دراسات في المكاسب المحرمة المجلد 2

اشارة

سرشناسه : منتظری، حسینعلی، - 1301

عنوان و نام پديدآور : دراسات فی المکاسب المحرمه [شیخ انصاری]/ لمولفه حسینعلی المنتظری

مشخصات نشر : قم: نشر تفکر، 1415ق. = - 1373.

شابک : 7000ریال(ج.1) ؛ 7000ریال(ج.1)

يادداشت : جلد سوم این کتاب توسط انتشارات سرایی: 1380 منتشر شده است

يادداشت : ج. 2 (چاپ اول: مکتب آیت الله العظمی المنتظری، 1417ق. = 1375)؛ 9000 ریال

يادداشت : ج. 2، 1381، 28000 ریال

يادداشت : 1423 = 1381

یادداشت : کتابنامه

عنوان دیگر : المکاسب. شرح

موضوع : انصاری، مرتضی بن محمدامین، 1281 - 1214ق. المکاسب -- نقد و تفسیر

موضوع : معاملات (فقه)

شناسه افزوده : انصاری، مرتضی بن محمدامین، 1281 - 1214ق. المکاسب. شرح

رده بندی کنگره : BP190/1/الف 8م 70218 1373

رده بندی دیویی : 297/372

شماره کتابشناسی ملی : م 73-2362

[تتمة أنواع الاكتساب المحرم]

[تتمة النوع الأوّل و هي ما يحرم الاكتساب بها لنجاستها]

[تتمة المستثنيات من الأعيان النجسة]

[تتمة المسألة الرابعة: في الدهن المتنجس]
[تتمة أبحاث بيع الدهن المتنجس]
اشارة

______________________________

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ

[2- البحث الثاني: هل يجب إعلام المشتري بنجاسة الدهن أم لا؟]
اشارة

الثاني: إنّ ظاهر بعض الاخبار وجوب الإعلام، فهل يجب مطلقا أم لا؟ و هل وجوبه نفسيّ أو شرطيّ بمعنى اعتبار اشتراطه في صحّة البيع؟

الذي ينبغي أن يقال: إنّه لا إشكال في وجوب الإعلام إن قلنا باعتبار اشتراط الاستصباح في العقد أو تواطئهما عليه من الخارج، لتوقف القصد على العلم بالنجاسة. (1)

2- هل يجب إعلام المشتري بنجاسة الدهن أم لا؟

[تصوير محل البحث]

(1) أقول: بعد التزام الأصحاب بعدم جواز بيع النجس و كون النجاسة بنفسها مانعة عن صحّة البيع- و إن ناقشنا نحن في ذلك «1»- استثنى المصنّف من ذلك أربعة موارد: المملوك الكافر، و الكلاب النافعة، و العصير العنبي إذا غلى و لم يذهب ثلثاه، و الدهن المتنجس.

و كان بحثنا في المورد الأخير، و قد تعرّض المصنّف لاخبار المسألة الدالّة على الجواز ثمّ قال: «إذا عرفت هذا فالإشكال يقع في مواضع ...»، و ذكر في الموضع الأوّل أنّ صحّة بيع الدهن المتنجّس هل تكون مشروطة باشتراط الاستصباح به في

______________________________

(1) راجع 1/ 185 من الكتاب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 8

..........

______________________________

متن العقد، أو يكفي قصدهما لذلك، أو لا يشترط شي ء منهما؟ و قد مرّ الكلام في ذلك بالتفصيل، فراجع. «1»

فالآن يقع الكلام في الموضع الثاني و أنّه هل يجب على البائع إعلام المشتري بنجاسة الدهن مطلقا، أو لا يجب مطلقا، أو يفصّل بين ما إذا علم بقصد المشتري و أنّه بصدد صرفه فيما يشترط فيه الطهارة كالأكل و نحوه أو احتمل ذلك، و بين ما إذا علم كونه بصدد صرفه في الاستصباح و نحوه ممّا لا يشترط فيه الطهارة فيجب الإعلام في الاولين دون الثالث، أو تبتني المسألة على المسألة الأولى فإن قلنا فيها باعتبار الاشتراط

في متن العقد أو القصد وجب الإعلام مقدّمة لهما كما يظهر من المصنّف؟

ثمّ على فرض الوجوب فهل هو نفسي من باب حرمة تغرير الجاهل و عدم إلقائه في الحرام، أو شرطي بمعنى توقف صحّة البيع على الإعلام؟

و على فرض الشرطيّة فهل يكون بنحو الشرط المتقدّم فيعتبر الإعلام في العقد أو قبله، أو يكفي الإعلام و لو بنحو الشرط المتأخّر فيصحّ البيع بالإعلام بعده أيضا؟

في المسألة وجوه.

يظهر من المصنّف أنّه لو قلنا في المسألة الأولى باعتبار الاشتراط أو القصد فلا محالة يجب الإعلام، لتوقفهما على العلم بالنجاسة، فيكون وجوب الإعلام وجوبا مقدّميّا شرطيّا لما هو شرط في صحّة العقد.

و لكنّ الظاهر عدم صحّة ذلك، إذ بين الاشتراط أو القصد و بين العلم بالنجاسة عموم من وجه، إذ يمكن شرط الاستصباح أو قصده بدون العلم بالنجاسة و الإعلام بها، بل هما يغنيان عن الإعلام بها، حيث إن الغرض منه عدم صرفه فيما يشترط فيه الطهارة، و المفروض تحقّق هذا الغرض بالاشتراط أو القصد.

______________________________

(1) راجع 1/ 587 من الكتاب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 9

[الأخبار على طائفتين]

و أما إذا لم نقل باعتبار اشتراط الاستصباح في العقد فالظاهر وجوب الإعلام وجوبا نفسيّا قبل العقد أو بعده لبعض الأخبار المتقدّمة.

و في قوله: «يبيّنه لمن اشتراه ليستصبح به» إشارة إلى وجوب الإعلام لئلّا يأكله، فإنّ الغاية للإعلام ليس هو تحقّق الاستصباح، إذ لا ترتّب بينهما شرعا و لا عقلا و لا عادة، بل الفائدة حصر الانتفاع فيه بمعنى عدم الانتفاع به في غيره. ففيه إشارة إلى وجوب إعلام الجاهل بما يعطى إذا كان الانتفاع الغالب به محرّما، بحيث يعلم عادة وقوعه في الحرام لو لا الإعلام، فكأنّه قال: أعلمه لئلّا يقع

في الحرام الواقعي بتركك الإعلام. (1)

______________________________

و يمكن الإعلام بالنجاسة و مع ذلك يقع البيع بقصد الأكل و نحوه لعدم مبالاتهما بالموازين الشرعيّة، نعم، العلم بالنجاسة ينفع لمن تعبّد بالشرع مع فرض كونه بصدد الأكل لو لا إعلامه.

و بالجملة فعلى فرض وجوب الإعلام فهو واجب نفسيّ بداعي صون المشتري عن الوقوع في الحرام أو شرطيّ مستقلّ لا بعنوان المقدّمة للقصد أو الاشتراط المذكورين في المسألة السابقة، فتدبّر.

(1) قد مرّ منّا «1» أنّ أخبار الباب على طائفتين: الأولى: ما تدلّ على جواز البيع مع الإعلام. الثانية: ما تدلّ على المنع مطلقا، و مقتضى الجمع بينهما كما مرّ هو الجواز مع الإعلام، فوجوبه إجمالا ممّا لا إشكال فيه.

و يظهر من قوله عليه السّلام في خبر معاوية بن وهب: «بعه و بيّنه لمن اشتراه ليستصبح به» «2»

______________________________

(1) راجع 1/ 581 و ما بعدها من الكتاب.

(2) الوسائل 12/ 66، الباب 6 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 10

..........

______________________________

وجوب الإعلام نفسا لا شرطا، إذ ليس فيه إشارة إلى التقييد في متن العقد، بل الظاهر منه وجوب الإعلام بعد تحقّق الاشتراء خارجا كما يقتضيه التعبير بالماضي، و حمله على الشرط المتأخّر خلاف الظاهر و لم يقل به أحد في المقام، كحمل قوله:

«لمن اشتراه» على من أراد اشتراءه.

و المصنّف بعد الحكم بنفسيّة الوجوب قال ما محصّله: «أنّ الغاية للإعلام ليس هو تحقّق الاستصباح، إذ لا ترتّب بينهما، بل الفائدة حصر الانتفاع فيه لئلّا ينتفع به في غيره، فكأنّه قال: أعلمه لئلّا يقع في الحرام الواقعي.»

و المتراءى من كلامه جعل هذه النكتة دليلا على كون الوجوب نفسيّا لا شرطيّا.

و قد صرّح بذلك في مصباح الفقاهة «1»،

فجعل التعليل دليلا على نفسيّة الوجوب.

أقول: لم يظهر لي دلالة ذلك على نفسية الوجوب، إذ الوجوب الشرطي أيضا لا يكون إلّا لنكتة، و لعلّ الشارع جعل الإعلام شرطا للبيع بداعي صون المشتري عن الوقوع في الحرام الواقعي.

و كيف كان فالظاهر من قوله: «ليستصبح به» كون إيجاب الإعلام لهذا الداعي. و على هذا فيمكن منع الوجوب مطلقا فيما إذا علم بوقوع هذا الغرض بدونه و أنّ المشتري لا يقصد إلّا الاستصباح أو اشترط عليه ذلك، فيكون الشرط على القول بالشرطيّة أحد الأمرين من الإعلام أو القصد و نحوه.

بل يمكن منعه أيضا فيما لو علم بعدم تأثيره فيه لكونه ممّن لا يبالي بالدين، إذ ليس وجوب الإعلام لمصلحة في نفسه بل يكون طريقيّا للتوصّل به إلى إحراز

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 115.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 11

..........

______________________________

الواقعيات نظير وجوب الاحتياط.

بل يمكن أن يقال: إنّ وجوبه نفسا أو شرطا يكون بلحاظ ملازمة البيع للإقباض، فلو فرض البيع بدون الإقباض بأن و كلّ البائع في صرفه في مصالح المشتري على النحو المشروع فلا يجب الإعلام حينئذ و إن ثبت له الخيار لو اطلع بعد ذلك، فتدبّر.

و بالجملة فخبر معاوية بن وهب ظاهر في وجوب الإعلام نفسيّا.

و أمّا قوله عليه السّلام في خبر أبي بصير: «و أعلمهم إذا بعته» «1» فالظاهر منه كون الوجوب شرطيّا، إذ المتبادر من الأمر و النهي الواردين في باب المركبات الاعتباريّة من العبادات و المعاملات هو الإرشاد، فيكون الأمر فيه إرشادا إلى الشرطيّة.

و على هذا فالظاهر من قوله عليه السّلام في خبر إسماعيل بن عبد الخالق: «و أمّا الزيت فلا تبعه إلّا لمن تبيّن له فيبتاع للسراج» «2» أيضا هو الإرشاد إلى فساد

البيع بالنسبة إلى من لم يبين له. فيظهر منه الاشتراط أيضا. هذا.

و قد مرّ منّا في مسألة المعاوضة على الأعيان المتنجّسة «3» البحث في أنّه هل يجب إعلام نجاستها مطلقا لحرمة استعمال النجس فيما يتوقّف على الطهارة فيحرم التسبيب إليه أيضا،

أو لا يجب مطلقا لأنّ المشتري معذور بجهله و اعتماده على أصل الطهارة، و الإعلام يوجب إلقاءه في المشقة،

أو يفصّل بين ما يستعمل عادة في الأكل و الشرب و بين ما يستعمل في الصلاة

______________________________

(1) الوسائل 12/ 66، الباب 6 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 3.

(2) نفس المصدر و الصفحة و الباب، الحديث 5.

(3) راجع 1/ 471 من الكتاب، المسألة الثامنة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 12

..........

______________________________

و نحوها كالثوب مثلا، فيجب الإعلام في القسم الأوّل دون الثاني، إذ في القسم الأوّل يكون المنهي عنه استعمال النجاسة بوجودها الواقعي لوجود المفسدة الذاتيّة فيها فيكون استعمالها قبيحا و مبغوضا بالذات و إن وقع عن جهل المباشر فلا يجوز الإقدام في تحقّقه تسبيبا، بخلاف القسم الثاني، حيث إنّ الصلاة في النجس عن جهل صحيحة واقعا و لا تقصر بحسب الملاك عن الصلاة مع الطهارة الواقعيّة، إذ المانع عن صحّتها هو العلم بالنجاسة لا النجاسة الواقعيّة بذاتها.

و قد استظهرنا نحن من الأخبار هذا التفصيل.

فيشهد لوجوب الإعلام في القسم الأوّل روايات هذا الباب أعني مسألة بيع الدهن المتنجّس.

و يشهد لعدم الوجوب في القسم الثاني موثقة ابن بكير، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجل أعار رجلا ثوبا فصلّى فيه و هو لا يصلّي فيه؟ قال:

«لا يعلمه»، الحديث. فراجع ما حرّرناه في تلك المسألة. «1»

و المصنّف عنون المسألة هنا بنحو لا تختصّ بباب النجاسات و لا بباب

البيع فقال: «وجوب إعلام الجاهل بما يعطى إذا كان الانتفاع الغالب به محرّما، بحيث يعلم عادة وقوعه في الحرام لو لا الإعلام» فيشمل البحث للبيع و الصلح و الهبة و الإجارة و الإعارة و الإباحة المطلقة و نحوها، كانت الحرمة بسبب النجاسة أو بغيرها من الأسباب. و التقط هذا العنوان العامّ من أخبار الباب ثمّ استشهد له بالأخبار المتفرّقة الدالّة على حرمة تغرير الجاهل بالحكم أو الموضوع:

______________________________

(1) الوسائل 2/ 1069، الباب 47 من أبواب النجاسات، الحديث 3؛ و راجع أيضا 1/ 471 من الكتاب، المسألة الثامنة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 13

[الأدلة الدالّة على حرمة تغرير الجاهل]
اشارة

و يشير إلى هذه القاعدة كثير من الأخبار المتفرّقة الدالّة على حرمة تغرير الجاهل بالحكم أو الموضوع في المحرّمات.

مثل ما دلّ أنّ من أفتى بغير علم لحقه وزر من عمل بفتياه. (1)

فإنّ إثبات الوزر للمباشر من جهة فعل القبيح الواقعي، و حمله على المفتي من حيث التسبيب و التغرير.

______________________________

الأدلة الدالّة على حرمة تغرير الجاهل

[ما دلّ حرمة الإفتاء بغير علم]

(1) ففي صحيحة أبي عبيدة قال: قال أبو جعفر عليه السّلام: «من أفتى الناس بغير علم و لا هدى من اللّه لعنته ملائكة الرحمة و ملائكة العذاب، و لحقه وزر من عمل بفتياه.» «1»

و في سنن البيهقي بسنده عن مسلم بن يسار قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: «من قال عليّ ما لم أقل فليتبوّأ بيتا في جهنم. و من أفتى بغير علم كان إثمه على من أفتاه ...» «2» و الأخبار في هذا المجال من طرق الفريقين كثيرة، فراجع.

لا يقال: الإفتاء بغير علم من أظهر مصاديق الافتراء على اللّه و على رسوله، و هو بنفسه ممّا يشهد العقل و النقل على قبحه و حرمته، فليست حرمته من جهة التغرير و التسبيب.

فإنه يقال: لا منافاة بينهما، إذ من الممكن حرمة شي ء و مبغوضيته بوجهين أو بجهات. فالمفتي بغير علم كما يستحق العقوبة بسبب افترائه كذلك يلحقه أوزار من عمل بفتياه أيضا.

______________________________

(1) الوسائل 18/ 9، الباب 4 من أبواب صفات القاضي، الحديث 1.

(2) سنن البيهقي 10/ 116، كتاب آداب القاضي، باب إثم من أفتى أو قضى بالجهل.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 14

[ما دل ضمان الإمام صلاة المأموم]

و مثل قوله عليه السّلام: «ما من إمام صلّى بقوم فيكون في صلاتهم تقصير إلّا كان عليه أوزارهم». و في رواية أخرى: «فيكون في صلاته و صلاتهم تقصير إلّا كان إثم ذلك عليه.» (1)

______________________________

(1) في البحار عن كتاب الغارات بسنده عن عباية قال: كتب أمير المؤمنين عليه السّلام إلى محمّد بن أبي بكر: «انظر يا محمد صلاتك كيف تصلّيها لوقتها، فإنّه ليس من إمام يصلّي بقوم فيكون في صلاته نقص إلّا كانت عليه و لا

ينقص ذلك من صلاتهم.» «1»

قال المجلسي بعد نقله: و في رواية ابن أبي الحديد: «و انظر يا محمد صلاتك كيف تصلّيها، فإنّما أنت إمام ينبغي لك أن تتمّها و أن تخفّفها و أن تصلّيها لوقتها، فإنّه ليس من إمام يصلّي بقوم فيكون في صلاته و صلاتهم نقص إلّا كان إثم ذلك عليه، و لا ينقص ذلك من صلاتهم شيئا.» «2»

و في تحف العقول: «ثم انظر صلاتك كيف هي، فإنّك إمام، و ليس من إمام يصلّي بقوم فيكون في صلاتهم تقصير إلّا كان عليه أوزارهم و لا ينتقص من صلاتهم شي ء. و لا يتمّمها إلّا كان له مثل أجورهم و لا ينتقص من أجورهم شي ء.» «3».

______________________________

(1) بحار الأنوار 88/ 92 (ط. بيروت 85/ 92)، الباب 84، باب أحكام الجماعة، الحديث 58؛ و في كتاب الغارات المطبوع 1/ 244 هكذا: «انظر يا محمد صلاتك كيف تصلّيها، فإنّما أنت إمام ينبغي لك أن تتمّها [و أن تحفظها بالأركان و لا تخفّفها] و أن تصلّيها لوقتها فإنّه ليس من إمام يصلّي بقوم فيكون في صلاتهم نقص إلّا كان إثم ذلك عليه و لا ينقص ذلك من صلاتهم شيئا.»

(2) بحار الأنوار 88/ 92 (ط. بيروت 85/ 92)، الباب 84، باب أحكام الجماعة، ذيل الحديث 58؛ و راجع شرح ابن أبي الحديد على نهج البلاغة 6/ 71.

(3) تحف العقول/ 179.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 15

[ما دلّ على كراهة سقي الدواب ما يحرم للمسلم]

و في رواية أخرى: «لا يضمن الإمام صلاتهم إلّا أن يصلّي بهم جنبا.» (1)

______________________________

و في سنن البيهقي بسنده عن أبي عليّ الهمداني قال: خرجت في سفر و معنا عقبة بن عامر فقلنا له: أمّنا. قال: لست بفاعل، سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و

آله يقول:

«من أمّ الناس فأصاب الوقت و أتمّ الصلاة فله و لهم، و من نقص من ذلك شيئا فعليه و لا عليهم.» «1»

(1) يعنى صحيحة معاوية بن وهب، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: أ يضمن الإمام صلاة الفريضة؟ فإنّ هؤلاء يزعمون أنه يضمن. فقال: «لا يضمن، أيّ شي ء يضمن، إلّا أن يصلّي بهم جنبا أو على غير طهر.» «2»

و روى الشيخ بإسناده عن عليّ عليه السّلام قال: «المؤذّن مؤتمن و الإمام ضامن.» «3»

و روى البيهقي بإسناده عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: «الإمام ضامن و المؤذّن مؤتمن.» «4»

و الظاهر من ضمان الإمام ضمانه لصلاة المأموم و كون نقصها عليه.

و قوله في صحيحة معاوية: «هؤلاء يزعمون» إشارة إلى أهل الخلاف، فيظهر منها كونهم قائلين بالضمان كما هو مفاد خبر أبي هريرة. و الغالب في أخبارنا نفي الضمان كما في الصحيحة.

و في صحيحة زرارة أيضا عن أحدهما عليهما السّلام قال: سألته عن رجل صلّى بقوم ركعتين ثمّ أخبرهم أنّه ليس على وضوء؟ قال: «يتمّ القوم صلاتهم، فإنّه ليس على

______________________________

(1) سنن البيهقي 3/ 127، كتاب الصلاة، باب كراهية الإمامة.

(2) الوسائل 5/ 434، الباب 36 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 6.

(3) نفس المصدر 4/ 618، الباب 3 من أبواب الأذان و الإقامة، الحديث 2.

(4) سنن البيهقي 3/ 127، كتاب الصلاة، باب كراهية الإمامة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 16

و مثل رواية أبي بصير المتضمّنة لكراهة أن تسقى البهيمة أو تطعم ما لا يحلّ للمسلم أكله أو شربه. (1)

______________________________

الإمام ضمان.» «1»

نعم يظهر من بعض الأخبار ضمانه للقراءة، كما في موثقة سماعة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه سأله رجل

عن القراءة خلف الإمام فقال: «لا، إنّ الإمام ضامن للقراءة و ليس يضمن الإمام صلاة الذين خلفه إنما يضمن القراءة.» «2» هذا.

و قد ثبت في محلّه أنّ نقص صلاة الإمام جزء أو شرطا و إن أوجب بطلان صلاته لا يوجب بطلان صلاة المأمومين و لا يجب عليهم الإعادة إلّا أن يوجد خلل في صلاة المأموم بنفسه فتبطل صلاته لذلك لا لنقص صلاة الإمام، حتّى إنّ بطلان قراءته أيضا لا يوجب بطلان صلاة المأموم مع جهله بذلك، و على هذا فلا يظهر المقصود من نقص صلاة المأموم بسبب صلاة الإمام حتّى يكون عليه ضمانه و إثمه. هذا.

و يمكن أن يحمل هذا على وجود النقص الملاكي في صلاته لشدّة ارتباطها بها و وصلها إليها، فالنقص في صلاة الإمام و لا سيّما في قراءته يوجب نقص صلاة المأموم ملاكا، فيكون إثمه و وزره على الإمام. و إنّما لم يجب على المأموم إعادتها تسهيلا أو لعدم إمكان تدارك المصلحة بعد فوتها في محلّها كما قالوا بذلك في مسألة الجهر في موضع الإخفات و بالعكس جهلا، فتدبّر.

(1) روى أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن البهيمة: البقرة و غيرها تسقى أو تطعم ما لا يحلّ للمسلم أكله أو شربه أ يكره ذلك؟ قال: «نعم يكره ذلك.» «3»

______________________________

(1) الوسائل 5/ 433، الباب 36 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 2.

(2) نفس المصدر 5/ 421، الباب 30 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 3.

(3) نفس المصدر 17/ 247، الباب 10 من أبواب الأشربة المحرّمة، الحديث 5.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 17

فإنّ في كراهة ذلك في البهائم إشعارا بحرمته بالنسبة إلى المكلّف.

______________________________

و في خبر غياث عن أبي عبد اللّه

عليه السّلام: «إنّ أمير المؤمنين عليه السّلام كره أن تسقى الدوابّ الخمر.» «1»

و المصنف استشعر من رواية أبي بصير- بطريق الأولوية- الحرمة بالنسبة إلى سقي الإنسان المكلّف.

و لكنّ الظاهر أنّ المتيقّن من ذلك- بعد قبول الأولوية- هي الكراهة المغلظة لا الحرمة كما هو واضح. هذا.

و من قبيل ما ذكره المصنّف أخبار أخر أيضا وردت في موارد أخر:

منها: ما وردت في النهي عن سقي الخمر للصبي أو المملوك أو الكافر و أنّ على الساقي وزر من شربها:

1- كخبر أبي الربيع الشامي، قال: سئل أبو عبد اللّه عليه السّلام عن الخمر، فقال:

«قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: إنّ اللّه- عزّ و جلّ- بعثني رحمة للعالمين و لأمحق المعازف و المزامير و أمور الجاهليّة و الأوثان.» و قال: «أقسم ربّي لا يشرب عبد لي خمرا في الدنيا إلّا سقيته مثل ما يشرب منها من الحميم معذّبا أو مغفورا له، و لا يسقيها عبد لي صبيا صغيرا أو مملوكا إلّا سقيته مثل ما سقاه من الحميم يوم القيامة معذّبا أو مغفورا له.» «2»

2- و خبر عجلان أبي صالح، قال: قلت: لأبي عبد اللّه عليه السّلام: المولود يولد فنسقيه الخمر؟ فقال: «لا، من سقى مولودا مسكرا سقاه اللّه من الحميم و إن غفر له.» «3» و نحو ذلك خبر آخر ذكر بعده.

3- و عن عقاب الأعمال بسنده عن النبي صلى اللّه عليه و آله في حديث قال: «و من شرب

______________________________

(1) الوسائل 17/ 246، الباب 10 من أبواب الأشربة المحرّمة، الحديث 4.

(2) نفس المصدر و الباب، ص 245، الحديث 1.

(3) نفس المصدر و الباب، ص 246، الحديث 2.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 18

..........

______________________________

الخمر سقاه اللّه من

سمّ الأساود و من سمّ العقارب ... و من سقاها يهوديّا أو نصرانيا أو صابئا أو من كان من الناس فعليه كوزر من شربها.» «1»

يظهر من هذه الأخبار أنّ الخمر لاشتمالها على المفسدة الملزمة الشديدة لا يرضى اللّه- تعالى- بالتسبيب إلى شربها حتى بالنسبة إلى الكافر و من لا تكليف له.

و لعلّ الفرق بين الخمر و غيرها من المحرّمات أنّ ضرر شارب الخمر و لو كان طفلا أو حيوانا يسري قهرا إلى غيره من أفراد المجتمع حيث يزول منه العقل و الإدراك بالكليّة.

و منها: ما وردت في النهي عن بيع المختلط بالميتة إلّا ممّن يستحلها، كصحيحتي الحلبي و غيرهما الماضية في فروع بيع الميتة. «2»

و قد ورد في ذلك الباب أيضا قوله عليه السّلام: «يرمى بهما جميعا إلى الكلاب.» «3»

و منها: ما وردت في إهراق المرق المتنجّس، كخبر زكريا بن آدم، قال: سألت أبا الحسن عليه السّلام عن قطرة خمر أو نبيذ مسكر قطرت في قدر فيه لحم كثير و مرق كثير؟ قال: «يهراق المرق أو يطعمه أهل الذمّة أو الكلب.» «4»

و منها: ما وردت في العجين بالماء المتنجّس، قال: «يباع ممّن يستحل أكل الميتة.» و في رواية أخرى: «يدفن و لا يباع». «5»

و منها: ما وردت في الماءين المشتبهين، كموثقة سماعة، قال عليه السّلام: «يهريقهما جميعا و يتيمّم.» «6»

______________________________

(1) الوسائل 17/ 247، الباب 10 من أبواب الأشربة المحرّمة، الحديث 7.

(2) نفس المصدر 12/ 67، الباب 7 من أبواب ما يكتسب به.

(3) مستدرك الوسائل 2/ 427، الباب 7 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

(4) الوسائل 2/ 1052، الباب 38 من أبواب النجاسات، الحديث 8.

(5) نفس المصدر 1/ 174، الباب 11 من أبواب الأسآر، الحديث

1.

(6) نفس المصدر 1/ 113، الباب 8 من أبواب الماء المطلق، الحديث 2.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 19

[ما دلّ على أن أكل الحرام و شربه من القبيح و لو في حقّ الجاهل]

و يؤيّده أنّ أكل الحرام و شربه من القبيح و لو في حقّ الجاهل (1)، و لذا يكون الاحتياط فيه مطلوبا مع الشكّ، إذ لو كان للعلم دخل في تحقّقه لم يحسن الاحتياط، و حينئذ فيكون إعطاء النجس للجاهل المذكور إغراء بالقبيح و هو قبيح عقلا.

______________________________

فيستفاد من جميع هذه الأخبار الواردة في الموارد المختلفة أن العالم بحرمة شي ء كما يحرم عليه أكله و شربه مباشرة كذلك يحرم عليه التسبيب إلى أكل الغير و شربه و إن كان ذلك الغير جاهلا، مطلقا، أو فيما لا يكون ذلك الغير مستحلا لذلك الحرام.

(1) بتقريب أنّ الأحكام الواقعيّة- كما ثبت في محلّه- ليست مقيّدة بعلم المكلّفين و إلّا لزم التصويب المجمع على بطلانه، و هي عند العدلية تابعة للمصالح و المفاسد النفس الأمرية، و الغرض من البعث أو الزجر ليس إلّا تحصيل المصالح الملزمة و الاجتناب عن المفاسد.

غاية الأمر أنّ الجاهل بجهله ربّما يكون معذورا ظاهرا و غير معاقب على المخالفة بسبب جهله.

و أمّا المكلف العالم بالحكم و الموضوع فكما يحرم عليه مخالفة الأوامر و النواهي الواردة بالمباشرة فكذلك يحرم عليه التسبيب إلى مخالفتها بإلقاء الجاهل فيها. لأنّ مناط الحرمة ليس إلّا حفظ أغراض المولى.

و أدلّة البراءة و إن جرت بالنسبة إلى الجاهل المباشر و لا يكون عاصيا لكن الحكم الواقعي باق بملاكه، فكما لا يجوز للعالم مخالفة التكليف بنفسه لا يجوز له أيضا إلقاء الجاهل فيها.

فلو فرض أنّ المولى نهى جميع عبيده عن الدخول عليه في ساعة خاصّة لغرض الاستراحة مثلا فكما يحرم على كلّ منهم الدخول عليه

في تلك الساعة يحرم عليه التسبيب إلى دخول غيره أيضا و إن لم يصل التكليف إلى ذلك الغير، و كما يصحّ

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 20

بل قد يقال بوجوب الإعلام و إن لم يكن منه تسبيب كما لو رأى نجسا في يده يريد أكله، و هو الذي صرّح به العلّامة «ره» في أجوبة المسائل المهنّائية حيث سأله السيّد المهنّا عمّن رأى في ثوب المصلّي نجاسة فأجاب بأنّه يجب الإعلام لوجوب النهي عن المنكر، لكن إثبات هذا مشكل. (1)

______________________________

عقاب العالم بلحاظ مخالفته مباشرة صحّ عقابه بلحاظ ذلك التسبيب أيضا لبقاء الحرمة و ملاكها بالنسبة إلى الجميع.

و الظاهر أنّ غرض المصنّف من التعبير بالقبيح بالنسبة إلى الجاهل هي الحرمة الواقعيّة و ملاكها، لوضوح أن القبح حكم العقل و لا يحكم العقل بالقبح الفاعلي بالنسبة إلى المباشر الجاهل و إنّما يحكم بقبح التسبيب الصادر من العالم، فتدبّر.

هذا كلّه على فرض كون إعطاء الحرام للغير معرضا لصرفه في الحرام، و أمّا إذا علم بأنّه لا يصرفه إلّا فيما يجوز كصرف الدهن المتنجّس مثلا في الاستصباح فلا وجه حينئذ لوجوب الإعلام إذ ليس تغرير و تسبيب إلى الحرام كما هو واضح.

(1) ما ذكرنا إلى هنا كان فيما إذا وقع من العالم التسبيب بالنسبة إلى وقوع الحرام من الجاهل.

و أمّا إذا لم يكن منه تسبيب و إنّما يقع الفعل من الجاهل لجهله من دون إغراء من قبل العالم فإن كان هذا لجهله بالحكم الكلّي فالظاهر كونه من موارد إرشاد الجاهل و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر الواجبين بحكم الشرع. و أمّا إذا كان ذلك لجهل المباشر بالموضوع من دون تسبيب، كما إذا لم يعلم بنجاسة ما يريد

أكله أو الثوب الذي يصلّي فيه فهذا ما حكى المصنّف عن العلامة في أجوبة المسائل المهنّائيّة من وجوب الإعلام فيه مستندا إلى وجوب النهي عن المنكر.

و لكنّ الحكم بذلك مشكل لعدم دخل العالم و عدم تسبيبه. و أدلّة النهي عن المنكر لا تجري إلّا فيما إذا كان صدور الفعل من هذا الفاعل منكرا، و ليس المقام

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 21

[هنا أمور أربعة]
اشارة

و الحاصل أنّ هنا أمورا أربعة:

[أحدها: أن يكون فعل الشخص علّة تامّة لوقوع الحرام]

أحدها: أن يكون فعل الشخص علّة تامّة لوقوع الحرام في الخارج، كما إذا أكره غيره على المحرّم. (1) و لا إشكال في حرمته و كون وزر الحرام عليه، بل أشدّ لظلمه.

______________________________

كذلك، إذ المفروض جهل الفاعل و عدم وقوع الفعل منه عصيانا و طغيانا و لا سيّما في مسألة نجاسة الثوب في الصلاة إذ النجاسة بذاتها لا تمنع من صحّة الصلاة و إنّما المانع منها العلم بها حيث أخذ العلم فيه موضوعا. و لو فرضنا الشك في وجوب الإعلام فأصل البراءة يقتضي عدم وجوبه.

نعم لو كان ما يرتكبه الجاهل من الأمور المهمّة التي يعلم بعدم رضى الشارع بوقوعها خارجا من أيّ شخص و في أيّة حالة كالتصرف في الدّماء المحترمة و الفروج بل و الأموال أيضا على احتمال قويّ فالظاهر وجوب الإعلام حينئذ. فلو اعتقد الجاهل أنّ زيدا مهدور الدم شرعا فأراد قتله، أو المرأة الفلانية جائزة النكاح له فأراد نكاحها و علمنا بذلك و أن الواقع على خلاف ما اعتقده فالظاهر وجوب الإعلام حينئذ للعلم بعدم رضى الشارع بوقوع أمثال ذلك خارجا و إن لم تقع على وجه العصيان و الطغيان.

و قد قالوا: إنّ في أمثال هذه الأمور المهمّة يستكشف إيجاب الشارع للاحتياط، و أمّا غير ذلك من الأمور فوجوب الإعلام فيها ممّا لا دليل عليه، بل ربّما يستكشف من بعض الأخبار عدمه، بل يمكن القول بحرمته إن صار موجبا للأذى، فتدبّر.

حول ما أفاده الشيخ «ره» من تصوير العلّية التامّة بين فعل المكره و المكره

(1) أقول: للأستاذ الإمام «ره» في هذا المقام بيان تفصيلي في باب الإكراه ينبغي نقله إجمالا فإنّه كلام متين يظهر منه كون تعبير المصنّف على

خلاف المصطلحات العلميّة:

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 22

..........

______________________________

قال «قده» ما ملخّصه ببيان منّا: «أنّ هنا جهات من البحث:

الأولى: الظاهر أنّ مراده بصيرورة فعل الشخص علّة تامّة لتحقق الحرام أن يكون فعله علّة تامّة لوقوع الحرام من الغير، كما هو مقتضى عنوان البحث و المثال بالمكره.

و فيه: أنّ العلّة التامّة ما لا يكون لغيرها دخل في تحقق المعلول و يكون تمام التأثير مستندا إليها، و في المقام لا يعقل تصوّر كون العلّة التامّة لفعل المكره بالفتح فعل المكره بالكسر، إذ المباشر للفعل هو نفس المكره بالفتح يوقعه باختياره و إرادته لدفع ما أوعد به. فهو بعد الإكراه باق على اختياره و يتخير طبعا بين إيقاع الفعل المكره عليه و بين تحمّل ما أوعد به فيرجح الفعل المكره عليه باختياره على تحمّل ما أوعد به فيوجده بإرادته لكونه أقلّ المحذورين بنظره. و المكره بالكسر لا دخل له إلّا في إيجاد أرضية هذا الترجيح للمباشر. و بعد فهو باق على اختياره و اصطفائه لأحد طرفي الفعل.

و يدلّ على بقاء الاختيار مع الإكراه حرمة الإقدام على القتل إن أكره عليه و يعاقب إن قتل و يقتصّ منه.

فالفرق بين المختار الاصطلاحي و بين المكره ليس في وجود الاختيار و عدمه، بل في أمر مقدّم على الاختيار و هو مبدأ ترجيح أحد الطرفين في النفس، فإنّه قد يحصل الترجيح بلا اضطرار و لا إكراه بل بحسب الاشتياق إلى الفعل بالطبع لكونه ملائما لميله و هواه، و قد يحصل بسبب الاضطرار كمن دار أمره بين قطع يده و بين أن يموت فيختار قطع اليد باضطراره حفظا لنفسه، و قد يحصل بسبب الإكراه، و في هذه الصوره أيضا لم يسلب منه

الاختيار و الإرادة. فالعلّة التامّة لفعل المكره بالفتح هو اختياره و إرادته لا إكراه المكره.

بل إرادة الفاعل المباشر أيضا ليست علّة تامّة لوجود الفعل منه، ضرورة توسّط

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 23

..........

______________________________

مبادئ أخر بينها و بين وجود الفعل خارجا كالأعضاء و الأوتار و العضلات و القوى المنبثة فيها، فالنفس في عالم الطبيعة فاعلة بالآلات لا بنفسها.

نعم، قد يمكن أن يقهر بعض النفوس القوية قوى الفاعل و آلاتها، و يسخّرها تحت إرادته بحيث يسلب منه الاختيار و الإرادة بالكليّة فيكون الفعل حينئذ صادرا عن المسخّر القادر القويّ لا عن المسخّر بالفتح.

الجهة الثانية: أن الفعل الصادر عن المكره تارة لا يخرج بالإكراه عن الحرمة الفعليّة الثابتة لولاه، كالإكراه على قتل النفس المحترمة فإنّه محرّم على المباشر و إن أكره عليه و أوعد بقتل نفسه أيضا، و أخرى يخرج بالإكراه عن الحرمة الثابتة لولاه كما في غالب موارد الإكراه، و ثالثة يكون قبل الإكراه خارجا عن الحرمة الفعليّة بسبب آخر كالاضطرار إليه فلم يفعله فأكره عليه، بل قد يصير الإكراه حينئذ واجبا كما لو اضطرّ إلى أكل الميتة بحيث توقّفت حياته عليه و مع ذلك لم يأكله فإنّه حينئذ يجب إكراهه حفظا لنفسه، و من هذا القبيل أيضا إكراه الحاكم من استنكف عن أداء حقوق الغير.

فحكم الإكراه و الفعل المكره عليه مختلف بحسب الموارد. فليس كل ما أكره عليه محرما و لا كل إكراه حراما و ظلما.» إلى آخر ما ذكره «قده» بطوله، فمن أراد فليرجع إلى كتابه «1».

و الغرض هنا بيان أنّ فعل المكره بالكسر ليس علّة تامّة لفعل المكره خلافا لما يظهر من المصنّف «قده».

و كيف كان فمورد نظر المصنّف هنا القسم الثاني

من أقسام الإكراه، أعني ما يكون رافعا لحرمة متعلّقه، و لا إشكال في حرمته إجمالا لكونه ظلما و لكونه تسبيبا إلى وقوع الحرام، و هما بأنفسهما محرّمان.

______________________________

(1) المكاسب المحرّمة للإمام الخميني «ره» 1/ 92 و ما بعدها (ط. الجديدة 1/ 138).

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 24

..........

______________________________

قال الأستاذ الإمام «ره» في هذا المجال: «و على المكره وزر الظلم و الإكراه بإيجاد المبغوض و تفويت المصلحة و لا دليل على كونه بمقدار وزر الفاعل لو كان مختارا. نعم ورد في باب إكراه الزوجة على الجماع نهارا في شهر رمضان أنّ على المكره كفارتين و ضرب خمسين سوطا، و إن كانت طاوعته فعليه كفارة و ضرب خمسة و عشرين سوطا و عليها مثل ذلك «1» ... و قد ذكر الفقهاء بلا نقل خلاف أنّ ضمان التلف على المكره بالكسر دون المكره.» «2»

أقول: يمكن أن يستأنس من هذين الموردين أنّ الإكراه يوجب انتقال وزر المكره بكمّه و كيفه إلى المكره بالكسر، و العرف أيضا يساعد على ذلك إذ العقوبة دنيويّة كانت أو أخرويّة من تبعات الفعل و آثاره، و الفعل و إن صدر عن المباشر لكن السبب هنا أقوى عند العرف فيكون وزر الفعل عليه، و يؤيّد ذلك مثل قوله عليه السّلام:

«من أفتى الناس بغير علم و لا هدى من اللّه لعنته ملائكة الرحمة و ملائكة العذاب و لحقه وزر من عمل بفتياه.» «3»

و لا ينافي هذا كون نفس الظلم الصادر عنه أيضا موجبا للعقوبة، إذ لا مانع من استحقاقها من جهات متعددة، فتأمّل.

______________________________

(1) الوسائل 7/ 37، الباب 12 من أبواب ما يمسك عنه الصائم، الحديث 1.

(2) المكاسب المحرّمة 1/ 95 (ط. الجديدة 1/ 142).

(3) الوسائل 18/

9، الباب 4 من أبواب صفات القاضي، الحديث 1.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 25

[ثانيها: أن يكون فعله سببا للحرام]

و ثانيها: أن يكون فعله سببا للحرام كمن قدّم إلى غيره محرّما، و مثله ما نحن فيه. و قد ذكرنا أنّ الأقوى فيه التحريم لأنّ استناد الفعل إلى السبب أقوى فنسبة الحرام إليه أولى. و لذا يستقرّ الضمان على السبب دون المباشر الجاهل. بل قيل: إنّه لا ضمان ابتداء إلّا عليه.

[الثالث: أن يكون شرطا لصدور الحرام]

الثالث: أن يكون شرطا لصدور الحرام، و هذا يكون على وجهين:

أحدهما: أن يكون من قبيل إيجاد الداعي على المعصية، إمّا لحصول الرغبة فيها كترغيب الشخص على المعصية، و إمّا لحصول العناد من الشخص حتّى يقع في المعصية كسبّ آلهة الكفّار الموجب لإلقائهم في سبّ الحقّ عنادا، أو سبّ آباء الناس الموقع لهم في سبّ أبيه. و الظاهر حرمة القسمين، و قد ورد في ذلك عدّة من الأخبار.

و ثانيهما: أن يكون بإيجاد شرط آخر غير الداعي كبيع العنب ممّن يعلم أنه يجعله خمرا، و سيأتي الكلام فيه.

[الرابع: أن يكون من قبيل عدم المانع]
اشارة

الرابع: أن يكون من قبيل عدم المانع، و هذا يكون تارة مع الحرمة الفعليّة في حقّ الفاعل كسكوت الشخص عن المنع من المنكر، و لا إشكال في الحرمة بشرائط النهي عن المنكر، و أخرى مع عدم الحرمة الفعليّة بالنسبة إلى الفاعل كسكوت العالم عن إعلام الجاهل كما فيما نحن فيه، فإنّ صدور الحرام منه مشروط بعدم إعلامه. فهل يجب رفع الحرام بترك السكوت أم لا؟ و فيه إشكال. (1)

تصوير سائر أقسام إلقاء الغير في الحرام

______________________________

(1) لا يخفى أنّ العلّة التامّة مركّبة من ثلاثة أجزاء أصلية: المقتضي، و اجتماع الشروط، و ارتفاع الموانع، فإذا تحققت الأجزاء الثلاثة برمّتها وجب قهرا تحقّق المعلول.

و المراد بالمقتضي- و يقال له السبب أيضا- المؤثّر الذي يترشح منه وجود

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 26

..........

______________________________

المعلول، و المراد بالشرط ماله دخل في فاعليّة الفاعل أو قابليّة القابل، و المراد بالمانع ما يمنع من تأثير المقتضي أثره. فالنار مثلا مقتضية للإحراق، و المجاورة لها شرط لتأثيرها، و رطوبة الشي ء مانعة عنه.

و الظاهر أنّ المصنّف أراد من تربيع الأقسام بيان أنّ عمل الشخص إمّا أن يكون علّة تامّة لفعل الغير، و إمّا أن يكون من أجزاء علّته بنحو الاقتضاء، أو الشرطيّة، أو عدم المانع، فهذه أربعة أقسام:

فالقسم الأوّل أعني الإكراه عنده من قبيل العلّة التامّة، و قد مرّت مناقشة الأستاذ الإمام في ذلك.

و جعل القسم الثاني أعني تقديم العالم شيئا محرّما للجاهل من قبيل المقتضي و السبب لصرفه في الحرام، ثمّ حكم بحرمة ذلك لاستناد الفعل إليه عرفا و كونه في ذلك أقوى من المباشر الجاهل و لذا يستقرّ الضمان عليه في باب الإتلاف إن لم نقل بتوجّهه إليه ابتداء، و لا محالة أراد المصنّف صورة العلم

بصرفه في الحرام أو كونه معرضا لذلك، فلو علمنا بأنّه لا يصرفه إلّا في الحلال كالاستصباح مثلا فلا سببيّة للحرام كما هو واضح.

و جعل القسم الثالث من قبيل الشروط و جعله على وجهين، إذ عمل الشخص إما أن يكون من قبيل إيجاد الداعي أو العناد في قلب المباشر، و إمّا أن يكون من قبيل إيجاد بعض المقدّمات الخارجيّة لفعله كبيع العنب ممن يعلم أنّه يصنعه خمرا.

و جعل القسم الرابع أعني السكوت في قبال عمل المباشر من قبيل عدم المانع، و قسّمه إلى قسمين: تارة مع الحرمة الفعليّة بالنسبة إلى الفاعل كسكوت الشخص عن المنع من المنكر، و أخرى مع عدم الحرمة الفعليّة في حقّه لكونه جاهلا.

[جهات من البحث حول كلام المصنف]
اشارة

إذا عرفت ما ذكرنا فلنتعرّض حول كلام المصنف لجهات:

الجهة الأولى: [التهافت في كلام المصنف]

قال في مصباح الفقاهة ما ملخّصه: «أنّ في كلام المصنّف تهافتا

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 27

..........

______________________________

واضحا، حيث جعل ما نحن فيه تارة من القسم الثاني و أخرى من القسم الرابع.

و يمكن توجيهه بوجهين: الأوّل: أن يراد بالفرض الذي أدخله في القسم الثاني فرض إعطاء الدهن المتنجّس للغير الجاهل فإنّه لا يخلو من التسبيب إلى الحرام، و بالفرض الذي جعله من القسم الرابع فرض الثوب المتنجّس الذي يصلّي فيه، المذكور في سؤال السيّد المهنّا، حيث إنّه ليس فيه تسبيب بل يكون من قبيل عدم المانع.

الوجه الثاني: أن يراد في كلا الموردين مسألة إعطاء الدهن المتنجّس للغير مع الالتزام فيها باختلاف الجهتين، بأن يكون الملحوظ في القسم الثاني كونه تسبيبا لإيقاع الجاهل في الحرام، و في القسم الرابع حرمة السكوت نفسا مع قطع النظر عن التسبيب.» «1»

أقول: الظاهر أنّ الوجه الأوّل أولى، إذ الثاني لا يخلو من تكلّف، مضافا إلى استلزامه لكون الشخص بفعل واحد مرتكبا لمعصيتين: معصية التسبيب إلى الحرام و معصية السكوت في قباله، و يشكل الالتزام بذلك.

الجهة الثانية: [تقديم العالم شيئا محرّما للجاهل من قبيل السبب أو المقتضي]

جعل المصنّف «ره» القسم الثاني أعني تقديم العالم شيئا محرّما للجاهل من قبيل السبب أي المقتضي.

و الظاهر عدم صحّة ذلك، إذ قد عرفت أنّ المقتضي ما منه وجود المعلول كالنار للإحراق مثلا، و لا يخفى أنّ فعل المباشر معلول لإرادة نفسه بمبادئها النفسانيّة من تصوّر الفعل و التصديق بفائدته و الميل و الشوق، و أمّا الشي ء المشتاق إليه فموضوع للإرادة و شرط لتحقّقها و فعلها، و الشرط ما له دخل في فاعليّة الفاعل أو قابليّة القابل.

و بالجملة فإعطاء الشي ء للفاعل المباشر من شروط فعله، كسائر الشروط المذكورة في القسم الثالث، و لا يصحّ عدّه

سببا له، و بذلك صرّح المحقّق الإيرواني «ره» في حاشيته، قال: «لم يتّضح لي الفرق بين هذا و لا حقه بقسميه حتى يصحّ عدّ هذا قسما برأسه و تسميته بالسبب و ذاك بالشرط، فإنّ تقديم الطعام أيضا قد

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 123.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 28

..........

______________________________

يكون من قبيل إيجاد الداعي على الأكل، و قد يكون من قبيل التمكين منه مع وجود الداعي كما في بيع العنب لمن يعمله خمرا.» «1»

الجهة الثالثة: [التقسيم في كلام المصنف]

لا يخفى أنّ تقسيم المصنّف في المقام- مضافا إلى كون بعض تعبيراته على خلاف المصطلحات العلميّة كما مرّ- لا يفيد في المقام، إذا التقسيم يجب أن يكون بلحاظ اختلاف الأقسام في الأحكام و كون كلّ قسم موضوعا لحكم خاصّ، و الأقسام الأربعة في كلام المصنّف ليست كذلك.

و قد صرّح بهذه النكتة المحقّق الإيرواني و مصباح الفقاهة. «2»

و الأولى في مقام التقسيم أن يقال: إنّ صدور الفعل عن المباشر إمّا أن يقع عصيانا و طغيانا على المولى متّصفا بالحرمة الفعليّة، و إمّا أن لا يكون كذلك، بل يقع منه عن اضطرار أو إكراه رافع للحرمة أو جهل يعذر فيه.

و الجهل إمّا أن يكون بالحكم الكلّي الإلهي و إمّا أن يكون بالموضوع، و الموضوع إمّا أن يكون بواقعه موضوعا للحكم الشرعي كالنجس بالنسبة إلى حرمة الأكل، و إمّا أن يكون العلم مأخوذا فيه كالنجس بالنسبة إلى الصلاة فيه حيث إنّ المانع عن صحّتها هو العلم بالنجاسة لا النجاسة الواقعيّة.

ثم الموضوع إمّا أن يكون من الأمور المهمّة التي لا يرضى الشارع بتحقّقها من أيّ شخص كان و في أيّ حال كان كما في الدّماء و الفروج و الأموال، و مثلها الأمور المرتبطة بحفظ نظام

المسلمين و كيانهم، و إمّا أن لا يكون كذلك بل من المحرّمات الجزئية الشخصيّة.

هذا كلّه بالنسبة إلى المباشر.

و أمّا غير المباشر فإمّا أن يقع منه عمل وجودي من التسبيب أو الإغراء أو إيجاد الدّاعي، و إما أن لا يقع منه إلّا السكوت في قبال المباشر و عمله.

______________________________

(1) حاشية المكاسب للمحقّق الإيرواني/ 9.

(2) راجع نفس المصدر السابق و الصفحة؛ و مصباح الفقاهة 1/ 121.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 29

..........

______________________________

فهذا ملخّص تقسيم مورد البحث بلحاظ اختلاف أحكامه.

فهنا مسائل:
1- أن يقع الفعل عن المباشر عن عصيان و طغيان،

ففي هذه الصورة يقع التسبيب إليه و إغراؤه و تشويقه و إيجاد الداعي بالنسبة إليه حراما قطعا لا لقوّة السبب بل لأنّ التسبيب إلى المنكر و الإغراء إليه قبيح عقلا و محرّم شرعا و من أظهر مصاديق الإعانة على الإثم مطلقا سواء قوي السبب أم ضعف.

و من هذا القبيل توصيف الخمر له مثلا بأوصاف مشوّقة ليشربها، أو سبّ آلهة المشركين الموجب لسبّهم الإله، قال اللّه- تعالى-: وَ لٰا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّٰهِ فَيَسُبُّوا اللّٰهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ. «1»

و بذلك يعلم أنّ بيع العنب بقصد أن يجعل خمرا حرام قطعا، و كذا إيجاد الداعي في نفس المشتري لذلك، و أمّا بيعه ممّن يعلم أنّه يجعله خمرا بدون قصد ذلك و بدون إيجاد الداعي في نفسه فهل يصدق عليه الإعانة على الإثم أم لا؟ فيه كلام، و الأخبار الصحيحة وردت بجوازه، و سيأتي البحث فيه في النوع الثاني. هذا.

و كما يحرم الإغراء على المنكر يحرم السكوت في قباله أيضا، لوجوب النهي عن المنكر مع تحقّق شرائطه.

و أمّا إذا كان صدور الفعل عن المباشر لا عن عصيان و طغيان بل لعذر رافع للحرمة فعلا من اضطرار أو إكراه أو

جهل،

2- فإن كان عن اضطرار

فالتسبيب إلى فعله و الإغراء عليه حينئذ لا يحرم بل قد يجب حفظا لنفس المضطرّ.

3- و إن كان عن إكراه رافع للحرمة

فلا يجوز معاونته في فعل الحرام، و عمل المكره بنفسه محرّم لا لأقوائيّته بل لكونه ظلما في حقّ المكره و تسبيبا إلى الحرام،

______________________________

(1) سورة الأنعام (6)، الآية 108.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 30

..........

______________________________

و هما بنفسهما محرّمان كما مرّ، و وزر المكره عليه كما أنّ ضمان إتلافه يستقرّ عليه إن لم نقل بتوجّهه إليه ابتداء.

4- و إن كان عن جهل يعذر فيه و كان الجهل بالحكم الكلي

وجب على العالم إعلامه مطلقا لوجوب إرشاد الجاهل و تبليغ أحكام اللّه- تعالى- نسلا بعد نسل إلى يوم القيامة، كما يشهد بذلك الكتاب و السنّة:

قال اللّه- تعالى: فَلَوْ لٰا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طٰائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذٰا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ «1»

و في موثقة طلحة بن زيد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «قرأت في كتاب عليّ عليه السّلام: إنّ اللّه لم يأخذ على الجهّال عهدا بطلب العلم حتّى أخذ على العلماء عهدا ببذل العلم للجهّال، لأنّ العلم كان قبل الجهل.» «2»

5- و إن كان الجهل بالموضوع و كان العلم مأخوذا في الموضوع

فالظاهر عدم وجوب الإعلام، كمن رأى نجاسة في ثوب المصلّي، لما مرّ من أنّ المانع عن صحّة الصلاة هو العلم بالنجاسة لا النجاسة الواقعيّة.

و قد مرّت موثقة ابن بكير، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجل أعار رجلا ثوبا فصلّى فيه و هو لا يصلّي فيه؟ قال: «لا يعلمه.» قال: قلت: فإن أعلمه؟ قال: «يعيد.» «3»

و الأمر بالإعادة محمول على الاستحباب أو كون الإعلام في أثناء الصلاة.

و في صحيحة محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما السّلام قال: سألته عن الرجل يرى في ثوب أخيه دما و هو يصلّي؟ قال: «لا يؤذنه حتّى ينصرف.» «4»

6- و إن لم يكن العلم مأخوذا في موضوع الحكم

بل كان الموضوع بواقعه

______________________________

(1) سورة التوبة (9)، الآية 122.

(2) الكافي 1/ 41، كتاب فضل العلم، باب بذل العلم، الحديث 1.

(3) الوسائل 2/ 1069، الباب 47 من أبواب النجاسات، الحديث 3، و مرّت في ص 12.

(4) نفس المصدر و الباب و الصفحة، الحديث 1.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 31

..........

______________________________

مبغوضا للمولى غاية الأمر جهل المباشر به جهلا يعذر فيه فهل يجوز من الغير التسبيب و الإغراء إليه كتقديم الطعام النجس أو الحرام إليه ليأكله مع جهله أم لا؟

الظاهر أيضا الحرمة كما مرّ، لاستظهار ذلك من الأخبار الدالّة على وجوب الإعلام في الدهن المتنجّس لمن يشتريه، و عدم جواز بيع المختلط بالميتة إلّا لمن يستحلّها، و عدم جواز بيع العجين بالماء النجس إلّا لمن يستحلّ الميتة و نحو ذلك ممّا مرّ.

و قد مرّ منّا بيان أنّ الأحكام الواقعيّة ليست مقيدة بعلم المكلفين بها و أنّها ليست جزافيّة بل تابعة للمصالح و المفاسد النفس الأمريّة، و الغرض من البعث أو الزجر ليس إلّا تحصيل المصالح الملزمة و الاحتراز عن المفاسد

الملزمة، و كون المباشر معذورا لجهله لا يصحّح فعل العالم. و كما يحرم مخالفة التكاليف و أغراض المولى مباشرة، يحرم مخالفتها بالتسبيب أيضا بإلقاء الجاهل فيها، فتأمّل.

و لا نريد بذلك صحّة إسناد فعل المباشر إلى السّبب حتّى يناقش في ذلك بأنّ شرب الخمر مثلا صدر عن المباشر الجاهل لا عمّن قدّمها له، بل نريد بيان أن نفس التسبيب بما أنّه موجب لصدور مبغوض المولى و نقض غرضه يكون محرّما شرعا.

قال الأستاذ الإمام «ره» في هذا المجال ما لفظه: «و لا يبعد أن يكون مراد الشيخ من كون فعل الشخص سببا للحرام و قوّة السبب و ضعف المباشر ما أشرنا إليه من أنّ الفعل المجهول بقي على مبغوضيّته، و معه لا يجوز التسبيب إلى ارتكاب الجاهل، و أنّ وجود المبغوض مستند إلى السبب بنحو أقوى، و ليس مراده صدق آكل النجس و شاربه على السبب حتّى يستشكل عليه بأن عنوان المحرّم إذا كان اختيار مباشرة الفعل كما هو ظاهر أدلّة المحرّمات لا ينسب إلى السبب بل و لا إلى العلّة التامّة، فمن أوجر الخمر في حلق الغير قهرا لا يصدق عليه أنّه شرب الخمر، بل في مثله لا يتحقّق عنوان المحرّم رأسا فإنّ الشارب غير مختار، و العلّة غير شارب.» «1»

______________________________

(1) المكاسب المحرّمة 1/ 97 (ط. الجديدة 1/ 145). و المستشكل هو المحقّق الشيرازي في حاشيته على المكاسب، ص 21 و 22.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 32

إلّا إذا علمنا من الخارج وجوب دفع ذلك لكونه فسادا قد أمر بدفعه كلّ من قدر عليه، كما لو اطّلع على عدم إباحة دم من يريد الجاهل قتله، أو عدم إباحة عرضه له، أو لزم من سكوته ضرر

ماليّ قد أمرنا بدفعه عن كلّ أحد، فإنّه يجب الإعلام و الردع لو لم يرتدع بالإعلام، بل الواجب هو الردع و لو بدون الإعلام. ففي الحقيقة الإعلام بنفسه غير واجب (1).

و أمّا فيما تعلّق بغير الثلاثة من حقوق اللّه فوجوب دفع مثل هذا الحرام مشكل، لأنّ الظاهر من أدلّة النهي عن المنكر وجوب الردع عن المعصية فلا يدلّ على وجوب إعلام الجاهل بكون فعله معصية.

نعم وجب ذلك فيما إذا كان الجهل بالحكم لكنّه من حيث وجوب تبليغ التكاليف ليستمر التكاليف إلى آخر الأبد بتبليغ الشاهد الغائب.

______________________________

(1) ما ذكرنا إلى الآن كان فيما إذا صدر عن غير المباشر عمل وجودي من التسبيب و الإغراء و نحوهما.

7- و أمّا إذا لم يكن منه إلّا السكوت في قبال عمل المباشر

فإمّا أن يكون مع علم المباشر بحرمة فعله، و إمّا أن يكون مع جهل يعذر فيه، ثمّ الجهل إمّا أن يكون بالحكم الكلّي أو بالموضوع الخارجي. و المحرّم إمّا أن يكون من الأمور المهمّة و إمّا أن يكون من المحرّمات العادية.

أمّا مع علم المباشر بالحرمة الفعليّة فقد مرّ عدم جواز السكوت في قباله لوجوب النهي عن المنكر بشرائطه. و كذا مع الجهل بالحكم الكلّي لوجوب إرشاد الجاهل و تبليغ الأحكام كما مرّ.

و أمّا مع الجهل بالموضوع ففي الأمور المهمّة يجب الإعلام بل الردع إن لم يرتدع بمجرد الإعلام كما في المتن و يظهر من المصنّف حصرها في الثلاثة، أعني الدماء

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 33

فالعالم في الحقيقة مبلّغ عن اللّه ليتمّ الحجّة على الجاهل و يتحقّق فيه قابليّة الإطاعة و المعصية.

[استدل على وجوب الإعلام بأنّ النجاسة عيب خفيّ]

ثمّ إنّ بعضهم استدل على وجوب الإعلام بأنّ النجاسة عيب خفيّ فيجب إظهارها. (1)

______________________________

و الفروج و الأموال، مع أنّ المصالح العامّة كحفظ نظام المسلمين و كيانهم مثلا من أهم المسائل التي يجب رعايتها بأيّ نحو كان.

و أمّا في المحرمات العادية الجزئية فلا دليل على وجوب الإعلام و الأصل يقتضي العدم، بل يمكن القول بحرمته إن أوجب العسر أو الأذى. و قد دلّت الأخبار و الفتاوى على عدم وجوب السؤال و التحقيق في الموضوعات، فلا يجب الإعلام فيها أيضا و لا يجري فيها أدلّة النهي عن المنكر و لا أدلّة وجوب إرشاد الجاهل، إذ المفروض جهل المباشر فلا يقع الفعل منه منكرا و أدلّة إرشاد الجاهل تختصّ بالأحكام الكليّة.

اللّهم إلّا أن يقال: إنّ المفروض أنّ العمل بواقعه مبغوض للشارع لاشتماله على المفسدة الملزمة، فإذا أمكن المنع منه حكم العقل بلزومه حفظا لغرض

الشارع، نظير ما قلنا في مسألة تقديم الطعام النجس للجاهل، فتدبّر.

(1) في مفتاح الكرامة في مقام الاستدلال على وجوب الإعلام قال:

«و النجاسة عيب خفيّ يحرم كتمانه. قال في السرائر: إنّ كتمان العيوب مع العلم بها حرام و محظور بغير خلاف.» «1»

و اعترض على ذلك المصنّف- كما ترى في المتن- بوجهين.

و في مصباح الفقاهة بعد نقل الوجهين قال ما ملخّصه: «أنّ ما أفاده أوّلا و إن كان وجيها لكن الثاني غير وجيه، فإنّ النجاسة لا ينكر كونها عيبا سواء كانت من القبائح الواقعيّة أم لم تكن، بل ربما يوجب جهل المشتري بها تضرّره كما إذا اشترى

______________________________

(1) مفتاح الكرامة 4/ 26، كتاب المتاجر، المقصد الأوّل، الفصل الأوّل.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 34

و فيه- مع أنّ وجوب الإعلام على القول به ليس مختصّا بالمعاوضات، بل يشمل مثل الإباحة و الهبة من المجانيّات- أنّ كون النجاسة عيبا ليس إلّا لكونه منكرا واقعيا و قبيحا، فإن ثبت ذلك حرم الإلقاء فيه مع قطع النظر عن مسألة وجوب إظهار العيب و إلّا لم يكن عيبا، فتأمّل.

______________________________

الدهن المتنجّس مع جهله بنجاسته و مزجه بدهنه الطاهر ثمّ اطّلع عليها، و لعلّه لذلك أمر بالتأمّل. و الذي يسهّل الخطب أنّه لا دليل على وجوب إظهار العيب الخفيّ في المعاملات، و إنّما الحرام هو غشّ المؤمن فيها. و من المعلوم أنّ رفع الغش لا ينحصر بإظهار العيب الخفيّ بل يحصل بالتبري عن العيوب أو باشتراط عدم صرفه فيما هو مشروط بالطهارة.» «1»

أقول: يمكن أن يقال أوّلا: إنّ العيب عبارة عن نقص في الشي ء بحسب ما يقتضيه طبعه، فإن كانت النجاسة أمرا واقعيا و خباثة ذاتيّة صحّ عدّها من عيوب الذوات الطاهرة كالدهن

و نحوه بخلاف ما إذا كانت من الأمور الاعتباريّة المحضة، اللّهم إلّا أن يقال: إنّ ملاك العيب موجود فيها و إن لم تكن منه.

و ثانيا: إنّ ظاهر أخبار الباب وجوب الإعلام للمشتري مطلقا و إن لم يجب إظهار العيوب في المعاملات، و حكمته المنع من التسبيب إلى الحرام و إلقاء المشتري في مفسدته الملزمة بأكله أو شربه، و مجرّد التبري من العيوب لا يكفي في زجر المشتري عن أكله.

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 123.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 35

[3- الثالث: هل يجوز الاستصباح بالدهن المتنجّس تحت الظلال؟]
اشارة

الثالث: المشهور بين الأصحاب وجوب كون الاستصباح تحت السّماء، بل في السّرائر: إنّ الاستصباح به تحت الظلال محظور بغير خلاف. و في المبسوط: إنه روى أصحابنا: «أنّه يستصبح به تحت السّماء دون السقف.»

لكن الأخبار المتقدّمة- على كثرتها و ورودها في مقام البيان- ساكتة عن هذا القيد، و لا مقيّد لها من الخارج عدا ما يدّعى من مرسلة الشيخ المنجبرة بالشهرة المحقّقة و الاتفاق المحكيّ. (1)

______________________________

3- هل يجوز الاستصباح بالدهن المتنجّس تحت الظلال؟

[كلمات الأصحاب في المقام]

(1) قبل تحقيق المسألة لا بدّ أن نتعرّض لبعض كلمات الأصحاب في المقام:

1- قال المفيد في أطعمة المقنعة: «و إذا وقع ذلك في الدهن جاز الاستصباح به تحت السّماء، و لم يجز تحت الظلال. و لا يجوز أكله و لا الادّهان به على حال.» «1»

2- و في أطعمة النهاية: «و إن كان ما حصل فيه الميتة مائعا لم يجز استعماله و وجب إهراقه، فإن كان دهنا مثل البزر و الشيرج جاز الاستصباح به تحت السماء و لا يجوز الاستصباح به تحت الظلال و لا الادّهان به». «2»

______________________________

(1) المقنعة/ 582.

(2) النهاية/ 588.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 36

..........

______________________________

أقول: ظاهرهما عدم جواز الادّهان به و لو مع الالتزام بنجاسته و غسله للصلاة، و الالتزام بذلك مشكل.

3- و في بيع الخلاف (المسألة 312): «يجوز بيع الزيت النجس لمن يستصبح به تحت السّماء. و قال أبو حنيفة: يجوز بيعه مطلقا، و قال مالك و الشافعي: لا يجوز بيعه بحال. دليلنا: إجماع الفرقة و أخبارهم. و أيضا قوله- تعالى-: وَ أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبٰا و قوله: إِلّٰا أَنْ تَكُونَ تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ و هذا بيع و تجارة ...» «1»

أقول: هو «قده» في مقام الإفتاء قيّد

الاستصباح بكونه تحت السّماء، و لكن استدلاله بإجماع الفرقة و غيره لأصل جواز البيع في قبال مالك و الشافعي. و بعبارة أخرى: الأدلّة التي ذكرها من الإجماع و غيره لعقد الإثبات دون عقد النفي، فتدلّ هي على جواز الاستصباح به تحت السّماء لا عدم الجواز تحت الظلال. و لو لم يكن كلماته الأخر أمكن حمل قوله هنا: «تحت السّماء» على التغليب لا التقييد، من جهة أنّ مصرف الدّهن النجس في تلك الأعصار كان بحسب الغالب منحصرا في الاستصباح به تحت السّماء لئلّا تتلوّث وسائل التعيش و سقوف البيوت.

4- و في بيع المبسوط: «يجوز بيع الزيت النجس لمن يستصبح به تحت السّماء و لا يجوز إلّا لذلك.» «2»

أقول: هل المشار إليه باسم الإشارة أصل الاستصباح، أو كونه تحت السّماء أو هما معا؟ كلّ محتمل.

5- و في أطعمة المبسوط: «و رووا أصحابنا: «أنّه يستصبح به تحت السّماء دون السقف». و هذا يدلّ على أنّ دخانه نجس، غير أنّ عندي أنّ هذا مكروه ... فأمّا ما يقطع بنجاسته، قال قوم: دخانه نجس، و هو الذي دلّ عليه الخبر الذي قدّمناه

______________________________

(1) الخلاف 3/ 187 (ط. أخرى 2/ 83)، كتاب البيوع.

(2) المبسوط 2/ 167، كتاب البيوع، فصل في حكم ما يصحّ بيعه و ما لا يصحّ.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 37

..........

______________________________

من رواية أصحابنا، و قال آخرون- و هو الأقوى عندي-: إنّه ليس بنجس.» «1»

أقول: نسب التقييد بكونه تحت السّماء إلى رواية الأصحاب و جعلها دالّة على نجاسة دخانه، فيظهر منه أنّ التقييد لا يكون من باب التعبّد المحض، بل القول به ناش عن القول بنجاسة الدخان. و لكن هو بنفسه أنكرهما معا و حكم بالكراهة تحت السقف،

فلا يكون الجواز عنده مقيّدا بوقوعه تحت السّماء خلافا لما مرّ عن نهايته.

6- و في أطعمة السرائر: «و إن كان دهنا مثل الشيرج و البزر جاز الاستصباح به تحت السّماء، و لا يجوز الاستصباح به تحت الظلال، لا لأنّ دخانه نجس، بل تعبّد تعبّدنا به لأنّ دخان الأعيان النجسة و رمادها طاهر عندنا بغير خلاف بيننا.

و لا يجوز الادّهان به و لا استعماله في شي ء من الأشياء سوى الاستصباح تحت السّماء.» ثمّ حكى كلام الشيخ في أطعمة المبسوط ثمّ قال: «قال محمّد بن إدريس: ما ذهب أحد من أصحابنا إلى أنّ الاستصباح به تحت الظلال مكروه، بل محظور بغير خلاف بينهم. و شيخنا أبو جعفر محجوج بقوله في جميع كتبه إلّا ما ذكره هاهنا. فالأخذ بقوله و قول أصحابه أولى من الأخذ بقوله المنفرد عن أقوال أصحابنا. فأمّا بيعه فلا يجوز إلّا بشرط الاستصباح به تحت السّماء دون الظلال.» «2»

7- و العلامة في أطعمة المختلف بعد نقل كلامي المبسوط و السرائر قال: «هذا الردّ على شيخنا جهل منه و سخف، فإنّ الشيخ- رحمه اللّه- أعرف بأقوال علمائنا و المسائل الإجماعيّة و الخلافيّة. و الروايات الواردة هنا في التهذيب مطلقة غير مقيّدة بالسّماء.» ثمّ تعرّض لنقل الروايات ثمّ قال: «إذا عرفت هذا فنقول:

لا استبعاد فيما قاله شيخنا في المبسوط من نجاسة دخان الدهن النجس لبعد استحالة

______________________________

(1) المبسوط 6/ 283، كتاب الأطعمة، حكم ... الاستصباح بالزيت النجس.

(2) السرائر 3/ 121 و 122.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 38

..........

______________________________

كلّه، بل لا بدّ و أن يتصاعد من أجزائه قبل إحالة النار لها بسبب السخونة المكتسبة من النار إلى أن تلقى الظلال فتتأثّر بنجاسته، و لهذا منعوا من

الاستصباح به تحت الظلال، فإنّ ثبوت هذا القيد مع طهارته ممّا لا يجتمعان، لكن الأولى الجواز مطلقا للأحاديث ما لم يعلم أو يظنّ بقاء شي ء من أعيان الدهن فلا يجوز الاستصباح به تحت الظلال.» «1»

أقول: فالعلّامة ينكر التعبّد المحض في المسألة و يجعل التقييد مستندا إلى القول بنجاسة دخان الدهن المتنجّس. هذا.

8- و في أطعمة المهذّب لابن البرّاج: «و إذا وقع شي ء من ذوات الأنفس السائلة في شي ء نجّسه، فإن كان ما وقع فيه مائعا مثل الزيت و الشيرج و ما أشبه ذلك من الأدهان لم يجز استعماله في أكل و لا غيره إلا في الاستصباح به تحت السّماء، و لا يجوز الاستصباح به تحت السّقف و لا ما يستظلّ به الإنسان.» «2»

9- و في بيع الغنية في شرائط المبيع قال: «و اشترطنا أن يكون منتفعا به تحرزا ممّا لا منفعة فيه كالحشرات و غيرها. و قيّدنا بكونها مباحة تحفّظا من المنافع المحرّمة. و يدخل في ذلك كلّ نجس لا يمكن تطهيره إلّا ما أخرجه الدليل من بيع الكلب المعلّم للصيد و الزيت النجس للاستصباح به تحت السّماء و هو إجماع الطائفة.» «3»

أقول: هل الضمير في قوله: «و هو إجماع الطائفة» يرجع إلى اشتراط الانتفاع به، أو قيد كونها مباحة، أو المستثنيان، أو الأخير منهما، أو جميع ذلك؟ كلّ محتمل. و على فرض الرجوع إلى الجميع أو الأخير فالإجماع على عقد الإثبات

______________________________

(1) المختلف/ 685 و 686 (الجزء الخامس، ص 133)، كتاب الصيد و توابعه، الفصل الخامس.

(2) المهذّب 2/ 432.

(3) الجوامع الفقهية/ 524 (طبعة أخرى/ 586).

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 39

..........

______________________________

لا عقد النّفي أعني عدم الجواز تحت السقف لعدم التعرّض له في كلامه،

إلّا أن يقال بظهور القيد في نفي غيره و ظاهر القيد الدخالة فلا يحمل على كونه للتغليب.

و كيف كان فالمستفاد من كلامه وجود الملازمة بين جواز الانتفاع بالشي ء و بين جواز بيعه كما كنّا نصرّ عليه في بحثنا.

10- و في أطعمة الشرائع: «و لو كان المائع دهنا جاز الاستصباح به تحت السّماء، و لا يجوز تحت الأظلّة. و هل ذلك لنجاسة دخانه؟ الأقرب لا بل هو تعبّد.» «1»

أقول: التعبّد المحض في أمثال المقام بعيد جدّا، لعدم ابتناء أحكام المعاملات على أساس مصالح سرّية غيبيّة لا يعلمه إلّا اللّه- تعالى-، و إنّما يصحّ ذلك في باب العبادات المبنية غالبا على أساس التعبّد المحض.

11- و في أطعمة المختصر النافع: «و لو كان المائع دهنا جاز بيعه للاستصباح به تحت السّماء خاصّة لا تحت الأظلّة.» «2»

12- و في أطعمة القواعد للعلّامة: «و لو كان مائعا نجس و جاز الاستصباح به إن كان دهنا تحت السّماء لا تحت الظلال.» «3»

أقول: قد طال نقل الأقوال في المقام فأعتذر من القرّاء الكرام.

و غرضنا من ذلك إثبات أنّ التقييد مذكور في كثير من كلمات الأصحاب حتّى من القدماء في كتبهم المعدّة لنقل المسائل الأصليّة المأثورة عن الأئمة عليهم السّلام كالمقنعة و النهاية و المهذّب و الغنية، على ما كان يصرّ عليه الأستاذ المرحوم آية اللّه العظمى البروجردي- طاب ثراه- من تقسيم مسائل الفقه إلى قسمين: المسائل الأصليّة

______________________________

(1) الشرائع/ 754 (ط. أخرى 3/ 226).

(2) المختصر النافع 2/ 254.

(3) القواعد 2/ 158.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 40

..........

______________________________

المأثورة و المسائل التفريعيّة المستنبطة.

فالظاهر صحّة ما في المتن من نسبة التقييد إلى المشهور، و كان الأستاذ «ره» يقول بحجّية الشهرة في المسائل المأثورة. و

ما في بعض الكلمات من منع الشهرة في المقام ناش من عدم مراجعة كلمات الأصحاب.

نعم، ذكر في بعض العبارات الاستصباح بنحو الإطلاق و منها كلام الشيخ في أطعمة الخلاف (المسألة 19)، قال: «إذا ماتت الفأرة في سمن أو زيت أو شيرج أو بزر نجس كلّه و جاز الاستصباح به، و لا يجوز أكله و لا الانتفاع به لغير الاستصباح، و به قال الشافعي. و قال قوم من أصحاب الحديث: لا ينتفع به بحال لا بالاستصباح و لا غيره بل يراق كالخمر. و قال أبو حنيفة: يستصبح به و يباع أيضا للاستصباح ...» «1»

و قد مرّ منه في أطعمة المبسوط «2» أيضا منع التقييد و النجاسة معا و اختار الكراهة.

فهو بنفسه خالف ما أفتى به هو في النهاية و شيخه في المقنعة من التقييد، مع تصريحه في أوّل المبسوط بتأليفه النهاية لذكر خصوص المسائل الأصليّة المأثورة.

و بالجملة فالمشهور بين الأصحاب هو التقييد و إن كانت المسألة خلافيّة.

و أمّا أخبار المسألة المرويّة بطرق الفريقين كما مرّت- على كثرتها و ورودها في مقام البيان- فهي ساكتة عن هذا القيد- كما في كلام المصنّف- و لا دليل على تقييدها عدا مرسلة الشيخ في المبسوط المدّعى انجبارها بالشهرة المحقّقة و عدم الخلاف الذي مرّ عن السّرائر. فالمسألة في غاية الإشكال.

______________________________

(1) الخلاف 6/ ... (ط. أخرى 3/ 269)، كتاب الأطعمة.

(2) المبسوط 6/ 283، كتاب الأطعمة، حكم ... الاستصباح بالزيت النجس.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 41

[حكم دخان الشي ء النجس من جهة الطهارة و النجاسة]

لكن لو سلّم الانجبار فغاية الأمر دورانه بين تقييد المطلقات المتقدّمة أو حمل الجملة الخبريّة على الاستحباب أو الإرشاد لئلّا يتأثّر السقف بدخان النجس الذي هو نجس، (1) بناء على ما ذكره الشيخ من

دلالة المرسلة على نجاسة دخان النجس، إذ قد لا يخلو من أجزاء لطيفة دهنيّة تتصاعد بواسطة الحرارة.

______________________________

حكم دخان الشي ء النجس من جهة الطهارة و النجاسة

(1) الأولى أن نتعرّض أوّلا بنحو الإجمال لحكم دخان الشي ء النجس من جهة الطهارة و النجاسة، ثمّ نتعرّض لأصل البحث، فنقول:

قال الشيخ في أطعمة الخلاف، (المسألة 20): «إذا جاز الاستصباح به فإنّ دخانه يكون طاهرا و لا يكون نجسا. و قال الشافعي: فيه و جهان: أحدهما مثل ما قلناه، و الثاني و هو الصحيح عندهم أنّه يكون نجسا، ثمّ ينظر فإن كان قليلا مثل رءوس الإبر فإنّه معفوّ عنه، و إن كان كثيرا وجب غسله. دليلنا: أنّ الأصل الطهارة و براءة الذمّة، و الحكم بالنجاسة و شغل الذمّة يحتاج إلى الدليل.» «1»

و قال في أطعمة المبسوط في البحث عن الدهن النجس: «فأمّا دخانه و دخان كلّ نجس من العذرة و جلود الميتة كالسرجين و البعر و عظام الميتة عندنا ليس بنجس.» «2»

و قد مرّ في هذا المجال عن السرائر قوله: «إنّ دخان الأعيان النجسة و رمادها طاهر عندنا بغير خلاف بيننا.» «3»

و عن العلّامة في المختلف قوله: «لا استبعاد فيما قاله شيخنا في المبسوط من نجاسة دخان الدهن النجس لبعد استحالة كلّه ... لكن الأولى الجواز مطلقا للأحاديث ما لم يعلم أو يظنّ بقاء شي ء من أعيان الدهن. فلا يجوز الاستصباح

______________________________

(1) الخلاف 6/ ... (ط. أخرى 3/ 269)، كتاب الأطعمة.

(2) المبسوط 6/ 283.

(3) السرائر 3/ 121، كتاب الأطعمة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 42

..........

______________________________

به تحت الظلال». «1» هذا.

و يظهر منهم تسليم عدم الجواز على فرض نجاسة الدخان، مع أنّه غير واضح لعدم الدليل على حرمة تنجيس سقوف البيوت. نعم،

لا يجوز ذلك في سقوف المساجد.

و دليلهم على الطهارة استحالة الشي ء النجس و تبدّله إلى ذات أخرى فلم يبق موضوع النجاسة.

توضيح ذلك: أنّ التبدّل قد يقع في أوصاف الشي ء و العوارض الشخصيّة أو الصنفيّة له مع بقاء الحقيقة النوعيّة بحالها، كتبدّل القطن خيطا أو ثوبا أو الحنطة دقيقا أو خبزا مثلا، و قد يقع في الصورة النوعيّة المقوّمة للشي ء عرفا، كتبدّل النبات أو لحم الحيوان إلى جزء من حيوان آخر بأكله له، أو تبدّل الكلب إلى التراب أو الملح بوقوعه في المملحة.

فالقسم الأوّل لا يوجب الطهارة لبقاء النجس بحاله و إن تبدّلت عوارضه. و أمّا القسم الثاني فيطلق عليه الاستحالة و عدّوها من المطهرات.

و السرّ في ذلك أنّ الحكم- كالنجاسة مثلا- تابع لموضوعه من العذرة و البول و الدم و أمثال ذلك، فإذا ارتفع الموضوع ارتفع الحكم قهرا، و المفروض أنّ بالاستحالة الذاتيّة ينعدم عند العرف و العقلاء موضوع النجاسة و يتحقّق موضوع جديد، فإن كان لنا على طهارة الموضوع الجديد بعنوانه العامّ دليل اجتهادي حكمنا بطهارة هذا الشي ء بما أنّه مصداق له، و إلّا فأصل الطهارة يكفي في الحكم بطهارته لجريانه في الشبهات الحكميّة أيضا.

بل و مع الشك في تحقّق الاستحالة الذاتيّة أيضا ربّما يقال بالطهارة، إذ لا نحتاج إلى إحراز عنوان الاستحالة لعدم ذكرها في الأدلّة. فإذا شككنا في بقاء موضوع النجاسة لم يحرز شمول دليلها له، و لا يجري استصحابها و لا استصحاب

______________________________

(1) المختلف/ 686، كتاب الصيد و توابعه، الفصل الخامس.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 43

..........

______________________________

موضوعها، إذ هو إبقاء ما كان فيعتبر فيه بقاء الموضوع عرفا بحيث يتّحد القضيّة المشكوكة مع المتيقّنة، و المفروض في المقام هو الشكّ في

بقاء الموضوع. هذا.

و لكن الظاهر جريان استصحاب الموضوع مع الشكّ فيه، إذ القضيّة في قولنا:

«هذا كان كلبا» و إن كانت هليّة مركبّة لا بسيطة لكن الموضوع فيها هي الصورة الجنسيّة لا النوعيّة و هي المشار إليها بقولنا: «هذا»، و مع الشكّ في الاستحالة هي باقية قطعا فنقول: هذا الجسم الخارجي كان كلبا و الآن نشكّ في بقائه كلبا فنستصحب بقاء الصورة النوعيّة له فيجرى عليها حكمها، فتدبّر.

و لو استحال النجس إلى نجس آخر كلحم الميتة أكله الكلب فصار جزء لبدنه أو الماء النجس شربه فصار بولا له كان محكوما بالنجاسة أيضا و لكن بنجاسة جديدة يترتّب عليها آثارها لا آثار النجاسة الأوّلية. هذا.

و بما ذكرنا يظهر لك أنّ عدّ الاستحالة من المطهرات لا يخلو من مسامحة واضحة، إذ التطهير إنّما يصدق مع بقاء الموضوع الذي كان نجسا، و في الاستحالة لا يبقى الموضوع الأوّل حتّى يعرضه الطهارة، بل ينعدم و يحدث موضوع جديد.

ففي المقام ما كان نجسا هو الدهن، و المفروض عدم بقائه، و إنّما يصدق على الباقي عنوان الدخان و البخار و لا دليل على نجاستهما كما هو واضح.

نعم هنا إشكال تعرّض له الشيخ «ره» في خاتمة الاستصحاب من الرسائل.

و محصّله بتوضيح منا: «الفرق بين استحالة النجس الذاتي و المتنجّس فيحكم بالطهارة في الأوّل دون الثاني، إذ الموضوع للنجاسة الذاتيّة الصورة النوعيّة، من العذرة و البول و الدم و أمثالها، فإذا ارتفعت بالاستحالة ارتفع حكمها قهرا، و أمّا في المتنجّسات فالنجاسة تعرض للصورة الجنسيّة أعني الجسم لا النوعيّة من الخشب و نحوه. فالخشب مثلا بملاقاته للنجاسة ينجس بما أنّه جسم لاقى نجسا لا بما أنّه خشب إذ لا خصوصيّة لعنوان الخشبيّة في قبوله النجاسة،

فإذا استحال الخشب رمادا فالصورة النوعيّة و إن ارتفعت لكنّ النجاسة لم تعرض له بما أنّه

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 44

..........

______________________________

خشب بل بما أنّه جسم لاقى نجسا، و هو بعد باق بحاله فلا مجال للقول بطهارته.» «1»

و أجاب الشيخ عن هذا الإشكال بما هذا لفظه: «إنّ دقيق النظر يقتضي خلافه، إذ لم يعلم أنّ النجاسة في المتنجّسات محمولة على الصورة الجنسيّة و هي الجسم و إن اشتهر في الفتاوى و معاقد الإجماعات أنّ كلّ جسم لاقى نجسا مع رطوبة أحدهما فهو نجس إلّا أنّه لا يخفى على المتأمّل أنّ التعبير بالجسم لبيان عموم الحكم لجميع الأجسام الملاقية من حيث سببيّة الملاقاة للنجس لا لبيان إناطة الحكم بالجسميّة.

و بتقرير آخر: الحكم ثابت لأشخاص الجسم فلا ينافي ثبوته لكلّ واحد منها من حيث نوعه أو صنفه المتقوم به عند الملاقاة، فقولهم: «كلّ جسم لاقى نجسا فهو نجس» لبيان حدوث النجاسة في الجسم بسبب الملاقاة من غير تعرّض للمحلّ الذي يتقوّم به، كما إذا قال القائل: «إنّ كلّ جسم له خاصيّة و تأثير» مع كون الخواصّ و التأثيرات من عوارض الأنواع ...» «2»

أقول: ما ذكره «ره» بطوله لا تقنع به النفس، بداهة أنّ الجسم الخاصّ- كالحنطة مثلا- إذا تنجّس بالملاقاة لا يرى الوجدان لحيثيّة كونه حنطة دخلا في تأثّره بالنجاسة العارضة بحيث لو كان شعيرا مثلا لم يتأثّر بذلك، بل المتأثّر بها بحسب الوجدان هي الحيثيّة المشتركة بين الحنطة و الشعير أعني كونه جسما ملاقيا لنجس، و هذا بخلاف الخواصّ و الآثار الثابتة للأجسام فإنّ خاصية الحنطة ثابتة لها بما أنّها حنطة، كما أنّ خاصيّة الشعير تثبت له بما أنّه شعير. و بالجملة فاختلاف الأجسام

في الخواصّ و الآثار تابع لاختلافها في الصورة النوعيّة المقوّمة لكلّ منها، و هذا بخلاف التأثّر من النجاسة العارضة بالملاقاة فإنّ الأجسام مشتركة في ذلك و هذا

______________________________

(1) فرائد الأصول/ 400 (ط. أخرى 2/ 694)، خاتمة، شروط جريان الاستصحاب.

(2) نفس المصدر و الصفحة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 45

..........

______________________________

يكشف عن كون معروضها الحيثيّة المشتركة أعني الجسميّة، فتدبّر. هذا.

و لكن لا يخفى أنّ بناء نظام الطبيعة على أساس تبدّل الأجسام و تغيّرها و وقوع الذوات النجسة و المتنجّسة في طريق تكوّن النبات و الحيوان و الإنسان، فكما تقع العذرات و الأبوال و الميتات و غيرها في طريق تكوّن النباتات و الحيوانات و تصير من أجزائها بالاستحالة فكذلك الأمر في المتنجّسات:

فينجذب التراب أو الماء المتنجّس إلى الأشجار و تنمو بها ثمارها، و تشرب أو تأكل البهائم و الطيور و الدّجاجات من المياه أو الأغذية المتنجّسة كثيرا بمرأى و منظر المسلمين في جميع الأعصار حتّى في أعصار الأئمة عليهم السّلام و مع ذلك جرت سيرتهم على معاملة الطهارة مع ثمار الأشجار و لحوم الحيوانات و ألبانها و أبوالها و أرواثها و بيض الدجاجات فيكشف هذا عن كون الاستحالة في المتنجّسات أيضا رافعة لحكمها، و لا يمكن القول بكون القذارة و الخباثة في المتنجّس أشدّ من النجس.

فإذا ارتفعت القذارة الذاتيّة بالاستحالة فارتفاع العرضية بها يثبت بالأولويّة الجليّة.

و لعلّ السرّ في ذلك أنّ في المتنجّس ما يكون في الحقيقة نجسا هو ذرّات النجس المنتقلة إليه بالملاقاة عرفا و شرعا لا ذات الخشب مثلا إلا بالعرض و المجاز، و باستحالة الخشب يستحيل هذه الذرات أيضا و تنعدم عرفا فلا يبقى موضوع للنجاسة.

و كيف كان فدخان الدهن المتنجّس طاهر مع استحالته

إليه.

نعم لو فرض تصاعد كثير من الأجزاء الدهنيّة معه بحيث يدرك العرف أيضا ذلك و ربّما يستشهدون لذلك بدسومة الدخان وجب الاجتناب حينئذ. و أمّا الأجزاء الصغار التي لا يدركها العرف و يحتاج في إدراكها إلى المكبّرات و الآلات الحديثة فلا حكم لها شرعا، و إلّا لتنجّس الهواء و الأشياء ببخار النجاسات و المتنجّسات و أرياحها لاستحالة انتقال العرض فتكشف الأرياح عن وجود الذرّات.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 46

[ما يستدلّ به للتقييد بكون الاستصباح تحت السّماء]
اشارة

و لا ريب أنّ مخالفة الظاهر في المرسلة خصوصا بالحمل على الإرشاد أولى، (1) خصوصا مع ابتناء التقييد: إمّا على ما ذكره الشيخ من دلالة المرسلة على نجاسة الدخان المخالفة للمشهور، و إمّا على كون الحكم تعبّدا محضا و هو في غاية البعد. و لعلّه لذلك أفتى في المبسوط بالكراهة مع روايته المرسلة.

______________________________

ما يستدلّ به للتقييد بكون الاستصباح تحت السّماء

(1) أقول: إذا عرفت ما بيّناه في مسألة طهارة الدخان أو نجاسته بعنوان المقدّمة فلنرجع إلى أصل المسألة، فنقول: ما يستدلّ به لتقييد الاستصباح بكونه تحت السّماء وجوه:

الأوّل: عدم الخلاف المصرّح به في السّرائر كما مرّ.

و فيه: أنّ الشيخ مع إفتائه في النهاية بالتقييد صرّح في المبسوط بالكراهة كما مرّ و أفتى في أطعمة الخلاف أيضا بالإطلاق، و هو أعرف بالمسائل الإجماعية و الخلافيّة كما مرّ عن المختلف. و لو فرض ادعاء الإجماع في المسألة فحجّيته مع احتمال استناد المجمعين إلى الوجوه الآتية ممنوعة لعدم كشفها عن قول المعصومين عليهم السّلام.

الثاني: الشهرة المحقّقة،

و قد مرّت كلمات الأصحاب و إفتاؤهم بالتقييد حتّى في كتب القدماء المعدّة لنقل خصوص المسائل المأثورة كالمقنعة و النهاية و المهذّب و الغنية، فإنكار البعض لأصل الشهرة بلا وجه.

و فيه: أن كونها بحدّ تكشف كشفا قطعيا عن قول المعصوم عليهم السّلام غير واضح.

كيف و الشيخ بنفسه لم يعتن بها و أفتى في مبسوطه بالكراهة، و في أطعمة الخلاف أفتى بالإطلاق كما مرّ، و العلّامة أيضا مع إفتائه في القواعد بالتقييد أفتى في المختلف بالإطلاق إلّا مع العلم أو الظنّ بنجاسة الدخان.

و في الجواهر قال: «مال الشهيد الثاني إلى الإطلاق حاكيا له عن المبسوط و العلّامة في المختلف و موضع من الخلاف، و تبعه الأردبيلي و الخراساني فيما حكي، بل عن فخر المحققين أنّه قوّاه في الإيضاح، بل لعلّه هو الظاهر من إطلاق

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 47

..........

______________________________

المحكيّ عن أبي عليّ.» «1»

الثالث: مرسلة المبسوط

المتقدّمة المنجبر ضعفها بالشهرة المحقّقة و عدم الخلاف المحكيّ كما في المتن.

و فيها أوّلا: عدم ثبوت استنادهم إليها حتى ينجبر بذلك ضعفها، كيف و ليس فيها اسم في كثير من مؤلّفاتهم.

و ثانيا: و هنها بعدم نقل أصحاب الحديث إيّاها في أصولهم و جوامعهم الحديثيّة حتّى إنّ الشيخ أيضا لم يشر إليها في التهذيبين و لم يعمل بها في مبسوطه مع روايته لها، فكيف يقيّد بها الأخبار الكثيرة المرويّة بطرق الفريقين مع كونها في مقام البيان؟ خصوصا مع ابتناء التقييد- كما في المتن- إمّا على نجاسة الدخان المخالفة للمشهور، و إمّا على كون الحكم تعبّدا محضا، و هو في غاية البعد في غير المسائل العباديّة المبنيّة على المصالح الغيبية كما مرّ بيانه.

و ثالثا: أنّه على فرض صدورها عنهم عليهم السّلام يدور

أمرها بين تقييد المطلقات بها و بين حملها على الاستحباب أو الإرشاد، و لا ريب أن التصرّف في المرسلة بحملها على الإرشاد أولى- كما في المتن- و ليست كلمات الأئمة عليهم السّلام منحصرة في بيان الأحكام الشرعيّة، بل ربّما يقع منهم الإرشاد إلى ما هو صلاح المسلم المتعهّد، و قد كثرت الإرشادات في كلماتهم كما يظهر لمن تتّبع الأخبار الواردة و قد ذكروا في محلّه أنّ القيد الوارد في مورد الغالب لا مفهوم له كقيد:

«في حجوركم» في قوله- تعالى-: وَ رَبٰائِبُكُمُ اللّٰاتِي فِي حُجُورِكُمْ «2» و حيث إنّ الاستصباح بالدهن المتنجّس في البيوت يوجب غالبا تلويث البيوت و وسائل التعيّش بالنجاسة، فمن له تعهّد و التزام بالشريعة المقدّسة لا ينتفع به غالبا إلّا تحت السّماء، فلعلّ الإمام عليه السّلام أراد بذكره الإرشاد إلى ذلك. و القيد لا يحمل على

______________________________

(1) الجواهر 22/ 15، كتاب التجارة، في بيان جواز التكسب بالأدهان المتنجّسة.

(2) سورة النساء (4)، الآية 23.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 48

..........

______________________________

الدخالة في الموضوع إلّا إذا لم يحرز له فائدة إلّا ذلك، و أمّا مع احتمال فائدة أخرى له فلا يرفع به اليد عن الإطلاقات الكثيرة الواردة في مقام البيان.

الرابع: أنّ الاستصباح به تحت الظلال يوجب تنجيس السقوف.

و قد مرّ عن المبسوط بعد نقل المرسلة: «أنّ هذا يدلّ على أنّ دخانه نجس». و يظهر من كلامه هذا أنّ نجاسته عندهم أوجبت الإفتاء بالمنع. و مرّ عن المختلف أيضا قوله: «لبعد استحالة كلّه، بل لا بدّ و أن يتصاعد من أجزائه قبل إحالة النار لها بسبب السخونة المكتسبة من النار إلى أن تلقى الظلال فتتأثّر بنجاسته، و لهذا منعوا من الاستصباح به تحت الظلال.» فجعل القول بالمنع مستندا إلى نجاسة الدخان.

و أورد

على ذلك في مصباح الفقاهة بما ملخّصه: «أوّلا: أنّ دخان النجس كرماده ليس بنجس للاستحالة. و مجرّد احتمال صعود الأجزاء الدهنيّة لا يمنع عن الإسراج به تحت الظلال لكونه مشكوكا. و ثانيا: أنّ الدليل أخصّ من المدّعى لأنّ الدخان قد لا يؤثّر في السقف إمّا لعلوّه أو لقلّة الزمان أو لخروجه من الأطراف أو لعدم الدخان فيه. و ثالثا: لا دليل على حرمة تنجيس السقف. نعم لا يجوز تنجيسه في المساجد و المشاهد.» «1» هذا.

و الأستاذ الإمام «ره» بعد الحكم بطهارة الدخان مع العلم بالاستحالة بل و مع الشك فيه أيضا- و إن استشكلنا في الثاني كما مرّ «2»- قال ما ملخّصه: «لكن مع ذلك كان الاحتياط حسنا لا سيّما إذا كانت الأدخنة كثيفة و الدهن غليظا تصير معرضية الأجزاء الدهنيّة للتصاعد قويّة.

ثمّ إنّ التدخين تحت الظلال إذا كان مدّة معتدّا بها يوجب تراكم الأدخنة و ورودها في منافذ البدن كالأذن و الأنف و الحلق، و تراكمها فيها ربّما يكون مظنّة اجتماع الأجزاء اللطيفة الدهنيّة غير المستحيلة و لا أقلّ من احتماله لا سيّما إذا

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 125.

(2) راجع ص 43 من الكتاب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 49

..........

______________________________

كانت البيوت ضيّقة و سقوفها منخفضة كما كانت كذلك في تلك الأعصار و لا سيّما مثل الأدهان في موارد السؤال.

فإذا ورد نهي عن الاستصباح بها تحت السقف و الأمر بالاستصباح بها تحت السّماء لا ينقدح في ذهن العقلاء منهما التعبّد المحض، بل المفهوم منهما بمناسبة الحكم و الموضوع أنّ النجاسة صارت موجبة للحكم بذلك فيفهم أهل العرف نجاسته إن كان الحكم بالتحرز إلزاميّا، و يعلم تخطئة الشارع للعرف في وقوع الاستحالة، أو حكم بلزوم

الاحتياط في الشبهة لمعرضية عدم الاستحالة فيه.

لكن مع ورود روايات كثيرة مطلقة في مقام البيان لم يكن فيها أثر من هذا القيد في مقابل رواية واحدة ناهية، يكون الجمع العقلائي بينهما حملها على الاحتياط الاستحبابي المطلوب في مثل المقام لا سيّما مع كونها مخالفة للأصول. و الحمل على التعبّد المحض غير مساعد لفهم العرف و العقلاء و مناسبات الحكم و الموضوع.

كما أنّ الحمل على لزوم الاحتياط و رفع اليد عن الأصول و القواعد و الإطلاقات الكثيرة الواردة في مقام البيان بعيد جدّا.

فما ربما يقال: إنّ مقتضى تعلّق الحكم بالعنوان و إطلاقه عدم جواز الاستصباح به و لو لحظة و لو كان السقف مرتفعا إلى الثريّا ناش عن عدم التأمّل في الرواية و ارتكاز العقلاء، فإنّ العرف لا يفهمون من النهي عن الاستصباح تحت السقف إلّا للتنزّه عن النجس المحتمل أو المظنون فلا إطلاق له يشمل ما ذكر.

و الإنصاف أنّ الجمع بينها و بين المطلقات المتقدّمة بما ذكرناه- و أشار إليه شيخنا الأعظم- من أجمل الجموع و أوهن التصرّفات.

ثمّ إنّا لا نقول بأنّ النهي لمراعاة عدم تنجّس السقف حتى يقال: إنّ تنجّسه لا مانع منه، بل نقول: إنّ ذلك لمراعاة حال المكلّف المبتلى بالدخان تحت السقف لا لكون تنجيس بدنه ممنوعا شرعا و نفسا بل لما يشترط فيه الطهارة. فالأجزاء الدخانيّة المجتمعة في الفم يحتمل فيها النجاسة و يحسن معه الاحتراز، و كذا

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 50

..........

______________________________

ما اجتمع منه في منفذ الأذن و الأنف. بل ما اجتمع منه في السقف ربّما يوجب التنجيس فيحسن التنزّه منه للصلاة و غيرها.» «1»

أقول: حاصل ما أفاده الأستاذ في بيان كلام المصنّف- رحمهما اللّه- أنّ المرسلة

لا ينقدح منها في أذهان العرف و العقلاء التعبّد المحض بل يفهمون منها بمناسبة الحكم و الموضوع أنّ النجاسة صارت موجبة لهذا الحكم. فإنّ لم يكن لنا إطلاقات كثيرة واردة في مقام البيان حملنا المرسلة على ظاهرها من اللزوم إمّا للحكم بنجاسة الدخان تخطئة لحكم العرف بالاستحالة، أو لإيجاب الاحتياط في الشبهة لمعرضية عدم استحالة بعض الأجزاء، و لكن مع ورود إطلاقات كثيرة و عدم إشعار فيها بالتقييد يكون الجمع العقلائي بينهما حملها على الاحتياط الاستحبابي المطلوب في أمثال المقام.

و لقد أجاد في بيان ما أفاد، و يظهر منه عدم حمل الاستحباب في كلام المصنّف على الاستحباب النفسي لوضوح عدم الملاك فيه بل على استحباب الاحتياط حفظا عن الوقوع في النجاسة الواقعيّة فيكون طريقيّا لا نفسيّا.

و بالجملة يظهر من المصنّف و كذا الأستاذ «ره» في بيان مفاد المرسلة الفرق بين لحاظ الإطلاقات الواردة و عدمه، و هذا بظاهره قابل للمناقشة، إذ الشائع المتعارف في الجمع بين المطلق و المقيّد حمل المطلق على المقيّد و تقييده به من غير فرق بين كون المطلق رواية واحدة أو روايات و بين كون المطلق في مقام البيان أولا.

قال في مصباح الفقاهة في هذا المجال: «إنّ غاية ما يترتّب على كون المطلقات متظافرة أن تكون مقطوعة الصدور لا مقطوعة الدلالة، و إذن فلا مانع عن التقييد، إذ هي لا تزيد على مطلقات الكتاب القابلة للتقييد حتّى بالأخبار الآحاد.

و أوهن من ذلك دعوى إبائها عن التقييد من جهة ورودها في مقام البيان، فإنّ

______________________________

(1) المكاسب المحرّمة للإمام الخميني «ره» 1/ 101- 103 (ط. الجديدة 1/ 151- 153).

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 51

..........

______________________________

ورودها في مقام البيان مقوّم لحجيّتها، و من

الواضح أنّ مرتبة التقييد متأخّرة عن مرتبة الحجيّة في المطلق، و نسبة حجّيته إلى التقييد كنسبة الموضوع إلى الحكم، و لا يكون الموضوع مانعا عن ترتّب الحكم عليه.

و أمّا ما ذكره من أنّ المرسلة غير صالحة لتقييد المطلقات، ففيه أنّه بناء على جواز العمل بها و انجبار ضعفها بعمل المشهور لا مانع من حملها على التعبّد المحض، فتصلح حينئذ لتقييد المطلقات، و مجرد الاستبعاد لا يكون مانعا عن ذلك.

و إنّما الإشكال في أصل وجود المرسلة كما تقدّم. و أمّا تقييد المطلقات بها من جهة أنّ المرسلة تدلّ على حرمة تنجيس السقف فبعيد غايته.» «1»

أقول: الظاهر صحّة ما ذكره في أصل التقييد بعد القول بالانجبار، إذ أمر المرسلة دائر بين الحجيّة و عدمها، فعلى فرض الحجيّة لا مانع من تقييد المطلقات بها و لم يظهر لنا وجه إبائها عن التقييد، فوزانها وزان سائر المطلقات و المقيّدات.

و السرّ في ذلك أنّ أئمتنا بمنزلة نور واحد و أخبارهم بمنزلة أخبار صادرة عن إمام واحد و إنّ كانت في مقام البيان، إذ ليست أخبارهم صادرة لبيان أحكام شخصيّة فقط و إن كان ظاهرها بهذا اللسان، بل لبيان أحكام الشرع المبين لكلّ من يجي ء إلى يوم القيام، نظير ما يصدر عن المقنّنين من بيان الكلّيات و المطلقات ثمّ بيان المخصّصات و المقيّدات، و لذا وصّوا شيعتهم بكتابتها و إيراثها لمن تأخّر و عليه جرت سيرة أصحابهم في كتابة الأصول و الجوامع. هذا.

و لكن الإنصاف أنّ حمل المرسلة على التعبّد المحض بعيد جدّا و إن أصرّ عليه في السرائر و تبعه في الشرائع كما مرّ، إذ الظاهر منها بمناسبة الحكم و الموضوع و فهم العرف كون المنع بلحاظ النجاسة، و قد

عرفت أنّ الغالب على من له تعهّد و التزام بالشرع المبين التحرز من الاستصباح به في البيوت حذرا من تلويثها و تلويث

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 126.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 52

[الإنصاف في المسألة]

و الإنصاف أنّ المسألة لا تخلو عن إشكال: من حيث ظاهر الروايات البعيدة عن التقييد لإبائها في أنفسها عنه و إباء المقيّد عنه، (1) و من حيث الشهرة المحقّقة و الاتفاق المنقول. و لو رجع إلى أصالة البراءة حينئذ لم يكن إلّا بعيدا عن الاحتياط و جرأة على مخالفة المشهور. (2)

ثمّ إنّ العلّامة في المختلف فصّل بين ما إذا علم بتصاعد شي ء من أجزاء الدهن، و ما إذا لم يعلم، فوافق المشهور في الأوّل و هو مبني على ثبوت حرمة تنجيس السقف و لم يدلّ عليه دليل، و إن كان ظاهر كلّ من حكم بكون الاستصباح تحت السّماء تعبّدا لا لنجاسة الدخان معلّلا بطهارة دخان النجس، التسالم على حرمة التنجيس، و إلّا لكان الأولى تعليل التعبّد به لا بطهارة الدخان كما لا يخفى. (3)

______________________________

وسائل الحياة و التعيّش، فيحتمل كون ذكر تحت السّماء للإرشاد إلى ذلك الذي يقبله المتشرعة لا بلحاظ الدخالة في موضوع الحكم، نظير قوله- تعالى-:

وَ رَبٰائِبُكُمُ اللّٰاتِي فِي حُجُورِكُمْ الوارد فيه القيد مورد الغالب لا بلحاظ الدخالة في الحكم.

و الضابط الكلّي أنّ القيد لا يحمل على الدخالة في الموضع إلّا إذا لم يوجد له فائدة ظاهرة غير ذلك. و مع الشكّ أيضا يكون أصالة الإطلاق في الإطلاقات محكمة.

(1) لم يظهر لنا- كما مرّ- وجه إبائهما عن التقييد. و كون المطلق في مقام البيان لا يوجب إباءه عن التقييد في باب التقنينات.

(2) البعد عن الاحتياط لا يمنع من جريان البراءة

مع الشكّ في التكليف، و كذا مخالفة المشهور إن لم يثبت حجّيتها.

(3) أو التعليل بهما معا بأن يقولوا: لا نسلّم نجاسة الدخان و لو سلّم فلا دليل على حرمة تنجيس السقف.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 53

[4- الرابع: حكم الانتفاع بالدهن المتنجّس في غير الاستصباح و حكم الانتفاع بالأعيان المتنجسة بنحو الإطلاق]
اشارة

الرابع: هل يجوز الانتفاع بهذا الدهن في غير الاستصباح بأن يعمل صابونا أو يطلى به الأجرب أو السفن؟ (1) قولان مبنيان على أنّ الأصل في المتنجّس جواز الانتفاع إلّا ما خرج بالدليل كالأكل و الشرب و الاستصباح تحت الظلّ، أو أنّ القاعدة فيه المنع عن التصرّف إلّا ما خرج بالدليل كالاستصباح تحت السّماء و بيعه ليعمل صابونا على رواية ضعيفة تأتي. (2).

______________________________

4- حكم الانتفاع بالدهن المتنجّس في غير الاستصباح و حكم الانتفاع بالأعيان المتنجسة بنحو الإطلاق

[الأصل في المتنجس جواز الانتفاع فيه أو المنع؟]

(1) السفن- محركة- جلد خشن يجعل على قوائم السيف. و يحتمل أيضا كونه بضمتين جمع السفينة.

(2) لا يخفى أنّ الأخبار السابقة التي تعرّض لها المصنّف كانت متعرضة لجواز الاستصباح بالدهن المتنجّس و بيعه لذلك. و الآن وقع البحث في أنّه هل يجوز الانتفاع به في غير الاستصباح أيضا كعمل الصابون و طلي الأجرب أو السفن به أم لا؟

و قد جعل المصنّف المسألة على قولين مبنيّين على أنّ الأصل في المتنجّسات بالنظر العامّ هل هو جواز الانتفاع بها إلّا فيما خرج بالدليل كالأكل و الشرب

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 54

..........

______________________________

و نحوهما، أو عدم الجواز إلا فيما خرج بالدليل كالاستصباح بالدهن المتنجّس، فجعل هذه المسألة من جزئيات تلك المسألة العامّة.

أقول: أمّا الدهن المتنجّس فقد وردت فيه في المقام أيضا أخبار خاصّة متعارضة و إن لم يثبت صحّة أسانيدها:

فيدلّ على الجواز ما عن الجعفريات بإسناده أنّ عليا عليه السّلام سئل عن الزيت يقع فيه شي ء له دم فيموت؟ قال: «الزيت خاصّة يبيعه لمن يعمله صابونا.» و نحوه ما عن نوادر الراوندي بإسناده عن عليّ عليه السّلام «1»

و لعل التقييد بقوله: «خاصّة» من جهة أنّ سائر المائعات النجسة لم يكن

يتصوّر لها في تلك الأعصار منفعة محلّلة عقلائيّة.

و عن دعائم الإسلام: سئل أمير المؤمنين عليه السّلام عن الدوابّ تقع في السمن و العسل و اللبن و الزيت (فتموت فيه- الدعائم) قال: «إن كان ذائبا أريق اللبن و استسرج بالزيت و السمن.» و قال في الزيت: «يعمله صابونا إنّ شاء.» «2»

و يظهر من بعض روايات السنّة أيضا جواز الانتفاع به مطلقا:

ففي رواية ابن عمر عن أبيه: أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله سئل عن فأرة وقعت في سمن؟

فقال: «ألقوها و ما حولها و كلوا ما بقي.» فقالوا: يا نبيّ اللّه، أ فرأيت إن كان السّمن مائعا؟ قال: «انتفعوا به و لا تأكلوه.»

نعم في رواية أبي سعيد عنه صلى اللّه عليه و آله: «استصبحوا به و لا تأكلوه.» «3»

______________________________

(1) مستدرك الوسائل 2/ 427، الباب 6 من أبواب ما يكتسب به، الحديثان 2 و 7.

(2) نفس المصدر و الباب و الصفحة، الحديث 4؛ و دعائم الإسلام 1/ 122، ذكر طهارات الأطعمة و الأشربة.

(3) سنن البيهقي 9/ 354، كتاب الضحايا، باب من أباح الاستصباح به.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 55

[كلمات الأصحاب]

و الذي صرّح به في مفتاح الكرامة هو الثاني (1)، و وافقه بعض

______________________________

و في قبال هذه الأخبار ما عن قرب الإسناد عن علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر عليه السّلام، قال: سألته عن حبّ دهن ماتت فيه فأرة؟ قال: «لا تدّهن به و لا تبعه من مسلم.» «1»

و في السند عبد اللّه بن الحسن و هو مجهول.

و يمكن أن يجاب عن هذه الرواية بأنّ الادّهان منصرف إلى ادّهان البدن به بنحو الإطلاق، و النهي عنه وقع إرشادا حذرا من نجاسته المانعة عن

الصلاة، و لم يرد مطلق الادّهان و لو مع تعقّبه بالغسل للصلاة أو ادّهان الأجرب أو السفن به.

كما أنّ النهي عن بيعه للمسلم ينصرف بمناسبة الحكم و الموضوع إلى النهي عن بيعه للأكل و نحوه على وزان بيع الأدهان الطاهرة بدون الإعلام، كيف؟ و بيعه للاستصباح جائز قطعا لما مرّ من الأخبار. هذا.

و العمدة أنّ أخبار الجواز كما مرّ لم يثبت حجّيتها، فالأولى- كما في المتن- البحث عن الانتفاع بجميع المتنجّسات بنحو الإطلاق فيظهر منها حكم مسألتنا أيضا.

(1) في متاجر مفتاح الكرامة في مسألة بيع الدهن المتنجّس قال: «لأنّ الأصل عدم جواز الانتفاع بالنجس فيقتصر على المتيقّن.» «2» و ظاهره أنّه أراد بالنجس الأعمّ من نجس الذات و المتنجّس.

و فيه أيضا في هذه المسألة أيضا: «إذ الأصل عدم الانتفاع فيقتصر فيه على موضع اليقين.» «3»

______________________________

(1) الوسائل 12/ 69، الباب 7 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5؛ و قرب الإسناد/ 112.

(2) مفتاح الكرامة 4/ 24.

(3) نفس المصدر 4/ 26.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 56

مشايخنا المعاصرين (1)، و هو ظاهر جماعة من القدماء كالشيخين و السيّدين و الحلّي و غيرهم:

قال في الانتصار: «و ممّا انفردت به الإماميّة: أنّ كل طعام عالجه أهل الكتاب و من ثبت كفرهم بدليل قاطع لا يجوز أكله و لا الانتفاع به.

و اختلف باقي الفقهاء في ذلك و قد دلّلنا على ذلك في كتاب الطهارة حيث دلّلنا على أنّ سؤر الكفّار نجس.» (2)

______________________________

(1) في الجواهر في ردّ من قال بجواز الاستصباح به و لو تحت السقف و نقل مرسلة المبسوط قال: «فيمكن التقييد حينئذ بالمرسل المزبور بعد انجباره بما سمعت، و بأصاله عدم جواز الانتفاع بالنجس فضلا عن التكسّب به

فيقتصر على المتيقّن من كونه تحت السماء.» «1»

و في المستند في مسألة التكسّب بالمائعات النجسة ذاتا أو عرضا بعد ذكر رواياتها قال: «و يظهر من تلك الروايات و رواية تحف العقول السابقة عدم جواز الانتفاع بها منفعة محلّلة أيضا و لا اقتنائها لذلك، و هو كذلك وفاقا لظاهر الحلّي قال:

«و كلّ طعام أو شراب حصل فيه شي ء من الأشربة المحظورة أو شي ء من المحرّمات و النجاسات فإنّ شربه و عمله و التجارة فيه و التكسّب به و التصرّف فيه حرام محظور.» إلى آخر ما ذكره في المستند، و راجع السرائر «2».

(2) تتمة العبارة لا يجوز الوضوء به و استدللنا بقوله- تعالى-:

إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ. «3»

و قال في طهارة الانتصار: «و ممّا انفردت به الإمامية القول بنجاسة سؤر اليهودي و النصراني و كلّ كافر. و خالف جميع الفقهاء في ذلك و حكى الطحاوي

______________________________

(1) الجواهر 22/ 15، كتاب التجارة، جواز التكسّب بالأدهان المتنجّسة.

(2) مستند الشيعة 2/ 333؛ و راجع السرائر 2/ 219، كتاب المكاسب.

(3) الانتصار/ 193، في الذبائح.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 57

و قال في المبسوط في الماء المضاف: «إنّه مباح التصرّف فيه بأنواع التصرّف ما لم تقع فيه نجاسة، فإن وقعت فيه نجاسة لم يجز استعماله على حال.» (1)

و قال في الماء المتغير بالنجاسة: «إنّه لا يجوز استعماله إلّا عند الضرورة للشرب لا غير.» (2)

و قال في النهاية: «و إن كان ما حصل فيه الميتة مائعا لم يجز استعماله و وجب إهراقه.» (3)

________________________________________

نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في المكاسب المحرمة، 3 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، اول، 1415 ه ق

دراسات في المكاسب المحرمة؛ ج 2، ص: 57

______________________________

عن مالك في سؤر النصراني و المشرك

أنّه لا يتوضأ به. و وجدت المحصّلين من أصحاب مالك يقولون: إنّ ذلك على سبيل الكراهية لا التحريم لأجل استحلالهم الخمر و الخنزير و ليس بمقطوع على نجاسته. فكان الإمامية منفردة بهذا المذهب. و يدلّ على صحّة ذلك مضافا إلى إجماع الشيعة عليه قوله- تعالى-:

إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ...» «1»

أقول: لعلّه يتبادر إلى الذهن من كلاميه أنّ نظره من الانتفاع الممنوع منه أمثال التوضي و نحوه ممّا يتوقّف على الطهارة لا الانتفاعات التي لا تتوقّف عليها كإطعام الكلاب و الطيور مثلا. و إجماع الشيعة المدّعى يكون على أصل نجاسة الكفار لا على عدم جواز الانتفاع بسؤرهم مطلقا.

(1) راجع طهارة المبسوط. «2»

(2) راجع طهارة المبسوط. «3»

(3) راجع أطعمة النهاية. و في الطهارة منه: «و متى مات في الآنية حيوان له نفس سائلة نجس الماء و وجب إهراقه.» «4»

______________________________

(1) الانتصار/ 10.

(2) المبسوط 1/ 5.

(3) نفس المصدر 1/ 6.

(4) النهاية/ 588، كتاب الأطعمة؛ و ص 5، كتاب الطهارة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 58

و قريب منه عبارة المقنعة. (1)

و قال في الخلاف في حكم السمن و البزر و الشيرج و الزيت إذا وقعت فيه فأرة: «إنّه جاز الاستصباح به و لا يجوز أكله و لا الانتفاع به بغير الاستصباح، و به قال الشافعي. و قال قوم من أصحاب الحديث:

«لا ينتفع به بحال لا بالاستصباح و لا بغيره بل يراق كالخمر. و قال أبو حنيفة: يستصبح به و يباع أيضا. و قال داود: إن كان المائع سمنا لم ينتفع به بحال. و إن كان ما عداه من الأدهان لم ينجس بموت الفأرة فيه و يحلّ أكله و شربه لأنّ الخبر ورد في السمن فحسب. دليلنا: إجماع الفرقة و أخبارهم.»

(2)

و في السرائر في حكم الدهن المتنجّس: «إنّه لا يجوز الادّهان به و لا استعماله في شي ء من الأشياء عدا الاستصباح تحت السّماء.» انتهى (3)

______________________________

(1) راجع أطعمة المقنعة. و في الطهارة منه: «و المياه إذا كانت في آنية محصورة فوقع فيها نجاسة لم يتوضّأ منها و وجب إهراقها.» «1»

أقول: يبعد جدا إرادتهم عدم جواز الانتفاع بالمياه النجسة و لو بسقيها للحيوان أو الشجر، و ليس الإهراق واجبا نفسيّا قطعا بل هو كناية عن صرف النظر عنها و عدم جواز الانتفاعات المترقّبة من مياه الأواني من الشرب و الوضوء و نحوهما، و كذا الكلام في غير المياه.

(2) راجع أطعمة الخلاف (المسألة 19). «2»

(3) راجع أطعمة السرائر، قال: «و إن كان ما حصل فيه الميتة مائعا لم يجز استعماله و وجب إهراقه. و إن كان دهنا مثل الشيرج و البزر جاز الاستصباح به تحت

______________________________

(1) المقنعة/ 582، كتاب الأطعمة ...؛ و ص 65، كتاب الطهارة.

(2) الخلاف 6/ ... (ط. أخرى 3/ 269).

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 59

و ادّعى في موضع آخر: «أنّ الاستصباح به تحت الظلال محظور بغير خلاف.» (1)

و قال ابن زهرة بعد أن اشترط في المبيع أن يكون مما ينتفع به منفعة محلّلة قال: «و شرطنا في المنفعة أن تكون مباحة تحفظا من المنافع المحرّمة، و يدخل في ذلك كلّ نجس لا يمكن تطهيره عدا ما استثني من بيع الكلب المعلّم للصيد و الزيت النجس للاستصباح به تحت السماء، و هو إجماع الطائفة.» ثم استدلّ على جواز بيع الزيت بعد الإجماع بأن النبيّ صلى اللّه عليه و آله أذن في الاستصباح به تحت السّماء. قال: «و هذا يدلّ على جواز بيعه لذلك.» انتهى.

(2) هذا.

______________________________

السماء و لا يجوز الاستصباح به تحت الظلال ... و لا يجوز الادّهان به و لا استعماله في شي ء من الأشياء سوى الاستصباح تحت السّماء.» «1»

(1) راجع أطعمة السرائر. «2»

(2) راجع بيع الغنية. «3» يظهر منه بقرينة الاستثناءين عموم المنع عن الانتفاع بالنجس لجميع الانتفاعات ما عدا المستثنيين، فتدبّر.

و في الفقه على المذاهب الأربعة عن الحنفيّة: «و يصحّ بيع المتنجّس و الانتفاع به في غير الأكل، فيجوز أن يبيع دهنا متنجّسا ليستعمله في الدبغ و دهن عدد الآلات «الماكينات» و نحوها و الاستضاءة به في غير المسجد ما عدا دهن الميتة فإنّه لا يحلّ الانتفاع به لأنّه جزء منها.» «4» فالحنفيّة يخالفون المشهور بيننا و بينهم.

______________________________

(1) السرائر 3/ 121، كتاب الأطعمة.

(2) نفس المصدر 3/ 122.

(3) الجوامع الفقهية/ 524 (طبعة أخرى/ 586)، كتاب البيع من الغنية.

(4) الفقه على المذاهب الأربعة 2/ 232، كتاب البيع.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 60

[الأقوى أن الأصل جواز الانتفاع]

و لكن الأقوى وفاقا لأكثر المتأخرين جواز الانتفاع إلّا ما خرج بالدليل، و يدلّ عليه أصالة الجواز و قاعدة حلّ الانتفاع بما في الأرض. (1)

______________________________

ما يستدلّ به للجواز من أصالة البراءة و قاعدة حلّ الانتفاع ...

(1) استدلّ المصنّف للجواز بوجهين طوليّين، إذ الأصل يجري في صورة عدم دلالة الآية الآتية:

الوجه الأوّل: أصالة البراءة في كلّ فعل شكّ في حرمته الثابتة بالأخبار المستفيضة، كحديث الرفع المشهور، «1» و قوله عليه السّلام: «ما حجب اللّه علمه عن العباد فهو موضوع عنهم.» «2» و قوله عليه السّلام: «كلّ شي ء مطلق حتّى يرد فيه نهي.» «3» إلى غير ذلك من الأخبار.

أقول: لا يخفى أنّ الأصل الأوّلي في التصرّف في الأشياء مع قطع النظر عمّا ورد من الشرع هو

الحظر دون الإباحة، إذ الأشياء بأجمعها للّه- تعالى-، و لا يجوز- بحكم العقل- التصرّف في مال الغير إلّا بإحراز رضاه. نعم الشرع المبين رخّص لنا و أحلّ ما لم نعلم حرمته.

الوجه الثاني: قاعدة حلّ الانتفاع بما في الأرض المقتنصة من قوله- تعالى-:

هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مٰا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً. «4»

قال: في مجمع البيان في ذيل الآية: «معناه أنّ الأرض و جميع ما فيها نعم من اللّه- تعالى- مخلوقة لكم، إمّا دينيّة فتستدلّون بها على معرفته، و إمّا دنياويّة

______________________________

(1) الخصال/ 417، باب التسعة، الحديث 9.

(2) الوسائل 18/ 119، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، الحديث 28.

(3) نفس المصدر و الباب، ص 127، الحديث 60.

(4) سورة البقرة (2)، الآية 29.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 61

..........

______________________________

فتنتفعون بها بضروب النفع عاجلا.» «1»

و ناقش في ذلك في مصباح الفقاهة بما محصّله بتوضيح منّا: «منع دلالة الآية على جواز الانتفاع بجميع ما في الأرض، بل إمّا أن تحمل اللام على الغاية فتكون الآية ناظرة إلى بيان أنّ الغاية القصوى من خلق الأجرام الأرضية و ما فيها ليس إلّا خلق البشر و تربيته و تكريمه إلى أن يثمر شجرة عالم الطبيعة أنوارا ملكوتيّة أمثال النبي الأكرم صلى اللّه عليه و آله و الأئمة عليهم السّلام، و هو المراد بقوله: «لولاك ما خلقت الأفلاك.» «2»

فيكون خلق ما سوى الإنسان بتبعه و من مقدّماته. و هذا لا ينافي تحليل بعض المنافع للإنسان دون بعض.

و إمّا أن تحمل اللام على النفع و لكن يراد بها أنّ خلق الأجرام بما فيها من الهيئات و الأشكال و التركيبات المختلفة لبيان طرق الاستدلال على وجود الصانع القديم و توحيد ذاته و صفاته و أفعاله و

أي منفعة أعظم من هداية البشر و تكميله؟» «3»

أقول: الظاهر ورود ما ذكره من المناقشة و لو بنحو الاحتمال و إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال.

فإن قلت: على فرض حمل اللام على المنفعة يقتضي إطلاق مفادها جواز كلّ انتفاع بكلّ شي ء في كلّ حال إلّا ما خرج بالدليل.

قلت: الآية ليست بصدد تشريع جواز الانتفاع حتّى يجري فيها مقدّمات الحكمة و يؤخذ بإطلاق مفادها، بل بصدد الإخبار عن كون خلق ما في الأرض من الأشياء في طريق منافعكم تكوينا، و هذا لا ينافي حرمة الانتفاع ببعضها عن قصد و اختيار تشريعا. و مقدّمات الحكمة لا تجري إلّا في أدلّة التشريع و بيان الأحكام، فتدبّر.

______________________________

(1) مجمع البيان 1/ 71.

(2) بحار الأنوار 15/ 28، تاريخ نبيّنا صلى اللّه عليه و سلم، باب بدء خلقه ...، الحديث 48.

(3) مصباح الفقاهة 1/ 128.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 62

[الفرق بين التخصيص و الحكومة و الورود]

و لا حاكم عليها سوى ما يتخيّل من بعض الآيات و الأخبار و دعوى الجماعة المتقدّمة الإجماع على المنع. (1)

______________________________

(1) أقول: ما استدلّ به لكون الأصل المنع أمور يأتي بيانها. و المصنّف عبّر عن تقدّمها على ما ذكر من الوجهين للجواز بلفظ الحكومة. و الظاهر أنّه أراد بذلك المعنى الأعمّ، أعني مطلق تقدّم دليل على دليل آخر، لا خصوصيّة الحكومة الاصطلاحيّة التي تكون قسيما للتخصيص و الورود.

الفرق بين التخصيص و الحكومة و الورود توضيح ذلك: أنّ التخصيص عبارة عن إخراج بعض أصناف العام أو أفراده عن حكمه، فيكون من أقسام تعارض الدليلين مثل قوله: «لا تكرم النحويين» في قبال قوله: «أكرم العلماء.» فيكون الخاصّ متعرّضا لبعض ما كان يتعرّض له العامّ من النسبة الحكميّة التي هي منطوق القضيّة بنفيها عن بعض

أصنافه أو أفراده، فيكون في عرضه و لكن يقدّم عليه لكونه أظهر.

و الحكومة عبارة عن كون أحد الدليلين ناظرا إلى جهة من الدليل الآخر لا يتعرّضها هو بمنطوقه بل تكون من مبادئ ما يتعرّضه الآخر أو من لواحقه، حيث إنّ منطوق القضيّة الذي تتعرّضه القضية هي مفاد النسبة الواقعة بين الموضوع و المحمول. و أمّا بيان مفاد الموضوع أو المحمول و حدودهما و بيان مقدّمات الحكم من المصالح و المفاسد أو الإرادة و الكراهة أو الجعل و الإنشاء، و كذا مؤخّراته من الإعادة و عدمها فليست ممّا يتعرّضها منطوق القضيّة. فلو تعرّض دليل آخر لواحد منها بحيث أوجب قهرا تضيق الحكم الأوّل أو سعته كان الدليل الثاني بالنسبة إلى الدليل الأوّل حاكما عليه و مفسّرا له. و ليس بين الحاكم و المحكوم معارضة حتّى يجعل الأظهريّة ملاكا للتقدّم على ما في موارد التعارض.

و من جملة أقسامها النظر إلى موضوع الحكم الأوّل بتوسعته أو تضييقه بعد

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 63

..........

______________________________

ما لم يكن هو بنفسه متعرّضا له، فيكون مفاد الدليل الحاكم نفي الحكم الأوّل أو إثباته و لكن بلسان نفي موضوعه أو إثباته. مثل أن يقول في المثال السابق:

«النحوي ليس بعالم» أو: «الزاهد العابد عالم.» و من هذا القبيل قوله عليه السّلام:

«لا سهو على من أقرّ على نفسه بسهو.» «1»

و بهذا البيان يظهر وجه حكومة قوله- تعالى-: مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ «2» على أدلّة الأحكام الأوّلية، حيث أنّه ناظر إلى جعلها، و الجعل من مبادئ الحكم و مقدّماته.

و كذا قوله عليه السّلام: «لا تعاد الصلاة إلّا من خمس.» «3» حيث إنّ الإعادة من لواحق الحكم و مؤخّراته بعد أصل ثبوته.

و

الورود عبارة عن كون أحد الدليلين بعد وروده رافعا لموضوع الدليل الأوّل حقيقة، كالدليل الاجتهادي الدالّ على حرمة شي ء بعنوانه فإنّه بالنسبة إلى أصالة البراءة وارد عليها، إذ موضوع الأصل عدم الدليل، و الدليل الاجتهادي على الحرمة يرفع هذا الموضوع حقيقة. هذا.

و أمّا التخصّص فهو عبارة عن خروج الشي ء عن موضوع الحكم بذاته لا بلحاظ ورود دليل آخر كخروج زيد الجاهل عن قوله: «أكرم العلماء».

هذا ملخّص مفاد المصطلحات الأربعة الدائرة على الألسن. و الثلاثة الأول تطلق بلحاظ مقايسة دليل بالنسبة إلى دليل آخر.

و بما ذكرنا يظهر أن الأدلّة الاجتهادية الآتية في المقام واردة على أصل البراءة.

و أمّا بالنسبة إلى آية الحلّ فهي مخصّصة لعمومها على فرض دلالتها.

______________________________

(1) الوسائل 3/ 330، الباب 16 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة، الحديث 8.

(2) سورة الحجّ (22)، الآية 78.

(3) الوسائل 4/ 683، الباب 1 من أفعال الصلاة، الحديث 14.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 64

[ما يستدلّ به للمنع]
اشارة

و الكلّ غير قابل لذلك: أمّا الآيات:

فمنها: قوله تعالى: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصٰابُ وَ الْأَزْلٰامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطٰانِ فَاجْتَنِبُوهُ.

دلّ بمقتضى التفريع على وجوب اجتناب كلّ رجس. (1)

و فيه: أنّ الظاهر من الرجس ما كان كذلك في ذاته لا ما عرض له ذلك، فيختصّ بالعناوين النجسة و هي النجاسات العشر.

______________________________

و كيف كان ففي إطلاق المصنّف لفظ الحكومة نحو مسامحة بإطلاق اللفظ و إرادة اللازم الأعم أعني مطلق تقدّم دليل على دليل آخر.

ما يستدلّ به للمنع ...

(1) بعد ما تمسّك المصنّف لأصالة الجواز بوجهين طوليّين تعرّض لما يمكن أن يتمسك به للمنع من الآيات و الأخبار و دعوى الإجماع:

أمّا الآيات فثلاث:
الأولى: قوله- تعالى- في سورة المائدة:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصٰابُ وَ الْأَزْلٰامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطٰانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ «1»

بتقريب أن تفريع وجوب الاجتناب على قوله: «رجس» يدلّ على أن طبيعة الرجس بإطلاقها تقتضي وجوب الاجتناب مطلقا.

و أجاب عن ذلك المصنّف و غيره بوجوه:

الأوّل: أنّ الظاهر من الرجس ما كان رجسا بذاته لا ما عرض له ذلك و إلّا لخرج عنه أكثر المتنجّسات و تخصيص الأكثر مستهجن.

الثاني: أنّ الرجس في الآية بقرينة العناوين المذكورة فيها لا يراد به النجس

______________________________

(1) سورة المائدة (5)، الآية 90.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 65

..........

______________________________

الفقهي في قبال الطاهر الشرعي حتّى يتوّهم شمول إطلاقه للمتنجّسات أيضا، بل ما كان خبيثا و قذرا معنويا، سواء كان نجسا كالخمر أو لا كالميسر و ما بعده، و لم يحرز كون المائعات المتنجّسة من هذا القبيل.

الثالث: أنّ وجوب الاجتناب في الآية لم يتفرّع على الرجس فقط بل على ما كان منه من عمل الشيطان، و حينئذ فإمّا أن يراد بهما الذوات المذكورة في

الآية بتقريب كونها ذوات خبيثة من مبتدعات الشيطان، و إمّا أن يراد بهما كون الفعل المتعلّق بهذه المذكورات خبيثا من عمل الشيطان، كما يقال في سائر المعاصي إنّها من عمل الشيطان، و إطلاق الرجس على العمل صحيح كما صرّح به أهل اللغة:

قال في القاموس: «و الرجس بالكسر: القذر، و يحرك و تفتح الراء و تكسر الجيم، و المأثم و كلّ ما استقذر من العمل، و العمل المؤدّى إلى العذاب و الشكّ و العقاب ...» «1»

فإن أريد بهما الذوات كان الموضوع لوجوب الاجتناب كلّ عين صدق عليه أنّه خبيث من عمل الشيطان و مبتدعاته و مخترعاته كالخمر و الميسر و الأنصاب لكون اختراعها بإلقاء الشيطان و إغوائه. و لا يصدق هذا الموضوع على مثل الكلب و الخنزير من النجاسات الذاتية التي لا صنع للبشر فيها فضلا عن المتنجّسات.

و إن اريد بهما الأعمال كان الموضوع لوجوب الاجتناب كلّ عمل قبيح يصدق عليه أنّه رجس، و كون استعمال المتنجّس منه أوّل الكلام.

الرابع: سلّمنا شمول الرجس للمتنجّسات و اقتضاءه بنفسه وجوب الاجتناب و لكن لا نسلّم دلالة الآية على حرمة جميع الانتفاعات، إذ الاجتناب عن كلّ شي ء يتحقّق بحسب ما يناسبه و يترقّب منه و ينصرف الأمر به إلى ذلك.

فالاجتناب عن الخمر مثلا يتحقّق بترك شربها، و عن النجاسات و المتنجّسات بترك

______________________________

(1) القاموس المحيط 2/ 219.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 66

مع أنّه لو عمّ المتنجّس لزم أن يخرج عنه أكثر الأفراد فإنّ أكثر المتنجّسات لا يجب الاجتناب منه. (1) مع أنّ وجوب الاجتناب ثابت فيما كان رجسا من عمل الشيطان يعني من مبتدعاته، فيختصّ وجوب الاجتناب المطلق بما كان من عمل الشيطان سواء كان نجسا كالخمر

أو قذرا معنويّا مثل الميسر. و من المعلوم أنّ المائعات المتنجّسة كالدهن و الطين و الصبغ و الدبس إذا تنجّست ليست من أعمال الشيطان.

______________________________

استعمالها فيما يتوقّف على الطهارة، و عن آلات القمار بترك المقامرة بها، و عن النساء المحارم بترك تزويجهن، و عن التاجر بترك المعاملة معه، و عن الفاسق بترك المعاشرة معه، و هكذا. فلا تدلّ الآية على حرمة جميع الانتفاعات من الأعيان النجسة فضلا عن المتنجّسات.

أقول: هذا ما ذكره الأعلام في المقام و لكن يمكن المناقشة في الوجه الأوّل، إذ التعبير بالمتنجّس- كما مرّ سابقا- أمر حدث في كلمات المتأخّرين من فقهائنا. و أمّا في لسان الأخبار و القدماء من أصحابنا فقد عبّر عن كلّ من النجس و المتنجّس بالقذر أو النجس كما في خبر أبي بصير: «إن كانت يده قذرة» «1»، و في خبر عمّار: سألته عن البارية يبلّ قصبها بماء قذر، «2» إلى غير ذلك من الأخبار، فإذا سلّم كون الرجس بمعنى القذر و النجس الفقهي في قبال الطاهر و النظيف فلا محالة يشمل المتنجّس أيضا و يترتّب عليه أحكامه، و لكن العمدة أنّ الرجس في الآية لا يراد به النجس الفقهي كما مرّ. «3»

(1) أقول: إنّما يلزم تخصيص الأكثر فيما إذا فرض إخراج كلّ فرد فرد باستثناء مستقلّ فتحقّق إخراجات متعدّدة، و أمّا إذا فرض إخراج الجميع بعنوان

______________________________

(1) الوسائل 1/ 115، الباب 8 من أبواب الماء المطلق، الحديث 11.

(2) الوسائل 2/ 1044، الباب 30 من أبواب النجاسات، الحديث 5.

(3) راجع دراسات في المكاسب المحرّمة 1/ 18؛ و ص 64 من هذا الكتاب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 67

و إن أريد من عمل الشيطان عمل المكلف المتحقّق في الخارج

بإغوائه ليكون المراد بالمذكورات استعمالها على النحو الخاصّ فالمعنى أنّ الانتفاع بهذه المذكورات رجس من عمل الشيطان، كما يقال في سائر المعاصي: إنّها من عمل الشيطان، فلا تدلّ أيضا على وجوب الاجتناب عن استعمال المتنجّس إلّا إذا ثبت كون الاستعمال رجسا و هو أوّل الكلام. و كيف كان فالآية لا تدلّ على المطلوب.

و من بعض ما ذكرنا يظهر ضعف الاستدلال على ذلك بقوله- تعالى-: وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ (1) بناء على أن الرجز هو الرجس.

______________________________

واحد كعنوان ما لا يتوقّف على الطهارة مثلا فلا نسلّم لزوم ذلك و لا قبحه.

و نظير ذلك باب التقييد أيضا، فلو قال المولى: أعتق رقبة، ثم قال: أعتق رقبة مؤمنة و فرض إحراز وحدة الحكم و كون الكافرة أزيد من المؤمنة فليس هذا التقييد عند العرف مستهجنا بعد وقوع التقييد بعبارة واحدة و إلقاء واحد، و المتعارف في التقنينات جعل الحكم الكلي على عنوان عامّ بما أنّه مقتض للحكم ثم التخصيص بعنوان يكون كالمانع عن تأثيره و إن فرض كون أفراده أزيد، و نظير ذلك في المطلق و المقيّد أيضا.

[لآية الثانية التي استدلّوا بها]

(1) هذه هي الآية الثانية التي استدلّوا بها، و تقريب الاستدلال بها: أنّ الرجز عبارة أخرى عن الرجس بمعنى النجس، و الهجر المطلق عنه يحصل بترك استعماله مطلقا.

و المصنّف أحال الجواب عن الآية إلى ما أجاب به عن الآية السّابقة.

أقول: قد مرّ سابقا في بيان أدلّة المانعين عن بيع النجس مطلقا «1» البحث عن الآية و أنّ كون الرجز في الآية بمعنى النجس المصطلح عليه في الفقه غير واضح و لم يفسّروه بذلك.

______________________________

(1) راجع دراسات في المكاسب المحرمة 1/ 188.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 68

..........

______________________________

و قد وقع هذه الكلمة في

موارد كثيرة من القرآن الكريم بكسر الراء و أريد به العذاب أو نوع منه، فراجع.

و في هذه الآية قرئ بالضم و بالكسر معا، و القراءة المشهورة بالضمّ.

و في المجمع بعد نقل القراءتين قال: «و يجوز أن يكون الرجز و الرجز لغتين كالذكر و الذكر.» «1»

و في مقام بيان المعنى حكى عن قدماء المفسرين تفسيره بالأصنام و الأوثان و العذاب و المعاصي و الفعل القبيح و الخلق الذميم و حبّ الدنيا.

و في تفسير علي بن إبراهيم تفسيره بالخسي ء الخبيث «2» و معنى الخسي ء:

الردي ء.

و في الدر المنثور روى روايات كثيرة عن الصحابة و التابعين في معناه قريبا ممّا ذكر. و روى عن جابر قال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله يقول: و الرجز فاهجر- برفع الراء- و قال: «هي الأوثان». «3»

و جميع هذه المعاني محتملة في الآية و إن كان المخاطب فيها هو النبي الأكرم سواء أريد نفسه الشريفة أو كان من قبيل: «إيّاك أعني و اسمعي يا جارة» و حيث إنّ الآية مسبوقة بقوله- تعالى-: وَ ثِيٰابَكَ فَطَهِّرْ. «4» و الحكم فيها يناسب الصلاة فيحتمل أن يراد بهذه الآية أيضا هجر النجاسات في الصلاة. و يحتمل أيضا أن يراد بالأولى التطهير من النجاسات الظاهرية و بهذه الآية هجر القذارات المعنوية بإطلاقها، و يكون ذكر كلّ واحد من المعاني المذكورة من باب الجري و التطبيق.

______________________________

(1) مجمع البيان 5/ 383 (الجزء العاشر).

(2) تفسير القمي/ 702 (ط. الحجرية، سنة 1313 ه. ق). و ليست في طبعته الحديثة 2/ 393 لفظة «الخسي ء».

(3) الدر المنثور 6/ 281.

(4) سورة المدّثّر (74)، الآية 4.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 69

و أضعف من الكلّ الاستدلال بآية تحريم الخبائث، بناء على أنّ

كلّ متنجّس خبيث، و التحريم المطلق يفيد تحريم عموم الانتفاع، إذ لا يخفى أنّ المراد هنا حرمة الأكل بقرينة مقابلته بحلّية الطيّبات. (1)

______________________________

و كيف كان فلا دلالة لها على حرمة جميع الانتفاعات من النجاسات الذاتية فضلا عن المتنجّسات.

[الثالثة من الآيات قوله- تعالى- في سورة الأعراف]

(1) الثالثة من الآيات قوله- تعالى- في سورة الأعراف: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرٰاةِ وَ الْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهٰاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبٰاتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبٰائِثَ. «1»

و تقريب الاستدلال بالآية و جواب المصنّف عنه يظهر بالمراجعة إلى المتن.

و في مصباح الفقاهة بعد نقل كلام المصنّف قال: «و الحقّ أن يقال: إنّ متعلّق التحريم في الآية إنّما هو العمل الخبيث و الفعل القبيح، فالمتنجّس خارج عن مدلولها لأنّه من الأعيان.

لا يقال: إذا أريد من الخبيث: العمل القبيح وجب الالتزام بالتقدير و هو خلاف الظاهر من الآية.

فإنّه يقال: إنّما يلزم ذلك إذا لم يكن الخبيث بنفسه بمعنى العمل القبيح، و قد أثبتنا في مبحث بيع الأبوال صحّة إطلاقه عليه بدون عناية و خصوصا بقرينة قوله- تعالى-: وَ نَجَّيْنٰاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كٰانَتْ تَعْمَلُ الْخَبٰائِثَ «2» فإنّ المراد من الخبائث فيها اللواط.» «3»

أقول: لا يدرى هل أراد «قده» بكلامه هذا أنّ التحريم و الإحلال يتعلّقان بالأعمال دون الأعيان، أو أنّ الخبيث و الطيّب لا يوصف بهما إلّا الأعمال؟ و الحقّ

______________________________

(1) سورة الأعراف (7)، الآية 157.

(2) سورة الأنبياء (21)، الآية 74.

(3) مصباح الفقاهة 1/ 131.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 70

..........

______________________________

بطلان كلا الاحتمالين، إذ قد شاع تعلّق التحريم و الإحلال بالأعيان أيضا و إن كان بنحو من العناية، كما شاع توصيف الأعيان أيضا بالخبيث و الطيّب:

قال اللّه- تعالى- في

سورة المائدة: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ و قال: يَسْئَلُونَكَ مٰا ذٰا أُحِلَّ لَهُمْ؟ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبٰاتُ «1» و قال: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّٰهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبٰادِهِ وَ الطَّيِّبٰاتِ مِنَ الرِّزْقِ. «2» و قال: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهٰاتُكُمْ وَ بَنٰاتُكُمْ. إلى قوله: وَ أُحِلَّ لَكُمْ مٰا وَرٰاءَ ذٰلِكُمْ. «3»

و قال: الْخَبِيثٰاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَ الْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثٰاتِ وَ الطَّيِّبٰاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَ الطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبٰاتِ ... «4»

و قال الراغب في المفردات: «المخبث و الخبيث: ما يكره رداءة و خساسة محسوسا كان أو معقولا و أصله الردي ء ... و ذلك يتناول الباطل في الاعتقاد و الكذب في المقال و القبيح في الفعال. قال اللّه- عزّ و جلّ-: وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبٰائِثَ أي ما لا يوافق النفس من المحظورات. و قوله- تعالى-: وَ نَجَّيْنٰاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كٰانَتْ تَعْمَلُ الْخَبٰائِثَ فكناية عن إتيان الرجال. و قال- تعالى-:

مٰا كٰانَ اللّٰهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلىٰ مٰا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتّٰى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ. أي الأعمال الخبيثة من الأعمال الصالحة و النفوس الخبيثة من النفوس الزكيّة. و قال- تعالى-: وَ لٰا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ أي الحرام بالحلال ...» «5»

و راجع في هذا المجال نهاية ابن الأثير و مجمع البحرين أيضا. «6»

______________________________

(1) سورة المائدة (5)، الآيتان 3 و 4.

(2) سورة الأعراف (7)، الآية 32.

(3) سورة النساء (4)، الآيتان 23 و 24.

(4) سورة النور (24)، الآية 26.

(5) المفردات 1/ 141.

(6) النهاية لابن الأثير 2/ 4؛ و مجمع البحرين 2/ 251 (ط. أخرى/ 148).

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 71

..........

______________________________

و بالجملة فالتحريم و التحليل كما يتعلّقان بالأعمال يتعلّقان كثيرا بالأعيان أيضا، كما أنّ الخبيث و الطيّب يقعان و صفين لكليهما. هذا.

و استدلّوا بالآية

لحرمة الانتفاع بالنجاسات و المتنجّسات كما استدلّوا بها لحرمة كلّ ما يتنفّر عنه الطباع.

و التحقيق أن يقال: إنّ الألفاظ تحمل على المفاهيم العرفية، فيراد بالخبيث كلّ ما يكون رديئا عند العرف قبيحا في طباعهم و لو بلحاظ تعبّدهم بالشرع سواء كان من الأعيان القذرة أو الأفعال القبيحة المستبشعة. و يعبّر عنه بالفارسية ب «پليد»، و في قباله الطيّب بإطلاقه.

و حمل التحريم أو الإحلال في الآية على خصوص الأكل كما في المتن ممّا لا وجه له بعد عدم وجود القرينة لذلك هنا، و إن صحّ حمل الطيّب في سورة المائدة على خصوص ما يؤكل بقرينة المقام. و قد مرّ «1» أنّ القذر في لسان الأخبار أعمّ من نجس الذات و المتنجّس و غيرهما ممّا يستقذره العرف، و على هذا فيشمل لفظ الخبيث للمتنجّس أيضا عند من يتعبّد بالشرع.

و لكن يمكن أن يقال: إنّ التحريم في الآية ينصرف بمناسبة الحكم و الموضوع إلى المصارف التي يناسبها الطيب و النظافة عرفا و شرعا كالأكل و الشرب و الصلاة و نحوها، فلا تدلّ على حرمة جميع الانتفاعات حتّى مثل إطعام الطّيور و سقي الأشجار في الأعيان النجسة فضلا عن المتنجّسات المحكومة بحكمها تعبّدا، فتدبّر. هذا.

و قد مرّ سابقا عن الأستاذ الإمام «ره» المناقشة في الاستدلال بآية الخبائث بما محصّله: «أنّ الآية ليست بصدد بيان تحريم الخبائث، بل بصدد بيان أوصاف النبيّ صلى اللّه عليه و آله و ما يصنعه في زمان نبوّته بنحو الحكاية و الإخبار. و ليس المقصود أنّه صلى اللّه عليه و آله يحرّم عليهم عنوان الخبائث بأن يجعل حكم الحرمة على هذا العنوان، بل المقصود أنّه يحرّم عليهم كلّ ما كان خبيثا بالحمل الشائع كالميتة و

الخمر و الخنزير مثلا.

______________________________

(1) راجع دراسات في المكاسب المحرّمة 1/ 227؛ و ص 66 من هذا الكتاب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 72

[الأخبار: الّتي يستدلّ بها للمنع]
[رواية تحف العقول]

و أمّا الأخبار: فمنها: ما تقدّم من رواية تحف العقول، حيث علّل النهي عن بيع وجوه النجس بأنّ ذلك كلّه محرّم أكله و شربه و إمساكه و جميع التقلّب فيه. فجميع التقلّب في ذلك حرام.

و فيه: ما تقدّم من أنّ المراد بوجوه النجس عنواناته المعهودة لأنّ الوجه هو العنوان، و الدهن ليس عنوانا للنجاسة. و الملاقي للنجس و إن كان عنوانا للنجاسة لكنّه ليس وجها من وجوه النجاسة في مقابلة غيره، و لذا لم يعدّوه عنوانا في مقابل العناوين النجسة، مع ما عرفت من لزوم تخصيص الأكثر لو أريد به المنع عن استعمال كلّ متنجّس. (1)

______________________________

فعنوان الخبائث عنوان مشير إلى العناوين الخاصّة التي يحرّمها النبي صلى اللّه عليه و آله بالتدريج و يكون من قبيل الجمع في التعبير، و كذلك سائر فقرات الآية من قوله: يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهٰاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبٰاتِ» «1»

أقول: قد ناقشنا نحن ما ذكره الأستاذ «ره» بأنّ الخبائث جمع محلّى باللام و مفاده العموم، فالجملة و إن لم تكن في مقام التشريع و إنشاء الحرمة و لم تشرّع الحرمة قطّ على هذا العنوان العامّ بجعل واحد لكنّها بعمومها تحكي عن تشريع الحرمة على كلّ ما هو بالحمل الشائع مصداق للخبيث عرفا أو شرعا. فإذا ثبت بالدليل خباثة شي ء أو فعل فلا محالة تدلّ الآية على تشريع الحرمة عليه في ظرفه، فتدبّر.

الأخبار الّتي يستدلّ بها للمنع

(1) هذا مضافا إلى ما مرّ من إرسال الرواية و اضطرابها متنا و عدم وجودها في الجوامع الثانويّة الحديثية، و هذا ممّا يوهنها جدا، و مضافا إلى تعليل المنع فيها

______________________________

(1) المكاسب المحرّمة 1/ 34 (ط. الجديدة 1/ 51).

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 73

[ما دلّ على الأمر بإهراق المائعات الملاقية للنجاسة]

و منها: ما دلّ على الأمر بإهراق المائعات الملاقية للنجاسة و إلقاء ما حول الجامد من الدهن و شبهه و طرحه، و قد تقدّم بعضها في مسألة الدهن، و بعضها الآخر متفرّقة مثل قوله: «يهريق المرق» و نحو ذلك. (1)

و فيه أنّ طرحها كناية عن عدم الانتفاع بها في الأكل، فإن ما أمر بطرحه من جامد الدهن و الزيت يجوز الاستصباح به إجماعا. فالمراد اطراحه من طرف الدهن و ترك الباقي للأكل.

______________________________

بقوله: «لما فيه من الفساد»، و إلى قوله فيها: «من كلّ شي ء يكون لهم فيه الصلاح من جهة من الجهات فهذا كلّه حلال بيعه و شراؤه و إمساكه و استعماله و هبته و عاريته.» و ظهور ذيلها في أنّ ذات الجهتين أعني ما فيه الصلاح و الفساد معا يجوز استعماله في جهة الصلاح.

فيعلم بذلك كلّه اختصاص المنع بما كان ممحّضا في الفساد أو وقع بيعه بقصد ما فيه من الفساد، فتدبّر.

و أمّا ما ذكره المصنّف أخيرا من لزوم تخصيص الأكثر فقد مرّ الجواب عنه و أنّ هذا ممّا لا ضير فيه إذا وقع التخصيص بعنوان واحد جامع.

(1) قد أشار المصنّف في هذا المقام إلى طوائف من الأخبار تحكم بطرح الشي ء المتنجّس و إلقائه ربما يستفاد منها عدم جواز استعماله في الحاجات و عدم جواز الانتفاع به بشي ء من الانتفاعات:

فمنها: ما دلّ على طرح ما حول الفأرة إذا ماتت

في السمن الجامد:

كصحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام، قال: «إذا وقعت الفأرة في السمن فماتت فإن كان جامدا فألقها و ما يليها و كل ما بقي، و إن كان ذائبا فلا تأكله و استصبح به، و الزيت مثل ذلك.» «1»

______________________________

(1) الوسائل 1/ 149، الباب 5 من أبواب الماء المضاف، الحديث 1؛ و 12/ 66، الباب 6 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 74

..........

______________________________

و موثقة أبي بصير، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الفأرة تقع في السمن أو في الزيت فتموت فيه؟ فقال: «إن كان جامدا فتطرحها و ما حولها و يؤكل ما بقي، و إن كان ذائبا فاسرج به و أعلمهم إذا بعته.» «1»

و في رواية ابن عمر عن أبيه: أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله سئل عن فأرة وقعت في سمن فقال: «ألقوها و ما حولها و كلوا ما بقي.» «2»

و تقريب الاستدلال بهذه الأخبار أنّه لو جاز الانتفاع بهذا الدهن لما أمر بطرحه لإمكان الانتفاع به في طلي السفن و الأجرب و نحو ذلك.

و أجاب المصنّف عن ذلك بأنّ طرحه كناية عن حرمة أكله لوضوح جواز الاستصباح به إجماعا. فالمراد اطراحها من ظرف الدهن و ترك الباقي للأكل.

و ردّه في مصباح الفقاهة بما ملخّصه: «أنّ الأمر بالطرح ظاهر في حرمة الانتفاع به مطلقا. و أمّا الاستصباح فقد خرج بالنصوص الخاصّة. فالصحيح في الجواب أنّ الأمر بالطرح للإرشاد إلى عدم إمكان الانتفاع به بالاستصباح و نحوه لقلّته.» «3»

أقول: المنفعة المعتدّ بها للأدهان في تلك الأعصار كان هو الأكل، و في المرتبة المتأخّرة الاستصباح بها، و أمّا طلي السفن و الأجرب و نحو

ذلك فكانت منافع نادرة جدّا لم تكن يلتفت إليها و لم تكن موردا للابتلاء غالبا، و محطّ النظر في صحيحة زرارة مثلا- كما ترى- في فقرتيها هو جواز الأكل و عدمه، و الأمر بالإلقاء وقع في قبال أكل الباقي، و الأمر بالاستصباح في الذائب منه ليس أمرا مولويّا وجوبيّا قطعا، بل للإرشاد إلى إمكان الاستصباح به. و العرف بعد إلقاء هذه الجملة إليه لا يفهم منها الخصوصيّة، بل يتبادر منها جواز كلّ منفعة لا تتوقّف على الطهارة.

______________________________

(1) الوسائل 12/ 66، الحديث 3.

(2) سنن البيهقي 9/ 354، كتاب الضحايا، باب من أباح الاستصباح به.

(3) مصباح الفقاهة 1/ 132 و 133.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 75

[الأخبار المستفيضة الواردة في الاستصباح بالدهن المتنجّس]

______________________________

و منها: الأخبار المستفيضة الواردة من طرق الفريقين في الاستصباح بالدهن المتنجّس و جواز بيعه لذلك، و قد مرّت في أوّل المسألة، بتقريب أنّها ظاهرة في انحصار الانتفاع به في الاستصباح، إذ لو جاز غيره لتعرّض له الأئمة عليهم السّلام في جواب الأسئلة.

و يظهر الجواب منها ممّا مرّ آنفا، و هو أنّ المنفعة الظاهرة للدهن كان هو الأكل و بعده الاستصباح به، فإذا حرم أكله فلا محالة تنحصر منفعته الظاهرة في الاستصباح، و أمّا طلي السفن و الأجرب و نحوهما فكانت منافع نادرة جدّا غير مبتلى بها.

هذا مضافا إلى ورود بعض الأخبار بجعله صابونا كما مرّ في أوّل هذا البحث عن الجعفريات و الدعائم و نوادر الراوندي، فراجع. «1»

و في خبر عليّ بن جعفر عن أخيه قال: سألته عن فأرة أو كلب شربا من زيت أو سمن؟ قال: «إن كان جرّة أو نحوها فلا تأكله و لكن ينتفع به لسراج و نحوه.»

الحديث. «2»

فعمّم الانتفاع به لغير السراج أيضا.

[في إهراق المرق المتنجّس بموت الفأرة فيه]

و منها: ما ورد في إهراق المرق المتنجّس بموت الفأرة فيه:

كمعتبرة السكوني عن جعفر عن أبيه أنّ عليّا عليهم السّلام سئل عن قدر طبخت و إذا في القدر فأرة؟ قال: «يهراق مرقها و يغسل اللحم و يؤكل.» «3»

حيث يستفاد منها عدم جواز الانتفاع به مطلقا و إلّا لجاز إطعامه للصبيّ مثلا و نبّه عليه الإمام عليه السّلام.

______________________________

(1) مستدرك الوسائل 2/ 427، الباب 6 من أبواب ما يكتسب به، الأحاديث 2، 4 و 7.

(2) الوسائل 16/ 377 (ط. أخرى 16/ 465)، الباب 45 من أبواب الأطعمة المحرّمة، الحديث 3؛ و قرب الإسناد/ 116.

(3) نفس المصدر 1/ 150، الباب 5 من أبواب الماء المضاف، الحديث 3.

دراسات في المكاسب

المحرمة، ج 2، ص: 76

..........

______________________________

و يجاب عن ذلك أولا: بأنّ الأمر بالإهراق كناية عن عدم جواز صرفه في الأكل كما يشهد بذلك مقابلته بأكل اللحم بعد غسله.

و ثانيا: بمنع جواز إطعام الصبيّ بالشي ء المتنجّس لما فيه من الملاك الملزم و إن لم يكن هو بنفسه مكلّفا، نعم يجوز فيما نجّسه بنفسه للسيرة.

و ثالثا: بأنّ إطعام الصبي يفرض في المرق القليل لا في القدر منه، فإهراقه ليس إلّا لعدم إمكان تطهيره و عدم وجود المنفعة المحلّلة له غالبا كما هو واضح.

[الأخبار الواردة في إهراق الماء المتنجّس]

و منها: الأخبار المستفيضة الواردة في إهراق الماء المتنجّس، بتقريب أنّ وجوب الإهراق دليل على عدم جواز الانتفاع به أصلا:

1- كصحيحة ابن أبي نصر، قال: سألت أبا الحسن عليه السّلام عن الرجل يدخل يده في الإناء و هي قذرة؟ قال: «يكفئ الإناء.» «1»

2- و في موثقة سماعة في الجنب: «و إن كان أصاب يده فأدخل يده في الماء قبل أن يفرغ على كفّيه فليهرق الماء كلّه.» «2»

3- و في موثقة أبي بصير: «فإن أدخلت يدك في الماء و فيها شي ء من ذلك فأهرق ذلك الماء.» «3»

4- و في خبر أبي بصير قال: «إن كانت يده قذرة فأهرقه.» «4»

و يرد عليها: أنّ الأمر بالإهراق في هذه الأخبار ليس أمرا مولويّا وجوبيّا بحيث يوجب مخالفته العقاب قطعا، بل هو إرشاد إلى تنجّس الماء و مانعيته للوضوء أو الغسل. و لم يكن للماء القليل في موارد السؤال منافع محلّلة ظاهرة غير الشرب أو الوضوء أو نحوهما فالإهراق كناية عن عدم المنفعة له، فلا تدلّ هذه الأخبار

______________________________

(1) الوسائل 1/ 114، الباب 8 من أبواب الماء المطلق، الحديث 7.

(2) نفس المصدر و الباب، ص 114، الحديث 10.

(3) نفس المصدر

و الباب، ص 113، الحديث 4.

(4) نفس المصدر و الباب، ص 115، الحديث 11.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 77

و أمّا الإجماعات: ففي دلالتها على المدّعى نظر يظهر من ملاحظتها، فإنّ الظاهر من كلام السيّد المتقدّم (1) أنّ مورد الإجماع هو نجاسة

______________________________

على عدم جواز إشرابه للحيوانات أو الأشجار مثلا.

[الأخبار المستفيضة الواردة في إهراق الماء المتنجّس]

و منها: ما ورد في إهراق الماءين المشتبهين و التيمم:

كموثقة سماعة، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجل معه إناءان فيهما ماء وقع في أحدهما قذر لا يدري أيّهما هو و ليس يقدر على ماء غيره؟ قال: «يهريقهما جميعا و يتيمّم.» «1»

و نحوها موثقة عمّار عنه عليه السّلام «2».

و يظهر الجواب عنهما بما مرّ من كون الأمر بالإهراق للإرشاد إلى نجاسة الماء القليل و وجوب الاجتناب عن طرفي العلم الإجمالي. مضافا إلى احتمال كونه مقدّمة لتحقّق الموضوع للتيمّم أعني فاقدية الماء ليجوز له التيمّم، و قد حكي إفتاء البعض بعدم جواز التيمّم قبل إهراقهما.

و بالجملة فدلالة هذه الأخبار بكثرتها على حرمة الانتفاع بالمتنجّس بإطلاقه ممنوع و قد مرّ عدم دلالة الآيات أيضا فيبقى الإجماع المدّعى.

الإجماعات المنقولة الّتي يستدلّ بها للمنع
اشارة

(1) أقول: لم يكن فيما حكاه المصنّف سابقا عن انتصار السيّد ما يشعر بدعوى الإجماع إلّا قوله: «و ممّا انفردت به الإمامية.» «3» و هذه العبارة لا تدلّ على إجماع الإماميّة، بل عدم موافقة أهل الخلاف لهم في هذه الفتوى. و لم يكن عنوان البحث نجاسة ما باشره أهل الكتاب بل حرمة أكله و الانتفاع به. نعم قد

______________________________

(1) الوسائل 1/ 114، الباب 8 من أبواب الماء المطلق، ص 113، الحديث 2.

(2) نفس المصدر و الباب، ص 116، الحديث 14.

(3) الانتصار/ 193، في الذبائح.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 78

ما باشره أهل الكتاب. و أمّا حرمة الأكل و الانتفاع فهي من فروعها المتفرعة على النجاسة، لا أنّ معقد الإجماع حرمة الانتفاع بالنجس فإنّ خلاف باقي الفقهاء في أصل النجاسة في أهل الكتاب لا في أحكام النجس.

[أمّا إجماع الخلاف]

و أمّا إجماع الخلاف فالظاهر أنّ معقده ما وقع الخلاف فيه بينه و بين من ذكر من المخالفين. إذ فرق بين دعوى الإجماع على محلّ النزاع بعد تحريره، و بين دعواه ابتداء على الأحكام المذكورة في عنوان المسألة، فإنّ الثاني يشمل الأحكام كلّها. و الأوّل لا يشمل إلّا الحكم الواقع مورد الخلاف لأنّه الظاهر من قوله: دليلنا إجماع الفرقة، فافهم و اغتنم. (1)

______________________________

أحال السيّد هذه المسألة على ما ذكره في كتاب الطهارة، و في كتاب الطهارة منه «1» ادعى إجماع الشيعة على نجاسة سؤر الكفار، و ليس فيه ذكر من حرمة الانتفاع، ففي كلام المصنّف خلط بين المسألتين.

(1) أقول: ما ذكره المصنّف من الفرق صحيح إجمالا في أكثر الموارد، و لكن الظاهر من عبارة الخلاف التي مرّت في المتن كون مطلق الانتفاع أيضا محطّا للبحث كما يشهد بذلك

ما حكاه الشيخ عن أصحاب الحديث و داود و غيرهم.

و على هذا فيرجع دعوى الإجماع أيضا إلى جميع المدّعى. نعم الظاهر أنّ مراده من أخبارهم أخبار جواز الاستصباح التي مرّت، فيمكن أن يجعل هذا قرينة على رجوع الإجماع أيضا إلى مسألة جواز الاستصباح فقط.

اللّهم إلّا أن يقال: إنّ ظاهر هذه الأخبار- كما قيل- حصر الانتفاع المحلّل في خصوص الاستصباح، فيكون مفاد الإجماع و الأخبار معا عدم جواز غيره من الانتفاعات الأخر، و لكن نحن منعنا دلالة الأخبار على الحصر و إنّما ذكر الاستصباح لكونه المنفعة الظاهرة بعد الأكل.

______________________________

(1) الانتصار/ 10.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 79

[أمّا إجماع السيّد في الغنية]

و أمّا إجماع السيّد في الغنية فهو في أصل مسألة تحريم بيع النجاسات و استثناء الكلب المعلّم و الزيت المتنجّس (1)، لا فيما ذكره من أنّ حرمة بيع المتنجّس من حيث دخوله فيما يحرم الانتفاع به. نعم هو قائل بذلك.

و بالجملة فلا ينكر ظهور كلام السيّد في حرمة الانتفاع بالنجس الذاتي و العرضي، لكن دعواه الإجماع على ذلك بعيدة عن مدلول كلامه جدّا. و كذلك لا ينكر كون السيّد و الشيخ قائلين بحرمة الانتفاع بالمتنجّس كما هو ظاهر المفيد و صريح الحلّي (2)، لكن دعواهما الإجماع

______________________________

(1) أقول: قد مرّ أنّ استثناء الكلب و الزيت النجس معا دليل على أنّه أراد بالنجس في كلامه الأعمّ من النجس الذاتي و العرضي، و المصنّف أرجع الإجماع في كلامه إلى مسألة تحريم بيع النجاسات و الاستثناءين، و لكنّه خلاف الظاهر إذ ليس في عبارة الغنية اسم من تحريم بيع النجس، و إنّما المصرّح به دخول النجس فيما يحرم الانتفاع به، فإمّا أن يرجع الإجماع إلى ذلك أو إلى اعتبار كون المنفعة مباحة

أو إلى جميع ما ذكره. و يحتمل أيضا رجوعه إلى خصوص الاستثناءين أو إلى الأخير منهما أو إلى خصوص كون الاستصباح تحت السّماء، فراجع ما مرّ من كلامه.

(2) عبارة المفيد في أطعمة المقنعة هكذا: «إذا وقعت الفأرة في الزيت و السمن و العسل و اشباه ذلك و كان مائعا أهرق، و إن كان جامدا ألقي ما تحتها و ما وليها من جوانبها و استعمل الباقي و أكل ... و إن وقع ذلك في الدهن جاز الاستصباح به تحت السّماء و لم يجز تحت الظلال و لا يجوز أكله و لا الادّهان به على حال.» «1»

و في الطهارة منه: «و المياه إذا كانت في آنية محصورة فوقع فيها نجاسة لم يتوضّأ منها و وجب إهراقها.» «2»

و قد مرّت كلمات الشيخ و الحلّي من المصنّف في المتن، فراجع.

______________________________

(1) المقنعة/ 582.

(2) نفس المصدر/ 65.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 80

على ذلك ممنوعة عند المتأمّل المنصف. (1)

[الوهن في الإجماعات]

ثمّ على تقدير تسليم دعواهم الإجماعات فلا ريب في و هنها بما يظهر من أكثر المتأخرين من قصر حرمة الانتفاع على أمور خاصّة. (2)

______________________________

(1) الظاهر رجوع ضمير التثنية إلى السيّد و الشيخ، و لكن عرفت عدم ذكر الإجماع فيما حكاه المصنّف من أطعمة الانتصار.

نعم قد مرّ من الحلّي في أطعمة السرائر في الدهن المتنجّس: «أنّ الاستصباح به تحت الظلال محظور بغير خلاف.» «1»

و يمكن المناقشة بأن ثبوت الإجماع على عدم جواز الاستصباح بالدهن المتنجّس تحت الظلال- على فرض ثبوته- لا يقتضي ثبوته على حرمة الانتفاع بكلّ متنجّس. و إلقاء الخصوصيّة في المنع ممنوع، إذ لعلّ للدهن أو للاستصباح به تحت الظلال خصوصيّة موجبة للمنع فلا يقاس عليهما غيرهما.

(2) يمكن أن يقال:

إنه على فرض تحقّق الإجماع من القدماء المبني فتاواهم غالبا على التلقي من الأئمة عليهم السّلام لا يضرّ به مخالفة المتأخّرين المبني فتاواهم غالبا على استنباطات ظنّية، كما قيل بذلك في شهرة القدماء أيضا.

و لكن الإشكال في أصل تحقّق الإجماع بنحو يعتمد عليه و يكشف به قول المعصوم عليه السّلام علما أو اطمينانا، و من المحتمل كونه- على فرض الثبوت- مدركيّا و بناء الانتصار و الخلاف و الغنية على ذكر المسائل الخلافية التي أفتى فيها أصحابنا على خلاف ما عليه العامّة أخذا بأخبار العترة الطاهرة، و قد كثر في هذه الكتب الثلاثة دعوى الإجماع في هذه المسائل، و ليس مرادهم به الاتفاق على خصوص المسألة المعنونة، بل الاتفاق على ما هي مبنى لها من القواعد الكلّية و الحجج الثابتة عندنا.

______________________________

(1) السرائر 3/ 122.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 81

قال في المعتبر في أحكام الماء القليل المتنجّس: «و كلّ ماء حكم بنجاسته لم يجز استعماله- إلى أن قال-: و نريد بالمنع عن استعماله:

الاستعمال في الطهارة و إزالة الخبث و الأكل و الشرب، دون غيره مثل بلّ الطين و سقي الدابة.» انتهى. (1)

أقول: إنّ بلّ الصبغ و الحنّاء بذلك الماء داخل في الغير فلا يحرم الانتفاع بهما. (2)

______________________________

فقول الشيخ في الخلاف مثلا: «دليلنا: إجماع الفرقة» يرجع غالبا إلى قوله بعد ذلك: «و أخبارهم» و الثاني بيان للأوّل. و كأنّه قال: دليلنا في هذه المسألة أخبار العترة الطاهرة و إجماع الفرقة المحقّة على حجّية أخبار العترة في قبال المخالفين المنكرين لذلك فأراد بإجماع الشيعة، إجماعهم على حقّية مذهبهم و عصمة العترة الطاهرة و حجيّة أقوالهم.

و لم يصرّ حوا بذلك حذرا من طرح مسألة الإمامة في كلّ مسألة

مسألة، حيث كان ذلك يوجب النزاع و التنافر.

و ربّما يعبّر عن هذا النحو من الإجماع بالإجماع على القاعدة. و التعبير بالإجماع وقع مماشاة للعامّة القائلين بكونه دليلا مستقلا في قبال الكتاب و السنّة و إلّا فنحن لا نعتقد بحجّية الإجماع إلّا إذا كشف عن قول المعصوم عليه السّلام كما حقّق في محلّه.

(1) راجع المسألة الأخيرة من الطهارة الخبيثيّة من المعتبر «1»

(2) في مصباح الفقاهة قال: «الصبغ و الحنّاء ليسا من محلّ النزاع هنا في شي ء و لم يتقدّم لهما ذكر سابق، فلا نرى وجها صحيحا لذكرهما.» «2»

______________________________

(1) المعتبر 1/ 105 (ط. القديمة/ 26).

(2) مصباح الفقاهة 1/ 136.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 82

و أمّا العلّامة: فقد قصّر حرمة استعمال الماء المتنجّس في التحرير و القواعد و الإرشاد على الطهارة و الأكل و الشرب (1)، و جوّز في المنتهى الانتفاع بالعجين النجس في علف الدوابّ، محتجّا بأنّ المحرّم على المكلّف تناوله و بأنّه انتفاع فيكون سائغا للأصل. (2)

و لا يخفى أن كلا دليله صريح في حصر التحريم في أكل العجين المتنجّس.

و قال الشهيد في قواعده: «النجاسة ما حرم استعماله في الصلاة و الأغذية.» (3) ثم ذكر ما يؤيد المطلوب.

______________________________

أقول: لم يظهر لي مراده «ره»، إذ بحثنا كان في الانتفاع بالمتنجّس، و بلّ الصبغ و الحنّاء بالماء المتنجّس ثمّ استعمالهما من أوضح موارد الانتفاع به فكيف لا يكونان من محلّ النزاع؟!

(1) في التحرير: «إذا حكم بنجاسة الماء لم يجز استعماله في الطهارة مطلقا و لا في الأكل و الشرب إلّا عند الضرورة.» «1»

(2) عبارة المنتهى هكذا: «فرع: لا بأس أن يطعم العجين النجس للدوابّ إذ لا تحريم في حقّها. و المحرّم على المكلف تناوله و لم

يحصل. و لأنّ فيه نفعا فكان سائغا. و خالف فيه بعض الجمهور، و هو باطل لما رواه الجمهور عن النبي صلى اللّه عليه و آله قال للقوم الذين اختبزوا من آبار الذين مسخوا: «علّفوا النواضح». و يجوز أن يطعم لما يؤكل في الحال خلافا لأحمد. و كذا ما يحلب لبنه وقت أكله عملا بالإطلاق.» «2»

(3) راجع قواعد الشهيد، القاعدة 175: «النجاسة ما حرم استعماله في الصلاة و الأغذية للاستقذار أو للتوصّل إلى الفرار.» «3»

______________________________

(1) تحرير الأحكام/ 5، الفصل الثالث في أحكام الأواني.

(2) المنتهى 1/ 180، كتاب الطهارة، في أحكام النجاسات.

(3) القواعد للشهيد 2/ 85.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 83

و قال في الذكرى في أحكام النجاسة: «و تجب إزالة النجاسة عن الثوب و البدن»، ثم ذكر المساجد و غيرها- إلى أن قال-: «و عن كلّ مستعمل في أكل أو شرب أو ضوء تحت ظلّ للنهي عن النجس و للنصّ.»

انتهى. (1) و مراده بالنهي عن النجس: النهي عن أكله، و مراده بالنصّ ما ورد من المنع عن الاستصباح بالدهن المتنجّس تحت السقف. (2)

[الانتفاع بغير الاستصباح]

فانظر إلى صراحة كلامه في أنّ المحرّم من الدهن المتنجّس بعد الأكل و الشرب خصوص الاستضاءة تحت الظلّ للنصّ.

و هو المطابق لما حكاه المحقّق الثاني في حاشية الإرشاد عنه- قدّس سرّه- في بعض فوائده من جواز الانتفاع بالدهن المتنجّس في جميع ما يتصوّر من فوائده. (3) و قال المحقّق و الشهيد الثانيان في المسالك و حاشية الإرشاد عند قول المحقّق و العلّامة- قدّس سرّهما-: «تجب إزالة النجاسة عن الأواني»: «إنّ هذا إذا استعملت فيما يتوقف استعماله على الطهارة كالأكل و الشرب.» (4)

______________________________

(1) راجع حكم النجاسة من الذكرى. «1»

(2) ليس لنا ما يدلّ

على المنع عن الاستصباح تحت السقف إلّا ما مرّ من مرسلة المبسوط، و التعبير عنها بالنصّ مع الشكّ في أصل ثبوتها غريب.

(3) أشار بذلك إلى ما يأتي في المتن من المحقّق الثاني في حاشية الإرشاد حكاية ذلك عن بعض الحواشي المنسوبة إلى الشهيد.

(4) عبارة المسالك هكذا: «هذا إذا كان الاستعمال يوجب تعدّي النجاسة كما لو استعملت بمائع و كان مشروطا بالطهارة كالأكل و الشرب اختيارا.» «2»

______________________________

(1) الذكرى/ 14.

(2) المسالك 1/ 17 (ط. أخرى 1/ 124)، في النجاسات.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 84

و سيأتي عن المحقّق الثاني في حاشية الإرشاد في مسألة الانتفاع بالأصباغ المتنجّسة ما يدلّ على عدم توقّف جواز الانتفاع بها على الطهارة.

و في المسالك (1) في ذيل قول المحقّق- قدّس سرّه-: «و كلّ مائع نجس عدا الأدهان.» قال: «لا فرق في عدم جواز بيعها على القول بعدم قبولها للطهارة بين صلاحيّتها للانتفاع على بعض الوجوه و عدمه، و لا بين الإعلام بحالها و عدمه على ما نصّ عليه الأصحاب و غيرهم. و أمّا الأدهان المتنجّسة بنجاسة عارضة كالزيت تقع فيه الفأرة فيجوز بيعها لفائدة الاستصباح بها. و إنّما خرج هذا الفرد بالنصّ و إلّا فكان ينبغي مساواتها لغيرها من المائعات المتنجّسة التي يمكن الانتفاع بها في بعض الوجوه. و قد ألحق بعض الأصحاب ببيعها للاستصباح بها بيعها لتعمل صابونا أو يطلى بها الأجرب و نحو ذلك. و يشكل بأنّه خروج عن مورد النصّ المخالف للأصل، فإن جاز لتحقّق المنفعة فينبغي مثله في المائعات المتنجّسة التي ينتفع بها كالدبس يطعم للنحل و غيره.» انتهى. (2)

______________________________

(1) راجع المسالك، كتاب التجارة. «1»

(2) ظاهر كلامه التفكيك بين جواز الانتفاع و جواز البيع و أنّ الأصل

عدم جواز البيع، و لا محالة أراد بذلك أصالة الفساد في المعاملات. و لكن عرفت منا مرارا وجود الملازمة بينهما و أنّه إذا جاز الانتفاع بشي ء و صار مالا مرغوبا فيه بذلك فمقتضى السيرة و العمومات صحّة مبادلته أيضا، فتدبّر.

______________________________

(1) المسالك 1/ 164 (ط. أخرى 3/ 119).

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 85

و لا يخفى ظهوره في جواز الانتفاع بالمتنجّس، و كون المنع من بيعه لأجل النصّ يقتصر على مورده. (1)

و كيف كان فالمتتبع في كلمات المتأخرين يقطع بما استظهرناه من كلماتهم. و الذي أظن- و إن كان الظنّ لا يغني لغيري شيئا- (2) أنّ كلمات القدماء ترجع إلى ما ذكره المتأخّرون و أنّ المراد بالانتفاع في كلمات القدماء: الانتفاعات الراجعة إلى الأكل و الشرب و إطعام الغير و بيعه على نحو بيع ما يحلّ أكله.

ثمّ لو فرضنا مخالفة القدماء كفى موافقة المتأخرين في دفع الوهن عن الأصل و القاعدة السالمين عمّا يرد عليهما. (3)

______________________________

(1) عبارة المتن هنا لا تخلو من إجمال إذا لم يكن في عبارة المسالك نسبة منع البيع إلى النصّ، بل نسب جوازه في الدهن لفائدة الاستصباح إلى النصّ، و علّل عدم جواز البيع بكونه مخالفا للأصل، فتدبّر. اللّهم إلّا أن يراد بالنصّ نصّ الأصحاب.

(2) الظنّ لا يغنيه أيضا إلّا إذا وصل إلى حدّ الاطمينان و سكون النفس فيكون حجّة لنفسه.

(3) لو فرض اشتهار الفتوى في كتب القدماء المعدّة لنقل الفتاوى المأثورة بحيث أوجب الوثوق، لا يضرّ به مخالفة المتأخّرين المبتني فتاواهم غالبا على الاستنباطات الظنّية، و لكنّ الإشكال في تحقّق تلك الشهرة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 86

[جواز البيع لسائر الانتفاعات]

ثمّ على تقدير جواز غير الاستصباح من الانتفاعات فالظاهر جواز بيعه

لهذه الانتفاعات وفاقا للشهيد و المحقّق الثاني- قدّس سرّهما-، قال الثاني في حاشية الإرشاد في ذيل قول العلّامة «ره»: «إلّا الدهن للاستصباح»: «إنّ في بعض الحواشي المنسوبة إلى شيخنا الشهيد: أن الفائدة لا تنحصر في ذلك إذ مع فرض فائدة أخرى للدهن لا تتوقف على طهارته يمكن بيعه لها كاتخاذ الصابون منه. (1) قال: و هو مرويّ و مثله طلي الدوابّ. أقول: لا بأس بالمصير إلى ما ذكره شيخنا و قد ذكر أنّ به رواية.» انتهى.

أقول: و الرواية إشارة إلى ما عن الراوندي في كتاب النوادر بإسناده عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليهم السّلام.

______________________________

جواز بيع الدهن المتنجّس لغير الاستصباح و حكم بيع سائر المتنجسات

(1) بعد ما أثبتنا جواز الانتفاعات الأخر غير الاستصباح يقع البحث في جواز بيعه لها. و ظاهر المحكي عن الشهيد الأوّل وجود الملازمة بين جواز الانتفاع بشي ء و بين جواز بيعه لذلك، و قرّره المحقّق الثاني أيضا على ذلك، و قد كنّا نصرّ عليه أيضا.

و قد مرّ في صحيحة زرارة قوله عليه السّلام: «و إن كان ذائبا فلا تأكله و استصبح به و الزيت مثل ذلك.» «1»

و في خبر إسماعيل بن عبد الخالق: «و أمّا الزيت فلا تبعه إلّا لمن تبيّن له فيبتاع للسراج و أمّا الأكل فلا.» «2»

______________________________

(1) الوسائل 1/ 149، الباب 5 من أبواب الماء المضاف، الحديث 1.

(2) الوسائل 12/ 67، الباب 6 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 87

و فيه: سئل عليه السّلام عن الشحم يقع فيه شي ء له دم فيموت؟ قال: «يبيعه لمن يعمله صابونا» الخبر. (1)

ثم لو قلنا بجواز البيع في الدهن لغير المنصوص من الانتفاعات المباحة فهل يجوز

بيع غيره من المتنجّسات المنتفع بها في المنافع المقصودة المحلّلة كالصبغ و الطين و نحوهما أم يقتصر على المتنجّس المنصوص و هو الدهن، غاية الأمر التعدّي من حيث غاية البيع إلى غير الاستصباح؟ إشكال: من ظهور استثناء الدهن في كلام المشهور في عدم جواز بيع ما عداه، بل عرفت من المسالك نسبة عدم الفرق بين ماله منفعة محلّلة و ما ليست له إلى نصّ الأصحاب. و ممّا تقدّم في مسألة جلد الميتة من أنّ الظاهر من كلمات جماعة من القدماء و المتأخّرين كالشيخ في الخلاف و ابن زهرة و العلّامة و ولده و الفاضل المقداد و المحقّق الثاني و غيرهم دوران المنع عن بيع النجس مدار جواز الانتفاع به و عدمه إلّا ما خرج بالنصّ كأليات الميتة مثلا أو مطلق نجس العين على ما سيأتي من الكلام فيه. (2)

______________________________

فوقع الإذن في الاستصباح و البيع له في قبال النهي عن الأكل، و لو كان غيره حراما لقال: و أمّا غيره فلا.

