبار له ولا يمكن الوثوق به أصلًا» الذي لا يناسب تخصيصك إيّاه بقولك مثلًا: «إلّا بالنسبة إلى هذه المسألة وهذه المسألة، فيمكن الاعتماد عليه فيها» كما لا يخفى.

الوجه الثاني: أنّ مورد هذه الآيات هو اصول الدين ولا ربط لها بالفروع.

وفيه: أنّه تامّ بالإضافة إلى بعضها كقوله تعالى: «وَإِنَّ الظَّنَّ لَايُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئاً» فإنّه لا إشكال في أنّه بقرينة الآية السابقه وردت في مسألة الشرك وهي من الاصول، لكن بالنسبة إلى بعضها الآخر ليس بتامّ كقوله تعالى: «وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا» فلا ريب في أنّه مطلق يشمل الفروع أيضاً لأنّ السمع والبصر مربوطتان بفروع الدين كما يستفاد هذا من استشهاد المعصوم عليه السلام بهذه الآية في جواب من سأل عن حكم الغناء الذي يسمعه من دار جاره.

الوجه الثالث: ما أجاب به المحقّق النائيني رحمه الله عن هذه الآيات وفقاً لمبناه في باب الأمارات فإنّه قال: «نسبة تلك الأدلّة إلى الآيات ليست نسبة التخصيص بل نسبة الحكومة فإنّ

تلك الأدلّة تقتضي إلغاء احتمال الخلاف وجعل الخبر محرزاً للواقع فيكون حاله حال العلم في عالم التشريع» «4».

أقول: قد مرّ عدم تماميّة هذا مبنى وبناءً، أمّا المبنى فلأنّ صفة العلم من الصفات التكوينيّة

انوار الأصول، ج 2، ص: 393

التي ليست قابلة للجعل فلا يمكن أن يقال: جعلت هذا حجراً أو شجراً، وأمّا البناء فلأنّه لو سلّمنا إمكان ذلك فإنّه لا يتمّ بالنسبة إلى أدلّة حجّية خبر الواحد، لأنّ لسانها ليس لسان جعل صفة العلم كما لا يخفى على من تأمّل فيها.

الوجه الرابع: ما نقله الطبرسي رحمه الله في مجمع البيان عن الجصّاص وحاصله: أنّ لسان أدلّة حجّية خبر الواحد لسان الدليل الوارد فيرفع بها موضوع النهي الوارد في الآيات الناهيّة (وهو الظنّ) حقيقة.

والجواب عن هذا الوجه واضح، لأنّ قطعيّة أدلّة حجّية الخبر شي ء وقطعيّة نفس الخبر شي ء آخر، والثابت هو الأوّل لا الثاني، فكأنّه وقع الخلط بين الأمرين.

فظهر إلى هنا أنّه لا تحلّ المشكلة بهذه الوجوه الأربعة.

والإنصاف في حلّها أن نلاحظ الآيات السابقة على هذه الآيات واللاحقة لها فإنّها تدلّ على أنّ الظنّ المستعمل في هذه الآيات ليس بمعناه المصطلح عند الفقهاء والاصوليين، وهو الاعتقاد الراجح بل المراد منه معناه اللغوي الذي يعمّ الوهم والاحتمال الضعيف أيضاً.

ففي مقاييس اللغة: «الظنّ يدلّ على معنيين مختلفين: يقين وشكّ» واستشهد لمعنى اليقين بقوله تعالى: «الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ» حيث إن معنى «يظنّون» فيه «يوقنون» وقال بالنسبة إلى معنى الشكّ ما إليك نصّه: «والأصل الآخر: الشكّ، يقال ظننت الشي ء إذا لم تتيقّنه».

وفي مفردات اللغة: «الظنّ اسم لما يحصل عن أمارة ومتى قويت أدّت إلى العلم ومتى ضعفت جدّاً لم يتجاوز حدّ التوهّم».

وبالجملة أنّ الظنّ الوارد في هذه الآيات إنّما هو

بمعنى الوهم الذي لا أساس له ولا اعتبار به عند العقلاء.

أمّا الآية الاولى: فلأنّ الوارد قبلها هو: «إنّ الذين لا يؤمنون بالآخرة يسمّون الملائكة تسمية الانثى» فالتعبير ب «تسمية الانثى» إشارة إلى ما جاء في بعض الآيات السابقة: «إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا

انوار الأصول، ج 2، ص: 394

تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ الْهُدَى» «1»

من أنّ هذه الأسماء أسماء لا مسمّى لها، ولا تتعدّى عن حدّ التسمية ولا واقعة لها وهي ممّا لا يتفوّه بها من له علم وعقل بل هو أمر ناشٍ عن الوهم والخرافة وما تهوى الأنفس.

فالمراد بالظنّ في الآية هو هذا المعنى الذي ليس له مبنى ولا أساس كسائر الخرافات الموجودة بين الجهّال، وحينئذٍ تكون أجنبيّة عمّا نحن فيه وهو الظنّ الذي يكون أمراً معقولًا وموجّهاً ومطابقاً للواقع غالباً والذي يكون مبنى حركة العقلاء في أعمالهم اليوميّة كباب شهادة الشهود في باب القضاء وباب أهل الخبرة وباب ظواهر الألفاظ ونحوها ممّا يوجب إسقاط العمل به من حياة الإنسان ولزوم العمل باليقين القطعي فقط اختلال النظام والهرج والمرج.

وأمّا الآية الثانية: فالآيات السابقة عليها: «قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ ...» تشهد بأنّ الظنّ الوارد فيها إشارة إلى الذين يعدّونهم بأوهامهم شركاء للَّه تعالى كما يشهد بهذا قوله تعالى في نفس السورة: «أَلَا إِنَّ للَّهِ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ» «2»

، فقد جعل الظنّ في هذه الآية في عداد الخرص في أمر الشركاء، فالممنوع الظنّ الذي يعادل ما تهوى الأنفس والخرص.

هذا كلّه بالإضافة إلى

ما استعمل فيه كلمة الظنّ.

أمّا قوله تعالى: «وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ» الذي نهى فيه عن اتّباع غير العلم، فإنّه وإن لم يأت فيه ما بيّناه بالنسبة إلى الآيتين السابقتين لكن يأتي فيه ما ذكر في الجواب الأوّل، وهو القول بالتخصيص، لأنّ لسان هذه الآية ليس آبياً عن التخصيص كما لا يخفى على المتأمّل فيها.

الدليل الثاني: السنّة

وأمّا السنّة فلا بدّ من تواترها في المقام وألّا يكون الاستدلال دوريّاً كما لا يخفى، ولابدّ أيضاً من كون موردها في غير باب التعارض لأنّ البحث ليس في الخبرين المتعارضين.

والأخبار الواردة في هذا المجال عمدتها نقلت في الباب 9 من أبواب صفات القاضي من الوسائل، ونذكر هنا أحد عشر رواية منها، وهي بنفسها على طوائف خمسة لكلّ واحدة منها لسان يختلف عن لسان غيرها:

الطائفة الاولى: ما يدلّ على حجّية ما علم أنّه قولهم عليهم السلام وهي ما رواه نضر الخثعمي قال:

سمعت أبا عبداللَّه عليه السلام يقول: «من عرف إنّا لا نقول إلّاحقّاً فليكتف بما يعلم منّا، فإن سمع منّا خلاف ما يعلم فليعلم إنّ ذلك دفاع منّا عنه» «1».

الطائفة الثانية: ما تدلّ على حجّية ما وافق الكتاب وهي عديدة:

منها: ما رواه عبداللَّه بن أبي يعفور قال: وحدّثني الحسين بن أبي العلا أنّه حضر ابن أبي يعفور في هذا المجلس قال: سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن اختلاف الحديث يرويه من نثقّ به، ومنهم من لا نثقّ به، قال: «إذا أورد عليكم حديث فوجدتم له شاهداً من كتاب اللَّه أو من قول رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وإلّا فالذي جاءكم به أولى به» «2»، فإنّها وإن وقع السؤال فيها عن اختلاف الخبرين إلّاأنّ الجواب عام.

ومنها: ما رواه

عبداللَّه بن بكير عن رجل عن أبي جعفر عليه السلام في حديث قال: «إذا جاءكم عنّا حديث فوجدتم عليه شاهداً أو شاهدين من كتاب اللَّه فخذوا به وإلّا فقفوا عنده ثمّ ردّوه إلينا حتّى يستبين لكم» «3».

ومنها: ما رواه العياشي في تفسيره عن سدير قال: قال أبو جعفر عليه السلام وأبو عبداللَّه عليه السلام: «لا تصدّق علينا إلّاما وافق كتاب اللَّه وسنّة نبيّنا صلى الله عليه و آله» «4».

الطائفة الثالثة: ما تدلّ على عدم حجّية ما لا يوافق كتاب اللَّه وهي ما رواه أيّوب بن راشد

انوار الأصول، ج 2، ص: 396

عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «ما لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف» «1».

وما رواه أيّوب بن الحرّ قال: سمعت أبا عبداللَّه عليه السلام يقول: «كلّ شي ء مردود إلى الكتاب والسنّة، وكلّ حديث لا يوافق كتاب اللَّه فهو زخرف» «2».

ويمكن إدغام هذه الطائفة في الطائفة الثانية لأنها بمفهومها موافقة لها.

الطائفة الرابعة: ما تدلّ على عدم حجّية ما خالف كتاب اللَّه، وهي ما رواه ابن أبي عمير عن بعض أصحابه قال: سمعت أبا عبداللَّه عليه السلام يقول: «من خالف كتاب اللَّه وسنّة محمّد صلى الله عليه و آله فقد كفر» «3».

الطائفة الخامسة: ما جمع فيها بين لسانين: طرح ما خالف الكتاب وأخذ ما وافقه، وهي ما رواه السكوني عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: إنّ على كلّ حقّ حقيقة، وعلى كلّ صواب نوراً فما وافق كتاب اللَّه فخذوه، وما خالف كتاب اللَّه فدعوه» «4».

وما رواه هشام بن الحكم وغيره عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: خطب النبي صلى الله عليه و آله بمنى فقال:

«أيّها الناس ما جاءكم عنّي

يوافق كتاب اللَّه فأنا قلته، وما جاءكم يخالف كتاب اللَّه فلم أقله» «5».

واجيب عن هذه الرّوايات بوجوه عديدة:

الوجه الأول: أنّه لابدّ في دلالتها على المدّعى من كونها متواترة، لأنّها لو كانت أخبار آحاد يكون الاستدلال بها دوريّاً (كما مرّ) وحينئذٍ لا يكون متواترة «6» لفظاً ولا معنى بل إنّها

انوار الأصول، ج 2، ص: 397

متواترة إجمالًا يقتضي حصول العلم الإجمالي بصدور واحد من الأخبار على الأقلّ، فلا بدّ من الأخذ بالقدر المتيقّن منها، وهو أخصّها مضموناً، ومن المعلوم أنّ أخصّها مضموناً هو المخالف للكتاب والسنّة (سنّة محمّد صلى الله عليه و آله) معاً فيختصّ عدم الحجّية بذلك بنحو قضيّة السالبة الجزئيّة، وهذا لا يضرّ بمدّعى المثبتين، أي اعتبار خبر الواحد في الجملة لأنّ السالبة الجزئيّة لا تنافي الموجبة الجزئيّة.

ثمّ إنّ المراد من المخالفة هل هي المخالفة على نحو التباين، أو العموم من وجه؟

الصحيح هو الأوّل، لأنّه لا إشكال في صدور مخصّصات خصّصت بها عمومات الكتاب ويستلزم من طرحها رفع اليد عن كثير من الأحكام الشرعيّة، نظير ما ورد في قبال عموم قوله تعالى: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» ويدلّ على شرطيّة عدم الجهل في المبيع وغير ذلك من الشرائط الشرعيّة المجعولة في العقود، وهي كثيرة جدّاً، ونظير ما ورد في قبال إطلاق قوله تعالى: «خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ» ممّا يدلّ على النصاب والمقدار والحول وغيرها.

إن قلت: المخالفة على نحو التباين الكلّي لا يوجد لها مصداق في جوامع الحديث التي بأيدينا اليوم، وهذا لا يناسب كثرة الرّوايات الدالّة على طرح الخبر المخالف للكتاب وشدّة إهتمام الأئمّة عليهم السلام به.

قلنا: الأخبار الموجودة في كتب الحديث في يومنا هذا قد خرجت من مصافٍ عديدة تحت أيدي مؤلّفي هذه الكتب كالشيخ الطوسي رحمه

الله والشيخ الصدوق والكليني رحمه الله فمن المسلّم صدور روايات متباينة مع الكتاب والسنّة قبل تأليف هذه الجوامع.

هذا مضافاً إلى وجود روايات متباينة بين الرّوايات الموجودة حاليّاً أيضاً مثل ما نسب إلى أمير المؤمنين علي عليه السلام أنّه قال: أنّي خالق السموات والأرض ... الخ»، لأنّ هذا مخالف لصريح آيات الكتاب ممّا ينسب الخلق إلى اللَّه تعالى فقط، ومثل رواية تدلّ على «أنّ الميّت يعذّب ببكاء أهله» «1»، وهو مخالف لصريح قوله تعالى: «وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى» إلّاأن انوار الأصول، ج 2، ص: 398

يقال: إنّ المراد هو العذاب التكويني الحاصل من بكاء الأهل لروح الميّت لا التشريعي الحاصل بفعل اللَّه تعالى.

الوجه الثاني: حملها على أنّها ناظرة إلى زمان الحضور، ولا إشكال في عدم حجّية خبر الواحد في ذلك الزمان كما يشهد عليه قول الإمام عليه السلام في بعضها: «وما لم تعلموا فردّوه إلينا» وقوله عليه السلام «وردّوه إلينا حتّى نشرح لكم من ذلك ما شرح لنا».

لكن الإنصاف أنّه غير تامّ ومخالف للسان أكثر الرّوايات مثل ما ورد في بعضها: «أنّ على كلّ حقّ حقيقة وعلى كلّ صواب نوراً» وما ورد في بعضها الاخرى: «ولا تقبلوا علينا ما خالف قول ربّنا وسنّة نبيّنا صلى الله عليه و آله» فإن هذا اللحن وهذا النحو من السياق عامّ يشمل زمن الحضور والغيبة كما لا يخفى. هذا أوّلًا.

وثانياً: أنّ الصحيح هو حجّية خبر الواحد في زمن الحضور أيضاً كما يدلّ عليه ما سيأتي من الرّوايات المتواترة التي ورد أكثرها في مورد عصر الحضور.

الوجه الثالث: حملها على الخبرين المتعارضين بقرينة سائر الرّوايات التي تجعل الموافقة مع الكتاب من المرجّحات.

والإنصاف أنّ هذا الجواب أيضاً لا يناسب لحن كثير من الرّوايات مثل

ما ورد فيها: «وكلّ حديث لا يوافق كتاب اللَّه فهو زخرف»، وما رواه أيّوب بن راشد عن أبي عبداللَّه عليه السلام: قال:

«ما لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف»، وكذلك ما ورد فيها: «أنّ على كلّ حقّ حقيقة وعلى كلّ صواب نوراً» فإنّ هذا القبيل من الرّوايات وردت في مقام تمييز الحجّة عن اللّاحجّة، لا ترجيح إحدى الحجّتين على الاخرى، نعم إنّ هذا الجواب تامّ بالنسبة إلى بعض الرّوايات.

الوجه الرابع: أنّه لو فرض شمول هذه الرّوايات لخبر الواحد فإنّها معارضة لما هو أكثر وأظهر وسيأتي ذكرها عند ذكر أدلّة المثبتين.

فظهر أنّ الجواب الأوّل والرابع تامّ لا إشكال فيه.

هذا كلّه هو الاستدلال بالسنّة على عدم حجّية خبر الواحد.

الدليل الثالث: الإجماع

وأمّا الإجماع فقال الشيخ الأعظم رحمه الله في الرسائل: ادّعاه السيّد المرتضى رحمه الله وهو ظاهر المحكي عن الطبرسي في مجمع البيان، والسيّد المرتضى جعل بطلان حجّية خبر الواحد بمنزلة القياس في كون ترك العمل به معروفاً من مذهب الشيعة.

واجيب عن هذا بأنّ حجّية خبر الواحد هو قول أكثر الأصحاب وعليها سيرة أصحاب الأئمّة كما يشهد عليها ما سيأتي من الرّوايات الحاكية عن أحوالهم خصوصاً ما ورد فيها التعليل بأنّه ثقة، الذي يدلّ على أنّ الملاك في الحجّية هو كون الراوي ثقة.

نعم لابدّ هنا من توجيه وتأويل لكلام السيّد المرتضى رحمه الله (لأنّه ربّما يستشكل في السيره بأنّها لو كانت فكيف لم يلتفت إليها السيّد المرتضى رحمه الله مع قرب عهده إلى زمن المعصومين) كما أوّله شيخ الطائفة رحمه الله بأنّ معقد هذا الإجماع ليس هو الأخبار التي محفوفة بقرائن تشهد على صدقها وإن لم تصل إلى حدّ حصول العلم بالصدور، كما إذا نقلت في الكتب المعتبرة والاصول

المتلقّاة من كلمات المعصومين عليهم السلام بل المراد من معقد الإجماع الأخبار التي يرويها المخالفون.

الدليل الرابع: العقل

وأمّا العقل فهو- كما أشار إليه المحقّق النائيني رحمه الله- ما ذكره ابن قبّة من أنّ العمل بخبر الواحد موجب لتحليل الحرام وتحريم الحلال، والعقل يستقلّ بقبحه.

وقد مرّ الجواب عن هذا في أوّل مباحث الظنّ في مقام الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري مستوفاً فراجع.

هذا كلّه في أدلّة القائلين بعدم حجّية خبر الواحد.

أدلّة القائلين بحجّية خبر الواحد
اشارة

وبعد ذلك نذكر أدلّة القائلين بالحجّية، وهم أيضاً استدلّوا بالأدلّة الأربعة:

الدليل الأول: الكتاب:

فاستدلّوا منه بآيات:

1- آية النبأ

قال اللَّه تعالى: «إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ» «1».

قال الطبرسي رحمه الله في مجمع البيان: «قوله «إن جاءكم فاسق» نزل في الوليد بن عقبة بن أبي معيط بعثه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في صدقات بني المصطلق فخرجوا يتلقّونه فرحاً به وكانت بينهم عداوه في الجاهلية فظنّ أنّهم همّوا بقتله فرجع إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وقال إنّهم منعوا صدقاتهم، وكان الأمر بخلافه، فغضب النبي صلى الله عليه و آله وهمّ أن يغزوهم فنزلت الآية» «2».

ثمّ قال: «عن ابن عبّاس ومجاهد وقتادة» ثمّ ذكر قولًا آخر في شأن نزول الآية وهو لا يناسب مضمون الآية وكلمة القوم المذكورة فيها.

وقد إستشكل بعض العامّة في شأن النزول المذكور بأنّ الوليد آمن يوم فتح مكّة وكان صبيّاً.

ومن المحتمل جدّاً كون الخبر مجعولًا لتنزيه الوليد وتبرئته من ناحية بعض من له صلة بالخلفاء لكونه أخاً لعثمان من جانب الامّ.

إن قلت: فكيف أرسله الرسول صلى الله عليه و آله لأخذ الزكوات مع أنّه كان فاسقاً؟

قلنا: لعلّ الوليد كان ظاهر الصلاح وكان فسقه أمراً مخفيّاً مستتراً وكان الرسول صلى الله عليه و آله أيضاً يعمل بحسب الظاهر ولم يكن بنائه على العمل بالغيب.

هذا مضافاً إلى أنّه يمكن أن يقال: إنّ معنى علمه صلى الله عليه و آله وعلم الأئمّة عليهم السلام بالغيب إنّهم «إذا شاؤوا أن يعلموا علموا» كما ورد في الحديث المشهور.

وأمّا الاستدلال بالآية فله ثلاثة وجوه: أحدها: الاستدلال بمفهوم الشرط، والثاني: بمفهوم الوصف، والثالث: بمناسبة الحكم والموضوع.

وقبل ذكر هذه الوجوه

ونقدها نقول: لو اعطيت هذه الآية بيد العرف يفهم منها حجّية

انوار الأصول، ج 2، ص: 401

خبر العادل وأنّه لا ندامة في العمل به ولو لم يعلم منشأ هذه الدلالة.

ثمّ نقول: أمّا مفهوم الوصف: فإن قلنا بكبرى مفهوم الوصف فلا إشكال في مفهوم كلمة الفاسق في الآية، فتدلّ على عدم لزوم التبيّن في خبر العادل وحجّيته، لكن المشهور عدم حجّية مفهوم الوصف خصوصاً في الوصف غير المعتمد على الموصوف كما في المقام فإنّه حينئذٍ أشبه بمفهوم اللقب عندهم.

لا يقال: فما هو الفائدة في ذكر هذا الوصف، ولماذا لم يرد في الآية هكذا: «إذا جاءك إنسان بنبأ ... الخ»؟ لأنّه يقال: إنّه ورد للتنبيه على فسق الوليد.

لكن الإنصاف أنّ للوصف مفهوماً كما مرّ في مبحث المفاهيم خصوصاً في مثل ما نحن فيه حيث يكون في مقام إعطاء ضابطة كلّية بملاحظة صدرالآية (وهو قوله تعالى: «يا أيّها الذين آمنوا ...».

والقول بكونه تنبيهاً على فسق الوليد كلام غير وجيه لأنّ الآيات لا تكون مختصّة بعصر دون عصر وبشخص دون شخص بل إنّها هدى للناس في جميع الأعصار، ولعلّ هذا هو منشأ الفهم العرفي المذكور آنفاً.

وأمّا مفهوم الشرط: فللقائلين به بيانات مختلفة:

الأوّل: أنّه تعالى علّق وجوب التبيّن على مجي ء الفاسق بالنبأ، فإذا انتفى ذلك سواء انتفى بانتفاء الموضوع أي «إذا لم يجي ء أحد بخبر» أو انتفى بانتفاء المحمول أي «إذا جاء شخص بخبر وكان عادلًا» ينتفي وجوب التبيّن فيستدلّ بإطلاق المفهوم لعدم وجوب التبيّن في خبر العادل وأنّه حجّة.

لكن يرد عليه: أنّ القضيّة الشرطيّة هيهنا ليس لها مفهوم لأنّها سيقت لبيان تحقّق الموضوع مثل قولك: «إن رزقت ولداً فسمّه محمّداً» بمعنى أنّ الجزاء موقوف على الشرط عقلًا لا شرعاً وبجعل الشارع

من دون توقّف عقلي في البين، فعند انتفاء الشرط حينئذٍ انتفاء الجزاء عقلي من قبيل قضيّة السالبة بانتفاء الموضوع لا السالبة بانتفاء المحمول مع وجود موضوعه (وانتفاء المحمول والحكم يكون بواسطة انتفاء ما علّق عليه من شرط أو وصف).

الثاني: ما أفاده المحقّق الخراساني رحمه الله وحاصله: أنّ الحكم بوجوب التبيّن عن النبأ الذي جي ء به معلّق على كون الجائي به فاسقاً (لا على نفس مجي ء الفاسق بالنبأ) بحيث يكون انوار الأصول، ج 2، ص: 402

المفهوم هكذا: «إن لم يكن الجائي بالنبأ فاسقاً بل كان عادلًا فلا يجب التبيّن عنه».

ويمكن الجواب عنه: بأنّه كذلك لو كانت الآية هكذا: «النبأ إن جاء به الفاسق فتبيّنوا» بأن يكون الموضوع القدر المطلق المشترك بين نبأ الفاسق والعادل لأنّ القضيّة حينئذٍ ليست مسوّقة لبيان تحقّق الموضوع، لكن الإشكال في أنّ مفاد الآية ليس كذلك كما هو ظاهر فالإشكال بعدم المفهوم وارد.

الثالث: ما أشار إليه المحقّق الخراساني رحمه الله أيضاً بقوله: «مع أنّه يمكن أن يقال: إنّ القضيّة ولو كانت مسوقة لذلك إلّاأنّها ظاهرة في انحصار موضوع وجوب التبيّن في النبأ الذي جاء به الفاسق ...».

وحاصله: أنّ القضيّة الشرطيّة في الآية وإن كانت مسوقة لبيان تحقّق الموضوع ولكنّها ظاهرة في انحصار موضوع وجوب التبيّن بنبأ الفاسق فقط، ومقتضاه أنّه إذا انتفى نبأ الفاسق وتحقّق موضوع آخر مكانه كنبأ العادل لم يجب التبيّن عنه.

وهذا البيان والبيان السابق في مخالفتهما لظاهر الآية سيّان.

وأمّا مناسبة الحكم والموضوع: فقد اشير إليها في كلمات الشيخ الأعظم رحمه الله وغيره وتوضيحها: أنّ ظاهر الآية كون الفسق موجباً لعدم الاعتماد والاعتبار، أي أنّ التبيّن يناسب عدم الاعتبار، وهذه المناسبة تقتضي عرفاً عدم وجوب التبيّن في خبر العادل المعتبر المعتمد.

هذا

كلّه هو طرق الاستدلال بآية النبأ، وقد ظهر أنّ الطريق الأوّل والثالث تامّ خلافاً للطريق الثاني.

لكن قد أورد على الآيه إشكالات كثيرة ربّما تبلغ إلى نيف وعشرين كما قال به الشيخ الأعظم رحمه الله وقال أيضاً: «إلّا أنّ كثيراً منها قابلة للدفع»، واختار المحقّق الخراساني رحمه الله أربعة منها وذكرها في تعليقته على الرسائل وقد أضاف إليها بعض المعاصرين عدّة اخرى، ونحن نذكر هنا أهمّها وهي خمسة:

الإشكال الأوّل: ما يرتبط بالتعليل الوارد في ذيل الآية، وهو أنّ مقتضى عموم التعليل وجوب التبيّن في كلّ خبر ظنّي لا يؤمن الوقوع في الندم من العمل به وإنّ كان المخبر عادلًا فيعارض المفهوم، والترجيح مع ظهور التعليل.

بيانه: لو قلنا أنّ الآية الشريفة تدلّ مفهوماً على أنّ خبر العادل حجّة مطلقاً ولو لم يفد

انوار الأصول، ج 2، ص: 403

العلم لكن التعليل بقوله تعالى: «أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ» دليل على أنّ الخبر الذي لا يؤمن الوقوع في الندم من العمل به ليس بحجّة، ولو كان المخبر عادلًا (لأنّ العلّة قد تعمّم كما أنّها قد تخصّص) وحينئذٍ الترجيح مع ظهوره التعليل لكونه أقوى وآبياً عن التخصيص مضافاً إلى كونه منطوقاً لا مفهوماً.

واجيب عنه بوجوه:

الوجه الأول: أنّ مقتضى التعليل ليس هو عدم جواز الاقدام على ما هو مخالف للواقع مطلقاً، لأنّ المراد بالجهالة هنا السفاهة وفعل ما لا يجوز فعله، لا ما يقابل العلم، ولا شبهة في أنّه لا سفاهة في الركون إلى خبر العدل والاعتماد عليه.

إن قلت: يستلزم هذا كون اعتماد الصحابة على خبر الوليد الفاسق سفيهاً، وهو كما ترى.

قلنا: قد أجاب عن هذا المحقّق النائيني رحمه الله بأنّه ربّما يركن الشخص إلى ما لا ينبغي الركون

إليه غفلةً أو لاعتقاده عدالة المخبر، والآية هنا نزلت للتنبيه على غفلة الصحابة أو لسلب اعتقادهم عن عدالة الوليد، أي ركون الصحابة إلى خبر الوليد لم يكن من باب الإقدام على أمر سفهي بل من جهة عدم علمهم بفسق الوليد.

أقول: الجهالة في لغة العرب وإن كان قد تأتي بمعنى السفاهة ولكن الأصل في معناها هو ضدّ العلم كما نطقت به كتب اللغة، فحينئذٍ حمل الآية على المعنى الأوّل مشكل جدّاً، ويؤيّد ما ذكرنا ملاحظة موارد استعمال هذه الكلمة في القرآن الكريم.

الوجه الثاني: «أنّه على فرض أن يكون معنى الجهالة عدم العلم بمطابقة الخبر للواقع لا يعارض عموم التعليل للمفهوم، بل المفهوم يكون حاكماً على العموم لأنّه يقتضي إلغاء احتمال مخالفة خبر العادل للواقع وجعله محرزاً له وكاشفاً عنه، وكأنّه يقول: «نزّل خبر العادل بمنزلة العلم» فلا يشمله عموم التعليل لا لأجل تخصيصه بالمفهوم لكي يقال: إنّه يأبى عن التخصيص بل لحكومة المفهوم عليه» «1».

ويرد عليه: إنّ لسان الآية ليس لسان الدليل الحاكم ولا يساوق مفهومها قولك: «الغ احتمال الخلاف» بل تدلّ على أنّه إذا جاءكم عادل بنبأ فلا يجب التبيّن بل يجب القبول.

انوار الأصول، ج 2، ص: 404

نعم هذا صادق بالنسبة إلى جملة من سائر الأدلّة لحجّية خبر الواحد كقوله عليه السلام: «ما أدّيا عنّي فعنّي يؤدّيان».

الوجه الثالث: ما أجاب به شيخنا العلّامة رحمه الله في الدرر وهو: «أنّ التعليل لا يدلّ على عدم جواز الاقدام بغير العلم مطلقاً بل يدلّ على عدم الجواز فيما إذا كان الاقدام في معرض حصول الندامة، واحتماله منحصر فيما لم يكن الاقدام عن حجّة فلو دلّت الآية بمفهومها على حجّية خبر العادل فلا يحتمل أن يكون الإقدام على العمل به

مؤدّياً إلى الندم فلا منافاة بين التعليل ومفهوم الآية أصلًا» «1».

ويمكن أن يقال في توضيح ما أفاده بأنّ الموجب للندم هو ما كان معرضاً للندامة غالباً وخبر العادل ليس كذلك، ووقوع الخطأ فيه أحياناً كوقوع الخطأ في العلم لا يوجب الندم ولا ترك العمل به.

الوجه الرابع: أنّه فرق بين الجهل والعلم في مصطلح المنطق وفي العرف واللغة فالعلم المصطلح في المنطق هو درجة المائة في المائة من اليقين، وفي مقابله الجهل المصطلح، وأمّا العلم العرفي الاصولي فليس بتلك الدرجة بل يعدّ العمل بالظواهر وما أشبهها من العمل بالعلم عند العرف وإن لم يكن علماً قطعيّاً.

هذا كلّه بالنسبة إلى الإشكال الأوّل الوارد على الاستدلال بالآية.

الإشكال الثاني: أنّه على تقدير دلالة الآية على المفهوم يلزم خروج المورد عن مفهوم الآية لأنّ موردها وهو الإخبار عن ارتداد جماعة (وهم بنو المصطلق) من الموضوعات فلا يثبت بخبر العدل الواحد، وخروج المورد أمر مستهجن عند العرف فيكشف عن عدم المفهوم للآية المباركة.

وفيه: أوّلًا: نحن في فسحة عن هذا الإشكال، لأنّ المختار حجّية خبر الواحد حتّى في الموضوعات، (إلّا في باب القضاء لما ورد فيه من دليل خاصّ بل لابدّ فيه في بعض الموارد من قيام أكثر من اثنين من الشهود).

ثانياً: أنّ هذا ينافي إطلاق المفهوم لا أصله حيث إنّه يدلّ على حجّية خبر العادل مطلقاً،

انوار الأصول، ج 2، ص: 405

وقد قيّد هذا الإطلاق في موارد الموضوعات بضمّ عدل آخر وعدم الاكتفاء بعدل واحد، وهذا لا ينافي حجّية أصل المفهوم، فلو دلّت عليها الآية الشريفة لم يكن تقييد إطلاقه بالنسبة إلى مورده مانعاً عن تحقّقه، والذي لا يجوز في الكلام إنّما هو خروج المورد برأسه لا ما إذا كان داخلًا مع قيد

أو شرط.

الإشكال الثالث: أنّه لو دلّت الآية على حجّية خبر الواحد لكان الإجماع الذي إدّعاه السيّد رحمه الله على عدم حجّية خبر الواحد أيضاً حجّة لأنّه من مصاديق خبر الواحد، فيلزم من حجّية خبر الواحد عدم حجّيته، وهو من قبيل ما يلزم من وجوده عدمه وهو محال.

والجواب عن هذا واضح صغرى وكبرى، أمّا الكبرى: فلما مرّ من أنّ خبر الواحد لا يعمّ هذا القبيل من الإجماعات لأنّها من أقسام الإجماع الحدسي لا الحسّي.

وأمّا الصغرى: فلأنّا نعلم بأنّ ما إدّعاه السيّد المرتضى رحمه الله من الإجماعات مبنيّة على أصل أو قاعدة، وليست بمعنى الإجماع على مسألة خاصّة.

الإشكال الرابع: تعارض هذه الآية مع الآيات الناهيّة عن العمل بغير علم، والنسبة بينهما العموم من وجه فتتعارضان في مورد الاجتماع وهو خبر العادل الذي يوجب الظنّ بالحكم فتقدّم الآيات الناهيّة على هذه الآية لكونها أقوى ظهوراً.

والجواب عن هذا ظهر ممّا سبق في مقام التعرّض للآيات الناهيّة، فقد قلنا هناك أنّ المقصود من الظنّ الوارد في تلك الآيات هو الأوهام والخرافات التي لا أساس لها وعليه لا تعارض بينهما.

الإشكال الخامس: (وهو المهمّ) ما لا يختصّ بآية النبأ بل يرد على جميع أدلّة حجّية خبر الواحد، وهو عدم شمول أدلّة الحجّية للأخبار مع الواسطة مع أنّ المقصود من حجّية خبر الواحد هو إثبات السنّة بالأخبار التي وصلت إلينا مع الواسطة عن الحجج المعصومين عليهم السلام.

ويمكن بيانه بوجوه:

الوجه الأوّل: دعوى انصراف الأدلّة عن الإخبار مع الواسطة.

الوجه الثاني: اتّحاد الحكم والموضوع ببيان: أنّ حجّية الخبر التي يعبّر عنها بوجوب تصديق العادل إنّما هي بلحاظ الأثر الشرعي الذي يترتّب على المخبر به، إذ لو لم يكن له أثر شرعي كانت الحجّية لغواً ولا يصحّ

التعبّد به، ومن المعلوم لزوم تغاير كلّ حكم مع موضوعه انوار الأصول، ج 2، ص: 406

فإذا لم يكن في مورد أثر شرعي للخبر إلّانفس وجوب التصديق الثابت بدليل حجّية الخبر لم يمكن ترتيب هذا الأثر، لما سبق من وحدة الحكم والموضوع وهو محال والمقام من هذا القبيل لأنّه إذا أخبرنا الصدوق رحمه الله مثلًا بقوله: «قال الصفّار قال: «الإمام العسكري عليه السلام ...» لم يترتّب على إخبار الصدوق سوى وجوب تصديق قول الصفّار لأنّ الأثر العملي إنّما يترتّب على قول المعصوم فقط لا غير. وحينئذٍ فوجوب تصديق الصدوق بمقتضى آية النبأ حكم وموضوعه (أي الأثر المترتّب على خبر الصدوق) أيضاً وجوب تصديق الصفّار، فيلزم اتّحاد الحكم والموضوع، وهو محال.

وإن شئت قلت: يلزم اتّحاد الحكم والموضوع أو كون الحكم ناظراً إلى نفسه.

توضيحه: إذا قلنا بدلالة الآية على حجّية خبر الواحد يلزم أن يكون الأثر الذي بلحاظه وجب تصديق العادل (أي الأثر الذي يكون موضوعاً لحكم وجوب التصديق) نفس تصديقه من دون أن يكون في البين أثر آخر كان وجوب التصديق بلحاظه، مع أنّ وجوب التعبّد بالشي ء لابدّ وأن يكون بلحاظ ما يترتّب على الشي ء من الآثار الشرعيّة، وإلّا فلو فرضنا خلوّ الشي ء عن الأثر الشرعي لما صحّ إيجاب التعبّد الشرعي به، وعليه فلو كان الراوي حاكياً قول الإمام فوجوب التصديق بلحاظ ما يترتّب على قول الإمام عليه السلام من الآثار، كحرمة الشي ء ووجوبه، ولو كان المحكي قول غيره كحكاية الصدوق رحمه الله قول الصفّار فالأثر المترتّب على قول الصفّار ليس إلّاوجوب تصديقه، فيلزم اتّحاد الحكم (وجوب التصديق) والموضوع (الأثر الشرعي) وكون الحكم ناظراً إلى نفسه.

الوجه الثالث: لزوم إيجاد الحكم لموضوعه مع أنّه لابدّ من وجود الموضوع في

الرتبة السابقة على الحكم، فإنّ الشيخ إذا أخبر عن المفيد رحمه الله وهو عن الصدوق رحمه الله فالمصداق الوجداني لنا هو قول الشيخ، فيجب تصديقه، وأمّا قول المفيد رحمه الله إلى أن ينتهي إلى الإمام فإنّما يصير مصداقاً لموضوع قولنا: «صدق العادل» بعد تصديق الشيخ قدس سره فيلزم إثبات الموضوع بالحكم، وهو محال.

وقد اجيب عن هذا الإشكال: تارةً بأنّ لزوم وجود الموضوع في الرتبة السابقة على الحكم إنّما هو في القضايا الخارجيّة مع أنّ أدلّة الحجّية من القضايا الحقيقيّة الشاملة للموضوعات المحقّقة والمقدّرة، ولا مانع فيها من تحقّق الموضوع بها وشمولها لنفسها.

انوار الأصول، ج 2، ص: 407

واخرى بأنّه سلّمنا كون منصرف الآية الإخبار بلا واسطة إلّاأنّ العرف يلغي الخصوصيّة.

وثالثة: بأنّ الإجماع المركّب قام على أنّ خبر الواحد إمّا حجّة مطلقاً (سواء كان مع الواسطة أو بلا واسطة) أو ليس بحجّة كذلك.

وفيه: بما أن هذه المسألة معلومة المدرك فلا فائدة في الإجماع البسيط فيها فضلًا عن الإجماع المركّب.

ورابعة: بأنّ المحال إنّما هو إثبات الحكم موضوع شخص الحكم لا إثباته موضوع فرد آخر من الحكم، فإنّ خبر الشيخ المحرز بالوجدان يجب تصديقه وبتصديقه يحصل لنا موضوع آخر، وهو خبر المفيد رحمه الله، وله وجوب تصديق آخر وهكذا.

وخامسة: بأنّه يكفي في صحّة التعبّد كون المتعبّد به ممّا له دخل في موضوع الحكم ولا دليل على لزوم ترتّب تمام الأثر عليه، ففي ما نحن فيه حيث تنتهي سلسلة الأخبار إلى قوله عليه السلام فلكلّ واحد منها دخل في إثبات قوله الذي له الأثر الشرعي، وهذا المقدار كافٍ في صحّة التعبّد به، فليس هنا أحكام متعدّدة حتّى يستشكل باتّحاد الحكم والموضوع وغير ذلك بل هنا حكم واحد، وكلّ ما في سلسلة

السند من الرجال جزء لموضوعه.

2- آية النفر:

قوله تعالى «وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ» «1»

وقد وقع البحث عنها في ثلاث مقامات: الأوّل: في تفسير الآية، الثاني: في كيفية الاستدلال بها، الثالث: في الإشكالات الواردة عليها والجواب عنها.

أمّا المقام الأوّل: فقد ذكر في تفسيرها وجوه خمسة:

الوجه الأوّل: أن يكون المراد من النفر فيها الخروج إلى الجهاد غاية الأمر إنّها تنهى انوار الأصول، ج 2، ص: 408

المؤمنين أن ينفروا إلى الجهاد كافّة وتأمرهم بالانقسام إلى طائفتين: فطائفة منهم تنفر إلى الجهاد، وطائفة اخرى تبقى عند الرسول للتفقّه في الدين.

والقائلون بهذا الوجه استشهدوا له بصدر الآية وهو قوله تعالى: «وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً» فإنّه يدلّ على أنّهم كانوا ينفرون كافّة إلى الجهاد وذلك لكي لا تشملهم الآيات النازلة في المنافقين القاعدين، فتنهيهم الآية عن هذا النحو من الخروج وتقول: الجهاد مع الجهل واجب كالجهاد مع العدوّ.

وهذا الوجه مخالف لظاهر الآية من بعض الجهات: أوّلًا: أنّه يحتاج إلى تقدير جملة «وتبقى طائفة» وثانياً: لابدّ من رجوع الضمير في قوله «ليتفقّهوا» إلى الطائفة الباقية مع أنّ الظاهر رجوعه إلى الفرقة النافرة المذكورة في الآية، وثالثاً: من ناحية رجوع الضمير في «ولينذروا» إلى الطائفة الباقية أيضاً مع أنّ ظاهره أيضاً الرجوع إلى النافرة.

الوجه الثاني: أن يكون المراد من النفر النفر إلى الجهاد أيضاً مع عدم التقدير المذكور في الوجه الأوّل، فيرجع الضميران إلى الطائفة النافرة، أي التفقّه والإنذار يرجعان إليهم، واللَّه تعالى حثّهم على التفقه في ميدان الحرب لترجع إلى الفرقة المتخلّفة فتحذّرها.

إن قلت: كيف يمكن التفقّه في ميدان الجهاد.

قلت: يحصل التفقّه هناك بالتبصّر

والتيقّن بما يريهم اللَّه من الظهور على المشركين ونصرة الدين وظهور صدق قوله تعالى: «كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ» «1»

وكذلك قوله تعالى: «إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ» «2».

وهذا الوجه أيضاً مخالف للظاهر من وجهين:

الوجه الأوّل أنّه خلاف ظاهر التفقّه في الدين وخلاف قوله: «ليتفقّهوا» بصيغة المضارع، فإنّه ظاهر في الاستمرار لا في التفقّه في مقطع خاصّ وزمان معيّن (هو زمان الجهاد) كما أنّ كلمة الدين أيضاً ظاهرة في جمّ غفير من المسائل والمعارف الدينيّة لا في خصوص صفة من صفات الباري تعالى كقدرته ونصرته.

الوجه الثاني: أنّه يبقى السؤال في الآية بعدُ من أنّه لماذا منع من نفر الجميع للتفقّه في الدين؟

انوار الأصول، ج 2، ص: 409

لأنّ المفروض عدم وجود تقدير في الآية، فالواجب على الجميع النفر للتفقّه هناك.

الوجه الثالث: أن يكون المراد من النفر النفر إلى محضر الرسول صلى الله عليه و آله لتحصيل الدين، ومعنى الآية: لا يجوز لمؤمني البلاد أن يخرجوا كافّة من أوطانهم إلى المدينة للتفقّه للزوم اختلال النظام.

وهذا الوجه وإن يوجب التخلّص من إشكال التقدير ولكن يرد عليه:

أوّلًا: أنّ النهي عن شي ء إنّما يصحّ فيما إذا كان الشخص في معرض إرتكاب ذلك الشي ء، وهو ممنوع في مورد الآية، لأنّا لا نرى من نفر جميع المسلمين إلى محضر الرسول للتفقّه أثراً في الأخبار والتاريخ.

ثانياً: أنّه خلاف اتّحاد سياق هذه الآية مع الآية السابقة واللاحقة لأنّ موردها هو الجهاد.

الوجه الرابع: أن تكون الآية ناظرة إلى جماعة من الصحابة كانوا يتوجّهون من المدينة إلى القبائل لتبليغ الأحكام والناس يهدون إليهم هدايا وعطايا، وصار هذا الأمر سبباً لإتّهامهم بعدم الخلوص في نيّاتهم فتركوا هذه الرسالة، فنزلت الآية.

ويرد على هذا الوجه

أيضاً أنّه لا يساعد صدر الآية الظاهر في أنّ جميع المؤمنون كانوا يخرجون من المدينة، بينما المفروض في هذا الوجه خروج جماعة منهم، هذا أوّلًا.

وثانياً: لازم هذا الوجه أن يكون النفر للتعليم لا للتفقّه.

الوجه الخامس: أن نلتزم بالتفكيك بين النفر الأوّل وبين النفر الثاني، فيكون الأوّل بمعنى النفر إلى الجهاد، والثاني بمعنى النفر إلى التفقّه، فمعنى الآية: أيّها المؤمنون لا يخرج جميعكم إلى الجهاد بل تخرج طائفة إليه وطائفة إلى التعلّم والتفقّه.

وفيه: أنّه خلاف وحدة السياق فإنّها تقتضي أن يكون النفر في الآية بمعنى واحد.

فقد ظهر من جميع ما ذكرنا أنّه يلزم إرتكاب خلاف الظاهر على كلّ حال.

لكن الإنصاف أنّ أخفّها مؤونة وأقلّها محذوراً هو التفسير الأوّل كما يؤيّده ما ورد في ذيل الآية من شأن النزول فإنّها وردت بعد نزول آيات الجهاد وذمّ المنافقين لأجل تركهم الجهاد، فكان المؤمنون يخرجون إلى الجهاد جميعاً لئلا يعمّهم ذمّ الآيات، فنزلت الآية ونهت عن خروج الجميع، هذا أوّلًا.

ويؤيّده ثانياً: ما رواه الشيخ الطبرسي رحمه الله في مجمع البيان (وأسنده إلى الإمام الباقر عليه السلام انوار الأصول، ج 2، ص: 410

مباشرةً وبقوله: «قال الباقر عليه السلام» مع أنّه ممّن لا يقول بحجّية خبر الواحد) قال: قال الباقر عليه السلام:

«كان هذا حين كثر الناس فأمرهم اللَّه سبحانه أن تنفر منهم طائفة وتقيم طائفة للتفقّه وأن يكون الغزو نوباً» «1».

فقد صرّحت هذه الرّواية بما قدّرت في الآية بناءً على هذا التفسير، أي قوله عليه السلام: «وتقيم طائفة» وقد اختار هذا التفسير كثير من المفسّرين.

هذا كلّه بالنسبة إلى نفس الآية مع قطع النظر عن الرّوايات الواردة في ذيلها.

وهنا إشكال مهمّ ينشأ من روايات كثيرة تبلغ اثنتا عشرة رواية تشهد بأنّ النفر في

الآية بمعنى النفر إلى التفقّه لا الجهاد، وأكثرها واردة في مورد قوم أخبروا بموت إمامهم المعصوم فيسأل الراوي عن أنّهم كيف يصنعون؟ فيتلو الإمام في الجواب هذه الآية لبيان أنّ الوظيفة حينئذٍ هي الخروج في الطلب والنفر إلى التفقّه في معرفة الإمام اللاحق.

منها: ما رواه يعقوب بن شعيب عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: قلت: ليسوا إذا هلك الإمام فبلغ قوماً له بحضرته؟ قال: «يخرجون في الطلب فإنّهم لا يزالون في عذر ما داموا في الطلب، قلت:

يخرجون كلّهم أو يكفيهم أن يخرجوا بعضهم؟ قال إنّ اللَّه عزّوجلّ يقول: «فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ» قال هؤلاء المقيمون في السعة حتّى يرجع إليهم أصحابهم» «2».

ومنها: ما رواه عبدالأعلى قال: قلت: لأبي عبداللَّه عليه السلام بلغنا وفاة الإمام؟ وقال: «عليكم النفر. قلت: جميعاً؟ قال: إنّ اللَّه يقول: «فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ» الآية. قلت: نفرنا فمات بعضنا في الطريق؟ قال فقال: «وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ- إلى قوله- أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ» قلت: فقدمنا المدينة فوجدنا صاحب هذا الأمر ... الخ» «3».

إلى غير ذلك ممّا ورد في هذا المعنى.

ويمكن الجواب عنه بأنّ استدلال الإمام عليه السلام في هذه الرّوايات ربّما يكون بما يستنتج من انوار الأصول، ج 2، ص: 411

الآية وبملاك يستفاد منها، وهو أنّ تحصيل العلم والتفقّه في الدين واجب كفائي (كما أنّ الجهاد واجب كفائي والنفر مقدّمة له) فالرواية تقول حينئذٍ: إذا كان التعلّم واجباً ووجب امتثال هذا الوجوب فلا فرق بين الإقامة والخروج لأجل تحقّق الامتثال، ولا يخفى أنّ هذا لا ينافي التفسير الأوّل وكون النفر بمعنى

النفر إلى الجهاد، هذا أوّلًا.

وثانياً: غاية ما تقتضيه هذه الرّوايات كونها قرينة على أنّ النفر في الآية استعمل في النفر إلى الجهاد والنفر إلى التفقّه معاً، أي أنّه استعمل في أكثر من معنى، وهو جائز على المختار عند وجود القرينة أو استعمل في معنى جامع بينهما.

هذا كلّه في تفسير الآية، أي المقام الأوّل من البحث، وستعرف إن شاء اللَّه أنّ الاختلاف في هذا المقام ليس له أثر كثير في ما نحن بصدده.

أمّا المقام الثاني: فهو في كيفية الاستدلال بهذه الآية لحجّية خبر الواحد ...

فنقول: الاستدلال بها يكون منّا يقوم على أساس دلالة قوله تعالى: «لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ» على وجوب الحذر عند إنذار المتفقّه في الدين مطلقاً سواء حصل منه العلم أو لا، وهو معنى حجّية خبر الواحد تعبّداً.

وأمّا كيفية دلالة كلمة «لعلّ» على الوجوب فهي من وجوه شتّى:

الوجه الأول: أن يقال: إنّ كلمة «لعلّ» وإن كانت مستعملة في معناها الحقيقي، وهو إنشاء الترجّي حتّى فيما إذا وقعت في كلامه تعالى، ولكن بما أن الداعي إلى الترجّي يستحيل في حقّه تعالى لأنّ منشأه عبارة عن الجهل والعجز فلا محالة تكون مستعملة بداعي طلب الحذر، وإذا ثبت كون الحذر مطلوباً ثبت وجوبه لأنّه لا معنى لحسن الحذر ورجحانه بدون وجوبه، فإنّ المقتضي للحذر إن كان موجوداً فقد وجب الحذر وإلّا فلا يحسن من أصله.

أقول: إنّ هذا الوجه تامّ إلّامن ناحية ما ذكر في مقدّمته من استحالة الترجّي في حقّه تعالى لأنّ المأخوذ في مادّة الترجّي هو الحاجة إلى شرائط غير حاصلة، وعدم حصول الشرائط تارةً يكون من جانب المتكلّم وهو اللَّه تعالى في الآية، واخرى من ناحية المخاطب وهو الناس فيها، ففي ما نحن فيه وإن كانت الشرائط

حاصلة من جانبه تعالى إلّاأنّها غير حاصلة من جانب الناس، فاستعملت «لعلّ» في معناها الحقيقي.

وعلى كلّ حال يستفاد من كلمة «لعلّ» في الآية مطلوبيّة الحذر (وهي مساوقة مع انوار الأصول، ج 2، ص: 412

الوجوب) سواء كانت مستعملة في معناها الحقيقي أو في معناها المجازي.

الوجه الثاني: أنّ الحذر جعل غاية للإنذار الواجب (لظهور الأمر بالإنذار في قوله تعالى «وَلِيُنذِرُوا» في الوجوب) وغاية الواجب إذا كانت من الأفعال الاختياريّة واجبة كما أنّ مقدّمة الواجب واجبة لوجوب الملازمة بينهما.

الوجه الثالث: أنّ وجوب الإنذار والتفقّه مع عدم وجوب الحذر يستلزم اللغو.

الوجه الرابع: الإجماع المركّب، فإنّ الامّة بين من لا يقول بحجّية خبر الواحد أصلًا، وبين من يقول بوجوب العمل به، فالقول برجحان العمل به دون وجوبه قول بالفصل.

أقول: لا إشكال في بطلان بعض هذه الوجوه أو كونها قابلة للمناقشة، وهو الوجه الثالث والرابع، أمّا الرابع فلعدم حجّية الإجماع البسيط في مثل المقام الذي يكون- على الأقل- محتمل المدرك فضلًا عن الإجماع المركّب.

وأمّا الوجه الثالث: فلعدم لزوم اللغويّة لإمكان أن يكون وجوب الإنذار لغاية حصول العلم، ويكفي، في نفي اللغوية ترتّب الأثر في الجملة فيبقى الوجه الأوّل والثاني، ولا بأس بهما.

لكن يرد على الاستدلال بهذه الآية إشكالات عديدة لا يتمّ الاستدلال بها من دون دفعها:

الأوّل: أنّ الآية وردت في مقام بيان وظيفة المتفقّهين النافرين لا وظيفة قومهم بعد الرجوع إليهم.

ويمكن الذبّ عنه مضافاً إلى عدم وروده على الوجه الثاني من الوجوه المذكورة في تفسيرها (لأنّ غاية الواجب واجبة على الباقين) بأنّ ظاهر الآية أنّها في مقام بيان وظيفة كلتا الطائفتين طائفة المنذرين بالكسر وطائفة المنذرين بالفتح، فتطلب من الاولى الإنذار لظهور الأمر (ولينذروا) في الوجوب ومن الثانية القبول لما مرّفي الوجه

الأوّل من دلالة كلمة «لعلّ» على معنى الطلب.

الثاني: أنّ الظاهر من الآية هو حجّية قول المجتهد بالنسبة إلى مقلّديه، لأنّ التفقّه والإنذار بما تفقّه من وظيفة المجتهد لا الناقل للرواية، لأنّ وظيفة الناقل النقل والإخبار لا تعيين تكليف المخبر به، فلا ربط للآية بحجّية خبر الواحد الذي هو محلّ الكلام.

إن قلت: كيف، مع أنّه لم يكن للفقه والاجتهاد بالمعنى المصطلح في عصر الأئمّة عين ولا أثر؟

انوار الأصول، ج 2، ص: 413

قلنا: لا إشكال في وجود هذا المعنى في ذلك الزمان على حدّه البسيط وفي دائرة تخصيص العام وتقييد المطلق وتقديم النصّ على الظاهر وشبه ذلك، والإنصاف أنّ مفاد الآية ليس على حدّ الاجتهاد المصطلح ولا على حدّ البيان الساذج للخبر، بل المستفاد منها عرفاً كون الناقلين للأخبار من قبيل ناقلي فتاوي المجتهدين والمنصوبين من قبلهم لنقل المسائل العمليّة وتوضيحها لمقلّديهم في يومنا هذا، ولا إشكال في قابليتهم للإنذار ولا إشكال أيضاً في تحقّق الإنذار بتوسّطهم أي يتحقّق الإنذار بمجرّد نقل الرواة عن الأئمّة عليهم السلام ولا يشترط فيه التفقّه بالمعنى المصطلح كما لا يشترط في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بلا ريب.

الثالث: أنّ المأخوذ في التفقّه والإنذار في الآية عنوان الطائفة، وهي عبارة عن الجماعة وإخبار الجماعة يوجب العلم، فتكون الآية خارجة عن محلّ البحث.

والجواب عنه واضح، لأنّ المقصود من الطائفة هو معناها الحقيقي نظير المراد في قوله تعالى: «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ» وفي قولك: «سل العلماء ما جهلت» وقولك: «راجع الأطباء في مرضك» وقوله تعالى: «وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ» وقوله تعالى: «وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا» ونظيرها ممّا لا شكّ في أنّ المخاطب فيه كلّ واحد من الأفراد والمصاديق مستقلًا لا الجماعة بما هي جماعة.

الرابع:

أنّ الآية ناظرة إلى اصول الدين وتحصيل المعارف الدينيّة بقرينة الرّوايات التي وردت في ذيلها الدالّة على وظيفة المؤمنين في تعيين الإمام اللاحق بعد وفاة الإمام السابق، وقد مرّ بعضها في البحث عن المقام الأوّل، ولا إشكال في اعتبار حصول العلم في الاصول، فتكون الآية خارجة عن محلّ البحث.

والجواب عنه: أنّ الآية عامّة تعمّ الفروع أيضاً لأنّه لا وجه لتخصيصها بالاصول، أمّا الرّوايات فإنّها غاية ما تثبته أنّ اصول الدين مشمولة للآية ولا تدلّ على انحصارها بها.

3- آية الكتمان وهي قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ انوار الأصول، ج 2، ص: 414

لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللَّاعِنُونَ» «1»

، وقوله: «إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ ...» «2».

وتقريب الاستدلال بهما: أنّ حرمة الكتمان ووجوب الإظهار يلازم وجوب القبول وألّا يكون لغواً.

نعم إنّه تامّ بالنسبة إلى الآية الاولى، لأنّ الموضوع فيها هو مجرّد الكتمان، وأمّا الآية الثانية فيمكن الإشكال فيها بأنّ مجرّد الكتمان فيها ليس موضوعاً للحرمة بل أخذ في الموضوع أنّهم يشترون بكتمان الحقّ ثمناً قليلًا، فالصالح للاستدلال هو الآية الاولى فقط.

وإستشكل فيها أوّلًا: بأنّها واردة في اصول العقائد كما يشهد به شأن نزولهما.

واجيب عنه: بأنّها مطلقة تعمّ الفروع والاصول معاً لأنّ الآية تشمل ما إذا كتم فقيه حرمة الربا مثلًا بالوجدان، ولا دخل لخصوصيّة المورد لأنّ المورد ليس مخصّصاً.

وثانياً: أنّه من الممكن أن تكون فائدة حرمة الكتمان ووجوب الإظهار هو حصول العلم من قولهم لأجل تعدّدهم لا العمل بقولهم وإن لم يحصل العلم من إخبارهم.

وإن شئت قلت: إنّا فهمنا وجوب القبول من برهان

اللغويّة لا من اللفظ حتّى يدّعي الإطلاق بالنسبة إلى مورد عدم حصول العلم.

4- آية أهل الذكر

وهي قوله تعالى: «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَاتَعْلَمُونَ» وقد وردت في موضعين من الكتاب الكريم: أحدهما: سورة النحل: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَاتَعْلَمُونَ» «3»

، والثاني: سورة الأنبياء: «وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لَاتَعْلَمُونَ» «4»

، (والفرق بين الآيتين منحصر

انوار الأصول، ج 2، ص: 415

في كلمة «من» فإنّها وردت في الاولى لا الثانية).

وهاتان الآيتان بشهادة صدرهما نزلتا في من كانوا يعترضون على النبي صلى الله عليه و آله بأنّه لِمَ خلق بشراً أو لا يكون معه ملك، فأجابتا عن هذا الإشكال بأنّ هذا ليس أمراً جديداً بل كان الأمر كذلك في الأنبياء السلف، وإن أردتم شاهداً على هذا فاسألوا أهل الذكر، فمورد الآية مسألة من مسائل أصل النبوّة (الذي هو من جملة اصول الدين) وهي أنّه هل يمكن أن يكون النبي صلى الله عليه و آله بشراً أو لا؟

والاستدلال بهذه الآية لحجّية خبر الواحد يرجع أيضاً إلى برهان اللغويّة، وتقريبه: أنّ ظاهر الأمر بالسؤال هو وجوبه، ووجوبه ملازم لوجوب القبول، وإلّا يكون وجوب السؤال لغواً، وإطلاقه يشمل السؤال الذي يحصل من جوابه العلم وما يحصل من جوابه الظنّ، أي يجب القبول سواء حصل العلم أم لا؟

ولكن يرد عليه:

أوّلًا: ما أورده كثير من الأعلام وهو أنّه يمكن أن تكون فائدة وجوب السؤال هي حصول العلم بالسؤال فيخرج عن اللغويّة.

ويمكن دفع هذا الإشكال بإطلاق وجوب السؤال، لأنّ لازمه إطلاق وجوب القبول.

وثانياً: أنّ مفادها أخصّ من المدّعى، لأنّها تدلّ على وجوب القبول في خصوص مورد السؤال، بينما محلّ النزاع

مطلق أخبار الثقة سواء كان في قبال سؤال أم لم يكن.

والجواب عنه واضح وهو أنّ الفهم العرفي يوجب إلغاء الخصوصيّة عن مورد السؤال.

وثالثاً: أنّ قوله تعالى «أهل الذكر» ظاهر في أهل الخبرة، فيدلّ على حجّية قول أهل الخبرة لوجود تفاسير مختلفة لأهل الذكر في كلمات المفسّرين فبعضهم فسّره بالقرآن لأنّ من أسامي القرآن الذكر كما ورد في قوله تعالى: «وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ» «1»

وبعضهم فسّره بأهل الكتاب من علماء اليهود والنصارى، والمقصود من السؤال منهم حينئذٍ هو السؤال عن علائم النبوّة الموجودة في التوراة والإنجيل، وثالث فسّره بأهل العلم بأخبار الماضين، ورابع فسّره بالأئمّة صلوات اللَّه عليهم لأنّ من أسامي الرسول أيضاً الذكر كما ورد في قوله تعالى:

انوار الأصول، ج 2، ص: 416

«قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَسُولًا» «1»

وقد أُيّد هذا التفسير بروايات وردت في هذا المعنى.

لكن الصحيح أنّ المراد منه أهل العلم عامّة وأنّ كلّ واحد من هذه الاحتمالات بيان لمصداق من المصاديق وتفسير للآية بالمصداق كما هو المتداول في كثير من كتب التفسير وكذا الرّوايات، وذلك باعتبار أنّ الذكر في اللغة بمعنى العلم مطلقاً ومن دون تقيّد وخصوصيّة، ويشهد عليه ملاحظة موارد استعمال هذه المادّة ومشتقّاتها في القرآن الكريم كقوله تعالى:

«لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ» فيكون المراد من كلمة «الأهل» كلّ من كان عالماً وخبيراً في موضوع من الموضوعات ومسألة من المسائل، ولا وجه لتخصيصه بمصداق دون مصداق.

وعليه يكون الاستدلال بهذه الآية في باب التقليد أولى ممّا نحن فيه.

لكن المحقّق الخراساني رحمه الله حاول الجواب عن هذا الإشكال بأنّ مثل زرارة ومحمّد بن مسلم وغيرهما من أجلّاء الرواة كانوا من أهل العلم، فيجب قبول روايتهم، وإذا وجب قبول روايتهم وجب قبول رواية من ليس من أهل العلم

بالإجماع المركّب.

والإنصاف أنّه غير تامّ، لأنّ المستفاد من الآية وجوب السؤال عن مثل زرارة وقبول روايته من حيث إنّه من أهل العلم والخبروية لا بما أنّه راوٍ وناقل للرواية حتّى يتعدّى عنه إلى سائر الرواة.

وإن شئت قلت: هو دليل على جواز رجوع الجاهل إلى العالم وإمضاء لبناء العقلاء في هذا الأمر، وأمّا الإجماع المركّب فلا إشكال في عدم حجّيته في مثل هذه المسألة.

ورابعاً: أنّ الآية وردت في اصول العقائد ولا كلام في عدم حجّية خبر الواحد فيها.

ويمكن الجواب عن هذا أيضاً بأنّ الآية مطلقة تشمل الاصول والفروع، غاية الأمر لابدّ في الاصول من إضافة قيد من الخارج وهو اعتبار حصول العلم.

فقد ظهر أنّ جميع ما اورد على الاستدلال بهذه الآية مدفوعة إلّاالإشكال الثالث، وهو أنّها واردة في حجّية قول أهل الخبرة، ولهذا استدلّ كثير من العلماء بها في باب الاجتهاد والتقليد بل هي من أهمّ أدلّة ذلك الباب.

هذا كلّه في الإستلال لحجّية خبر الواحد بالكتاب، وهو الدليل الأوّل.

الدليل الثاني: السنّة

ويتضمّن الاستدلال بروايات متواترة وردت أكثرها في الباب التاسع والباب الحادي عشر من أبواب صفات القاضي في الوسائل، إلّاأنّ مضامينها مختلفة، وهي طوائف:

الطائفة الاولى: الأخبار الآمرة بالرجوع إلى أشخاص معينين من الرواة والأصحاب أو إلى كتبهم:

منها: ما رواه شعيب العقرقوفي قال: قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام: ربّما إحتجنا أن نسأل عن الشي ء فمن نسأل؟ قال: «عليك بالأسدي يعني أبا بصير» «1».

ومنها: ما رواه يونس بن عمّار عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال له في حديث: «أمّا ما رواه زرارة عن أبي جعفر عليه السلام فلا يجوز لك أن تردّه» «2».

ومنها: ما رواه المفضّل بن عمر أنّ أبا عبداللَّه عليه السلام قال للفيض بن المختار في حديث: «فإذا

أردت حديثنا فعليك بهذا الجالس، وأومى إلى رجل من أصحابه فسألت أصحابنا عنه.

فقالوا: زرارة بن أعين» «3».

وتقريب الاستدلال بهذه الطائفة أنّها وإن لم تصرّح بحجّية خبر الثقة بنحو الكبرى الكلّية ولكن يستفاد ذلك من مجموعها بل من كلّ فرد منها لضرورة عدم خصوصيّة لأشخاصهم فلم توجب حجّية كلامهم إلّاوثاقتهم وأمانتهم على الدين والدنيا، فمن كان من غير هؤلاء وكان بصفاتهم كان خبره حجّة ومعتبراً.

الطائفة الثانية: الأخبار التي تدلّ على حجّية خبر الثقات بنحو الكبرى الكلّية من دون اختصاص بأشخاص معينين:

منها: ما جاء في مقبولة عمر بن حنظلة من قوله عليه السلام: «الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما، ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر» «4».

فيستفاد من تعبيره ب «أصدقهما» أنّ الصدق يوجب الحجّية ولذلك يكون مرجّحاً عند التعارض.

انوار الأصول، ج 2، ص: 418

ومنها: ما رواه محمّد بن مسلم عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: قلت له: ما بال أقوام يروون عن فلان وفلان عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لا يتّهمون بالكذب فيجي ء منكم خلافه؟ قال: «إنّ الحديث ينسخ كما ينسخ القرآن» «1».

ومنها: ما رواه الحسن بن الجهم عن الرضا عليه السلام قال: قلت له: تجيئنا الأحاديث عنكم مختلفة، فقال: «ما جاءك عنّا فقس على كتاب اللَّه عزّوجلّ وأحاديثنا، فإن كان يشبههما فهو منّا وإن لم يكن يشبههما فليس منّا»، قلت: يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين ولا نعلم أيّهما الحقّ، قال: «فإذا لم تعلم فموسّع عليك بأيّهما أخذت» «2».

فلا يخفى أنّ الحكم في هذه الرّوايات تعلّق بعناوين كلّية وهي: «الصادق في الخبر» في الرّواية الاولى، و «غير المتّهم بالكذب» في الرّواية الثانية، و «الثقة» في الرّواية الثالثة، فصدر الحكم

على نهج القضيّة الحقيقيّة.