(1) عبارة الرواية على ما في المستدرك هكذا: «إنّ عليّا عليه السّلام سئل عن الزيت يقع فيه شي ء له دم فيموت؟ فقال: «يبيعه لمن يعمل صابونا.» «1» و قد مرّ في أوّل المسألة نحوها عن الجعفريات و الدعائم أيضا، فراجع. «2»

(2) أقول: و الاحتمال الثاني هو الصحيح عندنا لما مرّ من الملازمة بين جواز الانتفاع بشي ء و صيرورته بذلك مالا مرغوبا فيه و بين جواز بيعه لذلك، و أنّ

______________________________

(1) مستدرك الوسائل 2/ 427، الباب 6 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 7.

(2) راجع نفس المصدر و الباب، الحديثين 2 و 4؛ و أيضا راجع ص 54 من هذا الكتاب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 88

[هل يجري الاستصحاب في الأحكام الكلية أم لا؟]

و هذا هو الذي يقتضيه استصحاب الحكم قبل التنجّس. (1)

______________________________

النجاسة بنفسها ليست مانعة عن البيع بعد كون الشي ء ذا منفعة محلّلة عقلائية.

و يشهد لصحّة المعاملة إطلاقات البيع و التجارة و الوفاء بالعقود كما لا يخفى.

اللّهم إلّا أن ينكر الإطلاق في آيتي البيع و التجارة كما مرّ.

و استثناء الدهن المتنجّس للاستصباح في كلام المشهور وقع تبعا للأخبار الواردة فيه، و هي لا تدلّ على الحصر، بل المتفاهم منها في أمثال المقام عدم دخالة الخصوصيّة و إلقاؤها، و إنّما وقعت الأسئلة و الأجوبة حول الدهن و الزيت و الاستصباح بهما لكثرة الابتلاء بالمتنجّس منهما في تلك الأعصار و انحصار المنفعة المحلّلة المعتدّ بها بعد تنجّسهما في الاستصباح.

هل يجري الاستصحاب في الأحكام الكلية أم لا؟

[تصوير الاستصحاب في المقام]

(1) أقول: الاستصحاب في أمثال المقام يمكن أن يقرّر بوجهين:

الأوّل: أن يجعل مورده الموضوع الجزئي الخارجي كأن يشار إلى الطين أو الصبغ الخارجي المتنجّس مثلا فيقال: هذا الجسم الخارجي كان جائز البيع قبل تنجّسه فيستصحب فيه ذلك بعد تنجّسه.

الثاني: أن يجعل مورده الموضوع بالنحو العامّ فيقال: الصبغ المتنجّس كان جائز البيع قبل تنجّسه فيستصحب فيه ذلك بعد تنجّسه.

و المتصدّي لإجرائه في الأوّل، المكلّف الشخصي بعد إفتاء الفقيه به.

و في الثاني الفقيه المفتي.

و لا يخفى أنّ الشبهة في كلا التقريرين ترجع إلى الجهل بالحكم الكلّي الشرعي و يكون رفع الشبهة بيد الشارع الأقدس. و كان المورد الثاني تعبير عن قضايا جزئية متكثرة بقضية واحدة كليّة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 89

..........

______________________________

و نظير المقام استصحاب نجاسة الماء المتغيّر إذا زال تغيره بنفسه و استصحاب نجاسة الماء المتمّم كرّا، و استصحاب حرمة وطي الحائض إذا انقطع دمها و لم تغتسل بعد.

و استشكلوا في الاستصحاب في

أمثال المقام بعدم بقاء الموضوع و اختلاف القضيّة المتيقّنة و المشكوكة فليس استصحابا بل هو من قبيل إسراء الحكم من موضوع إلى موضوع آخر.

و أجيب عنه بأنّ الموضوع في الاستصحاب يؤخذ من العرف لا من العقل الدقي الفلسفي، و العرف يرى اتّحاد القضيّتين، و لا سيّما إذا كان مورد الاستصحاب الموضوع الجزئي الخارجي. هذا كلّه على فرض جريان الاستصحاب في الأحكام الكليّة.

[كلام مصباح الفقاهة في أمرين]
[الأمر الأول: الترديد في جريان الاستصحاب في الأحكام الكليّة]
اشارة

و في مصباح الفقاهة في المقام ما هذا لفظه: «إذا سلّمنا جريان الاستصحاب في الأحكام الكليّة الإلهيّة و أغمضنا عن معارضته دائما بأصالة عدم الجعل- كما نقّحناه في الأصول- فلا نسلّم جريانه في المقام لأنّ محلّ الكلام هو الجواز الوضعي بمعنى نفوذ البيع على تقدير وجوده. و عليه فاستصحاب الجواز بعد التنجّس يكون من الاستصحاب التعليقي الذي لا نقول به.» «1»

أقول: كلامه- طاب ثراه- يرجع إلى أمرين: الأوّل: الترديد في جريان الاستصحاب في الأحكام الكليّة.

الثاني: كون الاستصحاب في المقام تعليقيّا و هو لا يقول به.

[محصل كلامه ره]

أمّا الأمر الأوّل فمحصّل كلامه- على ما في مصباح الأصول-: «التفصيل في حجيّة الاستصحاب بين الأحكام الكليّة الإلهيّة و بين غيرها من الأحكام الجزئيّة و الموضوعات الخارجيّة، فلا يكون حجّة في القسم الأوّل لا لقصور الروايات

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 137.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 90

..........

______________________________

الواردة، بل لأنّ الاستصحاب في الأحكام الكليّة معارض بمثله دائما كما قال به الفاضل النراقي «ره».

بيان ذلك أنّ الشكّ في الحكم الشرعي تارة يكون في بقاء أصل الجعل الشرعي بعد العلم به فيجري استصحاب بقائه و عدم نسخه و إن كان إطلاق قوله: «حلال محمّد صلى اللّه عليه و آله حلال إلى يوم القيامة و حرامه حرام إلى يوم القيامة» يغنينا عن هذا الاستصحاب.

و أخرى يكون الشكّ في بقاء المجعول بعد فعليّته بتحقّق موضوعه. و هذا على قسمين: لأنّه إمّا أن يكون لأجل الشكّ في دائرة المجعول سعة و ضيقا كما إذا شكّ في حرمة و طي الحائض بعد انقطاع الدم و قبل الاغتسال. و مرجع هذا إلى الشكّ في سعة الموضوع و ضيقه و أنّ الموضوع للحرمة واجدة الدم أو المحدثة بحدث

الحيض بإطلاقها، و يسمّى ذلك بالشّبهة الحكميّة.

و إمّا أن يكون لأجل الشكّ في الأمور الخارجيّة كما إذا شكّ في انقطاع الدم و عدمه، و يعبّر عن ذلك بالشبهة الموضوعيّة.

أمّا الثانية فلا إشكال في جريان الاستصحاب فيها.

و أمّا الشبهة الحكميّة فإن كان الزمان فيها مفردا و الحكم انحلاليا كحرمة و طي الحائض مثلا- فإنّ للوطي أفرادا كثيرة بحسب امتداد الزمان من أوّل الحيض إلى آخره- فلا يمكن جريان الاستصحاب فيها، لأنّ هذا الفرد من الوطي و هو الفرد المفروض وقوعه بعد انقطاع الدم و قبل الاغتسال لم تعلم حرمته من أوّل الأمر حتى نستصحب بقاءها، و الأفراد المتيقّن حرمتها قد مضى زمانها.

و أمّا إذا لم يكن الزمان مفردا عرفا كنجاسة الماء القليل المتمّم كرا- فإنّ الماء شي ء واحد عرفا و نجاسته حكم واحد مستمرّ من أوّل الحدوث إلى الزوال، و من هذا القبيل الملكيّة و الزوجيّة- فلا يجري الاستصحاب في هذا القسم أيضا لابتلائه

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 91

..........

______________________________

بالمعارض، إذ في الماء المتمّم مثلا لنا يقين متعلّق بالمجعول و يقين متعلّق بالجعل، فبالنظر إلى المجعول يجري استصحاب النجاسة، و بالنظر إلى الجعل يجري استصحاب عدم النجاسة، و ذلك لليقين بعدم جعل النجاسة للماء القليل في صدر الإسلام، و المتيقّن إنّما هو جعلها للقليل غير المتمّم، أمّا جعلها للقليل المتمّم فهو مشكوك فيه فيستصحب عدمه، و يكون المقام من قبيل دوران الأمر بين الأقل و الأكثر فيؤخذ بالقدر المتيقّن أعني الأقل. و كذلك الملكيّة و الزوجيّة و نحوهما، فإذا شككنا في بقاء الملكيّة بعد رجوع أحد المتبايعين في المعاطاة فباعتبار المجعول و هي الملكيّة يجري استصحاب بقائها و باعتبار الجعل يجري استصحاب عدم الملكيّة

لتماميّة أركان الاستصحاب في كليهما ...» «1»

أقول: ما ذكره من منع جريان الاستصحاب في الأحكام الكليّة لمعارضته بمثله دائما أمر أصرّ عليه هو «ره» في مباحثه الفقهيّة. و قد يستفاد من ظاهر كثير ممن حكي عنه عدم جريانه فيها بنحو الإطلاق، و لكن المذكور في مصباح الأصول اختصاص المنع بالأحكام الإلزاميّة، فلا مانع من جريانه في الإباحة و كذا في الطهارة من الحدث و الخبث، إذ هما لا تحتاجان إلى الجعل، فإنّ الأشياء كلّها على الإباحة و الطهارة ما لم يجعل خلافهما.

ثمّ قال: «فتحصّل أنّ المختار في جريان الاستصحاب في الشبهات الحكميّة هو التفصيل على ما ذكرنا لا الإنكار المطلق كما عليه الأخباريون و الفاضل النراقي و لا الإثبات المطلق كما عليه جماعة من العلماء.» «2» هذا.

[كلام الشيخ الأعظم «ره»]

و الشيخ الأعظم «ره» حكي في الرسائل في آخر التنبيه الثاني من تنبيهات الاستصحاب عن بعض معاصريه في تقريب ما ذكره من تعارض الاستصحابين بما لفظه: «إذا علم أنّ الشارع أمر بالجلوس يوم الجمعة و علم أنّه واجب إلى الزوال

______________________________

(1) مصباح الأصول 3/ 36- 38، التفصيل الثالث في حجيّة الاستصحاب.

(2) نفس المصدر 3/ 48.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 92

..........

______________________________

و لم يعلم وجوبه فيما بعده فنقول: كان عدم التكليف بالجلوس قبل يوم الجمعة و فيه إلى الزوال و بعده معلوما قبل ورود أمر الشارع و علم بقاء ذلك العدم قبل يوم الجمعة و علم ارتفاعه و التكليف بالجلوس فيه قبل الزوال و صار بعده موضع الشكّ، فهنا شكّ و يقينان و ليس إبقاء حكم أحد اليقينين أولى من إبقاء حكم الآخر.

فإن قلت: يحكم ببقاء اليقين المتّصل بالشكّ و هو اليقين بالجلوس.

قلنا: إنّ الشكّ في تكليف ما

بعد الزوال حاصل قبل مجي ء يوم الجمعة وقت ملاحظة أمر الشارع فشكّ يوم الخميس مثلا حال ورود الأمر في أنّ الجلوس غدا هل هو مكلّف به بعد الزوال أيضا أم لا؟ و اليقين المتّصل به هو عدم التكليف فيستصحب و يستمرّ ذلك إلى وقت الزوال.» انتهى. «1»

و أجاب الشيخ «ره» عن إشكال المعارضة بما محصّله: «أنّ الأمر الوجودي المجعول إن لوحظ الزمان قيدا له أو لمتعلّقه فلا مجال لاستصحاب الوجود للقطع بارتفاع ما علم وجوده و الشكّ في حدوث ما عداه. و إن لو حظ الزمان ظرفا له لا قيدا فلا مجال لاستصحاب العدم لأنّه إذا انقلب العدم إلى الوجود المردّد بين كونه في قطعة خاصّة من الزمان و كونه أزيد- و المفروض تسليم حكم الشارع بأنّ المتيقّن في زمان لا بدّ من إبقائه- فلا وجه لاعتبار العدم السابق.

و الحاصل: أنّ الموجود في الزمان الأوّل إن لو حظ مغايرا للموجود الثاني فيكون الموجود الثاني حادثا مغايرا للحادث الأوّل فلا مجال لاستصحاب الموجود. و إن لو حظ متحدا مع الثاني إلّا من حيث ظرفه الزماني فلا معنى لاستصحاب عدم ذلك الوجود لأنّه انقلب إلى الوجود. و كأن المتوهّم ينظر في استصحاب الوجود إلى كون الموجود أمرا قابلا للاستمرار، و في استصحاب

______________________________

(1) مناهج الأحكام و الأصول للمحقّق النراقي/ 239؛ و راجع أيضا فرائد الأصول/ 376 (ط. أخرى 2/ 647).

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 93

..........

______________________________

العدم إلى تقطيع وجودات ذلك الموجود.» «1»

و راجع في هذا المجال التنبيه الرابع من تنبيهات الاستصحاب من الكفاية. «2»

و لكن أجاب في مصباح الأصول عمّا ذكره الشيخ «ره» بما محصّله: «بقاء المعارضة مع ذلك، إذ بعد البناء على المسامحة العرفيّة و

بقاء الموضوع عرفا يقال:

إنّ هذا الموضوع الواحد كان حكمه كذا و شكّ في بقائه فيستصحب. و يقال أيضا: إنّ هذا الموضوع لم يكن في أوّل الأمر محكوما بحكم لا مطلقا و لا مقيّدا بحال، و القدر المتيقّن جعل الحكم له حال كونه مقيّدا بالزمان الأوّل فيبقى جعل الحكم له بالنسبة إلى الحال الثاني مشكوكا فيه فيستصحب عدمه.» «3»

أقول: ربّما ينسبق إلى الذهن عاجلا صحّة ما ذكره من المعارضة لأن الاستصحابين في عرض واحد لا تقدّم لأحدهما على الآخر حتى يرتفع به موضوع الآخر تعبّدا. و ملاحظة بقاء الموضوع عرفا و استصحاب حكمه لا يمنع عن ملاحظته ثانيا بلحاظ آخر، فيلحظ أنّه لم يكن الموضوع في الأزل محكوما بحكم أصلا لا مطلقا و لا مقيّدا، و المتيقّن جعل الحكم له في الزمان الأوّل فيبقى في الزمان الثاني على أصل العدم.

و ما ذكره الشيخ «ره» من أنّ المفروض تسليم حكم الشارع بأنّ المتيقّن في زمان لا بدّ من إبقائه فلا وجه لاعتبار العدم السابق مرجعه إلى إجراء استصحاب الوجود و مانعيّته عن جريان استصحاب العدم.

و يرد عليه: أنّه لو فرض تقدّم رتبة استصحاب الوجود صار الحكم الأوّل بضميمة هذا الاستصحاب و بركته مانعا عن اللحاظ الثاني و استصحاب العدم و لكن لا دليل على تقدّمه. و المفروض عدم شمول دليل الحكم أيضا للزمان الثاني

______________________________

(1) فرائد الأصول/ 377 (ط. أخرى 2/ 648)، التنبيه الثاني من تنبيهات الاستصحاب.

(2) كفاية الأصول 2/ 314 و ما بعدها.

(3) مصباح الأصول 3/ 39، في الاستصحاب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 94

..........

______________________________

و إلّا لم نحتج إلى الاستصحاب، و على هذا فأيّ مانع عن جريان استصحاب العدم؟

نعم لو كان الشكّ في أحد الاستصحابين

مسبّبا عن الشكّ في الآخر صار جريان الاستصحاب في السبب رافعا للشكّ عن المسبّب تعبّدا.

اللّهم إلّا أن يقال: إنّ نظر الشيخ الأعظم «ره» إلى أنّ المقام من هذا القبيل، بتقريب أنّ الشكّ في المجعول في الزمان الثاني مسبّب عن الشكّ في طول عمر المجعول الأوّل و قصره و باستصحاب الوجود يثبت طول عمره و أنّ المتعلّق للحكم في الزمانين أمر واحد محكوم بحكم واحد فيرتفع الشكّ عن حكم الزمان الثاني تعبّدا. هذا.

[كلام الأستاذ الإمام «ره»]

و قد حكى الأستاذ الإمام «ره» في الرسائل هذا الجواب عن مجلس بحث أستاذه العلّامة الحائري- طاب ثراه- ثمّ استشكل عليه بوجهين و محصّلهما: «أمّا أوّلا:

فلأنّ الشكّ في وجوب الجلوس المتقيّد بما بعد الزوال ليس ناشئا عن الشكّ في بقاء وجوب الجلوس الثابت قبله. بل منشأه إمّا الشكّ في أنّ المجعول هل هو ثابت لمطلق الجلوس أو للجلوس قبل الزوال، فليس شكّه ناشئا عن الشكّ في البقاء بل عن كيفيّة الجعل، و إمّا الشكّ في جعل وجوب مستقلّ للموضوع المتقيّد بما بعد الزوال.

و أمّا ثانيا: فلأنّ الشرط في حكومة الأصل السببي على المسبّبي أن يكون الأصل الحاكم رافعا للشكّ عن المسبّب تعبّدا بأن يكون المستصحب في الأصل المسبّبي من الآثار الشرعيّة للسبب كاستصحاب كرّيّة الماء الحاكم على استصحاب نجاسة الثوب المغسول به فلا يكفي في الحكومة مجرّد كون أحد الشكين ناشئا عن الشكّ في الآخر. فاستصحاب وجوب الجلوس إلى ما بعد الزوال لا يثبت كون الجلوس المتقيّد بما بعد الزوال واجبا إلّا على القول بالأصل المثبت بل حاله أسوأ من الأصل المثبت.» «1»

______________________________

(1) الرسائل للإمام الخميني «ره» 1/ 162، في جواب شيخنا العلّامة و ما فيه.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 95

..........

______________________________

ثمّ

تصدّى هو بنفسه للجواب عن الإشكال بوجه تحقيقيّ حاكيا إجماله عن كتاب الدرر لأستاذه و محصّله: «أنّ المعارضة بين الأصلين إنّما تتحقّق إذا كان موضوع حكمهما واحدا و كان مفاد أحد الأصلين حكما مناقضا للحكم الآخر و في التناقض يشترط حفظ وحدات منها وحدة الموضوع، فحينئذ نقول: «إنّ الاستصحابين في المقام إمّا أن يكون موضوعهما واحدا أولا:

فعلى الأوّل تقع المعارضة بينهما لو فرض جريانهما، و لكن فرض وحدة الموضوع موجب لسقوط أحدهما لأنّ الموضوع إمّا نفس الجلوس فلا يجري فيه الاستصحاب العدمي لأنّ عدم وجوب الجلوس انتقض بوجوبه الثابت له قبل الزوال، و أمّا الجلوس المتقيّد ببعد الزوال أو بقبل الزوال فلا يجري الاستصحاب الوجودي.

و أمّا على الثاني، أعني كون الموضوع للأصل الوجودي نفس الجلوس و للأصل العدمي الجلوس المتقيّد بما بعد الزوال، فلا منافاة بينهما، لإمكان حصول القطع بوجوب الجلوس بعد الزوال بما أنّه جلوس بحيث يكون تمام الموضوع للوجوب نفس الجلوس، و عدم وجوب الجلوس المتقيّد بما بعد الزوال بحيث يكون الجلوس جزء للموضوع. كما أنّ الإنسان ناطق بما أنّه إنسان لا بما أنّه ماش مستقيم القامة. و بالجملة فالجلوس بعد الزوال واجب بما أنّه جلوس و لا يكون واجبا بما أنّه متقيّد بما بعد الزوال.

لا يقال: المطلق إذا كان واجبا سرى بإطلاقه إلى جميع الحالات و منها المقيّد بما بعد الزوال فيصير معارضا للمقيّد.

فإنّه يقال: ليس معنى الإطلاق ضمّ القيود إلى المطلق و دخلها في الحكم بل معناه رفض جميع القيود و كون نفس الطبيعة موضوعا للحكم.» «1» هذا.

و تفصيل المسألة يطلب من الكتب الأصوليّة.

______________________________

(1) الرسائل للإمام الخميني «ره» 1/ 163 و 164.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 96

نكات حول ما مرّ عن مصباح الأصول
اشارة

و لنشر

هنا إلى نكات جزئيّة حول ما مرّ عن مصباح الأصول:

الأولى: أنّ ما ذكره من الفرق بين مثال وطي الحائض و مثال نجاسة الماء المتمّم كرّا

______________________________

و جعل الزمان في الأوّل مفردا للموضوع لا يخلو من إشكال، إذ في كلامه خلط بين موضوع الحكم و متعلّقه. فالمرأة الحائض في المقام موضوع للحرمة و فعل المكلّف أعني الوطي متعلّق لها. و إسناد الحرمة إلى كليهما صحيح شائع في الاستعمالات. و على هذا فيمكن أن يشار إلى المرأة الخارجيّة و يقال: هذه المرأة كانت محرّمة الوطي قبل انقطاع دمها ثمّ شكّ في ذلك فيستصحب حكمها، و الموضوع و هي المرأة باقية في الحالين.

الثانية: أنّ ما ذكره من كون الأشياء بالذات على الإباحة و الطهارة

بقسميها و أنّهما لا تحتاجان إلى الجعل قابل للمنع، إذ الأصل في التصرّف في مال الغير و سلطته و منه أموال مالك الملوك بأقسامها هو الحظر و عدم جواز التصرّف، يحكم بذلك العقل الصريح ما لم يرد من المالك الترخيص فالترخيص يكون بالجعل.

و كون الأصل على الطهارة من الحدث يستلزم عدم احتياج الإنسان المخلوق ساعة- لو فرض- إلى الوضوء لصلاته، و هذا مخالف لظواهر الأدلّة و ارتكاز المتشرّعة، فيعلم بذلك أنّها أمر وجودي يتحصّل بالوضوء الذي جعله اللّه- تعالى- سببا لها.

نعم في الطهارة من الخبث يمكن أن يقال بأنّ الأصل في الأشياء هي النظافة و الطهارة و أنّ القذارة أمر يعرض لها، فتأمّل.

الثالثة: ما يرى في المقام من التعبير عن أصل العدم بأصالة عدم الجعل

ربما يناقش فيه بأنّ الجعل من أفعال الحاكم و ليس حكما شرعيّا حتى يستصحب هو أو عدمه. و إثبات عدم الحكم باستصحاب عدم الجعل من الأصل المثبت.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 97

..........

______________________________

و لكن يمكن أن يجاب عن ذلك أوّلا بكون الجعل و المجعول تعبيرين عن حقيقة واحدة و لا يتفاوتان إلّا بالإضافة و الاعتبار، فهذه الحقيقة الواحدة بالإضافة إلى الحاكم يعبّر عنه بالجعل و بالإضافة إلى المتعلّق يعبّر عنه بالحكم.

و ثانيا: أن مصبّ الاستصحاب نفس المجعول أو عدمه، و التعبير بالجعل وقع مسامحة فيراد بذلك المجعول الكلّي الإنشائي قبل أن يتحقّق موضوعه خارجا و يصير فعليّا بذلك. و الحكم الإنشائي له وجود اعتباريّ له أثر عملي عند تحقّق موضوعه فيمكن استصحاب وجوده و عدمه، و ما هو المعتبر في المستصحب أن يكون حكما شرعيّا أو موضوعا ذا حكم أو عدمهما، و لا يعتبر وجود الأثر العملي في السابق بل يكفي تحقّقه حين الاستصحاب. و في المقام يترتّب على استصحاب عدم

المجعول في مرحلة الإنشاء عدم الإلزام و التكليف فعلا، فتدبّر.

هذا كلّه ما يرتبط بالأمر الأوّل من الأمرين اللذين أشار إليهما في مصباح الفقاهة.

[الأمر الثاني في كلامه كون المقام من الاستصحاب التعليقي]

الأمر الثاني: إنّ محلّ الكلام في المقام هو الجواز الوضعي بمعنى نفوذ البيع و صحّته فيكون الاستصحاب تعليقيّا و لا نقول به.

أقول: قد ذكروا في محلّه أنّ المستصحب إمّا أن يكون أمرا موجودا بالفعل ثمّ شكّ في بقائه كما في العصير الحلال إذا نشّ فشكّ في بقاء حلّيته، و يسمّى الاستصحاب فيه تنجيزيّا، و لا إشكال في جريانه بناء على جريانه في الأحكام الكليّة.

و إمّا أن يكون أمرا موجودا على تقدير وجود أمر آخر، مثل أنّ العنب محكوم بحرمة مائه على تقدير غليانه ثمّ صار زبيبا فشكّ في بقاء هذه الحرمة التقديرية له فهل يجري استصحابها أم لا؟ فيه خلاف بين الأعلام. و يسمّى هذا بالاستصحاب التعليقيّ.

فقد يقال: إنّه لا يعتبر في الاستصحاب أزيد من التحقّق سابقا و الشكّ

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 98

..........

______________________________

في البقاء، و من المعلوم أن تحقّق كلّ شي ء بحسبه، فالعنب مثلا محكوم بحكمين:

أحدهما تنجيزي و هي حلّية مائه فعلا، و الثاني تقديري و هي حرمته على تقدير الغليان، و هذا الوجود التقديري أيضا أمر متحقّق في نفسه في مقابل عدمه بحيث يعدّ من أحكام الشرع المبين للعنب.

و على هذا فكما يجوز أن يستصحب الحكم الأوّل عند الشكّ لا مانع من استصحاب الحكم الثاني أيضا أعني الحرمة على تقدير.

هذا مع قطع النظر عن الإشكال في المثال بما قيل من أنّ العنب و الزبيب أمران متغايران فلا بقاء للموضوع حتى ينظر العرف أيضا، و أنّ الزبيب لا ماء له حتّى يغلي إلّا ما دخل فيه من الخارج

فيفترق عن ماء العنب الكامن في ذاته.

و في قبال ما ذكر قد يقال: إنّ الظاهر كون القيد المأخوذ في القضيّة راجعا إلى الموضوع و يكون الموضوع مركبا و الشرط جزء منه. و قد اشتهر أنّ كلّ شرط موضوع و كلّ موضوع شرط. فقوله: «العنب إذا غلى يحرم» مرجعه إلى قوله:

«العنب المغلي يحرم»، و فعلية الحكم المترتّب على الموضوع المركّب تتوقّف على وجود موضوعه بتمام أجزائه، إذ نسبة الحكم إلى موضوعه نسبة المعلول إلى علّته، فالحكم ليس للعنب فقط حتى يستصحب بعد صيرورته زبيبا. و من أجرى الاستصحاب هنا توهّم رجوع القيد إلى الحكم لا إلى الموضوع و هو عندنا باطل.

و ربّما يجاب عن ذلك بأنّ الشرط و إن رجع بالدقة العقليّة إلى الموضوع و يكون الموضوع مركبا لكن العرف يفرّقون بين قوله: «العنب المغليّ يحرم» و بين قوله:

«العنب إذا غلى يحرم»، فيرون الموضوع في الثاني نفس العنب و يحكمون بكونه محكوما بحكمين: أحدهما تنجيزي و الآخر تعليقيّ كما مرّ بيانه. و المرجع في تشخيص الموضوعات و إجراء الاستصحاب فيها العرف لا الدقّة العقليّة.

أقول: البحث في صحّة الاستصحاب التعليقيّ و عدمها موكول إلى محلّه و الذي نريد هنا ذكره بيان أنّ المقام يفترق عن مثال العنب و نحوه الذي علّق فيه

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 99

..........

______________________________

الحكم على أمر خارجيّ كالغليان بحيث لا يتحقّق فيه الحكم إلّا بعد تحقّق هذا الأمر، إذ البيع في المقام ليس أمرا خارجيّا علّق عليه الحكم بل هو فعل من أفعال المكلّف و ممّا يوجده باختياره ليترتّب عليه الآثار و يكون من قبل الشارع محكوما بحكمين: الحليّة التكليفيّة و الصحّة وضعا، فكلاهما حكم شرعي متعلّقان بفعل المكلّف و المكلّف

المتشرع لا يوجده إلّا بترقّب صحّته و ترتّب آثاره عليه، فليس حكمه بصحّته متوقّفا على وجوده خارجا بل يكون وزانها وزان الحكم التكليفيّ بالنسبة إلى متعلّقه.

بل قد مرّ منا أنّ قوله- تعالى-: أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ يراد به الحليّة الوضعيّة و يكون قوله: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ إرشادا إلى صحّتها. «1»

و بالجملة فالبيع من أفعال المكلّف و لا يوجد من قبل المتشرعة إلّا بترقّب ترتّب الآثار عليه، فما لم يحكم الشرع بصحّته لا يقدم المكلّف على إيجاده. و ليس حكم الشرع بصحّته مشروطا بوجوده خارجا، و ليس موضوع الصحّة مركبا من البيع و موضوعه على ما قالوا في العنب من كون موضوع الحرمة مركبا منه و من الغليان، بل الصحّة حكم لنفس البيع، و البيع متعلق لها لا موضوع.

و إن شئت قلت: إنّ البيع و سائر العقود التي يوجدها المكلّف بترقّب ترتّب الآثار ليس وزانها وزان القيود الخارجيّة التي لا ينطبق عليها الأحكام إلّا بعد تحقّقها في الخارج، و ليس وزانها وزان متعلّقات التكاليف أيضا، و لكنّها بالثانية أشبه لكونها من أفعال المكلّفين.

و كيف كان فليس الاستصحاب في المقام تعليقيّا، فتأمّل.

______________________________

(1) راجع دراسات في المكاسب المحرّمة 1/ 60- 68.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 100

[الأخبار الدالّة على جواز البيع لغير الاستصباح]

و هي القاعدة المستفادة من قوله عليه السّلام في رواية تحف العقول: «أنّ كلّ شي ء يكون لهم فيه الصلاح من جهة من الجهات فذلك كلّه حلال.» (1)

و ما تقدّم من رواية دعائم الإسلام: من حلّ بيع كلّ ما يباح الانتفاع به. (2)

و أمّا قوله- تعالى-: فَاجْتَنِبُوهُ و قوله- تعالى-: وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ فقد عرفت أنّهما لا تدلّان على حرمة الانتفاع بالمتنجّس (3) فضلا عن حرمة البيع على تقدير جواز الانتفاع.

______________________________

الأخبار الدالّة على

جواز البيع لغير الاستصباح

(1) عبارة تحف العقول هكذا: «من كلّ شي ء يكون لهم فيه الصلاح من جهة من الجهات فهذا كلّه حلال بيعه و شراؤه و إمساكه و استعماله و هبته و عاريته.» «1»

(2) عبارة الدعائم هكذا: «الحلال من البيوع كلّ ما هو حلال من المأكول و المشروب و غير ذلك ممّا هو قوام للناس و صلاح و مباح لهم الانتفاع به.» «2».

و المفروض في المقام حلّ الانتفاع بالمتنجّس و إباحته.

هذا و لكن الخبرين ضعيفان كما مرّ، فالأولى- كما عرفت- الاستدلال بعمومات حلّ البيع و التجارة عن تراض و وجوب الوفاء بالعقود، إلّا أنّ يقال بعدم إطلاقها بالنسبة إلى خصوصيّات المتعلّق و شرائطه، بل يمكن منع أصل الإطلاق في آيتي البيع و التجارة لما مرّ من عدم كونهما في مقام البيان من كلّ جهة.

(3) لما مرّ أوّلا: من أنّ الظاهر من الرجس ما كان رجسا بذاته لا ما عرض له ذلك.

و ثانيا: أنّ المراد به في الآية بقرينة سائر المذكورات فيها ليس هو النجس الفقهي فضلا عن المتنجّس، بل ما كان خبيثا و قذرا معنويّا، و لم يحرز كون المتنجّسات من

______________________________

(1) تحف العقول/ 333.

(2) دعائم الإسلام 2/ 18، الفصل الثاني من كتاب البيوع، الرقم 23.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 101

و من ذلك يظهر عدم صحّة الاستدلال فيما نحن فيه بالنهي في رواية تحف العقول عن بيع شي ء من وجوه النجس بعد ملاحظة تعليل المنع فيها بحرمة الانتفاع. (1)

و يمكن حمل كلام من أطلق المنع عن بيع النجس إلّا الدهن لفائدة الاستصباح على إرادة المائعات النجسة التي لا ينتفع بها في غير الأكل و الشرب منفعة محلّلة مقصودة من أمثالها.

و يؤيّده تعليل استثناء

الدهن بفائدة الاستصباح، نظير استثناء بول الإبل للاستشفاء، و إن احتمل أن يكون ذكر الاستصباح لبيان ما يشترط أن يكون غاية للبيع. (2)

______________________________

هذا القبيل.

و ثالثا: أنّ وجوب الاجتناب في الآية لم يتفرّع على الرجس فقط بل على ما كان منه من عمل الشيطان و من مبتدعاته.

و مرّ أيضا أنّ الرجز ليس بمعنى النجس الفقهيّ فضلا عن المتنجّس و لم يفسّروه بذلك بل بالأصنام و العذاب و المعاصي و نحوها. «1»

(1) لما مرّ من أنّ الظاهر من وجوه النجس عنواناته المعهودة أعني الذوات النجسة. «2»

(2) و محصّل ذلك أنّ قولهم: «إلّا الدهن لفائدة الاستصباح» يحتمل فيه أمران:

الأوّل: أن يكون لهما دخل في صحّة البيع فلا يجوز بيع غيره من المتنجسات و لا الدهن لغير هذه الفائدة.

______________________________

(1) راجع دراسات في المكاسب المحرّمة 1/ 188 و ما بعدها؛ و ص 67 من هذا الكتاب.

(2) راجع نفس المصدر 1/ 467؛ و ص 72 من هذا الكتاب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 102

قال في جامع المقاصد (1) في شرح قول العلّامة- قدّس سرّه-: «إلّا الدهن لتحقّق فائدة الاستصباح به تحت السّماء خاصّة.» قال: «و ليس المراد بخاصّة بيان حصر الفائدة في الاستصباح كما هو الظاهر. (2) و قد ذكر شيخنا الشهيد في حواشيه: أنّ في رواية: جواز اتّخاذ الصابون من الدهن المتنجّس، و صرّح مع ذلك بجواز الانتفاع به فيما يتصوّر من فوائده كطلي الدوابّ.

إن قيل: إنّ العبارة تقتضي حصر الفائدة لأنّ الاستثناء في سياق النفي يفيد الحصر، فإنّ المعنى في العبارة: إلّا الدهن النجس لهذه الفائدة.

قلنا: ليس المراد ذلك لأنّ الفائدة بيان لوجه الاستثناء، أي: إلّا الدهن لتحقّق فائدة الاستصباح، و هذا لا يستلزم الحصر. و يكفي في

صحّة ما قلنا تطرّق الاحتمال في العبارة المقتضي لعدم الحصر.»

انتهى.

______________________________

الثاني: أن يراد بالمنع عن البيع المنع عن بيع المائعات المتنجّسة التي لا فائدة لها سوى الأكل و الشرب فلا يريدون منع مثل الطين و الصبغ و نحوهما، و كان استثناء الدهن لا لخصوصيّة فيه بل لكثرة الابتلاء به و وجود منفعة محلّلة عقلائيّة له سوى الأكل و هو الاستصباح به، فيكون ذكر الاستصباح لتعليل الاستثناء به لا لبيان ما يشترط أن يكون غاية للبيع، فهو نظير استثناء بول الإبل و تعليله بالاستشفاء، و يشهد لهذا الحمل كلام جامع المقاصد:

(1) راجع جامع المقاصد، كتاب المتاجر. «1»

(2) فيراد بقيد: «خاصّة» المنع عن الاستصباح تحت السقف لا المنع عن الفوائد الأخر.

______________________________

(1) جامع المقاصد 4/ 12، كتاب المتاجر.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 103

[عدم شمول الحكم لكلّ مائع متنجّس مثل الطين و الجصّ المائعين]

و كيف كان فالحكم بعموم كلمات هؤلاء لكلّ مائع متنجّس مثل الطين و الجصّ المائعين، و الصبغ و شبه ذلك محلّ تأمّل. و ما نسبه في المسالك من عدم فرقهم في المنع عن بيع المتنجّس بين ما يصلح للانتفاع به و ما لا يصلح فلم يثبت صحّته.

مع ما عرفت من كثير من الأصحاب من إناطة الحكم في كلامهم مدار الانتفاع. و لأجل ذلك استشكل المحقّق الثاني في حاشية الإرشاد فيما ذكره العلّامة بقوله: «و لا بأس ببيع ما عرض له التنجيس مع قبول الطهارة.» حيث قال: «مقتضاه أنّه لو لم يكن قابلا للطهارة لم يجز بيعه، و هو مشكل إذ الأصباغ المتنجّسة لا تقبل التطهير عند الأكثر، و الظاهر جواز بيعها لأنّ منافعها لا تتوقّف على الطهارة. اللّهم إلّا أن يقال: إنّها تؤول إلى حالة تقبل معها التطهير لكن بعد جفافها بل ذلك هو

المقصود منها فاندفع الإشكال.»

أقول: لو لم يعلم من مذهب العلّامة دوران المنع عن بيع المتنجّس مدار حرمة الانتفاع لم يرد على عبارته إشكال لأنّ المفروض حينئذ التزامه بجواز الانتفاع بالأصباغ مع عدم جواز بيعها، إلّا أن يرجع الإشكال إلى حكم العلّامة و أنّه مشكل على مختار المحقّق الثاني لا إلى كلامه و أنّ الحكم مشكل على مذهب المتكلّم، فافهم. (1)

______________________________

(1) محصّل ذلك أنّ إشكال المحقّق الثاني يرد على كلام العلّامة لو فرض تسليم العلّامة للملازمة بين جواز الانتفاع و جواز البيع، و إلّا فمن الممكن أن يكون كلامه في الإرشاد مبنيّا على التفكيك بينهما كما حكاه في المسالك عن الأصحاب أيضا، إلّا أن يرجع إشكال المحقّق الثاني إلى أصل مبنى العلّامة و أنّه

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 104

ثمّ إنّ ما دفع به الإشكال من جعل الأصباغ قابلة للطهارة إنّما ينفع في خصوص الأصباغ، و أمّا مثل بيع الصابون المتنجّس فلا يندفع الإشكال عنه بما ذكره. و قد تقدّم منه سابقا جواز بيع الدهن المتنجّس ليعمل صابونا بناء على أنّه من فوائده المحلّلة.

مع أنّ ما ذكره من قبول الصبغ التطهير بعد الجفاف محلّ نظر لأنّ المقصود من قبوله الطهارة قبولها قبل الانتفاع و هو مفقود في الأصباغ لأنّ الانتفاع بها و هو الصبغ قبل الطهارة. و أمّا ما يبقى منها بعد الجفاف و هو اللون فهي نفس المنفعة لا الانتفاع، مع أنّه لا يقبل التطهير و إنّما القابل هو الثوب. (1)

______________________________

مخالف لمختار المحقّق الثاني لا إلى كلام العلّامة هنا و أنّه مخالف لمذهب نفسه.

(1) يعني أنّ مقصود العلّامة من قبول المتنجّس للطهارة قبوله لها قبل الانتفاع به لا قبول المنفعة لها، و اللون

منفعة للصبغ، و الانتفاع مصدر، و المنفعة من قبيل اسم المصدر، مع أنّ المنفعة لا تقبل الطهارة و إنّما القابل لها هو الثوب لأن اللون عرض عند العرف و لذا يحكم بطهارته، و النجاسة و الطهارة من أوصاف الأجسام.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 105

[حكم الانتفاع بالأعيان النجسة]

اشارة

بقي الكلام في حكم نجس العين من حيث أصالة حلّ الانتفاع به في غير ما ثبت حرمته أو أصالة العكس.

فاعلم أنّ ظاهر الأكثر أصالة حرمة الانتفاع بنجس العين. (1)

______________________________

حكم الانتفاع بالأعيان النجسة

(1) مراد المصنّف بأصالة الحرمة المنسوبة إلى الأكثر القاعدة الكلّية المسلّمة عندهم بالأدلّة الشرعيّة لا الأصل العملي مع قطع النظر عنها. إذا الأصل العملي عند المصنّف يقتضي الإباحة كما سيصرّح به فيما بعد.

و المصنّف هنا عكس الترتيب الذي اتخذه في الانتفاع بالمتنجّسات، إذ هناك حكم بكون الأصل الجواز ثمّ بحث في حكومة الآيات و الأخبار و الإجماعات المحكيّة عليه، و أمّا في المقام فعبّر عن مفاد الأدلّة عند الأكثر بالأصل.

ثمّ إنّ الأصل الشرعي و إن اقتضى الحلّ و البراءة و لكنّ الأصل العقلي مع قطع النظر عن الشرع يقتضي عندنا الحظر، إذ العقل يحكم بقبح التصرّف في مال الغير و سلطته، و منه أموال مالك الملوك إلّا أن يرخّص فيه. هذا.

[نقل بعض كلمات الأصحاب في المسألة]

و المناسب هنا نقل بعض كلمات الأصحاب في المسألة:

1- في مكاسب المراسم: «و التصرّف في الميتة و لحم الخنزير و شحمه و الدّم و العذرة و الأبوال ببيع و غيره حرام إلّا بول الإبل خاصّة.» «1»

______________________________

(1) الجوامع الفقهية/ 585 (طبعة أخرى/ 647)؛ و كتاب المكاسب من المراسم/ 170.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 106

..........

______________________________

أقول: يحتمل في كلامه هذا أن يريد بالتصرّف الحرام خصوص التصرّفات الناقلة لا الانتفاعات فلا يرتبط بالمقام.

2- و في النهاية: «و جميع النجاسات محرّم التصرّف فيها و التكسّب بها على اختلاف أجناسها من سائر أنواع العذرة و الأبوال و غيرهما إلّا أبوال الإبل خاصّة فإنه لا بأس بشربه و الاستشفاء به عند الضرورة.» «1»

أقول: في كلامه نحو اغتشاش إذ

موضوع بحثه النجاسات، و بول الإبل ليس منها إلّا أن يراد بالنجاسة معنى أعمّ. و تعرّضه للشرب دليل على أنّ مراده بالتصرّف أعمّ من التصرّفات الناقلة فيشمل مطلق الانتفاعات.

3- و في ذبائح النهاية: «و ما لم يذكّ و مات لم يجز استعمال جلده في شي ء من الأشياء لا قبل الدباغ و لا بعده.» «2»

4- و في المبسوط: «و إن كان نجس العين مثل الكلب و الخنزير و الفأرة و الخمر و الدم و ما توالد منهم و جميع المسوخ و ما توالد من ذلك أو من أحدهما فلا يجوز بيعه و لا إجارته و لا الانتفاع به و لا اقتناؤه بحال إجماعا إلّا الكلب فإنّ فيه خلافا ... و أمّا سرجين ما لا يؤكل لحمه و عذرة الإنسان و خرء الكلاب و الدّم فإنّه لا يجوز بيعه. و يجوز الانتفاع به في الزروع و الكروم و أصول الشجر بلا خلاف.» «3»

أقول: ظاهره نجاسة الفأرة و المسوخ. و ما ذكره أخيرا في العذرة و الخرء و الدّم بمنزلة الاستثناء ممّا ذكره في الصدر. و ظاهره التفكيك فيها بين جواز الانتفاع بالشي ء و جواز بيعه، و قد مرّ منّا المناقشة في ذلك. و هو أيضا التزم في موضع من الخلاف بالملازمة بينهما، قال فيه (المسألة 312 من البيع): «و روى أبو علي بن أبي هريرة في الإفصاح: أنّ النبي صلى اللّه عليه و آله أذن في الاستصباح بالزيت النجس، و هذا

______________________________

(1) النهاية لشيخ الطائفة/ 364، كتاب المكاسب، باب المكاسب المحظورة ...

(2) المصدر السابق/ 586.

(3) المبسوط 2/ 165، كتاب البيوع، فصل في حكم ما يصحّ بيعه و ما لا يصحّ.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 107

..........

______________________________

يدلّ

على جواز بيعه للاستصباح.» «1» و نحوه في الغنية. «2»

اللّهم إلّا أن يقال: إنّ التسميد بالعذرات و نحوها لا يوجب عند العقلاء ماليّة يعوّض عنها بالثمن، و لكنّه ممنوع بالوجدان.

5- و في أطعمة السرائر: «نجس العين و هو الكلب و الخنزير و ما توالد منهما و ما استحال نجسا كالخمر و البول و العذرة و جلد الميتة فكلّ هذا نجس العين لا ينتفع به و لا يجوز بيعه.» «3»

6- و في المستطرفات منه: «الإجماع منعقد على تحريم الميتة و التصرّف فيها بكلّ حال إلّا أكلها للمضطرّ.» «4»

7- و في التذكرة بعد ذكر قوله- تعالى-: فَاجْتَنِبُوهُ و قوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ قال: «و الأعيان لا يصحّ تحريمها، و أقرب مجاز إليها جميع وجوه الانتفاع.» «5»

8- و في الفقه على المذاهب الأربعة عن الحنابلة: «و لا يصحّ بيع دهن نجس العين كدهن الميتة كما لا يصحّ الانتفاع به في أيّ شي ء من الأشياء ...»

و عن الحنفية في بيع الدهن: «ما عدا دهن الميتة فإنّه لا يحل الانتفاع به لأنّه جزء منها و قد حرّمها الشرع فلا تكون مالا.» «6»

إلى غير ذلك من العبارات ممّا يعثر عليها المتتبّع و إن كان بعضها في خصوص الميتة و لعلّ لها خصوصيّة كما يظهر من بعض.

________________________________________

نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في المكاسب المحرمة، 3 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، اول، 1415 ه ق

دراسات في المكاسب المحرمة؛ ج 2، ص: 107

و في قبال ذلك كلّه كلمات يظهر منها جواز الانتفاع حتّى بالميتة و قد مرّ بعضها في مسألة بيع الميتة و يأتي بعضها في مطاوي المتن.

______________________________

(1) الخلاف 3/ 187 (ط. أخرى 2/ 83).

(2) الجوامع الفقهية/ 524 (طبعة أخرى/ 586)، كتاب

البيع من الغنية.

(3) السرائر 3/ 127.

(4) المصدر السابق 3/ 574.

(5) التذكرة 1/ 464، كتاب البيع، شرائط العوضين.

(6) الفقه على المذاهب الأربعة 2/ 231- 232، كتاب البيع.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 108

[الدليل على حرمة الانتفاع]
[الإجماع]

بل ظاهر فخر الدين في شرح الإرشاد و الفاضل المقداد الإجماع على ذلك حيث استدلّا على عدم جواز بيع الأعيان النجسة بأنّها محرّمة الانتفاع، و كلّ ما هو كذلك لا يجوز بيعه. قالا: «أمّا الصغرى فإجماعيّة.» (1)

و يظهر من الحدائق في مسألة الانتفاع بالدهن المتنجّس في غير الاستصباح نسبة ذلك إلى الأصحاب. (2)

______________________________

(1) عبارة الفاضل المقداد في التنقيح الرائع هكذا: «إنّما حرم بيعها لأنّها محرّمة الانتفاع و كلّ محرّمة الانتفاع لا يصحّ بيعه، أمّا الصغرى فإجماعية، و أمّا الكبرى فلقول النبيّ صلى اللّه عليه و آله: «لعن اللّه اليهود حرّمت عليهم الشحوم فباعوها» ...

و لما رواه ابن عباس عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله: «إن اللّه إذا حرم شيئا حرّم ثمنه» «1»

أقول: يظهر من كلامه أنّه أراد بحرمة البيع عدم صحّته وضعا لا التكليف فقط، و قد قلنا سابقا إنّه الظاهر من كلمات القدماء من أصحابنا و من الكتاب و السنّة أيضا في باب المعاملات، فيراد بالحليّة و الجواز فيها الصحّة و بالحرمة و عدم الجواز الفساد، و على ذلك حملنا قوله- تعالى-: أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبٰا.

و يظهر منه أيضا ما كنّا نصرّ عليه من أن النجاسة بنفسها ليست مانعة عن صحّة المعاملة بل يدور ذلك مدار جواز الانتفاع بالشي ء بحيث يصير بذلك مالا مرغوبا فيه عند المتشرعة أو عدم جوازه.

(2) في الحدائق: «المفهوم من كلام الأصحاب تخصيص الانتفاع بالدهن بصورة الاستصباح خاصّة، فلا يتعدّى إلى غيرها بناء على

تحريم الانتفاع بالنجس مطلقا خرج منه ما وردت به أخبار الاستصباح المذكورة فيبقى ما عداه.» «2»

______________________________

(1) التنقيح الرائع 2/ 5، الفصل الأوّل من كتاب التجارة.

(2) الحدائق 18/ 89، المقام الأوّل من المقدّمة الثالثة من كتاب التجارة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 109

[الكتاب]

و يدلّ عليه ظواهر الكتاب و السنة، مثل قوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ بناء على ما ذكره الشيخ و العلّامة من إرادة جميع الانتفاعات (1)، و قوله- تعالى-: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصٰابُ وَ الْأَزْلٰامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطٰانِ فَاجْتَنِبُوهُ. (2) الدالّ على وجوب اجتناب كلّ رجس و هو نجس العين.

______________________________

(1) الآية في أوائل سورة المائدة، و لم أعثر على كلام للشيخ حولها إلّا ما في التبيان في تفسيرها من قوله: «و كلّ ما حرم أكله [حرام خ. ل] ممّا عدّدناه يحرم بيعه و ملكه و التصرّف فيه.» «1» و ظاهره حرمة جميع التصرّفات.

و مرّ عن العلّامة في التذكرة قوله: «و الأعيان لا يصحّ تحريمها و أقرب مجاز إليها جميع وجوه الانتفاع.» «2»

و في متاجر مفتاح الكرامة: «و قد استدل على تحريم الانتفاع بالميتة الطوسي و البيضاوي و الراوندي في أحد وجهيه، و المرتضى في ظاهر الانتصار، و المصنّف في التذكرة و نهاية الإحكام و المنتهى و المختلف، و ولده في شرح الإرشاد و غيرهم بقوله- تعالى-: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ. قالوا لأنّه يستلزم إضافة التحريم إلى جميع المنافع المتعلقة بها لأنّ التحريم لا يتعلّق بالأعيان حقيقة فتعين المجاز و أقرب المجازات تحريم جميع وجوه الاستمتاعات و الانتفاعات. و حكاه في كنز العرفان عن قوم و احتمله المولى الأردبيلي في آيات أحكامه. و قد يرشد إلى ذلك تخصيص اللحم بالذكر في

الخنزير دون الميتة. و قد تجعل الشهرة قرينة على ذلك.» «3»

(2) راجع سورة المائدة «4». و تقريب الاستدلال بها أنّ وجوب الاجتناب في الآية متفرّع على الرجس و قد فسرّ بالنجس و إطلاقه يقتضي الاجتناب عن جميع الانتفاعات.

و بذلك يظهر وجه الاستدلال بآية الرجز بناء على تفسيره بالنجس.

______________________________

(1) التبيان 3/ 429.

(2) التذكرة 1/ 464، كتاب البيع، شرائط العوضين.

(3) مفتاح الكرامة 4/ 19، كتاب المتاجر.

(4) سورة المائدة (5)، الآية 90.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 110

و قوله- تعالى-: وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ بناء على أنّ هجره لا يحصل إلّا بالاجتناب عنه مطلقا. و تعليله في رواية تحف العقول حرمة بيع وجوه النجس بحرمة الأكل و الشرب و الإمساك و جميع التقلّبات فيه. (1)

[السنة]

و يدلّ عليه أيضا كلّ ما دلّ من الأخبار و الإجماع على عدم جواز بيع نجس العين (2)، بناء على أنّ المنع من بيعه لا يكون إلّا مع حرمة الانتفاع به.

هذا.

______________________________

(1) قد ذكر في الرواية في عداد ما يحرم بيعه: الميتة و الدم و لحم الخنزير و الخمر أو شي ء من وجوه النجس ثمّ قال: «لأنّ ذلك كلّه منهي عن أكله و شربه و لبسه و ملكه و إمساكه و التقلّب فيه بوجه من الوجوه لما فيه من الفساد فجميع تقلّبه في ذلك حرام.» «1»

(2) أقول: نحن و إن أنهينا أدلّة منع البيع إلى ثلاثة عشر دليلا لكن مع ضعف بعضها منعنا دلالة الأكثر على ذلك فضلا عن دلالتها على عدم جواز الانتفاع. نعم صرّح في رواية تحف العقول- كما مرّ- بالمنع عن بيع وجوه النجس و علّله بمنع الانتفاعات منها، و لكنّها ضعيفة مضطربة المتن كما مرّ في محلّه. «2»

و صرّح في

بعض الأخبار الماضية بكون ثمن العذرة و الميتة و الكلب و الخمر سحتا، و لكن وقع هذا التعبير بعينه في بعض ما لا يحرم ثمنه قطعا كعمل الحجّام و نحوه أيضا، فيشكل دلالتها على حرمة البيع فضلا عن حرمة الانتفاع، بل لا إشكال في جواز الانتفاع ببعضها كالعذرة للتسميد و الكلب للصيد و الحراسة و جلد الميتة لسقي البساتين و الخمر للتخليل كما مرّ جميع ذلك في محلّها. «3»

______________________________

(1) تحف العقول/ 333.

(2) راجع دراسات في المكاسب المحرّمة 1/ 88 و ما بعدها.

(3) راجع المصدر السابق 1/ 247، 411، 327، و 451.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 111

[الجواب عن أدلة التحريم]
اشارة

و لكنّ التأمّل يقضي بعدم جواز الاعتماد في مقابل أصالة الإباحة على شي ء ممّا ذكر:

[أما الآيات]

أمّا آيات التحريم و الاجتناب و الهجر فلظهورها في الانتفاعات المقصودة في كلّ نجس بحسبه. و هي في مثل الميتة الأكل، و في الخمر الشرب، و في الميسر اللعب به، و في الأنصاب و الأزلام ما يليق بحالهما. (1)

______________________________

(1) ملخّص جواب المصنّف عن الآيات الثلاث ظهورها في المنع عن الانتفاعات الظاهرة المتعارفة في كلّ نجس بحسبه لا عن كلّ منفعة. و ظاهر كلامه تسليم كون الرجس و الرجز بمعنى النجس و جعل الميسر و الأنصاب و الأزلام من مصاديقه. و كأنّه لم يرد بالنجس النجس الفقهي بل مطلق ما يستقذر و لو معنى و يعبّر عنه بالفارسية ب «پليد».

و الأولى التعرّض لكلّ من الآيات الثلاث بنحو أوفى و إن تعرّضنا لها سابقا «1» و لكنّ الحوالة لا تخلو من خسارة فنقول:

أمّا الآية الأولى فالمقصود فيها و في نظائرها تحريم الأكل لا كلّ انتفاع كما يشهد بذلك سياقها. و قد وقع تحريم الميتة في أربع سور:

ففي سورة البقرة ورد قوله- تعالى-: يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبٰاتِ مٰا رَزَقْنٰاكُمْ وَ اشْكُرُوا لِلّٰهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيّٰاهُ تَعْبُدُونَ ثمّ عقّبه بقوله: إِنَّمٰا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ ... «2»

و في سورة النحل ورد قوله: فَكُلُوا مِمّٰا رَزَقَكُمُ اللّٰهُ حَلٰالًا طَيِّباً وَ اشْكُرُوا نِعْمَتَ الهِٰ.. إِنْ كُنْتُمْ إِيّٰاهُ تَعْبُدُونَ ثم عقبه بقوله: إِنَّمٰا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ ... «3».

______________________________

(1) راجع المصدر السابق 1/ 187 و ما بعدها؛ و أيضا ص 64 من هذا الكتاب.

(2) سورة البقرة (2)، الآيتان 172 و 173.

(3) سورة النحل (16)، الآيتان 114

و 115.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 112

..........

______________________________

و الحصر فيهما وقع بلحاظ ما تعارف أكله من المحرّمات فلا ينتقض بمثل الكلب و السباع و نحوها لعدم تعارف أكلها في عصر نزول الآية، و بهذا اللحاظ أيضا ذكر اللحم في الخنزير.

و بالجملة فالحصر فيهما إضافي. نعم لو قيل بكونه حقيقيّا كما هو الظاهر منه لو لا القرينة جاز الاستدلال به لحلّية كلّ ما شكّ في حلّيته من أنواع الحيوان بالشبهة الحكميّة، نظير ما يسمّى في عصرنا: «كنغر» و تعارف استعمال لحمه في بعض البلاد الإسلامية على ما قيل، و قالوا إنّه يتغذى بالنباتات و لا يكون من السّباع. و إنّما استثني الكلب و السباع و المسوخ بالأدلّة، فتدبّر. هذا.

و في الأنعام ورد قوله- تعالى-: قُلْ لٰا أَجِدُ فِي مٰا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلىٰ طٰاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلّٰا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ «1» فذكر فيها خصوص الطعام.

و ورد في الآية الثالثة من المائدة قوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ.

و في الرابعة منها قوله: يَسْئَلُونَكَ مٰا ذٰا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبٰاتُ وَ مٰا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوٰارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمّٰا عَلَّمَكُمُ اللّٰهُ فَكُلُوا مِمّٰا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ ....

و في الخامسة منها قوله: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبٰاتُ وَ طَعٰامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتٰابَ حِلٌّ لَكُمْ وَ طَعٰامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ.

و استثنى في السّور الأربع المضطر إليها، و قيّده في المائدة بالمخمصة أي المجاعة.

فجميع ذلك قرينة على إرادة خصوص الأكل من التحريم الواقع في الآيات و لا أقلّ من الاحتمال فيبطل الاستدلال بها لحرمة جميع الانتفاعات مع وجود القرينة المتّصلة.

و قد شاع في تلك الأعصار أكل الميتات و الدم و لحم الخنزير، فأراد اللّه-

تعالى- الزجر عنها. و حصر الحلال في المذكّى.

______________________________

(1) سورة الأنعام (6)، الآية 145.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 113

..........

______________________________

و يشهد لما ذكرنا من الاختصاص بالأكل ما ورد من الأخبار في تعليل تحريم الأشياء المذكورة في الآيات، فراجع الباب الأوّل من أبواب الأطعمة المحرّمة من الوسائل. «1»

منها: رواية المفضل بن عمر، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: أخبرني- جعلني اللّه فداك- لم حرّم اللّه الخمر و الميتة و الدّم و لحم الخنزير؟ قال: «إنّ اللّه- تبارك و تعالى- لم يحرّم ذلك على عباده و أحلّ لهم ما سواه من رغبة منه فيما حرّم عليهم و لا زهد فيما أحلّ لهم، و لكنّه خلق الخلق فعلم ما تقوّم به أبدانهم و ما يصلحهم فأحلّه لهم و أباحه تفضّلا منه عليهم به لمصلحتهم، و علم ما يضرّهم فنهاهم عنه و حرّم عليهم، ثمّ أباحه للمضطرّ و أحلّه له في الوقت الذي لا يقوم بدنه إلّا به فأمره أن ينال منه بقدر البلغة لا غير ذلك.» ثم قال: «أمّا الميتة فإنّه لا يدمنها أحد إلّا ضعف بدنه و نحل جسمه و ذهبت قوّته و انقطع نسله و لا يموت آكل الميتة إلّا فجأة ...» «2»

و على هذا فحمل التحريم المتعلّق بالأعيان في الآيات على تحريم جميع الانتفاعات في غاية البعد و إن ورد احتماله في كلمات الأعلام.

و أمّا الآية الثانية فأجاب عنها المصنّف سابقا أوّلا: بأن الرجس فيها لا يراد به النجس الفقهيّ و لذا حمل على الميسر و نحوه من المذكورات في الآية.

و ثانيا: بأنّ وجوب الاجتناب لم يتفرّع على الرجس فقط بل على ما كان منه من عمل الشيطان و من مبتدعاته و منها الخمر

التي يصنعها الفسّاق بإلقائه فلا يشمل الحكم كلّ نجس.

و أجاب عنها هنا بأنّ مناسبة الحكم و الموضوع يقضي بكون اجتناب كلّ شي ء بحسبه فينصرف الاجتناب عن المأكولات إلى ترك أكلها، و عن المشروبات إلى ترك شربها، و عن المنكوحات إلى ترك نكاحها، و هكذا.

______________________________

(1) راجع الوسائل 16/ 309 (ط. أخرى 16/ 376).

(2) نفس المصدر و الصفحة، الحديث 1.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 114

..........

______________________________

و أمّا آية الرجز فيجاب عنها أوّلا: بأنّ الرجز ليس بمعنى النجس الفقهي و لم يفسّروه بذلك بل بالعذاب و الأصنام و المعاصي و نحو ذلك كما مرّ تفصيل ذلك في مسألة الانتفاع بالمتنجّس.

و ثانيا: بأنّ الهجر المتفرّع عليه نظير الاجتناب فيكون هجر كلّ شي ء بحسبه و يراد آثاره الظاهرة المنصرف إليها إطلاقه.

و كيف كان فلا عموم في الآيات الثلاث بحيث تشمل جميع الانتفاعات و لا أقل من الشكّ مع القرينة على الخصوص، فتدبّر.

هذا و قد مرّ عن المصنّف في مسألة الانتفاع بالمتنجّسات الاستدلال بآية الخبائث أيضا ثم أجاب عنها بأن المراد منها حرمة الأكل بقرينة مقابلتها بحليّة الطيّبات.

أقول: إذا فرض الاستدلال بها في المتنجّسات فالاستدلال بها في النجاسات أولى و أنسب، فكان عليه التعرّض لها هنا أيضا، بتقريب أن الجمع المحلّى باللام يفيد العموم، و الألفاظ و إن كانت تنصرف إلى المفاهيم و المصاديق العرفيّة لكن بعد حكم الشارع بنجاسة شي ء و قذارته يصير هذا الشي ء عند المتشرعة مصداقا للخبيث أيضا، فيشمله الآية الشريفة و ظاهر التحريم المسند إلى العين تحريم جميع منافعها.

فإن قلت: الاستدلال بها مبنيّ على أن يكون المراد بالخبائث فيها الأعيان لا الأعمال و هو غير واضح، و قد شاع استعمال الخبائث و إرادة الأعمال القبيحة كما

في قوله- تعالى- حكاية عن لوط و قومه: وَ نَجَّيْنٰاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كٰانَتْ تَعْمَلُ الْخَبٰائِثَ «1» بل يمكن أن يقال: إنّ إسناد التحريم إلى الأعيان تستلزم الحذف و التقدير بخلاف الإسناد إلى الأعمال حيث إنّ المتعلّق للأحكام الخمسة هي أفعال المكلّفين.

______________________________

(1) سورة الأنبياء (21)، الآية 74.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 115

[أمّا الروايات]

و أمّا رواية تحف العقول فالمراد بالإمساك و التقلّب فيه ما يرجع إلى الأكل و الشرب و إلّا فسيجي ء الاتفاق على جواز إمساك نجس العين لبعض الفوائد. (1) و ما دلّ من الإجماع و الأخبار على حرمة بيع نجس

______________________________

قلت: قد مرّ منّا في مسألة الانتفاع بالمتنجّسات أنّ استعمال الخبيث و الطيب في الأعيان أيضا شائع في الكتاب و السنّة، و يظهر ذلك من الراغب أيضا، و حيث إنّ الجمع المحلّى باللام يحمل على العموم فيراد بالخبيث كلّ ما يكون رديئا عند العرف قبيحا في طباعهم و لو بلحاظ تعبّدهم بالشرع سواء كان من الأعيان القذرة أو من الأعمال الفظيعة و يعبّر عنه بالفارسية ب «پليد» و في قباله الطيّب بإطلاقه، و ليس من قبيل استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد كما لا يخفي.

و حمل التحريم أو الإحلال في الآية على خصوص الأكل كما ذكره المصنّف ممّا لا وجه له بعد عدم القرينة لذلك هنا و إن صحّ حمل الطيّب في سورة المائدة على خصوص ما يؤكل بقرينة السياق و المقام. هذا.

و لكن يمكن أن يقال- كما مرّ «1»-: إنّ التحريم في الآية بمناسبة الحكم و الموضوع ينصرف إلى المصارف التي يناسبها الطيب و النظافة عرفا أو شرعا كالأكل و الشرب و الصلاة و نحوها فلا تدلّ على حرمة مثل إطعام

الطيور و سقي الأشجار و التسميد و نحوها.

(1) قد مرّ في الرواية بعينها قوله: «من كلّ شي ء يكون لهم فيه الصلاح من جهة من الجهات فهذا كلّه حلال بيعه و شراؤه و إمساكه و استعماله و هبته و عاريته.»

و علّل النهي عن بيع وجوه النجس و إمساكها و التقلّب فيها بقوله: «لما فيه من الفساد»، «2» و أيّ فساد يتصوّر في مثل سدّ الساقية أو الاستقاء للأشجار بالميتة مثلا؟

______________________________

(1) راجع دراسات في المكاسب المحرّمة 1/ 274 و 225؛ و راجع أيضا 71 من هذا الكتاب.

(2) تحف العقول/ 333.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 116

العين قد يدّعى اختصاصه بغير ما يحلّ الانتفاع المعتدّ به أو يمنع استلزامه لحرمة الانتفاع، بناء على أنّ نجاسة العين مانع مستقلّ عن جواز البيع من غير حاجة إلى إرجاعها إلى عدم المنفعة المحلّلة. (1)

[أمّا الإجماع]

و أمّا توهّم الإجماع فمدفوع بظهور كلمات كثير منهم في جواز الانتفاع في الجملة:

قال في المبسوط: «إنّ سرجين ما لا يؤكل لحمه و عذرة الإنسان و خرء الكلاب لا يجوز بيعها و يجوز الانتفاع بها في الزروع و الكروم و أصول الشجر بلا خلاف.» انتهى. (2)

______________________________

(1) يعني أنّ أدلّة حرمة البيع إمّا أن تحمل على صورة عدم وجود المنفعة المحلّلة أو يمنع استلزام حرمة البيع لحرمة الانتفاع.

أقول: قد مرّ منّا «1» بالتفصيل حمل أدلّة منع البيع على صورة عدم الماليّة شرعا لعدم وجود المنفعة المحلّلة العقلائيّة للشي ء و منعنا كون النجاسة بنفسها مانعا مستقلا و قلنا إنّ الفرق بين النوع الأوّل ممّا يحرم بيعه و النوع الثالث الآتي أنّ المنع في النوع الثالث مستند إلى عدم وجود المنفعة أصلا، و في النوع الأوّل إلى عدم

المنفعة بلحاظ الشرع. و إن شئت قلت: إنّ النوع الأوّل في الحقيقة قسم من النوع الثالث بعد لحاظ الشرع، فتدبّر.

(2) راجع المبسوط و قد مرّ عبارته في ذيل ما حكيناه عنه في أوائل البحث. «2»

______________________________

(1) راجع دراسات في المكاسب المحرّمة 1/ 176 و ما بعدها.

(2) المبسوط 2/ 165؛ و راجع ص 106 من هذا الكتاب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 117

و قال العلّامة في التذكرة: «يجوز اقتناء الأعيان النجسة لفائدة.»

و نحوها في القواعد.

و قرّره في جامع المقاصد و زاد عليه قوله: «لكن هذه لا تصيّرها مالا بحيث يقابل بالمال.» (1)

و قال في باب الأطعمة و الأشربة من المختلف: «إنّ شعر الخنزير يجوز استعماله مطلقا.» مستدلا بأنّ نجاسته لا يمنع الانتفاع به لما فيه من المنفعة الخالية عن ضرر عاجل و آجل. (2)

______________________________

(1) عبارة التذكرة هكذا: «و يحرم اقتناء الأعيان النجسة إلّا لفائدة كالكلب و السرجين لتربية الزرع و الخمر للتخليل.» «1»

و مثلها عبارة القواعد: و ذيّلها في جامع المقاصد بقوله: «أمّا البيع فلا يجوز على كلّ حال كما سبق لأنّ الفائدة الموجودة في شي ء منها لا تصيّرها مالا يقابل بالمال.» «2»

أقول: إطلاق كلامه ممنوع و لا سيّما في أعصارنا، بل قلّما يوجد للشي ء فائدة عقلائيّة محلّلة و لا يبذل بإزائه المال.

ثمّ إنّ ما ذكره العلامة من حرمة الاقتناء لم يظهر دليلها و لا وجهها إذ ليس كلّ لغو محرّما شرعيّا، فتدبّر. اللّهم إلّا أن يريد اقتناءها بقصد الانتفاعات المحرّمة.

(2) راجع المختلف، قال في مسألة استعمال شعر الخنزير بعد نقل كلمات الأصحاب فيها: «و المعتمد جواز استعماله مطلقا، و نجاسته لا تعارض الانتفاع به لما فيه من المنفعة العاجلة الخالية من ضرر عاجل أو آجل

فيكون سائغا عملا بالأصل السالم عن معارضة دليل عقليّ أو نقليّ في ذلك.» «3»

______________________________

(1) التذكرة 1/ 852، كتاب البيع، في بيان ما هو حرام من التجارة.

(2) جامع المقاصد 4/ 15، كتاب المتاجر.

(3) المختلف/ 684، كتاب الصيد و توابعه، الفصل الرابع.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 118

و قال الشهيد في قواعده: «النجاسة ما حرم استعماله في الصلاة و الأغذية للاستقذار أو للتوصّل بها إلى الفرار.» (1)

ثمّ ذكر: «إنّ قيد الأغذية لبيان مورد الحكم، و فيه تنبيه على الأشربة، كما أنّ في الصلاة تنبيها على الطواف.» انتهى.

و هو كالنصّ في جواز الانتفاع بالنجس في غير هذه الأمور.

و قال الشهيد الثاني في الروضة عند قول المصنّف في عداد ما لا يجوز بيعه من النجاسات: «و الدم» قال: و إن فرض له نفع حكمي كالصبغ، «و أبوال و أرواث ما لا يؤكل لحمه»، و إن فرض لهما نفع.

فإنّ الظاهر أنّ المراد بالنفع المفروض للدم و الأبوال و الأرواث هو النفع المحلّل و إلّا لم يحسن ذكر هذا القيد في خصوص هذه الأشياء دون سائر النجاسات، و لا ذكر خصوص الصبغ للدم مع أنّ الأكل هي المنفعة المتعارفة المنصرف إليها الإطلاق في قوله- تعالى-: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ و المسوق لها الكلام في قوله- تعالى-: أَوْ دَماً مَسْفُوحاً.

______________________________

أقول: قد مرّ البحث في ذلك في المسألة السادسة من بيع النجاسات و مرّ هناك ذكر أخبار مستفيضة دالّة على الجواز مطلقا، و لكنّ الأصحاب حكموا باختصاص ذلك بصورة الاضطرار، و لا وجه لذلك إلّا أن لا يريدوا به الاضطرار المصطلح عليه الرافع لكلّ حرمة شرعيّة بقدر الضرورة، بل الاضطرار العرفيّ أعني توقّف شغله المنتخب على ذلك و إن لم يضطرّ إلى انتخابه،

و قد ورد في خبر برد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قوله: «لا يستقيم عملنا إلّا بشعر الخنزير.» فراجع ما حررناه في المسألة. «1»

(1) راجع قواعد الشهيد، القاعدة 175. «2»

______________________________

(1) دراسات في المكاسب المحرّمة 1/ 431.

(2) القواعد و الفوائد 2/ 85.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 119

و ما ذكرنا هو ظاهر المحقّق الثاني حيث حكى عن الشهيد أنّه حكى عن العلّامة جواز الاستصباح بدهن الميتة. ثم قال: «و هو بعيد لعموم النهي عن الانتفاع بالميتة.»

فإنّ عدوله عن التعليل بعموم المنع عن الانتفاع بالنجس إلى ذكر خصوص الميتة يدلّ على عدم العموم في النجس. (1)

______________________________

(1) أقول: و قد مرّ في مبحث بيع الميتة كلمات من الأصحاب يظهر منها جواز الانتفاع بالميتة إجمالا و أخبار دالّة على ذلك أيضا، و إذا فرض جواز الانتفاع بالميتة جاز الانتفاع بغيرها من النجاسات بطريق أولى إذ لا قائل بالجواز في الميتة و المنع في غيرها، فراجع ما حكيناه من كلماتهم و من الأخبار في تلك المسألة «1» فلا نعيد.

و قد تحصّل ممّا ذكر إلى هنا أنّ الأصل الأوّلي يقتضي جواز الانتفاع بالنجاسات في غير ما حرّمه الشرع بالخصوص كالأكل و الشرب و نحوهما. و لم نجد في الآيات المذكورة و لا الروايات ما يصح الاستدلال به على خلاف ذلك.

و أمّا الإجماع فتقريره بوجهين: الأوّل: أن يدّعى الإجماع على عدم جواز بيعها بضميمة دعوى الملازمة بينه و بين عدم جواز الانتفاع. الثاني: أن يدّعى الإجماع على نفس عدم جواز الانتفاع.

و يرد على الأوّل: منع الإجماع المفيد على عدم جواز البيع و احتمال كونه مدركيّا كما مرّ في محلّه. «2»

و لو سلّم فالملازمة المشار إليها ممنوعة عند بعض الأصحاب كما

مرّ عن المسالك و إن كنا نحن نصرّ عليها.

و يرد على الثاني: كون دعواه موهونا بمخالفة كثير من الأصحاب لقولهم بجواز الانتفاع إمّا مطلقا أو في خصوص الميتة كما يظهر من كلماتهم في باب الأطعمة

______________________________

(1) دراسات في المكاسب المحرّمة 1/ 311.

(2) راجع دراسات في المكاسب المحرّمة 1/ 313 و 186.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 120

و كيف كان فلا يبقى بملاحظة ما ذكرنا وثوق بنقل الإجماع المتقدّم عن شرح الإرشاد و التنقيح الجابر لرواية تحف العقول الناهية عن جميع التقلّب في النجس.

[احتمال أن يراد من إمساكه إمساكه للوجه المحرّم]

مع احتمال أن يراد من جميع التقلّب جميع أنواع التعاطي لا الاستعمالات. (1) و يراد من إمساكه إمساكه للوجه المحرّم. (2) و لعلّه للإحاطة بما ذكرنا اختار بعض الأساطين في شرحه على القواعد جواز الانتفاع بالنجس كالمتنجّس لكن مع تفصيل لا يرجع إلى مخالفة في محلّ الكلام فقال: «و يجوز الانتفاع بالأعيان النجسة و المتنجّسة في غير ما ورد النصّ بمنعه كالميتة النجسة التي لا يجوز الانتفاع بها فيما يسمّى استعمالا عرفا للأخبار و الإجماع. و كذا الاستصباح بالدهن المتنجّس تحت الظلال. و ما دلّ على المنع عن الانتفاع بالنجس و المتنجّس مخصوص أو منزّل على الانتفاع الدالّ على عدم الاكتراث بالدين و عدم المبالاة. و أمّا من استعمله ليغسله فغير مشمول للأدلّة و يبقى على حكم الأصل.» انتهى.

______________________________

و الأشربة. و كأنّهم نسوا في هذا الباب ما ذكروه في باب المكاسب من منع جميع التصرّفات فيها. و إذا فرض الجواز في الميتة ثبت في غيرها بطريق أولى إذ لم يعهد من يقول بالجواز فيها و المنع في غيرها.

(1) و يأتي هذا الاحتمال في كلمة التصرّف المنهي عنه في كلماتهم في المكاسب

أيضا فيراد به خصوص التصرّفات الناقلة. و مراد المصنّف بالتعاطي أنواع المعاملات الواقعة عليها من البيع و الصلح و الإجارة و الهبة و نحوها، لا أنواع التناول المفسّر بها في كلام بعض المعاصرين.

(2) إذ لا وجه و لا ملاك لحرمة إمساك الشي ء بنفسه من دون أن يترتّب عليه الاستعمال المحرّم و لو في المآل كما مرّ.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 121

و التقييد بما يسمّى استعمالا في كلامه «ره» لعلّه لإخراج مثل الإيقاد بالميتة و سدّ ساقية الماء بها و إطعامها لجوارح الطير. و مراده سلب الاستعمال المضاف إلى الميتة عن هذه الأمور، لأنّ استعمال كلّ شي ء إعماله في العمل المقصود منه عرفا، فإنّ إيقاد الباب و السرير لا يسمّى استعمالا لهما.

لكن يشكل بأنّ المنهي عنه في النصوص الانتفاع بالميتة الشامل لغير الاستعمال المعهود المتعارف في الشي ء، و لذا قيّد هو- قدّس سرّه- الانتفاع بما يسمّى استعمالا. (1)

______________________________

(1) يعني أنّه لما كان الانتفاع أعمّ من الاستعمال قيّد بعض الأساطين الانتفاع المنهي عنه بما يسمّى استعمالا، لئلّا يشمل النهي لمثل التسميد و الإيقاد و نحوهما.

و لكن يشكل بأنه لا وجه لهذا التقييد بعد كون المنهيّ عنه في النصوص مطلق الانتفاع. نعم يمكن منع صدق الانتفاع أيضا على هذا القبيل من الاستعمالات إذ منفعة الشي ء عبارة عمّا يترقّب منه عادة و يكون عرفا غرضا من تحصيله و تملّكه.

فمنفعة الميتة مثلا عند العرف أكلها لا سدّ السّاقية بها.

فإن قلت: الانتفاع في الأخبار مطلق وقع في حيز النفي، و مقتضاه العموم إذ انتفاء الطبيعة بانتفاء جميع أفرادها.

قلت: ليس الاختصاص هنا من جهة دعوى انصراف المطلق إلى بعض الأفراد حتى يرد عليه منع الانصراف بعد وقوعه في حيز النفي،

بل من جهة التسامح و الادعاء العرفي تنزيلا للموجود منزلة المعدوم، فلا يعدّ مثل سدّ الساقية بالميتة منفعة لها، لا أنّها منفعة عندهم و لكن انصرف عنه نهي الشارع.

أقول: بعد اللتيا و التي لم يظهر لي مراد المصنّف، إذ مجرد التسامح العرفي لا يوجب حمل المطلق على بعض أفراده إلّا إذا صار الفهم العرفي بمنزلة قرينة متّصلة على إرادة هذا البعض و هو المراد بالانصراف أيضا و إلّا لم يكن وجه لحمل المطلق على بعض أفراده. و لا فرق في ذلك بين النفي و الإثبات، إذ النفي يتوجه إلى ما يراد من مدخوله و ينصرف إليه إطلاقه.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 122

نعم يمكن أن يقال: إنّ مثل هذه الاستعمالات لا تعدّ انتفاعا تنزيلا لها منزلة المعدوم. و لذا يقال للشي ء: إنّه ممّا لا ينتفع به مع قابليته للأمور المذكورة. فالمنهي عنه هو الانتفاع بالميتة بالمنافع المقصودة التي تعدّ عرفا غرضا من تملك الميتة لو لا كونها ميتة و إن كانت قد تملك لخصوص هذه الأمور كما قد يشترى اللحم لإطعام الطيور و السباع لكنها أغراض شخصية كما قد يشترى الجلّاب لإطفاء النار و الباب للإيقاد و التسخين به.

قال العلّامة في النهاية- في بيان أنّ الانتفاع ببول غير المأكول في الشرب للدواء منفعة جزئية لا يعتدّ بها- قال: «إذ كلّ شي ء من المحرمات لا يخلو عن منفعة كالخمر للتخليل و العذرة للتسميد و الميتة لأكل جوارح الطير، و لم يعتبرها الشارع.» انتهى. (1)

ثمّ إنّ الانتفاع المنفي في الميتة و إن كان مطلقا في حيّز النفي إلّا أنّ اختصاصه بما ادّعيناه من الأغراض المقصودة من الشي ء دون الفوائد المترتبة عليه من دون أن تعدّ مقاصد،

ليس من جهة انصرافه إلى المقاصد

______________________________

نعم يمكن القول بانصراف الانتفاع المنهي عنه إلى الانتفاعات المقصودة العقلائيّة الثابتة لو لا النجاسة، و بذلك يجمع بين الأخبار الناهية عن الانتفاع بالميتة و الأخبار الدالّة على جواز بعض الانتفاعات، فراجع المكاسب منا. «1»

(1) راجع بيع النهاية، مسألة بيع العذرة. «2»

______________________________

(1) دراسات في المكاسب المحرّمة 1/ 327 و ما بعدها.

(2) نهاية الإحكام للعلّامة 2/ 463، كتاب البيع.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 123

حتى يمنع انصراف المطلق في حيّز النفي، بل من جهة التسامح و الادّعاء العرفي، تنزيلا للموجود منزلة المعدوم، فإنّه يقال للميتة مع وجود تلك الفوائد فيها: إنّها ممّا لا ينتفع به.

و ممّا ذكرنا ظهر الحال في البول و العذرة و المني، فإنّها ممّا لا ينتفع بها و إن استفيد منها بعض الفوائد كالتسميد (1) و الإحراق كما هو سيرة بعض الجصّاصين من العرب، كما يدلّ عليه وقوع السؤال في بعض الروايات عن الجصّ يوقد عليه العذرة و عظام الموتى و يجصّص به المسجد، فقال الإمام عليه السّلام: «إنّ الماء و النار قد طهّراه.» (2)

______________________________

(1) في المجمع: «السّماد كسلام: ما يصلح به الزراع من تراب و سرجين.

و تسميد الأرض هو أن يجعل فيها السماد.» «1»

أقول: التسميد و إن كان من المنافع النادرة للميتة لكنّه من المنافع الشائعة المقصودة للعذرة و كان التسميد بها شائعا في جميع الأعصار على ما يشهد به الأخبار، و ليس الانتفاع منحصرا في الأكل و الشرب و أمثالهما، و قد مرّ عن قرب الإسناد عن عليّ عليه السّلام: «أنّه كان لا يرى بأسا أن يطرح في المزارع العذرة.» «2» و مرّ في خبر المفضل عن الصادق عليه السّلام: «موقعها من الزروع و البقول

و الخضر أجمع الموقع الذي لا يعدله شي ء ... فلو فطنوا طالبو الكيميا لما في العذرة لاشتروها بأنفس الأثمان و غالوا بها.» «3»

(2) راجع الوسائل «4» و السند صحيح و إنّما الإشكال في متن الحديث فإنّ الماء القليل الذي يختلط بالجصّ المتنجس لا يطهّره إلّا أن يحيط بجميع أجزائه المتنجّسة

______________________________

(1) مجمع البحرين 3/ 70 (ط. أخرى/ 201).

(2) الوسائل 16/ 358 (طبعة أخرى 16/ 435)، الباب 29 من أبواب الأطعمة المحرّمة.

(3) بحار الأنوار 3/ 136، كتاب التوحيد.

(4) الوسائل 2/ 1099، الباب 81 من أبواب النجاسات، الحديث 1.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 124

..........

______________________________

بإطلاقه و ينفصل عنه الغسالة، و خلط الماء بالجصّ ليس كذلك. و النار لا تطهر الشي ء إلّا أن يتحقّق بها الاستحالة و تبدّل الصورة النوعيّة، و الجصّ غير المطبوخ لا يستحيل بطبخه إلى نوع آخر، اللّهم إلّا أن يقال: إنّ الجصّ بنفسه لا يتنجّس بإيقاد العذرة اليابسة و العظام عليه و إنّما الشبهة من جهة اختلاطه برمادهما فأراد الإمام عليه السّلام بيان طهارة الرماد. هذا.

و في الوسائل: «تطهير النار للنجاسة بإحالتها رمادا أو دخانا، و تطهير الماء أعني ما يحيل به الجصّ يراد به حصول النظافة و زوال النفرة.» «1»

و في طهارة الوافي: «لعلّ المراد بالماء الماء الممزوج بالجصّ فيكون من قبيل رشّ الماء على المظنون النجاسة. أو بالماء ماء المطر الذي يصيب أرض المسجد المجصّص بذلك الجصّ، و كأنّه كان بلا سقف فإنّ السنّة فيه ذلك.

و المراد بالنار ما يحصل من الوقود التي يستحيل بها أجزاء العذرة و العظام المختلطة بالجصّ رمادا فإنّها تطهر بالاستحالة. و الغرض أنّه قد ورد على ذلك الجصّ أمران مطهران هما النار و الماء فلم يبق

ريب في طهارته، فلا يرد السؤال بأنّ النار إذا طهرته أوّلا فكيف يحكم بتطهير الماء له ثانيا، إذ لا يلزم من ورود المطهّر الثاني تأثيره في التطهير.» «2»

و في مصباح الفقاهة: «يمكن أن يراد من الماء ماء المطر الذي يصيب الموضع المجصّص بذلك الجصّ المتنجّس لكون المسجد مكشوفا و بلا سقف كما احتمله القاساني، و أن يراد من النار الشمس فإن الشمس إذا جفّفت شيئا طهّرته.» «3»

أقول: حمل النار على الشمس في غاية البعد. و بالجملة الرواية لا تخلو من إجمال فالواجب ردّ علمها إلى أهلها.

______________________________

(1) الوسائل 2/ 1100.

(2) الوافي 1/ 36 (الجزء الرابع من المجلد الأوّل).

(3) مصباح الفقاهة 1/ 141.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 125

بل في الرواية إشعار بالتقرير فتفطّن. (1)

و أمّا ما ذكره من تنزيل ما دلّ على المنع عن الانتفاع بالنجس على ما يؤذن بعدم الاكتراث بالدين و عدم المبالاة لا من استعمله ليغسله فهو تنزيل بعيد.

نعم يمكن أن ينزّل على الانتفاع به على وجه الانتفاع بالطاهر بأن يستعمله على وجه يوجب تلويث بدنه و ثيابه و سائر آلات الانتفاع كالصبغ بالدّم و إن بنى على غسل الجميع عند الحاجة إلى ما يشترط فيه الطهارة. (2) و في بعض الروايات إشارة إلى ذلك:

ففي الكافي بسنده عن الوشّاء قال: قلت لأبي الحسن عليه السّلام: جعلت فداك إنّ أهل الجبل تثقل عندهم أليات الغنم فيقطعونها؟ فقال: «حرام، هي ميتة.» فقلت: جعلت فداك فيستصبح بها؟ فقال: «أما علمت أنّه

______________________________

(1) و تقرير المعصوم حجّة كقوله و فعله، و إجمال مفاد الرواية لا يضرّ بحجيّتها بالنسبة إلى أصل جواز الانتفاع بالنجس و يستفاد منها أيضا حكمان آخران:

الأوّل: اعتبار الطهارة فيما يسجد عليه. الثاني: جواز السجود

على الجصّ و لو كان مطبوخا، فتدبّر.

(2) أقول: ما ذكره بعض الأساطين أقرب إلى الاعتبار و المأنوس في أذهان المتشرّعة ممّا ذكره المصنّف، إذ على فرض بناء الشخص على غسل بدنه و لباسه عند الحاجة إلى ما يشترط فيه الطهارة لا يبقى وجه لحرمة تلويثهما.

و أمّا تلويثهما مع عدم الاكتراث بالدين و عدم المبالاة بالطهارة و النجاسة فهو ممّا يعافه الشارع و المتشرع فيناسب حمل أخبار المنع عليه.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 126

يصيب اليد و الثوب و هو حرام.» (1) بحملها على حرمة الاستعمال على وجه يوجب تلويث البدن و الثياب. و أمّا حمل الحرام على النجس- كما في كلام بعض- فلا شاهد عليه. و الرواية في نجس العين فلا ينتقض بجواز الاستصباح بالدهن المتنجّس لاحتمال كون مزاولة نجس العين مبغوضة للشارع كما يشير إليه قوله- تعالى-: وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ (2)

______________________________

(1) كذا في الوسائل و الكافي، «1» و ليس فيهما كلمة: «ميتة» و فيهما:

«فنصطبح بها». و قد مرّ منّا سابقا أنّ الرواية مشتملة على سؤالين مترتّبين:

فالسؤال الأوّل ناظر إلى أنّ الألية المقطوعة هل تكون بحكم المذكّى أو الميتة؟

و جواب الإمام عليه السّلام ناظر إلى كونها بحكم الميتة التي ثبتت حرمتها بالكتاب و نجاستها بالسنّة، و هما حكمان متلازمان عند المتشرعة في ميتة ما له نفس، و إنّما ذكرت الحرمة إشارة إلى ما في الكتاب.

و السؤال الثاني وقع عن حكم الاصطباح بها بعد ما ثبت كونها بحكم الميتة.

و الإمام عليه السّلام لم ينه عن ذلك و إنّما أرشده إلى أنّ هذا يوجب التلوّث غالبا فيكون ضرّه أكثر من نفعه، فهو حكم إرشاديّ محض و ليس حكما شرعيّا تحريميّا.

و الواو في قوله: «و هو حرام»

للحال، و الضمير يعود إلى الجزء المقطوع و يراد بالحرمة نجاستها أو حرمة الصلاة فيها.

و قد مرّ منّا أنّ لفظي الحرمة و الحليّة في لسان الكتاب و السنة يستعملان كثيرا في الوضع أيضا فيصحّ إطلاق لفظ الحرمة و إرادة النجاسة، فتدبّر.

(2) قد مرّ أنّ المفسّرين فسّروا الرجز بمعان عديدة و لم يفسّروه بالنجس، فراجع «2».

و جواز الاستصباح بالدهن النجس أيضا ورد في بعض الأخبار كخبر البزنطي عن

______________________________

(1) راجع الوسائل 16/ 295 (طبعة أخرى 16/ 359)، الباب 30 من أبواب الذبائح، الحديث 2؛ و الكافي 6/ 255، كتاب الأطعمة.

(2) راجع 1/ 188 من الكتاب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 127

[المنفعة المحلّلة للنجس تجعله مالا عرفا]

ثمّ إنّ منفعة النجس المحلّلة للأصل أو للنصّ قد تجعله مالا عرفا (1) إلّا أنّه منع الشرع عن بيعه كجلد الميتة إذا قلنا بجواز الاستقاء به لغير الوضوء،

______________________________

الرضا عليه السّلام قال: سألته عن الرجل يكون له الغنم يقطع من ألياتها و هي أحياء أ يصلح أن ينتفع بما قطع؟ قال: «نعم يذيبها و يسرج بها و لا يأكلها و لا يبيعها.» «1»

(1) في حاشية المحقّق الإيرواني: «اعلم أنّ المالية لا تدور مدار المنفعة فإنّ الجواهر النفيسة و منها النقود أموال و لا فائدة فيها، و إن فرض في بعضها فائدة فلا تقصد بما أنّه فيه تلك الفائدة، و في الماء على الشط أهمّ المنافع و لا يعدّ مالا، و التراب ينتفع به أهمّ الانتفاع من اصطناع آجر أو خزف أو إناء و ليس بمال.» «2»

أقول: ما ذكره كلام عجيب إذ مالية الشي ء عبارة عن كونه مرغوبا فيه بحيث يبذل بإزائه المال على فرض الاحتياج و لو شخصا و عدم الوجدان له بدون ذلك، و

يعبّر عنه بالفارسية ب «أرزش». و الرغبة في الأشياء لا تتحقّق إلّا بلحاظ ما يتصوّر لها من المنافع و الفوائد. نعم يختلف الفوائد و الرغبات بحسب الأذواق و الحاجات و الشرائط و الأزمنة و الأمكنة. و قد يعتبر العرف بعض الفوائد و يرغّب فيها و لكن الشرع حرّمها فيكون الشي ء مالا عند العرف دون الشرع كالخمر مثلا.

و بالجملة فماليّة الشي ء تدور مدار منافعه الملحوظة. و لكن منفعة كلّ شي ء بحسبه فمنفعة الخبز أكله، و منفعة اللباس لبسه، و منفعة الجواهر الثمينة التزيّن بها أو تركيز الثروة و الأموال فيها، و منفعة النقود جعلها وسائط لمبادلة الأمتعة و هكذا. و ليست المنفعة منحصرة في الأكل و الشرب و نحوهما. و أمّا عدم الماليّة في الماء على الشطّ و التراب في البرّ فلكثرتهما و كون الناس فيهما شرعا سواء.

و أمّا إذا فرض صيرورتهما انحصاريين لبعض الأشخاص فلا محالة يصيران مالين و تقع عليهما المعاملات قهرا.

______________________________

(1) الوسائل 16/ 296، نفس المصدر و الباب، الحديث 4.

(2) حاشية المكاسب للمحقّق الإيرواني/ 12.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 128

كما هو مذهب جماعة مع القول بعدم جواز بيعه لظاهر الإجماعات المحكيّة، و شعر الخنزير إذا جوّزنا استعماله اختيارا، و الكلاب الثلاثة إذا منعنا عن بيعها.

[حكم بيع الأعيان النجسة]

فمثل هذه الأموال لا تجوز المعاوضة عليها، و لا يبعد جواز هبتها لعدم المانع مع وجود المقتضي، فتأمّل. (1)

______________________________

حكم بيع الأعيان النجسة

(1) أقول: كلام المصنّف هنا مبنيّ على القول بالتفكيك بين مسألتي البيع و الانتفاع و أنّ بعض الأعيان النجسة مع جواز الانتفاع بها و صيرورتها بذلك أموالا عرفيّة لا يجوز المعاوضة عليها تعبّدا ناسبا ذلك إلى جماعة من الأصحاب.

و لكن مرّ منه- قدّس سرّه- في

مبحث بيع الميتة «1» تقريب الملازمة بين الحكمين أعني جواز الانتفاع و جواز البيع و استفادة ذلك من كلمات الأصحاب.

و نحن أيضا كنّا مصرّين على هذه الملازمة و أنّه بعد ما جاز الانتفاع بالشي ء و صار بذلك مالا مرغوبا فيه فلا نرى وجها للمنع عن المعاوضة عليه. و قد شرّعت المعاملات لتبادل الأموال عند الحاجة و ليست أحكامها تعبّديّة محضة مبتنية على مصالح سرّية غيبيّة نظير أحكام العبادات المحضة.

بل قد مرّ منّا أنّ المعاملات ليست بتأسيس الشارع، بل هي أمور عقلائيّة ابتدعها العقلاء حسب احتياجاتهم و الشارع أيضا أمضاها عملا و لم يردع عنها إلّا في موارد خاصّة كبيع الغرر و نحوه.

و على هذا فليحمل أدلّة منع البيع في هذه الأمور على صورة بيعها بقصد المنافع المحرّمة عند الشرع كالخمر للشرب و الميتة للأكل و نحو ذلك.

و بعبارة أخرى: ما هو الممنوع هو بيعها على نحو بيع الأشياء المحلّلة لمنافعها المقصودة العقلائيّة بلا إعلام بحالها.

______________________________

(1) راجع دراسات في المكاسب المحرّمة 1/ 309 و ما بعدها.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 129

..........

______________________________

و إذا جازت المعاوضة عليها جاز مثل الهبة و الوصيّة و نحوهما أيضا بطريق أولى.

و أمّا من منع عن المعاوضة عليها فهل يجوّز الهبة و الوصيّة و نحوهما؟ ظاهر المصنّف القول بالجواز لوجود المقتضي أعني الماليّة و عدم المانع إذ مفاد أدلّة المنع منع خصوص المعاوضات و أخذ الأثمان و كون ثمنها سحتا فيبقى غيرها تحت إطلاق أدلّتها. هذا.

و في مصباح الفقاهة أفتى بالتفكيك بين جواز الانتفاع و جواز البيع و لكنّه حكم بصحّة غير المعاوضات فلنذكر كلامه لما فيه من الفائدة، قال: «قد ظهر ممّا ذكرناه أنّه لا ملازمة بين حرمة بيع الأعيان

النجسة و بين حرمة الانتفاع بها و سقوطها عن الماليّة. بل لا بدّ من ملاحظة دليل الحرمة هل يوجد فيه ما يدلّ على ذلك إلقاء الماليّة من قبل الشارع كما في الخمر و الخنزير؟ فإنّ كان فيه ما يدلّ على ذلك أخذ به و حكم بعدم ترتّب آثار المالية عليها من الإرث و الضمان و غيرهما، و إلّا فلا يصح أن يحكم بحرمة الانتفاع بها لمجرد حرمة بيعها.

كيف؟! و قد علمت جواز الانتفاع بالميتة و العذرة و شعر الخنزير و كلب الماشية و كلب الحائط و كلب الزرع و غيرها من أنواع النجاسات مع ذهاب الأكثر إلى حرمة بيعها.

و على ذلك يجب أن تترتّب عليها جميع آثار الماليّة. فإذا أتلفها أحد ضمنها لمالكها، و إذا مات مالكها انتقلت إلى وارثه، و لا يجوز للغير أن يزاحم الورثة في تصرّفاتهم. و كذلك يجوز إعارتها و إجارتها و هبتها و لو هبة معوّضة لأنّ حقيقة الهبة متقوّمة بالمجانيّة، و اشتراط العوض فيها أمر زائد على حقيقتها، و فائدته جواز فسخ الواهب إيّاها إذا لم يف له المتّهب بالشرط.

لا يقال: إنّ الشي ء إذا حرم بيعه حرمت سائر المعاملات عليه بطريق الأولوية القطعية.

فإنّه يقال: إنّ الأحكام الشرعيّة توقيفيّة محضة فلا يجوز التعدّي عن مورد ثبت فيه التعبّد إلى غيره إلّا بدليل ...» «1»

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 142.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 130

و قد لا تجعله مالا عرفا لعدم ثبوت المنفعة المقصودة منه له و إن ترتب عليه الفوائد كالميتة التي يجوز إطعامها لجوارح الطير و الإيقاد بها، و العذرة للتسميد، فإنّ الظاهر أنّها لا تعدّ أموالا عرفا. (1) كما اعترف به جامع

______________________________

أقول: قد مرّ منّا أنّه بعد

ما جاز الانتفاع بالشي ء شرعا و صار بذلك مالا مرغوبا فيه ذا قيمة حتّى بلحاظ الشرع فأيّ وجه لعدم جواز المعاملة عليه؟ و ليست أحكام الشرع جزافيّة. و قد حملنا ما ورد في حرمة ثمن الخمر أو الميتة أو نحوهما على صورة المعاملة عليها بلحاظ منافعها المحرّمة- على ما كانت شائعة في سوق الكفّار و شرّاب الخمور-.

و على هذا فيجوز بيع الخمر مثلا للتخليل و الميتة للتشريح و نحو ذلك.

و لا نسلّم سقوطهما عن الماليّة رأسا و عدم ضمان متلفهما. فلو أراد أحد تخليل خمره لا يجوز إتلافها عليه بل الظاهر ضمانها له. و إكفاء رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله أواني الخمور في المدينة حين ما نزل تحريمها، «1» لعلّه كان حكما سياسيّا موقتا لقطع مادّة الفساد، حيث إنّه لم يمكن الردع عنها في بدء تشريع الحرمة إلّا بذلك، و لم يحرز كون التخليل في ذلك العصر نفعا معتدّا به، فلا يقاس على ذلك أعصارنا حيث يمكن الانتفاعات المحلّلة من الخمور و الميتات و نحوهما من الأعيان النجسة.

و رواية تحف العقول و إن ظهر منها بدء حرمة جميع التقلّبات فيها حتّى هبتها و عاريتها و إمساكها لكن مضافا إلى ما مرّ من ضعفها و اضطراب متنها كان الظاهر منها بعد ضم بعض فقراتها إلى بعض أنّ ما اشتمل على جهتي الصلاح و الفساد معا فبيعه و التقلّب فيه لجهات الصلاح يكون حلالا، و إنّما يحرم بيع ما تمحّض في الفساد أو وقع التقلّب فيه بلحاظ ما فيه من الفساد، فتدبّر.

(1) إذا فرض ترتّب الفوائد على الشي ء صار مرغوبا فيه عند بعض و لا محالة يعتبر له قيمة و إن نزلت و لا سيّما

و أنّ التسميد- كما مرّ- فائدة عامّة ملحوظة عند العقلاء فكيف لا يوجب الماليّة؟ نعم هي مقولة بالتشكيك، لها مراتب و تختلف ذلك بحسب الرغبات و الشرائط و الأزمنة و الأمكنة.

______________________________

(1) الوسائل 17/ 322، الباب 1 من أبواب الأشربة المحرّمة، الحديث 5.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 131

المقاصد في شرح قول العلّامة: «و يجوز اقتناء الأعيان النجسة لفائدة.» (1)

[ما معنى حقّ الاختصاص و ما هو منشأ ثبوته؟]
اشارة

و الظاهر ثبوت حقّ الاختصاص في هذه الأمور الناشئ إمّا عن الحيازة و إمّا عن كون أصلها مالا للمالك، كما لو مات حيوان له أو فسد لحم اشتراه للأكل على وجه خرج عن الماليّة. (2)

______________________________

(1) فقال: «أمّا البيع فلا يجوز على كلّ حال كما سبق لأنّ الفائدة الموجودة في شي ء منها لا تصيّرها مالا يقابل بالمال.» «1»

أقول: مرّ أنّه قلّما توجد للشي ء فائدة و لا يصير مالا. و يظهر منه أنّه لو صار مالا فجواز المعاوضة عليه بلا إشكال.

ما معنى حقّ الاختصاص و ما هو منشأ ثبوته؟

(2) محصّل كلامه أنّ ما يترتّب عليه الفائدة إذا لم تكن بحدّ توجب ماليّته فلا محالة توجب حقّ الاختصاص و الأولويّة بالنسبة إلى من كان الشي ء في يده و تحت اختياره. و هذا أمر كان يعتبره العقلاء و المتشرّعة في جميع الأعصار. و منشأ اعتباره إمّا حيازة الشي ء المباح أو السبق إلى مكان مشترك كموضع من المسجد أو المدرسة أو الطريق أو نحو ذلك، أو كون الشي ء مالا للمالك و لكن سقطت عن الماليّة كحيوان له مات أو عنب له صار خمرا، أو وقوع الشي ء في ماله كماء المطر النازل في ملكه، و ماء الشطّ الجاري في نهره و نحو ذلك.

و قد وقع الكلام في ماهيّة الحقّ و دليله،

فلنتعرض لذلك هنا تبعا لما في مصباح الفقاهة. «2»

الأوّل: أنّه سلطنة ضعيفة غير الملكيّة.

فإذا مات حيوان الشخص مثلا زالت ماليته و ملكيته معا و لكن العقلاء يعتبرون للمالك أولوية بالنسبة إلى جسده، و يعبّر عنه بحق الاختصاص.

______________________________

(1) جامع المقاصد 4/ 15، كتاب المتاجر.

(2) مصباح الفقاهة 1/ 143.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 132

..........

______________________________

و فيه: أن زوال الماليّة لا يوجب زوال الملكيّة فليحكم ببقاء نفس الملكيّة، و الماليّة أمر اعتباري يعتبره العقلاء وصفا لشي ء يرغب فيه و يبذل بإزائه المال و ليس أمرا إضافيّا، و أمّا الملكيّة فهي إضافة بين الشي ء و بين مالكه. و النسبة بينهما عموم من وجه: فحبّة من حنطة مثلا ملك لمالكها و لا تعدّ مالا إذ لا يبذل بإزائه مال، و أشجار الغابات أموال و ليست ملكا لشخص، و دار زيد مثلا مال و ملك له أيضا.

الثاني: أنّه مرتبة ضعيفة من الملكيّة الاعتباريّة

فإذا زالت بحدّها الأقوى بقيت بعض مراتبها لأنّها مقولة بالتشكيك، فوزانها وزان الكيفيّات و الألوان فترى اللون مثلا ربّما يزول مرتبة منه و تبقى مرتبة أخرى منه ضعيفة، و الملكيّة إضافة اعتبارية بين الشي ء و مالكه يعتبرها العقلاء في نظامهم الاجتماعيّ و قرّرها الشرع أيضا على حذو الملكيّة الحقيقيّة.

و أورد على ذلك في مصباح الفقاهة بما ملخّصه: «أنّ الملكيّة الحقيقيّة من أيّة مقولة كانت- جدة أو إضافة- ليست قابلة للشدّة و الضعف، بل هي أمر بسيط فإذا زالت زالت بأصلها.

سلّمنا و لكن لا يجري هذا في الملكيّة الاعتباريّة، إذ قوامها بالاعتبار، و اعتبار مرتبة منها يغاير اعتبار مرتبة أخرى، فإذا زال اعتبار المرتبة القويّة لم يبق بعده اعتبار للمرتبة الضعيفة.» «1»

أقول: إن أراد بالملكيّة الحقيقيّة مثل ملكيّة نظام الوجود لواجب الوجود فهي ليست من سنخ الماهيّات فضلا عن كونها من مقولة الجدة أو الإضافة. نعم ربّما

يعبّر عنها بالإضافة الإشراقية، و لكنّها ليست من قبيل إضافة شي ء إلى شي ء بل المنسوب حقيقة ذات الإضافة و الانتساب كما حقّق في محلّه.

و إن أراد بها مثل التلبّس و التعمّم فهما من مقولة الجدة، بل الملكيّة و الجدة اسمان لمقولة واحدة حاكية عن إحاطة شي ء بشي ء.

و يمكن أن يقال: إنّ الإحاطة ذات مراتب نظير الكيفيّات و الألوان.

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 143.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 133

..........

______________________________

و أمّا الملكيّة الاعتباريّة فحيث إنّ الاعتبار خفيف المؤونة فأيّ مانع من اعتبار العقلاء طبيعة ذات مراتب و يحكمون بعد ارتفاع مرتبة منها ببقاء مرتبة أخرى منها بحيث يرون الباقي من آثار المرتبة السابقة لا أمرا حادثا آخر؟ فتأمّل.

الثالث: أنّه ثبت في الشريعة المقدسة أنّه لا يجوز لأحد أن يتصرف في مال غيره إلّا بطيب نفسه.

و قد دلّت على ذلك سيرة العقلاء و المتشرّعة و جملة من الأخبار الواردة، فإذا زالت الملكيّة عن شي ء و شككنا في زوال حكمها كان مقتضى الاستصحاب الحكم ببقائه.

فمن تلك الأخبار: موثقة سماعة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام (في حديث): «إنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله قال: «من كانت عنده أمانة فليؤدّها إلى من ائتمنه عليها فإنّه لا يحل دم امرئ مسلم و لا ماله إلّا بطيبة نفس منه.» «1» و الاستثناء فيها راجع إلى المال دون الدم كما لا يخفى.

و منها: موثقة أبي بصير عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: سباب المؤمن فسوق، و قتاله كفر، و أكل لحمه معصية، و حرمة ماله كحرمة دمه.» «2»

و منها: ما في تحف العقول عن النبي صلى اللّه عليه و آله في خطبته في حجة الوداع: «و لا يحلّ المؤمن مال أخيه إلّا عن طيب نفس منه.» «3»

و منها:

ما في توقيع صاحب الزمان عليه السّلام الوارد إلى محمد بن عثمان العمري على ما في الاحتجاج، قال: «و أمّا ما سألت عنه من أمر الضياع التي لناحيتنا هل يجوز القيام بعمارتها و أداء الخراج منها و صرف ما يفضل من دخلها إلى الناحية احتسابا للأجر و تقرّبا إليكم، فلا يحلّ لأحد أن يتصرّف في مال غيره بغير إذنه فكيف يحلّ ذلك في مالنا؟ من فعل شيئا من ذلك بغير أمرنا فقد استحلّ منّا ما حرم

______________________________

(1) الوسائل 3/ 424، الباب 3 من أبواب مكان المصلّي، الحديث 1.

(2) الكافي 2/ 360، كتاب الإيمان و الكفر، باب السبّاب، الحديث 2.

(3) تحف العقول/ 34.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 134

..........

______________________________

عليه. و من أكل من أموالنا شيئا فإنّما يأكل في بطنه نارا و سيصلى سعيرا.» «1» إلى غير ذلك من الأخبار. هذا.

و أجاب عن ذلك في مصباح الفقاهة فقال: «و فيه- مضافا إلى عدم جريان الاستصحاب في الأحكام لمعارضته دائما بأصالة عدم الجعل- كما نقّحناه في علم الأصول-: أن موضوع الحكم بحرمة التصرّف هو مال الغير، فإذا سقط الشي ء عن الماليّة سقطت عنه حرمة التصرّف حتّى إذا كان باقيا على صفة المملوكيّة، إذ لا دليل على حرمة التصرّف في ملك الغير، فكيف إذا زالت عنه الملكيّة أيضا.» «2»

أقول: يمكن أن يجاب عن ذلك أوّلا بما مرّ- في مسألة جواز بيع المتنجّس- من جريان الاستصحاب في الأحكام، و الجواب عن المعارضة المذكورة.

و ثانيا: أنّ تقريب الاستدلال كان على الحكم بزوال الملكيّة و هو ممنوع، و إنّما الثابت زوال الماليّة فقط فيمكن بقاء الملكيّة و مع الشكّ تستصحب فيترتّب عليها آثارها.

و لا يخفى أنّ حرمة التصرّف في مال الغير

مضافا إلى حكم الشرع أمر يحكم به العقل أيضا. و بالدقّة يعرف أنّ ما هو الموضوع لحكمه هو التصرّف في حريم الغير و سلطته لأنّه من مصاديق الظلم و التعدّي. و على هذا فيكون التصرّف في نفس الغير و ماله و ملكه و عرضه كلّها حراما بملاك واحد.

و إن شئت قلت: إنّ مال الغير و ملكه و عرضه كلّها من شئون نفسه، و سلطته على نفسه تكوينا تقتضي حرمة التصرّف في جميعها. و إنّما ذكر في الأخبار المال دون الملك من جهة أنّ التعدّي يقع غالبا في الأموال و إلّا فالملاك التجاوز إلى سلطة الغير.

الرابع: دعوى الإجماع على ذلك.

و فيه: أنّ الإجماع- على فرض تحقّقه- ليس عندنا حجّة مستقلّة، بل الملاك

______________________________

(1) الاحتجاج 2/ 559، في ذكر طرف ممّا خرج عنه عليه السّلام من المسائل الفقهية، رقمها 351.

(2) مصباح الفقاهة 1/ 144.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 135

..........

______________________________

كشفه عن قول المعصومين عليهم السّلام. و ليست المسألة معنونة في كتب القدماء من أصحابنا المعدّة لنقل المسائل المأثورة حتى يكشف بذلك تلقّيها عنهم، و من أفتى بها لعلّه اعتمد على الوجوه المذكورة.

الخامس: دلالة المرسلة المعروفة:

«من حاز ملك» على وجوه حقّ الاختصاص بعد سقوط الماليّة.

و فيه أوّلا: أنّها و إن اشتهرت في ألسنة الفقهاء و الكتب الاستدلاليّة لكن لم نجدها في كتب الحديث من العامّة و الخاصّة، و الظاهر أنّها قاعدة فقهيّة متصيّدة من الروايات الواردة في الأبواب المختلفة كإحياء الموات و التحجير و نحوهما.

و ثانيا: لو سلّم كونها رواية فمفادها ثبوت مالكيّة المحيز للمحاز لا ثبوت حقّ الاختصاص بعد زوال الملكيّة.

و ثالثا: أنّها ضعيفة و غير منجبرة إذ لم يعلم استناد المشهور إليها و إنّما ذكروها في موارد ذكرها للتأييد لا للتأكيد.

و رابعا: أنّا لا نسلّم جبران ضعف الأخبار بالشهرة و إن اشتهر ذلك. هذه خلاصة ما في مصباح الفقاهة. «1»

أقول: يمكن أن يجاب عن الثاني أوّلا: بأنّ المفروض في كلام المصنّف زوال المالية لا الملكيّة فهي باقية و لو شك تستصحب.

و ثانيا: بأنّه إذا فرض كون حدوث الحيازة سببا للملكيّة فليس إلّا لكونها سببا لاستيلاء الشخص على الشي ء و صيرورته في يده، و على هذا فوجود الاستيلاء بقاء أولى بذلك، فتأمّل. هذا.

و ممّا يستفاد منه سببيّة الحيازة و الاستيلاء للملكيّة أو الحقّ مضافا إلى روايات الإحياء و التحجير: موثقة يونس بن يعقوب عن أبي عبد

اللّه عليه السّلام في باب اختلاف

______________________________

(1) راجع مصباح الفقاهة 1/ 145.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 136

..........

______________________________

الزوجين في متاع البيت، و فيها: «و من استولى على شي ء منه فهو له.» «1»

و معتبرة السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: «قال أمير المؤمنين عليه السّلام: إنّ الطير إذا ملك جناحيه فهو صيد و هو حلال لمن أخذه.» «2»

و في خبر آخر: إنّ أمير المؤمنين عليه السّلام قال في رجل أبصر طائرا فتبعه حتّى سقط على شجرة فجاء رجل آخر فأخذه. فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: «للعين ما رأت و لليد ما أخذت.» «3»

السادس: حديث السبق المعروف بين الفريقين:

1- ففي المستدرك عن عوالي اللآلي عن النبي صلى اللّه عليه و آله: «من سبق إلى ما لم يسبقه إليه مسلم فهو أحقّ به.» «4» و رواه ابن قدّامة عن أبي داود عنه صلى اللّه عليه و آله. «5»

2- و روى البيهقي بسنده عن أسمر بن مضرّس قال: «أتيت النبي صلى اللّه عليه و آله فبايعته فقال: «من سبق إلى ما لم يسبقه إليه مسلم فهو له.» قال: «فخرج الناس يتعادّون و يتخاطون.» «6»

3- و في الوسائل بسند صحيح عن طلحة بن زيد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

«قال أمير المؤمنين عليه السّلام: سوق المسلمين كمسجدهم فمن سبق إلى مكان فهو أحقّ به إلى الليل، و كان لا يأخذ على بيوت السوق كراء.» «7»

4- و فيه أيضا بسند صحيح عن ابن أبي عمير، عن بعض أصحابنا، عن

______________________________

(1) الوسائل 17/ 525، الباب 8 من أبواب ميراث الأزواج، الحديث 3.

(2) الكافي 6/ 223، كتاب الصيد، باب صيد الطيور الأهلية، الحديث 5.

(3) نفس المصدر و الباب و الصفحة، الحديث 6.

(4) مستدرك

الوسائل 3/ 149، الباب 1 من كتاب إحياء الموات، الحديث 4.

(5) المغني 6/ 153، كتاب إحياء الموات، لا يملك الموات بالتحجير ...

(6) سنن البيهقي 6/ 142، كتاب إحياء الموات، باب من أحيا أرضا ميتة ...

(7) الوسائل 3/ 542، الباب 56 من أبواب أحكام المساجد، الحديث 2.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 137

..........

______________________________

أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: «سوق المسلمين (القوم خ. ل) كمسجدهم، يعني إذا سبق إلى السوق كان له مثل المسجد.» «1» و الظاهر أنّ التفسير من الراوي.

5- و فيه أيضا بسند صحيح عن محمّد بن إسماعيل، عن بعض أصحابه، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: قلت له: «نكون بمكّة أو بالمدينة أو الحيرة أو المواضع التي يرجى فيها الفضل فربّما خرج الرجل يتوضّأ فيجي ء آخر فيصير مكانه؟ فقال: «من سبق إلى موضع فهو أحقّ به يومه و ليلته.» «2»

و الظاهر أنّ المراد بمحمّد بن إسماعيل هو ابن بزيع الثقة، و طلحة بتري و لكنّهم عملوا برواياته. و إرسال ابن أبي عمير عن بعض أصحابنا و محمّد بن إسماعيل عن بعض أصحابه يقرب من الصحّة، إذ فرق بين قول المرسل: عن رجل و قوله:

عن بعض أصحابنا. مضافا إلى أنّ ابن أبي عمير- على ما في العدّة- لا يروي و لا يرسل إلّا عن ثقة. «3»

و ناقش في مصباح الفقاهة في أخبار السبق أوّلا: بضعف السند و عدم جبر الضعف.

و ثانيا: بأنّ موردها الأمور المشتركة بين المسلمين كالأوقات العامّة من المساجد و المشاهد و المدارس و نحوها، فإذا سبق إلى موضع منها أحد ممّن ينطبق عليه عنوان الموقوف عليه و أشغلها بالجهة التي وقع الوقف عليها حرمت على غيره مزاحمته.

و لو سلّم التعميم

إلى موارد الحيازة أيضا فإنّما يدلّ على ثبوت الحقّ الجديد للمحيز بالنسبة إلى المحاز، و لا يدلّ على بقاء العلقة بين المالك و ملكه بعد زوال الملكيّة.

و من جميع ما ذكرناه ظهر ما في كلام المحقّق الإيرواني من الوهن حيث قال:

«و الظاهر ثبوت حقّ الاختصاص: أمّا في الحيازة فلعموم دليل من سبق إلى ما لم يسبق إليه أحد فهو أولى به، و أمّا فيما إذا كان أصله ملكا للشخص فلاستصحاب

______________________________

(1) الوسائل 12/ 300، الباب 17 من أبواب آداب التجارة، الحديث 2.

(2) الوسائل 3/ 542، الباب 56 من أبواب أحكام المساجد، الحديث 1.

(3) عدّة الأصول 1/ 386، فصل في ذكر القرائن التي تدلّ على صحّة أخبار الآحاد ....

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 138

[جواز المصالحة على هذا الحقّ بلا عوض]

و الظاهر جواز المصالحة على هذا الحقّ بلا عوض بناء على صحّة هذا الصلح. (1) بل مع العوض بناء على أنّه لا يعدّ ثمنا لنفس العين حتّى يكون سحتا بمقتضى الأخبار. (2)

______________________________

بقاء العلقة.» «1» هذه خلاصة ما في مصباح الفقاهة.

أقول: حديث السبق قد شاع بين الفريقين و أفتى بمضمونه الأصحاب في المشتركات. و الظاهر اعتبار بعض أسناده كخبر طلحة و ابن أبي عمير و محمّد بن إسماعيل كما مرّ. و الظاهر أنّ الشهرة العمليّة أيضا ممّا يجبر بها الضعف كما مرّ سابقا في بيان خبر تحف العقول. و قد مرّ منّا أيضا أوّلا: أنّ المفروض في المقام زوال الماليّة لا الملكيّة. و ثانيا: لو فرض كون حدوث الحيازة سببا للملكيّة أو الحقّ فبقاء الاستيلاء سبب لهما بطريق أولى. و يساعده عرف العقلاء و المتشرّعة أيضا، فتدبّر.

(1) يعني قلنا بصحّة الصلح على الحقوق كما يصحّ على الأموال من الأعيان و المنافع،

في قبال احتمال كون الحقوق نظير الأحكام كجواز الهبة مثلا في عدم قبولها للإسقاط و لا للانتقال.

(2) محصّل كلامه أنّه و إن لم يجز بيع العين و أخذ الثمن في قبالها لكونه سحتا على ما مرّ من الأخبار، و لكن لا بأس بالمصالحة على ذلك الحقّ بعوض، إذ لا يقع العوض في قبال نفس العين بل في قبال حقّ الاختصاص، أو في قبال نفس الصلح، بما أنّه عمل، نظير ما يقال في الهبة المعوّضة من كون العوض في قبال نفس الهبة لا الشي ء الموهوب. و لو سلّم منع ذلك و الإشكال فيه أيضا جاز بذل المال لرفع يده عن العين فيحوزها الباذل بعد إعراضه، نظير بذله لمن سبق إلى مكان مشترك ليرفع يده عنه. هذا.

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 145 و 146.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 139

قال في التذكرة: «و يصحّ الوصية بما يحلّ الانتفاع به من النجاسات كالكلب المعلّم و الزيت النجس لإشعاله تحت السماء و الزبل للانتفاع بإشعاله و التسميد به، و جلد الميتة إن سوّغنا الانتفاع به و الخمر المحترمة لثبوت حقّ الاختصاص فيها و انتقالها من يد إلى يد بالإرث و غيره.» (1) انتهى.

و الظاهر أنّ مراده بغير الإرث الصلح الناقل. (2) و أمّا اليد الحادثة بعد إعراض اليد الأولى فليس انتقالا. (3)

______________________________

و لو فرض كون العين في مكان مملوك له جاز بذله أيضا للإذن في الدخول في ملكه و أخذ العين منه مجانا كما يأتي من المصنّف.

و لكن في حاشية المحقّق الإيرواني: «لكن الدليل لا يختصّ بعنوان الثمن فإنّ رواية التحف مشتملة على عنوان التقلّب و التكسّب و الاتّجار، و كلّ هذه العناوين صادقة على الصلح عن حقّ الاختصاص

بل صادقة على بذل المال لإسقاط الحقّ و رفع اليد حتى يستولي عليه الباذل.» «1»

(1) راجع التذكرة، كتاب الوصية «2»، و في الجواهر قال: «نعم قد يقال بأنّ له حقّ الاختصاص لمن سبق إليه لتحقّق الظلم عرفا بالمزاحمة له. بل لعلّ دفع العوض لرفع يد الاختصاص عنه لا بأس به ضرورة عدم صدق التكسّب به لعدم دفع العوض عنه.» «3»

(2) أو الهبة مجانا أو المعوّضة.

(3) يعني لا يحتمل حمل غير الإرث على بذل المال ليرفع يده فيحوزها الباذل بعد إعراضه لعدم كونه انتقالا.

______________________________

(1) حاشية المكاسب للمحقّق الإيرواني/ 12.

(2) التذكرة 2/ 479، كتاب الوصية، الفصل الرابع في الموصى به.

(3) الجواهر 22/ 9، كتاب التجارة، في بيان أقسام ما يكتسب به.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 140

لكن الإنصاف أنّ الحكم مشكل. نعم لو بذل مالا على أن يرفع يده عنها ليحوزها الباذل كان حسنا كما يبذل الرجل المال على أن يرفع اليد عمّا في تصرّفه من الأمكنة المشتركة كمكانه من المسجد و المدرسة و السوق.

و ذكر بعض الأساطين- بعد إثبات حقّ الاختصاص- أنّ دفع شي ء من المال لافتكاكه يشكّ في دخوله تحت الاكتساب المحظور فيبقى على أصالة الجواز. (1)

______________________________

(1) أقول: قد مرّ منّا أنّ المعاملات ليست أمورا مخترعة للشارع، بل هي عقود كانت رائجة بين العقلاء حسب حاجاتهم في إدامة الحياة و التعيّش متطوّرة حسب تطوّر شرائط الحياة، و الشارع أيضا كأحدهم أمضاها عملا و لم يردع عنها إلّا في موارد خاصّة لما رأى فيها من المضارّ و المفاسد لحياة المجتمع كالربا و المعاملات الغرريّة و نحوها، و ليست أحكام المعاملات أحكاما تعبّديّة محضة جزافيّة أو مبتنية على مصالح سريّة غير مرتبطة بمصالح الأفراد و المجتمع.

و

على هذا فإن فرض أنّ الشارع منع من المعاملة على الأعيان النجسة بأنحائها بما هي نجسة فلا محالة يكون هذا ناشئا عن إرادته تطهير محيط التعيّش منها بالكليّة و عدم تلويث مظاهر الحياة بها أصلا، فلا يبقى فرق بين تحصيلها بالاشتراء أو بالمصالحة مجانا أو بعوض.

و هو المستفاد من ظاهر رواية تحف العقول بدوا حيث نهى فيها عن أكل وجوه النجس و شربها و لبسها و إمساكها و التقلّب فيها بوجه من الوجوه لما فيها من الفساد.

و أمّا إذا منعنا ذلك و ناقشنا في الرواية بضعفها و اضطراب متنها كما مرّ أو حملنا المنع فيها على ما لا يشتمل إلّا على الفساد أو وقع التقلّب بلحاظه و قلنا بجواز الانتفاع منها غير ما ثبت حرمته من الأكل و الشرب و الصلاة فيها و نحو ذلك، فلا محالة يصير الشي ء مرغوبا فيه عرفا و شرعا بلحاظ الانتفاعات

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 141

ثمّ إنّه يشترط في الاختصاص بالحيازة قصد الحائز للانتفاع. و لذا ذكروا أنّه لو علم كون حيازة الشخص للماء و الكلأ لمجرد العبث لم يحصل له حقّ.

و حينئذ فيشكل الأمر فيما تعارف في بعض البلاد من جمع العذرات حتى إذا صارت من الكثرة بحيث ينتفع بها في البساتين و الزروع بذل له مال فأخذت منه، فإنّ الظاهر بل المقطوع أنّه لم يحزها للانتفاع بها و إنّما حازها لأخذ المال عليها. و من المعلوم أنّ حلّ المال فرع ثبوت الاختصاص المتوقّف على قصد الانتفاع المعلوم انتفاؤه في المقام.

______________________________

المحلّلة و إن كانت قليلة و تتحقّق الماليّة بلحاظها قهرا و لو بحسب بعض الأمكنة أو الأزمنة.

و على هذا فلا يبقى فرق بين اشترائه أو الصلح

عليه بعوض. و العوض يقع بإزاء نفس العين فإنّها المرغوب فيها و المشتملة على المنفعة المقصودة.

و أمّا القول بحرمة جعله في قبال العين و جواز جعله في قبال حقّ الاختصاص و نحوه ممّا مرّ فيشبه اللعب بأحكام الشرع المبين و إعمال الحيل فيها مع فرض أنّه لم يقع منه النهي في باب المعاملات إلّا بلحاظ ما يترتّب عليها من المضارّ و المفاسد للمجتمع كما مرّ.

و بالجملة فهذا التفكيك يوهن الشرع و أحكامه عند العقل و العقلاء. فلو فرض أنّك سافرت إلى بعض البلاد الخارجيّة و احتجت فيها إلى تهيئة الكحول الطبّية مثلا و قلت لصاحبها أنا لا أعطيك العوض بإزاء عينها بل بإزاء حقّ الاختصاص الثابت لك أو لرفع يدك عنها لأحوزها، لم يتصوّر هذا الشخص من أحكام الإسلام إلّا كونها ألا عيب و مقرّرات جزافيّة، فتأمّل.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 142

و كذا لو سبق إلى مكان من الأمكنة المذكورة من غير قصد الانتفاع منها بالسكنى. (1)

نعم لو جمعها في مكانه المملوك فبذل له المال على أن يتصرّف في ذلك المكان بالدخول لأخذها كان حسنا. كما أنّه لو قلنا بكفاية مجرّد قصد الحيازة في الاختصاص و إن لم يقصد الانتفاع بعينه، و قلنا بجواز المعاوضة على حقّ الاختصاص كان أسهل.

______________________________

(1) قال في مصباح الفقاهة ما ملخّصه: «أنّ المحاز قد يكون من الأمكنة المشتركة كالأوقاف العامّة، و قد يكون من المباحات الأصلية: أمّا الأوّل فلا ريب في أنّ اختصاص الحائز به مشروط بقصد الانتفاع به على حسب ما أوقفه أهله و إلّا فلا يثبت الاختصاص لكونه على خلاف مقصود الواقف. و من هنا لم يجز بيعه و لا إجارته و لا استملاكه. فلا يجوز

إشغال المساجد و المعابد بإلقاء السجادة مثلا ثمّ بيعها من المصلّين لأنّه على خلاف جهة الوقف.

و أمّا الثاني كالاحتطاب و الاصطياد فالظاهر أنّ الاختصاص به غير مشروط بشي ء بل يكفي فيه مجرد الحيازة الخارجيّة لعدم الدليل على التقييد. و من هنا ذهب جمع من الأصحاب و من العامّة إلى عدم الاشتراط.

قال الشيخ في الخلاف (المسألة 3 من إحياء الموات): «الأرضون الموات للإمام خاصّة لا يملكها أحد بالإحياء إلّا أن يأذن له الإمام. و قال الشافعي: من أحياها ملكها أذن له الإمام أو لم يأذن. و قال أبو حنيفة: لا يملك إلّا بإذن، و هو قول مالك ... دليلنا: إجماع الفرقة و أخبارهم.» «1»

و لو كان لتقييد الاختصاص بقصد الانتفاع وجه لكان ذلك موردا للخلاف كالتقييد بإذن الإمام. و يؤيّده عموم رواية من سبق و قاعدة الحيازة المتقدّمتين. بل

______________________________

(1) كتاب الخلاف 3/ 525 (ط. أخرى 2/ 222).

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 143

..........

______________________________

يمكن استفادة الإطلاق من الأخبار المتظافرة الواردة في إحياء الموات من الأراضي. كصحيحة محمّد بن مسلم: «أيّما قوم أحيوا شيئا من الأرض و عمروها فهم أحقّ بها و هي لهم.» «1» و كحسنة زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: «من أحيا أرضا مواتا فهو له.» «2» و غير ذلك من الروايات الواردة من طرق الشيعة و من طرق العامّة.» «3» انتهى. «4»

أقول: الظاهر صحّة ما ذكره- قدّس سرّه- في الأمكنة العامّة الموقوفة و أنّها على حسب ما أوقفها أهلها، و الغالب فيها وقفها للانتفاعات الشخصيّة لا لحيازتها و لو بقصد النقل إلى الغير، بل يمكن الإشكال في النقل و لو كانت الحيازة بقصد

الانتفاع إذ بعد الإعراض عن الانتفاع يسقط حقّه. اللّهم إلّا أن يؤخذ المال لنفس الإعراض و رفع اليد، فتأمّل.

نعم لو أحرز في مورد وقفها للأعمّ من الانتفاع الشخصي و الحيازة للنقل إلى الغير جاز حينئذ حيازتها للنقل أيضا.

و كذلك يصحّ ما ذكره في مثل إحياء الموات و الاصطياد و الاحتطاب و حيازة المباحات، كجمع العذرات مثلا، إذ بالعمل يصير الإنسان مالكا لما أحياه أو حازه، و الشرع أجاز ذلك أيضا و لم يقيّدها بقصد انتفاع نفسه، و السيرة أيضا استقرّت على ذلك بإطلاقها، فيصطادون الأسماك و يحيزون الأحطاب للكسب و التجارة لا للانتفاع الشخصي، و كذلك يحيى الأرض و تباع.

و الظاهر أنّ الإنسان بإحيائه يملك حيثيّة الإحياء الذي هو أثر عمله و صنعه، لا لرقبة الأرض، و قد بينّا ذلك بالتفصيل في المجلد الرابع من كتابنا في ولاية

______________________________

(1) الوسائل 17/ 327، الباب 1 من أبواب إحياء الموات، الحديث 4.

(2) نفس المصدر و الباب، الحديث 6.

(3) سنن البيهقي 6/ 141، كتاب إحياء الموات، باب من أحيا أرضا ميتة ...

(4) مصباح الفقاهة 1/ 146 و 147.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 144

..........

______________________________

الفقيه، فراجع. «1»

و بالجملة ففي مثل الحيازة و الإحياء ممّا يوجبان الملكيّة لا يعتبر وقوعهما بقصد الانتفاع شخصا لإطلاق أدلّتهما و استقرار السيرة أيضا على الأعمّ فقياسهما على الأمكنة الموقوفة كما في كلام المصنّف بلا وجه.

نعم ربّما يقال باعتبار قصد التملك كما في الدروس في شروط التملّك بالإحياء، قال: «و تاسعها: قصد التملّك، و لو فعل أسباب الملك بغير قصد التملّك فالظاهر أنّه لا يملك.» «2»

و لعلّه لظنّ انصراف النصوص إلى صورة قصد التملّك، إذ الملكيّة القهريّة خلاف سلطة الإنسان على نفسه فيقتصر فيها

على خصوص ما دلّ عليه الدليل كالميراث و نحوه.

و لعل العرف أيضا يساعد على ذلك فلا يعتبرون الملكيّة بالنسبة إلى من حاز الماء و الكلأ بقصد العبث لا الملكيّة.

و لكن يمكن الفرق بين الملكيّة و الحقّ، فالحيازة عبثا و إن لم توجب الملكيّة عندهم لكنّها توجب أحقيّة الحائز فلا يجوز لغيره مزاحمته، اللّهم إلّا مع إعراضه و طرحه لما حازه.

هذا كلّه بالنسبة إلى الحيازة و الإحياء الموجبين للملكيّة.

و أمّا التحجير الذي يوجد غالبا مقدّمة للإحياء و لا يوجب إلّا الاختصاص فالظاهر أنّه يعتبر في ثبوت الحقّ به وقوعه بقصد الإحياء شخصا لا لأن ينقل الحق إلى غيره. فمن حجّر أرضا بقصد إحيائها بنفسه كان عمله هذا محترما موجبا لاعتبار حقّ له عرفا و شرعا.

______________________________

(1) راجع دراسات في ولاية الفقيه 4/ 194.

(2) الدروس/ 294، كتاب إحياء الموات.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 145

..........

______________________________

و لو فرض أنّه عرض له مانع بعد ذلك من إتمام عمله كان له أخذ المال لنقل حقّه إلى الغير أو رفع يده عن حقّه. كما أنّه ينتقل حقّه هذا إلى وارثه أيضا بعد موته.

و أمّا من لا يريد الإحياء أو لا يقدر عليه فهل له أن يوجد التحجير بقصد التجارة و النقل إلى الغير؟ و هل يحكم العرف و الشرع بثبوت هذا الحقّ له في الموضوع الذي يكون من الأموال العامّة التي يشترك فيها الجميع و يكون تحت اختيار إمام المسلمين؟ مشكل جدّا بعد التدبّر في مذاق الشرع و أهدافه. و أدلّه أولويّة المحجّر منصرفة عن مثله.

و إن شئت قلت: الأنفال و منها الأراضي للإمام و التصرّف فيها منوط بإذنه و لم يثبت الإذن في التحجير إلّا بمقدار يقدر على إحيائه و

وقع بقصده مقدّمة له.

قال في التذكرة: «و لا ينبغي أن يزيد المحجّر على قدر كفايته و يضيق على الناس، و لا أن يحجر ما لا يمكنه القيام بعمارته، فإن فعل ألزمه الحاكم بالعمارة و التخلّي عن الزيادة فيسلّمها إلى من يقوم بعمارتها.» «1»

و في الجواهر عن كتاب الإسعاد لبعض الشافعيّة: «و إنّما يتحجّر ما يطيق إحياءه بل ينبغي أن يقتصر على قدر كفايته لئلا يضيق على الناس، فإن تحجّر ما لا يطيق إحياءه أو زائدا على قدر كفايته فلغيره أن يحيى الزائد.» «2»

و ظاهرهما تسليم الزائد إلى الغير و إحيائه له مجانا بلا عوض. هذا، و التحقيق موكول إلى محلّه.

______________________________

(1) التذكرة 2/ 411، كتاب إحياء الموات، شرائط الإحياء.

(2) الجواهر 38/ 60، كتاب إحياء الموات، حكم ما لو اقتصر على تحجير الموات ....

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 147

النوع الثاني: ما يحرم لتحريم ما يقصد به و هو على ثلاثة اقسام:

اشارة

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 149

النوع الثاني: ممّا يحرم التكسّب به: ما يحرم لتحريم ما يقصد به، و هو على أقسام: (1)

______________________________

النوع الثاني:

ما يحرم لتحريم ما يقصد به

(1) قد قسّم المصنّف في أوّل الكتاب الاكتساب المحرّم إلى خمسة أنواع و عدّ النوع الأوّل منها: الاكتساب بالأعيان النجسة، و قد مرّ تفصيل ذلك، و الآن تعرّض للنوع الثاني منه أعني ما يحرم لتحريم ما يقصد منه، و قسّمه إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأوّل: ما اشتمل على هيئة خاصّة لا يقصد منه بهذه الهيئة إلّا الحرام كالأصنام و الصلبان و آلات القمار و آلات اللهو و نحو ذلك.

القسم الثاني: ما قصد منه المتعاملان المنفعة المحرّمة كبيع الخشب على أن يعمله صنما مثلا أو العنب على أن يعمله خمرا و نحو ذلك.

القسم الثالث: ما من شأنه أن يقصد

منه الحرام و يكون مظنّة لذلك كبيع السلاح لأعداء الدين المبين، فانتظر لبيان الأقسام الثلاثة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 151

[القسم الأوّل: ما لا يقصد من وجوده الخاصّ إلّا الحرام و هي أمور:]

[1- هياكل العبادة]
اشارة

الأوّل: ما لا يقصد من وجوده على نحوه الخاصّ إلّا الحرام، و هي أمور:

منها: هياكل العبادة المبتدعة (1)، كالصليب و الصنم بلا خلاف ظاهر

______________________________

القسم الأوّل: ما لا يقصد من وجوده الخاصّ إلّا الحرام و هي أمور:

1- هياكل العبادة

[معني الهيكل و بيعه]

(1) في المسالك: «الأصل في الهيكل أنّه بيت الصنم كما نصّ عليه الجوهري و غيره. و أمّا إطلاقه على نفس الصنم فلعلّه من باب المجاز إطلاقا لاسم المحلّ على الحالّ.» «1»

ثمّ إنّ بيع هياكل العبادة يتصوّر على وجهين:

الأوّل: أن يكون المقصود في المعاملة المادة و الهيئة معا، و يقع البيع على المادّة بهيئتها و الثمن بإزائهما.

الثاني: أن يكون المقصود المادّة فقط و يقع الثمن بإزائها فقط.

و على الأوّل: فتارة يقع البيع للغاية المحرّمة أعني العبادة باشتراطها في متن العقد أو بالتواطؤ عليها في خارجه. و أخرى يقع بيعها ممّن يعلم أنّه يعبدها أو يبيعها لمن يعبدها من دون اشتراط و لا قصد من البائع لذلك. و ثالثة تباع ممّن لا يريد عبادتها

______________________________

(1) المسالك 1/ 165 (ط. أخرى 3/ 123)، كتاب التجارة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 152

بل الظاهر الإجماع عليه. (1)

______________________________

و لا يقع منه ذلك بل يريد حفظها في المتاحف بما أنّها من الآثار القديمة أو يريد كسرها و إتلافها تقربا إلى اللّه أو لكسب الوجهة مثلا عند الناس بذلك أو نحو ذلك.

[كلمات الأصحاب في المقام]

(1) الأولى أن نتعرض لبعض كلمات الأصحاب ليظهر بذلك كون المسألة معنونة في كلمات القدماء منهم:

1- ففي مكاسب المقنعة: «و عمل العيدان و الطنابير و سائر الملاهي محرّم و التجارة فيه محظورة. و عمل الأصنام و الصلبان و التماثيل المجسّمة و الشطرنج و النرد و ما أشبه ذلك حرام و بيعه و ابتياعه حرام.» «1»

أقول: ظاهره حرمة عمل ما ذكر و كذا بيعها و ابتياعها، و قد مرّ منّا أن لفظ الحرمة و كذا الحليّة في الكتاب و السنّة و كلمات القدماء من أصحابنا كانا يطلقان على الأعمّ من التكليف

و الوضع. و أنّ المتبادر منهما في باب المعاملات هو الوضع أعني الصحّة و الفساد. و كون المراد بهما في العمل التكليف لا يدلّ على إرادة التكليف في البيع أيضا، فتدبّر.

2- و في المراسم في عداد المكاسب المحرّمة قال: «و عمل الملاهي و التجارة فيها و عمل الأصنام و الصلبان و كل آلة يظنّ بها الكفّار أنّها آلة عبادة لهم، و التماثيل المجسّمة و الشطرنج و النرد و ما أشبه ذلك من آلات اللعب و القمار و بيعه و ابتياعه.» «2»

أقول: ظاهر كلامه وجود الملازمة بين حرمة عمل الشي ء أعني صنعه و حرمة بيعه و ابتياعه، و هو كذلك إذ لا يحرم عمل الشي ء إلّا أن تكون منفعته منحصرة في الحرام، و إذا كان كذلك سقط عن الماليّة شرعا فلم يصحّ بيعه قهرا.

نعم يشكل ذلك في التماثيل المجسّمة فإنّ الظاهر مع حرمة عملها جواز بيعها بعد عملها.

______________________________

(1) المقنعة/ 587.

(2) المراسم/ 170؛ و الجوامع الفقهية/ 585 (طبعة أخرى/ 647).

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 153

..........

______________________________

اللّهم إلّا أن يفرّق بينها و بين آلات الملاهي و العبادة و نحوهما بأنّ العمل إنّما يحرم في الآلات بحسب ما يترتّب عليها من الفساد، فالمحرّم فيها في الحقيقة هي الانتفاعات المترقّبة منها و المترتّبة عليها، و حيث إنّها من آثار الهيئات الخاصّة و هي تحصل بالعمل في المواد صارت الهيئات الخاصّة و عملها مبغوضتين قهرا لانحصار نفعهما في الحرام.

فالهيئات الخاصّة مبغوضة للشارع حدوثا و بقاء، ساقطة عنده عن الماليّة رأسا.

و أمّا في التماثيل فليست الصورة بعد تحقّقها مبغوضة ذات مفسدة و إنما المبغوض نفس العمل بما أنّه تشبّه بالخالق في خلقه و لذا ورد: أنّه يكلّف يوم القيامة أن ينفخ

فيها و ليس بنافخ. «1»

نعم لو صارت بعد صنعها موردا للعبادة و التعظيم صارت من قبيل هياكل العبادة فصار إبقاؤها أيضا مبغوضا.

3- و في النهاية في باب المكاسب المحظورة: «و عمل الأصنام و الصلبان و التماثيل المجسّمة و الصور و الشطرنج و النرد و سائر أنواع القمار حتّى لعب الصبيان بالجوز فالتجارة فيها و التصرّف و الكسب بها حرام محظور.» «2»

4- و في الشرائع: «الثاني: ما يحرم لتحريم ما قصد به كآلات اللهو مثل العود و الزمر و هياكل العبادة المبتدعة كالصليب و الصنم و آلات القمار كالنرد و الشطرنج و ما يفضي إلى المساعدة على محرّم كبيع السلاح لأعداء الدين و إجارة المساكن و السفن للمحرّمات و كبيع العنب ليعمل خمرا و بيع الخشب ليعمل صنما. و يكره بيع ذلك لمن يعملها.» «3»

5- و ذيّل ذلك في الجواهر بقوله: «بلا خلاف أجده فيه، بل الإجماع بقسميه عليه و النصوص.» «4»

______________________________

(1) الوسائل 12/ 220، الباب 94 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 6.

(2) النهاية/ 363، كتاب المكاسب.

(3) الشرائع/ 263 (ط. أخرى 2/ 9)، كتاب التجارة.

(4) الجواهر 22/ 25، كتاب التجارة، حرمة التكسّب بآلات اللهو و آلة القمار.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 154

..........

______________________________

6- و في التذكرة: «مسألة: ما أسقط الشارع منفعته لا نفع له فيحرم بيعه كآلات الملاهي مثل العود و الزمر، و هياكل العبادة المبتدعة كالصليب و الصنم و آلات القمار كالنرد و الشطرنج إن كان رضاضها لا يعدّ مالا، و به قال الشافعي.

و إن عدّ مالا فالأقوى عندي الجواز مع زوال الصفة المحرمة. و للشافعي ثلاثة أوجه: الجواز مطلقا لما يتوقّع في المآل، و الفرق بين المتّخذة من الخشب و نحوه و

المتّخذة من الجواهر النفسية، و المنع و هو أظهرها لأنّها آلات المعصية لا يقصد بها سواها.» «1»

7- و في المنتهى: «و يحرم عمل الأصنام و الصلبان و غيرهما من هياكل العبادة المبتدعة و آلات اللهو كالعود و الزمر و آلات القمار كالنرد و الشطرنج و الأربعة عشر و غيرها من آلات اللعب بلا خلاف بين علمائنا.» «2»

أقول: المذكور في كلامه و إن كان عمل هذه الآلات لكن قد مرّ أنّ حرمة العمل في هذه الأشياء تكون بلحاظ الهيئة الحاصلة منه و الآثار الفاسدة المترتبة عليها فتسقط بذلك عن الماليّة شرعا فلا تصحّ المعاملة عليها.

8- و في مجمع الفائدة قال: «و دليل تحريم الكلّ الإجماع.» «3» ثمّ ذكر عبارة المنتهى شاهدة لذلك.

9- و في الرياض: «بإجماعنا المستفيض النقل في كلام جماعة من أصحابنا و هو الحجّة.» «4»

10- و في المستند: «و منها: ما يقصد منه المحرّم كآلات اللهو من الدفّ و القصب و الزمار و الطنبور و هياكل العبادات المبتدعة و آلات القمار من النرد

______________________________

(1) التذكرة 1/ 465، كتاب البيع، في شرائط العوضين.

(2) المنتهى 2/ 1011، كتاب التجارة، النوع الثاني ما يحرم لتحريم ما قصد به.

(3) مجمع الفائدة 8/ 41، أقسام التجارة و أحكامها.

(4) رياض المسائل 1/ 499، كتاب التجارة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 155

..........

______________________________

و الشطرنج و غيرهما، و لا خلاف في حرمة بيعها و التكسّب بها، و نقل الإجماع- كما قيل به- مستفيض، بل هو إجماع محقّق و هو الحجّة فيه ...» «1».

أقول: يظهر ممّا حكيناه من الكلمات أنّ المسألة كانت معنونة في كتب القدماء من أصحابنا المعدّة لنقل المسائل المأثورة و ادّعاء جمع الإجماع و عدم الخلاف فيها.

و لا يخفى أنّ

الهيئات فيما ذكر من الأمور مقوّمة لماليّتها عند العرف بحيث تلحظ في التقويم و المعاملة بل هي الركن فيهما. و إن فرض لحاظ المادّة أيضا في بعضها.

ثمّ إنّه قد يكون لموادّها أيضا قيمة و ماليّة كما إذا صنعت من الجواهر النفيسة و قد لا تكون كذلك كما إذا صنعت من الطين مثلا.

ثمّ إنّ منفعتها قد تنحصر في الحرام، و قد لا تنحصر فيه بل توجد لها منفعة محلّلة أيضا ملحوظة عند العقلاء. و المحلّلة قد تكون بحدّ توجب الماليّة بنفسها، و قد لا تكون كذلك بل تكون نادرة جدا غير موجبة للماليّة و الرغبة.

و المعاملة قد تقع على المادّة بهيئتها الخاصّة، و قد تقع على المادّة فقط بعد كسر الهيئة أو بدونه.

و على الأوّل فقد تقع بقصد المنفعة المحرّمة فقط و قد تقع بقصد المحلّلة و لو بقصد حفظها في المتاحف، و قد تقع مطلقة و لكن يعلم بأنّه ينتفع منها محرّما و المشتري يشتريها لذلك، فهذه شقوق المسألة.

و القدر المتيقّن من الكلمات و معقد الإجماعات المتقدّمة صورة وقوع المعاملة على الآلات المذكورة بهيئاتها و كون الغرض من اشترائها الانتفاع بها فيما صنعت لأجلها من الانتفاعات المحرّمة.

و يشكل دعوى إطلاقهما لما إذا وقع البيع على موادّها الخشبية أو الفلزية فقط، و لو قبل كسرها، أو كان الغرض من اشترائها كسرها و إتلافها، أو حفظها في المتاحف، فتدبّر.

______________________________

(1) مستند الشيعة 2/ 335، في المكاسب المحرّمة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 156

[الاستدلال على حرمة بيع هياكل العبادة بقصد منافعها المحرمة]
اشارة

و يدلّ عليه مواضع من رواية تحف العقول المتقدّمة مثل قوله: «و كلّ أمر يكون فيه الفساد ممّا هو منهيّ عنه» و قوله: «أو شي ء يكون فيه وجه من وجوه الفساد.» و قوله: «و

كلّ منهي عنه ممّا يتقرّب به لغير اللّه.»

و قوله: «إنّما حرّم اللّه الصناعة التي هي حرام كلّها ممّا يجي ء منه الفساد محضا نظير المزامير و البرابط و كلّ ملهوّ به و الصلبان و الأصنام- إلى أن قال- فحرام تعليمه و تعلّمه و أخذ الأجرة عليه و جميع التقلّب فيه من جميع وجوه الحركات الخ.»

هذا كلّه مضافا إلى أنّ أكل المال في مقابل هذه الأشياء أكل له بالباطل، و إلى قوله صلى اللّه عليه و آله: «إنّ اللّه إذا حرّم شيئا حرم ثمنه.»

بناء على أنّ تحريم هذه الأمور تحريم لمنافعها الغالبة بل الدائمة، فإنّ الصليب من حيث إنّه خشب بهذه الهيئة لا ينتفع به إلّا في الحرام، و ليس بهذه الهيئة ممّا ينتفع به في المحلّل و المحرّم. و لو فرض ذلك كان منفعة نادرة لا يقدح في تحريم العين بقول مطلق الذي هو المناط في تحريم الثمن. (1)

______________________________

الاستدلال على حرمة بيع هياكل العبادة بقصد منافعها المحرمة

(1) أقول: المبحوث عنه أوّلا هو بيع هياكل العبادة بهيئاته الخاصّة بقصد منافعها المحرّمة. و استدلّوا لذلك بوجوه:

الوجه الأوّل: الإجماع المدّعى في كلام جماعة كما مرّ.

و فيه: احتمال كون الفتاوى ناشئة عمّا يأتي من الأدلّة اللفظيّة فكون الإجماع هنا دليلا مستقلا بحيث يكشف به عن تلقي المسألة مستقيما عن الأئمة عليهم السّلام يدا بيد مشكل، و إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 157

الوجه الثاني: فقرات من رواية تحف العقول

______________________________

المتقدّمة كما في المتن.

و فيه: ما مرّ من إرسال الرواية و اضطراب متنها. و كون فتاوى المشهور مستندة إليها بحيث يجبر بها ضعفها غير واضح، مضافا إلى أنّ جبران ضعف الأخبار بالشهرة الفتوائيّة ممنوع عند بعض و إن قرّبناه نحن، فراجع الجهة الرابعة ممّا ذكرناه سابقا في بيان رواية تحف العقول. «1»

و في مصباح الفقاهة أجاب عن الاستدلال بالرواية مضافا إلى ضعفها بأنّ النهي فيها ظاهر في الحرمة التكليفيّة فلا دلالة فيها على الحرمة الوضعيّة. «2»

و فيه: أنّا قد بيّنا في الجهة الرابعة ممّا ذكرناه في بيان الرواية أنّ ألفاظ الحرمة و الحليّة في الكتاب و السنّة، بل في كلمات الأصحاب أيضا استعملت في الأعمّ من التكليف و الوضع و يظهر المراد منهما بقرينة المقام و الموضوع. و في باب المعاملات تنصرفان إلى الوضع حيث إنّه المترقّب منها، و النهي فيها أيضا ظاهر في الإرشاد إلى الفساد.

و بما ذكرنا يظهر النظر فيما ذكره الأستاذ الإمام في المقام في عنوان البحث، حيث قال: «و منها هياكل العبادات المخترعة مثل الأصنام، و يأتي فيها ما تقدّم في القسم الأوّل من البحث عن حرمة بيعها و المعاوضة عليها بعنوانها، و عن حرمة ثمنها بعنوانه، و عن بطلان المعاملة بها المترتّب عليه كون ثمنها مقبوضا بالمعاملة الفاسدة. «3»»

و محصّل كلامه «ره» وجود أحكام ثلاثة في هذا الموضوع: حرمة معاملتها تكليفا، و حرمة ثمنها بعنوان أنّه

ثمن للصنم مثلا، و بطلان المعاملة عليها وضعا

______________________________

(1) راجع دراسات في المكاسب المحرّمة 1/ 88.

(2) مصباح الفقاهة 1/ 148.

(3) المكاسب المحرّمة 1/ 106 (ط. الجديدة 1/ 161).

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 158

..........

______________________________

المترتّب عليه عدم انتقال الثمن إليه و كون تصرّفه فيه تصرّفا في مال الغير، و قد التزم بذلك في النوع الأوّل أعني بيع النجس، بل جعل الحكمين الأوّلين أصيلين و الحكم الثالث غير أصيل يظهر بالتبع. و استدلّ للحكم الأوّل برواية تحف العقول و نحوها، و للثاني بما دلّ على تحريم الثمن من أخبار الفريقين، و للثالث بأنّ تحريم الثمن لا يجتمع عرفا مع الصحّة و إيجاب الوفاء بالعقود مضافا إلى الإجماع على البطلان.

أقول: يظهر ممّا مرّ أنّ إسناد الحرمة و الحليّة في الكتاب و السنّة إلى المعاملات ظاهر في الوضع نظير قوله- تعالى-: وَ أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبٰا «1»، و لا ينافي ذلك إرادة التكليف بهما إن أسندا إلى العمل كالاقتناء و الإمساك. و لا نريد بذلك استعمال اللفظ في معنيين بل في معنى جامع، فأريد بالحلال ما أطلقه الشرع بحسب ما يناسبه من التكليف أو الوضع، و بالحرام ما منع منه و حدّده كذلك.

و قوله: «إنّ اللّه إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه» «2» لا يراد به كون ثمن الشي ء بما أنّه ثمن له من المحرّمات، بل هو كناية عن بطلان المعاملة و عدم انتقال الثمن لعدم الماليّة شرعا، فيكون التصرّف فيه تصرّفا في مال الغير، فالثابت في المسألة حكم واحد و هو الحكم الوضعي و يترتّب عليه التكليف قهرا.

و لو سلّم حرمة المعاملة تكليفا أيضا كما ربما نلتزم بها في مثل الربا و بيع الخمر لما فيهما

من التأكيدات فحرمة الثمن بما أنّه ثمن للصنم مثلا غير واضحة و إن أصرّ عليها الأستاذ. «3»

الوجه الثالث: ما أشار إليه المصنّف في المتن، أعني قوله- تعالى:

______________________________

(1) سورة البقرة (2)، الآية 275.

(2) الخلاف 3/ 184 و 185 (ط. أخرى 2/ 81 و 82)، المسألتان 308 و 310. و لتفصيل المصادر راجع دراسات في المكاسب المحرّمة 1/ 143 و ما بعدها.

(3) المكاسب المحرّمة 1/ 13 (ط. الجديدة 1/ 20).

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 159

..........

______________________________

لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ إِلّٰا أَنْ تَكُونَ تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ مِنْكُمْ. «1» بناء على تعميم الباطل للباطل الشرعي أيضا و إن لم يكن باطلا عند العرف.

و فيه: ما عرفت سابقا «2» من أنّ الباء في قوله: «بالباطل» ظاهرة في السببية لا المقابلة، فأريد النهي عن أكل مال الغير و تملّكه بالأسباب الباطلة نظير الرشوة و القمار و السرقة و نحوها.

و يشهد لذلك استثناء التجارة التي هي من الأسباب المملّكة، و المستثنى يكون من سنخ المستثنى منه. و ليست الباء للمقابلة نظير ما تدخل على الأثمان في المعاوضات.

و بالجملة ليست الآية بصدد بيان شرط العوضين و أنّهما من ذوات الماليّة عرفا و شرعا أو من الأمور الباطلة. بل بصدد النهي عن تملك مال الغير بالأسباب الباطلة عند العقلاء و الشارع.

و يشهد لذلك أيضا- مضافا إلى ما مرّ- ما ورد في تفسير الآية:

كصحيحة زياد بن عيسى، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قوله (قول اللّه خ. ل)- عزّ و جلّ-: «لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ.» فقال: «كانت قريش تقامر الرجل بأهله و ماله فنهاهم اللّه- عزّ و جلّ- عن ذلك.» «3»

و نحوها ما رواه العياشي عن محمّد بن عليّ عنه. «4»

و الظاهر أنّ المراد بزياد بن عيسى أبو عبيدة

الحذّاء و لذا وصفنا الرواية بالصحّة.

و ما عن نوادر أحمد بن محمّد بن عيسى عن أبيه، قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام، في قول اللّه- عزّ و جلّ-: لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ قال: «ذلك

______________________________

(1) سورة النساء (4)، الآية 29.

(2) راجع دراسات في المكاسب المحرّمة 1/ 14 و 15.

(3) الوسائل 12/ 119، الباب 35 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

(4) نفس المصدر و الباب، ص 120، الحديث 9.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 160

..........

______________________________

القمار.» «1»

و نحوها ما رواه العياشي عن أسباط بن سالم عنه عليه السّلام. «2»

الوجه الرابع: ما ذكره المصنّف أيضا من النبويّ المشهور:

«إنّ اللّه إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه.» «3»

بتقريب أنّ تعلّق التحريم بشي ء بنحو الإطلاق و كذا تحريم ثمنه لا يصحّ إلّا إذا حرم جميع منافعه أو منافعه الغالبة الموجبة للماليّة بحيث خرج بذلك عن الماليّة شرعا، و هياكل العبادات من هذا القبيل.

و فيه: أنّ الحديث- مضافا إلى عدم وروده من طرقنا و عدم ثبوت اعتماد المشهور عليه ليجبر بذلك ضعفه- اختلف في متنه، و النقل المشهور فيه: «إنّ اللّه- تعالى- إذا حرّم على قوم أكل شي ء حرّم عليهم ثمنه.» «4» فلا يناسب المقام، و يراد به لا محالة تحريم الثمن إذا بيع ما حرّم أكله بداعى أكله لا مطلقا، فوزانه وزان قوله عليه السّلام في صحيحة محمّد بن مسلم في الخمر: «إنّ الذي حرّم شربها حرّم ثمنها» «5» حيث حملناها على بيعها بداعي الشرب لا مطلقا.

اللّهم إلّا أن يقال: إنّه يستفاد من الحديثين وجود الملازمة بين حرمة الانتفاع بالشي ء و حرمة ثمنه إجمالا فيعلم منهما حكم المقام أيضا.

نعم روى الحديث أحمد في موضع ثالث من مسنده بدون كلمة الأكل. «6»

______________________________

(1) نفس المصدر و الباب،

ص 121، الحديث 14.

(2) نفس المصدر و الباب، ص 120، الحديث 8.

(3) مستدرك الوسائل 2/ 427، الباب 6 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 8؛ و من أراد تفصيل البحث حول الرواية فليراجع دراسات في المكاسب المحرّمة 1/ 143.

(4) سنن أبي داود 2/ 251، كتاب الإجارة.

________________________________________

نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في المكاسب المحرمة، 3 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، اول، 1415 ه ق

دراسات في المكاسب المحرمة؛ ج 2، ص: 160

(5) الوسائل 12/ 164، الباب 55 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

(6) مسند أحمد 1/ 322.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 161

..........

______________________________

فراجع ما حرّرناه في متن الحديث و طرقه في المجلد الأوّل من دراساتنا في المكاسب. «1»

الوجه الخامس: قوله- تعالى:

فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثٰانِ «2»

و قوله: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصٰابُ وَ الْأَزْلٰامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطٰانِ فَاجْتَنِبُوهُ «3»

قال في مجمع البيان: «و الأنصاب: الأصنام، واحدها نصب، و سمّي بذلك لأنّها كانت تنصب للعبادة لها.» «4»

و قوله: وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ «5»

ففي التبيان: «قال ابن عباس و مجاهد و قتادة و الزهري: معناه: فاهجر الأصنام.» «6»

و في الدر المنثور عن جابر قال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله يقول: «و الرجز فاهجر» برفع الراء، و قال: «هي الأوثان.» «7» هذا.

و الاستدلال بالآيات الثلاث بتقريب أنّ الاجتناب و كذا الهجر المطلق يقتضي الاجتناب عن البيع أيضا.

و فيه: أنّ الاجتناب عن كلّ شي ء ينصرف إلى الاجتناب عمّا يناسبه و يترقّب منه بطبعه، فالاجتناب عن الخمر بترك شربها، و عن اللباس بترك لبسه، و عن

______________________________

(1) دراسات في المكاسب المحرّمة 1/ 143.

(2) سورة الحج (22)، الآية 30.

(3) سورة المائدة (5)، الآية 90.

(4) مجمع البيان 2/ 239 (الجزء

الثالث).

(5) المدثر (74)، الآية 5.

(6) التبيان 2/ 724 (ط. أخرى 10/ 173).

(7) الدر المنثور 6/ 281.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 162

..........

______________________________

الأصنام بترك عبادتها، و أمّا ترك بيعها فلا يستفاد من ظاهر الآية.

اللّهم إلّا أن يقال: إنّ الاجتناب المطلق عن الشي ء يقتضي حرمة جميع الانتفاعات منه، و مقتضى ذلك سقوطه عن الماليّة شرعا فتبطل المعاملة عليه لذلك، فتدبّر.

الوجه السادس: ما دلّ على النهي عن بيع الخشب لمن يتّخذه صليبا أو صنما،

إذ بيع الخشب الذي هو حلال إذا حرم لذلك فبيعهما أولى بالحرمة:

ففي صحيحة عمر بن أذينة قال: كتبت إلى أبي عبد اللّه عليه السّلام أسأله عن رجل له خشب فباعه ممّن يتّخذه برابط؟ فقال: «لا بأس به». و عن رجل له خشب فباعه ممّن يتّخذه صلبانا؟ قال: «لا» «1»

و ظهورها في المنع في محلّ البحث ظاهر و لكن الإشكال في التفصيل بين بيعه لآلات اللهو و بيعه للصليب.

قال المجلسي في مرآة العقول: «و المشهور بين الأصحاب حرمة بيع الخشب ليعمل منه هياكل العبادة و آلات الحرام، و كراهته ممّن يعمل ذلك إذا لم يذكر أنّه يشتريه له، فالخبر محمول على ما إذا لم يذكر أنّه يشتريه لذلك، فالنهي الأخير محمول على الكراهة، و حمل الأوّل على عدم الذكر و الثاني على الذكر بعيد.

و ربّما يفرّق بينهما بجواز التقية في الأوّل لكونها ممّا يعمل لسلاطين الجور في بلاد الإسلام دون الثاني.» «2»

أقول: و يمكن أن يقال: إنّ فساد هياكل العبادة أكثر، فيحرم البيع لها و لو مع عدم الذكر بل في الأمور المهمّة الظنّ و الاحتمال أيضا منجّزان. هذا.

و في خبر عمرو بن حريث قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن التوت أبيعه يصنع به

______________________________

(1) الوسائل 12/ 127، الباب 41 من أبواب ما يكتسب به،

الحديث 1.

(2) مرآة العقول 19/ 265، كتاب المعيشة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 163

..........

______________________________

الصليب و الصنم؟ قال: «لا.» «1»

أقول: السند في الوسائل عن الشيخ هكذا: «الحسن بن محبوب، عن أبان بن عيسى القمّي، عن عمرو بن حريث.»

و لكن في الكافي و التهذيب: «أبان عن عيسى» و هو الصحيح. و في الكافي:

«عمرو بن جرير» و هو مجهول. نعم في التهذيب: «عمرو بن حريث» و في الطبع القديم من الكافي جعله نسخة، و عليه فالسند لا بأس به. «2»

و في مصباح الفقاهة- بعد الإشارة إلى الروايتين و الاستدلال بهما للمقام- قال: «و هذا هو الوجه الوجيه، و يؤيّده قيام السيرة القطعيّة المتّصلة إلى زمان المعصوم عليه السّلام على حرمة بيع هياكل العبادة، و يؤيّده أيضا وجوب إتلافها حسما لمادّة الفساد كما أتلف النبي صلى اللّه عليه و آله و عليّ عليه السّلام أصنام مكّة فإنّه لو جاز بيعها لما جاز إتلافها.» «3»

أقول: يمكن القول بالتفصيل بحسب الأزمنة و الشرائط: ففي عصر عبادة الأصنام و الاحترام لها وجب إتلافها حسما لمادّة الفساد، كما صنع رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و أمير المؤمنين عليه السّلام بأصنام مكّة بعد فتحها، و كما صنع خليل الرحمن عليه السّلام بأصنام النماردة و موسى عليه السّلام بعجل السّامريّ، و مع فرض كونها مادّة للفساد بالكليّة سقطت ماليتها عند الشرع.

و أمّا إذا فرض في أعصارنا العثور على أصنام الأمم البائدة في الحفريّات مع

______________________________

(1) الوسائل 12/ 127، الباب 41 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2.

(2) راجع الكافي 5/ 227 (ط. القديمة 1/ 393)، كتاب المعيشة، الباب 13، الحديث 5؛ و التهذيب 6/ 373 (ط. القديمة 2/ 112)، كتاب المكاسب،

الباب 93، الحديث 205؛ و أيضا 7/ 134 (ط. القديمة 2/ 154)، كتاب التجارة، الباب 9، الحديث 62.

(3) مصباح الفقاهة 1/ 149.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 164

..........

______________________________

انقراض عبدتها بالكليّة فليست مادّة للفساد و لا يترتب على إتلافها فائدة عقلائيّة أو شرعيّة إذ لا يرغب أحد في عبادتها و تكريمها. فإذا رغب العقلاء في حفظها في المتاحف لانتفاعات علميّة و تاريخيّة فوجوب إتلافها حينئذ غير واضح، بل ربما يعدّ تضييعا للأموال، و ليست أحكام الشرع جزافية. و أدلّة منع بيعها من الأخبار و كلمات الأصحاب و معاقد الإجماعات تنصرف جدّا عن هذه الصورة. و يظهر من رواية تحف العقول أيضا بعد ضمّ بعض فقراتها إلى بعض تعليل المنع فيما حرم بما فيه من الفساد، فلا منع مع عدم الفساد و وجود الصلاح.

و قد مرّ منّا نظير ذلك في باب الخمر و أنّ إكفاء رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله لأواني الخمر في المدينة حين ما نزل تحريمها كان حكما سياسيا موقّتا لقطع مادّة الفساد و تثبيت حكم التحريم، فلا يجري ذلك في عصرنا بالنسبة إلى من يريد تخليل خمره مثلا، فتدبر.

الوجه السابع: ما في دعائم الإسلام

قال: «روّينا عن جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن آبائه، عن عليّ عليهم السّلام: «أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله نهى عن بيع الأحرار و عن بيع الميتة و الدّم و الخنزير و الأصنام. الحديث.» و رواه عنه في المستدرك. «1»

و نحوه ما رواه أبو داود بسنده عن جابر بن عبد اللّه أنّه سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله يقول عام الفتح و هو بمكّة: «إنّ اللّه حرّم بيع الخمر و الميتة و الخنزير و الأصنام.

الحديث.» «2»

و فيه:

ضعف الخبرين سندا و إن لا يبعد الوثوق بالصدور إجمالا بعد تقارب ما عن طرق العامّة و ما في الدعائم عن عليّ عليه السّلام، و أمّا دلالتهما فلا إشكال فيها لما مرّ من أنّ النهي في المعاملات ظاهر في الإرشاد إلى الفساد، و الحرمة فيها ظاهرة

______________________________

(1) دعائم الإسلام 2/ 18؛ و عنه في مستدرك الوسائل 2/ 427، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5.

(2) سنن أبي داود 2/ 250، كتاب الإجارة، باب في ثمن الخمر و الميتة، الحديث 2.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 165

..........

______________________________

في الوضع. فإشكال مصباح الفقاهة «1» بعدم الدلالة على الفساد مدفوع.

الوجه الثامن: ما ذكره الأستاذ الإمام «ره» في المقام،

و هو بيان جامع يشتمل على الاستدلال بالعقل و بالنقل أيضا بوجوه مختلفة، فلنذكره بعبارته و إن طالت، قال: «لا ينبغي الإشكال في حرمة بيعها و بطلانه في الصور التي يترتّب عليها الحرام، الاستقلال العقل بقبح ما يترتّب عليه عبادة الأوثان و مبغوضيّته، بل قبح تنفيذ البيع و إيجاب الوفاء بالعقد المترتّب عليه عبادة غير اللّه- تعالى-. بل لو ادّعى أحد القطع بأنّ الشارع الأقدس الذي لا يرضى ببيع الخمر و شرائها و عصرها، و لعن بائعها و مشتريها و حرّم ثمنها و جعله سحتا، لا يرضى بذلك في الصنم، و لا يرضى ببيعه و شرائه و نحوهما [كان في محلّه- ظ].

بل يستفاد من الأدلّة أنّ تحريم ثمن الخمر و سائر المسكرات و تحريم بيعها و شرائها للفساد المترتّب عليها، و معلوم أنّ الفساد المترتّب على الأوثان و بيعها و شرائها أمّ جميع المفاسد، و ليس وراء عبّادان قرية.

بل يظهر من الروايات المنقولة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و أبي جعفر و أبي

عبد اللّه عليهم السّلام «2» مستفيضة: أنّ مدمن الخمر كعابد وثن: أنّ عبادته شرّ منه يترتّب عليها فوق ما يترتّب عليه، فكيف يمكن ذلك التشديد في الخمر لقطع الفساد دون الأوثان، مضافا إلى دلالة الروايات العامّة المتقدّمة كرواية التحف و غيرها ...» «3»

أقول: مقتضى التشبيه المذكور في الروايات المشار إليها كون الملاك في المشبّه به أقوى فإذا حرم الخمر و شربها و بيعها و ثمنها و جعل ثمنها سحتا و حكمنا بفساد بيعها وضعا و بحرمته تكليفا بمقتضى التأكيدات الواردة فيها كما مرّ في مسألة بيع الخمر، فجميع هذه الأمور تجري في الوثن و عبادته و بيعه و شرائه و ثمنه بنحو أكمل و أوفى.

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 149.

(2) راجع الوسائل 17/ 253، الباب 13 من أبواب الأشربة المحرّمة.

(3) المكاسب المحرّمة 1/ 107 (ط. الجديدة 1/ 162).

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 166

..........

______________________________

و بذلك يظهر ثبوت التكليف و الوضع معا في المسألة و عدم انحصار دليلها في دليل العقل حتى يناقش في جريان الاستصحاب في الموارد المشكوكة في المسألة، بناء على المناقشة في جريانه في الأحكام الشرعيّة المستنبطة من الأحكام العقليّة المحضة كما ذكره الشيخ الأعظم «ره» في الرسائل. «1»

و قد تحصل ممّا ذكرنا من الأدلّة حرمة بيع هياكل العبادة و بطلانه، و أنها ساقطة عن المالية عند الشارع من غير فرق بين كونها متّخذة ممّا لا قيمة له كالخزف أو ممّا له قيمة و ماليّة كالجواهر النفيسة.

فإن قلت: ما ذكرت من بطلان المعاملة عليها إنّما يصحّ فيما لم يكن لمادّتها قيمة و ماليّة و أمّا إذا كان لمادّتها ماليّة مع قطع النظر عن الهيئة الموجدة فيها كما إذا صنعت من الجواهر النفسية فلم

لا يكون بيعها من قبيل بيع ما يملك و ما لا يملك كبيع الشاة مع الخنزير مثلا حيث قالوا فيه بصحّة البيع بالنسبة إلى ما يملك و تقسيط الثمن عليهما بالنسبة؟ ففي المقام أيضا يجب أن نلتزم بصحّة المعاملة بالنسبة إلى المادّة بقسطها من الثمن، غاية الأمر أنّ للمشتري خيار تبعّض الصفقة مع جهله.

قلت: تبعّض المعاملة و تقسيط الثمن إنّما يجريان فيما إذا كان لكلّ ممّا يملك و ما لا يملك وجود مستقل ملحوظ في التقويم و المعاملة معا كما في مثال الشاة و الخنزير، و المقام ليس كذلك، إذ الهيئة و المادّة هنا توجدان عند العرف بوجود واحد، و الهيئة عندهم بمنزلة الصورة النوعيّة المقوّمة للمادّة المتّحدة معها.

لا أقول: إنّ المعاملة تقع على الهيئة كما قد يتوهّم من بعض الكلمات، بل أقول: إنّها تقع على المادّة المتهيّئة بالهيئة الكذائيّة، و لكنّهما يعتبران أمرا واحدا، و تعدّ الهيئة مقوّمة لها و إن كانت بالنظر الفلسفي من الأعراض. نظير هيئة السرير

______________________________

(1) فرائد الأصول/ 378 (ط. أخرى 2/ 650) التنبيه الثالث من الاستصحاب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 167

..........

______________________________

الواردة على الخشب، و هيئة الفراش الواردة على الصوف مثلا، حيث يحكم العرف باتّحاد المادّة و الهيئة وجودا و مالكا و يعدّون الفراش و الثوب مثلا أمرين متباينين و إن كانت مادّتهما واحدة.

فلو نسج أحد صوف الغير عباء لا يحكمون بالتبعض في المالكيّة و كون المادّة لأحدهما و الهيئة للآخر، بل يحكمون بكونه أمرا واحدا لمالك المادّة و أنّ العامل يستحق أجرة عمله إن وقع بالإذن و إلّا وقع هدرا.

و لو باعه شيئا على أنّه عباء مثلا فبان فراشا لا يحكمون بصحّة المعاملة و أنّ للمشتري خيار

تخلّف الوصف بل يحكمون ببطلانها لتباين الشيئين عندهم.

و بالجملة فالهيئات في أمثال هذه الأمور و منها هياكل العبادة و آلات القمار و آلات اللهو و الدراهم و الدنانير متّحدة مع الموادّ عرفا، و الكثرة تحليليّة عقليّة كما في الجسم و الصور النوعيّة المتّحدة معه.

فلا مجال للقول بتبعض المعاملة و تقسيط الثمن، بل تقع باطلة بلحاظ ما يترتب عليها من الفساد المحض.

بعض الصور المستثناة من حرمة بيع هياكل العبادة

نعم، الظاهر- كما مرّ- «1» عدم شمول الأدلّة بكثرتها لما إذا لم يترتّب عليها الفساد أصلا كما إذا انقرضت عبدة الأصنام بالكليّة و كان الغرض من اشترائها حفظها في المتاحف للانتفاعات العلميّة و التاريخيّة.

بل و كذا إذا كان الملحوظ في المعاملة هي المادّة فقط و لم تقع الهيئة ملحوظة أصلا- كما إذا باع وزنة من حطب فظهر فيها صلبان من خشب- كما يأتي في كلام المصنّف عن قريب، إذ لا يبعد القول بانصراف أدلّة المنع عن هذه الصورة

______________________________

(1) راجع ص 163 من الكتاب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 168

..........

______________________________

أيضا، حيث لا يصدق على بيعها حينئذ بيع الصلبان بل بيع الخشب فيشملها عمومات البيع و التجارة و العقود. اللّهم إلّا أن يدّعى في بعض الموارد جريان استصحاب المنع فيقدّم على العمومات بناء على كون المقام من موارد تقديم استصحاب حكم المخصّص على التمسّك بعموم العامّ، و لكنّه قابل للمنع إذ تقديم استصحاب حكم المخصّص إنّما يصحّ فيما إذا لم يتعرض العامّ إلّا للأفراد دون قطعات الزمان و الحالات المختلفة، فإذا خرج منه فرد و شكّ في طول عمره و قصره لم يكن إجزاء الاستصحاب فيه موجبا لتخصيص زائد في العامّ. نظير ما إذا شكّ في فوريّة خيار الغبن و استمراره. و المقام ليس

من هذا القبيل، إذ ليس الصنم مثلا فردا للعام في المقام، بل نفس البيع أو التجارة أو العقد الوارد عليه. فكل بيع مثلا فرد مستقلّ لقوله- تعالى-: أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ، فيكون القول بحرمته و بطلانه حينئذ موجبا لتخصيص زائد في العامّ فيكون المقام مقام الأخذ بالعامّ لا استصحاب حكم المخصّص.

اللّهم إلّا أن يقال أوّلا: بمنع العموم في مثل قوله: أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ لعدم كونه في مقام البيان كما مرّ بيانه سابقا. و ثانيا: بمنع تعرّض هذه الأدلّة لحكم متعلّقات البيع و التجارة و العقود و أنّها ممّا يجوز إيقاعها عليها أم لا.

و بعبارة أخرى: عمومها بلحاظ مصاديق البيع و التجارة و العقد و ليست متعرّضة لشرائط العوضين و ما يعتبر فيهما، فتأمّل.

و أمّا المناقشة في الاستصحاب في المقام من جهة المناقشة في استصحاب الحكم الشرعي المستند إلى حكم العقل، فقد مرّت الإشارة إلى الجواب عنها بأنّ الدليل للمنع في المقام لا ينحصر في حكم العقل، فراجع الأدلّة التي سردناها للمنع. «1»

______________________________

(1) راجع ص 166 و ما قبلها من الكتاب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 169

..........

______________________________

مضافا إلى ما قيل من إمكان كون الملاك و الموضوع للحكم الشرعي أعمّ من موضوع حكم العقل و إن كان حكم العقل وسطا لإثباته، و التحقيق موكول إلى محلّه. هذا.

كلام المحقّق الإيرواني و المناقشة فيه

و للمحقّق الإيرواني «ره» في المقام كلام ينبغي التعرّض له و لما فيه، قال ما محصّله: «اعلم أنّ هذه الأمور بين ما منفعته منحصرة في الهيئة و بين ما لمادّته أيضا منفعة محلّلة شائعة.

ثمّ القسم الأوّل إمّا أن تنحصر منفعة الهيئة في الحرام أو تكون مشتركة بين الحلال و الحرام، فهذه أقسام ثلاثة.

لا إشكال في أنّ الأوّل تحرم المعاملة عليه،

بل هو المتيقّن من أدلّة المنع كرواية تحف العقول و نحوها. و الأخير تحلّ المعاملة عليه لفرض وجود المنفعة المحلّلة الشائعة المترتّبة على الهيئة، و سيجي ء البحث عن المعاملة على ذي المنفعتين مع قصد المنفعة المحرّمة.

و أمّا القسم الوسط فبعد الكسر و إزالة الهيئة لا إشكال أيضا في أنّه يجوز البيع، و كذا قبل الكسر إن أنشئت المعاملة على مادّته بلا قيد الهيئة.

و إنّما الإشكال فيما إذا وقعت على المادّة بهيئتها. و المصنّف اختار فسادها لعدم المنفعة للبيع في المادّة بقيد الهيئة، و المادّة لا بشرط لم يقع عليها عقد. و الحقّ هو الصحّة و أنّه لا فرق بين أن تكون المنفعتان المحلّلة و المحرّمة واردتين على المادّة المتهيّئة بهيئة خاصّة أو الواردة إحداهما على المادّة و الأخرى على الهيئة، لصدق أنّ المبيع فيه جهة من وجوه الصلاح إذا اشتمل على المنفعة المحلّلة الشائعة سواء كانت للهيئة أو للمادّة، فإنّ ما في الخارج واحد بسيط و المنفعة له، و المعاملة واقعة عليه،

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 170

..........

______________________________

و التحليل إنّما هو في العقل. و لو فرضنا التركيب الخارجى أيضا صحّت لعدم بناء أحكام الشرع على هذه المداقّات.

و الحاصل: أنّ كبرى المسألة و هي جواز بيع ذي المنافع المشتركة بين الحلال و الحرام ممّا لا إشكال فيها. و صغرى المسألة أعني كون المقام من هذا القبيل أيضا ممّا لا إشكال فيها و إن كانت إحداهما للمادّة و الأخرى للهيئة، فإنّ المادّة و الهيئة في الخارج شي ء واحد.

فتحصّل: أنّ المعاملة في جميع ما ذكره المصنّف من الأمور جائزة إلّا صورة انحصار المنفعة في الحرام.

هذا مع أنّ هياكل العبادة و أواني النقدين و الدراهم الخارجيّة بهيئاتها أيضا

ذوات منافع شائعة محلّلة و هي منفعة التزيين.» «1»

أقول: ما ذكره من صحّة المعاملة فيما إذا ترتّبت المنفعتان على الشي ء بهيئتها صحيح بشرط وقوعها بلحاظ المحلّلة أو بنحو الإطلاق، إذا لشي ء حينئذ يعدّ مالا عرفا و شرعا، و يشكل الصحّة إن وقعت بلحاظ المحرّمة بل الظاهر الفساد كما يأتي في الجارية المغنّية إذا بيعت بلحاظ غنائها.

و أمّا إذا لم يكن للشي ء بلحاظ هيئتها المقوّمة له عرفا إلّا المنفعة المحرّمة، و المفروض عدم انحياز المادّة و عدم وقوع المعاملة بلحاظها، و وقوعها بلحاظهما معا، لا يوجب تبعّض المعاملة بالنسبة إليهما لما مرّ من عدم تبعضها بالنسبة إلى الأجزاء فكيف بالأجزاء التحليليّة كالمادة و الصورة، فالثمن على هذا يقع بإزاء هذا الشي ء الواحد الخارجي الذي لا يترتّب عليه إلّا الفساد المحض.

و إذا فرض أنّ بيع الخشب لمن يعمله صنما أو صليبا لا يجوز كما دلّ عليه ما مرّ من الروايتين، مع كون الخشب بنفسه حلالا جائز البيع، فكيف يجوز بيع نفس

______________________________

(1) حاشية المكاسب للمحقّق الإيرواني/ 13.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 171

..........

______________________________

الصنم أو الصليب؟!

و يمكن الاستيناس للمسألة ممّا دلّ على فساد المعاملة على الجارية المغنّية إذا وقعت بلحاظ غنائها، إذ مع كون الغناء وصفا زائدا على الجارية عارضا عليها، و الجارية بنفسها لها ماليّة و الثمن يقع بإزائها في المعاملة إذا فرض حكم الشارع بفساد معاملتها بلحاظ ما يترتّب على المبيع في هذه الصورة من الفساد فبطلانها في المقام أولى، لأنّ الهيئة مقوّمة للشي ء و الفساد المترتّب عليه أعظم و أشدّ كما لا يخفى.