ومنها: ما رواه عبدالعزيز بن المهتدي والحسن بن علي بن يقطين جميعاً عن الرضا عليه السلام:

قال: قلت: لا أكاد أصل إليك أسألك عن كلّ ما أحتاج إليه من معالم ديني، أفيونس بن عبدالرحمن ثقة آخذ عنه ما أحتاج إليه من معالم ديني؟ فقال: «نعم» «3».

فقد أمضى الإمام في هذه الرّواية ما كان مرتكزاً في ذهن الراوي من حجّية قول الثقة لأنّ الراوي سأل عن وثاقة يونس بن عبدالرحمن وعن أخذ معالم دينه منه لكونه ثقة، والإمام عليه السلام أجاب عن كلا السؤالين بقوله «نعم»، فكأنّه أمضى الصغرى والكبرى جميعاً.

ومنها: ما ورد في التوقيع الشريف الوارد على القاسم بن العلاء: «فإنّه لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فما يرويه عنّا ثقاتنا، قد عرفوا بأنّا نفاوضهم سرّنا ونحملهم إيّاه إليهم» «4».

فإنّ الحكم فيها بعدم جواز التشكيك أيضاً تعلّق بموضوع الثقة.

ومنها: ما رواه أحمد بن إسحاق عن أبي الحسن عليه السلام سألته وقلت: من اعامل؟ وعمّن آخذ؟ وقول من أقبل؟ فقال: «العمري ثقتي فما أدّى إليك عنّي فعنّي يؤدّي وما قال لك عنّي انوار الأصول، ج 2، ص: 419

فعنّي يقول، فاسمع له وأطع فإنّه الثقة المأمون» قال: وسألت أبا محمّد عليه السلام عن مثل ذلك فقال:

«العمري وابنه ثقتان فما أدّيا إليك عنّي فعنّي يؤدّيان، وما قالا لك فعنّي يقولان، فاسمع لهما وأطعهما فإنّهما الثقتان المأمونان» «1».

الإنصاف أنّ قوله عليه السلام: «فإنّه الثقة المأمون» أو قوله عليه السلام في ذيل الحديث: «فإنّهما الثقتان المأمونان» بمنزلة تعليق حرمة الخمر بقولك: «لأنّه مسكر» فيدلّ على أنّ الميزان في حجّية خبر الواحد كون المخبر ثقة.

الطائفة الثالثة: روايات اخرى ذات تعابير مختلفة تدلّ على كلّ حال على حجّية خبر الثقة:

منها:

ما رواه إسحاق بن يعقوب قال: سألت محمّد بن عثمان العمري أن يوصل لي كتاباً قد سألت فيه عن مسائل أشكلت عليّ، فورد التوقيع بخطّ مولانا صاحب الزمان عليه السلام: «أمّا ما سألت عنه أرشدك اللَّه وثبّتك- إلى أن قال-: وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة اللَّه وأمّا محمّد بن عثمان العمري فرضى اللَّه عنه وعن أبيه من قبل، فإنّه ثقتي وكتابه كتابي» «2».

فهذه الرّواية وإن استدلّ بها في باب التقليد وباب ولاية الفقيه لكن يمكن أن يستدلّ بها أيضاً في باب الحديث والأخبار بالأحاديث خصوصاً مع ملاحظة التعبير الوارد فيها ب «رواة أحاديثنا»، فإنّها في الجملة تدلّ على حجّية خبر الواحد وإن اعتبرنا فيها شرائط وخصوصيّات، ولا يخفى أنّ محلّ النزاع حجّية خبر الواحد في الجملة، كما يمكن إدراج هذه الرّواية في الطائفة الثانية لما ورد في ذيلها: «فإنّه ثقتي وكتابه كتابي».

ومنها: ما رواه أبو العبّاس الفضل بن عبدالملك قال سمعت أبا عبداللَّه عليه السلام يقول: «أحبّ الناس إليّ أحياءً وأمواتاً أربعة: يزيد بن معاوية الجبلي، وزرارة، ومحمّد بن مسلم، والأحول وهم أحبّ الناس إليّ أحياءً وأمواتاً» «3».

فإنّها تدلّ على حجّية خبر الثقة في الجملة بالدلالة الالتزاميّة كما لا يخفى.

انوار الأصول، ج 2، ص: 420

ومنها: ما رواه علي بن مهزيار قال: قرأت في كتاب لعبداللَّه بن محمّد إلى أبي الحسن عليه السلام اختلف أصحابنا في رواياتهم عن أبي عبداللَّه عليه السلام في ركعتي الفجر في السفر فروى بعضهم صلّها في المحمل وروى بعضهم لا تصلّها إلّاعلى الأرض، فوقّع عليه السلام: «موسّع عليك بأيّة عملت» «1».

هذه هي الطوائف الثلاثة من الأخبار الدالّة على حجّية خبر الواحد.

وإستشكل فيها أوّلًا: بإمكان

المنع عن كونها متواترة لأنها مع كثرتها منقولة عن عدّة كتب خاصّة لا تبلغ حدّ التواتر مع أنّ الشرط في تحقّق التواتر كونها متواترة في جميع الطبقات، والتواتر في جميعها ممنوع مع ما عرفت.

وثانياً: بأنّه لو سلّمنا كونها متواترة إلّاأنّه لا يوجد بين الأخبار خبر يكون جامعاً لعامّة الشرائط، أي دالًا على حجّية قول مطلق الثقة، لأنّ القدر المتيقّن من تلك الأخبار هو الخبر الحاكي من الإمام بلا واسطة مع كون الراوي من الفقهاء نظراء زرارة ومحمّد بن مسلم وأبي بصير، ومعلوم أنّه ليس بينها خبر واجد لجميع الشرائط حتّى شرط عدم الواسطة.

ولكن يمكن الجواب عن كلا الإشكالين: أمّا عن الأوّل: فبأنّه لو لم تكن الأخبار متواترة فلا أقلّ من وجود خبر بينها محفوف بالقرائن القطعيّة أو الاطمئنانيّة يدلّ على حجّية خبر مطلق الثقة، وهذا المقدار لا يضرّنا ولا بأس به لأنّ المهمّ هو القطع بالصدور.

وأمّا عن الثاني: فبأنّه أوّلًا: كلّ واحدة من الطوائف الثلاثة للأخبار قطعية الصدور وإن لم يكن بينها مصداق للخبر المتواتر في المصطلح، ولا إشكال في دلالة بعض هذه الطوائف على حجّية خبر الثقة مطلقاً.

ثانياً: أنّ جميع الرّوايات (باستثناء روايتين أو ثلاث روايات ممّا ورد فيها نظير مضمون:

«ما أدّيا عنّي فعنّي يؤدّيان») ظاهرة في الأعمّ من الأخبار مع الواسطة ويكون القدر المتيقّن حينئذٍ ما كانت سلسلة الرواة فيها من الفقهاء نظراء زرارة من دون فرق بين كونها مع الواسطة أو بلا واسطة، فلو ظفرنا على رواية جامعة لهذه الشرائط ويكون مفادها حجّية خبر الثقة مطلقاً يثبت المطلوب سواء كانت مع الواسطة أو بدون الواسطة.

انوار الأصول، ج 2، ص: 421

ويمكن أن تكون من هذا القبيل رواية أحمد بن إسحاق المذكورة آنفاً، لأنّ رجال

السند فيها كلّهم من أجلّاء الأصحاب الذين يعتنى بشأنهم، ولا إشكال أيضاً أنّ قوله عليه السلام: «فإنّه الثقة المأمون» وما ورد في ذيل هذا الحديث من قوله عليه السلام: «فإنّهما الثقتان المأمونان» بمنزلة الكبرى الكلّية يدلّ على حجّية خبر الثقة مطلقاً.

فقد ثبت من جميع ما ذكرنا أنّ الاستدلال على حجّية خبر الثقة بالسنّة في محلّه.

الدليل الثالث: الإجماع

وتارةً يراد به الإجماع القولي من العلماء، واخرى الإجماع العملي منهم بل من كافّة المسلمين ويمكن التعبير عنه بسيرة المسلمين أيضاً، وثالثة السيرة العقلائيّة.

أمّا الإجماع بالمعنى الأوّل فهو ممنوع لكون المسألة خلافيّة، وكذا الإجماع بالمعنى الثاني، ولو سلّمنا تحقّق صغرى الإجماع لكنّه ليس بحجّة لأنّ مدارك المسألة معلومة، فطائفة منهم تمسّكوا بالدليل العقلي، واخرى بالأدلّة النقليّة من الآيات والرّوايات.

أمّا الإجماع بمعنى السيرة العقلائيّة: فهو استقرار طريقة العقلاء طرّاً على الرجوع إلى خبر الثقة مطلقاً، وهو حجّة ما لم يردع عنه الشارع.

إن قلت: يكفي في الردع الآيات الناهيّة عن اتّباع غير العلم.

قلنا: قد مرّ جوابنا عن هذه الآيات بأنّ المقصود من الظنّ الوارد فيها الوهم والخرافة.

إن قلت: إنّ استقرار سيرة العقلاء على العمل بخبر الثقة إنّما هو من جهة حصول الوثوق والاطمئنان منه نوعاً وإلّا فلا خصوصيّة لخبر الثقة ولا لغيره أصلًا فعملهم بخبر الثقة خصوصاً في الامور المهمّة إنّما يكون فيما إذا أفاد الوثوق والاطمئنان لا بما هو هو، فلا يثبت بها حجّية الظنّ مطلقاً ولو لم يحصل إلى حدّ الوثوق، ولو سلّمنا شمولها لمطلق الظنّ إلّاأنّ دائرتها تختصّ بالأخبار بلا واسطة، ولو فرضنا شمولها للأخبار مع الواسطة أيضاً في زماننا هذا، إلّاأنّ رجوعها إلى عصر الأئمّة المعصومين عليهم السلام غير ثابت.

قلنا: لو راجعنا سيرة العقلاء في امورهم العامّة غير

الشخصية كتقسيم ضريبة ماليّة وتوزيعها بين الفقراء ونحو ذلك ممّا يصنع به في دائرة واسعة لعلمنا أنّهم يكتفون في تعيين انوار الأصول، ج 2، ص: 422

الفقراء وتشخيص الموضوعات والمصاديق بأخبار الثقات مطلقاً ولو لم يحصل الاطمئنان المقارب للعلم، بل ولو كان الخبر مع الواسطة فيكتفي مثلًا بوثيقة لتعيين الفقير الفلاني التي ارسلت من جانب شخص موثّق، كما أنّه المتعارف في الحوالات البنكيّة فإنّها تقبل من حامليها بمجرّد كونهم موثّقين مع أنّ احتمال مجعوليتها موجود، بل على هذا يدور رحى الحياة الاعتياديّة اليوميّة، وعليه أيضاً مدار المراجعات إلى التاريخ والأخبار الماضية فيكتفي فيها بتأليفات الموثّقين والكتب المعتبرة الموجودة من دون الإتّكاء على حصول يقين أو اطمئنان وإلّا لا طريق لنا للوصول إلى أخبار الماضين والاعتبار منها أصلًا.

وإن شئت فاختبر نفسك فيما إذا أردت تقسيم غلّة الأوقاف أو سهم الإمام وشبهها في مصارفها لا سيّما إذا كانت كثيرة فإنّك سوف تعرف أنّه لا مناصّ لك من قبول خبر الثقات في هذه الامور ولو لم يحصل العلم أو الاطمئنان.

وأمّا وجود هذه السيرة في عصر الأئمّة عليهم السلام فيشهد له ملاحظة الأسئلة الواردة من الرواة وتقريرات الأئمّة لهم التي مرّت جملة منها ضمن نقل الأخبار الدالّة على حجّية خبر الثقة.

ثمّ إنّ مخالفة أمثال السيّد المرتضى رحمه الله لا تضرّنا في المقام، أي ليست مضرّة بالإجماع المصطلح وذلك لجهتين:

الاولى: لعلّ مخالفتهم كانت من ناحية الضغط الوارد من جانب المخالفين واعتراضهم بأنّه لو كان خبر الواحد حجّة عندكم فكيف لا تعملون بأخبار الآحاد الواردة من طرقنا مع عدم إمكان جرح رواتهم من جانب هؤلاء؟

الثانية: أنّه يمكن حمل مخالفتهم بالنسبة للأخبار غير نقيّة السند المرويّة من غير الثقات من أصحاب الأئمّة أو في

الكتب غير المعتمدة، لأنّه لا شكّ في أنّهم كانوا يعملون بالأخبار الموجودة في الكتب المعتبرة للشيعة ويستندون إليها في فتاويهم، نعم كان وجه عملهم بها اعتقادهم بأنّها محفوفة بقرائن قطعية أو اطمئنانيّة وهي ممنوعة عندنا فهم مشتركون معنا في أصل حجّية أخبار الثقات الموجودة في الكتب المعتبرة المعتمدة عليها للشيعة (التي هي محلّ الكلام في ما نحن فيه) إنّما الاختلاف في وجه الحجّية فمخالفتهم ليست مضرّة بثبوت الإجماع على العمل بها.

ثمّ إنّ المهمّ في الجواب عن الآيات الناهيّة التي قد يتوهّم رادعيتها للسيرة العقلائيّة هو ما

انوار الأصول، ج 2، ص: 423

مرّ من أنّ المراد من الظنّ الوارد فيها هو الوهم والخرافة التي ليست مبنية على أساس برهاني متين.

وأجاب عنه المحقّق الخراساني رحمه الله بوجوه كلّها غير تامّة:

أحدها: أنّها واردة إرشاداً إلى عدم كفاية الظنّ في اصول الدين.

وقد مرّ سابقاً أنّ هذا الجواب صحيح بالنسبة إلى بعض الآيات لا جميعها.

ثانيها: أنّها منصرفة عن الظنّ الذي قام الدليل على حجّيته.

وفيه: أنّه مجرّد دعوى بلا شاهد.

ثالثها: أنّ رادعيّة الآيات عن سيرة العقلاء دوريّة لأنّ رادعيّة الآيات بعمومها متوقّفة على حجّية هذا العموم، وحجّيته موقوفة على عدم كون السيرة مخصّصة له إذ لو كانت مخصّصة له لم يبق لها عموم حتّى تكون بعمومها حجّة رادعة عن السيرة، وعدم كون السيرة مخصّصة لعموم الآيات أيضاً موقوف على عموميتها فكون الآيات رادعة عن السيرة متوقّف على عدم كون السيرة مخصّصة، بينما عدم كون السيرة مخصّصة لها أيضاً متوقّف على كون الآيات رادعة عنها، وهو دور محال.

أقول: العجب من هذا البيان لأنّ القضيّة على العكس فإنّ المقتضى لحجّية العمومات والإطلاقات خصوصاً في المخصّص المنفصل موجود والمانع عنها يحتاج إلى دليل بخلاف السيرة لأنّها

ليست حجّة في حدّ ذاتها بل يتحقّق المقتضي لحجّيتها بإمضاء الشارع وعدم ردعها.

وإن شئت قلت: السيرة العقلائيّة في حدّ ذاتها ناقصة من حيث الحجّية لا تتمّ إلّابإمضاء الشارع ولكن ظهور العام حجّة تامّة إلّاأن يمنع عنه مانع، فما دام لم يثبت المانع نأخذ بهذا الظهور، وأمّا السيرة فليست كذلك، فإنّها إذا لم يثبت إمضاء الشارع بقيت غير حجّة، فحجّية العمومات ليست متوقّفة على إثبات عدم كون السيرة مخصّصة، ولكن حجّية السيرة تتوقّف على إثبات إمضاء الشارع وعدم كون الآيات رادعة.

الدليل الرابع: العقل
اشارة

وتقريره من وجوه:

الوجه الأوّل: العلم الإجمالي بصدور جملة كثيرة من الأخبار الموجودة في الكتب المعتبرة المشتملة على الأحكام الإلزاميّة الوافية بمعظم الفقه بحيث لو علم تفصيلًا ذاك المقدار لأنحلّ علمنا الإجمالي بثبوت التكاليف بين الرّوايات وسائر الأمارات إلى العلم التفصيلي بالتكاليف في مضامين الأخبار الصادرة المعتبرة والشكّ البدوي في ثبوت التكليف في مورد سائر الأمارات غير المعتبرة، ولازم ذلك وجوب العمل على وفق جميع الأخبار المثبتة وجواز العمل على طبق النافيّة منها فيما إذا لم يكن في المسألة أصل مثبت للتكليف من قاعدة الاشتغال أو الاستصحاب.

ويرد على هذا الوجه:

أوّلًا: أنّ مقتضى هذا الوجه هو الأخذ بالأخبار احتياطاً لا حجّيتها بالخصوص وأنّ العلم الإجمالي يقتضي هذا المقدار من العمل، ومن المعلوم أنّ الأخذ من باب الاحتياط يختلف عن الأخذ بها من باب الحجّية فإنّ الحجّة تخصّص وتقيّد وتقدّم على معارضها مع الرجحان وتوجب جواز إسناد الحكم إلى الشارع وجواز قصد الورود، بخلاف الأخذ بها احتياطاً فإنّه لا يترتّب عليه هذه الآثار.

وثانياً: أنّه يقتضي حجّية أخبار الثقات وغير الثقات جميعاً مع أنّ المدّعى هو حجّية خبر الثقة فقط.

ولكن يمكن الجواب عن هذا الإشكال بأنّ هنا دائرتين من

العلم الإجمالي الكبير والصغير، وإذا ظفرنا بالمقدار المعلوم بالإجمال في الدائرة الصغيرة لأنحلّ العلم الإجمالي من دائرته الكبيرة إلى الدائرة الصغيرة، نظير ما إذا علمنا إجمالًا بوجود شاة محرّمة في خصوص السود من الغنم، وعلمنا أيضاً بوجود شاة محرّمة في مجموع القطيع من السود والبيض جميعاً، فإذا عزلنا الشاة المحرّمة من السود تنحلّ دائرة العلم الإجمالي من مجموع القطيع إلى مقدار السود منها.

وقد يتوهّم انحلال هذا العلم الإجمالي الكبير بالعلم الإجمالي الصغير، أي بالظفر على القدر المتيقّن والمعلوم بالإجمال في أخبار الثقات.

انوار الأصول، ج 2، ص: 425

وأجاب عنه شيخنا الأعظم الأنصاري رحمه الله بدعوى أنّه لو عزلنا بمقدار المعلوم بالإجمال من أطراف الصغير، أي الأخبار الموجودة في الكتب المعتبرة، وضممنا الباقي إلى باقي الأطراف من العلم الإجمالي الكبير (أي سائر الأمارات الظنّية) لكان العلم الإجمالي باقياً، وهذا دليل على عدم انحلاله.

ولكن شيخنا العلّامة الحائري رحمه الله في الدرر قال: بعدم صحّة هذه الدعوى (دعوى الشيخ رحمه الله) واعتبر لعدم الانحلال المذكور وجود علم إجمالي آخر بالنسبة إلى سائر الأمارات وإليك نصّ كلامه: «ومن المعلوم عدم صحّة هذه الدعوى إلّابعد العلم بالتكاليف زائدة على المقدار المعلوم في الأخبار الصادرة إذ لولا ذلك لما حصل العلم بعد عزل طائفة من الأخبار لإمكان كون المعلوم بتمامه في تلك الطائفة التي عزلناها ... إلى أن قال: نعم يمكن منع العلم زائداً على ما حصل لنا من الأخبار الصادرة» «1».

أقول: الإنصاف صحّة دعوى الشيخ رحمه الله في بيان ما هو المعيار في تشخيص ما هو من أطراف العلم الإجمالي والمعرفة بعدم انحلاله، إذ لا حاجة إلى ملاحظة سائر الأمارات مستقلًا وعلى حدّها بل يمكن أن لا يحصل العلم الإجمالي بملاحظتها مستقلًا

ولكنّه يحصل بعد الضمّ من باب تراكم الظنون وعدم كونه من قبيل ضمّ العدم إلى العدم.

ويؤيّد هذا ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله في المقام وحاصله: إنّ هيهنا علوم إجماليّة ثلاثه:

العلم الإجمالي الأكبر، والعلم الإجمالي الكبير، والعلم الإجمالي الصغير، والمراد بالعلم الإجمالي الأكبر ما كان دائرة احتمال انطباق المعلوم بالإجمال مطلق مظنون التكليف الإلزامي ومشكوكه وموهومه سواء كان منشأ هذه الاحتمالات هي الأخبار الموجودة في الكتب المعتبرة أو سائر الأمارات الظنّية أو شي ء آخر، والمراد بالعلم الإجمالي الكبير هو ما كان أطرافه خصوص الأمارات الظنّية، والمراد بالعلم الإجمالي الصغير هو خصوص ما كان أطرافه موجودة في الكتب المعتبرة، والصحيح هو أنّ الإجمالي الأكبر ينحلّ بالكبير لأنّه لو عزلنا بمقدار المعلوم بالإجمال عن أطراف العلم الإجمالي الكبير وضممنا الباقي إلى باقي أطراف العلم الإجمالي الأكبر الذي أطرافه عبارة عن جميع ما هو مظنون الحرمة والوجوب انوار الأصول، ج 2، ص: 426

ومشكوكهما وموهومهما سواء كان من الأخبار أو من سائر الأمارات الظنّية أو من أي سبب آخر لا يبقى علم إجمالي آخر في البين وينعدم، وهذا علامة انحلال العلم الإجمالي الأكبر بالكبير، وأمّا الكبير فلا ينحلّ بالصغير، لأنّه لو عزلنا بمقدار المعلوم بالإجمال من أطراف العلم الإجمالي الصغير- أي الأخبار الموجودة في الكتب المعتبرة- وضممنا الباقي إلى باقي الأطراف من العلم الإجمالي الكبير، أي سائر الأمارات الظنّية، لكان العلم الإجمالي باقياً، وهذا علامة عدم انحلاله «1».

الوجه الثاني: وهو ما حكي عن صاحب الوافية من أنّه لا شكّ في تكليفنا بالأحكام الشرعيّة وخصوصاً الواجبات الضروريّة مثل الصّلاة والصّوم والحجّ والزّكاة وغير ذلك من الضروريات، ولا شكّ أيضاً في بقاء التكليف بهذه الامور إلى قيام يوم القيامة، ومن المعلوم أنّ

أجزاء هذه الامور وشرائطها وموانعها لا تثبت إلّابالخبر الواحد الموجود في الكتب، ولو لم يكن حجّة وجاز ترك العمل به لخرجت هذه الامور عن حقائقها وما كنّا نعرف أنّ هذه الامور ما هي؟ وهذا ينافي كونها ضروريّة وبقاء التكليف بها إلى يوم القيامة.

أقول: إنّ كلامه هذا مشتمل على مقدّمتين: الاولى: كون سلسلة من العبادات واجبة بضرورة من الدين إلى يوم القيامة، الثانية: أنّ لها أجزاء وشرائط مبثوثة في كتب الأخبار.

ويرد عليه:

أوّلًا: أنّه لا فرق بينه وبين الوجه السابق إلّاأنّ دائرته أضيق منه مع أنّه لا دليل على هذا التضييق لأنّا نعلم بدخول غير العبادات أيضاً في أطراف العلم الإجمالي.

وإن شئت قلت: لازم كلامه انحصار حجّية خبر الواحد بالعبادات وعدم حجّيته في مثل المعاملات والحدود والديّات، وهو كما ترى.

وثانياً: ما مرّ في الجواب عن الوجه الأوّل من أنّ هذا الدليل لا يثبت إلّالزوم الأخذ بخبر الواحد من باب الإحتياط لا الحجّية بالمعنى الذي يكون مخصّصاً للعمومات ومقيّداً للمطلقات والذي لأجله يكون الإسناد إلى اللَّه تعالى جائزاً.

وثالثاً: عدم شمولها للأخبار النافيّة واختصاصها بالمثبتة.

انوار الأصول، ج 2، ص: 427

ورابعاً: حجّية أخبار غير الثقات وعدم اعتبار الوثاقة مع أنّ كلّ من قال بحجّية خبر الواحد اعتبر، قيوداً مثل قيد الوثاقة أو كون الخبر في الكتب المعتبرة، اللهمّ إلّاأن يقال بانحلال العلم الإجمالي بخصوص أخبار الثقات أو ما في الكتب المعتبرة.

وخامساً: ما مرّ أيضاً في الوجه الأوّل من أنّ دائرة العلم الإجمالي أوسع من هذا المقدار لكون جميع الأمارات الظنّية من الشهرات والإجماعات المنقولة داخلة فيها.

الوجه الثالث: ما ذكره المحقّق النحرير صاحب الحاشية (الشيخ محمّد تقي رحمه الله أخو صاحب الفصول) في حاشيته على المعالم وهو أنّ وجوب العمل بالكتاب والسنّة

ثابت بالإجماع والضرورة والأخبار المتواترة، ولا شكّ في بقاء هذا التكليف بالنسبة إلينا أيضاً بنفس الأدلّة المذكورة، وحينئذٍ فإن أمكن الرجوع إليهما على نحو يحصل منهما العلم بالحكم أو الظنّ الخاصّ به فهو، وإلّا فالمتّبع هو الرجوع إليهما على وجه يحصل الظنّ بالطريق أو بالحكم، وإذاً يجب العمل بالروايات التي يظنّ بصدورها للظنّ بوجود السنّة فيها «1».

والفرق بين هذا الوجه والوجهين السابقين أنّ متعلّق العلم الإجمالي في هذا الوجه هو ما ورد في الكتاب والسنّة، وفي الوجهين السابقين هو الأحكام الواقعيّة.

والصحيح في الجواب عنه أن يقال: إن كان المراد من السنّة هذه الأخبار الحاكيّة لقول المعصوم عليه السلام أو فعله أو تقريره الموجودة في كتب الحديث بما هي هي، أي أنّ لهذه الأخبار موضوعيّة فوجوب الرجوع إليها بهذا الوجه أوّل الكلام، وإن كان المراد أنّها بما هي طريق إلى أحكام اللَّه الواقعيّة وبما أنّا نعلم بصدور كثير منها فإن أمكن الاحتياط والإتيان بجميع الأخبار فيرجع إلى الوجه الأوّل ويكون الجواب هو الجواب، وإن لم يمكن الاحتياط فيرجع إلى دليل الانسداد الآتي.

نتيجة البحث في حجّية خبر الواحد:

قد تلخّص من جميع ما ذكرنا من أدلّة حجّية خبر الواحد أنّ الأدلّة التامّة الدلالة أو المقبولة عندنا أربعة:

انوار الأصول، ج 2، ص: 428

أحدها: آية النبأ حيث تدلّ على حجّية خبر العادل من باب مفهوم الوصف بل تدلّ على حجّية خبر الثقة بقرينة التعليل الوارد فيها.

ثانيها: آية النفر، وهي منصرفة إلى حجّة خبر الثقة.

ثالثها: الأخبار التي إن لم نقل بتواترها فلا أقلّ من كونها محفوفة بالقرائن القطعيّة، وهي تدلّ على حجّية مطلق خبر الثقة أيضاً.

رابعها: (وهو العمدة) بناء العقلاء، فإنّه قائم على حجّية الأخبار الموثوق بها وإن لم يكن المخبر ثقة، أي الملاك عندهم هو

الوثوق بالمخبر به لا المخبر، وهذا الوثوق يثبت تارةً من طريق وثاقة المخبر، واخرى من طريق وثاقة الكتب، وثالثة يحصل من عمل المشهور (الشهرة الفتوائيّة أو الروائيّة)، ورابعة من طريق علوّ المضامين كما في الصحيفة السجّاديّة ونهج البلاغة، وخامسة من طريق أنّ الخبر يكون من الأخبار التي لا داعي فيها على الكذب.

ثمّ إنّه هل الملاك عندهم هو الوثوق الشخصي أو النوعي؟

لا إشكال في أنّ الميزان في الاحتجاجات والمسائل الاجتماعيّة هو الوثوق النوعي، وأمّا المسائل الشخصية فيكون الملاك فيها هو الوثوق الشخصي.

5- حجّية مطلق الظن
اشارة

واستدلّ له بوجوه:

الوجه الأوّل: وجوب دفع الضرر المظنون عقلا

ما يتشكّل من صغرى وكبرى، أمّا الصغرى فهي أنّ في مخالفة المجتهد لما ظنّه من الحكم الوجوبي أو التحريمي مظنّة للضرر، وأمّا الكبرى فهي أنّ دفع الضرر المظنون لازم عقلًا.

والدليل على الصغرى أنّ الظنّ بالوجوب ظنّ باستحقاق العقاب الاخروي على الترك كما أنّ ظنّ الحرمة ظنّ باستحقاق العقاب الاخروي على الفعل، أو لأنّ الظنّ بالوجوب أو الحرمة ظنّ بوجود المفسدة (الضرر الدنيوي) في الترك أو الفعل بناءً على قول العدليّة بتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد.

وأمّا الدليل على الكبرى فليس من باب الحسن أو القبح العقلي بل باب أنّ طبيعة الإنسان أن اجتناب الضرر وجلب إلى المنفعة.

والإشكالات متوجّهة غالباً إلى كبرى هذا الوجه، والظاهر قبولهم للصغرى مع أنّ كلّ واحد منهما غير تامّ.

أمّا الصغرى فبالنسبة إلى الضرر الاخروي نقول: نحن نعلم بعدمه لقاعدة قبح العقاب بلا بيان، لأنّ العقاب الاخروي يتوقّف على البيان، والقول بأنّ البيان هو نفس قاعدة دفع الضرر يستلزم الدور المحال لأنّ هذه القاعدة متوقّفة على وجود ضرر في البيان ووجود الضرر متفرّع على البيان، فالعقاب يتوقّف على جريان قاعدة دفع الضرر، وهي متوقّفة على وجود البيان في الرتبة السابقة بينما وجود البيان أيضاً متوقّف على جريان القاعدة.

وبالنسبة إلى الضرر الدنيوي فاجيب عنها بوجهين غير تامّين:

أحدهما: نفي الملازمة بين المصلحة والمفسدة الدنيويتين وبين النفع والضرر الدنيويين، فليس كلّ مصلحة ملازمة مع المنفعة وكلّ مفسدة ملازمة مع الضرر بل كم من شي ء ذي انوار الأصول، ج 2، ص: 430

المفسدة كأكل الربا ليس فيه ضرر دنيوي بل هو ذو منفعة، وكم من شي ء ذو المصلحة كالصدقة ليس فيها نفع دنيوي.

ثانيهما: أنّه قد تكون المصلحة أو المفسدة في نفس إنشاء الأمر أو النهي لا في

متعلّقهما، والملازمة بين الظنّ بالحكم أو الظنّ بالمفسدة أو فوات المصلحة مبنية على حصر المصالح والمفاسد في متعلّقات التكاليف لأنه إذا كانتا في نفس الجعل فهما حاصلتان بنفس الجعل ولا ربط لهما بمخالفة العبد وموافقته للحكم المظنون.

أقول: كلا الوجهين غير تامّ، أمّا الوجه الأوّل: فلأنّه لا إشكال في وجود الملازمة العاديّة بين المصلحة والمفسدة وبين النفع والضرر أمّا عاجلًا أو آجلًا وفي طول الزمان، ومن تأمّل في آثار الربا كيف يمكن أن يشكّ في الأضرار والخسارات الناشئة منها في المجتمع، كما أنّ من تأمّل في تأثير الإنفاق في حفظ المجتمع عن البغضاء والفساد والعدوان على الأموال والأنفس لا يشكّ في ترتّب هذه الامور على ترك الإنفاق وشبهها، وقد قال اللَّه تبارك وتعالى: «وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ» «1»

وكذلك في سائر الواجبات والمحرّمات، ومن الواضح أنّ منافع الفرد لا تنفكّ عن منافع المجتمع، وإن شئت مزيد توضيح لذلك فراجع ما كتبنا في تنبيهات قاعدة لا ضرر من القواعد الفقهيّة.

وأمّا الوجه الثاني: فلأنّه وإن كان ممكناً عقلًا وفي مقام الثبوت ولكن قد لا يمكن الحصول على مصداق واحد ممّا تكون المصلحة أو المفسدة في نفس جعله إثباتاً في أحكام الشرع، وعليه يبقى الظنّ بوجود المفسدة أو تفويت المصلحة في متعلّق الحكم على حاله.

فظهر أنّه بالنسبة إلى الضرر الدنيوي تكون الصغرى تامّة فلا بدّ من البحث في الكبرى فنقول:

يمكن إنكار الكبرى في الضرر الدنيوي في الجملة في صورة العلم بالضرر فضلًا عن صورة الظنّ والاحتمال، فلا يحكم العقل بالقبح في مورد الضرر الدنيوي مطلقاً بل إنّما يحكم به فيما إذا كان الضرر كثيراً هامّاً كالإنتحار وقطع عضو من الأعضاء، وأمّا في المضارّ الجزئيّة كالضرر

الموجود في التدخين وفي الإكثار من الأكل فليس حكم العقل بالقبح ثابتاً فيها، نعم بالنسبة

انوار الأصول، ج 2، ص: 431

إلى الضرر الاخروي يحكم العقل به فيما إذا كان محتملًا فضلًا عمّا إذا كان مظنوناً أو مقطوعاً، ولذلك يجب الاحتياط في الشبهات الحكمية قبل الفحص مع أنّ الضرر وهو العقاب الاخروي يكون فيها محتملًا.

فظهر ممّا ذكرنا أنّه بالنسبة إلى الضرر الاخروي فالكبرى تامّة دون الصغرى، وأمّا الضرر الدنيوي فتكون القضيّة فيه بالعكس، أي الصغرى تامّة دون الكبرى.

هذا كلّه في الدليل الأوّل لحجّية الظنّ.

الوجه الثاني: لزوم ترجيح المرجوح على الراحج

إنّه لو لم يؤخذ بالظنّ لزم ترجيح المرجوح على الراجح وهو قبيح.

واجيب عنه: بأنّ هذه الملازمة تتحقّق فيما إذا لم يمكن العمل بطريق ثالث غير الظنّ وأخويه مع أنّه يتصوّر هنا طريق ثالث وهو العمل بالاصول العمليّة أو الإحتياط.

وإن شئت قلت: أنّ هذا مقدّمة من مقدّمات الانسداد ولا يوجب لزوم العمل بالظنّ إلّا بعد تماميّة مقدّمات الانسداد، ومعها لا يكون هذا الوجه دليلًا مستقلًا.

هذا- والمحقّق الحائري رحمه الله إستشكل أيضاً في كبرى استحالة ترجيح المرجوح على الراجح في درر الفوائد ببيان: «أنّه إن أراد من الراجح ما هو راجح بملاحظة أغراض الفاعل ويقابله المرجوح كذلك فترجيح المرجوح بهذا المعنى غير ممكن (لا أنّه قبيح) لأنّه راجع إلى نقض الغرض، ومجرّد الأخذ بالطرف الموهوم ليس ترجيحاً بهذا المعنى (حتّى يقال بإمكان وقوعه تكويناً) إذ ما لم يترجّح بملاحظة اغراضه لم يمل إليه في خلاف جهة غرضه، وإن لم يرد من الراجح ما هو راجح بملاحظة أغراض الفاعل بل أراد من الراجح الظنّ (أي الراجح بملاحظة أغراض الشارع) فترجيح الموهوم عليه وإن كان قبيحاً لكن قبحه موقوف على تماميّة سائر مقدّمات الانسداد ومعها ليس هذا الوجه

وجهاً مستقلًا» «1».

أقول: الصحيح هو عدم استحالة ترجيح المرجوح على الراجح وكذلك الترجيح بلا

انوار الأصول، ج 2، ص: 432

مرجّح في الفاعل المختار (كما هو محلّ البحث في المقام) لأنّ الاستحالة تنافي الاختيار وتوجب سلب الإرادة، وإرادة الإنسان ليست بمنزلة كفّتي الميزان حتّى يحتاج تقديم أحدهما على الآخر إلى سبب ومرجّح من الخارج، فالجائع الذي وضع بين يديه إنائين من الطعام لا يكون لأحدهما ترجيح على الآخر يتوقف عن الأكل حتّى يموت بل يختار أحدهما ويأكل منه، وكذلك في الإنسان الذي يفرّ من سبع حتّى يصل إلى منشعب طريقين لا ترجيح لأحدهما على الآخر فهل يحكم وجدانك بأنّه يقف ولا يختار أحد الطريقين حتّى يأكله السبع؟ كلّا.

نعم لا إشكال في قبح الترجيح بلا مرجّح في غير موارد الضرورة كالأمثلة المذكورة آنفاً.

الوجه الثالث: رأي السيد المجاهد رحمه الله

ما حكي عن السيّد المجاهد رحمه الله من أنّنا نعلم بوجود واجبات ومحرّمات كثيرة بين المشتبهات، ومقتضى ذلك وجوب الإحتياط بالإتيان بكلّ ما يحتمل الوجوب ولو موهوماً وترك كلّ ما يحتمل الحرمة كذلك، لكن لمّا كان هذا الاحتياط موجباً للعسر والحرج فمقتضى الجمع بين قاعدتي الاحتياط والحرج هو العمل بالاحتياط في المظنونات وطرحه في المشكوكات والموهومات، لأنّ الجمع على غير هذا الوجه بإخراج بعض المظنونات وإدخال بعض المشكوكات والموهومات باطل إجماعاً «1».

وأجاب عنه كلّ من تعرّض لهذا الوجه بأنّ هذا متضمّن لبعض مقدّمات الانسداد، وهي المقدّمة الاولى (العلم الإجمالي بوجود واجبات ومحرّمات في الشريعة) والمقدّمة الرابعة (عدم وجوب الاحتياط التامّ) والمقدّمة الخامسة (وهي لزوم ترجيح المظنونات على المشكوكات والموهومات في مقام رفع العسر) فيحتاج في تماميته إلى سائر المقدّمات وليس وجهاً آخر في قبال دليل الانسداد.

الوجه الرابع: دليل الانسداد
اشارة

الدليل الرابع: الانسداد، وهو مركّب من مقدّمات:

الاولى: العلم الإجمالي بوجود تكاليف كثيرة فعليه في الشريعة في دائرة المشتبهات ومحتملات التكاليف الإلزاميّة.

الثانية: انسداد باب العلم والعلمي إلى معظم الأحكام.

الثالثة: عدم جواز إهمال التكاليف والرجوع إلى أصالة البراءة.

الرابعة: عدم جواز الرجوع إلى الوظائف المقرّرة للجاهل، وهي الرجوع في كلّ مسألة إلى الأصل الجاري فيها من البراءة والاستصحاب والتخيير والاحتياط، أو التقليد عن المجتهد القائل بالانفتاح أو الرجوع إلى الاحتياط في جميع الوقائع المشتبهة.

الخامسة: أنّ ترجيح المرجوح على الراجح، قبيح وهو أن يأخذ بالمشكوكات والموهومات ويترك المظنونات.

فإذا تمّت هذه المقدّمات وجب العمل على مطلق الظنّ بالحكم الإلزامي ولزوم الأخذ به وترك العمل بالمشكوك والموهوم وهو المطلوب في المقام.

لكن قد شيخنا الأعظم الأنصاري رحمه الله ترك المقدّمة الاولى واعتذر له المحقّق النائيني رحمه الله بأنّ عدّ هذه المقدّمة من جملة مدارك المقدّمة الثالثة

(أعني عدم جواز إهمال الوقائع والرجوع إلى أصالة العدم) أولى من عدّها مقدّمة مستقلّة وفي عرض سائر المقدّمات «1».

أقول: الصحيح هو إدغام المقدّمات الثلاثة الأوّل في مقدّمة واحدة، لأنّ المقدّمة الاولى- أي وجود العلم الإجمالي بتكاليف كثيرة- متوقّفة على عدم انحلال هذا العلم الإجمالي، وعدم الانحلال يحتاج إلى انسداد باب العلم والعلمي، وهو المقدّمة الثانية، وهكذا بالنسبة إلى المقدّمة الثالثة، لأنّ (كما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله) وجود العلم الإجمالي في المقدّمة الاولى يتوقّف على عدم جواز الإهمال في المقدّمة الثالثة، فالأولى إدغام هذه الثلاثة في مقدّمة واحدة بأن يقال: إنّ المقدّمة الاولى عبارة عن وجود علم إجمالي بتكاليف كثيرة لا ينحلّ إلى العلم والعلمي التفصيليين ولا يجوز إهماله.

انوار الأصول، ج 2، ص: 434

إذا عرفت هذا فلا بدّ من البحث عن صحّة كلّ واحدة من المقدّمات وعدمها فنقول: أمّا المقدّمة الاولى: فأورد عليها المحقّق الخراساني رحمه الله بحقّ بأنّ أصل العلم الإجمالي بوجود تكاليف كثيرة وإن كان بديهياً إلّاأنّه ينحلّ إلى دائرة صغيرة وهي الأخبار الموجودة في الكتب المعتبرة لأنّ المقدار المعلوم في العلم الإجمالي الكبير موجود فيها، ومعه لا موجب للاحتياط إلّا في نفس الرّوايات.

وأمّا المقدّمة الثانية: أي انسداد باب العلم والعلمي إلى معظم الأحكام فاجيب عنه بأنّه وإن كان معلوماً بالنسبة إلى انسداد باب العلم إلّاأنّه بالنسبة إلى انسداد باب العلمي إلى معظم الأحكام غير ثابت لما تقدّم من نهوض الأدلّة على حجّية خبر يوثق بصدوره ولو لم يكن الراوي عدلًا بل ثقة، ومثل هذا الخبر كثير وافٍ بحمد اللَّه بمعظم الفقه.

وأمّا المقدّمة الثالثة: أي عدم جواز الإهمال فقد ذكر لإثباتها ثلاثة وجوه:

أحدها: الإجماع على عدم جواز الإهمال، إن قلت: الإجماع هو اتّفاق الكلّ

مع أنّ أكثر العلماء يقولون بانفتاح باب العلم أو العلمي.

قلنا: المراد من الإجماع هو الإجماع التقديري لا التحقيقي، والمراد بالإجماع التقديري هو أنّه لو فرضنا انسداد باب العلم والعلمي عند الأكثر لما خالف أحد منهم في عدم جواز الإهمال.

ثانيهما: حكم العقل بتنجّز العلم الإجمالي ووجوب الاحتياط في مورده.

ثالثها: لزوم الخروج عن الدين لأنّ إهمال معظم الأحكام مستلزم له ومن المعلوم أنّ الشارع راغب عنه.

أقول: التامّ من هذه الوجوه الثلاثة هو الأخيران، أي تنجّز العلم الإجمالي واستلزام الخروج عن الدين، وأمّا الوجه الأوّل أي الإجماع فضعفه واضح لأنّ الإجماع هنا مدركي.

إن قلت: (بالنسبة إلى الوجه الثاني وهو تنجّز العلم الإجمالي)، سيأتي في محلّه أنّ العلم الإجمالي ينحلّ بحصول الاضطرار بالنسبة إلى بعض أطرافه، وبما أن الاحتياط في جميع الوقائع المشتبهة مخلّ بالنظام أو سبب للمشقّة المجوّزة للاقتحام في بعض الأطراف، فيكون المقام من موارد الاضطرار إلى بعض الأطراف فلا يكون العلم الإجمالي منجزاً فيه.

قلنا: الصحيح في الجواب أنّ الاضطرار إنّما يوجب الانحلال فيما إذا كان المضطرّ إليه بمقدار

انوار الأصول، ج 2، ص: 435

المعلوم بالإجمال، والمقام ليس من هذا القبيل قطعاً.

ومعه لا تصل النوبة إلى ما أجاب به المحقّق الخراساني رحمه الله وحاصله: أنّ العلم الإجمالي في خصوص المقام لا ينحلّ بالاضطرار إلى بعض أطرافه لوجود الدليل الخاصّ على وجوب الاحتياط، وتنجّز العلم الإجمالي أي الاحتياط هنا شرعي، وقد عرفت آنفاً أنّ إهمال معظم الأحكام يوجب الخروج عن الدين، وهو دليل عقلي لا شرعي.

أمّا المقدّمة الرابعة: وهي عدم جواز الرجوع إلى الوظائف المقرّرة للجاهل (وهي ثلاثة:

الرجوع إلى الاحتياط التامّ والرجوع إلى الاصول العمليّة الأربعة والتقليد عن المجتهد الانفتاحي):

امّا الطرق الأول: الرجوع إلى الاحتياط التام

فاستدلّ لها بالنسبة إلى عدم وجوب الاحتياط التامّ بوجهين: أحدهما:

لزوم اختلال النظام، ثانيهما: قاعدة نفي الحرج فإنّ أدلّة نفي العسر والحرج حاكمة على قاعدة الاحتياط.

امّا الوجه الأول: لكن لزوم اختلال النظام عندنا غير ثابت وإن تلقّوه بالقبول، والظاهر أنّه وقع الخلط بين الشبهات الموضوعيّة والشبهات الحكميّة، وما يوجب الاختلال في النظام إنّما هو الاحتياط التامّ في الشبهات الموضوعيّة، وأمّا الشبهات الحكميّة (التي هي محلّ البحث في المقام) فحيث إنّ مواردها محدودة معدودة بالنسبة إلى الشبهات الموضوعيّة فلا يوجب الاحتياط التامّ فيها اختلال النظام، ويشهد عليه وعلى إمكان الاحتياط عملًا في الخارج تصريح كثير منهم في مباحث الاجتهاد والتقليد على جواز الاحتياط التامّ للمكلّف من دون تقليد أو اجتهاد.

وأمّا الوجه الثاني: أي قاعدة نفي الحرج، فيرد عليه: أنّ المرفوع في أدلّتها هو العسر الناشى ء من نفس جعل الشارع وحكمه، أي المنفي هو نفس الحكم الذي ينشأ منه الحرج مع أنّ العسر في ما نحن فيه ناشٍ من الاشتباه الخارجي وحكم العقل.

وقد وقعوا في الجواب عن هذا في حيص وبيص، والأولى في مقام الدفع أن يقال: إنّ الحرج في المقام ينشأ على كلّ حال من ناحية التكليف الشرعي إذ لولاه لما حكم العقل بوجوب الاحتياط والجمع بين المحتملات، كي يلزم منه العسر والحرج.

هذا- مضافاً إلى ما مرّت الإشارة إليه من أنّ الضرورات تتقدّر بقدرها فالعسر يوجب انوار الأصول، ج 2، ص: 436

عدم الاحتياط بقدره لا مطلقاً.

فتلخّص أنّ الدليل على نفي وجوب الاحتياط هو قاعدة نفي الحرج ولكنّها لا تقتضي ترك الاحتياط إلّافي الجملة.

وأمّا الطريق الثاني: الرجوع إلى الاصول العمليّة الأربعة

فقد ذهب المحقّق الخراساني رحمه الله إلى أنّ العلم الإجمالي بالتكليف ربّما ينحلّ ببركة جريان الاصول المثبتة بضميمة ما نهض عليه علم أو علمي، فلا موجب حينئذٍ للاحتياط عقلًا ولا شرعاً أصلًا كما لا

يخفى، وأنّه لو لم ينحلّ بذلك فاللازم هو الاحتياط في خصوص مجاري الاصول النافيّة مطلقاً ولو من موهومات التكليف (إلّا بمقدار رفع اختلال النظام أو رفع العسر) لا الاحتياط في محتملات التكليف مطلقاً، ولو كانت في موارد الاصول المثبتة فإنّ العمل بالتكليف فيها يكون من باب قيام الحجّة عليها، وهي الاصول العمليّة لا من باب الاحتياط كما لا يخفى.

أقول: الإنصاف هو انسداد هذا الطريق أيضاً لقلّة موارد الاصول المثبتة وعدم كونها بمقدار المعلوم بالإجمال، ولو انضمّ إليها ما علم حكمه تفصيلًا أو نهض عليه الظنّ الخاصّ المعتبر كما لا يخفى على الخبير بموارد هذه الاصول في الفقه.

وأمّا الطريق الثالث: الرجوع إلى العالم القائل بالانفتاح
اشارة

فلا إشكال في عدم جوازه قطعاً، لأنّ الانسدادي يعتقد بخطأ الانفتاحي وأنّ مستنده غير صالح للاعتماد عليه، فالانفتاحي جاهل في نظره فليس رجوعه إليه من باب رجوع الجاهل إلى العالم حتّى يشمله دليله.

أمّا المقدّمة الخامسة: وهي استحالة ترجيح المرجوح على الراجح فقد مرّ البحث عنها وقلنا بأنّه قبيح وإن لم يكن مستحيلًا.

فقد ظهر من جميع ما ذكرنا أنّ المقبول من المقدّمات عندنا إنّما هو المقدّمة الثالثة والخامسة بتمامهما، والطريق الثاني من المقدّمة الرابعة والثالث منها في الجملة، ونتيجته عدم تماميّة مقدّمات الانسداد لإثبات وجوب الاحتياط لأنّه يكفي في عدم إنتاجها بطلان واحدة منها.

انوار الأصول، ج 2، ص: 437

تنبيهات:

التنبيه الأوّل: ما هي نتيجة مقدمات الحكمة؟

إنّ نتيجة مقدّمات الانسداد (بناءً على تماميتها) هل هي حجّية الظنّ في خصوص الفروع من الفقه كالظنّ بالوجوب أو الحرمة، أو خصوص الاصول من الفقه، أو كليهما؟ الأقوال فيه ثلاثة:

القول الأوّل: حجّية الظنّ في خصوص الفروع لاختصاص المقدّمات بالفروع فلتكن نتيجتها أيضاً مختصّة بها.

الثاني: حجّية الظنّ في الاصول فقط لأنّا نعلم بأنّ الشارع لم يجعل أحكام الشرع بدون طريق يوصل إليها، فعلى المكلّف أن يرجع إلى الطرق المعيّنة للأحكام ويحصل الظنّ بحجّيتها وطريقتها سواء حصل الظنّ بنفس الأحكام أو لم يحصل.

الثالث: حجّيته في كليهما، فيكفي حصول الظنّ بكلّ واحد منهما، أي يكفي الظنّ بالحكم ولو لم يكن الطريق المنتهي إليه ظنّياً، كما يكفي الظنّ بالطريق ولو لم يكن الحكم الحاصل منه مظنوناً.

والأقوى هو القول الثالث: ووجهه واضح لأنّ اللازم هو أداء التكليف وتحصيل الأمن من العذاب وهو يحصل بأحد وجهين: أحدهما هو الحصول على نفس الواقع، والثاني الإتيان ببدله، وهو مفاد الأمارات والطرق التي تكون عذراً، فكما أنّ القطع بالطريق كافٍ في حال الانفتاح سواء كانت الشبهة موضوعيّة

كالقطع بقيام البيّنة على إزالة النجاسة عن المسجد بدلًا عن القطع بنفس الإزالة أو كانت الشبهة حكميّة كالقطع بكفاية العمل بالاحتياط في يوم الجمعة بالجمع بين صلاة الجمعة والظهر بدلًا عن القطع التفصيلي بأحدهما، كذلك في حال الانسداد فيكفي الظنّ بالطريق بدلًا عن الظنّ بالواقع.

وإن شئت قلت: كما أنّ الأحكام ليست مقيّدة بالطرق فيكفي القطع بالواقع أو الظنّ به سواء كان مدلول أمارة أم لا كذلك الأمارات ليست مقيّدة بمطابقة مدلولها للواقع فيكفي العمل بمفاد أمارة كانت حجّة بدليل قطعي (في حال الانفتاح) أو بمقدّمات الانسداد سواء كان مطابقاً للواقع أم لم يكن.

التنبيه الثاني: في الكشف والحكومة

والمراد من الكشف أن نستكشف من مقدّمات الانسداد على تقدير القول بسلامة جميعها أنّ الشارع جعل الظنّ حجّة في هذا الحال، فيمكن حينئذٍ إسناد الحكم المكشوف إلى الشارع وترتّب سائر الآثار المترتّبة على شرعيّة الحكم من إمكان قصد الورود وتخصيص العمومات وتقييد المطلقات به.

والمراد من الحكومة هو أنّه وإن لم نكشف من هذه المقدّمات حكم الشارع فلا تترتّب الآثار المذكورة لكن لا إشكال في أنّ العقل يحكم عند حصولها بكفاية العمل بالظنّ بحيث يكون مأموناً معه، نظير ما يقال به في مقام بيان الفرق بين الإباحة الشرعيّة (كلّ شي ء لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام) والإباحة العقليّة (قبح العقاب بلا بيان) من أنّها إذا كانت شرعيّة يترتّب عليها آثارها من الأمن من العقاب من دون أن يثبت بها حكم شرعي.

وكيف كان، ذهب القوم إلى أنّ غاية ما تقتضيه مقدّمات الانسداد هو حكومة العقل بحجّية الظنّ، والأكثر من هذا المقدار وإثبات كشف حكم الشرع وراءه يحتاج إلى دليل.

إن قلت: إنّ هذا يستلزم التفكيك بين حكمي العقل والشرع وإنكار الملازمة بينهما.

قلنا: أنّ الملازمة بينهما

إنّما هي في مورد يكون قابلًا لحكم الشرع، والمورد في المقام غير قابل له، لأنّ حجّية الظنّ معناها وجوب الإطاعة الظنّية في حال الانسداد، فترجع إلى كيفية الإطاعة، وكما أنّ نفس الإطاعة ممّا يمتنع تعلّق الحكم الشرعي بها إلّاإرشاداً لما بيّن في محلّه من محذور التسلسل، كذلك كيفية الإطاعة.

لكن لقائل أن يقول: إنّا نستكشف من دأب الشارع وديدنه أنّه لا يترك الناس بلا تكليف ولا يسرحهم بلا إراءة طريق في كلّ ما يحتاجون إليه حتّى يستلزم منه خلأ قانوني في عالم التشريع كما تدلّ عليه روايات كثيرة وردت في هذا المجال، وقد عقد في الوافي باب في أنّه ليس شي ء ممّا يحتاج إليه الناس إلّاوقد جاء فيه كتاب أو سنّة، وفي الوسائل باب في «إماطة الأذى عن طريق المسلمين» ويستفاد منه أنّ في الشريعة المقدّسة وضع لكلّ شي ء قانون حتّى لقشر البطيخ المطروح في الطريق، فهل يعقل من حكمة الباري الحكيم إهمال الامّة الإسلاميّة في زمن الغيبة وعدم تعيين طريق لهم للوصول إلى أحكام الشريعة والقوانين المجعولة من ناحيته المقدّسة مع علمه تعالى بقصر مدّة الحضور وطول عصر الغيبة وانسداد باب العلم (على انوار الأصول، ج 2، ص: 439

الفرض)؟ ومجرّد وجود أحكام واقعيّة لا تصل إليها أيدي الناس غير كافٍ، بل لا بدّ من جعل قوانين ظاهريّة لهم وعدم تركهم حائرين.

فيتلخّص من جميع ذلك أنّ طريق الكشف هو الأوفق بسيرة الشارع في الأحكام الفرعيّة.

التنبيه الثالث: نتيجة مقدّمات الانسداد هل هي مهملة، أو مطلقة

(فيكون الظنّ حجّة بالجملة) أو مقيّدة (فيكون الظنّ حجّة في الجملة)؟

ثمّ الإهمال وعدم الإهمال تارةً يعتبران بالنسبة إلى الأسباب (من الأمارات وغيرها)، واخرى بالنسبة إلى مراتب الظنّ (من حيث الشدّة والضعف) وثالثة بالنسبة إلى الموارد (من العبادات والمعاملات وحقّ اللَّه وحقّ الناس).

وكيف

كان فحاصل الكلام في المقام أنّ مقدّمات الانسداد على القول بصحّة جميعها هل تقتضي حجّية الظنّ بنحو القضيّة المهملة من حيث السبب والمورد والمرتبة حتّى تحتاج النتيجة إلى معمّم يعمّمها إلى جميع الأسباب والأمارات وإلى جميع الموارد والمسائل الفرعيّة وإلى جميع مراتب الظنّ من الضعيف والقوي والأقوى، أو إلى مخصّص يخصّصها ببعض الأسباب وبعض الموارد والمراتب، أو تقتضي حجّية الظنّ بنحو القضيّة الكلّية أو بنحو القضيّة الجزئيّة المختصّة ببعض الأسباب أو بعض المراتب أو بعض الموارد دون بعض آخر؟

والتحقيق أن نقول أنّ المسألة مبتنية على المسألة السابقة، فبناءً على تقرير المقدّمات على نحو الحكومة لا إهمال في النتيجة أصلًا لا سبباً ولا مورداً ولا مرتبة إذ لا يعقل تطرّق الإهمال في حكم العقل بحيث يشتبه عليه سعة حكمه وضيقه.

فبالنسبة إلى الأسباب تكون النتيجة كلّية إذ لا تفاوت في نظر العقل بين سبب وسبب.

وأمّا بالنسبة إلى الموارد فتكون النتيجة جزئيّة معيّنة حيث يستقلّ العقل بحجّية الظنّ وكفاية الإطاعة الظنّية إلّافيما يكون للشارع فيه مزيد اهتمام كما في الفروج والدماء، بل وسائر حقوق الناس من الأموال وغيرها ممّا لا يلزم من الاحتياط فيها العسر، فيستقلّ العقل بوجوب الاحتياط فيها.

وأمّا بالنسبة إلى المراتب فجزئيّة معيّنة أيضاً حيث يستقلّ العقل بأنّ الحجّة في خصوص انوار الأصول، ج 2، ص: 440

الظنّ بنفي التكليف هو الاطمئناني منه، فيرفع اليد عنده عن الإحتياط إلّاعلى تقدير عدم كفايته في دفع محذور العسر (فيرفع اليد حينئذٍ عن الإحتياط في سائر الظنون أيضاً بمقدار يدفع به محذور العسر).

هذا بناءً على تقرير الحكومة.

وأمّا بناءً على تقدير الكشف فتكون النتيجة مهملة مطلقاً سبباً ومورداً ومرتبة، ولا محيص حينئذٍ في وصولنا إلى ذلك الطريق من الاحتياط التامّ في أطراف

الطرق فنأخذ بكلّ ما احتمل طريقيته سواء كان مظنون الطريقية أو مشكوكها أو موهومها، هذا إذا لم يكن بينها متيقّن الاعتبار بمقدار وافٍ ولم يلزم من الاحتياط فيها محذور العسر أو اختلال النظام وإلّا فإن كان بينها متيقّن الاعتبار بمقدار وافٍ فالأخذ به متعيّن.

نعم، لا إشكال في أنّه لا فرق بين الحكومة والكشف في النتيجة بناءً على ما سلكناه في المراد من الكشف حيث قلنا بأنّا نستكشف من ديدن الشارع في عدم إهماله في كلّ ما يحتاج إليه الناس من دون فرق بين عصر وعصر، ومصر ومصر أنّه نصب طريقاً للوصول إلى أحكامه في فرض الانسداد وهو ما يحكم به العقل لا محالة، فالمرجع حينئذٍ في جميع الشؤون والفروع ما حكم به العقل، فيأتي حينئذٍ ما ذكرنا آنفاً (بناءً على تقرير الحكومة) بعينه من التفصيل بين الأسباب والمراتب والموارد في الكلّية والجزئيّة وعدم الإهمال مطلقاً.

التنبيه الرابع: القياس و عموم مقدّمات الانسداد

إنّ القياس هل هو خارج عن عموم نتيجة مقدّمات الانسداد أو لا؟

وإن شئت فعبّر: هل الظنّ الناشى ء من القياس في فرض الانسداد حجّة أو ليس بحجّة؟

قد يقال: إنّ القياس ممنوع مطلقاً حتّى في فرض الانسداد لإطلاق الأدلّة الناهيّة عن القياس.

لكن لا إشكال فيه بناءً على تقرير الكشف بكلا المسلكين، مسلك القوم والمسلك المختار، لأنّ زمام الأمر حينئذٍ بيد الشارع وهو منع عن الظنّ القياسي مع جعل سائر الظنون حجّة.

وأمّا بناءً على تقرير الحكومة وأنّ العقل ممّا يستقلّ في الحكم بحجّية الظنّ في حال انوار الأصول، ج 2، ص: 441

الانسداد كحكمه بحجّية العلم في حال الإنفتاح فيقع الإشكال حينئذٍ من ناحية خروج القياس عن تحت عموم حكم العقل بحجّية الظنّ وأنّه كيف يخرج عن تحت عمومه مع أنّ حكم العقل ممّا لا

يخصّص، ولا يمكن رفع حكمه عن موضوعه، إلّاإذا انتفى الموضوع فينتفي الحكم بانتفائه، أو خرج الفرد عن تحت الحكم موضوعاً فيسمّى بالتخصّص، وأمّا تخصيص حكم العقل فلا يجوز، وذلك باعتبار لزوم التناقض فإنّ العقل إذا حكم حكماً عاماً بنحو يشمل هذا الفرد بعينه ثمّ خصّصنا حكمه ورفعناه عن هذا الفرد لزم التناقض بين حكمه وبين التخصيص، نظير ما إذا خصّصنا نوعاً من القطع عن عموم حجّية القطع في حال الإنفتاح، وهذا بخلاف التخصيص في العمومات اللفظية فإنّ التناقض فيها صوري لا جدّي.

وقد اجيب عن هذا الإشكال بوجوه عديدة، وقد ذكر الشيخ الأعظم وجوهاً سبعة في دفعه (بعضها منه وبعضها من غيره) وذكر المحقّق الخراساني رحمه الله وجوهاً خمسة في هذا المقام لكن عمدتها ثلاثة:

الوجه الأوّل: أنّ الرّوايات الناهيّة عن القياس منصرفة عن حال الانسداد.

أقول: لقائل أن يقول بهذا الوجه كما سيأتي في البحث التفصيلي عن القياس لكن الإنصاف أنّ هذه الدعوى مشكلة لقوّة إطلاقات الأدلّة.

الوجه الثاني: إنكار موضوع الظنّ القياسي وأنّه لا يوجب القياس الظنّ بالحكم في شي ء من الموارد خصوصاً بعد ملاحظة أنّ الشارع جمع في الحكم بين ما يترائى مخالفه، وفرّق بين ما يتخيّل متؤالفه، وكفاك في هذا عموم ما ورد «أنّ دين اللَّه لا يصاب بالعقول» و «إنّ السنّة إذا قيست محق الدين» و «إنّه لا شي ء أبعد من عقول الرجال من دين اللَّه» وغيرها ممّا دلّ على غلبة مخالفة الواقع في العمل بالقياس وخصوص رواية أبان بن تغلب المشهورة الواردة في ديّة أصابع الرجل والمرأة.

ويمكن الجواب عن هذا الوجه بشهادة الوجدان بحصول الظنّ من القياس في بعض الأحيان وإن كان ضعيفاً من حيث المرتبة وتقدّم عليه الظنّ الحاصل من غيره عند

التعارض.

الوجه الثالث: (وهو الأساس في الجواب) أنّ مقدّمات الانسداد ليست علّة تامّة لحجّية الظنّ مطلقاً حتّى لا يمكن تخصيصها بمثل مورد القياس بل إنّها مقتضية لها، أي يحكم العقل بحجّية الظنّ مطلقاً عند الانسداد لولا المانع، أي لولا منع الشارع، ومع ورود النهي عنه لا أثر للمقتضي.

انوار الأصول، ج 2، ص: 442

ومنه يعلم أنّ تشبيه الظنّ حال الانسداد بالعلم حال الانفتاح أشبه بالمغالطة لأنّ العلم علّة تامّة للحجّية.

وإن شئت قلت: أنّ دليل الانسداد إنّما يثبت حجّية الظنّ حال الانسداد وعدم إنفتاح باب العلم والعلمي، وفي مورد القياس ومثله يكون باب العلم مفتوحاً، للعلم بأنّ الشارع أرجعنا في هذه الموارد إلى الاصول اللفظية أو العمليّة، فخروج القياس حينئذٍ يكون على وجه التخصّص وخروج الموضوع، لا التخصيص.

التنبيه الخامس: في الظنّ المانع والممنوع

إذا قامت دليل ظنّي كالشهرة على عدم حجّية ظنّ آخر كالظنّ الحاصل من الاستحسان، كما إذا قام الاستحسان على وجوب الزّكاة في النقود الورقيّة في يومنا هذا تشبيهاً لها بالدرهم والدينار، فحصل الظنّ بوجوب الزّكاة من ناحيته في حال الانسداد (وهذا هو الظنّ الممنوع) والظنّ الحاصل من جانب قيام الشهرة على عدم حجّية الاستحسان بناءً على عدم العلم بعدم حجّية الاستحسان، كما قد يقال به في فرض الانسداد (وهذا هو الظنّ المانع) فهل مقتضى مقدّمات الانسداد هو الأخذ بالظنّ الممنوع والحكم بوجوب الزّكاة في النقود الورقيّة في المثال، أو إنّها تقتضي تقديم الظنّ المانع فتصير النتيجة وجوب الأخذ بالظنّ الحاصل من الشهرة والحكم بعدم وجوب الزّكاة؟ وجوه:

الأوّل: تقديم الظنّ المانع.

والثاني: تقديم الظنّ الممنوع.

والثالث: تساقط الظنّين والرجوع إلى الاصول العمليّة.

والرابع: أنّ المسألة مبنية على كون نتيجة مقدّمات الانسداد حجّية الظنّ في الفروع أو الاصول، فإن قلنا أنّ نتيجتها هي الحجّية في الفروع

فالمقدّم هو الظنّ الممنوع، وإن قلنا أنّ النتيجة هي الحجّية في الاصول فالمقدّم هو الظنّ المانع، وإن قلنا بحجّية كليهما فيتساقطان.

نعم، لا يتصوّر هذا الوجه فيما إذا كان كلا الظنّين اصولياً كما إذا حصل الظنّ بعدم حجّية قول اللغوي، وحصل الظنّ أيضاً بعدم حجّية هذا الظنّ، فعلى القول بأنّ نتيجة مقدّمات انوار الأصول، ج 2، ص: 443

الانسداد هي حجّية الظنّ في خصوص الاصول لابدّ حينئذٍ من الرجوع إلى سائر الوجوه.

الخامس: الأخذ بأقوى الظنّين لا سيّما إذا قلنا بأنّ نتيجة مقدّمات الانسداد جزئيّة من ناحية المراتب.