و قد تحصّل ممّا ذكرناه بطوله أنّ بيع هياكل العبادة بهيئاتها الخاصّة حرام تكليفا و فاسد وضعا إذا لم يكن لها بلحاظ

هيئاتها المقوّمة لها عرفا إلّا المنفعة المحرّمة أو كانت المحلّلة منها نادرة جدّا غير ملحوظة عند العقلاء، سواء كانت لمادّتها قيمة أم لا. و قد أقمنا لذلك أدلّة ثمانية و إن كان بعضها قابلا للمناقشة.

قال الأستاذ الإمام «ره» في مكاسبه: «هذا حال ما علم ترتّب الحرام عليه. و لا يبعد إلحاق ما يكون مظنّة لذلك به، بل صورة احتمال ترتّبه أيضا، احتياطا لأهميّة الموضوع و شدّة الاهتمام به فلا يقصر عن الأعراض و النفوس بل أولى منهما في إيجاب الاحتياط.» «1» انتهى. و ما ذكره متين كما لا يخفى.

نعم قد مرّ أنّ الظاهر انصراف الأدلّة بكثرتها عمّا إذا لم يترتّب عليها الفساد أصلا كما إذا انقرضت عبدتها بالكليّة و كان الغرض من اشترائها حفظها في المتاحف للانتفاعات العلميّة و التاريخيّة.

و ألحق الأستاذ الإمام «ره» بذلك ما إذا وقع البيع لغرض إدراك ثواب كسرها أو غرض آخر في كسرها. ثمّ أورد على ذلك إشكالات عقليّة ذكرها ببيان علمي

______________________________

(1) المكاسب المحرّمة 1/ 108 (ط. الجديدة 1/ 164).

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 172

..........

______________________________

معقّد، فراجع. «1»

و عمدة الإشكال- ببيان بسيط- هي أنّ صحّة البيع تتوقّف على الماليّة و المفروض أنّ الشارع أسقط ماليتها بهيئاتها و بكسرها تسقط عن الماليّة العرفيّة أيضا و إن بقيت ماليّة المادّة في بعض الفروض.

أقول: يمكن أن يقال: إنّ المفروض أنّ لها بهيئاتها الخاصّة ماليّة عرفيّة.

و المتيقّن من إسقاط الشارع لذلك ما إذا أريد حفظها بلحاظ منافعها المحرّمة أو وقعت المعاملة عليها بهذا اللحاظ. و أمّا إذا وقعت بلحاظ كسرها لتحصيل الثواب بذلك أو اشتهاره بكونه كاسر الأصنام في عصره أو نحو ذلك فلا دليل على إسقاطها شرعا، نظير حفظ الخمر أو

بيعها بقصد التخليل فإنّ ماليّتها في هذه الصورة معتبرة شرعا. و لا نريد بالماليّة إلّا كون الشي ء مرغوبا فيه يبذل بإزائه المال و لو من ناحية بعض الأشخاص لأغراض خاصّة عقلائيّة و لو موقّتة.

و بالجملة فليست ماليتها بلحاظ ما بعد كسرها بل بلحاظ ما قبله مع عدم ترتّب الفساد عليه، فتأمّل.

قال الأستاذ الإمام «ره»: «ثمّ إنّ صحّة البيع لغاية الكسر تتوقّف على إحراز أنّ المشتري يشتريه لتلك الغاية لأنّ ماليّته تتوقّف على هذه الغاية. و مع الشكّ في كونه لها يشكّ في ماليّته فلا تصحّ المعاوضة عليه، بل صحّة صلحه و هبته و نحوهما أيضا تتوقّف على ذلك الإحراز لعدم جوازها إلّا لتلك الغاية.» «2»

أقول: لا يريد بذلك أنّ الماليّة بلحاظ ما بعد الكسر، بل يريد أنّ ماليّتها بلحاظ فائدة الكسر لإسقاطها بلحاظ الفوائد المحرّمة.

______________________________

(1) راجع نفس المصدر 1/ 110 (ط الجديدة 1/ 166).

(2) نفس المصدر و الصفحة (ط. الجديدة 1/ 167).

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 173

[حكم بيع الآلات المشتركة بين المنافع المحرمة و المحلّلة غير النادرة]

نعم لو فرض هيئة خاصّة مشتركة بين هيكل العبادة و آلة أخرى لعمل محلّل بحيث لا تعدّ منفعة نادرة (1) فالأقوى جواز البيع بقصد تلك المنفعة المحلّلة كما اعترف به في المسالك. (2)

______________________________

حكم بيع الآلات المشتركة بين المنافع المحرمة و المحلّلة غير النادرة

(1) قد شاع في عصرنا صنع المكائن و أجزائها و الأوعية و بعض وسائل التعيش على هيئة الأصنام و الصلبان و آلات اللهو. و المقصود من شرائها الانتفاعات المحلّلة لا المحرّمة.

(2) في المسالك: «آلات اللهو و نحوها إن لم يمكن الانتفاع بها في غير الوجه المحرّم و لم يكن لمكسورها قيمة فلا شبهة في عدم جواز بيعها لانحصار منفعتها في المحرّم. و إن أمكن

الانتفاع بها في غير الوجه المحرّم على تلك الحالة منفعة مقصودة و اشتراها لتلك المنفعة لم يبعد جواز بيعها، إلّا أنّ هذا الفرض نادر، فإنّ الظاهر أنّ ذلك الوضع المخصوص لا ينتفع به إلّا في المحرّم غالبا، و النادر لا يقدح، و من ثمّ أطلقوا المنع من بيعها.» «1»

أقول: قد مرّ شيوع صنع كثير من وسائل التعيش على هيئة الأصنام و الصلبان.

و كلام المسالك في آلات اللهو، و قد شاع الانتفاع بها في تنظيم الأصوات و الأناشيد الدينيّة و الحربيّة و إن كثر الانتفاع بها في مجالس اللهو أيضا، فتكون مشتركة بين المنافع المحلّلة و المحرّمة.

و دعوى وجوب كسرها و إتلاف هيئاتها مع كونها مشتركة بلا دليل بعد عدم ترتّب الآثار المحرّمة عليها و منع شمول أدلّة المنع لها. اللّهم إلّا أن يكون فيها دعاية و تبليغ للأديان الباطلة أو للفساد فيمنع بيعها لذلك بل تتلف.

و في حاشية المحقّق الإيرواني في ذيل قول المصنّف: «جواز البيع بقصد تلك المنفعة المحلّلة» قال: «بل الأقوى جواز البيع مطلقا لعموم أدلّة صحّة المعاملات مؤيّدة

______________________________

(1) المسالك 1/ 165 (ط. أخرى 3/ 122)، كتاب التجارة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 174

فما ذكر بعض الأساطين (1) من أنّ ظاهر الإجماع و الأخبار أنّه لا فرق بين قصد الجهة المحلّلة و غيرها فلعلّه محمول على الجهة المحلّلة الّتي لا دخل للهيئة فيها أو النادرة التي ممّا للهيئة دخل فيه.

نعم ذكر أيضا- وفاقا لظاهر غيره بل الأكثر- أنّه لا فرق بين قصد المادّة و الهيئة.

أقول: إن أراد بقصد المادّة كونها هي الباعثة على بذل المال بإزاء ذلك الشي ء و إن كان عنوان المبيع المبذول بإزائه الثمن هو ذلك الشي ء فما استظهره

من الإجماع و الأخبار حسن لأنّ بذل المال بإزاء هذا الجسم المتشكّل بالشكل الخاصّ من حيث كونه مالا عرفا بذل للمال على الباطل. (2)

______________________________

بعموم قوله عليه السّلام: «و كلّ شي ء يكون لهم فيه الصلاح من جهة من الجهات.»

و لا دليل على اعتبار قصد المنفعة المحلّلة.» «1»

أقول: الظاهر صحّة ما ذكره إذ في ذي المنفعتين لا يجب قصد المحلّلة بل يجوز البيع بنحو الإطلاق نعم يضرّ قصد المحرّمة منها.

نعم يمكن أن يقال في خصوص هياكل العبادة بعدم جواز تسليمها للمشتري إلّا مع الاطمينان بعدم الانتفاع بها في العبادة، لما عرفت من إيجاب الاحتياط في الأمور المهمّة و العلم بأنّها لا تقصر عن الأعراض و النفوس بل كونها أهمّ منهما.

(1) أراد به كاشف الغطاء في شرحه على قواعد العلّامة، و الظاهر أنّه لم يطبع إلى الآن.

(2) فيه إشارة إلى الاستدلال بآية النهي عن أكل المال بالباطل، و قد عرفت أنّه مبني على كون الباء للمقابلة، التى تدخل على الأثمان في المعاملات، و عرفت منع ذلك و أنّها للسببيّة بقرينة الاستثناء فيها، فيراد بها منع أكل المال بالأسباب الباطلة من القمار و الرشوة و نحوهما.

______________________________

(1) حاشية المكاسب للمحقّق الإيرواني/ 13.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 175

و إن أراد بقصد المادة كون المبيع هي المادة سواء تعلّق البيع بها بالخصوص كأن يقول: بعتك خشب هذا الصنم أو في ضمن مجموع مركب كما لو وزن له وزنة حطب فقال: بعتك فظهر فيه صنم أو صليب فالحكم ببطلان البيع في الأوّل و في مقدار الصنم في الثاني مشكل لمنع شمول الأدلّة لمثل هذا الفرد، لأنّ المتيقّن من الأدلّة المتقدّمة حرمة المعاوضة على هذه الأمور نظير المعاوضة على غيره من

الأموال العرفيّة و هو ملاحظة مطلق ما يتقوّم به ماليّة الشي ء من المادة و الهيئة و الأوصاف.

و الحاصل: أنّ الملحوظ في البيع قد يكون مادة الشي ء من غير مدخليّة الشكل. ألا ترى أنّه لو باعه وزنة نحاس فظهر فيها آنية مكسورة لم يكن له خيار العيب لأنّ المبيع هي المادّة. و دعوى أنّ المال هي المادّة بشرط عدم الهيئة مدفوعة بما صرّح به من أنّه لو أتلف الغاصب لهذه الأمور ضمن موادّها. و حمله على الإتلاف تدريجا (1) تمحّل.

______________________________

و يمكن منع شمول الإجماع و الأخبار لما ذكره، إذ المتيقّن منهما صورة ترتّب الفساد عليها و على معاملتها، فلو فرض الاحتياج إلى مادّتها فقط لغرض مشروع و لكن الواجد لها لا يبيع إلا الموجود الخارجي المتهيّئ بهيئة خاصّة فلم لا يصحّ الشراء منه؟!

و الحاصل أنّ الملاك في صحّة المعاملة و فسادها، الأثر المترتّب عليها لا ما وقع الثمن بإزائه، فتأمّل.

(1) بأن يتلف الهيئة أوّلا ثمّ يتلف المادّة، فيراد بضمان المادّة ضمانها في هذه الصورة فقط. و كون هذا تمحّلا واضح لكونه خلاف الظاهر.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 176

[حكم بيع مادّة الأصنام]
اشارة

و في محكي التذكرة (1) أنّه إذا كان لمكسورها قيمة و باعها صحيحة لتكسر و كان المشتري ممّن يوثق بديانته فإنّه يجوز بيعها على الأقوى. انتهى.

______________________________

ثمّ لا يخفى أنّ الضمان للمادّة إنّما يثبت فيما إذا أمكن إتلاف الهيئة مع حفظ المادّة. و أمّا إذا توقّف إتلافها الواجب شرعا على إتلافها بمادّتها فلا ضمان بمقتضى دلالة الاقتضاء، حيث إنّ الأمر بإتلافها حينئذ مستلزم للإذن في إتلاف المادّة أيضا.

و في مصباح الفقاهة بعد الحكم بعدم الضمان في هذه الصورة قال: «لا يقال:

إن توقف إتلافه الهيئة على إتلاف المادّة

لا ينافي ضمان المادّة إذا كانت لها قيمة كما أنّ جواز أكل طعام الغير بدون إذنه في المجاعة و المخمصة لا ينافي ضمان ذلك الطعام.

فإنّه يقال: الفرق واضح بين المقامين إذا الباعث إلى أكل طعام الغير في المخمصة إنّما هو الاضطرار الموجب لإذن الشارع في ذلك. و أمّا هياكل العبادة فإنّ الباعث إلى إتلافها ليس إلّا خصوص أمر الشارع بالإتلاف فلا يستتبع ضمانا.» «1»

أقول: أراد بذلك أنّ الباعث إلى الإتلاف في المقام أمر الشارع مباشرة فلا وجه للحكم بالضمان و أمّا في الاضطرار فأمره يكون بلحاظ الاضطرار و مصلحة المضطرّ و الضرورات تتقدّر بقدرها. و ما هو المضطرّ إليه أصل أكل مال الغير لا أكله مجّانا، و إن شئت قلت: المضطرّ إليه التخلّف عن التكليف أعني الحرمة لا الوضع أعني الضمان.

حكم بيع مادّة الأصنام

[كلام مفتاح الكرامة و ما فيه من الوجوه]

(1) حكاه عنه في مفتاح الكرامة «2» و لم أجده في التذكرة.

نعم فيه: «ما أسقط الشارع منفعته لا نفع له فيحرم بيعه كآلات الملاهي مثل العود و الزمر و هياكل العبادة المبتدعة كالصليب و الصنم و آلات القمار كالنرد

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 152.

(2) مفتاح الكرامة 4/ 32، كتاب المتاجر.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 177

..........

______________________________

و الشطرنج إن كان رضاضها لا يعدّ مالا، و به قال الشافعي. و إن عدّ مالا فالأقوى عندي الجواز مع زوال الصفة المحرّمة.» «1»

أقول: ظاهر هذه العبارة جواز بيع مادّتها بعد إتلاف هيئتها، و الظاهر أنّه ممّا لا إشكال فيه. و يحتمل بعيدا أن يراد زوال وصف المعبوديّة مع بقاء الهيئة بحالها.

و أمّا ما حكاه عنه في مفتاح الكرامة فيحتمل فيه وجوه:

الأوّل: أن يكون المبيع هي المادّة الثابتة فعلا في ضمن هذا المركب الخارجي المؤلف

من المادّة و الهيئة فيكون المقصود هي المادة و الثمن أيضا بإزائها فقط، و هذا هو مراد المصنّف و لكن ظاهر العبارة المحكيّة يأباه.

الثاني: أن يكون المبيع و ما وقع الثمن بإزائه الموجود الخارجي بمادّته و هيئته و لكن الغاية الملحوظة للمشتري كسره و الانتفاع بمادّته بلا تعرّض لذلك في متن العقد، و هذا ما يظهر من العبارة و لكن المصنّف ناقش في صحّة ذلك كما مرّ بكونه أكلا للمال بالباطل و بشمول الإجماع و الأخبار له، و قد مرّ منّا المناقشة في ذلك من جهة عدم ترتّب الفساد على هذه المعاملة.

الثالث: أن يكون المبيع هذا الموجود أيضا و لكن الغاية الملحوظة للمشتري ترتّب فائدة الكسر أيضا من الثواب أو الاشتهار بذلك. و أمّا احتمال أن يكون الملحوظ فائدة الكسر فقط فيدفعه ما في كلامه من اشتراط القيمة لمكسورها.

الرابع: أن يكون المبيع هذا الموجود أيضا و لكن مع شرط الكسر على المشتري بنحو شرط الفعل بحيث لو لم يعمل بذلك كان للبائع إلزامه بذلك و الخيار مع تخلّفه. و لعلّ البائع لم يتمكن من الفعل بنفسه فشرط ذلك على المشتري.

الخامس: أن يكون المبيع هذا الموجود أيضا بشرط تحقّق الكسر خارجا بنحو الشرط المتأخر فيكون تحقّق الكسر في ظرفه كاشفا عن تحقّق البيع و الانتقال من أوّل الأمر، و عدم تحقّقه في الخارج كاشفا عن عدم تحقّق البيع، فيكون من قبيل

______________________________

(1) التذكرة 1/ 465، كتاب البيع، في شرائط العوضين.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 178

و اختار ذلك صاحب الكفاية و صاحب الحدائق و صاحب الرياض نافيا عنه الريب. (1)

______________________________

التعليق في المنشأ.

السادس: أن يكون المبيع المادّة بعد تحقّق الكسر خارجا فلا يدخل في ملك المشتري

إلّا بعد صيرورته مكسورا خارجا، فيكون من قبيل بيع المعدوم حين العقد المشكوك تحقّقه غالبا، و هل يصحّ هذا النحو من البيع؟ و ليس من قبيل بيع الكلّي، إذ المفروض أنّ المبيع عين شخصيّة، و لكن بلحاظ ما بعد كسرها. و ظاهر العبارة الآتية من جامع المقاصد إرادة هذا الوجه.

و كيف كان، فظاهر العبارة المحكيّة عن التذكرة يخالف مراد المصنّف.

(1) في كفاية الأحكام: «و لو كان لمكسورها قيمة، و باعها صحيحة لتكسر و كان المشتري ممّن يوثق بديانته، فالأقوى جوازه. و قوّى في التذكرة الجواز مع زوال الصفة.» «1»

أقول: لا يخفى أنّ كلامه موافق لما حكاه في مفتاح الكرامة عن التذكرة و هو لم ينسبه إليه بل نسب إليه ما حكيناه عنه.

و في الحدائق: «نعم لو كان الغرض من البيع كسرها مثلا و بيعت لأجل ذلك، فالظاهر أنّه لا ريب في الجواز إذا كان المشتري ممّن يوثق به في ذلك.» «2»

و في الرياض: «فلو فرض لها منفعة محلّلة و قصدت ببيعها و شرائها بحيث لا يعدّ في العادة سفاهة أمكن الجواز فيه و فيما لو كان لمكسورها قيمة و بيعت ممّن يوثق به للكسر، للأصل، و عدم دليل على المنع يشمل محلّ الفرض.» «3»

______________________________

(1) كفاية الأحكام/ 85، كتاب التجارة.

(2) الحدائق 18/ 201، كتاب التجارة، فيما يحرم لتحريم ما يقصد به، في تحريم صنع آلات اللهو و بيعها.

(3) رياض المسائل 1/ 499، كتاب التجارة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 179

و لعلّ التقييد في كلام العلّامة بكون المشتري ممّن يوثق بديانته لئلّا يدخل في باب المساعدة على المحرّم فإنّ دفع ما يقصد منه المعصية غالبا مع عدم وثوق بالمدفوع إليه تقوية لوجه من وجوه المعاصي فيكون

باطلا كما في رواية تحف العقول.

______________________________

أقول: ظاهر كلام المصنّف أنّ نفي الريب في الرياض، مع أنّه كما ترى في الحدائق لا في الرياض.

و في المسالك بعد العبارة السابقة قال: «و لو كان لمكسورها قيمة و باعها صحيحة للكسر و كان المشتري ممّن يوثق بديانته ففي جواز بيعها حينئذ و جهان، و قوّى في التذكرة جوازه مع زوال الصفة و هو حسن، و الأكثر أطلقوا المنع.» «1»

أقول: الشهيد أيضا لم ينسب إلى التذكرة إلّا ما نقلناه عنه.

و كيف كان، فظاهر هذه العبارة المنسوبة إلى التذكرة أنّ البيع يقع عليها برمّتها لا على مادّتها فقط، غاية الأمر أن الغرض من اشترائها هو الكسر.

اللّهم إلّا أن يجعل قوله: «كان لمكسورها قيمة» دليلا على أنّ المبيع هي المادّة فقط. و ظاهر العبارة المذكورة كون جواز البيع مشروطا بشروط ثلاثة: الأوّل: أن يكون لمكسورها قيمة. الثاني: أن يكون البيع للكسر. الثالث: أن يكون المشتري موثوقا به. فالأوّل بلحاظ أنّ الهيئة لا ماليّة لها شرعا. و الثاني بلحاظ أنّه لولاه بطلت المعاملة لكونها في معرض ترتّب الآثار المحرّمة. و أمّا الثالث فليس شرطا مستقلا في عرضهما و إنما هو لإحراز الشرط الثاني، فلو فرض إحرازه بالعلم أو بطريق آخر كفى في الحكم بالصحّة. و المصنف وجّه التقييد بالشرط الثالث بأن لا يدخل في باب المساعدة على المحرّم، و أجاب عنه أوّلا بالتأمّل في بطلان المعاملة بمجرد الإعانة على الإثم. و ثانيا بالاستغناء عن هذا القيد بكسره قبل أن يقبضه فإنّ الهيئة غير محترمة، بل قد يقال بوجوب إتلافها.

______________________________

(1) المسالك 1/ 165 (ط. أخرى 3/ 122)، كتاب التجارة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 180

لكن فيه- مضافا إلى التأمّل في بطلان البيع

لمجرّد الإعانة على الإثم- أنّه يمكن الاستغناء عن هذا القيد بكسره قبل أن يقبضه إيّاه. فإنّ الهيئة غير محترمة في هذه الأمور كما صرّحوا به في باب الغصب. بل قد يقال بوجوب إتلافها فورا و لا يبعد أن يثبت لوجوب حسم مادّة الفساد.

نقل كلام الأستاذ «ره» في المقام

______________________________

و قال الأستاذ الإمام «ره» في المقام ما محصّله: «و أمّا بيع مادّتها فالتحقيق عدم الصحّة لو لم يكن لها قيمة رأسا أو كانت لها قيمة بلحاظ الصورة، أو كانت لها قيمة بنفسها و لكن لا يمكن محو الصورة عنها إلّا بإبطال ماليّة المادّة، أو لا يمكن محو الصورة أصلا. ففي جميع هذه الصور بطل البيع على الأقوى. أمّا الأولى فظاهرة. و أمّا الثانية فلأنّ الماليّة الآتية من قبل الصورة ساقطة عند الشارع، و كذا في الثالثة حيث إنّ إبطالها يوجب إبطال ماليّة المادّة، و في الرابعة يجب غرقها أو دفنها حسما لمادّة الفساد فلا ماليّة لها على هذه التقادير. و كذا لا يصح لو كانت لها قيمة مستهلكة في قيمة الصورة، لأنّ البيع كذلك مع سقوط الصورة عن الماليّة شرعا سفهي غير عقلائي.

و أمّا إذا كانت للمادّة قيمة غير مستهلكة و أمكن محو الصورة عنها مع بقاء ماليّتها فيجوز بيعها بلحاظ المادّة بقيمتها أو بأكثر ما لم تصل إلى حدّ السفه حتّى مع شرط بقاء الصورة فضلا عن عدم الاشتراط أو اشتراط الكسر، سواء كان المشتري موثوقا بديانته أم لا. بل مقتضى القاعدة صحّته و لو باعه من وثنيّ للعبادة و شرط على البائع عدم الكسر بناء على عدم كون الشرط الفاسد مفسدا، لأنّ ما وقعت عليه المعاملة هي المادّة و لا مانع من بيعها لكونها غير الصنم الممنوع عن بيعه.

و كون الشرط الفاسد مفسدا و التسليم إعانة على الإثم لا يوجبان بطلان المعاملة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 181

..........

______________________________

و لو قيل: إنّ البيع المذكور موجب لإشاعة الفساد بل يمكن بهذه الحيلة ترويج سوق بيع الأصنام و آلات الملاهي و القمار، و المقطوع من مذاق الشارع عدم إمضاء هذه المعاملات.

يقال: المقطوع من مذاقه عدم تصحيح الشرط الكذائي و تحريم تسليم المبيع مع الهيئة الموجبة للفساد لا بطلان المعاملة على المادّة أي الخشب و الحجر و نحوهما، أو حرمة بيعها و ثمنها. و نظير ذلك بيع الفرس و الشرط على البائع بتسليم صنم إليه أو صنع آلة لهو له فإنّ المعاملة بنفسها صحيحة.

فتحصّل ممّا مرّ أنّ بيع المادّة مع فرض كونها ذات قيمة صحيح، من غير توقّف على اشتراط الكسر و كون المشتري موثوقا به.» «1»

أقول: ما ذكره «ره» و إن كان موجّها على حسب القواعد الكليّة كما بيّنها، و لكن مع ملاحظة ما مرّ من أخبار المنع عن بيع الخشب ممّن يعمله صلبانا أو صنما، و ما يأتي من كون ثمن المغنية سحتا، و قوله: «ما ثمنها إلّا ثمن كلب» «2» مع أنّ الخشب بنفسه مال حلال و الجارية بنفسها أيضا حلال و إنّما حرم بيعهما بلحاظ ما يترتّب عليهما من الأثر المحرّم، يظهر أنّ الشارع لا يرضى ببيع الشي ء الحلال بلحاظ آثاره المحرّمة، فكيف يرضى ببيع مادّة الصنم ممّن يشتريه للعبادة مع شرط عدم إتلاف هيئته، و يحمل جميع ما سبق من الأدلة الثمانية على صورة جعل الثمن بإزاء الصنم لا المادّة مع شرط بقاء الهيئة. و إنّما شرّعت الأحكام على حسب المصالح و المفاسد النفس الأمريّة. و حمل الأخبار المذكورة على التكليف

لا الوضع خلاف الظاهر لما بيّناه من كون النهي في المعاملات إرشادا إلى الفساد.

______________________________

(1) المكاسب المحرّمة 1/ 112 (ط. الجديدة 1/ 169).

(2) راجع الوسائل 12/ 86، الباب 16؛ و 12/ 127، الباب 41 من أبواب ما يكتسب به.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 182

[نقل كلام جامع المقاصد]

و في جامع المقاصد (1)- بعد حكمه بالمنع عن بيع هذه الأشياء و إن أمكن الانتفاع على حالها في غير محرّم منفعة لا تقصد منها- قال:

«و لا أثر لكون رضاضها الباقي بعد كسرها ممّا ينتفع به في المحلّل و يعدّ مالا، لأنّ بذل المال في مقابلها و هي على هيئتها بذل له في المحرّم الذي لا يعدّ مالا عند الشارع. نعم لو باع رضاضها الباقي بعد كسرها قبل أن يكسرها- و كان المشتري موثوقا به و أنّه يكسرها- أمكن القول بصحّة البيع. و مثله باقي الأمور المحرّمة كأواني النقدين و الصنم.» انتهى.

______________________________

(1) راجع جامع المقاصد، كتاب المتاجر. «1» و ظاهره كون البيع حاليّا و المبيع استقباليّا، و هل يصحّ مثل هذا البيع؟! مشكل و إن أمكن تنظيره ببيع الثمرة قبل بدوّ صلاحها، بل قبل وجودها، فإنّه يصحّ و لكن مع ضمّ الضميمة، فتدبّر.

و قد تحصّل ممّا ذكرنا حرمة المعاملة على هياكل العبادة و بطلانها إلا إذا فرض خروجها عن كونها كذلك بالكليّة لانقراض عبدتها، فكان الغرض من اشترائها حفظها في المتاحف للانتفاعات العلميّة أو التاريخيّة.

و يلحق بذلك اشتراؤها لغرض إتلافها تحصيلا للثواب أو غير ذلك، أو كانت بلحاظ هيئتها ذات منفعة محلّلة عقلائيّة بحيث يبذل بإزائها المال لذلك، أو وقعت المعاملة عليها بلحاظ مادّتها مع فرض كونها ذات قيمة، كل ذلك لانصراف أدلّة المنع عن هذه الصور، فتدبّر.

______________________________

(1) راجع جامع

المقاصد 4/ 15.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 183

[2- آلات القمار]
اشارة

و منها: آلات القمار بأنواعه بلا خلاف ظاهرا. (1)

______________________________

2- آلات القمار

[معنى آلات القمار]

(1) أقول: اللعب المتضمّن للمغالبة المعبّر عنها بالفارسية ب «برد و باخت» قد يقع بالآلات المعدّة لذلك كالنرد و الشطرنج و نحوهما و يعبّر عنها بآلات القمار. و قد يقع بغيرها كما في المسابقات الرائجة قديما و حديثا، و من جملتها السباق في السباحة و الصراع و العدو و أنحاء استعمال الكرة و نحو ذلك. و كلّ منهما قد يكون مع المراهنة و جعل العوض للغالب منهما، و قد يكون بدون ذلك، فهذه أربعة أقسام.

و الكلام تارة في حكم نفس اللعب و تارة في حكم المعاملة على الآلات.

و البحث هنا في الأخير و أمّا حكم اللعب بأقسامه فيأتي في النوع الرابع المتصدّي لبيان حكم الأعمال المحرّمة بترتيب حروف الهجاء.

و حيث إنّ مورد البحث آلات القمار فلنتعرّض لمفهومه إجمالا و أنّه هل يختصّ بما جعل فيه العوض أو يراد به مطلق المغالبة، فنقول:

1- قال في معجم مقاييس اللغة: «القاف و الميم و الراء أصل صحيح يدلّ على بياض في شي ء ثمّ يفرّع منه، من ذلك القمر ... و القمار من المقامرة فقال قوم:

هو شاذّ عن الأصل الذي ذكرناه، و قال آخرون: بل هو منه، و ذلك أنّ المقامر يزيد ماله و ينقص و لا يبقى على حال.» «1»

______________________________

(1) معجم مقاييس اللغة 5/ 25.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 184

..........

______________________________

2- و في القاموس: قامر الرجل مقامرة و قمارا: راهنه فغلبه و هو التقامر. «1»

أقول: هل يراد بالمراهنة في كلماتهم مطلق التشارط المتضمّن للغالب و المغلوب، أو يراد بها خصوص جعل العوض للغالب منهما؟ و لعلّ الثاني أظهر.

3- و في لسان العرب: «قامر الرجل مقامرة و

قمارا: راهنه و هو التقامر.

و القمار: المقامرة ... و في حديث أبي هريرة: «من قال: تعال أقامرك فليتصدّق بقدر ما أراد أن يجعله خطرا في القمار.» «2»

أقول: ظاهر الحديث اعتبار العوض في مفهوم القمار و أنّه مشتمل عليه لا محالة.

4- و في مجمع البحرين: «القمار بالكسر: المقامرة، و تقامروا: لعبوا بالقمار، و اللعب بالآلات المعدّة له على اختلاف أنواعها نحو الشطرنج و النرد و غير ذلك.

و أصل القمار: الرهن على اللعب بشي ء من هذه الأشياء. و ربّما أطلق على اللعب بالخاتم و الجوز.» «3»

5- و في المنجد: «قمر يقمر قمرا: راهن و لعب في القمار، و الرجل: غلبه في القمار، و الرجل ماله: سلبه إيّاه. قامر مقامرة و قماراه: راهنه و لاعبه في القمار. تقمّر الرجل: غلبه في القمار. تقامر القوم: تراهنوا و لعبوا في القمار. القمار (مصدر):

كل لعب يشترط فيه أن يأخذ الغالب من المغلوب شيئا سواء كان بالورق أو غيره.» «4»

6- و في جامع المقاصد في ذيل قول المصنّف: «و القمار حرام» قال: «أي عمله، و هو اللعب بالآلات المعدّة له على اختلاف أنواعها من الشطرنج و النرد و غير ذلك. و أصل القمار: الرهن على اللعب بشي ء من هذه الأشياء. و ربّما أطلق على اللعب بها مطلقا. و لا ريب في تحريم اللعب بذلك و إن لم يكن رهن،

______________________________

(1) القاموس المحيط 2/ 121.

(2) لسان العرب 5/ 115.

(3) مجمع البحرين 3/ 463 (ط. أخرى/ 282).

(4) المنجد/ 653.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 185

..........

______________________________

و الاكتساب به و بعمل آلاته.» «1»

أقول: ظاهره أنّ إطلاق لفظ القمار على اللعب بها بدون الرهن محلّ خلاف، و لكنّ اللعب بها حرام مطلقا بلا ريب.

و بذلك يظهر أنّ

عدم شمول لفظ القمار للمغالبة بلا رهن لا يستلزم القول بجواز اللعب بالآلات المعدّة له حينئذ، إذ لأحد أن يتمسك بإطلاق النهي عن اللعب بالنرد و الشطرنج و كونهما رجسا من عمل الشيطان «2» لما إذا لم يكن في البين رهن، و يمنع انصرافهما إلى صورة وجود الرهن فقط لكثرة استعمالهما بدون الرهن و لا سيّما بين الملوك و الأمراء. هذا و التفصيل يأتي في باب حكم القمار، فانتظر.

[ذكر بعض كلمات الأصحاب]

و المناسب هنا ذكر بعض كلمات الأصحاب و إن تعرّضنا لها في مسألة هياكل العبادة، حيث إنّ الحوالة لا تخلو من خسارة:

1- ففي مكاسب المقنعة: «و عمل الأصنام و الصلبان و التماثيل المجسمة و الشطرنج و النّرد و ما أشبه ذلك حرام، و بيعه و ابتياعه حرام.» «3»

2- و في المراسم في عداد المكاسب المحرّمة: «و عمل الملاهي و التجارة فيها و عمل الأصنام و الصلبان و كلّ آلة يظنّ بها الكفّار أنّها آلة عبادة لهم و التماثيل المجسّمة و الشطرنج و النّرد و ما أشبه ذلك من آلات اللعب و القمار و بيعه و ابتياعه.» «4»

3- و في النهاية في باب المكاسب المحظورة قال: «و عمل الأصنام و الصلبان و التماثيل المجسّمة و الصور و الشطرنج و النرد و سائر أنواع القمار حتّى لعب الصبيان بالجوز فالتجارة فيها و التصرّف و التكسّب بها حرام محظور.» «5»

______________________________

(1) جامع المقاصد 4/ 24، كتاب المتاجر.

(2) راجع الوسائل 12/ 242، الباب 104 من أبواب ما يكتسب به.

(3) المقنعة/ 587.

(4) المراسم/ 170؛ و الجوامع الفقهية/ 585 (طبعة أخرى/ 647).

(5) النهاية/ 363، كتاب المكاسب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 186

..........

______________________________

4- و في الشرائع: «الثاني: ما يحرم لتحريم ما قصد به

كآلات اللهو مثل العود و الزمر و هياكل العبادة المبتدعة كالصليب و الصنم و آلات القمار كالنرد و الشطرنج و ما يفضي إلى المساعدة على محرّم كبيع السلاح لأعداء الدين ...» «1»

5- و ذيّله في الجواهر بقوله: «بلا خلاف أجده فيه، بل الإجماع بقسميه عليه و النصوص ...» «2»

6- و في المختصر النافع: «الثاني: الآلات المحرّمة كالعود و الطبل و الزمر و هياكل العبادة المبتدعة كالصنم و الصليب و آلات القمار كالنرد و الشطرنج.» «3»

7- و ذيّله في الرياض بقوله: «بإجماعنا المستفيض النقل في كلام جماعة من أصحابنا و هو الحجّة.» «4»

8- و في المستند: «و منها: ما يقصد منه المحرّم كآلات اللهو من الدف و القصب و الزّمار و الطنبور و هياكل العبادات المبتدعة و آلات القمار من النرد و الشطرنج و غيرهما، و لا خلاف في حرمة بيعها و التكسّب بها، و نقل الإجماع- كما قيل به- مستفيض، بل هو إجماع محقّق و هو الحجّة فيه.» «5»

و راجع أيضا عبارتي التذكرة و المنتهى في تلك المسألة «6» فلا نعيدهما. و يظهر من الجميع أنّ المسألة كانت معنونة في كلمات القدماء من أصحابنا في كتبهم المعدّة لنقل المسائل المأثورة، و أنّها مجمع عليها عند الأصحاب إجمالا.

______________________________

(1) الشرائع/ 263 (ط. أخرى 2/ 9)، كتاب التجارة.

(2) الجواهر 22/ 25، كتاب التجارة، حرمة التكسّب بآلات اللهو و آلة القمار.

(3) المختصر النافع 1/ 117، كتاب التجارة.

(4) رياض المسائل 1/ 499، كتاب التجارة.

(5) مستند الشيعة 2/ 335، في المكاسب المحرّمة.

(6) التذكرة 1/ 465؛ و المنتهى 2/ 1011.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 187

[ما يدل على منع البيع]

و يدلّ عليه جميع ما تقدّم في هياكل العبادة. (1)

______________________________

(1) أقول: قد أنهينا في تلك

المسألة أدلّة المنع إلى ثمانية، و أكثرها جارية في المقام، و كذا في المسألة التالية أعني بيع آلات اللهو، فراجع. «1»

نعم لا يجري فيهما ما مرّ في الوجه الثامن منها من دليل العقل و الإشارة إلى الأخبار المستفيضة الدالّة على أنّ مدمن الخمر كعابد الوثن، و أنّ مقتضى التشبيه فيها كون الملاك في المشبّه به أقوى، فإذا فرض لعن غارس الخمر و عاصرها و بائعها و مشتريها و شاربها، و كذا تحريم ثمنها- كما نطقت بذلك الأخبار- ثبت الحكم في الوثن بطريق أولى، بداهة أنّ هذا البيان لا يجري في آلات القمار و آلات اللهو، كما هو واضح، كما أنّه لا يجري فيهما دليل العقل.

و لا يخفى أنّ محلّ البحث- من حيث حرمة البيع و فساده و وجوب إتلاف الهيئة- هي الآلات المعدّة للقمار بحيث تنحصر فائدتها فيه كالنرد و الشطرنج و نحوهما، لا ما قد يقامر به أحيانا من دون أن يكون معدّا لذلك كالجوز و البيض و نحوهما. نعم يمكن منع بيعها إذا كان بقصد القمار و مقيّدا به، كما لا يجوز شراؤها ممّن استولى عليها بالقمار لعدم ملكه لها شرعا، و إلى ذلك ينظر ما مرّ من النهاية من حرمة التجارة و التكسّب بها.

و كيف كان فيدلّ على منع البيع في الآلات المعدّة مضافا إلى أكثر ما مرّ في المسألة السابقة بعض الأخبار الواردة في المقام:

1- ما رواه عليّ بن إبراهيم في تفسيره عن أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السّلام في قوله- تعالى-: يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصٰابُ وَ الْأَزْلٰامُ:

«أمّا الخمر فكلّ مسكر من الشراب خمر إذا خمّر ... و أمّا الميسر فالنرد و الشطرنج و

كلّ قمار ميسر، و أمّا الأنصاب فالأوثان التي كانوا يعبدونها المشركون. و أمّا الأزلام فالأقداح التي كانت تستقسم بها مشركو العرب في الأمور في الجاهلية، كلّ هذا بيعه و شراؤه و الانتفاع بشي ء من هذا حرام من اللّه، و هو رجس من عمل

______________________________

(1) راجع ص 156 و ما بعدها من هذا الكتاب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 188

..........

______________________________

الشيطان، فقرن اللّه الخمر و الميسر مع الأوثان.» «1»

و أبو الجارود: زياد بن المنذر ضعيف، مضافا إلى الجهل بالوسائط بين عليّ بن إبراهيم و أبي الجارود.

و لكن دلالة الرواية على المنع واضحة، و قد مرّ منّا أنّ الحرمة المحمولة على المعاملات- في لسان الكتاب و السنّة و كلمات القدماء من أصحابنا- ظاهرة في الوضع أعني فساد المعاملة، و لا ينافي ذلك حملها على الانتفاع الظاهر في التكليف، إذ المستعمل فيه هو المعنى الجامع بينهما أعني عدم إطلاق الشي ء و كونه في حريم، و قد مرّ تفصيل هذا في المباحث السابقة.

و قد يقال: إنّ لفظ الميسر من اليسر لسهولة تحصيل المال بسببه أو لحصول الإيسار به.

و من معاني الاستقسام: التروّي و الفكر فيراد بالاستقسام بالأزلام التفؤل بها في الأمور.

و لا يخفى أنّ المقصود بالميسر في الآية- بقرينة مقارناته- ذات ما يقامر به لا عمل القمار، و يشهد بذلك أيضا حمل الرجس عليها، و عدّ الذوات من عمل الشيطان بلحاظ أن صنعها يكون بإلقائه و إغوائه.

و في الرواية أيضا فسّر الميسر بنفس النرد و الشطرنج لا بالانتفاع بهما، و البيع و الشراء أيضا يقعان على الذوات. و بذلك يظهر أنّ المراد بالقمار في قوله: «و كل قمار ميسر» أيضا ما يقامر به لا عمل القمار.

و إطلاق الرواية يقتضي

حرمة بيع النرد و الشطرنج و شرائهما و الانتفاع بهما سواء كان في البين رهن أم لا. و انصرافهما إلى صورة المراهنة ممنوع بعد ما شاع اللعب بهما بلا مراهنة أيضا، و لا سيّما بين الملوك و الأمراء غير المعتنين بالأموال و إنّما كانوا يهتمّون بنفس الغلبة على القرن.

______________________________

(1) تفسير القمّي/ 167 (ط. أخرى 1/ 180)؛ و الوسائل 12/ 239، الباب 102 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 12.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 189

..........

______________________________

و بذلك يظهر أنّه لو سلّمنا انصراف لفظ القمار إلى ما فيه مراهنة، أو قلنا بوضعه لخصوص ذلك- كما قيل- فانصراف ما وقع فيه النهي عن النرد و الشطرنج أو عن اللعب بهما إلى خصوص ذلك قابل للمنع، فتأمّل.

و كيف كان فالرواية تدل على حرمة بيعهما.

و يمكن الاستدلال لذلك بنفس الآية أيضا بتقريب أنّها أوجبت الاجتناب عمّا ذكر فيها و منها الميسر بنحو الإطلاق و عدّتها رجسا من عمل الشيطان و صنعه، فإذا كانت كذلك عند الشارع فكيف ينفّذ المعاملات الواقعة عليها؟! فتأمّل.

ثمّ لا يخفى أنّ الأزلام أي الأقداح أيضا كانت وسيلة للقمار على لحم الجزور بكيفية خاصّة- على ما في بعض التفاسير- فيكون ذكره بعد الميسر من قبيل ذكر الخاصّ بعد العامّ، و لا ينافي ذلك ما ورد من كون الأقداح وسيلة للتفأل في الأسفار و ابتداء الأمور أيضا. و إن شئت تفسير الآية و شرح الاستقسام بالأزلام فراجع تفسير مجمع البيان في تفسير الآية الثالثة من سورة المائدة. «1»

2- ما رواه ابن إدريس- في مستطرفات السرائر- عن جامع البزنطي، عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: «بيع الشطرنج حرام، و أكل ثمنه سحت، و اتّخاذها

كفر، و اللعب بها شرك، و السلام على اللاهي بها معصية و كبيرة موبقة.» الحديث بطوله. «2»

و الرواية صحيحة و دلالتها واضحة إلّا أن يناقش في الوسائط بين الحلي و البزنطي الراوين له كتاب الجامع.

3- ما رواه الصدوق في حديث المناهي قال: «نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله عن اللعب بالنرد و الشطرنج و الكوبة و العرطبة و هي الطنبور و العود، و نهى عن بيع النرد.»

هكذا في الوسائل. «3»

______________________________

(1) مجمع البيان 2/ 158 (الجزء الثالث).

(2) السرائر 3/ 577؛ و الوسائل 12/ 241، الباب 103 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4.

(3) الوسائل 12/ 242، الباب 104 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 6.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 190

..........

______________________________

و في البحار روى الحديث عن أمالي الصدوق، و فيه: «و نهى عن بيع النرد و الشطرنج» و عقب فيه قوله: «و العود» بقوله: «يعني الطبل.» «1»

و يوجد في الفقيه و كذا في البحار عن الأمالي بين الجملة الأخيرة و ما قبلها فصل يقرب نصف صفحة. «2»

و أمّا الكوبة ففي النهاية: «هي النرد، و قيل: الطبل، و قيل: البربط» «3»

و في المنجد: «الكوبة: الطبل الصغير المخصّر.» «4» هذا.

و في الفائدة الخامسة من خاتمة المستدرك قال في سند حديث المناهي: «إنّ الخبر ضعيف على المشهور إلّا أنّه يلوح من متن الخبر آثار الصدق و ليس فيه من آثار الوضع علامة.» «5»

و مورد الخبرين الأخيرين و إن كان خصوص النرد و الشطرنج و لكن يمكن إلقاء الخصوصيّة منهما إلى كلّ ما أعدّ للقمار و المغالبة و عدّت من آلاته. و يشهد للتعميم صحيحة معمّر بن خلّاد عن أبي الحسن عليه السّلام قال: «النرد و

الشطرنج و الأربعة عشر بمنزلة واحدة، و كلّ ما قومر عليه فهو ميسر.» «6»

أقول: الظاهر أنّ المراد بما قومر عليه الرهن المجعول للغالب منهما، و يحتمل أن يراد به آلة القمار.

و الظاهر من المعنى الأوّل اختصاص الميسر بما فيه رهن، فتذكّر.

و في مرآة العقول في ذيل الصحيحة قال: «فسّروا الأربعة عشر بأنّها قطعة من خشب فيها حفر في ثلاثة أسطر و يجعل في الحفر حصى صغار يلعب بها.» «7»

______________________________

(1) بحار الأنوار 73/ 330 (ط. إيران 76/ 330)، كتاب الآداب و السنن.

(2) الفقيه 4/ 6- 8، باب المناهي.

(3) النهاية لابن الأثير 4/ 207.

(4) المنجد/ 702.

(5) مستدرك الوسائل 3/ 607، في شرح مشيخة كتاب من لا يحضره الفقيه.

(6) الوسائل 12/ 242، الباب 104 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

(7) مرآة العقول 22/ 307، كتاب الأشربة، باب النرد و الشطرنج.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 191

..........

______________________________

4- و عن الجعفريات بإسناده عن جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن جدّه عليّ بن الحسين، عن أبيه، عن عليّ بن أبي طالب عليهم السّلام قال: «من السحت ثمن الميتة و ثمن اللقاح ... و ثمن الشطرنج و ثمن النرد. الحديث.» «1»

5- و في سنن البيهقي بسنده عن ابن عمر: «كان إذا وجد أحدا من أهله يلعب بالنرد ضربه و كسرها.» «2»

6- و فيه أيضا بسنده عن زييد بن الصلت عن عثمان و هو على المنبر: «يا أيّها الناس إني قد كلمتكم في هذا النرد و لم أركم أخرجتموها و لقد هممت أن آمر بحزم الحطب ثمّ أرسل إلى بيوت الذين هي في بيوتهم فأحرقها عليهم.» «3»

وجه الاستدلال بالخبرين- على مذاق القوم- أنّه لو كان لهيئة النرد ماليّة لما جاز كسرها

و إتلافها بدون إذن صاحبها بل مطلقا فجواز كسرها دليل على عدم ماليتها شرعا فلا تصحّ المعاملة عليها، إلّا أن يقال: إنّه ليس في الرواية الأخيرة كسر النرد بل إحراق البيوت لتعزير أهلها.

و قد تحصل ممّا ذكرنا عدم جواز بيع الآلات المعدّة للقمار كالنرد و الشطرنج و نحوهما وضعا بل تكليفا أيضا بنحو الإجمال.

و الظاهر أنّ عدم جواز البيع فيها مسبّب عن حرمة الانتفاع بها الموجب لسقوطها عن الماليّة شرعا و كونها ممّا يترتب عليها الفساد محضا. و هذا إنّما يصحّ على فرض حرمة اللعب بها مطلقا حتى بدون المراهنة و العوض كما هو الظاهر من كثير من الأخبار، إذ لو قيل بجواز اللعب بها بدون المراهنة صارت حينئذ من الآلات المشتركة و جاز بيعها لمنافعها المحلّلة بل مطلقا ما لم يتقيّد بخصوص المحرّمة.

______________________________

(1) مستدرك الوسائل 3/ 426، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

(2) سنن البيهقي 10/ 216، كتاب الشهادات، باب كراهية اللعب بالنرد ....

(3) نفس المصدر 10/ 215.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 192

و يقوى هنا أيضا جواز بيع المادّة قبل تغيير الهيئة. (1)

و في المسالك: أنّه «لو كان لمكسورها قيمة و باعها صحيحة لتكسر- و كان المشتري ممّن يوثق بديانته- ففي جواز بيعها و جهان. و قوّى في التذكرة الجواز مع زوال الصفة، و هو حسن، و الأكثر أطلقوا المنع.» انتهى. (2)

أقول: إن أراد بزوال الصفة زوال الهيئة فلا ينبغي الإشكال في الجواز، و لا ينبغي جعله محلا للخلاف بين العلّامة و الأكثر. (3)

______________________________

و على هذا فيمكن أن يجعل إطلاق أدلّة المنع عن بيعها دليلا على حرمة الانتفاع بها مطلقا. و تفصيل البحث عن جواز الفعل و عدمه يأتي

في محلّه.

(1) قد مرّ بيان ذلك بالتفصيل في المسألة السابقة «1» فلا نعيد.

(2) راجع المسالك، كتاب التجارة. و في التذكرة: «ما أسقط الشارع منفعته لا نفع له فيحرم بيعه كآلات الملاهي مثل العود و الزمر و هياكل العبادة المبتدعة كالصليب و الصنم و آلات القمار كالنرد و الشطرنج، إن كان رضاضها لا يعدّ مالا، و به قال الشافعي. و إن عدّ مالا فالأقوى عندي الجواز مع زوال الصفة المحرّمة.» «2»

(3) لم يتعرّض المصنّف للمحتمل الآخر لمراده. و في حاشية السيّد الطباطبائي المرحوم: «لعلّه أراد بزوال الصفة عدم مقامرة الناس به و تركهم له بحيث خرج عن كونه آلة قمار و إن كانت الهيئة باقية.» «3»

قال في مصباح الفقاهة: «و يرد على التوجيهين: أنّ ظاهر عبارة العلّامة أنّ الحرمة الفعليّة لبيع الأمور المذكورة تدور مدار عدم صدق المالية على إكسارها. و توجيهها بما ذكره المصنّف أو بما ذكره السيّد- رحمهما اللّه- بعيد عن مساق كلامه جدّا.

______________________________

(1) راجع ص 176 من هذا الكتاب.

(2) المسالك 1/ 165 (ط. أخرى 3/ 122)؛ و التذكرة 1/ 465، كتاب البيع، في شرائط العوضين.

(3) حاشية المكاسب للمرحوم السيّد محمّد كاظم الطباطبائي/ 5.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 193

[المراد بالقمار]

ثمّ إنّ المراد بالقمار مطلق المراهنة بعوض، فكلّ ما أعدّ لها- بحيث لا يقصد منه على ما فيه من الخصوصيّات غيرها- حرمت المعاوضة عليه. و أمّا المراهنة بغير عوض فيجي ء أنّه ليس بقمار على الظاهر. (1)

______________________________

نعم يحتمل وقوع التحريف في كلامه بالتقديم و التأخير: بأن تكون العبارة:

«و إن عدّ مالا مع زوال الصفة المحرّمة فالأقوى عندي الجواز.» فيكون ملخّص كلامه جواز البيع إذا كانت المادّة من الأموال. أو يوجّه بتقدير المضاف بين كلمة:

«مع»

و كلمة: «زوال» بأن يكون التقدير: «فالأقوى عندي الجواز مع اشتراط زوال الصفة المحرّمة.»

و كيف كان فهو أعرف بمرامه، و لا ندري ما الذي فهم منه المسالك حتّى استحسنه.» «1»

الكلام في مفهوم القمار

(1) قد مرّ في أوّل المسألة نقل بعض كلمات أهل اللغة في هذا المجال و أنّ الظاهر من الأكثر أخذ المراهنة و العوض في مفهومه. و مرّ كلام جامع المقاصد أيضا في هذا المجال.

و قد استظهرنا أنّ حرمة اللعب بالآلات المخصوصة من النرد و الشطرنج لا تدور مدار صدق القمار عليه، لإطلاق أخبار المنع عنهما و عن اللعب بهما و عن بيعهما، و منعنا انصرافها إلى صورة وجود العوض فقط إذ لا وجه له بعد شيوع اللعب بهما بدونه في تلك الأعصار أيضا بين الخلفاء و الأمراء لعدم اعتنائهم بالأموال، بل كان المهمّ عندهم الغلبة على القرن و كسر شخصيّته.

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 154.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 194

نعم: لو قلنا بحرمتها لحق الآلة المعدّة لها حكم آلات القمار، مثل ما يعملونه شبه الكرة يسمّى عندنا الترثة [التوبة] و الصولجان. (1)

______________________________

بل لعلّ أخبار المنع بنحو الإطلاق ناظرة إلى ردّهم في قبال من جوّز ذلك من فقهائهم، حيث إنّ المسألة خلافيّة عندهم، فراجع الخلاف (المسألتين 51 و 53 من الشهادات)، و المغني. «1»

و في سورة المائدة بعد الأمر بالاجتناب عن الخمر و الميسر و عدّهما رجسا من عمل الشيطان قال: إِنَّمٰا يُرِيدُ الشَّيْطٰانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدٰاوَةَ وَ الْبَغْضٰاءَ فِي الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللّٰهِ وَ عَنِ الصَّلٰاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ. «2»

و من الواضح أنّ إيقاع العداوة و البغضاء و الصدّ عن الذكر و عن الصلاة يترتّبان على

مطلق اللعب لا على صورة أخذ العوض فقط. و السّكر الحاصل من الاشتغال بهذه الملاهي لا يقلّ عن السكر الحاصل بالخمر كما يقرّ بذلك أهلها.

(1) أقول: يمكن منع كون استعمال الكرة بأنحائه من قبيل القمار الموضوع للغلبة المبني على المصادفة و البخت فقط. بل هو من قبيل المسابقات المتعارفة الموضوعة للتمرّن على الجهاد أو لارتياض البدن و تقويته كالسباق في العدو أو السباحة أو الطفرة أو نحو ذلك، فلا يقال لمن سابق غيره في هذه الأمور: إنّه مقامر، و إن فرض فيها جعل عوض لمن سبق تشويقا.

و ربّما يشهد بذلك اتفاقهم على جواز السباق بعوض في إجراء الخيل أو الرمي، مع إباء آية الاجتناب عن الخمر و الميسر بعد عدّهما رجسا من عمل الشيطان من التخصيص.

______________________________

(1) راجع الخلاف 6/ ... (ط. أخرى 3/ 343 و 344)؛ و المغني لابن قدّامة 12/ 35، كتاب الشهادات.

(2) سورة المائدة (5)، الآية 91.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 195

..........

______________________________

نعم نحكم تعبّدا بحرمة جعل العوض فيما ذكر أيضا بمقتضى الأخبار الواردة كقوله عليه السّلام: «لا سبق إلّا في خفّ أو حافر أو نصل.» «1»

و نحوه غيره بناء على قراءة كلمة: «سبق» بفتح الباء بمعنى الجعل بالضمّ.

و لكن حرمتها بغير العوض غير واضحة بعد كونها نافعة إلّا أن يقرأ كلمة:

«سبق» بسكون الباء و هو غير ثابت، فتدبّر.

و بالجملة فرق بين القمار المبنيّ على التصادف و البخت فقط و المسابقات المبنيّة على المجاهدة و التمرّن و إعمال الفنون.

و بذلك يظهر أنّه لو لا الأخبار الكثيرة الواردة في تحريم الشطرنج و جعلها قرينا للنرد أمكن الفرق بينهما- كما في المغني- بأنّ المعوّل في النرد على ما يخرجه الكعبتان، فأشبه الأزلام، و المعوّل

في الشطرنج على حذق اللاعب و تدبيره، فأشبه المسابقة بالسهام و هو مؤثر جدّا في ارتياض الفكر و ارتقائه.

هذا و لكن التعبد بالأخبار يمنع من هذا الفرق بينهما و كذا في الأربعة عشر فإنّه أيضا من قبيل الشطرنج، فتدبّر.

______________________________

(1) الوسائل 13/ 348، الباب 3 من كتاب السبق و الرماية، الحديث 1.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 196

[3- آلات اللهو]
اشارة

و منها: آلات اللهو على اختلاف أصنافها بلا خلاف لجميع ما تقدّم في المسألة السابقة. (1) و الكلام في بيع المادّة كما تقدّم.

______________________________

3- آلات اللهو

[اتفاق فقهاء الفريقين على حرمة المعاملة]

(1) اتفق فقهاؤنا بل فقهاء الفريقين على حرمة المعاملة على الآلات المعدّة للّهو إجمالا تكليفا و وضعا.

و قد مرّ نقل كلمات بعض الأصحاب «1» في هذا المجال في أوّل البحث عن هياكل العبادة المبتدعة و البحث عن آلات القمار، فلا نعيد.

و مرّ عن مجمع الفائدة و الرياض و المستند نقل الإجماع على ذلك، فراجع. «2»

و يدلّ على ذلك- مضافا إلى الإجماع المحكيّ و الأخبار العامّة التي ذكرها المصنّف في أوّل الكتاب من رواية تحف العقول و النبويّ المشهور و غيرهما-:

خصوص ما رواه في المستدرك عن أبي الفتوح الرازي- في تفسيره- عن أبي أمامة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله أنّه قال: «إنّ اللّه- تعالى- بعثني هدى و رحمة للعالمين، و أمرني أن أمحو المزامير و المعازف و الأوتار و الأوثان و أمور الجاهلية ...

إنّ آلات المزامير شراؤها و بيعها و ثمنها و التجارة بها حرام.» «3»

______________________________

(1) راجع ص 152 و 185 من هذا الكتاب.

(2) راجع ص 153 و 186 من هذا الكتاب.

(3) مستدرك الوسائل 2/ 458، الباب 79 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 16.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 197

..........

______________________________

قال ابن الأثير في النهاية: «العزف: اللعب بالمعازف و هي الدفوف و غيرها ممّا يضرب، و قيل: إنّ كلّ لعب عزف.» «1»

أقول: أصل العزف: الصوت، فيراد بالمعازف: الآلات التي توجد فيها أو بها الأصوات المطربة. هذا.

و قد يناقش في الإجماع المذكور بأنّه محتمل المدركيّة، و في الأخبار المذكورة بأنّها ضعاف لا يعتمد عليها.

و لكن لا يخفى أنّ

الأخبار قد تواترت من طرق الفريقين على حرمة الانتفاع بالملاهي و المعازف و النهي عن حضورها و الاستماع إليها، و أنّه من الكبائر، و أنّ جعل الملاهي و المعازف من عمل الشيطان، و أنّ ضربها ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء الخضرة، و أنّه يورث قساوة القلب، و أنّه ينزع الحياء و الغيرة. و أنّ الملائكة لا تدخل بيتا فيه خمر أو دفّ أو طنبور أو نرد، و لا يستجاب دعاؤهم، و أنّ صاحب الطنبور يحشر يوم القيامة و هو أسود الوجه و بيده طنبور من نار و فوق رأسه سبعون ألف ملك بيد كلّ ملك مقمعة يضربون رأسه و وجهه، و أنّ اللّه حرّم الدّف و الكوبة و المزامير و ما يلعب به، و أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله قال: «أنهاكم عن الزفن و المزمار و عن الكوبات و الكبرات»، و أنّ المؤمن لفي شغل عن الملاهي، و أنّ عليّا عليه السّلام كسر طنبور رجل، و أنّه رفع إليه رجل كسر بربطا فأبطله و لم يوجب على الرجل شيئا، و أنّ رجلا كسر طنبورا لرجل فرفعه إلى شريح فلم يضمنه.

إلى غير ذلك من مضامين الأخبار الواردة في هذا المجال، فراجع. «2»

و الزفن: الرقص. و الكبر- بفتحتين-: الطبل. و الكوبة: الطبل الصغير.

______________________________

(1) النهاية لابن الأثير 3/ 230.

(2) الوسائل 12/ 232- 237، الباب 100 و 101 من أبواب ما يكتسب به؛ و مستدرك الوسائل 2/ 458، الباب 79 من أبواب ما يكتسب به؛ و راجع أيضا سنن البيهقي 6/ 101، كتاب الغصب، و 10/ 221، كتاب الشهادات.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 198

..........

______________________________

فهل لا يستفاد من جميع هذه الأخبار أنّ الشارع

أسقط منفعة هذه الأشياء و ماليّتها بالكليّة، مع ما يراه من ترتّب الفساد عليها محضا؟ و هل يحتمل تنفيذه للمعاملة الواقعة عليها مع هذا اللحاظ؟!

و قد مرّ عن العلّامة في التذكرة قوله: «ما أسقط الشارع منفعته لا نفع له فيحرم بيعه كآلات الملاهي ...» «1»

و في الفقه على المذاهب الأربعة في شرائط المعقود عليه عن الحنفية: «الشرط الرابع: أن يكون المبيع مالا متقوّما شرعا فلا ينعقد بيع الخمر و نحوه من كلّ ما لا يباح الانتفاع به شرعا.» «2»

و عن المالكية: «ثانيهما: أن يكون منتفعا به شرعا فلا يصحّ بيع آلة اللهو.» «3»

و عن الحنابلة: «فلا يصحّ بيع ما لا نفع له أصلا كالحشرات و ما فيه منفعة محرّمة كالخمر.» «4»

و بالجملة فالمبيع يعتبر فيه أن يكون مالا إذ البيع مبادلة مال بمال، و ماليّة الأشياء بمنافعها، فإذا لم تكن لها منفعة أصلا كالحشرات سقطت عن الماليّة و لم يصح بيعها، و كذا إذا أسقط الشارع منافعها الموجبة لماليّتها بالكليّة، بل الأمر في الثاني أوضح إذ كيف ينفذ الشارع معاملة ما لا يترتّب عليه إلّا الفساد محضا؟! و هل ليس هذا إلّا نقضا لغرضه؟ فتدبّر.

و لكن هذا كلّه على فرض استعمال الآلات في التلهّي و البطر و كونها متمحّضا لذلك بحيث لا يقع شراؤها إلّا لذلك.

و أمّا إذا فرض الانتفاع بها في تنظيم نغمات الأصوات و الأناشيد الدينيّة أو النظاميّة

______________________________

(1) التذكرة 1/ 465، كتاب البيع، في شرائط العوضين.

(2) الفقه على المذاهب الأربعة 2/ 167، كتاب البيع.

(3) نفس المصدر 2/ 168.

(4) نفس المصدر 2/ 169.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 199

[معنى اللهو و كلام الأستاذ آية اللّه العظمى البروجردي]

و حيث إنّ المراد بآلات اللّهو ما أعدّ له، توقّف على تعيين معنى

اللهو و حرمة مطلق اللهو (1) إلّا أنّ المتيقّن منه ما كان من جنس المزامير و آلات الأغاني و من جنس الطبول (2) و سيأتي معنى اللهو و حكمه. (3)

______________________________

و وقع شراؤها لذلك فيشكل القول حينئذ بحرمة البيع و فساده، إذ تصير على هذا من الآلات المشتركة، و الأخبار تنصرف عن هذه الصورة. و لم يثبت الانتفاع بها لذلك في عصر صدور أخبار المنع، و إنّما كانوا ينتفعون بها في التلهّي و البطر، فتدبّر.

نعم، الظاهر أنّ الطبول كان ينتفع بها في الحروب أيضا لإخبار العسكر و إعدادهم و لم يسمع النهي عن ذلك، و المسألة تحتاج إلى تتبّع أوفى، و يأتي البحث عنها بالتفصيل في مبحث حرمة اللهو في النوع الرابع، فانتظر.

(1) و بعبارة أخرى: عدم جواز بيع آلات اللهو مسبّب لا محالة عن حرمة نفس اللهو بإطلاقه فيتوقّف الحكم بعدم الجواز على إثبات ذلك مع كون الآلة ممحّضة له أو وقوع البيع بقصده و متقيّدا به نظير ما مرّ في آلات القمار.

(2) قد مرّ منّا آنفا أنّ الطبول كانت تستعمل لتنظيم صفوف القتال أيضا، فكونها ممحّضة للهو غير واضح.

معنى اللهو و كلام الأستاذ آية اللّه العظمى البروجردي

(3) تفصيل البحث يأتي في محلّه، فلنشر هنا إلى إجماله:

قال الراغب في المفردات: «اللهو ما يشغل الإنسان عمّا يعنيه و يهمّه، يقال:

لهوت بكذا و لهيت عن كذا: اشتغلت عنه بلهو.» «1»

و في حديث: «كلّ ما الهى عن ذكر اللّه فهو من الميسر.» «2»

و ظاهره حرمة كلّ ما يشغل عن ذكر اللّه- تعالى-.

و يلوح من بعض الأخبار و الكلمات أنّ أنحاء اللعب و التلذذ و التفرّج تعدّ

______________________________

(1) المفردات/ 475.

(2) الوسائل 12/ 235، الباب 100 من أبواب ما يكتسب

به، الحديث 15.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 200

..........

______________________________

لهوا، و قد ينسب إلى الأصحاب حكمهم بحرمة كل لهو- إلّا فيما ثبت جوازه- من جهة حكمهم بوجوب الإتمام في سفر الصيد للّهو و التفرّج.

و لا يخفى أنّ القول بحرمة كل لعب و لهو يشغل عن ذكر اللّه- تعالى- ممّا لا يمكن الالتزام به و لا يلتزم به أحد، و وجوب الإتمام في سفر أعمّ من كونه سفر معصية، فاللازم التفصيل بين أنحاء اللهو و تشخيص المحرّم منها عن غيره.

قال الأستاذ آية اللّه العظمى البروجردي طاب ثراه- على ما كتبنا عنه من تقريرات بحثه الشريف في مسألة السفر للصيد اللهوي و أنّه هل يكون من مصاديق سفر المعصية أو لا بل يكون الإتمام فيه تعبّدا محضا-: «و حرمة بعض أقسام اللهو و إن كانت قطعية، لكن لا يمكن الالتزام بحرمة جميع أقسامه، إذ المحرّم من اللهو هو ما أوجب خروج الإنسان من حالته الطبيعيّة بحيث يوجد له حالة سكر لا يبقى معها للعقل حكومة و سلطنة، كالألحان الموسيقيّة التي تخرج من استمعها من الموازين العقليّة و تجعله مسلوب الاختيار في حركاته و سكناته، فيتحرك و يترنّم على طبق نغماتها و إن كان من أعقل الناس و أمتنهم. و بالجملة: المحرّم منه ما يوجب خروج الإنسان من المتانة و الوقار قهرا، و يوجد له سكرا روحيّا يزول معه حكومة العقل بالكليّة، و من الواضحات أنّ التصيّد و إن كان بقصد التنزّه ليس من هذا القبيل.» «1»

أقول: ما ذكره متين جدّا و إن كان تشخيص موارد الحلال و الحرام مشكلا في بعض الأحيان.

و من اللطائف في هذا المجال أنّ الكليني «ره» في الكافي ذكر باب الغناء و باب

النرد و الشطرنج في كتاب الأشربة منه، بعد ما تعرض لأخبار الخمر و المسكرات، و ذكر أخبار الملاهي في باب الغناء، فيستأنس من ذلك أنّ ملاك حرمة الغناء و اللهو و القمار عنده ما هو ملاكها في المسكرات من إيجاد الخفة في العقل، فراجع الكافي. «2»

______________________________

(1) البدر الزاهر/ 234 (ط. الجديدة/ 297).

(2) الكافي 6/ 431 و 435.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 201

[4- أواني الذهب و الفضّة]
اشارة

و منها: أواني الذهب و الفضة إذا قلنا بتحريم اقتنائها و قصد المعاوضة على مجموع الهيئة و المادّة لا المادّه فقط. (1)

______________________________

4- أواني الذهب و الفضّة

[كلمات الأصحاب في المقام]

(1) 1- في زكاة الخلاف (المسألة 103): «أواني الذهب و الفضّة محرّم اتخاذها و استعمالها غير أنّه لا تجب فيها الزكاة. و قال الشافعي: حرام استعمالها قولا واحدا، و في اتخاذها قولان: أحدهما محظور و الآخر مباح و على كلّ حال تجب فيها الزكاة ...» «1»

2- و في أطعمة النهاية: «و لا يجوز الأكل و الشرب في أواني الذهب و الفضّة، فإن كان هناك قدح مفضّض يجتنب موضع الفضّة منه عند الشرب.» «2»

3- و في آخر طهارة الشرائع: «و لا يجوز الأكل و الشرب في آنية من ذهب أو فضة و لا استعمالها في غير ذلك ... و في جواز اتّخاذها لغير الاستعمال تردّد، الأظهر المنع.» «3»

4- و في الجواهر ذيّل الجملة الأولى بقوله: «إجماعا منّا بل و عن كلّ من

______________________________

(1) الخلاف 2/ 90، المسألة 104 (ط. أخرى 1/ 307).

(2) النهاية/ 589.

(3) الشرائع/ 44 (ط. أخرى 1/ 55).

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 202

..........

______________________________

يحفظ عنه العلم عدا داود فحرّم الشرب خاصّة، محصّلا و منقولا مستفيضا إن لم يكن متواتر كالنصوص به من الطرفين.» «1»

و ذيّل الجملة الثانية بقوله: «وفاقا للمشهور بين الأصحاب نقلا و تحصيلا بل لا أجد فيه خلافا إلّا من مختلف الفاضل ...» «2»

5- و في الفقه على المذاهب الأربعة: «فيحرم اتّخاذ الآنية من الذهب و الفضة فلا يحلّ لرجل أو امرأة أن يأكل أو يشرب فيها لقوله صلى اللّه عليه و آله: «لا تشربوا في آنية الذهب و الفضة، و لا تأكلوا في صحافها

فإنّها لهم في الدنيا و لكم في الآخرة»، و كذلك لا يحلّ التطيّب أو الادّهان أو غير ذلك. و كما يحرم استعمالها يحرم اقتناؤها بدون استعمال.» «3»

و بالجملة فالظاهر إجماع أصحابنا- كما مرّ عن الجواهر- على الحرمة إجمالا، فما في طهارة الخلاف (المسألة 15) من قوله: «يكره استعمال أواني الذهب و الفضّة و كذلك المفضّض منها» «4» يجب حمل الكراهة فيه على الحرمة، بل الظاهر أنّ المراد بالكراهة في لسان الكتاب و السنّة كان هو الحرمة، و استعمالها في الكراهة المصطلحة أمر اصطلح عليه المتأخّرون من الفقهاء.

[بعض أخبار المسألة]

فلنتعرض لبعض أخبار المسألة:

1- صحيحة محمّد بن إسماعيل بن بزيع، قال: سألت أبا الحسن الرضا عليه السّلام عن آنية الذهب و الفضة، فكرههما. الحديث. «5»

أقول: قد مرّ أن الكراهة في الكتاب و السنّة أعمّ من الكراهة المصطلحة بل

______________________________

(1) الجواهر 6/ 328، كتاب الطهارة، القول في الآنية.

(2) نفس المصدر 6/ 343، كتاب الطهارة، في عدم جواز اتخاذ أواني الذهب و الفضّة.

(3) الفقه على المذاهب الأربعة 2/ 16، كتاب الحظر و الإباحة.

(4) الخلاف 1/ 69 (ط. أخرى 1/ 7).

(5) الوسائل 2/ 1083، الباب 65 من أبواب النجاسات، الحديث 1.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 203

..........

______________________________

تحمل على الحرمة إلّا مع القرينة على الخلاف و ربّما يستفاد من ذيل الحديث حرمة مطلق التزيّن بالفضّة حتى جعل المرآة و القضيب ملبّسين بها، و لكن الظاهر عدم إفتائهم بذلك.

2- رواية محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام: «أنّه نهى عن آنية الذهب و الفضة.» «1» و في السند سهل و الأمر فيه سهل.

3- خبر موسى بن بكر عن أبي الحسن موسى عليه السّلام، قال: «آنية الذهب و الفضة متاع الذين لا

يوقنون.» «2»

4- خبر داود بن سرحان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: «لا تأكل في آنية الذهب و الفضّة.» «3»

5- خبر محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام، قال: «لا تأكل في آنية ذهب و لا فضّة.» «4»

6- صحيحة الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: «لا تأكل في آنية من فضّة و لا في آنية مفضّضة.» «5»

7- ما في حديث المناهي، قال: «نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله عن الشرب في آنية الذهب و الفضّة.» «6»

8- خبر أمّ سلمة أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله قال: «الذي يشرب في آنية الفضّة إنما يجرجر في بطنه نار جهنّم.» «7»

______________________________

(1) نفس المصدر و الباب، ص 1084، الحديث 3.

(2) نفس المصدر و الباب، ص 1084، الحديث 4.

(3) نفس المصدر و الباب، ص 1083، الحديث 2.

(4) نفس المصدر و الباب، ص 1084، الحديث 7.

(5) نفس المصدر، ص 1085، الباب 66، الحديث 1.

(6) نفس المصدر، ص 1084، الباب 65، الحديث 9.

(7) سنن البيهقي 1/ 27، كتاب الطهارة، باب المنع من الشرب في آنية الذهب و الفضّة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 204

..........

______________________________

قال ابن الأثير في النهاية: فيه: «الذي يشرب في إناء الذهب و الفضّة إنّما يجرجر في بطنه نار جهنّم.» أي يحدر فيها نار جهنّم، فجعل الشرب و الجرع جرجرة، و هي صوت وقوع الماء في الجوف. قال الزمخشري: يروى برفع النار، و الأكثر على النصب. «1»

9- خبر حذيفة، قال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله يقول: «لا تلبسوا الحرير و لا الديباج، و لا تشربوا في آنية الذهب و الفضّة و لا تأكلوا في صحافها فإنّها لهم في

الدنيا و لكم في الآخرة.» «2»

في النهاية: «الصحفة: إناء كالقصعة المبسوطة و نحوها، و جمعها صحاف.» «3»

10- خبر أنس بن مالك قال: «نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله عن الأكل و الشرب في آنية الذهب و الفضّة.» «4»

إلى غير ذلك من أخبار الفريقين، فراجع الوسائل و البيهقي. «5»

[هل المحرّم الانتفاع أو الاقتناع]

إنّما الإشكال في أنّ المحرّم هل هو اتّخاذ الإناء منهما مطلقا و لو للاقتناء فيجب كسره و إتلاف هيئته كما في هياكل العبادة، أو خصوص الانتفاع بإنائهما و لو للتزيّن و الوضع على الرفوف لذلك مثلا، أو خصوص استعمالهما في الحاجات اليوميّة أو في خصوص الأكل و الشرب، أو في خصوص الشرب فقط كما نسب إلى داود؟ في المسألة وجوه بل أقوال.

______________________________

(1) النهاية لابن الأثير 1/ 255.

(2) سنن البيهقي 1/ 28، كتاب الطهارة، باب المنع من الأكل في صحاف الذهب و الفضّة.

(3) النهاية لابن الأثير 3/ 13.

(4) سنن البيهقي 1/ 28، كتاب الطهارة، باب المنع من الأكل في صحاف الذهب و الفضّة.

(5) راجع الوسائل 2/ 1083- 1086، البابين 65 و 66 من أبواب النجاسات؛ و سنن البيهقي 1/ 27 و 28، كتاب الطهارة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 205

..........

______________________________

و المتيقّن عندنا حرمة استعمالهما في الأكل و الشرب، و هو المذكور في أكثر أخبار الفريقين.

و في المستمسك: «إنّ عنوان الأكل و الشرب بما هو محرّم، و غيرهما من العناوين لا يحرم إلّا بالمقدار الذي يصدق عليه الاستعمال.» «1»

أقول: بناء على حرمة مطلق الاستعمال، فالظاهر أنّ حرمة الأكل و الشرب فيهما يكون من جهة أنّهما من مصاديق الاستعمال المطلق، إذ القول بحرمة خصوص الأكل أو الشرب مستقلا و حرمة مطلق الاستعمال كذلك يوجب تحقّق حرمتين نفسيتين

و عصيانين في مورد الأكل أو الشرب، لانطباق عنوان الاستعمال عليهما، و الالتزام بذلك مشكل. هذا.

و قد عرفت أنّ المذكور في أكثر الأخبار خصوص الأكل و الشرب.

و ربّما يستدلّ للقول بالتعميم بما مرّ من صحيحة محمّد بن إسماعيل من إسناد الكراهة إلى الإناءين مطلقا، و بما مرّ في خبر محمّد بن مسلم من النهي عنهما مطلقا، و ما مرّ في خبر موسى بن بكر من كونهما متاع الذين لا يوقنون. «2»

و يجاب عن الأوّل بعدم ذكر جهة السؤال فيه، و لعلّ السائل سأل عن استعمالهما أو خصوص الأكل و الشرب فيهما لأنهما مورد الابتلاء غالبا.

و بالجملة كان السؤال عن جهة صرف الإناء فيما يترقب منه بما هو إناء و كان صنعه لأجله، و الجواب كان على وفق السؤال.

و يجاب عن الثاني أوّلا بضعف السند بسهل بن زياد- و إن قيل إنّ الأمر فيه سهل- و ثانيا بأنّ النهي عن الذوات يرجع بمناسبة الحكم و الموضوع إلى الآثار المترقّبة من كلّ منها: فالنهي عن الأمهات و البنات مثلا يرجع إلى نكاحها، و النهي عن الميتة إلى أكلها، و النهي عن الأواني إلى استعمالها في الأكل و الشرب أو

______________________________

(1) المستمسك 2/ 176، استعمال أواني الذهب و الفضّة.

(2) راجع ص 202 و 203 من الكتاب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 206

..........

______________________________

مطلق الحاجات. و أمّا التزيّن بها فضلا عن اقتنائها فليس من الآثار الظاهرة للأواني بما هي أوان، و الإطلاقات تنصرف عنها.

و بالجملة يفهم بمناسبة الحكم و الموضوع أنّ المنهي عنه استعمالها بما هي أوان فيما صنعت لأجلها.

و يجاب عن الثالث أوّلا بضعف السند بسهل و موسى بن بكر. و ثانيا بأنّ المتاع بمعنى ما يتمتّع به

في الحياة. و التمتّع من كلّ شي ء بحسب ما يترقّب منه. و ليس المترقّب من الأواني التزيّن أو الاقتناء. و عطف المتاع على الحلية في قوله- تعالى-:

ابْتِغٰاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتٰاعٍ «1» يدلّ على المغايرة بينهما فلا يشمل المتاع لما يتزيّن به، و لو سلّم فلا يشمل الاقتناء قطعا. و ثالثا بمنع دلالة الحديث على الحرمة إذ وزانه وزان الأخبار الواردة في المواعظ و الحكم الأخلاقية و ذمّ الدنيا و الترغيب في الزهد و القناعة.

و كون النهي عن أواني الذهب و الفضّة بلحاظ أن اتّخاذها منهما موجب لقلّة الدراهم و الدنانير في السوق و الاختلال في أمر المعاملات غير واضح.

بل لعلّه بلحاظ أنّ استعمالهما يوجب التفاوت بين الناس في مظاهر التعيّش و الاختلاف الفاحش بين الأغنياء و الفقراء و انكسار قلوب المحتاجين، و هذا المعنى لا يجري في اقتنائهما كما لا يخفى.

نعم يمكن أن يستدلّ لحرمة الاتّخاذ مطلقا بما رواه في المستدرك عن أمالي ابن الشيخ «ره» بسنده عن أبي جعفر عليه السّلام أنّه سئل عن الدنانير و الدراهم و ما على الناس فيها؟ فقال أبو جعفر عليه السّلام: «هي خواتيم اللّه في أرضه، جعلهما اللّه مصلحة لخلقه و بها تستقيم شئونهم و مطالبهم، فمن أكثر له منها فقام بحقّ اللّه فيها و أدّى زكاتها فذاك الذي طابت و خلصت له، و من أكثر له منها فبخل بها و لم يؤدّ حق

______________________________

(1) سورة الرعد (13)، الآية 17.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 207

..........

______________________________

اللّه فيها و اتّخذ منها الآنية فذاك الذي حقّ عليه و عيد اللّه- عزّ و جلّ- في كتابه يقول اللّه: يَوْمَ يُحْمىٰ عَلَيْهٰا فِي نٰارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوىٰ بِهٰا جِبٰاهُهُمْ وَ جُنُوبُهُمْ وَ

ظُهُورُهُمْ هٰذٰا مٰا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ. «1»

و فيه: أنّ النهي لعلّه من جهة اتّخاذ ما تعلّق به الزكاة فعلا أو ما في معرض تعلّقه آنية فرارا من الزكاة فلا يشمل اتّخاذ الأواني من سبائك الذهب و الفضّة بعد فرض عدم تعلّق الزكاة بها أو بعد عدم اتّخاذ النقود الرائجة منهما، هذا مضافا إلى ضعف الخبر سندا، فتدبّر.

و تفصيل المسألة موكول إلى مبحث الأواني من كتاب الطهارة، فراجع. «2»

و كيف كان فلو قلنا بحرمة اتّخاذ الأواني منهما مطلقا و وجوب إتلاف هيئتها صار وزانها وزان هياكل العبادة المبتدعة و نحوها ممّا انحصر نفعها في الحرام و أسقط الشارع ماليّتها بالكليّة لذلك فكان بيعها حراما تكليفا و وضعا لترتّب الفساد عليها محضا و يكون تنفيذ الشارع له نقضا لغرضه. و بالجملة كان ذكرها هنا في القسم الأوّل في محلّه.

و أمّا إذا قلنا بجواز اقتنائها بل التزيّن بها أيضا، و خصصنا الحرمة باستعمالها في الأكل و الشرب أو مطلق الحاجات، صارت من الآلات المشتركة و كان اللازم ذكرها في القسم الثاني الآتي نظير بيع العنب لمن يعمله خمرا.

ثمّ على الفرض الأوّل أيضا يجوز بيعها بقصد كسرها أو بإيقاع البيع على المادّة فقط نظير ما مرّ في هياكل العبادة بالتفصيل، فراجع. «3»

______________________________

(1) مستدرك الوسائل 1/ 166، كتاب الطهارة، الباب 40 من أبواب النجاسات و الأواني، الحديث 2؛ و الآية في سورة التوبة (9)، رقمها 35.

(2) راجع الجواهر 6/ 328 و ما بعدها، كتاب الطهارة، القول في الآنية.

(3) راجع ص 176، من هذا الكتاب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 208

[5- الدراهم المغشوشة]
اشارة

و منها: الدراهم الخارجة المعمولة لأجل غشّ الناس إذا لم يفرض لها على هيئتها الخاصّة منفعة محللة معتدّ بها، (1)

مثل التزيّن أو الدفع إلى الظالم الذي يريد مقدارا من المال كالعشّار و نحوه (2)، بناء على جواز ذلك و عدم وجوب إتلاف مثل هذه الدراهم و لو بكسرها من باب دفع

______________________________

5- الدراهم المغشوشة

________________________________________

نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في المكاسب المحرمة، 3 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، اول، 1415 ه ق

دراسات في المكاسب المحرمة؛ ج 2، ص: 208

[في دفعها إلى العشار الظالم]

(1) إذ على فرض وجود المنفعة المحلّلة تصير من القسم الثاني الذي يجوز بيعه إلّا بقصد المنفعة المحرّمة و مقيّدا بها.

(2) أقول: كون دفعها إلى العشّار الظالم من المنافع المحلّلة غير واضح، إذ العشّارون لا يأخذونها إلّا للإنفاق في السوق، فينفقونها و يجلبون بها أموال الناس ظلما.

نعم الظاهر جواز التزيّن بها إذا كان غشّها ظاهرا و لم تكن في معرض الإنفاق و المعاملة.

و بما ذكرنا يظهر المناقشة في كلام صاحب الجواهر، حيث قال: «و في جواز دفع الظلمة بالدراهم المغشوشة و جهان: أقواهما الجواز و أحوطهما خلافه.» «1»

إلّا أن يريد صورة العلم بعدم إنفاقها من قبلهم.

و كيف كان فلو فرض للدراهم المغشوشة الخارجة عن رواج المعاملة منفعة محلّلة عقلائيّة وراء إنفاقها كالتزيّن بها مثلا جاز بيعها لذلك و لم يجز إتلافها على صاحبها، و إلّا صارت من قبيل هياكل العبادة المبتدعة و لم يجز بيعها، إذ لا يقصد

______________________________

(1) الجواهر 24/ 18، في بيع الصرف من كتاب التجارة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 209

مادّة الفساد، كما يدلّ عليه قوله عليه السّلام في رواية الجعفي (1) مشيرا إلى درهم: «اكسر هذا فإنّه لا يحلّ بيعه و لا إنفاقه» و في رواية موسى بن بكر (2) «قطعه نصفين» ثم قال: «ألقه في البالوعة حتى لا يباع شي ء

فيه غشّ.» و تمام الكلام فيه في باب الصرف إن شاء اللّه.

______________________________

منها حينئذ إلّا الفساد. و المصنّف استدل لعدم جواز الانتفاع بها و وجوب إتلاف هيئتها بروايتين أشار إليهما في المتن.

[حسم مادة الفساد]

(1) أراد بها ما رواه الشيخ بإسناده عن ابن أبي عمير، عن عليّ الصيرفي، عن المفضل بن عمر الجعفي، قال: كنت عند أبي عبد اللّه عليه السّلام فألقي بين يديه دراهم، فألقى إليّ درهما منها. فقال: أيش هذا؟! فقلت: ستّوق، قال:

و ما الستّوق؟! فقلت: طبقتين فضّة، و طبقة من نحاس و طبقة من فضّة، فقال:

«اكسر هذا فإنّه لا يحلّ بيع هذا و لا إنفاقه.» «1»

و في السند عليّ بن الحسن الصيرفي و هو مجهول الحال و المفضّل مختلف فيه. و في المتن اغتشاش، و الظاهر أنه كان هكذا: «طبقتين: طبقة من فضّة و طبقة من نحاس.»

و في المجمع: «درهم ستّوق كتنّور و قدّوس و تستوق بضمّ التاءين: زيف بهرج ملبّس بالفضّة.» «2»

و في التهذيب بعد ذكر الخبر قال: «الوجه في هذا الخبر أنّه لا يجوز إنفاق هذه الدراهم إلّا بعد أن يبين أنّها كذلك لأنّه متى لم يبيّن يظنّ الآخذ لها أنّها جياد.» «3»

(2) أراد بها ما رواه الكليني بسند فيه ضعف و إرسال عن موسى بن بكر، قال: كنّا عند أبي الحسن عليه السّلام و إذا دنانير مصبوبة بين يديه، فنظر إلى دينار فأخذه بيده ثمّ قطعه بنصفين، ثمّ قال لي: «ألقه في البالوعة حتى لا يباع شي ء فيه

______________________________

(1) التهذيب 7/ 109، كتاب التجارات، الباب 8، الحديث 72.

(2) مجمع البحرين 5/ 183 (ط. أخرى/ 400).

(3) التهذيب 7/ 109.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 210

..........

______________________________

غشّ.» و رواه الصدوق مثله. «1»

و من

هذا القبيل أيضا ما رواه في دعائم الإسلام عن جعفر بن محمّد عليه السّلام أنّه سئل عن إنفاق الدراهم المحمول عليها؟ قال: «إذا كان الغالب عليها الفضّة فلا بأس بإنفاقها» و قال في الستّوق و هو المطبّق عليه الفضّة و داخله نحاس: «يقطع و لا يحلّ أن ينفق، و كذلك المزيبقة و المكحلة.» «2»

و أجاب في مصباح الفقاهة عن الرواية الأولى: «أنّ الأمر فيها ليس تكليفيّا ليجب كسره و يحرم تركه، بل هو إرشاد إلى عدم صحّة المعاوضة عليها و عدم جواز أداء الحقوق الواجبة منها.

و يدلّ على ذلك من الرواية تعليل الإمام عليه السّلام الأمر بالكسر بأنّه لا يحلّ بيعه و لا إنفاقه، إذ من البديهي أنّ الصدّ عن بيعه و إنفاقه في الخارج لا ينحصر في الكسر بل يحصل بغيره أيضا.» «3»

و أجاب عن الرواية الثانية أوّلا بأنّها ضعيفة غير منجبرة، و ثانيا بأنّ فعله عليه السّلام و إن كان حجّة إلّا أنّ ذلك فيما تكون جهة الفعل معلومة، و عليه فلا يستفاد من الرواية أكثر من الجواز الشرعي، و يكون مؤدّاها الإرشاد إلى عدم نفوذ المعاملة لوجود الغشّ فيه.

بل الظاهر أنّه كان غشّا محضا و إلا لما أمر الإمام عليه السّلام بإلقائه في البالوعة لكونه من أعلى مراتب الإسراف و التبذير. و من هنا ظهر ما في رواية دعائم الإسلام من حكمه عليه السّلام بقطع الدرهم المغشوش. «4»

أقول: لعلّ نظر المستدلّ بها للحرمة و وجوب الإتلاف أنّ الظاهر من الأمر بالكسر أنّه

______________________________

(1) الوسائل 12/ 209، الباب 86 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5.

(2) دعائم الإسلام 2/ 29؛ و رواه عنه في المستدرك 2/ 481، الباب 6 من أبواب الصرف، الحديث

1.

(3) مصباح الفقاهة 1/ 157.

(4) راجع نفس المصدر 1/ 158.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 211

..........

______________________________

لم يكن يترتّب على وجوده بهيئته إلّا الفساد، إذ لم يكن لها منفعة ظاهرة إلّا الإنفاق المحرّم، و ما يترتّب على وجوده الفساد محضا يجب إتلافه لا محالة حسما لمادّته، و هذا أمر يحكم به العقل و العقلاء أيضا، و لو كان يترتّب عليه منفعة محلّلة عقلائيّة كالتزيّن مثلا لما أمر الإمام عليه السّلام بكسره بل أرشد إلى صرفه فيه بل كان إتلافه حينئذ تبذيرا للمال.

فالأولى أن يقال: إنّ الدراهم المغشوشة على قسمين:

قسم يكون فاسدا خارجا عن رواج المعاملة، بل لعلّها عملت و صنعت لإغواء الناس و تصاحب أموالهم بذلك كما شاع في أعصارنا أيضا من عمل ما يشبه النقود الرائجة للتدليس، فهذا القسم ممّا يجب إفناؤها أو تغيير صورتها قطعا حسما لمادّة الفساد، و الظاهر أنّ الروايات المذكورة ناظرة إلى هذا القسم.

و بالجملة فالغش في هذا القسم ضدّ النصح و يكون مشتملا على مفهوم الإخفاء و التدليس، و حرمة الغشّ بهذا المعنى واضحة، فما لا أثر له إلّا الغشّ به وجب إتلافه و حرمت المعاملة عليه.

القسم الثاني: ما تكون رائجة في سوق المعاملات لاعتبار حكومة الوقت إيّاها نحو اعتبارها للدراهم الخالصة، و إن كان خلطها كثيرا بالنسبة إلى الدراهم الجيّدة، إذ العمدة في الرواج و لا سيّما في عصرنا اعتبار حكومة الوقت و قدرتها. و في الحقيقة لا غشّ في هذا القسم بالمعنى الذي مرّ، بل يراد بالغشّ فيها خلطها بغير جنسها.

و الأخبار في جواز المعاملة على الدراهم المغشوشة بهذا المعنى مستفيضة، فراجع الوسائل: «1»

منها: صحيحة فضل أبي العباس، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الدراهم

المحمول عليها؟ فقال: «إذا أنفقت ما يجوز بين أهل البلد فلا بأس، و إن أنفقت مالا يجوز بين أهل البلد فلا.» «2»

______________________________

(1) راجع الوسائل 12/ 472، الباب 10 من أبواب بيع الصرف.

(2) نفس المصدر و الباب، ص 474، الحديث 9.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 212

[لو وقعت المعاوضة على المغشوش فتبيّن الحال]

و لو وقعت المعاوضة عليها جهلا فتبيّن الحال لمن صار إليه فإن وقع عنوان المعاوضة على الدرهم المنصرف إطلاقه إلى المسكوك سكّة السلطان بطل البيع. و إن وقعت المعاوضة على شخصه من دون عنوان فالظاهر صحّة البيع مع خيار العيب إن كانت المادّة مغشوشة، و إن كان مجرّد تفاوت السكة فهو خيار التدليس فتأمّل. (1)

______________________________

و منها: رواية حريز، قال: كنت عند أبي عبد اللّه عليه السّلام فدخل عليه قوم من أهل سجستان فسألوه عن الدراهم المحمول عليها؟ فقال: «لا بأس إذا كان جواز المصر.» «1»

و منها: رواية محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام، قال: جاء رجل من سجستان فقال له: إنّ عندنا دراهم يقال لها: الشاهيّة تحمل على الدرهم دانقين.

فقال: «لا بأس به إذا كانت تجوز.» «2» إلى غير ذلك من الأخبار، فراجع.

و قد تحصّل ممّا ذكرنا أنّ هذه الأخبار تحمل على ما إذا كانت المغشوشة بيّنة الغشّ رائجة في سوق المعاملات، فلا تدليس فيها و الغشّ فيها بمعنى الخلط لا التغرير، و الأخبار السابقة تحمل على ما إذا كانت غير رائجة بل كان عملها بقصد التدليس و التغرير، فالواجب كسرها و إتلافها، إلّا إذا فرض لها منافع محلّلة عقلائيّة، كالتزيّن مثلا مع الأمن من إنفاقها.

و يظهر من مصباح الفقاهة حمل الأخبار السابقة على الكراهة جمعا بين الطائفتين. «3» و لكن ما ذكرناه من الجمع بينهما

أقرب إلى الاعتبار و إلى ظاهر الأخبار، فتدبّر.

(1) ما ذكر إلى الآن كان على فرض وجوب إتلاف الدراهم المغشوشة. و أمّا على فرض عدم وجوب إتلافها إمّا مطلقا، أو مع وجود المنفعة المحلّلة لها أيضا،

______________________________

(1) نفس المصدر و الباب، ص 474، الحديث 10.

(2) نفس المصدر و الباب، ص 473، الحديث 6.

(3) مصباح الفقاهة 1/ 159.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 213

..........

______________________________

أو مع فرض رواجها في السوق فإنفاقها يقع على أحد نحوين:

الأوّل: أن تقع المعاملة على الدرهم الكلّي المنصرف طبعا إلى الدرهم الصحيح ثمّ أعطى البائع أو المشتري في مقام الأداء الدرهم المغشوش، فلا إشكال حينئذ في صحّة المعاملة و لكن يجبر الدافع على دفع الصحيح و استرداد المغشوش، و الغالب في المعاملات هذا النحو و لا سيّما في الأثمان.

الثاني: أن تقع المعاملة على شخص الدرهم المغشوش مثمنا أو ثمنا، فالمتعاملان في هذه الصورة إمّا أن يكونا عالمين بالغشّ أو جاهلين أو مختلفين.

فإن كانا عالمين به فلا ريب في جواز المعاملة تكليفا و وضعا و عدم ثبوت الخيار في البين. و أخبار حرمة الغشّ لا تشمل هذه الصورة قطعا، إذ المتفاهم من الغشّ التدليس و التغرير، و مع علمهما لا تدليس و لا تغرير.

و إن كانا جاهلين فالحرمة التكليفيّة منفية لعدم صدق الغشّ المحرّم مع الجهل، و إنّما البحث في الحكم الوضعي أعني صحة المعاملة و فسادها و الأقوى هو التفصيل، و بيان ذلك يتوقّف على ذكر مقدمة:

القيود الّتي يعتبرها المتعاملان على قسمين

و هي أنّ القيود التي يعتبرها المتعاملان في المبيع أو الثمن- سواء ذكرت في متن المعاملة بنحو التوصيف أو التقييد أو الاشتراط أو انصرفت إليها أو وقعت المعاملة مبنيّة عليها- إذا تخلّفت فهي على قسمين، و قد

أشار إليهما المصنّف في مبحث خيار الرؤية: «1»

الأوّل: أن تعدّ عرفا من مقوّمات الشي ء و من قبيل الصور النوعيّة المقوّمة للذات، و إن لم تكن كذلك بالنظر العقلي الفلسفي، كما إذا باعه شيئا على أنّه ذهب، فبان نحاسا، أو على أنّه عبد حبشي، فبان حمارا وحشيّا، بل و كذا إذا

______________________________

(1) المكاسب للشيخ الأعظم «ره»/ 250.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 214

..........

______________________________

باعه على أنّه جارية جميلة شابّة، فبان عبدا شائبا كريه الوجه، أو على أنّه عباء، فبان فرشا و إن اتّحدا مادّة. فإنّ العناوين في هذه الأمثلة من المقوّمات للمبيع عرفا و إن لم تكن بالنظر العقلي كذلك في بعضها.

الثاني: أن لا تعدّ من المقوّمات بل من العوارض و من جهات الفضل و الكمال، كما إذا باعه عبدا على أنّه كاتب، فبان أميا، بل و كذا إذا باعه الدهن أو اللبن على أنّه من الغنم، فبان أنّه من البقر، مع اختلافهما نوعا.

ففي القسم الأوّل تبطل المعاملة مع التخلّف، إذ المعقود عليه غير موجود و الموجود غير معقود عليه. و على فرض اتّحادهما في المادّة كالعباء و الفرش مثلا لا يتقسّط الثمن على المادّه و الهيئة نحو ما يتقسّط في بيع ما يملك و ما لا يملك كالشاة و الخنزير، إذ في الشاة و الخنزير هما أمران خارجيان، فيتقسّط الثمن عرفا.

و أمّا المادّة و الهيئة فهما متّحدتان وجودا و الكثرة بتحليل العقل.

و أمّا في القسم الثاني فالمعاملة صحيحة، و يثبت للمشتري خيار العيب أو خيار تخلّف الوصف.

ففي المقام أيضا إذا وقعت المعاملة مثمنا أو ثمنا على الدرهم من الفضّة المسكوك بسكّة السلطان، فبان أنّه رصاص مثلا، أو أنّ السكّة سكّة غير السلطان الرائجة في جميع

البلاد، ففي كليهما يعدّ الموجود نوعا آخر غير ما وقع العقد عليه. إذ الظاهر أنّ السكّة الرائجة من مقوّمات الدنانير و الدراهم عرفا، فيكون التخلّف موجبا لبطلان المعاملة و إن فرض اتّحادهما مادّة. نعم لو باعه على أنّها سكّة سنة فلان، فبان أنّها سكّة سنة أخرى مثلا، فالظاهر أنّه من قبيل تخلّف العوارض الخارجة عن الذات، فيثبت خيار تخلّف الوصف.

هذا كلّه ما إذا كان المتعاملان جاهلين، و مثلهما ما إذا كان المشتري فقط جاهلا، فتبطل المعاملة مع تخلّف الذات و تصح مع تخلّف الأوصاف العرضية و يجري فيه خيار التدليس أيضا كما هو واضح.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 215

..........

______________________________

و لو انعكس الأمر، فكان البائع جاهلا و المشتري عالما، فمع تخلّف الذات تبطل المعاملة، و مع تخلّف العوارض تصحّ و لا خيار للمشتري لعلمه، و أخبار الغشّ أيضا لا تشملها، إذ لا تدليس هنا، نعم يثبت الخيار للبائع. هذا.

و المحقّق الإيرواني «ره» في الحاشية «1» مثل لتخلّف المعقود عليه بما إذا حسب المشتري الطبل صندوقا و ذكر للمسألة أربع صور:

الأولى: أن يشتري الصندوق الكلّي فدفع إليه الطبل.

الثانية: أن يشتري الشي ء الخارجي و لكن اعتقد أنّه صندوق فبان أنّه طبل.

الثالثة: أن يشتري عنوان الصندوق الشخصي الخارجي فبان أنّه طبل.

الرابعة: أن يشتري هذا الشي ء المشار إليه على أنّه صندوق فبان أنّه طبل.

فحكم في الأولى بصحّة المعاملة و وجوب إبدال المدفوع، و في الثانية بصحّة المعاملة و عدم الخيار أيضا، فإنّ الاعتقاد المذكور من قبيل المقارنات الاتفاقية التي لا يؤثّر وجودها و عدمها في المعاملة. و حكم في الثالثة ببطلان المعاملة، فإنّ المبيع لا وجود له و الموجود لم تقع عليه المعاملة، و في الرابعة بثبوت خيار

تخلّف الشرط كما إذا اشترى العبد على أنّه كاتب فبان أنّه غير كاتب.

أقول: ما ذكره في الصورة الأولى و الثالثة صحيح كما بيّناه، و لكن يشكل ما ذكره في الثانية و الرابعة و لا سيّما الرابعة، إذ يمكن أن يقال في الثانية: أنّ ما قصد لم يقع و ما وقع لم يقصد و العقود تابعة للقصود. و فرق بين تخلّف الاعتقاد في نفس مورد المعاملة و بين تخلّفه فيما يترقّب منه من الآثار، فالأوّل يضرّ بصحّته أو لزومه.

و إن شئت قلت: إنّه يجري في المقام ملاك خيار الغبن، حيث إنّ التضرّر بتخلّف الذات أشدّ من التضرّر بتفاوت القيمة و إن لم يكن البائع مقصّرا في ذلك، فتأمّل.

______________________________

(1) حاشية المكاسب للمحقّق الإيرواني/ 13.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 216

..........

______________________________

و يقال في الرابعة: إنّ الظاهر- كما أشرنا إليه- عدم الفرق عرفا بين أن يذكر القيد عنوانا للمبيع أو قيدا له أو شرطا أو وقعت المعاملة مبنيّة عليه، و إنّ التخلّف إن كان فيما يقوّم الذات عرفا بطلت المعاملة، و إن كان في عوارضها الخارجة عن الذات صحّت و ثبت الخيار، و الصندوق و الطبل متباينان عرفا.

إذا عرفت ما ذكرناه في بيان صور المسألة و أحكامها فلنرجع إلى توضيح كلام المصنّف في المتن فنقول:

ظاهر قوله: «فإن وقع عنوان المعاوضة على الدرهم المنصرف إطلاقه إلى المسكوك سكّة السلطان بطل البيع»

إرادة إيقاع العقد على الدرهم الكلّي المنصرف إلى المسكوك سكّة السلطان، و على هذا فحكمه في هذه الصورة ببطلان البيع ممّا لا وجه له لما مرّ من صحّة المعاملة حينئذ، إلّا أنّ اللازم استرداد المغشوش و دفع الصحيح و لو لم يفعل أجبر عليه.

نعم لو أراد بما ذكره

إيقاع المعاملة على شخص الدرهم معنونا بعنوان سكّة السلطان صحّ حكمه بالبطلان مع التخلّف، لما مرّ من أن السكّة الرائجة من مقوّمات الدنانير و الدراهم عرفا، فتخلّفها يوجب بطلان العقد.

و أمّا قوله: «و إن وقعت المعاوضة على شخصه من دون عنوان» فإن أراد بذلك عدم قصد عنوان الدرهم المتقوّم بالسكّة بل قصد نفس المادّة فقط، فلم حكم بخيار التدليس مع تخلّف الهيئة؟! مضافا إلى أنّه خروج عن الفرض إذ البحث في بيع الدرهم.

و إن أراد بذلك قصد عنوان الدرهم بدون ذكره في متن العقد فنقول: إنّ التخلّف في كلّ من المادّة و الهيئة إن رجع إلى التخلّف في المقوّمات- كما إذا تبيّن كون المادة أو أكثرها من الرصاص مثلا أو كون السكّة غير سكّة السلطان الرائجة في البلاد- فالمعاملة باطلة كما مرّ.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 217

[الفرق بين بيع آلات القمار و بيع الدراهم المغشوشة]

و هذا بخلاف ما تقدّم من الآلات (1)، فإنّ البيع الواقع عليها لا يمكن تصحيحه بإمضائه من جهة المادّة فقط و استرداد ما قابل الهيئة من الثمن المدفوع، كما لو جمع بين الخلّ و الخمر لأنّ كلّ جزء من الخلّ أو الخمر مال لا بدّ أن يقابل في المعاوضة بجزء من المال، ففساد المعاملة باعتباره يوجب فساد مقابله من المال لا غير. بخلاف المادّة و الهيئة فإنّ الهيئة من قبيل القيد للمادّة جزء عقلي لا خارجي تقابل بمال على حدة.

ففساد المعاملة باعتباره فساد لمعاملة المادّة حقيقة. و هذا الكلام مطّرد في كلّ قيد فاسد بذل الثمن الخاصّ لداعي وجوده.

______________________________

نعم لو كان التخلّف في غير المقوّمات بل في الأوصاف الكماليّة فقط، صحّ ما ذكره من الصحّة و ثبوت خيار العيب أو التدليس، و لعلّه أشار إلى ما

ذكرنا أو بعضه بقوله: فتأمّل.

(1) أقول: ظاهر كلامه- قدّس سرّه- الفرق بين بيع آلات القمار و نحوه، و بيع الدراهم المغشوشة، بدعوى أن المبيع في الآلات هي المادّة المتهيّئة بالهيئة الكذائيّة و هما متّحدتان وجودا، فالمبيع شي ء واحد و إن تكثّر بالتحليل العقلي، فلو فرض أنّ للمادّة فيها قيمة، لا تتبعّض المعاملة و الثمن عليهما نحو ما تتبعّضان في بيع ما يملك و ما لا يملك كالخلّ و الخمر، و هذا بخلاف الدراهم فإنّ للمادّة فيها ماليّة، فيمكن أن تصحّ المعاملة بالنسبة إليها.

و هذا على فرض إرادة المصنّف إيّاه عجيب، إذ ما ذكره من الفرق بين بيع الآلات و بيع الخلّ و الخمر و أنّ الثمن يتقسّط في الثاني دون الأوّل أمر صحيح.

و لكن وزان الدراهم أيضا وزان الآلات، إذ المفروض وقوع المعاملة على الدرهم مثمنا أو ثمنا لا على الفضّة مثلا. و كما أنّ قوام آلات القمار بهيئتها و يتّحد المادّة و الهيئة فيها وجودا فكذلك الكلام في الدراهم، حيث إن قوامها بسكّتها الرائجة،

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 218

..........

______________________________

فلا يمكن تصحيح المعاملة بالنسبة إلى مادّتها و تقسيط الثمن على المادّة و الهيئة، إذا فرض تخلّف الهيئة فيها.

قال في مصباح الفقاهة: «و من المحتمل أنّ هذه العبارة قد حرّرها النساخ في غير موضعها اشتباها». «1»

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 161.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 219

[القسم الثاني من النوع الثاني: ما يقصد منه المتعاملان المنفعة المحرّمة و هو على قسمين]

اشارة

القسم الثاني: ما يقصد منه المتعاملان المنفعة المحرّمة. و هو تارة على وجه يرجع إلى بذل المال في مقابل المنفعة المحرّمة كالمعاوضة على العنب مع التزامهما أن لا يتصرّف فيه إلّا بالتخمير، و أخرى على وجه يكون الحرام هو الداعي إلى المعاوضة لا غير كالمعاوضة على العنب

مع قصدهما تخميره.

و الأوّل: إمّا أن يكون الحرام مقصودا لا غير كبيع العنب على أن يعمله خمرا و نحو ذلك، و إمّا أن يكون الحرام مقصودا مع الحلال بحيث يكون بذل المال بإزائهما كبيع الجارية المغنية بثمن لو حظ فيه وقوع بعضه بإزاء صفة التغنّي. فهنا مسائل ثلاث: (1)

______________________________

القسم الثاني من النوع الثاني:

ما يقصد منه المتعاملان المنفعة المحرّمة

(1) محصّل كلامه- قدّس سرّه- أنّه إمّا أن تكون المنفعة المحرّمة تمام الموضوع في المعاوضة بحيث يرجع مفادها إلى بذل المال بإزائها لا غير كالمعاوضة على العنب بشرط التخمير، أو الخشب بشرط صنعه صنما أو صليبا. و إمّا أن تكون بنحو الداعي من دون اشتراط في متن العقد كالمعاوضة على العنب بقصد جعله خمرا.

و إمّا أن تكون جزء للموضوع بحيث يقع جزء من الثمن بإزائها، كبيع الجارية المغنية

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 220

..........

______________________________

بوصف غنائها بحيث يقع بعض الثمن بإزاء وصف الغناء. فهذه ثلاث صور.

أقول: و هنا صورة رابعة يتعرّض لها المصنّف أخيرا، و هي أن يعلم يترتّب المنفعة المحرّمة على مورد المعاملة من دون قصد لها أصلا، كبيع العنب ممّن يعلم أنّه يصرفه في التخمير من دون قصد البائع لذلك بل لعلّه يشمئز من ذلك أيضا و لكنّه بصدد بيع عنبه.

و يجري الصور الأربعة في الإجارة أيضا، و الملاك في البيع و الإجارة واحد كما لا يخفى.

ذكر كلام الأستاذ الإمام «ره» [في صور المسألة]
اشارة

و قبل التعرّض لما ذكره المصنّف من أحكام الصور المذكورة نذكر لزيادة البصيرة في المسألة ما ذكره الأستاذ الإمام «ره» في المقام من صور المسألة و أحكامها بنحو الإجمال «1» ثمّ نرجع إلى بيان ما ذكره المصنّف «ره».

فنقول: قد قسم هو محلّ البحث إلى صور نذكرها ملخصة:

«الأولى: أن يكون المبيع كليّا مقيّدا بما لا ينطبق إلّا على المحرّم

مثل أن يبيع العنب المنتهي إلى التخمير، فيكون المبيع حصّة خاصّة من العنب لا العنب المطلق، فإذا تسلّمه المشتري و لم يستعمله في التخمير يكشف عن عدم كونه مصداقا للمبيع.

الثانية: أن يكون المبيع جزئيّا خارجيّا مع توصيفه بالوصف المتقدّم،

فيكون المبيع العنب الموجود المنتهي إلى التخمير، فلو لم ينته إليه يكشف عن عدم كونه مبيعا أو عن تخلّف الوصف.

الثالثة: أن يكون القيد على نحو الشرط

- كان المبيع كليّا أو جزئيّا- بحيث يكشف عدم الانتهاء عن عدم كونه مصداقا للمبيع أو عدم كونه مبيعا.

و الفرق بين هذه الصورة و السابقتين أنّ القيد في الأخيرة نفس الأمر المتأخّر،

______________________________

(1) المكاسب المحرّمة للإمام الخميني «ره» 1/ 115 و ما بعدها (ط. الجديدة 1/ 174 و ما بعدها).

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 221

..........

______________________________

و في السابقتين الأمر المقارن المنتزع عن الأمر المتأخّر.

قال: «و الظاهر بطلان البيع في هذه الصور لعدم عقلائيّة الملك الحيثي، و الفرق بين هذا القيد و قيد كون العنب أحمر أو أصفر: أنّ مصداق الأحمر بعد تسليمه يكون ملكا طلقا للمشتري، و أمّا العنب المنتهي إلى التخمير فليس ملكا له إلّا من حيث التخمير دون سائر الحيثيّات، و لم يعهد لدى العقلاء هذا النحو من المليكة، و إلّا لجاز بيع الرداء الذي تحت السقف مثلا فلا يكون ملكه إلّا حصّة من الرداء أو حيثيّة منه، فإذا خرج عن تحت السقف خرج عن ملكيّته. و أنت خبير بأنّ هذا النحو من الملكيّة غير عقلائيّة و لا معهودة ...

نعم يمكن المناقشة في الإشكال في الصورة التي يكون المبيع شخصيّا: بأن يقال: إنّ المبيع هو الموجود الخارجي، و القيد من قبيل الوصف الذي يكون تخلّفه غير مبطل، لكن يأتي فيها الإشكال الآتي في الصورة الآتية، أي اشتراط عدم الانتفاع إلّا بالمحرّم.» «1»

الصورة الرابعة: أن يبيع الشي ء و يشترط على المشتري أن لا يصرفه إلّا في المحرّم.

و هو قد يرجع إلى شرطين: الصرف في المحرّم و عدم الصرف في المحلّل، و قد يرجع إلى شرط واحد و هو عدم الصرف في المحلّل.

و من هذا القبيل أيضا ما إذا تواطئا على هذا الشرط بحيث يقع العقد مبنيّا عليه و إن لم يذكر في متن العقد.

قال «ره» ما حاصله:

أنّ الأقوى بطلان العقد في هذه الصورة أيضا بشقوقها، لأنّ مثل هذا الشرط مخالف لمقتضى العقد، فإنّ اعتبار الملكيّة متوقف على كون الشي ء ذا منفعة و لو في الجملة. فلو فرض كونه مسلوب الانتفاع مطلقا لم يعتبره العقلاء لا مالا و لا ملكا. لا أقول: إنّ متعلّق الماليّة و الملكيّة نفس الانتفاعات، بل

______________________________

(1) المكاسب المحرّمة للإمام الخميني «ره» 1/ 115- 116 (ط. الجديدة 1/ 174- 175).

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 222

..........

______________________________

أقول: إنّ مناط اعتبارهما لدى العقلاء صحّة الانتفاع في الجملة.

و على هذا فإذا شرط البائع على المشتري أن لا ينتفع بالمبيع مطلقا فهو في قوّة بيع شي ء بشرط أن لا يصير ملكا للمشتري فيكون مخالفا لمقتضى العقد و موجبا لبطلانه، سواء قلنا بأن الشرط الفاسد مفسد أم لا. لأنّ الخلاف في مسألة الشرط الفاسد إنّما هو في الشروط التي لا يضرّ اشتراطها بقوام المعاملة، و أمّا الشروط المنافية لماهيّتها و قوامها فلا إشكال في مفسديتها، لرجوعها إلى التناقض في الجعل و في الإنشاء.

و المقام من هذا القبيل، إذ العنب بحسب الشرع مسلوب المنفعة من حيث التخمير، فإذا كان مفاد الشرط تحريم الانتفاع بالمحلّل رجع ذلك إلى انتقال شي ء مسلوب المنفعة مطلقا، فيكون الشرط في قوّة البيع بشرط عدم الملكيّة.

و عدم منافاته لمقتضى العقد في محيط العقلاء لا يكفي في الصحّة بعد منافاته له في محيط القانون اللازم الإجزاء عقلا. و لذا لا يصحّ بيع الخمر لإسقاط الشارع ماليّتها و إن كانت مالا بنظر العرف.

و ببيان آخر: ماليّة الأشياء- كما مرّ- بلحاظ منافعها المترتّبة عليها، فما لا منفعة له أصلا ليس بمال، فإذا اشترط على المشتري أن لا ينتفع من العنب مثلا إلّا

المنفعة المحرّمة، فماليته من قبل المنافع المحلّلة ساقطة حسب اشتراط البائع، و ماليّته من قبل المنفعة المحرّمة ساقطة حسب الشرع، فلا يبقى مالا و لا يصلح للمبادلة، فيكون دليل إسقاط الماليّة حاكما على أدلّة تنفيذ البيع و يدخل في أكل المال بالباطل، و لك أن تجعل هذا بيانا ثالثا للبطلان، و هو الاستدلال بالآية الكريمة بعد تحكيم ما دلّت على سقوط الماليّة الآتية من قبل المنفعة المحرّمة على الآية صدرا و ذيلا.

و يؤيّد ذلك كلّه ما ورد في النهي عن بيع الخشب ممّن يتّخذه صلبانا و التوت ممّن يصنع الصليب و الصنم. و ما ورد في لعن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله الخمر و غارسها

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 223

..........

______________________________

و حارسها و بائعها و مشتريها، المستفاد منها أنّ بائع العنب للخمر ملعون، و معلوم أنّ ملعونيّته لأجل عمله و أنّ عمله مبغوض، بل يمكن أن يقال: لا يجتمع مبغوضيّة البيع بعنوانه مع تنفيذه و الإلزام بالعمل على وفقه.

نعم لو كانت المبغوضيّة بعنوان آخر، كالإعانة على الإثم- كما هو محتمل في المقام- لا تدلّ على البطلان.

الصورة الخامسة: أن يشترط عليه الانتفاع المحرّم من غير الحصر فيه،

فحينئذ قد يكون الشرط بحيث لا يعتبر بلحاظه و في مقابله شي ء و لو لبّا فيكون من قبيل التزام في التزام محضا، و قد يعتبر بلحاظه شي ء كما لو باع ما قيمته مأئة بخمسين و شرط عليه أن يستفيد من المنفعة المحرّمة لغرض منه فيه.

و المسألة بشقّيها من صغريات أنّ الشرط الفاسد مفسد أم لا. لأنّ الميزان في باب المعاملات محطّ الإنشاءات لا اللبيّات، و المفروض أنّ إنشاء المعاملة وقع بين العينين و الشرط خارج عن محطّها، و لهذا لا يقسّط عليه الثمن.

و يمكن أن

يقال في الشقّ الثاني: إنّ الماليّة الملحوظة من قبل الشرط إذا لم تحصل للطرف مع خروج شي ء بلحاظها من كيسه يكون أخذه بلا عوض لها، و من قبيل أكل المال بالباطل حقيقة.

و بعبارة أخرى: العقلاء لا ينظرون إلى ألفاظ المعاملات، بل عمدة نظرهم إلى واقعها، و في اللّب تكون المقابلة بين العين مع لحاظ الشرط، و مع عدم حصول الشرط له يكون ما بلحاظه بلا عوض واقعا و من أكل المال بالباطل.

الصورة السادسة: المعاوضة على عين مشتملة على صفة يقصد منها الحرام،

و لها شقوق:

لأنّه تارة تقصد المعاوضة على العين الموصوفة مع لحاظ زيادة القيمة لأجل الصفة، كمن باع الجارية المغنّية و لا حظ لصفة تغنّيها زيادة قيمة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 224

..........

______________________________

و أخرى تقصد المعاوضة على الموصوفة بلا لحاظ قيمة لأجلها.

و ثالثة تلاحظ الصفة من جهة أنّها صفة كمال فتزاد لأجلها القيمة من غير نظر إلى عملها الخارجي.

و رابعة هذه الصورة بلا ازدياد القيمة.

و خامسة تلاحظ الصفة من حيث إنّها كمال قد يستفاد منها الحلال كالتغنّي في الأعراس. و في هذه الصورة تارة تكون المنفعة المحلّلة نادرة، و أخرى شائعة.

و الكلام في وجه الصحّة في الصور المذكورة هو الكلام في الشروط بما مرّ. و كذا في وجه الفساد في الصور التي يبذل فيها المال بلحاظ الصفة، إلّا أنّ وجه البطلان في المقام لعلّه أوضح منه في الشروط، لأنّ الشروط من قبيل الالتزام في التزام. و أمّا المقام فالأوصاف من قيود المبيع، فمقابلة المال لها في مقابلها أوضح.

فيمكن أن يقال: كما أنّه إذا لم تكن للجارية المغنّية قيمة إلّا بلحاظ وصف التغنّي، فبيعت موصوفة بمائة دينار تكون المعاملة باطلة لأنّ ذاتها لا قيمة لها فرضا و صفتها ساقطة الماليّة شرعا، فتكون أكلا للمال

بالباطل.

و كذا لو كانت لها مع قطع النظر عن الصفة قيمة في غاية القلّة، كدرهم مثلا، إذ تكون المعاملة في محيط الشرع سفهيّة،

فكذلك لو بيعت موصوفة مع لحاظ مقدار من الماليّة لصفتها، فإنّ أكل المال في مقابل شي ء لا ماليّة له أكل له بالباطل. و الأوجه بحسب القواعد و إن كان هو الصحّة، لما تقدّم في الشروط لكنّه غير خال من المناقشة.

هذا حال ما يلاحظ بإزاء الصفة مال، و أمّا مع عدم لحاظه فمقتضى القواعد صحّتها لإطلاق الأدلّة و عمومها. و مجرد توصيف المبيع بصفة يترتّب عليها الحرام لا يوجب البطلان و إن فرض صدق الإعانة على الإثم عليها في بعض الأحيان.

الصورة السابعة: أن يباع الشي ء ممّن يصرفه في الحرام،

كبيع الخشب ممّن يعمله صنما أو بربطا، و بيع العنب ممّن يعمله خمرا، فتارة يعلم البائع أنّه يصرفه في

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 225

..........

______________________________

الحرام و أراد المشتري ذلك فعلا، و أخرى يعلم بعدم إرادته الحرام فعلا لكن يعلم بتجدّد إرادته لذلك، و عليه تارة يكون البيع أو تسليم المبيع له موجبا لإرادته كما لو كان العنب جيّدا صالحا للتخمير فإذا باعه صار موجبا لإرادته، و أخرى يكون تجدّدها لا لذلك.

و على أيّ حال تارة يكون البيع بداعي توصّله إلى الحرام أو برجاء ذلك.

و أخرى لا يكون كذلك. و على أيّ حال تارة يترك الحرام مع ترك البيع، و أخرى لا يترك لوجود بائع آخر.

و الأولى صرف الكلام أوّلا إلى الحكم الكلّي ثمّ الكلام في الروايات الخاصّة.

فيقع الكلام في مقامين: أحدهما فيما يمكن أن يستدلّ به على الحكم (من الأدلّة العامّة) و هو أمور:

أحدها: حكم العقل بقبح إعانة الغير على معصية المولى و إتيان مبغوضه، فكما أنّ إتيان المنكر قبيح عقلا

و كذا الأمر به و الإغراء نحوه، فكذلك تهيئة أسبابه و الإعانة على فاعله و لهذا تكون القوانين العرفية متكفّلة لجعل الجزاء على معين الجرم و إن لم يكن شريكا في أصله.

و قد ورد نظيره في الشرع فيما لو أمسك أحد شخصا فقتله الآخر و ثالث نظر لهما، فيقتل القاتل و يحبس الممسك حتّى يموت و يسمّل عينا الناظر.

ثانيها: قوله- تعالى-: تَعٰاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَ التَّقْوىٰ وَ لٰا تَعٰاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَ الْعُدْوٰانِ. «1»

ثالثها: أدلّة وجوب النهي عن المنكر، بأن يقال: دفع المنكر واجب كرفعه و لا يتمّ إلّا بترك البيع ... «2»»

______________________________

(1) سورة المائدة (5)، الآية 2.

(2) المكاسب المحرّمة 1/ 115- 135 (ط. الجديدة 1/ 174- 202).

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 226

..........

______________________________

أقول: هذا ما أردنا نقله من كلام الأستاذ «ره» في المقام بنحو الإجمال للاطّلاع على الصور التي ذكرها للمسألة و من أراد الاطّلاع على تفصيل مرامه فليراجع كلامه، و قد أدّى حقّ المسألة و إن كان بعض ما ذكره قابلا للمناقشة:

بعض المناقشات في كلام الأستاذ الإمام «ره»

1- فمن ذلك تمسّكه بآية النهي عن أكل المال بالباطل لبطلان المعاملة في بعض الصور، و الاستدلال بها لذلك يتوقّف على كون الباء في قوله: بِالْبٰاطِلِ للمقابلة نظير ما تدخل على الأثمان في المعاملات، و قد مرّ مرارا أنّ الظاهر كونها للسببيّة، و أنّ الغرض منها نفي تملك أموال الناس بالأسباب الباطلة، نظير الرشوة و القمار و السرقة و نحوها، و يشهد لذلك استثناء التجارة عن تراض و بعض الأخبار الواردة في تفسير الآية و تطبيقها، فراجع الوسائل. «1»

2- و من ذلك أيضا نحو خلط في كلامه «ره» بين الملكيّة و الماليّة مع وضوح افتراقهما، فإنّ الملكيّة أمر اعتباري

إضافي بين المالك و الشي ء تقتضي اختصاصه به، و الماليّة وصف اعتباري لنفس الشي ء بلحاظ الرغبة فيه، بحيث يبذل بإزائه المال، و يعبّر عنها بكون الشي ء ذا قيمة، و بينهما عموم من وجه فإنّ حبّة حنطة من صبرتها ملك لمالك الصبرة و لا تعدّ مالا، و الغابات الطبيعيّة تعدّ أموالا و ليست ملكا لشخص، و دار زيد تعدّ مالا و ملكا له. فلو ألقي درّة ثمينة لشخص في قعر البحر بحيث لا يمكن إخراجها فملكيّة الشخص لها باقية و لكن لا تعدّ مالا.

و على هذا ففي قوله «ره»: «اعتبار الملكيّة موقوف على كون الشي ء ذا منفعة و لو في الجملة» كان الأولى ذكر الماليّة بدل الملكيّة، فتأمّل.

3- و من ذلك أيضا أنّ الظاهر من قوله «ره»: «إنّ الشرط من قبيل الالتزام في

______________________________

(1) راجع الوسائل 12/ 119، الباب 35 من أبواب ما يكتسب به.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 227

..........

______________________________

التزام» كون العقد و الشرط التزامين مستقلّين غير مرتبطين غاية الأمر كون أحدهما ظرفا للآخر. و لكنّ الظاهر خلاف ذلك بل يكون التزام البائع مثلا بمفاد العقد مرتبطا بالتزام المشتري بمفاد الشرط إنشاء و خارجا، و لذا نلتزم بثبوت الخيار له مع تخلّف المشتري عن الشرط خارجا و ليس من باب التعليق في الإنشاء حتّى يحكم بأنّه غير معقول، لدوران أمره بين الوجود و العدم، بل في المنشأ، فالتزام أحدهما معلّق على التزام الآخر، و المعلّق عليه متحقّق فعلا في مرحلة الإنشاء، و عدم خارجيّته موجب للخيار، و التحقيق موكول إلى محلّه.

4- و من ذلك أيضا ما يلوح من كلامه «ره» من الترديد في أنّ الملاك في المعاملات محطّ الإنشاءات أو القصود اللبيّة، مع وضوح

أنّ الملاك محطّ الإنشاءات، و القصود اللبيّة من قبيل الداعي على الداعي. كيف؟! و لو كان الملاك اللبيّات كان اللازم في صورة تخلّف الشرط أو الوصف تقسيط الثمن و الالتزام بصحّة المعاملة بالنسبة إلى ما وقع في قبال الذات و بطلانها بالنسبة إلى ما وقع في قبال الشرط أو الوصف نظير بيع ما يملك و ما لا يملك، مع أنّ الظاهر تسالمهم على وقوع تمام الثمن في قبال الذات و تخيّر المشروط له بين قبول المعاملة بإزاء تمام الثمن أو فسخها بتمامها، فتدبّر.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 228

[المسألة الأولى: بيع العنب و الخشب على أن يعملا خمرا أو صليبا ...]
اشارة

الأولى: بيع العنب على أن يعمل خمرا و الخشب على أن يعمل صنما أو آلة لهو أو قمار، و إجارة المساكن ليباع أو يحرز فيها الخمر، و كذا إجارة السفن و الحمولة لحملها. و لا إشكال في فساد المعاملة فضلا عن حرمته و لا خلاف فيه. (1)

المسألة الأولى:

بيع العنب و الخشب على أن يعملا خمرا أو صليبا ...

______________________________

(1) أفتى- قدّس سرّه- بفساد المعاملة وضعا مضافا إلى حرمتها تكليفا و ادّعى عدم الخلاف في ذلك. و إطلاق كلامه يقتضي عدم الفرق بين أن يكون المبيع كليّا أو شخصيا خارجيّا، و سواء صرّح بالشرط في متن العقد أو وقع العقد مبنيّا عليه، بأن تواطئا عليه قبله ثمّ أوقعا العقد مبنيّا، و البيع و الإجارة في هذا الباب على وزان واحد دليلا و فتوى:

[كلمات الفقهاء في المقام]

1- قال الشيخ في إجارة الخلاف (المسألة 37): «إذا استأجر دارا ليتخذها ماخورا (حانوتا خ. ل) يبيع فيها الخمر أو ليتّخذها كنيسة أو بيت نار فإنّ ذلك لا يجوز و العقد باطل. و قال أبو حنيفة: العقد صحيح و يعمل فيه غير ذلك من الأعمال المباحة دون ما استأجره له، و به قال الشافعي. دليلنا: إجماع الفرقة

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 229

..........

______________________________

و أخبارهم. و أيضا فهذه الأشياء محظورة بلا خلاف فلا يجوز الاستيجار لها.» «1»

2- و فيها أيضا (المسألة 38): «إذا استأجر رجلا لينقل له خمرا من موضع إلى موضع لم تصحّ الإجارة، و به قال الشافعي. و قال أبو حنيفة: تصحّ كما لو استأجره لينقل الخمر إلى الصحراء ليريقه. دليلنا: مثل ما قلناه في المسألة الأولى سواء.» «2»

أقول: في نهاية ابن الأثير في تفسير الماخور: «هو مجلس الريبة و مجمع

أهل الفسق و الفساد و بيوت الخمارين، و هو تعريب «ميخور» و قيل: هو عربيّ لتردّد الناس إليه من مخر السفينة الماء» «3»

و يظهر من العبارتين أنّ الشافعي أفتى في المسألة الأولى بالصحّة و في الثانية بالبطلان مع أنّ الملاك فيهما واحد.

و قول أبي حنيفة: «إنّه يعمل فيه غير ذلك من الأعمال المباحة» يرد عليه أنّ ذلك خلاف ما صرّح به في متن العقد فلا حقّ له.

3- و في إجارة الغنية في شرائط العين المستأجرة: «و منها: أن يكون المنفعة مباحة، فلو آجر مسكنا أو دابّة أو وعاء في محظور لم يجز ... كلّ ذلك بدليل إجماع الطائفة المحقّة.» «4»

4- و في المنتهى: «يحرم بيع العنب ليعمل خمرا و كذلك العصير، و به قال الشافعي و أحمد. و قال الثوري: يجوز بيع الحلال ممّن شاء. لنا: قوله- تعالى-:

تَعٰاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَ التَّقْوىٰ وَ لٰا تَعٰاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَ الْعُدْوٰانِ و عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله:

______________________________

(1) الخلاف 3/ 508 (ط. أخرى 2/ 215).

(2) نفس المصدر.

(3) النهاية لابن الأثير 4/ 306.

(4) الجوامع الفقهية/ 538 (طبعة أخرى/ 600).

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 230

..........

______________________________

لعن في الخمر عشرة. قال ابن عباس: إنّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله أتاه جبريل عليه السّلام فقال: «يا محمّد إنّ اللّه لعن الخمر و عاصرها و معتصرها و حاملها و المحمولة إليه و شاربها و بائعها و مبتاعها و ساقيها.». و أشار إلى كلّ معاون عليها و مساعد فيها ...» «1»

5- و فيه أيضا: «إذا باع العصير و العنب يعمل خمرا كان البيع باطلا، و قال الشافعي: يصحّ. لنا: أنّه عقد على غيره لمعصية اللّه- تعالى- فلا يصحّ كإجارة الأمة

للزنا. احتجّ بأنّ التحريم لا يمنع صحّة العقد كالتدليس في العيب. و الجواب: الفرق أنّ المحرّم في التدليس ليس هو العقد و التحريم هنا للعقد ...» «2»

أقول: نظره في المسألة الأولى إلى الحرمة التكليفيّة و في الثانية إلى بطلان المعاملة. و قد نسب في كلمات المتأخّرين إلى المنتهى دعوى الإجماع في المسألة، مع أنّك ترى أنّه ليس فيه في المسألتين اسم من الإجماع، اللّهم إلّا أن يستنبط ذلك من نحو طرحه لهما و استدلاله لهما و ذكر فقهاء السنّة فقط بعنوان المخالف.

6- و في تجارة التذكرة في عداد التجارات المحرّمة: «و إجارة السفن و المساكن للمحرّمات و بيع العنب ليعمل خمرا، و الخشب ليعمل صنما و آلة قمار.» «3»

7- و في إجارة التذكرة: «لا يجوز الاستيجار على حمل الخمر لمن يشربها و لا من يبيعها، و لا على حمل خنزير و لا ميتة لمن يأكلها. و يجوز الاستيجار على نقل الميتة من الدار إلى المزبلة و الخمر للإراقة، و به قال الشافعي و أحمد

______________________________

(1) المنتهى 2/ 1010، كتاب التجارة، النوع الثاني ما يحرم لتحريم ما قصد به.

(2) نفس المصدر و الصفحة.

(3) التذكرة 1/ 582، كتاب البيع، في بيان ما هو حرام من التجارة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 231

..........

______________________________

و أبو يوسف و محمّد لأنّ هذه منافع محرّمة فلم يجز عقد الإجارة فيها. و قال أبو حنيفة: يجوز لأنّ العمل لا يتعيّن عليه بدليل أنّه لو حمّله مثله جاز. و لأنّه لو قصد إراقته و طرح الميتة جاز ...» «1»

8- و فيها أيضا: «لا يجوز إجارة المسكن ليحرز فيه خمرا لغير التخليل و لا يوجر دكّانا ليبيع فيه آلة محرّمة و لا إجارة أجير

ليحمل له مسكرا يشربه فإن فعل لم تنعقد الإجارة ... و لا يجوز إجارة الدار لمن يتّخذها كنيسة أو بيعة أو يتّخذها لبيع الخمر أو القمار أو يجعلها بيت نار، و به قال الشافعي و أحمد و أبو يوسف و محمّد لأنّ هذه أفعال محرّمة فلا يجوز الاستيجار لها كما لو استأجر امرأة ليزني بها ...» «2»

9- و قد مرّ عن الشرائع في عداد ما يحرم لتحريم ما قصد به: «و إجارة المساكن و السفن للمحرّمات و كبيع العنب ليعمل خمرا و بيع الخشب ليعمل صنما، و يكره بيع ذلك لمن يعملها.» «3»

أقول: قولهم: «ليعمل خمرا» شامل لما إذا اشترطا ذلك في متن العقد أو عقدا مبنيّا عليه أو قصدا ذلك، نعم قوله: «على أن يعمل» لا يشمل الثالث.

10- و ذيّل ذلك في الجواهر بقوله: «لا خلاف أجدها فيها مع التصريح بالشرطيّة أو الاتّفاق عليها على وجه بني العقد عليها. بل عن مجمع البرهان نسبته إلى ظاهر الأصحاب، بل عن المنتهى دعوى الإجماع عليه، كما عن الخلاف و الغنية الإجماع على عدم صحّة إجارة المسكن ليحرز فيه الخمر أو الدكّان ليباع فيه ...» «4»

______________________________

(1) التذكرة 2/ 300، كتاب الإجارة، اشتراط كون المنفعة محلّلة.

(2) نفس المصدر و الصفحة.

(3) الشرائع/ 263 (ط. أخرى 2/ 9) كتاب التجارة.

(4) الجواهر 22/ 30، كتاب التجارة، بيع الخشب ليعمل صنما.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 232

..........

______________________________

أقول: مرّ إجماع الخلاف و الغنية و أنّه لم نجد في المنتهى تصريحا به. و لم نجد في مجمع البرهان أيضا ما يدلّ على اتّفاق الأصحاب في المسألة.

11- و في متاجر مفتاح الكرامة: «فقد تحصّل أنّه إذا باع لمن يعمل الصنم أو الخمر، أو آجر

لمن يتعاطى المحرّمات فإمّا أن يشترط البيع لذلك لفظا أو نيّة مع اتّفاقهما على ذلك، أو لا يشترط، و على الثاني فإمّا أن يعلم أنّه لا يعمل هذا العنب بخصوصه خمرا و لا يتعاطى المحرّمات في خصوص هذا البيت أو هذه الدابّة، أو يعلم أو يظنّ، أو لا يعلم و لا يظنّ. و دليل التحريم في الأوّل ظاهر لأنّه إعانة على الإثم و العدوان، مضافا إلى إجماع المنتهى و إجماع إجارة الخلاف و الغنية، بل بديهة العقل تحكم بقبحه و تحريمه، كما أنّ دليل الجواز في الثاني ظاهر أيضا ... و أمّا الثالث و هو ما إذا آجر لمن يعلم أنّه يعمل أو يتعاطى بدون شرط في متن العقد فإمّا أن يقصد بذلك الإعانة على ذلك أولا. فإن قصد فلا ريب في التحريم لأنّه إعانة على الإثم كبيع السلاح لأعداء الدين ... و أمّا إذا لم يقصد الإعانة فظاهر العبارات التي قد سمعتها بأسرها و عبارات باب الإجارة و إن تفاوتت في الظهور عدم التحريم، و هو صريح المحقّق الثاني في حاشية الإرشاد و إجارة جامع المقاصد و الفاضل الميسي و المولى الخراساني و هو ظاهر النهاية و السرائر في خصوص الخشب لمن يعمله صنما أو صليبا أو نحو ذلك، و قد نسبا ذلك في الكتابين المذكورين إلى رواية أصحابنا إلّا أنّه قال في السرائر: الأولى اجتنابه.» «1»

12- و في مختصر أبي القاسم الخرقي في فقه الحنابلة: «و بيع العصير ممّن يتّخذه خمرا باطل.» «2»

13- و ذيّله في المغني بقوله: «و جملة ذلك أنّ بيع العصير لمن يعتقد أنّه يتّخذه خمرا محرّم، و كرهه الشافعي. و ذكر بعض أصحابه: أنّ البائع إذا اعتقد أنّه

______________________________

(1)

مفتاح الكرامة 4/ 37.

(2) المغني لابن القدّامة 4/ 283، كتاب البيوع، بيع العصير ممّن يتّخذه خمرا.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 233

و يدلّ عليه- مضافا إلى كونها إعانة على الإثم، (1)

______________________________

يعصرها خمرا فهو محرّم و إنّما يكره إذا شكّ فيه. و حكى ابن المنذر عن الحسن و عطاء و الثوري: أنّه لا بأس ببيع التمر لمن يتّخذه مسكرا. قال الثوري: بع الحلال ممّن شئت، و احتج لهم بقول اللّه- تعالى-: وَ أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ و لأنّ البيع تمّ بأركانه و شروطه. و لنا: قول اللّه- تعالى-: وَ لٰا تَعٰاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَ الْعُدْوٰانِ و هذا نهي يقتضي التحريم. و روي عن النبي صلى اللّه عليه و آله أنّه لعن في الخمر عشرة، فروى ابن عباس أنّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله أتاه جبرئيل ...» «1»

أقول: ظاهر كلماتهم حرمة البيع لمن يعلم بصرفه في الحرام و إن لم يكن في البين اشتراط و لا تواطؤ و لا قصد.

الاستدلال على حرمة البيع أو الإجارة في المسألة
اشارة

(1) إذا وقفت على ما حكيناه من كلماتهم في المقام فنقول: استدلّوا للمدّعى أعني حرمة المعاملة على الشي ء و فسادها إذا وقعت عليه على أن يصرف في الحرام فقط إمّا باشتراطه في متن العقد أو بوقوعها مبنيّا عليه بوجوه:

الوجه الأوّل: الإجماع المدّعى

في إجارة الخلاف و الغنية على ما مرّ، و المصنّف أيضا ادّعى في المتن عدم الإشكال و عدم الخلاف في المسألة.

و فيه: أنّ الإجماع لا موضوعيّة له عندنا و ليس حجّة مستقلّة و إنّما نقول بحجيّته إذا كشف عن قول المعصومين عليهم السّلام و أحرز به كون المسألة متلقّاة عنهم عليهم السّلام. و يحتمل أن يكون الإجماع هنا مدركيّا ناشئا عن الأدلّة الآتية.

و الظاهر أنّ الإجماعات المذكورة في كلمات القدماء من أصحابنا- و لا سيما ما في الخلاف و الغنية- مرجع أكثرها إلى حكاية رأي المعصومين عليهم السّلام على حسب اجتهاد المدّعي و فتواه المستنبطة من الأدلّة. و لذلك ربّما تراهم يدّعون الإجماع

______________________________

(1) نفس المصدر و الصفحة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 234

..........

______________________________

في المسائل الخلافيّة بيننا أيضا. و إنّما عبّروا عمّا استنبطوه من الأدلّة بالإجماع مماشاة للعامّة و إلزاما لهم، حيث إنّهم الطرف المخالف في المسألة المطروحة، فيستدلّون في قبالهم برواياتهم و بالإجماع مماشاة.

و يعبّر عن هذا الإجماع بالإجماع على القاعدة. و في الحقيقة الإجماع منعقد على القاعدة الكليّة المسلّمة من حجّية الكتاب و السنّة و القواعد الكليّة المستنبطة منهما لا على خصوص المسألة المطروحة.

الوجه الثاني: كون المعاملة في المقام- بيعا كانت أو إجارة- إعانة على الإثم
اشارة

فتحرم لذلك.

[إجمال معنى الإعانة على الإثم]

أقول: تفصيل معنى الإعانة على الإثم و أقسامها و أحكامها يأتي في كلام المصنّف في ذيل المسألة الثالثة فلنؤخّر البحث التفصيلي فيه، و في المقام نتعرّض له بنحو الإجمال فنقول:

يمكن أن يكون الاستدلال بآية النهي عن التعاون على الإثم و العدوان، و يمكن أن يكون بحكم العقل بقبح إعانة الغير على معصية المولى و مبغوضه، و لذلك نرى القوانين العرفية أيضا متكفّلة لجعل الجزاء على معين الجرم كما مرّ في كلام الأستاذ «ره».

فإن أريد الأوّل ناقش فيه المحقّق الإيرواني في الحاشية «1» أوّلا: بأنّ مؤدّى الآية الحكم التنزيهي لا التحريمي، و ذلك بقرينة مقابلته بالأمر بالإعانة على البرّ و التقوى الذي ليس للإلزام قطعا.

و ثانيا: بأنّ قضيّة باب التفاعل هو الاجتماع على إتيان الإثم و العدوان كأن يجتمعوا على قتل النفوس و نهب الأموال لا إعانة الغير على إتيان المنكر على أن يكون الغير مستقلا في إتيانه و هذا معينا له بإتيان بعض مقدّمات فعله. و بعبارة أخرى: المنهي عنه في الآية هو التعاون على الإثم لا إعانة الغير في إثمه.

______________________________

(1) حاشية المكاسب للمحقّق الإيرواني/ 15.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 235

..........

______________________________

و إن أريد الثاني فيرد عليه- على ما في مصباح الفقاهة-: «1» أوّلا: بمنع الكبرى إلّا في موارد خاصّة كما يأتي.

و ثانيا: بمنع الصغرى، فإن المعاملة و لو مع الشرط ليست بنفسها إعانة على الإثم و إنّما الإعانة عليه بالإقباض و التسليط الخارجي على العين و لو بغير عنوان المعاملة مع العلم بصرفها في الحرام، و إن حصل العلم بعد المعاملة و قبل الإقباض. و بعبارة أخرى: بين المعاملة و عنوان الإعانة على الإثم عموم من وجه، و الإعانة على الإثم

لا تصدق إلّا بالإقباض خارجا مع العلم.

و ثالثا: أنّ قبح الإعانة على الإثم و حرمتها لا تقتضي فساد المعاملة وضعا حتّى على فرض دلالة الآية على ذلك لأنّها تكليف محض.

لا يقال: إنّ النهي المتعلّق بالمعاملات ظاهر في الإرشاد إلى فسادها على ما حقّق في محلّه. و لو سلّم ظهوره في المحرّمة التكليفيّة اقتضى الفساد أيضا لدلالته على كون المتعلّق أعني المعاملة مبغوضة للمولى فلا يشملها أدلّة تنفيذ المولى لها إذ تنفيذه لها يكون نقضا لغرضه.

فإنّه يقال: هذا كلّه فيما إذا تعلّق النهي بنفس عنوان المعاملة بذاتها، و في المقام لم يتعلّق بالمعاملة بل بعنوان الإعانة على الإثم، غاية الأمر انطباقها على المعاملة، فيوجب حرمتها تكليفا بما هي إعانة على الحرام.

و رابعا: أنّ تخلّف الشروط الصحيحة إنّما يوجب الخيار للمشروط له لا فساد المعاملة، لأنّ الشروط لا تقابل بجزء من الثمن حتّى يحكم بفساد المعاملة بالنسبة إليها كما في بيع ما يملك و ما لا يملك. و من الواضح أنّ الشروط الفاسدة لا تزيد على الصحيحة في ذلك فلا يسري فساد الشرط إلى العقد. و لو سلّم أنّ للشروط حصّة من الثمن فيقسط عليها و على المشروط فيه، فإنّما هو في الشروط التي تجعل على البائع كأن يشترط المشتري عليه في ضمن العقد خياطة ثوبه أو بناية داره مثلا

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 162.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 236

..........

______________________________

ممّا يوجب زيادة الثمن. و أمّا الشروط التي تجعل على المشتري كأن يشترط البائع عليه صرف المبيع في جهة خاصّة، سواء كانت محرّمة أو محلّلة، فلا تقابل بشي ء من الثمن. و إذن فاشتراط البائع على المشتري صرف المبيع في الحرام لا يوجب فساد المعاملة حتّى على

القول بالتقسيط.

أقول: هنا جهات ينبغي التعرّض لها:

[جهات من البحث]
الأولى:

أنّ الأستاذ الإمام «ره» أورد على ما حكيناه عن المحقّق الإيرواني بما ملخّصه:

«يرد على الأول: أنّ قرينيّة بعض الفقرات لا تسلّم في المقام لأن تناسب الحكم و الموضوع و حكم العقل شاهدان على أنّ النهي هنا للتحريم، مضافا إلى أنّ مقارنة الإثم للعدوان لا تبقي مجالا لحمل النهي على التنزيه ضرورة حرمة العدوان و الظلم كما دلّت عليها الأخبار المستفيضة.

و على الثاني: أن ظاهر مادّة العون عرفا و بنصّ اللغويين: المساعدة على أمر و المعين هو الظهير.

و إنّما يصدق ذلك فيما إذا كان أحد أصيلا في أمر و أعانه عليه غيره. فيكون معنى الآية: لا يكن بعضكم لبعض ظهيرا و معاونا، و معنى تعاون المسلمين: أنّ كلّا منهم يكون معينا لغيره لا أنّهم مجتمعون على أمر.

ففي القاموس: «تعاونوا و اعتونوا: أعان بعضهم بعضا» و نحوه في المنجد.

و كون التعاون فعل الاثنين لا يوجب خروج مادّته عن معناها. فمعنى تعاون زيد و عمرو: أنّ كلا منهما معين للآخر و ظهير له. فإذا هيّأ كلّ منهما مقدّمات عمل الآخر يصدق أنّهما تعاونا.

فالظاهر من الآية عدم جواز إعانة بعضهم بعضا في إثمه و عدوانه. و هو مقتضى ظاهر المادّة و الهيئة. و لو قلنا بصدق التعاون و التعاضد على الاشتراك في عمل فلا شبهة في عدم اختصاصه به.» «1»

______________________________

(1) المكاسب المحرّمة 1/ 131- 132 (ط. الجديدة 1/ 197- 198).

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 237

..........

______________________________

أقول: ظاهر عبارته الأخيرة يشعر بنحو ترديد له في صدق مفهوم التعاون على الاشتراك في عمل واحد كرفع ثلاثة رجال مثلا حجرا واحدا، مع أنّه القدر المتيقّن منه، إذ الظاهر من اللفظ دخلهما في العمل في

عرض واحد، و هو المتبادر من عبارة القاموس أيضا. و أمّا إعانة أحد للآخر في عمل و إعانة الآخر له في عمل آخر بأن يحصّل كلّ منهما بعض مقدّمات عمل الآخر فإطلاق التعاون عليه لا يخلو من مسامحة.

و إن شئت قلت: إنّ المتبادر من تعاون الشخصين دخلهما في عمل واحد في عرض واحد. و أمّا إعانة الغير فيصدق على عمل كلّ منهما في هذه الصورة و كذا على تحصيل مقدّمات عمل الأصيل، و لا يصدق على الأصيل أنّه أعان هذا، فالإعانة بحسب المورد أعمّ و النهي في الآية تعلّق بالأخصّ فلا تدلّ على حرمة الأعمّ، فتدبّر.

و لكن الذي يسهّل الخطب أنّا لا نحتاج في الحكم بحرمة الإعانة على الإثم إلى التمسّك بالآية الكريمة، لما عرفت من حكم العقل و العقلاء بقبح إعانة الغير في إتيان معصية المولى و مبغوضه.

الجهة الثانية:

أنّ ما ذكره في مصباح الفقاهة: من أن فساد الشرط لا يسري إلى العقد يمكن أن يناقش فيه بما مرّ من الأستاذ «ره» ملخّصا: «من أنّ الخلاف في مسألة الشرط الفاسد إنّما هو في الشروط التي لا يضرّ اشتراطها بقوام المعاملة.

و أمّا الشروط المنافية لماهيتها و قوامها فلا إشكال في مفسديتها لرجوعها إلى التناقض في الجعل و في الإنشاء. و المقام من هذا القبيل إذ العنب بحسب الشرع مسلوب المنفعة من حيث التخمير فإذا استثنى البائع أيضا منافعه المحلّلة بأجمعها رجع ذلك إلى نقل الشي ء مسلوب المنفعة بالكليّة. و اعتبار الماليّة و الملكيّة متوقّف على كون الشي ء ذا منفعة و لو في الجملة، فلو فرض كونه مسلوب المنفعة بالكليّة لم يعتبره

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 238

..........

______________________________

العقلاء لا مالا و لا ملكا، فيكون الشرط

في قوّة البيع بشرط عدم حصول الملكيّة، و هذا النحو من الشرط مناف لمقتضى العقد فيكون مفسدا له.» «1»

و بما ذكرنا يظهر الإشكال فيما حكوه عن أبي حنيفة من صحّة إجارة الدار مثلا للماخور و أنّه يعمل فيها غير ذلك من المنافع المحلّلة، إذ المفروض أنّ الدار بجميع منافعها للموجر و المفروض أنّه لم يملّك للمستأجر منافعها المحلّلة فكيف ينتفع بها هو؟!. هذا.

و لكن يمكن المناقشة في كلام الأستاذ «ره» بأن الشرط المنافي حقيقة هو أن يكون مفاده منافيا لمفاد العقد بالمطابقة، مثل أن يشترط في عقد البيع مثلا عدم حصول ملكيّة المشتري للمبيع أو البائع للثمن، فهذا ما ينافي قوام العقد و ماهيته، و يكون مفسدا له لا محالة، لمناقضته له. و لا يتصوّر الإنشاء الجدّي في مثله.

و في حكمه عرفا ما إذا اشترط نفي آثار الملكيّة بالكليّة بأن يشترط عليه أن لا يتصرّف فيما ملّكه أيّ تصرّف كان و لا ينتفع به أصلا، حيث إنّ الملكيّة- على ما مرّ من الأستاذ- إنّما تعتبر بلحاظ الآثار و المنافع المترقّبة من الشي ء، فنفي جميع الآثار نفي لملزومها أعني الملكيّة عرفا.

و أمّا إذا اشترط عليه عدم بعض التصرّفات و نفي بعض المنافع فهذا لا يعدّ عرفا منافيا لمقتضى العقد و إن كان منافيا لإطلاقه. و نفي الآثار المحلّلة شرعا و إبقاء المحرّمة منها مرخصا فيها لا يجعل الشرط منافيا لمقتضى العقد عند العرف و العقلاء. إذا العرف كما يعتبر المنافع المحلّلة ملاكا للماليّة و الملكيّة يعتبر المنافع المحرّمة الشائعة أيضا ملاكا لهما. فلا يصدق على هذا الشرط أنّه مناف لقوام العقد و ماهيته أو لمقتضاه. نعم يصدق عليه أنّه مخالف للكتاب و السنّة فيكون فساده لذلك

و تصير المسألة من مصاديق أنّ الشرط الفاسد هل يكون مفسدا للعقد أم لا؟

______________________________

(1) نفس المصدر 1/ 116- 117 (ط. الجديدة 1/ 176- 177).

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 239

و إلى أنّ الإلزام و الالتزام بصرف المبيع في المنفعة المحرّمة الساقطة في نظر الشارع أكل و إيكال للمال بالباطل- (1) خبر جابر، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام

______________________________

اللّهم إلّا أن يقال بعدم صحّة العقد في المقام لما أوردناه آنفا على أبي حنيفة من أنّ المفروض أنّ المنافع بأجمعها للبائع و المفروض أنّه لم يملّك المحلّلة منها للمشتري بل المحرّمة فقط فإذا فسد الشرط لم يجز له التصرّف في المبيع أصلا، و عدم فساد العقد بفساد الشرط إنّما يتمشّى فيما إذا بقي للمبيع منافع محلّلة يملكها المشتري، فتدبّر.

الجهة الثالثة:

أنّ ما ذكره في مصباح الفقاهة أخيرا: من أنّه على فرض القول بتقسيط الثمن على الشروط فإنّما هو في الشروط التي تجعل على البائع لا في الشروط التي تجعل على المشتري- كما في المقام- و إن كان صحيحا في الجملة، لكنّه عجيب منه «ره» لوضوح أنّ ذكر تقسيط الثمن على الشروط من باب المثال، إذ على فرض القول بالتقسيط فكما يقع حصّة من الثمن بإزاء الشروط التي تجعل على البائع يقسّط المبيع أيضا و تقع حصّة منه بإزاء الشروط التي تجعل على المشتري، فإذا باع العنب الذي قيمته مأئة مثلا بخمسين و اشترط على المشتري أن يجعله خمرا ففي الحقيقة جعل حصّة من العنب بإزاء هذا الشرط.

نعم أصل القول بالتقسيط على الشروط في مقام المعاملة عندنا باطل- كما مرّ- بل الثمن يقع بكلّه في قبال المبيع بكلّه و لا يقسّط على الشروط شي ء من الثمن و

لا الثمن، و لذا لا نقول ببطلان المعاملة عند تخلّف الشرط بالنسبة إلى ما لوحظ في مرحلة التقويم بإزاء الشروط- نظير بيع ما يملك و ما لا يملك- بل نقول بثبوت الخيار بتخلّفها بقبول المعاملة بتمامها أو فسخها بتمامها.

[الوجه الثالث من وجوه المنع أكل المال بالباطل]

(1) أقول: هذا هو الوجه الثالث من وجوه المنع في المقام.

و تقريبه أنّ المفروض أنّ البائع أو الموجر لم يرخّص في الانتفاع بالمنافع المحلّلة بل اشترط الانتفاع بالمحرّمة منها فقط، و هي ساقطة الماليّة عند الشارع، فيكون أخذ الثمن أو الأجرة في قبالها أكلا للمال بالباطل.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 240

عن الرجل يؤاجر بيته فيباع فيه الخمر؟ قال: «حرام أجرته.» (1)

______________________________

و فيه: أنّه إن كان المراد التمسّك بالآية الشريفة فيرد عليه ما مرّ مرارا من أن الاستدلال بها لأمثال المقام يتوقّف على كون الباء فيها للمقابلة و كونها بصدد بيان شرط العوضين و اعتبار الماليّة فيهما، و لكنّه ممنوع إذ الظاهر أنّ الباء فيها للسببيّة و تكون الآية بصدد النهي عن أكل المال بالأسباب الباطلة نظير السرقة و الرشوة و القمار.

و يشهد لذلك استثناء التجارة عن تراض التي هي من قبيل أسباب النقل، و الأخبار المستفيضة الواردة في تفسير الآية، فراجع الوسائل. «1»

و إن كان المراد أنّه مع تحريم البائع أو الموجر المنافع المحلّلة تصير المعاملة من قبيل المعاملة على ما لا منفعة له أصلا كالحشرات فتكون سفهيّة، فالمسألة تصير من مصاديق النوع الثالث الذي يأتي البحث فيه و أنّه هل تكون المعاملة السفهيّة باطلة أو أنّه لا دليل على ذلك- كما قيل- و إنّما الباطل هو معاملة السفيه، فانتظر.

و في مصباح الفقاهة بعد الجواب الأوّل قال: «و ثانيا: ما عرفته مرارا أيضا من

أنّ الشروط لا تقابل بجزء من الثمن ليلزم من فسادها أكل المال بالباطل و إنّما هي مجرّد التزامات لا يترتّب على مخالفتها إلّا الخيار.» «2»

أقول: ما ذكره إنّما يصحّ فيما إذا لم يوجب الشرط صيرورة المبيع أو العين المستأجرة مسلوب المنفعة بالكليّة. و أمّا إذا أوجب ذلك- كما في المقام- فلا مجال لصحّة العقد بعد ما لم يرخّص المالك إلّا المنفعة المحرّمة فقط. و كيف يتصرّف في مال الغير بدون إذنه و ترخيصه؟!

[الوجه الرابع من وجوه المنع في المقام رواية جابر]

(1) هذا هو الوجه الرابع من وجوه المنع في المقام. و الرواية رواها في الوسائل «3» عن الكليني و الشيخ. و الراوي الأخير في الكافي و الاستبصار:

______________________________

(1) الوسائل 12/ 119، الباب 35 من أبواب ما يكتسب به.

(2) مصباح الفقاهة 1/ 163.

(3) الوسائل 12/ 126، الباب 39 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 241

فإنّه إمّا مقيّد بما إذا استأجره لذلك أو يدلّ عليه بالفحوى، بناء على ما سيجي ء من حرمة العقد مع من يعلم أنّه يصرف المعقود عليه في الحرام.

______________________________

«جابر» «1» و كذا في مكاسب التهذيب الطبعة الجديدة منه. و في القديمة منه:

«صابر» «2» و ذكر جابر أيضا بعنوان النسخة، و لكن في المتاجر منه في كلا الطبعين: «صابر». «3»

و يغلب على الظنّ صحّة جابر و كون صابر مصحّفا عنه، و جابر مردّد بين جماعة، فإن أريد به الجعفي كان موثوقا به، و صابر لم يحرز وثاقته.

و كيف كان فالمصنّف استدلّ بالرواية للمقام بحملها على صورة اشتراط الانتفاع المحرّم، أو بدلالتها عليها بالفحوى.

إذ لو حرمت الأجرة مع عدم الاشتراط فحرمتها معه ثابتة بطريق أولى.

و لكن يرد على ذلك أنّ حمل الرواية على صورة اشتراط الانتفاع بالمحرّم

فقط حمل على الفرد النادر، إذ يبعد جدّا اشتراط المسلم ذلك، غاية الأمر كونه ممّن لا يبالي بالحلال و الحرام، و مع عدم الاشتراط و عدم وقوع العقد مبنيّا عليه لا وجه للبطلان. و الملاك في صحّة العقد و فساده ما وقع العقد عليه، بأن وقع في متنه أو وقع مبنيّا عليه، و أمّا الدواعي المقارنة فلا تؤثّر في صحّة العقد و فساده فضلا عن وقوع المحرّمات خارجا بعد تحقّق العقد مطلقا. فمجرّد بيع المستأجر الخمر لا يوجب بطلان الإجارة أو حرمة الأجرة، و إلّا لزمت حرمة أجرة البيوت أو الدكاكين التي يقع فيها الأعمال أو البيوع المحرّمة من غير وقوع العقد مبنيّا عليها و لا يلتزم بذلك أحد.

______________________________

(1) الكافي 5/ 227، كتاب المعيشة، باب جامع فيما يحلّ الشراء و البيع منه و ما لا يحلّ، الحديث 8؛ و الاستبصار 3/ 55.

(2) التهذيب 6/ 371 (ط. القديمة 2/ 111) كتاب المكاسب، الباب 93، الحديث 198.

(3) التهذيب 7/ 134 (ط. القديمة 2/ 154) كتاب التجارات، الباب 9، الحديث 64.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 242

نعم في مصحّحة ابن أذينة قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يؤاجر

______________________________

و قال الأستاذ: «المظنون أن يكون «فيباع» مصحّف «ليباع».» «1» و هذا احتمال وجيه و لكن فيه ما مرّ من استبعاد اشتراط المسلم ذلك. و في الكافي و الاستبصار و موضع من التهذيب: «يباع» بدون الفاء و لعلّه ينسبق منه معنى:

«ليباع». «2»

و في مصباح الفقاهة قال: «إنّها محمولة على الكراهة لمعارضتها بحسنة ابن أذينة الدالّة على الجواز.» «3»

و فيه: أنّ حمل لفظ الحرمة على الكراهة في غاية البعد، فالأولى ردّ علم الرواية إلى أهلها مع ضعف سندها

كما مرّ.

و قد مرّ أنّ في صورة الاشتراط تقتضي القاعدة البطلان، إذ المفروض أنّ الشرط فاسد لمخالفته للكتاب و السنّة، و المفروض أنّ الموجر لم يسقط ماليّة ماله و لم يجعله للمستأجر مجانا، فيسري فساد الشرط إلى العقد قهرا فلا نحتاج في إثبات فساده إلى الرواية.

و يشهد للتفصيل بين وقوع العقد مبنيّا عليه و بين غيره ما رواه في المستدرك عن دعائم الإسلام عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: «من اكترى دابّة أو سفينة فحمل عليها المكتري خمرا أو خنازير أو ما يحرم لم يكن على صاحب الدابّة شي ء، و إن تعاقدا على حمل ذلك فالعقد فاسد و الكري على ذلك حرام.» «4» إلّا أنّ حجيّة الكتاب غير ثابتة.

______________________________

(1) المكاسب المحرّمة 1/ 122 (ط. الجديدة 1/ 184).

(2) راجع الكافي 5/ 227؛ و الاستبصار 3/ 55؛ و التهذيب 7/ 134.

(3) مصباح الفقاهة 1/ 165.

(4) مستدرك الوسائل 2/ 436، الباب 32 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 243

سفينته أو دابّته لمن يحمل فيها أو عليها الخمر و الخنازير، قال:

«لا بأس.» (1)

و لكنّها محمولة على ما إذا اتفق الحمل من دون أن يؤخذ ركنا أو شرطا في العقد. بناء على أنّ خبر جابر نصّ فيما نحن فيه و ظاهر في هذا عكس الصحيحة فيطرح ظاهر كلّ بنصّ الآخر، فتأمّل.

______________________________

(1) راجع الوسائل، كتاب التجارة. «1»

أقول: الرواية صحيحة أو حسنة، و مضمونها مطابق للقاعدة لما مرّ آنفا من أنّ الملاك في صحّة العقد و فساده ما هو مفاده، أو ما وقع العقد مبنيّا عليه دون الدواعي المقارنة، أو ما يقع خارجا بعد وقوعه بنحو الإطلاق. و الأصحاب أفتوا بصحّة بيع العنب

ممّن يعلم أنّه يجعله خمرا بلا قصد لذلك، و ورد بذلك روايات مستفيضة كما يأتي و حملوا أخبار المنع على الكراهة، و لا فرق في هذا الباب بين البيع و الإجارة.

و لو سلّم صدق الإعانة على الإثم مع القصد المقارن أو مع العلم مطلقا- كما قيل- و قلنا بحرمة المعاملة لذلك فلا يوجب ذلك فسادها و لا حرمة الأجرة، لما مرّ من أنّ النهي لم يتعلّق بعنوان المعاملة بذاتها بل بعنوان عام وراء ذاتها، غاية الأمر انطباقه عليها في بعض الأحيان فتحرم تكليفا بما هي إعانة. هذا و لكن الظاهر من قوله: «لا بأس» عدم البأس وضعا و تكليفا.

و سيأتي تفصيل بحيث الإعانة في ذيل المسألة الثالثة.

و المصنّف جمع بين الروايتين بحمل رواية جابر على صورة الاشتراط، و الصحيحة على ما إذا اتّفق الحمل خارجا، و قال: إنّ خبر جابر نصّ فيما نحن فيه و ظاهر في صورة الاتفاق عكس الصحيحة فيطرح ظاهر كلّ بنصّ الآخر.

______________________________

(1) الوسائل 12/ 126، الباب 39 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 244

مع أنّه لو سلّم التعارض كفى العمومات المتقدّمة. (1)

و قد يستدلّ أيضا فيما نحن فيه بالأخبار المسؤول فيها عن جواز بيع الخشب ممّن يتّخذه صلبانا أو صنما: مثل مكاتبة ابن أذينة عن رجل له خشب فباعه ممّن يتّخذه صلبانا؟ قال: «لا.»

______________________________

و لكن الإنصاف أنّ الموضوع في كليهما- بحسب الظاهر- واحد و ليس فيهما اسم من الاشتراط. و الملاك في الجمع بين الخبرين ظهور ألفاظهما و كون كلّ منهما قرينة عرفيّة للتصرّف في الآخر لا ما هو القدر المتيقّن خارجا بلحاظ الحكم الواقع فيهما بلا شاهد للجمع، فإنّه جمع تبرّعي لا يجوز

بناء الاستدلال عليه.

و في التعبير عن القدر المتيقّن بالنصّ مسامحة واضحة، و لعلّه أشار إلى ما ذكرنا بقوله: فتأمّل.

و ذكر في التهذيب «1» و الاستبصار «2» في الجمع بينهما وجهين:

أحدهما: أن يكون الخبر الأوّل متوجّها إلى من يعلم أنّه يباع فيه الخمر و يوجر على ذلك، و الخبر الثاني متوجّها إلى من يؤاجر دابّته أو سفينته و هو لا يعلم ما يحمل عليها أو فيها.

و الوجه الآخر: أنّه إنّما حرّم إجارته لمن يبيع الخمر لأنّ بيع الخمر حرام، و أجاز إجارة السفينة لمن يحمل فيها الخمر لأنّ حملها ليس بحرام لأنّه لا يجوز أن يحمل ليجعلها خلا.

أقول: خبر ابن أذينة مشتمل على حمل الخنازير أيضا، و لا يجري فيها التوجيه الذي ذكره لحمل الخمر. مضافا إلى أنّ كلا من الوجهين جمع تبرّعي لا شاهد له.

و قد مرّ عدم جواز بناء الاستدلال و الفتوى على ذلك، فتدبّر.

(1) يعني ما مرّ من حرمة الإعانة على الإثم و حرمة أكل المال بالباطل.

______________________________

(1) التهذيب 6/ 372، كتاب المكاسب، الباب 93، ذيل الحديث 199.

(2) الاستبصار 3/ 56، كتاب المكاسب، الباب 30 باب كراهية إجارة البيت لمن يبيع فيه الخمر.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 245

و رواية عمرو بن حريث عن التوت أبيعه ممّن يصنع الصليب أو الصنم؟ قال: «لا.» (1)

و فيه: أنّ حمل تلك الأخبار على صورة اشتراط البائع المسلم على المشتري أو تواطئهما على التزام صرف المبيع في الصنم و الصليب بعيد في الغاية.

______________________________

...

[الوجه الخامس للمنع في المقام رواية عمرو بن حريث]

(1) هذا هو الوجه الخامس للمنع في المقام، فراجع الوسائل. «1» و المكاتبة صحيحة و إن كانت بصورة المكاتبة، و رواية عمرو بن حريث أيضا لا بأس بها.

نعم لو كان الراوي عمرو بن جرير

كما في نسخة من الكافي كان مجهولا. «2»

و متن المكاتبة في الوسائل هكذا: كتبت إلى أبي عبد اللّه عليه السّلام أسأله عن رجل له خشب فباعه ممّن يتّخذه برابط؟ فقال: «لا بأس به.» و عن رجل له خشب فباعه ممّن يتّخذه صلبانا؟ قال: «لا.»

فهي مشتملة على مسألتين و الجواب فيهما مختلف.

و في مرآة العقول قال: «و المشهور بين الأصحاب حرمة بيع الخشب ليعمل منه هياكل العبادة و آلات الحرام. و كراهته ممّن يعمل ذلك إذا لم يذكر أنّه يشتريه له، فالخبر محمول على ما إذا لم يذكر أنّه يشتريه لذلك فالنهي الأخير محمول على الكراهة. و حمل الأوّل على عدم الذكر و الثاني على الذكر بعيد. و ربّما يفرّق بينهما بجواز التقيّة في الأوّل لكونها ممّا يعمل لسلاطين الجور في بلاد الإسلام دون الثاني.» «3»

______________________________

(1) الوسائل 12/ 127، الباب 41 من أبواب ما يكتسب به، الحديثان 1 و 2.

(2) الكافي 5/ 227، كتاب المعيشة، باب جامع فيما يحلّ الشراء و البيع منه و ما لا يحلّ، الحديث 5.

(3) مرآة العقول 19/ 265، كتاب المعيشة، باب جامع فيما يحل الشراء و البيع منه و ما لا يحل.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 246

و الفرق بين مؤاجرة البيت لبيع الخمر فيه و بيع الخشب على أن يعمل صليبا أو صنما لا يكاد يخفى. (1)

فإنّ بيع الخمر في مكان و صيرورته دكانا لذلك منفعة عرفيّة يقع الإجارة عليها من المسلم كثيرا كما يوجرون البيوت لسائر المحرّمات.

بخلاف جعل العنب خمرا و الخشب صليبا فإنّه لا غرض للمسلم في ذلك غالبا يقصده في بيع عنبه أو خشبه فلا يحمل عليه موارد السؤال.

______________________________

أقول: و قد مرّ منّا إمكان الفرق

بينهما بأنّ فساد هياكل العبادة أكثر بمراتب، فيحرم البيع لها و لو مع عدم الذكر في العقد و عدم التواطؤ. بل في الأمور المهمّة الظنّ و الاحتمال أيضا منجّزان فضلا عن العلم.

(1) لمّا حمل «ره» رواية جابر على صورة الاشتراط أراد بيان أنّ هذا الحمل لا يجري في بيع العنب و الخشب، فإنّه لا غرض للمسلم في ذلك فلا يحمل عليه مورد السؤال في الروايتين.

أقول: ما ذكره في المقام صحيح، و نحن ناقشنا في باب الإجارة أيضا، إذ لا داعي للمسلم إلى الإجارة بشرط الحرام أيضا، غاية الأمر أنّه لا يبالي بالحلال و الحرام، و غرضه الأجرة كيف ما حصلت.

و بالجملة فما ذكره من الفرق بين المسألتين قابل للمناقشة. و ظاهر الخبرين أيضا كون موردهما صورة العلم فقط من دون شرط أو قصد من البائع لخصوص الحرام، فلا مجال للاستدلال بهما للمقام.

لا يقال: إذا فرض الحرمة و الفساد في صورة عدم الاشتراط ففي صورة الاشتراط يثبتان بطريق أولى.

فإنّه يقال: نعم و لكن الأولويّة ثابتة في مورد السؤال أعني صنع هياكل العبادة، و لا تسري منها إلى مسألة بيع العنب لصنعه خمرا التي هي دونها في الأهميّة، إذ

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 247

نعم لو قيل في المسألة الآتية بحرمة بيع الخشب ممّن يعلم أنّه يعمله صنما لظاهر هذه الأخبار صحّ الاستدلال بفحواها على ما نحن فيه.

لكن ظاهر هذه الأخبار معارض بمثله أو بأصرح منه كما سيجي ء. (1)

______________________________

من المحتمل اهتمام الشارع بمسألة هياكل العبادة المبتدعة المرتبطة بمسألة التوحيد و الأمور الاعتقاديّة بحيث يحرّم تحصيل مقدّمات صنعها و لو مع عدم الاشتراط أيضا. و هذا بخلاف مسألة صنع الخمر أو آلات اللهو، و لذا فرّق

في المكاتبة بين الأمرين. و بذلك يظهر الإشكال في الاستدراك الذي ذكره المصنّف بقوله: «نعم لو قيل ...» إذ البحث هنا في مسألة بيع العنب. و لا يجوز إلقاء الخصوصيّة من بيع الخشب ممّن يعمله صنما و إسراء حكمه إلى مسألة بيع العنب لمن يعمله خمرا لاحتمال الخصوصيّة لمورد النصّ كما مرّ وجهه.

(1) أخبار الجواز الآتية واردة في العنب و العصير لا في بيع الخشب لهياكل العبادة.

الوجه السادس من وجوه المنع في المقام: ما ذكره في المستند،

فإنّه بعد التمسّك للمسألة بالإجماع و عدم الخلاف قال: «مع كونه بنفسه فعلا محرّما لما بيّنا في موضعه: أنّ فعل المباح بقصد التوصّل به إلى الحرام محرّم.» «1»

أقول: نظره «ره» إلى الحرمة من جهة المقدميّة للحرام. و لو صحّ ما ذكره من حرمة المعاملة حينئذ تكليفا أمكن إثبات فسادها أيضا بما مرّ من اقتضائها له لدلالتها على كونها مبغوضة للمولى فلا تشملها أدلّة تنفيذها لكونه نقضا للغرض. إلّا أن يقال: إنّ هذا صحيح إن تعلّق النهي بذات المعاملة و في المقام لم يتعلّق بذاتها بل بعنوان المقدّميّة للحرام.

و كيف كان، فيرد على ما ذكره أوّلا: أنّ كون مقدّمة الحرام حراما بنفسها قابل للمناقشة، إذ لازمه كون الفاعل مرتكبا لمحرّمات كثيرة و مستحقّا لعقوبات متعدّدة بعدد المقدّمات مع ذيها، و لا يلتزم بذلك أحد.

______________________________

(1) مستند الشيعة 2/ 336، في المكاسب المحرّمة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 248

..........

______________________________

بل الظاهر أنّ المحرّم الشرعي نفس ذي المقدّمة بسبب تعلّق النهي الأصلي به و اشتماله على المفسدة الملزمة. و أمّا ارتكاب المقدّمة بقصد التوصّل بها إليه فهو نحو تجرّ على المولى يحكم العقل بقبحه و إن لم يحصل ذوها.

و لا يترتب عليها مفسدة وراء مفسدته الباعثة على تحريمه و لم يتعلق بها

نهي مولوي مستقلّ، و لو فرض تعلّق النهي بها صورة فهو تأكيد للنهي المتعلّق بذيها.

و كذلك الأمر بمقدّمة الواجب: فقول المولى لعبده: ادخل السوق و اشتر اللحم مثلا يرجعان إلى أمر واحد بملاك واحد و هو ملاك ذي المقدّمة، و الأمر بالمقدّمة تأكيد لأمر ذيها.

و بعبارة أخرى: الأوامر و النواهي من المولى الحكيم ليست جزافيّة بل تكون تابعة للمصالح و المفاسد النفس الأمريّة، و هي ثابتة في الواجب و الحرام الأصليّين، و البعث و الزجر متوجّهان إليهما، و أمّا الأوامر و النواهي المتعلّقة بالمقدّمات فهي للإرشاد إلى مقدميّة ما تعلّقا به، و كونها في طريق المبعوث إليه أو المزجور عنه.

فإن قلت: إنّ استحقاق و الذّم و العقاب ليس لتفويت المصلحة أو إيجاد المفسدة فقط، بل نفس الطغيان على المولى و الجرأة عليه و الخروج عن رسم العبوديّة تكون سببا لاستحقاقهما عند العقلاء و لو فرض خلوّ المتعلّق عن المصلحة أو المفسدة، بل لعلّ المهمّ عندهم- في روابط الموالي و العبيد- هي حيثيّة الإطاعة و الانقياد أو العصيان و التجرّي. و العصيان و التجري يشتركان في هذا الملاك عندهم كما يشترك الإطاعة و الانقياد. و قد سلّمت أنّ الإتيان بمقدّمة الحرام بقصد التوصل بها إلى الحرام يعدّ تجرّيا بحكم العقل بقبحها فلا محالة يحكم الشرع بحرمتها.

قلت: العقل و إن حكم بقبح العصيان و التجري كما يحكم بحسن الإطاعة و الانقياد لكن العناوين المتأخرة عن الأمر و النهي المنتزعة بلحاظهما لا يلحقها حكم شرعي مولوي و إلّا لتسلسل، فلو سلّم تعلّق الأمر و النهي بها في الكتاب و السنّة

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 249

..........

______________________________

لم يكونا إلّا للإرشاد إلى حكم العقل كما حقّق في محلّه.

و قولهم: «ما حكم به العقل حكم به الشرع» إنّما يجري في حكمه الواقع في علل الأحكام، أعني المصالح و المفاسد لا في العناوين المتأخرة عن الأحكام.

و ثانيا: أنّ حرمة المقدّمة- على فرض تسليمها- إنّما هي في المقدّمات التي لا تنفكّ عن ذيها و يترتّب عليها الحرام قهرا بلا وساطة اختيار و إرادة أو غيرهما بينهما، نظير المقدّمات التوليديّة، كحركة اليد لحركة المفتاح، أو المقدّمة الأخيرة من المقدّمات الإعداديّة. و أمّا ما يتوسّط بينها و بين ذيها وسائط من الإرادة من موجدها أو من غيره أو مقدّمات أخر فلا نسلّم حرمتها، و لا وجه لها بعد عدم ترتّب الحرام عليها قهرا، و ما نحن فيه من هذا القبيل، إذ نفس الاشتراط لا يكون علّة تامّة لوجود الشرط و لا يوجب وقوعه خارجا. و إنما يقع بتوسط اختيار المشروط عليه و إرادته، فتدبّر.

الوجه السابع مما يمكن أن يستدلّ به للمنع في المقام: ما روي من طرق الفريقين من لعن الخمر و كلّ من يرتبط بها

حتى الغارس و الحارس و العاصر:

ففي حديث المناهي عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: «لعن اللّه الخمر و غارسها و عاصرها و شاربها و ساقيها و بائعها و مشتريها و آكل ثمنها و حاملها و المحمولة إليه.» «1»

و في خبر جابر عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «لعن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله في الخمر عشرة:

غارسها و حارسها و عاصرها و شاربها و ساقيها و حاملها و المحمولة إليه و بائعها و مشتريها و آكل ثمنها.» «2»

و في رواية عبد اللّه بن عمر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: «أنّ اللّه لعن الخمر و عاصرها و معتصرها و شاربها و ساقيها و حاملها و المحمولة إليه و بائعها و مشربها و آكل ثمنها.» «3»

______________________________

(1) الوسائل 12/ 165،

الباب 55 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5.

(2) نفس المصدر و الباب، الحديث 4.

(3) سنن البيهقي 8/ 287، كتاب الأشربة، باب ما جاء في تحريم الخمر.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 250

..........

______________________________

و بإلقاء الخصوصيّة عن الطوائف المذكورة في هذه الأخبار عرفا يستفاد منها أنّ كلّ معاون و مساعد على الخمر بنحو من الأنحاء و كلّ من يرتبط بها يكون ملعونا من قبل اللّه- تعالى- و رسوله. و ليس بائع العنب بقصد التخمير بأهون ذنبا من غارس شجرته أو حارسه أو عاصره، فيكشف اللعن عن حرمة المعاملة و عدم شمول أدلّة التنفيذ لها. هذا.

و لكن إلقاء خصوصيّة الخمر و التعدّي عنها إلى كلّ محرّم شرعي مشكل، اللّهم إلّا أن يكون أشدّ من الخمر كعمل الصلبان و الأصنام مثلا، إذ يعلم من الروايات المستفيضة بل المتواترة اهتمام الشارع المقدّس بمسألة الخمر حتّى شرّع حرمة المعاملة عليها وضعا و تكليفا كما صنع ذلك في الربا أيضا.

الوجه الثامن للمنع في المقام [دفع المنكر كرفعه واجب]

: ما يأتي من المصنّف- في بيع العنب ممّن يعلم بصنعه خمرا- من أنّ دفع المنكر كرفعه واجب، و لا يتمّ إلّا بترك البيع فيجب.

و ناقش ذلك في مصباح الفقاهة بقوله: «و فيه: أنّا لو استفدنا من الأدلّة وجوب النهي عن المنكر لدفعه لأمكن الالتزام بوجوب النهي عنه لرفعه بالفحوى، و أمّا العكس فلا.

و لو أغمضنا عن ذلك فهو إنّما يتمّ إذا علم البائع بأنّ المشتري يصرف المبيع في الحرام على حسب الاشتراط و إلّا فلا مقتضي للوجوب، على أنّ مقتضاه إنّما هو مجرّد التكليف، و النهي التكليفي في المعاملات لا يقتضي الفساد.» «1»

أقول: ما ذكره «ره» مشتمل على ثلاث مناقشات.

و يمكن أن يجاب عمّا ذكره أوّلا بما بيّنه و

قرّره الأستاذ «ره» بالتفصيل و ملخّصه: «أنّ دفع المنكر كرفعه واجب بناء على أنّ وجوب النهي عن المنكر عقليّ- كما صرّح به شيخنا الأعظم و حكى عن شيخ الطائفة و بعض كتب العلّامة و عن

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 163.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 251

..........

______________________________

الشهيدين و الفاضل المقداد- و هو الحقّ لاستقلال العقل بوجوب منع تحقّق معصية المولى و مبغوضه و قبح التواني عنه، سواء في ذلك التوصّل إلى النهي أو الأمور الأخر الممكنة. فكما تسالموا ظاهرا على وجوب المنع من تحقّق ما هو مبغوض الوجود في الخارج مطلقا كما إذا همّ حيوان مثلا بإراقة شي ء يكون إراقته مبغوضة للمولى و رأى العبد ذلك، كذلك يجب المنع من تحقّق ما هو مبغوض صدوره من مكلّف، فإنّ المناط في كليهما واحد و هو تحقّق المبغوض.

فإن قلت: على هذا لا يمكن تجويز الشارع ترك النهي عن المنكر.

قلت: هو كذلك لو كان المبغوض فعليّا و لم يكن للنهي مفسدة غالبة. فلو ورد منه تجويز الترك يكشف عن مفسدة في النهي أو مصلحة في تركه.

ثمّ إنّ العقل لا يفرّق بين الرفع و الدفع، بل لا معنى لوجوب الرفع في نظر العقل، فإن ما وقع لا ينقلب عمّا هو عليه. فالواجب عقلا هو المنع عن وقوع المبغوض سواء اشتغل به الفاعل أو همّ بالاشتغال به، أو علم كونه بصدده و كان في معرض التحقّق. و لو بنينا على أنّ وجوب النهي عن المنكر شرعي فلا ينبغي الإشكال في شمول الأدلّة للدفع أيضا لو لم نقل بأنّ الواجب هو الدفع، بل يرجع الرفع حقيقة إليه، فإنّ النهي عبارة عن الزجر عن إتيان المنكر و هو لا يتعلّق بالموجود إلّا

باعتبار ما لم يوجد، فإنّ الزجر عن إيجاد الموجود محال عقلا و عرفا.

فإطلاق أدلّة النهي عن المنكر شامل للزجر عن أصل التحقّق و عن استمراره. بل لو فرض عدم إطلاق فيها من هذه الجهة و كان مصبّها النهي عن المنكر بعد اشتغال الفاعل به، فلا شبهة في إلقاء العرف خصوصيّة التحقّق بمناسبات الحكم و الموضوع.» «1»

أقول: قد تحصل من كلامه «ره» عدم الفرق في المقام بين الرفع و الدفع، بل مرجع الرفع أيضا إلى دفع المنكر بحسب وجوده البقائي.

______________________________

(1) المكاسب المحرّمة للإمام الخميني «ره» 1/ 136 (ط. الجديدة 1/ 203- 206).

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 252

ثمّ إنّه يلحق بما ذكر من بيع العنب و الخشب على أن يعملا خمرا أو صليبا بيع كلّ ذي منفعة محلّلة على أن يصرف في الحرام لأن حصر الانتفاع بالمبيع في الحرام يوجب كون أكل الثمن بإزائه أكلا للمال بالباطل. (1)

ثمّ إنّه لا فرق بين ذكر الشرط المذكور في متن العقد و بين التواطؤ عليه خارج العقد و وقوع العقد عليه. و لو كان فرق فإنّما هو في لزوم الشرط و عدمه لا فيما هو مناط الحكم هنا. (2)

______________________________

و أمّا ما ذكره في مصباح الفقاهة ثانيا فهو صحيح. و كذا ما ذكره ثالثا، إذ المفروض أنّ النهي لم يتعلّق بذات المعاملة، بل ليس في المقام نهي، و إنّما صدر من الشارع أمر متعلّق بطبيعة النهي عن المنكر غاية الأمر انطباقه عليها في المورد فلا يقتضي فسادها.

و أمّا إذا فرض تعلّق نهي المولى بذات المعاملة فهو إمّا أن يكون للإرشاد إلى فسادها كما هو الغالب أو يقتضي ذلك لما مرّ من أنّ الدليل إذا دلّ على مبغوضيّة ذات المعاملة

للمولى فلا يشملها أدلّة تنفيذها لكونه نقضا لغرضه، فتدبّر.

حرمة بيع كلّ ذي منفعة محلّلة على أن يصرف في الحرام

(1) لما مرّ من أنّ ماليّة الأشياء بمنافعها المترقّبة منها، و المفروض في المقام أنّ المحلّلة منها ساقطة بحسب اشتراط البائع. و المحرّمة ساقطة بحكم الشارع، فيصير الشي ء في قوّة ما لا منفعة له أصلا و يكون أخذ الثمن بإزائه أكلا للمال بالباطل.

و قد مرّ توضيح ذلك و الجواب عنه، فراجع. «1»

(2) هل وجوب الوفاء يختص بالشرط الواقع في متن العقد اللازم أو يعمّ الشروط الابتدائيّة أيضا؟ فيه كلام يأتي في باب الشروط.

______________________________

(1) راجع ص 239 من هذا الكتاب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 253

و من ذلك يظهر أنه لا يبنى فساد هذا العقد على كون الشرط الفاسد مفسدا بل الأظهر فساده و إن لم نقل بإفساد الشرط الفاسد لما عرفت من رجوعه في الحقيقة إلى أكل المال في مقابل المنفعة المحرّمة. (1)

و قد تقدّم الحكم بفساد المعاوضة على آلات المحرّم مع كون موادّها مشتملة على منافع محلّلة مع أن الجزء أقبل للتفكيك بينه و بين الجزء الآخر من الشرط و المشروط. (2) و سيجي ء أيضا في المسألة الآتية ما يؤيّد هذا أيضا إن شاء اللّه.

______________________________

و يمكن أن يقال في المقام: إنّ ذكرها قبل العقد و بناء العقد عليها بمنزلة ذكرها فيه عند العرف و العقلاء، و عليه استقرّت سيرتهم، و ليست من قبيل الابتدائيّة المحضة. فلو سلّم عدم لزوم الوفاء في الشروط الابتدائيّة المحضة فلا نسلّم عدم لزومه فيما وقع العقد مبنيّا عليها، لالتزام العقلاء بالأخذ بها و ذمّ الناقض لها.

(1) غرضه «ره» ما مرّ من أنّ مسألة إفساد الشرط الفاسد و عدم إفساده للعقد إنّما هي فيما إذ لم يضرّ الشرط بقوام العقد

و ماهيته، و في المقام يضرّ بماهيته و قوامه إذ يوجب عدم ماليّة المبيع فيكون من قبيل أكل المال بالباطل، فتدبّر.

(2) أراد بذلك دفع إشكال مقدّر، و هو أنّه على فرض كون الشرط فاسدا فلم يحكم بفساد المعاملة من رأس و لا يحكم بصحة العقد و تقسيط الثمن نظير بيع ما يملك و ما لا يملك؟ فأجاب المصنّف عن ذلك بأنّه قد مرّ في بيع الآلات المحرّمة التي اشتملت موادّها على منافع محلّلة: «1» أنّ المعاملة فاسدة من رأس و لم نقل بصحّتها بالنسبة إلى الموادّ و تقسيط الثمن على المادّة و الهيئة مع كون كلّ منهما جزء للشي ء المحرّم فإذا لم نقل بالتقسيط بين الأجزاء فلا مجال لأن نلتزم به بين المشروط و الشرط مع أن الجزء أقبل للتفكيك.

______________________________

(1) راجع ص 156 و ما بعدها من هذا الكتاب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 254

..........

______________________________

أقول: ما ذكره من المقايسة و الحكم بالأولويّة قابل للمناقشة، إذ ما يقبل التفكيك هي الأجزاء الخارجيّة المنفكّ كلّ منها عن الأجزاء الأخر، كبيع الشاة مع الخنزير مثلا بحيث يرجع إلى بيعين، و أمّا المادّة و الهيئة فهما موجودتان بوجود واحد، و الجزئية بتحليل العقل فقط، و في مثله لا مجال لاحتمال التقسيط.

و حيث إنّ الملحوظ في الآلات المحرّمة هي الهيئة، فالثمن يقع بإزائها قهرا و يعدّ المادّة في هذا اللحاظ مستهلكة، و لذا قلنا بفساد المعاملة فيها، و إنّ كانت للمادّة قيمة، و أمّا الشرط فهو التزام في التزام، فهما أقبل للتفكيك من الأجزاء التحليلية. و لكن مع ذلك كلّه نحكم بكون الثمن بتمامه بإزاء المشروط فقط لا بإزائهما حتى يتوهّم التقسيط، سواء كان الشرط صحيحا أو فاسدا. غاية

الأمر أنّ تخلف الشرط يوجب الخيار كما مرّ بيانه.

نعم لو كان الشرط مخالفا لمقتضى العقد بحيث رجع إنشاؤها إلى إنشاء المتناقضين فسد العقد قهرا، و إن لم يكن الشرط فاسدا، مثل أن يقول: بعتك هذا بشرط أن لا يصير ملكا لك أولا يكون لك الانتفاع منه أصلا.

فذلكة البحث:

قد كان البحث في المسألة الأولى في المقام فيما إذا باع أو آجر الشي ء المشتمل على المنافع المحلّلة و المحرّمة بشرط أن لا ينتفع إلّا بالمحرّمة منها، و قد ادّعى المصنّف حرمة المعاملة و فسادها. و قد أقمنا لذلك ثمانية وجوه ناقشنا في أكثرها، و مع ذلك يشكل القول بالجواز و الصحّة مع تسالم الأصحاب و ادعائهم الإجماع و عدم الخلاف على المنع.

و لو قلنا في المسألة الآتية أعني بيع الجارية المغنّية بالحرمة و الفساد بمقتضى الأخبار الواردة فيها كما يأتي فثبوتهما في المقام أولى. حيث إن الجارية المغنّية

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 255

..........

______________________________

تشتمل على المنافع المحلّلة أيضا و لم يسقطها البائع، فإذا فرض الحرمة و الفساد فيها بسبب لحاظ غنائها ففي المقام الذي أسقط البائع جميع المنافع المحلّلة و أسقط الشارع المنفعة المحرّمة يكون المحرمة و الفساد أوضح. إذ المبيع حينئذ يصير في قوّة ما لا منفعة له أصلا كما مرّ. «1»

و لا فرق فيما ذكرناه في المسألة بين البيع و الإجارة، بل الفساد في الإجارة أوضح إذ يمكن أن يقال في البيع: إنّه عبارة عن تمليك العين لا المنافع، و المفروض أنّ البائع قصد تمليك العين حقيقة، غاية الأمر أنّه استثنى منافعها المحلّلة، فقوام البيع متحقّق، و الشرط فاسد لا يسري فساده إلى العقد.

و أمّا الإجارة فهي في الحقيقة تمليك للمنافع، و المفروض

أنّ البائع استثنى المحلّلة منها و الشارع أسقط المحرّمة منها، فيصير الشرط مخالفا لمقتضى العقد و قوامه، و قد صرّح في رواية جابر المتقدّمة بحرمة الأجرة الدالّة على فساد الإجارة قهرا، و القدر المتيقّن منها صورة الاشتراط كما مرّ. و لا فرق في ذلك بين إجارة الأشياء كالبيت و السفينة و نحوهما للانتفاعات المحرّمة و بين إجارة الشخص نفسه للأعمال المحرّمة كالغناء و القمار و تعليمهما و تعليم فنون الفساد، فتدبّر.

______________________________

(1) راجع ص 239 و 252 من هذا الكتاب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 257

[المسألة الثانية: أن تكون المنفعة المحرمة جزء الموضوع كبيع الجارية المغنية ...]
اشارة

المسألة الثانية: يحرم المعاوضة على الجارية المغنّية و كلّ عين مشتملة على صفة يقصد منها الحرام إذا قصد منها ذلك و قصد اعتباره في البيع على وجه يكون دخيلا في زيادة الثمن كالعبد الماهر في القمار أو اللهو و السّرقة إذا لوحظ فيه هذه الصفة و بذل بإزائها شي ء من الثمن لا ما كان على وجه الداعي. (1)

المسألة الثانية:

أن تكون المنفعة المحرمة جزء الموضوع كبيع الجارية المغنية ...

[صور المسألة]

______________________________

(1) قد مرّ أنّ بيع ما يشتمل على المنافع المحلّلة و المحرّمة معا للمحرمة منها له أربع صور: «1»

الأولى: أن يشترط المنفعة المحرّمة فقط في متن العقد أو يبني عليها بحيث تكون تمام الموضوع و يبذل الثمن بإزائها فقط، كبيع العنب بشرط أن يعمله خمرا.

الثانية: أن تكون المنفعة المحرّمة جزء الموضوع بحيث يبذل بعض الثمن بإزائها كبيع الجارية المغنية بوصف غنائها بحيث يقع بعض الثمن بإزاء وصفها.

الثالثة: أن تقع المعاملة بقصد الحرام بحيث يكون الحرام هو الداعي على المعاملة

______________________________

(1) راجع ص 219 من هذا الكتاب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 258

..........

______________________________

من دون أن يؤخذ شرطا، كبيع العنب بداعي تخميره.

الرابعة: أن يعلم بترتّب المنفعة المحرّمة من دون قصد لها أصلا، كبيع العنب ممن يعلم بأنّه يصنعه خمرا.

و قد وقع البحث عن الصورة الأولى في المسألة الأولى بالتفصيل، و الآن و صلت النوبة إلى البحث عن الصورة الثانية في هذه المسألة.

و يظهر من المصنّف تقسيم الصفة التي قد يقصد منها الحرام إلى خمسة أقسام:

الأوّل: أن تكون دخيلة في زيادة الثمن و بذل بإزائها شي ء منه.

الثاني: أن تكون دخيلة في زيادته و لكن بنحو الداعي من دون أن يبذل بعض الثمن بإزائها.

الثالث: أن لا تكون دخيلة في زيادته

و لا تلاحظ أصلا.

الرابع: أن تلحظ الصفة من حيث إنّها صفة كمال قد تصرف في المحلّل، و كانت هذه المنفعة المحلّلة ممّا يعتدّ بها العقلاء في التقويم، فيزاد لأجلها الثمن، كتغنّي الجارية المغنّية لزفّ العرائس إذا كان بحيث يرغب فيها لذلك.

الخامس: هذه الصورة مع كون المنفعة المحلّلة نادرة لا يعتدّ بها عندهم.

و يظهر من الأستاذ الإمام «ره» تسديس الأقسام:

الأوّل: أن تقصد المعاوضة على العين الموصوفة مع لحاظ زيادة القيمة لأجل الصفة.

الثاني: أن تقصد المعاوضة على الموصوفة بلا لحاظ زيادة القيمة لأجل الصفة.

الثالث: أن تلاحظ الصفة من جهة أنّها صفة كمال، فتزاد لأجلها القيمة من غير نظر إلى عملها الخارجي.

الرابع: هذه الصورة بلا ازدياد القيمة لأجلها.

الخامس: أن تلاحظ الصفة من حيث إنّها صفة كمال يستفاد منها الحلال مع كون المنفعة المحلّلة شائعة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 259

..........

______________________________

السّادس: هذه الصورة مع كونها نادرة. «1»

[بعض الكلمات في المسألة]

إذا عرفت ذلك فلنتعرض لبعض الكلمات في المسألة لزيادة البصيرة:

1- قال الشيخ في شهادات المبسوط: «فالغناء عندنا محرّم يفسّق فاعله و تردّ شهادته، و قال بعضهم: هو مكروه. فأمّا ثمن المغنّيات فليس بحرام إجماعا، لأنّها تصلح لغير الغناء من الاستمتاع بها و خدمتها.» «2»

2- و في شهادات السرائر: «الغناء من الصوت ممدود و من المال مقصور، فإذا ثبت هذا فالغناء عندنا محرّم يفسّق فاعله و تردّ شهادته. فأمّا ثمن المغنّيات فليس بحرام إجماعا لأنّها تصلح لغير الغناء.» «3»

3- و قال العلّامة في التذكرة: «أمّا الجارية المغنّية إذا بيعت بأكثر ممّا يرغب فيها لو لا الغناء فالوجه التحريم و به قال أحمد و الشافعي في أحد الوجوه لقول النبيّ صلى اللّه عليه و آله: «لا يجوز بيع المغنّيات و لا أثمانهنّ و

لا كسبهنّ.» و سئل الصادق عليه السّلام عن بيع الجواري المغنّيات فقال: «شراؤهنّ و بيعهنّ حرام و تعليمهنّ كفر و استماعهنّ نفاق.» و لأنّه بذل للمعصية. و الثاني: تبطل إن قصد الغناء و إلّا فلا. و الثالث و هو القياس: يصحّ. و لو بيعت على أنّها ساذجة صحّ.» «4»

4- و قال في المنتهى: «الغناء عندنا حرام و أجرة المغنّية حرام: روى الجمهور عن أبي أمامة عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله أنّه قال: «لا يجوز بيع المغنّيات و لا أثمانهنّ و لا كسبهنّ.» و هذا يحمل على بيعهن. و أمّا ماليتهنّ الخاصّة لغير الغناء

______________________________

(1) المكاسب المحرّمة 1/ 123 (ط. الجديدة 1/ 185).

(2) المبسوط 8/ 223، فصل فيمن تقبل شهادته و من لا تقبل.

(3) السرائر 2/ 120.

(4) التذكرة 1/ 465، كتاب البيع، في شرائط العوضين.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 260

..........

______________________________

فلا تبطل. كما أنّ العصير لا يحرم بيعه لغير الخمر لصلاحيّة الخمر ...» «1»

5- و قال في نهاية الإحكام: «و يجوز بيع الجارية المغنّية و إن كان الغناء أكثر منافعها إذ لا تخرج بهذه الصنعة عن الماليّة. و لو كانت تساوي ألفا و باعتبار الغناء تساوي ألفين فاشتراها بألفين و لو لا الغناء لم تطلب إلّا بألف فالوجه الصحّة. أمّا لو اشتراها بشرط الغناء المحرّم بطل.» «2»

أقول: لعلّه أراد بالشرط اشتراط وقوع الغناء خارجا فيكون شرطا محرّما أو صورة عدم الانتفاع بها إلّا في المحرّم كبيع العنب بشرط التخمير.

6- و في مجمع الفائدة: «ثمّ إنّ الظاهر أنّ المنع من بيع المغنّية للتغنّي مع العلم، و يمكن المنع مع الظنّ الغالب المتاخم للعلم كذلك لا مطلقا فإنّ لها منافع غير الغناء، و يؤيّده جواز

بيع العنب لمن يعمل خمرا كما تقدّم. و الاجتناب مطلقا أولى و أحوط». «3»

7- و في مفتاح الكرامة بعد المنع عن بيع أواني الذهب و الفضّة مطلقا قال:

«و ممّا ذكر يعلم الحال في الجارية المغنّية و بيعها بأكثر ممّا يرغب فيها لو لا الغناء.

و قال عليه السّلام: «المغنّية ملعونة و من آواها ملعون و من أكل كسبها ملعون» إلى غير ذلك من الأخبار المتظافرة و فيها: إلّا أن يمنعها منه.» «4»

أقول: سيأتي نقل الأخبار المستفيضة الواردة من طرق الفريقين الدالّة على حرمة بيع المغنّية. و كان المترقّب ذكر مضمونها في كتب القدماء من أصحابنا المعدّة لنقل الفتاوى المأثورة عن الأئمة عليهم السّلام و مضامين الأخبار الواردة. و مع ذلك لم أعثر في هذه الكتب على المسألة نفيا و إثباتا، فهل كانت هذه الأخبار معرضا عنها عندهم أو لم تكن دلالتها على الحرمة و الفساد عندهم واضحة.

______________________________

(1) المنتهى 2/ 1011، كتاب التجارة، النوع الثالث ما هو محرّم في نفسه.

(2) نهاية الإحكام 2/ 467، كتاب البيع، الفصل الثالث ما يشترط في المعقود عليه.

(3) مجمع الفائدة 8/ 63، أقسام التجارة و أحكامها.

(4) مفتاح الكرامة 4/ 33، كتاب المتاجر.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 261

[الدليل على الحرمة بحسب القواعد]

و يدلّ عليه: أنّ بذل الشي ء من الثمن بملاحظة الصفة المحرّمة أكل للمال بالباطل. و التفكيك بين القيد و المقيّد بصحّة العقد في المقيّد و بطلانه في القيد بما قابله من الثمن غير معروف عرفا لأنّ القيد أمر معنوي لا يوزّع عليه شي ء من المال و إن كان يبذل المال بملاحظة وجوده و غير واقع شرعا على ما اشتهر من أنّ الثمن لا يوزّع على الشروط فتعيّن بطلان العقد رأسا. (1)

______________________________

(1) لا يخفى

أنّ البحث في المسألة تارة بلحاظ القواعد العامّة و أخرى بلحاظ الأخبار الخاصّة الواردة فيها:

أمّا الأوّل فمحصّل الكلام: أنّ الصفة التي قد تقصد منها الحرام كتغنّي الجارية و مهارة العبد في القمار و نحوهما لها صور:

الأولى: أن تكون دخيلة في ازدياد الثمن و بذلت بإزائها حصّة منه، فالمعاملة- عند المصنّف- باطلة رأسا إذ أمرها يدور بين ثلاث: بطلان العقد رأسا، و صحّته كذلك، و التفكيك بين المقيّد و قيده بصحّة العقد في المقيد و بطلانه في قيده- نظير بيع ما يملك و ما لا يملك كالشاة و الخنزير- و الأخيران باطلان إذ أخذ الثمن بإزاء الصفة المحرّمة أكل للمال بالباطل. و التفكيك بين المقيّد و القيد باطل عرفا و شرعا، فتعيّن الأوّل أعني بطلان العقد رأسا.

الثانية: أن تلحظ بنحو الداعي لإيقاع العقد على العين الخاصّة من دون اشتراط في العقد و لا بنائه عليها و لا بذل الثمن بإزائها بحيث لو فرض عدم الوصف واقعا لم يثبت خيار في البين و إن فرض كون توهّم الصفة داعيا على الشراء.

________________________________________

نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في المكاسب المحرمة، 3 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، اول، 1415 ه ق

دراسات في المكاسب المحرمة؛ ج 2، ص: 261

و القاعدة تقتضي صحّة العقد بتمام الثمن من دون خيار و لو مع التخلّف، إذ الدواعي المقارنة الخارجة عن مفاد العقد لا تؤثّر في الصحّة أو الفساد

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 262

..........

______________________________

و لا في ثبوت الخيار.

الثالثة: أن لا تلحظ الصفة أصلا و لو بنحو الداعي على الشراء، بل كان الملحوظ للمتعاقدين ذات الموصوف فقط. و الصحّة في هذه الصورة أوضح من الثانية.

الرابعة: أن تلحظ الصفة بما هي صفة كمال

قد تصرف في الحلال و كانت المنفعة المحلّلة شائعة بحيث يعتدّ بها العقلاء و يبذل بإزائها المال، فالقاعدة أيضا تقتضي الصحّة.

الخامسة: هذه الصورة مع كونها نادرة بحيث لا يعتدّ بها في مقام التقويم، فالمصنّف يذكر فيها وجهين كما يأتي.

أقول: يمكن أن يناقش فيما ذكره المصنّف في القسم الأوّل: أولا: بما مرّ من أنّ الباء في الآية ليست للمقابلة و ليست الآية بصدد بيان شرط العوضين و اعتبار الماليّة فيهما، بل هي للسببيّة، و تكون الآية بصدد النهي عن أكل الأموال بالأسباب الباطلة، نظير القمار و السرقة و نحوهما، كما يشهد بذلك استثناء التجارة عن تراض و الأخبار الواردة في تفسير الآية.

و ثانيا: بأنّ الثمن في البيع يقع بإزاء العين لا بإزاء الصفات و المنافع، و إن فرض لحاظها في مرحلة التقويم أيضا. و الملاك في صحّة المعاملة و فسادها ما وقع عليه الإنشاء لا ما قصد لبّا، و المفروض في المقام ماليّة المبيع عرفا و شرعا. لوجود المنافع المحلّلة أيضا و عدم استثناء البائع إيّاها. فوزان الصفة في المقام وزان الشرط الذي ربّما يلحظ في التقويم، و يذكر في متن العقد أيضا، حيث قالوا: إنّ المعاملة لا تبطل بفساده أو بتخلّفه و لا تتبعّض المعاملة بذلك، غاية الأمر ثبوت الخيار بالتخلّف. و قد مرّ عن العلّامة في التذكرة أيضا أنّ القياس هو الصحّة، و مرّ عن شهادات المبسوط و السرائر الإفتاء بالصحّة بنحو الإطلاق.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 263

..........

______________________________

اللّهم إلّا أن يفرّق بين الوصف في المقام و بين الشروط و الأوصاف المتعارفة، إذ الشرط- على ما قالوا- التزام في التزام، ففساده أو تخلّفه لا يسري إلى العقد، و هذا بخلاف الوصف في المقام

ممّا يعدّ ركنا و بمنزلة العنوان للمبيع، و تخلّف العنوان يوجب فساد المعاملة. و المفروض أنّ الجارية المغنّية بقيد الغناء لا ماليّة لها عند الشارع فلا يصحّ بيعها، و ربّما تكون هي مع قطع النظر عن وصف غنائها لا يرغب فيها أصلا و لا يبذل بإزائها شي ء أو يبذل أقلّ قليل.

و بالجملة وزانها عند العرف وزان آلات اللهو التي لا ماليّة لها شرعا و لا يصحّ بيعها، و إن كانت لمادّتها قيمة إذ شيئيتها بهيئاتها.

و على هذا فالأخبار الآتية الدالّة على منع بيعها لا تكون على خلاف القاعدة.

و ما سمعت من عدم بطلان البيع و عدم تبعّضه بتخلّف الوصف إنّما هو في الأوصاف التي لا تعدّ ركنا و مقوّما للمبيع عرفا، فتأمّل.

و في حاشية السّيد الطباطبائي «قده» في ذيل قول المصنّف: «على وجه يكون دخيلا في زيادة الثمن» قال: «لا يخفى أنّ المناط في المنع كون المقصود من بيعها غناءها و إن لم يبذل الثمن أزيد بلحاظ ذلك أصلا.

و الحاصل: أنّ المناط كون الغرض من البيع الانتفاع المحرّم و غيره لا زيادة الثمن لأجل الصفة و عدمها.» «1»

أقول: يرد على ذلك ما مرّ في القسم الثاني من الأقسام الخمسة من أنّ القصود و الدواعي المقارنة لا تؤثّر في صحّة العقد و فساده ما لم يضرّ بقوام المبيع، فإذا فرض ماليّة المبيع عرفا و شرعا و وقوع العقد عليه فلا وجه لبطلانه بسبب قصد الحرام منه. هذا.

و في مصباح الفقاهة بعد التعرّض لصور المسألة قال: «القاعدة تقتضي صحّة

______________________________

(1) حاشيه المكاسب للمرحوم السيّد محمّد كاظم الطباطبائي/ 6.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 264

..........

______________________________

المعاوضة في جميع الوجوه المذكورة لوجهين:

الوجه الأوّل: أنّ بعض الأعمال كالخياطة و نحوها

و إن صحّ أن تقع عليه المعاوضة و أن يقابل بالمال إذا لوحظ على نحو الاستقلال، إلّا أنّه إذا لوحظ وصفا في ضمن المعاوضة فإنّه لا يقابل بشي ء من الثمن و إن كان بذل المال بملاحظة وجودها. و عليه فحرمة الصفة لا تستلزم حرمة المعاوضة في الموصوف و إنّما هي كالشروط الفاسدة لا توجب إلّا الخيار.

الوجه الثاني: لو سلّمنا أنّ الأوصاف تقابل بجزء من الثمن، فإنّ ذلك لا يستلزم بطلان المعاملة، إذ الحرام إنّما هي الأفعال الخارجيّة من التغنّي و القمار و الزنا دون القدرة عليها التي هي خارجة عن اختيار البشر.

على أنّه قد ورد في الآيات و الأحاديث: أنّ قدرة الإنسان على المحرّمات قد توجب كونه أعلى منزلة من الملائكة فإنّ الإنسان يحتوي على القوّة القدسيّة التي تبعث إلى الطاعة و القوّة الشهويّة التي تبعث إلى المعصية، فإذا ترك مقتضى الثانية و انبعث بمقتضى الأولى فقد حصل على أرقى مراتب العبوديّة، و هذا بخلاف الملك ...» «1»

أقول: ما ذكره من الوجهين و إن كان متينا على مذاق المشهور لكنّهما قابلان للمناقشة:

فيناقش في الأوّل بأنّ الوصف إذا أمكن مقابلته بالمال مع لحاظه مستقلا فلا محالة يمكن مقابلته به مع لحاظه وصفا أو شرطا أيضا و لا سيّما إذا كان ركنا في المعاملة عرفا، نظير الغناء للجارية المغنّية و الهيئات لآلات اللهو و القمار و نحوهما.

و يناقش الثاني: بأنّ الحرام و إن كان نفس الأفعال الخارجيّة لكن إذا كانت مباديها و القدرة عليها ممّا تحصل بالاكتساب و الممارسة و لم يترتّب عليها إلّا الحرام

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 167.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 265

[الدليل على الحرمة بحسب الأخبار]

و قد ورد النصّ بأنّ ثمن الجارية المغنّية سحت، و

أنّه قد يكون للرجل الجارية تلهيه و ما ثمنها إلّا كثمن الكلب. (1)

______________________________

فالشارع أسقط ماليّتها قهرا، فيكون أخذ الثمن بإزائها أكلا للمال بالباطل على مذاق المصنّف. و ما ذكره من مقايسة قوى الإنسان مع الملائكة إنّما هي في القوى الطبيعيّة الذاتيّة لا الاكتسابية الفاسدة.

و ما ذكره المصنّف من عدم تبعّض المعاملة و عدم التفكيك بين المقيّد و قيده و إن اشتهر بينهم لكنّه خلاف نظر العرف و العقلاء، و لا سيّما في الشرط الذي هو التزام مستقلّ في قبال التزام العقد، فالقاعدة تقتضي التفكيك إلّا فيما ثبت بالدليل من ثبوت الخيار فقط.

قال الأستاذ «ره» في هذا المجال ما محصّله: «أن العقلاء لا ينظرون إلى ألفاظ المعاملات، بل عمدة نظرهم إلى واقعها، و في اللّب تكون المعاملة بين العين مع لحاظ الشرط. لا يقال: إنّ في تخلّف الشرط الصحيح الخيار فقط. فإنّه يقال: لو قام دليل من إجماع أو غيره على الصحّة و الخيار نقول بمقتضاهما في موردهما على خلاف القواعد لا في غيره.» «1»

هذا، و المسألة تحتاج إلى بحث أو في يأتي في محلّه.

(1) إلى هنا كان البحث فيما يقتضيه القواعد العامّة في المسألة، و الآن وصلت النوبة إلى البحث فيما يستفاد من الأخبار الخاصّة الواردة فيها:

1- ما رواه الكليني عن محمّد بن يحيى، عن بعض أصحابه، عن محمّد بن إسماعيل، عن إبراهيم بن أبي البلاد، قال: أوصى إسحاق بن عمر عند وفاته بجواز له مغنّيات أن نبيعهنّ (أن يبعن- التهذيب) و نحمل ثمنهنّ إلى أبي الحسن عليه السّلام، قال إبراهيم: فبعت الجواري بثلاثمائة ألف درهم و حملت الثمن إليه، فقلت له: أنّ مولى لك يقال له: إسحاق بن عمر قد أوصى عند موته ببيع

______________________________

(1) المكاسب المحرّمة 1/ 121 (ط. الجديدة 1/ 183).

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 266

..........

______________________________

جوار له مغنّيات و حمل الثمن إليك و قد بعتهنّ و هذا الثمن ثلاثمائة ألف درهم.

فقال: «لا حاجة لي فيه، إنّ هذا سحت و تعليمهنّ كفر و الاستماع منهنّ نفاق و ثمنهنّ سحت.» «1»

و السند لا بأس به، إذ محمّد بن يحيى هو العطّار الأشعري القمّي من مشايخ الكليني، ثقة عين كثير الحديث له كتب. و محمّد بن إسماعيل مردّد بين ابن بزيع و البرمكيّ، فابن بزيع مولى المنصور، ثقة صحيح كثير الحديث له كتب.

و البرمكيّ و إن كان مختلفا فيه لكن الأكثر على توثيقه. و إبراهيم بن أبي البلاد قال النجاشي في حقّه: كان ثقة قارئا أديبا.

بقي الكلام في الإرسال الواقع في السند و لكنّ التعبير يدلّ على كون المجهول من أصحاب محمّد بن يحيى و من ثقاته و معتمديه.

و ظهور متن الحديث في حرمة الثمن و استنادها إلى بطلان المعاملة و عدم تحقّق الانتقال واضح.

قال الخليل في العين: «السحت: كلّ حرام قبيح الذكر يلزم منه العار، نحو ثمن الكلب و الخمر و الخنزير.» «2»

و في معجم مقاييس اللغة: «المال السحت: كلّ حرام يلزم آكله العار، و سمّي سحتا لأنّه لا بقاء له.» «3»

و راجع ما حررناه في هذا المجال في الدليل الثالث عشر من أدلّة المنع عن بيع النجس. «4»

______________________________

(1) الكافي 5/ 120 كتاب المعيشة، باب كسب المغنية، الحديث 7؛ و التهذيب 6/ 357، الباب 93، الحديث 142؛ و أيضا في الوسائل 12/ 87، الباب 16 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5.

(2) كتاب العين 3/ 132.

(3) معجم مقاييس اللغة 3/ 143.

(4) راجع دراسات في المكاسب المحرّمة 1/

202.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 267

..........

______________________________

و لكن يمكن المناقشة بأنّ لفظ السحت أطلق في أخبارنا على كسب الحجّام و أجر القارئ و ثمن اللقاح و عوض الهدية أزيد منها و نحو ذلك ممّا فيه عار و خسّة بلا حرمة شرعيّة أيضا. و على هذا فدلالته على الحرمة لا تخلو من وهن.

اللّهم إلّا أن يقال: إنّ ظاهره الحرمة فيحمل عليها إلّا فيما ثبت خلافه و يؤيّد ذلك ما يأتي في خبر الوشاء من أنّ السحت في النار.

ثمّ إنّ إطلاق الحديث يقتضي حرمة الثمن و بطلان المعاملة سواء جعل بعض الثمن في مقام الإنشاء بإزاء وصف الغناء كما هو الغالب، أو جعل الجميع لإزاء ذواتها و لذا ردّ الإمام عليه السّلام ثمنهنّ و لم يستفصل ذلك، إلّا أن يقال: إنّ الغالب فيها لحاظ وصفها في مقام التقويم و بذل بعض الثمن بإزائه، فالإطلاق ينصرف إلى هذه الصورة فلا يدلّ على بطلان غيرها، فتدبّر.

2- ما رواه الحميري في قرب الإسناد عن محمّد بن الحسين، عن إبراهيم بن أبي البلاد، قال: قلت لأبي الحسن الأوّل عليه السّلام: جعلت فداك إنّ رجلا من مواليك عنده جوار مغنّيات قيمتهنّ أربعة عشر ألف دينار و قد جعل لك ثلثها؟ فقال:

«لا حاجة لي فيها، إن ثمن الكلب و المغنّية سحت.» «1»

و الظاهر أنّ المراد بمحمّد بن الحسين: محمّد بن الحسين بن أبي الخطاب الثقة، فالرواية صحيحة بلا إشكال. و من اتّحاد الراوي و المضمون مع الرواية السابقة ربّما يطمئن النفس باتّحاد الروايتين، و البيع قد حصل، و من الممكن كون قيمة الدنانير المذكورة في هذه الرواية في ذلك الزمان مساوية لقيمة الدراهم المذكورة في السابقة. و حمل جميع الثمن إلى الإمام

عليه السّلام على فرض وقوعه لا يدلّ على كون الجميع لشخصه، فلعلّ الموصي أوصى بتصدّي الإمام عليه السّلام لصرف الجميع في مصارف و كون ثلثه لشخصه، و بذلك يجمع بين مضمون الروايتين.

______________________________

(1) الوسائل 12/ 87، الباب 16 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 268

..........

______________________________

3- ما عن الكليني عن عدّة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن الحسن بن عليّ الوشاء، قال: سئل أبو الحسن الرضا عليه السّلام عن شراء المغنّية؟ قال: «قد تكون للرجل الجارية تلهيه، و ما ثمنها إلّا ثمن كلب، و ثمن الكلب سحت. و السحت في النار.» و رواه الشيخ أيضا. «1»

و في السند سهل، و لكن قيل: إنّ الأمر فيه سهل لرواية الكليني عنه بواسطة عدّة من مشايخه. و دلالة الرواية واضحة.

4- خبر الطاطريّ عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: سأله رجل عن بيع الجواري المغنّيات؟ فقال: «شراؤهنّ و بيعهنّ حرام و تعليمهنّ كفر، و استماعهنّ نفاق.» «2»

و في السند إهمال.

و قد مرّ مرارا أنّ لفظ الحرمة إذا حمل على المعاملات فظهوره في الوضع أقوى، فيراد بها فساد البيع و الشراء.

5- و فيما رواه إسحاق بن يعقوب في أجوبة مسائلة عن صاحب الزمان عليه السّلام: «و ثمن المغنّية حرام.» «3»

6- ما رواه القطب الراوندي في لبّ اللباب عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله أنّه قال: «لا يحل بيع المغنّيات و لا شراؤهنّ و ثمنهنّ حرام.» «4»

7- ما عن عوالي اللآلي عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله: «إنّه نهى عن بيع المغنّيات و شرائهن و التجارة فيهنّ و أكل ثمنهنّ.» «5»

8- ما في سنن البيهقي بإسناد له عن أبي أمامة عن رسول

اللّه صلى اللّه عليه و آله، قال:

______________________________

(1) نفس المصدر و الباب، ص 88، الحديث 6.

(2) نفس المصدر و الباب، ص 88، الحديث 7.

(3) نفس المصدر و الباب، ص 87، الحديث 3.

(4) مستدرك الوسائل 2/ 431، الباب 14 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 3.

(5) نفس المصدر و الباب، الحديث 4.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 269

..........

______________________________

«لا تبتاعوا المغنّيات و لا تشتروهنّ و لا تعلّمونهنّ، و لا خير في تجارة فيهنّ، و ثمنهنّ حرام.» قال: و في مثل هذا الحديث نزلت: وَ مِنَ النّٰاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ. «1»

9- و فيه أيضا بسنده عن مجاهد في قوله: وَ مِنَ النّٰاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ قال: «هو اشتراؤه المغنّي و المغنّية بالمال الكثير، و الاستماع إليه و إلى مثله من الباطل.» «2»

و أسناد أكثر هذه الروايات و إن كانت ضعيفة لكن بعضها ممّا لا بأس به كما مرّ.

مضافا إلى أنّ استفاضتها ربّما توجب الوثوق بصدور بعضها.

10- نعم في رواية عبد اللّه بن الحسن الدينوري عن أبي الحسن عليه السّلام قال:

قلت: جعلت فداك، فأشتري المغنّية أو الجارية، تحسن أن تغنّي أريد بها الرزق لا سوى ذلك؟! قال: «اشتر و بع.» «3»

و ظاهرها جواز البيع و الشراء مطلقا حتّى في مورد البحث فتعارض الأخبار السابقة، و لكن عبد اللّه بن الحسن مجهول.

11- و عن الفقيه قال: سأل رجل عليّ بن الحسين عليه السّلام عن شراء جارية لها صوت؟ فقال عليه السّلام: «ما عليك لو اشتريتها فذكرتك الجنّة.» يعني بقراءة القرآن و الزهد و الفضائل التي ليست بغناء، فأمّا الغناء فمحظور. «4»

و الظاهر أنّ التفسير من الصدوق، و السؤال ليس عن شراء المغنّية. و حسن الصوت لا بأس به

ما لم يصل إلى حدّ الغناء كما في الوسائل.

أقول: لا ينقضي تعجّبي من أنّه مع وجود هذه الأخبار المستفيضة الدالّة على المنع تكليفا و وضعا لم لم يلتفت إليها قدماء أصحابنا و لم يتعرّضوا للمسألة

______________________________

(1) سنن البيهقي 6/ 14، كتاب البيوع، باب ما جاء في بيع المغنّيات. و الآية في سورة لقمان (31)، رقمها 6.

(2) سنن البيهقي 10/ 225، كتاب الشهادات، باب الرجل يتخذ الغلام و الجارية المغنّيين و ...

(3) الوسائل 12/ 86، الباب 16 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

(4) نفس المصدر و الباب، الحديث 2.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 270

..........

______________________________

في كتبهم المعدّة لنقل المسائل المأثورة عن الأئمة عليهم السّلام؟ و كان المترقّب تعرّضهم لها في كتاب التجارة. و الشيخ تعرّض لها في شهادات المبسوط و تبعه ابن إدريس في شهادات السرائر، و لكنّهما أفتيا بالجواز بنحو الإطلاق كما مرّ. و ظاهرهما الجواز حتّى مع لحاظ وصف الغناء و جعل حصّة من الثمن بإزائه كما هو الغالب المتعارف في بيعهنّ، و اقتضاء القياس الصحّة لا يوجب طرح هذه الأخبار المستفيضة.

و قال في مصباح الفقاهة بعد الإشارة إلى هذه الأخبار ما ملخّصه: «أنّ الظاهر من الأخبار المانعة: أنّ الحرام هو بيع المغنّية المعدّة للتلهّي و التغنّي كالمطربات اللاتي يتّخذن الرقص حرفة لهنّ و يدخلن على الرجال. إذ من الواضح أنّ القدرة على التغنّي كالقدرة على بقية المحرّمات ليست بمبغوضة ما لم يصدر الحرام في الخارج.

على أنّ نفعها لا ينحصر في التغنّي لجواز الانتفاع بها بالخدمة و غيرها. مضافا إلى أنّ بيعها بقصد الجهة المحرّمة لا يكون سببا لوقوع الحرام لبقاء المشتري بعد على اختياره، و عليه فلا موجب لحرمة البيع إلّا

من جهة الإعانة على الإثم و هي بنفسها لا تصلح للمانعيّة.» «1»

أقول: البحث في بيع الجارية المغنّية بما هي مغنّية. و ليست حرمة الغناء عند الأصحاب دائرة مدار الرقص و الدخول على الرجال. اللّهم إلّا أن ينكر حرمته إلّا بلحاظ مقارناته- كما قيل- و الحرام و إن كان نفس الأعمال الخارجيّة لا القدرة عليها، إلّا أنّ الإسلام أسقط ماليّة هذه القدرة الاكتسابية التي لا يترتّب عليها إلّا الفساد، نظير القدرة على القمار و السرقة و نحوهما فلا يصحّ بذل المال بإزائها.

نعم ظاهر تعليق الحكم على الوصف كونه دخيلا في موضوع الحكم ملحوظا فيه.

و على هذا فظاهر الأخبار كون موضوع الحرمة في المقام ما كان وصف الغناء ملحوظا في بيعه و لا محالة يلاحظ هذا الوصف في تقويمها و يجعل حصّة من

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 169.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 271

نعم لو لم يلاحظ الصفة أصلا في كميّة الثمن فلا إشكال في الصحّة.

و لو لوحظ من حيث إنّه صفة كمال قد يصرف إلى المحلّل فيزيد لأجلها الثمن فإن كانت المنفعة المحلّلة لتلك الصفة ممّا يعتدّ بها فلا إشكال في الجواز.

و إن كانت نادرة بالنسبة إلى المنفعة المحرّمة ففي إلحاقها بالعين في عدم جواز بذل المال إلّا لما اشتمل على منفعة محلّلة غير نادرة بالنسبة إلى المحرّمة و عدمه- لأنّ المقابل بالمبذول هو الموصوف و لا ضير في زيادة ثمنه بملاحظة منفعة نادرة- و جهان، أقواهما الثاني، إذ لا يعد أكلا

______________________________

الثمن بإزائه على ما كان متعارفا في بيعهنّ. و المتبادر منه بسبب الغلبة الغناء المحرّم الرائج في تلك الأعصار لا الغناء في زفّ العرائس مثلا. و هذا ما جعله المصنّف موضوعا للحرمة و الفساد،

حيث اعتبر فيه أمرين: لحاظ الصفة المحرّمة، و بذل شي ء من الثمن بإزائها.

و ما ذكروه من اقتضاء القاعدة صحّة المعاملة- على ما مرّ بيانه- لا ينافي تحريم الشارع بيعها تعبدا مع هذين القيدين بلحاظ ما كان يترتب عليها غالبا من الانتفاع المحرّم و إن بقي المشتري بعد على اختياره.

و بالجملة دفع الفساد المترقّب غالبا بقطع مادّته تشريعا ممّا يلتفت إليه الشارع في تشريعاته و كم له نظير في الشرعيّات. فلا وجه لرفع اليد عن ظهور هذه الأخبار و لا سيّما في القدر المتيقّن منها، أعني صورة وقوع البيع بلحاظ الوصف المحرّم و بذل بعض الثمن بل عمدته بإزائه. و قد مرّ منّا أنّ وصف الغناء في الجارية المغنّية المعدّة له كان يعدّ ركنا في المعاملة عليها عند العرف و كان وزانه وزان هيئات آلات اللهو و القمار التي تعدّ ركنا بحيث يستهلك فيها مادّتها و إن كانت لها قيمة. فكأنّ الجارية المغنّية نوع برأسها في قبال ما يشترى للنكاح أو الخدمة و كان لها أهل خاصّ و سوق خاصّ، و ربّما لم يكن لها مع قطع النظر عن غنائها قيمة و لم يرغب فيها أصلا.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 272

للمال بالباطل، و النصّ بأنّ ثمن المغنّية سحت مبنيّ على الغالب. (1)

______________________________

(1) قد مرّ أنّ صور المسألة عند المصنّف خمسة، حكم في واحدة منها بحرمة المعاملة و فسادها بمقتضى القاعدة و الأخبار الخاصّة. و يظهر منه الجواز و الصحّة في سائر الصور حتّى في صورة قصد الحرام بنحو الداعي لا في متن المعاملة كما مرّ.

و لكن يظهر من الأستاذ الإمام «ره» خلاف ذلك، فإنّه بعد البحث فيما يقتضيه القواعد العامّة في المسألة قال: «و

أمّا بحسب الأخبار فالظاهر شمول مثل قوله عليه السّلام في التوقيع: «و ثمن المغنّية حرام» و قوله عليه السّلام في صحيحة إبراهيم ابن أبي البلاد:

«إنّ ثمن الكلب و المغنّية سحت» و قوله عليه السّلام في رواية الطاطريّ: «شراؤهنّ و بيعهنّ حرام» للجارية المغنّية التي شغلها التغنّي و كانت معدّة لذلك سواء كان الثمن المجعول في مقابلها بلحاظ كونها مغنّية و منشأ لهذا الأثر كلا أو بعضا، أم جعل بلحاظ نفس ملكة التغنّي مقطوع النظر عن العمل، أو مع النظر إلى الأثر المحلّل كالقراءة بحسن صوتها أو التغنّي لزفّ الأعراس، أو بلحاظ ذاتها أو صفتها الأخرى كالخياطة، لصدق كون ثمنها ثمن المغنّية. فإنّها عبارة عن الذات الموصوفة بالصفة المعدّة لذلك.

و الثمن يجعل في مقابل الموجودة في الخارج و هي الجارية المغنّية. و مجرّد عدم لحاظ كون الثمن لصفتها لم يخرجها عنها، و لا يضرّ بصدق كون الثمن ثمن المغنّية ...

إن قلت: إنّ الأخبار محمولة على الغالب و هو مورد بيع المغنّيات و تزييد القيمة لصنعتها.

قلت: لو سلّم أنّ الغلبة صارت موجبة للانصراف في موارد أخر لا توجب ذلك في المقام، لأنّ مناسبة الحكم و الموضوع و فهم العرف من الروايات نكتة الجعل توجبان التعميم، بل إلقاء الخصوصيّة لو كانت واردة في مورد خاصّ، فالانصراف ممنوع و الإطلاق محكّم. نعم لو تابت المغنّية عن عملها و تركت الاشتغال به فالظاهر صحّة بيعها و إن قلنا بصدق المشتقّ لكون المبدأ هو الملكة العلميّة لا الصنعة و العمل لانصراف الأخبار عن هذه الصورة، بل يقوى احتمال

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 273

..........

______________________________

عدم صدق المشتقّ لاحتمال أن يكون المبدأ التغنّي الذي من قبيل الحرفة ...» «1»

أقول: قد مرّ

أنّ الظاهر من تعليق الحكم على الوصف دخالته في الحكم، و يعبّر عن ذلك بمناسبة الحكم و الموضوع، و الظاهر أنّ حكم الشارع بالحرمة في بيع الجارية المغنّية ليس بلحاظ قدرتها على الغناء، بل بلحاظ الانتفاع المحرّم منها خارجا و الغالب فيها- كما أشار إليه المصنّف- لحاظ ذلك في المعاملة عليها و بذل بعض الثمن بل عمدته بإزائه.

نعم يمكن أن يقال بشمول إطلاق الأخبار لما إذا قصد منها ذلك بنحو الداعي أيضا و إن لم يبذل في متن المعاملة شي ء من الثمن بإزاء وصفها أو عملها حيلة لتصحيح المعاملة عليها. و لكنّها تنصرف قطعا عمّا إذا لم يقصد منها الغناء أصلا، أو قصد منها المحلّل منه، و إن فرض صدق المشتقّ عليها بلحاظ قدرتها و ملكتها أيضا، فتدبّر. هذا.

و في حاشية السّيد الطباطبائي- طاب ثراه- في المقام: «و يمكن الاستدلال بقوله عليه السّلام في حديث تحف العقول: «أو شي ء يكون فيه وجه من وجوه الفساد»- خصوصا بقرينة تمثيله لذلك بالبيع بالربا- و ذلك لأنّ المبيع في بيع الربا ليس ممّا لا يجوز بيعه، بل الوجه في المنع هو خصوصيّة قصد الربا. ففي المقام أيضا الجارية من حيث هي ليست ممّا لا يجوز بيعها، لكن لو قصد بها الغناء يصدق أنّ في بيعها وجه الفساد.

و الحاصل: أنّ مقتضى التمثيل بالربا عدم اختصاص وجه الفساد بما كان في المبيع في حدّ نفسه كآلات اللهو و القمار، بل قد يكون ذلك لخصوصيّة في البيع و إن لم يكن المبيع في حدّ نفسه ممّا فيه الفساد.» «2»

______________________________

(1) المكاسب المحرّمة 1/ 125- 126 (ط. الجديدة 1/ 188- 190).

(2) حاشية المكاسب للمرحوم السيد محمّد كاظم الطباطبائي/ 6.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2،

ص: 274

..........

______________________________

أقول: يرد على ذلك- مضافا إلى ضعف الحديث على ما مرّ بيانه في أوّل الكتاب-: أنّ قياس المقام ببيع الربا بلا وجه بعد وضوح أنّ ملاك الفساد في بيع الربا في نفس البيع بما أنّه بيع مع التفاضل. و أمّا في المقام فملاك الفساد في المبيع بما أنّه متّصف بصفة ينشأ منها الفساد خارجا. هذا.

و يمكن أن يستأنس أيضا لحرمة المعاملة في المقام بما سيجي ء من الأخبار الدالّة على حرمة بيع السّلاح لأعداء المسلمين حين وقوع الحرب بينهم و بين المسلمين و إن لم يقصد بذلك تقويتهم و لم يعلم باستعمالهم لهذا المبيع الخاصّ في حرب المسلمين.

إذ يظهر بذلك أنّ كون الشي ء في مظانّ الانتفاع المحرّم و غلبة ترتّب الفساد عليه في زمان يوجب منع الشارع من بيعه حسما لمادّة الفساد، و حسم مادّة الفساد ممّا يهتمّ به الشارع في تشريعاته، و الجارية المغنّية التي يقوّم غناؤها بأضعاف من ذاتها تكون لا محالة معرضا للانتفاع المحرّم و لا سيّما في المحيط الذي غلب عليه الفساد.

و بذلك يظهر أيضا أنّ الآلات المشتركة التي لها منافع محلّلة و محرّمة كالتلفزيون و الفيديو و أمثالهما إذا فرض غلبة الفساد عليها بحيث لا تشترى غالبا إلّا للانتفاعات المحرّمة و تكون معرضا لإفساد المحيط و المجتمع أمكن القول بفساد المعاملة عليها إلّا إذا فرض الاطمينان بعدم صرفها في المحرّم، و هذا يختلف بحسب الأقوام و الأزمان و الأمكنة، فتدبّر.

[تنبيه:] حرمة كسب المغنّية

تنبيه: قد تعرّض المصنّف هنا لحكم بيع الجارية المغنّية، و يأتي منه في النوع الرابع من المكاسب المحرّمة بيان حكم الغناء بنفسه.

بقي هنا حكم كسب المغنّية التي تجعل الغناء حرفة لها أمة كانت أو حرة، و لم يتعرّض له

المصنّف مستقلا و إن أشار إليه في مبحث الغناء. و قد أشار إلى

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 275

..........

______________________________

المسألة في مصباح الفقاهة هنا «1»، فلنتعرّض لها إجمالا لكثرة الابتلاء بها.

فنقول: يظهر من بعض الأخبار حرمة كسبها تكليفا و وضعا و أنّها ملعونة و ملعون من أكل من كسبها إلّا التي تزفّ العرائس:

1- ففي رواية نصر بن قابوس قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: «المغنّية ملعونة، ملعون من أكل من كسبها.» «2» و السند لا بأس به. و في الوسائل:

«نضر» بالضاد و هو غلط ظاهرا.

2- و في المستدرك عن فقه الرضا و المقنع و الهداية: «و كسب المغنّية حرام.» «3»

أقول: لعن الآكل من كسبها يدلّ على حرمة أجرتها، و مقتضى ذلك فساد الإجارة. و قد مرّ منّا أيضا أنّ لفظ الحرمة في الكتاب و السنّة و كلمات القدماء من الأصحاب أعمّ من التكليف و الوضع و أنّ المتبادر منها في باب المعاملات هو الفساد.

3- خبر أبي بصير، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن كسب المغنّيات. فقال:

«التي يدخل عليها الرجال حرام، و التي تدعى إلى الأعراس ليس به بأس، و هو قول اللّه- عزّ و جلّ- وَ مِنَ النّٰاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللّٰهِ «4»

و في السند عليّ بن أبي حمزة البطائني الواقفي، و حاله معلوم إلّا أن يثبت كون نقله حال سلامته و عدم انحرافه.

4- خبر ثان لأبي بصير، قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «أجر المغنّية التي تزفّ العرائس ليس به بأس، و ليست بالتي يدخل عليها الرجال.» «5» و السند صحيح.

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 170.

(2) الوسائل 12/ 85، الباب 15 من أبواب ما يكتسب

به، الحديث 4.

(3) مستدرك الوسائل 2/ 430، الباب 13 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

(4) الوسائل 12/ 84، الباب 15 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1؛ و الآية في سورة لقمان (31)، رقمها 6.

(5) نفس المصدر و الباب، ص 85، الحديث 3.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 276

..........

______________________________

و ظاهر الخبرين عدم حرمة الغناء بنفسه بل بلحاظ مقارناته المحرّمة التي منها دخول الرجال عليهنّ، و سيأتي البحث عن ذلك في محلّه.

5- خبر ثالث له عنه عليه السّلام، قال: «المغنّية التي تزفّ العرائس لا بأس بكسبها.» «1»

و في السند: حكم الحنّاط كما في الكافي أو الخياط كما في الوسائل و هما مجهولان، و الأخبار الثلاثة- كما ترى- ترجع إلى واحد. و المستفاد من هذه الروايات أمران:

1- حرمة كسبها تكليفا و وضعا. 2- جوازه كذلك في التي تزفّ العرائس.

و يدلّ على الحكم الأوّل مضافا إلى ما ذكر من الأخبار: ما يدلّ على حرمة الغناء بنفسه ممّا يأتي في محلّه، إذ أدلّة صحّة العقود و إيجاب الوفاء بها لا تشمل قطعا ما كان العمل المستأجر عليه حراما في نفسه، فإنّ تنفيذ الشارع لمثله نقض لغرضه و يكون من قبيل أكل المال بالباطل، فتأمّل.

و أمّا جواز كسبها في التي تزفّ العرائس فلا إشكال فيه بعد دلالة روايات أبي بصير التي بعضها صحيح على ذلك. و قد أفتى بمضمونها الشيخ في النهاية:

قال في باب المكاسب المحظورة و المكروهة منه: «و كسب المغنّيات و تعلّم الغناء حرام ... و لا بأس بأجر المغنّية في الأعراس إذا لم يغنّين بالأباطيل و لا يدخلن على الرجال و لا يدخل الرجال عليهن.» «2»

و في الجواهر في مبحث حرمة الغناء قال: «و كيف

كان فقد ذكر غير واحد ورود الرخصة في إباحة أجرة المغنّية في الأعراس، بل نسبه بعض مشايخنا إلى الشهرة. و مقتضاه جواز غنائها فيه، ضرورة التلازم بين إباحة الأجرة عليه و بين إباحته. نعم قيّده بعضهم بما إذا لم تتكلم بالباطل و لم تلعب بالملاهي و لم تدخل عليها الرجال، و آخر بالأوّل و الأخير، لكن فيه أنّ ذلك كلّه محرّمات خارجة عنه لا مدخلية له فيها خصوصا الأخير الذي قد يتوهم أخذه من دليل الجواز ... و قد

______________________________

(1) نفس المصدر و الباب، ص 84، الحديث 2.

(2) النهاية/ 365 و 367.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 277

..........

______________________________

عرفت أنّ الأقوى الجواز للنصوص السابقة المعتضدة بالشهرة المحكية، خلافا للمحكي عن الحلّي و الفخر، بل لعلّه ظاهر المصنّف و غيره ممن أطلق الحرمة من دون استثناء.» «1»

أقول: و إن شئت الوقوف على كلمات الأصحاب في المسألة فراجع كتبهم.

و كما يحرم كسب المغنّية بغنائها يحرم كسب المغنّي أيضا بغنائه لحرمته، و هل يجوز تغنيه في الأعراس في محافل الرجال؟ مشكل، إذ لا دليل على تجويزه، و يشكل قياسه على المغنّية في ذلك بعد احتمال الخصوصية لها و لهنّ، فتدبّر.

______________________________

(1) الجواهر 22/ 48، كتاب التجارة، الفصل الأوّل، النوع الرابع مما يحرم الاكتساب به.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 279

[المسألة الثالثة: حرمة بيع العنب ممن يعمله خمرا]
اشارة

المسألة الثالثة: يحرم بيع العنب ممّن يعمله خمرا بقصد أن يعمله، و كذا بيع الخشب بقصد أن يعمله صنما أو صليبا، لأنّ فيه إعانة على الإثم و العدوان، و لا إشكال و لا خلاف في ذلك. (1)

______________________________

المسألة الثالثة:

حرمة بيع العنب ممن يعمله خمرا

[بيان موضوع المسألة]

(1) قد جعل المصنّف البحث في القسم الثاني من النوع الثاني فيما يقصد منه المتعاملان المنفعة المحرّمة، ثم تعرّض لهذا القسم في ثلاث مسائل:

الأولى: ما كان بذل الثمن بإزاء المنفعة المحرّمة فقط.

الثانية: ما إذا بذل بعض الثمن بإزاء الصفة المحرمة كبيع الجارية المغنية بوصف غنائها بحيث بذل بعض الثمن بإزائه.

الثالثة: ما إذا قصد المنفعة المحرمة بنحو الداعي فقط من دون أن يبذل الثمن أو بعضه بإزائها.

و ادّعى المصنّف في هذه المسألة أيضا عدم الخلاف و الإشكال في حرمة المعاملة و استدل لها بحرمة الإعانة على الإثم.

و يظهر منه التفصيل بين هذه الصورة و بين ما إذا باع العنب مثلا ممّن يعلم بأنّه يجعله خمرا من دون قصد البائع لذلك، لصدق الإعانة مع القصد قطعا و الإشكال

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 280

..........

______________________________

في صدقها بدونه، و لورود الأخبار المجوزة في الثانية كما يأتي.

و ناقشه في مصباح الفقاهة «1» بما ملخّصه و محصّله:

أوّلا: بأنّ مفهوم الإعانة على الإثم و العدوان كمفهوم الإعانة على البرّ و التقوى أمر واقعي لا يتبدّل بالقصد و لا يختلف بالوجوه و الاعتبار.

و ثانيا: لا دليل على حرمة الإعانة على الإثم ما لم يكن في البين تسبيب و تسبّب كما يأتي.

و ثالثا: لو سلّمنا حرمة البيع مع قصد الغاية المحرّمة لصدق الإعانة فلا بدّ من الالتزام بحرمته مع العلم بترتب الحرام أيضا، لصدق الإعانة على كليهما. و إن

قلنا بالجواز في الثاني من جهة الأخبار المجوزة الآتية كما يأتي فلا بدّ من القول بالجواز في الأوّل أيضا لإطلاق الأخبار و شمولها لصورة القصد أيضا.

و رابعا: ما هو المراد بالقصد في كلامهم؟ فإن أريد به إرادة الفعل الموجبة لتحققه خارجا فهي لا تتعلق بفعل الغير الخارج عن اختيار غير الفاعل، و المفروض في المقام أنّ التخمير في العنب مثلا من فعل المشتري فلا تتعلق به إرادة البائع.

و إن أريد به العلم و الالتفات فهو مفروض الوجود في الصورة الثانية أيضا فلا وجه للتفصيل بينهما.

و إن أريد به الداعي بمعنى كون الداعي إلى بيع البائع ترتّب المنفعة المحرّمة فهذا و إن كان يوجد في الصورة الأولى دون الثانية لكن لا يوجب هذا اختلافهما في صدق الإعانة.

أقول: البحث في مفهوم الإعانة و حكمها يأتي بالتفصيل عند البحث في الصورة الثانية، و على فرض صدقها مع القصد و حرمتها فيمكن أن يقال: إنّها لا توجب فساد المعاملة لعدم تعلق النهي بعنوان المعاملة حتى يقال بظهوره في الإرشاد إلى

______________________________

(1) راجع مصباح الفقاهة 1/ 171.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 281

..........

______________________________

الفساد. و إطلاق الأخبار المجوزة الآتية يشمل صورة القصد أيضا، و الداعي لا يقيد المعاملة و لا يوجب وقوع الثمن بإزائه، و البيع وقع على العين المملوكة التي لها منافع محلّلة و الثمن وقع بإزاء نفس العين، و الملاك في المعاملة ما وقع الإنشاء عليه لا الدواعي المقارنة، و كم للناس في معاملاتهم من دواع عقلائيّة و غير عقلائيّة و شرعيّة و غير شرعيّة لا توجب هي و لا تخلفها فساد المعاملة أو تزلزلها.

فمقتضى القاعدة في المقام أيضا صحة المعاملة، و الإجماع على خلافها بحيث يحرز به

تلقيهم المسألة عن الأئمّة عليهم السّلام غير ثابت.

فإن قلت: صحة المعاملة عبارة عن تنفيذ الشارع إيّاها، فإذا فرض حرمة المعاملة تكليفا لا يمكن تنفيذ الشارع إيّاها لكونه نقضا لغرض نفسه.

قلت: الأحكام الشرعية متعلقة بالعناوين الكلية على نحو القضايا الحقيقة و ليست قضايا شخصيّة جزئيّة، و انطباق عنوانين على موضوع واحد في مورد خاصّ لا يوجب سراية حكم أحدهما إلى الآخر، فإذا صدق في مورد خاصّ على بيع خاصّ عنوان الإعانة على الإثم فلا يسري حكم الإعانة إلى البيع بما أنه بيع، فتدبّر. هذا.

و لكن لأحد أن يقول: إنّ ما ذكرته- من أنّ انطباق عنوانين على مورد واحد لا يوجب سراية حكم أحدهما إلى الآخر- إنّما يصحّ في متعلقات الأحكام الّتي هي من أفعال المكلفين كالصلاة و التصرف في أرض الغير مثلا، حيث إنّ الحكم فيهما يتعلق بنفس الطبيعة، و الحكمان لا يتزاحمان في مرحلة الجعل و التشريع مع وجود المندوحة في البين و إنّما جمع بينهما العبد بسوء اختياره في مرحلة الامتثال.

و أمّا في موضوعات الأحكام و لا سيّما إذا لوحظت بنحو العامّ الاستغراقي كالخمر في قوله: لا تشرب الخمر، و العقود في قوله: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» فهي في مقام الجعل و التشريع أخذت مفروضة الوجود، و كلّ واحد منها بعد وجوده في

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 282

أما لو يقصد ذلك فالأكثر على عدم التحريم. (1)

______________________________

الخارج يصير موضوعا لحكم الشارع. فإذا فرض كون العقد بعد وجوده مصداقا للإعانة على الإثم و مبغوضا للشارع لذلك فكيف يحكم عليه بعد وجوده بوجوب الوفاء به؟ و هل لا يكون هذا الأمر نقضا لغرض نفسه؟

و بالجملة فوزان العقد المحرّم في هذا المجال وزان متعلقه إذا كان محرّما.

و قد اعترفتم بعدم شمول قوله: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» للعقود المتعلقة بالأمور المحرمة كما يأتي في النوع الرابع.

بيع العنب ممن يعلم أنّه يجعله خمرا

(1) حيث إنّ البحث في القسم الثاني من النوع الثاني كان فيما إذا قصد المتعاملان المنفعة المحرمة و لو بنحو الداعي كانت هذه الصورة لا محالة خارجة عن محطّ البحث، و لكن المصنّف تعرض لها استطرادا.

و هذه الصورة هي المبتلى بها خارجا، إذ قلّ من يقصد في معاملته الواقعة على العين المنافع المحرّمة، و إنّما غرض الناس في البيوع بيع أعيانهم، و قد مرّ في كلام الأستاذ الإمام «1» تقسيم هذه الصورة أيضا إلى صور، إذ البائع قد يعلم أنّ المشتري يصرفه في الحرام و أراد ذلك فعلا، و أخرى يعلم بعدم إرادته ذلك فعلا لكن يعلم بتجدد الإرادة له بعد ذلك، و على الثاني تارة يكون البيع أو تسليم المبيع له موجبا لتجدد الإرادة له كما لو كان العنب جيّدا صالحا للتخمير فإذا باعه له صار موجبا لإرادته ذلك، و أخرى يكون تجددها لعلّة أخرى.

ثم قد يكون ترك البيع سببا لتركه الحرام لانحصار البائع فيه، و أخرى لا يكون كذلك لوجود بائع غيره.

فهذه صور هذه الصورة، و لعلّها في صدق الإعانة عليها تختلف.

______________________________

(1) راجع ص 224 من الكتاب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 283

..........

______________________________

و كيف كان فحيث إنّ المسألة مبتلى بها و اختلف فيها الأخبار و كلمات الأصحاب فالأولى نقل بعض الكلمات لزيادة البصيرة، فنقول:

نقل الكلمات في المسألة

1- قال الصدوق في باب المزارعة و الإجارة من المقنع: «و لا بأس ببيع العصير و التمر ممن يجعله خمرا، و لا بأس ببيع الخشب ممن يتخذه برابط، و لا يجوز بيعه ممن يتخذه صلبانا.» «1»

أقول:

فهو «قده» أفتى بمضمون الأخبار المجوّزة في العصير و بالتفصيل الواقع في صحيحة ابن أذينة بين البرابط و الصلبان.

2- و قال الشيخ في مكاسب النهاية: «و لا بأس ببيع الخشب لمن يجعله صنما أو صليبا أو شيئا من الملاهي، لأنّ الوزر على من يجعله كذلك لا على الذي باع الآلة.» «2»

3- و في المتاجر منه: «و لا بأس ببيع الخشب ممن يتخذه ملاهي، و كذلك بيع العنب ممّن يجعله خمرا، و يكون الإثم على من يجعله كذلك، و اجتناب ذلك أفضل.» «3»

و ظاهره البيع ممن يعلم بجعل خصوص هذا صنما أو صليبا أو خمرا، و يظهر منه عدم البأس تكليفا و وضعا.

4- و في المبسوط: «بيع العصير لمن يجعله خمرا مطلقا مكروه و ليس بفساد، و بيعه لمن يعلم أنّه يجعله خمرا حرام و لا يبطل البيع، لما روي عنه عليه السّلام أنّه لعن الخمر و بائعها، و كذلك الحكم فيمن يبيع شيئا يعصى اللّه به من قتل مؤمن أو قطع طريق و ما أشبه ذلك.» «4»

______________________________

(1) المقنع/ 390، باب المزارعة و الإجارة ....

(2) النهاية/ 369، باب المكاسب المحظورة و المكروهة و المباحة.

(3) نفس المصدر/ 403، باب بيع الغرر و المجازفة و ما يجوز بيعه و ما لا يجوز.

(4) المبسوط 2/ 138، كتاب البيوع.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 284

..........

______________________________

أقول: العبارة الأولى لا تخلو من الإجمال، إذ الحكم بالكراهة الشرعية مع عدم العلم بجعله خمرا لا يعرف له وجه، إلّا أن يراد بها مع يعلم إجمالا بأنّه ممن يجعل الأعناب خمرا و لكن لا يعلم تفصيلا بجعله خصوص هذا العنب خمرا، و هو المحتمل في بعض العبارات الآتية الأخر أيضا و إن كان خلاف

الظاهر.

5- و في السرائر: «لا بأس ببيع الخشب لمن يجعله صنما أو صليبا أو شيئا من الملاهي، لأنّ الوزر على من يجعله كذلك لا على الذي باع الآلة، على ما رواه أصحابنا، و الأولى عندي تجنّب ذلك.» «1»

6- و فيه أيضا: «و لا بأس ببيع الخشب ممّن يتخذه ملاهي، و كذلك بيع العنب ممّن يجعله خمرا، فإنّه مكروه و ليس بحرام، و يكون الإثم على من يجعله كذلك لا على الذي باعه، و اجتناب ذلك أفضل. فأمّا إن اشترط البائع على المبتاع بأن يجعله خمرا و عقدا على ذلك مشترطا و مقرونا بالعقد فهذا حرام.» «2»

7- و في الشرائع بعد تحريم بيع العنب ليعمل خمرا و الخشب ليعمل صنما قال:

«و يكره بيع ذلك لمن يعملهما.» «3»

8- و نحوه كلام العلّامة في الإرشاد. «4»

أقول: الظاهر من قولهم: «ليعمل خمرا» اشتراط ذلك في متن العقد لا ما كان بنحو الداعي فقط.

9- و في التحرير: «و يجوز بيع ذلك كلّه على من يعمله إذا لم يبعه لذلك على كراهية.» «5»

______________________________

(1) السرائر 2/ 225، باب ضروب المكاسب.

(2) نفس المصدر 2/ 327، باب بيع الغرر و المجازفة و ما يجوز بيعه و ما لا يجوز.

(3) الشرائع/ 263 (- ط. أخرى 2/ 10)، كتاب التجارة، الفصل الأوّل، النوع الثاني مما يحرّم الاكتساب به.

(4) إرشاد الأذهان 1/ 357، كتاب المتاجر، المقصد الأوّل، المطلب الأوّل، الثاني مما يحرم الاكتساب به.

(5) التحرير/ 160، كتاب المتاجر، المقصد الأوّل، الفصل الأوّل.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 285

..........

______________________________

10- و في القواعد: «و يكره بيعهما على من يعمله من غير شرط.» «1»

11- و في المنتهى عقيب مسألة تحريم بيع العنب ليعمل خمرا قال: «و هل يجوز أن

يباع على من يعمله إذا لم يبعه لذلك، نصّ أصحابنا على جوازه، و هو قول الحسن البصري و عطاء و الثوري، و منع منه أحمد و كرهه الشافعي. لنا: أنّه عقد تمّ بشروطه و أركانه و لم يقرن به ما يبطل و كان سائغا بقوله- تعالى- وَ أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ. لا يقال: إنّه ببيعه إيّاه مكنه من القبيح، فيكون حراما باطلا لقبحه. لأنّا نقول: التمكين من القبيح ليس بقبيح، لأنّ اللّه- تعالى- مكّن الكافر و الظالم من الكفر و الظلم و لم يكن ذلك قبيحا، و القول بالكراهة حسن ...» «2»

12- و لكن في المختلف بعد نقل كلامي النهاية و السرائر قال: «و الأقرب عندي أنّه إذا كان البائع يعلم أنّ المشتري يعمله صنما أو صليبا أو شيئا من الملاهي حرم بيعه و إن لم يشترط في العقد ذلك. لنا: أنّه قد اشتمل على نوع مفسدة فيكون محرّما، لأنّه إعانة على المنكر فيكون قبيحا، و ما رواه عمر بن أذينة ...» «3»

أقول: فهذا علّامتنا النحرير المتوغّل في الفقه تراه أفتى في كتبه المختلفة بطرفي النقيض في المسألة، و في الأكثر أفتى بالجواز.

13- و في سنن البيهقي قال: «باب كراهية بيع العصير ممن يعصر الخمر و السيف ممن يعصي اللّه عزّ و جلّ به». «4»

أقول: ليس في كلامه بيع العصير ممّن يعلم بجعله بخصوصه خمرا، ثم إنّ

______________________________

(1) القواعد 1/ 120، كتاب المتاجر، المقصد الأوّل، الفصل الأوّل، في القسم الثاني مما يحرم الاكتساب به.

(2) المنتهى 2/ 1010، كتاب التجارة، المقصد الثاني، النوع الثاني من البحث الأوّل.

و الآية من سورة البقرة، رقمها 275.

(3) المختلف/ 343، كتاب التجارة، الفصل الأوّل.

(4) سنن البيهقي 5/ 327، كتاب البيوع.

دراسات في المكاسب

المحرمة، ج 2، ص: 286

..........

______________________________

لفظ الكراهة و مشتقاتها في الكتاب و السنّة و كتب القدماء من الفريقين لا يتمحّض في الكراهة المصطلحة بل يستعمل كثيرا في الحرمة أيضا.

14- و في المغني لابن قدّامة في فقه الحنابلة في ذيل قول الخرقي: «و بيع العصير ممّن يتخذه خمرا باطل.» قال: «و جملة ذلك أنّ بيع العصير لمن يعتقد أنّه يتخذه خمرا محرّم، و كرهه الشافعي، و ذكر بعض أصحابه أنّ البائع إذا اعتقد أنّه يعصرها خمرا فهو محرّم، و إنّما يكره إذا شكّ فيه. و حكى ابن المنذر عن الحسن و عطاء و الثوري أنّه لا بأس ببيع التمر لمن يتخذه مسكرا. قال الثوري: بع الحلال ممن شئت، و احتجّ لهم بقول اللّه- تعالى-: وَ أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ، و لأنّ البيع تمّ بأركانه و شروطه. و لنا: قول اللّه: وَ لٰا تَعٰاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَ الْعُدْوٰانِ، و هذا نهي يقتضي التحريم. و روي عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله أنّه لعن في الخمر عشرة: فروى ابن عباس أنّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله أتاه جبرئيل فقال: «يا محمّد، إنّ اللّه لعن الخمر، و عاصرها، و معتصرها، و حاملها، و المحمولة إليه، و شاربها، و بائعها، و مبتاعها، و ساقيها»، و أشار إلى كلّ معاون عليها و مساعد فيها.» «1»

أقول: المذكور في الحديث الذي نقله تسعة، و ذكر في مسند أحمد بعد ذكر ساقيها: «و مستقيها.» «2»

15- و في مبسوط السرخسي في فقه الحنفية: «و لا بأس ببيع العصير ممن يجعله خمرا، لأنّ العصير مشروب طاهر حلال، فيجوز بيعه و أكل ثمنه، و لا فساد في قصد البائع، إنّما الفساد في قصد المشتري، وَ لٰا تَزِرُ

وٰازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرىٰ. ألا ترى أنّ بيع الكرم ممن يتخذ الخمر من عنبه جائز لا بأس به، و كذلك بيع الأرض ممن يغرس فيها كرما ليتخذ من عنبه الخمر، و هذا قول أبي حنيفة، و هو القياس. و كره

______________________________

(1) المغني 4/ 283، كتاب البيوع، باب المصراة و غير ذلك.

(2) مسند أحمد 1/ 316، في مسند عبد اللّه بن العباس.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 287

للأخبار المستفيضة (1):

منها: خبر ابن أذينة، قال: كتبت إلى أبي عبد اللّه عليه السّلام أسأله عن رجل له كرم، يبيع العنب ممن يعلم أنّه يجعله خمرا أو مسكرا؟ فقال:

«إنّما باعه حلالا في الإبّان الذي يحلّ شربه أو أكله، فلا بأس ببيعه.» (2)

______________________________

ذلك أبو يوسف و محمّد استحسانا، لأنّ بيع العصير و العنب ممن يتخذه خمرا إعانة على المعصية و تمكين منها و ذلك حرام ...» «1»

أقول: فهذه بعض كلمات الفقهاء من الفريقين، و أنت ترى أنّ المسألة مختلف فيها في العامّة أيضا، فلا مجال لاحتمال حمل أخبار الجواز في المسألة على التقية، فتدبر.

الأخبار الواردة في المسألة

(1) البحث في المسألة تارة بلحاظ القواعد العامّة كآية التعاون و نحوها، و أخرى بلحاظ ما ورد فيها من الأخبار الخاصّة، و المصنّف قدّم الثاني.

فنقول: قد وردت في المسألة طائفتان من الأخبار: منها ما تدلّ على الجواز، و منها ما تدلّ على المنع:

(2) هذا أحد الأخبار المجوّزة، و السند صحيح أو حسن بإبراهيم بن هاشم.

و في الوسائل: «أ يبيع العنب و التمر.» «2» و لكن التمر لا يناسب الكرم، إلّا أن يكون ذكره من باب المثال. و فيه أيضا: «سكرا»، و في القاموس: «السّكر- محركة-: الخمر، و نبيذ يتخذ من التمر.» «3» و لعلّ الترديد من

الراوي.

______________________________

(1) مبسوط السرخسي 24/ 26 (المجلد 12)، كتاب الأشربة.

(2) الوسائل 12/ 169، الباب 59 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5.

(3) القاموس المحيط 2/ 50.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 288

و رواية أبي كهمس، قال: سأل رجل أبا عبد اللّه عليه السّلام- إلى أن قال-:

ثم قال: «هو ذا! نحن نبيع تمرنا ممن نعلم أنّه يصنعه خمرا.» (1)

إلى غير ذلك مما هو دونهما في الظهور. (2)

______________________________

(1) خبر أبي كهمس هكذا: قال: سأل رجل أبا عبد اللّه عليه السّلام عن العصير فقال:

لي كرم و أنا أعصره كلّ سنة و أجعله في الدنان و أبيعه قبل أن يغلي؟ قال: «لا بأس به، و إن غلى فلا يحلّ بيعه»، ثم قال: «هو ذا! نحن نبيع تمرنا ممّن نعلم أنّه يصنعه خمرا.» «1»

و في السند حنان، و الظاهر أنّه ابن سدير الصيرفي، و قالوا بوقفه و اختلفوا في وثاقته. «2»

و أبو كهمس كنية لثلاثة أشخاص: الهيثم بن عبد اللّه، و الهيثم بن عبيد، و القاسم بن عبيد. «3» و يحتمل اتحاد الأوّلين بل الثلاثة أيضا بكون القاسم مصحّف الهيثم. و كيف كان فلم يثبت وثاقتهم.

و كهمس: اسم من أسماء الأسد، و الرجل القبيح الوجه، و الناقة الكوماء أي العظيمة السنام.

و الظاهر أنّ سؤاله عن حكم بيع العصير قبل أن يغلي بنفسه، و لو غلى بنفسه يعدّ خمرا أو يكون بحكمه و لا يحلّ إلّا بالتخليل.

و ربما احتمل حمل لفظ الخمر في آخر الرواية على العصير المغلي بالنار قبل ذهاب ثلثيه، حيث شاع شربه في تلك الأعصار، و ذلك لاستبعاد بيعهم عليهم السّلام تمورهم ممن يصنعه خمرا اصطلاحيا، و لكن الاحتمال ضعيف جدّا.

(2) ذكر هذه الأخبار في الوسائل في الباب

التاسع و الخمسين من أبواب ما يكتسب به «4»، و قد مرّ اثنان منها.

______________________________

(1) الوسائل 12/ 169، الباب 59 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 6.

(2) راجع تنقيح المقال 1/ 380.

(3) راجع نفس المصدر 3/ 32 من فصل الكنى.

(4) راجع الوسائل 12/ 168- 170.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 289

..........

______________________________

3- صحيحة البزنطي، قال: سألت أبا الحسن عليه السّلام عن بيع العصير فيصيّر خمرا قبل أن يقبض الثمن. فقال: «لو باع ثمرته ممّن يعلم أنّه يجعله حراما لم يكن بذلك بأس، فأمّا إذا كان عصيرا فلا يباع إلّا بالنقد.»

هكذا في الوسائل عن الكافي ثمّ قال: «و رواه الشيخ مثله إلّا أنّه قال: «يعلم أنّه يجعله خمرا حراما.» «1»

أقول: لعلّ الفارق بين العصير و الثمرة أن العصير أقرب إلى الخمرية، فلو بيع بالنسيئة كان مظنة لأداء قيمته من ثمن الخمر الحاصلة منه. و أمّا الثمرة فيبعد زمان خمريتها فيحتمل قويا أداء قيمتها من غير ثمن الخمر.

4- صحيحة محمّد الحلبي، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن بيع عصير العنب ممن يجعله حراما. فقال: «لا بأس به، تبيعه حلالا فيجعله حراما فأبعده اللّه و أسحقه.» «2»

و ليس فيها و كذا في بعض ما سيجي ء من الأخبار الأخر تصريح بعلم البائع حين البيع بجعله حراما، و لكن الظاهر من الأسئلة ذلك.

5- صحيحة أخرى للحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه سئل عن بيع العصير ممّن يصنعه خمرا، فقال: «بعه ممن يطبخه أو يصنعه خلّا أحبّ إليّ و لا أرى بالأوّل بأسا.» «3»

و الظاهر أنّ المراد بالطبخ هنا هو الطبخ مع إذهاب الثلثين.

6- صحيحة أبي المغراء، قال: سأل يعقوب الأحمر أبا عبد اللّه عليه السّلام و

أنا حاضر فقال: إنّه كان لي أخ و هلك و ترك في حجري يتيما، و لي أخ يلي ضيعة لنا و هو يبيع العصير ممن يصنعه خمرا و يؤاجر الأرض بالطعام- إلى أن قال:- فقال: «أمّا

______________________________

(1) نفس المصدر 12/ 169، الحديث 1 و ذيله؛ عن الكافي 5/ 230؛ و التهذيب 7/ 138.

(2) نفس المصدر و الصفحة، الحديث 4.

(3) نفس المصدر 12/ 170، الحديث 9.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 290

..........

______________________________

بيع العصير ممن يصنعه خمرا فلا بأس، خذ نصيب اليتيم منه.» «1» و أبو المغراء كنية حميد بن المثنى، و هو ثقة.

7- صحيحة رفاعة بن موسى، قال: سئل أبو عبد اللّه عليه السّلام و أنا حاضر عن بيع العصير ممن يخمّره، قال: «حلال، ألسنا نبيع تمرنا ممن يجعله شرابا خبيثا؟» «2»

و ظهور الشراب الخبيث في الخمر المصطلح واضح.

8- صحيحة محمد بن إسماعيل، قال: سأل الرضا عليه السّلام رجل و أنا أسمع عن العصير يبيعه من المجوس و اليهود و النصارى و المسلمين قبل أن يختمر و يقبض ثمنه أو ينساه؟ فقال: «لا بأس، إذا بعته حلالا، فهو أعلم- يعني العصير- و ينسئ ثمنه.» «3»

قوله: «فهو أعلم» يعني المشتري بما هو وظيفته. و قوله: «يعني» من كلام الراوي.

9- خبر أبي بصير، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن ثمن العصير قبل أن يغلي لمن يبتاعه ليطبخه أو يجعله خمرا؟ قال: «إذا بعته قبل أن يكون خمرا و هو حلال فلا بأس.» «4»

و في السند القاسم بن محمّد الجوهري، و عليّ بن أبي حمزة البطائني، و هما واقفيان و لم يثبت وثاقتهما. «5»

و لعلّ المراد بالطبخ في الحديث الطبخ بلا إذهاب للثلثين، و كان هذا

قسما من الخمر يقال له الباذق أو البختج و إلّا لم يكن وجه للسؤال.

______________________________

(1) نفس المصدر، الحديث 7.

(2) نفس المصدر، الحديث 8.

(3) نفس المصدر 17/ 304، الباب 38 من أبواب الأشربة المحرّمة، الحديث 2.

(4) نفس المصدر 12/ 169، الباب 59 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2.

(5) راجع تنقيح المقال 2/ 24؛ من أبواب القاف، و 2/ 260.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 291

و قد يعارض تلك بمكاتبة ابن أذينة عن رجل له خشب فباعه ممّن يتخذه صلبانا؟ قال: «لا». (1)

______________________________

10- خبر يزيد بن خليفة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: سأله رجل- و أنا حاضر- قال: إنّ لي الكرم؟ قال: «تبيعه عنبا.» قال: فإنّه يشتريه من يجعله خمرا؟ قال:

«فبعه إذا عصيرا.» قال: فإنّه يشتريه مني عصيرا فيجعله خمرا في قربتي؟ قال:

«بعته حلالا فجعله حراما فأبعده اللّه.» ثم سكت هنيهة ثم قال: «لا تذرن ثمنه عليه حتى يصير خمرا فتكون تأخذ ثمن الخمر.» «1»

و يزيد بن خليفة الحارثي واقفي و لم يثبت وثاقته. «2» و لعلّ قوله: «فبعه إذا عصيرا» كان من جهة احتمال إذهاب الثلثين فيه أو احتمال تخليله.

(1) مكاتبة ابن أذينة هكذا: قال: كتبت إلى أبي عبد اللّه عليه السّلام أسأله عن رجل له خشب فباعه ممن يتخذه برابط؟ فقال: «لا بأس به.» و عن رجل له خشب فباعه ممن يتخذه صلبانا؟ قال: «لا.» «3»

و السند صحيح أو حسن بإبراهيم بن هاشم. و كان الأولى نقل المصنّف لكلتا الفقرتين.

و التفصيل بين البرابط و بين الصلبان مع حرمة كلتيهما لعلّه بنفسه شاهد على حمل النفي على الكراهة أو المرتبة الشديدة منها.

و يحتمل أن يكون من جهة قوة المفسدة في هياكل العبادة، كالصلبان،

و ضعفها في آلات اللهو كالبرابط و إن حرمت كلتاهما، بل في الأمور المهمة يكون الشكّ أيضا منجزا.

و على هذا فلا يقاس بيع العنب ممن يخمره ببيع الخشب لمن يتخذه صلبانا، بل

______________________________

(1) الوسائل 12/ 170، الباب 59 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 10.

(2) راجع تنقيح المقال 3/ 325.

(3) الوسائل 12/ 127، الباب 41 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 292

و رواية عمرو بن حريث عن التوت أبيعه ممّن يصنع الصليب أو الصنم؟ قال: «لا.» (1)

______________________________

لعله من قبيل بيعه لمن يتخذه برابط. و قد مرّ عن المجلسي في مرآة العقول قوله:

«و المشهور بين الأصحاب حرمة بيع الخشب ليعمل منه هياكل العبادة و آلات الحرام، و كراهته ممن يعمل ذلك إذا لم يذكر أنّه يشتريه له، فالخبر محمول على ما إذا لم يذكر أنّه يشتريه لذلك، فالنهي الأخير محمول على الكراهة. و حمل الأوّل على عدم الذكر و الثاني على الذكر بعيد، و ربّما يفرق بينهما بجواز التقية في الأوّل لكونها ممّا يعمل لسلاطين الجور في بلاد الإسلام دون الثاني.» «1»

(1) في الوسائل: قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن التوت أبيعه يصنع به الصليب و الصنم؟ قال: «لا.» «2»

و السند في الوسائل نقلا عن الشيخ هكذا: «الحسن بن محبوب، عن أبان بن عيسى القمي، عن عمرو بن حريث.» و لكن في الكافي و كذا التهذيب: «أبان عن عيسى»، و هو الصحيح.

و في الكافي: «عمرو بن جرير»، و هو مجهول. نعم في التهذيب: «عمرو بن حريث.» و في الطبع القديم من الكافي أيضا جعله نسخة. «3» و عليه فالسند لا بأس به، إذ الظاهر كونه عمرو بن

حريث الصير في الأسدي من أصحاب أبي عبد اللّه عليه السّلام، و قد وافقوا على توثيقه «4»، فتأمّل.

و كيف كان فهاتان روايتان تدلان على المنع، و لكن مورد كلتيهما- كما ترى- هياكل العبادة، و هي أمر مهمّ.

______________________________

(1) مرآة العقول 19/ 265، في شرح مكاتبة ابن أذينة، المروية في الكافي 5/ 226.

(2) الوسائل 12/ 127، الباب 41 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2.

(3) راجع الكافي 5/ 226 (طبعته القديمة من الفروع 1/ 393)؛ و التهذيب 6/ 373.

(4) راجع تنقيح المقال 2/ 327.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 293

و قد يجمع بينهما و بين الأخبار المجوّزة بحمل المانعة على صورة اشتراط جعل الخشب صليبا أو صنما أو تواطئهما عليه. (1)

و فيه: أنّ هذا في غاية البعد، إذ لا داعي للمسلم على اشتراط صناعة الخشب صنما في متن بيعه أو في خارجه ثم يجي ء و يسأل الإمام عليه السّلام عن جواز فعل هذا في المستقبل و حرمته، و هل يحتمل أن يريد الراوي بقوله: «أبيع التوت ممّن يصنع الصنم و الصليب» أبيعه مشترطا عليه و ملزما في متن العقد أو قبله أن لا يتصرف فيه إلّا بجعله صنما؟! (2)

______________________________

(1) قد مرّ عن السرائر قوله: «و لا بأس ببيع الخشب ممن يتخذه ملاهي، و كذلك بيع العنب ممّن يجعله خمرا ... فأمّا إن اشترط البائع على المبتاع بأن يجعله خمرا و عقدا على ذلك مشترطا و مقرونا بالعقد فهذا حرام.» «1»

و في الحدائق: «و قد تلخص من ذلك أنّ الظاهر من هذه الأخبار- بعد ضمّ بعضها إلى بعض- هو قصر التحريم على ما إذا وقع الاشتراط في العقد أو الاتفاق على البيع أو الإجارة لتلك الغاية المحرّمة،

و حلّ ما سوى ذلك.» «2»

وجوه الجمع بين الأخبار المتعارضة في المقام
اشارة

(2) قد جمعوا بين الأخبار المتعارضة في المقام بوجوه:

الوجه الأوّل: ما حكاه في المتن من حمل المانعة على صورة الاشتراط.

و يرد عليه أوّلا: ما ذكره المصنّف من أنّه لا داعى للمسلم إلى اشتراط صناعة الخشب صنما في متن بيعه أو في خارجه.

و ثانيا: أنه جمع تبرّعي لا شاهد له، لإطلاق كلتا الطائفتين و شمولهما لصورة

______________________________

(1) السرائر 2/ 327، باب بيع الغرر و المجازفة و ما يجوز بيعه و ما لا يجوز.

(2) الحدائق 18/ 206، كتاب التجارة، المقدمة الثالثة، البحث الأوّل، المقام الرابع.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 294

فالأولى حمل الأخبار المانعة على الكراهة، لشهادة غير واحد من الأخبار على الكراهة، كما أفتى به جماعة. و يشهد له رواية الحلبي عن بيع العصير ممّن يصنعه خمرا؟ قال: «بيعه ممّن يطبخه أو يصنعه خلا أحبّ إليّ، و لا أرى به بأسا.» (1) و غيرها.

______________________________

الاشتراط و غيرها. و مجرّد وجود القدر المتيقن في البين لكل منهما لا يوجب انصراف الإطلاق إليه و حمله عليه.

و ثالثا: أنّ صحيحة ابن أذينة المانعة جمع فيها بين الجواز و المنع فأجازت بيع الخشب لأن يتخذ برابط و منعت عن بيعه لاتخاذ الصلبان، و لا مجال لحمل رواية واحدة مع وحدة السياق فيها على جهتين متنافيتين كما مرّ عن المجلسي في مرآة العقول.

[الوجه الثاني من وجوه الجمع في المقام، حمل أخبار المنع على الكراهة]

(1) في الوسائل و التهذيبين: «بعه ممّن يطبخه ... و لا أرى بالأوّل بأسا.» «1»

و كيف كان فهذا هو الوجه الثاني من وجوه الجمع في المقام، و هو حمل أخبار المنع على الكراهة، و قد أفتى بها كثيرون كما مرّ و هو المختار للمصنّف أيضا. و لكن قوله: «لشهادة غير واحد من الأخبار على الكراهة» قابل للمناقشة، إذ لم نجد في أخبار الجواز ما يستشهد به للكراهة غير صحيحة الحلبي.

و يرد على هذا الوجه أوّلا: بأنّه لا

يلائم ما في بعض أخبار الجواز من بيعهم عليهم السّلام تمرهم ممّن يجعله خمرا أو شرابا خبيثا، لبعد صدور المكروه عنهم عليهم السّلام دفعة فضلا عن دفعات. إلّا أن يقال: إنّ المقصود من قوله عليه السّلام: «نحن نبيع تمرنا»، و قوله عليه السّلام: «ألسنا نبيع تمرنا» جماعة شيعتهم لا الأئمة عليهم السّلام، فأراد الإمام عليه السّلام بيان استقرار عمل شيعتهم على ذلك، و هذا يدلّ إجمالا على أصل الجواز، لتعبدهم بقول الأئمة عليهم السّلام، و لكن هذا خلاف الظاهر جدّا.

______________________________

(1) راجع الوسائل 12/ 170؛ و التهذيب 7/ 137؛ و الاستبصار 3/ 106، و قد مرّت في ص 289.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 295

أو التزام الحرمة في بيع الخشب ممن يعمله صليبا أو صنما لظاهر تلك الأخبار، و العمل في مسألة بيع العنب و شبهها على الأخبار المجوّزة. (1)

و هذا الجمع قول فصل لو لم يكن قولا بالفصل. (2)

______________________________

و ثانيا: لا نسلّم دلالة قوله: «أحبّ إليّ» على الكراهة و لا سيما مع تصريحه بعده بقوله: «و لا أرى بالأوّل بأسا»، إذ التفصيل يدلّ على محبوبية كلا الأمرين غاية الأمر كون أحدهما أحبّ من الآخر. نعم لو قال: «لا أحبّ» كان دليلا على الكراهة، إلّا أنّ يقال: إنّ اللفظ هنا للوصف لا للتفصيل، نظير قوله: رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمّٰا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ، و لكن مع ذلك دلالته على الكراهة غير واضحة.

و بالجملة فالقول بالكراهة و إن اشتهر بين الأصحاب لكن إقامة الدليل عليها مشكلة.

[الوجه الثالث للجمع بين الأخبار في المقام، العمل بكل من أخبار الجواز و المنع في مورده]

(1) هذا هو الوجه الثالث للجمع بين الأخبار في المقام، و حاصله: العمل بكل من أخبار الجواز و المنع في مورده و ما يشبهه، فيجوز بيع العنب ممّن يعلم بجعله خمرا،

و لا يجوز بيع الخشب ممن يتخذه صليبا أو صنما.

و يشهد لذلك صحيحة ابن أذينة، حيث فصّل فيها بين بيع الخشب ممن يتخذه برابط و بيعه ممن يتخذه صلبانا، و الاعتبار أيضا يساعد هذا التفصيل، إذ المفسدة في هياكل العبادة قوية جدّا. و قد ثبت في محلّه أنّ في الأمور المهمة الاحتمال أيضا منجز فضلا عن العلم. و شرب الخمر و صنعها و كذا صنع البرابط و غيرها من آلات اللهو و إن كانت محرّمة إلّا أنها ليست في حدّ عبادة الأصنام و اتخاذ الصلبان التي هي من شعار المسيحية، و يمكن اختلاف مقدّمات الحرام جوازا و منعا حسب اختلاف ذويها في مراتب المفسدة و المبغوضية.

(2) لا بأس بالقول بالفصل إلّا إذا ثبت الإجماع على عدم الفصل، و ثبوته بنحو يكشف عن تلقي المسألة عن الأئمة عليهم السّلام مشكل، و قد مرّ عن الصدوق في المقنع الإفتاء بهذا الفصل، «1» فتدبّر.

______________________________

(1) راجع المقنع/ 390، و قد مرّ في ص 283.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 296

[الوجه الرابع: حملها على وهم البائع أنّ المشتري يعمل هذا المبيع خمرا لكونه ممن يجعله خمرا]

______________________________

الوجه الرابع: ما ذكره المقدس الأردبيلي في مجمع الفائدة، فإنّه بعد التأمّل في الجواز مع العلم أو الظنّ بعمل المبيع خمرا فإنّه معاونة على الإثم و العدوان و هو محرّم بالعقل و النقل قال: «و يمكن حملها على وهم البائع أنّ المشتري يعمل هذا المبيع خمرا لكونه ممن يجعله خمرا، أو يكون الضمير راجعا إلى مطلق العصير و التمر لا إلى المبيع. و لا صراحة في الأخبار ببيعه ممن يعلم أنّه يجعل هذا المبيع خمرا، بل لا يعلم فتوى المجوز بذلك. و بالجملة الظاهر التحريم مع علمه بجعل هذا المبيع خمرا بل ظنه أيضا، فتأمّل.» «1»

و ناقشه في

الحدائق بقوله: «لا يخفى ما فيه من التعسف و التكلّف و الخروج عن ظاهر الأخبار بل صريحها ... و ما ذكره من الحمل على توهّم البائع أو رجوع الضمير إلى مطلق العصير و التمر لا المبيع عجيب من مثله. و كيف لا و هو عليه السّلام يقول: «إنّا نبيع تمرنا ممن نعلم أنّه يصنعه خمرا و شرابا خبيثا»، أي يصنع ذلك التمر الذي نبيعه إيّاه، كما لا يخفى على صاحب الذوق السليم و الفهم القويم.

و بالجملة فإنّه لو قامت هذه الاحتمالات البعيدة لا نغلق باب الاستدلال.» «2»

الوجه الخامس: [حمل المجوزة على كون المشتري شغله ذلك و المانعة على العلم بصرف هذا في المحرّم]

ما ذكره السيّد الطباطبائي «قده» في حاشيته و مرجعه إلى وجهين يقرب أحدهما مما ذكره المقدس الأردبيلي «قده»، قال: «و يمكن الجمع بحمل الأخبار المجوزة على صورة العلم بكون المشتري شغله ذلك و إن لم يكن جعله هذا العنب الخاص خمرا معلوما، و الأخبار المانعة على صورة العلم بصرف هذا المبيع في المحرّم. و يمكن بوجه آخر، و هو حمل المانعة على صورة العلم بقصد المشتري صرفه في المحرّم، إذ حينئذ يدخل تحت الصورة الأولى التي ذكر أنّه لا خلاف و لا إشكال فيها، لما عرفت من عدم الفرق بين قصدهما معا أو أحدهما، و حمل الأخبار المجوزة على صورة العلم بالتخمير مع عدم العلم بقصده ذلك

______________________________

(1) مجمع الفائدة و البرهان 8/ 50، كتاب المتاجر، المقصد الأوّل، المطلب الأوّل.

(2) الحدائق 18/ 205، كتاب التجارة، المقدمة الثالثة، البحث الأوّل، المقام الرابع.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 297

و كيف كان فقد يستدلّ على حرمة البيع ممّن يعلم أنه يصرف المبيع في الحرام بعموم النهي عن التعاون على الإثم و العدوان. (1)

______________________________

حين الشراء.» «1»

أقول: ظاهر ما ذكره المصنّف هو

التفصيل بين قصد البائع و عدم قصده لا قصد المشتري، و قد مرّ أنّ الملاك و الميزان في المعاملة ما وقع الإنشاء عليه من العوضين، و الدواعي و القصود المقارنة لا توجب تقيّدا في العوضين سواء كانت في ناحية البائع أو في ناحية المشتري. و أمّا ما ذكره من الوجه الأوّل فمرجعه إلى ما ذكره الأردبيلي و يرد عليه ما أورد عليه.

الوجه السادس: أن تحمل أخبار الجواز على التقية،

لما مرّ من إفتاء بعض فقهاء العامّة و منهم أبو حنيفة بالجواز.

و فيه- مضافا إلى كون المسألة خلافية بين العامّة أيضا كما مرّ بعض كلماتهم- أنّ الجمع الدلالي مهما أمكن مقدم على لحاظ جهة الصدور. هذا.

و المحقّق الإيرواني «قده» بعد الإشارة إلى بعض ما مرّ من طرق الجمع و الإشكال فيها قال: «فالمتعيّن العمل بأخبار الجواز، لقوّة سندها باشتمالها على الصحيح. و مع فرض التكافؤ فالأصل هو التخيير، فجاز الأخذ بأخبار الجواز.

و لو فرض التساقط فالمرجع عمومات حلّ البيع و التجارة عن تراض.» «2» هذا.

و المسألة في غاية الإشكال، إذ رفع اليد عن الأخبار المستفيضة الدالّة على الجواز مشكل، و الالتزام بمضمونها على فرض صدق الإعانة على الإثم أشكل.

(1) قد مرّ أنّ البحث في المسألة تارة بلحاظ القواعد العامّة، و أخرى بلحاظ الأخبار الخاصّة الواردة فيها. و المصنّف قدّم الثانية و حكم بلحاظها بالجواز مع الكراهة، و الصناعة الفقهية أيضا تقتضي الجواز لاستفاضة أخبار الجواز و صحّة

______________________________

(1) حاشية المكاسب للسيّد الطباطبائي/ 7، ذيل قول المصنّف: أو التزام الحرمة ...

(2) حاشية المكاسب للمحقّق الإيرواني/ 15، ذيل قول المصنّف: للأخبار المستفيضة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 298

..........

______________________________

كثير منها و إفتاء الأكثر بها. و خبرا المنع وردا في خصوص بيع الخشب ممّن يتّخذه صليبا

أو صنما، و يمكن التفصيل بين هياكل العبادة و بين غيرها ممّا ليست في حدّها من الأهمية و الفساد. و إلقاء الخصوصية إنّما يصحّ مع العلم بعدمها و لا علم بذلك في المقام مع قوة المفسدة في هياكل العبادة.

البحث في المسألة بلحاظ القواعد العامّة

و أمّا البحث بلحاظ القواعد العامّة فالعمدة منها ثلاثة أمور:

الأوّل: حكم الشارع بحرمة التعاون على الإثم و العدوان.

الثاني: حكم العقل بقبح إعانة الغير في الأمر القبيح و المحرم.

الثالث: أن دفع المنكر واجب كرفعه.

أمّا الأمر الأوّل فالبحث فيه تارة في مفهوم التعاون و الإعانة و ما يعتبر في صدقهما، و أخرى في بيان حكمهما شرعا.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 299

..........

______________________________

البحث في مفهوم الإعانة و ما يعتبر في صدقها
[البحث في مفهوم الإعانة]
[الأقوال في المسألة]

أمّا الأوّل ففيه وجوه بل أقوال:

الأوّل: ما استظهره المصنّف من الأكثر، و هو أنّ الإعانة عبارة عن إيجاد مقدمة من مقدّمات فعل الغير و إن لم يقصد حصوله منه.

الثاني: إيجادها بقصد حصوله منه، كما في كلام المحقّق الثاني في حاشية الإرشاد. و إطلاق القولين يقتضي التعميم لصورة وقوع المعان عليه في الخارج و عدم وقوعه.

الثالث: أنّه يعتبر فيه مع قصد ذلك وقوع الفعل المعان عليه في الخارج أيضا، و قد نسبه المصنّف إلى بعض معاصريه و أراد به صاحب العوائد كما يأتي.

الرابع: ما نسبه المصنّف إلى المحقّق الأردبيلي من اعتبار القصد أو وقوع المقدّمة على وجه يصدق عليها الإعانة عرفا، مثل أن يطلب الظالم العصا من شخص لضرب مظلوم فيعطيه إيّاه و لو لم يقصد ذلك.

الخامس: إيجاد بعض المقدمات القريبة دون البعيدة.

السّادس: إيجاد بعض المقدّمات مطلقا بشرط وقوع المعان عليه في الخارج سواء تحقق القصد أم لا، اختار هذا في مصباح الفقاهة «1»، كما يأتي بيانه.

______________________________

(1) راجع مصباح الفقاهة 1/ 176، في المسألة الثالثة من القسم الثاني من النوع الثاني، و يأتي في ص 316.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 300

و قد يستشكل في صدق الإعانة بل يمنع، حيث لم يقع القصد إلى وقوع الفعل من المعان، بناء على أنّ الإعانة هي فعل

بعض مقدمات فعل الغير بقصد حصوله منه لا مطلقا. و أوّل من أشار إلى هذا المحقق الثاني في حاشية الإرشاد في هذه المسألة، حيث إنّه بعد حكاية القول بالمنع مستندا إلى الأخبار المانعة قال: «و يؤيّده قوله- تعالى-:

وَ لٰا تَعٰاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ. و يشكل بلزوم عدم جواز بيع شي ء مما يعلم عادة التوصّل به إلى محرّم لو تمّ هذا الاستدلال، فيمنع معاملة أكثر الناس. (1) و الجواب عن الآية المنع من كون محلّ النزاع معاونة، مع أنّ الأصل الإباحة، و إنّما يظهر المعاونة مع بيعه لذلك.»

انتهى.

______________________________

(1) إذا العلم أعمّ من التفصيلي، و العلم الإجمالي بالصرف في الحرام متحقق في كثير من الموارد بل التفصيلي أيضا يتحقق كثيرا.

قال في مفتاح الكرامة بعد نقل كلام المحقّق الثاني: «و هذا متين جدّا، لأن السيرة قد استمرّت على المعاملة على بيع المطاعم و المشارب للكفّار في شهر رمضان مع علمهم بأكلهم، و على بيعهم بساتين العنب و النخيل مع العلم العادي بجعل بعضه خمرا، و على معاملة الملوك فيما يعلمون صرفه في تقوية الجند و العساكر المساعدين لهم على الظلم و الباطل، إلى غير ذلك مما لا يحصى.» «1»

و ذكر نحو ذلك في الجواهر و أضاف إلى ما ذكر: إجارة الدور و المساكن و المراكب لهم و بيع القرطاس منهم مع العلم بأنّ منه ما يتخذ كتب ضلال. ثم قال: «و من

______________________________

(1) مفتاح الكرامة 4/ 38، كتاب المتاجر، المقصد الأول، الفصل الأول.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 301

و وافقه في اعتبار القصد في مفهوم الإعانة جماعة من متأخري المتأخرين كصاحب الكفاية و غيره. (1) هذا.

و ربما زاد بعض المعاصرين (2) على اعتبار القصد اعتبار وقوع المعان عليه

في تحقق مفهوم الإعانة في الخارج، و تخيّل أنّه لو فعل فعلا بقصد تحقق الإثم الفلاني من الغير فلم يتحقق منه لم يحرم من جهة صدق الإعانة بل من جهة قصدها، بناء على ما حرّره من حرمة الاشتغال بمقدّمات الحرام بقصد تحققه، و أنّه لو تحقق الفعل كان حراما من جهة القصد إلى المحرّم و من جهة الإعانة.

______________________________

ذلك يظهر أنّ قصد العليّة من طرف المشتري غير قادح، ضرورة حصوله فيما عرفت، فلو كان قادحا لاقتضى فساد البيع لأنّ فساده من جانب، فساد من الجانبين ...» «1»

(1) راجع كفاية السبزواري في هذه المسألة «2» و لم يعلم المراد بقوله:

«و غيره»، فإن أراد المقدس الأردبيلي «قده» فهو- كما يأتي- لا يشترط القصد تعيينا بل القصد أو الصدق العرفي.

نقل كلام الفاضل النراقي في العوائد

(2) أراد به الفاضل النراقي «قده» في العوائد، و الأولى نقل كلامه ملخصا لما فيه من فوائد:

قال في أوائل العوائد ما ملخّصه: «عائدة: قال اللّه- سبحانه- في سورة المائدة: وَ لٰا تَعٰاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَ الْعُدْوٰانِ و هذه الآية تدلّ على حرمة المعاونة على كلّ

______________________________

(1) الجواهر 22/ 32- 33، كتاب التجارة، الفصل الأوّل، النوع الثاني مما يحرم الاكتساب به.

(2) كفاية الأحكام/ 85، كتاب التجارة، المقصد الثاني، المبحث الأوّل.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 302

و فيه تأمّل، فإنّ حقيقة الإعانة على الشي ء هو الفعل بقصد حصول الشي ء سواء حصل أم لا، و من اشتغل ببعض مقدمات الحرام الصادر عن الغير بقصد التوصّل إليه فهو داخل في الإعانة على الإثم، و لو تحقق الحرام لم يتعدّد العقاب.

______________________________

ما كان إثما و عدوانا، و استفاضت على تحريمها الروايات و انعقد عليه إجماع العلماء كافة، و لا كلام في ثبوت تحريمها و

النهي عنها، و إنّما الكلام في تعيين ما يكون مساعدة و معاونة على الإثم و العدوان.

و تحقيقه أنّه لا شكّ و لا خفاء في أنّه يشترط في تحقق الإعانة صدور عمل و فعل من المعاون له مدخلية في تحقق المعاون عليه و حصوله أو في كماله و تماميّته.

و إنّما الخفاء في اشتراط القصد إلى تحقق المعاون عليه من ذلك العمل، و في اشتراط تحقق المعاون عليه و عدمه أي ترتّبه على فعله، و في اشتراط العلم بتحقق المعاون عليه أو الظنّ أم لا، و في اشتراط العلم بمدخلية فعله في تحققه.

أمّا الأوّل فالظاهر اشتراطه. و معناه أن يكون مقصود المعاون من فعله ترتّب المعاون عليه و حصوله في الخارج، سواء كان على سبيل الانفراد أم على الاشتراك، لأنّ المتبادر من المعاونة و المساعدة ذلك عرفا، فإنّا نعلم أنّه لو لم يعط زيد ثوبه إلى الخياط ليخيطه لا يخيطه الخياط و لا يتحقّق منه خياطة، مع أنّه لو أعطاه إيّاه و خاطه لا يقال: إنّه أعانه على صدور الخياطة، لأنّ غرضه كان صيرورة الشي ء مخيطا لا صدور الخياطة منه، إلّا إذا كان مقصوده صدور هذه الخياطة منه، كما إذا كان ثوب لشخص و أراد ثلاثة من الخيّاطين خياطته فسعى شخص في إعطائه إلى واحد معين ليصدر منه الخياطة فيقال: إنّه أعانه على ذلك. و لذا

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 303

..........

______________________________

ترى أنّه لا يقال للدافعين أثوابهم إلى الخياط إنّهم أعانوه على صنعة الخياطة و تعلّمها، مع أنّه لو لا دفع أحد ثوبه إليه لم يتعلّم صنعة الخياطة.

و لو دفع أحد ثيابا متعددة إلى شخص ليخطيها و كان غرضه ترغيبه إلى تعلمها و تحسينها حتى

صار ذلك سببا لتعلّمها يقال عرفا إنّه أعانه عليها. و كذا التاجر لا يتجر لو علم أنّ أحدا لا يشتري منه شيئا أو لا يبيعه، فللبيع و الشراء منه مدخلية في تحقق التجارة منه و لا يقال للبائعين و المشترين إنّهم معاونوه على التجارة، بخلاف ما لو باع أحد منه و اشترى منه لترغيبه في التجارة و تعلّمه لها فيقال: إنّه أعانه عليها.

و أمّا الثاني: فالظاهر أيضا اشتراطه، فلو فعل أحد عملا قد يترتب عليه أمر و يكون له مدخلية في تحقق ذلك الأمر و لم يترتّب عليه ذلك فلا يقال: إنّه أعانه على ذلك الأمر و إن كان مقصوده منه إعانة شخص آخر في تحقّق ذلك و حصوله.

و لكن لو كان ذلك الأمر الذي يريد المعاونة عليه إثما و محرما يكون ذلك الفعل الذي صدر من المعاون أيضا إثما و حراما، لما علم في العائدة السابقة، كما لو قلنا بكونه معاونة على الإثم، غاية الأمر اختلاف جهة الحرمة و لو قلنا بكون ذلك أيضا معاونة على المحرم يحرم بالاعتبارين. و على هذا فلو غرس أحد كرما بقصد عصر الخمر منه للخمارين فهو عاص في هذا الغرس آثم مطلقا، فلو أثمر و حصل منه الخمر و شرب يكون معاونة على الإثم أيضا و يكون حراما من هذه الجهة أيضا. و لو لم يتفق فيه ذلك حتّى قلع لا يكون معاونة على إثم و لكن يكون حراما لأجل قصده.

و أمّا الثالث و هو العلم بتحقق المعاون عليه و بترتبه على عمله فهو لا يشترط، فإنّه لو غرس كرما بقصد أنّه لو أراد أحد شرب الخمر كان حاضرا فأثمر و أخذ منه الخمر و شرب يكون عمله

معاونة على الإثم، و إن لم يؤخذ منه الخمر لا يكون

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 304

..........

______________________________

معاونة و إن أثم في غرسه بهذا القصد. فالمناط في الإثم و الحرمة مطلقا هو العمل مع القصد سواء ترتب عليه ما قصد ترتبه عليه أم لا. و سواء علم أنّه يتحقق أو فعله بقصد أنّه لعلّه يتحقق. و المناط في المعاونة على الإثم هو القصد و تحقق المعاون عليه معا، فلو تحقق يأثم بالاعتبارين.

و من هذا يظهر حال الرابع أيضا، أي اشتراط العلم بمدخلية عمله في تحقق المعاون عليه أم لا، و ذلك كما إذا علم أنّ زيدا الظالم يقتل اليوم عمرا ظلما فأرسل إليه سيفا لذلك مع عدم علمه بأنّه هل يحتاج إلى هذا السيف في قتله و له مدخلية في تحقق القتل أم لا؟ فإنّه يكون آثما في الإرسال قطعا، فإن اتفق احتياجه إليه و ترتب القتل عليه يكون معاونا على الإثم أيضا و إلّا فلا.

ثم إذا أحطت بما ذكرنا تعلم ما ذهب إليه الأكثر من جواز بيع العنب ممّن يعلم أنّه يجعله خمرا ما لم يتفق عليه و حرمته مع الاتفاق عليه.

أمّا الأوّل فلأنّ المقصود من البيع ليس جعل ذلك خمرا فلا يكون إعانة على الإثم.

و ذلك مثل حمل التاجر المتاع إلى بلد للتجارة مع علمه بأنّ العاشر يأخذ منه العشور.

و أمّا الثاني فلأنّ مع الاتفاق عليه أو شرطه يكون البائع بائعا بقصد الحرام فيكون آثما و إن لم يكن لأجل المعاونة على الإثم لو لم يتحقق جعله خمرا.

و من هذا يظهر عدم الحاجة إلى التأويلات البعيدة في الروايات المصرّحة بجواز بيع العنب لمن يعلم أنّه يجعله خمرا و الخشب لمن يجعله برابط

و إجارة السفينة لمن يحمل الخمر و الخنزير، بل تبقى على ظاهرها.

و من ذلك أيضا يظهر سرّ ما ورد في روايات كثيرة من جواز بيع المتنجّس من الذمّي و الميتة لمستحلّ الميتة مع كون الكفّار مكلّفين بالفروع، فإنّه لا ضير في ذلك لأنّ البائع لم يفعل حراما.» «1»

______________________________

(1) عوائد الأيّام/ 26، العائدة السابعة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 305

..........

______________________________

أقول: أمّا ما أشار إليه في أثناء كلامه و فصّله في العائدة السابقة من أنّ الإتيان بمقدمة الحرام بقصد التوصل بها إليه يكون محرما شرعا و إن لم يترتب عليها، فهو ممنوع و إلّا لزم كون الآتي بالحرام مع مقدماتها الكثيرة بقصده مرتكبا لمعاص كثيرة و مستحقا لعقوبات كثيرة، و هو كما ترى.

و بالجملة فكما لا نسلّم وجوب مقدمة الواجب وجوبا شرعيا لا نسلّم حرمة مقدمة الحرام أيضا حرمة شرعية و إن وقعت بقصد التوصّل بها إليه.

نعم لا ننكر كونه متجريا و لكنه غير مفهوم العصيان المنتزع عن مخالفة الأمر و النهي المولويين في قبال مفهوم الإطاعة. و القول بكون الإعانة على الإثم و العدوان بنفسها محرما شرعيا بمقتضى العقل و الآية و إن أوجب كون عمل المعين بنفسه محرما شرعيا غير عمل المعان لكن هذا العنوان لا ينطبق و لا يصدق على إتيان نفس المعان بمقدمات عمله كما لا يخفى. هذا. و لكن في خصوص باب الخمر يمكن القول بحرمة مقدمات تحصيلها و شربها أيضا، لما ورد من لعن غارسها و حاملها و المحمولة إليه، فتدبّر.

و أمّا ما ذكره الفاضل النراقي أخيرا من جعل الحكم بجواز بيع المتنجّس من الذمّي و الميتة من مستحلّها من باب عدم صدق الإعانة بدون القصد.

ففيه أنّ مقتضى ذلك جواز

بيعهما من فسّاق المسلمين أيضا مع عدم القصد و لا يقولون بذلك إذ يحكمون بحرمة بيعهما منهم و بطلانه لعدم ماليتهما شرعا، و إنّما حكموا بجواز بيعهما من مستحليهما بالروايات الخاصة الواردة فيهما، فراجع. و لعلّه من جهة أنّ المستحلّ لهما و إن كان في متن الواقع مكلّفا بالفروع لكنه في حال أكلهما لا يرى نفسه متهتكا و عاصيا بخلاف المؤمن الفاسق. و كيف كان فليس جواز بيعهما من مستحلّهما ناشئا عن عدم قصد البائع للانتفاع المحرم.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 306

التعرّض لخمسة أمور يمكن القول بدخالتها في صدق مفهوم الإعانة

______________________________

ثمّ إنّك رأيت أنّه «قده» تعرّض لأربعة أمور يمكن القول بدخالتها في صدق مفهوم الإعانة:

الأوّل: قصد موجد المقدمة لتحقق المعان عليه.

الثاني: تحققه و ترتبه عليها خارجا.

الثالث: العلم أو الظن بتحققه.

الرابع: العلم بمدخلية فعل المعين في تحققه.

و قد صرّح «قده» باعتبار الأوّلين في صدقها و عدم اعتبار الأخيرين.

و أضاف الأستاذ الإمام «قده» إلى الأمور الأربعة أمرا خامسا، و هو قصد المعان خصوص المنفعة المحرمة فعلا و أنّه هل يعتبر ذلك في صدق الإعانة أو يكفي في ذلك تخيّل المعين لقصده ذلك. «1»

فلنتعرّض للأمور الخمسة إجمالا:

هل القصد معتبر في مفهوم الإعانة أم لا؟

أمّا الأوّل فقد مرّ من المصنّف عن المحقّق الثاني و المحقّق السبزواري اعتبار قصد البائع في صدقها. و اختار الأستاذ الإمام «قده» أيضا ذلك:

قال: «فإنّ الظاهر أنّ إعانة شخص على شي ء عبارة عن مساعدته عليه و كونه ظهيرا للفاعل، و هو إنّما يصدق إذا ساعده في توصّله إلى ذلك الشي ء، و هو يتوقّف على قصده لذلك.

فمن أراد بناء مسجد فكلّ من أوجد مقدمة لأجل توصّله إلى ذلك المقصد

______________________________

(1) المكاسب المحرّمة للإمام الخميني «قده» 1/ 141 (ط. أخرى 1/ 210)، في النوع الثاني من القسم الثاني.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 307

..........

______________________________

يقال: ساعده عليه و أعانه على بناء المسجد.

و أمّا البائع للجصّ و الآجرّ و سائر ما يتوقف عليه البناء إذا كان بيعهم لمقاصدهم و بدواعي أنفسهم، فليس واحد منهم معينا و مساعدا على البناء و لو علموا أنّ الشراء لبنائه. نعم لو اختار أحدهم من بين سائر المبتاعين الباني للمسجد لتوصّله إليه كان مساعدا بوجه دون ما إذا لم يفرّق بينه و بين غيره لعدم قصده إلّا الوصول بمقصده.

فالبزّاز البائع لمقاصده ما يجعل سترا للكعبة ليس معينا على البرّ

و التقوى و لا البائع للعنب بمقصد نفسه ممن يجعله خمرا معين على الإثم و مساعد له فيه. بل لو أوجد ما يتوقف عليه مجّانا لغرض آخر غير توصّله إلى الموقوف لا يصدق أنّه أعانه و ساعده عليه.

و التشبّث ببعض الروايات و الآيات لنفي اعتباره مع أنّ الاستعمال فيها من قبيل الاستعارة و نحوها في غير محلّه.

و أمّا الصدق على إعطاء العصا و السكّين لمريد الظلم و القتل حينهما فلعلّه لعدم التفكيك في نظر العرف بين إعطائه في هذا الحال و قصد توصّله إلى مقصده.

و لهذا لو جهل بالواقعة لا يعدّ من المعاون على الظلم، فلو أعطاه العصا لقتل حيّة و استعمله في قتل إنسان لا يكون معينا على قتل الإنسان. و بالجملة إنّ الصدق العرفي في المثال المتقدم لعدم التفكيك عرفا، و لهذا لو اعتذر المعطي بعدم إعطائه للتوصّل إلى الظلم مع علمه بأنّه أراده لا يقبل منه.» «1»

أقول: قوله «قده»: «و التشبث ببعض الروايات» إشارة إلى ما يأتي الإشارة إليها ممّا استعمل فيها لفظ الإعانة و مشتقاتها فيما لا قصد فيه.

و قوله: «و أمّا الصدق على إعطاء العصا و السكّين» إشارة إلى ما يأتي عن المقدس الأردبيلي في آيات أحكامه.

و أمّا ما ذكره «قده» من المثال ببناء المسجد و غيره فيمكن أن يناقش بأنّ المتبادر من الإعانة على البرّ و الأمور الدينية في الاصطلاح الدارج بين المتشرّعة هو

______________________________

(1) نفس المصدر 1/ 142 (ط. أخرى 1/ 212).

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 308

و ما أبعد ما بين ما ذكره المعاصر و بين ما يظهر من الأكثر من عدم اعتبار القصد:

فعن المبسوط الاستدلال على وجوب بذل الطعام لمن يخاف تلفه بقوله صلى اللّه

عليه و آله: «من أعان على قتل مسلم و لو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه: آئس من رحمة اللّه.» (1)

______________________________

الإقدام فيها تبرعا و قربة إلى اللّه- تعالى-، و هذا اصطلاح خاصّ دارج بيننا، فلا يجوز أن يجعل ملاكا و مقياسا لمفهوم الإعانة بحسب اللغة و العرف العامّ، فلعلّها بحسب اللغة موضوعة لكلّ ماله دخل في تحقق الفعل من الغير، و الآية تحمل على المفهوم اللغوي و العرف العامّ. و حمل الاستعمالات الكثيرة الواردة في الروايات على الاستعارة و المجازيّة يحتاج إلى دليل متقن.

ثمّ إنّه «قده» بعد اختيار اعتبار القصد في مفهوم الإعانة استدرك على كلامه هذا فقال: «ثمّ إنّه على القول باعتبار القصد و تحقق الإثم في مفهومها لقائل أن يقول بإلقاء القيدين حسب نظر العرف و العقلاء بالمناسبات المغروسة في الأذهان، بأن يقال: إنّ الشارع الأقدس أراد بالنهي عن الإعانة على الإثم و العدوان قلع مادّة الفساد و المنع عن إشاعة الإثم و العدوان. و عليه لا فرق بين قصده إلى توصّل الظالم بعمله و عدمه مع علمه بصرفه في الإثم و العدوان. فالنهي عن الإعانة إنّما هو لحفظ غرضه الأقصى و هو القلع المذكور فيلقي العرف خصوصية قصد التوصّل.» «1»

أقول: فيرجع كلامه الأخير إلى أن القصد و إن أخذ في مفهوم الإعانة لغة لكن المنهي عنه شرعا في الحقيقة أعمّ من ذلك.

(1) راجع أطعمة المبسوط، و سنن ابن ماجة. و رواه في الوسائل عن أبي عبد اللّه عليه السّلام. «2»

______________________________

(1) نفس المصدر 1/ 143 (ط. أخرى 1/ 214).

(2) راجع المبسوط 6/ 285؛ و سنن ابن ماجة 2/ 874، كتاب الديات، الباب 1؛ و الوسائل 19/ 9، الباب 2 من أبواب

القصاص في النفس، الحديث 4.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 309

و قد استدلّ في التذكرة على حرمة بيع السّلاح من أعداء الدين بأنّ فيه إعانة على الظلم. (1)

و استدلّ المحقق الثاني على حرمة بيع العصير المتنجّس ممّن يستحلّه بأنّ فيه إعانة على الإثم. (2)

و قد استدلّ المحقق الأردبيلي على ما حكي عنه من القول بالحرمة في مسألتنا بأنّ فيه إعانة على الإثم. (3)

و قد قرّره على ذلك في الحدائق فقال: إنّه جيّد في حدّ ذاته لو سلم من المعارضة بأخبار الجواز. (4)

______________________________

(1) راجع لواحق كتاب البيع من التذكرة. «1»

(2) عن حاشيته على الإرشاد و لم يطبع.

(3) قال في مجمع الفائدة: «و لكن في الجواز تأمّل إذا علم أو ظنّ بعمل المبيع خمرا، فإنّه معاونة على الإثم و العدوان، و هو محرّم بالعقل و النقل كما مرّ.» «2»

(4) راجع كتاب التجارة من الحدائق. «3»

______________________________

(1) راجع التذكرة 1/ 852، كتاب البيع، المقصد الثامن، الفصل الأول، القسم الثاني من التجارة المحرّمة.

(2) مجمع الفائدة و البرهان 8/ 50، كتاب المتاجر، المقصد الأول، المطلب الأوّل.

(3) الحدائق 18/ 205، كتاب التجارة، المقدمة الثالثة، البحث الأوّل، المقام الرابع.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 310

و في الرياض- بعد ذكر الأخبار السّابقة الدالّة على الجواز- قال:

«و هذه النصوص و إن كثرت و اشتهرت و ظهرت دلالتها بل ربما كان بعضها صريحا لكن في مقابلتها للأصول و النصوص المعتضدة بالعقول إشكال.» انتهى. (1)

و الظاهر أنّ مراده بالأصول قاعدة حرمة الإعانة على الإثم، و من العقول حكم العقل بوجوب التوصّل إلى دفع المنكر مهما أمكن.

و يؤيد ما ذكروه من صدق الإعانة بدون القصد إطلاقها في غير واحد من الأخبار:

ففي النبوي المرويّ في الكافي عن

أبي عبد اللّه عليه السّلام: «من أكل الطّين فمات فقد أعان على نفسه.» (2)

______________________________

(1) راجع الرياض، أوائل كتاب التجارة. «1» و في حاشية الإيرواني:

«و يحتمل أن يكون مراده بالأصول أصالة الفساد أعني استصحاب عدم تحقق الأثر.» «2»

(2) رواه في الوسائل عن الكليني، عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: «قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: من أكل الطين.» الحديث. و رواه الشيخ أيضا عنه. «3» و السند معمول به عند القدماء من أصحابنا في الأبواب المختلفة، كما يظهر بالتتبع.

______________________________

(1) رياض المسائل 1/ 500، كتاب التجارة.

(2) حاشية المكاسب/ 16، ذيل قول المصنّف: و الظاهر أنّ مراده بالأصول ...

(3) الوسائل 16/ 393 (ط. أخرى 16/ 485)، الباب 58 من أبواب الأطعمة المحرّمة، الحديث 7؛ عن الكافي 6/ 266؛ و التهذيب 9/ 89.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 311

و في العلوي الوارد في الطين المرويّ أيضا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «فإن أكلته و متّ فقد أعنت على نفسك.» (1)

و يدلّ عليه غير واحد ممّا ورد في أعوان الظلمة، و سيأتي. (2)

______________________________

(1) رواه في الوسائل عن الكليني، عن عدّة من أصحابنا، عن سهل، عن ابن فضّال، عن ابن القدّاح، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: «قيل لأمير المؤمنين عليه السّلام في رجل يأكل الطين، فنهاه و قال: «لا تأكله فإن أكلته و متّ كنت قد أعنت على نفسك.» و رواه الشيخ أيضا عنه. «1» و السند لا بأس به إلّا من ناحية السهل، و قيل: الأمر فيه سهل.

(2) راجع الوسائل، الباب الاثنين و الاربعين من أبواب ما يكتسب به، فعن الكليني، عن عليّ

بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن بشير، عن ابن أبي يعفور قال: كنت عند أبي عبد اللّه عليه السّلام إذ دخل (فدخل خ. ل) عليه رجل من أصحابنا فقال له: جعلت فداك (أصلحك اللّه خ. ل) إنّه ربما أصاب الرجل منا الضيق أو الشدّة فيدعى إلى البناء يبنيه أو النهر يكريه، أو المسنّاة يصلحها فما تقول في ذلك؟ فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «ما أحبّ أني عقدت لهم عقدة أو وكيت لهم وكاء و أنّ لي ما بين لابتيها، لا و لا مدّة بقلم. إنّ أعوان الظلمة يوم القيامة في سرادق من نار حتّى يحكم اللّه بين العباد.» و رواه الشيخ أيضا بإسناده عن ابن أبي عمير مثله. «2»

و بشير مجهول، حاله غير واضح، «3» إلّا أن يعتمد على نقل ابن أبي عمير عنه بناء ما ذكره الشيخ في العدّة من أنّه ممن لا يروي و لا يرسل إلّا عن ثقة. «4»

______________________________

(1) نفس المصدر 16/ 393 (ط. أخرى 16/ 484)، و الباب، الحديث 6؛ عن الكافي 6/ 266؛ و التهذيب 9/ 90.

(2) نفس المصدر 12/ 129، الباب 42 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 6.

(3) راجع تنقيح المقال 1/ 175.

(4) راجع عدّة الأصول 1/ 386، فصل في ذكر القرائن التي تدلّ على صحّة أخبار الآحاد ....

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 312

و حكي أنّه سئل بعض الأكابر (1) و قيل له: إنّي رجل خيّاط أخيط للسلطان ثيابه فهل تراني داخلا بذلك في أعوان الظلمة؟ فقال له: المعين لهم من يبيعك الإبر و الخيوط، و أمّا أنت فمن الظلمة أنفسهم!

و قال المحقق الأردبيلي في آيات أحكامه في الكلام على الآية: «الظاهر

أنّ المراد الإعانة على المعاصي مع القصد أو على الوجه الذي «يصدق أنّها شخص لضرب مظلوم فيعطيه إيّاها، أو يطلب القلم لكتابة ظلم فيعطيه إيّاه و نحو ذلك مما يعدّ «معونة عرفا» [ذلك معاونة عرفا- الزبدة] فلا يصدق على التاجر الذي يتجر لتحصيل غرضه أنّه معاون للظالم العاشر في أخذ العشور، و لا على الحاجّ الذي يؤخذ منه «المال ظلما» [بعض المال في طريقه ظلما- الزبدة] و غير ذلك ممّا لا يحصى. فلا يعلم صدقها [على شراء من لم يحرم عليه شراء السلعة من الذي يحرم عليه البيع، و لا- الزبدة] على بيع العنب ممن يعمله خمرا أو الخشب ممّن يعمله صنما.

و لذا ورد في الروايات «الصحيحة» [الكثيرة الصحيحة- الزبدة] جوازه

______________________________

و ظاهر قوله عليه السّلام: «إنّ أعوان الظلمة ...» تطبيق هذا العنوان على المصاديق المسؤول عنها و هي لا تشتمل غالبا على القصد.

(1) عن شرح الشهيدي للمكاسب عن شرح النخبة لسبط الجزائري عن البهائي- رحمهم اللّه- أنّ المراد ببعض الأكابر: عبد اللّه بن المبارك، على ما نقله أبو حامد. «1» هذا. و لكن لا حجية في أمثال هذه النقليات.

________________________________________

نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في المكاسب المحرمة، 3 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، اول، 1415 ه ق

دراسات في المكاسب المحرمة؛ ج 2، ص: 312

______________________________

(1) راجع هداية الطالب للشهيدي «قده»/ 33.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 313

و عليه الأكثر، و نحو ذلك مما لا يحصى.» انتهى كلامه رفع مقامه. (1)

و لقد دقّق النظر، حيث لم يعلّق صدق الإعانة على القصد و لا أطلق القول بصدقه بدونه بل علّقه بالقصد أو بالصدق العرفي و إن لم يكن قصد.

______________________________

(1) راجع زبدة البيان، كتاب الحج. «1»

و ما ذكره

«قده» في هذا الكتاب يخالف ما مرّ منه في مجمع الفائدة من التأمّل في المسألة لكونها معاونة و هي محرمة بالعقل و النقل.

و كيف كان فهو «ره» أيضا ممن لا يعتبر القصد بخصوصه في صدق مفهوم المعاونة.

و بالجملة ففي قبال من مضى ممن يعتبر القصد في صدقها ترى كثيرا من الأصحاب لا يعتبرونه فيها، و هو الظاهر من بعض الأخبار.

و من هذا القبيل المحقّق الإيرواني في حاشيته، قال- بعد المناقشة في دلالة الآية على حرمة الإعانة كما يأتي بيانه-: «و بعد الغضّ عن هذا نقول: إنّ القصد قصدان: قصد بمعنى الداعي الباعث نحو الفعل فيكون حصول الحرام غاية لفعل المعين، و هذا هو الذي أراده المصنّف من القصد، و قصد بمعنى الإرادة و الاختيار فيكون الحرام ممّا اختاره المعين باختيار ما يعلم ترتّبه عليه.

و القصد بكلا معنييه غير معتبر في تحقق عنوان الإعانة، فإنّ الحقّ أنّ الإعانة عنوان واقعي غير دائر مدار القصد. فنفس الإتيان بمقدمات فعل الغير إعانة للغير على الفعل.

نعم مع عدم العلم بترتب الحرام لا يعلم كون الفعل إعانة على الحرام، فمن أجل ذلك لا يحرم، إذ كانت الشبهة تحريمية موضوعية، و هذا غير خروجه عن عنوان الإعانة واقعا.

______________________________

(1) راجع زبدة البيان/ 297، كتاب الحج، في تفسير الآية الثانية- آية التعاون- من النوع الثالث في أشياء من أحكام الحج.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 314

..........

______________________________

أمّا إذا علم بالترتب زالت الشبهة و تنجز حكم الإعانة ...

فإذا لا إشكال في حرمة إعطاء السيف و العصا بيد من يعلم أنّه يقتل به أو يضرب بها، و كذا حرمة بيع العنب لمن يعلم أنّه يعمله خمرا.

و أمّا تجارة التاجر و سير الحاجّ مع العلم بأخذ

العشّار و الظالم، و كذا عدم تحفظ المال مع العلم بحصول السرقة، فالكلّ خارج عن عنوان الإعانة. و ذلك لا من جهة عدم حصول القصد الغائي لما عرفت من عدم اعتبار هذا القصد و لا ما دون هذا القصد، بل من جهة أنّ الإعانة ليست هي مطلق إيجاد مقدمة فعل الغير، و إلّا حرم توليد الفاسق، و الإنسان عادة يعلم أنّ في نسله يحصل مرتكب ذنب فيلزمه أن يجتنب النكاح، و أيضا حرم بذل الطعام و الشراب لمن يعلم أنّه يرتكب الذنب.

بل الإعانة عبارة عن مساعدة الغير بالإتيان بالمقدّمات الفاعلية لفعله دون مطلق المقدمات الشاملة للمادية فضلا عن إيجاد نفس الفاعل أو حفظ حياته.

فتهيئة موضوع فعل الغير و الإتيان بالمفعول به لفعله ليس إعانة له على الحرام.

و من ذلك سير الحاجّ و تجارة التاجر و فعل ما يغتاب الشخص على فعله. نعم ربّما يحرم لا بعنوان الإعانة و من ذلك القيادة.» «1»

أقول: لا يخفى أنّ العناوين القصدية عبارة عن العناوين الاعتبارية التي لا واقعية لها وراء الاعتبار، و إنّما تنتزع عن الأفعال و الأمور الواقعية بالقصد و الاعتبار، فيكون تقوّمها بقصدها، نظير عنوان التعظيم المنتزع عن الانحناء الخاصّ بقصده، و من هذا القبيل الملكية و الزوجية و الحريّة و العبودية و نحوها من العناوين التي تحصل بالعقود و الإيقاعات، و كذلك عناوين العبادات المخترعة من الصلاة و الزكاة و نحوهما.

______________________________

(1) حاشية المكاسب/ 15، ذيل قول المصنّف: فقد يستدلّ على حرمة البيع ....

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 315

..........

______________________________

و الظاهر أنّ الإعانة- كما ذكروه- ليست من العناوين الاعتبارية بل من العناوين الواقعية غير المتقومة بالقصد و إن كان تنجز التكليف المتعلق بها متوقفا على العلم

و القصد كما في سائر موارد التكليف.

اللّهم إلا أنّ يقال: إنّ عدم كون الإعانة من العناوين القصدية، بمعنى عدم توقف صدقها على قصد عنوانها، لا ينافي توقف صدقها على فعل خاصّ بلحاظ غاية خاصّة على قصد هذه الغاية الخاصّة، إذ العرف يفرّق بين قصد الغاية الخاصّة و عدم قصدها، كما يفرّق بين العلم بترتبها و عدم العلم به، فتدبّر.

و أمّا ما ذكره من عدم صدق الإعانة على إيجاد ذات الفاعل و توليده فالظاهر صحّته أيضا و إلّا لكان خلق اللّه- تعالى- لأفراد الإنسان و إبقاؤه لهم و رزقهم إعانة منه على الكفر و الفسوق و العصيان.

و السرّ في ذلك أنّ الإعانة- كما مرّ- عبارة عن إيجاد مقدمة من مقدمات فعل الغير أعني المعان، فهي من العناوين الإضافية المتقوّمة بوجود المعين و المعان، فما لم يوجد ذات المعان لا مجال لتحقق الإعانة و صدقها.

و أمّا ما ذكره «ره» من اختصاص الإعانة بالإتيان بالمقدمات الفاعلية دون الماديّة فلم يظهر لي مراده و لا وجهه، إذ تهيئة موضوع فعل الغير إذا لم يكن إعانة فكيف حكم بحرمة بيع العنب لمن يعلم أنّه يجعله خمرا لأجل ذلك؟ و هل هذا إلّا تهيئة موضوع فعل الغير من دون أن يسلب الاختيار من الغير؟ بل يكون وقوع التخمير باختياره و إرادته، فوزانه من هذه الجهة وزان تجارة التاجر التي تكون موضوعا لأخذ العشر.

و في مصباح الفقاهة أيضا حكم بعدم اعتبار القصد في مفهوم الإعانة و لا العلم بترتب المعان عليه، بل يراد بها إيجاد مقدمة الفعل مع وقوع المعان عليه في الخارج.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 316

..........

______________________________

قال ما ملخّصه: «فإنّ صحة استعمال كلمة الإعانة و ما اقتطع منها في

فعل غير القاصد بل و غير الشاعر بلا عناية و علاقة تقتضي عدم اعتبار القصد و الإرادة في صدقها لغة. كقوله عليه السّلام في دعاء أبي حمزة الثمالي: «و أعانني عليها شقوتي.»

و قوله- تعالى-: وَ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلٰاةِ. و في بعض الروايات أنّ المراد بالصبر الصوم. و في أحاديث الفريقين: «من أكل الطين فمات فقد أعان على نفسه.» و في رواية أبي بصير: «فأعينونا على ذلك بورع و اجتهاد.» و قوله: «من أعان على قتل مؤمن و لو بشطر كلمة ...» و قوله عليه السّلام: «من تبسّم على وجه مبدع فقد أعان على هدم الإسلام.» و في رواية أبي هاشم الجعفري: «و رزقك العافية فأعانتك على الطاعة.» و في الصحيفة السجّادية في دعائه لطلب الحوائج:

«و اجعل ذلك عونا لي.» و أيضا يقال: «الصوم عون الفقير، و الثوب عون للإنسان، و سرت في الماء و أعانني الماء و الريح على السير، و أعانتني العصا على المشي، و كتبت باستعانة القلم.»

إلى غير ذلك من الاستعمالات الكثيرة الصحيحة. و دعوى كونها مجازات جزافية لعدم القرينة عليها ....

و أمّا مسير الحاجّ و متاجرة التاجر مع العلم بأخذ المكوس و الكمارك، و هكذا عدم التحفظ على المال مع العلم بحصول السرقة فكلّها داخل في عنوان الإعانة، فإنّه لا وجه لجعل أمثالها من قبيل الموضوع للإعانة و خروجها عن عنوانها كما زعمه شيخنا الأستاذ و المحقق الإيرواني، كما لا وجه لما ذهب إليه المصنّف من إخراجها عن عنوان الإعانة من حيث إنّ التاجر و الحاج غير قاصدين لتحقق المعان عليه، لما عرفت من عدم اعتبار القصد في صدقها.» «1»

أقول: فأخصّ الأقوال في بيان مفهوم الإعانة قول الفاضل النراقي،

حيث

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 176، في المسألة الثالثة من القسم الثاني من النوع الثاني.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 317

..........

______________________________

اعتبر في صدقها قصد الحرام و ترتّبه معا، و المحقق الثاني و من تبعه اعتبر القصد فقط، و في مصباح الفقاهة اعتبر الترتب فقط، و المحقق الإيرواني أيضا اعتبر الترتب فقط و لكنه فصّل بين المقدمات الفاعلية و بين المقدمات المادية الراجعة إلى تهيئة موضوع فعل الغير.

هذا كلّه في بيان اعتبار القصد و عدمه، و سنعود إليه ثانيا عند شرح ما يأتي من المصنّف في المتن.

هل يعتبر في صدق الإعانة ترتّب المعان عليه أم لا؟

هذا هو الأمر الثاني من الأمور الخمسة التي وقع البحث في اعتبارها في صدق الإعانة، و قد مرّ عن الفاضل النراقي اعتباره مضافا إلى القصد، و ناقشه المصنّف كما مرّ بقوله: «إنّ حقيقة الإعانة على الشي ء هو الفعل بقصد حصول الشي ء سواء حصل أم لا.»

و الظاهر اعتباره، إذ الإعانة- كما مرّ- عنوان إضافي متقوّم بالمعين و المعان و المعان عليه، فما لم يتحقّق المعان عليه خارجا في ظرفه لا تتحقق الإعانة.

فإن قلت: قوام الإعانة في ناحية المعان عليه بصورته الذهنية لا بوجوده الخارجي كسائر العلل الغائية.

قلت: نعم و لكن الصورة ملحوظة بما هي طريق إلى الخارج لا بنحو الموضوعية، فإذا لم يتحقق المعان عليه في ظرفه ظهر عدم تحقق الإعانة و إن صدق التجرّي إن كان المعان عليه أمرا محرما. و بالجملة فإذا لم يتحقق إثم خارجا ظهر عدم تحقق الإعانة على الإثم.

و قد مرّ أنّ في مصباح الفقاهة أيضا حكم باعتبار ترتب المعان عليه في صدقها:

قال: «الذي يوافقه الاعتبار و يساعد عليه الاستعمال هو تقييد مفهوم الإعانة

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 318

..........

______________________________

بحسب الوضع

بوقوع المعان عليه في الخارج و منع صدقها بدونه، و من هنا لو أراد شخص قتل غيره بزعم أنّه مصون الدّم و هيّأ له ثالث جميع مقدّمات الفعل ثم أعرض عنه مريد القتل أو قتله ثم بان أنّه مهدور الدم فإنّه لا يقال: إنّ الثالث أعان على الإثم بتهيئة مقدمات الفعل. كما لا تصدق الإعانة على التقوى إذا لم يتحقق المعان عليه في الخارج، كما إذا رأى شبحا يغرق فتوهم أنّه شخص مؤمن فأنقذه إعانة منه له على التقوى فبان أنّه خشبة ...» «1»

و للأستاذ الإمام «ره» في هذا المجال كلام طويل لا يخلو من فائدة، فلنتعرض له بتلخيص:

قال: «أمّا الأول (: وقوع الإثم في الخارج) فقد يقال باعتباره، لأنّ الظاهر من قوله: لٰا تَعٰاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ أي على تحققه، و هو لا يصدق إلّا معه، فإذا لم يتحقق خارجا و أوجد شخص بعض مقدمات عمله لا يقال: إنّه أعانه على إثمه، لعدم صدوره منه.

و بالجملة الإعانة على الإثم موقوفة على تحققه و إلّا يكون من توهّم الإعانة عليه لا نفسها و يكون تجريا لا إثما، و لهذا لو علم بعدم تحققه منه لا يكون إيجاد المقدمة إعانة على الإثم بلا شبهة.

و لكن يمكن أن يقال: المفهوم العرفي من الإعانة على الإثم هو إيجاد مقدمة إيجاد الإثم و إن لم يوجد، فمن أعطى سلّما لسارق بقصد توصّله إلى السرقة فقد أعانه على إيجادها، فلو حيل بينه و بين سرقته و لم تقع منه يصدق أنّ المعطي للسلم أعانه على إيجاد سرقته.

فلو كان تحقق السرقة دخيلا في الصدق فلا بدّ أن يقال: إنّ المعتبر في صدقها إيجاد المقدمة الموصلة، أو الالتزام بأنّ وجود السرقه من قبيل

الشرط المتأخّر

______________________________

(1) نفس المصدر 1/ 178.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 319

..........

______________________________

لصدقها، و كلاهما خلاف المتفاهم العرفي، أو يقال: لا يصدق الإعانة على الإثم حتّى وجدت السرقة، فالفعل المأتي به لتوصّل الغير إلى الحرام مراعى حتى يوجد ذو المقدمة و بعده يقال: إنّه أعانه عليه، و هو أيضا خلاف الواقع، أو يقال: إنّ صدقها فعلا باعتبار قيام الطريق العقلائي على وجود الإثم، و بعد التخلّف يكشف عن كونها تجريا لا إعانة، و هو أيضا غير صحيح لأنّ الطريق العقلائي عليه لا يتّفق إلّا أحيانا، و مع عدم القيام أيضا يقال: إنّه أعانه على إيجاده.

و إن شئت قلت: فرق بين كون الإثم بمعنى اسم المصدر و كونه بمعنى المصدر في صدق الإعانة، فعلى الأوّل يعتبر في صدقها الوجود بخلاف الثاني، و المقام من قبيل الثاني. لكن مع ذلك كلّه لا يخلو الصدق من خفاء و المسألة من غموض و إن كان الصدق أظهر عرفا.» «1»

أقول: اسم المصدر ينتزع من المصدر، فهما متساويان صدقا مختلفان بالاعتبار فقط، فالحدث كالإثم مثلا بلحاظ صدوره عن الفاعل و إضافته إليه يكون مصدرا و بلحاظه في نفسه يسمّى اسم المصدر، و على نظر الأستاذ يكون المصدر أعمّ من اسم المصدر، و قد عرفت أنّ الإعانة أمر إضافي متقوم بأطراف الإضافة و منها المعان عليه فلا تتحقق بدونه.

و على فرض القول بحرمة إتيان مقدمة الحرام بقصده حرمة شرعية فالمراد إتيان فاعل الحرام لمقدمة فعل نفسه لا إتيان الغير المقدمة من مقدمات فعل الآخر.

نعم على فرض كونها إعانة على الإثم و حرمتها شرعا تكون حرمتها من هذه الجهة، و لكن المفروض عدم تحققها لعدم تحقق أحد مقوماتها فلا يصدق عصيان حكم

الإعانة و إن صدق التجري بالنسبة إليه و هذا أمر آخر غير العصيان.

اللّهم إلّا أن يقال- كما يظهر من عبارة المتن الآتية أيضا-: إنّ تخمير العنب غاية تملك المشتري و واجديته للعنب لا بيع البائع له، و إنما الغاية لبيع البائع تملك

______________________________

(1) المكاسب المحرّمة 1/ 141 (ط. أخرى 1/ 211)، في النوع الثاني من القسم الثاني.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 320

..........

______________________________

المشتري له و هو أمر مقصود للبائع قهرا و متحقق جزما. فإذا فرض كون تملكه له حراما- كما إذا وقع منه بقصد التخمير و قلنا بحرمة الإتيان بمقدمة الحرام بقصد الحرام مطلقا أو في خصوص التخمير إذ لا يقلّ هذا عن غرسه للكرم بقصده- فلا محالة يكون البيع إعانة للمشتري على هذا التملك الحرام لكونه مقصودا و مترتبا عليه سواء ترتب عليه التخمير أم لا.

قال الأستاذ الإمام «ره»: «هذا كلّه في كلّي المسألة. و أمّا خصوص الخمر فالظاهر المتفاهم من المستفيضة الحاكية عن لعن الخمر و غارسها و حارسها و بائعها و مشتريها و ... أنّ اشتراء العنب للتخمير حرام، بل كل عمل يوصله إليه حرام، لا لحرمة المقدمة، فإنّ التحقيق عدم حرمتها، و لا لمبغوضية تلك الأمور بعناوينها، بل الظاهر أنّ التحريم نفسي سياسي لغاية قلع مادّة الفساد. فإذا كان الاشتراء للتخمير حراما سواء وصل المشتري إلى مقصوده أم لا، تكون الإعانة عليه حراما لكونها إعانة على الإثم بلا إشكال، لأنّ قصد البائع وصول المشتري إلى اشترائه الحرام، و الفرض تحقق الاشتراء أيضا. فبيع العنب ممن يعلم أنّه يجعله خمرا حرام و إعانة على الإثم ...» «1»

هل يعتبر علم البائع أو ظنّه بترتب الحرام أم لا؟

الأمر الثالث: هل يعتبر في صدق مفهوم الإعانة علم البائع أو ظنّه بترتب الحرام

أو يكفي في ذلك إتيانه بمقدمة الحرام برجاء ترتبه عليه؟ و قد مرّ عن العوائد عدم اعتباره و أنّه يكفي في صدقها القصد و الترتب خارجا و هو الأقوى. قال: «فإنّه لو غرس كرما بقصد أنّه لو أراد أحد شرب الخمر كان حاضرا فأثمر و أخذ منه الخمر و شرب يكون عمله معاونة على الإثم ...» إلى آخر ما ذكره، فراجع ما مرّ من كلامه.

______________________________

(1) نفس المصدر 1/ 144 (- ط. أخرى 1/ 215).

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 321

لكن أقول: لا شك في أنّه إذا لم يكن مقصود الفاعل من الفعل وصول الغير إلى مقصده و لا إلى مقدمة من مقدماته، بل يترتب عليه الوصول من دون قصد الفاعل فلا يسمّى إعانة، كما في تجارة التاجر بالنسبة إلى أخذ العشور و مسير الحاجّ بالنسبة إلى أخذ المال ظلما.

______________________________

هل يعتبر العلم بمدخلية عمله في تحقق المعان عليه؟

هذا هو الأمر الرابع مما احتمل اعتباره في صدق الإعانة، و قد مرّ عن العوائد أيضا عدم اعتباره، و هو الأقوى أيضا. قال: «و ذلك كما إذا علم أنّ زيدا الظالم يقتل اليوم عمرا ظلما فأرسل إليه سيفا لذلك مع عدم علمه بأنّه هل يحتاج إلى هذا السيف في قتله و له مدخلية في تحقق القتل أم لا؟ فإنّه يكون آثما في الإرسال قطعا، فإن اتفق احتياجه إليه و ترتب القتل عليه يكون معاونا على الإثم أيضا.»

أقول: حكمه بكونه آثما قطعا من جهة اختياره لحرمة مقدمة الحرام إذا أتى بها بقصده و قد مرّ منا الإشكال في ذلك.

هل يعتبر قصد المعان للإثم أو يكفي في ذلك تخيّل المعين لذلك؟

هذا هو الأمر الخامس مما احتمل اعتباره في صدق الإعانة، و الظاهر اعتباره، إذ على فرض عدم قصده له

لا إثم حتى يصدق الإعانة عليه. و مجرّد تخيّل الإنسان لذلك لا يوجب تحقق الإثم و صدق الإعانة عليه. نعم يكون البيع منه مع هذا التخيّل تجرّيا و لكنه غير الحرمة و العصيان. هذا. و لكن لا يلزم وقوع القصد من المعان حين الشراء، بل لو كان حينه قاصدا للخير و لكن نعلم أنّه سيقصد الإثم بعد ذلك و يوجده خارجا كفى ذلك في صدق الإعانة عليه و لا سيّما إذا وقع البيع منه بقصد ذلك، فتدبّر.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 322

و كذلك لا إشكال فيما إذا قصد الفاعل بفعله و دعاه إليه وصول الغير إلى مطلبه الخاصّ، فإنّه يقال: إنّه أعانه على ذلك المطلب فإن كان عدوانا مع علم المعين به صدق الإعانة على العدوان.

و إنّما الإشكال فيما إذا قصد الفاعل بفعله وصول الغير إلى مقدمة مشتركة بين المعصية و غيرها مع العلم بصرف الغير إيّاها إلى المعصية، كما إذا باعه العنب، فإنّ مقصود البائع تملك المشتري له و انتفاعه به، فهي إعانة له بالنسبة إلى أصل تملك العنب، و لذا لو فرض ورود النهي عن معاونة هذا المشتري الخاصّ في جميع أموره أو في خصوص تملك العنب حرم بيع العنب عليه مطلقا.

فمسألة بيع العنب ممن يعلم أنّه يجعله خمرا نظير إعطاء السيف أو العصا لمن يريد قتلا أو ضربا، حيث إنّ الغرض من الإعطاء هو ثبوته في يده و التمكن منه، كما أن الغرض من بيع العنب تملكه له، فكلّ من البيع و الإعطاء بالنسبة إلى أصل تملك الشخص و استقراره في يده إعانة، إلّا أن الإشكال في أنّ العلم بصرف ما حصل بإعانة البائع و المعطي في الحرام هل يوجب

صدق الإعانة على الحرام أم لا؟ فحاصل محلّ الكلام هو أنّ الإعانة على شرط الحرام مع العلم بصرفه في الحرام هل هي إعانة على الحرام أم لا؟

فظهر الفرق بين بيع العنب و بين تجارة التاجر و مسير الحاجّ، و أنّ الفرق بين إعطاء السوط للظالم و بين بيع العنب لا وجه له، و أنّ إعطاء

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 323

السوط إذا كان إعانة- كما اعترف به فيما تقدم من آيات الأحكام- كان بيع العنب كذلك كما اعترف به في شرح الإرشاد. (1)

تعقيب المصنف البحث فيما يعتبر في صدق مفهوم الإعانة على الإثم
[محصّل كلام المصنّف]

______________________________

(1) أقول: محصّل ما ذكره المصنّف «ره» أنّ وزان بيع العنب ممن يعلم أنّه يجعله خمرا و زان إعطاء العصا للظالم، إذ الداعي في كليهما تمكين الغير من مقدمة عمله، و أمّا في تجارة التاجر فإنّ داعيه إلى تجارته تحصيل المال لنفسه لا للعشّار و لم يقصد وصول العشّار إلى مقدمة فعله.

و لكن يمكن أن يناقش أوّلا بأنّ تجارة التاجر شرط لأخذ الظالم العشور، و المفروض كون هذا الشرط مقصودا للتاجر، فوزانها و زان تملك المشتري للعنب الذي هو مقدمة لعمله المحرّم، و في كليهما قصد ذات المقدمة لا بما أنّها مقدمة للعمل المحرّم.

و ثانيا- كما سيشير المصنّف أيضا- بأنّ الاعتبار في صدق المفاهيم ليس بالدّقة العقلية بل بالصدق العرفي، و العرف يفرّق بين مثال إعطاء العصا للظالم و بين بيع العنب لمن يخمّر، حيث إنّ الظالم قصد الضرب فعلا و تهيأ له، و اختياره و إن لم يسلب بعد لكن لمّا لم يكن بين قصده و بين تحقق الضرب منه حالة منتظرة إلّا وقوع العصا في يده صارت فائدة إعطاء العصا له في هذه الحالة منحصرة في الضرب بها و

يعدّ هذا سببا لوقوع الضرب و الجزء الأخير من علّته، و هذا بخلاف بيع العنب، لوقوع الفصل الزماني بين قصد المشتري للتخمير و بين وقوعه خارجا، و يمكن انصرافه عن قصده و صرف العنب في مصرف آخر حلال، فلا يعدّ البيع منه سببا لوقوع التخمير خارجا و لا سيّما إذا لم ينحصر البائع في هذا الشخص و أمكن تحصيل العنب من بائع آخر.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 324

فإذا بنينا على أنّ شرط الحرام حرام مع فعله توصّلا إلى الحرام- كما جزم به بعض (1)- دخل ما نحن فيه في الإعانة على المحرم، فيكون بيع العنب إعانة على تملك العنب المحرّم مع قصد التوصّل به إلى التخمير و إن لم يكن إعانة على نفس التخمير أو على شرب الخمر.

______________________________

و إلى ما ذكرنا أشار المحقق الأردبيلي في آيات أحكامه، حيث جعل صدق الإعانة مدار القصد أو الصدق العرفي. «1» و لو فرض انعكاس الأمر في المثالين انعكس الصدق العرفي أيضا كما لا يخفى.

ثمّ إنّه يمكن أن يقال بفرق العرف أيضا بين قصد الغاية المحرمة و عدم قصدها في صدق الإعانة، كما يفرّق بين صورة العلم بترتّب الغاية و عدمه، و إن منعنا ذلك سابقا. و عدم كون الإعانة من العناوين المتقوّمة بالقصد كالتعظيم و نحوه- على ما مرّ بيانه- لا ينافي توقف صدقها و انطباقها على فعل خاصّ بلحاظ غاية خاصّة على قصد هذه الغاية الخاصة و العلم بترتبها معا.

و بالجملة فرق بين قصد العنوان في العناوين القصدية الاعتبارية و بين قصد الغاية للفعل، فكون الإعانة من العناوين الواقعية غير المتقوّمة بقصد عنوانها لا ينافي توقف صدقها عرفا على فعل خاصّ بلحاظ غاية خاصّة على

قصد هذه الغاية. فافهم.

[حرمة مقدمة الحرام]

(1) و ممّن جزم بذلك الفاضل النراقي «ره» في العوائد، حيث عقد فيه لهذه المسألة عائدة مستقلّة و قال ما ملخّصه: «مقدمة الحرام إن كانت سببا له فهو حرام و معصية كما ثبت في الأصول كوضع النار على يد زيد بعد النهي عن إحراقها، و إن كانت شرطا له فإن لم يكن قصده من فعله التوصّل إلى المحرّم فلا شكّ في

______________________________

(1) راجع زبدة البيان/ 297، و قد مرّ في ص 312.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 325

..........

______________________________

عدم حرمته و عدم كونه معصية، كما إذا أوقد نارا في المثال أو اشترى فحما أو حطبا أو سافر إلى بلدة فيها من نهي من قتله أو فيها فاحشة أو خمر من غير أن يريد التوصل بها إلى الحرام. و إن قصد من فعله التوصل إلى المحرّم كأن يسافر إلى البلدة المذكورة لأجل قتل الرجل أو شرب الخمر و نحوهما فالظاهر كون هذا الفعل معصية و حراما، فلو سافر بهذا القصد و حصل له مانع عن فعل أصل المحرّم و لم يفعله يكون آثما بأصل المسافرة عاصيا به مستحقا للعقاب لأجله، بل لو فعل المحرّم يكون له العقاب و الإثم لأجلهما. و يتفرع عليه أيضا حرمة المعاونة على هذه المقدمة إذا فعلت بقصد التوصّل و إن لم يعلم أنّه يحصل له التوصّل و يتمّ ما قصده و أراده ...» «1» هذا.

و المصنّف ناقش في ذلك، و قد مرّ منا أيضا أنّ المحرّم شرعا ليس إلّا ما اشتمل على المفسدة و تعلّق به النهي المولوي النفسي دون مقدماته. فكما لا وجوب لمقدمة الواجب وجوبا شرعيا و إن أمر به إرشادا كما في قوله: «ادخل

السوق و اشتر اللحم» كذلك لا حرمة لمقدمة الحرام أيضا و إن كانت سببية و تعلق بها النهي صورة.

نعم لا نأبى عن تعلق النهي المولوي بها في بعض الموارد سياسة و احتياطا على ما قيل في غرس العنب للخمر و كتابة الربا و الشهادة عليه و نحو ذلك. كما لا ننكر كون الإتيان بها بقصد التوصّل إلى الحرام مبغوضا من باب التجري. و لكن هذا غير عنوان العصيان المنتزع عن مخالفة الأمر و النهي المولويين في قبال عنوان الإطاعة المنتزع عن موافقتهما. و الالتزام باستحقاق عقوبات كثيرة في ارتكاب حرام واحد مشتمل على مقدمات كثيرة أتي بها بقصده عجيب.

______________________________

(1) عوائد الأيّام/ 25، العائدة السادسة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 326

و إن شئت قلت: إنّ شراء العنب للتخمير حرام كغرس العنب لأجل ذلك، فالبائع إنّما يعين على الشراء المحرم. نعم لو لم يعلم أنّ الشراء لأجل التخمير لم يحرم، (1) و أن علم أنّه سيخمّر العنب بإرادة جديدة منه. و كذا الكلام في بائع الطعام على من يرتكب المعاصي فإنّه لو علم إرادته من الطعام المبيع التقوي به- عند التملك- على المعصية حرم البيع منه. و أمّا العلم بأنّه يحصل من هذا الطعام قوة على المعصية يتوصّل بها إليها فلا يوجب التحريم. هذا.

و لكن الحكم بحرمة الإتيان بشرط الحرام توصلا إليه قد يمنع، إلّا من حيث صدق التجرّي.

و البيع ليس إعانة عليه و إن كان إعانة على الشراء إلّا أنّه في نفسه ليس تجرّيا، فإنّ التجرّي يحصل بالفعل المتلبس بالقصد.

و توهّم أنّ الفعل مقدمة له فيحرم الإعانة مدفوع بأنّه لم يوجد قصد إلى التجرّي حتى يحرم و إلّا لزم التسلسل، فافهم. (2)

______________________________

(1) أي لم يحرم

البيع بعنوان الإعانة على الشراء المحرم، و إن أمكن القول بحرمته بعنوان الإعانة على التخمير المحرم المعلوم بناء على كفاية العلم في صدقها.

و لا يصح إرجاع الضمير إلى الشراء، إذ عدم علم البائع بكونه للتخمير لا يوجب عدم حرمته واقعا و عدم كونه له.

[شرط الحرام إن أتي به بقصد الحرام يكون حراما]

(2) كان محصّل كلام الفاضل النراقي «ره» أنّ شرط الحرام إن أتي به بقصد الحرام يكون حراما شرعا و إن لم يترتب عليه نفس الحرام. و مقتضى ذلك كون شراء العنب بقصد التخمير حراما و كون البيع إعانة على هذا الشراء المحرّم فيحرم لذلك لتحقق شرطيها من القصد و ترتّب المعان عليه.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 327

..........

______________________________

و محصّل كلام المصنّف في ردّه: منع حرمة شرط الحرام و إن أتي به بقصده، فلا يحرم الشراء في المثال إلّا من حيث التجرّي. و لو فرض حرمة التجرّي لم يكن البيع إعانة عليه بل على نفس الشراء، و هو بنفسه ليس تجريا و حراما بل بضميمة قصد التخمير به، إذ قد اعترف الفاضل بأنّ شرط الحرام ليس حراما إلّا مع قصد التوصّل به إلى الحرام.

و توهّم أنّ نفس الشراء و إن لم يكن تجريا لكنه مقدمة للتجري المحرّم فيكون محرما من جهة أنّه شرط للحرام و يكون البيع إعانة عليه، مدفوع بما أوضحه المحقق الشيرازي «ره» في حاشيته، و محصّله: «أنّ المفروض عدم كفاية المقدمية في التحريم ما لم تقع بقصد ترتب ذي المقدمة المحرم، فلا يحرم الشراء في المقام ما لم يقع بقصد وقوع الحرام أعني التجري الأوّل، فيكون تجريا ثانيا مقدمة للتجري الأوّل، فليزم التسلسل، إذ ننقل الكلام حينئذ إلى هذا التجري الثاني فيقال: إنّ البيع مقدمة لذات الشراء و

ذات الشراء فيه ليس محرما بل إذا وقع بقصد ترتب التجري الثاني عليه، فيحتاج إلى قصد ثالث و يحصل تجرّ ثالث و هكذا إلى ما لا نهاية له من القصود و التجريات و في كلّ مرتبة ليس البيع إعانة على الشراء بقصد التجري بل على ذات الشراء.» «1»

أقول: و قول المصنّف: «فافهم» لعلّه إشارة إلى أمرين:

الأوّل: أنّه على فرض صحة التسلسل و وقوع قصود و تجريات غير متناهية في الخارج لا ينفع الفاضل «ره»، إذ مع ذلك لا يصير ذات الشراء محرما حتى يحرم البيع بعنوان الإعانة عليه، و البيع مقدمة لذات الشراء لا للتجري المحرم.

الثاني: أنّه لا دليل على حرمة التجرّي شرعا و إن كان قبيحا عقلا. بل وزانه وزان العصيان و الإطاعة المنتزعتين عن مخالفة الأوامر و النواهي المولوية

______________________________

(1) حاشية المكاسب/ 50، ذيل قول المصنّف: ... مدفوع بأنّه لم يوجد قصد التجرّي.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 328

..........

______________________________

و موافقتهما، فهي عناوين واقعة في الرتبة المتأخرة عن الأوامر أو النواهي المولوية و منتزعة عنها، فلا يتعلق بأنفسها أمر أو نهي مولوي نفسي و إلّا لزم تسلسل الأوامر أو النواهي في كل مورد ورد فيه أمر أو نهي مولوي و وقوع إطاعات أو عصيانات أو تجريات غير متناهية و استحقاق عقوبات غير متناهية في مخالفة كلّ أمر أو نهي، و هذا باطل جزما. و على هذا فالأمر المتعلق بعنوان الإطاعة كالنهي المتعلق بالعصيان أو التجري إرشاديّ محض، فتدبّر.

و أورد المحقق الإيرواني «ره» في حاشيته في المقام على المصنّف بوجهين:

الأوّل: ما حاصله: «أنّه إن قلنا بأنّ الحرام في باب التجري هو قصد الشراء لم يكن البيع إعانة عليه، و أمّا إذا قلنا بأنّ الحرام

فيه هو نفس الفعل المتجرّى به أعني الشراء دون القصد، و القصد واسطة في الثبوت و لحوق الحكم بالفعل الخارجي كان البيع إعانة عليه فكان إعانة على الإثم.»

الثاني: ما حاصله: «أنّ القصد إنّما يعتبر في حرمة المقدمات الخارجية للحرام دون المقدمات الداخلية. فإذا حرم الفعل أعني الشراء بقصد التوصّل به إلى الحرام بعنوان التجرّي حرم نفس الفعل ضمنا بعين حرمة الكلّ لا بحرمة أخرى مقدميّة لتحتاج إلى قصد آخر حتى يلزم التسلسل في القصود.» «1»

أقول: محصّل كلامه يرجع إلى البحث في أنّ المحرّم في باب التجري- على القول بحرمته- هل هو القصد دون الفعل، أو الفعل فقط و القصد علّة محضة، أو هما معا؟

و الذي يسهّل الخطب ما مرّ من منع الحرمة الشرعية فيه رأسا و أنّ وزانه وزان العصيان و الإطاعة. و الالتزام بحرمة القصد فقط مخالف لما يستفاد من مذاق الشرع من عدم العقوبة على النيات و القصود ما لم تبرز في الخارج. كما أنّ

______________________________

(1) حاشية المكاسب/ 16، ذيل قول المصنّف: و البيع ليس إعانة ... و قوله: مدفوع بأنّه ....

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 329

نعم لو ورد النهي بالخصوص عن بعض شروط الحرام كالغرس للخمر (1) دخل الإعانة عليه في الإعانة على الإثم. كما أنّه لو استدللنا بفحوى ما دلّ على لعن الغارس على حرمة التملك للتخمير حرم الإعانة عليه أيضا بالبيع.

فتحصّل ممّا ذكرناه أنّ قصد الغير لفعل الحرام معتبر قطعا في حرمة فعل المعين، و أنّ محلّ الكلام هي الإعانة على شرط الحرام بقصد تحقق الشرط دون المشروط و أنّها هل تعدّ إعانة على المشروط فتحرم أم لا فلا تحرم ما لم يثبت حرمة الشرط من غير

جهة التجرّي.

______________________________

الالتزام بالحرمة الشرعية لذات الفعل الحلال بمجرد تعلق قصد الحرام به- كشرب الماء بقصد كونه خمرا- بعيد في الغاية. نعم لا إشكال في حكم العقل بقبحه بعنوان التجري على المولى.

فإن قلت: قد حكموا بأنّ ما حكم به العقل حكم به الشرع أيضا، فحكم العقل بالقبح يستتبع حكم الشرع بالحرمة.

قلت: ما حكموا به إنّما هو في العناوين الأوّلية و ملاكاتها من المصالح و المفاسد النفس الأمرية لا في العناوين الواقعة في الرتبة المتأخرة عن الأوامر و النواهي المولوية كعناوين الإطاعة و العصيان و التجرّي كما مرّ بيانه.

[لو ورد النهي عن بعض شروط الحرام]

(1) ففي الوسائل عن جابر عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «لعن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في الخمر عشرة: غارسها و حارسها و عاصرها و شاربها و ساقيها و حاملها و المحمولة إليه و بائعها و مشتريها و آكل ثمنها.» «1»

______________________________

(1) الوسائل 12/ 165، الباب 55 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4. و سنده:

الكليني، عن أبي علي الأشعري، عن محمّد بن سالم، عن أحمد بن النضر، عن عمرو بن شمر، عن جابر.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 330

..........

______________________________

و فيه في حديث المناهي: «أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نهى أن يشترى الخمر و أن يسقى الخمر، و قال: لعن اللّه الخمر و غارسها و عاصرها و شاربها و ساقيها و بائعها و مشتريها و آكل ثمنها و حاملها و المحمولة إليه.» «1» هذا.

و لكن- مضافا إلى ضعف الروايتين سندا و لا سيّما الأولى منهما بعمرو بن شمر «2»- يمكن المناقشة في دلالتهما، لعدم وضوح دلالة اللعن- و لا سيّما إذا تعلّق بالشخص- على النهي المولوي الشرعي. و هل لا يصحّ لعن

المتجري على المولى بفعل بعض مقدمات الحرام بقصد التوصل بها إليه؟ فتأمّل.

و قال المحقق الإيرواني «ره» في حاشيته: «ليت شعري ما الفرق بين أن يرد النهي بالخصوص عن الغرس لأجل التخمير و بين أن يحرم ذلك بعنوان التجرّي؟

فإنّ قصد الحرام معتبر في كلا التقديرين مع أن البيع ليس إعانة إلّا على ذات ما هو المقصود، فإن حرم ذات ما هو المقصود ضمنا بحرمته بما هو مقصود أو كان القصد واسطة في الثبوت دون العروض كان البيع إعانة على الحرام و إلّا فلا.» «3»

أقول: و يرد هذا الإشكال بعينه أيضا على ما ذكره المصنّف من الاستدلال لحرمة التملك للتخمير بفحوى ما دلّ على لعن الغارس، إذ التملك بنفسه ليس محرما بل إذا وقع بقصد التخمير.

و يرد أيضا على القول بحرمة المقدمة إذا أتى بها بقصد التوصل بها إلى ذيها كما في كلام الفاضل النراقي «ره»، فلم خصّ المصنف الإشكال بفرض التجرّي؟

و الحلّ في الجميع ما ذكره المحقق الإيرواني من الوجهين، فتدبّر.

______________________________

(1) نفس المصدر و الباب، الحديث 5. و سنده: الصدوق بإسناده عن شعيب بن واقد، عن الحسين بن زيد.

(2) راجع تنقيح المقال 2/ 332.

(3) حاشية المكاسب/ 16، ذيل قول المصنّف: نعم لو ورد النهي ....

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 331

و أنّ مجرّد بيع العنب ممن يعلم أنّه سيجعله خمرا من دون العلم بقصده ذلك من الشراء ليس محرما أصلا لا من جهة الشرط و لا من جهة المشروط. (1) و من ذلك يعلم ما فيما تقدم عن حاشية الإرشاد من أنّه لو كان بيع العنب ممن يعمله خمرا إعانة لزم المنع عن معاملة أكثر الناس. (2)

[اعتبار قصد المشتري حين الشراء في صدق الإعانة و عدمه]

______________________________

(1) هذا يصحّ على أساس اعتبار قصد المشتري

حين الشراء في صدق الإعانة، و لكن لأحد منع إطلاقه، إذ لو فرض علم البائع بأنّ المشتري سيقصد التخمير بعد ذلك و يخمّره و قصد البائع ببيعه تخميره الآتي و باعه لأجله فالظاهر صدق الإعانة حينئذ بلحاظ المشروط حتى على القول باعتبار قصد المعين في صدقها، اللّهم إلّا أن يقال: إنّ هذا خلاف المفروض، إذ المفروض صورة عدم قصد البائع بالنسبة إلى المشروط.

(2) من الإشكالات المهمّة الواردة على الاستدلال بآية التعاون في المقام ما مرّ عن المحقق الثاني في حاشية الإرشاد من أنّه لو تمّ هذا الاستدلال يمنع معاملة أكثر الناس. و قد مرّ بيان ذلك بأنّ السيرة قد استمرّت على بيع المطاعم و المشارب للكفّار في شهر رمضان، مع علمهم بأكلهم، و على بيعهم بساتين العنب و النخيل مع العلم بجعل بعضه خمرا، و على معاملة الملوك و الأمراء فيما يعلم صرفه في تقوية العساكر المساعدين لهم على الظلم و الباطل، و على إجارة الدور و المساكن و المراكب لهم، إلى غير ذلك.

فالمحقق الثاني تخلّص عن هذا الإشكال بأنّ المعتبر في صدق الإعانة قصد البائع ترتب الحرام، و البائع في هذه الموارد لم يقصد ذلك و إن علم به.

و قال المصنّف: إنّ قصد الغير لفعل الحرام معتبر قطعا في حرمة فعل المعين، فلو علم إرادته من الطعام المشترى التقوّي به على المعصية حرم البيع منه، و أمّا

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 332

..........

______________________________

العلم بأنّه يحصل له قوّة عليها فلا يوجب التحريم، فكلامه هنا ناظر إلى هذا التفصيل و أنّ البائع غالبا لا علم له بإرادة المشتري ذلك.

و لكن هنا شي ء و هو أنّ هذا الكلام من المصنّف كان على مبنى حرمة الشرط

المأتي به بقصد التوصّل إلى الحرام و قد منع ذلك هو إلّا من حيث صدق التجرّي.

و في مصباح الفقاهة أنكر حرمة الإعانة على الإثم و جعل استقرار هذه السيرة من أدلّة جوازها. «1»

و الأستاذ الإمام «ره» قال في مقام الجواب عن هذا الإشكال ما ملخّصه: «أمّا عن السيرة ببيع المطاعم للكفار و بيع العنب لهم فحكم العقل بالقبح و صدق الإعانة على الإثم فرع كون الإتيان بما ذكر إثما و عصيانا، و هو ممنوع- لا لكون الكفار غير مكلفين بالفروع فإنّ الحقّ أنّهم مكلفون و معاقبون عليها- بل لأنّ أكثرهم إلّا ما قلّ و ندر قاصرون لا مقصّرون، أمّا عوامّهم فظاهر، لعدم انقداح خلاف ما هم عليه من المذاهب في أذهانهم، بل هم قاطعون بصحّة مذهبهم و بطلان سائر المذاهب، نظير عوامّ المسلمين، و القاطع معذور في متابعة قطعه و لا يكون آثما و عاصيا. و أمّا غير عوامّهم فالغالب فيهم أنّه بواسطة التلقينات من أوّل الطفولية و النشو في محيط الكفر صاروا جازمين بمذاهبهم الباطلة، بحيث كلّ ما ورد على خلافها ردّوها بعقولهم المجبولة على خلاف الحقّ، فالعالم اليهودي و النصراني كالعالم المسلم لا يرى حجة الغير صحيحة و صار بطلانها كالضروري له.

نعم فيهم من يكون مقصّرا لو احتمل خلاف مذهبه و ترك النظر إلى حجته عنادا.

فتحصّل مما ذكر أنّ ما ادّعي من السيرة على بيع الطعام من الكفار خارج عن عنوان الإعانة على الإثم، لعدم الإثم و العصيان غالبا و عدم العلم- و لو إجمالا- بوجود مقصّر فيمن يشتري الطعام و غيره منهم. هذا مع غفلة جلّ أهل السوق

______________________________

(1) راجع مصباح الفقاهة 1/ 183، في المسألة الثالثة من القسم الثاني من النوع

الثاني.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 333

..........

______________________________

لو لا كلّهم عن هذا العلم الإجمالي.

و أمّا ما ذكر من السيرة على معاملة الملوك و الأمراء لو سلّم حصول العلم الإجمالي المذكور فلا تكشف تلك السيرة عن رضى الشارع بعد ما وردت الروايات الكثيرة في باب معونة الظالم، حيث يظهر منها حرمة إيجاد بعض مقدمات الظلم و لو لم يقصد البائع ذلك. و إن شئت قلت: إنّ السيرة ليست من المسلمين المبالين بالديانة أو قلت: إنّ تلك السيرة مردوعة بالروايات المستفيضة ...» «1»

أقول: ما ذكره «ره» من كون علماء اليهود و النصارى قاصرين غير آثمين و لا معاقبين لا يمكن المساعدة عليه، إذ كيف يمكن القول بكون علمائهم العائشين في البلاد الإسلامية و مجاورتها و لا سيما في أعصارنا قاصرين غير مطلعين مع بسط الإسلام و انتشار خبر ظهور نبينا بكتاب جديد و شريعة جديدة؟ بل العوامّ منهم أيضا إلّا ما قلّ و ندر قد سمعوا خبر الإسلام و الدين الجديد بعد المسيح عليه السّلام.

و الاحتمال في الأمور المهمة منجّز عقلا و فطرة، فكان عليهم البحث و الفحص.

و بالجملة فأكثرهم مقصرون إلّا من لم يقرع سمعه اسم الإسلام و المسلمين.

و الحقّ أن يجاب بأنّ الأمثلة التي ذكروها في المقام مختلفة متفاوتة بحسب نظر العرف و إن اشترك الجميع في إيجاد شرط من شروط الحرام. ففي بعضها لا تصدق عنوان الإعانة على الإثم عرفا كتجارة التاجر و سير الحجّاج و الزوّار مع علمهم بأخذ الضرائب و الكمارك منهم، حيث إنّ التاجر مثلا يكون مشتغلا بحرفته الحلال مقبلا على شأنه و لكن الظالم هو الذي يسدّ عليه الطريق قهرا فيضطرّ لدفع شرّه إلى إعطاء الضريبة له.

و من هذا القبيل

أيضا بناء المساجد و المدارس و المشاهد و نحوها و إقامة مجالس الإرشاد و الوعظ و التعزية بقصد القربة مع العلم بأنّه قد يحضر فيها من يتفكّه

______________________________

(1) المكاسب المحرّمة 1/ 123 (- ط. أخرى 1/ 199)، في النوع الثاني من القسم الثاني.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 334

..........

______________________________

بالكذب و النميمة و الغيبة و التهمة، أو ينظر إلى النساء الأجانب و نحو ذلك.

فالإقدام على هذه الخيرات و الأعمال الحسنة لا يعدّ إعانة على الإثم و إن وجد بها أرضيّته.

و من هذا القبيل أيضا بيع المطاعم و المشارب و سائر الحاجات العامّة في السّوق مع العلم إجمالا بأنّ الكفّار و الظالمين و العصاة أيضا في عداد المبتاعين لها و لا محالة يتقوون بها و يديمون الكفر و الظلم و المعاصي و لكن لا يقصد البائع ببيعه ذلك و لا المشتري التقوّي بها على الظلم و المعصية بل إدامة الحياة و التعيش على و زان سائر الناس.

و مثل هذا البيع لو كان قبيحا و حراما لقبح على اللّه- تعالى- أيضا خلقهم و إدامة حياتهم و رزقهم بأنواع رزقه مع علمه بأنّهم يتقوون بذلك و يعصونه، و الأحكام العقلية تنطبق على اللّه- تعالى- أيضا و لا تخصيص فيها.

و من هذا القبيل أيضا تمكين الزوجة لزوجها أداء لحقّه المشروع مع علمها بتركه لغسل الجنابة. إلى غير ذلك من الأمثلة.

و إنّما الإشكال فيما إذا كان في البين بيع و شراء أو أخذ و إعطاء و كان الشراء أو الأخذ بقصد الانتفاع المحرّم و البائع أيضا يعلم ذلك و مع ذلك يبيعه له أو يعطيه كبيع العنب لمن يشتريه للتخمير، و بيع المساكن و المراكب أو إجارتها بل و بيع

المطاعم و المشارب ممّن يعلم بإرادة الانتفاعات المحرّمة منها، و إن لم يكن البائع أو الموجر قاصدين لذلك، و بيع القرطاس ممن يعلم و لو إجمالا بصرف بعضه في نشر كتب الضلال، و إعطاء العصا أو السيف لمن يريد الضرب بها أو القتل ظلما.

و الإنصاف أنّ عنوان الإعانة على الإثم في أمثالها صادقة.

فهل يحكم في أمثال ذلك بالحرمة مطلقا و تطرح أخبار الجواز في المسألة بكثرتها بسبب كونها على خلاف حكم العقل، كما قيل،

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 335

[محلّ الكلام فيما يعدّ شرطا للمعصية الصادرة عن الغير]

ثمّ إنّ محلّ الكلام فيما يعدّ شرطا للمعصية الصادرة عن الغير. فما تقدّم من المبسوط من حرمة ترك بذل الطعام لخائف التلف مستندا إلى قوله عليه السّلام:

«من أعان على قتل مسلم ...» محلّ تأمّل، إلّا أن يريد الفحوى. (1)

______________________________

أو يحكم بالجواز مطلقا بلحاظ أخبار الجواز و يقال بعدم الدليل على حرمة الإعانة على الإثم، كما في مصباح الفقاهة.

أو يفصّل بين الأمور المهمّة كما إذا كان الحرام المقصود منه مثل الظلم و الفساد في الأرض أو صنع الأصنام و الصلبان و بين غيرها، كما يشهد بهذا التفصيل مكاتبة ابن أذينة السابقة المفصلة بين بيع الخشب ممن يتخذه برابط و بيعه ممّن يتخذه صلبانا كما مرّ.

أو يفصّل بين مثل إعطاء العصا أو السيف للظالم و بين بيع العنب لمن يقصد تخميره، كما مرّ بيانه و يظهر من المصنّف أيضا، حيث إنّه لا يكون بين قصد الظالم و بين تحقق الضرب منه حالة منتظرة إلّا وقوع العصا في يده و صارت فائدة إعطائها له في هذه الحالة منحصرة في الضرب بها بلا فصل، و هذا بخلاف بيع العنب لوقوع الفصل الزماني بين قصد المشتري للتخمير و بين

وقوعه خارجا.

أو يفصّل بين انحصار البائع أو المعطي في هذا الشخص و بين عدم انحصاره فيه فيقال بصدق الإعانة في الأوّل دون الثاني، إذ الحرام في هذه الصورة يتحقق لا محالة سواء باعه هذا الشخص أم لا فليس بيعه سببا لوقوع الحرام؟

في المسألة وجوه. و لعلّ التفصيل الأخير يقرب من الاعتبار. و يمكن حمل أخبار الجواز أيضا على هذه الصورة، إذ الغالب عدم الانحصار، و يبعد جدا بيع الأئمة عليهم السّلام تمرهم ممن يعلمون بتخميره مع انحصار البائع فيهم بحيث لو امتنعوا من البيع انتفى موضوع التخمير و ارتفع المنكر من رأس، فتدبّر.