أقول: الحقّ في المسألة هو تقدّم الظنّ المانع وذلك باعتبار ما مرّ من عدم كون مقدّمات الانسداد علّة تامّة لحجّية الظنّ حتّى لا يمكن منع الشارع في مورد خاصّ بل إنّها مقتضية لها، وحينئذٍ صحّ أن يقال: أنّه لا استقلال للعقل بحجّية ظنّ قد احتمل المنع عنه بالخصوص شرعاً فضلًا عمّا إذا ظنّ المنع عنه كذلك، وذلك لعدم إحراز فقد المانع في هاتين الصورتين، فلا بدّ حينئذٍ من الاقتصار على ظنّ نقطع بعدم المنع عنه بالخصوص، فإن كفى بمعظم الفقه فهو، وإلّا فيضمّ إليه ما احتمل المنع عنه لا مظنون المنع.

نعم، يمكن تقديم الظنّ الممنوع أيضاً فيما إذا كان موافقاً للاحتياط فيكون حينئذٍ مخيّراً بين الأخذ بكلّ واحد منهما.

التنبيه السادس: عدم الفرق بين حصول الظنّ من الأمارة بلا واسطة أو مع واسطة

لا فرق في نتيجة دليل الانسداد بين حصول الظنّ بالحكم الشرعي من أمارة عليه بلا واسطة كما إذا قامت الشهرة على وجوب شي ء أو حرمته، وبين حصول الظنّ بالحكم الشرعي من أمارة عليه مع الواسطة كالظنّ الحاصل من أمارة قامت على تفسير لفظ من ألفاظ الكتاب أو السنّة (كما إذا قال اللغوي أنّ الصعيد هو مطلق وجه الأرض فأورث الظنّ في قوله تعالى:

«فَتَيَمَّمُوا

صَعِيداً طَيِّباً» بجواز التيمّم بالحجر مثلًا مع وجود التراب الخالص) أو على وثاقة راوٍ ينقل الحكم عن الإمام المعصوم عليه السلام فأورث الظنّ بذلك الحكم.

والوجه في عدم الفرق هو إطلاق حكم العقل بحجّية الظنّ حال الانسداد، فلا فرق عنده بين ظنّ يوصلنا إلى الحكم الواقعي بلا واسطة أو مع الواسطة فلا حاجة إلى إعمال انسداد آخر صغير في مثل هذه الموارد (أي موارد الرجوع إلى قول اللغوي وعلماء الرجال) بل يكفي جريان مقدّمات الانسداد الكبير في معظم أحكام الفقه.

انوار الأصول، ج 2، ص: 444

ثمّ إنّ الظنّ الحاصل من قول اللغوي حجّة إذا كان متعلّقاً بحكم شرعي وليس بحجّة في تشخيص موضوعات الأحكام كالألفاظ الواردة في رسائل الوصيّة أو الوقف لأنّ المفروض هو انسداد باب العلم والعلمي في الأحكام فتكون مقدّمات الانسداد تامّة في خصوص الأحكام لا الموضوعات.

اللّهم إلّاأن يتمسّك بالإنسداد الصغير في بعض الموارد، وهو انسداد باب العلم والعلمي في معرفة بعض الموضوعات.

التنبيه السابع: في عدم حجّية الظنّ في مقام الامتثال والتطبيق
اشارة

إنّ الثابت بمقدّمات الانسداد إنّما هو حجّية الظنّ في تشخيص الأحكام الشرعيّة وتعيينها، لاختصاص انسداد باب العلم والعلمي به، لا حجّيته في الإتيان بها وتطبيق المأتي به عليها، لإمكان تحصيل القطع بتطبيق الحكم المظنون على الخارج فلا تجري فيه تلك المقدّمات، فإذا شككنا في وجوب صلاة الجمعة أو الظهر جاز لنا تعيين الواجب الواقعي بالظنّ على فرض الانسداد، وأمّا امتثال هذا الحكم خارجاً فلا بدّ أن يكون بالعلم ولا يكفي فيه الظنّ.

إن قلت: بعد العمل بالظنّ في تعيين الحكم الشرعي يصير الامتثال في النهاية ظنّياً فلا يجدي تحصيل العلم بالتطبيق.

قلنا: الظاهر إنّه وقع الخلط بين الظنّ بالحكم الواقعي والظنّ بأداء الوظيفة، فإنّه وإن كان الإتيان بالواقع ظنّياً ولكن اليقين حاصل بأداء الوظيفة لا

أنّ أدائها ظنّي، فإذا صلّى صلاة بعنوان الجمعة مثلًا (المظنون وجوبها) قاطعاً فقد أدّى ما عليه من الوظيفة قطعاً بخلاف ما إذا أتى بها مظنوناً.

نعم، ربّما يجري الانسداد الصغير في مقام التطبيق والامتثال بالنسبة إلى بعض الموضوعات فيكون الظنّ حجّة في مقام الامتثال أيضاً، وهذا كما في موضوع الضرر الذي انيط به أحكام كثيرة من جواز الإفطار والتيمّم وجواز ترك الحجّ وغيرها، فيقال: أنّ باب العلم بالضرر منسدّ غالباً، إذ لا يعلم به في الأغلب إلّابعد تحقّقه ووقوعه فيستلزم من اعتبار العلم به الوقوع في المخالفة الكثيرة.

انوار الأصول، ج 2، ص: 445

وإن شئت قلت: إجراء أصل العدم في تلك الموارد يوجب المحذور، وهو الوقوع في الضرر كثيراً مع العلم بعدم رضا الشارع بذلك لشدّة اهتمامه بالضرر، ومن جانب آخر: الاحتياط بترك كلّ ما احتمل كونه ضرريّاً يوجب العسر والحرج بل في بعض الموارد غير ممكن عقلًا كما إذا دار الأمر بين الوجوب والحرمة كصيام شهر رمضان فإن كان ضرريّاً فقد حرم، وإن لم يكن ضرريّاً فقد وجب، إذاً فلا محيص من حجّية الظنّ واللزوم اتّباعه في تعيين موارد الضرر، فكلّ شي ء ظنّ كونه ضرريّاً وجب تركه، وكلّ ما شكّ كونه ضرريّاً جاز فعله، بل المدار في هذه الموارد هو خوف الضرر وإن لم يكن مظنوناً كما ذكر في محلّه.

خاتمة يبحث فيها عن امور

الأمر الأوّل: في الظنّ بالامور الاعتقاديّة

(المطلوب فيها أوّلًا عمل الجوانح من الاعتقاد والانقياد خلافاً للفروع العمليّة، المطلوب فيها أوّلًا عمل الجوارح) فهل تجري مقدّمات الانسداد في اصول الدين على فرض انسداد باب العلم فيها فيكون الظنّ بها حجّة أو لا تجري فلا يكفي الاعتقاد الظنّي؟

قد أنكر الشيخ الأعظم والمحقّق الخراساني رحمهما الله جريان مقدّمات الانسداد في اصول الدين،

وعصارة بيانهما (ببيان منّا): أنّ الامور الاعتقاديّة على أقسام ثلاثة:

القسم الأول: بعدم وجوب تحصيل العلم واليقين به على المكلّف لا عقلًا ولا شرعاً إلّاإذا حصل له العلم به أحياناً، (فيجب بحكم العقل والشرع الاعتقاد به وعقد القلب له ولا يجوز له الإنكار والجحود، أو الوقف والتأمّل فيه) كما هو الحال في تفاصيل البرزخ والمعاد من سؤال القبر والصراط والحساب والكتاب والميزان والجنّة والنار وغيرها، وكذلك في تفاصيل صفات الباري تعالى وصفات الإمام عليه السلام كعلم الباري وعلم النبي صلى الله عليه و آله والإمام عليه السلام بعالم الغيب وإنّهم عالمون بجميع ما كان وما يكون إلى يوم القيامة فعلًا (أو «إذا أرادوا علموا» أو «إذا أرادوا يعلّمهم اللَّه تعالى» أو غير ذلك من الاحتمالات) ففي هذا القسم من الامور لا تجري مقدّمات الانسداد ولا يكون الظنّ فيها حجّة، لأنّه إذا انسدّ باب العلم فيها بتفاصيلها يمكن العلم بمطابقة عمل الجوانح مع الواقع بالاعتقاد الإجمالي بما هو واقعها وعقد القلب عليها من انوار الأصول، ج 2، ص: 446

دون عسر ولا شي ء آخر، ولا تقاس بالفروع العمليّة المطلوب فيها مطابقة عمل الجوارح مع الواقع لأنّ الفروع العمليّة إذا انسدّ باب العلم فيها لا يمكن العلم بمطابقة عمل الجوارح مع الواقع إلّابالاحتياط التامّ في الشبهات، وهذا ما يوجب العسر، فلا يجب شرعاً، أو يوجب الإخلال بالنظام فيحرم عقلًا، وحينئذٍ لا شي ء أقرب إلى الواقع من العمل على وفق الظنّ.

القسم الثاني: ما يعلم بوجوب تحصيل العلم به تفصيلًا على المكلّف بحكم العقل ثمّ الاعتقاد به وعقد القلب عليه وهو كما في التوحيد والنبوّة والإمامة والمعاد.

ففي هذا القسم لا ينبغي التأمّل في عدم جواز الاكتفاء بالظنّ، لأنّ الواجب عقلًا وشرعاً إنّما

هو المعرفة، والظنّ ليس بمعرفة قطعاً، فلا بدّ من تحصيل العلم لو أمكن، ومع العجز عنه يصير معذوراً، ولا دليل حينئذٍ على جريان مقدّمات الانسداد، أي لا استقلال للعقل بوجوب تحصيل الظنّ مع اليأس عن تحصيل العلم في المقام، لو لم نقل باستقلاله بعدم وجوبه بل بعدم جوازه.

القسم الثالث: ما يشكّ في وجوب المعرفة التفصيلية به وعدمه، فأصالة البراءة من وجوبها محكّمة (ولا تختصّ أصالة البراءة بالفروع العمليّة لعموم أدلّتها)، وحينئذٍ لا معنى لجريان مقدّمات الانسداد.

إن قلت: المرجع عند الشكّ هو عموم وجوب المعرفة المستفاد من قوله تعالى: «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِي» «1»

الذي فسّرت العبادة فيه بالمعرفة، وقوله صلى الله عليه و آله: «ما أعلم شيئاً بعد المعرفة أفضل من هذه الصّلاة» «2» وعمومات وجوب التفقّه وطلب العلم من الآيات والرّوايات.

قلنا: لا دلالة لشي ء ممّا ذكر من الآيات والرّوايات بالعموم على وجوب المعرفة في جميع المسائل الاعتقاديّة تفصيلًا.

أمّا قوله تعالى: «وما خلقت» فلأنّ المستفاد منه هو خصوص معرفة اللَّه لا معرفة من سواه، وأمّا النبوي المذكور فلأنّه في مقام بيان فضيلة الصّلاة وأهميّتها ولا يستفاد منه إطلاق ولا عموم لوجوب المعرفة.

انوار الأصول، ج 2، ص: 447

وأمّا آية النفر فلأنّها في مقام بيان كيفية النفر للتفقّه لا في مقام بيان ما يجب فقهه ومعرفته كما لا يخفى.

وأمّا ما دلّ على وجوب طلب العلم فلأنّه في صدد الحثّ على طلب العلم لا في مقام بيان ما يجب علمه.

فظهر ممّا ذكر جميعاً عدم جريان مقدّمات الانسداد في الامور الاعتقاديّة بجميع أقسامها وصورها.

هذا ملخّص كلامهم ومحصّل استدلالهم.

أقول: لا كلام لنا في هذه المقالة إلّابالنسبة إلى القسم الثاني منها، حيث إنّهما أنكرا فيه استقلال العقل بحسن تحصيل الظنّ والاعتقاد

بالمظنون في الامور الاعتقاديّة في فرض الانسداد، وبالنتيجة رجّحا عدم الاعتقاد مطلقاً بالمذهب المظنون مع أنّه من المستبعد جدّاً حكم العقل به بل العقل يحكم بعدم التوقّف والسكون واختيار أحد الطرق غير العلمي (وهو الظنّ لا محالة) لما يرى في التوقّف الاعتقادي من الضلالة والهلاكة القطعيّة.

ويشهد بذلك شهادة صاحب كلّ مسلك من المسالك وشارع كلّ شريعة من الشرائع بعدم جواز التوقّف مضافاً إلى حكمه بوجوب طيّ طريقه الخاصّ به، فهم متّفقون على الهلكة على فرض التوقّف.

وهذا نظير السالك الذي قدم إلى مفترق الطرق، على رأس كلّ منها إنسان يدعو إلى سلوك طريقه وينهى عن سلوك الطرق الاخر مع اتّفاق الجميع على وجوب استمرار المشي ووجود الهلكة والضرر في التوقّف فلا إشكال حينئذٍ في حكم العقل بإدامة الحركة والسلوك في الطريق الذي يظنّ انتهائه إلى المقصود ونيل النجاح.

الأمر الثاني: عدم جواز الاكتفاء بالظنّ في حال الانفتاح

لا إشكال في عدم جواز الاكتفاء بالظنّ فيما يجب معرفته عقلًا أو شرعاً في حال الإنفتاح، حيث إن الظنّ ليس بمعرفة قطعاً كما مرّ آنفاً في بيان الشيخ الأعظم والمحقّق الخراساني رحمه الله، فلا بدّ من تحصيل العلم فيما إذا كان المكلّف قادراً عليه ومع العجز يكون معذوراً إن كان عن قصور

انوار الأصول، ج 2، ص: 448

لغفلة أو لغموضة المطلب مع قلّة الإستعداد، بخلاف ما إذا كان عن تقصير في الاجتهاد والفحص فليس معذوراً بلا ريب.

لكن ربّما يتوهّم أنّه لا يتصوّر هنا العجز عن قصور، وذلك لقوله تعالى: «وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا» «1»

لدلالته على انفتاح الطريق في جميع الحالات، والطريق هو الجهاد في سبيل الوصول إلى الحقّ، فقد وعد اللَّه تعالى في هذه الآية أنّ كلّ من جاهد في الحقّ وتفحّص عنه يهتدي إلى سبيل الهداية ويصل إلى

مطلوبه وهو الحقّ، وأكّد على ذلك بتأكيدات عديدة من اللام والنون الواردين في قوله تعالى «لنهدينّهم» وفعل المضارع الدالّ على الاستمرار.

وأجاب بعضهم عن هذا بأنّه ليس المراد من المجاهدة الواردة في الآية النظر والاجتهاد في تحصيل العلم والمعرفة بل هو المجاهدة مع النفس التي هي أكبر من الجهاد مع الكفّار فالآية أجنبية عن المقام.

أقول: قد ذكر في كتب التفاسير في معنى الجهاد الوارد في الآية احتمالات ثلاثة:

أحدها: أنّ المراد منه هو الجهاد مع الكفّار فيكون المعنى «والذين جاهدوا مع عدوّنا لنهدينّهم سبل الفتح والظفر».

والثاني: أنّ المراد هو الجهاد مع النفس أي العدوّ النفساني كما مرّ.

الثالث: الجهاد في سبيل المعرفة، أي الجهاد العلمي في قبال الجهاد الأخلاقي والعسكري، (وقد وقع الخلط في بعض الكلمات حيث أورد فيها في مقام تفسير الآية بحث فلسفي معروف، وهو ما قال به بعض الفلاسفة من أنّه ليس التفكّر وسيلة للعلم بل أنّه يوجب استعداد النفس لإفاضة الصور العلمية عليها وقبولها من جانب الفيّاض المطلق).

قلت: الإنصاف أنّه لا دليل ولا قرينة على تقييد الآية وتحديد مفاد كلمة الجهاد فيها بمعنى خاصّ من المعاني الثلاثة بل مقتضى إطلاقها شمولها لجميع الثلاثة، فيبقى الإشكال على حاله خصوصاً مع الالتفات إلى ما نشاهده بوجداننا في كثير من الناس من القصور وعدم التقصير في سبيل معرفة اللَّه بين النصارى واليهود وسائر المذاهب وفي سبيل معرفة الإمام بين غير العارفين.

انوار الأصول، ج 2، ص: 449

والذي يخطر بالبال في الجواب عن الإشكال (على العجالة إلى أن يتأمّل فيه) أحد وجهين:

الوجه الأوّل: أن يخصّص قوله «فينا» بخصوص معرفة اللَّه ونلتزم بعدم تصوّر القصور فيها لشهادة الوجدان وحكم الفطرة في هذا الباب.

الوجه الثاني: أن نقول: أنّ المراد بالجهاد هنا هو

نهاية السعي والاجهاد لا مجرّد المقدار الواجب على الإنسان في هذه الامور بل أقصى جهده وآخر ما يمكن منه فيكون معنى الآية كلّ من بذل نهاية مجهوده وأقصى جهده يهتدي إلى سبيل الحقّ ويصل إلى المقصود وليس جميع القاصرين يجهدون هذا المبلغ من الجهاد.

الأمر الثالث: في تأثير الظّنون غير الحجّة في الأدلة الظنيّة

ويتصوّر على خمسة وجوه:

الأوّل: جبران ضعف السند بدليل ظنّي كما إذا قامت الشهرة على العمل برواية ضعيفة.

الثاني: عكس الأوّل، أي وهن سند معتبر بدليل ظنّي قام على خلافه كإعراض المشهور عن العمل برواية معتبرة بحسب السند.

الثالث: تأثير الظنّ في تقوية الدلالة، كما إذا قامت الشهرة على أخذ أحد الاحتمالات في مدلول الرّواية.

الرابع: عكس الثالث، أي وهن الدلالة بإعراض المشهور مثلًا.

الخامس: ترجيح إحدى الروايتين على الاخرى بدليل ظنّي كالشهرة.

هذه موارد مبتلى بها في الفقه ويبحث عن الصورة الأخيرة في أبواب التعادل والتراجيح (فانتظر)، وقد أشرنا إلى باقي الوجوه إجمالًا في تضاعيف ما مرّت من الأبحاث السابقة، وينبغي أن يبحث عنها في فصل مستقل وينفتح لها عنوان على حدة، ولذلك نقول:

أمّا الوجه الأوّل: فالإنصاف أنّه لا إشكال في جبر ضعف الرّواية الضعيفة بعمل مشهور قدماء الأصحاب، وذلك لما مرّ في مبحث حجّية خبر الواحد من أنّ السيرة العقلائيّة قامت على حجّية الخبر الموثوق به (ولو لم تكن رواته ثقات) وأنّ الملاك في الحجّية هو الوثوق بنفس الخبر وصدوره عن المعصوم لا الوثوق بالمخبر، والإنصاف أنّ الشهرة القدمائيّة توجب انوار الأصول، ج 2، ص: 450

الوثوق بالصدور فتوجب جبر الضعف الناشى ء من ناحية السند.

كما أنّها في الوجه الثاني توجب الوهن في السند إذا قامت على خلاف رواية معتبرة كانت بمرأى من الأصحاب، وهو المقصود من قولهم: «كلّما إزداد صحّة إزداد وهناً» كما أنّ في صورة العكس

«كلّما إزداد وهناً إزداد صحّة» وقد مرّ بيانها، وبين الجواب عمّا ذهب إليه بعض أعاظم العصر من أنّه من قبيل ضمّ العدم إلى العدم فراجع.

أمّا الوجه الثالث: فالصحيح فيه ما هو المشهور من أنّ الشهرة الفتوائيّة لا توجب قوّة في الدلالة لأنّ الملاك في باب الدلالات عبارة عن الظهور العرفي، ولا إشكال في أنّ عمل المشهور على طبق رواية لا يوجب لها ظهوراً في نظر العرف، إلّاأن يكشف هذا عن وجود قرينة وصلت إليهم ولم تصل إلينا.

وأمّا الوجه الرابع: (وهو عكس الثالث) فلا بدّ أن تلحظ ما تبنّاه في باب حجّية الظواهر، فإن قلنا هناك أنّ الظنّ الشخصي على خلاف ظهور دليل يوجب سقوطه عن الحجّية ففي المقام توجب الشهرة الوهن في الدلالة وعدم كون الظاهر حجّة، لكن الصحيح في باب حجّية الظواهر كفاية الظنّ النوعي وبقاؤها على الحجّية وكونها قابلة للاحتجاج عند العرف والعقلاء وإن حصل الظنّ الشخصي على خلافها.

نعم، لو كان في البين قرائن تقتضي الظنّ النوعي على الخلاف، أي الإلتفات إليها موجب للظنّ على الخلاف غالباً بحيث يكون الظنّ على خلاف الظاهر معتمداً على قرينة، ففي هذه الحالة لا إشكال في عدم قابلية مثل هذا الظهور اللفظي للاحتجاج فيسقط الظهور عن الحجّية.

هذا تمام الكلام في البحث عن حجّية مطلق الظنّ.

انوار الأصول، ج 2، ص: 451

6- حجّية الدليل العقلي الظنّي
اشارة

ويبحث فيه بالمناسبة أيضاً عن الأدلّة العقليّة القطعيّة، فيقع البحث في مقامين:

المقام الأوّل- الأدلّة العقليّة القطعيّة
اشارة

وهو من المباحث التي سقطت عن الاصول في الفترة الأخيرة فحذفت من مثل رسائل الشيخ الأعظم وكفاية الاصول للمحقّق الخراساني رحمهما الله مع أنّهم عدّوا من الأدلّة دليل العقل وجعلوه أحد الأدلّة الأربعة للأحكام الشرعيّة، (كما أنّهم لم يبحثوا بصورة عامّة عن سائرالأدلّة بل اكتفوا في دليل الكتاب بالبحث عن حجّية ظواهره في قبال الأخباريين القائلين بعدم حجّيتها، وفي دليل السنّة بالبحث عن حجّية خبر الواحد فقط، وفي الإجماع بالبحث عن الإجماع المنقول فقط).

ولعلّ الوجه في ذلك كون حجّية العقل مفروغ عنها في نظرهم، مع أنّه ليس كذلك كما سيتّضح لك عندما ننقل مقالة الأشاعرة والأخباريين والأدلّة التي استدلّوا بها على نفي حجّية العقل.

وكيف كان: الحقّ أنّ من الأدلّة الفقهيّة في أحكام الشرع دليل العقل وأنّ الملازمة ثابتة بين حكم العقل والشرع، وفي مقابل هذا القول أقوال اخر:

منها: قول الأشاعرة، والظاهر أنّهم أنكروا الملازمة في تمام مراحلها الثلاثة التي ستأتي الإشارة إليها عن قريب.

ومنها: قول الأخباريين، الذين أنكروا إدراك العقل للحسن والقبح بعد قبولهم حسن الأفعال وقبحها ذاتاً.

ومنها: قول الاصوليين، الذين فصّلوا في هذه المسألة بما سيأتي البحث عنه.

ثمّ إنّ لدلالة العقل على الأحكام الشرعيّة مراتب ثلاثة:

انوار الأصول، ج 2، ص: 452

إحديها: مرتبة علل الأحكام ومباديها.

الثانية: مرتبة معلولاتها.

الثالثة: مرتبة نفس الحكم.

توضيح ذلك: أنّه تارةً يحكم العقل بحسن العدل والاحسان وقبح الظلم، أي يدرك مصلحة العدل والاحسان ومفسدة الظلم، ولا يخفى أنّ المصالح والمفاسد بمنزلة علل الأحكام، فنستكشف من ناحيتها الوجوب الشرعي أو الحرمة الشرعيّة.

واخرى يحكم العقل أوّلًا بقبح العقاب بلا بيان ثمّ يستكشف من ناحية عدم «العقاب» الذي هو من معلولات الأحكام عدم الوجوب

والحرمة الفعليين ويسمّى هذا بالبراءة العقليّة الدالّة على نفي حكم إلزامي شرعي، أو يحكم في موارد العلم الإجمالي في الشبهات المحصورة أولًا بتنجّزه وكونه منجّزاً للعقاب الاخروي ثمّ يستكشف منه فعلية الحكم الشرعي في أطراف الشبهة.

وثالثة: يكشف العقل عن حكم شرعي مجهول من ناحية حكم شرعي آخر معلوم بوجود الملازمة بينهما عند العقل كالملازمة بين الأمر بشي ء والنهي عن ضدّه أو الملازمة بين وجوب المقدّمة ووجوب ذي المقدّمة.

والظاهر أنّ الأشاعرة والأخباريين خالفوا الاصوليين في جميع هذه المراتب ولكن بعض الاصوليين فصّلوا في المسألة بالنسبة إلى المرتبة الاولى كما اشير إليه آنفاً.

الكلام في مسألة الحسن والقبح

إذا عرفت هذا فلنشرع في أصل المسألة فنقول:

أمّا المرحلة الاولى: فيقع الكلام فيها في ثلاث مقامات:

الأوّل: في أنّه هل للأشياء حسن أو قبح ذاتاً قبل ورود الشرع أو لا؟

الثاني: في إمكان إدراك العقل لهما بعد أن ثبتت ذاتيّتهما للأشياء.

الثالث: في أنّه كلّما حكم به العقل حكم به الشرع.

فلا يخفى أنّ المقامين الأوّلين بمنزلة الصغرى، والمقام الثالث بمنزلة الكبرى لإثبات الحكم الشرعي.

المقام الأوّل: هل للأشياء حسن وقبح ذاتاً؟
اشارة

فلا بدّ فيه أوّلًا من تعريف الحسن والقبح إجمالًا، فنقول: المراد من حسن الفعل وقبحه ما يستحقّ المدح أو الذمّ على إتيانه، فالنزاع عنهما مقصور في عالم الأفعال ولا يشمل عالم التكوين، فإنّه لا إشكال في أنّ هناك أشياء حسنة كحسن جمال يوسف وحسن صوت العندليب وحسن كواكب السماء وغيرها، كما أنّ هناك أشياء قبيحة من قبيل قبح صوت الحمير وغيره، فالبحث في المقام مرتبط بحسن الأفعال وقبحها لا حسن الأشياء التكوينيّة وقبحها.

نعم، لا إشكال في أنّ حسن الفعل أو قبحه ناشٍ من شي ء تكويني حسن أو شي ء تكويني قبيح لا محالة، فالاحسان حسن لأنّه موجب لكمال الفرد والمجتمع خارجاً، والظلم قبيح لأنّه موجب لنقصانهما كذلك، وهذا هو الذي يعبّر عنه في أيّامنا هذه بأنّ لزوم الأفعال ولزوم تركها يرتبطان بالوجودات والاعدام الخارجيّة التكوينيّة، وينشآن منهما (ويعبّر عنه أيضاً بإرتباط معرفة الكون والايدئولوجي) فقتل النفس قبيح لأنّه يوجب حرمان إنسان من الوجود، وإشباع العطشان بالماء حسن لإيجابه إحياء النفس، والأوّل نقص والثاني كمال في عالم التكوين.

نعم، قد يختلف الكمال والنقص بحسب الآراء والأنظار، فالإنسان الإلهي يرى الكمال في القرب إلى اللَّه تعالى والنقص في البعد عنه حينما يريهما الإنسان المادّي في رفاه العيش وعدمه، وهناك امور مشتركة بين جميع المذاهب البشريّة مثل حسن العدل

والإحسان وقبح الظلم والعدوان.

إذا عرفت ما ذكرنا من معنى الحسن والقبح نقول: لا إشكال في حسن الأفعال وقبحها ذاتاً ويدلّ عليه امور:

الأوّل: الوجدان، فإنّ وجدان كلّ إنسان يحكم بأنّ هناك أفعالًا حسنة ذاتاً وأفعالًا اخرى قبيحة كذلك، والمنكر ينكره باللسان وقلبه مطمئن بالإيمان، نظير ما يقال في باب الجبر والاختيار في علم الكلام في قبال الجبريّة، وفي باب أصل وجود أشياء في عالم الخارج في الفلسفة من أنّ الوجدان أصدق شاهد على اختيار الإنسان ووجود الواقع الخارجي، وبالجملة إنّا ندرك حسن العدل والإحسان وقبح الظلم والعدوان ولو لم تكن هناك شريعة.

انوار الأصول، ج 2، ص: 454

وإن شئت فاختبر نفسك فيما إذا كنت عابر سبيل ومسافراً لمقصد بعيد فنفد زادك وضللت عن الطريق مضطرباً حيران فإذا رجلان قد مرّا بك ولكن أحدهما استمر في سيرةه ولم يَعتَنِ بك مع قدرته على نجاتك من هذه المهلكة بما عنده من الزاد والمركب، وتوقّف الآخر وآثر بنفسه بقدر استطاعته وأنجاك من المهلكة ودلّك على الطريق وأوصلك إلى مقصدك، فهل هما حينئذٍ عندك سيّان؟ أفلا يحكم وجدانك بقبح عمل الأوّل وحسن فعل الثاني؟ وهكذا في رجلين أحدهما أنقذ غريقاً من البحر والآخر ألقى رضيعاً في البحر، فهل تجد في نفسك إنّهما يستويان من حيث القدر والقيمة؟ كلّا، بل يحكم وجدانك بحسن عمل الأوّل وقبح عمل الثاني بلا ريب، ولا ترتاب ولو للحظة واحدة في هذا الحكم.

الثاني: أنّ إنكار الحسن والقبح يستلزم إنكار الشريعة وعدم إمكان إثباتها لأنّه متوقّف على إظهار المعجزة على يد النبي الصادق صلى الله عليه و آله وهو لا يدلّ على صحّة النبوّة إلّاإذا قلنا بقبح إظهارها على يد الكاذب، وكذلك يستلزم عدم إمكان قبول الوعد والوعيد الواردين

في كتاب اللَّه لأنّه يتوقّف على قبح الكذب وعدم الوفاء بالوعد.

الثالث: إنّه يستلزم عدم وجوب النظر في معجزة المدّعى مع أنّه لا إشكال في وجوبه اتّفاقاً بحكم العقل لاحتمال كونه صادقاً، وهو يوجب احتمال وجود الضرر الاخروي الذي يقبح قبوله، ولذلك يوجب حكم العقل بالاحتياط ووجوب النظر وهكذا يستلزم عدم وجوب التحقيق في أصل التوحيد لأنّه متوقّف على قبح عدم دفع الضرر المحتمل وحسن شكر المنعم.

الرابع: أنّه يستلزم عدم إمكان إثبات وجوب الطاعة بعد ثبوت أصل وجود الباري تعالى وثبوت نبيّه والذي جاء به من الاصول والفروع لأنّه متفرّع على ثبوت حسن لها في الرتبة السابقة فيحكم العقل بوجوبها، وأمّا إثباته بالشرع وبقوله تعالى: «أطيعوا» يوجب التسلسل المحال كما مرّ غير مرّة لأنّ وجوب الإطاعة عن نفس هذا الأمر (أطيعوا) أيضاً يحتاج إلى أمر آخر بالإطاعة إلى أن يتسلسل.

الخامس: ما يدلّ من الآيات على حسن بعض الأفعال وقبح بعض آخر قبل ورود الشرع من قبيل قوله تعالى: «الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِىَّ الْأُمِّىَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ انوار الأصول، ج 2، ص: 455

الْخَبَائِثَ» «1»

وقوله تعالى: «أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ» «2».

وقوله عزّ شأنه: «هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ» «3»

وقوله جلّ جلاله «قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ» «4»

وقوله عظم قدره: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ» «5»

ففي هذه الآيات وأشباهها دلالة واضحة على ثبوت الحسن والقبح بحكم العقل، وقبل ورود الشرع، ولذا يحتجّ بها على إثبات الحقائق الواردة في الكتاب الكريم.

بقي هنا امور:

الأمر الأوّل: قد يقال:

إنّ الحسن والقبح وإن كانا عقليين لكنّهما يختلفان بالوجوه والاعتبار، فإنّ الضرب مثلًا حسن إن كان للتأديب، وقبيح إن كان للتعذيب، وكذلك القتل فإنّه حسن باعتبار القصاص، وقبيح باعتبار الجناية، وقد نسب هذا إلى قوم من العامّة وهم الجبائيون.

ولكن يرد عليه: أنّه من قبيل الأخذ لما بالعرض مكان ما بالذات، ففي مثال الضرب ليس عنوان الضرب حسناً أو قبيحاً ذاتاً بل حسنه في صورة التأديب يكون بالعرض ومن باب أنّه مصداق للاحسان، كما أنّ قبحه في صورة التعذيب عرضي من باب أنّه مصداق للظلم، فالحسن والقبيح الذاتيان إنّما هما عنوانا الاحسان والظلم لا عنوان الضرب.

وإن شئت قلت: الأفعال على ثلاثة أقسام:

قسم منها يكون بحسب الذات علّة تامّة للحسن أو القبح كالظلم والاحسان.

انوار الأصول، ج 2، ص: 456

وقسم منها يكون مقتضياً وعلّة ناقصة لأحدهما في حدّ ذاته كالصدق الذي يقتضي الحسن ذاتاً ما لم يمنع مانع كما إذا أوجب القاء النفس في التهلكة.

وقسم ثالث منها ليس علة تامّة للحسن أو القبح في حدّ ذاته ولا علّة ناقصة لأحدهما كذلك كالمباحات العقليّة، فما يكون حسناً أو قبيحاً بالوجوه والاعتبار إنّما هو القسم الثاني والثالث لا الأوّل.

ومن هنا يظهر الجواب عن كثير من الإشكالات الواردة في المقام التي لا طائل تحتها ولا حاجة إلى ذكرها.

الأمر الثاني: لا إشكال في أنّ حكم العقل بالحسن أو القبح مقبول على حدّ الموجبة الجزئيّة لا الكلّية، ولا يقول أحد بأنّ العقل يدرك جميع المصالح والمفاسد وما يتبعهما من الحسن والقبح، ولذلك فإنّ دلالته على الأحكام الشرعيّة تكون في الجملة لا بالجملة.