(1) عبارة الشيخ في أطعمة المبسوط هكذا: «إذا اضطرّ الإنسان إلى طعام الغير ... كان على صاحب الطعام بذله، لقوله عليه السّلام: «من أعان على قتل مسلم و لو

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 336

و لذا استدلّ في المختلف بعد حكاية ذلك عن الشيخ بوجوب حفظ النفس مع القدرة و عدم الضرر. (1)

[التفصيل في شروط الحرام المعان عليه]

ثمّ إنّه يمكن التفصيل في شروط الحرام المعان عليه بين ما ينحصر فائدته و منفعته عرفا في المشروط المحرّم كحصول العصا في يد الظالم المستعير لها من غيره لضرب أحد، فإنّ ملكه للانتفاع به في هذا الزمان ينحصر فائدته عرفا في الضرب، و كذا من استعار كأسا ليشرب الخمر فيه، و بين ما لم يكن كذلك كتمليك الخمّار للعنب، فإنّ منفعة التمليك

______________________________

بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه: آئس من رحمة اللّه. و قالوا: هذا أولى.» «1»

فهو بنفسه لم يستدلّ بالحديث للمسألة بل أشار إلى استدلال القوم بفحواه لذلك، بتقريب أنّه لو كان إعانة شخص آخر في قتل مسلم حراما كان ترك بذل الطعام للمضطرّ أولى بالحرمة

لكونه مساوقا لكونه بنفسه قاتلا له، فلا محلّ للتأمّل في كلام الشيخ، و لعلّ المصنّف أخذ كلام الشيخ من المختلف و لم يراجع المبسوط.

و في حاشية المحقق الإيرواني: «لا قصور في شمول دليل حرمة قتل النفس لهذا حتى يحتاج إلى التشبث بفحوى دليل حرمة الإعانة.» «2»

أقول: يشكل الالتزام بكون مجرّد ترك بذل الطعام أو ترك إنقاذ الغريق مثلا قتلا بحيث يوجب القصاص، إذ يعتبر في القتل الاستناد إلى فعله.

(1) راجع أطعمة المختلف. «3»

______________________________

(1) المبسوط 6/ 285.

(2) حاشية المكاسب/ 16، ذيل قول المصنّف: إلّا أن يريد الفحوى.

(3) راجع المختلف/ 686، الفصل الخامس من كتاب الصيد و توابعه.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 337

و فائدته غير منحصرة عرفا في الخمر حتى عند الخمّار، فيعدّ الأوّل عرفا إعانة على المشروط المحرّم بخلاف الثاني. (1)

و لعلّ من جعل بيع السلاح من أعداء الدين حال قيام الحرب من المساعدة على المحرّم، و جوّز بيع العنب ممّن يعمله خمرا كالفاضلين في الشرائع و التذكرة و غيرهما نظر إلى ذلك. و كذلك المحقق الثاني، حيث منع من بيع العصير المتنجّس على مستحلّه مستندا إلى كونه إعانة على الإثم، و منع من كون بيع العنب ممن يعلم أنّه يجعله خمرا من الإعانة، فإنّ تملك المستحلّ للعصير منحصر فائدته عرفا عنده في الانتفاع به حال النجاسة، بخلاف تملك العنب.

______________________________

(1) قد مرّ بيان كلام المصنّف سابقا، و لا يريد أنّ في مثال إعطاء العصا صار الظالم مسلوب الاختيار بعد أخذ العصا و أنّ الفعل يستند إلى معطي العصا، بل يريد أنّ قصده للضرب و تهيئه له و عدم الفصل الزماني بين أخذ العصا و وقوع الضرب صارت سببا لحكم العرف بالسببية و كون إعطاء

العصا له بمنزلة الجزء الأخير من العلّة. هذا.

و في حاشية المحقق الشيرازي «ره»: «يمكن أن يقال: إنّ صدق الإعانة حينئذ من جهة ظهور الحال حينئذ في القصد إلى الحرام خصوصا، و العارية عبارة عن الإذن في الانتفاع المفروض انحصاره في المورد في الحرام، فيكون رخصة له في الضرب به و إلّا كان غاصبا في الضرب و هو خلاف فرض العارية. و بالجملة فيمكن في المقام دعوى ظهور حال المعير في الفرض في قصده إلى وقوع الانتفاع الذي قصده المستعير ... فلو علم عدم قصده إلى وقوع العمل المستعار له كما إذا كان إعطاؤه له لخوفه منه و إن لم يكن الخوف بالغا حدّا يباح معه المحذورات أو

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 338

و كيف كان فلو ثبت تميز موارد الإعانة من العرف فهو، و إلّا فالظاهر مدخلية قصد المعين. (1)

______________________________

استحياؤه منه أو نحو ذلك من الدواعي الأخر فلم يعلم حكم العرف بصدق الإعانة.» «1»

(1) ظاهر هذا الكلام من المصنّف عدم تعيّن القصد بل الملاك حكم العرف بالصدق أو ثبوت القصد، و ظاهره إرادة قصد المشروط أعني الغاية المحرّمة، فكلامه يوافق ما مرّ من المحقق الأردبيلي من اعتبار القصد أو الصدق العرفي.

______________________________

(1) حاشية المكاسب/ 50، ذيل قول المصنّف: ثم إنّه يمكن التفصيل في شروط الحرام.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 339

القواعد العامّة في المقام ثلاث:
اشارة

______________________________

قد مرّ أنّ في مسألة بيع العنب ممن يعلم أنّه يجعله خمرا قد يبحث بلحاظ الأخبار الخاصّة الواردة فيها، و قد يبحث بلحاظ القواعد العامّة أمّا الأخبار الخاصّة فقد كانت على طائفتين، و ذكرنا وجوه الجمع بينهما، فراجع.

و أمّا القواعد العامّة فهي في المقام ثلاث:

الأولى: حرمة الإعانة على الإثم شرعا بلحاظ آية

التعاون.

الثانية: حكم العقل بحرمة الإعانة على الحرام.

الثالثة: وجوب دفع المنكر كرفعه.

1- حرمة الإعانة على الإثم شرعا بلحاظ آية التعاون

أمّا الأولى فالبحث فيها تارة في بيان مفهوم الإعانة و ما يعتبر فيها، و أخرى في بيان حرمتها الشرعية بلحاظ الآية الشريفة.

و قد طال البحث في مفهوم الإعانة و كلمات المصنّف و الأصحاب فيها.

و الآن وصلت النوبة إلى البحث عن حرمتها الشرعية بلحاظ الآية، و قد شاع بينهم الاستدلال بها لذلك.

و لكن ناقش فيه المحقق الإيرواني «ره» في حاشيته بوجهين: قال ما هذا لفظه:

«يمكن أن يقال: إنّ آية لا تعاونوا مؤدّاها الحكم التنزيهي دون التحريمي، و ذلك بقرينة مقابلته بالأمر بالإعانة على البرّ و التقوى الذي ليس للإلزام قطعا،

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 340

..........

______________________________

كما يمكن أن يقال: إنّ قضية باب التفاعل هو الاجتماع على إتيان الإثم و العدوان كأن يجتمعوا على قتل النفوس و نهب الأموال لا إعانة الغير على إتيان المنكر على أن يكون الغير مستقلا في إتيان المنكر و هذا معينا له بالإتيان ببعض مقدماته.» «1»

و قد تبعه في إيراد المناقشة الثانية في مصباح الفقاهة، فراجع «2». هذا.

و لكنّ الأستاذ الإمام «ره» أورد على الوجهين بما ملخّصه: «يرد على الأوّل: أنّ قرينية بعض الفقرات لا تسلّم في المقام، لأنّ تناسب الحكم و الموضوع و حكم العقل شاهدان على أنّ النهي هنا للتحريم، مضافا إلى أنّ مقارنة الإثم للعدوان لا تبقى مجالا لحمل النهي على التنزيه، ضرورة حرمة العدوان و الظلم كما دلّت عليها الأخبار المستفيضة.

و على الثاني: أنّ ظاهر مادّة العون عرفا و بنصّ اللغويين: المساعدة على أمر، و المعين هو الظهير، و إنّما يصدق ذلك فيما إذا كان أحد أصيلا في أمر و أعانه عليه غيره، فيكون معنى الآية:

لا يكن بعضكم لبعض ظهيرا و معاونا.

و معنى تعاون المسلمين: أنّ كلا منهم يكون معينا لغيره لا أنّهم مجتمعون على أمر. ففي القاموس: «تعاونوا و اعتونوا: أعان بعضهم بعضا.» و نحوه في المنجد.

و كون التعاون فعل الاثنين لا يوجب خروج مادّته عن معناها.

فمعنى تعاون زيد و عمرو: أنّ كلّا منهما معين للآخر و ظهير له. فإذا هيّأ كلّ منهما مقدمات عمل الآخر يصدق أنّهما تعاونا. و بالجملة كون التفاعل بين الاثنين لا يلازم كونهما شريكا في إيجاد فعل شخصي. فالتعاون كالتكاذب و التراحم و التضامن مما هي فعل الاثنين من غير اشتراكهما في فعل شخصي.

______________________________

(1) حاشيه المكاسب/ 15، ذيل قول المصنّف: فقد يستدلّ على حرمة البيع ...

(2) راجع مصباح الفقاهة 1/ 180، في المسألة الثالثة من القسم الثاني من النوع الثاني.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 341

..........

______________________________

فالظاهر من الآية عدم جواز إعانة بعضهم بعضا في إثمه و عدوانه. و هو ظاهر المادّة و الهيئة. و لو قلنا بصدق التعاون و التعاضد على الاشتراك في عمل فلا شبهة في عدم اختصاصه به.» «1»

أقول: قد مرّ من المصنّف في المسألة الأولى من مسائل بيع العنب- أعني بيعه على أن يعمل خمرا- الاستدلال بكونه إعانة على الإثم، و مرّ منّا نقل مناقشتي المحقق الإيرواني و إيراد الأستاذ الإمام «ره» عليهما و قلنا هناك: «2» إنّ ظاهر العبارة الأخيرة من الأستاذ «ره» يشعر بنحو ترديد له في صدق مفهوم التعاون على الاشتراك في عمل واحد كرفع ثلاثة رجال لحجر واحد، مع أنّه القدر المتيقّن منه بلحاظ الهيئة، إذ الظاهر من اللفظ دخلهم في العمل في عرض واحد، و هو المتبادر من عبارة القاموس أيضا. و أمّا إعانة أحد

لآخر في عمل و إعانة الآخر له في عمل آخر فإطلاق التعاون عليه لا يخلو من مسامحة. و إن شئت قلت: إنّ المتبادر من تعاون الشخصين دخلهما في عمل واحد شخصي في عرض واحد.

هذا ما ذكرناه هناك، و نضيف هنا: أنّه إذا فرض كون الحرام إعانة أحد الشخصين لآخر في عمل و إعانة الآخر له في عمل آخر فهنا محرّمان مستقلان و لا دخل لأحدهما في حرمة الآخر و لا ارتباط بينهما، فلا يرى على هذا وجه لاستعمال باب التفاعل الظاهر في ارتباط الفعلين و كونهما محكومين بحرمة واحدة، بل كان المناسب أن يقال: لا يعين أحد منكم غيره في الإثم و العدوان.

فاستعمال باب التفاعل و تعلق نهي واحد به ظاهران في كون المنهي عنه اشتراكهما في عمل واحد قائم بشخصين أو بأشخاص، بحيث لا يتحقق غالبا إلّا بالاشتراك و التعاون، مثل أن يجتمع جماعة على قتل نفس محترمة أو هدم مسجد

______________________________

(1) المكاسب المحرّمة 1/ 131 (- ط. أخرى 1/ 197)، في النوع الثاني من القسم الثاني.

(2) راجع ص 234- 237 و ما بعدها من الكتاب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 342

..........

______________________________

بحيث يكون كلّ واحد منهم معينا للآخرين في إيجاد فعل محرّم، إذ الأفعال التي يترتب عليها المصالح أو المفاسد على نوعين: بعضها مما يقوم بشخص واحد و بعضها مما لا يتحقق غالبا إلّا بالشركة فيه.

فالمتبادر من الآية النهي عن التعاون في الأعمال الاشتراكية المشتملة على المفاسد و الأمر بالتعاون في الأعمال الاشتراكية المشتملة على المصالح. و كون مادّة العون ظاهرة في كون أحد الشخصين أصيلا و مستقلا و الآخر فرعا له ممنوع، بل الظاهر من هيئة التفاعل كون الشخصين متلبسين بالمادّة في

عرض واحد، فتدبّر.

و كيف كان فلا دلالة في الآية الشريفة على حرمة الإعانة على الإثم شرعا بمعنى كون أحد أصيلا في عمل و الآخر فرعا له موجدا لبعض مقدمات فعله، بل لم نجد بذلك دليلا من السنة أيضا.

نعم لا إشكال في حرمة الإعانة على الظلم لما ورد في ذلك من أخبار أهل البيت عليهم السّلام:

ففي صحيحة أبي حمزة عن علي بن الحسين عليه السّلام: «إيّاكم و صحبة العاصين و معونة الظالمين.» «1»

و في رواية السكوني، عن جعفر بن محمّد، عن آبائه عليهم السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إذا كان يوم القيامة نادى مناد: أين أعوان الظلمة و من لاق لهم دواتا، أو ربط كيسا، أو مدّ لهم مدّة قلم؟ فاحشروهم معهم» «2» إلى غير ذلك من الأخبار، فراجع.

هذا كلّه بلحاظ الكتاب و السنة، و سيأتي الاستدلال بحكم العقل في هذا المجال.

______________________________

(1) الوسائل 12/ 128، الباب 42 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

(2) نفس المصدر 12/ 130، و الباب، الحديث 11.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 343

..........

______________________________

2- حكم العقل بحرمة الإعانة على الإثم

الثانية من القواعد العامّة التي استدل بها للمقام و أمثاله حكم العقل بحرمة إعانة الغير على معصية المولى و إتيان مبغوضه.

و قد أوضح ذلك الأستاذ الإمام «ره»، و ملخّصه: «أنّه كما أنّ إتيان المنكر قبيح عقلا و كذا الأمر به و الإغراء نحوه فكذلك تهيئة أسبابه و إعانة فاعله قبيح عقلا موجب لاستحقاق العقوبة. و لهذا كانت القوانين العرفية متكفّلة لجعل الجزاء على معين الجرم. فلو أعان أحد السّارق على سرقته و ساعده في مقدماتها يكون مجرما في نظر العقل و العقلاء و في القوانين الجزائية. و قد ورد نظيره في الشرع

فيما لو أمسك أحد شخصا و قتله الآخر و نظر لهما ثالث: أنّ على القاتل القود، و على الممسك الحبس حتى يموت، و على الناظر تسميل عينيه.

و لا ينافي ذلك ما حرّرناه في الأصول من عدم حرمة مقدّمات الحرام، لأن ما ذكرناه هناك هو إنكار الملازمة بين حرمة الشي ء و حرمة مقدماته، و ما أثبتناه هنا هو إدراك العقل قبح العون على المعصية و الإثم، لا لحرمة المقدّمة بل لاستقلال العقل بقبح الإعانة على الحرام الصادر عن الغير، و هذا عنوان لا يصدق على إتيان الفاعل لمقدمات فعله.

و بالجملة العقل يرى فرقا بين الآتي بالجرم و بمقدماته و بين المساعد له في الجرم و لو بتهيئة أسبابه و مقدماته، فلا يكون الأوّل مجرما في إتيان المقدمات زائدا على إتيان الجرم، و أمّا الثاني فيكون مجرما في تهيئة المقدمات، فيكون في نظر العقل المساعد له كالشريك له في الجرم و إن تفاوتا في القبح.

و الظاهر عدم الفرق في القبح بين ما إذا كان بداعي توصّل الغير إلى الجرم و غيره، فإذا علم أنّ السّارق يريد السرقة و يريد ابتياع السّلّم لذلك يكون تسليم

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 344

..........

______________________________

السّلّم إليه قبيحا و إن لم يكن التسليم لذلك، و إن كان الأوّل أقبح. كما لا فرق في نظر العقل بين الإرادة الفعلية و العلم بتجدّدها لا سيّما إذا كان التسليم موجبا لتجدّدها. كما لا فرق بين وجود بائع آخر و عدمه و إن تفاوتت الموارد في القبح.

ثمّ إنّ حكم العقل ثابت في تلك الموارد و إن لم يصدق على بعضها عنوان الإعانة على الإثم و التعاون و نحو ذلك. و لعلّ ما ورد من النهي

عن التعاون على الإثم و العدوان أو معنونة الظالمين أو لعن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في الخمر غارسها و حارسها و ...، و كذا ما وردت من حرمة بيع المغنّيات و إجارة المساكن لبيع بعض المحرمات كلّها لذلك أو لنكتته.

ثمّ إنّه بعد إدراك العقل قبح ذلك لا يمكن تخصيص حكمه في مورد كما لا يمكن تجويز المعصية.» «1»

أقول: الإنصاف أنّ ما ذكره من الاستدلال بحكم العقل و العقلاء قويّ جدّا، و الأحكام العقلية- كما ذكر- لا تقبل الاستثناء و تجري على اللّه- تعالى- أيضا، و على هذا فيشكل القول بالحرمة في كلي المسألة و استثناء خصوص بيع العنب أو التمر للتخمير و الخشب لصنع البرابط بمقتضى النصوص الواردة.

و قال الأستاذ «ره» في مورد آخر ما ملخّصه: «و لا يصحّ القول بتقييد الآية و السنّة، لإباء العقول عن ذلك، فإنّ الالتزام بحرمة التعاون على كل إثم إلّا بيع التمر و العنب للتخمير بأن يقال: إنّ الإعانة على غرسها و حرسها و حملها و غير ذلك محرّمة سوى خصوص الاشتراء، أو الالتزام بأنّ الإعانة على كلّ إثم حرام إلّا على شرب الخمر الذي هو من أعظم المحرمات، كما ترى.

و توهّم أنّ الإعانة على الاشتراء المحرّم و هو ليس من المحرمات المهتم بها مدفوع بأنّ المفهوم من الآية و لو بمعونة حكم العقل أنّ مطلق تهيئة أسباب

______________________________

(1) المكاسب المحرّمة 1/ 129 (- ط. أخرى 1/ 194)، في النوع الثاني من القسم الثاني.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 345

..........

______________________________

الإثم منهي عنه ...» «1»

أقول: قد تعرّض في إرشاد الطالب لاستدلال الأستاذ «ره» في المقام بحكم العقل ثمّ أجاب عنه بما ملخّصه: «الظاهر أنّه اشتبه على

هذا القائل الجليل مسألة منع الغير عن المنكر الذي يريد فعله، و مسألة إعانة الغير على الحرام، حيث إنّ منع الغير عن المنكر مع التمكن منه واجب، و يمكن الاستدلال على وجوبه بحكم العقل باستحقاق الذمّ فيما إذا ترك المنع مع التمكن و لزوم منعه هو المراعى في القوانين الدارجة عند العقلاء، كما إذا باع سلّما مع علمه بأنّ السّارق يستعمله في سرقة الأموال، فلا يؤخذ على بيعه فيما إذا ثبت أنّه لم يكن يترتب على ترك بيعه ترك السرقة، كما إذا كان السّارق في بلد يباع في جميع أطرافه السّلّم، بحيث لو لم يبع هذا أخذ من غيره، و في مثل ذلك لا يؤخذ البائع ببيعه بل يقبل اعتذاره عن البيع بما ذكر- مع ثبوته-.

و ما ذكر من الرواية ناظر إلى هذه الجهة، و إلّا لم يكن وجه لتسميل عيني الناظر، فإنّه لم يرتكب الحرام و لم يساعد عليه، بل إنّما لم يمنع عن القتل، و على الجملة حكم العقل، و المراعى في بناء العقلاء هو التمكن من منع الغير عما يريده من الجرم و نلتزم بذلك و نقول بعدم جواز بيع الخشب أو العنب فيما لو لم يبعهما من المشتري المزبور لما يكون في الخارج خمر أو آلة قمار.

و أمّا إذا أحرز أنّه لو لم يبعه لاشترى من غيره فمثل ذلك يدخل في مسألة الإعانة على الحرام و لا دليل على قبح هذه الإعانة و لا على حرمتها إلّا في موارد الإعانة على الظلم.

و يظهر أيضا جوازها في غير ذلك المورد من بعض الروايات، كموثقة ابن فضّال، قال: كتبت إلى أبي الحسن الرضا عليه السّلام أسأله عن قوم عندنا يصلّون و لا يصومون

شهر رمضان، و ربما احتجت إليهم يحصدون لي، فإذا دعوتهم إلى

______________________________

(1) نفس المصدر 1/ 146 (- ط. أخرى 1/ 218).

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 346

..........

______________________________

الحصاد لم يجيبوني حتّى أطعمهم و هم يجدون من يطعمهم فيذهبون إليهم و يدعوني، و أنا أضيق من إطعامهم في شهر رمضان. فكتب بخطّه أعرفه: «أطعمهم.»

و حملها على صورة الاضطرار إلى الإطعام لا تساعده قرينة، فإنّ المذكور في الرواية احتياج المعطي إلى عملهم، و الحاجة غير الاضطرار الرافع للتكليف، كما أنّ حملها على صورة كونهم معذورين في الإفطار يدفعه إطلاق الجواب و عدم الاستفصال فيه عن ذلك.» «1»

أقول: كون حبس الممسك لغيره حتى يقتل و تسميل عيني الناظر من جهة عدم منعهما عن القتل فقط ممنوع، بل الظاهر كونهما بلحاظ تصدّي كلّ منهما لعمل وجودي دخيل في تحقق القتل الواقع. و ليس المقصود من الناظر في المسألة كلّ من اتفق صدفة نظره إلى القتل الواقع، بل من كان عينا للقاتل و ربيئة له كما في الجواهر «2»، حيث إنّ من يريد قتل غيره يرصد له غالبا جوّا خاليا من الأغيار، و ربما يستخدم لذلك من يراقبه و يحفظه من إشراف الغير.

و القول بأنّ المعين للجرم و الموجد لبعض مقدماته عالما مع عدم الانحصار و التمكن من غيره لا يستحق الذمّ عند العقلاء أيضا قابل للمنع. نعم الإعانة مع الانحصار أقبح كما صرّح به الأستاذ «ره» في كلامه.

و موثقة ابن فضال التي ذكرها تحمل على صورة الاحتياج و الاضطرار العرفي كما هو الظاهر منها، و مصلحة التسهيل على المكلّفين ربما توجب رفع القبح و المنع من بعض المحرمات، و نظيره في الشرع و كذا في الأحكام العرفية كثير،

فتدبّر.

______________________________

(1) إرشاد الطالب 1/ 88 و ما بعدها، عند قول المصنّف: و كيف كان فقد يستدلّ على حرمة البيع .... و الموثقة رواها في الوسائل 7/ 266، الباب 36 من أبواب أحكام شهر رمضان، الحديث 1.

(2) راجع الجواهر 42/ 47 (- ط. أخرى 42/ 43)، كتاب القصاص، الفصل الأوّل، المرتبة الرابعة من مراتب التسبيب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 347

[3- أنّ دفع المنكر كرفعه واجب]

نعم يمكن الاستدلال على حرمة بيع الشي ء ممّن يعلم أنّه يصرف المبيع في الحرام بأنّ دفع المنكر كرفعه واجب و لا يتمّ إلّا بترك البيع فيجب.

و إليه أشار المحقق الأردبيلي «ره» حيث استدل على حرمة بيع العنب في المسألة بعد عموم النهي عن الإعانة بأدلّة النهي عن المنكر. (1)

______________________________

3- أنّ دفع المنكر كرفعه واجب

(1) قال في مجمع الفائدة: «و مما يستبعد الجواز و عدم البأس- و هو الباعث على تأويل كلامهم-: أن يجوز للمسلم أن يحمل خمرا لأن يشرب و الخنزير لأن يأكله من لا يجوز له أكله، و يبيع الخشب و غيره ليصنع صنما و الدفوف و المزمار مع وجوب النهي عن المنكر، و إيجاب كسر الهياكل و عدم جواز الحفظ، و كسر آلات اللهو، و منع الشرب، و الحديث الدالّ على لعن حامل الخمر و عاصرها المذكور في الكافي و قد تقدّم، و كذا ما تقدّم في منع بيع السلاح لأعداء الدين، فإنّه يحرم للإعانة على الإثم و هو ظاهر.» «1» و الظاهر أنّ اللام في قوله: «لأن يشرب» و أمثاله لام العاقبة لا للغاية لئلّا يخرج عن مفروض البحث.

قال الأستاذ «ره» بعد نقل هذا الكلام: «و هو في كمال الإتقان، و حاصله دعوى منافاة أدلّة النهي عن المنكر المستفاد منها أنّ

سبب تشريعه- لو كان شرعيا- قلع مادّة الفساد و العصيان لا سيما مع تلك التأكيدات فيه و الاهتمام به من وجوبه بالقلب و اليد و اللسان، و دلالة بعض الأحاديث على إيعاد العذاب لطائفة من الأخيار لمداهنتهم أهل المعاصي و عدم الغضب لغضب اللّه- تعالى-، و النهي عن الرضا بفعل المعاصي، و الأمر بملاقاة أهلها بالوجوه المكفهرة و غيرها و كذا سائر ما ذكره، مع تجويز بيع التمر ممن يعلم أنّه يجعله خمرا، و الخشب ممن يجعله صنما و صليبا

______________________________

(1) مجمع الفائدة و البرهان 8/ 51، كتاب المتاجر، المقصد الأوّل، المطلب الأوّل، و راجع الكافي 6/ 398.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 348

..........

______________________________

أو آلة لهو و طرب. مع أنّ فيه إشاعة الفحشاء و المعاصي و ترويج الإثم و العصيان و ملازم للرضى بفعل العاصي.» «1»

ثم شرع الأستاذ «ره» في بيان أصل الاستدلال بالتعبير الذي ذكره المصنّف- و قد أدّى حقّه- فقال ما ملخصه: «أنّ دفع المنكر كرفعه واجب، بناء على أنّ وجوب النهي عن المنكر عقليّ كما صرّح به شيخنا الأعظم و حكى عن شيخ الطائفة و بعض كتب العلّامة و عن الشهيدين و الفاضل المقداد. و عن جمهور المتكلمين منهم المحقق الطوسي عدم وجوبه عقلا بل يجب شرعا، و الحقّ هو الأوّل لاستقلال العقل بوجوب منع تحقق معصية المولى و مبغوضه و قبح التواني عنه سواء في ذلك التوصل إلى النهي أو الأمور الأخر الممكنة. فكما تسالموا ظاهرا على وجوب المنع من تحقق ما هو مبغوض الوجود في الخارج سواء صدر من مكلّف أم لا، فكذلك يجب المنع من تحقق ما هو مبغوض صدوره من مكلّف فإنّ المناط في كليهما واحد، و

هو تحقق المبغوض، فإذا همّ حيوان بإراقة شي ء يكون إراقته مبغوضة للمولى و رأى العبد ذلك و تقاعد عن منعه يكون ذلك قبيحا منه، كذلك لو رأى مكلفا يأتي بما هو مبغوض لمولاه لاشتراكهما في المناط، و الحاكم به العقل.

فإن قلت: على هذا لا يمكن تجويز الشارع ترك النهي عن المنكر.

قلت: هو كذلك لو كان المبغوض فعليا و لم يكن في النهى مفسدة غالبة، فلو ورد منه تجويز الترك كشف عن مفسدة في النهى أو مصلحة في تركه. فدعوى السيّد الطباطبائي في تعليقته على المكاسب عدم قبح ترك النهي عن المنكر في غير محلّها.

ثم إنّ العقل لا يفرّق بين الرفع و الدفع بل لا معنى لوجوب الرفع في نظر العقل، فإنّ ما وقع لا ينقلب عما وقع عليه، فالواجب عقلا هو المنع عن وقوع المبغوض

______________________________

(1) المكاسب المحرّمة 1/ 135 (- ط. أخرى 1/ 203)، في النوع الثاني من القسم الثاني.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 349

..........

______________________________

سواء اشتغل به الفاعل أو همّ بالاشتغال به و كان في معرض التحقق، و ما يدرك العقل قبحه هو هذا المقدار لا التعجيز بنحو مطلق حتّى يشمل مثل ترك التجارة و الزراعة و النكاح إلى غير ذلك.

نعم الظاهر عدم الفرق بين إرادته الفعلية و ما علم بتجدّدها بعد البيع لا سيّما إذا كان البيع سببا له كما مرّ.

و لو بنينا على أنّ وجوب النهي عن المنكر شرعيّ فلا ينبغي الإشكال في شمول الأدلّة للدفع أيضا لو لم نقل بأنّ الواجب هو الدّفع، بل يرجع الرفع إليه حقيقة، فإنّ النهي عبارة عن الزجر عن إتيان المنكر و هو لا يتعلق بالموجود إلّا باعتبار ما لم يوجد، فإطلاق أدلّة النهي

عن المنكر شامل للزجر عن أصل التحقق و استمراره، بل لو فرض عدم إطلاق فيها من هذه الجهة و كان مصبّها النهي عن المنكر بعد اشتغال العامل به فلا شبهة في إلقاء العرف بمناسبة الحكم و الموضوع خصوصيّة التحقق.

فهل ترى من نفسك أنّه لو أخذ أحد كأس الخمر ليشربها بمرأى و منظر من المسلم يجوز التماسك عن النهي حتّى يشرب جرعة منها ثم وجب عليه النهي؟

و هل ترى عدم وجوب النهي عن المنكر في الدفعيات؟! و لعمري أنّ التشكيك فيه كالتشكيك في الواضحات.» «1»

أقول: محصّل كلامه «ره» أنّ العقل- الذي هو المحكّم في باب روابط الموالى و العبيد- كما يحكم بوجوب المنع عن تحقق ما هو مبغوض للمولى بنحو الإطلاق و إن صدر عن غير المكلّف، كما إذا أراد سبع افتراس ولد المولى مثلا، كذلك يحكم بوجوب المنع عن تحقق ما هو مبغوض الصدور عن المكلّفين، لاشتراكهما في الملاك أعني المبغوضية للمولى، من غير فرق في ذلك بين الرفع و الدفع. هذا

______________________________

(1) نفس المصدر 1/ 136 (- ط. أخرى 1/ 203).

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 350

..........

______________________________

على فرض كون وجوب النهي عن المنكر عقليا، و كذلك لو فرض كونه بحكم الشرع، إذ المستفاد من أدلّته وجوب قلع مادّة الفساد و العصيان بسبب النهي و غيره مثل كسر آلات اللهو و هياكل العبادة. و هذا ينافي تجويز الشرع لبيع العنب مثلا ممّن يعلم أنّه يجعله خمرا. هذا.

و قد أشار «ره» في أثناء كلامه إلى النزاع المعروف في باب الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر من أن وجوبهما عقليّ أو شرعي، و اختار هو كونه عقليا، و به صرّح المصنّف أيضا كما يأتي.

هل وجوب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر عقلي أو شرعي؟
[كلمات الأصحاب في المسألة]

قال الشيخ

في كتاب النهاية: «الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فرضان من فرائض الإسلام.» «1»

أقول: كلامه هذا ساكت عن هذه الجهة و إن كان المتبادر منه كون وجوبهما بحكم الشرع.

و قال في الاقتصاد: «الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر واجبان بلا خلاف بقول الأمّة و إن اختلفوا في أنّه هل يجبان عقلا أو سمعا: فقال الجمهور من المتكلّمين و الفقهاء و غيرهم: إنّهما يجبان سمعا، و إنّه ليس في العقل ما يدلّ على وجوبهما، و إنّما علمناه بدليل الإجماع من الأمّة و بآي من القرآن و كثير من الأخبار المتواترة، و هو الصحيح. و قيل: طريق وجوبهما هو العقل.

و الذي يدلّ على الأوّل: أنّه لو وجبا عقلا لكان في العقل دليل على وجوبهما، و قد سبرنا أدلّة العقل فلم نجد فيها ما يدلّ على وجوبهما ...

و يقوى في نفسي أنّهما يجبان عقلا: الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، لما فيه

______________________________

(1) النهاية/ 299، باب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ...

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 351

..........

______________________________

من اللطف ...» «1»

أقول: أنت ترى أنّ كلامه لا يخلو من تهافت. و الظاهر أنّ مقصوده من اللطف فعل ما يقرّب العبيد إلى الطاعة و يبعّدهم عن المعصية، فلطف اللّه- تعالى- بعباده يقتضي وجوبهما من قبله.

و على هذا فمرجع كلامه إلى كون وجوبهما من قبل الشارع غاية الأمر كشف ذلك بحكم العقل، و لم يرد كون وجوبهما بحكم العقل نفسه، نظير وجوب الإطاعة التي لا مجال فيها لحكم الشرع و إلّا لتسلسل كما قرّر في محلّه.

و في الجواهر بعد قول المصنّف بوجوبهما إجماعا قال: «من المسلمين بقسميه عليه، مضافا إلى ما تقدم من الكتاب و السنّة و غيره، بل

عن الشيخ و الفاضل و الشهيدين و المقداد أنّ العقل مما يستقلّ بذلك من غير حاجة إلى ورود الشرع، نعم هو مؤكّد.» «2»

و لكن المحقّق الطوسي «ره» منع من وجوبهما عقلا و حكم بكونه بحكم السّمع، قال في آخر التجريد: «و الأمر بالمعروف الواجب واجب و كذا النهى عن المنكر، و المندوب مندوب سمعا، و إلّا لزم خلاف الواقع أو الإخلال بحكمته- تعالى-.»

و قال العلّامة في شرحه: «... و هل يجبان سمعا أو عقلا؟ اختلف الناس في ذلك، فذهب قوم إلى أنّهما يجبان سمعا للقرآن و السنة و الإجماع، و آخرون ذهبوا إلى وجوبهما عقلا. و استدلّ المصنّف على إبطال الثاني بأنّهما لو وجبا عقلا لزم أحد الأمرين: و هو إمّا خلاف الواقع أو الإخلال بحكمة اللّه- تعالى- و التالي بقسميه باطل فالمقدّم مثله. بيان الشرطية أنّهما لو وجبا عقلا لوجبا على اللّه- تعالى-، فإنّ كل واجب عقليّ يجب على كلّ من حصل في حقّه وجه الوجوب، و لو وجبا عليه- تعالى- لكان إمّا فاعلا لهما فكان يلزم وقوع المعروف

______________________________

(1) الاقتصاد/ 146، فصل في الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.

(2) الجواهر 21/ 358، كتاب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 352

..........

______________________________

قطعا لأنّه- تعالى- يحمل المكلّفين عليه، و انتفاء المنكر قطعا لأنّه- تعالى- يمنع المكلّفين منه، و إمّا غير فاعل لهما فيكون مخلا بالواجب و ذلك محال لما ثبت من حكمته- تعالى-.» «1» و راجع في هذا المجال المنتهى أيضا. «2»

نكات ينبغي الإشارة إليها:
الأولى: الظاهر أنّ الغرض من إيجاب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر إيجاد الداعي

الغرض من إيجاب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر إيجاد الداعي و تقويته في نفوس المكلّفين لتوجههم إلى ما هو معروف و انزجارهم عما هو منكر حتّى

يصير المجتمع مجتمعا صالحا إسلاميّا رائجا فيه الخير و الصلاح و يقلّ فيه الشرّ و الفساد، و ليس الغرض من إيجابهما إلجاء الناس و سلب الاختيار منهم بحيث لا يتمكن أحد من إتيان المنكر، إذ الدار دار الاختيار و الاختبار، و الكمال المطلوب للإنسان لا يحصل إلّا إذا بقي فاعلا مختارا ينتخب بحسن نيته ما فيه الخير و الصلاح أو يختار بسوء سريرته ما فيه الشرّ و الفساد.

قال اللّه- تعالى- في سورة الملك: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَ الْحَيٰاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا «3» و البلاء لا يحصل إلّا مع الاختيار.

ففي الحقيقة يكون إيجابهما بداعي تقوية الأوامر و النواهي الأوّلية الواردة من قبل اللّه- تعالى- بوساطة الأنبياء و الأئمة عليهم السّلام، و كلاهما واقعان في طريق تقوية العقل و الفطرة.

و بالجملة فالغرض من إيجابهما جعل المحيط محيطا سالما إسلاميا يكثر فيه الاشتياق إلى الخير و الصلاح، لا إلجاء المكلّفين و سلب الاختبار منهم و حملهم بالإجبار على الطاعة و إن فرض قدرتنا على ذلك.

______________________________

(1) كشف المراد/ 428، المقصد السادس، المسألة السادسة عشرة.

(2) راجع المنتهى 2/ 993، كتاب الجهاد ...، المقصد التاسع، البحث الثاني.

(3) سورة الملك (67)، الآية 2.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 353

..........

______________________________

و على هذا فلو فرض وجوبهما على اللّه- تعالى- أيضا كان وجوبهما عليه أيضا على حدّ وجوبهما علينا لا على نحو الإلجاء و الحمل الإجبارى بحيث لا يتحقق معصية أصلا كما هو المستفاد من كلام المحقق الطوسي و بيان العلامة في شرحه و في المنتهى حيث يظهر منهما إرادة الحمل التكويني و المنع التكويني من ناحية اللّه- تعالى- لو وجبا عليه و عمل بهما.

و حينئذ فيمكن أن يقال: إنّ كيفية العمل بهذين

الواجبين تختلف حسب الموارد، فإذا فرض أنّ أحدا مبسوط اليد يريد الأمر و النهي بالنسبة إلى جماعة كثيرة منتشرة في البلاد المختلفة فطريق ذلك عند العقلاء إبلاغ أوامره و نواهيه بوساطة عمّاله المتفرقين في البلاد و أمرهم بنشرهما و إبلاغهما، لا تصدّي ذلك بنفسه و مباشرته، و على هذا فيمكن أن يقال: إنّ أمر اللّه- تعالى- عباده بالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و إيجاب ذلك عليهم في الحقيقة أمر اللّه بالمعروف و نهي اللّه عن المنكر، إذا لأمر بالأمر أمر و الأمر بالنهي نهي، و لا يجب تحقق ذلك بمباشرته و لا يلزم في تحقق الواجب أزيد من ذلك.

الثانية: أنّ ما يقال من أنّ الواجبات العقلية تجب على اللّه- تعالى

- أيضا لعدم تطرّق الاستثناء إليها لا كليّة له، إذ لا يجري هذا في باب الإطاعة و العصيان من العناوين المنتزعة في الرتبة المتأخرة عن الأوامر و النواهي، فإنّ وجوب الأوّل و حرمة الثاني و إن كانا بحكم العقل لكن موضوعهما العبيد في قبال الموالي، فلا يمكن أن يجريا على اللّه- تعالى- نفسه، إذ لا مولى له حتى يجب عليه إطاعته و يحرم عليه عصيانه.

الثالثة: لا يخفى أنّ أحكام العقل على قسمين:

بعضها مما يدركه العقل و يحكم به مستقلا و لا مجال لحكم الشرع فيها، كوجوب الإطاعة و حرمة العصيان، إذ لو كانا شرعيين لزم التسلسل أعني وجود أوامر

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 354

..........

______________________________

غير متناهية و وجوب إطاعات غير متناهية و حرمة عصيانات غير متناهية كما مرّ بيانه.

و بعض منها من أحكام الشرع حقيقة و لكن العقل كاشف عنها كما في المقام- على القول به-، إذ الظاهر أنّ وجوبهما شرعي و هما من فرائض الإسلام كما مرّ في عبارة النهاية و لكن طريق إثباتهما العقل بناء على ما قالوا من وجوبهما بقاعدة اللطف.

و معنى ذلك أنّه لو فرض عدم وجود آية أو رواية تدلّ على وجوبهما شرعا فالعقل يدرك وجوبهما من قبل الشارع لاقتضاء لطفه ذلك.

و بعبارة أخرى: القسم الأوّل من أحكام العقل في مقام الثبوت، و القسم الثاني من أحكامه في مقام الإثبات.

الرابعة: أنّ القائلين بوجوبهما عقلا ربما يستدلّون لذلك بقاعدة اللطف

- كما مرّ عن الشيخ في كتاب الاقتصاد و يأتي من المصنف أيضا- و إنّما يحكم العقل بوجوب اللطف في المقام- على القول به- لو لم يتحقق من ناحية الشارع في هذا المقام لطف و عناية، فلأحد أن يقول: إنّ إرساله للأنبياء و الرسل و إنزاله للكتب السماوية و أوامره الواردة في باب الإرشاد و التبليغ و ما ورد منه في الثواب و العقاب على الأعمال و أمثال ذلك كافية في تحقق ما يجب عليه- تعالى- من تقريب العبيد إلى الطاعة و تنفيرهم عن المعصية، فلا يحكم العقل بوجوب أزيد من ذلك.

و أمّا ما ذكره الأستاذ «ره» من أنّ العقل كما يحكم بوجوب المنع عن تحقق ما هو مبغوض المولى بنحو الإطلاق يحكم أيضا بوجوب المنع عن تحقق ما

هو مبغوض الصدور عن المكلّفين، فيمكن أن يناقش فيه بالفرق بينهما بما أشرنا إليه آنفا من أنّ الغرض من خلق الإنسان من نطفة أمشاج و إيداع قوى مختلفة فيه: رحمانية و شيطانية، و جعله ذا إرادة و اختيار هو ابتلاؤه و اختباره ليميز اللّه الخبيث من الطيب و يظهر بذلك قداسة أهل الطاعة و خباثة أهل الطغيان.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 355

..........

______________________________

و على هذا فاللازم أن توجد له أرضية السعادة و الشقاوة كليهما و أن يخلّى هو و طبعه المختار، و ليس وزانه وزان السبع الذي يريد افتراس ابن المولى مثلا- و هو غير مكلف- حيث يجب منعه بأيّ نحو كان.

نعم لو كان المنكر من الأمور المهمة التي علم إرادة الشارع منع تحققه في الخارج من غير نظر إلى من يصدر عنه مثل قتل النفوس مثلا حكم العقل حينئذ بوجوب رفعه و دفعه كيف ما كان، و لكن لا من باب النهي عن المنكر بل لكون الوجود مبغوضا للّه- تعالى- و إن صدر عن غير المكلف. هذا، و لكن لا يجب دفع ذلك أيضا من قبل اللّه- تعالى- تكوينا و مباشرة، إذ مباشرته بذلك توجب الإلجاء و سلب الاختيار عن الفاعل المختار، و هذا خلاف مصلحة نظام الاختيار و الاختبار.

و إذا وصل الكلام إلى هذا المقام فلأحد أن يفصّل و يقول- كما مرّ-: إن كان المنهي عنه من الأمور المهمة التي لا يرضى الشارع بوقوعها كيف ما كان، كتقوية الشرك و قتل النفوس و تقوية الظالمين، حرمت الإعانة عليها بأيّ نحو كان.

و أمّا إذا لم يكن كذلك فلا بأس بإيجاد بعض المقدمات البعيدة لها إذا لم يكن عن قصد و لم يسلب اختيار

الفاعل و لم تعدّ الفائدة المترتبة عليها منحصرة في الحرام عرفا كمثال إعطاء العصا للظالم، و لم تكن المقدمة منحصرة أيضا بنحو يعدّ إيجادها سببا لوقوع المعصية لا محالة بل عدّ وقوعها مستندا إلى المباشر فقط، و ذلك كبيع العنب ممن يعلم أنّه يجعله خمرا و الخشب ممن يعلم أنّه يتخذه برابط مع عدم الانحصار، كما دلّت على جواز ذلك الأخبار الصحيحة- كما مرّت- و قد عرفت أنّ الغالب في مواردها عدم الانحصار فليحمل إطلاقها عليه.

و قد دلّ على هذا التفصيل مكاتبة ابن أذنية السابقة، «1» حيث فصّل فيها بين بيع الخشب ممن يتخذه برابط و بيعه ممن يتخذه صلبانا.

______________________________

(1) راجع الوسائل 12/ 127، الباب 41 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1. و قد مرّت في ص 291.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 356

[ما يشهد لقاعدة حرمة الإعانة]

و يشهد بهذا ما ورد من أنّه لو لا أنّ بني أميّة وجدوا من يجبي لهم الصدقات و يشهد جماعتهم ما سلبوا حقّنا. (1)

دلّ على مذمّة الناس في فعل ما لو تركوه لم يتحقق المعصية من بني أميّة، فدلّ على ثبوت الذمّ لكلّ ما لو ترك لم يتحقق المعصية من الغير.

______________________________

و قد علّل في صحيحة الحلبي السابقة عدم البأس بقوله عليه السّلام: «تبيعه حلالا فيجعله حراما فأبعده اللّه و أسحقه.» «1» فيظهر منه أنّ ملاك عدم البأس استناد الحرام إلى المشتري دون البائع.

و على هذا فطرح النصوص الكثيرة الدالّة على الجواز- مع صحّة كثير منها- بسبب ما سمعته من التشكيك في كلمات الأعلام اجتهاد في قبال النصّ، و سهولة الشريعة و سماحتها تقتضي جواز الأخذ بها.

و غاية ما يمكن أن يقال: إنّ البائع يجب عليه نهي المشتري عما يقصده،

لا تركه لبيع ما هو محلّل بطبعه و لا ينحصر فائدته في الحرام، و لا تعجيز المشتري بعد كون المشتري مختارا و الدار دار الاختيار و الاختبار لا دار الإلجاء و التعجيز كما مرّ، فتأمّل.

ما يشهد لهذه القاعدة

(1) راجع الوسائل، و متن الحديث هكذا: فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «لو لا أنّ بني أميّة وجدوا من يكتب لهم و يجبي لهم الفي ء و يقاتل عنهم و يشهد جماعتهم لما سلبونا حقنا. الحديث.» «2»

و حكومة بني أميّة الموجبة لسلب حقّهم- عليهم السّلام- قائمة بأعمال الجميع، بحيث يكون عمل كلّ منهم جزء من علّتها، و دفعها يتحقق بترك الجميع أعمالهم،

______________________________

(1) نفس المصدر 12/ 169، الباب 59 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4. و قد مرّت في ص 289.

(2) نفس المصدر 12/ 144، الباب 47 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 357

..........

______________________________

فترك كلّ واحد منهم عمله دخيل في دفع حكومتهم، فيكون واجبا و العمل حراما و إن لم يكن بوحدته كافيا لدفعها. هذا.

و قد أجاب في مصباح الفقاهة عن الاستدلال بوجوب دفع المنكر بما ملخّصه: «أوّلا: بأنّ الاستدلال به هنا إنّما يتّجه إذا علم المعين بانحصار دفع الإثم بتركه الإعانة عليه، و أمّا مع الجهل بالحال أو العلم بوقوع الإثم بإعانة الغير فلا يتحقق مفهوم الدفع.

و ثانيا: بأنّ دفع المنكر إنّما يجب إذا كان ممّا اهتمّ الشارع بعدم وقوعه كقتل النفوس المحترمة و هتك الأعراض المحترمة و نهب الأموال المحترمة و هدم أساس الدين و كسر شوكة المسلمين و نحو ذلك. و أمّا في غير ما يهتم الشارع بعدمه من الأمور فلا دليل على وجوب دفع المنكر.

و أمّا أدلة

النهي عن المنكر فلا تدلّ على وجوب دفعه، فإنّ معنى دفعه تعجيز فاعله عن الإتيان به، و النهي عن المنكر ليس إلّا ردع الفاعل و زجره عنه على مراتبه المقرّرة في الشريعة، و لا وجه لقياس دفع المنكر على رفعه، إذ مرجع الرفع و إن كان بالتحليل إلى الدفع إلّا أنّ الأحكام الشرعية و موضوعاتها لا تبتني على التدقيقات العقلية. و لا شبهة في صدق رفع المنكر في العرف و الشرع على منع العاصي عن إتمام المعصية التي ارتكبها، بخلاف الدفع.

و أمّا رواية ابن أبي حمزة فمضافا إلى ضعف السند، فيها أنّها أجنبية عن رفع المنكر فضلا عن دفعه لاختصاصها بحرمة إعانة الظلمة.» «1»

أقول: أمّا ما ذكره أوّلا فيأتي البحث فيه عن قريب عند تعرّض المصنف له.

و أمّا ما ذكره من الفرق بين الرفع و الدفع فقد أجاب عنه الأستاذ «ره» بما مرّ من إلقاء الخصوصية بمناسبة الحكم و الموضوع، قال «ره»: «و هل ترى من نفسك أنّه

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 181 و ما بعدها، في المسألة الثالثة من القسم الثاني من النوع الثاني.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 358

و هذا و إن دلّ بظاهره على حرمة بيع العنب و لو ممّن يعلم أنّه سيجعله خمرا مع عدم قصد ذلك حين الشراء، إلّا أنّه لم يقم دليل على وجوب تعجيز من يعلم أنّه سيهمّ بالمعصية،

[الثابت من النقل و العقل من وجوب اللطف]

و إنما الثابت من النقل و العقل القاضي بوجوب اللطف (1) وجوب ردع من همّ بها و أشرف عليها

______________________________

لو أخذ أحد كأس الخمر ليشربها يجوز التماسك عن النهي حتى يشرب جرعة منها ثم وجب علينا النهي؟!» «1».

نعم الظاهر صحة ما ذكره من الفرق بين المعاصي المهمة التي لا

يرضى الشارع بوقوعها كيف ما كانت و بين غيرها، كما مرّ، ففي القسم الأوّل يجب السعي في عدم وقوعها و عدم استمرارها بأيّ نحو كان، لا من باب النهي عن المنكر بل لكونها مبغوضة للمولى و إن فرض صدورها عما لا تكليف له كالصغار و المجانين، بل و البهائم و الحوادث الطبيعية كالزلزلة و نحوها، بخلاف القسم الثاني. و لا فرق في كليهما بين الرفع و الدفع، و ليس الدفع مطلقا عبارة عن تعجيز الفاعل. و مورد رواية ابن أبي حمزة من الموارد المهمة.

و بالجملة ففي غير الموارد المهمة و إن وجب النهي عن المنكر رفعا و دفعا رعاية لمصلحة الفرد لكن لا إلى حدّ يصل إلى الإلجاء و التعجيز، و لذا لا يجوز فيها إعمال الضرب و الجرح أيضا إلّا بإذن الحاكم إذا رآهما صلاحا، و في الحقيقة يلاحظ فيهما مصلحة المجتمع لا مصلحة الفرد فقط.

(1) قد مرّ أنّ إرسال الأنبياء و إنزال الكتب السماوية و الأوامر الأوّلية و ما ورد في إيجاب الإرشاد و التبليغ و الثواب و العقاب على الأعمال كافية في تحقق اللطف منه تعالى- على فرض وجوبه-، و لا يحكم العقل بوجوب أزيد من ذلك عليه- تعالى-. «2»

______________________________

(1) راجع المكاسب المحرّمة 1/ 137 (- ط. أخرى 1/ 206)، في النوع الثاني من القسم الثاني.

(2) راجع ص 354، النكتة الرابعة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 359

بحيث لو لا الردع لفعلها و استمرّ عليها. (1)

ثمّ إنّ الاستدلال المذكور إنّما يحسن مع علم البائع بأنّه لو لم يبعه لم يحصل المعصية، لأنّه حينئذ قادر على الردع، أمّا لو لم يعلم ذلك أو علم بأنّه يحصل منه المعصية بفعل الغير فلا يتحقق الارتداع

بترك البيع، كمن يعلم عدم الانتهاء بنهيه عن المنكر.

و توهّم أنّ البيع حرام على كلّ أحد فلا يسوغ لهذا الشخص فعله معتذرا بأنّه لو تركه لفعله غيره، مدفوع بأنّ ذلك فيما كان محرما على كلّ واحد على سبيل الاستقلال فلا يجوز لواحد منهم الاعتذار بأنّ هذا الفعل واقع لا محالة و لو من غيري فلا ينفع تركي له.

أمّا إذا وجب على جماعة شي ء واحد كحمل ثقيل مثلا، بحيث يراد منهم الاجتماع عليه، فإذا علم واحد من حال الباقي عدم القيام به و الاتفاق معه في إيجاد الفعل كان قيامه بنفسه بذلك الفعل لغوا فلا يجب، و ما نحن فيه من هذا القبيل، فإنّ عدم تحقق المعصية من مشتري العنب موقوف على تحقق ترك البيع من كل بائع، فترك

______________________________

(1) كلام المصنّف هنا لا يخلو من تشويش، إذ لو دلّ ظاهر ما ذكره من وجوب الدفع على حرمة بيع العنب ممن يعلم أنّه سيجعله خمرا و لو لم يكن قاصدا حين الشراء فبأيّ ملاك رفع اليد عن هذا الظاهر؟ و أيّ فرق بين هذه الصورة و بين صورة القصد مع تحقق العلم في كليهما؟! و مجرّد كون الثاني أقرب إلى الوقوع بلحاظ تحقق الداعي و القصد فعلا لا يصير فارقا بعد ما كان الغرض من النهي رفعا و دفعا عدم تحقق المنكر في الخارج، فإمّا أن يقال بوجوب الدفع في كليهما مع العلم و إمّا أن ينكر الوجوب مطلقا.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 360

المجموع للبيع سبب واحد لترك المعصية، كما أنّ بيع واحد منهم على البدل شرط لتحققها. فإذا علم واحد منهم عدم اجتماع الباقي معه في تحصيل السبب، و المفروض أنّ قيامه منفردا لغو،

سقط وجوبه. (1)

______________________________

(1) أقول: محصّل ما يوجّه به كلام المصنّف في المقام هو الفرق بين الرفع و الدفع، إذ المقصود بالرفع رفع المنكر الموجود، واحدا كان أو متعددا، فالحكم فيه يتكثر بتكثّر وجودات الطبيعة.

و أمّا الدفع فالمتعلّق له نفس الطبيعة، و هي أمر واحد، إذ لا تكثر لها ما لم توجد. فالغرض من إيجاب دفعها منع تحققها في الخارج من رأس، فهو تكليف واحد توجّه إلى الجميع إمّا بنحو الوجوب المطلق- كما هو الظاهر من كلماتهم- بأن يجب على كلّ واحد منهم السّعي في منع تحقق الطبيعة بقيام نفسه و ببعث الآخرين أيضا نحوه حتى يحصل المنع المطلق، أو بنحو الوجوب المشروط بأن يجب على كلّ فرد منهم بشرط مساعدة غيره و قيامه.

و كيف كان فلو فرض العلم بعدم قيام غيره و عدم مساعدته في هذا الترك لم يجب عليه أيضا لكونه لغوا، فوزانه وزان إيجاب حمل جسم ثقيل لا يقدر على حمله إلّا جماعة، فلا يجب إقدام واحد منهم إلّا مع إقدام غيره و مساعدته.

و لو شكّ في مساعدة غيره فإن كان الوجوب بنحو الإطلاق وجب عليه الإقدام أيضا، إذ مع الشكّ في القدرة لا يجوز التواني في الامتثال بل يجب الإقدام حتى يثبت العجز، إذ الظاهر أنّ القدرة من شرائط تنجّز التكليف لا من شرائط أصله.

و إن كان الوجوب بنحو الوجوب المشروط رجع الشكّ إلى أصل التكليف، إذ الشكّ في الشرط شكّ في المشروط فتجري البراءة.

و المصنّف خصّ أوّلا- كما ترى- وجوب الدفع بصورة علم البائع بأنّه لو لم يبعه لم يحصل المعصية، و لكن يأتي عنه عن قريب قوله: «فإن علم أو ظنّ أو احتمل

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 361

..........

______________________________

قيام الغير بالترك وجب قيامه به.» «1» و مقتضى ذلك ثبوت التكليف مع الشك في إقدام الغير و مساعدته أيضا. هذا.

و في حاشية المحقق الإيرواني «ره» في ذيل قول المصنّف: «إنّما يحسن مع علم البائع» قال: «بل يحسن مع جهله، بل و مع علمه بحصول المعصية على كلّ حال، و ذلك أنّ النهي عن الطبيعة ينحلّ إلى نواهي متعددة حسب تعدّد أفراد تلك الطبيعة على سبيل العموم الاستغراقي، فكان كلّ فرد تحت نهي مستقل، و لذا يعاقب بارتكاب كل فرد بعقاب مستقل و إن ترك سائر ما عداه من الأفراد.

و على هذا فترك بيع فرد من العنب دفع لتخمير هذا الفرد و إن علم أنّ عنبا آخر يباع و يخمّر لو لم يبع هو هذا، فإذا تراكمت التروك بترك هذا للبيع و ترك ذاك له و هكذا، حصل ترك التخمير رأسا و كان كل ترك مقدمة لترك فرد من الحرام، لا أنّ مجموع التروك يكون مقدمة لترك حرام واحد حتى لا يجب على المكلّف ترك بيع ما عنده من العنب مع عدم العلم بترك سائر أرباب العنب للبيع أو العلم بعدم تركهم.

فليس المقام من قبيل رفع الحجر الثقيل كيلا يجب الإقدام مع عدم إقدام آخرين، بل يجب على كلّ مكلف ترك البيع دفعا لمنكر يحصل ببيعه سواء ترك المنكر رأسا بترك آخرين أولا.» «2»

و محصّل ما ذكره هذا المحقق: أنّ النهي المتعلق بالطبيعة ينحلّ إلى نواهي متعددة تارة بلحاظ تكثر المكلّف و أخرى بلحاظ تكثر موضوع الحكم، و على هذا فكلّ مصداق من العنب يتعلق به نهي التخمير مستقلا و يجب دفعه بترك بيع هذا العنب و إن علم أنّ عنبا آخر يباع و يخمّر

لو لم يبع هو هذا. فليس الواجب ترك واحد متعلق بالطبيعة و يكون مجموع التروك سببا واحدا له حتّى يصير نظير حمل الثقيل

______________________________

(1) يأتي في ص 369.

(2) حاشية المكاسب/ 16.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 362

..........

______________________________

المذكور في المتن، بل كلّ ترك واجب مستقل لكونه دفعا بالنسبة إلى فرد من المنكر. هذا.

و لكن الأستاذ الإمام «ره» سلك في المقام مسلكا آخر- و الظاهر صحة ما ذكره- و ملخّصه: «أن الشي ء قد يكون منكرا بوجوده السّاري كشرب الخمر و تخميرها، و أخرى بصرف وجوده المنطبق على أوّل فرد يوجد. و على الأوّل فالمشتري تارة يكون مريدا لتخمير كلّ عنب يشتريه، و أخرى لا يريد إلّا تخمير مصداق واحد، فهنا ثلاثة أقسام: ففي القسم الأوّل يحرم البيع منه مطلقا- على القول بوجوب الدفع-، لأن المفروض أنّ كلّ مصداق منكر مستقل يجب دفعه، و أمّا في القسمين الآخرين فهل يجوز البيع منه إلّا فيما انحصر البائع فيه لأنّ دفع المنكر حينئذ غير مقدور عليه لوجود بائع آخر أولا يجوز لأنّ الدفع يجب على كل واحد منهم و لو بمنع الغير عن المخالفة؟ و انتقاض الدفع الواجب غير جائز شرعا و عقلا لكونه مخالفة للأمر. و مجرّد بناء الغير على انتقاضه لا يكون عذرا، فالبائع الواحد و إن لا يقدر على الدفع المطلق لكنه قادر على انتقاض الحكم و مخالفته، و هذا كاف في تحقق المعصية منه.

فلو أمر المولى عبيده بدفع السّارق عن سرقة ماله و توقّف ذلك على بقاء الباب مسدودا، وجب على كل واحد منهم دفعه بحفظ سدّ الباب، فلو علم أحدهم أنّ بعض العبيد يريد فتح الباب و تمكين السارق لا يوجب ذلك البناء و

العلم بفتحه على أيّ حال أن يكون هذا معذورا في فتح الباب، فلو فتحه كان فاتح الباب عاصيا لا الباني على فتحه. و هذا بوجه نظير أن يتعذر قاتل مظلوم محقون الدّم بأنّه لا محالة كان مقتولا و لو لم يقتله لقتله غيره.

و تنظير المقام بحمل الجسم الثقيل غير وجيه، فإنّ الواجب هناك حمل الثقيل، و هو أمر بسيط لا يتحقق إلّا بالاجتماع، فمع العلم بعدم اجتماعهم يكون إقدامه لغوا.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 363

..........

______________________________

و أمّا في المقام فالواجب هو الدفع عن التخمير لأجل كونه مبغوضا، و كلّ واحد منهم مستقل في القدرة على نقضه، فمن نقضه أوّلا فهو عاص لا من بنى على نقضه. و إن شئت قلت: إنّ بيع الغير و تسليمه للعنب موجب لتعجيزه عن دفع المنكر لا بناءه عليه. فما لم يتحقق التسليم من الغير تكون القدرة على الدفع باقية له فإنّه قادر على إبقاء الدفع و نقضه ما دام الدفع لم ينتقض». «1» هذا.

و قال السيّد الطباطبائي اليزدي «ره» في الحاشية: «إذا كان المطلوب فعلا واحدا بسيطا من جماعة على وجه الاشتراك و لم يكن مقدورا إلّا للمجموع من حيث المجموع كدفع المنكر فيما نحن فيه و كحفظ النفس إذا لم يكن مقدورا إلّا لمجموع جماعة فلا يعقل أن يكون المطلوب الأوّلي من كلّ واحد منهم ذلك العنوان، بل لا بدّ أن يكون المطلوب من كلّ واحد مقدار ما هو مقدوره من مقدمات حصول ذلك الفعل، إذ لا بدّ في تعلق التكليف من وجود القدرة، و العنوان الذي يتوقف حصوله على اجتماع جماعة لا يكون مقدورا لواحد منهم، و المفروض أنّ كلّ واحد منهم مكلّف مستقل و مخاطب

كذلك فلا بدّ أن يمتاز ما هو المطلوب منه من غيره، فعلى هذا يكون ذلك العنوان البسيط غرضا في المطلوب لا مطلوبا أوّليا.

و هذا بخلاف ما إذا كان مقدورا لكلّ منهم، فإنّه لا بأس بتعلّق التكليف به حينئذ، بناء على المختار من أنّ الأمر بالمسبّب ليس أمرا بالسبب و أنّ المقدور بالواسطة مقدور.

و الغرض أنّ الإشكال في المقام أنّ ذلك العنوان ليس مقدورا بالواسطة أيضا لأنّ كونه مقدورا للجميع لا يكفي في تعلق الطلب بكلّ واحد، و من المعلوم أنّ كلّ واحد مكلّف على حياله و في حدّ نفسه فلا يمكن إلّا بالتزام أنّ تكليفه إيجاد ما هو مقدور له من المقدمات.

______________________________

(1) المكاسب المحرّمة 1/ 137 (- ط. أخرى 1/ 206)، في النوع الثاني من القسم الثاني.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 364

..........

______________________________

و مما ذكرنا ظهر أنّه لا يعقل أن يكون المطلوب منه المقدّمة بشرط كونها موصلة، أي مع وصف الإيصال الفعلي، لأنّه أيضا ليس داخلا تحت قدرة كلّ واحد ...

فالمقدمة المطلوبة من كلّ منهم واجب نفسيّ أوّلي بالنسبة إليه و ليست واجبة من باب المقدمة لأنّه فرع وجوب ذي المقدمة عليه، و المفروض عدم كونه مقدورا له، فيكون ذلك العنوان غرضا في المطلوب لا مطلوبا أوّليا ... فلا بدّ في مقامنا هذا من أن يكون الواجب على كلّ من المكلفين ترك بيع العنب لا عنوان دفع المنكر لعدم كونه فعلا مقدورا له ...

فإن قلت: هب أنّ الواجب على كلّ واحد ما يتمشّى منه من المقدمات إلّا أنّ إيجاد المقدمة مع عدم حصول الغرض لغو فيسقط حينئذ الوجوب بالعلم باللغوية.

قلت: نمنع أنّ اللغوية مسقطة للطلب، نعم إذا فرض تحقق العصيان من البعض يسقط الخطاب

عن البقية، ففي مسألة بيع العنب لا يجوز البيع إلّا بعد عصيان غيره بالبيع، و إلّا فالبناء على العصيان غير مسقط للخطاب ...» «1»

أقول: لا يخفى أنّ ما ذكره أخيرا يناقض ما بنى عليه من كون كلّ مقدمة بنفسها واجبا نفسيا مستقلا على كلّ واحد، إذ عصيان بعضهم لا يوجب تخلف غيره عما وجب عليه، حيث إنّ الغرض بمنزلة الحكمة لا العلّة، و تخلّف الحكمة لا يوجب سقوط الحكم.

و الأستاذ الإمام «ره» أطال الكلام في ردّ كلام السيّد في المقام. «2» و محصّل ما ذكره أمران:

الأوّل: أنّ أوامر الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر لا تفي بما ذكره بعد ما كان وجوبهما شرعيا لا عقليا كما هو مذهبه. و ذلك لأنّ تلك الأوامر كغيرها في سائر

______________________________

(1) حاشية المكاسب/ 8، ذيل قول المصنّف: مدفوع بأنّ ذلك ...

(2) راجع المكاسب المحرّمة 1/ 139 (- ط. أخرى 1/ 209) في النوع الثاني من القسم الثاني

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 365

..........

______________________________

الأبواب متوجّهة إلى آحاد المكلّفين لا إلى مجموعهم، و لا يعقل أن تكون متوجهة إلى الآحاد مستقلا و إلى المجموع بلفظ واحد، فحينئذ يكون إيجاب الدفع على طبق الرفع أيضا متوجها إلى الآحاد فلم يكن أمر متوجها إلى المجموع حتّى يقال:

لا بدّ من إرجاعه إلى السبب.

الثاني: أنّ متعلق الأوامر هو الرفع المفهوم منها الدفع أو الدفع أيضا و لا يكون الدفع غير مقدور مطلقا. و كونه في بعض الأحيان غير مقدور لا يوجب إرجاع الأمر إلى السبب بالنسبة إليه حتى يكون مفاد الأمر الواحد في المقدور شي ء و في غيره شي ء آخر. و لو فرض فهم ذلك من الأوامر بإلقاء الخصوصية فلا يلزم منه الإرجاع إلى

السبب، فإنّ الأمر كما يتعلق بآحاد المكلفين يمكن أن يتعلق بمجموع منهم، فيكون الأمر واحدا و المأمور به واحدا هو المجموع. و يشترط فيه عقلا قدرة المجموع لا الآحاد فتكون الطاعة بإيجاد المجموع و العصيان بتركهم أو ترك بعضهم.

أقول: لا يخفى أنّ الأحكام الشرعية تابعة للمصالح و المفاسد الكامنة في الأفعال، و على هذا فتصير الواجبات على قسمين:

إذ قد تكون المصلحة في صدور الفعل عن الفاعل بقيد صدوره عن نفسه كالصلاة مثلا، حيث إنّ الغرض منها قرب الفاعل إلى مولاه.

و قد تكون المصلحة في أصل تحقق الفعل في الخارج بلا دخل لصدوره عن فاعل خاصّ في ذلك كالأمور المرتبطة بتجهيز الموتى من المسلمين و كالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر رفعا و دفعا و حفظ ثغور المسلمين و الدفاع عن المظلومين و نحو ذلك.

و يسمّى القسم الأوّل من الواجبات بالواجبات العينية، و القسم الثاني بالواجبات الكفائية.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 366

..........

______________________________

و القسم الثاني أيضا على صنفين: إذ بعضها مما يقدر كلّ فرد على إيجاده، و بعضها مما لا يقدر البعض على إيجاده إلّا بمساعدة غيره معه. و المطلوب في كلا الصنفين أصل تحقق المطلوب.

و حينئذ فربما يتخيل أن المأمور و المكلّف في الواجبات العينية كل شخص و المأمور في الواجبات الكفائية مجموع المكلفين، و لكن بإتيان من به الكفاية تسقط عن الباقين.

و لعلّ هذا هو الظاهر مما ذكره الأستاذ هنا في الأمر الثاني.

و لكن الأستاذ آية اللّه العظمى البروجردي- طاب ثراه- قال: إنّ الفارق بين الواجبين ليس بالمأمور بل بالمأمور به. فالمأمور في كليهما كل فرد، و لكن المأمور به في الواجبات العينية هي الطبيعة بقيد صدورها عن فاعله لقيام المصلحة بذلك، و

أمّا في الواجبات الكفائية فكل فرد مأمور و لكن المأمور به نفس الطبيعة بلا تقيّد بصدورها عن فاعل خاصّ، إذ المصلحة في نفس تحقق الطبيعة، فإذا تحققت في الخارج سقط التكليف عن الجميع و إلّا عوقب الجميع.

و على هذا فكلّ فرد يجب عليه السعي في إيجاد هذه الطبيعة المطلوبة بنفسه أو بمساعدة غيره، لا بنحو الوجوب المشروط بأن يكون الوجوب على كلّ فرد مشروطا بمساعدة الغير بحيث لا يجب عليه تحصيل الشرط، بل بنحو الوجوب المطلق، فيكون كلّ فرد مكلّفا بالسعي في تحقق المطلوب على أيّ حال و لو ببعث غيره أو الاستمداد منه إلى أن يحصل المطلوب، غاية الأمر أنّ العقل يحكم بارتفاع التنجز مع ارتفاع القدرة رأسا كما في سائر التكاليف. «1»

و الظاهر صحة ما ذكره هذا الأستاذ و يساعده الاعتبار أيضا.

و نتيجة ذلك أنّ كلّ فرد مأمور مستقلا و المأمور به تحقّق نفس الطبيعة كيف

______________________________

(1) راجع نهاية الأصول/ 228 و ما بعدها (من طبعته الحديثة)، الفصل السادس من المقصد الأوّل.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 367

و أمّا ما تقدّم من الخبر في اتّباع بني أمية، فالذمّ فيه إنّما هو على إعانتهم بالأمور المذكورة في الرواية. (1) و سيأتي تحريم كون الرجل من أعوان الظلمة، حتى في المباحات التي لا دخل لها برئاستهم، فضلا عن مثل جباية الصدقات و حضور الجماعات و شبههما ممّا هو من أعظم المحرّمات.

______________________________

ما كان، فيجب فيما لا يقدر الفرد بوحدته على إيجادها أن يستعين بغيره و يستمدّ منه إلى أن يحصل المطلوب أو يظهر العجز المطلق، فتدبّر. و أمّا المجموع من حيث المجموع فهو أمر اعتباري لا عقل له و لا شعور و لا يتوجه إليه

تكليف إلّا بلحاظ الأشخاص.

و أمّا ما ذكره السيّد من إيجاب المقدمات وجوبا نفسيا فلا يمكن المساعدة عليه، إذ الأمر لا يتعلق إلّا بما هو مطلوب للمولى و مشتمل على غرضه، و هذا واضح.

(1) في حاشية السيّد «ره»: «أقول: سلّمنا أنّ الأمور المذكورة في الرواية مما يعدّ فاعلها من أعوان الظلمة، و هو عنوان آخر مستقل، إلّا أنّ الظاهر منها أنّ وجه حرمة ذلك العنوان كون الفعل دخيلا في حصول سلب الحقّ الذي هو المحرّم، فيستفاد منها أنّ إيجاد المقدّمة التي يترتب عليها محرّم حرام، ألا ترى لو قال: لو أنّ الناس لم يبيعوا عنبهم من الخمار لم يشرب خمرا يستفاد منه أنّ وجه حرمة البيع ترتب شرب الخمر. إلّا أن يقال: لعلّ لمسألة سلب حق الخلافة عن الأئمة عليهم السّلام خصوصية لكونه من أعظم المحرمات، فحرمة إيجاد مقدمته لا تدلّ على حرمة إيجاد مقدمات سائر المحرمات، و المفروض أنّ الرواية خاصّة بهذه المسألة.» «1»

أقول: الظاهر أنّ المصنف كان ناظرا إلى هذه الخصوصية، و التعدّي عنها يتوقف على إلقاء العرف لها بنحو القطع و هو ممنوع.

______________________________

(1) حاشية المكاسب/ 9، ذيل قول المصنّف: فالذمّ فيه إنّما هو ...

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 368

[خلاصة البحث]

و قد تلخّص مما ذكرنا أنّ فعل ما هو من قبيل الشرط (1) لتحقق المعصية من الغير من دون قصد توصّل الغير به إلى المعصية غير محرّم، لعدم كونها في العرف إعانة مطلقا، أو على التفصيل الذي احتملناه أخيرا. (2)

و أمّا ترك هذا الفعل فإن كان سببا يعني علّة تامّة لعدم المعصية من الغير، كما إذا انحصر العنب عنده، وجب لوجوب الردع عن المعصية عقلا و نقلا. (3) و أمّا لو لم

يكن سببا بل كان السبب تركه منضمّا إلى

______________________________

خلاصة البحث

(1) كتمليك العنب ممّن يقصد تخميره، و إعطاء العصا لمن يريد ضرب المظلوم بها.

(2) أمّا عدم كونها إعانة مطلقا فلما مرّ منه و من غيره من اعتبار القصد في صدقها. و أمّا التفصيل الأخير فأراد به ما مرّ منه من التفصيل بين ما ينحصر فائدته عرفا في المشروط المحرّم كحصول العصا في يد الظالم المريد لضرب المظلوم، حيث يعدّ سببا لوقوع الضرب و الجزء الأخير من علّته، و بين ما لم يكن كذلك عرفا كتمليك العنب لمن يريد تخميره فيعتبر القصد في الثاني دون الأوّل.

(3) أمّا عقلا فلما مرّ من المصنّف من وجوب اللطف على اللّه- تعالى- و اقتضائه إيجاب النهي عن المنكر رفعا و دفعا و إن لم يرد به آية أو رواية، أو لما مرّ من الأستاذ «ره» من أنّه كما يحكم بوجوب المنع من تحقق ما هو مبغوض الوجود في الخارج مطلقا فكذلك يحكم بوجوب المنع من تحقق ما يكون مبغوضا صدوره عن المكلف رفعا و دفعا، و قد مرّت المناقشة في كليهما. «1»

______________________________

(1) راجع ص 358- 348.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 369

ترك غيره فإن علم أو ظنّ أو احتمل قيام الغير بالترك وجب قيامه به أيضا، (1) و إن علم أو ظنّ عدم قيام الغير سقط عنه وجوب الترك (2) لأنّ تركه بنفسه ليس برادع حتّى يجب، نعم هو جزء للرادع المركّب من مجموع تروك أرباب العنب لكن يسقط وجوب الجزء إذا علم بعدم تحقق الكلّ في الخارج.

______________________________

و أمّا نقلا فلأدلّة النهي عن المنكر بناء على دلالتها على وجوب دفع المنكر كرفعه و لو بإلقاء الخصوصية.

(1) ذكر المصنف سابقا أنّ الاستدلال

المذكور إنّما يحسن مع علم البائع بأنّه لو لم يبعه لم يحصل المعصية، «1» و لكن مفاد كلامه هنا كفاية الظنّ بل و الاحتمال أيضا في عدم جواز بيعه.

و قد مرّ منّا أنّ الوجوب إن كان بنحو الوجوب المطلق ففي صورة الشكّ يجب الاحتياط، لرجوعه إلى الشكّ في القدرة و قد قالوا فيه بالاحتياط حتّى يثبت العجز، هذا مضافا إلى أنّ الدليل على وجوب الدفع لو كان دليل النهي عن المنكر كان مقتضاه العمل به و لو مع الشكّ في التأثير أيضا، و إنّما لا يجب إذا علم بعدم الفائدة، للإجماع المدّعى و إلّا فالإطلاق يقتضي الوجوب حتى مع العلم بعدمها.

نعم لو كان الوجوب بنحو الوجوب المشروط، بأن وجب عليه الدفع بشرط مساعدة الغير و على فرض مساعدته، رجع الشك فيه إلى الشك في التكليف في الشبهة الموضوعية، إذ الشك في الشرط شك في المشروط فتجري أصالة البراءة و الحلّ. هذا.

و لو فرضنا وجوب الاحتياط في صورة الشكّ وجب في صورة الظنّ بأحد الطرفين أيضا إلّا إذا قام دليل على حجيته.

و على هذا فيشكل قوله بعد ذلك: «و إن علم أو ظنّ عدم قيام الغير سقط عنه وجوب الترك.»

(2) قد مرّ الإشكال في ذلك بتقريب أنّ مجرّد بناء الغير على نقض التكليف بالترك لا يكون عذرا ما لم يحصل النقض منه بالفعل، فراجع. «2»

______________________________

(1) راجع ص 359.

(2) راجع ص 362 و ما بعدها.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 370

فعلم ممّا ذكرناه في هذا المقام أنّ فعل ما هو شرط للحرام الصادر من الغير يقع على وجوه: (1)

أحدها: أن يقع من الفاعل قصدا منه لتوصّل الغير به إلى الحرام.

و هذا لا إشكال في حرمته

لكونه إعانة.

الثاني: أن يقع منه من دون قصد لحصول الحرام و لا لحصول ما هو مقدّمة له (2)، مثل تجارة التاجر بالنسبة إلى معصية العاشر، فإنّه لم يقصد بها تسلّط العاشر عليه الذي هو شرط لأخذ العشر، و هذا لا إشكال في عدم حرمته.

الثالث: أن يقع منه بقصد حصول ما هو من مقدمات حصول الحرام عن الغير لا لحصول نفس الحرام منه.

______________________________

(1) محصّل ما ذكره المصنّف أن الوجوه المذكورة في المسألة خمسة، و حرمة البيع فيها يدور مدار أحد الأمرين: إمّا صدق الإعانة المتوقف على قصد الحرام، أو كون بيع هذا الشخص علّة تامّة منحصرة لتحقق الحرام حتى يجب عليه دفعه بترك البيع.

(2) قد مرّ منّا أنّ تجارة التاجر أيضا مقدمة لأخذ العشور و شرط له، «1» إذ لولاها لم يتحقق موضوع لأخذها، و المفروض أنّ التجارة مقصودة للتاجر و إن لم يقصدها بعنوان المقدمية لأخذ العشور، كما أنّ تملك المشتري للعنب أيضا مقصود للبائع و إن لم يقصد مقدميته للتخمير. فوزان التجارة في المثال و زان تملك المشتري للعنب. نعم هما يفترقان بأنّ قصد المشتري للتخمير متحقق قبل الشراء، و أمّا العاشر فلا يتحقق قصده لأخذ العشور إلّا بعد تحقق التجارة و حصول الفائدة، و لكن كون هذا فارقا في الحكم محل إشكال كما يأتي في الحاشية التالية.

______________________________

(1) راجع ص 315 و ص 323.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 371

و هذا قد يكون من دون قصد الغير التوصّل بذلك الشرط إلى الحرام كبيع العنب من الخمّار المقصود منه تملكه للعنب الذي هو شرط لتخميره لا نفس التخمير مع عدم قصد الغير أيضا التخمير حال الشراء. و هذا أيضا لا إشكال في عدم حرمته.

(1)

و قد يكون مع قصد الغير التوصّل به إلى الحرام أعني التخمير حال شراء العنب، و هذا أيضا على وجهين:

أحدهما: أن يكون ترك هذا الفعل من الفاعل علّة تامّة لعدم تحقق الحرام من الغير، و الأقوى هنا وجوب الترك و حرمة الفعل.

و الثاني: أن لا يكون كذلك بل يعلم عادة أو يظنّ بحصول الحرام من الغير من غير تأثير لترك ذلك الفعل. و الظاهر عدم وجوب الترك حينئذ. (2) بناء على ما ذكرنا من اعتبار قصد الحرام في صدق الإعانة عليه مطلقا أو على ما احتملنا من التفصيل.

______________________________

(1) قد مرّت المناقشة في الفرق بين هذه الصورة و بين صورة قصد الخمّار فعلا بعد اشتراكهما في علم البائع بوقوع الحرام و ترتّبه على بيعه. «1» قال السيد «ره» في الحاشية: «التحقيق عدم الفرق بين هذه الصورة و التي بعدها فإنّ قصد المشتري ليس مناطا في صدق الإعانة و لا في عنوان وجوب دفع المنكر، بل المدار على قصد البائع- بناء على اعتباره- و على العلم بوقوع المنكر، و إن لم يكن المشتري قاصدا حين الشراء.» «2»

(2) قال السيّد «ره» في الحاشية: «التحقيق ذلك لكن لا لما ذكره- قدّس سرّه- من الوجه، بل للأخبار المتقدمة المجوّزة، و إلّا فصدق الإعانة لا ينوط بالقصد

______________________________

(1) راجع ص 331.

(2) حاشية المكاسب/ 9، السطر الأخير.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 372

..........

______________________________

حسبما عرفت سابقا، و أيضا قد عرفت تمامية فحوى أدلة النهي عن المنكر ...» «1»

أقول: و قد مرّ منّا أيضا أنّ رفع اليد عن الأخبار المستفيضة الصحيحة المفتى بها بهذه المناقشات اجتهاد في قبال النصّ. «2» و مقتضى التعليل المستفاد من بعضها كقوله عليه السّلام في صحيحة الحلبي: «لا

بأس به تبيعه حلالا فيجعله حراما فأبعده اللّه و أسحقه»، «3» و قوله عليه السّلام في صحيحة ابن أذنية: «إنّما باعه حلالا في الإبّان الذي يحلّ شربه أو أكله فلا بأس ببيعه» «4» عدم اختصاص الجواز بمسألة بيع العنب أو التمر، فيعلم بذلك أنّ وجوب دفع المنكرات بهذه الوسعة بحيث يوجب التعجيز عن الإتيان بها غير واضح، و الدار دار الاختيار و الاختبار فيخلّى الناس و اختيارهم بعد تحقق الإرشاد و النهي القولي، فتدبّر.

و قال في مصباح الفقاهة: «بعد ما علمت أنّه لا دليل على حرمة الإعانة على الإثم و لا على اعتبار القصد في مفهوم الإعانة و لا في حكمها فلا وجه لما ذهب إليه المصنّف و أتعب به نفسه من التطويل و التقسيم.

ثمّ على القول بحرمة الإعانة على الإثم فلا وجه للحكم بحرمة البيع في شي ء من الشقوق التي ذكرها المصنّف، إذ الإعانة على الإثم إنّما تتحقق بالتسليم و التسلّم في الخارج، و من الواضح أنّ بينهما و بين البيع عموما من وجه.» «5»

أقول: ما ذكره أخيرا صحيح، و يجري في التمسك بوجوب الدفع عن المنكر أيضا، إذ الدفع إنّما يتحقق بعدم التسليم.

______________________________

(1) نفس المصدر/ 10، السطر الأوّل.

(2) راجع ص 356.

(3) الوسائل 12/ 169، الباب 59 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4.

(4) نفس المصدر، الحديث 5.

(5) مصباح الفقاهة 1/ 185، في المسألة الثالثة من القسم الثاني من النوع الثاني.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 373

[لو قلنا بحرمة البيع فهل يقع صحيحا أم لا؟]

ثمّ كلّ مورد حكم فيه بحرمة البيع من هذه الموارد الخمسة فالظاهر عدم فساد البيع، لتعلّق النهي بما هو خارج عن المعاملة أعني الإعانة على الإثم أو المسامحة في الردع عنه. (1)

______________________________

لو قلنا بحرمة البيع فهل

يقع صحيحا أم لا؟

(1) توضيح الكلام أنّ النهي تارة يتعلق بنفس عنوان المعامله كقوله عليه السّلام:

«لا تبع الحنطة بالشعير إلّا يدا بيد.» «1» و أخرى بعنوان آخر ربما ينطبق أحيانا على المعاملة كالإعانة على الإثم في المقام- بناء على حرمتها-، حيث إنّ بينها و بين عنوان البيع مثلا بحسب المورد عموما من وجه كما لا يخفى. و لعلّ من هذا القبيل أيضا النهي عن البيع وقت النداء إلى الجمعة، إذ النهي و إن تعلق بالبيع صورة لكنه لا بما أنّه بيع و معاملة خاصّة، بل بما أنه عمل شاغل عن الجمعة، فكأنّه قال: «ذروا ما يزاحم الجمعة من الأعمال» مضافا إلى أنّه نهي تبعي وقع تأكيدا لقوله- تعالى-:

فَاسْعَوْا إِلىٰ ذِكْرِ اللّٰهِ. «2»

أمّا في القسم الأوّل فإن كان ظاهرا في الإرشاد إلى الفساد- كما هو الظاهر غالبا- فهو، و أمّا إن فرض دلالته على حرمة المتعلق تكليفا فهل تقتضي حرمته

______________________________

(1) الوسائل 12/ 439، الباب 8 من أبواب الربا، الحديث 8.

(2) سورة الجمعة (62)، الآية 9.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 374

..........

______________________________

الفساد- كما قيل- أو الصحة- كما عن أبي حنيفة و تلميذه محمد بن الحسن الشيباني- أو لا تقتضي شيئا منهما و إنّما يعرف الفساد أو الصحة من الخارج؟ في المسألة وجوه.

ربما يقال باقتضائها الفساد، إمّا لأنّ صحة المعاملات تكون بإمضاء الشارع لها و حكمه بوجوب الوفاء بها، و من المستبعد جدّا اعتبار الشارع و إمضاؤه لما يكون حراما و مبغوضا له، و إمّا لأنّ المهمّ عند الشارع و العقلاء في باب المعاملات الآثار العملية المترتبة عليها، لا نفس الأسباب بما هي ألفاظ، و لا نفس المسبّبات الاعتبارية كالملكية الاعتبارية المنشأة مثلا. و على هذا

فالنهي عنها في الحقيقة نهي عن ترتيب الآثار المترقبة منها عليها، و مقتضى ذلك فسادها، إذ لا معنى لصحة المعاملة و اعتبار المسبّب مع حرمة ترتيب الآثار عليها، فتدبّر.

و أمّا القائل باقتضائها الصحة فربّما يستدلّ له بأنّ الظاهر من النهي المتعلق بها و حرمتها حرمة المسببات أو التسبّب بالأسباب إليها، و مقتضى ذلك صحتها و وقوعها باعتبارها، إذ متعلق التكليف يجب أن يكون مقدورا للمكلّف، و على فرض فسادها و عدم وقوعها قهرا عليه لا تكون مقدورة. نعم لو تعلقت الحرمة بنفس الأسباب لم تقتض الصحة و لا الفساد. هذا.

و الأولى أن يقال- كما مرّت الإشارة إليه-: إنّ النهي في هذه الموارد ظاهر في الإرشاد إلى المانعية و الفساد، بتقريب أنّ المتبادر من الأوامر و النواهي الواردة من الشارع الحكيم المتعلقة بالعبادات المركبة المخترعة أو بالمعاملات بنحو خاصّ و كيفية خاصّة، كونها للإرشاد إلى جزئية الشي ء الخاصّ أو شرطيّته أو مانعيته، و ليست بصدد بيان الحكم التكليفي، و هذا نظير أمر المتخصّص في الأدوية و المعاجين بجعل شي ء خاصّ في معجون خاصّ أو نهيه عن جعله فيه، حيث إنّ المتبادر من الأمر في مثله كون متعلق الأمر جزء أو شرطا، و من النهي كونه مانعا و مضرّا، فلا وجه لحمل النهي على الحرمة التكليفية حتّى يبحث عن اقتضائها الفساد أم لا.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 375

..........

______________________________

هذا كلّه في القسم الأوّل أعني فيما إذا كان النهي متعلقا بنفس عنوان المعاملة.

و أمّا القسم الثاني أعني ما إذا تعلق النهي بعنوان آخر ربما ينطبق أحيانا على المعاملة كالإعانة على الإثم في المقام فقد يقال: إنّ النهي لم يتعلق بنفس المعاملة بنحو خاصّ حتّى يتبادر منه الإرشاد

إلى المانعية و الفساد- على ما مرّ بيانه- بل تعلّق بعنوان آخر غيرها، و ظهوره في حرمة المتعلق و إن كان لا ينكر لكن المفروض كون المحرّم غير عنوان المعاملة. و انطباقه عليها أحيانا لا يوجب سراية الحرمة منه إليها حتى تقتضي فسادها- على ما مرّ من الوجهين-، فهذا بوجه نظير ما قالوا في مبحث الاجتماع من أنّ النهي عن التصرّف في أرض الغير مثلا لا يسري إلى عنوان المأمور بها المتّحد معه أحيانا كالصلاة. فالبيع في المقام بما أنّه إعانة على الإثم أو مسامحة في دفع المنكر محرّم تكليفا و لكنه بعد وقوعه يصير مصداقا لقوله: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ.

و لكن يمكن أن يناقش- كما مرّ في بعض الأبحاث السابقة- «1» بأنّ ما ذكرت من أنّ انطباق عنوانين على مورد واحد لا يوجب سراية حكم أحدهما إلى الآخر، إنّما يصحّ في متعلقات الأحكام أعني أفعال المكلّفين مع وجود المندوحة في البين، كالتصرف في أرض الغير مع الصلاة مثلا، حيث إنّ الحكمين لا يتزاحمان في مرحلة الجعل و التشريع، و إنّما جمع بينهما العبد في مرحلة الامتثال بسوء اختياره، فلا يسري حكم أحد العنوانين إلى الآخر. و أمّا في موضوعات الأحكام- و لا سيما فيما إذا لو حظت بنحو العامّ الاستغراقي كالعقود في قوله- تعالى-:

أَوْفُوا بِالْعُقُودِ مثلا- فهي في مرحلة الجعل و التشريع لو حظت مفروضة الوجود، و كلّ فرد منها بعد وجوده في الخارج يصير محطّا لحكم الشارع المجعول على نحو القضية الحقيقيّة. فإذا فرض كون العقد بلحاظ وجوده الخارجي مصداقا

______________________________

(1) راجع ص 281.

________________________________________

نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في المكاسب المحرمة، 3 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، اول، 1415 ه ق

دراسات في المكاسب

المحرمة؛ ج 2، ص: 376

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 376

..........

______________________________

للإعانة على الإثم و مبغوضا للشارع لذلك فكيف يحكم بوجوب الوفاء به؟ و هل لا يكون هذا الحكم منه نقضا لغرض نفسه؟

و بالجملة فصحّة المعاملة- على ما مرّ- عبارة عن إمضاء الشارع لها و حكمه بوجوب الوفاء بها، و كيف يعقل إمضاؤه لما يكون مبغوضا له؟!

فإن قلت: بين عنوان الإعانة على الإثم و عنوان العقود عموم من وجه فيمكن انفكاكهما خارجا، و وجوب الوفاء وضع على عنوان العقود فلا يسري من موضوعه إلى الحيثيات الأخر المتحدة معه.

قلت: الجعل في قوله: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ و إن كان جعلا واحدا و لكن مقتضى عمومه الاستغراقي تكثر الحكم بتكثر أفراد الموضوع، فكلّ فرد من العقد بعد تحققه في الخارج يصير محطا للحكم المجعول قهرا، فإذا فرض اتحاده خارجا مع عنوان آخر مبغوض فلا محالة يكون الحكم الفعلي فيه تابعا لأقوى الملاكين، و في أمثال المقام يترجح جانب الحرمة قهرا، فتدبّر.

و العمدة وجود الفرق بين متعلقات الأحكام، أعني أفعال المكلفين، و بين موضوعاتها، أعني الأمور الخارجية التي يتعلق بها أفعال المكلفين كالعقود في المقام المتعلق بها الوفاء الواجب، فإنّ المتعلق للحكم في مرحلة الجعل و التشريع نفس طبيعة فعل المكلف الواجد للملاك لا وجوده الخارجي، بل وجوده الخارجي مسقط للحكم، فإذا كان بين الفعلين عموم من وجه كالصلاة و التصرف في أرض الغير مثلا لم يكن بين الحكمين المتعلقين بهما تزاحم في مرحلة الجعل و التشريع، و المكلف يقدر على التفكيك بينهما في مرحلة الامتثال، فلا وجه لتقييد أحدهما بعدم الآخر في مرحلة الجعل بعد كون الملاك للطبيعة بإطلاقها.

و أمّا الموضوع للحكم فهو عبارة عن الوجود الخارجي الذي يتعلق به

فعل المكلف، فالملحوظ في مرحلة الجعل و إن كان هي الطبيعة لكنها جعلت مرآة

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 377

..........

______________________________

لوجوداتها الخارجية، و كلّ فرد منها بعد وجوده في الخارج يصير محطّا لحكم الشرع، فإذا فرض كون وجوده في الخارج متحدا مع عنوان مبغوض فلا محالة يتزاحم الملاكان و يكون الحكم تابعا لأقواهما ملاكا و لازمه التخصيص في الدليل الآخر لبّا.

و هذا نظير قوله: «أكرم العلماء» و قوله: «لا تكرم الفساق»، حيث يتزاحم الملاكان في العالم الفاسق فيتعارض الدليلان فيه و يكون الحكم في مرحلة الجعل تابعا لأقواهما ملاكا و يتصرف في الدليل الآخر.

و بذلك يظهر المناقشة على كلام الأستاذ المرحوم آية اللّه العظمى البروجردي- طاب ثراه-، حيث عدّ المثال من باب التزاحم المصطلح على ما كتبنا عنه في نهاية الأصول، و ناقشناه في ذيل كلامه بأنّ المثال من قبيل تعارض الدليلين لا من قبيل التزاحم المصطلح، فيجب أن يكون الكسر و الانكسار بين الملاكين في مرحلة الجعل و التشريع، فراجع النهاية. «1»

فإن قلت: العقد بنفسه يوجد بفعل المكلّف فكيف تعدّه من موضوعات الأحكام؟!

قلت: نعم و لكنه بلحاظ وجوده الخارجي يصير موضوعا لوجوب الوفاء.

هذا كلّه على فرض كون العقد بنفسه إعانة على الإثم و مبغوضا لذلك على ما يظهر من كلماتهم، و أمّا على ما مرّ من مصباح الفقاهة من أنّ عنوان الإعانة لا ينطبق على العقد بل على التسليم الخارجي فلا وقع لهذه الإشكالات، فتدبّر.

هذا.

و للأستاذ الإمام في هذا المقام كلام طويل يناسب التعرّض له إجمالا، قال ما ملخّصه:

«التفصيل أن يقال: إنّ المعاملة قد تقع بالمعاطاة، و قد تقع بالصيغة:

______________________________

(1) راجع نهاية الأصول/ 335 (من طبعته الحديثة)، الفصل الرابع من المقصد الرابع.

دراسات في

المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 378

..........

______________________________

فالأقوى صحتها في الأوّل، لأنّ المحرم عنوان آخر منطبق على المعاملة الخارجية، و بينهما عموم من وجه، و الموضوع الخارجي مجمع لهما، و لكل منهما حكمه. و بذلك يدفع استبعاد تنفيذ الشارع سببا يؤدّي إلى مبغوضه، لأن التنفيذ لم يقع إلّا على عنوان البيع و نحوه و هو ليس بمبغوض.

و على الثاني تقع المزاحمة- بعد وقوع المعاوضة- بين دليل حرمة التعاون على الإثم و دليل وجوب تسليم المثمن. فإن قلنا بترجيح الثاني يجب عليه التسليم و يعاقب على الإعانة على الإثم. و إن قلنا بترجيح الأوّل فلا يجوز له التسليم.

فحينئذ ربما يقال: إنّ المعاوضة لدى العقلاء متقوّمة بإمكان التسليم و التسلّم، و مع تعذّره عقلا أو شرعا لا تقع المعاملة صحيحة، ففي المقام يكون تسليم المبيع متعذّرا شرعا لعدم جوازه فرضا. و مع عدم تسليمه يجوز للمشتري عدم تسليم الثمن. و المعاوضة التي هو حالها ليست عقلائية و لا شرعية فتقع باطلة.

و فيه: أنّ ما يضرّ بصحة المعاوضة هو العجز عن التسليم تكوينا أو نهي الشارع عن التسليم بعنوانه، و المقام ليس من قبيلهما، لعدم العجز تكوينا و عدم تعلّق النهي بتسليم المبيع بعنوانه، بل النهي عن الإعانة على الإثم صار موجبا لعدم التسليم.

و إن شئت قلت: إنّ البائع قادر على التسليم و غير ممتنع عنه بشرط رجوع المشتري عن قصد التخمير، فنكول البائع إنّما هو بتقصير من المشتري و في مثله لا يكون النكول منافيا لمقتضى المبادلة، بل يجب على المشتري تسليم الثمن.» «1»

أقول: الظاهر صحّة ما ذكره أخيرا، حيث إنّ نكول البائع عن التسليم إذا كان ناشئا عن تقصير المشتري لا يكون مجوّزا للمشتري لأن يتخلّف عن وظيفته

أعني تسليم الثمن، فتأمّل.

______________________________

(1) المكاسب المحرّمة 1/ 149 (- ط. أخرى 1/ 222)، في النوع الثاني من القسم الثاني.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 379

..........

______________________________

و يظهر من بيانه أيضا أنّ الإعانة على الإثم إنّما يتحقق بتسليم المثمن لا بنفس العقد.

و لكن يمكن المناقشة فيما ذكره أوّلا بأن كون إنشاء البيع بالتعاطي أو بالصيغة لا يكون فارقا في المقام، إذ بعد إنشائه بأحدهما هل ينفّذه الشارع و يحكم عليه بوجوب الوفاء أم لا؟ فعلى الأوّل يلزم نقضه لغرضه، و على الثاني يقع باطلا، إذ قد مرّ أنّ معنى صحّة المعاملة إمضاء الشارع و تنفيذه لها.

و قوله «ره»: «و بذلك يدفع استبعاد تنفيذ الشارع ...» لم يظهر لي وجه دفعه، لما مرّ من أنّ العقد بلحاظ وجوده الخارجي يقع موردا للتنفيذ و الحكم بوجوب الوفاء، و المفروض أنّه بوجوده الخارجي مبغوض للمولى فكيف ينفّذه و يوجب الوفاء به.

اللّهم إلّا أن ينطبق عليه بعد تحققه عصيانا عنوان ذو مصلحة أقوى تقتضي وجوب الوفاء به مع بقاء ملاك الحرمة أيضا، نظير ما قالوا في التصرّف الخروجي من الأرض المغصوبة بعد الدخول فيها عصيانا، و كما إذا حصّل لنفسه بالاختيار مرضا مهلكا يتوقف الشفاء منه على شرب الخمر مع علمه بذلك، و لكن الالتزام بهذا الانطباق يحتاج إلى دليل، إلّا أن يقال باستكشاف ذلك بعمومات وجوب الوفاء و حلية البيع و التجارة، فتدبّر. هذا.

ثم لا يخفى: أنّ ما ذكر كان على فرض إثبات التحريم من جهة الإعانة على الإثم أو المسامحة في دفع المنكر، و أمّا إذا استفدنا من الروايات الحاكية للعن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الخمر و غارسها و عاصرها و بائعها و مشتريها كون

بيع العنب لها أيضا مبغوضا و محرّما بالذات بطريق أولى و لو لم يكن عن قصد- كما مرّ بيانه- فالحرمة وقعت- على هذا- على نفس عنوان البيع فكان الأمر أوضح، لما مرّ من الوجهين لبيان أنّ حرمته تلازم الفساد، فتدبّر.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 380

و يحتمل الفساد، لإشعار قوله عليه السّلام في رواية التحف المقدّمة- بعد قوله: «و كل مبيع ملهوّ به.»-: «و كلّ منهي عنه مما يتقرب به لغير اللّه أو يقوى به الكفر و الشرك في جميع وجوه المعاصي أو باب يوهن به الحقّ فهو حرام محرّم بيعه و شراؤه و إمساكه ...» بناء على أنّ التحريم مسوق لبيان الفساد في تلك الرواية، كما لا يخفى، (1) لكن في الدلالة تأمّل. (2) و لو تمّت لثبت الفساد مع قصد المشتري

______________________________

(1) قد مرّ منّا في الجهة الثالثة في ذيل الرواية أنّ محطّ النظر في الأخبار الواردة في باب المعاملات و كذا كلمات القدماء من أصحابنا في باب المكاسب بيان حكمها الوضعي، أعني الصحة أو الفساد، لا التكليف المحض، و النهي الوارد فيها غالبا إرشاد إلى المانعية و الفساد، و يراد بالحرمة فيها الممنوعية المطلقة، أعمّ من التكليف أو الوضع. كما أنّ المراد بالحلّ فيها الإطلاق بالمعنى الأعم، بل الغالب فيهما إرادة الوضع. و يظهر من التأمّل في جميع رواية التحف المتضمنة لتقسيم معايش العباد أنّ محطّ النظر فيها بيان حرمة ما يكتسب من الأموال و حلّيتها وضعا لا تكليفا، فراجع. و هما الظاهران أيضا من قوله- تعالى-: أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبٰا «1»

(2) في حاشية الإيرواني: «ظاهر هذه الفقرة حرمة بيع ما يوجب وهن الديانة الإسلامية و تقوية المذاهب الفاسدة، لأنّ

منصرف الحق و الباطل في المقام ذلك، لا ما يعمّ الفروع، و كذا قوله: «و كل منهي عنه يتقرب به لغير اللّه.»

و أمّا قوله: «فكلّ أمر يكون فيه الفساد» فلا يشمل ما كان مشتملا على منفعتين:

محلّلة و محرّمة كالعنب و الخشب و إلّا لزم تخصيص الأكثر بإخراج صور عدم قصد الحرام.» «2» هذا.

______________________________

(1) سورة البقرة (2)، الآية 275.

(2) حاشية المكاسب/ 17، ذيل قول المصنّف: لكن في الدلالة تأمّل.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 381

خاصّة للحرام، لأنّ الفساد لا يتبعّض. (1)

______________________________

و لكن في كلام المصنّف سقط، و العبارة في تحف العقول هكذا: «من جميع وجوه المعاصي أو باب من الأبواب يقوى به باب من أبواب الضلالة أو باب من أبواب الباطل أو باب يوهن به الحق ...» «1»

قال الأستاذ الإمام بعد نقلها: «إنّ أبواب الباطل تشمل مطلق المعاصي لا سيّما مع وقوعها في مقابل أبواب الضلالة و باب يوهن به الحقّ، فالحديث متعرض لما يوجب الضلالة ككتب الضلال و بيع القرطاس لذلك، و لما يوجب الوهن في الإسلام كبيع السّلاح لأعداء الدين، و منه بيع العنب مثلا ممّن يجعله خمرا و يبيعه علنا في شوارع المسلمين أو جنب المشاهد المعظّمة مما يوجب الوهن في الإسلام، و لما يكون بابا من أبواب الباطل و هو سائر المعاصى، و لهذا أطلق الباطل على كثير منها في الأخبار كالقمار و الشطرنج و السّماع و نحوها.» ثم ذكر في هذا المجال رواية الفضيل و غيرها، فراجع. «2»

و كيف كان فالاستدلال برواية التحف لا إشكال فيه من حيث الدلالة، و لكن قد مرّ في محلّه أنّها ضعيفة سندا و مضطربة متنا، «3» فيشكل الاعتماد عليها في إثبات حكم شرعي.

(1)

أراد بذلك أنّه على فرض الفساد فلا فرق بين قصد المتبايعين للحرام و قصد أحدهما فقط، إذ المعاملة تتقوم بالطرفين، فإذا فسدت من ناحية أحدهما فسدت في ناحية الآخر أيضا.

و قد يستدلّ لفساد المعاملة أيضا برواية صابر أو جابر، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يؤاجر بيته فيباع فيه الخمر؟ قال: «حرام أجره.» «4»

______________________________

(1) تحف العقول/ 333.

(2) المكاسب المحرّمة 1/ 150 (- ط. أخرى 1/ 224)، في النوع الثاني من القسم الثاني. و رواية الفضيل رواها في الوسائل 12/ 242، الباب 104 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 3.

(3) راجع 1/ 70 و 88 و ما بعدهما و 1/ 194 من الكتاب.

(4) الوسائل 12/ 126، الباب 39 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 382

..........

______________________________

بتقريب أنّ حرمة الأجرة تدلّ على بطلان الإجارة، و بعدم الفصل بينها و بين البيع يتمّ الاستدلال. هذا.

و لكن الراوي مردّد بين صابر و جابر، و صابر لم تحرز وثاقته، «1» و جابر مردّد بين جماعة فإن أريد به الجعفي كان موثوقا به. «2» و المتن أيضا مردّد بين: «فيباع» و «يباع»، و لعلّه ينسبق من الثاني معنى: «ليباع»، فيراد منه صورة اشتراط الحرام، اللّهم إلّا أن يستبعد إجارة المسلم بيته بشرط الانتفاع المحرّم. و قد مرّ تفصيل ذلك في أوائل المسألة الأولى، فراجع. «3»

هذا مضافا إلى معارضة الرواية بمصححة ابن أذنية، قال: كتبت إلى أبي عبد اللّه عليه السّلام أسأله عن الرجل يؤاجر سفينته أو دابّته ممن يحمل فيها أو عليها الخمر و الخنازير؟ قال: «لا بأس.» «4»

فتحمل الرواية- على ما قيل- على الكراهة جمعا، و لكن حمل لفظ الحرمة على

الكراهة بعيد جدّا، فتدبّر.

______________________________

(1) راجع تنقيح المقال 2/ 90.

(2) نفس المصدر 1/ 198 و ما بعدها.

(3) راجع ص 240 و ما بعدها.

(4) الوسائل 12/ 126، الباب 39 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 383

[القسم الثالث: ما يحرم لتحريم ما يقصد منه شأنا كبيع السلاح من أعداء الدين]

اشارة

القسم الثالث: ما يحرم لتحريم ما يقصد منه شأنا، بمعنى أنّ من شأنه أن يقصد منه الحرام. (1) و تحريم هذا مقصور على النصّ، إذ لا يدخل ذلك تحت الإعانة خصوصا مع عدم العلم بصرف الغير له في الحرام، كبيع السلاح من أعداء الدين مع عدم قصد تقوّيهم، بل و عدم العلم باستعمالهم لهذا المبيع الخاصّ في حرب المسلمين. (2)

______________________________

القسم الثالث:

ما يحرم لتحريم ما يقصد منه شأنا كبيع السلاح من أعداء الدين

(1) أقول: قد مرّ في أوّل النوع الثاني مما يحرم التكسب به تقسيمه إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأوّل: ما اشتمل على هيئة خاصّة لا يقصد منه بهذه الهيئة إلّا الحرام كهياكل العبادة و آلات اللهو و القمار و نحوها.

القسم الثاني: ما قصد منه المتعاملان المنفعة المحرمة و إن اشتمل على منافع محلّلة أيضا كبيع الخشب ممن يتخذه صنما أو العنب ممن يتخذه خمرا.

القسم الثالث: ما من شأنه أن يقصد منه الحرام و يكون مظنّة كذلك كبيع السّلاح لأعداء الإسلام.

و قد مرّ تفصيل القسمين الأوّلين، «1» و الآن وصلت النوبة إلى بيان القسم الثالث.

(2) أراد بذلك أنّ صدق الإعانة على الإثم- على ما مرّ منه- يتوقف على

______________________________

(1) راجع ص 151 و 219 و ما بعدهما من الكتاب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 384

..........

______________________________

وقوع البيع بقصد الحرام، و المفروض في المقام عدم القصد و لا العلم بل مجرّد الشأنية و القابلية له، فليس الحكم

في المسألة حكما كليّا دائرا مدار صدق الإعانة، و ليس دائرا مدار الشأنية أيضا، إذ ما من مباح إلّا و له شأنية الانتفاع المحرّم به، و لا يمكن الالتزام بحرمة المعاملة على أمثال ذلك، و لذا تعرّض الأصحاب لخصوص مسألة بيع السّلاح من أعداء الدين لوجود النصوص الواردة فيها، فالأولى تخصيص البحث بها كما صنع الأصحاب، إلّا أن يتعدّى منها بإلقاء الخصوصية و تنقيح المناط القطعي إلى موارد أخر تشابهها كما سيأتي بيانها.

[كلام الأستاذ الإمام «ره» في بيان موضوع البحث]

قال الأستاذ الإمام «ره» في بيان موضوع البحث في المسألة ما ملخّصه و محصّله:

«أنّ موضوع البحث ليس مطلق ما ينطبق عليه عنوان السلاح كائنا ما كان، بل الموضوع ما كان سلاح الحرب فعلا، و هو يختلف بحسب الأزمان و الأمكنة، ففي الأزمنة القديمة كانت الأحجار الخاصّة و الأخشاب آلات للحرب، ثم انقرض زمانها و خرجت عن صلاحية ذلك و قامت مقامها أسلحة أخرى كالسيف و الرمح و العمود و نحوها، ثم انقرضت هي أيضا و قام مقامها غيرها. فالمراد من السّلاح في موضوع البحث سلاح اليوم الذي يستعمل في الحروب، لا ما انقرضت أيّامه، فإن أراد بعض أعداء الدين حفظ الأسلحة القديمة في المتاحف لقدمتها فلا مانع من بيعها منه بلا إشكال، و كذلك ليس المقصود مطلق أعداء الدين، فإنّ كل مخالف لنا في ديننا فهو عدوّنا في الدين، و لكن موضوع البحث أخصّ منه و هو الدولة المخالفة للإسلام أو الطائفة الكذائية، فلا ينبغي الإشكال في جواز بيعه من يهوديّ في بلاد المسلمين يكون تابعا لهم لو لا جهات أخر.

ثم اعلم أنّ هذا الأمر أعني بيع السّلاح من أعداء الدين من الأمور السّياسية التابعة لمصالح اليوم، فربّما تقتضي مصالح المسلمين بيع

السّلاح بل إعطاؤه مجّانا لطائفة من الكفّار، و ذلك مثل ما إذا هجم على حوزة الإسلام عدوّ قويّ لا يمكن دفعه إلّا بتسليح هذه الطائفة و كان المسلمون في أنّ منهم. بل لو هجم دولة

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 385

..........

______________________________

المخالفين على دولة الشيعة مريدين قتلهم و أسرهم و هدم مذهبهم يجب عليهم دفعهم و لو بوسيلة تلك الطائفة الكافرة المأمونة.

و ربما تقتضي المصالح ترك بيع السّلاح و غيره مما يتقوى به الكفّار مطلقا سواء كان موقع قيام الحرب أو التهيؤ له أم زمان الهدنة و الصلح، أمّا في الأوّلين فواضح، و أمّا في الأخيرة فحيث خيف على حوزة الإسلام و لو آجلا، بأن احتمل أنّ تقويتهم موجبة للهجمة على بلاد المسلمين و السلطة على نفوسهم و أعراضهم، فنفس هذا الاحتمال منجّز في هذا الأمر الخطير لا يجوز التخطي عنه فضلا عن كون تقويتهم مظنة له أو في معرضه. و لا فرق في ذلك بين الخوف على حوزة الإسلام من غير المسلمين أو على حوزة حكومة الشيعة من غيرهم.

و بالجملة، هذا الأمر من شئون الحكومة و الدولة و ليس أمرا مضبوطا بل تابع لمصالح اليوم و مقتضيات الوقت. فلا الهدنة مطلقا موضوع حكم لدى العقل و لا المشرك و الكافر. و التمسك بالأصول و القواعد الظاهرية في مثل المقام في غير محلّه. و الظاهر عدم استفادة شي ء زائد مما ذكرناه من الأخبار. بل لو فرض إطلاق لبعضها يقتضي خلاف ذلك أي يقتضي جواز البيع فيما خيف الفساد و هدم أركان الإسلام أو التشيّع فلا مناص عن تقييده أو طرحه، أو يقتضي عدم الجواز فيما يخاف في تركه عليهما كذلك لا بدّ من تقييده،

و ذلك واضح.» «1»

أقول: يظهر من كلامه «ره» أمور:

الأوّل: عدم إرادة مطلق السّلاح، بل في كلّ عصر السّلاح المتعارف فيه.

الثاني: أنّ المراد من أعداء الدين من يعادي المسلمين و يكون في معرض التهجّم عليهم.

الثالث: تعميم الحكم بالنسبة إلى المخالفين المعادين للشيعة المحقة أيضا.

______________________________

(1) المكاسب المحرّمة 1/ 152 (- ط. أخرى 1/ 226)، في النوع الثالث من القسم الثاني.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 386

..........

______________________________

الرابع: أنّ المسألة لها هويّة سياسية، و لا محالة تختلف بحسب الشرائط و التطوّرات السياسية في كل عصر و مكان.

الخامس: جريان حكم المسألة في زمان الهدنة أيضا مع احتمال كون تقويتهم موجبة لسلطتهم السياسية أو الاقتصادية أو الثقافية آجلا، بداهة أنّ الاحتمال في الأمور المهمة منجّز عقلا و شرعا.

السّادس: عدم اختصاص الحكم- و لو بإلقاء الخصوصية- بأسلحة الحرب، بل يشمل كلّ ما يوجب أحيانا شوكة الأعداء و هجمتهم على بلاد المسلمين كبيع الموادّ الغذائية في بعض الشرائط أو الأراضى أو المصانع أو نحو ذلك، بل مطلق إيجاد الروابط التجارية و الاقتصادية، و هذا أمر مهمّ يجب على المسلمين و حكّامهم رعايته في قبال الكفّار و المخالفين، و قد شاهدنا في عصرنا أنّ الصهاينة تغلّبوا على بلاد المسلمين و نفوسهم و أعراضهم عن طريق اشتراء أراضي فلسطين تدريجا، و بذلك يظهر منع ما ربما يظهر من كلام الأستاذ من اختصاص المنع بالحكّام و رؤساء الدول، لوجود الملاك في بيع كلّ فرد في محيط تعيّشه أيضا مع احتمال الخطر، كما هو المجرّب في معاملات الأراضي في فلسطين، حيث إنّ المعاملات كانت بحسب الغالب واقعة بين الأشخاص و إن كان أعمال اليهود واقعة تحت هداية الحزب الصهيوني العالمي، فتدبّر. هذا.

و يظهر من عبارة المصنّف

عدم جواز الاستدلال في المسألة بآية التعاون، لما مرّ منه من اعتبار العلم و القصد في صدق الإعانة.

و لكن يمكن أن يقال: إنّه و إن لم يصدق على البيع في المقام الإعانة على الإثم لكن يصدق عليه إعانة الكفّار و الظلمة، و هي بنفسها من أشدّ المحرّمات على ما يظهر من الأخبار، فراجع. «1» هذا.

______________________________

(1) راجع الوسائل 12/ 128- 132، الباب 42 من أبواب ما يكتسب به.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 387

[نقل بعض كلمات الأعلام في المقام]

إلّا أنّ المعروف بين الأصحاب حرمته، بل لا خلاف فيها. (1)

______________________________

(1) الأولى نقل بعض كلمات الأعلام في المقام:

1- قال المفيد في المقنعة: «و بيع السّلاح لأعداء الدين حرام، و عمله لمعونتهم على قتال المسلمين.» «1»

أقول: ظاهر الصدر الإطلاق، و ظاهر الذيل الاختصاص بموقع قتالهم مع المسلمين.

2- و قال الشيخ في النهاية: «و بيع السّلاح لسائر الكفّار و أعداء الدين حرام، و كذلك عمله لهم و التكسب بذلك ... و لا بأس ببيع ما يكنّ من آلة السّلاح لأهل الكفر مثل الدروع و الخفاف، و تجنب ذلك أفضل على كلّ حال.» «2»

3- و في المهذّب لابن البرّاج: «و عمل السّلاح مساعدة و معونة لأعداء الدين و بيعه لهم.» «3»

4- و في السّرائر: «و عمل السّلاح مساعدة و معونة لأعداء الدين و بيعه لهم إذا كانت الحرب قائمة بيننا و بينهم، فإذا لم يكن ذلك و كان زمان هدنة فلا بأس بحمله إليهم و بيعه عليهم على ما روي في الأخبار عن الأئمة الأطهار عليهم السّلام.» «4»

5- و في الشرائع في عداد ما يحرم الاكتساب به: «و ما يفضي إلى المساعدة على محرّم كبيع السلاح لأعداء الدين.» «5»

6- و ذيّله في الجواهر بقوله:

«مع قصد الإعانة أو كانت الحرب قائمة ...» «6»

أقول: الظاهر من أكثر هذه العبارات أنّ الملاك في الحرمة صدق الإعانة، و يظهر من الجواهر أنّ الإعانة إنّما تصدق مع القصد أو الصدق العرفي كما في

______________________________

(1) المقنعة/ 588، باب المكاسب.

(2) النهاية/ 365 و 366، باب المكاسب المحظورة و المكروهة و المباحة.

(3) المهذّب 1/ 345، كتاب المكاسب، باب ضروب المكاسب.

(4) السرائر 2/ 216، باب ضروب المكاسب.

(5) الشرائع/ 263 (- ط. أخرى 2/ 9)، كتاب التجارة، الفصل الأوّل، النوع الثاني ممّا يحرم الاكتساب به.

(6) الجواهر 22/ 28، كتاب التجارة، الفصل الأوّل، النوع الثاني ممّا يحرم الاكتساب به.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 388

..........

______________________________

حال الحرب، و قد تقدم نظير ذلك عن المحقق الأردبيلي في مسألة بيع العنب. «1»

7- و في المستند: «و منها بيع السّلاح لأعداء الدين مسلمين كانوا أم مشركين، و حرمته في الجملة إجماعية ... و على هذا فالمنع مطلقا في الكفّار، و في حال المباينة في أعداء الدين من المسلمين أقوى و أظهر. و صرّح في المهذّب بأنّ التفصيل إنّما هو في ذلك: قال: بيع السلاح لأهل الحرب لا يجوز إجماعا، و أمّا أعداء الدين كأصحاب معاوية هل يحرم بيع السّلاح منهم مطلقا أو في حال الحرب خاصة؟ انتهى. هذا. و أمّا غير أعداء الدين من فرق المسلمين المحاربين للمسلمين فلا شكّ في عدم لحوقهم بالكفّار، فيجوز البيع منهم في حال عدم الحرب، و الظاهر من جماعة إلحاقهم بأعداء الدين من فرق المسلمين ...» «2»

أقول: أراد بالمهذب المهذّب البارع لابن فهد الحلي. «3»

8- و السيّد الطباطبائي اليزدي «ره» في الحاشية أنهى الأقوال في المسألة إلى ثمانية فقال: «و المتحصّل من ظواهر كلماتهم أقوال: أحدها

و هو ظاهر المشهور:

اختصاص الحرمة بحال قيام الحرب. الثاني: التحريم في حال المباينة و عدم الصلح، و هو مختار جماعة. الثالث: التحريم في حال الحرب أو التهيؤ له، و هو ظاهر المسالك. الرابع: التحريم مطلقا، و هو المحكيّ عن حواشي الشهيد بل عن الشيخين و الديلمي و الحلبي و التذكرة، و ربما يستظهر من الشرائع أيضا. الخامس:

التحريم مع قصد المساعدة فقط، حكاه في الجواهر عن بعض، و يمكن استظهاره من عبارة الشرائع. السّادس: التحريم مع أحد الأمرين من القصد إلى المساعدة أو قيام الحرب، اختاره في الجواهر. السّابع: التحريم مع الأمرين من القصد و قيام الحرب، حكاه في الجواهر. الثامن: ما اختاره في المستند من إطلاق المنع بالنسبة

______________________________

(1) راجع ص 312 من الكتاب.

(2) مستند الشيعة 2/ 335، كتاب مطلق الكسب، المقصد الثالث، الفصل الثاني.

(3) راجع المهذّب البارع 2/ 350، كتاب التجارة، الفصل الأوّل، النوع الرابع مما يحرم الاكتساب به.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 389

[بيان الأخبار]

و الأخبار بها مستفيضة: منها: رواية الحضرمي، قال: دخلنا على أبي عبد اللّه عليه السّلام فقال له حكم السّراج: ما تقول فيمن يحمل إلى الشام من السّروج و أداتها؟ قال: «لا بأس، أنتم اليوم بمنزلة أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، إنّكم في هدنة، فإذا كانت المباينة حرم عليكم أن تحملوا إليهم السّلاح و السّروج.»

و منها: رواية هند السّراج، قال: قلت لأبي جعفر عليه السّلام: أصلحك اللّه إنّي كنت أحمل السّلاح إلى أهل الشّام فأبيعه منهم، فلمّا عرّفني اللّه هذا الأمر ضقت بذلك و قلت: لا أحمل إلى أعداء اللّه. فقال: «احمل إليهم و بعهم، فإنّ اللّه يدفع بهم عدوّنا و عدوّكم، يعني الرّوم، فإذا كانت

الحرب بيننا (فلا تحملوا- الوسائل.) فمن حمل إلى عدوّنا سلاحا يستعينون به علينا فهو مشرك.» (1)

و صريح الروايتين اختصاص الحكم بصورة قيام الحرب بينهم و بين

______________________________

إلى المشركين، و التفصيل بين حال المباينة و الصلح بالنسبة إلى المسلمين المعادين للدين، و هو المحكيّ عن المهذّب، بل مقتضى عبارته المحكيّة في المستند أنّ إطلاق المنع بالنسبة إلى الكفّار إجماعي ... و الأقوى هو التحريم مع القصد مطلقا و مع عدمه في غير حال الصلح سواء كان الحرب قائما بالفعل أو كانوا متهيئين له أولا، فيكفي مطلق المباينة، و الظاهر أنّ صورة القصد خارجة عن محل الكلام، إذ لا ينبغي الإشكال في الحرمة معه لصدق الإعانة على الإثم ...» «1»

(1) راجع الوسائل، «2» و المراد بالحضرمي في الرواية الأولى أبو بكر عبد اللّه بن محمّد الحضرمي، و السند إليه صحيح، و هو أيضا ثقة أو ممدوح، «3» فالرواية

______________________________

(1) حاشية المكاسب/ 10، ذيل قول المصنّف: إلّا أنّ المعروف ...

(2) الوسائل 12/ 69، الباب 8 من أبواب ما يكتسب به، الحديثين 1 و 2.

(3) راجع تنقيح المقال 2/ 204.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 390

المسلمين، بمعنى وجود المباينة في مقابل الهدنة، و بهما يقيّد المطلقات جوازا و منعا.

______________________________

صحيحة أو حسنة. و كون حكم السّراج مجهولا لا يضرّ لعدم كونه راويا. و أمّا الرواية الثانية فضعيفة بهند السّراج و بأبي سارة الراوي عنه لكونهما مجهولين. «1»

ثم لا يخفى أنّ الأخبار الواردة في المسألة على طوائف يستفاد- بدوا- من بعضها الجواز مطلقا و من بعضها المنع كذلك، و من بعضها التفصيل تارة بين الهدنة و بين المباينة، و أخرى بين وجود الحرب فعلا و عدمها، و ثالثة بين الأسلحة و

بين وسائل الدفاع، و رابعة المنع في مورد الفتنة. و الموضوع في بعضها المشركون، و في بعضها أهل الحرب، و في بعضها أهل الباطل، و في بعضها السلطان- المنصرف إلى سلطان الإسلام-، و في بعضها أهل الخلاف من المسلمين.

و المصنّف تعرّض أوّلا لروايتين مفصّلتين، و أراد حمل المطلقات جوازا أو منعا عليهما، مع أنّ محطّ السؤال في كلتيهما حمل السّلاح إلى المخالفين المدافعين عن بلاد الإسلام لا إلى المشركين و الكفّار، فلا وجه لحمل ما استدلّ به للمنع بنحو الإطلاق بالنسبة إلى المشركين على التفصيل الواقع فيهما. هذا.

و مورد المنع في الأولى من المفصلتين صورة المباينة، و في الثانية صورة قيام الحرب فعلا، و الأولى أعمّ و لا تنافي بينهما لكونهما مثبتتين فيحتمل المنع في كلتيهما، و الظاهر من المباينة تحقق قدرة مستقلة في قبال حكومة الإسلام أو التشيع. و الغالب في حال المباينة شأنية قيام الحرب، فتدبّر.

قال الأستاذ الإمام «ره» بعد نقل الروايتين ما ملخصه: «و هاتان الروايتان صارتا منشأ للقول بالتفصيل، تارة بين زمان الهدنة و غيره مطلقا، و أخرى في خصوص البيع من المخالفين و الأخذ بإطلاق المنع عن البيع من الكفّار.

و التحقيق أنّ الروايتين قاصرتان عن إثبات هذا التفصيل في المقامين، لأنّ السؤال

______________________________

(1) راجع نفس المصدر 3/ 305، و 3/ 17 من فصل الكنى.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 391

مع إمكان دعوى ظهور بعضها في ذلك (1) مثل مكاتبة الصيقل: أشتري السيوف و أبيعها من السلطان، أ جائز لي بيعها؟ فكتب: «لا بأس به.» (2)

______________________________

فيهما عن حمل السّلاح إلى الشام في عصر الصادقين عليهما السّلام، و هو عصر لم تكن للشيعة الإمامية مملكة مستقلة و حكومة على حدة، بل

كان المسلمون كافة تحت حكومة واحدة هي سلطنة خلفاء الجور- لعنهم اللّه-، فلم يكن في حمل السلاح إلى الشام خوف على حوزة الشيعة و بلادهم، لعدم الموضوع لهما- و لهذا نزّلهم منزلة أصحاب رسول اللّه، حيث إنّ كلّهم جمعية واحدة تديرهم حكومة واحدة- بل كان تقوية للمسلمين في قبال الكفّار، كما أشار إليه في الرواية الثانية، فلا يجوز التعدّي عن مثل تلك الهدنة التي كانت كالهدنة في عصر أصحاب الرسول صلّى اللّه عليه و آله إلى مطلق الهدنة و السكون، كما إذا كانت لنا دولة مستقلة و لهم كذلك و كانت بيننا هدنة و تعاقد و مع ذلك كان في تقويتهم فساد أو مظنته بل و احتماله بحيث خيف على دولة الشيعة و حكومتهم من ذلك.

و يستفاد من التعليل في الثانية أنّ كلّ مورد يدفع عدوّ قويّ بعدوّ مأمون منه يجوز بيع السلاح منه لدفعه.

و كيف كان فلا يمكن القول بجواز بيع السّلاح و نحوه من الكفّار أو المخالفين بمجرد الهدنة و عدم الحرب، بل لا بد من النظر إلى مقتضيات اليوم و صلاح المسلمين و الأمّة، كما أنّ في عصر الصادقين عليهما السّلام كان من مقتضيات الزمان جواز دفع السلاح إلى حكومة الإسلام لدفع المشركين من غير ترقّب فساد عليه. و كلما كان كذلك يجوز بل قد يجب، فلا يستفاد من الروايتين أمر زائد على ما يحكم به العقل.» «1» انتهى ما ذكره الأستاذ، و هو كلام متين.

(1) أي في التفصيل بين الهدنة و حال الحرب أو المباينة كما يأتي بيانه.

(2) رواها في الوسائل عن أبي القاسم الصيقل، قال: كتبت إليه: إنّي رجل صيقل أشتري السيوف و أبيعها من السلطان أ جائز لي بيعها؟

فكتب: «لا بأس

______________________________

(1) المكاسب المحرّمة 1/ 154 (- ط. أخرى 1/ 229)، في النوع الثالث من القسم الثاني.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 392

و رواية علي بن جعفر عن أخيه عليه السّلام قال: سألته عن حمل المسلمين إلى المشركين التجارة؟ قال: «إذا لم يحملوا سلاحا فلا بأس.» (1)

______________________________

به.» «1» و لكن أبو القاسم الصيقل مجهول، و لا يعرف المروي عنه أيضا.

و الظاهر أنّ مراده بالسلطان السلطان من خلفاء الجور في عصره و لم يكن في قباله إلّا دول الكفر، فالأسلحة كانت تصرف لدفعهم. فوزان الرواية وزان رواية الحضرمي، و لم يكن الصيقل في بلاد الإسلام مرتبطا بسلاطين الكفر يبيع منهم السلاح، فتأمّل.

(1) راجع الوسائل «2» و عبّروا عنها بالصحيحة- بناء على اعتبار الكتاب المنسوب إلى علي بن جعفر- و لكن دلالتها على المنع بالمفهوم، و إطلاقه غير واضح لكونها في مقام بيان حكم المنطوق، و يكفي في صحّة التقييد و ثبوت المفهوم تحقق المنع في بعض الصور كصورة المباينة أو الحرب مثلا. و إن شئت قلت: إنّ مفهوم القضية بمنزلة النقيض لها و نقيض الموجبة الكلية سالبة جزئية و نقيض السالبة الكلية موجبة جزئية.

هذا مضافا إلى أنّ الظاهر من المشركين في السؤال المشركون المجاورون لبلاد الإسلام، و الغالب فيهم في تلك الأعصار كونهم في حال الحرب أو المباينة مع دولة الإسلام.

و بالجملة دلالة الرواية على المنع بنحو الإطلاق ممنوعة.

و تجويز التجارة معهم في هذه الرواية لا ينافي ما مرّ منّا من تنقيح المناط القطعي و القول بحرمة كلّ ما يوجب قوتهم و شوكتهم في قبال المسلمين بحيث يخاف منهم عليهم و لو آجلا، و من أظهر مصاديق ذلك في أعصارنا إيجاد العلاقات التجارية.

بداهة

أنّ هذا المعنى يختلف بحسب الأزمنة و أنواع التجارة، و لم يكن في تلك

______________________________

(1) الوسائل 12/ 70، الباب 8 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5.

(2) نفس المصدر و الباب، الحديث 6.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 393

و مثله ما في وصية النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لعليّ عليه السّلام: «يا عليّ، كفر باللّه العظيم من هذه الأمّة عشرة أصناف»، و عدّ منها بائع السلاح من أهل الحرب. (1)

______________________________

الأعصار التجارات الجزئيّة الصادرة عن الأفراد مع المشركين و الكفّار بحدّ توجب قوّتهم و سلطتهم على المسلمين. هذا.

و لكن يمكن أن يقال: إنّ التجارات الجزئية معهم كانت جائزة لا محالة على فرض عدم قيام الحرب بينهم و بين المسلمين، إذ في حال الحرب لا يجوز معاونتهم بأيّ نحو كان كما هو واضح، و على هذا فمورد الصحيحة لا محالة صورة الهدنة.

و حيث فصّل فيها بين تجارة الأسلحة و غيرها- و التفصيل قاطع للشركة- كان مقتضاها عدم الجواز في الأسلحة مطلقا و لو في حال الهدنة، فتدبّر.

(1) راجع الوسائل «1» و الرواية و إن اشتملت على مضامين عالية و لكن في سندها مجاهيل، فيشكل الاعتماد عليها، و عدّها من الروايات المطلقة الدالّة على المنع أيضا قابل للمناقشة، إذ الظاهر أنّه يراد بأهل الحرب فيها الكفّار المحاربون فعلا مع دولة الإسلام أو المستعدّون لها كما ربما يؤيد ذلك التشديد المذكور في الرواية من الحكم بكفر بائع الأسلحة منهم، فلا تشمل الكفّار العائشتين تحت ظلّ حكومة الإسلام و إن لم يعملوا بشرائط الذمّة.

و في هذا الباب من الوسائل رواية أخرى لم يتعرض لها المصنف، قال:

«و عنهم، عن أحمد بن محمد، عن أبي عبد اللّه البرقي، عن السرّاج،

عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: قلت له: إنّي أبيع السلاح؟ قال: فقال: «لا تبعه في فتنة.» هكذا في الوسائل «2»، و على هذا فالسرّاج مجهول، و لكن في الكافي «3»

______________________________

(1) راجع نفس المصدر 12/ 71، و الباب، الحديث.

(2) نفس المصدر 12/ 70، و الباب، الحديث 4.

(3) راجع الكافي 5/ 113، كتاب المعيشة، باب بيع السلاح منهم، الحديث 4.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 394

[الإشكال في كلام الشهيد في المقام]

فما عن حواشي الشهيد من أنّ بيع السّلاح حرام مطلقا في حال الحرب و الصلح و الهدنة لأنّ فيه تقوية الكافر على المسلم فلا يجوز على كلّ حال، شبه الاجتهاد في مقابل النصّ، مع ضعف دليله كما لا يخفى. (1)

______________________________

و التهذيب «1» عن السرّاد، فإن أريد به الحسن بن محبوب فهو لا يمكن أن يروي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام إلّا بواسطة، و إن أريد به غيره فهو مجهول. و في الاستبصار «2»:

عن السرّاد عن رجل، فيصير الخبر مرسلا.

و كيف كان فالفتنة معنى عامّ تشمل محاربة بعض الشيعة مع بعض أيضا إذا نشأت عن الأهواء و لم تكن في طريق الدفاع عن الحقّ، و أمّا الدفاع عن الإسلام و الحقّ و العدالة فلا يسمى فتنة، كما هو واضح، هذا.

و في سنن البيهقي أيضا بأسانيده عن عمران بن حصين قال: «نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن بيع السّلاح في الفتنة.» «3» و عمران بن حصين صحابيّ مرضيّ الفريقين. «4»

(1) أراد أنّ الشهيد «ره» حيث أخذ بظهور ما يدلّ بإطلاقه على المنع المطلق و ترك تقييده بما هو نصّ في التفصيل فكأنّه اجتهد في مقابل النصّ.

و لكن يرد على ذلك: أنّه على فرض إطلاق رواية علي

بن جعفر مفهوما وجب الأخذ بإطلاقها، كما أفتى به جماعة و حكاه المصنّف عن الشهيد أيضا، و لا وجه لتقييد إطلاق مفهومها بسبب روايتي الحضرمي و الهند المفصّلتين، لما مرّ من أنّ موردهما حمل الأسلحة إلى المسلمين المخالفين للدفاع عن حوزة الإسلام و بلاده في قبال الكفر، و لم يكن في عصر صدور هذه الأخبار تشكّل شيعي و دولة شيعية مستقلة يخاف عليها من ناحية هؤلاء المخالفين. و أمّا رواية علي بن جعفر

______________________________

(1) راجع التهذيب 6/ 354، باب المكاسب، الحديث 128.

(2) راجع الاستبصار 3/ 57، كتاب المكاسب، باب كراهية حمل السلاح إلى أهل البغي، الحديث 1.

(3) سنن البيهقي 5/ 327، كتاب البيوع، باب كراهية بيع ... و السيف ممن يعصي اللّه عزّ و جلّ به.

(4) راجع تنقيح المقال 2/ 350؛ و أسد الغابة 4/ 137.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 395

..........

______________________________

فالموضوع فيها المشركون.

و على هذا فليس إفتاء الشهيد بالمنع بالنسبة إلى المشركين مطلقا اجتهادا منه في مقابل النصّ. و ما ذكره من الدليل أيضا قويّ- و يظهر مفاده من عبارة المصنف أيضا- إذ نفس تمكين الكفّار و المشركين من الأسلحة القتّالة يوجب قوّتهم في قبال المسلمين، و تقويتهم بذلك أمر يحكم بقبحه العقل لكونها في معرض التعرّض لبلاد المسلمين و قتل النفوس المحترمة و هتك الأعراض. كيف؟! و في الأمور المهمة مجرّد الاحتمال منجّز عقلا فكيف مع المعرضية و الظنّ؟ و الشرع الذي أوجب إعداد القوة و رباط الخيل في قبالهم بداعي إرهابهم كيف يجوّز تمكينهم من الأسلحة و مظاهر القوّة و القدرة؟! و قد مرّ في رواية تحف العقول في عداد ما يحرم بيعه: «و كلّ منهي عنه مما يتقرب به لغير

اللّه أو يقوى به الكفر و الشرك.» و فيها أيضا في وجه الحرام من الولاية: «فولاية الوالي الجائر و ولاية ولاته ... و العمل لهم و الكسب معهم بجهة الولاية ... فلذلك حرم العمل معهم و معونتهم و الكسب معهم إلّا بجهة الضرورة.» «1» نعم الرواية مضطربة المتن و لا سند لها كما مرّ في أوائل المكاسب. «2». هذا. و لكن يمكن أن يقال- كما في مصباح الفقاهة أيضا-:

«إنّ هذا كلّه لو تقارن البيع مع التسليم و التسلّم الخارجي.» «3» إذ لا يلزم من البيع المجرّد عنهما تقوية للكفّار على المسلمين.

______________________________

(1) تحف العقول/ 333 و 332.

(2) راجع 1/ 70 و 88 و ما بعدهما من الكتاب.

(3) مصباح الفقاهة 1/ 188، في المسألة الثالثة من القسم الثاني من النوع الثاني.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 396

[حكم المسألة في ما إذا لم يقصد البائع المعونة]

ثمّ إنّ ظاهر الروايات شمول الحكم لما إذا لم يقصد البائع المعونة و المساعدة أصلا، بل صريح مورد السؤال في روايتي الحكم و الهند هو صورة عدم قصد ذلك. فالقول باختصاص حرمة البيع بصورة قصد المساعدة كما يظهر من بعض العبائر (1) ضعيف جدّا. و كذلك ظاهرها الشمول لما إذا لم يعلم باستعمال أهل الحرب للمبيع في الحرب بل يكفي مظنة ذلك بحسب غلبة ذلك مع قيام الحرب بحيث يصدق حصول التقوّي لهم بالبيع.

[الحكم مخالف للأصول يقتصر على مورد النص]

و حينئذ فالحكم مخالف للأصول (2) صير إليه للأخبار المذكورة و عموم رواية تحف العقول المتقدمة، فيقتصر فيه على مورد الدليل و هو السّلاح، دون

______________________________

(1) في المختصر النافع: «الثالث: ما يقصد به المساعدة على المحرّم كبيع السّلاح لأعداء الدين في حال الحرب، و قيل مطلقا.» «1»

و في المسالك: «لا فرق في أعداء الدين بين كونهم مسلمين أو كفّارا، لاشتراكهم في الوصف و هو الإعانة على المحرّم المنهي عنها، و منهم قطّاع الطريق و نحوهم، و إنّما يحرم مع قصد المساعدة أو في حال الحرب أو التهيؤ له، أمّا بدونها فلا.» «2» و مرّ عن الجواهر قوله: «مع قصد الإعانة أو كانت الحرب قائمة.» «3»

(2) يعني ما يدلّ على حلّية كلّ عمل تكليفا إلّا ما ثبت حرمته، إذ البحث فعلا في الحكم التكليفي لا الوضعي.

______________________________

(1) المختصر النافع/ 116، كتاب التجارة، الفصل الأوّل، النوع الثالث مما يحرم الاكتساب به.

(2) المسالك 3/ 123، كتاب التجارة، الفصل الأوّل، النوع الثاني مما يحرم الاكتساب به.

(3) الجواهر 22/ 28، كتاب التجارة، الفصل الأوّل، النوع الثاني مما يحرم الاكتساب به، و قد مرّ في ص 387.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 397

ما لا يصدق عليه ذلك كالمجنّ

و الدرّع و المغفر و سائر ما يكنّ، (1) وفاقا للنهاية و ظاهر السّرائر و أكثر كتب العلامة و الشهيدين و المحقق الثاني (2)،

______________________________

و في حاشية السيّد «ره»: «إذا كان المدار على حصول التقوّي و خصّ بحال الحرب- كما يظهر من عبارته- فليس الحكم مخالفا للأصول، إذ يصدق الإعانة على الإثم حينئذ و إن لم يقصد البائع حسبما عرفت، مع أنّ من القواعد حرمة تقوية الكفر، يدلّ عليها العقل و النقل، فإنّ المستفاد من خبر تحف العقول حرمة ذلك مطلقا لقوله عليه السّلام: أو يقوى به الكفر و الشرك.» «1»

أقول: أراد بما ذكره من صدق الإعانة على الإثم حينئذ ما أشار إليه قبل ذلك في كلامه- وفاقا للمحقق الأردبيلي- من أنّ الإعانة تصدق مع القصد أو الصدق العرفي، و في حال الحرب أو التهيؤ لها تصدق عرفا و إن لم تقصد، نظير ما مرّ في إعطاء العصا لمن أراد ضرب المظلوم بها.

(1) في الصحاح: «كننت الشي ء: سترته و صنته من الشمس، و أكننته في نفسي: أسررته ... و كننت الجارية و أكننتها، فهي مكنونة و مكنّة.» «2»

(2) قد مرّ عن نهاية الشيخ قوله: «و لا بأس ببيع ما يكنّ من آلة السّلاح لأهل الكفر مثل الدروع و الخفاف.» «3»

و في السرائر ذكر عبارة النهاية و رواية محمد بن قيس الآتية، «4» و ظاهره قبول مضمونهما.

و في الدروس: «و يكره بيع ما يكنّ كالدرع و البيضة و الخف و التجفاف- بكسر التاء- و هو الذي يلبس الخيل.» «5»

______________________________

(1) حاشية المكاسب/ 12.

(2) الصحاح 6/ 2189.

(3) النهاية/ 366، باب المكاسب المحظورة و المكروهة و المباحة.

(4) راجع السرائر 2/ 216، باب ضروب المكاسب.

(5) الدروس/ 328 (- ط. أخرى 3/

166)، كتاب المكاسب، الدرس 232، الثاني مما يحرم الاكتساب به.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 398

للأصل و ما استدلّ به في التذكرة (1) من رواية محمد بن قيس، قال:

سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الفئتين من أهل الباطل تلتقيان، أبيعهما السّلاح؟ قال: «بعهما ما يكنّهما: الدرع و الخفّين و نحوهما. (و نحو هذا- الوسائل.) (2)

______________________________

و في الروضة: «و لا يلحق بالسّلاح ما يعدّ جنة للقتال كالدرع و البيضة و إن كره.» «1»

و قال العلّامة في النهاية: «و يجوز بيع ما يكنّ من آلات السّلاح كالدرع و البيضة.» «2»

و في القواعد: «و لا بأس ببيع ما يكنّ من آلة السّلاح.» «3»

و في جامع المقاصد في ذيل تعرض المصنّف لحرمة بيع السّلاح لأعداء الدين قال: «و هذا إنّما هو فيما لا يعدّ جنّة كالدرع و البيضة و الخفّ و التجفاف- بكسر التاء- و هو ما يلبس للخيل، فلا يحرم نحو هذه.» «4»

(1) فيها: «و يجوز بيع ما يكنّ من النبل لأعداء الدين، لأنّ محمد بن قيس سأل الصادق عليه السّلام عن الفئتين. الحديث.» «5»

(2) راجع الوسائل «6» و السند صحيح.

______________________________

(1) الروضة في شرح اللمعة 3/ 211، كتاب المتاجر، الفصل الأوّل.

(2) نهاية الإحكام 2/ 467، كتاب البيع، المقصد الأوّل، الفصل الثالث، المطلب الثاني.

(3) القواعد 1/ 120، كتاب المتاجر، المقصد الأوّل، الفصل الأوّل، القسم الثاني.

(4) جامع المقاصد 4/ 17، كتاب المتاجر، في القسم الثاني مما يحرم الاكتساب به.

(5) التذكرة 1/ 587، كتاب البيع، المقصد الثامن، الفصل الأوّل في أنواع المكاسب.

(6) الوسائل 12/ 70، الباب 8 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 3. و سنده هكذا: محمد بن يعقوب، عن عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن

علي بن الحكم، عن هشام بن سالم، عن محمد بن قيس.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 399

لكن يمكن أن يقال: إنّ ظاهر رواية تحف العقول إناطة الحكم على تقوّي الكفر و وهن الحقّ. و ظاهر قوله عليه السّلام في رواية هند: «من حمل إلى عدوّنا سلاحا يستعينون به علينا» أنّ الحكم منوط بالاستعانة، و الكلّ موجود فيما يكنّ أيضا كما لا يخفى. مضافا إلى فحوى رواية الحكم المانعة عن بيع السّروج. و حملها على السيوف السريجيّة لا يناسبه صدر الرواية مع كون الراوي سرّاجا. (1)

______________________________

(1) محصّل الجواب عن التفصيل بين ما يقاتل به و بين ما يكنّ به و القول بجواز الثاني وجوه:

الأوّل: أنّ لفظ السّلاح يعمّ ما يكنّ به أيضا:

ففي المصباح المنير: «السلاح: ما يقاتل به في الحرب و يدافع.» «1»

و في مجمع البحرين: «قوله- تعالى-: وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ هي جمع سلاح- بالكسر- و هو ما يقاتل به في الحرب و يدافع.» «2»

أقول: هذا ما يظهر من مصباح الفقاهة، «3» و لكن يمكن أن يناقش بأنّ لفظ السّلاح منصرف إلى ما يقاتل به. و حيث إنّ آلات القتال وسائل للدفاع أيضا ذكر في كلامهما لفظ الدفاع. و بالجملة فإطلاق لفظ السّلاح على مثل الدرع و المغفر و المجنّ غير مأنوس، فتأمّل.

الوجه الثاني: أنّ اللّه- تعالى- أمر بإعداد القوة و رباط الخيل لإرهاب أعداء اللّه، و بيع ما يكنّ به منهم نقض لهذا الغرض المهمّ.

الوجه الثالث: أنّ تمكين أعداء اللّه من مطلق وسائل الحرب و لو مما يكنّ به تقوية لهم في قبال المسلمين، و هي قبيحة عقلا و محرّمة شرعا، كما يشهد بذلك

______________________________

(1) المصباح المنير/ 284.

(2) مجمع البحرين

2/ 373 (- ط. أخرى/ 172).

(3) راجع مصباح الفقاهة 1/ 189، في المسألة الثالثة من القسم الثاني من النوع الثاني.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 400

و أمّا رواية محمد بن قيس فلا دلالة لها على المطلوب، لأنّ مدلولها بمقتضى أنّ التفصيل قاطع للشركة الجواز فيما يكنّ و التحريم في غيره مع كون الفئتين من أهل الباطل، فلا بدّ من حملهما على فريقين محقوني الدماء، إذ لو كان كلاهما أو أحدهما مهدور الدّم لم يكن وجه للمنع من بيع السلاح على صاحبه. فالمقصود من بيع ما يكنّ منهما تحفّظ كلّ منهما عن صاحبه و تترّسه بما يكنّ، و هذا غير مقصود فيما نحن فيه، بل تحفّظ أعداء الدين عن بأس المسلمين خلاف مقصود الشارع. فالتعدّي عن مورد الرواية إلى ما نحن فيه يشبه القياس مع الفارق. و لعلّه لما ذكر قيّد الشهيد فيما حكي عن حواشيه على القواعد إطلاق العلّامة جواز بيع ما يكنّ بصورة الهدنة و عدم قيام الحرب.

______________________________

قوله في رواية تحف العقول فيما يحرم بيعه: «أو يقوى به الكفر و الشرك من جميع وجوه المعاصي أو باب يوهن به الحق ...»، «1» و قوله عليه السّلام في رواية هند السّراج:

«من حمل إلى عدوّنا سلاحا يستعينون به علينا ...»، «2» حيث يظهر منه أنّ ملاك الحرمة استعانتهم به علينا، و جميع هذه العناوين منطبقة على ما يكنّ به أيضا.

الرابع: أنّ في رواية الحضرمي مورد سؤال حكم السّراج حمل السروج و أداتها إلى الشام، و السّروج ليست مما يقاتل بها. و حملها على السيوف السريجية لا يناسب كون السائل سرّاجا، هذا مضافا إلى أنّ السّروج جمع للسرج لا للسريجي و إلى أنّ السيف لا أداة

له.

بقي الكلام في صحيحة محمد بن قيس التي استدلّ بها في التذكرة للجواز فيما يكنّ به، و الجواب عنها أنّها غير مرتبطة بما نحن فيه، أعني بيع السّلاح من أعداء الدين، و قد أوضح ذلك المصنّف في المتن فلا نعيد.

______________________________

(1) تحف العقول/ 333.

(2) الوسائل 12/ 70، الباب 8 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 401

..........

______________________________

فذلكة البحث: تحريم بيع كلّ ما يوجب قوّة أعداء الإسلام في قبال المسلمين

قد تحصّل مما ذكرناه بطوله أنّ موضوع البحث في المسألة و إن كان خصوص بيع السلاح من أعداء الدين، لكن الظاهر عدم اختصاص الحكم ببيع الأسلحة منهم بل كل ما يوجب أحيانا شوكة أعداء الإسلام و قوّتهم في قبال المسلمين بحيث يخاف منهم على حوزة الإسلام أو حوزة الفرقة المحقّة، سواء في ذلك المشركون أو المخالفون بل و الطغاة من الشيعة، و ما يقاتل به أو يكنّ به، بل و العلاقات التجارية الموجبة لقوّة الطرف كما في أعصارنا، كلّ ذلك بإلقاء الخصوصية و تنقيح المناط.

و لا فرق في ذلك بين قيام الحرب فعلا أو وجود مظنّته، بل و احتماله و إن تحققت الهدنة فعلا.

و ما في رواية الحضرمي من الجواز في الهدنة و عدمه في المباينة يراد بالهدنة فيها ما كان بين أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في عصره أو بعد وفاته بلا فصل من الاجتماع تحت راية واحدة و حكم واحد، و من المباينة تشكّل الفريقين و تمايزهما في الحكم و السياسة و إن فرض تصالحهما فعلا لأغراض سياسية.

و بالجملة فللمسألة هوية سياسية، و اللازم رعاية مصلحة الإسلام و الأمّة فلا يجوز تقوية الجماعة التي يخاف منها و لو في المآل بالنسبة إلى حوزة الإسلام أو الفرقة المحقّة. فلو

فرض أنّ جماعة من الكفّار كانت تحت لواء الإسلام و كان تقويتهم بالسلاح أو غيره في طريق الدفاع عن حوزة الإسلام و كيان المسلمين جاز تسليم الأسلحة و غيرها إليهم و لو مجانا بل قد يجب، و لو فرض أنّ جماعة من

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 402

[بيع السّلاح من قطّاع الطريق]

ثمّ إنّ مقتضى الاقتصار على مورد النصّ عدم التعدّي إلى غير أعداء الدين كقطّاع الطريق، (1) إلّا أنّ المستفاد من رواية تحف العقول إناطة الحكم بتقوّي الباطل و وهن الحقّ، فلعلّه يشمل ذلك، و فيه تأمّل.

______________________________

الشيعة الظالمة المتهتكة تشكّلت و خيف منهم على حوزة الإسلام و قوانينه أو الفرقة المحقة و أصولها و لو في بعض البلاد لم يجز تقويتهم و أخبار المسألة بعد ضمّ بعضها إلى بعض لا تدلّ على غير ذلك و بذلك يحكم العقل الصريح أيضا، فتدبّر.

بيع السّلاح من قطّاع الطريق

(1) قد مرّ عن المسالك قوله: «لا فرق في أعداء الدين بين كونهم مسلمين أو كفّارا لاشتراكهم في الوصف و هو الإعانة على المحرّم المنهي عنها، و منهم قطّاع الطريق و نحوهم.» «1»

و ظاهره دخول قطّاع الطريق في أعداء الدين، و هو خلاف الظاهر، إذ الظاهر منهم من يجابه المسلمين بجهة إسلامهم.

و يحتمل بعيدا رجوع ضمير الجمع إلى الإعانة على المحرّم بلحاظ الوصف المشتق منها، يعني: و من المعين على المحرم المعين لقطّاع الطريق، و عليه فيكون الملاك في الحرمة عنده صدق الإعانة على الإثم.

و مرّ عن المستند قوله: «و أمّا غير أعداء الدين من فرق المسلمين المحاربين للمسلمين فلا شكّ في عدم لحوقهم بالكفّار، فيجوز البيع منهم في حال عدم الحرب، و الظاهر من جماعة إلحاقهم بأعداء الدين من فرق المسلمين.»

«2» و لعلّ المحارب يشمل قاطع الطريق أيضا، فتأمّل.

______________________________

(1) المسالك 3/ 123، كتاب التجارة، الفصل الأوّل، النوع الثاني مما يحرم الاكتساب به.

(2) مستند الشيعة 2/ 335، كتاب مطلق الكسب، المقصد الثالث، الفصل الثاني. و قد مرّ في ص 388.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 403

[هل النهي في المقام يدلّ على الفساد أم لا؟]

ثمّ إنّ النهي في هذه الأخبار لا يدلّ على الفساد (1)، فلا مستند له سوى ظاهر خبر تحف العقول الوارد في بيان المكاسب الصحيحة و الفاسدة، و اللّه العالم.

______________________________

و ظاهر المصنّف أنّ عنوان أعداء الدين لا يشمل قطّاع الطريق، إلّا أنّ الحكم في رواية تحف العقول لمّا كان منوطا بتقوّي الباطل و وهن الحقّ فلعلّه يشمل لهم، و لكنه تأمّل في ذلك بلحاظ أنّ الحق و الباطل ينصرفان إلى خصوص الأمور الدينية و الاعتقادية.

أقول: قد أطلق الباطل في كثير من الأخبار على مثل القمار و الشطرنج و الغناء، فيراد به مطلق المعاصي و المنكرات، فراجع الوسائل. «1»

ثمّ إنّ قوله عليه السّلام في رواية التحف: «أو شي ء يكون فيه وجه من وجوه الفساد» «2» يشمل بيع السلاح من قطّاع الطريق قطعا و لكن الرواية ضعيفة كما مرّ.

هذا.

و لكن لا يخفى أنّ مما يحكم العقل بقبحه و الشرع بحرمته إعانة الظالمين و الطغاة في ظلمهم و طغيانهم، و قطّاع الطريق من أوضح مصاديقهم، و بيع الأسلحة منهم من أوضح مصاديق الإعانة.

هل النهي في المقام يدلّ على الفساد أم لا؟

(1) في مصباح الفقاهة ما ملخّصه: «لا شبهة في أنّ الحرمة الوضعية متقوّمة بكون النهي إرشادا إلى الفساد و لا نظر له إلى مبغوضية متعلّقه، كما أنّ قوام الحرمة التكليفية بكون النهي مولويا تكليفيا ناظرا إلى مبغوضية متعلقه، فهما لا يجتمعان في استعمال

واحد.

______________________________

(1) راجع الوسائل 12/ 227- 242، الأبواب 99- 104 من أبواب ما يكتسب به.

(2) تحف العقول/ 333.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 404

..........

______________________________

و أيضا النهى من حيث هو تحريم بحث لا يقتضي الفساد لا شرعا و لا عرفا و لا عقلا، سواء تعلّق بذات المعاملة أو بوصفها أو بأمر خارج منطبق عليها.

و عليه فإن كان المراد بالنهي المتوجّه إلى المعاملة النهي التكليفي كما هو الظاهر منه بحسب الوضع لدلّ على خصوص الحرمة التكليفية، كالنهي عن البيع وقت النداء لصلاة الجمعة. و إن لم يرد منه الحرمة التكليفية كان إرشادا إلى الفساد، كالنهي المتوجه إلى المعاملات، أو إلى المانعية كالنهي المتوجه إلى موانع الصلاة.

إذا عرفت هذا فنقول: إنّ النهي عن بيع السّلاح من أعداء الدين ليس إلّا لأجل مبغوضية ذات البيع في نظر الشارع فيحرم تكليفا فقط و لا يكون دالّا على الفساد، و يتّضح ذلك جليّا لو كان النهي عنه لأجل حرمة تقوية الكفر، لعدم تعلّق النهي به بل بأمر خارج يتحد معه.» «1»

أقول: محصّل كلامه «ره» أنّ مبغوضية المعاملة و حرمتها تكليفا لا تقتضي فسادها وضعا.

و أراد بكلامه الأخير بيان أمر آخر، و هو أنّ النهي في أخبار الباب و إن تعلّق صورة ببيع الأسلحة لكنه في الحقيقة متعلّق بتقوية الكفر، و هو عنوان آخر غير عنوان البيع، فلو سلّم أنّ حرمة المعاملة تقتضي فسادها ففي المقام لا تسري الحرمة إلى عنوان البيع حتى يتوهم اقتضاؤها لفساده.

و يمكن أن يؤيّد كلامه هذا ببيان آخر أيضا، و هو أنّ النهي و إن تعلّق في بعض أخبار الباب بالبيع لكن المذكور في أكثرها حمل الأسلحة، أعني تسليمها إلى أعداء الدين. فما هو المحرّم عنوان الحمل

و التسليم لا عنوان البيع و لذا يحرم الحمل و لو مجانا، فلا وجه لفساد البيع. هذا.

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 191، في المسألة الثالثة من القسم الثاني من النوع الثاني.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 405

..........

______________________________

و لكن قد مرّ منّا في مسألة بيع العنب ممّن يعمله خمرا «1» أنّه لو فرض حرمة المعاملة و مبغوضيّتها فيمكن أن يقال باقتضائها الفساد إمّا لأنّ صحّة المعاملة تكون بإمضاء الشارع لها و حكمه بوجوب الوفاء بها و لا أقل بعدم ردعه عنها الكاشف عن رضاه بها، و من المستبعد جدّا اعتبار الشارع و إمضاؤه أو عدم ردعه لما يكون حراما و مبغوضا له، و إمّا لأنّ المهمّ في باب المعاملات الآثار العملية المترقبة منها لا نفس الأسباب بما هي ألفاظ و لا نفس المسببات الاعتبارية. و على هذا فالنهي المتعلق بها في الحقيقة نهي عن ترتيب الآثار المترقبة منها، و مقتضى ذلك فسادها، إذ لا معنى لصحة المعاملة و اعتبار المسبّب مع حرمة جميع الآثار المترتبة عليها.

هذا على فرض تعلّق النهي بنفس المعاملة. و أمّا إذا تعلّق بعنوان آخر قد ينطبق عليها فربّما يقال بعدم سراية النهي إليها، نظير ما قالوه في مسألة اجتماع الأمر و النهي، و لكن نحن ناقشنا في ذلك و فرّقنا بين متعلقات الأحكام أعني أفعال المكلّفين و بين موضوعاتها المأخوذة على نحو العموم الاستغراقي، فراجع ما حرّرناه في تلك المسألة. «2» هذا.

و أمّا النهي عن البيع وقت النداء إلى الجمعة فليس نهيا حقيقيا ناشئا عن مبغوضية متعلقه، بل هو نهي تبعي ناش عن الأمر بالجمعة، نظير الأمر المقدّمي الواقع تأكيدا لأمر ذيها، فقوله: وَ ذَرُوا الْبَيْعَ وقع تأكيدا لقوله: فَاسْعَوْا إِلىٰ ذِكْرِ

اللّٰهِ فالنهي في الحقيقة متولّد من الأمر بالضدّ على ما قالوا من أنّ الأمر بالشي ء يقتضي النهي عن ضدّه.

و كيف كان فالحكم بصحّة المعاملة مع كونها مبغوضة للشارع مشكل جدّا، اللّهم إلّا أن ينطبق عليها بعد وقوعها و لو عصيانا عنوان آخر ذو مصلحة

______________________________

(1) راجع ص 374.

(2) راجع ص 281.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 406

..........

______________________________

أقوى تقتضي وجوب الوفاء بها مع بقاء ملاك الحرمة و المبغوضية، نظير ما قالوا في التصرف الخروجي من الأرض المغصوبة التي توسّطها عمدا، و لكن الالتزام بهذا الانطباق يحتاج إلى دليل إلّا أن يقال باستكشاف ذلك بعمومات وجوب الوفاء و حلية البيع و التجارة. هذا.

و المصنف منع دلالة النهي في المقام على الفساد و لكنه التزم بأنّ المستند للمنع إن كان رواية تحف العقول كان مقتضاه الفساد لما مرّ من أنّ محطّ النظر فيها بيان المكاسب و التجارات الصحيحة و الفاسدة، و لكن الرواية لا سند لها كما مرّ.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 407

النوع الثالث: ما ليس فيه منفعة محلّلة معتدّ بها

اشارة

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 409

النوع الثالث: ممّا يحرم الاكتساب به: ما لا منفعة فيه محلّلة معتدّا بها عند العقلاء. و التحريم في هذا القسم ليس إلّا من حيث فساد المعاملة و عدم تملك الثمن، و ليس كالاكتساب بالخمر و الخنزير. (1)

______________________________

النوع الثالث:

ما ليس فيه منفعة محلّلة معتد بها

[الفرق بين هذا النوع و النوعين السابقين]

(1) غرضه أنّ في النوعين السّابقين كان نفس البيع محرّما تكليفا، و أمّا في هذا النوع فلا دليل على حرمة المعاملة تكليفا و لكن لما لم يقع شي ء ذو منفعة بإزاء الثمن كانت المعاملة فاسدة فلم ينتقل الثمن إلى البائع و كان تصرفه فيه حراما بما أنّه تصرّف في مال الغير.

و بعبارة أخرى البحث في هذا النوع متمحّض في الحرمة الوضعية، و أمّا في النوعين السّابقين فكان محطّ البحث حرمة نفس المعاملة تكليفا و إن كانت ربما تستعقب الفساد أيضا إن دلّ عليه دليل.

أقول: على ما ذكره المصنّف كان المناسب ذكر هذا النوع في مبحث شرائط العوضين لرجوع البحث فيه إلى اشتراط المالية في العوضين.

ثم إنّ ما ذكره إنما يصحّ على فرض تسليم كون المعاملة في جميع موارد النوعين

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 410

..........

______________________________

السابقين محرمة تكليفا، و لكن يمكن المناقشة في كثير منها، إذ مرّ منّا أنّ بيع النجس مثلا بما أنّه نجس لا دليل على حرمته تكليفا و إنّما الثابت عدم جواز بيع ما لا منفعة محلّلة له من النجاسات، ففي الحقيقة تكون النجاسات مندرجة في النوع الثالث، غاية الأمر أنّ الشي ء قد لا تكون له منفعة عقلائية أصلا، و قد تكون له منفعة عقلائية و لكنها محرّمة شرعا، فبلحاظ حكم الشرع يكون ممّا لا منفعة له و حكمه حكمه.

و القول بأنّ في بيع النجس الذي لا منفعة محلّلة له يكون نفس البيع حراما تكليفا مطلقا قابل للمناقشة. نعم في بعض المصاديق كالخمر مثلا يمكن الالتزام بذلك، لما ورد فيها في الروايات من التأكيدات حتى بالنسبة إلى غارسها و حارسها، نظير ما نلتزم به في البيع الربوي من أنّه مضافا إلى فساد المعاملة و عدم انتقال الثمن إلى البائع يكون نفس معاملته محرّمة تكليفا بمقتضى التأكيدات الواردة فيه و ليس حرمة أكله في حدّ حرمة أكل مال الغير فقط.

و قد مرّ منّا أيضا أنّ لفظ الحرمة الواقعة في كلمات القدماء من أصحابنا و في الروايات تحمل على الحرمة الوضعية، و اللفظ بحسب المفهوم أعمّ، و كذا الحلية الواقعة في قبالها، و قد شاع استعمالهما في الوضع، و محطّ النظر في المعاملات غالبا هو الصحة أو الفساد، و على ذلك حمل المصنّف رواية تحف العقول أيضا و إن عبّر فيها بالنهي أو بلفظ الحرمة، فتدبّر.

و كيف كان فبنظر المصنّف يفترق هذا النوع عن النوعين السّابقين كما مرّ بيانه.

[كلام الأستاذ الإمام «ره» في توجيه هذا النوع في عداد ما يحرم بيعه تكليفا]

و لكن الأستاذ الإمام «ره» صار بصدد توجيه ذكر هذا النوع أيضا في عداد ما يحرم بيعه تكليفا و ذكر لذلك ثلاثة وجوه نذكرها ملخّصة: «الأوّل: التمسك لحرمة نفس المعاملة بقوله- تعالى-: لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ بدعوى شمول الأكل بالباطل لتملك مال الغير بلا مال في قباله، فيصدق على بيع البائع، و نقله ما لا مالية له باعتبار تضمنه لنقل العوض إلى نفسه أنّه أكل مال المشتري، أي تملّكه بالباطل، فيكون حراما بمقتضى الآية.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 411

..........

______________________________

الثاني: التمسك بالآية لحرمة الثمن لا بعنوان التصرف في مال الغير بل بعنوان أكل المال بالباطل،

بدعوى ظهورها في أنّه محرّم بهذا العنوان.

الثالث: التمسك برواية تحف العقول، حيث يظهر منها انحصار التجارات المحلّلة فيما هو مأمور به ممّا هو غذاء للعباد و قوامهم به في أمورهم من وجوه الصلاح الذي لا يقيمهم غيره، و ما لا منفعة فيه خارج عن ذلك لعدم صلاح الناس فيه، فإذا خرج عن ذلك دخل في المحرّم.»

ثم ناقش هو في هذه الوجوه بما ملخّصه:

«أمّا في الأوّل فبأنّ الأكل و إن كان كناية و لا يراد به خصوص الأكل في قبال الشرب لكن لا يستفاد منه إلّا سائر التصرفات الخارجية لا مثل إنشاء البيع و الصلح و نحوهما ممّا لا يعدّ تصرّفا، و لا أظنّ أن يلتزم أحد بحرمة إنشاء المعاملة على مال الغير مع عدم رضا صاحبه، مع وضوح حرمة التصرّف في مال الغير بغير رضاه.

و أمّا في الثاني فبأنّ الظاهر أنّ الباطل عنوان انتزاعيّ من العناوين المقابلة للتجارة مثل القمار و السّرقة و الخيانة و نحوها، فأكل المال بالقمار حرام لكونه أكل مال الغير بلا سببية التجارة، و لا يكون حراما تارة بعنوان كونه مال الغير، و أخرى بعنوان كونه باطلا، بل الباطل عنوان مشير إلى العناوين الأخر من القمار و السّرقة و نحوهما، نعم نفس عنوان القمار حرام مستقلّ، و أخذ الثمن في مقابل ما لا منفعة له حرام من جهة كونه تصرفا فيه بلا سبب ناقل لا لانطباق عنوان آخر عليه حتى يكون محرما بعنوانين.

و أمّا في الثالث فبأنّ الرواية متعرّضة لوجوه التجارات العقلائية المتعارفة بين الناس كالأمثلة المذكورة فيها في شقّي الصحة و الفساد، و ليست متعرّضة لما لا صلاح و لا فساد فيها كما هو مفروض المقام لعدم إقدام العقلاء

على مثلها، و يشهد له قوله في صدرها: سأله سائل فقال: كم جهات معايش العباد التى فيها

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 412

[الدليل على الفساد في هذا القسم]

[أكل المال بالباطل]

و الدليل على الفساد في هذا القسم- على ما صرّح به في الإيضاح- كون أكل المال بإزائه أكلا بالباطل. (1)

______________________________

الاكتساب و التعامل بينهم و وجوه النفقات؟ فقال: جميع المعايش كلها من وجوه المعاملات فيما بينهم مما يكون لهم فيه المكاسب أربع جهات ...». «1»

أقول: يمكن أن يناقش فيما ذكره أوّلا بأنّ مقتضى الوجه الثاني حرمة الثمن لا حرمة نفس المعاملة تكليفا و لا يقتضي حرمته حرمتها بل فسادها.

و ثانيا بأنّ كون عنوان الباطل مشيرا إلى العناوين الأخر كالقمار و نحوه لا يوجب عدم انطباق عنوان آخر على الثمن، إذ بعد كون القمار مثلا حراما يمكن أن يقال: إنّ المال المأخوذ به حرام بعنوانين: بعنوان أنّه مال الغير و بعنوان أنّه مال القمار، نظير ما التزم به هو من أنّ ثمن الخمر مثلا حرام بما أنّه مال الغير و بما أنّه ثمن للخمر، لقوله عليه السّلام: «ثمن الخمر سحت»، و إن ناقشنا نحن ذلك.

و ثالثا بأنّ ما ذكره بالنسبة إلى رواية تحف العقول مبنيّ على كونها بصدد بيان التجارات المحرمة و المحلّلة تكليفا، و لكن الظاهر- كما ذكره المصنّف أيضا- أنّ محطّ النظر فيها بيان التجارات الصحيحة و الفاسدة، فراجع. هذا.

و بعد اللتيا و التي لا نرى وجها لحرمة المعاملة على ما لا منفعة فيه حرمة تكليفية، بل قد مرّت المناقشة في حرمة كثير من النوعين السّابقين أيضا فالبحث في هذا النوع- كما ذكره المصنّف- يتمحّض في الصحة و الفساد. نعم لو ثبت فساد المعاملة كان التصرف في الثمن حراما بملاك

أنّه مال الغير إلّا أن يأذن صاحبه فيه مع قطع النظر عن وقوعه ثمنا في المعاملة، فتدبّر.

(1) راجع كتاب التجارة من إيضاح الفوائد «2».

و ظاهر المصنّف أيضا صحة الاستدلال بالآية للمقام على فرض كون الشي ء

______________________________

(1) المكاسب المحرّمة 1/ 158، (- ط. أخرى 1/ 237)، في القسم الثالث مما يحرم الاكتساب به.

(2) راجع الإيضاح 1/ 401، المقصد الأوّل، الفصل الأوّل.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 413

و فيه تأمّل، لأنّ منافع كثير من الأشياء التي ذكروها في المقام تقابل عرفا بمال و لو قليلا بحيث لا يكون بذل مقدار قليل من المال بإزائه سفها.

فالعمدة ما يستفاد من الفتاوى و النصوص من عدم اعتناء الشارع بالمنافع النادرة و كونها في نظره كالمعدومة.

قال في المبسوط: «إنّ الحيوان الطاهر على ضربين: ضرب ينتفع به و الآخر لا ينتفع به- إلى أن قال:- و إن كان مما لا ينتفع به فلا يجوز بيعه بلا خلاف، مثل الأسد و الذئب و سائر الحشرات مثل الحيّات و العقارب

______________________________

بحيث لا يبذل عرفا بإزائه شي ء من المال و لو قليلا.

و قد مرّ مرارا أنّ الاستدلال بالآية للمقام مبنيّ على كون الباء فيها للمقابلة، نظير ما يدخل على الثمن في المعاملة، فيكون مفادها النهي عن أخذ مال الغير بعوض لا مالية له و يكون باطلا محضا.

و لكن الظاهر عدم صحّة هذا المبنى، بل الباء للسببية، فتكون الآية ناظرة إلى بيان الأسباب الناقلة كما يشهد بذلك استثناء التجارة عن تراض التي هي منها أيضا، فيراد بها النهي عن أكل أموال الناس بمثل القمار و السرقة و نحوهما من الأسباب الباطلة عند الشرع بل عند العرف أيضا إذا بقي على صرافة عقله و فطرته.

و يشهد بما

ذكرنا أخبار وردت في تفسير الآية، حيث فسّرت فيها بالقمار، فراجع الوسائل «1».

و بالجملة ليست الآية في مقام بيان شرط العوضين بل في مقام بيان الأسباب الناقلة.

______________________________

(1) راجع الوسائل 12/ 119- 121، الباب 35 من أبواب ما يكتسب به، الأحاديث 1 و 8 و 9 و 14.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 414

و الفأر و الخنافس و الجعلان و الحدأة و النسر و الرخمة و بغاث الطير و كذلك الغربان.» انتهى. (1)

[التمسك بالإجماع على ذلك]

______________________________

(1) راجع كتاب البيوع من المبسوط. «1»

و الظاهر من عبارة المصنّف الاعتماد في المسألة على الإجماع و عدم الخلاف المذكورين في كلمات الأصحاب في المقام، و لكن الظاهر من عبارة المبسوط أنّ عدم جواز البيع في الحيوانات المذكورة ليس لتعبّد خاص ورد فيها من الشرع، بل لكونها مما لا ينتفع بها من جهة كونها محرّمة اللحم، و لم تكن في تلك الأعصار ينتفع بها بطريق آخر، فكانت المعاملة عليها سفهية، بل لم تكن بيعا حقيقة لأنّه مبادلة بمال.

و بذلك يظهر أنّ ادّعاء الإجماع في مثل هذه المسألة بلا وجه و إن فرض اتفاق الفتاوى و عدم الخلاف فيها، إذ الإجماع إنّما يكون حجة في المسائل التعبّدية المأثورة المتلقاة عن المعصومين عليهم السّلام، لا في المسائل المبتنية على الاستنباط من القواعد الكلّية، إذ هو نظير الإجماع في المسائل العقلية و الفلسفية المبتنية على الاستنباط و النظر.

و على هذا فلو فرض وجود منفعة عقلائية محلّلة في هذا السنخ من الحيوانات كان اللازم الحكم بجواز المعاملة عليها بمقتضى عمومات العقود و البيع و التجارة و سيرة العقلاء، و في أعصارنا ينتفع بها كثيرا في الأدوية و تغذية الطيور و استخراج الموادّ الكيمياوية النافعة و نحو

ذلك، بل و حفظها في حديقة الوحوش و الطيور لمشاهدة المراجعين. و نفس معرفة الحيوانات المتنوعة و الاطلاع عليها و على خصوصياتها و حركاتها منفعة عقلائية و لم يرد في الشرع منع منها، و جميع ذلك توجب ماليتها و الرغبة فيها و في اشترائها. هذا.

______________________________

(1) راجع المبسوط 2/ 166، كتاب البيوع، فصل في حكم ما يصحّ بيعه و ما لا يصحّ.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 415

..........

______________________________

و لكن ربما يظهر من تطابق كلماتهم على ذكر هذا السنخ من الحيوانات في المقام و ادّعاء بعضهم الإجماع في المسألة أنّ المسألة عندهم بهذا النحو من المسائل المأثورة المتلقّاة عن المعصومين عليهم السّلام، فلنتعرض لبعض هذه الكلمات:

1- قال المفيد في مكاسب المقنعة: «و التجارة في القردة و السّباع و الفيلة و الذئبة و سائر المسوخ حرام و أكل أثمانها حرام ... و التجارة في الفهود و البزاة و سباع الطير التي يصاد بها حلال، و بيع الجرّي و المارماهي و الزمّار و الطافي و كلّ سمك لا فلس له حرام، و كذلك بيع الضفادع و السّلاحف و الرقاق و كلّ محرّم من البحار حرام.» «1»

أقول: في لسان العرب: «الرقّ: ضرب من دوابّ الماء شبه التمساح، و الرقّ:

العظيم من السّلاحف، و جمعه رقوق. و في الحديث: كان فقهاء المدينة يشترون الرقّ فيأكلونه.» «2»

و لعلّ المتراءى من عبارة المقنعة بدوا أنّ حرمة التجارة فيما ذكره من الحيوانات من الأصول المتلقّاة عن المعصومين عليهم السّلام لكون المقنعة من الكتب المؤلفة لذكر هذا السنخ من المسائل.

و لكن بالدقة في كلامه يظهر أنّ حرمة التجارة و حلّيتها فيها دائرة عنده مدار كونها ذوات منفعة محلّلة و عدمه، و حيث إنّ بعضا منها

و لا سيّما البحرية منها تكون عند أهل الخلاف محلّلة اللحوم تعرّض لها في قبالهم، فالمسألة متلقاة عنهم عليهم السّلام بلحاظ حرمة لحومها لا بلحاظ حرمة التجارة عليها، فلا ينافي ذلك جواز بيعها بلحاظ المنافع المحلّلة غير الأكل، كأن يصاد بسببها مثلا. و هذا البيان بعينه يجري فيما يأتي من الكلمات أيضا.

______________________________

(1) المقنعة/ 589، باب المكاسب.

(2) لسان العرب 10/ 123.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 416

..........

______________________________

2- و قال الشيخ في بيوع الخلاف (المسألة 308): «لا يجوز بيع شي ء من المسوخ مثل القرد و الخنزير و الدّبّ و الثعلب و الأرنب و الذئب و الفيل و غير ذلك ممّا سنبينه. و قال الشافعي: كلّ ما ينتفع به يجوز بيعه مثل القرد و الفيل و غير ذلك.

دليلنا إجماع الفرقة، و أيضا قوله عليه السّلام: «إن اللّه إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه.» و هذه الأشياء محرمة اللحم بلا خلاف إلّا الثعلب فإنّ فيه خلافا، و هذا نصّ.» «1»

أقول: ظاهره كون حرمة البيع بنفسها مجمعا عليها عند الفرقة، و لكن من المحتمل كون المراد بالإجماع المذكور إجماعهم على حرمة لحومها في قبال بعض العامّة، أو إجماعهم على حرمة بيع النجس على مبناه من نجاسة المسوخ كلّها كما صرّح بها في أطعمة الخلاف (المسألة 2). «2» و عليك بمراجعة ما حرّرناه في مسألة بيع المسوخ. «3»

3- و قال في مكاسب النهاية: «و بيع سائر المسوخ و شراؤها و التجارة فيها و التكسب بها محظور مثل القردة و الفيلة و الدّببة و غيرها من أنواع المسوخ ... و بيع جميع السباع و التصرّف فيها و التكسب بها محظور إلّا الفهود خاصّة، فإنّه لا بأس بالتكسب بها و التجارة فيها لأنّها

تصلح للصيد، و لا بأس بشري الهرّ و بيعه و أكل ثمنه، و بيع الجرّي و المارماهي و الطافي و كلّ سمك لا يحلّ أكله و كذلك الضفادع و السّلاحف، و جميع ما لا يحلّ أكله حرام بيعه و التكسب به و التصرّف فيه.» «4»

أقول: ظهور كلامه في كون حرمة البيع فيها ناشئة عن حرمة أكلها و عدم منفعة محلّلة أخرى لها واضح.

______________________________

(1) الخلاف 3/ 184 (- ط. أخرى 2/ 81).

(2) نفس المصدر 6/ ... (- ط. أخرى 3/ 264).

(3) راجع 1/ 473 من الكتاب.

(4) النهاية/ 364، باب المكاسب المحظورة و المكروهة و المباحة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 417

..........

______________________________

و على هذا فالمتلقّى عن المعصومين عليهم السّلام حرمة أكلها، و أمّا حرمة بيعها فعلى ما هو المسلّم عندهم من اعتبار المالية في العوضين، لتخرج المعاملة عن كونها سفهية فحكموا بها على طبق القاعدة. كيف؟! و لو كانت حرمة التجارة فيها بنفسها مأثورة لوجدنا بها روايات عنهم عليهم السّلام، و لم نجدها إلّا في بعض الأفراد كالقرد مثلا، فراجع.

4- و في المبسوط أيضا: «كلّ ما ينفصل من آدميّ من شعر و مخاط و لعاب و ظفر و غيره لا يجوز بيعه إجماعا لأنّه لا ثمن له و لا منفعة فيه.» «1»

5- و في الغنية: «و اشترطنا أن يكون منتفعا به تحرّزا مما لا منفعة فيه كالحشرات و غيرها. و قيّدنا بكونها مباحة تحفّظا من المنافع المحرّمة، و يدخل في ذلك كلّ نجس لا يمكن تطهيره إلّا ما أخرجه الدليل من بيع الكلب المعلّم للصيد و الزيت النجس للاستصباح به تحت السّماء، و هو إجماع الطائفة.» «2»

أقول: المصنّف أرجع هذا الإجماع المدّعى إلى جميع ما ذكر،

و لا يخلو من إشكال، بل الظاهر رجوعه إلى الأخير، فتأمّل.

6- و في الشرائع: «الثالث: ما لا ينتفع به كالمسوخ، بريّة كانت كالقرد و الدبّ، و في الفيل تردد و الأشبه جواز بيعه للانتفاع بعظمه، أو بحرية كالجرّي و الضفادع و السّلاحف و الطافي، و السّباع كلّها إلّا الهرّ، و الجوارح طائرة كانت كالبازي أو ماشية كالفهد، و قيل: يجوز بيع السباع كلّها تبعا للانتفاع بجلدها أو ريشها، و هو الأشبه.» «3»

______________________________

(1) المبسوط 2/ 167، فصل في حكم ما يصحّ بيعه و ما لا يصح.

(2) الجوامع الفقهية/ 524 (- ط. أخرى/ 586)، كتاب البيع من الغنية.

(3) الشرائع/ 264 (- ط. أخرى 2/ 10)، كتاب التجارة، الفصل الأوّل، النوع الثالث مما يحرم الاكتساب به.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 418

..........

______________________________

أقول: ظهور كلامه في كون حرمة البيع فيها ناشئة من عدم المنفعة لا التعبّد المحض واضح. و على هذا فكثير من الأمثلة قابلة للمناقشة، إذ الفيل مثلا مضافا إلى الانتفاع بعظمها كان ينتفع بها في الحروب و في حمل الأمتعة.

7- و في الجواهر في ذيل قول المصنّف: «ما لا ينتفع به» قال: «نفعا مجوزا للتكسب به على وجه يرفع السفه عن ذلك، بلا خلاف أجده فيه، بل الإجماع بقسميه عليه، إنّما الكلام فيما ذكره المصنّف مثالا له.» «1»

فيظهر منه أنّ الملاك عدم عدّ المعاملة سفهية و أن الإجماع منعقد على هذه الكليّة لا على الأمثلة المذكورة.

8- و في التذكرة: «الشرط الثاني: المنفعة. مسألة: لا يجوز بيع ما لا منفعة فيه لأنّه ليس مالا فلا يؤخذ في مقابلته المال كالحبة و الحبتين من الحنطة ... مسألة:

لا يجوز بيع ما لا ينتفع به من الحيوانات كالخفاش و العقارب

و الحيّات و بنات وردان و الجعلان و القنافذ و اليرابيع، لخسّتها و عدم التفات نظر الشرع إلى مثلها في التقويم، و لا يثبت الملكية لأحد عليها. و لا اعتبار بما يورد في الخواصّ من منافعها، فإنّها مع ذلك لا تعدّ مالا، و كذا عند الشافعي. و في السّباع التي لا تصلح للصيد عنده وجهان لمنفعة جلودها. أمّا العلق ففي بيعه لمنفعة امتصاص الدّم إشكال، و أظهر وجهي الشافعي و أحمد الجواز. و كذا ديدان القزّ تترك في الشطّ فيصاد بها السّمك. و الأقرب عندي المنع، و هو أحد الوجهين لهما لندور الانتفاع فأشبه ما لا منفعة فيه، إذ كلّ شي ء فله نفع ما، و منع الشافعي من بيع الحمار الزمن و ليس بجيّد للانتفاع بجلده.» «2»

أقول: و الإشكال في بعض ما ذكره واضح أشار إليه المصنّف في المتن.

______________________________

(1) الجواهر 22/ 34، كتاب التجارة، الفصل الأوّل.

(2) التذكرة 1/ 465، كتاب البيع، الفصل الرابع، الشرط الثاني من شروط العوضين.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 419

..........

______________________________

9- و في الفقه على المذاهب الأربعة عن الحنابلة: «و يجوز بيع سباع البهائم كالفيل و السبع و نحوهما. كما يجوز بيع جوارح الطير كالصقر و الباز، و لا يصحّ بيع الحشرات كالعقرب و الحيّة و دود القزّ و الدود الذي يصاد به.»

و عن الحنفية: «و يصحّ بيع كلب الصيد و الحراسة و نحوه من الجوارح كالأسد و الذئب و الفيل و سائر الحيوانات سوى الخنزير إذا كان ينتفع بها أو بجلودها على المختار. و كذلك يصحّ بيع الحشرات و الهوامّ كالحيّات و العقارب إذا كان ينتفع بها، و الضابط في ذلك: أنّ كلّ ما فيه منفعة تحلّ شرعا فإنّ

بيعه يجوز.» «1»

10- و فيه أيضا عن الحنفية: «فإذا لم يكن من شأنه الانتفاع به كحبّة من حنطة أو لم يكن الانتفاع به مباحا شرعا كالخمر و الخنزير و المنخنقة و الموقوذة و نحو ذلك ممّا يعتبر ميتة في نظر الشرع فإنّه لا يعتبر مالا، فإذا باع ما لا ينتفع به أصلا كالتراب و الدم المسفوح و القليل التافه كحبّة من حنطة فإنّ بيعه يقع باطلا، و كذلك إذا باع ما ينتفع به و لكن لم يكن الانتفاع به مباحا في نظر الشرع ... و من هذا الضابط نعلم أنّ المعوّل عليه في انعقاد البيع هو أن يكون للشي ء قيمة مالية شرعيّة. فإذا لم تكن له قيمة في بعض الأزمنة ثم عرض له ما يجعل له قيمة كان بيعه صحيحا متى كان يباح الانتفاع به شرعا كالتراب إذا كان يستعمل سمادا للزرع أو ينتفع به في شي ء آخر ...» «2»

أقول: يظهر من كلام الحنفية عدم ابتناء المسألة عندهم على تعبّد خاصّ، و إنّما الملاك وجود المالية و عدمها على ما تسالموا عليه من اعتبار المالية في العوضين.

و ليتهم اكتفوا بذكر هذا الملاك بكلّيته و لم يتعرضوا للأمثلة الجزئية التي يمكن أن يناقش في بعضها بحسب اختلاف الأزمنة و الأمكنة.

______________________________

(1) الفقه على المذاهب الأربعة 2/ 232، كتاب البيع، مبحث بيع النجس و المتنجّس.

(2) نفس المصدر 2/ 237، كتاب البيع، مبحث التصرف في المبيع قبل قبضه.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 420

و ظاهر الغنية الإجماع على ذلك أيضا، و يشعر به عبارة التذكرة، حيث استدلّ على ذلك بخسّة الأشياء و عدم نظر الشارع إلى مثلها في التقويم، و لا يثبت يد لأحد عليها، قال: «و لا

اعتبار بما ورد في الخواصّ من منافعها، لأنّها لا تعدّ مع ذلك مالا، و كذا عند الشافعي.» انتهى.

و ظاهره اتفاقنا عليه.

و ما ذكره من عدم جواز بيع ما لا يعدّ مالا مما لا إشكال فيه، و إنّما الكلام فيما عدّوه من هذا.

قال في محكي إيضاح النافع (1)- و نعم ما قال-: «جرت عادة الأصحاب بعنوان هذا الباب و ذكر أشياء معيّنة على سبيل المثال، فإن كان ذلك لأنّ عدم النفع مفروض فيها فلا نزاع، و إن كان لأنّ ما مثّل به لا يصح بيعه لأنّه محكوم بعدم الانتفاع فالمنع متوجه في أشياء كثيرة.»

انتهى.

و بالجملة فكون الحيوان من المسوخ أو السّباع أو الحشرات لا دليل على كونه كالنجاسة مانعا. (2) فالمتعين فيما اشتمل منها على منفعة مقصودة للعقلاء جواز البيع. فكلما جاز الوصية به لكونه مقصودا

______________________________

(1) للفاضل القطيفي على ما حكاه عنه في مفتاح الكرامة. «1»

(2) قد مرّ منّا منع كون النجاسة بنفسها أيضا مانعة و إنّما المانع في النجاسات عدم وجود المنفعة المحلّلة فيها، و لذا استثنوا منها موارد اربعة، فنفس الاستثناءات فيها دليل على أنّ الملاك وجود المنفعة المحلّلة الموجبة لماليتها شرعا و عدمها.

______________________________

(1) راجع مفتاح الكرامة 4/ 40، كتاب المتاجر، المقصد الأوّل، الفصل الأوّل. و فيه: «جرت عادة الأصحاب بعنوان هذا الباب بعدم الانتفاع و ذكر أشياء معينة على سبيل المثل ...».

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 421

بالانتفاع للعقلاء فينبغي جواز بيعه إلّا ما دلّ الدليل على المنع فيه تعبدا.

و قد صرّح في التذكرة (1) بجواز الوصية بمثل الفيل و الأسد و غيرهما من المسوخ و الموذيات و إن منعنا عن بيعها. و ظاهر هذا الكلام أنّ المنع من بيعها- على القول

به- للتعبّد لا لعدم المالية.

ثمّ إنّ ما تقدّم منه- قدّس سرّه- من أنّه لا اعتبار بما ورد في الخواصّ من منافعها لأنها لا تعدّ مالا مع ذلك يشكل بأنّه إذا اطّلع العرف على خاصية في إحدى الحشرات معلومة بالتجربة أو غيرها فأيّ فرق بينها و بين نبات من الأدوية علم فيه تلك الخاصية؟

و حينئذ فعدم جواز بيعه و أخذ المال في مقابله بملاحظة تلك الخاصية يحتاج إلى دليل لأنّه حينئذ ليس أكلا للمال بالباطل. (2) و يؤيد ذلك ما تقدّم في رواية التحف من أن «كل شي ء يكون لهم فيه الصلاح من جهة من الجهات فذلك حلال بيعه الخ.»

______________________________

(1) راجع وصية التذكرة قال: «و أمّا ما يكون مقصودا فإنّه تصحّ الوصية به و إن حرم بيعه كالفيل و الأسد و غيرهما من المسوخ و الموذيات إن منعنا من بيعها تبعا للانتفاع بجلودها.» «1»

أقول: و الظاهر أنّ قوله: «تبعا للانتفاع بجلودها» تعليل لكونها مقصودة للعقلاء، و مقتضى ذلك ماليتها قهرا فلم لا يجوز بيعها؟

(2) ظاهره جواز الاستدلال بالآية للمنع على فرض انتفاء الخاصية و المالية بالكلية، و قد مرّ الإشكال في ذلك و أنّ الآية بصدد بيان الأسباب الناقلة لا اشتراط المالية في العوضين.

______________________________

(1) التذكرة 2/ 479، كتاب الوصية، المقصد الأوّل، الفصل الرابع.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 422

و قد أجاد في الدروس حيث قال: «ما لا نفع فيه مقصودا للعقلاء كالحشار و فضلات الإنسان.» (1)

و عن التنقيح: «ما لا نفع فيه بوجه من الوجوه كالخنافس و الديدان.» (2)

و مما ذكرنا يظهر النظر فيما ذكره في التذكرة من الإشكال في جواز بيع العلق الذي ينتفع به لامتصاص الدّم، و ديدان القزّ التي يصاد بها السّمك،

ثمّ استقرب المنع قال: «لندور الانتفاع فيشبه ما لا منفعة فيه إذ كل شي ء فله نفع ما.» انتهى. (3)

______________________________

(1) راجع مكاسب الدروس «1» و لا يخفى أنّ فضلات الإنسان تختلف بحسب الأزمنة و الأمكنة، و في بعض البلاد تباع و تشترى بأغلى الأثمان، و لعلّ بعض الحشرات أيضا كذلك فكان الأولى اكتفاءهم بذكر الضابط الكلي.

(2) في التنقيح: «كل واحد من الأعيان المبيعة لا يخلو إمّا أن لا يكون فيه نفع بوجه ما من الوجوه أو يكون، فإن كان الأوّل فلا يجوز بيعه كالخنافس و الديدان ...» «2»

(3) قد مرّت عبارة التذكرة «3»، و ما ذكره المصنّف: «من التزام جواز بيع كلّ ما له نفع ما، و لو فرض الشك في صدق المال و البيع أمكن الحكم بصحة المعاوضة لعمومات التجارة و العقود و نحوهما» كلام صحيح، إذ المالية تختلف باختلاف الرغبات، و لعلّ شي ء لا يرغب فيه الأكثر و لكن يرغب فيه بعض لخصوصية تلاحظ فيه و معها تعدّ عنده مالا و المعاملة عليه عقلائيّة و لا سيّما في عصرنا الذي

______________________________

(1) الدروس/ 328 (- ط. أخرى 3/ 167)، الدرس 232، الثالث مما يحرم الاكتساب به.

(2) التنقيح الرائع 2/ 10، كتاب التجارة، الفصل الأوّل، الرابع مما يحرم الاكتساب به.

(3) راجع التذكرة 1/ 465. و قد مرّت في ص 418.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 423

أقول: و لا مانع من التزام جواز بيع كلّ ما له نفع ما. و لو فرض الشكّ في صدق المال على مثل هذه الأشياء المستلزم للشكّ في صدق البيع أمكن الحكم بصحة المعاوضة عليها لعمومات التجارة و الصلح و العقود و الهبة المعوضة و غيرها، و عدم المانع لأنّه ليس

إلّا أكل المال بالباطل، و المفروض عدم تحققه هنا.

______________________________

يتنوّع فيه الرغبات، و التمسك بالعمومات المذكورة أيضا بلا إشكال.

ثمّ إنّ عدم مالية شي ء قد يكون لقلّته كحبّة من حنطة مثلا، و قد يكون لكثرته كإناء من ماء في ساحل الشطّ مثلا، و قد يكون لخسّته و رداءته كبعض الحشرات التي لا يرغب فيها أصلا، و قد يكون لحرمة الانتفاع به شرعا كبعض الأعيان النجسة التي لا يوجد لها منفعة عقلائية محلّلة و لا يعدّ مالا عند المتشرّعة، و لأجل ذلك منعنا كون النجاسة بنفسها مانعة عن صحة البيع بل جعلنا النوع الأوّل قسما من النوع الثالث كما مرّ بيانه.

و ليعلم كما مرّت إليه الإشارة: أنّ المالية إنّما تعتبر بلحاظ الفوائد الكامنة في الشي ء و الأغراض المترتبة عليه. و الفائدة لا تنحصر في مثل الأكل و الشرب و نحوهما، بل ربما يرغب العقلاء في شي ء بلحاظ فوائد معنوية أو علمية. و من ذلك حفظ بعض الحيوانات لظرافتها و نقوشها الجالبة أو نغماتها الحسنة أو للإحاطة العلمية بحركاتها و كيفية تعيّشها و تغذيها و توليدها و نحو ذلك. و من هذا القبيل أيضا حفظها في حديقة الوحوش لمشاهدة المراجعين. و قد لا يوجد في الشي ء رغبة عامّة و لكن يوجد فيه رغبة عقلائية لبعض الأشخاص، كما إذا فرض وجود ورقة خطّية مثلا عند البائع فرأى المشتري أنّ الخطّ فيها خطّ أبيه أو جدّه فأراد اشتراءها و حفظها بعنوان ذكرى أبيه أو جدّه.

فجميع هذه فوائد عقلائية محلّلة موجبة للرغبة و الماليّة و لو لبعض و لا وجه لمنع

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 424

..........

______________________________

المعاملة عليها.

بل قد لا يكون الغرض متعلقا بنفس الشي ء بل بشرائه و جمعه، كما

إذا هجمت الموذيات إلى المزارع فأراد الوالي أو المالك دفعها و انحصر ذلك في إعلان شرائها ممن يصرف وقته لجمعها، فهذه المعاملة أيضا عقلائيّة، فتدبّر.

ما استدلّ به لعدم صحّة بيع ما لا فائدة له

اشارة

قد ذكر في مصباح الفقاهة لذلك خمسة وجوه و ناقش فيها، فلنتعرّض لها و لمناقشاته ملخّصة:

الوجه الأوّل: أنه باطل فلا يجوز أخذ الثمن بإزائه

بمقتضى الآية الشريفة، كما مرّ في المتن عن إيضاح الفوائد.

و فيه ما مرّ من أنّ الاستدلال بالآية مبني على كون الباء فيها للمقابلة و هو ممنوع، إذ هي للسببية بقرينة الاستثناء الوارد فيها و الأخبار الواردة في تفسيرها بالقمار.

الوجه الثاني: أنّ أصل البيع كما عن المصباح المنير: «مبادلة مال بمال»، و ما لا نفع له لا يعدّ مالا.

و فيه أوّلا: أنّه لا يعتبر في مفهوم البيع و صدقه لغة و عرفا عنوان المبادلة بين المالين، و من هنا ذكر في القاموس: «أنّ كلّ من ترك شيئا و تمسّك بغيره فقد اشتراه»، و من الواضح عدم تحقق الاشتراء بدون البيع. و قال الراغب في المفردات: «البيع و الشراء متلازمان.» و قد كثر في الكتاب العزيز استعمال البيع و الشراء في غير المبادلة المالية: قال اللّه- تعالى-: الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيٰاةَ الدُّنْيٰا بِالْآخِرَةِ، إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمٰانِ. إلى غير ذلك من الآيات. و أمّا ما عن المصباح فمضافا إلى عدم حجية قوله إنّه ليس تعريفا حقيقيا بل لمجرد شرح

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 425

..........

______________________________

الاسم. و ثانيا: أنّه لو ثبت ذلك فغاية ما يلزم منه عدم كون المعاملة بيعا و لكن يمكن تصحيحها بعمومات العقود و التجارة و نحوهما.

الوجه الثالث: أنّ المعاملة على ما لا نفع له سفهية فتكون فاسدة لذلك.

و فيه منع ذلك صغرى و كبرى: أمّا الصغرى فلأنّها إنّما تكون سفهية إن انتفت فيها الأغراض النوعية و الشخصية كلتاهما، و المقام ليس كذلك، إذ ربما تتعلق الأغراض الشخصية باشتراء ما لا نفع فيه من الحشرات و غيرها. و أمّا الكبرى فلعدم الدليل على بطلان المعاملة السفهية بعد شمول العمومات لها. و إنّما الثابت بالأدلّة بطلان معاملة السفيه لكونه محجورا عن التصرّف.

الوجه الرابع: ما ذكره المصنّف من قوله عليه السّلام في رواية تحف العقول:

«و كلّ شي ء لهم فيه الصلاح من جهة من الجهات فذلك كلّه حلال بيعه و شراؤه»، إذ لا يراد به مجرّد المنفعة و إلّا لعمّ الأشياء كلّها، و قوله عليه السّلام في آخرها: «إنّما حرّم اللّه الصناعة التي يجي ء منها الفساد محضا نظير كذا و كذا.» فإنّ كثيرا من الأمثلة المذكورة هناك لها منافع محلّلة، فإنّ الأشربة المحرّمة كثيرا ما ينتفع بها في معالجة الدوابّ و المرضى فجعلها مما يجي ء منه الفساد محضا باعتبار عدم الاعتناء بهذه المصالح لندرتها.

و فيه: أنّ هاتين القطعتين من الرواية إنّما سيقتا لبيان حكم الأشياء التي تمحّضت للصلاح أو الفساد أو تساوت فيها الجهتان أو غلبت إحداهما على الأخرى فيحكم بصحة بيعها أو فساده. و أمّا الأشياء التي لها نفع محلّل نادر فخارجة عن حدود الرواية، إذ ليس فيها تعرّض لذلك بوجه، و عليه فلا مانع من صحّة المعاملة عليها للعمومات.

الوجه الخامس: دعوى غير واحد الإجماع على ذلك.

و فيه: أنّ المحصّل منه غير حاصل، و المنقول منه ليس بحجة، على أنّه لا نطمئن بوجود الإجماع التعبّدي الكاشف عن الحجة المعتبرة لاحتمال استناد المجمعين إلى

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 426

..........

______________________________

الوجوه المذكورة في المسألة.» «1»

أقول: ما ذكره في الوجه الثالث من عدم الدليل على بطلان المعاملة السفهية يمكن أن يناقش فيه بأنّ الظاهر أنّ حكم الشارع ببطلان معاملة السفيه ليس إلّا كون معاملاته في معرض وقوعها سفهية موجبة لتضييع المال، فلا يحتمل صحة المعاملة التي تعدّ عند العقلاء سفهية و الحال أنّ معرضيتها لذلك موجبة لبطلانها، فتدبّر. هذا.

و الأستاذ الإمام «ره» بعد ما تعرّض لأقسام ما لا منفعة له كما مرّ ذكر وجها آخر لبطلانها و أطال الكلام في بيانه، و نحن نذكر كلامه ملخصا

تتميما للفائدة، قال:

«فإن كان عدم المنفعة لخسّته فلا ينبغي الإشكال في بطلانها، و هو المتيقّن من معقد الإجماع المحكي عن المبسوط و غيره.

و يدلّ عليه- مضافا إلى ذلك- عدم صدق واحد من عناوين المعاملات عليها، لأنّ حقيقة المعاوضة و نحوها- كالهبة مجانا- متقوّمة بتبديل الإضافات الخاصّة.

فالبيع عبارة عن مبادلة مال بمال أو عين بعين، لا مطلقا و لا في ذاتهما أو أوصافهما الحقيقيّة و لا في مطلق الإضافات، بل في إضافة خاصّة هي إضافة الملكية أو الأعمّ منها و من إضافة الاختصاص. و الهبة عبارة عن تمليك عين مجانا أو في مقابل تمليك عين مثلا، و حقيقتها أيضا نقل الإضافة الخاصّة أو تبديلها.

فمع عدم اعتبار العقلاء الملكية أو الاختصاص لشي ء بالنسبة إلى شخص لا يمكن تحقق العناوين المتقومة بهما و هو واضح. و لا ريب في أنّ اعتبار الملكية أو الاختصاص لدى العقلاء ليس جزافا و عبثا، بل للاعتبارات العقلائية مناشئ و مصالح. فاعتبار الملكية أو الاختصاص فيما لا ينتفع به و لا يرجى هي منه و لا يكون موردا لغرض عقلائي نوعي أو شخصي لغو صرف و عبث محض.

______________________________

(1) راجع مصباح الفقاهة 1/ 193، في النوع الثالث مما يحرم الاكتساب به.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 427

..........

______________________________

فمثل البرغوث و القمّل ليس ملكا لأحد و لا لأحد حقّ اختصاص به. فما ربما يقال: إنّ للإنسان حقّ اختصاص بالنسبة إلى فضلاته ليس وجيها على إطلاقه، فالنخامة الملقاة على الأرض ليست ملكا لصاحبها و لا له حقّ اختصاص بها أعرض عنها أم لم يعرض.

و بالجملة اعتبار الملكية و حقّ الاختصاص تابع لجهة من جهات المصالح، و ما لا نفع فيه مطلقا و لا غرض لأحد في

اقتنائه لا يعتبر ملكا و لا مختصا بأحد، فأساس المعاملات المتقومة بالإضافتين منهدم رأسا، بل الظاهر عدم صدق شي ء من عناوين المعاملات مع فقد المالية مطلقا.

فما قيل من أنّ البيع عبارة عن تبديل عين بعين من غير اعتبار المالية فيهما ساقط لا ينبغي أن يصغى إليه.

كما أنّ توهّم الافتراق بين البيع و بين العقد و التجارة غير وجيه، لاشتراك الجميع في عدم الصدق و في عدم المناط لاعتبار العقلاء.

و من هنا يظهر جواز التمسك بقوله- تعالى-: لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ إِلّٰا أَنْ تَكُونَ تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ. فإنّ الظاهر منه أنّ الأكل بغير التجارة مطلقا منهيّ عنه، فالأمر دائر بين أمرين لا ثالث لهما، فإذا لم يصدق على مورد التجارة عن تراض يدخل في مقابله، بل لو شك في صدق أكل المال بالباطل في مورد لكن علم عدم صدق التجارة فيه يرفع الشكّ عنه و ينسلك في الأكل بالباطل. كما أنّه لو فرض الشك في صدق التجارة و علم أنّه أكل المال بالباطل يرفع الشك عنه، فالعلم بكل طرف إثباتا و نفيا رافع للشك عن الآخر كذلك كما هو الشأن في المنفصلتين الحقيقيتين.

و أمّا الاستدلال على البطلان بسفهية المعاملة فغير وجيه، لأنّ البطلان من ناحيتها- على القول به- إنّما هو بعد فرض صدق المعاملة، و أمّا مع عدم الصدق

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 428

..........

______________________________

كما في المقام فلا موضوع لها.

و يلحق بما تقدم في البطلان ما لا منفعة عقلائية له و لم يتعلق به غرض عقلائي كاشتراء الزيز مثلا لاستماع صوته و الجعل لرؤية تلاعبه مع العذرة، و ذلك لأنّ المعاملة سفهية غير عقلائية، و الأدلة العامّة كقوله- تعالى-: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ و نحوه

غير شاملة لها، إمّا لعدم صدق هذه العناوين عليها كما لا يبعد- و مع الشك فالمرجع أصل الفساد- أو لانصرافها عنها فإنّها أدلة إمضائية لما لدى العقلاء و ليست بصدد تأسيس أمر زائد على ذلك لا سيّما مثل الأعمال السفهية التي هي أضحوكة العقلاء و تتنفر عنها الطباع السّليمة، بل لو تعارف أمر سفهي بين أراذل الناس لا يمكن كشف رضى الشارع عنه لو لم يصل إلينا الردع لغاية بعد رضاه بما هو سفهي، بل لا يبعد صدق الأكل بالباطل على مثلها.

و يلحق به أيضا بيع ما لا مالية له لقلّته كحبّة من خردل، أو لكثرته كالثلج في الشتاء مع عدم تعلق غرض عقلائي بالمعاملة، و ذلك أيضا لسفهيتها، بل لا يبعد عدم صدق عنوان المعاملة عليها، و لا أقلّ من الشك فيه.

و يلحق به أيضا ما له منفعة نادرة جدّا بحيث يعدّ لدى العقلاء كلا منفعة لندورها.

فالميزان في الصحّة عقلائية المعاملة و الخروج عن السفهية، سواء كانت متعلقة لغرض شخص خاصّ، كمن ابتلي بمرض لا يبتلى به غيره و كان دواؤه شيئا لا يرغب فيه أحد، فإنّ اشتراءه لغرضه عقلائي و المعاملة من أوضح مصاديق المعاملات العقلائية و تشملها الأدلة، أو لأغراض عقلائية نادرة.

و أمّا ما لا تكون له منفعة مطلقا أو عقلائية، و لكن كان في المعاملة غرض عقلائي كما لو هجمت الموذيات إلى المزارع فأراد الحاكم أو المالك شراءها لقلع مادتها فالتحقيق صحتها و عقلائيتها، لأنّ مالية الشي ء و مراتبها تابعة للعرض

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 429

..........

______________________________

و التقاضي.

فما تعلق باشترائه غرض سياسي أو اقتصادي مثلا صار ذلك منشأ للرغبة في اشترائه و أوجبت ذلك حدوث المالية فيه، فلا ينبغي

الإشكال في صحّة تلك المعاملات و صدق البيع و التجارة و العقد عليها، و الحكم بالبطلان يحتاج إلى دليل.

و أمّا القول باعتبار كون المنفعة غير نادرة- و لو مع كون الندرة بحيث لم تخرج المعاملة عن العقلائية- بدعوى اعتبار ذلك شرعا إمّا لقيام الإجماع عليه أو لدلالة بعض الروايات ففيه ما لا يخفى ...» «1» انتهى كلام الأستاذ «ره».

أقول: أمّا ما ذكره أخيرا من الإشكال في الإجماع و الروايات المشار إليها فسيأتي بيان ذلك عن قريب في ذيل تعرّض المصنّف لهما.

و أمّا ما ذكره في أثناء كلامه من جواز التمسك بآية: لٰا تَأْكُلُوا للمنع في المقام فيمكن أن يناقش فيه بأنّه مخالف لما مرّ منه في أوائل البحث من أنّ الأكل بالباطل ليس بنفسه موضوعا للحرمة و الفساد، بل الباطل في الآية عنوان مشير إلى العناوين الأخر من القمار و السرقة و نحوهما من الأسباب الباطلة، اللّهم إلّا أن يجاب بأنّه «ره» أراد أنّ ظاهر الآية حرمة أكل كلّ ما انتقل إلى الإنسان بغير التجارة عن تراض بأيّ سبب كان، و حيث إنّ التجارة لا تصدق على المعاملة على ما لا نفع فيه أو تكون منصرفة عنها فلا محالة ينطبق عليها أحد العناوين الباطلة كالاختلاس أو التغرير أو نحوهما، فيكون التصرف فيما أخذ حراما و المعاملة باطلة بمقتضى حصر السبب الناقل شرعا في التجارة عن تراض.

ثمّ إنّه يرد على ما ذكره من الحصر عدم انحصار السبب الناقل شرعا في التجارة لصحة الهبة شرعا و لا يصدق عليها عنوان التجارة قطعا، فالحصر إضافي.

______________________________

(1) المكاسب المحرّمه 1/ 160 (- ط. أخرى 1/ 241)، في القسم الثالث مما يحرم الاكتساب به.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 430

فالعمدة

في المسألة الإجماع على عدم الاعتناء بالمنافع النادرة (1)،

______________________________

و كان عليه «ره» في مثال الزيز و الجعل رعاية الترتيب في البيان بأن يمنع أوّلا صدق عناوين المعاملات و على فرض الصدق ينصرف عنها أدلتها و لا سيّما مع كونها سفهية عند العقلاء، إذ ليست هي للتأسيس بل لإمضاء ما دار في العقلاء و شاع بينهم عملا.

و كيف كان فلو لم يكن في الشي ء نفع أصلا و لا في المعاملة عليه غرض عقلائي و لو شخصي فالظاهر بطلان المعاملة عليه لما ذكره الأستاذ «ره» من عدم اعتبار العقلاء الملكية أو الاختصاص بالنسبة إليه، و لو سلّم كانت المعاملة بالنسبة إليه سفهية، و ليس بطلان معاملات السفيه و حجره عن التصرف إلّا لكون معاملاته في معرض وقوعها سفهية و كون الغالب عليها ذلك، فتدبّر.

هذا إذا لم يكن في الشي ء نفع أصلا و لا غرض عقلائي في المعاملة عليه.

و أمّا إذا وجدت فيه منفعة و لو جزئية موجبة للرغبة فيه و لو في زمان خاصّ أو مكان خاصّ أو شرائط خاصّة أو تعلّق بالمعاملة عليه غرض عقلائي كذلك بحيث عدّ مالا حينئذ و المعاملة عليه عقلائية فلا وجه لبطلان المعاملة عليه، و يشملها العمومات و سيرة العقلاء. و ما يأتي من المصنّف من الإجماع و الروايات على عدم الاعتناء بالمنافع النادرة يأتي الجواب عنه آنفا.

(1) مرّ الإشكال في ثبوت الإجماع في المسألة بنحو يكشف به فتوى المعصوم عليه السّلام أو النصّ المعتبر «1»، و من المحتمل جدّا استناد المجمعين إلى بعض ما مرّ من الأدلّة على المنع، و إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال، و على فرض ثبوته فإنّما هو فيما لا نفع له أصلا. و موضوع المنع في

كلام الأكثر كان عنوان ما لا ينتفع به، و ظاهره عدم النفع مطلقا بحيث تعدّ المعاملة عليه سفهيّة. و الحيوانات التي ذكروها

______________________________

(1) راجع ص 414 من الكتاب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 431

[التمسك بالأخبار]

و هو الظاهر من التأمّل في الأخبار أيضا، مثل ما دلّ على تحريم بيع ما يحرم منفعته الغالبة مع اشتماله على منفعة نادرة محلّلة مثل قوله عليه السّلام:

«لعن اللّه اليهود حرّمت عليهم الشحوم فباعوها و أكلوا ثمنها.» (1) بناء على أنّ للشحوم منفعة نادرة محلّلة على اليهود، لأنّ ظاهر تحريمها عليهم تحريم أكلها أو سائر منافعها المتعارفة. فلو لا أنّ النادر في نظر الشارع كالمعدوم لم يكن وجه للمنع عن البيع، كما لم يمنع الشارع عن بيع ما له منفعة محلّلة مساوية للمحرمة في التعارف و الاعتداد.

______________________________

لذلك بعنوان المثال كانت مما يحرم أكلها عندنا و لم يكن لها في تلك الأعصار منفعة محلّلة غير الأكل توجب الرغبة في اشترائها، فلأجل ذلك حكموا بحرمة التجارة عليها و استثنوا منها ما كان ينتفع بها للصيد و نحوه كالفهود و البزاة و سباع الطير في عبارة المقنعة و الفهود و الهرّ في عبارة النهاية. و ذكر هذه الحيوانات في الكتب المعدّة لنقل المسائل المأثورة كان بلحاظ كون حرمة لحمها مأثورة لا حرمة التجارة عليها، فراجع ما حرّرناه في ذيل ما حكيناه من كلمات الأصحاب في المسألة. «1»

(1) في المستدرك عن عوالي اللآلي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: «لعن اللّه اليهود حرّمت عليهم الشحوم فباعوها و أكلوا ثمنها، و إنّ اللّه- تعالى- إذا حرّم على قوم أكل شي ء حرّم عليهم ثمنه.» قال: و رواه في الدعائم عنه صلّى اللّه عليه و

آله إلى قوله:

«و أكلوا»، و فيه موضع ثمنها: «أثمانها.» «2»

أقول: و الرواية عامية رواها أرباب السنن و المسانيد منهم عن ابن عباس عن النبي صلّى اللّه عليه و آله، و في أكثر النقول كلمة الأكل:

______________________________

(1) راجع ص 415 و ما بعدها.

(2) مستدرك الوسائل 2/ 427، الباب 6 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 8؛ و عوالي اللآلي 1/ 181، الحديث 240؛ و الدعائم 1/ 122.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 432

..........

______________________________

ففي سنن أبي داود السجستاني في باب ثمن الخمر و الميتة بسنده عن ابن عباس قال: رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جالسا عند الركن، قال: فرفع بصره إلى السّماء فضحك فقال: «لعن اللّه اليهود- ثلاثا- إن اللّه- تعالى- حرّم عليهم الشحوم فباعوها و أكلوا أثمانها، و إنّ اللّه- تعالى- إذا حرّم على قوم أكل شي ء حرّم عليهم ثمنه.» «1»

و رواها أحمد أيضا في ثلاثة مواضع من مسنده و في موضع منها بدون كلمة الأكل. «2»

و حرمة الثمن كناية عن فساد المعاملة، فيظهر من الرواية وجود الملازمة شرعا بين حرمة أكل الشي ء و فساد بيعه، و الالتزام بهذا الإطلاق مشكل، فوجب أن تحمل على صورة كون المبيع مما يترقّب منه الأكل و يصرف عادة فيه و وقع بيعه لذلك، و لعلّ هذا هو المتبادر منها، و لعلّ اليهود أيضا كانوا يبيعون الشحوم لمن يصرفها في الأكل مع حرمة أكلها على أنفسهم. هذا.

و لكن قصّة بيع اليهود للشحوم رواها جابر أيضا عنه صلّى اللّه عليه و آله بدون الضابطة المذكورة في الذيل:

ففي سنن أبي داود أيضا في الباب المذكور بسنده عن جابر بن عبد اللّه أنّه سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و

آله يقول عام الفتح و هو بمكة: «إنّ اللّه حرّم بيع الخمر و الميتة و الخنزير و الأصنام.» فقيل: يا رسول اللّه، أ رأيت شحوم الميتة فإنّه يطلى بها السفن و يدهن بها الجلود و يستصبح بها الناس؟ فقال: «لا، هو حرام.» ثم قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عند ذلك: «قاتل اللّه اليهود، إنّ اللّه لمّا حرّم عليهم شحومها أجملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه.» و رواها بسند آخر أيضا عن جابر و ليس فيه: «هو حرام.» «3»

______________________________

(1) سنن أبي داود 2/ 251، كتاب الإجارة، باب في ثمن الخمر و الميتة، الحديث 4.

(2) راجع مسند أحمد 1/ 247 و 293 و 322، في مسند عبد اللّه بن عباس.

(3) سنن أبي داود 2/ 250- 251، كتاب الإجارة، باب في ثمن الخمر و الميتة، الحديثين 2 و 3.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 433

و أوضح من ذلك قوله عليه السّلام في رواية تحف العقول في ضابط ما يكتسب به: «و كلّ شي ء يكون لهم فيه الصلاح من جهة من الجهات فذلك كلّه حلال بيعه و شراؤه الخ.» إذ لا يراد منه مجرّد المنفعة و إلّا لعمّ الأشياء كلّها. و قوله في آخرها: «إنّما حرّم اللّه الصناعة التي يجي ء منها الفساد محضا نظير كذا و كذا» إلى آخر ما ذكره، فإنّ كثيرا من

______________________________

و رواها الشيخ أيضا في بيوع الخلاف عن جابر (المسألة 311). «1»

أقول: السفن- محرّكة-: جلد خشن كان يجعل على قوائم السيوف.

و في نهاية ابن الأثير: «جملت الشحم و أجملته: إذا أذبته و استخرجت دهنه، و جملت أفصح من أجملت.» «2»

و لعلّ الظاهر من هذه الرواية أنّ الشحوم كانت محرّمة على اليهود بجميع انتفاعاتها،

إلّا أن يقال: إنّها كانت لهم بحكم الميتة، و لا نسلّم حرمة جميع الانتفاعات منها، بل المحرّم منها- مضافا إلى الأكل- استعمالها فيما يقع التماسّ معها كثيرا بحيث يوجب تنجيس مظاهر التعيش.

و يظهر من المصنّف هنا أنّ للشحوم منفعة نادرة غير محرّمة على اليهود، و على ذلك بنى الاستدلال بالرواية للمقام.

و هذا ينافي ما مرّ منه في مسألة بيع الأبوال حيث قال: «و الظاهر أنّ الشحوم كانت محرّمة الانتفاع على اليهود بجميع الانتفاعات لا كتحريم شحوم غير المأكول علينا.»

و إذا احتملنا حرمة جميع الانتفاعات لهم و لو كانت نادرة فالاستدلال بالرواية للمقام يصير بلا وجه، مضافا إلى كون الرواية عامّية.

______________________________

(1) الخلاف 3/ 186 (- ط. أخرى 2/ 83).

(2) النهاية لابن الأثير 1/ 298.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 434

الأمثلة المذكورة هناك لها منافع محلّلة، فإنّ الأشربة المحرمة كثيرا ما ينتفع بها في معالجة الدوابّ بل المرضى، فجعلها مما يجي ء منها الفساد محضا باعتبار عدم الاعتناء بهذه المصالح لندرتها. (1)

______________________________

(1) أقول:- مضافا إلى ضعف الرواية و اضطرابها متنا- قد مرّ عن مصباح الفقاهة الجواب عن هذا الدليل «1» بأنّ هاتين القطعتين من الرواية سيقتا لبيان حكم الأشياء التي تمحّضت للصلاح أو للفساد أو وجدت فيها الجهتان معا بالتساوي أو بالاختلاف. و أمّا الأشياء التي لا فساد فيها و لها نفع محلّل نادر فخارجة عن حدود الرواية، إذ ليس فيها تعرّض لها، فلا مانع من صحّتها بعد شمول العمومات لها.

فإن قلت: الرواية في مقام بيان إعطاء الضابطة الكلية للمعاملات الصحيحة و الفاسدة فإذا انصرفت الفقرة الأولى المتصدية لبيان المعاملات الصحيحة عن المقام لندور النفع فيه دخلت المعاملة عليه لا محالة في القسم الفاسد.

قلت: أوّلا: الالتزام

بعكس ذلك أولى، إذ الفقرة الثانية مشتملة على أداة الحصر، فمفادها حصر المعاملات الفاسدة فيما اشتمل على الفساد محضا، و المفروض في المقام عدم الفساد.

و ثانيا: يمكن منع الانصراف المذكور، إذ الصحّة إذا كانت دائرة مدار وجود المصلحة فأيّ تفاوت بين كونها غالبة أو نادرة بعد فرض وقوع المعاملة عليه بلحاظ المصلحة الموجودة؟

و ثالثا: لو سلّم تعارض الفقرتين أو انصرافهما بالنسبة إلى المقام كان المرجع عمومات العقود و التجارة و نحوهما.

و رابعا: كون الرواية بصدد بيان الضابط لجميع المعاملات ممنوع، بل الظاهر كونها في مقام بيان الضابط للمعاملات الرائجة بين العقلاء في تعيّشهم، و المقام

______________________________

(1) راجع ص 425 من الكتاب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 435

[الإشكال في تعيين المنفعة النادرة و تميزها عن غيرها]

________________________________________

نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في المكاسب المحرمة، 3 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، اول، 1415 ه ق

دراسات في المكاسب المحرمة؛ ج 2، ص: 435

إلّا أنّ الإشكال في تعيين المنفعة النادرة و تميزها عن غيرها، فالواجب الرجوع في مقام الشكّ إلى أدلّة التجارة و نحوها ممّا ذكرنا.

______________________________

ليس من هذا القبيل لندورها. و يشهد بذلك صدر الرواية أعني قوله: «سأله سائل فقال: كم جهات معايش العباد التي فيها الاكتساب و التعامل بينهم؟»

فإن قلت: ما ذكرت إلى هنا كان في المعاملة على ما لا نفع فيه إلّا منفعة نادرة محلّلة، و أمّا ما حرمت منافعه الغالبة و اشتمل على منفعة محلّلة نادرة أيضا فالظاهر شمول الفقرة الثانية له، فإنّ بعض أمثلتها كالأشربة المحرّمة مثلا يمكن أن ينتفع بها في معالجة الدوابّ بل المرضى و مع ذلك حكمت بحرمة المعاملة عليها، فيظهر بذلك عدم اعتناء الشارع بهذه المصالح النادرة- كما في كلام المصنّف-.

قلت: لا نسلّم حرمة المعاملة عليها

بلحاظ هذه المصالح مع الحاجة إليها، و قد مرّ منا في مبحث بيع الخمر جواز بيعها للتخليل مثلا. «1» و أدلّة تحريم صنعها و بيعها و منها هذه الرواية منصرفة إلى صناعتها و بيعها للمنافع المحرمة.

فقوله صلّى اللّه عليه و آله في صحيحة محمد بن مسلم مثلا: «إنّ الذي حرّم شربها حرّم ثمنها» «2» يظهر منه بمناسبة الحكم و الموضوع و تعليق الحكم على الوصف فساد بيعها بقصد شربها المحرّم لا مطلقا، فراجع ما حرّرناه في مبحث بيع الخمر و نحوها. «3» هذا.

و ناقش في مصباح الفقاهة في الاستدلال بالرواية بوجه آخر أيضا فقال: «هي مختصّة بالحرمة التكليفية على ما تقدم في أوّل الكتاب فلا تشمل الحرمة الوضعية.» «4»

______________________________

(1) راجع 1/ 451 و ما بعدها من الكتاب.

(2) الوسائل 12/ 164، الباب 55 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

(3) راجع 1/ 451 و 469 و 185 و ما بعدها و غيرها من الكتاب.

(4) مصباح الفقاهة 1/ 194، في النوع الثالث مما يحرم الاكتساب به.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 436

..........

______________________________

أقول: قد مرّ من المصنّف و منّا أيضا أنّ محطّ النظر في رواية تحف العقول بيان المعاملات الصحيحة و الفاسدة و أن المراد بالحرمة فيها هي الوضعية، و إطلاق لفظي الحرمة و الحليّة في باب المعاملات ينصرف إلى الوضع، و ليس استعمالهما فيه مجازا، بل الموضوع له لهما بحسب الوضع هو الأعمّ، فيراد بالحرمة:

المحدودية و بالحلّية: الإطلاق و عدم المحدودية، فراجع ما حرّرناه في الجهة الثالثة في شرح الرواية. «1»

______________________________

(1) راجع 1/ 86 من الكتاب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 437

[حكم بيع السباع]

اشارة

و منه يظهر أنّ الأقوى جواز بيع السباع بناء على وقوع التذكية عليها،

للانتفاع البيّن بجلودها، و قد نصّ في الرواية على بعضها، و كذا شحومها و عظامها. (1)

______________________________

حكم بيع السباع

(1) أقول: قد مرّ منّا البحث في بيع المسوخ بما هي مسوخ عند إشارة المصنّف إليه في آخر البحث عن بيع النجاسات، فراجع. «1» و قد كان البحث عنه هناك بلحاظ قول البعض بنجاستها كما أفتى بها الشيخ في أطعمة الخلاف (المسألة 2)، «2» و المبحوث عنه هنا بيع السباع و نحوها بلحاظ وجود المنفعة و عدمها،

[بعض كلمات الأصحاب في المقام]

فلنذكر بعض كلماتهم في هذا المقام فنقول:

1- قد مرّ عن مكاسب المقنعة قوله: «و التجارة في الفهود و البزاة و سباع الطير التي يصاد بها حلال.» «3»

2- و مرّ عن مكاسب النهاية قوله: «و بيع جميع السباع و التصرّف فيها و التكسب بها محظور إلّا الفهود خاصّة فإنّه لا بأس بالتكسب بها و التجارة فيها

______________________________

(1) راجع 1/ 473 من الكتاب.

(2) الخلاف 6/ ... (- ط. أخرى 3/ 264).

(3) المقنعة/ 589، باب المكاسب. و قد مرّ في ص 415.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 438

..........

______________________________

لأنّها تصلح للصيد، و لا بأس بشري الهرّ و بيعه و أكل ثمنه.» «1»

3- و فيها أيضا: «و لا بأس ببيع عظام الفيل و التكسب بصنعته و اتخاذ الأمشاط منها و غير ذلك. و لا بأس ببيع جلود السباع مثل الفهد و الأسد و النمر و غير ذلك إذا كانت مذكّاة.» «2»

أقول: لا يخفى أنّ بين الكلامين نحو تهافت، إذ مع فرض جواز بيع جلود السباع يكشف وجود المنفعة المحلّلة فيها، فيجوز بيع أنفسها أيضا بلحاظ ذلك.

و ظاهر هذه الكلمات كون جواز البيع دائرا مدار وجود المنفعة المحلّلة، و ليس الجواز أو المنع بلحاظ تعبد خاصّ

في كلّ مورد.

4- و في المبسوط في عداد ما ينتفع به من الحيوانات قال: «و ما لا يؤكل لحمه مثل الفهد و النمر و الفيل و جوارح الطير مثل البزاة و الصقور و الشواهين و العقبان و الأرانب و الثعالب و ما أشبه ذلك- و قد ذكرناه في النهاية- فهذا كلّه يجوز بيعه.» «3»

5- و في السرائر بعد نقل كلام النهاية من عدم جواز بيع المسوخ قال: «قال محمّد بن إدريس: قوله- رحمه اللّه-: الفيلة و الدببة، فيه كلام، و ذلك أنّ كلّ ما جعل (حلّل- ظ.) الشّارع و سوّغ الانتفاع به فلا بأس ببيعه و ابتياعه لتلك المنفعة، و إلّا يكون قد حلّل و أباح و سوّغ شيئا غير مقدور عليه. و عظام الفيل لا خلاف في جواز استعمالها مداهن و أمشاطا و غير ذلك، و الدبّ ليس بنجس السؤر بل هو من جملة السّباع، فعلى هذا جلده بعد ذكاته و دباغه طاهر ... و قد قلنا ما عندنا في السباع و جلودها، و هو أنّه يجوز بيعها لأخذ جلدها، لأنّ جلود

______________________________

(1) النهاية لشيخ الطائفة/ 364، باب المكاسب المحظورة و المكروهة و المباحة.

(2) نفس المصدر و الباب/ 369.

(3) المبسوط 2/ 166، كتاب البيوع، فصل في حكم ما يصحّ بيعه و ما لا يصحّ.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 439

..........

______________________________

السباع لا خلاف أنّها مع الذكاة الشرعية يجوز بيعها و هي طاهرة، و بمجرد الذكاة يجوز بيع الجلود بلا خلاف و بانضمام الدباغ يصحّ التصرف فيها في جميع الأشياء من لبس و فرش و دثار و خزن المائعات لأنّها طاهرة، إلّا الصلاة فإنّها لا تجوز فيها فحسب ...» «1»

أقول: اعتبار الدباغ في جواز التصرف

فيها مفاد بعض الروايات كما يأتي، و الظاهر أنّ اعتباره ليس بلحاظ مطهّريته- على ما عند العامّة- إذ لا نقول نحن بذلك بعد فرض نجاسة الجلد كالميتة، بل لعلّه بلحاظ أنّ استعمال غير المدبوغ يوجب وقوع بعض شعراته على الألبسة فتمنع عن الصلاة.

6- و مرّ عن الشرائع قوله: «و قيل: يجوز بيع السباع كلّها تبعا للانتفاع بجلدها أو ريشها، و هو الأشبه.» «2»

7- و مرّ عن الفقه على المذاهب الأربعة عن الحنابلة: «و يجوز بيع سباع البهائم كالفيل و السبع و نحوهما، كما يجوز بيع جوارح الطير كالصقر و الباز.»

و عن الحنفية: «و يصحّ بيع كلب الصيد و الحراسة و نحوه من الجوارح كالأسد و الذئب و الفيل و سائر الحيوانات سوى الخنزير إذا كان ينتفع بها أو بجلودها على المختار.» «3»

[الروايات الواردة في المقام]
اشارة

أقول: هذه بعض كلماتهم في بيع السباع و التجارة فيها، فلنتعرّض للروايات الواردة فيها. و الأولى- كما صنع المصنّف- إفراد الهرّ و القرد، فلنذكر أوّلا الأخبار الواردة في غيرهما، و هي على طوائف:

______________________________

(1) السرائر 2/ 220، باب ضروب المكاسب.

(2) الشرائع/ 264 (- ط. أخرى 2/ 10)، كتاب التجارة، الفصل الأوّل، النوع الثالث مما يحرم الاكتساب به.

(3) الفقه على المذاهب الأربعة 2/ 232، كتاب البيع، مبحث بيع النجس و المتنجّس.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 440

..........

______________________________

الأولى: ما يظهر منها جواز بيع نفس الحيوان.

الثانية: ما وردت في حكم بيع جلودها و الانتفاع بها و بلحومها.

الثالثة: ما دلّت على جواز الانتفاع بعظام الفيل. و لا يخفى أنّ جواز الانتفاع بها يوجب ماليّتها، و مقتضى ذلك صحة بيعها و بيع الحيوان أيضا.

أمّا الطائفة الأولى فصحيحة عيص بن القاسم،

قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الفهود و سباع الطير هل يلتمس التجارة فيها؟ قال: «نعم.» «1»

و لعلّها مستند المفيد و الشيخ فيما حكيناه عن المقنعة و النهاية. و التعليل بكونها ممّا يصاد بها اجتهاد منهما- و نعم الاجتهاد- و مقتضاه التعدّي إلى كلّ ما ينتفع به نفعا عقلائيّا.

الطائفة الثانية: ما وردت في حكم بيع جلودها و الانتفاع بالجلود و اللحوم،

و هي كثيرة:

1- ما رواه أبو مخلّد السرّاج، قال: كنت عند أبي عبد اللّه عليه السّلام إذ دخل عليه معتّب فقال: بالباب رجلان، فقال: «ادخلهما»، فدخلا، فقال أحدهما: إني رجل سرّاج أبيع جلود النمر. فقال: «مدبوغة هي؟» قال: نعم. قال: «ليس به بأس.» «2»

و السند إلى أبي مخلّد لا بأس به، و أبو مخلّد لم يوثق و لكن يروي عنه الثقات كصفوان و ابن أبي عمير و غيرهما.

و السؤال- من حيث التذكية و عدمها- مطلق، و الدباغ عندنا لا يطهّر الميتة، فلعل محطّ السؤال الجلود المذكّاة، و اعتبار الدباغ كان بلحاظ عدم وقوع شعراتها على اللباس فتمنع عن الصلاة، و يحتمل فيها التقية أيضا.

______________________________

(1) الوسائل 12/ 123، الباب 37 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

(2) نفس المصدر 12/ 124، الباب 38 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 441

..........

______________________________

2- موثقة سماعة، قال: سألته عن جلود السباع أ ينتفع بها؟ فقال: «إذا رميت و سمّيت فانتفع بجلده و أمّا الميتة فلا.» «1»

و الرواية صريحة في قبول السّباع للتذكية الشرعية.

3- موثقة أخرى لسماعة، قال: سألته عن لحوم السباع و جلودها؟ فقال: «أمّا لحوم السباع فمن الطير و الدوابّ فإنّا نكرهه. و أمّا الجلود فاركبوا عليها و لا تلبسوا منها شيئا تصلّون فيه.» «2»

و الظاهر أنّ الركوب عليها من باب

المثال، فيجوز جميع الانتفاعات بعد تذكيتها ما عدا الصلاة فيها. و الكراهة في لسان القرآن و الحديث أعمّ من الحرمة، بل لعلّ الظاهر منها الحرمة، و التخصيص بهم عليهم السّلام من جهة تحليل أهل الخلاف لحوم بعضها، و الظاهر أنّ محطّ النظر في اللحوم خصوص الأكل، فلا تنافي الرواية بيع لحومها لتغذية الكلاب أو الطيور مثلا لجواز هذا النحو من الانتفاعات قطعا.

4- موثقة ثالثة له، قال: سئل أبو عبد اللّه عليه السّلام عن جلود السباع؟ فقال:

«اركبوها و لا تلبسوا شيئا منها تصلّون فيه.» «3»

و الظاهر أنّها قطعة مما قبلها.

5- ما رواه البرقي عن علي بن أسباط، عن علي بن جعفر، عن أخيه قال:

سألته عن ركوب جلود السباع؟ فقال: «لا بأس ما لم يسجد عليها.» «4»

و لعلّ السجود عليها كناية عن الصلاة فيها، فتأمّل. و العامّة يسجدون على كلّ شي ء فلعلّه عليه السّلام أراد الردع عن ذلك.

______________________________

(1) نفس المصدر 16/ 368 (- ط. أخرى 16/ 453)، الباب 34 من أبواب الأطعمة المحرّمة، الحديث 4.

(2) نفس المصدر 3/ 256، الباب 5 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 3.

(3) نفس المصدر و الباب، الحديث 4.

(4) نفس المصدر و الباب، الحديث 5.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 442

..........

______________________________

6- ما رواه علي بن جعفر في كتابه عن أخيه، قال: سألته عن جلود السباع و بيعها و ركوبها أ يصلح ذلك؟ قال: «لا بأس ما لم يسجد عليها.» «1»

و لا يخفى اتحاد الروايتين، و صاحب الوسائل فرّق بينهما.

7- صحيحة علي بن يقطين، قال: سألت أبا الحسن عليه السّلام عن لباس الفراء و السمّور و الفنك و الثعالب و جميع الجلود قال: «لا بأس بذلك.» «2»

و الظاهر حملها على التقية أو على

غير الصلاة فيها، إذ لا يجوز عندنا الصلاة في أجزاء ما لا يؤكل لحمه و إن كان مذكّى.

أقول: الفراء- بالهمز و فتحتين-: حمار الوحش. و بكسر الفاء ممدودا جمع فرو: جبّة تصنع من الجلود. و الفنك بفتحتين: حيوان صغير يشبه الثعلب.

و الرواية عامّة تشمل جميع الجلود.

8- رواية ذريح المحاربي قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن جلود السباع التي يجلس عليها؟ فقال: «ادبغوها.» فرخّص في ذلك. «3»

و الكلام فيها هو الكلام فيما مرّ من رواية أبي مخلّد.

فهذه أخبار يستفاد منها جواز الانتفاع بجلود السباع المستلزم لجواز البيع كما مرّ، و لعلّ هذا يستفاد من بعض الأخبار الأخر أيضا، فراجع.

و بإزاء هذه الأخبار بعض الأخبار التي يستفاد منها المنع:

1- ما رواه في الجعفريات بسنده عن علي بن أبي طالب عليه السّلام، قال: «من السحت ثمن الميتة و ثمن اللقاح و كسب الحجام ... و ثمن النرد و ثمن القرد و جلود السّباع و جلود الميتة قبل أن تدبغ. الحديث.» «4»

______________________________

(1) نفس المصدر 12/ 124، الباب 37 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5.

(2) نفس المصدر 3/ 256، الباب 5 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 1.

(3) مستدرك الوسائل 2/ 436، الباب 31 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

(4) نفس المصدر 2/ 426، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1؛ عن الجعفريات/ 180.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 443

..........

______________________________

2- ما رواه في دعائم الإسلام عن علي عليه السّلام أنّه قال: «من السحت ثمن جلود السباع.» «1»

أقول: الروايتان مع عدم ثبوت صحتهما لا تقاومان الأخبار السابقة مع كثرتها و صحة بعضها.

و الظاهر أنّ التعبير بالسّحت ليس لبيان الحرمة بل لبيان خسّة الاكتساب و مهانته

بحيث يتنفر منه الطباع، و لذا أطلق في الروايات على بعض ما يحلّ قطعا أيضا مثل كسب الحجام.

و في النهاية: «يرد في الكلام على الحرام مرّة و على المكروه أخرى، و يستدلّ عليه بالقرائن.» «2» و قد مرّ تفصيل معنى الكلمة في المباحث السابقة. «3»

[الطائفة الثالثة:] الانتفاع بعظام الفيل و عاجه و بيعها و شراؤها

الطائفة الثالثة: ما دلّت على جواز الانتفاع بعظام الفيل و عاجه:

1- ما رواه الكليني عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن الحسين بن الحسن بن عاصم، عن أبيه قال: دخلت على أبي إبراهيم عليه السّلام و في يده مشط عاج يتمشّط به، فقلت له: جعلت فداك، إنّ عندنا بالعراق من يزعم أنّه لا يحلّ التمشط بالعاج، فقال: «و لم؟ فقد كان لأبي منها مشط أو مشطان.» ثم قال: «تمشّطوا بالعاج، فإنّ العاج يذهب بالوباء.» «4»

و الحسين و أبوه الحسن مجهولان «5»، و لكن الراوي عنه ابن أبي عمير الذي

______________________________

(1) نفس المصدر 2/ 436، الباب 31 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2؛ عن الدعائم 1/ 126.

(2) النهاية لابن الأثير 2/ 345.

(3) راجع 1/ 204 و ما بعدها من الكتاب.

(4) الوسائل 1/ 427، الباب 72 من أبواب آداب الحمام، الحديث 1.

(5) راجع تنقيح المقال 1/ 286، عنون فيه الأب فقط.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 444

..........

______________________________

قال الشيخ في حقه أنّه لا يروي و لا يرسل إلّا عن ثقة. «1»

2- خبر موسى بن بكر، قال: رأيت أبا الحسن عليه السّلام يتمشّط بمشط عاج، و اشتريته له.

أقول: ذكر في الوسائل هذه الرواية تارة في آداب الحمّام، و أخرى في أبواب ما يكتسب به من كتاب التجارة «2»، و لكن في الموضع الثاني ذكر موسى بن يزيد بدل

موسى بن بكر، و الصحيح موسى بن بكر.

3- خبر القاسم بن الوليد، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن عظام الفيل:

مداهنها و أمشاطها؟ قال: «لا بأس به.» «3»

أقول: المدهن- بضمتين-: قارورة الدهن و إناؤه. و راجع في هذا المجال الروايات الأخر من الباب 72 من آداب الحمّام. «4»

4- خبر عبد الحميد بن سعيد (سعد- الكافي) قال: سألت أبا إبراهيم عليه السّلام عن عظام الفيل يحلّ بيعه أو شراؤه الذي يجعل منه الأمشاط؟ فقال: «لا بأس، قد كان لي (لأبي- الكافي) مشط أو أمشاط.» «5» هذا.

و الأصل أيضا يقتضي جواز الانتفاع بالجلود و اللحوم و العظام و لا سيّما إذا كانت مذكّاة إلّا فيما ثبت حرمته كالأكل فيما لا يؤكل لحمه. و إذا جاز الانتفاع بها صارت مالا فجاز بيعها و كذا بيع نفس الحيوان لأجلها.

و لا وجه لتوهّم حرمة الانتفاع بعظام الفيل إلّا توهّم نجاستها بلحاظ عدّه من

______________________________

(1) راجع عدّة الأصول 1/ 386، فصل في ذكر القرائن التي تدلّ على صحّة أخبار الآحاد ....

(2) راجع الوسائل 1/ 427، الباب 72 من أبواب آداب الحمام، الحديث 2؛ و 12/ 123، الباب 37 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 3.

(3) نفس المصدر 1/ 427، الباب 72 من أبواب آداب الحمام، الحديث 3.

(4) راجع نفس المصدر و الصفحة.

(5) نفس المصدر 12/ 123، الباب 37 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2؛ عن الكافي 5/ 226.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 445

[حكم لحوم السباع]

و أمّا لحومها فالمصرّح به في التذكرة (1) عدم الجواز معلّلا بندور المنفعة المحلّلة المقصودة منه كإطعام الكلاب المحترمة و جوارح الطير.

______________________________

المسوخ، و نحن منعنا نجاستها و كذا عدم جواز الانتفاع بالنجس. «1» بل

الظاهر أنّ منفعة الفيل لا تنحصر في عاجه و عظامه، فإنّ الحيوان بنفسه يمكن أن ينتفع به كثيرا في الحمل و الركوب، و مع المنفعة المحلّلة يصح بيعه قهرا.

(1) في التذكرة: «لحم المذكّى مما لا يؤكل لحمه لا يصح بيعه لعدم الانتفاع به في غير الأكل المحرّم. و لو فرض له نفع ما فكذلك لعدم اعتباره في نظر الشارع.» «2»

أقول: ظاهره وجود تعبّد خاصّ بعدم كفاية المنفعة النادرة في صحّة البيع كما مرّ من المصنّف أيضا. و قد مرّ منّا منع ذلك. «3» و أنّ المناط مرغوبية الشي ء و ماليته و لو في شرائط خاصّة لشخص خاصّ بحيث لا تعدّ المعاملة معها سفهية غير عقلائية.

و اللحوم و إن كانت محرّمة الأكل قد كثرت منافعها المحلّلة في أعصارنا، كما لا يخفى، فيجوز بيعها لذلك.

______________________________

(1) راجع 1/ 476 من الكتاب.

(2) التذكرة 1/ 464، كتاب البيع، الفصل الرابع، في الشرط الأوّل من شروط العوضين.

(3) راجع ص 414.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 446

[حكم بيع الهرّة و القردة]

و يظهر أيضا جواز بيع الهرّة. (1)

و هو المنصوص في غير واحد من الروايات، و نسبه في موضع من التذكرة إلى علمائنا. (2)

______________________________

حكم بيع الهرّة و القردة

(1) الجملة معطوفة على قوله: «و منه يظهر»، و كلتاهما متفرعتان على ما ذكره «1» من عدم كفاية المنفعة النادرة و الإشكال في تميزها عن غيرها و أنّ الواجب في مقام الشك هو الرجوع إلى أدلّة التجارة و نحوها. و مقتضى ذلك عدم جريان أدلّة البيع لكون الشبهة مصداقية لها، و على هذا فلم حكم بجواز بيع الهرّة بنحو القطع مع احتمال كون المنفعة فيها نادرة أيضا؟

(2) في التذكرة: «الخامس: لا بأس ببيع الهرّ عند علمائنا، و به

قال ابن عباس و الحسن و ابن سيرين و الحكم و حمّاد و الثّوري و مالك و الشافعي و إسحاق و أصحاب الرأي، لقول الصادق عليه السّلام: «لا بأس بثمن الهرّة.» و لأنّه ينتفع به و يحلّ اقتناؤه فجاز بيعه كغيره. و كرهه أبو هريرة و طاوس و مجاهد و جابر بن زيد و أحمد، لما روي عن جابر أنّه سئل عن ثمن السنّور، فقال: «زجر النبي صلّى اللّه عليه و آله عن

______________________________

(1) راجع ص 430- 437.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 447

..........

______________________________

ذلك.» و هو محمول على غير المملوك أو ما لا نفع فيه.» «1»

أقول: حمل زجر النبي صلّى اللّه عليه و آله- على فرض وقوعه- على الزجر عما لا يقدم عليه شخص عاقل بعيد جدّا، إلّا أن يقع منه إرشادا في مورد خاصّ.

و كيف كان فالظاهر عدم الإشكال في جواز بيعها مع وجود منفعة عقلائية توجب الرغبة فيها و ماليّتها و لو في محيط خاصّ و شرائط خاصّة، لشمول الأدلّة العامّة لها، و قد مرّ عن النهاية قوله: «و لا بأس بشري الهر و بيعه و أكل ثمنه» «2» و ظاهر التذكرة إجماع علمائنا على ذلك.

و يدلّ على ذلك صريحا موثقة محمد بن مسلم و عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: «ثمن الكلب الذي لا يصيد سحت» ثم قال:

«و لا بأس بثمن الهرّ.» «3»

و في دعائم الإسلام عن عليّ عليه السّلام أنّه رأى رجلا يحمل هرّة، قال: «ما تصنع بها؟» قال: أبيعها، فنهاه. قال: فلا حاجة لي بها، قال: «فتصدق إذا بثمنها.» «4»

و رواه عنه في المستدرك. «5»

و دلالته على جواز البيع واضحة، و لعلّ

نهيه عليه السّلام ثم أمره بالتصدق بثمنها وقعا إرشادا، لجلالة شأن البائع عن صرف مثله في مئونة نفسه و عياله.

نعم ورد في روايات السنّة النهي عن بيعها:

ففي سنن البيهقي بسنده عن أبي الزبير، قال: سألت جابرا عن ثمن الكلب

______________________________

(1) التذكرة 1/ 464، كتاب البيع، الفصل الرابع، في الشرط الأوّل من شروط العوضين.

(2) النهاية للشيخ الطوسي/ 364، باب المكاسب المحظورة و المكروهة و المباحة.

(3) الوسائل 12/ 83، الباب 14 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 3.

(4) دعائم الإسلام 2/ 20، الفصل الثاني: ذكر ما نهي عن بيعه، الحديث 30.

(5) مستدرك الوسائل 2/ 430، الباب 12 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 3.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 448

بخلاف القرد، لأنّ المصلحة المقصودة منه- و هو حفظ المتاع- نادر. (1)

______________________________

و السنّور، فقال: «زجر النبي صلّى اللّه عليه و آله عن ذلك.» «1»

و فيه أيضا بسنده عنه أنّه سمع جابر بن عبد اللّه يقول: «نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن أكل الهرّ و أكل ثمنه.» «2»

أقول: لعلّ المتبادر من الرواية كون المنهي عنه أكل ثمنه إذا وقع بيعه بقصد أكل لحمه، فتأمّل، لبعد تعارف أكل لحمه.

و فيه أيضا بسنده عن أبي سفيان عن جابر، قال: «نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن ثمن الكلب و السنّور.»

قال البيهقي: «و قد حمله بعض أهل العلم على الهرّ إذا توحّش فلم يقدر على تسليمه، و منهم من زعم أنّ ذلك كان في ابتداء الإسلام حين كان محكوما بنجاسته ثم حين صار محكوما بطهارة سؤره حلّ ثمنه، و ليس على واحد من هذين القولين دلالة بيّنة.» «3»

أقول: العمدة عدم ثبوت الرواية عندنا. ثم مفادها

حكاية نهيه صلّى اللّه عليه و آله، فلعلّه كان تنزيهيا لخسّة السّلعة، فتأمّل، فإنّ ظاهر النهي هي الحرمة.

(1) في بيوع الخلاف (المسألة 306): «القرد لا يجوز بيعه، و قال الشافعي:

يجوز بيعه. دليلنا إجماع الفرقة على أنّه مسخ نجس، و ما كان كذلك لا يجوز بيعه بالاتفاق.» و راجع المسألة الثامنة و الثلاثمائة منه أيضا. «4»

أقول: الظاهر أنّ الإجماع المدّعى على كونه مسخا لا على نجاسته و إنّما هي

______________________________

(1) سنن البيهقي 6/ 10، كتاب البيوع، باب ما جاء في ثمن السنّور.

(2) نفس المصدر 6/ 11، و الباب.

(3) نفس المصدر 6/ 11، و الباب.

(4) الخلاف 3/ 183 و 184 (- ط. أخرى 2/ 81).

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 449

..........

______________________________

نظره و فتواه بشخصه، و قد مرّ منّا منع نجاسة المسوخ و منع مانعية النجاسة أيضا «1» و إن ادّعى هو الاتفاق على ذلك.

و قد مرّ عن النهاية أيضا المنع عن بيع المسوخ مطلقا و عدّ منها القرد و الفيلة و الدببة، فراجع. «2»

و في مقنعة المفيد: «و التجارة في القردة و السباع و الفيلة و الذئبة و سائر المسوخ حرام، و أكل أثمانها حرام.» «3»

و لعلّ مرادهما بيعها لأكل لحومها، و إلّا فقد مرّ جواز بيع السباع لأجل جلودها، بل للحومها أيضا لإطعام الطيور و الكلاب و نحو ذلك.

و في الشرائع عدّ مما يحرم الاكتساب به: «ما لا ينتفع به كالمسوخ، بريّة كانت كالقرد و الدّب ...»، فراجع. «4» هذا.

و في رواية مسمع عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نهى عن القرد أن يشترى و أن يباع.» «5»

و مرّ عن الجعفريات عن عليّ عليه السّلام أنّه

عدّ من السحت: ثمن القرد و جلود السباع. «6»

أقول: الظاهر من كلماتهم أنّ منعهم عن بيع القرد كان لأجل كونه من المسوخ و كونه نجسا لذلك، أو لأجل عدم الانتفاع به نفعا محلّلا. و قد مرّ منا منع نجاسة المسوخ أوّلا و منع مانعية النجاسة ثانيا، و نمنع عدم الانتفاع المحلل به ثالثا، إذ القرد قابل للتعليم و التربية كثيرا و بعد التربية ينتفع به كثيرا لحفظ الأمتعة و غير ذلك من

______________________________

(1) راجع 1/ 476 من الكتاب.

(2) راجع النهاية للشيخ الطوسي/ 364.

(3) المقنعة/ 589، باب المكاسب.

(4) الشرائع/ 264 (- ط. أخرى 2/ 10).

(5) الوسائل 12/ 124، الباب 37 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4.

(6) مستدرك الوسائل 2/ 426؛ عن الجعفريات/ 180.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 450

[هل يوجب غصب ما لا نفع فيه الضمان أم لا؟]

ثم اعلم أنّ عدم المنفعة المعتدّ بها يستند تارة إلى خسّة الشي ء- كما ذكر من الأمثلة في عبارة المبسوط- و أخرى إلى قلّته كجزء يسير من المال لا يبذل في مقابله مال كحبّة من حنطة. (1) و الفرق أنّ الأوّل لا يملك و لا يدخل تحت اليد كما عرفت من التذكرة بخلاف الثاني فإنّه يملك، و لو غصبه غاصب كان عليه مثله إن كان مثليا خلافا للتذكرة فلم يوجب شيئا كغير المثلي. (2)

______________________________

الانتفاعات المحلّلة. و الروايتان مضافا إلى ضعفهما سندا يمكن أن يجاب عنهما بعدم دلالة السحت على الحرمة كما مرّ، و أنّ نهي النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لعلّه كان من جهة أنّه كان ينتفع به كثيرا في الألاعيب و الأمور المستهجنة، كما كان رائجا في عصر خلفاء الجور من الأموية و العباسية أيضا. و كيف كان فمع وجود الانتفاعات الكثيرة المحلّلة العقلائية

لا يرى وجه لمنع بيعه و التجارة فيه، فتأمّل.

هل يوجب غصب ما لا نفع فيه الضمان أم لا؟

(1) و ثالثة إلى كثرته أو عدم الحاجة إليه كالماء عند الشطّ و الجمد في الشتاء.

و الملاك الجامع عدم الرغبة في شرائه و بذل المال بإزائه.

(2) في التذكرة: «فلا يجوز أخذ حبّة من صبرة الغير، فإن أخذت وجب الردّ، فإن تلفت فلا ضمان لأنّه لا مالية لها، و هذا كلّه للشافعي أيضا، و في وجه آخر له: جواز بيعها و ثبوت مثلها في الذمّة، و ليس بجيّد.» «1»

أقول: الحق أنّ الموارد مختلفة، ففي بعضها يثبت المالية مع القلّة أيضا، فيجوز بيعها حينئذ، و في التلف يثبت المثل أو القيمة.

و المصنّف- كما ترى- فرّق بين المثلي و القيمي، فحكم بالضمان في الأوّل

______________________________

(1) التذكرة 1/ 465، كتاب البيع، الفصل الرابع، في الشرط الثاني من شروط العوضين.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 451

..........

______________________________

فقط بلحاظ أنّ ضمانه بمثله فيمكن الخروج عن عهدته، بخلاف القيمي إذ ضمانه بقيمته و المفروض عدم القيمة له، و ظاهر العلامة نفي الضمان في كليهما.

و يرد عليه: أنّ المفروض ثبوت الملكية و إن لم يكن مالا، فيجب على الغاصب ردّ عينه و مع التلف ردّ مثله، لعموم قوله: «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي.» «1»

بل يمكن القول بثبوت الضمان في القيمي أيضا، إذ الغاصب يؤخذ بأشقّ الأحوال، و المفروض ثبوت الملكية و تعدّي الغاصب، فيشمله الحديث و يحكم العقل و العرف بوجوب إرضاء مالكه و لو بإعطاء مال، و هكذا الكلام في المثلي إذا لم يوجد مثله و أمكن إرضاؤه و لو بإعطاء مال، فتأمّل.

و في مصباح الفقاهة استدلّ للضمان في المقام بنحو يشمل بيانه القيمي

أيضا، فقال ما ملخّصه: «الدليل على الضمان إنّما هو السيرة القطعية من العقلاء و المتشرّعة، و عليه فلا بدّ أن يخرج من عهدة الضمان إمّا بردّ عينه أو مثله، و مع فقدهما لا يمكن الخروج منها بأداء القيمة، بل أصبح مشغول الذمّة إلى يوم القيامة مثل المفلس، إذ الانتقال إلى القيمة إنّما هو فيما إذا كان التالف من الأموال، فلا ينتقل إليها إذا لم يكن التالف مالا.

و ربما يتمسك للضمان بقاعدة ضمان اليد، لشمولها لمطلق المأخوذ بالغصب.

و فيه: أنّ القاعدة و إن ذكرت في بعض الأحاديث و استند إليها المشهور لكنها ضعيفة السند و غير منجبرة بشي ء.

و قد يتمسك للضمان بقاعدة الإتلاف (: من أتلف مال الغير فهو له ضامن).

و لكنه واضح الفساد لاختصاص موردها بالأموال.

نعم لو كانت العبارة هكذا: «من أتلف ما للغير فهو له ضامن» شملت المقام

______________________________

(1) تأتي مصادره آنفا.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 452

..........

______________________________

أيضا إلّا أنّه بعيد جدّا، على أنّ القاعدة المذكورة متصيّدة و ليست بمتن رواية، و كيف كان فموردها خصوص الإتلاف فلا تدلّ على الضمان عند عدمه، فلا تدلّ على الضمان إلّا السيرة كما عرفت.» «1»

أقول: قد ذكروا في محلّه أنّ أسباب الضمان ثلاثة: اليد و الإتلاف مباشرة أو تسبيبا، و خصّوا الأوّل باليد العادية كما في الغصب و كما في العارية و الإجارة و نحوهما مع التعدّي أو التفريط في الحفظ، و خصّوا الثالث بما إذا كان السبب أقوى من المباشر عرفا بحيث يستند الإتلاف إليه.

و استندوا في القسم الأوّل إلى ما رواه سمرة بن جندب عن النبي صلّى اللّه عليه و آله من قوله: «على اليد ما أخذت حتى تؤدّي.» أو «حتّى تؤدّي.»

رواه في

المستدرك منّا في كتاب الوديعة عن عوالي اللآلي، «2» و أبو داود في الإجارة في باب تضمين العارية، «3» و الترمذي في البيوع في باب «العارية مؤدّاة»، «4» و ابن ماجة في الباب الخامس من الصدقات، «5» و أحمد، «6» و البيهقي. «7»

و الرواية عاميّة، و الراوي في الجميع سمرة، و حاله معلوم، و لكن الاستدلال بالرواية مشهور في كتب الفريقين، و مضمونها مطابق للاعتبار و سيرة العقلاء كما لا يخفى. هذا.

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 196، في النوع الثالث مما يحرم الاكتساب به.

(2) مستدرك الوسائل 2/ 504، الباب 1 من أبواب كتاب الوديعة، الحديث 12؛ عن العوالي 3/ 251، و عن تفسير الرازي 3/ 419. و أيضا عنهما في المستدرك 3/ 145، الباب 1 من كتاب الغصب، الحديث 4.

(3) سنن أبي داود 2/ 265، كتاب الإجارة، الحديث 1.

(4) سنن الترمذي 3/ 566، الحديث 1266.

(5) سنن ابن ماجة 2/ 802، الحديث 2400.

(6) مسند أحمد 5/ 8 و 12 و 13 (من حديث سمرة بن جندب).

(7) سنن البيهقي 6/ 90، باب العارية مضمونة. راجع أيضا مستدرك الحاكم 2/ 55.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 453

و ضعّفه بعض بأنّ اللازم حينئذ عدم الغرامة فيما لو غصب صبرة تدريجا. (1) و يمكن أن يلتزم فيه بما يلتزم في غير المثلي، فافهم.

______________________________

و ما ذكره في مصباح الفقاهة فيما لم يوجد له المثل من البقاء مشغول الذمّة إلى يوم القيامة يمكن أن يناقش فيه بما أشرنا إليه من أنّ الظلم و التعدّي إلى حقّ الغير إذا أمكن جبرانه وجب عقلا و شرعا و لو بإعطاء مال للمظلوم لا بعنوان القيمة بل بقصد إرضائه، اللّهم إلّا أن يكون فيه إجحاف خارج

عن المتعارف بحيث لا يمكن تحمّله فيسقط التكليف قهرا، فتأمّل. و الفرق بينه و بين المفلس واضح، إذ المفلس لا مال له فلا سبيل له إلى إرضاء الغرماء.

(1) قال في جامع المقاصد: «و يلزم المصنّف أنّ من أتلف على غيره حبّات كثيرة منفردات لا يجب عليه شي ء. و بيان الملازمة: أنّ إتلاف كلّ واحدة على حدة لا يوجب شيئا و إذا لم يترتب على تلفها شي ء حال التلف لا يترتب عليه شي ء بعد ذلك، لعدم المقتضي، و كذا يلزمه فيمن أتلف مدّا من الحنطة لعدّة ملّاك لكلّ واحدة حبّة، أن لا يترتب عليه شي ء لانتفاء المقتضي بالإضافة إلى كلّ واحد ...» «1»

و يجاب عن ذلك بما أشار إليه المصنّف هنا من أنّ الإشكال وارد في القيمي أيضا، و يمكن أن يلتزم فيهما بأنّ عدم الضمان على فرض الوحدة و بشرط لا، و أمّا مع انضمام سائر الأجزاء و لو تدريجا بحيث يصير المجموع مالا فيلتزم العلّامة و أمثاله في كليهما بالضمان. هذا.

و قد ظهر ممّا بيّناه أنّ الضمان من أحكام الملك لا خصوص المال، و ملاكهما مختلف، و بينهما عموم من وجه، فالحنطة من صبرة ملك لمن ولّدها أو اشتراها و ليس مالا، و نفس الصبرة مال و ملك له، و أشجار الغابات أموال و ليست ملكا لأحد و كلا العنوانين اعتباريان و لكن الملكية أمر إضافي متقوم بطرفين: المالك و المملوك، بخلاف المالية، فتدبّر.

______________________________

(1) جامع المقاصد 4/ 90، كتاب المتاجر، المقصد الثاني، الفصل الثالث.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 454

ثمّ إنّ منع حقّ الاختصاص في القسم الأوّل مشكل، مع عموم قوله صلّى اللّه عليه و آله: «من سبق إلى ما لم يسبق إليه

أحد من المسلمين فهو أحقّ به.» (1) مع عدّ أخذه قهرا، ظلما عرفا.

______________________________

(1) أقول: هذا الحديث أيضا عامّي رواه في المستدرك عن عوالي اللآلي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله، و لفظه هكذا: «من سبق إلى ما لا يسبقه إليه مسلم فهو أحقّ به.» «1»

و لكن مضمونه موافق للاعتبار و السيرة.

و رواه أبو داود في كتاب الإمارة، و لكن لفظه هكذا: «من سبق إلى ماء لم يسبقه إليه مسلم فهو له.» «2» هذا.

و حقّ الاختصاص إنّما يعتبر فيما يعتني به العقلاء إجمالا، و يشكل اعتباره في مثل النخامة التي ألقاها الشخص و يتنفر هو منها، و لو فرض تصرّف أحد فيه لا يعدّ عمله هذا تعدّيا و ظلما.

______________________________

(1) مستدرك الوسائل 3/ 149، الباب 1 من أبواب كتاب إحياء الموات، الحديث 4؛ عن العوالي 3/ 480، الحديث 4.

(2) سنن أبي داود 2/ 158، كتاب الخراج و الفي ء و الإمارة، باب في إقطاع الأرضين، الحديث 14. و راجع أيضا سنن البيهقي 6/ 142.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 455

النوع الرابع: الاكتساب بما هو حرام في نفسه و فيه مسائل:

اشارة

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 457

النوع الرابع: ما يحرم الاكتساب به لكونه عملا محرما في نفسه.

و هذا النوع و إن كان أفراده هي جميع الأعمال المحرّمة القابلة لمقابلة المال بها في الإجارة و الجعالة و غيرهما، إلّا أنّه جرت عادة الأصحاب بذكر كثير ممّا من شأنه الاكتساب به من المحرّمات، بل و غير ذلك ممّا لم يتعارف الاكتساب به كالغيبة و الكذب و نحوهما. (1)

______________________________

النوع الرابع:

الاكتساب بما هو حرام في نفسه

[في بيان موضوع البحث و كلام الأستاذ الإمام في ذلك]

(1) أقول: البحث تارة في حرمة نفس هذه الأعمال، و أخرى في حكم التكسب بها و أخذ الأجرة عليها: أمّا حرمة نفس هذه الأعمال فسيتعرّض لها المصنّف بالتفصيل بترتيب حروف الهجاء، فلنتعرّض هنا لحكم التكسب بها و حكم أجرتها.

قال الأستاذ الإمام «ره» في هذا المجال ما محصّله: «البحث تارة في حرمة الكسب و الإجارة على الحرام، و أخرى في حرمة الثمن أي الأجرة بعنوان كونها أجرة على الحرام، و ثالثة في الحكم الوضعي أعني بطلان الإجارة و فسادها. و قد تقدّم أنّ المقصود الأصلي بالبحث هنا العنوانان الأوّلان، و أنّ الثالث استطراديّ يناسب البحث عنه في شرائط العوضين في الإجارة.» «1»

______________________________

(1) المكاسب المحرّمة 1/ 165 (- ط. أخرى 1/ 251)، في القسم الرابع مما يحرم الاكتساب به.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 458

..........

______________________________

أقول: قد مرّ منّا سابقا المناقشة في كلام الأستاذ «ره» و أنّا نمنع حرمة ثمن المحرمات بما هي ثمن لها و بهذا العنوان- و إن أصرّ على ذلك الأستاذ «ره» و استدلّ لها بمثل قوله: «ثمن العذرة سحت» و قوله: «إنّ اللّه إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه.»

و نحو ذلك- و قلنا نحن: إنّ الظاهر كون تحريم الثمن المذكور

في الروايات كناية عن فساد المعاملة و عدم انتقال الثمن إلى البائع، فيكون حرمته بلحاظ كونه مال الغير. و مقتضى كلام الأستاذ: أنّ البائع للخمر مثلا يرتكب بفعله ذلك ثلاث محرمات: بيع الخمر و أكل ثمنها و أكل مال الغير، و هذا بعيد جدّا.

فالمهم هنا البحث عن حرمة المعاملة تكليفا و وضعا، و ما هو الأهمّ في نظر الفقهاء و المتشرّعة و المنظور إليه في الروايات هو صحّة المعاملة أو فسادها، و مرادهم بلفظ الحرمة غالبا هي الحرمة الوضعية. و أمّا حرمة نفس التكسب و المعاملة تكليفا فأمر آخر ربما نلتزم به في بعض المعاملات الفاسدة كبيع الخمر و المعاملات الربوية و أمثالهما كما مرّ تفصيل ذلك في بعض أبحاثنا. «1» هذا.

[استدلّ الأستاذ «ره» لحرمة الإجارة على الأعمال المحرّمة تكليفا بوجوه]

اشارة

و استدلّ الأستاذ «ره» لحرمة الإجارة على الأعمال المحرّمة تكليفا بوجوه «2» نتعرض لها ملخّصة ببيان أوضح:

الوجه الأوّل: قبح الاستيجار و الإيجار على معصية اللّه- تعالى- عقلا،

إذ كما أنّ الاستيجار و الإيجار على القبائح العقلية كارتكاب الفاحشة قبيحان بحكم العقل و العقلاء فكذلك هما قبيحان لمعصية اللّه- تعالى- فإنّها أيضا من القبائح العقلية، و كلّ ما حكم العقل بقبحه حكم الشرع بحرمته. و دعوى أنّ القبح فاعليّ لا فعلي نظير التجرّي غير وجيهة، ضرورة أنّ نفس عنوان إجارة النواميس قبيح عقلا، و لا ينافي ذلك كشفها عن دناءة الفاعل و خبث سريرته أيضا.

الوجه الثاني: فحوى أدلّة وجوب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر،

إذ المستفاد

______________________________

(1) راجع 1/ 184 من الكتاب.

(2) المكاسب المحرّمة 1/ 166 (- ط. أخرى 1/ 252)، في القسم الرابع مما يحرم الاكتساب به.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 459

..........

______________________________

من تلك الأدلّة أو فحواها أنّ الأمر بالمنكر و النهي عن المعروف محرّمان، بل مطلق ما يوجب الإغراء على المحرم و التشويق إليه، سواء ارتكب الطرف أم لا. و لا ريب أنّ استيجار المغنية للتغني مثلا دعوة لها إلى إتيان المحرّم.

الوجه الثالث: استفادة ذلك من قوله- تعالى- في سورة التوبة:

الْمُنٰافِقُونَ وَ الْمُنٰافِقٰاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ. «1» بدعوى أنّ العنوانين ليسا لمجرد معرّفية المنافقين، بل في مقام تعييرهم و تقريعهم و ذكر ما هو قبيح عقلا و محرّم شرعا، و بدعوى عدم خصوصية الأمر بالمنكر، بل المراد أعمّ مما يفيد فائدته من الترغيب و التشويق، و بدعوى أنّه ليس المراد من الأمر بالمنكر خصوص ما يرجع إلى ردّ قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و مخالفته في قوانينه، بل المراد أعمّ من ذلك، فيكون الأمر بالمنكر محرّما و إن لم يكن الغرض ردّ قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

الوجه الرابع: تأييد ذلك برواية تحف العقول،

و فيها: «فأمّا وجوه الحرام من وجوه الإجارة نظير أن يؤاجر نفسه على حمل ما يحرم عليه أكله أو شربه أو لبسه، أو يؤاجر نفسه في صنعة ذلك الشي ء أو حفظه أو لبسه، أو يؤاجر نفسه في هدم المساجد ضرارا أو قتل النفس بغير حلّ، أو حمل التصاوير و الأصنام و المزامير و البرابط و الخمر و الخنازير و الميتة و الدم أو شي ء من وجوه الفساد الذي كان محرما عليه من غير جهة الإجارة فيه، و كلّ أمر منهي عنه من جهة من الجهات فمحرّم على الإنسان إجارة نفسه فيه أو له ...» «2»

أقول: يمكن أن يناقش في الوجه الأوّل بأنّ قاعدة الملازمة لا تجري في العناوين المتأخرة عن الأحكام الشرعية المنتزعة منها كعنواني الإطاعة و المعصية مثلا، للزوم التسلسل كما مرّ بيان ذلك في بعض الأبحاث السابقة، «3» فإذا لم يستتبع قبح

______________________________

(1) سورة التوبة (9)، الآية 67.

(2) تحف العقول/ 334.

(3) راجع ص 248 و 329 من الكتاب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 460

..........

______________________________

المعصية حرمتها شرعا لم يستتبع قبح الإجارة لها أيضا ذلك و إلّا لزم زيادة الفرع على الأصل، فتأمّل، إذ يمكن أن يقال: إنّ فاعل الاستيجار غير فاعل المعصية، فيمكن أن يقال: إنّه يصدق عليه أنّه موجد لما هو عصيان بالحمل الشائع تسبيبا فيشمله أدلّة تحريمه.

و يناقش في الوجه الرابع أوّلا بما مرّ من ضعف رواية التحف و اضطرابها متنا، و ثانيا بما مرّ من المصنّف و منّا أيضا «1» من حمل لفظ الحرمة فيها على الحرمة الوضعية لا التكليفية، إذ الظاهر أنّ النظر في الرواية إلى بيان المعاملات الصحيحة و الفاسدة.

و استدل الأستاذ «ره» للحكم الوضعي في المقام

اشارة

أعني بطلان الإجارة أيضا بوجوه «2» نذكرها ملخصة:

الوجه الأوّل: أنّ العمل المحرّم ليس مالا في نظر الشارع،

و لهذا لو منع شخص عن تغنّي جارية مغنّية أو عبد مغني لا يكون ضامنا بالنسبة إلى المنفعة المحرمة بلا إشكال و إن كانا أجيرين لذلك، و ما لا يكون مالا في محيط التشريع لا تكون المعاملة عليه معاملة، و إن شئت قلت: إنّ سلب المالية عن شي ء و إسقاطها دليل على ردع المعاملة به.

الوجه الثاني: أنّ مقتضى ذات المعاملة لدى العقلاء إمكان التسليم و التسلّم،

و مع منع الشارع عن تسليم المنفعة المحرّمة و تسلّمها لا يعقل أن تكون المعاملة نافذة، فمنع التسليم و التسلّم دليل على ردع المعاملة فتقع باطلة.

و لا ينتقض ذلك بمسألة بيع العنب ممن يعلم أنّه يجعلها خمرا، إذ هناك لم يكن تسليم العنب بذاته محرما، بل المحرّم عناوين أخر منطبقة عليه كعنوان الإعانة على الإثم مثلا، فكان للبائع أن يقول: أنا لا أمتنع عن التسليم بشرط أن لا تجعله خمرا، فالتقصير متوجّه إلى المشتري، بخلاف المقام فإنّ تسليم المنفعة التي هي مقابلة للثمن و مورد للإجارة ممنوع شرعا.

______________________________

(1) راجع ص 380.

(2) المكاسب المحرّمة 1/ 167 (- ط. أخرى 1/ 253)، في القسم الرابع مما يحرم الاكتساب به.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 461

الوجه الثالث: أنّ الآية الكريمة أعني قوله- تعالى-:

______________________________

لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ «1» و إن كان الموضوع فيها البطلان العرفي و العقلائي لا الشرعي لكن بتحكيم ما دلّ على نفي المالية أو نفي تسليم المنفعة ينسلك في مفاد الآية، فإنّ أخذ مال الغير بلا انتقال منفعة إليه أكل للمال بالباطل، و يؤيده النبوي و التحف.

أقول: يرد على الوجه الأخير ما مرّ من أنّ الاستدلال بالآية للمقام و أمثاله يتوقف على كون الباء في الآية للمقابلة، نظير ما تدخل على الثمن في المعاوضات، و قد مرّ منع ذلك و أنّ الباء فيها للسببية بقرينة استثناء التجارة عن تراض التي هي من الأسباب الناقلة، فيراد النهي عن أكل أموال الناس بمثل الرشوة و القمار و نحوهما من الأسباب الباطلة عرفا و شرعا، و لا نظر في الآية إلى بيان شرط العوضين و أنّه يعتبر فيهما كونهما من الأموال. هذا.

و استدلّ في مصباح الفقاهة لفساد المعاملة أعني الإجارة على الأعمال المحرّمة

ب «أنّه يكفي في عدم جواز المعاملة عليها ما دلّ على حرمتها من الأدلّة الأوّلية، إذ مقتضى صحة العقود لزوم الوفاء بها، و مقتضى أدلّة المحرمات حرمة الإتيان بها و هما لا يجتمعان ... و أمّا ما في حاشية السيّد من عدم جواز أخذ الأجرة على العمل المحرم لقوله صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ اللّه إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه.» فإنّ المراد من الثمن مطلق العوض، فهو فاسد، فإنّه مضافا إلى ضعف سند هذا الحديث إنّا نمنع صدق الثمن على مطلق العوض.» «2»

أقول: الظاهر أنّ الاستدلال بالحديث ليس بلحاظ استعمال لفظ الثمن في كلّ عوض، بل بلحاظ إلقاء الخصوصية و تنقيح المناط القطعي و إسراء حكم البيع إلى الإجارة أيضا، إذ هما كرضيعي لبان، كما يساعد على ذلك الاعتبار العقلي و فهم العقلاء. و كيف كان فلا إشكال في بطلان الإجارة للأعمال المحرّمة.

______________________________

(1) سورة النساء (4)، الآية 29.

(2) مصباح الفقاهة 1/ 197، في النوع الثالث مما يحرم الاكتساب به.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 462

و كيف كان فنقتفي آثارهم بذكر أكثرها في مسائل مرتّبة بترتيب حروف أوائل عنواناتها إن شاء اللّه تعالى، فنقول:

______________________________

و يمكن أن يستأنس لذلك بخبر جابر أو صابر، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يؤاجر بيته فيباع (يباع) فيه الخمر؟ فقال: «حرام أجره.» «1»

و حرمة الأجر كناية عن فساد المعاملة، و قد مرّ بيان الرواية سابقا في مسألة بيع العنب على أن يعمل خمرا.

______________________________

(1) الوسائل 12/ 126، الباب 39 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1؛ عن التهذيب 7/ 134؛ و الاستبصار 3/ 55؛ و الكافي 5/ 227.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 463

[المسألة الأولى: تدليس الماشطة]

اشارة

المسألة الأولى:

تدليس الماشطة المرأة التي يراد تزويجها، أو الأمة التي يراد بيعها حرام بلا خلاف فيه كما عن الرياض (1)، و عن مجمع الفائدة (2) الإجماع عليه، و كذا فعل المرأة ذلك بنفسها.

و يحصل بوشم الخدود كما في المقنعة و السرائر و النهاية و عن جماعة:

قال في المقنعة: «و كسب المواشط حلال إذا لم يغششن و لم يدلّسن في عملهن، فيصلن شعور النساء بشعور غيرهن من الناس، و يشمن الخدود، و يستعملن ما لا يجوز في شريعة الإسلام، فإن وصلن شعرهن

______________________________

المسألة الأولى: تدليس الماشطة

[كلمات الفقهاء في المقام]

(1) في الرياض في ذيل قول المصنّف: «و تدليس الماشطة» قال: «بإظهارها في المرأة محاسن ليست فيها، من تحمير وجهها و وصل شعرها و نحو ذلك، إرادة منها ترويج كسادها، بلا خلاف بل عليه الإجماع في بعض العبارات، و هو الحجة.» «1»

(2) فيه في شرح عبارة المصنّف: «و تدليس الماشطة» قال: «المراد تدليس المرأة التي تريد تزويج امرأة برجل أو بيع أمة بأن يستر عيبها و يظهر ما يحسنها، من تحمير وجهها و وصل شعرها مع عدم علم الزوج و المشتري بذلك. و الظاهر أنّه غير مخصوص

______________________________

(1) رياض المسائل 1/ 504، كتاب التجارة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 464

بشعر غير الناس لم يكن بذلك بأس.» انتهى. و نحوه بعينه عبارة النهاية. (1)

و قال في السّرائر- في عداد المحرمات-: «و عمل المواشط بالتدليس بأن يشمن الخدود و يحمّرنها و ينقشن بالأيدي و الأرجل، و يصلن شعر النساء بشعر غيرهن و ما جرى مجرى بذلك.» انتهى (2)

و حكي نحوه عن الدروس (3) و حاشية الإرشاد. (4)

______________________________

بالماشطة، بل لو فعلت المرأة بنفسها ذلك كذلك، بل لو فعلته أوّلا لا للتدليس، ثم حصل في

هذا الوقت المشتري أو الزوج، فإخفاؤه مثل فعله. و دليل التحريم كأنّه الإجماع و أنّه غشّ و هو حرام كما يدلّ عليه الأخبار.» «1»

(1) العبارة المذكورة في المتن عبارة النهاية «2» بتفاوت ما، و أمّا عبارة المقنعة فهي هكذا: «و كسب المواشط حلال إذا لم يغششن و يدلّسن في عملهن فيصلن شعر النساء بشعور غيرهن من الناس و يوشّمن الخدود و يستعملن في ذلك ما حرّمه اللّه، فإن فعلن شيئا من ذلك كان كسبهن حراما.» «3»

(2) راجع باب ضروب المكاسب من السرائر، و فيه: «و ينقشن الأيدي.»

و في آخر عبارته هكذا: «مما يلبسن به على الرجال في ذلك.» «4»

(3) قال- في عداد المكاسب المحرّمة-: «و تدليس الماشطة، كتزيين الخدّ و تحميره و النقش في اليد و الرجل. قاله ابن إدريس، و وصل شعرها بشعر غيرها.» «5»

(4) للمحقق الثاني، و لم يطبع بعد ظاهرا.

1- و في مكاسب المقنع للصدوق: «و لا بأس بكسب الماشطة إذا لم تشارط

______________________________

(1) مجمع الفائدة و البرهان 8/ 83، كتاب المتاجر، المقصد الأوّل، المطلب الأوّل.

(2) راجع النهاية للشيخ الطوسي/ 366، باب المكاسب المحظورة و المكروهة و المباحة.

(3) المقنعة/ 588، باب المكاسب.

(4) السرائر 2/ 216.

(5) الدروس/ 327 (- ط. أخرى 3/ 163)، الدرس 231، الأوّل مما يحرم الاكتساب به.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 465

..........

______________________________

و قبلت ما تعطى، و لا تصل شعر المرأة بشعر امرأة غيرها. و أمّا شعر المعز فلا بأس بأن يوصل بشعر المرأة.» «1»

أقول: الظاهر حمل النهي عن المشارطة في فعل التمشيط أو الحجامة أو نحوهما على الحزازة، لعلوّ شأن الإنسان من أن يشارط في أمثالها. و هل يكون منعهم من وصل شعر امرأة بشعر غيرها تحريما

أو كراهة بلحاظ كونه تدليسا، أو بلحاظ كونه من أجنبية فيحرم أو يكره على زوجها النظر إليه، أو بلحاظ كونه من أجزاء ما لا يؤكل لحمه فلا يجوز الصلاة فيه؟ كلّ محتمل. و ربما يستفاد من بعض الكلمات توهّم نجاسته بلحاظ كونه من الأجزاء المبانة من الحيّ، و لكن التوهم فاسد لعدم كونه ذا حياة.

2- و في صلاة الخلاف (المسألة 234): «يكره للمرأة أن تصل شعرها بشعر غيرها رجلا كان أو امرأة، و لا بأس بأن تصل شعرها بشعر حيوان آخر طاهر، فإن خالفت تركت الأولى و لا تبطل صلاتها ... دليلنا على كراهيّة ذلك إجماع الفرقة ...» «2»

3- و في طهارة المنتهى: «يكره للمرأة أن تصل شعرها بشعر غيرها رجلا كان أو امرأة، و لا بأس أن تصل شعر حيوان طاهر، و لا يجوز أن تصل شعر نجس العين.

و قال الشافعي: إن كان الشعر نجسا منع من صحة الصلاة، و إن كان طاهر فإن كان لها زوج أو مولى كره ذلك و إلّا فلا. و قال أحمد: يكره مطلقا. و لا بأس بالقرامل، و هو اختيار أحمد و ابن جبير، و نقل عن الشافعي: أنّ الرجل متى وصل شعره بشعر ما لا يؤكل لحمه بطلت صلاته. لنا: أنّ الشعر غير قابل للنجاسة إن لم يكن من حيوان نجس العين فكان حكمه حكم غيره، و أمّا كراهية ذلك فبالاتفاق ...» «3»

______________________________

(1) المقنع/ 361، باب المكاسب و التجارات.

(2) الخلاف 1/ 492 (- ط. أخرى 1/ 169).

(3) المنتهى 1/ 184، كتاب الطهارة، المقصد الخامس، البحث الثاني.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 466

و في عدّ و شم الخدود من جملة التدليس تأمّل، لأنّ الوشم في نفسه زينة،

و كذا التأمّل في التفصيل بين وصل الشعر بشعر الإنسان و وصله بشعر غيره، فإنّ ذلك لا مدخل له في التدليس و عدمه.

إلّا أن يوجّه الأوّل بأنّه قد يكون الغرض من الوشم أن يحدث في البدن نقطة خضراء حتى يتراءى بياض سائر البدن و صفاؤه أكثر ممّا كان يرى لو لا هذه النقطة.

و يوجّه الثاني بأنّ شعر غير المرأة لا يلتبس على الشعر الأصلي للمرأة فلا يحصل التدليس به بخلاف شعر المرأة.

______________________________

أقول: أراد بقوله: «غير قابل للنجاسة» ما أشرنا إليه من أنّ الجزء المبان من الحيّ إن لم يكن له حياة فلا ينجس بالإبانة منه. و كان عليه أن يقيّد شعر الحيوان الطاهر بكونه مما يؤكل لحمه و إلّا لم يجز الصلاة فيه كما هو ظاهر.

4- و في المغني لابن قدامة: «و روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه لعن الواصلة و المستوصلة، و النامصة و المنتمصة، و الواشرة و المستوشرة، فهذه الخصال محرّمة، لأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لعن فاعلها، و لا يجوز لعن فاعل المباح. و الواصلة هي التي تصل شعرها بغيره أو شعر غيرها، و المستوصلة الموصول شعرها بأمرها، فهذا لا يجوز للخبر، لما روت عائشة: أنّ امرأة أتت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقالت: إنّ ابنتي عرس قد تمزّق شعرها أ فأصله؟ فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «لعنت الواصلة و المستوصلة.» فلا يجوز وصل شعر المرأة بشعر آخر لهذه الأحاديث ... و الظاهر أنّ المحرّم إنّما هو وصل الشعر بالشعر لما فيه من التدليس و استعمال المختلف في نجاسته ...» «1»

5- و في الفقه على المذاهب الأربعة في عداد ما لا يجوز بيعه: «و

منها: شعر الإنسان، لأنّه لا يجوز الانتفاع به لحديث لعن اللّه الواصلة و المستوصلة.» «2»

______________________________

(1) المغني 1/ 76، كتاب الطهارة.

(2) الفقه على المذاهب الأربعة 2/ 240، كتاب البيع، مبحث التصرف في المبيع قبل قبضه.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 467

[ذكر الأخبار في المقام]

و كيف كان يظهر من بعض الأخبار المنع عن الوشم و وصل الشعر بشعر الغير، و ظاهرها المنع و لو في غير مقام التدليس:

ففي مرسلة ابن أبي عمير عن رجل عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «دخلت ماشطة على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال لها: هل تركت عملك أو أقمت عليه؟

قالت: يا رسول اللّه، أنا أعمله إلّا أن تنهاني عنه فأنتهي عنه. قال:

افعلي فإذا مشطت فلا تجلي الوجه بالخرقة (بالخرق- الكافي) فإنّها تذهب بماء الوجه، و لا تصلي شعر المرأة بشعر امرأة غيرها، و أمّا شعر المعز فلا بأس بأن يوصل بشعر المرأة.» (1)

______________________________

6- و البيهقي عقد في كتاب الصلاة من سننه بابا سمّاه: «باب لا تصل المرأة شعرها بشعر غيرها.» و ذكر فيه روايات:

منها: ما رواه بسنده عن أسماء بنت أبي بكر: أنّ امرأة جاءت إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقالت: إنّ لي بنتا عروسا و إنّ الحصبة أخذتها فسقط شعر رأسها أ فأصل في شعر رأسها؟ قالت أسماء: فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «لعن اللّه الواصلة و المستوصلة.»

و منها: ما رواه بسنده عن أبي هريرة: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: «لعن اللّه الواصلة و المستوصلة، و الواشمة و المستوشمة.» «1» و راجع كتاب القسم و النشوز من البيهقي أيضا. «2»

(1) راجع الوسائل، و الكافي، و التهذيب. «3»

و

آخر الرواية في الجميع قوله: «و لا تصلي الشعر بالشعر.» ففي عبارة المصنّف زيادة ليست في الرواية.

______________________________

(1) سنن البيهقي 2/ 426.

(2) نفس المصدر 7/ 312، باب ما لا يجوز للمرأة أن تتزين به.

(3) راجع الوسائل 12/ 94، الباب 19 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2؛ عن الكافي 5/ 119؛ و التهذيب 6/ 360.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 468

و في مرسلة الفقيه: «لا بأس بكسب الماشطة إذا لم تشارط و قبلت ما تعطى، و لا تصل شعر المرأة بشعر امرأة غيرها. و أمّا شعر المعز فلا بأس بأن يوصل بشعر المرأة.» (1)

______________________________

و في التهذيب: «فإذا مشطت فلا تحكّي الوجه بالخزف»، و كأنّه أنسب بالتعليل.

و في سند الرواية مناقشتان:

الأولى: وجود علي بن أحمد بن أشيم فيه، و لم يوثق و إن قيل بحسنه لرواية أحمد بن محمد بن عيسى عنه.

و الثانية: الجهل بالرجل الذي روى عنه ابن أبي عمير، و لكن قال الشيخ في العدّة: «فإن كان ممن يعلم بأنّه لا يرسل إلّا عن ثقة موثوق به فلا ترجيح بخبر غيره على خبره، و لأجل ذلك سوّت الطائفة بين ما يرويه محمد بن أبي عمير و صفوان بن يحيى و أحمد بن محمد بن أبي نصر و غيرهم من الثقات الذين عرفوا بأنّهم لا يروون و لا يرسلون إلّا ممّن يوثق به، و بين ما أسنده غيرهم، و لذلك عملوا بمرسلهم ...» «1»

و في مرآة العقول في ذيل قوله: «و لا تصلي» قال: «و كأنّه لعدم جواز الصلاة أو للتدليس إذا أرادت التزويج.» «2»

(1) راجع الوسائل. «3» و الظاهر من الفقيه كون المرويّ عنه أبو عبد اللّه عليه السّلام، فراجع. «4» و إسناده الرواية

إلى الإمام بنحو الجزم يدلّ على ثبوتها عنده و اعتماده عليها.

و مثلها ما مرّت من عبارة المقنع. و نحوهما عبارة فقه الرضا، فراجع. «5»

______________________________

(1) عدّة الأصول 1/ 386، فصل في ذكر القرائن التي تدلّ على صحّة أخبار الآحاد ....

(2) مرآة العقول 19/ 78، كتاب المعيشة، باب كسب الماشطة و الخافضة.

(3) الوسائل 12/ 95، الباب 19 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 6.

(4) راجع كتاب من لا يحضره الفقيه 3/ 162، كتاب المعيشة، باب المعايش و المكاسب ..، الحديث 3591 و ما قبله.

(5) راجع المقنع/ 361، باب المكاسب و التجارات. و قد مرّت في ص 464؛ و فقه الرضا/ 252، باب التجارات و البيوع و المكاسب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 469

و عن معاني الأخبار بسنده عن علي بن غراب، عن جعفر بن محمّد عليه السّلام، (عن آبائه عليهم السّلام) قال: «لعن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله النامصة و المنتمصة، و الواشرة و الموتشرة (و المستوشرة)، و الواصلة و المستوصلة، و الواشمة و المستوشمة.»

قال الصدوق: قال علي بن غراب: النامصة: التي تنتف الشعر (من الوجه)، و المنتمصة: التي يفعل ذلك بها. و الواشرة: التي تشر أسنان المرأة و تفلجها و تحدّدها، و الموتشرة (و المستوشرة): التي يفعل ذلك بها.

و الواصلة: التي تصل شعر المرأة بشعر امرأة غيرها، و المستوصلة: التي يفعل ذلك بها. و الواشمة: التي تشم وشما في يد المرأة أو في شي ء من بدنها، و هو أن تغرز بدنها (يديها) أو ظهر كفها بإبرة حتّى تؤثر فيه ثم تحشوها بالكحل أو شي ء من النورة فتخضرّ، و المستوشمة: التي يفعل بها ذلك. (1)

______________________________

(1) راجع المعاني، «1» و الوسائل «2» مع تفاوت ما

لا يتغيّر به المعنى.

و في سند الرواية مجاهيل، و علي بن غراب مختلف فيه. «3» و تفسير العناوين المذكورة من علي بن غراب، و لم ينسبه إلى الإمام عليه السّلام و لعلّه أخذ ذلك من العامّة فهم قد فسّروها بما ذكر، فراجع سنن البيهقي و ما حكاه في هذا المجال عن أبي داود و عن الفرّاء و أبي عبيد. «4»

______________________________

(1) معاني الأخبار/ 249، باب معنى النامصة و المنتمصة ... و السند هكذا: أحمد بن محمد بن الهيثم، عن أحمد بن يحيى بن زكريا، عن بكر بن عبد اللّه، عن تميم بن بهلول، عن أبيه، عن علي بن غراب.

(2) الوسائل 12/ 95، الباب 19 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 7 و ذيله.

(3) راجع تنقيح المقال 2/ 301.

(4) راجع سنن البيهقي 7/ 312، كتاب القسم و النشوز، باب ما لا يجوز للمرأة أن تتزين به.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 470

و ظاهر بعض الأخبار كراهة الوصل و لو بشعر غير المرأة، مثل ما عن عبد اللّه بن الحسن، قال: سألته عن القرامل؟ قال: و ما القرامل؟ قلت:

صوف تجعله النساء في رءوسهن. قال: «إن كان صوفا فلا بأس، و إن كان شعرا فلا خير فيه من الواصلة و المستوصلة.» (1)

و ظاهر بعض الأخبار الجواز مطلقا: ففي رواية سعد الإسكاف قال:

سئل أبو جعفر عليه السّلام عن القرامل التي يضعها النساء في رءوسهن يصلن شعورهن، قال: «لا بأس على المرأة بما تزينت به لزوجها.» قال: فقلت له: بلغنا أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لعن الواصلة و المستوصلة؟ فقال: «ليس هناك، إنّما لعن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الواصلة التي تزني في شبابها فإذا

كبرت قادت النساء إلى الرجال، فتلك الواصلة و الموصولة.» (2)

______________________________

(1) راجع الوسائل. «1» و في السند ضعف، و القرامل جمع للقرمل كزبرج.

و الظاهر انصراف الشعر في الحديث إلى شعر الإنسان لوضوح عدم الفرق بين الصوف و بين شعر الحيوانات الطاهرة المحلّلة اللحم. و قد فصّل في مرسلة الصدوق بين شعر المعز و شعر المرأة، فحكم بعدم البأس في شعر المعز، إلّا أن يقال: إنّ الشعر مطلقا يمكن أن يدلّس به دون الصوف، فتدبّر.

(2) راجع الوسائل. «2» و السند إلى سعد لا بأس به، و سعد مختلف فيه، و يقال له: سعد الخفاف و سعد بن طريف أيضا، و في رجال المامقاني: «قال الشيخ: هو صحيح الحديث.» «3» هذا.

و تفسير الواصلة بما ذكر في هذا الحديث ورد في بعض الأخبار الأخر أيضا:

______________________________

(1) الوسائل 12/ 94، الباب 19 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5.

(2) نفس المصدر و الباب، الحديث 4.

(3) تنقيح المقال 2/ 15.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 471

[الجمع بين الأخبار]

و يمكن الجمع بين الأخبار بالحكم بكراهة وصل مطلق الشعر كما في رواية عبد اللّه بن الحسن (1)، و شدّة الكراهة في الوصل بشعر المرأة، و عن

______________________________

ففي رواية إبراهيم بن زياد الكرخي قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: «لعن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الواصلة و المستوصلة يعني الزانية و القوّادة.» «1»

و في رواية عمار الساباطي قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: إنّ الناس يروون: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لعن الواصلة و الموصولة؟ قال: فقال: «نعم»، قلت: التي تمتشط و تجعل في الشعر القرامل؟ قال: فقال لي: «ليس بهذا بأس.» قلت: فما الواصلة و الموصولة؟ قال:

«الفاجرة و القوّادة.» «2»

و التفسير للّفظين بنحو اللّف و النشر المشوّش، و في الأحاديث الثلاثة تصديق لأصل صدور اللعن عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

و في نهاية ابن الأثير: «و فيه: «أنّه لعن الواصلة و المستوصلة.» الواصلة: التي تصل شعرها بشعر آخر، و المستوصلة: التي تأمر من يفعل بها ذلك. و روي عن عائشة أنّها قالت: ليست الواصلة بالتي تعنون، و لا بأس أن تعري المرأة عن الشعر، فتصل قرنا من قرونها بصوف أسود، و إنّما الواصلة: التي تكون بغيّا في شبيبتها، فإذا أسنّت و صلتها بالقيادة. و قال أحمد بن حنبل- لما ذكر له ذلك-:

ما سمعت بأعجب من ذلك.» «3»

و حكاه عنه في ملاذ الأخيار، «4» و مرآة العقول. «5»

(1) أقول: مرّ آنفا انصراف الشعر المنهي عنه إلى شعر الإنسان، و قد مرّت

______________________________

(1) معاني الأخبار/ 250، باب معنى آخر للواصلة و المستوصلة، الحديث 1.

(2) الوسائل 14/ 136، الباب 101 من أبواب مقدمات النكاح و آدابه، الحديث 4.

(3) النهاية 5/ 192.

(4) ملاذ الأخيار 10/ 342، باب المكاسب، ذيل الحديث 153.

(5) مرآة العقول 19/ 79، كتاب المعيشة، باب كسب الماشطة و الخافضة، ذيل الحديث 3.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 472

الخلاف و المنتهى الإجماع على أنّه يكره وصل شعرها بشعر غيرها رجلا كان أو امرأة.

______________________________

عبارتا الخلاف و المنتهى في هذا المجال. «1»

و في رواية ثابت بن سعيد قال: سئل أبو عبد اللّه عليه السّلام عن النساء تجعل في رءوسهن القرامل؟ قال: «يصلح الصوف و ما كان من شعر امرأة لنفسها، و كره للمرأة أن تجعل القرامل من شعر غيرها، فإن وصلت شعرها بصوف أو بشعر نفسها فلا يضرّها.» و نحوها رواية سليمان

بن خالد، فراجع. «2»

و على هذا فكان الأولى للمصنّف أن يقول في مقام الجمع بين روايات الباب بجواز وصل شعرها بشعر نفسها أو بالصوف أو بشعر الحيوانات المحلّلة اللحم، و كراهة وصله بشعر إنسان غيرها و شدّتها في الوصل بشعر امرأة أخرى. إذ في تلك الأعصار كان وصل شعرها بشعر إنسان آخر في معرض التبين لزوج المرأة و محارمها، و كان ذلك موجبا لتهيج الرجل و توجّهه إلى صاحب الشعر و لا سيّما إذا كان امرأة فربما كان يستتبع ذلك مفاسد أخلاقية، بل يمكن أن يقال بوجود ملاك الحرمة في ذلك في بعض الأحيان كما هي ظاهر بعض أخبار الباب.

و سنعود إلى البحث في المسألة ثانيا فانتظر. هذا.

و تحقيق المقام يقتضي البحث في ثلاث جهات:

حكم تدليس الماشطة

الجهة الأولى: في حكم تدليس الماشطة.

قال في مصباح الفقاهة ما ملخّصه:

«الظاهر أنّه لا دليل على حرمة التدليس و الغشّ إلّا في بيع أو شراء أو تزويج، بل ربما يكونان مطلوبين للعقلاء كتزيين الدور و الألبسة و الأمتعة لإظهار العظمة

______________________________

(1) راجع الخلاف 1/ 492 (- ط. أخرى 1/ 169)، كتاب الصلاة، المسألة 234؛ و المنتهى 1/ 184، كتاب الطهارة. و قد مرّت عبارتاهما في ص 465.

(2) الوسائل 14/ 135 و 136، الباب 101 من أبواب مقدمات النكاح و آدابه، الحديثين 1 و 3.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 473

..........

______________________________

و الشوكة و حفظ الكيان و إراءة أنّها جديدة. نعم لو قلنا بحرمة الإعانة على الإثم لكان تزيين المرأة التي في معرض التزويج أو الأمتعة التي في معرض البيع حراما لكونه مقدمة للغش المحرّم.

و قد أجاد المحقق الإيرواني حيث قال: «إنّ الماشطة لا ينطبق على فعلها غشّ و لا تدليس، و إنّما الغشّ يكون

بفعل من يعرّض المغشوش و المدلّس فيه على البيع، نعم الماشطة أعدّت المرأة لأن يغشّ بها، و حالها كحال الحائك الذي بفعله يعدّ العمامة لأن يدلّس بلبسها، و كفعل صانع السبحة المعدّ لها لأن يدلّس بالتسبيح بها رياء. و أمّا نفس التمشيط فلا دليل يدلّ على المنع عنه بقول مطلق، بل الأخبار رخصت فيه».» «1»

أقول: حصر حرمة التدليس و الغشّ في البيع و التزويج لا يخلو من مسامحة إلّا أن يكون من باب المثال لوضوح حرمتهما في جميع المعاملات المبنيّة على المداقّة كالإجارة و المزارعة و المصالحة و القرض و نحو ذلك. و إذا لم يكن في البين معاملة لم يتحقق مفهومهما لا أنّهما يتحققان و لا يحرمان، إذ الظاهر أنّ الغشّ ضدّ النصح، و التدليس إخفاء العيب من الطرف المقابل، فهما أمران إضافيان يتقومان بالطرفين، و ليس كلّ إخفاء تدليسا، فتأمّل.

و أمّا ما ذكره المحقق الإيرواني «ره» فإنّما يصحّ إذا لم يكن الماشطة بنفسها هى المتصدية لتزويج المرأة و بيع الأمة و لو بالوكالة.

حكم حرفة المشاطة بنحو الإجمال

الجهة الثانية: في حكم حرفة المشاطة

مع قطع النظر عن الأعمال الأربعة المنهي عنها في أخبار الفريقين.

و الظاهر جوازها إجمالا، و يدلّ على ذلك أخبار مستفيضة:

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 198، في النوع الرابع مما يحرم الاكتساب به، و راجع حاشية المحقق الإيرواني «قده»/ 19.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 474

..........

______________________________

1- صحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام- في حديث أمّ حبيب الخافضة- قال: «و كانت لأمّ حبيب أخت يقال لها: أمّ عطيّة، و كانت مقيّنة يعني ماشطة، فلما انصرفت أمّ حبيب إلى أختها فأخبرتها بما قال لها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فأقبلت أمّ عطيّة إلى

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فأخبرته بما قالت لها أختها، فقال لها: «ادني منّي يا أمّ عطيّة، إذا أنت قيّنت الجارية فلا تغسلي وجهها بالخرقة فإنّ الخرقة تشرب ماء الوجه.» «1»

أقول: قان المرأة و قيّنها: زيّنها. و في النهاية: «التقيين: التزيين، و منه الحديث:

أنا قيّنت عائشة.» «2»

2- خبر القاسم بن محمد عن عليّ، قال: سألته عن امرأة مسلمة تمشط العرائس ليس لها معيشة غير ذلك و قد دخلها ضيق؟ قال: «لا بأس و لكن لا تصل الشعر بالشعر.» «3»

أقول: الظاهر أنّ المراد بالقاسم بن محمد: القاسم بن محمد الجوهري و بعليّ: علي بن أبي حمزة، و كلاهما واقفيان، و المرويّ عنه موسى بن جعفر عليه السّلام.

3- مرسلة ابن أبي عمير المذكورة في المتن «4» إلى غير ذلك من الأخبار في هذا المجال، مضافا إلى استقرار السيرة و عدم الدليل على منع أصل الحرفة، فالأصل يقتضي الجواز.

نعم قد مرّ في مرسلة الصدوق قوله: «لا بأس بكسب الماشطة ما لم تشارط و قبلت ما تعطى.» و نحوها عبارة المقنع وفقه الرضا كما مرّ. «5»

______________________________

(1) الوسائل 12/ 93، الباب 19 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

(2) النهاية لابن الأثير 4/ 135.

(3) الوسائل 12/ 94، الباب 19 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4.

(4) مرّت في ص 467.

(5) راجع ص 468.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 475

..........

______________________________

و مقتضى ذلك حرمة كسبها إن شارطت أو لم تقبل ما أعطيت، و سيأتي البحث في ذلك في عبارة المصنّف. «1»

حكم الأعمال الأربعة المنهي عنها:

الوصل و النمص و الوشم و الوشر

الجهة الثالثة: في حكم الأعمال الأربعة المنهي عنها في أخبار الفريقين،
اشارة

و هي الوصل و النّمص و الوشم و الوشر، فلنتعرض لها في مسائل:

المسألة الأولى: في حكم الوصل.
اشارة

فنقول: إن أريد به عمل القيادة- كما فسرّ بها في خبر سعد الإسكاف و غيره ممّا مر- فلا إشكال في حرمته.

و إن أريد به وصل شعر المرأة بغيره فالظاهر عدم الإشكال أيضا في جواز وصله بمثل الصوف و الأبريسم و نحوهما بل بشعر نفسها أيضا. و يدلّ على ذلك- مضافا إلى الأصل و استقرار السيرة عليه- أخبار الباب.

و أمّا وصله بشعر آخر فالأخبار فيه على طوائف:
الطائفة الأولى: ما دلّت على الجواز مطلقا،

كخبر سعد الإسكاف، حيث وقع فيه السؤال عن حكم القرامل بإطلاقها و الإمام عليه السّلام أجاب بأنّه لا بأس على المرأة بما تزينت به لزوجها، فشمل عموم الموصول لوصل الشعر بالشعر أيضا، و بعدم الفصل بين المرأة المزوّجة و غيرها يثبت الحكم لغير المزوّجة أيضا، ثمّ إنّ السائل لما توهّم منافاة ذلك لما ورد من لعن الواصلة و الإمام عليه السّلام دفع ذلك بحمله على معنى آخر صار كلامه هذا أيضا ظاهرا في جواز وصل الشعر بغيره مطلقا، إذ لو كان قسم منه حراما لكان على الإمام عليه السّلام أن يدفع ذلك أيضا بأن يقول: «و لكن وصل

______________________________

(1) يأتي في ص 486.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 476

..........

______________________________

الشعر بالشعر أيضا حرام و إن لم يرده النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بلعنه هذا.»

الطائفة الثانية: ما دلّت على المنع مطلقا،

كمرسلة ابن أبي عمير و خبر عليّ، و فيهما: «لا تصلي الشعر بالشعر.» و خبر عبد اللّه بن الحسن، و فيه: «و إن كان شعرا فلا خير فيه.» و من هذا القبيل أيضا إطلاق ما ورد في لعن الواصلة و الموصولة من طرق الفريقين على تفسير العامّة و تفسير ابن غراب، مع قطع النظر عما ورد في تفسير ذلك في خبر سعد و غيره.

الطائفة الثالثة: ما دلّت على التفصيل بين وصله بشعر نفسها أو بشعر المعز،

و بين وصله بشعر غيرها أو بشعر امرأة أخرى، مثل مرسلة الفقيه و خبري ثابت بن سعيد و سليمان بن خالد كما مرّت.

[جمع المصنّف بين الطوائف الثلاث]

و قد جمع المصنّف بين هذه الطوائف الثلاث- كما مرّ- بكراهة الوصل بالشعر مطلقا و شدّتها في الوصل بشعر امرأة أخرى. و قد مرّ منّا: أنّ المتبادر من الشعر المنهي عنه هو شعر إنسان آخر أو شعر امرأة أخرى، و أمّا شعر المعز مثلا فلا وجه للمنع عنه و لا كراهة فيه، لوضوح عدم الفرق بين الصوف المجاز و بين شعر الحيوانات الطاهرة المحلّلة اللحم، فما دلّ على المنع عن الوصل بالشعر ينصرف إلى شعر إنسان آخر، اللّهم إلّا أن يقال: إنّ الشعر مطلقا قابل لأن يقع به التدليس، و هذا بخلاف مثل الصوف و الأبريسم و نحوهما، و على هذا فيشمل المنع للوصل بشعر نفسها أيضا.

و كيف كان فالمنع عن الوصل بشعر الإنسان، إمّا لكونه في معرض التدليس به، أو لشبهة النجاسة من جهة احتمال كونه ميتة كما يظهر من بعض كلمات العامّة، أو من جهة كونه من أجزاء ما لا يؤكل لحمه فلا يجوز الصلاة فيه، أو لكونه من امرأة أجنبية فيحرم على زوجها و محارمها النظر إليه.

فنقول: أمّا صدق التدليس فينحصر فيما إذا كان في مقام بيع الجارية أو تزويج المرأة، فلا كليّة له. و أمّا النجاسة فممنوعة عندنا، إذ لا نلتزم بها إلّا في الأجزاء

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 477

..........

______________________________

المبانة التي لها حياة، و نمنع أيضا عدم جواز الصلاة في أجزاء الإنسان و إن حرم لحمه، لانصراف عنوان ما لا يؤكل لحمه إلى غير الإنسان.

نعم يبقى شبهة كونه من أجنبية إذا فرض كونه منها لا

من أمّ الزوجة مثلا، فهل حرمة النظر إلى شعر الأجنبية تجري مع إبانته منها مطلقا أو لا تجري كذلك، أو يفصّل بين ما إذا عرف صاحب الشعر و ما إذا لم يعرف؟

قال في الجواهر في هذا المجال: «و ربما حمل النهي المزبور على المنع من جهة الصلاة بشعر الغير. و فيه: أنّه لا بأس به كما حرّرناه في محلّه، أو على أنّه شعر امرأة أجنبية و هو عورة، و فيه:- مضافا إلى ترك الاستفصال في النصوص المزبورة- منع جريان حكم العورة عليه بعد انفصاله، فليس حينئذ إلّا الكراهة.» «1» هذا.

و ظاهر المصنّف و صاحب الجواهر تبعا للخلاف و المنتهى و غيرهما حمل أخبار المنع على الكراهة لا الحرمة، و هذا خلاف ظاهر النهي، إلّا أن يقال: إنّ مرسلة ابن أبي عمير حيث اشتملت على النهي عن تجلية الوجه بالخرق أيضا معللا بما لا يناسب إلّا الكراهة و لا يلتزم بحرمته أحد صار هذا قرينة على حمل ما بعدها أيضا على الكراهة لوحدة السياق. و كذا مرسلة الفقيه، حيث منعت عن المشارطة، مع وضوح أنّ المشارطة و أخذ الأجرة على العمل المباح جائزان بلا إشكال، فمساقها مساق الكراهة. و قوله في رواية عبد اللّه بن الحسن: «و إن كان شعرا فلا خير فيه» أيضا لا يستفاد منه أزيد من الكراهة.

و يشهد للجواز و عدم الحرمة أيضا خبر سعد الإسكاف على ما بيّناه. و خبر القاسم بن محمد عن عليّ ضعيف لا يثبت به أزيد من الكراهة بناء على التسامح في دليلها على وزان ما قالوا به في المستحبّات.

______________________________

(1) الجواهر 22/ 114، كتاب التجارة، الفصل الأوّل، في النوع الرابع مما يحرم الاكتساب به.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2،

ص: 478

..........

______________________________

و أمّا لعن الواصلة و الموصولة فهو و إن كان ظاهرا في الحرمة لكن فسّرا في خبر سعد و غيره بعمل القيادة. و تفسير ابن غراب لهما لا حجية له، لعدم نقله من الإمام عليه السّلام، فلعلّه أخذ ذلك من العامّة كما مرّ، فراجع البيهقي. «1»

و المحقق الإيرواني «ره» في الحاشية منع من دلالة اللعن على الحرمة، فقال: «مع أنّ اقتضاء اللعن للحرمة ممنوع، فإنّه طلب البعد من اللّه- تعالى-، و فاعل المكروه بعيد منه- تعالى- بمقدار فعله، بل يمكن أن يقال: إنّ اللعن يجتمع مع الإباحة و يكون اللعن باعتبار لازم هذه الأفعال من حصول إغراء الفسّاق بالنظر إليهن، فإذا حصل الأمن من ذلك لم يكن بفعله بأس.» «2»

و ذكر نحو ذلك في مصباح الفقاهة أيضا، «3» و استشهد لذلك بروايات:

منها: ما في وصية النبي صلّى اللّه عليه و آله لعليّ عليه السّلام، قال: «يا عليّ، لعن اللّه ثلاثة: آكل زاده وحده، و راكب الفلاة وحده، و النائم في بيت وحده.» «4»

و منها: ما عن الصادق عليه السّلام: «ملعون ملعون من وهب اللّه له مالا فلم يتصدق منه بشي ء.» «5» إلى غير ذلك من الأخبار. هذا.

و لكن ظهور اللعن في الحرمة واضح و إن جاز رفع اليد عنه بما دلّ على الجواز و عدم الحرمة، و بذلك صرّح في مصباح الفقاهة أيضا.

و ربما يستشهد للكراهة و عدم الحرمة بقوله عليه السّلام في رواية ثابت بن سعيد: «و كره للمرأة أن تجعل القرامل من شعر غيرها.» «6»

______________________________

(1) راجع البيهقي 7/ 312، كتاب القسم و النشوز، باب ما لا يجوز للمرأة أن تتزين به.

(2) حاشية المكاسب/ 19، ذيل قول المصنّف: المسألة الأولى: تدليس الماشطة.

(3)

راجع مصباح الفقاهة 1/ 204، في النوع الرابع مما يحرم الاكتساب به.

(4) الوسائل 16/ 528 (- ط. أخرى 16/ 636)، الباب 101 من أبواب آداب المائدة، الحديث 1.

(5) نفس المصدر 11/ 519، الباب 41 من أبواب الأمر و النهي و ما يناسبهما، الحديث 7.

(6) نفس المصدر 14/ 135، الباب 101 من أبواب مقدمات النكاح و آدابه، الحديث 1.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 479

..........

______________________________

و فيه: أنّ لفظ الكراهة في الكتاب و السنة لا يختص بالكراهة المصطلحة في الفقه، بل يكون أعمّ، بل لعلّ إطلاقه يحمل على الحرمة. و يشهد للحرمة في المقام قوله- بعد هذه العبارة-: «فإن وصلت شعرها بصوف أو بشعر نفسها فلا يضرّها»، إذ مفهوم ذلك أنّ وصله بشعر غيرها يضرّها، و ظهور ذلك في الحرمة واضح و إن رفعنا اليد عنه بأدلّة أخر. هذا.

و يتحصل مما ذكرنا بطوله أنّ ظهور خبر سعد الإسكاف في الجواز قويّ، و كذلك رواية أبي بصير الآتية، و مساق أكثر الروايات الكراهة لا الحرمة، و قد مرّ إجماع الخلاف عليها، فيحمل ما ظاهره الحرمة على الكراهة أو يطرح لضعفه.

و لعلّ القائل بالحرمة لا يوجد فينا و إن أفتى بها كثير من العامّة كما مرّ.

نعم لو عرفت المرأة صاحب الشعر و كانت أجنبية يشكل نظر زوج المرأة الموصولة و كذا محارمها إليه إذا كان مهيجا، لكونه في معرض الانجذاب إلى صاحب الشعر و الوقوع في الفساد، نظير ما قد يقال و يحتاط في النظر إلى تصوير الأجنبية إذا عرفت. و لعلّ في تلك الأعصار كان الغالب معرفة صاحب الشعر، و في هذا الجوّ و المحيط وردت أخبار المنع، فتدبّر.

المسألة الثانية: في حكم النمص أعني حفّ الشعر و نتفه:

فربما يستدلّ لكراهته بالنبويّ الذي رواه الفريقان المشتمل

على لعن النامصة و المنتمصة، فراجع رواية علي بن غراب، «1» و ما رواه العامّة في هذا المجال. «2»

و اللعن و إن كان ظاهرا في الحرمة كما مرّ لكن الظاهر أنّه لم يقل بها أحد منّا، و السند ضعيف. فغاية الأمر الكراهة بناء على التسامح في أدلّتها على نحو ما قيل به في المستحبات، و لو منعنا ذلك لم يثبت الكراهة أيضا. بل بعد صرف الوصل في الحديث عن ظاهره و تفسيره بالقيادة المحرمة قطعا يقرب إلى الذهن أن تحمل

______________________________

(1) نفس المصدر 12/ 95، الباب 19 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 7.

(2) راجع سنن البيهقي 7/ 312، كتاب القسم و النشوز، باب ما لا يجوز للمرأة أن تتزين به.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 480

..........

______________________________

العناوين الأخر أيضا على ما إذا وقعت بنحو الحرام كالتدليس أو للإظهار و ترغيب الفسّاق، فلا مجال لأن يستدلّ بالرواية للكراهة، فتدبّر.

و كيف كان فلا حرمة للنمص عندنا، و يدلّ على جوازه- مضافا إلى الأصل و خبر سعد الإسكاف- خبر علي بن جعفر عن أخيه موسى عليه السّلام، قال: سألته عن المرأة أ تحفّ الشعر عن وجهها؟ قال: «لا بأس.» «1»

و نحوه رواية قرب الإسناد عن عبد اللّه بن الحسن، عن علي بن جعفر، عن أخيه عليه السّلام. «2» فهما رواية واحدة فرّق بينهما في الوسائل.

و في رواية أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن قصة النواصي تريد المرأة الزينة لزوجها، و عن الحفّ و القرامل و الصوف و ما أشبه ذلك؟ قال:

«لا بأس بذلك كلّه.» «3»

أقول: القصة بضمّ القاف: الخصلة من الشعر، و قصة النواصي: الخصلة من الشعر تجمع في الناصية للزينة، نحو

ما هو المتعارف في عصرنا أيضا. و يظهر من بعض أخبار العامّة النهي عن ذلك:

ففي سنن البيهقي بسنده عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف أنّه سمع معاوية بن أبي سفيان عام حجّ- و هو على المنبر و تناول قصة من شعر كانت في يد حرسيّ- يقول: يا أهل المدينة، أين علماؤكم، سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ينهى عن مثل هذا و يقول: «إنّما هلك بنو إسرائيل حين اتخذ هذه نساؤهم.» «4»

أقول: و لعلّ نهي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله- على فرض ثبوته- كان من جهة عادة النساء بكشفها و عدم سترها عن الأجانب.

______________________________

(1) الوسائل 14/ 136، الباب 101 من أبواب مقدمات النكاح و آدابه، الحديث 6.

(2) نفس المصدر 12/ 95، الباب 19 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 8.

(3) نفس المصدر 14/ 136، الباب 101 من أبواب مقدمات النكاح و آدابه، الحديث 5.

(4) سنن البيهقي 2/ 426، كتاب الصلاة، باب لا تصل المرأة شعرها بشعر غيرها.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 481

..........

______________________________

و لعلّ لعن العناوين الأربعة في المقام- على فرض صحة روايته- أيضا كان بهذا اللحاظ، حيث كانت النساء تتزين بها غالبا و تظهرها للأجانب، نظير ما يشاهد في عصرنا من عدم تستّر النساء المترفات و عدم تحفظهن.

فيكون مقتضى الجمع بين هذا السنخ من الروايات و بين روايتي سعد الإسكاف و أبي بصير جواز تزيّن المرأة بها لزوجها بلا كراهة، و حرمة التزين بها في المجامع لمن تكشفها في قبال الأجانب، فتدبّر.

المسألة الثالثة: في حكم الوشم و الوشر،

و قد مرّ تفسيرهما في رواية علي بن غراب.

و استدلّ لكراهتهما بما ورد من طرق الفريقين من اللعن على فاعلهما، و ربما رواه عبد اللّه بن

سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

«الواشمة و الموتشمة و الناجش و المنجوش ملعونون على لسان محمّد صلّى اللّه عليه و آله.» «1»

و في النهاية: «فيه أنّه نهى عن النجش في البيع، و هو أن يمدح السّلعة لينفقها و يروّجها أو يزيد في ثمنها و هو لا يريد شراءها ليقع غيره فيها.» «2»

و في سند الرواية محمد بن سنان، و هو من الشيوخ و له كتب و لكن فيه خلاف فقد ضعّفه الأكثر و وثّقه المفيد و المجلسي و بعض آخر، و عمدة دليلهم على التضعيف رميه بالغلوّ.

قال المامقاني «ره»: «فهم متسالمون على كونه من الشيوخ و كونه ثقة لو لا الغلوّ، و قد بيّنا مرارا عديدة أنّه لا وثوق لنا برميهم رجلا بالغلوّ لأنّ ما هو الآن من الضروري عند الشيعة في مراتب الأئمة عليهم السّلام كان يومئذ غلوّا، حتّى إنّ مثل الصدوق «ره» عدّ نفي السّهو عنهم عليهم السّلام غلوّا مع أنّ نفي السّهو عنهم اليوم من ضروريات مذهبنا.» «3» هذا.

______________________________

(1) الوسائل 14/ 177، الباب 137 من أبواب مقدمات النكاح و آدابه، الحديث 1.

(2) النهاية لابن الأثير 5/ 21.

(3) تنقيح المقال 3/ 125.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 482

و أمّا ما عدا الوصل ممّا ذكر في رواية معاني الأخبار فيمكن حملها أيضا على الكراهة لثبوت الرخصة من رواية سعد في مطلق الزينة. (1)

خصوصا مع صرف الإمام عليه السّلام للنبوي الوارد في الواصلة عن ظاهره المتّحد سياقا مع سائر ما ذكر في النبوي. (2)

________________________________________

نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في المكاسب المحرمة، 3 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، اول، 1415 ه ق

دراسات في

المكاسب المحرمة؛ ج 2، ص: 482

______________________________

و ظاهر الروايات الحرمة و لكن تحمل على الكراهة بمقتضى ما مرّ من خبري سعد الإسكاف و أبي بصير الدالّين على جواز كل ما تزينت به المرأة لزوجها.

لا يقال: مفاد الخبرين عامّ و مقتضى الصناعة تخصيصهما بسبب ما دلّ على المنع من الوشم و الوشر.

فإنّه يقال- مضافا إلى ضعف أخبار المنع-: إنّ العناوين الأربعة ذكرت في أخبار الفريقين في رديف واحد فإذا قلنا بجواز الوصل و النمص بمقتضى ما دلّ على جوازهما كما مرّ حكمنا بالجواز في الوشم و الوشر أيضا، فتأمّل.

(1) و كذلك رواية أبي بصير التي مرّت في حكم النمص، و قد مرّ حكم العناوين الأربعة تفصيلا في طيّ ثلاث مسائل، فراجع.

(2) قال في مصباح الفقاهة: «صرف النبويّ عن ظاهره بالتصرف في معنى الواصلة و المستوصلة بإرادة القيادة من الواصلة يقتضي حرمة الوصل و النمص و الوشم و الوشر المذكورة في النبويّ لاتحاد السياق، دون الكراهة.» «1»

أقول: قد مرّ منّا أنّ مع صرف الواصلة إلى معنى القيادة يحتمل أن تكون العناوين الثلاثة أيضا ناظرة إلى ما كان تفعله الفواجر بقصد جذب الفسّاق إليهن و إغرائهم إلى الفحشاء، و لا ينافي ذلك جوازها بلا كراهة إذا تزيّن بها المرأة لزوجها، كما يدلّ على ذلك روايتا سعد الإسكاف و أبي بصير.

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 205، في النوع الرابع مما يحرم الاكتساب به.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 483

و لعلّه أولى من تخصيص عموم الرخصة بهذه الأمور. (1)

مع أنّه لو لا الصرف لكان الواجب إمّا تخصيص الشعر بشعر المرأة (2) أو تقييده بما إذا كان هو أو أحد أخواته في مقام التدليس، فلا دليل على تحريمها في غير مقام التدليس، كفعل

المرأة المزوّجة ذلك لزوجها، خصوصا بملاحظة ما في رواية علي بن جعفر عن أخيه عليه السّلام

______________________________

(1) في حاشية الإيرواني: «بل تخصيص عموم الرخصة بهذه الأمور تخصيص بالأكثر، فإنّ عمدة أفعال التمشيط هي هذه الأمور.» «1»

(2) لوضوح أنّ الوصل بشعر المعز أو الصوف أو نحوهما لا يوجد فيه ملاك الحرمة و لا يتأتى فيه احتمالها إلّا مع فرض التدليس.

و في حاشية الإيرواني: «لا يقال: تخصيص الشعر بشعر المرأة لا بدّ منه على كلّ حال إن قيل بالحرمة أو قيل بالكراهة، للأخبار المقيدة للمنع بذلك. فإنّه يقال:

على الكراهة يمكن العمل بالطائفتين بالحمل على اختلاف مراتب الكراهة كما تقدمت إليه الإشارة.» «2»

أقول: نظره في ذلك إلى ما قالوه من أنّ حمل المطلق على المقيّد لا يجري في المستحبات و المكروهات بل يحملان على مراتب الاستحباب أو الكراهة. و السرّ في ذلك أنّ حمل المطلق على المقيّد إنّما يجري مع إحراز وحدة الحكم، و في المستحبات و المكروهات لا يحرز ذلك غالبا لاحتمال المراتب فيهما. و قد مرّ منّا: أنّ لفظ الشعر المنهي عنه في الروايات ينصرف عن مثل شعر المعز، لوضوح عدم الفرق بين الصوف و شعر المعز إلّا أن يكون شعر المعز في معرض التدليس به.

______________________________

(1) حاشية المكاسب/ 19، عند قول المصنّف: و لعلّه أولى من تخصيص عموم الرخصة.

(2) نفس المصدر/ 19، ذيل قول المصنّف: مع أنّه لو لا الصرف ....

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 484

عن المرأة تحفّ الشعر عن وجهها؟ قال: «لا بأس.» (1)

و هذه أيضا قرينة على صرف إطلاق لعن النامصة في النبويّ عن ظاهره بإرادة التدليس أو الحمل على الكراهة.

______________________________

(1) راجع الوسائل «1» و قد مرّت في المسألة الثانية، و نحوها روايتا

قرب الإسناد و أبي بصير، فراجع. هذا.

تلخيص المقال في المسألة و إشارة إلى فروع

خلاصة المقال في المقام: أنّ وصل المرأة شعرها بشعر نفسها أو بمثل الصوف و شعر المعز و الابريسم و نحوها لا بأس به بلا إشكال، بل يشكل الحكم بكراهته أيضا إلّا إذا وقع للتدليس فيحرم، بل و كذلك وصله بشعر امرأة أخرى أيضا إلّا إذا عرفت و صار ذلك سببا لتوجّه زوجها إلى الأجنبية أو كان في معرض ذلك فلا يخلو من إشكال، و على ذلك ينبغي أن يحمل ما ورد في النهي عنه.

و أمّا الخصال الثلاث الأخر فهي من أوضح مصاديق الزينة، فإن وقعت بقصد التدليس أو بقصد جذب الفسّاق من الأجانب- على ما كانت تصنعه الفواجر- كانت محرّمة بلا إشكال، و إلّا فلا وجه لحرمتها بل و لا كراهتها و لا سيّما فيما إذا تزينت بها المرأة لزوجها و أخفاها عن الأجانب، بل يمكن القول بحسنها عقلا و استحبابها شرعا في هذه الصورة لإعفاف الزوج و إقناعه و كفّه عن المحرمات، و على ذلك استقرت سيرة العقلاء بل و المتشرّعة أيضا، و تحمل أخبار النهي و اللعن على موارد التدليس و قصد الفساد أو المعرضية لهما و لا سيّما بعد تفسير الوصل فيها بالقيادة التي لا إشكال في حرمتها، فتدبّر.

______________________________

(1) راجع الوسائل 14/ 136، الباب 101 من أبواب مقدمات النكاح و آدابه، الحديث 6.

و راجع ص 480.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 485

[الحكم في وشم الأطفال]

نعم قد يشكل الأمر في وشم الأطفال من حيث إنّه إيذاء لهم بغير مصلحة (1)، بناء على أن لا مصلحة فيه لغير المرأة المزوّجة إلّا التدليس بإظهار شدّة بياض البدن و صفائه بملاحظة النقطة الخضراء الكدرة في البدن.

لكن الإنصاف أنّ كون ذلك تدليسا مشكل بل ممنوع، بل هو تزيين

للمرأة من حيث خلط البياض بالخضرة فهو تزيين لا موهم لما ليس في البدن واقعا من البياض و الصفاء.

نعم مثل نقش الأيدي و الأرجل بالسّواد يمكن أن يكون الغالب فيه إرادة إيهام بياض البدن و صفائه، و مثله الخطّ الأسود فوق الحاجبين أو وصل الحاجبين بالسّواد لتوهّم طولهما و تقوّسهما.» (2)

[التدليس بالأمر الخفيّ]

ثمّ إنّ التدليس بما ذكرنا إنّما يحصل بمجرد رغبة الخاطب أو المشتري و إن علما أنّ هذا البياض و الصفاء ليس واقعيا بل حدث بواسطة هذه الأمور، فلا يقال: إنّها ليست بتدليس لعدم خفاء أثرها على الناظر. (3)

______________________________

(1) لا يخفى أنّ الوشم لا يستلزم الإيذاء دائما، إذ يمكن تخدير الموضع بنحو لا يتأذى، كما هو المتعارف في ثقب الآذان. و على تقدير التأذي فمصلحة التزيين أقوى من مفسدة التأذي الجزئي، و التزيين أمر مرغوب فيه عند العقلاء حتى بالنسبة إلى الصبيان ذكورا و إناثا و استقرّت عليه سيرة العقلاء و المتشرعة في جميع الأعصار.

(2) جميع هذه الأمور و ما حذا حذوها تعدّ عرفا من مصاديق التزيين، و لا بأس بها و لا سيّما للمرأة المزوّجة بالنسبة إلى زوجها. نعم لو وقعت بقصد التدليس أو لجذب الأجانب صارت محرّمة كما هو واضح.

(3) في حاشية المحقق الإيرواني: «التدليس هو تلبيس الأمر على الغير بإظهار كمال ليس فيه، و أمّا ترغيب الخاطب و المشتري بسبب التزيين فهو أجنبيّ عن التدليس

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 486

و حينئذ فينبغي أن يعدّ من التدليس: لبس المرأة أو الأمة الثياب الحمر أو الخضر الموجبة لظهور بياض البدن و صفائه، و اللّه العالم.

[كراهة كسب الماشطة مع شرط الأجرة]

ثمّ إنّ المرسلة المتقدمة عن الفقيه (1) دلّت على كراهة كسب الماشطة مع شرط الأجرة المعيّنة، و حكي الفتوى به عن المقنع و غيره. و المراد

______________________________

و ليس بحرام قطعا.» «1»

و في القاموس: «الدلس- بالتحريك-: الظلمة كالدلسة بالضمّ ... و مالي دلس: خديعة، و التدليس: كتمان عيب السلعة عن المشتري ...» «2»

و في الصحاح: «التدليس في البيع: كتمان عيب السلعة عن المشتري، و المدالسة كالمخادعة.» «3»

فقد أخذ في

مفهومه جهل الطرف و إغفاله، مضافا إلى أنّ الدليل على حرمة التدليس ما ورد من الأخبار في حرمة الغشّ، و قد فسّروه بالخدعة و إظهار خلاف ما أضمر و لا يتحقق ذلك إلّا مع جهل الطرف. و على هذا فتزيين السلعة بنحو يرغب فيها المشتري و لبس المرأة ما يوجب رغبة الخاطب مع علم الطرف بوضعهما لا يصدق عليهما الغش و التدليس.

(1) عبارة المرسلة هكذا: «لا بأس بكسب الماشطة إذا لم تشارط و قبلت ما تعطى.» «4»

و الظاهر من الفقيه كون المرويّ عنه أبو عبد اللّه عليه السّلام. «5» و مثلها عبارة المقنع كما مرت، و كذا عبارة فقه الرضا. «6»

______________________________

(1) حاشية المكاسب/ 19.

(2) القاموس المحيط 2/ 216.

(3) الصحاح 3/ 930.

(4) الوسائل 12/ 95، الباب 19 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 6.

(5) راجع الفقيه 3/ 162، كتاب المعيشة، باب المعايش و المكاسب، الحديث 3591 و ما قبله.

(6) راجع المقنع/ 361، باب المكاسب و التجارات؛ و فقه الرضا/ 252، باب التجارات و البيوع و المكاسب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 487

بقوله عليه السّلام: «إذا قبلت ما تعطى»: البناء على ذلك الفعل و إلّا فلا يلحق العمل بعد وقوعه ما يوجب كراهته. (1)

ثمّ إنّ أولوية قبول ما تعطى و عدم مطالبة الزائد إمّا لأنّ الغالب عدم نقص ما تعطى عن أجرة مثل العمل إلّا أنّ مثل الماشطة و الحجّام و الختّان و نحوهم كثيرا ما يتوقعون أزيد مما يستحقون- خصوصا من أولي المروّة و الثروة- و ربما يبادرون إلى هتك العرض إذا منعوا، و لا يعطون ما يتوقعون من الزيادة أو بعضه إلّا استحياء و صيانة للعرض، و هذا لا يخلو عن شبهة، فأمروا في

الشريعة بالقناعة بما يعطون و ترك مطالبة الزائد، فلا ينافي ذلك جواز مطالبة الزائد و الامتناع عن قبول ما يعطى إذا اتفق كونه دون أجرة المثل. (2)

______________________________

و في قول المصنّف: «و حكي الفتوى به» يرجع الضمير إمّا إلى المرسلة أو إلى الكراهة، و لعلّ الثاني أظهر.

(1) في مصباح الفقاهة: «لا موجب لهذا التوجيه بعد إمكان الشرط المتأخّر و وقوعه، فلا غرو في تأثير عدم القبول بعد العمل في كراهة ذلك العمل كتأثير الأغسال الليلية في صحة الصوم على القول به.» «1»

(2) أقول: ربما يتوهّم تقييد ما دلّت من الأخبار على حلّية عمل المشاطة- كما مرّت- بمفهوم المرسلة، فتكون النتيجة حلّية كسبها ما لم تشارط و قبلت ما تعطى و إلّا حرم كسبها.

و أورد على ذلك أوّلا بضعف المرسلة و كذا فقه الرضا، فلا يجوز الاستدلال بهما للحرمة و تقييد المطلقات بهما. نعم يجوز الاستدلال بهما للكراهة بناء على

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 200، في النوع الرابع مما يحرم الاكتساب به.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 488

و إمّا لأنّ المشارطة في مثل هذه الأمور لا تليق بشأن كثير من الأشخاص لأن المماكسة فيها خلاف المروّة، و المسامحة فيها قد لا تكون مصلحة لكثرة طمع هذه الأصناف، فأمروا بترك المشارطة و الإقدام على العمل بأقلّ ما يعطى و قبوله. و ترك مطالبة الزائد مستحب للعامل و إن وجب على من عمل له إيفاء تمام ما يستحقه من أجرة المثل، فهو مكلّف وجوبا بالإيفاء، و العامل مكلف ندبا بالسكوت و ترك المطالبة خصوصا على ما يعتاده هؤلاء من سوء الاقتضاء.

______________________________

التسامح في دليلها كما قيل به في المستحبات.

لا يقال: إن الصدوق «ره» أسند ذلك إلى أبي عبد اللّه

عليه السّلام بنحو الجزم، و هذا يدلّ على ثبوت الخبر عنده و اعتماده عليه.

فإنّه يقال: ثبوت الخبر عنده لا يكفي في اعتمادنا عليه ما لم نطّلع على الوسائط و لم نحرز صحتها.

و ثانيا: أنّ عمل المشاطة بعد ما ثبت حلّيتها و كونها عملا محترما لا وجه لعدم جواز تعيين الأجرة لها فيجب توجيه الرواية. و المصنّف احتمل فيها ثلاثة احتمالات:

الأوّل: أنّ ما يعطى للماشطة و الحجّام و الختّان و أمثالهم لا ينقص غالبا عن أجرة المثل و لكنهم لشدّة حرصهم يتوقعون غالبا أزيد مما يستحقون، و لو منعوا عن ذلك لبادروا إلى هتك عرض الطرف و لا يخلو هذا عن شبهة- إذ المأخوذ حياء كالمأخوذ غصبا- فلأجل ذلك منعوا عن المشارطة، فلا ينافي ذلك جواز مطالبتهم لحقّهم و امتناعهم عن قبول ما أعطوا إذا اتفق كونه أقلّ من أجرة مثل أعمالهم.

الثاني: أنّ المشارطة و المماسكة في مثل هذه الأعمال الخسيسة النازلة لا تليق بشأن أهل المروّة و إن وجب على من عمل له إيفاء حقهم، فهو مكلّف وجوبا بإيفاء حقوقهم، و هم مكلّفون ندبا بالسكوت و ترك المطالبة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 489

أو لأنّ الأولى في حقّ العامل قصد التبرع بالعمل (1) و قبول ما يعطى على وجه التبرّع أيضا، فلا ينافي ذلك ما ورد من قوله عليه السّلام:

«لا تستعملن أجيرا حتّى تقاطعه.» (2)

______________________________

الثالث: أنّ الأولى في حقّ العامل لهذه الأعمال- بل مطلقا- قصد التبرع بالعمل و قبول ما يعطى على وجه التبرع أيضا.

(1) قوله: «أو لأن الأولى» عطف على قوله: «إما لأنّ الغالب»، فهذا هو الاحتمال الثالث في عبارة المصنّف.

و يرد عليه أوّلا ما في مصباح الفقاهة، حيث قال: «المرسلة إنّما دلّت

على عدم المشارطة المستلزمة لعدم تحقق الإجارة المعتبر فيها تعيين الأجرة، و هذا لا يستلزم قصد التبرع، لجواز أن يكون إيجاد العمل بأمر الآمر فيكون أمره هذا موجبا للضمان بأجرة المثل كما هو متعارف في السوق كثيرا.» «1»

و ثانيا: أنّ العمل بعد كونه عملا حلالا محترما لا وجه لأولوية قصد التبرّع فيه، بل ينافي لفظ الكسب المذكور في المرسلة لقصد التبرع.

(2) هذا المضمون ورد في بعض الأخبار و لكن لا بهذا اللفظ، فراجع الوسائل. «2»

و لا يخفى أنّ مورد هذه الرواية و نحوها صورة الاستيجار للعمل، و مع فرض كون الأولى في مثل المشاطة و نحوها قصد التبرّع يكون عملها خارجا عن حريم الإجارة و موضوعها بالكلية، فلا يتوهم تنافيهما، فتدبّر.

______________________________

(1) نفس المصدر 1/ 201.

(2) راجع الوسائل 13/ 245، كتاب الإجارة، الباب 3.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 491

[المسألة الثانية: تزيّن الرجل بما يحرم عليه ...]

اشارة

المسألة الثانية: تزيين الرجل بما يحرم عليه من لبس الحرير و الذهب حرام، لما ثبت في محلّه من حرمتهما على الرجال، و ما يختصّ بالنساء من اللباس- كالسوار و الخلخال و الثياب المختصة بهن في العادات- على ما ذكره في المسالك. و كذا العكس، أعني تزيين المرأة بما يختصّ بالرجال- كالمنطقة و العمامة-، و يختلف باختلاف العادات. (1)

______________________________

المسألة الثانية: تزيّن الرجل بما يحرم عليه ...

(1) قد تعرّض المصنّف هنا لمسألتين: الأولى تزين الرجل بالحرير و الذهب، الثانية: تزيّن كلّ من الرجل و المرأة بما يختصّ بالآخر، و ربما يعبّر عن الثانية بتشبّه كلّ منهما بالآخر في اللباس و الزينة، و بعض تعبيرات الأصحاب ربما يعمّ المسألتين كما سيظهر، و المسألة الثانية بنفسها تعمّ المسألة الأولى، إذ الظاهر من الأخبار و الفتاوى أنّ التزين بالحرير و

الذهب من مختصّات النساء.

و قد عبّرنا بلفظ التزيّن و عبّر المصنّف و غيره بلفظ التزيين، و لعلّهم أرادوا بذلك تزيين الغير لهما في مقابل أخذ الأجرة لذلك ليصحّ عدّه من المكاسب المحرمة.

و كيف كان فالأولى إفراد كلّ من المسألتين بالبحث، فنقول:

الأولى: تزيّن الرجل بالحرير و الذهب
[بيان بعض كلمات الفقهاء في المقام]

و الظاهر اتفاق الفريقين على حرمة ذلك إجمالا، فلنتعرض لبعض كلماتهم:

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 492

..........

______________________________

1- قال المفيد في مكاسب المقنعة: «و معالجة الزينة للرجال بما حرّمه اللّه- تعالى- حرام.» «1»

2- و في مكاسب النهاية: «و معالجة الزينة للرجال بما حرّمه اللّه عليهم حرام.» «2» و مثلها عبارة السرائر. «3»

أقول: في مفتاح الكرامة: «و أمّا تزيين الرجل بالحرام ففي المقنعة و النهاية ما يعطي أن المراد بالحرام: الذهب و ما حرم من الحرير.» «4» ثم ذكر عبارة الكتابين.

3- و في مكاسب الشرائع: «و تزين الرجل بما يحرم عليه.» «5»

4- و ذيّل هذه العبارة في المسالك بقوله: «المحرّم عليه من الزينة هو المختصّ بالنساء، كلبس السوار و الخلخال و الثياب المختصة بها بحسب العادة، و يختلف ذلك باختلاف الأزمان و الأصقاع. و منه تزيينه بالذهب و إن قلّ، و بالحرير زيادة عمّا استثني، و كذا يحرم على المرأة التزيين بزينة الرجل و التحلّي بحليته المختصة به كلبس المنطقة و العمامة و التقلّد بالسيف. و لا فرق في الأمرين بين مباشرة الفاعل لذلك بنفسه، و تزيين غيره له، إلّا أنّ المناسب للعبارة هنا فعل الغير بهما ليكتسب به.» «6»

أقول: فهو «ره» حمل عبارة المصنّف على المسألة الثانية و عدّ المسألة الأولى من مصاديقها.

5- و في المكاسب المحرّمة من المختصر النافع: «و تزيين الرجل بما يحرم عليه.» «7»

6- و ذيّله في التنقيح بقوله: «ذلك كالحرير

المحض و الذهب كثيره و قليله حتى جزء لا يتجزّى. و كذا تزيين المرأة بما يحرم عليها كاتخاذ المنطقة و السيف لها،

______________________________

(1) المقنعة/ 590، باب المكاسب.

(2) النهاية للشيخ الطوسي/ 365، باب المكاسب المحظورة و المكروهة و المباحة.

(3) راجع السرائر 2/ 222، باب ضروب المكاسب.

(4) مفتاح الكرامة 4/ 59، كتاب المتاجر، المقصد الأوّل، الفصل الأوّل، الرابع من المحرم.

(5) الشرائع/ 264 (- ط. أخرى 2/ 10)، كتاب التجارة، الفصل الأوّل، الرابع مما يحرم الاكتساب به.

(6) المسالك 3/ 130، كتاب التجارة ... الرابع مما يحرم الاكتساب به.

(7) المختصر النافع/ 117، كتاب التجارة، الفصل الأوّل، الخامس مما يحرم الاكتساب به.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 493

..........

______________________________

و لا أدري لم أهمل المصنّف ذلك؟!» «1»

أقول: يظهر منه أيضا حمل عبارة المصنّف على كلتا المسألتين.

7- و في المكاسب المحرمة من إرشاد العلّامة قوله: «و تزيين الرجل بالمحرم.» «2»

8- و ذيّله في مجمع الفائدة بقوله: «كتزيينه بالذهب و الحرير إلّا ما استثني، قيل:

و منه تزيينه بما يختصّ بالنساء كلبس السّوار و الخلخال و الثياب المختصّة بها بحسب العادة، و يختلف ذلك باختلاف الأزمان و البلاد، و كذا العكس. و لعلّ دليله الإجماع و أنّه نوع غشّ و هو محرّم، و الإجماع غير ظاهر فيما قيل، و كذا كونه غشّا و هو ظاهر.» «3»

9- و في لباس المصلّي من الشرائع: «الرابعة: لا يجوز لبس الحرير المحض للرجال، و لا الصلاة فيه إلّا في الحرب و عند الضرورة.» «4»

10- و في الجواهر ذيّل عدم جواز اللبس بقوله: «إجماعا من المسلمين»، و عدم جواز الصلاة فيه بقوله: «عندنا إذا كان مما تتمّ به الصلاة ...» «5»

11- و فيه أيضا: «لا يجوز لبس الذهب للرجل إجماعا

أو ضرورة و لا الصلاة في الساتر منه بلا خلاف أجده ...» «6»

12- و في المغني لابن قدامة: «القسم الثاني: ما يختصّ تحريمه بالرجال دون النساء، و هو الحرير و المنسوج بالذهب و المموّه به، فهو حرام لبسه و افتراشه في الصلاة و غيرها، لما روى أبو موسى: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: «حرم لباس الحرير و الذهب على ذكور أمّتي و أحلّ لإناثهم.» أخرجه أبو داود و الترمذي و قال حديث

______________________________

(1) التنقيح الرائع 2/ 15، كتاب التجارة ... الخامس مما يحرم الاكتساب به.

(2) إرشاد الأذهان 1/ 358، كتاب المتاجر، المقصد الأوّل، المطلب الأوّل، الرابع مما يحرم الاكتساب به.

(3) مجمع الفائدة و البرهان 8/ 85، كتاب المتاجر، المقصد الأوّل، المطلب الأوّل.

(4) الشرائع/ 54 (- ط. أخرى 1/ 69)، كتاب الصلاة، الركن الأوّل، المقدمة الرابعة.

(5) الجواهر 8/ 114.

(6) نفس المصدر 8/ 109.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 494

..........

______________________________

حسن صحيح. و عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «لا تلبسوا الحرير فإنّ من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة.» متفق عليه، و لا نعلم في تحريم لبس ذلك على الرجال اختلافا إلّا لعارض أو عذر، قال ابن عبد البرّ: هذا إجماع، فإن صلّى فيه فالحكم فيه كالصلاة في الثوب الغصب على ما بيّناه من الخلاف و الروايتين. و الافتراش كاللبس في التحريم، لما روى البخاري عن حذيفة قال: «نهانا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أن نشرب في آنية الذهب و الفضة و أن نأكل فيها و أن نلبس الحرير و الديباج و أن نجلس عليه.» «1»

13- و في الفقه على المذاهب الأربعة في

هذا المجال كلام طويل نذكر بعض فقراته: «الشافعية قالوا: يحرم على الرجال لباس الحرير ... و لا يجوز للرجال أن يجلسوا على الحرير و لا أن يستندوا إليه من غير حائل ... و يحرم أن يكتب الرجل على الحرير أو يرسم عليه أيّ نقش، كما يحرم ستر الجدران به في أيّام الفرح و الزينة إلّا لعذر ...

الحنابلة قالوا: يحرم على الرجل استعمال الحرير من لبس و غيره و لو كان الحرير بطانة لغيره أو مبطّنا بغيره ... و كذا يحرم الجلوس عليه و الاستناد إليه و توسّده و تعليقه و ستر الجدران به إلّا الكعبة ....

الحنفية قالوا: يحرم على الرجال لبس الحرير المأخوذ من الدودة إلّا لضرورة، أمّا فرشه و النوم عليه و اتخاذه و سادة أي مخدّة فالمشهور أنّه جائز ....

المالكية قالوا: يحرم على الذكور البالغين لبس الحرير، أمّا الصغار فقيل: يحلّ إلباسهم الحرير، و قيل: يحرم، و قيل: يكره.» «2»

14- و فيه أيضا: «يحرم على الرجل و المرأة استعمال الذهب و الفضّة، و علّة النهي عن استعمال الذهب و الفضة للرجال و النساء واضحة ... لذلك حرّمت الشريعة الإسلامية استعمالهما على الرجال و النساء إلّا في أحوال تقتضيها فأباحت

______________________________

(1) المغني 1/ 626، الفصل الرابع من جملة الكلام في اللباس.

(2) الفقه على المذاهب الأربعة 2/ 10- 13، كتاب الحظر و الإباحة، مبحث ما يحلّ لبسه ....

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 495

..........

______________________________

للنساء ما تتزين به منهما لأن المرأة في حاجة ضرورية إلى الزينة فلها أن تتحلّى بما شاءت من الذهب و الفضة، و كذلك أباحت للرجال التختم بالفضة ...»

و في الذيل عن الشافعية: «و يحلّ للرجل التختم بالفضة بل يسنّ ما

لم يسرف ... أمّا التختم بالذهب فحرام مطلقا.» «1»

أقول: هذه بعض كلمات الأعلام في المقام، و قد رأيت أنّ المذكور في كلام المصنّف و كلمات أكثر الأعلام من أصحابنا عنوان الزينة و التزيين لا اللبس أو التشبّه، و المقنعة و النهاية من الكتب المعدّة لنقل المسائل المأثورة عن الأئمة عليهم السّلام.

و لكن يظهر من مصباح الفقاهة أنّ المحرّم للرجل في باب الحرير و الذهب عنوان لبسهما لا التزين بهما، و نفى أن يلازم أحدهما الآخر. و الأولى نقل عبارته بتمامها لكون المسألة من المسائل المبتلى بها، و الحوالة لا تخلو من الخسارة.

قال: «اتفق فقهاؤنا و فقهاء العامّة و استفاضت الأخبار من طرقنا و من طرق السنّة «2» على حرمة لبس الرجل الحرير و الذهب إلّا في موارد خاصّة، و لكن الأخبار خالية عن حرمة تزيّن الرجل بهما، فعقد المسألة بهذا العنوان كما صنعه المصنّف «ره» فيه مسامحة واضحة.

نعم ورد في بعض الأحاديث: «لا تختّم بالذهب فإنّه زينتك في الآخرة.» و في بعضها الآخر: «جعل اللّه الذهب في الدنيا زينة النساء فحرّم على الرجال لبسه و الصلاة فيه.» «3»

و لكن- مضافا إلى ضعف السند فيهما-: أنّهما لا تدلّان على حرمة تزين الرجل بالذهب حتى يشمل النهي غير صورة اللبس أيضا. بل تفريعه عليه السّلام في الرواية

______________________________

(1) نفس المصدر 2/ 14- 15، مبحث ما يحلّ لبسه و استعماله من الذهب و الفضة و ما لا يحلّ.

(2) راجع سنن البيهقي 2/ 422 و ما بعدها، كتاب الصلاة، باب نهي الرجال عن ثياب الحرير، و باب العلم في الحرير، و باب نهي الرجال عن لبس الذهب.

(3) راجع الوسائل 3/ 299- 302، الباب 30 من أبواب لباس المصلّي، الحديثين

1 و 5 و غيرهما.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 496

..........

______________________________

الثانية حرمة لبس الذهب على كونه زينة النساء في الدنيا لا يخلو عن الإشعار بجواز تزين الرجل بالذهب ما لم يصدق عليه عنوان اللبس.

و قد يقال: إنّ عنوان التزيّن بالذهب و الفضة و إن لم يذكر في الأخبار، إلّا أنّ لبس الحرير و الذهب يلازم التزين بهما، فالنهي عن لبسهما يلازم النهي عن التزين بهما.

و فيه: أنّها دعوى جزافية، لمنع الملازمة، بل بين العنوانين عموم من وجه، فإنّ التزين قد يصدق حيث لا يصدق اللبس، كما إذا جعلت أزرار الثوب من الذهب أو من الحرير، و كما إذا خيط بهما الثوب كما تتعارف خياطة الفراء بالحرير و الديباج، و كما إذا صاغ الإنسان أسنانه من الذهب. و قد يصدق اللبس و لا يصدق التزيّن كلبس الحرير و الذهب تحت سائر الألبسة، و تختّم الرجل بالذهب للتجربة و الامتحان. و قد يجتمع العنوانان. و تفصيل الكلام في البحث عن لباس المصلّي في كتاب الصلاة.

و من هنا ظهر أنّه لا وجه لما ذهب إليه في العروة في المسألة «23» من مسائل لباس المصلّي، قال: نعم إذا كان زنجير الساعة من الذهب و علّقه على رقبته أو وضعه في جيبه لكن علّق رأس الزنجير يحرم لأنّه تزيّن بالذهب و لا تصحّ الصلاة فيه أيضا.» «1» انتهى.

أقول: و نحن أيضا علقنا على قول العروة: «و لا تصحّ الصلاة فيه» فقلنا:

«مشكل إلّا مع صدق اللبس و الصلاة فيه كما في التعليق على الرقبة.» «2»

و في حاشية السيّد «ره» على المكاسب في المقام أيضا: «لا يخفى أنّ عنوان المحرّم ليس هو التزيين بل لبس الحرير و الذهب و لو لم

يكن للتزيين، و أيضا التشبّه و لو لم يكن بقصد التزيين فلا تغفل.» «3» هذا.

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 206، في النوع الرابع مما يحرم الاكتساب به؛ و راجع العروة الوثقى 1/ 563.

(2) راجع التعليقة على العروة 1/ 261.

(3) حاشية المكاسب/ 16، في ذيل قول المصنّف: تزيين الرجل بما يحرم ....

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 497

..........

______________________________

و لكن لا يخفى أنّ الغالب في لبس الحرير و الذهب قصد التزين بهما بحيث يوجد بين العنوانين ملازمة عرفية. و كتب أصحابنا الإمامية- حتّى ما أعدّ منها لنقل خصوص المسائل المأثورة- ملاء من ذكر عنوان التزيين كما مرّ. و في الأخبار الواردة في الباب أيضا إشعار بذلك، و مناسبة الحكم و الموضوع أيضا تشعر بكون الملاك ذلك فيشكل الإغماض عنه.

و يمكن أن يقال: إنّ عنوان التزين ليس من العناوين القصدية المتقومة بالقصد، إذ يصدق التزين على مثل لبس الحرير و الذهب و تعليقهما و التختم بالذهب و شدّ الأسنان به مثلا و إن لم يقصد عنوان التزيّن، فتدبّر.

و لو فرض كون المحرّم عنوان اللبس كما في المصباح فالظاهر انصرافه عما إذا وقع موقتا للتجربة و الامتحان مثلا.

أخبار النهي عن لبس الحرير و الذهب
اشارة

و كيف كان فلنذكر بعض أخبار النهي عن لبس الحرير و الذهب:

أمّا الحرير:

1- ففي رواية إسماعيل بن الفضل عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لا يصلح للرجل أن يلبس الحرير إلّا في الحرب.» «1»

2- و في مرسلة ابن بكير عن بعض أصحابنا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

«لا يلبس الرجل الحرير و الديباج إلّا في الحرب.» «2»

3- و في مرسلة الفقيه: «لم يطلق النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لبس الحرير لأحد من الرجال إلّا لعبد الرحمن بن عوف، و ذلك أنّه كان رجلا قملا.» «3»

______________________________

(1) الوسائل 3/ 269، الباب 12 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 1.

(2) نفس المصدر و الباب، الحديث 2.

(3) نفس المصدر 3/ 270، و الباب، الحديث 4.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 498

..........

______________________________

4- و في سنن البيهقي بسنده عن أنس بن مالك عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة.» «1»

إلى غير ذلك من الأخبار من طرق الفريقين.

و يدلّ على منع الصلاة فيه:

1- صحيحة الأحوص، قال: سألت أبا الحسن الرضا عليه السّلام هل يصلّي الرجل في ثوب أبريسم؟ فقال: «لا.» «2»

2- و صحيحة محمّد بن عبد الجبّار، قال: كتبت إلى أبي محمّد عليه السّلام أسأله هل يصلّى في قلنسوة حرير محض أو قلنسوة ديباج؟ فكتب عليه السّلام: «لا تحلّ الصلاة في حرير محض.» «3» إلى غير ذلك من الأخبار.

و المراد بعدم الحلّ في المقام و أمثاله عدم الصحّة كما لا يخفى.

و أمّا الذهب:

1- ففي رواية روح بن عبد الرحيم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لأمير المؤمنين عليه السّلام: «لا تتختّم بالذهب فإنّه زينتك في الآخرة.» «4»

و إشعارها بكون وجه الحرمة كونه

زينة واضح، و في السند غالب بن عثمان و لم يثبت وثاقته إلّا أن يراد به المنقري بقرينة رواية ابن فضّال عنه. «5»

2- و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السّلام: «أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال لعليّ: «إنّي أحبّ لك ما أحبّ لنفسي، و أكره لك ما أكره لنفسي، لا تتختّم بخاتم ذهب، فإنّه زينتك في الآخرة.» «6»

______________________________

(1) سنن البيهقي 2/ 422، كتاب الصلاة، باب نهي الرجال عن ثياب الحرير.

(2) الوسائل 3/ 267، الباب 11 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 1.

(3) نفس المصدر و الباب، الحديث 2.

(4) نفس المصدر 3/ 299، الباب 30 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 1.

(5) راجع تنقيح المقال 2/ 365.

(6) الوسائل 3/ 300، الباب 30 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 6.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 499

..........

______________________________

3- و في رواية حنّان بن سدير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سمعته يقول: «قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لعليّ عليه السّلام: «إيّاك أن تتختم بالذهب، فإنّه حليتك في الجنّة.» «1»

4- و في رواية موسى بن أكيل النميري عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «في الحديد أنّه حلية أهل النار، و الذهب أنّه حلية أهل الجنة. و جعل اللّه الذهب في الدنيا زينة النساء فحرّم على الرجال لبسه و الصلاة فيه.» «2»

و إشعارها بكون النهي بلحاظ كونه زينة أيضا واضح، و تفريع اللبس عليه من جهة أنّ التزين به غالبا كان بلبسه، و إشارة إلى عدم حرمة جعله من النقود مثلا، فلا يرد على ذلك ما مرّ من المصباح.

5- و في خبر ابن عباس عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بعد ذكر أشراط السّاعة:

«فعند ذلك تحلّى ذكور أمّتي بالذهب و يلبسون الحرير و الديباج.» «3»

6- و في دعائم الإسلام عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّه نهى الرجال عن حلية الذهب و قال: «هو حرام في الدنيا.» «4»

7- و فيه أيضا عن أبي جعفر محمّد بن عليّ عليه السّلام أنّه سئل عن حليّ الذهب للنساء؟ قال: «لا بأس به، إنّما يكره للرجال.» «5» و رواهما عنه في المستدرك. «6»

و الكراهة في لسان الكتاب و السنّة أعمّ كما مرّ.

8- و في خبر جراح المدائني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لا تجعل في يدك خاتما

______________________________

(1) نفس المصدر 3/ 302، و الباب، الحديث 11.

(2) نفس المصدر 3/ 300، و الباب، الحديث 5.

(3) نفس المصدر 11/ 277، الباب 49 من أبواب جهاد النفس و ما يناسبه، الحديث 22.

(4) دعائم الإسلام 2/ 164، الفصل الثالث: ذكر لباس الحلي، الحديث 588.

(5) نفس المصدر 2/ 163، و الفصل، الحديث 583.

(6) راجع مستدرك الوسائل 1/ 204، كتاب الصلاة، الباب 24 من أبواب لباس المصلّي، الحديثين 3 و 4.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 500

..........

______________________________

من ذهب.» «1»

9- و في سنن البيهقي بسنده عن عليّ عليه السّلام قال: «نهاني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن التختم بالذهب. الحديث.» «2»

إلى غير ذلك من الأخبار الواردة من طرق الفريقين، فراجع. و الظاهر من الأكثر كون النهي بلحاظ الزينة و التحلّي.

و يمكن التفصيل بين الحرير و الذهب فيقال: إن المحرّم في الحرير لبسه دون التزيّن به و لذا جاز لبس المخلوط به قطعا كما في الأخبار و الفتاوى، و في رواية يوسف بن إبراهيم: «لا بأس بالثوب أن يكون سداه و زرّه و

علمه حريرا.» «3» مع صدق عنوان التزيّن فيها. و نلتزم بحرمة لبسه و إن لم يصدق عليه التزيّن، كما فيما إذا لبسه تحت ألبسته.

و أمّا في الذهب فالظاهر من كثير من الأخبار كون المنهي عنه التزين و التحلّي به للرجال، و مناسبة الحكم و الموضوع و التفصيل فيه بين الرجال و النساء يشعران بذلك، فإنّ التحلّي هو الجهة الفارقة بين الرجل و المرأة. و قد قال اللّه- تعالى- في حقّ المرأة: أَ وَ مَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَ هُوَ فِي الْخِصٰامِ غَيْرُ مُبِينٍ «4» فتأمّل.

و ما ورد فيه النهي عن التختّم به فالظاهر أنّ حيثية الزينة فيه أظهر من حيثية اللبس، بل لا يطلق اللبس فيه إلّا بنحو من العناية.

و على هذا فنلتزم بحرمة الزرّ و العلم و نحوهما من الذهب دون الحرير.

و لا يستلزم حرمتها بطلان الصلاة معها و إن كان أحوط، إذ البطلان دائر

______________________________

(1) الوسائل 3/ 299، الباب 30 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 2.

(2) سنن البيهقي 2/ 424، كتاب الصلاة، باب نهي الرجال عن لبس الذهب.

(3) الوسائل 3/ 272، الباب 13 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 6.

(4) سورة الزخرف (43)، الآية: 18.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 501

..........

______________________________

مدار صدق الصلاة فيه، و صدق ذلك في مثل الزرّ و العلم، بل و في الخاتم أيضا يحتاج إلى عناية. و في موثقة عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «لا يلبس الرجل الذهب و لا يصلّي فيه، لأنّه من لباس أهل الجنة.» «1» فظاهرها النهي عن إيقاع الصلاة فيه بحيث يصير ظرفا لها، و صدق ذلك في مثل الخاتم قابل للمنع. و الالتزام بكفاية مطلق المعيّة في المانعية في باب أجزاء ما

لا يؤكل لحمه بمقتضى موثقة ابن بكير لا يستلزم الالتزام بذلك في المقام.

و تحقيق المسألة في مبحث لباس المصلّي، و راجع ما علّقناه على الشرط الخامس من شرائط لباس المصلّي من العروة. «2»

فإن قلت: مقتضى ما ذكرت من حرمة التزيّن بالذهب مطلقا عدم جواز شدّ الأسنان به أيضا، لصدق الزينة، و قد مرّ منكم عدم توقف صدقها على القصد، و في صحيحة محمد بن مسلم قال: رأيت أبا جعفر عليه السّلام يمضغ علكا، فقال: «يا محمّد، نقضت الوسمة أضراسي فمضغت هذا العلك لأشدّها». قال: و كانت استرخت فشدّها بالذهب.» «3»

قلت: أوّلا: الظاهر من الحديث إرادة الأسنان غير البارزة، فلا يصدق على شدّها الزينة، و ثانيا: لا إطلاق لكلام محمّد بن مسلم، لكونه حكاية عن واقعة خاصّة، و ثالثا: إن موردها الضرورة، فيشكل التعدّي منه إلى ما لا ضرورة فيه.

هذا كلّه في المسألة الأولى، أعني تزين الرجل بالحرير و الذهب.

______________________________

(1) الوسائل 3/ 300، الباب 30 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 4.

(2) راجع التعليقة على العروة 1/ 261 و ما بعدها.

(3) الوسائل 1/ 407، الباب 49 من أبواب آداب الحمام، الحديث 3.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 502

و اعترف غير واحد بعدم العثور على دليل لهذا الحكم (1) عدا النبويّ المشهور المحكيّ عن الكافي و العلل: (2) «لعن اللّه المتشبهين من الرجال بالنساء و المتشبهات من النساء بالرجال.»

الثانية: تزين كلّ من الرجل و المرأة بما يختصّ بالآخر
اشارة

______________________________

و قد يعبّر عنها بتشبّه أحدهما بالآخر في اللباس و الزينة، و قد مرّ كلام الشهيد في المسالك «1» و أنّه حمل كلام المحقق: «و تزين الرجل بما يحرم عليه» على هذه المسألة و عدّ المسألة الأولى التي مرّت من مصاديق هذه المسألة. و مرّ منّا أن الأولى

إفراد كلّ منهما بالبحث لاختلافهما في الوضوح و الخفاء و بحسب المبنى و الدليل.

[الدليل على الحكم]

(1) أقول: قد مرّ عن مجمع الفائدة- بعد الإشارة إلى كلام المسالك- قوله:

«لعلّ دليله الإجماع و أنّه نوع غشّ، و الإجماع غير ظاهر و كذا كونه غشّا.» «2»

و في الحدائق بعد نقل كلام المسالك قال: «لم أقف في هذا الموضع على خبر و لا دليل يدلّ على ما ذكروه سوى ما ورد من عدم جواز لبس الرجل الذهب و الحرير، فلو خصّ تحريم التزيين بذلك لكان له وجه لما ذكرناه، و أمّا ما عداه فلم نقف على دليل تحريمه ... نعم قد ورد في بعض الأخبار لعن المتشبهين بالنساء و لعن المتشبهات بالرجال، إلّا أنّ الظاهر منها- باعتبار حمل بعضها على بعض- إنّما هو باعتبار التأنيث و عدمه لا باعتبار اللبس و الزيّ ...» «3»

(2) في الوسائل عن الكافي بسند فيه ضعف عن جابر عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله- في حديث-: «لعن اللّه المحلّل و المحلّل له، و من تولّى غير مواليه، و من ادّعى نسبا لا يعرف، و المتشبهين من الرجال بالنساء و المتشبهات

______________________________

(1) راجع المسالك 3/ 130. و قد مر كلامه في ص 492.

(2) مجمع الفائدة و البرهان 8/ 85، كتاب المتاجر. و قد مرّ في ص 493.

(3) الحدائق 18/ 198، كتاب التجارة، المقدمة 3، البحث 1، المقام 3، المسألة 9، المورد 3.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 503

..........

______________________________

من النساء بالرجال و من أحدث حدثا في الإسلام أو آوى محدثا، و من قتل غير قاتله أو ضرب غير ضاربه.» «1»

و ليس في العلل هذه الرواية، بل ما حكاه

المصنّف عنه بعد ذلك للتأييد.

أقول: قال ابن الأثير في النهاية: «و فيه: «لعن اللّه المحلّل و المحلّل له.» و في رواية: «المحلّ و المحلّ له.» ... و المعنى في الجميع هو أن يطلق الرجل امرأته ثلاثا فيتزوجها رجل آخر على شريطة أن يطلّقها بعد وطئها لتحلّ لزوجها الأوّل.

و قيل: سمّي محلّلا بقصده إلى التحليل، كما يسمّى مشتريا إذا قصد الشراء.» «2»

و قال المجلسي في مرآة العقول: «مع الاشتراط ذهب أكثر العامّة إلى بطلان النكاح، فلذا فسّروا التحليل بقصد التحليل، و لا يبعد القول بالبطلان على أصول أصحابنا أيضا.

ثمّ اعلم أنّه يمكن أن يحمل هذا الكلام على معنى آخر غير ما حملوه عليه، بأن يكون المراد النسي ء في الأشهر الحرم.

قال الزمخشري: كان جنادة بن عوف الكناني مطاعا في الجاهلية، و كان يقوم على جمل في الموسم فيقول بأعلى صوته: إنّ آلهتكم قد أحلّت لكم المحرّم فأحلّوه، ثم يقوم في القابل فيقول: إنّ آلهتكم قد حرّمت عليكم المحرّم فحرّموه ...

قوله صلّى اللّه عليه و آله: «و من يوالي غير مواليه» فسّر أكثر العامّة بالانتساب إلى غير من انتسب إليه من ذي نسب أو معتق، و بعضهم خصّه بولاء العتق فقط، و هو هنا أنسب ....

قوله: «و المتشبهين من الرجال بالنساء» بأن يلبس الثياب المختصة بهن و يتزين بما يختصهن و بالعكس، و المشهور بين علمائنا الحرمة فيهما.

قوله: «و من أحدث حدثا» أي بدعة أو أمرا منكرا. و ورد في بعض الأخبار تفسيره بالقتل ...

______________________________

(1) الوسائل 12/ 211، الباب 87 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1؛ عن الكافي 8/ 71.

(2) النهاية 1/ 431.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 504

و في دلالته قصور لأنّ الظاهر من التشبّه

تأنث الذكر و تذكر الأنثى لا مجرّد لبس أحدهما لباس الآخر مع عدم قصد التشبه. (1)

و يؤيده المحكيّ عن العلل: أنّ عليا عليه السّلام رأى رجلا به تأنيث في مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال له: «اخرج من مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فإنّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: لعن اللّه الخ.» (2)

______________________________

قوله: «و من قتل غير قاتله.» أي غير مريد قتله، أو غير قاتل من هو وليّ دمه فكأنّما قتل نفسه.» «1»

أقول: حمل التحليل في الحديث على النسي ء خلاف الظاهر و لا سيّما و أنّ النسي ء كان في زمان الجاهلية و انتفى موضوعه بطلوع الإسلام، بل الظاهر إرادة المحلّل للمطلّقة ثلاثا، و جوازه شرعا بالكتاب و السنّة لا ينافي عدم الجواز مع اشتراط الطلاق في متن العقد بناء على عدم الصحة حينئذ، مضافا إلى أنّ العمل فيه حزازة أخلاقية، و يمكن أن يقع اللعن بالنسبة إلى مرتكب المكروهات أيضا.