وإن شئت قلت: أنّ القضايا على ثلاثة أنواع:

نوع منها يدرك العقل الحسن أو القبيح فيها بالضرورة والبداهة كقضيتي «العدل حسن» و «الظلم قبيح».

ونوع

آخر يكون درك العقل للحسن أو القبح فيها بالاستدلال والبرهان كقضية «الصدق حسن» ولو أضرّ بمنفعة الشخص، فيدرك حسن الصدق الضارّ بالتأمّل والنظر.

ونوع ثالث منها لا يدرك العقل الحسن أو القبح فيها لا بالضرورة ولا بالتأمّل وذلك كما في جزئيات الأحكام الشرعيّة في أبواب العبادات وغيرها، وبعبارة اخرى: يحتاج العقل في إدراكه للحسن أو القبح فيها إلى توسّط من الشرع لأنّه يتوقّف على درك المصلحة أو المفسدة وعللها، وهي امور خارجيّة لا طريق للعقل إلى الحصول عليها إلّامن طريق الشرع، وهذا نظير إدراك العوام لمضارّ الأدوية ومنافعها فإنّ إدراكهم لها جزئي صادق في جملة من الأدوية، وأمّا في غيرها فيحتاجون إلى نظر الطبيب.

ومن هنا يظهر الجواب عن استدلال الأخباريين ببعض الرّوايات الدالّة على قصور العقل في إدراكه لمصالح الأحكام ومفاسدها كقوله عليه السلام «إنّ دين اللَّه لا يصاب بالعقول» أو قوله عليه السلام «وما أبعد عقول الرجال عن دين اللَّه» فإنّ الظاهر أنّ هذه الرّوايات ناظرة إلى الغالب والقسم الثالث من القضايا، ولا تدلّ على نفي الإدراك مطلقاً، كيف والشارع بنفسه يستدلّ بالعقل في انوار الأصول، ج 2، ص: 457

كثير من الموارد ويخاطب الناس بقوله: «أفلا تتفكّرون» أو «أفلا تعقلون» وبقوله: (يااولي الألباب» و (هاتوا برهانكم» ولذلك اعترف كثير من الأخباريين بإدراك العقل للضروريات العقليّة واضطرّوا إلى استثنائها من مقالتهم، وقد مرّ تفصيل الجواب عنهم في مباحث القطع وحجّية القطع الحاصل من طريق العقل فراجع.

الأمر الثالث: إذا اجتمع عنوانان أو عناوين عديدة بعضها حسن وبعضها قبيح على شي ء واحد كالدخول في الأرض المغصوبة «1» لإنقاذ الغريق فإنّه قبيح من جهة انطباق عنوان الغصب عليه، وحسن من جهة انطباق عنوان الإنقاذ عليه، فلا إشكال حينئذٍ في أنّ

الفعل تابع لأقوى الجهات بعد كسر وانكسار أو يصير خالياً عن الحسن والقبح إذا كانت الجهات متساوية فلا يكون من باب اجتماع النقيضين (كما توهّمه بعض واستكشف من طريق استحالته عدم حسن الأفعال وقبحها ذاتاً.

أدلّة المنكرين للحسن والقبح:

ثمّ إنّه استدلّ لعدم حسن الأفعال وعدم قبحها ذاتاً بوجوه واهية:

منها: أنّه لو كان الحسن والقبح عقليين لزم الجبر في أفعال اللَّه تعالى (سواء في ذلك أفعاله التكوينيّة أو التشريعية) أي لزم أن يكون الشارع الحكيم مقيّداً في تشريعه للأحكام بهذه الأوصاف، وهذا ينافي اختياره تعالى في أفعاله على الإطلاق.

والجواب عنه واضح، لأنّ الجبر في فعل شي ء، ووجود الصارف الاختياري عن ذلك الفعل شي ء آخر، فإنّ السلوك على وفق الحكمة وعدم التخطّي عمّا تقتضيه لا ينافي الاختيار، لأنّ العاقل السويّ لا يقدم على شرب السمّ مثلًا وهو مختار مع أنّه قادر عليه، فعدم وقوع الشرب منه لصارف لا ينافي قدرته واختياره بل هو بنفسه إختار عدم الشرب، كما أنّ صدور فعل منه لداعٍ لا ينافي الاختيار، وكذلك الحكيم تعالى.

انوار الأصول، ج 2، ص: 458

ومنها: أنّ أفعال العباد غير صادرة عنهم باختيارهم فلا تتّصف بالحسن والقبح بالمعنى المتنازع فيه، وهو استحقاق المدح أو الذمّ على إتيانها، لأنّ الاستحقاق موقوف على وجود الاختيار.

والجواب عنه حلّاً: أنّه مبني على مبنى فاسد وهو القول بالجبر.

ونقضاً: أنّ هذا الوجه بعينه جارٍ بعد ورود حكم الشرع بالحسن والقبح مع أنّهم ملتزمون بهما بعد ورودهما في الشرع.

ومنها: أنّ القول بحسن الأفعال وقبحها يستلزم قيام المعنى بالمعنى، والظاهر أنّ مرادهم العرض بالعرض، وهو محال، وجه الملازمة: أنّ الأفعال من مقولة الفعل كما أنّ الحسن والقبح أيضاً من مقولة الكيف.

والجواب عنه أوّلًا: بالنقض بأنّ هذا يرد على الحسن والقبح الشرعيين

أيضاً وثانياً: بالحلّ فإنّه لا دليل على استحالة قيام العرض بالعرض، فكم من عرض قائم بعرض آخر.

أضف إلى ذلك (وهو العمدة) أنّ الحسن والقبح ليسا من الصفات التكوينيّة الوجوديّة المتحقّقة في موضوعها بل إنّهما من الامور الاعتباريّة المنتزعة التي لها منشأ للانتزاع في الخارج، فينتزع الحسن في قولك: «العدل حسن» ممّا يوجبه العدل في الخارج من المنافع، وينتزع القبح في قولك: «الظلم قبيح» ممّا يوجبه من الفساد والمضارّ.

ويشبه هذا الوجه بالشبهة السوفسطائيّة التي نشأت من وقوع الخطأ في الحواس، فأوجبت إنكار السوفسطائي لعالم الوجود مع أنّه أمر وجداني لا يمكن إنكاره، والصحيح في مثل هذه الامور الفطريّة الوجدانيّة النهوض على جواب لحلّ بعض الشبهات الواردة لا إنكار أصل الموضوع الثابت بالوجدان قطعاً.

إلى هنا ظهر الحال في المقام الأوّل وهو ثبوت الحسن والقبح للأشياء ذاتاً.

المقام الثاني: في إمكان إدراك الحسن والقبح الذاتيين بالجملة

وهو إمكان إدراك الحسن والقبح الذاتيين بالعقل في الجملة فالكلام فيه يظهر ممّا مرّ في المقام الأوّل ولا نطيل البحث بتكراره.

المقام الثالث: ثبوت الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع
اشارة

وهي «أنّه كلّما حكم به العقل حكم به الشرع» فقبل الورود في البحث عنها لابدّ من تفسير كلمة الحكم الوارد في الجملتين فنقول: إنّه فرق بين الحكم في قولنا: «حكم به العقل» والحكم في قولنا: «حكم به الشرع» حيث إن الحكم الأوّل معناه إدراك العقل لا إنشائه وجعله لأنّ إنشاء التكليف من شأن المولى (نعم للعقلاء بناءات واعتبارات وقوانين إنشائيّة في دائرة أحكامهم العقلائيّة وهي في الحقيقة من سنخ إنشاءات الموالي بالنسبة إلى العبيد).

وأمّا الحكم الثاني، فليس هو بمعنى الإدراك بل هو بمعنى التشريع والتقنين لكون الشارع مولى الموالي والناس جميعهم عباده، هذه نكتة.

والنكتة الثانية: أنّ قضيّة الأصل في هذا العنوان (أي قضية كلّما حكم به العقل، حكم به الشرع) مخالف للعكس (وهي كلّما حكم به الشرع حكم به العقل) فإنّ الأولى قضية مطلقة والثانية مشروطة، لأنّها مشروطة بأن يدرك العقل من جانب الشارع فلسفة الحكم من المصلحة والمفسدة ثمّ يحكم بحسنه أو قبحه فتكون قضية العكس هكذا: «كلّما حكم به الشرع، حكم به العقل لو اطلع على حكمة حكم الشرع».

الأقوال في المسألة:

في المسألة أقوال أربعة:

أحدها: أنّ الملازمة ثابتة من جانب الأصل والعكس معاً.

ثانيها: قول الأشاعرة وهو إنكار الملازمة مطلقاً.

ثالثها: قول صاحب الفصول من أنّ الملازمة ثابتة بين حسن التكليف بفعل أو قبحه وبين حكم الشارع، لا بين حسن الفعل (المكلّف به) أو قبحه وبين حكم الشرع.

رابعها: التفصيل بين ما إذا تطابقت آراء العقلاء على حسن فعل أو قبحه وبين ما إذا لم تتطابق آراؤهم عليه، والملازمة ثابتة في الصورة الاولى لا الثانية (ويستفاد هذا من تضاعيف ما ذكره في اصول الفقه) «1».

انوار الأصول، ج 2، ص: 460

والمختار هو القول الأوّل، لكن المراد من حكم الشارع هو

الأعمّ من الإلزامي وغيره، والدليل على ذلك حكمة الباري تعالى، فإذا كان الفعل واجداً لمصلحة تامّة أو مفسدة كذلك فكيف يمكن أن لا يكون للشارع فيه حكم مع أنّه قد ثبت عند الإماميّة عدم خلوّ شي ء من الأشياء من حكم من الأحكام، فبعد حكم العقل بالحسن أو القبح يثبت أوّلًا إنقداح إرادة أو كراهة في بعض المبادى ء العالية ثمّ بانضمام الكبرى الثابتة في محلّه من عدم خلوّ الأشياء عن الحكم يثبت حكم الشارع، فالطريق الصحيح عندنا هو حكمة الباري، ومقتضاها ثبوت الملازمة مطلقاً، وكيف يعقل ترك التكليف من المولى الحكيم إذا كان في الفعل مصلحة تامّة قطعية أو مفسدة كذلك؟ ومن المعلوم أنّ ترك الأمر والنهي في هذه المقامات منافٍ للحكمة، فإذا أدرك العقل المصلحة التامّة في أمر (أي مصلحة لا معارض لها) وأدرك علّية ذلك للحكم بتبعية الأحكام الشرعيّة للمصالح والمفاسد يكشف أيضاً حكم الشارع به، كحكمه بقبح اختلال النظام الذي يكون علّة لحكم الشارع بحرمته بلا ريب.

وإن شئت فاختبر نفسك أنّه قبل نزول قوله تعالى: «وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا» فهل تحتمل أن لا يكون قتل المؤمن متعمّداً مبغوضاً عند اللَّه وحراماً في حكمه؟ وهل تحتمل أن تتنزّل الآية هكذا: «وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ الجنّة خَالِداً فِيهَا» كلّا، لا يقول به إلّاالمكابر، وكذا في أشباهه من الامور التي يدرك العقل حسنها وقبحها ومصالحها ومفاسدها بنحو العلّة التامّة.

واستدلّ المنكرون لعدم الملازمة مطلقاً بوجوه:

الوجه الأوّل: أنّها مخالفة لقوله تعالى: «وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا» «1»

فإنّها تدلّ على أنّه لا عقاب من دون إرسال المرسل وقبل صدور الأدلّة السمعيّة.

واجيب عنه بوجوه:

الأوّل: أنّ الظاهر من نفي العذاب في هذه الآية إنّما هو

نفي الفعليّة لا نفي الاستحقاق، ومحلّ النزاع في المقام هو الملازمة بين حكم العقل وبين استحقاق العقاب.

ويرد عليه: إنّ هذا لا يفيد الفقيه والاصولي شيئاً، فإنّ نتيجته على كلّ حال نفي العقاب،

انوار الأصول، ج 2، ص: 461

وهو العمدة في المقام، فلا تنجّز للأحكام العقليّة ولا يجب امتثالها في النتيجة، مع أنّ القائل بالملازمة يريد أن يجعل دليل العقل من الأدلّة الأربعة التي تنكشف بها القوانين الشرعيّة الإلزاميّة.

الثاني: أنّ العقل أيضاً داخل في زمرة الرسل، فإنّه رسول وحجّة باطنة كما أنّ النبي صلى الله عليه و آله حجّة ظاهرة، وقد ورد في رواية هشام: «أنّ للَّه على الناس حجّتين: حجّة ظاهرة وحجّة باطنة فأمّا الظاهر فالرسل والأنبياء والأئمّة عليهم السلام، وأمّا الباطنة فالعقول» «1» وفي رواية عبداللَّه بن سنان عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «حجّة اللَّه على العباد النبي، والحجّة فيما بين العباد وبين اللَّه العقل» «2».

وفيه: أنّ الرسول في الآية بقرينة كلمة البعث ظاهر في الرسول الظاهري ومنصرف إلى الحجج الظاهرة.

الثالث: (وهو الحقّ) أنّ المراد من العذاب في الآية ليس مطلق العذاب، بل المراد منه عذاب الإستئصال الذي يوجب الهدم والهلاك في الدنيا كالطوفان لقوم نوح عليه السلام والغرق لقوم فرعون والصيحة السماويّة لأقوام اخر، فالآية إشارة إلى هذا النوع من العذاب، ولذلك عبّرت عنه بصيغة الماضي بقوله تعالى: «ما كنّا» ويشهد لذلك أيضاً ما وردت بعدها من قوله تعالى: «وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً» «3»

. ولا أقلّ من أنّه ليس للآية إطلاق يشمل غير عذاب الإستئصال فإنّها محفوفة بما يصلح للقرينة.

الرابع: أنّ الآية

كناية عن إتمام الحجّة ويكون ذكر بعث الرسل فيها من باب الغلبة لأنّ جلّ الأحكام وصلت إلينا من طريق الأدلّة السمعيّة، فيكون مفاد الآية «إنّا لا نعذّب العباد حتّى نتمّ الحجّة عليهم» ويشهد على هذا قوله تعالى: «وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى» «4».

وهذا الجواب أيضاً لا بأس به.

انوار الأصول، ج 2، ص: 462

الخامس: سلّمنا ولكن إطلاق الآية قابل للتقييد بالمستقلّات العقليّة، فإنّ هذا الظهور دليل ظنّي وذاك دليل قطعي.

فتلخّص من جميع ما ذكر أنّ الاستدلال بالآية لنفي الملازمة غير تامّ بالوجوه الثلاثة الأخيرة.

الوجه الثاني: لعدم الملازمة: ما يدلّ من الرّوايات على خلوّ كلّ شي ء عن الحكم قبل ورود الشرع وأنّ كلّ شي ء مطلق حتّى يرد فيه نهي «1».

والجواب عن هذا الاستدلال هو الوجهان الأخيران من الوجوه الخمسة المذكورة في الجواب عن الدليل الأوّل:

أحدهما: انصراف إطلاقها إلى الغالب، والثاني: أنّ الإطلاق على فرض ثبوته قابل للتقييد.

الوجه الثالث: ما ذكر في علم الكلام من استناد لزوم بعث الرسل إلى قاعدة اللطف لأنّ تمام اللطف وكماله متوقّف على تأكيد أحكام العقل بأدلّة سمعية وإمضائها من ناحية بعث الرسل.

والجواب عن هذا واضح، وهو ما مرّ في البحث عن الإجماع اللطفي، فقد ذكرنا هناك أنّ الواجب من اللطف عبارة عن إيجاد الحدّ الأقل من تهيئة أسباب الرشد والكمال بحيث لو لم يعدّها المولى لكان مقصّراً في أداء وظيفته وناقضاً لغرضه.

الوجه الرابع: ثبوت الأحكام العقليّة في حقّ الصبي المراهق إذا كان كامل العقل لطيف القريحة مع عدم كونه مكلّفاً بوجوب ولا تحريم باتّفاق جميع الفقهاء لحديث رفع القلم.

وفيه: أنّه يمكن أن يقال أنّ حديث رفع القلم ناظر إلى

غالب الأحكام ويكون منصرفاً عن المستقلّات العقليّة، فهل يمكن أن يفتي أحد من الفقهاء بجواز قتل النفس المحترمة والظلم على الناس وغير ذلك من القبائح لمثل هذا الصبي ويحكم بعدم عقابه في الآخرة؟ كلّا- ولا زال فكري مشغولًا بهذا وكنت أستبعده منذ الزمن القديم، والإنصاف هو الحكم بتحريم مثل هذه الامور على الصبي المذكور.

فإن قلت: فلماذا لا يجري عليه أحكام القصاص بل يكتفي فيه بأخذ الديّة وصرّح الفقهاء بأنّ عمد الصبي خطأ.

انوار الأصول، ج 2، ص: 463

قلنا: البحث في القصاص والديّات خارج عن محلّ النزاع، لأنّ النزاع في العقاب وعدمه، ونفي القصاص عنه في الدنيا لمصلحة خاصّة أو مفسدة خاصّة لا يلازم نفي العقاب في الآخرة، مضافاً إلى أنّ أحكام الحدود والديّات والقصاص لا تصاب بالعقول كما يشهد عليه قصّة أبان، فإنّ الحدّ مثلًا ثابت بالنسبة إلى معصية وغير ثابت بالنسبة إلى معصية اخرى أشدّ منها ظاهراً.

هذه هي أدلّة منكري الملازمة مع الجواب عن كلّ منها على حدة، ويمكن الجواب عن جميعها بالنقض بوجوب النظر في معجزة من يدّعي النبوّة ويقول: «انظروا في معجزتي لتعلموا صدقي» فلا إشكال في وجوب النظر عقلًا، ولو أنكرنا الملازمة وقلنا بلزوم الاكتفاء بالشرع لزم عدم وجوب هذا النظر وسدّ باب دعوة الأنبياء.

هذا كلّه في القول الثاني وهو إنكار الملازمة مطلقاً.

وأمّا القول الثالث: وهو ما ذهب إليه صاحب الفصول (من التفصيل بين حكم العقل بحسن التكليف وحكمه بحسن الفعل وأنّ الملازمة ثابتة في الأوّل دون الثاني) فقد ذكر لذلك وجوهاً:

أحدها: حسن التكليف الابتلائي فإنّ الضرورة قاضية بحسن أمر المولى عبده بما لا يستحقّ فاعله (من حيث إنّه فاعله) المدح في نظره استخباراً لأمر العبد أو إظهاراً لحاله عند غيره، ولو كان

حسن التكليف مقصوراً على حسن الفعل لما حسن ذلك.

وحاصله: أنّ الأوامر الإمتحانيّة ممّا لا يمكن إنكارها مع عدم وجود الحسن في نفس الفعل بل في التكليف.

والجواب عن هذا الوجه يتمّ بذكر أمرين:

الأمر الأول: أنّه فرق بين الإمتحانات الإلهية والإمتحانات الواقعة من جانب الموالي العرفيّة، لأنّ الاولى ليست للاستخبار ولا معنى له فيها لأنّ اللَّه تبارك وتعالى عالم السرّ والخفيّات، بل إنّها أسباب تربوية لتكامل العباد ورشدهم وبمنزلة تمرينات يعمل بها قبل الورود في ميدان المسابقات، التي تعدّ نوعاً من التقوية والتهيّؤ الروحاني نظير التهيّؤ الجسماني، فتكون المصلحة في نفس الفعل والمقدّمات التي تتحقّق في الخارج، فإنّ جميعها تحوي على المصلحة، والمصلحة هي ما ذكر من التعليم والتربيّة والتقوية الروحانيّة كما حصلت لإبراهيم انوار الأصول، ج 2، ص: 464

في قصّة ذبحه لإسماعيل أشار إليه تبارك وتعالى بقوله: «وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً» «1»

، فإنّ المصلحة فيها موجودة في الفعل، أي في جميع المقدّمات قبل حصول ذي المقدّمة والوصول إليها، فإذا وصلت إلى ذي المقدّمة منع عن تحقّقه مانع من جانب اللَّه تعالى.

الأمر الثاني: وإن أبيت عن ما ذكر (من وجود المصلحة في الفعل) فنقول: الأوامر الإمتحانية خارجة عن محلّ النزاع، لأنّ النزاع في الأوامر الجدّية التي تنشأ عن جدٍّ، والأوامر الإمتحانية إنشاءات صادرة بالإرادة الاستعماليّة بداعي الإمتحان لا بداعي الجدّ.

ثانيها: التكاليف التي ترد مورد التقيّة إذا لم يكن في نفس العمل تقيّة فإنّ إمكانها بل وقوعها في الأخبار المأثورة عن الأئمّة الأطهار عليهم السلام ممّا لا يكاد يعتريه شوب الإنكار، وإن منعنا وقوعه في حقّه تعالى بل وفي حقّ النبي صلى الله عليه و آله أيضاً فإنّ تلك التكاليف متّصفة بالحسن

والرجحان لما فيها من صون المكلّف أو المكلَّف عن مكائد الأعادي وشرورهم وإن تجرّد ما كلّف به عن الحسن الابتدائي.

والجواب عنه هو الجواب عن الوجه الأوّل، فإنّ هذا القسم من الأوامر أيضاً خارجة عن محلّ النزاع لخلوّها عن الإرادة الجدّية.

ثالثها: أنّ كثيراً من الأحكام المقرّرة في الشريعة معلّلة في الحقيقة ولو بحسب الظنّ أو الاحتمال بحكم غير مطرد في جميع مواردها، ومع ذلك فقد حافظ الشارع على عمومها وكلّيتها حذراً من الأداء إلى الاخلال بموارد الحكم كتشريع العدّة لحفظ الأنساب من الاختلاط حيث أثبتها الشارع بشرائطها على سبيل الكلّية حتّى مع القطع بعدم النسب أو بعدم الاختلاط كما في المطلّقة المدخول بها دبراً أو مجرّداً عن الإنزال والغائب عنها زوجها أو المتروك وطيها مدّة الحمل وغير ذلك.

وفيه: أنّه يظهر بالتأمّل والدقّة في هذه الموارد أنّ الفعل أيضاً حسن وذو مصلحة لأنّ العدّة في موارد القطع بعدم الاختلاط مثلًا يوجب الممارسة والتربيّة لإحراز القانون وحفظها في موارد الاختلاط والالتباس، فله حسن مقدّمي غيري نظير رعاية مقرّرات السياقة في جوف انوار الأصول، ج 2، ص: 465

الليل وحين خلوة الشارع فإنّ فيها مصلحة حفظ هذه المقرّرات في غير ذلك الزمان.

رابعها: «الأخبار الدالّة على عدم تعلّق بعض التكاليف بهذه الامّة دفعاً للكلفة والمشقّة عنهم كقوله صلى الله عليه و آله «لولا أن أشقّ على امّتي لأمرتهم بالسواك» فإنّ وجود المشقّة في الفعل قد يقدح في حسن الإلزام به وإن لم يقدح في حسن الفعل، إلّاأن يكون في الفعل مزيد حسن بحيث يرجّح الإلزام به مع المشقّة كما في الجهاد، فإنّ الفعل الشاقّ قد يكون حسناً بل واجباً عقليّاً لكن لا يحسن الإلزام به لما فيه من التضييق على المكلّف مع

قضاء الحكمة بعدمه».

ويرد عليه: أنّ الإنصاف في مثال السواك أنّ المشقّة موجودة في الفعل بوصف الدوام وهو لا يناسب الشريعة السمحة السهلة فلا توجد فيه مصلحة حينئذٍ، أي عمل السواك الدائمي ليس ذا مصلحة بل المصلحة موجودة فيه في الجملة، وبعبارة اخرى: أنّ الرّواية وإن دلّت بظاهرها على وجود المشقّة في الوجوب والإلزام لكن بعد التأمّل يظهر لنا أنّ مشقّة الإلزام تنشأ من مشقّة دوام الفعل لأنّه لو كان الواجب السواك في بعض الأحيان مثلًا لم يكن في الفعل مشقّة، فالمشقّة ناشئة من الفعل بوصف الدوام، فلا ينشأ عدم الإلزام من عدم حسن التكليف بل ينشأ في الواقع من عدم حسن الفعل المكلّف به.

خامسها: «أنّ الصبي المراهق إذا كان كامل العقل لطيف القريحة تثبت الأحكام العقليّة في حقّه كغيره من الكاملين ومع ذلك لم يكلّفه الشارع بوجوب ولا تحريم لمصالح داعية إلى ترك تكليفه بهما من التوسعة عليه وحفظ القوانين الشرعيّة عن التشويش وعدم الانضباط».

والجواب عنه قد مرّ سابقاً من منع عدم العقاب الاخروي في المستقلّات العقليّة في مثل هذا الصبي، وأمّا حديث رفع القلم فالظاهر أنّه ناظر إلى غالب الأحكام الشرعيّة.

سادسها: «أنّ جملة من الأوامر الشرعيّة المتعلّقة بجملة من الأفعال مشروطة بقصد القربه والامتثال حتّى أنّها لو تجرّدت عنه لتجرّدت عن وصف الوجوب كالصوم والصّلاة والحجّ والزّكاة، فإنّ وقوعها موصوف بالوجوب الشرعي أو رجحانه مشروط بنيّة القربة حتّى أنّها لو وقعت بدونها لم تتّصف به، مع أنّ تلك الأفعال بحسب الواقع لا تخلو إمّا أن تكون واجبات عقليّة مطلقاً، أو بشرط الأمر بها ووقوعها بقصد الامتثال، وعلى التقديرين يثبت المقصود، أمّا على الحكم الأوّل فلحكم العقل بوجوبها عند عدم قصد الامتثال وحكم الشارع بعدم

وجوبه، وأمّا على الثاني فلانتفاء الحسن قبل التكليف وحصوله بعده فلم يتفرّع حسن التكليف على حسن الفعل».

انوار الأصول، ج 2، ص: 466

ويرد عليه:

أوّلًا: ما مرّ في مبحث الأوامر من عدم اعتبار قصد الأمر في تحقّق قصد القربة بل يكفي قصد كونه للَّه تعالى وقصد حسنه الذاتي.

وثانياً: أنّ المدّعى في المقام هو حسن الفعل في ظرف الامتثال لا حسنه في ظرف التكليف، وأمر الشارع وإلزامه متوقّف على الأوّل لا الثاني، ولا إشكال في أنّ حسن الفعل حاصل في ظرف الامتثال، هذا- مضافاً إلى أنّه بالتأمّل يظهر أنّ أكثر هذه الإشكالات مربوطة بعكس القضيه، وهي «كلّ ما حكم به الشرع حكم به العقل»، وقد مرّ أنّ المدّعى والمختار هو الأصل والعكس معاً.

هذا كلّه في القول الثالث.

وأمّا القول الرابع: وهو ما ذهب إليه بعض فضلاء العصر من التفصيل بين ما إذا تطابقت آراء العقلاء على مصلحة أو مفسدة وبين ما إذا لم تتطابق آرائهم على ذلك، فقال في مقام توجيهه والاستدلال عليه بما نصّه: «الحقّ أنّ الملازمة ثابتة عقلًا فإنّ العقل إذا حكم بحسن شي ء أو قبحه (أي إنّه إذا تطابقت آراء العقلاء جميعاً بما هم عقلاء على حسن شي ء لما فيه من حفظ النظام وبقاء النوع أو على قبحه لما فيه من الاخلال بذلك) فإنّ الحكم هذا يكون بادى ء رأي الجميع فلا بدّ أن يحكم الشارع بحكمهم لأنّه منهم بل رئيسهم فهو بما هو عاقل (بل خالق العقل) كسائر العقلاء لابدّ أن يحكم بما يحكمون ولو فرضنا أنّه لم يشاركهم في حكمهم لما كان ذلك الحكم بادى ء رأي الجميع (حاصل رأي الجميع) وهذا خلاف الفرض» «1» بل في مثل هذه الحالة صرّح في موضع آخر من كلامه بأنّ «حكم

العقل حينئذٍ عين حكم الشارع لا أنّه كاشف عنه» وقال في محلّ آخر ما نصّه: «وعلى هذا فلا سبيل للعقل بما هو عقل إلى إدراك جميع ملاكات الأحكام الشرعيّة فإذا أدرك العقل المصلحة في شي ء أو المفسدة في آخر ولم يكن إدراكه مستنداً إلى إدراك المصلحة أو المفسدة العامتين اللتين يتساوى في إدراكهما جميع العقلاء فإنّه (أعني العقل) لا سبيل له إلى الحكم بأنّ هذا المدرك يجب أن يحكم به الشارع على طبق حكم العقل، إذ يحتمل أنّ هناك ما هو مناط لحكم الشارع غير ما أدركه العقل، أو أنّ انوار الأصول، ج 2، ص: 467

هناك مانعاً يمنع من حكم الشارع على طبق ما أدركه العقل وإن كان ما أدركه مقتضياً لحكم الشارع» «1».

فملخّص كلامه هذا ثبوت الملازمة في صورة التطابق وعدم ثبوتها في صورة عدم التطابق وأنّ الوجه في الأوّل كون الشارع من العقلاء، فلو لم يكن له حكم يستلزم الخلف، وفي الثاني احتمال كون المناط في نظر الشارع غير ما هو المناط في نظر العقل، أو وجود المانع في فرض اتّحاد المناط، وقال أيضاً في موضع آخر: «والقضايا المشهورة ليس لها واقع وراء تطابق الآراء، أي أنّ واقعها ذلك فمعنى حسن العدل أو العلم عندهم أنّ فاعله ممدوح لدى العقلاء، ومعنى قبح الظلم والجهل أنّ فاعله مذموم لديهم» «2».

ثمّ إنّه قال في محلّ آخر من كلامه (بعد تقسيمه الأمر إلى المولوي والإرشادي وتفسيره الأمر المولوي بالتأسيسي والإرشادي بالتأكيدي) ما نصّه: «والحقّ أنّه للإرشاد حيث يفرض أنّ حكم العقل هذا كافٍ لدعوة المكلّف إلى الفعل الحسن وإندفاع إرادته للقيام به فلا حاجة إلى جعل الداعي من قبل المولى ثانياً بل يكون عبثاً ولغواً بل هو

مستحيل لأنّه يكون من باب تحصيل الحاصل» «3».

ونتيجة هذا الكلام أنّ حكم الشارع في مثل قوله تعالى: «كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ» وقوله:

«إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ» بالقسط والعدل والاحسان إرشادي لأنّ العقل أيضاً يحكم بكلّ واحد منها.

أقول: كلّ هذا من عجائب الكلام لأنّه أوّلًا: أنّه لا دخل لتطابق آراء العقلاء في المباحث العقليّة، بل الميزان فيها هو القطع الحاصل ببداهة العقل أو النظر والاستدلال وكلّ إنسان من هذه الناحية تابع لعقله ويقينه، فلو قطع أحد بوجوب المقدّمة في مبحث وجود الملازمة بين وجوب المقدّمة ووجوب ذي المقدّمة يكون قطعه هذا حجّة عليه ولو خالفه غيره.

وبعبارة اخرى: القطع في المقام نظير القطع في الامور الحسّية فكما أنّه حجّة للقاطع في الامور الحسّية ولا يضرّ بها مخالفة السائرين، فكذلك في الامور العقليّة البرهانية، وقد مرّ فيما

انوار الأصول، ج 2، ص: 468

سبق أنّ النزاع في المقام ليس منحصراً في الضروريات فقط فلا دور لإجماع العقلاء وتطابقهم في حجّية القطع الحاصل من الدليل العقلي، نعم أنّها مفيدة على حدّ التأييد وإيجاد اطمئنان القلب.

وثانياً: أنّ استدلاله لعدم الملازمة في صورة عدم تطابق آراء العقلاء باحتمال أن يكون هناك مناط لحكم الشارع غير ما أدركه العقل أو مانع يمنع عنه- مخالف لما هو المفروض في محلّ الكلام، لأنّ المفروض في هذه الصورة أيضاً حصول اليقين بالحسن أو القبح (كاليقين بحسن العدل أو قبح الظلم في صورة تطابق الآراء) جامعاً للشرائط وفاقداً للموانع، واليقين حجّة بذاته من دون حاجة إلى تطابق الآراء.

وثالثاً: أنّ قوله باعتبار تطابق آراء العقلاء واتّفاقهم في حكم العقل بالملازمة أشبه بالتمسّك بدليل الاستقراء الذي يرجع إلى استنباط حكم عام من مشاهدة الجزئيات والمصاديق، مع أنّ الدليل العقلي في المقام قياس

يتشكّل من صغرى وكبرى، وعبارة عن الحركة من الكلّي إلى الجزئي.

وإن شئت قلت: إن كان الاستقراء هنا استقراءً ناقصاً لا يوجب القطع بالمصلحة أو المفسدة فلا فائدة فيه ولا يستكشف منه الحكم الشرعي، وإن كان استقراء تامّاً يشمل حكم الشارع أيضاً، فحينئذٍ يكون الملاك ما استكشفناه من حكم الشرع، ولا دخل أيضاً لتطابق الآراء.