و في مرآة العقول عن الطيبي في شرح المشكاة: «و إنّما لعن لأنّه هتك مروّة و قلّة حيّة و خسّة نفس و هو بالنسبة إلى المحلّل له ظاهر، و أمّا المحلّل فإنّه كالتيس يعير نفسه بالوطي لغرض الغير.» «2»

(1) ظاهره كون التشبّه من العناوين القصدية المتقومة بالقصد، و سيأتي عدم صحة ذلك. «3»

(2) راجع الوسائل، «4» و العلل. «5» و فيهما: «اخرج من مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يا لعنة رسول اللّه. (يا من لعنه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله- العلل) ثم قال عليّ عليه السّلام: «سمعت

______________________________

(1) مرآة العقول 25/ 166، كتاب الروضة، ذيل الحديث 27.

(2) نفس المصدر و الكتاب.

(3)

يأتي في ص 511.

(4) الوسائل 12/ 211، الباب 87 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

(5) علل الشرائع/ 602، الباب 385، الحديث 63.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 505

و في رواية يعقوب بن جعفر- الواردة في المساحقة-: أنّ فيهنّ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «لعن اللّه المتشبهات بالرجال من النساء الخ.» (1)

______________________________

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: لعن اللّه ...».

و في حديث آخر: «أخرجوهم من بيوتكم فإنّهم أقذر شي ء.» «1» هذا.

و في السند من يجهل حاله و من لم يثبت وثاقته أيضا، فراجع. «2»

و الظاهر من الخبر كون الرجل مخنثا أو متزييا بزيّ النساء، و عدم إجرائه الحدّ أو التعزير عليه لعلّه من جهة أن الحكم لم يكن بيده عليه السّلام و لم يكن يقدر على ذلك أو أنّ نفس إخراجه من مجامع المسلمين كان كافيا في تعزيره و تأديبه.

(1) راجع الوسائل، و الكافي. و متن الخبر هكذا: سأل رجل أبا عبد اللّه عليه السّلام أو أبا إبراهيم عليه السّلام عن المرأة تساحق المرأة، و كان متكئا فجلس فقال: «ملعونة الراكبة و المركوبة، و ملعونة حتى تخرج من أثوابها الراكبة و المركوبة، فإنّ اللّه- تبارك و تعالى- و الملائكة و أولياءه يلعنونهما و أنا و من بقي في أصلاب الرجال و أرحام النساء، فهو و اللّه الزنا الأكبر، و لا و اللّه ما لهن توبة، قاتل اللّه لا قيس بنت إبليس ما ذا جاءت به؟!» فقال الرجل: هذا ما جاء به أهل العراق. فقال: و اللّه لقد كان على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قبل أن يكون العراق، و فيهن قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه

و آله: لعن اللّه المتشبهات بالرجال من النساء و لعن المتشبهين من الرجال بالنساء.» «3»

قال في مرآة العقول قوله: «حتى تخرج» يحتمل أن يكون الخروج من الأثواب التي لبستها عند ذلك العمل. «4»

______________________________

(1) نفس المصدر و الباب، الحديث 64؛ و عنه الوسائل 12/ 212.

(2) في السند: أبو الجوزاء و الحسين بن علوان و عمرو بن خالد. و الأوّل مختلف فيه و الآخران عامّيان. راجع تنقيح المقال 3/ 247 و 1/ 335 و 2/ 330.

(3) الوسائل 14/ 262، الباب 24 من أبواب النكاح المحرّم، الحديث 5؛ و الكافي 5/ 552، باب السحق، الحديث 4.

(4) مرآة العقول 20/ 402، ذيل الحديث 4 من باب السحق.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 506

و في رواية أبي خديجة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «لعن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المتشبهين من الرجال بالنساء و المتشبهات من النساء بالرجال، و هم المخنّثون و اللائي ينكحن بعضهن بعضا.» (1)

______________________________

أقول: و قوله: «ما لهن توبة» لعلّ المراد عدم توفيقهم لها لكبر الذنب جدّا، و يعقوب بن جعفر مجهول.

(1) راجع الوسائل. «1» و التفسير الأخير في ذيل الرواية بنحو اللّف و النشر المرتّب كما لا يخفى. هذا.

1- و في المستدرك عن الخصال بسنده عن جابر بن يزيد الجعفي، قال: سمعت أبا جعفر محمّد بن عليّ عليه السّلام يقول: «لا يجوز للمرأة أن تتشبّه بالرجل لأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لعن المتشبهين من الرجال بالنساء و المتشبهات من النساء بالرجال.» «2»

2- و فيه أيضا عن الجعفريات بسنده عن أبي هريرة قال: «لعن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مخنّثين الرجال المتشبهين بالنساء و المترجلات من النساء المتشبهات

بالرجال.» «3»

3- و فيه أيضا عن الطبرسي في مجمع البيان عن أبي أمامة عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «أربع لعنهم اللّه من فوق عرشه و أمّنت عليه ملائكته: الذي يحصر نفسه فلا يتزوج و لا يتسرّى لئلا يولد له، و الرجل يتشبه بالنساء و قد خلقه اللّه ذكرا، و المرأة تتشبه بالرجال و قد خلقها اللّه أنثى.» «4»

______________________________

(1) الوسائل 14/ 262، الباب 24 من أبواب النكاح المحرّم، الحديث 6.

(2) مستدرك الوسائل 1/ 208، الباب 9 من أبواب أحكام الملابس، الحديث 1؛ عن الخصال/ 587. و فيه: «لا يجوز لها أن تتشبه بالرجال ...»

(3) نفس المصدر 2/ 455، الباب 70 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

(4) نفس المصدر و الباب، الحديث 2.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 507

..........

______________________________

4- و فيه أيضا عن كتاب أبي سعيد بسنده عن جوير بن نعير الحضرمي، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «لعن اللّه و أمّنت الملائكة على رجل تأنّث و امرأة تذكّرت.» «1»

5- و في سنن البيهقي بسنده عن ابن عباس: أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لعن المخنّثين من الرجال و المترجلات من النساء و قال: «أخرجوهم من بيوتكم، و أخرجوا فلانا و فلانا يعني المخنّثين.» «2»

6- و فيه أيضا بسنده عن أبي هريرة أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أتي بمخنّث قد خضب يديه و رجليه بالحناء، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: ما بال هذا؟ فقيل: يا رسول اللّه يتشبّه بالنساء، فأمر به فنفي إلى النقيع. قالوا: يا رسول اللّه ألا تقتله؟ قال: «إنّي نهيت عن قتل المصلّين.» قال أبو أسامة: و النقيع ناحية عن المدينة

و ليس بالبقيع. «3» إلى غير ذلك من الأخبار. هذا.

و محصّل كلام المصنّف في المقام:

أنّ غير واحد اعترفوا بعدم الدليل على حرمة التشبه في اللباس إلّا توهم دلالة لعن المتشبه منهما بالآخر على ذلك. و في دلالة ذلك قصور، لأنّ الظاهر من التشبّه المنهي عنه تأنث الذكر و تذكر الأنثى لا مجرد لبس أحدهما لباس الآخر.

و هل يريد المصنّف بهذا التعبير جعل أحد الجنسين نفسه عملا في عداد الجنس الآخر في الزيّ و الآداب و المعاشرة أو خصوص الانحراف في الرابطة الجنسية بالإقدام على اللواط أو المساحقة؟ كلّ منهما محتمل و إن كان الظاهر بملاحظة بعض الأخبار المذكورة للتأييد هو الثاني.

______________________________

(1) نفس المصدر و الباب، الحديث 3.

(2) سنن البيهقي 8/ 224، كتاب الحدود، باب ما جاء في نفي المخنّثين.

(3) نفس المصدر 8/ 224، كتاب الحدود، باب ما جاء في نفي المخنّثين.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 508

..........

______________________________

و ردّ المحقّق الإيرواني «ره» في الحاشية كلام المصنّف فقال: «لا قصور في دلالته، فإنّ إطلاق التشبّه يشمل التشبه في كلّ شي ء. و دعوى انصرافه إلى التشبه فيما هو من مقتضيات طبع صاحبه لا ما هو مختص به بالجعل كاللباس، في حيّز المنع. بل كون المساحقة من تشبّه الأنثى بالذكر ممنوع، و أيّة واحدة من المساحقتين شبهت نفسها بالذكر، أو أنّ كلتيهما شبهتا أنفسهما بالذكر كما هو ظاهر رواية أبي خديجة الآتية. بل التخنث أيضا ليس تشبّها بالأنثى.» «1»

و قال في ذيل رواية العلل: «لعلّ الرجل الذي أخرجه عليّ عليه السّلام من المسجد كان متزينا بزينة النساء كما هو الشائع في شبّان عصرنا، و كان هو المراد من التأنث لا التخنث، و لو سلّم فالرواية لا تدلّ على انحصار الملعون في لسان

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله به، فلعلّه أحد أفراده ... نعم رواية أبي خديجة ظاهرة في انحصار الملعون في كلامه في المخنثين و اللائي ينكحن بعضهن بعضا.» «2»

أقول: منعه كون المساحقة من تشبه الأنثى بالذكر و كون التخنث تشبها بالأنثى واضح الفساد كما لا يخفى.

و أجاب في مصباح الفقاهة عن الاستدلال بأخبار التشبه بما حاصله: «أوّلا: أنّ هذه الأخبار كلّها ضعيفة السند.

و ثانيا: لا دلالة لها على حرمة التشبه في اللباس، لأنّ التشبه المذكور فيها إمّا أن يراد به مطلق التشبّه، أو التشبّه في الطبيعة كتأنث الذكر و تذكر المرأة، أو التشبه الجامع بين التشبه في الطبيعة و التشبه في اللباس.

أمّا الأوّل فبديهي البطلان، إذ لازمه حرمة اشتغال الرجل بما هو من أعمال النساء عادة كالغزل و غسل الثوب و تنظيف البيت و نحو ذلك، و حرمة اشتغال المرأة بشغل الرجال كالاحتطاب و الاصطياد و الزرع و السقي و نحوها، و لا يلتزم بذلك أحد.

______________________________

(1) حاشية المكاسب/ 19، ذيل قول المصنّف: و في دلالته قصور.

(2) نفس المصدر/ 20.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 509

..........

______________________________

و أمّا الثالث: فلا يمكن أخذه، إذ لا جامع بين التشبه في اللباس و التشبه في الطبيعة.

فيتعين الثاني، و يكون المراد من تشبه أحدهما بالآخر تأنّث الرجل باللواط و تذكر المرأة بالسّحق، و هو الظاهر من لفظ التشبه في المقام. و يؤيد ذلك تطبيق الإمام عليه السّلام النبويّ على المخنّثين و المساحقات في جملة من الروايات الواردة من طرق الخاصّة و العامّة.

و قد اتضح بذلك بطلان ما ادّعاه المحقق الإيرواني من أنّ إطلاق التشبه يشمل التشبّه في كلّ شي ء، و كذلك ما في حاشية السيّد «ره» من عدم اختصاص النبوي

بالتشبه في التأنّث و التذكر لإمكان شموله للتشبه في اللباس أيضا.» «1» انتهى ما في المصباح ملخصا.

أقول: ظهور بعض الأخبار في الانحراف الجنسي، أعني اللواط و المساحقة واضح، و لكن يمكن أن يكون ذكره فيها من جهة كونه من أظهر مصاديق التأنث و التذكّر، و إلّا فليس في مفاهيم التأنث و التذكّر و تشبّه أحدهما بالآخر دلالة على خصوص الرابطة الجنسية، لصدق هذه العناوين على تزيّي أحدهما بزيّ الآخر في اللباس و الزينة و الآداب و وروده بهذه الهيأة في المجتمعات و إن لم يكن من أهل اللواط أو المساحقة، فقوله عليه السّلام في رواية الخصال السابقة: «لا يجوز للمرأة أن تتشبه بالرجل لأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لعن المتشبهين من الرجال بالنساء و المتشبهات من النساء بالرجال» «2» لا يراد به نهي المرأة عن خصوص المساحقة بل عن تزييها بزيّ الرجال في اللباس و الزينة كما هو واضح.

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 208، في النوع الرابع مما يحرم الاكتساب به.

(2) الخصال/ 587، الحديث 12 من أبواب السبعين و ما فوقه. و المتن أثبتناه من المستدرك 1/ 108.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 510

[الحكم بالكراهة]

نعم في رواية سماعة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يجرّ ثيابه؟

قال: «إنّي لأكره أن يتشبه بالنساء.» (1)

و عنه عليه السّلام عن آبائه عليهم السّلام: «كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يزجر الرجل أن يتشبه بالنساء، و ينهى المرأة أن تتشبه بالرجال في لباسها.» (2)

و فيهما خصوصا الأولى بقرينة المورد ظهور في الكراهة، فالحكم المذكور لا يخلو عن إشكال.

______________________________

(1) راجع أبواب أحكام الملابس من الوسائل، رواه في الباب الثالث عشر منها عن مكارم الأخلاق

مرسلا، و في الباب الثالث و العشرين منها عن الكافي مسندا بسند موثوق به. «1»

و الكراهة في الكتاب و السنة و إن كانت أعمّ من الكراهة المصطلحة لكن المورد ربما يشهد بعدم الحرمة، لوضوح عدم حرمة جرّ الثياب.

(2) راجع الباب الثالث عشر من أبواب أحكام الملابس من الوسائل، رواها عن مكارم الأخلاق أيضا مرسلة. «2»

و ظهورها في الكراهة كما يظهر من المصنّف ممنوع، إذ ظاهر لفظي الزجر و النهي الحرمة كما لا يخفى، نعم الرواية مرسلة فيشكل إثبات الحرمة بها بوحدتها. و لو سلّم فالظاهر من هذه الرواية و أمثالها صورة اتخاذ أحدهما لباس الآخر لباسا لنفسه في حياته و تعيشه الاجتماعي، فلا يشمل اللبس الموقّت لغرض عقلائي كما في الأفلام و التعازي المتداولة و الإراءة للخيّاط مثلا و نحو ذلك.

هذا.

______________________________

(1) راجع الوسائل 3/ 354، الباب 13، الحديث 1؛ عن مكارم الأخلاق/ 118؛ و ص 367، الباب 23، الحديث 4، عن الكافي 6/ 458.

(2) راجع نفس المصدر 3/ 355، الباب 13، الحديث 2؛ عن مكارم الأخلاق/ 118.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 511

..........

______________________________

و في مصباح الفقاهة بعد التعرّض لهاتين الروايتين قال ما ملخّصه: «ليس المراد من التشبه في الروايتين مجرّد لبس كلّ من الرجل و المرأة لباس الآخر، و إلّا لحرم لبس أحد الزوجين لباس الآخر لبعض الدواعي كبرد و نحوه. بل الظاهر من التشبه في اللباس المذكور في الروايتين هو أن يتزيّا كلّ من الرجل و المرأة بزيّ الآخر، كالمطربات اللاتي أخذن زيّ الرجال، و المطربين الذين أخذوا زيّ النساء، و من البديهي أنّه من المحرمات بل من أخبث الخبائث و أكبر الكبائر، و قد تجلّى مما ذكرناه أنّه لا شك في جواز

لبس الرجل لباس المرأة لإظهار الحزن و تجسّم قضية الطفّ و إقامة التعزية لسيّد شباب أهل الجنة. و قد علم مما تقدم أيضا أنّه لا وجه لاعتبار القصد في مفهوم التشبه و صدقه، بل المناط في صدقه وقوع وجه الشبه في الخارج مع العلم و الالتفات، على أنّه قد أطلق التشبّه في الأخبار على جرّ الثوب و التخنّث و المساحقة مع أنّه لا يصدر شي ء منها بقصد التشبه. و دعوى أنّ التشبه من التفعّل الذي لا يتحقق إلّا بالقصد دعوى جزافية.» «1»

أقول: ما ذكره من عدم حرمة اللبس الموقت لبعض الدواعي العقلائية أمر صحيح كما مرّ منّا أيضا، و كذا ما ذكره أخيرا من عدم اعتبار القصد في مفهوم التشبه، بل الظاهر عدم اعتبار العلم و الالتفات فيه أيضا إلّا في تنجز التكليف المتعلّق به.

و أمّا تمثيله بعمل المطربين و المطربات فيرد عليه أنّ محلّ البحث تزيّي كلّ من الجنسين بزيّ الآخر في اللباس و التجملات، و هذا أمر غير عمل الإطراب المحرم قطعا، فلا وجه لخلط المسألتين.

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 210، في النوع الرابع مما يحرم الاكتساب به.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 512

الاستدلال للمقام بأخبار لباس الشهرة

______________________________

و قد استدلّ بها في الرياض في مسألة تزيين الرجل بما يحرم عليه. قال: «لأنّه من لباس الشهرة المنهي عنه في المستفيضة.» «1»

و نحوه في مفتاح الكرامة. «2» فلنتعرض لهذه الأخبار، و قد ذكر أكثرها في الوسائل في الباب الثاني عشر من أبواب أحكام الملابس بهذا العنوان: «باب كراهة الشهرة في الملابس و غيرها»:

1- صحيحة أبي أيّوب الخزّاز عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: «إنّ اللّه يبغض شهرة اللباس.» «3»

و لا يخفى أنّ الظاهر من المبغوضية الحرمة.

2- خبر

ابن مسكان، عن رجل، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: «كفى بالمرء خزيا أن يلبس ثوبا يشهّره أو يركب دابّة تشهّره.» «4»

أقول: قد فسّر الخزي تارة بالذلّ و الهوان و تارة بالعذاب و العقاب، و على الأوّل لا دلالة له على الحرمة، مضافا إلى إرسال الرواية.

3- مرسل عثمان بن عيسى، عمن ذكره، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال:

«الشهرة خيرها و شرّها في النار.» «5»

أقول: لعلّ كون خيرها أيضا في النار من جهة أنّ الشهرة به يوجب غالبا غروره و تكبّره، و مآل الكبر و الغرور إلى النار.

______________________________

(1) رياض المسائل 1/ 504، كتاب التجارة.

(2) راجع مفتاح الكرامة 4/ 60، كتاب المتاجر، المقصد الأوّل، الفصل الأوّل، الرابع من المحرم.

(3) الوسائل 3/ 354، الباب 12 من أبواب أحكام الملابس، الحديث 1.

(4) نفس المصدر و الباب، الحديث 2.

(5) نفس المصدر و الباب، الحديث 3.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 513

..........

______________________________

4- خبر أبي سعيد عن الحسين عليه السّلام، قال: «من لبس ثوبا يشهّره كساه اللّه يوم القيامة ثوبا من النار.» «1»

قال في الوسائل: «هذا مخصوص ببعض الأقسام المحرمة.» فيظهر منه أنّ مجرد التشهير ليس فيه ملاك الحرمة عنده.

5- و روى أيضا في الباب السابع عشر منها بسنده عن ابن القداح عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: «قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «نهاني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن لبس ثياب الشهرة.» «2»

6- و يمكن أن يستأنس للمقام أيضا بقوله عليه السّلام في صحيحة حمّاد بن عثمان:

«إنّ عليّ بن أبي طالب عليه السّلام كان يلبس ذلك في زمان لا ينكر، و لو لبس مثل ذلك اليوم لشهّر به.» «3» فتأمّل. هذا.

و لا يخفى أنّ لبس

أحد الجنسين ما يختصّ بالجنس الآخر و وروده كذلك في المجتمع من أظهر مصاديق لباس الشهرة.

و العمدة هي الرواية الأولى الصحيحة و ظهورها في الحرمة واضح و إن أمكن استعمال المبغوضية في المكروهات أيضا، و ظاهر الوسائل حمل الروايات على الكراهة.

و في العروة الوثقى أفتى بالحرمة فقال في مبحث لباس المصلّي (المسألة 42):

«يحرم لبس لباس الشهرة، بأن يلبس خلاف زيّه من حيث جنس اللباس أو من حيث لونه أو من حيث وضعه و تفصيله و خياطته، كأن يلبس العالم لباس الجندي أو بالعكس مثلا، و كذا يحرم على الأحوط لبس الرجال ما يختصّ بالنساء و بالعكس.» «4»

______________________________

(1) نفس المصدر و الباب، الحديث 4.

(2) نفس المصدر 3/ 358، الباب 17، الحديث 5.

(3) نفس المصدر 3/ 348، الباب 7، الحديث 7.

(4) العروة الوثقى 1/ 568.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 514

..........

______________________________

فأفتى في الأولى بالحرمة و احتاط في الثانية، و كأنه جعل الثانية من مصاديق الأولى.

أقول: الظاهر أنّه لا مجال للقول بحرمة كلّ ما يشهّر الإنسان و إن كان بالذات أمرا حلالا مطابقا لشئونه.

فأنت ترى أنّ الشخصيات البارزة في المجتمع يتوجّه الناس كثيرا إلى حركاتهم و تطوراتهم و زيّهم و ألبستهم و مركوبهم و أملاكهم، و يتفكّهون بذكرها و يشهّرونهم بها، فهل يكون اشتراء اللباس الجديد أو المركوب الجديد أو غير ذلك لحاجة أو عرس أو نحو ذلك حراما عليهم؟!

لا يمكن الالتزام بذلك و إن امكن وجود الحزازة و الكراهة في بعض الموارد.

و لأجل ذلك علّقنا سابقا على القسمة الأولى من عبارة العروة بقولنا:

«في الإطلاق تأمّل، و المتيقن صورة ترتب الهتك و الهوان. و العجيب التمثيل لذلك بلبس العالم لباس الجندي! مع أنّه ربما يكون واجبا و

يكون فخرا لا وهنا. كيف؟! و كان أمير المؤمنين عليه السّلام يلبس لباس الجندي و يقاتل أعداء الإسلام. و يحتمل في الروايات الواردة في الباب إرادة لباس الكفر و الفسوق أو التزهد و الرياء.» «1»

و علّقنا على القسمة الثانية، أعني لبس أحد الجنسين لباس الآخر بقولنا:

«المتيقن من ذلك- على فرض الحرمة- ما إذا تزيّى أحدهما بزيّ الآخر في البدن و اللباس و دسّ نفسه في زمرة الجنس المخالف، فلا بأس باللبس الموقّت لغرض عقلائي.» «2»

______________________________

(1) التعليقة على العروة 1/ 263.

(2) نفس المصدر 1/ 264.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 515

[حكم الخنثى في المقام]

ثمّ الخنثى يجب عليها ترك الزينتين المختصّتين بكلّ من الرجل و المرأة كما صرّح به جماعة، (1) لأنّهما من قبيل المشتبهين المعلوم حرمة أحدهما.

______________________________

حكم الخنثى في المقام

(1) في مفتاح الكرامة: «و الخنثى يجب عليها ترك الزينتين و تلبس ما جاز لهما معا.» «1»

و في الجواهر: «و أمّا الخنثى المشكل ففي شرح الأستاذ: أنّه يجب عليها ترك الزينتين و لها العمل بما جاز لكلّ من النوعين، و هو جيّد: أمّا الثاني فواضح، و أمّا الأوّل فللقطع بكونه مكلّفا بأحد الأمرين و لا يتمّ العلم بامتثاله إلّا باجتناب الزينتين.» «2»

أقول: ما ذكروه إنّما يصحّ بناء على عدم كون الخنثى المشكل طبيعة ثالثة، كما هو الظاهر من الكتاب و السنّة، و إلّا فلا دليل على كونها مكلّفة بأحد التكليفين، و مع الشك يحكم بالبراءة فيجوز لها التزيّي بزيّ كلّ منهما ما لم يترتب عليه مفسدة.

قال السيّد الطباطبائي «ره» في الحاشية ما ملخّصه: «اختلفوا في الخنثى و الممسوح أنّهما طبيعة ثالثة أو هما بحسب الواقع ذكر أو أنثى، على أقوال: ثالثها التفصيل بينهما بكون الخنثى طبيعة ثالثة دون

الممسوح، و محلّ الكلام المشكل منهما لا من دخل تحت أحد العنوانين بعلامات عرفية أو شرعية. و الإنصاف عدم ثبوت كونهما داخلين تحت أحد العنوانين، و ذلك لأنّ غاية ما استدلّ به على الأوّل:

1- قوله- تعالى-: خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثىٰ «3»

______________________________

(1) مفتاح الكرامة 4/ 60، كتاب المتاجر، المقصد الأوّل، الفصل الأوّل، الرابع من المحرم.

(2) الجواهر 22/ 116، كتاب التجارة، الفصل الأوّل، في النوع الرابع مما يحرم الاكتساب به.

(3) سورة النجم (53)، الآية 45.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 516

..........

______________________________

2- و قوله- تعالى-: يَهَبُ لِمَنْ يَشٰاءُ إِنٰاثاً وَ يَهَبُ لِمَنْ يَشٰاءُ الذُّكُورَ. «1»

3- و أيضا ما ورد من قضاء عليّ عليه السّلام بعدّ الأضلاع، معللا بأنّ حوّاء خلقت من ضلع آدم الأيسر. «2» بدعوى أنّه دالّ على كونها في الواقع داخلا تحت أحدهما.

4- و أيضا صحيحة الفضيل عن الصادق عليه السّلام في فاقد الفرجين، حيث إنّه حكم بالقرعة بدعوى أنّه لتشخيص الواقع المجهول. «3»

5- و أيضا ما ورد من أنّ الخنثى ترث نصف ميراث المرأة و نصف ميراث الرجل. «4»

و أنت خبير بضعف الكلّ: أمّا الآيتان فواضح، إذ لا يستفاد منهما الحصر.

و أمّا عدّ الأضلاع فهو أمارة تعبديّة و الكلام مع عدمها. و أمّا القرعة فقد ثبت في محلّه أن موردها أعمّ مما كان له واقع أولا، كما هو المستفاد من جملة من الأخبار.

و أمّا إعطاء نصف كلّ من النصيبين فلا دلالة له أصلا، بل يمكن أن يكون من جهة كونها طبيعة ثالثة.» «5» انتهى ما في الحاشية.

أقول: بل الإنصاف ظهور الأخبار في عدم كون الخنثى طبيعة ثالثة، بل إن وجد فيها أمارة أحد الجنسين ألحقت به و إلّا بقيت مشكلة و ليست بخارجة

عنهما.

نعم يمكن أن يوجد فيها مقتضيات كلا الجنسين و خواصّهما، و ربما يغلب فيهما إحداهما و بالعملية تلحق بأحدهما، اللّهم إلّا أن يريد السيّد «ره» بالطبيعة الثالثة هذا القسم، أعني من وجد فيه مقتضيات طبع كلا الجنسين، فكأنّها رجل و امرأة معا.

______________________________

(1) سورة الشورى (42)، الآية 49.

(2) راجع الوسائل 17/ 576، الباب 2 من أبواب ميراث الخنثى و ما أشبهه، الحديث 3.

(3) راجع نفس المصدر 17/ 580، الباب 4 من أبواب ميراث الخنثى و ما أشبهه، الحديث 2.

(4) نفس المصدر 17/ 577، الباب 2 من أبواب ميراث الخنثى و ما أشبهه، الحديث 6.

(5) حاشية المكاسب/ 16، في ذيل قول المصنّف: ثمّ الخنثى يجب عليها ....

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 517

و يشكل- بناء على كون مدرك الحكم حرمة التشبّه- بأنّ الظاهر من التشبّه صورة علم المتشبه. (1)

______________________________

(1) أقول: العلم و لو سلّم كونه شرطا في صدق عنوان التشبه لكن لا ينحصر في التفصيلي، بل يكفي في ذلك العلم الإجمالي أيضا و هو موجود في الخنثى بناء على عدم كونها طبيعة ثالثة كما لا يخفى. هذا.

و قال السيّد «ره» في الحاشية في هذا المجال: «إن كان ذلك من جهة اعتبار القصد في صدقه فلازمه عدم الحرمة مع العلم أيضا إذا لم يكن من قصده التشبه، و لا يلتزم به، و إن لم يعتبر في صدقه القصد فلا وجه للقصر على صورة العلم.

مع أنّه على فرضه نقول: يكفي العلم الإجمالي في ذلك، و يدلّ على عدم اعتبار القصد و الصدق بمجرد اللبس رواية سماعة كما لا يخفى.» «1»

[تنبيه:] حكم تغيير الجنسيّة

تنبيه: يمكن أن يتوهم أنّ من التشبه المنهي عنه تغيير الجنسية المتداول في عصرنا.

و هذا توهّم فاسد، إذ

معنى تشبه أحد الجنسين بالآخر تشبّهه به في الزيّ و اللباس أو في الرابطة الجنسية مثلا مع حفظ أصل الجنسية، و أمّا تغييرها بالكليّة و تبديل الموضوع حقيقة فلا يصدق عليه التشبّه كما هو واضح.

و هل يجوز تغيير الجنسية مطلقا أو لا يجوز مطلقا أو يجوز مع صدق المعالجة عليه و لزومها عرفا أو شرعا؟ وجوه.

و الظاهر أنّه لا دليل على حرمته ذاتا و لكن إذا كانت مقدماته محرّمة شرعا كنظر الأجنبي إلى عورته أو لمسه لها فلا يجوز إلّا مع صدق الضرورة، كما إذا فرض وجود تمايلات الجنس المخالف فيه شديدا و غلبت فيه مقتضيات طبعه بحيث يكون بحسب الطبع من مصاديقه أو قريبا منه و لم يكن إبرازه و علاجه إلّا

______________________________

(1) نفس المصدر/ 17، في ذيل قول المصنّف: ... صورة علم المتشبه.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 518

..........

______________________________

بالعملية، ففي هذه الصورة لا مانع منه، لصدق العلاج و الضرورة عليه، بل ربما يجب إذا توقف العمل بالوظائف الشرعية على ذلك.

و كيف كان فأصل العمل لا دليل على حرمته ذاتا و إن حرم بعض مقدماته إذا لم تكن ضرورة.

فإن قلت: قوله- تعالى- في سورة النساء: وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّٰهِ «1» يدلّ على حرمة تغيير الصورة التي خلقها اللّه- تعالى-.

قلت: الأخذ بإطلاق الآية يقتضي حرمة جميع الصنائع و التغييرات في نظام الطبيعة، و لا يلتزم بذلك أحد.

و لعلّ المراد في الآية- بمناسبة الحكم و الموضوع- تغيير العقائد الحقة و أحكام الفطرة التي فطر الناس عليها بسبب وسوسة الشيطان.

قال الطبرسي في مجمع البيان في ذيل الآية: «قيل: يريد دين اللّه و أمره، عن ابن عباس و إبراهيم و مجاهد و الحسن و قتادة و

جماعة، و هو المرويّ عن أبي عبد اللّه عليه السّلام و يؤيده قوله- سبحانه و تعالى-: فِطْرَتَ اللّٰهِ الَّتِي فَطَرَ النّٰاسَ عَلَيْهٰا لٰا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّٰهِ.» «2»

و قد تعرّض لمسألة تغيير الجنسية و بعض فروعها إجمالا الأستاذ الإمام «ره» في المسائل المستحدثة من التحرير، فراجع. «3»

و أمّا إذا فرض أنّ العملية لا توجب تغيير الجنسية من رأس بل توجب العملية أو تزريق بعض المواد تغيير الصورة و القيافة فقط، بحيث يصير الرجل بصورة المرأة أو بالعكس مع بقاء الجهاز الجنسي بحاله، فأخبار التشبه المنهي عنه تشمل مثل ذلك، و هذا نوع من تأنث الرجل و تذكر الأنثى، و مقتضى تلك الأخبار كون ذلك مرغوبا عنه شرعا، فتدبّر.

______________________________

(1) سورة النساء (4)، الآية 119.

(2) مجمع البيان 2/ 113 (الجزء الثالث من التفسير). و الآية المذكورة من سورة الروم (30)، رقمها 30.

(3) راجع تحرير الوسيلة 2/ 626 و ما بعدها، البحث حول المسائل المستحدثة ... و منها تغيير الجنسيّة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 519

[المسألة الثالثة: حكم التشبيب بالمرأة المؤمنة]

[المراد بالتشبيب]

المسألة الثالثة: التشبيب بالمرأة المعروفة المؤمنة المحترمة- و هو كما في جامع المقاصد (1) ذكر محاسنها و إظهار شدّة حبّها بالشعر- حرام على

______________________________

المسألة الثالثة: حكم التشبيب بالمرأة المؤمنة

(1) قال في جامع المقاصد: «المراد به: ذكر محاسنها و شدّة حبّها، و نحو ذلك بالشعر، و يقال: النسيب أيضا.» ثم قال ما ملخّصه: «و إنما يحرم بقيود: 1- كونها معينة معروفة و إن لم يعرفها السامع. 2- كونها مؤمنة، فلا يحرم بنساء أهل الحرب. و أمّا نساء أهل الذمّة فظاهر التقييد بالمؤمنة يقتضي الحلّ، و الظاهر العدم، لأنّ النظر إليهن بريبة حرام فهذا أولى. و نساء أهل الخلاف أولى بالتحريم.

3- كونها محرّمة، أي في

الحال. و أمّا التشبيب بالغلام فحرام على كلّ حال.» «1»

و قال ابن الأثير في النهاية: «تشبيب الشعر: ترقيقه بذكر النساء.» «2»

و في الصحاح: «و التشبيب: النسيب. يقال: هو يشبّب بفلانة، أي ينسب بها.» «3»

و في المصباح: «شبّب الشاعر بفلانة تشبيبا: قال فيها الغزل و عرّض بحبّها، و شبّب

______________________________

(1) جامع المقاصد 4/ 28، كتاب المتاجر، المقصد الأوّل، الفصل الأوّل، الرابع مما يحرم الاكتساب به.

(2) النهاية 2/ 439.

(3) الصحاح 1/ 151.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 520

ما عن المبسوط و جماعة كالفاضلين و الشهيدين و المحقق الثاني. (1)

______________________________

قصيدته: حسّنها و زيّنها بذكر النساء.» «1»

أقول: يشبه أن تكون الكلمة مأخوذة من لفظ الشباب، لكون هذا العمل من مقتضيات طبع الشبّان أو لكونه سببا لتهييجهم. و الغالب وقوعه بالشعر و تعلّقه بالنساء. قال في المنجد: «شبّب: ذكر أيّام الشباب و اللهو و الغزل.» «2» و فيه أيضا: «نسب الشاعر بالمرأة: شبّب بها في شعره و تغزّل.» «3»

ثم لا يخفى أنّ التشبيب إمّا أن يقع بالمرأة أو بالغلام، و هما إمّا معروفان أو مبهمان خياليان، و المرأة إمّا محرّمة للشاعر أو غير محرمة كزوجته.

(1) 1- في شهادات المبسوط: «و إن تشبب بامرأة و وصفها في شعره نظرت، فإن كانت ممن لا يحلّ له وطيها ردّت شهادته، و إن كانت ممّن تحلّ له كالزوجة و الأمة كره و لم تردّ شهادته. و إن تشبب بامرأة مبهما و لم تعرف كره و لم تردّ شهادته لجواز أن تكون ممن تحلّ له.» «4»

أقول: يمكن القول بحرمة التشبيب بالزوجة أو الأمة أيضا عند الأجنبي إن كان موجبا لرغبته فيها و إغرائه بها بل مطلقا.

2- و في شهادات الشرائع: «و يحرم من الشعر

ما تضمن كذبا أو هجاء مؤمن أو تشبيبا بامرأة معروفة غير محلّلة.» «5»

3- و ذيّل هذا في المسالك بقوله: «و كذا يحرم منه ما اشتمل على الفحش و التشبيب بامرأة بعينها، لما فيه من الإيذاء و الاشتهار و إن كان صادقا ... و كذا

______________________________

(1) المصباح المنير/ 302.

(2) المنجد/ 371.

(3) نفس المصدر/ 803.

(4) المبسوط 8/ 228.

(5) الشرائع/ 913 (- ط. أخرى 4/ 128)، كتاب الشهادات، الطرف الأوّل، المسألة الخامسة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 521

..........

______________________________

التشبيب بالغلام محرّم مطلقا لتحريم متعلقه.» «1»

4- و في الجواهر بقوله: «أو غلام بلا خلاف أجده فيه بل الإجماع بقسميه عليه، مضافا إلى ما في الكتاب و السنة من تحريم إيذاء المؤمنين و إغراء الفسّاق بالامرأة و الولد ...» «2»

أقول: لا وجه لدعوى الإجماع في المسألة الغير المعنونة في كتب القدماء المعدّة لذكر المسائل المتلقّاة عن المعصومين عليهم السّلام كالهداية و المقنع و المقنعة و النهاية و نحوها، و الشيخ عنونها في المبسوط الموضوع لذكر الفروع المستنبطة، و بالجملة الإجماع في المسائل التفريعية المستنبطة على فرض ثبوته لا يفيد لعدم كشفه عن تلقّي المسألة عنهم عليهم السّلام.

5- و في المكاسب المحرمة من القواعد: «و سبّ المؤمنين، و مدح من يستحق الذمّ و بالعكس، و التشبيب بالمرأة المعروفة المؤمنة.» «3»

أقول: الحرمة لا تختص بالمؤمنة، لحرمة التشبيب بالمسلمة المخالفة بل و الذمية أيضا، لاحترامهما كما مرّ عن جامع المقاصد.

6- و في التذكرة: «و يحرم سبّ المؤمنين، و الكذب عليهم و التهمة، و مدح من يستحق الذمّ و بالعكس، و التشبيب بالمرأة المعروفة المؤمنة بلا خلاف في ذلك كلّه.» «4»

7- و في المكاسب المحرمة من الدروس: «و الغزل مع الأجنبية، أي محادثتها و

مراودتها و التشبيب بها معينة و بالغلمان مطلقا، و يجوز التشبيب بنساء

______________________________

(1) المسالك 2/ 404 (من طبعته الحجرية)، كتاب الشهادات ... المسألة الخامسة.

(2) الجواهر 41/ 49، كتاب الشهادات ... المسألة الخامسة.

(3) القواعد 1/ 121، كتاب المتاجر، المقصد الأوّل، الفصل الأوّل، الرابع مما يحرم الاكتساب به.

(4) التذكرة 1/ 582، كتاب البيع، المقصد الثامن، الفصل الأوّل، الرابع مما يحرم الاكتساب به.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 522

..........

______________________________

أهل الحرب.» «1»

8- و في شهادات المغني: «فما كان من الشعر يتضمن هجو المسلمين و القدح في أعراضهم، أو التشبيب بامرأة بعينها و الإفراط في وصفها فذكر أصحابنا أنّه محرّم، و هذا إن أريد به أنّه محرّم على قائله فهو صحيح، و أمّا على راويه فلا يصحّ ...» «2»

9- و في الفقه على المذاهب الأربعة: «فلا يحلّ التغني بالألفاظ التي تشتمل على وصف امرأة معينة باقية على قيد الحياة، لأنّ ذلك يهيج الشهوة إليها و يبعث على الافتتان بها، فإن كانت قد ماتت فإن وصفها لا يضر لليأس من لقائها. و مثلها في ذلك الغلام الأمرد.» «3»

و في الذيل منه عن الحنفية: «قالوا: التغني المحرّم ما كان مشتملا على ألفاظ لا تحلّ كوصف الغلمان و المرأة المعيّنة التي على قيد الحياة.» «4»

أقول: التغني بأوصاف المرأة الميتة إن أوجبت هتكها كان حراما أيضا، لحرمة عرض المسلم حيّا كان أو ميتا. و ظاهرهم أنّ حرمة الغناء تكون بلحاظ المضمون و المحتوى لا نفس كيفية الصوت، و به قال بعض أصحابنا أيضا و سيأتي البحث فيه في محلّه.

هذه بعض كلمات الأعلام في هذا المقام ذكرناها نموذجا.

و قال في مصباح الفقاهة تنقيحا لموضوع البحث: «لا شبهة في حرمة ذكر الأجنبيّات و التشبيب بها،

كحرمة ذكر الغلمان و التشبيب بهم بالشعر و غيره إذا كان التشبيب لتمنّي الحرام و ترجّي الوصول إلى المعاصي و الفواحش كالزنا و اللواط

______________________________

(1) الدروس/ 327 (- ط. أخرى 3/ 163)، الدرس 231، الأوّل مما يحرم الاكتساب به.

(2) المغني 12/ 45، كتاب الشهادات، فصل في الملاهي.

(3) الفقه على المذاهب الأربعة 2/ 42، كتاب الحظر و الإباحة، حكم الغناء.

(4) نفس المصدر 2/ 43، و الكتاب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 523

[الاستدلال على الحرمة]
اشارة

و استدلّ عليه بلزوم تفضيحها و هتك حرمتها، و إيذائها، و إغراء الفسّاق بها، و إدخال النقص عليها و على أهلها، و لذا لا ترضى النفوس الآبية ذوات الغيرة و الحميّة أن يذكر ذاكر عشق بناتهم و أخواتهم بل البعيدات من قراباتهم. (1)

______________________________

و نحوهما، فإنّ ذلك هتك لأحكام الشارع و جرأة على معصيته، و من هنا حرم طلب الحرام من اللّه بالدعاء. و لا يفرق في ذلك بين كون المذكورة مؤمنة أو كافرة، و على كلّ حال فحرمة ذلك ليس من جهة التشبيب. و أمّا التشبيب بالمعنى الذي ذكره المحقق الثاني في جامع المقاصد مع القيود التي اعتبرها المصنّف ففي حرمته خلاف، فذهب جمع من الأكابر إلى الحرمة، و ذهب بعض آخر إلى الجواز، و ذهب جمع من العامّة إلى حرمة مطلق التشبيب.» «1»

أقول: ما ذكره أوّلا لتنقيح مورد البحث صحيح. و أمّا ما ذكره أخيرا من ذهاب البعض إلى جواز التشبيب مطلقا فلم أعثر عاجلا على القائل به.

(1) قد استدلّ على حرمة التشبيب في كلام المصنّف و غيره بوجوه نذكرها إجمالا ثم نبيّنها بالتفصيل:

1- استلزام التشبيب هتكها و إدخال النقص عليها و على أهلها. 2- استلزامه إيذاءها. 3- استلزامه إغراء الفسّاق بها.

4- التشبيب من أقسام اللهو و الباطل.

5- من أنواع الفحشاء المحرّمة. 6- منافاته للعفاف المأخوذ في العدالة. 7- فحوى حرمة النظر إلى الأجنبية. 8- فحوى منع الخلوة بها. 9- فحوى المنع عن جلوس الرجل في مكانها حتى يبرد. 10- فحوى الأمر بتسترها عن نساء أهل الذمّة لأنّهنّ يصفن لأزواجهن. 11- فحوى الأمر بتسترها عن الصبي المميز الذي يصف ما يرى. 12- فحوى المنع عن خضوعهن بالقول و ضرب أرجلهن ليعلم ما يخفين من

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 211، في النوع الرابع مما يحرم الاكتساب به.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 524

و الإنصاف أنّ هذه الوجوه لا تنهض لإثبات التحريم (1) مع كونها أخصّ من المدّعى، إذ قد لا يتحقق شي ء من المذكورات في التشبيب، بل و أعمّ منه من وجه، فإنّ التشبيب بالزوجة قد توجب أكثر المذكورات.

______________________________

زينتهن، إلى غير ذلك من المحرمات و المكروهات التي يعلم منها حرمة ذكر المرأة المعينة المحترمة بما يهيّج الشهوة عليها خصوصا ذات البعل التي لم يرض الشارع بتعريضها للنكاح بقول: «ربّ راغب فيك.»

(1) في حاشية المحقق الإيرواني: «ليت شعري أيّ شي ء تنهض لو لم تنهض هذه الوجوه؟ و أيّ شي ء منها محلّ للخدش فيه؟ و العجب أنّه عدل عن هذه الوجوه إلى وجوه أخرى في غاية الضعف، نعم المناقشة في عموم هذه الوجوه في محلّها ...» «1»

أقول: ما ذكره صحيح، لوضوح حرمة العناوين الثلاثة المذكورة، غاية الأمر عدم الملازمة بينها و بين التشبيب، إذ بينهما عموم من وجه، و لعلّ المصنّف أراد هذا، فيكون قوله: «مع كونها أخصّ من المدّعى» لبيان عدم نهوضها لا إشكالا آخر.

و بعد ما أشرنا إلى الوجوه التي استدلّوا بها لحرمة التشبيب بالمعنى

المذكور و القيود المذكورة في كلماتهم أعني ذكر محاسن المرأة المؤمنة المحترمة الأجنبية بالشعر نتعرض لهذه الوجوه بالتفصيل مع الإشارة إلى ما فيها، فنقول:

الوجه الأوّل: كونه هتكا لها و لأهلها.

و فيه أوّلا: أنّ هتكها و إن كان حراما عقلا و نقلا لكنها لا تختصّ بالشعر و لا بالمؤمنة الأجنبية، لحرمة هتك كلّ مسلم و مسلمة، بل كل ذمّي و ذمّية أيضا و لو كانت المشبّب بها زوجة أو أمة له، سواء كان بإنشاء الشعر أو إنشاده أو بالنثر.

______________________________

(1) حاشية المكاسب/ 20، ذيل قول المصنّف: لا تنهض لإثبات التحريم.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 525

..........

______________________________

و ثانيا: أنّ النسبة بين التشبيب و بين الهتك عموم من وجه، إذ ربما يتحقق الهتك بغير التشبيب، و ربما يتحقق التشبيب و لا هتك كما إذا أنشأ الشعر أو أنشده في الخلوة بحيث لم يطلع عليه أحد أو كان ذكر محاسنها و جمالها و كمالها لمصلحة عقلائية كذكرها لمن استشار و يريد أن يخطبها و المستشار مؤتمن.

و ثالثا: أنّ عنوان التشبيب غير عنوان الهتك، فلا يسري حكم أحد العنوانين إلى الآخر و إن تلازما خارجا.

الوجه الثاني: كون التشبيب إيذاء لها.

و فيه أوّلا: عدم اختصاص ذلك بالمؤمنة الأجنبية، لحرمة إيذاء كلّ مسلم و مسلمة و ذمّي و ذمّية حتى الزوجة و الأمة.

و ثانيا: أنّ النسبة بينهما عموم من وجه، لإمكان الإيذاء بغير التشبيب و التشبيب بدون الإيذاء كالتشبيب بالنساء المتبرجات حيث يفرحن بذلك.

و ثالثا: لا دليل على حرمة كلّ عمل يتأذّى منه الغير و إن لم يقصد الفاعل ذلك، إذ قد يتأذى الغير من فعل المباحات بل المستحبات و الواجبات أيضا، فربّ تاجر يتأذّى من تجارة رقيبه، و عالم يتأذى من تدريس عالم آخر أو تبليغه، و جار يتأذّى من إمكانات جاره و حسن داره و نحو ذلك حسدا عليه، فهل يحرم جميع ذلك؟!

اللّهم إلّا أن يفرّق بين عمل يرتبط بالغير و يشتمل على

نحو تصرف في حق الغير أو تعرّض لعرضه، و بين ما لا يرتبط به أصلا و لكنه لحسادته و سوء سريرته يتأذّى منه قهرا، إذ الثاني لا يصدق عليه الإيذاء، و التشبيب من النوع الأوّل كما لا يخفى.

الوجه الثالث: أنّه موجب لإغراء الفسّاق بها.

و فيه أيضا نحو ما مرّ في الوجهين الأوّلين، إذ بين التشبيب و الإغراء عموم من وجه، مضافا إلى عدم اختصاص حرمة ذلك بالشعر و لا بالمؤمنة الأجنبية، لحرمته و لو بالنسبة إلى المخالفة و الذمّية و الزوجة و الأمة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 526

و يمكن أن يستدلّ عليه بما سيجي ء من عمومات حرمة اللهو و الباطل، و ما دلّ على حرمة الفحشاء، و منافاته للعفاف المأخوذ في العدالة. (1)

______________________________

و ملخّص الكلام أنّ حرمة العناوين الثلاثة المذكورة لا إشكال فيها و لكن لا توجب ذلك حرمة عنوان التشبيب بالمعنى المصطلح و القيود المذكورة في كلماتهم، و الأحكام تابعة لعناوين موضوعاتها المذكورة في الأدلّة و لا يسري حكم عنوان إلى عنوان آخر و إن تلازما خارجا فضلا عن عدم التلازم في المقام.

[الوجه الرابع: عمومات حرمة اللهو و الباطل]

(1) الوجه الرابع: عمومات حرمة اللهو و الباطل، و سيجي ء من المصنّف التعرض لها في مبحث الغناء، و التشبيب من مصاديقهما.

و فيه أوّلا: أنّ النسبة بين التشبيب و بين الباطل عموم من وجه، إذ قد يتعلق بالتشبيب غرض عقلائي، و يكون الكلام أيضا مشتملا على مطالب عالية و لطائف راقية، فلا يكون باطلا لا بالذات و لا بحسب الغاية المقصودة.

و ثانيا: نمنع حرمة اللهو و الباطل بنحو الإطلاق، إذ فسّر اللهو بما ألهى و شغل الإنسان عن ذكر اللّه و عن الأمور النافعة. و جميع المشاغل و الأعمال الدنيوية تلهي عن ذكر اللّه و عن ذكر القيامة و تبعاتها. و في الكتاب العزيز أطلق على الحياة الدنيا اللهو، قال اللّه- تعالى- في سورة العنكبوت: مٰا هٰذِهِ الْحَيٰاةُ الدُّنْيٰا إِلّٰا لَهْوٌ وَ لَعِبٌ «1»، فهل يكون جميع هذه حراما؟

و الظاهر أنّ المحرّم من

اللهو ما يخرج به الإنسان عن الاستقامة و الاعتدال و يؤثر في عقله و إحساساته نحو ما يؤثر الخمر فيها كما حقق في محلّه. و الباطل في مقابل الحق، و كلّ شي ء ما خلا اللّه باطل فلا يكون كلّ باطل حراما.

و ثالثا: لو سلم حرمتهما بنحو الإطلاق فحكم كلّ عنوان ثابت لنفسه و لا يسري إلى عنوان آخر و إن فرض ملازمته له خارجا كما مرّ.

______________________________

(1) سورة العنكبوت (29)، الآية 64.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 527

الوجه الخامس: كونه من الفحشاء،

______________________________

و هي منهي عنها، قال اللّه- تعالى- في سورة النحل: وَ يَنْهىٰ عَنِ الْفَحْشٰاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ الْبَغْيِ. «1»

و قال في سورة النور: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفٰاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيٰا وَ الْآخِرَةِ. «2»

و في الكافي بسنده عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من قال في مؤمن ما رأته عيناه و سمعته أذناه فهو من الذين قال اللّه- عزّ و جلّ-: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفٰاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ.» «3»

و في لسان العرب: «الفحش و الفحشاء و الفاحشة: القبيح من القول و الفعل.» «4»

و فيه: منع كون التشبيب مطلقا من الفحشاء المحرّمة، و لو سلّم فلا يختصّ بما اصطلحوا عليه، إذ لا فرق في ذلك بين أن يكون بالشعر أو بالنثر، بأنثى أو بغلام، كانت الأنثى مؤمنة أو غير مؤمنة.

الوجه السّادس: منافاة التشبيب للعفاف المأخوذ في العدالة

على ما في صحيحة ابن أبي يعفور، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام بم تعرف عدالة الرجل بين المسلمين حتّى تقبل شهادته لهم و عليهم؟ فقال: «أن تعرفوه بالستر و العفاف و كفّ البطن و الفرج و اليد و اللسان. الحديث.» «5»

و فيه: أنّ الظاهر من الصحيحة بمناسبة الحكم و الموضوع كون المراد بالعفاف اجتناب المحارم التي حرّمها اللّه- تعالى- لا العفاف الأخلاقي، و كون التشبيب من المحرّمات أوّل الكلام.

______________________________

(1) سورة النحل (16)، الآية 90.

(2) سورة النور (24)، الآية 19.

(3) الكافي 2/ 357، كتاب الإيمان و الكفر، باب الغيبة و البهتان، الحديث 2.

(4) لسان العرب 6/ 325.

(5) الوسائل 18/ 288، الباب 41 من أبواب الشهادات، الحديث 1.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 528

و فحوى ما دلّ على حرمة ما يوجب- و لو

بعيدا- تهييج القوة الشهوية بالنسبة إلى غير الحليلة. (1) مثل ما دلّ على المنع عن النظر، لأنّه سهم من سهام إبليس، و المنع عن الخلوة بالأجنبية لأن ثالثهما الشيطان.

[الوجه السّابع: فحوى ما ورد في النهي عن الأمور التي توجب تهييج القوة الشهوية إلى غير الحليلة و هي على طوائف]
اشارة

________________________________________

نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في المكاسب المحرمة، 3 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، اول، 1415 ه ق

دراسات في المكاسب المحرمة؛ ج 2، ص: 528

______________________________

(1) الوجه السّابع: فحوى ما ورد في النهي عن الأمور التي توجب- و لو بعيدا- تهييج القوة الشهوية إلى غير الحليلة من المحرمات و المكروهات التي يعلم منها إجمالا حرمة ذكر المعينة المحترمة بما يهيج الشهوة عليها، و هي على طوائف أشار إليها المصنّف:

الطائفة الأولى: ما ورد في النهي عن النظر إلى الأجنبية

و أنّه سهم من سهام إبليس، و إطلاق السهم عليه من جهة تأثيره في قلب الناظر و في إيمانه، و إذا كان النظر إليها سهما مؤثرا في الإيمان فالتشبيب بها أولى بالحرمة و لا أقلّ من مساواته له، فراجع الباب الرابع و المائة من أبواب مقدمات نكاح الوسائل:

1- رواية علي بن عقبة عن أبيه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: سمعته يقول:

«النظرة سهم من سهام إبليس مسموم، و كم من نظرة أورثت حسرة طويلة.» «1»

2- رواية أخرى لعقبة، قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «النظرة سهم من سهام إبليس مسموم، من تركها للّه- عزّ و جلّ- لا لغيره أعقبه اللّه أمنا و إيمانا يجد طعمه.» «2»

3- رواية أبي جميلة عن أبي جعفر عليه السّلام و أبي عبد اللّه عليه السّلام، قالا: «ما من أحد إلّا و هو يصيب حظّا من الزنا، فزنا العينين النظر، و زنا الفم القبلة، و زنا اليدين اللمس. الحديث.» «3»

______________________________

(1) الوسائل 14/ 138، الباب 104 من أبواب مقدمات النكاح و آدابه، الحديث 1.

(2) نفس المصدر 14/ 139، و الباب، الحديث 5.

(3) نفس المصدر 14/ 138، و الباب، الحديث 2.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 529

..........

______________________________

4- رواية الكاهلي، قال: قال

أبو عبد اللّه عليه السّلام: «النظرة بعد النظرة تزرع في القلب الشهوة، و كفى بها لصاحبها فتنة.» «1»

قال في مصباح الفقاهة في ردّ الاستدلال بأخبار النظر: «و فيه أنّك قد عرفت عدم الملازمة بين التشبيب و بين سائر العناوين المحرّمة، و كذلك في المقام، إذ قد يكون التشبيب مهيجا للشهوة و لا يكون حراما كالتشبيب بالزوجة، و قد يكون التشبيب غير مهيج للشهوة كما إذا شبّب بإحدى محارمه، و قد يجتمعان، فلا ملازمة بينهما.» «2»

أقول: و على فرض وجود التلازم بين عنوانين خارجا فحكم كلّ عنوان ثابت لنفسه و لا يسري إلى العنوان الآخر إلّا بالعرض.

و في حاشية السيّد «ره»: «مع أنّ كون المناط في المذكورات تهيج الشهوة ممنوع، بل حرمة النظر أو كراهته تعبّدي و من حيث إنّه موضوع من الموضوعات، و كذا الخلوة بالأجنبية و غيرها من المذكورات، و لذا لا نحكم بتسري حكمها إلى ما يساويها في التأثير من الأفعال الأخر، بل و لا إلى الأقوى منها.» «3»

أقول: مرجع كلامه هذا إلى إنكار حجية الفحوى و الأولوية، و مآل ذلك إلى منع كون الأحكام بلحاظ الملاكات الكامنة فيها، و قد مرّ منّا مرارا: أنّ التعبّد المحض في غير العبادات المحضة لا وجه له، بل الظاهر أنّ تشريع الأحكام بلحاظ المصالح و المفاسد الكامنة في متعلقاتها. و في بعض أخبار النظر و منها رواة الكاهلي المتقدمة إشارة إلى أنّ ملاك الحرمة فيه تهيج الشهوة.

الطائفة الثانية: ما ورد في النهي عن الخلوة بالأجنبية،

و هي أيضا كثيرة و في بعضها أنّ ثالثهما الشيطان.

______________________________

(1) نفس المصدر 14/ 139، و الباب، الحديث 6.

(2) مصباح الفقاهة 1/ 215، في النوع الرابع مما يحرم الاكتساب به.

(3) حاشية المكاسب/ 17، في ذيل قول المصنّف: و يمكن أن

يستدلّ عليه.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 530

..........

______________________________

و مقتضى ذلك حرمة كل ما يهيج الشهوة إلى الأجنبية، و هذا الملاك موجود في التشبيب بها أيضا، فلنتعرض لبعض هذه الأخبار:

1- ما في الفقيه، قال: و روي عن محمّد الطيّار (الطيّان خ. ل) قال: دخلت المدينة و طلبت بيتا أتكاراه، فدخلت دارا فيها بيتان بينهما باب و فيه امرأة، فقالت:

تكاري هذا البيت؟ قلت: بينهما باب و أنا شابّ. قالت: أنا أغلق الباب بيني و بينك، فحوّلت متاعي فيه و قلت لها: أغلقي الباب، فقالت: تدخل عليّ منه الروح، دعه. فقلت: لا، أنا شابّ و أنت شابّة أغلقيه، قالت: اقعد أنت في بيتك فلست آتيك و لا أقربك، و أبت أن تغلقه. فأتيت أبا عبد اللّه عليه السّلام فسألته عن ذلك، فقال:

«تحوّل منه، فإنّ الرجل و المرأة إذا خلّيا في بيت كان ثالثهما الشيطان.» «1»

2- ما في المستدرك عن دعائم الإسلام عن عليّ عليه السّلام أنّه قال: «لا يخلو بامرأة رجل، فما من رجل خلا بامرأة إلّا كان الشيطان ثالثهما.» «2»

3- و فيه أيضا عن الجعفريات بإسناده عن عليّ عليه السّلام قال: «ثلاثة من حفظهن كان معصوما من الشيطان الرجيم و من كلّ بليّة: من لم يخل بامرأة لا يملك منها شيئا، و لم يدخل على سلطان، و لم يعن صاحب بدعة ببدعته.» «3»

4- و فيه أيضا عن الراوندي في لبّ اللباب: روي أنّ إبليس قال: «لا أغيب عن العبد في ثلاث مواضع: إذا همّ بصدقة، و إذا خلا بامرأة، و عند الموت.» «4»

5- ما في الوسائل عن الكافي بإسناده عن مسمع أبي سيّار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: «فيما أخذ رسول اللّه صلّى اللّه

عليه و آله البيعة على النساء أن لا يحتبين و لا يقعدن مع

______________________________

(1) الفقيه 3/ 252، كتاب المعيشة، باب المزارعة و الإجارة، الحديث 3913؛ و عنه الوسائل 13/ 280.

(2) مستدرك الوسائل 2/ 553، الباب 77 من أبواب مقدمات النكاح، الحديث 2؛ عن الدعائم 2/ 214.

(3) نفس المصدر و الباب، الحديث 1؛ عن الجعفريات/ 96.

(4) نفس المصدر و الباب، الحديث 5.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 531

..........

______________________________

الرجال في الخلاء.» «1»

6- و فيه أيضا عن مكارم الأخلاق عن الصّادق عليه السّلام، قال: «أخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على النساء ألّا ينحن و لا يخمشن و لا يقعدن مع الرجال في الخلاء.» «2»

أقول: يحتمل اتحاد الروايتين و وقوع تصحيف في إحداهما.

و في المنجد: «احتبى احتباء: جمع بين ظهره و ساقيه بعمامة و نحوها، و بالثوب: اشتمل به.» «3»

7- و فيه أيضا عن المجالس و الأخبار بإسناده عن موسى بن إبراهيم، عن موسى بن جعفر عليه السّلام، عن آبائه عليهم السّلام عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، قال: «من كان يؤمن باللّه و اليوم الآخر فلا يبت في موضع يسمع نفس امرأة ليست له بمحرم.» «4»

8- و في سنن البيهقي بسنده عن ابن عباس، قال: سمعت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يقول:

«لا يخلونّ رجل بامرأة و لا تسافر امرأة إلّا معها ذو محرم.» «5»

9- و فيه أيضا بسنده عن عمر بن الخطّاب عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله- في حديث-:

«فمن أراد منكم بحبوحة الجنّة فليلزم الجماعة، فإنّ الشيطان مع الواحد و هو من الاثنين أبعد، و لا يخلونّ أحدكم بامرأة، فإنّ الشيطان ثالثهما.» «6»

إلى غير ذلك من الأخبار الواردة

من طرق الفريقين في هذا المجال، فراجع.

فيستفاد من هذه الأخبار حرمة خلوة الرجل مع الأجنبية إجمالا. لأنّ الشيطان لا يغيب عنه في هذه الحالة فيوسوس في قلبه و يهيج قوته الشهوية، و يستفاد من

______________________________

(1) الوسائل 14/ 133، الباب 99 من أبواب مقدمات النكاح و آدابه، الحديث 1.

(2) نفس المصدر 14/ 134، و الباب، الحديث 3.

(3) المنجد/ 115.

(4) الوسائل 14/ 133، الباب 99 من أبواب مقدمات النكاح و آدابه، الحديث 2.

(5) سنن البيهقي 7/ 90، كتاب النكاح، باب لا يخلو رجل بامرأة أجنبية.

(6) نفس المصدر 7/ 91، و الكتاب و الباب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 532

..........

______________________________

فحوى ذلك حرمة التشبيب أيضا لتحقق هذا الملاك فيه.

أقول: قد مرّ عن حاشية السيّد منع كون المناط في حرمة النظر و الخلوة مع الأجنبية و نحوهما تهيج الشهوة حتى يتسرى حكمها إلى التشبيب، بل الحكم في كلّ منها تعبدي و من حيث إنّه موضوع خاصّ فلا يتسرى الحكم منها إلى ما يساويها في التأثير بل و لا إلى الأقوى منها، و عرفت منّا المناقشة في هذا الجواب. «1»

و أجاب في مصباح الفقاهة ببيان طويل و ملخّصه: «أنّه لا دلالة في شي ء من تلك الأخبار على حرمة الخلوة مع الأجنبية فضلا عن دلالتها على حرمة التشبيب.

أمّا روايتا مسمع و مكارم الأخلاق فالمستفاد منهما حرمة قعود الرجل مع المرأة في بيت الخلاء، فقد كان من المتعارف في زمان الجاهلية أنّهم يهيئون مكانا لقضاء الحاجة و يسمونه بيت الخلاء، و يقعد فيه الرجال و النساء و الصبيان، و لا يستتر بعضهم عن بعض، و لمّا بعث النبيّ صلّى اللّه عليه و آله نهى عن ذلك و أخذ من النساء البيعة على

ترك ذلك، على أنّ الخلوة مع الأجنبية لو كانت محرمة فلا تختص بحالة القعود.

و يؤيّد ما ذكرنا: أنّ النهي في الروايتين تعلق بقعود الرجال مع النساء في الخلاء مطلقا و إن كنّ من المحارم، و من الواضح أنّه لا مانع من خلوة الرجل مع محارمه.

و إن لم يكن للروايتين ظهور فيما ادعيناه فلا ظهور لهما في حرمة الخلوة أيضا.

على أنّ من جملة ما أخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله البيعة به على النساء أن لا يزنين، و لعلّ أخذ البيعة عليهن أن لا يقعدن مع الرجال في الخلاء من جهة عدم تحقق الزنا، فإنّ الخلوة مظنة للزنا. و عليه فلا موضوعية لعنوان الخلوة بوجه، و الغرض المهم هو النهي عن الزنا، و يدلّ على ما ذكرناه أيضا ما ورد من تعليل النهي عن الخلوة بأنّ الثالث هو الشيطان. فإنّ الظاهر منه أنّه لو خلا بها يكاد أن يوقعهما الشيطان في الزنا.

______________________________

(1) راجع ص 529 من الكتاب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 533

و كراهة جلوس الرجل في مكان المرأة حتى يبرد المكان، و برجحان التستر عن نساء أهل الذمّة لأنّهنّ يصفن لأزواجهن، و التستّر عن الصبي المميز الذي يصف ما يرى، (1) و النهي في الكتاب العزيز عن أن

______________________________

و أمّا رواية موسى بن إبراهيم فهي خارجة عما نحن فيه، إذ لا ملازمة بين سماع النفس و الخلوة دائما بل بينهما عموم من وجه. كما أنّ النهي عن نومهما تحت لحاف واحد لا يدلّ على حرمة عنوان الخلوة. و يمكن أن يكون النهي عن النوم في كليهما من جهة كونهما من المقدمات القريبة للزنا.

و على الجملة فلا دليل على حرمة الخلوة بما هي خلوة

و إنّما النهي عنها للمقدمية فقط.

و يضاف إلى جميع ما ذكرناه أنّ روايات النهي عن الخلوة كلّها ضعيفة السند و غير منجبرة بشي ء.

و لو سلّم وجود الدليل على ذلك فلا ملازمة بين حرمة الخلوة و حرمة التشبيب و لو بالفحوى، إذ لا طريق لنا إلى العلم بأنّ ملاك الحرمة في الخلوة هو إثارة الشهوة حتى يقاس عليها كلّ ما يوجب تهيجها.» «1»

أقول: التشكيك في حرمة الخلوة بالأجنبية بعد كثرة الأخبار الواردة فيها من طرق الفريقين بنحو يطمئن النفس بصدور بعضها لا محالة بلا وجه، و كون الحكمة فيها أيضا هيجان الشهوة إليها واضح، إذ هو المتبادر من كون ثالثهما الشيطان، و قد اعترف هو أيضا بأنّ الخلوة مظنة للزنا. فإذا فرض كون التشبيب بها أيضا واجدا لهذا الملاك كان اللازم الحكم بحرمته أيضا، فتدبّر.

[الطائفة الثالثة: بعض الأمور المكروهة التي يظنّ أنّ النهي عنها بلحاظ كونها مهيجة للشهوة]

(1) الطائفة الثالثة: بعض الأمور المكروهة التي يظنّ أنّ النهي عنها بلحاظ كونها مهيجة للشهوة بالنسبة إلى الأجنبية، فيستدلّ بفحواها على حرمة التشبيب بها بتوهم كونه أقوى منها في هذا الملاك:

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 217، في النوع الرابع مما يحرم الاكتساب به.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 534

يخضعن بالقول فيطمع الذي في قبله مرض (1) و عن أن يضربن

______________________________

1- ما ورد في التنزيه عن جلوس الرجل في مكان المرأة حتى يبرد، مثل معتبرة السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «إذا جلست المرأة مجلسا فقامت عنه فلا يجلس في مجلسها رجل حتى يبرد.» «1»

2- ما ورد في رجحان تستّر المسلمة عن نساء أهل الذمّة و كراهة انكشافها لهنّ، كصحيحة حفص بن البختري عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: «لا ينبغي

للمرأة أن تنكشف بين يدي اليهودية و النصرانية، فإنّهن يصفن ذلك لأزواجهنّ.» «2»

3- ما ورد في التستر عن الصبي المميز، مثل معتبرة السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: سئل أمير المؤمنين عليه السّلام عن الصبيّ يحجم المرأة؟ قال: «إن كان يحسن يصف فلا.» «3»

أقول: الاستدلال بكراهة بعض الأمور على حرمة أمر آخر عجيب غير معهود حتى على القول بالقياس، مضافا إلى عدم وضوح كون الملاك لكراهة الأمور المذكورة تهيج الشهوة. و يشبه أن تكون النساء غير المسلمة يصفن عيوب النساء المسلمات، فيكون هتكا لهن.

و في حاشية السيّد: «و أمّا رجحان التستر عن نساء أهل الذمّة فلخصوصية فيه، و لذا لا يكون كذلك بالنسبة إلى نساء المسلمين مع أنّهن يصفن لأزواجهنّ، و التستر عن الصبي المميّز مستحب من حيث إنّه مميز لا من كونه واصفا، فيكون الوصف كناية عن كونه مميزا.» «4»

(1) في سورة الأحزاب: يٰا نِسٰاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسٰاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلٰا

______________________________

(1) الوسائل 14/ 185، الباب 145 من أبواب مقدمات النكاح و آدابه، الحديث 1.

(2) نفس المصدر 14/ 133، الباب 98 من أبواب مقدمات النكاح و آدابه، الحديث 1.

(3) نفس المصدر 14/ 172، الباب 130 من أبواب مقدمات النكاح و آدابه، الحديث 2.

(4) حاشية المكاسب/ 17، في ذيل قول المصنّف: و يمكن أن يستدلّ عليه.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 535

بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مٰا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ. (1)

إلى غير ذلك من المحرمات و المكروهات التي يعلم منها حرمة ذكر المرأة المعينة المحترمة بما يهيّج الشهوة عليها، خصوصا ذات البعل التي لم يرض الشارع بتعريضها للنكاح بقول: «ربّ راغب فيك.» (2)

______________________________

تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض. «1»

يستفاد من هذه الآية اختصاص

نساء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله- بلحاظ احترامه الخاصّ- بلزوم الاحتفاظ، فلا يستفاد منها لزوم الاحتفاظ على غيرهنّ فضلا عن أن يستفاد منها حرمة التشبيب بهنّ. نعم يستأنس منها رجحان احتفاظهن و كراهة التشبيب بهنّ، فتدبّر.

(1) في سورة النور: وَ لٰا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مٰا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ. «2»

أقول: استيناس كون المنع في الآية بلحاظ كونه مهيجا غير بعيد كما لا يبعد إسراؤه إلى التشبيب بهنّ بهذا الملاك.

(2) في سورة البقرة بعد ذكر عدة الوفاة قال: وَ لٰا جُنٰاحَ عَلَيْكُمْ فِيمٰا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسٰاءِ ... وَ لٰكِنْ لٰا تُوٰاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلّٰا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً. «3»

و ورد عن الصادق عليه السّلام في تفسير القول المعروف: «يلقاها فيقول: إنّي فيك لراغب و إنّي للنساء لمكرم.» «4»

و فيه دلالة على جواز قول هذه الجملة للمعتدة، و أمّا حرمة قولها لذات البعل فلم أعثر عاجلا على رواية فيها، فتتبع.

______________________________

(1) سورة الأحزاب (33)، الآية 32.

(2) سورة النور (24)، الآية 31.

(3) سورة البقرة (2)، الآية 235.

(4) نور الثقلين 1/ 232.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 536

نعم لو قيل بعدم حرمة التشبيب بالمخطوبة قبل العقد- بل مطلق من يراد تزويجها- لم يكن بعيدا لعدم جريان أكثر ما ذكر فيها. (1) و المسألة غير صافية عن الاشتباه و الإشكال.

[جواز التشبيب بالحليلة و المرأة المبهمة دون المعروفة]

ثمّ إنّ المحكيّ عن المبسوط و جماعة جواز التشبيب بالحليلة بزيادة الكراهة عن المبسوط. (2)

و ظاهر الكلّ جواز التشبيب بالمرأة المبهمة، بأن يتخيّل امرأة و يتشبب بها.

______________________________

(1) أقول: لا يلزم جريان جميع ما ذكر في الحكم بالحرمة، إذ انطباق بعض العناوين المحرمة المذكورة كاف في الحكم بها كما لا يخفى.

و قد تحصّل مما ذكرنا أنّ عنوان التشبيب بنفسه لم

يذكر في أخبارنا و لا في كتب أصحابنا المعدّة لنقل الفتاوى المأثورة، و على هذا فليس بنفسه و عنوانه موضوعا للحرمة، و ادّعاء الإجماع في المسألة غير المعنونة في كلمات القدماء من أصحابنا بلا وجه.

نعم قد ينطبق عليه بعض العناوين المحرمة كهتك النفس المحترمة أو الإيذاء أو إغراء الفسّاق أو نحو ذلك من العناوين المحرمة، فبهذا اللحاظ يصير محرما بالعرض لا محالة، من غير فرق في ذلك بين الأجنبية و الحليلة، و المؤمنة و غيرها ممّن لها حرمة شرعية، و سواء كانت الأجنبية ذات بعل أو مخلّاة مخطوبة أو غير مخطوبة و كان التشبيب بالشعر أو بالنثر.

اللّهم إلّا أن يكون التشبيب في مورد خاصّ لسامع خاصّ بالنسبة إلى المخلّاة لغرض عقلائي مستحسن كتشويقه للسعي في خطبتها كما مرّ.

(2) قد مرّ في أوّل المسألة ذكر عبارات المبسوط و الشرائع و الدروس و جامع المقاصد، حيث يظهر منها حصر الحرمة في المرأة غير المحلّلة، و من المبسوط الكراهة في المحلّلة، فراجع. و قد مرّ الإشكال في ذلك. «1»

______________________________

(1) راجع ص 519 و ما بعدها.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 537

و أمّا المعروفة عند القائل دون السّامع سواء علم السامع إجمالا بقصد معينة أم لا ففيه إشكال. و في جامع المقاصد- كما عن الحواشي- الحرمة في الصورة الأولى. (1) و فيه إشكال من جهة اختلاف الوجوه المتقدمة للتحريم و كذا إذا لم يكن هنا سامع.

[اعتبار الإيمان في التشبيب]

و أمّا اعتبار الإيمان فاختاره في القواعد و التذكرة (2)، و تبعه بعض الأساطين، لعدم احترام غير المؤمنة.

______________________________

(1) أقول: المصرّح به في كلماتهم حرمة التشبيب بالمرأة المعروفة المؤمنة، و مرّ عن المبسوط «1» الكراهة بالنسبة إلى من لم تعرف. و في جامع

المقاصد في ذكر قيود الموضوع قال: «1- كونها معينة معروفة و إن لم يعرفها السامع إذا علم أنّه قصد معينة، لما فيه من هتك عرضها، أمّا إذا لم يقصد مخصوصة فلا بأس.» «2»

و في مفتاح الكرامة: «و المراد بالمعروفة: المعروفة عند القائل سواء عرفها السامع أو لا إذا علم أنّه قصد معينة كما في جامع المقاصد و حواشي الشهيد، و في الثاني: أنّه على التقديرين يحرم الاستماع على السامع. قلت: قد نقول: إذا لم تكن معروفة عند السامع لا يحرم عليه الاستماع و لا يحرم على القائل التشبيب، كما هو الظاهر الموافق للاعتبار و للمتبادر من الإطلاق.» «3»

أقول: و صدق هتك عرضها مع عدم معرفة السّامع إيّاها غير واضح بل ممنوع.

(2) مرّت عبارة الكتابين في أوّل المسألة. «4» و المراد ببعض الأساطين كاشف الغطاء في شرحه على القواعد و لم يطبع بعد. و عدم احترام المخالفة و الذميّة ممنوع و إن اختلفت النساء في مراتب الحرمة.

______________________________

(1) راجع ص 520.

(2) جامع المقاصد 4/ 28، كتاب المتاجر، المقصد الأوّل، الفصل الأوّل، الرابع مما يحرم الاكتساب به.

(3) مفتاح الكرامة 4/ 69، كتاب المتاجر، المقصد الأوّل، الفصل الأوّل، الرابع من المحرم الاكتساب به.

(4) راجع ص 521.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 538

و في جامع المقاصد- كما عن غيره- حرمة التشبيب بنساء أهل الخلاف و أهل الذمّة، لفحوى حرمة النظر إليهن. (1)

و نقض بحرمة النظر إلى نساء أهل الحرب مع أنّه صرّح بجواز التشبيب بهنّ. (2) و المسألة مشكلة من جهة الاشتباه في مدرك أصل الحكم.

و كيف كان فإذا شكّ المستمع في تحقق شروط الحرمة لم يحرم عليه الاستماع كما صرّح به في جامع المقاصد. (3)

______________________________

(1) مرّت عبارته في

أوّل المسألة. «1» و يظهر مما مرّ من الدروس «2» أيضا ذلك، حيث خصّ الجواز بنساء أهل الحرب.

(2) وجه حرمة النظر إليهن إطلاقات أدلّة الحرمة، اللّهم إلّا بالنسبة إلى المواضع التي جرت عادتهن على عدم سترها مع عدم التلذذ و الريبة.

و يمكن الجواب عن النقض بإمكان أن يكون حرمة التشبيب بلحاظ مصلحة المشبّب بها لكونه هتكا لها و نساء أهل الحرب لا حرمة لهنّ. و أمّا حرمة النظر فبلحاظ مصلحة الناظر من جهة كونه من مراتب الزنا و من مقدماته و التشبيب ليس كذلك، فتأمّل، و إلى ذلك أشار المصنّف أيضا.

(3) فإنّه بعد ما قيّد موضوع الحرمة بكونها معينة معروفة و مؤمنة و محرّمة قال: «فمتى انتفى واحد من الثلاثة لم يحرم. و إذا شكّ في حصولها لا يحرم الاستماع.» «3» و وجهه واضح لأصالة الحلّ و البراءة.

______________________________

(1) راجع ص 519.

(2) راجع ص 521.

(3) جامع المقاصد 4/ 28 كتاب المتاجر، المقصد الأوّل، الفصل الأوّل، الرابع مما يحرم الاكتساب به.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 539

[التشبيب بالغلام]

و أمّا التشبيب بالغلام فهو محرّم على كلّ حال- كما عن الشهيدين و المحقق الثاني و كاشف اللثام- (1) لأنّه فحش محض فيشتمل على الإغراء بالقبيح. (2)

و عن المفاتيح: أنّ في إطلاق الحكم نظرا. (3) و اللّه العالم.

______________________________

(1) قد مرّت في أوّل المسألة عبارات الدروس و المسالك و جامع المقاصد، فراجع. «1»

و في شهادات كشف اللثام في ذيل قول المصنّف: «و كذا التشبب بامرأة معروفة محرمة عليه» قال: «أو غلام، حرام لما فيه من الإيذاء و إغراء الفسّاق بها أو به.» «2»

(2) في مصباح الفقاهة: «التشبيب بالغلام إن كان داخلا في عنوان تمني الحرام فلا ريب في حرمته لكونه

جرأة على حرمات المولى كما تقدّم، و إلّا فلا وجه لحرمته فضلا عن كونه حراما على كلّ حال، بل ربما يكون التشبيب به مطلوبا، و لذا يجوز مدح الأبطال و الشجعان و مدح الشبّان بتشبيههم بالقمر و النجوم.

و لا شبهة في صدق التشبيب عليه لغة و عرفا.»

و قال أيضا: «لا شبهة في حرمة الفحش و السبّ كما سيأتي إلّا أنّه لا يرتبط ذلك بالتشبيب بعنوانه الأوّلي الذي هو محلّ الكلام في المقام.» «3»

(3) في المفتاح الخامس و الستين و الأربعمائة في عدّ المعاصي قال: «و إنشاد شعر يتضمن هجاء مؤمن أو فحشا، و قيل: أو تشبيبا بامرأة بعينها غير محلّلة له أو بغلام لتحريم متعلقه و لما فيه من الإيذاء. و في إطلاق هذا الحكم نظر، أمّا غير المعينين و المحلّلة فلا بأس.» «4»

و الحمد للّه ربّ العالمين و صلّى اللّه على محمّد و آله الطاهرين 17 ذي الحجة 1416 ه. ق، الموافق ل 17/ 2/ 1375 ه. ش.

______________________________

(1) راجع ص 519- 521.

(2) كشف اللثام 2/ 193، كتاب القضاء، المقصد التاسع في الشهادات، الفصل الأوّل.

(3) مصباح الفقاهة 1/ 220 في النوع الرابع مما يحرم الاكتساب به.

(4) مفاتيح الشرائع 2/ 20، كتاب مفاتيح النذور و العهود، الباب الثاني في أصناف المعاصي ....

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 541

[المسألة الرابعة: التصوير]

اشارة

المسألة الرابعة: تصوير صور ذوات الأرواح حرام إذا كانت الصورة مجسّمة بلا خلاف فتوى و نصّا. (1) و كذا مع عدم التجسّم، وفاقا لظاهر النهاية و صريح السرائر و المحكيّ عن حواشي الشهيد و الميسيّة و المسالك و إيضاح النافع و الكفاية و مجمع البرهان و غيرهم.

______________________________

المسألة الرابعة: التصوير

(1) أقول: يظهر من عبارة المصنّف عدم الخلاف

في حرمة إيجاد الصور المجسمة لذوات الأرواح و كون المسألة واضحة عنده بنحو لم يجد نفسه محتاجا إلى الاستدلال عليها، و لكنّه أفتى بحرمة غير المجسّمة منها أيضا و استدلّ لها بما يأتي في كلامه من الروايات.

و الأستاذ الإمام «ره» قوّى حرمة المجسمة منها فقط و قال: «هو المتيقّن من معقد الإجماع المحكيّ و تدلّ عليه مضافا إليه الأخبار الآتية، و أمّا حرمة سائر الصور فلا دليل على حرمتها ...» «1»

و حيث إنّ مسألة التصوير بشقوقها من المسائل المهمّة المبتلى بها في عصرنا فاللازم البحث عنها بنحو التفصيل.

______________________________

(1) المكاسب المحرّمة 1/ 168 (- ط. الجديدة 1/ 255).

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 542

التعرض لمقدّمات البحث
اشارة

______________________________

و قبل الورود في بيان الأدلّة نتعرّض لمقدّمات لا بدّ منها:

المقدّمة الأولى: قد وقع البحث عن التصاوير و التماثيل- مضافا إلى باب المكاسب المحرّمة- في أبواب لباس المصلّي و مكانه،

و أحكام المساجد و المساكن، و الزيّ و التجمّل، و وليمة النكاح، فتعرّضوا لحكم الصلاة في ثوب فيه تماثيل، أو خاتم فيه تماثيل، أو بيت فيه تماثيل، أو مع دراهم فيها تماثيل، أو على بساط يكون عليه تماثيل، أو الجلوس على ذلك البساط، أو تزيين المساجد أو البيوت أو السقوف بالتصاوير، أو يلبس لباسا فيه تصاوير، أو يدخل في وليمة فيها صور و تماثيل، إلى غير ذلك من المسائل المطروحة في الأخبار و الفتاوى.

و المستفاد من أكثر الأخبار الواردة في الأبواب المختلفة عدم وجوب إفناء الصور و التماثيل بعد ما وجدت، و إن وقع النهي عن الاستقبال إليها أو الانتفاع بها بنحو يشعر بتعظيمها على نحو ما كان يصنعه الأعاجم، بخلاف ما إذا جعلها تحته و وطأها بأقدامه، و على هذا فليس وزان التماثيل بما هي تماثيل وزان الأصنام التي لا يجوز إبقاؤها بل يجب إفناؤها، اللّهم إلّا أن تنقلب التصاوير أصناما معرضا للعبادة و التقديس فيجب إفناؤها حينئذ، فراجع الوسائل و المبسوط. «1»

المقدّمة الثانية: لا يخفى أن التصوير و لا سيّما المجسّم منه ليس أمرا حادثا في الأعصار الأخيرة،

بل له سابقة تاريخيّة تقارب عصر تكوّن الإنسان، و يشهد بذلك الآيات و الروايات المتعرّضة لأنواع الأصنام و عبدتها، و الحفريّات و الاكتشافات الواقعة في آثار الأمم البائدة، حيث يعثر فيها على أصنام لهم مصنوعة

______________________________

(1) راجع الوسائل 3/ 317، 461، 493 و 560، الأبواب 45 من أبواب لباس المصلّي، 32 من أبواب مكان المصلّي، 15 من أبواب أحكام المساجد، و 3 من أبواب أحكام المساكن، 12/ 219، الباب 94 من أبواب ما يكتسب به؛ و راجع المبسوط 4/ 323.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 543

..........

______________________________

من الأحجار و أنواع الجواهر و الفلزّات.

و قد كان قوم نوح النبي صلى اللّه عليه

و آله- على ما في سورة نوح من الكتاب- يكرّمون و يعظمون ودا و سواعا و يغوث و يعوق و نسرا، قال اللّه تعالى-: وَ قٰالُوا لٰا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَ لٰا تَذَرُنَّ وَدًّا وَ لٰا سُوٰاعاً وَ لٰا يَغُوثَ وَ يَعُوقَ وَ نَسْراً. «1» و أخرج السامريّ لبني إسرائيل- بعد ما أتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم و غاب عنهم موسى عليه السّلام- عجلا جسدا له خوار فقال: هٰذٰا إِلٰهُكُمْ وَ إِلٰهُ مُوسىٰ. «2» هذا.

و في بادي الأمر ربّما كانوا يصوّرون صور الأنبياء و القدّيسين تكريما لهم و حفظا لقداستهم، أو يصوّرون صورا خيالية لما توهّموه أرباب الأنواع و وسائط الفيض الربوبي، ثمّ بمرور الزمان خضعوا لها تعظيما و طلبا للحاجات منها و عبدوها من دون اللّه- تعالى- معتذرين بأنّا لا نعبدهم إلّا ليقرّبونا إلى اللّه زلفى، ثمّ أنساهم الشيطان ذكر ربّهم فجعلوا الأصنام آلهة من دون اللّه- تعالى- و تربّوا على ذلك نسلا بعد نسل.

و في رواية بريد بن معاوية قال: سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول في مسجد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ إبليس اللعين هو أوّل من صوّر صورة على مثال آدم عليه السّلام ليفتن به الناس و يضلّهم عن عبادة اللّه- تعالى- الحديث بطوله.» «3»

و كان لعبدة الشمس و السيّارات في عصر إبراهيم الخليل عليه السّلام بيوت عبادة فيها هياكل للسيّارات السبع يعظّمونها و يعبدونها بتوهّم أنّها مظاهر للسيّارات و السيّارات مظاهر للعقول المدبّرة لها.

و بذلك كلّه يظهر عدم صحّة ما يأتي في كلام المصنّف حيث قال: «إنّ ذكر الشمس و القمر قرينة على إرادة مجرد النقش» و قال: «إنّ الشائع من التصوير

______________________________

(1) سورة نوح (71)، الآية

23.

(2) سورة طه (20)، الآية 88.

(3) بحار الأنوار 3/ 250، الباب 7 من كتاب التوحيد، الحديث 8.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 544

..........

______________________________

و المطلوب منه هي الصور المنقوشة على أشكال الرجال و النساء و الطيور و السباع دون الأجسام المصنوعة على تلك الأشكال.» «1»

و ذلك لبداهة أن المعهود من الأصنام المعبودة هي الأجسام و لم يعهد عبادة النقوش المجرّدة عن المادّة. هذا.

و كان من أهم واجب الأنبياء و الأولياء في كلّ عصر: الدفاع عن تحريم التوحيد و إبعاد الناس عن مظاهر الشرك و عبادة الأصنام. و قد كان على الكعبة و ما حولها ثلاثمائة و ستون صنما لقبائل العرب عدد أيّام السنة كسرها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بعد ما فتح مكّة و أعانه على ذلك أمير المؤمنين عليه السّلام. و في أعصارنا أيضا مع رقيّ الأفكار و التقدّم في العلوم و مظاهر التمدّن ترى كثيرا من الناس في أقطار العالم يعبدون الأصنام و يوقّرونها و يطلبون منها الحاجات و يقرّبون لها القرابين حتّى من أولادهم، و هذا يحكي عن بقاء الخصلة الانحرافية التي نشأت عليها الأمم من تقليد الآباء و الأجيال الماضية. هذا.

و نحن نرى أنّ العادات و العقائد الموروثة مما تبقى كثيرا ببعض مراتبها في طباع الإنسان و إن فرض إرشاده و اهتداؤه إلى العقائد الحقّة و وروده عملا في مجتمعات المسلمين. فلعلّ بعض مراتب العلاقة بالأصنام و الاعتقاد بقداستها بقيت في نفوس بعض المتوسّطين و السّاذجين من أفراد المسلمين حتى في أعصار الأئمة عليهم السّلام فضلا عن عصر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أوائل البعثة، فكانوا يصوّرونها و يحفظونها في خفايا بيوتهم. و الأخبار الشديدة المضامين الواردة

في التصوير و التمثيل صدرت ناظرة إلى أمثال هؤلاء بداعي تطهير نفوسهم عن بقايا العقائد الفاسدة التي أشربت بها قلوبهم.

قال الأستاذ الإمام «ره»: «إنّ ظاهر طائفة من الأخبار بمناسبة الحكم

______________________________

(1) راجع المكاسب للشيخ الأعظم «ره»/ 23.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 545

..........

______________________________

و الموضوع: أنّ المراد بالتماثيل و الصور فيها هي تماثيل الأصنام التي كانت مورد العبادة، كقوله عليه السّلام: «من جدّد قبرا أو مثّل مثالا فقد خرج من الإسلام.» «1»

و قوله عليه السّلام: «من صوّر التماثيل فقد ضادّ اللّه.» «2» و قوله صلّى اللّه عليه و آله: «أشدّ الناس عذابا يوم القيامة رجل قتل نبيّا أو قتله نبيّ، و رجل يضلّ الناس بغير علم أو مصوّر يصوّر التماثيل.» «3» و قوله عليه السّلام: «إنّ من أشدّ الناس عذابا عند اللّه يوم القيامة المصوّرون.» «4» و أمثالها.

فإن تلك التوعيدات و التشديدات لا تناسب مطلق عمل المجسّمة أو تنقيش الصور، ضرورة أنّ عملها لا يكون أعظم من قتل النفس المحترمة أو الزنا أو اللواطة أو شرب الخمر أو غيرها من الكبائر.

و الظاهر أن المراد منها تصوير التماثيل التي هم لها عاكفون، مع احتمال آخر في الأخيرة و هو أنّ المراد بالمصوّرون: القائلون بالصورة و التخطيط في اللّه- تعالى-، كما هو مذهب معروف في ذلك العصر.

و المظنون الموافق للاعتبار و طباع الناس: أنّ جمعا من الأعراب بعد هدم أساس كفرهم و كسر أصنامهم بيد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أمره كانت علقتهم بتلك الصور و التماثيل باقية في سرّ قلوبهم، فصنعوا أمثالها حفظا لآثار أسلافهم و حبّا لبقائها، كما نرى حتّى اليوم علاقة جمع بحفظ آثار المجوسيّة و عبدة النيران في هذه البلاد،

حفظا لآثار أجدادهم، فنهى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عنه بتلك التشديدات و التوعيدات التي لا تناسب إلّا الكفّار و من يتلو تلوهم، قمعا لأساس الكفر و مادّة الزندقة، و دفعا عن حوزة التوحيد. و عليه تكون تلك الروايات ظاهرة أو منصرفة إلى ما ذكر.» «5»

______________________________

(1) الوسائل 3/ 562، الباب 3 من أبواب أحكام المساكن، الحديث 10.

(2) مستدرك الوسائل 2/ 457، الباب 75 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 3.

(3) نفس المصدر و الباب، الحديث 4.

(4) سنن البيهقي 7/ 268، كتاب الصداق، باب التشديد في المنع من التصوير.

(5) المكاسب المحرّمة 1/ 169 (- ط. الجديدة 1/ 257).

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 546

..........

______________________________

أقول: أمّا ما ذكره من عدم تناسب هذه التشديدات لمطلق عمل التصوير فهو أمر متين، بداهة أن الجزاء ليس أمرا جزافيا، بل هو نتيجة للعمل و من قبيل الثمرة له و الثمر يناسب الشجر، و ليس هذا القبيل من الأحكام الشرعيّة من قبيل الأحكام التعبديّة المحضة التي لا يعلم سرّها و ملاكاتها و عواقبها إلّا اللّه- تعالى-، فلا محالة تكون تابعة لملاكات متناسبة لها عند العقل و الفطرة.

و إن شئت قلت: إنّ الأوامر و النواهي الواردة في أبواب المعاملات و السياسات و الجزائيّات من قبيل الأحكام الإرشاديّة إلى ما يدركه العقل و الفطرة أيضا بعد التنبّه لها.

و أمّا الروايات التي ذكرها فكلّها ضعاف لا اعتبار بها، إذ في سند الأوّل أبو الجارود و هو ضعيف، و البواقي كلّها مراسيل. هذا مضافا إلى تمشّي احتمالات أخر في معاني بعضها، و سيأتي التعرّض لها بعد ذلك.

المقدّمة الثالثة: في إشارة إجماليّة إلى أنواع الصور و التماثيل و أقسامها:

قد قسّموا التصوير إلى أنواع أربعة: إذ الصورة إمّا لذي روح من الإنسان و أنواع الحيوان، أو

لغيره. و كلّ منهما إمّا بنحو التجسيم بحيث يوجد له ظلّ و يكون له يمين و يسار و أمام و خلف، أو بنحو النقش فقط، فهذه أربعة أقسام.

ثم لا يخفى أنّ كلا منها إمّا أن يوجد بنحو المباشرة و عمل اليد، و إمّا أن يوجد بالمكائن و المطابع مثل أن يكون هنا مكينة يلقى فيها الموادّ الأوّليّة فتتبدّل فيها بأنواع الصور المجسّمة، أو مطبعة يطبع بها على الأوراق أو الثياب أنواع النقوش المختلفة بألوان متفاوتة.

و يظهر من الأستاذ الإمام «ره» اختصاص المنع على القول به بما يقع بعمل اليد مباشرة و عدم شمول الأدلّة لما يوجد بالمكائن و المطابع، «1» و لكنّه محلّ إشكال بل منع، و سيأتي البحث فيه في فروع المسألة. هذا.

______________________________

(1) المكاسب المحرّمة 1/ 177 (- ط. الجديدة 1/ 269).

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 547

..........

______________________________

و هنا بعض أقسام للتصوير ينبغي الالتفات إليها و استخراج أحكامها:

1- النقش بنحو الحكّ في الفلز أو الخشب، أو بنحو إحداث خطوط لها أظلال، فهل هما بحكم المجسم أو المنقوش أو يفصّل بينهما؟

2- رسم خطوط كثيرة متوازية و متقاطعة و منكسرة على الأوراق أو الثياب بقصد التزيين بنحو ربما يتراءى للنظّار شبهها بصورة إنسان أو حيوان خاصّ أو شجر خاصّ و إن لم يقصد الفاعل ذلك.

3- إيجاد صورة ناقصة للحيوان أو غيره بنحو التجسيم أو النقش كهيئة إنسان جالس مثلا أو أسد نائم و نحو ذلك، أو إيجاد صورة بعض أجزاء الحيوان مثلا كرأسه أو يديه و نحو ذلك.

4- التصوير الخيالي للجنّ أو الملك أو بعض الموجودات الخياليّة التي لا واقعيّة لها كالغول مثلا.

5- التصوير بالوسائل الحديثة الرائجة المسمّى بالفارسيّة بالعكس، و نحوه الصور الموجودة في

الأفلام.

6- التصويرات الكاريكاتورية الرائجة.

7- التصويرات الكارتونية الدارجة.

8- صنع جسم خاصّ لأغراض عقلائيّة فيه شبه خاصّ بجسم الإنسان أو حيوان خاصّ كما تعارف في عصرنا و يسمّى بالروبات، و أمثال هذه الأمور ممّا يحتمل صنعها. فهل الحكم بحرمة التصوير على القول بها يشمل هذه الأمور أم لا؟

المقدمة الرابعة: في إشارة إجمالية إلى الأقوال في المسألة:

ربما يظهر من كلماتهم اتفاق الفريقين على حرمة التصوير إجمالا و عدم الخلاف في ذلك و إنما اختلفوا في سعة الموضوع و ضيقه على أقوال أربعة:

الأوّل: حرمته مطلقا سواء كان للحيوان أو لغيره و سواء كان بنحو التجسيم أو

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 548

..........

______________________________

النقش. يظهر من العلّامة في المختلف «1» استظهار هذا القول من كلامي ابن البرّاج و أبي الصلاح الحلبي.

الثاني: حرمة المجسمة فقط سواء كانت لذي روح أو لغيره، يظهر من المختلف نسبته إلى الشيخين و سلّار.

الثالث: حرمة ما كان لذي روح فقط سواء بنحو التجسيم أو بالنقش اختاره ابن إدريس، و اختاره المصنّف أيضا و نسبه إلى ظاهر النهاية و كتب أخر كما ترى في المتن.

الرابع: اختصاص الحرمة بخصوص المجسّم من ذوات الأرواح فقط، اختاره الأستاذ «ره» و قال: هو المتيقّن من معقد الإجماع المحكيّ. هذا.

و يظهر من الشيخ الطوسي «ره» في التبيان و الطبرسي «ره» في مجمع البيان عدم الحرمة أصلا بل الكراهة فقط بعنوان التصوير. فراجع كلامهما في ذيل الآية الحادية و الخمسين من سورة البقرة في قصّة عجل السامريّ، و سيأتي نقل كلامهما. «2»

و على هذا فالأقوال في المسألة تصير خمسة و ليست الحرمة متّفقا عليها عند الأصحاب، بل تكون المسألة خلافيّة.

المقدّمة الخامسة: [النقش و التصوير و التمثال]
اشارة

لا يخفى أنّ المذكور في الأخبار و الفتاوى في المقام عناوين النقش و التصوير و التمثال.

أمّا النقش

فظهوره في غير المجسّم ظاهر، نعم يمكن القول بشموله لمثل الحكّ أيضا إذ نقش الحيوان أو الطير المذكور في بعض الأخبار «3» لعلّه ينصرف إلى حكّهما فيه.

______________________________

(1) المختلف 1/ 341، كتاب المتاجر، الفصل الأول فيما يحرم الاكتساب به.

(2) راجع التبيان 1/ 85 (- ط. أخرى 1/ 236)؛ و مجمع البيان 1/ 109؛ و راجع ص 557 من الكتاب.

(3) الوسائل 3/ 322، الباب 46 من أبواب لباس المصلّي.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 549

[و أما التمثال]

______________________________

و أمّا التصوير و التمثال فهل يعمّان المنقوش و المجسّم أو ينصرفان إلى خصوص المجسّم و إن جاز استعمالهما في المنقوش أيضا مسامحة؟ وجهان. فلنذكر بعض كلمات أهل اللغة في معناهما:

1- قال الخليل بن أحمد في العين في لغة مثل: «و المثل: شبه الشي ء في المثال و القدر و نحوه حتّى في المعنى. و يقال: ما لهذا مثيل ... و المثول: الانتصاب قائما ... و التمثيل: تصوير الشي ء كأنّه تنظر إليه. و التمثال: اسم للشي ء الممثّل المصوّر على خلقة غيره.» «1»

أقول: ظاهر كلامه أنّ لهذه المادّة معنيين: الأوّل: الشبه أعني شباهة شي ء بشي ء. الثاني: الانتصاب قائما.

و ظهور الثاني في خصوص المجسّم ظاهر. و هل يمكن جعل المعنى الثاني قرينة على إشراب التجسّم في المعنى الأوّل أيضا؟ مشكل، إلّا أن يقال: إنّ المتبادر من مماثلة شي ء لشي ء و مشابهته به مماثلته له من كلّ جهة، و صورة الشي ء المجسّم لا تكون شبيهة به من كلّ جهة إلّا إذا كانت جسما مثله.

2- و قال الراغب في المفردات: «أصل المثول: الانتصاب. و الممثّل: المصوّر على مثال غيره. يقال: مثل الشي ء أي انتصب و تصوّر، و منه قوله صلّى اللّه عليه و آله: «من أحبّ

أن يمثّل له الرجال فليتبوّأ مقعده من النار.» و التمثال: الشي ء المصوّر، و تمثّل كذا: تصوّر، قال اللّه- تعالى-: فَتَمَثَّلَ لَهٰا بَشَراً سَوِيًّا.» «2»

أقول: ظاهره إرجاع المعنيين إلى معنى واحد و إشراب التجسّم فيه.

3- و في نهاية ابن الأثير في لغة مثل: «فيه: «من سرّه أن يمثل له الناس قياما فليتبوّأ مقعده من النار.» أي يقومون له قياما و هو جالس. يقال: مثل الرجل يمثل مثولا: إذا انتصب قائما ... و فيه: «أشدّ الناس عذابا ممثّل من الممثلين» أي

______________________________

(1) كتاب العين 8/ 228.

(2) المفردات/ 482.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 550

..........

______________________________

مصوّر. يقال: مثلت بالتثقيل و التخفيف: إذا صوّرت مثالا. و التمثال: الاسم منه، و ظلّ كلّ شي ء: تمثاله. و مثّل الشي ء بالشي ء: سوّاه و شبّهه به و جعله مثله و على مثاله.» «1»

4- و في لغة مثل من الصحاح: «و التمثال: الصور، و الجمع التماثيل، و مثل بين يديه مثولا: انتصب قائما، و منه قيل لمنارة المسرجة: ماثلة.» «2» هذه بعض كلماتهم في لغة مثل.

و أمّا التصوير:

1- ففي المفردات في لغة صور: «الصورة: ما ينتقش به الأعيان و يتميّز بها غيرها (عن غيرها- ظ.)» «3»

2- و في النهاية: «الصورة ترد في كلام العرب على ظاهرها، و على معنى حقيقة الشي ء و هيئته و على معنى صفته.» «4»

3- و في لغة صور من معجم مقاييس اللغة: «من ذلك الصورة صورة كل مخلوق، و الجمع صور، و هي هيئة خلقته.» «5»

4- و في لغة صور من الصحاح: «و التصاوير: التماثيل.» «6»

أقول: قد ترى الصحاح أنّه فسّر التمثال بالصور و التصاوير بالتماثيل، و ظاهره تساوي اللفظين صدقا و إن تغايرا مفهوما. و في مكان المصلّي من كشف

اللثام: «المعروف- كما في اللغة- ترادف التماثيل و التصاوير.» «7» و على هذا

______________________________

(1) النهاية لابن الأثير 4/ 294.

(2) الصحاح للجوهري 5/ 1816.

(3) المفردات/ 297.

(4) النهاية لابن الأثير 3/ 58.

(5) معجم مقاييس اللغة 3/ 320.

(6) الصحاح للجوهري 2/ 717.

(7) كشف اللثام 1/ 198.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 551

..........

______________________________

فيقال لصورة الشي ء: الصورة بلحاظ كونها بهيئته، و التمثال بلحاظ كونها شبيهة به. و قد أشرنا إلى أنّ الظاهر من كون شي ء مثلا لشي ء أو على هيئته: كونه كذلك من جميع الجهات لا من جهة واحدة، فيكون صورة الجسم و مثاله لا محالة جسما إذ لو لم يكن جسما لم يكن شبيها به و على هيئته إلّا في جهة واحدة.

قال الأستاذ الإمام «ره» في هذا المجال ما ملخّصه: «لا يبعد أن يكون الظاهر من تمثال الشي ء و صورته- بقول مطلق-: هو المشابه له في الهيئة مطلقا أي من جميع الجوانب لا من جانب واحد. و تمثال الوجه أو مقاديم البدن: تمثاله بوجه لا مطلقا، كما أنّ تمثال خلفه كذلك، و إطلاق التمثال على تمثال الوجه أو المقاديم بنحو من المسامحة. و أمّا الصورة فهي بمعنى الشكل الذي هو الهيئة، و هيئة الشي ء كتمثاله: ما يكون شبيهه في جميع الجوانب. و إطلاقه على النقوش و العكوس بنحو من المسامحة. و الإطلاق الشائع على النقش و الرسم في الروايات كان لأجل القرائن. و لهذا لو سئل العرف أن هذه الصورة أو المثال صورته من جميع الوجوه لأجاب بالنفي، و لا أقلّ من كون الصدق الحقيقي محلا للشكّ.» «1»

أقول: فظاهر كلامه تساوي التمثال و الصورة صدقا و تبادر خصوص المجسم منهما.

و لكن يظهر من المحقّق الإيرواني «ره» في الحاشية

كون الصورة أعمّ، فإنّه بعد ما قوّى في المسألة حرمة المجسّم من ذي الروح فقط و قسّم أخبار الباب إلى طوائف قال: «أمّا ما اشتمل من الأخبار على لفظ المثال و التمثال فالظاهر منها هي المجسّمة، فإنّ ظاهر لفظ المثال هو هذا، إذ المثال الحقيقي ما كان مثالا للشي ء من

______________________________

(1) المكاسب المحرّمة 1/ 168 (- ط. الجديدة 1/ 256).

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 552

..........

______________________________

كلّ الجهات و الجوانب لا ما كان مثالا له من جانب واحد، و هذا لا يكون إلّا في المجسّمة فإنّ فيها يفرض مثال الجهات الستّ، فكانت الصورة أعمّ من المثال. نعم قد يطلق المثال على الصورة، و قد أطلق في الأخبار أيضا، لكن الكلام فعلا فيما هو ظاهر لفظه مع التجرّد عن القرينة.

و يشهد للتغاير التعبير في بعض الأخبار بتصوير التماثيل أو رجل صوّر تماثيل.

و يشهد له أيضا عدّة من الأخبار:

منها: خبر عليّ بن جعفر: سألت أخي موسى عليه السّلام عن مسجد يكون فيه تصاوير و تماثيل يصلّى فيه؟ فقال: «تكسر رءوس التماثيل و تلطخ رءوس التصاوير و تصلّي فيه و لا بأس.» «1»

ثمّ لو تنزّلنا عن ذلك فلا أقل من عدم ثبوت عموم لفظ المثال لما عدا المجسّمة فيؤخذ بالمتيقّن منه و لا تكون روايات المثال و التمثال حجّة على ما عدا المجسّمة.» «2»

أقول: ظاهر ما ذكره من رواية عليّ بن جعفر تغاير التصوير و التمثال مفهوما و صدقا، و أمّا ما ذكره من التعبير بتصوير التماثيل أو رجل صوّر تماثيل فلا يدلّان على ذلك إذ لعلّ المراد منهما تمثيل التماثيل أو رجل مثّل تماثيل، و التعبير بالتصوير من قبيل التفنّن في التعبير و اللفظ، و هو أمر

شائع في المحاورات.

هذا كلّه في بيان أنّ المتفاهم من اللفظين خصوص المجسّم أو الأعم.

و هل يعمّ اللفظان ما كان من غير الحيوان أيضا أو يتبادر منهما خصوص الحيوان أو يتفاوتان في ذلك كما قيل؟ نسب في البحار إلى أكثر أهل اللغة أنّهم فسّروا الصورة و المثال و التمثال بما يعمّ و يشمل غير الحيوان أيضا (إلى أن قال): «قال المطرزي في المغرب: التمثال ما تصنعه و تصوّره مشبّها بخلق اللّه من ذوات

______________________________

(1) الوسائل 3/ 463، الباب 32 من أبواب مكان المصلّي، الحديث 10.

(2) حاشية المكاسب للمحقّق الإيرواني/ 20.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 553

..........

______________________________

الروح، و الصورة عامّ ...» «1»

و في الجواهر حكى كلام المطرزي أيضا و لكنّه قال: «لا يخلو بعض كلامه من النظر خصوصا دعواه عموم الصورة بل هي أولى من التمثال بدعوى الاختصاص، كما أنّ التمثال أولى بدعوى العموم منها كما يؤيّد ذلك إطلاق الصورة مرادا بها ذات الروح في أخبار كثيرة على وجه إن لم يظهر منه كونها حقيقة في ذلك فلا ريب في ظهوره في أنّه المراد عند الإطلاق ...» «2»

أقول: قد عرفت من كلمات أهل اللغة أنّ المثل بمعنى الشبه، و الصورة بمعنى الشكل و الهيئة، فهما بحسب المفهوم عامّان. و على هذا فلو سلّم ظهورهما- بمقتضى ما مرّ بيانه- في خصوص المجسّم فلا نسلّم ظهورهما في خصوص الحيوان. و قد كثر استعمالهما في العموم أيضا، نعم يمكن أن يراد بهما في بعض الروايات و الإطلاقات الخصوص بمقتضى القرائن الداخليّة أو الخارجيّة و لكن لا يوجب هذا حملهما على ذلك أو إجمالهما فيما إذا لم يكن قرينة على إرادة الخصوص.

المقدّمة السادسة: في ذكر بعض كلمات الفقهاء من الفريقين في المسألة:

1- قال المفيد في مكاسب المقنعة: «و عمل

الأصنام و الصلبان و التماثيل المجسّمة و الشطرنج و النرد و ما أشبه ذلك حرام، و بيعه و ابتياعه حرام.» «3»

2- و في المراسم في عداد المكاسب المحرّمة: «و عمل الأصنام و الصلبان و كلّ آلة تظنّ الكفّار أنّها آلة عبادة لهم و التماثيل المجسّمة ... و بيعه و ابتياعه ...» «4»

أقول: ظاهرهما اختصاص الحرمة بالمجسّمة و عمومها لما لغير الحيوان أيضا لما مرّ

______________________________

(1) بحار الأنوار 83/ 243- 245 (- ط. بيروت 80/ 243- 245)، كتاب الصلاة، الباب 18، الحديث 4.

(2) الجواهر 8/ 383، كتاب الصلاة، في كراهة أن يكون بين يدي المصلّي تصاوير.

(3) المقنعة/ 587.

(4) المراسم/ 170؛ و الجوامع الفقهية/ 585 (- طبعة أخرى/ 647).

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 554

..........

______________________________

من شمول لفظ التماثيل بحسب المفهوم لذلك، و ظاهر كلامهما حرمة بيعها أيضا.

و يمكن أن يختلج بالبال أنّهم أرادوا بالتماثيل المجسّمة- بقرينة السياق- خصوص ما كان منها معرضا للتقديس و العبادة و إن لم يطلق عليه لفظ الصنم، فتأمّل.

3- و في المكاسب المحرّمة من النهاية: «و عمل الأصنام و الصلبان و التماثيل المجسّمة و الصور و الشطرنج و النرد و سائر أنواع القمار حتّى لعب الصبيان بالجوز، فالتجارة فيها و التصرّف و التكسّب بها حرام محظور.» «1»

أقول: أضاف الشيخ الصور أيضا، و الظاهر منها- بقرينة العطف الدالّ على المغايرة- إرادة غير المجسّم منها.

فيصير مقتضى إطلاق كلام النهاية حرمة التماثيل و الصور بأقسامها: مجسّمة كانت أو غير مجسّمة، لذي روح أو لغيره، يحرم كلّ فعل يتعلّق بها من العمل و التجارة و الكسب و التصرّف.

و هذا الإطلاق ممّا لا يظنّ بمثل الشيخ الالتزام به بعد دلالة أخبار كثيرة معتبرة على الجواز فيما ليس

له روح.

و ظنّي أن المنصرف إليه من اللفظين عند القدماء و المصنّفين كان خصوص ما له روح، إذ كان هو مورد الابتلاء و البحث عندهم، فكلّ من عبّر منهم بالتماثيل المجسّمة و هم الأكثر أراد بها خصوص المجسّمة من ذوات الأرواح، و الشيخ أضاف إليها غير المجسّمة منها أيضا، و ما لم تكن من ذوات الأرواح كانت خارجة عن حريم بحثهم.

و هذا لا ينافي ما مرّ منا من عموم مفهوم اللفظين إذ لعلّهم اصطلحوا على إرادة خصوص ذوات الأرواح، و لا مشاحّة في الاصطلاح. و إن شئت قلت: إنّ اللفظ كان عندهم من قبيل العنوان المشير إلى ما تسالموا على حرمتها، فتدبّر.

______________________________

(1) النهاية لشيخ الطائفة/ 363.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 555

..........

______________________________

4- و في المكاسب المحرّمة من مهذّب ابن البراج: «و سائر التماثيل، مجسّمة كانت أو غير مجسّمة.» «1»

5- و في الكافي لأبي الصلاح الحلبي في عداد ما يحرم فعله: «و عمل الصلبان و الأصنام و التماثيل.» «2»

6- و قال أيضا: «كلّ شي ء ثبت تحريمه ... فثمنه و أجر عمله و حمله و إبقاؤه و حفظه و المعونة عليه بقول أو فعل أو رأى، و التعوّض عنه محرّم.» «3»

أقول: هذان العلمان من معاصري الشيخ الطوسي، و ظاهر عبارتيهما أيضا حرمة التماثيل بأقسامها الأربعة، و لعلّ نظرهما أيضا كان إلى خصوص ما لذوات الأرواح، كما قلنا في عبارة النهاية.

7- و في المكاسب المحرّمة من السرائر: «و سائر التماثيل و الصور ذوات الأرواح، مجسّمة كانت أو غير مجسّمة.» «4»

8- و في المكاسب المحرّمة من الشرائع قال: «الرابع: ما هو محرّم في نفسه كعمل الصور المجسّمة.» «5»

9- و ذيّله في الجواهر بقوله: «لذوات الأرواح، و لعلّ ترك

التقييد بذلك لظهور لفظ الصور في ذلك. و على كلّ حال فلا خلاف في حرمة عملها، بل الإجماع بقسميه عليه، بل المنقول منه مستفيض كالنصوص.» «6»

10- و في جامع المقاصد في ذيل قول المصنّف: «كعمل الصور المجسّمة» قال:

«المتبادر من المجسّمة ما يكون لها جسم يحصل له ظلّ إذا وقع عليه ضوء، و لا ريب

______________________________

(1) المهذّب 1/ 344، باب ضروب المكاسب.

(2) الكافي لأبي الصلاح الحلبي/ 281.

(3) نفس المصدر/ 383.

(4) السرائر 2/ 215.

(5) الشرائع/ 264 (- ط. أخرى 2/ 10).

(6) الجواهر 22/ 41، كتاب التجارة، في حرمة عمل الصور المجسّمة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 556

..........

______________________________

في تحريم هذا القسم إذا كان من صور ذوات الأرواح، و إن كانت عبارة الكتاب مطلقة. و هل يحرم غير المجسّمة كالمنقوشة على الجدار و الورق؟ عمّم التحريم بعض الأصحاب، و في بعض الأخبار ما يؤذن بالكراهية و لا ريب أنّ التحريم أحوط ... فتكون الأقسام أربعة: أحدها محرّم إجماعا و باقي الأقسام مختلف فيها.» «1»

11- و في مجمع الفائدة و البرهان: «و الظاهر أنّ للنقش أقساما خمسة: النقش المطلق من غير تصوير صورة شي ء و هو جائز بالإجماع، و تصوير الحيوان ذي الظل بحيث إذا وقع عليه ضوء يحصل له ظلّ، و هو محرّم بالإجماع. و الثلاثة الباقية: و هو الحيوان غير المذكور، و غيره ذي ظل و غيره مختلف فيه.» «2»

أقول: عدّ المجسمة من أقسام النقش، و إطلاقه عليها لا يخلو من مسامحة.

12- و في الرياض في ذيل قول المصنّف: «كعمل الصور المجسّمة» قال:

«ذوات الأرواح إجماعا في الظاهر و صرّح به بعض الأجلّة و هو الحجّة». «3»

13- و في المستند في عداد المكاسب المحرّمة قال: «و منها عمل

الصور، و هي أقسام لأنّها إمّا صورة ذي روح أو غيره و على التقديرين إمّا مجسّمة أو منقوشة، فالأولى حرام عمله مطلقا بلا خلاف أجده، و ادّعى الأردبيلي الإجماع عليه و كذا الكركي و نفى الريب عنه. و في المختلف نفى العلم بالخلاف فيه ... و أمّا البواقي فقد وقع الخلاف فيها، فالثانية محرّمة عند الحلّي و القاضي و شيخنا الشهيد الثاني و بعض آخر، و جوّزها جماعة بل قيل: إنّه الأشهر، و الأوّل هو الأظهر لإطلاق النصوص المتقدّمة.» «4»

______________________________

(1) جامع المقاصد 4/ 23، أقسام المتاجر.

(2) مجمع الفائدة 8/ 54، كتاب المتاجر، أقسام التجارة.

(3) رياض المسائل 1/ 501.

(4) مستند الشيعة 2/ 337 و 338.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 557

..........

______________________________

14- و في مفتاح الكرامة في ذيل قول المصنّف: «كعمل الصور المجسّمة» قال:

«و قد حكى على تحريم عمل تلك، الإجماع في جامع المقاصد و مجمع البرهان و الرياض. و في التنقيح و إيضاح النافع نسبته إلى الشيخين و سائر المتأخّرين، و في الكفاية: لا أعلم فيه مخالفا. قلت: الإجماع على التحريم معلوم لأنّ القاضي و التقيّ و ابن إدريس و غيرهم يقولون بذلك و زيادة، و يبقى الكلام في الاختصاص ...» «1»

أقول: قد نقلنا كلمات المتأخّرين من الأصحاب من جهة دعواهم الإجماع في المسألة، و أوّل من ادعاه منهم المحقّق الكركي في جامع المقاصد. و لم نعثر على دعواه في كلمات القدماء من أصحابنا، و هل يكون مثل هذه الدعوى حجّة مستقلة في مثل هذه المسألة التي ورد فيها أخبار كثيرة من طرق الفريقين يحدس كونها مدركا للفتاوى؟ هذا.

و يظهر من التبيان و مجمع البيان إنكار أصل الحرمة حتّى في المجسّمة من ذوات الأرواح:

15- ففي

التبيان في تفسير الآية الحادية و الخمسين من سورة البقرة قال:

«و معنى قوله: ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَنْتُمْ ظٰالِمُونَ أي اتخذتموه إلها لأنّ بنفس فعلهم لصورة العجل لا يكونون ظالمين لأنّ فعل ذلك ليس بمحظور و إنما هو مكروه. و ما روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه لعن المصوّرين معناه: من شبّه اللّه بخلقه أو اعتقد فيه أنّه صورة، فلذلك قدّر الحذف في الآية كأنّه قال: اتخذتموه إلها.» «2»

و نحو ذلك في المجمع أيضا، و كأنّه تبعه في ذلك. «3»

و العبرة بما ذكره الشيخ في التبيان لتأخّره عن نهايته، قال في أوّل المبسوط:

______________________________

(1) مفتاح الكرامة 4/ 48، كتاب المتاجر، في الصور المجسّمة.

(2) التبيان 1/ 85 (- ط. أخرى 1/ 236).

(3) راجع مجمع البيان 1/ 109.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 558

..........

______________________________

«و كنت عملت على قديم الوقت كتاب النهاية.» «1» يظهر من ذلك أنّ النهاية ممّا صنّفه الشيخ في أوائل عمره الشريف.

و في السرائر في مسألة ولاية الأب و الجدّ على البنت في النكاح قال: «و أيضا فشيخنا أبو جعفر الطوسي قد رجع و سلّم المذهب بالكليّة في كتابه كتاب التبيان و رجع عمّا ذكره في نهايته و سائر كتبه لأنّ كتاب التبيان صنّفه بعد كتبه جميعها و استحكام علمه و سبره للأشياء و وقوفه عليها و تحقيقه لها.» «2»

و على هذا فلعلّ كلامه في النهاية صدر عنه على أساس كلمات الأصحاب و الاحتياط في المسألة، و بعد التحقيق ثبت له الجواز مع الكراهة.

16- و في كتاب الوليمة من المغني لابن قدّامة: «و صنعة التصاوير محرّمة على فاعلها، لما روى ابن عمر عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه

قال: «الذين يصنعون هذه الصورة يعذّبون يوم القيامة يقال لهم: أحيوا ما خلقتم.» و عن مسروق قال: دخلنا مع عبد اللّه بيتا فيه تماثيل، فقال التمثال منها: تمثال من هذا؟ قالوا: تمثال مريم. قال عبد اللّه: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ أشدّ الناس عذابا يوم القيامة المصوّرون.»

متّفق عليهما، و الأمر بعمله محرّم كعمله.» «3»

أقول: ما ذكره من العنوان عامّ يشمل الأقسام الأربعة و كذا الرواية الثانية و إن كان موردها خاصا، و المراد بعبد اللّه فيها عبد اللّه بن مسعود كما يظهر ممّا رواه البيهقي عن مسروق. «4» و أما الرواية الأولى فهي خاصّة بذوات الأرواح كما لا يخفى.

17- و في متن الفقه على المذاهب الأربعة قال: «الصورة إمّا أن تكون صورة لغير حيوان كشمس و قمر و شجر و مسجد، أو تكون صورة حيوان عاقل أو غير

______________________________

(1) المبسوط 1/ 2.

(2) السرائر 2/ 563.

(3) المغني لابن قدّامة 8/ 112، حرمة صنعة التصاوير ....

(4) سنن البيهقي 7/ 268، كتاب الصداق، باب التشديد في المنع من التصوير.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 559

..........

______________________________

عاقل، و القسم الأوّل جائز لا كلام فيه. و أما القسم الثاني فإنّ فيه تفصيل المذاهب.» ثم ذكر في الذيل ما ملخّصه:

«المالكيّة قالوا: إنّما يحرم التصوير بشروط أربعة: أحدها: أن تكون الصورة لحيوان سواء كان عاقلا أو غير عاقل. ثانيها: أن تكون مجسّدة، أمّا إذا لم تكن مجسّدة كصورة الحيوان و الإنسان التي ترسم على الورق و الثياب و الحيطان و السقف و نحو ذلك ففيها خلاف. ثالثها: أن تكون كاملة الأعضاء التي لا يمكن أن يعيش الحيوان أو الإنسان بدونها. رابعها: أن يكون لها ظلّ.

الشافعية قالوا: يجوز

تصوير غير الحيوان كالأشجار و السفن و الشمس و القمر، أما الحيوان فإنّه لا يحلّ تصويره سواء كان عاقلا أو غير عاقل.

الحنابلة قالوا: يجوز تصوير غير الحيوان، أمّا تصوير الحيوان فإنّه لا يحلّ إلّا إذا كان موضوعا على ثوب يفرش و يدوس عليه أو موضوعا على مخدّة يتكأ عليها، فإذا كان مجسّدا و لكن أزيل منه ما لا تبقى معه الحياة كالرأس و نحوه فإنّه مباح.

الحنفيّة قالوا: تصوير غير الحيوان جائز. و أمّا تصوير الحيوان فإن كان على بساط أو وسادة أو ثوب مفروش أو ورق فإنّه جائز. و كذلك إذا كانت الصورة ناقصة عضوا لا يمكن أن يعيش بدونه، أمّا إذا كانت موضوعة في مكان محترم و كانت كاملة الأعضاء فإنّها لا تحلّ.» «1»

[الأقوال في المسألة أربعة بل خمسة]

إذا عرفت المقدّمات الستّ التي طرحناها فاعلم أنّه قد مرّ في المقدّمة الرابعة إنهاء الأقوال في المسألة إلى أربعة بل خمسة.

و لكن لا يخفى أنّه كان ذلك بحسب النظر البدوي إلى ظاهر بعض الكلمات و الإطلاقات، و إلّا فلم نجد من صرّح بحرمة عمل التماثيل و التصاوير بأقسامها الأربعة. و قد عرفت من كتاب الفقه على المذاهب الأربعة تصريح فقهاء المذاهب الأربعة على عدم حرمة ما لغير ذوات الأرواح، و قد دلّت أخبارنا أيضا على عدم

______________________________

(1) الفقه على المذاهب الأربعة 2/ 40 و 41.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 560

..........

______________________________

حرمتها و يبعد جدّا إفتاء أصحابنا على خلافها بعد استفاضتها و اعتبار أسناد بعضها كما يأتي.

مضافا إلى استقرار السيرة إلى عصر المعصومين عليهم السّلام على تصوير الأشجار و الأوراد و الجبال و البحار و الشطوط و الأنهار و سائر المناظر الحسنة المبهجة و لا سيّما بنحو النقش على الأوراق

و الفروش و الثياب، و قد شاع في جميع الأعصار أيضا في مرحلة التعليم و التعلّم نقش الأشياء الطبيعية لتفهيم المتعلّمين.

و على هذا فتحمل إطلاقات الفتاوى و كذا الأخبار على خصوص ما كان محطّا للنظر عند الفقهاء من الفريقين أعني صور ذوات الأرواح فقط، و هي التي كانت في جميع الأعصار معرضا للتقديس و العبادة عند بعض الفرق و ناسبت لذلك النهي عنها و حذفها عن مظاهر حياة البشر.

و على هذا فما يوجد من الأخبار المطلقة في هذا الباب يجب رفع اليد عن إطلاقها و حملها على خصوص ذوات الأرواح. و إنّما الذي يجب البحث فيه هو أنّه هل تختصّ الحرمة على القول بها بخصوص المجسّم من ذوات الأرواح و هي التي كانت معرضا لتقديس الأمم و العبادة لها أو تعمّ المنقوش منها أيضا؟

و بالجملة فالأخبار في المقام على ثلاث طوائف:

الأولى: ما تكون ظاهرة في حرمة التماثيل و التصاوير مطلقا.

الثانية: ما تكون ظاهرة في حرمة خصوص ما لذوات الأرواح فقط و لا تعمّ غيرها.

الثالثة: ما تدلّ على عدم حرمة ما لغير ذوات الأرواح و إن دلّ بعضها على نحو تزهيد و تنزيه منها أيضا و لا سيّما في الصلاة.

و مقتضى الجمع بين الطوائف الثلاث تخصيص الحرمة- على القول بها- بذوات الأرواح إمّا مطلقا أو خصوص المجسّم منها. هذا.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 561

الأخبار الظاهرة في حرمة كلّ تصوير

______________________________

و لنشر إجمالا إلى بعض الأخبار المطلقة و نحيل شرحها إلى زمان الاستدلال بها لحرمة ما لذوات الأرواح:

1- خبر أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أتاني جبرئيل و قال: يا محمّد إن ربك يقرئك السلام و ينهى عن تزويق

البيوت.» قال أبو بصير: فقلت: ما تزويق البيوت؟ فقال: «تصاوير التماثيل.» «1»

أقول: زوّق البيت: نقّشه و زيّنه، و في السند: القاسم بن محمّد الجوهريّ و عليّ بن أبي حمزة البطائني و هما واقفيان. نعم رواه في المحاسن أيضا عن أبيه، عن عثمان بن عيسى، عن سماعة، عن أبي بصير، «2» فيصير السند موثوقا به.

ثمّ إنّ الرواية لا تدلّ على المنع عن مطلق التصاوير إذ لعل للبيع خصوصيّة من جهة السكونة فيه و كون نقوشه بالمرأى و المنظر دائما حتّى في حال الصلاة و العبادة، كما أنّ المنع عن نقش المساجد التي وضعت للصلاة و التوجّه إلى اللّه- تعالى- أيضا لا يقتضي المنع عن النقوش بإطلاقها.

2- خبر آخر لأبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

أتاني جبرئيل فقال: يا محمّد إنّ ربّك ينهى عن التماثيل.» «3»

أقول: ليس في الرواية اسم من عمل التصوير فيحتمل كون السؤال فيها عن حكم إبقاء التماثيل، و لكن الظاهر كونها تلخيصا للرواية الأولى و متّحدة معها لاتحاد السند و الراوي و المرويّ عنه و المضمون.

______________________________

(1) الكافي 6/ 526، كتاب الزيّ و التجمّل، باب تزويق البيوت، الحديث 1؛ و عنه في الوسائل 3/ 560، الباب 3 من أبواب أحكام المساكن، الحديث 1.

(2) المحاسن 2/ 614، كتاب المرافق، الحديث 37.

(3) الوسائل 3/ 562، الباب 3 من أبواب أحكام المساكن، الحديث 11.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 562

..........

______________________________

3- خبر جرّاح المدائني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: «لا تبنوا على القبور و لا تصوّروا سقوف البيوت فإنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كره ذلك.» «1»

و في السند: القاسم بن سليمان و

لم يوثق هو و لا جرّاح، و يناقش في الدلالة أيضا باحتمال الخصوصيّة للبيوت كما مرّ و بأنّ الكراهة أعمّ من الحرمة و الكراهة المصطلحة إلّا أن يقال: إنّ ظاهر النهي الحرمة.

4- خبر محمّد بن أحمد بن يحيى بإسناده رفعه إلى أمير المؤمنين عليه السّلام، قال:

«نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يسلّم على أربعة: على السكران في سكره، و على من يعمل التماثيل، و على من يلعب بالنرد، و على من يلعب بالأربعة عشر، و أنا أزيدكم الخامسة، أنهاكم أن تسلّموا على أصحاب الشطرنج.» «2»

5- خبر الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين عليه السّلام، قال: «من جدّد قبرا أو مثّل مثالا فقد خرج من الإسلام.» «3»

و في السند محمّد بن سنان و أبو الجارود و ضعّفهما علماء الرجال. و في معنى الرواية احتمالات يأتي التعرّض لها عند استدلال المصنّف بها. و على بعض المعاني لا ترتبط الرواية بالمقام.

6- خبر أبي بصير و محمّد بن مسلم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام عن أبيه عن آبائه عليهم السّلام، قال: «قال أمير المؤمنين عليه السّلام: إيّاكم و عمل الصور فإنّكم تسألون عنها يوم القيامة.» «4»

و في السند: القاسم بن يحيى و هو مختلف فيه، و الأكثر على تضعيفه.

7- خبر عبد اللّه بن طلحة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: «من أكل السحت سبعة (إلى أن قال): و الذين يصوّرون التماثيل.» «5»

______________________________

(1) نفس المصدر و الباب، الحديث 9.

(2) نفس المصدر 8/ 431، الباب 28 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 3.

(3) نفس المصدر 3/ 562، الباب 3 من أبواب أحكام المساكن، الحديث 10.

(4) مستدرك الوسائل 2/ 457، الباب 75 من أبواب ما يكتسب به،

الحديث 1.

(5) نفس المصدر و الباب، الحديث 2.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 563

..........

______________________________

و عبد اللّه بن طلحة مجهول الحال، و الخبر من كتاب جعفر بن محمّد بن شريح و لم يثبت اعتبار الكتاب. مضافا إلى أنّ السّحت أعمّ من الحرمة لإطلاقه في بعض الأخبار على ما لا يحرم قطعا كأجر الحجّام. و قد فسّروه بما يلزم صاحبه العار و يتأبّى عنه النفوس الكريمة.

و قال ابن الأثير في النهاية: «إنّه يرد في الكلام على الحرام مرّة و على المكروه أخرى و يستدلّ عليه بالقرائن.» «1»

اللّهم إلّا أن يقال: إنّ ظاهره الحرمة، و حمله على الكراهة يحتاج إلى القرينة.

8- ما عن القطب الراوندي في لبّ اللّباب: «روي أنّه يخرج عنق من النار فيقول: أين من كذب على اللّه؟ و أين من ضادّ اللّه؟ و أين من استخفّ باللّه؟

فيقولون: و من هذه الأصناف الثلاثة؟ فيقول: من سحر فقد كذب على اللّه، و من صوّر التماثيل فقد ضادّ اللّه، و من تراءى في عمله فقد استخفّ باللّه.» «2»

و الرواية كما ترى مرسلة لا اعتبار بها من جهة السند. و هل يراد أنّ نفس عمل التصوير مضادّة له- تعالى- في الخلّاقية أو المصوريّة، أو أنّ الصورة لصيرورتها في معرض العبادة تصير ضدّا للّه- تعالى-؟

9- ما عن الشهيد في منية المريد عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «أشدّ الناس عذابا يوم القيامة رجل قتل نبيّا أو قتله نبيّ، و رجل يضلّ الناس بغير علم، أو مصوّر يصوّر التماثيل.» «3» و الرواية مرسلة.

10- ما رواه البيهقي بسنده عن عبد اللّه بن مسعود، يقول: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: «إنّ أشدّ الناس عذابا (عند

اللّه) يوم القيامة المصوّرون.» «4»

______________________________

(1) النهاية لابن الأثير 2/ 345.

(2) مستدرك الوسائل 2/ 457، الباب 75 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 3.

(3) نفس المصدر و الباب، الحديث 4.

(4) سنن البيهقي 7/ 268، كتاب الصداق، باب التشديد في المنع من التصوير.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 564

..........

______________________________

و السند عامّي. و قد مرّ من التبيان تفسير المصوّرون بمن شبّه اللّه بخلقه و اعتقد فيه أنّه صورة. «1» و على هذا فلا يرتبط بالمقام.

11- و فيه أيضا بسنده عن عائشة قالت: دخل عليّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قد استترت بقرام فيه تماثيل، فلمّا رآه تلوّن وجهه و هتكه بيده و قال: «أشدّ الناس يوم القيامة عذابا الذين يشبّهون بخلق اللّه.» «2»

12- و فيه أيضا بسنده عن عائشة تقول: قدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من سفر و قد سترت بقرام على سهوة لي فيه تماثيل فلمّا رآه هتكه و قال: «إنّ أشدّ الناس عذابا يوم القيامة الذين يضاهئون بخلق اللّه.» «3»

و الظاهر أن المراد: الذين يشبهون ما صنعوه و خلقوه بما خلق اللّه. و القرام بكسر القاف: الستر الأحمر و الثوب الرقيق. و السّهوة: الطاق و الرفّ يوضع فيه الأشياء. و مورد الروايتين من قبيل النقوش.

13- و فيه أيضا بسنده عن أبي زرعة قال: دخلت مع أبي هريرة دار مروان فرأى فيها تصاوير فقال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: «و من أظلم ممّن ذهب يخلق خلقا كخلقي فليخلقوا ذرّة أو ليخلقوا حبّة أو ليخلقوا شعيرة.» «4»

14- و في آخر البيوع من البخاري بسنده عن عون بن أبي جحيفة قال: رأيت أبي اشترى حجّاما (فأمر بالمحاجم فكسرت،

قال: فسألته عن ذلك) فقال: «إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نهى عن ثمن الدم و ثمن الكلب و كسب الأمة (البغيّ) و لعن الواشمة و المستوشمة و آكل الربا و موكله و لعن المصوّر.» و رواه أحمد أيضا. «5»

______________________________

(1) راجع ص 557 من الكتاب؛ و التبيان 1/ 85 (- ط. أخرى 1/ 236).

(2) سنن البيهقي 7/ 267، كتاب الصداق، باب المدعو يرى ... فلا يدخل.

(3) نفس المصدر 7/ 269. كتاب الصداق، باب الرخصة فيما يوطأ من الصور ....

(4) نفس المصدر 7/ 268، كتاب الصداق، باب التشديد في المنع من التصوير.

(5) صحيح البخاري 2/ 29، الباب 112، (الباب الأخير من كتاب البيوع)؛ و مسند أحمد 4/ 308، حديث أبي جحيفة عنه.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 565

..........

______________________________

فهذه أخبار يمكن أن يتمسّك بها على حرمة مطلق عمل التصوير بأقسامه الأربعة.

و لكن لا يخفى أنّ هذه الأخبار من جهة السند ضعاف إلّا الرواية الأولى بنقل المحاسن كما مرّ. و يحتمل في بعضها معان أخر لا ترتبط بباب التصوير، و إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال.

مضافا إلى أنّ الصورة و إن كانت بحسب اللغة شاملة لمطلق التصوير لكنّ المتفاهم ممّا ورد في الأخبار و كلمات الأصحاب خصوص ما كانت لذوات الأرواح.

و يشهد بذلك الأخبار المستفيضة الحاكمة بأنّ من صوّر صورة كلّفه اللّه يوم القيامة أن ينفخ فيها، إذ صورة غير الحيوان غير قابلة لنفخ الروح فيها، فتأمّل.

و قد مرّ أيضا اشتمال بعض هذه الأخبار على التهديدات و التشديدات التي لا تناسب مطلق التصوير حتّى الحيوانية منها أيضا، فيناسب حملها- على فرض صحّتها- على صورة جعل التصاوير محلّا للعبادة و التقديس أو كونها معرضا لذلك.

أضعف إلى ذلك

كلّه أنّ في قبال هذه المطلقات أخبارا معتبرة تدلّ على عدم حرمة ما ليست لذوات الأرواح، فلا محيص عن تخصيص المطلقات و حملها على خصوص ما لذوات الأرواح، أو حمل النهي فيها على مطلق المرجوحيّة و الحزازة، فلنتعرّض لهذه الأخبار:

الأخبار الظاهرة في عدم حرمة ما ليست لذوات الأرواح

1- موثقة أبي العبّاس عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في قول اللّه- عزّ و جلّ-: يَعْمَلُونَ لَهُ مٰا يَشٰاءُ مِنْ مَحٰارِيبَ وَ تَمٰاثِيلَ. فقال: «و اللّه ما هي تماثيل الرجال و النساء و لكنّها الشجر و شبهه.» «1»

______________________________

(1) الوسائل 12/ 220، الباب 94 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 566

..........

______________________________

و الرواية موثقة بأبان بن عثمان. يظهر من الرواية أنّ تماثيل الرجال و النساء كانت لا تناسب قداسة مقام النبوّة إمّا للحرمة أو للكراهة الشديدة و أنّ تماثيل الشجر و نحوه ليست بهذه المثابة، و على هذا فدلالة الرواية على حرمة تماثيل الرجال و النساء ليست واضحة إذ الكراهة الشديدة أيضا لا تناسب مقام النبوّة.

و الظاهر من الآية الشريفة أنّ عملهم لها كان بأمر من سليمان، و النبي لا يأمر بأمر حرام و لا مكروه شديد.

2- صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام، قال: «لا بأس بتماثيل الشجر.» «1»

3- صحيحة محمّد بن مسلم، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن تماثيل الشجر و الشمس و القمر، فقال: «لا بأس ما لم يكن شيئا من الحيوان.» «2»

و الصحيحتان و إن كان يحتمل فيهما إرادة اشتراء التماثيل و حفظها لا عملها و صنعها، لكن يمكن أن يقال: إنّ الذي كان مطرحا للبحث هو عملها فتنصرف الصحيحتان إليه، مضافا إلى شمول إطلاقهما لكلّ ما يرتبط بالتماثيل من العمل و الشراء

و الحفظ.

4- رواية الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: «قد أهديت إليّ طنفسة من الشام عليها تماثيل طائر فأمرت به فغيّر رأسه فجعل كهيئة الشجر.» «3»

يظهر من الحديث عدم المنع في عمل الشجر و إلّا لما أمر الإمام عليه السّلام بتغيير صورة الطائر إليه.

5- و في رواية تحف العقول في عداد الصنائع المحلّلة قال: «و صنعة صنوف التصاوير ما لم يكن مثل الروحانيّ.» «4»

6- و في باب الصناعات من فقه الرضا عدّ من المحلّلة منها: «التصاوير ما لم يكن

______________________________

(1) نفس المصدر و الباب، الحديث 2.

(2) نفس المصدر و الباب، الحديث 3.

(3) نفس المصدر 3/ 565، الباب 4 من أبواب أحكام المساكن، الحديث 7.

(4) تحف العقول/ 335.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 567

للروايات المستفيضة مثل قوله عليه السّلام: «نهى أن ينقش شي ء من الحيوان على الخاتم.» (1)

______________________________

فيه مثال الروحانيين.» «1»

7- و في سنن البيهقي بسنده: أنّ رجلا أتى ابن عباس فقال: يا أبا عباس إنّي إنسان إنّما معيشتي من صنعة يدي، إنّي أصنع هذه التصاوير، فقال له ابن عبّاس ادنه ادنه! إنّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: «من صوّر صورة في الدنيا كلّف يوم القيامة أن ينفخ فيها الروح و ليس بنافخ» قال: فربا لها الرجل ربوة شديدة، و قال:

و يحك إن أبيت إلّا أن تصنع فعليك بالشجر و ما ليس فيه روح.» «2»

أقول: فهذه أخبار يستفاد منها جواز عمل التصاوير لما ليس له روح، و لعل المتتبع يعثر على أكثر من ذلك، فتتبع.

نعم لو فرض وقوع تصوير ما ليس له روح معرضا للتقديس نظير الصليب الذي يقدّسه النصارى فلا إشكال حينئذ في تحريم عمله و بيعه و

حفظه و لكن لا بعنوان التصوير بل بلحاظ صيرورته من هياكل العبادة المبتدعة و قد دلّ على ذلك الأخبار و الفتاوى كما مرّ في محلّه. و كذلك لو فرض صيرورة شجر مثلا معرضا للعبادة.

و كيف كان فاللازم عطف عنان البحث إلى حكم عمل التصاوير لما فيه روح من الإنسان و الحيوان، فهل هو محرّم مطلقا، أو مكروه كذلك، أو يفصّل بين المجسّم و غيره و نخصّ الحرمة بخصوص المجسّم فقط؟ في المسألة أقوال ثلاثة كما مرّ.

ما يستدلّ به لحرمة مطلق تصوير ذوات الأرواح و الجواب عنها
اشارة

(1) قد عرفت أنّ ظاهر عبارة المصنّف عدم الخلاف في حرمة المجسّم من تصوير ذوات الأرواح و وضوحها عنده، فساق البحث إلى حرمة غير المجسّم منه و استدلّ لذلك بما تراه من الأدلّة.

______________________________

(1) فقه الرضا/ 301.

(2) سنن البيهقي 7/ 270، كتاب الصداق، باب الرخصة فيما يوطأ من الصور ....

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 568

..........

______________________________

و لكنّ الأولى طرح كلتا المسألتين معا لاشتراكهما في أكثر الأدلّة و لو سلّم حرمة غير المجسّم فحرمة المجسّم تثبت بطريق أولى كما لا يخفى.

الدليل الأوّل: الإجماع المدّعى في كلمات البعض

كما في جامع المقاصد و مجمع الفائدة و الرياض بالنسبة إلى خصوص المجسّم، و قد مرّت عباراتهم فراجع. «1»

و فيه: أنّ الإجماع و إن كان عند العامّة دليلا مستقلا في قبال الكتاب و السنة، و بقول الشيخ الأنصاري «ره» في الرسائل: «هم الأصل له و هو الأصل لهم.» «2»،

إلّا أنّه ليس عندنا دليلا مستقلا، و إنّما يعتبر إذا انكشف به قول المعصوم عليه السّلام إمّا لدخوله في المجمعين أو بمقتضى قاعدة اللطف كما قيل بهما، أو لكونه سببا لحدس قول المعصوم عليه السّلام حدسا قطعيّا، و الحقّ هو الأخير، و إنّما يثبت الحدس القطعيّ فيما إذا فرض اتفاق أصحابنا الذين لا يفتون في المسائل إلّا بالنص على حكم من الأحكام مع عدم وجود دليل ظاهر عقليّ أو شرعي، فلا محالة يحدس قطعا بتلقّيهم ذلك من المعصومين عليهم السّلام يدا بيد، و لا أقل من وصول رواية معتبرة إليهم.

و أمّا في مسألة التصوير التي كثرت فيه أخبار الفريقين فمن المحتمل جدّا بل المظنون كون مدرك الفتاوى هذه الأخبار التي بأيدينا، فلا يعتمد على الإجماع إلّا بعنوان المؤيّد.

الدليل الثاني: ما أشار إليه المصنّف من حديث مناهي النبيّ صلّى اللّه عليه و آله:

ففي الفقيه قال: روى عن شعيب بن واقد، عن الحسين بن زيد، عن الصّادق جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن آبائه، عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهم السّلام، قال: «نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن الأكل على الجنابة ... و نهى عن التصاوير و قال:

من صوّر صورة كلّفه اللّه يوم القيامة أن ينفخ فيها و ليس بنافخ ... و نهى عن

______________________________

(1) راجع ص 555 و 556 من الكتاب.

(2) فرائد الأصول/ 48 (- ط. الجديدة 1/ 79)، الإجماع المنقول بخبر الواحد.

دراسات في المكاسب المحرمة،

ج 2، ص: 569

..........

______________________________

التختم بخاتم صفر أو حديد، و نهى أن ينقش شي ء من الحيوان على الخاتم.» و رواه عنه في الوسائل. «1» و طريق الصدوق إلى شعيب بن واقد هكذا: حمزة بن محمّد العلوي، عن عبد العزيز بن محمّد بن عيسى الأبهري، عن محمّد بن زكريّا الجوهري، عن شعيب بن واقد. و حمزة بن محمّد و عبد العزيز مهملان و كذا شعيب، لم يذكروا في الرجال بمدح و لا قدح. نعم محمّد بن زكريّا و الحسين بن زيد موثّقان. و الحسين هو ابن زيد بن عليّ بن الحسين عليه السّلام الملقّب بذي الدمعة لكثرة بكائه على أبيه و أخيه يحيى، و قد تبنّاه الإمام الصادق عليه السّلام و ربّاه و زوّجه بنت الأرقط. و كيف كان فالرواية من جهة السند ضعيفة.

و استدلّ المصنّف- كما ترى- بالفقرة الأخيرة على حرمة غير المجسّم من صور ذوات الأرواح.

و الظاهر أنّ نقش الحيوان على الخاتم ليس نقشا محضا بل من قبيل الحكّ في فصّه. و لا يخفى أنّ المنع عن النقش في الخاتم- على القول به- لا يقتضي المنع عن مطلق التصوير حتى المجسّمة أيضا، إذ للخاتم خصوصية واضحة من جهة كونه ملازما للإنسان غالبا حتّى في حال الصلاة، فيكون المنع فيه من قبيل المنع في لباس المصلّي.

ثمّ على فرض اعتبار حديث المناهي يشكل الاستدلال به للحرمة، إذ أكثر ما ذكر فيه من المناهي أمور مكروهة لا يلتزم أحد بحرمتها.

لا نقول: إنّ السياق مانع من الحمل على الحرمة حتّى يجاب أوّلا بمنع مانعية السياق عن الأخذ بظهور النهي في الحرمة. و ثانيا بأنّ هذه المناهي لم يجتمع في كلام واحد للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله حتى يلاحظ

سياق كلامه، بل صدر كلّ منها في زمان خاصّ و مورد خاصّ و إنّما جمعها الإمام الصادق عليه السّلام في مرحلة النقل و الإخبار عنها.

______________________________

(1) كتاب من لا يحضره الفقيه 4/ 3، 5 و 10، باب ذكر جمل من مناهي النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، الحديث 4968؛ و الوسائل 12/ 220، الباب 94 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 6.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 570

و قوله عليه السّلام: «نهى عن تزويق البيوت.» قلت: و ما تزويق البيوت؟

قال: «تصاوير التماثيل.» (1)

______________________________

بل نقول: إنّ الناظر في الحديث بطوله يظهر له أنّ غرض الإمام عليه السّلام كان سرد مطلق ما تعلّق به نهي ما من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في الأزمنة و الموارد المختلفة سواء كان محرّما أو مكروها، و لم يتعرّض الإمام عليه السّلام للألفاظ الصادرة عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في كل مورد من الموارد المذكورة و أنّه كان بصيغة النهي أو بمادّته أو بلفظ آخر.

و بالجملة لم ينقل اللفظ الصادر عنه صلّى اللّه عليه و آله في كلّ مورد حتّى يلاحظ ظهوره في الحرمة أو في مطلق المرجوحيّة.

اللّهم إلّا أن يقال: إنّ الإمام عليه السّلام عبّر عمّا صدر عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في كلّ مورد من الموارد المذكورة بلفظ النهي و أخبر عن نهيه صلّى اللّه عليه و آله، و قد تقرّر في الأصول ظهور مادّة النهي- كصيغته- في الحرمة سواء وقع التلفظ به في مقام الإنشاء أو الإخبار، إلا أن يثبت خلافه بالدليل و لم يكن غرض الإمام عليه السّلام من نقل مناهي النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مجرد القصّة و الإخبار بل

بيان مناهي النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ليتبعها الأمّة، فظواهر ألفاظه حجّة في مقام العمل، فتأمّل.

[الدليل الثالث: رواية أبي بصير]

(1) الدليل الثالث: ما أشار إليه المصنّف من رواية أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أتاني جبرئيل و قال: يا محمّد إنّ ربّك يقرئك السلام و ينهى عن تزويق البيوت.» قال أبو بصير: فقلت: و ما تزويق البيوت؟ فقال: «تصاوير التماثيل.» «1»

رواه الكليني، «2» و في سنده القاسم بن محمّد الجوهري و عليّ بن أبي حمزة البطائني و هما واقفيّان. و رواه البرقيّ أيضا في المحاسن عن أبيه، عن عثمان بن عيسى، عن سماعة، عن أبي بصير «3»، و السند بنقله موثوق به و لكن الاعتماد

______________________________

(1) الوسائل 3/ 560، الباب 3 من أبواب أحكام المساكن، الحديث 1.

(2) الكافي 6/ 526، كتاب الزيّ و التجمّل، باب تزويق البيوت، الحديث 1.

(3) المحاسن 2/ 614، كتاب المرافق، الحديث 37.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 571

..........

______________________________

على غير الكتب الأربعة التي كانت تقرأ في جميع الأعصار على الأساتذة لا يخلو من إشكال. و قد مرّ أنّ التزويق بمعنى النقش و التزيين.

أقول: يرد على ذلك أوّلا: أنّ الظاهر من الرواية النهي عن مطلق النقش و التزيين و لو بصور غير ذوات الأرواح. و قد مرّت دلالة الأخبار المعتبرة على الجواز فيها و لو كانت مجسّمة، فيدور الأمر بين تخصيص الرواية و حملها على خصوص ذوات الأرواح، و بين حمل النهي فيها على الكراهة، و لا دليل على تعيّن الأوّل.

و ثانيا: منع ظهور الرواية في عمل الصور و إحداثها إذ من الممكن تزيين البيوت بالمنقوشات و الصور الموجدة من قبل مجسّمة كانت

أو غير مجسّمة و لعلّه كان رائجا في تلك الأعصار كما راجت في عصرنا أيضا، و حيث إنّ الأدلّة دلّت على جواز إبقاء الصور بعد ما أوجدت و عدم وجوب إفنائها- كما يأتي بيانه- كان مقتضى ذلك حمل النهي على الكراهة.

و ثالثا: ما مرّت الإشارة إليه من أنّ المنع عن عمل الصور في البيوت لا يقتضي المنع عن عملها بإطلاقها حتّى المجسّمة منها فضلا عن غيرها، إذ لعلّ للبيوت خصوصية من جهة كون الصور فيها بالمرأى و المنظر دائما حتّى في حال الصلاة و العبادة و توجب التوجه إلى مظاهر الدنيا و الغفلة عن اللّه- تعالى- و عن الآخرة.

فالمنع عن تزويقها نظير المنع عن تزيين المساجد و اتّخاذ الصور فيها لا يتعدّى منها إلى غيرها.

و بذلك يظهر الجواب عن الاستدلال للمقام بخبر جراح المدائني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: «لا تبنوا على القبور و لا تصوّروا سقوف البيوت، فإنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كره ذلك.» «1» مضافا إلى أنّ لفظ الكراهة أعمّ من الحرمة، و البناء على القبور لا يكون حراما قطعا، فالسياق سياق الكراهة، فتأمّل.

______________________________

(1) الوسائل 3/ 562، الباب 3 من أبواب أحكام المساكن، الحديث 9.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 572

[الدليل الرابع، رواية تحف العقول]

و المتقدم عن تحف العقول: «و صنعة صنوف التصاوير ما لم يكن مثال الروحاني.» (1)

______________________________

(1) هذا هو الدليل الرابع، و نحوه ما مر من عبارة فقه الرضا في باب الصناعات حيث عدّ فيها من الصناعات المحلّلة «التصاوير ما لم يكن فيه مثال الروحانيين.» «1»

و قد مرّ أنّ رواية تحف العقول- مضافا إلى إرسالها- مضطربة المتن يشكل صدورها بهذا المتن عن الإمام عليه السّلام. و فقه الرضا

أيضا لم يثبت اعتباره، فلا يصلحان للاستدلال بهما على حكم شرعيّ إلّا بعنوان التأييد. و العبارتان- كما ترى- متقاربتان يظنّ كون إحداهما مأخوذة من الأخرى أو كون كلتيهما مأخوذتين من مأخذ ثالث و لا يوجد فيما بأيدينا من الأخبار هذا المضمون.

ثمّ لا يخفى أنّ استدلال المصنّف بهذه الجملة على حرمة غير المجسّم من صور ذوات الأرواح مبنيّ على تسليم أمور:

الأوّل: إرادة العموم في المستثنى. الثاني: عموم لفظ المثال لغير المجسّم أيضا.

الثالث: كون المراد بالروحاني ما له روح من الإنسان و الحيوان.

و جميع هذه الأمور قابل للمناقشة:

أمّا الأوّل: فلأنّ الكلام المشتمل على الاستثناء مسوق غالبا لبيان الحكم في المستثنى منه، و المستثنى يذكر بنحو الإجمال للإشارة إلى أصل وجود الاستثناء فلا يجري فيه مقدّمات الحكمة و لا يحكم بالإطلاق فيه. و على هذا فيكفي في صحّة الاستثناء في المقام كون بعض مصاديق الروحاني كالمجسّم منه مطلقا أو خصوص ما يقع منه معرضا للعبادة و التقديس محرّما.

فإن قلت: إنّ إجمال المستثنى يسري قهرا إلى المستثنى منه أيضا، فإذا فرض إرادة العموم في المستثنى منه كما هو ظاهر اللفظ في المقام فلا محالة يتعيّن حمل

______________________________

(1) فقه الرضا/ 301؛ و راجع ص 566 من الكتاب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 573

..........

______________________________

المستثنى أيضا على عموم مفاده ليتبين مفاد المستثنى منه أيضا.

قلت: لا نسلّم السراية، إذ عدم الإطلاق في المستثنى بحسب أفراده و أحواله لا يضرّ بإطلاق المستثنى منه بالنسبة إلى غير عنوان المستثنى.

و أمّا الثاني: فلفظ المثال- كما مرّ في المقدّمة الخامسة- يطلق غالبا على خصوص المجسّم و ينصرف إطلاقه إليه إذ هو- كما مرّ من أهل اللغة- بمعنى الشبيه، و المشابهة التامّة للجسم إنما تتحقّق بالمشابهة له

في جميع الجهات و الجوانب الست.

و أمّا الثالث: فيرد عليه: أنّ استعمال لفظ الروحاني في مطلق ما له روح من الإنسان و الحيوان لم يعهد في أخبارنا بل الظاهر- كما في كلام الأستاذ «ره» «1»-:

خروج الإنسان و الحيوانات منه فإنّ الروحاني ظاهر في موجود غلبت فيه جهة الروح، فالروحاني في مقابل الجسماني. و إنّما يطلق على علماء الشرائع بدعوى غلبة الجهات الروحية فيهم كأنّهم ليسوا من عالم الأجسام و لم يتوجّهوا إليه.

ففي كتاب العقل و الجهل من الكافي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «إنّ اللّه- عزّ و جلّ- خلق العقل و هو أوّل خلق من الروحانيّين عن يمين العرش من نوره.» «2»

و قال المجلسي «ره» في شرح الحديث: «يطلق الروحاني على الأجسام اللطيفة و على الجواهر المجردة- إن قيل بها- قال في النهاية: في الحديث: «الملائكة الروحانيّون» يروى بضمّ الراء و فتحها كأنّه نسب إلى الروح و الروح، و هو نسيم الريح، و الألف و النون من زيادات النسب و يريد به أنهم أجسام لطيفة لا يدركها البصر.» «3» و في مجمع البحرين أيضا نحو ما في النهاية.

و في الصحاح: «و يسمّى القرآن روحا و كذلك جبرئيل و عيسى عليه السّلام. و زعم

______________________________

(1) المكاسب المحرّمة 1/ 179 (- ط. الجديدة 1/ 273).

(2) الكافي 1/ 21، كتاب العقل و الجهل، الحديث 14.

________________________________________

نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في المكاسب المحرمة، 3 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، اول، 1415 ه ق

دراسات في المكاسب المحرمة؛ ج 2، ص: 573

(3) مرآة العقول 1/ 66، كتاب العقل و الجهل، ذيل الحديث 14.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 574

و قوله عليه السّلام- في عدّة أخبار-: «من صوّر صورة

كلّفه اللّه يوم القيامة أن ينفخ فيها و ليس بنافخ.» (1)

______________________________

أبو الخطاب: أنّه سمع من العرب من يقول في النسبة إلى الملائكة و الجنّ: روحاني بضمّ الراء، و الجمع روحانيون. و زعم أبو عبيدة: أنّ العرب تقوله لكلّ شي ء فيه روح.» «1»

و على هذا فالمتبادر من الرواية المنع عن تصوير أمثال الجنّ و الملائكة و القوّات الغيبيّة بصور خياليّة. و قد شاع في جميع الأعصار تصوير الملائكة و القدّيسين الذين غلبت عليهم الجهات الروحيّة و لو عند بعض الطوائف. و الظاهر أنّ تصويرهم في الأعصار السّابقة كان غالبا بداعي التقديس و التبرك بهم و صارت عندهم- بمرور الزمان- من هياكل العبادة.

و كيف كان فالاستدلال بالرواية- على فرض صحّتها- لحرمة تصوير كلّ ما فيه روح و لو أمثال الحيوانات الخبيثة و الحشرات مشكل جدّا.

نعم يمكن الاستدلال بها على حرمة تصوير الملائكة و القدّيسين و لا سيّما إذا وقعت معرضا للتقديس و العبادة و لا سيّما و أنّ الظاهر من الرواية تقسيم الصناعات إلى ما فيه الصلاح محضا أو الفساد محضا أو ما يوجد فيه الجهتان معا، و صرّحت بأنّ الحرام منها ما يجي ء منها الفساد محضا كآلات القمار و اللهو و الصلبان و الأصنام و أمثال ذلك ممّا يكون منه و فيه الفساد محضا و لا يكون منه و لا فيه شي ء من وجوه الصلاح. و مجرّد التصوير بما هو تصوير لم يثبت كونه ممّا فيه الفساد محضا.

[الدليل الخامس: الأخبار التي تضمّنت أنّ المصوّر للصور يكلّف يوم القيامة بنفخ الروح فيها]

(1) الدليل الخامس: الأخبار التي تضمّنت أنّ المصوّر للصور يكلّف يوم القيامة بنفخ الروح فيها.

و الظاهر أنّ نقل هذا المضمون مستفيض في أخبار الفريقين، بل يمكن القول بتواتره إجمالا بمعنى العلم إجمالا بصدور بعضها و لا أقلّ من

الاطمينان و الوثوق

______________________________

(1) الصحاح للجوهري 1/ 367.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 575

..........

______________________________

بذلك، فلنتعرّض لما عثرنا عليها فعلا:

1- قد مرّ في حديث المناهي قوله عليه السّلام: «و نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن التصاوير و قال: من صوّر صورة كلّفه اللّه- تعالى- يوم القيامة أن ينفخ فيها و ليس بنافخ.» «1» و قد مرّ أنّ الحديث من جهة السند ضعيف.

2- ما عن الخصال بسنده عن محمّد بن مروان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال:

سمعته يقول: «ثلاثة يعذّبون يوم القيامة: من صوّر صورة من الحيوان يعذّب حتّى ينفخ فيها و ليس بنافخ فيها، و المكذّب في منامه يعذّب حتى يعقد بين شعيرتين و ليس بعاقد بينهما، و المستمع إلى حديث قوم و هم له كارهون يصبّ في أذنه الآنك و هو الأسرب.» و عن عقاب الأعمال أيضا نحوه. «2»

و محمّد بن مروان لم يثبت وثاقته و لكن الراوي عنه عبد اللّه بن مسكان و هو من أصحاب الإجماع، و في المسالك عدّ الرواية صحيحة، فراجع. «3»

3- و عن الخصال أيضا بسنده عن ابن عباس قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «من صوّر صورة عذّب و كلّف أن ينفخ فيها و ليس بفاعل. و من كذب في حلمه عذّب و كلّف أن يعقد بين شعيرتين و ليس بفاعل. و من استمع إلى حديث قوم و هم له كارهون يصبّ في أذنه الآنك يوم القيامة.» قال سفيان: الآنك: الرصاص «4».

و السند عامّي.

و روى هذه الرواية البيهقي في السنن بسنده عن عكرمة عن ابن عباس «5»، و لعلّ الصدوق أخذها من كتبهم.

4- و في الوسائل عن الكافي بسنده عن الحسين

بن المنذر قال: قال

______________________________

(1) الوسائل 12/ 220، الباب 94 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 6.

(2) نفس المصدر و الباب 12/ 221، الحديث 7.

(3) المسالك 1/ 165 (- ط. الجديدة 3/ 126)، الفصل الأوّل من كتاب التجارة.

(4) الوسائل 12/ 221، الباب 94 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 9.

(5) سنن البيهقي 7/ 269، كتاب الصداق، باب التشديد في المنع من التصوير.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 576

..........

______________________________

أبو عبد اللّه عليه السّلام: «ثلاثة معذّبون يوم القيامة: رجل كذب في رؤياه يكلّف أن يعقد بين شعيرتين و ليس بعاقد بينهما، و رجل صوّر تماثيل يكلّف أن ينفخ فيها و ليس بنافخ ...» و رواه عن المحاسن أيضا. «1» و الرجال إلى الحسين كلّهم ثقات، و الحسين و إن لم يوثق لكنّه لا يخلو من مدح.

5- ما عن الكافي بسنده عن ابن أبي عمير، عن رجل، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: «من مثّل تمثالا كلّف يوم القيامة أن ينفخ فيه الروح.» و عن المحاسن أيضا مثله. «2»

و السند لا بأس به على القول بحجّية مراسيل ابن أبي عمير كما قال الشيخ في العدّة.

6- ما عن المحاسن بسنده عن سعد بن طريف عن أبي جعفر عليه السّلام، قال: «إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ هم المصوّرون يكلّفون يوم القيامة أن ينفخوا فيها الروح.» «3»

و السند إلى سعد ضعيف، و سعد مختلف فيه.

7- و عن عوالي اللآلي عن خالد الحذّاء، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال (في حديث): «و من صوّر صورة عذّب حتّى ينفخ فيه الروح و ليس بنافخ.» «4»

______________________________

(1) الوسائل 3/ 561، الباب 3 من أبواب

أحكام المساكن، الحديث 5؛ و الكافي 6/ 528، كتاب الزّي و التجمّل، باب تزويق البيوت، الحديث 10؛ و المحاسن 2/ 616، كتاب المرافق، الحديث 44.

(2) نفس المصدر و الباب، ص 560، الحديث 2؛ و الكافي 6/ 527، كتاب الزيّ و التجمّل، باب تزويق البيوت، الحديث 5؛ و المحاسن 2/ 615، كتاب المرافق، الحديث 42.

(3) نفس المصدر و الباب، ص 562، الحديث 12؛ و المحاسن 2/ 616، كتاب المرافق، الحديث 43.

(4) مستدرك الوسائل 2/ 457، الباب 75 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 6.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 577

..........

______________________________

و قد روى البيهقي ثلاث روايات بإسناده عن النضر و عكرمة و سعيد عن ابن عباس متضمّنة لهذا المضمون، فراجع البيهقي. «1»

8- و عن العوالي أيضا عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «إنّ أهل هذه الصور يعذّبون يوم القيامة يقال: أحيوا ما خلقتم.» «2»

9- و في البيهقي بسنده عن ابن عمر أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «إنّ الذين يصنعون هذه الصورة (الصور خ. ل) يعذّبون يوم القيامة يقال لهم: أحيوا ما خلقتم.» «3»

10- و فيه أيضا بسنده عن عائشة أنّها اشترت نمرقة فيها تصاوير فلمّا رآها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قام على الباب فلم يدخل، فعرفت في وجهه الكراهية فقلت: يا رسول اللّه، أتوب إلى اللّه و إلى رسوله ما ذا أذنبت؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «ما بال هذه النمرقة؟» فقلت: اشتريتها لك لتقعد عليها و توسّدها. فقال: «إنّ أصحاب هذه الصور يوم القيامة يعذّبون يقال لهم: أحيوا ما خلقتم.» و قال: «إنّ البيت الذي فيه الصور لا تدخله الملائكة.» «4»

أقول: و ما تضمّنه

خبر سعد بن طريف روي من طرق السنة أيضا إجمالا:

ففي الدر المنثور في ذيل الآية في سورة الأحزاب قال: «و أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ قال: أصحاب التصاوير.» «5»

و هل التفسير من عكرمة أو سمعه عن النبي صلّى اللّه عليه و آله؟ كلّ محتمل.

و فيه أيضا في رواية لقتادة عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «و أمّا من آذى اللّه فالذين يصوّرون

______________________________

(1) سنن البيهقي 7/ 269 و 270، كتاب الصداق، باب التشديد في المنع من التصوير، و باب الرخصة فيما يوطأ من الصور ....

(2) مستدرك الوسائل 2/ 457، الباب 75 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5.

(3) سنن البيهقي 7/ 268، كتاب الصداق، باب التشديد في المنع من التصوير.

(4) نفس المصدر 7/ 267، باب المدعو يرى ... صورا ... فلا يدخل.

(5) الدر المنثور 5/ 220.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 578

..........

______________________________

و لا يحيون.» «1» هذا.

و ظاهر النفخ المذكور في أكثر هذه الروايات كون الصورة مجسّمة، إذ النفخ لا يقع إلّا في الجسم، و لكن الأمر بالإحياء يمكن أن يتعلق بالنقش أيضا بأن يجسّم ثم يحيي، فتأمّل.

و مورد رواية عائشة- كما ترى- هو النقش على النمرقة لا الصورة المجسّمة.

و يحتمل أنّ أحد التعبيرين وقع من الرواة من باب النقل بالمعنى فلم يكن صدر عن النبي صلّى اللّه عليه و آله في هذا المجال إلّا أحد التعبيرين، و النتيجة تابعة لأخصّهما مفهوما، فتأمّل. هذا.

و لم يظهر لي سرّ استحقاق المصوّر بما هو مصوّر للعذاب و أمره بالنفخ أو الإحياء تعجيزا و تعنّتا، و أيّ مفسدة في التصوير إذا لم يقع بقصد التقديس

و العبادة أو بقصد المعارضة و المضادّة للّه- تعالى- في المصوّرية أو الخالقيّة بحيث يتصوّر المصوّر نفسه شريكا له في هذه الصنعة؟!

و مجرّد التصوير إذا كان لغرض علمي أو عقلائي لا يعدّ شركا له- تعالى- و إلّا لعدّ عيسى عليه السّلام حينما كان يخلق من الطين كهيئة الطير و ينفخ فيه فيكون طيرا بإذن اللّه شريكا له- تعالى-. و الشرك قبيح ذاتا حتّى من الأنبياء بل هو منهم أقبح لا يصحّ الإذن فيه من اللّه- تعالى-.

كيف؟! و الإنسان في العصر الحاضر يخترع اختراعات عجيبة و يصنع صنائع بديعة أدقّ و أهمّ بمراتب من تصوير الحيوانات، و هل يعدّ بذلك شريكا و معارضا للّه- تعالى- في الخالقيّة و يحرم توغّله في الصنعة و الاختراع؟! و أيّ فرق بين تصوير الحيوانات و تصوير سائر الموجودات مع كون الخالق للجميع هو اللّه- تعالى- لا يشركه فيها أحد؟

______________________________

(1) نفس المصدر 5/ 220.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 579

و قد يستظهر اختصاصها بالمجسّمة من حيث إنّ نفخ الروح لا يكون إلّا في الجسم. (1) و إرادة تجسيم النقش مقدّمة للنفخ ثمّ النفخ فيه خلاف الظاهر.

______________________________

ثم كيف يكون مجرّد التصوير بدون القصدين المشار إليهما و بدون المعرضيّة للعبادة إيذاء للّه و لرسوله؟ و في المجمع في ذيل قوله- تعالى- في سورة الأحزاب:

إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللّٰهُ قال: «قيل: هم المنافقون و الكافرون و الذين وصفوا اللّه بما لا يليق به و كذبوا رسله و كذبوا عليه.» «1»

و في نور الثقلين: «نزلت فيمن غصب أمير المؤمنين عليه السّلام حقّه و أخذ حقّ فاطمة عليها السّلام و آذاها.» «2»

و كيف كان فهذه الروايات- مع قطع النظر عمّا ذكرناه من

المناقشة في معناها- قد كثرت من طرق الفريقين بحيث يطمئنّ النفس بصدور بعضها و لو واحدة منها، فتكون حجّة إجمالا و ظاهر الجميع هي الحرمة، فما في مصباح الفقاهة من قوله:

«و لكنّها مع كثرتها ضعيفة السند و غير منجبرة بشي ء فلا تكون صالحة للاستناد إليها في الحكم الشرعي» «3» قابل للمناقشة، و المصنّف استدل بهذه الأخبار لحرمة التصوير لذوات الأرواح مطلقا و إن كان بنحو النقش.

(1) في الجواهر بعد الإشارة إلى أخبار النفخ في المقام قال: «هي ظاهرة في كون الصورة حيوانا لا ينقص منه شي ء سوى الروح، بل قد يظهر من مقابلة النقش للصورة في خبر المناهي ذلك أيضا، و من ذلك كلّه يقوى القول بالجواز في غير المجسّمة.» «4»

أقول: توضيح الكلام أنّ كلّ حيوان سواء كان إنسانا أو غيره فهو جسم مشتمل

______________________________

(1) مجمع البيان 4/ 370 (الجزء الثامن).

(2) نور الثقلين 4/ 305، في تفسير سورة الأحزاب.

(3) مصباح الفقاهة 1/ 225، حرمة التصوير.

(4) الجواهر 22/ 42، كتاب التجارة، في عمل الصور المجسّمة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 580

و فيه: أنّ النفخ يمكن تصوّره في النقش بملاحظة محلّه، بل بدونها كما في أمر الإمام عليه السّلام الأسد المنقوش على البساط بأخذ السّاحر في مجلس الخليفة، أو بملاحظة لون النقش الذي هو في الحقيقة أجزاء لطيفة من الصبغ. (1) و الحاصل أنّ مثل هذا لا يعدّ قرينة عرفا على تخصيص الصورة بالمجسّم.

______________________________

على الأبعاد الثلاثة و الجهات الست قد صوّر بصورة بديعة معجبة من قبل اللّه- تعالى- ثم نفخ فيه الروح بإذنه. و ظاهر هذه الأخبار المتعرّضة لنفخ الروح: أنّ ما صنعه المصوّر لا ينقص من الحيوانيّة إلّا نفخ الروح فيه فيكلّف يوم القيامة بذلك

تعجيزا و تعنّتا، و النقش عرض لا يقبل النفخ فلا إطلاق في هذه الأخبار بالنسبة إلى النقوش.

(1) أقول: أجاب المصنّف عن هذا الإشكال بثلاثة وجوه: الأوّل: أن نفخ الروح يتصوّر في النقش أيضا بملاحظة محلّه حيث إنّ النقش حالّ في الجسم.

الثاني: أنّه يمكن في نفس النقش أيضا و لو كان عرضا، إذ أدلّ الأشياء على إمكان الشي ء وقوعه، و قد وقع في أمر الإمام عليه السّلام الأسد المنقوش بأخذ الساحر في مجلس الخليفة. الثالث: أنّ النقش ليس عرضا بل هو في الحقيقة أجزاء لطيفة من الصبغ فيكون جسما.

و أضاف السيّد الطباطبائي «ره» في الحاشية إلى هذه الوجوه وجها رابعا فقال:

«و أيضا أنّ التكليف المذكور إنّما هو للتعجيز فلا يلزم أن يكون ممكنا فلا يتفاوت بين المجسّمة و غيرها بل التعجيز في الثاني أظهر.» «1»

و أجاب المحقّق الإيرواني «ره» في الحاشية عمّا ذكره المصنّف بما ملخّصه: «أنّ المقصود من الأمر بالنفخ إحياء الصورة لا إحياء الأسطوانة أو الحجر المنقوش عليها الصورة، و لون النقش و الأجزاء الصبغية التي إذا جمعت صارت بقدر

______________________________

(1) حاشية المكاسب للمرحوم السيّد محمّد كاظم الطباطبائي/ 17.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 581

..........

______________________________

حمصة إن أريد إحياؤها و هي على هيئتها المرسومة مقلوعة عن المحلّ فهو غريب، و إن أريد إحياؤها بعد جمعها و جعلها في صورة صغيرة فذلك أغرب. و أمّا أمر الإمام عليه السّلام الأسد المنقوش فذلك غير معلوم لنا كيفيّته، فلعلّه جسّم النقش ابتداء ثمّ نفخ فيه الروح- و قد اعترف المصنّف بأنّ هذا خلاف الظاهر من الأخبار- أو لعلّه أحضر أسدا من البادية و غيّب النقش عن أهل المجلس فحسبوا أنّ هذا هو النقش.» «1»

و قال الأستاذ الإمام

«ره»: «إنّ الأمر بالنفخ ليس لمطلق التعجيز بلا تناسب، بل كأنّه لم يبق من صورة الحيوان شي ء سوى النفخ فإذا نفخ فيه صار حيوانا و هو ظاهر في المجسّمة ذات الروح، و ليس مراد من يدّعي أنّها ظاهرة فيها أنّ نفخ غير المجسمة أي الأعراض محال حتّى يقال في جوابه تارة بأنّه للتعجيز و هو مع الاستحالة أوقع، و أخرى ... فإنّها أجنبية عن المدّعى لأنّ المراد أنّ الظاهر المتفاهم منها أنّ ما صنعه إذا نفخ فيه صار حيوانا معهودا و هو لا يكون إلّا في المجسّمات.

و يؤيّده: أنّ المظنون بل الظاهر من بعض الروايات: أنّ سرّ التحريم إنّما هو اختصاص المصوّرية باللّه- تعالى-، و هو الذي يصوّر ما في الأرحام، و هو اللّه الخالق البارئ المصوّر، فإذا صوّر إنسان صورة ذي روح يقال له: انفخ فيها كما نفخ اللّه فيما صوّر، إرغاما لأنفه و تعجيزا، و هو أيضا يناسب المجسّمة كما تشعر به أو تدلّ عليه الرواية المرسلة المحكيّة عن لبّ اللباب للراوندي، و فيها: «و من صوّر التماثيل فقد ضادّ اللّه.» بناء على كون المضادّة في مصوريته فلا يكون في غيرها مضادّة له لأنّه- تعالى- لم ينفخ روحا في غير المجسّمات.» «2»

أقول: الظاهر صحّة ما ذكره هذان العلمان تبعا لصاحب الجواهر من ظهور

______________________________

(1) حاشية المكاسب للمحقّق الإيرواني/ 21.

(2) المكاسب المحرّمة 1/ 171 و 172 (- ط. الجديدة 1/ 261)؛ و مستدرك الوسائل 2/ 457، الباب 75 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 3.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 582

..........

______________________________

الأخبار في المجسّم، و صاحب الجواهر لم يقل بامتناع النفخ و الإحياء في النقوش بل قال: إنّ الأخبار ظاهرة في كون الصورة حيوانا

لا ينقص منه شي ء سوى الروح. و لكن قد مرّ أن مورد رواية عائشة هي النمرقة، و الصورة فيها تكون لا محالة منقوشة.

و قد مرّ منّا أيضا أنّ مجرد خلق الصورة لا يعدّ مضادّة و معارضة للّه- تعالى- و إلّا لعدّ تصوير غير الحيوان أيضا مضادّة له، فإنّه- تعالى- كما يكون مصوّرا للحيوانات يكون مصوّرا لسائر الموجودات أيضا. هذا.

و في مصباح الفقاهة بعد التعرّض لكلام الشيخ أشار إلى الجواب الأخير أعني النفخ بملاحظة لون النقش، قال: ما ملخّصه: «و هذا الجواب متين، بيان ذلك:

أنّه إذا كان المقصود من النفخ النفخ في النقوش الخالية عن الجسمية التي ليست إلّا أعراضا صرفة فلا مناص عن الإشكال المذكور. و أمّا إذا كان المقصود النفخ فيها بملاحظة لون الصبغ و الأجزاء اللطيفة منه فهو متين إذ لا ريب في قابليتها للنفخ لتكون حيوانا، و لا يلزم منه انقلاب العرض إلى الجوهر بل من قبيل تبدّل جوهر بجوهر آخر. و من هنا يعلم أنّه لا استحالة في صيرورة الصورة الأسديّة المنقوشة على البساط أسدا حقيقيا بأمر الإمام عليه السّلام غاية الأمر أنّه من الأمور الخارقة للعادة لكونه إعجازا منه، و قد حقّقنا في مقدّمة التفسير أنّ الإعجاز لا بدّ و أن يكون خارجا عن النواميس الطبيعيّة و خارقا للعادة.» «1»

أقول: ما ذكره «ره» من أمر الإعجاز متين لتوجيه ما صنعه الإمام عليه السّلام من إحياء الأسد المنقوش. و أمّا بالنسبة إلى المصوّرين فيشكل الالتزام به، إذ مقتضى ذلك أنّ المصوّر يكلّف أوّلا بالإعجاز بأن يبدّل النقش المتكوّن من الأجزاء اللطيفة الصبغيّة إلى جسم كبير مناسب للحيوان المصوّر ثمّ يكلّف ثانيا بنفخ الروح فيه، و هذا خلاف الظاهر من الأخبار.

______________________________

(1) مصباح

الفقاهة 1/ 226، ما استدلّ به على اختصاص الحرمة بالصور المجسّمة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 583

..........

______________________________

و أمّا قصّة الأسد التي أشار إليها المصنّف ففي البحار عن الأمالي بسند صحيح عن عليّ بن يقطين قال: استدعى الرشيد رجلا يبطل به أمر أبي الحسن موسى بن جعفر عليه السّلام و يقطعه و يخجله في المجلس، فانتدب له رجل معزّم، فلمّا أحضرت المائدة عمل ناموسا على الخبز، فكان كلّما رام خادم أبي الحسن عليه السّلام تناول رغيف من الخبز طار من بين يديه و استفزّ هارون الفرح و الضحك لذلك، فلم يلبث أبو الحسن عليه السّلام أن رفع رأسه إلى أسد مصوّر على بعض الستور فقال له: «يا أسد اللّه خذ عدوّ اللّه.»

قال: فوثبت تلك الصورة كأعظم ما يكون من السباع، فافترست ذلك المعزّم، فخرّ هارون و ندماؤه على وجوههم مغشيا عليهم، و طارت عقولهم خوفا من هول ما رأوه، فلمّا أفاقوا من ذلك بعد حين، قال هارون لأبي الحسن عليه السّلام: «أسألك بحقّي عليك لمّا سألت الصورة أن تردّ الرجل، فقال عليه السّلام: «إن كانت عصا موسى ردّت ما ابتلعته من حبال القوم و عصيّهم فإنّ هذه الصورة تردّ ما ابتلعته من هذا الرجل.» «1»

أقول: معنى يقطعه: يسكته عن حجّته و يبطلها. و المعزم بالزاء المعجمة: الرجل الذي عنده العزيمة و الرقى، و الناموس: المكر و الخداع، و استفزّه الضحك:

استخفّه و غلب عليه.

و اتفق نظير هذه الواقعة للإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السّلام في المحاجّة مع الحاجب في مجلس المأمون، حيث صاح عليه السّلام بالأسدين المصوّرين على مسند المأمون و قال: «دونكما الفاجر! فافترساه و لا تبقيا له عينا و لا أثرا.» فوثبت

الصورتان و قد عادتا أسدين فتناولا الحاجب و أكلاه و لحسا دمه، فراجع البحار، رواها عن العيون. «2»

______________________________

(1) بحار الأنوار 48/ 41، تاريخ الإمام موسى بن جعفر عليه السّلام (الباب 38) باب معجزاته ...، الحديث 17.

(2) بحار الأنوار 49/ 184، تاريخ الإمام أبي الحسن الرضا عليه السّلام (الباب 14)، الحديث 16؛ و عيون أخبار الرضا 2/ 171، افتراس الصورتين للحاجب بمعجزة الرضا عليه السّلام.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 584

[الدليل السّادس: صحيحة محمّد بن مسلم]

و أظهر من الكلّ صحيحة محمّد بن مسلم: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن تماثيل الشجر و الشمس و القمر، قال: «لا بأس ما لم يكن شيئا من الحيوان.» فإنّ ذكر الشمس و القمر قرينة على إرادة مجرّد النقش. (1)

______________________________

(1) الدليل السّادس: صحيحة محمّد بن مسلم، رواها في الوسائل بسنده عن البرقي في المحاسن «1».

و أجاب الأستاذ الإمام «ره» عنها بما ملخّصه: «أوّلا: أنّ محلّ البحث هو حكم عمل التصوير، و ليس وجه السؤال في الصحيحة معلوما لاحتمال أن يكون السؤال عن اللعب بها أو عن اقتنائها أو عن تزويق البيوت بها أو عن الصلاة في قبالها. و دعوى الانصراف إلى تصويرها ممنوعة، بل يمكن أن يقال: إنّ السؤال عن التماثيل بعد الفراغ عن وجودها.

و ثانيا: منع ظهورها في الحرمة، و ما يقال: إنّ البأس هو الشدّة و العذاب المناسبان للحرمة كما ترى، فإنّ استعمال «لا بأس» في نفي المرجوحيّة و الكراهة شائع.

و ثالثا: منع الإطلاق في ذيلها، لكون الكلام مسوقا لبيان عقد المستثنى منه لا المستثنى. و دعوى اختصاص السؤال بالنقوش بمناسبة عدم تعارف تجسيم الشجر و تالييه، غير وجيهة لإمكان أن يقال: إنّ المتعارف في تلك الأزمنة هو العمل الحجّاري و

تصوير الأشياء بنحو التجسيم. و أمّا النقش و الرسم فتعارفهما غير معلوم.» «2»

أقول: و يزاد على ما ذكره هنا من الوجوه الثلاثة وجه رابع مبنيّ على ما حكيناه عنه في المقدمة الخامسة، و هو أنّ الظاهر من تمثال الشي ء و صورته- بقول مطلق- هو المشابه له في الهيئة مطلقا أي من جميع الجوانب لا من جانب واحد،

______________________________

(1) الوسائل 12/ 220، الباب 94 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 3؛ و المحاسن 2/ 619، كتاب المرافق، الحديث 54.

(2) المكاسب المحرّمة 1/ 172 و 173 (- ط. الجديدة 1/ 262 و 263).

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 585

..........

______________________________

و أنّ إطلاقهما على المشابه من جانب واحد بنحو من المسامحة، و على هذا فلا مجال للاستدلال بالصحيحة لحرمة غير المجسّم. هذا.

و يمكن أن يناقش فيما ذكره أوّلا: بأنّه لا مانع من الأخذ بإطلاق السؤال و الجواب، إذ المفروض تعلّق السؤال بالذوات و هي لا يتعلق بها حكم شرعي إلّا بلحاظ الأفعال المتعلقة بها، فإذا فرض هنا أفعال مختلفة متعلّقة بها و كان الجميع محلا للابتلاء و الحاجة و مطرحا للبحث فلأيّ وجه نحمل السؤال على فعل خاصّ منها؟ و ترك استفصال الإمام عليه السّلام دليل العموم. نعم لو كان واحد منها من أظهر الآثار أو معرضا للابتلاء بحسب الغالب بحيث ينصرف إليه الإطلاق فلا محالة يتعيّن الحمل عليه و لا أقلّ من كونه القدر المتيقّن سؤالا و جوابا.

و الظاهر أنّ التماثيل كانت موردا للابتلاء و الحاجة من حيث أصل العمل و من حيث الإبقاء و الانتفاع بها و المعاملة عليها و الصلاة معها و نحو ذلك فلا وجه لحمل السؤال و الجواب المتعلّقين بها على الإجمال المستلزم لعدم

كون جواب الإمام عليه السّلام رافعا لشبهة السائل، بل يؤخذ بإطلاقهما، فتدبّر.

فإن قلت: على فرض كون الصحيحة ناظرة إلى بيان حكم الاقتناء لزم من الحكم بحرمته حرمة العمل أيضا، إذ لا يحتمل حرمة اقتناء التصوير و جواز عمله.

قلت: لو فرض كونها ناظرة إلى حكم الاقتناء وجب حمل النهي فيها على الكراهة، لما يأتي من الأخبار الدالّة على جواز الاقتناء، فتأمّل.

و أمّا ما ذكره ثانيا: من أنّ استعمال «لا بأس» في نفي المرجوحيّة و الكراهة شائع، فالظاهر صحّته. و من هذا القبيل رواية أبي بصير، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: إنّا نبسط عندنا الوسائد فيها التماثيل و نفترشها؟ فقال: «لا بأس بما يبسط منها و يفترش و يوطأ، إنّما يكره منها ما نصب على الحائط و السرير.» «1»

______________________________

(1) الوسائل 12/ 220، الباب 94 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 586

[الدليل السابع قوله عليه السّلام: «من جدّد قبرا أو مثّل مثالا فقد خرج عن الإسلام.»]

و مثل قوله عليه السّلام: «من جدّد قبرا أو مثّل مثالا فقد خرج عن الإسلام.» (1) فإنّ المثال و التصوير مترادفان على ما حكاه كاشف اللثام عن أهل اللغة. مع أنّ الشائع من التصوير و المطلوب منه هي الصور المنقوشة على أشكال الرجال و النساء و الطيور و السباع دون الأجسام المصنوعة على تلك الأشكال.

______________________________

و أمّا ما ذكره ثالثا: من منع الإطلاق في الذيل فهذا ما كنّا نصرّ عليه أيضا من كون الغالب في الجمل المشتملة على الاستثناء كون غرض المتكلّم بيان الحكم في ناحية المستثنى منه، و الاستثناء يقع بنحو الإجمال إلّا أن يوجد هنا قرينة على كونه في مقام البيان بالنسبة إلى كلتا الجملتين. و كذلك يصحّ ما ذكره أخيرا من أنّ المتعارف في تلك

الأزمنة كان عمل المجسّمات، إذ التقديس و العبادة كانا في قبال المجسّمات لا النقوش، و لم يعهد عبادة النقوش المحضة. و قد مرّ أنّه كان لعبدة الشمس و السيّارات في عصر إبراهيم الخليل عليه السّلام بيوت عبادة فيها هياكل للسيّارات السبع كانوا يعظّمونها و يعبدونها بتوهّم أنّها مظاهر للسيّارات و السيّارات مظاهر للعقول المجرّدة المدبّرة لها.

فما في كلام المصنّف من أنّ ذكر الشمس و القمر قرينة على إرادة مجرد النقش لا يمكن المساعدة عليه، فتدبّر.

(1) هذا هو الدليل السابع، و قد حكم المصنّف بدلالة الرواية على حرمة النقش أيضا بتقريب «أنّ المثال و الصورة مترادفان، على ما حكاه كاشف اللثام، حيث قال في مبحث مكان المصلّي: «المعروف- كما في اللغة- ترادف التماثيل و التصاوير.» «1» و على هذا فإذا فرض شمول الصورة للنقش فالمثال أيضا يشمله، مع أنّ الشائع من التصوير و المطلوب منه هي الصور المنقوشة دون الأجسام.

فحمل الرواية على المجسّمات حمل على الفرد النادر.»

______________________________

(1) كشف اللثام 1/ 198.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 587

..........

______________________________

أقول: الرواية رواها في الوسائل عن التهذيب و الفقيه و المحاسن: «1»

ففي التهذيب: أحمد بن محمّد بن عيسى، عن محمّد بن سنان، عن أبي الجارود، عن الأصبغ بن نباتة قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «من جدّد قبرا أو مثّل مثالا فقد خرج من الإسلام.» «2»

قال المحقّق في أحكام الأموات من المعتبر بعد نقل الرواية: «و قد اختلف الأصحاب في رواية هذه اللفظة: فقال سعد بن عبد اللّه: هي بالحاء المهملة و عنى تسنيمها. و قال المفيد «ره»: بالخاء و عنى شقّها، من خددت الأرض أي شققتها، فيكون النهي على هذا للتحريم. و قال محمّد بن الحسن الصفّار:

بالجيم و عنى تجديدها أي تجديد بنائها أو تطيينها، و حكي أنّه لم يكره رمّها. و قال البرقي: بالجيم و الثاء و لم يفسّره، و قال الشيخ «ره»: المعنى أن يجعل القبر جدثا دفعة أخرى.

قلت: و هذا الخبر رواه محمّد بن سنان، عن أبي الجارود، عن الأصبغ عن عليّ عليه السّلام. و محمّد بن سنان ضعيف و كذا أبو الجارود، فإذن الرواية ساقطة فلا ضرورة إلى التشاغل بتحقيق نقلها.» «3»

و لكنّ الشهيد «ره» في الذكرى بعد نقل اختلاف الأصحاب في نقل اللفظة قال: «قلت: اشتغال هؤلاء الأفاضل بتحقيق هذه اللقطة مؤذن بصحّة الحديث عندهم و إن كان طريقا ضعيفا كما في أحاديث كثيرة اشتهرت و علم موردها و إن ضعف أسنادها، فلا يرد ما ذكره في المعتبر من ضعف محمّد بن سنان و أبي الجارود.» «4»

______________________________

(1) الوسائل 2/ 868، الباب 43 من أبواب الدفن، الحديث 1؛ و 3/ 562، الباب 3 من أبواب أحكام المساكن، الحديث 10؛ و كتاب من لا يحضره الفقيه 1/ 189 (أحكام الأموات)، الحديث 579؛ و المحاسن 2/ 612، كتاب المرافق، الحديث 33.

(2) التهذيب 1/ 459، باب تلقين المحتضرين، الحديث 142.

(3) المعتبر 1/ 304 (- ط. القديمة/ 82).

(4) الذكرى/ 69، كتاب الصلاة، المطلب الثالث، المسألة الثالثة من المبحث الأوّل.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 588

..........

______________________________

أقول: أمّا محمّد بن سنان فهو مختلف فيه، نعم الأشهر تضعيفه و لكن عمدة ما اتّهموه به هو الغلوّ مع أنّ كثيرا ممّا كان القدماء من أصحابنا يعدّونه غلوّا يعدّ في أعصارنا من معتقدات الشيعة الإماميّة. و المفيد «ره» و كثير من المتأخّرين وثّقوه، و كان له كتب كثيرة ملاء من أخبار أهل البيت عليهم السّلام

و علومهم.

و أمّا أبو الجارود فهو زياد بن المنذر العبدي الأعمى، كان من الزيديّة و ضعّفه الجميع، و نقل ابن النديم عن الصادق عليه السّلام أنّه لعنه و قال: إنّه أعمى القلب أعمى البصر. فالخبر ضعيف من جهة السند.

و أمّا ذكره في الذكرى من أنّ اشتغال الأفاضل بتحقيق لفظ الحديث مؤذن بصحّته عندهم فهو عجيب، فإن بناء العلماء و الأفاضل في جميع الأعصار كان على التحقيق في ألفاظ الأخبار الواردة و مفادها مع قطع النظر عن ضعفها و عدم اعتمادهم عليها. و كأنّه توهّم أنّ اشتغالهم بتحقيق مفادها من قبيل الشهرة العمليّة الجابرة لضعف الأخبار عند الأكثر. و هو ممنوع. هذا.

و في الفقيه بعد ذكر الخبر مرسلا بقوله: «قال أمير المؤمنين ...» قال ما ملخّصه: «و اختلف مشايخنا في معنى هذا الخبر، فقال محمّد بن الحسن الصفّار «ره»: هو جدّد بالجيم، و كان شيخنا محمّد بن الحسن بن أحمد بن الوليد يحكى عنه أنّه قال: لا يجوز تجديد القبر و لا تطيين جميعه بعد مرور الأيّام عليه.

و عن سعد بن عبد اللّه أنّه كان يقول: إنّما هو من حدّد قبرا بالحاء غير المعجمة يعني به من سنّم قبرا. و عن أحمد بن أبي عبد اللّه البرقي: إنّما هو من جدث قبرا.

و تفسير الجدث القبر فلا ندري ما عنى به. و الذي أذهب إليه: أنّه جدد بالجيم و معناه نبش قبرا لأنّ من نبش قبرا فقد جدّده و أحوج إلى تجديده. و أقول: إنّ التجديد على المعنى الذي ذهب إليه الصفّار و التحديد الذى ذهب إليه سعد بن عبد اللّه، و الذي قاله البرقي من أنّه جدث، كلّه داخل في معنى الحديث، و أنّ من

دراسات

في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 589

..........

______________________________

خالف الإمام في التجديد و التسنيم و النبش و استحلّ شيئا من ذلك فقد خرج من الإسلام. و الذي أقوله في قوله عليه السّلام: «من مثّل مثالا» يعني به أنّه من أبدع بدعة و دعا إليها أو وضع دينا فقد خرج من الإسلام.» «1»

أقول: ما يظهر منه من دخول المعاني الثلاثة في معنى الحديث لم يظهر لنا مفاده. ثمّ لا يخفى أنّ إسناد الصدوق الخبر إلى أمير المؤمنين عليه السّلام بنحو الجزم يدلّ على ثبوته عنده و إن ضعف سنده. و هل يكفي ذلك في اعتمادنا على الخبر؟

و في حاشية الفقيه المطبوع من ناحية جماعة المدرّسين: «قال بعض الشرّاح:

المعاني المذكورة ليست من ضروريّات الدين حتّى يخرج مستحلّوها بسبب استحلالها عن الإسلام مع أنّ الاستحلال ليس في الرواية. و الذي يدور في خلدي: أنّ معنى الرواية على التمثيل و الاستعارة، حيث شبّه بدن الجاهل بالقبر و روحه بالميّت، لأنّ حياة الروح بالعلم، و ترويج أفعاله و أقواله بالتجديد، و مقصوده- و اللّه أعلم-: أنّ من اتّخذ جاهلا إماما يقتدي به و يروّج أقواله و أفعاله فقد خرج عن الدين. و قوله عليه السّلام: «مثّل مثالا» يعني أبدع في الدين بدعة كما فسّره الصدوق «ره».» «2»

و في البحار: «و يحتمل أن يكون المراد بالمثال: الصنم للعبادة ... و ربّما يقال:

المراد به إقامة رجل بحذاه كما يفعله المتكبّرون.» «3»

أقول: و يمكن أن يستأنس للاحتمال الأخير بالحديث الذي مرّ عن نهاية ابن الأثير في لغة مثل، حيث قال: «فيه: من سرّه أن يمثل له الناس قياما فليتبوّأ مقعده من النار.» «4»

______________________________

(1) كتاب من لا يحضره الفقيه 1/ 189، (أحكام الأموات)، ذيل الحديث 579.

(2)

كتاب من لا يحضره الفقيه 1/ 190 (أحكام الأموات)، ذيل الحديث 579.

(3) بحار الأنوار 82/ 18 (- ط. بيروت 79/ 18)، كتاب الطهارة، الباب 55، الحديث 3.

(4) النهاية لابن الأثير 4/ 294.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 590

..........

______________________________

و روى الصدوق في معاني الأخبار بسند مرفوع إلى أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: «من مثّل مثالا أو اقتنى كلبا فقد خرج من الإسلام.» فقيل له: هلك إذا كثير من الناس، فقال عليه السّلام: «ليس حيث ذهبتم، إنّما عنيت بقولي: «من مثّل مثالا»:

من نصب دينا غير دين اللّه و دعا الناس إليه، و بقولي: «من اقتنى كلبا» (عنيت):

مبغضا لنا أهل البيت اقتناه فأطعمه و سقاه، من فعل ذلك فقد خرج من الإسلام.» «1» هذا.

و راجع لشرح القسمة الأولى من رواية الأصبغ التهذيب أيضا. «2»

أقول: هذه بعض ما قيل أو ورد في المقام. و لا يخفى أنّ هذه التأويلات في معنى الرواية خلاف ظاهر اللفظ، و المتبادر من المثال: التصوير، و قد مرّ في رواية ابن أبي عمير عن رجل عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من مثّل تمثالا كلّف يوم القيامة أن ينفخ فيه الروح.» «3» و إرادة التصوير فيها ظاهرة، إلّا أن يفرق بين المثال و التمثال.

و على فرض قبول التأويلات في قوله: «من مثل مثالا» فما ذكر في حاشية الفقيه من التأويل لتجديد القبر بعيد عن الأذهان جدّا و لم يكن الأئمة عليهم السّلام في مقام ذكر اللغز و الأحجية، فاللازم- مع قطع النظر عن مرفوعة المعاني- حمل الرواية على نحو من التأكيد و المبالغة لبيان قبح الأمرين، و الإسلام و الكفر لهما مراتب و هذا النحو من التأكيدات شائع في أخبارنا

حتّى بالنسبة إلى بعض المكروهات.

و كيف كان فالرواية من جهة السند ضعيفة لا يمكن الاعتماد عليها إلّا للتأييد.

و قد مرّ في المقدّمة الخامسة انصراف لفظ المثل و المثال و التمثال إلى المجسّمات، فالاستدلال بها على حرمة تصوير الحيوان و إن كان بنحو النقش محلّ إشكال.

______________________________

(1) معاني الأخبار/ 181.

(2) التهذيب 1/ 459، باب تلقين المحتضرين، ذيل الحديث 142.

(3) راجع ص 576 من الكتاب؛ و الوسائل 3/ 560، الباب 3 من أبواب أحكام المساكن، الحديث 2.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 591

[الدليل الثامن الحكمة في التحريم هي التشبّه بالخالق]

و يؤيّده أنّ الظاهر أنّ الحكمة في التحريم هي حرمة التشبّه بالخالق في إبداع الحيوانات و أعضائها على الأشكال المطبوعة التي يعجز البشر عن نقشها على ما هي عليه فضلا عن اختراعها. (1) و لذا منع بعض الأساطين عن تمكين غير المكلّف من ذلك. و من المعلوم أنّ المادّة لا دخل لها في هذه الاختراعات العجيبة. فالتشبّه إنّما يحصل بالنقش و التشكيل لا غير.

______________________________

(1) هذا كأنّه دليل ثامن للمسألة، بتقريب أنّ الحكمة في التحريم هو التشبّه بالخالق في المصوّريّة. و المادّة لا دخل لها في ذلك، و إذا فرض كون فعل بإطلاقه مشتملا على المفسدة من أيّ فاعل صدر لم يجز تمكين غير المكلّف منه أيضا.

أقول: كون الحكمة في حرمة تصوير الحيوانات التشبّه باللّه- تعالى- في المصوّريّة أو الخالقيّة غير واضح، و إن ظهر من بعض الأخبار. و ليس مجرّد التصوير مضادّة له- تعالى- إلّا أن يقصد المصوّر المعارضة له في هذا العمل أو صيرورة الصورة معرضا للتقديس و العبادة في قباله- تعالى-. و لو سلّم فأيّ فرق بين الحيوان و غيره، و اللّه- تعالى- مصوّر و خالق لكلّ شي ء؟ و لو سلّم فهذه

الحكمة توجد في المجسّمات لا في النقوش، إذ ما صوّر اللّه- تعالى- كلّها من قبيل الأجسام المشتملة على وسائل الحياة. و قد مرّ عن الأستاذ الإمام «ره» قوله:

«أنّ المظنون بل الظاهر من بعض الروايات: أنّ سرّ التحريم إنّما هو اختصاص المصوّريّة باللّه- تعالى- و هو الذي يصوّر ما في الأرحام ... و هو أيضا يناسب المجسّمة كما تشعر به أو تدلّ عليه الرواية المرسلة المحكيّة عن لبّ اللباب للراوندي و فيها: و من صوّر التصاوير فقد ضادّ اللّه.» «1» انتهى.

و على هذا فقول المصنّف: «و من المعلوم أنّ المادة لا دخل لها» واضح الضعف، إذ التشبّه بالباري لا يتحقّق إلا بإبداع ما يشابه ما أبدعه و لا يكون إلّا جسما قابلا للحياة و هو الذي يكلّف المصوّر يوم القيامة بنفخ الروح فيه. هذا.

______________________________

(1) المكاسب المحرّمة 1/ 172 (- ط. الجديدة 1/ 261)؛ و راجع أيضا ص 581 من الكتاب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 592

..........

______________________________

و صيرورة الإنسان مظهرا لصفات الباري- تعالى- من دون أن يعجب بنفسه أو يقصد بذلك المعارضة له- تعالى- مما يحكم بحسنه العقل و الشرع. كيف؟! و لو كان مجرّد التشبّه في التصوير أو الخالقيّة حراما لحرمت جميع الصناعات و الاختراعات البديعة المنتجة من رقاء البشر في العلم و التمدّن. و لعلّ كثيرا منها صنعت على أشكال بعض الحيوانات.

و يقرب إلى الذهن: أنّ هذا القبيل من الروايات مع هذه التعبيرات و التشديدات صدرت في أعصار بقي بعض مراتب العلاقات بالأصنام و التصاوير و قبور الأموات، و الاعتقاد بقداستها في نفوس السّاذجين بل المتوسّطين من أفراد المسلمين، صدرت بداعي إبعادهم عنها و تطهيرهم من الخصلة الفاسدة المنحرفة التي ورثوها من أسلافهم و

أشرب بها قلوبهم. و قد مرّ بعض الكلام في هذا المجال في المقدّمة الثانية، فراجع.

و الزمان و المكان و الجوّ و الشرائط و الحالات لها نقش و أثر أساسيّ في بعض الأحكام، كما يظهر لمن تتّبع الروايات.

1- و روى الصدوق في كتاب كمال الدين بسنده عن محمّد بن جعفر الأسدي قال: كان فيما ورد عليّ من الشيخ محمّد بن عثمان في جواب مسائلي إلى صاحب الزمان عليه السّلام: «و أمّا ما سألت عنه من أمر المصلّي و النار و الصورة و السراج بين يديه هل تجوز صلاته؟ فإنّ الناس اختلفوا في ذلك قبلك، فإنّه جائز لمن لم يكن من أولاد عبدة الأصنام و النيران أن يصلّي و النار و الصورة و السراج بين يديه، و لا يجوز ذلك لمن كان من أولاد عبدة الأصنام و النيران.» و رواه في أواخر الاحتجاج و الوسائل. «1»

2- و في الفقيه عن عمر بن أذينة، عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: سألته

______________________________

(1) كمال الدين 2/ 521 (الباب 45)، ذكر التوقيعات، الحديث 49؛ و الوسائل 3/ 460، الباب 30 من أبواب مكان المصلّي، الحديث 5؛ و الاحتجاج 2/ 559، الرقم 351.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 593

..........

______________________________

عن المريض كيف يسجد؟ فقال: «على خمرة أو على مروحة أو على سواك يرفع إليه، و هو أفضل من الإيماء، إنّما كره من كره السجود على المروحة من أجل الأوثان التي كانت تعبد من دون اللّه، و إنّا لم نعبد غير اللّه قطّ، فاسجدوا على المروحة و على السواك و على عود.» و رواه في الوسائل عنه و عن التهذيب أيضا. «1»

أقول: في نهاية ابن الأثير: «في حديث أمّ سلمة:

قال لها و هي حائض:

«ناوليني الخمرة.» هي مقدار ما يضع الرجل عليه وجهه في سجوده من حصير أو نسيجة خوص و نحوه من النبات.» «2»

و هل كانت الشبهة في السجدة على المروحة و أمثالها من جهة توهّم الناس أنّ نفس السجدة على الأشياء المذكورة كانت نحو احترام و عبادة لها، كما يحكم الوهابيّة في عصرنا بكون السجدة على التربة الحسينيّة عليه السّلام شركا، فيكون ذكر المروحة من باب المثال، أو من جهة كون المروحة مصوّرة بصور بعض الحيوانات؟

كلّ منهما محتمل، و على الثاني تكون الرواية مرتبطة بالمقام.

قال في روضة المتّقين في شرح الرواية: «فإنّ العامّة يكرهون السجود على أمثالها و يقولون: إنّه بمنزلة السجود على الصنم، مع أنهم رووا حديث الخمرة بطرق متكثّرة في صحاحهم ... و يمكن أن يكون الكراهة في المروحة و أمثالها باعتبار النقوش المنسوجة فيها كالطاووس و غيره، فالسجود عليه يشبه أن يسجد الصور المنقوشة، فقال عليه السّلام: «إنّا لم نعبد غير اللّه» فالسجود عليها لا يضرّ و إن كانت الصور منقوشة عليها، و الأوّل أظهر.» «3» انتهى.

______________________________

(1) كتاب من لا يحضره الفقيه 1/ 362، باب صلاة المريض و المغمى عليه ...، الحديث 1039؛ و الوسائل 3/ 606، الباب 15 من أبواب ما يسجد عليه، الحديث 1.

(2) النهاية لابن الأثير 2/ 77.

(3) روضة المتّقين 2/ 457، كتاب الصلاة، صلاة المريض و المغمى عليه ...

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 594

..........

______________________________

3- و في صحيحة عبد اللّه بن المغيرة قال: سمعت الرضا عليه السّلام يقول: «قال قائل لأبي جعفر عليه السّلام: يجلس الرجل على بساط فيه تماثيل؟ فقال عليه السّلام: الأعاجم تعظّمه و إنّا لنمتهنه.» «1»

4- و عن أبي الحسن عليه السّلام

قال: «دخل قوم على أبي جعفر عليه السّلام و هو على بساط فيه تماثيل فسألوه فقال: أردت أن أهينه.» «2»

5- و في رواية أبي بصير قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: إنّا نبسط عندنا الوسائد فيها التماثيل و نفترشها؟ فقال: «لا بأس بما يبسط منها و يفترش و يوطأ، إنما يكره منها ما نصب على الحائط و السرير.» «3»

إلى غير ذلك من الأخبار التي يستفاد منها أنّ المنع عن التصوير و عن الاقتناء كان بلحاظ ما ورثوا من أسلافهم من توهّم القداسة للصور، فإذا فرض عدم الاحترام و التقديس فلا منع، و الأمر بالكسر و تغيير الصورة أيضا كان لدفع ما يمكن أن يقع في النسل الآتي من توهّم القداسة.

و بالجملة فالمنع في هذه الأخبار موسميّ بحسب الجوّ الموجود في تلك الأعصار، فتدبّر.

و إذا قيل بكون الأخبار ناظرة إلى الجوّ الموجود في تلك الأعصار و كون الحكم فيها موسميّا لا حكما دائميّا أشكل حملها على الكراهة أيضا و إن ظهر ذلك من الشيخ في التبيان و الطبرسي في مجمع البيان كما مرّ. و كيف تحمل التهديدات و التشديدات الواردة في أخبار الباب على الكراهة؟! فتأمّل.

فذلكة و تتميم

قد تحصّل ممّا ذكرنا أنّ المصنّف أفتى بحرمة التصوير لذوات الأرواح سواء كان

______________________________

(1) الوسائل 3/ 564، الباب 4 من أبواب أحكام المساكن، الحديث 1.

(2) نفس المصدر و الباب، ص 565، الحديث 8.

(3) نفس المصدر 12/ 220، الباب 94 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 595

..........

______________________________

بنحو التجسيم أو بنحو النقش، و حكم بعدم الخلاف في المجسّم نصّا و فتوى و ذكر سبعة أدلّة على حرمة النقش أيضا. و نحن ناقشنا في أدلّته

بما مرّ تفصيله. و لكن قد مرّ منّا أنّ أخبار الأمر بالنفخ و إن ضعّفوها لكنّها لكثرتها و ورودها من طرق الفريقين ربما يطمئن النفس بصدور بعضها لا محالة، و مقتضى الجميع حرمة المجسّمة من ذوات الأرواح.

ثمّ إنّ الأخبار المطلقة الظاهرة في حرمة مطلق التصوير- و قد مرّ ذكرها- قد كثرت أيضا و يمكن القول بتواترها إجمالا و لا أقلّ من الاطمينان بصدور بعضها و لو واحد منها، فلا يمكن رفع اليد عن جميعها، و قد خصّصناها بسبب ما دلّت على عدم الحرمة بالنسبة إلى غير ذوات الأرواح، فيبقى إطلاقها حجّة بالنسبة إلى صور ذوات الأرواح مطلقا مجسّمة كانت أو غير مجسّمة.

و اختصاص أخبار الأمر بالنفخ بالمجسّمات- على ما بيّناه- لا يقتضي حمل الأخبار المطلقة أيضا على المجسّمات، إذ لعلّ ذكر المجسّمات من باب ذكر المصاديق الظاهرة أو لكون الحكم فيها آكد فيحرم مطلق التصوير و هي في المجسّمات أقوى و آكد.

نعم قد استبعدنا كون مجرّد التصوير و لا سيّما النقش مناسبا للتهديدات و التشديدات الواردة في أكثر أخبار المنع، و لذا احتملنا اختصاصها بما إذا وقع التصوير في مقام المعارضة و المضادّة للّه- تعالى-، أو كانت الصور في تلك الأعصار معرضا للتقديس و العبادة حيث إنّه بقي في نفوسهم بعض ما ورثوه من الأسلاف من الاحترام للتماثيل و الصور و طلب الحاجات منها و من قبور أكابرهم، فكان هذا الجوّ بمنزلة القرينة المتّصلة مانعة من انعقاد الإطلاق لهذه الروايات. فإن قلنا بذلك و جعلنا ما مرّ من الروايتين عن الصدوق و غيرهما من الأخبار شاهدا على ذلك فهو- كما لا يبعد- و إلّا فالأحوط الاجتناب و لا سيّما مع التجسيم و إن لم يظهر

لنا حكمة هذا الحكم. هذا.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 596

..........

______________________________

و ربّما يستدلّ للحرمة في المجسّمات- مضافا إلى ما مرّ من الأخبار- بما ورد من بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أمير المؤمنين عليه السّلام لكسر الصور:

ففي خبر ابن القدّاح عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «بعثني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في هدم القبور و كسر الصّور.»

و في خبر السّكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «قال أمير المؤمنين عليه السّلام: بعثني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى المدينة فقال: لا تدع صورة إلّا محوتها و لا قبرا إلّا سوّيته و لا كلبا إلّا قتلته.» «1»

بتقريب أنّ حرمة الإبقاء دليل على حرمة الإيجاد قطعا- و إن لم نلتزم بعكس ذلك- فإنّ حرمة الإبقاء تدلّ على كون الوجود ذا مفسدة ملزمة، و إذا كان كذلك فلا محالة حرم الإيجاد أيضا كما في الأصنام و آلات اللهو و القمار و نحوها.

أقول: بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عليّا- على ما ورد- وقع في عصر كانوا يقدّسون الصور و يعبدونها، و الظاهر أنّ الصور كانت مجسّمة إذ لم يعهد عبادة النقوش في عصر من الأعصار. و لعلّ القبور أيضا كانت مما تعبد و تقدّس. و الكلاب كانت كلابا خاصّة مضرّة بالمجتمع، بداهة أنّ كلّ قبر لا يجب هدمه كما أنّ كلّ كلب لا يجب قتله بل جعل الشارع لبعضها دية. و على هذا فلا دلالة للروايتين على حرمة مجرّد التصوير إذا لم يترتّب على وجود الصور مفسدة.

قال الأستاذ الإمام «ره» بعد ذكر الروايتين: «و الظاهر أنّ الصور كانت صور الهياكل

و الأصنام و من بقايا آثار الكفر و الجاهلية، و لا يبعد أن يكون الكلب في الرواية الثانية بكسر اللام و هو الكلب الذي عرضه داء الكلب، و هو داء يشبه الجنون يعرضه، فإذا عقر إنسانا عرضه ذلك الداء ... و لعلّ أمره صلّى اللّه عليه و آله بهدم القبور لأجل تعظيم الناس إيّاها بنحو العبادة للأصنام و كانوا يسجدون عليها، كما يشعر به بعض الروايات الناهية عن اتخاذ قبر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قبلة و مسجدا: فعن الصدوق «ره»

______________________________

(1) الوسائل 3/ 562، الباب 3 من أبواب أحكام المساكن، الحديثان 7 و 8.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 597

..........

______________________________

قال: قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «لا تتّخذوا قبري قبلة و لا مسجدا فإنّ اللّه- عزّ و جلّ- لعن اليهود حيث اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد.» «1» و يشهد له بعد بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أمير المؤمنين عليه السّلام لهدم القبور و كسر الصور لكراهة بقائهما.» «2» هذا.

كلام صاحب الجواهر في المسألة

و صاحب الجواهر فصّل بين المجسّمة من ذوات الأرواح و غيرها، فحكم بحرمة المجسّمة منها فقط فقال: «لكن قد يقال: ما في بعض النصوص التي تقدّمت في كتاب الصلاة من أنّه لا بأس إذا غيّرت رءوسها، و في آخر: قطعت، و في ثالث:

كسرت، نوع إشعار بالتجسيم، كالتعليل بالنفخ في الأخبار الأخر، و نحوها ممّا هي ظاهرة في كون الصورة حيوانا لا ينقص منه شي ء سوى الروح. بل قد يظهر من مقابلة النقش للصورة في خبر المناهي ذلك أيضا. و من ذلك كلّه يقوى حينئذ القول بالجواز في غير المجسّمة الموافق للأصل.» «3»

أقول: محصّل كلامه الاستدلال على اختصاص الحرمة بالمجسّمة بوجوه

ثلاثة:

الأوّل: النصوص التي تقدمت في كتاب الصلاة. الثاني: أخبار الأمر بالنفخ.

الثالث: مقابلة النقش للصورة في خبر المناهي.

و أجاب عن الأوّل في مصباح الفقاهة بقوله: «و فيه أوّلا: أنّه لا إشعار في شي ء من هذه الروايات بكون الصّور المنهي عنها مجسّمة إلّا في رواية قرب الإسناد: «تكسر رءوس التماثيل و تلطخ رءوس التصاوير.» «4» و هي ضعيفة السند، و الوجه في عدم إشعار غيرها بذلك هو أنّ قطع الرأس أو تغييره كما يصدق في الصور المجسّمة فكذلك يصدق في غيرها. و ثانيا: أنّ الكلام في عمل الصور

______________________________

(1) الوسائل 3/ 455، الباب 26 من أبواب مكان المصلّي، الحديث 3.

(2) المكاسب المحرّمة 1/ 170 و 171 (- ط. الجديدة 1/ 259 و 260).

(3) الجواهر 22/ 42، كتاب التجارة، في عمل الصور المجسّمة.

(4) الوسائل 3/ 463، الباب 32 من أبواب مكان المصلّي، الحديث 10.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 598

..........

______________________________

و هو لا يرتبط بالصلاة في بيت فيه تماثيل بل الصلاة فيه كالصلاة في الموارد المكروهة.» «1»

و يجاب عن الوجه الثاني: بأنّ أخبار الحرمة لا تنحصر في أخبار الأمر بالنفخ، إذ هنا أخبار يستفاد منها حرمة تصوير الحيوان بنحو الإطلاق، و أخبار أخر يستفاد منها حرمة مطلق التصوير خرج منها ما كانت لغير الحيوان فيبقى فيها ما للحيوان بإطلاقها، فتأمّل.

و يجاب عن الوجه الثالث- مضافا إلى ضعف خبر المناهي سندا كما مرّ-: بما أجاب به السيّد الطباطبائي «ره» في الحاشية، قال: «و فيه مضافا إلى أنّه جعل النقش أيضا حراما: أنّ ذلك خبر آخر عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله نقله الإمام عليه السّلام، فلا مقابلة في كلام النبيّ صلّى اللّه عليه و آله. و الإمام عليه

السّلام أراد أن ينقل اللفظ الصادر عنه عليه السّلام. هذا مع أنّه يمكن أن يكون من باب التفنّن في العبارة.» «2»

أقول: لأحد أن يقول: إنّ المنسبق إلى الأذهان من أخبار حرمة التماثيل و الصور كون الملاك و الحكمة فيها صيرورة الصور بمرور الزمان معرضا للعبادة و التقديس، و على هذا الأساس أيضا كان بدء ظهور الأصنام و العبادة لها في القرون السّالفة. كما مرّ بيانه في المقدّمة الثانية. و هذا الملاك إنّما يوجد في المجسّمات دون النقوش، إذ لم يعهد عبادتها في عصر من الأعصار و إن كانوا يحترمونها نحو احترام فهذا هو الفارق بين الصور المجسّمة و النقوش.

اللّهم إلّا أن يمنع كون الملاك و الحكمة ذلك بل المضادّة للّه- تعالى- و التشبّه به في المصوّرية و الخالقيّة كما يظهر من بعض الأخبار. هذا، و لكن الظاهر أنّ المضادّة و التشبّه أيضا في المجسّمات أقوى، إذ مخلوقات اللّه- تعالى- كلّها من قبيل الأجسام لا النقوش. هذا.

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 228، ما استدلّ به على اختصاص الحرمة بالصور المجسّمة.

(2) حاشية المكاسب للمرحوم السيّد محمد كاظم الطباطبائي/ 17.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 599

ما يستأنس من كلام المحقق الأردبيلي

______________________________

و ربّما يستأنس لعدم الحرمة في المسألة: بأنّه على فرض الحرمة و كون وجود الصورة ذات مفسدة و مبغوضة للمولى كان مقتضاه الحكم بحرمة إبقائها و المعاملة عليها أيضا كما هو الحكم في الأصنام و آلات اللهو و القمار و نحو ذلك. و لذا ترى القدماء من أصحابنا حكموا بحرمة الحفظ و التصرّف و المعاملة عليها أيضا، فراجع ما مرّ في المقدّمة السّادسة عن المقنعة و النهاية و المراسم و الكافي لأبي الصلاح الحلبي.

و قد دلّت الأخبار الكثيرة على جواز إبقائها و

عدم وجوب إفنائها كما يأتي ذكرها، و على هذا فلا وجه لحرمة إيجادها أيضا. فتأمّل. إذ لقائل أن يقول: إنّ علّة الحرمة أصل التشبّه بالخالق في المصوّرية و الخالقيّة و لكن بعد تحقّقها لا دليل على حرمة إبقائها.

و ممّن يظهر منه هذا الاستيناس المحقّق الأردبيلي «ره» في مجمع الفائدة، حيث جعل جواز إبقائها مشعرا بجواز إيجادها، قال: «ثمّ إنّه تدلّ روايات كثيرة على جواز إبقاء الصور مطلقا، و هو يشعر بجوازه و قد نقلنا من قبل روايات صحيحة دالّة عليه. و تؤيّده رواية أبي بصير، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: إنّا نبسط عندنا الوسائد فيها التماثيل و نفترشها؟ قال عليه السّلام: «لا بأس بما يبسط منها و يفترش و يوطأ، إنّما يكره منها ما نصب على الحائط و السّرير.» «1» و بعد ثبوت التحريم فيما ثبت يشكل جواز الإبقاء، لأنّ الظاهر أنّ الغرض من التحريم عدم خلق شي ء يشبه بخلق اللّه و بقائه لا مجرّد التصوير، فيحمل ما يدلّ على جواز الإبقاء من الروايات الكثيرة الصحيحة و غيرها على ما يجوز منها، فهي من أدلّة جواز التصوير في الجملة على البسط و الستر و الحيطان و الثياب، و هي التي تدلّ الأخبار على جواز إبقائها فيها لا ذو الروح التي لها ظلّ على حدته التي هي حرام بالإجماع.» «2»

______________________________

(1) الوسائل 12/ 220، الباب 94 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4.

(2) مجمع الفائدة 8/ 56، كتاب المتاجر، أقسام التجارة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 600

و من هنا يمكن استظهار اختصاص الحكم بذوات الأرواح، فإنّ صور غيرها كثيرا ما يحصل بفعل الإنسان للدواعي الأخر غير قصد التصوير، و لا يحصل به تشبّه بحضرة

المبدع تعالى عن الشبيه. (1) بل كلّ ما يصنعه الإنسان من التصرّف في الأجسام فيقع على شكل واحد من مخلوقات اللّه- تعالى-. و لذا قال كاشف اللثام (2) على ما حكي عنه في مسألة كراهة الصلاة في الثوب المشتمل على التماثيل: إنّه لو عمّت الكراهة لتماثيل ذي الروح و غيرها كرهت الثياب ذوات الأعلام لشبه الأعلام بالأخشاب و القصبات و نحوها، و الثياب المحشوّة لشبه طرائقها المخيطة بها، بل الثياب قاطبة لشبه خيوطها بالأخشاب و نحوها. انتهى،

______________________________

أقول: فمقتضى كلامه التفصيل بين المجسّم و غيره و أنّ أخبار جواز الإبقاء واردة في غير المجسّم و أنّ جواز إبقائه دليل على جواز صنعه و إيجاده، و المجسّم من الحيوان حيث لا يجوز إيجاده فيحرم إبقاؤه أيضا. فتأمّل.

ما ذكره المصنّف أخيرا في اختصاص الحرمة بذوات الأرواح

(1) مقتضى كلامه هذا حرمة تصوير غير الحيوان أيضا على فرض إتيانه بقصد التصوير و الحكاية، و يشكل الالتزام به لإطلاق الروايات الدالّة على الجواز في تماثيل الشجر و شبهه.

(2) في كشف اللثام في المسألة المذكورة في المتن قال: «ثمّ إنّ ابن إدريس خصّص الكراهية بصور الحيوانات. قال في المختلف: و باقي أصحابنا أطلقوا القول و هو الوجه، لنا عموم النهي ... و قول ابن إدريس عندي أقوى إذ لو عمّت الكراهية لكرهت الثياب ذوات الأعلام ...» «1»

______________________________

(1) كشف اللثام 1/ 193.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 601

و إن كان ما ذكره لا يخلو عن نظر كما سيجي ء. (1) هذا.

و لكن العمدة في اختصاص الحكم بذوات الأرواح أصالة الإباحة. (2)

مضافا إلى ما دلّ على الرخصة، مثل صحيحة ابن مسلم السابقة و رواية التحف المتقدّمة و ما ورد في تفسير قوله- تعالى-: يَعْمَلُونَ لَهُ مٰا يَشٰاءُ مِنْ مَحٰارِيبَ وَ تَمٰاثِيلَ

من قوله عليه السّلام: «و اللّه ما هي تماثيل الرجال و النساء و لكنّها تماثيل الشجر و شبهه.» (3) و الظاهر شمولها للمجسّم و غيره، فبها يقيّد بعض ما مرّ من الإطلاق.

خلافا لظاهر جماعة، حيث إنّهم بين من يحكى عنه تعميمه الحكم لغير ذي الروح و لو لم يكن مجسّما، (4) لبعض الإطلاقات اللازم تقييدها

______________________________

(1) من أنّ محلّ البحث صورة قصد الحكاية و التمثيل، و في هذه الأمثلة لم يقصد ذلك.

(2) قد مرّ وجود الإطلاقات الشاملة لغير ذوات الأرواح أيضا و تخصيصها بالروايات الدالّة على الجواز، و مع وجود الدليل لا مجال للأصل.

(3) راجع الوسائل. و قد مرّ منّا بيان المسألة و ذكر هذه الروايات «1»، فلا نعيد.

و إطلاق التماثيل فيها يشمل المجسّم و غيره، بل يمكن القول بكون المجسّم هو القدر المتيقّن منها كما مرّ وجهه في المقدّمة الخامسة.

(4) في المختلف: «قال ابن البراج: يحرم التماثيل المجسّمة و غير المجسّمة ...

و أبو الصلاح قال: يحرم التماثيل و أطلق، و قال الشيخان: يحرم عمل التماثيل المجسّمة، و كذا قال سلّار.» «2»

أقول: قد مرّ في المقدّمة السّادسة نقل كلمات الأصحاب «3»، و قلنا: إنّ ظاهر

______________________________

(1) الوسائل 12/ 220، الباب 94 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1؛ و راجع ص 565 و ما بعدها من الكتاب.

(2) المختلف/ 341، كتاب المتاجر، الفصل الأوّل.

(3) راجع ص 553 و ما بعدها.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 602

بما تقدّم مثل قوله عليه السّلام: «نهى عن تزويق البيوت» و قوله عليه السّلام: «من مثّل مثالا الخ»، (1) و بين من عبّر بالتماثيل المجسّمة، (2) بناء على شمول التمثال لغير الحيوان كما هو كذلك، فخصّ الحكم بالمجسّم، لأنّ المتيقّن من

المقيّدات للإطلاقات و الظاهر منها بحكم غلبة الاستعمال و الوجود: النقوش لا غير. (3)

و فيه: أنّ هذا الظهور لو اعتبر لسقط الإطلاقات عن نهوضها لإثبات حرمة المجسّم، فتعيّن حملها على الكراهة دون التخصيص بالمجسّم. (4)

______________________________

كلمات أكثر الأصحاب و إن كان يشمل لغير ذوات الأرواح أيضا لكن الظاهر إرادتهم خصوص ما لذوات الأرواح، فإنّها كانت مطرحا للبحث بين الفريقين، و لا يظنّ بهم أنّهم طرحوا الأخبار الصريحة في جواز التصوير لغير ذوات الأرواح و كانت هذه الأخبار بمرآهم، و فقهاء العامّة أيضا صرّحوا بجوازه، و قد مرّ نقل كلماتهم في المقدّمة السّادسة. «1»

(1) الروايتان من أمثلة المطلقات لا المقيّدات.

(2) و هم أكثر الأصحاب كالشيخين و سلّار و المحقّق و العلّامة و غيرهم، فراجع كلماتهم. «2»

(3) كون النقوش غالبة في الوجود في تلك الأعصار ممنوع، لما مرّ من كثرة التماثيل المجسّمة فيها و أنّهم كانوا يقدّسونها و يعبدونها و لم يعهد عبادتهم للنقوش المحضة و إن كانت الأعاجم يعظّمونها نحو تعظيم.

(4) محصّل كلام المصنّف أنّ غلبة الاستعمال و الوجود لو صارت سببا لانصراف المقيّدات إلى خصوص النقوش صارت سببا لانصراف المطلقات المانعة أيضا إليها، و لازم ذلك حمل أخبار المنع على الكراهة لما ورد من الرخصة في غير

______________________________

(1) راجع ص 558.

(2) راجع ص 553 و ما بعدها.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 603

و بالجملة التمثال في الإطلاقات المانعة مثل قوله عليه السّلام: «من مثّل مثالا» إن كان ظاهرا في شمول الحكم للمجسّم كان كذلك في الأدلّة المرخّصة لما عدا الحيوان كرواية تحف العقول و صحيحة ابن مسلم و ما في تفسير الآية. فدعوى ظهور الإطلاقات المانعة في العموم و اختصاص المقيّدات المجوزة بالنقوش تحكّم.

______________________________

ذوات الأرواح،

و على هذا فلا يبقى دليل على حرمة المجسّمة لا في الحيوان و لا في غيره.

أقول: يمكن أن يقال على هذا المبنى: إنّه بعد ما انصرفت الطائفتان إلى النقوش تحمل المطلقات على ظاهرها و هو التحريم و تخصّص بسبب ما دلّ على جواز ما ليست لذوات الأرواح فيصير مقتضاهما حرمة نقوش الحيوانات و جواز نقوش غيرها، و حرمة نقوش الحيوانات تستلزم حرمة مجسّماتها أيضا بالأولوية القطعية، و يبقى المجسّمات من غير ذوات الأرواح مسكوتا عنها، فيحكم فيها بالجواز بمقتضى الأصل. هذا.

و لكن أصل الانصراف المدّعى ممنوع، بل المجسّمات هي القدر المتيقّن من مفهوم التماثيل و الصور كما مرّ.

و على هذا فمقتضى المطلقات المانعة حرمة التماثيل بأقسامها الأربعة، و مقتضى إطلاق أخبار الجواز جواز ما ليست لذوات الأرواح، مجسّمة أو غير مجسّمة، فيقدم على إطلاق أخبار المنع لتقدم إطلاق المخصص على إطلاق العامّ، فيبقى ما للحيوان بإطلاقها باقية تحت المطلقات المانعة كما مرّ بيان ذلك سابقا، فتدبّر.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 604

البحث في فروع مسألة التصوير
اشارة

______________________________

أقول: بعد ما تعرّضنا لحكم عمل التصوير و الأقوال فيه و أخبار المسألة ينبغي التعرّض لفروع تعرّض لبعضها المصنّف أيضا:

[الفرع الأوّل:] حكم الأصنام يخالف حكم الصور

الفرع الأوّل: قال الأستاذ الإمام «ره» ما ملخّصه: «لا شبهة في حرمة تصوير الأصنام للعبادة أو لإبقاء آثار السّلف الفاجر، من غير فرق بين المجسّمة و غيرها و ما كان بصورة الحيوان أو غيره بنحو المباشرة أو بنحو التسبيب أو بالشركة، و لا يجوز إبقاؤها و اقتناؤها أيضا، و ذلك لما يعلم من مذاق الشارع المقدس أنّه لا يرضى ببقاء آثار الكفر و الشرك للتعظيم أو للفخر بها، و قد حملنا الأخبار المشتملة على التهديدات و التشديدات- بمناسبة الحكم و الموضوع- على هذا القسم من التصوير.

فالفروع الآتية إنّما هي في غير تلك الصور الخبيثة.

و لا ينافي ذلك ما قدّمناه سابقا من تجويز بيع الصنم الذي انقرض عصر عابديه، لأنّ المنظور في ذلك المقام جواز المعاوضة عليه بلحاظ حفظ الآثار العتيقة التاريخية لا لحفظ شعار الأجداد و احترامه كما في المقام.

كما لا ينافيه بعض الروايات الواردة في الوسائد المنقوشة بالنقوش التي كانت

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 605

ثمّ إنّه لو عمّمنا الحكم لغير الحيوان مطلقا أو مع التجسّم فالظاهر أنّ المراد به ما كان مخلوقا للّه- سبحانه- على هيئة خاصّة معجبة للناظر على وجه يميل النفس إلى مشاهدة صورتها المجرّدة عن المادّة أو معها. (1)

______________________________

الأعاجم تعظّمها بعد ما لم يكن الحفظ للتعظيم بل للتحقير و الإهانة كما في بعض الأخبار أو لمجرد التوسّد و الافتراش، فإنّ الأحكام تختلف بالجهات و الحيثيات.» «1»

أقول: ففي رواية عبد اللّه بن المغيرة قال: سمعت الرضا عليه السّلام يقول: قال قائل لأبي جعفر عليه السّلام: يجلس الرجل على بساط

فيه تماثيل؟ فقال عليه السّلام: «الأعاجم تعظّمه و إنّا لنمتهنه.» «2»

و في رواية أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن الوسادة و البساط يكون فيه التماثيل؟ فقال: «لا بأس به يكون في البيت.» قلت: التماثيل؟ فقال:

«كل شي ء يوطأ فلا بأس به.» «3»

و عن أبي الحسن عليه السّلام قال: دخل قوم على أبي جعفر عليه السّلام و هو على بساط فيه تماثيل، فسألوه، فقال: «أردت أن أهينه.» «4»

إلى غير ذلك من الأخبار الواردة في هذا المجال، فراجع. و يأتي البحث الواسع في مسألة اقتناء الصور.

[الفرع الثاني:] هل يعتبر في الحرمة كون الصورة معجبة؟

(1) الفرع الثاني: يظهر من المصنّف أنّه لو عمّمنا الحرمة لغير الحيوان فالظاهر اختصاصها بما إذا كانت الصورة من مخلوقات اللّه- تعالى- على هيئة معجبة للناظر،

______________________________

(1) المكاسب المحرّمة 1/ 176 (- ط. أخرى 1/ 268)، في القسم الرابع مما يحرم الاكتساب به.

(2) الوسائل 3/ 564، الباب 4 من أبواب أحكام المساكن، الحديث 1.

(3) نفس المصدر و الباب، الحديث 2.

(4) نفس المصدر و الباب، ص 565، الحديث 8.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 606

فمثل تمثال السيف و الرمح و القصور و الأبنية و السفن ممّا هو مصنوع للعباد و إن كانت في هيئة حسنة معجبة خارج. و كذا مثل تمثال القصبات و الأخشاب و الجبال و الشطوط ممّا خلقه اللّه لا على هيئة معجبة للناظر بحيث تميل النفس إلى مشاهدتها و لو بالصور الحاكية لها، لعدم شمول الأدلّة لذلك. (1)

______________________________

و فرّع على ذلك عدم حرمة تمثال ما كان مصنوعا للعباد و إن كانت على هيئة معجبة، و كذا عدم حرمة ما ليست بمعجبة من مخلوقات اللّه- تعالى- كتمثال القصبات و الأخشاب.

قال السيّد الطباطبائي «ره» في الحاشية: «مقتضى

ما ذكره أنّه لو خصّصنا بالحيوان أيضا نقتصر على ما كان كذلك، فلا يشمل مثل الديدان و الخنافس و الحيّات و نحوها ممّا ليس على شكل غريب و مثال عجيب كما لا يخفى.» «1»

و في حاشية المحقّق الإيرواني «ره»: «لا يعتبر الإعجاب في موضوع الحرام، مع أنّ كل صورة هي معجبة في بدو النظر إليها و إنّما يزول الإعجاب شيئا فشيئا، مع أنّ الإعجاب الحاصل عند مشاهدة الصورة إنّما هو من نفس الصورة لكشفها عن كمال مهارة النقّاش و لو كانت صورة نمل أو دود، و لذا لا يحصل ذلك الإعجاب من مشاهدة ذي الصورة.» «2»

و ما ذكره متين كما لا يخفى و لا دليل على اعتبار وصف الإعجاب.

(1) في حاشية الإيرواني «ره»: «دعوى انصراف الأدلّة إلى تصوير صور مصنوعات اللّه- تعالى- و لو بمعدّات من العباد من زراعة و نتاجة، قريبة جدّا، فإنّ إيجاد نفس ذي الصورة في غير هذا جائز كصنعة غريبة أو بناء قصر فكيف لا يجوز نقش صورته؟!» «3»

______________________________

(1) حاشية المكاسب للسيّد الطباطبائي/ 19، ذيل قول المصنّف: ثمّ إنّه لو عمّمنا.

(2) حاشية المكاسب للمحقق الإيرواني/ 21، ذيل قول المصنّف: على هيئة خاصّة معجبة.

(3) نفس المصدر و الصفحة، ذيل قول المصنّف: لعدم شمول الأدلّة لذلك.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 607

هذا كلّه مع قصد الحكاية و التمثيل، فلو دعت الحاجة إلى عمل شي ء يكون شبيها بشي ء من خلق اللّه و لو كان حيوانا من غير قصد الحكاية فلا بأس قطعا. (1)

______________________________

أقول: هذا كلّه على فرض سراية الحرمة- على القول بها- إلى ما ليست لذوات الأرواح أيضا، و قد مرّ منع ذلك لدلالة الروايات المستفيضة و كذا السيرة على الجواز فيها مطلقا.

[الفرع الثالث:] هل يعتبر قصد الحكاية في حرمة التصوير؟

(1) الفرع الثالث: هل يعتبر قصد الحكاية في حرمة التصوير أو يكفي في ذلك العلم بتحققه و إن لم يقصد الحكاية؟

فالمصنّف- كما ترى- اعتبر قصد الحكاية.

و أوضح ذلك في مصباح الفقاهة بما ملخّصه: «أنّه لا شبهة في اعتبار قصد حكاية ذي الصورة في حرمة التصوير، لأنّ المذكور في الروايات النهي عن التصوير و التمثيل، و لا يصدق ذلك إذا حصل التشابه بالمصادفة و الاتفاق من غير قصد الحكاية. و هذا نظير اعتبار قصد الحكاية في صحة استعمال الألفاظ في معانيها.

و عليه فإذا احتاج أحد إلى عمل شي ء من المكائن أو آلاتها على صورة حيوان فلا يكون ذلك حراما لعدم صدق التصوير عليه. و المثال الواضح لذلك الطائرات المصنوعة في زماننا، فإنّها شبيهة بالطيور و مع ذلك لم يفعل صانعها فعلا محرما.

و لا يتوهم أحد حتى الصبيان أنّ صانع الطائرة يصوّر صورة الطير، بل إنّما غرضه صنع شي ء آخر للمصلحة العامّة، و كونه على صورة الطير اتفاقي.

و توهم بعضهم أنّ مراد المصنّف من كلامه هو أن يكون الداعي إلى التصوير هو الاكتساب دون التمثيل، بأن يكون غرض المصوّر نظر الناس إلى الصور و التماثيل و إعطاء شي ء بإزاء ذلك.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 608

..........

______________________________

و فيه: أنّه من العجائب لكونه غريبا من كلام المصنّف، على أنّه من أوضح أفراد التصوير المحرّم فكيف يحمل كلام المصنّف عليه؟» «1»

و علّق المحقّق الإيرواني «ره» على كلام المصنّف بقوله: «إن أراد اعتبار القصد لعنوان التصوير في وقوعه على صفة المعصية فذلك ممّا لا إشكال فيه، فإنّ حصول عنوان الحرام قهرا ليس بمعصية و إن تعلق القصد بذات الحرام، كما إذا قصده بعنوان أنّه ماء فظهر أنّه خمر. و إن

أراد اعتبار ما يزيد على ذلك كما هو ظاهر العبارة بأن يكون الغرض من التصوير حكاية ذي الصورة و انتقال الناظر إلى الصورة إلى ذيها فذاك ممّا لا دليل عليه بل إطلاقات الأدلّة تردّه.» «2»

و علّق السيّد الطباطبائي «ره» على كلام المصنّف بقوله: «ظاهره أنّ المناط في عدم الحرمة عدم قصد الحكاية و لو كان عالما بأنه يصير على شكل الحيوان، و لازمه جواز ذلك مع عدم قضاء الحاجة أيضا و هو مشكل، إذ مع العلم بأن هذا الموجود صورة الحيوان يكون الفعل حراما و إن لم يكن غرضه الحكاية. و السرّ أنّ القصد القهري حاصل مع العلم غاية الأمر عدم كونه غرضا له، و حمله على إرادة صورة عدم العلم و اتفاق ذلك بعيد فإنّه واضح لا يحتاج إلى البيان. كما أنّ صورة النسيان و الغفلة كذلك.

فإن قلت: لعلّ المناط هو الحاجة و الضرورة لا عدم قصد الحكاية.

قلت: مع أنّه خلاف ظاهر العبارة يرد عليه: أنّه لا يكفي في التسويغ مجرد الحاجة بل لا بدّ من الوصول إلى حدّ يسوغ معه سائر المحرّمات أيضا، إذ لا خصوصية للمقام، و كون المناط المجموع أيضا لا يفيد كما لا يخفى. فالأولى أن يقال: إنّ الوجه في الجواز كون الصورة حينئذ مشتركة بين الحيوان و غيره فيكون تميزه بالقصد، و لعلّه مراده «قدّه» و إن كانت العبارة قاصرة عن إفادته.» «3»

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 231، في النوع الرابع مما يحرم الاكتساب به.

(2) حاشية المكاسب للمحقق الإيرواني/ 21.

(3) حاشية المكاسب للسيّد الطباطبائي/ 19، ذيل قول المصنّف: فلو دعت الحاجة ....

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 609

و منه يظهر النظر فيما تقدّم عن كاشف اللثام. (1)

______________________________

أقول: هل المصنّف

أراد أنّ التصوير و كذا التمثيل من العناوين الاعتبارية المتقوّمة بالقصد نظير عنوان التعظيم و عناوين العقود و الإيقاعات، أو أراد أن وقوعه عصيانا للنهي يتوقف على إتيان العمل بقصد العنوان المنهي عنه كما في كلام المحقّق الإيرواني «ره»؟ كلّ منهما محتمل و إن كان الأقوى هو الثاني.

و كيف كان فالعنوانان من العناوين الإضافية المنتزعة من شي ء بإضافته إلى شي ء آخر نظير الفوقية و التحتية، فيقال: هذه صورة ذاك أو مثاله، و قد عبّر المصنّف عن هذا المعنى بقصد الحكاية و التمثيل.

و المحقّق الإيرواني حيث سلّم اعتبار قصد عنوان التصوير في حرمته فلا محالة يرجع كلامه إلى كلام المصنّف في اعتبار قصد الحكاية.

و لكن الظاهر من كلام السيّد عدم اعتبار قصد العنوان الحرام بل يكفي في الحرمة و وقوع العمل معصية قصد ذات العمل مع العلم بانطباق العنوان عليه قهرا، و لا يعتبر قصد العنوان و إن كان يحصل تبعا مع العلم. نعم لو كان ذات العمل مشتركا بين الحرام و الحلال فحينئذ يكون امتياز كل منهما بقصده بعنوانه، فتدبّر.

(1) أقول: يرد على ما ذكره كاشف اللثام: أوّلا: ما مرّ من أنّه يعتبر في حرمة التصوير قصد الحكاية، و النسّاج و الخيّاط لا يريدان بعملهما شباهة الثوب أو خيوطه بشي ء من ذوات الأرواح أو غيرها و إن صادف وقوع الشباهة قهرا، إلّا أن يقال بما مرّ من السيّد «ره» من كفاية العلم.

و ثانيا: ما في حاشية الإيرواني، قال: «محلّ الكلام ليس مطلق الشباهة المصححة للتشبيه بل كون هذا صورة ذاك، و من المعلوم أن ليست الأعلام و الطرائق و الخيوط على صورة الأخشاب و القصبات و مثالها. و مجرّد اشتراكهما في الطول لا يوجب أن

تكون هذه صورة ذاك بل لا يصحح التشبيه أيضا. مع أنّ الملازمة في الشرطية التي ذكرها لا تختص بما إذا عمّت الكراهة لتماثيل غير ذوات

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 610

ثمّ إنّ المرجع في الصورة إلى العرف، فلا يقدح في الحرمة نقص بعض الأجزاء. (1)

______________________________

الأرواح بل تأتي على التخصيص بذوات الأرواح أيضا لشبه الأعلام و الطرائق بالحيّات و الديدان.» «1»

و ذكر نحو ذلك في مصباح الفقاهة أخذا منه، فراجع. «2»

[الفرع الرابع:] هل المحرّم تصوير مجموع الأجزاء أو يكفي تصوير المعظم؟

(1) الفرع الرابع: على القول بحرمة تصوير الحيوان كما هو المشهور فهل المحرم تصوير مجموع الحيوان الملتئم من جميع الأجزاء بحيث يكون الحرام الفعل التدريجي المتعلق بجميع الأجزاء و يكون المصوّر من أوّل اشتغاله بفعل التصوير مشتغلا بفعل الحرام، أو تصوير الملتئم من معظم الأجزاء فلا يقدح في الحرمة نقص بعض الأجزاء كما يظهر من المصنّف اختياره، أو إيجاد الهيئة الاجتماعية للأجزاء، أو تصوير الأعمّ من مجموع الأجزاء و من كل جزء جزء فيكون تصوير كل جزء من الحيوان محرما نفسيا كما يظهر من المحقّق الإيرواني احتماله؟

في المسألة وجوه قال المحقّق الإيرواني بعد الإشارة إلى الهيئة الاجتماعية: «و الفرق بين هذا و بين اختصاص الحرمة بالمجموع يظهر فيما إذا بدأ بالتصوير واحد و تمّمه آخر، فعلى الاختصاص بالمجموع لم يفعل واحد منهما حراما، و على الاختصاص بالهيئة الاجتماعية كان الأخير منهما هو الفاعل للمحرّم لتحصّل الهيئة الاجتماعية بفعله.» «3»

و ببيان آخر: هل المحرم هو فعل التصوير بما أنّه فعل مركّب تدريجي الحصول، أو إيجاد الصورة بما أنّه أمر بسيط متّحد مع وجودها و يكون الفعل التدريجي الخارجي

______________________________

(1) حاشية المحقق الإيرواني/ 21، ذيل قول المصنّف: لشبه الأعلام.

(2) راجع مصباح الفقاهة 1/ 230، في

النوع الرابع مما يحرم الاكتساب به.

(3) حاشية المكاسب للمحقق الإيرواني/ 21، ذيل قول المصنّف: ثمّ إنّ المرجع ....

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 611

و ليس فيما ورد من رجحان تغيير الصورة بقلع عينها، أو كسر رأسها دلالة على جواز تصوير الناقص. (1)

______________________________

محققا و محصّلا له و يتحقّق بتحقق آخر جزء من الفعل. فعلى الأوّل يكون حرمة الفعل التدريجي المركب حرمة نفسية، و على الثاني حرمة مقدمية. و سيأتي ترتب فوائد على هذين الاحتمالين.

أقول: أمّا احتمال حرمة تصوير كلّ جزء جزء من الحيوان فلا مجال له إلّا إذا فرض كون متعلق الحرمة تصوير كلّ شي ء لا تصوير الحيوان فقط، بداهة أنّ جزء الحيوان ليس حيوانا.

و أمّا احتمال كون المحرّم الهيئة الاجتماعية فالظاهر أنّه احتمال مدرسي لا ينقدح في أذهان من راجع أخبار المسألة، إذ الحكم فيها مترتب على عنوان تصوير الحيوان و هو فعل تدريجي مركّب بحسب تركّب الحيوان من الأجزاء، و لو فرض كون حكمة حرمة التصوير المضادّة و المعارضة للّه- تعالى- في المصوّرية كما هو الظاهر من بعض الأخبار فالمعارضة تنتزع من أوّل الشروع في الفعل بقصد إتمامه. نعم لو كانت حكمة الحرمة المفسدة المترتبة أحيانا على وجود الصورة خارجا فهو أمر يتحقق بتحقق آخر جزء من العمل، فتدبّر.

و ظاهر كلام المصنّف أنّ المرجع في تشخيص موضوع الحرمة في المقام كسائر المقامات هو العرف لا العقل الدقّي الفلسفي، و العرف يحكم بتحقق الموضوع المركب بتحقق معظم أجزائه، فيطلق الإنسان مثلا على إنسان فقد العين أو الأذن بل اليد أو الرجل أيضا.

(1) لما حكم المصنّف بأنّ موضوع الحرمة هو معظم الأجزاء توجّه إلى ما يمكن أن يورد عليه بأنّ المستفاد مما ورد من رجحان

تغيير الصورة بقلع عينها أو كسر رأسها جواز تصوير الناقص و أنّ الموضوع للحرمة مجموع الأجزاء برمّتها، فأشار إلى دفع هذا الإيراد.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 612

و لو صوّر بعض أجزاء الحيوان ففي حرمته نظر بل منع، و عليه فلو صوّر نصف الحيوان من رأسه إلى وسطه فإنّ قدّر الباقي موجودا بأن فرضه إنسانا جالسا لا يتبيّن ما دون وسطه حرم، و إن قصد النصف لا غير لم يحرم إلّا مع صدق الحيوان على هذا النصف. (1) و لو بدا له في إتمامه حرم الإتمام لصدق التصوير بإكمال الصورة لأنّه إيجاد لها. (2)

______________________________

و محصّل الدفع أنّ محل البحث هنا حرمة عمل التصوير، و الرجحان المذكور- مضافا إلى كونه حكما استحبابيا- مورده اقتناء الصورة و كراهة الصلاة في مقابلها، فلا يرتبط بمسألتنا.

(1) في حاشية المحقّق الإيرواني: «تقدير المصور و قصده مما لا أثر له، إنّما المدار صدق كون الصورة صورة حيوان تامّ أو إنسان تام، على قيام أو قعود أو اضطجاع عاريا أو لابسا للباس أو ملتفّا بالرداء أو مغطّى باللحاف، فربما لا يكون منقوشا من أجزاء بدنه سوى وجهه الخ.»

و قال أيضا: «صدق حيوان تامّ على النصف غير معقول، و صدق حيوان ناقص لا يجدي الخ.» «1»

أقول: ما ذكره في المقامين وجيه.

(2) قال الإيرواني: «أمّا إذا أتمّه غيره لم يحرم فإن المتمم كالبادئ آت بجزء من الحرام و جزء الحرام ليس بحرام.» «2»

أقول: المصنّف في كلامه في المقام عبّر تارة بلفظ التصوير و أخرى بإيجاد الصورة، و قد مرّ الفرق بينهما و أنّ الظاهر من لفظ التصوير العمل المركب التدريجي، و من الإيجاد المساوق للوجود تحقق الصورة خارجا المتحقق بإيجاد

______________________________

(1) حاشية

المكاسب للمحقق الإيرواني/ 21 و 22، ذيل قول المصنّف: فإن قدّر الباقي ...، و قوله: إلّا مع صدق الحيوان.

(2) نفس المصدر/ 22، ذيل قول المصنّف: و لو بدا له في إتمامه ...

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 613

..........

______________________________

الجزء الأخير منها و قد عبّر عنه الإيرواني بإيجاد الهيئة الاجتماعية، فالمصنّف جمع في كلامه هنا بين أمرين مختلفين.

و يظهر منه في الكلام الذي بعد هذا الكلام أنّ متعلق الحرمة عنده هو الفعل المركب التدريجي. و الظاهر من الإيرواني أنه حمل لفظ الإيجاد في كلام المصنّف على عمل التصوير المتحقق تدريجا، إذ لو أراد به الإيجاد الآني المتحقق بإيجاد الجزء الأخير لم يكن فرق بين أن يكون المتمم نفس البادئ أو غيره كما يأتي في كلام السيّد «ره».

قال السيّد «ره» في حاشيته في المقام ما ملخّصه: «أقول: لازم ذلك الحكم بالحرمة أيضا فيما إذا كان القدر الموجود بفعل غيره، لأنه يصدق عليه أنّه أوجد الصورة لأنّ ما كان موجودا لم يكن صورة بل بعضها، سواء كان ذلك الموجود بفعل مكلّف آخر أو غيره كالصبيّ و المجنون. بل و لو لم يكن قصد الفاعل له إيجاد الصورة أيضا لأن المناط هو صدق الإيجاد بالنسبة إلى هذا المتمم، و لا يخفى أنّ الالتزام به مشكل.

و المسألة مبنية على أنّ المحرّم هو فعل التصوير أو إيجاد الصورة. و بعبارة أخرى: المحرم عنوان فعل مركب أو عنوان بسيط يكون الفعل الخارج المركب محقّقا و محصّلا له. و على الأوّل يكون حرمة الفعل نفسيا و على الثاني مقدميا.

فلو قلنا بالأوّل لا يكون الإتمام حراما لعدم كونه تصويرا إذ إيجاد البعض لا يكون إيجادا للصورة التي هي مركبة بالفرض سواء كان البعض الأوّل

من فعله أو من فعل غيره.

و إن قلنا بالثاني يكون الإتمام حراما في الجميع. هذا، و الظاهر من الأخبار هو المعنى الأوّل كما لا يخفى. و لا يمكن أن يراد من الأخبار الأمران معا لأنّه مستلزم للاستعمال في أكثر من معنى. نعم يمكن أن يدّعى أن الظاهر من الأخبار و إن كان حرمة نفس الفعل، لكن يستفاد من فحواها حرمة الإيجاد أيضا و مقتضاه حرمة الإتمام

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 614

و لو اشتغل بتصوير حيوان فعل حراما حتّى لو بدا له في إتمامه. (1)

و هل يكون ما فعل حراما من حيث التصوير أو لا يحرم إلّا من حيث التجرّي؟ وجهان: من أنّه لم يقع إلا بعض مقدّمات الحرام بقصد تحقّقه، و من أنّ معنى حرمة الفعل عرفا ليس إلّا حرمة الاشتغال به عمدا، فلا يراعى الحرمة بإتمام العمل. و الفرق بين فعل الواجب المتوقّف استحقاق الثواب على إتمامه و بين الحرام هو قضاء العرف، فتأمّل.

______________________________

أيضا في الصورة المذكورة.» «1»

أقول: البحث في حكم اشتراك اثنين أو أكثر في إيجاد صورة واحدة يأتي بأقسامه في الفرع التالي، فانتظر.

(1) هذا الكلام من المصنّف مبني على كون المحرم عنوان التصوير بما أنه فعل تدريجي مركب حسب تركب ذي الصورة، و عليه يكون نفس الفعل محرما نفسيا و الاشتغال به اشتغالا بفعل محرم.

و لكن الظاهر أنّ الفعل بوجوده التدريجي محرم واحد، فلو بدا له في إتمامه ينكشف عدم تحقق الحرام خارجا و لا محالة ينطبق على ما تحقق منه عنوان التجري فقط. و قضاء العرف بالفرق بين فعل الواجب و فعل الحرام في هذه الجهة ممنوع، و لعلّ أمره بالتأمّل إشارة إلى ذلك.

قال الأستاذ الإمام «ره» في

هذا المجال: «ثمّ إنّ الظاهر من حرمة تصوير الصور و تمثيل المثال حرمة الاشتغال بها إذا انتهى إلى تحقق الصورة كما هو الظاهر من مثل قوله: لا تكتب سطرا و لا تقل شعرا، فإذا اشتغل بالكتابة و الإنشاء فعل حراما و اشتغل به مع إتمام السطر و الشعر، فلو بدا له فلم يتمّها أو منعه مانع لم يفعل الحرام و إن كان متجريا على المولى. و بالجملة ليس المحرم تصوير الأجزاء لأنّ الحكم متعلق بعنوان تصوير الصورة، و تصوير بعض الأعضاء و لو بقصد الإتمام

______________________________

(1) حاشية المكاسب/ 19، ذيل قول المصنّف: لصدق التصوير بإكمال الصورة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 615

..........

______________________________

ليس تصوير الصورة، و ليس المحرّم هو الجزء الأخير فقط أو حصول الهيئة، فإنّ الحكم لم يتعلق بإحداث الهيئة حتى يقال: إنّ الجزء الأخير محققها على تأمّل فيه أيضا. بل الحكم متعلق بالتصوير المنطبق على تمام الأجزاء إلى حصول الصورة، كما أنّ المحرم في كتابة السطر تمام الأجزاء، و إن شئت قلت: إنّ المحرم هو العنوان الذي لا ينطبق إلّا على تمام الأجزاء، تأمّل.» «1»

[الفرع الخامس:] حكم التصوير الحاصل بالشركة

الفرع الخامس: لو حصل التصوير بالشركة فإمّا أن يحصل العمل منهما بنحو التعاون من أوّل العمل إلى آخره، و إمّا أن يوجد أحدهما جميع أجزاء الصورة متفرقات ثم يجمعها الآخر و يضمّ بعضها إلى بعض فتحصل الصورة بفعله، و إمّا أن يوجد أحدهما بعض الصورة بقصد الصورة أو بقصد أمر آخر و بقصد الإتمام أو بدون قصده فأتمّها الآخر. فهل يحرم جميع هذه الأقسام أو لا يحرم شي ء منها أو يفصّل بين الأقسام؟ و ربما يبتني الحكم فيها على أنّ المحرّم هل هو عنوان التصوير بما أنّه عمل

مركّب تدريجي الحصول أو إيجاد الصورة بما أنّه عمل آني بسيط؟

و قد تعرض للمسألة السيّد الطباطبائي «ره» في الحاشية، قال ما ملخّصه: «لو اشترك اثنان أو أزيد في عمل صورة كان محرما و يعاقب كل منهما على ما فعله، لصدق التصوير المحرّم.

و دعوى أنّ الصادر من كل منهما ليس إلّا البعض و قد مرّ أنّ بعض الصورة ليس بمحرم مدفوعة بأنّ ذلك فيما لم يكن في ضمن الكل، و إلّا فمع حصول الكل يكون كل جزء منه محرما بناء على كون المحرم نفس الفعل المركّب، و بناء على الوجه الآخر أيضا يكون الكل حراما مقدميا.

فإن قلت: فرق بين أن يكون الكل صادرا من واحد أو اثنين ففي الثاني نمنع

______________________________

(1) المكاسب المحرّمة 1/ 187 (- ط. أخرى 1/ 283)، في القسم الرابع مما يحرم الاكتساب به.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 616

..........

______________________________

حرمة جميع الأجزاء لأنّ كلّ واحد منهما مكلّف مستقل و لا يصدق أنّه صوّر صورة فلا يكون الكل حراما حتى يكون كل جزء منه حراما.

قلت: نمنع عدم حرمة الكل حينئذ، فإنّه صورة صادرة من الفاعل القاصد المختار و هو مجموع الاثنين و إذا كانت محرّمة فيحرم أجزاؤها.

فإن قلت: إنّ قوله عليه السّلام: «من صوّر صورة، أو مثّل مثالا، أو نحو ذلك لا يشمل إلّا الأشخاص، و المفروض أنّ كل شخص لم يصدر منه الصورة بل بعضها.

قلت: نمنع أنّ المراد الأشخاص الخارجيّة، بل المراد أشخاص الفاعلين و في المفروض شخص الفاعل مجموع الاثنين، فهما فاعل واحد و مصوّر واحد، و ذلك كما في قوله عليه السّلام: من قتل نفسا، فإنّ المراد منه أشخاص القاتلين فيشمل ما إذا كان القتل بالاشتراك فإنّ الشريكين قاتل واحد.

و دعوى عدم شمول اللفظ و إنّما هو من جهة المناط كما ترى.

لا يقال: فعلى هذا يلزم استعمال اللفظ في معنيين.

لأنّا نقول: المراد كل شخص فعل كذا، و الفاعل يصدق على الاثنين و الواحد، بمعنى أنّ الاثنين فاعل واحد فلا يكون مستعملا في الوحدات و الاثنينات.

إلّا أن يقال: الظاهر من اللفظ إرادة الأشخاص الحقيقية لا الأشخاص الاعتبارية فلا يبقى إلّا أن يكون هناك مناط يستفاد منه التعميم.

لكن نقول: إنّ المناط موجود فيما نحن فيه أيضا. مع أنّ شمول أخبار المقام لا يحتاج إلى البيان المذكور كقوله: نهى عن تزويق البيوت، فإنّه أعمّ من أن يكون صادرا عن الواحد أو الاثنين. و كذا قوله عليه السّلام: و صنعة صنوف التصاوير ما لم يكن مثال الروحاني، و قوله عليه السّلام: ما لم يكن شيئا من الحيوان و ما ورد في تفسير

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 617

..........

______________________________

قوله- تعالى-: يَعْمَلُونَ لَهُ مٰا يَشٰاءُ مِنْ مَحٰارِيبَ وَ تَمٰاثِيلَ من قوله عليه السّلام: و اللّه ما هي تماثيل الرجال و النساء، فإنّ ظاهره حرمة عملهم لها و لو كان بالاشتراك.

و الظاهر أنّه لا فرق في ذلك بينما لو أوجدا معا أو أوجد أحدهما البعض ثمّ أتمّه الآخر إذا كان من قصدهما الإيجاد بالاشتراك.

و قد يقال بعدم الحرمة في هذه الصورة إلّا بالنسبة إلى الأخير، فإنّه المتمم للصورة و الموجد لها.

و لا يخفى ما فيه، إذ يصدق أنّ مجموعهما مصوّر في هذه الصورة أيضا كما في الصورة الأولى. كيف؟ و إلّا لزم عدم الحرمة بالنسبة إلى الآخر أيضا بناء على كون المحرّم الصورة المركبة لا العنوان البسيط لأن المجموع من حيث المجموع إذا لم يكن محرما فلا يحرم جزؤه

أيضا لأنه لا يصدق عليه الصورة و ليس جزء من المجموع المحرّم.» «1» انتهى.

و تعرّض الأستاذ الإمام «ره» لهذا الفرع ناظرا فيما ذكره إلى كلام السيّد «ره»، قال ما ملخّصه: «الثالث: لو اشترك اثنان أو أكثر في عمل صورة فالظاهر قصور الأدلّة عن إثبات الحرمة لفعل كل من الفاعلين أو أكثر بعد عدم صدق عنوان:

صوّر الصور أو مثّل المثال على واحد منهما بلا ريب، ضرورة أنّ التمثال و الصورة عبارة عن مجموع الصورة الخارجية، و الأجزاء لا تكون تمثالا لحيوان و لا صورة له، من غير فرق بين اشتغالهما بتصويره من الأوّل إلى الآخر أو تصوير أحدهما نصفه و الآخر نصفه الآخر أو عمل واحد منهما للأجزاء و تركيب الآخر بينها، فإنّ الظاهر من قوله: من صوّر صورة كون صدور الصورة أي هذا الموجود الخارجي من فاعل، فهو نظير قوله: من قال شعرا أو من كتب سطرا. و احتمال أن يكون المراد بهما من أوجد هيئة الصورة أو هيئة المثال و هو صادق على من أتمهما بعيد عن ظاهر اللفظ و مخالف للمتفاهم من الأخبار.

______________________________

(1) حاشية المكاسب للسيّد الطباطبائي/ 20، في الأمر الثالث مما تعرّض له.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 618

..........

______________________________

فإن قلت: إنّ المراد من قوله: من صوّر صورة أو مثل مثالا ليس الأشخاص الخارجية، بل المراد أشخاص الفاعلين، و في المفروض الصورة صادرة من فاعل مختار قاصد و هو مجموع الاثنين فهما فاعل واحد و مصوّر واحد كما في قوله:

من قتل نفسا و من ردّ عبدي فله كذا، فإنّه صادق على الواحد و الاثنين، و لا يلزم منه استعمال اللفظ في أكثر من معنى لأنّ المراد كل شخص فاعل، و الفاعل يصدق

على الاثنين و الواحد بمعنى أنّ الاثنين فاعل واحد فلا يكون مستعملا في الوحدات و الاثنينات.

قلت: إنّ الجمع بين العامّ الاستغراقي و المجموعي في كلام واحد و حكم واحد لا يمكن، فإنّ الاستغراق الملازم للانحلال يتقوّم بعدم لحاظ الوحدة بين الأشخاص، و العام المجموعي متقوّم بلحاظها. ففي قوله: أكرم العلماء إن لم يعتبر المجموع واحدا ينحلّ إلى أحكام عديدة حسب تعدّد الأفراد، و إن لو حظت الوحدة و الاجتماع يكون حكم واحد لموضوع واحد، و لا يعقل الجمع بينهما في لحاظ واحد. و كذا الحال في المكلّف، ففي قوله: يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ إمّا أن لا يلاحظ كون المؤمنين نفسا واحدة فيكون كل مؤمن مكلّفا بالوفاء و إمّا أن يلاحظ ذلك، فلا يمكن الانحلال إلى أحكام كثيرة لأنّ المكلّف حينئذ يكون عنوانا واحدا هو مجموع المؤمنين. و المقام أيضا من هذا القبيل، و لا يمكن الجمع بين اللحاظين المتنافيين، و مجرّد توهّم جعل الحكم على عنوان الفاعل لا يصحح ذلك.

و يمكن أن يناقش فيما ذكرناه و يقال: إنّ «من» في قوله: «من صوّر صورة» منطبق على الأفراد و الوحدات الحقيقية قهرا، و إذا لو حظ الاجتماع في الوحدات ينطبق على الوحدات الاعتبارية أيضا كما في إطلاق لفظ الأسد على الفرد الحقيقي و الاعتباري معا.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 619

..........

______________________________

ففي المقام لا يحتاج الانطباق على الأفراد الحقيقية إلى لحاظ و إنما تحتاج إليه الأفراد الاعتبارية و لا يضرّ لحاظ الاجتماع بالانحلال، ففي الحقيقة يكون اللحاظ موجبا لتوسعة دائرة الانحلال لا للجمع بين اللحاظين المتنافيين.

لكنه على فرض صحّته ثبوتا يحتاج إلى تكلف و قيام قرينة و هي مفقودة في المقام.

نعم يمكن جعل الحكم

للعنوان و إيجاد أفراد اعتبارية له في التشريع بنحو الحكومة، لكنه يحتاج إلى اعتبار مستأنف زائدا على مفاد الأدلّة، و هو غير ثابت، ضرورة أنّ الظاهر من قوله: من صوّر و من مثّل، هو الأشخاص الحقيقية لا الأعمّ منها و من الاعتبارية كما اعترف به صاحب المقالة المتقدمة لكنه قال: إنّ المناط موجود فيما نحن فيه، و هو كما ترى، لأن المناط غير معلوم، و ما يستشعر من الروايات من أنه مضادّ للّه- تعالى- في مصوّريته فيمكن أن يقال: إنّ كل واحد منهما لم يفعل ما يضادّ اللّه.

و الإنصاف عدم نهوض الأدلّة لإثبات الحكم، و إن كان الاحتياط في الدين يقتضي التجنّب عنه و لو بالاشتراك لذهاب بعض الأساطين إلى حرمته، و مظنونية تحقق المناط و عدم رضى اللّه- تعالى- بكون الشخصين أيضا مشابها له في مصوّريته، و احتمال مساعدة العرف للتعدي و إلقاء الخصوصية.» «1» انتهى ما أردنا نقله من كلامه.

أقول: الظاهر صحة ما ذكره أخيرا، و هو المقصود للسيّد الطباطبائي «ره»، و ما مرّ منّا من عدم شمول الأدلّة لمن صوّر الجزء لعدم كونه حيوانا يراد به الجزء بشرط لا، و أمّا الجزء في ضمن الكلّ فمحرّم بعين حرمة الكل.

و المتفاهم من الأدلّة- على فرض دلالتها على الحرمة- كون وجود الكل ذا مفسدة ملزمة و مبغوضا للمولى، فيحرم إيجاده بأيّ نحو كان، نظير حرمة القتل

______________________________

(1) المكاسب المحرّمة 1/ 183 (- ط. أخرى 1/ 278)، في القسم الرابع مما يحرم الاكتساب به.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 620

..........

______________________________

و إتلاف مال الغير و إيجاد هياكل العبادة و آلات اللهو و القمار و نحو ذلك.

و لو سلّم عدم حرمة فعل من أوجد الجزء بعنوان

التصوير بما أنّه فعل تدريجيّ مركب فلا أقلّ من حرمته بعنوان التعاون على الإثم. كيف؟! و المتعارف في إيجاد التصاوير و التماثيل وقوعه بنحو المشاركة و التعاون، فلو لم يكن هذا حراما صار هذا طريقا و وسيلة إلى ارتكاب المحرّمات بنحو الشركة فرارا عن وقوع الحرام و هذا أمر لا يقبله ذوق من اطّلع على مذاق الشارع المقدّس، فتدبّر.

[الفرع السّادس:] حكم إيجاد الصورة بالتسبيب

الفرع السّادس: قال السيّد «ره» في الحاشية ما ملخّصه: «الظاهر أنه لا فرق في التصوير بين المباشرة و التسبيب كما لو أكره غيره أو بعثه عليه من غير إكراه فيما لو كان المباشر ضعيفا بحيث يسند الفعل إليه. و ذلك لأن قوله عليه السّلام: «من صوّر صورة» و نحوه أعمّ من الأمرين و إن كانت الأفعال ظاهرة في المباشرة إلّا أنه يمكن استفادة التعميم من القرينة، كما في قوله: من أتلف، و قوله: من قتل نفسا، و هي في مثل المقام ملاحظة مناط الحكم.

و الظاهر أنّ هذه الاستفادة مختصّة بالأفعال المتعدّية دون اللازمة، و السرّ أنّ معنى قوله: من قتل نفسا- مثلا-: من أوجد القتل، فيمكن أن يراد به الأعمّ، بخلاف مثل قوله: من جلس أو ذهب، فإنّ المراد به من قام به الجلوس أو الذهاب فلا يقبل أن يكون أعمّ إذ جلوس الغير قائم بذلك الغير بخلاف القتل الصادر منه فإنه يمكن نسبته إلى السبب.» «1»

أقول: فهو «ره» سلّم ظهور الفعل في المباشرة و لكنه جعل المناط المستنبط علما أو حدسا قرينة على التعميم.

و قال الأستاذ الإمام «ره» في هذا الفرع ما ملخّصه: «الظاهر من الأدلّة هو

______________________________

(1) حاشية المكاسب/ 20، في الأمر الأوّل مما تعرّض له.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 621

..........

______________________________

حرمة تصوير

الصّور و تمثيل المثال و هما لا يشملان إلّا للمصنوع بيد الفاعل مباشرة كما كانت صنعة الصور كذلك في عصر صدور الروايات، فلا يشملان لإيجاد الصور كيف ما كان، فلو فرضت مكينة صنعت لإيجاد المجسّمات و باشر أحد لاتصال القوة الكهربائية بها فخرجت لأجلها الصور المجسّمة منها لم يفعل حراما لعدم صدق العنوانين عليه إلّا بضرب من التأويل و التجوّز، فإنّ ظاهر من صوّر صورا أو مثّل مثالا لا سيما في تلك الأعصار صدورهما من قوّته الفاعلة. فكما أنّ قوله: من كتب كتابا لا يشمل من أوجد الكتابة بالمطابع المتعارفة أو أخذ العكس منه، كذلك صاحب المكينة العاملة للصور و كذا العكّاس ليسا مصوّرين و ممثّلين للصور و المثل.

نعم لو كان وجود شي ء مبغوضا في الخارج كان إيجاده بأيّ نحو كذلك لاتحاد الإيجاد و الوجود ذاتا و اختلافهما بالاعتبار و لكن لم يحرز في المقام ذلك بل سيأتي أنّ الأقوى جواز اقتناء الصور و عدم وجوب كسرها، فعليه لا دليل على حرمة إيجادها بأيّ نحو كان، إلّا أن يدّعى إلقاء الخصوصية عرفا، و هو محلّ إشكال و منع فإنّ هيئة الفعل ظاهرة في الإيجاد المباشري. بل الظاهر من قوله: من مثّل صورة أو مثالا هو تصوير الصورة بقدرته و علمه بذلك الصنع، و المباشر لاتصال القوة بالمكينة ربما لا يكون مصوّرا و عالما بالتصوير و لا قادرا، و لكن الاحتياط بتركه مطلقا لا ينبغي أن يترك.» «1»

أقول: الظاهر أنّ الملاك في الحرمة صحّة إسناد الفعل عرفا بحيث يشمله إطلاق الدّليل عند العرف و إن لم يصحّ الإسناد بحسب العقل الفلسفي. فإذا كان المباشر مكرها أو ضعيفا مسلوب الاختيار عرفا يسند الفعل قهرا إلى المكره و

السبب و لو من جهة إحرازهم تحقق المناط المستنبط أو المصرّح به في أخبار المسألة فيكون تحقق

______________________________

(1) المكاسب المحرمة 1/ 177 (- ط. أخرى 1/ 269)، في القسم الرابع مما يحرم الاكتساب به.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 622

..........

______________________________

المناط قرينة عامّة على وجود الحكم مع التسبيب أيضا.

و أولى بذلك صورة إيقاع الفعل بالآلات غير الشاعرة كالمكائن التي لا يسند الفعل إليها عرفا بل إلى من استخدمها و أوجد الفعل بسببها. و عدم وجود هذه الآلات في عصر صدور الروايات لا يوجب انصراف الروايات عن الموضوعات و الأفعال الصادرة باستخدامها.

و السرّ في ذلك أنّ الخطابات الشرعية كالعرفية يجب أن تفسّر على أساس المفاهمات العرفية لا الدّقّية الفلسفية. و لا فرق فيما ذكرناه من التعميم بين كون المحرّم عنوان التصوير الذي هو فعل تدريجي مركّب أو إيجاد الصورة البسيط المنتزع منه.

و مقتضى ما ذكره الأستاذ «ره» أخيرا من احتمال دخل العلم و قدرة العامل شخصا انصراف أدلّة الأحكام الشرعية عن الموضوعات و الأفعال الصادرة على أساس الصنائع و التكنيكات الحادثة في أعصارنا، فلا يحرم- مثلا- الخمر المصنوعة بالوسائل الحديثة و أواني الذهب و الفضة المصنوعة بالمكائن، اللّهم إلّا مع إحراز الملاك بنحو القطع، و هذا مما لا يمكن الالتزام به كما هو ظاهر.

هذا.

و قال في مصباح الفقاهة في هذا الفرع: «قد عرفت في البحث عن حرمة تغرير الجاهل: أن إلقاء الغير في الحرام الواقعي حرام، و عليه فلا فرق في حرمة التصوير بين المباشرة و التسبيب. بل قد عرفت في المبحث المذكور: أنّ نفس الأدلّة الأوّلية تقتضي عدم الفرق بين المباشرة و التسبيب في إيجاد المحرمات، و على هذا فلا نحتاج في استفادة التعميم إلى

القرينة و ملاحظة المناط كما في حاشية السيّد «ره».» «1»

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 233، في النوع الرابع مما يحرم الاكتساب به.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 623

[الفرع السّابع:] هل يجب منع غير المكلّف إذا باشر التصوير؟

______________________________

الفرع السّابع: لا يخفى أنّ الأفعال المحرّمة على قسمين: قسم منها يعلم من مذاق الشارع و من ناحية العقل اهتمام الشارع بها و أنّه لا يرضى بوجودها أصلا بأيّ نحو كان و يكون وجودها مبغوضا من أيّ فاعل صدر حتّى من ناحية البهائم، كقتل النفوس و هتك أعراض المسلمين و تقوية الكفار و المشركين و تسليطهم على بلاد المسلمين. و قسم منها يعلم بحرمة صدورها ممّن جمع شرائط التكليف من البلوغ و العقل و القدرة و لم يحرز الاهتمام بها بحدّ يوجد مناط الحرمة حتّى إذا صدرت من ناحية غير المكلّفين.

ففي القسم الأوّل يجب دفع تحققها بأيّ نحو كان، بل يجب الاحتياط أيضا في موارد الشك فيها تحفظا من وقوعها عن جهل.

و أمّا القسم الثاني فلا دليل على وجوب المنع و الردع عنها بالنسبة إلى من لم يجتمع فيه شرائط التكليف. و يجري في موارد الشك فيها أيضا البراءة بالنسبة إلى المكلّفين. نعم يجب فيها إرشاد الجاهل بالحكم و نهي من يرتكبها عصيانا. هذا.

و لم يثبت كون حرمة التصوير- على القول بها- من قبيل القسم الأوّل فلا يجب ردع غير المكلّف عنه، بل يمكن القول بجواز تمكينه منه و تحصيل المقدمات له إلّا أن يوجب استناد الفعل عرفا إلى الممكّن له.

نعم الظاهر عدم جواز تمكين المكلّف الغافل أو الجاهل بالموضوع و إن لم يتنجز التكليف بالنسبة إليه، لثبوت الحرمة في حقه فيكون تمكينه منه تمكينا من إيجاد ما هو محرّم في حقه واقعا، فتدبّر. و قد تعرّض

للمسألة السيّد «ره» في الحاشية فراجع. «1»

______________________________

(1) راجع حاشية المكاسب/ 20، في الأمر الثاني مما تعرّض له.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 624

[الفرع الثامن:] حكم الصورة المسمّاة عندنا بالعكس

______________________________

الفرع الثامن: قال السيّد «ره» في الحاشية: «لا فرق بين أنحاء إيجاد الصورة من النقش بالتخطيط و بالحكّ و بغير ذلك، فيشمل العكس المتداول في زماننا، فإنّه أيضا تصوير كما لا يخفى.» «1»

و لكن في مصباح الفقاهة في هذا المجال ما ملخّصه: «الظاهر من الأدلّة هو النهي عن إيجاد الصورة، كما أنّ النهي عن سائر المحرّمات نهي عن إيجادها في الخارج، و عليه فلا يفرّق في حرمة التصوير بين أن يكون باليد أو بالطبع أو بالصياغة أو بالنسج، و سواء كان ذلك دفعيّا بالآلة الطابعة أو تدريجيّا.

و على هذا المنهج فلا يحرم أخذ العكس المتعارف في زماننا، لعدم كونه إيجادا للصورة المحرّمة و إنما هو أخذ للظلّ و إبقاء له بواسطة الدواء، فإنّ الإنسان إذا وقف في مقابل المكينة العكّاسة كان حائلا بينها و بين النور فيقع ظلّه على المكينة و يثبت فيها لأجل الدواء، فيكون صورة لذي ظلّ، و أين هذا من التصوير المحرّم؟

و هذا من قبيل وضع شي ء من الأدوية على الجدران أو الاجسام الصيقلية لتثبت فيها الأظلال و الصور المرتسمة، فهل يتوهم أحد حرمته من جهة حرمة التصوير؟

و إلّا لزمه القول بحرمة النظر إلى المرآة، إذ لا يفرّق في حرمة التصوير بين بقاء الصورة مدّة قليلة أو مدّة مديدة. و قد اشتهر انطباع صور الأشياء في شجرة الجوز أحيانا و لا نحتمل أن يتفوه أحد بحرمة الوقوف في مقابلها في ذلك الوقت.» «2»

أقول: بعد ما عمّم أوّلا التصوير المحرّم بالنسبة إلى جميع أقسامه لا نرى وجها لاستثناء العكس

المتعارف منها، إذ يصدق عليه الصورة و على فاعله المصوّر بلا إشكال و قد حصل بمباشرة العكّاس و استخدام الآلة و أبقيت بالدواء كما

______________________________

(1) حاشية المكاسب/ 19، في الأمر السادس مما تعرّض له.

(2) مصباح الفقاهة 1/ 233، في النوع الرابع مما يحرم الاكتساب به.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 625

..........

______________________________

قال «ره». و عدم توهم أحد حرمة ذلك أو حرمة المواجهة للمرآة مثلا لا يقتضي عدم صدق التصوير، بل لعلّ ذلك من جهة انصراف التصوير المحرّم إلى ما كان في مقام المعارضة و المضادّة للّه- تعالى- أو في معرض التقديس و العبادة، و ليست العكوس المتعارفة أو الصور المنعكسة في المرآة أو الأشجار من هذا القبيل، فتدبّر.

[الفرع التاسع:] تصوير الحيوان الخيالي

الفرع التاسع: بناء على اختصاص الحرمة بالحيوان فالظاهر عدم الفرق بين كونه موجودا في الخارج أو موجودا خياليا كالعنقاء مثلا أو فرس ذي أجنحة و لا سيما إذا كانت بنحو التجسيم لإطلاق الأدلّة و شمول روايات الأمر بالنفخ و نحوها. و انصرافه إلى الحيوان الخارجي الموجود انصراف بدوي فلا يضرّ.

[الفرع العاشر:] حكم تصوير الجنّ و الملك

الفرع العاشر: على فرض القول بحرمة التصوير و اختصاصها بتصوير الحيوان فهل يعمّ الجنّ و الملك أيضا أم لا؟

قال السيّد «ره» في الحاشية ما ملخّصه بتوضيح منّا: «هل يلحق الجنّ و الملك بالحيوان فيحرم تصويرهما أو بغيره فلا؟ قولان: فعن بعض الأساطين في شرحه على القواعد الأوّل، و كذا في الجواهر حيث قال: الظاهر إلحاق الملك و الجنّ بذلك. و قيل بالثاني.

و مبنى المسألة شمول العمومات، و كون الدليل المرخّص مختلفا، فإنّ في صحيحة ابن مسلم: «لا بأس ما لم يكن شيئا من الحيوان.» «1» و في خبر تحف العقول: «و صنعة صنوف التصاوير ما لم يكن مثل الروحاني.» «2»

______________________________

(1) الوسائل 12/ 220، الباب 94 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 3.

(2) تحف العقول/ 335.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 626

..........

______________________________

فمقتضى الأولى الجواز بناء على عدم كونهما من الحيوان. و مقتضى الثاني المنع لصدق الروحاني عليهما.

و دعوى عدم التنافي بين المرخّصين غاية الأمر كون أحدهما أعمّ من الآخر و مقتضى القاعدة العمل بهما و تخصيص العمومات بهما في عرض واحد و لازمه الجواز، مدفوعة بأنّ كلّا منهما مشتمل على عقدين: عقد ترخيصي و عقد تحريمي فلا يكونان من الأعمّ و الأخصّ المطلقين غير المتنافيين. و بعبارة أخرى: يتعارض منطوق الصحيحة و مفهوم الخبر بالعموم من وجه، فمقتضى منطوق الصحيحة جواز تصويرهما و مقتضى مفهوم

رواية التحف حرمة تصويرهما.

لا يقال: إنّه لا مفهوم لهما لعدم حجية مفهوم اللقب.

لأنّا نقول: الخبران في مقام التحديد فلا بدّ من اعتبار المفهوم فيهما فيتعارض مفهوم الخبر و منطوق الصحيحة في الجنّ و الملك. و لكن الأقوى تقديم المنطوق لا لأنه منطوق لأن مفهوم الحدّ لا يقصر في الظهور عنه، بل لأنّ مقتضى التحديد وجود أصل المفهوم، و أمّا كونه عاما فلا فإنّه يكفي ثبوت البأس في الروحاني في الجملة. هذا.

و لكن الإنصاف أنه لو كان في مقام تحديد التصاوير من حيث الجواز و المنع فلا بد من كون المفهوم عاما.

فالأولى أن يقال في مقام التقديم: إنّ الصحيحة أقوى من جهة السّند فلا بد من ترجيحها، مع أنه على فرض التكافؤ فالحكم التخيير و لازمه الجواز أيضا. هذا.

و لكن يمكن تقوية المنع بوجهين:

أحدهما: أن المتعارف من تصوير الجنّ و الملك ما هو بشكل واحد من الحيوانات، فيحرم من هذه الجهة بناء على عدم اعتبار قصد كونه حيوانا مع فرض العلم بكونه صورة له.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 627

..........

______________________________

الثاني: دعوى أنّ المراد من الحيوان المعنى اللغوي و هو مطلق الحيّ لا العرفي، أو دعوى أنه مثال لمطلق ذي الروح، و لا يبعد الحكم بظهور إحدى الدعويين، فالأقوى الحكم بالحرمة خصوصا إذا كان على الوجه المتعارف الآن.» «1»

أقول: فهو في آخر الأمر أفتى بالحرمة.

و في مصباح الفقاهة أيضا قطع بعدم الجواز و قال في هذا المجال ما ملخّصه:

«المراد من الحيوان هنا ما هو المعروف في مصطلح أهل المعقول من كونه جسما حسّاسا متحركا بالإرادة، و هذا المفهوم يصدق على كل مادّة ذات روح سواء كانت من عالم العناصر أم من عالم آخر فوقه، و عليه

فلا قصور في شمول صحيحة محمد بن مسلم للملك و الجنّ و الشيطان فيحكم بحرمة تصويرهم.

و دعوى أن الملك من عالم المجردات فليس له مادّة كما في ألسنة الفلاسفة دعوى جزافية، فإنّه مع الخدشة في أدلّة القول بعالم المجردات ما سوى اللّه: إنّه مخالف لظاهر الشرع، و من هنا حكم المجلسي «ره» في اعتقاداته بكفر من أنكر جسمية الملك.

و إن أبيت إلّا إرادة المفهوم العرفي من الحيوان فاللازم هو القول بانصرافه عن الإنسان أيضا كانصرافه عن الجنّ و الملك، و لذا قلنا: إنّ العمومات الدالّة على حرمة الصلاة في أجزاء ما لا يؤكل لحمه منصرفة عن الإنسان قطعا، مع أنه لم يقل أحد هنا بالانصراف.»

ثم نقل ما ذكره السيّد «ره» من معارضة منطوق الصحيحة و مفهوم رواية تحف العقول و ترجيح الصحيحة من جهة السند، و ناقش ذلك بما ملخّصه: «و فيه أوّلا: أنّ خبر تحف العقول ضعيف السند و مضطرب الدلالة، فلا يجوز العمل به في نفسه فضلا عمّا إذا كان معارضا لخبر صحيح. و ثانيا: سلّمنا جواز العمل به و لكنا حققنا في باب التعادل و التراجيح أنّ أقوائية السند لا تكون مرجحة في التعارض

______________________________

(1) حاشية المكاسب/ 18، في الأمر الخامس مما تعرّض له.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 628

..........

______________________________

بالعموم من وجه بل لا بدّ من الرجوع إلى المرجحات الأخر، و حيث لا ترجيح فيحكم بالتساقط و يرجع إلى المطلقات الدالّة على حرمة التصوير مطلقا. و عليه فيحرم تصوير الملك و الجنّ، إلّا أنك قد عرفت أنّ المطلقات بأجمعها ضعيفة السند فلا تكون مرجعا في المقام، فلا بدّ أن يرجع إلى البراءة. نعم يمكن استفادة الحرمة من صحيحة البقباق المتقدمة

بدعوى أنّ الظاهر من قوله: «و اللّه ما هي تماثيل الرجال و النساء و لكنها الشجر و شبهه» هو المقابلة بين ذي الروح و غيره من حيث جواز التصوير و عدمه، و ذكر الأمور المذكورة فيها إنما هو من باب المثال.» «1»

أقول: أمّا ما ذكره من عدم كون أقوائية السند مرجحة في التعارض بالعموم من وجه فذكروا في وجهه أن الأخذ بمرجح الصدور يقتضي الحكم بعدم صدور الآخر و طرحه من رأس حتّى في محل الافتراق أو الحكم بالتبعيض في الصدور بأن صدر عام واحد بالنسبة إلى محل الافتراق فقط، و شي ء منهما لا يمكن الالتزام به. و هو «ره» في البحث الأصولي فصّل بين كون العموم فيهما مستفادا من الإطلاق أو من الوضع و حكم في القسم الأوّل كما في المقام بالتساقط. و إن شئت تفصيل كلامه فراجع مصباح الأصول. «2» و لنا فيما ذكره هناك كلام ليس المقام مقام ذكره.

و أمّا خدشته في وجود المجردات سوى اللّه- تعالى- فلا يمكن المساعدة عليه بعد دلالة البراهين المذكورة في محلّها على وجودها. نعم المجردات لها مراتب و من مراتبها ماله تجرّد برزخي، فيكون جسما ذا أبعاد ثلاثة و مع ذلك لا يكون من عالم المادة و الطبيعة، نظير ما يشاهده الإنسان في عالم الرؤيا. و الملك من هذا القبيل، فكون الملك جسما ذا أجنحة لا ينافي عدم كونه من عالم المادّة و الطبيعة. و تحقيق المسألة يطلب من محلّه.

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 228، في النوع الرابع مما يحرم الاكتساب به.

(2) راجع مصباح الأصول 3/ 427، في التعارض بين العامّين من وجه.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 629

..........

______________________________

و أمّا ما ذكره من ضعف المطلقات الدالّة

على الحرمة بأجمعها فقد مرّ منّا أن كثرتها و استفاضتها توجب الوثوق و الاطمينان بصدور بعضها لا محالة و لو واحد منها، فيثبت مفاد أخصّها مضمونا، و قد عبّرنا عن ذلك بالتواتر الإجمالي.

و كيف كان فقد ظهر من السيّد «ره» في الحاشية و كذا من مصباح الفقاهة تقوية الحرمة في المقام.

و لكن الأستاذ الإمام «ره» قوّى عدم الحرمة. قال في هذا المجال ما ملخّصه: «هل تلحق صورة الجنّ و الشيطان و الملك بالصورة الحيوانية أولا؟ قد يقال: إنّ مقتضى إطلاق الأدلّة ذلك. و لكن يمكن أن يقال: إنّ العمدة في الأدلّة أخبار النفخ، و أمّا غيرها فقد تقدّم أنّ جملة منها مربوطة بعمل هياكل العبادة و جملة أخرى منها لا إطلاق لها، و لو وجد فيها ما له إطلاق فضعيف سندا.

و أمّا أخبار النفخ فالظاهر منها أن المحرّم هو تمثال موجود يكون نحو إيجاده بالتصوير و النفخ كالإنسان و سائر الحيوانات، و أمّا مثل الجنّ و الشيطان و الملك ممّا تكون كيفية إيجادها بغير التصوير و التخليق التدريجيين و بغير التسوية و النفخ بل بدعيّة دفعية، سواء قيل بكونها مجرّدة أم لا، فخارج عن مساق تلك الأخبار. هذا.

مضافا إلى أنّ المظنون بل الظاهر من مجموع الروايات أنّ وجه التحريم هو التشبّه بالخالق في المصورية و التصوير الخيالي من المذكورات ليس تشبّها به- تعالى- لأنه لم يصوّرها كذلك حتى يكون التصوير تشبيها به.

نعم يمكن التمسك برواية التحف لحرمة صور الروحانيين من الملائكة و غيرها، بدعوى أنّ الظاهر منها حرمة مطلق مثل الروحانيين، بل الظاهر منها خروج الإنسان و الحيوانات، فإن الروحاني ظاهر في موجود غلبت فيه جهة الروح:

ففي رواية عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «إنّ

اللّه خلق العقل و هو أوّل خلق من الروحانيين.»

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 630

..........

______________________________

قال المجلسي «ره» [في شرحه]: «يطلق الروحاني على الأجسام اللطيفة و على الجواهر المجردة إن قيل بها. قال في النهاية: في الحديث: الملائكة الروحانيون، يروى بضم الراء و فتحها كأنّه نسب إلى الروح و الروح و هو نسيم الريح، و الألف و النون من زيادات النسب، و يريد به أنّهم أجسام لطيفة لا يدركها البصر.» «1»

و في المجمع نحو ما عن النهاية. «2» و عن الجوهري: «زعم أبو الخطاب أنه سمع من العرب من يقول في النسبة إلى الملائكة و الجنّ روحاني بضمّ الراء و الجمع:

روحانيون. و زعم أبو عبيدة: أنّ العرب تقوله لكل شي ء فيه الروح.» «3» انتهى.

و كيف كان فالمتفاهم منه و لو انصرافا غير الحيوانات بل و الإنسان.

فعليه تدلّ الرواية على حرمة تصوير الروحانيين الغائبين عن الحواسّ مطلقا.

لكن يمكن المناقشة فيه بعد الغضّ عن سندها و اغتشاش متنها بأنّ الظاهر من مجموعها صدرا و ذيلا في تفسير الصناعات: أنّ المراد بمثل الروحاني مثل هياكل العبادة، لأن المذكور في جميع فقرات الرواية من ملاك الحلّية و الحرمة هو كون الشي ء صلاحا للعباد أو كان فيه وجه من وجوه الصلاح أو كون الشي ء فسادا محضا أو فيه جهة فساد، و أن ما فيه جهة صلاح و جهة فساد لا يحرم إلّا إذا صرف في الفساد.

فيستفاد منها أنّ مثل الروحانيين التي فيها الفساد من جهة عبادة الناس إيّاها و تعظيمها المنافية للتوحيد و التنزيه محرّم صنعتها. و أمّا ما ينتفع الناس بها و لو في التزيين و سائر الأغراض العقلائية كانت روحانيين أم لا فهي محلّلة. و إن شئت

قلت: إنّ سائر فقرات الرواية حاكمة على هذه الفقرة.

______________________________

(1) راجع مرآة العقول 1/ 66، كتاب العقل و الجهل، ذيل الحديث 14؛ و راجع أيضا النهاية لابن الأثير 2/ 272.

(2) راجع مجمع البحرين/ 170 (- ط. أخرى 2/ 364).

(3) الصحاح 1/ 367.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 631

..........

________________________________________

نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في المكاسب المحرمة، 3 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، اول، 1415 ه ق

دراسات في المكاسب المحرمة؛ ج 2، ص: 631

______________________________

و يؤيد هذا الاحتمال ذكر الأصنام و الصلبان في الضابطة التي ذكرت مقابلة ضابط الحلية فقال «إنّما حرم اللّه الصناعة التي حرام هي كلّها التي يجي ء منها الفساد محضا نظير البرابط و المزامير و الشطرنج و كل ملهوّ به و الصلبان و الأصنام و ما أشبه ذلك من صناعات الأشربة الحرام و ما يكون منه و فيه الفساد محضا. الخ».

و الإنصاف أنّها قاصرة عن إثبات الحرمة لمطلق صور الروحانيين. ثم على فرض تسليم دلالتها على حرمة مطلق مثل الروحاني فلا شبهة في عدم شمولها للحيوان و الإنسان كما تقدم.

و أمّا ما قال السيّد من أن المتعارف من تصوير الجنّ و الملائكة ما هو بشكل واحد من الحيوانات فيحرم من هذه الجهة بناء على عدم اعتبار قصد كونه حيوانا مع فرض العلم بكونه صورة له، ففيه- مضافا إلى ما اختاره من اعتبار القصد في صور المشتركات، و ليس ببعيد-: أنّ الصور المتعارفة من تصويرهما ممتازة عرفا عن صور الحيوانات و إن كانت شبيهة من بعض الوجوه بالإنسان لكن العرف يراها غير صورة الإنسان.

فالأقوى عدم الحرمة و إن كان الاحتياط لا ينبغي أن يترك لاحتمال إطلاق بعض الأخبار أو فهم المناط منها أو إلقاء الخصوصية

أو كون المراد من الحيوان مطلق ذي الروح و لو لمناسبات أو غير ذلك.» «1» انتهى ما أردنا نقله من كلامه.

أقول: على فرض القول بحرمة التصوير لكلّ ما له شرف الحياة فالظاهر أنّ الملك و أمثاله من أظهر مصاديق هذا الموضوع. و خصوصية وقوع الحياة فيه بعد التطوّرات المادّية ملقاة عند العرف. مضافا إلى أن الظاهر كون الجنّ أيضا مثل الحيوانات غاية الأمر كون مادته ألطف منها.

______________________________

(1) المكاسب المحرّمة 1/ 178 (- ط. أخرى 1/ 271)، في القسم الرابع مما يحرم الاكتساب به.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 632

بقي الكلام في جواز اقتناء ما حرم عمله من الصور و عدمه. (1)

______________________________

و انصراف أخبار الأمر بالنفخ إلى خصوص ما كان تصويره بنحو التكوين التدريجي قابل للمنع بعد اشتراكهما في كمال الحياة، و النفخ فيه كناية عن إعطاء الحياة له.

كيف؟ و لو كانت الحكمة في الحرمة المعارضة و المضادّة له- تعالى- في المصورية فكلاهما واجدان للصورة المعجبة الدقيقة الكاشفة عن إتقان الصنع. و لو كانت الحكمة فيها احتمال صيرورتها معرضا للعبادة و التقديس فصور الروحانيين أقرب إلى هذه المعرضية، و قد كان كثير من أصنام العرب عندهم هياكل للملائكة و القديسين. و إطلاقات حرمة التصوير تشمل لصورهم، و المرخّص فيه في منطوق صحيحة محمد بن مسلم تماثيل الشجر و الشمس و القمر فلا يشمل صور الجن و الملائكة، و مفهوم رواية تحف العقول يشملها و يعضدها عبارة فقه الرضا كما مرّ.

و قد أشار إلى بعض ما ذكرنا الأستاذ أيضا في آخر ما حكينا عنه.

فالأقوى إلحاق ما ذكر بالحيوان لو لم نقل بكون الحرمة ثابتة فيها بطريق أولى، فتدبّر.

[الفرع العاشر:] حكم اقتناء الصور و المعاملة عليها
اشارة

(1) الفرع الحادى عشر: على فرض حرمة التصوير

الحيوان فهل يجوز اقتناء الصورة بعد ما وجدت نسيانا أو عصيانا أو يكون وزانها وزان الأصنام و آلات اللهو و القمار مما لا يجوز إبقاؤها بل يجب محوها و إفناؤها؟ في المسألة قولان.

[الحكمة في الحرمة]

لا يخفى أن الحكمة في الحرمة إن كانت هي المعارضة و المضادّة في مقام العمل للّه- تعالى- كما هو الظاهر من بعض الأخبار من جهة أن تصوير الحيوانات من أدقّ أفعال اللّه- تعالى- و أعجبها فيكون عمل المصوّر مضادّة له في المصوّرية و لذا يؤمر يوم القيامة تعجيزا بالنفخ فيها، فلا محالة يكون المبغوض للّه- تعالى- نفس الفعل بما أنّه صادر عن الفاعل، و أمّا بعد صدوره فلا دليل على مبغوضية نتيجة العمل الحاصلة منه.

لا يقال: إذا كان الإيجاد حراما كان الوجود أيضا حراما لاتحادهما ذاتا و اختلافهما

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 633

فالمحكيّ عن شرح الإرشاد للمحقّق الأردبيلي «ره» أنّ المستفاد من الأخبار الصحيحة و أقوال الأصحاب عدم حرمة إبقاء الصور. انتهى.

و قرّره الحاكي على هذه الاستفادة. (1)

______________________________

بالاعتبار فقط فبالإضافة إلى الفاعل يسمى إيجادا و بالإضافة إلى القابل وجودا له.

فإنّه يقال: نعم و لكن المتّحد مع الإيجاد حدوث الوجود لا بقاؤه، فيمكن أن لا يحرم البقاء لعدم ترتّب المفسدة عليه. فيكون المقام- بوجه ما- نظير حرمة عمل الزنا و حرمة إيجاد الولد به و لكن لا يترتب عليها حرمة بقائه بل يحرم إتلافه.

و إن كانت الحكمة في الحرمة احتمال صيرورة الصورة و لو بمرور الزمان معرضا للتقديس و العبادة كما كان كذلك في الأعصار السّالفة فكان تحريم الشارع للتصوير بداعي قلع مادة الأصنام و الأوثان من صفحة عالم الوجود، فلا محالة يكون المحرّم وجود الصورة حدوثا و بقاء.

و بالجملة

فبحسب مقام الثبوت في المسألة احتمالان، و لو فرض عدم إحراز ما هي الحكمة و عدم دلالة أخبار الباب أيضا على أحد المحتملين كان مقتضى الأصل في المسألة الإباحة.

ثم على فرض جواز اقتنائها و صيرورتها مرغوبا فيها من جهة إمكان التزيّن بها أو الانتفاع بها في مرحلة التعليم و التعلّم أو نحو ذلك فلا محالة تصير مالا فيجوز المعاملة عليها أيضا و يشملها عمومات أدلة البيع و نحوه من المعاملات، بخلاف ما إذا قيل بحرمة إبقائها شرعا و وجوب محوها لإسقاط الشارع ماليتها على هذا الفرض و يشملها قوله عليه السّلام: «إن اللّه إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه» و غيره من الروايات الواردة في هذا المجال.

(1) في مفتاح الكرامة بعد الإشارة إلى ما دلّ على جواز الجلوس على ما فيه الصّور و التماثيل قال: «و ممّا يدلّ على عدم الملازمة بين جواز الجلوس و جواز الفعل الأخبار الصحيحة و غيرها، و هو المستفاد من كلام الأصحاب في

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 634

..........

______________________________

مكان المصلّي و لباسه. قال في مجمع البرهان في باب لباس المصلّي: «المستفاد من الأخبار الصحيحة و أقوال الأصحاب عدم حرمة بقاء الصورة.» قلت: و الأمر كما قال، كما بيّنا الحال في باب لباس المصلّي و مكانه.» «1» هكذا في مفتاح الكرامة.

و لكن في باب لباس المصلّي من مجمع البرهان قال: «و يفهم من الأخبار الصحيحة عدم تحريم إبقاء الصورة و كذا الصورة في الخاتم.» «2» و في مكان المصلّي منه بعد ذكر صحيحة محمد بن مسلم قال: «و فيها دلالة على جواز إبقاء صورة التماثيل و لو كانت صورة حيوان.» «3»

أقول: فليس فيما عندنا من نسخ مجمع البرهان ذكر من

أقوال الأصحاب، و لعلّ صاحب مفتاح الكرامة عثر على نسخة أخرى منه.

و كيف كان فصاحب مفتاح الكرامة لا يرى الملازمة بين حرمة التصوير و حرمة الإبقاء و استظهر ذلك من مجمع البرهان أيضا.

و لكن في متاجر مجمع البرهان قال: «و بعد ثبوت التحريم فيما ثبت يشكل جواز الإبقاء لأن الظاهر أن الغرض من التحريم عدم خلق شي ء يشبه بخلق اللّه و بقائه لا مجرّد التصوير، فيحمل ما يدلّ على جواز الإبقاء من الروايات الصحيحة و غيرها على ما يجوز منها، فهي من أدلّة جواز التصوير في الجملة على البسط و الستر و الحيطان و الثياب، و هي التي تدلّ الأخبار على جواز إبقائها فيها لا ذو الروح التي لها ظلّ على حدته التي هي حرام بالإجماع، و الاجتناب مطلقا من الإحداث و الإبقاء من جميع أنواعه أحوط.» «4»

______________________________

(1) مفتاح الكرامة 4/ 49، كتاب المتاجر، المقصد الأوّل، الرابع من المحرم.

(2) مجمع الفائدة و البرهان 2/ 93، كتاب الصلاة، المقصد الرابع، المطلب الأوّل.

(3) نفس المصدر 2/ 138، كتاب الصلاة، المقصد الرابع، المطلب الثاني.

(4) نفس المصدر 8/ 56، كتاب المتاجر، المقصد الأوّل، المطلب الأوّل.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 635

[كلام الأستاذ الإمام «ره» في المقام]

______________________________

قال الأستاذ الإمام «ره» بعد نقل هذا الكلام من مجمع البرهان ما ملخّصه:

«يرجع كلامه إلى دعويين: إحداهما: أنّ ما دلّت على تحريم الصور تدلّ على تحريم الإبقاء. و الثانية: أنّ ما دلّت على جواز الإبقاء يشعر بجواز التصوير، فتحمل الأخبار المجوزة للإبقاء على ما يجوز تصويره كتصوير غير ذي الظلّ من ذوات الأرواح على البسط و نحوها، و الأخبار المانعة عن التصوير على غيرها مما يحرم إبقاؤها أيضا.

و تقريب دعواه الأولى: أن ما يتعلق به الأمر أو

النهي إن لم تكن من الماهيات التي لها بقاء فلا محالة يكون النهي عن وجودها و إيجادها بالمعنى المصدري و هما متحدان خارجا مختلفان اعتبارا. و إن كانت من الماهيات التي لها بقاء و ثبات في الخارج فلا ينتقل ذهن العرف و العقلاء من النواهي مثلا إلى أنّ المبغوض مجرّد هذا المعنى المصدري، بل المتفاهم العرفي من الأوامر و النواهي المتعلقة بها أنّ تلك الماهية القارة الذات محبوبة أو مبغوضة له، و إنما أمر بإيجادها لمحبوبيتها بوجودها المستقر المستمرّ و نهى عنها لمبغوضيتها كذلك. و لا تنتقل الأذهان إلى الإيجاد و الوجود بنحو الاستقلال، كما لا تتوجه إلى احتمال أن يكون في نفس الأمر أو النهي مصلحة إلّا مع قيام قرينة أو مع لابديّة.

فلو أمر المولى بإيجاد شي ء له البقاء كبناء الأبنية و غرس الأشجار و كتابة الكتب و نحوها لا ينقدح في الأذهان منه أنّ نفس الإيجاد المصدري مطلوبة لا الماهية المستقرة الوجود. و كذا لو نهى عن ماهية كذائية كعمل الأصنام و الصور و آلات اللهو و القمار.

و عليه يكون المدّعى هو التفاهم العرفي لا الملازمة العقلية حتى ينتقض ببعض الموارد كما توهم الفاضل الإيرواني نقضه بمثل الزنا و النتيجة الحاصلة منه.

و لكن يرد عليه بأن المقام مما قامت القرينة على أنّ المحرّم و المبغوض هذا المعنى

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 636

..........

______________________________

المصدري لا الماهية بوجودها البقائي. و ذلك أن عمدة المستند في المسألة روايات الأمر بالنفخ، و الظاهر منها- بمناسبة الحكم و الموضوع- أنّ الأمر به لأجل تعجيزه عن تتميم ما خلق. و كأنه يقال له: إذا كنت مصوّرا فكن نافخا كما كان اللّه كذلك، فيفهم منها أنّ الممنوع و

المبغوض هو التشبه به- تعالى- في مصوّريته، فهذا المعنى المصدري هو المنظور إليه.

و بما ذكرنا يظهر النظر في دعواه الأخرى، و هي أنّ جواز الإبقاء مشعر بجواز التصوير، فإنّها أيضا موجّهة لو لا القرينة على خلافها.

ثمّ إنّه على فرض تسليم ما ذكره المحقق الأردبيلي «ره» لو دلّ دليل و لو بعمومه أو إطلاقه على جواز إبقاء المجسمات لا يكون معارضا للروايات الدالّة على حرمة التصوير المستفاد منها حرمة الإبقاء، ضرورة أنّ حرمة الإبقاء المستفاد منها ليست بدلالة لفظية أو ملازمة عقلية حتى ينافيها، بل لانتقال ذهن العرف من النهي عن إيجاد تلك الماهية إلى أن الماهية بوجودها القارّ مبغوضية.

لكن لو ورد ما دلّ على جواز الإبقاء انعطفت الأذهان إلى أنّ المبغوض و المنهي عنه هو العنوان المصدري. و إن شئت قلت: إنّ بين الأدلّة جمعا عقلائيا، أو قلت:

إنّ تلك الاستفادة إنما هي في صورة سكوت القائل فلا تنافي بين الأدلّة.» «1»

انتهى.

أقول: فالأستاذ «ره» وجّه كلام المحقق الأردبيلي بتقريب أنّ المتفاهم عرفا من النهي المتعلق بما له بقاء هو مبغوضية البقاء أيضا، و لكن قال: إنّ في المقام قرينة على كون المبغوض نفس الإيجاد المصدري، فلا دليل على حرمة الإبقاء و إن كانت الصورة مجسمة بل يشملها إطلاق روايات جواز الإبقاء.

______________________________

(1) المكاسب المحرمة 1/ 188 (- ط. أخرى 1/ 285)، في القسم الرابع مما يحرم الاكتساب به.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 637

[الدليل على عدم الحرمة]

و ممّن اعترف بعدم الدليل على الحرمة، المحقّق الثاني في جامع المقاصد (1) مفرّعا على ذلك جواز بيع الصور المعمولة و عدم لحوقها بآلات اللهو و القمار و أواني النقدين. و صرّح في حاشية الإرشاد بجواز النظر إليها. (2)

______________________________

(1) قال في ذيل

تعرّض المصنف لحرمة بيع آلات اللهو و القمار و نحوهما:

«و هل الصور المعمولة من هذا القبيل؟ ألحقها به بعض العامّة و لم أجد مثله في كلام أصحابنا. و يمكن عدم اللحاق نظرا إلى أنّ الصّور و إن حرم عملها فلا دليل يدلّ على تحريم اقتنائها إذ ليس المقصود منها محض التحريم، و لو حرم الاقتناء لحرم حفظ ما هي فيه من ستر و نحوه و لم يجز بيعه. و في بعض الأخبار ما يدل على خلافه. نعم لو كانت تعبد فهي أصنام.» «1»

(2) يعني يجوز النظر إلى صورة الأجنبية، إذ المحرّم هو النظر إلى نفس الأجنبية لا صورتها و تمثالها.

و لكن يمكن الإشكال فيما إذا جعلت الصورة مرآة لذيها، و لا سيّما مع احتمال الريبة أو وجود التلذذ الجنسي و التهييج. هذا.

و في مفتاح الكرامة: «فقد تحصّل أنّه يجوز اقتناء ذي الصورة و بيعه و الانتفاع به على كراهية إذ ليس هو ممّا صنع للحرام حتى يلزم إتلافه بل هو من الصنع الحرام.» «2»

و في المستند: «و هل يحرم إبقاء ما يحرم عمله فيجب إزالته أم لا؟ الظاهر هو الثاني، لا سيّما فيما يوجب إزالته الضرر، للأصل، و عدم استلزام حرمة العمل حرمة الإبقاء، و الروايات المطلقة الدالّة على استحباب تغطّي التماثيل الواقعة تجاه القبلة و نافية البأس عن الواقعة يمينا و شمالا الخ.» «3»

______________________________

(1) جامع المقاصد 4/ 16، كتاب المتاجر، المقصد الأوّل، الفصل الأوّل، الثاني مما يحرم الاكتساب به.

(2) مفتاح الكرامة 4/ 49، كتاب المتاجر، المقصد الأوّل، الرابع من المحرم.

(3) مستند الشيعة 2/ 338، كتاب مطلق الكسب و الاقتناء، المقصد الثالث، الفصل الثاني.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 638

لكن ظاهر كلام بعض القدماء

حرمة بيع التماثيل و ابتياعها:

ففي المقنعة- بعد أن ذكر فيما يحرم الاكتساب به الخمر و صناعتها و بيعها- قال: «و عمل الأصنام و الصّلبان و التماثيل المجسّمة و الشطرنج و النرد و ما أشبه ذلك حرام، و بيعه و ابتياعه حرام.» انتهى.

و في النهاية: «و عمل الأصنام و الصلبان و التماثيل المجسّمة و الصور و الشطرنج و النرد و سائر أنواع القمار- حتّى لعب الصبيان بالجوز- و التجارة فيها و التصرّف فيها و التكسّب بها محظور.» انتهى. و نحوها ظاهر السرائر. (1)

______________________________

و في الجواهر: «و أمّا بيعها و اقتناؤها و استعمالها و الانتفاع بها و النظر إليها و نحو ذلك فالأصل و العمومات و الإطلاقات تقتضي جوازه، و ما يشعر به بعض النصوص من حرمة الإبقاء كأخبار عدم نزول الملائكة و نحوها محمول على الكراهة أو غير ذلك، خصوصا مع أنّا لم نجد من أفتى بذلك عدا ما يحكى عن الأردبيلي من حرمة الإبقاء، و يمكن دعوى الإجماع على خلافه.» «1»

أقول: حيث إنّ ظاهر كلمات أكثر القدماء من أصحابنا- كما يأتي- حرمة بيعها و ابتياعها و التصرف فيها كان مقتضى ذلك حرمة اقتنائها أيضا و إن لم يصرّحوا بذلك إذ يشكل القول بجواز اقتنائها و حرمة جميع التصرفات فيها.

(1) راجع المقنعة، باب المكاسب؛ و النهاية، باب المكاسب المحظورة و المكروهة و المباحة؛ و السرائر، باب ضروب المكاسب. «2»

و قد مرّ عن المراسم في عداد المكاسب المحرمة قوله: «و عمل الأصنام و الصلبان و كل آلة تظنّ الكفّار أنّها آلة عبادة لهم و التماثيل المجسمة ... و بيعه و ابتياعه الخ.» «3»

و مرّ عن أبي الصلاح الحلبي في الكافي قوله: «كل شي ء ثبت تحريمه ... فثمنه

______________________________

(1) الجواهر 22/ 44، كتاب التجارة، الفصل الأوّل، في النوع الرابع مما يحرم الاكتساب به.

(2) راجع المقنعة/ 587؛ و النهاية لشيخ الطائفة/ 363، و السرائر 2/ 215.

(3) المراسم/ 170، كتاب المكاسب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 639

و يمكن أن يستدلّ للحرمة- مضافا إلى أنّ الظاهر من تحريم عمل الشي ء مبغوضيّة وجود المعمول ابتداء و استدامة (1)- بما تقدّم في صحيحة ابن مسلم من قوله عليه السّلام: «لا بأس ما لم يكن حيوانا.» (2) بناء على أنّ الظاهر من سؤال الراوي عن التماثيل سؤاله عن حكم الفعل المتعارف

______________________________

و أجر عمله و حمله و إبقاؤه و حفظه و المعونة عليه بقول أو فعل أو رأي، و التعوّض عنه محرّم.» «1» و قد تعرضنا لكلماتهم في المقدمة السادسة. «2»

(1) أقول: قد سرد المصنف الأمور التي يمكن أن يستدلّ بها لمنع الاقتناء المستلزم لا محالة لمنع المعاملة عليها أيضا كما مرّ بيانه، ثم أجاب عن هذه الأمور و عقّبها بذكر الأخبار الدالّة على جواز الاقتناء، و نحن نقتفي أثر المصنّف:

ما يمكن أن يستدلّ به لحرمة اقتناء الصور
الأمر الأوّل مما استدلّ به للمنع:

أنّ النهي و إن تعلّق بإيجاد التصوير لكن قد تقرّر في محلّه أنّ الإيجاد و الوجود متحدان ذاتا و مختلفان بالاعتبار، ففي المقام ما هو المنهي عنه و المبغوض للمولى حقيقة هو وجود الصورة ابتداء و استدامة و هو المشتمل على المفسدة لا محالة، و التفاهم العرفي أيضا يشهد بذلك.

[الأمر الثاني: صحيحة محمد بن مسلم]

(2) الأمر الثاني: صحيحة محمد بن مسلم السابقة، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن تماثيل الشجر و الشمس و القمر، فقال عليه السّلام: «لا بأس ما لم يكن شيئا من الحيوان.» «3»

و تقريب الاستدلال- على ما ذكره المصنّف- هو أنّ السؤال يقع غالبا عما يكون موردا لابتلاء السائل و أمثاله، و في المقام هو اقتناء الصور و التصرفات فيها، إذ عمل

______________________________

(1) الكافي لأبي الصلاح/ 283، فصل فيما يحرم من المكاسب.

(2) راجع 553 و ما بعدها.

(3) الوسائل 12/ 220، الباب 94 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 3.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 640

المتعلّق بها العامّ البلوى و هو الاقتناء. و أمّا نفس الإيجاد فهو عمل مختصّ بالنقّاش. ألا ترى أنه لو سئل عن الخمر فأجاب بالحرمة، أو عن العصير فأجاب بالإباحة انصرف الذهن إلى شربهما دون صنعتهما.

بل ما نحن فيه أولى بالانصراف لأنّ صنعة العصير و الخمر يقع من كلّ أحد بخلاف صنعة التماثيل.

و بما تقدّم من الحصر في قوله عليه السّلام في رواية تحف العقول: «إنّما حرّم اللّه الصناعة التي يجي ء منها الفساد محضا و لا يكون منه و فيه شي ء من وجوه الصلاح.» (1) فإنّ ظاهره أنّ كل ما يحرم صنعته و منها التصاوير يجي ء منها الفساد محضا فيحرم جميع التقلّب فيه بمقتضى ما ذكر في الرواية بعد هذه

الفقرة.

______________________________

الصور أمر تخصّصي يختصّ بالنقاشين و يبعد سؤال السائل عن العمل الخارج عن ابتلاء نفسه و أمثاله.

و إن شئت قلت: إنّ مورد السؤال ليس هو عمل التصوير بما أنه فعل المصوّر بل عنوان التماثيل، و هي ظاهرة في التماثيل الموجودة في الخارج، فيجب أن يحمل السؤال على الأفعال المناسبة لها بعد ما وجدت من قبيل الاقتناء و التزين بها و البيع و الشراء و سائر التصرفات كما أنّ السؤال عن سائر الذوات الخارجية تحمل على الأفعال المناسبة لها.

[الأمر الثالث: الحصر في رواية تحف العقول]

(1) الأمر الثالث: ما تقدم من الحصر في رواية تحف العقول: «إنما حرّم اللّه الصناعة التي حرام هي كلّها التي يجي ء منها الفساد محضا نظير البرابط و المزامير ... و ما يكون منه و فيه الفساد محضا، و لا يكون فيه و لا منه شي ء من وجوه الصلاح فحرام تعليمه و تعلّمه و العمل به و أخذ الأجر عليه و جميع التقلّب فيه من جميع وجوه الحركات كلّها.» «1»

______________________________

(1) تحف العقول/ 335.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 641

و بالنبويّ: «لا تدع صورة إلّا محوتها و لا كلبا إلّا قتلته.» (1) بناء على إرادة الكلب الهراش الموذي الذي يحرم اقتناؤه.

______________________________

و الاستدلال بالرواية بوجهين:

الأوّل: أنّ المفروض حرمة التصوير لذوات الأرواح، و المستفاد من الحصر المذكور في الرواية أنّه لا يحرم من الصناعات إلّا ما يكون فيه الفساد محضا و لا يكون فيه شي ء من وجوه الصلاح، و لازم ذلك حرمة اقتناء الصورة و الانتفاع بها و المعاملة عليها إذ لو لم تكن هذه محرّمة لم يصدق أنّ فيها الفساد محضا.

الثانى: التصريح في الرواية- بعد الحصر المذكور- بقوله: «فحرام تعليمه و تعلّمه و العمل به و أخذ الأجر عليه

و جميع التقلب فيه من جميع وجوه الحركات كلّها.» و فيها أيضا قبل ذلك: «فكلّ أمر يكون فيه الفساد مما هو منهي عنه ... فهو حرام محرّم حرام بيعه و شراؤه و إمساكه و ملكه و هبته و عاريته و جميع التقلّب فيه.»

[الأمر الرابع: النبوي المروي]

(1) الأمر الرابع: النبوي المروي بسند معتبر عن السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: «قال أمير المؤمنين عليه السّلام: بعثني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى المدينة فقال: لا تدع صورة إلّا محوتها و لا قبرا إلّا سوّيته و لا كلبا إلّا قتلته.» «1»

و حيث أمكن المناقشة في الاستدلال بأن السياق مانع من الحمل على الحرمة لعدم وجوب قتل الكلب أجاب المصنف بإرادة الكلب الهراش الموذي، و قد مرّ عن الأستاذ «ره» احتمال أن يكون الكلب بكسر اللام و يراد به المصاب بداء الكلب و هو مرض يسري. و القبر في الرواية أيضا يحمل على القبور التي كانت تعبد و تقدّس. هذا.

و في رواية ابن القدّاح عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «قال أمير المؤمنين عليه السّلام: بعثني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في هدم القبور و كسر الصور.» «2»

______________________________

(1) الوسائل 3/ 562، الباب 3 من أبواب أحكام المساكن، الحديث 8.

(2) نفس المصدر و الباب، الحديث 7.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 642

و ما عن قرب الإسناد بسنده عن عليّ بن جعفر عن أخيه عليه السّلام، قال:

سألته عن التماثيل هل يصلح أن يلعب بها؟ قال: «لا.» (1)

و بما ورد في إنكار أن المعمول لسليمان- على نبيّنا و آله و عليه السّلام- هي تماثيل الرجال و النساء، (2) فإن الإنكار إنّما يرجع إلى مشيّة

سليمان للمعمول كما هو ظاهر الآية دون أصل العمل، فدلّ على كون مشيّة وجود التمثال من المنكرات التي لا يليق بمنصب النبوّة.

______________________________

(1) الأمر الخامس: رواية علي بن جعفر عن أخيه عليه السّلام، راجع الوسائل. «1»

و في السند عبد اللّه بن الحسن و هو مجهول. و لكن عن البرقي في المحاسن عن موسى بن قاسم، عن علي بن جعفر، عن أخيه موسى عليه السّلام أنه سأل أباه عن التماثيل فقال: «لا يصلح أن يلعب بها.» و نحوه مرفوعة المثنى. «2» و موسى بن القاسم بن معاوية بن وهب ثقة ثقة جليل.

و الاستدلال بالرواية للمقام متوقف على أمور ثلاثة:

الأوّل: أن يراد بالتماثيل فيها مطلق الصور لا التماثيل التي يلعب بها في استعمال الشطرنج، و لعلّ لفظ اللعب يشهد بإرادة ذلك كما قيل.

الثاني: ظهور «لا يصلح» في الحرمة.

الثالث: عدم خصوصية للّعب و أنّ حرمة اللعب تدلّ على حرمة جميع التقلبات و التصرفات حتّى الاقتناء الصرف.

[الأمر السّادس: موثقة أبي العباس البقباق]

(2) الأمر السّادس: موثقة أبي العباس البقباق عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في تفسير قوله- تعالى-: يَعْمَلُونَ لَهُ مٰا يَشٰاءُ مِنْ مَحٰارِيبَ وَ تَمٰاثِيلَ. «3» بدعوى أنّ الظاهر منها أن الإمام عليه السّلام أنكر مشيّة سليمان عليه السّلام للصور المعمولة لا عمل الصور فقط، و أنّ عدم مشيته لها يكشف عن حرمتها و كونها منكرة. و كلاهما قابلان للمناقشة.

______________________________

(1) راجع نفس المصدر 12/ 221، الباب 94 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 10.

(2) نفس المصدر 3/ 563، الباب 3 من أبواب أحكام المساكن، الحديثان 15 و 16.

(3) راجع نفس المصدر 12/ 220، الباب 94 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 643

و بمفهوم صحيحة زرارة عن

أبي جعفر عليه السّلام: «لا بأس بأن يكون التماثيل في البيوت إذا غيّرت رءوسها و ترك ما سوى ذلك.» (1)

و رواية المثنى عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «أنّ عليّا عليه السّلام يكره الصور في البيوت.» (2) بضميمة ما ورد في رواية أخرى مرويّة في باب الربا: «أنّ عليّا عليه السّلام لم يكن يكره الحلال.» (3)

[الأمر السابع: مفهوم صحيحة زرارة]

______________________________

(1) الأمر السابع: مفهوم صحيحة زرارة، رواها في الوسائل «1» عن الكافي و المحاسن.

و الاستدلال بها على حرمة الاقتناء مطلقا مبني على عدم خصوصية للبيت- الذي يصلّى فيه غالبا- و كون البأس ظاهرا في الحرمة. و كلاهما قابلان للمناقشة.

(2) الأمر الثامن: رواية المثنى، رواها في الوسائل عن الكافي و المحاسن، و المتن هكذا: «إنّ عليا عليه السّلام كره الصور في البيوت.» «2»

و في الوسائل أيضا عن المحاسن عن ابن العرزمي، عن حاتم بن إسماعيل، عن جعفر، عن أبيه عليه السّلام: «أنّ عليا عليه السّلام كان يكره الصورة في البيوت.» «3»

و فيه أيضا عن المحاسن بسنده عن يحيى بن أبي العلاء، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «أنّه كره الصور في البيوت.» «4»

و الاستدلال بهذه الأخبار للمقام مبني على عدم خصوصية للبيت و كون الكراهة ظاهرة في الحرمة أو مرادة بها هنا، و كلاهما قابلان للمناقشة.

(3) رواها في الوسائل في ذيل رواية عن الكافي بسند صحيح. و المتن هكذا:

«و لم يكن عليّ عليه السّلام يكره الحلال.» «5»

______________________________

(1) الوسائل 3/ 564، الباب 4 من أبواب أحكام المساكن، الحديث 3.

(2) نفس المصدر 3/ 561، الباب 3 من أبواب أحكام المساكن، الحديث 3.

(3) نفس المصدر و الباب، ص 563، الحديث 14.

(4) نفس المصدر و الباب، الحديث 13.

(5) نفس المصدر 12/ 447، الباب 15

من أبواب الربا، الحديث 1.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 644

و رواية الحلبي المحكيّة عن مكارم الأخلاق عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال:

«أهدي إليّ طنفسة (قطيفة خ. ل) من الشام فيها تماثيل طائر فأمرت به فغيّر فجعل كهيئة الشجر.» (1) هذا.

و في الجميع نظر: أمّا الأوّل فلأنّ الممنوع هو إيجاد الصورة و ليس وجودها مبغوضا حتّى يجب رفعه. (2) نعم قد يفهم الملازمة من سياق الدليل أو من خارج، كما أنّ حرمة إيجاد النجاسة في المسجد يستلزم مبغوضية وجودها فيه المستلزم لوجوب رفعها.

______________________________

و الاستشهاد بها هنا مبني على كون الحلال في الرواية في مقابل الحرام، و هو قابل للمناقشة، إذ من المحتمل إرادة المباح في مقابل الحرام و المكروه معا و عليّ عليه السّلام كان يكره كليهما.

[الأمر التاسع: رواية الحلبي]

(1) الأمر التاسع: رواية الحلبي، رواها في الوسائل عن مكارم الأخلاق، و متنها هكذا: قال: «ربما قمت أصلّي و بين يديّ و سادة فيها تماثيل طائر فجعلت عليه ثوبا.» و قال: «و قد أهديت إليّ طنفسة من الشام عليها تماثيل طائر فأمرت به فغيّر رأسه فجعل كهيئة الشجر.» «1»

و الاستدلال بها مبني على دلالة فعله عليه السّلام على حرمة الاقتناء مطلقا، و هو قابل للمناقشة، إذ لعلّه عليه السّلام فعل ذلك لكراهة الاقتناء إمّا مطلقا أو في البيت فقط بملاحظة أنّه يصلّى فيه كما يشهد بذلك صدر الرواية.

فهذه تسعة أمور يمكن أن يستدلّ بها لحرمة الاقتناء.

الجواب عما يستدلّ به لحرمة اقتناء الصور
[الجواب عن الأمر الأوّل]
اشارة

(2) أجاب المصنّف «ره» عن الأمر الأوّل بما محصّله: «أنّ النهي تعلّق بإيجاد الصورة بما أنه عمل للمصوّر و لا دليل على كون وجودها مبغوضا. نعم قد تقوم في بعض النواهي قرينة على الملازمة بين حرمة الإيجاد و مبغوضية الوجود حدوثا

______________________________

(1) نفس المصدر 3/ 565، الباب 4 من أبواب أحكام المساكن، الحديث 7.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 645

..........

______________________________

و بقاء و لكن لا دليل على كون المقام من هذا القبيل.»

و مرّ عن الأستاذ الإمام «ره» ما حاصله: «أنّ المتفاهم عرفا من النهي المتعلّق بالماهيات القارّة و إن كان مبغوضية وجودها لكن هذا فيما إذا لم يكن قرينة على خلاف ذلك. و قد قامت القرينة في المقام على أنّ المبغوض هو العنوان المصدري لا الماهية بوجودها البقائي. و نفس إطلاق الروايات الدالّة على جواز الاقتناء الشامل للمجسمة و غيرها كاف في رفع اليد عن مقتضى هذا التفاهم العرفي.» «1»

و محصّل كلامه «ره» أنّ نسبة حكم العرف إلى إطلاق روايات الجواز نسبة الأصل إلى الدليل، حيث إنّ الدليل

وارد على الأصل.

أقول: إن كان الفهم العرفي المذكور ممّا يوجب ظهور اللفظ الصادر عن المولى فرفع اليد عنه بمجرد الظهور الإطلاقي على الخلاف مشكل.

اللّهم إلّا أن يدّعى أنّ مورد حكم العرف هو صورة عدم الدليل على الخلاف فلا يكون حكما جزميّا بل حكما لولائيا، فتأمّل.

و أجاب في مصباح الفقاهة عن الأمر الأوّل بما ملخّصه: «أنّ حرمة الإيجاد و إن كان ملازما لحرمة الوجود لاتحادهما ذاتا، إلّا أنّ الكلام في المقام ليس في الوجود الأوّلي الحدوثي بل في الوجود البقائي، و من البديهي أنه لا ملازمة بين الحدوث و البقاء. و عليه فما يدلّ على حرمة الإيجاد لا يدلّ على حرمة الوجود بقاء إلّا إذا قامت قرينة على ذلك كدلالة حرمة تنجيس المسجد على وجوب إزالة النجاسة عنه.

لا يقال: إنّ النهي عن الإيجاد كاشف عن مبغوضية الوجود المستمر كما أن النهي عن بيع العبد المسلم من الكافر حدوثا يكشف عن حرمة ملكيته له بقاء.

فإنه يقال: النهي عن بيع العبد المسلم من الكافر يدلّ على وجوب إزالة علاقة الكافر عنه حدوثا و بقاء بخلاف ما نحن فيه، إذ قد عرفت أن مجرّد الدليل على حرمة

______________________________

(1) المكاسب المحرّمة 1/ 188 و ما بعدها (- ط. أخرى 1/ 285 و ما بعدها).

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 646

و أمّا الروايات فالصحيحة الأولى (1) غير ظاهرة في السؤال عن الاقتناء، لأنّ عمل الصور ممّا هو مركوز في الأذهان حتّى إنّ السؤال عن حكم اقتنائها بعد معرفة حرمة عملها، إذ لا يحتمل حرمة اقتناء ما لا يحرم عمله.

______________________________

الإيجاد لا يدلّ على حرمة البقاء.

على أنّا إذا سلّمنا الملازمة بين مبغوضية الإيجاد و مبغوضية الوجود فإنّما يتم بالنسبة إلى الفاعل فقط

فيجب عليه إتلافه دون غيره، مع أنّ المدّعى وجوب إتلافه على كل أحد فالدليل أخصّ منه.» «1»

أقول: ما ذكره أخيرا قابل للمناقشة إذ مع فرض كشف النهي عن شي ء عن مبغوضية وجود الشي ء حدوثا و بقاء كان على كل أحد مع التمكن رفعه و إتلافه نظير المنع عن تنجيس المسجد الدالّ على مبغوضية نجاسته، فلو نجّسه أحد كان على كل أحد علم به و تمكن أن يطهّره، و لا يختصّ ذلك بخصوص من نجّسه.

[الجواب عن الأمر الثاني]

(1) أجاب المصنف عن الأمر الثاني أعني صحيحة محمد بن مسلّم بأن المركوز في الأذهان كان مسألة عمل الصور و أنّ السؤال عن حكم الاقتناء إنما يفرض بعد العلم بحرمة عملها إذ لا يحتمل حرمة اقتناء ما لا يحرم عمله.

أقول: يمكن أن يناقش فيما ذكره بأنه من الممكن أن لا يعلم السّائل حكم العمل و مع ذلك يسأل عن الاقتناء من جهة أنه مورد لابتلائه أو لعلّه علم حرمة العمل و لكنه احتمل عدم حرمة الاقتناء فسأل عنه. و مع العلم بعدم حرمة العمل و إن لم يحتمل حرمة الاقتناء كما في كلام المصنف لكن مع العلم بحرمة العمل يتمشّى احتمال عدم حرمة الاقتناء فيصحّ السؤال عنه. و حيث إنّ الظاهر من لفظ التماثيل المسؤول عنها التماثيل الموجودة كما قيل فلا محالة ينصرف السؤال إلى الأفعال المناسبة لها بعد وجودها.

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 234، في النوع الرابع مما يحرم الاكتساب به.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 647

و أمّا الحصر في رواية تحف العقول (1) فهو- بقرينة الفقرة السّابقة منها الواردة في تقسيم الصناعات إلى ما يترتّب عليه الحلال و الحرام و ما لا يترتّب عليه إلّا الحرام- إضافي بالنسبة إلى

هذين القسمين، يعني لم تحرم من القسمين إلّا ما ينحصر فائدته في الحرام و لا يترتّب عليه إلّا الفساد.

______________________________

نعم قد مرّ منا سابقا احتمال حمل إطلاق السؤال و الجواب على العمل و الاقتناء معا بعد كون كليهما محلا للابتلاء، و لا قرينة على حملهما على خصوص العمل أو الاقتناء، فتدبّر. هذا.

و أجاب المحقق الإيرواني «ره» في الحاشية عن الصحيحة فقال: «بعد تسليم أنّ السؤال فيها عن حكم الاقتناء و كون اقتنائها من منافعها: إن غاية ما يستفاد منها ثبوت البأس، و هو أعمّ من التحريم. مع أنّها معارضة بأخبار أخر صريحة في الجواز ذكر المصنف جملة منها، فتعين حملها على الكراهة.» «1»

و ناقشه في مصباح الفقاهة فقال: «و فيه أنّ كلمة البأس ظاهرة في المنع ما لم يثبت الترخيص من القرائن الحالية أو المقالية، كما أنّ مقابلها أعني كلمة: «لا بأس» ظاهر في الجواز المطلق.

فالإنصاف أنّها ظاهرة في التحريم إلّا أنّها معارضة بما دلّ على جواز اقتناء الصور فلا بدّ من حملها على الكراهة.» «2»

[الجواب عن الأمر الثالث]

(1) أقول: محصّل جواب المصنّف عن الأمر الثالث أعني الحصر في رواية تحف العقول بتوضيح منّا هو: «أنه قسّم في الرواية الصناعات بلحاظ ما يترتب عليها من المنافع و الغايات إلى قسمين: قسم يترتب عليه الصلاح و الفساد معا، و قسم لا يترتب عليه إلّا الفساد، فأراد هنا بيان أنّ المحرّم من هذين القسمين هو القسم الثاني الذي يحرم جميع منافعه دون القسم الأوّل الذي يشتمل على المنافع

______________________________

(1) حاشية المكاسب/ 22، ذيل قول المصنّف: بقي الكلام في جواز اقتناء ....

(2) مصباح الفقاهة 1/ 238، في النوع الرابع مما يحرم الاكتساب به.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 648

نعم يمكن

أن يقال: إنّ الحصر وارد في مساق التعليل و إعطاء الضابطة للفرق بين الصنائع، لا لبيان حرمة خصوص القسم المذكور.

______________________________

المحلّلة أيضا. فالحصر إضافي بالنسبة إلى هذين القسمين الملحوظين بلحاظ ما يترتب عليهما من المنافع و الغايات فلا ينافي وجود قسم ثالث للصناعة يكون نفس عملها حراما لا بلحاظ ما يترتب عليها من المنافع، و التصوير من هذا القبيل لوجود المفسدة في نفس العمل من جهة كونه مضادّة للّه- تعالى- من دون لحاظ لما يترتب عليه من المنافع.»

و لكن المصنّف استدرك و ناقش هذا الجواب بأنّ هذا خلاف ظاهر الحصر، إذ الظاهر منه كونه حقيقيا واردا في مساق التعليل للحرمة و إعطاء الضابطة الكلية للفرق بين الصنائع المحرمة و المحلّلة. هذا.

و قال المحقق الإيرواني «ره»: «و أمّا عن رواية التحف فبأنّ اقتناء الشي ء لا يعدّ من منافعه، فمن حرمة التصوير لا يستنتج حرمة الاقتناء. نعم لو كانت للصورة منفعة عرفية حكمنا بحرمتها قضاء لحقّ الملازمة.

و بعبارة أخرى: الحصر في رواية التحف وارد في موضوع الصنائع ذوات المنافع.

أمّا الصنائع العارية عنها- و منها عمل التصاوير- فهي خارجة عن المقسم في تلك الرواية و لا يستفاد حكمها منها بوجه.» «1»

أقول: ما ذكره عجيب، إذ يترتب على اقتناء الصورة منفعة التزيّن و اللعب و التعليم و نحو ذلك و تكون مرغوبا فيها لذلك بحيث يبذل بإزائها أموال كثيرة، فكيف حكم بعرائها عن المنافع؟!

و الأولى أن يقال- مضافا إلى ضعف الرواية و اضطرابها كما مرّ-: إنّ التصوير بما أنه عمل صادر عن الفاعل المختار أمر، و الصورة الحاصلة بسببه أمر آخر مستقل في الوجود ثابت قارّ الذات، فهما موضوعان مختلفان. فإذا فرض دلالة الأدلّة على

______________________________

(1) حاشية المكاسب/ 22،

ذيل قول المصنّف: بقي الكلام في جواز اقتناء ....

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 649

و أمّا النبويّ (1) فسياقه ظاهر في الكراهة كما يدلّ عليه عموم الأمر بقتل الكلاب و قوله عليه السّلام في بعض من الروايات: «و لا قبرا إلّا سوّيته».

______________________________

كون نفس التصوير أمرا محرّما يكون فيه الفساد محضا من جهة كونه تشبّها به- تعالى- و معارضة له في المصوّرية- على ما يظهر من بعض الأخبار- و حرم لأجل ذلك تعليمه و تعلمه و أخذ الأجر عليه، فلا وجه لإسراء حكمه إلى اقتناء الصورة و الانتفاع بها بانتفاعات عقلائية بعد فرض وجودها و تحققها في الخارج، و الأصل يقتضي الإباحة، مضافا إلى الأخبار الكثيرة الدالّة على جواز الاقتناء كما يأتي.

و قد أشار إلى ذلك الأستاذ أيضا، فراجع. «1»

و إذا فرض اشتمالها على منافع عقلائية جازت المعاملة عليها أيضا لذلك بمقتضى عمومات العقود و البيع و التجارة، فتدبّر.

[الجواب عن الأمر الرابع]

(1) هذا جواب عن الأمر الرابع، أعني ما دلّ على بعث النبي صلّى اللّه عليه و آله عليا عليه السّلام إلى المدينة لمحو الصور.

أقول: يرد على ما ذكره المصنّف أنّ بعثه صلّى اللّه عليه و آله عليا عليه السّلام يدلّ على اهتمامه بالأمور المذكورة و كونها من الأمور المهمة. و يبعد جدّا بعثه صلّى اللّه عليه و آله لمحو بعض المكروهات، مضافا إلى أن كراهة تسنيم القبور لا تجوّز التصرف في أموال الناس بغير إذنهم.

و العمدة: أنّ مفاد الروايتين قضية في واقعة خاصّة مجهولة الخصوصيات، فلا مجال للاستدلال بها لحكم كلّي.

و لعلّ المراد بالصور صور الأصنام التي كانت تعبد و تقدّس في تلك الأعصار و كانت البلاد و البيوت منها ملاء.

و بالقبور قبور الأعاظم و الأشراف

التي كانت تقدّس و يلتجأ إليها لقضاء الحاجات.

و بالكلب الكلب الهراش الموذي أو الذي به داء الكلب و هو مرض يسري، بداهة عدم جواز إرادة العموم منه، و الإسلام اعتبر المالية لبعضها مثل كلب الماشية و الحائط و البستان و جعل لها دية كما قرّر في محلّه.

______________________________

(1) راجع المكاسب المحرّمة للإمام الخميني «قده» 1/ 194 (- ط. أخرى 1/ 293).

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 650

و أمّا رواية عليّ بن جعفر عليه السّلام (1) فلا تدلّ إلّا على كراهة اللعب بالصورة و لا نمنعها بل و لا الحرمة إذا كان اللعب على وجه اللهو.

[الجواب عن الأمر الخامس]

______________________________

(1) هذا جواب عن الأمر الخامس، و ملخّص جوابه أنّ مفاد الرواية كراهة اللعب بالصور أو حرمته و هذا لا يستلزم حرمة الاقتناء و الانتفاعات الأخر. و مراده باللهو ما يغلب على عقل الإنسان و يشغله بالكلّية بحيث يغفل جدّا عما يجب الاهتمام به في أمر المعاش و المعاد نظير ما يصنع الخمر و آلات اللهو بعقل الإنسان و فكره و قواه.

و أجاب في مصباح الفقاهة عن الرواية بما ملخّصه: «أوّلا: بأنّها ضعيفة السند.

و ثانيا: أنّ عدم الصلاحية أعمّ من الحرمة فلا يدل عليها. و ثالثا: لا ملازمة بين حرمة اللعب و حرمة الاقتناء. و رابعا: أنه من المحتمل أن يراد بالتماثيل في هذه الطائفة من الروايات الشطرنج. و الوجه في ذلك أنّ القطع التي يلعب بها في الشطرنج على ستة أصناف و كل صنف منها على صورة كالشاه و الفرزان و الفيل و الفرس و الرخّ و البيذق. و المراد بالفرزان: الملكة، و بالرخ: طائر همي كبير.

و بالبيذق: الماشي راجلا، فراجع المنجد. و يؤيّد ما ذكرناه من إرادة الشطرنج:

أنّا لا نتصور معنى لحرمة اللعب بالتصاوير المتعارفة كما هو واضح. و عليه فما دلّ على حرمة اللعب بها إنما هو من أدلّة حرمة اللعب بالشطرنج، و لا أقلّ من الاحتمال.» «1»

أقول: الرواية التي ذكرها المصنف و إن كانت ضعيفة كما مرّ لكن رواها في الوسائل «2» عن المحاسن بسند صحيح عن عليّ بن جعفر كما مرّ في ذيل نقل المصنف الرواية. هذا.

و في الوسائل أيضا عن المحاسن بسند صحيح عن علي بن جعفر عن أخيه عليه السّلام قال: سألته عن البيت فيه صورة سمكة أو طير أو شبهها يعبث به أهل البيت هل تصلح الصلاة فيه؟ فقال: «لا، حتّى يقطع رأسه منه و يفسد، و إن كان صلّى فليست

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 235، في النوع الرابع مما يحرم الاكتساب به.

(2) راجع الوسائل 3/ 563، الباب 3 من أبواب أحكام المساكن، الحديث 15. و قد مرّ في ص 642.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 651

و أمّا ما في تفسير الآية (1) فظاهره رجوع الإنكار إلى مشيّة سليمان- على نبيّنا و آله و عليه السّلام- لعملهم، بمعنى إذنه فيه أو إلى تقريره لهم في العمل.

و أمّا الصحيحة (2) فالبأس فيها محمول على الكراهة لأجل الصلاة أو مطلقا مع دلالته على جواز الاقتناء و عدم وجوب المحو.

______________________________

عليه إعادة.» «1»

و هي تدلّ على تعارف اللعب بالتماثيل في غير الشطرنج أيضا، و الراوي لها علي بن جعفر أيضا.

[الجواب عن الأمر السادس]

(1) هذا جواب عن الأمر السادس، و محصّله رجوع الإنكار إلى مشيّة سليمان لعمل الصور لا اقتناء الصّور المعمولة.

و في مصباح الفقاهة ما ملخّصه: «رجوع الإنكار إلى كون التصاوير المعمولة لسليمان تصاوير الرجال و النساء، فلا تدل الرواية على

مبغوضية العمل فضلا عن مبغوضية المعمول. و الوجه فيه أن عمل تصاوير الرجال و النساء و اقتناءها من الأمور اللاهية غير اللائقة بمنصب الأعاظم من العلماء فضلا عن مقام النبوة بخلاف تصاوير الشجر و شبهه فإنّها غير منافية لذلك. و قد يقال: إنّ الصانعين للتماثيل هم الجنّ و حرمته عليهم أوّل الكلام. و فيه أنّ الكلام ليس في عمل الصور بل في اقتنائها، و من الواضح أنه يعود إلى سليمان عليه السّلام.» «2»

[الجواب عن الأمر السّابع]

(2) هذا جواب عن الأمر السّابع، أعني التمسك بمفهوم صحيحة زرارة، و قد حمل المصنف البأس فيها على الكراهة و حكم بدلالتها على جواز الاقتناء.

أقول: قد مرّ في الجواب عن صحيحة محمد بن مسلم (الأمر الثاني) عن مصباح الفقاهة أن البأس ظاهر في المنع ما لم يثبت الترخيص من القرائن، و لم يبين المصنّف

______________________________

(1) نفس المصدر 3/ 463، الباب 32 من أبواب مكان المصلّي، الحديث 12.

(2) مصباح الفقاهة 1/ 236، في النوع الرابع مما يحرم الاكتساب به.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 652

و أمّا ما ورد من «أنّ عليّا عليه السّلام لم يكن يكره الحلال» (1) فمحمول على المباح المتساوي طرفاه، لأنّه عليه السّلام كان يكره المكروه قطعا.

و أمّا رواية الحلبي (2) فلا دلالة لها على الوجوب أصلا.

و لو سلّم الظهور في الجميع فهي معارضة بما هو أظهر و أكثر، مثل

______________________________

وجه دلالة الصحيحة على جواز الاقتناء. و جواز اقتناء التمثال بلا رأس أمر واضح لخروجه بتغير الرأس عن صدق تمثال الحيوان.

و الأولى أن يقال: إنّ موضوع الحكم في الصحيحة التماثيل في البيوت، و حيث إنّ البيوت ممّا يصلّى فيها غالبا فلعلّ المنع فيها- حرمة أو كراهة- كان بلحاظ الصلاة، فيكون

للبيت خصوصية، نظير المنع عن جعلها في المسجد، فلا دلالة لها على منع الاقتناء مطلقا.

[الجواب عن الأمر الثامن]

(1) رواها في الوسائل. «1» و هذا جواب عن الأمر الثامن، أعني ما دلّ على «أن عليا عليه السّلام كان يكره الصورة في البيوت.» و قد مرّ أن لفظ الكراهة في الكتاب و السنة أعم من الحرمة، و أن عليّا عليه السّلام كان يكره المكروه أيضا. و مورد الرواية البيوت و لعلّ لها خصوصية حيث يصلّى فيها غالبا فلا دلالة لها على المنع في غيرها لا حرمة و لا كراهة.

[الجواب عن الأمر التاسع]

(2) هذا جواب عن الأمر التاسع، أعني التمسك برواية الحلبي و فيها الأمر بتغيير تماثيل الطائر، و من الواضح أنّ الفعل في مورد خاصّ لا يدلّ على الوجوب، و لعله كانت الطنفسة في البيت و كان أمره بذلك بلحاظ الصلاة فيه كما يشهد بذلك صدر الرواية، هذا مضافا إلى كون الرواية مرسلة.

الأخبار الدالّة على جواز اقتناء الصور

فهذه تسعة أدلّة يمكن إقامتها على حرمة الاقتناء و قد أجبنا عنها، و لو سلّم الظهور فيها فهي معارضة بما هي أظهر و أكثر فلا بدّ من حملها على الكراهة.

______________________________

(1) راجع الوسائل 12/ 447، الباب 15 من أبواب الربا، الحديث 1.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 653

صحيحة الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «ربما قمت أصلّي و بين يديّ الوسادة فيها تماثيل طير فجعلت عليها ثوبا.» (1)

و رواية علي بن جعفر عن أخيه عليهما السّلام: عن الخاتم يكون فيه نقش تماثيل طير أو سبع أ يصلّى فيه؟ قال: «لا بأس.» (2)

و عنه عن أخيه عليه السّلام: عن البيت فيه صورة سمكة أو طير يعبث به أهل البيت هل يصلّى فيه؟ قال: «لا حتى يقطع رأسه و يفسد.» (3)

و رواية أبي بصير، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الوسادة و البساط يكون فيه التماثيل؟ قال: «لا بأس به يكون في البيت.» قلت: التماثيل؟

قال: «كلّ شي ء يوطأ فلا بأس به.» (4)

______________________________

(1) راجع الوسائل، «1» و قد ذكرت في صدر المرسلة المتقدمة أيضا.

(2) راجع الوسائل، «2» و السند ضعيف بعبد اللّه بن الحسن المجهول حاله.

(3) راجع الوسائل، «3» مع اختلاف لما في المتن، و قد مرّ نقله في جواب الأمر الخامس.

و استدلال المصنف به لجواز الاقتناء من جهة استظهار تقرير الإمام عليه

السّلام لأصل كون الصورة في البيت و لعب أهل البيت بها و إنما حكم بقطع رأسها بلحاظ الصلاة. و الحديث مروي عن المحاسن عن موسى بن القاسم، عن علي بن جعفر، عن أخيه عليه السّلام. فالسند معتبر، و ظاهره كون الصورة مجسّمة لظهوره في وقوع اللعب و العبث بنفس الصورة لا بشي ء نقشت الصورة فيه.

(4) راجع الوسائل، «4» و في السند عثمان بن عيسى الواقفي و لكن الظاهر كونه موثوقا به.

______________________________

(1) راجع الوسائل 3/ 461، الباب 32 من أبواب مكان المصلّي، الحديث 2.

(2) راجع نفس المصدر و الباب، ص 463، الحديث 10.

(3) راجع نفس المصدر و الباب، ص 463، الحديث 12.

(4) راجع نفس المصدر 3/ 564، الباب 4 من أبواب أحكام المساكن، الحديث 2.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 654

و سياق السؤال مع عموم الجواب يأبى عن تقييد الحكم بما يجوز عمله كما لا يخفى.

و رواية أخرى لأبي بصير، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: إنّا نبسط عندنا الوسائد فيها التماثيل و نفترشها؟ قال: «لا بأس منها بما يبسط و يفترش و يوطأ، و إنّما يكره منها ما نصب على الحائط و على السرير.» (1)

و عن قرب الإسناد عن علي بن جعفر عن أخيه عليه السّلام قال: سألته عن رجل كان في بيته تماثيل أو في ستر و لم يعلم بها و هو يصلّي في ذلك البيت ثم علم، ما عليه؟ قال عليه السّلام: «ليس عليه فيما لم يعلم شي ء فإذا علم فلينزع الستر و ليكسر رءوس التماثيل.» (2)

______________________________

و إطلاقها سؤالا و جوابا يشمل تماثيل الحيوانات أيضا و لكن موردها غير المجسمات.

(1) راجع الوسائل، «1» و في السند علي بن أبي حمزة البطائني

من عمد الواقفة.

و لعلّ الكراهة فيما نصب على الحائط أو السّرير بلحاظ كونها في قبلة المصلّي أو في مرآه في الصلاة أو بلحاظ وجود شائبة التعظيم لها.

(2) راجع الوسائل، «2» و في السند عبد اللّه بن الحسن و هو مجهول.

و إطلاقها يشمل تماثيل الحيوانات أيضا. و الظاهر من التماثيل فيها بقرينة جعلها قسيما لما في الستر و حكمه بكسر رءوسها هو كونها مجسّمة.

و الاستدلال بها لجواز الاقتناء من جهة استظهار تقرير الامام عليه السّلام لأصل وجودها في البيت و إنما حكم بالكسر بلحاظ الصلاة في البيت كما في كلام المصنّف.

و حمل ثبوت البأس في صحيحة زرارة أيضا على ذلك.

______________________________

(1) راجع نفس المصدر 12/ 220، الباب 94 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4.

(2) راجع نفس المصدر 3/ 321، الباب 45 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 20.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 655

فإنّ ظاهره أنّ الأمر بالكسر لأجل كون البيت ممّا يصلّى فيه و لذلك لم يأمر عليه السّلام بتغيير ما على الستر و اكتفى بنزعه.

و منه يظهر أنّ ثبوت البأس في صحيحة زرارة السّابقة مع عدم تغيير الرؤوس إنما هو لأجل الصلاة.

و كيف كان فالمستفاد من جميع ما ورد من الأخبار الكثيرة في كراهة الصلاة في البيت الذي فيه التماثيل إلّا إذا غيّرت أو كانت بعين واحدة أو ألقي عليها ثوب: جواز اتخاذها، و عمومها يشمل المجسمة و غيرها. (1)

______________________________

(1) راجع الوسائل. «1»

أقول: و حيث إن مسألة اقتناء الصور و الانتفاع بها و المعاملة عليها من المسائل المبتلى بها جدّا، و أكثر ما ذكره المصنف من الروايات الضعاف فالمناسب ذكر بعض الأخبار الأخر أيضا ليطمئن القلب بالجواز:

1- صحيحة محمد بن مسلم، قال: سألت أحدهما

عليه السّلام عن التماثيل في البيت فقال: «لا بأس إذا كانت عن يمينك و عن شمالك و عن خلفك أو تحت رجليك.

و إن كانت في القبلة فألق عليها ثوبا.» «2»

2- صحيحة أخرى له، قال: قلت لأبي جعفر عليه السّلام: أصلّي و التماثيل قدّامي و أنا أنظر إليها؟ قال: «لا، اطرح عليها ثوبا. و لا بأس بها إذا كانت عن يمينك أو شمالك أو خلفك أو تحت رجلك أو فوق رأسك، و إن كانت في القبلة فألق عليها ثوبا و صلّ.» «3»

______________________________

(1) راجع نفس المصدر 3/ 317، الباب 45 من أبواب لباس المصلّي؛ و ص 461، الباب 32 من أبواب مكان المصلّي.

(2) نفس المصدر 3/ 317، الباب 45 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 1.

(3) نفس المصدر و الباب، ص 318، الحديث 6.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 656

..........

______________________________

و الظاهر اتّحاد الروايتين و كون إحداهما أو كلتيهما نقلا بالمضمون. فالسؤال في الأولى أيضا لم يكن عن حكم اقتناء التماثيل مطلقا بل عن اقتنائها في البيت بلحاظ وقوع الصلاة فيه غالبا، و على هذا الأساس أيضا وقع الجواب حيث فصّل بين الجوانب و أمر عليه السّلام بإلقاء الثوب عليها إن كانت في القبلة. و يبعد جدّا سؤال محمد بن مسلم تارة عن حكم اقتناء التماثيل في البيت مع قطع النظر عن وقوع الصلاة فيه، و أخرى عن حكم الصلاة في محلّ يوجد فيه التماثيل، و إن أصرّ على ذلك الأستاذ الإمام «ره»، فراجع. «1» و كون المسؤول في إحداهما أبا جعفر عليه السّلام و في الأخرى أحدهما عليه السّلام لا ينافي الاتحاد كما لا يخفي.

و كيف كان فإطلاق الروايتين سؤالا و جوابا يشمل تماثيل الحيوانات أيضا مجسّمة

كانت أو غير مجسّمة. و كون ما يجعل تحت الرجل غير مجسّمة لا يدلّ على كون المراد في جميع الفقرات ذلك بعد كون طبيعة التماثيل شاملة لكلا الصنفين.

و توهّم أنّ التماثيل في عصر الأئمة عليهم السّلام كانت غير مجسّمة غالبا مدفوع، بل قرب عصرهم بعصر رواج الأصنام و شيوعها يشهد بتعارف المجسّمات أيضا.

كيف؟! و الفن و الثقافة لا يختصّان بعصر دون عصر كما يشهد بذلك تعارف صنع المجسمات و التزين بها في أعصارنا أيضا مع إفتاء الأكثر بحرمة صنعها.

فإن قلت: على ما ذكرت من اتحاد الروايتين و كون النظر في كلتيهما إلى جهة الصلاة لا دلالة لهما على جواز اقتناء التماثيل، إذ المفروض كون السؤال و الجواب فيهما ناظرين إلى حكم آخر أعني حكم الصلاة في محلّ التماثيل، فيكون وزانهما و زان ما إذا سئل الإمام عليه السّلام عن الصلاة في محلّ يوجد فيه آلات اللهو و القمار و الأصنام فأجاب الإمام عليه السّلام بصحتها، فهل ترى من نفسك

______________________________

(1) راجع المكاسب المحرمة 1/ 191 (- ط. أخرى 1/ 289).

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 657

..........

______________________________

جواز الاستدلال بذلك على جواز اقتناء ما ذكر؟!

قلت: كما أنّ قول المعصوم عليه السّلام حجة شرعية فكذلك تقريره و لذا قسّموا السنة المعتبرة إلى قول المعصوم عليه السّلام و فعله و تقريره. ففي مثل هذا النحو من السؤال لو كان أصل الاقتناء محرما و وجب محوها كان على الإمام عليه السّلام الإشارة إلى ذلك و عدم تقرير السائل على ما هو ظاهر سؤاله من جواز أصل الاقتناء، فتدبّر.

3- و في المحاسن بسند صحيح عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام قال:

«لا بأس بالتماثيل أن تكون عن يمينك

و عن شمالك و خلفك و تحت رجليك، فإن كانت في القبلة فألق عليها ثوبا إذا صلّيت.» «1»

أقول: و الظاهر اتحادها مع السابقتين.

4- صحيحة رابعة لمحمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام، قال: «لا بأس أن تصلّي على كلّ التماثيل إذا جعلتها تحتك.» «2»

5- صحيحة خامسة له، قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام عن الرجل يصلّي و في ثوبه دراهم فيها تماثيل؟ فقال: «لا بأس بذلك.» «3»

أقول: عموم الصحيحة الرابعة يشمل تماثيل الحيوانات أيضا و لكن موردها غير المجسمات كما هو ظاهر، و الظاهر أنّ تماثيل الدراهم المذكورة في الخامسة كانت من الإنسان أو الحيوان، و لكن يمكن أن يقال: إنّ تماثيل الدراهم لم يكن بدّ من إبقائها لكون اختيارها بيد الملوك و الحكّام، و معيشة الناس كانت متوقفة على حفظها، و قد ورد ذكرها في أخبار أخر أيضا، فراجع. «4»

______________________________

(1) المحاسن 2/ 620، الباب 5 من كتاب المرافق، الحديث 58؛ و عنه في الوسائل 3/ 463.

(2) الوسائل 3/ 319، الباب 45 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 10.

(3) نفس المصدر و الباب، الحديث 9.

(4) راجع نفس المصدر و الباب، ص 318 و 319، الأحاديث 3 و 5 و 8 و 11.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 658

..........

______________________________

6- خبر ليث المرادي، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: الوسائد تكون في البيت فيها التماثيل عن يمين أو شمال؟ فقال عليه السّلام: «لا بأس ما لم تكن تجاه القبلة، فإن كان شي ء منها بين يديك ممّا يلي القبلة فغطّه و صلّ. و إذا كانت معك دراهم سود فيها تماثيل فلا تجعلها من بين يديك و اجعلها من خلفك.» «1»

و إطلاقه سؤالا و جوابا يشمل تماثيل

الحيوان أيضا، و لكن موردها النقوش دون المجسمات.

7- ما عن المحاسن بسند صحيح عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام، قال:

قال له رجل: رحمك اللّه ما هذه التماثيل التي أراها في بيوتكم؟ فقال عليه السّلام: «هذا للنساء» أو «بيوت النساء.» «2»

8- خبر جعفر بن بشير عمّن ذكره عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: «كانت لعليّ بن الحسين عليهما السّلام وسائد و أنماط فيها تماثيل يجلس عليها.» «3»

أقول: مفاد كل من الخبرين قضية في واقعة خاصّة، فلا إطلاق في البين، و لعلّها كانت من غير الحيوان. و السؤال في الأوّل و نقل الواقعة في الثاني كانا من جهة توهّم عدم مناسبة التزين بالتماثيل المقام الإمام المعصوم عليه السّلام.

9- خبر ابن أبي عمير عن بعض أصحابه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: سألته عن التماثيل تكون في البساط لها عينان و أنت تصلّي؟ فقال عليه السّلام: «إن كان لها عين واحدة فلا بأس، و إن كان لها عينان فلا.» «4»

و الظاهر أنّ ما فقد عينا واحدة يصدق عليه صورة الحيوان و تمثاله.

10- ما عن قرب الإسناد عن عبد اللّه بن الحسن، عن جدّه علي بن جعفر، عن

______________________________

(1) نفس المصدر و الباب، ص 319، الحديث 11.

(2) نفس المصدر 3/ 564، الباب 4 من أبواب أحكام المساكن، الحديث 6.

(3) نفس المصدر و الباب، الحديث 4.

(4) نفس المصدر 3/ 318، الباب 45 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 7.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 659

..........

______________________________

أخيه عليه السّلام قال: و سألته عن الدار و الحجرة فيها التماثيل أ يصلّى فيها؟ قال: «لا تصلّي فيها و شي ء منها مستقبلك إلّا أن لا تجد بدّا فتقطع رءوسها و

إلّا فلا تصلّي.» «1»

أقول: إطلاقه سؤالا و جوابا يشمل المجسّم أيضا، بل الظاهر من قطع الرأس ذلك. و الظاهر منه جواز الإبقاء في غير جهة القبلة، و إنما تقطع رءوسها إذا كانت في جهة القبلة بلحاظ وقوع الصلاة نحوها.

11- و روى الصدوق في كتاب كمال الدين بسنده عن محمد بن جعفر الأسدي قال: كان فيما ورد عليّ من الشيخ محمد بن عثمان في جواب مسائلي إلى صاحب الزمان عليه السّلام: «و أمّا ما سألت عنه من أمر المصلّي و النار و الصورة و السراج بين يديه هل تجوز صلاته؟ فإنّ الناس اختلفوا في ذلك قبلك، فإنّه جائز لمن لم يكن من أولاد عبدة الأصنام أو عبدة النيران أن يصلّي و النار و الصورة و السراج بين يديه، و لا يجوز ذلك لمن كان من أولاد عبدة الأصنام و النيران.» «2»

و رواه في أواخر الاحتجاج و الوسائل. «3»

و دلالتها على جواز اقتناء الصورة لمن لم يكن من أولاد عبدة الأصنام و لا يرى لها حرمة و قداسة واضحة.

12- و في مرفوعة عمرو بن إبراهيم الهمداني قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «لا بأس أن يصلّي الرجل و النار و السراج و الصورة بين يديه، إنّ الذي يصلّى له أقرب إليه من الذي بين يديه.» «4»

إلى غير ذلك من الأخبار، فراجع. و إطلاق بعضها يشمل المجسّمات أيضا.

______________________________

(1) نفس المصدر و الباب، ص 321، الحديث 21.

(2) كمال الدين و تمام النعمة/ 521 (الجزء 2)، الباب 45، الحديث 49.

(3) راجع الاحتجاج للطبرسي 2/ 559؛ و الوسائل 3/ 460.

(4) الوسائل 3/ 460، الباب 30 من أبواب مكان المصلّي، الحديث 4.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 660

[حمل الأخبار المجوزة على الكراهة]

و يؤيّد

الكراهة: الجمع بين اقتناء الصور و التماثيل في البيت و اقتناء الكلب و الإناء المجتمع فيه البول في الأخبار الكثيرة:

مثل ما روي عنهم عليهم السّلام مستفيضا عن جبرئيل عليه السّلام: «إنّا لا ندخل بيتا فيه صورة إنسان، و لا بيتا يبال فيه و لا بيتا فيه كلب.» (1)

______________________________

(1) أقول: قد تحصل مما ذكرناه في مسألة الاقتناء بطولها: أنّه على فرض حرمة عمل التصوير فلا دليل على حرمة اقتناء الصور المعمولة، فإنّه موضوع آخر غير موضوع التصوير الذي هو عمل المصوّر. و نمنع التلازم العرفي بينهما في المقام، حيث إنّ المتفاهم من الأدلة كون المبغوض نفس العمل فلا يسري حكمه إلى نتيجته بقاء، و الأصل يقتضي الإباحة.

و ما توهّم دلالتها على حرمة الاقتناء من الأمور التسعة أجاب عنها المصنف.

و لو سلّم ظهورها في ذلك وجب حملها على الكراهة بقرينة أخبار كثيرة يستفاد منها الجواز إجمالا.

و نزيد هنا على ما ذكر أنه يؤيد الكراهة الجمع بين اقتناء الصور و التماثيل في البيت و بين اقتناء الكلب و إناء البول فيه في أخبار كثيرة، و في بعضها إضافة الجنب إليها، بداهة أنّ وجود الجنب أو الكلب أو إناء البول في البيوت لا يكون حراما قطعا و إن كان في كل من ذلك حزازة و كراهة. و اتحاد السياق يقتضي كون اقتناء الصور أيضا مكروها.

فمن هذه الأخبار: خبر محمد بن مروان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ جبرئيل أتاني فقال: إنّا معاشر الملائكة لا ندخل بيتا فيه كلب و لا تمثال جسد و لا إناء يبال فيه.» «1»

و منها: موثقة أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال:

«إنّ جبرئيل عليه السّلام قال: إنّا لا ندخل بيتا فيه صورة و لا كلب، يعني صورة إنسان، و لا بيتا فيه تماثيل.» «2»

______________________________

(1) الوسائل 3/ 464، الباب 33 من أبواب مكان المصلّي، الحديث 1.

(2) نفس المصدر و الباب، ص 465، الحديث 2.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 661

و في بعض الأخبار إضافة الجنب إليها. (1) و اللّه العالم بأحكامه.

______________________________

و منها: خبر عمرو بن خالد عن أبي جعفر عليه السّلام، قال: «قال جبرئيل عليه السّلام:

يا رسول اللّه إنّا لا ندخل بيتا فيه صورة إنسان و لا بيتا يبال فيه و لا بيتا فيه كلب.» «1»

إلى غير ذلك من الأخبار الواردة في هذا المجال.

(1) ففي خبر يحيى الكندي، عن أبيه، عن عليّ عليه السّلام، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله (في حديث): «إنّ جبرئيل قال: إنّا لا ندخل بيتا فيه كلب و لا جنب و لا تمثال لا يوطأ.» «2» هذا.

و قد مرّ منّا أنّه إذا كان اقتناء الصور و التماثيل جائزا و الانتفاع بها في مثل التعليم و التزيّن و نحو ذلك حلالا و لو بدليل الأصل صارت لذلك مالا مرغوبا فيها فصحّت المعاملة عليها على ما هو مقتضى عمومات العقود و التجارة. هذا.

و قد طال كلامنا في مسألة التصوير فأعتذر من الإخوة الكرام.

و الحمد للّه ربّ العالمين، و صلّى اللّه على خير خلقه محمد و آله الطاهرين، و لعنة اللّه على أعدائهم أجمعين.

و قد وقع الفراغ في 21 رجب 1417 ه. ق، الموافق ل 13/ 9/ 1375 ه. ش.

المفتقر إلى رحمة ربّه: حسين علي المنتظري.

***

______________________________

(1) نفس المصدر و الباب و الصفحة، الحديث 3.

(2) نفس المصدر و الباب و الصفحة، الحديث 6.

________________________________________

نجف آبادى، حسين

على منتظرى، دراسات في المكاسب المحرمة، 3 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، اول، 1415 ه ق

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.