ورابعاً: أنّ الملاك في مولويّة الحكم إنّما هو صدوره من المولى بما أنّه مولى ومفترض الطاعة، أي صدوره من ناحية مولويته، وإذاً يمكن الجمع بين التأكيد والمولويّة، أي يمكن تأكيد أمر مولوي بأمر مولوي آخر، فلا يكون الأمر المولوي منحصراً في التأسيس، كما أنّ الملاك في إرشاديّة الحكم صدوره من ناحية المولى بما أنّه ناصح مرشد (لا بما أنّه مولى) وحينئذٍ يكون إرشاديّاً ولو كان أوّل ما صدر من المولى، فليس منحصراً في التأكيد فالأمر في مثل قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ» أو قوله: «كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ» مولوي قطعاً، وإن حكم العقل أيضاً بالعدل والاحسان والقسط، لصدوره منه تعالى بما أنّه مولى مفترض الطاعة لا بما أنّه ناصح ومرشد إلى حكم العقل.

وخامساً: أنّ قوله باستحالة حكم الشارع في مورد حكم العقل أيضاً كلام عجيب لأنّه انوار الأصول، ج 2، ص: 469

كيف يمكن أن يكون التأكيد تحصيلًا للحاصل، وقد قرّر في علم الكلام أنّ من غايات بعث الأنبياء تأكيد الأحكام العقليّة بواسطة التشريع، ولم يقل أحد هناك بأنّه تحصيل للحاصل، وقد اشتهر بينهم أنّ الواجبات الشرعيّة ألطاف في الواجبات العقليّة.

وسادساً: ما اشتهر بينهم من أنّ الحسن والقبح من المشهورات المبنية على التدريب والتربيّة (والظاهر أنّهم أخذوه ممّا ذكره ابن سينا في منطق الإشارات) «1» الظاهر أنّه من المشهورات التي لا أصل لها

وكذا ما ورد في كلمات بعضهم من أنّ الحسن والقبح من الامور الإنشائيّة المجعولة من جانب العقلاء، بل الحقّ أنّه في كثير من مصاديقها من الامور الواقعيّة البديهيّة أو ما يقرب من البداهة ولا دخل للتربية ولا للإنشاء فيهما.

توضيح ذلك: أنّ العدالة والظلم (المذكورين في المثال) لهما آثار في المجتمع الإنساني بل في الافراد من الصلاح والفساد لا يقدر أحد على إنكارها، لا أقول: إنّه من قبيل «الواحد نصف الإثنين» بل أقول: إنّها تدرك بأدنى تأمّل وتفكّر، فمن ذا الذي لا يدرك المفاسد الحاصلة من الظلم، والمصالح والعمران والتكامل الحاصلة من العدل، ولو كان هناك اختلاف فإنّما هو في موضوعاته ومصاديقه لا في أصله.

وإن شئت قلت: هناك امور ثلاثة: المصالح والمفاسد الحاصلة من العدل والظلم ونفس هذين الوصفين (العدل والظلم) ثمّ مدح العقلاء وذمّهم على فعلهما.

فالمصالح والمفاسد امور واقعيّة تكوينيّة (مثل إراقة الدماء ومصادرة الأموال والاضطرابات الحاصلة منها وخراب البلاد والعدوان على العباد أو الهدوء والراحة وعمارة البلاد ورفاه العباد، كلّ هذه وأشباهها امور تكوينيّة) وعلى أثر ذلك يستحسن عقل الإنسان العدالة ويستقبح الظلم من غير حاجة إلى من يعلّمه ويدرّبه أو يقوم بالجعل والإنشاء.

ثمّ بعد ذلك يمدح العادل ويذمّ الظالم، والإنشاء إنّما هو في هذه المرحلة فقط (أعني مرحلة المدح والذمّ) وأمّا الاستحسان والتقبيح العقلييان فهما ينشئآن عن المبادى ء الحاصلة من المصالح والمفاسد الخارجيّة وكأنّ الخلط بين هذه الامور الثلاثة كان سبباً للمباني الفاسدة التي أشرنا إليها آنفاً.

انوار الأصول، ج 2، ص: 470

وفي الواقع أنّ الحسن والقبح من المعقولات الثانويّة التي يكون محلّ عروضها هو الذهن ومنشأها في الخارج، لا من المعقولات الأوّليّة أو الامور المجعولة المحضة.

إلى هنا تمّ البحث عن المرحلة الاولى من المراحل

الثلاثة المبحوث عنها في الأدلّة العقليّة، وهو أن يكشف العقل عن حكم الشرع ويحصل القطع به من ناحية علل الأحكام التامّة، أي المصالح والمفاسد المقتضية لحكم الشرع مع العلم بفقدان موانعها واجتماع شرائطها.

ومن هنا يظهر الكلام في المرحلة الثانية، وهي كشف العقل حكم الشرع من ناحية معلولات الأحكام، أي من ناحية ثبوت العقاب وعدمه، نظير حكم العقل في الاصول العمليّة العقليّة، وهي ثلاثة: البراءة العقليّة، الاحتياط العقلي والتخيير العقلي.

أمّا البراءة العقليّة: فهي مبنية على كون قاعدة قبح العقاب بلا بيان قاعدة عقليّة لا عقلائيّة، فيستكشف من حكم العقل بقبح العقاب حكم الشارع بعدم فعلية الوجوب والحرمة الواقعيين لو كانا في البين.

وأمّا الاحتياط العقلي: فهو حكم العقل بصحّة العقاب في صورة وجود العلم الإجمالي في الشبهات المحصورة، وكذلك في الشبهات البدويّة قبل الفحص، فيحكم العقل بفعلية الحكم الواقعي في أطراف الشبهة في الشبهات المحصورة، ويحكم في الشبهات قبل الفحص بأنّه لو كان هناك حكم واقعي كان فعليّاً يؤخذ العبد به.

وكذلك التخيير العقلي: فإذا دار الأمر بين الوجوب والحرمة يحكم العقل بقبح العقاب لمن إرتكب الفعل أو تركه، ويكشف من هذا الطريق عدم فعلية الحكم الواقعي الشرعي، ففي تمام موارد جريان الاصول العقليّة يكشف العقل عن حكم الشرع من طريق نتيجة الحكم، وهي ثبوت العقاب وعدمه، والموضع الأصلي للبحث التفصيلي عن هذه الاصول هذا المقام، ولكن حيث إن عادة المتأخّرين من الاصوليين جرت على أن يبحثوا عنها تفصيلًا في مبحث مستقلّ تحت عنوان الاصول العمليّة فينبغي أن نتركه هنا ونحذو حذوهم.

أمّا المرحلة الثالثة: أو القسم الثالث من الأحكام العقليّة (وهي العلاقات والملازمات العقليّة بأن يحكم العقل بالتلازم ويحصل القطع به) فالمبحوث عنها في الاصول هي سبعة أبواب:

1-

باب وجوب مقدّمة الواجب، فيدرك العقل في هذا الباب التلازم بين وجوب المقدّمة وذي المقدّمة.

انوار الأصول، ج 2، ص: 471

2- باب اقتضاء الأمر بالشي ء النهي عن ضدّه، وهو فيما إذا قلنا بأنّ المسألة عقليّة لا لفظيّة (كما قال به بعض).

3- باب اجتماع الأمر والنهي فإنّ القائلين بعدم الجواز يعتقدون بأنّ الأمر يلازم عدم النهي دائماً، وكذا العكس فلا يجتمعان في شي ء واحد ولو بعنوانين.

4- باب الأهمّ والمهمّ، فيحكم العقل بوجود الملازمة بين أهمّية شي ء وفعلية حكمه وتقديمه على المهمّ.

5- باب قياس الأولويّة، فيحكم العقل بوجود الملازمة بين حرمة مرتبة نازلة من الشي ء أو الفرد الأدنى منه مثلًا وبين حرمة المرتبة العالية أو الفرد الأعلى منه.

6- باب الأدلّة النهي على الفساد بناءً على كون الدليل عليه عقليّاً كما هو المعروف فيدلّ العقل على وجوب الملازمة بين النهي عن عبادة وفسادها.

7- باب الإجزاء فيبحث فيه عن وجود الملازمة بين الأمر بشي ء وإجزائه.

ثمّ إنّ غالب هذه المسائل يبحث عنها في مباحث الألفاظ مع أنّ جميعها من الملازمات العقليّة ولذلك نقول: أنّ اصولنا وإن تكاملت في مفرداتها إلّاأنّه ليس لها نظم سليم منطقي.

وحيث إنّه مرّ البحث في هذه المسائل السبعة في أبواب الألفاظ فلا وجه لتكرارها هنا.

ثمّ إنّه سيأتي إن شاء اللَّه قياس المنصوص العلّة ليست من الأدلّة العقليّة بل هو دليل لفظي، لأنّ كبراه مقدّرة في اللفظ، ففي مثل «الخمر حرام لأنّه مسكر» يكون المقدّر «وكلّ مسكر حرام» والقرينة قائمة عليه.

إلى هنا تمّ الكلام في الأدلّة العقليّة القطعيّة.

انوار الأصول، ج 2، ص: 473

المقام الثاني- الأدلّة العقليّة الظنّية
اشارة

وهي على أقسام عديدة:

الأوّل: القياس:
اشارة

والحديث عنه يقع في مراحل أربعة:

1- تعريف القياس

أمّا تعريفه، ففي اللغة كما في المقاييس: «القياس هو تقدير الشي ء بشي ء (قست الثوب بالذرع) والمقدار مقياس، تقول: قايست الأمرين مقايسة وقياساً» «1».

وفي الاصطلاح فقد عرّفوه بتعاريف مختلفة ننقل هنا بعضها، ففي الاصول العامّة للفقه المقارن: «أنّه مساواة فرع لأصله في علّة حكمه الشرعي» «2» وفي الفصول: «إلحاق فرع بأصله في الحكم لقيام علّته به عند المجتهد» «3».

والظاهر أنّ ما ذكره في الفصول أدقّ وإن كان مآل كليهما إلى شي ء واحد.

ثمّ إنّ للقياس معنيين آخرين أحدهما: في مصطلح المنطق، وهو أنّه قضايا مستلزمة لذاتها قضية اخرى، والآخر: في مصطلح الفقه وهو التماس العلل الواقعيّة للأحكام الشرعيّة من طريق العقل، أي وجدان دليل عقلي للأحكام الشرعيّة كما يقال أنّ وجوب الخمر موافق للقياس لما يجده العقل فيه من الإسكار.

ثمّ إنّه يظهر من تعريف القياس أنّ له أركاناً أربعة: 1- الأصل (الخمر مثلًا)، 2- الفرع انوار الأصول، ج 2، ص: 474

(الفقّاع مثلًا)، 3- الحكم (الحرمة)، 4- العلّة (الإسكار).

2- أقسام القياس.

أمّا أقسام فأربعة: 1- قياس المنصوص العلّة، 2- قياس الأولويّة، 3- تنقيح المناط، 4- قياس المستنبط العلّة.

أمّا المنصوص العلّة فهو ما نصّ فيه بالعلّة كما إذا قيل: «لا تشرب الخمر لأنّه مسكر» ولا يخفى أنّ هذا القسم خارج عن التعريف لعدم تصوّر أصل وفرع فيه، بل كلّ من الخمر والنبيذ مثلًا أصل، لأنّ الحكم تعلّق في الحقيقة بعنوان المسكر بدلالة مطابقية، ويستفاد الحكم في كلّ منهما من اللفظ ومن نصّ الشارع لا من العقل.

وأمّا قياس الأولويّة فهو أن يلحق شي ء بحكم الأصل بالأولويّة القطعيّة، وهو أيضاً خارج عن محلّ البحث، وداخل في مباحث القطع، مضافاً إلى أنّه فيه أيضاً لا يتصوّر أصل ولا فرع لأنّ الدالّ في كلا الفردين هو

اللفظ غاية الأمر أنّه في أحدهما بالأدلّة المطابقيّة وفي الآخر بالدلالة الالتزاميّة.

وأمّا تنقيح المناط، فمورده ما إذا إقترن بالموضوع أوصاف وخصوصيّات لا مدخل لها في الحكم عند العرف فهو يحذفها عن الاعتبار، ويوسّع الحكم إلى ما يكون فاقداً لها، كما إذا سئل عن رجل شكّ في المسجد بين الثلاث والأربع في صلاة الظهر فاجيب بوجوب البناء على الأكثر، ويعلم من القرائن أنّه لا خصوصيّة للرجوليّة ووقوع الصّلاة في المسجد ولكون الصّلاة ظهراً، بل المناط والموضوع للحكم هو الشكّ بين الثلاث والأربع.

فتنقيح المناط هو الأخذ بأصل الحكم وما انيط به، وحذف خصوصيّاته التي لا دخل لها في الحكم، وهذا أيضاً خارج عن القياس المصطلح لعدم تصوّر الأصل والفرع فيه، كما لا يوجد فيه الركن الرابع من القياس وهو العلّة بل الكلام فيه في كشف تمام الموضوع عن لسان الدليل.

فيتعيّن القسم الرابع وهو قياس المستنبط العلّة وهو أن تثبت العلّة باستنباط ظنّي فيتصوّر فيه تمام أركان القياس، وينطبق عليه التعريف وهو محلّ النزاع في المقام.

3- الأقوال والآراء فيه.

وهي كثيرة تعود جميعها إلى ثلاثة أقوال رئيسة:

1- الاحالة العقليّة، وقد نسبها الغزالي في المستصفى إلى الشيعة وبعض المعتزلة «1» وإن لم يثبت هذا المعنى بالنسبة إلى الشيعة، كما نسبه بعض آخر إلى أحمد بن حنبل.

2- الوجوب العقلي ونسبه الغزالي أيضاً إلى قوم من العامّة.

3- الإمكان العقلي.

أمّا القول الأوّل والثاني فلا اعتبار لهما ولا طائل لنقل ما استدلّ به لإثباتهما كالاستدلال بما تمسّك به ابن قبّة لاستحالة الأحكام الظاهريّة (ومنها ما يثبت بالقياس) للقول الأوّل والاستدلال بمقدّمات الانسداد للقول الثاني لكونهما واضح البطلان، وقد مرّ الجواب عن هذين الوجهين في مبحث الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي ومباحث الانسداد.

أمّا القول بالإمكان فذهب إليه

أهل الظاهر من العامّة وابن حزم في كتاب «إبطال القياس» وقاطبة الشيعة مع القول بعدم جوازه الشرعي، وذهب قوم إلى وجوبه الشرعي، وأكثر العامّة إلى جوازه الشرعي، نعم يمكن أن يقال أنّ الجواز الشرعي في باب الحجّية مساوق مع الوجوب ولا معنى لأنّ يكون شي ء حجّة مع الجواز، وسيأتي البحث عنه في مباحث الحجّة إن شاء اللَّه.

4- أدلّة الأقوال.
أدلّة النافين:

وقبل الورود في البحث عنها ينبغي أن نذكر هنا علّة اهتمام العامّة بالقياس وبحثهم عنه في نطاق واسع.

فنقول: المنشأ الأساسي فيه أنّهم وجدوا أنفسهم في قبال موارد كثيرة ممّا لا نصّ فيه لاكتفائهم بخصوص ما روي عن الرسول صلى الله عليه و آله فقط وعدم اعتنائهم بروايات أهل بيت العصمة عليهم السلام اعراضاً عن حديث الثقلين.

انوار الأصول، ج 2، ص: 476

والأحاديث الصحيحة السند المرويّة عنه صلى الله عليه و آله قليلة في غاية القلّة، وقد نقل عن أبي حنيفة أنّ الرّوايات الموجودة عنده المنقولة عن النبي صلى الله عليه و آله لم تبلغ إلى ثلاثين حديثاً، ومن الواضح عدم إمكان تدوين الفقه في مختلف أبوابه واصوله وفروعه بهذا المقدار من الرّوايات، وإن انضمّ إليها آيات الكتاب الحكيم في هذا الباب.

نعم، ضمّ بعضهم أقوال الصحابة إلى الأحاديث النبويّة لكنّها مع عدم ثبوت حجّيتها حتّى عند كثير منهم وردت أكثرها في التاريخ والتفسير.

فمن أجل هذا الخلأ الكبير مع ملاحظة المسائل المستحدثة التي توجد في عمود الزمان وفي كلّ عصر وعصر بل كلّ يوم ويوم التمسوا منابع جديدة أوّلها القياس (وسيأتي وجه أولويته) وغيره من الامور التي نشير إليه في المباحث الآتية إن شاء اللَّه تعالى.

وأمّا الإماميّة فحيث أنّهم تمسّكوا بأهل بيت الوحي وقالوا بحجّية سنّتهم بمقتضى حديث الثقلين وغيره التي جعلت

العترة فيها مقارناً مع الكتاب غير منفكٍ عنه بل ورد في روايات عديدة أنّ قولهم قول رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وأنّهم عليهم السلام رواة الأحاديث «1» فلأجل هذه الوجوه لا يوجد لديهم خلأ في الفقه أصلًا، وذلك لكثرة النصوص الواردة عنهم عليهم السلام ولإرجاعهم شيعتهم إلى الاصول العمليّة في موارد فقدان النصّ.

إذا عرفت هذا فنقول: يدلّ على بطلان القياس أوّلًا: ما مرّ من أدلّة عدم حجّية الظنّ ولا حاجة إلى تكرارها.

وثانياً: الرّوايات الكثيرة البالغة حدّ التواتر الواردة في الباب السادس من أبواب صفات القاضي وغيرها (مضافاً إلى ما سيأتي ممّا وردت من طرق العامّة) وهي أكثر من عشرين حديثاً (ح 2، 4، 10، 11، 15، 18، 20، 22، 23، 24، 25، 26، 27، 28، 33، 36، 37، 39، 40، 43، 45).

وهذه الرّوايات تنقسم إلى طوائف مختلفة بمقتضى ألسنتها المتفاوتة، ففي طائفة منها: «أنّ أوّل من قاس إبليس» فيبيّن الإمام عليه السلام فيها علّة قياس إبليس، وقد ورد في مرفوعة عيسى بن عبداللَّه القرشي قال: دخل أبو حنيفة على أبي عبداللَّه عليه السلام فقال له: ياأبا حنيفة بلغني أنّك انوار الأصول، ج 2، ص: 477

تقيس؟ قال: نعم أنا أقيس، قال: لا تقس فإنّ أوّل من قاس إبليس حين قال: «خلقتني من نار وخلقته من طين» «1».

فقد اعترض إبليس على اللَّه تعالى بأنّ ملاك وجوب السجدة على آدم موجود فيه بطريق أولى فقد توهّم باستنباطه الفاسد وقياسه الكاسد أنّ أصله وهو النار أشرف من أصل آدم وهو الطين بل الحمأ المسنون ولم يتوجّه إلى الروح الإلهي الذي نفخه اللَّه في آدم.

وفي طائفة اخرى منها: تذكر مصاديق من أحكام اللَّه التي تنفي القياس وتبطله ومن جملتها

ما رواه ابن شبرمة قال: دخلت أنا وأبو حنيفة على جعفر بن محمّد عليه السلام فقال لأبي حنيفة: اتّق اللَّه ولا تقس في الدين برأيك فإنّ أوّل من قاس إبليس (إلى أن قال): «ويحك أيّهما أعظم قتل النفس أو الزنا قال: قتل النفس قال: فإنّ اللَّه عزّوجلّ قد قبل في قتل النفس شاهدين ولم يقبل في الزنا إلّاأربعة، ثمّ أيّهما أعظم الصّلاة أم الصّوم؟ قال: الصّلاة، قال: فما بال الحائض تقضي الصّيام ولا تقضي الصّلاة؟ فكيف يقوم لك القياس؟ فاتّق اللَّه ولا تقس»»

.وفي طائفة ثالثة منها: «أنّ أمر اللَّه لا يقاس» فمنها: ما رواه محمّد بن مسلم عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «في كتاب آداب أمير المؤمنين عليه السلام لا تقيس الدين فإنّ أمر اللَّه لا يقاس وسيأتي قوم يقيسون وهم أعداء الدين» «3».

إلى غيرها من الرّوايات التي قد يمكن جمع بعضها تحت عنوان واحد آخر غير ما ذكر «4».

إن قلت: أنّ العمل بهذه الرّوايات يستلزم حرمة العمل بالقياس بأقسامه الأربعة والتالي باطل إجماعاً.

قلنا: أوّلًا: إنّ العمل في الأقسام الثلاثة الاخر لا يكون حقيقة إلّاعملًا بنفس السنّة ومفاد النصّ واللفظ فهي لا تتجاوز عن حدّ التسمية بالقياس، وأمّا حقيقة فليس شي ء منها من القياس.

وثانياً: يتعيّن بنفس الرّوايات معنى القياس الوارد فيها، لأنّ قياسات أبي حنيفة التي انوار الأصول، ج 2، ص: 478

وردت في عدّة منها كانت قياسات ظنّية مبتنية على آرائه الشخصية، كما أنّ قياس إبليس أيضاً كان قياساً ظنّياً مبنيّاً على حدسه ورأيه وعدم اعتنائه إلى قوله تعالى في حقّ آدم:

«وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي».

أضف إلى جميع ذلك ضرورة المذهب فإنّه لم ينقل جواز القياس من أحد من الإماميّة إلّا من ابن الجنيد في أوائل

إستبصاره وذلك لأجل ما بقى له من الرسوبات الذهنية من قبل الاستبصار.

ثمّ إنّه قد يستدلّ برواية أبان المعروفة لعدم حجّية القطع الحاصل من القياس أيضاً لأنّه كان قاطعاً كما يشهد عليه استعجابه وقوله في جواب الإمام عليه السلام: «سبحان اللَّه يقطع ثلاث ...» «1» إلى آخر قوله.

ولكن فيه أوّلًا: أنّه لا دلالة فيها على كونه قاطعاً بالحكم، نعم يظهر منها أنّه كان مطمئناً به.

وثانياً: سلّمنا كونه قاطعاً لكن لا تدلّ الرّواية على المنع عن العمل بالقطع بل أن الإمام أزال قطعه ببيان الفرق بين ديّة المرأة بالنسبة إلى الثلث وما بعده.

وأمّا النقاش فيها من حيث السند فليس تامّاً لأنّها وردت من طريقين لو أمكن الإشكال في أحدهما لإبراهيم بن هاشم فلا يمكن الإشكال في الآخر لأنّ رجاله كلّهم ثقات، مضافاً إلى أنّ إبراهيم بن هاشم أيضاً من الثقات بلا إشكال.

وقال بعض الأعلام: «أنّ ظهورها في المنع عن الغور في المقدّمات العقليّة لاستنباط الأحكام الشرعيّة غير قابل للإنكار بل لا يبعد أن يقال: إنّه إذا حصل منها القطع وخالف الواقع ربّما يعاقب على ذلك في بعض الوجوه» «2».

وفيه: أنّا نمنع عن ذلك، لأنّ كلام الإمام عليه السلام يرجع إلى أمرين: أحدهما: أنّه حصل له القطع بلا وجه، ولو تأمّل في المسألة لما كاد أن يحصل له، ثانيهما: أنّ الإمام عليه السلام أزال قطعه حيث قال:

«مهلًا ياأبان: هذا حكم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّ المرأة تعاقل الرجل إلى ثلث الديّة فإذا بلغت الثلث رجعت المرأة إلى النصف، يا أبان إنّك أخذتني بالقياس، والسنّة إذا قيست محق الدين».

انوار الأصول، ج 2، ص: 479

فإنّ هذه العبارة منصرفة إلى القياس الظنّي، ولو شمل القياس القطعي بإطلاقه يقيّد بما

مرّ في مباحث القطع من أنّه حجّة ذاتاً لا يمكن الردع عنه.

ثمّ إنّ صاحب الفصول نقل عن العامّة في ردّ القياس روايتين: إحديهما: قوله صلى الله عليه و آله: «تعمل هذه الامّة برهة بالكتاب وبرهة بالسنّة وبرهة بالقياس، فإذا فعلوا ذلك فقد ضلّوا» «1».

ثانيهما: قوله صلى الله عليه و آله «ستفرّق امّتي على بضع وسبعين فرقة أعظمهم فتنة قوم يقيسون الامور برأيهم فيحرّمون الحلال ويحلّلون الحرام» «2».

كما في سنن الدارمي «3» المتوفّى سنة 255 ه أيضاً رويت روايات عديدة في هذا المجال:

منها: ما روي عن عبداللَّه: «لا يأتي عليكم عام إلّاوهو شرّ من الذي كان قبله أما أنّي لست أعني عاماً ولا أميراً أخيراً من أمير ولكن علماءكم وخياركم وفقهاءكم يذهبون ثمّ لا تجدون منهم خلفاً وتجي ء قوم يقيسون الأمر برأيهم».

منها: ما روي عن ابن سيرين: «أوّل من قاس إبليس وما عبدت الشمس والقمر إلّا بالمقاييس».

ومنها: ما روي عن الحسن (البصري) «أنّه تلا هذه الآية خلقتني من نار وخلقته من طين قال قاس إبليس وهو أوّل من قاس».

ومنها: ما روي عن مسروق «أنّه قال أنّي أخاف وأخشى أن أقيس فتزلّ قدمي».

ومنها: ما روي عن الشعبي قال: «واللَّه لئن أخذتم بالمقاييس لتحرّمنّ الحلال ولتحلّن الحرام».

ومنها: ما روي عن عامر: «أنّه كان يقول ما أبغض إليّ أرأيت أرأيت يسأل الرجل صاحب فيقول: أرأيت، وكان لا يقايس».

وهذه الرّوايات أيضاً دالّة على ما نحن بصدده من بطلان العمل بالقياس.

أدلّة القائلين بحجّية القياس

وأمّا القائلون بجواز القياس فاستدلّوا بالأدلّة الأربعة والمهمّ منها الذي يليق ذكره إنّما هو السنّة وأمّا الآيات فضعفها في الدلالة على مدّعاهم لا يحتاج إلى البيان، بل يشكل فهم أصل ربطها بهذه المسألة فضلًا عن صحّة الاستدلال بها، وهذا يدلّ

على وقوعهم في ضيق شديد في مقام إقامة الدليل على ما دبّروها من قبل من صحّة القياس.

أمّا الآيات المستدلّ بها قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ...» «1»

ببيان أنّ القياس أيضاً نوع إرجاع للأمر إلى سنّة الرسول حيث إن القائس يرجع في استنباط حكم الفرع إلى الأصل الذي ثبت حكمه بالسنّة، أو يستنبطه من العلّة التي اكتشفها من السنّة.

ويرد عليه أوّلًا: إنّ وجوب الرجوع إلى الكتاب والسنّة لا يحتاج إلى الاستدلال بهذه الآية بل هو أمر واضح مستفاد من أدلّة حجّية الظهور.

وثانياً: إنّ الإشكال إنّما هو صغرى الردّ إلى اللَّه وكشف العلّة، وإنّ القياس الظنّي واستنباط الحكم من العلّة الظنّية ليسا من الردّ إلى اللَّه والرسول، لأنّ هذا هو موضع النزاع، وإلّا لو كانت العلّة قطعية وتامّة فلا كلام في أنّ مقتضى حكمة الحكيم عدم التفريق بين الأصل والفرع وهو خارج عن محلّ الكلام.

ومنها: قوله تعالى: «فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ» «بتقريب أنّ الاعتبار في الآية مأخوذ من العبور والمجاوزة وأنّ القياس عبور من حكم الأصل ومجاوزة عنه إلى حكم الفرع فإذا كنا مأمورين بالاعتبار فقد أمرنا بالعمل بالقياس وهو معنى حجّيته.

وهذا الاستدلال ركيك جدّاً يظهر بأدنى تأمّل.

ومنها: قوله تعالى: «قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ» ببيان أنّ اللَّه عزّوجلّ استدلّ بالقياس على ما أنكره منكرو البعث، فقاس عزّوجلّ إعادة المخلوقات بعد فنائها على إنشائها أوّل مرّة، وهذا الاستدلال بالقياس إقرار لحجّية القياس وصحّة الاستدلال به.

وفيه: أوّلًا: أنّها لا تدلّ على حجّية القياس إلّابضرب من القياس، وهو قياس عمل انوار الأصول، ج 2، ص: 481

الإنسان بعمل اللَّه تعالى فيلزم الدور المحال.

وثانياً: أنّ

مورد الآية خارج عن محلّ النزاع لأنّ حكم العقل بأنّ من قدر على بدأ خلق الشي ء قادر على أن يعيده حكم قطعي لا ظنّي فإنّ حكم الأمثال فيما يجوز وما لا يجوز واحد.

ومنها: قوله تعالى «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ» بتقريب أنّ العدل هو التسوية والقياس هو التسوية بين مثلين في الحكم فيتناوله عموم الآية.

وهذا أيضاً واضح الفساد فإنّ العدل هو القيام بالقسط وإعطاء كلّ ذي حقّ حقّه كما يظهر من العرف واللغة ولا ربط له بالقياس الظنّي.

هذا كلّه في الآيات التي استدلّ بها لجواز القياس.

أمّا الرّوايات، فقد حكيت روايات من طرقهم في هذا المجال أهمّها:

مرسلة معاذ بن جبل أنّه قال لمّا بعثه النبي صلى الله عليه و آله إلى اليمن قال: «كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بكتاب اللَّه قال: فإن لم تجد في كتاب اللَّه. قال: فبسنّة رسول اللَّه قال: فإن لم تجد في سنّة رسول اللَّه ولا في كتاب اللَّه. قال: أجتهد رأيي ولا آلو، قال فضرب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله صدره وقال: الحمد للَّه الذي وفّق رسول اللَّه لما يرضاه رسول اللَّه» «1».

قوله: «لا آلو» أصله «لا أَأْلو» بمعنى لا أترك.

وفيه: أنّه قابل للمناقشة سنداً ودلالة، أمّا السند فلأنّها مرسلة مضافاً إلى ضعفها من ناحية الحارث بن عمر.

وأمّا الدلالة فتقريب دلالتها: أنّ الظاهر كون الاجتهاد فيها بمعنى تقنين الفقيه وتشريعه من دون الإتّكاء على كتاب اللَّه وسنّة نبيّه صلى الله عليه و آله لأنّ المفروض أنّ الاجتهاد بالرأي فيها يكون بعد عدم ورود الكتاب والسنّة وهو شامل للقياس بإطلاقه.

لكن يرد عليه: أنّ شمول الاجتهاد لمطلق القياس أوّل الكلام.

وما روي عن النبي صلى الله عليه و آله «من

أنّه قال لمعاذ وأبي موسى الأشعري: بم تقضيان؟ فقالا: إن لم انوار الأصول، ج 2، ص: 482

نجد الحكم في الكتاب ولا السنّة قسنا الأمر بالأمر فما كان أقرب إلى الحقّ عملنا به» «1».

ووجه دلالتها أنّهما صرّحا بالأخذ بالقياس عند فقدان النصّ، والنبي صلى الله عليه و آله أقرّهما عليه فكان حجّة.

وفيه: أنّه ضعيف سنداً أيضاً فلا يمكن الاعتماد عليه وإن تمّت دلالتها.

وحديث الجارية الخثعمية أنّها قالت: «يارسول اللَّه إنّ أبي أدركته فريضة الحجّ شيخاً زمناً لا يستطيع أن يحجّ إن حججت عنه أينفعه ذلك؟ فقال لها: أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أكان ينفعه ذلك؟ قالت: نعم. قال: فدين اللَّه أحقّ بالقضاء».

وتقريب دلالته أنّه الحق دين اللَّه بدين الآدمي في وجوب القضاء ونفعه، وهو عين القياس «2».

وفيه أوّلًا: أنّ الاستدلال لحجّية قياساتنا بقياس النبي صلى الله عليه و آله نوع من القياس، واعتباره أوّل الكلام.

ثانياً: أنّ ظاهر الحديث تمسّكه صلى الله عليه و آله بالقياس الأولويّة وهو خارج عن محلّ الكلام.

ثمّ أضف إلى ذلك كلّه أنّ هذه الرّوايات لو تمّت سنداً ودلالة لكنّها معارضة بما هو أقوى وأظهر، أي الرّوايات السابقة الدالّة على بطلان القياس التي نقلنا بعضها عن طرقهم.

هذا كلّه في الاستدلال بالسنّة على حجّية القياس.

أمّا الإجماع، فقد ادّعى اتّفاق الصحابة على حجّية القياس حيث إن طائفة منهم كانوا عاملين بالقياس وطائفة اخرى سكتوا عنه فلم ينكروا عليهم.

وفيه أوّلًا: أنّ الصغرى ليست بثابتة لأنّ الكثير من الصحابة لم يكونوا في المدينة في ذاك العصر بل كانوا في مختلف بلاد الإسلام.

وثانياً: لا دليل على كون جميع الصحابة داخلين في إحدى هاتين الطائفتين وليس لنا مدرك جمع فيه أقوال كلّ الصحابة.

انوار الأصول، ج 2، ص: 483

ثالثاً: لعلّ

منشأ السكوت هو الخوف عن السوط والسيف أو عدم العلم بذلك.

ورابعاً: أنّ هذا الإجماع على فرض ثبوته معلوم المدرك لا يكشف عن قول المعصوم.

أمّا الاستدلال بالعقل، فاللائق للطرح من الوجوه العقليّة التي ذكروها في هذا الباب وجهان:

الأوّل: أنّ الأحكام الشرعيّة مستندة إلى مصالح، وهي الغايات المقصودة من تشريع الأحكام، فإذا ساوت الواقعة المسكوت عنها الواقعة المنصوص عليها في علّة الحكم التي هي مظنّة للمصلحة قضت الحكمة والعدالة بتساويهما في الحكم تحقيقاً للمصلحة التي هي مقصود الشارع من التشريع.

وجوابه اتّضح ممّا ذكر، وهو أنّه إن كان استنباط العلّة استنباطاً ظنّياً فحجّيته أوّل الكلام، والأصل عدمها، وإن كان قطعيّاً فلا إشكال في حجّيته لأنّه حينئذٍ إمّا أن يكون من قبيل إلغاء الخصوصيّة وتنقيح المناط أو من قبيل المفهوم الموافق أو المستقلّات العقليّة، ولكنّها بأسرها خارجة عن محلّ النزاع.

الثاني: ما يرجع في الحقيقة إلى مقدّمات الانسداد المذكورة سابقاً وقد عبّروا عنها ببيانات مختلفة.

منها: أنّ الحوادث والوقائع في العبادات والتصرّفات ممّا لا يقبل الحصر والعدّ، ونعلم قطعاً أنّه لم يرد في كلّ حادثة نص، ولا يتصوّر ذلك أيضاً، فإذا كانت النصوص متناهيّة، وما لا يتناهى لا يضبطه ما يتناهى، علم قطعاً أنّ الاجتهاد والقياس معتبر حتّى يكون لكلّ حادثة اجتهاد.

والجواب عنه ما مرّ سابقاً من أنّه لو فرضنا كون باب العلم منسدّاً إلّاأنّ باب العلمي مفتوح عندنا لأجل الرّوايات الواردة من ناحية أهل بيت الوحي عليهم السلام عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، هذا أوّلًا.

وثانياً: لو سلّمنا انسداد باب العلمي أيضاً لكن لا كلام في بطلان خصوص القياس للروايات الخاصّة الناهيّة عنه.

انوار الأصول، ج 2، ص: 484

وقد تلخّص من جميع ما ذكرنا امور:

الأوّل: أنّ القياس الظنّي لا دليل

على حجّيته بل قام الدليل على عدم الحجيّة، وهو الذي وقع النزاع فيه بين العامّة والخاصّة بل بين العامّة أنفسهم.

الثاني: أنّ القياس القطعي حجّة سواءً سمّي قياساً أو لم يسمّ، وهو إمّا راجع إلى قياس الأولويّة، أو قياس المنصوص العلّة، أو تنقيح المناط، أو المستقلّات العقليّة وشبهها.

الثالث: أنّ العلّة المنصوصة في الرّوايات الواردة في علل الشرائع قد يراد بها العلّة التامّة، وقد يراد بها العلّة الناقصة، وتسمّى حكمة، ويتوقّف تعيين أحدهما على ملاحظة لحن الرّوايات وتعبيراتها المختلفة والقرائن الموجودة الحاليّة والمقاليّة.

الثاني: الاستحسان

وهو في اللغة: «عدّ الشي ء حسناً» لكنّه ليس المقصود في المقام.

وأمّا في الاصطلاح فقد نقل له عن العامّة معان مختلفة كثيرة:

منها: «إنّ الاستحسان ترك القياس والأخذ بما هو أوفق للناس»، ويستفاد من هذا التعريف أنّهم حاولوا أن يعدّوا الاستحسان كاستثناء من القياس فخرجوا عن القياس فيما إذا كان تركه أوفق بحال الناس، ولذلك كثيراً ما يقال في كلماتهم «أنّ القياس حجّة إلّافي مورد الاستحسان» وحينئذٍ لا يعدّ دليلًا مستقلًا في القياس كما يشهد عليه عدم ذكر بعضهم إيّاه في الاصول.

ومنها: «أنّه هو الالتفات إلى المصلحة والعدل» وبناءً على هذا التعريف يعدّ الاستحسان أساساً مستقلًا للتشريع التقنين، وسيأتي الفرق بينه وبين المصالح المرسلة.

ومنها: ما يشبه التعريف السابق، وهو «أنّه ما يستحسنه المجتهد بعقله» وغير ذلك من التعاريف التي سيأتي ذكر بعضها في آخر البحث.

ثمّ إنّهم اختلفوا في حجّية الاستحسان وعدمها، فحكي عن الشافعي والمالك جملتان:

انوار الأصول، ج 2، ص: 485

إحديهما: ما حكي عن الشافعي في مذمّة الاستحسان وهو: «من استحسن فقد شرّع» «1» لكن اختلف في المراد من هذه الجملة فحكي عن الفتوحات أنّ المراد منها أنّ للاستحسان مقاماً عالياً كمقام الأنبياء وتشريعاتهم، لكن الإنصاف أنّ

الواضح كونها في مقام المذمّة، ولذا عدّوا الشافعي من نفاة الاستحسان.

ثانيها: ما نقل عن المالك في مدح الاستحسان وهو «أنّه تسعة أعشار العلم» «2».

ونسب إلى الظاهريين منهم إنكاره، والمعروف من مذهب أصحابنا نفيه مطلقاً.

هذه هي الأقوال في المسألة.

ثمّ إنّ الاستحسان على قسمين: قطعي وظنّي.

فالقطعي منه لا كلام في حجّيته بناءً على الحسن والقبح العقليين وقاعدة الملازمة.

والظنّي هو موضع البحث والنزاع. فالقائلون بحجّيته تمسّكوا بالكتاب والسنّة والإجماع.

أمّا الكتاب: فاستدلّوا أوّلًا: بقوله تعالى: «فَبَشِّرْ عِبَادِي الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ» «3»

. وثانياً: بقوله تعالى: «وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ» «4»

بتقريب أنّ مدح العباد على اتّباع أحسن القول في الآية الاولى وإلزامهم باتّباع أحسن ما انزل إليهم من ربّهم في الآية الثانية أمارة على جعل الحجّية له بالنسبة إلى الأقوال، ومع إلغاء الخصوصيّة للأقوال تثبت الحجّية للاستحسان في الأفعال أيضاً.

لكن الإنصاف أنّه لا ربط للآيتين بالاستحسان، فإنّهما مربوطتان بالأحسن الواقعي، والطريق إلى الواقع إنّما هو القطع أو الظنّ الثابت حجّيته لأنّ الألفاظ وضعت للمعاني الواقعيّة ولم يؤخذ فيها العلم والجهل، فوضع لفظي «الدم» و «الخمر» مثلًا للدم والخمر الواقعيين، فإن قطعنا بالواقع فهو حجّة لكون القطع نفس مشاهدة الواقع فيكون حجّة ذاتاً، وإن ظننا فلا دليل على حجّيته وليست الحجّية ذاتيّة للظنّ، هذا أوّلًا.

انوار الأصول، ج 2، ص: 486

ثانياً: المحتمل في المراد من «القول» في قوله تعالى: «ويستمعون القول» وجهان:

أحدهما: أنّ المراد منه هو قول الناس، الثاني: أنّ المراد هو آيات القرآن الكريم، فقد إحتمل المعنى الثاني بعض المفسّرين ببيان أنّ القرآن مشتمل على مستحبّات وواجبات ومكروهات ومباحات، والواجبات والمستحبّات أحسن من المكروهات والمباحات، وعباد اللَّه تعالى يتّبعون الواجبات والمستحبّات، وهذا هو المراد باتّباع الأحسن، فإن كان هذا هو

المراد من الآية فلا دخل لها بما نحن بصدده وهي أجنبية عنه.

وأمّا المعنى الأوّل فلازمه أنّ عباد اللَّه يتّبعون أحسن أقوال الناس، فإنّها تنقسم إلى الحقّ والباطل، ومن الناس من يدعوا إلى الجود والسخاء مثلًا، ومنهم من يدعوا إلى البخل والإقتار.

وعباد اللَّه يتّبعون الأحسن منهما وهو الجود والإيثار، وحينئذٍ إن قلنا بأنّ المراد من الأحسن هو الأحسن في نظر الشارع فلا ربط للآية أيضاً بمحلّ البحث، وإن كان المراد منه الأحسن في نظر العقل فهو داخل في المستقلّات العقليّة ولا يشمل موارد الظنّ.

هذا كلّه بالنسبة إلى الآية الاولى.

أمّا الآية الثانية فلها أيضاً تفسيران: أحدهما: أنّ المراد من الأحسن هو أحسن الآيات التي أُنزل إليكم، وحينئذٍ لا ربط أيضاً لها بالمقام.

ثانيهما: أنّ المراد منه القرآن وإنّه أحسن من التوراة والإنجيل وغيرهما من الكتب السماويّة وهذا أيضاً لا دخل له بما هو محلّ النزاع كما هو واضح.

هذا كلّه هو الاستدلال بالآيات.

أمّا السنّة: فقد روي عن ابن مسعود أنّه قال: «إنّ اللَّه نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمّد صلى الله عليه و آله خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه فبعثه برسالته ثمّ نظر في قلوب العباد بعد قلب محمّد صلى الله عليه و آله فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء لنبيّه يقاتلون على دينه، فما رأى المسلمون حسناً فهو عند اللَّه حسن، وما رأوا سيّئاً فهو عند اللَّه سيي ء» «1».

وهذه الرّواية غير تامّة سنداً ودلالة أمّا السند: فهي موقوفة (أي موقوفة على ابن مسعود ولم يروها أحد عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله) فليست بحجّة.

انوار الأصول، ج 2، ص: 487

وأمّا الدلالة فأوّلًا: أنّها إنّما ترتبط بمحلّ الكلام إذا كان المراد من الرؤية في قوله «ما

رأوا» الرؤية الظنّية، والإنصاف أنّ نفس كلمة الرؤية ظاهرة في العلم والقطع ولا فرق في هذه الجهة بين الرؤية القلبيّة والرؤية بالبصر.

وثانياً: قد يرى التهافت بين صدر الحديث وذيله، لأنّ الذيل ظاهر في أنّ المسلمين إذا رأوا حسناً فهو عند اللَّه حسن مع أنّ صدره يختصّ بخصوص الصحابة.

أمّا الإجماع: فقد ادّعوا أنّه توجد مسائل لا دليل عليها غير الإجماع على الاستحسان ولا تدخل تحت عنوان من العناوين الفقهيّة من العقود والإيقاعات كإجماع الامّة على استحسانهم دخول الحمام وشرب الماء من أيدي السائقين من غير تقدير لزمان المكث وتقدير الماء بالاجرة فلا يدخل شي ء منهما تحت العناوين المعروفة من العقود الشرعيّة، وفي فوائد الرحموت مثّل له بمسألة الاصطناع، فيطلب من النجّار أو الكفّاش مثلًا اصطناع باب أو نعلين من دون تقدير للوزن أو القيمة، كما يمكن التمثيل لها في عصرنا هذا بركوب السيارة من دون تقدير للُاجرة.

لكن يرد على الإجماع هذا أوّلًا: أنّه قائم على هذه الأحكام بالخصوص لا على استحسانها، وهو في الواقع ليس إجماعاً في المصطلح بل سيرة مستمرّة إلى زمن النبي صلى الله عليه و آله (لو ثبتت السيرة) قامت على هذه الأحكام.

وثانياً: أنّه يمكن إدخال هذه الأحكام تحت عناوين معروفة في فقهنا الثابتة بالأدلّة المعتبرة، فيدخل المثال الأوّل والثاني في عنوان الإباحة مع الضمان الذي له مصاديق كثيرة في الفقه وكذلك مثال ركوب السيارة.

يبقى مثال الاصطناع، وهو أيضاً يدخل في عنوان البيع، كما إذا اشترى الأبواب على نحو الكلّي في الذمّة، نعم أنّه ليس داخلًا في عقد من العقود إذا ذكر للنجّار خصوصيّات للباب ووعده أن يشتري منه فيما بعد، لكن قد يدخل هذا أيضاً في قاعدة لا ضرر إذا لم يوجد

من يشتري ذلك الباب مع تلك الخصوصيّات فيجب على الواعد جبران الخسارة.

هذا في الأدلّة التي استدلّوا بها أنفسهم على حجّية الاستحسان، ويمكن أيضاً أن يستدلّ لهم بدليل عقلي، وهو الانسداد حيث إنّه في صورة الانسداد لا يكون الظنّ القياسي كافياً لهم بل لابدّ من التعدّي إلى الظنّ الاستحساني.

انوار الأصول، ج 2، ص: 488

والجواب عنه واضح، وهو ما مرّ من كفاية الكتاب والسنّة (مع ملاحظة الرّوايات المروية من طرق أهل البيت عليهم السلام).

فقد ظهر إلى هنا أنّه إذا كان الاستحسان قطعيّاً فلا إشكال في حجّيته من باب كونها ذاتيّة للقطع، وإذا كان ظنّياً يكون مشمولًا لأدلّة عدم حجّية الظنّ، وكلّ واحد من الأدلّة الأربعة التي استدلّ بها لإثبات الحجّية له غير تامّ.

وأمّا دليل النافين فهي أدلّة عدم حجّية مطلق الظنّ كما أشرنا إليه آنفاً، لكن حكي عن الشافعي دليلًا لنفيه وهو أنّه لو قال المفتي فيما لا نصّ فيه ولا قياس: «استحسن» فلا بدّ أن يزعم جواز استحسان خلافه لغيره، فيفتي كلّ حاكم في بلد ومفت بما يستحسن، فيقال في الشي ء الواحد بضروب من الحكم والفتيا فإن كان هذا جائزاً فقد أهملوا أنفسهم فحكموا حيث شاؤوا، وإن كان ضيّقاً فلا يجوز أن يدخلوا فيه.

وقد يقال في الردّ عليه: أنّ مثل هذا الكلام غريب على الفنّ لانتهائه- لو تمّ- إلى حصر الاجتهاد مطلقاً مهما كانت مصادره، لأنّ الاختلاف واقع في الاستنباط منها إلّانادراً ولا خصوصيّة للاستحسان في ذلك «1».

لكن الإنصاف أنّه فرق بين الاستحسان وغيره لأنّه في غيره يوجد ضوابط معيّنة من شأنها أن تقلّل وقوع الاختلاف، بخلاف الاستحسان الذي لا ضابطة محدّدة فيه.

بقي هنا شي ء:

وهو أنّ للاستحسان في كلماتهم معانٍ اخرى غير ما ذكر وقد ذكرها في

شرح فواتح الرحموت:

منها: أنّ القياس إمّا جلي أو خفي، والثاني هو الاستحسان كقياس بعضهم سؤر الطيور

انوار الأصول، ج 2، ص: 489

المعلّمة بسؤر الحيوان المفترس (الذي لا إشكال في نجاسته عندهم) وحكمه بنجاسته فهو قياس جلي، وقياس بعض آخر إيّاه بسؤر الإنسان والحكم بطهارته فهو قياس خفي، وقد ذكروا هنا وجوهاً لرفع التعارض بين القياسين لا طائل تحتها، وهذا المعنى من الاستحسان مبني على قبول حجّية القياس الظنّي وقد مرّ نفيه.

منها: أنّ الاستحسان بمعنى النصّ كما حكوا عن بعض أئمّتهم أنّه قال: إنّا أثبتنا الرجم بالاستحسان لكونه منصوصاً من طرق الفريقين فاطلق الاستحسان على النصّ.

منها: أنّ الاستحسان هو الأخذ بأقوى الدليلين وهو على أربعة أقسام:

1- الأخذ بأقوى الظهورين مثل تقديم الخاصّ على العام، أو النصّ على الظاهر، وهذا داخل في باب حجّية الظواهر ولا كلام فيه.

2- الأخذ بالمرجّحات المنصوصة كالأخذ بما وافق الكتاب.

3- الأخذ بالأهمّ القطعي في مقابل المهمّ في باب التزاحم، وهذا داخل في الدليل العقلي ولا إشكال فيه أيضاً.

4- الأخذ بالأقوى والأهمّ الظنّي، وهو ليس حجّة عندنا مطلقاً إلّاما خرج بالدليل.

هذا كلّه في الاستحسان.

الثالث: المصالح المرسلة

وقد ذكر لها معانٍ مختلفة بل لعلّها متضادّة لكن ما يستفاد من أكثر الأدلّة التي ذكرت لها هو أنّ المراد من المصالح هي مصالح العباد ومضارّهم على مذاقّ الشرع، والمراد من المرسلة هي المصالح التي لم يرد فيها نصّ خاصّ ولا عامّ، أي أنّها ارسلت واطلقت ولم يرد عليها شرع لا في العمومات ولا في الخصوصات، ومثّل لها في كلمات الغزالي بتترس الكفّار بجماعة من أسارى المسلمين فلو كففنا عنهم لصدمونا وغلبوا على دار الإسلام وقتلوا كافّة المسلمين، ثمّ يقتلون الاسارى أيضاً، ولو رمينا الترس لقتلنا مسلماً معصوماً لم يذنب ذنباً،

وهذا لا عهد به في الشرع، فيجوز لقائل أن يقول: هذا الأسير مقتول على كلّ حال فحفظ جميع المسلمين أقرب إلى مقصود الشرع، فيحكم العقل هنا بوجوب رمي الترس من باب تقديم الأهمّ على المهمّ.

انوار الأصول، ج 2، ص: 490

فمن هذا المثال أيضاً يستفاد أنّ المراد من المصالح المرسلة هي المصالح على مذاقّ الشرع، لأنّ المستفاد من مجموع الأحكام الشرعيّة أنّ حفظ كيان الإسلام أهمّ عند الشارع من حفظ النفوس المحترمة.

هذا- ولابدّ هنا من إضافة نكتتين غفل عنهما في كلماتهم:

إحديهما: في الفرق بين الاستحسان والمصالح المرسلة، فالظاهر أنّ في استحسان شي ء يكفي مجرّد أن يستحسنه الطبع والفطرة من دون أن يلحظ أنّ فيه مصلحة أو مفسدة، لأنّ الحسن والقبح في الأفعال كالحسن والقبح في الطبيعة (كحسن صوت العندليب وقبح صوت الحمار) له مبدأ فطري لا حاجة فيهما إلى درك المصلحة أو المفسدة، بينما في المصالح المرسلة الحاكم هو العقل والبرهان لا الطبع والفطرة وإن استعملا (الاستحسان والمصالح المرسلة) في بعض الكلمات في معنى واحد.

الثانية: أنّ ما ذكرنا في الاستحسان من تقسيمه إلى القطعي والظنّي يجري هنا أيضاً، فالمصالح المرسلة أيضاً تارةً يكون حكم العقل بها قطعيّاً (أي القطع بوجود المقتضي وفقد المانع) فيكون حجّة بلا ريب، واخرى يكون ظنّياً فلا دليل على حجّيته.

أمّا الأقوال في المسألة، فاختلف العامّة في حجّيتها، وعمدة الأقوال فيها ثلاثة:

الأوّل: قول الشافعي بإنكارها حيث حكى عنه عبارتان معروفتان:

إحديهما: «أنّه من استصلح فقد شرع كمن استحسن».

ثانيهما: «إنّ الاستصلاح كالاستحسان متابعة الهوى» «1».

الثاني: قول مالك بإثباتها وحكي عنه أيضاً عبارة وهي «أنّ الاستصلاح طريق شرعي للاستنباط فيما لا نصّ فيه ولا إجماع» «2».

الثالث: ما حكي عن الغزالي من التفصيل بين الضروريات وبين الحاجيات والتحسينيات،

والمراد من الضروريات ما لا يمكن حياة الإنسان إلّابه، والمراد من الحاجيات أنواع المعاملات التي توجب رفع بعض الحاجات وإن كانت حياة الإنسان ممكنة بدونها، والمراد من التحسينيات غير الضروريات والحاجيات من أنواع اللذائذ المشروعة التي انوار الأصول، ج 2، ص: 491

توجب الراحة والاشتغالات اللهويّة، ثمّ قال: الاستصلاح حجّة في القسم الأوّل «1» وذكر هنا مثال التترس الذي حكينا عنه آنفاً.

أمّا الأدلّة في المسألة، فالقائلون بالحجّية استدلّوا بوجوه عمدتها الإجماع والوجوه العقليّة.

فمنها: ما يرجع في الواقع إلى دليل الانسداد وإن لم يعبّروا به في كلماتهم، وهو أنّ الحوادث الكثيرة متجدّدة والنصوص قليلة، ولو اكتفينا بالنصوص ضاقت الشريعة الإسلاميّة مع أنّ الإسلام خاتم الأديان.

والجواب عنه ظهر ممّا مرّ كراراً من أنّه إن كان المراد من الاستصلاح- الاستصلاح في موارد القطع فلا ننكره كما سيأتي في الجواب عن الوجه الثاني، وإن كان المراد منه الاستصلاح في موارد الظنّ (كما أنّه كذلك) فلا دليل على حجّيته لما مرّ من عدم تماميّة مقدّمات الانسداد عندنا، ومنشأ الانسداد على مذهبهم ناشٍ من قلّة نصوصهم مع أنّ سنّة الأئمّة المعصومين عندنا كسنّة النبي صلى الله عليه و آله وهي تشتمل على الاصول الكلّية والأحكام الجزئيّة معاً، وتكون كافية في رفع الانسداد.

ومنها: أنّ الأحكام الشرعيّة إنّما شرّعت لتحقيق مصالح العباد وإنّ هذه المصالح التي بنيت عليها الأحكام الشرعيّة معقولة، أي ممّا يدرك العقل حسنها كما أنّه يدرك قبح ما نهى عنه فإذا حدثت واقعة لا نصّ فيها وبنى المجتهد حكمه فيها على ما أدركه عقله من نفع أو ضرر، كان حكمه على أساس صحيح معتبر من الشارع.

وفي الجواب نقول: أنّ هذا منبي على الحسن والقبح العقليين وقاعدة الملازمة، وهي مقبولة عندنا في موارد

القطع بالمصلحة والمفسدة التي ليست بنادرة، لأنّ امّهات الأحكام الشرعيّة قابلة لأن تدرك بالعقل وإن لم يدرك تفاصيلها، ولذلك نرى أنّه في علل الشرائع ذكرت لأحكام الشرع علل يدركه العقل تفاصيلها، ولذلك نرى أنّه في علل الشرائع ذكرت لأحكام الشرع علل يدركه العقل، فلا وجه لما ذكر في مثل الاصول العامّة من أنّ ما كان من قبيل الحسن والقبح الذاتيين فهو نادر جدّاً وأمثلته قد لا تتجاوز العدل والظلم وقليلًا من نظائرهما» «2».

انوار الأصول، ج 2، ص: 492

ومن هنا يظهر أنّ الاستحسان إذا بلغ حدّ المستقلّات العقليّة وشبهها كان حجّة، ولكن الاستحسانات الظنّية التي تدور عليها كلماتهم لا دليل على حجّيتها أصلًا، مضافاً إلى أنّ العدل والظلم لهما مصاديق كثيرة ربّما تشمل شيئاً من أحكام الشرع كالزنا والسرقة والخيانة والكذب والغيبة والسبّ والجناية على الأنفس والأعضاء والغشّ في المعاملة وغير ذلك من أشباههما، فإنّها تدخل في هذا المعنى.

ومنها: الاستدلال بسيرة الصحابة من زمن النبي صلى الله عليه و آله القائمة على تشريعهم ما رأوا إنّ فيه تحقيق المصلحة بعد أن طرأت بعد وفاة النبي صلى الله عليه و آله حوادث وجدت لهم طوارى ء، فأبو بكر جمع القرآن في مجموعة واحدة، وحارب مانعي الزّكاة، ودرأ القصاص عن خالد بن الوليد، وعمر أوقع الطلاق الثلاث بكلمة واحدة ووقف تنفيذ حدّ السرقة في عام المجاعة، وقتل الجماعة في الواحد، وعثمان جدّد أذاناً ثانياً لصلاة الجمعة.

وفيه أوّلًا: أنّ هذه السيرة لا تصل إلى زمن النبي صلى الله عليه و آله.

وثانياً: لا تتكوّن السيرة من مجرّد نقل موارد شخصية من أشخاص معدودين.

وثالثاً: أنّ الموارد المذكورة غالباً تكون من باب الاجتهاد في مقابل النصّ مثل إيقاع الطلاق الثلاث بكلمة واحدة مع أنّ

المفروض كون الاستحسان إستصلاحاً في ما لا نصّ فيه.

هذا في أدلّة المثبتين.

واستدلّ النافون منهم بوجوه عديدة أهمّها ثلاثة أوجه:

الوجه الأوّل: (وهو أحسن الوجوه) ما ذكره العضدي والحاجبي (ابن الحاجب) في مختصر الاصول «1» وهو «أنّ المصالح المرسلة تقدّمت لنا لا دليل فوجب الردّ» (أي حيث إنّه لا دليل على حجّية المصالح المرسلة، فيجب ردّها وليست بحجّة) ثمّ نقل ما مرّ من الدليل على الحجّية مع الردّ عليه فقال: «قالوا لو لم تعتبر لأدّى إلى خلوّ الوقائع، قلنا: بعد تسليم أنّها لا تخلو العمومات والأقيسة تأخذها» وقال العضدي في شرح هذا الكلام أوّلًا: إنّا لا نقبل خلوّ

انوار الأصول، ج 2، ص: 493

الواقع عن الحكم لأنّ العمومات والأقيسة تكون بمقدار يوجب عدم خلوّ الوقائع، وثانياً: لو أدّى إلى خلوّ الوقائع عن الحكم فلا بأس به.

وحقّ الجواب عن هذا أنّه لو كان المراد من المصالح المرسلة المصالح القطعيّة التي ترجع بالمآل إلى المستقلّات العقليّة وشبهها وقاعدة الملازمة فلا إشكال فيه، وإن كان المراد منها مجرّد العلم بالمقتضي في الجملة من دون إحراز عدم المانع ووجود الشرائط الذي يوجب الظنّ بالحكم فقط فلا دليل على حجّيته كما مرّ كراراً.

الوجه الثاني: ما نقله عنهم في الاصول العامّة وهو «أنّه لو كانت مصالح الناس تحتاج إلى أكثر ممّا شرّعه وممّا أرشد إلى الإهتداء به لبيّنه ولم يتركه لأنّه سبحانه قال على سبيل الاستنكار: «أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً» «1».

ويمكن الجواب عنه بناءً على عدم المنافاة بين بيان الأحكام لجميع الوقائع وعدم خلوّها منها وبين أن لا تصل جميعها إلينا فلا بدّ من كشفها والاستدلال عليها بالعقل بالطرق الثلاثة المذكورة سابقاً (طريق علل الأحكام وطريق معلولاتها وطريق الملازمات) وهذا يرجع في الواقع إلى

خلوّ بعض الأحكام من دليل الكتاب والسنّة فيما وصلت إلينا وهو أمر معقول.

الوجه الثالث: ما يستفاد من كلام الغزالي وحاصله: أنّ المصلحة هي المحافظة على مقاصد الشرع، ومقاصد الشرع تعرف بالكتاب والسنّة والإجماع، فلا بدّ في اعتبار المصلحة من كونها موجودة في الكتاب والسنّة والإجماع وإلّا نستكشف عدم كونها مصلحة عند الشارع فتكون باطلة مطروحة.

والجواب عنه: أنّا نقبل المقدّمة الاولى في كلامه، وهي ما يعبّر عنها اليوم بأنّا نأخذ القيم من الشرع، ولكن المقدّمة الثانية في كلامه وهي انحصار طريق استكشافها في الكتاب والسنّة والإجماع فممنوعة لأنّه قد يكون الطريق هو العقل القطعي.

نعم لا اعتبار بالعقل الظنّي ما لم يدلّ عليه دليل شرعي من الكتاب أو السنّة أو الإجماع.

فقد ظهر من جميع ما ذكرنا أنّ المصالح على قسمين: ما يستكشفه العقل القطعي ويحصل العلم بكونه جامعاً للشرائط وفاقداً للموانع فيكون حجّة، وما يستكشفه العقل الظنّي ولا يحصل القطع به فليس بحجّة.

انوار الأصول، ج 2، ص: 494

إن قلت: إذا أمكن أن تدرك المصالح والمفاسد بالعقل فلا حاجة إلى الشرع.

قلنا: إنّ العقل إنّما يدرك المصالح والمفاسد القطعيّة في دائرة مضيّقة محدودة خاصّة من الامور، وما يبقى خارجاً من هذه الدائرة هو الأكثر فليس للعقل سبيل إلى المصالح والمفاسد في أحكام الإرث وكثير من مسائل النكاح والنساء والمحرّمات وكثير من المعاملات وما يحلّ وما يحرم من اللحوم والأطعمة والأشربة وغيرها من أشباهها، والشاهد على ذلك ما نشاهده من التغييرات في القوانين البشريّة في هذه الامور كلّ يوم، وبالجملة أنّ العقل هو بمنزلة مصباح مضي ء في صحراء مظلمة يضي ء دائرة محدودة منها فقط، وأمّا الشرع فهو كالشمس في السماء يضي ء كلّ شي ء.

الرابع: سدّ الذرائع

«الذريعة» في اللغة تطلق على مطلق الآلة والوسيلة

ولكن في الاصطلاح تطلق على وسيلة خاصّة، فتكون بمعنى التوصّل بما هو مصلحة إلى مفسدة، وسدّ الذرائع هو المنع عمّا يتوصّل به إلى الحرام، أي المنع عن مقدّمة الحرام، فحقيقة الذريعة هي نفس ما يبحث عنه في علم الاصول بعنوان مقدّمة الحرام لكنّها عند بعض بمعنى مطلق المقدّمة، فتكون الذريعة حينئذٍ مطلق ما كان وسيلة وطريقاً إلى شي ء، ولذلك تجري فيه جميع الأحكام الخمسة، ولأجله قال بعضهم، «سدّ الذرائع وفتحها» و «الذريعة كما يجب سدّها، يجب فتحها وتكره وتندب وتباح».

والشاهد للتفسير الأوّل عبارة «موافقات الشاطبي» نقلًا عن بعضهم: «الذريعة ربع الدين» «1» حيث إن الدين إمّا أن يكون أمراً أو نهياً ولكلّ منهما مقدّمات تخصّه، فينقسم الدين حينئذٍ إلى أربعة أقسام: الواجبات ومقدّماتها، والمحرّمات ومقدّماتها أيضاً، فيصحّ أن يقال: إنّ الذريعة ربع الدين.

ثمّ إنّ الموافقات نقل عن بعضهم معنىً ثالثاً للذريعة وهو «الحيلة» فسدّ الذرائع بمعنى سدّ

انوار الأصول، ج 2، ص: 495

الحيل وحرمة التوصّل بها، ومثّل له بما إذا باع شيئاً نسيئة بمبلغ ثمّ اشتراه منه بثمن أقلّ منه فأعطاه الأقل لكي يأخذ منه الأكثر عند الأجل، وهذا من الحيل للخروج عن الربا «1».

واستدلّوا لحجّية سدّ الذرائع بروايات وآيات كثيرة حتّى جمع بعضهم تسع وتسعين آية تدلّ على حرمة مقدّمة الحرام:

منها: قوله تعالى: «وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ» «2».

ومنها: قوله تعالى: «وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ» «3».

ومنها: قوله تعالى: «وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ» «4».

وهذا معناه إنّهم أرادوا أن يثبتوا حرمة مقدّمة الحرام بالاستقراء، وهو تامّ فيما إذا حصل منه العلم.

هذا كلّه هو حاصل كلماتهم.

ثمّ إنّه لابدّ لتكميل هذا البحث من ذكر نكات:

الاولى: أنّ الإنصاف أنّ

اصول العامّة تكون من جهة العمق والمحتوى في مراحل أوّليّة بالنسبة إلى اصول الشيعة، ويشهد لذلك خلطهم في المقام بين ثلاث عناوين: عنوان «مقدّمة الحرام» الذي يبحث عنه مستقلًا، وعنوان «حرمة الإعانة» الذي لا ربط له بمقدّمة الحرام بل هو عنوان مستقلّ محرّم بنفسه كما مرّ في بعض الأبحاث السابقة، وعنوان «الحيلة» لا ربط له أيضاً بمقدّمة الحرام ولا معنى للمقدّمة وذي المقدّمة فيه بل إذا وقع البيعان المزبوران مثلًا جامعين لأركان البيع شرعاً ولو كان بداعي الفرار عن الربا فلا إشكال في صحّتهما، وإذا وقعا فاسدين خاليين عن القصد الجدّي للبيع والشراء فلا إشكال أيضاً في حرمتهما وبطلانهما سواء كانت مقدّمة الحرام حراماً أم لم تكن.

الثانية: أنّ عمدة الأدلّة وأحسنها في مبحث مقدّمة الحرام والواجب هو ما مرّ هناك من أنّ الطلب الإنشائي كالطلب التكويني، والزجر الإنشائي كالزجر التكويني، وبعبارة

انوار الأصول، ج 2، ص: 496

اخرى: الطلب الإنشائي أو الزجر الإنشائي نسخة مشابهة للتكويني منه، فكما أنّه إذا أردنا شيئاً وطلبناه تكويناً طلبنا مقدّماتها أيضاً، كذلك إذا طلبنا شيئاً تشريعاً نطلب مقدّماتها عن المكلّف، وهكذا في جانب النهي، فالعمدة هو دليل الملازمة بين الأمرين أو النهيين.

الثالثة: أنّ العمدة في باب الحيل هو عدم القصد الجدّي إلى الإنشاء غالباً بل ليس قول من يبيع علبة الكبريت بألف تومان مثلًا إلّالعباً بالألفاظ ولقلقة باللسان من دون قصد جدّي إلى هذه المعاملة وإلّا لو تحقّق الإنشاء حقيقة وتمشّى واقعاً لا إشكال في الصحّة.

إلى هنا تمّ الكلام عن المقصد السادس من مباحث الاصول وآخر دعوانا أن الحمد للَّه ربّ العالمين.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.